المؤلف: الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني
المحقق: الشيخ رحمة اللّه رحمتي الأراكي
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: 1
ISBN: 978-964-470-899-2
الموضوع : أصول الفقه
تاريخ النشر : 1409 ه.ق
الصفحات: 832
الجزء الرابع
فوائد الأصول
من إفادات قدوة الفقهاء و المجتهدين آية اللّه في الارضين
الميرزا محمد حسين الغروي النائيني
(1355 ه ق)
تأليف الأصولي المدقق والفقيه المحقق العلامة الرباني
الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني
(1365 ه ق)
مع تعليقات خاتم الفقهاء والأصوليين آية اللّه في العالمين
الشيخ آغا ضياء الدين العراقي
(1361 ه ق)
رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3250360
ص: 1
ص: 2
الصورة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأولين والآخرين محمد وآله الطاهرين ، واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين. وبعد ، فهذا هو الجزء الرابع من كتابنا الموسوم ب « فوائد الأصول » وهو يشتمل على مهمات مباحث الاشتغال والاستصحاب والتعادل والتراجيح ، وهي نتيجة ما تلقيته من بحث شيخنا الأستاذ ، الامام الفقيه ، علم العلم وبدر سمائه ومشكاة نوره ، مفصل الصواب وفصل الخطاب ، من قد استبطن أسرار العلوم واستجلى غوامضها ومحص حقائقها وأحصى مسائلها وأحاط بفروعها وأصولها ومعقولها ومنقولها ، صدر العلماء وعين الفقهاء ، قبلة المشتغلين وخاتمة المجتهدين آية اللّه في العالمين ، من قد ألقت له الرياسة الدينية أزمتها في أواسط القرن الرابع عشر ، حضرة « الميرزا محمد حسين الغروي النائيني » متع اللّه الاسلام بشريف وجوده ، آمين.
ص: 3
والكلام فيه يقع في مقامين :
المقام الأول : في تردد المكلف به بين المتباينين.
المقام الثاني : في تردده بين الأقل والأكثر.
ففيه مباحث. وقبل الخوض فيها ينبغي تقديم أمور :
في ضابط الشك في المكلف به.
وحاصله : أن رجوع الشك إلى المكلف به لا يكون إلا بعد العلم بالتكليف في الجملة ، وإلا كان من الشك في التكليف لا المكلف به.
وتوضيح ذلك : هو أنه قد تكرر منا أن القضايا المتضمنة للأحكام الشرعية
ص: 4
ليست من القضايا الشخصية الخارجية (1) بل هي من القضايا الحقيقية التي يفرض فيها وجود الموضوعات في ترتب المحمولات عليها (2) وهي بمنزلة
ص: 5
الكبريات لأقيسة الاستنباط ولابد في تحقق الحكم وفعليته من وجود الموضوع خارجا ، ويكون ذلك بمنزلة الصغرى لتلك الكبرى المجعولة الشرعية ، والنتيجة هي الحكم الفعلي الشرعي الذي يستتبع عصيانه وإطاعته العقاب والثواب. فقول الشارع : « الخمر حرام » إنما هو كبرى كلية لا يستتبع العلم بها شيئا من الثواب والعقاب ما لم ينضم إليها صغرى وجدانية ليتألف قياس الاستنباط من تلك الصغرى الوجدانية والكبرى المجعولة الشرعية ، فيقال : « هذا خمر ، وكل خمر يحرم شربه » والنتيجة هي الحكم الشرعي المستتبع موافقته ومخالفته للثواب والعقاب : فيتوقف العلم بالحكم الشرعي الفعلي على العلم بكل من الصغرى والكبرى ، ولا يكاد يحصل العلم بالحكم مع الشك في إحديهما ولو مع العلم بالأخرى ، بل يكون ذلك من الشك في التكليف لا المكلف به.
فضابط الشك في التكليف : هو رجوع الشك ، إما إلى تحقق الصغرى خارجا ، وإما إلى جعل الكبرى شرعا (1) غايته : أنه إن كان الشك في تحقق الصغرى تكون الشبهة موضوعية ، وإن كان في جعل الكبرى تكون الشبهة حكمية. ومنشأ الشك في الصغرى أحد موجبات الجهل بوجود الموضوع ، وفي الكبرى فقد النص أو إجماله أو تعارضه. وقد تقدم الكلام فيها.
وضابط الشك في المكلف به : هو رجوع الشك ، إما إلى نفس متعلق التكليف وهو الفعل أو الترك المطالب به أو بنقيضه ، وإما إلى متعلق المتعلق وهو الموضوع الخارجي لأجل تردده بين أمور بعد العلم بتحققه خارجا أو ما هو بمنزلة العلم من الامارات والأصول الشرعية.
* * *
ص: 6
في أقسام الشك في المكلف به : وهي كثيرة ، لأن الشك إما أن يكون في متعلق التكليف ، وإما أن يكون في متعلق المتعلق.
فعلى الأول : إما أن يكون الشك في تحقق المتعلق خارجا بعد العلم بجنس التكليف وفصله ، وجنس المتعلق وفصله (1) وينحصر ذلك ظاهرا بموارد الشك في المحصل والفراغ (2) على ما يأتي تفصيله.
وإما أن يكون الشك في فصل المتعلق مع العلم بجنسه وجنس التكليف وفصله ، كما إذا علم بوجوب الصلاة في يوم الجمعة وشك في أنها الظهر أو الجمعة
وإما أن يكون في جنس المتعلق مع العلم بجنس التكليف وفصله ، كما إذا شك في وجوب الصلاة أو الزكاة مع العلم بوجوب أحدهما إجمالا.
وإما أن يكون في فصل التكليف ، وهذا قد يكون مع العلم بجنس المتعلق وفصله ، كما إذا علم بتعلق الالزام بالفعل الخاص وشك في أنه الوجوب أو الحرمة.
وقد يكون مع الشك في فصل المتعلق مع العلم بجنسه أو مع الشك في جنسه أيضا ، كما إذا شك في وجوب صلاة الظهر أو حرمة الجمعة مع العلم بإحديهما إجمالا ، أو شك في وجوب الصلاة أو حرمة الغناء كذلك.
وأما الشك في جنس التكليف فهو ليس من أقسام الشك في المكلف به ، فإنه يعتبر في جميع أقسام الشك في المكلف به العلم بجنس التكليف.
وعلى الثاني : فإما أن تكون الشبهة وجوبية ، وإما أن تكون تحريمية. وعلى
ص: 7
كلا التقديرين : إما أن يتردد متعلق المتعلق بين أمور محصورة ، وإما أن يتردد بين أمور غير محصورة ، على ما سيأتي من الضابط لهما.
فهذه جملة الأقسام المتصورة في الشك في المكلف به المردد بين المتباينين.
وأما المردد بين الأقل والأكثر : فأقسامه أيضا كثيرة يأتي تفصيلها في المقام الثاني
والأقوى في جميع الأقسام المذكورة للشك في المكلف به المردد بين المتباينين هو وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية ، إلا إذا كان هناك مانع عقلي كما في موارد دوران الامر بين المحذورين على ما تقدم بيانه ، أو مانع شرعي كما في موارد قاعدة الفراغ والتجاوز أو غير ذلك : وسيأتي بيانه.
البحث عن وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية في موارد الشك في المكلف به إنما يقع بعد الفراغ عن ثبوت التكاليف الواقعية وإطلاق أدلتها وعدم تقييدها بصورة العلم (1) حكما وموضوعا وبعد كون الألفاظ موضوعة للمعاني النفس الامرية من غير دخل للعلم في ذلك (2) بداهة أن مسألة دخل العلم في معاني الألفاظ إنما هي من المسائل اللغوية ، ومسألة إطلاق الأدلة من المسائل الفقهية ، والبحث عنهما لا يناسب الأصولي ، مع أن كلا من المسألتين من المسائل الواضحة المتسالم عليها ، فالمبحوث عنه في المقام إنما هو ثبوت الرخصة الظاهرية التي اقتضتها الأصول العملية وعدم ثبوتها مع بقاء الواقع على ما هو عليه من غير تقييد ولا نسخ ولا تصويب.
ص: 8
إذا انمهدت هذه الأمور فالكلام يقع في المباحث
وإنما قدمناها على الشبهة الوجوبية لقوة المخالف فيها ، حيث ذهب إلى عدم حرمة المخالفة القطعية في الشبهة التحريمية بعض من قال : بأن العلم الاجمالي كالتفصيلي يقتضي التنجيز ، لتوهم شمول مثل قوله علیه السلام « كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه » (1) لموارد العلم الاجمالي في الشبهة التحريمية الموضوعية ، وهذا بخلاف الشبهة الوجوبية ، فإنه لم يخالف في حرمة المخالفة القطعية فيها كل من قال : بأن العلم الاجمالي كالتفصيلي يقتضي التنجيز ، إلا بعض من لا يعتد بخلافه.
نعم : من قال : بأن العلم الاجمالي لا يقتضي التنجيز كما نسب إلى المحقق الخونساري رحمه اللّه لابد له من الالتزام بعدم حرمة المخالفة القطعية مطلقا في الشبهة الوجوبية والتحريمية. وعلى كل حال. البحث عن الشبهة التحريمية الموضوعية في الشك في المكلف به يقع في مقامين :
المقام الأول : في الشبهة المحصورة.
المقام الثاني : في الشبهة الغير المحصورة.
ص: 9
فالكلام فيه يقع من جهتين :
الأولى : في حرمة المخالفة القطعية.
الثانية : في وجوب الموافقة القطعية.
فالأقوى فيها حرمة المخالفة القطعية ، ويتضح وجهه بالتنبيه على أمر قد تقدم بيانه في مبحث القطع والظن ، وهو أن الاحكام الظاهرية المجعولة في باب الطرق والامارات والأصول بعد اشتراكها في أخذ الشك في مؤدياتها إما موضوعا كما في الأصول وإما موردا كما في الامارات ، تمتاز بعضها عن بعض باعتبار اختلاف ما هو المجعول فيها ، فان المجعول في باب الامارات هو نفس الطريقية والوسطية في الاثبات ، والمجعول في باب الأصول التنزيلية هو البناء العملي على أحد طرفي الشك على أنه هو الواقع وإلغاء الطرف الآخر ، والمجعول في باب الأصول الغير التنزيلية هو مجرد الجري العملي وتطبيق العمل على أحد طرفي الشك لا على أنه هو الواقع.
وقد تقدم تفصيل ذلك كله في مبحث الظن عند الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي. والغرض من إعادته جرد التنبيه عليه لتكون على ذكر منه حيث إنه ينفعك في المقام.
وبعد ذلك نقول : إن الأصول العملية تختلف من حيث الجريان وعدم الجريان في أطراف العلم الاجمالي حسب اختلاف المجعول فيها وحسب اختلاف المعلوم بالاجمال.
وتوضيح ذلك : هو أن العلم الاجمالي عبارة عن خلط علم بجهل ، وتنحل القضية المعلومة بالاجمال إلى قضية معلومة بالتفصيل على سبيل منع الخلو في
ص: 10
ضمن جميع الأطراف وقضيتين مشكوكتين في كل طرف بالخصوص (1) فلو
ص: 11
علم بوجوب أحد الشيئين أو الأشياء ، فهنا قضية معلومة تفصيلا وهي وجوب أحدهما على سبيل منع الخلو ، وقضيتان مشكوكتان إحداهما : وجوب هذا الطرف بالخصوص ، والأخرى : وجوب الطرف الآخر كذلك. ولو كانت الأطراف متعددة فالقضايا المشكوكة تزيد بمقدار عدد الأطراف.
ومن المعلوم : أن رتبة الحكم الظاهري ليست محفوظة بالنسبة إلى نفس القضية المعلومة بالتفصيل : لان الجهل مما لابد منه في كل حكم ظاهري ، أمارة كان أو أصلا تنزيليا أو غير تنزيلي ، فلا مجال للتعبد بكل أمارة أو أصل كان مؤداه مماثلا أو مضادا لنفس المعلوم بالاجمال : فلو فرض أن هناك أصلا كان مؤداه مضادا لنفس المعلوم بالاجمال ، فهذا الأصل لا يجري ، وينحصر ذلك (1) ظاهرا في أصالة الإباحة عند دوران الامر بين المحذورين : لما تقدم في تلك المسألة من أن أصالة الإباحة تقابل نفس المعلوم ، فلو علم إجمالا بوجوب فعل شيء أو تركه ، فأصالة الإباحة من الفعل تقتضي الرخصة في كل من الفعل والترك وكذا أصالة الإباحة من الترك تقتضي ذلك ، وهذا ينافي العلم
ص: 12
بوجوب الفعل أو الترك ، فأصالة الإباحة لا تجري في كل من طرفي الفعل والترك ، لأن مفادها يضاد المعلوم بالاجمال ، فلا موضوع لها ، لما عرفت : من أن الشك قد اخذ موضوعا في الأصول العملية مطلقا.
وأما ما عدا أصالة الإباحة من البراءة والاستصحاب في مسألة دوران الامر بين المحذورين ومطلق الأصول حتى أصالة الإباحة في غير تلك المسألة ، فلا يقابل شيء منها نفس المعلوم بالاجمال ، ولا تكون مؤدياتها مضادة لما هو المحرز بالوجدان ، لأنها إنما تجري في الأطراف وكل واحد من الأطراف مجهول الحكم ، فان كل واحد من الشيئين اللذين علم بوجوب أحدهما أو الانائين اللذين علم بنجاسة أحدهما مشكوك الوجوب والطهارة ، وأصالة البراءة أو الطهارة إنما تجري في كل واحد من الشيئين أو الانائين بخصوصه ، وليس مؤداها عدم وجوب أحدهما إجمالا أو عدم نجاسة أحدهما كذلك لينافي العلم الاجمالي بوجوب أحدهما أو نجاسة أحدهما ، بل مؤداها عدم وجوب هذا الشيء بخصوصه وعدم وجوب الشيء الآخر بخصوصه ، وكل من الشيئين بخصوصه لم يتعلق العلم بوجوبه ، فلا يكون مؤدى الأصلين في كل واحد من الطرفين مضادا لنفس المعلوم بالاجمال.
نعم : قد تقدم منا الاشكال في جريان البراءة والاستصحاب في دوران الامر بين المحذورين ، إلا أن الاشكال ليس من جهة انتفاء الموضوع بل من جهة أخرى : لأنه لا يعتبر في موضوع الأصل أزيد من الجهل بالحكم ، وكل من الفعل أو الترك بخصوصه عند العلم بوجوب أحدهما مشكوك الوجوب والبرائة والاستصحاب إنما يجري في كل من الفعل والترك بخصوصه ، فلا يضاد مفاد البراءة والاستصحاب نفس المعلوم بالاجمال ، وهذا بخلاف أصالة الإباحة ، فان مفادها يضاد نفس المعلوم بالاجمال ، لما عرفت من أن معنى أصالة الإباحة في الفعل هو الرخصة في الفعل والترك وعدم وجوب أحدهما ، وهو ينافي العلم
ص: 13
بوجوب أحدهما ، فالفرق بين أصالة الإباحة وسائر الأصول مما لا يكاد يخفى.
فتحصل مما ذكرنا : أن إشكال انتفاء الموضوع ينحصر بأصالة الإباحة في خصوص مقام دوران الامر بين المحذورين ، دون ساير الأصول في ذلك المقام ، ودون مطلق الأصول في غير ذلك المقام.
نعم : في خصوص الأصول التنزيلية المحرزة كالاستصحاب جهة أخرى غير انتفاء الموضوع تمنع عن جريانها في أطراف العلم الاجمالي ، وهي قصور المجعول فيها عن شموله لأطراف العلم الاجمالي.
وتوضيح ذلك : هو أن المجعول في الأصول التنزيلية - على ما عرفت - إنما هو البناء العملي والاخذ بأحد طرفي الشك على أنه هو الواقع وإلقاء الطرف الآخر وجعل الشك كالعدم في عالم التشريع ، فان الظاهر من قوله علیه السلام - في أخبار الاستصحاب : « لا تنقض اليقين بالشك » هو البناء العملي على بقاء المتيقن وتنزيل حال الشك منزلة حال اليقين والاحراز ، على ما سيأتي توضيحه في محله.
وهذا المعنى من الحكم الظاهري في الشبهات البدوية الغير المقرونة بالعلم الاجمالي يمكن جعله ، وكذا المقرونة بالعلم الاجمالي لكن بالنسبة إلى بعض الأطراف. وأما بالنسبة إلى جميع الأطراف ، فلا يمكن مثل هذا الجعل ، للعلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف وانقلاب الاحراز السابق الذي كان في جميع الأطراف إلى إحراز آخر يضاده (1) ومعه كيف يمكن الحكم ببقاء الاحراز السابق في جميع الأطراف ولو تعبدا ، فان الاحراز التعبدي لا يجتمع مع
ص: 14
الاحراز الوجداني بالخلاف.
والحاصل : أنه لا يمكن الحكم ببقاء الطهارة الواقعية في كل من الانائين مع العلم بنجاسة أحدهما.
نعم : يمكن الحكم ببقاء الطهارة الواقعية في أحد الانائين دون الآخر ، لأنه لا يعلم بنجاسته بالخصوص ، فالذي لا يمكن هو الجمع بين الحكمين وجعل الاستصحابين معا ، وهذا من غير فرق بين أن يلزم من جريان الاستصحابين مخالفة عملية كالمثال ، حيث إن استصحاب طهارة كل من الانائين يقتضي جواز استعمال كل منهما في مشروط الطهارة ، فيلزم مخالفة عملية للتكليف المعلوم في البين وهو وجوب الاجتناب عن النجس منهما وعدم جواز استعماله في مشروط الطهارة (1) وبين أن لا يلزم من جريانهما مخالفة عملية ، كما إذا كان الاناءان مقطوعي النجاسة سابقا وعلم بطهارة أحدهما لاحقا ، فإنه لا يلزم من استصحاب نجاسة كل منهما مخالفة عملية ، لان العلم بطهارة أحدهما لا يقتضي تكليفا ليلزم من جريانهما مخالفة عملية ، لما عرفت من عدم إمكان الحكم ببقاء المستصحبين مع العلم بانتقاض أحدهما ، وهذا يرجع إلى عدم إمكان الجعل ثبوتا (2) ولا دخل للمخالفة العملية وعدمها في ذلك. ويترتب على ذلك عدم
ص: 15
نجاسة الملاقي لاحد الانائين في المثال الأخير ، لعدم جريان استصحاب النجاسة فيهما ليحكم بنجاسة الملاقي لأحدهما ، وسيأتي في أواخر الاستصحاب مزيد توضيح لذلك مع بعض ما يرد عليه من النقوض والجواب عنها.
فتحصل مما ذكرنا : أن المانع من جريان الأصول التنزيلية في أطراف العلم الاجمالي ليس هو انتفاء الموضوع ولا المخالفة العملية ، بل لان المجعول فيها معنى لا يعقل ثبوته في جميع الأطراف.
وأما الأصول الغير التنزيلية - كأصالة الطهارة والبرائة والحل ونحو ذلك - فلا
ص: 16
مانع من جريانها في أطراف العلم الاجمالي إلا المخالفة القطعية العملية للتكليف المعلوم في البين ، فهي لا تجري إن لزم من جريانها مخالفة عملية للتكليف المعلوم بالاجمال ، وتجري إن لم يستلزم ذلك.
والسرّ فيه : هو أن المجعول فيها مجرد تطبيق العمل على أحد طرفي الشك من دون تنزيل المؤدى منزلة الواقع المشكوك فيه ، كما كان هو المجعول في الأصول التنزيلية ، فان مفاد أصالة الإباحة هو مجرد الترخيص الظاهري وعدم المنع من الفعل والترك : ولا مانع من الترخيص الظاهري في كل واحد من الأطراف من حيث نفسه مع قطع النظر عن استلزامه المخالفة العملية ، فإنه لا يضاد نفس المعلوم بالاجمال ، لان الترخيص يرد على كل طرف بخصوصه في غير دوران الامر بين المحذورين ، وكل طرف بالخصوص مجهول الحكم ، فالموضوع للترخيص الظاهري محفوظ في كل واحد من الأطراف : وليس فيه جهة إحراز وتنزيل للواقع المشكوك فيه حتى يضاد الاحراز التعبدي في كل طرف للاحراز الوجداني بالخلاف في أحد الأطراف ، فينحصر المانع بالمخالفة العملية للتكليف المعلوم بالاجمال.
ودعوى : أنه لا مانع من الترخيص الظاهري في المخالفة العملية واضحة الفساد ، فان المخالفة العملية مما لا يمكن أن تنالها يد الاذن والترخيص ، لأنها عبارة عن المعصية ، ولا يعقل الاذن في المعصية ، لاستقلال العقل بقبح المعصية كاستقلاله بحسن الطاعة وليست من المجعولات الشرعية : ولو فرض أنه ورد من الشارع الاذن في المخالفة للمعلوم بالاجمال فلابد من حمله على نسخ الحكم أو تقييده بصورة العلم التفصيلي ولو بنتيجة التقييد ، والكلام إنما هو بعد الفراغ عن إطلاق الحكم الواقعي وعدم تقييده بالعلم التفصيلي وانحصار جهة البحث في انحفاظ رتبة الحكم الظاهري من حيث إنه حكم ظاهري ، كما تقدم في صدر العنوان ، ومن المعلوم بالبداهة : أن نتيجة الجعل الظاهري وهي الجري العملي والترخيص الظاهري في جميع الأطراف تنافي العلم بالتكليف المنجز في البين
ص: 17
بعد البناء على أن العلم الاجمالي كالتفصيلي يقتضي التنجيز ، فلا تكون رتبة الجعل الظاهري محفوظة بالنسبة إلى جميع الأطراف.
فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن عدم انحفاظ رتبة الحكم الظاهري يكون لاحد أمور :
إما لانتفاء الموضوع ، وينحصر ذلك في أصالة الإباحة عند دوران الامر بين المحذورين.
وإما لقصور المجعول عن شموله للأطراف كما في الأصول التنزيلية ، سواء كانت نافية للتكليف المعلوم بالاجمال أو مثبتة له.
وإما لعدم إمكان تطبيق العمل على المؤدى كما في الأصول الغير التنزيلية النافية للتكليف المعلوم بالاجمال ، كأصالة الإباحة والبرائة عند العلم بوجوب أحد الشيئين.
وأما إذا كانت مثبتة للتكليف المعلوم فلا مانع من جريانها كما في أصالة الحرمة في باب الدماء والفروج والأموال (1) عند العلم بحرمة إراقة دم أحد الشخصين أو حرمة إحدى المرأتين أو المالين وحلية الآخر ، فان أصالة الحرمة في كل من الشخصين والمرأتين والمالين تجري من دون أن يلزم منها مخالفة عملية لان مؤداها موافق للمعلوم بالاجمال. هذا كله بحسب مقام الثبوت والجعل.
وأما بحسب مقام الاثبات فأدلة الأصول العملية بقسميها من التنزيلية وغيرها تشمل أطراف العلم الاجمالي ، لما عرفت من أن الأصول إنما تجري في الأطراف ، وكل واحد من الأطراف مجهول الحكم ، فيشمله قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » وقوله صلی اللّه علیه و آله « رفع
ص: 18
ما لا يعلمون » وقوله علیه السلام « كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه » (1) وقوله علیه السلام « كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه قذر » وغير ذلك من أدلة الأصول ، فان كل واحد من الأطراف مما يشك في بقاء الحالة السابقة فيه أو مما لا يعلم أو لا يعرف أنه حرام أو طاهر فتشملها أدلتها. فإذا لم يكن في مقام الثبوت مانع عن الجعل بأن كانت رتبتها محفوظة - بالتفصيل المتقدم - لم يكن في مقام الاثبات مانع عن شمول الأدلة لجميع الأطراف ، لعموم أدلة الأصول للشبهات البدوية والمقرونة بالعلم الاجمالي.
هذا ، ولكن يظهر من بعض كلمات الشيخ قدس سره عدم شمول أدلتها للشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ، بدعوى : أنه يلزم من الشمول مناقضة صدر الدليل لذيله حيث قال قدس سره في آخر مبحث الاستصحاب عند تعارض الاستصحابين ما هذا لفظه : الثانية : أنه إذا لم يكن مرجح ، فالحق التساقط دون التخيير ، لا لما ذكره بعض المعاصرين. إلى أن قال بل لان العلم الاجمالي هنا بانتقاض أحد الضدين يوجب خروجهما عن مدلول « لا تنقض » لان قوله : « لا تنقض اليقين بالشك ولكن تنقضه بيقين مثله » يدل على حرمة النقض بالشك ووجوب النقض باليقين ، فإذا فرض اليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين فلا يجوز إبقاء كل منهما تحت عموم حرمة النقض بالشك ، لأنه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله. إلى أن قال : وقد تقدم نظير ذلك في الشبهة المحصورة : وأن قوله علیه السلام « كل شيء حلال حتى تعرف أنه حرام » لا يشمل شيئا من المشتبهين. انتهى موضوع الحاجة من كلامه ، زيد في علو مقامه.
ومراده مما تقدم : هو ما ذكره في أول الشك في المكلف به ، فإنه قد أطال
ص: 19
الكلام في وجه عدم شمول قوله علیه السلام « كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه » لموارد العلم الاجمالي ، وأن لفظة « بعينه » لا دلالة لها على الشمول.
ومن ذلك كله يظهر : أن المانع عنده من جريان الأصول في أطراف العلم الاجمالي هو جهة الاثبات وعدم شمول أدلة الأصول للشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ، لا جهة الثبوت ، فإنه لو كان المانع هو عدم إمكان الجعل ثبوتا لم يكن موقع لإطالة الكلام في شمول لفظة « بعينه » للأطراف وعدم شمولها ، فان لفظة « بعينه » - كانت في هذه الأخبار أولم تكن - لا دخل لها بمقام الجعل ، فالبحث عن دلالة لفظة « بعينه » وعدم دلالتها ينحصر وجهه بمقام الاثبات لا الثبوت.
نعم : يظهر من كلامه في حجية القطع عند البحث عن حرمة المخالفة الالتزامية الموارد العلم الاجمالي أن المانع من جريان الأصول في الأطراف هو لزوم المخالفة العملية ، ويظهر منه ذلك أيضا في مواضع اخر من الكتاب.
وبالجملة : قد اختلفت كلمات الشيخ قدس سره في وجه عدم جريان الأصول العملية في أطراف العلم الاجمالي.
فمن بعضها يظهر أن. المانع هو لزوم المخالفة القطعية العملية للتكليف المعلوم في البين. وهذا يرجع إلى مقام الجعل ، حيث لا يعقل جعل ما يؤدي إلى المخالفة القطعية.
ومن بعضها يظهر أن الوجه في ذلك هو قصور الأدلة وعدم شمولها للشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي.
وعلى كل حال : إن رجع كلامه قدس سره إلى مقام الثبوت والجعل وان المانع من جريان الأصول في الأطراف هو لزوم المخالفة العملية فهو حق في خصوص الأصول الغير التنزيلية النافية للتكليف ، وأما الأصول التنزيلية فالمانع من جريانها ليست هي المخالفة العملية ، بل هو قصور المجعول فيها لان يعم
ص: 20
الأطراف : لأنه لا يمكن الحكم بالبناء العملي على بقاء الواقع في كل من الأطراف مع العلم الوجداني بعدم بقائه في بعضها ، على ما تقدم بيانه.
وإن رجع كلامه إلى مقام الاثبات وأن أدلة الأصول لا تشمل الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ، فيرد عليه :
أولا : ما عرفت من أن الأصول العملية إنما تجري في الأطراف وكل واحد من الأطراف مجهول الحكم ، فلم يحصل ما اخذ في الأدلة غاية للتعبد بمؤدى الأصول وهو العلم بالخلاف في كل واحد من الأطراف ، ومجرد العلم بالخلاف وانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف على سبيل الاجمال لا يوجب خروج كل واحد من الأطراف عن كونه مجهول الحكم ، وإلا انقلب العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي (1).
ص: 21
نعم : هذا إنما يتم في خصوص الأصل الذي يضاد مؤداه نفس المعلوم بالاجمال ، وذلك منحصر بأصالة الإباحة عند دوران الامر بين المحذورين كما تقدم بيانه ، وأما ما عدا ذلك فليس شيء من مؤديات الأصول تقابل نفس المعلوم بالاجمال وتضاده ، لان مؤدياتها هي حلية كل واحد من الأطراف أو طهارته أو عدم وجوبه - على اختلاف الأصول - ولم يحص العلم بالخلاف بالنسبة إلى كل واحد منها وإن حصل العلم بالخلاف بالنسبة إلى واحد منها على سبيل الاجمال والترديد. فلا فرق بين الشبهات البدوية والمقرونة بالعلم الاجمالي في شمول الأدلة لهما وكونهما مندرجين تحت العموم على نسق واحد ، ولا يلزم من الشمول مناقضة صدر الدليل لذيله.
وثانيا : أنه لو كان المانع من عدم جريان الأصول في الأطراف هو قصور الأدلة وعدم شمولها لها لأجل حصول الغاية في بعض الأطراف ، على ما زعمه قدس سره فأي فرق بين ما يلزم من جريانها مخالفة عملية وما لا يلزم؟ فان شمول الدليل وعدمه لا دخل له بالمخالفة العملية وعدمها ، إذ العلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف لا على التعيين إن أوجب حصول ما اخذ في الدليل غاية ففي الجميع يوجب ذلك كانت هناك مخالفة عملية أو لم تكن ، وإن كان العلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف لا يوجب حصول ما اخذ غاية ففي الجميع لا يوجب ذلك ، مع أنه قدس سره قد صرح في مواضع من الكتاب بجريان الأصول العملية في أطراف العلم الاجمالي إذا لم يلزم منها المخالفة العملية. فراجع كلامه في حجية القطع عند البحث عن المخالفة الالتزامية.
وثالثا : أن مناقضة الصدر للذيل - على تقدير تسليمه - إنما يختص ببعض
ص: 22
اخبار الاستصحاب الذي اشتمل على الذيل ، فإنه هو الذي يمكن أن يتوهم منه أن حصول يقين آخر وإن لم يتعلق بعين ما تعلق به اليقين السابق يوجب عدم شمول الصدر للأطراف وإلا ناقض صدره ذيله.
وأما مالا يشتمل منها على هذا الذيل من أخبار الاستصحاب وغيرها حتى قوله علیه السلام « كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه » أو « منه بعينه » - على اختلاف الأخبار الواردة في ذلك - فهو سالم عن إشكال مناقضة الصدر للذيل.
أما ما كان من قبيل قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لايعلمون » مما لم يذكر فيه الغاية ، فواضح.
وأما ما كان من قبيل قوله علیه السلام « كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه » ، وقوله علیه السلام » كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه قذر » وغير ذلك مما اشتمل على ذكر الغاية فلظهوره أيضا في وحدة متعلق الشك والغاية ، لظهور الضمير في ذلك. وفي الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي لا يتحد متعلق الشك والغاية ، فان متعلق الشك هو كل واحد من الأطراف بعينه ، ومتعلق الغاية هو أحد الأطراف لا بعينه ، فكل واحد من الأطراف يندرج في الصدر بلا أن يعارضه الذيل.
فتحصل : أن دعوى عدم شمول أدلة الأصول للشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي خالية عن الشاهد بل ظاهر الأدلة خلافها : ولابد من رفع اليد عن ظاهرها في كل مورد لا يمكن التعبد بالمؤدى لعدم انخفاظ رتبة الحكم الظاهري بأحد الأمور المتقدمة : إما لانتفاء الموضوع من الشك والجهل الذي اخذ موضوعا في الأصول العملية ، وإما لقصور المحمول وما هو المجعول فيها عن شموله لموارد العلم الاجمالي ، وإما للزوم المخالفة القطعية العملية للتكليف المعلوم بالاجمال ، وفيما عدا ذلك فالأصول تجري في الأطراف ويعمها الأدلة بلا معارض.
ص: 23
وحينئذ لا يبقى موقع لاتعاب النفس وإطالة الكلام فيما يستفاد من لفظة « بعينه » الواردة في أخبار أصالة الحل بعد فرض كون أخبار أصالة الحل كسائر أدلة الأصول إنما وردت لبيان الحكم الظاهري وجعل الوظيفة للجاهل بالموضوع أو الحكم الواقعي ، أو خصوص الجاهل بالموضوع ولا تشمل الجاهل بنفس الحكم ابتداء ، على اختلاف الوجهين فيما يستفاد من أخبارها من أنها تختص بالشبهات الموضوعية أو تعم الحكمية أيضا.
نعم : لو كانت الاخبار بصدد بيان الحكم الواقعي وتقييده بصورة العلم بالموضوع أو الحكم لكان للبحث عن مقدار دلالتها من حيث إنها تقتضي التقييد بخصوص العلم التفصيلي بالموضوع أو الحكم أو تعم العلم الاجمالي أيضا مجال ، إلا أن ذلك مع كونه خلاف الفرض - لان المبحوث عنه في المقام هو جريان الأصول العملية المتكفلة للأحكام الظاهرية - يأباه ظاهر الاخبار ، فان الظاهر منها أنها وردت لبيان وظيفة الجاهل بالحكم أو الموضوع بعد الفراغ عن إطلاق الحكم الواقعي.
ومن جميع ما ذكرنا ظهر الوجه في حرمة المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالاجمال وعدم جواز الاذن فيها إلا بنسخ الحكم الواقعي أو تقييده بصورة العلم التفصيلي.
- أعني وجوب الموافقة القطعية - فالأقوى وجوبها أيضا ، لأنه يجب عقلا الخروج عن عهدة التكليف المعلوم بالاجمال ، وهو لا يحصل إلا بالاجتناب عن جميع الأطراف ، إذ لو لم يجتنب المكلف عن الجميع وارتكب البعض فلا يأمن من مصادفة ما ارتكبه لمتعلق التكليف المعلوم في البين ، فيكون قد ارتكب الحرام بلا مجوز عقلي أو شرعي ، فيستحق العقوبة : وذلك كله واضح بعد البناء على أن
ص: 24
العلم الاجمالي كالتفصيلي يقتضي التنجيز.
نعم : للشارع الاذن في ارتكاب البعض والاكتفاء عن الواقع بترك الآخر كما سيأتي بيانه ، ولكن هذا يحتاج إلى قيام دليل بالخصوص عليه غير الأدلة العامة المتكفلة لحكم الشبهات ، من قبيل قوله علیه السلام « كل شيء لك حلال » أو « كل شيء طاهر » قوله « لا تنقض اليقين بالشك » وقوله صلی اللّه علیه و آله . « رفع ما لايعلمون » وغير ذلك من أدلة الأصول العملية ، لان نسبتها إلى كل واحد من الأطراف على حد سواء : ولا يمكن أن تجري في الجميع لأنه يلزم المخالفة القطعية ، ولا في الواحد المعين لأنه يلزم الترجيح بلا مرجح ، ولا في الواحد لا بعينه لان الأصول إنما تجري في كل طرف بعينه : ومقتضى ذلك هو سقوط الأصول بالنسبة إلى جميع الأطراف ، من غير فرق بين الأطراف التي يمكن ارتكابها دفعة واحدة وبين الأطراف التي لا يمكن ارتكابها إلا تدريجا ، لاتحاد مناط السقوط في الجميع : ويبقى حكم العقل بوجوب الخروج عن عهدة التكليف المعلوم على حاله.
فان قلت : نعم وإن كانت نسبة الأصول إلى كل واحد من الأطراف على حد سواء ، إلا أن ذلك لا يقتضي سقوطها جميعا ، بل غاية ما يقتضيه هو التخيير في إجراء أحد الأصلين المتعارضين ، لأنه بعد الاعتراف بعموم أدلة الأصول وشمولها للشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي - كما تقدم - تكون حال الأصول العملية حال الامارات على القول بالسببية فيها. وتوضيح ذلك : هو أن التخيير في باب الامارات المتعارضة على ذلك القول إنما هو لأجل وقوع المزاحمة بينهما في مقام الامتثال ، لعدم القدرة على الجمع بين الامارات المتضادة في المؤدى : ولابد حينئذ
إما من تقييد إطلاق الامر بالعمل بمؤدى كل من الامارتين المتعارضتين بحال عدم العمل بالأخرى - إن لم يكن أحد المؤديين أهم وأولى بالرعاية من الآخر ، وإلا فيقيد إطلاق أمر المهم فقط ويبقى إطلاق أمر الأهم على حاله - واما من سقوط الامرين معا واستكشاف العقل حكما تخييريا لأجل وجود
ص: 25
الملاك التام في متعلق كل من الامارتين على الوجهين المذكورين في باب التزاحم : من أن التخيير بين المتزاحمين هل هو لأجل تقييد إطلاق الخطاب من الجانبين مع بقاء أصله؟ أو هو لأجل سقوط الخطابين واستكشاف العقل حكما تخييريا؟.
والأقوى : هو الوجه الأول ، لان التزاحم إنما ينشأ من عدم القدرة على الجمع بين المتزاحمين في مقام الامتثال ، والمقتضي لايجاب الجمع إنما هو إطلاق كل من الخطابين لحال امتثال الآخر وعدمه ، إذ لو لم يكن للخطابين هذا الاطلاق وكان كل منهما مشروطا بعدم امتثال الآخر لما كاد يحصل إيجاب الجمع الموجب لوقوع التزاحم بينهما ، ومن المعلوم : أن الذي لابد منه هو سقوط ما أوجب التزاحم وليس هو إلا إطلاق الخطابين : فلا موجب لسقوط أصلهما ، لان الضرورات تتقدر بقدرها. وقد أوضحنا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في محله : والمقصود في المقام مجرد التنبيه على المختار : من أن التخيير بين المتزاحمين إنما يكون لأجل تقييد إطلاق الامر من الجانبين.
ومن جملة أفراد التزاحم : تزاحم الامارات المتعارضة على القول بالسببية فيها ، لأنه على هذا القول تندرج الامارات المتعارضة في صغرى التزاحم : ولابد من الحكم بالتخيير في الاخذ بإحدى الامارتين لتقييد إطلاق الامر بالعمل بكل منهما بحال عدم العمل بالأخرى ، وحينئذ يستقيم تنظير باب الأصول العملية بباب الامارات ، بتقريب : أن حجية كل أصل عملي إنما تكون مطلقة بالنسبة إلى ما عداه من سائر الأصول لاطلاق دليل اعتباره ، وهذا الاطلاق يكون محفوظا في الشبهات البدوية والمقرونة بالعلم الاجمالي إذا لم يلزم من جريان الأصول في الأطراف مخالفة عملية لعدم التعارض بينها ، فلا موجب لتقييد إطلاق حجيتها : وأما إذا لزم من جريانها في الأطراف مخالفة عملية فلا يمكن بقاء إطلاق الحجية لكل من الأصول الجارية في الأطراف ، لان بقاء الاطلاق
ص: 26
يقتضي صحة جريانها في جميع الأطراف ، والمفروض عدم صحة ذلك ، لأنه يلزم من جريانها في الجميع مخالفة قطعية عملية ، فلابد من رفع اليد عن إطلاق الحجية. ولكن هذا لا يوجب سقوط أصل الحجية من كل أصل في كل واحد من الأطراف ، بل غاية ما يلزم هو تقييد إطلاق حجية كل من الأصلين المتعارضين أو الأصول المتعارضة بحال عدم جريان الأصل الآخر في الطرف المقابل. ونتيجة هذا التقييد هو التخيير في إجراء أحد الأصلين لا سقوطهما رأسا ، فان المانع من إجراء الأصلين معا ليس هو إلا المخالفة العملية ، وهي لم تلزم من نفس حجية الأصلين ، بل من إطلاق حجيتها لحال إجراء الآخر وعدمه ، إذ لو كان حجية كل أصل مشروطا بحال عدم إجراء الأصل الآخر لم تحصل المخالفة العملية ، فالمخالفة العملية انما نشأت من إطلاق الحجية لكل من الأصلين المتعارضين ، فلابد من تقييد حجية كل من الأصلين بحال عدم إجراء الآخر ، كتقييد الامر بالعمل بكل من الامارتين المتعارضتين بحال عدم العمل بالأخرى من غير فرق بينهما ، سوى أن الموجب للتقييد في الامارتين المتعارضتين هو عدم القدرة على العمل بهما جمعا ، وفي الأصلين المتعارضين هو لزوم المخالفة العملية من جرائهما معا.
وحاصل الكلام : أن حجية كل أصل عملي إنما تكون مشروطة بانخفاظ رتبة الأصل كاشتراط كل تكليف بالقدرة على متعلقه ، وكما أنه في باب التكاليف الواقعية تكفي القدرة على امتثال أحد التكليفين المتزاحمين في الحكم بالتخيير بينهما ، فكذلك في باب الأصول العملية يكفي انحفاظ رتبة أحد الأصلين المتعارضين في الحكم بالتخيير بينهما ، ولا إشكال في انحفاظ رتبة كل من الأصلين عند عدم إجراء الآخر ، فلا وجه لسقوطهما معا.
قلت : هذا غاية ما يمكن أن توجه به مقالة التخيير ، وقد ذهب إليه بعض الأعاظم في حاشيته على الفرائد وتبعه بعض أعيان أهل العصر.
ص: 27
ولكن الانصاف : أن القول بالتخيير في الأصول المتعارضة في غاية الوهن والسقوط ، لأنه قول بلا دليل ولا يساعد عليه العقل ولا النقل ، فان التخيير في إعمال أحد الأصلين المتعارضين لابد وأن يكون لاحد أمرين : إما لكون المجعول في باب الأصول العملية معنى يقتضي التخيير في تطبيق العمل على أحد الأصلين المتعارضين ، وإما لأجل اقتضاء أدلة الحجية ذلك ، ومن الواضح أن المجعول في الأصول ودليل حجيتها لا يقتضي التخيير في إجراء أحد الأصلين المتعارضين ، وقياس الأصول العملية بالامارات في غير محله ، فان التخيير في الاخذ بإحدى الامارتين المتعارضتين على القول بالسببية فيها إنما هو لأجل كون المجعول في الامارات معنى يقتضي التخيير في الاخذ بإحدى الامارتين المتعارضتين.
وتوضيح ذلك : هو أن الموارد التي نقول فيها بالتخيير مع عدم قيام دليل عليه بالخصوص لا تخلو عن أحد أمرين :
أحدهما : اقتضاء الكاشف والدليل الدال على الحكم التخيير في العمل.
ثانيهما : اقتضاء المنكشف والمدلول ذلك وإن كان الدليل يقتضي التعيينية (1).
ص: 28
فمن الأول : ما إذا ورد عام ، كقوله : « أكرم العلماء » وعلم بخروج زيد وعمرو عن العام ، ولكن شك في أن خروجهما هل هو على وجه الاطلاق بحيث لا يجب إكرام كل منهما في حال من الأحوال؟ أو أن خروجهما ليس على وجه الاطلاق بل كان خروج كل منهما مشروطا بحال عدم إكرام الآخر؟ بمعنى أن يكون عدم وجوب إكرام كل منهما مقيدا بحال إكرام الآخر بحيث يلزم من خروج أحدهما عن العموم دخول الآخر فيه.
وبعبارة أوضح : يدور أمر المخصص بين أن يكون أفراديا وأحواليا لو كان خروج الفردين على وجه الاطلاق ، أو أحواليا فقط لو كان خروج أحدهما في حال دخول الآخر. والوظيفة في مثل هذا الفرض هو التخيير في إكرام أحد الفردين وترك إكرام الآخر ، ولا يجوز ترك إكرام كل منهما ، لان مرجع الشك في ذلك إلى الشك في مقدار الخارج عن عموم وجوب إكرام العلماء ، ولابد من الاقتصار على المتيقن خروجه وهو التخصيص الأحوالي فقط ، لأنه لو قلنا بخروج الفردين مطلقا في جميع الأحوال يلزم زيادة تخصيص على ما إذا كان الخارج كل منهما مشروطا بدخول الآخر ، فإنه على هذا يدخل أحد الفردين تحت العموم على كل حال ، فلا محيص عن القول بالتخيير في إكرام أحدهما وعدم إكرام الآخر
ص: 29
ولكن الحكم بالتخيير في مثل هذا الفرض إنما نشأ من اجتماع دليل العام وإجمال دليل الخاص بضميمة وجوب الاقتصار على القدر المتيقن في التخصيص ، فان اجتماع هذه الأمور أوجب التخيير في العمل ، وليس التخيير فيه لأجل اقتضاء المجعول ذلك ، بل المجعول في كل من العام والخاص هو الحكم التعييني ، والتخيير فيه إنما نشأ من ناحية الدليل لا المدلول ، بالبيان المتقدم.
ومن الثاني : ما إذا تزاحم الواجبان في مقام الامتثال لعدم القدرة على الجمع بينهما ، فان التخيير في باب التزاحم إنما هو لأجل أن المجعول في باب التكاليف معنى يقتضي التخيير في امتثال أحد المتزاحمين ، لأنه يعتبر عقلا في المجعولات الشرعية القدرة على امتثالها لقبح تكليف العاجز ، والمفروض حصول القدرة على امتثال كل من المتزاحمين عند ترك امتثال الاخر ، ولا موجب لتعين صرف القدرة في امتثال أحدهما بالخصوص ، لان كلا من المتزاحمين صالح لان يكون معجزا مولويا وشاغلا عن الآخر ، إذ كل تكليف يستدعي نفي الموانع عن وجود متعلقه وحفظ القدرة عليه ، وحيث لا يمكن الجمع بينهما في الامتثال ، فالعقل يستقل حينئذ بصرف القدرة في أحدهما تخييرا ، إما لأجل تقييد التكليف في كل من المتزاحمين بحال عدم امتثال الآخر ، وإما لأجل سقوط التكليفين معا واستكشاف العقل حكما تخييريا لوجود الملاك التام في كل منهما ، على اختلاف المسلكين في ذلك ، كما تقدمت الإشارة إليهما.
وعلى كل حال : التخيير في باب التزاحم لم ينشأ من ناحية الدليل الدال على وجوب كل من المتزاحمين ، بل نشأ من ناحية المدلول والمنكشف ، لما عرفت : من أن المجعول في باب التكاليف إنما يقتضي التخيير في امتثال أحد التكليفين عند تعذر الجمع ، بالبيان المتقدم. وقد استقصينا الكلام في ذلك في محله. والفرق بين التخيير الجائي من قبل الدليل والتخيير الجائي من قبل المدلول ، هو أن التخيير في الأول ظاهري وفي الثاني واقعي ، كما لا يخفى وجهه.
ص: 30
إذا عرفت ذلك ، فنقول : إن القول بالتخيير في باب تعارض الأصول مما لا شاهد عليه ، لا من ناحية الدليل والكاشف ، ولا من ناحية المدلول والمنكشف.
أما انتفاء الشاهد من ناحية الدليل : فهو مما لا يكاد يخفى ، فان دليل اعتبار كل أصل من الأصول العملية إنما يقتضي جريانه عينا سواء عارضه أصل آخر أو لم يعارضه ، وليس في الأدلة ما يوجب التخيير في إجراء أحد الأصلين المتعارضين (1)
وأما انتفاء الشاهد من ناحية المدلول : فلان المجعول في باب الأصول العلمية ليس هو إلا الحكم بتطبيق العمل على مؤدى الأصل ، إما بقيد أنه الواقع ، وإما لا بقيد ذلك - على اختلاف المجعول في باب الأصول التنزيلية وغيرها - ولكن الحكم بذلك ليس على إطلاقه ، بل مع انحفاظ رتبة الحكم الظاهري باجتماع القيود الثلاثة المتقدمة ، وهي الجهل بالواقع ، وإمكان الحكم على المؤدى بأنه الواقع ، وعدم لزوم المخالفة العملية ، بالتفصيل المتقدم ، فعند اجتماع هذه القيود الثلاثة يصح جعل الحكم الظاهري بتطبيق العمل على المؤدى ، ومع انتفاء أحدها لا يكاد يمكن جعل ذلك ، وحيث إنه يلزم من جريان الأصول في أطراف العلم الاجمالي مخالفة عملية فلا يمكن جعلها جمعا ، وكون المجعول أحدها تخييرا وإن كان بمكان من الامكان ، إلا أنه لا دليل عليه ، لا من ناحية أدلة الأصول ، ولا من ناحية المجعول فيها (2).
ص: 31
والحاصل : أن مجرد عدم صحة الجمع في إجراء الأصلين المتعارضين لا يوجب الحكم بالتخيير بينهما ، فان الحكم التخييري كسائر الاحكام يحتاج إلى قيام الدليل عليه. وقياس باب الأصول العملية بباب الامارات على القول بالسببية فيها ليس في محله ، لما عرفت من أن التخيير في العمل بإحدى الامارتين المتعارضتين على ذلك القول إنما هو لأجل أن المجعول في الامارات يقتضي التخيير في صورة التعارض لاندراجها في باب التزاحم الذي قد عرفت أن التخيير فيه ينشأ من ناحية المجعول ، بالبيان المتقدم ، وأين هذا من باب الأصول العملية المجعولة وظيفة للشاك في الحكم أو الموضوع؟.
فظهر : أن القول بالتخيير في إجراء أحد الأصلين المتعارضين مما لا دليل عليه ، وإنما أطلنا الكلام في ذلك ، لان شبهة التخيير قد غرست في أذهان بعض طلبة العصر ، وبعد البيان المتقدم لا أظن بقاء الشبهة في الأذهان (1) وسيأتي في آخر الاستصحاب مزيد توضيح لذلك.
فتحصل مما ذكرنا : أن القاعدة في مورد تعارض الأصول تقتضي السقوط ، ويبقى التكليف المنجز المعلوم بالاجمال على حاله (2) والعقل يستقل بوجوب
ص: 32
موافقته والخروج عن عهدته ، إما بالوجدان ، وإما بالتعبد من الشارع. ولا ينحصر
ص: 33
طريق الخروج عن عهدة التكليف المعلوم بالاجمال بالقطع الوجداني ، ضرورة أن التكليف المعلوم بالاجمال لا يزيد على التكليف المعلوم بالتفصيل ، وهو لا ينحصر طريق امتثاله بالقطع الوجداني ، بل يكفي التعبد الشرعي ، كموارد قاعدة الفراغ والتجاوز وغير ذلك من الأصول المجعولة في وادي الفراغ (1) فان كان هذا حال العلم التفصيلي فالعلم الاجمالي أولى منه في ذلك ، لان الواقع لم ينكشف فيه تمام الانكشاف ، فيجوز للشارع الترخيص في بعض الأطراف والاكتفاء عن الواقع بترك الآخر ، سواء كان الترخيص واقعيا كما إذا اضطر إلى ارتكاب
ص: 34
بعض الأطراف ، أو ظاهريا كما إذا كان في بعض الأطراف أصل ناف للتكليف غير معارض بمثله ، على ما سيأتي تفصيله.
والحاصل : أن الذي لابد منه عقلا هو القطع بالخروج عن عهدة التكليف ، والعلم بحصول المؤمن من تبعات مخالفته ، وهذا كما يحصل بالموافقة القطعية الوجدانية بترك الاقتحام في جميع الأطراف ، كذلك يحصل بالموافقة القطعية التعبدية بترك الاقتحام في بعض الأطراف مع الاذن الشرعي في ارتكاب البعض الآخر (1) ولو بمثل أصالة الإباحة والبرائة إذا فرض جريانهما في بعض الأطراف بالخصوص ولم يجريا في الطرف الآخر ليقع المعارضة بينهما.
نعم : لا يجوز الاذن في جميع الأطراف ، لأنه إذن بالمعصية ، والعقل يستقل بقبحها ، وأما الاذن في البعض فهو هما لا مانع عنه ، فان ذلك يرجع في الحقيقة إلى جعل الشارع الطرف الغير المأذون فيه بدلا عن الواقع (2) والاكتفاء بتركه عنه لو فرض أنه صادف المأذون فيه للواقع وكان هو الحرام المعلوم في البين.
ودعوى : أنه ليس للشارع الاكتفاء عن الواقع ببدله مما لا شاهد عليها ، وإلى ذلك يرجع ما تكرر في كلمات الشيخ قدس سره من إمكان جعل بعض الأطراف بدلا عن الواقع ، فإنه ليس المراد منه تنصيص الشارع بالبدلية ، بل نفس الاذن في البعض يستلزم بدلية الآخر قهرا.
ص: 35
ومما ذكرنا ظهر الوجه فيما أفاده الشيخ قدس سره من أن العلم الاجمالي يكون علة تامة لحرمة المخالفة القطعية ومقتضيا لوجوب الموافقة القطعية فان عليته لحرمة المخالفة القطعية إنما هي لأجل عدم جواز الاذن فيها ، بخلاف الموافقة القطعية ، فإنه يجوز الاذن بتركها بالترخيص في البعض ، فدعوى التلازم بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية وأن العلم الاجمالي إما أن يكون علة لهما معا وإما أن لا يكون علة لهما ، في غاية الضعف (1) لما عرفت : من أن العلم الاجمالي لا يزيد على العلم التفصيلي ، فكيف يكون العلم الاجمالي علة تامة لوجوب موافقته القطعية مع أن العلم التفصيلي لا يكون علة تامة له؟!
نعم يصح أن يقال : إن العلم الاجمالي كالعلم التفصيلي يكون علة تامة لوجوب الموافقة القطعية بتعميم الموافقة القطعية إلى الوجدانية والتعبدية لا خصوص الوجدانية. وذلك كله واضح لا يهمنا إطالة الكلام فيه ، وإنما المهم بيان ما يوجب الترخيص الواقعي أو الظاهري في بعض الأطراف دون الآخر. أما الترخيص الواقعي : فموجبه حدوث أحد الأسباب الرافعة للتكليف واقعا من اضطرار ونحوه ، وسيأتي البحث عنه في بعض التنبيهات.
وأما الترخيص الظاهري : فينحصر موجبه بما إذا كان في بعض الأطراف أصل ناف للتكليف غير معارض بمثله : وذلك إنما يكون بقيام ما يوجب ثبوت
ص: 36
التكليف في بعض الأطراف المعين : من علم أو أمارة أو أصل شرعي أو عقلي ، لكن يبقى الأصل النافي للتكليف في الطرف الآخر بلا معارض ، من غير فرق بين أن يكون الموجب لثبوت التكليف في البعض حاصلا قبل العلم الاجمالي أو بعده ، غايته : أنه في الأول يوجب عدم تأثير العلم الاجمالي ، وفي الثاني يوجب انحلاله (1).
وتفصيل ذلك : هو أن المثبت للتكليف في بعض الأطراف المعين قد يكون هو العلم ، وقد يكون أمارة ، وقد يكون أصلا شرعيا تنزيليا أو غير تنزيلي ، وقد يكون أصلا عقليا ، وعلى جميع التقادير قد يكون ذلك حاصلا قبل العلم الاجمالي ، وقد يكون حاصلا بعده ، وأمثلة الكل وإن كانت لا تخفى على المتأمل ، إلا أنه لا بأس بذكرها تشريحا للذهن.
أما أمثلة ما إذا كان المثبت للتكليف في البعض حاصلا قبل العلم الاجمالي ، فيجمعها ما إذا علم تفصيلا بحرمة شيء معين لنجاسته أو غصبيته أو غير ذلك من أسباب الحرمة ، أو قامت أمارة على حرمته ، أو كان مستصحب الحرمة ، أو كان مما تجري فيه أصالة الحرمة لكونه من الدماء والفروج والأموال ، أو كان مما يجب الاجتناب عنه عقلا لكونه من أطراف العلم الاجمالي ، ثم بعد ذلك حدث موجب آخر للحرمة من سنخ السبب السابق وتردد متعلقها بين أن يكون هو ذلك الشيء المعين الذي كان يجب الاجتناب عنه سابقا أو شيئا آخر ، ففي جميع هذه الصور العلم الاجمالي الحادث مما لا أثر له ، لسبق التكليف بوجوب
ص: 37
الاجتناب عن بعض أطرافه ، ويحتمل أن يكون متعلق الحادث هو الذي كان يجب الاجتناب عنه سابقا ، ومعه لا يعلم بحدوث تكليف فعلي آخر : والعلم الاجمالي إنما يقتضي وجوب الاجتناب عن أطرافه إذا كان علما بالتكليف (1).
وبتقريب آخر : العلم الاجمالي إنما يقتضي وجوب الموافقة القطعية إذا كانت الأصول النافية للتكليف الجارية في الأطراف متعارضة ، وفي جميع الفروض المتقدمة لا تكون الأصول متعارضة ، لان أحد طرفي العلم الاجمالي لا يجري فيه الأصل النافي للتكليف ، لوجوب الاجتناب عنه على كل حال ، فيبقى الطرف الآخر جاريا فيه الأصل النافي بلا معارض ، فلا موجب للاجتناب عنه (2).
نعم : لو كان الموجب الحادث يقتضي أثرا زائدا عما كان يقتضيه السبب السابق ، كما إذا كان السبب لوجوب الاجتناب عن الشيء المعين هي النجاسة التي لا يجب التعدد في غسلها كالدم وكان الموجب الحادث مما يجب فيه التعدد كالبول ، فالعلم الاجمالي يؤثر بمقدار الأثر الزائد ، والأصول بالنسبة إليه متعارضة ، وسيأتي توضيحه.
هذا كله لو علم بحدوث سبب آخر للتكليف غير ما كان سابقا. وقس عليه ما إذا احتمل ذلك ، كما إذا قامت البينة على نجاسة أحد الانائين بلا ذكر
ص: 38
السبب بعد العلم بنجاسة أحدهما المعين أو ما يلحق بالعلم واحتمل أن يكون سبب النجاسة التي قامت عليه البينة غير النجاسة التي علم بها سابقا ، فإنه أيضا لا يكون العلم الاجمالي الحاصل من قول البينة علما بتكليف زائد عما علم به أولا ، كما لا يخفى وجهه.
وأما أمثلة ما إذا حصل المثبت للتكليف في بعض الأطراف بعد العلم الاجمالي ، فيجمعها أيضا ما إذا علم إجمالا بحرمة أحد الشيئين لا على التعيين ثم بعد ذلك علم تفصيلا بحرمة أحدهما المعين ، أو قامت أمارة على حرمته ، أو شك في بقاء حرمته السابقة لكي يجري فيه استصحاب الحرمة التي كانت ثابتة فيه قبل العلم الاجمالي ، أو تبين أن أحد الشيئين المعين كان من الدماء والأموال والفروج لكلي تجري فيه أصالة الحرمة ، أو ظهر أن أحدهما المعين كان طرفا لعلم إجمالي سابق على العلم الاجمالي بحرمة أحدهما.
ففي جميع هذه الصور ينحل العلم الاجمالي ولا يجب الاجتناب عن غير ما ثبت التكليف به ، لان الأصل النافي للتكليف يجري فيه بلا معارض (1) كما في صورة ثبوت التكليف به قبل العلم الاجمالي.
فان قلت : كيف ينحل العلم الاجمالي بذلك مع سبق تأثيره في وجوب الاجتناب عن أطرافه؟ نعم : لو ثبت أن متعلق التكليف المعلوم بالاجمال هو ذلك المعين لكان للانحلال وجه ، وأما لو لم يثبت ذلك فالعلم الاجمالي لا ينحل ، ومجرد ثبوت التكليف في المعين لا يقتضي انحلاله ، فان ذلك لا يزيد على العلم التفصيلي بحدوث سبب التكليف في البعض المعين بعد العلم الاجمالي بالتكليف المردد بين أن يكون متعلقا بذلك المعين أو بغيره ، كما لو وقعت قطرة من الدم في أحد الانائين المعين بعد العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما ، ولا إشكال في عدم
ص: 39
انحلال العلم الاجمالي في هذا الفرض ، وليس وجهه إلا سبق تأثير العلم الاجمالي ، وهذا الوجه يجري فيما إذا ثبت نجاسة أحد الانائين المعين بعد العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما لا على التعيين ، فان العلم الاجمالي أيضا قد سبق في التأثير ، فلا أثر لثبوت نجاسة المعين بعد ذلك ما لم يثبت أنها هي المعلومة بالاجمال ، كما هو مفروض الكلام.
قلت : مجرد حدوث العلم الاجمالي بالتكليف في زمان لا يكفي في التأثير في وجوب الاجتناب عن جميع الأطراف ، بل يعتبر أيضا بقائه على صفة حدوثه ، وإذا تبدل العلم وانقلب عن كونه علما بالتكليف لاحتمال سبق التكليف عليه - كما في الأمثلة المتقدمة - فلا محالة ينحل ويسقط عن التأثير قهرا ، إذ لم يعتبر العلم الاجمالي بما أنه صفة قائمة في نفس العالم لعدم أخذه موضوعا في أدلة التكاليف ، بل إنما اعتبر لأجل كونه طريقا إلى متعلقه وكاشفا عنه ، فلابد من ملاحظة المعلوم والمنكشف به ، فان كان هو من التكاليف فالعلم الاجمالي به يوجب تنجزه والخروج عن عهدته بالاجتناب عن جميع أطرافه ، وإن لم يكن المعلوم والمنكشف من التكاليف فالعلم الاجمالي به لا يقتضي شيئا ولا يؤثر أثرا ، ومع سبق التكليف في بعض الأطراف على العلم الاجمالي - وإن تأخر العلم به عن العلم الاجمالي - يخرج العلم الاجمالي عن كونه طريقا وكاشفا عن التكليف ، لاحتمال أن يكون المنكشف به قد تعلق بما سبق التكليف به.
وحاصل الكلام : أنه إذا وجب الاجتناب عن بعض الأطراف المعين في الزمان السابق على العلم الاجمالي وثبت ذلك بأحد الوجوه المتقدمة بعد العلم الاجمالي فالعلم الاجمالي يتبدل ويتغير عما كان عليه ويخرج عن كونه علما بالتكليف وهذا بخلاف ما إذا حدث سبب وجوب الاجتناب عن المعين بعد العلم الاجمالي ، كما إذا أصاب أحد الانائين المعين نجاسة بعد العلم الاجمالي بنجاسته أو نجاسة الاناء الآخر ، فإن العلم الاجمالي في المثال لم يتبدل عما كان عليه ، لان
ص: 40
المنكشف به غير النجاسة الحادثة في المعين : ومعه كيف يعقل أن تكون النجاسة الحادثة رافعة لاثر العلم الاجمالي؟ بل الامر بالعكس ، فان العلم الاجمالي يكون رافعا لاثر النجاسة الحادثة لأنها حدثت في محل كان يجب الاجتناب عنه بسبب آخر سابق عليها ، فقياس حدوث العلم الاجمالي بعد وجود سبب الاجتناب عن المعين على حدوث سبب الاجتناب عنه بعد العلم الاجمالي ليس في محله ، لان المقيس والمقيس عليه متعاكسان في الحكم ، فإنه في المقيس عليه لا أثر للسبب الحادث في المعين بعد العلم الاجمالي ، وفي المقيس لا أثر للعلم الاجمالي الحادث بعد سبق التكليف في المعين ، وحق القياس أن يقاس ما نحن فيه على ما إذا كان العلم بوجوب الاجتناب عن المعين حاصلا قبل العلم الاجمالي ، لما عرفت من أنه لا فرق بينهما سوى أن ذلك يوجب عدم تأثير العلم الاجمالي ، وما نحن فيه يوجب انحلاله ، وهذا مجرد اصطلاح ، والنتيجة لا تختلف ، وهي ثبوت التكليف في المعين من غير ناحية العلم الاجمالي ، فلا يكون العلم طريقا إلى إحرازه ، ويلزمه انحلال العلم حقيقة (1).
ص: 41
وما ربما يظهر من بعض : من تسمية ما نحن فيه بالانحلال التعبدي ، فليس
ص: 42
كما ينبغي : إذ لا معنى للتعبد بالانحلال ، فان الانحلال وعدمه يدور مدار كون
ص: 43
العلم الاجمالي طريقا إلى ثبوت التكليف وعدمه ، فان كان العلم طريقا إليه فلا يعقل انحلال العلم الاجمالي ، وإن لم يكن طريقا إليه وكان ثبوت التكليف في أحد الأطراف من طريق آخر غير العلم الاجمالي - ولو كان هو علما إجماليا سابقا عليه - فلا يعقل عدم انحلاله ، بل ينحل لا محالة انحلالا خارجيا ، لعدم بقاء العلم على حاله وجدانا : فالانحلال لا يكون إلا حقيقيا.
نعم : ما يتحقق به الانحلال قد يكون هو العلم الوجداني ، وقد يكون أمارة أو أصلا شرعيا أو عقليا ، كما عرفت ذلك كله في الأمثلة المتقدمة : والاختلاف إنما يكون في المحقق للانحلال لا في نفس الانحلال ليكون الانحلال على قسمين : حقيقا وتعبديا. وعلى كل حال : الامر في ذلك سهل ، لان البحث يرجع إلى التسمية لا إلى النتيجة.
فتحصل مما ذكرنا : أنه مهما كان في بعض أطراف العلم الاجمالي أصل مثبت لوجوب الاجتناب عنه ، فالطرف الآخر لا يجب الاجتناب عنه ويجري فيه الأصل النافي للتكليف بلا معارض.
ثم إنه لا فرق فيما ذكرنا من انحلال العلم الاجمالي إذا كان في بعض الأطراف أصل مثبت للتكليف دون الآخر ، بين أن يكون الأصل المثبت للتكليف في البعض موجودا من أول الامر كما إذا كان أحد الانائين قبل تعلق العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما أو بعده مستصحب النجاسة ، وبين أن يوجد أصل مثبت للتكليف في البعض بعد سقوط الأصول النافية للتكليف الحاكمة عليه كما إذا علم بعد الفراغ من الصلاة بفوات سجدتين وشك في أنها من ركعة واحدة أو ركعتين ، فيعلم إجمالا بوجوب أحد الامرين : من إعادة الصلاة أو قضاء السجدتين ، والأصول النافية للتكليف في المثال كلها ساقطة.
أما قاعدة الفراغ الجاري في مجموع الصلاة : فلان مفادها نفي التكليف رأسا عن كل من إعادة الصلاة وقضاء السجدتين ، خصوصا إذا كانت قاعدة الفراغ
ص: 44
من الأصول المحرزة ، فان مفادها يكون حينئذ وقوع المشكوك فيه وعدم فوات السجدتين من الصلاة ، وهذا كما ترى ينافي العلم بفواتها ، فمؤدى قاعدة الفراغ في المثال يضاد نفس المعلوم بالاجمال ، نظير أصالة الإباحة في دوران الامر بين المحذورين.
وأما قاعدة التجاوز الجارية في كل من الركعتين اللتين يعلم بفوات السجدتين منهما : فلانه يلزم من جريانها فيهما مخالفة عملية. هذا إذا لم نقل بأنها من الأصول المحرزة ، وإلا فهي لا تجري وإن لم يلزم منها مخالفة عملية - كما تقدم بيانه - فإذا سقطت الأصول النافية للتكليف تصل النوبة إلى الأصل المحكوم بها وهو استصحاب عدم الاتيان بالسجدة من كل ركعة واستصحاب عدم الاتيان بالسجدتين من الركعة الواحدة ، والاستصحابان يقتضيان إعادة الصلاة وقضاء السجدتين معا ، وهو وإن لم يلزم منه مخالفة عملية ، إلا أنه لما كان الاستصحاب من الأصول التنزيلية وهي لا تجري في أطراف العلم الاجمالي مطلقا وإن لم يلزم منها مخالفة علمية ، فالاستصحابان يسقطان أيضا بالتعارض ، وتصل النوب إلى الأصول الحكمية المحكومة بالاستصحاب ، وهي أصالة بقاء الاشتغال بالصلاة عند الشك فيها في الوقت المقتضية لإعادة الصلاة وأصالة البراءة عن وجوب قضاء السجدتين ، فينحل العلم الاجمالي ببركة قاعدة الاشتغال المثبتة للتكليف بالإعادة.
وبالجملة : لو فرض أن في الأطراف أصولا متعددة نافية للتكليف وكان في أحد الأطراف أصل مثبت للتكليف محكوم بالأصول النافية السابقة في الرتبة عليه ، فعند سقوط الأصول النافية ووصول النوبة إلى الأصل المثبت ينحل العلم الاجمالي ، كما إذا كان من أول الامر في أحد الأطراف أصل مثبت للتكليف غير محكوم بالأصل النافي.
ص: 45
أما الوهم : فهو أنه كيف يمكن انحلال العلم الاجمالي بالأصل المثبت للتكليف في البعض مع أن قوام جريان الأصل المثبت هو العلم الاجمالي؟ بداهة أن المنشأ لسقوط الأصول النافية للتكليف ووصول النوبة إلى الأصل المثبت له إنما كان هو العلم الاجمالي ، إذ لولاه لم تقع المعارضة بين الأصول النافية لتسقط ، ولولا سقوط الأصول النافية لم تصل النوبة إلى الأصل المثبت ، فلو كان الأصل المثبت للتكليف يقتضي انحلال العلم الاجمالي لزم من وجوده عدمه ، لان انحلال العلم الاجمالي يوجب رجوع الأصول النافية لأنه المنشأ لسقوطها ، ورجوع الأصول النافية يوجب عدم جريان الأصل المثبت لأنه محكوم بها ، فيلزم من جريان الأصل المثبت عدم جريانه.
وأما الدفع : فحاصله : أن انحلال العلم الاجمالي لا يوجب رجوع الأصول النافية لكي يلزم من رجوعها عدم جريان الأصل المثبت ، فان العلم الاجمالي بما أنه علم ليس علة لسقوط الأصول النافية لترجع عند انحلاله ، بل العلة لسقوطها هي عدم انحفاظ رتبتها ولزوم المخالفة العملية من جريانها ، وهذه العلة كما تقتضي سقوطها عند وجود العلم الاجمالي ، كذلك تقتضي عدم رجوعها عند انحلال العلم الاجمالي.
والحاصل : أن الأصول النافية لا ترجع بعد سقوطها ، لأنه يلزم من رجوعها سقوطها لبقاء علة السقوط بعد الرجوع ، فإذا لم ترجع الأصول النافية يبقى الأصل المثبت مستقرا وينحل به العلم الاجمالي ، فتأمل جيدا.
لو فرض أنه كان في بعض الأطراف أصل ناف للتكليف غير معارض بمثله
ص: 46
ولم يكن في الطرف الآخر أصل مثبت للتكليف من غير ناحية العلم الاجمالي ، فالعلم الاجمالي ينحل به أيضا ، كما ينحل بالأصل المثبت للتكليف في بعض الأطراف ، لان الأصل النافي يوجب التأمين عن الطرف الذي يجري فيه ويبقى الطرف الآخر بلا مؤمن.
ولكن فرض أن يكون في أحد الطرفين أصل ناف للتكليف غير معارض بمثله ولم يكن في الطرف الآخر أصل مثبت له بعيد ، بل الظاهر أنه لا يمكن.
نعم : يمكن فرضه في الأصل الجاري في وادي الفراغ وناحية الامتثال ، كما لو علم إجمالا بعد دخول المغرب بفوات إحدى الفرائض الخمس من هذا اليوم وترددت بين كونها الظهر أو المغرب ، فإنه في مثل الفرض تجري قاعدة الشك بعد الوقت النافية للتكليف عن الظهر وينحل بها العلم الاجمالي.
هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إن المثال ليس مما نحن فيه ، لوجود الأصل المثبت في أحد طرفي العلم الاجمالي وهو أصالة الاشتغال الجارية في صلاة المغرب مع بقاء وقتها ، فالانحلال إنما يكون بالأصل المثبت.
وبالجملة : فرض خلو أحد الأطراف عن كل من الأصل المثبت للتكليف والنافي له مما لم نعثر على مثاله.
وقد يتوهم : أن العلم بنجاسة أحد الانائين اللذين كان أحدهما متيقن الطهارة قبل العلم الاجمالي دون الآخر يكون مثالا لما نحن فيه ، بتقريب : أن الاستصحاب الطهارة في متيقن الطهارة يعارض أصالة الطهارة الجارية في الطرف الآخر فيسقطان ، وتصل النوبة حينئذ إلى أصالة الطهارة في مستصحب الطهارة ، وهي سليمة عن المعارض لسقوط معارضها في المرتبة السابقة ، وليست أصالة الطهارة في مستصحب الطهارة في مرتبة استصحابها لتسقط بسقوطه ، لأنها محكومة ، فهي في ظرف جريان الاستصحاب لا تجري ، وفي ظرف جريانها لا يكون لها معارض
ص: 47
هذا ، ولكن لا يخفى عليك فساد التوهم ، لان تعارض الأصول إنما هو باعتبار تعارض مؤدياتها وما هو المجعول فيها ، والمؤدى في كل من استصحاب الطهارة وقاعدتها أمر واحد وهو طهارة مشكوك الطهارة والنجاسة ، والمفروض عدم إمكان جعل الطهارة في كل من الانائين ، فكل من مؤدى استصحاب الطهارة وقاعدتها في متيقن الطهارة يعارض مؤدى قاعدة الطهارة في الاناء الآخر ، فتسقط جميعا في عرض واحد (1) وحكومة الاستصحاب على القاعدة لا أثر لها في المقام ، وإنما يظهر أثرها في الشك السببي والمسببي.
والحاصل : أن تعارض الأصول وسقوطها إنما هو باعتبار أن المجعول فيها معنى يؤدي إلى المخالفة العملية ، فلابد من ملاحظة ما هو المجعول في الأصول الجارية في أطراف العلم الاجمالي ، فان كان المجعول فيها معنى يؤدى إلى المخالفة العملية فلا محالة يقع التعارض بينها وتسقط ، ولو فرض أنه كان في أحد الأطراف أصول متعددة وفي الطرف الآخر أصل واحد ، فان الأصل الواحد يعارض جميع تلك
ص: 48
الأصول (1) ولا يلتفت إلى ما بينها من الحكومة واختلاف المراتب بعد اتحاد المجعول فيها وعدم اختلافها في المؤدى ، وذلك واضح وإن خفي على بعض الاعلام.
ولا يتوهم : أن ذلك يقتضي عدم جواز العمل بالامارة القائمة على طهارة أحد الانائين ، بتخيل أن مؤدى الامارة يعارض مؤدى أصالة الطهارة الجارية في الاناء الآخر.
فان قيام الامارة على طهارة أحد الانائين تدل بلازمها عل نجاسة الآخر ، فيندرج فيما تقدم : من قيام أصل مثبت للتكليف في بعض الأطراف ، وأين هذا من الأصول العملية التي لا عبرة بلوازمها وملزوماتها؟ فتأمل جيدا.
هذا تمام الكلام في الشبهة الموضوعية التحريمية في الشك في المكلف به.
لا فرق في تأثير العلم الاجمالي في وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية بين أن يكون متعلق العلم عنوانا معينا ذا حقيقة واحدة كما لو كان المعلوم بالاجمال خصوص نجاسة أحد الانائين أو خصوص غصبية أحدهما ، وبين أن يكون المتعلق عنوانا مرددا بين عنوانين مختلفي الحقيقة كما لو كان المعلوم
ص: 49
بالاجمال مرددا بين النجاسة والغصبية.
والمحكي عن الحدائق : اعتبار أن يكون المعلوم بالاجمال عنوانا معينا غير مردد ، فالعلم الاجمالي بتحقق أحد العنوانين في أحد الانائين لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية ولا حرمة المخالفة القطعية.
ولا يخفى ضعفه ، فان تأثير العلم الاجمالي في وجوب الموافقة وحرمة المخالفة إنما هو لأجل كشفه عن الالزام المولوي بعثا أو زجرا ، وتردد المعلوم بالاجمال لا يوجب قصورا في كشفه ، لأنه يعلم بتعلق النهي المولوي عن التصرف في أحد الانائين على كل تقدير ، إما لكونه غصبيا ، وإما لكونه نجسا ، فلابد من الخروج عن عهدة التكليف بترك التصرف في كل من الانائين وترتيب الاحكام الخاصة لكل من النجاسة والغصب إذا كان لكل منهما حكم خاص لا يشاركه الآخر فيه غير الاحكام المشتركة بينهما ، لان العلم بتحقق أحد العنوانين يستلزم العلم بثبوت أحد الحكمين والأصول النافية متعارضة من الجانبين ، فلابد من الموافقة القطعية لكل من الحكمين ، إلا إذا فرض أن لاحد العنوانين حكما يخصه لا يشاركه الآخر فيه ولا يكون للآخر حكم خاص ، فان الأصل النافي للحكم الخاص يجري بلا معارض ، كما لا يخفى.
إلزام العقل بالاحتياط في أطراف العلم إنما هو للارشاد إلى التخلص عن تبعة مخالفة التكليف المعلوم في البين ، فلا يترتب على مخالفة الاحتياط أزيد مما يترتب على مخالفة الواقع ، وقد تكرر منا الكلام في ذلك ، فلا حاجة إلى إعادته.
يعتبر في تأثير العلم الاجمالي إمكان الابتلاء بكل واحد من الأطراف ، فلا أثر
ص: 50
للعلم الاجمالي إذا كان بعض أطرافه خارجا عن مورد الابتلاء
وتوضيح ذلك : هو أن المطلوب في باب النواهي مجرد الترك واستمرار العدم وعدم نقضه بالوجود ، كما أن المطلوب في باب الأوامر هو مجرد الفعل ونقض العدم الأزلي ، ولا إشكال في اعتبار القدرة العقلية على كل من طرفي الفعل والترك في صحة كل من الأمر والنهي وإلا لزم التكليف بما لا يطاق أو بتحصيل الحاصل ، ففي اعتبار القدرة العقلية يشترك الأمر والنهي ، ولكن يختص النهي بقيد زائد ، وهو أنه يعتبر في صحته مضافا إلى القدرة العقلية على الفعل المنهي عنه القدرة العادية عليه ، بحيث يتمكن المكلف عادة من نقض العدم وفعل المنهي عنه ، ولا يكفي في صحة النهي مجرد القدرة العقلية على الفعل ، لاستهجان التكليف بترك مالا يقدر على فعله ، فان الترك حاصل بنفسه. والتكليف المطلق بترك ما يكون منتركا عادة يكون كالتكليف المطلق بترك ما يكون منتركا عقلا من حيث اللغوية والاستهجان ، فلا يصح النهي المطلق عن شرب الخمر الموجود في أقصى بلاد الهند مع عدم إمكان الابتلاء به عادة.
نعم : يصح النهي عنه مقيدا بصورة حصول القدرة العادية ولو على خلاف العادة (1) وإنما زيد هذا القيد في خصوص النواهي ولم يعتبر في الأوامر التمكن
ص: 51
العادي من الفعل (1) مضافا إلى التمكن العقلي ، لان الامر بالفعل إنما يكون لأجل اشتمال الفعل على مصلحة لازمة الاستيفاء في عالم التشريع ، ولا يقبح من المولى التكليف بايجاد ما اشتمل على المصلحة بأي وجه أمكن ولو بتحصيل الأسباب البعيدة الخارجة عن القدرة العادية مع التمكن العقلي من تحصيلها.
نعم : للمولى من باب التفضل والتوسعة عدم الامر بالفعل الذي يلزم منه العسر والحرج ، إلا أن ذلك أمر آخر غير قبح التكليف واستهجانه ، فلا يتوقف صحة الامر بالفعل على أزيد من التمكن العقلي من إيجاده. وأما النهي عن الفعل فلا يصح مع عدم التمكن العادي من إيجاد المنهي عنه ، لان الغرض من النهي ليس إلا عدم حصول ما اشتمل عل المفسدة ، ومع عدم التمكن العادي من فعل المنهي عنه لا تكاد تحصل المفسدة فلا موجب للنهي عنه ، بل لا يمكن ، لاستهجانه عرفا.
فان قلت : يلزم على هذا عدم صحة النهي عن كل مالا يحصل الداعي إلى
ص: 52
إيجاده ، كما لو فرض أن المكلف بحسب طبعه لا يميل إلى شرب الخمر ولا تنقدح في نفسه إرادته ولو لم يتعلق به النهي ، كما يشاهد ذلك في بعض المنهيات الشرعية بالنسبة إلى بعض الأشخاص ، فان صاحب المروة يأبى عن كشف العورة بمنظر من الناس ولو لم يكن منهيا عنه ، فترك مثل هذا الفعل حاصل بنفسه عادة من صاحب المروة ، فيلزم استهجان التكليف بستر العورة ولغوية النهي عن كشفها ، وذلك مما لا يمكن الالتزام به ، فإنه يلزم قصر النواهي الشرعية بمن تنقدح في نفسه إرادة الفعل ويحصل له الداعي إلى إيجاد المنهي عنه ، يل يلزم قصر الأوامر الشرعية أيضا بمن لم يكن مريدا للفعل بنفسه وخروج من كان يحصل له الداعي إلى إيجاد متعلق الامر من عند نفسه ولو لم يتعلق به الامر ، لاستهجان التكليف بفعل ما يوجده المكلف من عند نفسه ، وهو كما ترى واضح البطلان.
قلت : فرق بين عدم القدرة عادة على الفعل وبين عدم إرادة الفعل عادة (1) فان القدرة من شرائط حسن الخطاب ، ولابد من أخذها قيدا في التكليف لقبح التكليف مع عدم القدرة العقلية واستهجانه مع عدم القدرة العادية ، بالبيان المتقدم.
وأما إرادة الفعل فليس لها دخل في حسن الخطاب ولا يعقل أخذها قيدا في التكليف وجودا وعدما ، لان التكليف إنما هو لبعث الإرادة ، فلا يمكن أن يكون التكليف مقيدا بحال وجود الإرادة ولا بحال عدمها لا بالتقييد اللحاظي ولا بنتيجة التقييد ، وهذا بخلاف القدرة ، فإنها بكلا قسميها من العقلية والعادية من الانقسامات السابقة على التكليف التي لابد من اعتبارها في متعلق
ص: 53
التكليف ، لما عرفت من قبح التكليف واستهجانه عند عدم القدرة العقلية أو العادية ، فقياس باب القدرة بباب الإرادة ليس في محله ، لعدم استهجان النهي عن فعل مالا يحصل الداعي إلى إيجاده عادة ، واستهجان النهي عن فعل مالا يتمكن من إيجاده عادة ، والذي يدلك على ذلك ملاحظة النواهي في الموالي والعبيد العرفية ، فإنه لا يكاد يشك في عدم حسن النهي عن فعل مالا يقدر على فعله عادة ، وحسن النهي عن فعل مالا يحصل الداعي إلى فعله ، كما لو فرض أن العبد بحسب طبعه لا يميل إلى شرب التتن ولا تنقدح إرادته في نفسه ، فإنه لا ينبغي التأمل في صحة نهي المولى عن شربه ولا يعد لاغيا في نهيه ، بخلاف من لم يقدر على شرب التتن عادة ، كما لو كان في أقصى بلاد الهند ولا تصل يده إليه عادة ، فإنه يقبح النهي عن شربه ويعد لاغيا في نهيه ، وهو واضح لكل من راجع الطريقة المألوفة بين العقلاء في الأوامر والنواهي العرفية.
وقد ظهر مما ذكرنا الوجه في عدم تأثير العلم الاجمالي إذا كان بعض أطرافه خارجا عن مورد الابتلاء لعدم التمكن العادي من الاقتحام فيه.
وحاصله : أن العلم الاجمالي إنما يكون مؤثرا إذا كان المعلوم بالاجمال مما يصح النهي عنه في أي طرف كان حتى يعلم بالتكليف على كل تقدير ، ومع خروج بعض الأطراف عن مورد الابتلاء لا علم بالتكليف على كل تقدير ، لاحتمال أن يكون متعلق التكليف هو الخارج عن مورد الابتلاء ، فلا يجري فيه الأصل النافي للتكليف ، لأنه لا يترتب عليه أثر عملي ويبقى الطرف الآخر الذي يمكن الابتلاء به جاريا فيه الأصل بلا معارض.
ثم إنه قد يشك في إمكان الابتلاء ببعض الأطراف وعدمه ، فان للقدرة العادية مراتب مختلفة يختلف حسن الخطاب وعدمه حسب اختلاف مراتبها ، فان الخمر الموجود في أقصى بلاد الهند أو الابعد منه مثلا مما يقطع بخروجه عن مورد الابتلاء وعدم التمكن العادي منه ، كما أن الخمر الموجود في هذا البلد مما يقطع
ص: 54
بامكان الابتلاء به وحصول القدرة العادية عليه ، فلا إشكال في استهجان النهي عنه في الأول وعدم استهجانه في الثاني ، وأما الخمر الموجود في البلاد المتوسطة بين البعيدة والقريبة فقد يحصل الشك في القدرة العادية عليه وإمكان الابتلاء به ، فان القدرة العادية لا تزيد على القدرة العقلية ، والشك في حصول القدرة العقلية كثيرا ما يقع.
ومن المعلوم : أن الشك في حصول القدرة العادية يستتبع الشك في ثبوت التكليف وعدمه ، فإذا كان المشكوك فيه أحد أطراف العلم الاجمالي ففي وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر الذي يعلم بحصول القدرة عليه وإمكان الابتلاء به وعدمه ، قولان : أقواهما وجوب الاجتناب عنه لوجهين :
الأول : هو أن الشك في ذلك وإن كان يستتبع الشك في ثبوت التكليف وتحقق الخطاب ، إلا أنه لمكان العلم بالملاك وما هو المناط لانقداح الإرادة المولوية يجري عليه حكم الشك في المسقط.
وتوضيح ذلك : هو أن القدرة بكلا قسميها من العقلية والعادية ليست من الشرائط التي لها دخل في ثبوت الملاكات النفس الامرية ومناطات الاحكام ، بل إنما هي من شرائط حسن التكليف والخطاب ، لقبح التكليف واستهجانه عند عدم القدرة العقلية والعادية ، فالملاك محفوظ في كلتا صورتي وجود القدرة وعدمها ، والعقل يستقل بلزوم رعاية الملاك وعدم تفويته مهما أمكن إذا كان للمولى حكم على طبقه ، غايته أنه عند العلم بعدم القدرة على استيفاء الملاك بكلا قسميها العقل لا يلزم برعاية الملاك ، للعلم بأنه ليس للمولى حكم على طبقه.
وأما مع الشك في القدرة فالعقل يلزم برعاية الاحتمال تخلصا عن الوقوع في مخالفة الواقع ، كما هو الشأن في جميع المستقلات العقلية ، حيث إنه للعقل حكم طريقي في موارد الشك على طبق ما استقل به ، وليس في شيء من الاحكام
ص: 55
العقلية ما يحكم العقل بالبراءة عند الشك في موضوع حكمه ، كما أوضحناه في بعض المباحث السابقة ، فعند الشك في القدرة العقل لا يحكم بالبراءة وترتب آثار عدم القدرة ، بل يستقل بلزوم رعاية احتمال القدرة.
غايته : أن نتيجة حكم العقل بذلك تختلف ، فان النتيجة عند الشك في القدرة العقلية هي وجوب الفحص عنها حتى يظهر الحال ، كما لو علم بتحقق ما هو المناط والملاك في تكليف المولى برفع الحجر عن الأرض وشك في القدرة عليه ، فان ضرورة العقل حاكمة بلزوم الفحص عن القدرة إلى أن يتبين العجز ، وليس للعبد الاتكال على الشك وإجراء البراءة عن التكليف.
وأما النتيجة عند الشك في القدرة العادية ، فهي وجوب ترتيب آثار تحقق التكليف في المشكوك فيه ، ولازم ذلك هو أنه لو صار المشكوك فيه طرفا للعلم الاجمالي يكون حاله حال سائر موارد العلم الاجمالي بالتكليف من حيث حرمة المخالفة القطعية ، ولا يجوز إجراء البراءة في الطرف الذي هو داخل في مورد الابتلاء ، بتوهم أن الشك في ثبوت القدرة العادية في أحد طرفي العلم الاجمالي يستلزم الشك في التكليف ، فتجري البراءة في الطرف الذي يعلم بامكان الابتلاء به ، وذلك لما عرفت : من أن العلم بتحقق الملاك يمنع عن الرجوع إلى البراءة ، بل لابد من العلم بما يوجب سقوط الملاك ، فالشك في المقام ينتج نتيجة الشك في المسقط الذي يقتضي الاشتغال لا البراءة (1)
ص: 56
فتأمل (1).
الوجه الثاني : هو ما أفاده الشيخ قدس سره ومن التمسك باطلاقات أدلة المحرمات. وتقريب الاستدلال بها : هو أنه لا إشكال في إطلاق ما دل على حرمة شرب الخمر مثلا وشموله لكلتا صورتي الابتلاء به وعدمه (2) والقدر الثابت من
ص: 57
التقييد والخارج عن الاطلاق عقلا هو ما إذا كان الخمر خارجا عن مورد الابتلاء بحيث يلزم استهجان النهي عنه بنظر العرف ، فإذا شك في استهجان النهي وعدمه في مورد الشك في إمكان الابتلاء بموضوعه وعدمه ، فالمرجع هو إطلاق الدليل ، لما تبين في مبحث العام والخاص : من أن التخصيص بالمجمل مفهوما المردد بين الأقل والأكثر لا يمنع عن التمسك بالعام فيما عدا القدر المتيقن من التخصيص وهو الأقل ، بل جواز التمسك بعموم أدلة المحرمات في المقام أولى من غيره ، لان المقيد فيما نحن فيه إنما هو حكم العقل باشتراط كون موضوع التكليف مما يمكن الابتلاء به ، وفي المقيدات اللبية يجوز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية فضلا عن الشبهات المفهومية إذا كان الترديد بين الأقل والأكثر كما فيما نحن فيه ، إذ الشك في خروج بعض الأطراف عن مورد الابتلاء إنما هو لأجل إجمال القيد مفهوما وتردده بين الأقل والأكثر ، لما عرفت : من أن للقدرة العادية المعبر عنها بامكان الابتلاء مراتب متعددة يختلف حسن التكليف وعدمه حسب اختلاف مراتب القدرة. وقد يشك العرف في حصول القدرة في بعض الموارد المستلزم لحصول الشك في حسن الخطاب واستهجان التكليف وعدمه ، وليس مفهوم القدرة والاستهجان أوضح من سائر المفاهيم العرفية ، مع أنه كثيرا ما يقع الشك في صدقها على بعض المراتب.
وبالجملة : لا ينبغي التأمل في جواز التمسك باطلاق أدلة المحرمات الواردة في الكتاب والسنة في كل ما شك في حصول القدرة العادية وعدمها ، وعليه يكون
ص: 58
حال ما شك في خروجه عن مورد الابتلاء حال ما علم دخوله في مورد الابتلاء في وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر.
فان قلت : المخصص المجمل المتصل بالعام يسري إجماله إلى العام ولا ينعقد له ظهور في جميع ما يحتمل انطباق مفهوم المخصص عليه إذا كان المخصص لفظيا أو عقليا ضروريا ، سواء كان إجماله لأجل تردده بين المتباينين أو بين الأقل والأكثر ، والتفصيل بينهما إنما هو في المخصص اللفظي المنفصل أو ما بحكمه من العقل النظري ، وأما العقل الضروري فحكمه حكم المتصل في سراية إجماله إلى العام وسقوطه عن قابلية التمسك به.
والسر في ذلك : هو أن المخصص إذا كان من الضروريات العقلية فبمجرد صدور العام من المتكلم ينتقل الذهن إليه ويكون كالقرينة المحتفة بالكلام يسري إجماله إليه لا محالة ، وهذا بخلاف العقل النظري ، فإنه لا ينتقل الذهن إليه إلا بعد الالتفات إلى المبادي التي أوجبت حكم العقل ، وقد لا تكون المبادي حاصرة في الذهن فلا يمنع عن انعقاد الظهور للعام ، ولا يسري إجماله إليه ، كما أوضحناه بما لا مزيد عليه في محله.
ومن المعلوم : أن المخصص في المقام إنما يكون من الاحكام العقلية الضرورية ، لان ضرورة العقل قاضية باستهجان النهي عما لا يمكن الابتلاء به ولا يقدر عليه عادة ، فان اعتبار إمكان الابتلاء بموضوع التكليف من المرتكزات عند العرف والعقلاء ، فإذا اشتبه حال المخصص وتردد أمره بين الأقل والأكثر لاجمال مفهومه ، فلا محالة يسري إجماله إلى العمومات والمطلقات الدالة على حرمة المحرمات ، وتسقط عن قابلية التمسك بها في موارد الشك في إمكان الابتلاء واستهجان النهي.
قلت : أولا : يمكننا منع كون المخصص في المقام من الضروريات العقلية المرتكزة في أذهان العرف والعقلاء.
ص: 59
وثانيا : أن سراية إجمال المخصص اللفظي المتصل أو العقلي الضروري إلى العام إنما هو فيما إذا كان الخارج عن العموم عنوانا واقعيا غير مختلف المراتب وتردد مفهومه بين الأقل والأكثر ، كما لو تردد مفهوم « الفاسق » الخارج عن عموم « أكرم العلماء » بين أن يكون خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعم منه ومن مرتكب الصغيرة ، وأما إذا كان الخارج عن العموم عنوانا ذا مراتب مختلفة وعلم بخروج بعض مراتبه عن العام وشك في خروج بعض آخر ، فإجمال المخصص وتردده بين خروج جميع المراتب أو بعضها لا يسري إلى العام ، لأن الشك في مثل هذا يرجع في الحقيقة إلى الشك في ورود مخصص آخر للعام غير ما علم التخصيص به.
والحاصل : أنه فرق بين التخصيص بما لا يكون ذا مراتب والتخصيص بما يكون ذا مراتب (1) فان إجمال الأول وتردده بين الأقل والأكثر يمنع عن التمسك بالعام إذا كان متصلا به ، وإجمال الثاني وتردده بين أن يكون الخارج مرتبة خاصة من مراتبه وبين أن يكون مرتبتين أو أكثر لا يسري إلى العام ولا يمنع عن التمسك به فيما عدا المرتبة المتيقن خروجها ولو كان المخصص متصلا بالعام ، والتخصيص فيما نحن فيه يكون من قبيل الثاني ، فان بعض مراتب الخروج عن
ص: 60
مورد الابتلاء مما يعلم بخروجه عن عمومات أدلة المحرمات - كالخمر الموجود في أقصى بلاد الهند ، فإنه يعلم بخروجه عن مورد الابتلاء واستهجان النهي عنه وبعض مراتب الخروج عن مورد الابتلاء مما يشك في استهجان النهي عنه وخروجه عن العمومات ، والشك في ذلك لا يوجب إجمالها ولا يمنع عن التمسك بها ، فتأمل.
فإن قلت : التمسك بالاطلاقات والعمومات اللفظية إنما يصح بعد الفراغ عن صحة الاطلاق والعموم النفس الأمري وإمكان تشريع الحكم على وجه يعم المشكوك فيه ، فحينئذ يجوز التمسك بالعمومات اللفظية في موارد الشك في التخصيص ، وأما لو فرض الشك في إمكان تشريع الحكم ثبوتا على وجه يعم المشكوك فلا يجوز التمسك بالعمومات اللفظية عند الشك في التخصيص ، والشك في المقام يرجع إلى الشك في صحة الاطلاق النفس الأمري وإمكان التشريع على وجه يعم المشكوك خروجه عن مورد الابتلاء ، لان إمكان الابتلاء بموضوع التكليف من الشرائط المعتبرة ثبوتا في أصل تشريع التكليف لاستهجان التكليف واقعا بما لا يمكن الابتلاء به ، فالشك في إمكان الابتلاء بالخمر الموجود في البلد الكذائي مثلا يرجع إلى الشك في إمكان تشريع النهي عن الخمر على وجه يعم ذلك الفرد منه في الواقع ونفس الامر ، وهذا لا ربط له بناحية الاثبات والكشف حتى يصح التمسك بالعمومات والمطلقات اللفظية.
قلت : هذا الكلام بمكان من الغرابة (1) فان إطلاق الكاشف بنفسه يكشف عن إمكان الاطلاق النفس الأمري وصحة تشريع الحكم على وجه يعم المشكوك فيه. ولو كان التمسك بالمطلقات والعمومات اللفظية مشروطا بإحراز إمكان الاطلاق النفس الأمري لا نسد باب التمسك بالمطلقات بالكلية ، إذ ما من
ص: 61
مورد يشك في التقييد إلا ويرجع إلى الشك في إمكان التقييد والاطلاق النفس الأمري ، خصوصا على مذهب العدلية : من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد النفس الأمرية ، فان الشك في كل قيد يلازم الشك في ثبوت المصلحة الموجبة للتقييد ، وعلى تقدير ثبوتها في الواقع يمتنع الاطلاق النفس الأمري ، فالشك في كل قيد يرجع بالآخرة إلى الشك في إمكان الاطلاق الواقعي ، فلو اعتبر في التمسك بالاطلاقات اللفظية إحراز صحة الاطلاق في عالم الجعل والتشريع يلزم عدم صحة التمسك بها في شيء من الموارد.
والحاصل : أن كل خطاب لفظي كما أنه يكشف عن ثبوت الملاك والمناط ، كذلك كل إطلاق لفظي يكشف عن ثبوت الاطلاق النفس الأمري ، ففيما نحن فيه القدر الثابت من تقييد أدلة المحرمات هو ما إذا كان النهي عن الشيء مستهجنا بنظر العرف لخروجه عن مورد الابتلاء ، وفيما عدا ذلك من الموارد المشكوكة يؤخذ بظاهر الاطلاق ويستكشف منه إنا عدم استهجان التكليف في مورد الشك ، كما يستكشف من إطلاق قوله علیه السلام « اللّهم العن بني أمية قاطبة » عدم إيمان من شك في إيمانه من هذه الطائفة الخبيثة (1) مع أن حكم العقل بقبح لعن المؤمن لا ينقص عن حكمه بقبح تكليف من لا يتمكن عادة ، فكما يجوز التمسك بإطلاق اللعن لاخراج من شك في إيمانه عن كونه مؤمنا ، كذلك يجوز التمسك بإطلاق أدلة المحرمات لادخال ما شك في خروجه عن مورد الابتلاء فيه.
فان قلت : التمسك بالمطلقات إنما يصح في القيود والانقسامات السابقة على
ص: 62
الخطاب التي يمكن أخذها في المتعلق ، وأما القيود اللاحقة للخطاب الحادثة بحدوثه فلا يصح التمسك بها في نفي ما شك في اعتباره ، لأنه لا يمكن لحاظها في المرتبة السابقة على الخطاب حتى يمكن إطلاق الخطاب أو تقييده بالنسبة إليها ، خصوصا في القيود التي تكون شرطا لتنجز التكاليف - كالعلم بالتكليف وكالابتلاء بموضعه - فان رتبة وجود هذه القيود متأخرة عن رتبة التكليف ، فكيف يمكن أخذها قيدا في المتعلق؟.
قلت : هذا الكلام أوضح فسادا من الكلام السابق ، لما فيه :
أولا : من أن الابتلاء بالموضوع ليس من القيود المتأخرة عن التكليف وجودا ، بل هو من الانقسامات السابقة عليه ، لان القدرة العادية كالقدرة العقلية من الأوصاف العارضة على المكلف قبل توجه التكليف إليه ، حيث إن المكلف ينقسم إلى القادر على إيجاد المتعلق والعاجز عنه ولو لم يكن هناك تكليف بالمتعلق ، كما هو الشأن في سائر القيود التي يمكن لحاظها في المرتبة السابقة على التكليف ، كالطهارة والستر والاستطاعة وغير ذلك من القيود الشرعية المعتبرة في التكاليف ، غايته أن الحاكم باعتبار القدرة بكلا قسميها هو العقل والحاكم باعتبار تلك القيود هو الشرع ، وهذا لا يوجب تفاوتا فيما نحن فيه : من أن لحاظ اعتبارها يكون سابقا على التكليف ، فدعوى أن الابتلاء من العناوين الحادثة بحدوث الخطاب المتأخر وجودها عن وجوده ، واضحة الفساد.
وثانيا : سلمنا أن الابتلاء وعدمه من الانقسامات اللاحقة للخطاب بعد وجوده ، فدعوى أنه يكون من الشرائط الموجبة للتنجيز مما لا سبيل إليها ، بل شرط التنجيز ينحصر مصداقا بالعلم وما يقوم مقامه من الطرق والامارات والأصول المحرزة (1).
ص: 63
والسر في ذلك : هو أن تنجز التكاليف إنما يكون بوصولها إلى المكلفين ، لأنها بوجوداتها الواقعية قاصرة عن أن تصير داعيا لحركة العضلات ، فان الشيء بوجوده الواقعي غير قابل لتحريك الإرادة وانقداحها في النفس ، بل المحرك للإرادة هو الوجود العلمي ، من غير فرق في ذلك بين الأمور التكوينية والتشريعية ، فالتكاليف الشرعية ما لم تصل إلى المكلف لا تصلح للداعوية ، فكل ما أوجب وصول التكاليف تكوينا أو تشريعا يكون شرطا لتنجيزها ، لان التنجيز إنما يكون بالوصول ، والموجب للوصول ليس هو إلا العلم أو ما يقوم مقامه ، وأما سائر الانقسامات المتأخرة عن الخطاب الحادثة بحدوثه فليس شيء منها توجب الوصول (1) ومنها إمكان الابتلاء وعدمه على فرض تسليم كونه من الانقسامات المتأخرة (2).
والحاصل : أن مجرد كون الابتلاء من القيود المترتبة على الخطاب لا يقتضي أن يقع في عداد شرائط التنجيز ، وإلا كان كل قيد مترتب على الخطاب شرطا للتنجيز ، وهو كما ترى مما لا يمكن الالتزام به! لما عرفت من أنه يعتبر في شرط
ص: 64
التنجيز مضافا إلى كونه من القيود المتأخرة عن الخطاب أن يكون موجبا لوصول التكليف ، وقيد الابتلاء بموضوع التكليف ليس مما يوجب وصول التكليف ، لأنه أجنبي عن ذلك ، كما لا يخفى.
فتحصل من جميع ما ذكرنا : أنه لا مانع من التمسك بإطلاق أدلة المحرمات لاثبات حرمة ما شك في إمكان الابتلاء به على تقدير أن يكون هو الحرام المعلوم بالاجمال ، وحينئذ يجب الاجتناب عن الطرف الآخر المتيقن دخوله في مورد الابتلاء ، فان حال المشكوك خروجه عن مورد الابتلاء حال المتيقن دخوله في مورد الابتلاء من جريان الأصل النافي للتكليف فيه ومعارضته بالأصل النافي للتكليف في الطرف الآخر الذي هو متيقن الدخول في مورد الابتلاء ، والمرجع بعد سقوط الأصول النافية للتكليف إلى قاعدة الاشتغال ، وهي تقتضي وجوب الاجتناب عن جميع الأطراف. فقد ظهر ضعف القول بعدم وجوب الاجتناب عما هو داخل في مورد الابتلاء عند الشك في خروج الآخر عن مورد الابتلاء ، فتأمل جيدا.
خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء كما يكون لعدم القدرة العادية على التصرف فيه مثل ما إذا كان أحد طرفي المعلوم بالاجمال في أقصى بلاد المغرب ، كذلك يكون لعدم القدرة الشرعية عليه ، كما إذا كان أحد الانائين المعلوم نجاسته ملكا للغير الذي يبعد بحسب العادة ابتلاء المكلف باستعماله ولو بالشراء من صاحبه أو استعارته أو هبته وغير ذلك من الأسباب المجوزة شرعا للتصرف فيه. وقد يكون أيضا لبعد اتفاق الابتلاء به عادة ، كما إذا كان أحد الطرفين الذي تعلق العلم الاجمالي بنجاسته تراب الطريق الذي يبعد بحسب العادة الابتلاء به من السجود عليه أو التيمم به. ولا إشكال في أن عدم القدرة الشرعية على
ص: 65
التصرف في بعض الأطراف في حكم عدم القدرة العادية على التصرف فيه : من عدم تأثير العلم الاجمالي فيه ، فان النهي الشرعي عن التصرف في ملك الغير يوجب سلب القدرة عنه ، فلا يجري فيه الأصل النافي للتكليف ، لعدم إمكان تطبيق العمل على مؤدى الأصل شرعا ، فيبقى الطرف الآخر جاريا فيه الأصل بلا معارض.
نعم : لو فرض أن ملك الغير في معرض البيع والشراء وكان المكلف بصدد شرائه منه ، فلا يبعد تأثير العلم الاجمالي وعدم جريان الأصول النافية في كل من الطرفين ، لان ملك الغير وإن حرم التصرف فيه قبل الشراء إلا أنه حيث كان في معرض الانتقال إلى المكلف ، فلا يقبح التكليف بالاجتناب عنه على تقدير وقوع النجاسة فيه ، وهذا بخلاف ما إذا لم يمكن الانتقال إليه عادة كالإناء الموجود في حرم السلطان فان التكليف بالاجتناب عنه لغو مستهجن ولو فرض حصول القدرة العادية على التصرف فيه ولو بالسرقة (1).
هذا إذا كان عدم الابتلاء ببعض الأطراف لعدم القدرة الشرعية على التصرف فيه.
وأما إذا كان لبعد اتفاق الابتلاء به كتراب الطريق ، ففي تأثير العلم الاجمالي وعدمه وجهان مبنيان على أن المناط في استهجان التكليف الموجب لعدم تأثير العلم الاجمالي هل هو عدم اتفاق الابتلاء بالموضوع أو عدم إمكانه؟ فعلى الأول : يكون بعد اتفاق الابتلاء في حكم عدم القدرة العادية عليه ، وهو الذي يظهر من الشيخ قدس سره وعلى الثاني : يكون في حكم الابتلاء به ، وقد تأمل في ذلك
ص: 66
شيخنا الأستاذ - مد ظله - في ابتداء الامر ، إلا أنه أخيرا وافق الشيخ وجعل المناط في الاستهجان عدم اتفاق الابتلاء لا عدم إمكانه ، فتأمل جيدا.
لا يجب الاجتناب عن الملاقي لاحد طرفي المعلوم بالاجمال ، إلا إذا قلنا بأن وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس إنما هو لأجل سراية النجاسة من الملاقى ( بالفتح ) إلى الملاقي ( بالكسر ) (1).
ص: 67
وتفصيل ذلك : هو أنه لا إشكال في وجوب ترتيب كل ما للمعلوم بالاجمال من الآثار والأحكام الشرعية على كل واحد من الأطراف تحصيلا للقطع بالامتثال والفراغ عما اشتغلت الذمة به ، فكما لا يجوز شرب كل واحد من الانائين اللذين يعلم بخمرية أحدهما ، كذلك لا يصح بيع كل واحد منهما ، للعلم بعدم السلطنة على بيع أحد الانائين ، فلا تجري أصالة الصحة في بيع أحدهما ، لأنها معارضة بأصالة الصحة في بيع الآخر ، وبعد سقوط أصالة الصحة من الجانبين لابد من الحكم بفساد البيع في كل منهما ، لأنه يكفي في الحكم بالفساد عدم ثبوت الصحة.
ص: 68
فان قلت : العلم الاجمالي إنما يقتضي وجوب ترتيب الاحكام على كل واحد من الأطراف إذا كان المعلوم بالاجمال تمام الموضوع لها ، وأما إذا كان المعلوم بالاجمال جزء الموضوع لحكم فما لم يثبت الجزء الآخر لا يجب ترتيب ذلك الحكم ، كما هو واضح ، ففي المثال الخمر المعلوم في أحد الانائين لا يكون تمام الموضوع لفساد البيع ، بل إنما هو جزء الموضوع ، وجزئه الآخر وقوع البيع خارجا ، إذ الصحة والفساد من الأوصاف والاحكام اللاحقة للبيع بعد فرض صدوره في الخارج ، فلا وجه للحكم بفساد بيع أحد الانائين ، للشك في وقوعه على الخمر ، فتجري فيه أصالة الصحة ولا يعارضها أصالة الصحة في بيع الآخر ، لأن المفروض عدم وقوع البيع على الطرف الآخر ، فلا موضوع لأصالة الصحة فيه حتى تعارض أصالة الصحة في البيع الواقع على أحد الطرفين فقط.
قلت : لا وقع لهذا الاشكال ، فان الخمر المعلوم بالاجمال تمام الموضوع لعدم السلطنة على بيعه ، وعدم السلطنة على البيع يلازم فساده بل هو عينه ، لأنه ليس المجعول الشرعي إلا حكما واحدا (1) غايته أنه قبل البيع يعبر عنه بعدم السلطنة وبعد البيع يعبر عنه بالفساد ، فعدم السلطنة على البيع عبارة أخرى عن فساده ، كما أن السلطنة على البيع عبارة أخرى عن صحته (2) فأصالة الصحة في بيع
ص: 69
كل من الانائين من أول الامر ولو قبل صدور البيع تجري وتسقط بالمعارضة ، ولا يتوقف جريانها على وقوع البيع خارجا.
وبالجملة : لا ينبغي التأمل في أن عدم السلطنة على بيع الخمر وفساده كحرمة شربه من الآثار المترتبة على نفس المعلوم بالاجمال ، وقد عرفت : أن كل ما للمعلوم بالاجمال من الاحكام يجب ترتبه على كل واحد من الأطراف (1)
ص: 70
ص: 71
سواء كان الحكم من مقولة الوضع أو من مقولة التكليف (1) وسواء قارن زمان الابتلاء بالتصرف في أحد الأطراف لزمان العلم أو تأخر عنه. فلو فرض أن أحد الأطراف لم يأت زمان الابتلاء به بل كان الابتلاء به متأخرا عن زمان العلم ، ففي ظرف مجيء زمان الابتلاء به يلزم ترتيب ما للمعلوم بالاجمال عليه وإن خرج الطرف الآخر عن مورد الابتلاء بفقد وتلف ونحوه ، فان المدار في وجوب ترتيب الاحكام على كل واحد من الأطراف إنما هو على فعلية الاحكام وتنجزها ،
ص: 72
ولا دخل لزمان الابتلاء في ذلك.
وعلى هذا يتفرع وجوب الاجتناب عما للأطراف من المنافع والتوابع المتصلة والمنفصلة ، كما لو علم بمغصوبية إحدى الشجرتين ، فإنه كما يجب الاجتناب عن نفس الشجرتين كذلك يجب الاجتناب عما لهما من الأثمار ، من غير فرق بين أن يكون كل من الشجرتين من ذوات الأثمار أو كانت أحدهما من ذوات الأثمار دون الأخرى ، ومن غير فرق بين وجود الثمرة حال العلم وعدم وجودها ، ومن غير فرق بين ثمرة هذه السنة وثمرة السنين الآتية ، ومن غير فرق بين بقاء الطرف الآخر حال وجود الثمرة وبين تلفه ، بل من غير فرق بين بقاء نفس الأصل وعدمه - كما لو فرض أن الشجرة المثمرة بعدما أثمرت وقطف ثمرها تلفت بحرق أو غرق ونحو ذلك - فإنه في جميع هذه التقادير يجب الاجتناب عن الثمرة كما يجب الاجتناب عن أصلها والطرف الآخر ، لان وجوب الاجتناب عن منافع المغصوب مما يقتضيه وجوب الاجتناب عن نفس المغصوب ، فان النهي عن التصرف في المغصوب نهي عنه وعن توابعه ومنافعه ، فيكفي في وجوب الاجتناب عن المنافع المتجددة فعلية وجوب الاجتناب عن ذي المنفعة وتنجزه بالعلم التفصيلي أو الاجمالي (1) فلو فرض أن الشجرة المثمرة كانت هي المغصوبة فوجوب الاجتناب عن ثمرها المتجدد وإن لم يكن فعليا لعدم وجود موضوعه ، إلا أنه يكفي في وجوب الاجتناب عنها فعلية وجوب الاجتناب عن نفس الشجرة بما لها من المنافع والتوابع (2) وحينئذ تسقط أصالة الحل عن الثمرة بنفس سقوطها عن ذي الثمرة بالمعارضة لأصالة الحل في الطرف الآخر وهي الشجرة الغير المثمرة ، فلا تجري صالة الحل في الثمرة بعد وجودها وفقدان طرف العلم الاجمالي. وقس على ذلك
ص: 73
الدار ومنافعها ، والحمل وذا الحمل ، وساير ما كان لاحد الأطراف منافع متجددة دون الآخر.
فان قلت : فرق بين منافع الدار وبين ثمرة الشجرة وحمل الدابة ، فان تبعية الثمرة للشجرة والحمل لذي الحمل إنما يكون في الوجود ، والتبعية في الوجود لا تستلزم التبعية في الحكم ، وكيف يعقل أن يكون الحكم في الثمرة والحمل تابعا لحكم الشجرة ودي الحمل؟ مع أن كلا من الثمرة والحمل موضوع من الموضوعات الخارجية له وجود استقلالي ويدخل تحت اليد بنفسه في مقابل الشجرة وذي الحمل ، فلا يمكن أن يكون الحكم فيهما تابعا لحكم الأصل ، بل لكل من الأصل والفرع حكم يستقل به عند وجوده ، ولا يعقل أن يتقدم حكم الثمرة على وجودها ، كما لا يعقل أن يتقدم حكم الشجرة على وجودها ، بل كل حكم تابع لوجود موضوعه ، فعند وجود الشجرة المغصوبة لا حكم إلا وجوب الاجتناب عن نفسها ، وبعد وجود الثمرة يثبت حكم آخر وهو وجوب الاجتناب عنها ، لان الشجرة المغصوبة ثمرها أيضا يكون مغصوبا ، هذا إذا علم تفصيلا بغصبية الشجرة المثمرة.
وأما إذا كانت الشجرة طرفا للعلم الاجمالي ، فقبل وجود الثمرة لا يجب الاجتناب إلا عن الشجرة والطرف الآخر من باب المقدمة العلمية ، وأما بعد وجود الثمرة ، فإن كان الطرف الآخر موجودا يجب الاجتناب عن الثمرة أيضا ولو فقد الأصل ، لان الثمرة بعد وجودها تقع طرفا للعلم الاجمالي كالأصل ، وإن كان الطرف الآخر مفقودا أو خارجا عن محل الابتلاء عند وجود الثمرة فلا يجب الاجتناب عن الثمرة ولو كان الأصل موجودا ، لان الثمرة بعد وجودها لا تكون طرفا للعلم الاجمالي ، لفقدان ما يصلح أن يكون طرفا لها ، فتكون الشبهة بالنسبة إلى الثمرة بدوية تجري فيها أصالة الحل بلا معارض.
نعم : يجب الاجتناب عن الأصل إذا كان موجودا ، لسقوط أصالة الحل فيه
ص: 74
عند وجود الطرف الآخر وفقدانه بعد ذلك لا أثر له ، هذا كله بالنسبة إلى الثمرة والحمل ونحو ذلك من المنافع المستقلة في الوجود. وأما مثل منافع الدار فهي تابعة للدار وجودا وحكما لعدم استقلالها في الوجود وعدم دخولها تحت اليد بنفسها فحكمها يتبع حكم الدار ، فلو علم بغصبية إحدى الدارين يجب الاجتناب عن المنافع المتجددة ولو كان أحد طرفي المعلوم خربة لا منفعة له (1).
قلت : ليس المقصود من تبعية حكم الثمرة للشجرة والحمل لذي الحمل هو فعلية وجوب الاجتناب عنهما قبل وجودهما ، فان امتناع فعلية الحكم قبل وجود موضوعه غير قابل للانكار حتى في منافع الدار ، إذ من المستحيل فعلية وجوب الاجتناب عن منافع السنة المقبلة ، بل المقصود من التبعية هو أن النهي عن التصرف في الشجرة المغصوبة بنفسه يقتضي النهي عن التصرف في الثمرة عند وجودها ، وكذا الدابة المغصوبة ، فلا يحتاج حرمة التصرف في الثمرة والحمل في ظرف وجودهما إلى تعبد وتشريع آخر غير تشريع حرمة الأصل بمنافعه ، فحرمة التصرف في المنافع من شؤون حرمة التصرف في ذي المنفعة (2) من غير فرق في ذلك بين الثمرة والحمل وبين منافع الدار. والاستقلال في الوجود والدخول تحت اليد وعدمه لا يصلح أن يكون فارقا بينهما فيما نحن فيه ، فان تمام الموضوع لوجوب الاجتناب عن الثمرة والحمل ومنافع الدار إنما هو نفس المعلوم بالاجمال ، وقد
ص: 75
عرفت : أنه مهما كان المعلوم بالاجمال تمام الموضوع لحكم فلابد من ترتيب آثار ذلك الحكم على كل واحد من أطراف العلم الاجمالي ، لسقوط الأصل النافي له بالتعارض ، بخلاف ما إذا كان المعلوم بالاجمال جزء الموضوع للحكم ، فإنه لا يترتب ذلك الحكم على كل واحد من الأطراف.
وعلى ذلك يتفرع عدم جواز إقامة الحد على من شرب أحد طرفي المعلوم بالاجمال ، فان الخمر المعلوم في البين إنما يكون تمام الموضوع بالنسبة إلى حرمة شربه وفساد بيعه ، وأما بالنسبة إلى إقامة الحد فيتوقف على أن يكون شربه عن عمد واختيار. وإن شئت قلت : إن علم الحاكم بشرب الخمر اخذ جزء الموضوع لوجوب إقامة الحد ، ولا علم مع شرب أحد الطرفين ، فلا يجوز للحكام إقامة الحد.
فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن كل أثر كان المعلوم بالاجمال تمام الموضوع له يجب ترتبه على كل واحد من الأطراف من باب المقدمة العلمية (1) وكل أثر كان المعلوم بالاجمال جزء الموضوع له لا يجب ترتبه على كل واحد من الأطراف ، وهذه الكبرى الكلية مما لا إشكال فيها ، وعليها يبتني وجوب الاجتناب عن الملاقي لاحد طرفي العلوم بالاجمال وعدمه.
بيان ذلك : هو أنه بعد قيام الاجماع والضرورة على نجاسة الملاقي للنجس ووجوب الاجتناب عنه وقع الكلام في وجه نجاسته ، والذي قيل فيه أو يمكن أن يقال أحد وجهين :
الأول : أن تكون نجاسته لمحض التعبد الشرعي ، من دون أن تكون نجاسته ووجوب الاجتناب عنه من الآثار والاحكام المترتبة على نفس نجاسة الملاقى
ص: 76
( بالفتح ) ووجوب الاجتناب عنه ، بل الملاقي للنجس فرد آخر من النجس حكم الشارع بوجوب الاجتناب عنه في عرض وجوب الاجتناب عن الملاقى ( بالفتح ).
الثاني : أن تكون نجاسته لأجل سراية النجاسة من الملاقي إليه ، فتكون الملاقاة موجبة لاتساع دائرة النجس كاتساعها في صورة اتصال الماء النجس بغيره وامتزاجه به ، فان امتزاجهما يوجب اتساع دائرة النجس وسراية النجاسة من الماء النجس إلى ما امتزج به (1) فيمكن أن يكون حال الملاقاة حال الاتصال والامتزاج من أنها تقتضي سعة دائرة النجاسة وسرايتها من الملاقى ( بالفتح ) إلى الملاقي ( بالكسر ) من دون دخل للملاقات شرعا في ذلك ، بل كانت الملاقاة واسطة عقلية لاتساع النجاسة وسرايتها ، فلا تكون نجاسة الملاقي فردا آخر من النجاسة ، بل هي عين نجاسة الملاقى ( بالفتح ) (2) وحينئذ يكون وجوب الاجتناب عن الملاقي للنجس من الاحكام المترتبة على نفس نجاسة النجس ، وليس الاجتناب عنه بتعبد آخر وراء التعبد بالاجتناب عنه ، بل يكون الحكم بالاجتناب عن النجس بنفسه يقتضي الاجتناب عن ملاقيه ، لأنه على هذا يكون الاجتناب عنه من شؤون الاجتناب عن النجس وتبعاته ، كالثمرة ومنافع الدار ، حيث تقدم أن حرمة التصرف في الثمرة والمنافع من شؤون حرمة التصرف في الشجرة والدار المغصوبة ، وبناء على أن تكون نجاسة الملاقي من باب السراية
ص: 77
يكون حال الملاقي حال الثمرة والمنافع ، وهذا من غير فرق بين أن نقول : بأن النجاسة متأصلة في الجعل أو أنها منتزعة عن التكليف ، غايته أنه بناء على التأصلية تكون نجاسة الملاقي من شؤون جعل النجاسة للنجس ، وبناء على الانتزاعية يكون وجوب الاجتناب عنه من شؤون وجوب الاجتناب عن النجس.
إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنه إن قلنا : إن نجاسة الملاقي للنجس ليست لأجل السراية بل لكونها فردا آخر للنجاسة أوجب الشارع الاجتناب عنها في عرض الاجتناب عن الملاقى ، فلا يجب الاجتناب عن الملاقي لاحد طرفي العلم الاجمالي ، للشك في ملاقاته للنجس المعلوم في البين المستلزم للشك في حكم الشارع عليه بالنجاسة ، فتجري فيه أصالة الطهارة بلا معارض ، كما سيأتي بيانه.
وأما إن قلنا : بأن نجاسة الملاقي للنجس لأجل اتساع النجاسة وسرايتها من النجس إلى ملاقيه ، فلا محيص عن القول بوجوب الاجتناب عن الملاقي لاحد طرفي العلم الاجمالي ، لأنه على هذا يكون النجس المعلوم في البين تمام الموضوع لوجوب الاجتناب عن ملاقيه ، وقد عرفت : أنه كل ما كان للمعلوم بالاجمال من الآثار والاحكام يجب ترتبه على كل واحد من الأطراف ، مقدمة للعلم بفراغ الذمة عما اشتغلت به.
ولا وجه لما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي لاحد الطرفين وإن كانت نجاسة الملاقي للنجس من الآثار المترتبة شرعا على نفس النجس (1) وذلك لأنه بعد الاعتراف بأن وجوب الاجتناب عن الملاقي للنجس من الاحكام المترتبة. على نفس النجس لا يبقى مجال للقول بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقي لاحد الطرفين ، لأنه على هذا يكون الملاقي
ص: 78
( بالكسر ) طرفا للعلم الاجمالي كالملاقي ( بالفتح ) ويسقط عنه الأصل النافي للتكليف بنفس سقوطه عن الملاقى ( بالفتح ) بالبيان المتقدم في منافع الدار وما يلحق بها ، وهذا كله واضح مما لا ينبغي الاشكال فيه.
إنما الاشكال فيما هو المستفاد من الأدلة الواردة في النجاسات ، فقد يقال : إن ما دل على وجوب الاجتناب عن النجس بنفسه يدل على وجوب الاجتناب عن ملاقيه ، كما استدل ابن زهرة في الغنية بقوله تعالى : « والرجز فاهجر » (1) لوجوب هجر الملاقي. ولا يخفى ضعفه ، فان الرجس والرجز عبارة عن نفس الأعيان النجسة ، فالآية إنما تدل على وجوب الاجتناب عن الأعيان النجسة من غير تعرض لها لحكم الملاقي ، ولو كان مبنى الاستدلال على تعميم الرجز للمتنجس ، فهو مع فساده في نفسه يكون أجنبيا عن المقام ، إذ أقصاه أن تكون الآية من الأدلة على وجوب الاجتناب عن المتنجس كالنجس ، وهذا لا ربط له بما نحن فيه : من إثبات كون الموضوع لوجوب الاجتناب عن المتنجس نفس النجس.
نعم : يمكن أن يستدل على ذلك بما رواه عمر بن شمر عن جابر الجعفي عن أبي جعفر علیه السلام « إنه أتاه رجل ، فقال له : وقعت فارة في خابية فيها سمن أو زيت فما ترى في أكله؟ فقال أبو جعفر علیه السلام لا تأكله ، فقال الرجل : الفارة أهون علي من أن أترك طعامي لأجلها! فقال له أبو جعفر علیه السلام إنك لم تستخف بالفارة وانما استخففت بدينك! إن اللّه حرم الميتة من كل شيء » (2).
وتقريب الاستدلال بها : هو أنه علیه السلام جعل ترك الاجتناب عن الطعام الذي وقعت فيه الفارة استخفافا بالدين وفسره بتحريم الميتة ، ولولا كون نجاسة الميتة ووجوب الاجتناب عنها يقتضي الاجتناب عن الطعام الملاقي لها لم
ص: 79
يكن موقع للجواب بذلك ، فإنه لو كانت نجاسة الملاقي للميتة فردا آخر من النجاسة ثبتت بتعبد آخر من الشارع وراء التعبد بنجاسة الميتة كان ترك الاجتناب عن الطعام الملاقي لها استخفافا لوجوب الاجتناب عن الملاقي لها والتعبد بترك التصرف فيه ، لا استخفافا بتحريم الميتة ، فان حرمة الميتة على هذا لا ربط لها بحرمة الملاقي حتى يكون ترك الاجتناب عن الملاقي استخفافا لحرمة الميتة ، كما لا يخفى.
فالانصاف : أن الرواية لا تخلو عن إشعار على كون نجاسة الملاقى ( بالفتح ) تقتضي بنفسها نجاسة الملاقي ( بالكسر ) ووجوب الاجتناب عنه. ولكن الرواية ضعيفة السند لا يعتمد عليها ، مع أنه يمكن أن يكون وجه السؤال عن الطعام الذي وقعت فيه الفارة هو الجهل بنجاسة الفارة لا تنجيسها ، فأراد السائل أن يستعلم نجاسة الفارة ، غايته أنه لما كان مغروسا في ذهنه نجاسة الملاقي للنجس استعلم نجاسة الفارة بالسؤال عن الطعام الذي وقعت فيه ، فأعلمه الامام علیه السلام بنجاسة الفارة على طبق ما كان مغروسا في ذهنه ، فقال علیه السلام « لا تأكله » ثم إن السائل استخف بنجاسة الفارة بقوله « الفارة أهون علي من أن أترك طعامي لأجلها » فأجابه الامام علیه السلام بأن الاستخفاف بنجاسة الفارة استخفاف بالدين ، لان اللّه تعالى حرم الميتة من كل شيء ، فتكون الرواية سيقت سؤالا وجوابا لنجاسة الفارة لا لنجاسة الملاقي لها ، فتخرج الرواية عن صلاحية التمسك بها لما نحن فيه.
وبالجملة : بعد لم نعثر على دليل يعتد به يدل على كون نجاسة الملاقي للنجس ووجوب الاجتناب عنه من الآثار والاحكام المترتبة على نفس النجس (1) بل الظاهر كون الملاقي موضوعا مستقلا لوجوب الاجتناب عنه
ص: 80
فردا آخر من النجس بتعبد يخصه في عرض التعبد بنجاسة الملاقى ( بالفتح ). وحينئذ لا يجب الاجتناب عن الملاقي لاحد طرفي المعلوم بالاجمال ، للشك في ملاقاته للنجس ، فتجري فيه أصالة الطهارة بلا معارض.
فإن قلت : كيف تجري أصالة الطهارة في الملاقي مع أنه كالملاقي يكون طرفا للعلم الاجمالي ، لأنه عند العلم بنجاسة أحد الشيئين وملاقاة ثالث لأحدهما يحصل علوم ثلاثة : علم بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) أو الطرف ، وعلم بنجاسة الملاقي ( بالكسر ) أو الطرف ، وعلم بنجاسة الملاقى والملاقي معا أو الطرف ، لأنه بعد الملاقاة يعلم باتحاد حكم الملاقى والملاقي فيكونان معا بمنزلة طرف واحد للعلم الاجمالي ، كما لو علم بوقوع قطرة من الدم إما في هذا الاناء الواحد وإما في ذينك الانائين ، ومقتضى هذه العلوم الثلاثة هو تعارض أصالة الطهارة في كل من الملاقي والملاقى والطرف ، فيجب الاجتناب عن الجميع مقدمة لحصول العلم بالاجتناب عن النجس المعلوم في البين.
قلت : حصول العلوم الثلاثة وإن كان وجدانيا لا سبيل إلى إنكاره ، إلا أن المؤثر من هذه العلوم الثلاثة هو الأول وهو العلم بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) أو الطرف ، ولا أثر للعلمين الآخرين.
أما الأول منهما : وهو العلم بنجاسة الملاقي ( بالكسر ) والطرف ، فلسبق التكليف بالاجتناب عن الطرف ، لأنه كان طرفا للملاقى ( بالفتح ) قبل تحقق الملاقاة ، وقد تقدم في بعض المباحث السابقة : أنه لا أثر للعلم الاجمالي إذا كان في بعض أطرافه أصل مثبت للتكليف في الرتبة السابقة عن العلم الاجمالي ولو كان الأصل المثبت عقليا ، كما إذا كان طرفا لعلم إجمالي آخر - كما في
ص: 81
$$$$$$$$$$$$$$$
المقام - فلا يجري الأصل النافي فيما يجري فيه الأصل المثبت ، فتبقى أصالة الطهارة جارية في الملاقي ( بالكسر ) بلا معارض (1) وهذا من غير فرق بين سبق العلم بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) والطرف على العلم بالملاقات ، أو سبق العلم بالملاقات على العلم بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) والطرف ، غايته أن الأول يوجب عدم تأثير العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي ( بالكسر ) أو الطرف ، والثاني يوجب انحلاله ، لان المدار على سبق المعلوم لا على سبق العلم ، وسيأتي توضيحه.
وأما الثاني منهما : وهو العلم بنجاسة الملاقي والملاقى أو الطرف ، فلان الملاقي ( بالكسر ) ليس في عرض الملاقى ( بالفتح ) حتى يكونا معا بمنزلة طرف واحد ، لأن الشك في نجاسة الملاقي وطهارته مسبب عن الشك في طهارة الملاقى ونجاسته ، والأصل الجاري في الشك السببي ليس في رتبة الأصل الجاري في الشك المسببي ليجريان معا أو يسقطان معا ، بل رتبة الأصل السببي مقدمة على الأصل المسببي (2) ولا تصل النوبة إليه مع جريان الأصل السببي توافقا في الذي مبناه على مانعية نفس العلم عن جريان الأصل في الطرف ولو بلا معارض.
ص: 82
المؤدى أو تخالفا ، لان الأصل السببي رافع لموضوع الأصل المسببي ، كما يأتي بيانه
ص: 83
( إن شاء اللّه تعالى ) في خاتمة الاستصحاب ، وإنما تصل النوبة إلى الأصل المسببي عند عدم جريان الأصل السببي لموجب ، فأصالة الطهارة الجارية في الملاقي ( بالكسر ) ليست في عرض أصالة الطهارة الجارية في الملاقى ( بالفتح ) لتسقط بسقوطها ، بل جريانها موقوف على سقوط أصالة الطهارة في الملاقى ( بالفتح ) بالمعارضة لأصالة الطهارة الجارية في الطرف الآخر ، ففي ظرف جريان أصالة الطهارة في الملاقى لم تجر أصالة لطهارة في الملاقي ( بالكسر ) وفي ظرف جريان أصالة الطهارة فيه لم يكن لها معارض ، لسقوط معارضها في الرتبة السابقة.
وقياس الملاقى والملاقي بالانائين في المثال المتقدم في كونهما طرفا واحدا للعلم الاجمالي ليس في محله ، فان الشك في نجاسة أحد الانائين وطهارته في المثال ليس مسببا عن الشك في نجاسة الآخر وطهارته ، بل الشك في كل منهما مسبب
ص: 84
عن وقوع النجاسة فيهما أو في الاناء الثالث ، فالأصل في كل من الانائين يجريان في عرض واحد ويسقطان بالمعارضة للأصل الجاري في الاناء الثالث.
فظهر : أن المؤثر من العلوم الثلاثة التي ذكرها المستشكل هو خصوص العلم بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) أو الطرف.
للمحقق الخراساني قدس سره تفصيل في وجوب الاجتناب عن الملاقي أو الملاقى.
فتارة : أوجب الاجتناب عن الملاقى ( بالفتح ) دون الملاقي ، وذلك فيما إذا تأخر العلم بالملاقات عن العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) أو الطرف.
وأخرى : أوجب الاجتناب عن الملاقي ( بالكسر ) دون الملاقى. وقد ذكر لذلك موردين :
الأول : ما إذا تأخر العلم بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) أو الطرف عن العلم بالملاقات والعلم بنجاسة الملاقي ( بالكسر ) أو الطرف ، كما إذا علم أولا بنجاسة الملاقي ( بالكسر ) أو الطرف من دون التفات إلى سبب نجاسة الملاقي ، ثم حدث العلم بالملاقات والعلم الاجمالي بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) أو الطرف والعلم بأنه ليس لنجاسة الملاقي ( بالكسر ) على تقدير أن يكون هو النجس الذي تعلق العلم به أولا سبب إلا جهة ملاقاته ، لأن المفروض أنه ليس في البين إلا نجاسة واحدة ، والتقييد بانحصار سبب نجاسة الملاقي بالملاقات وإن لم يصرح به في متن الكفاية ، إلا أنه صرح بذلك في حاشية الكفاية ، ووجه الحاجة إلى القيد واضح.
الثاني : ما إذا علم بالملاقات ، ثم حدث العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) أو الطرف ، ولكن حال حدوث العلم الاجمالي كان الملاقي ( بالكسر )
ص: 85
موردا للابتلاء ، والملاقى ( بالفتح ) خارجا عن مورد الابتلاء ثم عاد إلى مورد الابتلاء.
وثالثة : أوجب الاجتناب عن الملاقي والملاقى معا ، وذلك فيما إذا حصل العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) أو الطرف بعد العلم بالملاقات مع كون كل منهما في مورد الابتلاء.
هذا حاصل ما أفاده في الكفاية على طبق ما ذكره في الحاشية.
ولا يخفى عليك : أن هذا التفصيل مبني على كون حدوث العلم الاجمالي بما أنه علم وصفة قائمة في النفس تمام الموضوع لوجوب الاجتناب عن الأطراف وإن تبدلت صورته وانقلبت عما حدثت عليه ، لأنه يكون المدار حينئذ على حال حدوث العلم ، ومن المعلوم : أنه قد يكون متعلق العلم الاجمالي حال حدوثه هو نجاسة الملاقي ( بالكسر ) أو الطرف ، وقد يكون هو نجاسة الملاقى ( بالفتح ) أو الطرف ، وقد يكون هو نجاستهما معا أو الطرف.
ولكن الانصاف : فساد المبنى بمثابة لا سبيل إلى الالتزام به ، ضرورة أن المدار في تأثير العلم الاجمالي إنما هو على المعلوم والمنكشف لا على العلم والكاشف ، وفي جميع الصور المفروضة رتبة وجوب الاجتناب عن الملاقي ( بالفتح ) والطرف سابقة على وجوب الاجتناب عن الملاقي ( بالكسر ) وإن تقدم زمان العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي ( بالكسر ) أو الطرف على العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) أو الطرف ، لان التكليف في الملاقي إنما جاء من قبل التكليف بالملاقى ، فلا أثر لتقدم زمان العلم وتأخره بعدما كان المعلوم في أحد العلمين سابقا رتبة أو زمانا على المعلوم بالآخر ، كما أنه لا أثر لخروج الملاقى ( بالفتح ) عن محل الابتلاء في ظرف حدوث العلم مع عوده إلى محل الابتلاء بعد العلم ، ووضوح الامر وإن كان بمثابة لا يحتاج إلى إطالة الكلام فيه ، إلا أنه لا بأس بزيادة بيان لإزاحة الشبهة.
ص: 86
فنقول : إنه يعتبر في تأثير العلم الاجمالي واقتضائه التنجيز بقائه على صفة حدوثه وعدم تعقبه بما يوجب انحلاله وتبدل المنكشف به (1) لان اعتبار العلم الاجمالي إنما هو لكونه طريقا وكاشفا عن التكليف المولوي ، فلابد من انحفاظ طريقيته وكاشفيته ، وهو إنما يكون ببقائه على صفة حدوثه وعدم حدوث ما يوجب تغييرا في ناحية المعلوم ، فالعلم الاجمالي بوجوب الاجتناب عن أحد الشيئين إنما يقتضي الاجتناب عنهما إذا لم يحدث ما يقتضي سبق التكليف بالاجتناب عن أحدهما ولو كان ذلك علما إجماليا آخر كان المعلوم به سابقا في الزمان أو في الرتبة على المعلوم بالعلم الاجمالي الأول ، وإلا كان المدار على العلم الاجمالي الثاني الذي سبق معلومه معلوم الأول وسقط العلم الأول عن الاعتبار.
فلو علم بوقوع قطرة من الدم في أحد الانائين ، ثم بعد ذلك علم بوقوع قطرة أخرى من الدم في أحد هذين الانائين أو في الاناء الثالث ، ولكن ظرف وقوع القطرة المعلومة ثانيا أسبق من ظرف وقوع القطرة المعلومة أولا ، فلا ينبغي التأمل في أن العلم الاجمالي الثاني يوجب انحلال الأول لسبق معلومه عليه (2) ومن الواضح : أن العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي ( بالكسر ) والطرف دائما يكون المعلوم به متأخرا عن المعلوم بالعلم الاجمالي بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) والطرف ،
ص: 87
تقارن العلمان في الزمان ، أو تقدم تعلق العلم بالملاقي ( بالكسر ) على تعلق العلم بالملاقى أو انعكس الامر ، لما عرفت : من أنه لا عبرة بزمان حدوث العلم ، بل العبرة بزمان حدوث المعلوم. والنجاسة المعلومة بين الملاقى ( بالفتح ) والطرف تكون أسبق من النجاسة المعلومة بين الملاقي ( بالكسر ) والطرف في جميع الصور ، ففي أي زمان يحدث العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) والطرف يسقط العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي والطرف عن التأثير ، لأنه يتبين سبق التكليف بالاجتناب عن أحد طرفيه وهو طرف الملاقى ( بالفتح ) فتكون الشبهة بالنسبة إلى الملاقي ( بالكسر ) بدوية تجري فيه أصالة الطهارة بلا معارض.
هذا كله ، مضافا إلى أن الذوق يأبى عن أن يكون الحكم وجوب الاجتناب عن الملاقي ( بالكسر ) دون الملاقى ، مع أن التكليف به إنما يأتي من قبل التكليف بالملاقى ( بالفتح ).
نعم : لو فرض أن الملاقى ( بالفتح ) كان في ظرف حدوث العلم خارجا عن محل الابتلاء ولم يعد بعد ذلك إلى محله ولو بالأصل ، فالعلم الاجمالي بنجاسته أو الطرف مما لا أثر له ، ويبقى الملاقي ( بالكسر ) طرفا للعلم الاجمالي فيجب الاجتناب عنه وعن الطرف (1) لان العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى ( بالفتح ) والطرف وإن تقدم معلومه على العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي
ص: 88
( بالكسر ) أو الطرف ، إلا أنه لما كان الملاقى ( بالفتح ) خارجا عن محل الابتلاء فلا أثر للعلم الاجمالي بنجاسته أو الطرف. ولا تجري فيه أصالة الطهارة لتعارض أصالة الطهارة في الطرف ليبقى الأصل في الملاقي ( بالكسر ) سليما عن المعارض ، بل المعارض للأصل الجاري في الطرف هو الأصل الجاري في الملاقي ( بالكسر ) وذلك كله واضح ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا.
قد عرفت : أن عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي لاحد طرفي المعلوم بالاجمال كان مبنيا على أن لا تكون نجاسة الملاقي للنجس لأجل سراية النجاسة منه إليه ، بل لكونها فردا آخر من النجاسة أوجب الشارع الاجتناب عنه بتعبد يخصه.
ولو شك في أحد الوجهين ، ففي وجوب الاجتناب عن الملاقي لاحد طرفي العلم الاجمالي وعدمه وجهان : أقواهما وجوب الاجتناب عنه.
ويتضح وجهه بتقديم مقدمة ربما تمر عليك في بعض المباحث الآتية ، وهي : أنه لو دار الامر بين شرطية أحد الشيئين ومانعية الآخر :
فتارة : لا يكون بين الشيئين واسطة ، بل كانا من الضدين اللذين لا ثالث لهما ، كما إذا شك في أن الجهر بالقراءة شرط في الصلاة أو أن الاخفات بها مانع ، فإنه لا واسطة بين الجهر والاخفات ولا يمكن خلو القراءة عن الوصفين.
وأخرى : يكون بين الشيئين واسطة ، كما إذا شك في أن السورة بشرط الوحدة شرط في الصلاة؟ أو أن القران مانع؟ فإنه يمكن خلو الصلاة عن السورة والقران ، فتكون الصلاة بلا سورة واسطة بينهما.
لا إشكال في جريان البراءة عن الشرطية المشكوكة في القسم الثاني ، لرجوع الشك فيه إلى الأقل والأكثر ، لان شرطية السورة بقيد الوحدة تقتضي بطلان
ص: 89
الصلاة بلا سورة ، ومانعية القران لا تقتضي ذلك ، فلا يشترك جعل الشرطية مع جعل المانعية في جميع الآثار ، بل يكون في جعل الشرطية أثر زائد تجري فيه البراءة ويعمه حديث الرفع.
وبعبارة أوضح : في المثال المذكور يعلم تفصيلا بأن القران مبطل للصلاة ، إما لفقد الشرط من السورة بقيد الوحدة ، وإما لوجود المانع ، ويشك في بطلان الصلاة بلا سورة للشك في شرطية السورة ، فتجري فيه البراءة (1).
ص: 90
وأما القسم الأول : فالشك فيه يرجع إلى المتبانين لا الي الاقل والاكثر لاشتراك الشرطية والمانعيه في الاثار وليس للشرطية اثر زائد تجري فيه البرائة ، اذ كما ان الشرطية الجهر تقتضي بطلان الصلاة عند الاخفات بالقراءة ، كذلك مانعية الاخفات تقتضي بطلان الصلاة عنده فلا فرق بين ان يكون الجهر شرطا او يكون الاخفات مانعا ، ويتحدان في عالم الجعل والثبوت في الاثر.
نعم : نفس الشك في الشرطية يقتضي اثرا زائدا عما يقتضيه الشك في المانعية ، لان الشرط لابد من إحرازه ولا يكفي الشك في وجوده ، بخلاف المانع ، فإنه لا يلزم إحراز عدمه بناء على جريان أصالة عدم المانع عند الشك في وجوده.
ففي المثال لو شك المأموم في أن الامام أجهر بالقراءة أو أخفت بها ، فبناء على مانعية الاخفات تجري أصالة عدم وجود المانع ويتم صلاته مع الامام ، وبناء على شرطية الجهر ليس له إتمام صلاته معه ، لعدم إحراز ما هو الشرط في صحة صلاته (1) فلزوم إحراز الشرط إنما يكون من الآثار المترتبة على نفس الشك في الشرطية ، وليس من آثار جعل الشرطية ، وحينئذ يقع الكلام في أن هذا المقدار من الأثر الذي اقتضاه الشك لا الجعل مما تجري فيه البراءة ويعمه حديث الرفع ، أو لا؟.
وغاية ما يمكن أن يقال في تقريب جريان الأصل ، هو أنه يلزم من جعل الشرطية ضيق وكلفة على المكلفين ، لأنه يلزمهم إحراز وجود الشرط ، بخلاف جعل المانعية ، فإنهم في سعة عن ذلك ، فيعمها حديث الرفع وتجري فيها البراءة ، لان في رفع الشرطية منة وتوسعة على المكلفين.
ص: 91
هذا ، ولكن قد تقدم في مبحث البراءة - عند شرح الحديث المبارك - أنه يعتبر في الرفع مضافا إلى ذلك أن يكون المرفوع من المجعولات الشرعية التي يمكن أن تنالها يد الوضع والرفع التشريعي ولو تبعا ، وخصوصية لزوم إحراز الشرط ليست بنفسها من المجعولات الشرعية ولا من لوازم المجعول الشرعي ، بل هي من الآثار المترتبة على الشك فيما هو المجعول الشرعي ، ومثل هذه الخصوصية لا يعمها حديث الرفع ولا تجري فيها البراءة.
إذا عرفت ذلك ، فنقول في المقام : إن الوجهين اللذين ذكرناهما في نجاسة الملاقي يشتركان في الأثر ، لأنه يجب الاجتناب عن ملاقي النجس على كل تقدير ، سواء قلنا بالسراية أو لم نقل ، وليس هناك أثر يختص به أحد الوجهين في عالم الجعل والثبوت.
نعم : يفترقان في حال الشك ويظهر لاحد الوجهين أثر زائد عنده ، فإنه بناء على السراية يجب الاجتناب عن الملاقي لاحد طرفي المعلوم بالاجمال ولا تجري فيه أصالة الطهارة مع أنه يشك في ملاقاته للنجس ، على ما تقدم بيانه ، وبناء على الوجه الآخر لا يجب الاجتناب عنه وتجري فيه أصالة الطهارة ، فيكون الشك في أحد الوجهين لنجاسة الملاقي كالشك في شرطية أحد الشيئين ومانعية الآخر في الضدين اللذين لا ثالث لهما من حيث عدم اقتضاء أحد الجعلين أثرا زائدا عما يقتضيه الجعل الآخر واقتضاء الشك فيما هو المجعول أثرا زائدا.
فان قلنا في دوران الامر بين شرطية أحد الشيئين ومانعية الآخر بجريان البراءة عن الأثر الذي اقتضاه الشك قلنا به في المقام أيضا ، وتجري أصالة الطهارة في الملاقي لاحد الطرفين ، وإن قلنا بعدم جريان البراءة في ذلك المقام فاللازم الاجتناب عن الملاقي لاحد الطرفين ، ولا تجري فيه أصالة الطهارة ، لأنه طرف للعلم الاجمالي وجدانا ، وإنما أخرجناه عن ذلك بمعونة السببية والمسببية
ص: 92
بالبيان المتقدم. والسببية والمسببية كانت مبنية على أن لا تكون نجاسة الملاقي بالسراية ، فلو احتمل كونها بالسراية - كما هو المفروض - تبقى طرفيته للعلم الاجمالي على حالها كالملاقي ( بالفتح ) ولا تجري فيه أصالة الطهارة ، لمعارضتها بأصالة الطهارة الجارية في الطرف الآخر (1) فتأمل فإنه لا يخلو عن دقة.
لو اضطر إلى ارتكاب بعض الأطراف :
فتارة : يكون الاضطرار قبل تعلق التكليف بأحدها وقبل العلم به ، كما لو اضطر إلى استعمال أحد مقطوعي الطهارة أو الحلية ثم حدثت نجاسة أحدهما أو حرمته والعلم بها. وأخرى : يكون الاضطرار بعد تعلق التكليف بأحدها وقبل العلم به. وثالثة : يكون الاضطرار بعد العلم به أيضا أو مقارنا له.
وعلى جميع التقادير : فتارة يكون الاضطرار إلى أحدها المعين. وأخرى إلى أحدها لا بعينه.
فإن كان الاضطرار قبل تعلق التكليف والعلم به وكان إلى المعين ، فلا إشكال في عدم وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر الغير المضطر إليه ، لاحتمال أن يكون متعلق التكليف هو المضطر إليه ، فالعلم الاجمالي الحادث لم يتعلق بالتكليف الفعلي ، والأصول غير جارية في جميع الأطراف لتسقط بالمعارضة ، لعدم جريان الأصل النافي للتكليف في الطرف المضطر إليه ، للقطع بعدم وجوب الاجتناب عنه ، فيبقى الطرف الآخر جاريا فيه الأصل بلا
ص: 93
معارض.
ولو كان إلى غير المعين ، فحكمه الاضطرار إلى الواحد لا بعينه بعد تعلق التكليف بأحد الأطراف وقبل العلم الاجمالي به. وسيأتي أن الأقوى فيه وجوب الاجتناب عما عدا ما يدفع به الاضطرار.
وإن كان الاضطرار بعد تعلق التكليف بأحدها وقبل العلم به وكان إلى المعين ، فالأقوى فيه أيضا عدم وجوب الاجتناب عن الطرف الغير المضطر إليه وفاقا للشيخ قدس سره لان الاضطرار إلى بعض الأطراف قبل العلم الاجمالي كتلف بعضها قبله ، ولا إشكال في عدم وجوب الاجتناب عن الباقي الغير التالف ، لاحتمال أن يكون التالف هو متعلق التكليف ، فلا يكون العلم الاجمالي علما بالتكليف ، فلا تعارض بين الأصول ، بل الأصل في التالف لا يجري ، وفي الباقي يجري بلا معارض (1) والاضطرار ملحق بالتلف في جميع المقامات ، لان المضطر إليه كالمعدوم.
فإن قلت : لا أثر لتأخر حدوث العلم الاجمالي عن الاضطرار إذا كان المعلوم سابقا على الاضطرار ، فان المدار على المعلوم لا على العلم ، إذ العلم إنما يكون طريقا وكاشفا عن التكليف ، فلابد من ملاحظة زمان ثبوت التكليف لا زمان حدوث العلم ، والمفروض : أن التكليف بالاجتناب عن أحد الأطراف كان سابقا على الاضطرار ولم يعلم وقوع الاضطرار إلى متعلق التكليف ليسقط التكليف بسببه ، فلابد من تحصيل العلم بالمسقط ليأمن من تبعة التكليف المعلوم في البين ، ولا يحصل ذلك إلا بالاجتناب عن الطرف الغير المضطر إليه.
ص: 94
وقد حكي أن شيخنا الأستاذ - مد ظله - كان في الدورة السابقة بانيا على هذا الوجه ولكن عدل عنه في هذه الدورة وأجاب عن الاشكال بما سيتلى عليك
قلت : العلم الاجمالي وإن كان بالنسبة إلى متعلقه لا يكون إلا كاشفا وطريقا ، إلا أنه بالنسبة إلى التنجيز وجريان الأصول في الأطراف وتعارضها وتساقطها يكون تمام الموضوع ، بداهة أنه قبل العلم الاجمالي بتعلق التكليف بأحد الأطراف لا تجري الأصول فيها لكي يقع التعارض بينها ، لان الأصول العملية إنما جعلت وظيفة للمتحير والشاك ، ولا شك مع عدم العلم الاجمالي ، فقبل العلم الاجمالي لا تجري الأصول النافية للتكليف في الأطراف ، وبعد العلم الاجمالي لا تعارض بينها ، لعدم جريان الأصل في الطرف المضطر إليه ، للقطع بعدم وجوب الاجتناب عنه ، ولا يعقل التعبد بما يكون محرزا بالوجدان ، فلم يبق إلا الطرف الآخر جاريا فيه الأصل بلا معارض. وقد عرفت في بعض المباحث السابقة التلازم بين تأثير العلم الاجمالي وتعارض الأصول.
فالأقوى : أنه لا فرق في عدم وجوب الاجتناب عن غير المضطر إليه بين سبق التكليف على الاضطرار وعدمه إذا كان العلم به بعد الاضطرار.
وقس عليه ما إذا كان العلم مقارنا للاضطرار ، لان العلم الاجمالي إنما يقتضي تنجيز التكليف الذي يمكن امتثاله والانبعاث عنه بعد العلم ، فالعلم المقارن للاضطرار لا يوجب التنجيز فلا تعارض بين الأصول ، وهو واضح.
هذا كله إذا كان الاضطرار إلى المعين قبل العلم الاجمالي أو مقارنا له.
وأما إذا كان بعد العلم الاجمالي ، فالأقوى فيه وجوب الاجتناب عن الطرف الغير المضطر إليه ، لان التكليف قد تنجز بالعلم الاجمالي فلابد من الخروج عن عهدته (1) وأقصى ما يقتضيه الاضطرار إلى المعين هو الترخيص فيما
ص: 95
اضطر إليه ورفع التكليف عنه على تقدير أن يكون هو متعلق التكليف واقعا وهذا لا يوجب الترخيص فيما عداه ورفع التكليف عنه على تقدير أن يكون هو متعلق التكليف ، لان الضرورات تتقدر بقدرها ، فلا مجوز لارتكاب ما عدا المضطر إليه ، لا عقلا ولا شرعا.
أما عقلا : فلعدم جريان البراءة العقلية فيه ، لعدم تقبيح العقل مؤاخذة من خالف التكليف وارتكب الحرام المعلوم في البين تشهيا بلا اضطرار إليه.
وأما شرعا : فلتساقط الأصول النافية للتكليف بمجرد حدوث العلم الاجمالي ، وعروض الاضطرار لا يوجب رجوع الأصل في الطرف الغير المضطر إليه ، كما لا يوجب ذلك في الطرف الباقي عند تلف الآخر بعد العلم الاجمالي ، فالاضطرار إلى البعض بعد العلم الاجمالي كتلف البعض بعده لا يوجب سقوط العلم الاجمالي عن التأثير بعدما حدث مؤثرا.
ص: 96
وهذا بخلاف ما إذا كان الاضطرار حاصلا قبل العلم الاجمالي ، فان العلم فيه يحدث قاصرا عن التأثير ، فلا يقاس أحدهما بالآخر ، بل حق القياس أن يقاس الاضطرار قبل العلم الاجمالي بتلف البعض قبله ، والاضطرار بعد العلم الاجمالي بتلف البعض بعده.
وما قيل في المقام : من الفرق بين تلف البعض بعد العلم والاضطرار إليه بعده ، من أن تلف موضوع التكليف ليس من حدود التكليف وقيوده الشرعية ، بل سقوط التكليف بتلف الموضوع إنما هو لأجل انعدام الموضوع وقواته ، فالمعلوم بالاجمال من أول الامر هو التكليف المطلق الغير المقيد شرعا بعدم تلف الموضوع ، وقد تنجز التكليف المطلق بالعلم الاجمالي ، فلابد من الخروج عن عهدته بترك التصرف في الطرف الباقي ، وهذا غير الاضطرار إلى موضوع التكليف ، فان التكليف من أول الامر محدود شرعا بعدم عروض الاضطرار إلى متعلقه ، فلا موجب لتنجز التكليف مطلقا حتى مع حصول الاضطرار الذي اخذ حدا للتكليف شرعا ، لأنه لا يقين باشتغال الذمة بالتكليف إلا إلى هذا الحد ، فلا يجب رعاية التكليف بعد الحد.
واضح الفساد : فإنه لا فرق في تأثير العلم الاجمالي واقتضائه التنجز بين أن يتعلق بالتكليف المطلق الغير المحدود شرعا وبين أن يتعلق بالتكليف المردد بين المحدود وغير المحدود مع تعدد المتعلق ، كما إذا علم إجمالا بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة ، فإنه لا ينبغي التأمل في تأثير العلم الاجمالي في وجوب صلاة الظهر بعد انقضاء ساعة من الزوال ، مع أن العلم الاجمالي قد تعلق بالتكليف المردد بين المحدود وغيره ، فان التكليف بصلاة الظهر لا حد لآخره شرعا بل يمتد وقته إلى آخر العمر ، لثبوت القضاء فيها ، بخلاف صلاة الجمعة ، فان التكليف بها محدود شرعا إلى انقضاء ساعة من الزوال ، ولا فرق بين انقضاء الساعة في المثال وبين عروض الاضطرار إلى المعين فيما نحن فيه ، لان كل من الساعة
ص: 97
والاضطرار جعل حدا للتكليف شرعا.
فدعوى : أن العلم الاجمالي بالتكليف المردد بين المحدود وغيره لا يقتضي التنجيز ، مما لا سبيل إليها.
نعم : تصح هذه الدعوى مع وحدة متعلق العلم ، كما لو علم بوجوب إكرام زيد وتردد بين اليوم واليومين ، فإنه في مثل ذلك يمكن أن يقال : بعدم وجوب الاكرام في اليوم الثاني وجريان البراءة عنه إن لم نقل بجريان استصحاب وجوب الاكرام الثابت في اليوم الأول.
فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن الاضطرار إلى المعين لا يرفع تأثير العلم الاجمالي بالنسبة إلى الطرف الآخر إذا كان طرو الاضطرار بعد العلم.
وأما الاضطرار إلى غير المعين ، فالأقوى فيه وجوب الاجتناب عما عدا ما يدفع به الاضطرار مطلقا في جميع الصور ، سواء كان الاضطرار قبل تعلق التكليف بأحد الأطراف أو بعده ، وسواء كان قبل العلم به أو بعده أو مقارنا له ، فان الاضطرار إلى غير المعين يجتمع مع التكليف الواقعي ولا مزاحمة بينهما ، لامكان رفع الاضطرار بغير متعلق التكليف (1) مع قطع النظر عن العلم والجهل
ص: 98
الطاري ، بل لولا الجهل بشخص متعلق التكليف لكان يتعين رفع الاضطرار بغيره ، فالاضطرار إلى غير المعين قبل العلم بالتكليف - بل قبل تعلق التكليف بأحد الأطراف - كلا اضطرار ، لا يوجب التصرف في الواقع ولا يصادم متعلق التكليف ولا تقع المزاحمة بينهما إلا بعد العلم بتعلق التكليف بأحد الأطراف والجهل بشخصه (1) فإنه في هذا الحال لا يمكن التكليف برفع الاضطرار بغير
ص: 99
متعلق التكليف ، لعدم العلم بشخصه ، ومن الممكن أن يصادف ما يدفع به الاضطرار لمتعلق التكليف.
والحاصل : أنه فرق بين بين الاضطرار إلى المعين والاضطرار إلى غير المعين ، فان الاضطرار إلى المعين يزاحم التكليف الواقعي بنفس وجوده إذا صادف كون متعلق التكليف هو المضطر إليه ، ولا تتوقف المزاحمة بينهما على العلم بالتكليف والجهل بموضوعه ، بل تدور المزاحمة مدار واقع المضطر إليه ، فان كان هو متعلق التكليف فلا محالة تقع المزاحمة بينهما ويسقط التكليف بسببه ، ولذا كان العلم الحاصل بعد الاضطرار إلى المعين لا يقتضي التنجيز ، لاحتمال أن يكون المضطر إليه هو متعلق التكليف.
وهذا بخلاف الاضطرار إلى غير المعين ، فإنه بوجوده الواقعي لا يزاحم التكليف ، لأنه لا يتعين رفع الاضطرار بمتعلق التكليف لامكان رفع الاضطرار بغيره.
والذي يدلك على ذلك ، هو أنه لو علم بمتعلق التكليف في حال الاضطرار ، فالواجب رفع الاضطرار بغيره ، بخلاف الاضطرار إلى المعين ، فان العلم بالمتعلق لا يزيد شيئا إذا اتفق كون المضطر إليه هو متعلق التكليف.
ص: 100
والغرض من ذلك كله : بيان الفرق بين الاضطرار إلى المعين والاضطرار إلى غير المعين ، وأن ما ذكرناه من التفصيل بين سبق العلم على الاضطرار ولحوقه في الاضطرار إلى المعين لا يأتي في الاضطرار إلى غير المعين ، بل ينبغي تعميم البحث فيه لكلتا صورتي حصول الاضطرار قبل العلم وبعده ، فإما أن نقول : بوجوب الاجتناب عن غير ما يدفع به الاضطرار مطلقا في كلتا الصورتين ، وإما أن نقول : بعدم الوجوب مطلقا.
والأقوى : هو الوجوب لعين ما تقدم في الاضطرار إلى المعين إذا كان بعد العلم الاجمالي. ونزيده في المقام وضوحا ، فنقول :
إن أدلة رفع الاضطرار كأدلة نفي الضرر والحرج إنما تكون حاكمة على الأدلة الأولية بمقدار الاضطرار والضرر والحرج ، ولا يمكن أن يكون الاضطرار إلى شيء موجبا لرفع حكم شيء آخر ، فالاضطرار إلى المعين يقتضي رفع التكليف عن ذلك المعين بخصوصه ، والاضطرار إلى غير المعين يقتضي رفع التكليف عما يدفع به الاضطرار. وأما الطرف الباقي بعد رفع الاضطرار بغيره فهو باق على حكمه ، ولا موجب للترخيص فيه ، فلابد من الاجتناب عنه خوفا عن مصادفته لمتعلق التكليف من دون أن يكون هناك مؤمن عقلي أو شرعي.
وبالجملة. ارتكاب أحد المشتبهين لابد وأن يكون بأحد الأسباب المجوزة للارتكاب ، إما للاضطرار إليه وإما لقيام الدليل عليه ولو كان هو من الأصول العملية ، وبعد رفع الاضطرار بأحد المشتبهين يبقى المشتبه الآخر بلا مجوز لارتكابه ، لعدم الاضطرار إليه ، وعدم جريان الأصول النافية للتكليف فيه ، لأنه من أطراف العلم الاجمالي ، فلا مؤمن من أن يكون هو متعلق التكليف.
وما أفاده المحقق الخراساني قدس سره من أن الترخيص في بعض الأطراف تخييرا ينافي فعلية الحكم ، لوضوح أن التخيير في ارتكاب البعض لا يجتمع مع فعلية التكليف ، فلا أثر للعلم الاجمالي بالتكليف الغير الفعلي
ص: 101
واضح الفساد ، فان فعلية الحكم تدور مدار وجود موضوعه ، كما أن التنجيز يدور مدار العلم بالحكم أو ما يلحق به من الامارات والأصول المحرزة ، ولا يعقل أن لا يكون الحكم فعليا مع وجود موضوعه. والاضطرار إلى غير المعين لا ينافي فعلية الحكم ، لوجود موضوعه على كل حال ، لأن المفروض وجود موضوع التكليف بين المشتبهات ، والاضطرار الذي يكون عدمه قيدا في الموضوع عقلا أو شرعا لم يقع على موضوع التكليف ، لامكان رفع الاضطرار بغيره ، فالمكلف غير ملجأ إلى الاقتحام في موضوع التكليف وإن كان معذورا لو صادف دفع الاضطرار به ، لجهله بالموضوع.
فالاضطرار إلى غير المعين لا يمس موضوع التكليف لينافي فعلية التكليف ، بل الموضوع بتمام ماله من القيود الوجودية والعدمية محفوظ في مورد الاضطرار إلى غير المعين ، فالحكم يكون فعليا على كل تقدير.
نعم : في الاضطرار إلى المعين لا يكون التكليف فعليا على كل تقدير ، لاحتمال أن يكون المضطر إليه هو موضوع التكليف ، فهو فعلي على تقدير وغير فعلي على تقدير آخر.
فدعوى : أن الترخيص في بعض الأطراف تخييرا ينافي فعلية الحكم ، مما لا سبيل إليها.
نعم : تصح هذه الدعوى على مبناه : من أن الحكم إنما يكون فعليا إذا كان المولى بصدد تحصيل مراده على كل تقدير وبأي وجه اتفق ولو برفع جهل المكلف تكوينا ، أو إيجاب الاحتياط عليه تشريعا ، ضرورة أن هذا المعنى من الفعلية ينافي الترخيص في البعض تخييرا لان الترخيص في البعض يقتضي عدم إرادة الواقع على تقدير مصادفة ما اختاره المكلف للواقع ، بل الترخيص في البعض المعين ينافي الفعلية بهذا المعنى.
فلا وجه للتفصيل بين الاضطرار إلى المعين وغير المعين : من أنه في الأول
ص: 102
لا يجوز الاقتحام في غير المضطر إليه إذا كان الاضطرار بعد العلم ، وفي الثاني يجوز الاقتحام في غير ما يدفع به الاضطرار ، مع أنه قدس سره قد صرح بالتفصيل بينهما في حاشية الكفاية ، وإن اختار في متنها جواز الاقتحام مطلقا في المعين وغير المعين. ولو كان معنى الحكم الفعلي إرادة الواقع على كل تقدير لكان ينبغي إطلاق القول بأن الترخيص في البعض ينافي فعلية الحكم. ولكن دعوى : كون الحكم الفعلي عبارة عن بلوغ البعث والزجر إلى تلك المرتبة ، ضعيف غايته (1) فإنه ليس وظيفة الشارع رفع جهل المكلف ، وإنما وظيفته إنشاء الاحكام على موضوعاتها المقدرة وجودها على طبق القضايا الحقيقية ، وفعلية الحكم إنما يكون بوجود الموضوع خارجا ، كما أوضحناه بما لا مزيد عليه في الواجب المشروط ، فالحكم في مورد الاضطرار إلى غير المعين يكون فعليا على كل تقدير.
هذا كله ، مع أنه يكفي في وجوب الاجتناب عن غير ما يدفع به الاضطرار فعلية التكليف على تقدير دون تقدير ، كما في الاضطرار إلى المعين (2) فان العلم الاجمالي بتعلق التكليف بأحد الأطراف لو خلي وطبع يقتضي وجوب
ص: 103
الاجتناب عن جميع الأطراف مقدمة لترك الحرام المعلوم في البين ، وإنما يجوز رفع اليد عن مقتضاه بمقدار ما يثبت من المانع ، والاضطرار إلى غير المعين لا يصلح أن يكون مانعا عن وجوب ترك الحرام مطلقا ولو لم يصادف رفع الاضطرار به ، بل أقصى ما يقتضيه الاضطرار هو جواز الاقتحام في الحرام على تقدير مصادفة ما يدفع به الاضطرار له ، لان الضرورات تتقدر بقدرها ، ويكفي في وجوب الاجتناب عن الباقي الغير المضطر إليه احتمال أن يكون هو الحرام المعلوم.
وتوهم : أنه ليس للمولى الترخيص في مخالفة التكليف على تقدير دون تقدير فاسد ، فإنه لا مانع من ذلك ، فدعوى : أن الترخيص في البعض تخييرا يلازم الترخيص في الكل مما لا شاهد عليها ، فتأمل.
لا إشكال في أن الاضطرار إلى المعين يقتضي التوسط في التكليف.
وأما الاضطرار إلى غير المعين ففي اقتضائه التوسط في التكليف أو التوسط في التنجيز ، إشكال.
وتوضيح ذلك : هو أن التوسط في التكليف معناه : ثبوت التكليف الواقعي على تقدير وعدم ثبوته على تقدير آخر ، بتقييد إطلاقه وتخصيصه بحال دون حال (1) كما هو الشأن في تقييد كل إطلاق بقيد وجودي أو عدمي.
ص: 104
والتوسط في التنجيز معناه : بلوغ التكليف إلى مرتبة التنجز على تقدير وعدم بلوغه إلى تلك المرتبة على تقدير آخر ، مع إطلاق التكليف الواقعي وثبوته في كلا التقديرين بلا تصرف فيه واقعا ، بل كان تنجز التكليف مقصورا بأحد التقديرين.
إذا تبين ذلك فاعلم : أن الاضطرار إلى المعين يقتضي التوسط في التكليف لا محالة ، ولا يمكن أن يقتضي التوسط في التنجيز ، فان التكليف الواقعي مقيد بعدم طرو الاضطرار إلى مخالفته ، فعند الاضطرار إلى المعين لا يمكن الجزم ببقاء التكليف الواقعي ، لاحتمال أن يكون المضطر إليه هو متعلق التكليف ، فيوجب رفعه واقعا ، فيدور التكليف الواقعي بين ثبوته على تقدير عدم كون المضطر إليه هو الموضوع للتكليف ، وعدم ثبوته على تقدير أن يكون هو الموضوع.
وحاصل الكلام : أن الجهل بشخص موضوع التكليف في مورد الاضطرار إلى المعين لا دخل له في الترخيص ، بل العلة في الترخيص هو الاضطرار ، فالترخيص فيه يكون واقعيا لا ظاهريا ، لان الترخيص الظاهري يتوقف على أن يكون الجهل بالموضوع علة له ، لان الجهل بالموضوع أو الحكم الواقعي له دخل في كل حكم ظاهري ، فلا يكون الترخيص في الاضطرار إلى المعين إلا واقعيا.
ومعنى الترخيص الواقعي هو : أنه يجوز للمكلف مخالفة التكليف واقعا على تقدير أن يكون المضطر إليه هو الحرام ، وهذا عين التوسط في التكليف ، لان التوسط في التنجيز يتوقف على بقاء التكليف الواقعي على ما هو عليه من دون أن يكون في البين ما يقتضي رفعه واقعا ، وإنما كان بلوغه إلى مرتبة التنجز مقيدا بحال دون حال ، وهذا إنما يكون إذا كان للجهل بموضوع التكليف أو متعلقه دخل في الترخيص في بعض الأطراف ليكون الترخيص ظاهريا ، كما في باب الأقل والأكثر الارتباطيين بناء على جريان البراءة عن الأكثر ، فان العلة
ص: 105
في ترخيص ترك الأكثر إنما هي الجهل بمتعلق التكليف ، فلا محالة يكون الترخيص في تركه ظاهريا على تقدير أن يكون متعلق التكليف واقعا هو الأكثر ، فالتكليف بالأكثر يكون متوسطا في التنجيز ، بمعنى أنه إن كان المكلف به واقعا هو الأكثر فالتكليف به قد تنجز على تقدير ترك الأقل ، فيعاقب على ترك الأكثر ، وأما مع عدم ترك الأقل فلا يكون التكليف به منجزا ولا يعاقب على تركه ، فبلوغ التكليف بالأكثر إلى مرتبة التنجز يدور مدار فعل الأقل وتركه ، فهو منجز على تقدير وغير منجز على تقدير آخر.
فظهر : أن التكليف في مورد الاضطرار إلى المعين لا يكون إلا من التوسط في التكليف ، وفي مورد الأقل والأكثر لا يكون إلا من التوسط في التنجيز.
وأما الاضطرار إلى غير المعين : ففي اقتضائه التوسط في التنجيز أو التوسط في التكليف ، كما اختاره الشيخ قدس سره وجهان ، لأنه قد اجتمع فيه كل من الجهتين ، فان لكل من الجهل والاضطرار دخلا في الترخيص فيه ، إذ لولا الجهل بشخص الحرام كان يتعين على المكلف رفع الاضطرار بغيره ، كما أنه لولا الاضطرار كان يجب الاجتناب عن جميع الأطراف ولم يحصل في البين ما يوجب الترخيص في البعض ، فالترخيص في ارتكاب أحد الأطراف تخييرا يستند إلى مجموع الأمرين : من الجهل والاضطرار.
وحينئذ لابد من ملاحظة الجزء الأخير لعلة الترخيص.
فإن كان هو الجهل ، فالترخيص فيه يكون ظاهريا لا واقعيا ، ويلزمه التوسط في التنجيز ، والترخيص الظاهري في المقام - كسائر موارد الترخيصات الظاهرية المستفادة من أصالة البراءة والحل - لا يقتضي أزيد من المعذورية في مخالفة التكليف على تقدير مصادفة ما اختاره المكلف لدفع الاضطرار لموضوع التكليف مع بقاء الواقع على ما هو عليه بلا تصرف فيه ، فان الترخيص الظاهري لا يصادم الواقع ، كما أوضحناه في محله.
ص: 106
وإن كان هو الاضطرار ، فالترخيص فيه يكون واقعيا ويلزمه التوسط في التكليف.
والانصاف : أن لكل من الترخيص الواقعي والترخيص الظاهري وجها قويا.
أما وجه كون الترخيص ظاهريا : فهو ما تقدم من أن الاضطرار إلى غير المعين بوجوده لا يصام التكليف الواقعي ولا يمس الموضوع ، بل الموضوع بتمام ماله من القيود الوجودية والعدمية محفوظ ، فالعلة الموجبة للترخيص في ارتكاب الحرام إنما هو الجهل ، إذ لولا الجهل كان يتعين رفع الاضطرار بغير الحرام ، ولذا قلنا : إن الحكم في مورد الاضطرار إلى غير المعين يكون فعليا.
وأما وجه كون الترخيص واقعيا : فهو أن الاضطرار بوجوده وإن لم يناف التكليف الواقعي ، إلا أنه في حال الجهل بالموضوع وعدم العلم بشخص الحرام ينافيه ويقع المصادمة بين التكليف والاضطرار ولو في صورة مصادفة ما اختاره لدفع الاضطرار لموضوع التكليف ، فان ارتكاب المكلف للحرام في هذا الحال يكون مصداقا للاضطرار ويحمل عليه بالحمل الشايع الصناعي ، ويصح أن يقال : إن ارتكابه للحرام كان عن اضطرار إليه ، وإن كان يمكن رفع الاضطرار بالطرف الآخر نظير الاتيان بأحد فردي الواجب التخييري ، فان المأتي به يكون مصداقا للواجب ، مع أنه يجوز تركه والآتيان بالفرد الآخر ، وإذا صدق الاضطرار إلى الحرام ، فالترخيص فيه يكون واقعيا.
وتوهم : أن الترخيص الواقعي في كل واحد من الأطراف تخييرا ينافي العلم بالتكليف الواقعي تعيينا فاسد ، فإنه إنما ينافي العلم بالتكليف التعييني على كل تقدير وفي كل حال ، وأما العلم بالتكليف على تقدير دون تقدير وفي حال دون حال ، فالترخيص التخييري في كل واحد لا ينافيه ، فتأمل.
هذا غاية ما يمكن أن يقال في وجه كون الاضطرار إلى غير المعين يقتضي
ص: 107
الترخيص الواقعي والتوسط في التكليف ، وقد مال إليه شيخنا الأستاذ - مد ظله - بل قواه في ابتداء الامر ، ولكن عدل عنه في فذلكة البحث واختار الترخيص الظاهري والتوسط في التنجيز (1) وهو الذي ينبغي المصير إليه ، والذي يسهل الخطب هو : أنه لا يترتب على الوجهين ثمرة مهمة ، وقد تقدم في دليل الانسداد شطر من الكلام في ذلك ، فراجع.
لو كانت الأطراف تدريجية الوجود بحيث كان وجود بعضها بعد تصرم الآخر ، ففي تأثير العلم الاجمالي مطلقا ، أو عدمه مطلقا ، أو التفصيل بين ما كان للزمان دخل في الخطاب والملاك وبين ما لايكون له دخل في ذلك ، وجوه.
وتفصيل ذلك هو أنه تارة : يكون للزمان الذي هو ظرف وقوع المشتبه دخل في التكليف خطابا وملاكا كالأحكام المترتبة على الحيض ، فان الحيض هو الدم الذي تراه المرأة في أيام العادة ولزمان العادة دخل في ثبوت تلك الأحكام ملاكا وخطابا.
وأخرى : لا يكون للزمان دخل في التكليف لا ملاكا ولا خطابا وإنما يكون الزمان ظرفا لوقوع المشتبه خارجا ، من باب أن كل فعل لابد وأن يقع في الزمان من دون أخذه في موضوع التكليف شرعا ، كحرمة الغيبة والكذب والربا ونحو ذلك.
وثالثة : يكون للزمان دخل في الامتثال والخروج عن عهدة التكليف من دون أن يكون له دخل في الملاك والخطاب نظير الواجب المعلق على القول به. ويمكن أيضا أن يكون للزمان دخل في حسن الخطاب من دون أن يكون له
ص: 108
دخل في الملاك. فهذه جملة ما يتصور في اعتبار الزمان في الأحكام الوضعية والتكليفية.
فإن لم يكن للزمان دخل لا في الملاك ولا في الخطاب ، فلا إشكال في تأثير العلم واقتضائه الموافقة القطعية ، فلو علم المكلف بأن بعض معاملاته في هذا اليوم أو الشهر تكون ربوية فيلزمه التحرز عن كل معاملة يحتمل كونها ربوية (1) مقدمة للعلم بفراغ الذمة عما اشتغلت به من التكليف بترك المعاملة الربوية ، فان الشخص من أول بلوغه يكون مكلفا بترك المعاملة الربوية صباحا ومساء في أول الشهر وآخره ، والتكليف بذلك يكون فعليا من ذلك الزمان غير مشروط بزمان خاص ، كالنهي عن الغيبة والكذب.
وإلى ذلك يرجع ما أفاده الشيخ قدس سره بقوله : « والتحقيق أن يقال : إنه لا فرق بين الموجودات فعلا والموجودات تدريجا في وجوب الاجتناب عن الحرام المردد بينها إذا كان الابتلاء دفعة » انتهى. فإن الابتلاء دفعة مع عدم وجود المشتبهات فعلا لا يكون إلا لأجل إطلاق النهي وعمومه لجميع الأزمنة
ص: 109
التي توجد فيها المشتبهات التدريجية.
وقس على ذلك ما إذا كان للزمان دخل في الامتثال من دون أن يكون له دخل في الملاك والخطاب ، كما لو نذر المكلف ترك وطي الزوجة في يوم معين واشتبه بين يومين ، فان التكليف بترك الوطي يكون فعليا بمجرد انعقاد النذر ، والزمان إنما يكون ظرفا للامتثال ، فأصالة عدم تعلق النذر في كل من اليوم الحاضر والغد معارضة بأصالة عدم تعلق النذر بالآخر ، فلابد من ترك الوطي في كل من اليومين مقدمة للعلم بالامتثال والخروج عن عهدة التكليف المنجز بالعلم.
وتوهم : أن الوطي في الغد لا يمكن الابتلاء به في اليوم الحاضر فلا تجري في اليوم الحاضر أصالة عدم تعلق النذر به فاسد ، لما عرفت من أنه بمجرد انعقاد النذر يكون التكليف بترك الوطي فعليا مطلقا في كل زمان تعلق النذر به ، ففي اليوم الحاضر تجري أصالة عدم تعلق النذر بترك الوطي في الغد وتعارض بأصالة عدم تعلق النذر بترك الوطي في اليوم الحاضر. ويلحق بذلك ما إذا كان للزمان دخل في حسن الخطاب من دون أن يكون له دخل في الملاك لو فرض أن له موردا فيما بأيدينا من التكاليف ، فان فعلية الملاك يكفي في تأثير العلم الاجمالي ، كما لا يخفى وجهه.
وأما إذا كان للزمان دخل في كل من الملاك والخطاب ، ففي تأثير العلم الاجمالي وعدمه وجهان ، اختار الشيخ قدس سره عدم التأثير وجواز المخالفة القطعية ، لان الأصول النافية للتكليف تجري في الأطراف بلا تعارض ، فإنه لو كان أيام الحيض آخر الشهر ، فالتكليف بترك الوطي والصلاة ودخول المساجد ونحو ذلك لا يكون فعليا من أول الشهر ، لان لزمان العادة دخلا في تلك الأحكام خطابا وملاكا ، فأصالة عدم الحيض في آخر الشهر لا تجري من أول الشهر حتى تعارض بأصالة عدم الحيض في أوله ، بل في أول الشهر يجري
ص: 110
الأصل المختص به وفي آخره يجري الأصل المختص به ، ولم يجتمع الأصلان في الزمان حتى يتعارضا ويسقط الأصلان ، لان الحيض في آخر الشهر لا يمكن الابتلاء به من أوله والحيض في أول الشهر لا يمكن الابتلاء به في آخره ، فظرف الابتلاء بكل منهما إنما يكون في ظرف عدم الابتلاء بالآخر ، فالشبهة في كل من أول الشهر وآخره تكون بدوية ويجري فيها الأصل بلا معارض ، فللزوج والزوجة ترتيب آثار الطهر في أول الشهر وآخره ، غايته أنه بعد انقضاء الشهر يعلم بمخالفة الواقع ووقوع الوطي في الحيض ، ولكن العلم بالمخالفة في الزمان الماضي لا يمنع عن جريان الأصول في ظرف احتمال التكليف ، لأنه لا دليل على حرمة حصول العلم بالمخالفة للواقع ، حتى يقال : إنه يجب نرك الوطي في أول الشهر وآخره مقدمة لعدم حصول العلم بالمخالفة فيما بعد ، لان الثابت من حكم العقل هو قبح المخالفة والعصيان إذا كان الفاعل ملتفتا حال العمل أو قبله إلى كون العمل مخالفا للتكليف وعصيانا له ، وأما العلم بتحقق المخالفة لخطاب لم يتنجز في ظرفه فلا قبح فيه لا شرعا ولا عقلا ، وقد تقدم شطر من الكلام في ذلك في دوران الامر بين المحذورين. هذا غاية ما يمكن أن يوجه به كلام الشيخ قدس سره .
ولكن للمنع عنه مجال ، فان الصناعة العلمية وان اقتضت جريان الأصول في الأطراف ، إلا أن العقل يستقل بقبح الاقدام على ما يؤدي إلى المخالفة وتفويت مراد المولى (1) فان المقام لا يقصر عن المقدمات المفوتة التي يستقل
ص: 111
العقل بحفظ القدرة عليها في ظرف عدم تحقق الخطاب والملاك ، بل ما نحن فيه أولى من المقدمات المفوتة ، لأنه يحتمل أن يكون ظرف وقوع الوطي في كل من أول الشهر وآخره هو ظرف تحقق الملاك والخطاب.
والحاصل : أن العقل يستقل بقبح الاقدام على ما يوجب فوات مطلوب المولى مع العلم بأن للمولى حكما إلزاميا ذا مصلحة تامة ، غايته أن نتيجة حكم العقل بذلك مختلفة ، ففي باب المقدمات المفوتة يلزم حفظ القدرة ، وفيما نحن فيه يلزم ترك الاقتحام في كل واحد من أطراف الشبهة مقدمة لحصول مراد المولى ومطلوبه.
فالانصاف : أنه لا فرق في تأثير العلم الاجمالي في حرمة المخالفة ووجوب الموافقة بين أن لا يكون للزمان دخل في الملاك والخطاب وبين أن يكون له دخل فيهما ، غايته أنه إذا لم يكن للزمان دخل فيهما فنفس أدلة المحرمات تقتضي وجوب الاحتياط في الأطراف بضميمة حكم العقل بوجوب الخروج عن عهدة التكاليف ، وإن كان للزمان دخل فيهما فنفس أدلة المحرمات لا تفي بذلك ، بل يحتاج إلى حكم العقل بقبح تفويت مراد المولى ، فتأمل.
لو بنينا في الموجودات التدريجية على عدم وجوب الموافقة القطعية فلا تحرم المخالفة القطعية أيضا ، لعدم تعارض الأصول ، فيرجع في كل شبهة إلى الأصل الجاري فيها ، ففي مثل الحيض يرجع إلى استصحاب الطهر وأصالة البراءة عن حرمة الوطي ودخول المساجد ونحو ذلك في كلا طرفي الشهر ، وفي مثل المعاملة الربوية يرجع إلى أصالة الحل من حيث التكليف وأصالة عدم النقل والانتقال من حيث الوضع (1) ولا يجوز التمسك بالعمومات لاثبات النقل والانتقال
ص: 112
لخروج المعاملة الربوية عنها ، ولا يجوز التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية كما فيما نحن فيه ، لأن المفروض العلم بوقوع معاملة ربوية في هذا اليوم أو الشهر والشك في أنها تقع في أوله أو آخره ، وكذا لا يجوز الرجوع إلى أصالة الصحة الجارية في العقود إجماعا الحاكمة على أصالة عدم النقل والانتقال ، لان مورد أصالة الصحة هو العقد الواقع المشكوك في صحته وفساده ، لا العقد الذي لم يقع بعد ، كما في المقام ، لأنه قبل صدور المعاملة في أول النهار وآخره يشك في صحتها وفسادها ، والمرجع في مثل ذلك ليس إلا أصالة عدم النقل والانتقال. ولا ملازمة بين الحلية التكليفية وصحة المعاملة ، لعدم كون الصحة والفساد فيها مسببا عن الحلية والحرمة التكليفية ، ولذا لا تصح المعاملة الربوية من الناسي والجاهل القاصر مع عدم الحرمة التكليفية في حقهما ، فلا منافاة بين أصالة الحل من حيث التكليف وأصالة الفساد من حيث الوضع ، لأنه لا حكومة لاحد الأصلين على الآخر لكي يكون أحدهما رافعا لموضوع الآخر.
وبما ذكرنا ظهر فاسد ما ذكره الشيخ قدس سره أخيرا : من أن العلم الاجمالي بوقوع معاملة ربوية في أحد طرفي النهار كما لا يمنع من جريان الأصول العملية ، كذلك لا يمنع من جريان الأصول اللفظية ، فيصح التمسك بمثل « أحل اللّه البيع » لصحة كل من البيع الواقع في أول النهار وآخره ، كما لو كانت الشبهة بدوية. ثم ضعفه بإبداء الفرق بين الأصول اللفظية والأصول العملية ،
ص: 113
من غير بيان الفارق.
وجه الفساد : هو أنه في مثل المقام لا يجوز التمسك بالعموم في الشبهات البدوية فضلا عن المقرونة بالعلم الاجمالي ، لما عرفت من أن الشبهة فيه مصداقية ، ولا فرق في عدم جواز الرجوع إلى العموم فيها ، بين أن نقول : بأن العلم الاجمالي بالمخصص يمنع عن الرجوع إلى العموم أو لا يمنع ، فان ذلك البحث إنما هو في الشبهات الحكمية.
نعم : لو أغمضنا عن كون الشبهة فيما نحن فيه مصداقية أو قلنا بجواز التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية - كما ذهب إليه بعض - لكان للبحث عن أن العلم الاجمالي بالمخصص هل يمنع عن الرجوع إلى العموم أو لا يمنع في الموارد التي لا يمنع عن الرجوع إلى الأصول العملية؟ مجال.
والحق : أنه يمنع ، للفرق بين الأصول العملية والأصول اللفظية ، فان المطلوب في الأصول العملية هو مجرد تطبيق العمل على المؤدى ، وربما لا يلزم من جريانها في موارد العلم الاجمالي مخالفة عملية ، وهذا بخلاف الأصول اللفظية ، فان اعتبارها إنما هو لأجل كونها كاشفة عن المرادات النفس الأمرية ، والعلم الاجمالي بالمخصص يمنع عن كونها كاشفة كما لا يخفى (1).
ولعله إلى ذلك يرجع ما ذكره الشيخ قدس سره أخيرا من إبداء الفرق بين الأصول العملية والأصول اللفظية ، ولتفصيل الكلام في ذلك محل آخر.
ص: 114
تنظر فيما أفاده الشيخ قدس سره من عدم الملازمة بين الحلية التكليفية والحلية الوضعية في المعاملات بما حاصله : أن المنهي عنه في باب المعاملات إنما هو إيقاع المعاملة على وجهها ، وليس المنهي عنه هو إيقاع المعاملة بما أنه إيقاع وعقد لفظي ، فإنه لا ينبغي التأمل في عدم حرمة التلفظ بالعقد بما أنه عقد ولفظ ، بل المحرم هو إيجاد النقل والانتقال الحاصل من العقد.
وبعبارة أخرى : المنهي عنه هو إيقاع العقد على أن يكون آلة لايجاد المعنى الاسم المصدري من النقل والانتقال ، والمبحوث عنه في باب النهي عن المعاملات من أنه يقتضي الفساد أو لا يقتضيه إنما هو إذا كان النهي عن هذا الوجه ، ضرورة أنه لا يتوهم اقتضاء النهي عن العقد بما أنه لفظ للفساد ، لان حرمة اللفظ لا دخل له بالنقل والانتقال.
وبالجملة : لا إشكال في أن المنهي عنه في المعاملة الربوية إنما هو المعنى الاسم المصدري باعتبار صدوره عن العاقد بالعقد اللفظي أو بغيره ، وحرمة المعاملة على هذا الوجه تستتبع الفساد لا محالة ، لخروج المسبب عن تحت سلطنة المالك بالمنع الشرعي - كما أوضحناه في محله - وكما أن حرمة المعاملة على هذا الوجه تستتبع الفساد ، كذلك حلية المعاملة على هذا الوجه تستتبع الصحة ، وعلى ذلك يبتني جواز التمسك بقوله تعالى : « أحل اللّه البيع » لنفوذه وصحته ، حتى لو كان المراد من الحلية الحلية التكليفية - كما استظهره الشيخ - قدس سره في كتاب البيع لان حلية البيع على الوجه المذكور تلازم الصحة والنفوذ ، وحينئذ تصح دعوى التلازم بين حلية المعاملة وصحتها وحرمة المعاملة وفسادها ، فلا مجال للتفكيك بين التكليف والوضع ، بل تكون الحل حاكمة على
ص: 115
أصالة الفساد ، لارتفاع موضوعها بذلك ، كما هو الشأن في كل أصل سببي ومسببي.
هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إن فساد المعاملة الربوية ليس لأجل حرمتها التكليفية ، بل لأجل انتفاء شرط من شروط العوضين وهو التساوي بين المالين إذا كانا من المكيل والموزون (1) فتصح دعوى عدم التلازم بين الحلية والصحة ، ولأجل ذلك لا تصح المعاملة الربوية في حق الناسي والجاهل القاصر ، فأصالة الحل في المعاملة لا تنفع في صحتها ، لعدم كون الفساد فيها مسببا عن الحرمة التكليفية ، بل مسببا عن عدم التساوي بين المالين ، فتأمل جيدا.
هذا ما كان يهمنا بيانه من التنبيهات المتعلقة بالشبهة المحصورة ، وقد بقي بعض التنبيهات لا يهمنا التعرض لها ، لأنها قليلة الجدوى ، وإن أطال الشيخ قدس سره الكلام في بعضها.
وقبل التعرض لحكمها ينبغي بيان الضابط لكون الشبهة غير محصورة.
ص: 116
وقد اختلفت كلمات الأصحاب في ذلك ، فعن بعض تحديدها ببلوغ الأطراف إلى حد تعسير عدها ، وزاد بعض قيد « في زمان قليل » وعن بعض آخر إرجاعها إلى العرف ، وقد قيل في تحديدها أمور اخر لا تخفى على المتتبع ، مع ما فيها : من عدم الانعكاس والاطراد.
والأولى أن يقال : إن ضابط الشبهة الغير المحصورة هو أن تبلغ أطراف الشبهة حدا لا يمكن عادة جمعها في الاستعمال : من أكل أو شرب أو لبس أو نحو ذلك (1) وهذا يختلف حسب اختلاف المعلوم بالاجمال.
فتارة : يعلم بنجاسة حبة من الحنطة في ضمن حقة منها ، فهذا لا يكون من الشبهة الغير المحصورة ، لامكان استعمال الحقة من الحنطة بطحن وخبز وأكل ، مع أن نسبة الحبة إلى الحقة تزيد عن نسبة الواحد إلى الألف.
وأخرى : يعلم بنجاسة إناء من لبن البلد ، فهذا يكون من الشبهة الغير المحصورة ولو كانت أواني البلد لا تبلغ الألف ، لعدم التمكن العادي من جمع الأواني في الاستعمال وإن كان المكلف متمكنا من آحادها.
فليس العبرة بقلة العدد وكثرته فقط ، إذ رب عدد كثير تكون الشبهة فيه محصورة ، كالحقة من الحنطة.
كما أنه لا عبرة بعدم التمكن العادي من جمع الأطراف في الاستعمال فقط ، إذ ربما لا يتمكن عادة من ذلك مع كون الشبهة فيه أيضا محصورة ، كما لو كان بعض الأطراف في أقصى بلاد المغرب ، بل لابد في الشبهة الغير المحصورة عما تقدم في الشبهة المحصورة من اجتماع كلا الأمرين : وهما كثرة العدد وعدم
ص: 117
التمكن من جمعه في الاستعمال ، وبهذا تمتاز الشبهة الغير المحصورة (1) من أنه يعتبر فيها إمكان الابتلاء بكل واحد من أطرافها ، فان إمكان الابتلاء بكل واحد غير إمكان الابتلاء بالمجموع ، والتمكن العادي بالنسبة إلى كل واحد من الأطراف في الشبهة الغير المحصورة حاصل ، والذي هو غير حاصل التمكن العادي من جمع الأطراف ، لكثرتها ، فهي بحسب الكثرة بلغت حدا لا يمكن عادة الابتلاء بجمعها في الاستعمال ، بحيث يكون عدم التمكن من ذلك مستندا إلى كثرة الأطراف لا إلى أمر آخر.
ومما ذكرنا من الضابط يظهر حكم الشبهة الغير المحصورة ، وهو عدم حرمة المخالفة القطعية وعدم وجوب الموافقة القطعية (2).
ص: 118
أما عدم حرمة المخالفة القطعية : فلان المفروض عدم التمكن العادي منها.
وأما عدم وجوب الموافقة القطعية : فلان وجوبها فرع حرمة المخالفة القطعية ، لأنها هي الأصل في باب العلم الاجمالي ، لان وجوب الموافقة القطعية يتوقف على تعارض الأصول في الأطراف ، وتعارضها فيها يتوقف على حرمة المخالفة القطعية ليلزم من جريانها في جميع الأطراف مخالفة عملية للتكليف المعلوم في البين ، فإذا لم تحرم المخالفة القطعية - كما هو المفروض - لم يقع التعارض بين الأصول ، ومع عدم التعارض لا يجب الموافقة القطعية.
فالتفصيل بين المخالفة القطعية والموافقة القطعية بحرمة الأولى وعدم وجوب الثانية - كما يظهر من الشيخ قدس سره ليس في محله ، لان حرمة المخالفة القطعية فرع التمكن منها ، ومع التمكن لا تكون الشبهة غير محصورة.
ما ذكرنا في وجه عدم وجوب الموافقة القطعية إنما يختص بالشبهات التحريمية ، لأنها هي التي لا يمكن المخالفة القطعية فيها ، وأما الشبهات الوجوبية فلا يتم فيها ذلك ، لأنه يمكن المخالفة القطعية فيها بترك جميع الأطراف ، وحينئذ لابد من القول بتبعيض الاحتياط ووجوب الموافقة الاحتمالية في الشبهات الوجوبية.
نعم : لو تم ما ذكره الشيخ قدس سره وجها لعدم وجوب الموافقة القطعية في الشبهة الغير المحصورة : من أن كثرة الأطراف توجب عدم اعتناء العقلاء بالعلم الاجمالي لضعف احتمال الضرر في كل واحد من الأطراف ، لعم ذلك الشبهات التحريمية والوجوبية ، وكذا بعض الوجوه الاخر التي ذكرت في وجه عدم وجوب الموافقة القطعية ، فإنها لو تمت لكانت تعم كلا قسمي الشبهة ، إلا
ص: 119
أن الشأن في صحة الوجوه المذكورة ، فإنها لا تخلو عن ضعف.
أما الوجه الأول ، وهو دعوى الاجماع على عدم وجوب الموافقة القطعية في الشبهة الغير المحصورة ، فالظاهر أنه ليس في المسألة إجماع تعبدي.
وأما الوجه الثاني ، وهو دعوى استلزام الموافقة القطعية فيها العسر والحرج غالبا ، ففيه : أن ذلك لا يقتضي عدم وجوب الموافقة مطلقا في جميع الموارد حتى فيما إذا لم يلزم منها العسر والحرج ، بل لابد من الاقتصار على الموارد التي يلزم منها ذلك ، مع أن المدعى عدم وجوب الموافقة القطعية مطلقا ، حتى في الموارد التي لا يلزم منها العسر والحرج.
نعم : إذا ثبت أن العسر والحرج في المقام حكمة للتشريع لا علة للحكم ، كان للقول بعدم وجوب الموافقة القطعية مطلقا في جميع الموارد وجه ، لان من شأن الحكمة عدم الاطراد ، إلا أن دون إثبات ذلك خرط القتاد!! فان العسر والحرج في الشريعة إنما يكون علة للحكم لا حكمة للتشريع ، ولذا كانت أدلة نفي العسر والحرج حاكمة على الأدلة الأولية.
نعم : قد يتفق في بعض الموارد كون العسر والحرج حكمة للتشريع كما في نجاسة الحديد ، إلا أن ذلك يحتاج إلى دليل بالخصوص ولا يطرد في جميع الموارد ، فتأمل جيدا.
وأما الوجه الثالث ، وهو التمسك بمثل قوله علیه السلام « كل شيء لك حلال » ففيه : أن ذلك يختص بالشبهات البدوية ، كما تقدم.
وأما الوجه الرابع ، وهو التمسك بما ورد في الجبن من قوله علیه السلام « أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم جميع ما في الأرض؟ » الخبر (1) فهو وإن كان لا يخلو عن دلالة على عدم وجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة الغير
ص: 120
المحصورة ، إلا أنه في الرواية احتمال آخر - ذكره الشيخ قدس سره - يسقط الاستدلال بها لما نحن فيه.
وأما الوجه الخامس ، وهو ما ذكرناه آنفا : من أن كثرة الأطراف توجب أن يكون العلم كلا علم وعدم اعتناء العقلاء به في أمورهم الدنيوية - كما يشاهد أن العقلاء لا يتحرزون عن السم المردد بين ألف إناء لضعف احتمال الضرر في كل إناء - ففيه : أن قياس الأحكام الشرعية واحتمال الضرر الأخروي على الاحكام العرفية واحتمال الضرر الدنيوي ليس في محله ، كما لا يخفى على المتأمل.
وأما الوجه السادس ، وهو كون الغالب خروج بعض الأطراف عن مورد الابتلاء وذلك يقتضي عدم تأثير العلم الاجمالي في الشبهة المحصورة فضلا عن الشبهة الغير المحصورة ، ففيه : أن محل الكلام في الشبهة الغير المحصورة إنما هو فيما إذا كان كل واحد من الأطراف مما يمكن الابتلاء به وإن لم يمكن الابتلاء بالجميع بوصف الاجتماع.
فالانصاف : أن هذه الوجوه الستة لا تخلو عن المناقشة.
والأولى هو ما ذكرناه : من أن تأثير العلم الاجمالي يدور مدار إمكان المخالفة القطعية ، وفي الشبهات الغير المحصورة لا يمكن المخالفة القطعية ، فلا أثر للعلم الاجمالي ، على التفصيل المتقدم بين الشبهات التحريمية والوجوبية ، فتأمل جيدا.
هذا كله إذا علم أن الشبهة غير محصورة ، ولو شك في ذلك ففي وجوب الموافقة القطعية بترك التصرف في جميع الأطراف وعدمه وجهان : أقواهما وجوب الموافقة القطعية ، للعلم بتعلق التكليف بأحد الأطراف وإمكان الابتلاء به ، فيجب الجري على ما يقتضيه العلم إلى أن يثبت المانع : من كون الشبهة غير محصورة ، فتأمل.
ص: 121
سقوط العلم الاجمالي عن التأثير في أطراف الشبهة الغير المحصورة هل يلازم سقوط حكم الشك عن كل واحد من الأطراف أيضا بحيث يكون كل واحد منها كعادم الشبهة؟ أو لا يلازم ذلك؟ بل غايته أن تكون الشبهة في كل واحد من الأطراف بدوية ويرجع إلى حكمها ، فقد يكون حكم الشبهة البدوية حكم المقرونة بالعلم الاجمالي ، كما إذا كان المعلوم بالاجمال المردد بين أطراف غير محصورة من الأموال والدماء والفروج ، فإنه لا يجوز الاقتحام في الشبهات البدوية في هذه الأبواب الثلاثة ، وعلى ذلك يبنى جواز الوضوء من الأواني الغير المحصورة عند العلم الاجمالي بإضافة أحدها ، فإنه لو قلنا : إن سقوط العلم يلازم سقوط حكم الشك أيضا ، فيجوز الوضوء من كل إناء ، لأنه يكون في حكم الماء المقطوع إطلاقه ، وإن قلنا : إنه لا يلازم ذلك ، فلا يجوز الوضوء من كل إناء ، لأنه يكون كل إناء مشكوك الاطلاق والإضافة ولا يجوز التوضي به ، لعدم إحراز الشرط في صحة الوضوء : من إطلاق الماء ، والمسألة بعد تحتاج إلى مزيد تأمل (1) وكان شيخنا الأستاذ - مد ظله - يميل إلى سقوط حكم الشبهة أيضا.
ص: 122
هذا تمام الكلام في الشبهة الموضوعية التحريمية.
* * *
ومنشأ الشك فيه إما فقد النص ، وإما إجماله ، وإما تعارض النصين. والكلام فيه الكلام في الشبهة الموضوعية من حيث وجوب الموافقة القطعية ، بل الشبهة الحكمية أولى في ذلك من الشبهة الموضوعية ، فان الأخبار الدالة على أصالة الحل التي توهم شمولها للشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي إنما تختص بالشبهة الموضوعية ، ولا تعم الشبهات الحكمية إلا بنحو من العناية والتكلف ، على ما تقدم بيانه في مبحث البراءة.
المبحث الثالث: في الشك في المكلف به في الشبهة الوجوبية
والأقوى فيها أيضا : وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية ، لعين
ص: 123
ما تقدم في الشبهة التحريمية.
وما ينسب إلى المحقق الخونساري والقمي - رحمهما اللّه - من جواز المخالفة القطعية في غير ما قام الاجماع والضرورة على عدم الجواز ، بتوهم أن التكليف بالمجمل لا يصلح للانبعاث عنه ، فلا أثر للعلم بالتكليف المجمل المردد بين أمور.
واضح الفساد ، فان الاجمال الطاري لا يمنع عن تأثير العلم الاجمالي ، لعدم أخذ العلم التفصيلي قيدا في الموضوع أو الحكم ، والتكليف بالمجمل الذي لا يصلح للداعوية غير الاجمالي الطاري على التكليف المعين في الواقع لأجل اشتباه الموضوع أو فقد النص أو إجماله.
وبالجملة : لا فرق في نظر العقل بين العلم التفصيلي بالتكليف وبين العلم الاجمالي به في قبح المخالفة ووجوب الموافقة القطعية مقدمة للعلم بفراغ الذمة عما اشتغلت به.
نعم : إذا كانت الشبهة لأجل تعارض النصين ، فحكمها التخيير في الاخذ بأحد النصين مطلقا في الشبهة الوجوبية والتحريمية ، لاطلاق ما دل على التخيير عند تعارض الاخبار ، وفيما عدا ذلك تجب الموافقة القطعية ، وسواء كانت الشبهة موضوعية - كبعض موارد القصر والاتمام - أو حكمية ، كما المنشأ فقد النص أو إجماله.
وما ذكره الشيخ قدس سره من عدم تصوير إجمال النص بالنسبة إلى الغائبين عن وقت الخطاب ، لاختصاص الخطابات بالمشافهين أو الموجودين في ذلك الزمان ، فيرجع إجمال النص بالنسبة إلى الغائبين إلى فقد النص.
فهو مبني على خلاف التحقيق في الخطابات الشرعية ، فان توهم اختصاص الخطاب بالحاضرين مبني على أن تكون القضايا الشرعية من
ص: 124
القضايا الخارجية ، وأما إذا كانت من القضايا الحقيقية فهي تعم الغائبين والمعدومين على نسق الموجودين (1) - كما أوضحناه بما لا مزيد عليه في محله - وحينئذ يمكن فرض إجمال النص بالنسبة إلى الغائبين كالموجودين.
وعلى كل حال : لا ينبغي التأمل في حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية في كل ما فرض إجمال المكلف به وتردده بين المتباينين.
فما يظهر من المحقق القمي : من الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي بفعل أحد طرفي المعلوم بالاجمال ، ضعيف غايته ، لاستقلال العقل بأن الاشتعال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية ، إما وجدانا وإما تعبدا ، ليأمن من تبعة مخالفة التكليف المعلوم.
ربما يتوهم : أن وجوب الاتيان بالمحتمل الآخر عند الاتيان بأحد المحتملين مما يقتضيه استصحاب بقاء التكليف ، فلا حاجة في إثبات ذلك إلى قاعدة الاشتغال ، بل لا مجال لها لحكومة الاستصحاب عليها.
هذا ، ولكن التحقيق : عدم جريان الاستصحاب في ذلك ، لأنه يلزم من جريانه : إما إحراز ما هو محرز بالوجدان بالتعبد ، وإما البناء على اعتبار الأصل المثبت.
ص: 125
وتوضيح ذلك يتوقف على بيان أمور :
الأول : يعتبر في الاستصحاب أن يكون الشك راجعا إلى بقاء الحادث ، لا إلى أن الباقي هو الحادث (1) لان قوام الاستصحاب إنما هو بالشك في البقاء بعد العلم بالحدوث ، فلا يجري الاستصحاب عند الشك في كون الباقي هو الحادث.
نعم : قد يتولد الشك في البقاء من الشك في الحدوث ، كما إذا علم بنجاسة أحد مقطوعي الطهارة أو طهارة أحد مقطوعي النجاسة ، فان الشك في بقاء طهارة كل منهما أو نجاسته مسبب عن الشك في حدوث النجاسة فيه أو الطهارة ، لكن الشك في حدوث النجاسة أو الطهارة في كل منهما إنما يكون منشأ للشك في بقاء الحالة السابقة المتيقنة فيهما ، والاستصحاب يجري باعتبار الشك في بقاء تلك الحالة.
وهذا غير الشك في كون الباقي هو الحادث ، لأن الشك فيه لا يرجع إلى البقاء بل إلى الحدوث ، كما لو علم بحدوث فرد مردد بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع ، فإنه وإن كان يشك في بقاء الحادث ، إلا أن ارتفاع أحد فردي الترديد يوجب الشك في حدوث الفرد الباقي.
فلا يجري استصحاب الفرد المردد ، لان استصحاب الفرد المردد معناه :
ص: 126
بقاء الفرد الحادث على ما هو عليه من الترديد (1) وهو يقتضي الحكم ببقاء الحادث على كل تقدير ، سواء كان هو الفرد الباقي أو الفرد الزائل ، وهذا ينافي العلم بارتفاع الحادث على تقدير أن يكون هو الفرد الزائل ، فاستصحاب الفرد المردد عند العلم بارتفاع أحد فردي الترديد مما لا مجال له.
نعم : لا مانع من استصحاب الكلي والقدر المشترك بين ما هو مقطوع الارتفاع وما هو مقطوع البقاء ، للشك في بقائه بعد العلم بحدوثه ، ويثبت بذلك الآثار الشرعية المترتبة على نفس بقاء القدر المشترك ، ولا تثبت الآثار المختصة بأحد الفردين إلا على القول بالأصل المثبت ، ففي الحدث المردد بين الأصغر والأكبر يجري استصحاب بقاء الحدث عند الاتيان بأحد فردي الطهارة : من الوضوء أو الغسل ، ويترتب عليه حرمة مس كتابة المصحف ، لان حرمة المس من الاحكام المترتبة على نفس بقاء الحدث من دون أن يكون لخصوصية الأصغر والأكبر دخل في ذلك ، لقوله تعالى : « لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ » (2) وسيأتي توضيح ذلك في مبحث الاستصحاب ( إن شاء اللّه تعالى ).
والمقصود في المقام : مجرد بيان عدم جريان استصحاب الفرد المردد عند ارتفاع أحد فردي الترديد ، كما ربما يختلج في البال ، بل قيل به بتوهم : أن ارتفاع أحد الفردين يوجب الشك في بقاء الفرد الحادث ، فيجري فيه
ص: 127
الاستصحاب ، ولا حاجة إلى استصحاب الكلي والقدر المشترك بين الفردين.
ولا يخفى ضعفه ، فان استصحاب الفرد المردد مع العلم بارتفاع أحد فردي الترديد لا يمكن ، لأن الشك فيه يرجع إلى الشك فيما هو الحادث ، وأنه هو الفرد الباقي أو أنه هو الفرد الزائل ، والاستصحاب لا يثبت ذلك ، فان شأن الاستصحاب هو إثبات بقاء ما حدث لا حدوث الباقي.
ودعوى : أن الشك فيما هو الحادث يستلزم الشك في بقاء الحادث ، والاستصحاب إنما يجري باعتبار الشك في بقاء الحادث لا باعتبار الشك فيما هو الحادث ، نظير الشك في بقاء النجاسة في كل من الانائين المقطوع نجاستهما عند العلم بحدوث الطهارة في أحدهما حيث تقدم أن الشك في بقاء النجاسة في كل منهما مسبب عن الشك في حدوث موجب الطهارة فيه ، والاستصحاب إنما يجري باعتبار الشك في البقاء وإن لم يثبت به محل الطهارة الحادثة.
واضحة الفاسد ، فإنه في مثال الانائين كان هناك شكان : شك في بقاء النجاسة في كل منهما ، وشك في حدوث الطهارة في كل منهما ، ومتعلق الشك في أحدهما غير متعلق الشك في الآخر ، غايته أن أحد الشكين مسبب عن الشك الآخر.
وهذا بخلاف ما نحن فيه ، فإنه ليس فيه إلا شك واحد ، وهو الشك فيما هو الحادث (1) وهذا الشك مستمر من زمان العلم بحدوث أحد الفردين إلى زمان ارتفاع أحدهما.
وبالجملة : لا ينبغي التأمل في عدم جريان الاستصحاب الشخصي والفرد
ص: 128
المردد عند ارتفاع أحد فردي الترديد.
الامر الثاني : يعتبر في الاستصحاب أيضا أن يكون الأثر المقصود إثباته مترتبا على بقاء المستصحب ، لا على حدوثه ، ولا على الأعم من الحدوث والبقاء (1) لو فرض إمكان ذلك (2) فان الحدوث محرز بالوجدان ويلزمه إحراز الأثر المترتب عليه ، فلا مجال للاستصحاب ، لأنه يلزم إحراز ما هو محرز بالوجدان بالتعبد ، وهو أردأ أنحاء تحصيل الحاصل ، وذلك واضح.
الامر الثالث : يعتبر في الاستصحاب أيضا أن يكون الأثر الذي يراد إثباته به مترتبا على نفس الواقع المشكوك فيه ، لا على الشك فيه بحيث يكون الشك تمام الموضوع للأثر من دون أن يكون للواقع المشكوك فيه دخل في ذلك ، فإنه لو كان الأثر مترتبا على نفس الشك ، فبمجرد حدوث صفة الشك يترتب الأثر ويكون محرزا بالوجدان ، فلا حاجة إلى إحراز الواقع بالاستصحاب ، بل لو فرض كون الأثر مترتبا على الأعم من الواقع والشك فيه ، فالاستصحاب أيضا لا يجري ، لاحراز الأثر بمجرد الشك ، فلا تصل النوبة إلى الاستصحاب ، لان الاستصحاب إنما شرع لبقاء الواقع وتنزيل المشكوك فيه منزلة المتيقن ، فإذا فرض أن الأثر رتب شرعا على نفس الشك فلا موقع للتعبد ببقاء الواقع ، لأنه يلزم التعبد بما هو محرز بالوجدان.
الامر الرابع : لا إشكال في أن الاستصحاب وارد على قاعدة الاشتغال والبراءة (3) سواء توافقا في المؤدى أو تخالفا.
ص: 129
أما وروده على البراءة : فواضح ، من جهة أن مبنى البراءة هو قبح العقاب بلا بيان ، والاستصحاب يكون بيانا ، فلا موضوع للبراءة مع الاستصحاب.
وأما وروده على قاعدة الاشتغال : فلان حكم العقل بوجوب الاحتياط بترك المشكوك فيه في الشبهات التحريمية وفعله في الشبهات الوجوبية إنما هو لأجل لزوم دفع الضرر المحتمل وحصول المؤمن عن تبعة مخالفة التكليف ، وهذا يرتفع موضوعه بقيام الاستصحاب على نفي التكليف أو ثبوته في المشكوك.
أما في صورة قيامه على نفي التكليف فواضح ، لعدم احتمال الضرر وحصول المؤمن حينئذ.
وأما في صورة قيامه على ثبوت التكليف ، فلان استصحاب التكليف كالعلم به يكون محرزا للتكليف ، ومعه لا يبقى موضوع لحكم العقل بالاحتياط ، لان حكمه بذلك إنما يكون في ظرف عدم إحراز التكليف في المشكوك.
وبالجملة : لا إشكال في أن حكم العقل بالبراءة أو الاشتغال معلق على عدم ثبوت التكليف أو نفيه من الشارع ولو بالاستصحاب ، وإلا لزم طرح الأصول الشرعية بالمرة ، إذ ما من مورد إلا وينتهي الامر فيه بالآخرة إلى حكم العقل بالبراءة أو الاشتغال.
ومن الغريب! ما نسبه بعض من لا خبرة له إلى الشيخ قدس سره من القول بعدم جريان الاستصحاب في الموارد التي يستقل العقل فيها بالبراءة والاشتغال ، مع أنه قدس سره قد صرح بخلاف ذلك في مواضع من الكتاب.
ص: 130
منها : ما أفاده في المقام بقوله : « ومن هنا ظهر الفرق بين ما نحن فيه وبين استصحاب عدم فعل الظهر وبقاء وجوبه على من شك في فعله ، فان الاستصحاب بنفسه مقتض هناك الوجوب والآتيان بالظهر الواجب في الشرع على الوجه الموظف : من قصد الوجوب والقربة وغيرهما ». انتهى.
فلو كان جريان الاستصحاب عنده مقصورا على صورة عدم استقلال العقل بالاشتغال لكان ينبغي أن لا يقول بجريان استصحاب عدم فعل الظهر عند الشك فيه ، لاستقلال العقل بالاشتغال فيه. ولا يكاد ينقضي تعجبي كيف ينسب ذلك إلى مثل الشيخ قدس سره مع أن فساده بمكان لا يخفى على أصاغر الطلبة؟.
إذا عرفت ما مهدناه من الأمور فاعلم : أنه لا موقع لاستصحاب بقاء التكليف عند العلم بوجوب أحد الشيئين في صورة الاتيان بأحد المحتملين ، كما لو علم إجمالا بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة وقد فعل المكلف إحدى الصلاتين دون الأخرى ، فإنه لو أريد من الاستصحاب استصحاب شخص التكليف المعلوم بالاجمال ، ففد عرفت - في الامر الأول - أن الاستصحاب الشخصي لا يجري مع العلم بزوال أحد فردي المردد ، لأن الشك فيه يرجع إلى الشك في حدوث الفرد الباقي لا في بقاء الفرد الحادث - على ما تقدم بيانه - وإلا لزم ترتيب آثار بقاء الفرد المردد على ما هو عليه من الترديد ، ولازم ذلك هو وجوب الاتيان بكل من الظهر والجمعة ، لان هذا هو أثر بقاء الوجوب المردد ، مع أن المفروض تحقق فعل الجمعة أو الظهر ، فلا يبقى موقع لفعل المأتي به ثانيا ، فالاستصحاب الشخصي لا يجري.
وإن أريد من الاستصحاب استصحاب الكلي والقدر المشترك بين ما هو مقطوع الارتفاع وما هو مقطوع البقاء ، فالشك فيه وإن كان شكا في البقاء والاستصحاب يجري فيه ، إلا أنه :
ص: 131
إن أريد من استصحاب بقاء القدر المشترك إثبات كون الحادث هو الفرد الباقي وأنه هو متعلق التكليف ، فهذا يكون من أردأ أنحاء الأصل المثبت ، ودعوى وضوح الملازمة وخفاء الواسطة مما لا ترفع غائلة المثبتية ، كما سيتضح وجهه في مبحث الاستصحاب ( إن شاء اللّه تعالى ).
وإن أريد من استصحاب بقاء القدر المشترك مجرد لزوم الاتيان بالمحتمل الآخر والفرد الباقي مقدمة للعلم بفراغ الذمة عما اشتغلت به ، فهذا مما يكفي فيه نفس حدوث التكليف والشك في الامتثال (1) ولا يتوقف على إحراز بقاء التكليف والعلم بعدم الامتثال ، لاستقلال العقل بأن الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية وليس هذا من الاحكام التي تنالها يد الجعل الشرعي ، لان ذلك من شؤون الطاعة والمعصية التي يستقل العقل بها ، فوجوب الاتيان بالمحتمل الآخر عقلا مما هو محرز بالوجدان ، لأن الشك بالفراغ تمام الموضوع له ، ولا يعقل التعبد بما هو محرز بالوجدان ، فإنه أسوأ حالا من الامر بتحصيل الحاصل ، لان تحصيل الحاصل هو ما إذا كان المحصل للحاصل من سنخ الحاصل ، كإحراز المحرز بالوجدان بالوجدان أو المحرز بالتعبد بالتعبد ، وأما
ص: 132
إحراز المحرز بالوجدان بالتعبد فهو أردأ من ذلك.
وحاصل الكلام : أنه عند العلم بوجوب أحد الشيئين مع حصول امتثال أحدهما لا يجري استصحاب بقاء التكليف ، لا الشخصي ، ولا الكلي.
أما الشخصي : فللشك في حدوث الفرد الباقي بالبيان المتقدم.
وأما الكلي : فلانه لا يثبت به تعلق التكليف بالمحتمل الآخر ، وأثر وجوب تحصيل اليقين بالفراغ والعلم بالخروج عن عهدة التكليف مما يقتضيه نفس حدوث التكليف والشك في امتثاله ، وليس من الآثار المترتبة على بقاء التكليف واقعا ليجري فيه الاستصحاب. ولو فرض أنه من الآثار المترتبة على الأعم من الحدوث والبقاء ، فالاستصحاب أيضا لا يجري ، لسبق الحدوث على البقاء ، والشيء إنما يستند إلى أسبق علله.
ولا يقاس ما نحن فيه على ما إذا علم بمتعلق التكليف تفصيلا وشك في امتثاله ، حيث إنه يجري استصحاب بقاء التكليف بلا كلام ، كما صرح به الشيخ قدس سره في كلامه المتقدم ، وذلك : لان المستصحب فيه هو التكليف الشخصي المتعلق بالفعل الخاص ، وبقائه ليس محرزا بالوجدان وبالاستصحاب يحرز بقائه ، فالذي يتأتى من الاستصحاب في مثل ذلك لا يتأتى من قاعدة الاشتغال ، لان قاعدة الاشتغال لا تثبت التكليف ولا تحرز بقائه.
وهذا بخلاف ما نحن فيه ، فان المفروض عدم جريان الاستصحاب الشخصي ، والأثر الذي يمكن إثباته من استصحاب الكلي ليس إلا لزوم الاتيان بالمحتمل الآخر مقدمة للعلم بالفراغ ، وهذا المعنى يتأتى من قاعدة الاشتغال ولا يحتاج إلى الاستصحاب ، لان موضوعه نفسه الشك في الامتثال. وبذلك يمتاز مورد قاعدة الاشتغال عن مورد الاستصحاب ، ولا يمكن أن
ص: 133
يجتمعا في مورد واحد ، فان مورد قاعدة الاشتغال هو ما إذا كان الأثر الذي يراد إثباته مترتبا على نفس الشك بلا دخل للواقع المشكوك فيه ، ومورد الاستصحاب هو ما إذا كان الأثر مترتبا على نفس الواقع بلا دخل للشك فيه ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه ، فإنه قد وقع الخلط في جملة من الكلمات بين القاعدة والاستصحاب ، وقد تقدم شطر من الكلام في ذلك في مبحث الظن في تأسيس الأصل عند الشك في الحجية ، فراجع.
ربما يقال : بعد وجوب الاحتياط في موارد الشبهة الموضوعية في الشرائط والموانع ، كالقبلة واللباس ونحو ذلك ، بدعوى : سقوط الشرط عند عدم العلم به تفصيلا ، فيأتي بالمشروط فاقدا للشرط أو واجدا للمانع (1) ولعله لذلك ذهب الحلي رحمه اللّه إلى عدم وجوب الستر عند اشتباه اللباس.
والمحكي عن المحقق القمي رحمه اللّه التفصيل بين الشرائط المستفادة من مثل قوله علیه السلام « لا تصل فيما لا يؤكل » (2) ونحو ذلك من الأوامر والنواهي الغيرية فذهب إلى سقوط الشرط في موارد اشتباهه ، وبين الشرائط
ص: 134
المستفادة من مثل قوله علیه السلام « لا صلاة إلا بطهور » (1) ونحو ذلك ، فقال : بعدم سقوط الشرط عند الجهل به.
ولم يحضرني كتب المحقق رحمه اللّه حتى أراجع كلامه ، وكأنه قاس باب العلم والجهل بالموضوع بباب القدرة والعجز ، فقد حكي عن بعض الاعلام هذا التفصيل بعينه في موارد تعذر الشرط ، وسيأتي الكلام فيه في مبحث الأقل والأكثر.
وعلى كل حال ، فالأقوى : أنه لا فرق بين الشرائط وغيرها في وجوب الاحتياط عند الجهل بالموضوع وتردده بين أمور محصورة ، فيجب تكرار الصلاة إلى أربع جهات عند اشتباه القبلة ، أو في الثوبين المشتبهين عند اشتباه الطاهر بالنجس ، أو الحرير بغيره ، ولا وجه لسقوط الشرط ، إلا إذا استفيد من الدليل اختصاص الشرطية بصورة العلم التفصيلي بالموضوع ، كما ربما يستفاد من قوله علیه السلام « أذن وأقم لأولهن » (2) كون الترتيب بين الفوائت إنما يعتبر عند العلم بما فات أولا.
وبالجملة : لا وجه لاطلاق القول بسقوط الشرط عند عدم العلم به تفصيلا ، بل لابد من ملاحظة ما يستفاد من دليل الشرط وأن شرطيته مقصورة بصورة العلم بموضوعه تفصيلا أولا؟.
وقياس باب العلم والجهل بباب القدرة والعجز ليس على ما ينبغي ، فان القدرة من الشرائط لثبوت التكليف والعلم بالموضوع أو الحكم من الشرايط لتنجز التكليف ، والمفروض أنه قد علم بحصول الشرط بين الأطراف فلا موجب لسقوطه ، وسيأتي لذلك مزيد توضيح في المباحث الآتية ( إن شاء اللّه تعالى ).
ص: 135
يظهر من الشيخ قدس سره التفصيل بين الشبهات البدوية والمقرونة بالعلم الاجمالي في كيفية النية إذا كان المحتمل أو المعلوم بالاجمال من العبادات ، فإنه في الشبهات البدوية يكفي مجرد قصد احتمال الامر والمحبوبية ، فينوي من احتمل الجنابة عند الغسل امتثال الامر الاحتمالي ، فان هذا هو الذي يمكن في حقه.
وأما في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي : فلا يكفي ذلك ، بل لابد من قصد امتثال الامر المعلوم بالاجمال على كل تقدير ، وذلك يتوقف على أن يكون المكلف حال الاتيان بأحد المحتملين قاصدا للاتيان بالمحتمل الآخر ، إذ مع عدم قصد ذلك لا يتحقق قصد امتثال الامر المعلوم بالاجمال على كل تقدير ، بل يكون قصد امتثال الامر على تقدير تعلقه بالمأتي به ، وهذا لا يكفي في تحقق الامتثال مع العلم بالامر ، لأنه يعتبر في حسن الطاعة والامتثال قصد امتثال الامر المعلوم تعلقه بأحد المحتملين. هذا حاصل ما أفاده قدس سره في وجه التفصيل في كيفية النية بين الشبهات البدوية والمقرونة بالعلم الاجمالي.
ولكن للنظر فيه مجال ، فان العلم بتعلق الامر بأحد المحتملين لا يوجب فرقا في كيفية النية في الشبهات (1) فان الطاعة والامتثال في كل من المحتملين
ص: 136
ليست إلا احتمالية ، كما إذا لم يعلم بتعلق الامر بأحدهما وكانت الشبهة بدوية ، إذ المكلف لا يمكنه أزيد من قصد امتثال الامر الاحتمالي عند الاتيان بكل من المحتملين ، وليس المحتملان بمنزلة فعل واحد مرتبط الاجزاء ، حتى يقال : العلم بتعلق التكليف بالفعل الواحد يقتضي قصد امتثال الامر المعلوم.
وبالجملة : لا إشكال في أن فعل كل من المحتملين لا يمكن إلا بداعي احتمال تعلق الامر به ، فلا يتوقف تحقق الامتثال في كل منهما على قصد الامر المعلوم بالاجمال ، بل لو أتى المكلف بأحد المحتملين من دون أن يكون قاصدا للاتيان بالمحتمل الآخر يحصل الامتثال ويصح العمل على تقدير تعلق الامر بذلك المحتمل.
نعم : يكون متجريا في قصده ، حيث إنه لم يقصد امتثال الامر على كل تقدير ، إلا أن تجريه في ذلك لا دخل له في تحقق الطاعة والامتثال على تقدير مصادفة المأتي به للواقع.
والحاصل : أنه يمكن أن يكون للمكلف رغبة في فعل أحد المحتملين بحيث يحب طاعة أمره الاحتمالي ، ولا يكون له رغبة في فعل المحتمل الآخر فلا يطيع أمره الاحتمالي ، ولا ملازمة بين الاطاعتين ولا ارتباط بين الامتثالين ، فلا يتوقف حصول الامتثال لأحدهما على قصد امتثال الآخر ، فتأمل جيدا.
لو كان المعلوم بالاجمال أمرين مترتبين شرعا كالظهر والعصر المردد بين الجهات الأربع عند اشتباه القبلة ، فلا إشكال في عدم جواز استيفاء جميع محتملات العصر قبل استيفاء جميع محتملات الظهر ، للعلم بفوات الترتيب ، كما
ص: 137
لا إشكال في عدم جواز فعل العصر إلى جهة مغايرة لجهة فعل الظهر ، لفوات الترتيب أيضا.
وفي جواز الاتيان ببعض محتملات العصر قبل استيفاء جميع محتملات الظهر وعدم جوازه وجهان : مبنيان على أن الامتثال الاجمالي في عرض الامتثال التفصيلي؟ أو في طوله؟.
بيان ذلك : هو أنه بعد الفراغ عن اشتراط الترتيب بين الظهر والعصر ولزوم إحراز وقوع العصر عقيب الظهر - كسائر الشرائط التي لابد من إحرازها في مقام الامتثال - يقع الكلام في أنه هل يعتبر في حصول الطاعة وحسن الامتثال إحراز تحقق الترتيب حين الاتيان بصلاة العصر؟ بحيث يكون المكلف حين اشتغاله بالعصر محرزا لفراغ ذمته عن صلاة الظهر لكي يكون محرزا للترتيب في ذلك الحال ، أو أنه لا يعتبر ذلك؟ بل يكفي العلم بتحقق الترتيب ووقع العصر عقيب الظهر ولو بعد الفراغ عن صلاة العصر.
فان قلنا : إنه يعتبر إحراز الترتيب حين الاتيان بصلاة العصر ، فلا يجوز أن يأتي ببعض محتملات العصر قبل استيفاء جميع محتملات الظهر ، لأنه حين الاتيان بذلك البعض لا يعلم بفراغ الذمة عن صلاة الظهر ، لاحتمال أن لا تكون القبلة في تلك الجهة التي صلى الظهر إليها.
وإن قلنا : إنه لا يعتبر إحراز الترتيب حين الاتيان بصلاة العصر ، بل يكفي إحرازه ولو بعد الفراغ عن صلاة العصر ، فيجوز فعل كل واحد من محتملات العصر عقيب كل واحد من محتملات الظهر إلى أن يستوفي جميع المحتملات ، لأنه بعد استيفاء جميع المحتملات يعلم بوقوع العصر عقيب الظهر وإن لم يعلم بذلك حين الاتيان بكل من محتملات العصر ، لاحتمال أن لا تكون القبلة في تلك الجهة التي صلى الظهر والعصر إليها.
فإن قلت : لا فرق بين الصورتين ، فإنه على كل حال لا يعلم بوقوع العصر
ص: 138
عقيب الظهر حين الاتيان بها ، لو أخر استيفاء محتملاتها عن محتملات الظهر ، فإنه حين الاتيان بكل واحد من محتملات العصر لا يعلم بكون تلك الجهة جهة القبلة ، فيحتمل أن لا تكون هذه الصلاة هي صلاة العصر المأمور بها ، والترتيب إنما يعتبر بين الظهر والعصر المأمور بهما واقعا ، لا الظهر والعصر المأتي بهما من باب المقدمة العلمية ، والعلم بتحقق الترتيب بين الظهر والعصر المأمور بهما واقعا لا يكاد يحصل إلا بعد استيفاء جميع المحتملات لكل منهما ، فلا فرق بين أن يؤخر محتملات العصر عن محتملات الظهر وبين أن يأتي بكل من محتملات العصر عقيب كل من محتملات الظهر.
قلت : الفرق بينهما في غاية الوضوح ، فإنه عند تأخير محتملات العصر عن جميع محتملات الظهر يعلم حين الاتيان بكل من محتملات العصر أن الصلاة المأتي بها واقعة عقيب الظهر الواقعي وإن كان لا يعلم بكونها عصرا واقعا ، لاحتمال أن لا تكون إلى القبلة ، إلا أن هذا لمكان الجهل بالقبلة لا لمكان الجهل بالترتيب ، فإنه يعلم بالترتيب ووقوع كل من محتملات العصر عقيب الظهر الواقعي حال الاشتغال بالمحتملات ، وهذا بخلاف ما إذا أتى بكل من محتملات الظهر والعصر عقيب الاخر (1) فإنه حال الاشتغال بكل من
ص: 139
محتملات العصر غير الأخير منها لا يعلم بوقوع العصر عقيب الظهر الواقعي ، للشك في وقوع الظهر المأتي بها إلى جهة القبلة ، فالمكلف حال الاشتغال بكل واحد من محتملات العصر كما يكون جاهلا بالقبلة يكون جاهلا بالترتيب ووقوع العصر عقيب الظهر الواقعي ، فلا يحصل الامتثال التفصيلي بالنسبة إلى كل من شرطية القبلة وشرطية الترتيب ، وبناء على اعتبار الامتثال التفصيلي وتقدم رتبته على الامتثال الاجمالي يجب تحصيل الامتثال التفصيلي بالنسبة إلى كل شرط يمكن فيه ذلك.
ولا ملازمة بين الشروط ، بحيث لو سقط اعتبار الامتثال التفصيلي في شرط لعدم إمكانه يسقط بالنسبة إلى سائر الشروط ، بل الامتثال التفصيلي يجب بأي مقدار أمكن ، وفي المقام يمكن حصول الامتثال التفصيلي بالنسبة إلى شرط الترتيب بتأخير جميع محتملات العصر عن جميع محتملات الظهر وإن لم يمكن تحصيله بالنسبة إلى شرطية القبلة ، فما نحن فيه نظير ما إذا تردد كل من القبلة واللباس بين أمور محصورة مع إمكان رفع الترديد بالنسبة إلى اللباس ، فإنه لا إشكال في وجوب رفع الترديد بالنسبة إلى اللباس تحصيلا للامتثال التفصيلي فيه.
فإن قلت : فرق بين ما نحن فيه وبين المثال ، فإنه في المثال يلزم زيادة في المحتملات عند عدم رفع الترديد عن اللباس ، فإنه يجب تكرار الصلاة في كل من الثوبين المشتبهين إلى كل من الجهات الأربع ، فتكون المحتملات في كل من الظهر والعصر ثمانية مع إمكان تقليلها بجعلها أربعة عند رفع الترديد عن اللباس ، وهذا بخلاف ما نحن فيه ، فان المحتملات في كل من الظهر والعصر لا تزيد على الأربعة ، سواء قدم جميع محتملات الظهر عن محتملات العصر أو
ص: 140
لا ، ومن المعلوم : أن تقدم رتبة الامتثال التفصيلي على الامتثال الاجمالي على القول به إنما هو فيما إذا لزم من الامتثال الاجمالي تكرار في العمل ، لا مطلقا ، كما سيأتي بيانه ( إن شاء اللّه تعالى ) فلا موجب لرفع الجهل عن قيدية الترتيب بعدما لم يلزم منه زيادة في المحتملات.
قلت : تأخر رتبة الامتثال الاجمالي عن الامتثال التفصيلي هو الذي أوجب المنع عن التكرار ، لا أن المنع عن التكرار أوجب تأخر رتبة الامتثال الاجمالي عن الامتثال التفصيلي ، فالمانع إنما هو لزوم الامتثال الاجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيلي وإن لم يلزم منه زيادة في المحتملات.
فتحصل مما ذكرنا : أن وجوب تأخير محتملات العصر عن جميع محتملات الظهر مبني على اعتبار الامتثال التفصيلي وتقدم رتبته على الامتثال الاجمالي ، وسيأتي ( إن شاء اللّه تعالى ) أن الأقوى : اعتبار الامتثال التفصيلي مع التمكن منه ، وعليه يجب تأخير محتملات العصر عن جميع محتملات الظهر ، فتأمل جيدا.
قد تقدم في الشبهة التحريمية عدم تأثير العلم الاجمالي إذا كانت الأطراف غير محصورة ، لعدم التمكن من المخالفة القطعية فيها عادة ، بالبيان المتقدم (1)
ص: 141
وهذا بخلاف الشبهة الوجوبية ، فإن المخالفة القطعية بترك جميع المحتملات بمكان من الامكان ، فلابد من تأثير العلم الاجمالي بالنسبة إلى المخالفة القطعية وعدم جواز ترك جميع المحتملات.
نعم : لا يمكن الموافقة القطعية بفعل جميع المحتملات لكثرة الأطراف ، فلابد من التبعيض في الاحتياط والآتيان بالمقدار الممكن من المحتملات.
ولا وجه للاكتفاء بفعل أحد المحتملات وترك الباقي ، بدعوى : أن تعذر الموافقة القطعية يوجب التنزيل إلى الموافقة الاحتمالية ، وهي تحصل بفعل أحد المحتملات ، لان المانع من وجوب الموافقة القطعية ليس هو إلا لزوم العسر والحرج من الجمع بين المحتملات ، والضرورات إنما تتقدر بقدرها ، فلابد من سقوط ما يلزم منه العسر والحرج ، ولا موجب لسقوط الزائد عن ذلك ، فلا محيص من وجوب الاتيان بالمقدار الممكن من المحتملات.
هذا تمام الكلام في الشك في المكلف به عند دورانه بين المتباينين ، وقد بقي منه بعض التنبيهات لم يتعرض لها شيخنا الأستاذ - مد ظله - لأنها قليلة الجدوى
* * *
ص: 142
وأقسامه كثيرة ، فان الترديد بين الأقل والأكثر
تارة : يكون في نفس متعلق التكليف من الفعل أو الترك المطالب به.
وأخرى : يكون في موضوع التكليف فيما إذا كان للتكليف تعلق بالموضوع الخارجي.
وثالثة : يكون في السبب والمحصل الشرعي والعقلي أو العادي.
وعلى جميع التقادير ، تارة : يكون الأقل والأكثر من قبيل الجزء والكل ، وأخرى : يكون من قبيل الشرط والمشروط ، وثالثة : يكون من قبيل الجنس والنوع.
ثم ما كان من قبيل الشرط والمشروط ، تارة : يكون منشأ انتزاع الشرطية أمرا خارجا عن المشروط مباينا له في الوجود ، كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة ، وأخرى : يكون داخلا في المشروط متحدا معه في الوجود ، كالايمان بالنسبة إلى الرقبة.
وفي جميع هذه الأقسام ، تارة : يكون الأقل والأكثر ارتباطيين ، وأخرى : يكون غير ارتباطيين
وعلى التقديرين : تارة : تكون الشبهة وجوبية ، وأخرى : تكون تحريمية.
ومنشأ الشبهة : إما فقد النص ، وإما إجمال النص ، وإما تعارض النصين ، وإما الاشتباه في الموضوع الخارجي.
فهذه جملة الأقسام المتصورة في باب الأقل والأكثر ، وسيأتي مثال كل قسم عند البحث عن حكمه.
وكأن الشيخ قدس سره غفل عن إمكان تردد نفس متعلق التكليف بين
ص: 143
الأقل والأكثر في الشبهة الموضوعية ، وأبدل هذا القسم بما يرجع إلى الشك في المحصل ، ولكن سيأتي ( إن شاء اللّه تعالى ) أن ذلك بمكان من الامكان ، ومنه تردد لباس المصلي بين كونه من مأكول اللحم أو غيره.
وعلى كل حال : ينبغي إفراد كل واحد من هذه الأقسام بفصل يخصه - إلا ما كان منها متحد الحكم مع الآخر - لاختلاف أحكامها ، فان منها ما تجري فيه البراءة بلا كلام ، ومنها مالا تجري فيه البراءة بلا كلام ، ومنها ما هو مختلف فيه.
والأقوى : عدم جريان البراءة عن الأكثر مطلقا في الأسباب العادية والعقلية والشرعية.
أما في الأسباب العادية والعقلية : فواضح (1) فان المجعول الشرعي فيها ليس إلا المسبب ولا شك فيه ، والمشكوك فيه ليس من المجعولات الشرعية
ص: 144
ولا تناله يد الوضع والرفع التشريعي ، فلا يعمه أدلة البراءة (1) فالشك في جزئية شيء للسبب أو شرطيته يرجع إلى الشك في حصول متعلق التكليف وتحقق الامتثال عند عدم الاتيان بالأكثر ، والعقل يستقل بوجوب إحراز الامتثال والقطع بالخروج عن عهدة التكليف ، ولا يحصل ذلك إلا بالاتيان بكل ما يحتمل دخله في السبب ، وذلك واضح.
وأما في الأسباب الشرعية : كالغسلات في باب الطهارة الحدثية والخبثية ، بناء على أن يكون المأمور به هو التطهير والغسلات محصلة له ، لا أنها هي المأمور بها - كما ربما يدل عليه الامر بالتطهير في جملة من الأدلة الواردة في باب الطهارة الحدثية والخبثية - فقد يتوهم : جريان البراءة عن الأكثر ، لأن الشك فيها يرجع إلى الشك في المجعول الشرعي ، فيعمه أدلة البراءة.
هذا ، ولكن قد تقدم في مبحث البراءة فساد التوهم ، ونزيده في المقام وضوحا ، فنقول : إن شمول أدلة البراءة للمحصلات الشرعية يتوقف على أن تكون المجعولات الشرعية هي الأسباب لا المسببات ، وأن تكون أجزاء السبب وشرائطه أيضا مجعولة بجعل مستقل مضافا إلى جعل الأسباب ، وقد بينا في محله استحالة ذلك.
بيان الملازمة : هو أنه لو كانت المجعولات الشرعية نفس المسببات وترتبها على أسبابها - كترتب الطهارة على الغسلات الثلاث ، والنقل والانتقال على البيع والشراء - فالأسباب تكون خارجة عن دائرة الجعل ، ولا تنالها يد الوضع والرفع التشريعي ، إذ لا تعقل أن تتعلق الجعل الشرعي بكل من السبب والمسبب ، لان جعل أحدهما يغني عن جعل الآخر ، فبناء على تعلق الجعل
ص: 145
بالمسببات تكون الأسباب الشرعية كالأسباب العقلية والعادية غير قابلة للوضع والرفع ، وإطلاق السبب الشرعي عليها إنما هو باعتبار أن الشارع حكم بترتب المسبب عليه من دون أن يكون في البين ترتب عادي أو عقلي ، فالشك في جزئية شيء للسبب أو شرطيته يرجع إلى الشك في ترتب المسبب على الفاقد لذلك الجزء أو الشرط (1) وبالآخرة يشك في حصول المكلف به في باب التكاليف وفي حصول المسبب في باب الوضعيات عند عدم الاتيان بما يشك في جزئيته أو شرطيته ، ولا يكاد يحصل العلم بذلك إلا بالاتيان بكل ما يحتمل دخله في السبب. هذا إذا لم نقل بجعل السببية.
وإن قلنا بجعل السببية ولكن لم نقل بجعل الجزئية والشرطية بجعل مغاير لجعل السببية ، فالشك في جزئية شيء للسبب أو شرطيته يرجع إلى الشك في جعل الشارع سببية الأقل ، للقطع بسببية الأكثر ، ورفع السببية عن الناقص يقتضي عدم تعلق الجعل الشرعي به ، ولازم ذلك عدم ترتب المكلف به على الناقص ، وهذا ينتج عكس المقصود ، لان المقصود من إجراء البراءة هو ترتب المكلف به على الناقص.
فمجرد القول بجعل السببية لا يكفي في شمول أدلة البراءة لموارد الشك في المحصل ما لم ينضم إليه القول بجعل الجزئية والشرطية مستقلا ، فإنه حينئذ يصح أن يقال : إن أدلة البراءة تقتضي رفع ما يشك في جزئيته أو شرطيته.
فإن قلت : يكفي في شمول أدلة البراءة لموارد الشك في المحصل كون الجزء
ص: 146
والشرط مجعولا بتبع جعل السبب المركب منه ومن غيره ، كما هو الشأن في جزء متعلق التكليف وشرطه ، فإن جزئية السورة مثلا للصلاة ليست مما تنالها يد الجعل مستقلا بل هي منتزعة عن الامر بالصلاة المركبة منها ومن غيرها ، ومع ذلك تجري فيها البراءة ويعمها حديث الرفع عند الشك فيها ، وبعد البناء على جعل السببية تكون أجزاء السبب وشرائطه كأجزاء الصلاة وشرائطها منتزعة عن نفس تعلق الجعل بالسبب المركب ، فيعمها حديث الرفع وتجري فيها البراءة عند الشك فيها ، ولا يتوقف على أن تكون الجزئية مجعولة بجعل مغاير لجعل السبب.
قلت : فرق بين الأسباب وبين متعلقات التكاليف ، فإن المشكوك فيه في متعلقات التكاليف إنما هو تعلق الامر بالأكثر الواجد للجزء أو الشرط المشكوك فيه ، ورفع الجزئية أو الشرطية إنما يكون برفع الامر عن الأكثر ، فان رفع الانتزاعيات إنما يكون برفع منشأ انتزاعها ، ومنشأ انتزاع الجزئية في متعلقات التكاليف ليس هو إلا تعلق الامر بالأكثر ، وهذا بخلاف الأسباب ، فإن منشأ انتزاع الجزئية المشكوك فيها إنما هو سببية الأكثر ، وسببيته وترتب المسبب عليه مما لا شك فيها ، وإنما الشك في سببية الناقص وترتب المسبب عليه ، ورفع سببية الناقص ينتج عدم سببيته وعدم ترتب المسبب عليه.
والحاصل : أن حديث الرفع إنما يرفع المشكوك فيه ، والمشكوك فيه في متعلقات التكاليف هو تعلق التكليف بالأكثر ، وفي الأسباب هو جعل سببية الأقل ورفع سببيته يوجب عدم ترتب المسبب عليه ، فالقائل بالبراءة في باب الأسباب والمحصلات يلزمه القول باستقلال الجزئية والشرطية في الجعل ، ليكون الجزء المشكوك فيه مما تناله يد الرفع بنفسه ، ولا يكفي في إثبات مدعاه مجرد جعل السببية ، فتأمل (1).
ص: 147
بل هذا أيضا لا يثبت المدعى إلا على القول بالأصل المثبت ، فإن مجرد رفع المشكوك لا أثر له ما لم تثبت سببية الناقص وترتب المسبب عليه ، وذلك مبني على الأصل المثبت.
فتحصل : أنه في موارد الشك في المحصل وتردده بين الأقل والأكثر لابد من الاحتياط ، ولا تجري البراءة مطلقا وإن كان المحصل شرعيا (1).
كتردد الغناء بين أن يكون هو مطلق ترجيع الصوت ، أو بقيد كونه مطربا.
والظاهر : أن تكون الشبهات التحريمية على عكس الشبهات الوجوبية ، فإنه في الشبهات الوجوبية يكون الأقل متيقن الوجوب والأكثر مشكوكا ، وفي
ص: 148
الشبهات التحريمية الأكثر متيقن الحرمة والأقل مشكوكا.
والأقوى : جريان البراءة عن حرمة الأقل مطلقا ، سواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية ، وسواء تردد الأقل والأكثر في نفس متعلق التكليف أو في موضوعه ، وسواء كان الأقل والأكثر من الارتباطيين أو غيره.
والذي خالف في جريان البراءة في الشبهات الوجوبية ينبغي أن لا يقول بجريانها في الشبهات التحريمية أيضا ، لاتحاد ملاك النزاع في المقامين (1) ولكن الأكثر لم يتعرضوا لحكم الشبهات التحريمية.
ثم إن الارتباطية في المحرمات إنما هي على حذو الارتباطية في الواجبات لابد وأن تكون حرمة الأقل في ضمن حرمة الأكثر على تقدير أن يكون الأكثر هو متعلق الحرمة من دون أن تكون للأقل حرمة تخصه ، وهذا إنما يكون بانبساط الحرمة النفسية على الاجزاء بحيث يكون لكل جزء حظ من تلك الحرمة ليصدق الشروع في فعل الحرام بالاتيان بأول جزء منه ، والأمثلة التي تخطر بالبال لا تنطبق على هذا المعنى.
نعم : يمكن أن يكون حرمة تصوير ذوات الأرواح مثالا لذلك على بعض المحتملات ، بأن يشك في أن المحرم هو تصوير الصورة التامة أو بعضها ، وعلى فرض أن يكون متعلق الحرمة هو التصوير التام يكون الشروع في التصوير محرما
ص: 149
بشرط تعقبه بسائر الاجزاء. وعلى كل حال : الامر في المثال سهل بعد وضوح المقصود.
ولا إشكال ولا كلام في جريان البراءة في الأكثر ، للشك في وجوب الزائد عن الأقل ، فتعمه أدلة البراءة.
وتوهم : أن الزائد من أطراف العلم الاجمالي بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر فيجب الاحتياط فيه واضح الفساد ، فإن الضابط في تأثير العلم الاجمالي : هو أن تكون نسبة المعلوم بالاجمال إلى كل واحد من الأطراف على حد سواء ، بحيث تتولد من العلم الاجمالي قضية منفصلة على سبيل منع الخلو ، والمقام ليس من هذا القبيل ، فإن القضية المعلومة بالاجمال تنحل إلى قضيتين : قضية معلومة بالتفصيل وهي وجوب الأقل ، وقضية مشكوكة وهي وجوب الأكثر ، بل لا يصح إطلاق العلم الاجمالي على مثل ذلك ، كما لا يخفى.
كالشك في جزئية السورة للصلاة. وكان ينبغي أن يبحث في هذا الفصل
ص: 150
عما يعم الشروط ، لاتحاد حكم الاجزاء والشروط ، ولكن أفردنا البحث عن الشروط بفصل يخصها لنكتة يأتي التنبيه عليها ( إن شاء اللّه تعالى ).
وعلى كل حال : فقد اختلفت كلمات الأصحاب في جريان البراءة من وجوب الأكثر على أقوال ثلاثة ، فقيل : بعدم جريان البراءة مطلقا ، وقيل : بجريان البراءة مطلقا ، وقيل : بالتفصيل بين البراءة العقلية والشرعية ، وهو الأقوى.
وأضعف الأقوال : هو الأول ، فإنه لا وجه له إلا توهم : أن العلم الاجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر يقتضي عدم جريان الأصول الشرعية والعقلية النافية للتكليف في كل من طرف الأقل أو الأكثر ، فلابد من الاحتياط بفعل الأكثر تحصيلا للعلم بفراغ الذمة عما اشتغلت به ، هذا ولكن سيأتي ما يظهر منه ضعف هذا الوجه.
وأما وجه القول الثاني : فليس هو أيضا إلا تخيل انحلال العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقل والشك البدوي في وجوب الأكثر ، وهذا هو الذي اختاره الشيخ قدس سره . وحاصل ما أفاده في وجه ذلك : هو أن المقتضي لجريان البراءة العقلية والشرعية عن وجوب الأكثر موجود والمانع عنه مفقود.
أما وجود المقتضي : فلان الموضوع لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ليس هو إلا الشك في التكليف النفسي المولوي الذي يستتبع مخالفته العقاب ، وفيما نحن فيه يشك في تعلق التكليف بالأكثر ، فالعقاب على تركه يكون بلا بيان ، وكذا الموضوع في أدلة البراءة الشرعية هو الجهل بالحكم الواقعي ، والمفروض في المقام هو الجهل بوجوب الأكثر ، فيعمه حديث الرفع ونحوه من الأدلة الشرعية.
وأما فقد المانع : فلان المانع المتوهم في جريان البراءة في الأكثر ليس هو إلا العلم الاجمالي بتعلق التكليف بالأقل أو الأكثر ، ولن ينحل العلم الاجمالي إلى
ص: 151
العلم التفصيلي بتعلق التكليف بالأقل والشك البدوي في الأكثر ، فإن المعلوم بالاجمال ليس هو إلا خطابا واحدا نفسيا ، وتعلق هذا الخطاب بالأقل معلوم تفصيلا للعلم بوجوبه على كل حال ، سواء تعلق التكليف بالأكثر أو لم يتعلق.
وما تكرر في كلمات الشيخ قدس سره من أنه يعلم بتعلق التكليف بالأقل على كل تقدير سواء كان نفسيا أو مقدميا ، فليس ظاهره بمراد ، لان وجوب الأقل لا يكون مقدميا على كل حال ولو كان وجوبه في ضمن وجوب الأكثر وبتبع التكليف به ، لان الاجزاء لا تجب بالوجوب المقدمي الغيري ، بل إنما هي تجب بالوجوب النفسي المتعلق بالمركب المنبسط على كل واحد من الاجزاء ، لان المركب ليس إلا الاجزاء بأسرها ، فهي واجبة بعين وجوب الكل ، ومن هنا تصح دعوى العلم التفصيلي بتعلق التكليف النفسي بالأقل والشك في تعلقه بالأكثر ، فينحل العلم الاجمالي لا محالة.
هذا حاصل ما أفاده قدس سره في وجه جريان البراءة العقلية والشرعية عن الأكثر ، بتحرير منا.
وقد أورد عليه بوجوه :
منها : ما حكي عن المحقق صاحب الحاشية قدس سره من أن العلم بوجوب الأقل لا ينحل به العلم الاجمالي ، لتردد وجوبه بين المتباينين ، فإنه لا إشكال في مباينة الماهية بشرط شيء للماهية لا بشرط (1) لان أحدهما قسيم
ص: 152
الآخر ، فلو كان متعلق التكليف هو الأقل فالتكليف به إنما يكون لا بشرط عن الزيادة ، ولو كان متعلق التكليف هو الأكثر فالتكليف بالأقل إنما يكون بشرط انضمامه مع الزيادة ، فوجوب الأقل يكون مرددا بين المتباينين باعتبار اختلاف سنخي الوجوب الملحوظ لا بشرط أو بشرط شيء ، كما أن امتثال التكليف المتعلق بالأقل يختلف حسب اختلاف الوجوب المتعلق به ، فان امتثاله إنما يكون بانضمام الزائد إليه إذا كان التكليف به ملحوظا بشرط شيء ، بخلاف ما إذا كان ملحوظا لا بشرط ، فإنه لا يتوقف امتثاله على انضمام الزائد إليه ، فيرجع الشك في الأقل والأكثر الارتباطي إلى الشك بين المتباينين تكليفا
ص: 153
وامتثالا. هذا حاصل ما أفاده المحقق (1) قدس سره بتحرير منا.
ولا يخفى فساده ، فان اختلاف سنخي الطلب لا دخل له في انحلال العلم الاجمالي وعدمه ، بل الانحلال يدور مدار العلم التفصيلي بوجوب أحد الأطراف (2) بحيث يكون هو المتيقن في تعلق الطلب به ولو فرض الشك في كيفية التعلق وأنه طورا يكون لا بشرط وطورا يكون بشرط شئ.
وإن شئت قلت : إن الماهية لا بشرط والماهية بشرط شيء ليسا من المتباينين الذين لا جامع بينهما ، فان التقابل بينهما ليس من تقابل التضاد ، بل من تقابل العدم والملكة ، فان الماهية لا بشرط ليس معناها لحاظ عدم انضمام شيء معها بحيث يؤخذ العدم قيدا في الماهية ، وإلا رجعت إلى الماهية بشرط لا ، ويلزم تداخل أقسام الماهية ، بل الماهية لا بشرط معناها عدم لحاظ شيء معها لا لحاظ العدم ، ومن هنا قلنا : إن الاطلاق ليس أمرا وجوديا بل هو عبارة عن عدم ذكر القيد ، خلافا لما ينسب إلى المشهور - كما ذكرنا تفصيله في مبحث المطلق والمقيد - فالماهية لا بشرط ليست مباينة بالهوية والحقيقة للماهية بشرط شيء بحيث لا يوجد بينهما جامع (3) بل يجمعهما نفسا الماهية ، والتقابل بينهما إنما
ص: 154
يكون بمجرد الاعتبار واللحاظ (1).
ففي ما نحن فيه ، الأقل يكون متيقن الاعتبار على كل حال ، سواء لوحظ الواجب لا بشرط أو بشرط شيء ، فان التغاير الاعتباري لا يوجب خروج الأقل عن كونه متيقن الاعتبار ، هذا كله بحسب البرهان. وأما بحسب الوجدان فلا يكاد يمكن إنكار ثبوت العلم الوجداني بوجوب الأقل على كل حال ، كانت الماهيتان. متباينتين أو لم تكن ، فتأمل جيدا.
ومنها : ما أفاده المحقق الخراساني قدس سره من أن وجوب الأقل على كل تقدير يتوقف على تنجز التكليف على كل تقدير ، سواء كان متعلقا بالأقل أو بالأكثر ، فإنه لو لم يتنجز التكليف بالأكثر على تقدير أن يكون هو
ص: 155
متعلق الطلب لم يجب الاتيان بالأقل ، لان وجوبه إنما يكون بتبع وجوب الأكثر ومقدمة لحصوله (1) فلو لم يتنجز الامر بذي المقدمة لا يلزم الاتيان بالمقدمة ، فوجوب الاتيان بالأقل على كل تقدير يتوقف على وجوب الاتيان بالأكثر على كل تقدير ، لأنه بعد فرض عدم تنجز التكليف بالأكثر على تقدير أن يكون هو متعلق التكليف لا يلزم الاتيان بالأقل ، لاحتمال أن يكون وجوبه لأجل كونه مقدمة لوجود الأكثر ، ولا يجب الاتيان بالمقدمة عند عدم وجوب الاتيان بذي المقدمة ، فيلزم من وجوب الأقل على كل تقدير عدم وجوبه على كل تقدير ، وما يلزم من وجوبه عدمه محال. هذا حاصل ما أفاده في الكفاية على طبق ما ذكره في حاشية الفرائد.
ولا يخفى ما فيه ، فإنه يرد عليه :
أولا : أن ذلك مبني على أن يكون وجوب الأقل مقدميا على تقدير أن يكون متعلق التكليف هو الأكثر (2) فيستقيم حينئذ ما أفاده : من أن العلم التفصيلي بوجوب أحد طرفي المعلوم بالاجمال مع تردد وجوبه بين كونه نفسيا أو غيريا متولدا من وجوب الطرف الآخر - على تقدير أن يكون هو الواجب المعلوم بالاجمال - لا يوجب انحلال العلم الاجمالي ، ألا ترى : أنه لو علم إجمالا بوجوب
ص: 156
نصب السلم أو الصعود على السطح وتردد وجوب نصب السلم بين كونه نفسيا أو غيريا متولدا من وجوب الصعود على السطح من باب الملازمة بين وجوب المقدمة وذيها ، فالعلم التفصيلي بوجوب نصب السلم لا يوجب انحلال العلم الاجمالي بوجوب النصب أو الصعود ، فان العلم التفصيلي بوجوبه يتوقف على وجوب الصعود على السطح ، إذ مع عدم وجوب الصعود كما هو لازم الانحلال لا يعلم تفصيلا بوجوب النصب ، لاحتمال أن يكون وجوبه غيريا متولدا من وجوب الصعود ، وذلك كله واضح.
إلا أن ما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، لما تقدم : من أن وجوب الأقل لا يكون إلا نفسيا على كل تقدير ، سواء كان متعلق التكليف هو الأقل أو الأكثر ، فان الاجزاء إنما تجب بعين وجوب الكل ، ولا يمكن أن يجتمع في الاجزاء كل من الوجوب النفسي والغيري.
وكلام الشيخ قدس سره في المقام وإن أوهم تعلق الوجوب الغيري بالأقل على تقدير وجوب الأكثر ، إلا أنه لابد من تأويل كلامه ، فإن ذلك خلاف ما بنى عليه في مبحث مقدمة الواجب.
فدعوى : أن وجوب الأقل على كل تقدير يتوقف على وجوب الأكثر على كل تقدير لاحتمال أن يكون وجوبه مقدميا واضحة الفساد ، لأنه لا يحتمل الوجوب المقدمي في طرف الأقل ، بل يعلم تفصيلا بوجوبه النفسي على كل تقدير ، كان التكليف متعلقا بالأكثر أو لم يكن ، فلا يلزم من انحلال العلم الاجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل المحذور المتقدم ، لان المعلوم بالاجمال ليس إلا تكليفا نفسيا ، وهذا التكليف النفسي ممكن الانطباق على الأقل مع العلم التفصيلي بوجوبه (1) ولا يعتبر في انحلال العلم
ص: 157
الاجمالي أزيد من ذلك.
وثانيا : أن دعوى توقف وجوب الأقل على تنجز التكليف بالأكثر لا تستقيم ولو فرض كون وجوبه مقدميا ، سواء أريد من وجوب الأقل تعلق (1) التكليف به أو تنجزه ، فإن وجوب الأقل على تقدير كونه مقدمة لوجود الأكثر إنما يتوقف على تعلق واقع الطلب بالأكثر لا على تنجز التكليف به ، لان وجوب المقدمة يتبع وجوب ذي المقدمة واقعا وإن لم يبلغ مرتبة التنجز ، وكذا تنجز التكليف بالأقل لا يتوقف على تنجز التكليف بالأكثر ، بل يتوقف على العلم بوجوب نفسه (2) فان تنجز كل تكليف إنما يتوقف على العلم بذلك التكليف ،
ص: 158
ولا دخل لتنجز تكليف آخر في ذلك ، فتأمل.
وعلى كل حال : لا يمكن الخدشة في جريان البراءة العقلية وفي انحلال العلم الاجمالي من هذه الجهة بعد البناء على كون الأقل واجبا نفسيا على كل تقدير.
وقد أورد على الانحلال بوجوه اخر ، ذكرها الشيخ مع الجواب عنها.
فالأولى عطف عنان الكلام إلى بيان المختار في وجه عدم جريان البراءة العقلية ، وعدم كفاية العلم التفصيلي بوجوب الأقل في انحلال العلم الاجمالي عقلا.
فنقول : إنه لا إشكال في أن العقل يستقل بعدم كفاية الامتثال الاحتمالي للتكليف القطعي ، ضرورة أن الامتثال الاحتمالي إنما يقتضيه التكليف الاحتمالي ، وأما التكليف القطعي فهو يقتضي الامتثال القطعي ، لان العلم باشتغال الذمة يستدعي العلم بالفراغ عقلا ، ولا يكفي احتمال الفراغ ، فإنه يتنجز التكليف بالعلم به ولو إجمالا ، ويتم البيان الذي يستقل العقل بتوقف صحة العقاب عليه ، فلو صادف التكليف في الطرف الآخر الغير المأتي به لا يكون العقاب على تركه بلا بيان ، بل العقل يستقل في استحقاق التارك للامتثال القطعي للعقاب على تقدير مخالفة التكليف.
ففي ما نحن فيه لا يجوز الاقتصار على الأقل عقلا ، لأنه يشك في الامتثال
ص: 159
والخروج عن عهدة التكليف المعلوم في البين ، ولا يحصل العلم بالامتثال إلا بعد ضم الخصوصية الزائدة المشكوكة.
والعلم التفصيلي (1) بوجوب الأقل المردد بين كونه لا بشرط أو بشرط شيء هو عين العلم الاجمالي بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر (2) ومثل هذا العلم التفصيلي لا يعقل أن يوجب الانحلال ، لأنه يلزم أن يكون العلم الاجمالي موجبا لانحلال نفسه.
ومما ذكرنا يظهر ما في دعوى الشيخ قدس سره من أن التكليف المردد بين الأقل والأكثر يكون من التوسط في التنجيز عقلا ، بمعنى : أن متعلق التكليف إن كان هو الأقل فالتكليف به يكون منجزا عند العقل ، وإن كان هو الأكثر فالتكليف به لا يكون منجزا ، فان هذه الدعوى بمكان من الفساد (3) ضرورة أن التنجيز يدور مدار العلم بالتكليف ولو إجمالا ، والمفروض : أنه قد علم بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر ، فما هو شرط التنجيز عند العقل قد تحقق في كل من الأقل والأكثر.
نعم : تصح دعوى التوسط في التنجيز بعد البناء على جريان البراءة الشرعية ورفع التكليف عن الأكثر بأدلة البراءة - على ما سيأتي بيانه -.
وأما لو منعنا عن جريان البراءة الشرعية وكان الامر موكولا إلى نظر العقل فقط ، فالتكليف عند العقل قد تنجز على كل تقدير ، سواء تعلق بالأقل أو
ص: 160
بالأكثر ، للعلم بوجوب أحدهما ، والمفروض : أن العلم الاجمالي كالتفصيلي في اقتضائه التنجيز ، وقد عرفت ما في دعوى انحلال العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل ، فان العلم التفصيلي بوجوب الأقل وإن كان غير قابل للانكار ، إلا أنه في الحقيقة تفصيله عين إجماله ، لتردد وجوبه بين كونه لا بشرط أو بشرط شيء (1) والعلم التفصيلي المردد بين ذلك يرجع إلى العلم الاجمالي بين الأقل والأكثر بل هو عينه ، فلا سبيل إلى دعوى الانحلال.
وبتقريب آخر : الشك في تعلق التكليف بالخصوصية الزائدة المشكوكة من الجزء أو الشرط وإن كان عقلا لا يقتضي التنجيز واستحقاق العقاب على مخالفته من حيث هو ، للجهل بتعلق التكليف به فالعقاب على ترك الخصوصية يكون بلا بيان ، إلا أن هناك جهة أخرى تقتضي التنجيز واستحقاق العقاب على ترك الخصوصية على تقدير تعلق التكليف بها ، وهي احتمال الارتباطية وقيدية الزائد للأقل ، فان هذا الاحتمال بضميمة العلم الاجمالي يقتضي التنجيز واستحقاق العقاب عقلا ، فإنه لا رافع لهذا الاحتمال ، وليس من وظيفة العقل وضح القيدية أو رفعها ، بل ذلك من وظيفة الشارع ، ولا حكم للعقل من هذه الجهة ، فيبقى حكمه بلزوم الخروج عن عهدة التكليف المعلوم والقطع بامتثاله على حاله ، فلابد من ضم الخصوصية الزائدة.
فان قلت : الشك في الارتباطية والقيدية إنما يكون مسببا عن الشك في تعلق التكليف بالخصوصية الزائدة ، وبعد حكم العقل بقبح العقاب على مخالفة التكليف بالخصوصية الزائدة - كما هو المفروض - لا يبقى مجال للقول بالاشتغال العقلي من حيث الشك في الارتباطية والقيدية ، لأن الشك السببي رافع للشك المسببي ، فالقول بقبح العقاب من حيث الشك في تعلق التكليف
ص: 161
بالخصوصية الزائدة المشكوكة يساوق القول بجريان البراءة العقلية في الأقل والأكثر الارتباطي.
قلت : قيدية الزائد للأقل إنما تتولد من تعلق التكليف بالمجموع من الأقل والزائد ، وليست مسببة عن تعلق التكليف بالخصوصية الزائدة فقط ، فإنه ليست الارتباطية إلا عبارة عن ملاحظة الأمور المتباينة أمرا واحدا يجمعها ملاك واحد ، فالارتباطية إنما تنتزع من وحدة الملاك والامر المتعلق بالمجموع.
هذا ، مضافا إلى أن الأصل الجاري في الشك السببي إنما يكون رافعا للشك المسببي إذا كان من الأصول الشرعية ، وأما البراءة العقلية فهي لا ترفع الشك المسببي ولا تمنع من جريان الأصل فيه ، على ما سيأتي وجهه ( إن شاء اللّه تعالى ) في خاتمة الاستصحاب.
فتحصل من جميع ما ذكرنا : أنه لا محل للبراءة العقلية في دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطي (1).
وأما البراءة الشرعية : فلا محذور في جريانها (2) لان رفع القيدية إنما هو من
ص: 162
وظيفة الشارع كجعلها ، غايته أن وضعها ورفعها إنما يكون بوضع منشأ الانتزاع ورفعه ، وهو التكليف بالأكثر وبسطه على الجزء المشكوك فيه ، فكما أن للشارع الامر بالمركب على وجه يعم الجزء الزائد ، كذلك للشارع رفعه بمثل قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لايعلمون » ونحو ذلك من الأدلة الشرعية المتقدمة في مبحث البراءة ، وبذلك ينحل العلم الاجمالي ويرتفع الاجمال عن الأقل ، ويثبت إطلاق الامر به وكون وجوبه لا بشرط عن انضمام الزائد إليه.
ولا يتوهم : أن رفع التكليف عن الأكثر لا يثبت به إطلاق الامر بالأقل إلا على القول بالأصل المثبت.
فإنه قد تقدمت الإشارة إلى أن التقابل بين الاطلاق والتقييد ليس من تقابل التضاد لكي يكون إثبات أحد الضدين برفع الآخر من الأصل المثبت ، بل التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، وليس الاطلاق إلا عبارة عن عدم لحاظ القيد ، فحديث الرفع بمدلوله المطابقي يدل على إطلاق الامر بالأقل وعدم قيدية الزائد ، وبذلك يتحقق الامتثال القطعي للتكليف المعلوم بالاجمال ، لما تقدم في المباحث السابقة : من أن الامتثال القطعي الذي يلزم العقل به هو الأعم من الوجداني والتعبدي ، إذ العلم الاجمالي بالتكليف لا يزيد عن العلم التفصيلي به ، ولا إشكال في كفاية الامتثال التعبدي في موارد العلم التفصيلي بالتكليف.
ص: 163
والسر في ذلك : هو أن حكم العقل بلزوم الامتثال إنما هو لرعاية حكم الشارع ، وبعد رفع الشارع التكليف عن الأكثر ولو رفعا ظاهريا يتعين كون المكلف به هو الأقل ، فيحصل الامتثال التعبدي بفعل الأقل ، ولا يجب الزائد عليه.
وبالجملة : دائرة الامتثال تختلف سعة وضيقا حسب سعة متعلق التكليف وضيقه ، ولا إشكال في أنه للشارع رفع التكليف عن الأكثر ، إما واقعا بالنسخ ، وإما ظاهرا بمقتضى الأصول العملية لانحفاظ رتبة الحكم الظاهري في الأكثر ، لعدم العلم بتعلق التكليف به ، فلا مانع من جريان أصالة البراءة الشرعية عن التكليف بالأكثر ، ولا يعارضها أصالة البراءة عن الأقل ، للعلم بوجوبه على كل تقدير ، فلا تكون رتبة الحكم الظاهري محفوظة فيه ، وبعد رفع التكليف عن الأكثر يكون متعلق التكليف بحسب الظاهر هو الأقل ، فيدور الامتثال مدار فعله ، ويتحقق الفراغ والخروج عن عهدة التكليف بالاتيان به ، وليس اشتغال الذمة بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر بأقوى من اشتغال الذمة بالتكليف بأصل الصلاة وأركانها ، فكما أن للشارع الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي بالنسبة إلى ذلك ، كموارد الشك بعد الوقت وبعد تجاوز المحل ، كذلك للشارع الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي للتكليف المردد بين الأقل والأكثر.
والغرض من إطالة الكلام : بيان فساد ما أفاده المحقق الخراساني - في حاشية الكفاية - من منع جريان البراءة الشرعية في الأقل والأكثر الارتباطي بعد ما اختار جريانها في متنها ، وكأنه جرى على مسلكه : من الملازمة بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية (1) وقد تقدم منع الملازمة في أول
ص: 164
مبحث الاشتغال.
ومن الغريب! ما زعمه : من حكومة حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل على أدلة البراءة الشرعية ، فان ذلك بمكان من الفساد ، ضرورة أن حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل يرتفع موضوعه بأدلة البراءة ، لان احتمال الضرر فرع بقاء التكليف بالأكثر ، وبعد رفع الشارع التكليف عنه لا يحتمل الضرر حتى يلزم دفعه ، سواء أريد من الضرر العقاب أو الملاك ، فالبراءة الشرعية تكون ورادة على حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل ، بل البراءة العقلية أيضا تكون ورادة على هذا الحكم العقلي فضلا عن البراءة الشرعية ، وقد تقدم تفصيل ذلك كله في الدليل الأول من الأدلة الأربعة التي أقيمت على حجية مطلق الظن وفي مبحث البراءة ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا.
قد استثنى الشيخ قدس سره من موارد دوران الامر بين الأقل والأكثر مورد الشك في حصول العنوان ومورد الشك في حصول الغرض ، فذهب إلى أصالة الاشتغال وعدم جريان البراءة العقلية والشرعية فيهما ، وقد تقدم ما يتعلق بشرح مرامه في هذا المقام ، ولا بأس بإعادته تتميما لمباحث الأقل والأكثر.
فنقول : إن الافعال تختلف بالنسبة إلى الآثار المترتبة عليها ، فان الفعل :
تارة : يكون سببا توليديا للأثر من دون أن يتوسط بين الفعل والأثر مقدمة أخرى ، وهذا إنما يكون إذا كان الفعل الصادر عن الفاعل تمام العلة لحصول
ص: 165
الأثر بحيث لم يشاركه في ذلك فعل فاعل آخر ، أو الجزء الأخير من العلة لحصوله وإن سبقه فعل فاعل آخر.
والظاهر : أن يكون الأول مجرد فرض لا واقع له خارجا في الآثار التكوينية المترتبة على الافعال الخارجية (1) فإنه ما من أثر إلا ويشترك فيه جملة من الافعال الصادرة عن عدة من الأشخاص ، فالذي يمكن وقوعه في الخارج هو أن يكون الفعل جزء الأخير من العلة لترتب الأثر ، كالالقاء في النار لحصول الاحراق والضرب بالسيف لحصول القتل ، فان الالقاء بالنار والضرب بالسيف يكون هو الجزء الأخير لعلة الاحراق والقتل ، ولابد من سبق الاجزاء الاخر : من حيازة الحطب وجمعه وإضرام النار فيه (2) وإخراج الحديد من معدنه وصناعة السيف ، وغير ذلك من المقدمات التي لا يحصيها إلا اللّه تعالى.
وأخرى : يكون الفعل مقدمة اعدادية لحصول الأثر ، فيتوسط بين الفعل والأثر أمور اخر خارجة عن قدرة الفاعل وإرادته ، كما في صيرورة الزرع سنبلا والبسر رطبا والعنب زبيبا ، فان الفعل الصادر عن الفاعل ليس إلا حرث الأرض ونثر البذر ونحو ذلك من مقدمات الزرع ، وهذا بنفسه لا يكفي في حصول السنبل ، بل يحتاج إلى مقدمات اخر : من إشراق الشمس ونزول المطر وغير ذلك من الأسباب التي جرت عليها العادة بحسب الإرادة الإلهية في تحقق هذه الآثار ، فمثل هذه الآثار لا تصلح لان تتعلق بها إرادة الفاعل ، بل هي تكون من الدواعي والعلل الغائية لانقداح إرادة الفعل في نفس الفاعل ، لعدم القدرة عليها ، وهذا بخلاف المسببات التوليدية ، فإنها بنفسها تتعلق بها إرادة الفاعل لكونها مقدورة له ولو بتوسط القدرة على الأسباب.
ص: 166
والفرق بين ما إذا كان الفعل سببا توليديا للأثر وبين ما إذا كان مقدمة إعدادية له مما لا يكاد يخفى ، فان الأثر في الأول مما يصح أن يستند إلى الفاعل حقيقة ، لأنه هو الموجد له بإرادته واختياره. وأما الثاني فلا يصح أن يستند الأثر إلى الفاعل ولا يكون هو الموجد له ، لخروجه عن قدرته واختياره ، ولا يمكن أن تتعلق به إرادته ، وهذا هو السر في بطلان اشتراط صيرورة الزرع سنبلا والبسر رطبا في ضمن العقد - كما صرح به الفقهاء - لأنه شرط غير مقدور للمشروط عليه.
وبما ذكرنا من الفرق بين المسببات التوليدية والعلل الغائية ظهر : أنه يصح أن يتعلق التكليف بنفس المسبب التوليدي ، لأنه يمكن أن تتعلق به إرادة الفاعل ، وكلما أمكن أن تتعلق به إرادة الفاعل صح أن تتعلق به إرادة الآمر ، لان الإرادة الآمرية هي المحركة للإرادة الفاعلية في عالم التشريع ، فلا يمكن أن تتعلق الإرادة الآمرية فيما لا يمكن أن تتعلق به الإرادة الفاعلية ، وفي المسببات التوليدية يمكن أن تتعلق بها الإرادة الفاعلية كتعلقها بالأسباب ، فكما يصح التكليف بالالقاء في النار والضرب بالسيف ، كذلك يصح التكليف بالاحراق والقتل لتعلق القدرة بكل منهما ، غايته أنه في السبب بلا واسطة وفي المسبب مع الواسطة ، وهذا بخلاف العلل الغائية ، فإنها لا يمكن أن تتعلق بها الإرادة الآمرية ولا يصح التكليف بها (1) لكونها خارجة عن تحت القدرة. والاختيار ، ولا يمكن أن تتعلق بها الإرادة الفاعلية ، بل إنما تتعلق الإرادة الآمرية
ص: 167
والفاعلية بنفس المقدمة الاعدادية من الفعل الصادر عن الفاعل ، وإنما تكون الآثار من الدواعي لحركة عضلات الفاعل والعلل التشريعية لإرادة الآمر ، وسيأتي ( إن شاء اللّه تعالى ) أن الملاكات ومناطات الاحكام كلها تكون من الدواعي والعلل التشريعية ، ولا يصلح شيء منها لان يتعلق به إرادة الفاعل والآمر.
ثم إنه قد يكون المسبب التوليدي عنوانا ثانويا للسبب بحيث يكتسب السبب عنوان المسبب ويحمل عليه بالحمل الشايع الصناعي ، فيكون للسبب عنوانين : عنوان أولي وعنوان ثانوي ، كضرب اليتيم ، فإنه بعنوانه الأولي ضرب وبعنوانه الثاني تأديب.
بل قد يدعى (1) أن المسببات التوليدية كلها تكون من العناوين الثانوية لأسبابها ، كالالقاء في النار والضرب بالسيف وفري الأوداج بالسكين ، فان الاحراق والقتل والذبح تكون من العناوين الثانوية للالقاء والضرب والفري ، ويصح حمل كل منها على السبب المولد له.
وعلى كل حال : المراد من العنوان الواقع في كلام الشيخ قدس سره الذي ذهب إلى عدم جريان البراءة العقلية والشرعية فيه إنما هو السبب التوليدي الذي يكون الفعل الصادر عن الفاعل تمام العلة لتولده أو الجزء الأخير منها ، وحينئذ تصح دعوى عدم جريان البراءة العقلية والشرعية عند الشك في حصوله مطلقا ، سواء تعلق التكليف بالمسبب ابتداء أو تعلق بالسبب ، لان التكليف بالسبب إنما هو من حيث تولد المسبب منه وتعنونه بعنوانه ، لا بما هو هو ، من غير فرق بين الأسباب العادية والعقلية كالالقاء في
ص: 168
النار والضرب بالسيف وبين الأسباب الشرعية كالغسل بالنسبة إلى الطهارة الخبثية والحدثية - على أحد الوجهين في ذلك - لوضوح أن الامر بالالقاء والضرب بالسيف والغسل بالماء إنما هو لأجل حصول الاحراق والقتل والطهارة ، فالمأمور به في الحقيقة إنما هو هذه العناوين ، فلابد من القطع بحصولها والخروج عن عهدتها ، ولا تجري البراءة في المحصلات والأسباب مع الشك في حصول المسببات وتولد العناوين منها (1) لوجوه :
الأول : عدم تعلق الجعل الشرعي بالأسباب والمحصلات.
الثاني : أنه ينتج عكس المقصود.
الثالث : أنه لا يثبت سببية الأقل ومحصليته إلا على القول بالأصل المثبت (2) وقد تقدم تفصيل ذلك في الفصل الأول ، هذا كله في معنى العنوان.
وأما معنى « الغرض » المعطوف على العنوان في كلام الشيخ قدس سره فقد يتوهم : أنه عبارة عن المصالح والملاكات التي تبتني عليها الاحكام على ما ذهب إليه العدلية ، وربما يؤيد كون المراد من « الغرض » ذلك قوله : « إن قلت : إن الأوامر الشرعية كلها من هذا القبيل لابتنائها على مصالح في المأمور به ، الخ ».
ولكن التأمل في كلامه يعطي عدم إرادة ذلك منه ، فإنه لو كان المراد من « الغرض » ملاكات الاحكام فيلزم سد جريان البراءة في جميع موارد تردد
ص: 169
المكلف به بين الأقل والأكثر ، لأنه ما من مورد إلا ويشك في قيام الملاك بالأقل فيشك في حصول الملاك عند ترك الأكثر ، وهذا مع أنه خلاف ما صرح به في مبحث التعبدي والتوصلي يقتضي تصديق الاشكال المذكور في قوله : « إن قلت : إن الأوامر الشرعية كلها من هذا القبيل ، الخ ». وما أجاب به عن الاشكال من الوجهين لا محصل لها ، كما سيأتي بيانه.
هذا ، مضافا إلى أن المصالح والملاكات التي تبتني عليها الاحكام لا تدخل تحت دائرة الطلب ، لعدم القدرة على تحصيلها - على ما سيأتي توضيحه - فلا يمكن أن يكون المراد من « الغرض » المعطوف على العنوان ملاكات الاحكام ، كما لا يمكن أن يكون المراد منه نفس العنوان المعطوف عليه ، بتوهم : أن عطف الغرض عليه يكون من عطف البيان ، فان العبارة تأبى عن ذلك ، كما يظهر بالتأمل فيها ، فلابد من أن يكون المراد من « الغرض » معنى آخر يمكن أن يتعلق الامر به (1) ويكون من القيود والخصوصيات اللاحقة للمأمور به التي يتوقف الامتثال عليها.
ص: 170
وتوضيح ذلك : هو أن « الغرض » قد يطلق ويراد منه مصلحة الحكم وملاكه وهو الشايع في الاستعمال ، وقد يطلق ويراد منه التعبد بالامر وقصد امتثاله ، فان الغرض من الامر قد يكون مجرد حصول المأمور به خارجا ، وقد يكون الغرض منه التعبد به ، ولا إشكال في انقسام الامر إلى هذين القسمين ووقوعهما خارجا ، كما لا إشكال في أنه لا يمكن أخذ قصد الامتثال والتعبد في متعلق الامر ، لأنه من القيود اللاحقة للامر بعد وجوده.
وإنما الاشكال في أن عروض وصف التعبدية للامر هل هو بالجعل الثانوي المصطلح عليه بمتمم الجعل؟ أو باقتضاء ذات الامر (1)؟ بأن يكون الامر التعبدي بهوية ذاته يقتضي قصد الامتثال ويمتاز عن الامر التوصلي بنفسه بلا حاجة إلى متمم الجعل ، بل الطلب بذاته يحدث كيفية التعبد في المأمور به ويقتضي إيجابها ، فيكون انقسام الامر إلى التعبدي والتوصلي لا لأمر خارج عنهما ، بل لتباينهما ذاتا ، وعلى هذا يكون قصد الامتثال من العوارض
ص: 171
والكيفيات اللاحقة للمأمور به بنفس الامر بلا لحاظ سابق ولا جعل لاحق.
وهذا الوجه وإن كان خلاف التحقيق عندنا ، لما بينا في محله : من أن الامر التعبدي لا يباين الامر التوصلي بهوية ذاته ، بل وصف التعبدية إنما يلحق المأمور به بالجعل الثانوي المتمم للجعل الأولي ، فإنه للآمر التوصل إلى بيان تمام غرضه بجعلين إذا لم يمكن استيفائه بجعل واحد ، كما إذا كان لقصد الامتثال دخل في غرضه ، فإنه لا يمكن أخذه في متعلق الامر ، لكونه من الانقسامات اللاحقة للمأمور به بعد تعلق الامر به ، فيتوصل المولى إلى بيان تمام غرضه بجعلين : جعل يتكفل الاجزاء والشرائط التي يمكن أخذها في المتعلق ، وجعل يتكفل اعتبار قصد الامتثال والتعبد ، فيكون الجعل الثانوي متمما للجعل الأولي ويقوم بهما ملاك واحد ، كما أوضحناه في محله.
ومن هنا كان الأقوى عندنا جريان البراءة عن وجوب قصد الامتثال عند الشك في التعبدية والتوصلية ، ولا موقع للرجوع إلى قاعدة الاشتغال ، لأنه يكون من صغريات تردد المكلف به بين الأقل والأكثر ، وقد تقدم أن الأقوى جريان البراءة الشرعية فيه.
ولكن لو بنينا على أن لحوق وصف التعبدية للمأمور به من مقتضيات ذات الامر بلا حاجة إلى متمم الجعل لكان للمنع عن جريان أصالة البراءة عند الشك في اعتبار قصد الامتثال وجه ، فإنه بعد البناء على تباين الامر التعبدي والتوصلي يكون الدوران بين التعبدية والتوصلية من أقسام الدوران بين المتباينين ، فلا يجوز إهمال قصد الامتثال ، لاحتمال أن يكون الغرض من الامر التعبد به وقصد امتثاله ، ولا دافع لهذا الاحتمال عقلا وشرعا ، لأنه ليس اعتباره بالجعل الثانوي حتى يدفع احتمال اعتباره بأصالة عدم تعلق الجعل به ، بل المفروض : أن ذات الامر يقتضي إيجاب التعبد وقصد الامتثال ، فلا أصل ينفي احتمال كون الغرض من الامر التعبد به ، فلابد من قصد الامتثال عند الشك في اعتباره لكي يعلم بتحقق
ص: 172
الغرض من الامر.
وهذا هو المراد من « الغرض » المعطوف على العنوان في كلام الشيخ ، لا الغرض بمعنى الملاك ، فإنه لا ينبغي أن يتوهم أحد وجوب تحصيل القطع بتحقق الملاك الذي لا يكاد يمكن الامر بتحصيله ، فالغرض الذي يمكن أن يقال بوجوب تحصيل العلم بتحققه هو الغرض بمعنى قصد التعبد والامتثال ، فإنه بهذا المعنى يكون من كيفيات المأمور وخصوصياته اللاحقة له بنفس تعلق الامر به.
هذا ، ولكن الانصاف : أنه يمكن القول بالبراءة حتى على القول بتباين الامر التعبدي والتوصلي (1) فان تباين الأمرين لا دخل له بتباين المتعلقين ، ولا إشكال في أن قصد الامتثال يكون قيدا زائدا في المأمور به ، والامر التوصلي فاقد لهذا القيد ، فبالأخرة يرجع الشك في اعتبار قصد الامتثال إلى الشك بين الأقل والأكثر ، سواء قلنا بالجعل الثانوي أو لم نقل ، فتأمل جيدا.
وعلى كل حال : فقد ظهر مما ذكرنا في معنى « الغرض » المعطوف على العنوان أنه لا موقع للاشكال على ذلك (2) بقوله : « إن قلت إن الأوامر الشرعية
ص: 173
كلها من هذا القبيل الخ ».
فإنه إن كان الاشكال راجعا إلى العنوان ، بدعوى : أن المصالح وملاكات الاحكام كلها تكون من العناوين والمسببات التوليدية لمتعلقات التكاليف ، فيلزم سد باب البراءة في جميع موارد الشك في حصول الملاك.
ففيه : أن الملاكات لا تكون من المسببات التوليدية للأفعال (1) لما عرفت : من أن المسبب التوليدي هو الذي يكون الفعل الصادر عن الفاعل تمام العلة لتولده أو الجزء الأخير منها حتى يمكن أن تتعلق بايجاده إرادة الفاعل لكلي يمكن أن تتعلق به إرادة الآمر ، وباب المصالح والملاكات ليس بهذه المثابة ، فإنه لا تتعلق بها الإرادة الفاعلية ، لعدم القدرة عليها (2) فلا تدخل تحت دائرة الطلب ، ولا يكون الفعل الصادر عن الفاعل إلا مقدمة إعدادية لحصولها ، فهي لا تصلح إلا لان تكون من الدواعي لحركة عضلات الفاعل والعلل التشريعية لأمر الآمر ، فالمصالح والملاكات المترتبة على متعلقات التكاليف الشرعية نظير الخواص والآثار المترتبة على الأمور التكوينية - كصيرورة الزرع سنبلا والبسر رطبا - لا يمكن أن تكون عنوانا للفعل ومسببا توليديا له.
والذي يدلك على ذلك ، هو عدم وقوع الامر بتحصيل الملاك وإيجاد المصلحة في مورد (3) ولو كان الملاك من العناوين والمسببات التوليدية لتعلق
ص: 174
الطلب به في غير مقام ، لان المأمور به في باب الأسباب والمسببات التوليدية إنما هو المسبب ، وتعلق الامر بالسبب أحيانا إنما يكون بلحاظ تولد المسبب منه وكونه آلة لايجاده ، ولا يصح إطلاق الامر بالمعنون والسبب مع إرادة العنوان والمسبب إلا إذا كان تعنون السبب بالعنوان وتولد المسبب منه من الأمور العرفية المرتكزة في الأذهان ، بحيث يكون الامر بالسبب أمرا بالمسبب عرفا ، على وجه يعلم أن تعلق الطلب بالسبب لا بما هو فعل صادر عن الفاعل بل بما أنه يتولد منه المسبب ويتعنون بعنوانه ، كما يستفاد من الامر بالالقاء في النار والضرب بالسيف كون الامر بهما لأجل تولد الاحراق والقتل منهما ، فلو لم يكن السبب والمسبب بهذه المثابة لم يصح إطلاق الامر بالسبب مع إرادة المسبب ، بل لابد من تقييد الامر بالسبب بما يوجب تولد المسبب منه ، وإلا كان ذلك إغراء بالجهل ونقضا للغرض.
ومن المعلوم بالضرورة : أن تولد الملاكات من متعلقات التكاليف وتعنونها بالمصالح ليس بمثابة يستفاد من الامر بالفعل أنه أمر بالملاك ، إذ ليس تعنون الافعال بالملاكات من المرتكزات العرفية لكي يصح إطلاق الامر بالفعل مع إرادة الملاك ، فاطلاق الامر بالفعل وعدم تقييده بما يوجب تولد الملاك منه يكون كاشفا قطعيا عن أن الملاكات ليست من المسببات التوليدية لمتعلقات
ص: 175
التكاليف.
وإن أبيت عن ذلك ، فلا أقل من أن يشك في كونها من المسببات التوليدية ، فإنه لا سبيل إلى دعوى القطع بذلك ، فيشك في وجوب الاتيان بالفعل على وجه يكون محصلا للملاك ، لاحتمال أن يكون متعلق التكليف نفس الفعل الصادر عن الفاعل من حيث هو لا من حيث تعنونه بالملاك ، فيؤول الامر إلى تردد المكلف به بين الأقل والأكثر ، للعلم بتعلق الطلب بالفعل الصادر عن الفاعل والشك في وجوب القيد : من إتيان الفعل على وجه يكون محصلا للملاك ، والأصل البراءة عن وجوبه ، فتأمل (1).
هذا كله إذا كان الاشكال راجعا إلى العنوان.
وإن كان راجعا إلى الغرض - كما هو ظاهر العبارة - بدعوى : أن الغرض من تعلق الطلب بالافعال إنما هو حصول الملاكات والمصالح التي تبتني عليها الاحكام ، فيجب الاتيان بكل ما يحتمل دخله في حصول الملاك ، ولازم ذلك عدم جريان البراءة في جميع موارد الشك بين الأقل والأكثر ، لاحتمال أن تكون للخصوصية الزائدة دخل في حصول الملاك. ففيه : ما عرفت : من أن المراد من « الغرض » المعطوف على العنوان ليس هو الملاك ليرد عليه ذلك (2) بل المراد من « الغرض » هو التعبد بالمأمور به
ص: 176
وقصد امتثال الامر - بالبيان المتقدم -.
وبذلك يظهر ضعف ما أفاده الشيخ قدس سره الوجهين في دفع الاشكال.
أما الوجه الأول : ففيه : أنه ليس المقام مقام المجادلة لكي يتكلم على مذاق الأشاعرة المنكرين للمصالح والمفاسد ، بل لابد من دفع الاشكال على ما يقتضيه مسلك العدلية : من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد الكامنة في متعلقات الأوامر.
وأما الوجه الثاني : وهو قوله : « وثانيا أن نفس الفعل من حيث هو ليس لطفا الخ ».
ففيه : أولا : أن قصد الوجه ليس له دخل في تحقق الامتثال قطعا ، وإن ذهب إلى اعتباره بعض المتكلمين.
وثانيا : أن الكلام ليس في خصوص العبادات ، فان الأوامر التوصلية أيضا تشتمل على المصالح ، وقصد الوجه على تقدير اعتباره إنما يختص بالعبادات.
وثالثا : أن توقف حصول المصلحة على إيقاع الفعل على وجهه ، إما أن يكون مطلقا غير مقيد بصورة التمكن ، وإما أن يكون مقيدا بذلك. فعلى الأول : يلزم سقوط التكليف رأسا في جميع موارد تردد المكلف به بين الأقل والأكثر ، لعدم التمكن من قصد الوجه ، فلو بقي الواجب على وجوبه يلزم أن يكون بلا مصلحة ، ومع سقوط التكليف لا عقاب حتى يجب التخلص عنه والامن منه.
وعلى الثاني : يلزم سقوط اعتبار إيقاع الفعل على وجهه عند الشك في المكلف به وتردده بين الأقل والأكثر ، لعدم التمكن منه ، ولكن سقوط قصد الوجه لا ينافي وجوب الاحتياط والآتيان بكل ما له دخل في حصول الملاك
ص: 177
فالانصاف : أن ما أجاب به الشيخ قدس سره عن الاشكال لا يحسم مادته ، بل لا محصل له. فالحق في الجواب عن الاشكال هو ما تقدم : من أن الملاكات غير لازمة التحصيل ، لأنه ليست من العناوين والمسببات التوليدية.
فان قلت : هب إن الملاكات ليست من المسببات التوليدية لمتعلقات التكاليف ، إلا أنه يجب على المكلف سد باب احتمال عدم حصول الملاك من ناحيته ، بأن يأتي بالمقدمات الاعدادية على وجه يمكن انطباق الملاك عليها ، بحيث لو انضم إليها الأمور الخارجة عن قدرة المكلف واختياره لحصل الملاك ، وذلك لا يكون إلا بفعل كل ما يحتمل دخله في الاعداد ، بحيث لو لم يحصل الملاك لكان ذلك لأجل عدم انضمام المقدمات الاخر الخارجة عن القدرة والاختيار ، نظير الزارع الذي يفعل كل ما يحتمل أن يكون له دخل في حصول السنبل من المقدمات الاعدادية الراجعة إليه ، بحيث لو لم يحصل السنبل لكن ذلك لأجل عدم إشراق الشمس أو نزول المطر وغير ذلك من الأسباب السماوية والأرضية.
قلت : وظيفة المكلف هو الاتيان بما تعلق الطلب به وما هو الواصل إليه من قبل المولى ، وأما تطبيق العمل على الوجه المحصل للملاك فليس هو من وظيفة المكلف (1) بل ذلك من وظيفة المولى ، حيث إنه يجب على المولى الامر بما
ص: 178
ينطبق على الملاك ، لقبح تفويته على العبد.
وبالجملة : الواجب على المكلف عقلا هو امتثال أمر المولى والآتيان بكل ما وصل إليه من قبله ، ولا يجب عليه فعل كل ما يحتمل أن يكون له دخل في حصول الملاك من دون أن يصل من المولى بيان ، بل لا يجب على المكلف عقلا الاتيان بما يعلم دخله في الملاك من دون أن يدخل تحت دائرة الطلب ويتعلق الامر المولوي به ، ولذا أتعب الاعلام أنفسهم في إثبات الملازمة بين حكم العقل والشرع.
فلو كانت المصالح والملاكات لازمة التحصيل ولو مع عدم الامر بالفعل القائم به الملاك لم يكن وجه لاتعاب النفس في إثبات الملازمة ، بل كان الحكم العقلي بثبوت الملاك في فعل يكفي في وجوبه ولو لم تثبت الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، فتأمل.
فإذا كان العلم بقيام الملاك في فعل لا يؤثر في وجوب ذلك الفعل مع عدم الامر به شرعا ، فالشك في قيام الملاك بفعل أولى بأن لا يؤثر في وجوب الفعل.
نعم : ربما يكون الملاك المقتضي لتشريع الحكم لازم الاستيفاء في عالم الثبوت ، بحيث لا يرضى الشارع أن يفوت من المكلف على أي وجه اتفق.
ولكن إذا كان الملاك ثبوتا بهذه المثابة فيجب على المولى جعل المتمم وإيجاب الاحتياط في موارد الشك كإيجابه في باب الدماء والفروج والأموال ، لأنه لا طريق إلى إحراز كون الملاك بهذه المثابة إلا بإيجاب الاحتياط ، فان نفس الحكم الأولي قاصر عن الشمول لحال الشك فيه أو في موضوعه ، فلابد من جعل المتمم لئلا يقع المكلف في مخالفة الواقع ، ولابد أيضا من أن يكون إيجاب الاحتياط واصلا إلى المكلف ، إذ هو لا يزيد عن أصل الحكم الأولي الذي وجب الاحتياط لمراعاته ، فكما أنه تجري البراءة العقلية والشرعية عند الشك في الحكم الأولي في غير دوران الامر بين الأقل والأكثر - حيث تقدم أنه لا مساس
ص: 179
للبراءة العقلية فيه - فكذلك تجري البراءة العقلية والشرعية عند الشك في جعل المتمم وإيجاب الاحتياط.
وتوهم : عدم جريان البراءة العقلية عند الشك في وجوب الاحتياط لان مخالفته لا يستتبع العقاب (1) فلا يكون موردا لقبح العقاب بلا بيان فاسد ، فان إيجاب الاحتياط إنما يكون لأجل مراعاة الواقع وعدم وقوع المكلف في مفسدة مخالفة الحكم الواقعي ، فلو صادف كون المشكوك فيه هو متعلق التكليف الواقعي ، فوجوب الاحتياط يتحد مع الحكم الواقعي ويصح العقاب على ترك الاحتياط ، لاتحاده مع الواقع ، وبهذا الاعتبار يمكن جريان البراءة العقلية عند الشك في وجوب الاحتياط. وقد تقدم تفصيل ذلك في مبحث الظن عند الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.
وعلى كل حال : فقد تحصل من جميع ما ذكرنا : أنه ينبغي عزل باب المصالح وملاكات الاحكام عن البحث في جريان البراءة والاشتغال ، ولا يمنع الشك في حصولها عن جريان البراءة العقلية والشرعية في شيء من المقامات.
فما أفاده المحقق الخراساني قدس سره في غير موضع : من أن الملاك يكون مسببا توليديا لمتعلق التكليف وعليه بنى عدم جريان البراءة العقلية في الأقل والأكثر الارتباطي ، ضعيف غايته.
وأضعف من ذلك ما ذكره في مبحث التعبدي والتوصلي : من التفصيل بين القيود التي يمكن أخذها في متعلق التكليف - كالاجزاء والشرائط - فتجري فيها البراءة الشرعية دون العقلية ، وبين القيود التي لا يمكن أخذها في المتعلق - كقصد الامتثال والقربة - فلا تجري فيها البراءة العقلية أيضا.
ص: 180
فإنه يرد عليه : مضافا إلى ما تقدم - من عدم كون الملاك سببا توليديا لمتعلق التكليف فلا يلزم العلم بحصوله - أنه ينبغي على هذا عدم جريان البراءة الشرعية أيضا في الاجزاء والشرائط التي يمكن أخذها في المتعلق (1) فان الجزء والشرط وإن كان مما تناله يد الوضع والرفع التشريعي ، إلا أن رفع الجزء المشكوك فيه لا يثبت كون الأقل الفاقد له قائما به الملاك ومحصلا للغرض ، إلا على القول باعتبار الأصل المثبت. وقد أطلنا الكلام في هذا المقام ، إلا أنه لا بأس به ، لان شبهة لزوم إحراز تحقق الملاك والمنع عن جريان البراءة في موارد الشك في حصول تأتي في كثير من المواضع ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا.
ربما يتمسك لاثبات وجوب الأكثر باستصحاب الاشتغال وبقاء التكليف ، وفي مقابله التمسك لاثبات وجوب الأقل فقط بإطالة عدم وجوب الأكثر.
والتحقيق : عدم جريان الاستصحاب لاثبات التكليف في كل من طرف الأقل والأكثر.
أما عدم جريان استصحاب الاشتغال : فقد تقدم في باب المتباينين من
ص: 181
أنه لا يجري في شيء من موارد العلم الاجمالي.
وأما عدم جريان استصحاب عدم وجوب الأكثر : فيحتاج إلى بسط من الكلام ، إذ لعله ينفع في غير المقام.
فنقول : المستصحب تارة : يكون هو عدم وجوب الجزء أو الشرط المشكوك فيه ، وأخرى : يكون هو عدم جوب الأكثر المشتمل على المشكوك فيه ، وعلى كلا التقديرين : المراد من العدم إما أن يكون هو العدم الأزلي السابق على تشريع الاحكام ، وإما أن يكون هو العدم السابق على حضور وقت العمل في الموقتات كقبل الزوال والمغرب والفجر بالنسبة إلى الصلوات اليومية ، وإما أن يكون هو العدم السابق على البلوغ ، وفي جميع هذه التقادير لا يجري استصحاب العدم. ولكن ينبغي إفراد كل من هذه الأقسام بالبحث ، إذ منها : ما لايكون له متيقن سابق يمكن الحكم ببقائه ، ومنها : ما لايكون لبقائه أثر شرعي ، ومنها : ما يجتمع فيه الأمران.
وتوضيح ذلك : هو أنه إن كان المستصحب عدم وجوب الجزء أو الشرط المشكوك فيه وأريد من العدم العدم الأزلي السابق على تشريع الاحكام ، بتقريب أن يقال : إن لحاظ جزئية السورة وتعلق الجعل بها أمر حادث مسبوق بالعدم ، ومقتضى الأصل هو عدم تعلق الجعل واللحاظ بها.
فيرد عليه : أنه إن أريد من العدم العدم النعتي بمفاد ليس الناقصة ، وهو عدم تعلق الجعل واللحاظ بالمشكوك فيه في ظرف تشريع المركب ولحاظ أجزائه (1) فهذا العدم لم يكن متيقنا في زمان لكي يستصحب ، فإنه في ظرف تعلق الجعل والتشريع واللحاظ بأجزاء المركب إما أن يكون قد شملته عناية الجعل وتعلق اللحاظ به أولا : وليس تعلق الجعل به متأخرا رتبة أو زمانا عن
ص: 182
تعلق الجعل بالمركب ليحكم ببقائه وعدم انتقاضه.
وإن أريد من العدم العدم المحمولي بمفاد ليس التامة ، وهو العدم السابق على لحاظ أجزاء المركب وتعلق الجعل به ، فهو وإن كان متيقنا قبل ذلك - لان أصل الجعل واللحاظ أمر حادث مسبوق بالعدم - إلا أن بقاء ذلك العدم إلى ظرف تعلق الجعل بالمركب غير مفيد (1) إلا إذا أريد إثبات تعلق الجعل واللحاظ بخصوص أجزاء الأقل ، ولا يمكن إثبات ذلك إلا على القول بالأصل المثبت.
هذا كله ، مضافا إلى أن مجرد عدم تعلق اللحاظ والجعل بالجزء أو الشرط المشكوك فيه لا أثر له ، لان الآثار الشرعية بل العقلية - من الإطاعة والعصيان واستحقاق الثواب والعقاب وغير ذلك من الآثار المترتبة على الأحكام الشرعية - إنما تترتب وجودا وعدما على المجعول ، لا على نفس الجعل ، فان الحكم الشرعي المتعلق بفعل المكلف إنما هو المجعول ، ولا أثر لنفس الجعل بما هو قول إلا باعتبار أنه يستتبع المجعول ، بحيث لو فرض محالا انفكاك الجعل عن المجعول وكان هناك جعل بلا أن يستتبع وجود المجعول لم يترتب على ذلك الجعل أثر عقلي أو شرعي ، وبالعكس لو فرض محالا وجود المجعول بلا أن يسبقه
ص: 183
الجعل لترتب عليه تمام الآثار الشرعية والعقلية ، فأصالة عدم تعلق الجعل بالمشكوك فيه لا أثر لها إلا إذا أريد إثبات عدم وجود المجعول ، وذلك مبني على حجية الأصل المثبت أو دعوى خفاء الواسطة ، وسيأتي في مبحث الاستصحاب فساد ذلك.
وإن كان المستصحب هو عدم وجوب الأكثر المشتمل على الجزء المشكوك فيه ، بتقريب أن يقال : إن تعلق الجعل والتشريع واللحاظ بالصلاة مع السورة أمر حادث والأصل عدمه.
فيرد عليه - مضافا إلى ما تقدم أخيرا في الوجه الأول من أنه لا أثر لمجرد عدم الجعل إلا باعتبار ترتب عدم المجعول عليه - أن أصالة عدم تعلق الجعل بالأكثر لا تجري ، لمعارضتها بأصالة عدم تعلق الجعل بالأقل الفاقد للجزء المشكوك ، فان لحاظ الأقل لا بشرط يباين لحاظه بشرط شيء ، وكل من اللحاظين مسبوق بالعدم. وهذا لا ينافي ما تقدم منا في رد ما حكي عن المحقق صاحب الحاشية : من أن الماهية لا بشرط لا تباين الماهية بشرط شيء ، فان ذلك كان باعتبار نفس الماهية الملحوظة ، وأما باعتبار اللحاظ فهما متباينتان ، وكل منهما أمر حادث تجري فيه أصالة العدم ، فتأمل (1).
هذا كله إذا كان المراد من العدم العدم الأزلي السابق على تشريع الاحكام.
وإن أريد منه العدم السابق على حضور وقت العمل في الموقتات ، فالكلام
ص: 184
فيه عين الكلام في العدم الأزلي ، فإنه إن كان المستصحب عدم وجوب الجزء المشكوك فيه ، فعدم وجوبه النعتي لم يتعلق اليقين به في وقت ، فانه حين تحقق المجعول وثبوت وجوب الصلاة عند الزول ، اما ان يكون قد انبسط الوجوب علي الجزء الزائد متاخرا عن انبساطه علي الاقل ، لكي يجري استصحاب عدم انبساطه عليه.
وعدم وجوبه المحمولي وان كان قد تعلق اليقين به قبل الزوال لعدم وجوب الجزء قبل الزوال ولو لعدم ثبوت وجوب سائر الأجزاء إلا أن بقاء العدم المحمولي إلى حين الزوال لا ينفع إلا إذا أريد من ذلك انبساط الوجوب على خصوص أجزاء الأقل ، وذلك يكون من الأصل المثبت ، هذا إذا كان المستصحب عدم وجوب الجزء.
وإن كان المستصحب عدم وجوب الأكثر ، فأصالة عدم وجوبه الثابت قبل الزوال معارضة بأصالة عدم وجوب الأقل ، فان الثابت قبل الزوال هو عدم الوجوب رأسا ، لا وجوب الأقل ولا وجوب الأكثر ، وهذا العدم انتقض قطعا عند الزوال ولم يعلم أن انتقاضه كان في طرف الأقل أو الأكثر ، وأصالة العدم تجري في الطرفين وتسقط بالمعارضة ، فتأمل.
نعم : استصحاب العدم الثابت قبل الزوال سالم عن الاشكال الأخير المتقدم في الوجه السابق ، فان المستصحب في العدم الأزلي إنما كان هو عدم الجعل الأزلي ، فكان يرد عليه : أن الجعل وعدمه لا يترتب عليه أثر إلا باعتبار ما يستتبعه من المجعول ، وأما في العدم السابق على حضور وقت العمل فالمستصحب إنما هو عدم وجود المجعول.
والسر في ذلك : هو أن ظرف وجود المجعول الشرعي إنما هو ظرف تحقق الموضوع خارجا ، وهو الانسان بجميع ما اعتبر فيه من القيود : من البلوغ والعقل والقدرة ، وغير ذلك من الشرائط والأوصاف المعتبرة في المكلف ، بناء على
ص: 185
ما أوضحناه في محله : من أن القضايا الشرعية إنما تكون على نهج القضايا الحقيقة التي يفرض فيها وجود الموضوعات في ترتب المحمولات عليها ، فقبل وجود الموضوع خارجا لا مجال لجريان استصحاب عدم المجعول ، لأنه ليس رتبة وجوده ، بل الاستصحاب الجاري هو استصحاب عدم الجعل الأزلي ، وأما بعد وجود الموضوع وتحقق شرائط التكليف ، فالاستصحاب إنما يجري بالنسبة إلى نفس المجعول الشرعي وجودا وعدما ، فإنه إذا زال الزوال وشك المكلف في وجوب الصلاة عليه ، فالعدم الذي كان قبل الزوال هو عدم المجعول وهو المستصحب ، ولا معنى لاستصحاب عدم الجعل ، لأنه قبل الزوال ليس رتبة الجعل والانشاء فإنه أزلي رتبته سابقة على خلق العالم.
ومن المعلوم : أن عدم كل شيء إنما يكون في مرتبة وجود الشيء ، فقبل وجود الموضوع لا يجري إلا استصحاب عدم الجعل ، وبعد وجود الموضوع لا يجري إلا استصحاب عدم المجعول.
وإذا كان المستصحب هو العدم في حال الصغر السابق على البلوغ ، وهو الذي يعبر عنه باستصحاب البراءة الأصلية ، وذلك إنما يكون في التكاليف التي لم يعتبر في موضوعاتها قيد زائد على الشرائط العامة ، كما في أغلب المحرمات وبعض الواجبات.
فيرد عليه (1) : أن الثابت في حق الصغير ليس إلا عدم وضع قلم التكليف
ص: 186
عليه بمعنى كونه مرخى العنان ولا حرج عليه في كل من الفعل والترك ، من دون أن يكون الشارع أطلق عنانه ورفع قلم التكليف والحرج عنه ، فان اللاحرجية الشرعية انما تكون في الموضوع القابل لوضع قلم التكليف ، وذلك انما يكون بعد البلوغ ، ولذا كان عدم التكليف قبل حضور وقت العمل في الوجه المتقدم يستند إلى الشارع ، بحيث لو بنينا على حجية الأصل المثبت لأثبتنا الإباحة الشرعية من استصحاب عدم التكليف قبل الوقت ، وهذا بخلاف عدم التكليف الثابت قبل البلوغ ، فإنه لا يستند إلى الشارع ، لان الصغير ليس في حال يمكن وضع قلم التكليف عليه ، بل هو كالبهائم ليس في حقه جعل شرعي لا وجودا ولا عدما ، لقصوره عن ذلك بنفسه.
فالعدم الثابت قبل البلوغ مما لا يمكن استصحابه ، للعلم بانتقاضه حين البلوغ ، إما بالوجود وإما بعدم آخر مغاير بالنسخ للعدم الثابت قبل البلوغ ولو باعتبار حكم الشارع ببقائه وعدم نقضه بالوجود ، فان اللاحرجية الشرعية مغايرة للاحرجية القهرية التكوينية.
وبالجملة : لا مجال لاستصحاب عدم التكليف الثابت في حال الصغر ، فإنه - مضافا إلى العلم بانتقاضه حين البلوغ - يرد عليه : أن عدم التكليف قبل البلوغ لا يترتب عليه أثر سوى عدم استحقاق الصغير للعقاب في كل من طرف الفعل والترك ، وأثر استحقاق العقاب لم يترتب على ثبوت التكليف واقعا ، بل يتوقف على تنجز التكليف.
فنفس الشك في التكليف يكون تمام الموضوع لعدم استحقاق العقاب ، ولا يحتاج إلى إثبات عدم التكليف بالاستصحاب.
وتوهم : صحة استصحاب الكلي والقدر المشترك بين اللاحرجية القهرية الثابتة في حق الصغير واللاحرجية الشرعية الثابتة في حق البالغ ، فاسد ، فإنه مضافا إلى أنه يكون من القسم الثالث من أقسام الاستصحاب الكلي الذي
ص: 187
لا عبرة به - كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى - أن القدر المشترك ليس بنفسه من المجعولات الشرعية ولا يترتب على بقائه أثر سوى عدم استحقاق العقاب ، وهو محرز بالوجدان بنفس الشك في التكليف ، فاستصحاب البراءة الأصلية الثابتة في حال الصغر لا يجري في جميع المقامات ، ومنها ما نحن فيه : من استصحاب عدم وجوب الأكثر.
فتحصل من جميع ما ذكرنا : فساد التمسك لاثبات وجوب الأقل فقط بأصالة عدم وجوب الأكثر ، فان أصالة العدم لا تجري على جميع التقادير ، سواء أريد من العدم العدم السابق على لحاظ المأمور به ، أو أريد منه العدم السابق على جعل الاحكام وإنشائها ، أو أريد منه العدم السابق على الوقت المضروب شرعا للعمل ، أو أريد منه العدم السابق على البلوغ.
أما الوجه الأول : فلان علم لحاظ الأكثر لا أثر له ، إلا إذا أريد من ذلك عدم مجعولية وجوب الأكثر ، وذلك مثبت بواسطتين : واسطة اللحاظ السابق على الجعل ، وواسطة الجعل السابق على المجعول ، مضافا إلى أنه معارض بأصالة عدم لحاظ الأقل بحده.
وأما الوجه الثاني : فإنه يرد عليه ما يرد على الوجه الأول ، سوى أن مثبتيته تكون بواسطة واحدة.
وأما الوجه الثالث : فإنه يرد عليه إشكال المعارضة ولا يرد عليه شيء آخر.
وأما الوجه الرابع : فلانه وإن لم يرد عليه إشكال المعارضة أيضا ، للعلم بانتقاض اللاحرجية في طرف الأقل فلا يجري فيه الأصل حتى يعارض بالأصل الجاري في طرف الأكثر ، إلا أنه يرد عليه : أن عدم التكليف بالأكثر قبل البلوغ ليس بنفسه من المجعولات الشرعية ولا يترتب عليه أثر شرعي (1) وأثر
ص: 188
عدم استحقاق العقاب على ترك الأكثر محرز بالوجدان بنفس الشك في وجوب الأكثر.
هذا كله إذا كان المستصحب عدم وجوب جملة الأكثر ، وإن كان المستصحب عدم وجوب الجزء الزائد المشكوك فيه فقد عرفت : أن عدمه النعتي لم يتعلق اليقين به في وقت ، وعدمه المحمولي يكون من الأصل المثبت. فظهر : أن نفي وجوب الأكثر لا يمكن إلا بمثل حديث الرفع ونحوه من أدلة البراءة الشرعية ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا.
كما إذا شك في شرطية شيء لمتعلق التكليف كالطهارة في الصلاة ، أو لموضوع التكليف كالايمان في الرقبة (1) أو شك في مانعية شيء لهما ، والكلام
ص: 189
فيه عين الكلام في الاجزاء في جريان البراءة الشرعية وعدم جريان البراءة العقلية ، سواء كان منشأ انتزاع الشرطية أمرا متحدا مع المشروط في الوجود كالايمان في الرقبة ، أو مباينا له في الوجود كالطهارة في الصلاة ، فان المناط في جريان البراءة : هو أن يكون المشكوك فيه مما تناله يد الوضع والرفع الشرعي ولو بوضح منشأ الانتزاع ورفعه ، وأن يكون في رفعه منة وتوسعة على المكلفين ، وهذا المناط يعم الشك في الاجزاء والشروط على نسق واحد ، فالبحث عن الاجزاء يغني عن البحث في الشروط والموانع ولا يحتاج إلى إطالة الكلام فيه ، ونحن إنما أفردنا البحث عن الشروط للتنبيه على أمر ، وهو أن منشأ انتزاع الشرطية
تارة : يكون هو التكليف الغيري المتعلق بأجزاء العبادة وشرائطها ، كقوله : « لا تصل في الحرير وفيما لا يؤكل ». وأخرى : يكون منشأ الانتزاع هو التكليف النفسي ، وهذا إنما يكون في الشرائط التي كان منشأ اعتبارها هو وقوع التزاحم بين التكاليف النفسية ، كشرطية إباحة المكان في الصلاة ، فان منشأ انتزاع الشرطية هو النهي النفسي المتعلق بالغصب بناء على امتناع اجتماع الأمر والنهي وتغليب جانب النهي على ما أوضحناه في محله.
فإن كان منشأ انتزاع الشرطية هو التكليف الغيري ، فحكمه ما تقدم : من جريان البراءة الشرعية عند الشك في الشرطية (1) من غير
ص: 190
فرق في ذلك بين ما إذا لم يكن في البين تكليف نفسي أصلا - كما في لبس مالا يؤكل فإنه لم يتعلق به نهي نفسي مطلقا لا في الصلاة ولا في غير الصلاة لعدم حرمة لبسه في جميع الأحوال - وبين ما إذا كان في البين تكليف نفسي أيضا - كما في لبس الحرير - فإنه قد اجتمع فيه كل من الخطاب الغيري والخطاب النفسي ، لحرمة لبس الحرير على الرجال مطلقا في الصلاة وغيرها ، ولكن منشأ انتزاع شرطية عدم لبس الحرير في الصلاة ليس هو النهي النفسي ، بل هو النهي الغيري ، فكل من الشرطية والحرمة مستقلة في الجعل ، وليس جعل الشرطية بتبع جعل الحرمة ، بل كل منهما مجعول في عرض الآخر ، فالشك في جعل أحدهما لا يكون مسببا عن الشك في جعل الآخر ، وحينئذ يكون كل منهما مجرى لأصالة البراءة عند الشك فيهما ، ولا يغني جريان الأصل في أحدهما عن جريانه في الآخر ، فلو فرض أنه مورد شك في حرمة لبس الحرير وشرطية عدمه في الصلاة ، فأصالة البراءة تجري في كل من الشرطية وحرمة اللبس على حدة ، كما إذا انحصر الشك في أحدهما فقط ، لاستقلال كل منهما بالوضع والرفع الشرعي ، وذلك واضح ، هذا كله إذا كان منشأ انتزاع الشرطية هو التكليف الغيري.
وإن كان منشأ انتزاعها هو التكليف النفسي :
فتارة : يكون منشأ الانتزاع هو التكليف الواصل إلى المكلف ، كما هو أقوى الوجهين في باب الغصب ، فان اشتراط عدمه في الصلاة إنما هو لأجل وقوع
ص: 191
المزاحمة بين حرمة الغصب ووجوب الصلاة وتغليب جانب النهي ، ومن المعلوم : أن تقديم أحد المتزاحمين على الآخر إنما هو في صورة تنجز التكليف بالمتزاحمين ، وإلا لم يقع التزاحم بينهما (1) كما أوضحناه في محله.
وأخرى : يكون منشأ الانتزاع هو التكليف النفسي بوجوده الواقعي وإن لم يتنجز ولم يصل إلى المكلف.
فعلى الوجه الأول : تدور الشرطية مدار تنجز التكليف ووصوله إلى المكلف بالعلم وما يقوم مقامه ، ومع عدم العلم به لا شرطية واقعا ، لعدم تحقق منشأ انتزاعها ، فعند الشك في التكليف النفسي يرتفع موضوع الشرط ويقطع بعدمه وجدانا ، ولا تصل النوبة إلى جريان البراءة عن الشرطية ، لأنه يلزم إحراز ما هو محرز بالوجدان بالتعبد ، كما لا يخفى
وأما على الوجه الثاني : ( وهو ما إذا كان منشأ انتزاع الشرطية نفس التكليف بوجوده الواقعي ) فالشك في التكليف النفسي يلازم الشك في الشرطية ، لأنه يحتمل ثبوت التكليف واقعا ، والمفروض : كون الشرطية تتبع وجوده الواقعي ، وحينئذ لابد من علاج الشك في الشرطية.
فقد يكون الأصل الجاري في طرف التكليف بنفسه رافعا للشك في الشرطية ، وذلك فيما إذا كان الأصل الجاري لنفي التكليف من الأصول التنزيلية المحرزة كالاستصحاب ، فان شأن الأصل المحرز هو رفع التكليف الواقعي ظاهرا ، والمفروض : أن الشرطية مترتبة على وجود التكليف الواقعي ،
ص: 192
فبرفعه ترتفع الشرطية أيضا لا محالة ، ولا يبقى مجال لجريان الأصل في طرف الشرطية ، لان الأصل الجاري في الشك السببي رافع لموضوع الأصل المسببي ، هذا إذا كان الأصل الجاري لنفي التكليف من الأصول المحرزة.
وإن كان من الأصول الغير المحرزة - كأصالة الحل والبراءة - فالأصل الجاري في طرف التكليف لا يغني عن جريان الأصل في طرف الشرطية ، بل لابد من جريان الأصل فيها مستقلا ، كما إذا لم تكن الشرطية منتزعة عن التكليف النفسي ، فان أصالة الحل والبراءة لا تتكفل رفع التكليف الواقعي ليلزمه رفع الشرطية ، بل أقصى ما تقتضيه أصالة الحل والبراءة هو الترخيص في الفعل والترك ، فيبقى الشك في الشرطية على حاله ، وعلاجه منحصر بجريان الأصل فيها.
فظهر مما ذكرنا : أن ما أفاده الشيخ قدس سره قبل تنبيهات الأقل والأكثر بأسطر : من أن الأصل الجاري لنفي التكليف يغني عن جريانه في طرف الشرطية ، على إطلاقه ممنوع ، بل ينبغي التفصيل بين ما إذا كان الأصل الجاري في طرف التكليف من الأصول المحرزة أو من غيرها - بالبيان المتقدم - فتأمل جيدا.
لا فرق في جريان البراءة الشرعية في دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطي في باب الاجزاء والشروط والموانع بين أن يكون منشأ الشك في وجوب الأكثر فقد النص أو إجماله ، فان وجود النص المجمل في المسألة لا يمنع عن الرجوع إلى الأصول العملية واللفظية ، إلا في المخصص المجمل المتصل بالعام ، فان إجماله يسري إلى العام ويوجب عدم انعقاد الظهور له.
وأما فيما عدا ذلك من موارد إجمال النص ، فلا مانع من الرجوع فيها إلى
ص: 193
أصالة العموم أو الاطلاق ، فضلا عن الرجوع إلى أصالة البراءة أو الاشتغال ، فقيام النص المجل على وجوب الأقل والأكثر لا يمنع عن جريان البراءة ، من غير فرق في ذلك بين أن يكون الاجمال في نفس متعلق التكليف - كما لو تردد مفهوم الاكرام الواجب بقوله : « أكرم العلماء » أو المحرم بقوله : « لا تكرم الفساق » بين أن يكون هو خصوص الضيافة أو مع زيادة التحية - أو يكون الاجمال في متعلق المتعلق ، كما لو تردد مفهوم العالم بين من كان له ملكة الفقه فقط أو بزيادة ملكة النحو ، وكما لو تردد مفهوم الفاسق بين من كان مرتكب الصغيرة أو بزيادة ارتكاب الكبيرة ، ففي جميع ذلك يؤخذ بالمتيقن ويرجع في المشكوك إلى أصالة البراءة ، سواء كان المتيقن هو الأقل - كما في متعلقات التكاليف الوجوبية فان المتيقن من تعلق التكليف به في قوله : « أكرم العلماء » هو الضيافة وأما التحية فيشك في تعلق التكليف بها - أو كان المتيقن هو الأكثر ، كما في متعلقات التكاليف التحريمية ، وكما في موضوعات التكاليف مطلقا وجوبية كانت أو تحريمية ، فان المتيقن من تعلق النهي به في قوله : « لا تكرم الفساق » هو الضيافة بضميمة التحية ، وأما الضيافة فقط فيشك في تعلق النهي بها ، وكذا المتيقن من الموضوع في قوله : « أكرم العلماء » هو من كان له ملكة الفقه والنحو ، والمتيقن من الموضوع في قوله : « لا تكرم الفساق » هو من كان مرتكب الكبيرة والصغيرة معا ، وأما من كان له ملكة الفقه فقط ومن كان مرتكب الصغيرة فقط ، فيشك في وجوب إكرامه أو حرمة إكرامه ، لعدم العلم باندراجه في عموم « أكرم العلماء » أو في عموم « لا تكرم الفساق » والأصل البراءة عن وجوب إكرام الأول وحرمة إكرام الثاني.
ففي مثل قوله : « لا تكرم الفساق » يجوز الضيافة مع التحية لمرتكب الصغيرة فقط ، فإنه وإن علم بتحقق الاكرام ، إلا أنه يشك في تعلقه بالفاسق ، لاحتمال أن يكون لارتكاب الكبيرة دخل في صدق الفاسق ، وكذا يجوز الضيافة فقط
ص: 194
لمرتكب الصغيرة والكبيرة ، فإنه وإن علم بضيافة الفاسق ، إلا أنه يشك في تحقق الاكرام المنهي عنه ، لاحتمال أن يكون للتحية دخل في الاكرام.
والسر في ذلك : هو أن متعلقات التكاليف وموضوعاتها إنما هي المسميات والمعنونات الخارجية لا المفاهيم والعناوين (1) فان المفهوم والعنوان غير قابل لتعلق الامر أو النهي به ، بل المأمور به والمنهي عنه في قوله : « أكرم العلماء » و « لا تكرم الفساق » هو واقع الاكرام وحقيقته المتعلق بواقع العالم ، وكذا المأمور به في قوله تعالى : « أَقِيمُوا الصَّلَاةَ » هو حقيقة الصلاة وما هو الصادر عن المكلف خارجا : من القراءة والركوع والسجود وغير ذلك من الاجزاء التي تحمل عليها الصلاة عند اجتماعها ، وليس المأمور به مفهوم الصلاة وعنوانها.
فما ربما يتوهم : من أنه لابد من إحراز انطباق مفهوم الصلاة مثلا على المأتي به خارجا ، فلا يجوز الاقتصار على الأقل المتيقن ، للشك في صدق الصلاة عليه
واضح الفساد ، فان الذي لابد منه هو الاتيان بمتعلق الامر وما هو المطالب به خارجا ، وليس هو إلا الافعال الخارجية (2) والمقدار المتيقن من تعلق الطلب
ص: 195
به هو الأقل ، وأما الأكثر فيشك في تعلق الطلب به ، والأصل البراءة عن وجوبه ، ومجرد الشك في صدق المفهوم على المأتي به لا يقتضي المنع عن جريان البراءة ، لما عرفت : من أن المأمور به ليس هو العنوان المفهوم لكي يلزم إحراز انطباق المفهوم والعنوان على المأتي به ، ولا فرق في ذلك بين أن نقول : بوضع ألفاظ العبادات للصحيح أو للأعم ، فإنه في الرجوع إلى الأصول العملية لا يتفاوت الحال بين الوضع للصحيح (1)أقول : لا قصور فيه لو كان الجامع قابلا لان يشار إليه بتوسط الملاك.(2) أو للأعم.
وإنما تظهر الثمرة بين القولين في الرجوع إلى الأصول اللفظية : من أصالة العموم والاطلاق ، فإنه على القول بالوضع للصحيح يحصل الاجمال في المعني ، لاحتمال أن يكون لما شك في اعتباره دخل في الصحة ، فلم يحرز موضوع العام لكي يرجع إليه ، وأما على القول بالوضع للأعم فيصح التمسك بالعام لنفي ما شك في اعتباره إذا لم يكن له دخل في التسمية عرفا وكان المتكلم في مقام البيان ، على ما أوضحناه في محله.
فتحصل : أن إجمال النص في باب الأقل والأكثر الارتباطي كإجماله في ساير الأبواب لا يمنع عن الرجوع إلى البراءة ، بل لولا إطلاق أدلة التخيير في
ص: 196
باب تعارض الاخبار كان الحكم عند تعارض النصين في وجوب الأكثر هو التساقط والرجوع إلى البراءة ، إلا أن إطلاق أدلة التخيير تعم مورد تعارض النصين في وجوب الأكثر ، فللمجتهد الفتوى على طبق أحدهما إذا قلنا بالتخيير في المسألة الأصولية ، وللمقلد العمل على طبق أحدهما إذا قلنا بالتخيير في المسألة الفقهية ، على ما سيأتي بيانه ( إن شاء اللّه تعالى ) في محله.
نعم : هنا بحث آخر قد تعرض له الشيخ قدس سره في المقام وفي باب التعادل والتراجيح ، وهو أن التخيير في الاخذ بأحد المتعارضين هل يختص بما إذا لم يكن في البين إطلاق أو عموم موافق لأحدهما؟ بحيث كان المرجع بعد التساقط لولا أدلة التخيير هو الأصول العملية ، فلو كان هناك عام موافق فالعمل لابد وأن يكون على طبق العام لا التخيير (1) أو أن التخيير في الاخذ
ص: 197
بأحدهما لا يختص بذلك؟ بل يعم صورة وجود المطلق أو العام الموافق لأحدهما - كما إذا تعارض الخبران في وجوب إكرام زيد العالم مع قيام الدليل على وجوب إكرام مطلق العالم - أو يفصل بين أن يكون التخيير في المسألة الفقهية فالمرجع هو العام الموافق لأحدهما وبين أن يكون التخيير في المسألة الأصولية فالمرجع هو إطلاق أدلة التخيير؟ ولا يرجع إلى العام الموافق إلا إذا قلنا : بأن العام يصلح لان يكون مرجحا لما وافقه من الدليلين المتعارضين فيرجع إلى العام ، لكن لا لكونه مرجعا كما في الوجه الأول ، بل لكونه مرجحا للدليل الموافق له كسائر المرجحات الاخر.
فقد يتوهم : أن إطلاق أدلة التخيير يعم صورة وجود العام أو المطلق الموافق لاحد المتعارضين. ولكن يضعف : بأن الموضوع في أدلة التخيير هو « المكلف المتحير الذي لم يقم عنده دليل اجتهادي يصح التعويل عليه » والعام الموافق لأحدهما صالح لان يعول عليه ، فان قوله : « أكرم العلماء » يعم زيد العالم ولم يثبت تخصيصه بقوله : « لا تكرم زيدا العالم » لأنه معارض بقوله : « أكرم زيدا العالم » والمخصص المبتلى بالمعارض وجوده كعدمه غير قابل لان يمنع عن أصالة العموم ، بل أصالة العموم تبقى سليمة عن المانع ويصح التعويل عليها ، فلا يبقى موضوع لأدلة التخيير.
هذا حاصل ما أفاده الشيخ قدس سره في وجه المنع عن إطلاق أدلة التخيير وعدم شمولها لمورد وجود العام الموافق لاحد المتعارضين.
وقد عدل عنه بعد ذلك بقول : « ولكن الانصاف » واختار (1) التفصيل
ص: 198
بين القول بالتخيير في المسألة الفقهية والقول بالتخيير في المسألة الأصولية.
وحاصل ما أفاده في وجه التفصيل - بتحرير منا - هو أن القول بالتخيير في المسألة الفقهية يرجع إلى سقوط كل من المتعارضين عن الحجية رأسا وفرض المسألة خالية عن الحجة ، فيكون التخيير في تطبيق العمل على أحدهما من جهة عدم قيام الدليل على تعيين كيفية العمل وما هو وظيفة المكلف ، ومع وجود العام الموافق لاحد المتعارضين لا يبقى مجال للتخيير في العمل ، لان المسألة لم تخلو عن الحجة ، لان العام حجة معين لكيفية العمل من دون أن يكون له مزاحم ، لسقوط مزاحمه بالمعارضة ، فلا محيص عن الرجوع إلى العام.
وهذا بخلاف ما إذا قلنا بالتخيير في المسألة الأصولية ، فان التخيير في المسألة الأصولية يرجع إلى التخيير في أخذ أحد المتعارضين حجة وجعله طريقا ووسطا لاثبات الواقع ، كما إذا كان وحده ولم يكن له معارض ، فالمسألة لم تخلو عن الحجة رأسا ، بل لكل من المتعارضين حظ من الحجية ولو في صورة اختياره والاخذ به ، فالمخصص يزاحم العام في الحجية ولو في الجملة (1) ولم يسقط عن الحجية رأسا ، ومعه لا يبقى مجال للرجوع إلى العام ، بل لابد من التخيير في الاخذ بأحد المتعارضين ، لسقوط أصالة العموم عن الحجية ، فتأمل ، ولتفصيل الكلام محل آخر.
ص: 199
وقد تقدم : أن الشيخ قدس سره أرجع الشبهة الموضوعة في باب الأقل والأكثر الارتباطي إلى ما يرجع إلى الشك في المحصل ، كما يظهر من تمثيله للشبهة الموضوعية بالشك في جزئية شيء للطهور الرافع للحدث ، ومن التزامه بأصالة الاشتغال فيها على خلاف ما التزم به في المسائل الثلاث المتقدمة في الشبهة الحكمية ، فإنه قال فيها بأصالة البراءة.
ولكن كان الأنسب بترتيب المباحث إفراد كل من الشك في المحصل والشبهة الموضوعية بالبحث ، لتكون مسائل الشك في باب الأقل والأكثر على طبق مسائل الشك في باب المتباينين ، ويبحث في المسألة الرابعة عن حكم تردد متعلق التكليف بين الأقل والأكثر لأجل الاشتباه في الموضوع الخارجي ، وكأنه قدس سره غفل عن ذلك أو تخيل عدم إمكان وقوع الشك في نفس متعلق التكليف بين الأقل والأكثر لأجل الشبهة الموضوعية.
والتحقيق : أنه يمكن فرض الشبهة الموضوعية في باب الأقل والأكثر الارتباطي ، وذلك إنما يكون في التكاليف التي لها تعلق بالموضوعات الخارجية.
وتوضيح ذلك : هو أن التكليف بما يكون له تعلق بالموضوع الخارجي - كالتكليف بإكرام العالم وإهانة الفاسق - يختلف متعلقه سعة وضيقا على حسب ما يفرض من أفراد الموضوع خارجا ، فان دائرة الاكرام تتسع بمقدار ما للعلماء من الافراد خارجا ، لان زيادة أفراد العلماء في الخارج توجب زيادة في
ص: 200
الاكرام الواجب ، فكلما كثرت أفراد العلماء خارجا اتسعت دائرة الاكرام.
ومن المعلوم : أن الشك في عالمية بعض الافراد يستتبع الشك في وجوب إكرامه ، فلو علم بمقدار من أفراد العلماء خارجا وشك في عالمية بعض ، فالاكرام الواجب يتردد بين الأقل والأكثر ، لأنه يعلم بوجوب مقدار من الاكرام على حسب مقدار ما علم من أفراد العلماء ويشك في وجوب الاكرام الزائد ، للشك في موضوعه.
وهذا من غير فرق بين لحاظ العلماء في قوله : « أكرم العلماء » مجموعيا أو استغراقيا ، فإنه على كلا التقديرين يتردد الاكرام الواجب بين الأقل والأكثر عند العلم بمقدار من أفراد العلماء والشك في عالمية بعض (1).
ص: 201
غايته أنه إن لوحظ العلماء على نحو العام الاستغراقي يرجع الشك في ذلك إلى الشك بين الأقل والأكثر الغير الارتباطي ، لان وجوب إكرام ما شك في كونه من أفراد العلماء واقعا لا ربط له بوجوب إكرام ما علم من أفراد العلماء خارجا ، لانحلال التكليف إلى تكاليف متعددة حسب تعدد أفراد العلماء ، ويكون لكل تكليف إطاعة وعصيان يخصه ، كما هو الشأن في كل عام استغراقي ، فلا دخل لاكرام أحد الافراد بإكرام الفرد الآخر.
وإن لوحظ على نحو العام المجموعي يرجع الشك في عالمية بعض إلى الشك بين الأقل والأكثر الارتباطي ، فإنه لم يتعلق التكليف الاستقلالي بإكرام ما يشك في كونه من أفراد العلماء على تقدير أن يكون من أفراد العلماء واقعا ، لأنه ليس هناك إلا تكليف واحد تعلق بإكرام مجموع العلماء من حيث المجموع ، فيكون إكرام كل فرد من العلماء بمنزلة الجزء لاكرام ساير العلماء - كجزئية السورة للصلاة - فان الاخلال بإكرام أحد الافراد يوجب الاخلال بإكرام الجميع ، ويتحقق عصيان التكليف بذلك ، لان معنى العام المجموعي هو لحاظ الافراد المتباينة مرتبطة بعضها ببعض يقوم بها ملاك واحد ، فيكون كل فرد من أفراد العلماء بمنزلة الجزء لساير الافراد يتوقف امتثال التكليف على إكرام الجميع ، فالشك في وجوب إكرام بعض الافراد يكون كالشك في وجوب السورة يرجع إلى الشك بين الأقل والأكثر الارتباطي ، غايته أن التكليف
ص: 202
بالسورة ليس له تعلق بالموضوع الخارجي ، فلا يمكن أن تتحقق الشبهة الموضوعية فيها ، بل لابد وأن تكون حكمية ، بخلاف الشك في وجوب إكرام من يشك في كونه من أفراد العلماء ، فان الشبهة فيه موضوعية.
فظهر : أن تردد نفس متعلق التكليف بين الأقل والأكثر في الشبهة الموضوعية أمر بمكان من الامكان ، وأمثلته في الفقه كثيرة :
منها : ما إذا تردد لباس المصلي بين كونه من مأكول اللحم أو غيره ، فان مانعية غير المأكول تختلف سعة وضيقا على حسب ما لغير المأكول من الافراد خارجا ويكون كل فرد منه مانعا برأسه ، فان الأصل في باب النواهي النفسية والغيرية هي الانحلالية ، فكما أن النواهي النفسية كقوله : « لا تشرب الخمر » ينحل إلى النواهي المتعددة بعدد ما للخمر من الافراد خارجا ، كذلك النواهي الغيرية كقوله : « لا تصل فيما لا يؤكل » ينحل إلى نواهي متعددة بعدد ما لغير المأكول من الافراد خارجا ، ويكون عدم كل فرد قيدا للصلاة فتتكثر القيود العدمية بمقدار ما للغير المأكول من الافراد ، ويكون قوله : « لا تصل فيما لا يؤكل » بمنزلة قوله : « لا تصل في هذا الفرد ولا تصل في ذلك الفرد » وهكذا.
فلو شك في اتخاذ اللباس من غير المأكول يرجع الشك إلى الشك في مانعية ذلك اللباس وأخذ عدمه قيدا في الصلاة ، فيؤول الامر إلى الشك بين الأقل والأكثر في الشبهة الموضوعية ، للعلم بمانعية ما علم اتخاذه من غير المأكول وتقيد الصلاة بعدم وقوعها فيه والشك في مانعية ما يشك في اتخاذه من غير المأكول وتقيد الصلاة بعدم وقوعها فيه.
والكلام فيه عين الكلام في الاجزاء والشرائط ، من حيث جريان البراءة الشرعية في القيدية الزائدة المشكوكة وعدم جريان البراءة العقلية فيها ، إذ لا فرق بين الاجزاء والشرائط والموانع في مناط جريان البراءة.
نعم : في الاجزاء لا يمكن أن تتحقق الشبهة الموضوعية ، لان التكليف بها
ص: 203
ليس له تعلق بالموضوع الخارجي ، وفي الشرائط وإن كان يمكن تحقق الشبهة الموضوعية فيها ، إلا أنه لا يرجع الشك فيها إلى الشك بين الأقل والأكثر ، لان الشرطية لا تنحل إلى شروط متعددة بمقدار ما للموضوع من الافراد خارجا ، فان التكليف في باب الشروط إنما يتعلق بالوجود ، ولا يمكن التكليف بايجاد المتعلق في كل ما يفرض من أفراد الموضوع خارجا ، فلو فرض أن كون اللباس من مأكول اللحم شرط في الصلاة لا أن غير المأكول مانع ، فلا يمكن التكليف بايجاد الصلاة في كل فرد من أفراد اللباس المتخذ من مأكول اللحم ، بل ليس هناك إلا تكليف واحد تعلق بإيجاد الصلاة في فرد ما من اللباس المتخذ من مأكول اللحم ، ولابد من إحراز وقوع الصلاة في ذلك - كما هو الشأن في كل شرط حيث إنه يلزم إحرازه - فلا تجوز الصلاة فيما شك في كونه من مأكول اللحم بناء على شرطية اللباس المتخذ من مأكول اللحم ، ولا تجري في ذلك البراءة ، لأنه ليس هناك إلا تكليف واحد يجب الخروج عن عهدته ، فالشبهة الموضوعية في باب الشروط لا ترجع إلى الأقل والأكثر.
وهذا بخلاف الشبهة الموضوعية في باب الموانع فإنها ترجع إلى الأقل والأكثر ، لان التكليف فيها إنما يتعلق بالعدم ، ويمكن أن يكون عدم كل فرد من أفراد اللباس المتخذ من غير المأكول قيدا في الصلاة وأخذ وجوده مانعا عنها ، فتجوز الصلاة في ما شك في أخذه من غير المأكول.
وقد أوضحنا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في رسالة مفردة ، ولهذا طوينا البحث في هذا المقام اعتمادا عليها ، ومن أراد تفصيل ذلك فليرجع إليها ، فإنها قد تضمنت من التحقيقات مالا تصل إليها ذوي الافهام السامية ، فشكر اللّه مساعي شيخنا الأستاذ - مد ظله - فلقد أودع في أذهاننا من نفائس الآراء ما تحير في دركه الأفكار! وتقف دونه الأنظار.
* * *
ص: 204
والمراد من المركب التحليلي : هو ما إذا لم يتوقف اعتبار الخصوصية الزائدة المشكوكة على مؤنة زائدة ثبوتا واثباتا. ويقابله المركب الخارجي : وهو ما إذا توقف اعتبار الخصوصية المشكوكة على مؤنة زائدة ثبوتا وإثباتا.
وتوضيح ذلك : هو أن الخصوصية الزائدة المشكوكة
تارة : تحتاج في مقام اعتبارها وأخذها في متعلق التكليف أو في موضوعه إلى لحاظ يخصها في عالم الجعل والثبوت ، وإلى بيان زائد في عالم الايصال والاثبات ، سواء كان اعتبارها على وجه الجزئية أو الشرطية ، وسواء كان منشأ انتزاع الشرطية أمرا مباينا للمشروط خارجا غير متحد معه وجودا - كاشتراط الطهارة في الصلاة - أو كان منشأ الانتزاع أمرا داخلا في المشروط متحدا معه في الوجود - كاشتراط الايمان في الرقبة - ففي جميع هذه الوجوه تحتاج الخصوصية الزائدة إلى لحاظها ثبوتا وإلى بيان زائد يخصها إثباتا.
بداهة أن أخذ السورة جزء في الصلاة والطهارة شرطا لها والايمان قيدا في الرقبة يتوقف على تصور السورة والطهارة والايمان في مقام الامر بالمركب وتأليف أجزائه ، ولا يمكن أن تكون السورة والطهارة والايمان جزء أو قيدا للمركب بلا لحاظها مستقلا ، هذا في عالم الجعل والثبوت. وكذا في عالم الاثبات يتوقف بيان اعتبارها في المأمور به على تأديتها بمؤنة زائدة ، ولو بمثل قوله : « صل مع السورة » أو « مع الطهارة » أو « أعتق رقبة مؤمنة ».
ص: 205
وأخرى : لا تحتاج الخصوصية المشكوكة في مقام اعتبارها وأخذها في المتعلق أو الموضوع إلى لحاظ يختص بها ثبوتا ، وإلى بيان زائد إثباتا ، وذلك كما لو تردد متعلق التكليف أو موضوعه بين الجنس والنوع - كالحيوان والانسان - فان النوع وإن اشتمل على خصوصية زائدة يكون الجنس فاقدا لها وهي الصورة النوعية التي تقوم بها حقيقة الشيء ، إلا أنه في عالم الثبوت لا يحتاج إلى لحاظين : لحاظ الجنس ولحاظ الصورة النوعية بلحاظ مستقل مغاير ، بل يكفي لحاظ النوع بماله من المعنى البسيط ، وكذا في مقام الاثبات لا يحتاج إلى بيان كل من الجنس والصورة ببيان على حدة ، بمثل قوله : « أكرم حيوانا ناطقا » بل يمكن تأدية المأمور به ببيان واحد ، بقوله : « أكرم إنسانا » (1) وتركب الانسان من
ص: 206
الجنس والفصل إنما يكون عقليا من باب أن كل ما به الاشتراك يحتاج إلى ما به الامتياز ، وليس الانسان مركبا خارجيا نظير التركب من العرض والمعروض.
إذا عرفت ذلك فاعلم : أنه كان الأنسب في مقام تحرير الأقسام هو أن يبحث عن الشرط والمشروط في ضمن البحث عن الجزء والكل ، ويعمم المركب الخارجي إلى ما يشمل الشرط والمشروط لاتحادهما في الحكم ، ويختص البحث في المركب التحليلي بما إذا كان من قبيل الجنس والنوع ، ولكن الشيخ قدس سره حيث أهمل هذا القسم ولم يتعرض لحكم ما إذا كان الأقل والأكثر من قبيل الجنس والنوع جعل المركب الخارجي مختصا بما إذا كان الأقل والأكثر من قبيل الجزء والكل ، وأما الشرط والمشروط فقد جعله من المركب التحليلي ، وقد أطال الكلام في كون الشرط والمشروط ملحقا بالجزء والكل في الحكم وأنه تجري البراءة العقلية والشرعية عند الشك فيه ، سواء كان منشأ انتزاع الشرطية أمرا مباينا للمشروط في الوجود أو متحدا معه وإن كان جريان البراءة في الأول أوضح.
هذا ، ولكن الانصاف : أنه لا حاجة إلى تطويل الكلام في إلحاق الشرط بالجزء ، فإنه لا موجب لتوهم الفرق بينهما بعدما كان نسبة حديث الرفع إلى كل منهما على حد سواء ، لان كلا من الشرط والجزء مما تناله يد الوضع والرفع التشريعي ولو بوضع منشأ الانتزاع ورفعه ، على ما تقدم توضيحه.
ص: 207
فالأولى : عطف عنان الكلام إلى بيان حكم ما إذا كان الأقل والأكثر من قبيل الجنس والنوع. والأقوى : أنه يجب فيه الاحتياط ولا تجري البراءة عن الأكثر ، فان الترديد بين الجنس والنوع وإن كان يرجع بالتحليل العقلي إلى الأقل والأكثر ، إلا أنه خارجا بنظر العرف يكون من الترديد بين المتباينين ، لان الانسان بماله من المعنى المرتكز في الذهن مباين للحيوان عرفا ، فلو علم إجمالا بوجوب إطعام الانسان أو الحيوان ، فاللازم هو الاحتياط باطعام خصوص الانسان ، لان نسبة حديث الرفع إلى كل من وجوب إطعام الانسان والحيوان على حد سواء ، وأصالة البراءة في كل منهما تجري وتسقط بالمعارضة مع الأخرى ، فيبقى العلم الاجمالي على حاله ولابد من العلم بالخروج عن عهدة التكليف ، ولا يحصل ذلك إلا بإطعام خصوص الانسان ، لأنه جمع بين الأمرين ، فان إطعام الانسان يستلزم إطعام الحيوان أيضا.
نعم : بناء على مختار الشيخ قدس سره من جريان البراءة العقلية في الأقل والأكثر وانحلال العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل ، ينبغي أن لا يفرق في ذلك بين ما كان الأقل والأكثر من قبيل الجزء والكل أو من قبيل الجنس والنوع ، لان النوع في التحليل العقلي مركب من الجنس والفصل فينحل العلم الاجمالي في نظر العقل ، لان نظره هو المتبع في الانحلال ، فتأمل. هذا تمام الكلام فيما يتعلق بمباحث الأقل والأكثر.
لو شك في ركنية جزء للعمل ، فهل الأصل يقتضي الركنية؟ فيبطل العمل بالاخلال به أو بزيادته ولو نسيانا ، أو لا؟.
ص: 208
وتحقيق ذلك يستدعي تمهيد مقدمة وهي : أنه قد اختلفت كلمات الأصحاب في معنى الجزء الركني وما هو المايز بينه وبين غيره.
فقيل : إن الجزء الركني هو ما أوجب الاخلال به سهوا بطلان العمل من دون أن توجب زيادته ذلك.
وقيل : إن الجزء الركني هو ما أوجب كل من الاخلال به وزيادته سهوا بطلان العمل.
فعلى التفسير الأول : يختص الفرق بين الجزء الركني وغيره في طرف النقيصة فقط ، فان نقص الجزء الركني ولو سهوا يقتضي البطلان ونقص غيره سهوا لا يقتضي البطلان. وأما في طرف الزيادة فلا فرق يبنهما ، لان زيادة كل من الجزء الركني وغيره لا يوجب البطلان.
وعلى التفسير الثاني : يحصل الفرق بينهما في كل من طرف الزيادة والنقيصة ، كما لا يخفى.
وهذا بعد الاتفاق منهم على أن الاخلال بالجزء عمدا يوجب البطلان ، وليس ذلك من لوازم ركنية الجزء ، بل هو من لوازم نفس الجزئية ، فان الاخلال العمدي بالجزء لو لم يقتض البطلان يلزم عدم كونه جزء ، فبطلان العمل بالاخلال العمدي بالجزء لا يلازم ركنيته.
وأما بطلان العمل بزيادة الجزء عمدا فهو مما لا تقتضيه الجزئية ، بل الزيادة العمدية كالزيادة السهوية تجتمع مع صحة العمل ثبوتا ، إلا إذا اعتبر الجزء بشرط لا ، فزيادته أيضا تقتضي البطلان ، إلا أن ذلك في الحقيقة يرجع إلى الاخلال بالجزء ، لا إلى الزيادة ، كما سيأتي ( إن شاء اللّه تعالى ) بيانه.
فتحصل مما ذكرنا : أن نقصان الجزء عمدا لا يجتمع مع صحة العمل ثبوتا ، وأما نقصان الجزء سهوا فهو يجتمع مع الصحة. كما أن زيادة الجزء عمدا أو سهوا تجتمع مع الصحة.
ص: 209
المقام الأول : في اقتضاء نقص الجزء سهوا للبطلان وعدمه.
المقام الثاني : في اقتضاء زيادة الجزء عمدا أو سهوا للبطلان وعدمه.
الأولى : في أنه هل يمكن ثبوتا التكليف بما عدا الجزء المنسي من سائر الأجزاء؟ أو لا يمكن؟.
الثانية : في أنه لو فرض إمكان ذلك في مقام الثبوت ، فهل يكون في مقام الاثبات ما يقتضي التكليف بالمأتي به في حال نسيان الجزء : من دليل اجتهادي أو أصل عملي؟ أو أنه ليس في مقام الاثبات ما يقتضي ذلك؟.
الثالثة : في أنه لو فرض عدم صحة التكليف بما عدا الجزء المنسي ثبوتا أو عدم قيام الدليل على ذلك إثباتا ، فهل هناك دليل اجتهادي أو أصل عملي يقتضي الاجتزاء بالمأتي به في حال النسيان وكونه مجزيا عن الواقع وإن لم يكن مأمورا به؟ أو أنه ليس في البين ما يدل على ذلك؟.
فمجمل الكلام فيها : هو أنه لا إشكال في سقوط التكليف بالجزء المنسي في حال النسيان ، لعدم القدرة عليه في ذلك الحال ، فلا يعقل التكليف به ، كما لا يعقل التكليف بما عدا الجزء المنسي على وجه يؤخذ « الناسي » عنوانا للمكلف ويخاطب بذلك العنوان ، بداهة أن الناسي لا يرى نفسه واجدا لهذا العنوان ولا يلتفت إلى نسيانه ، فإنه بمجرد الالتفات إلى نسيانه يخرج عن عنوان
ص: 210
الناسي ويدخل في عنوان الذاكر ، فلا يمكن أن يكون هذا الخاطب محركا لعضلات المكلف ، لان الالتفات إلى ما اخذ عنوانا للمكلف مما لابد منه في الانبعاث وانقداح الإرادة ، فالمستطيع لو لم يجد نفسه مستطيعا لا يكاد يمكن أن يكون الخطاب بالحج محركا لإرادته نحوه ، وحينئذ يقع البحث في أنه كيف يتصور ثبوتا تكليف الناسي بما عدا الجزء المنسي؟.
وما قيل أو يمكن أن يقال في تصوير ذلك أحد وجوه ثلاثة :
الأول : ما حكاه شيخنا الأستاذ - مد ظله - عن تقريرات بعض الأجلة لبحث الشيخ قدس سره في مسائل الخلل ، وهو إلى الآن لم يطبع ، وحاصله : يرجع إلى إمكان أخذ الناسي عنوانا للمكلف وتكليفه بما عدا الجزء المنسي ، بتقريب : أن المانع من ذلك ليس إلا توهم كون الناسي لا يلتفت إلى نسيانه في ذلك الحال فلا يمكنه امتثال الامر المتوجه إليه ، لان امتثال الامر فرع الالتفات إلى ما اخذ عنوانا للمكلف. ولكن يضعف ذلك : بأن امتثال الامر لا يتوقف على أن يكون المكلف ملتفتا إلى ما اخذ عنوانا له بخصوصه ، بل يمكن الامتثال بالالتفات إلى ما ينطبق عليه من العنوان ولو كان من باب الخطأ في التطبيق ، فيقصد الامر المتوجه إليه بالعنوان الذي يعتقد أنه واجد له وإن أخطأ في اعتقاده ، والناسي للجزء حيث لم يلتفت إلى نسيانه بل يرى نفسه ذاكرا فيقصد الامر المتوجه إليه بتخيل أنه أمر الذاكر ، فيؤول إلى الخطأ في التطبيق ، نظير قصد الامر بالأداء والقضاء في مكان الآخر ، فأخذ « الناسي » عنوانا للمكلف أمر بمكان من الامكان ولا مانع عنه لا في عالم الجعل والثبوت ولا في عالم الطاعة والامتثال.
هذا ، ولكن لا يخفى ما فيه (1) فإنه يعتبر في صحة البعث والطلب أن يكون
ص: 211
قابلا للانبعاث عنه بحيث يمكن أن يصير داعيا لانقداح الإرادة وحركة العضلات نحو المأمور به ولو في الجملة ، وأما التكليف الذي لا يصلح لان يصير داعيا ومحركا للإرادة في وقت من الأوقات ، فهو قبيح مستهجن.
ومن المعلوم : أن التكليف بعنوان « الناسي » غير قابل لان يصير داعيا لانقداح الإرادة ، لان الناسي لا يلتفت إلى نسيانه في جميع الموارد ، فيلزم أن يكون التكليف بما يكون امتثاله دائما من باب الخطأ في التطبيق ، وهو كما لا ترى مما لا يمكن الالتزام به ، وهذا بخلاف الامر بالأداء والقضاء ، فان الامر بهما قابل لان يصير داعيا ومحركا للإرادة بعنوان الأداء أو القضاء ، لامكان الالتفات إلى كون الامر أداء أو قضاء ويمكن امتثالهما بما لهما من العنوان.
نعم : قد يتفق الخطأ في التطبيق فيهما ، وأين هذا من التكليف بما يكون امتثاله دائما من باب الخطأ في التطبيق؟ كما فما نحن فيه ، فقياس المقام بالامر بالأداء أو القضاء ليس على ما ينبغي.
الوجه الثاني : هو ما أفاده المحقق الخراساني قدس سره من أن اختصاص الناسي بخطاب يخصه بالنسبة إلى ما عدا الجزء المنسي لا يلازم ثبوتا أخذ « الناسي » عنوانا للمكلف حتى يرد عليه المحذور المتقدم ، بل يمكن أن يؤخذ عنوانا آخر يلازم عنوان الناسي مما يمكن الالتفات إليه ، كما لو فرض أن « بلغمي المزاج » يلازم في الواقع نسيان السورة في الصلاة ، فيؤخذ « بلغمي المزاج » عنوانا
ص: 212
للمكلف ويخاطب بهذا العنوان ، والمفروض : أن المكلف يمكن أن يلتفت إلى كونه بلغمي المزاج وإن لم يلتفت إلى ما يلازمه من نسيان السورة ، فان التفكيك في الالتفات بين المتلازمين بمكان من الامكان. فيقصد الناسي للسورة الامر المتوجه إلى ما يلازم نسيان السورة من العنوان الذي يرى نفسه واجدا له.
هذا ، ولكن يرد عليه :
أولا : أن ذلك مجرد فرض لا واقع له ، بداهة أنه ليس في البين عنوان يلازم نسيان الجزء دائما بحيث لا يقع التفكيك بينهما ، خصوصا مع تبادل النسيان في الاجزاء (1) فتارة : يعرض للمكلف نسيان السورة ، وأخرى : يعرض له نسيان التشهد ، وثالثة : يعرض له نسيان الذكر الواجب ، وهكذا بقية الاجزاء ، فدعوى : أن هناك عنوان يلازم نسيان الجزء بما له من التبدل بعيدة جدا. وأبعد من ذلك دعوى : أن هناك عناوين متعددة كل عنوان منها يلازم نسيان جزء خاص.
وثانيا : أن العنوان الملازم للنسيان إنما اخذ معرفا لما هو العنوان حقيقة فالعنوان الحقيقي إنما هو عنوان « الناسي » والذي لابد منه في صحة التكليف هو إمكان الالتفات إلى ما هو العنوان حقيقة ، ولا يكفي الالتفات إلى المعرف ، فيعود الاشكال المتقدم : من عدم إمكان الالتفات إلى ما اخذ عنوانا للمكلف واقعا ، فتأمل.
الوجه الثالث : هو ما أفاده المحقق الخراساني قدس سره أيضا ، وارتضاه
ص: 213
شيخنا الأستاذ - مد ظله - وحاصله : أنه يمكن أن يكون المكلف به في الواقع أولا في حق الذاكر والناسي هو خصوص بقية الاجزاء ما عدا الجزء المنسي (1) ثم يختص الذاكر بتكليف يخصه بالنسبة إلى الجزء الذاكر له ، ويكون المكلف به في حقه هو العمل المشتمل على الجزء الزائد المتذكر له ، ولا محذور في تخصيص الذاكر بخطاب يخصه ، وإنما المحذور كان في تخصيص الناسي بخطاب يخصه - كما في الوجهين الأولين - فلا يرد على هذا الوجه ما كان يرد على الوجهين المتقدمين.
نعم : يختص هذا الوجه باشكال ، وهو أن التكليف بالجزء الزائد لو كان بخطاب يخصه ، فأقصى ما يقتضيه الخطاب المختص بالذاكر هو وجوب ذلك الجزء في حقه ، وأما كونه مرتبطا ببقية الاجزاء بحيث يوجب الاخلال به عمدا بطلان سائر الأجزاء فهو مما لا يقتضيه ذلك الخطاب ، فليكن التكليف بالجزء الزائد من قبيل الواجب في ضمن واجب آخر ، بمعنى أن يكون ظرف امتثاله ظرف امتثال سائر الأجزاء من دون أن يكون بينه وبينها ما يقتضي الارتباطية.
ص: 214
هذا ، ولكن الانصاف : أنه لا وقع لهذا الاشكال ، فان وحدة الخطاب وتعدده لا دخل له بالارتباطية وعدمها ، بل الارتباطية بين الاجزاء إنما تنشأ من وحدة الملاك القائم بمجموع الاجزاء ، فرب ملاك لا يمكن أن يستوفى بخطاب واحد ، بل يحتاج إلى خطابين.
بل الذي يظهر من جملة من الروايات : أن التكليف بالصلاة إنما كان بخطابين : خطاب من اللّه ( تعالى ) وخطاب من النبي صلی اللّه علیه و آله (1) ويعبر عن الأول بفرض اللّه ( تعالى ) وعن الثاني بفرض النبي صلی اللّه علیه و آله أو سنته ، والمراد من فرض اللّه ( تعالى ) هو الأركان التي لا تدخلها النسيان ، ومن فرض النبي صلی اللّه علیه و آله هو سائر الأجزاء التي تدخلها النسيان ، فتعدد الخطاب لا يوجب تعدد التكليف والاستقلالية ، بل لابد من ملاحظة منشأ الخطابين ، فان كان هو ملاكا واحدا قائما بمجموع المتعلقين فلا محالة تقع الارتباطية بين المتعلقين ويكون المكلف به هو المجموع من حيث المجموع ، وإن تعدد الملاك واختص كل خطاب بملاك يخصه فيتعدد المكلف به ويستقل كل من المتعلقين بالتكليف ، واستفادة أحد الوجهين إنما يكون من الخارج : من إجماع ونحوه.
نعم : لا يبعد أن يكون الأصل في تعدد الخطاب هو تعدد المكلف به على وجه الاستقلالية ، ولكن هذا في غير الخطابات الواردة في باب المركبات ، فان الظاهر منها أن تكون الخطابات المتعددة مسوقة لبيان أجزاء المركب وشرائطه.
فدعوى : أن التكليف بالجزء الزائد لو كان بخطاب يختص بالذاكر يلزم أن يكون الجزء الزائد واجبا مستقلا غير مرتبط بسائر الاجزاء ، ضعيفة لا تقبل الالتفات إليها.
ص: 215
فظهر : أن الوجه الثالث هو أسلم ما قيل في وجه إمكان تكليف الناسي بما عدا الجزء المنسي ، فهو الذي ينبغي المصير إليه. هذا كله في الجهة الأولى.
في قيام الدليل على كون الناسي مكلفا ببقية الاجزاء وسقوط التكليف عن خصوص الجزء المنسي.
ونخبة الكلام فيها : هو أنه إن كان لدليل الجزء المنسي إطلاق يشمل صوره النسيان فمقتضى إطلاقه هو عدم التكليف ببقية الاجزاء ، فإنه ليس في البين إلا تكليف واحد تعلق بجملة الاجزاء ومنها الجزء المنسي ، وهذا التكليف الواحد سقط بنسيان بعض الاجزاء ، لأنه لا يمكن بقاء ذلك التكليف بالنسبة إلى جملة الاجزاء مع نسيان بعضها ، فلابد من سقوط التكليف المتعلق بجملة العمل ، فلو ثبت التكليف ببقية الاجزاء فهو تكليف آخر غير التكليف الذي كان متعلقا بجملة الاجزاء ، ولابد من قيام دليل بالخصوص على ذلك ، فالتكليف بما عدا الجزء المنسي يحتاج إلى دليل أخر غير الأدلة المتكفلة لبيان الاجزاء ، هذا إذا كان لدليل الجزء إطلاق يعم حال النسيان.
وإن لم يكن لدليل الجزء إطلاق واحتمل أن تكون جزئيته مقصورة بحال الذكر ، فالمرجع عند الشك في الجزئية وعدمها في حال النسيان هو أصالة البراءة أو الاشتغال ، على الخلاف في باب دوران الامر بين الأقل والأكثر ، لأن الشك في ذلك يندرج في الشك بين الأقل والأكثر ، كما لا يخفى.
ولعله إلى ذلك يرجع ما ذكره الشيخ قدس سره بقوله : إن قلت : عموم جزئية الجزء لحال النسيان يتم فيما لو ثبت الجزئية بمثل قوله : « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب الخ ».
وحاصل ما أفاده المستشكل هو : أن دليل اعتبار الجزء تارة : يكون هو قوله
ص: 216
علیه السلام « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » وأخرى : يكون هو الاجماع ، وثالثة : يكون هو الحكم التكليفي المتعلق بالجزء ، كقوله : « اركع في الصلاة » أو « تشهد فيها » ونحو ذلك من الأوامر المتعلقة بأجزاء المركب.
والقول بثبوت الجزئية وعدم سقوطها في حال النسيان إنما يستقيم لو كان دليل الجزء هو قوله : « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » ونحو ذلك مما يفيد نفي الصلاة عن الفاقد للجزء.
وأما لو كان دليل الجزء هو الاجماع أو الحكم التكليفي ، فلا يتم القول بثبوت الجزئية في حال النسيان ، لان المتيقن من الاجماع هو حال الذكر ، والحكم التكليفي لا يمكن أن يعم حال النسيان والغفلة ، بل يختص بحال الذكر ، فالجزئية المنتزعة منه تتبعه وتختص بحال الذكر أيضا ، وفي حال النسيان يختص التكليف ببقية الاجزاء وتجري البراءة في الجزء المنسي على تقدير الشك في جزئيته حال النسيان.
ثم لا يخفى عليك : أن المراد من الحكم التكليفي في كلام المستشكل ليس هو الحكم التكليفي النفسي وإن كان يوهمه ظاهر العبارة ، لوضوح أن التكليف الاستقلالي لا يمكن أن ينتزع منه الجزئية والشرطية ، فان أقصى ما يقتضيه التكليف النفسي هو وجوب المتعلق ، وأما كونه جزءا أو شرطا فهو مما لا يكاد أن يدل عليه الحكم النفسي.
نعم : قد تنتزع المانعية من النهي النفسي ، كما في باب النهي عن العبادة ، وفي باب اجتماع الأمر والنهي بناء على الامتناع وتغليب جانب النهي وأما الجزئية والشرطية فلا يمكن انتزاعهما من الامر النفسي.
وتصريح الشيخ قدس سره في المقام بصحة انتزاع الشرطية من التكليف النفسي ليس على ما ينبغي ، ولا يبعد أن يكون مراده من الشرطية عدم المانع ، كما ربما يشهد لذلك التمثيل بالحرير ، وإلا فالشرطية الوجودية مما لا مجال لتوهم
ص: 217
صحة انتزاعها من التكليف النفسي.
وبالجملة : ظاهر كلام المستشكل وإن كان يعطي أن يكون المراد من التكليف المنتزع عنه الجزئية هو التكليفي النفسي ، إلا أنه لابد من توجيهه بإرادة التكليف الغيري المتعلق بأجزاء العبادة وشرائطها (1) فيكون مبنى الاشكال على اختصاص التكاليف الغيرية بالذاكر كاختصاص التكاليف النفسية به ، فالجزئية المنتزعة من التكليف الغيري لا تعم حال النسيان ، كما أن القدر المتيقن من الاجماع القائم على جزئية الشيء الفلاني هو اختصاص الجزئية بحال الذكر.
وكأن المستشكل في ما نحن فيه اقتبس كلامه من المحكي عن الوحيد البهبهاني قدس سره من التفصيل بين الاجزاء والشرائط المستفادة من مثل قوله : « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » و « لا صلاة إلا بطهور » وبين الاجزاء والشرائط المستفادة من الأوامر الغيرية ، كالأمر بالركوع والاستقبال.
ففي الأول : لا تختص الجزئية والشرطية بصورة التمكن من الجزء والشرط ، بل تعم صورة العجز عنهما ، ويلزمه سقوط التكليف بالصلاة عند العجز وعدم القدرة عليهما.
وفي الثاني : تختص الجزئية والشرطية بصورة التمكن منهما ، ويلزمه سقوط خصوص التكليف المتعلق بالجزء أو الشرط الغير المتمكن منه ، ولا يسقط
ص: 218
التكليف ببقية الاجزاء المتمكن منها.
هذا ، وقد حكي عن المحقق القمي رحمه اللّه التعدي في هذا التفصيل عن باب القدرة والعجز إلى باب العلم والجهل ، وقال باختصاص الشرطية المنتزعة من الأوامر الغيرية بصورة العلم بالموضوع تفصيلا ولا تعم حال الجهل به ، بخلاف الشرطية المنتزعة من مثل قوله : « لا صلاة إلا بطهور » فإنها لا تختص بصورة العلم بموضوع الشرط ، بل تعم حال الجهل به أيضا.
وكلام المستشكل فيما نحن فيه يعطي التعدي في هذا التفصيل عن باب القدرة والعجز وباب العلم والجهل إلى باب الذكر والنسيان.
هذا ، ولكن التحقيق : فساد هذا التفصيل في الأبواب الثلاثة ، خصوصا في باب العلم والجهل ، فان التكاليف النفسية لا تختص بصورة العلم ، فضلا عن التكاليف الغيرية ، وسيأتي توضيح ذلك في رد مقالة الوحيد البهبهاني رحمه اللّه .
فالأقوى : أنه لا فرق في الجزئية المستفادة من مثل قوله علیه السلام « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » ، والجزئية المستفادة من مثل قوله : « اركع في الصلاة » ونحو ذلك من الأوامر الغيرية ، فإنه لا موجب لتوهم اختصاص الأوامر الغيرية بالمتمكن من الجزء أو الذاكر له (1) بل تعم العاجز والناسي وتثبت الجزئية في حقهما إذا كان لدليل الجزء إطلاق يشمل حال العجز
ص: 219
والنسيان ، ومع عدم الاطلاق يرجع إلى الأصول العملية ، وهي تقتضي اختصاص الجزئية بحال القدرة والذكر ، لأن الشك في ثبوت الجزئية في حال العجز والنسيان يرجع إلى الشك في أن المكلف به في حق الناسي هل هو الطبيعة الواجدة للجزء المنسي؟ أو الطبيعة الخالية عنه؟ فيكون من صغريات الشك بين الأقل والأكثر ، وقد تقدم أن الأقوى : جريان البراءة من الخصوصية الزائدة المشكوكة ، وهي فيما نحن فيه جزئية المنسي في حال النسيان ، فالأصل يقتضي عدم جزئية المنسي ، ويلزمه أن يكون الجزء من الاجزاء الغير الركنية ، لاختصاص جزئيته بحال الذكر ، فلا يلزم من الاخلال به نسيانا بطلان العمل ، وذلك من خواص الجزء الغير الركني ، كما تقدم.
هذا ، ولكن لا يخفى عليك : أن أقصى ما تقتضيه أصالة البراءة عن الجزء المنسي هو رفع الجزئية في حال النسيان فقط (1) ولا تقتضي رفعها في تمام الوقت إلا مع استيعاب النسيان لتمام الوقت ، فلو تذكر المكلف في أثناء الوقت بمقدار يمكنه إيجاد الطبيعة بتمام مالها من الاجزاء ، فأصالة البراءة عن الجزء المنسي في حال النسيان لا تقتضي عدم وجوب الفرد التام في ظرف التذكر ، بل مقتضى إطلاق الأدلة وجوبه ، لان المأمور به هو صرف وجود الطبيعة التامة الاجزاء والشرائط في مجموع الوقت ، ويكفي في وجوب ذلك التمكن من إيجادها
ص: 220
كذلك ولو في جزء من الوقت ، ولا يعتبر التمكن من ذلك في جميع آنات الوقت ، كما هو الحال في غير الناسي من سائر ذوي الأعذار ، فإنه لا يجوز الاعتداد بالمأتي به في حال العذر مع عدم استيعاب العذر لتمام الوقت.
والحاصل : أن رفع الجزئية بأدلة البراءة في حال النسيان لا يلازم رفعها في ظرف التذكر (1) لأن الشك في الأول يرجع إلى ثبوت الجزئية في حال النسيان ، وفي الثاني يرجع إلى سقوط التكليف بالجزء في حال الذكر ، والأول مجرى البراءة ، والثاني مجرى الاشتغال.
هذا إذا لم يكن المكلف ذاكرا في أول الوقت ثم عرض له النسيان في الأثناء ، وإلا فيجري استصحاب التكليف الثابت عليه في أول الوقت ، للشك في سقوطه بسبب النسيان الطاري الزائل في الوقت.
فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن التكليف بالفاقد للجزء المنسي وإن كان في عالم الثبوت بمكان من الامكان ، إلا أنه في عالم الاثبات لم يقم عليه دليل اجتهادي ولا أصل عملي مع عدم استيعاب النسيان لتمام الوقت ، بل مقتضى إطلاق الأدلة خلاف ذلك (2).
وهم ودفع :
أما الوهم : فهو أنه قد يقال : إن مقتضى إطلاق أدلة الاجزاء والشرائط وإن كان ثبوت الجزئية في حال النسيان ، إلا أن مقتضى حديث الرفع الحاكم على الأدلة الأولية هو عدم الجزئية في حال النسيان واختصاصها بحال
ص: 221
الذكر.
وأما الدفع : فقد تقدم في مبحث البراءة عند التعرض لمفاد الحديث المبارك شطر من الكلام في عدم صحة التمسك بالحديث لرفع الجزئية في حال النسيان ، وإجماله : هو أنه يعتبر في جواز التمسك بحديث الرفع أمور :
الأول : أن يكون المرفوع شاغلا لصفحة الوجود ، بحيث يكون له نحو تقرر في الوعاء المناسب له : من وعاء التكوين أو وعاء التشريع (1) فإنه بذلك يمتاز الرفع عن الدفع ، حيث إن الدفع إنما يمنع عن تقرر الشيء خارجا وتأثير المقتضي في الوجود ، فهو يساوق المانع ، وأما الرفع فهو يمنع عن بقاء الوجود ويقتضي إعدام الشيء الموجود عن وعائه. نعم : قد يستعمل الرفع في مكان الدفع وبالعكس ، إلا أن ذلك بضرب من العناية والتجوز ، والذي تقتضيه الحقيقة : هو استعمال الدفع في مقام المنع عن تأثير المقتضي في الوجود ، واستعمال الرفع في مقام المنع عن بقاء الشيء الموجود.
الامر الثاني : أن يكون المرفوع مما تناله يد الرفع التشريعي ، إما بنفسه إذا كان المرفوع من الأحكام الشرعية ، وإما بأثره إذا كان من الموضوعات الخارجية التي رتب عليها آثار شرعية ، كحياة زيد وموت عمرو.
الامر الثالث : أن يكون في رفعه منة وتوسعة على المكلفين ، فان الحديث المبارك ورد مورد الامتنان ، فلابد من اقتضاء الرفع التوسعة والتسهيل ، لا الكلفة والتضييق.
إذا عرفت ذلك : فاعلم أن الظاهر الأولي من قوله - صلى اللّه عليه وآله
ص: 222
وسلم - « رفع النسيان » وإن كان هو رفع نفس صفة النسيان وهي الحالة المنقدحة في النفس ، إلا أنه لا يمكن الاخذ بظاهره ، فإنه - مضافا إلى أن النسيان مما لا تناله يد الرفع التشريعي لأنه من الأمور التكوينية الخارجية وليس هناك أثر اخذ النسيان موضوعا له شرعا لكي يكون رفعه بلحاظ رفع أثره - يلزم من ذلك ترتيب آثار الصدور العمدي على الفعل الصادر عن نسيان ، فان معنى رفع النسيان هو كون ما صدر عن المكلف نسيانا كأن لم يصدر عنه عن نسيان ويفرض النسيان كالعدم ، وهذا يقتضي ترتيب آثار الفعل الصادر عن عمد على الفعل الصادر عن نسيان ، فيجب إقامة الحد على من شرب الخمر نسيانا ، وهو كما ترى ينافي الامتنان والتوسعة.
فلا محيص من رفع اليد عما يقتضيه الظاهر الأولي ، بتأويل المصدر بمعنى المفعول وجعل النسيان بمعنى المنسي (1) فيكون المرفوع نفس الفعل الصادر عن
ص: 223
المكلف نسيانا ، بأن يفرض عدم وقوع الفعل منه وخلو صفحة الوجود عنه ، فالمرفوع في حق من شرب الخمر نسيانا هو نفس الشرب ، لا وصف صدوره عن نسيان ، ورفع الشرب إنما يكون بلحاظ رفع الآثار المترتبة شرعا على شرب الخمر : من الحرمة وإقامة الحد ، ورفع الشرب بهذا الوجه يكون موافقا للامتنان ويوجب التوسعة والتسهيل.
وعلى هذا يختص الحديث الشريف بالأحكام الانحلالية العدمية التي لها تعلق بالموضوعات الخارجية ، كحرمة شرب الخمر وإكرام الفاسق وغيبة المؤمن ، فإنه في مثل ذلك يصح رفع أثر الاكرام والشرب والغيبة الصادرة عن نسيان.
وأما التكاليف الوجودية التي يكون المطلوب فيها صرف الوجود - كوجوب إكرام العالم وإقامة الصلاة - فلا يمكن أن يعمها حديث الرفع ، لان رفع الاكرام والصلاة الصادرين عن نسيان يساوق إعدامهما في عالم التشريع وفرض عدم صدورهما عن المكلف ، وذلك يقتضي إيجابهما ثانيا ، وهو ينافي الامتنان ، فلابد من خروج الاحكام الوجودية عن مدلول الحديث.
وبذلك يظهر : فساد توهم دلالة قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع النسيان » على سقوط جزئية الجزء المنسي ووقوع الطلب فيما عداه ، فإنه يرد عليه :
ص: 224
أولا : أن المنسي ليس هو جزئية الجزء وإلا رجع إلى نسيان الحكم وهو من أقسام الجهل به ، فيندرج في قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لايعلمون » لا في قوله : « رفع النسيان » بل المنسي هو نفس الجزء أي الاتيان به قولا أو فعلا ومعنى نسيان الجزء هو خلو صفحة الوجود عنه وعدم تحققه في الخارج ، ولا يعقل تعلق الرفع بالمعدوم ، لما عرفت : من أن المرفوع لابد وأن يكون شاغلا لصفحة الوجود ليكون رفعه باعدامه وإخلاء الصفحة عند (1) فنسيان الجزء مما لا يتعلق به الرفع فلا يعمه قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع النسيان ».
وثانيا : أن محل البحث ليس هو النسيان المستوعب لتمام الوقت في الموقتات ، أو لتمام العمر في غيرها (2) بل هو النسيان في بعض الوقت ، وسقوط الجزئية في
ص: 225
زمان النسيان لا يقتضي سقوطها في تمام الوقت أو في تمام العمر حتى في زمان الذكر وزوال صفة النسيان ، لما عرفت : أن المأمور به هو صرف الوجود في مجموع الوقت أو العمر ، ونسيان الجزء في بعض الوقت كنسيان جملة المركب بجميع ماله من الاجزاء في بعض الوقت لا يقتضي سقوط التكليف عن الطبيعة المأمور بها رأسا ، بل مقتضى تعلق الطلب بصرف الوجود - مع كون الوقت المضروب له أوسع مما يحتاج إليه الفعل من الزمان - هو بقاء الطلب عند القدرة على إيجاد المتعلق ولو في جزء من الوقت الذي يسع لايجاد المأمور به ، ولا يعتبر القدرة في جميع الوقت ، فرفع الجزئية في حال النسيان لا يوجب عدم وجوب الإعادة عند التذكر كما لا يوجب نسيان الكل في بعض الوقت سقوط الطلب عنه رأسا حتى مع التذكر في الوقت ، فإنه لا فرق بين نسيان الجزء ونسيان الكل فيما هو المبحوث عنه في المقام.
وثالثا : أنه ليس في المركبات الارتباطية إلا طلب واحد تعلق بعدة أمور متباينة يجمعها وحدة اعتبارية ، وتنتزع جزئية كل واحد من تلك الأمور المتباينة من انبساط الطلب عليها وتعلقه به بتبع تعلقه بالكل ، وليست جزئية كل واحد منها مستقلة بالجعل ، فالذي يلزم من نسيان أحد الاجزاء هو سقوط الطلب عن الكل ، لا عن خصوص الجزء المنسي ، فإنه ليس في البين إلا طلب واحد ، ولا معنى لتبعيض الطلب وتقطيعه وجعل الساقط هو خصوص القطعة التي يختص بها الجزء المنسي ، فان ذلك يتوقف على قيام الدليل عليه بالخصوص. ولا يمكن الاستدلال له بمثل قول صلی اللّه علیه و آله « رفع النسيان » فان أقصى ما يقتضيه نسيان الجزء في بعض الوقت هو خروج زمان النسيان عن سعة
ص: 226
دائرة التكليف الذي كان منبسطا على مجموع الوقت ، كما إذا خرج جزء من الزمان المضروب للعمل عن سعة دائرة التكليف بغير النسيان : من اضطرار أو إكراه أو نحو ذلك.
فكما أن تعذر جزء المركب في بعض الوقت بغير النسيان من سائر الاعذار الاخر لا يقتضي رفع التكليف عن خصوص الجزء المتعذر ، بل يسقط التكليف عن الكل رأسا في خصوص وقت العذر ، ويخرج ذلك الوقت عن صلاحية وقوع المأمور به فيه ، ويلزمه قهرا وقوع الطلب فيما عداه من سائر الأوقات الاخر التي يمكن إيقاع المركب فيها بما له من الاجزاء
كذلك تعذر جزء المركب في بعض الوقت بالنسيان لا يقتضي إلا سقوط التكليف عن الكل رأسا ، لا عن خصوص الجزء المنسي.
فان قلت : ما الفرق بين قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لايعلمون » وقوله صلی اللّه علیه و آله « رفع النسيان »؟ حيث كان مفاد الأول رفع التكليف عن خصوص الجزء الذي تعلق الشك به ، مع أن التكليف لم يتعلق بالجزء المشكوك على حدة ، بل كان التكليف به بتبع تعلق التكليف بالكل ووجوبه بعين الوجوب المتعلق بجملة العمل ، فكيف كان مفاد قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لايعلمون » تقطيع الطلب وتبعيض الوجوب وكان المرفوع خصوص القطعة التي يختص بها الجزء المشكوك مع اتحاد سياق الحديث في الجملتين؟.
قلت : الفرق بينهما في غاية الوضوح ، فان تقطيع الطلب في قوله - صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لايعلمون » ورفع التكليف عن خصوص الجزء المشكوك إنما هو لمكان العلم بتعلق الطلب بما عدا الجزء المشكوك ، فلا يمكن رفع التكليف عن الكل ، لأنه يلزم التناقض.
وهذا بخلاف قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع النسيان » فان
ص: 227
تقطيع الطلب ورفع التكليف عن خصوص الجزء المنسي بلا (1) موجب لأنه لا مانع من رفع الطلب عن الكل في حال النسيان.
نعم : لو استوعب النسيان لتمام الوقت أمكن أن يقال بكون المرفوع خصوص القطعة من الطلب المتعلقة بالجزء المنسي ، فتأمل ، فإنه للمنع عن دلالة قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع النسيان » على سقوط التكليف عن خصوص الجزء المنسي مجال ، حتى في النسيان المستوعب.
فتحصل من جميع ما ذكرنا : أنه لا دليل على كون المكلف به هو ما عدا الجزء المنسي ، خصوصا في النسيان الغير المستوعب ، بل مقتضى إطلاق أدلة الاجزاء والشرائط خلاف ذلك (2).
في الاجتزاء بالمأتي به في حال النسيان وإجزائه عن الواقع وإن لم يكن مأمورا به.
وخلاصة الكلام في ذلك : هي أن مقتضى القاعدة الأولية عدم الاجتزاء بالمأتي به في حال العذر في جميع المقامات ، فان إجزاء الناقص عن التام يحتاج إلى قيام الدليل عليه بالخصوص ، فإنه خلاف ما يقتضيه الامر بالتام ، فالقاعدة تقتضي بطلان المركب عند الاخلال بجزئه سهوا ووجوب الاتيان به ثانيا تام الاجزاء والشرائط ، فيكون الأصل في الجزء من طرف النقيصة هي الركنية ،
ص: 228
فان اقتضاء الاخلال بالجزء سهوا بطلان العمل إنما هو من خواص ركنية الجزء - كما تقدم - إلا إذا قام الدليل على عدم الركنية.
والظاهر : أنه لم يقم دليل على ذلك في غير الصلاة من سائر المركبات الاخر ، وأما في باب الصلاة فقد قام الدليل على عدم بطلانها عند الاخلال بجزئها سهوا ، وهو قوله علیه السلام « لا تعاد الصلاة إلا من خمس » (1) وفي مقدار دلالة حديث « لا تعاد » وكيفية استفادة قواعد الخلل الواقع في الصلاة منه بحث طويل ، تفصيله موكول إلى محله.
والكلام فيه أيضا يقع من جهات ثلاث :
الأولى : في تصوير وقوع الزيادة في الاجزاء والشرائط وما هو المحقق لها.
الثانية : في حكم الزيادة العمدية والسهوية من حيث الصحة والبطلان بحسب ما تقتضيه القاعدة الأولية.
الثالثة : في قيام الدليل على خلاف ما اقتضته القاعدة من الصحة والفساد.
فإجماله : أنه قد يستشكل في إمكان تحقق الزيادة ثبوتا ، فان الجزء أو الشرط ، إما أن يؤخذ بشرط لا ، وإما أن يؤخذ لا بشرط ، ولا ثالث لهما.
وعلى الأول : ترجع زيادته إلى النقيصة ، لأنه يلزم الاخلال بقيد الجزء وهو أن لا يكون معه شيء آخر.
ص: 229
وعلى الثاني : لا يكاد تحقق الزيادة ، لان الضمايم لا تنافي الماهية لا بشرط ولا تكون زيادة فيها (1).
هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إن مقام الامكان الثبوتي غير مقام الصدق العرفي ، ولا إشكال في صدق الزيادة عرفا على الوجود الثاني فيما إذا كان الواجب صرف الوجود (2) كما لا إشكال أيضا في صدق الزيادة عرفا على العدد المضاف إلى عدد الواجب كما في باب الركعات ، فان الركعة الثالثة زيادة في ركعتي الصبح ، والركعة الرابعة زيادة في ثلاث المغرب ، والخامسة زيادة في أربع العشاء. وهكذا (3) كل عدد إذا أضيف إلى عدد آخر كان ذلك زيادة في العدد فلو كان الواجب عددا مخصوصا كالركوع الواحد والسجدتين في كل ركعة من ركعات الصلاة فالركوع الثاني والسجدة الثالثة تكون زيادة في عدد الواجب ، كما أن الوجود الثاني للركوع إذا لم يقيد بقيد
ص: 230
الوحدة وكان الامر به يقتضي صرف الوجود كقوله : « اركع في الصلاة » يكون زيادة في الركوع الواجب.
فلا فرق في صدق الزيادة بين أخذ العدد في متعلق التكليف وبين أخذ صرف الوجود ، غايته أن الزيادة في الأول إنما تتحقق بإضافة عدد آخر إلى عدد الواجب ولو عرضا فيما إذا أمكن ذلك ، كما إذا أوجب إعطاء درهم واحد فأعطى المكلف درهمين دفعة واحدة ، فان الدرهم الثاني يكون زيادة في الواجب. وأما الزيادة في الثاني فهي لا تتحقق إلا بالوجود الثاني ، وذلك إنما يكون بتعاقب الوجودات في الافراد الطولية ، ولا يمكن أن تحصل الزيادة في الافراد الدفعية فيما إذا أمكن ذلك ، فإن صرف الوجود إنما يتحقق بالجامع بين الافراد العرضية ، كما لا يخفى.
وعلى كل حال : عدم إمكان تحقق زيادة الجزء أو الشرط ثبوتا لا ينافي صدق الزيادة عرفا ، والموضوع في أدلة الزيادة إنما هو الزيادة العرفية ، فتأمل جيدا.
في بطلان العمل بالزيادة العمدية أو السهوية.
وقد تقدم أن الزيادة العمدية ليست على حد النقيصة العمدية ، فان النقيصة العمدية لا تجتمع مع صحة العمل ثبوتا ، وأما الزيادة العمدية فهي تجتمع مع الصحة ثبوتا ، لأنه يمكن ثبوتا أخذ الجزء لا بشرط عن الزيادة (1) فلا
ص: 231
تضر بصحته الزيادة العمدية ، ويكفي في الصحة احتمال أخذ الجزء لا بشرط فان الشك في ذلك يرجع إلى الشك في مانعية الزيادة ويكون من صغريات دوران الامر بين الأقل والأكثر ، فتجري البراءة الشرعية في مانعية الأكثر كالشك في الجزئية والشرطية. هذا في الزيادة العمدية
وأما الزيادة السهوية : فالامر فيها أوضح.
وربما يتمسك لعدم مانعية الزيادة باستصحاب الصحة الثابتة قبل فعل الزيادة ، فلا تجري أصالة البراءة ، لحكومة الاستصحاب عليها.
ولا يخفى ما فيه : فإنه إن أريد من الصحة الأثر المترتب على الاتيان بالمأمور به ، فهذا المعنى من الصحة لا يكاد تثبت إلا بعد الفراغ عن المأمور به بما له من الاجزاء والشرائط ، فلا معنى لاستصحابها في أثناء العمل.
وإن أريد من الصحة الصحة القائمة بالاجزاء السابقة على فعل الزيادة ، ففيه : أن الصحة القائمة بالاجزاء السابقة إنما هي الصحة التأهلية ، وهي عبارة
ص: 232
عن صلاحية تلك الأجزاء لانضمام البقية إليها ، فان الصحة المتصورة في كل جزء من العمل ليست إلا بهذا المعنى ، واستصحاب الصحة التأهلية مع أنه يرجع إلى الاستصحاب التعليقي الباطل من أصله - كما سيأتي ( إن شاء اللّه تعالى ) بيانه في محله - مما لا مجال لجريانه ، للقطع ببقاء الصحة التأهلية في الاجزاء السابقة حتى بعد وقوع الزيادة التي يشك في مانعيتها ، فان الزيادة لو كانت مانعة فإنما هي تمنع عن صلاحية لحوق الاجزاء الباقية إلى الاجزاء السابقة ولا تضر بصحة الاجزاء السابقة ، فان الاجزاء السابقة بعد باقية على ما وقعت عليه من الصحة التأهلية ، لان الصحة التأهلية ليست إلا عبارة عن وقوع الاجزاء على وجه تصلح للحوق الاجزاء الاخر إليها ، وهذا المعنى يدور مدار كون الجزء حال صدوره واجدا للشرائط المعتبرة فيه ، فان كان واجدا لها فلا محالة يقع صحيحا ولو مع تعقبه بما يقطع كونه مانعا ، فان الشيء لا ينقلب عما وقع عليه ، فالشك في مانعية الزيادة الواقعة في الأثناء لا يوجب الشك في بقاء الصحة التأهلية للاجزاء السابقة لكي يجري فيها الاستصحاب.
نعم : هناك استصحاب آخر قد قيل بجريانه في بعض المركبات ، وهو استصحاب بقاء الهيئة الاتصالية عند الشك في وجود القاطع.
وتوضيح ذلك : هو أنه قد يكون للمركب من الاجزاء المتباينة التي يجمعها وحدة الأثر هيئة وصورة إتصالية تقوم بمواد الاجزاء عند اجتماعها وتأليف المركب منها ، ويعبر عن ذلك بالجزء الصوري ، وهو أمر وجودي يحدث بأول جزء من المركب ويستمر إلى آخر الاجزاء ، وربما يكون منشأ للآثار الخاصة.
وقد لا يكون للمركب هيئة وصورة إتصالية ، بل ليس في البين إلا نفس مواد الاجزاء المجتمعة من دون أن يكون لها جزء صوري ، ولا إشكال في وجود هذين القسمين في المركبات الخارجية ، ولكل منهما أمثلة خاصة.
وأما المركبات الاعتبارية : فيمكن فيها أيضا ثبوتا هذان القسمان ، فإنه
ص: 233
يمكن أن يكون الملاك الذي اقتضى الامر بالمركب قائما بنفس مواد الاجزاء المجتمعة ، ويمكن أيضا أن يكون هناك جزء صوري له دخل في حصول الملاك.
ولكن وجود الجزء الصوري في المركبات الاعتبارية يحتاج إلى قيام الدليل عليه ، وإلا فنفس الامر بالمركب لا يقتضي أزيد من اجتماع مواد الاجزاء في الوجود ، كما في الامر بالحج والوضوء وغير ذلك من المركبات الاعتبارية ، فان الحج ليس هو إلا عبارة عن اجتماع عدة من الأمور المتباينة التي يقوم بها ملاك واحد ، وكذا الوضوء ليس هو إلا عبارة عن الغسلات والمسحات الثلاث المتعاقبة من دون أن يكون لها هيئة إتصالية.
نعم : في خصوص الصلاة يمكن أن يقال : إن لها وراء الاجزاء الخارجية جزء صوري يقوم بمواد الاجزاء ويحدث بالتكبيرة ويستمر إلى التسليمة ، بحيث لا يضر ببقائه تبادل الاجزاء وتصرمها في الوجود. ويدل على ذلك الأدلة الواردة في باب القواطع ، فان شأن القاطع إنما هو قطع الهيئة الاتصالية ورفع الجزء الصوري ، فلو لم تكن للصلاة وراء مواد الاجزاء هيئة إتصالية لم يصح استعمال « القاطع » على مثل الالتفات إلى الخلف واليمين واليسار ، فقول الشارع : « الالتفات إلى الخلف قاطع » معناه أن الالتفات رافع للهيئة الاتصالية والصورة القائمة بالاجزاء ، فلابد وأن تكون لتلك الصورة نحو تقرر ووجود في أثناء الصلاة ليصح إطلاق القطع والرفع على مثل الالتفات.
والذي يدل على ذلك ، هو أنه يعتبر في الصلاة عدم وقوع القواطع حتى في السكونات المتخللة بين الاجزاء ، فان الالتفات إلى الوراء مبطل للصلاة ولو وقع في حال عدم الاشتغال بالاجزاء.
وبذلك يفترق القاطع عن المانع ، فان المانع إنما يمنع عن صحة الصلاة إذا وقع في حال الاشتغال بالاجزاء ولا يضر وجوده بين السكونات ، كما إذا لبس المصلي الحرير أو تنجس لباسه أو بدنه في حال عدم الاشتغال بالجزء وعند
ص: 234
الاشتغال به نزع الحرير أو طهر لباسه وبدنه ، فان ذلك لا يضر بصحة الصلاة.
وهذا بخلاف القاطع ، فإنه يضر بصحة الصلاة ولو وقع في حال عدم الاشتغال بالجزء ، وهذا يدل على أن للصلاة وراء الاجزاء المتبادلة جزء صوري وهيئة إتصالية مستمرة من أول الصلاة إلى آخرها تكون القواطع رافعة لها.
فإذا شك في قاطعية شيء لها من جهة الشبهة الحكمية أو الموضوعية ، فالشك في ذلك يرجع إلى الشك في بقاء الهيئة الاتصالية ويجري فيها الاستصحاب
لا يقال : إن الهيئة الاتصالية إنما تقوم بالاجزاء والاجزاء متدرجة في الوجود فتكون الهيئة أيضا متدرجة في الوجود ، إذ لا يعقل دفعية وجود الهيئة مع تدريجية وجود معروضها ، فلا مجال لاستصحاب بقاء الهيئة ، لأنها بين ما هي متصرمة بتصرم الاجزاء السابقة وبين ما هي بعدم لم تحدث لعدم حدوث معروضها من الاجزاء الباقية ، فليس للهيئة نحو تقرر ليستصحب بقائها.
فإنه يقال : لا مانع من استصحاب الأمور التدريجية الزمانية ، فإنه ليس بأعظم من تدريجية نفس الزمان ، وسيأتي ( إن شاء اللّه تعالى ) أن الاستصحاب يجري في نفس الزمان فضلا عن الزماني ، فان استصحاب الأمور التدريجية إنما يكون باعتبار لحاظها بين المبدء والمنتهى ، وهي بهذا الاعتبار لها نحو تقرر وثبات ، وسيأتي توضيح ذلك ( إن شاء اللّه تعالى ).
هذا حاصل ما أفاده الشيخ قدس سره في وجه جريان استصحاب الهيئة الاتصالية عند الشك في وجود القاطع ، وقد ارتضاه وبنى عليه.
ولكن مع ذلك كله ، للنظر فيه مجال.
أما أولا : فلان مجرد تعلق النواهي الغيرية بمثل الالتفات ونحوه لا يدل على أن ما وراء الاجزاء الخارجية أمر وجودي آخر يسمى بالجزء الصوري ، بحيث
ص: 235
يكون فعلا للمكلف أو مسببا توليديا له (1) فان مجال المنع عن ذلك واسع ، بل لقائل أن يقول : إنه ليست الصلاة إلا عبارة عن عده من الاجزاء والشروط مقيدة بعدم تخلل القواطع في الأثناء من دون أن يكون لها هيئة إتصالية.
وأما ثانيا : فعلى فرض تسليم دلالة النهي الغيري على أن للصلاة هيئة إتصالية وجزء صوري ، إلا أن دعوى تعلق الطلب به على حد ساير الاجزاء مما لا سبيل إليها ، بل لمانع أن يمنع عن ذلك ويدعي أن الجزء الصوري المستكشف من أدلة القواطع مما لم يتعلق به الطلب والبعث ، بل الطلب إنما تعلق بنفس عدم تخلل الالتفات ونحوه - كما هو ظاهر الأدلة - فلا مجال لاستصحاب بقاء الهيئة الاتصالية ، من جهة أنه لا أثر لبقائها بعد فرض عدم تعلق الطلب بها.
وأما ثالثا (2) : فعلى فرض تسليم تعلق الطلب بالجزء الصوري أيضا ، إلا
ص: 236
أنه لا إشكال في تعلق الطلب بعدم وقوع القواطع وثبوت النهي عنها ، فإنه لا مجال للمنع عن ذلك بعد إطباق ظواهر الأدلة على تعلق النهي بالقواطع ، وحينئذ فلابد من علاج الشبهة عند وقوع ما يشك في قاطعيته من جهة الشبهة الحكمية أو الموضوعية ، ولا ترتفع الشبهة في ذلك باستصحاب بقاء الهيئة الاتصالية ، بداهة أن الشك في بقاء الجزء الصوري مسبب عن الشك في قاطعية الموجود ، والأصل الجاري في الشك المسبي غير قابل لرفع الشك السببي ، بل الامر بالعكس.
وعلى فرض التنزل والمنع عن السببية والمسببية فلا أقل من كونهما متلازمين في الوجود ، بحيث يكون الجزء الصوري ملازما في الوجود لعدم تحقق القواطع وبالعكس ، ومن الواضح : أن استصحاب أحد المتلازمين لا يثبت وجود الآخر إلا على القول باعتبار الأصل المثبت.
فاستصحاب بقاء الهيئة الاتصالية على تقدير جريانه في نفسه لا ينفع في إثبات عدم قاطعية الزيادة العمدية أو السهوية ، بل لابد من علاج الشك في إبطال الزيادة الواقعة في الأثناء ، وطريق علاجه ينحصر بأصالة البراءة ، لرجوع الشك إلى تقيد الصلاة بعدم وقوع الزيادة ، فيكون من صغريات دوران الامر بين الأقل والأكثر (1).
وقد تحصل من جميع ما ذكرنا : أن الزيادة العمدية والسهوية لا تقتضي بطلان العمل ، فيكون الأصل في طرف زيادة الجزء عدم الركنية ، إلا أن يقوم دليل على الخلاف ، على عكس طرف النقيصة ، حيث تقدم أن الأصل فيه
ص: 237
يقتضي الركنية.
في قيام الدليل على خما اقتضته القاعدة. والظاهر : أنه لم يقم دليل على بطلان المركب بالزيادة السهوية أو العمدية (1) إلا في باب الصلاة حيث إنه تظافرت الأدلة على بطلانها بالزيادة كقوله علیه السلام « من زاد في صلاته فعليه الإعادة » (2) وقوله علیه السلام « وإذا استيقن أنه زاد في المكتوبة فليستقبل صلاته » (3) وما ورد في النهي عن قراءة العزيمة في الصلاة من التعليل بقوله علیه السلام « لان السجود زيادة في المكتوبة » (4) وغير ذلك من الروايات الواردة في بطلان الصلاة بالزيادة.
ومقتضى إطلاق الروايات هو عدم الفرق بين الزيادة العمدية والسهوية ، ولكن مقتضى حديث « لا تعاد » هو أن الزيادة السهوية لا توجب البطلان ، والنسبة بينه وبين بعض الروايات المتقدمة هي العموم من وجه ، فان الحديث يختص بصورة النسيان ويعم صورة الزيادة والنقيصة ، والروايات المتقدمة تختص بصورة الزيادة وتعم صورة العمد والنسيان ، فيقع التعارض بينهما في الزيادة السهوية ، فان مقتضى إطلاق حديث « لا تعاد » هو عدم البطلان بالزيادة السهوية ، ومقتضى إطلاق بعض الروايات المتقدمة هو البطلان.
هذا ، ولكن لابد من تقديم إطلاق حديث « لا تعاد » وترجيحه على
ص: 238
إطلاقات الروايات ، لحكومة الحديث على أدلة الاجزاء والشرائط والموانع التي منها هذه الأخبار الدالة على مانعية الزيادة ، فان لسان الحديث هو قصر الجزئية والشرطية والمانعية بغير صورة النسيان ، ومن المعلوم : أنه لا تلاحظ النسبة بين الحاكم والمحكوم ، بل يقدم الحاكم على المحكوم وإن كانت النسبة بينهما العموم من وجه ، فلابد من تقييد الأخبار المتقدمة بغير صورة الزيادة السهوية.
نعم : النسبة بين حديث « لا تعاد » وبين بعض الأخبار المتقدمة ، كقوله علیه السلام « وإذا استيقن أنه زاد في المكتوبة الخ » هي العموم المطلق ، لان قوله علیه السلام « إذا استيقن » يختص بصورة الزيادة السهوية ولا يعم النقيصة ولا الزيادة العمدية. وأما الحديث فهو وإن كان يختص بصورة النسيان ، إلا أنه أعم من الزيادة والنقيصة ، فيكون قوله علیه السلام « إذا استيقن أنه زاد في المكتوبة » أخص مطلقا من قوله علیه السلام « لا تعاد الصلاة إلا من خمس » ومقتضى تحكيم الخاص على العام هو تخصيص حديث « لا تعاد » بالنقيصة السهوية ، فتكون الزيادة السهوية موجبة للبطلان بمقتضى قوله علیه السلام « إذا استيقن الخ ».
ولكن هذا بالنسبة إلى غير الاجزاء الركنية ، وأما بالنسبة إليها فالنسبة بينهما أيضا تكون بالعموم من وجه ، فان قوله علیه السلام « إذا استيقن » وإن كان يختص بالزيادة السهوية إلا أنه أعم من زيادة الركن وغيره ، وحديث « لا تعاد » وإن كان يعم الزيادة والنقيصة إلا أنه يختص بغير الركن ، فيقع التعارض بينهما في الزيادة السهوية في غير الركن ، فان إطلاق قوله : « إذا استيقن » يقتضي البطلان ، وإطلاق حديث « لا تعاد » يقتضي الصحة.
هذا ، ولكن الذي يقتضيه الجمع بين الأدلة ، هو أن يكون قوله علیه السلام « إذا استيقن الخ » مخصوصا بالزيادة السهوية في الأركان ، لان النسبة بين قوله : « إذا استيقن » مع ما ورد من عدم إعادة الصلاة بزيادة السجدة
ص: 239
الواحدة سهوا هي العموم المطلق (1) فان قوله : « إذا استيقن » وإن اختص بالزيادة السهوية ، إلا أنه أعم من الركن وغيره ، وما دل على صحة الصلاة بزيادة السجدة الواحدة سهوا يختص بالزيادة السهوية في غير الركن ، فيكون هذا أخص مطلقا من قوله : « إذا استيقن » فلابد من تخصيصه بالزيادة السهوية في الأركان بعد القطع بعدم الفرق في الاجزاء الغير الركنية بين السجدة الواحدة وغيرها ، فيتحد مفاده مع عقد المستثنى في حديث « لا تعاد ».
ويكون المتحصل من مجموع الأدلة بعد تحكيم الخاص على العام وتقديم الحاكم على المحكوم ، هو أن الزيادة العمدية توجب البطلان في الأركان وغيرها ، وكذا الزيادة السهوية في الأركان ، وأما الزيادة السهوية في غير الأركان فهي لا تقتضي البطلان ، فتأمل فيما ذكرناه جيدا.
لا إشكال في عدم تحقق معنى الزيادة بفعل ما لايكون من سنخ أجزاء المركب قولا وفعلا ، كحركة اليد في الصلاة إذا لم يأت بها بقصد الجزئية. وأما لو قصد بها الجزئية ، سواء كان ذلك للجهل بالحكم أو للتشريع ، ففي بطلان الصلاة وعدمه وجهان (2) أقواهما البطلان ، لصدق الزيادة على ذلك ، فيندرج
ص: 240
فيما تقدم من أدلة الزيادة.
فما في بعض الكلمات : من أن الزيادة التشريعية لا تقتضي البطلان واضح الفساد ، لصدق الزيادة على الزيادة التشريعية ، فيعمها قوله علیه السلام « من زاد في المكتوبة فعلية الإعادة ».
هذا إذا لم يقصد الامتثال بمجموع الزائد والمزيد فيه ، وإلا فلا إشكال في البطلان ، لعدم قصد امتثال الامر. هذا إذا لم تكن الزيادة من سنخ الاجزاء.
وإن كانت من سنخها ، فان كانت من سنخ الأقوال - كالقراءة والتسبيح - فيعتبر في صدق الزيادة عليها قصد الجزئية بها ، وإلا كان ذلك من الذكر والقرآن الغير المبطل. وإن كان من سنخ الافعال - كالقيام والسجود - فالظاهر أنه لا يعتبر في صدق الزيادة عليها يقصد الجزئية ، فان السجود الثالث يكون زيادة في العدد المعتبر من السجود في الصلاة في كل ركعة ولو لم يقصد بالسجود الثالث الجزئية.
ص: 241
نعم : لا يبعد عدم صدق الزيادة مع قصد الخلاف ، كما إذا قصد بالسجود الثالث سجدة العزيمة أو سجدة الشكر ، فإنه لا يقال : « إن المكلف زاد في صلاته سجدة الشكر » بل يقال : « إنه سجد سجدة الشكر أو العزيمة في أثناء صلاته ».
هذا ، ولكن يظهر من التعليل الوارد في بعض الأخبار الناهية عن قراءة العزيمة في الصلاة : من أن السجود زيادة في المكتوبة ، أنه لا يعتبر في صدق الزيادة عدم قصد الخلاف ، بل الاتيان بمطلق ما كان من سنخ أفعال الصلاة يكون زيادة في المكتوبة ، فيكون المنهي عنه في باب الزيادة معنى أعم من الزيادة العرفية.
ولكن يمكن أن يقال : إن المقدار الذي يستفاد من التعليل هو صدق الزيادة على الفعل الذي لا يكون له حافظ وحدة ولم يكن بنفسه من العناوين المستقلة ، وأما إذا كان المأتي به في أثناء الصلاة من العناوين المستقلة بنفسه - كما إذا أتى المكلف بصلاة أخرى في أثناء صلاة الظهر - فالظاهر أنه لا يندرج في التعليل ، لان السجود والركوع المأتي بهما لصلاة أخرى لا دخل لهما بصلاة الظهر ولا يصدق على ذلك أنه زيادة في صلاة الظهر ، ويؤيد ذلك بل يدل عليه ما ورد في بعض الاخبار : من أنه لو ضاق وقت صلاة الآيات وخاف المكلف أنه لو أخرها إلى أن يفرغ من الصلاة اليومية يفوت وقتها صلى الآيات في أثناء صلاة اليومية ولا يجب عليه استينافها بعد الفراغ من صلاة الآيات بل يبني عليها ويتمها (1) وليس ذلك إلا من جهة عدم كون ذلك زيادة في الصلاة اليومية.
وحينئذ يمكن التعدي عن مورد النص إلى عكس المسألة ، وهو ما إذا
ص: 242
تضيق وقت صلاة اليومية في أثناء صلاة الآيات ، فيمكن أن يقال : إنه يأتي باليومية في أثناء صلاة الآيات ولا تبطل بذلك ، فان بطلان صلاة الآيات إما أن يكون لأجل الزيادة وإما لأجل فوات الموالاة ، أما الزيادة : فالمفروض عدم صدقها على ما كان له عنوان مستقل ، وأما فوات الموالاة : فلا ضير فيه إذا كان ذلك لأجل تحصيل واجب أهم.
وعلى هذا يبتنى جواز الاتيان بسجدتي السهو من صلاة في أثناء صلاة أخرى إذا سهى المكلف عنهما في محلهما وتذكر بعدما شرع في صلاة أخرى ، بناء على وجوب سجود السهو فورا ، والمسألة فقهية لا ينبغي تطويل الكلام فيها في المقام ، وقد استقصينا البحث عن ذلك في كتاب الصلاة.
لو تعذر أحد القيود الوجودية أو العدمية للمأمور به باضطرار ونحوه ، ففي سقوط التكليف عن المقيد وعدمه وجهان ، بل قولان : مبنيان على ثبوت القيدية في حال التعذر ، أو اختصاصها بحال التمكن ، وتحقيق الكلام في ذلك يستدعي تحرير محل النزاع.
فنقول : قد تقدم في الامر السابق أنه لا يمكن انتزاع الجزئية والشرطية من الأوامر النفسية ، فان أقصى ما يقتضيه الامر النفسي هو وجوب ما تعلق به ، وأما كونه جزء أو شرطا للمأمور به فلا يمكن أن يفيده الامر النفسي ، فالجزئية والشرطية لا ينتزعان إلا من الأوامر الغيرية (1).
وأما المانعية : فيمكن انتزاعها من النهي الغيري والنهي النفسي ، كما في
ص: 243
باب النهي عن العبادة وكما في باب اجتماع الأمر والنهي بناء على الامتناع وتغليب جانب النهي ، فإنه يكون من صغريات النهي عن العبادة على أحد الوجهين في تحرير المسألة - كما سيأتي الإشارة إليهما - ولا إشكال في دخول المانعية المنتزعة من النواهي الغيرية في محل النزاع ، كدخول الجزئية والشرطية فيه.
وأما المانعية المنتزعة من النواهي النفسية : ففي دخولها في محل النزاع إشكال ، ينشأ من أن السبب الموجب لمانعية متعلق النهي هل هو نفس النهي؟ أو ملاكه؟ فعلى الأول : تخرج المانعية المنتزعة من النهي النفسي عن حريم النزاع في المقام ، وعلى الثاني تدخل فيه.
وتوضيح ذلك : هو أن النهي النفسي الذي يقتضي المانعية إما أن يكون هو النهي في باب النهي عن العبادة كالنهي عن الصلاة في الحرير - بناء على أن تكون مانعية الحرير لمكان حرمة لبسه - وإما أن يكون هو النهي في باب اجتماع الأمر والنهي.
فان كان الأول ، فتارة : تكون المانعية مسببة عن نفس النهي المتعلق بالحرير ومعلولة لحرمة لبسه. وأخرى : تكون مسببة عن ملاك النهي ومعلولة للمفسدة التي أوجبت حرمة لبس الحرير ، فيكون النهي والمانعية معلولي علة ثالثة.
فعلى الأول : تدور المانعية مدار وجود النهي وتسقط بسقوطه لا محال ، لأنه لا يعقل بقاء المعلول مع زوال علته ، فلو اضطر إلى لبس الحرير أو أكره عليه أو نحو ذلك من الأسباب التي توجب رفع النهي عن لبس الحرير ، فالمانعية أيضا ترتفع بتبع رفعه وتصح الصلاة فيه ، وعلى هذا تخرج المانعية المنتزعة من النهي عن العبادة عن حريم النزاع ، فان المانعية إنما كانت لأجل أن النهي عن الشيء لا يجتمع مع الامر به ، لما بينهما من المضادة ، فلابد من تقييد الامر بالصلاة مثلا بما عدا مورد النهي ، فإذا ارتفع النهي بأحد موجباته يبقى إطلاق الامر بالصلاة على حاله كأن لم يكن في البين نهي من أول الامر ، فلا موجب لتوهم سقوط
ص: 244
الامر بالصلاة عند تعذر القيد والاضطرار إلى لبس الحرير مثلا ، وذلك واضح.
وعلى الثاني : لا تدور المانعية مدار وجود النهي ، فان المانعية إنما كانت معلولة لملاك النهي ، وسقوط النهي بالاضطرار أو الاكراه لا يوجب ارتفاع الملاك الذي اقتضى النهي عن لبس الحرير ، فإنه ليس للقدرة دخل في الملاك ، فلا موجب لارتفاع المانعية بارتفاع النهي ، بل لابد من بقائها لبقاء علتها وهي ملاك النهي ، وعلى هذا تكون المانعية المنتزعة من النهي عن العبادة كالمانعية المنتزعة من النهي الغيري داخلة في حريم النزاع في المقام ، فإنه يصح البحث عن أن الاضطرار إلى لبس الحرير في الصلاة هل يوجب سقوط الامر الصلاتي رأسا؟ على تقدير أن تكون المانعية مطلقة تعم صورة التعذر ، أو أنه لا يوجب سقوط الامر الصلاتي؟ على تقدير اختصاصها بصورة التمكن ، وهذا كله مما لا إشكال فيه.
إنما الاشكال فيما فهو الصحيح من الوجهين ، فالمحكي عن المشهور : أن سقوط النهي يوجب سقوط المانعية ، وعلى بنوا جواز الصلاة في الحرير عند الاضطرار إلى لبسه ، وهذا لا يستقيم إلا بجعل المانعية مسببة عن نفس النهي لا عن ملاكه.
ولكن الانصاف : أنه لا يمكن المساعدة على ذلك (1) بل الوجه الصحيح
ص: 245
هو أن تكون المانعية معلولة للملاك لا للنهي ، فإنه لو كان وجود النهي سببا للمانعية وكان تقييد الامر الصلاتي بما عدا الحرير من لوازم وجود النهي يلزم أن يكون ارتفاع أحد الضدين مقدمة لوجود الضد الآخر وبالعكس ، فإنه لا وجه لتقيد الامر الصلاتي بما عدا مورد النهي إلا لما بين الأمر والنهي من المضادة ، فلو كان ارتفاع النهي باضطرار ونحوه يقتضي زوال المانعية وعود إطلاق الامر وشموله لمورد النهي ، كان ذلك عين القول بمقدمية عدم أحد الضدين لوجود الضد الآخر ومقدمية وجود أحدهما لعدم الآخر ، لان ارتفاع النهي يصير مقدمة لوجود الامر ، ووجود النهي يصير مقدمة لعدم الامر ، وهذا ينافي ما بنوا عليه في مبحث الضد : من إنكار المقدمية في الضدين من الجانبين ، وكأن المشهور غفلوا عما يترتب على مقالتهم : من كون المانعية معلولة لوجود النهي.
فاللازم بناء على إنكار المقدمية في الضدين هو أن تكون المانعية معلولة لملاك النهي ، فلا يكون زوال النهي سببا لزوال المانعية وعود الامر ، بل المانعية تبقى ببقاء علتها. هذا كله في المانعية المنتزعة من النهي عن العبادة.
وأما المانعية المنتزعة من النهي في باب اجتماع الأمر والنهي ، فخلاصة الكلام فيها هي : أن البحث عن اجتماع الأمر والنهي يقع في مقامين :
الأول : في أنه هل يلزم من تصادق عنوان المأمور به والمنهي عنه في مورد أن يتعلق الامر بعين ما تعلق به النهي وبالعكس؟ أو أنه لا يلزم من تصادق العنوانين تعلق كل منهما بعين ما تعلق به الآخر؟ فيكون النزاع في هذا المقام صغرويا راجعا إلى أصل اجتماع الأمر والنهي وعدمه بعد الفراغ عن امتناع اجتماعهما لما بينهما من المضادة.
المقام الثاني : في أنه عند وجود المندوحة والقدرة على إيجاد متعلق الامر في مورد لا يجتمع معه متعلق النهي وبالعكس هل يجب تخصيص إطلاق الامر بما عدا الفرد المجامع لمتعلق النهي؟ أو تخصيص إطلاق النهي بما عدا الفرد المجامع
ص: 246
لمتعلق الامر؟ أو أنه لا يجب ذلك بل يبقى إطلاق كل من الأمر والنهي على حاله؟ ولا يخفى أن البحث عن المقام الثاني إنما يصح بعد البناء على أن تصادق العنوانين لا يقتضي أن يتعلق الامر بعين ما تعلق به النهي فلا يلزم اجتماع الضدين ، وإلا سقط البحث عن المقام الثاني بالمرة ، بداهة أنه لو بنينا في المقام الأول على الامتناع وأنه يلزم من تصادق العنوانين اجتماع الضدين ، فلا يبقى مجال للبحث عن أن وجود المندوحة يقتضي تقييد الاطلاق أو لا يقتضيه ، فان وجود المندوحة وعدمه لا دخل له باجتماع الضدين وعدمه ، لاستحالة الامر بالضدين ولو فرض محالا قدرة المكلف على الجمع بينهما ، لأنه لا يمكن ثبوتا تعلق الإرادة والكراهة والحب والبغض في شيء واحد ، وقد أوضحنا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في مبحث اجتماع الأمر والنهي.
فلو بنينا على عدم كفاية تعدد الجهة وأنه يلزم من تصادق العنوانين أن يتعلق الامر بعين ما تعلق به النهي ، فلا محيص عن القول بتخصيص إطلاق الامر أو النهي بما عدا الفرد المجامع لمتعلق الآخر ، لكي لا يلزم اجتماع الضدين.
وحينئذ لو قدمنا جانب النهي - إما لكون دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ، وإما لكون الاطلاق فيه شموليا وإطلاق الامر بدليل والاطلاق الشمولي مقدم على الاطلاق البدلي ، أو غير ذلك من الوجوه التي ذكروها لتقديم إطلاق النهي وتخصيص إطلاق الامر بما عدا الفرد المجامع للمنهي عنه - فيكون النهي في باب اجتماع الأمر والنهي من صغريات النهي عن العبادة (1)
ص: 247
فإنه لا فرق بين أن يتعلق النهي بالعبادة أولا وبالذات وبين أن يتعلق بشيء آخر يتحد مع العبادة وجودا ، فيسري النهي منه إلى العبادة ، وعلى هذا يكون حكم المانعية المنتزعة من النهي في باب اجتماع الأمر والنهي حكم المانعية المنتزعة من النهي في باب النهي عن العبادة ، ويأتي فيها الكلام السابق : من أن المانعية معلولة للنهي أو لملاكه؟ فعلى الأول : لا تدخل في محل النزاع في المقام ، وعلى الثاني : تدخل ، بالبيان المتقدم. هذا إذا كان البحث في مسألة اجتماع الأمر والنهي عن المقام الأول.
وإن كان البحث فيها عن المقام الثاني ، وهو أن وجود المندوحة هل يقتضي بقاء الاطلاق في كل من طرف الأمر والنهي؟ كما ذهب إليه بعض الاعلام ، أو أن وجود المندوحة لا يقتضي ذلك؟ بل لابد من تقييد أحد الاطلاقين كما هو المختار ، فان غائلة التكليف بما لا يطاق لا ترتفع بوجود المندوحة ، كما أوضحناه في محله.
فعلى الأول : يخرج عن موضوع البحث في المقام ، فان النهي لا يستتبع المانعية حتى يبحث عن أنها مقصورة بصورة التمكن أو تعم صورة التعذر أيضا؟.
وعلى الثاني : فان قلنا بتخصيص إطلاق النهي فلا كلام أيضا ، لأنه في مورد الاجتماع لا نهي حتى يبحث عما يستتبعه من المانعية. وإن قلنا بتخصيص إطلاق الامر - كما هو الحق - فالنهي في مورد الاجتماع وإن كان يستتبع المانعية ، إلا أن المانعية حينئذ تدور مدار وجود النهي وترتفع بارتفاعه باضطرار أو إكراه أو نحوها (1) ولا يتمشى فيها الكلام السابق : من أن المانعية
ص: 248
معلولة للنهي أو للملاك؟ بل هي تتبع تنجز النهي فضلا عن وجوده ، فان تقديم النهي على هذا الوجه ليس لأجل تخصيص إطلاق الامر واقعا بما عدا الفرد المجامع للمنهي عنه ، بحيث لا يكون في الفرد المجامع ملاك الامر - كما هو الشأن في باب النهي عن العبادة - بل تقديم النهي إنما كان لأجل وقوع المزاحمة بينه وبين النهي ، فإذا سقط النهي يبقى الاطلاق في طرف الامر بلا مزاحم - كما هو الشأن في جميع موارد التزاحم - وحينئذ تخرج المانعية المنتزعة من النهي في باب اجتماع الأمر والنهي عن حريم النزاع في المقام ، لان تعذر القيد لا يوجب سقوط الامر عن المقيد قطعا.
فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن النهي النفسي المستتبع للمانعية إن كان هو النهي في باب النهي عن العبادة أو في باب اجتماع الأمر والنهي على الوجه الأول ، كان اللازم بقاء المانعية عند سقوط النهي لاضطرار ونحو. وإن كان هو النهي في باب اجتماع الأمر والنهي على الوجه الثاني ، فالمانعية تدور مدار وجود النهي وتسقط بسقوطه.
إذا عرفت ذلك : فلنرجع إلى محل البحث من أن تعذر القيد هل يقتضي سقوط المقيد رأسا أو لا؟.
والكلام في ذلك يقع في مقامين :
المقام الأول : فيما تقتضيه القاعدة الأولية في باب القيود.
المقام الثاني : في قيام الدليل على خلاف القاعدة.
فحاصل الكلام فيه : هو أن القيدية تارة : تستفاد من نفسا الامر بالمركب
ص: 249
بما له من القيود والشرائط من دون أن يكون للقيد أمر يخصه ، بل كان هناك أمر واحد تعلق بعدة أمور على اختلاف في كيفية التعلق : من جزئية بعض وشرطية آخر ومانعية ثالث. وأخرى : تستفاد القيدية من أمر آخر تعلق بنفس القيد غير الامر الذي تعلق بالمركب ، كما إذا ورد عقيب الامر بالصلاة الامر بالسجود أو الطهارة فيها أو النهي عن لبس غير المأكول.
أما القسم الأول : فلا إشكال في سقوط الامر بالمقيد عند تعذر القيد ، إذ المفروض أنه ليس هناك إلا أمر واحد تعلق بالمجموع من القيد والمقيد ، وسقوط الامر الواحد بسقوط بعض قيود متعلقه بديهي لا يحتاج إلى البيان. نعم : يمكن أن يتعلق بالباقي أمر آخر بعد سقوط الامر الأول ، وسيأتي البحث فيه في المقام الثاني.
وأما القسم الثاني : وهو ما إذا كان للقيد أمر يخصه ، فتارة : يكون للامر المتعلق به إطلاق شامل لصورة التمكن منه وعدمه. وأخرى : لا يكون للامر إطلاق ، بل كان الامر المتعلق بالمقيد مطلقا شاملا لصورة التمكن من القيد وعدمه. وثالثة : لا يكون لكل من الامر بالقيد والمقيد إطلاق ، بل كان كل منهما مجملا بالنسبة إلى حالة التمكن من القيد وعدمه.
فان كان لدليل القيد إطلاق لصورة التمكن منه وعدمه ، فلا إشكال في اقتضاء الاطلاق ثبوت القيدية حتى في صورة تعذر القيد ، ويلزمه سقوط الامر بالمقيد عند تعذره ، فلا يجب فعل المقيد خاليا عن القيد ، إلا أن يثبت وجوبه بأمر آخر : من أصل أو قاعدة - على ما سيأتي بيانه - وهذا من غير فرق بين أن يكون للامر المتعلق بالمقيد إطلاق أو لم يكن ، فإن إطلاق دليل القيد حاكم على إطلاق دليل المقيد ، كحكومة إطلاق القرينة على ذيها.
وإن كان للامر المتعلق بالمقيد إطلاق يعم صورة التمكن من القيد وعدمه من دون أن يكون لدليل القيد إطلاق لذلك ، كما إذا قام الاجماع على اعتبار
ص: 250
شئ في الصلاة وكان المتيقن منه اختصاصه بصورة التمكن من ذلك الشيء ، فالمرجع عند تعذر القيد هو الرجوع إلى إطلاق الامر بالمقيد ، فيجب فعله خاليا عن القيد.
وإن لم يكن لكل من الامر بالقيد والمقيد إطلاق ، فالمرجع عند تعذر القيد هي الأصول العملية ، وهي تقتضي عدم وجوب الفاقد للقيد ، لأصالة البراءة عن وجوبه ، إلا إذا قلنا بجريان الاستصحاب ، وسيأتي البحث عنه.
ثم إن ما ذكرنا : من الرجوع إلى إطلاق دليل المقيد في صورة إجمال دليل القيد إنما يستقيم لو قلنا بوضع الألفاظ للأعم. وأما لو قلنا بوضعها للصحيح الجامع للشرائط والاجزاء ، فلا يصح الرجوع إلى إطلاق دليل المقيد ، لاحتمال أن يكون للقيد المتعذر دخل في الصحة ، فيكون اللفظ مجملا لا يصح الاخذ بإطلاقه ، وهذا هو الفارق بين الصحيح والأعم ، كما ذكر في محله.
وكيف كان : فقد عرفت أن مقتضى إطلاق دليل القيد سقوط الامر بالمقيد عند تعذر القيد مطلقا ، من غير فرق بين القيود المستفادة من مثل قوله : « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » و « لا صلاة إلا بطهور » وبين القيود المستفادة من مثل قوله : « اسجد في الصلاة » أو « لا تلبس الحرير فيها » وأمثال ذلك من الأوامر والنواهي الغيرية.
وقد نسب التفصيل بين ذلك إلى الوحيد البهبهاني قدس سره فذهب إلى سقوط الامر بالمقيد عند تعذر القيد في الأول دون الثاني.
ويمكن توجيهه بأن الامر الغيري المتعلق بالجزء أو الشرط مقصور بصورة التمكن من ذلك الجزء أو الشرط ، لاشتراط كل خطاب بالقدرة على متعلقه ، فلابد من سقوط الامر بالقيد عند عدم التمكن منه ويبقى الامر بالباقي الفاقد للقيد على حاله ، كما إذا لم يرد أمر بالقيد من أو الامر.
وهذا بخلاف القيدية المستفادة من متل قوله : « لا صلاة إلا بفاتحة
ص: 251
الكتاب » ونحوه ، فإنه لم يتعلق أمر بالفاتحة والطهور حتى يشترط فيه القدرة عليهما ، بل إنما أفيد قيدية الطهور والفاتحة بلسان الوضع لا التكليف ، فان معنى قوله : « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » هو أنه لا تصح الصلاة إلا بالفاتحة ، ولازم ذلك سقوط الامر بالصلاة عند تعذر الفاتحة ، لعدم تمكن المكلف من إيجاد الصلاة الصحيحة عند عدم تمكنه من الفاتحة أو الطهور ، هذا غاية ما يمكن أن يوجه به كلام الوحيد رحمه اللّه من التفصيل بين القيود.
ولا يخفى ما فيه ، فان القدرة إنما تعتبر في متعلقات التكاليف النفسية لكونها طلبا مولويا وبعثا فعليا نحو المتعلق ، والعقل يستقل بقبح تكليف العاجز ، بل لو فرض عدم استقلال العقل بذلك وقلنا بمقالة الأشاعرة : من جواز التكليف بما لا يطاق ، كان نفس الخطاب يقتضي القدرة على متعلقه في التكاليف النفسية ، لان التكليف النفسي يكون تحريكا وبعثا لإرادة المكلف نحو أحد طرفي المقدور : من الفعل أو الترك ، فكل خاطب يتضمن البعث والتحريك يتضمن القدرة لا محالة.
وهذا بخلاف الخطابات الغيرية المتعلقة بالاجزاء والشرائط (1) فإنه يمكن أن يقال : إن مفادها ليس إلا الارشاد وبيان دخل متعلق الخطاب الغيري في متعلق الخطاب النفسي - كما هو الشأن في الخطابات الغيرية في باب الوضع والأسباب والمسببات - حيث إن مفادها ليس إلا الارشاد إلى دخل المتعلق في حصول المسبب ، ففي الحقيقة الخطابات الغيرية في باب التكاليف وفي باب الوضع تكون بمنزلة الاخبار ، من دون أن يكون فيها بعث وتحريك للإرادة حتى تقتضي القدرة على المتعلق.
ص: 252
ثم إنه لو سلم الفرق بين الخطابات الغيرية في باب متعلقات التكاليف وفي باب الوضعيات وأنها في التكاليف تتضمن البعث والتحريك ، فلا إشكال في أنه ليس في آحاد الخطابات الغيرية ملاك البعث المولوي (1) وإلا خرجت عن كونها غيرية ، بل ملاك البعث المولوي قائم بالمجموع ، فالقدرة إنما تعتبر أيضا في المجموع لا في الآحاد ، وتعذر البعض يوجب سلب القدرة عن المجموع ، ولازم ذلك سقوط الامر من المجموع لا من خصوص ذلك البعض ، لان تعذر البعض يقتضي تعذر استيفاء الملاك القائم بالمجموع ، فلا فرق بين القيدية المستفادة من مثل قوله علیه السلام « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » والقيدية المستفادة من الامر أو النهي الغيري.
فظهر : أن مقتضى القاعدة الأولية سقوط الامر بالمقيد عند تعذر بعض قيوده إن لم يكن لدليل المقيد إطلاق يمكن التمسك به ، من غير فرق بين أن يكون لدليل القيد إطلاق أو لم يكن.
في قيام الدليل على خلاف ما اقتضته القاعدة الأولية.
ومجمل الكلام فيه : هو أنه ربما يتمسك لوجوب ما عدا القيد المتعذر بالاستصحاب وبقاعدة الميسور.
ص: 253
أما الاستصحاب : فسيأتي الكلام فيه.
وأما القاعدة : فالمدرك فيها هو قوله صلی اللّه علیه و آله « إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم » (1) وقوله علیه السلام « الميسور لا يسقط بالمعسور » (2) وقوله علیه السلام « ما لا يدرك كله لا يترك كله » (3). واشتهار هذه الروايات بين الأصحاب يغني عن التكلم في سندها ، فالمهم هو بيان مقدار دلالتها.
أما قوله صلی اللّه علیه و آله « إذا أمرتكم بشيء » الخبر ، فيشكل دلالته على ما نحن فيه : من وجوب الباقي عند تعذر بعض الاجزاء أو الشرائط ، فان المراد من الشيء المأمور به بقرينة المورد هو الكلي الذي له أفراد طولية لا الكل المركب من الاجزاء ، فإنه ورد في الحج عند سؤال بعض الصحابة عن وجوبه في كل عام وإعراضه صلی اللّه علیه و آله عن الجواب حتى كرر السائل سؤال مرتين أو ثلاث ، فقال صلی اللّه علیه و آله « ويحك! وما يؤمنك أن أقول نعم ، واللّه! لو قلت نعم لوجب ، ولو وجب ما استطعتم » إلى أن قال صلی اللّه علیه و آله « فإذا أمرتكم بشيء فأتوا من ما استطعتم » الخبر. والمعنى « إذا أمرتكم بشيء كلي تحته أفراد فاتوا من تلك الافراد بقدر استطاعتكم » فيدل على استحباب الافراد الممكنة أو وجوبها ، ولا دلالة على وجوب الاجزاء الممكنة من المركب ، فان ذلك لا يناسب المورد وجهة السؤال.
وتوهم : أنه يمكن أن يكون المراد من « الشيء » الأعم من الكل والكلي ، والمعنى « إذا أمرتكم بشيء ذي أجزاء أو ذي أفراد فأتوا من تلك الأجزاء أو الافراد بقدر ما استطعتم » فاسد ، إذ لا جامع بينهما ، فان لحاظ الافراد يباين لحاظ
ص: 254
الاجزاء ولا يصح استعمال كلمة « من » في الأعم من الاجزاء والافراد ، وإن صح استعمال « الشيء » في الأعم من الكل والكلي (1).
فالانصاف : أن مورد الرواية يوجب وهن دلالتها على ما نحن فيه وإن كان لها ظهور في ذلك مع قطع النظر عن المورد ، فان كلمة « من » ظاهرة في التبعيض ، واحتمال أن تكون بيانية أو بمعنى الباء بعيد ، إلا أنه يقرب هذا الاحتمال مورد الرواية.
وأما قوله علیه السلام « الميسور لا يسقط بالمعسور » فظهوره فيما نحن فيه مما لا يكاد يخفى ، إذ ليس فيه ما يوجب حمله على الميسور من الافراد ، بل ظاهره أن ميسور كل شيء لا يسقط بمعسوره ، والمراد من عدم سقوط الميسور عدم سقوطه بما له من الحكم الوجوبي أو الاستحبابي ، نظير قوله علیه السلام في أخبار الاستصحاب : « لا تنقض اليقين بالشك » فان معناه عدم نقض المتيقن بما له من الحكم بالشك ، ومن هنا يجري الاستصحاب في التكاليف الوجوبية والاستحبابية ، فالقاعدة تعم كلا من ميسور الواجب والمستحب.
وبذلك يندفع ما ربما يتوهم : من عدم عموم القاعدة للتكاليف الوجوبية والاستحبابية ، فإنه إن أريد من النفي خصوص الاستحباب أو مطلق الرجحان فرجحان الميسور لا يلازم وجوبه ، وإن أريد من النفي خصوص الوجوب خرجت التكاليف الاستحبابية عن عموم القاعدة.
وأما قوله علیه السلام « مالا يدرك كله لا يترك كله » فلا يبعد أيضا أن يكون المراد من الموصول الأعم من الكل والكلي ، بل ربما يقال بظهوره في
ص: 255
خصوص الكل المركب من الاجزاء ولا يشمل الكلي. ولكنه ضعيف ، فإنه لا موجب لاختصاص الموصول بالكل ، بل يعم الكلي أيضا.
فدلالة الخبرين على وجوب ما عدا القيد المتعذر مما لا ينبغي الاشكال فيها ، وهما المدرك لقاعدة الميسور.
يعتبر في القاعدة أن يكون الباقي المتمكن منه مما يعد عرفا ميسور المتعذر ، بأن يكون الباقي ركن المركب وما به قوامه (1) وكان المتعذر من الخصوصيات الخارجة عن الحقيقة وإن كانت معتبرة فيه شرعا أو عرفا ، إذ لولا ذلك لم يصدق على الباقي أنه ميسور المتعذر ، بل كان أمرا مباينا له ، فكل ما صدق على المتمكن منه أنه ميسور المتعذر يندرج في القاعدة ، ولابد من إحراز ذلك ولا يكفي الشك فيه ، وهذا مما لا إشكال فيه.
إنما الاشكال في تشخيص كون الباقي ميسور المتعذر في الموضوعات الشرعية ، فإنه في الموضوعات العرفية يمكن تشخيص ذلك ، فان القيام مثلا الذي اخذ جزء للصلاة له معنى عرفي وهي الهيئة المقابلة لهيئة الجلوس والمشي والاضطراب الفاحش ، وله خصوصيات اخر اعتبره الشارع فيه : من الاستقرار
ص: 256
والاعتماد على الأرض والانتصاب وغير ذلك ، فلو تعذر الاعتماد على الأرض أو الاستقرار يصدق على الباقي المتمكن منه أنه ميسور المتعذر ، فلا ينتقل الفرض إلى الجلوس أو المشي للتمكن من تلك الهيئة التي يتقوم بها حقيقة القيام عرفا.
وأما لو فرض تعذر تلك الهيئة ودار الامر بين الجلوس والمشي ، ففي تقديم المشي على الجلوس بدعوى : أنه أقرب إلى القيام ، إشكال ، إذ لا أثر للأقربية ما لم يصدق على المشي أنه ميسور المتعذر ، ولا يصدق ذلك ، لان العرف يعد المشي مباينا للقيام ، وكذا الكلام في الركوع والسجود ونحو ذلك من الموضوعات العرفية ، فإنه يمكن فيها تشخيص كون الباقي ميسور المتعذر بالنسبة إلى بعض المراتب ، وبالنسبة إلى بعضها الآخر يقطع بعدم الصدق ، وقد يشك أيضا ، إذ الشك في الموضوعات العرفية ليس بعزيز الوجود ، فلابد في ذلك من الرجوع إلى ما يقتضيه الأصول العملية ، هذا في الموضوعات العرفية.
وأما الموضوعات الشرعية : فتشخيص الركن عن غيره والميسور عن المباين في غاية الاشكال ، فان كون الركعتين أو الثلاث ميسور الأربع عند تعذر الأربع مما لا طريق إلى إحرازه ، إذ من المحتمل أن تكون خصوصية الأربع ركنا لصلاة الظهر ومقومة لحقيقتها ، وكذا كون الغسلات الثلاث بلا مسح عند تعذر المسح ميسور الوضوء مما لا يكاد يعلم ، إذ من المحتمل أن يكون للمسح دخل في حقيقة الوضوء
ولذا اختلف الأصحاب عند تعذر المسح ببلل الماسح على أقوال ثلاث : فقيل : إنه ينتقل إلى التيمم ، وقيل : إنه يمسح من غير بلة ، وقيل إنه يأخذ من بلل سائر الأعضاء أو من ماء آخر ، وليس هذا الاختلاف إلا لأجل عدم تشخيص الركن في قوله علیه السلام « امسح ببلة يمناك » (1) فإنه يحتمل أن
ص: 257
يكون الركن هو السمح باليمنى وكون المسح بالبلة من الخصوصيات الخارجة المعتبرة فيه ، ويحتمل أيضا أن يكون الركن هو المسح بالبلة وكون البلة من اليمنى من الخصوصيات المعتبرة ، ويحتمل أيضا أن يكون الركن مجموع الأمرين ، وهذه الاحتمالات صارت منشأ للأقوال الثلاثة.
وبالجملة : معرفة الميسور في الموضوعات الشرعية في غاية الاشكال ، ولأجل ذلك قيل : « إن التمسك بقاعدة الميسور في العبادات يتوقف على عمل الصحابة » فان الحاجة إلى عمل الأصحاب ليس لجبر السند أو الدلالة ، فان السند لا يحتاج جبره إلى العمل بالرواية في جميع الموارد ، بل يكفي في الجبر العمل بالرواية في الجملة ولو في مورد واحد ، وأما الدلالة فالعمل غير جابر لها - كما حققناه في محله - فالحاجة إلى العمل في المقام إنما هو لأجل تشخيص الركن في العبادة ليكون الباقي ميسور المتعذر ، فان من عمل الصحابة بالقاعدة في مورد يستكشف أن الباقي كان عندهم ركنا وأنهم أخذوا ذلك من أئمتهم علیهم السلام فتأمل جيدا.
ثم إنه لا فرق في القاعدة بين الاجزاء والشرائط ، إذ رب شرط يكون ركنا للمركب كالطهارة للصلاة ، ورب شرط لا يكون ركنا كالاستقبال ، فالتفصيل بين الاجزاء والشرائط بدخول الاجزاء في القاعدة دون الشرائط مما لا وجه له ، هذا كله في التمسك بالقاعدة على وجوب الباقي المتمكن منه.
وأما التمسك بالاستصحاب على وجوبه ، فيعتبر في جريانه كل ما يعتبر في القاعدة ، لأنه يعتبر في الاستصحاب بقاء الموضوع واتحاد القضية المشكوكة للقضية المتيقنة عرفا ، وبقاء الموضوع إنما يكون ببقاء أركانه المقومة لحقيقته وكان منشأ الشك انتفاء بعض الخصوصيات الخارجة عن الحقيقة التي لا يضر انتفائها ببقاء الموضوع عرفا ، وسيأتي تفصيل ذلك ( إن شاء اللّه تعالى ) في مبحث الاستصحاب.
ص: 258
وإجماله : أن الوصف العنواني الذي اخذ موضوعا في ظاهر الدليل تارة : يكون تمام الموضوع للأثر الذي رتب عليه. وأخرى : يكون معرفا لما هو الموضوع من دون أن يكون له دخل في حقيقة الموضوع ، واستظهار أحد الوجهين إنما يكون من الخارج أو من مناسبة الحكم والموضوع ، فان مناسبة الحكم والموضوع في مثل « قلد المجتهد الحي » أو « أعط الزكاة للفقير » تقتضي أن يكون لوصف الاجتهاد والفقر دخل في جواز التقليد وإعطاء الزكاة ويكون هو الموضوع لذلك ، بحيث يدور بقاء الموضوع وارتفاعه ببقاء الوصف العنواني وارتفاعه ، كما أن مناسبة الحكم والموضوع في مثل نجاسة الماء المتغير تقتضي أن يكون الموضوع هو ذات الماء لا وصف التغير بل يكون الغير علة لعروض النجاسة على الماء ، فلا يدور بقاء الموضوع مدار بقاء وصف التغير ، بل الموضوع باق عرفا ولو زال التغير.
وقد يشك في دخل الوصف العنواني وعدمه ، والاستصحاب إنما يجري فيما علم عدم مدخلية الوصف في الموضوع وكان منشأ الشك احتمال أن يكون التغير علة للحدوث والبقاء فيرتفع الحكم بارتفاع علته لا بارتفاع موضوعه ، وأما إذا علم بأن للوصف العنواني دخلا في الموضوع أو شك في ذلك ، فالاستصحاب لا يجري ، للعلم بارتفاع الموضوع في الأول والشك في بقائه في الثاني ، فلم يحرز اتحاد القضية المشكوكة للقضية المتيقنة. هذا إجماله وتفصيله موكول إلى محله.
إذا عرفت ذلك فاعلم : أنه يصح التمسك بالقاعدة لما نحن فيه : من وجوب الباقي المتمكن منه عند تعذر بعض الشرائط والاجزاء التي لا تعد من الأركان ، من غير فرق بين أن يكون لدليل القيد إطلاق أو لم يكن ، إذ إطلاق دليل القيد لا يقتضي أزيد من ثبوت القيد حتى عند العجز عنه ، وهذا لا ينافي قيام دليل آخر على وجوب الخالي عن القيد عند تعذره ، إذ ليس لدليل القيد مفهوم ينفي الحكم عما عداه حتى يقع التعارض بينه وبين ما يدل على وجوب الباقي ،
ص: 259
فقاعدة الميسور تقتضي وجوب الفاقد للقيد المتعذر ، ولا مجال للبراءة مع القاعدة ، وذلك واضح.
وأما التمسك بالاستصحاب : فالأقوى فيه التفصيل بين إجمال دليل القيد وإطلاقه ، فإنه لا مجال للاستصحاب مع إطلاق دليل القيد ، لان إطلاقه يقتضي بقاء القيدية عند تعذر القيد ، ولازم ذلك هو ارتفاع ذلك الشخص من الوجوب المتعلق بالكل عند تعذر بعض أجزائه ، فلا معنى لاستصحابه ، للقطع بارتفاعه ، إلا بناء على اعتبار القسم الثاني من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي ، وهو ما إذا شك في حدوث فرد آخر مقارنا لارتفاع الفرد المتيقن ، وسيأتي عدم اعتبار هذا القسم من الاستصحاب إلا على بعض الوجوه. هذا إذا كان لدليل القيد إطلاق.
وأما إذا لم يكن له إطلاق يعم صورة التعذر ، فالاستصحاب يجري - لولا حكومة القاعدة عليه - للشك في ارتفاع ذلك الشخص من الوجوب ، لاحتمال أن تكون القيدية مقصورة بصورة التمكن من القيد ، فيبقى وجوب الباقي على حاله.
هذا ، ولكن شيخنا الأستاذ - مد ظله - كان يميل إلى عدم التفصيل بين إطلاق دليل القيد وعدمه وأن الاستصحاب يجري في كلا الصورتين - لولا حكومة القاعدة عليه - ولم يذكر لذلك وجه يمكن الاعتماد عليه ، فتأمل جيدا.
الأول : إذ دار الامر بين سقوط الجزء أو الشرط بأن تعذر جمعهما في الامتثال ، ففي وجوب صرف القدرة في الجزء وفعل المركب فاقدا للشرط ، أو التخيير في صرف القدرة في أحدهما إن لم يكن في البين أحد مرجحات باب التزاحم وإلا تعين صرف القدرة في الراجح منهما ، وجهان بل قولان : أقواهما الثاني
ص: 260
وربما يقال : إنه يتعين صرف القدرة في الجزء ، بتوهم : أن تقدم رتبة الجزء على الشرط في مقام تأليف الماهية - حيث إن نسبة الجزء إلى الأثر المقصود نسبة المقتضي المقدم طبعا على الشرط - يقتضي تقدم الجزء على الشرط في مقام الامتثال أيضا.
وفيه : منع الملازمة ، فان تقدم لحاظ الجزء في مقام التأليف لا يقتضي ترجيحه على الشرط عند وقوع التزاحم بينهم ، بل لابد من ملاحظة مرجحات باب التزاحم ، فربما يقدم الشرط على الجزء إذا كان في الشرط أحد موجبات التقديم من الأهمية وغيرها. ويظهر من الشيخ قدس سره تقديم الجزء مطلقا ، ولا وجه له.
الفرع الثاني : إذا كان للمركب بدل اضطراري - كالوضوء - وتعذر بعض الاجزاء أو الشرائط التي لا تكون من الأركان ، ففي وجوب الناقص وعدم الانتقال إلى البدل الاضطراري وعدمه وجهان : أقواهما الأول ، إذ لا موجب للانتقال إلى البدل الاضطراري (1) لان الانتقال إليه يتوقف على عدم التمكن من المركب الذي هو الواجب بالأصالة ، وقاعدة الميسور تقتضي تعين الباقي المتمكن منه ، ويصير الواجب هو الخالي عن المتعذر ، فيكون بمنزلة الواجب الأصلي ، فلا تصل النوبة إلى البدل الاضطراري ، فتأمل جيدا.
لو دار الامر بين كون الشيء شرطا أو مانعا ، فالأقوى فيه الاحتياط بتكرار العبادة ، لأنه يكون من دوران الامر بين المتباينين مع التمكن من الموافقة
ص: 261
القطعية ، وليس من الأقل والأكثر - كما يظهر من كلام الشيخ قدس سره أخيرا - لأن الشك في المقام يرجع إلى حقيقة المأمور به وأنه متشخص بقيد وجودي أو بقيد عدمي ، ولا جامع بينهما.
وبعبارة أخرى : يرجع الشك إلى أن المأمور به « بشرط شيء » أو « بشرط لا » هذا لا ربط له بباب الأقل والأكثر ، لأن الشك فيه يرجع إلى كون المأمور به « لا بشرط » أو « بشرط شيء » فتوهم اندراج المقام في مسألة الأقل والأكثر ضعيف غايته.
وأضعف من ذلك توهم اندراج المقام في باب دوران الامر بين المحذورين ، بتخيل عدم التمكن من المخالفة القطعية بالنسبة إلى المشكوك فيه ، لان الفعل إما أن يكون واجدا للمشكوك وإما أن يكون فاقدا له ، وعلى كلا التقديرين لا يعلم بالمخالفة ، فلا مانع من جريان البراءة عن كل من الشرطية والمانعية ، لأنه لا يلزم من ذلك مخالفة عملية ، فيكون المكلف مخيرا بين الفعل الواجد للمشكوك والفاقد له ، كما هو الشأن في جميع موارد دوران الامر بين المحذورين.
وجه الضعف : هو أن التخيير عند دوران الامر بين المحذورين إنما هو لأجل عدم التمكن من الموافقة القطعية لعدم خلو المكلف من الفعل أو الترك بحسب الخلقة ، ولذا كان التخيير فيه من التخيير العقلي التكويني وليس من التخيير الشرعي ، وأين هذا مما نحن فيه؟ فان المكلف يتمكن من الموافقة القطعية ولو بتكرار العبادة ، واجدة للمشكوك تارة وفاقده له أخرى ، واعتبار الامتثال التفصيلي والجزم بالنية إنما هو فيما إذا تمكن المكلف منه ، لا فيما إذا تعذر عليه ، فان العقل يستقل حينئذ بحسن الامتثال الاجمالي.
فظهر : أنه لا محيص في المقام من الاحتياط بتكرار العبادة ، من غير فرق بين أن يكون الشك في الشرطية والمانعية لأجل الشك في المكلف به وتردده بين القصر والاتمام ، أو لأجل الشك في كون الشيء شرطا للصلاة أو مانعا ، أو
ص: 262
لأجل الشك في كونه شرطا للجزء أو مانعا ، ففي جميع الأقسام المتصورة في دوران الامر بين الشرط والمانع يجب الاحتياط بتكرار العمل.
هذا تمام الكلام في مباحث الشك في المكلف به بأقسامه.
بقي من أقسام الشك في المكلف به ما إذا اشتبه الواجب بالحرام ، كما إذا علم بوجوب أحد الشيئين وحرمة الآخر واشتبه الواجب بالحرام ، وقد أطلق الشيخ قدس سره الحكم بالتخيير بين فعل أحدهما وترك الآخر ، وذكر في وجهه : ان الموافقة الاحتمالية لكل من التكليفين أولى من الموافقة القطعية لأحدهما والمخالفة القطعية للآخر بعد عدم تمكن المكلف من الموافقة القطعية لكل منهما.
هذا ، ولكن الحكم بالتخيير بقول مطلق لا يخلو عن إشكال ، بل ينبغي ملاحظة مرجحات باب التزاحم ، فيقدم الموافقة القطعية للأهم منهما وإن استلزم ذلك المخالفة القطعية للآخر ، فان المقام يندرج في صغرى التزاحم ، وإن كان بين التزاحم في المقام وبين غيره فرق ، لان التزاحم في غير المقام يرجع إلى ناحية القدرة التي هي شرط الخطاب ، لعدم القدرة على الجمع بين المتعلقين ، والتزاحم في المقام يرجع إلى ناحية تأثير العلم الاجمالي ، لان العلم الاجمالي بكل من الواجب والحرام يقتضي تنجيز التكليف بمتعلقه وتأثيره في الخروج عن عهدته والقطع بامتثاله ، وحيث لا يتمكن المكلف من الجري على ما يقتضيه كل من العلمين والخروج عن عهدة الامتثال القطعي لكل من التكليفين لجهله بمتعلق الوجوب والحرمة ، فلا محالة يقع التزاحم في تأثير العلم للامتثال القطعي لكل منهما ، وينبغي تأثير ما هو الأقوى منهما بحسب أقوائية الملاك القائم بمتعلقه ، فيقتضي الموافقة القطعية له ويسقط الآخر عن التأثير ، فلو
ص: 263
كان الحرام أقوى ملاكا قدم امتثاله القطعي وإن استلزم مخالفة الواجب ، وإن كان الواجب أقوى ملاكا قدم امتثاله القطعي وإن استلزم مخالفة الحرام.
فظهر الفساد القول بالتخيير بقول مطلق. نعم : لو لم يكن أحدهما أقوى ملاكا من الآخر صح القول بالتخيير ، على الوجه الذي أفاده فتأمل (1)
* * *
خاتمة
في بيان ما يعتبر في الاخذ بالبراءة والاحتياط
والبحث عن ذلك يقع في مقامين :
والأقوى : أنه لا يعتبر في حسن الاحتياط عقلا أزيد من تحقق موضوعه : سواء كان الاحتياط حقيقيا محرزا للواقع على ما هو عليه ، أو إضافيا أقرب إلى الواقع ، كالاخذ بأحوط القولين أو الأقوال بين المجتهدين الاحياء ، وسواء كان على خلافه حجة معتبرة شرعية من أمارة أو أصل أو لم يكن.
ص: 264
نعم : يعتبر في حسن الاحتياط إذا كان على خلافه حجة شرعية أن يعمل المكلف أولا بمؤدى الحجة ثم يعقبه بالعمل على خلاف ما اقتضته الحجة إحرازا للواقع ، وليس للمكلف العمل بما يخالف الحجة أولا ثم العمل بمؤدى الحجة ، إلا إذا لم يستلزم رعاية احتمال مخالفة الحجة للواقع استيناف جملة العمل وتكراره ، كما إذا كان مفاد الحجة عدم وجوب السورة في الصلاة ، فان رعاية احتمال مخالفتها للواقع يحصل بالصلاة مع السورة ولا يتوقف على تكرار الصلاة وإن كان يحصل بالتكرار أيضا.
وهذا بخلاف ما إذا كان مفاد الحجة وجوب خصوص صلاة الجمعة مع احتمال أن يكون الواجب هو خصوص صلاة الظهر ، فان رعاية احتمال مخالفة الحجة للواقع لا يحصل إلا بتكرار العمل ، وفي هذا القسم لا يحسن الاحتياط إلا بعد العمل بما يوافق الحجة ولا يجوز العكس.
والسر في ذلك : هو أن معنى اعتبار الطريق : إلقاء احتمال مخالفته للواقع عملا وعدم الاعتناء به ، والعمل أولا برعاية احتمال مخالفة الطريق للواقع ينافي إلقاء احتمال الخلاف (1) فان ذلك عين الاعتناء باحتمال الخلاف ، وهذا بخلاف ما إذا قدم العمل بمؤدى الطريق ، فإنه حيث قد أدى المكلف ما هو الوظيفة وعمل بما يقتضيه الطريق ، فالعقل يستقل بحسن الاحتياط لرعاية إصابة الواقع ، هذا مضافا إلى أنه يعتبر في حسن الطاعة الاحتمالية عدم التمكن من الطاعة التفصيلية - كما سيأتي بيانه - وبعد قيام الطريق المعتبر على وجوب صلاة الجمعة يكون المكلف متمكنا من الطاعة والامتثال التفصيلي بمؤدى الطريق ، فلا يحسن منه الامتثال الاحتمالي لصلاة الظهر (2).
ص: 265
ثم إن وجوب تقديم العمل بمؤدى الحجة على الاحتياط إنما هو فيما إذا كانت الحجة محرزة للواقع : من امارة أو أصل تنزيلي.
وأما إذا كانت غير محرزة - كالأصول الغير التنزيلية - فلا يجب تقديم العمل بمؤداها على الاحتياط : إذ ليس مفاد الأصل الغير المحرز ثبوت المؤدى واقعا ولا إلقاء احتمال الخلاف ، بل مفاد اعتباره مجرد تطبيق العمل على مؤداه والجري على ما يقتضيه ، وتطبيق العمل على المؤدى لا ينافي رعاية احتمال الخلاف والعمل بما يوجب إحراز الواقع ، قدمه على العمل بمؤدى الأصل أو أخره.
هذا كله في الحجة التي قام الدليل على اعتبارها بالخصوص. وأما إذا كان اعتبارها بدليل الانسداد المستنتج منه حجية مطلق الظن ، فان قلنا بالكشف فحكمه حكم الامارة والأصل المحرز : من وجوب تقديم العمل بمؤدى الظن على العمل بالاحتياط ، وإن قلنا بالحكومة فحكمه حكم الأصل الغير المحرز : من عدم وجوب ذلك ، ولا يخفى وجهه.
قد خالف في حسن الاحتياط في العبادات جملة من الفقهاء تبعا لقاطبة المتكلمين ، بتوهم : أن الاحتياط فيها يستلزم الاخلال بقصد الوجه المعتبر في العبادة ، وعلى هذا بنوا بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد والعمل
ص: 266
بالاحتياط مع التمكن منهما ، وقد حكي عن بعض : عدم كفاية قصد الوجه ، بل لابد مع ذلك من قصد الجهة التي اقتضت وجوب العبادة أو استحبابها. وفي المسألة أقوال اخر : من وجوب قصد التمييز والعلم بواجبات الاجزاء ومستحباتها ، وغير ذلك مما يقف عليه المتتبع.
والتحقيق : أنه لا يعتبر شيء من ذلك في صحة العبادة ، بل القدر اللازم هو قصد امتثال أمرها الواقعي ، ولا يعتبر العلم بوجوبه أو استحبابه ، ولا العلم بواجبات الاجزاء ومستحباتها ، فضلا عن قصد ذلك ، فضلا عن قصد الجهة ، فان اعتبار هذه الأمور في العبادة ، إما لأجل توقف صدق الطاعة عقلا وتحقق الامتثال عرفا عليها ، وإما لأجل قيام الدليل بالخصوص على اعتبارها ، ولا سبيل إلى دعوى أحدهما في المقام.
أما الأول : فللقطع بحصول الطاعة والامتثال بقصد الامر الواقعي وإن لم يعلم بوجوبه واستحبابه ، بل يكفي مجرد العلم بتعلق الطلب بالعبادة ، ولا يتوقف قصد الامر على قصد وجهه : من الوجوب أو الاستحباب.
وتوهم : أنه لا وجود للقدر المشترك بين الوجوب والاستحباب واقعا بل الامر الواقعي لابد وأن يكون واجدا لاحد الوصفين فلو لم يقصد المكلف خصوصية الوجوب أو الاستحباب وقصد الامر المشترك بينهما فقد قصد أمرا لا وجود له واقعا ، فاسد ، فان عدم وجود القدر المشترك واقعا لا دخل له في ذلك ، فان المدعى كفاية قصد الامر الواقعي بما له من الوصف إجمالا وإن لم يعلم به تفصيلا. فدعوى : توقف صدق الطاعة وقصد الامر على قصد الوجه ، ضعيف غايته.
وأضعف منه اعتبار قصد الجهة : من المصلحة التي اقتضت وجوب العبادة ، فإنه لم يتعلق الطلب بالمصلحة ، كما أوضحناه سابقا. مع أنه لا وجه لتخصيص ذلك بالعبادات ، بل ينبغي التعميم للتوصليات أيضا ، لابتناء جميع الأوامر على
ص: 267
المصالح بناء على أصول العدلية.
وأما الثاني : فلانه لم نعثر فيما بأيدينا من الاخبار على ما يدل على اعتبار شيء من ذلك في العبادة ، مع أن المسألة مما تعم به البلوى ويتكرر الحاجة إليها ليلا ونهارا ، وليست من المرتكزات في أذهان العامة حتى يصح للشارع الاتكال على ذلك ، بل هي من المسائل المغفول عنها غالبا ، وما هذا شأنه يلزم على الشارع التأكيد في بيانه ، فعدم الدليل في مثل ذلك دليل العدم. ويصح لنا دعوى القطع بعدم اعتبار هذه الأمور في العبارة.
ثم إنه لو سلم عدم حصول القطع من ذلك فلا أقل من الشك فيه ، فتجري فيه أصالة البراءة - كالشك في أصل التعبدية والتوصلية - خلافا للشيخ قدس سره حيث منع عن جريان البراءة في المقام جريا على مبناه : من أصالة الاشتغال في كل ما شك في دخله في العبادة مما لا يمكن أخذه في متعلق الامر. ولكن هذا خلاف التحقيق عندنا ، فان قصد القربة بفروعها - من قصد الوجه ونحوه - وإن لم يكن أخذه في المتعلق ، إلا أنه لابد من أن ينتهي اعتباره إلى الشارع ولو بنتيجة التقييد ، وبالآخرة يرجع الشك في التعبدية والتوصلية بفروعها إلى الأقل والأكثر.
وتوهم : الفرق بين قصد القربة وبين فروعها برجوع الشك فيها إلى الشك في المحصل لاحتمال أن يكون لقصد الوجه مثلا دخل في حصول القربة عقلا فلا تتحقق الطاعة والامتثال بدونه ، فاسد ، فان أقصى ما يمكن أن يدعى هو أن يكون قصد الوجه قد اعتبر قيدا في حصول القربة وتحقق الامتثال ، إلا أن اعتباره على هذا الوجه إنما يكون بجعل من الشارع ، وليس من المجعولات العقلية بحيث يستقل العقل باعتبار قد الوجه في حصول الطاعة ، إذ ليس من وظيفة العقل اعتبار شيء قيدا أو جزء في المأمور به بل ذلك من وظيفة الشرع ، فيرجع الشك بالآخرة إلى أخذ الشارع قصد الوجه قيدا في المأمور به وتجري فيه
ص: 268
البراءة.
فتحصل من جميع ما ذكرنا : أنه لا يعتبر في حسن الاحتياط عقلا عدم قصد الوجه والتمييز ونحو ذلك.
نعم : يعتبر في حسن الاحتياط عقلا عدم التمكن من إزالة الشبهة ، فان مراتب الامتثال عقلا أربعة : الأول : الامتثال التفصيلي. الثاني : الامتثال الاجمالي. الثالث : الامتثال الظني. الرابع : الامتثال الاحتمالي. ولا يجوز الانتقال إلى المرتبة اللاحقة إلا بعد تعذر المرتبة السابقة ، فإنه فيما عدا المرتبة الأولى لا يمكن قصد امتثال الامر التفصيلي حال العمل ، ويعتبر في حسن الطاعة الاحتمالية عدم القدرة على الطاعة التفصيلية ، ولا يحسن من المكلف في مقام الطاعة قصد الامر الاحتمالي مع التمكن من قصد الامر القطعي التفصيلي ، لان حقيقة الطاعة هي أن تكون إرادة العبد تبعا لإرادة المولى بانبعاثه عن بعثه وتحركه عن تحريكه ، وهذا يتوقف على العلم بتعلق البعث والتحريك نحو العم ، ولا يمكن الانبعاث بلا توسيط البعث الواصل إلى المكلف ، والانبعاث عن البعث المحتمل ليس في الحقيقة انبعاثا (1) فلا يكاد يتحقق حقيقة الطاعة والامتثال إلا بعد العلم بتعلق البعث نحو العمل ليكون الانبعاث عن البعث.
نعم : الانبعاث عن البعث المحتمل أيضا مرتبة من العبودية ونحو من الطاعة
ص: 269
والامتثال ، إلا أنه يتوقف حسن ذلك على عدم التمكن من الانبعاث عن البعث المعلوم الذي هو حقيقة العبادة والطاعة ، فمع التمكن من الامتثال التفصيلي لا يحسن من العبد الامتثال الاحتمالي ، والمفروض : أن الامتثال في جميع موارد الاحتياط لا يكون إلا احتماليا حتى في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ، لعدم العلم بتعلق العبث في كل طرف من أطرافه وإن كان يعلم بتعلق البعث في أحد الأطراف على سبيل الاجمال. والعبرة في الامتثال التفصيلي هو العلم بتعلق البعث بالعمل حال صدوره من العامل ، وكل طرف من أطراف المعلوم بالاجمال مما لا يعلم تعلق البعث به حال الصدور ، فلا يكون الامتثال فيه تفصيليا ، وقد عرفت : أنه مع التمكن من الامتثال التفصيلي لا يحسن الامتثال الاحتمالي ، فيتوقف حسن الاحتياط مطلقا على عدم التمكن من الامتثال التفصيلي بإزالة الشبهة ، وعلى ذلك جرت طريقة العقلاء في مقام الطاعة ، ولا يكاد يشك في تقدم رتبة الامتثال التفصيلي على الامتثال الاحتمالي عندهم.
وعلى فرض التشكيك في ذلك وانتهاء الامر إلى الأصول العملية ، فالمرجع هي قاعدة الاشتغال لا البراءة لان الامر يدور بين التخيير والتعيين ، إذ يحتمل أن يكون الامتثال التفصيلي مع التمكن منه هو المتعين على المكلف ولا يكون مخيرا بينه وبين الامتثال الاحتمالي ، وقد تقدم في مبحث البراءة : أنه مهما دار الامر بين التخيير والتعيين فالأصل يقتضي التعيينية.
وليس الشك في المقام كالشك في اعتبار قصد الوجه ، حيث قلنا : إنه تجري فيه البراءة لرجوع الشك فيه إلى الأقل والأكثر ، فإنه لا جامع بين الامتثال التفصيلي والامتثال الاحتمالي ، فلا يجري عليه حكم الشك بين الأقل والأكثر بل يجري عليه حكم الشك بين المتباينين ، فتأمل.
ص: 270
الاحتياط ، إما أن يكون في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ، وإما أن يكون في الشبهات البدوية.
وعلى الثاني : فتارة : تكون الشبهة من الشبهات الحكمية الالزامية ، كما إذا احتمل وجوب الدعاء عند رؤية الهلال. أخرى : تكون من الشبهات الحكمية الغير الالزامية ، كما إذا احتمل استحباب الدعاء في المثال. وثالثة : تكون من الشبهات الموضوعية.
وما تقدم : من عدم حسن الاحتياط مع التمكن من إزالة الشبهة إنما كان في الاحتياط في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ، سواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية.
وأما الشبهات البدوية : فلا ينبغي الاشكال في حسن الاحتياط إذا كانت الشبهة موضوعية أو حكمية غير إلزامية ولو مع التمكن من إزالة الشبهة ، لعدم وجوب الفحص فيهما وجواز الاقتحام فيها اعتمادا على الأصل ، فلا مجال لتوهم عدم حسن الاحتياط فيها ، فان الوجدان يأبى عن المنع عن حسن الطاعة الاحتمالية مع جواز ترك الطاعة رأسا ، فلا إشكال في حسن الاحتياط في الشبهة البدوية الموضوعية والحكمية الغير الالزامية ، بل لا ينبغي الاشكال في حسن الاحتياط في الشبهة الحكمية الغير الالزامية مطلقا ولو كانت مقرونة بالعلم الاجمالي ، لعين ما ذكرناه في الشبهة البدوية.
وأما الشبهة الحكمية الالزامية : ففي جواز الاحتياط فيها وترك الفحص إشكال ، والأقوى : عدم جواز الاحتياط إلا بعد الفحص واليأس عن زوال الشبهة لكي يتعذر الامتثال التفصيلي (1) فإنه بعد البناء على اعتبار الامتثال التفصيلي في
ص: 271
صحة العبادة وأخذه قيدا في المأمور به ولو بنتيجة التقييد يكون حكمه حكم سائر الأجزاء والشرائط المعتبرة في المركب ، فكما أنه لو شك في وجوب ما يكون مركبا من عدة من الاجزاء والشرائط لا يجوز الاتيان بذلك المركب فاقدا لبعض أجزائه وشرائطه ولا يكون الفاعل معذورا لو كان المركب واجبا واقعا ، كذلك لا يجوز الاتيان بما يشك في وجوبه فاقدا للامتثال التفصيلي إلا بعد الفحص واليأس عما يوجب زوال الشك ، فإنه يسقط حينئذ وجوب الامتثال التفصيلي وتصل النوبة إلى الامتثال الاحتمالي ، فوجوب الامتثال التفصيلي لا يختص بصورة ما إذا لزم من الامتثال الاحتمالي تكرار العبادة - كما كان ذلك مختار شيخنا الأستاذ مد ظله قبل هذا - بل يجب الامتثال التفصيلي حتى فيما لم يلزم فيه التكرار ، كما في الشبهة الحكمية الالزامية البدوية.
نعم : لايجب الامتثال التفصيلي في خصوص اجزاء العبادة ، يل يجوز العمل بالاحتياط فيها بفعل كل ما احتمل جزئيته ولو مع التمكن من رفع الشك ، لان الامتثال التفصيلي انما يجب بالنسبة الي جملة العمل لا كل جزء منه. وكذلك لايجب الامتثال التفصيلي في التوصليات ، بل يجوز فيها الاحتياط ولو لزم منه التكرار ، فتامنل في اطراف ما ذكرناه جيدا.
الاول : لو دار الامر بين سقوط جزء او شرط من العبادة والاتيان بها بداعي الامتثال التفصيلي والاتيان بها بداعي الامتثال الاحتمالي واجدة للشرط او الجزء ، ففي سقوط الجزء والشرط او سقوط الامتثال التفصيلي او التخيير بينهما ، وجوه.
ويظهر من المحكي عن الحلي رحمه اللّه في مسألة اشتباه الثوب الطاهر
ص: 272
بالنجس تقديم الامتثال التفصيلي على الشرط ، حيث ذهب إلى وجوب الصلاة عاريا وعدم جواز تكرارها في الثوبين المشتبهين.
ولا يخفى ما فيه ، فان اعتبار الامتثال التفصيلي مشروط بالتمكن منه ، ومع عدم التمكن يسقط ، فلا يزاحم الشرط أو الجزء المتمكن منه ، كالمثال ، لتمكن المكلف من الساتر الطاهر ولو بتكرار الصلاة ، ولا ينتقض ذلك بالتمكن من الامتثال التفصيلي بالصلاة عاريا ، لان التمكن من الامتثال التفصيلي يتوقف على سقوط الشرط ، وسقوطه يتوقف على اعتبار الامتثال التفصيلي ، واعتباره يتوقف على التمكن منه ، والتمكن منه يتوقف على سقوط الشرط ، فيلزم الدور (1) فتأمل.
فالأقوى : سقوط الامتثال التفصيلي عند دوران الامر بينه وبين سقوط الجزء أو الشرط.
الامر الثاني : لو عرض في الأثناء ما يوجب الترديد وإتمام العبادة بداعي الاحتمال ، فلو كان ذلك في ضيق الوقت ، فلا إشكال في وجوب الاتمام بداعي الاحتمال وسقوط الامتثال التفصيلي ، لعدم التمكن منه مع ضيق الوقت. ولو عرض ذلك في سعة الوقت ، ففيه وجوه.
وينبغي فرض الكلام في غير ما إذا كان الترديد لطرو ما يحتمل المانعية أو القاطعية ، فإنه لا إشكال في عدم جواز إتمام الصلاة بداعي الاحتمال بناء على اعتبار الامتثال التفصيلي ، ولا موقع للتمسك باستصحاب الصحة ، لعدم جريان استصحاب الصحة التأهلية (2) ولا بقوله تعالى : « وَلَا تُبْطِلُوا
ص: 273
أَعْمَالَكُمْ » (1) لان الشبهة في المقام مصداقية ، ولا يجوز التمسك فيها بالعموم. فلابد من فرض الكلام فيما إذا كانت العبادة قبل عروض الترديد مقطوعة الصحة مطابقة للواقع ، ثم عرض ما يوجب الشك في كيفية الاتمام ، كما إذا شك في فعل من أفعال الصلاة في الأثناء وتردد بين كونه قبل تجاوز المحل حتى يجب فعل المشكوك أو بعده حتى يمضي في الصلاة ، فان الصلاة قبل عروض الشك كانت مقطوعة الصحة ، بل هي كذلك حتى في حال الشك ، غايته أنه عرض في الأثناء ما يوجب الترديد والاتمام بداعي الاحتمال إن لم يتمكن المكلف من السؤال ومعرفة حكم الشك في الأثناء.
وبالجملة : محل الكلام إنما هو فيما إذا لم تكن الشبهة مصداقية وكان العمل مفروض الصحة حتى في حال عروض ما أوجب الترديد. والوجوه المحتملة في ذلك أربعة :
الأول : وجوب إتمام العبادة بداعي الاحتمال وعدم جواز القطع الاستيناف ، لحرمة إبطال العمل المفروض صحته إلى حال الشك ، واعتبار الامتثال التفصيلي إنما يكون مشروطا بالتمكن منه ، والمفروض عدم التمكن منه في الأثناء.
فان قلت : نعم ، وإن كانت المكلف لا يتمكن من الامتثال التفصيلي بالنسبة إلى ما بيده من الفرد ، إلا أنه متمكن منه بالنسبة إلى أصل الطبيعة المأمور بها بقطع العمل واستينافه بداعي الامتثال التفصيلي بعد معرفة حكم الواقعة.
قلت : حرمة قطع العمل توجب تعيين المأمور به بالفرد الذي بيده على تقدير مصادفته للواقع ، فلا يتمكن من الامتثال التفصيلي. وبعبارة أخرى : محل
ص: 274
حرمة القطع هو الفرد المأتي به على وجه الصحة ، ومحل اعتبار الامتثال التفصيلي هي الطبيعة المأمور بها ، وبعد فرض حرمة قطع الفرد الذي بيده يتعذر عليه الامتثال التفصيلي وينتقل إلى بدله : من الامتثال الاحتمالي.
الوجه الثاني : وجوب قطع العمل واستينافه بداعي الامتثال التفصيلي ، للتمكن من ذلك ، وحرمة قطع العمل مشروطة بالتمكن من إتمامه صحيحا ، وبعد البناء على اعتبار الامتثال التفصيلي لا يمكن إتمام العمل صحيحا ، فان حكم الامتثال التفصيلي حكم الاجزاء والشرائط المأخوذة في متعلق الامر : فكما يجب قطع الصلاة لو عرض للمصلي في الأثناء ما يوجب تعذر التشهد عليه مثلا ولا يجوز له إتمام الصلاة بلا تشهد ، كذلك يجب قطع العمل لو عرض له في الأثناء ما يوجب تعذر الاتمام بداعي الامتثال التفصيلي ، وليس له الاتمام بداعي الاحتمال. ومجرد كون التشهد مما يمكن أخذه في متعلق الامر والامتثال التفصيلي لا يمكن لكونه من الانقسامات اللاحقة للامر ، لا يصلح فارقا فيما نحن فيه بعدما كان الامتثال التفصيلي قيدا لصحة العمل ولو بنتيجة التقييد ، فلا يبقى موضوع لحرمة الابطال.
الوجه الثالث : التخيير بين القطع والاستيناف بداعي الامتثال التفصيلي وبين الاتمام بداعي الاحتمال بالبناء على أحد طرفي الشك وبعد الاتمام إن صادف المأتي به للواقع فهو وإلا استأنف العمل ، لوقوع المزاحمة بين حرمة الابطال وبين شرطية الامتثال التفصيلي ، لعدم قدرة المكلف على الجمع بين التكليفين في هذه الصلاة ولم يحرز أهمية أحد التكليفين ، فلا محيص عن التخيير في امتثال أحدهما ، كما في موارد تزاحم الحكمين الاستقلاليين ، وقد حكي اختيار هذا الوجه عن الميرزا الرشتي رحمه اللّه .
الوجه الرابع : وجوب الجمع بين الاتمام بداعي الاحتمال والإعادة ولو في صورة المصادفة ، للعلم الاجمالي بأحد التكليفين : من حرمة الابطال ومن وجوب
ص: 275
الامتثال التفصيلي ، ولم يعلم تفصيل ما هو الوظيفة في هذا الحال ، ولازم ذلك هو الجمع بين الوظيفتين.
هذا ، وأقوى الوجوه هو الوجه الثاني : من وجوب قطع العمل واستينافه بداعي الامتثال التفصيلي ، لما عرفت : من أن حرمة قطع العمل مشروط بالتمكن من إتمامه بوجه شرعي ، واشتراط الامتثال التفصيلي يقتضي عدم التمكن من إتمام العمل كذلك (1) ولا يعقل إثبات التمكن من إتمامه بحرمة قطع العمل ، لان إمكان الاتمام على الوجه الشرعي اخذ قيدا في موضوع حرمة القطع والحكم لا يتكفل وجود موضوعه ، فلا يمكن إثبات التمكن من الاتمام بنفس الحكم بحرمة قطع العمل ، وذلك واضح.
هذا ، مع ما في الوجهين الأخيرين من الضعف مالا يخفى. أما في وجه التخيير : فلان الحكم في باب التزاحم وإن كان هو التخيير مع عدم المرجح لأحدهما ، إلا أن ذلك مقصور بالتكاليف الاستقلالية ، وأما القيود والتكاليف الغيرية فلا تصل النوبة فيها إلى التخيير ، لامكان الجمع بين القيدين المتزاحمين ولو بتكرار العمل ، فتأمل.
وأما الوجه الرابع : فلان الجمع بين الاتمام والإعادة لا أثر له ، بل هو كر على ما فر منه ، إذ لا يمكن الإعادة بداعي الامتثال التفصيلي خصوصا مع تبين مصادفة المأتي به للواقع ، بل غاية ما يمكن هو الإعادة بداعي الاحتمال ،
ص: 276
فلا يمكن الجمع بين الوظيفتين.
ثم إنه لا فرق فيما ذكرناه من الوجوه الأربعة بين كون المسألة التي ابتلي بها في الأثناء مما تعم بها البلوى أولا ، لان تلك الوجوه إنما كانت في الحكم الوضعي : من الصحة والفساد ، ولا أثر لعموم البلوى وعدمه في ذلك ، لأن المفروض أن المكلف قد ابتلي بالمسألة في الأثناء ، فلابد له من علاج الشبهة على كل حال ، كانت المسألة مما تعم به البلوى أو لم تكن.
نعم : تظهر الثمرة بين عموم البلوى وعدمه في الحكم التكليفي والعقاب ، فإنه يجب تعلم ما تعم به البلوى ، فلو لم يتعلم وخالف عمله الواقع استحق العقاب ، لتنجز الواقع عليه بمجرد الالتفات في المسائل التي تعم بها البلوى ، دون مالا تعم ، كما سيأتي بيانه.
فما يظهر من الشيخ قدس سره في المقام : من الميل إلى التفصيل بين ما تعم به البلوى ومالا تعم لا يخلو عن مناقشة. هذا كله فيما يعتبر في العمل بالاحتياط.
واستقصاء الكلام في ذلك يستدعي البحث عن جهات ثلاث : الأولى : في اعتبار الفحص وعدمه. الثانية : في استحقاق تارك الفحص للعقاب وعدمه. الثالثة : في صحة العمل المأتي به قبل الفحص وفساده.
فحاصله : أنه في الشبهات الموضوعية يجوز الاخذ بالبراءة والعمل على طبقها
ص: 277
بلا فحص ، وقد ادعي الاجماع على ذلك مضافا إلى إطلاق الأدلة ، وسيأتي أن ذلك على إطلاقه ممنوع.
وأما في الشبهات الحكمية : فلا يجوز العمل بالبراءة فيها إلا بعد الفحص واليأس عن الظفر بما يخالفها. وقد استدل على ذلك بالأدلة الأربعة : من الكتاب والسنة والاجماع والعقل ، وهو العمدة ، لاستقلال العقل باستحقاق عقاب من ترك التعلم مع القدرة عليه بعد الالتفات إلى الشريعة وأن بنائها على تبليغ الاحكام على النحو المتعارف بين العقلاء في تبليغ مقاصدهم ، فمن ترك التعلم والحال هذه كان عند العقل كتارك التكاليف عن عمد وعلم في استحقاق العقاب ، بل وجوب الفحص عن الأحكام الشرعية يكون من صغريات وجوب الفحص عن معجزة من يدعي النبوة بعد التفاته إلى المبدأ الاعلى ، ولا إشكال في استقلال العقل بذلك ، وإلا لزم إفحام الأنبياء ، كما لا يخفى وجهه.
فما يظهر من بعض الأعاظم : من أن وجوب الفحص عن الاحكام ليس من صغريات وجوب النظر في معجزة من يدعي النبوة ، لا يخلو عن مناقشة. وقد يقرر حكم العقل في المقام بوجه آخر ، وحاصله : أن كل من التفت إلى المبدأ والشريعة يعلم إجمالا بثبوت أحكام فيها ، ومقتضى العلم الاجمالي هو الفحص عن تلك الأحكام.
وقد نوقش في هذا الوجه :
أولا : بأنه أخص من المدعى ، فان المدعى هو وجوب الاستعلام عن حكم كل مسألة تعم بها البلوى ، وهذا الوجه إنما يوجب الفحص قبل استعلام جملة من الاحكام بمقدار يحتمل انحصار المعلوم بالاجمال فيه ، لانحلال العلم الاجمالي بذلك.
وثانيا : بأنه أعم من المدعى ، لان المدعى هو الفحص عن الاحكام في
ص: 278
خصوص ما بأيدينا من الكتب ، والمعلوم بالاجمال معنى أعم من ذلك ، لان متعلق العلم هي الاحكام الثابتة في الشريعة واقعا ، لا خصوص ما بأيدينا ، والفحص فيما بأيدينا من الكتب لا يرفع أثر العلم الاجمالي ، بل العلم باق على حاله ولو بعد الفحص التام عما بأيدينا.
هذا ، ولا يخفى ما في كلا وجهي المناقشة من الضعف.
أما في الأول : فلان استعلام مقدار من الاحكام يحتمل انحصار المعلوم بالاجمال فيها لا يوجب انحلال العلم الاجمالي ، إذ متعلق العلم تارة : يتردد من أول الامر بين الأقل والأكثر ، كما لو علم بأن في هذا القطيع من الغنم موطوء وتردد بين كونه عشرة أو عشرين. وأخرى : يكون المتعلق عنوانا ليس بنفسه مرددا بين الأقل والأكثر من أول الامر ، بل المعلوم بالاجمال هو العنوان بما له في الواقع من الافراد ، كما لو علم بموطوئية البيض من هذا القطيع وترددت البيض بين كونها عشرا أو عشرين. ففي الأول ينحل العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي بمقدار يحتمل انحصار المعلوم بالاجمال فيه ، كما لو علم تفصيلا بموطوئية هذه العشرة من القطيع. وفي الثاني لا ينحل العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي بمقدار يحتمل انحصار المعلوم بالاجمال فيه (1) بل لابد من الفحص التام عن كل ما يحتمل انطباق العنوان المعلوم بالاجمال عليه ، لان العلم الاجمالي يوجب تنجيز متعلقه بما له من العنوان ، ففي المثال العلم الاجمالي تعلق بعنوان البيض بما له من الافراد
ص: 279
في الواقع ، فكل ما كان من أفراد البيض واقعا قد تنجز التكليف به ، ولازم ذلك هو الاجتناب عن كل ما يحتمل كونه من أفراد البيض ، والعلم التفصيلي بموطوئية عدة من البيض يحتمل انحصار البيض فيه لا يوجب انحلال العلم الاجمالي ، وما نحن فيه يكون من هذا القبيل ، لان المعلوم بالاجمال في المقام هي الاحكام الموجودة فيما بأيدينا من الكتب ، فقد تنجزت جميع الأحكام المثبتة في الكتب ، ولازم ذلك هو الفحص التام عن جميع الكتب التي بأيدينا (1) ولا ينحل العلم الاجمالي باستعلام جملة من الاحكام يحتمل انحصار المعلوم بالاجمال فيها ، ألا ترى أنه ليس للمكلف الاخذ بالأقل لو علم باشتغال ذمته لزيد بما في الطومار وتردد ما في الطومار بين الأقل والأكثر ، بل لابد له من الفحص التام في جميع صفحات الطومار ، كما عليه بناء العرف والعقلاء ، وما نحن فيه يكون بعينه من هذا القبيل.
وأما في الوجه الثاني : فلانه وإن علم إجمالا بوجود أحكام في الشريعة أعم مما بأيدينا من الكتب ، إلا أنه يعلم إجمالا أيضا بأن فيما بأيدينا من الكتب أدلة مثبتة للأحكام مصادفة للواقع بمقدار يحتمل انطباق ما في الشريعة عليها ، فينحل العلم الاجمالي العام بالعلم الاجمالي الخاص ويرتفع الاشكال بحذافيره ويتم الاستدلال بالعلم الاجمالي لوجوب الفحص ، فتأمل جيدا. هذا كله في أصل اعتبار الفحص.
في استحقاق التارك للفحص العقاب وعدمه. والأقوال في ذلك ثلاثة :
ص: 280
أحدها - ما نسب إلى المدارك : من استحقاقه للعقاب مطلقا ، سواء صادف عمله للواقع أو لم يصادف.
ثانيها - ما نسب إلى المشهور : من عدم استحقاقه للعقاب ، وإنما العقاب على مخالفة الواقع.
ثالثها - ما اختاره شيخنا الأستاذ - مد ظله - من استحقاقه للعقاب ، لكن لا مطلقا ، بل عند أدائه إلى مخالفة الواقع.
والفرق بين هذا وسابقه ، هو أن في الأخير يكون العقاب على نفس ترك التعلم عند مخالفة العمل للواقع ، وفي سابقه يكون على نفس مخالفة الواقع لا على ترك التعلم. والظاهر أن البحث بين أرباب القولين الأخيرين علمي لا يترتب عليه أثر عملي.
ثم إن هذه الأقوال الثلاثة تأتي أيضا في التارك للاحتياط في موارد وجوبه. ومبنى الأقوال ، هو أن وجوب التعلم والاحتياط نفسي أو طريقي؟ فعلى الأول : يكون العقاب على نفس ترك التعلم والاحتياط. وعلى الثاني : يكون على ترك الواقع أو ترك التعلم والاحتياط المؤدي إلى ترك الواقع.
وينبغي أولا أن يعلم : أن مناط وجوب التعلم والاحتياط غير مناط وجوب حفظ القدرة أو تحصيلها ، ولا يقاس أحدهما بالآخر ، وإن كان يظهر من كلام الشيخ قدس سره في المقام الخلط بين البابين ، حيث قاس وجوب التعلم على وجوب السير إلى الحج عند توجيه كلام المدارك.
ولكن الظاهر : أن بين البابين فرق (1) فان القدرة مما يتوقف عليها فعل
ص: 281
المأمور به خارجا ومن المقدمات الوجودية له ، ولا يتمكن المكلف من فعل الواجب عند تفويت القدرة ، فان ترك الغسل للصوم قبل الفجر أو السير للحج عند خروج الرفقة أو الطهارة للصلاة قبل الوقت يوجب عدم التمكن من إيجاد الصوم والحج والصلاة المأمور بها ويتحقق عصيان خطاب ذي المقدمة بمجرد ترك هذه المقدمات الوجودية ويستحق التارك العقاب على تفويت الواجب من زمان ترك المقدمة ، إذ بتركها يفوت الواجب لا محالة ويمتنع عليه بالاختيار ويصدق أنه فات منه الواجب ، وإن كان بعد لم يتحقق زمانه لكونه مشروطا بزمان متأخر ، ولا يكون وجوب المقدمات المفوتة مقدميا مترشحا من وجوب ذي المقدمة حتى يتوقف ذلك على الالتزام بالواجب المعلق - كما يظهر من بعض - بل وجوب المقدمات المفوتة قبل مجيء زمان الواجب إنما يكون بخطاب مستقل ، ولكن لا عن ملاك يخصه ، بل من متممات الخطاب بذي المقدمة ، على ما بين المقدمات من الاختلاف.
فان إيجاب الغسل للصوم قبل الفجر إنما هو لأجل عدم إمكان تطبيق الخطاب بالصوم على الواجد للملاك إلا بايجابه قبل الفجر ، إذ المفروض : أن للطهارة من الحدث الأكبر دخل في صحة الصوم والملاك الذي اقتضى إيجابه ، وليس الصوم إلا عبارة عن الامساك من الطلوع إلى الغروب واجدا للشرائط ، فلابد من إيجاب الغسل قبل الفجر ، ليكون الخطاب بالصوم بضميمة الخطاب بالغسل منطبقا على الواجد للملاك ، فوزان الخطاب المتعلق بالغسل قبل الفجر
ص: 282
وزان الخطابات بأجزاء العبادة وشرائطها ليس خطابا طريقيا بل متمم للخطاب بذي المقدمة ، وحاله - من هذه الجهة - حال الخطاب المتعلق بقصد التقرب والامتثال ونحو ذلك من الانقسامات اللاحقة للامر التي لا يمكن أخذها في متعلق الامر.
وأما إيجاب السير للحج قبل الموسم : فإنما هو لأجل عدم إمكان استيفاء الملاك إلا بايجاب السير قبل الموسم ، من دون أن يكون للسير دخل في الملاك أصلا ، بل الخطاب بالحج بلا ضميمة إيجاب السير يكون منطبقا على الواجد للملاك ، إلا أن استيفاء الملاك يتوقف على إيجاب السير قبل الموسم ، لاستحالة فعل الحج في موسمه للبعيد بدون إيجاب السير ، والمفروض : أن نفس خطاب الحج لا يقتضي إيجابه ، لكونه مشروطا ، فلابد من إيجاب السير بخطاب مستقل ليمكن استيفاء الملاك من خطاب الحج بضميمة هذا الخطاب.
وأما وجوب حفظ الطهارة للصلاة قبل الوقت : فهو تابع لقيام الدليل عليه من عقل أو شرع ، ونفس الخطاب بالصلاة في الوقت لا يقتضي ذلك. والتقريب الذي ذكرناه في إيجاب السير للحج لا يتمشى هنا ، لأن المفروض في باب الحج وجوبه على النائي مع استحالة إيجاده في الموسم بدون السير ، وفي باب الصلاة ليس كذلك ، لامكان القول بعدم وجوب الصلاة مع الطهارة على من لم يتمكن من فعل الطهارة في الوقت ، ولا موجب لوجوب حفظ الطهارة قبل الوقت بعد ما كان للوقت دخل في الملاك ، فايجاب الطهارة قبل الوقت يحتاج إلى قيام الدليل ، وبعد قيام الدليل عليه يكون حاله حال وحوب السير ، والغسل ليس خطابه طريقيا ، بل لمكان توقف الواجب خارجا عليه.
وهذا بخلاف التعلم والاحتياط ، فإنه لا يتوقف فعل الواجبات وترك المحرمات عليهما ، إذ ليس للعلم دخل في القدرة ليكون حاله حال المقدمات المفوتة ، وليس لهما دخل في الملاك أيضا ، فلا يكون لايجاب التعلم والاحتياط
ص: 283
شائبة النفسية والاستقلالية ، بل الغرض من إيجاب التعلم مجرد الوصول إلى الاحكام والعمل على طبقها ، ومن إيجاب الاحتياط التحرز عن مخالفة الواقع ، من دون أن يكون للتعلم والاحتياط جهة موجبة لحسنهما الذاتي المستتبع للخطاب المولوي النفسي ، بل الخطاب المتعلق بهما يكون لمحض الطريقية ، ووجوبهما يكون للغير لا نفسيا ولا بالغير (1).
فان قلت : الوجوب للغير لا ينافي الوجوب النفسي ، فان غالب الواجبات النفسية يكون وجوبها للغير بناء على تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد.
قلت : الغير الذي يجب الشيء لأجله يختلف ، فتارة : يكون هو ملاكات الاحكام التي اقتضت وجوب الشيء ، وأخرى : يكون هو الخطابات الواقعية. ففي الأول : لا يدور وجوب الشيء مدار وجود الملاك ، بل الملاك يكون حكمة لتشريع وجوب الشيء ، كاختلاط المياه في وجوب العدة على النساء.
وفي الثاني : يدور وجوب الشيء مدار وجود الخطاب الواقعي ويكون علة للحكم لا حكمة للتشريع ، كوجوب ذي المقدمة بالنسبة إلى وجوب المقدمة ، فان وجوبها يدور مدار وجوب ذيها.
والخطابات الواقعية بالنسبة إلى وجوب التعلم والاحتياط تكون كوجوب
ص: 284
ذي المقدمة علة للحكم لا حكمة للتشريع ، فوجوب التعلم والاحتياط يكون من هذه الجهة كوجوب المقدمة ، وإن كان يفترق من جهة أخرى وهي : أن وجوب المقدمة يترشح من وجوب ذيها ، بخلاف وجوب التعلم والاحتياط ، وقد تقدم شطر من الكلام في ذلك في مبحث الظن.
وبما ذكرنا ظهر ضعف ما ينسب إلى المدارك : من كون العقاب على نفس ترك التعلم ، فان المستتبع للعقاب إنما هو ترك الواجب النفسي لا ترك الواجب الطريقي. ويتلو ذلك في الضعف ما ينسب إلى المشهور : من كون العقاب على ترك الواقع لا على ترك التعلم ، فان العقاب على الواقع المجهول قبيح وإيجاب التعلم لا يخرجه عن الجهالة.
فالأقوى : أن يكون العقاب على ترك التعلم المؤدي إلى ترك الواقع ، لا على ترك التعلم وإن لم يؤد إلى ذلك لينافي وجوبه الطريقي ، ولا على ترك الواقع لينافي جهالته ، فتأمل جيدا.
في صحة العمل المأتي به في حال الجهل وفساده.
ومقتضى أصول المخطئة أن يكون المدار في الصحة والفساد على موافقة العمل للواقع ومخالفته ، لا على موافقته للطريق المنصوب ومخالفته.
وعلى هذا لو وافق عمل الجاهل التارك للفحص للواقع كان مجزيا ، ويترتب عليه الأثر المقصود منه ، سواء في ذلك العبادات والمعاملات وإن خالف الطريق المنصوب.
ولو خالف عمله للواقع لم يجز ولا يترتب عليه الأثر المقصود منه وإن وافق الطريق المنصوب ، غايته أنه لو أوقع العمل عن استناد إلى الطريق كان معذورا ما دام الطريق قائما عنده ، ولا يكفي في المعذورية مجرد
ص: 285
الموافقة للطريق بلا استناد إليه إذا كان الجهل عن تقصير (1).
ويترتب على ما ذكرنا : أنه لو عمل الجاهل عملا ثم بنى على التقليد أو الاجتهاد ، فان وافق عمله رأي من يجب عليه تقليده فعلا أو وافق اجتهاده الفعلي كان عمله مجزيا وتبرء ذمته ولو خالف رأي من كان يجب عليه تقليده حال العمل ، وإن انعكس الفرض وكان عمله مخالفا لرأي من يجب تقليده فعلا وموافقا لرأي من كان يجب تقليده حال العمل لم يجز ولزمه الإعادة والقضاء ، لان اعتبار الظن الاجتهادي أو قول المقلد إنما هو لمحض الطريقية والكاشفية من دون أن يكون فيه شائبة السببية والموضوعية. ومن المعلوم : أن الطريق إنما هو يقتضي المعذورية إذا وقع العمل عن استناد واعتماد إليه ، ولا يكفي مجرد موافقة العمل للطريق وإن لم يكن عن استناد إليه. فلا عبرة بموافقة العمل الصادر حال الجهل لفتوى من كان يجب عليه تقليده في ذلك الحال بعد عدم وقوعه عن استناد واعتماد على ذلك ، وكما لا عبرة بموافقته لذلك لا عبرة بمخالفته أيضا ، بل العبرة بالموافقة والمخالفة إنما هو على الطريق الذي يستند إليه فعلا ، سواء في ذلك الظن الاجتهادي أو فتوى الغير ، فتأمل جيدا.
هذا حكم الجاهل العامل قبل التقليد والاجتهاد. وكذا الكلام في حكم المقلد أو المجتهد الذي تبدل تقليده أو اجتهاده إلى الخلاف ، فان القاعدة الأولية
ص: 286
تقتضي إعادة كل عمل خالف تقليده اللاحق أو اجتهاده ، لان التقليد والاجتهاد السابق كان طريقا وقد انكشف خلافه حسب ما أدى إليه تقليده اللاحق أو اجتهاده ، غايته أنه كان معذورا قبل انكشاف الخلاف ، فلابد من العمل على ما يقتضيه التقليد والاجتهاد اللاحق.
هذا ، ولكن قد حكي الاجماع (1) على الاجزاء وعدم الإعادة والقضاء في خصوص العبادات. وأما المعاملات بالمعنى الأعم فلم ينقل الاجماع فيها على الاجزاء والصحة ، وقد عرفت : أن القاعدة تقتضي الفساد.
ويترتب على ذلك وجوب تجديد العقد على المرأة المعقودة بالفارسية باعتقاد الصحة تقليدا أو اجتهادا ثم قلد من يقول بفساد العقد بالفارسية أو تبدل اجتهاده إلى ذلك. وكذا الكلام فيمن كان اعتقاده تقليدا أو اجتهادا حلية الذبيحة بفري الودجين ثم تبدل تقليده أو اجتهاده إلى وجوب فري الأربع ، فإنه يجب مع بقاء الذبيحة ترتيب آثار الميتة عليها : من النجاسة وحرمة الاكل والبيع ووجوب الاجتناب عن ملاقيها ورد ثمنها إلى المشتري ، لأنه ثمن ميتة فلا يحل له أكله ، وهكذا ما يترتب على الميتة من الاحكام. وقد توقف شيخنا الأستاذ - مد ظله - في بعض الفروع والاحكام. ولكن القاعدة تقتضي ما ذكرناه ، إلا أن يقوم دليل على الخلاف.
لا إشكال في أن التارك للفحص يستحق العقوبة إن خالف عمله لكل
ص: 287
من الواقع والطريق المنصوب إليه الموجود فيما بأيدينا من الكتب بحيث لو تفحص لعثر عليه ، كما لا إشكال في عدم استحقاقه للعقوبة إن وافق عمله لكل من الواقع والطريق المنصوب إليه كذلك. وأما لو خالف العمل لأحدهما ووافق الآخر ، ففي استحقاقه للعقوبة وجهان : أقواهما استحقاقه للعقوبة لو خالف الواقع وإن وافق الطريق ، وعدم استحقاقه لها لو وافق الواقع وإن خالف الطريق.
أما في الصورة الأولى : فلانه قد ارتكب الحرام الواقعي بلا مؤمن عقلي أو شرعي ، ولا أثر لموافقة العمل للطريق مع عدم العلم به والاستناد إليه والاعتماد عليه ، لما تقدم : من أن مجرد مطابقة العمل للطريق لا يوجب العذر ، بل الموجب له هو الاخذ به والاستناد إليه.
وأما في الصورة الثانية : فلانه لم يرتكب الحرام الواقعي ، ولا أثر لمخالفة العمل للطريق بعد ما كان اعتبار الطريق لمحض الكاشفية من دون أن يوجب تقييد الواقع وصرفه إلى مؤداه ، فلا موجب لاستحقاقه العقوبة.
فان قلت : أليس قد فاتت منه المصلحة السلوكية القائمة بالطريق؟ إذ لو تفحص لعثر على الطريق وكان في سلوكه مصلحة لازمة الاستيفاء ، فبتركه للفحص فاتت منه تلك المصلحة ويستحق العقوبة لذلك.
قلت : قوام المصلحة السلوكية بالسلوك الموقوف على العلم بالطريق والعمل على طبقه ، إذ ليس في نفس جعل الطريق مصلحة لازمة الاستيفاء ، بل المصلحة في سلوك الطريق ، ومع عدم العلم بالطريق والعمل به لا سلوك ولا مصلحة حتى يلزم من ترك الفحص تفويتها (1) وذلك واضح. هذا كله إذا
ص: 288
كان فيما بأيدينا من الكتب طريق موافق أو مخالف.
وأما لو ترك الفحص وخالف عمله الواقع ولم يكن عليه طريق منصوب يمكن العثور عليه بالفحص لا موافق ولا مخالف ، في استحقاقه للعقاب إشكال ، من مخالفة العمل للواقع ، ومن قبح العقاب على ما لايمكن الوصول إليه ولا إلى طريقه. والأقوى استحقاقه للعقاب ، لان العلم الاجمالي بالأحكام الثابتة في الشريعة يوجب تنجز تلك الأحكام على ما هي عليها ، إلا أن ينحل العلم الاجمالي بالفحص والعلم بمقدار من الاحكام يمكن انطباق المعلوم بالاجمال عليه ، ومع الفحص يلزمه الاحتياط بفعل كل ما يحتمل وجوبه وترك كل ما يحتمل حرمته ، فلا قبح في عقاب التارك للاحتياط والفحص معا ، فتأمل.
فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن العقاب وعدمه يدور مدار مخالفة الواقع وموافقته ، لا مخالفة الطريق وموافقته ، ولا مخالفة أحد ما وموافقته ، وبذلك يظهر ضعف الوجوه التي ذكرها الشيخ قدس سره في المقام ، فراجع.
قد تبين مما سبق الملازمة بين استحقاق العقاب وبطلان العمل ، وكذا الملازمة بين صحة العمل وعدم استحقاق العقاب ، بناء على ما هو المشهور والمختار : من أن ترك التعلم بما هو لا يوجب العقوبة. وقد استثنى الأصحاب من هذه الملازمة موردين ، وأجمعوا فيهما على صحة العمل المأتي به حال الجهل مع استحقاق الجاهل للعقاب.
أحدهما : الجهر بالقراء في موضوع وجوب الاخفات وبالعكس جهلا بالحكم.
ص: 289
ثانيهما : الاتمام في موضع وجوب القصر ولا عكس ، إلا عن بعض في بعض الفروض ، وهو ما إذا قصر المقيم بتخيل أن حكمه حكم المسافر لجهله بالحكم. فقد أفتى بعض الأصحاب بصحة الصلاة تمسكا برواية صحيحة دلت على ذلك (1). ولكن المحكي عن المشهور عدم العمل بالرواية والاعراض عنها ، وذهبوا إلى بطلان الصلاة في الفرض كسائر صور القصر في موضع التمام. والمتسالم عليه بينهم في الصحة هو الاتمام في موضع القصر. فالمتيقن خروجه عن الملازمة المذكورة هو الجهر في موضع الاخفات وبالعكس والاتمام في موضع القصر دون العكس ، وقد تظافرت الأدلة على الصحة في الموردين وأجمع الأصحاب على ذلك مع استحقاق العقوبة إذا كان الجهل عن تقصير.
ولأجل ذلك وقع الاشكال في تصوير الجمع بين الصحة واستحقاق العقاب ، لان لازم الصحة هو أن يكون العمل المأتي به في حال الجهل مأمورا به ، إذ معنى الصحة هي موافقة الامر ، ولازم استحقاق العقاب هو عدم الامر به وكون المأمور به هو العمل الذي تركه المكلف في حال الجهل ، فيلزم الامر بالضدين في ذلك الحال.
منها : ما أفاده المحقق الخراساني قدس سره وحاصله : منع الملازمة بين صحة العمل والامر به ، بل القدر اللازم في صحة العمل هو أن يكون العمل واجدا لمقدار من المصلحة لازمة الاستيفاء في حال الجهل ، ولا يلزم من ذلك الامر بالعمل المأتي به في ذلك الحال ، لان ضد المأتي به - من الاخفات أو الجهر أو القصر - واجد للمصلحة الأكمل والغرض الأهم ، ولازم ذلك هو صحة
ص: 290
الجهر في موضع الاخفات عند الجهل بالحكم واستحقاق العقاب على ترك الاخفات. أما الصحة : فلاشتمال الجهر في ذلك الحال على مقدار من المصلحة لازمة الاستيفاء في حد نفسها. وأما استحقاق العقاب : فلتفويته المصلحة الأكمل والغرض الأهم القائم بالاخفات ، ولا يلزم أن يكون العمل المأتي به في حال الجهل واجدا للمصلحة في غير ذلك الحال ليلزم صحة العمل عند العلم بالحكم أيضا ، لامكان أن تكون لصفة الجهل بالحكم دخل في المصلحة ، كما لا يلزم وجوب العمل الواجد للمصلحة الأكمل عند زوال صفة الجهل ، لامكان عدم اجتماعها مع تلك المصلحة المستوفاة في حال الجهل.
هذا ، ولا يخفى عليك ما في هذا الوجه من الضعف (1) فان الخصوصية
ص: 291
الزائدة من المصلحة القائمة بالفعل المأتي به في حال الجهل إن كان لها دخل في حصول الغرض من الواجب ، فلا يعقل سقوطه بالفاقد لتلك الخصوصية ، خصوصا مع إمكان استيفاء تلك الخصوصية في الوقت ، كما لو علم بالحكم في الوقت.
ودعوى : عدم إمكان اجتماع المصلحتين في الاستيفاء لان استيفاء إحداهما يوجب سلب القدرة عن استيفاء الأخرى ، واضحة الفساد ، فان القدرة على الصلاة المقصورة القائمة بها المصلحة الكاملة حاصلة ، ولا يعتبر في استيفاء المصلحة سوى القدرة على متعلقها ، إلا إذا كان ثبوت المصلحة في الصلاة المقصورة مشروطا بعدم سبق الصلاة التامة من المكلف ، وهذا خلف ، إذ يلزم من ذلك خلو الصلاة المقصورة عن المصلحة في حال الجهل ، فلا موجب لاستحقاق العقاب.
هذا إذا كان للخصوصية الزائدة دخل في الواجب وبها قوامه. وإن لم يكن لها دخل فاللازم هو الحكم بالتخيير بين القصر والتمام ، غايته أن يكون القصر أفضل فردي التخيير لاشتماله على الخصوصية الزائدة ، ولا وجه لاستحقاق العقاب. هذا كله ، مضافا إلى أن الظاهر من أدلة الباب كون المأتي به في حال الجهل مأمورا به ، فراجع أدلة الباب.
ومنها : ما أفاده الشيخ قدس سره من الالتزام تارة : بعدم تعلق الامر بالصلاة المقصورة عند الجهل بالحكم والعقاب إنما يكون على ترك التعلم. وأخرى : بعدم تعلق الامر بالمأتي به في حال الجهل ، بل هو مسقط للواجب ، والمأمور به إنما هو الصلاة المقصورة ، والعقاب يكون على ترك المأمور به.
وهذا الوجه يتلو سابقه في الضعف ، بل الوجه الأخير منه يرجع إلى الوجه
ص: 292
السابق الذي تقدم الجواب عنه. وقد اعترف قدس سره بأن ذلك خلاف ظاهر الأدلة وكلمات الأصحاب.
ومنها : ما أفاده الشيخ الكبير قدس سره في مقدمات كتابه : من الالتزام بالامر الترتبي وكون الواجب على المكلف أولا هو القصر ، وعند العصيان وترك الصلاة المقصورة ولو لجهله بالحكم يجب عليه الاتمام ، كما هو الشأن في جميع موارد الامر الترتبي في الضدين ، حيث يكون الامر بأحدهما مشروطا بعصيان الآخر.
هذا ، وفيه : أن المقام أجنبي عن الخطاب الترتبي ولا يندرج في ذلك الباب ، لأنه يعتبر في الخطاب الترتبي أن يكون كل من متعلق الخطابين واجدا لتمام ما هو الملاك ومناط الحكم بلا قصور لأحدهما في ذلك ، ويكون المانع عن تعلق الامر بكل منهما هو عدم القدرة على الجمع بين المتعلقين في الامتثال لما بين المتعلقين من التضاد ، والمقام لا يكون من هذا القبيل ، لعدم ثبوت الملاك في كل من القصر والتمام ، وإلا لتعلق الامر بكل منهما لامكان الجمع بينهما ، وليسا كالضدين اللذين لا يمكن الجمع بينهما ، فعدم تعلق الامر بكل منهما يكون كاشفا قطعيا عن عدم قيام الملاك فيهما. هذا مع أنه يعتبر في الخطاب الترتبي أن يكون خطاب المهم مشروطا بعصيان خطاب الأهم ، وفي المقام لا يمكن ذلك ، إذ لا يعقل أن يخاطب التارك للقصر بعنوان « العاصي » فإنه لا يلتفت إلى هذا العنوان لجهله بالحكم ، ولو التفت إلى عصيانه يخرج عن عنوان الجاهل ولا تصح منه الصلاة التامة ، فلا يندرج المقام في صغرى الترتب. والشيخ قدس سره كأنه سلم اندراج المقام في صغرى الترتب ومنع عن الكبرى ، حيث قال : « وفيه إنا لا نعقل الترتب » ولكن الحق منع الصغرى وتسليم الكبرى (1) كما أوضحناه في محله.
ص: 293
ومنها : ما أفاده شيخنا الأستاذ - مد ظله - بما حاصله : أن الاشكال إنما وقع في مسائل ثلاث :
الأولى : الجهر بالقراءة في موضع وجوب الاخفات وبالعكس. الثانية : القصر في موضع وجوب التمام ، بناء على القول بالصحة فيه وإن كان خلاف المشهور والمختار ، كما تقدم. الثالثة : الاتمام في موضع وجوب القصر.
وينبغي إفراد كل مسألة من هذه المسائل الثلاث بالجواب عن الاشكال ، إذ لعله يختلف طريق التخلص عن الاشكال حسب اختلاف المسائل. وليعلم أولا : أن الاشكال إنما كان مبنيا على تسليم مقدمتين :
الأولى : أن يكون العمل المأتي به حال الجهل مأمورا به ، كما يستكشف ذلك من أدلة صحة العمل والاجتزاء به ولو بعد زوال صفة الجهل وبقاء الوقت.
الثانية : استحقاق الجاهل العامل للعقاب وأن استحقاقه له لأجل تفويت ما كان واجبا عليه في حال الجهل.
ومع المنع عن إحدى المقدمتين يرتفع الاشكال من البين - كما لا يخفى - والمقدمة الأولى مسلمة لا سبيل للمنع عنها ، إذ لا ينبغي الاشكال في استكشاف
ص: 294
تعلق الامر بالعمل من أدلة الصحة.
وأما المقدمة الثانية : فللمنع عنها مجال ، إذ استحقاق العقاب وعدمه ليس من المسائل الفقهية الشرعية التي ينعقد عليها الاجماع ، وليس في أدلة الباب ما يدل على العقاب ، مع أنه لو سلم انعقاد الاجماع على استحقاق العقاب ، ففي اعتبار مثل هذا الاجماع إشكال ، خصوصا إذا كان من المجمعين من يرى العقاب على نفس ترك التعلم لا على مخالفة الواقع ويذهب إلى استحقاق المتجري للعقاب.
وبالجملة : مجال المنع عن المقدمة الثانية واسع ، ومعه لا يبقى إشكال في المقام حتى نحتاج إلى التخلص عنه ، ولكن حيث كان مبنى الاشكال على تسليم المقدمتين ، فينبغي التخلص عن الاشكال بعد فرض صحتهما.
فنقول :
أما في مسألة الجهر بالقراءة في موضع وجوب الاخفات وبالعكس : فيمكن أن يكون الواجب على عامة المكلفين هو القدر المشترك بين الجهر والاخفات ، سواء في ذلك العالم والجاهل ، ويكون الجهر والاخفات بالقراءة في موارد وجوبهما واجبان مستقلا نفسيان في الصلاة ، فيكون المجعول جزء للصلاة أولا وبالذات هو القدر المشترك بين الجهر والاخفات ، من دون أن يكون لأحدهما دخل في حصول الجزء الصلاتي ، بل الصلاة تكون ظرفا لامتثالهما - كسائر موارد وجوب الشيء في ظرف واجب آخر - ولكن وجوبهما الاستقلالي عند العلم به ينقلب إلى وجوب الغيري ويصير قيدا للصلاة ، ولا مانع من أن تكون صفة العلم موجبة لتبدل صفة الوجوب من النفسية إلى الغيرية ومن الاستقلالية إلى القيدية ، فيرتفع الاشكال بحذافيره ، لان العقاب إنما يكون على ترك الواجب النفسي في حال الجهل مع كون المأتي به هو المأمور به في ذلك الحال ، لأن المفروض : أن المأمور به هو القدر المشترك بين الجهر والاخفات وقد اتي به ،
ص: 295
ولا يلزم من ذلك صحة العمل عند زوال صفة الجهل ، لما عرفت : من أنه بالعلم يتبدل الاستقلالي النفسي إلى الغيري القيدي ، فيصح العمل من الجاهل ولا يصح من العالم.
وتوهم : أنه كيف يمكن تبدل وصف الاستقلالية إلى الغيرية مع وضوح التنافي بين الوصفين فاسد ، فان التنافي بينهما يمنع عن اجتماعهما في محل واحد ، وليس المدعى هذا ، بل المدعى أن زوال صفة الجهل بالحكم يوجب زوال وصف الاستقلالية عن وجوب الجهر أو الاخفات والتلبس بوصف الغيرية ، هذا مع بقاء ملاك الاستقلالية ، لان التنافي إنما هو بين وصف الاستقلالية والغيرية ، لا بين الملاكين.
والحاصل : أن وصف الاستقلالية والغيرية كوصف الوجوب والاستحباب مما لا يمكن أن يجتمعا ، لتنافيهما ذاتا ، إلا أنه يمكن أن يطرء على الاستقلالية ملاك الغيرية ، فيكون الشيء واجبا بالغير بعدما كان واجبا بالاستقلال ، وتندك جهة الاستقلالية في الجهة الغيرية (1) كما تندك جهة الاستحباب في جهة الوجوب.
ص: 296
فان كان نظر المتوهم راجعا إلى عدم إمكان انقلاب الواجب الاستقلالي إلى الواجب الغيري ، فهو مما لا محذور فيه.
وإن كان راجعا إلى أن الواجب الاستقلالي لا يكون واجبا غيريا مع بقائه على الواجب الاستقلالي ، فهو حق ، إلا أنه ليس المدعى ذلك.
وإن كان راجعا إلى أن وصف العلم وزوال صفة الجهل لا يوجب الانقلاب المذكور ، فهو مما لا شاهد عليه (1) وأي محذور في أن تكون صفة العلم موجبة للانقلاب المذكور؟ وكم له من نظير! فان أخذ العلم في موضوع حكم آخر بمكان من الامكان (2).
فالانصاف : أن هذا الوجه سالم عن الاشكال (3) ولا يرد عليه شيء سوى أنه يلزم أن يكون العقاب على ترك وصف الجهر أو الاخفات الذي كان واجبا نفسيا لا على ترك الصلاة الجهرية أو الصلاة الاخفاتية ، وهذا بعيد عن كلام الأصحاب (4) إلا أن ذلك مجرد استبعاد لا يضر بالمدعى ، فتأمل جيدا. هذا كله في المسألة الأولى من المسائل الثلاث التي صارت محلا للاشكال.
وأما المسألة الثانية : وهي القصر في موضع وجوب الاتمام - على القول بالصحة فيها - فيمكن التقصي عن الاشكال فيها بما ذكرناه في المسألة السابقة ،
ص: 297
بتقريب أن يقال : إن وجوب الركعتين الأخيرتين اللتين تركهما الجاهل بوجوب التام عليه إنما يكون نفسيا استقلاليا (1) وبالعلم بالحكم ينقلب الوجوب من النفسية إلى الغيرية على حذو ما سمعته في الجهر والاخفات ، ولا بعد في أن تكون الركعتان الأخيرتان واجبتين بالوجوب النفسي ، بل ربما يدعى ظهور الأدلة في ذلك ، فان الركعتين الأخيرتين مما فرضهما النبي صلی اللّه علیه و آله والأولتين مما فرضهما اللّه ( تعالى ) كما ورد بذلك عدة من الروايات (2).
وغاية ما يقتضيه فرض النبي صلی اللّه علیه و آله هو الوجوب النفسي ، وأما الارتباطية وكونهما قيدا لما فرضه اللّه ( تعالى ) من الركعتين الأولتين فلا يقتضيه ذلك ، بل لولا الاجماع على بطلان الصلاة المقصورة في موضع وجوب الاتمام مع العلم بالحكم لكان القول بالوجوب النفسي للركعتين الأخيرتين قريبا جدا حتى في صورة العلم بالحكم ، إلا أن الاجماع انعقد على البطلان في صورة العلم بالحكم ، وتبقى صورة الجهل بالحكم على ما تقتضيه ظاهر الأدلة : من الوجوب النفسي الاستقلالي (3).
وأما المسألة الثالثة : وهي الاتمام في موضع وجوب القصر ، فيمكن أن يقال في مقام التفصي عن الاشكال فيها : بأن الواجب على المسافر الجاهل بالحكم
ص: 298
خصوص الركعتين الأولتين ، لكن لا بشرط عدم الزيادة ، بل لا بشرط عن الزيادة ، فلا تكون الركعتان الأخيرتان مانعتين عن صحة الصلاة ، إلا أن العلم بالحكم يوجب الانقلاب ويصير الواجب على المسافر خصوص الركعتين الأولتين بشرط عدم الزيادة ، فتصح الصلاة التامة عند الجهل بالحكم وتفسد عند العلم به.
ويبقى إشكال العقاب ، ويمكن أن يكون العقاب لأجل ترك السلام بعد التشهد الثاني ، بأن يكون أصل التسليم في الصلاة جزء لها ، ولكن وقوعه عقيب التشهد الثاني واجب نفسي ، فيكون المتمم في موضع القصر قد أخل بهذا الواجب النفسي ، فيعاقب عليه مع صحة صلاته.
وهذا الوجه وإن كان في حد نفسه لا محذور فيه ، إلا أنه لا يساعد عليه كلمات الأصحاب ، بل لا ينطبق عليه بعض الفروع المتسالم عليها بينهم ، فان الظاهر : تسالمهم على أن الجاهل لو نوى التمام وأتم صلاته بهذا العنوان صحت صلاته بعنوان ما نواها ، وهذا لا يمكن إلا أن يكون المأمور به في هذا الحال هو الاتمام ، إذ لو كان المأمور به في هذا الحال هو خصوص الركعتين الأولتين - ولولا بشرط عن الزيادة - كان اللازم هو فساد صلاة من نوى التمام ، لعدم نية المأمور به. وكذا الظاهر : تسالمهم على أن الجاهل لو نوى القصر من باب الاتفاق وتمشى منه قصد التقرب وأتم الصلاة قصرا صحت صلاته ، وهذا لا يستقيم إلا إذا كانت الصلاة المقصورة مأمورا بها ولو في حال الجهل بالحكم ، فيلزم تعلق الامر بكل من الصلاة التامة والمقصورة مع استحقاق العقاب على ترك القصر.
هذا ، ولكن مع الالتزام بذلك كله يمكن أيضا التفصي عن الاشكال ، بأن يقال : إن الواجب على المسافر أحد الأمرين من القصر والتمام تخييرا ، ولكن في القصر خصوصية تقتضي تعينه لا على وجه القيدية بل على وجه الوجوب النفسي ، وبالعلم بالحكم تصير تلك الخصوصية قيدا للصلاة ومما لها دخل في
ص: 299
الصحة ، وتلك الخصوصية وإن لم يعلم بها تفصيلا ، إلا أنه من ترتب العقاب على ترك القصر في حال الجهل يستكشف إنا أن هناك واجبا نفسيا فات من المكلف ، كما أنه من صحة كل من القصر والاتمام في حال الجهل يستكشف أن الواجب عليه أحد الأمرين تخييرا ، ومن بطلان القصر في حال العلم يستكشف القيدية والارتباطية ، ولا بعد في ذلك كله ، إذ من الممكن أن تلحق خصوصية لاحد فردي الواجب تقتضي تعينه لا على وجه القيدية ، كما لو نذر الصلاة في المسجد ، فان خصوصية النذر تقتضي تعين وقوع الصلاة في المسجد ، ومع ذلك لو خالف وأوقع الصلاة في غير المسجد صحت صلاته واستحق العقاب على مخالفة النذر ، كما أنه من الممكن أن تنضم خصوصية لاحد فردي الواجب تقتضي تعينه على وجه القيدية بحيث لا يصح من المكلف غيره ، كما لو عقد صلاة الجمعة من له الولاية على عقدها ، فإنه لا تصح من المكلف غير صلاة الجمعة ، مع أن الواجب في عصر الحضور إحدى الصلاتين تخييرا حسب ما يستفاد من مجموع الأدلة.
فليكن المقام من هذا القبيل ، بأن يكون الواجب هو القصر أو التمام تخييرا ، وخصوصية العلم بالحكم توجب تعين القصر وعدم صحة التمام ، ويرتفع الاشكال بحذافيره.
أما صحة التمام في حال الجهل : فلانه أحد فردي الواجب التخييري. وأما العقاب : فلان المكلف ترك ما هو واجب عليه من الخصوصية. وأما بطلان التمام في حال العلم : فلانه بالعلم تصير تلك الخصوصية قيدا للصلاة.
هذا حاصل ما أفاده شيخنا الأستاذ - مد ظله - في هذا المقام ، ولكن عدل عن ذلك كله في مبحث الفقه (1) والتزم بأن الواجب على المسافر الجاهل إنما
ص: 300
هو التمام ، ولا يصح منه القصر ولو تمشى منه قصد القربة ، واستظهر تسالم الفقهاء على ذلك بعدما استظهر خلافه سابقا ، ومنع عن أصل العقاب - كما تقدم - وعلى هذا يرتفع الاشكال في جميع المسائل الثلاث ، وعليك بالمراجعة في كلمات الأصحاب والتأمل فيها.
قد تقدم أن وجوب الفحص إنما يختص بالشبهات الحكمية. وأما الشبهات الموضوعية : ففي التحريمية منها لا يجب الفحص إجماعا - على ما حكاه الشيخ قدس سره - وإن كان يمكن منع إطلاق معقد الاجماع ، فان في بعض فروع النكاح يجب فيه الفحص مع كون الشبهة تحريمية.
وأما الشبهات الوجوبية : فالظاهر عدم وجوب الفحص فيها أيضا ، إلا إذا توقف امتثال التكليف غالبا على الفحص ، كما إذا كان موضوع التكليف من الموضوعات التي لا يحصل العلم بها إلا بالفحص عنه ، كالاستطاعة في الحج والنصاب في الزكاة ، فان العلم بحصول أول مرتبة الاستطاعة لمن كان فاقدا لها أو العلم ببلوغ المال حد النصاب يتوقف غالبا بل دائما على الفحص والحساب ، وفي مثل هذا يبعد القول بعدم وجوب الفحص ، إذ لولا الفحص يلزم الوقع في مخالفة التكليف كثيرا ومن البعيد تشريع الحكم على هذا الوجه ، فيمكن دعوى الملازمة العرفية بين تشريع مثل هذا الحكم وبين إيجاب الفحص عن موضوعه ، فاطلاق القول بعدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية لا يستقيم ، بل الأقوى : وجوب الفحص عن الموضوعات التي يتوقف العلم بها غالبا على الفحص.
ص: 301
ثم لا يخفى : أن عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية إنما هو فيما إذا لم تكن مقدمات العلم حاصلة بحيث لا يحتاج حصول العلم بالموضوع إلى أزيد من النظر في تلك المقدمات ، فان في مثل هذا يجب النظر ولا يجوز الاقتحام في الشبهة - وجوبية كانت أو تحريمية - إلا بعد النظر في المقدمات الحاصلة ، لعدم صدق الفحص على مجرد النظر فيها (1) إذ الفحص إنما يكون بتمهيد مقدمات العلم التي هي غير حاصلة ، فلا يجوز الأكل والشرب اعتمادا على استصحاب الليل إذا توقف العلم بطلوع الفجر على مجرد النظر إلى الأفق ، وكذا لا يجوز الاقتحام في المايع المردد بين كونه خلا أو خمرا إذا توقف العلم به على مجرد النظر في الاناء أو السؤال عن الذي في جنبه.
نعم : لا يبعد القول بعدم وجوب ذلك أيضا في خصوص باب الطهارة والنجاسة لما علم من التوسعة فيها. هذا تمام الكلام في أصل وجوب الفحص واحكامه.
وأما مقدار الفحص : فالظاهر أن حده اليأس عن الظفر بالدليل فيما بأيدينا من الكتب المعتبرة ، إذ لا خصوصية للفحص عن الاحكام ، بل حاله حال الفحص عن الموضوعات الخارجية ، والمقدار اللازم من الفحص فيها هو حصول اليأس عن الظفر بها ، فإن العطشان يتفحص عن الماء حتى يحصل اليأس عنه ، والخائف يتفحص عما يخاف عنه إلى أن يحصل اليأس ، وهكذا سائر الموضوعات.
قد ذكر لأصل البراءة شرطان آخران :
ص: 302
أحدهما : أن لا يلزم من العمل بالبراءة إثبات حكم آخر.
ثانيهما : أن لا يلزم من جريانها ضرر على الغير.
أما الشرط الأول : فيحتاج إلى توضيح المراد منه ، فإنه إن كان المراد منه : أن أصالة البراءة لا تثبت اللوازم والاحكام المترتبة على نفي الحكم بالبراءة العقلية والشرعية ، فهذا يرجع إلى عدم اعتبار الأصل المثبت ، ولا اختصاص لذلك بأصل البراءة ، بل يعتبر ذلك في كل أصل ، حتى الاستصحاب الذي هو أقوى الأصول ، فما ظنك بالبراءة التي هي أضعف الأصول!.
وإن كان المراد منه أن الحكم الشرعي المترتب على عدم الحكم لا يترتب بمجرد نفي الحكم بالبراءة ، فهذا في الجملة حق ، ولكن ليس على إطلاقه ، فان ترتب حكم على عدم حكم آخر تارة : يكون لأجل المزاحمة بين الحكمين من حيث عدم القدرة على الجمع بين الحكمين في الامتثال ، كترتب وجوب الإزالة على عدم وجوب الصلاة وبالعكس في صورة وقوع المزاحمة بينهما ، ففي مثل هذا لا ينبغي الاشكال في كفاية نفي أحد الحكمين بالبراءة لاثبات الحكم الآخر ، فان المزاحمة إنما يقع بين الاحكام في مرتبة تنجزها ، والتنجيز يتوقف على الاحراز والوجود العلمي أو ما يقوم مقامه ، وأصالة البراءة تمنع عن تنجز الحكم الثابت في موردها ، فيترتب الحكم الآخر لا محالة ، فيكفي في وجوب الصلاة نفي وجوب الإزالة بأصالة البراءة ، لأن المفروض : أنه لا مانع من وجوب الصلاة إلا تنجز وجوب الإزالة ، وأصالة البراءة تمنع عن تنجزه ، فيثبت وجوب الصلاة لا محالة.
وأخرى : يكون لأجل أخذ عدم أحد الحكمين قيدا في ثبوت الحكم الآخر ، وهذا أيضا يختلف
فإنه تارة : يستفاد من مناسبة الحكم والموضوع أن القيد هو عدم الحكم المنجز لا عدم الحكم النفس الأمري وإن كان ظاهر الدليل ذلك ، كما لو
ص: 303
قلنا بحرمة التطوع لمن عليه فريضة ، فان استحباب التطوع وإن رتب في ظاهر الأدلة على أن لا تكون في ذمة المكلف صلاة واجبة في نفس الامر ، إلا أن مناسبة الحكم والموضوع يقتضي ترتب استحباب التطوع على من لم يتنجز في حقه وجوب الصلاة ، إذ من المستبعد جدا عدم استحباب التطوع لمن لم يتنجز عليه وجوب الصلاة ، بحيث يجوز له الأكل والشرب والنوم ولا يجوز له التطوع في الصلاة ، فلو شك في وجوب الصلاة عليه فبأصالة البراءة يثبت استحباب التطوع ، وإن فرض مخالفة البراءة للواقع.
وأخرى : لا يستفاد من مناسبة الحكم والموضوع ذلك ، بل رتب أحد الحكمين على عدم الآخر واقعا ، كترتب وجوب الحج على عدم اشتغال ذمة المكلف بمال الناس (1) فان الظاهر : عدم وجوب الحج على من كانت ذمته مشغولة بحق الناس واقعا وإن لم يعلم به ، وفي مثل ذلك يستقيم مقالة الفاضل التوني رحمه اللّه من أنه لا يثبت أحد الحكمين بمجرد نفي الحكم الآخر بالبراءة ، إذ أصالة البراءة لا تقتضي نفي الحكم واقعا ولا يثبت عدمه النفس الأمري ، والمفروض : أن أحد الحكمين إنما رتب على عدم الآخر واقعا.
نعم : لو كان عدم أحد الحكمين الذي اخذ قيدا لوجود الآخر مجرى للاستصحاب كان استصحاب عدمه مثبتا للحكم الآخر ، لان الاستصحاب ينفي الحكم الواقعي ، فإنه من الأصول المحرزة ، فلا مانع من ترتب أحد الحكمين على عدم الآخر المحرز بالاستصحاب ، فتأمل جيدا. هذا كله في الشرط الأول.
وأما الشرط الثاني : فهو من أصله فاسد ، لان المورد الذي تجري فيه البراءة إن كان مما يندرج في قاعدة « لا ضرر » فلا محل لجريان البراءة ولا غيرها من الأصول ، بل ولا الأدلة الاجتهادية ، لحكومة القاعدة على جميع ذلك. وإن لم
ص: 304
يكن المورد مندرجا في القاعدة فلا وجه لهذا الاشتراط.
وللتكلم فيما يندرج في القاعدة ومقدار دلالتها محل آخر ، أفردناه في رسالة مستقلة. هذا تمام الكلام في قاعدة الاشتغال.
والحمد لله أولا وآخرا
والصلاة والسلام على أشرف بريته محمد وآله الطيبين الطاهرين.
وقد وقع الفراغ من تسويده ليلة السبت ، سابع شوال المكرم 1343.
* * *
ص: 305
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأولين والآخرين ، محمد وآله الطيبين الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
وتحقيق الكلام فيه يستدعي تقديم أمور :
في حقيقة الاستصحاب. وأسد ما قيل في تعريفه : « هو الحكم ببقاء ما كان » ولا يخفى ما فيه ، فان الاستصحاب ليس معناه « الحكم ببقاء ما كان » لان ذلك عبارة أخرى عن « الحكم بدوام ما ثبت » وهذا ليس من الاستصحاب قطعا ، فإنه لا إشكال في أن لليقين والاحراز السابق دخل في حقيقة الاستصحاب ولو لكونه طريقا إلى المتيقن ، كما أن للشك بالبقاء دخل
ص: 306
فيه ، فليس الاستصحاب عبارة عن « الحكم بدوام ما ثبت » بل لو كان حقيقة الاستصحاب ذلك لكان الاستصحاب من الاحكام الواقعية ، وعلى فرض أن يكون من الاحكام الظاهرية باعتبار أخذ الشك في الحكم بالبقاء فيه - مع أنه لم يذكر في التعريف - فليس مفاد الأخبار الواردة في الباب ذلك.
فالأولى في تعريفه هو أن يقال : إن الاستصحاب عبارة عن عدم (1) انتقاض اليقين السابق المتعلق بالحكم أو الموضوع من حيث الأثر والجري العملي بالشك في بقاء متعلق اليقين (2) وهذا المعنى ينطبق على ما هو مفاد الاخبار ، وليس حقيقة الاستصحاب إلا ذلك ، وسيتضح أن الوجه في أخذ بعض القيود في التعريف إنما هو لاخراج « قاعدة اليقين » و « قاعدة المقتضي والمانع » بل ولاخراج « الشك في المقتضي » أيضا الذي لا نقول باعتبار الاستصحاب فيه ، وسيظهر أيضا انطباق التعريف على ما يستفاد من الأخبار الواردة في الاستصحاب.
يظهر من بعض كلمات الشيخ قدس سره أن الاستصحاب إنما يكون من القواعد الفقهية وليس من المسائل الأصولية. ويظهر من بعض آخر : أنه من المسائل الأصولية. والحق هو التفصيل بين الاستصحابات الجارية في الشبهات
ص: 307
الحكمية والاستصحابات الجارية في الشبهات الموضوعية ، ففي الأول : يكون الاستصحاب من المسائل الأصولية ، وفي الثاني : يكون من القواعد الفقهية.
وتوضيح ذلك : هو أن المسائل الأصولية عبارة عن الكبريات التي تقع في طريق استنباط الاحكام الكلية الشرعية وبذلك تمتاز عن مسائل سائر العلوم وعن القواعد الفقهية ، فبقولنا : « الكبريات » تخرج مسائل سائر العلوم ، وبقولنا : « الاحكام الكلية » تخرج القواعد الفقهية.
أما الأول : فلان مسائل سائر العلوم وإن كانت تقع في طريق الاستنباط أيضا ، إلا أنها لا تقع في كبرى القياس ، بل إنما تلتئم منها صغرى القياس ، حتى « علم الرجال » الذي هو أقرب العلوم إلى الاستنباط بعد علم الأصول ، فان « علم الرجال » إنما يتكفل تشخيص الخبر الثقة عن غيره ، والواقع في صغرى قياس الاستنباط هو خصوص الخبر الثقة لا مطلق الخبر ، فان نتيجة المسألة الأصولية هي حجية الخبر الثقة ، كما يقال : وجوب صلاة الظهر مما أخبر به الثقة وكلما أخبر به الثقة حجة أو يجب اتباعه ، فينتج وجوب صلاة الظهر ، وكذا مسائل سائر العلوم ، فان علم اللغة والصرف والنحو إنما يتكفل تشخيص الظاهر عن غيره ، والمبحوث عنه في المسألة الأصولية هو حجية الظواهر.
وبذلك يظهر : أن البحث عن ظهور الأمر والنهي في الوجوب والحرمة لا يرجع إلى علم الأصول ، بل هو من المبادي ، كالبحث عن أن « الصعيد » ظاهر في مطلق وجه الأرض ، وإنما ذكر في علم الأصول استطرادا ، حيث لم يبحث عنه في علم آخر.
وبالجملة : المايز بين علم الأصول وسائر العلوم ، هو أن مسائل سائر العلوم إنما تكون من المبادي والمعدات لاستنتاج الأحكام الشرعية ، ولا تقع إلا في صغرى قياس الاستنباط. وأما المسألة الأصولية فهي تكون الجزء الأخير لعلة الاستنباط وتصلح لان تقع كبرى القياس.
ص: 308
وبما ذكرنا ظهر : أنه لا موجب لقصر المسائل الأصولية بخصوص ما كان البحث فيه عن أحوال الأدلة الأربعة بذواتها أو بوصف دليليتها ، لكي يلزم الاستطراد في جملة من مهمات المسائل المبحوث عنها في علم الأصول أو يتكلف في دخولها فيه بما لا يخلو عن تعسف ، بل ينبغي تعميم المسائل الأصولية إلى كل ما يقع كبرى لقياس استنباط الحكم الشرعي الكلي ، سواء كان واقعيا أو ظاهريا ، على ما أوضحناه في أول الكتاب.
وأما الثاني : فلان القاعدة الفقهية وإن كانت تقع كبرى لقياس الاستنباط ، إلا أن النتيجة فيها إنما تكون حكما جزئيا يتعلق بعمل آحاد المكلفين بلا واسطة ، أي لا يحتاج في تعلقه بالعمل إلى مؤنة أخرى كما هو الشأن في نتيجة المسألة الأصولية ، فإنها لا تعلق لها بعمل الآحاد ابتداء إلا بعد تطبيق النتيجة على الموارد الخاصة الجزئية ، فان الحكم الكلي بما هو كلي لا يرتبط بكل مكلف ولا يتعلق بعمله إلا بتوسط انطباقه عليه خارجا.
والحاصل : أن النتيجة في المسألة الأصولية إنما تكون كلية ولا يمكن أن تكون جزئية ، وهذا بخلاف النتيجة في القاعدة الفقهية فإنها تكون جزئية ، ولو فرض أنه في مورد كانت النتيجة كلية ففي مورد آخر تكون جزئية. فالمايز بين المسألة الأصولية والقاعدة الفقهية ، هو أن النتيجة في المسألة الأصولية دائما تكون حكما كليا لا يتعلق بعمل آحاد المكلفين إلا بعد التطبيق الخارجي ، وأما النتيجة في القاعدة الفقهية فقد تكون جزئية لا تحتاج في تعلقها بعمل الآحاد إلى التطبيق ، بل غالبا تكون كذلك.
وبتقريب آخر : نتيجة المسألة الأصولية إنما تنفع المجتهد ولا حظ للمقلد فيها ، ومن هنا ليس للمجتهد الفتوى بمضمون النتيجة ، ولا يجوز له أن يفتي في الرسائل العملية بحجية الخبر الواحد القائم على الأحكام الشرعية مثلا ، لان تطبيق النتيجة على الخارجيات ليس بيد المقلد بل هو من وظيفة المجتهد. وأما النتيجة
ص: 309
في القاعدة الفقهية فهي تنفع المقلد ، ويجوز للمجتهد الفتوى بها ، ويكون أمر تطبيقها بيد المقلد ، كما يفتي بقاعدة التجاوز والفراغ والضرر والحرج ومالا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده وبالعكس ، وغير ذلك من القواعد الفقهية.
فالقاعدة الفقهية تشترك مع المسألة الفقهية في كون النتيجة فيها حكما جزئيا عمليا يتعلق بفعل المكلف بلا واسطة ، غايته أنه جرى الاصطلاح على اختصاص المسألة الفقهية بما إذا كان المحمول فيها حكما أوليا كان له تعلق بفعل أو بموضوع خاص - كمسألة وجوب الصلاة أو حرمة شرب الخمر - واختصاص القاعدة الفقهية بما إذا لم يكن للمحمول تعلق بفعل أو موضوع خاص ، بل كان حاويا لعدة من الافعال والموضوعات المتفرقة التي يجمعها عنوان الحكم الحاوي لها ، من غير فرق بين أن يكون المحمول فيها حكما واقعيا أوليا كقاعدة مالا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده الشاملة لجميع أنواع المعاوضات المتفرقة ، أو حكما واقعيا ثانويا كقاعدة لا ضرر ولا حرج الجارية في جميع أبواب الفقه ، أو حكما ظاهريا كقاعدة التجاوز والفراغ.
إذا عرفت ذلك فقد ظهر لك : أن البحث عن حجية الاستصحاب الجاري في الشبهات الحكمية يكون بحثا عن مسألة أصولية (1) فان النتيجة فيه حكم كلي لا يتعلق بعمل آحاد المكلفين إلا بعد تطبيقها على الافعال أو الموضوعات الخارجية الجزئية ، ولا عبرة بيقين المقلد وشكه في ذلك ، بل العبرة بيقين المجتهد وشكه ، وهو الذي يجري الاستصحاب ويكون بوحدته بمنزلة كل المكلفين ، ولا يتوقف إعمال الاستصحاب على تحقق الموضوع خارجا ، بل يكفي فيه فرض
ص: 310
الوجود ، كما إذا شك في بقاء نجاسة الماء المتغير الذي زال عنه التغير من قبل نفسه ، فإنه يجري استصحاب النجاسة فيه ولو لم يوجد في العالم ماء متغير.
والسر في ذلك : هو أن متعلق الشك في الاستصحابات الحكمية إنما هو الحكم الكلي المترتب على موضوعه المقدر وجوده مع تبدل بعض حالات الموضوع ، وبذلك يمتاز عن استصحاب عدم النسخ عند الشك فيه ، فإنه في استصحاب عدم النسخ لا يحتاج إلى فرض وجود الموضوع وتبدل بعض حالاته ، وأما استصحاب الحكم الكلي في الشبهات الحكمية فيحتاج إلى فرض وجود الموضوع وتبدل بعض حالاته ، ولا يحتاج إلى تحقق الموضوع خارجا ، كما هو الشأن في الاستصحابات الجارية في الشبهات الموضوعية ، ومن هنا كان إعمال الاستصحاب في الشبهات الحكمية من وظيفة المجتهد ولا حظ للمقلد فيه ، ولا يجوز للمجتهد الفتوى بحجية الاستصحاب في الشبهة الحكمية لان تطبيقها ليس بيد المقلد ، بل لابد للمجتهد من الفتوى بالحكم المستخرج من إعمال الاستصحاب ، فينطبق على ما تقدم من ضابط المسألة الأصولية ، فان حجية الاستصحاب في الشبهات الحكمية يقع كبرى لقياس استنباط الحكم الكلي ، وذلك واضح.
وأما البحث عن حجية الاستصحاب في الشبهات الموضوعية : فهو إنما يكون بحثا عن قاعدة فقهية ، لان النتيجة فيه حكم عملي له تعلق بعمل الآحاد ابتداء ، فان اليقين والشك من كل مكلف - مقلدا كان أو مجتهدا - يكون موضوعا مستقلا لجريان الاستصحاب ، كالشك المعتبر في قاعدة التجاوز والفراغ ، فالذي يجري الاستصحاب في الموضوعات الخارجية إنما هو آحاد المكلفين على حسب ما يعرض لهم من الشك واليقين ، وليس للمجتهد إلا الفتوى بحجية الاستصحاب في الموضوعات ، وأما إعماله فهو يدور مدار شك المقلد ويقينه ، والنتيجة لا تكون إلا الحكم الجزئي المتعلق بعمله الخاص الذي
ص: 311
لا يتعداه ، كطهارة ثوبه ونجاسة بدنه وغير ذلك ، فالبحث عن حجية الاستصحاب في الموضوعات الخارجية كالبحث عن حجية قاعدة الفراغ والتجاوز يرجع إلى البحث عن قاعدة فقهية.
فظهر : أنه لابد من القول بالتفصيل بين حجية الاستصحاب في الشبهات الحكمية وبين حجيته في الشبهات الموضوعية ، فالأول يكون من المسائل الأصولية ، والثاني من القواعد الفقهية.
وتوهم : أنه لا يمكن ذلك مع وحدة الدليل الدال على حجية الاستصحاب وهو قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » فان نتيجة الدليل الواحد لا يمكن أن تختلف وتكون تارة مسألة أصولية وأخرى قاعدة فقهية.
فاسد ، فان قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » ينحل إلى قضايا متعددة حسب تعدد أفراد اليقين والشك ، فلا محذور في اختلاف النتيجة حسب اختلاف مقامات الشك واليقين ، وأنه في مقام الشبهة الحكمية تكون النتيجة مسألة أصولية وفي مقام الشبهة الموضوعية تكون النتيجة قاعدة فقهية ، ولا يلزم من ذلك استعمال اللفظ في معنيين.
وهذا من غير فرق بين القول باعتبار الاستصحاب من باب التعبد أو من باب إفادته الظن النوعي وبناء العقلاء ، فان اليقين السابق والشك اللاحق المفيد للظن في نوعه إن تعلق بالأحكام يكون من المسائل الأصولية وإن تعلق بالموضوعات يكون من القواعد الفقهية.
بل ما ذكرناه من اختلاف النتيجة لا يختص بالاستصحاب ، بل يطرد في جميع الامارات والأصول ، فالبحث عن حجية الظواهر في باب الأوقاف والأقارير والوصايا يرجع إلى البحث وعن قاعدة فقهية ، والبحث عن حجيتها في باب الاحكام يرجع إلى البحث عن مسألة أصولية ، وقس على ذلك سائر الطرق والأصول.
ص: 312
ومما ذكرنا ظهر : موقع النظر في كلام الشيخ قدس سره من أن الاستصحاب في الاحكام عبارة عن نفس الحكم ، والدليل عليه قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » فيكون الاستصحاب قاعدة فقهية.
وجه النظر : هو أن الاستصحاب إنما يكون مدركا للحكم الشرعي ، لا أنه بنفسه حكم شرعي ، فان عدم نقض اليقين بالشك الذي هو مفاد الاستصحاب يكون دليلا على نجاسة الماء المتغير الذي زال عنه التغير من قبل نفسه ، فتأمل جيدا.
لا إشكال في مباينة الاستصحاب لكل من « قاعدة اليقين » و « قاعدة المقتضي والمانع » كما أن كلا من القاعدتين تباين الأخرى ، وليس ما يكون بمفهومه جامعا بين العناوين الثلاث.
وتوضيح ذلك : هو أنه يعتبر اختلاف متعلق الشك واليقين في « قاعدة المقتضي والمانع » ولا يمكن أن يتحد ، فان اليقين فيها إنما يتعلق بوجود المقتضي والشك يتعلق بوجود المانع ، فيختلف متعلق الشك واليقين ، ولا يمكن أن يتعلق أحدهما بعين ما تعلق به الآخر ، وهذا بخلاف الشك واليقين في باب الاستصحاب و « قاعدة اليقين » فان الشك في كل منهما يتعلق بعين ما يتعلق به اليقين ولا يختلف مورد الشك واليقين فيهما ، كما سيأتي بيانه.
وبقريب آخر : مورد « قاعدة المقتضي والمانع » هو ما إذا اجتمع كل من الشك واليقين والمشكوك والمتيقن في الزمان ، فإنه في ظرف اليقين بوجود المقتضي يشك في وجود المانع ، فلا يختلف زمان الشك واليقين بمالهما من المتعلق.
وأما « قاعدة اليقين » فيعتبر فيها اختلاف زمان الشك واليقين مع اتحاد زمان المشكوك والمتيقن ، كما إذا تعلق اليقين بعدالة زيد في يوم الجمعة وشك
ص: 313
يوم السبت بعدالته في يوم الجمعة ، فيختلف زمان اليقين مع زمان الشك ، فان ظرف حصول اليقين كان هو يوم الجمعة وظرف حصول الشك كان هو يوم السبت ، ويتحد زمان المتيقن والمشكوك ، فان المتيقن والمشكوك فيه هو عدالة زيد في يوم الجمعة ، ولذلك يعبر عن « قاعدة اليقين » بالشك الساري ، لأن الشك الحاصل في الزمان المتأخر عن زمان اليقين يسري ويرجع بطريق القهقرى إلى زمان اليقين ، ويوجب تبدل اليقين وانقلابه إلى الشك.
وأما الاستصحاب : فيعتبر فيه اختلاف زمان المتيقن والمشكوك ، سواء اختلف زمان الشك واليقين أيضا ( كما إذا حصل اليقين بعدالة زيد في يوم الجمعة بحيث كان يوم الجمعة ظرفا لكل من العدالة واليقين وشك في يوم السبت بعدالته فيه ) أو اتحد زمان الشك واليقين ( كما إذا حصل اليقين في يوم السبت بعدالة زيد في يوم الجمعة وشك في يوم السبت أيضا بعدالة زيد فيه ) فالذي يعتبر في الاستصحاب هو اختلاف زمان المتيقن والمشكوك ، ولا يعتبر فيه اختلاف زمان الشك واليقين ، على عكس « قاعدة اليقين »
فظهر : انه لا يمكن ان يجتمع الاستصحاب مع « قلعدة المقتضي والمانع » و « قاعدة اليقين » كما لايجتمع احدي القاعدتين مع الاخري ، بل لكل من هذه العناوين الثلاثة قيد يوجب التبانين بينها ، فلا يمكن ان يتفكل لاعتبارها دليل واحد ، بل لابد من ان يكون اعتبار كل واحد منها بدليل يخصه.
ومن ذلك يظهر : انه لو كان المراد من اليقين والشك في قوله علیه السلام « لا تنقص اليقين بالشك » هو اليقين والشك الاستصحابي ، فلا يمكن ان يشمل اليقين والشك في « قاعدة اليقين » او « قاعدة المقتضي والمانع ».
ما سيأتي من الشيخ قدس سره من عدم اعتبار الاستصحاب عند الشك
ص: 314
في المقتضي لا يراد به « المقتضي » في باب « قاعدة المقتضي والمانع » فان المراد من المقتضي والمانع في القاعدة لا يخلو عن أحد وجوه ثلاث :
الأول : أن يكون المراد من المقتضي ما يقتضي وجود الأثر التكويني في عالم التكوين كاقتضاء النار للاحراق ، ومن المانع ما يمنع عن تأثير المقتضي كمانعية الرطوبة الغالبة عن تأثير النار في الثوب المجاور لها. فترجع دعوى من يقول باعتبار « قاعدة المقتضي والمانع » إلى أنه يجب البناء على تحقق المقتضى ( بالفتح ) عند العلم بوجود المقتضي ( بالكسر ) مع الشك في وجود المانع.
الثاني : أن يكون المراد من المقتضي ما يقتضي الأثر الشرعي بحسب جعل الشارع ، ومن المانع ما يمنع عن ترتب الأثر الشرعي بجعل من الشارع ، فيكون كل من المقتضي والمانع شرعيا ، كما يقال : إن المستفاد من أدلة النجاسات أن الشارع جعل ملاقاة الماء للنجاسة مقتضية لنجاسته وكرية الماء مانعة عنها. فترجع دعوى من يقول باعتبار « قاعدة المقتضي والمانع » إلى أنه يجب البناء على تحقق الأثر الشرعي كنجاسة الماء عند العلم بوجود ما جعله الشارع مقتضيا له - كالملاقاة في المثال - إلى أن يثبت المانع وهو كرية الماء.
الثالث : أن يكون المراد من المقتضي ما يقتضي تشريع الحكم من الملاكات التي تبتني عليها الاحكام كما يقال : إن العلم مقتض لوجوب الاكرام ، ومن المانع ما يمنع عن تأثير المقتضي في الجعل كمانعية الفسق عن تشريع وجوب الاكرام. فترجع دعوى من يقول باعتبار « قاعدة المقتضي والمانع » إلى أنه يجب البناء على تحقق الحكم الشرعي عند العلم بوجود الملاك والشك في وجود المانع.
ولم يعلم : أن من يدعي حجية « قاعدة المقتضي والمانع » إلى أي من هذه الوجوه الثلاثة ترجع دعواه؟ ويمكن أن يقول بحجية القاعدة في الجميع ، وسيأتي ( إن شاء اللّه تعالى ) أنه لا دليل على اعتبار « قاعدة المقتضي والمانع » مطلقا ،
ص: 315
سواء أريد من « المقتضي » المقتضي التكويني أو الشرعي أو الملاكي ، خصوصا لو أريد منه الأخير ، فإنه لا طريق إلى إحراز المقتضي الملاكي.
وعلى كل حال : المراد من « المقتضي » الذي ذهب الشيخ قدس سره إلى عدم اعتبار الاستصحاب عند الشك فيه معنى آخر أجنبي عن هذه الوجوه الثلاثة المذكورة في القاعدة ، وسيتضح المراد منه ( إن شاء اللّه تعالى ).
يعتبر في الاستصحاب أمور ثلاثة :
أحدها : اجتماع اليقين والشك في الزمان ، سواء كان مبدء حدوث اليقين قبل حدوث الشك ، أو تقارن حدوثهما في الزمان ، أو تأخر حدوث اليقين عن حدوث الشك ، كما لو شك في عدالة زيد في يوم السبت واستمر الشك إلى يوم الأحد وفي يوم الأحد حدث اليقين بعدالته في يوم الجمعة ، فالذي يعتبر في الاستصحاب هو اجتماع اليقين والشك في الزمان ، من غير فرق بين تقارن حدوثهما زمانا أو سبق حدوث أحدهما على الآخر ، فإنه مع عدم اجتماع اليقين والشك يلزم تبدل اليقين وسراية الشك إليه ، فيخرج عن موضوع الاستصحاب ، لأنه يعتبر فيه استقرار اليقين بوجود المتيقن في وقت ما ، وبذلك يمتاز الاستصحاب عن « قاعدة اليقين » كما تقدم.
ثانيها : سبق زمان المتيقن على زمان الشك ، بأن يتعلق الشك ببقاء ما هو متيقن الوجود سابقا ، فلو انعكس الامر وكان زمان المتيقن متأخرا عن زمان الشك - كما إذا شك في مبدء حدوث ما هو متيقن الوجود في الزمان الحاضر - يرجع ذلك إلى الاستصحاب القهقرى الذي لا دليل على اعتباره ، فان الظاهر من قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » هو عدم نقض المتيقن بما له من الآثار بالشك في بقائه ، وهذا المعنى يتوقف على سبق زمان المتيقن ، إذ مع
ص: 316
سبق زمان الشك لا يرتبط الشك في مبدء حدوثه باليقين الحاصل في الزمان الحاضر ، فان عدم البناء على حدوث المتيقن في الزمان السابق على زمان اليقين بوجوده لا يعد نقضا لليقين بالشك ، بل الامر في الاستصحاب القهقرى بالعكس يكون من نقض الشك باليقين ، لا نقض اليقين بالشك.
وبالجملة : لا إشكال في أن لمفاد الأخبار الواردة في الباب يقتضي سبق زمان المتيقن والشك في بقائه ، وهذا المعنى أجنبي عن استصحاب القهقرى ، فالقائل بحجيته لابد له من أن يلتمس دليلا آخر غير روايات الباب.
ثالثها : فعلية الشك واليقين ، ولا يكفي الشك واليقين التقديري ، فإنه مضافا إلى ظهور لفظ الشك واليقين بل مطلق الألفاظ في فعلية الوصف العنواني وقيام مبدأ الاشتقاق الحقيقي أو الجعلي بالذات فعلا وتلبسها به حال الاطلاق - ولذا وقع الاتفاق على عدم حصة إطلاق الانسان والحجر وغير ذلك من الجوامد على ما انقضى عنه الانسانية والحجرية أو لم يتلبس بعد وإن وقع الخلاف في خصوص المشتقات في صحة إطلاقها على وجه الحقيقة بالنسبة إلى من انقضى عنه المبدء - أن الحكم المجعول في الاستصحاب بل في مطلق الأصول لا يكاد يتحقق إلا مع فعلية الشك الذي اخذ موضوعا فيها ، بداهة أن الجري العملي على أحد طرفي الشك أو البناء على بقاء الحالة السابقة وترتب آثار ثبوت المتيقن لا يمكن إلا مع فعلية الشك ، بل قد تقدم منا في مبحث الظن أن نتيجة الحكم الظاهري لا يكاد أن تتحقق إلا بعد العلم بالحكم والموضوع ، من غير فرق في ذلك بين الطرق والامارات وبين الأصول العملية. وبذلك تمتاز الاحكام الواقعية عن الاحكام الظاهرية بعد اشتراكهما في عدم توقف الجعل والانشاء على العلم به ، لأنه يلزم الدور ، إلا أن فعلية الاحكام الواقعية لا تتوقف على العلم بالحكم أو الموضوع ، بل فعليتها تدور مدار وجود الموضوع خارجا ولو مع جهل المكلف به ، وربما تكون بوجوداتها الواقعية منشأ للآثار الخاصة وإن لم يكن
ص: 317
لها وجود علمي. وهذا بخلاف الاحكام الظاهرية ، فإنها بوجوداتها الواقعية لا أثر لها ولا يترتب عليها الآثار المرغوبة منها - من كونها منجزة للواقع عند الإصابة والمعذورية عند المخالفة - إلا بعد الالتفات إليها والعلم بها حكما وموضوعا ، لوضوح أن مجرد جعل حجية الخبر الثقة أو الاستصحاب لا يقتضي التنجيز والمعذورية إلا بعد العلم بقيام الخبر أو الاستصحاب على وجوب الشيء ومقدار دلالته وما يستفاد منه.
وبالجملة : لا إشكال في أن نتيجة جعل الطرق والامارات والأصول العملية لا يمكن أن تتحقق إلا بعد العلم بالحكم والموضوع ، لا معنى للمؤاخذة على ترك العمل بخبر لم يعلم به. وكذا الاستصحاب ، فيتوقف جريان الاستصحاب على الالتفات إليه حكما وموضوعا ، وذلك يتوقف على فعلية الشك الذي اخذ موضوعا فيه ، فلا ينبغي التأمل في اعتبار فعلية الشك في الاستصحاب. ويترتب على ذلك فروع مهمة :
منها : ما إذا تيقن المكلف بالحدث ثم غفل عن حاله وصلى غافلا وبعد الفراغ من الصلاة شك في تطهره قبل الصلاة (1) فبناء على اعتبار فعلية الشك في جريان الاستصحاب ينبغي القول بصحة الصلاة وعدم وجوب إعادتها ، لأنه يكون من الشك بعد الفراغ ، فتجري في الصلاة « قاعدة الفراغ » ولا أثر لاستصحاب بقاء الحدث الجاري بعد الصلاة عند الالتفات إلى حاله ، لان قاعدة الفراغ حاكمة عليه. نعم : استصحاب بقاء الحدث إنما ينفع بالنسبة
ص: 318
إلى الصلوات المستقبلة. هذا بناء على اعتبار فعلية الشك.
وأما بناء على كفاية الشك التقديري ، فينبغي القول ببطلان الصلاة في الفرض المذكور ، لأنه بمجرد تيقن الحدث كان الحكم المجعول في حقه هو البناء على بقاء الحدث إلى أن يعلم بالرافع ولا أثر لغفلته بعد ذلك ، لأنه يكون بمنزلة من صلى محدثا بحكم الاستصحاب ، فهو كمن دخل في الصلاة مع الشك في الطهارة ، فتأمل جيدا.
الانقسامات اللاحقة للاستصحاب باعتبار اختلاف المستصحب والدليل الدال عليه ومنشأ الشك في بقائه كثيرة.
أما أقسامه باعتبار المستصحب : فهي أن المستصحب إما أن يكون أمرا وجوديا وإما أن يكون عدميا. وعلى كلا التقديرين : فاما أن يكون حكما شرعيا وإما أن يكون موضوعا ذا حكم. وعلى الأول : فاما أن يكون حكما كليا وإما ان يكون حكما جزئيا. وعلى كلا التقديرين : فإما أن يكون من الأحكام التكليفية وإما أن يكون من الأحكام الوضعية.
وأما أقسامه باعتبار الدليل : فهي أن الدليل الدال على ثبوت المستصحب إما أن يكون هو الكتاب والسنة ، وإما أن يكون هو الاجماع ، وإما أن يكون هو العقل.
وأما أقسامه باعتبار منشأ الشك : فهي أن الشك في بقاء المستصحب إما أن يكون لأجل الشك في المقتضي بالبيان الآتي ، وإما أن يكون لأجل الشك في وجود الرافع أو الغاية - على ما سيأتي من الفرق بينهما - وإما أن يكون لأجل الشك في رافعية الموجود من جهة الشبهة الحكمية أو الموضوعية.
فهذا جملة الأقسام المتصورة في الاستصحاب بالاعتبارات الثلاثة. وقد وقع
ص: 319
الخلاف في حجية الاستصحاب في كل واحد من هذه الأقسام. والأقوى : حجية الاستصحاب في جميع الأقسام اللاحقة له باعتبار المستصحب والدليل الدال على ثبوته. وأما أقسامه اللاحقة له باعتبار منشأ الشك : فسيأتي الكلام فيه.
ويظهر من الشيخ قدس سره عدم جريان الاستصحاب فيما إذا كان الدليل الدال على ثبوت المستصحب هو العقل ، وحاصل ما أفاده في وجه ذلك هو : أن الاحكام العقلية لا يكاد يتطرق الاهمال والاجمال فيها ، فان العقل لا يستقل بقبح شيء أو حسنه إلا بعد الالتفات إلى الموضوع بجميع ما يعتبر فيه من القيود والخصوصيات ، فكل قيد اعتبره العقل في حكمه فلابد وأن يكون له دخل في الموضوع ، ومعه لا يمكن الشك في بقاء الحكم العقلي وما يستتبعه من الحكم الشرعي - بقاعدة الملازمة - مع بقاء الموضوع واتحاد القضية المشكوكة للقضية المتيقنة الذي لابد منه في الاستصحاب - كما سيأتي بيانه - فإنه لا يمكن الشك في بقاء الشيء إلا بعد انتفاء بعض الخصوصيات والعوارض المكتنفة به ، بداهة أنه مع بقاء الموضوع على ما هو عليه يقطع ببقاء الحكم ولا يتطرق إليه الشك ، فالشك في بقاء الحكم العقلي لا يكون إلا بعد انتفاء بعض خصوصيات الموضوع ، ومعه يقطع بارتفاع الحكم ، لأن المفروض أن للخصوصية الزائلة دخلا في موضوع حكم العقل.
وبتقريب آخر : العقل لا يستقل بحسن الشيء أو قبحه إلا بعد الإحاطة بجميع ما له دخل في الحسن والقبح ، فلابد وأن يكون لكل خصوصية أخذها العقل في موضوع حكمه مما لها دخل في مناط حكمه ، فعند انتقاء بعض الخصوصيات لا يجري استصحاب بقاء الحكم العقلي ، للعلم بارتفاع المناط. فالحكم العقلي إما أن يكون مقطوع البقاء وإما أن يكون مقطوع الارتفاع ، ولا يتطرق فيه الشك لكي يجري فيه الاستصحاب.
ص: 320
وأما الحكم الشرعي المستكشف من حكم العقل بقاعدة الملازمة ، فلا يمكن استصحابه أيضا ، لان المناط للحكم الشرعي هو المناط في الحكم العقلي ، فلا يمكن أن يكون دائرة ما يقوم به مناط الحكم الشرعي أوسع من دائرة ما يقوم به مناط الحكم العقلي ، فان الحكم الشرعي إنما استفيد من حكم العقل ، فلابد من أن يكون للخصوصية الزائلة دخل في مناط حكم الشرع أيضا ، لاتحاد ما يقوم به المناط فيهما ، فالعلم بارتفاع مناط الحكم العقلي يلازم العلم بارتفاع مناط الحكم الشرعي ، فكما لا يمكن استصحاب الحكم العقلي عند انتفاء بعض خصوصيات الموضوع ، كذلك لا يمكن استصحاب الحكم الشرعي المستفاد منه ، فالحكم الشرعي أيضا إما أن يكون مقطوع الارتفاع وإما أن يكون مقطوع البقاء ، ولا يتطرق الشك فيه أبدا. هذا حاصل ما أفاده الشيخ ، بتحرير منا.
ولكن للنظر فيه مجال.
أما أولا : فلان دعوى : كون كل خصوصية أخذها العقل في موضوع حكمه لابد وأن يكون لها دخل في مناط حكمه واقعا ، ممنوعة ، بداهة أنه ربما لا يدرك العقل دخل الخصوصية في مناط الحسن والقبح واقعا ، وإنما أخذها في الموضوع لمكان أن الموضوع الواجد لتلك الخصوصية هو المتيقن في قيام مناط الحسن أو القبح فيه ، مع أنه يحتمل واقعا أن لا يكون لها دخل في المناط ، مثلا يمكن أن يكون حكم العقل بقبح الكذب الضار الذي لا يترتب عليه نفع للكاذب ولا لغيره إنما هو لأجل أن الكذب المشتمل على هذه الخصوصيات هو القدر المتيقن في قيام مناط القبح فيه ، مع أنه يحتمل أن لا يكون لخصوصية عدم ترتب النفع دخل في القبح ، بل يكفي في القبح مجرد ترتب الضرر عليه وإن لزم منه حصول النفع للكاذب أو لغيره ، والحكم الشرعي المستكشف من حكم العقل إنما يدور مدار ما يقوم به مناط القبح واقعا ، فيمكن بقاء الحكم الشرعي مع انتفاء بعض الخصوصيات التي أخذها العقل في الموضوع من باب القدر المتيقن ،
ص: 321
لاحتمال أن لا تكون لتلك الخصوصية دخل فيما يقوم به الملاك واقعا ، فيكون وزان الحكم الشرعي المستفاد من الحكم العقلي وزان الحكم الشرعي المستفاد من الكتاب والسنة يصح استصحابه عند الشك في بقائه لأجل زوال بعض خصوصيات الموضوع التي لا تضر بصدق بقاء الموضوع واتحاد القضية المشكوكة للقضية المتيقنة عرفا.
وثانيا : سلمنا أن كل خصوصية أخذها العقل في موضوع حكمه لها دخل في مناط الحكم بنظر العقل ويكون بها قوام الموضوع ، إلا أنه يمكن أن يكون ملاك الحكم الشرعي قائما بالأعم من الواجد لبعض الخصوصيات والفاقد لها ، فان حكم العقل بقبح الواجد لجميع الخصوصيات لا ينحل إلى حكمين : حكم إيجابي وهو قبح الكذب الضار الغير النافع ، وحكم سلبي وهو عدم قبح الكذب الفاقد لوصف الضرر ، فإنه ليس للحكم العقلي مفهوم ينفي الملاك عما عدا ما استقل به ، فيمكن أن تكون لخصوصية الضرر دخل في مناط حكم العقل بقبح الكذب من دون أن يكون لها دخل في مناط الحكم الشرعي بحرمة الكذب ، إذ من الممكن أن يكون موضوع الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي أوسع من موضوع الحكم العقلي. ودعوى : أنه لا يمكن ذلك ، مما لا شاهد عليها بعد البناء على أن المتبع في بقاء الموضوع وارتفاعه في باب الاستصحاب إنما هو نظر العرف ولا عبرة بالموضوع العقلي.
والحاصل : أن القيد الذي اخذ في موضوع حكم العقل لا يزيد عن القيد الذي اخذ في موضوع الدليل الشرعي كالكتاب والسنة ، فكما أن اخذ القيد في الدليل كاشف عن دخله في ملاك الحكم الشرعي ومع ذلك يجري الاستصحاب عند انتفاء القيد إذا لم يكن من المقومات للموضوع عرفا ولا يضر بوحدة القضية المتيقنة للمشكوكة بحسب ما يراه العرف من مناسبة الحكم والموضوع ، على ما سيأتي بيانه ( إن شاء اللّه تعالى ) كذلك أخذ القيد في حكم
ص: 322
العقل إنما يكون كاشفا عن دخله في الملاك ثبوتا. ولكن هذا لا يضر بجريان استصحاب الحكم الشرعي المستكشف من حكم العقل عند انتفاء القيد إذا لم يكن القيد من مقومات الموضوع عرفا.
نعم : انتفاء بعض القيود التي اعتبرها العقل في موضوع حكمه يوجب رفع الحكم العقلي ، وليس المقصود استصحاب بقاء الحكم العقلي ، بل المقصود استصحاب بقاء الحكم الشرعي المستكشف منه ، وهو بمكان من الامكان. وبالجملة : الموضوع في حكم العقل وإن كان مقيدا بالخصوصية المنتفية ، إلا أن تقييد الموضوع العقلي بالخصوصية كتقييد الموضوع الشرعي في الكتاب والسنة بها ، كقوله : « الماء المتغير نجس » فان وصف التغير الذي اخذ في موضوع الدليل الشرعي كوصف الضرر الذي اخذ في موضوع الحكم العقلي ، فكما أن زوال وصف التغير عن الماء لا يضر بصدق بقاء موضوع النجاسة عرفا ، لان العرف بمناسبة الحكم والموضوع يرى أن موضوع النجاسة هو الماء ووصف التغير علة لعروض النجاسة على الماء غايته أنه يشك في كونه علة لها حدوثا وبقاء أو حدوثا فقط ، وهو الموجب لجريان الاستصحاب - على ما سيأتي بيانه - كذلك عدم ترتب وصف الضرر على الكذب لا يضر بصدق بقاء موضوع الحرمة عرفا ، فان موضوع الحرمة بنظر العرف هو نفس الكذب لا بوصف كونه مضرا.
نعم : لو كان المدار في اتحاد القضية المشكوكة للقضية المتيقنة على نظر العقل واعتبرنا في جريان الاستصحاب بقاء الموضوع عقلا ، لكان للمنع عن جريان الاستصحاب عند انتفاء بعض القيود مجال ، إلا أن ذلك لا يختص بالحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي ، بل يطرد في جميع الأحكام الشرعية ، كما سيأتي توضيحه. فظهر : أنه لا مجال للفرق بين كون الدليل الدال على ثبوت المستصحب هو العقل أو الكتاب والسنة ، فتأمل جيدا. وسيأتي لذلك مزيد توضيح.
ص: 323
قد عرفت في الامر السابق : أن الشك في بقاء المستصحب تارة : يكون لأجل الشك في المقتضي ، وأخرى : يكون لأجل الشك في الرافع أو الغاية. وقد اختار الشيخ قدس سره عدم جريان الاستصحاب عند الشك في المقتضي ، وحكي ذلك أيضا عن المحقق الخونساري رحمه اللّه . فقد يتوهم : أن المراد من المقتضي هو الملاك والمصلحة التي اقتضت تشريع الحكم على طبقها (1) ويقابله الرافع وهو ما يمنع عن تأثير الملاك في الحكم بعد العلم بأن فيه ملاك التشريع ، فيكون الشك في المقتضي عبارة عن الشك في ثبوت ملاك الحكم عند انتفاء بعض خصوصيات الموضوع ، لاحتمال أن يكون لتلك الخصوصية دخل في الملاك. والشك في الرافع عبارة عن الشك في وجود ما يمنع عن تأثير الملاك في الحكم بعد العلم بثبوته ، لاحتمال أن يكون لتلك الخصوصية المنتفية دخل في تأثير الملاك ، فيكون الشك في بقاء علم زيد مثلا من الشك في
ص: 324
المقتضي ، وفي فسقه من الشك في الرافع.
وقد يتوهم أيضا : أن المراد من المقتضي هو المقتضي لوجود الشيء في باب الأسباب والمسببات بحسب الجعل الشرعي تأسيسا أو إمضاء ، والمراد من الرافع هو ما يرفع المسبب شرعا ، كما يقال : إن الوضوء مقتض للطهارة والبول ورافع لها ، والنكاح مقتض للزوجية والطلاق رافع لها ، والبيع مقتض للملكية والفسخ رافع لها ، فيكون الشك في المقتضي عبارة عن الشك في بقاء اقتضاء السبب للمسبب عند انتفاء بعض الخصوصيات. ويقابله الشك في الرافع ، وهو ما إذا شك في بقاء المسبب بعد العلم ببقاء اقتضاء السبب ، ولكن يحتمل أن يكون في البين ما يرفع اقتضائه ويدفع تأثيره. مثلا تارة : يشك في بقاء اقتضاء النكاح أو الوضوء عند قول الزوج للزوجة : أنت خلية أو برية أو عند خروج المذي أو الوذي عقيب الطهارة. وأخرى : لا يشك في بقاء اقتضاء النكاح والوضوء عقيب قول الزوجة : أنت خلية أو برية أو عقيب خروج المذي والوذي ، بل يقطع ببقاء المقتضى ، إلا أنه يحتمل أن يكون ذلك رافعا لتأثير المقتضي لمكان تدافع المقتضيين ، فالأول يكون من الشك في المقتضي ، والثاني يكون من الشك في الرافع.
هذا ، ولكن التأمل في كلام المحقق والشيخ قدس سرهما يعطي عدم إرادة ذلك من المقتضي ، فان القول بعدم حجية الاستصحاب عند الشك في المقتضي بأحد الوجهين المتقدمين يساوق القول بعدم حجية الاستصحاب مطلقا ، فإنه لا طريق إلى إحراز وجود ملاك الحكم أو إحراز بقاء المقتضيات الشرعية في باب الأسباب والمسببات عند انتفاء بعض خصوصيات الموضوع أو طرو بعض ما يشك معه في بقاء الأثر ، إذ العلم ببقاء الملاك أو الأثر يستحيل عادة لمن لا يوحى إليه إلا من طريق الأدلة الشرعية ، فإنه لا يمكن إثبات كون الوضوء أو النكاح المتعقب بالمذي أو بقول الزوج : « أنت خلية » مقتضيا لبقاء
ص: 325
الطهارة وعلقة الزوجية
وبالجملة : لو بنينا على عدم حجية الاستصحاب عند الشك في المقتضي بأحد الوجهين يلزم سد باب جريان الاستصحاب في جميع المقامات ، إذا ما من مورد إلا ويشك في تحقق المقتضي بمعنى الملاك أو بمعنى اقتضاء السبب.
فالظاهر : أنه ليس مراد الشيخ والمحقق 0 من المقتضي أحد الوجهين ، بل مرادهما من المقتضي في تقسيم الاستصحاب إلى الشك في المقتضي والشك في الرافع هو مقدار قابلية المستصحب للبقاء في الزمان.
وتوضيح ذلك : هو أن كل موجود وحادث في العالم لابد وأن يكون له بحسب طبعه مقدار من القابلية والاستعداد لبقائه في سلسلة الزمان ، بحيث لو خلي الشيء وطبعه ولم تلحقه عارضة زمانية لكان يبقى في عمود الزمان بمقدار ما يقتضيه استعداده بحسب ما جرت عليه مشية اللّه ( تعالى ) ولا إشكال في اختلاف الموجودات في مقدار القابلية والاستعداد ، كما يشاهد بالوجدان اختلاف استعداد ذوات النفوس في بقائها في سلسلة الزمان ، فان منها ما تبقى مأة سنة ومنها ما يزيد عن ذلك ومنها ما ينقص عنه ، حتى أن بين ذوات النفوس ما يبقى ألف سنة ، كما يقال : إن بعض أقسام الحيتان والطيور يعيش ألف سنة ، وبينها أيضا مالا يعيش إلا ساعة ، وكذا الحال في غير ذوات النفوس من الموضوعات الخارجية ، فان الفواكه والحبوبات لها مقدار من استعداد البقاء على ما بينها من الاختلاف ، وكذا الأبنية ، فان البناء الواقع في ساحل البحر أقل بقاء من البناء الواقع في مكان آخر ولو لأجل ما يلحقه من خصوصية المكان والزمان وغير ذلك ، هذا في الموضوعات الخارجية.
وأما الأحكام الشرعية : فكذلك أيضا ، فان لكل حكم شرعي أمدا وغاية يبقى الحكم إليها مع قطع النظر عن اللواحق والعوارض الطارية ، فيكون مقدار قابلية بقاء الحكم في الزمان على حسب ما ضرب له من الغاية شرعا ، غايته :
ص: 326
أن الفرق بين الموضوعات الخارجية والأحكام الشرعية هو أن تشخيص مقدار استعداد بقاء الموضوع في الزمان إنما يكون بالامتحان والتجربة ونحو ذلك من الأسباب المشخصة لاستعداد بقاء الموجودات في عمود الزمان ، وأما الأحكام الشرعية فطريق تشخيص مقدار استعداد بقاء الحكم في الزمان إنما يكون من قبل الشارع.
إذا عرفت ذلك ، فنقول : إن المستصحب إما أن يكون موضوعا خارجيا وإما أن يكون حكما شرعيا. فان كان موضوعا خارجيا فتارة : يعلم مقدار استعداد بقائه في الزمان ويشك في حدوث زماني أوجب رفع الموضوع وإعدامه عن صفحة الوجود في أثناء عمره واستعداد بقائه ، وأخرى : لا يعلم مقدار عمره واستعداد بقائه ، كما لو شك في أن البق يعيش ثلاثة أيام أو أربعة. فالأول يكون من الشك في الرافع ، والثاني يكون من الشك في المقتضي.
فضابط الشك في المقتضي : هو أن يكون الشك في بقاء الموجود لأجل الشك في مقدار قابليته للوجود واستعداده للبقاء في عمود الزمان.
وضابط الشك في الرافع : هو أن يكون الشك في بقاء الموجود لأجل الشك في حدوث زماني أوجب إعدام الموجود في أثناء استعداده للبقاء ، كما إذا احتمل طرو مرض أو قتل أو تخريب أو نحو ذلك من الأسباب الموجبة لرفع الموضوعات الخارجية.
والظاهر : أن القائل بعدم حجية الاستصحاب في الشك في المقتضي أراد من المقتضي هذا المعنى ، كما يشهد له التمثيل بالشك في بقاء البلد المبني على ساحل البحر ، فان الشك في بقاء البلد إنما هو لأجل الشك في مقدار استعداده للبقاء ، وهذا المعنى من الشك في المقتضي هو الذي ينبغي النزاع في اعتبار الاستصحاب فيه وعدمه ، فإنه لا يلزم من القول بالتفصيل سد باب الاستصحاب مطلقا ، كما يلزم منه ذلك إن أريد من المقتضي أحد الوجهين
ص: 327
المتقدمين ، هذا إذا كان المستصحب من الموضوعات الخارجية.
وإن كان المستصحب من الأحكام الشرعية : فقد عرفت أن الشك في المقتضي فها بالمعنى المتقدم إنما يكون لأجل الشك في الغاية على بعض التقادير
وتفصيل ذلك : هو أن الحكم الشرعي إما أن يكون قد ضرب له غاية كقوله تعالى : « أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ » بناء على كون الغاية غاية للحكم لا للصيام ، وإما أن لا يكون له غاية. وعلى الثاني : فاما أن يعلم إرسال الحكم في الزمان بحيث يعم جميع الأزمنة ولو بمعونة مقدمات الحكمة ، وإما أن لا يعلم ذلك بل يحتمل أن يكون امتداد الحكم إلى زمان خاص وينقطع بعده.
فان لم يعلم إرسال الحكم في الزمان : فالشك في بقائه بالنسبة إلى ما عدا القدر المتيقن من امتداده في الزمان يرجع إلى الشك في المقتضي ، لأنه يحتمل أن يكون زمان الشك هو آخر زمان الحكم بحسب ما جعل له من الغاية ، بحيث لا يكون له استعداد البقاء بعد ذلك ، فيكون بعينه كالشك في مقدار استعداد بقاء الموضوع الخارجي في سلسلة الزمان.
وإن علم إرسال الحكم في جميع الأزمنة : فالشك في بقائه دائما يكون من الشك في الرافع ، فان الشك في بقاء الحكم المرسل لا يمكن إلا من جهة الشك في حدوث امر زماني يقتضي رفع الحكم مع اقتضائه للبقاء ، كما لو شك في طرو أحد العناوين الموجبة لرفع الحكم تفضلا وامتنانا ، فتأمل. هذا إذا لم يضرب للحكم غاية في لسان الدليل.
وإن كان له غاية ، فتارة : يشك في مقدار الغاية من جهة الشبهة الحكمية كما إذا شك في أن غاية وجوب صلاة المغرب هل هي ذهاب الحمرة المغربية؟ أو أن غايته انتصاف الليل؟ وأخرى : يشك في مقدار الغاية من جهة الشبهة المفهومية كما إذا شك في أن الغروب الذي اخذ غاية لوجوب صلاة الظهرين هل هو استتار القرص؟ أو ذهاب الحرمة المشرقية؟ وثالثة : يشك في الغاية من
ص: 328
جهة الشبهة الموضوعية كما إذا شك في طلوع الشمس الذي اخذ غاية لوجوب صلاة الصبح.
فان شك في مقدار الغاية من جهة الشبهة الحكمية : فالشك في بقاء الحكم فيما وراء القدر المتيقن من الغاية يكون من الشك في المقتضي ، وكذا إذا كان الشك في مقدارها من جهة الشبهة المفهومية ، فان الشك في بقاء وجوب صلاة الظهرين إلى ما بعد استتار القرص يرجع إلى الشك في أمد الحكم ومقدار استعداد بقائه في الزمان ، لاحتمال أن يكون الغروب هو استتار القرص ، فيكون قد انتهى عمر الحكم.
وإن كان الشك في حصول الغاية من جهة الشبهة الموضوعية : فالشك في ذلك يرجع إلى الشك في الرافع حكما لا موضوعا ، لأن الشك في الرافع هو ما إذا شك في حدوث أمر زماني ، والشك في المقام يرجع إلى حدوث نفس الزمان الذي جعل غاية للحكم ، فالشك في حصول الغاية ليس من الشك في الرافع حقيقة ، إلا أنه ملحق به حكما (1) فان الشك في طلوع الشمس لا يرجع إلى الشك في مقدار استعداد بقاء الحكم في الزمان ، للعلم بأنه يبقى إلى الطلوع ، وإنما الشك في تحقق الطلوع ، فيكون كالشك في حدوث ما يرفع الحكم ، فتأمل.
فتحصل : أن الشك في المقتضي يباين الشك في الرافع دائما. وأما الشك في الغاية : فقد يلحق بالشك في المقتضي ، وقد يلحق بالشك في الرافع ، بالبيان المتقدم.
وبما ذكرنا ظهر الفرق بين الرافع والغاية ، فان الرافع عبارة عن الامر الزماني الموجب لاعدام الموضوع أو الحكم عن وعائه من دون أن يؤخذ عدمه
ص: 329
قيدا للحكم أو الموضوع ، والغاية عبارة عن الزمان الذي ينتهي إليه أمد الشيء ، فتكون النسبة بين الرافع والغاية نسبة التباين. ولو كانت الغاية أعم من الزمان والزماني تكون النسبة بينهما بالعموم من وجه ، فقد يجمعان كما إذا كان الحكم مغيى بغاية زمانية ، فان الامر الزماني الذي اخذ غاية للحكم كما يكون غاية له يكون رافعا أيضا ، وقد يفترقان ، فيكون الشيء غاية من دون أن يكون وجوده رافعا كما إذا اخذ الزمان غاية للحكم كالليل والنهار ، وقد يكون الشيء رافعا للحكم من دون أن يكون غاية له كالحدث الرافع للطهارة ، فان الحدث ليس غاية للطهارة لعدم أخذ عدمه قيدا للطهارة وإنما كان وجوده رافعا لها.
وإن ناقشت في بعض ما ذكرناه ، فلا يضر بما هو المدعى في المقام : من أن مراد الشيخ قدس سره من المقتضي في قوله : « إن الاستصحاب لا يجري عند الشك فيه » ليس هو المقتضي بمعنى الملاك ، ولا المقتضي الذي يترشح منه وجود المعلول ، بل المراد منه هو مقدار استعداد بقاء الشيء في سلسلة الزمان ، فكلما رجع الشك في بقاء الشيء إلى الشك في مقدار بقائه في الزمان يكون من الشك في المقتضي ، وفيما عدا ذلك يكون من الشك في الرافع ، حتى أن الشك في انتقاض التيمم (1)أقول: بناء على ما سلكتم من إرجاع شرائط التكليف إلى الموضوع يلزمكم في المقام أن تجعلوا عدم الوجدان قيدا لموضوع الخطاب بالتيمّم بنصّ الآية الشريفة من قوله سبحانه: «و إن لم تجدوا إلخ».(2) بزوال العذر أو بوجدان الماء في أثناء الصلاة يرجع إلى
ص: 330
الشك في الرافع ، لأن الشك في بقاء اثر التيمم إنما هو لأجل حدوث أمر زماني ، فيندرج في ضابط الشك في الرافع ، مع أنه من أوضح مصاديق الشك في المقتضي بأحد الوجهين المتقدمين.
وبما ذكرنا يندفع ما يورد على الشيخ قدس سره في جملة من الموارد التي بنى على جريان الاستصحاب فيها ، بان الشك فيها يرجع إلى الشك في المقتضي فينبغي أن لا يقول بجريان الاستصحاب فيها (1) فان الايراد عليه بذلك مبني على ما توهم من أن مراد الشيخ من المقتضي هو أحد الوجهين المتقدمين ، وقد عرفت أن ذلك بمراحل عن الواقع.
إذا عرفت ما تلوناه عليك من الانقسامات اللاحقة للاستصحاب باعتبار المستصحب والدليل الدال عليه ومنشأ الشك في بقائه ، فالأقوى عندنا : اعتبار الاستصحاب في جميع أقسام المستصحب والدليل الدال عليه وأقسام الشك في الرافع وما يلحق به من الشك في الغاية ، وعدم اعتبار الاستصحاب عند الشك في المقتضي وما يلحق به من الشك في الغاية ، ويتضح وجه ذلك بذكر الأدلة التي استدلوا بها على حجية الاستصحاب.
دعوى بناء العقلاء على الاخذ بالحالة السابقة والعمل على طبقها وعدم
ص: 331
الاعتناء بالشك في انتقاضها.
وهذه الدعوى في الجملة مما لا إشكال فيها ولا سبيل إلى إنكارها ، لأنه قد استقرت الطريقة العقلائية على العمل بالحالة السابقة وعدم الاعتناء بالشك في ارتفاعها ، كما يشاهد ذلك في مراسلاتهم ومعاملاتهم ومحاوراتهم ، بل لولا ذلك يلزم اختلال النظام ، فان النيل إلى المقاصد والوصول إلى الاغراض يتوقف غالبا على البناء على بقاء الحالة السابقة ، ضرورة أن الشك في بقاء الحياة لو أوجب التوقف في ترتيب آثار بقاء الحياة لانسدت أبواب المراسلات والمواصلات والتجارات ، بل لم يقم للعقلاء سوق.
وبالجملة : لا ينبغي التأمل في أن الطريقة العقلائية قد استقرت على ترتيب آثار البقاء عند الشك في الارتفاع (1) وليس عملهم على ذلك لأجل حصول الاطمينان لهم بالبقاء ، أو لمحض الرجاء ، بداهة أنه لا وجه لحصول الاطمينان مع فرض الشك في البقاء ، والعمل برجاء البقاء إنما يصح فيما إذا لم يترتب على عدم البقاء أغراض مهمة ، وإلا لا يكاد يمكن ترتيب آثار البقاء رجاء ، مع أنه يحتمل فوات المنافع أو الوقوع في المضار المهمة ، فعمل العقلاء على الحالة السابقة ليس لأجل الرجاء ولا لحصول الاطمينان ، بل لكون فطرتهم جرت على ذلك فصار البناء على بقاء المتيقن من المرتكزات في أذهان العقلاء.
فظهر : أنه لا مجال لانكار قيام السيرة العقلائية والطريقة العرفية على الاخذ بالحالة السابقة وعدم الاعتناء بالشك في ارتفاعها ، ولم يردع عنها الشارع.
ص: 332
والآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم لا تصلح لان تكون رادعة عنها ، لما تقدم في حجية الظواهر وخبر الواحد : من أن جميع موارد السيرة العقلائية خارجة عن العمل بما وراء العلم بالتخصص.
فما أفاده المحقق الخراساني قدس سره في المقام : من أن الآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم تصلح لكونها رادعة عن السيرة العقلائية فيما نحن فيه ، ينافي ما تقدم منه في حجية الخبر الواحد : من أن تلك الآيات لا يمكن أن تكون رادعة عن الطريقة العقلائية ، مع أن بناء العقلاء على الاخذ بالحالة السابقة لو لم يكن أقوى من بنائهم على العمل بالخبر الواحد فلا أقل من التساوي بين المقامين ، فكيف كانت الآيات رادعة عن بناء العقلاء في المقام ولم تكن رادعة عنه في ذلك المقام؟! فالأقوى : أنه لا فرق في اعتبار السيرة العقلائية في كلا المقامين.
ولكن القدر المتيقن من بناء العقلاء هو الاخذ بالحالة السابقة عند الشك في الرافع ، ولم يظهر أن بناء العقلاء على ترتيب آثار وجود المتيقن حتى مع الشك في المقتضي ، بل الظاهر أن بنائهم عند الشك في المقتضي على التوقف والفحص إلى أن يتبين الحال.
ولعل منشأ القول بحجية « قاعدة المقتضي والمانع » هو ما يشاهد من بناء العقلاء على الاخذ بالحالة السابقة عند إحراز المقتضي ، وقد استدل بعض من قال باعتبار القاعدة بذلك. ولكنه ضعيف ، لان بناء العقلاء على ذلك إنما هو بعد إحراز تأثير المقتضي ووجود المقتضي ( بالفتح ) في الخارج ، وهذا أجنبي عن « قاعدة المقتضي والمانع » فان مورد القاعدة هو مجرد العلم بوجود المقتضي مع عدم العلم بتأثيره في وجود المعلول ، كما عرفت.
فتحصل : أن المقدر الذي يمكن أن يدعى في المقام ، هو قيام السيرة العقلائية على عدم الاعتناء بالشك في ارتفاع الشيء بعد العلم بوجوده خارجا
ص: 333
واقتضائه للبقاء. ودعوى : قيام السيرة على أزيد من ذلك مما لا شاهد عليها ، وعهدتها على مدعيها.
الاجماع المحكي في جملة من الكلمات.
ولا يخفى وهنه ، فإنه لا يمكن الركون إلى الاجماع المحكي ، خصوصا في مثل المقام الذي كثر الاختلاف والأقوال فيه.
نعم : يمكن دعوى قيام الشهرة أو ما يقرب من الاجماع على اعتبار الاستصحاب في خصوص الشك في الرافع ، فان السيد رحمه اللّه وإن نسب إليه القول بعدم حجية الاستصحاب مطلقا إلا أن صاحب المعالم اعترف بأن كلام السيد رحمه اللّه يرجع إلى مقالة المحقق صاحب المعارج ، مع أن المحقق رحمه اللّه من القائلين بالتفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع ، كما يشهد له التمثيل بالنكاح والألفاظ التي يشك في وقوع الطلاق بها ، وإن كان يظهر من ذيل كلامه : أن القول ببقاء عقدة النكاح عقيب ما يشك في وقوع الطلاق بها إنما هو لأجل إطلاق ما دل على حلية النكاح للوطي ، لا لأجل الاستصحاب ، فراجع وتأمل.
الاخبار ، وهي العمدة ، وقد بلغت ما يقرب من الاستفاضة.
فمنها : مضمرة زرارة ، ولا يضر إضمارها بعدما كان الراوي « زرارة » الذي لا يروي إلا عن الامام علیه السلام « قال : قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء ، أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ قال علیه السلام يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ، فإذا نامت العين والاذن فقد وجب الوضوء ،
ص: 334
قلت : فان حرك في جنبه شيء وهو لا يعلم؟ قال علیه السلام لا ، حتى يستيقن أنه قد نام حتى يجيء من ذلك أمر بين ، وإلا فإنه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين أبدا بالشك ولكن ينقضه بيقين آخر » (1).
والاستدلال بالرواية على اعتبار الاستصحاب مطلقا في جميع المسائل يتوقف على إلغاء خصوصية تعلق اليقين بالوضوء ، وأن إضافة اليقين إلى الوضوء في قوله : « وإلا فإنه على يقين من وضوئه » ليس لبيان تقييد اليقين بالوضوء ، بل لمجرد بيان أحد مصاديق ما يتعلق به اليقين (2) واختيار هذا المصداق بالذكر لكونه مورد السؤال لا لخصوصية فيه ، وعلى هذا يكون المحمول في الصغرى مطلق اليقين مجردا عن خصوصية تعلقه بالوضوء ، وينطبق على ما هو الموضوع في الكبرى ، وهي قوله علیه السلام « ولا ينقض اليقين أبدا بالشك » فيكون « الألف واللام » في اليقين للجنس ، لا للعهد (3) ليختص الموضوع في الكبرى باليقين المتعلق بالوضوء ، ويتألف من مجموع الجملتين قياس بصورة الشكل الأول ، فتكون النتيجة هي عدم جواز نقض مطلق اليقين بالشك ، سواء تعلق اليقين بالوضوء أو بغيره من الاحكام والموضوعات ، كما لو فرض أنه قدم
ص: 335
الوضوء على اليقين وكان الكلام هكذا « فإنه من وضوئه على يقين ، ولا ينقض اليقين بالشك » إذ لا إشكال حينئذ في أن المحمول في الصغرى والموضوع في الكبرى هو نفس اليقين بلا قيد.
والحاصل : أن المهم هو بيان كون إضافة اليقين إلى الوضوء في قول علیه السلام « فإنه على يقين من وضوئه » ليست لأجل كونها دخيلة في الحكم لتكون « الألف واللام » للعهد فيختص الحكم باليقين والشك المتعلق بباب الوضوء بعد إلغاء خصوصية المورد : من كون منشأ الشك في بقاء الوضوء هو خصوص النوم.
ومما ذكرنا ظهر : أن الاستدلال بالرواية على حجية الاستصحاب في غير باب الوضوء لا يتوقف على تعيين جزاء الشرط : من أنه نفس قوله علیه السلام « فإنه على يقين من وضوئه » أو أن ذلك علة للجزاء المقدر وهو « فلا يجب عليه الوضوء » أو أن الجزاء هو قوله علیه السلام « ولا ينقض اليقين بالشك » والتعليل ذكر توطئة للجزاء.
فما أتعب الشيخ قدس سره نفسه في تعيين الجزاء لا دخل له في الاستدلال بالرواية لما نحن فيه. مع أنه لا ينبغي الاشكال في كون الجزاء هو نفس قوله : « فإنه على يقين من وضوئه » بتأويل الجملة الخبرية إلى الجملة الانشائية ، فمعنى قوله علیه السلام « فإنه على يقين من وضوئه » هو أنه يجب البناء والعمل على طبق اليقين بالوضوء.
وأما احتمال أن يكون ذلك علة للجزاء المقدر وهو « فلا يجب عليه الوضوء » فهو ضعيف غايته وإن قواه الشيخ قدس سره بداهة أنه على هذا يلزم التكرار في الجواب وبيان حكم المسؤول عنه مرتين بلا فائدة ، فان معنى قوله علیه السلام « لا ، حتى يستيقن » عقيب قول السائل : « فان حرك في جنبه شيء » هو أنه لا يجب عليه الوضوء ، فلو قدر جزاء قوله : « وإلا » بمثل « فلا
ص: 336
يجب عليه الوضوء » يلزم التكرار في الجواب ، من دون أن يتكرر السؤال ، وهو لا يخلو عن حزازة. فاحتمال أن يكون الجزاء محذوفا ضعيف غايته.
وأضعف منه : احتمال أن يكون الجزاء قوله علیه السلام « ولا ينقض اليقين بالشك » فإنه بعيد عن سوق الكلام ، مع أنه يلزم منه اختصاص قوله : « ولا ينقض اليقين بالشك » بخصوص باب الوضوء ويتعين أن يكون « الألف واللام » فيه للعهد ، ولا يصلح لان يكون كبرى كلية في جميع المقامات ، كما لا يخفى وجهه ، فيتعين أن يكون قوله علیه السلام « فإنه على يقين من وضوئه » هو الجزاء ، بتأويل الجملة الخبرية إلى الجملة الانشائية.
وعلى كل حال : قد عرفت : أن الاستدلال بالرواية لا يتوقف على تشخيص الجزاء ، بل يتوقف على إلغاء خصوصية إضافة اليقين إلى الوضوء.
والظاهر : أنه لا ينبغي التأمل والتوقف في عدم دخل الإضافة في الحكم ، بل ذكر متعلق اليقين في الرواية إنما هو لكون اليقين من الصفات الحقيقية ذات إضافة ، فلابد وأن يكون له إضافة إلى شيء ، وإنما أضيف إلى خصوص الوضوء ، لان الإضافة الخارجية في مورد السؤال كانت في خصوص الوضوء ، فتأخير قوله علیه السلام « من وضوئه » عن « اليقين » كتقديمه عليه لا يستفاد منه أزيد من كونه طرف الإضافة ، من دون أن يكون له دخل في الحكم ، فيكون الموضوع في قوله علیه السلام « ولا ينقض اليقين » هو مطلق اليقين ، و « اللام » للجنس ، كما هو الأصل فيها إذا كان المدخول من أسماء الأجناس.
فالانصاف : أنه لا يحتمل أن يكون لذكر متعلق اليقين في الرواية دخل في الحكم ، فلا يقال : إنه يكفي في سقوط الاستدلال بالرواية احتمال أن يكون لتعلق اليقين بالوضوء دخل في الكبرى ، لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية فيوجب إجماله.
هذا ، مضافا إلى أن مناسبة الحكم والموضوع والتعبير بلفظ « النقض »
ص: 337
يقتضي أن لا تكون لخصوصية إضافة اليقين إلى الوضوء دخل في الحكم ، فان القابل للنقض وعدمه هو اليقين من دون دخل لتعلقه بالوضوء ، مع أن الظاهر من قوله علیه السلام « ولا ينقض اليقين أبدا بالشك » هو أنه ورد لتقرير ما هو المرتكز في أذهان العقلاء واستقرت عليه طريقتهم : من عدم الاعتناء بالشك في بقاء ما هو متيقن الوجود مطلقا في كل ما كان الشك في البقاء لأجل احتمال وجود الرافع.
فظهر : أنه لا ينبغي احتمال اختصاص الرواية بخصوص باب الوضوء ، بل تعم جميع الأبواب ، لكن في خصوص الشك في الرافع ، كما سيأتي بيانه.
دفع وهم :
ربما يتوهم : أن غاية ما تدل عليه الرواية هو سلب العموم لا عموم السلب ، فلا يستفاد منها عدم جواز نقض كل فرد من أفراد اليقين بالشك ، بل أقصى ما يستفاد منها هو عدم جواز نقض مجموع أفراد اليقين بالشك ، وهذا لا ينافي جواز نقض بعض الافراد.
وفيه مالا يخفى ، فان سلب العموم يتوقف على لحاظ العموم معنى اسميا ليصح سلبه ، وهذا إنما يمكن فيما إذا كان العموم مستفادا من مثل لفظة « كل » و « أجمع » ونحو ذلك مما يكون له معنى اسمي ، وأما العموم المستفاد من مثل النكرة الواقعة في سياق النفي والنهي والمفرد المحلى باللام بل الجمع المحلى بها فلا يمكن فيه سلب العموم.
أما في النكرة : فواضح ، فان العموم فيها إنما يستفاد من النفي والنهي الوارد على الطبيعة ، حيث إن عدم الطبيعة يتوقف عقلا على عدم جميع أفرادها ، فالعموم فيها متأخر رتبة عن ورود النهي أو النفي ، فإنه لولا ورود النفي على الطبيعة لا يكاد يتحقق العموم ، فلا يعقل فيها سلب العموم ، لان سلب العموم
ص: 338
يتوقف على أن يكون العموم سابقا في الرتبة على السلب ليصح سلبه.
وكذا الكلام في المفرد المحلى باللام ، فان العموم فيه أيضا متأخر رتبة عن ورود الحكم ، لأنه إنما يستفاد من مقدمات الحكمة بعد ورود الحكم على المفرد سلبا أو إيجابا ، لان المفرد المحلى باللام ليس موضوعا للعموم حتى يمكن ورود الحكم عليه ، فهي مثل « لا تكرم رجلا » أو « لا تكرم الرجل » و « لا تنقض اليقين » ونحو ذلك لا يمكن فيه سلب العموم ، بل لابد وأن يكون المراد منه عموم السلب.
وأما الجمع المحلى باللام : فهو وإن كان موضوعا للعموم مع قطع النظر عن كونه موضوعا لحكم من الاحكام ، إلا أن أداة العموم فيه إنما تكون مرآة لملاحظة المصاديق والافراد المقدرة وجودها ، فلا يمكن لحاظ العموم فيه معنى اسميا ليصح سلبه ، لما عرفت : من أن سلب العموم يتوقف على لحاظ العموم معنى اسميا ، ولا يمكن ذلك في العموم المستفاد من الأدوات الحرفية ، لان المعنى الحرفي لا يعقل لحاظه معنى اسميا.
نعم : لو كان الجمع المحلى باللام بهيئته التركيبية موضوعا للعموم - كما هو أحد الوجهين أو القولين فيه - لكان لدعوى سلب العموم فيه مجال وإن كان خلاف الظاهر. فالتحقيق : أنه لا سبيل إلى القول بسلب العموم في كل من النكرة والمفرد المحلى باللام والجمع المحلى بها.
نعم : لو كان العموم مستفادا من لفظة « كل » ونحوها من الأدوات الاسمية ، لكان للقول بسلب العموم فيه مجال ، بل قد يدعى ظهوره في سلب العموم ، كما لا يبعد ذلك في مثل قوله : « لا تأكل كل رمانة في البستان » و « لا تضرب كل أحد » و « لا تكرم كل فاسق » فاستفادة عموم السلب في مثل ذلك يحتاج إلى قرينة تدل عليه ، وإلا فظاهره الأولي يدل على سلب العموم.
فتحصل : أنه لا مجال لتوهم سلب العموم في مثل قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » لأنه من المفرد المحلى باللام الذي قد عرفت أنه
ص: 339
لا يمكن فيه إلا عموم السلب ، فتأمل جيدا.
مضمرة أخرى لزرارة أيضا : « قال : قلت له : أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من المني فعلمت أثره إلى أن أصب عليه الماء ، فحضرت الصلاة ونسيت أن بثوبي شيئا وصليت ثم إني ذكرت بعد ذلك؟ قال علیه السلام تعيد الصلاة وتغسله ، فلت : فان لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنه أصابه فطلبته ولم أقدر عليه فلما صليت وجدته؟ قال علیه السلام تغسله وتعيد ، قلت : فان ظننت أنه أصابه ولم أتيقن فنظرت ولم أر شيئا فصليت فيه؟ قال علیه السلام تغسله ولا تعيد ، قلت : لم ذلك؟ قال علیه السلام لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا ، قلت : فاني قد علمت أنه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟ قال علیه السلام تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك ، قلت : فهل علي إن شككت أنه أصابه شيء أن أنظر فيه؟ قال علیه السلام لا ولكنك إنما تريد أن تذهب بالشك الذي وقع ، قلت : إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال علیه السلام تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته ، وإن لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة ، لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك » الخبر (1).
وهذه الرواية الشريفة التي عليها آثار الصدق قد تضمنت لجملة من الاحكام ، منها : حجية الاستصحاب بناء على أن يكون المراد من « اليقين » في قوله علیه السلام « لأنك كنت على يقين من طهارتك » هو اليقين بالطهارة
ص: 340
قبل ظن الإصابة ، لا اليقين بها الحاصل من الفحص عن النجاسة بعد الظن بالإصابة ، وإلا كانت الرواية منطبقة على « قاعدة اليقين » لا الاستصحاب ، ولكن حمل « اليقين » على الحاصل بعد الفحص خلاف الظاهر ، خصوصا مع عدم فرض الراوي حصول اليقين بالطهارة من الفحص بعد ظن الإصابة ، بل المذكورة في الرواية هو أنه لم ير شيئا بعد النظر في الثوب والفحص عن النجاسة المظنونة ، وعدم الرؤية أعم من حصول اليقين بالعدم ، كما هو واضح ، فدلالة الرواية على حجية الاستصحاب مما لا يكاد تخفى.
قد أورد على الرواية بما حاصله : أنه كيف يصح أن يعطل عدم وجوب إعادة الصلاة بعد الالتفات والعلم بوقوعها في الثوب النجس بقوله علیه السلام « لأنك كنت على يقين من طهارتك الخ »؟ مع أن الإعادة حينئذ لا تكون من نقض اليقين بالشك ، بل من نقض اليقين باليقين (1).
ص: 341
نعم : يصح تعليل جواز الدخول في الصلاة بذلك ، لان الظن بالنجاسة مع عدم حصول اليقين بها لو اقتضى عدم جواز الدخول في الصلاة لكان ذلك من نقض اليقين بالطهارة بالشك فيها ، وأما إعادة الصلاة بعد إتمامها وتبين وقوعها في النجاسة فلا تكون من نقض اليقين بالشك ، للعلم بوقوع الصلاة مع نجاسة الثوب ، فالإعادة تكون من نقض اليقين باليقين ، مع أن الامام علیه السلام علل عدم وجوب الإعادة بأنه يلزم من الإعادة نقض اليقين بالشك.
هذا ، ولكن لا يخفى عليك أن هذا الاشكال لا يضر بصحة الاستدلال بالرواية على اعتبار الاستصحاب ، فعلى فرض العجز عن تطبيق التعليل على مورد الرواية لا يوجب سقوط الرواية عن صحة الاستدلال بها ، كما لا يخفى. مع أنه يمكن دفع الاشكال وتطبيق التعليل على المورد بلا تكلف. وقبل بيان ذلك ينبغي الإشارة إلى كيفية شرطية الطهارة واعتبار عدم وقوع الصلاة مع النجاسة الخبثية.
فنقول : إنه قد استفاضت الروايات على فساد الصلاة مع نجاسة الثوب أو البدن إذا علم بالنجاسة قبل الصلاة ولو مع نسيانها حين الدخول في الصلاة ، فتجب الإعادة والقضاء بعد التذكر ، بخلاف ما إذا لم يعلم بالنجاسة قبل الصلاة ، فإنه لا تجب الإعادة والقضاء ولو انكشف وقوع الصلاة مع نجاسة البدن أو الثوب ، وقد عمل الأصحاب بمضمون الروايات وتطابقت عليه
ص: 342
الكلمات إلا ما شذ.
فمن ذلك يظهر : أن الطهارة الواقعية ليست شرطا للصلاة ولا النجاسة الواقعية مانعة عنها ، بل للعلم بالنجاسة والطهارة دخل في الصحة والفساد ، وقد تقدم في مبحث القطع : أن أخذ العلم في موضوع حكم يتصور على وجهين : أحدهما - أخذ العلم في الموضوع بما أنه صفة قائمة في نفس العالم. ثانيهما - أخذه في الموضوع لما أنه طريق وكاشف عن الواقع. ونزيد في المقام وجها ثالثا ينبغي أن يجعل ذلك استدراكا لما فات منا في مبحث القطع ، وهو أخذه في الموضوع بما أنه منجز للأحكام ويوجب استحقاق العقوبة عند المصادفة والمعذورية عند المخالفة.
فان هذه الجهات الثلاث كلها مجتمعة في العلم ، فيمكن لحاظه وأخذه في الموضوع بكل واحد منها ، ويترتب على ذلك قيام الطرق والأصول المحرزة وغيرها مقامه ، فإنه على الوجه الأول لا يقوم شيء من الطرق والأصول مقامة ، وعلى الوجه الثاني تقوم الطرق وخصوص الأصول المحرزة مقامه ولا تقوم الأصول الغير المحرزة مقامه - كما تقدم تفصيل ذلك في مبحث القطع - وعلى الوجه الثالث تقوم الطرق ومطلق الأصول مقامه سواء كانت محرزة للواقع أو لم تكن (1) فكل أصل كان منجزا للواقع يقوم مقامه ولو كان مثل أصالة الحرمة
ص: 343
المجعولة في باب الدماء والفروج والأموال ، بل ولو كان مثل أصالة الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي.
إذا عرفت ذلك فاعلم : أن أخذ العلم في باب الطهارة والنجاسة الخبثية يتصور على وجوه :
أحدها : أن يكون العلم بالطهارة شرطا لصحة الصلاة.
ثانيها : أن يكون العلم بالنجاسة مانعا عنها.
وعلى التقدير الثاني فيمكن أن يكون قد اعتبر العلم من حيث كونه طريقا إلى النجاسة ، ويمكن أيضا أن يكون اعتباره من حيث كونه منجزا لاحكام النجاسة. وأما اعتباره من حيث الصفتية : فهو مما لا يحتمل في المقام ، بل قد تقدم في مبحث القطع : أن أخذ العلم على وجه الصفتية مجرد فرض لم نعثر على مورد له في الفقه ، فالذي يحتمل في أخذ العلم في باب الطهارة والنجاسة الخبثية موضوعا لصحة الصلاة وفسادها أحد وجوه ثلاثة :
الأول : أخذ العلم بالطهارة شرطا لصحة الصلاة.
الثاني (1) أخذ العلم بالنجاسة من حيث كونه طريقا مانعا عن صحة
ص: 344
الصلاة.
الثالث : أخذ العلم بالنجاسة من حيث كونه منجزا لأحكامها مانعا عنها. وعلى التقادير الثلاثة يصح التعليل الوارد في الرواية وينطبق على المورد.
أما على الوجه الأول : وهو كون العلم بالطهارة شرطا لصحة الصلاة ، فالتعليل بالاستصحاب إنما هو لبيان أن المكلف كان واجدا للشرط لأنه محرز للطهارة بمقتضى الاستصحاب فلا تجب عليه إعادة الصلاة (1) فيستفاد من التعليل كبرى كلية ، وهي « أن كل من كان محرزا للطهارة لا تجب عليه الإعادة » نظير التعليل بالاسكار لحرمة شرب الخمر ، فيكون حاصل التعليل هو « انك أيها السائل لما كنت متيقن الطهارة قبل الدخول في الصلاة وشككت وكان حكمك الاستصحابي هو البناء على طهارتك فأنت محرز للطهارة فلا تجب عليك الإعادة » لان الشرط لصحة الصلاة حاصل وهو إحراز الطهارة ، فيكون الشرط هو الأعم من الطهارة المستصحبة والطهارة الواقعية.
ص: 345
نعم : حسن التعليل بالاستصحاب بناء على شرطية إحراز الطهارة يتوقف على أن يكون التعليل لبيان كبرى كلية وهي : عدم وجوب الإعادة على كل من كان محرزا للطهارة ، وهذا لا يختص بالمقام بل يطرد في جميع موارد منصوص العلة ، فان تعليل حرمة شرب الخمر بالاسكار لا يحسن إلا بعد أن تكون العلة وردت لإفادة كبرى كلية ، وهي : حرمة كل مسكر ، وذلك واضح.
وأما على الوجه الثاني : وهو كون العلم بالنجاسة مانعا عن صحة الصلاة ، فيستقيم التعليل أيضا ، سواء كان اعتبار العلم لكونه منجزا أو لكونه طريقا ، وسواء كانت العلة المجموع المركب من المورد والاستصحاب وهو قوله علیه السلام « لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت ولا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك » أو كانت العلة خصوص الاستصحاب وإنما ذكر المورد توطئة لذكر العلة ، فان التعليل بذلك إنما يكون لإفادة أن النجاسة في مفروض السؤال ليس لها منجز ، لعدم العلم بها تفصيلا أو إجمالا ، والشك فيها ملغى بحكم الاستصحاب (1) فلا موجب لإعادة الصلاة ، لأنه لم يتحقق ما اخذ موضوعا لوجوب الإعادة ، فإنه لم يحصل ما يوجب تنجيز أحكام النجاسة ، والمفروض : أن الموضوع لوجوب الإعادة هي النجاسة المنجزة بوجه.
فالتعرض لذكر المورد في الرواية إنما هو لبيان عدم حصول العلم بالنجاسة ليتحقق الطريق أو المنجز لها ، والتعرض لذكر الاستصحاب لبيان أن الشك في النجاسة ملغى بحكم الشارع.
ص: 346
وحاصل الكلام : هو أنه يصح التعليل الوارد في الرواية ، سواء قلنا : بأن الشرط لعدم وجوب الإعادة هو عدم العلم بالنجاسة ، أو قلنا : بأن الشرط هو إحراز الطهارة ، فعلى كلا التقديرين : لا إشكال في التعليل ، لان منشأ الاشكال إنما كان هو التعليل بالاستصحاب لعدم وجوب الإعادة بعد انكشاف الخلاف وظهور وقوع الصلاة مع نجاسة الثوب ، فيتخيل أن ذلك يوجب أن يكون المورد من نقض اليقين باليقين لا من نقض اليقين بالشك.
ولكن بعد البناء على أن المانع من صحة الصلاة هو العلم بالنجاسة إما من حيث كونه طريقا إليها وإما حيث كونه منجزا لأحكامها أو أن الشرط لصحة الصلاة هو إحراز الطهارة ، يندفع الاشكال ، ويكون التعليل بذلك في محله ، بل لا يصح التعليل بغير ذلك ، فان مرجع التعليل بالمجموع من المورد والاستصحاب مع كون العلم بالنجاسة مانعا إلى أن نجاسة الثوب لم يكن لها منجز ، فالصلاة تكون صحيحة واقعا ولا تجب الإعادة ، لان وجوب الإعادة ينافي عدم جواز نقض اليقين بالشك.
وكذا لو كان الشرط هو الأعم من الطهارة الواقعية والطهارة المحرزة ، فان التعليل بذلك يرجع إلى كون المكلف في مفروض السؤال محرزا للطهارة بمقتضى الاستصحاب ، فلا تجب عليه الإعادة ، ويستفاد من التعليل كبرى كلية ، وهي : عدم وجوب الإعادة على كل من كان محرزا للطهارة.
نعم : بناء على كون الشرط هو إحراز الطهارة ربما يقع التعارض بين ذلك وبين ما دل على كفاية عدم العلم بالنجاسة في عدم وجوب الإعادة - كما استفاضت به الروايات - فان لازم ذلك هو عدم الحاجة إلى إحراز الطهارة ، بل يكفي عدم العلم بالنجاسة ، سواء كان العلم بالنجاسة مانعا من حيث الطريقية أو من حيث المنجزية ، وعلى كل تقدير : لا يصح تعليل عدم وجوب الإعادة بكون المكلف محرزا للطهارة ، إلا أن يكون التعليل بذلك من جهة أنه من
ص: 347
مصاديق عدم العلم بالنجاسة.
وبالجملة : لازم كفاية عدم العلم بالنجاسة هو صحة صلاة الغافل ، كما ورد في الخبر : من صحة صلاة من كان على ثوبه عذرة إنسان أو سنور أو كلب وهو لا يعلم (1) ولازم شرطية إحراز الطهارة هو عدم صحة صلاة الغافل ، إلا أن يقال : إن إحراز الطهارة شرط عند الالتفات إلى الطهارة والنجاسة - كما هو مفروض السؤال في الرواية - وأما مع عدم الالتفات فيكفي عدم العلم بالنجاسة ، وهذا إنما يستقيم بعد تعميم الطهارة إلى الطهارة الواقعية التي تؤدي إليها الاستصحاب والطهارة الظاهرية التي تؤدي إليها قاعدة الطهارة.
هذا ، ولكن الانصاف : أنه لا حاجة إلى هذه التكلفات ، بل يبنى على كفاية عدم العلم بالنجاسة وكون العلم بها مانعا عن صحة الصلاة من حيث كونه منجزا لاحكام النجاسة ، ويصح التعليل الوارد في الرواية على هذا المبنى بلا تكلف ، وأخذ العلم من حيث التنجيز موضوعا لحكم مما لا محذور فيه ، بل يمكن أن تكون نفس الرواية دليلا على ذلك بعدما كان ظاهرها التعليل بالمجموع من المورد والاستصحاب ، فان التعليل بالمجموع لا يستقيم إلا على أخذ العلم موضوعا من حيث كونه منجزا لاحكام النجاسة.
نعم : ربما ينافي ذلك ما ورد في بعض الروايات عن ميسر قال : « قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام آمر الجارية فتغسل ثوبي من المني فلا تبالغ في غسله فأصلي فيه فإذا هو يابس؟ قال علیه السلام أعد صلاتك ، أما إنك لو كنت غسلت أنت لم يكن عليك شيء » (2) وجه المنافاة : هو أنه لو كان الموضوع لوجوب الإعادة هو العلم بالنجاسة من حيث كونه منجزا لأحكامها لكان الحكم في مفروض السؤال هو الصحة وعدم وجوب الإعادة ، إذ لا تكون
ص: 348
النجاسة الموجودة في الثوب منجزة بعد غسل الجارية ، إما لأصالة الصحة في فعلها ، وإما لاعتبار قول ذي اليد ، والعلم السابق على غسل الجارية لا أثر له بعد قيام الحجة على طهارة الثوب ، مع أنه لو كان المقتضي لوجوب الإعادة هو العلم بالنجاسة السابق على الغسل لكان ينبغي إطلاق القول بوجوب الإعادة ولو كان المكلف بنفسه مباشرا للغسل ، ولم يكن وجه للتفصيل بين مباشرة الجارية للغسل وبين مباشرة نفسه.
هذا ، ولكن لا يخفى عليك أن هذه الرواية تنافي أخذ العلم موضوعا لوجوب الإعادة مطلقا ولو كان العلم مأخوذا على وجه الطريقية ، لسقوط طريقية إخبار الجارية بالتطهير ، مع أن أخذ العلم موضوعا لا يخلو عن أخذ الوجهين ، إما لكونه منجزا ، وإما لكونه طريقا. بل هذه الرواية تنافي حتى لو قلنا بأن إحراز الطهارة شرط ، لاحراز الطهارة بإخبار الجارية ، فعلى جميع التقادير يحصل المنافاة.
مع أنه يمكن أن يقال : إن العلم السابق على تطهير الجارية كان موجبا لتنجز أحكام النجاسة ، وغاية ما يقتضيه إخبار الجارية بالتطهير هو جواز الدخول في الصلاة لقيام الحجة على الخلاف ، فان إخبار الجارية لا يقتضي أزيد من المعذورية ، وأما وجوب الإعادة : فيكفي فيه العلم بالنجاسة وتنجز أحكامها قبل الصلاة ، فالموضوع لوجوب الإعادة قد تحقق ، وأصالة الصحة في تطهير الجارية لا توجب رفع الموضوع ، لعدم العلم بزوال النجاسة. وهذا بخلاف ما لو كان المكلف هو المباشر للتطهير ، فإنه بمباشرته يعلم بزوال النجاسة فيرتفع وجوب الإعادة ، فتأمل (1).
ص: 349
هذا ، مع أن منافاة هذه الرواية لكون المأخوذ في موضوع وجوب الإعادة هو العلم من حيث التنجيز لا يضر بصحة التعليل ، غايته أن تكون هذه الرواية معارضة لما يستفاد من التعليل : من كون العلم بالنجاسة من حيث التنجيز اخذ موضوعا لوجوب الإعادة.
وعلى كل حال : فلا إشكال في حسن التعليل وانطباقه على المورد بعدما كان العلم بالنجاسة من حيث التنجيز موضوعا لوجوب الإعادة.
فقد ظهر مما ذكرنا : أن حسن التعليل في الرواية لا يتوقف على اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء ليكون ما تضمنته الرواية من التعليل دليلا على اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء - كما قيل به - لكي يتوجه عليه إشكال الشيخ قدس سره وغيره : من أن الظاهر من الرواية هو أن تكون العلة لعدم وجوب الإعادة كون الإعادة من نقض اليقين بالشك ، ولو كان التعليل بلحاظ اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء لكان الأنسب بل المتعين هو التعليل بذلك لا بعدم نقض اليقين بالشك.
وإن كان الانصاف : أن هذا الاشكال لا يتوجه لا على ذلك ، فإنه بعد البناء على أن العلة هي قوله علیه السلام « ولا ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك » لا المجموع المركب من ذلك ومن المورد - كما استظهرناه - لابد في حسن التعليل وانطباقه على مفروض السؤال من ضم كبرى أخرى إليه ، وإلا فالتعليل بنفسه لا ينطبق على المورد ، لان الإعادة بعد انكشاف الخلاف ليست من نقض اليقين بالك ، فلابد وأن يكون التعليل بذلك لبيان خصوصية
ص: 350
اخرى - ولو بدلالة الاقتضاء - لتكون العلة بضم تلك الخصوصية منطبقة على المورد ، وتلك الخصوصية التي تستفاد من التعليل يمكن أن تكون هي شرطية إحراز الطهارة ويترتب عليها عدم الإعادة - كما تقدم تحريره - ويمكن أيضا أن تكون تلك الخصوصية هي اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء ويترتب عليه أيضا عدم وجوب الإعادة.
والحاصل : أن صحة التعليل في مفروض السؤال يتوقف لا محالة على ضم كبرى أخرى إليه تكون العلة في الحقيقة هي تلك الكبرى ، على وجه يندرج المورد فيها ويكون من صغرياتها ، فالتعليل بالاستصحاب بعد انكشاف الخلاف لا يخلو : إما لأجل كون الشرط هو إحراز الطهارة ، وإما لأجل اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء ، فيكون التعليل بالاستصحاب تعليلا بما هو المحقق للعلة ، وهي إحراز الطهارة أو اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء ، فالتعليل بالاستصحاب لا يضر بدلالة الرواية على اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء ، بل لو انحصر حسن التعليل الوارد في الرواية على ضم خصوصية اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء لكان لا محيص عن الالتزام به ، إلا أنه قد عرفت : أن حسن التعليل وانطباقه على المورد لا ينحصر وجهه في ذلك ، بل له وجه آخر ، وهو كون الشرط إحراز الطهارة ، فلا موجب لتعين ضم خصوص اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء حتى تكون الرواية دليلا على ذلك.
ودعوى : أن الاجزاء وعدم الإعادة إنما هو من اللوازم الشرعية للطهارة السابقة المستصحبة حال الصلاة فلا يتوقف حسن التعليل على ضم كبرى اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء بل لازم الطهارة المستصحبة هو جواز الدخول في الصلاة وعدم الإعادة بعدها ، ضعيفة ، فان الاجزاء ليس من المجعولات الشرعية ، بل هو من اللوازم العقلية لفعل متعلق الامر على أقسامه : من الامر الواقعي الأولي ، والواقعي الاضطراري ، والامر الظاهري ، غايته أن الاجزاء في
ص: 351
القسمين الأولين من اللوازم العقلية لنفس المجعول ، بداهة أنه من لوازم الاتيان بالمأمور به الواقعي الاختياري أو الاضطراري هو سقوط الامر قهرا ، وأما الاجزاء في الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهري فإنما هو من لوازم نفس الجعل الظاهري عقلا ، فان دلالة الاقتضاء تقتضي اكتفاء الشارع بالصلاة مع استصحاب الطهارة ما لم ينكشف الخلاف ، وإلا كان جعل الاستصحاب لغوا ، فالعقل يستقل بأن من لوازم جعل الشارع حجية الاستصحاب هو القناعة بالطهارة المستصحبة ، ولكن حكم العقل بالاجزاء في ذلك يدور مدار بقاء الجعل الشرعي ، فما دام الاستصحاب جاريا يكون الحكم العقلي بالاجزاء محفوظا ، فإذا انكشف الخلاف وتبين مخالفة الاستصحاب للواقع - كما هو مورد الرواية - فلا يمكن بقاء حكم العقل بالاجزاء ، لما عرفت : من أن الحكم العقلي بالاجزاء تابع لبقاء الجعل الشرعي ، فالطهارة المستصحبة بنفسها لا تقتضي الاجزاء بعد انكشاف الخلاف حتى يقال : إن عدم وجوب الإعادة في مورد الرواية مما يقتضيه استصحاب الطهارة ولا يحتاج إلى ضم كبرى اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء ، بل تطبيق التعليل على المورد لا يمكن إلا بعد أن يستفاد من التعليل - بدلالة الاقتضاء - كبرى أخرى : إما كون الشرط إحراز الطهارة ، وإما اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء ، فبناء على كون العلة في الرواية نفس قوله علیه السلام « وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك » لابد من ضم أحد الأمرين ليستقيم التعليل ، ولا معين لأحدهما بالخصوص ، فالرواية تكون من هذه الجهة مجملة.
هذا ، ولكن قد عرفت : أن هذه الأبحاث كلها إتعاب للنفس بلا ملزم ، فان التعليل يستقيم وينطبق على المورد بأخذ العلم بالنجاسة من حيث التنجيز موضوعا لوجوب الإعادة ، بل يتعين هذا الوجه ، لان الظاهر من الرواية هو كون العلة المجموع المركب من المورد والاستصحاب ، كما لا يخفى ، فتأمل جيدا.
ص: 352
ثم إن الرواية قد تضمنت لحكم جملة من صور وقوع الصلاة مع النجاسة :
أحدها : ما إذا علم المكلف بالنجاسة وموضعها تفضيلا ، فنسي وصلى.
ثانيها : ما إذا علم بالنجاسة وشك في موضعها. وفي هاتين الصورتين تجب إعادة الصلاة.
ثالثها : ما إذا لم يعلم بالنجاسة بل ظن بها. وفي هذه الصورة لا تجب الإعادة.
رابعها : ما إذا رأى المكلف النجاسة في أثناء الصلاة ، فتارة : يكون المكلف عالما بالنجاسة قبل الصلاة وشك في موضعها ثم رآها في الأثناء وأخرى : لم يعلم بها قبل الصلاة بل علم بها في الأثناء. وعلى الثاني : فتارة : يحتمل حدوث النجاسة في الأثناء حين العلم بها ، وأخرى : لا يحتمل ذلك بل يعلم حين العلم بها أنها كانت قبل الصلاة. فعلى الأول : يجب نقض الصلاة وإعادتها. وعلى الثاني : لا يجب عليه نقض الصلاة ، بل يزيل النجاسة في الأثناء ويبني على الصلاة بلا استيناف. وعلى الثالث : يجب نقض الصلاة أيضا واستينافها بعد إزالة النجاسة. وهذا الفرض وإن لم يكن مذكورا في الرواية صريحا ، إلا أنه يستفاد منها ذلك ، لان ما حكم فيها بعدم نقض الصلاة هو ما إذا احتمل حدوث النجاسة في الأثناء ، كما يدل عليه قوله علیه السلام « لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك الخ » فيستفاد منه أنه لو لم يحتمل وقوعها في الأثناء يجب قطع الصلاة واستينافها بعد إزالة النجاسة.
وبمضمون هذه الرواية قد أفتى الأصحاب ، وفي الباب أخبار أخر معارضة لها في بعض الصور ، وللجمع بينها محل آخر.
تذييل :
قد اختلفت كلمات الأصحاب في وجه الجمع بين ما دل على عدم
ص: 353
وجوب إعادة الصلاة عند انكشاف وقوعها في نجاسة الثوب أو البدن وبين ما دل على اشتراط الصلاة بطهارة الثوب والبدن الظاهر في الطهارة الواقعية ، والمسألة وإن كانت فقهية ، إلا أنه حيث تعرض لها شيخنا الأستاذ - مد ظله - في هذا المقام ، فلابد من أن نقتفي إثره ، لان كتابنا مبني على ذلك. وينبغي أن يكون البحث في هذا المقام كليا ، لأنه لا خصوصية لباب الطهارة والنجاسة في ذلك ، بل يطرد الاشكال في كل مورد قام الدليل على عدم وجود الإعادة عند تخلف بعض أجزاء المأمور به أو شرائطه ، كالصلاة فيما لا يؤكل ، حيث قام الدليل على عدم وجوب الإعادة عند الجهل بكون اللباس متخذا من غير المأكول ، وللقول في الجمع بين الأدلة في هذه الموارد مشارب.
الأول : هو أن يكون العلم بموضوع الشرط له دخل في الاشتراط واقعا ، فالشرطية الواقعية تدور مدار العلم بالموضوع ، فلو لم يعلم بنجاسة الثوب أو البدن أو لم يعلم بكون اللباس من غير المأكول ، لا تكون النجاسة وغير المأكول مانعا عن صحة الصلاة واقعا ولا الطهارة والمأكولية شرطا للصحة.
الثاني : هو أن يكون الشرط في مثل هذه الموارد هو الوجود العلمي أو الأعم منه ومن الوجود الواقعي ، فلا فرق بين الطهارة الواقعية والطهارة المحرزة ولو بالاستصحاب أو قاعدة الطهارة ، وكذا لا فرق بين كون اللباس متخذا من المأكول واقعا وبين إحراز كونه من المأكول ولو بأصل عملي ، والفرق بين هذا الوجه وسابقه هو أنه على هذا الوجه لابد من إحراز الطهارة بوجه ولا يكفي الشك فيها من دون أن يكون له مزيل ، بخلاف الوجه الأول فإنه يكفي فيه عدم العلم بالنجاسة ولا يحتاج إلى إحراز الطهارة. وربما تظهر الثمرة بين الوجهين فيما إذا صلى المكلف في بعض أطراف العلم الاجمالي غفلة ، فبناء على كفاية عدم العلم بالنجاسة ينبغي أن يقال بصحة الصلاة ، لأنه حين الصلاة لم يعلم بنجاسة ذلك البعض والعلم السابق لم يتعلق به بخصوصه فلم يحصل المانع ،
ص: 354
وبناء على لزوم إحراز الطهارة بوجه لابد من القول ببطلان الصلاة ، لعدم إحراز الطهارة حين الصلاة ، فتأمل.
الثالث : أو أن يكون الاجزاء وعدم وجوب الإعادة في هذه الموارد لأجل القناعة عن المأمور به بما يقع امتثالا له (1) فيكون الفعل المأتي به بعنوان امتثال الواقع بدلا عن الواقع المأمور به ومما يقوم به الغرض من الامر الواقعي في هذا الحال. وهذا الوجه أمتن الوجوه وأسلمها عن الاشكال ، فان الوجهين الأولين مما لا يمكن الالتزام بهما ولا ينطبقان على فتاوى الأصحاب.
أما الوجه الأول : فالظاهر تسالم الفقهاء على أنه لابد من إحراز الطهارة بوجه ، ولا يجوز الدخول في الصلاة مع الشك في الطهارة من دون أن يكون له مزيل ، ولذا تمسك بعض من قال بالصحة في المثال السابق - وهو الصلاة في بعض أطراف العلم الاجمالي غفلة - بقاعدة الفراغ.
وأما الوجه الثاني : فلمنافاته لظواهر الأدلة ، فان الأخبار الواردة في المقام منها : ما ظاهرها اعتبار الطهارة الواقعية ، ومنها : ما ظاهرها اعتبار عدم العلم بالنجاسة ، كالرواية المتقدمة ، فالقول بأن الشرط إحراز الطهارة خال عن الدليل.
ص: 355
وهذا بخلاف الوجه الثالث ، فان فيه جمعا بين الأدلة وينطبق على ظواهرها بلا تكلف ، فان لازم هذا الوجه هو أن يكون الشرط بحسب الجعل الأولي نفس الطهارة الواقعية - كما هو ظاهر أدلة الشرائط - وأنه لابد من إحراز الطهارة بوجه حال الاشتغال بالعمل عند الالتفات إليها ، فإنه مع عدم إحراز الطهارة لا يمكن الاتيان بالعمل امتثالا للامر الواقعي ، فيوافق ما عليه فتوى الأصحاب : من اعتبار إحراز الطهارة بوجه ، ولا يكفي الشك فيها من دون أن يكون له مزيل شرعي ، وينطبق أيضا على ظاهر الاخبار : من عدم وجوب الإعادة عند عدم العلم بالنجاسة ، فان عدم العلم بالنجاسة لا يخلو : إما لكون المكلف غافلا عن نجاسة ثوبه أو بدنه وإما لكونه شاكا في ذلك ، وعلى كلا التقديرين : يمكن للمكلف الاتيان بالعمل امتثالا للامر الواقعي ، أما في صورة الغفلة فواضح ، وأما في صورة الشك فلجريان استصحاب الطهارة وقاعدتها ، فيكون المكلف محرزا للطهارة. ولا ينافي ذلك وجوب الإعادة عند نسيان النجاسة بعد العلم بها ، فان القناعة عن الواقع بما يقع امتثالا له يختص بحكم الشارع بما إذا لم يسبق العلم بالنجاسة.
وبالجملة : الانصاف أن في الوجه الثالث جمعا بين جميع الأدلة وفتاوى الأصحاب ، فهو الذي ينبغي البناء عليه. وحاصله : هو أن الاجزاء في موارد تخلف بعض الاجزاء والشروط إنما هو لأجل قناعة الشارع بما يقع امتثالا عن الواقع ، لكون العمل في هذا الحال مشتملا على الغرض من الامر.
وبذلك يندفع ما ربما يتوهم : من أن العمل المأتي به في حال الجهل إن كان واجدا للمصلحة فلابد وأن يتعلق به الطلب والامر في عرض الواقع ويكون المكلف به في الواقع أحد الأمرين ولو في صورة الجهل ولا وجه لان يكون المكلف به الواقعي هو خصوص الواجد للشرط بعدما كان الفاقد له مشتملا على المصلحة ، غايته أنه يكون من قبيل التخيير بين الأقل والأكثر كالتخيير بين
ص: 356
القصر والاتمام في المواطن الأربعة. وإن لم يكن المأتي به واجدا للمصلحة فلا وجه لقناعة الشارع به.
توضيح الدفع : هو أن المأتي به في حال الجهل لابد وأن يكون واجدا للمصلحة ، لكشف دليل الاجزاء عن ذلك ، ولكن مصلحته إنما تكون في طول مصلحة الواقع ، لان المصلحة إنما تقوم به بشرط أن يكون الاتيان به على وجه الامتثال للواقع ، فلا يمكن الامر به تخييرا.
والحاصل : أن المأمور به الواقعي لا يمكن أن يكون واجدا للمصلحة في حال الاتيان بالعمل المجزي عنه ، فان قيام المصلحة به في هذا الحال يستلزم إطلاق الامر به ، ومعه لا يمكن أن يكون غيره مجزيا عنه ، فلابد وأن تكون المصلحة القائمة بالمأمور به الواقعي مقصورة بغير هذا الحال ، ويلزمه أن يكون الامر به مقيدا بغير هذا الحال ، لكن لا بالتقييد اللحاظي بل بنتيجة التقييد ، فان القيود اللاحقة للامر في مرحلة الامتثال لا يمكن فيها التقييد اللحاظي ، كقصد التقرب وكالعلم والجهل بالحكم لا الموضوع ، فان تقييد الامر بالعلم والجهل بالموضوع بمكان من الامكان ، فلا مانع من أخذ العلم بالنجاسة أو غير المأكول قيدا في الامر بالصلاة ، إلا أن ذلك يرجع إلى الوجه الأول ، وقد عرفت ضعفه.
وأما على الوجه الثالث : وهو القناعة بما يقع امتثالا عن الواقع ، فلا يمكن فيه التقييد اللحاظي ، فان رتبة هذا القيد متأخرة عن وجود الامر ، فهو من الانقسامات اللاحقة للامر بعد وجوده ، وفي هذا الطائفة من القيود لابد من نتيجة التقييد ، ونعني بنتيجة التقييد اختصاص الملاك والمصلحة الواقعية بتقدير دون تقدير - كما في المقام - حيث إن مصلحة الامر الواقعي مقصورة بغير صوره الاتيان بالعمل المجزي عن الواقع.
فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن الموارد التي قام الدليل فيها على الاجزاء وسقوط الإعادة والقضاء - كموارد تبدل الاجتهاد أو التقليد حيث ادعي الاجماع
ص: 357
على الاجزاء في خصوص العبادات ، وكموارد الصلاة مع نجاسة البدن أو الثوب جهلا ، وكالصلاة في غير المأكول كذلك - كلها تكون من باب القناعة عن الواقع بما وقع امتثالا له ، وليس في شيء منها ما يكون مأمورا به في عرض الواقع ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا.
صحيحة ثالثة لزرارة أيضا ، وهي قوله علیه السلام « إذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها أخرى ولا شيء عليه ، ولا ينقض اليقين بالشك ، ولا يدخل الشك في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكنه ينقص الشك باليقين ويتم على اليقين فيبني عليه ، ولا يعتد بالشك في حال من الحالات » (1) ومحل الاستدلال قوله علیه السلام « ولا ينقض اليقين بالشك » الظاهر في حجية الاستصحاب.
وقد أورد على الاستدلال بها بما حاصله : أن المراد من الركعة في قوله علیه السلام « قام فأضاف إليها أخرى » إما الركعة الموصولة بالركعات الثلاث السابقة ، وإما الركعة المفصولة عنها بتكبير وسلام.
فعلى الأول : ينطبق قوله علیه السلام « ولا ينقض اليقين بالشك » على الاستصحاب ، فيكون المعنى : أن اليقين بعدم فعل الركعة الرابعة لا ينقض بالشك في فعلها ، بل يبني على عدمها ويأتي بها متصلة بالركعات السابقة. ولكن هذا المعنى ينافي ما عليه إجماع الإمامية : من عدم جواز الاتيان بركعة الاحتياط متصلة ببقية الركعات. فلابد وأن يكون المراد من « الركعة » الركعة المنفصلة بتكبير وسلام ، فيكون المراد من « اليقين » في قوله علیه السلام
ص: 358
« ولا ينقض اليقين بالشك » هو اليقين بتحصيل البراءة من البناء على الأكثر والآتيان بركعة الاحتياط مفصولة ، وقد جرى اصطلاح الأئمة - صلوات اللّه عليهم أجمعين - على تسمية الوظيفة المقررة في الشك في عدد الركعات من البناء على الأكثر والآتيان بالركعة المشكوكة مفصولة بالبناء على اليقين ، فإنه قد ورد التعبير بذلك في عدة من الاخبار ، كقوله علیه السلام « إذا شككت فابن على اليقين » (1) فان المراد من البناء على اليقين هو البناء على الأكثر والآتيان بركعات الاحتياط مفصولة ، وعلى هذا لا تنطبق الرواية على الاستصحاب ولا يصح الاستدلال بها (2) بل لو سلم ظهور الرواية في كون المراد
ص: 359
من « الركعة » هي الركعة المتصلة - على طبق مفاد الاستصحاب - فلا يمكن الاخذ بظاهرها ، لان ذلك يخالف ما عليه المذهب ، فلابد إما من حمل « الركعة » على الركعة المفصولة وإما من الحمل على التقية ، والثاني مخالف للأصل ، فيتعين الأول.
إلا أن يقال : إن التقية إنما هي في تطبيق الاستصحاب على المورد ، فيحمل قوله علیه السلام « ولا ينقض اليقين بالشك » على بيان الحكم الواقعي : من وجوب الاخذ بالمتيقن والعمل بالاستصحاب ، ولكن تطبيق العمل بالاستصحاب على المورد كان للتقية ، فالتقية إنما تكون في التطبيق لا في نفس الحكم الاستصحابي. ولكن هذا أيضا خلاف الظاهر ، فيتعين حمل « اليقين » في الرواية على اليقين بالبراءة والآتيان بالوظيفة المقررة في الشريعة للشك في عدد الركعات.
ص: 360
هذا حاصل ما أفاده الشيخ قدس سره في وجه عدم صحة الاستدلال بالرواية على حجية الاستصحاب. ثم ذكر تقريبا آخر للتمسك بالرواية ، ولعله ينطبق على ما سيأتي من المختار في تقريب الاستدلال. ثم قال بعد ذلك ما حاصله : أن الرواية لابد إما من حملها على التقية وهو مخالف للأصل ، وإما من حملها على الاخذ باليقين والاحتياط ، وهو وإن كان بعيدا إلا أنه لا محيص عنه.
هذا ، ولكن لا يخفى عليك ما في كلامه من النظر
أما أولا : فان المصطلح عليه في الاخبار هو التعبير عن الوظيفة المقررة للشك في عدد الركعات بالبناء على اليقين أو العمل على اليقين ، وأين هذا من قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك »؟ فإنه ليس في الوظيفة نقض لليقين بالشك ، بل العناية المصححة لاستعمال كلمة « النقض » تنحصر في باب الاستصحاب وفي باب الشك الساري ، فحمل قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » على البناء على الأكثر والعمل بالاحتياط في غاية البعد ، بل كاد أن لا يصح إطلاق « النقض » على ذلك.
وأما ثانيا : فلان حمل الرواية على التقية من حيث تطبيق المورد على الاستصحاب ليس بأبعد من حملها على الوظيفة في الشك في عدد الركعات ، بل حملها على التقية أقرب فإنه ليس فيه تصرف فيما يقتضيه ظاهر قوله علیه السلام « الا تنقض اليقين بالشك » بل التصرف إنما يكون في جهة التطبيق ، فان الامام علیه السلام استشهد لحكم المورد بالاستصحاب ، حيث كان مذهب العامة على الاتيان بالركعة المشكوكة متصلة ببقية الركعات عملا بالاستصحاب ، فالتقية إنما تكون في الاستشهاد لا في الاستصحاب ، وقد ورد نظير ذلك في بعض الروايات كقوله علیه السلام بعد سؤال اللعين عن الافطار في اليوم الذي شهد بعض بأنه يوم العيد : « ذلك إلى إمام المسلمين إن صام صمنا معه وإن أفطر
ص: 361
أفطرنا معه » (1) فان الامام علیه السلام إنما قال ذلك تقية مخافة ضرب عنقه كما بين علیه السلام ذلك بعد خروجه عن مجلس اللعين ، ومع هذا يكون قوله علیه السلام « ذلك إلى إمام المسلمين » لبيان حكم اللّه الواقعي. وقد استدل الفقهاء بقوله : « ذلك إلى إمام المسلمين الخ » على اعتبار حكم الحاكم في الهلال ، مع أن الامام علیه السلام قال ذلك تقية ، وليس ذلك إلا لأجل كون تطبيق القول على المورد للتقية لا ينافي صدور القول لبيان حكم اللّه الواقعي ، فلتكن الصحيحة فيما نحن فيه من هذا القبيل.
وهذا كله كان مماشاة منا للشيخ قدس سره وإلا فالذي يقتضيه التدبر في مدلول الرواية هو أن مفادها ليس إلا الاستصحاب بلا مؤنة الحمل على التقية حتى في تطبيق الاستصحاب على المورد.
بيان ذلك : هو أن الموجب لتوهم عدم انطباق الرواية على الاستصحاب ليس إلا تخيل أن الاستصحاب في مورد الرواية يقتضي الاتيان بالركعة الموصولة ، وذلك ينافي ما عليه المذهب. ولكن هذا اشتباه ، فان اتصال الركعة المشكوكة ببقية الركعات إنما يقتضيه إطلاق الاستصحاب ، لا أن مدلول الاستصحاب ذلك ، بل مدلول الاستصحاب إنما هو البناء العملي على عدم الاتيان بالركعة المشكوكة ، فان نقض اليقين بالشك إنما يلزم من البناء على الاتيان بالركعة المشكوكة ، فعدم نقضه بالشك الذي هو مفاد الاستصحاب إنما يكون بالبناء على عدم الاتيان بها ، وأما الوظيفة بعد ذلك : من الاتيان بها موصولة ، فهو مما لا يقتضيه عدم نقض اليقين بالشك.
نعم : إطلاق الاستصحاب يقتضي الاتيان بها موصولة ، لان الحكم الأولي
ص: 362
المجعول في الشريعة هو الاتيان بركعات الصلاة موصولة ، فغاية ما يلزم في الرواية هو تقييد قوله علیه السلام « ولا ينقض اليقين بالشك » بفعل ركعة الاحتياط مفصولة عن سائر الركعات ، وقد أشار الامام علیه السلام في الرواية إلى هذا التقييد بقوله : « ولا يدخل الشك في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر » فان المراد من عدم إدخال الشك في اليقين وعدم خلط أحدهما بالآخر هو عدم وصل الركعة المشكوكة بالركعات المتيقنة ، فان إدخال المشكوك في المتيقن وخلط أحدهما بالآخر إنما يكون بوصل المشكوك في المتيقن وعدم الفصل بينهما ، فالامام علیه السلام أراد أن يبين حكم المسألة لزرارة بنحو الكناية والإشارة حتى لا ينافي ذلك التقية منه ، فعبر - صلوات اللّه عليه - أولا بما يكون ظاهرا في الركعة الموصولة ليوافق مذهب العامة ، فقال : « ولا ينقض اليقين بالشك » الذي يقتضي إطلاقه الاتيان بالركعة الموصولة ، ثم عقبه - صلوت اللّه عليه - ببيان آخر يستفاد منه الركعة المفصولة على طبق مذهب الخاصة ، فقال : « ولا يدخل الشك في اليقين الخ » ولذا قنع زرارة بما أفاده الامام علیه السلام ولم يسئل عن كون الركعة موصولة أو مفصولة.
فظهر : أنه لا يلزم في الرواية أزيد من تقيد الاطلاق. بل يمكن أن يقال : إن هذا أيضا لا يلزم ، فإنه لا نسلم أن إطلاق الاستصحاب يقتضي الاتيان بالركعة الموصولة ، بل الاستصحاب لا يقتضي أزيد من البناء على عدم الاتيان بالركعة المشكوكة.
وأما الوظيفة بعد ذلك ما هي؟ فهي تتبع الجعل الشرعي ، والمفروض : أن الوظيفة التي قررها الشارع للشاك في عدد الركعات هي الاتيان بالركعة المفصولة ، فان الحكم يتبدل في حق الشاك واقعا ويكون تكليفه الواقعي هو عدم وصل الركعة.
والحاصل : أن مقتضى الاستصحاب عند الشك في فعل بعض الركعات هو
ص: 363
الاتيان بالركعة المشكوكة (1) وأما تعيين كيفية الاتيان وأنها موصولة أو مفصولة فهو يدور مدار تعيين الشارع ، والذي عينه الشارع في باب الشك في عدد الركعات هو الاتيان بركعات الاحتياط مفصولة بتكبير وتسليم ، فتأمل.
فتحصل : أن منشأ توهم عدم انطباق الرواية على الاستصحاب هو تخيل أن الشارع أسقط الاستصحاب في باب الشك في عدد الركعات ، وقد ظهر فساده.
فالأقوى : أن الرواية لا تقصر عن بقية الروايات في ظهورها في حجية الاستصحاب ، فتأمل جيدا.
رواية محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : قال أمير المؤمنين علیه السلام من كان على يقين فشك فليمض على يقينه ، فان الشك لا ينقض اليقين (2).
وقد أورد على الاستدلال بها بما حاصله : أن الظاهر من الرواية هو اختلاف زمان الشك واليقين وسبق زمان اليقين على زمان الشك بقرينة قوله علیه السلام « من كان فشك » الظاهر في انقضاء زمان اليقين وتراخي زمان الشك ، فالرواية تكون أظهر في الشك الساري ، ولا تنطبق على الاستصحاب ،
ص: 364
لأنه لا يعتبر في الاستصحاب اختلاف زمان الشك واليقين وسبق أحدهما على الآخر ، بل الذي يعتبر فيه سبق زمان المتيقن على زمان الشك وإن قارن زمان اليقين لزمان الشك ، بل ولو تأخر زمان اليقين عن زمان الشك ، كما تقدم تفصيله.
هذا ، ولكن لا يخفى ما فيه ، فان الضابط في « قاعدة اليقين » هو اختلاف زمان الشك واليقين مع وحدة متعلقهما ، بأن يتعلق الشك بوجود ما تعلق به اليقين في الزمان الذي تعلق به اليقين ، كما إذا علم بعدالة زيد في يوم الجمعة وشك في يوم السبت بعدالته في يوم الجمعة على وجه يسري الشك من يوم السبت إلى يوم الجمعة ، من غير فرق في ذلك بين أخذ زمان اليقين قيدا للعدالة أو أخذ الزمان ظرفا لها ، فإنه لا يعتبر في « قاعدة اليقين » لحاظ الزمان على وجه القيدية - كما يظهر من الشيخ قدس سره في المقام - بل الذي يعتبر في القاعدة هو وحدة زمان متعلق الشك واليقين مع اختلاف زمان نفس الشك واليقين. وأما الاستصحاب : فيعتبر فيه اختلاف زمان متعلق الشك واليقين ، سواء اختلف زمان الشك واليقين أولم يختلف.
وبعبارة أخرى : متعلق الشك واليقين في القاعدة هو حدوث الشيء ، وفي الاستصحاب متعلق اليقين هو الحدوث ومتعلق الشك هو البقاء.
إذا عرفت ذلك فقد ظهر : أن الرواية لا ظهور لها في القاعدة ، فإنه ليس في الرواية ما يستفاد منه وحدة زمان متعلق الشك واليقين ، وظهورها في سبق زمان اليقين على زمان الشك وإن كان غير قابل للانكار ، إلا أن ذلك لمكان كون الغالب في موارد الاستصحاب هو سبق زمان اليقين ، بل يمكن أن يقال بظهور الرواية في خصوص الاستصحاب ، فان قوله علیه السلام « فليمض على يقينه » ظاهر في المضي على اليقين بعد فرض وجوده وانحفاظه في زمان العمل ، وهذا لا ينطبق إلا على الاستصحاب ، فان الذي يكون اليقين بالحدوث فيه محفوظا في زمان العمل هو الاستصحاب. وأما القاعدة : فاليقين فيها ينعدم ، ولذا
ص: 365
تسمى بالشك الساري.
مكاتبة علي بن محمد القاساني ، قال : « كتبت إليه وأنا بالمدينة عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب علیه السلام اليقين لا يدخله الشك ، صم للرؤية وأفطر للرؤية » (1).
وهذه الرواية قد جعلها الشيخ قدس سره أظهر الروايات في دلالتها على حجية الاستصحاب. ولكن يمكن المنع عن ظهورها فضلا عن كونها أظهر ، فان دلالتها على الاستصحاب مبني على أن يكون المراد من « اليقين » هو اليقين بأن اليوم الماضي كان من شعبان أو اليقين بعدم دخول رمضان ، إلا أنه يمكن أن يكون المراد منه اليقين بدخول رمضان ، فيكون المعنى : إن اليقين بدخول رمضان الذي يعتبر في صحة الصوم لا يدخله الشك في دخوله ، ومعنى أنه لا يدخله الشك : هو أنه لا يجوز صوم يوم الشك من رمضان ، وقد تواترت الاخبار على اعتبار اليقين بدخول رمضان في صحة الصوم ، وعلى هذا تكون الرواية أجنبية عن باب الاستصحاب ، فتأمل.
هذه جملة ما وقفنا عليه من الاخبار الوارد في الباب ، وفيها الكفاية.
ربما يتوهم : دلالة قوله علیه السلام كل شيء لك حلال وكل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه حرام أو قذر (2) على اعتبار الاستصحاب ، بل استدل
ص: 366
به جملة من الاعلام ، كصاحب الفصول والمحقق الخراساني ، بل يظهر ذلك من الشيخ قدس سره لكن في خصوص قوله علیه السلام « الماء كله طاهر حتى تعلم أنه نجس » (1) مع ما بينهم من الاختلاف في مقدار دلالة هذه الأخبار.
فمنهم من قال بدلالتها على اعتبار قاعدة الطهارة والحلية واستصحابهما معا وهو المحكي عن صاحب الفصول رحمه اللّه . ومنهم من قال بدلالة الصدر على الحكم الواقعي والقاعدة معا ودلالة الغاية على حجية استصحاب الطهارة والحلية ، وهو الذي اختاره المحقق الخراساني قدس سره .
والأقوى : أن أخبار أصالة الحل والطهارة لا دلالة لها على اعتبار الاستصحاب ، بل ليس مفادها إلا قاعدة الحل والطهارة ، ولا مساس لها بالطهارة والحلية الواقعية ، فضلا عن استصحابهما ، فضلا عن الجمع بين القاعدة والاستصحاب ، أو الجمع بين الحكم الواقعي والقاعدة والاستصحاب.
وبالجملة : قوله علیه السلام كل شيء لك حلال أو طاهر حتى تعلم أنه حرام أو قذر ، إنما يتكفل من المحتملات السبعة خصوص قاعدة الطهارة والحلية ، ولا يتحمل مجموع الصدور الذيل معنى آخر.
بيان ذلك : هو أن المراد من « الشيء » في قوله علیه السلام « كل شيء الخ » أما أن يكون هو ذات الشيء المعروض للحكم الواقعي الأولي سواء كان من الافعال أو من الموضوعات الخارجية كالقيام والقعود والانسان والحيوان والنبات وغير ذلك من متعلقات التكاليف وموضوعاتها ، وإما أن يكون هو الشيء بوصف كونه مشكوك الحلية أو الطهارة.
فان كان المراد منه ذات الشيء بعنوانه الأولي ، فحمل قوله علیه السلام « حلال » أو « طاهر » عليه إنما هو لبيان حكمه الواقعي ، فيكون مفاده حينئذ : أن
ص: 367
كل موجود في العالم يكون محكوما بالحلية والطهارة واقعا ، غايته أنه يكون من العمومات المخصصة ، كقوله تعالى : « و أحلّ لكم ما في الأرض جميعا » (1).
وإن كان المراد منه الذات بوصف كونها مشكوكة الطهارة والحلية ، فحمل قوله علیه السلام « حلال » أو « طاهر » عليه إنما هو لبيان حكمه الظاهري ، ولا يمكن حينئذ أن يكون المراد من المحمول الحلية والطهارة الواقعية ، فان موضوعات الاحكام الواقعية إنما هي ذوات الأشياء المرسلة ، ولا يعقل تقييد موضوع الحكم الواقعي بكونه مشكوك الحكم ، فالشئ المقيد بكونه مشكوك الطهارة والحلية لا يمكن أن يحمل عليه إلا الطهارة والحلية الظاهرية ، كما أن الشيء المرسل الغير المقيد بذلك لا يمكن أن يحمل عليه إلا الطهارة والحلية الواقعية ، فان للشك دخلا في موضوع الحكم الظاهري مطلقا. فالموضوع في قوله علیه السلام « كل شيء لكل طاهر » أو « حلال » إما أن يكون هو الشيء المرسل ويلزمه أن يكون المحمول حكما واقعيا ، وإما أن يكون هو الشيء المشكوك حليته أو طهارته ويلزمه أن يكون المحمول حكما ظاهريا. ولا يمكن أن يكون المراد منه الأعم من المرسل والمشكوك ، كما لا يمكن أن يكون المراد من المحمول الأعم من الواقعي والظاهري ، فان الشيء المشكوك متأخر في الرتبة عن الشيء المرسل ، كما أن الحكم الظاهري متأخر في الرتبة عن الحكم الواقعي ، فكل من موضوع الحكم الظاهري وحكمه في طول موضوع الحكم الواقعي وحكمه ، ولا يمكن جمعهما في اللحاظ والاستعمال. وذلك كله واضح مما لا ينبغي إطالة الكلام فيه.
وبعد ذلك نقول : إن ظاهر صدر الروايات مع قطع النظر عن الغاية يعطي أن يكون المحمول فيه حكما واقعيا (2) فيكون مساقه مساق الأدلة المتكفلة لبيان
ص: 368
الاحكام الواقعية للأشياء بعناوينها الأولية ، كقوله تعالى : « وأحل لكم ما في الأرض جميعا » ولكن الغاية المذكورة في الذيل توجب هدم ظهور الصدر في ذلك ، فان الحكم الواقعي لا يكون مغيى بالعلم بالخلاف ، بل غاية الحكم الواقعي إنما
ص: 369
هي انتهاء زمانه بحسب الجعل الشرعي كالغروب الذي اخذ غاية لوجوب الصوم والصلاة ، أو تبدل موضوعه وانقلابه عما كان عليه كغليان العصير الموجب لارتفاع الحلية.
وأما العلم بضد الحكم أو الموضوع فليس غاية للحكم الواقعي ، فقوله علیه السلام حتى تعلم أنه قذر أو حرام لا يصلح أن يجعل غاية للحكم الواقعي إلا بنحو من التكلف والتأويل بجعل العلم في الغاية كاشفا وطريقا إلى ما هو الغاية في الحقيقة وجعل القذارة والحرمة أيضا كناية عن انقلاب الموضوع ، فيكون المعنى : كل شيء لك طاهر أو حلال حتى يتنجس أو يصير حراما بالغليان ، فان انقلاب الطاهر والحلال الواقعي إلى النجاسة والحرمة إنما يكون بحدوث النجاسة فيه وانقلاب موضوعه إلى موضوع آخر بغليان العصير أو بصيرورة الخل خمرا أو نحو ذلك مما يطرء على الموضوع عنوان آخر يقتضي حرمته ، وهذا كما ترى تصرف في الروايات بلا موجب.
وهذا بخلاف ما إذا كانت الغاية غاية للحكم الظاهري ، فإنه يستقيم المعنى بلا تصرف فيها ، بداهة أن غاية الحكم الظاهري إنما هي انكشاف الخلاف وتبدل الشك علما ، فيكون مفاد الروايات هو : أن كل مشكوك الطهارة والنجاسة أو كل مشكوك الحلية والحرمة فهو محكوم بالطهارة والحلية ظاهرا إلى أن ينكشف الخلاف ويعلم بالنجاسة والحرمة. وهذا المعني لا ينطبق إلا على قاعدة الطهارة والحل ، ولا مساس له بالحكم الواقعي ، فضلا عن أن يكون له مساس بالاستصحاب.
وحاصل الكلام : أن قوله علیه السلام كل شيء لك طاهر أو حلال حتى تعلم أنه قذر أو حرام لا يتحمل إلا معنى واحد ، وذلك المعنى بحسب ما يقتضيه ظاهر اللفظ من غير تأويل هو قاعدة الطهارة والحل ، ولو أغمضنا عن ظاهر اللفظ وارتكبنا التأويل فلابد من حمله على بيان الحكم الواقعي ، وأما حمله
ص: 370
على الاستصحاب فهو مما لا سبيل إليه ، فان مفاد الاستصحاب هو الحكم باستمرار ما علم بحدوثه وشك في بقائه ، وأين هذا من مفاد الروايات؟.
ودعوى : أن كلمة « حتى » تدل على استمرار حكم ما قبلها إلى ما بعدها ، فيكون مفاد الروايات هو أن كل شيء طاهر أو حلال واقعا أو ظاهرا وتستمر طهارته وحليته ظاهرا إلى أن ينكشف الخلاف ويعلم بالقذارة والحرمة ، فيدل صدر الروايات على الحكم الواقعي والظاهري للأشياء بعناوينها الأولية وبما أنها مشكوكة الطهارة والحلية ، والغاية تدل على استمرار الحكم السابق إلى أن يعلم بالخلاف ، فيكون مفاد الغاية مفاد قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك ولكن تنقضه بيقين آخر » فان معنى عدم نقض اليقين بالشك هو الحكم باستمرار المتيقن إلى زمان العلم بالخلاف ، وكلمة « حتى » في الروايات تدل على هذا المعنى ، فيستفاد من الروايات صدرا وذيلا كل من الحكم الواقعي والقاعدة والاستصحاب
واضحة الفساد ، فان قطع الغاية عما قبلها وجعلها جملة مستقلة وتقدير كلمة « ويستمر طهارته أو حرمته ظاهرا » مما لا شاهد عليه ، وكلمة « حتى » لا تدل على ذلك ، فان غاية ما يمكن تسليمه هو دلالة كلمة « حتى » على استمرار تلك الطهارة والحلية المذكورة في الصدر إلى أن يعلم بالخلاف.
وأما جعل تلك الطهارة مفروضة الوجود والحكم باستمرارها إلى زمان العلم بالخلاف - كما هو مفاد الاستصحاب - فهو ممالا يمكن أن يستفاد من كلمة « حتى » هذا مضافا إلى ما عرفت : من أن الموضوع والمحمول في الصدر لا يمكن أن يكون المراد منه الأعم من الموضوع والحكم الواقعي والظاهري.
فالانصاف : أن الروايات لا تدل إلا على قاعدة الطهارة والحل ، ولا يصح الاستدلال بها على حجية الاستصحاب ، بل روايات الاستصحاب هي
ص: 371
ما تقدمت ، وعمدتها روايات زرارة ودلالتها على حجية الاستصحاب في غاية الوضوح. ولا يمكن حمل قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » على « قاعدة اليقين » فان موردها ينافي ذلك ، كما لا يخفى.
إذا عرفت ذلك
فالكلام يقع في مقدار دلالتها وعمومها للأقسام اللاحقة للاستصحاب باعتبار اختلاف المستصحب : من حيث كونه وجوديا أو عدميا موضوعا خارجيا أو حكما شرعيا جزئيا أو كليا تكليفيا أو وضعيا ، وباعتبار اختلاف الدليل الدال على ثبوت المستصحب : من حيث كونه إجماعا أو عقلا أو كتابا وسنة ، وباعتبار اختلاف منشأ الشك في بقائه : من حيث رجوع الشك إلى الشك في وجود الرافع أو رافعية الموجود وما يلحق به من الشك في الغاية ، أو رجوع الشك إلى الشك في المقتضي وما يلحق به من الشك في الغاية أيضا ، بالبيان المتقدم. ولأجل هذه الاختلافات كثرت الأقوال في المسألة حتى زادت على العشرة ، فذهب إلى حجية الاستصحاب في كل قسم من هذه الأقسام فريق ، وأنكرها فريق آخر. وقد أطال الشيخ قدس سره الكلام في الأقوال وبيان أدلتها وردها.
ولكن الانصاف : أن جملة منها لا تستحق البحث عنها وإطالة الكلام فيها ، فإنه لا منشأ لها إلا بعض الوهميات ، فالأولى : الاعراض عنها وعطف عنان الكلام إلى بيان وجه المختار : من حجية الاستصحاب في جميع الأقسام إلا في الشك في المقتضي وما يلحق به من الشك في الغاية.
أما حجيته في سائر الأقسام : فلعموم قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » وشموله لجميع أقسام المستصحب والدليل الدال على ثبوته ومنشأ الشك في بقائه ، لأنه في جميع ذلك يكون رفع اليد عن المتيقن عند الشك في بقائه من نقض اليقين بالشك ، فلا موجب لتوهم اختصاصه بقسم دون قسم.
ص: 372
وأما عدم حجيته في الشك في المقتضي - بالمعنى المتقدم - فلعدم صدق النقض عليه ، فلا يعمه قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » وتوضيح ذلك : هو أن إضافة النقض إلى اليقين إنما تكون باعتبار ما يستتبع اليقين من الجري على ما يقتضيه المتيقن والعمل على وفقه (1) وليست إضافة النقض إلى اليقين باعتبار صفة اليقين والحالة المنقدحة في النفس بما هي هي ، بداهة أن اليقين من الأمور التكوينية الخارجية وقد انتقض بنفس الشك ، فلا معنى للنهي عن نقضه. وليس المراد من عدم نقض اليقين عدم نقض الآثار والأحكام الشرعية المترتبة على وصف اليقين ، فإنه لم يترتب حكم شرعي على وصف
ص: 373
اليقين بما هو هو ، وعلى فرض أن يكون لليقين أثر شرعي ، فليس المراد من قوله علیه السلام في أخبار الباب : « لا تنقض اليقين بالشك » نقض أثر اليقين ، فان ذلك أجنبي عن معنى الاستصحاب ، فإضافة النقض إلى اليقين لا يمكن أن تكون بلحاظ نفس وصف اليقين ، بل إنما تكون بلحاظ ما يستتبع اليقين من الجري على ما يقتضيه المتيقن حكما كان أو موضوعا.
لا أقول : إن المراد من اليقين المتيقن ، بحيث استعير للمتيقن لفظ اليقين ويكون قد أطلق اليقين وأريد منه المتيقن مجازا ، فان ذلك واضح الفساد ، بداهة أنه لا علاقة بين اليقين والمتيقن ، فاستعمال أحدهما في مكان آخر كاد أن يلحق بالأغلاط.
فما يظهر من الشيخ قدس سره في المقام : من أن المراد من اليقين نفس المتيقن مما لا يمكن المساعدة عليه ، ولابد من توجيه كلامه بما يرجع إلى ما ذكرنا : من أن المراد من نقض اليقين نقضه بما أنه يستتبع الحركة على وفق المتيقن ، فأخذ اليقين في الاخبار إنما يكون باعتبار كونه كاشفا وطريقا إلى المتيقن لا بما أنه صفة قائمة في النفس ، فعناية النقض إنما تلحق اليقين من ناحية المتيقن. بل يمكن أن يقال : إن شيوع إضافة النقض إلى اليقين دون العلم والقطع إنما يكون بهذا الاعتبار ، فإنه لم يعهد استعمال النقض في العلم والقطع ، فلا يقال : « لا تنقض العلم والقطع » وليس ذلك إلا لأجل أن العلم والقطع غالبا يكون إطلاقهما في مقابل الظن والشك ، وهذا بخلاف اليقين ، فان إطلاقه غالبا يكون بلحاظ ما يستتبعه من الجري على ما يقتضيه المتيقن والعمل على طبقه ، فالنظر إلى اليقين غالبا يكون طريقا إلى ملاحظة المتيقن ، بخلاف النظر إلى العلم والقطع.
وبالجملة : لا إشكال في أن العناية المصححة لورود النقض على اليقين إنما هي باعتبار استتباع اليقين الجري العملي على المتيقن والحركة على ما يقتضيه ،
ص: 374
فيكون مفاد قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » هو أن الجري العملي الذي كان يقتضيه الاحزار واليقين لا ينقض بالشك في بقاء المتيقن.
وليس مفاد أخبار الاستصحاب هو « بقاء ما كان ودوام ما ثبت » لما عرفت في أول مبحث الاستصحاب : من أن للاحراز والشك دخلا في الحكم المجعول في باب الاستصحاب ، وبذلك يكون الاستصحاب من الاحكام الظاهرية ، ولو كان مفاد الاخبار « دوام ما ثبت » لكان ذلك حكما واقعيا نظير قوله علیه السلام « حلال محمد صلی اللّه علیه و آله حلال إلى يوم القيامة الخ » (1) كما أنه ليس مفاد أخبار الاستصحاب هو حرمة نقض اليقين بالشك بحيث يكون المجعول فيه حكما تكليفيا ، بداهة أن الحكم الاستصحابي يعم التكاليف الغير الالزامية والوضعيات وغير ذلك ، مع أنه لا يحرم فيها نقض اليقين بالشك ، فلا يمكن أن يكون المراد من النهي في قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » النهي التكليفي ، بل المراد منه عدم الانتقاض ، بمعنى : أن الشارع حكم بعد الانتقاض وبقاء الجري العملي على وفق المتيقن ، ولذلك يجري الاستصحاب في الوضعيات وفي التكاليف الغير الالزامية.
إذا عرفت ذلك ، فقد ظهر لك : أن أخبار الباب إنما تختص بما إذا كان المتيقن مما يقتضي الجري العملي على طبقه ، بحيث لو خلي وطبعه لكان يبقى العمل على وفق اليقين ببقاء المتيقن ، وهذا المعنى يتوقف على أن يكون للمتيقن اقتضاء البقاء في عمود الزمان ليتحقق الجري العملي على طبقه ، فإنه في مثل ذلك يصح ورود النقض على اليقين بعناية المتيقن ويصدق عليه نقض اليقين بالشك وعدم نقضه به ، بخلاف ما إذا لم يكن للمتيقن اقتضاء البقاء في سلسلة الزمان فان الجري العملي بنفسة ينتقض ولا يصح ورود
ص: 375
النقض على اليقين بعناية المتيقن ، لان المتيقن لا يقتضي الجري العملي حتى يكون رفع اليد عنه نقضا لليقين بالشك ، والشك في اقتضاء المتيقن للبقاء يوجب الشك في صدق النقض عليه ، فلا يندرج في عموم قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك ».
وبتقريب آخر : يتوقف صدق نض اليقين بالشك على أن يكون زمان الشك مما فد تعلق اليقين به في زمان حدوثه ، بمعنى : أن الزمان اللاحق الذي يشك في بقاء المتيقن فيه كان متعلق اليقين عند حدوثه ، وهذا إنما يكون إذا كان المتيقن مرسلا بحسب الزمان لكي لا يكون اليقين بوجوده من أول الامر محدودا بزمان خاص ومقيدا بوقت مخصوص ، وإلا ففيما بعد ذلك الحد والوقت يكون المتيقن مشكوك الوجود من أول الامر ، فلا يكون رفع اليد عن آثار وجود المتيقن من نقض اليقين بالشك ، لان اليقين ما كان يقتضي ترتيب أثار وجود المتيقن بعد ذلك الحد ، فكيف يكون رفع اليد عن الآثار من نقض اليقين بالشك؟ ألا ترى : أنه لو علم أن المتيقن لا يبقى أزيد من ثلاثة أيام ففي اليوم الرابع لا يقال : انتقض اليقين بالوجود بيقين آخر بالعدم ، فان اليوم الرابع ما كان متعلق اليقين بالوجود من أول الامر حتى يقال : انتقض اليقين بيقين آخر ، وهذا بخلاف ما إذا حدث في اليوم الثالث أمر زماني - من مرض وقتل ونحو ذلك - أوجب رفع المتيقن ، فإنه يصح أن يقال : إنه انتقض اليقين بالوجود بيقين العدم.
وبالجملة : لا إشكال في أن العناية المصححة لإضافة النقض إلى اليقين إنما هي لكون اليقين يقتضي الجري والحركة نحو المتيقن ، وهذا إنما يكون إذا كان المتيقن مما يقتضي الجري والحركة على ما يستتبعه من الآثار الشرعية والعقلية ، فلابد وأن يكون للمتيقن اقتضاء البقاء في الزمان الذي يشك في وجوده ليقتضي ذلك ، ولابد من إحراز اقتضائه للبقاء ، فالشك في وجود المتيقن لأجل الشك في
ص: 376
المقتضي لا يندرج في قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك ».
فان قلت : نعم وإن كانت إضافة النقض إلى اليقين تقتضي اختصاص حجية الاستصحاب بما إذا علم اقتضاء المتيقن للبقاء فلا يشمل الشك في المقتضي ، إلا أن عموم لفظ اليقين لما إذا كان لمتعلقه اقتضاء البقاء أو لم يكن يقتضي عدم اختصاص الاستصحاب بما إذا كان الشك في الرافع بل يعم الشك في المقتضي أيضا ، فلا موجب لتقديم ظهور النقض في خصوص الشك في الرافع على ظهور اليقين في العموم.
قلت : إضافة النقض إلى اليقين تقتضي اختصاص اليقين بما إذا كان لمتعلقه اقتضاء البقاء ، فلا يبقى لليقين إطلاق لما إذا لم يكن لمتعلقه اقتضاء البقاء ليعارض ظهور النقض في ذلك ، وعلى فرض التسليم : فلا أقل من تعارض الظهورين ، فيبقى الاستصحاب عند الشك في المقتضي بلا دليل ، فتأمل (1).
وأما الشك في الرافع فهو بجميع أقسامه يندرج في الاخبار ويكون رفع اليد عن وجود المتيقن فيه من نقض اليقين بالشك ، من غير فرق في ذلك بين الشك في وجود الرافع والشك في رافعية الموجود لأجل الشبهة الحكمية أو المفهومية أو الموضوعية.
ص: 377
فما ينسب إلى المحقق السبزواري رحمه اللّه من عدم اعتبار الاستصحاب عند الشك في رافعية الموجود بتوهم أن اليقين بوجود ما يشك في رافعيته يكون من نقض اليقين باليقين لا من نقض اليقين بالشك ، ضعيف غايته ، فان نقض اليقين باليقين إنما يكون إذا كان اليقين الثاني تعلق بضد ما تعلق به الأول أو بنقيضه ، كما إذا حصل اليقين بالطهارة بعد اليقين بالنجاسة ، وأما اليقين بوجود ما يشك في رافعيته فليس هذا من نقض اليقين باليقين ، بل هو من نقض اليقين بالشك ، لأن الشك في رافعية الموجود يوجب الشك في ارتفاع المتيقن به ، فيكون كالشك في وجود الرافع ، وذلك واضح.
فالتفصيل بين الشك في وجود الرافع والشك في رافعية الموجود مما لا وجه له ، كما لا وجه للتفصيل بين ما إذا كان المستصحب من الأحكام التكليفية أو من الأحكام الوضعية ففي الأول لا يجري الاستصحاب وفي الثاني يجري ، كما هو المحكي عن الفاضل التوني رحمه اللّه .
لم يمر علينا في كتابنا هذا مقام يناسب بيان الأحكام الوضعية وتفصيل أقسامها ، وأردنا أن لا يخلو الكتاب عن ذلك ، فأحببنا التعرض لها في هذ المقام بمناسبة المحكي عن الفاضل التوني رحمه اللّه من التفصيل في حجية الاستصحاب بين الأحكام التكليفية والوضعية.
فنقول : ( وعلى اللّه الاتكال ) إن استقصاء الكلام في ذلك يستدعي تقديم أمور :
تقسيم الاحكام إلى التكليفية والوضعية إنما يستقيم بعد البناء على أن
ص: 378
للشارع جعل وإنشاء يتعلق بأفعال العباد يتضمن البعث والتحريك والإرادة والكراهة (1) وأما لو قلنا : بأنه ليس الحكم الشرعي إلا عبارة عن العلم باشتمال الافعال على المصالح والمفاسد من دون أن يكون في البين جعل يقتضي الإرادة والكراهة لا في المبدأ الاعلى ولا في المبادي العالية - كما حكي عن بعض احتماله بل الالتزام به - فلا يبقى موقع لتقسيم الاحكام إلى التكليفية والوضعية ، كما لا يخفى.
ولكن احتمال أن لا يكون في البين إلا العلم بالصلاح والفساد من دون أن يستتبع العلم بذلك الجعل والتشريع في غاية الوهن والسقوط ، لأنه يلزم على هذا
ص: 379
أن تكون الأوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنة كلها أخبارا عن الصلاح والفساد من دون أن يكون فيها شائبة الانشاء ، وهذا مما لا يرضى به المنصف ، وكيف يرضى أن يكون قوله تعالى : « يا أيها الذين آمنوا أقيموا الصلاة » الخ إخبارا عن اشتمال الصلاة والزكاة على المصلحة؟.
هذا مع أنه لم يظهر لنا وجه الالتزام بذلك ، فإنه إن كان الوجه هو عدم إمكان قيام الإرادة والكراهة في المبدأ الاعلى وإلا يلزم أن يكون محلا للحوادث - تعالى عن ذلك - فهذا مع فساده في نفسه لا يلزم منه عدم الجعل والتشريع وإنكار أصل الإرادة والكراهة ، فإنه لا أقل من قيام الإرادة والكراهة في النفس النبوية صلی اللّه علیه و آله بعدما يوحى أو يلهم إليه اشتمال الفعل على المصلحة والمفسدة ، فتنقدح في نفس الشريفة إرادة الفعل أو كراهته فيأمر به أو ينهى عنه ، وقد التزم به المحقق الخراساني قدس سره فأنكر قيام الإرادة والكراهة في المبدأ الاعلى وقال : إن الإرادة والكراهة إنما تكون في بعض المبادئ العالية ، والالتزام بذلك وإن كان أهون من إنكار الإرادة والكراهة مطلقا والقول بعدم الجعل والتشريع أصلا ، إلا أنه لا داعي إلى الالتزام به أيضا.
وعلى كل حال : تقسيم الاحكام إلى الوضعية والتكليفية يتوقف على القول بثبوت الجعل الشرعي ، ليكون من مقولة التكليف تارة ، ومن مقولة الوضع أخرى ، فتأمل جيدا.
قد وقع الخلط في جملة من الكلمات بين الأمور الاعتبارية والأمور الانتزاعية ، حتى أن الشيخ قدس سره قد عبر عن الأمور الاعتبارية بالانتزاعية وجعل الانتزاعيات مرادفة للاعتباريات.
ص: 380
ولكن التحقيق : أن الأمور الاعتبارية مباينة للأمور الانتزاعية ، فان وعاء الاعتبار يباين وعاء الانتزاع.
وتوضيح ذلك : هو أن الشيء تارة : يكون تقرره ووجوده في وعاء العين بحيث يكون بنفسه من الثابتات في الأعيان الخارجية سواء كان من المجردات أو من الماديات.
وأخرى : يكون تقرره ووجوده في وعاء الاعتبار ، فيكون تقرره وثباته بيد من ينفذ اعتباره ، فهو متأصل في عالم الاعتبار ، كما أن الأول كان متأصلا في عالم الأعيان ، غايته أن تأصل الأول ووجوده إنما يكون بتعلق الإرادة التكوينية الإلهية به ، وتأصل الثاني إنما يكون باعتباره ، فهو يوجد بنفس اعتبار من بيده الاعتبار ، كاعتبار السلطان سكة الدراهم والدنانير ، فان السكة المضروبة على الدراهم والدنانير لا مالية لها في حد ذاتها وإنما تكون ماليتها بنفس اعتبار السلطان لها ، ولمكان نفوذ اعتباره يثبت للسكة مالية.
وثالثة : لا يكون للشئ نحو تقرر ووجود لا في وعاء العين ولا في وعاء الاعتبار ، بل يكون وجوده بانتزاعه عن منشأ الانتزاع ، فهو بنفسه لا تقرر له ، وإنما التقرر لمنشأ الانتزاع ، سواء كان منشأ الانتزاع من الأمور التي لها تقرر في وعاء العين أو كان لها تقرر في وعاء الاعتبار ، فان يصح الانتزاع عن كل من الموجود في عالم الأعيان والموجود في عالم الاعتبار. فالأول : كانتزاع العلية والمعلولية من العلة والمعلول الخارجي التكويني ، والثاني : كانتزاع السببية من العقد الذي صار سببا للملكية والزوجية في عالم الاعتبار ، إذ ليس العقد سببا للملكية تكوينا ، فان الملكية لا وجود لها إلا في وعاء الاعتبار ، فسببها أيضا يكون من الأمور الاعتبارية لا محالة.
وحاصل الكلام : أن الأمور الانتزاعية إنما تكون من خارج المحمول ليس لها ما بحذاء في الخارج ، سواء كان انتزاعها من مقام الذات كالعلية والامكان
ص: 381
والوجوب والامتناع المنتزعة من ذات العلة والممكن والواجب والممتنع بالذات ، أو كان انتزاعها من قيام أحد المقولات التسع بمحله كالفوقية والتحتية والقبلية والبعدية الزمانية والمكانية ، فان الفوقية ليست من مقتضيات ذات الفوق ، بل لأجل قيام خصوصية في الفوق أوجب انتزاع الفوقية منه ، وكذا التحتية والقبلية والبعدية ونحوها.
وهذا بخلاف الأمور الاعتبارية ، فان لها في نفس الامر نحو تقرر وثبات ويكون لها وجود في الخارج (1) غايته أن تقررها النفس الأمري يتحقق بعين
ص: 382
اعتبارها ، ففرق بين الملكية والفوقية فإنه ليس للفوقية وجود إلا بوجود منشأ انتزاعها ، وأما الملكية فلها وجود اعتباري ، بل يمكن أن يقال : إن الملكية الاعتبارية إنما تكون من سنخ الملكية الحقيقية التي هي إحدى المقولات التسع المعبر عنها بالجدة ، فان حقيقة الملكية هي الواجدية والسلطنة والإحاطة على الشيء ، وهي ذات مراتب أقواها وأتمها ملكية السماوات والأرضين وما فوقهما وما بينهما وما تحتهما لله ( تعالى ) فان إحاطة الباري ( تعالى ) وواجديته للسماوات والأرضين أقوى مراتب الواجدية وأعلى درجات الإحاطة وأي واجدية تكون أقوى من واجدية العلة لمعلولها الذي وجوده يكون من مراتب وجودها!؟ نظير واجدية النفس للصور المخلوقة لها.
وبالجملة : لا إشكال في أن واجدية اللّه ( تعالى ) لما سواه أقوى مراتب الواجدية ، ثم دون ذلك واجدية اولي الامر الذين هم أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فان واجديتهم - صلوات اللّه عليهم - إنما تكون من مراتب واجدية الباري - عز اسمه - ثم دون ذلك واجدية الشخص لما يملكه من أمواله ، فان الشخص واجد لما يملك ومحيط عليه وإن لم يكن تحت يده وكان بعيدا عنه ، ثم دون ذلك الواجدية الحاصلة من إحاطة شيء بشيء ، كالقميص المحيط للبدن عند التقمص والعمامة المحيطة بالرأس عند التعمم.
فظهر : أنه لا وجه لجعل الجدة خصوص المرتبة الأخيرة من الواجدية التي هي أضعف المراتب ، وهي الحاصلة من إحاطة شيء بشيء كالتعمم والتقمص ، بل ينبغي تعميم مقولة الجدة لجميع مراتب الواجدية ، غايته أنه تارة :
ص: 383
تكون حقيقة وهي التي تكون من المقولات التسع بمراتبها الثلاث. وأخرى : تكون اعتبارية وهي الملكية التي يعتبرها العرف والعقلاء عند حصول أحد أسبابها. وإن أبيت إلا عن كون الجدة التي هي من المقولات التسع عبارة عن خصوص المرتبة الأخيرة من الواجدية جريا على الاصطلاح ، فلا يضر ذلك بالمقصود في المقام : من أنه ليست الملكية من الأمور الانتزاعية ، وكذا غيرها من سائر الاعتبارات كالحرية والرقية والزوجية ونحو ذلك. وليس المقصود في المقام استقصاء الأمور الاعتبارية ، بل المقصود أن الأمور الاعتبارية متأصلة بالجعل وأن وعاء الاعتبار غير وعاء الانتزاع ، فاستعمال أحدهما في مكان الآخر ليس على ما ينبغي ، وسيأتي أن المجعولات الشرعية كلها تكون من الأمور الاعتبارية ، سواء في ذلك الأحكام التكليفية والوضعية.
المراد من الأحكام التكليفية هي المجعولات الشرعية التي تتعلق بأفعال البعاد أولا وبالذات بلا واسطة ، وهي تنحصر بالخمسة ، أربعة منها تقتضي البعث والزجر ، وهي الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة ، وواحدة منها تقتضي التخيير وهي الإباحة.
وأما الأحكام الوضعية : فهي المجعولات الشرعية التي لا تتضمن البعث والزجر ولا تتعلق بالافعال ابتداء أولا وبالذات ، وإن كان لها نحو تعلق بها ولو باعتبار ما يستتبعها من الأحكام التكليفية ، سواء تعلق الجعل الشرعي بها ابتداء تأسيسا أو امضاء ، أو تعلق الجعل الشرعي بمنشأ انتزاعها ، على ما سيأتي توضيحه.
وقد اختلفت كلمات الأصحاب في تعدادها ، فقيل : إنها ثلاثة ، وهي السببية والشرطية والمانعية. وقيل : إنها خمسة ، بزيادة العلة والعلامة. وقيل :
ص: 384
تسعة ، بإضافة الصحة والفساد والرخصة والعزيمة. وقيل : إنها غير محصورة ، بل كل ما لايكون من الحكم التكليفي فهو من الحكم الوضعي ، سواء كان له دخل في التكليف أو في متعلقه أو في موضوعه ، حتى عد من الأحكام الوضعية مثل القضاوة والولاية. بل قيل : إن الماهيات المخترعة الشرعية كلها من الأحكام الوضعية ، كالصوم والصلاة والحج ونحو ذلك.
وقد شنع على القائل بذلك بأن الصوم والصلاة والحج ليست من مقولة الحكم ، فكيف تكون من الأحكام الوضعية؟. ولكن يمكن توجيهه بأن عد الماهيات المخترعة الشرعية من الأحكام الوضعية إنما هو باعتبار كونها مركبة من الاجزاء والشرائط والموانع ، وحيث كانت الجزئية والشرطية والمانعية من الأحكام الوضعية فيصح عد جملة المركب من الأحكام الوضعية ، وليس مراد القائل بأن الماهيات المخترعة من الأحكام الوضعية كون الصلاة مثلا بما هي هي حكما وضعيا ، فان ذلك واضح الفساد لا يرضى المنصف أن ينسبه إلى من كان من أهل العلم.
نعم : عد الولاية والقضاوة من الأحكام الوضعية لا يخلو عن تعسف (1) خصوصا الولاية والقضاوة الخاصة التي كان يتفضل بهما الامام علیه السلام لبعض الصحابة ، كولاية مالك الأشتر ، فان الولاية والقضاوة الخاصة حكمها حكم النيابة والوكالة لا ينبغي عدها من الأحكام الوضعية ، وإلا فبناء على هذا التعميم كان ينبغي عد الإمامة والنبوة أيضا من الأحكام الوضعية ، وهو كما ترى.
ص: 385
فالتحقيق : أن الأحكام الوضعية ليست بتلك المثابة من الاقتصار ، بحيث تختص بالثلاثة أو الخمسة أو التسعة المتقدمة ، ولا هي بهذه المثابة من التعميم بحيث تشمل الماهيات المخترعة والولاية والقضاوة ، بل ينبغي أن يقال : إن المجعولات الشرعية التي هي من القضايا الكلية الحقيقية على أنحاء ثلاثة : منها ما يكون من الحكم التكليفي ، ومنها ما يكون من الحكم الوضعي ، ومنها ما يكون من الماهيات المخترعة ، فتأمل جيدا.
المجعولات الشرعية : إما أن تكون تأسيسية وهي التي لا تكون لها عين ولا أثر عند العرف والعقلاء ، كالأحكام الخمسة التكليفية ، وإما أن تكون إمضائية وهي الأمور الاعتبارية العرفية التي يعتبرها العرف والعقلاء ، كالملكية والزوجية والرقية والحرية ونحو ذلك من منشآت العقود والايقاعات ، فان هذه الأمور الاعتبارية كلها ثابتة عند عامة الناس قبل الشرع والشريعة ، وعليها يدور نظامهم ومعاشهم ، والشارع قد أمضاها بمثل قوله - تعالى - « وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ » و « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » و « الصلح جايز بين المسلمين » ونحو ذلك من الأدلة الواردة في الكتاب والسنة ، وليست الملكية المنشأة بالبيع والزوجية المنشأة بالنكاح والتسالم المنشأ بالصلح من المخترعات الشرعية ، بل هي من الأمور الاعتبارية العرفية التي أمضاها الشارع بزيادة بعض القيود والخصوصيات ، وليست من الأمور الانتزاعية.
وقد خالف الشيخ قدس سره في ذلك والتزم بأن هذه الأمور كلها منتزعة عن التكاليف التي في موردها ، فالملكية تنتزع من حرمة تصرف الغير في المال ، والزوجية تنتزع من جواز وطي الزوج وحرمة نكاح الغير لها ، والرقية تنتزع من وجوب إطاعة الرق للمولى ، وهكذا سائر الأمور العرفية الاعتبارية التي لها آثار
ص: 386
خاصة. وقد أتعب نفسه الزكية في كثير من الموارد في تعيين ما هو المنشأ لانتزاع بعض الوضعيات ، كالطهارة والنجاسة ولزوم العقد والحجية ونحو ذلك ، لأنه ليس في هذه الموارد حكم تكليفي قابل لان يكون منشأ لانتزاعها ، إذ ما من حكم تكليفي إلا ويشترك فيه مورد آخر : فأي حكم تكليفي يمكن انتزاع لزوم العقد منه؟ فان حرمة التصرف فيما انتقل عنه يشترك فيها الغصب أيضا ، فلا يمكن أن تكون حرمة التصرف فيما انتقل عنه منشأ لانتزاع لزوم العقد ، إلا بأن يقيد عدم جواز التصرف بما بعد الفسخ.
وبالجملة : ليس من الأحكام الوضعية ما يختص بحكم تكليفي لا يشاركه غيره فيه ، فكيف يكون منشأ لانتزاعه بخصوصه؟ ودعوى أن الحكم الوضعي ينتزع من جملة من الأحكام التكليفية التي بجملتها تختص به كما ترى! مع أن هذا أيضا في بعض المقامات لا يمكن ، فان الحجية والطريقية من الأحكام الوضعية التي ليس في موردها حكم تكليفي قابل لانتزاع الحجية منه (1) كما أوضحنا ذلك بما لا مزيد عليه في حجية الظن ، ولذلك التزم في بعض الوضعيات بأنها من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع ، كالطهارة والنجاسة.
وليت شعري! أنه ما الداعي إلى تبعيد هذه المسافة وإتعاب النفس بتلك المثابة؟ وما المانع من أن تكون هذه الأمور متأصلة بالجعل في وعاء الاعتبار ويكون وجودها التكويني بعين وجودها الاعتباري؟ والذي يدل على ذلك هو أن مثل هذه الاعتباريات متداولة عند من لم يلتزم بشرع وشريعة كالدهري والطبيعي مع أنه ليس عنده إلزام وتكليف يصح انتزاع هذه الأمور منه.
ص: 387
فالتحقيق : أن الاعتباريات العرفية ليست من المنتزعات ، بل هي متأصلة بالجعل قد أمضاها الشارع ، والتكليف إنما ينتزع منها ، وقد استقصينا الكلام في ذلك في باب الامارات.
قد تقدم منا مرارا : أن المجعولات الشرعية ليست من القضايا الشخصية الخارجية ، بل هي من القضايا الكلية الحقيقية التي يفرض فيها وجود الموضوعات في ترتب المحمولات عليها (1) وهذا من غير فرق بين الأحكام التكليفية التأسيسية وبين الأحكام الوضعية الامضائية ، غايته أن موضوعات التكاليف إنما تكون من المخترعات الشرعية كنفس التكاليف ، فان العاقل البالغ المستطيع لا يكاد يكون موضوعا لوجوب الحج ما لم يجعله الشارع موضوعا ليترتب عليه وجوب الحج.
وأما موضوعات الأحكام الوضعية : فقد تكون تأسيسية ، وقد تكون إمضائية كنفس الحكم الوضعي.
فالأول : كأخذ السيادة والفقر موضوعا لتملك السادات والفقراء الخمس والزكاة ، فإنه لو لم يعتبر الشارع ذلك لا تكاد تكون السيادة والفقر موضوعا للتملك.
والثاني : كالعقد والسبق والرماية وحيازة المباحات ونحو ذلك من الموضوعات والأسباب العرفية للملكية ونحوها من الاعتباريات ، فان السبب الشرعي للملكية في هذه الأمور هو السبب العرفي ، غايته أن الشارع تصرف فيه بزيادة قيد أو نقصانه ، وليست ماهية السبب من المخترعات الشرعية. وعلى
ص: 388
جميع التقادير : المجعول الشرعي تأسيسا أو إمضاء إنما هو معنى كلي مترتب على موضوعه ، نحو ترتب المعلول على علته والعرض على معروضه ،
ثم لا يخفى عليك : أن مرجع الموضوع والسبب والشرط في باب التكاليف وفي باب الوضعيات إلى معنى واحد ، وهو الامر الذي رتب الحكم الشرعي عليه ، فقد يعبر عنه بالموضوع وأخرى يعبر عنه بالسبب ، كما أنه قد يعبر عنه بالشرط ، فيصح أن يقال : إن العقد الكذائي موضوع للملكية أو سبب أو شرط لها ، وكذا يصح أن يقال : إن الدلوك مثلا موضوع لوجوب الصلاة أو شرط لها أو سبب ، فان مرجع الجميع إلى أن الشارع رتب الملكية ووجوب الصلاة على العقد ودلوك الشمس.
نعم : جرى الاصطلاح على التعبير عن الامر الذي رتب الحكم الوضعي عليه بالسبب فيقال : إن العقد سبب للملكية والزوجية ، والتعبير عن الامر الذي رتب الحكم التكليفي عليه بالموضوع أو الشرط فيقال : إن العاقل البالغ المستطيع موضوع لوجوب الحج أو إن الدلوك شرط لوجوب الصلاة ، وهذا مجرد اصطلاح ، وإلا فبحسب النتيجة كل من الموضوع والشرط والسبب يرجع إلى الآخر ، وذلك واضح.
قد تقدم منا أيضا في مبحث الأوامر : أن شرائط الجعل غير شرائط المجعول (1) فان شرائط المجعول - على ما عرفت - عبارة عن موضوعات التكاليف
ص: 389
والوضعيات ، كالعاقل البالغ المستطيع الذي اخذ موضوعا لوجوب الحج وكالعقد المركب من الايجاب والقبول الذي جعل موضوعا للملكية والزوجية.
وأما شرائط الجعل : فهي عبارة عن الدواعي والملاكات النفس الأمرية
ص: 390
التي تقتضي الجعل والتشريع ، والفرق بينهما مما لا يكاد يخفى ، فان شرائط الجعل إنما تكون من الأمور الخارجية التكوينية التي لا تكاد تنالها يد الجعل والتشريع ، وهي إنما تؤثر في الجعل بوجودها العلمي لا بوجودها الواقعي ، لان وجودها الواقعي متأخر عن الجعل والمجعول ، فان الدواعي عبارة عن العلل الغائية المترتبة على وجود الشيء خارجا ، فلا يمكن أن يكون وجودها الخارجي علة للجعل ، بل العلة للجعل هي وجودها العلمي ، ومن غير فرق بين إرادة الآمر وإرادة الفاعل ، فان انقداح إرادة الامر أو الفعل تتوقف علين العلم بترتب الغاية على المأمور به وعلى الفعل ، سواء وافق العلم للواقع أولا ، بداهة أن العلم بوجود الأسد في الطريق يوجب الفرار عنه ، كان في الطريق أسد أو لم يكن ، هذا حال شرائط الجعل.
وأما شرائط المجعول : فهي بوجودها الخارجي تؤثر في تحقق المجعول وترتبه عليه ، ولا أثر لوجودها العلمي ، فان نسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلة إلى المعلول ، وإن لم تكن من العلة والمعلول حقيقة ، وإلا أنه من حيث عدم تخلف الحكم عن موضوعه يلحق بباب العلة والمعلول ، فإنه بعدما رتب الحكم على شيء واخذ مفروض الوجود في ثبوت الحكم وتحققه لا يحاد يمكن تخلف الحكم عن ذلك الشيء ، بأن يوجد الحكم قبل وجوده أو بعد وجوده بزمان ، وإلا يلزم الخلف وأن ما فرض كونه موضوعا لم يكن موضوعا.
ومن هنا يظهر : أن ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره في باب الشرط المتأخر : من أن الشرط هو اللحاظ والوجود العلمي المتقدم على المشروط فلا يلزم انخرام قاعدة تقدم الشرط على المشروط ، إنما هو خلط بين شرائط الجعل وبين شرائط المجعول ، فان اللحاظ والوجود العلمي إنما ينفع في شرط الجعل ، والمبحوث عنه في باب الشرط المتأخر إنما هو تأخر شرط المجعول الذي اخذ شرطا بوجوده الخارجي. وهذا من أحد المواقع التي وقع الخلط فيها بين شرائط الجعل
ص: 391
وشرائط المجعول ، وقد أشرنا في مبحث الأوامر إلى جملة منها ، وسيأتي في المقام أيضا الإشارة إلى بعضها.
أن الأحكام الوضعية ، منها : ما تكون متأصلة بالجعل ، ومنها : ما تكون منتزعة عن الوضع أو التكليف الشرعي.
أما الأولى : فكالأمور الاعتبارية العرفية ، كالملكية والرقية والزوجية والضمان وغير ذلك منشآت العقود والايقاعات وما يلحق بها ، فإنها - على ما تقدمت - متأصلة في وعاء الاعتبار وليست منتزعة عن الأحكام التكليفية ، بل في بعضها لا يتصور ما يصلح لان يكون منشأ الانتزاع ، كالحجية والطريقية ، وقد تقدم تفصيل ذلك في جعل الطرق والامارات.
وأما الثانية : فكالجزئية والشرطية والمانعية والسببية (1) فان هذه الأمور
ص: 392
كلها انتزاعية لا تنالها يد الجعل التأسيسي والامضائي ، لا استقلالا كجعل وجوب ذي المقدمة ، ولا تبعا كجعل وجوب المقدمة.
أما الجزئية والشرطية والمانعية : فواضح أنها من الانتزاعيات ، سواء كان منشأ الانتزاع تكليفا أو وضعا.
فالأول : كالتكليف بعدة من الأمور المتباينة التي يجمعها وحدة الغرض ، فإنه من تعلق التكليف بكل واحد منها وانبساطه عليها تنتزع الجزئية والشرطية والمانعية حسب اختلاف كيفية تعلق التكليف بها ، وبعد انبساط التكليف عليها تنتزع الشرطية والجزئية والمانعية قهرا ، ولا يعقل بعد ذلك جعل شيء آخر جزء أو شرطا للمأمور به أو مانعا عنه ، إلا بنسخ التكليف الأول وإنشاء تكليف آخر يتعلق بما يعم ذلك الشئ.
والثاني : كالملكية المترتبة على العقد المركب من الايجاب والقبول بما له من الشرائط والموانع فإنه بعد ترتب الملكية عليه تنتزع جزئية الايجاب والقبول ، وشرطية القبض في المجلس في بيع الصرف والسلم ، ومانعية زيادة أحد العوضين عن الآخر في بيع المكيل والموزون ، وذلك كله واضح مما لا إشكال فيه ولا خلاف.
وإنما الخلاف وقع في جعل السببية ، فعن بعض : أن السببية بنفسها مما
ص: 393
تنالها يد الجعل ، بل هي المجعولة في باب الوضع والتكاليف وإنما الوضع والتكليف ينتزع عنها ، والمجعول الشرعي تأسيسا أو إمضاء إنما هو سببية العقد للملكية وسببية الدلوك لوجوب الصلاة والاستطاعة لوجوب الحج وغير ذلك من أسباب الوضع وموضوعات التكاليف.
وحكي عن بعض : استقلال كل من السبب والمسبب بالجعل ، فللشارع جعلان : جعل تعلق بسببية العقد والدلوك للملكية ووجوب الصلاة ، وجعل آخر تعلق بالملكية والوجوب عقيب العقد والدلوك. ولا يخفى استحالة ذلك ، فان أحد الجعلين يغني عن الجعل الآخر ، فيلزم لغوية أحدهما.
بل التحقيق استحالة جعل السببية مطلقا سواء قلنا بجعل المسبب معها أو لم نقل ، وإنما المجعول الشرعي هو نفس المسبب وترتبه على سببه سواء كان المجعول من مقولة الوضع أو التكليف ، وإلا يلزم أن لا يكون الوجوب فعلا اختياريا للشارع بل كان الوجوب وغيره من التكاليف والوضعيات يحصل قهرا بلا إنشاء من الشارع ، فان ترتب المسبب على سببه وحصول المعلول عقيب علته أمر قهري لا يعقل فيه التخلف ولا يمكن أن يدخله الاختيار والإرادة ، فلو كان المجعول هو سببية الدلوك للوجوب لزم عدم كون الوجوب من المنشآت الشرعية ، وهو كما ترى مما لا يمكن الالتزام به.
هذا ، مضافا إلى أن السببية لا تقبل الجعل لا تكوينا ولا تشريعا لا أصالة ولا تبعا ، بل الذي يقبل الجعل هو ذات السبب ووجوده العيني ، وأما السببية فهي من لوازم ذاته ، كزوجية الأربعة ، فان السببية عبارة عن الرشح والإفاضة القائمة بذات السبب التي تقتضي وجود المسبب ، وهذا الرشح والإفاضة من لوازم الذات لا يمكن أن تنالها يد الجعل التكويني فضلا عن الجعل التشريعي ، بل هي كسائر لوازم الماهية تكوينها إنما يكون بتكوين الماهية وإفاضة الوجود إلى الذات ، فعلية العلة وسببية السبب - كوجوب الواجب
ص: 394
وإمكان الممكن وامتناع - الممتنع إنما تكون من خارج المحمول تنتزع عن مقام الذات ليس لها ما بحذاء لا في وعاء العين ولا في وعاء الاعتبار ، فالعلية لا تقبل الايجاد التكويني ، فضلا عن الانشاء التشريعي.
ودعوى : أن الانشاء خفيف المؤنة يمكن إنشاء الممتنعات ، واضحة الفساد ، فإنه ليس الكلام في الانشاء بمعنى حركة اللسان ، بل الكلام في الانشاء الذي يتعقبه وجود المنشأ خارجا في وعاء الاعتبار والتشريع.
وحاصل الكلام : أن السببية لا يمكن أن تكون مجعولة لا تكوينا ولا تشريعا لا أصالة ولا تبعا ، وإنما هي تنتزع من ذات العلة التكوينية في التكوينات ، ومن ترتب المسبب الشرعي على سببه في التشريعيات ، فمن قول الشارع : « تجب الصلاة عند الدلوك » و « تتحقق الملكية عند العقد » تنتزع سببية الدلوك والعقد للوجوب والملكية.
للمحقق الخراساني قدس سره كلام في المقام يظهر منه الخلط بين علل التشريع وموضوعات الاحكام ، فإنه قال قدس سره ما حاصله : إن السببية لا يمكن انتزاعها عن التكليف أو الوضع ، فإنهما متأخران عن وجود السبب بما له من الاجزاء والشرائط والموانع ، بداهة أنه لولا العقد أو الدلوك لا يكاد يتحقق وجوب الصلاة أو الملكية ، لأن المفروض : أن العقد والدلوك سبب لهما ولا يمكن تقدم المسبب على السبب ، فالتكليف أو الوضع المتأخر عن وجوب السبب لا يعقل أن يكون منشأ لانتزاع السببية ، فسببية العقد للملك والدلوك لوجوب الصلاة إنما تنتزع من ذات العقد والدلوك لخصوصية تكوينية في الذات تقتضي السببية ، لما بين السبب والمسبب من ارتباط خاص وعلقة مخصوصة ، وإلا لزم أن يؤثر كل شيء في كل شيء ، فليست السببية مما تنالها يد التشريع
ص: 395
لا استقلالا ولا تبعا ، أي لا تكون بنفسها من المجعولات الشرعية ولا منتزعة عن المجعول الشرعي ، بل هي مجعولة تكوينا بتبع جعل الذات ، وكذا جزء السبب وشرطه ومانعه ، فان جزئية شيء للسبب أو شرطيته أو مانعيته تتبع نفس المركب. نعم : جزئية شيء لمتعلق التكليف أو شرطيته أو مانعيته إنما تنتزع من تعلق التكليف بعدة أمور متباينة بالذات يقوم بها غرض واحد ، ففرق بين الجزئية والشرطية والمانعية في باب متعلقات التكاليف وفي باب الأسباب بعد اشتراك الجميع في كونها غير مجعولة بالأصالة ، إلا أنها في الأول تنتزع من تشريع التكليف بالمركب ، وفي الثاني تنتزع من تكوين السبب المركب. هذا حاصل ما أفاده قدس سره في المقام.
ولا يخفى ضعفه ، فإنه لا ننكر أن في الدلوك والعقد خصوصية ذاتية تكوينية اقتضت تشريع الوجوب وإمضاء الملكية ، إلا أن تلك الخصوصية إنما تكون سببا لنفس التشريع والامضاء لان لا يخلو التشريع والامضاء عن الداعي الذي يتوقف عليه كل فعل اختياري ، ولكن هذا ليس محل الكلام في المقام (1) بل
ص: 396
محل الكلام إنما هو في سبب المجعول والممضى وهو نفس الوجوب والملكية ، ومن المعلوم : أن سببية الدلوك والعقد للوجوب والملكية إنما تنتزع من ترتب الوجوب والملكية على الدلوك والعقد ، إذ لولا أخذ الدلوك والعقد موضوعا للوجوب والملكية لم يكن الدلوك والعقد سببا لهما.
وبالجملة : دواعي الجعل غير موضوعات التكاليف ، فان دواعي الجعل متأخرة في الوجود عن المجعول متقدمة عنه في اللحاظ.
وأما موضوعات التكاليف : فهي متقدمة عنها في الوجود ، لان نسبة الموضوع إلى التكليف نسبة العلة إلى المعلول ، ولا يمكن أن يتقدم الحكم عما اخذ موضوعا له ، وإلا يلزم الخلف والمناقضة ، فالخصوصية التي تكون في موضوع التكليف والوضع إنما تكون من علل التشريع ودواعي الجعل ، وهي كما أفاده من الأمور الواقعية التكوينية التي لا تنالها يد الجعل التشريعي لا استقلالا ولا إمضاء ، لا أصالة ولا تبعا ، ولا يمكن انتزاعها عن التكليف الذي كان انشائه بلحاظها ، إلا أن ذلك كله خارج عن محل الكلام ، لما عرفت : من أن محل الكلام إنما هو في موضوع التكليف والوضع ، وسببيته إنما تنتزع من ترتب التكليف والوضع عليه.
وهذا من أحد المواقع التي وقع الخلط فيها بين علل التشريع وموضوعات التكاليف وبين كون المجعولات الشرعية من القضايا الخارجية الجزئية أو كونها من القضايا الحقيقة الكلية ، فإنه بناء على أن تكون الاحكام من القضايا الشخصية تخرج عن حريم النزاع في المقام ، فإنه ليس في البين سببية ولا مسببية ، بل المجعول الشرعي إنما يكون حكما خاصا لشخص خاص ، فليس هناك موضوع اخذ مفروض الوجود في ترتب الحكم عليه حتى ينازع في أن المجعول الشرعي هل هو نفس الحكم أو سببية الموضوع له؟ وقد استقصينا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في الجزء الأول من الكتاب عند البحث عن
ص: 397
الواجب المشروط ، فراجع وتأمل جيدا.
قد عد من الأحكام الوضعية الصحة والفساد ، والطهارة والنجاسة ، والرخصة والعزيمة.
أما الصحة والفساد : فعدهما من الأحكام الوضعية إنما يستقيم على أحد المعنيين للصحة والفساد لا مطلقا. وتوضيح ذلك : هو أنه
تارة : يراد من الصحيح كون الشيء واجدا للخصوصية التي ينبغي أن يكون واجدا لها بحسب طبعه (1) كما يقال : إن هذا البطيخ أو الخل صحيح ، أي كون واجدا للخصوصية التي يقتضيها طبع البطيخ والخل ، ويقابله الفاسد وهو الفاقد لتلك الخصوصية. وكذا يقال : إن هذه الصلاة صحيحة ، أي كونها واجدة للخصوصية التي ينبغي أن تكون الصلاة واجدة لها : من الملاك والمصلحة القائمة بها ، ويقابلها الفاسدة وهي كون الصلاة فاقدة لتلك الخصوصية.
والصحة والفساد بهذا المعنى إنما ينتزعان عن مقام الذات قبل تعلق الامر بها ، وتكون تلك الخصوصية منشأ لتعلق الامر بالذات ، كالخصوصية القائمة
ص: 398
بذات السبب ، وعلى هذا تكون الصحة من الدواعي وعلل التشريع غير منتزعة عن التكليف المتأخر عنها. ولعل المراد من الفاسد في قوله علیه السلام في صحيحة ابن بكير « فالصلاة في شعره ووبره وصوفه وروثه وألبانه وكل شيء منه فاسدة لا يقبل اللّه تلك الصلاة » الخبر (1) هو هذا المعنى ، فيكون المراد من فساد الصلاة : هو أن الصلاة في الوبر والصوف ونحوه لا تكون واجدة للخصوصية التي ينبغي أن تكون عليها وفاقدة للملاك والمصلحة التي اقتضت الامر بالصلاة. وعلى كل حال : الصحة والفساد بهذا المعنى ليسا من الأحكام الوضعية الشرعية ، بل هما من الأمور المجعولة بتبع جعل الذات تكوينا.
وأخرى : يراد من الصحيح كون الشيء موافقا لما تعلق به التكليف أو الاعتبار ، فيقال : إن هذه الصلاة صحيحة أي كونها موافقة للمأمور به ، وهذا العقد صحيح أي كونه موافقا لما اعتبر في موضوع الملكية ، ويقابله الفاسد وهو عدم كونه موافقا للمأمور به أو لموضوع الامر الاعتباري. وهذا المعنى من الصحة والفساد هو الذي ينبغي البحث عنه في كونه من الأحكام الوضعية الشرعية أولا.
وعلى تقدير أن يكون من الأحكام الوضعية ، فهل هو متأصل بالجعل تأسيسا أو إمضاء؟ أو أنه منتزع عن الوضع والتكليف؟ فقد يقال بل قيل : بالتفصيل بين الصحة والفساد في باب المعاملات وفي باب العبادات ، ففي الأول : تكون الصحة والفساد حكمين مجعولين شرعيين ، وفي الثاني : يكونان منتزعين. بل قد قيل : بالتفصيل في خصوص العبادات أيضا ، فالصحة والفساد اللاحقان للعبادة باعتبار الامر الواقعي - أي كونها موافقة للامر الواقعي ومخالفة له - يكونان انتزاعيين ، والصحة والفساد اللاحقان لها باعتبار الامر الظاهري
ص: 399
- من حيث كونه مجزيا عن الواقع أو غير مجز - يكونان متأصلين في الجعل.
وهذا التفصيل إنما نشأ من توهم أن إجزاء الامر الظاهري وعدمه عبارة عن الصحة والفساد ، كما أن التفصيل بين العبادات والمعاملات إنما نشأ من توهم أن إمضاء المعاملة عبارة عن الحكم بصحتها.
هذا ، ولكن التحقيق : أن الصحة والفساد ليسا من الأحكام الوضعية المتأصلة بالجعل ، بل في بعض الموارد يمكن منع كونهما منتزعين عن المجعول الشرعي ، فضلا عن تأصلهما بالجعل.
وتوضيح ذلك : هو أن الصحة والفساد - بمعنى مطابقة المأتي به للمأمور به الواقعي أو الظاهري - إنما ينتزعان من نفس فعل المكلف ، فان كان مطابقا للمأمور به ينتزع عنه الصحة ، وإن كان مخالفا ينتزع عنه الفساد ، ولا ينتزعان من نفس التكليف بالفعل حتى يكون منشأ الانتزاع مجعولا شرعيا ، وكذا الكلام في الصحة والفساد بمعنى مطابقة المأتي به خارجا لما هو سبب الحكم الوضعي : من العقد والايقاع وما يلحق بهما.
نعم : يصح بنحو من العناية والتوسعة القول بكونهما منتزعين عن المجعول الشرعي ، باعتبار أن المطابقة وعدمها إنما تلاحظان بالنسبة إلى متعلق التكليف والوضع.
وأما الصحة والفساد في الامر الظاهري باعتبار الاجزاء وعدمه : فليس الاجزاء وعدمه عبارة عن الصحة والفساد ، بل قد عرفت في بعض الأمور السابقة : أن الاجزاء في الموارد التي قام الدليل عليه يرجع إما إلى التصرف في الواقع بوجه وإما إلى الاكتفاء بما يقع امتثالا للواقع ، وعلى كلا التقديرين : يلزمه الصحة ، وليست هي عين المجعول الشرعي ، فالصحة والفساد ليسا من المجعولات بالأصالة ، بل إما أن يكونا منتزعين عن المجعول الشرعي ، وإما أن يكونا منتزعين عن غيره ، وقد تقدم بعض الكلام في ذلك في مبحث النهي عن
ص: 400
العبادة في الجزء الثاني من الكتاب.
وأما الطهارة والنجاسة : فقد جعلهما الشيخ قدس سره من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع جريا على مبناه : من أن الأحكام الوضعية لا تنالها يد الجعل الشرعي ، فهي بين ما تكون منتزعة عن التكليف كالملكية والزوجية ونحو ذلك ، وبين ما تكون من الأمور الواقعية كالطهارة والنجاسة.
ويا ليت! بين مراده من ذلك ، فإنه إن كان المقصود أن حكم الشارع بطهارة بعض الأشياء ونجاسة آخر إنما هو لأجل اشتمال الطاهر والنجس على النظافة والقذارة المعنوية ، فهذا لا يختص بباب الطهارة والنجاسة ، بل جميع موضوعات التكاليف ومتعلقات الأحكام الشرعية تشتمل على خصوصية واقعية حكم الشارع على طبقها ، فان الواجبات الشرعية كلها ألطاف في الواجبات العقلية. وإن كان المقصود أن أصل الطهارة والنجاسة من الأمور الواقعية الخارجية ، فهذا مما لا سبيل إلى دعواه ، بداهة أن الطهارة والنجاسة بمعنى النظافة والقذارة من الأمور الاعتبارية العرفية (1) لا يخفى ما في العبارة من الخلط، و الصحيح «بادّعاء ما يراه العرف طاهرا في مورد نجسا» (المصحّح).(2) كما يشاهد أن العرف والعقلاء يستقذرون عن بعض الأشياء ولا يستقذرون عن بعضها ، غايته أن
ص: 401
الشارع قد أضاف إلى ما بيد العرف بعض المصاديق - كنجاسة الخمر - مع أنه مما لا يستقذر منه العرف ، إلا أن هذا لا يقتضي عدم كون الطهارة والنجاسة من الأمور الاعتبارية العرفية ، فان الشارع كثيرا ما يخطئ العرف في المصداق مع كون المفهوم عرفيا.
وبالجملة : بعد لم يظهر لنا فرق بين الطهارة والنجاسة وبين الملكية والزوجية ، فان في باب الطهارة والنجاسة أمور ثلاثة : الأول : مفهوم الطهارة والنجاسة. الثاني : ما ينطبق عليه المفهوم وما هو المعروض للطهارة والنجاسة ، كالمؤمن والكافر والبول والماء. الثالث : حكم الشارع بجواز استعمال الطاهر وحرمة استعمال النجس (1).
أما الأول : فهو كسائر المفاهيم العرفية والاعتبارات العقلائية ، كالملكية والزوجية والرقية.
وأما الثاني : فهو عبارة عن المصداق الذي ينطبق عليه المفهوم ، كمصاديق الملكية والزوجية ، غايته أن تطبيق المفهوم على المصداق تارة : مما يدركه العرف ، وأخرى لا يدركه إلا العالم بالواقعيات ، كما إذا لم يدرك العرف أن العقد الكذائي يكون سببا للملكية ، إلا أن الشارع يرى تحقق الملكية عقيب العقد ، فتكون الملكية الحاصلة عقيب ذلك العقد من مصاديق الملكية الاعتبارية العرفية.
وأما الثالث : فحكم الشارع بجواز استعمال الطاهر وحرمة استعمال النجس ليس إلا كحكمه بجواز التصرف في الملك وحرمة أكل المال بالباطل.
فظهر : أنه لا فرق بين الطهارة والنجاسة وبين سائر الاعتبارات العرفية. فالأقوى : أن الطهارة والنجاسة من الأحكام الوضعية وليسا من الأمور
ص: 402
الواقعية (1).
وأما الرخصة والعزيمة : فعدهما من الأحكام الوضعية لا يخلو عن خفاء ، فان الرخصة والعزيمة - بمعنى السقوط على وجه التسهيل والسقوط على وجه الحتم والالزام كما هو الشايع في الاستعمال ، أو بمعنى المشروعية وعدم المشروعية كما حكي استعمال الرخصة والعزيمة في ذلك نادرا - ليسا من الأحكام الوضعية ، بل هما أمس إلى الأحكام التكليفية من الأحكام الوضعية.
هذا تمام الكلام فيما يتعلق بالأحكام الوضعية. وينبغي عطف عنان الكلام إلى البحث عن تنبيهات الاستصحاب. وقدت ذكر الشيخ قدس سره من التنبيهات اثنى عشر فأضاف إليها المحقق الخراساني رحمه اللّه تنبيهين آخرين ، فصارت التنبيهات أربعة عشر.
هو أنه يعتبر في الاستصحاب فعلية الشك ، وقد تقدم الكلام في ذلك فيما سبق ، فلا موجب لإعادته.
لا فرق في جريان الاستصحاب بين أن يكون المستصحب محرزا باليقين الوجداني أو بغيره من الطرق والامارات والأصول المحرزة ، فان المراد من « اليقين » في أخبار الاستصحاب ليس هو اليقين الوجداني ، بل كل ما يكون محرزا للمستصحب بأحد وجوه الاحراز : من اليقين الوجداني أو ما هو
ص: 403
بمنزلته (1) بناء على ما هو الحق عندنا : من قيام الطرق والأصول المحرزة مقام القطع الطريقي.
ولا ينبغي أن يتوهم أن اليقين في قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » لوحظ من حيث كونه صفة قائمة في النفس ، بل إما أن يكون ملحوظا من حيث كونه طريقا وكاشفا عن المتيقن ، وإما من حيث كونه موجبا لتنجيز الاحكام عند المصادفة والمعذورية عند المخالفة - على ما تقدم سابقا من أنه يمكن أخذ العلم موضوعا من حيث اقتضائه التنجيز والمعذورية - فعلى الأول : تقوم الطرق والأصول المحرزة مقامه ، وعلى الثاني : تقوم مطلق الأصول ولو كانت غير محرزة مقامه (2) بالبيان المتقدم في بعض الأمور السابقة.
فلو قام طريق أو أمارة على ثبوت حكم أو موضوع ذي حكم ثم شك في بقاء الحكم أو الموضوع الذي أدت إليه الامارة والطريق ، فلا مانع من استصحاب بقاء مؤدى الامارة والطريق ، لان المستصحب قد أحرز بقيام الامارة عليه ، خصوصا بناء على ما هو الحق عندنا : من أن المجعول في باب الطرق والامارات هو نفس الطريقية والاحراز والوسطية في الاثبات - على ما تقدم بيانه في مبحث الظن - فيكون المستصحب محرزا بأدلة حجية الامارات ، وهذا مما لا ينبغي الاشكال فيه.
نعم : ربما يستشكل في استصحاب مؤدى الاستصحاب ( أي استصحاب
ص: 404
ما كان محرزا بالاستصحاب ) إذا شك في بقاء المستصحب ، كما إذا كان الشيء مستصحب الطهارة أو النجاسة ثم شك في بقاء الطهارة أو النجاسة ، ففي جريان استصحاب الطهارة أو النجاسة المستصحبة إشكال.
وأشكل من ذلك استصحاب مؤدى الأصول الغير المحرزة ، بناء على كون « اليقين » مأخوذا على وجه التنجيز والمعذورية ، لكي تقوم الأصول الغير المحرزة مقامه ، كما إذا كانت طهارة الشيء أو حليته أو حرمته مؤدى أصالة الطهارة والحل والحرمة ثم شك في بقاء مؤدى هذه الأصول لاحتمال طرو ما يوجب النجاسة والحرمة والحلية ، فاستصحاب بقاء مؤدى هذه الأصول أشكل من استصحاب بقاء مؤدى الاستصحاب.
ومنشأ الإشكال : هو أن المجعول في الأصول المحرزة وغير المحرزة بنفسه يستمر إلى انكشاف الخلاف والعلم بضد المؤدى أو نقيضه ، فان العلم بالخلاف إنما اخذ غاية لمطلق الأصول ، فالشك في بقاء مؤدى الأصل قد ألغاه الشارع بنفس التعبد بالأصل ولا معنى لاستصحابه.
وبعبارة أوضح : استصحاب الحكم أو الموضوع يقتضي الجري العملي وترتيب آثار بقاء الحكم أو الموضوع إلى زمان العلم بالخلاف ، فإذا استصحب الحكم أو الموضوع في زمان ثم شك في بقاء الحكم أو الموضوع المستصحب ، فالتعبد ببقاء المستصحب في زمان الشك قد ثبت من الزمان السابق وهو زمان جريان الاستصحاب ، لان الحكم الاستصحابي كان غايته العلم بانتقاض الحالة السابقة ، فلا معنى للتعبد باستصحاب بقاء المستصحب ثانيا.
وإن شئت قلت : إنه في كل آن يشك في بقاء الحكم أو الموضوع يجري استصحاب بقاء نفس الحكم أو الموضوع ، وهذا غير استصحاب المستصحب. هذا في استصحاب مؤدى الاستصحاب.
وأما استصحاب مؤدى الأصول الغير المحرزة : فعدم جريان الاستصحاب فيه
ص: 405
أوضح ، فان مؤدى أصالة الطهارة والحل والحرمة ليس إلا البناء على طهارة الشيء وحليته وحرمته مع الشك فيها ، وهذا المعنى لا يمكن استصحابه ، فإنه إن أريد استصحاب الطهارة والحلية والحرمة الواقعية فهي ليست مؤدى هذه الأصول ، لأنها لا تثبت المؤدى واقعا. وإن أريد استصحاب الطهارة الظاهرية فموضوعها نفس الشك في الطهارة ولا يمكن استصحاب الأثر المترتب على نفس الشك ، فإنه لا معنى لاحراز ما هو محرز بالوجدان أو بالتعبد. وإن شئت قلت أيضا : إنه في كل زمان يشك في الطهارة والحلية والحرمة فأصالة الطهارة والحل والحرمة تجري ولا تصل النوبة إلى استصحابها ، وهذا لا ينافي حكومة الاستصحاب على هذه الأصول ، فان حكومة الاستصحاب فرع جريانه ، والمدعى في المقام أنه لا يجري لأنه لا أثر له.
هذا ، ولكن مع ذلك يمكن أن يقال : بجريان الاستصحاب في مؤديات الأصول كجريانه في مؤديات الطرق والامارات ، بتقريب : أن الاستصحاب إنما هو الحكم بعدم انتقاض ما ثبت بالشك في بقائه ، سواء كان ثبوته بالعلم أو بالامارة أو بالأصل.
وعلى كل حال : لو فرض أنه منعنا عن جريان الاستصحاب في مؤديات الأصول ، فليس ذلك لأجل عدم اليقين بثبوت المستصحب ، لما عرفت : من أن المراد من « اليقين » هو مطلق الاحراز ، بل مطلق ما يوجب التنجيز والمعذورية ، سواء كان الموجب لذلك هو العلم الوجداني أو الامارة أو الأصل ، لاشتراك الجميع في أنها توجب الاحراز وتقتضي التنجيز والمعذورية ، فالمنع عن جريان الاستصحاب في مؤديات الأصول إنما هو لجهة أخرى غير جهة عدم اليقين بثبوت المستصحب ، فلو استشكل في جريان الاستصحاب في مؤديات الأصول ، فلا ينبغي الاشكال في جريانه في مؤديات الطرق والامارات ، لان ثبوت الشيء بالامارة كثبوته بالعلم قابل للتعبد ببقائه عند الشك ، فيندرج في قوله
ص: 406
علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » وذلك واضح لا مجال للتأمل فيه.
للمحقق الخراساني قدس سره كلام في هذا المقام ، هو بمكان من الغرابة!! فإنه قال قدس سره « الثاني : أنه هل يكفي في صحة الاستصحاب الشك في بقاء الشيء على تقدير ثبوته وإن لم يحرز ثبوته فيما رتب عليه أثر شرعا أو عقلا؟ إشكال ، من عدم إحراز الثبوت فلا يقين ولابد منه بل ولا شك فإنه على تقدير لم يثبت ، ومن أن اعتبار » إلى أن قال : « وهذا هو الأظهر وبه يمكن أن يذب عما في استصحاب الاحكام التي قامت الامارات المعتبرة على مجرد ثبوتها وقد شك في بقاءها على تقدير ثبوتها من الاشكال » إلى آخر ما أفاده.
وغرضه من عقد النبيه الثاني هو دفع ما تخيله من الاشكال في استصحاب مؤديات الطرق والامارات : من أن قيام الامارة على شيء لا يوجب اليقين بثبوته ، فكيف يجري الاستصحاب عند الشك في بقائه؟ مع أنه يعتبر في الاستصحاب اليقين بالثبوت ، بل يمكن أن يقال : إن الشك في البقاء أيضا لا يتحقق في مؤديات الطرق والامارات ، فان الشك في البقاء فرع العلم بالثبوت ، فالشك في البقاء يكون تقديريا لا فعليا ، فيختل كلا ركني الاستصحاب : من اليقين السابق والشك اللاحق. وقد بنى هذا الاشكال على ما هو التحقيق عنده : من أن المجعول في باب الطرق والامارات نفس التنجيز والعذر بلا إنشاء حكم على طبق المؤدى.
هذا حاصل ما أفاده في الكفاية ، وله قدس سره حاشية في هذا المقام يوجه بها جريان الاستصحاب إذا قلنا بانشاء أحكام فعلية ظاهرية على طبق مؤديات الطرق والامارات ، وقد نسب ذلك إلى المشهور ، واستظهره من قولهم : « إن ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم » فراجع ما ذكره في الحاشية.
ص: 407
ثم إنه دفع الاشكال بما حاصله ( بتحرير منا ) أن الاستصحاب لا يتوقف على ثبوت المستصحب ، بل يكفي في الاستصحاب الشك في البقاء على تقدير الثبوت ، بمعنى أن الاستصحاب إنما هو حكم مجعول في مرحلة بقاء الشيء لا في مرحلة الثبوت ، ولذا لو لم يكن لثبوت الشيء أثر شرعي وكان لبقائه أثر شرعي فالاستصحاب يجري ويترتب عليه آثار البقاء ، فحقيقة الاستصحاب إنما هو التعبد بالبقاء على تقدير الثبوت ، أي جعل الملازمة الظاهرية بين ثبوت الشيء وبقائه ، وجعل الملازمة لا يتوقف على ثبوت المتلازمين ، فلا مانع من التعبد ببقاء الشيء على تقدير الثبوت ، وحينئذ قيام الامارة على ثبوت شيء وإن لم يلازم الثبوت ولا إحرازه - لاحتمال مخالفة الامارة للواقع - إلا أن بقاء مؤدى الامارة على تقدير الثبوت ومصادفتها للواقع قابل للتعبد به (1) فيجب
ص: 408
ترتيب آثار البقاء بمقتضى الاستصحاب ، كما وجب ترتيب آثار الثبوت بقيام الامارة عليه.
هذا حاصل ما أفاده في الذب عن الاشكال المتوهم في استصحاب مؤديات الطرق والامارات.
ولكن قد عرفت : أنه لا إشكال حتى نحتاج إلى الذب عنه (1) فان منشأ الاشكال هو تخيل عدم قيام الطرق والامارات مقام القطع الطريقي ، بتوهم : أن المجعول فيها نفس المنجزية والمعذورية لا الاحراز والوسطية في الاثبات ، وقد أثبتنا في محله : أنه لا يعقل جعل التنجيز والمعذورية ، بل التنجيز والمعذورية تدور مدار وصول التكاليف وعدمها ، فإذا كان التكليف واصلا إلى المكلف إما بنفسه وإما بطريقه فلا يمكن أن لا يكون منجزا ، وإن لم يكن واصلا فلا يمكن أن لا يكون المكلف معذورا ، فالتنجيز والمعذورية مما لا تنالها يد الجعل الشرعي ، بل هي من اللوازم والخواص العقلية المترتبة على وصول التكليف وعدمه ، فالطرق والامارات إنما توجب التنجيز والمعذورية لمكان أنها توجب وصول التكاليف ، فان المجعول فيها هو الاحراز والوسطية في الاثبات - على ما أوضحناه بمالا مزيد عليه في محله - فتكون حال الامارات حال العلم في صورة المصادفة والمخالفة ، وحينئذ يكون المؤدى محرزا ويجري فيه الاستصحاب عند الشك في بقائه كما لو كان محرزا بالعلم الوجداني ، بلا إشكال فيه أصلا.
ص: 409
نعم : بناء على مسلكه : من عدم قيام الطرق والامارات مقام القطع الطريقي يتوجه إشكال جريان الاستصحاب في مؤديات الطرق والامارات ، فان المؤدى لا يكون محرزا ، فكيف يجري فيه الاستصحاب؟.
ولا يخفى : أنه على هذا لا يمكن الذب عن الاشكال ، بل لا محيص عن القول بعدم جريان الاستصحاب فيما إذا لم يكن المستصحب محرزا بالوجدان ، وما دفع به الاشكال لا يحسم مادته ، بداهة أن حقيقة الاستصحاب وإن كان هو التعبد بالبقاء ، إلا أن التعبد إنما هو ببقاء ما ثبت عند الشك فيه ، ولا معنى للتعبد بالبقاء على تقدير الثبوت (1) فان الملازمة كالسببية مما لا تنالها يد الجعل الشرعي ، بل الذي يقبل الجعل الشرعي هو التعبد بوجود شيء على تقدير آخر ، فينتزع من ذلك السببية والملازمة.
وبالجملة : يتوقف الاستصحاب على إحراز الحدوث ليصح التعبد ببقاء الحادث عند الشك في بقائه ، ولا معنى للتعبد ببقاء ما شك في حدوثه ، إلا أن
ص: 410
يرد التعبد أولا بالحدوث ليكون الحدوث محرزا بوجه ثم يرد التعبد بالبقاء.
وفي كلامه قدس سره في المقام متنا وهامشا مواقع للنظر ، خصوصا فيما نسبه إلى المشهور : من التزامهم بانشاء أحكام ظاهرية في مؤديات الطرق والامارات ، واستظهر ذلك من قولهم : « ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم » فان الالتزام بذلك يرجع إلى السببية في الطرق والامارات (1) وهو قدس سره سلم في مبحث الاجتهاد والتقليد أن هذا من فروع السببية والطريقية ، فكيف ينسب إلى المشهور؟ مع أن القول بالسببية شاذ نادر.
فالانصاف : أن التنبيه الثاني الذي عقده في الكفاية مع ما علق عليه في الهامش صدرا وذيلا مما لا يمكن المساعدة عليه (2) فتأمل جيدا.
المستصحب ، إما أن يكون كليا ، وإما أن يكون شخصيا. والشخصي ، إما أن يكون معينا ، وإما أن يكون مرددا بين فردين أو أفراد من طبيعة واحدة أو من طبيعتين أو طبايع. ولا إشكال في صحة استصحاب الشخصي المعين ، كما لا إشكال في استصحاب الفرد المردد عند الشك في بقائه إذا لم يكن منشأ الشك في البقاء ارتفاع أحد فردي الترديد وخروجه عن مورد الابتلاء ، وإلا فلا يجري استصحاب الفرد المردد ، فان استصحاب الفرد المردد معناه بقاء الفرد على ما هو عليه من الترديد ، ولازم ذلك هو ترتيب آثار بقاء كل من الفردين ، وهذا ينافي العلم بارتفاع أحد الفردين ، وقدم تقدم تفصيل ذلك بما لا مزيد عليه
ص: 411
في مبحث الاشتغال (1) هذا كله في استصحاب الفرد الشخصي.
استصحاب الكلي المتحقق في ضمن الفرد المعين أو الفرد المردد ، فان العلم بوجود الفرد يلازم العلم بوجود الكلي في ضمنه ، كما أن الشك في بقاء الفرد يلازم الشك في بقاء الكلي ، فيصح استصحاب كل من الفرد والكلي ، ويترتب عليه آثار كل منهما إن كان لكل منهما أثر خاص ، فلو علم بوجود زيد في الدار وشك في بقائه فها ، فكما يجوز استصحاب بقاء زيد في الدار كذلك يجوز استصحاب بقاء الانسان فيها ، وهذا مما لا إشكال فيه.
استصحاب الكلي المتيقن وجوده في ضمن أحد الفردين عند العلم بارتفاع أحدهما وبقاء الآخر ، كما في جميع موارد العلم الاجمالي بوجود أحد الشيئين مع خروج أحدهما عن مورد الابتلاء بتلف ونحوه ، كما إذا علم المكلف بوجوب إحدى الصلاتين من الظهر أو الجمعة وقد صلى الظهر ، أو علم بصدور أحد الحدثين من الأصغر أو الأكبر وقد فعل ما يوجب رفع الأصغر ، وكما لو علم بوجود أحد الحيوانين من الفيل أو البق وقد انقضى زمان عمر البق ، ففي جميع هذه الأمثلة يشك في بقاء الكلي بسبب ارتفاع أحد الفردين اللذين علم بتحقق الكلي في ضمن أحدهما ، ولا يجري الاستصحاب الشخصي والفرد المردد ، للعلم بارتفاع أحد فردي الترديد ، كما تقدمت الإشارة إليه.
ص: 412
وأما استصحاب الكلي : فلا ينبغي الاشكال في جريانه ، لوجود المقتضي وفقد المانع.
أما وجود المقتضي : فلانه لا يعتبر في الاستصحاب أزيد من تحقق ركنيه : من وجود المتيقن والشك في بقائه ، وقد تقدم أن العلم بوجود الفرد يلازم العلم بوجود الكلي ، فاليقين بحدوث أحد الفردين لا على التعيين يلازم اليقين بحدوث القدر المشترك بينهما ، والعلم بارتفاع أحد فردي الترديد يوجب الشك في بقاء القدر المشترك ، لاحتمال أن يكون الحادث هو الفرد الباقي الذي يلازم بقائه بقاء الكلي في ضمنه ، فقد تحقق ركنا الاستصحاب.
وتوهم : أن اليقين لم يتعلق بحدوث الكلي من حيث هو وإنما تعلق اليقين بحدوث حصة من الكلي متخصصة بخصوصية خاصة ، وتلك الحصة أمرها يدور بين ما هي مقطوعة الارتفاع إن كانت متخصصة بخصوصية الفرد الزائل وبين ما هي مقطوعة البقاء إن كانت متخصصة بخصوصية الفرد الباقي ، وحيث إنه يشك في حدوث الفرد الباقي فيشك في حدوث الحصة المتخصصة به ، فيكون حال الكلي الموجود في ضمن الفرد المردد حال نفس الفرد ، وكما لا يجري استصحاب الفرد المردد لأنه بين ما هو مقطوع الارتفاع وبين ما هو مشكوك الحدوث ، كذلك لا يجري استصحاب الكلي الموجود في ضمنه ، لتردده أيضا بين ما هو مقطوع الارتفاع وما هو مشكوك الحدوث
فاسد ، فان وجود الكلي وإن كان بوجود الفرد وزواله بزواله ، إلا أنه ليس الكلي مما ينتزع عن الفرد ، بل هو متأصل في الوجود ، على ما هو الحق : من وجود الكلي الطبيعي (1) من غير فرق في ذلك بين الأمور العينية التكوينية
ص: 413
ص: 414
وبين الأمور الاعتبارية العرفية أو الشرعية ، فالعلم بوجود الفرد المردد يكون منشأ للعلم بوجود الكلي والقدر المشترك خارجا ، وارتفاع أحد فردي الترديد يصير منشأ للشك في بقاء الكلي ، فيثبت كلا ركني الاستصحاب.
نعم : بناء على انتزاعية الكلي يتوجه الاشكال المذكور ، فإنه لم يتعلق العلم بوجود الكلي إذ لا وجود له ، وإنما تعلق العلم بوجود منشأ الانتزاع وهو الفرد ، ولكن القول بانتزاعية الكلي بمراحل عن الواقع ، فلا إشكال في أن العلم بوجوب إحدى الصلاتين يستتبع العلم بوجود الوجوب في عالم التشريع والاعتبار ، وكذا العلم بوجود أحد الحيوانين أو صدور أحد الحدثين يستتبع العلم بوجود الحيوان والحدث في عالم العين والتكوين ، والعلم بخروج أحد الفردين عن مورد الابتلاء بامتثال أو تلف ونحوه يوجب الشك في بقائه ، فيجري فيه الاستصحاب.
وأما عدم المانع : فلان المانع الذي يمكن توهمه ليس إلا أن وجود القدر المشترك إنما يكون مسببا عن حدوث الفرد الباقي ، إذ لولا حدوث الفرد الباقي لكان يعلم بارتفاع القدر المشترك ، فبقاء الكلي إنما يكون معلولا لحدوث الفرد الباقي ، فيجري فيه استصحاب عدم الحدوث ويرتفع بذلك الشك في بقاء الكلي ، لان الأصل الجاري في السبب رافع لموضوع الأصل المسببي ، فلا يبقى مجال الاستصحاب بقاء القدر المشترك.
هذا غاية ما يمكن أن يتوهم في المنع عن جريان استصحاب الكلي ، وقد توهمه بعض ، ولكنه ضعيف لما فيه :
أولا : أن ارتفاع القدر المشترك ليس مسببا عن عدم حدوث الفرد الباقي ،
ص: 415
بل هو مسبب عن ارتفاع الفرد الزائل ، فتأمل.
وثانيا : أنه ليس كل أصل جار في الشك السببي رافعا لموضوع الأصل المسببي وحاكما عليه ، بل يعتبر في حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي - مضافا إلى ما بين الشكين من السببية والمسببية - أمران آخران :
أحدهما : أن يكون الترتب بينهما شرعيا ، بمعنى أن الشارع حكم بترتب المسبب على سببه ، كما حكم بترتب طهارة الثوب النجس على طهارة الماء المغسول به الثوب ، فان الترتب بين طهارة الثوب وطهارة الماء إنما يكون شرعيا ، من دون أن يكون بينهما ترتب عقلي أو عادي.
ثانيهما : أن يكون الأصل الجاري في الشك السببي رافعا لموضوع الأصل المسببي ومزيلا للشك فيه ، كالمثال المتقدم ، فان أصالة الطهارة أو استصحابها الجارية في الماء المغسول به الثوب النجس عند الشك في طهارة يكون مزيلا للشك في بقاء نجاسة الثوب ورافعا لموضوع استصحاب النجاسة فيه ، لان التعبد بطهارة الماء يقتضي التعبد بطهارة ما غسل به ، فان من الآثار الشرعية المترتبة على طهارة الماء هو طهارة المغسول به ، ولا عكس ، أي التعبد ببقاء نجاسة الثوب لا يقتضي التعبد بنجاسة الماء إلا على القول باعتبار الأصل المثبت ، وسيأتي ( إن شاء اللّه تعالى ) تفصيل ذلك. والغرض في المقام مجرد الإشارة إلى أن الأصل السببي إنما يكون حاكما على الأصل المسببي إذا كان مزيلا للشك المسببي ، فإذا لم يكن مزيلا له فالأصل المسببي يجري ولا يزاحمه الأصل السببي ، كما لو شك في كون اللباس متخذا من مأكول اللحم أو من غيره ، فان جريان أصالة الحل في الحيوان المتخذ منه اللباس لا يرفع الشك في جواز الصلاة فيه وعدمه ، مع أن الشك في جواز الصلاة في اللباس وعدمه مسبب عن حلية الحيوان المتخذ منه وعدمها ، والترتب بينهما شرعي ، ومع ذلك أصالة الحل في الحيوان لا تزيل الشك في جواز الصلاة في اللباس.
ص: 416
والسر في ذلك : هو أن أصالة الحل لا تثبت كون الحيوان المتخذ منه اللباس من الأنواع التي خلقها اللّه ( تعالى ) مأكولة اللحم ، بل غاية ما تثبته أصالة الحل هو حلية أكله ، ومجرد حلية الاكل لا ينفع في جواز الصلاة في أجزائه ما لم يحرز كونه من الأنواع المحللة ، وقد استقصينا الكلام في ذلك في رسالة المشكوك (1).
إذا عرفت ذلك ، فنقول : إنه لو سلم كون الشك في بقاء القدر المشترك فيما نحن فيه مسببا عن الشك في حدوث الفرد الباقي وعدمه ، إلا أن الترتب في الوجود بين الكلي والفرد إنما هو عقلي ، وليس من المجعولات الشرعية ، بداهة أن وجود الكلي بوجود الفرد وارتفاعه بارتفاعه إنما يكون عقليا.
ص: 417
ثم لو سلم الترتب الشرعي بين وجود الكلي ووجود الفرد في بعض المقامات ، كترتب الحدث على الجنابة ، ولكن سقوط الأصل المسببي فرع جريان الأصل السببي ، وفيما نحن فيه لا يجري الأصل في ناحية السبب ، لان أصالة عدم حدوث الفرد الباقي معارضة بأصالة عدم حدوث الفرد الزائل ، فيبقى استصحاب بقاء الكلي والقدر المشترك بلا مزاحم.
وتوهم : عدم جريان الأصل في الفرد الزائل لخروجه عن مورد الابتلاء بامتثال أو تلف أو نحو ذلك فلا معارض لأصالة عدم حدوث الفرد الباقي
فاسد (1) فإنه بمجرد العلم بحدوث أحد الفردين والشك فيما هو الحادث تجري أصالة عدم حدوث كل منهما وتسقط بالمعارضة ، وخروج أحد الفردين عن مورد الابتلاء بعد ذلك لا يوجب رجوع الأصل في الفرد الباقي (2).
نعم : لو اختص أحد الفردين بأثر زائد كان استصحاب عدم حدوث ذلك الفرد لنفي ما اختص به من الأثر جاريا بلا معارض - كما تقدم تفصيل ذلك في تنبيهات الاشتغال - ولكن ما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، فان أثر وجود الكلي والقدر المشترك مما يشترك فيه كل من الفردين ، فأصالة عدم حدوث كل من الفردين تجري لنفي وجود القدر المشترك وتسقط بالمعارضة ، فتصل النوبة إلى الأصل المسبى ، وهو أصالة بقاء القدر المشترك.
ص: 418
فظهر : أنه لا مانع من استصحاب بقاء الكلي عند ارتفاع أحد فردي الترديد.
ثم لا يخفى عليك : أن استصحاب بقاء الكلي إنما يقتضي ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على نفس الكلي لو فرض أنه كان للكلي أثر شرعي ، كما في مثال الحدث ، فان حرمة مس المصحف قد رتب شرعا على نفس الحدث الأعم من الأصغر والأكبر ، كما يدل عليه قوله تعالى : « لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ » (1) والظاهر أنه ليس للحدث الأعم من الأصغر والأكبر أثر آخر رتب عليه شرعا.
وقد يتوهم : أن عدم جواز الدخول في الصلاة أثر للأعم من الأصغر والأكبر ، فاستصحاب بقاء الحدث عند العلم بوقوع أحدهما وفعل ما يوجب رفع أحدهما يقتضي عدم جواز الدخول في الصلاة.
وفيه : أن عدم جواز الدخول في الصلاة في الفرض إنما هو لعدم إحراز الطهارة التي هي شرط للصلاة ، لا لوجود المانع ، فان الحدث لم يؤخذ مانعا عن الصلاة ، بل الطهارة اخذت شرطا لها.
وعلى كل حال : كل أثر اخذ الكلي موضوعا له شرعا فباستصحاب بقاء الكلي يثبت ذلك الأثر ، ولا يثبت به الآثار المترتبة على حدوث الفرد الباقي وإن كان وجود الكلي يلازم كون الحادث هو الفرد الباقي ، إلا على القول بالأصل المثبت.
فكما يجري استصحاب بقاء الكلي ، كذلك يجري استصحاب عدم حدوث الفرد الباقي ، وينفي بذلك الآثار المترتبة على وجود الفرد ، إلا إذا كانت الآثار طرفا للعلم الاجمالي ، بأن كان للفرد الزائل أيضا آثار شرعية ، فيقع التعارض بين الأصول من الجانبين ، ويبقى العلم الاجمالي على حاله يقتضي الاحتياط
ص: 419
في الآثار المترتبة على كل من الفردين ، إلا إذا كان لاحد الفردين أثر زائد (1) فلا يجب الاحتياط فيه ، لأنه منفي بالأصل ، للشك في وجود موضوعه.
ففي مثال الحدث يحرم مس المصحف لاستصحاب بقاء الحدث ويجب الغسل للعلم الاجمالي بوجوب الوضوء أو الغسل ، والمفروض : أن المكلف قد توضأ ، فيبقى عليه الغسل مقدمة للعلم بفراغ الذمة عما اشتغلت به ، ويجوز دخول المساجد وقراءة العزائم بلا غسل ، لان حرمة دخول المساجد وقراءة العزائم من الآثار المختصة بالحدث الأكبر ، وحيث لم يعلم به المكلف فتجري أصالة العدم لنفي هذه الآثار الخاصة ، وليس للحدث الأصغر أثر يختص به لتكون تلك الآثار المختصة بالحدث الأكبر طرفا للعلم الاجمالي ، بل الحدث الأكبر يشارك الحدث الأصغر في جميع الآثار ، ويختص هو بأثر زائد : من حرمة الدخول في المساجد وقراءة العزائم ، هذا كله في مثال الحدث المردد بين الأصغر والأكبر.
وأما مثال وجوب صلاة الظهر أو الجمعة فيما إذا علم المكلف بوجوب إحديهما وقد صلى الجمعة : فاستصحاب بقاء الكلي والقدر المشترك بين الوجوبين - وهو أصل الوجوب والالزام - وإن كان في حد نفسه لا مانع عنه ، إلا أنه لا أثر لبقاء القدر المشترك في المثال ، وأثر بقاء الاشتغال ولزوم تحصيل العلم بفراغ الذمة ليس من الآثار الشرعية ، بل هو من الآثار العقلية ، وموضوعه نفس الشك بالفراغ بعد العلم بالاشتغال ، فهو محرز بالوجدان ولا معنى للتعبد به ، وقد تقدم ذلك مشروحا في مبحث الاشتغال (2).
وأما مثال الفيل والبق : فلا يجري فيه استصحاب بقاء القدر المشترك عند
ص: 420
العلم بانقضاء عمر البقّ ، لأنه من الشك في المقتضي ، وقد تقدم عدم جريان الاستصحاب فيه.
وعليك بالتأمل التام فيما تمر عليك من الأمثلة ، وتمييز الآثار الشرعية المترتبة على نفس القدر المشترك عن الآثار المترتبة على الخصوصية الفردية ، وتشخيص موارد رجوع الشك فيها إلى الشك في المقتضي أو الشك في الرافع.
ثم لا يخفى عليك : أن محل الكلام في استصحاب الكلي إنما هو فيما إذا كان نفس المتيقن السابق بهويته وحقيقته مرددا بين ما هو مقطوع الارتفاع وما هو مقطوع البقاء ، كالأمثلة المتقدمة ، وأما إذا كان الاجمال والترديد في محل المتيقن وموضوعه لا في نفسه وهويته فهذا لا يكون من الاستصحاب الكلي (1)
ص: 421
بل يكون كاستصحاب الفرد المردد الذي قد تقدم المنع عن جريان الاستصحاب فيه عند ارتفاع أحد فردي الترديد ، فلو علم بوجود الحيوان الخاص في الدار وتردد بين أن يكون في الجانب الشرقي أو في الجانب الغربي ثم انهدم الجانب الغربي واحتمل أن يكون الحيوان تلف بانهدامه أو علم بوجود درهم خاص لزيد فيما بين هذه الدراهم العشر ثم ضاع أحد الدراهم واحتمل أن يكون هو درهم زيد أو علم بإصابة العباء نجاسة خاصة وتردد محلها بين كونها في الطرف الأسفل أو الاعلى ثم طهر طرفها الأسفل ، ففي جميع هذه الأمثلة استصحاب بقاء المتيقن لا يجري ، ولا يكون من الاستصحاب الكلي ، لان المتيقن السابق أمر جزئي حقيقي لا ترديد فيه ، وإنما الترديد في المحل والموضوع (1) فهو أشبه باستصحاب الفرد المردد عند ارتفاع أحد فردي الترديد ، وليس من الاستصحاب الكلي. ومنه يظهر الجواب عن الشبهة العبائية المشهورة (2).
ص: 422
من أقسام استصحاب الكلي
هو ما إذا كان الشك في بقائه لأجل احتمال قيام فرد آخر مقام الفرد الذي كان الكلي في ضمنه مع القطع بارتفاعه ، كما إذا علم بوجود الانسان في الدار في ضمن وجود زيد وعلم بخروج زيد عن الدار ولكن احتمل قيام عمرو مقامه ، فيشك في بقاء الانسان في الدار ، وهذا القسم من استصحاب الكلي يتصور على وجوه :
الأول : ما إذا كان الشك في بقاء الكلي لاحتمال وجود فرد آخر مقارنا لوجود الفرد المعلوم ، كما إذا احتمل وجود عمرو في الدار في حال وجود زيد فيها بحيث اجتمعا في الدار.
الثاني : ما إذا كان الشك في بقائه لأجل احتمال وجود فرد آخر مقارنا لارتفاع الفرد المعلوم ، كما إذا احتمل وجود عمرو في الدار مقارنا لخروج زيد منها ، بحيث لم يجتمع وجودهما في الدار ، وهذا أيضا يتصور على وجهين :
الأول : أن يكون الحادث المحتمل فردا آخر مباينا في الوجود للفرد المعلوم وإن اشتركا في النوع أو الجنس ، كالمثال المتقدم.
الثاني : أن يكون الحادث المحتمل مرتبة أخرى من مراتب المعلوم الذي
ص: 423
ارتفع ، كما إذا احتمل قيام السواد الضعيف مقام السواد الشديد عند ارتفاع السواد الشديد ، وكما إذا احتمل قيام مرتبة أخرى من الشك الكثير مقام المرتبة التي كان المكلف واجدا لها وزالت عنه.
فهذه جملة الوجوه المتصورة في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي.
وفي جريان الاستصحاب في الجميع ، أو عدم جريانه في الجميع ، أو التفصيل بين الوجه الأخير والوجهين الأولين - ففي الأخير يجري الاستصحاب وفي الأولين لا يجري - وجوه ، أقواها التفصيل.
أما عدم جريانه في الوجه الأول : فلانه لا منشأ لتوهم جريان الاستصحاب فيه إلا تخيل أن العلم بوجود الفرد الخاص في الخارج يلازم العلم بحدوث الكلي خارجا ، فبارتفاع الفرد الخاص يشك في ارتفاع الكلي ، لاحتمال قيام الكلي في فرد آخر مقارنا لوجود الفرد الذي علم بحدوثه وارتفاعه ، فلم يختل ركنا الاستصحاب من اليقين السابق والشك اللاحق بالنسبة إلى الكلي ، كالقسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي.
هذا ، ولكن الانصاف : أن فساد التوهم بمكان يغني تصوره عن رده ، بداهة أن العلم بوجود الفرد الخاص في الخارج إنما يلازم العلم بوجود حصة من الكلي في ضمن الفرد الخاص (1) لا أنه يلازم العلم بوجود الكلي بما هو هو ، بل للفرد
ص: 424
الخاص دخل في وجود الحصة حدوثا وبقاء ، والحصة من الكلي الموجودة في ضمن الفرد الخاص تغاير الحصة الموجودة في ضمن فرد آخر ، ولذا قيل : إن نسبة الكلي إلى الافراد نسبة الآباء المتعددة إلى الأبناء المتعددة ، فلكل فرد حصة تغاير حصة الآخر ، والحصة التي تعلق بها اليقين سابقا إنما هي الحصة التي كانت في ضمن الفرد الذي علم بحدوثه وارتفاعه ، ويلزمه العلم بارتفاع الحصة التي تخصه أيضا ، ولا علم بحدوث حصة أخرى في ضمن فرد آخر ، فأين المتيقن الذي يشك في بقائه ليستصحب؟ وقياس المقام بالقسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي في غير محله ، بداهة أنه في القسم الثاني يشك في بقاء نفس الحصة من الكلي التي علم بحدوثها في ضمن الفرد المردد ، لاحتمال أن يكون الحادث هو الفرد الباقي فتبقى الحصة بعينها ببقائه ، وأين هذا من العلم بارتفاع الحصة المتيقن حدوثها والشك في حدوث حصة أخرى؟ كما في القسم الثالث ، فما بينهما أبعد مما بين المغرب والمشرق!! فإنه في القسم الثاني نفس المتيقن الحادث مشكوك البقاء ، وفي القسم الثالث المتيقن الحادث مقطوع الارتفاع وإنما الشك في حدوث حصة أخرى مغايرة للحصة الزائلة ، وهذا بعد البناء على تغاير وجود الكلي بتغاير أفراده واضح مما لا ينبغي التأمل فيه.
ص: 425
ثم إنه لو فرض محالا عدم تغاير وجود الكلي بتغاير الافراد وأن الموجود من الكلي في ضمن جميع الافراد أمر واحد لا تعدد فيه ، فلا إشكال في أن ذلك على فرض إمكانه إنما هو بالنظر الدقي العقلي الذي لا عبرة به في باب الاستصحاب ، وإنما العبرة بنظر العرف ، فان نظره هو المتبع في اتحاد القضية المشكوكة للقضية المتيقنة - كما سيأتي بيانه - فلو فرض التشكيك في تغاير الحصص وتباين وجود الكلي بتباين الافراد عقلا فلا يمكن التشكيك في ذلك عرفا ، بداهة أن العرف يرى التباين بين ما هو الموجود في ضمن زيد وما هو الموجود في ضمن عمرو ، فتختلف القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة عرفا ، فيختل شرط الاستصحاب : من اتحاد القضيتين عرفا ، وذلك واضح لا ينبغي إطالة الكلام فيه أزيد من ذلك.
ومن الغريب! ما اختاره الشيخ قدس سره من جريان استصحاب الكلي في هذا القسم ، فإنه مضافا إلى اختلاف أركان الاستصحاب فيه يكون الشك في بقاء الكلي دائما من الشك في المقتضي الذي لا يقول بجريان الاستصحاب فيه؟ فالانصاف : أنه ما كنا نترقب من الشيخ قدس سره اختيار ذلك.
ثم : إنه قد يقال : إنه تظهر الثمرة فيما إذا احتمل المكلف الجنابة في حال النوم وبعد الانتباه توضأ ، فإنه لو قلنا بجريان استصحاب الحدث في حقه كان اللازم عدم جواز مس كتابة القرآن ما لم يغتسل ، وإن قلنا بعدم جريان الاستصحاب جاز له فعل كل مشروط بالطهارة ولا يجب عليه الغسل.
هذا ، ولكن الظاهر : أنه يجوز للمكلف في المثال فعل كل مشروط بالطهارة وإن لم يغتسل ، سواء قلنا بجريان الاستصحاب في هذا القسم من الكلي أو لم نقل ، لا لان الاستصحاب في المثال ليس من القسم الثالث ، بل لان في المثال خصوصية تقتضي عدم وجوب الغسل وجواز فعل كل مشروط بالطهارة.
ص: 426
وذلك : لان قوله تعالى : « إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ » إلى قوله تعالى : « وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا » يدل على وجوب الوضوء على من كان نائما ولم يكن جنبا ، فقد اخذ في موضوع وجوب الوضوء قيد وجودي وهو النوم وقيد عدمي وهو عدم الجنابة. وهذا القيد العدمي وإن لم يذكر في الآية الشريفة صريحا ، إلا أنه من مقابلة الوضوء للغسل والنوم للجنابة يستفاد منها ذلك ، فان التفصيل بين النوم والجنابة والوضوء والغسل قاطع للشركة ، بمعنى أنه لا يشارك الغسل للوضوء ولا الوضوء للغسل ، كما يستفاد نظير ذلك من آية الوضوء والتيمم ، فان قوله تعالى : « فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا » يدل على أن وجدان الماء قيد في موضوع وجوب الوضوء ، وإن لم يذكر في آية الوضوء صريحا إلا أنه من مقابلة الوضوء للتيمم يستفاد ذلك ، لان التفصيل قاطع للشركة ، ومن هنا نقول : إن القدرة على الماء في باب الوضوء تكون شرعية ، لأنها اخذت في موضوع الدليل ، فكأن الآية نزلت هكذا : « إذا قمتم من النوم وكنتم واجدين للماء ولم تكونوا جنبا فاغسلوا وجوهكم الخ ».
والحاصل : أنه يستفاد من الآية الشريفة كون الموضوع لوجوب الوضوء مركبا من النوم وعدم الجنابة ، فيكون المثال المتقدم من صغريات الموضوعات المركبة التي قد أحرز بعض أجزائها بالوجدان وبعضها لآخر بالأصل ، فان النائم الذي احتمل الجنابة قد أحرز جزئي الموضوع لوجوب الوضوء وهو النوم بالوجدان وعدم الجنابة بالأصل ، فيجب عليه الوضوء ، وإذا وجب عليه الوضوء لا يجب عليه الغسل ، لما عرفت : من أنه لا يجتمع على المكلف وجوب الوضوء والغسل معا ، لان سبب وجوب الوضوء لا يمكن أن يجتمع مع سبب وجوب الغسل ، فان من أجزاء سبب وجوب الوضوء عدم الجنابة ، فلا يعقل أن يجتمع مع الجنابة التي هي سبب وجوب الغسل ، فإنه يلزم اجتماع النقيضين ، ففي المثال لا يجب على المكلف إلا الوضوء ، فإذا توضأ جاز له فعل كل مشروط بالطهارة حتى مس
ص: 427
المصحف ، فتأمل جيدا.
هذا كله في الوجه الأول من الوجوه الثلاثة المتصورة في القسم الثالث من استصحاب الكلي.
وأما الوجه الثاني : وهو ما إذا احتمل حدوث فرد آخر مقارنا لارتفاع الفرد المتيقن ، فعدم جريان الاستصحاب فيه أوضح ، فان الوجه الذي تخيل لجريان الاستصحاب في الوجه الأول لا يتمشى في الوجه الثاني ، بداهة أنه لو قلنا محالا بعدم تغاير نحو وجود الكلي بتغاير وجود الافراد فإنما هو في الافراد المجتمعة في الوجود ، كما في الوجه الأول ، وأما الافراد المتعاقبة في الوجود - كما في الوجه الثاني - فلا يكاد يشك في تغاير نحو وجود الكلي بتغاير وجود الافراد المتعاقبة ، فالقضية المشكوكة تغاير القضية المتيقنة عقلا وعرفا ، فلا مجال لتوهم جريان الاستصحاب فيه.
وأما الوجه الثالث : وهو ما إذا احتمل تبدل الفرد المتيقن حدوثا وارتفاعا إلى فرد آخر وكان محتمل الحدوث من مراتب متيقن الحدوث ، فالأقوى : جريان الاستصحاب فيه ، وهذا إنما يكون إذا كان الحادث المتيقن ذا مراتب متعددة تختلف شدة وضعفا ، كالكيفيات النفسية والخارجية ، فان الظن والشك بل العلم ذو مراتب ، وكذا السواد والبياض ونحو ذلك من الألوان الخارجية ، فإذا كان الحادث مرتبة خاصة من السواد كالشديد ثم زالت تلك المرتبة ولكن احتمل أن تكون قد خلفتها مرتبة أخرى من السواد ، فلا مانع من جريان استصحاب الكلي والقدر المشترك بين المرتبة المتيقنة الحدوث والارتفاع والمرتبة المشكوكة الحدوث ، فان تبادل المراتب لا يوجب اختلاف الوجود والماهية ، لانحفاظ الوحدة النوعية ماهية ووجودا في جميع المراتب ، والتبادل إنما يكون في الحد الذي يوجب تشخص المرتبة وتميزها عما عداها ، وإلا فالمرتبة القوية واجدة للمرتبة الضعيفة مسلوبة الحد والتشخص ، فإذا علم بتبدل المرتبة
ص: 428
الشديدة إلى المرتبة الضعيفة فيكون المتيقن بهويته وحقيقته محفوظا ، غايته أنه سلب عنه حد وتلبس بحد آخر ، هذا إذا علم بالتبدل.
وأما إذا احتمل التبدل إلى مرتبة أخرى بعد العلم بزوال المرتبة السابقة ، فيحتمل بقاء المتيقن بهويته وحقيقته ، فيجري فيه الاستصحاب ، لاتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة عقلا وعرفا ، لانحفاظ وجود الكلي في جميع المراتب حقيقة ، لان نحو وجود السواد في السواد الشديد وفي السواد الضعيف واحد لا يختلف ، وليس السواد الشديد والضعيف كزيد وعمرو ، بحيث يكون وجود الانسان في ضمن زيد نحوا يغاير وجوده في ضمن عمرو عقلا وعرفا ، فاستصحاب بقاء الكلي في الوجه الثالث من القسم الثالث يكون كاستصحاب بقاء الكلي في القسم الثاني من حيث وحدة القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة عقلا وعرفا ، وان أبيت عن الاتحاد العقلي فيما نحن فيه مع أنه لا سبيل إليه ، فلا أقل من الاتحاد العرفي وهو يكفي في صحة الاستصحاب.
ويتفرع على ذلك استصحاب بقاء كون الشخص كثير الشك عند العلم بزوال ما كان واجدا له من المرتبة والشك في زوال وصف الكثرة بالمرة أو تبدلها إلى مرتبة أخرى أضعف أو أقوى من المرتبة الزائلة ، فيجري استصحاب بقاء الكثرة ويترتب عليه أحكام كثير الشك : من عدم بطلان الصلاة إذا كان الشك في الصلاة الثنائية أو الثلاثية أو الأوليين من الرباعية ومن البناء على الأكثر إن كان في الأخيرتين من الرباعية ، وغير ذلك من الاحكام المترتبة على الشك ، وربما يقف المتتبع على فروع اخر ، فتأمل جيدا.
ثم : إنه يلحق بالوجه الثالث من القسم الثالث من أقسام الاستصحاب الكلي الاستصحابات الجارية في الزمان والزمانيات المبنية على التقضي والتصرم ، كالتكلم والحركة ونحو ذلك ، وسيأتي تفصيل الكلام فيه ( إن شاء اللّه تعالى ).
ص: 429
للفاضل التوني رحمه اللّه كلام في مسألة الشك في تذكية الحيوان ، قد تعرض له الشيخ قدس سره في المقام بمناسبة. ونحن وإن كان قد استقصينا الكلام فيه في رسالة المشكوك ، إلا أنه لا بأس بالإشارة إليه في المقام تبعا للشيخ قدس سره .
فنقول : بناء المشهور على جريان أصالة عدم التذكية عند الشك فيها ويثبت بها نجاسة الحيوان وحرمة لحمه ، وقد خالف في ذلك جماعة منهم الفاضل التوني رحمه اللّه وقد استدلوا على ذلك بوجهين يمكن تطبيق كلام الفاضل على كل منهما.
الأول : أن الموضوع لحرمة لحم الحيوان ونجاسته إنما هو الميتة ، لقوله تعالى : « إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ » وهي عبارة عن الحيوان الذي مات حتف أنفه ، كما أن المذكى عبارة عن الحيوان الذي وردت عليه التذكية ، وهو الموضوع للطهارة وحلية اللحم ، فكل من موضوع النجاسة والحرمة والطهارة والحلية أمر وجودي لابد من إحرازه ، فأصالة عدم التذكية لا تثبت كون الحيوان مات حتف أنفه ، لان نفي أحد الضدين بالأصل لا يثبت به وجود الضد الآخر إلا على القول بالأصل المثبت ، بل الأصل من الطرفين يتعارضان ويتساقطان ويرجع إلى الأصل الثالث ، فأصالة عدم التذكية تعارض أصالة عدم الموت حتف الانف لان كلا منهما مسبوق بالعدم ، وبعد تساقط الأصلين يرجع إلى أصالة الحل والطهارة.
الوجه الثاني : أنه لو سلم كون الموضوع للحرمة والنجاسة هو نفس عدم التذكية لا الموت حتف الانف ، إلا أنه لا إشكال في أنه ليس الموضوع مطلق عدم التذكية ، بل هو عدم التذكية في حال زهوق الروح ، لان عدم التذكية في
ص: 430
حال الحياة ليس موضوعا للحكم ، بل الذي رتب عليه أثر النجاسة والحرمة هو عدم التذكية في حال خروج الروح ، وعدم التذكية في ذلك الحال ليس له حالة سابقة لكي يستصحب ، بداهة أن خروج الروح إما أن يكون عن تذكية وإما أن لا يكون ، فلم يتحقق في الخارج زمان كان في زهوق الروح ولم يكن معه التذكية ليجري استصحاب عدم التذكية في ذلك الحال.
والحاصل : أن عدم التذكية لازم أعم يتصف بها الحيوان في حالين : حال الحياة وحال خروج الروح ، واستصحاب عدم التذكية في حال الحياة لا يثبت عدمها في حال زهوق الروح ، فإنه يكون من قبيل استصحاب بقاء الكلي لاثبات الفرد ، كما إذا أريد إثبات وجود عمرو في الدار من استصحاب بقاء الضاحك الذي كان في ضمن زيد بعد القطع بخروج زيد عن الدار ، وما نحن فيه يكون بعينه من هذا القبيل ، فإنه بعدما كان عدم التذكية يعم العدم في حال الحياة والعدم في حال زهوق الروح ، فباستصحاب عدم التذكية يراد إثبات خصوص العدم في حال خروج الروح بعد العلم بارتفاع عدم التذكية في حال الحياة ، لان عدم التذكية في حال الحياة متقوم بحياة الحيوان والمفروض أنه مات ، فوصف عدم التذكية في حال الحياة ارتفع قطعا والمشكوك فيه هو وصف عدم الحياة في حال خروج الروح ، واستصحاب عدم التذكية على الوجه الكلي لا يثبت العدم في حال زهوق الروح الذي هو الموضوع للنجاسة والحرمة.
هذا ، ولكن لا يخفى عليك ما في كلا الوجهين من النظر.
أما في الوجه الأول : فلان الموضوع للحرمة والنجاسة ليس هو الموت حتف الانف ، بل الموت حتف الانف من مصاديق الموضوع ، لا أنه هو الموضوع ، بداهة أنه لم يؤخذ في آية ولا رواية « الموت حتف الانف » موضوعا ، بل الموضوع للحرمة والنجاسة هو الميتة ، وليس معنى الميتة « الموت حتف الانف » لوضوح
ص: 431
أنه لو لم يجتمع في الحيوان شرائط التذكية : من فري الأوداج الأربعة بالحديد مع التسمية مواجها للقبلة مع كون الذابح مسلما ، كان الحيوان ميتة وإن لم يصدق عليه « الموت حتف الانف » كما إذا اجتمع فيه الشرائط ما عدا التسمية ، فان الحيوان ميتة مع أن موته ليس بحتف الانف ، فالميتة عبارة عن « غير المذكى » لا « الموت حتف الانف » فاستصحاب عدم التذكية يكون محرزا لموضوع الحرمة والنجاسة ، لان الموضوع لهما هو الامر العدمي لا الامر الوجودي حتى يتوهم التعارض بين أصالة عدم التذكية وأصالة عدم الموت حتف الانف ، ليرجع إلى أصالة الطهارة والحل ، بل عدم الموت حتف الانف لم يكن موضوعا لحكم حتى يجري الأصل فيه ، فأصالة عدم التذكية لا معارض لها.
وأما في الوجه الثاني : فلان دعوى التغاير بين عدم التذكية في حال حياة الحيوان وبين عدم التذكية في حال زهوق روحه واضحة الفساد ، بداهة أن نفس عدم التذكية في حال الحياة مستمر إلى حال خروج الروح ، وليس حال الحياة وحال زهوق الروح قيدا للعدم لينقلب العدم في حال الحياة إلى عدم آخر ، بل الحياة وخروج الروح من حالات الموضوع لا القيود المقومة له ، فمعروض عدم التذكية إنما هو الجسم والجسم باق في كلا الحالين.
وبالجملة : تذكية الحيوان من الأمور الحادثة المسبوقة بالعدم الأزلي ، وهو مستمر إلى زمان خروج الروح ، غايته أن عدم التذكية قبل وجود الحيوان إنما هو العدم المحمولي المفارق بمفاد ليس التامة ، وهذا ليس موضوعا للنجاسة والحرمة ، بل الموضوع لهما هو العدم النعتي بمفاد ليس الناقصة ، فان معروض الحلية والطهارة والحرمة والنجاسة هو الحيوان المذكى والحيوان الغير المذكى ، فالعدم الأزلي السابق على وجود الحيوان ليس موضوعا للحكم فلا أثر لاستصحابه ، ولكن استمرار العدم الأزلي إلى زمان وجود الحيوان يوجب انقلاب العدم من المحمولية إلى النعتية ومن مفاد ليس التامة إلى مفاد ليس الناقصة.
ص: 432
لا أقول : إن العدم الأزلي يتبدل إلى عدم آخر ، فان ذلك واضح البطلان ، بل العدم في حال حياة الحيوان والعدم الأزلي قبل حياته ، غايته أنه قبل الحياة كان محموليا لعدم وجود معروضه وبعد الحياة صار نعتيا لوجود موضوعه ، ويستمر العدم النعتي في الحيوان من مبدء وجوده إلى انتهاء عمره ، من دون أن يصحل تغيير في ناحية العدم وينقلب عما هو عليه من النعتية ، ومن دون أن يحصل اختلاف في ناحية المنعوت وهو الحيوان ، بل العدم النعتي يستمر باستمرار وجود الحيوان.
فدعوى : أن عدم التذكية في حال الحياة يغاير عدم التذكية في حال خروج الروح والذي يترتب عليه أثر النجاسة والحرمة هو الثاني وهو مشكوك الحدوث
واضحه الفساد ، لما عرفت : من أن الأثر رتب على استمرار عدم التذكية إلى زمان زهوق الروح ، فعند الشك في التذكية يجري استصحاب عدمها الثابت في حال الحياة.
وتوهم : أن لحكاية الحال دخلا في ترتب الأثر ، فان الموضوع للأثر ليس هو العدم المطلق بل العدم في حال خروج الروح ، فكان لعنوان الحالية دخل في الموضوع ، واستصحاب عدم التذكية إلى حال خروج الروح لا يثبت عنوان الحالية فاسد ، فإنه ليس في الأدلة ما يقتضي اعتبار قضية الحال (1) بل المستفاد
ص: 433
من الأدلة هو كون الموضوع للحرمة والنجاسة مركبا من جزئين : زهوق روح الحيوان وعدم تذكيته. ويكفي في تحقق الموضوع اجتماع الجزئين في الزمان ، لأنهما عرضيان لمحل واحد ، وسيأتي ( إن شاء اللّه تعالى ) في بعض المباحث : أن الموضوع المركب من عرضين لمحل واحد أو من جوهريين أو من جوهر وعرض لمحل آخر - كوجود زيد وقيام عمرو - لا يعتبر فيه أزيد من الاجتماع في الزمان ، إلا إذا استفيد من الدليل كون الإضافة الحاصلة من اجتماعهما في الزمان لها دخل في الحكم ، كعنوان الحالية والتقارن والسبق واللحوق ونحو ذلك من الإضافات الحاصلة من وجود الشيئين في الزمان ، ولكن هذا يحتاج إلى قيام الدليل عليه ، وإلا فالموضوع المركب من جزئين لا رابط بينهما إلا الوجود في الزمان لا يقتضي أزيد من اجتماعهما في الزمان ، بخلاف ما إذا كان التركيب من العرض ومحله ، كقيام زيد وقرشية المرأة ونحو ذلك من الموضوعات المركبة من العرض ومحله ، فإنه لا يكفي فيه مجرد اجتماع العرض والمحل في الزمان ما لم يثبت قيام الوصف بالمحل ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في رسالة المشكوك ، وسيأتي الإشارة إليه ( إن شاء اللّه تعالى ).
ففيما نحن فيه بعدما كان الموضوع مركبا من خروج الروح وعدم التذكية وهما عرضيان للحيوان ، فيكفي إحراز أحدهما بالأصل وهو عدم التذكية والآخر بالوجدان وهو خروج الروح ، فمن ضم الوجدان إلى الأصل يلتئم كلا جزئي المركب ويتحقق موضوع حرمة لحم الحيوان ونجاسته.
فالأقوى : ما عليه المشهور : من جريان أصالة عدم التذكية عند الشك فيها.
ربما يستشكل في جريان الاستصحاب في الزمان والزمانيات المبنية على التقضي والتصرم ، بتوهم : عدم قابلية المتيقن للبقاء والاستمراء ، فكيف يمكن
ص: 434
استصحاب بقائه؟ هذا ، ولكن التحقيق أنه يصح استصحاب الزمان فضلا عن الزماني ، وينبغي عقد الكلام في مقامين :
في استصحاب بقاء نفس الزمان. وتحقيق الكلام في ذلك ، هو أن الشك في الزمان كالليل والنهار يمكن فرضه بوجهين :
الأول : الشك في وجود الليل والنهار حدوثا وبقاء بمفاد كان وليس التامتين ، أي الشك في أن النهار وجد أو لم يوجد أو الشك في أنه ارتفع أو لم يرتفع.
الثاني : الشك في الزمان بمفاد كان وليس الناقصتين ، أي الشك في أن الزمان الحاضر والآن الفعلي هل هو من الليل أو من النهار.
ولا إشكال في عدم جريان الاستصحاب إذا كان الشك في الزمان على الوجه الثاني ، فان الزمان الحاضر حدث إما من الليل وإما من النهار ، فلا يقين بكونه من الليل أو النهار حتى يستصحب حاله السابق (1)
وإن كان الشك فيه على الوجه الأول : فالاستصحاب يجري فيه ، فان الليل والنهار وإن كان اسما لمجموع ما بين الحدين ، فالليل من الغروب إلى الطلوع والنهار من الطلوع إلى الغروب ، فكان الليل والنهار عبارة عن مجموع الآنات
ص: 435
المتصلة المتبادلة ويكون كل آن جزء من الليل أو النهار لا جزئي ، إلا أنه لكل من الليل والنهار وحدة عرفية محفوظة بتبادل الآنات وتصرمها ، ويكون وجود الليل والنهار عرفا بوجود أول جزء منهما ويبقى مستمرا إلى آخر جزء منهما ، فبلحاظ هذه الوحدة الاتصالية العرفية التي تكون لليل والنهار يصح استصحابهما عند الشك في الارتفاع ، لاتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة.
بل ربما يقال : باتحاد القضيتين حقيقة ، لاتصال آنات الليل وكذا آنات النهار وعدم تخلل العدم بينهما. وعلى كل حال : المنع عن الاتحاد الحقيقي لا يضر بصحة الاستصحاب بعد الاتحاد العرفي الذي عليه المدار في باب الاستصحاب ، فلا ينبغي الاشكال في جريان الاستصحاب عند الشك في حدوث الزمان أو بقائه بمفاد كان وليس التامتين ، ويترتب عليه كل أثر شرعي مترتب على وجود الليل أو النهار ، فعند الشك في الحدوث يجري استصحاب العدم ، وعند الشك في البقاء يجري استصحاب الوجود.
نعم : يبقى الاشكال في أن استصحاب وجود الليل أو النهار هل يثبت وقوع متعلق التكليف أو موضوعه في الليل والنهار؟ أو أنه لا يثبت ذلك إلا على القول بالأصل المثبت؟.
وتوضيح الاشكال : هو أنه يعتبر في الموقتات إحراز وقوعها في الزمان الذي اخذ ظرفا لامتثالها ، فإنه لا يحصل العلم بالفراغ مع عدم إحراز ذلك ، فيعتبر في الصلاة اليومية وقوعها في اليوم وفي الصلاة الليلية وقوعها في الليل ، ويعتبر في الصوم وقوعه في رمضان ، وهكذا في سائر الموقتات ، فإنه يعتبر إحراز وقوعها فيما اخذ ظرفا لها من الزمان ، وباستصحاب وجود الليل والنهار لا يمكن إثبات الظرفية ، فإنها كحكاية الحال من العناوين التي لا يثبتها الاستصحاب إلا على القول بالأصل المثبت ، بل غاية ما يمكن إثباته بالاستصحاب بضم الوجدان إليه هو وجود الفعل أو الموضوع عند وجود الليل أو النهار ، وأما كونهما واقعين في
ص: 436
الليل والنهار فلا يكاد يثبته الاستصحاب.
وحاصل الكلام : أن استصحاب الزمان لا يقتضي أزيد من وجود الزمان ليلا كان أو نهارا رمضانا كان أو شعبانا ، وأما كون هذا الزمان الحاضر من الليل أو النهار فلا يثبته الاستصحاب ، ومع عدم إثبات ذلك لا يصدق على الفعل كونه واقعا في الليل أو النهار الذي اخذ ظرفا لوقوعه ، كما هو ظاهر أدلة التوقيت.
اللّهم إلا أن يدعى : أن أدلة التوقيت لا تقتضي أزيد من اعتبار وقوع الفعل عند وجود وقته وإن لم يتحقق معنى الظرفية ولم يصدق على الفعل كونه واقعا في الزمان الذي اخذ ظرفا له شرعا ، بل يكفي مجرد صدق وقوع الفعل عند وجود وقته.
هذا ، ولكن الظاهر أنه لا سبيل إلى هذه الدعوى ، فإنه لا يمكن إنكار دلالة أدلة التوقيت على اعتبار الظرفية ووقوع الفعل في الزمان المضروب له ، وعلى هذا تقل فائدة استصحاب الزمان ، فان الأثر المهم إنما يظهر في باب الموقتات ، والمفروض : أن استصحاب بقاء الوقت لا يثبت وقوع الفعل في الوقت ، فلا يظهر لاستصحاب بقاء الوقت أثر إلا إذا كان الزمان شرطا للتكليف ، فان الظرفية لا تعتبر فيه بل يكفي إحراز وجود الوقت ولو بالأصل ، ويترتب عليه الوجوب ، كما في وجوب الامساك والافطار وغير ذلك من الاحكام المشروطة بأوقات خاصة ، فلو شك في بقاء رمضان يجري فيه الاستصحاب ويترتب عليه وجوب الامساك وإن لم يثبت كون الامساك في رمضان ، بل يكفي في وجوب الامساك مجرد العلم بوجود رمضان ، فإنه متى تحقق رمضان وجب الامساك ولا يحتاج إلى إحراز معنى الظرفية ، وهذا بخلاف ما إذا كان الزمان شرطا للواجب ، فان الظاهر من أخذ الزمان قيدا للامتثال هو اعتبار الظرفية ، فلا يعلم بالخروج عن عهدة التكليف إلا بعد إحراز وقوع الفعل المأمور به في الزمان
ص: 437
الذي اخذ ظرفا له ، وقد عرفت أنه باستصحاب وجود الزمان لا يمكن إثبات الظرفية.
ففي مثل الصلاة الذي اخذ ما بين الزوال والغروب ظرفا لايقاعها لا يكفي مجرد استصحاب بقاء الوقت في إثبات وقوعها فيما بين الحدين ، وكذلك غير الصلاة مما اعتبر الزمان ظرفا لامتثاله.
ومن ذلك يتولد إشكال ، وهو أنه لو شك في بقاء وقت وجوب الصلاة فالاستصحاب يجري فيه ويترتب عليه بقاء الوجوب ، ومع هذا لا يتحقق الامتثال لو أوقع المكلف الصلاة في الوقت المستصحب ، لعدم إحراز الظرفية وكون الصلاة واقعة في الوقت المضروب لها ، لما عرفت : من أن استصحاب بقاء الوقت لا يثبت الظرفية ، فيلزم التفكيك بين استصحاب وقت الوجوب واستصحاب وقت الواجب.
ولا يندفع الاشكال باستصحاب نفس الحكم - كما يظهر من الشيخ قدس سره في المقام - فإنه إن أريد من الاستصحاب الحكمي إثبات بقاء بنفس الحكم ، فالاستصحاب الموضوعي - وهو استصحاب بقاء وقت الحكم - يجري ويترتب عليه بقاء الحكم ولا يكون من الأصل المثبت ، وإن أريد من استصحاب الحكم إثبات وقوع الفعل المأمور به في وقته ، فهذا مما لا يثبته استصحاب بقاء وقت الوجوب ، فضلا عن استصحاب بقاء نفس الوجوب ، فالاستصحاب الحكمي لا أثر له ، فان الأثر الذي يمكن إثباته فبالاستصحاب الموضوعي يثبت ، والأثر الذي لا يمكن إثباته فبالاستصحاب الحكمي لا يثبت ، فلا فائدة في الرجوع إلى الاستصحاب الحكمي.
فالعمدة في المقام : هو دفع الاشكال الذي يلزم من جريان استصحاب بقاء وقت الوجوب المثبت لوجوب الصلاة مع أنه لا يتحقق الامتثال عند إيقاع الصلاة في الوقت المستصحب ، فتأمل. وليكن هذا الاشكال على ذكر منك
ص: 438
لعله يأتي بعد ذلك ما يمكن الذب عنه (1) فان شيخنا الأستاذ - مد ظله - تعرض للاشكال في المقام وأوعد الجواب عنه.
في استصحاب الزمانيات التدريجية المبنية على التقضي والتصرم ، كالحركة والتكلم وجريان الماء وسيلان الدم الماء ونحو ذلك.
وخلاصة الكلام فيه : هو أن الشك في بقاء الزماني
تارة : يكون لأجل الشك في بقاء المبدأ الذي اقتضى وجود الزماني بعد إحراز مقدار استعداد بقائه ، كما إذا أحرز انقداح الداعي في نفس المتكلم للتكلم مقدار ساعة وشك في بقاء التكلم لاحتمال وجود صارف زماني عن الداعي أوجب قطع الكلام ، وكما لو أحرز مقدار استعداد عروق الأرض أو باطن الرحم لنبع الماء وسيلان الدم وشك في بقاء النبع والسيلان لاحتمال وجود مانع عن ذلك.
وأخرى : يكون الشك في بقاء الزماني لأجل الشك في مقدار اقتضاء استعداد المبدأ لوجود الزماني ، كما إذا شك في مقدار انقداح الداعي للتكلم
ص: 439
ومقدار استعداد عروق الأرض وباطن الرحم لجريان الماء وسيلان الدم ، بحيث احتمل أن يكون انقطاع التكلم والماء والدم لأجل عدم اقتضاء المبدأ لبقاء ذلك ، لا لوجود صارف أو مانع زماني.
وثالثة : يكون الشك في بقاء الزماني لأجل احتمال قيام مبدء آخر مقام المبدء الأول بعد العلم بارتفاعه ، كما إذا شك في بقاء التكلم والماء والدم لأجل احتمال انقداح داع آخر في نفس المتكلم يقتضي التكلم بعد القطع بارتفاع الداعي الأول أو احتمال قيام مبدء آخر مقام المبدء الأول يقتضي جريان الماء أو احتمال عروض أمر في باطن الرحم يقتضي سيلان الدم بعد القطع بارتفاع ما كان في باطن الرحم أولا ، فهذه جملة ما يتصور من الوجوه التي يمكن أن يقع عليها الشك في بقاء الزمانيات المتدرجة في الوجود.
أما الوجه الأول : فلا ينبغي الاشكال في جريان الاستصحاب فيه ، فان ما يتحقق من الكلام خارجا عند اشتغال المتكلم به وإن كان ذا أفراد متعاقبة ولا يتحقق فرد إلا بعد انعدام الفرد السابق ويكون كل كلمة بل كل حرف فرد مستقلا من الكلام ، إلا أنه عرفا يعد فردا واحدا من الكلام وإن طال مجلس التكلم وأن ما يوجد منه في الخارج بمنزلة الاجزاء لكلام واحد ، فيكون للكلام حافظ وحدة عرفية ، ووجوده عرفا إنما يكون بأول جزء منه ويبقى مستمرا إلى انقطاع الكلام وانتهاء مجلس التكلم ، فتتحد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة.
وبالجملة : الشك في بقاء التكلم وإن كان حقيقة يرجع إلى الشك في وجود فرد آخر مقارن لانعدام الفرد السابق فيندرج في الوجه الثاني من القسم الثالث من أقسام الاستصحاب الكلي - الذي قد تقدم عدم جريان الاستصحاب فيه - إلا أنه لما كان جميع ما يوجد من الكلام في الخارج مع وحدة الداعي ومجلس التكلم يعد عرفا كلاما واحدا ، فالشك في بقائه يرجع
ص: 440
بتقريب إلى القسم الأول أو الثاني من أقسام استصحاب الكلي ، وبتقريب آخر إلى الوجه الثالث من القسم الثالث من تلك الأقسام ، وهو ما إذا كان الشك في بقاء القدر المشترك لأجل احتمال تبدل الحادث إلى مرتبة أخرى من مراتبه بعد القطع بارتفاع المرتبة السابقة ، وقد تقدم : أن الأقوى جريان الاستصحاب فيه.
فالأقوى : جريان الاستصحاب في الوجه الأول من الوجوه الثلاثة المتصورة في الشك في بقاء الزمانيات المتصرمة.
ويلحق به الوجه الثاني ، وهو ما إذا كان الشك في بقائها لأجل الشك في مقدار استعداد بقاء المبدء ، فان الشك في بقاء الزماني فيه أيضا يرجع إلى الشك في بقاء ما وجد ، فإنه لا فرق في صدق وحدة الكلام والماء والدم بين أن يكون المبدء يقتضي وجودها ساعة من الزمان أو ساعتين ، فيجري الاستصحاب في الساعة الثانية عند الشك في اقتضاء المبدء للوجود فيها ، مع قطع النظر عن كونه من الشك في المقتضي إلي لا نقول بجريان الاستصحاب فيه.
وأما الوجه الثالث : وهو ما إذا كان الشك في بقاء الزماني لأجل احتمال قيام مبدء آخر يقتضي وجوده مقام المبدء الأول الذي علم بارتفاعه ، فالأقوى : عدم جريان الاستصحاب فيه ، لأنه يرجع إلى الوجه الثاني من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي ، فان وحدة الكلام عرفا إنما يكون بوحدة الداعي ، فيتعدد الكلام بتعدد الداعي ، فيشك في حدوث فرد آخر للكلام مقارن لارتفاع الأول عند احتمال قيام داع آخر في النفس بعد القطع بارتفاع ما كان منقدحا في النفس أولا ، فلا يجري فيه الاستصحاب ، وكذا الحال في الماء والدم ونحو ذلك من الأمور التدريجية (1) فتأمل.
ص: 441
قد ذكر الشيخ قدس سره للشك المتعلق بالزمان والزماني أقساما ثلاثة :
الأول : الشك في بقاء الزمان. واختار فيه جريان الاستصحاب بالبيان المتقدم.
الثاني : الشك في بقاء الزماني المتصرم ، كالتكلم والحركة. وقد أطلق جريان الاستصحاب فيه ، ولكن كان الأنسب أن يذكر فيه التفصيل المتقدم.
الثالث : الشك في بقاء الزماني المقيد بالزمان الخاص ، كما إذا وجب الجلوس إلى الزوال ثم شك في وجوب الجلوس بعد الزوال. وقد جزم بعدم جريان الاستصحاب فيه.
والحق فيه أيضا التفصيل بين كون الزمان قيدا للجلوس مكثرا للموضوع بحيث كان الجلوس بعد الزوال مغايرا للجلوس قبله وبين كون الزمان ظرفا له ، ففي الأول لا يجري الاستصحاب ، وفي الثاني يجري. ومجرد أخذ الزمان الخاص في دليل الحكم لا يقتضي القيدية الموجبة لتكثر الموضوع ، بل يمكن فيه الظرفية أيضا.
ومن الغريب! ما حكاه الشيخ قدس سره عن الفاضل النراقي رحمه اللّه من القول بتعارض استصحاب الوجود مع استصحاب العدم الأزلي في الاحكام ، كما لو علم بوجوب الجلوس في يوم الجمعة إلى الزوال وشك في وجوبه بعد الزوال ، فاستصحاب بقاء الوجوب الثابت قبل الزوال يعارض استصحاب بقاء عدم الوجوب الأزلي للجلوس بعد الزوال ، فان المتيقن من
ص: 442
انتقاض العدم الأزلي هو وجوب الجلوس في يوم الجمعة إلى الزوال ، فكما يصح استصحاب بقاء الوجوب إلى ما بعد الزوال ، كذلك يصح استصحاب بقاء عدم الوجوب الأزلي إلى ما بعد الزوال ، وليس الحكم ببقاء أحد المستصحبين أولى من الحكم ببقاء الآخر.
ثم أورد على نفسه بما حاصله : أن الشك في بقاء العدم الأزلي بعد الزوال ليس متصلا باليقين لفصل اليقين بالوجوب الثابت قبل الزوال بين اليقين بالعدم الأزلي وبين الشك في بقائه بعد الزوال ، وهذا بخلاف الشك في بقاء الوجوب بعد الزوال ، فإنه متصل بيقينه.
وأجاب عن ذلك : بأنه يمكن فرض حصول الشك في يوم الخميس ببقاء عدم الوجوب بعد زوال يوم الجمعة ، فيتصل زمان الشك بزمان اليقين ، فإنه في يوم الخميس يعلم بعدم وجوب الجلوس ويشك في وجوبه بعد الزوال من يوم الجمعة ، فيجتمع زمان اليقين والشك في يوم الخميس ويتصل أحدهما بالآخر.
ثم ذكر أمثلة اخر لتعارض الاستصحابين :
منها : ما إذا حصل الشك في بقاء وجوب الصوم والامساك في أثناء النهار ، كما إذا عرض للمكلف مرض أوجب الشك في وجوب الامساك عليه ، فيعارض استصحاب بقاء وجوب الصوم الثابت قبل عروض المرض مع استصحاب بقاء عدم وجوب الصوم الأزلي في الزمان الذي يشك في وجوب الصوم فيه.
ومنها : ما إذا شك في بقاء الطهارة بعد خروج المذي أو بقاء النجاسة بعد الغسل بالماء مرة واحدة ، فيعارض استصحاب بقاء الطهارة الحدثية والخبثية مع استصحاب عدم إيجاب الشارع الوضوء عقيب المذي (1) وتشريع النجاسة
ص: 443
عقيب الغسل مرة واحدة.
ففي جميع هذه الأمثلة يقع التعارض بين استصحاب الوجود واستصحاب العدم الأزلي. نعم : في خصوص مثال الوضوء والمذي يكون استصحاب عدم جعل الشارع المذي رافعا للطهارة حاكما على استصحاب عدم جعل الوضوء المتعقب بالمذي موجبا للطهارة. هذا حاصل ما حكاه الشيخ قدس سره عن الفاضل النراقي.
وقد أورد عليه بقوله : وفيه أولا وثانيا وثالثا. وحاصل ما ذكره في الامر الأول : هو أن الزمان في مثال وجوب الجلوس إلى الزوال ، إما أن يؤخذ قيدا للحكم أو الموضوع ، واما أن يؤخذ ظرفا له ، فعلى الأول : لا مجال لاستصحاب الوجود لارتفاع الوجود قطعا بعد الزوال ، فلو ثبت وجوب الجلوس بعده فهو فرد آخر للوجوب والجلوس مباين لما كان قبل الزوال ، فان التقييد بالزمان يقتضي تعدد الموضوع وكون الموجود بعده غير الموجود قبله ، فأخذ الزمان قيدا يقتضي عدم جريان استصحاب الوجود ، بل يجري فيه استصحاب العدم الأزلي فقط ، لان العدم الأزلي وإن انتقض بالوجود ، إلا أنه انتقض بالوجود المقيد بزمان خاص ، وانتقاضه إلى المقيد لا يلازم انتقاضه المطلق ، فيستصحب عدمه المطلق فيما بعد الزوال.
هذا إذا اخذ الزمان قيدا للحكم أو الموضوع. وإن اخذ ظرفا له : فلا يجري فيه استصحاب العدم الأزلي ، لانتقاض العدم إلى الوجود المطلق الغير المقيد بزمان خاص ، والشيء المنتقض لا يمكن استصحابه ، بل لابد من استصحاب الوجود ، ففي المورد الذي يجري فيه استصحاب العدم لا يجري فيه استصحاب الوجود ، وفي المورد الذي يجري فيه استصحاب الوجود لا يجري فيه استصحاب
ص: 444
العدم ، فكيف يعقل وقوع التعارض بينهما مع كون التعارض فرع الاجتماع؟.
هذا حاصل ما أفاده الشيخ قدس سره بقوله : « أما أولا ».
ولكن للنظر فيما أفاده مجال ، فان الظاهر عدم جريان استصحاب العدم الأزلي مطلقا ، وإن اخذ الزمان قيدا للحكم أو الموضوع ، لان العدم الأزلي هو العدم المطلق الذي يكون كل حادث مسبوقا به ، وانتقاض هذا العدم بالنسبة إلى كل حادث إنما يكون بحدوث الحادث وشاغليته لصفحة الوجود ، فلو ارتفع الحادث بعد حدوثه وانعدم بعد وجوده فهذا العدم غير العدم الأزلي ، بل هو عدم آخر حادث بعد وجود الشئ.
وبعبارة أوضح : العدم المقيد بقيد خاص من الزمان أو الزماني إنما يكون متقوما بوجود القيد ، كما أن الوجود المقيد بقيد خاص إنما يكون متقوما بوجود القيد ، ولا يعقل أن يتقدم العدم أو الوجود المضاف إلى زمان خاص عنه ، فلا يمكن أن يكون لعدم وجوب الجلوس في يوم السبت تحقق في يوم الجمعة.
وحينئذ نقول : إنه إذا وجب الجلوس إلى الزوال فالعدم الأزلي انتقض إلى الوجود قطعا (1) فإذا فرض ارتفاع الوجوب بعد الزوال لاخذ الزوال قيدا
ص: 445
للوجوب ، فعدم الوجوب بعد الزوال لا يكون هو العدم الأزلي ، لأنه مقيد بكونه بعد الزوال ، والعدم المقيد غير العدم المطلق المعبر عنه بالعدم الأزلي ، فالمستصحب بعد الزوال ليس هو العدم المطلق ، بل هو العدم المقيد بما بعد الزوال ، فإنه لو قطعنا النظر عن قيد كونه بعد الزوال ولاحظنا العدم المطلق فهو مقطوع الانتقاض لوجوب الجلوس قبل الزوال ، فلابد وأن يكون المستصحب هو العدم بعد الزوال ، والعدم المقيد بما بعد الزوال كالوجود المقيد به قوامه وتحققه إنما يكون بما بعد الزوال ولا يكون له تحقق قبل الزوال ، فلا يمكن استصحاب العدم بعد الزوال إلا إذا آن وقت الزوال ولم يثبت الوجود ، ففي الآن الثاني يستصحب العدم.
وأما إذا فرض أنه في أول الزوال شك في الوجود والعدم - كما هو مفروض الكلام - فلا مجال لاستصحاب العدم ، بل لابد من الرجوع إلى البراءة والاشتغال.
وحاصل الكلام : وجوب الجلوس بعد الزوال وإن كان حادثا مسبوقا بالعدم ، إلا أن العدم المسبوق به ليس هو العدم الأزلي ، لانتقاض العدم الأزلي بوجوب الجلوس قبل الزوال (1) فلابد وأن يكون العدم المسبوق به هو العدم آن الزوال أو بعد الزوال لو فرض أن آن الزوال كما قبل الزوال يجب الجلوس فيه ،
ص: 446
فقبل الزوال ليس الوجب المقيد بما بعد الزوال متحققا ولا عدم الوجوب المقيد بذلك متحققا ، إلا على نحو السالبة بانتفاء الموضوع.
نعم : جعل الوجوب بعد الزوال وإنشائه إنما يكون أزليا كعدم الجعل والانشاء ، فإنه لا مانع من إنشاء وجوب الجلوس يوم الجمعة من يوم الخميس أو قبله ، بل إنشاء الأحكام الشرعية كلها أزلية ، فإذا شك في جعل وجوب الجلوس بعد الزوال أزلا فالأصل عدم الجعل ، لان كل جعل شرعي مسبوق بالعدم ، من غير فرق بين أخذ الزمان قيدا أو ظرفا ، غايته أنه إن أخذ الزمان قيدا لوجوب الجلوس لم يعلم انتقاض عدم الجعل بالنسبة إلى ما بعد الزوال ، لأنه بناء على القيدية يحتاج وجوب الجلوس بعد الزوال إلى جعل آخر مغاير لجعل الوجوب قبل الزوال ، وحيث إنه يشك في جعل الوجوب بعد الزوال فالأصل عدمه.
ولعل مراد الشيخ قدس سره من استصحاب العدم الأزلي بعد الزوال إذا كان الزمان قيدا هو عدم الجعل ، لا عدم المجعول ، لما عرفت : من أن عدم المجعول بعد الزوال لا يكون أزليا ، بخلاف عدم الجعل ، ولكن قد تقدم بما لا مزيد عليه في مباحث الأقل والأكثر أنه لا أثر لاستصحاب عدم الجعل إلا باعتبار ما يلزمه : من عدم المجعول ، وإثبات عدم المجعول باستصحاب عدم الجعل يكون من الأصل المثبت.
هذا ، مضافا إلى ما عرفت أيضا في مباحث الأقل والأكثر : من أن استصحاب البراءة الأصلية - المعبر عنه باستصحاب حال العقل - لا يجري مطلقا ، لان العدم الأزلي ليس هو إلا عبارة عن اللاحكمية واللاحرجية ، وهذا المعنى بعد وجود المكلف واجتماع شرائط التكليف فيه قد انتقض قطعا ولو إلى الإباحة ، فان اللاحرجية في الإباحة بعد اجتماع شرائط التكليف غير
ص: 447
اللا حرجية قبل وجود المكلف ، إذا الأول يستند إلى الشارع والثاني لا يستند إليه ، فراجع ما سبق منا في بعض مباحث الأقل والأكثر.
فتحصل مما ذكرنا : أنه لا مجال لما أفاده الشيخ قدس سره من استصحاب العدم الأزلي إذا كان الزمان قيدا لوجوب الجلوس قبل الزوال (1) بل لابد في ذلك من الرجوع إلى أصالة البراءة أو الاشتغال. نعم : لا إشكال فيما افاده : من استصحاب الوجوب الثابت قبل الزوال إذا كان الزمان ظرفا للموضوع أو الحكم.
وعلى كل تقدير : لا يستقيم ما ذكره الفاضل المتقدم : من تعارض استصحاب الوجود والعدم في مثال وجوب الجلوس قبل الزوال مع الشك في وجوبه بعده ، فإنه إن اخذ الزمان ظرفا فلا يجري إلا استصحاب الوجوب ، وإن أخذ قيدا فلا يجري استصحاب الوجوب ولا استصحاب عدم الوجوب ، بل لابد من الرجوع إلى البراءة أو الاشتغال.
وأما ما ذكره من مثال الصوم : ففيه أولا : أنه لابد من فرض الصحة والمرض من حالات الموضوع والمكلف الذي يجب عليه الصوم لا من القيود المأخوذة فيه ، بداهة أنه لو كان المريض والصحيح موضوعين مستقلين يجب على أحدهما الافطار وعلى الآخر الامساك كالمسافر والحاضر ، فالشك في عروض المرض المسوغ للافطار يوجب الشك في بقاء الموضوع ، فلا مجال لاستصحاب الحكم ، لعدم اتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة.
ودعوى : كون المرض والصحة من الحالات لا القيود المقومة للموضوع واضحة الفساد (2).
ص: 448
وثانيا : ما تقدم من أنه لا يجرى استصحاب عدم الوجوب ، بالتقريب المتقدم.
وأما ما ذكره من مثال الوضوء والمذي والنجاسة والغسل مرة واحدة : ففيه مضافا إلى ما تقدم أن رتبة جعل المذي رافعا لاثر الطهارة أو غير رافع له إنما تكون متأخرة عن رتبة جعل الوضوء سببا للطهارة ، فلا يعقل أخذ عدم رافعية المذي قيدا في سببية الوضوء للطهارة ، فتأمل جيدا.
قد تقدم : أنه لا فرق في جريان الاستصحاب بين أن يكون الدليل المثبت للمستصحب هو العقل أو الكتاب والسنة. وقد خالف في ذلك الشيخ قدس سره فذهب إلى عدم جريان الاستصحاب إذا كان الدليل هو العقل ، وقد عرفت ضعفه. ونزيده في المقام وضوحا ، فنقول : إن البحث عن جريان الاستصحاب في باب المستقلات العقلية يقع في مقامات ثلاث :
الأول : في استصحاب نفس الحسن والقبح العقلي عند الشك في بقائه لأجل حصول الغاية أو وجود الرافع.
الثاني : في استصحاب الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي بقاعدة الملازمة.
الثالث : في استصحاب الموضوع الذي حكم العقل بحسنه أو قبحه والشارع بوجوبه أو حرمته.
أما المقام الأول : فلا أثر للبحث عنه ، إذ لا يترتب على استصحاب الحسن والقبح العقلي أثر إلا إذا أريد من استصحابه إثبات الحكم الشرعي : من الوجوب أو الحرمة (1) ولا يمكن إثبات ذلك إلا على القول بحجية الأصل
ص: 449
المثبت ، فان جريان الأصل في أحد المتلازمين لاثبات اللازم الآخر يكون من أوضح مصاديق الأصل المثبت ، وذلك واضح.
وأما المقام الثاني : فالحق جريان الاستصحاب فيه ، سواء كان الشك في الغاية أو الرافع ، وسواء كان الرافع والغاية شرعيين أو عقليين ، فإنه لا موجب لتوهم عدم جريان الاستصحاب فيه إلا تخيل كون الاحكام العقلية مما لا يعرضها الاجمال والاهمال فلا يمكن أن يدخلها الشك ، فان الشك في بقاء الحكم أو الموضوع لابد وأن يكون لأجل انتفاء بعض الخصوصيات التي يكون الحكم أو الموضوع واجدا لها ، فإنه مع بقاء الشيء على ما هو عليه لا يمكن أن يدخله الشك. ومن المعلوم : أن العقل لا يستقل بحسن شيء أو قبحه إلا بعد تشخيص الموضوع وتبينه لديه بتمام ما له دخل في الموضوع ، فكل خصوصية أخذها العقل في الموضوع فلابد وأن يكون لها دخل في ملاك حكمه ، فلا يمكن الشك في بقاء حكم العقل ، فإنه إن كان واجدا للخصوصية التي اعتبرها العقل فيه فلا محالة يقطع ببقاء الحكم ، وإن كان فاقدا لها فيقطع بارتفاع الحكم ، ولا يعقل الشك من نفس الحاكم خصوصا مثل العقل الذي لا يستقل بشيء إلا بعد الالتفات إليه بجميع ما يعتبر فيه ، فإذا كان كان الحكم العقلي مما لا يتطرق إليه الشك فالحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي أيضا لا يتطرق إليه الشك ، لان الحكم الشرعي تابع للحكم العقلي في الموضوع والملاك ، فلا يمكن أن يدخله الشك ، فالاستصحاب لا يجري ، لا في الحكم العقلي ولا في الحكم الشرعي المستكشف منه بقاعدة الملازمة.
ص: 450
هذا حاصل ما أفاده الشيخ قدس سره في وجه المنع عن جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية المستكشفة من الاحكام العقلية.
ولكنه ضعيف ، لما فيه :
أولا : المنع عن كون كل خصوصية اعتبرها العقل في موضوع حكمه لابد وأن يكون لها دخل في مناط حكم العقل ، إذ من الممكن أن لا تكون للخصوصية دخل في المناط واقعا ، وإنما أخذها العقل في موضوع حكمه لمكان أن الموضوع الواجد لها هو المتيقن في اشتماله على الملاك بنظر العقل ، مع أن العقل يحتمل أن لا يكون لها دخل في الملاك واقعا ، فيكون حكم العقل بحسن الواجد لها أو قبحه من باب الاخذ بالقدر المتيقن.
ودعوى : أن الاحكام العقلية كلها مبينة مفصلة مما لا شاهد عليها ، إذ من المحتمل أن يكون حكم العقل بقبح الكذب الضار الغير النافع من جهة أن الكذب الواجد لهذه الخصوصيات هو المتيقن في قبحه وقيام المفسدة به ، مع أنه يحتمل أن لا يكون لخصوصية الضرر أو عدم النفع دخل فيما هو مناط القبح ، بل يكون نفس العقل شاكا في قبح الكذب الغير الضار.
وثانيا : سلمنا أن كل خصوصية أخذها العقل في موضوع حكمه فلابد وأن يكون لها دخل في المناط بنظر العقل ، إلا أن ذلك يمنع عن استصحاب حكم العقل ، وليس المقصود ذلك ، لما عرفت : من أن استصحاب حكم العقل لا أثر له ، بل المقصود استصحاب حكم الشرع ، فيمكن أن لا يكون لبعض الخصوصيات التي أخذها العقل في موضوع حكمه دخل في الموضوع عرفا ، فلا يضر انتفائها ببقاء الموضوع عرفا (1) والمناط في جريان الاستصحاب هو بقاء
ص: 451
الموضوع عرفا لا عقلا. فالانصاف : أنه لا مجال للاشكال في جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية المستكشفة من الاحكام العقلية ، وقد تقدم الكلام في ذلك أيضا.
وأما المقام الثالث : وهو استصحاب بقاء الموضوع الذي حكم العقل بحسنه أو قبحه والشارع بوجوبه أو حرمته ، فخلاصة الكلام فيه : هو أن الشك في بقاء الموضوع إن كان لأجل انتفاء بعض الخصوصيات التي يحتمل دخلها في موضوعية الموضوع (1) فلا إشكال أيضا في جريان استصحاب بقاء الموضوع إن لم تكن تلك الخصوصية من أركان الموضوع عرفا ولا يضر انتفائها ببقائه في نظر العرف وإن كانت عند العقل من مقومات الموضوع وأركانه ، فان كونها عند العقل كذلك إنما يضر بالاستصحاب إذا بنينا على أخذ الموضوع في باب الاستصحاب من العقل ، وأما إذا بنينا على أخذه من العرف - على ما سيأتي بيانه - فكونها من مقومات الموضوع عقلا لا يمنع عن الاستصحاب. هذا ، مضافا إلى ما عرفت : من أنه يحتمل أن لا يكون لها دخل في الموضوع عقلا ، بل إنما كان حكم العقل على الواجد لها من باب الاخذ بالقدر المتيقن ، فمنع الشيخ قدس سره عن جريان الاستصحاب في هذا القسم من الشك في الموضوع في غير محله.
ص: 452
وإن كان الشك في بقاء الموضوع لبعض الأمور الخارجية كالشك في بقاء وصف الاضرار في السم لاحتمال أن يكون قد تصرف الهواء فيه بحيث زال عنه وصف الاضرار ، فظاهر الشيخ قدس سره جريان الاستصحاب فيه إذا بنينا على حجية الاستصحاب من باب إفادته الظن بالبقاء لا من باب التعبد.
وهذا الكلام من الشيخ قدس سره بمكان من الغرابة! بداهية أن الظن المعتبر في باب الاستصحاب على القول بإفادته الظن إنما هو الظن النوعي لا الظن الشخصي ، فإنه لم يحتمل أحد اعتبار الظن الفعلي في جريان الاستصحاب ، والظن المعتبر في باب الظن بالضرر إنما هو الضرر الشخصي الفعلي ، فان العقل إنما يستقل بقبح الاقدام على الضرر المظنون فعلا ، واستصحاب بقاء الضرر في السم لا يوجب حصول الظن الفعلي ، وذلك واضح.
وعلى كل حال : ينبغي في المقام من تحرير الكلام في جميع موارد الشك في موضوعات الاحكام العقلية ، وإن كان قد سبق منا الكلام فيه.
وهو أنه ليس في الاحكام العقلية ما يستقل العقل بالبراءة فيها عند الشك في الموضوع الذي يحكم العقل بقبحه (1) بل للعقل حكم طريقي في صورة الشك
ص: 453
ص: 454
في الموضوع على طبق حكمه الواقعي ، ولا يمكن أن لا يكون للعقل حكم في موارد الشك في الموضوع أو يكون له حكم على خلاف حكمه على الموضوع الواقعي ، بل إذا استقل العقل بقبح الاقدام على شيء فلابد وأن يكون له حكم طريقي آخر بقبح الاقدام على مالا يؤمن أن يكون هو الموضوع للقبح ، وهذا بخلاف الأحكام الشرعية ، فان للشارع أن يجعل في صورة الشك في الموضوع حكما مخالفا للحكم الذي رتبه على الموضوع أولا ، وله أيضا أن يجعل في صورة الشك في الموضوع حكما موافقا لما حكم به أولا ، كما جعل أصالة الاحتياط في باب الدماء والفروج والأموال وأصالة البراءة فيما عدا هذه الموارد الثلاثة.
ومنشأ الفرق بين الأحكام الشرعية والاحكام العقلية ، هو أن الأحكام الشرعية إنما تتبع المصالح والمفاسد النفس الأمرية ، وهي تختلف ، فقد تكون المفسدة بمرتبة من الأهمية بحيث لا يرضى الشارع بالاقتحام فيها مهما أمكن ، وقد لا تكون المفسدة بتلك المثابة ، فلو كانت المفسدة على الوجه الأول فعلى
ص: 455
الشارع سد باب الوقوع فيها ولو بإيجاب الاحتياط في موارد الشك - كما أوجبه في باب الدماء والفروج والأموال - وإن كانت المفسدة على الوجه الثاني فللشارع الترخيص في الاقتحام في موارد الشك بجعل أصالة البراءة والحل. وطريق إحراز كون المفسدة على أي من الوجهين إنما يكون بقيام الدليل عليه ، فان قام الدليل على وجوب الاحتياط في موارد الشك فهو ، وإلا كان المتبع عمومات أدلة البراءة والحل.
وأما الاحكام العقلية : فحكم العقل بقبح شيء إنما يكون على وجه الاطلاق وفي جميع التقادير ، من غير فرق بين العلم والظن والشك ، فإذا استقل العقل بقبح شيء فيستقل أيضا بقبح الاقدام على مالا يؤمن معه من الوقوع في القبيح العقلي ، فالأصل في جميع المستقلات العقلية هو الاشتغال ، ولا مجال للاخذ بالبراءة فيها.
إذا عرفت ذلك فاعلم : أن العقل إذا استقل بحسن شيء أو قبحه ، فتارة : يكون له حكم واحد بمناط واحد يعم صورة العلم بتحقق الموضوع والظن به والشك فيه بل الوهم أيضا ، كحكمه بقبح التشريع ، فان موضوع التشريع وإن كان عبارة عن إدخال ما ليس من الدين في الدين ، إلا أن الذي يستقل العقل بقبحه هو التدين بما لا يعلم أنه من الدين وإسناد شيء إلى الشارع من دون علم بأنه منه ، سواء علم بأنه ليس منه أو ظن أو شك ، فيكفي في القبيح العقلي مجرد احتمال عدم ورود التدين به ، وليس حكم العقل بقبح التشريع في صورة العلم بعدم ورود التدين به في الشريعة بمناط غير مناط حكمه بقبح التشريع في صورة الظن والشك ، بل بمناط واحد يستقل بقبح التدين بما لا يعلم أنه من الدين.
وأخرى : يكون للعقل حكمان : حكم واقعي مترتب على الموضوع الواقعي عند انكشافه والعلم به ، وحكم آخر طريقي في صورة الظن والشك في تحقق الموضوع ، كحكمه بقبح التصرف في أموال الناس ، فان القبيح العقلي هو
ص: 456
التصرف فيما كان مال الناس واقعا ، وأما عند الشك في كون المال مال الناس فله حكم طريقي بقبح التصرف في المشكوك مخافة أن يكون مال الناس واقعا ، فحكم العقل بقبح التصرف في المشكوك إنما يكون لمحض الاحتياط والطريقية ، نظير حكم الشارع بالاحتياط في باب الفروج والدماء.
إذا تبين ذلك ، فنقول : إنه في القسم الأول من الاحكام العقلية لا تجري الأصول العملية في موارد الشك في الموضوع ولا مجال للتعبد بها. لأن الشك بنفسه موضوع لحكم العقل بالقبح ، فيكون الحكم العقلي محرزا بالوجدان ، وذلك واضح.
وأما القسم الثاني : وهو ما إذا كان للعقل في مورد الشك حكم طريقي ، فالأصول المحرزة كالاستصحاب تجري ويرتفع بها موضوع الحكم العقلي الطريقي ، سواء كان موافقا لمؤدى الأصل الشرعي أو مخالفا له ، فان حكم العقل بقبح التصرف في المال المشكوك كونه مال الناس إنما هو لمجرد الاحتياط وعدم الامن من الوقوع في مخالفة الواقع - نظير حكمه بالاحتياط في أطراف الشبهة المحصورة - فيرتفع موضوعه بالاستصحاب المثبت كونه مال الناس أو مال الشخص ، لحصول المؤمن في الثاني واندراج المشكوك في الموضوع الواقعي في الأول ، فلا يبقى مجال للحكم العقلي الطريقي.
هذا إذا كان في المشكوك أصل موضوعي محرز ومثبت لاحد طرفي الشك. وأما إذا لم يكن في المشكوك أصل موضوعي محرز ووصلت النوبة إلى أصالة البراءة والحل ، فالحكم العقلي الطريقي يكون حاكما ومقدما في الرتبة على أصالة البراءة والحل ، لان موردهما أعم من المستقلات العقلية ، فلو قدم أصالة البراءة والحل يبقى الحكم العقلي الطريقي بلا مورد ، وقد تقدم البحث عن ذلك في مباحث البراءة والاشتغال.
ص: 457
قد اصطلح على بعض أقسام الاستصحاب بالاستصحاب التعليقي ، وقيل بحجيته. والأقوى : ان الاستصحاب التعليقي مما لا أساس له إلا على بعض الوجوه المتصورة فيه ، وتحقيق الكلام في ذلك يستدعي تقديم أمور :
الأول : يعتبر في الاستصحاب الوجودي أن يكون المستصحب شاغلا لصفحة الوجود في الوعاء المناسب له : من وعاء العين أو وعاء الاعتبار ، إذ لا يعقل التعبد ببقاء وجود مالا وجود له ، وكذا يعتبر في الاستصحاب أن يكون المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا ذا حكم شرعي حتى يصح التبعد ببقائه باعتبار حكمه ، وأما الموضوعات التي لا يترتب على بقائها أثر شرعي فلا معنى للتعبد بها ، وذلك كله واضح.
الامر الثاني : الأسماء والعناوين المأخوذة في موضوعات الاحكام - كالحنطة والعنب والحطب ونحو ذلك من العناوين - تارة : يستفاد من نفس الدليل أو من الخارج أن لها دخلا في موضوع الحكم ، بحيث يدور الحكم مدار بقاء العنوان ويرتفع الحكم بارتفاعه ولو مع بقاء الحقيقة ، كما إذا علم أن لعنوان الحنطة دخلا في الحكم بالإباحة والطهارة ، فيرتفع الحكم بهما بصيرورة الحنطة دقيقا أو عجينا أو خبزا.
وأخرى : يستفاد من الدليل أو من الخارج أنه ليس للوصف العنواني دخل في الحكم ، بل الحكم مترتب على نفس الحقيقة والذات المحفوظة في جميع التغيرات والتقلبات الواردة على الحقيقة التي توجب تبدل ما كان لها من العنوان والاسم إلى عنوان واسم آخر مع انحفاظ الحقيقة.
وثالثة : لا يستفاد أحد الوجهين من الخارج أو من دليل الحكم ، بل يشك في مدخلية العنوان والاسم في ترتب الحكم عليه.
ص: 458
ولا إشكال في حكم الوجهين الأولين ، فإنه في الأول منهما يجب الاقتصار في ترتب الحكم على بقاء العنوان ، ولا يجوز ترتيب آثار بقاء الحكم مع زوال الوصف العنواني عن الحقيقة ، وفي الثاني يجوز التعدي إلى غير ما اخذ في ظاهر الدليل عنوانا للموضوع ، بل يجب ترتيب آثار بقاء الحكم في جميع التغيرات والتبدلات الواردة على الحقيقة وإن سلب عنها العنوان والاسم الذي كان لها أولا.
وبهذين الوجهين يجمع بين قولهم : « الاحكام لا تدور مدار الأسماء » وبين قولهم : « إنها تدور مدار الأسماء » فان المراد من كونها « لا تدور مدار الأسماء » هو ما إذا كان الحكم واردا على نفس الحقيقة والذات بلا دخل للاسم والعنوان فيه ، والمراد من كونها « تدور مدار الأسماء » هو أنه لو كان للعنوان والاسم دخل في الحكم ، فلا يتوهم المناقضة بين القولين. وقد عرفت : أن استفادة أحد الوجهين إنما يكون من الخارج أو من الدليل ، ولا مجال للاستصحاب في كل من الوجهين ، لأنه لا موقع للاستصحاب مع قيام الدليل على أحدهما.
وأما الوجه الثالث : وهو ما إذا لم يحصل العلم بأحد الوجهين وشك في كون الوصف العنواني له دخل في الحكم أولا
فان كانت المراتب المتبادلة والحالات الواردة على الحقيقة متباينة عرفا - بحيث تكون الذات الواجدة لعنوان خاص تباين الذات الفاقدة له وكان الوصف العنواني بنظر العرف مقوما للحقيقة والذات - كان ارتفاع الوصف عن الذات موجبا لانعدام الحقيقة عرفا ، فلا إشكال أيضا في وجوب الاقتصار على ما اخذ في الدليل عنوانا للموضع ولا يجوز التعدي عنه ، لان الذات الفاقدة للوصف موضوع آخر يباين ما اخذ في الدليل موضوعا للحكم ، ولا يجري فيه الاستصحاب ، لأنه يلزم تسرية حكم من موضوع إلى موضوع آخر.
ص: 459
وأما إذا لم تكن المراتب المتبادلة موجبة لتغير الحقيقة والذات عرفا ، بل كانت المراتب من الحالات التي لا يضر تبادلها في صدق بقاء الحقيقة وكانت الذات عرفا باقية ومحفوظة في جميع التبدلات والتقلبات الواردة عليها أو في بعضها ، ففي مثل ذلك يجري استصحاب بقاء الحكم ويثبت بقائه في الحالات المتبادلة ، ولا يضر في جريان الاستصحاب عدم صدق العنوان والاسم عند ارتفاع ما اخذ في ظاهر الدليل عنوانا للموضوع بعد بقاء الحقيقة على ما هي عليها.
فمورد الاستصحاب هو ما إذا كان دليل الحكم غير متكفل لحكم المشكوك فيه ولكن كان المشكوك فيه بنظر العرف عين المتيقن ، سواء صدق على المشكوك اسم المتيقن أو لم يصدق عليه اسم المتيقن.
ولا يتوهم : أنه مع صدق اسم المتيقن على المشكوك لا يحتاج في إثبات الحكم إلى الاستصحاب بل يكفي في ثبوت الحكم للمشكوك نفس الدليل الذي رتب الحكم فيه على المسمى بالاسم الكذائي. فإنه يمكن أن لا يكون لدليل الحكم إطلاق يعم صورة تبدل الحالة التي لا تضر ببقاء الاسم والعنوان ، فنحتاج فني إثبات الحكم مع تبدل بعض حالات الموضوع إلى الاستصحاب.
الامر الثالث : المستصحب إذا كان حكما شرعيا ، فإما أن يكون حكما جزئيا وإما أن يكون حكما كليا ، ونعني بالحكم الجزئي هو الحكم الثابت على موضوعه عند تحقق الموضوع خارجا الموجب لفعلية الحكم - على ما تكرر منا من أن فعلية الحكم إنما يكون بوجود موضوعه في الخارج - فعند وجود زيد المستطيع خارجا يكون وجوب الحج في حقه فعليا ، وهو المراد من الحكم الجزئي في مقابل الحكم الكلي ، وهو الحكم المنشأ على موضوعه المقدر وجوده على نهج القضايا الحقيقية ، كوجوب الحج المنشأ أزلا على البالغ العاقل المستطيع.
ثم إن الشك في بقاء الحكم الجزئي لا يتصور إلا إذا عرض لموضوعه
ص: 460
الخارجي ما يشك في بقاء الحكم معه ، ولا إشكال في استصحابه.
وأما الشك في بقاء الحكم الكلي : فهو يتصور على أحد وجوه ثلاث :
الأول : الشك في بقائه من جهة احتمال النسخ ، كما إذا شك في نسخ الحكم الكلي المجعول على موضوعه المقدر وجوده ، فيستصحب بقاء الحكم الكلي المترتب على الموضوع أو بقاء سببية الموضوع للحكم ، على القولين في أن المجعول الشرعي هل هو نفس الحكم الشرعي؟ أو سببية الموضوع للحكم؟ وقد تقدم تفصيل ذلك في الأحكام الوضعية ، وعلى كلا الوجهين المستصحب إنما هو المجعول الشرعي والمنشأ الأزلي قبل وجود الموضوع خارجا إذا فرض الشك في بقائه وارتفاعه لأجل الشك في النسخ وعدمه ، ولا إشكال أيضا في جريان استصحاب بقاء الحكم على موضوعه وعدم نسخه عنه.
ونظير استصحاب بقاء الحكم عند الشك في النسخ استصحاب الملكية المنشأة في العقود العهدية التعليقية ، كعقد الجعالة والسبق والرماية ، فان ملكية العوض المنشأة في هذه العقود غير الملكية المنشأة في عقد البيع والصلح ، إذ العاقد في عقد البيع والصلح إنما ينشأ الملكية المنجزة ، وأما في العقود التعليقية : فالعقد ينشأ الملكية على تقدير خاص ، كرد الضالة في عقد الجعالة وتحقق السبق وإصابة الرمي في عقد السبق والرماية ، فكانت الملكية المنشأة في هذه العقود تشبه الاحكام المنشأة على موضوعاتها المقدرة وجودها ، فلو شك في كون عقد السبق والرماية من العقود اللازمة التي لا تنفسخ بفسخ أحد المتعاقدين أو من العقود الجايزة التي تنفسخ بفسخ أحدهما يجري استصحاب بقاء الملكية المنشأة إذا فسخ أحد المتعاقدين في الأثناء قبل تحقق السبق وإصابة الرمي ، كما يجري استصحاب بقاء الملكية المنشأة في العقود التنجيزية إذا شك في لزومها وجوازها.
وقد منع الشيخ قدس سره - في مبحث الخيارات من المكاسب - عن
ص: 461
جريان الاستصحاب في العقود التعليقية ، مع أنه من القائلين بصحة الاستصحاب التعليقي في مثل العنب والزبيب ، ويا ليته! عكس الامر واختار المنع عن جريان الاستصحاب التعليقي في مثال العنب والزبيب والصحة في استصحاب الملكية المنشأة في العقود التعليقية.
أما وجه المنع عن جريان الاستصحاب في مثال العنب والزبيب : فلما سيأتي بيانه. واما وجه الصحة في الملكية المنشأة في العقود التعليقية : فلان حال الملكية المنشأة فيها حال الاحكام المنشأة على موضوعاتها ، وكما يصح استصحاب بقاء الحكم عند الشك في نسخه ولو قبل فعليته بوجود الموضوع خارجا ، كذلك يصح استصحاب بقاء الملكية المعلقة عند الشك في بقائها ولو قبل فعليتها بتحقق السبق وإصابة الرمي خارجا.
الوجه الثاني : الشك في بقاء الحكم الكلي على موضوعه المقدر وجوده عند فرض تغير بعض حالات الموضوع ، كما لو شك في بقاء النجاسة في الماء المتغير الذي زال عنه التغير من قبل نفسه ، ولا إشكال في جريان استصحاب بقاء الحكم في هذا الوجه أيضا ، وهذا القسم من استصحاب الحكم الكلي هو الذي تعم به البلوى ويحتاج إليه المجتهد في الشبهات الحكمية ولا حظ للمقلد فيها.
والفرق بين هذا الوجه من الاستصحاب الكلي والوجه الأول ، هو أنه في الوجه الأول لا يتوقف حصول الشك في بقاء الحكم الكلي على فرض وجود الموضوع خارجا وتبدل بعض حالاته ، لأن الشك في الوجه الأول إنما كان في نسخ الحكم وعدمه ، ونسخ الحكم عن موضوعه لا يتوقف على فرض وجود الموضوع. وأما الشك في بقاء الحكم الكلي في الوجه الثاني : فهو لا يمكن إلا بعد فرض وجود الموضوع خارجا وتبدل بعض حالاته ، بداهة أنه لولا فرض وجود الماء المتغير بالنجاسة والزائل عنه الغير لا يعقل الشك في بقاء نجاسته ، فلابد من فرض وجود الموضوع ليمكن حصول الشك في بقاء حكمه عند فرض تبدل
ص: 462
بعض حالاته.
نعم : لا يتوقف الشك فيه على فعلية وجود الموضوع خارجا ، فان فعلية وجود الموضوع إنما يتوقف عليه حصول الشك في بقاء الحكم الجزئي ، وأما الشك في بقاء الحكم الكلي : فيكفي فيه فرض وجود الموضوع وتبدل بعض حالاته ، فهذا الوجه يشارك الوجه الأول من جهة وهي كون المستصحب فيه حكما كليا ، ويفارقه من جهة أخرى وهي توقف حصول الشك فيه على فرض وجود الموضوع ، بخلاف الوجه الأول.
نعم : المستصحب في كل منهما لا يخلو عن نحو من التقدير والتعليق ، فان المستصحب عند الشك في النسخ هو الحكم الكلي المعلق على موضوعه المقدر وجوده عند إنشائه وإن كان لا يحتاج إلى تقدير وجود الموضوع عند نسخه واستصحابه ، والمستصحب في غير الشك في النسخ هو الحكم الفعلي على فرض وجود الموضوع وتبدل بعض حالاته ، فيحتاج إلى تقدير وجود الموضوع عند استصحابه. وعلى كل حال : لا مجال للتأمل في صحة الاستصحاب عند الشك في بقاء الحكم الكلي في كل من الوجهين.
الوجه الثالث : من الوجه المتصورة في الشك في بقاء الحكم الكلي ، هو الشك في بقاء الحكم المرتب على موضوع مركب من جزئين عند فرض وجود أحد جزئيه وتبدل بعض حالاته قبل فرض وجود الجزء الآخر (1) كما إذا شك
ص: 463
ص: 464
ص: 465
في بقاء الحرمة والنجاسة المترتبة على العنب على تقدير الغليان عند فرض وجود العنب وتبدله إلى الزبيب قبل غليانه ، فيستصحب بقاء النجاسة والحرمة للعنب على تقدير الغليان ، ويترتب عليه نجاسة الزبيب عند غليانه إذا فرض أن وصف العنبية والزبيبية من حالات الموضوع لا أركانه ، وهذا القسم من الاستصحاب هو المصطلح عليه بالاستصحاب التعليقي.
وبعبارة أوضح : نعني بالاستصحاب التعليقي « استصحاب الحكم الثابت على الموضوع بشرط بعض ما يلحقه من التقادير » فيستصحب الحكم بعد فرض وجود المشروط وتبدل بعض حالاته قبل وجود الشرط ، كاستصحاب بقاء حرمة العنب عند صيرورته زبيبا قبل فرض غليانه. وفي جريان استصحاب الحكم في هذا الوجه وعدم جريانه قولان :
أقواهما : عدم الجريان ، لان الحكم المترتب على الموضوع المركب إنما يكون وجوده وتقرره بوجود الموضوع بما له من الاجزاء والشرائط ، لان نسبة الموضوع
ص: 466
إلى الحكم نسبة العلة إلى المعلول ، ولا يعقل أن يتقدم الحكم على موضوعه ، والموضوع للنجاسة والحرمة في مثال العنب إنما يكون مركبا من جزئين : العنب والغليان من غير فرق بين أخذ الغليان وصفا للعنب ، كقوله : « العنب المغلي يحرم وينجس » أو أخذه شرطا له ، كقوله : « العنب إذا غلى يحرم وينجس » لان الشرط يرجع إلى الموضوع (1) ويكون من قيوده لا محالة ، فقبل فرض غليان العنب لا يمكن فرض وجود الحكم ، ومع عدم فرض وجود الحكم لا معنى لاستصحاب بقائه ، لما تقدم : من أنه يعتبر في الاستصحاب الوجودي أن يكون للمستصحب نحو وجود وتقرر في الوعاء المناسب له ، فوجود أحد جزئي الموضوع المركب كعدمه لا يترتب عليه الحكم الشرعي ما لم ينضم إليه الجزء الآخر.
نعم : الأثر المترتب على أحد جزئي المركب هو أنه لو انضم إليه الجزء الآخر لترتب عليه الأثر ، وهذا المعنى مع أنه عقلي مقطوع البقاء في كل مركب وجد أحد جزئيه ، فلا معنى لاستصحابه ، وقد تقدم في مبحث الأقل والأكثر : أنه لا يمكن استصحاب الصحة التأهلية لجزء المركب عند احتمال طرو القاطع أو المانع ، لان الصحة التأهلية مما لا شك في بقائها ، فإنها عبارة عن كون الجزء على وجه لو انضم إله الجزء الآخر لترتب عليه الأثر ، ففي ما نحن فيه ليس للعنب المجرد من الغليان أثر إلا كونه لو انضم إليه الغليان لثبتت حرمته وعرضت عليه النجاسة ، وهذا المعنى مما لا شك في بقائه ، فلا معنى
ص: 467
لاستصحابه.
وحاصل الكلام : أن الشك في بقاء الحرمة والنجاسة المحمولين على العنب المغلي إنما يمكن بوجهين - أحدهما : الشك في رفع الحرمة والنجاسة عنه بالنسخ. ثانيهما : الشك في بقاء الحرمة والنجاسة عند تبدل بعض الحالات بعد فرض وجود العنب المغلي بكلا جزئيه ، كما إذا شك في بقائهما عند ذهاب ثلثه. ولا إشكال في استصحاب بقاء الحرمة والنجاسة للعنب في كل من الوجهين ، كما تقدم.
وليس هذا مراد القائل بالاستصحاب التعليقي ، ونحن لا نتصور للشك في بقاء النجاسة والحرمة للعنب المغلي وجها آخر غير الوجهين المتقدمين ، فالاستصحاب التعليقي بمعنى لا يرجع إلى استصحاب عدم النسخ ولا إلى استصحاب الحكم عند فرض وجود الموضوع بجميع أجزائه وقيوده وتبدل بعض حالاته ، مما لا أساس له ولا يرجع إلى معنى محصل.
وما يقال : من أنه يمكن فرض بقاء النجاسة والحرمة في المثال بوجه آخر لا يرجع إلى الوجهين السابقين ، بتقريب : أن العنب قبل غليانه وإن لم يكن معروضا للحرمة والنجاسة الفعلية لعدم تحقق شرط الموضوع ، إلا أنه معروض للحرمة والنجاسة التقديرية ، لأنه يصدق على العنب عند وجوده قبل غليانه أنه حرام ونجس على تقدير الغليان ، فالحرمة والنجاسة التقديرية ثابتتان للعنب قبل غليانه ، فيشك في بقاء النجاسة والحرمة التقديرية عند صيرورة العنب زبيبا - بعدما كان عنوان العنبية والزبيبية من حالات الموضوع لا من مقوماته - فعدم حصول الغليان إنما يمنع عن الشك في بقاء الحرمة والنجاسة الفعلية واستصحابهما ، لا عن الشك في بقاء الحرمة والنجاسة التقديرية واستصحابهما
فهو واضح الفساد ، فان الحرمة والنجاسة الفرضية التقديرية لا معنى لاستصحابهما ، إذ ليست الحرمة والنجاسة الفرضية في العنب الغير المغلي إلا
ص: 468
عبارة عن « أن العنب لو انضم إليه الغليان لترتبت عليه النجاسة والحرمة » وهذه القضية التعليقية - مضافا إلى أنها عقلية لأنها لازم جعل الحكم على الموضوع المركب الذي وجد أحد جزئيه - مقطوعة البقاء لا معنى لاستصحابها ، كما تقدم.
وأما حديث كون عنوان العنب والزبيب من حالات الموضوع لا مقوماته فهو أجنبي عما نحن بصدده ، فإن اعتبار كون الخصوصية المنتفية من الحالات لا المقومات إنما هو في مرحلة الحكم ببقاء المتيقن بعد الفراغ عن ثبوته وحدوثه ، والكلام في المقام إنما هو في مرحلة الثبوت والحدوث ، لما عرفت : من أنه لم يحدث الحكم المترتب على الموضوع المركب إلا بعد وجود جميع أجزائه ، والعنب قبل الغليان جزء الموضوع فلم تحدث فيه النجاسة والحرمة حتى يقال : إن خصوصية العنبية والزبيبية من الحالات لا المقومات.
وبعبارة أوضح : حديث أخذ الموضوع من العرف واتحاد القضية المشكوكة للقضية المتيقنة إنما هو باعتبار مفاد أخبار الاستصحاب ، يعني أن المشكوك فيه في قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » لابد وأن يكون متحدا مع المتيقن السابق اتحادا عرفيا ، لا عقليا. وليس معنى أخذ الموضوع من العرف أخذ موضوع الدليل الذي رتب الحكم فيه على الموضوع من العرف ، فإنه لو كان المراد منه ذلك لكان ثبوت الحكم على الموضوع الذي تبدل بعض حالاته مما يفيده نفس دليل الحكم ، ولا يبقى موقع لاثباته بالاستصحاب.
والحاصل : أن أخذ موضوع الدليل المثبت للحكم من العرف غير أخذ موضوع الاستصحاب من العرف ، فان معنى أخذ موضوع الدليل من العرف هو أنه لو قام الدليل على طهارة الحطب مثلا فالمرجع في تعيين معنى الحطب ومقدار سعة مفهومه وضيقه إلى العرف ، فلو شك في أن القصب من الحطب أو لا ، فيرجع إلى العرف ، فان كان العرف يرى القصب من أفراد الحطب
ص: 469
بحسب ما ارتكز في ذهنه من معنى الحطب ، فيكون حكم القصب حكم سائر أفراد الحطب ويشمله دليل طهارة الحطب ، وإن لم يكن القصب من أفراد الحطب عرفا أو توقف العرف في كونه من أفراده ، فلا يشمله دليل طهارة الحطب ، بل لابد في الحكم بطهارته ونجاسته من الرجوع إلى دليل آخر لو كان ، وإلا فإلى الأصول العملية ، فهذا معنى أخذ موضوع الدليل من العرف.
وأما معنى أخذ موضوع الاستصحاب من العرف : فهو إنما يكون بعد الفراغ عن أن موضوع الدليل لا يعم المشكوك فيه عرفا بل للمشكوك فيه معنى يباين ما لموضوع الدليل من المعنى بحسب المرتكز العرفي ، كما إذا شك في بقاء طهارة الحطب بعدما صار فحما ، فان للحطب مفهوما يباين مفهوم الفحم عرفا ، ولا يكاد يشك العرف في عدم صدق الحطب على الفحم ، ومع هذا يجري استصحاب بقاء طهارة الحطب عند صيرورته فحما ، لان مفهوم الحطب وإن كان يباين مفهوم الفحم عرفا ، إلا أن العرف بحسب مناسبة الحكم والموضوع يرى أن معروض الطهارة ذات الحطب المحفوظة في الفحم أيضا وأن عنوان الحطب كان علة لعروض الطهارة على الذات ، فيشك في أنه علة حدوثا وبقاء فتزول الطهارة عن الذات عند انعدام عنوان الحطب بتبدله فحما لزوال علتها ، أو أن عنوان الحطب علة لحدوث الطهارة على الذات فقط من دون أن يكون علة للبقاء أيضا فتبقى الطهارة ما دامت الذات محفوظة عرفا ، ومعنى انحفاظ الذات عرفا ، هو أن العرف يرى اتحاد ذات الفحم لذات الحطب ، فتتحد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة عرفا ويجري فيها الاستصحاب لو فرض الشك في بقاء الطهارة في الفحم.
بخلاف الرماد ، فان ذات الرماد وإن كانت هي ذات الحطب عقلا ، إلا أن العرف يرى التباين بين ذات الرماد وذات الحطب ، فتختلف القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة لو فرض الشك في بقاء الطهارة في الرماد ، فلا
ص: 470
يجري فيه استصحاب الطهارة.
فظهر : أن حديث أخذ الموضوع من العرف في باب الاستصحاب وكون وصف العنبية والزبيبية من الخصوصيات التي لا تضر تبادلها ببقاء الموضوع عرفا أجنبي عن المقام ، فإن أخذ الموضوع في باب الاستصحاب من العرف إنما هو بعد الفراغ عن تشخيص مفهوم الموضوع الذي رتب عليه الحكم في لسان الدليل وتعيين ما ينطبق عليه المفهوم وبعد ثبوت الحكم على موضوعه ، وأين هذا مما نحن فيه : من استصحاب نجاسة العنب وحرمته عند صيرورته زبيبا قبل فرض غليانه؟ مع أن النجاسة والحرمة إنما يعرضان للعنب المغلي ، فقبل غليان العنب لا نجاسة ولا حرمة ، والحرمة والنجاسة التقديرية قد عرفت أنه لا معنى لاستصحابها ، فأين المتيقن وما المستصحب؟ فيبقى نجاسة الزبيب المغلي وحرمته مشكوكة الحدوث ، فان الزبيب المغلي غير العنب المغلي كمغايرة الفحم للحطب ، فلا يعمه أدلة نجاسة العنب المغلي وحرمته.
هذا كله إذا أراد القائل بالاستصحاب التعليقي استصحاب نفس الحرمة والنجاسة العارضتين على العنب المغلي. وإن أراد به استصحاب الملازمة بين الغليان والنجاسة والحرمة وسببيته لهما ، كما يظهر من كلام الشيخ قدس سره ففيه :
أولا : أن الملازمة بين غليان العنب ونجاسته وحرمته وإن كانت أزلية تنتزع من جعل الشارع وانشائه النجاسة والحرمة على العنب المغلي أزلا ويكون انقلاب العنب إلى الزبيب منشأ للشك في بقاء الملازمة ، إلا أنه قد عرفت في الأحكام الوضعية : أن الملازمة والسببية لا يعقل أن تنالها يد الجعل الشرعي ، فلا يجري استصحاب بقاء الملازمة والسببية في شيء من الموارد ، لان المستصحب لابد وأن يكون حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي (1). والعجب
ص: 471
من الشيخ قدس سره ! حيث إنه شدد النكير على من قال بجعل السببية والملازمة ، ومع ذلك ذهب إلى جريان استصحاب الملازمة في الاستصحاب التعليقي.
وثانيا : إن الملازمة على تقدير تسليم كونها من المجعولات الشرعية فإنما هي مجعولة بين تمام الموضوع والحكم ، بمعنى أن الشارع جعل الملازمة بين العنب المغلي وبين نجاسته وحرمته ، والشك في بقاء الملازمة بين تمام الموضوع والحكم لا يعقل إلا بالشك في نسخ الملازمة ، فيرجع إلى استصحاب عدم النسخ ولا إشكال فيه ، وهو غير الاستصحاب التعليقي المصطلح عليه. فالانصاف : أن الاستصحاب التعليقي مما لا أسا له ، ولا يرجع إلى معنى محصل (1).
مع أن القائل به لا أظن أن يلتزم بجريانه في جميع الموارد ، فإنه لو شك في كون اللباس متخذا من مأكول اللحم أو من غيره ، فالحكم بصحة الصلاة فيه تمسكا بالاستصحاب التعليقي بدعوى « أن المكلف لو صلى قبل لبس المشكوك كانت صلاته صحيحة فتستصحب الصحة التعليقية إلى ما بعد لبس المشكوك والصلاة فيه » مما لا أظن أن يلتزم به القائل بالاستصحاب التعليقي ، ولو فرض أنه التزم به فهو بمكان من الغرابة!!.
هذا كله مضافا إلى ما في خصوص مثال العنب والزبيب من المناقشة في الموضوع ، فان الذي ينجس بالغليان إنما هو ماء العنب لا جرمه إلا تبعا ،
ص: 472
فالموضوع للنجاسة هو الماء وقد انعدم بصيرورة العنب زبيبا ، والباقي في الحالين إنما هو الجرم وهو ليس موضوعا للنجاسة والحرمة ، والزبيب لا يغلي إلا إذا اكتسب ماء جديدا من الخارج ، وغليان الماء المكتسب من الخارج ليس موضوعا للنجاسة والحرمة ، فالموضوع لهما قد ارتفع قطعا ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا. تتمة :
لو بنينا على جريان الاستصحاب التعليقي وكونه مثبتا لنجاسة الزبيب وحرمته عند غليانه ، ففي حكومته على استصحاب الطهارة والحلية الفعلية الثابتة للزبيب قبل غليانه وعدمه وجهان (1) أقواهما : الأول ، فإنه لا موجب
ص: 473
لتعارض الاستصحابين إلا توهم : أن الاستصحاب التعليقي كما يقتضي نجاسة الزبيب وحرمته بعد الغليان كذلك استصحاب حلية الزبيب وطهارته الثابتة له قبل الغليان يقتضي حليته وطهارته بعد الغليان ، وليس الشك في أحدهما مسببا عن الشك في الآخر ، فان الشك في بقاء الطهارة والحلية يلازم الشك في بقاء النجاسة والحرمة وبالعكس ، فهما في رتبة واحدة ، والاستصحابان يجريان في عرض واحد ، فيتعارضان ويتساقطان ويرجع إلى أصالة الطهارة والحلية.
هذا ، ولكن فيه : أن الشك في حلية الزبيب وطهارته الفعلية بعد الغليان وإن لم يكن مسببا عن الشك في نجاسته وحرمته الفعلية بعد الغليان وإنما كان
ص: 474
الشك في أحدهما ملازما للشك في الآخر - بل الشك في أحدهما عين الشك في الآخر - إلا أن الشك في الطهارة والحلية الفعلية في الزبيب المغلي مسبب عن الشك في كون المجعول الشرعي هل هو نجاسة العنب المغلي وحرمته مطلقا حتى في حال كونه زبيبا؟ أو أن المجعول الشرعي خصوص نجاسة العنب المغلي وحرمته ولا يعم الزبيب المغلي؟ فإذا حكم الشارع بالنجاسة والحرمة المطلقة بمقتضى الاستصحاب التعليقي يرتفع الشك في حلية الزبيب المغلي وطهارته.
والحاصل : أن الشك في الحلية والحرمة والطهارة والنجاسة في الزبيب المغلي مسبب عن الشك في كيفية جعل النجاسة والحرمة للعنب المغلي وأن الشارع هل رتب النجاسة والحرمة على العنب المغلي مطلقا في جميع مراتبه المتبادلة؟ أو أن الشارع رتب النجاسة والحرمة على خصوص العنب ولا يعم الزبيب؟ فالاستصحاب التعليقي يقتضي كون النجاسة والحرمة مترتبين على الأعم ، ويثبت به نجاسة الزبيب المغلي ، فلا يبقى مجال للشك في الطهارة والحلية.
فان قلت : الأصل الجاري في الشك السببي إنما يكون رافعا لموضوع الأصل المسببي إذا كان أحد طرفي المشكوك فيه في الشك المسببي من الآثار الشرعية المترتبة على المشكوك فيه بالشك السببي ، كما في طهارة الثوب المغسول بماء مشكوك الطهارة والنجاسة ، فان نجاسة الثوب وإن لم تكن من آثار نجاسة الماء بل هي من آثار بقاء علتها : من الدم أو البول الذي أصاب الثوب ، إلا أن طهارة الثوب من الآثار الشرعية المترتبة على طهارة الماء ، فان معنى حكم الشارع بطهارة الماء هو طهارة الثوب المغسول به ، ولأجل ذلك كان استصحاب طهارة الماء أو قاعدة الطهارة رافعا للشك في نجاسة الثوب ، فما لم يكن أحد طرفي المشكوك فيه بالشك المسببي من الاحكام والآثار الشرعية المترتبة على المشكوك فيه بالشك السببي لا يمكن أن يكون الأصل الجاري في السبب رافعا
ص: 475
لموضوع الأصل الجاري في المسبب ، وفيما نحن فيه ليس الامر كذلك ، فان الشك في حلية الزبيب المغلي وطهارته وإن كان مسببا عن الشك في كيفية جعل النجاسة والحرمة للعنب المغلي ، إلا أن عدم حلية الزبيب وطهارته ليس من الآثار الشرعية المترتبة على حرمة العنب المغلي ونجاسته ، بل لازم جعل حرمة العنب ونجاسته مطلقا حتى مع تبدله إلى الزبيب هو عدم الحلية والطهارة عقلا ، وإلا لزم اجتماع الضدين ، فاستصحاب الحرمة والنجاسة التعليقية لا يثبت عدم حلية الزبيب المغلي وطهارته ، لان إثبات أحد الضدين بالأصل لا يوجب رفع الضد الآخر إلا على القول باعتبار الأصل المثبت.
قلت : هذا الاشكال إنما نشأ من الخلط بين الأصول السببية والمسببية الجارية في الشبهات الحكمية والجارية في الشبهات الموضوعية ، فإنه في الشبهات الموضوعية لابد وأن يكون أحد طرفي المشكوك فيه بالشك المسببي من الآثار الشرعية المترتبة على المشكوك فيه بالشك السببي مع قطع النظر عن التعبد بالأصل الجاري في السبب ، فعند ذلك يكون الأصل السببي رافعا لموضوع الأصل المسببي. وأما الشبهات الحكمية : فلا يعتبر فيها أن يكون أحد طرفي المشكوك فيه بالشك المسببي من الآثار الشرعية المترتبة على المشكوك فيه بالأصل السببي مع قطع النظر عن التعبد بالأصل الجاري في السبب ، بل نفس التعبد بالأصل السببي يقتضي رفع الشك المسببي شرعا ، لان المسبب يصير أثرا شرعيا للسبب بالتعبد بالأصل الجاري فيه.
والسر في ذلك : هو أنه في الشبهات الموضوعية يكون أحد طرفي الشك المسببي أثرا شرعيا لمؤدى الأصل السببي بدليل آخر غير أدلة الأصول ، فتكون الكبرى الكلية الشرعية في طرف كل من السبب والمسبب معلومة من الخارج ، وإنما يراد بالاستصحاب تطبيق الكبرى الكلية على المورد المشكوك فيه ، كما في مثال الثوب المغسول بماء مشكوك الطهارة والنجاسة ، فان الكبرى الكلية
ص: 476
- وهي طهارة كل ما يغسل بالماء الطاهر - إنما تكون معلومة من دليل اجتهادي آخر غير أدلة الاستصحاب ، وإنما يراد من استصحاب طهارة الماء اثبات كون الثوب مغسولا بالماء الطاهر وانطباق الكبرى الكلية على الثوب النجس المغسول بالماء ، فيرتفع الشك في نجاسة الثوب من ضم الوجدان بالأصل ، أي الغسل بالوجدان وطهارة الماء بالأصل.
وهذا بخلاف الشبهات الحكمية ، فان كون أحد طرفي الشك المسببي أثرا شرعيا لمؤدى الأصل السببي وجعل الكبرى الكلية الشرعية في طرف المسبب إنما يكون بنفس أدلة الاستصحاب ، بحيث لو لم يكن الاستصحاب حجة شرعية لم تكن تلك الكبرى مجعولة في طرف المسبب ، كما في مثال العنب والزبيب المغلي ، فإنه لم يقم دليل على حكم الزبيب المغلي وإنما يراد إثبات حكمه بالاستصحاب ، فيكون استصحاب نجاسة العنب إذا غلى مثبتا لنجاسة الزبيب المغلي وحرمته ورافعا للشك في حليته وطهارته ، فان التعبد بنجاسة الشيء وحرمته يقتضي عدم الحلية والطهارة ، فالاستصحاب التعليقي لو لم يثبت عدم حلية الزبيب وطهارته كان التعبد به لغوا ويلزم بطلان استصحاب التعليقي أساسا.
وحاصل الكلام : هو أن عدم أحد الضدين وإن كان من اللوازم العقلية لوجود الآخر والأصول العملية لا تثبت اللوازم العقلية ، إلا أن هذا فيما إذا لم يكن التعبد بعدم أحد الضدين مما يقتضيه التعبد بوجود الضد الآخر ، كما فيما نحن فيه ، فان التعبد بنجاسة العنب المغلي وحرمته بما له من المراتب التي منها مرتبة كونه زبيبا - كما هو مفاد الاستصحاب التعليقي - يقتضي التعبد بعدم طهارته وحليته ، إذ لا معنى للتعبد بالنجاسة والحرمة إلا إلغاء احتمال الحلية والطهارة ، فاستصحاب الحرمة والنجاسة التعليقية يكون حاكما على استصحاب الحلية والطهارة الفعلية ورافعا لموضوعه ، فتأمل جيدا.
ص: 477
قد تقدم أنه لا مجال للاشكال في جريان استصحاب بقاء الحكم عند الشك في النسخ ، من غير فرق بين أحكام هذه الشريعة المطهرة وبين أحكام الشرايع السابقة ، فكما يجري استصحاب بقاء الحكم عند الشك في نسخ حكم من أحكام هذه الشريعة ، كذلك يجري استصحاب بقاء حكم الشرايع السابقة عند الشك في نسخه ، وقد يمنع عن جريان استصحاب بقاء أحكام الشرايع السابقة لوجهين :
الأول : دعوى اختلاف الموضوع ، فان المكلف بأحكام كل شريعة إنما هو المدرك لتلك الشريعة ، والذين أدركوا الشرايع السابقة قد انقرضوا ، فلا يجري الاستصحاب في حق من أدرك هذه الشريعة ولم يدرك الشرايع السابقة.
الوجه الثاني : دعوى العلم الاجمالي بطرو النسخ لاحكام الشرايع السابقة ، فإنه لو لم نقل أن هذه الشريعة المطهرة قد نسخت جميع أحكام الشرايع السابقة فلا أقل من كونها ناسخة لبعضها ، والعلم الاجمالي يمنع عن جريان الأصول في الأطراف. هذا ، ولكن لا يخفى ما في كلا الوجهين من النظر.
أما الوجه الأول : ففيه أن توهم اختلاف الموضوع مبني على أن تكون المنشآت الشرعية أحكاما جزئية بنحو القضايا الخارجية ، فيكون كل فرد من أفراد المكلفين موضوعا مستقلا قد أنشأ في حقه حكم يختص به ولا يتعداه ، فتستقيم حينئذ دعوى كون الموضوع لاحكام الشرايع السابقة هو خصوص آحاد المكلفين الذين أدركوا تلك الشرايع. ولكن كون المنشآت الشرعية أحكاما جزئية بمراحل عن الواقع ولا يمكن الالتزام به ، فإنه يلزم أن تكون الأدلة الواردة في الكتاب والسنة كلها أخبارا عن إنشاءات لاحقة عند وجود آحاد المكلفين بعدد أفرادهم ، وهو كما ترى!.
ص: 478
بل التحقيق : أن المنشآت الشرعية كلها من قبيل القضايا الحقيقية التي يفرض فيها وجود الموضوع في ترتب المحمول عليه ويؤخذ للموضوع عنوان كلي مرآة لما ينطبق عليه من الافراد عند وجودها ، كالبالغ العاقل المستطيع الذي اخذ عنوانا لمن يجب عليه الحج ، وكالحي المجتهد العادل الذي اخذ عنوانا لمن يجوز تقليده ، ونحو ذلك من العناوين الكلية ، فالموضوع ليس آحاد المكلفين لكلي يتوهم اختلاف الموضوع باختلاف الأشخاص الموجودين في زمان هذه الشريعة والموجودين في زمان الشرايع السابقة ، فإذا كان الموضوع لوجوب الحج هو عنوان البالغ العاقل المستطيع ، فكل من ينطبق عليه هذا العنوان من مبدء إنشاء الحكم إلى انقضاء الدهر يجب عليه الحج ، سواء أدرك الشرايع السابقة أو لم يدرك ، فإذا فرض أنه أنشأ حكم كلي لموضوع كلي ثم شك المكلف في بقاء الحكم ونسخه فيجري استصحاب بقائه ، سواء أدرك الشرايع السابقة أو لم يدرك إلا هذه الشريعة المطهرة ، إلا إذا كان الحكم من أول الامر مقيدا بزمان خاص.
فالانصاف : أنه لا فرق في جريان استصحاب عدم النسخ عند الشك فيه بين أحكام هذه الشرعية وبين أحكام الشرايع السابقة ، وهذا من أحد المواقع التي وقع الخلط فيها بين كون الأحكام الشرعية على نحو القضايا الخارجية أو على نحو القضايا الحقيقية ، فمن منع عن جريان استصحاب عدم النسخ بالنسبة إلى احكام الشرايع السابقة بدعوى اختلاف الموضوع تخيل : أن الأحكام الشرعية تكون من القضايا الخارجية ، وقد عرفت فساده.
وما أجاب به الشيخ قدس سره عن دعوى اختلاف الموضوع : بأنا نفرض كون الشخص مدركا للشريعتين فيجري في حقه استصحاب عدم النسخ ، لا يحسم مادة الاشكال ، فإنه لا أثر له بالنسبة إلى من لم يدرك الشريعة السابقة. ولا يجوز التمسك بقاعدة الاشتراك في التكليف ، بداهة أن الاشتراك إنما
ص: 479
يكون في التكاليف الواقعية ، وأما التكاليف الظاهرية التي تؤدي إليها الأصول العملية : فليس محل لتوهم الاشتراك فيها ، فان مؤديات الأصول إنما تختص بمن يجري في حقه الأصل ، فقد يجري في حق شخص لوجود شرائطه فيه ، ولا يجري في حق شخص آخر لعدم وجود شرائطه فيه ، وذلك واضح.
وأما الوجه الثاني : ففيه أن العلم الاجمالي بنسخ جملة من الاحكام التي كانت في الشرايع السابقة ينحل بالظفر بمقدار من الاحكام المنسوخة التي يمكن انطباق المعلوم بالاجمال عليها (1) فتكون الشبهة فيما عدا ذلك بدوية ويجري فيها الأصل بلا مزاحم.
فالأقوى : أنه لا مانع من جريان الأصل بالنسبة إلى أحكام الشرايع السابقة عند الشك في نسخها.
نعم : يمكن أن يقال. إنه لا جدوى لاستصحاب حكم الشريعة السابقة ، فإنه على فرض بقاء الحكم في هذه الشريعة فإنما يكون بقائه بإمضاء من الصادع بها ، كما يدل عليه قوله صلی اللّه علیه و آله « ما من شيء يقربكم إلى الجنة ويبعدكم عن النار إلا وقد أمرتكم به » (2) الخبر ، فمع عدم العلم بالامضاء لا جدوى لاستصحاب بقاء حكم الشريعة السابقة (3) فتأمل.
ص: 480
قد اشتهر بين المتأخرين القول باعتبار مثبتات الامارات دون مثبتات الأصول ، خلافا لما يظهر من بعض كلمات المتقدمين ، وتحقيق الكلام في ذلك يستدعي بيان ما تمتاز به الامارات عن الأصول موضوعا وحكما.
الأول : عدم أخذ الشك في موضوع الامارة وأخذه في موضوع الأصل ، فان التبعد بالأصول العملية إنما يكون في مقام الحيرة والشك في الحكم الواقعي ، فقد اخذ الشك في موضوع أدلة الأصول مطلقا محرزة كانت أو غير محرزة ، بخلاف الامارات ، فان أدلة اعتبارها مطلقة لم يؤخذ الشك قيدا فيها ، كقول علیه السلام « العمري ثقة فما أدى إليك عني فعني يؤدي ».
نعم : الشك في باب الامارات إنما يكون موردا للتعبد بها ، لأنه لا يعقل التعبد بالامارة وجعلها طريقا محرزة للواقع مع انكشاف الواقع والعلم به ، فلابد وأن يكون التعبد بالامارة في مورد الجهل بالواقع وعدم انكشافه لدى من قامت عنده الامارة ، ولكن كون الشك موردا غير أخذ الشك موضوعا ، كما لا يخفى.
الامر الثاني : الامارة إنما تكون كاشفة عن الواقع مع قطع النظر عن التعبد بها ، بخلاف الأصول العملية ، غايته أن كشفها ليس تاما كالعلم ، بل كشفا ناقصا يجامعه احتمال الخلاف ، فكل أمارة ظنية تشارك العلم من حيث الاحراز والكشف عما تحكي عنه ، والفرق بينهما إنما يكون بالنقص والكمال ، فان كاشفية العلم وإحرازه تام لا يجتمع معه احتمال الخلاف ، وأما كاشفية الامارة وإحرازها فهو ناقص يجتمع معه احتمال الخلاف ، فالأمارات الظنية تقتضي الكشف والاحراز بذاتها مع قطع النظر عن التعبد بها ، وإنما التعبد
ص: 481
يوجب تتميم كشفها وتكميل إحرازها بإلغاء احتمال الخلاف. وأما أصل الكشف والاحراز الناقص : فليس ذلك بالتعبد ، ولا يمكن إعطاء صفة الكاشفية والاحراز لما لا يكون فيه جهة كشف وإحراز ، فالكشف الناقص في الامارة كالكشف التام في العلم لا يمكن أن تناله يد الجعل ، وإنما الذي يمكن أن تناله يد الجعل هو تتميم الكشف بإلغاء احتمال الخلاف وعدم الاعتناء به.
الامر الثالث : الامارة إنما يكون اعتبارها من حيث كشفها وحكايتها عما تؤدي إليه ، بمعنى أن الشارع لاحظ جهة كشفها في مقام اعتبارها ، فإن ألغى الشارع جهة كشفها واعتبرها أصلا عمليا فلا يترتب عليها ما يترتب على الامارات ، بل يكون حكمها حكم الأصول العملية ، كما لا يبعد أن تكون قاعدة التجاوز وأصالة الصحة بل الاستصحاب في وجه من هذا القبيل ، فان في هذه الأصول جهة الكاشفية والأمارية ، ولكن الشارع اعتبرها أصولا عملية ، كما سيأتي بيانه ( إن شاء اللّه تعالى ) في الخاتمة ، فتأمل (1). فبهذه الأمور الثلاثة تمتاز الامارة عن الأصل موضوعا.
فهو أن المجعول في الامارات إنما هو الجهة الثانية من الجهات الثلاث التي يقتضيها العلم الطريقي ، وهي : كونه صفة قائمة في النفس ، وكونه كاشفا وطريقا إلى المعلوم ، وكونه محركا عملا نحو المتعلق. فهذه الجهات الثلاث كلها مجتمعة في العلم الطريقي. والمجعول في باب الامارات إنما هو الجهة الثانية من هذه الجهات ، وفي باب
ص: 482
الأصول العملية المحرزة إنما هو الجهة الثالثة.
وأما الجهة الأولى : فهي من اللوازم التكوينية للعلم الوجداني غير قابلة لان تنالها يد الجعل التشريعي ، وقد تقدم تفصيل ذلك كله في الجزء الثالث من الكتاب عند البحث عن قيام الطرق والأصول مقام القطع الطريقي ، وإجماله : هو أن العلم عبارة عن الصورة الحاصلة في نفس العالم وبتوسط تلك الصورة ينكشف ذو الصورة ويكون محرزا لدى العالم ، فالعالم إنما يرى ذا الصورة بتوسط الصورة المرتسمة في النفس ، ومن هنا يكون المعلوم أولا وبالذات نفس الصورة (1) ولأجل كونها مطابقة لذي الصورة يكون ذو الصورة معلوما ثانيا وبالتبع ، وهذا من غير فرق بين أن يكون العلم من مقولة الكيف أو الفعل أو الانفعال أو غير ذلك ، فإنه على جميع التقادير لا يتعلق العلم بالذوات الخارجية إلا بتوسط ما يكون بمنزلة المرآت والقنطرة لها ، فكاشفية العلم عن المتعلق إنما تكون بعد قيام الصورة في النفس فيتعقبها الكاشفية والاحراز ، ثم يتعقب الكاشفية والاحراز الحركة والجري العملي نحو المتعلق ، فالعطشان العالم بوجود الماء في المكان الكذائي يطلبه ويتحرك نحوه ، والخائف العالم بوجود الأسد في الطريق يفر منه ويترك سلوكه ، فالجري العملي وحركة العضلات إنما يكون بعد إحراز المتعلق.
فهذه الجهات الثلاث مترتبة في الوجود ، بمعنى أن الجهة الأولى متقدمة
ص: 483
على الجهة الثانية رتبة والجهة الثانية متقدمة على الجهة الثالثة كذلك.
نعم : للعلم جهة رابعة ، وهي : كونه مقتضيا للتنجز عند المصادفة والمعذورية عند المخالفة ، وهذه الجهة إنما تكون في عرض اقتضائه الحركة والجري العملي (1) فالجهة الثالثة والرابعة مما يقتضيهما العلم من الجهة الثانية ، وهي : الاحراز والكاشفية.
إذا تبين ذلك ، فنقول : إن المجعول في باب الطرق والامارات إنما هو الطريقية والكاشفية والوسطية في الاثبات ، بمعنى : أن الشارع جعل الامارة محرزة للمؤدى وطريقا إليه ومثبتة له ، بناء على ما هو التحقيق عندنا : من أن الطريقية بنفسها تنالها يد الجعل كسائر الأحكام الوضعية ، بل الطريقية أيضا كالملكية والزوجية من الأمور الاعتبارية العرفية التي أمضاها الشارع (2) فان
ص: 484
الظاهر أنه ليس فيما بأيدينا من الطرق والامارات ما يكون مخترعا شرعيا ، بل جميع الطرق والامارات مما يتعاطاها يد العرف في إثبات مقاصدهم ، كالاخذ بالظواهر والعمل بالخبر الواحد ونحو ذلك من الطرق والامارات ، فهي عندهم محرزة للمؤدى وكاشفة عنه وواسطة لاثبات مقاصدهم كالعلم ، والشارع قد أبقاها على حالها وأمضى ما عليه العرف ، فالأمارات تكون كالعلم من حيث الاحراز والكاشفية وإثبات المؤدى ، وليس أخذ العقلاء بالامارات لمجرد تطبيق العمل على مؤدياتها بلا توسط الاحراز ، فإنه ليس في بناء العقلاء تعبد في مقام العمل ، فتطبيق عملهم على ذلك إنما هو لكونها محرزة للمؤدى.
فظهر : أن المجعول في الامارات ليس هو مجرد تطبيق العمل على المؤدى ، بل تطبيق العمل على المؤدى من لوازم المجعول فيها ، وإنما المجعول أولا وبالذات
ص: 485
نفس الاحراز والوسطية في الاثبات ، وبتوسطه يلزم تطبيق العمل على المؤدى.
نعم : المجعول في باب الأصول العملية مطلقا هو مجرد تطبيق العمل على مؤدى الأصل ، إذ ليس في الأصول العملية ما يقتضي الكشف والاحراز ، وليست هي طريقا إلى المؤدى ، بل إنما تكون وظائف تعبدية للمتحير والشاك لا تقتضي أزيد من تطبيق العمل على المؤدى ، سواء كان الأصل من الأصول المحرزة أو كان من الأصول الغير المحرزة ، فإنه ليس معنى الأصل المحرز كونه طريقا إلى المؤدى ، بل معناه هو البناء العملي على أحد طرفي الشك على أنه هو الواقع وإلغاء الطرف الآخر (1) فالمجعول في الأصل المحرز هو الجهة الثالثة من العلم الطريقي ، وهي الحركة والجري العملي نحو المعلوم ، فالاحراز في باب الأصول المحرزة غير الاحراز في باب الامارات ، فان الاحراز في باب الامارات هو إحراز الواقع مع قطع النظر عن مقام العمل ، وأما الاحراز في باب الأصول المحرزة : فهو الاحراز العملي في مقام تطبيق العمل على المؤدى ، فالفرق بين الاحرازين مما لا يكاد يخفى.
وأما الأصول الغير المحرزة : فالمجعول فيها مجرد تطبيق العمل على أحد طرفي الشك من دون البناء على أنه هو الواقع ، فهو لا يقتضي أزيد من تنجيز الواقع عند المصادفة والمعذورية عند المخالفة ، وهو الذي كان يقتضيه العلم من الجهة الرابعة.
لا أقول : إن المجعول في باب الأصول الغير المحرزة نفس التنجيز والمعذورية ، فان ذلك واضح الفاسد كما تقدم ، بل المجعول فيها معنى لا يقتضي أزيد من التنجيز والمعذورية ، بالبيان المتقدم في باب جعل الطرق والامارات.
فتحصل : أن الأصول العملية كلها وظايف للمتحير في مقام العمل ، والتعبد
ص: 486
بها لمحض الجري العملي على طبق المؤدى بلا توسط الاحراز.
إذا عرفت ذلك فقد ظهر لك السر فيما اشتهر بين المتأخرين : من اعتبار مثبتات الامارات دون مثبتات الأصول ، فان الوجه في ذلك إنما هو لمكان أن المجعول في باب الامارات معنى يقتضي اعتبار مثبتاتها ولو بألف واسطة عقلية أو عادية ، بخلاف المجعول في باب الأصول العملية ، فإنه لا يقتضي أزيد من اعتبار نفس مؤدى الأصل ، أو ما يترتب عليه من الأحكام الشرعية بلا واسطة عقلية وعادية.
بيان ذلك : هو أن الامارة إنما تحكي عن نفس المؤدى ولا تحكي عن لوازم المؤدى وملزوماته الشرعية بما لها من الوسائط العقلية أو العادية (1) فان البينة أو الخبر الواحد إنما يقوم على حياة زيد أو موت عمرو ، فهو إنما يحكي عن نفس بفرض الأثر من آثار كشف الحياة تعبدا أو بفرض التعبد بكشفها من لوازم التعبد بكشف الملزوم ، وكلاهما غلط ، إذ الأول فظاهر ، وكذا الأخير ، لمنع الملازمة بين التعبدين ، كما هو ظاهر. فالأولى حينئذ أن يقال : إن الظن باللوازم في عرض الظن بالملزوم تحت التعبد عرفا ، لا أن ترتيبها من لوازم التعبد بمجرد الملزوم والمؤدى ، كما لا يخفى. الحياة والموت ، ولا يحكي عن نبات اللحية وما يستتبعه : من الآثار الشرعية أو العقلية والعادية ، بداهة أن المخبر بالحياة ربما لا يلتفت إلى نبات اللحية فضلا عما يستتبعه ، والحكاية عن الشيء فرع الالتفات إليه ، فليس الوجه في اعتبار مثبتات الامارة كونها حاكية عن لوازم المؤدى وملزوماته ، بل الوجه فيه هو أن الامارة إنما تكون محرزة للمؤدى وكاشفة عنه كشفا ناقصا والشارع بأدلة اعتبارها قد أكمل جهة نقصها ، فصارت الامارة ببركة اعتبارها كاشفة ومحرزة كالعلم ، وبعد انكشاف المؤدى يترتب عليه جميع ما للمؤدى من الخواص والآثار على قواعد سلسلة العلل والمعلولات واللوازم والملزومات (2) ولا يحتاج
ص: 487
في إثبات اللوازم إلى كون الامارة حاكية عنها ، بل إثباتها إنما يكون من جهة إحراز الملزوم ، كما لو أحرز الملزوم بالعلم الوجداني ، فإنه لا يكاد يشك في إثبات العلم لجميع ما يقتضيه المعلوم بوجوده الواقعي : من اللوازم والملزومات والعلل والمعلولات ، والامارة الظنية بعد اعتبارها يكون حالها حال العلم.
نعم : بين الامارة والعلم فرق ، وهو أن العلم لما كان لا تناله يد التعبد الشرعي ، فلا يتوقف إثباته للوازم والملزومات على أن يكون في سلسلتها أثر شرعي ، بخلاف الامارة ، فإنه لابد فيها من أن ينتهي الامر - ولو بألف واسطة - إلى أثر شرعي ، حتى لا يلزم لغوية التعبد بها.
والحاصل : أنه كما أن الشيء بوجوده الواقعي يلازم وجود اللوازم والملزومات والعلل والمعلولات ، كذلك إحراز الشيء يلازم إحراز اللوازم والملزومات والعلل والمعلولات عند الالتفات إليها ، وبعدما كانت الامارة الظنية محرزة للمؤدى فيترتب عليه جميع ما يترتب عليه من الآثار الشرعية ولو بألف واسطة عقلية أو عادية ، فظهر : أن السر في اعتبار مثبتات الامارات هو أن المجعول فيها معنى يقتضي ذلك.
وأما الأصول العملية : فلما كان المجعول فيها مجرد تطبيق العمل على المؤدى بلا توسيط الاحراز ، فهو لا يقتضي أزيد من إثبات نفس المؤدى أو ما يترتب عليه من الحكم الشرعي بلا واسطة عقلية أو عادية ، فإنه لابد من الاقتصار على ما هو المتعبد به ، والمتعبد به في الأصول العملية مجرد تطبيق العمل على مؤدى الأصل ، والمؤدى إن كان حكما شرعيا فهو المتعبد به ،
ص: 488
وإن كان موضوعا خارجيا فالمتعبد به إنما هو ما يترتب عليه من الحكم الشرعي ، فان الموضوع الخارجي بما هو غير قابل للتعبد به.
وأما الأثر الشرعي المترتب عل المؤدى بواسطة عقلية أو عادية - كما لو فرض أن لنبات اللحية أثرا شرعيا في المثال المتقدم - فهو غير متعبد به ، فان مؤدى الأصل نفس الحياة لانبات اللحية ، والمفروض : أن الأثر الشرعي لم يترتب على الحياة ليكون التعبد بالحياة بلحاظ ذلك الأثر ، بل الأثر مترتب على بنات اللحية ، فالأصل الجاري في الحياة لا يمكن أن يثبت الحكم الشرعي المترتب على نبات اللحية ، لان الحكم الشرعي لا بنفسه مؤدى الأصل ولا موضوعه ، إذ المفروض : أن موضوعه إنما هو نبات اللحية والأصل لم يؤد إليه ، بل أدى إلى الحياة ، فكيف يمكن إثبات حكم لموضوع بقيام الأصل على موضوع آخر؟.
ودعوى : أن الحكم الشرعي أثر لنبات اللحية ونبات اللحية أثر للحياة فيكون الحكم الشرعي أثرا للحياة أيضا - فان أثر الأثر أثر بقياس المساواة - فهي في غاية الوهن والسقوط ، فان قياس المساواة إنما يكون في العلل والمعلولات التكوينية أو في العلل والمعلولات الشرعية بحيث تكون سلسلة الوسائط والعلل والمعلولات كلها شرعية (1) كما سيأتي بيانه. وأما إذا تخلل بين سلسلة الآثار الشرعية واسطة عقلية أو عادية : فلا يأتي فيها قياس المساواة ، فان الآثار الشرعية تدور مدار مقدار التعبد بها ، فقد يكون التعبد بالنسبة إلى خصوص الأثر الذي لا يتوسط بينه وبين موضوعه واسطة عقلية أو عادية ، فكون أثر الأثر أثرا لا ربط له بباب التعبديات. وقد عرفت : أن المتعبد به في باب الأصول العملية هو خصوص مؤدى الأصل أو ما يترتب عليه من
ص: 489
الحكم الشرعي بلا واسطة عقلية وعادية.
نعم : إذا ورد في مورد بالخصوص التعبد بأصل مع أنه ليس لمؤداه أثر شرعي إلا بواسطة عقلية أو عادية ، فلابد من ثبوت الأثر الشرعي وإلا يلزم لغوية التعبد بالأصل ، وأين هذا من الأصول العملية التي قد يتفق فيها عدم الأثر للمؤدى إلا بواسطة عقلية أو عادية؟ فإنه لا يلزم من عدم جريان الأصل فيما يتفق فيه ذلك لغوية التعبد بالأصل ، لأنه يكفي في صحة التعبد به جريانه في سائر الموارد مما كان المؤدى فيها بنفسه أثرا شرعيا أو ترتب عليه أثر شرعي بلا واسطة عقلية أو عادية.
وبالجملة : بعدما كان المجعول في الأصول العملية مجرد تطبيق العمل على مؤدى الأصل ، فلا يمكن أن يثبت به الأثر الشرعي الذي يتخلل بينه وبين المؤدى واسطة عقلية أو عادية (1) وكذا لا يمكن أن يثبت به ملزوم المؤدى أو ما يلازمه شرعا ، فان التعبد بالبناء العملي على ثبوت مؤدى الأصل لا يلازم التعبد بالبناء العملي على ثبوت الملزوم أو ما يلازم المؤدى ، فلو كان مؤدى الأصل جواز الصلاة في الجلد المشكوك كونه من مأكول اللحم ، فلا يثبت به حلية
ص: 490
الحيوان المتخذ منه الجلد ، مع أن جواز الصلاة في الجلد إما أن يكون من اللوازم الشرعية المترتبة على كون الحيوان مأكول اللحم وإما أن يكون جواز الصلاة في الجلد وحلية أكل الحيوان لازمين ل- [ عدم ] كون الحيوان مسوخا أو ذا ناب ومخلب ، فالأصل الذي يؤدي إلى جواز الصلاة في الجلد كما لا يثبت به الملزوم ( وهو [ عدم ] كون الحيوان مسوخا أو ذا ناب ومخلب ) كذلك لا يثبت به ما يلازم جواز الصلاة ( وهو كون الحيوان مأكول اللحم ) لما عرفت : من أن التعبد باللازم لا يلازم التعبد بالملزوم ولا بما يلازم اللازم.
وحاصل الكلام : هو أن التعبد بثبوت العلة يلازم التعبد بثبوت المعلول الشرعي ، سواء لم يكن في البين إلا علة واحدة ومعلول شرعي واحد أو كان في البين علل ومعلولات متعددة كلها شرعية ، فان التعبد بمبدأ السلسلة وأول العلل يقتضي التعبد بجميع العلل والمعلولات المتوسطة إذا لم يتخلل بينها واسطة عقلية أو عادية ، وإن تخلل بينها واسطة عقلية أو عادية فالتعبد بمبدأ السلسلة يقتضي التعبد بالعلل والمعلولات إلى ما قبل الواسطة العقلية أو العادية ، دون ما بعدها ، هذا إذا كان المتعبد به ثبوت العلة.
وأما إذا كان المتعبد به ثبوت المعلول : فهو لا يلازم التعبد بثبوت العلة ولا بثبوت معلول آخر إذا كان للعلة معلولان وكان أحد المعلولين مؤدى الأصل دون الآخر ، كما في المثال المتقدم لو فرض كون جواز الصلاة في الجلد وحلية أكل الحيوان معلولي [ عدم ] كون الحيوان ذا ناب ومخلب ، فتأمل جيدا.
قد عرفت : أن إثبات الامارات للوازم والملزومات ليس لأجل حكاية
ص: 491
الامارة عنها ، فان الحكاية عن الشيء فرع الالتفات إليه ، وقد لا تكون البينة - مثلا - ملتفتة إلى اللوازم والملزومات ، فضلا عن الاخبار عنها ، فما في بعض الكلمات : من أن الوجه في اعتبار مثبتات الامارة هو حكايتها عن اللوازم والملزومات ، ضعيف غايته.
وأضعف من ذلك دعوى دلالة إطلاق أدلة اعتبار الامارات على إثبات اللوازم والملزومات دون أدلة الأصول ، فإنه ليس فيها إطلاق يعم التعبد باللوازم والملزومات.
وجه الضعف : هو أن إطلاق أدلة اعتبار الامارات ليس بأقوى من إطلاق أدلة الأصول لو لم نقل بأن إطلاق أدلة الأصول أقوى من إطلاق أدلة الامارات خصوصا بالنسبة إلى بعضها ، فإنه لا يكاد يشك في أقوائية إطلاق قوله علیه السلام في أخبار الاستصحاب : « لا تنقض اليقين بالشك » من إطلاق أدلة بعض الامارات ، كاليد التي منشأ اعتبارها ليس إلا الغلبة.
وبالجملة - توهم : كون الوجه في اعتبار مثبتات الامارات دون مثبتات الأصول هو أن أدلة الامارات تدل على إثبات اللوازم والملزومات وأدلة الأصول لا تدل على ذلك ، في غاية الوهن والسقوط ، بل الوجه في ذلك هو ما تقدم : من أن الحكم المجعول في باب الامارات معنى يقتضي إثبات اللوازم والملزومات ، بخلاف الحكم المجعول في باب الأصول ، فإنه لا يقتضي أزيد من إثبات مؤدى الأصل وما يلزمه من الأحكام الشرعية بلا واسطة عقلية أو عادية - بالبيان المتقدم - فالفرق بين الامارات والأصول العملية في ذلك إنما ينشأ من ناحية اختلاف المجعول فيهما ، لا من ناحية إطلاق الدليل.
ونظير الحكم الظاهري المجعول في باب الأصول العملية - من حيث عدم إثبات اللوازم والملزومات - الحكم الواقعي المجعول في باب الرضاع (1) وفي باب
ص: 492
إجازة العقد الفضولي بناء على الكشف الحكمي فيها ، فان قوله علیه السلام في أخبار الرضاع : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » إنما يقتضي اختصاص الحرمة بما إذا تحقق من الرضاع أحد العناوين المحرمة بالنسب ، كالأم والأخت والعمة والخالة ، ولا يعم تحريم الرضاع ما إذا تحقق منه أحد العناوين الملازمة للعناوين المحرمة بالنسب ، كما إذا فرض أنه تحقق من الرضاع عنوان « أم الأخ » فان أم الأخ لم تكن من العناوين المحرمة إلا باعتبار كونها اما أو زوجة أب ، ولكن هذا يختص بباب النسب التكويني ، وأما الرضاع : فيختص نشره للحرمة بما إذا تحقق أحد العناوين المحرمة بالنسب أولا وبالذات بلا توسط عنوان ملازم ، إلا بناء على عموم المنزلة ، فالقول بعموم المنزلة في باب الرضاع نظير القول بالأصل المثبت في باب الأصول العملية.
وكذا الكلام في باب الإجازة بناء على الكشف الحكمي ، فان معنى الكشف الحكمي هو ترتيب خصوص الآثار المترتبة على تحقق الملكية أو الزوجية من زمان العقد دون ما يلازم تلك الآثار ، فلا يرجم الزاني بالمرأة قبل الإجازة بدعوى : أنه يكون من الزناء بذات البعل ، لان الإجازة تكشف عن كون المرأة كانت زوجة للمجيز من حين العقد ، فان الإجازة بناء على الكشف الحكمي لا تقتضي أزيد من ترتيب آثار الزوجية من زمان العقد ، وأما كون المرأة ذات بعل - ليكون الزناء بها زناء بذات البعل - فهو مما لا تقتضيه الإجازة ، إلا على القول بالكشف الحقيقي (1) فتأمل جيدا.
ص: 493
لا فرق فيما ذكرنا من عدم اعتبار مثبتات الأصول العملية بين أن تكون الواسطة العقلية أو العادية المتخللة بين مؤدى الأصل والأثر الشرعي خفية أو جلية. ويظهر من كلام الشيخ قدس سره اعتبار الأصل المثبت إذا كانت الواسطة خفية ، وقد ذكر لذلك أمثلة. وألحق بعض الأعاظم الواسطة الجلية بالواسطة الخفية ، وقال باعتبار الأصل المثبت فيها أيضا.
والتحقيق : أنه لا أثر لخفاء الواسطة فضلا عن جلائها ، فإنه إن كان الأثر أثرا لذي الواسطة حقيقة بحسب ما ارتكز عند العرف من مناسبة الحكم أو الموضوع - وإن احتمل ثبوتا أن تكون للواسطة دخل في ترتب الأثر على مؤدى الأصل - فهذا لا يرجع إلى التفصيل في عدم اعتبار الأصل المثبت ، فإنه لم يتخلل حقيقة بين مؤدى الأصل والأثر الشرعي واسطة عقلية أو عادية ، فلا وجه لاستثناء الواسطة الخفية من بين الوسائط والقول باعتبار الأصل المثبت فيها.
وإن كان الأثر أثرا للواسطة حقيقة والعرف يتسامح ويعده من آثار ذي الواسطة ، فلا عبرة بالمسامحات العرفية في شيء من الموارد ، فان نظر العرف إنما يكون متبعا في المفاهيم لا في تطبيقها على المصاديق (1) فقد يتسامح العرف في
ص: 494
تطبيق المفهوم على ما لايكون مصداقا له واقعا ، كما يشاهد أن العرف يتسامح ويطلق أسماء المقادير على ما ينقض عن المقدار أو يزيد يسيرا ، فالمسامحات العرفية لا أثر لها وتضرب على الجدار بعد تبين المفهوم.
وما قرع سمعك : من اتباع نظر العرف في باب الاستصحاب وأخذ الموضوع منه ، فليس المراد منه اتباع نظره المسامحي ، بل المراد منه أن الاتحاد المعتبر بين القضية المشكوكة والقضية المتيقنة إنما يرجع فيه إلى العرف بحسب ما هو المرتكز في ذهنه من مناسبة الحكم والموضوع ، كما تقدمت الإشارة إليه ، وسيأتي تفصيله ( إن شاء اللّه تعالى ).
وبالجملة : لا عبرة بالمسامحات العرفية في شيء من الموارد ، فان كان الحكم الشرعي فيما نحن فيه مترتبا على نفس الواسطة حقيقة وكانت هي الموضوع له واقعا ، فلا يمكن إثباته بالأصل الجاري في ذي الواسطة وإن فرض أن العرف يتسامح ويرى الموضوع للحكم نفس مؤدى الأصل لخفاء الواسطة وعدم الالتفات إليها. وإن كان الحكم الشرعي مترتبا في الواقع على ذي الواسطة وكانت الواسطة العقلية أو العادية علة لثبوت الحكم لمؤدى الأصل ، فهذا لا يرجع إلى الأصل المثبت وإن فرض أن العرف يتسامح ويجعل الموضوع للحكم نفس الواسطة. فدعوى : اعتبار الأصل المثبت مع كون الواسطة خفية ، ضعيفة غايته وأضعف منها إلحاق الواسطة الجلية بها ، فإنه على هذا يلزم القول باعتبار الأصل المثبت مطلقا ، إذ ما من مورد إلا ويمكن فيه دعوى كون الواسطة خفية أو جلية
ص: 495
والأمثلة التي ذكرها الشيخ قدس سره لخفاء الواسطة ، لا تخلو : إما أن لا تكون فيها واسطة عقلية أو عادية ، وإما أن لا يجري الأصل فيها لاثبات الحكم المترتب على الواسطة.
أما ما ذكره : من استصحاب رطوبة النجس من المتلاقيين مع جفاف الآجر لاثبات نجاسة الطاهر منهما ، مع أن مجرد ملاقاة النجس الرطب للطاهر الجاف لا يكفي في نجاسة الطاهر ما لم تسر النجاسة من النجس إليه وينتقل أجزاء مائية نجسة إلى الطاهر
ففيه (1) أن في باب ملاقاة الطاهر للنجس إما أن نقول : إنه يكفي في نجاسة الطاهر مجرد مماسته للنجس الرطب وإما أن نقول : بأنه لا يكفي ذلك بل لابد في الحكم بنجاسة الطاهر من انتقال النجاسة من النجس إليه.
فإن قلنا بالأول : فالمثال يندرج في باب الموضوعات المركبة المحرزة بعض أجزائها بالوجدان والآخر بالأصل ، ولا يتخلل بين الموضوع والأثر الشرعي واسطة أصلا لا خفية ولا جلية ، فان المفروض : أن الحكم بنجاسة الطاهر مترتب على نفس ملاقاته للنجس الرطب ، فباستصحاب بقاء الرطوبة في الجسم النجس يحرز أحد جزئي الموضوع والجزء الآخر وهو المماساة محرز بالوجدان فيحكم بنجاسة الطاهر.
وإن قلنا بالثاني : فاستصحاب بقاء الرطوبة في الجسم النجس لا أثر له لأنه لا يثبت التأثير والتأثر وانتقال النجاسة من النجس إلى الطاهر لان ذلك من اللوازم العقلية لبقاء الرطوبة في أحد المتلاقيين ، فالواسطة جلية ويكون من أردء أنحاء الأصل المثبت ، فأي فرق بين المثال وبين استصحاب بقاء الماء في الحوض والحكم بطهارة الثوب المغسول به؟ مع أنه من المتفق عليه كونه من
ص: 496
الأصل المثبت ، وليس ذلك إلا لأجل أن لازم بقاء الماء في الحوض هو انغسال الثوب به عقلا ، ففيما نحن فيه أيضا لازم بقاء الرطوبة في أحد المتلاقيين هو التأثير والتأثر وانتقال الاجزاء المائية من أحدهما إلى الآخر (1).
فالانصاف : أنه لا فرق بين استصحاب بقاء الماء في الحوض وبين استصحاب بقاء الرطوبة النجسة في الذباب الطائر من المحل النجس ، فكما أنه في الأول لا يمكن الحكم بطهارة الثوب المغسول في الحوض ، كذلك في الثاني لا يمكن الحكم بنجاسة المحل الذي لاقاه الذباب ، إلا إذا قلنا بكفاية مجرد مماسة النجس الرطب للطاهر في الحكم بالتنجيس.
نعم : في خصوص مطال الذباب احتمال آخر مال إليه بعض ، وهو عدم نجاسة الذباب بملاقاته للنجس. ولعله لقيام السيرة على عدم الاعتناء بملاقات الذباب الطائر من المحل النجس إلى المحل الطاهر ، وعلى هذا يخرج المثال عما نحن فيه ، لأنه لا يجري استصحاب بقاء الرطوبة النجسة في الذباب ، كما لا يخفى.
وأما ما ذكره : من استصحاب عدم دخول هلال شوال في يوم الشك لاثبات كون الغد يوم العيد فيترتب عليه أحكام العيد من الصلاة والغسل والفطرة ونحو ذلك ، فيحتاج إلى بسط من الكلام فيه ، لأنه مما تعم به البلوى ، ولا يختص البحث فيه بأول الشهرة وآخره ، بل يطرد في ثاني الشهر وثالثه ورابعه وهكذا ، فان الشك في أول الشهر يستتبع الشك في ثانيه وثالثه إلى آخر الشهر ، فإذا
ص: 497
أمكن إثبات أول الشهر بالأصل كما هو ظاهر كلام الشيخ قدس سره يرتفع الاشكال عن بقية أيام الشهر ويثبت به الاحكام الخاصة لكل يوم من أيامه ، وإن منعنا عن جريان الأصل وقلنا : إنه لا يثبت به أول الشهر لأنه يكون من الأصل المثبت ، فيقع الاشكال في الاحكام المختصة بأول الشهر وثانيه وثالثه وسائر الأيام ، ولابد من التخلص عنه بوجه آخر.
وخلاصة الكلام في ذلك : هو أن أول الشهر إما أن يكون معنى مركبا من الوجود المسبوق بعدم مثله أو الوجود المسبوق بضده فيكون الأول عبارة عن وجود اليوم مع عدم مثله أو وجود ضده في الزمان السابق ، وإما أن يكون الأول معنى منتزعا عن الوجود المسبوق بعدم مثله أو وجود ضده.
فعلى الأول : يجري استصحاب عدم هلال شوال أو استصحاب بقاء رمضان في اليوم الذي يشك أنه من شوال ، ويثبت به كون الغد أو الشهر وبعده ثاني الشهر وهكذا ، ويترتب عليه الاحكام الخاصة لكل يوم ، ولا يكون من الأصل المثبت ، لان الموضوع لتلك الأحكام إنما هو اليوم الأول أو الثاني أو الثالث من شوال ، والمفروض : أن اليوم الأول مركب من جزئين - أحدهما كون اليوم من شوال ، ثانيهما عدم كون اليوم السابق عليه منه أو كونه من رمضان ، والجزء الأول محرز بالوجدان للعلم بأن الغد من شوال ، والجزء الثاني محرز باستصحاب عدم هلال شوال أو بقاء رمضان في يوم الشك ، فيكون الغد أول شوال ، لأنه يوم مسبوق بعدم مثله أو بوجود ضده ، ويترتب على الغد أحكام اليوم الأول وفيما بعده أحكام اليوم الثاني وهكذا ، ولا يتوسط بين مؤدى الأصل وتلك الأحكام واسطة عقلية أو عادية حتى يقال : إنها خفية أو جلية.
وعلى الثاني : فاستصحاب عدم هلال شوال أو بقاء رمضان في يوم الشك لا يثبت كون الغد أول شوال وما بعده ثانيه ، لان « الأول » معنى منتزع من اليوم الذي لم يتحقق مثله فيما مضى ، والأصل الجاري في منشأ الانتزاع لا يثبت
ص: 498
به الاحكام المترتبة على ما ينتزع عنه ، لان الامر الانتزاعي ليس بنفسه مؤدى الأصل ، بل مؤدى الأصل منشأ الانتزاع ، فيتوسط بين مؤدى الأصل والأحكام الشرعية ذلك الامر الانتزاعي. وقد عرفت : ما في دعوى خفاء الواسطة.
فبناء على أن يكون « الأول » معنى انتزاعيا لا يكاد يمكن إثباته بالأصل الجاري في منشأ الانتزاع. والظاهر أنه لابد من الالتزام بالانتزاعية ، فإنه لا يمكن أن يكون معنى « الأول » مركبا من وجود الشيء وعدم سبق مثله أو وجود ضده ، لان التركيب إنما يعقل في موضوعات الاحكام ، لا في مداليل الألفاظ ، فان مداليل الألفاظ كلها تكون بسائط ، ولا يمكن أن يكون معنى اللفظ مركبا من مفهومين - كما أوضحناه في محله - فلا يكون مدلول لفظ « الأول » مركبا من مفهومين : أحدهما وجود الشيء في زمان ، وثانيهما عدم مثله في الزمان السابق أو وجود ضده فيه ، بل لابد من أن يكون « الأول » موضوعا للمعنى البسيط الحاصل منهما ولو كان ذلك المعنى البسيط نفس اجتماع المفهومين في الزمان ، كما إذا فرض أن الواضع تصور مفهوم اجتماع المفهومين في الزمان ووضع لفظ « الأول » بإزاء مفهوم الاجتماع ، ومن المعلوم : أن ضم الوجدان إلى الأصل لا يثبت عنوان الاجتماع إلا على القول بالأصل المثبت.
وبالجملة : لا إشكال في أن مدلول لفظ « الأول » معنى بسيط منتزع من وجود الشيء المسبوق بعدم مثله أو وجود ضده ، فاستصحاب بقاء رمضان أو عدم هلال شوال لا يثبت كون الغد أول شوال ، فيشكل الامر في الأحكام الشرعية المترتبة على أيام الشهر إذا لم يحرز اليوم الأول بالوجدان ، ويلزم تعطيل تلك الأحكام مع الشك في أول الشهر.
هذا ، ولكن يمكن دفع الاشكال بأن الظاهر كون المراد من « أول الشهر » في موضوع الاحكام هو يوم رؤية الهلال أو اليوم الذي انقضى من الشهر الماضي ثلاثون يوما بمعنى أنه يكفي فيه أحد الأمرين ، فعند الشك في الهلال
ص: 499
لا يلزم تعطيل الاحكام ، بل يعد الشهر الماضي ثلاثين يوما ، فيكون اليوم الواحد والثلاثون أول الشهر المستقبل ، وبعده ثانيه ، وهكذا.
فالمراد من « ثامن ذي الحجة » مثلا هو اليوم الذي انقضى من شهر ذي الحجة ثمانية أيام بعد رؤية الهلال أو بعد انقضاء ثلاثين يوما من ذي القعدة ، وهذا لا ينافي كون « أول الشهر » موضوعا لليوم الذي كان ليلته ليلة الهلال واقعا ، سواء كان يوم الرؤية أو لم يكن وسواء انقضى من الشهر الماضي ثلاثون يوما أو لم ينقض ، فان المدعى هو أن المراد من « اليوم الأول » الذي اخذ موضوعا للأحكام هو يوم الرؤية أو اليوم الذي سبقه ثلاثون يوما من الشهر الماضي ، فتأمل جيدا.
وأما ما ذكره : من استصحاب عدم الحاجب عند الشك في وجوده على محل الغسل أو المسح لاثبات غسل البشرة ومسحها ، فهو من أوضح مصاديق الأصل المثبت.
نعم : ربما يدعى قيام السيرة على عدم الاعتناء بالشك في الحاجب ، ومن هنا لم يعهد من أحد الفحص عن وجود دم القمل أو البق في بدنه عند الغسل ، مع أن البدن مظان لوجود ذلك فيه ، وغالبا يحصل فيه الشك ، ومع هذا لم يعهد الفحص عنه ، بل الفحص عن ذلك يعد من الوسوسة. ولكن للمنع عن قيام سيرة المتدينين على عدم الفحص مع الالتفات إلى ذلك قبل العمل أو في أثنائه مجال.
قد ذكر الأصحاب - قدس اللّه أسرارهم - فروعا في المسائل الفقهية يظهر منهم التسالم على بعضها ، مع أنها توهم ابتنائها على اعتبار الأصل المثبت.
فمنها : ما ذكره المحقق وغيره : من أنه لو اتفق الوارثان على إسلام أحدهما
ص: 500
المعين في أول شعبان والآخر في غرة رمضان واختلفا فادعى أحدهما موت المورث في شعبان والآخر موته في أثناء رمضان ، كان المال بينهما نصفين ، لأصالة بقاء حياة المورث ، مع أن أصالة بقاء حياة المورث إلى غرة رمضان لا تثبت موضوع التوارث ، وهو موت المورث عن وارث مسلم ، فان للإضافة الحاصلة من اجتماع موت المورث وإسلام الوارث في الزمان - وهي موت المورث في حال كون الوارث مسلما - دخلا في إرث الوارث ، وأصالة بقاء حياة المورث إلى زمان إسلام الوارث لا تثبت هذه الإضافة ، بل غاية ما تثبته هو اجتماع الحياة والاسلام في الزمان ، وهو لا يكفي في التوارث.
هذا ، ولكن للمنع عن اعتبار الإضافة وحكاية الحال مجال ، فإنه يمكن أن يقال : إن الموضوع للتوارث نفس اجتماع حياة المورث وإسلام الوارث في الزمان ، فيندرج المثال في الموضوعات المركبة المحرزة أحد جزئيها بالوجدان وهو إسلام الوارث في غرة رمضان ، والآخر بالأصل وهو حياة المورث إلى غرة رمضان فيجتمعان في الزمان ، وهذا يكفي في التوارث ، ويلزمه تنصيف المال بين الوارثين. ولو انعكس الفرض وكان الاختلاف في زمان إسلام الوارث مع الاتفاق على تاريخ موت المورث ، فيجري استصحاب عدم إسلام الوارث إلى زمان موت المورث ، ويلزمه عدم التوارث.
وبالجملة : ابتناء الفرع المذكور على اعتبار الأصل المثبت مبني على أن تكون للإضافة الحاصلة من اجتماع حياة المورث وإسلام الوارث في الزمان دخل في الحكم بالتوارث. ومن الممكن أن يكون نظر المحقق ومن تبعه في الحكم بتنصيف المال بين المتوارثين إلى عدم دخل الإضافة ، وسيأتي ( إن شاء اللّه تعالى ) في التنبيه الآتي مزيد توضيح لذلك.
ومنها : ما ذكره جماعة تبعا للمحقق في كر وجد فيه نجاسة لا يعلم سبقها على الكرية وتأخرها ، فقالوا : إن استصحاب عدم الكرية قبل الملاقاة للنجاسة
ص: 501
معارض باستصحاب عدم الملاقاة قبل الكرية ، وسيأتي الكلام في هذا الفرع ( إن شاء اللّه تعالى ).
ومنها : ما ذكره في التحرير : من أنه لو اختلف الولي والجاني في سراية الجناية - فقال الولي : إن المجني عليه مات بالسراية ، وقال الجاني : بل مات بسبب آخر من شرب السم ونحوه ، أو ادعى الجاني أن المجني عليه كان ميتا قبل الجناية ، وقال الولي : بل مات بالجناية - ففي الضمان وعدمه وجهان : من أصالة عدم الضمان ، ومن استصحاب بقاء حياة المجني عليه إلى زمان وقوع الجناية عليه. والظاهر : أن الحكم في المثال لا يمكن تصحيحه إلا على القول بالأصل المثبت ، فان استصحاب بقاء حياة المجني عليه إلى زمان وقوع الجناية عليه لا يثبت قتل الجاني أو سراية الجناية التي هي الموضوع للضمان. وليس الموضوع للضمان مركبا من الجناية وعدم السراية أو عدم وجود سبب آخر ، أو مركبا من الجناية وحياة المجني عليه ليندرج في الموضوعات المركبة التي يصح إحراز بعض أجزائها بالوجدان وبعضها الآخر بالأصل ، بل الموضوع للضمان هو العنوان البسيط من القتل أو السراية أو نحو ذلك مما لا يمكن إحرازه بالأصل ، فما ذكره في التحرير لا ينطبق إلا على القول باعتبار الأصل المثبت.
ومنها : ما ذكره جملة من الاعلام : من الحكم بضمان من كان يده على مال الغير مع الشك في إذن صاحبه ، والظاهر تسالم الفقهاء على ذلك. فقد يتخيل : أن ذلك مبني إما على القول باعتبار الأصل المثبت إن كان المستند في الحكم « أصالة عدم الإذن » فإنها لا تثبت اليد العادية ، وإما على القول بجواز التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية إن كان الوجه فيه عموم « على اليد ما أخذت حتى تؤدي ».
هذا ، ولكن الظاهر أن الحكم بالضمان في المثال لا يبتني ، لا على القول بالأصل المثبت ولا على القول بجواز التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية ، فان
ص: 502
الموضوع للضمان مركب من اليد وعدم إذن صاحب المال ، وهما عرضان لمحلين : أحدهما صاحب اليد ، وثانيهما صاحب المال ، وقد تقدم : أنه لا جامع بين العرضين لمحلين إلا الاجتماع في الزمان ، فيكفي إحراز أحدهما بالأصل والآخر بالوجدان كما في المثال ، فان اليد محرزة بالوجدان وعدم الإذن محرز بالأصل ، فيتحقق موضوع الضمان.
ومنها : غير ذلك من الفروع التي يقف عليها المتتبع التي يتخيل ابتنائها على اعتبار الأصل المثبت ، وكثير منها قابلة للتوجيه ، وبعضها لا تستقيم إلا على القول بالأصل المثبت أو القول باعتبار الاستصحاب من باب إفادته الظن ليكون من الامارات ، فتأمل جيدا.
لا إشكال في أن الأصل عند الشك في حدوث كل حادث عدمه إذا كان الشك في أصل الحدوث. وأما إذا كان الشك في تقدم الحدوث وتأخره مع العلم بأصل الحدوث : فتارة : يكون الشك في التقدم والتأخر بالإضافة إلى أجزاء الزمان ، كما إذا شك في موت زيد يوم الخميس مع العلم بموته يوم الجمعة. وأخرى : يكون الشك في التقدم والتأخر بالإضافة إلى حادث زماني آخر ، كما إذا شك في تقدم موت زيد على موت عمرو أو تأخره مع العلم بموتهما.
فان كان الشك في التقدم والتأخر بالإضافة إلى أجزاء الزمان : فلا إشكال في أن الاستصحاب يقتضي عدم الحدوث في الزمان المشكوك حدوثه فيه ، فإنه لا فرق في جريان الاستصحاب بين أن يكون المستصحب مشكوك البقاء والارتفاع رأسا وبين أن يكون مشكوك البقاء والارتفاع في جزء من الزمان مع العلم بارتفاعه بعد ذلك ، فلو علم بموت زيد في يوم الجمعة وشك في
ص: 503
موته في يوم الخميس ، فاستصحاب بقاء الحياة إلى يوم الخميس يجري ويثبت به كل أثر شرعي رتب على حياة زيد في يوم الخميس.
نعم : استصحاب بقاء الحياة إلى يوم الخميس لا يثبت حدوث الموت في يوم الجمعة ولا حياته قبل يوم الجمعة ولا موته بعد يوم الخميس ، فان عنوان الحدوث والقبلية والبعدية - كعنوان السبق واللحوق والتقدم والتأخر والتقارن - من العناوين الانتزاعية واللوازم العقلية لوجود المستصحب في الزمان ، والاستصحاب لا يثبت شيئا من هذه العناوين - كما تقدم في التنبيه السابق - فلا يترتب على استصحاب بقاء حياة زيد في يوم الخميس إلا الآثار الشرعية المترتبة على نفس الحياة ، وذلك واضح.
وإن كان الشك في التقدم والتأخر بالإضافة إلى حادث زماني آخر : ففي جريان استصحاب عدم حدوث كل منهما بالإضافة إلى زمان حدوث الآخر مطلقا أو عدم جريانه مطلقا أو التفصيل بين ما إذا لم يعلم تاريخ حدوث أحدهما بالخصوص وبين ما إذا علم ذلك - ففي الأول يجري استصحاب عدم حدوث كل منهما بالإضافة إلى زمان الآخر ، وفي الثاني يجري الاستصحاب في خصوص مجهول التاريخ ولا يجري في معلوم التاريخ - وجوه : أقواها التفصيل الأخير.
وقبل بيان وجه المختار ينبغي التنبيه على أمر ، وهو أن اعتبار التوصيف وكون أحد الشيئين وصفا لآخر إنما يتصور بالنسبة إلى العرض ومحله ، لان العرض وإن كان له وجود نفسي - لأنه بنفسه من الماهيات الامكانية التي لها تقرر في وعاء الخارج - إلا أن وجودها النفسي قائم بالغير ، ومن هنا قيل : « إن وجود العرض لنفسه وبنفسه عين وجوده لغيره وبغيره » فيمكن أن يلاحظ العرض من حيث وجوده النفسي بمفاد كان التامة وليس التامة فيحمل عليه الوجود والعدم المطلق ، ويمكن أن يلاحظ من حيث وجوده الغيري وكونه قائما
ص: 504
بالغير بمفاد كان الناقصة وليس الناقصة فيحمل على الوجود والعدم النعتي ، وهو بهذا اللحاظ يكون عرضا لمحله ووصفا قائما به ، فيمكن أخذ العرض في موضوع التكليف من حيث كونه وصفا لمحله باعتبار وجوده الغيري ، ويمكن أخذه في موضوع التكليف من حيث هو باعتبار وجوده النفسي.
وأما فيما عدا العرض ومحله : فلا يمكن لحاظ التوصيف فيه ، فإنه لا يمكن أن يكون أحد الشيئين وصفا للآخر مع أنه لا رابط بينهما إلا الوجود في الزمان ، سواء كان الشيئان جوهرين كوجود زيد ووجود عمرو ، أو كانا عرضين لمحل واحد كقيام زيد وعدالته أو لمحلين كقيام زيد وقيام عمرو ، أو كان أحدهما جوهرا والآخر عرضا لموضوع آخر كوجود زيد وقيام عمرو.
ففي جميع هذه الأقسام الثلاثة أو الأربعة لا يمكن أن يكون أحد الشيئين وصفا للآخر ، فإنه لا رابط بين وجود زيد ووجود عمرو أو قيام زيد وعدالته أو قيام زيد وقيام عمرو أو وجود زيد وقيام عمرو إلا الاجتماع في الزمان ، وهذا لا يكفي في كون أحدهما وصفا للآخر ما لم يكن أحدهما عرضا قائما بالآخر ، فالتوصيف ينحصر بين العرض ومحله.
نعم : يمكن أن يتولد من اجتماع الشيئين في الزمان عنوان آخر ، كعنوان السبق واللحوق والتقارن ونحو ذلك من العناوين الانتزاعية المتولدة من وجود الشيئين في الزمان ، ويمكن أيضا أن تكون هذه العناوين الانتزاعية موضوعة للأحكام الشرعية ، إلا أن أخذ العنوان الانتزاعي موضوعا للحكم لا يصح إلا مع التصريح به أو استظهاره من الدليل ، وإلا فنفس أخذ الموضوع مركبا من شيئين لا رابط بينهما إلا الزمان لا يقتضي أزيد من إحراز اجتماعهما في الوجود.
وهذا بخلاف أخذ الموضوع مركبا من العرض ومحله ، فإنه لابد من إحراز عنوان التوصيف وكونه قائما بالمحل بمفاد كان وليس الناقصتين ، فإنه وإن كان يمكن أخذ العرض بوجوده النفسي جزء للموضوع من دون أن يكون لعنوان
ص: 505
التوصيف دخل في الحكم إلا أن ذلك يتوقف على التصريح به ، وإلا فالموضوع المركب من العرض ومحله يقتضي أن يكون لعنوان التوصيف وحيثية قيام العرض بالمحل دخل في الحكم (1).
ص: 506
ومما ذكرنا يظهر : ضابط الموضوعات المركبة التي يمكن إحراز أجزائها من ضم الوجدان بالأصل ، فان التركيب إن كان من غير العرض ومحله أمكن إحراز أحد جزئيه بالوجدان والآخر بالأصل إن لم يكن للعنوان المتولد من اجتماع الجزئين في الزمان دخل في الحكم ، وإلا فضم الوجدان بالأصل لا يمكن أن يثبت العنوان المتولد إلا على القول بالأصل المثبت.
وأما إذا كان التركيب من العرض ومحله : فلا يمكن أن يلتئم الموضوع من ضم الوجدان بالأصل الذي يكون مؤداه نفس وجود العرض أو عدمه بمفاد كان وليس التامتين ، فإنه لا يثبت به عنوان التوصيف إلا إذا كان نفس التوصيف وقيام العرض بالمحل بمفاد كان وليس الناقصتين مؤدى الأصل ، وعلى ذلك يبتني عدم جريان أصالة عدم قرشية المرأة عند الشك فيها ، لان توصيف المرأة بالقرشية ليس مؤدى الأصل ، فان المرأة حال وجودها إما أن تكون قرشية وإما أن لا تكون ، وجريان أصالة عدم القرشية بمفاد ليس التامة لا يوجب
ص: 507
اتصاف المرأة بكونها غير قرشية ، وقد تقدم تفصيل ذلك في الجزء الثاني من الكتاب في مبحث العام والخاص.
إذا عرفت ذلك فنقول : إنه إذا شك في تأخر أحد الحادثين عن الآخر أو تقدمه.
فان كان أحدهما معلوم التاريخ - كما إذا علم بموت المورث في غرة رمضان وشك في تقدم إسلام الوارث على موت المورث ليرث منه أو تأخره عنه ليمنع عن الإرث - فالأصل في معلوم التاريخ لا يجري ، لان حقيقة الاستصحاب ليس إلا جر المستصحب في الزمان الذي يشك في بقائه فيه ، ففي كل زمان شك في بقاء الموجود أو حدوث الحادث فالاستصحاب يقتضي بقاء الأول وعدم حدوث الثاني ، وأما لو فرض العلم بزمان الحدوث : فلا معنى لأصالة عدمه ، لعدم الشك في زمان الحدوث ، مع أن الاستصحاب هو جر المستصحب إلى زمان الشك ، فلابد وأن يكون في البين زمان يشك في بقاء المستصحب فيه ، ففي معلوم التاريخ لا محل للاستصحاب.
وما قيل : من أن العلم بالتاريخ إنما يمنع عن حصول الشك في بقاء المستصحب بالإضافة إلى أجزاء الزمان ولا يمنع عن حصول الشك في البقاء بالإضافة إلى زمان وجود الحادث الآخر الذي هو محل الكلام ، فان محل الكلام إنما هو فيما إذا كان الشك في تقدم أحد الحادثين على الآخر ، فيحصل الشك في وجود كل من الحادثين بالإضافة إلى زمان وجود الآخر ، وبهذا الاعتبار يجري استصحاب عدم حدوث كل منهما في زمان حدوث الآخر
فهو واضح الفساد ، فإنه إن أريد من لحاظ معلوم التاريخ بالإضافة إلى زمان حدوث الآخر لحاظه مقيدا بزمان حدوث الاخر ، فهو وإن كان مشكوكا للشك في وجوده في زمان وجود الآخر ، إلا أنه لا تجري أصالة عدم وجوده في ذلك الزمان ، لان عدم الوجود في زمان حدوث الآخر بقيد
ص: 508
كونه في ذلك الزمان لم يكن متيقنا سابقا ، فلا يجري فيه الأصل (1) وإن أريد من لحاظه بالإضافة إلى زمان الآخر لحاظه على وجه يكون زمان الآخر ظرفا لوجوده ، فهو عبارة أخرى عن لحاظه بالإضافة إلى نفس أجزاء الزمان (2) وقد عرفت : أنه مع العلم بالتاريخ لا يحصل الشك في وجوده في الزمان ، فالأصل في معلوم التاريخ لا يجري على كل حال.
وأما في مجهول التاريخ : فلا مانع من جريان الأصل فيه ، للشك في زمان حدوثه ، والأصل عدم حدوثه في الأزمنة التي يشك في حدوثه فيها ، ومنها زمان حدوث معلوم التاريخ ، ففي المثال المتقدم يستصحب عدم إسلام الوارث إلى غرة رمضان الذي هو زمان موت المورث ، ويثبت به بضم الوجدان اجتماع عدم إسلام الوارث وموت المورث في الزمان ، ولا يثبت به عنوان آخر متولد من اجتماعهما في الزمان - حتى عنوان التقارن أو عنوان الحال ونحو ذلك - فلا يصح أن يقال : إنه مات المورث في حال عدم إسلام الوارث. ولو انعكس الامر وكان إسلام الوارث معلوم التاريخ وموت المورث مجهول التاريخ يجري استصحاب حياته إلى زمان إسلام الوارث ، ويثبت به اجتماع الاسلام والحياة في الزمان. فان قلنا : إن هذا المقدار يكفي في التوارث يرث الوارث المسلم من مورثه. وإن قلنا : إنه لا يكفي هذا المقدار في التوارث بل لابد من موت المورث في حال إسلام الوارث ، فاستصحاب حياة المورث إلى زمان إسلام الوارث لا يثبت موته
ص: 509
في حال الاسلام ، وذلك واضح.
هذا كله إذا كان أحدهما المعين معلوم التاريخ.
وإن كان كل منهما مجهول التاريخ وشك في التقدم والتأخر ، فالأقوى : جريان الاستصحاب في كل منهما ويسقطان بالمعارضة ، فيقال في المثال : الأصل عدم إسلام الوارث إلى زمان موت المورث والأصل عدم موت المورث إلى زمان إسلام الوارث ، ولا يثبت بذلك تقارن الاسلام والموت ، كما تقدم.
وقد ذهب بعض الأعاظم إلى عدم جريان الأصل في مجهول التاريخ ، لعدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين فيه ، ويعتبر في الاستصحاب اتصال زمان الشك بزمان اليقين.
ولا يخفى ما فيه ، فان الشك في كل من الحادثين متصل بيقينه ، لان اتصال الشك باليقين معناه : أن لا يتخلل بين اليقين والشك يقين آخر يضاد اليقين السابق (1) ولا إشكال في أنه لم يتخلل بين اليقين بعدم حدوث كل من الحادثين والشك في الحدوث يقين آخر بالحدوث ، ليوجب عدم اتصال زمان الشك في كل منهما بيقينه ، وذلك وإن كان بمكان من الوضوح ، إلا أنه لا بأس بزيادة بسط من الكلام فيه لتتميز الموارد التي لا يتصل فيها الشك باليقين.
فنقول : قد عرفت أن اتصال الشك باليقين إنما يكون بعدم تخلل يقين آخر يضاد اليقين السابق بين النسك واليقين ، كما إذا علم بوجوب الجلوس من الصبح إلى الزوال وشك في وجوبه بعد الزوال ، فإنه لا يتصل اليقين بعدم وجوب الجلوس قبل الصبح بالشك في وجوبه بعد الزوال لتخلل اليقين بوجوب الجلوس من الصبح إلى الزوال بينهما ، فهذه القطعة من الزمان - وهي ما بين الصبح والزوال - قد أوجبت انفصال اليقين بعدم الوجوب عن الشك في
ص: 510
الوجوب ، ولذا قلنا : إنه لا يجري استصحاب العدم الأزلي بعد الزوال ، خلافا للفاضل النراقي رحمه اللّه سواء كان الزوال قيدا لوجوب الجلوس أو ظرفا ، خلافا للشيخ قدس سره على ما تقدم تفصيله.
وبالجملة : لا معنى لاتصال اليقين بالشك إلا بأن لا يتخلل بينهما يقين آخر بالخلاف. وليس اتصال الشك باليقين من الأمور الواقعية التي يدخلها الشك ، بل هو من الأمور الوجدانية التي يعرفها كل أحد ، فإن الأمور الوجدانية تتبع الوجدان ، فكل شخص يعرف أن شكه متصل بيقينه أو منفصل عنه.
نعم : انفصال الشك عن اليقين أو اتصاله به قد يكون واضحا - كالمثال المتقدم - وقد يكون خفيا ، ولا بأس بتوضيح ذلك بمثال ، وهو أنه لو كان إناء في الطرف الشرقي من الدار وإنا آخر في الطرف الغربي وعلم تفصيلا بنجاسة كل منهما ثم أصاب أحدهما المطر ، فتارة : يعلم تفصيلا بإصابة المطر لخصوص ما كان في الطرف الشرقي ، وأخرى : لا يعلم بذلك ، بل يعلم إجمالا بإصابة المطر لاحد الانائين ، وعلى الأول - فتارة : يكون الاناء الواقع في الطرف الشرقي متميزا عن الاناء الواقع في الطرف الغربي ومعلوما بالتفصيل حال إصابة المطر له ، بأن كان بمنظر من الشخص ثم طرء عليه الترديد والاجمال واشتبه بالاناء الغربي (1) وأخرى : لا يكون الاناء الشرقي متميزا عن الاناء الغربي حال إصابة
ص: 511
ص: 512
المطر له ولم يكن بمنظر من الشخص ، بل مجرد أنه علم بإصابة المطر لما كان في الطرف الشرقي ، فهذه فروض ثلاثة :
الأول : ما إذا كان متعلق العلم من أول الامر مجملا مرددا بين ما كان في الطرف الشرقي وما كان في الطرف الغربي.
الثاني : ما إذا كان متعلق العلم من أول الامر معلوما بالتفصيل ثم طرء عليه الاجمال والترديد ، لوقوع الاشتباه بين الاناء الشرقي والاناء الغربي.
الثالث : ما إذا كان متعلق العلم مجملا من جهة ومبينا من جهة أخرى ، وهو ما إذا علم بإصابة المطر لخصوص ما كان في الطرف الشرقي مع عدم تميزه عما كان في الطرف الغربي ، فالفرض الثالث متوسط بين الفرض الأول والفرض الثاني. ولا إشكال في أنه في جميع الفروض الثلاثة يشك في بقاء النجاسة في كل من الانائين اللذين كانا معلومي النجاسة قبل إصابة المطر لأحدهما.
أما في الفرض الأول والثالث : فواضح. وأما في الفرض الثاني : فلانه وإن كان ما أصابه المطر معلوما بالتفصيل في أول الامر فلا شك في طهارته ، كما لا شك في نجاسة الآخر ، إلا أنه لما اشتبه الطاهر بالنجس فبالأخرة يشك في بقاء النجاسة في كل منهما. فالفروض الثلاثة تشترك في الشك في بقاء النجاسة المتيقنة في كل من الانائين ، ولكن في الفرض الأول يتصل الشك في بقاء النجاسة في كل منهما باليقين بالنجاسة ، ولم يتخلل بين الشك واليقين في كل من الانائين يقين آخر بالخلاف ، والعلم الاجمالي بإصابة المطر لأحدهما يكون
ص: 513
منشأ للشك في بقاء النجاسة في كل منهما ، فاتصال الشك واليقين في الفرض الأول واضح ، فإنه لم ينقض على كل من الانائين زمان لم يكن زمان اليقين بالنجاسة وزمان الشك في بقائها ، لأنه قبل العلم الاجمالي بطهارة أحدهما كان زمان اليقين بنجاسة كل منهما ، وبعد العلم الاجمالي بطهارة أحدهما صار زمان الشك في بقاء النجاسة في كل منهما ، فلم يتخلل بين زمان اليقين وزمان الشك زمان آخر يعلم فيه بالخلاف ، فلا ينبغي الاشكال في اتصال زمان اليقين بزمان الشك في الفرض الأول.
كما لا ينبغي الاشكال في انفصال زمان الشك عن زمان اليقين في الفرض الثاني ، لان العلم بطهارة أحدهما المعين الممتاز عما عداه تفصيلا يوجب ارتفاع اليقين السابق ، فقد انقضى على ذلك الاناء المعين زمان لم يكن زمان العلم بالنجاسة ولا زمان الشك في بقائها ، وهو زمان العلم بالطهارة. والاجمال الطاري وإن كان أوجب الشك في بقاء النجاسة في كل منهما ، لان كلا منهما يحتمل أن يكون هو الذي أصابه المطر والذي تعلق العلم بطهارته تفصيلا ، إلا أنه لا يعقل اتصال زمان الشك في كل منهما بزمان اليقين بنجاستهما ، لأن المفروض أنه قد انقضى على أحد الانائين زمان لم يكن زمان اليقين بالنجاسة ولا زمان الشك فيها ، فكيف يعقل اتصال زمان الشك في كل منهما بزمان اليقين؟ فلا مجا لاستصحاب بقاء النجاسة في كل منهما ، لأنه في كل إناء منهما يحتمل أن يكون هو الاناء الذي تعلق العلم بطهارته ، ففي كل منهما يحتمل انفصال الشك عن اليقين ، فلا يجري الاستصحاب فيهما ، وذلك واضح.
وأما الفرض الثالث : فالأقوى فيه أيضا عدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، كالفرض الثاني - وإن لم يكن بذلك الوضوح - فإنه قد انقضى على الاناء الشرقي زمان لم يكن زمان اليقين بالنجاسة ولا زمان الشك فيها ، وهو زمان العلم بإصابة المطر له ، لأن الشك في بقاء النجاسة فيه إنما حصل بعد
ص: 514
اجتماع الانائين واشتباه الشرقي بالغربي ، فقبل الاجتماع والاشتباه كان الاناء الشرقي مقطوع الطهارة والاناء الغربي مقطوع النجاسة ، فلا يجري استصحاب النجاسة فيهما ، لان كل واحد من الانائين يحتمل أن يكون هو الاناء الشرقي الذي كان مقطوع الطهارة حال إصابة المطر له.
والحاصل : أنه فرق واضح بين العلم الاجمالي بطهارة أحد الانائين وبين العلم التفصيلي بطهارة خصوص الاناء الشرقي ، فان العلم بالطهارة في الأول إنما يصير سببا للشك في بقاء النجاسة في كل منهما ، والعلم بالطهارة في الثاني ليس سببا للشك في بقاء النجاسة فيهما ، بل الشك إنما نشأ من اجتماع الانائين واشتباه الطاهر بالنجس ، فالشك في الفرض الأول إنما يكون مقارنا زمانا للعلم الاجمالي بطهارة أحد الانائين ومتأخرا عنه رتبة لكونه معلولا له ، فيكون الشك فيه متصلا باليقين بالنجاسة. وأما الشك في الفرض الثلث : فهو متأخر عن العلم بالطهارة زمانا ، لأنه بعد العلم بطهارة الاناء الشرقي واجتماع الانائين ووقوع الاشتباه بينهما يحصل الشك في بقاء النجاسة في كل من الانائين ، فلا يمكن أن يتصل فيه زمان اليقين بنجاسة الانائين بزمان الشك في بقاء النجاسة.
فالتحقيق : أنه لا فرق بين الفرض الثاني والفرض الثالث في عدم اتصال زمان الشك باليقين ، فلا يجري الاستصحاب فيهما ، خلافا لبعض الاعلام (1).
ص: 515
ويتفرع على ذلك عدم جريان استصحاب النجاسة في الدم المردد بين كونه من المسفوح أو من المتخلف ، أو الدم المردد بين كونه من البق أو من البدن - بناء على نجاسة الدم مطلقا ولو قبل خروجه من الباطن بالذبح أو بمص البق - لعدم اتصال زمان الشك باليقين فيه ، لأنه حين ذبح الحيوان قد علم بطهارة خصوص الدم المتخلف ونجاسة الدم المسفوح بعدما كان جميعه نجسا ما دام في الباطن ، ولكن حين الخروج من الباطن بالذبح قد علم بطهارة بعضه وهو المتخلف ، فيكون نظير ما إذا علم بطهارة الاناء الشرقي في المثال المتقدم ، لان تخلف الدم في الحيوان يكون مطهرا له كإصابة المطر للاناء ، والشك في كون الدم من المتخلف أو من المسفوح إنما يحصل بعد اشتباه المتخلف بالمسفوح بأحد موجبات الاشتباه ، كما أن الشك في بقاء النجاسة في كل من الاناء الشرقي والغربي إنما يحصل بعد اشتباه الانائين ، فالشك في نجاسة الدم المردد لا يتصل باليقين بنجاسة الدم عند كونه في الباطن ، لان زمان الشك متأخر عن زمان العلم بالنجاسة ، فإنه لا يمكن حصول الشك في نجاسته في حال الذبح ، بل الشك إنما يحصل بعد زمان الذبح لأجل الاشتباه وعدم تمييز المسفوح عن المتخلف ، فيتخلل بين زمان اليقين وزمان الشك زمان العلم بطهارة الدم المتخلف ، وحيث يحتمل أن يكون الدم المردد من الدم المتخلف الذي قد علم بطهارته فلا يجري فيه استصحاب النجاسة.
والحاصل : أن اشتباه الدم المتخلف بالدم المسفوح يتصور على وجهين :
أحدهما : ما إذا كان الدم المتخلف ممتازا عن الدم المسفوح في أول الامر ثم حصل الاشتباه وتردد الدم الخاص بين كونه من المسفوح أو من المتخلف.
ثانيهما : ما إذا لم يكن الدم المتخلف ممتازا عن الدم المسفوح عند الشخص ، بل كان في بدنه أو لباسه دم تردد بين أن يكون من المسفوح أو من المتخلف.
وفي كلا الوجهين لا يجري استصحاب النجاسة فيه ، لان الوجه الأول يكون
ص: 516
من قبيل الفرض الثاني من الفروض الثلاثة في مثال الاناء المتقدم ، والوجه الثاني يكون من قبيل الفرض الثالث منهما ، وقد تقدم أنه لا يجري الاستصحاب فيهما.
ولا يتوهم : أن الدم المردد يكون من قبيل الفرض الأول من تلك الفروض ، فان متعلق العلم بالطهارة في الفرض الأول إنما كان مرددا بين الانائين من أول الامر ، وأما الترديد في الدم فهو إنما حدث بعد الاشتباه والخلط بين الدم المسفوح والدم المتخلف ، وإلا ففي حال الذبح قبل الاشتباه كان يعلم تفصيلا بطهارة خصوص الدم المتخلف ، فالترديد في الدم لا يمكن أن يكون من قبيل الفرض الأول ، بل هو إما من الفرض الثاني ، وإما من الفرض الثالث. وكذا الكلام في الدم المردد بين كونه من البدن أو من البق ، فإنه لا يجري فيه استصحاب النجاسة أيضا ، بل الأقوى فيه الطهارة ، فتأمل جيدا.
إذا عرفت الضابط لاتصال زمان الشك بزمان اليقين وانفصاله عنه ، ظهر فساد ما ذكره المحقق الخراساني قدس سره من عدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين في باب الحادثين بعد العلم بالحدوث والشك في المتقدم والمتأخر منهما.
وحاصل ما أفاده وجها لذلك - بتحرير منا - هو أن العلم بحدوث الحادثين والشك في المتقدم والمتأخر منهما يقتضي فرض أزمنه ثلاثة : زمان عدم كل منهما ، وزمان حدوث أحدهما ، وزمان حدوث الآخر ، فإنه لولا فرض هذه الأزمنة الثلاثة لا يمكن حصول الشك في المتقدم والمتأخر منهما ، فلابد من فرض أيام ثلاثة أو ساعات ثلاث ، ليكون اليوم الأول موطن العلم بعدم حدوث كل من الحادثين ، واليوم الثاني موطن العلم بحدوث أحدهما ، واليوم الثالث موطن العلم بحدوث الآخر منهما.
وقد عرفت : أن الشك في حدوث كل من الحادثين تارة : يلاحظ بالإضافة
ص: 517
إلى نفس أجزاء الزمان ، وأخرى : يلاحظ بالإضافة إلى زمان الحادث الآخر. فان لوحظ بالإضافة إلى نفس أجزاء الزمان ، فالشك في كل منهما يتصل بيقينه ، لأن الشك في كل منهما بالإضافة إلى أجزاء الزمان إنما يحصل من اليوم الثاني لا من اليوم الثالث ، فإنه في اليوم الثاني الذي هو موطن حدوث أحدهما يشك في انتقاض العدم في كل منهما بالوجود ، للعلم الاجمالي بحدوث أحدهما والشك فيما هو الحادث ، ففي اليوم الثاني يشك في حدوث البيع أو رجوع المرتهن عن الاذن ويبقى هذا الشك مستمرا إلى اليوم الثالث الذي هو موطن وجود الآخر ، فالشك في حدوث كل منهما بالإضافة إلى أجزاء الزمان إنما يكون متصلا باليقين ، فان موطن اليقين هو اليوم الأول وموطن الشك هو اليوم الثاني ، والاستصحاب إنما يجري من اليوم الثاني ، وذلك واضح.
وأما الشك في كل منهما بالإضافة إلى زمان حدوث الآخر : فهو لا يحصل إلا في اليوم الثالث ، فإنه ما لم يعلم بحدوث كل من الحادثين لا يكاد يحصل الشك في المتقدم والمتأخر منهما ، وموطن العلم بحدوث كل منهما إنما يكون في اليوم الثالث ، والاستصحاب إنما يتبع زمان الشك ، فاستصحاب عدم كل منهما في زمان الآخر إنما يجري في اليوم الثالث أيضا ، والشك في كل منهما بهذه الإضافة لا يمكن إحراز اتصاله باليقين ، لان اليقين بعدم بيع الراهن إنما كان في اليوم الأول والشك في تقدمه على رجوع المرتهن عن الاذن إنما يكون في اليوم الثالث ، فاليوم الثاني يكون فاصلا بين زمان اليقين وزمان الشك ، ولا يمكن استصحاب عدم البيع في زمان رجوع المرتهن من اليوم الثاني ، لان اليوم الثاني لم يكن موطنا للشك في حدوث البيع بهذه الإضافة ، بل كان موطنا لحدوثه بالإضافة إلى نفس الزمان ، فاستصحاب عدم البيع إلى زمان رجوع المرتهن على تقدير جريانه إنما يجري من اليوم الثالث ، ولا مجال لجريانه ، لعدم إحراز اتصال زمان الشك في حدوث البيع بالإضافة إلى زمان حدوث الرجوع بزمان
ص: 518
اليقين ، لاحتمال أن يكون الحادث الأول في اليوم الثاني هو البيع ، ومع احتمال ذلك لا يمكن إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين. هذا حاصل ما أفاده قدس سره في وجه عدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين في باب الحادثين.
ولا يخفى ما فيه ، فإن إضافة وجود أحد الحادثين إلى زمان وجود الآخر إن كانت باعتبار أخذ زمان وجود الآخر قيدا لوجوده ، فالشك في الوجود بهذا القيد وإن كان يحدث في اليوم الثالث ، إلا أنه لا يجري فيه الاستصحاب ، لا لعدم اتصال زمان الشك باليقين ، بل لعدم اليقين بعدم الوجود المقيد في الزمان السابق ، كما تقدم (1) وإن كانت الإضافة باعتبار أخذ زمان وجود الآخر ظرفا
ص: 519
لوجوده ، فالشك في وجود كل منهما بهذا الاعتبار إنما يكون متصلا باليقين ، فان معنى أخذ زمان أحدهما ظرفا لوجود الآخر هو لحاظ زمان وجود أحدهما من جملة الأزمنة التي يمكن فرض وجود الآخر فيها ، ومن المعلوم : أن الأزمنة التي يمكن فرض وجود كل من الحادثين فيها هي اليوم الثاني واليوم الثالث ، فزمان الشك هو كل من اليومين ، غايته أنه في اليوم الثاني لم يكن زمان وجود الآخر طرفا للإضافة وفي اليوم الثالث يكون طرفا لها ، وهذا لا يوجب تفاوتا في ناحية الشك ، ولا يقتضي انفصاله عن اليوم الأول الذي هو زمان اليقين بعدم حدوث الحادثين ، فالشك في كل من الحادثين يتصل بيقينه ويجري استصحاب عدم كل منهما من زمان الشك في وجوده إلى زمان وجود الآخر - أي من اليوم الثاني إلى اليوم الثالث - فان كان الأثر الشرعي مترتبا على عدم كل منهما في زمان وجود الآخر ، فاستصحاب عدم كل منهما في زمان وجود الآخر يجري ويسقط بالمعارضة ، وإن كان الأثر الشرعي مترتبا على عدم أحدهما في زمان وجود الآخر فقط ، فاستصحاب العدم يجري ويترتب عليه الأثر بلا مزاحم.
وحاصل الكلام : أن المنع عن جريان استصحاب عدم كل من الحادثين في زمان الآخر إن كان مع أخذ زمان الآخر قيدا للمستصحب ، فالمنع عن جريان الاستصحاب في محله ، ولكن لا لعدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، بل
ص: 520
لعدم المتيقن. وإن كان مع أخذ زمان الآخر ظرفا للمستصحب ، فلا وجه للمنع عنه ، فإنه من بعد اليوم الأول الذي هو ظرف اليقين بعدم كل من البيع ورجوع المرتهن عن الاذن يكون كل من البيع والرجوع مشكوك الحدوث في كل آن من آنات اليوم الثاني واليوم الثالث ومنها آن حدوث البيع أو آن حدوث الرجوع ، فان آن حدوث كل منهما إنما يكون من آنات اليومين ، فيجري استصحاب عدم حدوث البيع في آن حدوث الرجوع واستصحاب عدم حدوث الرجوع في آن حدوث البيع ، فالشك في كل منهما متصف بيقينه ، لأنه لم يتخلل بين اليقين بعدم البيع في اليوم الأول والشك في حدوثه في زمان الرجوع يقين آخر يضاد اليقين السابق ، وقد عرفت : أنه ما لم يتخلل اليقين بالخلاف لا يمكن أن ينفصل زمان الشك عن زمان اليقين ، وكذا الكلام في سائر موارد الشك في تقدم أحد الحادثين على الآخر وتأخره عنه.
فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن الشك في تقدم وجود الحادث وتأخره إن لوحظ بالإضافة إلى أجزاء الزمان فاستصحاب العدم يجري في كل زمان شك في وجوده فيه ، وإن كان الشك في التقدم والتأخر بالإضافة إلى حادث آخر ، فان كان أحدهما معلوم التاريخ فاستصحاب العدم إنما يجري في مجهول التاريخ فقط دون معلوم التاريخ - إلا على بعض الفروض الآتية - وإن كان كل منهما مجعول التاريخ فالاستصحاب في كل منهما يجري ويسقط بالمعارضة إذا كان لعدم كل منهما في زمان الآخر أثر شرعي ، وإلا فالاستصحاب يجري في خصوص ماله الأثر بلا معارض ، من غير فرض بين الحادثين اللذين يمكن اجتماعهما في الوجود - كإسلام الوارث وموت المورث وكبيع الراهن ورجوع المرتهن عن الاذن - وبين الحادثين اللذين لا يمكن اجتماعهما في الوجود كالحدث والوضوء والنجاسة والطهارة - فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا.
ص: 521
عدم جريان الأصل في معلوم التاريخ وجريانه في مجهول التاريخ ليس على إطلاقه ، بل قد يجري الأصل في معلوم التاريخ أيضا ويسقط بالمعارضة مع الأصل الجاري في مجهول التاريخ ، وقد لا يجري الأصل في كل من معلوم التاريخ ومجهوله ، فالفروض ثلاثة :
الأول : عدم جريان الأصل في معلوم التاريخ وجريانه في مجهول التاريخ ، كالأمثلة المتقدمة : من إسلام الوارث وموت المورث ، أو بيع الراهن ورجوع المرتهن عن الاذن في البيع ، ونحو ذلك من الموضوعات المركبة من جزئين عدميين أو وجوديين أو مختلفين مع العلم بتاريخ وجود أحد الجزئين - كالمثالين المتقدمين - فان موضوع الإرث مركب من إسلام الوارث وموت المورث ، وموضوع نفوذ بيع الراهن مركب من البيع وعدم رجوع المرتهن عن الاذن ، ففي مثل ذلك الأصل في معلوم التاريخ لا يجري وفي مجهوله يجري ويترتب عليه الأثر الشرعي حسب اختلاف المقامات.
الفرض الثاني : جريان الأصل في كل من معلوم التاريخ ومجهوله (1) وذلك
ص: 522
ص: 523
في كل مقام كان الشك في بقاء أحد الحادثين في زمان حدوث الآخر ، لا الشك في حدوث أحدهما في زمان حدوث الآخر ، كما إذا علم بالحدث والوضوء وشك في المتقدم والمتأخر منهما ، وكما إذا علم بنجاسة الثوب وطهارته وشك في المتقدم منهما والمتأخر ، فإنه في مثل ذلك الأصل في معلوم التاريخ أيضا يجري ويسقط بالمعارضة.
فلو علم المكلف أنه قد توضأ في أول النهار وعلم أيضا بالحدث ولكن شك في تقدم الحدث على الوضوء أو تأخره عنه ، كان الأصل في مرحلة البقاء في كل من الوضوء والحدث جاريا ، ويتعارض الأصلان من الجانبين ، فيستصحب بقاء الوضوء إلى زمان الشك وبقاء الحدث أيضا إلى زمان الشك ، فلو كان زمان الشك في تقدم الحدث على الوضوء وتأخره عنه هو أول الزوال ، فاستصحاب بقاء الوضوء إلى الزوال يعارض استصحاب بقاء الحدث إليه. ودعوى : عدم اتصال زمان الشك في بقاء الوضوء والحدث بزمان اليقين ، قد عرفت ضعفها.
ص: 524
وتوهم : أن استصحاب بقاء الوضوء إلى الزوال لا يجري - لان استصحاب عدم الحدث إلى زمان الوضوء يقتضي تأخر الحدث عن الوضوء - فاسد ، فان استصحاب عدم الحدث إلى زمان الوضوء لا يثبت تأخره إلا على القول بالأصل المثبت ، فاستصحاب عدم الحدث إلى زمان الوضوء لا أثر له ، لان الأثر المترتب على الحدث إنما هو كونه رافعا للطهارة وناقضا لها ، وهذا إنما يكون إذا تأخر الحدث عن الوضوء ، واستصحاب عدم الحدث إلى زمان الوضوء لا يثبت التأخر ، فلا يجري في الحدث استصحاب بقاء العدم ، بل يجري فيه استصحاب بقاء الوجود إلى الزوال الذي هو زمان الشك في المتقدم والمتأخر ، ويعارض مع استصحاب بقاء الوضوء إلى الزوال ، غايته أن الاستصحاب في طرف الوضوء إنما يكون شخصيا من حيث الزمان للعلم بزمان وجوده ، وفي طرف الحدث يكون كليا لعدم العلم بزمان حدوثه ، وهذا لا يوجب فرقا بين الاستصحابين ، فالأقوى أن الاستصحاب في مرحلة البقاء يجري في كل من الوضوء والحدث ويسقط بالمعارضة وإن علم تاريخ أحدهما وجهل تاريخ الآخر. وقياس مسألة الوضوء والحدث بمسألة إسلام الوارث وموت المورث - حيث إنه لا يجري فيها الاستصحاب في معلوم التاريخ - في غير محله ، فان الشك في تلك المسألة إنما كان في الحدوث وفي مسألة الوضوء والحدث انما يكون في البقاء ، فما يظهر من الشيخ قدس سره من اتحاد حكم المسألتين ، ليس على ما ينبغي ، فان الفرق بينهما في غاية الوضوح.
هذا كله في الطهارة الحدثية ، وكذا الكلام في الطهارة الخبثية ، فلو غسل الثوب في مائين : أحدهما طاهر والآخر نجس ، فاستصحاب بقاء الطهارة والنجاسة في الثوب يجري ويسقط بالمعارضة ، من غير فرق بين كون الماء المغسول به الثوب قليلا أو كثيرا ، أو كان أحدهما قليلا والآخر كثيرا ، غايته أنه لو كان الماء قليلا فزمان حدوث النجاسة معلوم بالتفصيل دون زمان الطهارة ،
ص: 525
ولو كان الماء كثيرا فزمان كل من الطهارة والنجاسة لا يكون معلوما بالتفصيل.
وتوضيح ذلك - هو أن الماء المغسول به الثوب لو كان قليلا : فحال ملاقاة الثوب للماء الثاني قبل انفصال الغسالة عنه يعلم تفصيلا بنجاسته ، إما لنجاسة الماء الأول المغسول به وإنما لنجاسة الماء الثاني الملاقي له فعلا ، ففي زمان ملاقاة الثوب للماء الثاني يعلم تفصيلا بنجاسة الثوب ويشك في زوالها ، لاحتمال أن يكون الماء الثاني هو النجس ولم يتعقبها مزيل ، فيجري استصحاب بقاء النجاسة التي يتعلق العلم التفصيلي بها من حيث نفسها ومن حيث زمانها. وهذا بخلاف الطهارة ، فإنه وإن كان قد علم بطهارة الثوب إلا أنه لا يعلم زمانها ، لتردده بين كونه في زمان عسله بالماء الأول أو بالماء الثاني ، فزمان حصول الطهارة يكون مرددا ، إلا أن ذلك لا يضر باستصحاب بقاء الطهارة ، للعلم بحصولها في الثوب في إحدى الحالتين والشك في ارتفاعها عنه ، لاحتمال أن يكون الماء الثاني هو الطاهر ، فيجري استصحاب بقاء كل من الطهارة والنجاسة في الثوب وهذا من غير فرق بين أن يكون الثوب قبل غسله بالمائين نجسا أو طاهرا.
وقد يتوهم : عدم جريان استصحاب الطهارة إذا كان الثوب قبل غسله بالمائين طاهرا ، لان الطهارة السابقة قد ارتفعت عن الثوب قطعا بملاقاته للماء النجس ولم يعلم بحصول طهارة أخرى للثوب ، بل هي مشكوكة الحدوث ، لاحتمال أن يكون الماء الأول هو الطاهر ، ولا أثر لملاقاة الثوب الطاهر للماء الطاهر ، فاستصحاب الطهارة يكون من القسم الثاني من القسم الثالث من اقسام استصحاب الكلي ، بل أسوأ منه ، لان القسم الثاني كان عبارة عن احتمال حدوث فرد آخر مقارنا لارتفاع الفرد المتيقن ، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، فإنه لا يحتمل وجود فرد آخر والطهارة في الثوب مقارنا لارتفاع الطهارة السابقة ، لان ارتفاع الطهارة السابقة عن الثوب إما يكون بملاقاته
ص: 526
للماء الأول وإما أن يكون بملاقاته للماء الثاني. فان كان بملاقاته للماء الأول ، فهو وإن كان قد حدث في الثوب فرد آخر من الطهارة ، إلا أن حدوثه لم يكن مقارنا لارتفاع الطهارة السابقة ، بل قد تخللت النجاسة بين الطهارة المرتفعة والطهارة الحادثة. وإن كان بملاقاته للماء الثاني ، فارتفاع الطهارة السابقة إنما يكون من زمان ملاقاته للماء الثاني ، ولا يحتمل حدوث طهارة أخرى في الثوب بعد غسله بالماء الثاني. وعلى كلا التقديرين : لا يحتمل حدوث طهارة أخرى في الثوب مقارنة لارتفاع الطهارة السابقة عنه ، فاستصحاب الطهارة في المثال يكون أسوأ حالا من استصحاب القسم الثاني من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي.
هذا ، ولكن فاسد التوهم بمثابة من الوضوح ، فإن الطهارة والمستصحبة في المثال إنما تكون شخصية لا كلية ، والاجمال والترديد إنما هو في ناحية الزمان ، وفرق واضح بين أن يكون المستصحب بنفسه مرددا بين ما هو مشكوك الحدوث وما هو مقطوع الارتفاع - كما في القسم الأول والثاني من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي - وبين أن يكون زمان حدوث المستصحب مرددا مع العلم بحدوثه كما في المثال ، فإنه يعلم وجدانا بطهارة الثوب في أحد الحالين : إما في حال غسله بالماء الأول وإما في حال غسله بالماء الثاني ، ويشك في ارتفاع الطهارة عنه ، فجعل المثال من الاستصحاب الكلي واضح الفساد.
وتوهم : عدم اتصال زمان الشك في الطهارة بزمان اليقين بها ، قد عرفت ضعفه. فالأقوى : جريان استصحاب الطهارة في المثال ومعارضته لاستصحاب النجاسة. هذا إذا كان الماء المغسول به الثوب قليلا.
وإن كان كثيرا : فزمان وجود كل من طهارة الثوب ونجاسته لم يكن معلوما بالتفصيل - بناء على عدم اعتبار التعدد وانفصال الغسالة في طهارة المغسول بالماء الكثير - فإنه لا يعلم بنجاسة الثوب في آن ملاقاته للماء الكثير الثاني ،
ص: 527
لاحتمال أن يكون هو الطاهر فيطهر الثوب بمجرد ملاقاته له.
ولكن قد عرفت : أن الجهل بزمان وجود المستصحب لا يضر بجريان الاستصحاب ، ففي الفرض أيضا يجري استصحاب بقاء الطهارة في الثوب ، للعلم بطهارته في أحد الحالين : إما حال ملاقاته للكر الأول وإما حال ملاقاته للكر الثاني والشك في زوالها لاحتمال أن يكون الكر الثاني هو الطاهر ، ويعارض مع استصحاب بقاء النجاسة في الثوب ، للعلم بها أيضا في أحد الحالين والشك في ارتفاعها لاحتمال أن يكون الكر الثاني هو النجس منهما.
وإن كان أحد المائين المغسول بهما الثوب قليلا والآخر كثيرا : فان كان الماء الثاني قليلا فزمان النجاسة المستصحبة يكون معلوما بالتفصيل ، كما إذا كان كل من المائين قليلا. وإن كان الماء الأول قليلا فزمان كل من الطهارة والنجاسة لا يكون معلوما بالتفصيل ، كما إذا كان كل من المائين كثيرا ، وذلك واضح.
وعلى جميع التقادير : العلم بزمان حدوث النجاسة أو الجهل به لا يضر باستصحابها ولا باستصحاب الطهارة ، فتأمل في المقام جيدا ، فإنه من مزال الاقدام.
الفرض الثالث : عدم جريان الأصل في مجهول التاريخ ومعلومه ، كما إذا علم بكرية الماء وملاقاته للنجاسة وشك في المتقدم والمتأخر منهما ، فإنه لا تجري أصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكرية ولو مع العلم بتاريخ الكرية والجهل بتاريخ الملاقاة ، لان الظاهر من قوله علیه السلام « إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شيء » هو أنه يعتبر في العاصمية وعدم تأثير الملاقاة سبق الكرية ولو آنا ما ، فان الظاهر منه كون الكرية موضوعا للحكم بعدم تنجيس الملاقاة ، وكل موضوع لابد وأن يكون مقدما على الحكم ، فيعتبر في الحكم بعدم تأثير الملاقاة من سبق الكرية ، ولذلك بنينا على نجاسة المتمم للكر ، لأنه يتحد فيه
ص: 528
زمان الكرية والملاقاة ، فلا محيص من القول بنجاسة الماء مطلقا ، سواء جهل تاريخ الملاقاة والكرية أو علم تاريخ أحدهما ، سواء كانت الملاقاة معلومة التاريخ أو الكرية.
أما في صورة الجهل بتاريخهما : فلان أصالة عدم كل منهما في زمان الآخر لا تقتضي سبق الكرية. وكذا إذا علم بتاريخ الملاقاة ، فان أصالة عدم الكرية إلى زمان الملاقاة تقتضي عدم تحقق موضوع الطهارة.
وأما إذا علم بتاريخ الكرية : فأصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكرية لا تثبت تأخر الملاقاة عن الكرية ، ومع عدم إثبات ذلك لم يحرز موضوع الطهارة ، مع أنه لابد منه (1) فان تعليق الحكم على أمر وجودي يقتضي إحراز
ص: 529
وجوده في ترتب الحكم عليه ، ومع الشك في وجوده يبنى على عدم الحكم ، من غير فرق بين الشك في أصل وجود الموضوع وبين الشك في وجوده في الزمان الذي يعتبر وجوده فيه ، كما فيما نحن فيه ، فإنه وإن كان قد علم بالكرية إلا أنه يشك في وجودها قبل الملاقاة للنجاسة ، فظهر : أنه لابد من الحكم بالنجاسة في المثال مطلقا.
نعم : لولا كون التعليق على الامر الوجودي يقتضي إحرازه لكان ينبغي في المثال الرجوع إلى قاعدة الطهارة عند العلم بتاريخ الكرية. وكان مبنى شيخنا الأستاذ - مد ظله - قبل هذا على طهارة الماء عند العلم بتاريخ الكرية ، وعلى ذلك جرى في رسالته العملية المسماة ب « الوسيلة » وفي حاشية العروة. ولكن في المقام عدل عن ذلك (1) وبنى على النجاسة مطلقا حتى مع العلم بتاريخ الكرية. نعم : لو كان الماء مسبوقا بالكرية ثم طرء عليه القلة ، فاستصحاب بقاء الكرية إلى زمان الملاقاة يجري ويحكم عليه بالطهارة ، فتأمل جيدا.
ربما قيل : بجريان استصحاب صحة الاجزاء السابقة في باب العبادات عند الشك في عروض المانع أو القاطع.
وقد تقدم في مباحث الأقل والأكثر : أنه لا مجال للاستصحاب في ذلك ، فراجع.
* * *
ص: 530
لا ينبغي التأمل والاشكال في عدم جريان الاستصحاب في الأمور الاعتقادية المطلوب فيها العلم واليقين ، كالنبوة والإمامة. وقد أطال الشيخ قدس سره الكلام في هذا التنبيه.
ولكن الانصاف : أنه لا يستحق إطالة الكلام فيه.
فالأولى : عطف عنان الكلام إلى
المتكفل لبيان تمييز الموارد التي يرجع فيها إلى استصحاب حكم المخصص عن الموارد التي يرجع فيها إلى عموم العام.
ومحل الكلام إنما هو فيما إذا ورد عام أفرادي يتضمن العموم الزماني وخرج بعض أفراد العام عن الحكم وشك في خروجه عنه في جميع الأزمنة أو في بعضها ، كقوله تعالى : « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » فان له عموم أفرادي بالنسبة إلى جميع أفراد العقود ، ويتضمن العموم الزماني أيضا لوجوب الوفاء بكل عقد في كل زمان ، وقد خرج عنه المعاملة الغبنية ، فإنه لا يجب الوفاء بها ، ولكن يشك في أنها خرجت عن العموم مطلقا في جميع الأزمنة ، أو في خصوص زمان ظهور الغبن؟ أي تردد أمر الخيار بين كونه على الفور أو على التراخي.
فيقع الكلام في أنه هل يجب الرجوع إلى عموم العام فيما عدا القدر المتيقن من زمان الخروج؟ أو أنه يجب استصحاب حكم المخصص؟.
وقد حكي عن المحقق الكركي رحمه اللّه أنه في المثال يجب الرجوع إلى عموم « أوفوا بالعقود » فيكون الخيار على الفور. وقيل : إنه يجب الرجوع إلى استصحاب حكم المخصص فيكون الخيار على التراخي.
ص: 531
وقد اضطربت كلمات بعض الاعلام في ذلك وذهب يمنة ويسرة ولم يأت بشيء يمكن أن يكون ضابطا للموارد التي يرجع فيها إلى العام والموارد التي يرجع فيها إلى استصحاب حكم المخصص ، بل حمل كلمات الشيخ قدس سره في هذا المقام على ما لا ينبغي الحمل عليه ، وفتح عليه باب الاشكال والايرادات السبعة أو الثمانية التي ذكرها.
وعلى كل حال : تنقيح البحث في ذلك يستدعي رسم أمور :
الأول : لا إشكال في أن الأصل في باب الزمان أن يكون ظرفا لوجود الزماني ، إلا أن يقوم دليل بالخصوص على القيدية مكثرا للموضوع ليكون وجود الشيء في زمان غير وجوده في زمان آخر ، ومع عدم قيام الدليل على ذلك لا يكون الزمان إلا ظرفا لوجود الشيء ، لان نسبة الزمان إلى الزماني كنسبة المكان إلى المكين لا يقتضي أزيد من الظرفية ، سواء كان الزماني من مقولة الأعيان والموضوعات الخارجية أو كان من مقولة الافعال ومتعلقات التكاليف أو كان من مقولة الأحكام التكليفية والوضعية ، فان الزمان في جميع ذلك إنما يكون ظرفا لوجودها (1) وعليه يبتني جريان الاستصحاب ، فإنه لولا كون
ص: 532
الزمان ظرفا لوجود المستصحب لم يكد يجري الاستصحاب ، لما عرفت : من أن حقيقة الاستصحاب إنما هو جر المستصحب في الزمان ، فلو كان الزمان قيدا لوجود المستصحب فلا يكاد يمكن جريان الاستصحاب فيه ، لان الوجود المقيد بزمان يباين الوجود في غير ذلك الزمان ، فلا يجري فيه الاستصحاب ، لأنه يكون من قسرية حكم من موضوع إلى موضوع آخر.
الامر الثاني : إذا علم من دليل الحكم أو من الخارج لحاظ الزمان قيدا في الحكم أو المتعلق
فتارة : يلاحظ الزمان على وجه الارتباطية ، أي يلاحظ قطعة من الزمان مجتمعة الآنات متصلة بعضها مع بعض على نحو العام المجموعي ، فيعتبر وجود الحكم أو المتعلق في مجموع الآنات بحيث لا يخلو آن منها عن وجود الحكم أو المتعلق ، فلو خلا آن عنهما يرتفع الحكم من أصله ويفوت المتعلق ولا يمكن بقاء الحكم أو إيجاد المتعلق في الآن الثاني ، كما في باب الصوم ، فان حقيقة الصوم هو الامساك من الطلوع إلى الغروب (1) فقد قيد الامساك بكونه في مجموع آنات النهار من حيث المجموع ، فيتحقق عصيان الخطاب إذا خلا آن من آنات النهار عن الامساك ، كما يتحقق عصيان خطاب « أكرم العلماء » عند ترك إكرام فرد من أفراد العلماء إذا كان المطلوب إكرام مجموع العلماء.
وأخرى : يلاحظ الزمان قيدا للحكم أو المتعلق على وجه الاستقلالية ، نظير العام الأصولي ، فيكون كل آن من آنات الزمان يقتضي وجود الحكم أو المتعلق
ص: 533
فيه مستقلا ، فيتعدد الحكم أو المتعلق بتعدد الآنات ، ويكون لكل آن حكم أو متعلق يخصه لا ربط له بالحكم أو المتعلق الموجود في الآن الآخر ، فلو خلا آن عن وجود الحكم أو المتعلق كان الآن الثاني مستتبعا لوجود الحكم أو المتعلق فيه ، ولا ملازمة بين عصيان الخطاب في آن لعصيانه في الآن الآخر ، بل لكل آن طاعة وعصيان يخصه.
والحاصل : تقسيم العام إلى الأصولي والمجموعي لا يختص بالعموم الافرادي ، بل يأتي في العموم الزماني أيضا ، غايته أن الاستقلالية والارتباطية في العموم الزماني إنما يلاحظان بالنسبة إلى أجزاء الزمان وآناته ، من غير فرق بين سعة دائرة العموم الزماني وضيقها ، فتارة : لا تكون محدودة بل ما دام العمر ، وأخرى : تكون محدودة بالسنة أو الشهر أو اليوم أو أقل من ذلك ، وهذا كله واضح لا إشكال فيه.
الامر الثالث : اعتبار العموم الزماني بأحد الوجهين يتوقف على قيام الدليل عليه.
فتارة : يكون دليل الحكم بنفسه متكفلا لبيان العموم الزماني بالنصوصية ، كقوله : « أكرم العلماء في كل زمان » أو « في كل يوم » أو « دائما » أو « مستمرا » ونحو ذلك من الألفاظ الدالة على العموم الزماني. وكقوله تعالى : « نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ » (1) بناء على أن تكون « أنى » زمانية لا مكانية.
وأخرى : يستفاد العموم الزماني من دليل لفظي آخر ، كقوله : « حلال محمد صلی اللّه علیه و آله حلال إلى يوم القيامة ، وحرام محمد صلی اللّه علیه و آله حرام إلى يوم القيامة » (2)
ص: 534
وثالثة : يستفاد من دليل الحكمة ومقدمات الاطلاق ، وذلك إنما يكون إذا لزم من عدم العموم الزماني لغوية الحكم وخلو تشريعه عن الفائدة ، كما في قوله تعالى : « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » (1) فإنه لو لم يجب الوفاء بالعقد في كل زمان يلزم لغوية تشريع وجوب الوفاء بالعقود ، لأنه لا فائدة في وجوب الوفاء بها في الجملة وفي آن ما. ولقد أجاد المحقق الكركي رحمه اللّه فيما أفاده من قوله : إن العموم الافرادي في قوله تعالى : « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » يستتبع العموم الزماني ، وإلا لم ينتفع بعمومه الافرادي.
وبالجملة : كما أنه قد يستفاد العموم الافرادي من دليل الحكمة ، كقوله تعالى : « أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ » (2) حيث إن إطلاقه بقرينة الحكمة يدل على حلية كل فرد من أفراد البيع - لأنه لا معنى لحلية فرد مردد من البيع - كذلك قد يستفاد العموم الزماني من الاطلاق بقرينة الحكمة (3).
الامر الرابع : مصب العموم الزماني تارة : يكون متعلق الحكم ، وأخرى : يكون نفس الحكم ، بمعنى أنه :
تارة : يلاحظ الزمان في ناحية متعلق التكليف والفعل الصادر عن المكلف ، كالوفاء والاكرام والشرب ونحو ذلك من متعلقات التكاليف الوجودية أو العدمية ، فتكون آنات الزمان قيدا للوفاء والاكرام والشرب ، أي يكون الوفاء أو الاكرام في كل آن معروض الوجوب وشرب الخمر في كل آن معروضا للحرمة ، سواء كان العموم الزماني علين وجه العام الأصولي أو العام المجموعي.
ص: 535
وأخرى : يلاحظ الزمان في ناحية نفس الحكم الشرعي : من الوجوب أو الحرمة ، فيكون الحكم الشرعي ثابتا في كل آن من آنات الزمان.
فعلى الأول : يكون العموم الزماني تحت دائرة الحكم ويرد الحكم عليه ، فان الحكم كما يرد على المتعلق يرد على قيده أيضا ، والمفروض : أن الزمان في الوجه الأول يكون قيدا للمتعلق فيرد الحكم عليه لا محالة.
وعلى الثاني : يكون العموم الزماني فوق دائرة الحكم وواردا عليه ، وسيأتي لذلك مزيد بيان.
وهذان الوجهان - أي كون العموم الزماني قيدا للحكم أو المتعلق - وإن كانا يتحدان بحسب النتيجة ، بداهة أنه لا فرق بين قوله : « الشرب في كل آن آن حرام » وبين قوله : « الشرب حرام والحرمة ثابتة له في كل آن آن » فان النتيجة في كل منهما إنما هي دوام الحكم واستمراره في جميع الآنات ، إلا أنهما يختلفان فيما هو المهم بالبحث في المقام ، على ما سيأتي توضيحه.
الامر الخامس : يختلف العموم الزماني الملحوظ في ناحية المتعلق مع العموم الزماني الملحوظ في ناحية الحكم من جهتين :
الأولى : إذا كان العموم الزماني قيدا للمتعلق فيمكن أن يتكفل اعتباره نفس دليل الحكم ، كقوله : « أكرم العلماء في كل زمان » أو « دائما » وكقوله : « نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ » وأما إذا كان العموم الزماني قيدا للحكم فلا يمكن أن يتكفل بيانه نفس دليل الحكم ، بل لابد من بيانه بدليل منفصل (1) فان استمرار الحكم ودوام وجوده إنما هو فرع ثبوت الحكم
ص: 536
ووجوده ، فنسبة الحكم إلى عموم أزمنة وجوده نسبة الحكم والموضوع والعرض والمعروض ، فان مركب العموم الزماني ومحله ومعروضه إنما يكون هو الحكم ، ففي قضية قولنا : « الحكم مستمر » أو « دائمي » يكون « الحكم » موضوعا و « مستمر » أو « دائم » محمولا ، فلا يمكن أن يكون الحكم متكفلا لبيان أزمنة وجوده.
والحاصل : أن دليل الحكم إنما يتكفل بيان أصل ثبوت الحكم ووجوده ، وأما استمراره ودوامه : فلابد وأن يكون بدلالة دليل آخر ، وذلك واضح.
الجهة الثانية : لو كان مصب العموم الزماني متعلق الحكم : فعند الشك في التخصيص وخروج بعض الأزمنة عن العموم يصح التمسك بالعموم الزماني الذي دل عليه دليل الحكم ، فلو قال : « أكرم العلماء في كل يوم » أو « في كل زمان » أو « مستمرا » أو « دائما » أو نحو ذلك من الألفاظ الموضوعة للعموم الزماني ثم شك في وجوب إكرام العالم في قطعة من الزمان ، فالمرجع هو الدليل الاجتهادي الذي تكفل العموم الزماني ، ولا تصل النوبة إلى استصحاب وجوب الاكرام الثابت قبل القطعة المشكوكة من الزمان ، فان الشك في التخصيص الزماني كالشك في التخصيص الافرادي يرجع فيه إلى أصالة العموم وعدم التخصيص.
ولا مجال للرجوع إلى الاستصحاب ، بل لا يجري فيه الاستصحاب ، لأن المفروض أن الدليل الاجتهادي قد تكفل لحكم كل زمان من أزمنة ظرف وجود المتعلق ، فقوله : « أكرم العلماء في كل يوم » يكون دليلا على وجوب إكرام كل فرد من أفراد العلماء في كل يوم من أيام العمر أو السنة أو الشهر ، فكان لكل يوم حكم يخصه لا ربط له باليوم السابق أو اللاحق ، فإنه لم يؤخذ العموم الزماني على نحو العام المجموعي بحيث يكون مجموع أيام العمر أو السنة
ص: 537
موضوعا لاكرام واحد مستمر ، بل العموم الزماني إنما أخذ على نحو العام الأصولي ، من غير فرق بين الألفاظ الدالة على العموم الزماني ، فسواء قال : « أكرم العلماء في كل يوم » أو قال : « أكرم العلماء مستمرا » يكون كل يوم أو كل زمان موضوعا مستقلا لوجوب الاكرام ، فيتعدد الحكم والمتعلق حسب تعدد الأيام والأزمنة.
فلو شك في وجوب الاكرام في بعض الأيام والأزمنة لا يمكن استصحاب حكم اليوم والزمان السابق (1) لارتفاع ذلك الحكم بمضي اليوم السابق وتصرم الزمان الماضي ، فلا يمكن الحكم ببقائه في اليوم الثاني والزمان اللاحق إلا بالرجوع إلى ما يدل على العموم الزماني : من الدليل الاجتهادي ، ولا يصح الرجوع إلى الاستصحاب ، لأنه يلزم تسرية حكم من موضوع إلى موضوع آخر ، فاستصحاب الحكم فيما كان المتعلق مصب العموم الزماني ساقط من أصله ولا مجال لجريانه.
بل لو فرض أنه لم يكن للدليل الاجتهادي عموم بالنسبة إلى جميع الأيام والأزمنة كان المرجع في زمان الشك هو سائر الأصول العملية : من البراءة والاشتغال ، لا استصحاب حكم العام ، من غير فرق بين الشك في أصل التخصيص أو في مقداره ، كما إذا علم بخروج بعض الأزمنة وشك في خروج الزائد ، ففيما عدا القدر المتيقن من التخصيص يرجع إلى ما دل على العموم الزماني لو كان ، وإلا فإلى البراءة والاشتغال ، ولا يجري استصحاب حكم الخاص. فلو علم بعدم وجوب إكرام زيد في يوم الجمعة وخروجه عن عموم
ص: 538
قوله : « أكرم العلماء في كل يوم » وشك في وجوب إكرامه يوم السبت ، ففي يوم السبت يرجع إلى العموم ، لا إلى استصحاب حكم الخاص.
وبالجملة : لو كان المتعلق مصب العموم الزماني ، فلا مجال لاستصحاب حكم العام إذا شك في أصل التخصيص ، ولا استصحاب حكم الخاص إذا شك في مقدار التخصيص ، بل لابد من الرجوع إلى العام أو إلى سائر الأصول الاخر ، هذا إذا كان متعلق الحكم مصب العموم الزماني.
وأما إذا كان مصب العموم الزماني نفس الحكم : فلا مجال للتمسك فيه بالعموم إذا شك في التخصيص أو في مقداره ، بل لابد فيه من الرجوع إلى الاستصحاب ، على عكس ما إذا كان مصب العموم الزماني متعلق الحكم.
والسر في ذلك : هو أن الشك في التخصيص أو في مقداره فيما إذا كان الحكم مصب العموم الزماني يرجع إلى الشك في الحكم ، وقد تقدم أن الحكم يكون بمنزلة الموضوع للعموم الزماني إذا كان مصب العموم نفس الحكم ، ولا يمكن أن يتكفل العموم الزماني وجود الحكم مع الشك فيه ، لأنه يكون من قبيل إثبات الموضوع بالحكم ، فالعموم الزماني دائما يكون مشروطا بوجود الحكم ، ولا يمكن أن يدل قوله : « الحكم مستمر في كل زمان » على وجود الحكم مع الشك فيه ، فلو قال : « أكرم العلماء » وعلم من دليل الحكمة أو غيرها أن وجوب الاكرام مستمر وثابت في كل زمان ثم شك في وجوب إكرام العالم في زمان - لاحتمال التخصيص - فلا يصح الرجوع إلى ما دل على استمرار وجوب إكرام العلماء ، فان استمرار الحكم يتوقف على وجود الحكم ، والمفروض : الشك فيه.
وكذا لو علم بعدم وجوب إكرام زيد العالم في يوم الجمعة وشك في وجوب إكرامه في يوم السبت ، فإنه أيضا لا يجوز التمسك بقوله : « الحكم مستمر في كل زمان » بل لابد من الرجوع إلى استصحاب حكم العام عند الشك في أصل
ص: 539
التخصيص والرجوع إلى استصحاب حكم الخاص عند الشك في مقداره ، بل لو لم نقل بحجية الاستصحاب كان المرجع سائر الأصول العملية ، لا عموم العام.
والحاصل : أن محل الكلام إنما هو فيما إذا كان عام أفرادي يستتبع عموم زماني ، فالعموم الزماني إنما يكون في طول العموم الافرادي ومتأخر عنه رتبة ، سواء كان مصب العموم الزماني نفس الحكم الشرعي أو متعلقه.
غايته أنه لو كان مصب العموم متعلق الحكم كان الحكم واردا على العموم الزماني كوروده على المتعلق ، فيكون تحت دائرة الحكم ، ولأجل ذلك صح أن يكون نفس دليل الحكم متكفلا لبيان العموم الزماني كتكفله لبيان العموم الافرادي ، فعند الشك في التخصيص أو في مقداره يتمسك بعموم الدليل.
وأما لو كان مصب العموم نفس الحكم كان العموم الزماني واردا على الحكم وواقعا فوق دائرة الحكم ، ولأجل ذلك لا يصح أن يكون دليل الحكم متكفلا لبيان العموم الزماني ، بل لابد من التماس دليل آخر يدل على عموم أزمنة وجود الحكم ، فعند الشك في التخصيص أو في مقداره لا يجوز التمسك بما دل على العموم الزماني ، لان الدليل إنما كان متكفلا لعموم أزمنة وجود الحكم ، فلا يتكفل أصل وجود الحكم.
والشك في التخصيص الزماني يستتبع الشك في وجود الحكم ، فلا يصح التمسك بعموم ما دل على العموم الزماني (1) ففي مثل قوله تعالى : « أَوْفُوا
ص: 540
ص: 541
بِالْعُقُودِ » لو كان مصب العموم الزماني نفس لزوم العقد ووجوب الوفاء به كان مفاده - بضميمة دليل الحكمة التي اقتضت العموم الزماني - قضيتين شرعيتين : الأولى وجوب الوفاء بكل عقد من أفراد العقود ، وهذا هو المدلول المطابقي لقوله تعالى : « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ». الثانية استمرار وجوب الوفاء بكل عقد في جميع الأزمنة. وهذه القضية الثانية هي التي تكفل لبيانها دليل الحكمة ، وواضح : أن القضية الثانية متفرعة على القضية الأولى محمولا وموضوعا ، فهي مشروطة بوجودها.
فلو شك في وجوب الوفاء بعقد من العقود في زمان فلا يمكن التمسك بعموم ما دل على استمرار وجوب الوفاء في كل زمان ، لأن المفروض : الشك في وجوب الوفاء بالعقد في الزمان الخاص ، فيشك في موضوع ما دل على العموم الزماني فلا يصح الرجوع إليه ، لأنه لا يمكن إثبات الموضوع بالحكم ، بل لا محيص من استصحاب بقاء وجوب الوفاء به الثابت قبل زمان الشك. هذا إذا شك في أصل التخصيص. ولو شك في مقداره ، كالمعاملة الغبنية
ص: 542
- حيث إنه علم بخروجها عن عموم وجوب الوفاء بالعقود ولكن تردد زمان الخروج بين الأقل والأكثر - فالمرجع فيما عدا القدر المتيقن من زمان الخروج هو استصحاب حكم الخاص ، وهو عدم وجوب الوفاء بها ، فيثبت كون الخيار على التراخي ، ولا يصح الرجوع إلى عموم ما دل على وجوب الوفاء بالعقد في كل زمان لاثبات كون الخيار على الفور.
فظهر مما ذكرنا : أنه في كل مورد كان مصب العموم الزماني متعلق الحكم فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه عند الشك في التخصيص الزماني أو في مقداره ، بل لابد فيه من الرجوع إلى عموم العام لو كان ، وإلا فإلى البراءة والاشتغال ، وفي كل مورد كان مصب العموم الزماني نفس الحكم ، فلا مجال للتمسك فيه بالعام الزماني عند الشك في التخصيص أو في مقداره ، بل لابد فيه من الرجوع إلى الاستصحاب لو تمت أركانه ، وإلا فإلى البراءة والاشتغال.
وإلى ذلك يرجع ما أفاده الشيخ قدس سره بقوله : « ثم إذا فرض خروج بعض الافراد في بعض الأزمنة عن هذا العموم فشك فيما بعد ذلك الزمان بالنسبة إلى ذلك الفرد ، هل هو ملحق به في الحكم أو ملحق بما قبله؟ الحق التفصيل في المقام بأن يقال : إن اخذ فيه عموم الأزمان أفراديا بأن اخذ كل زمان موضوعا مستقلا بحكم مستقل لينحل العموم إلى أحكام متعددة بعدد الأزمان » إلى أن قال : « وإن اخذ لبيان الاستمرار كقوله : أكرم العلماء دائما ثم خرج فرد في زمان وشك في حكم ذلك الفرد » إلى آخر ما أفاده في المقام.
فان ما ذكره من التفصيل يرجع إلى ما ذكرناه. والمراد من قوله في الوجه الأول : « إن اخذ فيه عموم الأزمان أفراديا » هو أخذ الزمان ظرفا لمتعلق الحكم ، بالبيان المتقدم : من كون مصب العموم الزماني فعل المكلف وما هو الصادر عنه ، ومن قوله في الوجه الثاني : « وإن اخذ لبيان الاستمرار كقوله :
ص: 543
أكرم العلماء » هو أخذ الزمان ظرفا للحكم ، بأن يكون مصب العموم الزماني نفس الحكم الشرعي ، ويتفرع على ذلك عدم جريان الاستصحاب في الوجه الأول وجريانه في الوجه الثاني.
وقد خفي على بعض الاعلام مراد الشيخ قدس سره ومحل كلامه ، وتخيل أن ما ذكره من التفصيل بين الوجهين إنما هو في مورد كان المتعلق مصب العموم الزماني ، فحمل قوله في الوجه الثاني : « وإن اخذ لبيان الاستمرار » على كون الاستمرار في الأزمنة اخذ بنحو العام المجموعي ، وجعل مورد المنع عن الرجوع إلى العام ما إذا كان العموم الزماني ملحوظا في ناحية المتعلق على جهة الارتباطية بنحو العام المجموعي ، ومورد المنع عن الرجوع إلى الاستصحاب ما إذا كان العموم الزماني ملحوظا في ناحية المتعلق على جهة الاستقلالية بنحو العام الأصولي.
ففتح على الشيخ قدس سره باب الايراد ، وأشكل عليه بإشكالات كلها مبنية على ما تخيله : من أن محل النفي والاثبات إنما هو فيما إذا كان المتعلق مصب العموم الزماني (1) ولو كان محل النفي والاثبات ذلك ، فالحق مع المستشكل ، ولكن قد عرفت : أن النفي والاثبات لا يردان على محل واحد ، بل مورد أحدهما ما إذا كان المتعلق مصب العموم الزماني ، ومورد الآخر ما إذا كان مصب العموم الزماني نفس الحكم الشرعي.
وعبارة الشيخ قدس سره في « الفرائد » وإن كانت مجملة قابلة لان يتوهم منها اتحاد مورد النفي والاثبات ، ولكن عبارته في « المكاسب » - في باب خيار الغبن - تنادي بالتغاير ، وأن مورد النفي عن التمسك بالعام هو ما إذا كان الحكم الشرعي مصب العموم الزماني ومورد إثبات التمسك به هو ما إذا كان متعلق
ص: 544
الحكم مصب العموم الزماني ، وعلى كلا التقديرين : يكون العموم الزماني ملحوظا على وجه الاستقلالية بنحو العام الأصولي ، ومن غير فرق بين أن يكون بيان العموم الزماني بمثل قوله : « في كل زمان » أو « ويستمر » أو « دائما » ونحو ذلك من الألفاظ الموضوعة للعموم الزماني ، فسواء قال : « الحكم موجود في كل زمان » أو قال : « الحكم يستمر في جميع الأزمنة » يكون المعنى واحدا ، وليس قوله : « في كل زمان » قرينة على لحاظ العموم الزماني بنحو العام الأصولي ، وقوله : « ويستمر » وقرينة على لحاظه بنحو العام المجموعي ، وذلك واضح.
فتحصل : أنه ليس مراد الشيخ من التفصيل بين الوجهين التفصيل بينهما في مورد يكون مصب العموم الزماني متعلق الحكم ، بل مصب العموم الزماني في أحد الوجهين هو متعلق الحكم ، وفي الآخر نفس الحكم ، فيستقيم حينئذ التفصيل في التمسك بالعام في أحدهما والتمسك بالاستصحاب في الآخر (1) ولا يرد عليه شيء من الاشكالات ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا.
بعدما تبين أن مورد التمسك بالعام هو ما إذا كان مصب العموم الزماني متعلق الحكم ومورد التمسك بالاستصحاب هو ما إذا كان مصب العموم الزماني نفس الحكم ، فيقع الكلام حينئذ في تشخيص المورد ، وقبل ذلك ينبغي
ص: 545
تأسيس الأصل عند الشك في مصب العموم ، فنقول :
إنه تارة : يشك في أصل العموم الزماني للحكم أو المتعلق وعدمه ، وفرض حصول الشك في العموم الزماني إنما هو فيما إذا لم يلزم لغوية تشريع الحكم مع عدم العموم الزماني بأحد الوجهين ، وإلا فلا يمكن حصول الشك فيه ، كما لا يخفى.
وأخرى : يعلم بالعموم الزماني ويشك في مصبه.
فان كان الشك في أصل العموم الزماني فلا إشكال في أن الأصل يقتضي عدمه (1) لان أخذ العموم الزماني قيدا للحكم أو للمتعلق يتوقف على لحاظه ثبوتا وبيانه إثباتا ، فلو قال : « أكرم العلماء » وشك في استمرار الوجوب في جميع الأيام أو شك في كون الاكرام في جميع الأيام واجبا ، ففي ما عدا اليوم الأول لا يجب الاكرام ، لأصالة البراءة عنه ، وذلك واضح.
وان كان الشك في مصب العموم الزماني بعد العلم به فلا إشكال أيضا في أن الأصل اللفظي يقتضي عدم كون المتعلق مصب العموم الزماني ، فان الشك في ذلك يرجع إلى الشك في تقييد المتعلق بقيد زائد ، وأصالة الاطلاق تقتضي عدم التقييد ، وليس العموم الزماني من القيود التي لا يمكن أخذه في
ص: 546
المتعلق حتى لا يصح التمسك بالاطلاق ، لأنه قد تقدم أن اعتبار العموم الزماني في ناحية المتعلق مما يمكن أن يتكفل بيانه نفس دليل الحكم ، فيقول : « أكرم العلماء في كل يوم » أو « مستمرا » فعند الشك في اعتبار العموم الزماني في ناحية المتعلق يرجع إلى أصالة الاطلاق ، ويتعين حينئذ أن يكون مصبه نفس الحكم الشرعي ، للعلم باعتبار العموم الزماني ، فإذا كان الأصل عدم اعتباره في المتعلق يتعين اعتباره في الحكم ، لان دليل الحكمة تقتضي ذلك.
ولا يتوهم : أن إطلاق الحكم يقتضي عدم أخذ العموم الزماني قيدا له ، لما عرفت : من أن دليل الحكم لا يمكن أن يتكفل لبيان أزمنة وجوده ، بل لابد من أن يكون بيانه بدليل منفصل آخر (1) فإذا لم يقم دليل لفظي على اعتباره في المتعلق ، فدليل الحكمة يقتضي اعتباره في ناحية الحكم ، لان دليل الحكمة إنما يجري لبيان الاحكام وتشخيص مرادات الآمر ، ومن جملة مقدمات الحكمة في المقام إطلاق المتعلق وعدم تقييده بالعموم الزماني ، فإنه مع تقييد المتعلق بذلك لا تصل النوبة إلى التمسك بمقدمات الحكمة ، لان أخذه في ناحية المتعلق يغني عن أخذه في ناحية الحكم ، كما أن أخذه في ناحية الحكم يغني عن أخذه في
ص: 547
ناحية المتعلق ، لما تقدم في بعض الأمور السابقة : من اتحاد نتيجة أخذ العموم الزماني في ناحية الحكم أو المتعلق. وإنما تظهر الثمرة بين الوجهين في جواز التمسك بالعام أو الرجوع إلى الاستصحاب - بالبيان المتقدم - وإلا فبحسب النتيجة العملية لا فرق بين أخذ الزمان قيدا للحكم أو للمتعلق ، فإذا لم يقيد المتعلق بالعموم الزماني كان قيدا للحكم لا محالة ، لجريان أصالة الاطلاق في ناحية المتعلق وعدم جريانها في ناحية الحكم ، فتأمل جيدا.
فتحصل : أن في كل مورد شك في مصب العموم الزماني بعد العلم به فالأصل يقتضي أن يكون مصبه نفس الحكم الشرعي لا المتعلق ، ويترتب عليه ما تقدم : من عدم جواز الرجوع إلى العموم عند الشك في التخصيص أو في مقداره ، بل لابد من الرجوع إلى الاستصحاب.
إذا عرفت ذلك ، فاعلم : أن الأحكام الشرعية تنقسم إلى تكليفية ووضعية ، والتكليفية تنقسم إلى الأوامر والنواهي (1).
أما الأحكام الوضعية : فمصب العموم الزماني فيها ينحصر أن يكون نفس الحكم الوضعي بناء على المختار من أن الأحكام الوضعية بنفسها مجعولة ما عدا السببية والجزئية والشرطية والمانعية ، فإنه على هذا ليس في البين متعلق حتى يمكن أخذه مصبا للعموم الزماني ، لان المتعلق عبارة عن الفعل الذي تعلق به التكليف أمرا أو نهيا ، وأما الأحكام الوضعية : فليس لها متعلقات لكي
ص: 548
يبحث فيها عن مصب العموم الزماني ، فينحصر أن يكون مصب العموم فيها نفس الحكم الوضعي : من الطهارة والنجاسة والملكية والزوجية والرقية وغير ذلك من الاعتبارات العرفية والأحكام الوضعية ، فيكون المرجع عند الشك في التخصيص الزماني فيها هو الاستصحاب.
ومنه يظهر : عدم جواز التمسك بعموم قوله تعالى : « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » لاثبات فورية الخيار في المعاملات الغبنية ، بل لابد من استصحاب بقاء الخيار في كل زمان شك فيه بعد العلم بثبوته عند ظهور الغبن ، لان مفاد قوله تعالى : « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » ليس وجوب الوفاء به تكليفا وحرمة التصرف فيما انتقل عن المتعاقدين ، بل مفاده لزوم العقد وعدم انفساخه بالفسخ ، فيكون مدلوله حكما وضعيا ، ومصب العموم الزماني فيه نفس لزوم العقد ، وفي مثله لا مجال للتمسك بالعموم.
فظهر : أنه في الأحكام الوضعية يكون العموم الزماني فيها قيدا لنفس الحكم بناء على كونها متأصلة بالجعل ، بل ولو قلنا : بكونها منتزعة عن التكليف ، كما هو مختار الشيخ قدس سره فان أقصى ما يلزم منه هو إمكان أن يكون مصب العموم الزماني فيها متعلق التكليف ، ولكن مجرد إمكان ذلك لا يقتضي كونه مصب العموم الزماني ما لم يقم دليل على أخذه في ناحية المتعلق ، لما عرفت : من أن الأصل فيما لم يقم دليل على ذلك هو أن يكون مصب العموم نفس الحكم الشرعي ، ومن المعلوم : أنه لم يقم دليل على أخذ العموم الزماني قيدا في ناحية المتعلق في باب الأحكام الوضعية ، فدليل الحكمة تقتضي أن يكون مصبه نفس الحكم الوضعي على المختار أو الحكم التكليفي على مختار الشيخ قدس سره ففي باب الوضعيات لو شك في تخصيص العموم الزماني أو في مقداره لا مجال للرجوع إلى العموم ، بل لابد من الرجوع إلى استصحاب حكم العام في الأول واستصحاب حكم الخاص في الثاني.
ص: 549
وأما في باب التكاليف : ففي التكاليف التحريمية يمكن أن يكون مصب العموم الزماني فيها متعلق الحكم ، كما يمكن أن يكون نفس الحكم بعدما كانت التكاليف التحريمية مستمرة في الأزمنة ولها عموم زماني ، فيمكن أن يكون مصب العموم الزماني في مثل قوله : « لا تشرب الخمر » متعلق النهي فيكون الشرب في كل زمان حراما ، ويمكن أن يكون مصب العموم نفس الحكم فتكون حرمة الشرب مستمرة في جميع الأزمنة.
فعلى الأول : يكون المرجع عند الشك في التخصيص أو في مقداره هو العموم ، فلو شك في حرمة شرب الخمر في زمان المرض أو شك في حرمته في زمان تخفيف المرض بعد العلم بعدم الحرمة في زمان اشتداد المرض يرجع إلى عموم قوله : « لا تشرب الخمر » ولا يجري استصحاب الحرمة في الأول واستصحاب الترخيص في الثاني.
وعلى الثاني : لا يكون المرجع عند الشك في التخصيص أو في مقداره عموم قوله : « لا تشرب الخمر » بل لابد من استصحاب الحرمة في الأول واستصحاب الترخيص في الثاني.
وهذا كله مما لا إشكال فيه ، إنما الاشكال فيما هو الصحيح من الوجهين ، فقد يقال : إن مصب العموم الزماني في باب النواهي إنما يكون متعلق النهي بتقريب أن تعلق النهي أو النفي بالطبيعة المرسلة بنفسه يقتضي ترك جميع الافراد العرضية والطولية المتدرجة في الأزمنة ، لا ترك خصوص الافراد العرضية ، فيكون النهي بمدلوله اللفظي يقتضي العموم الزماني ، وقد تقدم : أن دليل الحكم إنما يمكن أن يتكفل لبيان العموم الزماني المأخوذ في ناحية المتعلق ولا يمكن أن يتكفل لبيان العموم الزماني المأخوذ في ناحية الحكم ، فإذا كان قوله : « لا تشرب الخمر » بنفسه يدل على العموم الزماني ، فلابد وأن يكون مصب العموم الزماني شرب الخمر ، لا الحرمة.
ص: 550
هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إن النهي أو النفي بنفسه لا يدل على أزيد من ترك الافراد العرضية ، وأما ترك الافراد الطولية : فهو إنما يستفاد من دليل الحكمة وإطلاق النهي (1) وقد تقدم : أنه إذا استفيد العموم الزماني من دليل الحكمة فلابد وأن يكون مصبه نفس الحكم الشرعي ، لا متعلقه.
وقد اختلفت كلمات شيخنا الأستاذ - مد ظله - في ذلك ، ففي الفقه - عند البحث عن خيار الغبن - رجح عدم دلالة النهي والنفي على ترك الافراد الطولية وإنما يستفاد العموم الزماني بالنسبة إلى الافراد الطولية من دليل الحكمة ، وفي الأصول توقف في ابتداء الامر ولم يرجح أحد الوجهين ، ولكن أخيرا مال إلى أن النهي إنما يتعلق بالقدر المشترك بين الافراد العرضية والطولية المتدرجة في الزمان ، سواء كان للنهي تعلق بالموضوع الخارجي كالنهي عن شرب الخمر ، أو لم يكن له تعلق بالموضوع الخارجي كالنهي عن الغناء ، غايته أنه في الأول يدوم النهي بدوام وجود الموضوع خارجا ، وفي الثاني يكون دوامه ببقاء المكلف على شرائط التكليف ، فليس النهي بمدلوله اللفظي يدل على العموم الزماني.
وقد حكي عن الأصحاب : أن بنائهم على التمسك بالاستصحاب في موارد الشك في التخصيص الزماني أو في مقداره ، وكأنهم جعلوا مصب العموم الزماني نفس الحكم لا متعلقه ، فتأمل في المقام فإنه بعد يحتاج إلى زيادة بيان.
ثم لا يخفى عليك : أنه لو بنينا على أن النهي بمدلوله اللفظي يدل على العموم الزماني وأن مصب العموم هو المتعلق ، فالتمسك به في موارد الشك في التخصيص أو في مقداره إنما يصح إذا كان لدليل الحكم إطلاق بالنسبة إلى الحالات والطواري اللاحقة للمكلف : من المرض والصحة والاختيار
ص: 551
والاضطرار ونحو ذلك ، فلو لم يكن لدليل الحكم إطلاق بالنسبة إلى الطواري لا يصح التمسك بالعموم الزماني إذا شك في حرمة المتعلق عند عروض بعض الطوري ، بل لابد من الرجوع إلى الاستصحاب ، فان العموم الزماني إنما يكون في طول العموم الافرادي والأحوالي ، فالعموم الزماني إنما ينفع إذا كان الشك متمحضا من حيث الزمان ، فإذا كان لدليل الحكم إطلاق بالنسبة إلى الافراد والأحوال كان المرجع عند الشك في التخصيص الزماني هو العموم. ولا يتوهم : أن العموم الزماني يغني عن الاطلاق الأحوالي ، بل نحتاج في رفع الشك إلى كل منهما ، وذلك واضح. وهذا كله في التكاليف التحريمية.
وأما التكاليف الوجوبية : فما كان منها من الأصول الاعتقادية كقوله تعالى : « آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ » (1) فيمكن أيضا أن يكون مصب العموم الزماني فيها نفس الوجوب ، ويمكن أيضا أن يكون مصب العموم متعلق الحكم ، ولا يترتب على الوجهين ثمرة عملية ، لأنه لا يحصل الشك في التخصيص الزماني فيها ، وعلى فرض حصوله فلا يجري فيها الاستصحاب ، لأنه يعتبر فيها عقد القلب والاعتقاد ، والاستصحاب لا يوجب ذلك.
وما كان منها من الفروع الدينية : كقوله تعالى : « يا أيها الذين آمنوا أقيموا الصلاة » (2) وكقوله تعالى : « كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ » (3) وغير ذلك من الاحكام الوجودية ، فان كان للزمان دخل في ملاك الحكم والمصلحة التي اقتضت تشريع الوجوب - كالصوم - فلا إشكال أيضا في صحة كون العموم الزماني قيدا للحكم ، فيكون وجوب الصوم مثلا مستمرا من الطلوع إلى الغروب ، ويمكن كونه قيدا للمتعلق ، فيكون الامساك من الطلوع إلى الغروب
ص: 552
واجبا ، فان كان في البين قرينة على كونه قيدا للمتعلق فهو ، وإلا فلابد وأن يكون قيدا للحكم ، كما تقدم.
وتظهر الثمرة بين الوجهين : في وجوب الامساك في بعض النهار مع العلم بعدم تعقبه بالامساك في بقية النهار لاختلال بعض شرائط التكليف ، كما لو علمت المرأة أنها تحيض في آخر النهار ، أو علم المكلف أنه يسافر قبل الزوال
فإنه لو كان الاستمرار قيدا للطلب : فمقتضى القاعدة وجوب الامساك في جزء من النهار ولو مع العلم بعدم تعقبه بسائر الاجزاء (1) ومع المخالفة تجب الكفارة ، لان الطلب محفوظ ما دامت الشرائط موجودة ، ولا عبرة بفقدانها في آخر النهار بعدما كان المكلف واجدا لها في أول النهار ، فان وجوب الامساك في كل جزء من أجزاء النهار تابع لدليل الحكم ، فإذا دل الدليل على استمرار الحكم في جميع أجزاء النهار ، فمعناه « أنه يجب الامساك في كل جزء من النهار إذا كان المكلف واجدا للشرائط » فلا يتوقف وجوب الامساك في أول النهار على وجوبه في آخر النهار ، فإنه لا معنى لاشتراط الحكم في أول النهار بتعقبه بالحكم في آخر النهار ، هذا إذا كان الاستمرار قيدا للطلب.
ص: 553
وإن كان الاستمرار قيدا للمطلوب - وهو الامساك - فلازمه أن يكون وجوب الامساك إلى الغروب فعليا من أول الطلوع ، لأنه مع عدم فعليته لا يجب الامساك من أول الطلوع ، فوجوب الامساك في أول الطلوع لا يمكن إلا إذا كان التكليف بالامساك إلى الغروب فعليا من أول الطلوع ، ولازم فعليته - مع كون المطلوب أمرا مستمرا إلى الغروب - هو أن يكون الشرط في صحة الامساك في أول الطلوع تعقبه بالامساك في بقية النهار جامعا لشرائط التكليف ، وهذا المعنى من الشرط المتأخر لا محيص عنه في جميع أجزاء المركبات الارتباطية ، كما تقدم الكلام فيه في الجزء الأول من الكتاب. فلو علم المكلف بعدم تعقب الامساك في أول النهار بالامساك في بقية النهار لاختلال شرائط التكليف في أثناء النهار ، فمقتضى القاعدة عدم وجوب الامساك في أول النهار وعدم وجوب الكفارة عليه مع عدم الامساك قبل اختلال الشرائط ، فلابد من قيام دليل على وجوب الامساك والكفارة عند تركه مع العلم بعدم تعقب الامساك في أول النهار بالامساك في بقية النهار لاختلال شرائط التكليف ، فتأمل جيدا.
هذا إذا كان للزمان دخل في المصلحة والملاك. وإن لم يكن للزمان دخل في ذلك ، كالصلاة بالنسبة إلى الأزمنة التي تكون ظرفا لايقاعها ، فقد يتوهم : أن العموم الزماني لا يمكن أن يكون قيدا للحكم ، فان استمرار الحكم في جميع الأزمنة يقتضي اشتغال المكلف بالصلاة مثلا في كل زمان.
ولا يخفى ضعفه ، فان استمرار الحكم إنما يعتبر في الأزمنة التي تكون ظرفا لايجاد المتعلق فيها ، فإذا فرض أن ظرف إيجاد الصلاة بحسب الجعل الشرعي كان في أول زوال الشمس وفي العصر والمغرب والصبح كذلك ، فمعنى استمرار الحكم هو بقاء وجوب الصلاة في جميع الأيام في تلك الأوقات ، وعدم اتصال أزمنة امتثال الصلوات لا يضر باتصال الحكم واستمراره في أزمنة إيجاد المتعلق ،
ص: 554
ففي باب الصلاة أيضا يمكن أن يكون مصب العموم الزمني نفس الحكم ، ويمكن أن يكون المتعلق.
وتظهر الثمرة بين الوجهين : فيما إذا خرج المقيم عن بلد الإقامة من دون أن يعزم على إنشاء سفر جديد وقلنا : بأن الإقامة قاطعة للسفر حكما لا موضوعا ، فإنه لو كان العموم الزماني ظرفا للحكم وكان وجوب القصر على المسافر مستمرا إلى أن ينقطع سفره ، فعند الشك في وجوب القصر أو التمام في مدة خروجه عن بلد الإقامة قبل إنشاء سفر جديد يرجع إلى استصحاب وجوب التمام الذي كان ثابتا في حال الإقامة قبل الخروج عن بلدها. ولو كان العموم الزماني ظرفا للمتعلق وكان القصر في كل صلاة رباعية في جميع أزمنة السفر واجبا ، ففي المثال يرجع إلى العموم ويجب عليه القصر ، فان المقدار المتيقن في تخصيص العموم هو ما دام كونه في بلد الإقامة ، فإذا خرج عن بلد الإقامة يجب عليه القصر (1).
نعم : لو قلنا : بأن الإقامة قاطعة للسفر موضوعا - كما هو أقوى الوجهين فيها - فالواجب هو التمام ما لم ينشأ سفرا جديدا ، سواء كان الزمان ظرفا للحكم أو للمتعلق ، وذلك واضح.
وكذا الكلام فيمن رجع عن قصد المعصية في أثناء السفر ولم يكن الباقي قدر المسافة ، ففي وجوب القصر أو التمام عليه وجهان : مبنيان على أن أزمنة السفر اخذت ظرفا للحكم أو للمتعلق ، فعلى الأول ، يجب عليه التمام ، لاستصحاب حكم الزمان الذي كان قاصدا فيه المعصية. وعلى الثاني : يجب عليه القصر ، لعموم ما دل على وجوب القصر في كل صلاة ما دام في السفر ، والقدر المتيقن خروجه عن العموم هو ما دام كونه قاصدا للمعصية. والمسألة
ص: 555
فقهية ، توضيحها موكول إلى محله ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا لكي لا يشتبه عليك الامر.
قد أجرى بعض استصحاب الوجوب عند تعذر بعض أجزاء المركب الارتباطي ، وقد تقدمت الإشارة إليه في تنبيهات الأقل والأكثر
وتفصيله : هو أنه ربما يستشكل في جريان الاستصحاب بأن المتيقن السابق كان هو الوجوب المتعلق بجملة العمل الواجد للجزء أو الشرط المتعذر ، وقد علم بارتفاعه بسبب تعذر بعض أجزاء الجملة ، ووجوب ما عدا الجزء المتعذر لم يكن متيقنا سابقا ، بل هو مشكوك الحدوث ، فيختل ركن الاستصحاب.
هذا ، وقد ذكر الشيخ قدس سره وجوها ثلاثة لجريان الاستصحاب :
الأول : استصحاب وجوب الاجزاء المتمكن منها ، للعلم بتعلق الطلب بتلك الاجزاء ولو في ضمن تعلقه بالكل والشك في ارتفاعه عنها بسبب تعذر بعض الاجزاء ، فلم يختل ركن الاستصحاب : من اليقين السابق والشك اللاحق ، غايته : أن المستصحب إنما يكون هو القدر المشترك بين الوجوب النفسي والوجوب المقدمي ، لان وجوب الاجزاء المتمكن منها كان قبل تعذر البعض مقدميا ، فان الوجوب النفسي إنما كان متعلقا بالكل ، فيكون كل جزء واجبا بالوجوب المقدمي ، وبعد تعذر البعض يكون وجوبها نفسيا ، فإنه على تقدير كون الاجزاء المتمكن منها واجبة واقعا فوجوبها إنما يكون نفسيا ، ولكن تغيير صفة الوجوب لا يمنع عن استصحاب القدر المشترك بين النفسي والمقدمي. هذا حاصل ما أفاده الشيخ قدس سره في الوجه الأول.
ولكنه ضعيف ، لما فيه أولا : من أن وجوب الجزء لا يكون مقدميا ، بل الجزء إنما يجب بعين الوجوب النفسي المتعلق بالكل ، ولا يمكن أن يتعلق
ص: 556
الوجوب المقدمي بالجزء ، بل نفس الطلب النفسي المتعلق بالكل ينبسط على الاجزاء ، نظير انبساط البياض على الجسم ، فيكون لكل جزء حظ من الوجوب النفسي ، ومعه لا يمكن أن يكون له وجوب آخر مقدمي ، وقد أشبعنا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في مبحث المقدمة.
وثانيا : أن استصحاب القدر المشترك بين الوجوب النفسي والغيري لا يجري ، فان الوجوب النفسي يغاير الوجوب المقدمي سنخا ويباينه حقيقة ، وليست النفسية والمقدمية من قبيل الشدة والضعف ، فاستصحاب القدر المشترك في المقام يرجع إلى استصحاب القسم الثاني من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي ، وقد تقدم عدم جريان الاستصحاب فيه ، بل لو فرض أن النفسية والمقدمية يكونان من مراتب الوجوب - كالشدة والضعف - ولكن لا إشكال في تباينهما عرفا ، فلا يجري استصحاب القدر المشترك.
الوجه الثاني : استصحاب شخص الوجوب النفسي الذي كان متعلقا بالاجزاء المتمكن منها ، بدعوى : أن الجزء المتعذر يعد عرفا من حالات متعلق الوجوب النفسي لا من أركانه ومقوماته ، فلا يضر تعذره وفقدانه ببقاء متعلق الوجوب النفسي واتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة ، لان معروض الوجوب النفسي بنظر العرف كان هو بقية الاجزاء المتمكن منها ويحمل عليها بالحمل الشايع الصناعي أنها هي التي كانت متعلق الوجوب النفسي ، ويكون تعذر الجزء منشأ للشك في بقائه ، نظير الماء الذي نقص عنه مقدار بحيث يشك في بقائه على الكرية ، فإنه لا إشكال في استصحاب بقاء الكرية ، لاتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة ، فليكن تعذر الجزء فيما نحن فيه كنقصان مقدار من الماء في مثال الكر لا يوجب اختلاف القضيتين.
وهذا الوجه وإن كان أبعد عن الاشكال من الوجه الأول ، إلا أنه يرد عليه : أن هذا البيان إنما يتم في الموضوعات العرفية والمركبات الخارجية ، فإنه
ص: 557
يمكن فيها تمييز ما يكون من حالات الموضوع عما يكون من مقوماته. وأما المركبات الشرعية : فلا يكاد يمكن معرفة الركن فيها وتمييز المقوم عن غيره إلا من طريق الأدلة. وليس للعرف في ذلك سبيل ، بداهة أن تشخيص كون السورة ليست من أركان الصلاة ومقوماته دون الركوع والسجود لا يمكن إلا بقيام الدليل على ذلك ، فان دل الدليل على كون السورة جزء للصلاة مطلقا حتى في حال عدم التمكن منها كانت السورة ركنا في الصلاة ومقومة لها ، فيسقط الامر بالصلاة عند عدم التمكن منها. وإن قام الدليل على عدم كونها جزء في حال عدم التمكن منها فلا تكون ركنا في الصلاة ، ولا يسقط الطلب ببقية الاجزاء عند تعذر السورة. وإن لم يقم دليل على أحد الوجهين يبقى الشك في سقوط الطلب عن بقية الاجزاء وعدمه على حاله ، للشك في ركنية السورة. ولا مجال للرجوع إلى العرف في معرفة كونها ركنا وغير ركن ، فان تشخيص ذلك ليس بيد العرف. ففي المركبات الشرعية لا يمكن العلم بما يكون من حالات المركب أو مقوماته إلا من طريق السمع.
وهذا الاشكال بعينه يرد على « قاعدة الميسور » أيضا (1) فإنه يعتبر فيها أن تكون الاجزاء الميسورة مما لا تعد عرفا مباينة لمتعلق التكليف ، وذلك إنما يكون إذا كان الباقي ركن المركب وبه قوامه ، وهذا المعنى في المركبات الشرعية لا يمكن تشخيصه ، وقد تقدم تفصيل ذلك في تنبيهات الأقل والأكثر.
فظهر : أن الوجه الثاني لاستصحاب بقاء الوجوب عند تعذر بعض الاجزاء يتلو الوجه الأول في الضعف.
الوجه الثالث : استصحاب الوجوب النفسي المردد بين كونه متعلقا سابقا بالواجد للجزء المتعذر مطلقا حتى مع تعذره ( ليسقط التكليف عن الفاقد للجزء
ص: 558
المتعذر ) وبين كونه متعلقا بالواجد له مقيدا بحال التمكن منه ( ليبقى التكليف بالفاقد ) فيستصحب بقاء التكليف ويثبت به اختصاص جزئية الجزء المتعذر بحال التمكن منه.
وهذا الوجه أضعف الوجوه الثلاثة التي ذكرها الشيخ قدس سره في تقريب استصحاب بقاء الوجوب عند تعذر بعض أجزاء المركب ، فإنه يكون من أردء أنحاء الأصل المثبت. فالانصاف : أنه لا سبيل إلى الاذعان بشيء من الوجوه الثلاثة.
نعم : يمكن تقريب الاستصحاب بوجه آخر لعله يسلم عن الاشكال (1) وهو أن جزئية المتعذر لو كانت ثبوتا مختصة بحال التمكن والاختيار كان التكليف بما عدا الجزء المتعذر باقيا على ما كان عليه - أي كان التكليف به بعين التكليف المتعلق بالكل الواجد للجزء المتعذر قبل تعذره من دون أن يرتفع ذلك التكليف ويحدث تكليف آخر يتعلق بخصوص الاجزاء المتمكن منها بل هو ذلك التكليف - غايته أنه قبل تعذر الجزء كانت دائرة متعلق التكليف أوسع ، لانبساط التكليف عليه ، وبعد تعذر الجزء تتضيق دائرة متعلق التكليف ويخرج الجزء المتعذر عن سعة دائرة المتعلق مع بقاء الباقي على حاله ، نظير البياض الذي كان منبسطا على الجسم الطويل فصار قصيرا ، فإنه لا إشكال في أن البياض الباقي في الجسم القصير هو عين البياض الذي كان في
ص: 559
الجسم الطويل ، من دون أن ينعدم ذلك البياض ويحدث بياض آخر ، غايته أنه تبدل حده وكان قبل قصر الجسم محدودا بحد خاص وبعد قصره يكون محدودا بحد آخر ، والتكليف المنبسط على جملة المركب يكون كالبياض المنبسط على الجسم الطويل ، فلو تعذر بعض أجزاء المركب يبقى التكليف بالبقية على ما كان ، من دون أن يرتفع ذلك التكليف ويحدث تكليف آخر بالبقية ، وذلك واضح لا ينبغي التأمل فيه. هذا في مقام الثبوت.
وأما في مقام الاثبات : فان قام الدليل على اختصاص جزئية الجزء المتعذر بحال التمكن والاختيار فلا إشكال في وجوب الباقي ، كما لا إشكال في عدم وجوبه إذا قام الدليل على إطلاق جزئية الجزء المتعذر وعدم اختصاصها بحال التمكن.
وإن لم يقم دليل على أحد الوجهين وشك في إطلاق الجزئية وعدمه فيشك في بقاء التكليف ببقية الاجزاء المتمكن منها ويجري استصحاب التكليف ، فالمستصحب هو شخص التكليف النفسي الذي كان متعلقا بالاجزاء المتمكن منها قبل تعذر الجزء ، والتعذر إنما يكون منشأ للشك في بقاء التكليف بالبقية ، لاحتمال اختصاص جزئيته بحال التمكن والاختيار ، وقد عرفت : أنه على هذا التقدير يكون شخص التكليف الذي كان منبسطا على البقية في حال انبساطه على الكل باقيا ، فالمستصحب ليس هو القدر المشترك بين التكليف النفسي والغيري ، بل هو شخص التكليف النفسي الذي كان متعلقا بالاجزاء المتمكن منها.
فإن قلت : بناء على هذا ينبغي عدم الفرق بين أن يكون الباقي معظم الاجزاء أو بعض الاجزاء. فلو فرض أنه تعذر جميع أجزاء الصلاة ما عدا التشهد يلزم القول بجريان استصحاب وجوب التشهد ، لأنه لو كان التشهد في الواقع واجبا كان وجوبه بعين وجوب الكل ولم يحدث فيه وجوب آخر عند تعذر
ص: 560
ما عداه ، فينبغي أن يستصحب وجوبه ، مع أن ظاهر الاعلام : التسالم على اعتبار أن يكون الباقي معظم الاجزاء.
قلت : نعم وإن كان وجوب الباقي هو عين الوجوب السابق الذي كان متعلقا بالكل حقيقة ، إلا أن القضية المشكوكة لو لم يكن الباقي معظم الاجزاء تباين القضية المتيقنة عرفا ، فان وجوب التشهد مثلا يكون مندكا عرفا في ضمن وجوب البقية ويكون الطلب المتعلق به طلبا تبعيا ضمنيا ، فيكون وجوبه قبل تعذر بقية الاجزاء نحوا يغاير وجوبه بعد تعذرها عرفا وإن كان هو هو حقيقة ، وهذا بخلاف ما إذا كان الباقي معظم الاجزاء ، فان وجوبه في حال تعذر الجزء عين وجوبه السابق عقلا وعرفا ، فيجري الاستصحاب إذا كان الباقي معظم الاجزاء ، ولا يجري إذا كان بعض الاجزاء ، فتأمل جيدا.
يظهر من كلام الشيخ قدس سره عدم الفرق في جريان الاستصحاب بين تعذر الجزء بعد دخول الوقت وتنجز التكليف أو قبله ، لان المستصحب هو الوجوب الكلي المنجز على تقدير اجتماع الشرائط ، لا الوجوب الشخصي المتوقف على تحقق الشرائط فعلا.
أقول : المراد من استصحاب الحكم الشخصي هو استصحاب الحكم الجزئي الفعلي الذي يجري في الموارد الجزئية ويشترك في إعماله المقلد والمجتهد ، فيكون اليقين والشك من كل مكلف موضوعا له (1) ولا إشكال في أنه يعتبر في جريانه فعلية الخاطب وتحقق الشرائط خارجا.
وأما استصحاب الحكم الكلي : فهو الذي يكون من وظيفة المجتهد إعماله ولاحظ
ص: 561
للمقلد فيه ، وهو وإن لم يتوقف على فعلية الخطاب وتحقق الشرائط خارجا ، إلا أنه لابد من فرض تحقق الشرائط خارجا واختلال بعضها ليمكن فرض حصول الشك في بقاء الحكم الكلي ، بداهة أنه لولا فرض تحقق الشرائط واختلال بعضها لا يمكن حصول الشك في بقائه ، كما في استصحاب بقاء نجاسة الماء المتغير الزائل عنه التغير ، فإنه وإن كان لا يتوقف على وجود الماء المتغير خارجا ، إلا أنه لابد من فرض وجوده في مقام الاستصحاب - وقد تقدم توضيح ذلك في الاستصحاب التعليقي - فاستصحاب بقاء التكليف بالمركب عند تعذر بعض أجزائه وإن كان وظيفة المجتهد ولا يتوقف إعماله على تنجز التكليف وتحقق الشرائط خارجا ، إلا أنه لابد من فرض فعلية التكليف بتقدير وجود الموضوع بما له من الشرائط خارجا ليجري استصحاب بقاء التكليف على هذ التقدير ، ولكن فرض وجود الموضوع لا يتوقف على فرض تمكن المكلف من الجزء في أول الوقت وطرو العجز بعد انقضاء مقدار من الوقت ، فان المفروض : أن التمكن من الجزء المتعذر ليس من مقومات الموضوع وإلا لم يجر الاستصحاب رأسا ، فالذي يحتاج إليه في المقام هو فرض دخول الوقت مع كون المكلف واجدا لشرائط التكليف ، فيستصحب وجوب بقية الاجزاء عند تعذر البعض ولو في أول الوقت.
ولا يتوهم : أنه مع عدم فرض طرو التعذر بعد الوقت يرجع إلى الاستصحاب التعليقي ، فإنه إنما يرجع إليه إذا كان وجود الجزء المتعذر من مقومات المتعلق وأركانه ، لا من خصوصياته وحالاته. نعم : بالنسبة إلى فرض دخول الوقت لابد منه ، وإلا يرجع إلى الاستصحاب التعليقي ، فتأمل.
ثم لا يخفى عليك : أن التمسك بالاستصحاب أو ب « قاعدة الميسور » إنما ينفع في غير باب الصلاة ، وأما في الصلاة فلا أثر للاستصحاب أو « قاعدة الميسور » لقيام الدليل على أن « الصلاة لا تسقط بحال » إلا في صورة فقدان الطهورين.
ص: 562
المراد من « الشك » الذي اخذ موضوعا في باب الأصول العملية وموردا في باب الامارات ليس خصوص ما تساوى طرفاه ، بل يشمل الظن بالخلاف فضلا عن الظن بالوفاق ، فالمراد من « الشك » في قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » هو خلاف اليقين ، لأنه من أحد معانيه - كما هو المحكي عن الصحاح - مضافا إلى ما تقدم في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي : من أن الشك إنما اخذ موضوعا في الأصول العملية من جهة كونه موجبا للحيرة وعدم كونه محرزا وموصلا للواقع ، لا من جهة كونه صفة قائمة في النفس في مقابل الظن والعلم ، فكل ما لايكون موصلا ومحرزا للواقع ملحق بالشك حكما وإن لم يكن ملحقا به موضوعا ، كما أن كل ما يكون موصلا للواقع ومحرزا له ملحق بالعلم حكما وإن لم يكن ملحقا به موضوعا ، فالظن الذي لم يقم دليل على اعتباره حكمه حكم الشك ، لاشتراكهما في عدم إحراز الواقع وعدم إيصالهما إليه.
وحينئذ لا حاجة إلى دعوى : كون رفع اليد عن اليقين السابق بسبب الظن الذي لم يقم دليل على اعتباره يرجع إلى نقض اليقين بالشك للشك في اعتبار الظن ، فيندرج في قوله : « لا تنقض اليقين بالشك ». مع أن في هذه الدعوى مالا يخفى ، فان متعلق الشك هو حجية الظن ومتعلق الظن هو الواقع ، فلا يمكن أن يكون رفع اليد عن اليقين عند الظن بالواقع نقضا لليقين بالشك ، بل هو نقض لليقين بالظن ، فنحتاج إلى إثبات كون الظن ملحقا بالشك حكما أو موضوعا. هذا تمام الكلام في تنبيهات الاستصحاب.
* * *
ص: 563
ينبغي ختم الكلام في الاستصحاب بذكر أمور :
يعتبر في الاستصحاب اتحاد متعلق الشك مع متعلق اليقين ، فان الحكم المجعول في الاستصحاب - من البناء العملي على بقاء المتيقن وجر المستصحب في الزمان - يقتضي اتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة موضوعا ومحمولا ، سواء قلنا : باعتبار الاستصحاب من باب التعبد أو من باب إفادته الظن أو من باب بناء العقلاء ، فإنه على جميع التقادير يتوقف حقيقة الاستصحاب على اتحاد متعلق الشك مع متعلق اليقين ، فلو اختلف المتعلقان خرج عن الاستصحاب.
ولعمري! إن ذلك بمكان من الوضوح ، فإنه من القضايا التي قياساتها معها ، فلا يحتاج إلى الاستدلال عليه بما ذكره الشيخ قدس سره من أنه « لولا اتحاد المتعلقين يلزم بقاء العرض بلا موضوع أو انتقال العرض من موضوع إلى موضوع آخر ، وكل منهما بمكان من الاستحالة » فان الاستدلال بذلك تبعيد للمسافة بلا موجب (1) لما عرفت : من أن حقيقة الاستصحاب والحكم المجعول
ص: 564
فيه لا يعقل تحققه إلا باتحاد القضيتين ولابد من إحراز الاتحاد ، فلا يجري الاستصحاب مع الشك فيه ، لأنه يكون من التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، كما لا يخفى.
ولا فرق في ذلك بين الاستصحابات الحكمية وبين الاستصحابات الموضوعية ، كما لا فرق بين المحمولات الأولية وبين المحمولات المترتبة ، غايته أنه في المحمولات الأولية يكون الموضوع نفس الماهية المعراة عن الوجود والعدم ، وفي المحمولات المترتبة يكون الموضوع الماهية المقيدة بالوجود أو العدم.
وتوضيح ذلك : هو أن الشك تارة : يكون في المحمولات الأولية من الوجود والعدم. وأخرى : يكون في المحمولات المترتبة من القيام والقعود والكتابة والعدالة ونحو ذلك من المحمولات التي لا يصح حملها على الماهية إلا بعد وجودها ، سواء كان بلا واسطة كالقيام والقعود ، أو كان مع الواسطة كحركة الأصابع ، فان الشخص إنما يكون متحرك الأصابع بتوسط الكتابة.
فان كان الشك في المحمول الأولي : فالموضوع في القضية المشكوكة والقضية المتيقنة نفس الماهية المجردة عن الوجود والعدم ، فإنه لا يمكن الشك في وجود الشيء بقيد كونه موجودا ، بل لابد من فرض الشيء ، بما له من التقرر الذهني معرى عن الوجود والعدم ، ليستصحب وجوده إن كان مسبوقا بالوجود ، أو عدمه إن كان مسبوقا بالعدم ، ولا إشكال في بقاء الموضوع واتحاد القضية المتيقنة مع القضية المشكوكة في استصحاب الوجود والعدم ، فان الشيء الذي يشك في بقاء
ص: 565
وجوده أو عدمه هو عين الشيء الذي كان متيقن الوجود أو العدم ، وذلك واضح.
وإن كان الشك في المحمول المترتب - كالشك في بقاء عدالة زيد - فالمحمول الأولي يكون جزء للموضوع ولابد من إحرازه في مقام استصحاب المحمول المترتب.
فان كان الموضوع محرزا بالوجدان وكان الشك متمحضا في بقاء المحمول المترتب - كما إذا علم بوجود زيد وشك في بقاء عدالته - فلا إشكال في جريان الاستصحاب ، لبقاء الموضوع واتحاد القضيتين (1) فان الشك إنما هو في عدالة من كان متيقن العدالة ، فيتحد متعلق الشك واليقين.
وإن لم يكن الموضوع محرزا بالوجدان بل تعلق الشك بكل من الموضوع والمحمول الثانوي - كما إذا شك في وجود زيد وعدالته - فتارة : يكون الشك في المحمول المترتب مسببا عن الشك في الموضوع بحيث لو أحرز الموضوع كان المحمول المترتب محرزا أيضا ، كما إذا شك في مطهرية الماء لأجل الشك في بقاء إطلاقه أو شك في نجاسة الماء لأجل الشك في بقاء تغيره. وأخرى : لا يكون الشك في المحمول المترتب مسببا عن الشك في الموضوع ، بل كان كل منهما متعلقا للشك مستقلا عن منشأ يخصه ، كما إذا شك في حياة زيد لاحتمال موته وعدالته لاحتمال فسقه ، بحيث لو كانت الحياة محرزة كانت عدالته مشكوكة أيضا.
ص: 566
فان كان الشك في المحمول المترتب مسببا عن الشك في الموضوع فلا إشكال في أن جريان الأصل في الموضوع يغني عن جريانه في المحمول المترتب ، لأنه رافع لموضوعه إذا كان الشك في المحمول المترتب مسببا عن الشك في بقاء الموضوع بعد العلم بحقيقته بحدوده وقيوده بحيث كان الشك متمحضا في بقاء الموضوع.
وأما لو كان الشك في المحمول مسببا عن الشك في حقيقة الموضوع - لتردده بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع ، كما إذا شك في أن موضوع النجاسة ومعروضها هو ذات الكلب بما له من المادة الهيولائية المحفوظة في جميع التبدلات والانقلابات حتى في حال انقلابه ملحا ، أو أن موضوع النجاسة هو الكلب بصورته النوعية الزائلة عند انقلابه ملحا - فلا يجري الاستصحاب ، لا في ناحية الموضوع ، ولا في ناحية المحمول إذا صار الكلب ملحا (1).
أما في ناحية المحمول : فللشك في موضوعه ، لاحتمال أن يكون موضوع النجاسة هو الكلب بصورته النوعية.
وأما في ناحية الموضوع : فلان الموجود في الحال يباين الموجود سابقا ، لان تمايز الأشياء إنما يكون بالصور النوعية ، والملح يباين الكلب بما له من الصورة النوعية ، فالمتيقن السابق انعدم قطعا بانقلاب الكلب ملحا ، والموجود في الحال لم يكن موجودا سابقا ، فلا يجري فيه الاستصحاب ، بل الاستصحاب في المقام يكون أسوء حالا من استصحاب بقاء المعلوم بالاجمال عند خروج بعض أطرافه عن مورد الابتلاء بتلف أو امتثال أو نحو ذلك ، وقد تقدم في بعض مباحث الأقل والأكثر عدم جريان الاستصحاب فيه. هذا إذا أريد استصحاب ذات الموضوع.
ص: 567
وإن أريد استصحاب الموضوع بوصف كونه موضوعا للنجاسة فهو يرجع إلى استصحاب النجاسة ، وقد عرفت : أنه لا يجري ، للشك في موضوعها.
فتحصل : أن الشك في المحمول المترتب إن كان مسببا عن الشك في بقاء الموضوع بعد العلم به فجريان الأصل في ناحية الموضوع يغني عن جريانه في ناحية المحمول إذا كان الأصل السببي واجدا للشرائط المعتبرة في الشك السببي والمسببي ، على ما تقدمت الإشارة إليه.
وإن كان الشك في المحمول المترتب مسببا عن الشك فيما هو الموضوع فالاستصحاب لا يجري ، لا في ناحية الموضوع ولا في ناحية المحمول. هذا كله إذا كان الشك في المحمول مسببا عن الشك في الموضوع. وإن كان كل من الموضوع والمحمول متعلقا للشك في عرض واحد ، فتارة : يكون الموضوع مما يتوقف عليه وجود المحمول عقلا ، كتوقف العدالة على الحياة. وأخرى : مما يتوقف عليه شرعا ، كتوقف الكرية العاصمة على إطلاق الماء ، فان الكرية لا تتوقف على كون الماء مطلقا ، لتحقق الكرية مع إضافة الماء ، إلا أن الشارع اعتبر في الكرية إطلاق الماء ، فيكون دخل الاطلاق في الكرية شرعيا (1) بخلاف دخل الحياة في العدالة فإنه عقلي.
فان كان التوقف شرعيا : يجري الاستصحاب في كل من الموقوف والموقوف عليه ، ويثبت بالاستصحابين الأحكام الشرعية المترتبة على وجود المستصحبين ،
ص: 568
ففي المثال يجري استصحاب كل من إطلاق الماء وكريته ويثبت به كون الماء عاصما لا يحمل خبثا ، فان استصحاب إطلاق الماء كما يجدي في الآثار المترتبة على إطلاق الماء : من كونه رافعا للحدث والخبث ، كذلك يجدي في دخله في الكرية ، لكونه شرعيا ، وهذا المقدار من الدخل الشرعي يكفي في صحة الاستصحاب. ولا إشكال في بقاء الموضوع واتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة في كل من استصحاب الكرية والاطلاق.
وإن لم يكن التوقف شرعيا : كالحياة والعدالة ، فقد يستشكل في استصحاب الحياة والعدالة. أما في العدالة : فللشك في موضوعها. وأما في الحياة : فلعدم كون دخله في العدالة شرعيا ، فمن حيثية دخله في العدالة لا يجري فيه الاستصحاب وإن كان يجري فيه الاستصحاب من حيث الآثار الشرعية المترتبة على نفس الحياة ، كحرمة تزويج زوجته وعدم تقسيم أمواله ونحو ذلك ، وليس الكلام فيه ، وإنما الكلام في استصحاب الحياة من حيث ترتب العدالة عليه ، مع أن ترتب العدالة على الحياة عقلي.
هذا ، ولكن الانصاف : أنه لا وقع لهذا الاشكال ، فان استصحاب الحياة إنما يجري من حيث إن للحياة دخلا في الحكم الشرعي المترتب على الحي العادل ، كجواز تقليده والاقتداء خلفه ونحو ذلك من الأحكام الشرعية المترتبة على حياة الشخص وعدالته ، ولا حاجة إلى استصحاب الحياة من حيث دخله في العدالة حتى يقال : إن دخله في العدالة عقلي ، فإنه لا ملزم إلى استصحاب الحياة من هذه الحيثية.
وبالجملة : بعدما كان الموضوع لجواز التقليد مركبا من الحياة والعدالة وهما عرضان لمحل واحد ، فلابد من إحراز كلا جزئي المركب ، إما بالوجدان وإما بالأصل.
فإذا كانت الحياة محرزة بالوجدان : فالاستصحاب إنما يجري في العدالة ،
ص: 569
ويلتئم الموضوع المركب من ضم الوجدان بالأصل. وإن كانت الحياة مشكوكة : فالاستصحاب يجري في كل من الحياة والعدالة ، ويلتئم الموضوع المركب من ضم أحد الأصلين بالآخر ، لان كلا منهما جزء الموضوع ، فلكل منهما دخل في الحكم الشرعي.
وإن كان دخل أحدهما في الآخر عقليا : فلا مانع من استصحاب الحياة واستصحاب العدالة. نعم : لا يجري استصحاب عدالة الحي ، لعدم إحراز الحياة ، وإنما يجري استصحاب العدالة على تقدير الحياة ، وهذا التقدير يحرز باستصحاب الحياة.
وليس المقصود إثبات الحياة من استصحاب العدالة على تقدير الحياة ، بل في نفس الحياة أيضا يجري الاستصحاب ، لبقاء الموضوع واتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة في كل من استصحاب الحياة واستصحاب العدالة ، لان الموضوع في كل منهما هو الشخص ، فيثبت كلا جزئي الموضوع لجواز التقليد.
وإلى ذلك يرجع ما أفاده الشيخ قدس سره في المقام بقوله : « لكن استصحاب الحكم كالعدالة مثلا لا يحتاج إلى إبقاء حياة زيد ، لان موضوع العدالة زيد على تقدير الحياة الخ ».
فتحصل : أن في جميع أقسام الشك في المحمولات الأولية وفي المحمولات المترتبة يجري الاستصحاب بعد بقاء الموضوع واتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة ، فتأمل جيدا.
فاعلم : أن الشك في المحمول الأولي أو المحمول المترتب لا يحصل غالبا - بل دائما - مع بقاء القضية المتيقنة على ما كانت عليها من الخصوصيات المحتفة بها ،
ص: 570
بل لابد وأن يحصل فيها تغير واختلاف يوجب الشك في بقائها ، وعلى هذا يشكل إحراز اتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة في كثير من الموارد (1) ولذلك اشتهر بين المتأخرين : « ان الموضوع في باب الاستصحاب إنما يؤخذ من العرف لا من العقل ولا من دليل الحكم » وتوضيح البحث في ذلك يستدعي تقديم أمور :
الأول : محل الكلام والاشكال إنما هو في الاستصحابات الحكمية ، وأما الاستصحابات الموضوعية : فالغالب فيها اتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة موضوعا ومحمولا ، ولا يتفاوت الحال فيها بين أخذ الموضوع من العرف أو العقل أو الدليل ، ففي مثل استصحاب حياة زيد أو قيام عمرو تكون القضية المشكوكة عين القضية المتيقنة عقلا وعرفا ودليلا ، فلا يختلف العرف والعقل فيها.
نعم : قد يتفق في بعض الاستصحابات الموضوعية اختلاف العرف والعقل في اتحاد القضيتين ، كما في استصحاب كرية الماء إذا نقص منه مقدار يشك في بقائه على الكرية ، وكما في استصحاب الزمان والزماني المبني على التقضي والتصرم ، فان القضية المشكوكة تباين القضية المتيقنة عقلا ولا تباينها عرفا ، بالبيان المتقدم في استصحاب الليل والنهار.
وهذا بخلاف الاستصحابات الحكمية ، فان الغالب فيها اختلاف القضيتين (2) لأن الشك في بقاء الحكم مع بقاء الموضوع على ما كان عليه من الخصوصيات
ص: 571
ص: 572
لا يمكن إلا في باب النسخ ، وأما في غير باب النسخ : فالشك في بقاء الحكم غالبا أو دائما يستند إلى انتفاء بعض خصوصيات الموضوع ، فيحصل الاختلاف بين القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة ، من غير فرق في ذلك بين الأحكام الشرعية المستكشفة من المستقلات العقلية بقاعدة الملازمة وبين الأحكام الشرعية المستكشفة من الأدلة السمعية التي لا سبيل للعقل إلى إدراكها ، لاشتراك الكل في توقف حصول الشك على انتفاء بعض خصوصيات الموضوع ، ولذلك مست الحاجة إلى أخذ الموضوع من العرف والرجوع إليه في
ص: 573
اتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة ، لاختلاف العقل والعرف والدليل في ذلك ، على ما سيأتي بيانه ( إن شاء اللّه تعالى ).
الامر الثاني : لا إشكال في أن المرجع في مفاهيم الألفاظ ومداليلها إنما هو العرف العام (1) سواء وافق عرف اللغة أو خالفه ، ولا عبرة باللغة إذا كان العرف العام على خلافها ، فان الألفاظ تنصرف إلى مفاهيمها العرفية بحسب ما ارتكز في أذهان أهل المحاورات ، فعند تعارض العرف واللغة في مفهوم اللفظ يحمل على المفهوم العرفي ، سواء كان أعم من المفهوم اللغوي أو أخص منه ، بل ولو كان مباينا معه لو اتفق ذلك ، فلابد من الرجوع إلى العرف في تشخيص مفهوم الحنطة والزبيب والعنب والحطب وغير ذلك من الموضوعات الخارجية.
الامر الثالث : لا عبرة بالمسامحات العرفية في شيء من الموارد ، ولا يرجع إلى العرف في تشخيص المصاديق بعد تشخيص المفهوم ، فقد يتسامح العرف في استعمال الألفاظ وإطلاقها على ما لايكون مصداقا لمعانيها الواقعية ، فإنه كثيرا ما يطلق لفظ « الكر » و « الفرسخ » و « الحقة » وغير ذلك من ألفاظ المقادير والأوزان على ما ينقص عن المقدار والوزن أو يزيد عنه بقليل.
فالتعويل على العرف إنما يكون في باب المفاهيم ، ولا أثر لنظر العرف في باب المصاديق ، بل نظره إنما يكون متبعا في مفهوم « الكر » و « الفرسخ » و « الحقة » ونحو ذلك ، وأما تطبيق المفهوم على المصداق : فليس بيد العرف ، بل هو يدور مدار الواقع ، فان كان الشيء مصداقا للمفهوم ينطبق عليه قهرا ، وإن لم يكن مصداقا له فلا يمكن أن ينطبق عليه ، ولو فرض أن العرف يتسامح أو يخطئ في التطبيق ، فلا يجوز التعويل على العرف في تطبيق المفهوم على المصداق مع العلم بخطائه أو مسامحته أو مع الشك فيه ، بل لابد من العلم بكون
ص: 574
الشئ مصداقا للمفهوم في مقام ترتيب الآثار.
إذا تمهد ذلك فنقول : قد يستشكل فيما أفاده الشيخ قدس سره من الترديد بين أخذ الموضوع من العقل أو العرف أو الدليل.
أما أولا : فبأن الرجوع إلى العقل إنما يستقيم في المستقلات العقلية ، وأما الموضوعات الشرعية : فليس للعقل إليها سبيل (1) فان مناطات الأحكام الشرعية ليست بيد العقل ، فلا معنى للرجوع إلى العقل في موضوعات الأحكام الشرعية المستكشفة من الطرق السمعية.
وأما ثانيا : فبأنه لا وجه للمقابلة بين ما اخذ في الدليل موضوعا وبين ما يراه العرف موضوعا ، فان العرف ليس مشرعا يجعل موضوعا في مقابل موضوع الدليل. وإن أريد من الرجوع إلى العرف الرجوع إليه في معرفة معنى موضوع الدليل وتشخيص مفهومه ، فهو صحيح ، إلا أنه لا يختص بالمقام ، بل تشخيص معنى اللفظ ومفهومه إنما يرجع فيه إلى العرف مطلقا ، فلا معنى لجعل الموضوع العرفي مقابلا لموضوع الدليل في خصوص باب الاستصحاب. وإن أريد من الموضوع العرفي ما يتسامح فيه العرف ويراه من مصاديق موضوع الدليل مع أنه ليس منها حقيقة ، فقد عرفت : أنه لا عبرة بالمسامحات العرفية.
هذا ، ولكن الانصاف : أنه لا وقع لهذا الاشكال ، فان الترديد بين العقل والدليل والعرف إنما يكون بلحاظ مقام بقاء الموضوع واتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة ، لا بلحاظ مقام تعيين أصل الموضوع ، حتى يقال : إن تعيين الموضوع إنما يكون بيد الشرع وليس للعقل والعرف إلى ذلك سبيل ، فان ذلك مما لا ينبغي توهمه في المقام ، بل المقصود هو أنه هل يعتبر في اتحاد القضيتين أن يكون المشكوك فيه عين المتيقن عقلا مطلقا؟ أو أنه يكفي في الاتحاد العينية
ص: 575
العرفية مطلقا؟ أو أنه لا هذا ولا ذلك بل تختلف الموارد حسب اختلاف ما يقتضيه ظاهر الدليل؟.
وتوضيح ذلك : هو أن الشك في بقاء الحكم الشرعي من غير جهة النسخ لا يمكن إلا بأحد وجهين : إما لاحتمال وجود الرافع أو الغاية للحكم فيشك في بقائه ، وإما لانتفاء بعض الخصوصيات التي كان الموضوع واجدا له أو وجود بعض ما كان فاقدا له ، فيحصل الشك في بقاء الحكم الشرعي.
فلو اعتبرنا في اتحاد القضيتين بقاء الموضوع عقلا يختص الاستصحاب بما إذا كان الشك في بقاء الحكم الشرعي على الوجه الأول ، ولا يجري الاستصحاب إذا كان الشك على الوجه الثاني ، بداهة أن كل خصوصية كان الموضوع واجدا أو عادما لها يحتمل عقلا أن يكون لها دخل في الموضوع ، فلا يمكن إحراز بقاء الموضوع بل يشك في بقائه ، فلا يجري استصحاب الحكم ، لما عرفت : من أنه لابد من الاستصحاب من إحراز بقاء الموضوع واتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة.
فان كان منشأ الشك في بقاء الحكم انتفاء بعض الخصوصيات ينسد باب الاستصحاب إذا كان المعتبر فيه بقاء الموضوع عقلا ، لان انتفاء الخصوصية عن الموضوع وإن لم يلازم العلم بارتفاع الموضوع عقلا ، إلا أنه يلازم الشك في بقائه. ولا سبيل إلى دعوى العلم بارتفاع موضوعات الأحكام الشرعية عند انتفاء بعض الخصوصيات ، بل لا يمكن دعوى العلم بارتفاع الموضوع عند انتفاء بعض الخصوصيات في موضوعات الاحكام العقلية ، كما تقدم بيان ذلك.
فما يظهر من كلام الشيخ قدس سره من أن انتفاء بعض الخصوصيات يوجب العلم بارتفاع الموضوع عقلا ، مما لا يمكن المساعدة عليه بل أقصى ما يقتضيه هو الشك في بقاء الموضوع ، لاحتمال أن تكون لتلك الخصوصية دخل في الموضوع ، ويحتمل أيضا أن لا تكون لها دخل فيه ، بل تكون علة
ص: 576
لحدوث الحكم فقط ، وقد عرفت : أن الشك في بقاء الموضوع كالعلم بعدمه يمنع عن جريان الاستصحاب ، فبناء على اعتبار بقاء الموضوع عقلا لا يجري الاستصحاب إذا كان الشك في بقاء الحكم لأجل انتفاء بعض خصوصيات الموضوع ، وينحصر الاستصحاب بما إذا كان الشك في بقائه لأجل احتمال وجود الرافع أو الغاية ، لبقاء الموضوع فيهما حقيقة واتحاد القضية المتيقنة مع القضية المشكوكة عقلا ، فان عدم الرافع والغاية ليس من قيود الموضوع وحدوده ليرجع الشك في وجودها إلى الشك في بقاء الموضوع ، بل ينعدم الموضوع بوجود الرافع والغاية قهرا ، فالرافع ما يكون وجوده معدما للموضوع ، لا أن عدمه قيد فيه ، وكيف يمكن أن يكون الموضوع مقيدا بما يوجب إعدامه؟ (1).
وبالجملة : الرافع هو الذي لا يمكن أن يجتمع مع الموضوع في الزمان ، وهذا لا يقتضي أن يكون عدمه قيدا في الموضوع ، بل لا يمكن ذلك. وكذا الغاية ، فإنها - على ما عرفت في أوائل الاستصحاب - عبارة عن الزمان الذي ينتهي إليه أمد الموضوع وعمره ، فلا تكون عدم الغاية قيدا في الموضوع ، فالشك في بقاء الحكم لأجل الشك في وجود الرافع أو الغاية لا يرجع إلى الشك في الموضوع ، بل يشك في الحكم مع بقاء الموضوع على ما كان عليه عقلا ، فتتحد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة حقيقة بالمداقة العقلية ، فتأمل جيدا.
ثم لا يخفى عليك : أن المراد من « الرافع » في المقام ما يقابل المانع ،
ص: 577
لا ما يقابل المقتضي ، فان الرافع يستعمل في معنيين :
أحدهما : الامر الوجودي الذي يوجب رفع الشيء وإعدامه عن صفحة الوجود بعد حدوثه ووجوده ، ويقابله المانع ، وهو الذي يمنع عن حدوث الشيء ويزاحم رشح المقتضي وتأثيره في وجود المقتضى ( بالفتح ).
ثانيهما : الامر الزماني الذي يمنع عن تأثير المقتضي في اقتضائه لبقاء المقتضى ( بالفتح ) بعد تأثيره في الحدوث ، سواء كان الرافع وجوديا أو عدميا ، فالرافع المقابل للمقتضي أعم من الرافع المقابل للمانع ، لان الأول يعم الامر الوجودي والعدمي ، والثاني يختصن بالامر الوجودي ، فمثل زوال التغير عن الماء المتغير يكون رافعا بالمعنى الثاني (1) وهو الذي يقابل المقتضي ولا يكون رافعا بالمعنى الأول ، لان زوال التغير أمر عدمي لا يقابل المانع.
وبذلك يندفع ما ربما يتوهم : من أنه بعد البناء على عدم جريان الاستصحاب في الشك في المقتضي لم يبق فرق بين أخذ الموضوع من العقل أو العرف أو الدليل ، فان المفروض : جريان الاستصحاب عند الشك في الرافع والغاية ولو مع اعتبار بقاء الموضوع عقلا ، فمهما رجع الشك في بقاء الحكم إلى الشك في وجود الرافع والغاية يجري الاستصحاب مطلقا ، سواء اخذ الموضوع من العقل أو العرف أو الدليل ، وإن كان الشك في بقاء الحكم لا لأجل الشك في وجود الرافع والغاية لا يجري الاستصحاب مطلقا ، سواء اخذ الموضوع من العقل أو العرف أو الدليل ، لأن الشك في بقاء الحكم من غير جهة الشك في وجود الرافع والغاية يرجع لا محالة إلى الشك في المقتضي ، والمفروض : عدم جريان الاستصحاب فيه ، فلم تظهر ثمرة بين أخذ الموضوع من العقل أو من العرف أو
ص: 578
من الدليل.
وجه الدفع ، هو ما عرفت : من أن المراد من الرافع في محل البحث هو ما يقابل المانع ، لا ما يقابل المقتضي (1) وحينئذ تظهر الثمرة بين أخذ الموضوع من العقل أو من العرف أو من الدليل ، فإنه لو شك في بقاء النجاسة في الماء المتغير الزائل عنه التغير لا يجري الاستصحاب لو بنينا على اعتبار بقاء الموضوع عقلا ، لاحتمال أن يكون لوصف التغير دخل في موضوع النجاسة. وأما لو بنينا على اعتبار بقاء الموضوع عرفا فالاستصحاب يجري ، لبقاء الموضوع عرفا ، فان موضوع النجاسة ذات الماء وليس لوصف التغير دخل في الموضوع عرفا. وكذا لو بنينا على اعتبار بقاء الموضوع بحسب ما يقتضيه ظاهر الدليل ، فإنه يجري فيه الاستصحاب على بعض الوجوه - كما سيأتي بيانه - مع أن الشك في بقاء النجاسة في لا يرجع إلى الشك في وجود الرافع المقابل للمانع ، ولا إلى الشك في المقتضي ، وذلك واضح.
هذا كله إذا كان المعتبر في اتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة بقاء الموضوع عقلا.
وإذا كان المعتبر في الاتحاد بقاء الموضوع بحسب ما يقتضيه ظاهر الدليل : فجريان الاستصحاب وعدمه يدور مدار ما يستفاد من ظاهر الدليل. فان استفيد منه كون الخصوصية التي كان الموضوع واجدا لها من قيود الموضوع ، فالاستصحاب لا يجري عند زوال تلك الخصوصية. وإن استفيد منه كون الخصوصية علة لثبوت الحكم وكان منشأ الشك في بقاء الحكم احتمال كونها علة له حدوثا وبقاء ، فالاستصحاب يجري.
ص: 579
وعلى هذا ينبغي أن يفرق بين قوله علیه السلام « الماء المغير نجس » وبين قوله : « الماء ينجس إذا تغير » (1) فان المعنى وإن كان لا يختلف ، إلا أن الأول ظاهر في كون التغير قيدا للماء فيكون موضوع الحكم مجموع الماء المتغير ، والثاني ظاهر في كون التغير علة لعروض النجاسة على الماء فيكون الموضوع ذات الماء. فان كان الدليل من قبيل الأول لا يجري الاستصحاب إذا زال التغير ، للشك في بقاء الموضوع. وإن كان الدليل من قبيل الثاني يجري الاستصحاب ، لبقاء الموضوع.
وهذا بخلاف ما إذا كان المعتبر بقاء الموضوع عقلا ، فإنه لا يجري الاستصحاب مطلقا ، لاحتمال أن يكون للتغير دخل في الموضوع وإن كان ظاهر الدليل لا يقتضي ذلك ، فلم يحرز بقاء الموضوع عقلا.
وإن كان المعتبر في اتحاد القضيتين بقاء الموضوع عرفا : فينبغي أن لا يفرق في جريان الاستصحاب في المثال بين الوجهين ، لبقاء الموضوع عرفا ، فان العرف بحسب ما هو المرتكز في ذهنه - من مناسبة الحكم والموضوع - يرى موضوع النجاسة نفس الماء والتغير علة لعروضها عليه. فتتحد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة ، ويكون عدم ترتيب آثار النجاسة على الماء الذي زال عنه التغير من نقض اليقين بالشك بنظر العرف.
وليس المراد من أخذ الموضوع من العرف الرجوع إليه في مفهوم الموضوع أو في مصداقه ، حتى يقال : إن الرجوع إلى العرف في المفهوم لا يختص بباب الاستصحاب بل تشخيص المفاهيم إنما يكون بيد العرف مطلقا في جميع المقامات ، أو يقال : إنه لا عبرة بنظر العرف في المصداق. بل المراد من أخذ الموضوع من العرف الرجوع إليه في تشخيص الموارد التي
ص: 580
يصدق فيها نقض اليقين بالشك ، والرجوع إليه في الصدق غير الرجوع إليه في المصداق.
وتوضيح ذلك : هو أن الألفاظ وإن كانت موضوعة للمعاني النفس الأمرية ، إلا أن تشخيص معنى اللفظ وتمييزه عما عداه إنما يرع فيه إلى العرف ، فقد يكون المعنى معلوما بالتفصيل بجميع حدوده وقيوده لدى العرف ، وقد لا يكون معلوما لديهم بالتفصيل وإن كان أصل المعنى على سبيل الاجمال مرتكزا في ذهنه ، ولذلك قد يشك في صدق المعنى على بعض ماله من المراتب ، ألا ترى؟ أن مفهوم « الماء » مع أنه من أوضح المفاهيم العرفية كثيرا ما يحصل الشك في صدقه على بعض الافراد ، كالماء المخلوط بمقدار من التراب على وجه لا يلحقه اسم الطين.
وبالجملة : الشك في صدق المفهوم على بعض المراتب والافراد ليس بعزيز الوجود ، بل في غالب المفاهيم العرفية يشك العرف في صدقها على بعض المراتب. وكون المعنى مرتكزا في ذهنه لا ينافي حصول الشك في الصدق ، ومن المعلوم : أن المرجع عند الشك في صدق المفهوم على بعض المراتب والافراد إنما هو العرف. فلو شك في صدق مفهوم الحطب على القصب يرجع فيه إلى العرف ، فان صدق عليه عنوان الحطب عرفا يثبت له آثار الحطب ، وإن لم يصدق عليه عنوان الحطب عرفا ، فان صدق عليه عنوان آخر فهو ، وإن استقر الشك وكان العرف بنفسه مترددا في الصدق وعدمه ، فالمرجع هو الأصول العملية. فظهر : أن الرجوع إلى العرف في الصدق غير الرجوع إليه في المصداق ، فان مورد الرجوع إليه في المصداق إنما هو بعد تبين المفهوم وتشخيص المعنى ، وهذا هو الممنوع عنه ، لأنه لا عبرة بنظر العرف في المصداق ، بل لابد من إحراز المصداق بعد أخذ المفهوم من العرف. وأما الرجوع إليه في الصدق : فهو إنما يكون في مورد إجمال المفهوم وعدم تشخيص المعنى ، ولابد من الرجوع إليه في
ص: 581
ذلك ، فان تشخيص المعنى من وظيفة العرف. هذا كله في المفاهيم الافرادية.
وأما الجمل التركيبية : فلابد فيها من اتباع نظر العرف فيما يستفاد منها ، لان المعتبر في الجمل التركيبية هو ظهور الجملة في المعنى بحسب المحاورات العرفية ، سواء وافق ظهور الجملة لظهور المفردات أو خالفه ، فإنه لا عبرة بالظهورات الافرادية ، بل المتبع هو الظهور النوعي للجملة. فلابد من الرجوع إلى المحاورات العرفية في تشخيص مدلول الجملة التركيبية ، من غير فرق في ذلك بين القضايا الشرعية وغيرها ، فكما يرجع إلى العرف فيما يستفاد من القضايا العرفية المستعملة في مقام إظهار مقاصدهم ، كذلك يرجع إلى العرف فيما يستفاد من القضايا الشرعية المستعملة في مقام إظهار الاحكام الواقعية أو الظاهرية.
ومن جملة القضايا الشرعية قوله علیه السلام في أخبار الاستصحاب « لا تنقض اليقين بالشك » فإنه لابد من الرجوع إلى العرف في مفاد ذلك ، لان صدق نقض اليقين بالشك وعدم صدقه إنما يكون أمرا عرفيا ، فقد يكون رفع اليد عن اليقين السابق بالشك اللاحق نقضا لليقين بالشك عرفا ، وقد لا يكون نقضا عرفا ، وقد يشك أيضا في صدق النقض وعدمه.
وهذا الاختلاف إنما يشنأ من اختلاف الموضوعات والاحكام بحسب ما يراه العرف من مناسبة الحكم والموضوع ، فان العناوين المأخوذة في موضوعات الاحكام تختلف.
فرب عنوان يكون بنظر العرف مقوما للموضوع لمناسبة الحكم والموضوع ، فيدور الحكم مدار وجود العنوان ، كقوله : « يجب إعطاء الزكاة للفقير » (1) وكقوله : « يجب تقليد المجتهد الحي » فان مناسبة الحكم والموضوع تقتضي أن يكون لعنوان الفقر والاجتهاد والحياة دخل في وجوب إعطاء الزكاة والتقليد ،
ص: 582
فيرتفع موضوع الحكم عرفا إذا صار الفقير غنيا أو مات المجتهد أو زالت عنه ملكة الاجتهاد ، لان الغني يباين الفقير عرفا ، وكذا الحي والمجتهد يباين الميت والعامي ، ومناسبة الحكم والموضوع تقتضي أن يكون الموضوع لوجوب الزكاة والتقليد خصوص الفقير والمجتهد الحي ، لا ذات الانسان ، فارتفاع الحكم بارتفاع وصف الفقر والاجتهاد والحياة إنما يكون لارتفاع الموضوع عرفا ، وإن كان ثبوتا لارتفاع علة الحكم لا موضوعه ، ولكن بنظر العرف يكون من ارتفاع الموضوع وتبدله إلى موضوع ، آخر يباين الموضوع السابق ، بحيث لو قام دليل على جواز إعطاء الزكاة أو جواز التقليد لمن زال عنه وصف الفقر أو الاجتهاد كان ذلك بنظر العرف تسرية حكم من موضوع إلى موضوع آخر.
ورب عنوان يكون بنظر العرف من الوسائط الثبوتية لعروض الحكم على موضوعه من دون أن يكون له دخل في الموضوع عرفا لمناسبة الحكم والموضوع ، كقوله : « الماء المتغير نجس » فان النجاسة بنظر العرف من الاعراض القائمة بذوات الأشياء ، فيكون موضوع النجاسة ومعروضها ذات الماء ، لا الماء المتغير ، بل التغير إنما يكون عرفا علة لعروض النجاسة على الماء ، فيكون الموضوع محفوظا عرفا عند زوال التغير عن الماء ، بحيث لو قام دليل على طهارته كان ذلك بنظر العرف من رفع الحكم عن موضوعه ، لا رفع الحكم بارتفاع موضوعه ، من غير فرق في ذلك بين قوله : « الماء المتغير نجس » وبين قوله : « الماء ينجس إذا تغير » أو « إذا تغير الماء ينجس » فان اختلاف العبارة لا يوجب الاختلاف في نظر العرف ، لأنه على جميع التقادير معروض النجاسة ذات الماء والتغير واسطة لعروضها ، كما أنه لا فرق في القسم الأول بين قوله : « يجب إعطاء الزكاة للفقير » وبين قوله : « يجب إعطاء الزكاة للشخص إذا كان فقيرا » وغير ذلك من التعبيرات ، فإنه على كل حال يكون للفقر دخل في الموضوع عرفا. ورب عنوان يشك العرف في كونه من مقومات الموضوعات أو كونه من
ص: 583
العلل والوسائط الثبوتية ، كقوله : « لا يجب الوفاء بالعقد الضرري » فإنه يشك في أن عنوان « الضرر » من المقومات حتى لا يجب الوفاء بالعقد عند ارتفاع الضرر بالتمكن من فسخ العقد آنا ما - وإن لم يفسخ - فيكون الخيار على الفور ، أو أنه علة لعدم وجوب الوفاء بالعقد ، فلا يرتفع جواز العقد بالتمكن من الفسخ ، فيكون الخيار على التراخي.
إذا عرفت ذلك ، فاعلم : أنه يعتبر في جريان الاستصحاب صدق نقض اليقين بالشك عرفا عند عدم ترتيب آثار المتيقن على المشكوك ، وصدق ذلك يتوقف على أن يكون العنوان بنظر العرف علة لثبوت الحكم - لا مقوما للموضوع - ليكون المشكوك فيه عين المتيقن عرفا ، فإنه لو كان العنوان مقوما للموضوع كان المشكوك فيه مباينا للمتيقن ، فيكون من نقض اليقين باليقين لا من نقض اليقين بالشك - فلا يجري فيه الاستصحاب. وكذا لو شك في كون العنوان مقوما للموضوع أو علة لثبوت الحكم ، فإنه لا يجري الاستصحاب أيضا ، للشك في صدق النقض وعدمه ، فيكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، فالاستصحاب إنما يجري في مورد علم من مناسبة الحكم والموضوع كون العنوان من العلل والوسائط الثبوتية.
وتوهم : أنه مع العلم بكون العنوان علة للحكم لا نحتاج إلى الاستصحاب لبقاء الموضوع فيكفي نفس دليل الحكم في إثباته عند ارتفاع العنوان ، فاسد فان مجرد كونه من العلل لا يكفي في بقاء الحكم بعد زواله ، لاحتمال أن يكون العنوان علة حدوثا وبقاء ، فيرتفع الحكم بارتفاع علته ، ولا دافع لهذا الاحتمال إلا التمسك بالاستصحاب.
وبالجملة : ثبوت الحكم عند انتفاء ما اخذ في الدليل عنوانا للموضوع يتوقف على أمرين - أحدهما : كون العنوان من علل ثبوت الحكم لا من قيود موضوعه ، ثانيهما : كون علة لحدوث الحكم من دون أن يكون بقائه علة لبقاء
ص: 584
الحكم ، والمتكفل لاثبات الامر الأول إنما يكون دليل الحكم بضم مناسبة الحكم والموضوع ، والمتكفل لاثبات الامر الثاني أخبار الاستصحاب ، لصدق نقض اليقين بالشك عند عدم ترتيب آثار المتيقن على المشكوك ، فمن مجموع الدليلين - أي دليل الحكم ودليل الاستصحاب - يستفاد بقاء الحكم عند ارتفاع العنوان.
فتحصل : أن التعويل على العرف في بقاء الموضوع في باب الاستصحاب ليس من التعويل عليه في مسامحاته وخطائه في التطبيق ، بل الوظيفة في أمثال المقام هو التعويل على العرف ، لان نظره هو المتبع.
وقد ظهر مما ذكرنا ثمرة الترديد بين أخذ الموضوع من العرف أو من العقل أو من الدليل في باب الاستصحاب ، ففي مثال الماء المتغير الذي زال عنه التغير يجري استصحاب النجاسة مطلقا إن بنينا على أخذ الموضوع من العرف ، ولا يجري الاستصحاب مطلقا إن بنينا على أخذه من العقل ، التفصيل بين أخذ عنوان التغير قيدا للموضوع في ظاهر الدليل أو شرطا للحكم - ففي الأول لا يجري الاستصحاب وفي الثاني يجري - إن بنينا على أخذ الموضوع من الدليل.
والأقوى : اتباع نظر العرف في بقاء الموضوع ولا عبرة بنظر العقل ، فإنه لا معنى للرجوع إلى العقل في مفاهيم الألفاظ وما يستفاد من دليل الحكم وخطاب « لا تنقض » (1) كما أنه لا عبرة بظاهر الدليل بعد ما كان المرتكز العرفي بحسب مناسبة الحكم والموضوع على خلاف ما يقتضيه ظاهر الدليل ابتداء ، فإنه بعد الالتفات إلى المرتكز العرفي وما تقتضيه مناسبة الحكم
ص: 585
والموضوع لم يبق للدليل ظهور على خلاف المرتكز العرفي.
ومن هنا صح أن يقال : إنه لا وجه للمقابلة بين الدليل والعرف ، فان مفاد الدليل يرجع بالآخرة إلى ما يقتضيه نظر العرف ، لان المرتكز العرفي ومناسبة الحكم والموضوع يكون قرينة صارفة عما يكون الدليل ظاهرا فيه ابتداء ، فلو كان الدليل ظاهرا بدوا في قيدية العنوان وكانت مناسبة الحكم والموضوع تقتضي عدمه فاللازم هو العمل على ما تقتضيه مناسبة الحكم والموضوع ، لأنها تكون بمنزلة القرينة المتصلة ، فلم يستقر للدليل ظهور على الخلاف ، فالمقابلة بين العرف والدليل إنما هو باعتبار ما يكون الدليل ظاهرا فيه ابتداء مع قطع النظر عن المرتكز العرفي ، وإلا فبالأخرة يتحد ما يقتضيه مفاد الدليل مع ما يقتضيه المرتكز العرفي ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا.
يعتبر في الاستصحاب أن يكون المستصحب في ظرف الشك متيقن الوجود سابقا ليكون الشك متمحضا في بقائه ، وبذلك يمتاز الاستصحاب عن « قاعدة اليقين » فان المتيقن في القاعدة إنما يكون مشكوك الحدوث في ظرف الشك ، ولذلك يعبر عنها بالشك الساري ، وقد تقدم سابقا : أنه لا يمكن أن يعمها أخبار الاستصحاب ، ونزيده في المقام وضوحا ، فنقول :
إنه قد يتوهم شمول الاخبار للاستصحاب والقاعدة معا (1) بتقريب : أن
ص: 586
قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » يدل على عدم جواز نقض كل فرد من أفراد اليقين ، ومنها اليقين في القاعدة ، فإنه فرد من أفراد اليقين ، فيعمه قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » ولا يمنع عن ذلك اختلاف الاستصحاب والقاعدة في الأثر المترتب على عدم نقض اليقين بالشك ، حيث إنه في الاستصحاب يجب ترتيب آثار بقاء متعلق اليقين لا آثار حدوثه ، وفي القاعدة يجب ترتيب آثار ثبوت متعلق اليقين في ظرف تعلق اليقين به.
فلو تعلق اليقين بعدالة زيد في يوم الجمعة ثم شك في عدالته في يوم السبت ، فان كان الشك في بقاء العدالة مع العلم بثبوتها في يوم الجمعة ، فعدم نقض اليقين بالعدالة بالشك فيها معناه : ترتيب آثار بقاء العدالة في يوم السبت الذي هو ظرف تعلق الشك بالعدالة ، وذلك مفاد الاستصحاب.
[ ترتيب آثار ثبوت العدالة في يوم الجمعة ] (1).
وان كان الشك في ثبوت العدالة في يوم الجمعة ، فعدم نقض اليقين بالعدالة بالشك فيها معناه : ترتيب آثار ثبوت العدالة في يوم الجمعة الذي هو ظرف تعلق اليقين بها ، وهذا مفاد القاعدة ، وليس مفادها ترتيب آثار بقاء العدالة في يوم السبت ، فمفاد القاعدة يخالف مفاد الاستصحاب. ولكن هذا الاختلاف لا يمنع عن اندراجهما في عموم قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » فان الاختلاف في الأثر إنما هو لاختلاف الخصوصيات الفردية ، نظير
ص: 587
اختلاف أثر عدم نقض اليقين بعدالة زيد مع أثر عدم نقض اليقين بقيام بكر.
والحاصل : أن اليقين بوجود الشيء في زمان مع تبدله إلى الشك في الوجود واليقين بوجود الشيء في زمان مع انحفاظه في زمان الشك فردان من اليقين يعمهما قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك ».
هذا ، ولكن لا يخفى عليك ما في هذا التقريب من الضعف ، فان اليقين في القاعدة ليس فردا مغايرا لليقين في باب الاستصحاب ، لان تغاير أفراد اليقين إنما يكون بتغاير متعلقاته - كاليقين بعدالة زيد وقيام بكر - وإلا فاليقين من حيث نفسه لا يتعدد ، ومتعلق اليقين في القاعدة والاستصحاب غير متعدد ، لان متعلق اليقين في كل منهما هو عدالة زيد ، وعدم انحفاظ اليقين في القاعدة وانحفاظه في الاستصحاب لا يوجب أن يكون اليقين في أحدهما فردا مغايرا لليقين في الآخر ، فان الانحفاظ وعدمه من الطوارئ اللاحقة لليقين بعد وجوده ، وذلك لا يقتضي تعدد أفراد اليقين مع وحدة المتعلق ، بداهة أن تعدد أفراد الطبيعة الواحدة إنما يكون لأجل اختلاف المشخصات الفردية حال وجود الافراد ، فلابد وأن يكون لكل فرد خصوصية حال وجوده يمتاز بها عن الفرد الآخر.
ومن المعلوم : أن اليقين في القاعدة ليس له خصوصية حال وجوده يمتاز بها عن اليقين في الاستصحاب ، بل الخصوصية إنما تلحق به بعد وجوده ، والخصوصية اللاحقة بعد الوجود لا تكون من الخصوصيات المفردة. فتوهم : أن اليقين في القاعدة فرد مغاير لليقين في الاستصحاب ويكون العموم الافرادي لليقين في قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » شاملا لهما ، ضعيف غايته.
نعم : لا بأس بتوهم شمول إطلاق قوله : « لا تنقض » لهما ، بتقريب : أن الشك اللاحق في القاعدة وفي الاستصحاب إنما يكون من الأحوال والطواري
ص: 588
اللاحقة لليقين ، ولا مانع من إطلاق الحكم بالنسبة إلى الطواري اللاحقة للموضوع ، فإطلاق قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » لحالتي بقاء اليقين وزواله يقتضي شمول الحكم للقاعدة والاستصحاب.
هذا ، ولكن التحقيق : أنه لا يمكن أن تعم أخبار الباب كلا من القاعدة والاستصحاب (1) لأنه لا يمكن الجمع بينهما في اللحاظ من جميع الجهات ، لا من جهة اليقين ولا من جهة المتيقن ولا من جهة النقض ولا من جهة الحكم.
أما من جهة اليقين : فلان اليقين في باب الاستصحاب إنما يكون ملحوظا من حيث كونه طريقا وكاشفا عن المتيقن ، وفي القاعدة يكون ملحوظا من حيث نفسه (2) لبطلان كاشفيته بعد تبدله إلى الشك.
ص: 589
وأما من جهة المتيقن : فلان المتيقن في الاستصحاب لابد وأن يكون معرى عن الزمان غير مقيد به ، وفي القاعدة لابد من لحاظه مقيدا بالزمان ، لان مفاد القاعدة إنما هو عدم نقض المتيقن في الزمان الذي تعلق اليقين به ، فلو تعلق اليقين بعدالة زيد في يوم الجمعة وفي يوم السبت شك في عدالته في يوم الجمعة ، فمعنى عدم نقض اليقين بالشك : هو عدم نقض اليقين بعدالة زيد في يوم الجمعة بالشك فها ، فلابد في القاعدة من لحاظ زمان حصول اليقين في الحكم بعدم انتقاض المتيقن في ذلك الزمان ، بخلاف الاستصحاب ، فإنه لا يلاحظ فيه زمان حصول اليقين.
وأما من جهة النقض : فلان نقض اليقين في الاستصحاب إنما يكون باعتبار ما يقتضيه اليقين من الجري العملي على طبق المتيقن ، وفي القاعدة إنما يكون باعتبار نفس اليقين ، وذلك من لوازم لحاظ اليقين موضوعا أو طريقا.
وأما من جهة الحكم : فلان الحكم المجعول في القاعدة إنما هو البناء العملي على ثبوت المتيقن في زمان اليقين ، وفي الاستصحاب هو النباء العملي على ثبوت المتيقن في زمان الشك.
فالقاعدة تباين الاستصحاب من كل جهة من هذه الجهات الأربع ، فلا يمكن أن يعمهما أخبار الباب ، بل لابد وأن تكون الاخبار متكفلة لاعتبار أحدهما ، وحيث إن موردها لا ينطبق على القاعدة فلابد وأن تكون متكفلة لاعتبار الاستصحاب (1) فالقائل باعتبار القاعدة لابد من أن يلتمس دليلا آخر
ص: 590
على ذلك. وقد يستدل لها بقاعدة الفراغ ، وسيأتي البحث عنها ( إن شاء اللّه تعالى ).
يعتبر في الاستصحاب أن يكون المستصحب مشكوك البقاء ، فلا مجال للاستصحاب لو أحرز بقاء المستصحب أو ارتفاعه ، من غير فرق بين الاحراز الوجداني الحاصل من العلم وبين الاحراز التعبدي الحاصل من الطرق والامارات ، فلا يجري الاستصحاب مع قيام الطريق على بقاء المستصحب أو ارتفاعه ، وكذا غير الاستصحاب من سائر الأصول العملية. وهذا في الجملة مما لا خلاف فيه ، إلا ما يظهر من بعض الكلمات في بعض المسائل الفقهية : من البناء على إعمال التعارض بين الامارات والأصول ، ولكنه ضعيف ، فلا ينبغي التأمل والاشكال في تقدم الامارات على الأصول العملية.
وإنما الاشكال في وجه ذلك ، فقد يقال - بل قيل - إن الوجه فيه هو كون الامارة رافعة لموضوع الأصل بالورود.
والأقوى : كونها رافعة لموضوعه بالحكومة لا بالورود ، وقد تقدم تفصيل الفرق بين الحكومة والورود في أول البراءة.
وإجماله : هو أن ورود أحد الدليلين على الآخر إنما يكون باعتبار كون أحدهما رافعا لموضوع الآخر بعناية التعبد به ، وبذلك يمتاز عن التخصيص بعد اشتراكهما في كون الخروج في كل منهما يكون بالوجدان على وجه الحقيقة. ولكن يمتاز التخصص عن الورود بأن الخروج فيه يكون بذاته تكوينا بلا عناية التعبد (1) كخروج الجاهل عن موضوع قوله : « أكرم العلماء » وكخروج العالم
ص: 591
بالحكم عن مورد التعبد بالامارات وعن موضوع الأصول العملية مطلقا شرعية كانت أو عقلية. وأما الورود : فالخروج فيه إنما يكون بعناية التعبد ، كخروج الشبهة عن موضوع الأصول العقلية - من البراءة والاشتغال والتخيير - بالتعبد بالامارات والأصول الشرعية ، فإنه بالتعبد بها يتم البيان فلا يبقى موضوع لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، ويحصل المؤمن عن بعض أطراف الشبهة فلا يبقى موضوع لحكم العقل بالاحتياط وترتفع الحيرة فلا يبقى موضوع لحكم العقل بالتخيير.
فخروج الشبهة عند قيام الامارة أو الأصل الشرعي عليها عن موضوع حكم العقل بالبراءة والاحتياط والتخيير وإن كان على وجه الحقيقة ، إلا أن ذلك إنما يكون ببركة التعبد بالامارات والأصول ، فإنه لولا التعبد بها كانت الشبهة داخلة في موضوع الأصول العقلية ، ففرق بين العلم بحكم الشبهة وبين قيام الامارة أو الأصل عليه ، فإنه في الأول تخرج الشبهة عن موضوع الأصل العقلي بالتخصص لان العلم مما لا تناله يد التعبد الشرعي ، وفي الثاني تخرج الشبهة عن موضوع الأصل العقلي بالورود بعناية التعبد بالامارات والأصول ، فاستعمال الورود مكان التخصص وبالعكس يكون على خلاف الاصطلاح.
وعلى كل حال : الورود يشارك التخصص في النتيجة ، فان ورود أحد الدليلين على الآخر إنما هو باعتبار كون أحدهما رافعا لموضوع الآخر حقيقة. وبذلك يمتاز الورود عن الحكومة ، فان حكومة أحد الدليلين على الآخر لا توجب خروج مدلول الحاكم عن مدلول المحكوم وجدانا وعلى وجه الحقيقة ، بل الخروج في الحكومة إنما يكون حكميا.
ص: 592
فالحكومة تشارك التخصيص في النتيجة ، ولكن تمتاز عنه بأن التخصيص إنما يقتضي رفع الحكم عن بعض أفراد موضوع العام من دون أن يتصرف المخصص في عقد وضع العام أو في عقد حمله ، كقوله : « لا تكرم زيدا » عقيب قوله : « أكرم العلماء » فان مفاد قوله « لا تكرم زيدا » ليس إلا عدم وجوب إكرام زيد العالم.
وأما الحكومة : فهي لا تكون إلا بتصرف أحد الدليلين في عقد وضع الآخر أو في عقد حمله ، بمعنى : أن دليل الحاكم إما أن يتصرف في موضوع دليل المحكوم بادخال ما يكون خارجا عنه أو باخراج ما يكون داخلا فيه ، كقوله : « زيد عالم » أو « ليس بعالم » عقيب قوله : « أكرم العالم » وإما أن يتصرف في محمول دليل المحكوم بتضييق دائرة الحكم وتخصيصه ببعض حالاته وأفراده ، كقوله - تعالى - « ما جعل عليكم في الدين من حرج » وكقوله صلی اللّه علیه و آله « لا ضرر ولا ضرار » بناء على أن يكون الحرج والضرر من الحالات اللاحقة لنفس الاحكام ، لا لموضوعاتها ، كما أوضحناه في محله.
ولا يعتبر في الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي شارحا ومفسرا لما أريد من دليل المحكوم ، كما توهمه بعض الاعلام من كلام الشيخ قدس سره في مبحث التعادل والتراجيح ، حيث قال قدس سره : « وضابط الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا لحال الدليل الآخر الخ » وسيأتي ( إن شاء اللّه تعالى ) ما يتعلق بشرح عبارة الشيخ قدس سره في ذلك المبحث ، والغرض في المقام مجرد التنبيه على أنه لا يعتبر في الحكومة التفسير وشرح اللفظ ، بأن يكون دليل الحاكم مصدرا بأداة التفسير أو ما يلحق به كتفسير قرينة المجاز لما أريد من لفظ ذي القرينة ، كقوله : « رأيت أسدا يرمي » حيث إن كلمة « يرمي » تكون شارحة ومفسرة لما أريد من لفظ « الأسد ». وكأن من اعتبر في الحكومة أن يكون دليل الحاكم بمدلوله اللفظي مفسرا لما أريد
ص: 593
من دليل المحكوم خص الحكومة بما كان من قبيل حكومة أصالة الظهور الجارية في قرينة المجاز على أصالة الظهور في ذيها ، وعلى ذلك بنى الاشكال في حكومة الامارات على الأصول العملية (1)ما بين المعقوفتين ليس في الأصل، ولعله سقط من القلم. (المصطلح).(2) حيث إنه ليس في أدلة الامارات ما يقتضي شرح ما ريد من أدلة الأصول ، فلا تكون الامارات حاكمة على الأصول.
وليت شعري! أنه ما الموجب لتخصيص الحكومة بذلك؟ فإنه لم يقم دليل على اعتبار الشرح والتفسير اللفظي في باب الحكومة ، بل سيأتي - في مبحث التعادل والتراجيح - أن الحكومة لا تختص بالأدلة اللفظية ، بل تأتي في اللبيات أيضا ، فدعوى : أنه يعتبر في الحكومة شرح اللفظ ، مما لم يقم عليها برهان ، بل لو بنينا على اختصاص الحكومة بذلك قل مورد الحكومة فان في غالب الحكومات ليس ما يقتضي التفسير وشرح اللفظ.
فالتحقيق : أنه لا يعتبر في الحكومة أزيد من تصرف أحد الدليلين في عقد وضع الآخر وفي عقد حمله ولو لم يكن بلسان الشرح والتفسير ، بل لو كان مفاد تصرف أحد الدليلين بمدلوله المطابقي في مدلول الآخر ما تقتضيه نتيجة تحكيم المقيد والخاص على المطلق والعام كان ذلك أيضا من الحكومة ، مع أنه ليس في تحكيم المقيد على المطلق والخاص على العام ما يقتضي شرح اللفظ ، بناء على ما هو الحق عندنا : من أن التقييد والتخصيص لا يوجب استعمال لفظ المطلق والعام في خلاف ما وضع له ، بل التقييد والتخصيص يكون مبينا لموضوع
ص: 594
الحكم واقعا ، لا لما أريد من لفظ المطلق والعام ، كما أوضحناه في محله ، وسيأتي لذلك مزيد توضيح ( إن شاء اللّه تعالى ).
ثم إن تصرف أحد الدليلين في عقد وضع الآخر ، تارة : يكون بتوسعة دائرة الموضوع أو تضييقه بادخال ما يكون خارجا عنه أو باخراج ما يكون داخلا فيه ، كقوله : زيد عالم أو ليس بعالم عقيب قوله : « أكرم العلماء » كقوله : لا شك لكثير الشك عقيب قوله : « من شك بين الثلاث والأربع فليبن على الأربع » وأمثال ذلك.
وأخرى : يكون باعدام أحد الدليلين لموضوع الدليل الآخر في عالم التشريع مع بقائه في عالم التكوين.
والقسم الأول من الحكومة إنما تكون فيما بين الأدلة المتكفلة لبين الاحكام الواقعية ، والحكومة فيها واقعية ، وسيأتي البحث عنها في مبحث التعادل والتراجيح.
وأما القسم الثاني منها : فهو إنما يكون فيما بين الأدلة المتكفلة لبيان الاحكام الظاهرية ، والحكومة فيها إنما تكون ظاهرية ، وذلك كحكومة الامارات مطلقا على الأصول الشرعية وكحكومة الأصول التنزيلية على غيرها وكحكومة الأصل السببي على الأصل المسببي ، فان الحكومة في جميع ذلك إنما تكون باعدام دليل الحاكم في عالم الاعتبار والتشريع ما اخذ موضوعا في دليل المحكوم.
وذلك : لان المجعول في الامارات إنما هو الوسطية في الاثبات والاحراز - على ما أوضحناه في محله - ولم يؤخذ الشك موضوعا في باب الامارات ، بل الجهل بالواقع يكون موردا للتعبد بها ، فتكون الامارة رافعة للشك الذي اخذ موضوعا في الأصول ، وكذا الأصل المحرز يكون رافعا لموضوع الأصل الغير المحرز ، لان الأصل المحرز وإن اخذ الشك في موضوعه أيضا كالأصل الغير المحرز ، إلا أن الأصل المحرز يقتضي ثبوت المتعبد به ، فان المجعول فيه هو البناء على أحد
ص: 595
طرفي الشك على أنه هو الواقع وإلغاء الطرف الآخر في عالم التشريع فيرتفع به موضوع الأصل الغير المحرز (1) وكذا الحال في الأصل السببي والمسببي ، فان الأصل السببي مطلقا - ولو كان غير متكفل للتنزيل - رافع للشك المسببي ، كما سيأتي بيانه ( إن شاء اللّه تعالى ).
وبالجملة : حكومة الأدلة المتكفلة للأحكام الظاهرية بعضها على بعض إنما تكون باعتبار رفع دليل الحاكم موضوع دليل المحكوم في عالم التشريع مع بقائه في عالم التكوين ، فان قيام الامارة على خلاف مؤدى الأصل لا يوجب رفع الشك خارجا ، لاحتمال مخالفة الامارة للواقع ، فموضوع الأصل محفوظ تكوينا ، ولكن لما كان المجعول في باب الامارات هو الاحراز وإلغاء احتمال الخلاف كانت الامارة رافعة للشك في عالم التشريع ، لان المكلف يكون محرزا للواقع بحكم التعبد بالامارة ، فلا يبقى موضوع الأصل.
وكذا الكلام في حكومة الأصول بعضها على بعض. والجامع بين الكل : هو أن مفاد التعبد بأحد الدليلين إن رجع إلى إثبات متعلق الشك الذي اخذ موضوعا في الدليل الآخر ، فالدليل المثبت لمتعلق الشك يكون حاكما على الآخر ، سواء كان إثبات المتعلق بتوسط جعل الاحراز كما في الامارات - أو بتوسط الحكم بالبناء العملي على بقاء الواقع في أحد طرفي الشك - كما في الأصول المحرزة - وقد يكون مفاد الدليل إثبات متعلق الشك بلا توسط جعل الاحراز وبلا توسط البناء العملي على بقاء الواقع في أحد طرفي الشك بل نفس التعبد بمفاد الدليل يقتضي إثبات متعلق الشك - كما في الأصل السببي والمسببي - على ما سيأتي بيانه.
فظهر : أن الوجه في تقدم الامارات على الأصول العملية إنما هو الحكومة ،
ص: 596
لا الورود ، لان الامارة لا توجب رفع الشك حقيقة ، وقد عرفت : أنه يعتبر في الورود ارتفاع موضوع المورود حقيقة.
فدعوى : ورود الامارات على الأصول والأصول بعضها على بعض ، لا تستقيم إلا بأحد وجوه :
الأول دعوى : أن المراد من « العلم » الذي اخذ غاية للتعبد بالأصول العملية ليس خصوص العلم الوجداني ، بل مطلق الحجة ، سواء كانت عقلية كالعلم ، أو شرعية كالأمارات ، فيكون مفاد قوله علیه السلام في أخبار الاستصحاب : « لا تنقض اليقين بالشك ، بل تنقضه بيقين آخر » لا تنقض الحجة بغير الحجة بل تنقضها بالحجة ، فقد اخذ الشك واليقين كناية عن الحجة واللاحجة ، فتكون الامارة واردة على الاستصحاب وسائر الأصول الشرعية ورافعة لموضوعها حقيقة ، كورودها على الأصول العقلية. وتوهم : أن الأصل الشرعي أيضا حجة فلا وجه لرفع اليد عن الأصل بالامارة ، لأنه كما يمكن أن يقال : « إن العمل بالامارة في مورد الأصل يكون من نقض الحجة بالحجة » كذلك يمكن أن يقال : « إن العمل بالأصل على خلاف الامارة يكون من العمل بالحجة » فلا يلزم من ترك العمل بالامارة والاخذ بالأصل الشرعي طرح الامارة بلا حجة على خلافها ، فلو كان المراد من « العلم » الذي اخذ غاية في الأصول هو مطلق الحجة ، يلزم التعارض بين أدلة الامارات وأدلة الأصول ، وإلى ذلك أشار الشيخ قدس سره بقوله : « وإلا أمكن أن يقال : إن مؤدى الاستصحاب » إلى قوله : « ولا يندفع مغالطة هذا الكلام » فاسد ، فان الشك لم يؤخذ في موضوع الامارات ، فيصح أن يقال : « إن الاخذ بالامارة في مورد الأصل يكون من نقض الحجة بالحجة » فيندرج في قوله علیه السلام « بل تنقضه بيقين آخر » وهذا بخلاف الاخذ بالأصل في مورد
ص: 597
الامارة ، فإنه يلزم منه ترك العمل بالحجة المطلقة بلا مخصص ، لان أدلة حجية الامارة لم تكن مقيدة بعدم قيام الأصل على خلافها ، فتخصيص حجيتها بما إذا لم يكن أصل على خلافها يكون بلا موجب ، بخلاف الأصل ، فان دليل اعتباره مقيد بما إذا لم تقم حجة على خلاف مؤدى الأصل.
هذا ، ولكن لا يخفى ما في هذا الوجه من الضعف ، فان جعل العلم كناية عن الحجة مما لا شاهد عليه ، بل الظاهر من العلم واليقين الذي اخذ غاية في الأصول العملية هو خصوص الاعتقاد الراجح الذي لا يجامعه احتمال الخلاف. مع أن هذا البيان إنما يتم في خصوص الامارات ، وأما الأصول : فلا يتأتى فيها هذا التقريب ، لأن الشك اخذ موضوعا في مطلق الأصول والعلم بالخلاف اخذ غاية في الجميع ، فلا وجه لتقدم الأصول المحرزة على غيرها ، لان رفع اليد عن الأصل المحرز بالأصل الغير المحرز أيضا يكون من رفع اليد عن الحجة بالحجة على الخلاف ، كما أن رفع اليد عن الأصل الغير المحرز بالأصل المحرز يكون من رفع اليد عن الحجة بالحجة على الخلاف ، فالمغالطة التي ذكرها الشيخ قدس سره تبقى على حالها في باب الأصول ، ويلزم وقوع التعارض بينها.
الوجه الثاني - دعوى : أن المراد من الغاية خصوص العلم الوجداني ، ولكن متعلق العلم أعم من الحكم الواقعي والظاهري ، فتكون الامارة واردة على الأصول ، للقطع بحجيتها ، فيقطع بالحكم الظاهري على خلاف مؤدى الأصل عند قيام الامارة على الخلاف.
وهذا الوجه بمكان من الفساد ، فإنه إن أريد من الحكم الظاهري مؤدى الامارة ، فالمؤدى مشكوك ، لاحتمال مخالفة الامارة للواقع ، وإن أريد من الحكم الظاهري اعتبار الامارة وحجيتها ، فهو وإن كان متيقنا - للعلم بحجية الامارات إلا أن العلم بالحجية لم يؤخذ غاية للتعبد بالأصول العملية ، بل الغاية هي العلم بخلاف مؤدى الأصل ، أي العلم بمتعلق الشك الذي اخذ
ص: 598
موضوعا فيه ، ومتعلق الشك هو الاحكام الواقعية وموضوعاتها ، فلابد من أن يتعلق العلم بها ، والعلم بحجية الامارة أجنبي عن العلم بالحكم الواقعي. هذا ، مع أن العلم بالحجية لا يختص بباب الامارات ، بل الأصول أيضا كذلك ، للعلم بحجيتها ، فان أدلة اعتبارها لا تقصر عن أدلة اعتبار الامارات.
وبالجملة : تشترك الأصول مع الامارات في العلم بحجيتها ، وتشترك الامارات مع الأصول في عدم العلم بالمؤدى ، فدعوى : أن الوجه في ورود الامارات على الأصول كون المراد من الغاية الأعم من الحكم الواقعي والظاهري ، ضعيفة جدا.
الوجه الثالث - دعوى : أن المراد من الغاية مطلق الاحراز ، لا خصوص العلم الوجداني (1) فيكون معنى قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك بل تنقضه بيقين آخر » هو أن الاحراز لا ينقض بالشك ، بل لابد من نقضه باحراز آخر يخالف الاحراز السابق.
ويمكن تقريب هذا الوجه بما تقدم في بيان قيام الطرق والامارات والأصول المحرزة مقام القطع الذي اخذ في الموضوع على وجه الطريقية.
وحاصله : أن ظاهر الدليل وإن كان يعطى اعتبار خصوص الكشف الوجداني والاحراز التام الحقيقي ، إلا أنه لما كان اعتبار القطع من حيث
ص: 599
الطريقية والكاشفية لا من حيث كونه صفة قائمة في النفس ، فيستفاد من الدليل - ولو بتنقيح المناط - أن الموضوع هو العنوان الكلي الأعم من الاحراز الوجداني والاحراز التعبدي ، أي مطلق الكاشف والمحرز ، سواء كان إحرازه وكشفه من مقتضيات ذاته بلا جعل جاعل أو بتتميم كشفه بجعل الشارع ، فإنه لولا استفادة ذلك من الدليل الذي اخذ القطع موضوعا فيه لم يكن وجه لقيام الامارات والأصول المحرزة مقام القطع ، فقيامها مقامه لا يمكن إلا بجعل الموضوع عنوانا كليا ينطبق على ما جعله الشارع محرزا ، فيكون أخذ خصوص العلم في ظاهر الدليل لكونه من أحد مصاديق المحرز ، لا لخصوصية فيه ، وعلى هذا تستقيم دعوى : ورود الامارات على الأصول مطلقا وورود الأصول المحرزة على غيرها ، فإنه بعد قيام الامارة على خلاف مؤدى الأصل يكون مؤدى الامارة محرزا ببركة التعبد بها وتتميم كشفها ، فيكون من قامت عنده الامارة قد أحرز خلاف مؤدى الأصل ، ويخرج مورد الامارة عن قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » ويندرج حقيقة في قوله : « بل تنقضه بيقين آخر » فتكون الامارة واردة على الأصل ، لأنه لا يعتبر في الورود أزيد من كون المورد خارجا عن موضوع دليل المورود حقيقة ، وبعد قيام الامارة على خلاف الأصل يكون مؤدى الامارة خارجا عن موضوع الأصل حقيقة ، لأن المفروض : أن المراد من « اليقين » الذي اخذ غاية للتعبد بالأصل مطلق الاحراز.
وبذلك يظهر أيضا ورود الأصول المحرزة على غيرها ، لأنه أيضا ببركة التعبد بالأصل المحرز يخرج المؤدى عن موضوع الأصل الغير المحرز حقيقة ، فإنه قد أحرز خلافه ، وذلك بعد البناء على أن الغاية للتعبد بالأصول مطلقا الاحراز واضح.
وهذا الوجه أحسن ما يمكن أن يقال في تقريب ورود الامارات على الأصول وورود الأصول المحرزة على غيرها.
ص: 600
ولكن مع ذلك لا يخلو عن مناقشة بل منع ، لان قيام الامارة والأصل المحرز مقام القطع الطريقي ليس مبنيا على جعل الموضوع عنوانا كليا يعم الاحراز التعبدي بتنقيح المناط ، وإن ذكرنا ذلك وجها لقيام الطرق والأصول مقام القطع الطريقي ، إلا أنه قد تقدم : أنه يمكن المناقشة فيه بمنع تنقيح المناط القطعي ، بل عمدة الوجه في قيامها مقامه : هو أن المجعول في الامارات لما كان الاحراز والوسطية في الاثبات ، فتكون حاكمة على الدليل الذي اخذ القطع في موضوعه ، بل قد تقدم : أن حكومتها على الأدلة المتكفلة للأحكام الواقعية التي لم يؤخذ القطع في موضوعها إنما تكون بتوسط كونها محرزة لها ، فحكومتها على نفس القطع والاحراز الذي اخذ في الموضوع أولى وأحرى : فراجع ما ذكرناه في مبحث القطع.
وبتقريب آخر : قيام الطرق والامارات والأصول المحرزة مقام القطع الطريقي إنما هو بعناية كونها متكفلة لاثبات مؤدياتها ، فتكون المؤديات محرزة ببركة التعبد بها ، ولذلك لم تقم الأصول الغير المحرزة مقام القطع الطريقي ، فإنها غير متكفلة لاثبات المؤدى ، وحينئذ لا يمكن أن يكون بين الامارات والأصول ورود ، لأنه يعتبر في الورود أن يكون أحد الدليلين رافعا لموضوع الآخر بنفس التعبد به لا بعناية ثبوت المتعبد به.
ولأجل ذلك كانت الأصول الغير المحرزة واردة على الأصول العقلية ، لأنه بنفس التعبد بها يرتفع موضوع حكم العقل - بالبيان المتقدم - والامارات إنما تكون رافعة لموضوع الأصول بعناية ثبوت المتعبد به فيها لا بنفس التعبد ، لاشتراك الأصول معها في التعبد ، فلا تصح دعوى : كون الامارات واردة على الأصول ، بل لابد من كونها حاكمة عليها.
نعم : نتيجة كل حكومة هي الورود بعناية رفع الموضوع ، كما أنه بعناية رفع الحكم تكون النتيجة هي التخصيص ، فتأمل جيدا.
ص: 601
قد تقدم في بعض المباحث السابقة الفرق بين الامارة والأصل ، وحاصله : أنه يعتبر في الامارة أمران :
أحدهما : أن تكون لها جهة كشف في حد ذاتها ، فان ما لايكون كاشفا بذاته لا يمكن أن يعطيه الشارع صفة الكاشفية.
ثانيهما : أن يكون اعتبارها من حيث كونها كاشفة ، أي كان اعتبارها تتميما لكشفها.
وأما الأصل : فهو إما أن لا يكون فيه جهة كشف كأصالة البراءة والحل ، وإما أن يكون له جهة كشف ولكن لم يكن اعتباره من تلك الجهة ، بل كانت جهة كشفه ملغاة في نظر الشارع واعتبره أصلا عمليا ، ولذلك قد يشتبه الشيء بين كونه أمارة أو أصلا عمليا ، لعدم العلم بجهة الاعتبار (1) وقد وقع البحث والخلاف في جملة من الأمور ، فقيل : إنها من الامارات ، وقيل : إنها من الأصول العملية.
فإنه لا خلاف في اعتبارها في الجملة ويحكم لصاحبها بالملكية ، وقد
ص: 602
استقرت على ذلك طريقة العقلاء واستفاضت به النصوص عموما وخصوصا في الموارد الجزئية ، من غير فرق بين يد المسلم والكافر ، إلا في اللحوم وما يتعلق بها ، فإنه لا عبرة بيد الكافر فيها ولا يحكم له بالملكية ، إما لما قيل : من كون يده أمارة على كون اللحم من الميتة ، وإما لأصالة عدم التذكية ، وكل منهما غير قابل لان يملك. وهذا كله مما لا إشكال فيه ، إنما الاشكال في كون اليد من الامارات أو من الأصول العلمية.
والظاهر أن تكون من الامارات ، فان بناء العقلاء وعمل الناس كان على اعتبار اليد وترتيب آثار الملكية على ما في اليد لصاحبها ، وليس في طريقة العقلاء ما يقتضي التعبد بالملكية لصاحب اليد بلا ركون النفس ، بل لابد وأن يكون عمل العقلاء على ذلك لكشف اليد في نوعها عن الملكية ، لان الغالب في مواردها كون ذي اليد مالكا لما في يده ، فان استيلاء عير المالك على ملك الغير وتصرفه فيه تصرف الملاك في أملاكهم خلاف العادة ، وبناء العرف والعقلاء على عدم الالتفات إلى احتمال كون ذي اليد غاصبا ، بل يعاملون مع اليد معاملة الكاشف والطريق كسائر الكواشف العقلائية والطرق العرفية ، وما ورد من الشارع في اعتبار اليد إنما هو إمضاء لما عليه عمل الناس ، وليس مفاد أدلة اعتبارها تأسيس أصل عملي بحيث لم يلاحظ الشارع جهة كشفها ، فان ذلك بعيد غايته ، وقوله علیه السلام في بعض أدلة اعتبار اليد « وإلا لما قام للمسلمين سوق » (1) لا يدل على التعبد بها ، بل إنما هو لبيان حكمة إمضاء ما عليه العقلاء ، فإنه لولا اعتبار اليد لاختل النظام ولم يبق للمسلمين سوق.
وبالجملة : ملاحظة عمل العقلاء في باب اليد وأدلة اعتبارها يوجب القطع بكونها من الامارات ، لا من الأصول العملية ، وحينئذ لا إشكال في كونها حاكمة
ص: 603
على الاستصحاب. مع أنه لو سلم كونها من الأصول العملية كانت مقدمة على الاستصحاب ، لورودها مورده غالبا ، فإنه قل مورد لم يكن الاستصحاب على خلاف اليد ، فلو قدم الاستصحاب عليها يلزم المحذور الذي علل به الحكم في الرواية ، وهو قوله علیه السلام « لما قام للمسلمين سوق » فلا محيص عن الاخذ بمقتضى اليد وطرح الاستصحاب.
وقد انعقد الاجماع على ذلك مع الجهل بحال اليد وكون المال من الأملاك القابلة للنقل والانتقال ، وأما مع العلم بحال اليد أو عدم كون المال مما يقبل النقل والانتقال ، فلا أثر لليد ، بل لابد من العمل بما يقتضيه الاستصحاب.
وتفصيل ذلك : هو أنه تارة : يعلم كيفية حدوث اليد على المال : من كونها عادية أو أمانة أو إجارة ونحو ذلك ، ثم احتمل انتقال المال إلى ذي اليد بناقل شرعي ، وأخرى : لا يعلم كيفية حدوث اليد على المال ، بل احتمل أن يكون قد انتقل إلى ذي اليد من تأول حدوث يده عليه. وعلى الثاني : فتارة تكون اليد على ما كان وقفا قبل وضع اليد عليه واحتمل انتقاله إليه بأحد مجوزات بيع الوقف ، وأخرى : تكون اليد على ما كان ملكا للغير قبل وضع اليد عليه واحتمل انتقاله إليه عن مالكه بناقل شرعي. فهذه أقسام ثلاثة ينبغي البحث عنها.
الأول : ما إذا علم حال اليد وأنها حدثت على وجه الغصب أو الأمانة أو الإجارة ، ثم احتمل انتقال المال إلى صاحب اليد ، ولا ينبغي الاشكال في سقوط اليد والعمل على ما يقتضيه استصحاب حال اليد (1) فان اليد إنما تكون
ص: 604
أمارة على الملك إذا كانت مجهولة الحال غير معنونة بعنوان الإجارة والغصب ونحوهما ، واستصحاب حال اليد يوجب تعنونها بعنوان الإجارة أو الغصب ، فلا تكون كاشفة عن الملكية.
ولا سبيل إلى دعوى حكومة اليد على الاستصحاب ، بتوهم : أن اليد أمارة على الملكية فيرتفع بها موضوع الاستصحاب لان موضوعه اليد العادية واليد تقتضي الملكية فلا يبقى موضوع الاستصحاب ، فان اليد إنما تكون أمارة على الملكية إذا لم يعلم حالها ، والاستصحاب يرفع موضوع اليد.
وبعبارة أخرى : أمارية اليد وإن كانت تقتضي عدم كونها عادية ، إلا أن إثباتها لذلك فرع إثباتها الملكية ، لان لازم الملكية كون اليد غير عادية ، والامارات وإن كانت تثبت اللوازم ، إلا أن إثباتها لها يتوقف على إثباتها
ص: 605
للملزومات ، واستصحاب حال اليد يمنع عن إثباتها الملزوم ، فإنه بمدلوله المطابقي يثبت كون اليد عادية.
فلا ينبغي الاشكال في حكومة الاستصحاب على اليد إذا كان المستصحب حال اليد ، وعلى ذلك يبتني قبول السجلات وأوراق الإجارة (1) وينتزع المال عن يد مدعي الملكية إذا كان في يد الطرف ورقة الاستيجار المثبتة لكون يد المدعي كانت يد إجارة ، كما عليه عمل العلماء من سالف الزمان.
القسم الثاني : ما إذا كان المال وقفا قبل استيلاء ذي اليد عليه واحتمل طرو بعض مسوغات بيع الوقف فاشتراه ذو اليد ، ففي اعتبار اليد وعدمه وجهان : من أن العلم بكون المال وقفا قبل استيلاء ذي اليد عليه كالعلم بكونه ملكا للغير قبل ذلك لا أثر له في مقابل اليد ، فإنه ليس في البين إلا استصحاب بقاء الوقفية ، وهو كاستصحاب بقاء المال على ملك الغير يكون محكوما باليد. نعم : لو علم أن اليد حدثت على ما كان وقفا واحتمل طرو بعض مسوغات بيع الوقف بعد ذلك ، كان استصحاب حال اليد حاكما عليها ، وأما إذا لم يعلم ذلك بل احتمل أن تكون اليد حدثت بعد بطلان الوقف ، فلا يكون في البين ما يقتضي سقوط أمارية اليد ، وهذا الوجه هو الذي اختاره « السيد الطباطبائي » في كتاب القضاء من ملحقات العروة.
والأقوى : عدم اعتبار اليد ووجوب انتزاع المال عن يده وتسليمه إلى أرباب الوقف ، إلا أن يثبت الملكية الفعلية ، فان اليد إنما تكون أمارة على الملك في المال الذي يكون في طبعه قابلا للنقل والانتقال فعلا ولم يكن محبوسا
ص: 606
عنه (1) ولا يكفي مجرد إمكان طرو ما يقبل معه النقل والانتقال.
وبعبارة أخرى : اليد إنما تكون أمارة على أن المال انتقال من مالكه الأول إلى ذي اليد بأحد أسباب النقل والانتقال على سبيل الاجمال بلا تعيين سبب خاص ، وذلك إنما يكون بعد الفراغ عن أن المال قابل للنقل والانتقال ، والوقف ليس كذلك ، فان الانتقال فيه إنما يكون بعد طرو ما يوجب قابلية النقل فيه : من عروض أحد مسوغات بيع الوقف ، ففي الوقف لابد من عروض المجوز للبيع أولا ثم ينقل إلى الغير ، وأمارية اليد إنما تتكفل الجهة الثانية وهي النقل إلى ذي اليد ، وأما الجهة الأولى : فلا تتكفل لاثباتها اليد ، بل لابد من إثباتها بطريق آخر ، بل الجهة الأولى تكون بمنزلة الموضوع للجهة الثانية ، فاستصحاب عدم طرو ما يجوز معه بيع الوقف يقتضي سقوط اليد ، فإنه بمدلوله المطابقي يرفع موضوع اليد ، فهو كاستصحاب حال اليد.
وتوهم : أن اليد وإن كانت أمارة على النقل إلى ذي اليد ، إلا أن لازم ذلك طرو ما يسوغ النقل إليه ، وشأن الامارة إثبات اللوازم والملزومات ، فاليد كما تثبت النقل تثبت طرو المجوز للنقل أيضا
فاسد ، لما عرفت : من أن قابلية المال للنقل والانتقال تكون بمنزلة الموضوع
ص: 607
للنقل والانتقال لا من اللوازم والملزومات ، ألا ترى؟ أنه لو شك في كون ما في اليد خلا أو خمرا مع كونه في السابق خمرا لا يمكن إثبات كونه خلا بمجرد كونه في اليد ، بدعوى : أن اليد تكون أمارة على الملك والخمر لا يملك فلابد وأن يكون خلا لان الامارة تثبت اللوازم ، وليس ذلك إلا من جهة كون المالية لا تكون من لوازم الملكية ، بل هي موضوع لها ، واليد لا تثبت الموضوع ، فلا تكون اليد أمارة على انقلاب الخمر خلا ، بل استصحاب بقاء الخمرية حاكم على اليد ، واليد على ما كان في السابق وقفا كاليد على ما كان في السابق خمرا من الجهة التي نحن فيها ، فلا تكون اليد على الوقف أمارة على طرو مسوغات بيع الوقف.
فان قلت : ما الفرق بين الوقف والأراضي المفتوحة عنوة؟ مع أنه لو كان ما في اليد من الأراضي المفتوحة عنوة وادعى الملكية تقر يده عليه ، ولا يجري استصحاب بقائها على الحالة السابقة.
قلت : الفرق بينهما هو أن الأراضي المفتوحة عنوة تكون ملكا للمسلمين وتقبل النقل والانتقال فعلا ، غايته أن المتصدي لنقلها هو الولي العام حسب ما اقتضته المصلحة النوعية ، وهذا بخلاف الوقف ، فإنه وإن قلنا بأنه ملك للموقوف عليه ، إلا أنه محبوس فعلا وغير قابل للنقل والانتقال إلا بعد طرو المسوغ.
فان قلت : عدم قابلية الوقف للنقل والانتقال ليس أشد وأعظم من عدم قابلية الحر له ، مع أنه قد ورد عدم سماع دعوى الحرية مع كون المدعى به تحت اليد ، بل تقر يده عليه إلى أن يثبت كونه حرا.
قلت : قياس الوقف على الحر مع الفارق ، فإنه في الوقف كان المال محبوسا قبل استيلاء ذي اليد عليه ، وأما الحر : فلم يعلم أنه كان حرا قبل استيلاء ذي اليد عليه. نعم : الأصل في الانسان أن يكون حرا ولكن إذا لم يكن تحت اليد ،
ص: 608
وأما إذا كان تحت اليد : فلا تجري فيه أصالة الحرية ، بل تكون اليد أمارة على الرقية.
نعم : لو فرض أن ما في اليد كان حرا قبل استيلاء ذي اليد عليه وأمكن انقلاب الحر رقا فادعى ذو اليد الرقية والملكية ، كان قياس الوقف عليه في محله ، إلا أنه لا يمكن انقلاب الحر رقا ، وعلى فرض إمكان ذلك لا تكون اليد أمارة على الانقلاب والرقية ، كما في مثال الخل والخمر.
فظهر : أن اليد على الوقف لا تكون أمارة على الملكية ، بل ينتزع المال عن ذي اليد إلى أن يثبت عروض ما يجوز بيع الوقف ، فتأمل جيدا.
القسم الثالث : ما إذا لم يعلم حال اليد واحتمل أنها حدث في ملك صاحبها بانتقال المال عن مالكه إليه ، وهذا القسم هو المتيقن من موارد اعتبار اليد وحكومتها على استصحاب بقاء الملك في ملك مالكه وعدم انتقاله إلى ذي اليد ، لان استصحاب بقاء الملك لا يثبت كون اليد على ملك الغير إلا بلازمه العقلي (1) وليس ذلك مؤدى الاستصحاب بمدلوله المطابقي ، وأمارية اليد تقتضي عدم كون اليد في ملك الغير ، ولا يعتبر في أمارية اليد أزيد من الشك في كون المال مال الغير وهو ثابت بالوجدان ، فاليد بمدلولها المطابقي تقتضي رفع موضوع الاستصحاب ، وهو بمدلوله الالتزامي يرفع موضوع اليد ، فيكون وزان اليد وزان سائر الامارات الحاكمة على الاستصحاب. فلا ينبغي التأمل والاشكال في عدم جريان استصحاب في هذا القسم ، وإلا تبقى اليد بلا مورد ، كما لا يخفى.
ص: 609
إن لم يكن في مقابل ذي اليد من يدعي ملكية المال ، فلا إشكال في وجوب ترتيب آثار كون المال ملكا لذي اليد والمعاملة معه معاملة المالك.
وإن كان في مقابله من يدعي الملكية وثبت كون المال كان ملكا للمدعي قبل استيلاء ذي اليد عليه ، ففي انتزاع المال عن يده وتسليمه إلى المدعي وعدمه تفصيل ، فإنه تارة : تثبت الملكية السابقة باقرار ذي اليد ، وأخرى تثبت بالبينة ، وثالثة : تثبت بعلم الحاكم.
فعلى الثالث : لا ينتزع المال عن ذي اليد قولا واحدا ، فإنه لا أثر لعلم الحاكم بأن المال كان للمدعي قبل استيلاء ذي اليد عليه ، لاحتمال أن يكون قد انتقل المال إليه بناقل شرعي ، فلا مستند لانتزاع المال عن يده إلا استصحاب بقاء المال في ملك المدعي ، وقد عرفت : أن اليد تكون حاكمة على الاستصحاب.
وعلى الثاني : فالمحكي عن بعض : أنه ينتزع المال عن ذي اليد إلا أن يقيم بينة على انتقال المال إليه. وحكي عن آخر : انتزاع المال عن يده إذا ضم الشاهدان إلى شهادتهما بالملكية السابقة عدم العلم بالانتقال أو شهدا بالملكية الفعلية للمدعي ، وكان مستند شهادتهما استصحاب بقاء الملكية السابقة.
والأقوى : عدم انتزاع المال عن ذي اليد مطلقا ، فان البينة لا يزيد حكمها عن علم الحاكم ، ولا أثر لضم عدم العلم بالمزيل ، كما لا أثر لاستصحاب الشاهدين بقاء المال على ملك المدعي ، فان استصحاب الشاهد لا يزيد على استصحاب الحاكم (1) بل لو شهدا بالملكية الفعلية بمقتضى الاستصحاب كان
ص: 610
ذلك من التدليس في الشهادة ، فإنهما قد أعملا الاستصحاب في مورد لا يجوز إعماله فيه ، لكونه محكوما باليد ، فلا يجوز للشاهد الشهادة بالاستصحاب إلا في مورد لم يكن المال في يد أحد المتداعيين ، كما إذا كان المال في يد ثالث لا يدعيه وتداعيا عليه شخصان وكان المال ملكا لأحدهما سابقا ، ففي ذلك يجوز الشهادة بالاستصحاب. وأما إذا كان المال في يد من يدعيه فلا يجوز الشهادة عليه بالاستصحاب.
فالتحقيق : أن حكم البينة حكم علم الحاكم لا يجوز انتزاع المال عن ذي اليد وتسليمه إلى المدعي (1).
وأما على الأول : وهو ما إذا أقر ذو اليد بأن المال كان في السابق ملكا للمدعي أو لمورثة ، فالأقوى - وفاقا للمحكي عن المشهور - انتزاع المال عن ذي اليد وتسليمه إلى المدعي ، لان باقراره تنقلب الدعوى ويصير المدعي منكرا والمنكر مدعيا ، فإنه عند إقراره بأن المال كان للمدعي إما أن يضم إلى إقراره دعوى الانتقال إليه وإما أن لا يضم إلى إقراره ذلك بل يدعي الملكية الفعلية مع إقراره بان المال كان للمدعي.
فان لم يضم إلى إقراره دعوى الانتقال يكون إقراره مكذبا لدعواه الملكية الفعلية (2) فإنه لا يمكن خروج المال عن ملك من كان المال ملكا له ودخوله في
ص: 611
ملك ذي اليد بلا سبب ، فدعواه الملكية الفعلية تكون مناقضة لاقراره ، ومقتضى الاخذ باقراره بطلان يده وعدم سماع دعواه.
وإن ضم إلى إقراره دعوى الانتقال إليه تنقلب الدعوى ويصير ذو اليد مدعيا للانتقال إليه ، فإنه يخالف قوله الأصل المعول عليه في المسألة - وهو أصالة عدم الانتقال إليه - فينطبق على ما ذكرناه في محله في تشخيص المدعي والمنكر : من أن المدعي هو الذي إذا ترك دعواه وأعرض عنها ترك وارتفعت الخصومة
ص: 612
من بينهما ، فان ارتفاع الخصومة من البين إنما هو لأجل كون المرجع هو الأصل الجاري في المسألة الموافق لقول أحدهما.
ومن ذلك يظهر : أن قول الأصحاب في تحديد المدعي والمنكر : من « أن المدعي من خالف قوله الأصل » يرجع إلى قولهم : « إن المدعي من إذا ترك ترك » ولا تختلف النتيجة بين الحدين ، بل هما متلازمان ويرجع مفاد كل منهما إلى الآخر ، فما يظهر من بعض الكلمات : من « أن النسبة بينهما العموم من وجه » ليس على ما ينبغي ، وتفصيله موكول إلى محله.
وفيما نحن فيه لا إشكال في أن ذي اليد لو ترك دعواه الانتقال إليه بعد إقراره بأن المال كان للمدعي ترتفع الخصومة من البين ، وكان المرجع بعد الاقرار أصالة عدم الانتقال ، ولا يجوز التعويل على اليد ، لسقوطها بالاقرار.
وتوهم : أن إقرار ذي اليد لا يزيد حكمه عن العلم بالواقع ، فكما أنه في صورة العلم بأن المال كان ملكا للمدعي قبل استيلاء ذي اليد عليه لا ينتزع المال عن ذي اليد ولا يصير المدعي منكرا ، كذلك في صورة إقرار ذي اليد بأن المال كان في السابق للمدعي
فاسد ، فان انقلاب الدعوى ليس من آثار الواقع ، بل من آثار نفس الاقرار ، حيث إن المرء مأخوذ باقراره ولو مع العلم بمخالفته للواقع ، كما إذا أقر بعين لاثنين على التعاقب ، فإنه تدفع العين للمقر له الأول ويغرم قيمة العين للثاني ، ففرق بين العلم بكون المال كان ملكا للمدعي سابقا وبين إقرار ذي اليد بذلك ، ففي الأول لا تنقلب الدعوى ولا يصير ذو اليد مدعيا ، وفي الثاني تنقلب الدعوى.
دفع دخل :
ربما يتوهم المنافاة بين ما ذكرنا : من انقلاب الدعوى في صورة إقرار ذي
ص: 613
اليد بأن المال كان للمدعي وبين ما ورد في محاجة أمير المؤمنين علیه السلام مع أبي بكر في قصة فدك على ما رواه في الاحتجاج مرسلا عن مولانا الصادق علیه السلام في حديث فدك : « إن أمير المؤمنين علیه السلام قال لأبي بكر : تحكم فينا بخلاف حكم اللّه في المسلمين؟ قال : لا ، قال علیه السلام فان كان في يد المسلمين شيء يملكونه ادعيت أنا فيه من تسأل البينة؟ قال : إياك كنت أسأل على ما تدعيه ، قال علیه السلام فإذا كان في يدي شيء فادعى فيه المسلمون تسألني البينة على ما في يدي! وقد ملكته في حياة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبعده! ولم تسأل المؤمنين على ما ادعوا علي! كما سئلتني البينة على ما ادعيت عليهم! » الخبر (1).
وجه المنافاة : هو أن الصديقة - سلام اللّه عليها - قد أقرت بأن فدكا كان ملكا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وادعت أنها نحلة ، فلو كان الاقرار موجبا لانقلاب الدعوى وصيرورة ذي اليد مدعيا ، لكان مطالبة أبي بكر البينة منها علیهاالسلام في محلها ، ولم يتوجه عليه اعتراض أمير المؤمنين علیه السلام بعد البناء على أن ما تركه النبي صلی اللّه علیه و آله لم ينتقل إلى وارثه بل يكون صدقة للمسلمين لما رووه عنه صلی اللّه علیه و آله من قوله : « نحن معاشر الأنبياء لا نورث درهما ولا دينارا الخ » (2). فيكون المسلمون بمنزلة الوارث له صلی اللّه علیه و آله وحيث إن أبا بكر ولي المسلمين كان له حق مطالبة البينة من الصديقة علیهاالسلام على دعواها بأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد ملكها فدكا في أيام حياته ، لأنها صارت مدعية بإقرارها بأن فدكا كان ملكا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولا ينفعها كونها ذي يد.
ص: 614
هذا ، ولكن التحقيق في الجواب عن الشبهة : هو أن يقال : إن إقرار الصديقة علیهاالسلام بأن فدكا كان لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لا يوجب انقلاب الدعوى ، فإنه على فرض صحة قوله صلی اللّه علیه و آله « نحن معاشر الأنبياء لا نورث الخ » لا يكون إقرارها بأن فدكا كان لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كاقرار ذي اليد بأن المال كان لمن يرثه المدعي ، فان انتقال الملك من النبي صلی اللّه علیه و آله إلى المسلمين ليس كانتقال الملك من المورث إلى الوارث ، لان انتقال الملك إلى الوارث إنما يكون بتبدل المالك الذي هو أحد طرفي الإضافة ، وأما انتقاله إلى المسلمين فإنما يكون بتبدل أصل الإضافة ، نظير انتقال الملك من الواهب إلى المتهب ومن الموصي إلى الموصى له.
وتوضيح ذلك : هو أن الملكية عبارة عن الإضافة الخاصة القائمة بين المالك والمملوك ، فللملكية طرفان : طرف المالك وطرف المملوك.
وتبدل الإضافة قد يكون من طرف المملوك ، كما في عقود المعاوضات ، فان التبدل في البيع إنما يكون من طرف المملوك فقط مع بقاء المالك على ما هو عليه ، غايته أنه قبل البيع كان طرف الإضافة المثمن وبعد البيع يقوم الثمن مقامه ويصير هو طرف الإضافة.
وقد يكون من طرف المالك ، كالإرث : فان التبدل فيه إنما يكون من طرف المالك مع بقاء المملوك على ما هو عليه ، غايته أنه قبل موت المورث كان طرف الإضافة نفس المورث وبعد موته يقوم الوارث مقامه ويصير هو طرف الإضافة.
وقد يكون بتبدل أصل الإضافة ، بمعنى أنه تنعدم الإضافة القائمة بين المالك والمملوك وتحدث إضافة أخرى لمالك آخر ، كما في الهبة ، فان انتقال المال إلى المتهب بالهبة ليس من قبيل انتقاله بالإرث ولا من قبيل انتقاله بالبيع ، بل انتقاله إليه إنما يكون باعدام الإضافة بين الواهب والموهوب وحدوث إضافة
ص: 615
أخرى بين المتهب والموهوب ، وكما في الوصية ، فان انتقال المال الموصى به إلى الموصى له في الوصية التمليكية إنما يكون أيضا باعدام الإضافة بين الموصي والموصى به وحدوث إضافة أخرى بين الموصى له والموصى به.
إذا عرفت ذلك ، فنقول : إن انتقال ما كان للنبي صلی اللّه علیه و آله إلى المسلمين بناء - على الخبر المجعول - ليس كانتقاله إلى الوارث ، بل هو أشبه بانتقال المال الموصى به إلى الموصى له ، ضرورة أن المسلمين لم يرثوا المال من النبي بحيث يكون سبيلهم سبيل الوارث ، بل غايته أن أموال النبي صلی اللّه علیه و آله تصرف بعد موته في مصالحهم ، فانتقال المال إليهم يكون أسوأ حالا من انتقال المال إلى الموصى له ، ولا أقل من مساواته له ، ومن المعلوم : أن إقرار ذي اليد بأن المال كان ملكا لما يرثه المدعي إنما أوجب انقلاب الدعوى من حيث إن الاقرار للمورث إقرار للوارث (1) لما عرفت : من قيام الوارث مقام المورث في طرف الإضافة ، ولذا لو أقر ذو اليد بأن المال كان لثالث أجنبي عن المدعي ومورثه لا ينتزع المال عن يده ولا تنقلب الدعوى ، وإقرار ذي اليد بأن المال كان للوصي يكون كاقراره بأن المال كان للثالث الأجنبي (2) ليس للموصى له انتزاع المال عن يده ، وبدعوى أنه أوصى به إليه ،
ص: 616
فان الموصي أجنبي عن الموصى له ولا يقوم مقامه ، فليس الاقرار للموصي إقرارا للموصى له ، كما كان الاقرار للمورث إقرارا للوارث ، بل تستقر يد ذي اليد على المال إلى أن يثبت الموصى له عدم انتقاله إلى ذي اليد في حياة الموصي.
فاقرار الصديقة علیهاالسلام بأن فدكا كان ملكا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لا يوجب انقلاب الدعوى (1) لأنه لا يرجع إقرارها بذلك إلى الاقرار بأنه ملك للمسلمين ، فان المسلمين لا يقومون مقام النبي صلی اللّه علیه و آله بل هم أسوأ حالا من الموصى له ، لما عرفت : من أن أقصى وما يدل عليه الخبر المجعول هو أن أموال النبي صلی اللّه علیه و آله تصرف في مصالحهم إذا تركها ولم تنتقل عنه في أيام حياته ، فلم يبق في مقابل يد الصديقة علیهاالسلام إلا استصحاب عدم الانتقال وهو محكوم باليد ، فليس لأبي بكر مطالبة الصديقة علیهاالسلام بالبينة ، بل عليه إقامة البينة بأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يملكها فدكا في أيام حياته ، فتأمل جيدا (2).
ص: 617
فقد قيل : بكونها من الامارات لما فيها من الكاشفية ، فان الغالب عند تعلق الإرادة بالفعل المركب من الاجزاء هو الجري على وفق الإرادة والآتيان بكل جزء في المحل المضروب له وإن لم يلتفت تفصيلا إلى الجزء في محله ولم يتعلق القصد به كذلك بل كان مغفولا عنه في محله (1) إلا أنه مع ذلك يأتي المكلف بالجزء في محله قهرا جريا على الإرادة السابقة في أول الشروع في العمل المركب ، فالإرادة المتعلقة بالكل عند الشروع فيه هي التي توجب الاتيان بكل جزء في محله ، ولا يحتاج غالبا إلى تعلق إرادة مستقلة بكل جزء جزء في محله ، فان الإرادة الأولية حيث كانت محفوظة في خزانة النفس كان الشخص مقهورا في الجري على وفقها ما لم تحدث إرادة أخرى مضادة للإرادة الأولية ، فالغالب عند تعلق الإرادة بالفعل المركب هو الاتيان بأجزائه في محالها ، والشارع قد اعتبر هذه الغلبة ، كما يومي إليه قوله علیه السلام في بعض أخبار الوضوء : « هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك » (2) فتكون القاعدة من الامارات الكاشفة عن وقوع الفعل المشكوك فيه ، وحينئذ تكون القاعدة حاكمة على استصحاب عدم وقوع الفعل المشكوك فيه ، كحكومة سائر الامارات الاخر عليه.
ص: 618
مع أنه لو سلم كونها من الأصول العملية أمكن أن يقال : إنها حاكمة أيضا على الاستصحاب ، كما يظهر من الشيخ قدس سره حيث ذكر قبل التعرض لحكومة اليد على الاستصحاب بأسطر ما لفظه « وقد يعلم عدم كونه ناظرا إلى الواقع وكاشفا عنه وأنه من القواعد التعبدية لكن يختفي حكومته مع ذلك على الاستصحاب الخ » فراجع العبارة ، فان الذي يظهر من كلامه إمكان أن يكون أحد التنزيلين في الأصول التنزيلية رافعا لموضوع التنزيل الآخر. ولكن لم يبين وجهه ، ولعل الوجه في ذلك هو أن موضوع الاستصحاب إنما هو الشك في بقاء الحالة السابقة ، وهو إنما يكون مسببا عن الشك في حدوث ما يوجب رفع الحالة السابقة (1) ومثل قاعدة اليد - بناء على كونها من الأصول العملية - وأصالة الصحة في عمل الغير وقاعدة الفراغ والتجاوز إنما يكون مؤداها حدوث ما يوجب رفع الحالة السابقة ، فتكون رافعة لموضوع الاستصحاب ، فتأمل.
وإن أبيت عن ذلك كله ، فلا إشكال في أن قاعدة الفراغ والتجاوز وردت في مورد الاستصحاب ، فلو قدم الاستصحاب عليها تبقى القاعدة بلا مورد ، فلا ينبغي التأمل في تقدم القاعدة على الاستصحاب. والظاهر : أنه لا كلام فيه ، وإنما الكلام يقع في مباحث فقهية :
ص: 619
اختلفت كلمات الاعلام في أن الكبرى المجعولة الشرعية في قاعدة الفراغ هل هي عين الكبرى المجعولة في قاعدة التجاوز؟ فترجع القاعدتان إلى قاعدة واحدة ، أو أن الكبرى المجعولة الشرعية في قاعدة الفراغ غير الكبرى المجعولة في قاعدة التجاوز؟ بل كل منهما قاعدة مستقلة برأسها لا يجمعهما كبرى واحدة ، إحداهما مضروبة للشك في الاجزاء في أثناء العمل ، والأخرى مضروبة للشك في صحة مجموع العمل بعد الفراغ منه.
ويمكن أن يستظهر من كلام الشيخ قدس سره اتحاد القاعدتين ووحدة الكبرى المجعولة الشرعية ، حيث قال : « الموضع السادس - أن الشك في صحة الشيء المأتي به حكمه حكم الشك في الاتيان ، بل هو هو ، لان مرجعه إلى الشك في وجود الشيء الصحيح » انتهى. فتكون الكبرى المجعولة الشرعية هي عدم الالتفات إلى الشك في الشيء بعد التجاوز عنه ، سواء كان متعلق الشك وجود الشيء أو صحته ، لأن الشك في الصحة يرجع إلى الشك في وجود الصحيح ، فالجامع بين القاعدتين هو الشك في الوجود ، غايته أن الشك في قاعدة التجاوز يتعلق بوجود الشيء ، وفي قاعدة الفراغ يتعلق بوجود الصحيح ، وهذا المقدار من الاختلاف لا يقتضي اختلاف الكبرى ، بل هو من اختلاف الموارد والصغريات.
هذا ، ولكن يرد عليه :
أولا : أن متعلق الشك في قاعدة التجاوز إنما هو وجود الشيء بمفاد كان التامة ، وفي قاعدة الفراغ إنما هو صحة الموجود بمفاد كان الناقصة (1) ولا جامع
ص: 620
بينهما ، فلا يمكن اندراجهما في كبرى واحدة (1).
وأما ما أفاده قدس سره من أن الشك في قاعدة الفراغ يرجع إلى الشك في الوجود بمفاد كان التامة غايته أن متعلق الشك هو وجود الصحيح لا مطلق الوجود
ففيه : أن التعبد بقاعدة الفراغ إنما هو لاثبات صحة الموجود ، لا لاثبات وجود الصحيح ، وإثبات صحة الموجود بوجود الصحيح يكون من الأصل المثبت.
فان قلت : إن المهم في مقام الخروج عن عهدة التكليف إنما هو وجود الصلاة الصحيحة من المكلف ولا حاجة إلى إثبات صحة الصلاة المأتي بها ، فإنه لو فرض محالا وجود الصلاة الصحيحة من المكلف مع كون المأتي بها فاسدة ، لكان ذلك موجبا لفراغ الذمة والخروج عن عهدة التكليف.
قلت : نعم : وإن كان المهم في باب التكاليف هو إثبات وجود متعلق التكليف صحيحا ولو مع عدم إثبات صحة المأتي به (2) إلا أن قاعدة الفراغ لا تختص بباب التكاليف ، بل تعم الوضعيات ، والمهم في باب الوضعيات هو إثبات صحة الموجود ، فان الأثر مترتب على صحة العقد الصادر عن المتعاقدين ، ولا أثر لوجود العقد الصحيح بمفاد كان التامة ، بل لابد من إثبات صحة العقد الموجود في مقام ترتب الأثر.
وثانيا : أن متعلق الشك في قاعدة التجاوز إنما هو أجزاء المركب ، وفي قاعدة الفراغ يكون المتعلق نفس المركب بما له من الوحدة الاعتبارية ، ولفظ
ص: 621
« الشيء » في قوله علیه السلام « إنما الشك في شيء لم تجزه » (1) لا يمكن أن يعم الكل والجزء في مرتبة واحدة بلحاظ واحد (2) فان لحاظ الجزء شيئا بحيال ذاته إنما يكون في الرتبة السابقة على تأليف المركب ، لأنه في مرتبة التأليف لا يكون الجزء شيئا بحيال ذاته في مقابل الكل ، بل شيئية الجزء تندك في شيئية الكل ويكون لحاظه تبعيا ، ففي مرتبة لحاظ الكل شيئا لا يمكن لحاظ الجزء شيئا آخر مستقلا ، لان الكل ليس إلا الاجزاء ، فلا يمكن أن يراد من لفظ « الشيء » في الرواية ما يعم الجزء والكل ، بل إما أن يراد منه الجزء فتختص الرواية بقاعدة التجاوز ، وإما أن يراد منه الكل فتختص بقاعدة الفراغ
وثالثا : يلزم التناقض في مدلول قوله علیه السلام « إنما الشك في شيء لم تجزه » لو كان يعم الشك في الجزء والكل ، فإنه لو شك المصلي في الحمد وهو في الركوع ، فباعتبار الشك في الحمد قد جاوز محله فلا يجب عليه العود ، وباعتبار الشك في صحة الصلاة لم يتجاوز عنها ، لأنه بعد في الأثناء ، فيجب عليه العود ، فتأمل.
ورابعا : التجاوز في قاعدة التجاوز إنما يكون بالتجاوز عن محل الجزء
ص: 622
المشكوك فيه ، وفي قاعدة الفراغ إنما يكون بالتجاوز عن نفس المركب لا عن محله (1).
وخامسا : متعلق الشك في قاعدة التجاوز إنما هو نفس الجزء ، وأما قاعدة الفراغ : فمتعلق الشك فيها ليس وجود الكل ، بل هي ظرف للشك ، فلا يمكن أن يجمعهما كبرى واحدة (2).
ولأجل ذلك التزم بعض الاعلام بتعدد الكبرى المجعولة الشرعية وأن قاعدة التجاوز بنفسها قاعدة مستقلة لا ربط لها بقاعدة الفراغ ، ولذلك تختص قاعدة التجاوز بالشك في أجزاء الصلاة ، ولا تطرد في أجزاء سائر المركبات ، بخلاف قاعدة الفراغ ، فإنها لا تختص بباب دون باب ، بل تعم جميع الأبواب - كما عليه الفقهاء - ومع تعدد الكبرى المجعولة الشرعية ترتفع الاشكالات بحذافيرها.
هذا ، ولكن الانصاف : أن القول بتعدد الكبرى المجعولة الشرعية بعيد غايته (3) فان ملاحظة مجموع الأخبار الواردة في الباب يوجب القطع بأن
ص: 623
الشارع في مقام بيان ضرب قاعدة كلية للشك في الشيء بعد التجاوز عنه ، خصوصا مع تقارب التعبيرات الواردة في الاخبار (1) فان من أعطاها حق التأمل لا يكاد يشك في وحدة الكبرى المجعولة الشرعية وهي عدم الاعتناء والالتفات إلى المشكوك فيه بعد التجاوز عن محله مطلقا أي شيء كان المشكوك فيه ، ففي مقام إعطاء القاعدة لم يلاحظ الشارع إلا ما صدق عليه عنوان « الشيء » من غير فرق بين الجزء والكل ، غايته أن الشك في الكل يكون بنفسه صغرى للكبرى المجعولة الشرعية بلا عناية ، وأما الشك في الجزء : فهو إنما يكون صغرى لها بعناية التعبد والتنزيل ، يعني أن الشارع نزل الشك في الجزء في باب الصلاة
ص: 624
منزلة الشك في الكل في الحكم بعدم الالتفات إليه ، فيكون إطلاق الشيء على الجزء باللحاظ السابق على التركيب وصار من مصاديق الشيء تعبدا وتنزيلا ، فالكبرى المجعولة الشرعية ليست هي إلا عدم الاعتناء بالشئ المشكوك فيه بعد التجاوز عنه. ولهذا الكبرى صغريان : وجدانية تكوينية وهي الشك في الكل بعد الفراغ عنه من غير فرق بين الصلاة وغيرها (1) وصغرى تعبدية تنزيلية وهي الشك في الجزء في خصوص باب الصلاة.
والذي يدل على هذا التنزيل رواية « زرارة » و « إسماعيل بن جابر » فيكون المراد من « الشيء » في قوله علیه السلام « إنما الشك في شيء لم تجزه » (2) مطلق الشيء مركبا كان أو غير مركب ، ولا يشمل جزء المركب بما هو جزء في عرض شموله للكل ، بل إنما يشمله بعناية التعبد بعد تنزيل الجزء منزلة الكل في كونه شيئا بلحاظ المرتبة السابقة على التركيب ، فلم يستعمل الشيء في الجزء والكل في مرتبة واحدة حتى يقال : إنه لا يصح إطلاق الشيء على الجزء في مرتبة إطلاقه على الكل ، فيرتفع الاشكال الثاني الذي هو العمدة.
وأما بقية الاشكالات - فالانصاف : أنها ضعيفة يمكن الذب عنها بلا مؤنة.
أما الاشكال الأول : ففيه أن المراد من الشك في الشيء إنما هو الشك في وجود الشيء بمفاد كان التامة ، والمشكوك فيه في قاعدة الفراغ أيضا وجود الكل بمفاد كان التامة ، غايته أن الشك في وجود الكل يكون مسببا عن الشك
ص: 625
في وجود الجزء أو الشرط ، فلم يختلف متعلق الشك في قاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ.
وأما الاشكال الثالث : ففيه أن التناقض في المدلول مبني على صدق الشك في الكل عند الشك في الجزء في الأثناء بعد التجاوز عن محل الجزء ، وهو ممنوع ، فان الشك في الكل إنما يصدق بعد الفراغ عنه ، فلا يصدق على الشك في الحمد عند الركوع الشك في الصلاة قبل التجاوز عنها ، بل إنما يصدق عليه الشك في الحمد بعد التجاوز عنه ، فلا يجب العود إليه ، وذلك واضح.
وأما الاشكال الرابع : ففيه أن المراد من التجاوز إنما هو التجاوز عن محل المشكوك فيه مطلقا ، فان الشك في قاعدة الفراغ أيضا يكون بعد التجاوز عن محل الجزء المشكوك فيه الذي كان سببا للشك في وجود الكل.
وأما الاشكال الخامس : ففيه أن متعلق الشك في قاعدة التجاوز والفراغ إنما هو وجود الجزء ، وليس الكل في قاعدة الفراغ ظرفا للشك ، لما عرفت : من أن الشك في الكل دائما يكون مسببا عن الشك في وجود الجزء أو الشرط. فلم يختلف متعلق الشك في القاعدتين.
فتحصل : أنه لا مانع من الالتزام بوحدة الكبرى المجعولة الشرعية (1) وربما تترتب على ذلك ثمرات مهمة ، يأتي الإشارة إليها ( إن شاء اللّه تعالى ).
وبما ذكرنا ظهر : اختصاص قاعدة التجاوز بأجزاء الصلاة ، ولا تجري في أجزاء سائر المركبات الاخر ، لاختصاص مورد التعبد والتنزيل بأجزاء الصلاة ، فلا خصوصية للطهارات الثلاث حتى قال : إنها خارجة عن عموم قاعدة التجاوز بالتخصيص للاخبار والاجماع ، فإنه لا عموم في القاعدة حتى يكون
ص: 626
خروجها بالتخصيص.
التجاوز عن الجزء إنما يكون بالتجاوز عن محله ، لا عن نفسه ، للشك في وجوده ، فلا يتحقق التجاوز عن نفسه ، ولذلك قبل : إنه لابد من تقدير المحل الذي يضاف إليه التجاوز.
ولكن يمكن أن يقال : إنه لا حاجة إلى التقدير ، إذ بعدما نزل الشك في الجزء منزلة الشك في الكل كان نسبة التجاوز إلى الجزء على الحقيقة ، بتنزيل التجاوز عن المحل منزلة التجاوز عن نفسه (1) فأضيف التجاوز إلى الجزء حقيقة ، كما هو مسلك السكاكي في باب الاستعارة. وعلى كل حال : المراد من المحل المتجاوز عنه هو المحل الشرعي ، أي المحل الذي عينه الشارع للجزء حسب ما يدل عليه أدلة الترتيب بين الاجزاء ، ولا عبرة بالمحل العادي في شيء من الموارد.
وقد ذهب بعض الاعلام إلى اعتبار المحل العادي في بعض الموارد ، كالشك في التطهير والاستبراء بعد التجاوز عن محلهما العادي ، وكالشك في غسل الجانب الأيسر لمن اعتاد غسله عقيب غسل الجانب الأيمن بلا فصل.
وفيه مالا يخفى ، فان فتح باب المحل العادي يوجب تأسيس فقه جديد ، مع أنه لا عين له في الاخبار. نعم : قد تقتضي العادة صدق عنوان التجاوز والمضي ونحو ذلك من العناوين المأخوذة في الأدلة.
وتفصيل ذلك : هو أن الجزء المشكوك فيه ، تارة : يكون هو الجزء الأخير من
ص: 627
العمل ، كالتسليم في الصلاة ، وغسل الجانب الأيسر في الغسل الترتيبي ، والمسح في الوضوء ، ونحو ذلك. وأخرى : يكون الجزء المشكوك فيه ما عدا الجزء الأخير.
فان كان ما عدا الجزء الأخير ، فلا إشكال في صدق التجاوز والمضي والفراغ عن العمل ، ولا يأتي فيه البحث عن اعتبار المحل العادي ، لان التجاوز عن ما عدا الجزء الأخير إنما يكون من التجاوز عن المحل الشرعي ، فان المفروض : اعتبار الترتيب بين الاجزاء.
وإن كان المشكوك فيه هو الجزء الأخير ، فقد يتوهم : عدم جريان قاعدة الفراغ في العمل الذي يشك في جزئه الأخير ، للشك في تحقق الفراغ ، فان الفراغ عن العمل لا يكاد يتحقق إلا بالجزء الأخير منه.
هذا ، ولكن التحقيق : أنه لا فرق في عدم الاعتناء بالشك بين أن يتعلق الشك بالجزء الأخير أو بغيره.
أما في باب الصلاة : فواضح ، فإنه عند الشك في التسليم تجري قاعدة التجاوز ، ولا نحتاج إلى قاعدة الفراغ.
وتوهم : أن التجاوز عن الجزء إنما يكون بالدخول في الغير المترتب عليه شرعا وليس ما وراء التسليم ما يكون مترتبا عليه شرعا فاسد ، فان الشك في التسليم ، إما أن يكون في حال الاشتغال بالتعقيب ، وإما أن يكون في حال السكوت. وعلى الثاني : فاما أن يكون الشك فيه بعد فعل ما ينافي الصلاة عمدا وسهوا كالحدث ، وإما أن يكون بعد فعل ما ينافيها عمدا لا سهوا كالتكلم ، وإما أن يكون قبل فعل المنافي.
فان كان الشك في التسليم في حال الاشتغال بالتعقيب : فلا ينبغي الاشكال في جريان قاعدة التجاوز فيه ، فان محل التعقيب شرعا بعد التسليم ، ولا يضر بذلك عدم كون التعقيب من أجزاء الصلاة ، فإنه يكفي كونه من توابع الصلاة وملحقاتها كالاذان والإقامة ، وقد صرح في رواية « زرارة » بجريان
ص: 628
قاعدة التجاوز في الأذان والإقامة.
وإن كان الشك في التسليم بعد فعل ما ينافي الصلاة عمدا وسهوا : فلا يبعد جريان قاعدة التجاوز فيه أيضا ، فإنه وإن لم يجعل الشارع لما ينافي الصلاة محلا بل جعله من المبطلات ، إلا أنه لما كان تحليلها التسليم كان محل التسليم قبل فعل المنافي ، فان الحكم المجعول الشرعي - الأعم من الوضعي والتكليفي - وهو عدم وقوع المنافي قبل التسليم ، فيجري عليه حكم المحل الشرعي.
وبذلك يمكن أن يقال : إن حكم المنافي العمدي دون السهوي حكم المنافي العمدي والسهوي من هذه الجهة ، لأنه يعتبر أن يكون التسليم قبل الكلام ، ولا ينافي ذلك كون الكلام السهوي غير مبطل للصلاة ، فإنه على كل حال تحليلها إنما يكون بالتسليم ، فتأمل.
وإن كان الشك في التسليم في حال السكوت قبل فعل المنافي العمدي والسهوي : فالأقوى كونه من الشك في المحل ، ويجب فعل التسليم إذا لم يكن السكوت ماحيا للصورة بطوله ، وإلا دخل في القسم السابق. هذا كله إذا كان الشك في الجزء الأخير من الصلاة.
وإن كان الشك في الجزء الأخير من المركبات الاخر - كالغسل والوضوء ونحو ذلك - فقاعدة التجاوز لا تجري فيه ، لما عرفت : من أن قاعدة التجاوز إنما تجري في خصوص أجزاء الصلاة ولا تعم الشك في أجزاء المركبات الاخر. ولكن تكفينا قاعدة الفراغ ، فان دعوى اختصاصها بما إذا كان المشكوك فيه ما عدا الجزء الأخير ممنوعة ، خصوصا إذا لزم من الاعتناء والالتفات إلى الجزء إعادة المركب من أوله ، كما في المركبات التي يعتبر فيها الموالاة ، كالوضوء ، فان الشك في المسح بعد جفاف الأعضاء أو قبله مع تخلل الفصل الطويل المفوت للموالاة لو كان يقتضي الاعتناء والالتفات إليه كان اللازم إعادة الوضوء ، لفوات الموالاة بين الاجزاء. والظاهر : جريان قاعدة الفراغ ،
ص: 629
لصدق الانصراف والمضي ، فيشمله قوله علیه السلام « كلما مضى من صلاتك وطهورك فامضه كما هو » (1) فان إعادة الوضوء في الفرض ينافي المضي عليه. نعم : لو كان الشك في المسح قبل جفاف الأعضاء ، فلا إشكال في أنه يجب المسح مع عدم تخلل الفصل الطويل ، لأنه يكون من الشك في المحل ، فلا يصدق عليه الانصراف والمضي ، هذا إذا كان الاعتناء بالشك يقتضي إعادة المركب.
وأما إذا كان الاعتناء به لا يقتضي إلا الاتيان بالجزء المشكوك فيه ، لعدم اعتبار الموالاة بين الاجزاء - كالتوصليات وكالغسل - ففي جريان قاعدة الفراغ وعدمه إشكال ، ولعل من اعتبر المحل العادي اعتبره في هذا القسم من المركبات ، وقد عرفت : أنه لا عبرة بالمحل العادي. ولكن مع ذلك يمكن أن يقال : إن صدق التجاوز والمضي لا يتوقف على العلم باتيان الجزء الأخير ، بل يكفي في صدق ذلك الاتيان بمعظم الاجزاء إذا كان من عادة المكلف عدم الفصل بين الاجزاء والآتيان بها متوالية (2).
والحاصل : أنه لا يعتبر في صدق المضي والتجاوز عن الشيء عدم كون المشكوك فيه الجزء الأخير ، بل لو علم المكلف أنه أتى بالجزء الأخير وكانت بقية الاجزاء مشكوكة لم يصدق عليها التجاوز والمضي ، فصدق التجاوز والمضي يدور مدار فعل معظم الاجزاء ، لكن مع جريان العادة على التتابع والموالاة بين الاجزاء ، فإنه لا يصدق عرفا التجاوز عن جملة المركب إلا إذا جرت العادة على ذلك ، فاعتبار العادة إنما هو لأجل صدق المضي والتجاوز معها ، لا لكونها
ص: 630
معتبرة في حد نفسها - كما مال إليه بعض الاعلام - فإنه قد عرفت عدم قيام الدليل على اعتبارها ولا يمكن الالتزام بذلك كلية ، فهل ترى أنه يمكن القول بعدم وجوب أداء الدين إذا كان من عادة المديون أداء الدين في وقت خاص فشك في أدائه في وقته المعتاد تمسكا بقوله علیه السلام « كلما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو » (1) فتأمل جيدا.
لا إشكال في اعتبار الدخول في الغير في قاعدة التجاوز ، لعدم صدق التجاوز عن الجزء المشكوك فيه بدون الدخول في الجزء المترتب عليه. وفي اعتبار الدخول في الغير في قاعدة الفراغ إشكال منشأه اختلاف الاخبار (2) فظاهر جملة منها اعتبار ذلك - كموثقة ابن أبي يعفور وظاهر جملة
ص: 631
أخرى عدم اعتبار الدخول في الغير - كموثقة ابن بكير - فيدور الامر بين حمل المطلق على المقيد وبين الاخذ بالاطلاق وحمل التقييد على الغالب ، لان الغالب حصول الشك بعد الدخول في الغير ، فلا يكون للتقيد ظهور في كونه للاحتراز ، نظير قوله تعالى : « وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ ».
وقد يناقش في إطلاق المطلق بدعوى انصرافه إلى الغالب ، فإنه بعد تسليم كون الغالب حصول الشك بعد الدخول في الغير ينصرف المطلق إلى ما هو الغالب ، فيدور الامر بين الوجهين : حمل التقييد على الغالب فيخرج عن كونه للاحتراز ، أو حمل المطلق على الغالب فيلغو الاطلاق. هذا ، ويمكن الخدشة في كلام الوجهين.
أما في الوجه الأول : فبأن مجرد غلبة القيد لا يوجب رفع اليد عن ظهوره في كونه للتقييد ، فان الأصل في التقييد أن يكون للاحتراز ، إلا إذا علم من الدليل أو من الخارج ورود القيد مورد الغالب ، بحيث كان ذكره لمجرد الغلبة لا للاحتراز به ، كما في الآية المباركة.
وأما في الوجه الثاني : فبأن مجرد كون الغالب حصول الشك بعد الدخول في الغير لا يوجب انصراف المطلق إلى الغالب ، فإنه لا عبرة بغلبة الوجود ما لم تقتض صرف ظهور اللفظ - كما بيناه في محله - فالانصاف : أن الذي يقتضيه الجمع بين الأدلة هو حمل المطلق على المقيد.
فالأولى بل الأقوى اعتبار الدخول في الغير في قاعدة الفراغ أيضا ، ولكن يكفي في الغير المعتبر فيها مطلق الغير ، بحيث يكون الشخص في حالة أخرى مغايرة لحال الاشتغال بالمركب ، كما يدل عليه قوله علیه السلام في ذيل صحيحة زرارة : « فإذا قمت من الوضوء وفرغت عنه وقد صرت في حالة أخرى
ص: 632
في الصلاة أو غيره فشككت في بعض ما سمى اللّه مما أوجب اللّه عليك لا شيء عليك » (1) نعم : لا يبعد عدم كفاية السكوت المجرد ، فان الظاهر من قوله علیه السلام « وقد صرت في حالة أخرى » أو قوله : « دخلت في غيره » ونحو ذلك مما ورد في الاخبار ، هو الاشتغال بأمر وجودي مغير لحال الاشتغال بالمركب.
ومن ذلك يظهر : أن اعتبار الدخول في الغير في قاعدة الفراغ إنما يكون شرطا خارجيا اعتبره الشارع تعبدا ، لا لكونه يتوقف عليه صدق الفراغ ، فإنه لا يبعد صدق الفراغ بمجرد الاتمام ولو مع عدم الاشتغال بأمر وجودي. نعم : اعتبار الدخول في الغير في قاعدة التجاوز انما هو لأجل أنه يتوقف صدق التجاوز عليه ، لا لمحض التعبد ، فتأمل.
قد اختلفت كلمات الاعلام في « الغير » الذي يعتبر الدخول فيه في قاعدة التجاوز ، فقيل : إنه مطلق الغير ، سواء كان من الاجزاء أو من المقدمات ، كالهوي والنهوض ، سواء كان جزء مستقلا أو كان جزء الجزء كآخر السورة بل الآية عند الشك في أولها.
وحيث إن الاخذ بعموم الغير بهذه المثابة ينافي قوله علیه السلام في رواية إسماعيل « وإن شك في السجود بعدما قام فليمض كل شيء شك فيه مما قد جاوزه الخ » (2) فإنه لو كان يكفي مطلق الدخول في الغير لم يكن وجه للتحديد في القيام عند الشك في السجود لان النهوض إلى القيام أقرب من
ص: 633
السجود إلى القيام ويصدق على النهوض أنه غير السجود فالتحديد بالقيام ينافي عموم « الغير » التزم صاحب هذا القول بأن رواية إسماعيل تكون مخصصة لعموم « الغير » فيكون النهوض إلى القيام خارجا عن العموم.
ولما كان الالتزام بالتخصيص في غاية الوهن والسقوط - بداهة أن قوله علیه السلام في الرواية « كل شيء شك فيه مما قد جاوزه » إنما سيق لبيان الكبرى الكلية فلابد وأن يكون قوله علیه السلام « شك في السجود بعد ما قام » من صغريات تلك الكبرى ولا يمكن إخراجه عنها - قال بعض الاعلام بخروج المقدمات عن عموم « الغير » مع الالتزام بالعموم بالنسبة إلى الاجزاء المستقلة وأجزاء الاجزاء.
وقيل : بخروج أجزاء الاجزاء عن العموم أيضا ويختص بالاجزاء المستقلة بالتبويب التي رسم لكل منها باب على حدة عند تدوين كتاب الصلاة كتكبيرة الاحرام والقراءة والركوع والسجود والتشهد ونحو ذلك - فلا يعم المقدمات ولا أجزاء الاجزاء ، فلو شك المصلي في أول السورة وهو في آخرها يلزمه الرجوع إليها وإعادة السورة من أولها (1).
وهذا هو الأقوى ، لان شمول قوله علیه السلام « كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه » للشك في الاجزاء إنما كان بعناية التبعد والتنزيل ولحاظ الاجزاء في المرتبة السابقة على التركيب ، فإنه في تلك المرتبة يكون كل جزء من أجزاء الصلاة وأجزاء أجزائها من الآيات والكلمات
ص: 634
بل الحروف شيئا مستقلا في مقابل الكل. وأما في مرتبة التأليف والتركب : لا يكون الجزء شيئا مستقلا في مقابل الكل ، بل شيئية الجزء تندك في شيئية الكل ، كما تقدم. فدخول الاجزاء في عموم « الشيء » في عرض دخول الكل لا يمكن إلا بعناية التعبد والتنزيل. وحينئذ لابد من الاقتصار على مورد التنزيل ، والمقدار الذي قام الدليل فيه على التنزيل هو الاجزاء المستقلة بالتبويب ، فان عمدة ما ورد في عدم الاعتناء عند الشك في أجزاء الصلاة هو صحيحة « زرارة » ورواية « إسماعيل بن جابر » والمذكور فيهما هو الاجزاء المستقلة بالتبويب ، ففي صحيحة زرارة ، قال : « قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام رجل شك في الاذان وقد دخل في الإقامة » إلى أن قال : « قلت : رجل شك في الركوع وقد سجد؟ قال علیه السلام يمضي في صلاته ، ثم قال : يا زرارة إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشيء » (1).
وفي رواية إسماعيل بن جابر ، قال : « قال أبو جعفر : إن شك في الركوع بعدما سجد فليمض ، وإن شك في السجود بعدما قام فليمض ، كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه » (2).
وبعدما كان الظاهر من صدر الروايتين هو الاجزاء المستقلة - كالتكبيرة والقراءة والركوع والسجود فلا سبيل إلى دعوى عموم « الشيء » المذكور في الذيل للمقدمات وأجزاء الاجزاء ، فان الصدر يقتضي تضييق دائرة مصب عموم « الشيء » وإطلاق « الغير » المذكور في الذيل ، فلا يعم أول السورة وآخرها أو أول الآية وأخرها ، وإلا كان ينبغي تعميمه لأول الكلمة وآخرها ، مع أن الظاهر أنه لا قائل به.
ص: 635
فالقدر الثابت من الدليل هو جريان قاعدة التجاوز في خصوص الاجزاء المستقلة بالتبويب ، ولا تجري قاعدة التجاوز عند الشك في أول السورة مع كون المكلف في آخرها ، فضلا عن الشك في أول الآية وهو في آخرها ، أو أول الذكر وهو في آخره ، فتأمل جيدا.
الأول : قد عرفت : أن مقتضى رواية « زرارة » و « إسماعيل بن جابر » خروج المقدمات من الهوي والنهوض عن عموم قاعدة التجاوز ، إلا أنه قد ورد في بعض الروايات عدم الالتفات إلى الشك في الركوع بعد الهوي إلى السجود.
ففي رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه ، قال : « قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع؟ قال علیه السلام قد ركع » (1) وهذا بظاهره ينافي ما ذكرناه من خروج المقدمات عن عموم القاعدة.
وحكي عن بعض : أنه حمل قوله علیه السلام في رواية زرارة وإسماعيل بن جابر : « شك في الركوع وقد سجد - أو - بعدما سجد » على الهوي إلى السجود ، ولا يخفى بعده.
فالأولى أن يقال : إن للهوي إلى السجود مراتب ، فإنه من مبدء التقوس إلى وضع الجبهة على الأرض يكون كله هويا ، فيحمل الهوي في رواية « عبد الرحمن » على آخر مراتبه الذي يتحقق به السجود ، فيرتفع التعارض بين الأدلة (2) ولا يخفى : أن حمل رواية « عبد الرحمن » على ذلك أقرب من حمل
ص: 636
السجود على الهوي ، فإنه لا يلزم من ذلك سوى تقييد إطلاق الهوي وحمله على المرتبة الأخيرة ، فلا عبرة بالهوي قبل وضع الجبهة على الأرض.
الامر الثاني : مقتضى ما ذكرناه من أن المراد من « الغير » الذي يعتبر الدخول فيه هو الجزء المترتب على المشكوك فيه بحسب ما قرره الشارع ، هو جريان قاعدة التجاوز لو شك في الحمد عند الاشتغال بالسورة ، أو شك في السجود في حال التشهد ، لان كلا من السورة والتشهد مترتب على الحمد والسجود. ولكن الذي يظهر من روايتي « زرارة » و « إسماعيل بن جابر » عدم جريان قاعدة التجاوز في الفرضين ، فان المذكور في رواية زرارة هو الشك في القراءة بعد الركوع ، والمذكور في رواية إسماعيل بن جابر هو الشك في السجود بعد القيام ، ولم يذكر فيهما التشهد والسورة.
هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إن عدم ذكر التشهد في رواية « إسماعيل » لمكان أن الامام علیه السلام في مقام بيان الشك في الركوع والسجود من الركعة الأولى التي لا تشهد فيها ، فيكون الشك في السجود من الركعة الثانية في حال التشهد داخلا في الكبرى الكلية المذكورة في ذيل الرواية ، وهي قوله : « كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه ». وأما عدم ذكر السورة في رواية زرارة : فيمكن أن يقال : إن المراد من الشك في القراءة الشك في مجموع الحمد والسورة ، وأما الشك في الحمد وحدها بعد الاشتغال بالسورة : فلم يتعرض السائل لفرضه ، بل ذكره الامام علیه السلام في الكبرى الكلية المذكورة في الذيل وهي قوله علیه السلام « إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشيء » فتأمل جيدا.
ص: 637
الامر الثالث : لا فرق في « الغير » المترتب على الجزء المشكوك فيه بين أن يكون من الاجزاء الواجبة أو المستحبة ، بل لا فرق بين أن يكون جزء مستحبا أو كان مستحبا في حال الصلاة وإن كان خارجا عن حقيقتها - كالقنوت على أحد الوجهين فيه - ويدل على ذلك قوله في صحيحة زرارة « رجل شك في الاذان وقد دخل في الإقامة؟ قال علیه السلام يمضي » (1) فان الأذان والإقامة من المستحبات الخارجة عن الصلاة المتقدمة عنها ، فالمستحبات الداخلية أولى بذلك.
الامر الرابع : الشك في التشهد بعد القيام يندرج في الكبرى الكلية المذكورة في الروايات وإن لم يصرح به.
الامر الخامس : لو شك في القراءة في حال الهوي إلى الركوع قبل الوصل إلى حده ، فان قلنا : إن الهوي من القيام إلى الركوع من المقدمات كالهوي إلى السجود ، فلا إشكال في وجوب العود إلى القراءة ، وإن قلنا : إن الهوي ليس من المقدمات بل هو من واجبات الركوع كما هو المختار - لان لازم كون القيام المتصل بالركوع من الأركان هو وجوب الهوي من مبدء التقوس إلى حد الركوع - فالظاهر عدم وجوب العود إلى القراءة ، لصدق الدخول في الغير ، والمسألة لا تخلو عن إشكال.
* * *
ص: 638
اعلم : أن الشرائط المعتبرة في الصلاة على أقسام ثلاثة :
الأول : ما كان شرطا للصلاة في حال الاجزاء ، كالطهور والستر والاستقبال.
الثاني : ما كان شرطا عقليا لنفس الاجزاء ، بمعنى أنه مما يتوقف عليه تحقق الجزء عقلا ، كالموالاة بين حروف الكلمة ، فإنه لا يكاد يصدق على الحروف المنفصلة عنوان الكلمة.
الثالث : ما كان شرطا شرعيا للاجزاء ، كالجهر والاخفات بالقراءة ، بناء على كونها شرطا للقراءة لا للصلاة في حال القراءة ، كما لا يبعد دلالة قوله تعالى : « وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ » (1) على كونهما شرطا للصلاة.
وهو أن المجعول في قاعدة التجاوز والفراغ إنما هو البناء على وقوع الجزء المشكوك فيه ، فإنها لو لم تكن من الامارات فلا أقل من كونها من الأصول المحرزة ، كما يدل عليه رواية حماد بن عثمان قال : « قلت : لأبي عبد اللّه علیه السلام أشك وأنا ساجد فلا أدري ركعت أم لا ، فقال علیه السلام قد ركعت » (2) وكقوله علیه السلام في بعض أخبار الوضوء : « هو حين يتوضأ
ص: 639
أذكر » (1) إلى غير ذلك من الاخبار الظاهرة في كون القاعدة محرزة لوقوع المشكوك فيه ، كالاستصحاب.
ولا ينافي ذلك قوله علیه السلام في بعض الاخبار : « كلما مضى من صلاتك وطهورك فامضه كما هو » (2) فان عدم دلالة ذلك على التنزيل والاحراز لا يضر بدلالة الاخبار الاخر عليه.
وبالجملة : ملاحظة الاخبار توجب القطع بكون الحكم المجعول في الباب هو البناء على وقوع المشكوك فيه ، من غير فرق في ذلك بين قاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ. وكان شيخنا الأستاذ - مد ظله - قبل هذا يميل إلى عدم كون قاعدة الفراغ من الأصول المحرزة ، إلا أنه لما كان ذلك ينافي وحدة الكبرى المجعولة الشرعية التزم بأن قاعدة الفراغ كقاعدة التجاوز من الأصول المحرزة ، وهو الحق الذي لا محيص عنه.
إذا تبين ذلك ، فنقول : قد عرفت أن الشروط على أقسام ثلاثة :
الأول : ما يكون شرطا للصلاة في حال الاجزاء ، وهو أيضا على قسمين : فإنه تارة : يكون للشرط محل مقرر شرعي ، كما لا يبعد أن تكون الطهارة الحدثية كذلك ، فان قوله تعالى : « إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ » الخ (3) يدل على أن محل الطهارة قبل الصلاة. وأخرى : لا يكون للشرط محل شرعي كالاستقبال والستر ، فان المعتبر شرعا وقوع الاجزاء في حال الاستقبال والستر من دون أن يكون لهما محل شرعي ، غايته أنه يتوقف عقلا تحقق الاستقبال والستر قبل الصلاة مقدمة ليقع التكبير في حال الاستقبال والستر. وعلى كلا
ص: 640
التقديرين : فتارة يشك في حصول الشرط في أثناء المشروط ، وأخرى يشك فيه بعد الفراغ عنه.
فان كان الشك في الشرط في أثناء المشروط وكان للشرط محل مقرر شرعي : فلا إشكال في جران قاعدة التجاوز فيه ، ويترتب عليه جميع آثار وجود الشرط كما لو أحرز الشرط بأصل آخر ، وهذا في الشرائط التي لا تتعلق بها إرادة مستقلة بل تتعلق بها الإرادة بتبع تعلقها بالمشروط واضح ، ولكن الظاهر أن لا يكون له مثال. وأما الشرائط التي يمكن أن تتعلق بها إرادة مستقلة - كما إذا كان عمل من الأعمال المستقلة المستحبة أو الواجبة شرطا لعمل آخر ، كالطهارة الحدثية وكصلاة الظهر ، فان كلا منهما مما يمكن أن تتعلق به الإرادة لا بتبع إرادة المشروط بل بنفسه ، ومع ذلك يكون وجوده شرطا لصحة المأمور به ، فالطهارة شرط لمطلق الصلوات ، وصلاة الظهر شرط لصحة صلاة العصر حسب ما دلت عليه أدلة الترتيب - ففي جريان قاعدة التجاوز عند الشك في الشرط في أثناء المشروط وعدمه وجهان.
وعلى تقدير جريان القاعدة : ففي جواز ترتيب جميع آثار وجود الشرط مطلقا حتى بالنسبة إلى غير ما بيد المكلف من المشروط أو وجوب الاقتصار على ترتيب آثار وجود الشرط بالنسبة إلى خصوص ما بيده من المشروط ، وجهان.
والثمرة بين الوجوه الثلاثة مما لا تكاد تخفى.
فإنه لو قلنا بعدم جريان قاعدة التجاوز كان اللازم في مثال الطهارة قطع الصلاة واستينافها بعد تجديد الطهارة لو شك فيها في أثناء الصلاة ، وفي مثال صلاه الظهر والعصر العدول بالنية وإتمامها ظهرا لو شك في صلاة الظهر في أثناء صلاة العصر. وإن قلنا بجريان القاعدة فبناء على وجوب ترتيب جميع آثار وجود الشرط مطلقا حتى بالنسبة إلى غير ما بيد المكلف : كان اللازم جواز فعل كل مشروط بالطهارة بلا تجديد الوضوء في مثال الطهارة وعدم وجوب
ص: 641
الاتيان بصلاة الظهر بعد إتمام العصر ولو مع بقاء الوقت.
وأما بناء على وجوب الاقتصار على خصوص ما بيده : فغاية ما يلزم جواز إتمام ما بيده من الصلاة مع الشك في الطهارة وجواز إتمامها عصرا مع الشك في الظهر ، وأما بعد الاتمام : فيجب تجديد الطهارة للصلوات الاخر ويجب فعل الظهر مع بقاء الوقت.
هذا ، والانصاف : أن المسألة لا تخلو عن الاشكال ، فان مقتضى كون قاعدة التجاوز من الأصول المحرزة هو وجوب ترتيب جميع آثار وجود الشرط مطلقا ، ففي المثالين : لا يجب تجديد الطهارة للصلوات كما لو كان مستصحب الطهارة ، ولا يجب فعل الظهر بعد إتمام العصر كما لو فرض أنه قام أصل محرز على فعل صلاة الظهر. ولكن الالتزام بذلك في غاية الاشكال ، كما أن الالتزام بعدم جريان قاعدة التجاوز أصلا - بدعوى أن مورد القاعدة هو الاجزاء والشرائط التي لا تتعلق بها إرادة مستقلة - أشكل ، فان الشك في الطهارة الحدثية لا يقصر عن الشك في الأذان والإقامة مع أنهما من المستحبات الخارجة عن الصلاة. بل الذي يعتبر في القاعدة هو إمكان أن يتعلق بالمشكوك إرادة تبعية ، لا أنه لابد وأن يكون كذلك.
والذي يترجح في النظر هو جريان القاعدة بالنسبة إلى خصوص ما بيد المكلف من الصلاة ، ففي المثالين : يمضي على صلاته ولو مع الشك في الطهارة ويتم صلاته عصرا وبعد الصلاة يجب عليه تجديد الوضوء للصلوات الاخر ويجب عليه فعل الظهر مع بقاء الوقت ، والمسألة بعد تحتاج إلى مزيد تأمل. هذا إذا شك في الشرط في أثناء الصلاة.
وإن شك فيه بعد الفراغ : فلا إشكال في جريان قاعدة الفراغ فيه ، بل يمكن جريان قاعدة التجاوز ، فان الشك في الفراغ مسبب عن الشك في الشرط ، فتجري قاعدة التجاوز بالنسبة إلى نفس الشرط إذا كان للشرط محل
ص: 642
مقرر شرعي ، كما هو مفروض الكلام.
ودعوى : اختصاص قاعدة التجاوز بما إذا كان الشك في أثناء العمل مما لا شاهد عليها ، بل الذي يعتبر في قاعدة التجاوز هو أن يكون الشك فيما قد جاوز المكلف محله ودخل في غيره ، وأما كون الغير متصلا بالمشكوك : فلا يعتبر ، فإنه لا إشكال في جريان قاعدة التجاوز لو شك المكلف في أول الصلاة وهو في آخرها.
فالأقوى : جريان قاعدة التجاوز في مفروض الكلام. وفي جواز ترتيب جميع آثار وجود الشرط حتى بالنسبة إلى غير الصلاة التي فرغ عنها المكلف أو وجوب الاقتصار على خصوص تلك الصلاة؟ إشكال ، تقدم الكلام فيه. هذا كله إذا كان للشرط محل مقرر شرعي.
وإن لم يكن للشرط محل شرعي ، كالستر والاستقبال :
فان كان الشك فيه في أثناء الصلاة : فالأقوى عدم جريان قاعدة التجاوز فيه ، لأنه ليس له محل شرعي لكي يصح إضافة التجاوز إليه ، فلا يندرج في قوله علیه السلام « كل شيء شك فيه مما قد جاوزه الخ » والمحل العادي قد عرفت ما فيه.
فما ينقل عن المدارك وغيره - من أن الشك في الشروط عند الدخول في المشروط أو الكون على هيئة الداخل حكمه حكم الشك في الاجزاء في عدم الالتفات فلا اعتبار بالشك في الوقت والقبلة واللباس والطهارة وأمثالها بعد الدخول في الغاية والمشروط - ضعيف غايته.
وإن كان الشك فيه بعد الفراغ : فلا إشكال في جريان قاعدة الفراغ.
هذا كله إذا شك في القسم الأول من الشروط ، وهو ما كان شرطا للصلاة في حال الاجزاء.
القسم الثاني : ما يكون شرطا عقليا لنفس الجزء ، كالموالاة بين حروف
ص: 643
الكلمة. ولا إشكال أيضا في جريان قاعدة التجاوز عند الشك فيه ، لأن الشك في تحقق الموالاة بين حروف الكلمة يرجع إلى الشك في وجود الكلمة وقاعدة التجاوز تحرز الوجود ، وفرق واضح بين الموالاة في حروف الكلمة وبين الموالاة في كلمات الآية ، فان الموالاة بين حروف الكلمة مما يتوقف عليها وجود الكلمة عقلا ، بخلاف الموالاة بين كلمات الآية ، فإنه لا يتوقف عليها وجود الآية عقلا مطلقا ، من غير فرق في ذلك بين الموالاة بمعنى عدم الفصل الطويل الماحي لصورة الصلاة وبين الموالاة بمعنى التتابع العرفي بناء على اعتبارها زائدا على اعتبار عدم الفصل الطويل الماحي للصورة - كما هو قول جماعة - فإنه لا يكاد يشك في تحقق الآية عقلا ولو مع القصل الطويل بين كلماتها ، فالموالاة بين كلمات الآية بكلا وجهيها إنما تكون من الشروط الشرعية لا العقلية. هذا ، مضافا إلى أن الموالاة بين كلمات الآية إنما تكون من شرائط الصلاة كالستر والاستقبال ، وليست من شرائط الآية ، بخلاف الموالاة بين حروف الكلمة ، فإنها من شرائط نفس الكلمة.
فما يظهر من الشيخ قدس سره من اتحاد حكم الموالاة بين حروف الكلمة مع الموالاة بين كلمات الآية ، ليس على ما لا ينبغي ، بل الأقوى اختلاف حكمهما ، فإنه عند الشك في الموالاة بين حروف الكلمة تجري قاعدة التجاوز ، لما عرفت : من أن الشك فيها يرجع إلى الشك في وجود الكلمة.
وأما الشك في الموالاة بين كلمات الآية : فان كان الشك فيها بالمعنى المقابل لمحو الصورة فهو يرجع إلى الشك في عروض المبطل ، لان الفصل الطويل الماحي للصورة من المبطلات مطلقا ولو وقع عن نسيان ، فيكون حكمه حكم الشك في سائر المبطلات العمدية والسهوية ، وفي جريان استصحاب صحة الاجزاء السابقة وعدمه جريانه كلام تقدم تفصيله.
وإن كان الشك فيها بالمعنى المقابل للتتابع العرفي فالقطع بفواتها سهوا
ص: 644
لا يوجب البطلان ، فضلا عن الشك فيه ، فان المفروض : أنها شرط للصلاة في حال القراءة والأذكار ، وبمجرد القراءة بفوت محلها ، فان العود إلى القراءة والذكر لتدارك الموالاة يوجب الزيادة العمدية ، فلا يجوز العود إلى القراءة لتدارك الموالاة.
وعلى كل حال : لا أثر لجريان قاعدة التجاوز عند الشك في فوات الموالاة بين الكلمات بكلا معنييها ، فما في كلام الشيخ قدس سره من عطف الموالاة بين الكلمات على الموالاة بين حروف الكلمة ، مما لا وجه له.
القسم الثالث من الشروط ما يكون شرطا شرعيا للجزء ، ولم نعثر له على مثال سوى الجهر والاخفات بالقراءة على أحد الوجهين فيهما والبحث عن الشك في الجهر والاخفات بالقراءة قليل الجدوى ، لورود النص على عدم وجود العود إلى القراءة عند نسيانهما ولو مع التذكر قبل الركوع ، فعدم وجود العود إليها مع الشك فيهما أولى. ولكن مع ذلك ينبغي بيان حكم الشك في هذا القسم من الشروط ، لعل المتتبع يعثر على مثال له غير الجهر والاخفات.
فنقول : لو شك في فوات ما يكون شرطا شرعيا للجزء ، فان كان الشك بعد الدخول في الركن فلا إشكال في الصحة ، لان العلم بفواته نسيانا بعد الدخول في الركن لا أثر له ، فضلا عن الشك في الفوات. وإن كان الشك قبل الدخول في الركن وبعد الدخول في الغير المترتب على الجزء المشروط بالمشكوك فيه فالأقوى : جريان قاعدة التجاوز فيه ، بل يصح جريان القاعدة في كل من الشرط والمشروط ، لأن الشك في وجود الشرط الشرعي يستتبع الشك في وجود المشروط بوصف كونه صحيحا ، والمفروض : أن المكلف قد دخل في الغير المترتب على المشكوك فيه ، فهو قد تجاوز محل الشرط والمشروط.
فتحصل : أنه لا فرق في جريان قاعدة التجاوز بين الشك في الشرط العقلي المقوم للحقيقة وبين الشك في الشرط الشرعي للجزء. ودعوى : أن
ص: 645
قاعدة التجاوز لا تجري في الشرط الذي لا يستقل بالوجود ، مما لا شاهد عليها ، لصدق التجاوز على ما يكون من الكيفيات.
وبما ذكرنا : يظهر الاشكال فيما أفاده الشيخ قدس سره في الموضع السادس ، قال قدس سره « إن الشك في صحة الشيء المأتي به حكمه حكم الشك في الاتيان ، بل هو هو ، لان مرجعه إلى الشك في وجود الشيء الصحيح ، ومحل الكلام مالا يرجع فيه الشك إلى الشك في ترك بعض ما يعتبر في الحصة ، كما لو شك في تحقق الموالاة المعتبرة في حروف الكلمة أو كلمات الآية ، لكن الانصاف : أن الالحاق لا يخلو عن إشكال الخ ».
ولا يخفى : أن كلام الشيخ قدس سره في هذا المقام لا يخلو عن اضطراب ، بل لم يعلم المراد منه ، فان الشك في مطلق الشروط يرجع إلى الشك في ترك بعض ما يعتبر في الصحة ، فلا فرق من هذه الجهة بين ما ذكره في الموضع الخامس وما ذكره في الموضع السادس ، إلا أن يقال : إن البحث في الموضع الخامس كان مخصوصا بما يكون شرطا للصلاة في حال الاجزاء - كالطهارة والستر والاستقبال - وفي الموضع السادس يكون البحث عن الشك فيما يكون شرطا لنفس الاجزاء ، كالموالاة.
ولكن مع ذلك لا تخلو العبارة عن شيء ، فإنه لم يعلم أن محل كلامه في الموضع السادس الشروط التي يتوقف عليها وجود الجزء عقلا - كما يشهد له التمثيل بالموالاة بين حروف الكلمة - أو أن محل كلامه في الشروط الشرعية. ولكن سوق العبارة يقتضي أن يكون محل الكلام خصوص الشروط العقلية ، فراجع العبارة وتأمل فيها.
وعلى كل حال : لا وجه للاشكال في الالحاق ، فإنه لا مجال للتأمل في جريان قاعدة التجاوز في كل من الشروط العقلية والشرعية.
ص: 646
يعتبر في قاعدة الفراغ والتجاوز أن يكون الشك في صحة العمل راجعا إلى كيفية صدوره وانطباقه على المأمور به بعد العلم بمتعلق التكليف بأجزائه وشرائطه وموانعه موضوعا وحكما ، فلو كان الشك في الصحة لأجل الشك في متعلق التكليف من جهة الشبهة الحكمية أو الموضوعية لا تجري فيه قاعدة التجاوز والفراغ ، بل لابد من الرجوع إلى ما تقتضيه الأصول العملية حسب اختلاف المقامات ، فان قاعدة الفراغ والتجاوز إنما جعلت لعلاج الشك في صحة العمل المأتي به من حيث انطباقه على المأمور به ، فلابد وأن يكون الشك متمحضا في الانطباق ، فلا تجري القاعدة إذا كان الشك في الصحة من حيثية أخرى غير حيثية الانطباق وإن حصل منه الشك في الانطباق أيضا.
وضابط كون الشك متمحضا في الانطباق هو أن يكون الشك بعد العمل ، بمعنى أنه يتوقف حصول الشك على صدور العمل ، بحيث لولا العمل لم يحصل الشك في الصحة والفساد ، بخلاف ما إذا لم يكن الشك متمحضا في الانطباق ، فإنه يمكن فرض حصول الشك ولو مع عدم فرض صدور العمل. إذا عرفت ذلك فاعلم : أن الشك في صحة العمل المأتي به وعدمها يتصور على وجوه :
فتارة : يشك في الصحة والفساد مع كون المكلف ملتفتا حال الشروع في العمل إلى ما يعتبر فيه من الاجزاء والشرائط وما ينبغي أن يقع عليه العمل ، غايته أنه بعد العمل طرء الشك في وقوعه على ما كان ينبغي أن يقع عليه ، لاحتمال أنه حصل له الغفلة وترك جزء أو شرطا نسيانا.
وأخرى : يشك في صحة العمل وفساده مع عدم التفات المكلف حال
ص: 647
الشروع إلى ما ينبغي وقوع العمل عليه ، بل عمل عملا واحتمل مصادفته للواقع عن غير اختيار ، بحيث لو كان حين العمل ملتفتا لكان أيضا شاكا في مطابقة ما يأتي به للمأمور به ، كما إذا لم يحرز جهة القبلة بل توجه إلى جهة وصلى نحوها غفلة وبعد الصلاة التفت إلى حاله واحتمل أن تكون تلك الجهة هي القبلة ، وكما في الجاهل المقصر إذا عمل عملا بلا تقليد واجتهاد وبعد ذلك احتمل مطابقة ما أتى به في حال الجهل لفتواه أو فتوى من يجب عليه تقليده في الحال ، وهذا الوجه يتصور على وجهين :
أحدهما : أنه حال الشك يعلم صورة العمل وكيفية وقوعه ، كما إذا علم أن الجهة التي صلى نحوها هي هذه الجهة الخاصة ويشك في كونها هي القبلة.
ثانيهما : أنه لا يعلم صورة وقوع العمل وأن الجهة التي صلى نحوها أي من الجهات الأربع.
وثالثة : يشك في صحة العمل وفساده بعد الفراغ عنه ، مع أن المكلف قبل العمل كان ملتفتا إلى أنه لا يجوز له الدخول في العمل لكونه شاكا في أنه واجد لشرط صحة العمل أو فاقد له وكان حكمه قبل العمل على خلاف ما تقتضيه قاعدة الفراغ والتجاوز ، كما إذا كان قبل الصلاة مستصحب الحدث ثم غفل وصلى ، وهذا الوجه أيضا يتصور على وجهين :
أحدهما : أنه بعد الصلاة يحتمل أن يكون قد توضأ قبل الصلاة بعدما شك في الطهارة.
ثانيهما : أنه لا يحتمل ذلك ، بل يعلم أنه لم يتوضأ قبل الصلاة بعدما شك في الطهارة.
ورابعة : يشك في صحة العمل وفساده بعد العمل مع كونه قبل العمل كان شاكا في أنه واجد لشرط الصحة ، ولكن كان يجوز له الدخول في العمل بحيث كان حكمه قبل العمل موافق لما تقتضيه قاعدة الفراغ ، كما إذا كان قبل
ص: 648
الصلاة مستصحب الطهارة أو قامت عنده البينة عليها وبعد الصلاة زال السبب المجوز للدخول في العمل إما لعلمه بفسق الشاهدين وإما لشكه في عدالتهما.
فهذه جملة ما يتصور من الوجوه التي يمكن أن يقع عليها لا شك في صحة العمل المأتي به وفساده.
ولا إشكال في جريان قاعدة الفراغ والتجاوز في الوجه الأول ، بل هو المتيقن من مورد القاعدة.
وكذلك لا ينبغي الاشكال في جريان القاعدة في الوجه الأول من الوجه الثالث ، وهو ما إذا كان قبل الصلاة مستصحب الحدث ولكن احتمل أنه توضأ وصلى ، بداهة أن استصحاب الحدث لا يزيد حكمه على العلم بالحدث ، فكما أنه لو كان عالما بالحدث واحتمل بعد الفراغ من الصلاة أنه توضأ قبلها تجري في حقه قاعدة الفراغ ، كذلك لو كان مستصحب الحدث.
وأما الوجه الثاني من الوجه الثالث : وهو ما إذا لم يحتمل الوضوء بعد استصحاب الحدث ، فالأقوى عدم جريان القاعدة فيه (1) لان قاعدة الفراغ إنما تكون حاكمة على الاستصحاب الجاري بعد العمل لا على الاستصحاب
ص: 649
الجاري قبل العمل ، لأنه لا موضوع لها قبل العمل ، ولما كان المكلف قبل الصلاة مستصحب الحدث يكون في حكم من دخل في الصلاة عالما بالحدث ، فلا تجري في حقه قاعدة التجاوز.
ولا ينتقض ذلك بالوجه الأول ، فان جريانها فيه ليس لأجل حكومتها على استصحاب الحدث الجاري قبل الصلاة ، بل لأجل كون المكلف يحتمل الوضوء قبل الصلاة بعد استصحاب الحدث ، ولا دافع لهذا الاحتمال إلا استصحاب الحدث المستصحب ، وهذا الاستصحاب إنما يجري بعد الصلاة ، فتكون القاعدة حاكمة عليه ، وأين هذا مما إذا لم يحتمل الوضوء بعد استصحاب الحدث؟ فالفرق بين الوجهين مما لا يكاد يخفى.
بقي الكلام في حكم الوجه الثاني بكلا وجهيه والوجه الرابع.
أما الوجه الأول من الوجه الثاني : وهو ما إذا لم يعلم المكلف بعد الفراغ صورة العمل وكيفية وقوعه - كما إذا لم يعلم الجهة التي صلى نحوها ، أو لم يعلم أنه حرك الخاتم في يده أو لم يحركه ، أو لم يعلم مطابقة عمله لفتوى من يجب عليه تقليده ، ونحو ذلك من الأمثلة - فمقتضى إطلاق قوله علیه السلام « كلما مضى من صلاتك وطهورك فامضه كما هو » عدم الاعتناء بالشك. ولكن مقتضى التعليل الوارد في بعض أخبار الوضوء وهو قوله علیه السلام « هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك » عدم شمول القاعدة لمفروض الكلام ، فان المفروض : أن المكلف دخل في العمل غفلة عن غير التفات ، فلم يكن هو حين العمل أذكر من حين الشك. ولكن هذا مبني على كون التعليل لإفادة الكبرى الكلية ليكون علة للحكم فيدور الحكم مداره ، وللمنع عن كونه علة للحكم مجال ، بل لا يبعد أن يكون لبيان حكمة التشريع ، لان الغالب كون المكلف حين العمل أذكر من حين الشك ، فالتعليل ورد مورد الغالب ، وفي مثله لا يستفاد منه الكبرى الكلية ، فتأمل جيدا.
ص: 650
وأما الوجه الثاني من الوجه الثاني : وهو ما إذا علم المكلف صورة العمل وأنه صلى إلى هذه الجهة المعينة أو علم أنه لم يحرك الخاتم في يده ولكن يحتمل وصول الماء تحته ، فالأقوى : عدم جريان القاعدة فيه ، فان الشك فيه لا يتمحض في جهة انطباق المأتي به على المأمور به ، بل الشك في الصحة والفساد في مثله إنما يكون لأمر خارج عن حيثية الانطباق ، فان الشك في وصول الماء تحت الخاتم أو كون هذه الجهة المعينة هي القبلة لا ربط له بعمل المكلف ، بل الشك في ذلك حاصل ولو لم يصدر من المكلف عمل ، وهذا بخلاف الوجه الأول ، فان الشك فيه متمحض في الانطباق وعدمه ، لأن الشك في وصول الماء تحت الخاتم بعد تحريكه أو الشك في كون الجهة التي صلى نحوها هي القبلة لا يكون إلا بعد صدور العمل عن المكلف.
وحاصل الكلام : أنه فرق واضح بين ما إذا عمل الجاهل مدة ثم شك في كيفية عمله وأنه كانت صلاته مع السورة أو بلا سورة أو أنه صلى مع المشكوك أو لا ، وبين ما إذا علم المكلف أنه صلى بلا سورة أو صلى في الثوب المعين المشكوك كونه من المشكوك (1) فان الشك في الأول يتمحض في انطباقه على فتوى من يقول ببطلان الصلاة مع المشكوك أو بلا سورة ، وفي الثاني يكون لأمر خارج وإن حصل منه الشك في انطباق العمل على الواقع المأمور به ، وقد عرفت : أن موضوع قاعدة الفراغ هو الشك المتمحض في الانطباق وعدمه.
ص: 651
وبما ذكرنا ظهر : عدم جريان قاعدة الفراغ في الوجه الرابع ، فان الشك فيه أيضا لا يتمحض في الانطباق ، لان قيام البينة مثلا قبل الصلاة على كون هذه الجهة هي القبلة إنما تجدي في صحة الصلاة إذا كانت محفوظة بعد الصلاة ، والمفروض : أنه بعد الصلاة ارتفعت البينة إما لعلم المكلف بفسق الشاهدين وإما لشكه في عدالتهما ، وعلى كلا التقديرين : يرجع شكه إلى الشك في كون هذه الجهة هي القبلة ، فيندرج في الوجه الثاني من الوجه الثاني.
وكذا الكلام فيما إذا كان المكلف عالما بجهة القبلة وبعد الصلاة شك في مطابقة عمله للواقع ، فإنه لا تجري في حقه قاعدة الفراغ أيضا ، لسراية شكه بعد الصلاة إلى ما قبل الصلاة ، ويرجع شكه بالآخرة إلى كون هذه الجهة هي القبلة ، سواء كانت في حال الشك متذكرا لمدرك علمه وأنه حصل من السبب الذي ينبغي حصول العلم منه أو لم يكن متذكرا لمدرك قطعه ويحتمل حصوله عن سبب لا ينبغي الاعتماد عليه ، فان التذكر لمدرك العلم وعدم التذكر لا دخل له بسراية الشك وكونه لجهة أخرى غير جهة الانطباق ، فما استجوده الشيخ قدس سره من التفصيل بين الصورتين - عند التعرض لمدرك قاعدة اليقين بعد بيان عدم شمول أخبار الاستصحاب لها - مما لا وجه له ، فراجع وتأمل جيدا.
لا تجري قاعدة الفراغ والتجاوز في حق من يحتمل الترك عمدا ، فان الظاهر من قوله علیه السلام « كل شيء شك فيه مما قد جاوزه الخ » وقوله علیه السلام « كلما مضى من صلاتك وطهورك الخ » هو اختصاص القاعدة بصورة احتمال الترك غفلة عن نسيان ، خصوصا قوله علیه السلام « هو حين
ص: 652
يتوضأ أذكر منه حين يشك » فان مقابل الأذكرية هو النسيان لا العمد ، فاحتمال عموم القاعدة لصورة الشك في ترك الجزء أو الشرط عن عمد ضعيف غايته. نعم : يمكن أن يقال إنه تجري في حقه أصالة الصحة ، بناء على تعميم أصالة الصحة لعمل نفسه وعمل غيره. وهذا أيضا لا يخلو عن إشكال ، فان أصالة الصحة في عمل نفسه ترجع إلى قاعدة الفراغ ، للعلم بأنه لم يجعل الشارع للشك في عمل الشخص نفسه قاعدتين ، والمسألة بعد تحتاج إلى مزيد تأمل. هذا تمام الكلام فيما يتعلق بمباحث قاعدة الفراغ والتجاوز.
وتمام الكلام فيها يتم برسم أمور :
لا إشكال في اعتبار أصالة الصحة في عمل الغير وحكومتها على الاستصحاب الجاري في موردها ، سواء قلنا : بأنها من الامارات أو من الأصول. وقد استدل على ذلك بالكتاب والسنة والاجماع وبناء العقلاء والسيرة المستمرة بين المسلمين وبلزوم العسر والحرج مع عدم البناء على الصحة بل اختلال النظام ، وغير ذلك مما يقف عليه المتتبع ، وإن كان أكثرها لا يخلو عن مناقشة بل منع ، حتى لزوم العسر والحرج الذي قيل : إنه عمدة الوجوه التي استدلوا بها على أصالة الصحة ، فان الحاجة إلى أصالة الصحة إنما هي في غير مقام اليد وهو ليس بمثابة يلزم منه العسر والحرج عند عدم البناء
ص: 653
على الصحة (1) فتأمل.
وعلى كل حال : يكفينا الاجماع المحقق ، فإنه لا ينبغي التأمل في انعقاد الاجماع على اعتبار أصالة الصحة في الجملة (2) والظاهر أن يكون نفس أصالة الصحة معقد الاجماع على نحو الكبرى الكلية ، فلا يضر بالتمسك بالاجماع وقوع الاختلاف في بعض الصغريات والموارد الجزئية.
والحاصل : أن الاجماع تارة : ينعقد على الحكم الشرعي في الموارد الجزئية ، وأخرى : ينعقد على عنوان كلي. فان كان الاجماع على الوجه الأول : فلابد من الاقتصار على الموارد التي انعقد فيها الاجماع ولا يجوز التعدي عنها ، وإن كان على الوجه الثاني : فاللازم هو الاخذ باطلاق معقد الاجماع ، كما إذا قام دليل لفظي على ذلك ، فللفقيه الفتوى بالحكم معتمدا على الاجماع ولو في مورد الاختلاف.
والظاهر : أن الاجماع في المقام قام على الوجه الثاني ، كما يظهر ذلك بالمراجعة في كلمات القوم. كما أن الظاهر أن يكون المراد من الصحة في معقد الاجماع الصحة الواقعية ، لا مجرد الصحة عند الفاعل. نعم لو كان المستند في اعتبار أصالة الصحة ظهور حال المسلم في عدم إقدامه على ما هو الفاسد ، كان المراد من الصحة هي الصحة عند الفاعل ، ولكن هذا إنما يتم مع علم الفاعل بما هو الصحيح والفاسد ، وأما مع جهله بذلك : فلا معنى لحمل فعله على الصحيح عنده ، كما لا يخفى.
لا يبعد أن تكون أصالة الصحة في العقود بنفسها معقد الاجماع بالخصوص
ص: 654
مع قطع النظر عن الاجماع على أصالة الصحة في مطلق عمل الغير (1) وحيث إن أصالة الصحة في العقود من المسائل المهمة التي تعم بها البلوى خصوصا في باب الترافع والتخاصم - فان قطع الخصومة وتشخيص المدعي والمنكر يتوقف على تعيين مقدار سعة أصالة الصحة ليكون المنكر من وافق قوله لها - فينبغي بسط الكلام فيها.
فنقول : قد اختلفت كلمات الاعلام في حكومة أصالة الصحة في العقود على جميع الأصول الموضوعية المقتضية لفساد العقد ، والمتحصل من الكلمات أقوال ثلاثة :
الأول : حكومتها على كل أصل يقتضي فساد العقد ، سواء كان الأصل جاريا في شرائط العقد أو في شرائط المتعاقدين أو في شرائط العوضين ، فلو اختلف المتعاقدان في كون العقد واجدا لشرائط الصحة - من العربية والماضوية أو في بلوغ العاقد أو في قابلية أحد العوضين للنقل والانتقال - قدم قول من يدعي الصحة ، ولا تجري أصالة عدم بلوغ العاقد أو عدم كون المال قابلا للنقل والانتقال لو فرض أن في البين أصل موضوعي يقتضي عدم قابلية المال للانتقال ، فتكون أصالة الصحة حاكمة على جميع الأصول السببية والمسببية المقتضية لفساد العقد.
الثاني : حكومتها على خصوص الأصل الذي يقتضي فساد العقد من حيث الشرائط الراجعة إلى تأثيره : من العربية والماضوية ونحو ذلك. فلو كان الشك متمحضا في تأثير السبب وكونه واجدا للشرائط المعتبرة فيه كان الأصل فيه الصحة. وأما لو كان الشك في الصحة والفساد مسببا عن الشك في شرائط المتعاقدين أو شرائط العوضين فلا تجري فيه أصالة الصحة.
ص: 655
والحاصل : أن أصالة الصحة إنما تكون حاكمة على خصوص أصالة عدم النقل والانتقال وبقاء المال على ملك مالكه ، فإذا لم يكن في مورد الشك إلا أصل عدم الانتقال كانت أصالة الصحة حاكمة عليه. وأما إذا كان في مورد الشك أصل موضوعي آخر يقتضي الفساد - كأصالة عدم بلوغ العاقد أو عدم قابلية المال للنقل والانتقال - فلا تجري فيه أصالة الصحة.
الثالث : حكومتها على كل أصل يقتضي فساد العقد ، إلا إذا كان الشك في الصحة والفساد مسببا عن الشك في الشرائط العرفية للعوضين أو المتعاقدين ، كمالية العوضين ورشد المتعاقدين في الجملة.
وقد يختلف بعض الشروط حسب اختلاف العقود ، فرب شرط يكون من الشرائط العرفية لعقد ومن الشرائط الشرعية لعقد آخر ، كالبلوغ ، فإنه في عقد الضمان يمكن أن يقال : إن البلوغ من الشرائط العرفية للضامن ، بخلاف عقد البيع. والسر في ذلك : هو أن حقيقة الضمان إنما هو تحويل ما في الذمم وانتقال المال من ذمة إلى ذمة ، والعرف لا يرى للصبي ذمة ، فكان البلوغ من الشرائط العرفية في عقد الضمان ، بخلاف البيع ، فان حقيقته هو المبادلة بين المالين ولو كان المبيع أو الثمن كليا ، نعم : لازم كون أحدهما كليا هو اشتغال الذمة به ، والبلوغ لا يكون من الشرائط العرفية للمبادلة بين المالين. ولعل هذا هو الوجه في تفرقه بعض الأصحاب بين دعوى البلوغ في عقد الضمان وبين دعوى البلوغ في عقد البيع ، حيث بنوا على تقديم قول من يدعي عدم البلوغ في الأول لأصالة عدمه ، وتقديم قوله من يدعي البلوغ في الثاني لأصالة الصحة ، فتأمل.
ثم إن قول المحقق الثاني قدس سره « إن الأصل في العقود الصحة بعد استكمال أركانها » إلى آخر ما نقله الشيخ قدس سره يحتمل فيه أحد الوجهين الأخيرين ، فان كان المراد من الأركان الأعم من الشرايط العرفية والشرعية ينطبق على الوجه الثاني ، وإن كان المراد من الأركان خصوص الشرائط
ص: 656
العرفية ينطبق على الوجه الثالث ، ويحتمل الوجهان في كلام العلامة أيضا.
هذا ، والتحقيق : أن أصالة الصحة إنما تقدم على أصالة بقاء المال على ملك مالكه ولا تقدم على سائر الأصول الموضوعية الاخر (1)كذا في النسخة، لكن يظهر بالتأمّل أنّ الصحيح «للترتّب على السبب» (المصحّح).(2) فإنه لا دليل على أصالة الصحة في العقود سوى الاجماع ، وليس لمعقد الاجماع إطلاق يعم جميع موارد الشك في الصحة والفساد ، بل القدر المتيقن منه هو ما إذا كان الشك في الصحة والفساد مسببا عن الشك في تأثير العقد للنقل والانتقال بعد الفراغ عن سلطنة العاقد لايجاد المعاملة من حيث نفسه ومن حيث المال المعقود عليه.
وبعبارة أوضح : أهلية العاقد لايجاد المعاملة وقابلية المعقود عليه للنقل
ص: 657
والانتقال إنما يكون مأخوذا في عقد وضع أصالة الصحة ، فلا محل لها إلا بعد إحراز أهلية العاقد وقابلية المعقود عليه ، فأصالة الصحاة إنما تجري إذا كان الشك راجعا إلى ناحية السبب من حيث كونه واجدا للشرائط المعتبرة فيه أو فاقدا له. وأما لو كان الشك راجعا إلى أهلية العاقد أو قابلية المعقود عليه للنقل والانتقال ، فالمرجع هو سائر الأصول العملية حسب ما يقتضيه المقام.
إذا عرفت ذلك ، فاعلم : أن الشك في الصحة والفساد إن كان مسببا عن الشك فيما يعتبر في الايجاب والقبول - من العربية والماضوية والموالاة ونحو ذلك مما ذكره الفقهاء ( رضوان اللّه تعالى عليهم ) في شروط العقد - تجري فيه أصالة الصحة.
وإن كان الشك في الصحة والفساد مسببا عن الشك في فقدان شرط من شروط العوضين : فان كان للشرط دخل في مالية العوضين عرفا أو شرعا - كالخمر - أو كان للشرط دخل في قابليتهما للنقل والانتقال - كالوقف - فلا تجري فيه أصالة الصحة.
وإن لم يكن للشرط دخل في ذلك - كالعلم بهما أو التساوي بينهما إن كانا من جنس المكيل والموزون - فالظاهر : أنه تجري فيه أصالة الصحة ، لان الجهل بجنس العوض أو بمقداره أو زيادة أحد العوضين عن الآخر لا دخل له في المالية ، ولا يقتضي عدم القابلية لنقل والانتقال ، ولذلك صح هبة المجهول والمصالحة عليه ، وكذلك يصح التفاضل بين المالين في غير عقود المعاوضة ، بل حتى في عقود المعاوضة غير عقد البيع ( على قول ) فمثل هذه الشرائط لا دخل لها في مالية العوض وقبوله للانتقال ، بخلاف الوقف والخمر والحر ، فإنها لا تقبل النقل والانتقال ولا تصلح للمعاوضة عليها ، فلا تجري أصالة الصحة إذا كان الشك في صحة العقد وفساده مسببا عن الشك في كون المبيع خلا أو خمرا أو كونه حرا أو عبدا أو كونه وقفا أو ملكا ، بل لا تجري أصالة الصحة إذا شك في كون
ص: 658
المبيع رهنا لم يأذن مالكه في بيعه أو غير رهن ، لأن الشك في جميع ذلك يرجع إلى الشك في قابلية المعقود عليه للنقل والانتقال ، وقد عرفت : أنه مع عدم إحراز القابلية لا تجري أصالة الصحة.
نعم : لو كان الشك في الصحة والفساد مسببا عن الشك في وقوع التفاضل بين العوضين وعدمه أو علم المتعاقدين بجنسهما ومقدارهما وعدمه فلا مانع من البناء على الصحة ، لما عرفت : من أن مثل هذه الشروط لا دخل لها بمالية العوضين وقبولهما للنقل والانتقال. هذا كله إذا كان الشك في شرط من شروط العوضين.
وإن كان الشك في شرط من شروط المتعاقدين : فان كان الشرط من الشروط التي تعتبر عرفا أو شرعا في أهلية المالك للنقل والانتقال فأصالة الصحة لا تجري فيه ، كالعقل والبلوغ والرشد ونحو ذلك. وإن كان من الشروط التي لا تضر بأهلية المالك - كالاختيار المقابل للاكراه - (1) فعند الشك فيه تجري أصالة الصحة. وقد يشك في بعض الشروط أنها من أي القبيل؟ كاشتراط كون العاقد غير محرم.
وبالجملة : كل ما يكون الشك في صحة العقد وفساده مسببا عن الشك في اختلال شرط من شروط سلطنة العاقد للنقل والانتقال ، فأصالة الصحة لا تجري فيه ، لان سلطنة العاقد تعتبر في عقد وضع أصالة الصحة. وكل ما يكون الشك في الصحة والفساد مسببا عن الشك في اختلال شرط من شروط العقد ، فأصالة الصحة تجري فيه.
ص: 659
وقد يكون للشرط جهتان : جهة ترجع إلى سلطنة المالك للنقل والانتقال فيكون من شرائط المتعاقدين ، وجهة ترجع إلى نفس العقد فيكون من شرائط العقد كالبلوغ ، فان البلوغ كما يكون شرطا لتصرف المالك كذلك يكون شرطا لعقد العاقد ، فإنه لا يصح عقد غير البالغ ولو بالوكالة عن البالغ.
فان كان الشك في البلوغ من الجهة الأولى - كما إذا شك في بلوغ المالك العاقد - فأصالة الصحة لا تجري في العقد ، لأن الشك فيه يرجع إلى الشك في عقد وضع أصالة الصحة.
وإن كان الشك فيه من الجهة الثانية - كما إذا شك في بلوغ الوكيل العاقد - فأصالة الصحة تجري في عقده ، لأن الشك في ذلك متمحض في الشك في صحة العقد وفساده ، والمتيقن من مورد أصالة الصحة هو ما إذا كان الشك متمحضا في صحة العقد وفساده.
وتوهم : أن الشك في بلوغ الوكيل يستتبع الشك في صحة عقد الوكالة وأصالة الصحة لا تجري في عقد الوكالة ، فإنه ليس للموكل السلطنة على توكيل غير البالغ ، فالشك في صحة عقد الوكالة يرجع إلى الشك في اختلال شرط من شروط المتعاقدين
فاسد ، فان اشتراط أهلية الوكيل للوكالة أو سلطنة الموكل للتوكيل ليس شرطا زائدا على اشتراط بلوغ العاقد ، بل عدم سلطنة الموكل لتوكيل غير البالغ إنما يتولد من اشتراط بلوغ العاقد ، فيرجع الشك في صحة عقد الوكالة إلى الشك في صحة عقد الوكيل ، وبعد جريان أصالة الصحة في عقده لا يبقى مجال للشك في صحة عقد الوكالة وعدمها ، حتى يقال : إنه لا تجري في عقد الوكالة أصالة الصحة ، فتأمل جيدا.
فتحصل من جميع ما ذكرنا : أنه لا تجري أصالة الصحة عند الشك في اختلال شرط من شروط قابلية العوضين للنقل والانتقال أو اختلال شرط من
ص: 660
شروط أهلية المالك وسلطنته على النقل والانتقال ، بل مورد أصالة الصحة في العقود هو ما إذا كان الشك متمحضا في اختلال شرط من شروط صحة العقد ، لأنه ليس في البين دليل لفظي يؤخذ باطلاقه ، والقدر المتيقن من معقد الاجماع هو ما ذكرناه (1) ولعله يأتي لذلك مزيد توضيح في المباحث الآتية.
لا إشكال في أن المراد من صحة العمل هو ترتيب الآثار المقصودة منه ، بمعنى أنه يبنى على كون العمل واجدا للشرائط المعتبرة فيه عند الشك في ذلك ، فعلى هذا تكون صحة كل شيء بحسبه ، فصحة الايجاب عبارة عن كونه واجدا للشرائط المعتبرة فيه : من كونه وقع بصيغة الماضي والعربية وغير ذلك. وأما تحقق القبول بعده : فهو ليس مما يعتبر في صحة الايجاب ، بل الايجاب إن وقع واجدا لما يعتبر فيه فهو صحيح تعقبه القبول أو لم يتعقبه ، فان صحة الايجاب عبارة عن « أنه وقع على ما ينبغي أن يقع عليه ، بحيث لو تعقبه القبول لكان مؤثرا في النقل والانتقال » وهذا المعنى من الصحة التأهلية للايجاب لا يتوقف على تحقق القبول ، فليس معنى صحة الايجاب وقوع القبول عقيبه ، كما أنه ليس معنى صحة القبول وقوع الايجاب قبله.
وبالجملة : صحة العقد المركب من الايجاب والقبول غير صحة كل من الايجاب والقبول منفردا ، فان صحة العقد عبارة عن الصحة الفعلية - أي كون العقد مؤثرا للنقل والانتقال - وصحة الايجاب أو القبول عبارة عن الصحة التأهلية ، فأصالة الصحة في الايجاب لا تثبت وقوع القبول.
وقد صرح الشيخ قدس سره بذلك ، وإن كان قد يسبق إلى الذهن
ص: 661
المنافاة بين ما ذكره في « الامر الثالث » وبين ما ذكره في « الامر الثاني » عند رد مقالة المحقق الثاني ، حيث قال رحمه اللّه ما لفظه « وأما ما ذكره : من أن الظاهر إنما يتم مع الاستكمال المذكور لا مطلقا ، فهو إنما يتم إذا كان الشك من جهة بلوغ الفاعل ولم يكن هناك طرف آخر معلوم البلوغ يستلزم صحة فعله صحة فعل هذا الفاعل الخ » فان ظاهر ما أفاده في « الامر الثاني » هو أن أصالة الصحة في فعل أحد الطرفين تثبت صحة الفعل في الطرف الآخر ، وهذا بظاهره ينافي ما صرح به في « الامر الثالث » من أن أصالة الصحة في فعل الموجب لا نثبت فعل القابل ، فتأمل (1).
وعلى كل حال : لا إشكال فيما أفاده : من أن صحة كل شيء بحسبه ، فصحة الايجاب معناها « أنه لو انضم إليه القبول لكان مؤثرا في النقل والانتقال » وصحة عقد الصرف والسلم معناها « أنه لو تعقبه القبض في المجلس لكان مؤثرا في النقل والانتقال » (2) فأصالة الصحة في الايجاب أو في عقد
ص: 662
الصرف والسلم لا تثبت وقوع القبول أو تحقق القبض في المجلس عند الشك في ذلك. وكذا الكلام في بيع الراهن مع الشك في إذن المرتهن ، أو مع الشك في تقدم البيع على رجوع المرتهن عن إذنه وتأخره ، فان أصالة الصحة في بيع الراهن لا تثبت إذن المرتهن أو تقدم البيع على الرجوع ، بل مقتضى ما ذكرناه في الامر السابق هو عدم جريان أصالة الصحة في بيع الراهن في المثال ، للشك في صدوره عمن له الولاية والسلطنة على البيع ، فيشك في موضوع أصالة الصحة. وأولى من ذلك بيع الوقف مع الشك في عروض ما يسوغ معه بيع الوقف ، فان بيع الوقف لا يتصف بالصحة التأهلية ، بل إما أن يقع البيع مصاحبا للصحة الفعلية وإما أن يقع باطلا من رأسه ، بخلاف الأمثلة المتقدمة ، فإنها تتصف بالصحة التأهلية مع عدم وقوع ما شك في وقوعه ، فلا مجال لجريان أصالة الصحة في بيع الوقف مع الشك في عروض المسوغ ، فتأمل جيدا.
لا تجري أصالة الصحة في عمل الغير إلا بعد إحراز صدور العمل بعنوانه الذي تعلق به الامر أو ترتب عليه الأثر ، فلا تجري أصالة الصحة مع الشك في صدور العمل بالعنوان الذي يترتب عليه الأثر أو يتعلق به الامر ولو مع العلم
ص: 663
بصدور دات العمل ، فلو شك في أن غمس الثوب في الماء كان بعنوان التطهير أو بعنوان إزالة الوسخ منه لا تجري فيه أصالة الصحة ، فان غمس الثوب في الماء بنفسه لا يتصف بالصحة والفساد ، بل الذي يتصف بهما هو الغسل بالماء ، فلابد من إحراز كون الغمس كان بعنوان الغسل لكي يشك في صحته وفساده ، وكذا أصالة الصحة في أفعال الصلاة إنما تجري بعد إحراز كون الافعال صدرت بعناوينها التي تعلق الامر بها ، فلو شك في كون الانحناء كان بعنوان الركوع أو بعنوان قتل الحية لا تجري فيه أصالة الصحة ، فان الانحناء بنفسه لا يتصف بالصحة والفساد ، بل الذي يتصف بهما هو الركوع.
وبالجملة : يتوقف جريان أصالة الصحة على إحراز صدور العمل على الوجه والعنوان الذي يكون العمل به موضوع الأثر ومتعلق الامر ، سواء كان العنوان من العناوين التي لا تتوقف حصولها على القصد كغسل الثوب ، أو كان من العناوين القصدية كالركوع والسجود ، وكالفراغ ذمة الغير في باب النيابة ، فإنه لولا قصد النيابة في العمل لا يكاد يقع العمل عن الغير المنوب عنه ، فلابد من إحراز كون النائب قصد بالعمل عنوان النيابة لكي تجري في عمله أصالة الصحة عند الشك في صحة العمل وفساده ، ولا يمكن إثبات قصد النيابة بأصالة الصحة في العمل.
لا أقول : إن أصالة الصحة لا تثبت القصد مطلقا ، إذ رب قصد يكون شرطا شرعيا لصحة العمل ، كقصد التقرب في العبادات ، ولا إشكال في جريان الصحة عند الشك في صحة الصلاة وفسادها من جهة الشك في قصد القربة.
بل أقول : إن موضوع الصحة إذا كان العمل بما له من العنوان القصدي فأصالة الصحة في العمل المأتي به لا تثبت أن الاتيان بالعمل كان بذلك العنوان القصدي ، وذلك واضح لا ينبغي الاشكال فيه.
ص: 664
إنما الاشكال في أنه يكفي في إثبات كون العمل المأتي به كان واجدا للعنوان إخبار العامل بذلك ، أو أنه لابد من العلم به أو قيام السنة عليه؟.
أما في باب العقود والايقاعات وما يلحق بها : فالظاهر كفاية إخباره بذلك وإن لم يحصل الوثوق بقوله ، لاندارجه في قاعدة « من ملك شيئا ملك الاقرار به » على إشكال في بعض الموارد.
وأما في العبادات : فإذا حصل الوثوق من قوله يقبل قوله ، لان الاقتصار في إثبات مثل هذه الموضوعات على العلم والبينة يوجب العسر والحرج ، بل ينسد باب النيابة في العمل مع كثرة الحاجة إليها وعموم البلوى بها ، فلا مجال لدعوى اعتبار العلم أو البينة ، بل الظاهر كفاية مطلق الوثوق وإن لم يكن الخبر عدلا ، فان التقييد بالعدالة إن كان لأجل إدراج خبره في أدلة حجية خبر العادل ، ففيه : أن أدلة حجية الخبر الواحد تختص بالاخبار القائمة على الأحكام الشرعية ولا تعم الموضوعات الخارجية ، لما دل على اعتبار التعدد فيها ، مع أنه في الخبر الواحد أيضا يكفي مطلق الوثوق بالصدور ، كما تقدم في محله. وإن كان التقييد بالعدالة لأجل حصول الوثوق من إخباره ، ففيه : أن الوثوق لا يتوقف على العدالة ، بل قد يحصل الوثوق من خبر الفاسق مالا يحصل من خبر العادل. فما يظهر من كلام الشيخ قدس سره من اعتبار العدالة ، لا وجه له.
وبما ذكرنا يظهر ما في كلام الشيخ قدس سره « الامر الرابع » فإنه قال قدس سره « إن الفعل النائب عنوانين : أحدهما من حيث إنه فعل من أفعال النائب » إلى أن قال : « والثاني من حيث إنه فعل للمنوب عنه ، حيث إنه بمنزلة الفاعل بالتسبيب أو الآلة » إلى أن قال : « والصحة من الحيثية الأولى لا تثبت الصحة من هذه الحيثية الثانية ، بل لابد من إحراز صدور الفعل الصحيح على وجه التسبيب » انتهى.
والانصاف : أن ما أفاده في هذا المقام مما لا يمكن المساعدة عليه ، فإنه إن
ص: 665
أحرز أن العامل قصد النيابة وتفريغ ذمة الغير بعمله - إما من إخباره وإما من الخارج - فأصالة الصحة تجري في عمله ويحكم ببراءة ذمة المنوب عنه. وإن لم يحرز أن العامل قصد النيابة في عمله فلا تجري في عمله أصالة الصحة ، لعدم إحراز العنوان المتعلق للأثر ، فلا موضوع لأصالة الصحة. هذا مضافا إلى ما في جعل باب النيابة من باب التسبيب مالا يخفى ، فتأمل جيدا.
قد تبين مما ذكرنا في « الامر الثاني » الاشكال فيما ذكره الشيخ قدس سره في « الامر الخامس » من قوله : « فلو شك في أن الشراء الصادر من الغير كان بمالا يملك - كالخمر - أو بعين من أعيان ماله فلا يحكم بخروج تلك العين من تركته ، بل يحكم بصحة الشراء وعدم انتقال شيء من تركته إلى البايع ، لأصالة عدمه » انتهى.
فإنه لا تجري في المثال أصالة الصحة في الشراء ، للشك في قابلية الثمن للانتقال ، وقد عرفت : أنه مع الشك في قابلية العوضين للانتقال لا تجري أصالة الصحة ، مضافا إلى أنه لا معنى للحكم بصحة الشراء مع القول بعدم انتقال شيء من تركه المشتري إلى البايع ، فإنه إما أن نقول بانتقال المبيع من البايع إلى المشتري وإما أن لا نقول بذلك. فعلى الأول : يلزم الحكم بدخول المبيع في ملك المشتري من دون أن يدخل في ملك البايع ما يقابله من الثمن ، وهو كما ترى! وعلى الثاني : لا أثر لأصالة الصحة في شرائه ، لان كلا من الثمن والمثمن بعد باق على ملك مالكه ، فأي أثر يترتب على أصالة صحة الشراء؟ فالانصاف : أن ما أفاده الشيخ مما لا يستقيم.
نعم : لا إشكال فيما أفاده في عنوان « الامر الخامس » وحاصله يرجع إلى عدم اعتبار مثبتات أصالة الصحة ، ولا إشكال فيه بناء على كونها من الأصول
ص: 666
العملية (1) وقد استشهد بكلام العلامة قدس سره على ذلك ، وينبغي تحرير كلام العلامة مع ما علق عليه جامع المقاصد ، ليتضح محل الاستشهاد.
قال العلامة قدس سره في القواعد : « لو قال آجرتك كل شهر بدرهم من غير تعيين ، فقال : بل سنة بدينار ، ففي تقديم قول المستأجر نظر ، فان قدمنا قول المالك ، فالأقوى : صحة العقد في الشهر الأول هنا. وكذا الاشكال في تقديم قول المستأجر لو ادعى اجرة مدة معلومة أو عوضا معينا وأنكر المالك التعيين فيهما ، والأقوى : التقديم فيما لا يتضمن دعوى » انتهى. وقد أفاد في كلامه هذا فرعين من فروع التنازع بين المالك والمستأجر.
الأول : ما إذا اختلف المالك والمستأجر ، فقال المالك : آجرتك كل شهر بدرهم ، وقال المستأجر : آجرتني سنة بدينار ، ففي تقديم قول المستأجر نظر. قال في جامع المقاصد - على ما حكي عنه - وجه النظر : هو أن المستأجر لما كان يدعي صحة عقد الإجارة - لان بناء العلامة على بطلان إجارة كل شهر بدرهم من حيث جهالة مدة الإجارة - فكان القول قول المستأجر ، لموافقة قوله لأصالة الصحة. ولكن لما كان أصالة الصحة لا تثبت وقوع العقد على السنة ، لان أصالة الصحة في عقد الإجارة إنما تجري بعد إحراز مدة الإجارة التي هي ركن في عقد الإجارة - كالعوضين في عقد البيع - فصار ذلك منشأ توقف العلامة في تقديم قول المستأجر ، وحيث إن بناء المحقق الثاني على عدم جريان أصالة الصحة في العقود إلا بعد إحراز استكمالها للأركان اختار في الفرع المذكور عدم
ص: 667
تقديم قول المستأجر ، فإنه لا منشأ لتقديم قول المستأجر إلا كون قوله موافقا لأصالة الصحة ، وهي لا تجري ، لأنها لا تثبت وقوع العقد على السنة ، فان ذلك أمر خارج يلازم صحة عقد الإجارة ، وأصالة الصحة لا تثبت اللوازم والملزومات.
وبذلك يظهر : أنه يصح الاستشهاد على عدم حجية مثبتات أصالة الصحة بما ذكره العلامة في الفرع الأول أيضا. فما يظهر من بعض المحشين : من أن نظر الشيخ قدس سره في الاستشهاد بكلام العلامة إنما هو الفرع الثاني ليس في محله ، بل التحقيق إن نظر الشيخ في الاستشهاد إلى كل من الفرعين.
ثم إن كلمة « هنا » في قوله : « فان قدمنا قول المالك صح في الشهر الأول هنا » ساقطة في كلام الشيخ قدس سره ولكنها موجودة في القواعد ، وقد ذكر جامع المقاصد وجه التقييد ب « هنا » ما حاصله : أن العلامة وإن كان بنائه على بطلان إجارة كل شهر بدرهم ، إلا أن في هذا الفرع خصوصية تقتضي صحة الإجارة في الشهر الأول ، فان النزاع بين المستأجر والمالك في كون عقد الإجارة وقع على السنة بدينار أو على كل شهر بدرهم يستلزم الاتفاق منهما على أن ثمن الإجارة في الشهر الأول هو الدرهم. ثم قال المحقق الثاني : « إن الاتفاق على ذلك مبني على أن يكون قيمة الدينار اثني عشر درهم ، فلو كان قيمته عشرة دراهم لم يحصل منهما الاتفاق ».
أقول : ولو فرض أن قيمة الدينار كانت اثني عشر درهم لا يحصل الاتفاق بينهما في الشهر الأول ، لان المستأجر يدعي أن ثمن الإجارة في مجموع السنة هو الدينار لا الدرهم. نعم : دعواه ذلك تتضمن أن يكون ثمن الإجارة في الشهر الأول جزء من اثني عشر جزء من الدينار يسوي قيمته درهم ، والمالك يدعي أن ثمن الإجارة خصوص الدرهم ، ومجرد كون الجزء من اثني عشر جزء من الدينار يسوي قيمته درهم لا يقتضي الاتفاق منهما على كون ثمن الإجارة في الشهر
ص: 668
الأول هو الدرهم ، ألا ترى أنه لو قال المالك : آجرتك بدرهم وقال المستأجر بل آجرتني بثوب يسوي قيمته درهم ، لم يكن ذلك اتفاقا منهما على كون ثمن الإجارة هو الدرهم ، وذلك واضح.
الفرع الثاني : ما إذا ادعى المستأجر اجرة مدة معلومة أو عوضا معينا ، وأنكر المالك التعيين فيهما. وقد قوى في هذا الفرع تقديم قول المستأجر إذا لم يتضمن دعوى. وعن جامع المقاصد في شرح قوله : « والأقوى التقديم فيما لم يتضمن دعوى » ما حاصله : أن المستأجر تارة يدعي اجرة تساوي أجرة المثل ، وأخرى يدعي اجرة أنقص من أجرة المثل ، فعلى الأول : يقدم قول المستأجر ، لان دعواه لا تتضمن دعوى على المالك. وعلى الثاني : لا يقدم قول المستأجر ، لان دعواه تتضمن عدم استحقاق المالك أجرة المثل.
أقول : لا فائدة في تقديم قول المستأجر لو كان يدعي اجرة تساوي أجرة المثل ولا أثر لجريان أصالة الصحة في عقد الإجارة ، فإنه على التقديرين لا يطالب أكثر من أجرة المثل ، سواء قلنا بصحة عقد الإجارة أو فسادها. وعلى كل حال : يستفاد من قول العلامة : « والأقوى التقديم فيما لم يتضمن دعوى » عدم إثبات أصالة الصحة في العقود اللوازم والملزومات.
قد تقدم أن أصالة الصحة في العقود تكون حاكمة على أصالة الفساد وعدم انتقال المال عن مالكه إذا لم يكن في البين أصل موضوعي آخر ، كما إذا كان الشك متمحضا في شرائط العقد - من العربية والماضوية والصراحة ونحو ذلك - فإنه ليس في البين أصل عملي يكون مفاده عدم وقوع العقد بالعربية أو الماضوية ، لان العقد حال وقوعه : إما أن يكون واجدا للشرائط المعتبرة فيه وإما أن يكون فاقدا لها ، فليس في البين إلا أصالة الفساد وعدم انتقال المال
ص: 669
عن مالكه ، ولا مجال لها مع أصالة الصحة ، سواء قلنا : إن أصالة الصحة من الأصول المحرزة المتكفلة لتنزيل أو قلنا : إنها من الأصول الغير المحرزة ، فإنه على كل تقدير تقدم على أصالة الفساد إما بالحكومة بناء على كونها من الأصول المحرزة ، فإنها تكون حينئذ محرزة لشرائط العقد ووقوعه بالعربية مثلا (1) وإما بالتخصيص بناء على كونها من الأصول الغير المحرزة ، فإنه لو قدم أصالة الفساد لم يبق لأصالة الصحة مورد. هذا إذا لم نقل بأنها من الامارات ، وإلا كان تقديمها على أصالة الفساد في غاية الوضوح وإن كان القول بكونها من الامارات بعيدا غايته ، فإنه ولو سلم كون الصحة من مقتضيات ظهور حال المسلم في عدم إقدامه على الفساد ، إلا أنه قد عرفت : أن عمدة الدليل على اعتبار أصالة الصحة هو الاجماع ، ولم يظهر من الاجماع أن اعتبارها كان لأجل كشفها عن الصحة.
وبعبارة أخرى : لم يعلم أن التعبد بها كان تتميما لكشفها ، وقد تقدم - في المباحث السابقة - أنه لا يكفي في كون الشيء أمارة مجرد كونه واجدا لجهة الكشف ما لم يكن اعتباره من تلك الجهة ، فالقول بأمارية أصالة الصحة مما لا سبيل إليه. ولكن لا يتفاوت الحال من الجهة التي نحن فيها ، وهي حكومتها على أصالة الفساد إذا لم يكن في البين أصل موضوعي آخر غير أصالة عدم الانتقال.
وإن كان في البين أصل موضوعي آخر : فان كان مؤداه عدم تحقق الشرائط الراجعة إلى سلطنة المالك أو قابلية المال للنقل والانتقال ، فقد تقدم أنه لا تجري أصالة الصحة عند الشك فيها ، بل لو كان الشك في الصحة والفساد مسببا عن الشك فيما يعتبر في سلطنة المالك أو قابلية المال للنقل والانتقال لم تجر
ص: 670
فيه أصالة الصحة ولو لم يكن في البين أصل موضوعي آخر غير أصالة الفساد وعدم انتقال المال عن مالكه ، كما لو شك في كون المبيع غنما أو خنزيرا ، فإنه ليس في مورد الشك أصل يقتضي كون المبيع خنزيرا ، ومع ذلك لا تجري في العقد أصالة الصحة ، للشك في قابلية المبيع للانتقال.
وإن كان مؤدى الأصل الموضوعي ما عدا الشرائط الراجعة إلى سلطنة المالك أو قابلية المال للنقل والانتقال ، كما إذا كان الشك في صحة العقد وفساده مسببا عن الشك في بلوغ الوكيل القاعد أو كان مسببا عن وزن المبيع أو اختباره - ونحو ذلك مما كان مفاد الأصل عدم تحقق شرط الصحة - فقد تقدم : أن الأقوى جريان أصالة الصحة في العقد وحكومتها على مثل هذه الأصول الموضوعية أيضا. ولكن يظهر من عبارة « الفرائد » المنع عن جريان أصالة الصحة في مثل ذلك.
ثم لا يخفى : أن نسخ « الفرائد » في هذا المقام مختلفة مضطربة غاية الاضطراب ، وقد حكي أن عبارة الشيخ قدس سره كانت في الأصل مختصرة تقرب من خمسة أسطر ، وللمرحوم السيد الكبير الشيرازي قدس سره حاشية مفصلة تقرب من صفحة ، وفي بعض نسخ « الفرائد » حاشية السيد رحمه اللّه رقمت في المتن وعبارة الشيخ قدس سره كتبت في الهامش ، وفي بعض النسخ عبارة الشيخ رقمت في المتن وحاشية السيد رحمه اللّه رقمت في الهامش مع ما فيها من التكرار والاضطراب المخل بالمقصود ، وفي بعض النسخ رقم كلام الشيخ والسيد 0 معا في المتن وصار خلط بين الكلامين بحيث لا يتميز كلام أحدهما عن الآخر. وأحسن ما رأيناه من نسخ « الفرائد » النسخة المعروفة بطبع « محمد علي » فإنها موافقة للنسخة المصححة ، وفي هذه النسخة رقم كلام الشيخ قدس سره في الهامش وعبارة السيد رحمه اللّه في المتن.
والأولى نقل العبارة قبل بيان المقصود منها ، قال قدس سره « وأما
ص: 671
تقديمه على الاستصحابات الموضوعية المترتب عليها الفساد - كأصالة عدم البلوغ وعدم اختبار المبيع بالرؤية أو الكيل أو الوزن - فقد اضطربت فيه كلمات الأصحاب ، خصوصا العلامة ومن تأخر عنه. والتحقيق : أنه إن جعلنا هذا الأصل من الظواهر - كما هو ظاهر كلمات جماعة بل الأكثر - فلا إشكال في تقديمه على تلك الاستصحابات. وإن جعلناه من الأصول : فان أريد بالصحة من قولهم : « إن الأصل الصحة » نفس ترتب الأثر ، فلا إشكال في تقديم الاستصحاب الموضوعي ، لأنه مزيل بالنسبة إليها ، وإن أريد بها كون الفعل على وجه يترتب عليه. الأثر - فيكون الأصل مشخصا للموضوع من حيث ثبوت الصحة له لا مطلقا - ففي تقديمه على الاستصحاب الموضوعي نظر ، لأنه إذا شك في بلوغ البايع فالشك في كون الواقع البيع الصحيح - بمعنى كونه بحيث يترتب عليه الأثر - شك في كون البيع صادرا عن بالغ أو غيره ، وهذا مرجعه إلى الشك في بلوغ البايع. فالشك في كون البيع الصادر من شخص صادرا عن بالغ الذي هو مجرى أصالة الصحة والشك في بلوغ الشخص الصادر منه العقد الذي هو مجرى الاستصحاب مرجعهما إلى أمر واحد ، وليس الأول مسببا عن الثاني ، فان الشك في المقيد باعتبار القيد شك في القيد ، فمقتضى الاستصحاب ترتب أحكام العقد الصادر عن غير البالغ ، ومقتضى هذا الأصل ترتب حكم الصادر من بالغ ، فكما أن الأصل معين ظاهري للموضوع وطريق جعلي إليه ، فكذلك استصحاب عدم البلوغ طريق ظاهري للموضوع ، فان أحكام العقد الصادر عن غير البالغ لا يترتب عند الشك في البلوغ إلا بواسطة ثبوت موضوعها بحكم الاستصحاب. نعم : لو قيل بتقديم المثبت على النافي عند تعارض الأصلين تعين ترجيح أصالة الصحة ، لكنه محل تأمل. ويمكن أن يقال هنا : إن أصالة عدم البلوغ يوجب الفساد لا من حيث الحكم شرعا بصدور العقد عن غير بالغ بل من حيث الحكم بعدم صدور عقد من بالغ ، فان بقاء الآثار السابقة مستند
ص: 672
إلى عدم السبب الشرعي ، لا إلى عدم السببية شرعا فيما وقع. نعم : لما كان المفروض انحصار الواقع فيما حكم شرعا بعد سببية تحقق البقاء ، فعدم سببية هذا العقد للأثر الذي هو مقتضى الاستصحاب لا يترتب عليه عدم الأثر ، وإنما يترتب على عدم وقوع السبب المقارن لهذا العقد ، فلا أثر لأصالة عدم البلوغ المقتضية لعدم سببية العقد المذكور حتى تعارض أصالة الصحة المقتضية لسببيته ، وأصالة الصحة تثبت تحقق العقد الصادر من بالغ. ولا معارضه في الظاهر بين عدم سببية هذا العقد الذي هو مقتضى الاستصحاب وبين وقوع العقد الصادر عن بالغ الذي يقتضيه أصالة الصحة ، لان وجود السبب ظاهرا لا يعارضه عدم سببية شيء وإن امتنع اجتماعهما في الواقع من حيث إن الصادر شيء واحد. لكن يدفع هذا أن مقتضى أصالة الصحة ليس وقوع فعل صحيح في الواقع ، بل يقتضي كون الواقع هو الفرد الصحيح ، فإذا فرض نفي السببية عن هذا الواقع بحكم الاستصحاب حصل التنافي. وإن قيل : إن الاستصحاب لا يقتضي نفي السببية لان السببية ليست من المجعولات ، بل يثبت الآثار السابقة. قلنا : كذلك أصالة الصحة لا تثبت وقوع السبب وإنما تثبت حدوث آثار السبب. وكيف كان : فدفع التنافي بين الأصلين وإثبات حكومة أحدهما على الآخر في غاية الاشكال » انتهى.
ومقصوده من هذا الكلام - على طوله - بيان اتحاد مرتبة أصالة الصحة مع الاستصحابات الموضوعية ، من دون أن يكون بينهما سببية ومسببية إذا كانت أصالة الصحة من الأصول الموضوعية المحرزة لمتعلق الشك ، وهو المراد من قوله : « وإن أريد بها كون الفعل على وجه يترتب عليه الأثر ».
ولقد أجاد فيما أفاد ، فإنه عند الشك في بلوغ العاقد مثلا يتحقق موضوع الاستصحاب وموضوع أصالة الصحة دفعة في مرتبة واحدة ، لان مؤدى أصالة الصحة صدور العقد من البالغ ومؤدى الاستصحاب عدم بلوغ العاقد ،
ص: 673
فيتعارضان.
وبالجملة : الشك في صحة العقد وفساده إنما هو باعتبار الشك في وجود قيده ، وهو بلوغ العاقد ، والشك في العقد باعتبار البلوغ عبارة أخرى عن الشك في البلوغ ، وهو المراد من قوله : « إن الشك في المقيد باعتبار القيد شك في القيد » والشك في القيد يكون مجرى لكل من الاستصحاب وأصالة الصحة في عرض واحد ، غايته أن مفاد أصالة الصحة وقوع العقد عن بالغ ومفاد الاستصحاب عدم بلوغ العاقد ، فيكون البلوغ في أصالة الصحة قيدا للمحمول وفي الاستصحاب قيدا للموضوع ، وهذا مجرى اختلاف في التعبير لا يوجب اختلاف مرتبة الأصلين ، فأصالة الصحة تثبت سببية العقد والاستصحاب يثبت عدم سببيته ، فيتعارضان.
فان قلت : الغرض من استصحاب عدم البلوغ ترتيب آثار فساد العقد وعدم انتقال المال عن مالكه ، وهذا الأثر لم يترتب على عدم بلوغ العاقد وعدم سببية العقد الواقع منه للنقل والانتقال ، بل هو من آثار عدم وجود سبب النقل والانتقال بمفاد ليس التامة ، فان عدم المعلول إنما يستند إلى عدم وجود العلة لا إلى عدم علية الموجود. والحاصل : أن الاستصحاب إنما يكون بمفاد ليس الناقصة وهو عدم سببية العقد الصادر ، والأثر الشرعي إنما يترتب على مفاد ليس التامة وهو عدم وجود سبب النقل والانتقال ، وعدم سببية العقد الصادر وإن كان يلازم عدم وجود سبب النقل ، إلا أن هذا التلازم ليس شرعيا ، بل لمكان القطع بعدم وجود سبب مقارن للعقد المشكوك كونه سببا ، واستصحاب عدم بلوغ العاقد الذي كان يقتضي عدم سببية العقد الصادر لا يثبت عدم وجود سبب النقل إلا على القول بالأصل المثبت ، فالاستصحاب لا يجري ، لأنه لا يترتب عليه الأثر المقصود في المقام ، وتبقى أصالة الصحة سليمة عن المعارض ، وهذا هو المراد من قوله قدس سره : « ويمكن أن يقال هنا : إن
ص: 674
أصالة عدم البلوغ » إلى قوله : « لكن يدفع هذا ».
قلت : لا يعتبر في جريان الاستصحاب أن يكون المستصحب بنفسه موضوع الأثر الشرعي ، بل يكفي في صحة الاستصحاب كون المستصحب نقيض ما هو الموضوع للأثر ، ويترتب على الاستصحاب عدم وجود موضوع الأثر. ولا يتوقف في جريان الاستصحاب على أن يترتب على المستصحب أثر آخر ، بل نفي موضوع الأثر بنفسه من الآثار التي يكفي لحاظه في جريان الاستصحاب ، ففي المقام إنما يراد من الاستصحاب نفي موضوع الصحة ، ويثبت به نقيض ما تثبته أصالة الصحة (1).
وحاصل الكلام : أنه لا إشكال في جريان الاستصحاب إذا كان المستصحب نقيض موضوع الأثر ، كما لا إشكال في أن الموضوع إن كان بمفاد كان الناقصة فنقيضه يكون بمفاد ليس الناقصة ، وإن كان بمفاد كان التامة فنقيضه يكون بمفاد ليس التامة ، فإنه لا يعقل أن يكون نقيض مفاد كان
ص: 675
الناقصة ليس التامة وبالعكس ، لان نقيض كل شيء رفعه ، ومن المعلوم : أن ما تثبته أصالة الصحة إنما هو مفاد كان الناقصة ، وهو بلوغ العاقد وسببية العقد الواقع ، ويترتب عليه أثر النقل والانتقال ، فإذا كان موضوع أثر النقل والانتقال مفاد كان الناقصة فنقيضه يكون مفاد ليس الناقصة الذي هو مؤدى الاستصحاب ، والمفروض : أنه يكفي في صحة الاستصحاب إثبات ما هو نقيض موضوع النقل والانتقال.
فدعوى : أن عدم سببية العقد الصادر ليس موضوع الأثر ولا يترتب عليه عدم النقل والانتقال - لان عدم المسبب يستند إلى عدم وجود السبب لا إلى عدم سببية الموجود - وإن كانت في محلها ولا سبيل إلى الخدشة فيها ، إلا أن عدم سببية العقد الصادر يكون نقيض ما هو الموضوع للنقل والانتقال ، وكما يصح التعبد بكون الموجود هو الموضوع للأثر كما هو مفاد أصالة الصحة ، كذلك يصح التعبد بكون الموجود نقيض موضوع الأثر كما هو مفاد الاستصحاب ، وإلى ذلك يرجع قوله قدس سره « ولكن يدفع هذا الخ ».
فان قلت : قد تقدم في الأحكام الوضعية : أن السببية لا تنالها يد الجعل وإنما المجعول الشرعي هو ترتب المسبب أو التكليف على سببه أو موضوعه ، فالاستصحاب لا يجري لنفي سببية العقد وإنما يجري لنفي الحكم الوضعي وهو النقل والانتقال ، فليس الاستصحاب في المقام إلا أصلا حكميا ، وأصالة الصحة تكون حاكمة عليه ، لأنها من الأصول الموضوعية ، كما هو مفروض الكلام.
قلت : هذا الاشكال بمثابة من الفساد! بداهة أن التعبد بوجود موضوع التكليف أو سبب الوضع بلحاظ وجود التكليف والوضع أمر بمكان من الامكان ، فإذا صح التعبد بوجود الموضوع والسبب صح التعبد بعدم الوجود أيضا ، مع أنه على هذا يلزم أن تكون أصالة الصحة أيضا من الأصول الحكمية ،
ص: 676
فإنه كما لا يصح التعبد بعدم سببية العقد الواقع ، كذلك لا يصح التعبد بسببية العقد الموجود ، فلا يعقل التفكيك بين مفاد الاستصحاب ومفاد أصالة الصحة ، وإلى هذا أشار بقوله : « وإن قيل » إلى قوله : « وكيف كان ».
هذا حاصل ما أفاده السيد الكبير قدس سره في كلامه المتقدم.
ومنه يظهر الاشكال فيما ذكره الشيخ قدس سره في الامر الثاني من الأمور التي عقدها في أصالة الصحة ، حيث قال - ردا على من قال بعدم جريان أصالة الصحة عند الشك في بلوغ الضامن أو أركان العاقد كالمحقق والعلامة 0 - « والأقوى بالنظر إلى الأدلة السابقة من السيرة ولزوم الاختلال هو التعميم » فراجع.
هذا ، ولكن مع ذلك كله المسألة لا تخلو عن الاشكال ، فان المدرك في أصالة الصحة في العقود ليس إلا الاجماع ، وهو لا يخلو : إما أن يكون عمليا وإما أن يكون لفظيا. فان كان عمليا : فاللازم متابعة مقدار العمل ولا محل لملاحظة النسبة بين الاستصحاب وأصالة الصحة. وإن كان لفظيا : فالمتبع ملاحظة مقدار إطلاق معقد الاجماع.
فان استفيد منه كون أصالة الصحة من الأصول الموضوعية والحكمية - بمعنى أنها تجري في جميع موارد الشك في الصحة والفساد سواء كان في مورد الشك أصل موضوعي يكون الشك في الصحة والفساد مسببا عنه كما إذا كان الشك في بلوغ العاقد أو وزن المبيع أو اختباره أو لم يكن في مورد الشك إلا أصالة عدم النقل والانتقال كما إذا كان الشك في شرائط صحة العقد من العربية والماضوية ونحو ذلك - فلا محالة تكون أصالة الصحة أخص مطلقا من الاستصحاب ، فإنه ليس في مورد من موارد أصالة الصحة إلا والاستصحاب على خلافها ، فمقتضى صناعة الاطلاق والتقييد تخصيص الاستصحاب بما عدا الشك في صحة العقد وفساده مطلقا.
ص: 677
وإن استفيد من معقد الاجماع اختصاص أصالة الصحة بما إذا كان الشك متمحضا في النقل والانتقال من دون أن يكون في مورد الشك أصل موضوعي يقتضي عدم كون العقد واجدا لشرائط النقل والانتقال ، ففي جميع موارد الأصول الموضوعية يبنى على فساد العقد ولا تجري أصالة الصحة.
والذي يقوى في النظر : جريان أصالة الصحة في ما عدا الشك في أهلية العاقد أو قابلية العوضين للنقل والانتقال - على التفصيل المتقدم - ولابد من التأمل التام في كلمات القوم.
هذا تمام الكلام فيما كان يهم البحث عنه في أصالة الصحة في فعل الغير. وأما أصالة الصحة في قول الغير واعتقاده : فلا إشكال فيها - على التفصيل الذي ذكره الشيخ قدس سره - فلا يهمنا البحث عنها.
من الأمور التي ينبغي البحث عنها في خاتمة الاستصحاب بيان النسبة بينه وبين سائر الوظائف المقررة للجاهل.
أما النسبة بينه وبين القرعة : فالظاهر أنه لا يمكن اجتماعهما في مورد حتى تلاحظ النسبة بينهما (1) لان التعبد بالقرعة إنما يكون في مورد اشتباه موضوع التكليف وتردده بين الأمور المتباينة ، ولا محل للقرعة في الشبهات البدوية سواء كانت الشبهة من مجاري أصالة البراءة والحل أو من مجاري الاستصحاب ، لان المستفاد من قوله علیه السلام « القرعة لكل مشتبه » أو « مجهول » (2) هو
ص: 678
مورد اشتباه الموضوع بين الشيئين أو الأشياء ، فيقرع بينهما لاخراج موضوع التكليف ، ولا معنى للقرعة في الشبهات البدوية ، فإنه ليس فيها إلا الاحتمالين والقرعة بين الاحتمالين خارج عن مورد التعبد بالقرعة ، فموارد البراءة والاستصحاب خارجة عن عموم أخبار القرعة بالتخصص ، لا بالتخصيص ، كما يظهر من كلام الشيخ قدس سره .
والحاصل : أن عنوان « المجهول » و « المشتبه » و « المشكوك » وإن كان يعم الشبهة البدوية ، إلا أن المتفاهم من عنوان القرعة هو أن يكون بين الموضوعات المتعددة لا بين الاحتمالين في موضوع واحد. فالحري إنما هو ملاحظة النسبة بين أصالة الاحتياط والتخيير وبين القرعة ، لا بينها وبين الاستصحاب وأصالة الحل والبراءة.
ولا إشكال في أن مورد القرعة إنما هو الموضوعات الخارجية ، وأما الأحكام الشرعية : فلا مجال للقرعة فيها ، بل إن أمكن فيه الاحتياط فهو ، وإلا فالتخيير ، فان قوله علیه السلام « القرعة لكل أمر مشتبه » وإن كان بظاهره يعم اشتباه الحكم الشرعي ، إلا أن مورد أخبار القرعة هو ما إذا كان الاشتباه في الموضوع الخارجي.
لا يقال : إن المورد لا يقتضي التخصيص ، لأنه يقال : نحن لا ندعي التخصيص من جهة المورد ، بل ندعي أنه من الموارد يستكشف أن مصب العموم هو خصوص الموضوعات ولا يعم الاحكام.
ثم إن الموضوع المشتبه تارة : مما يتعلق به حق اللّه ( تعالى ) وأخرى : مما يتعلق به حق الناس. فان كان مما يتعلق به حق الناس : فالوظيفة قد تقتضي
ص: 679
الاخذ بقاعدة « العدل والانصاف » من التثليث والتنصيف والتربيع حسب اختلاف الموارد والدعاوي (1) كما في موارد اختلاف البينات عند تردد الموضوع بين الشخصين أو الأشخاص ، فان المتحصل من مجموع الأخبار الواردة في ذلك وفي باب الدرهم الودعي هو الاخذ بما يقتضيه العدل والانصاف. وقد تقتضي الوظيفة إخراج الموضوع المشتبه بالقرعة.
وكذا الحال فيما إذا كان الموضوع متعلقا لحق اللّه ، فان الوظيفة قد تقتضي الاحتياط ، وقد تقتضي التخيير ، وقد تقتضي القرعة. والانصاف : أن تشخيص موارد القرعة عن موارد الاحتياط والتخيير وقاعدة العدل والانصاف في غاية الاشكال ، ولذلك قيل : « إن العمل بالقرعة إنما يكون في مورد عمل الأصحاب ولا يجوز الاخذ بعموم أخبارها » فإنه عند اشتباه الموطوء بغيره في الغنم تجري فيه القرعة - كما ورد به النص - وأما عند اشتباه الحرام بغيره في غير الموطوء لا تجري فيه القرعة ، مع أن الفرق بينهما غير واضح. ولابد من التأمل التام والمراجعة في كلمات الاعلام.
وعلى كل حال : قد عرفت أن المورد الذي يجري فيه الاستصحاب لا تجري فيه القرعة ، وبالعكس ، فلا يمكن أن يعارض أحدهما الآخر حتى نحتاج إلى ملاحظة النسبة بينهما.
وأما نسبة الاستصحاب مع سائر الأصول العملية - من البراءة والتخيير والاحتياط وقاعدة الحل والطهارة - فقد تقدم : أن الاستصحاب يكون واردا على الأصول العقلية وحاكما على الأصول الشرعية ، لأنه من الأصول المحرزة المتكفلة للتنزيل ، ولذلك يقوم مقام القطع الطريقي ، فيكون الاستصحاب رافعا لموضوع الأصول العقلية حقيقة بالورود ولموضوع الأصول الشرعية بالحكومة.
ص: 680
وقد أطال الشيخ قدس سره الكلام في حديث « كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » (1) مع أنه لا يحتاج إلى هذا التطويل ، فان المراد من قوله علیه السلام « حتى يرد فيه نهي » إن كان هو الورود من قبل اللّه ( تعالى ) بالوحي إلى النبي صلی اللّه علیه و آله كان مفاد الحديث مفاد سائر العمومات الاجتهادية ، نظير قوله تعالى : « وأحل لكم ما في الأرض جميعا » (2) فيكون أجنبيا عن أدلة أصالة البراءة ، بل ينبغي عده من أدلة أصالة الإباحة ردا على من قال بأصالة الحظر قبل الشرع. وإن كان المراد من « الورود » الوصول والعلم بالنهي كان المراد من « الشيء » الشيء المشكوك ، فيكون مفاده مفاد سائر أدلة البراءة ولا خصوصية للحديث المبارك ، وقد عرفت : أن الاستصحاب باعتبار إحرازه يكون رافعا لموضوعها. وقد تكرر منا الكلام في تفصيل ذلك (3).
في تعارض الاستصحابين.
وتفصيل الكلام في ذلك : هو أن الشك في بقاء أحد المستصحبين إما يكون مسببا عن الشك في بقاء المستصحب الآخر وإما أن يكون الشك في بقاء كل من المستصحبين مسببا عن أمر ثالث ، ولا يمكن أن يكون الشك في كل منهما مسببا عن الآخر ، فإنه لا يعقل أن تكون علة الشيء معلوله. وما قيل : من أن الشك في عموم كل من العامين من وجه مسبب عن
ص: 681
الشك في عموم الآخر ، فاسد ، فان الشك في عموم كل منهما إنما يكون مسببا عن العلم الاجمالي بعدم إرادة العموم في أحدهما ، لامتناع إرادة العموم في كل منهما ثبوتا في مقام الجعل والتشريع ، وذلك واضح.
فان كان الشك في أحدهما مسببا عن الشك في الآخر : فلا إشكال في حكومة الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسببي ، بل في حكومة كل أصل سببي على كل أصل مسببي - ولو لم يكن الأصل السببي من الأصول المحرزة - إذا كان الأصل السببي واجدا لشرطين :
أحدهما : أن يكون ترتب المسبب على السبب شرعيا لا عقليا ، بمعنى أن يكون أحد طرفي الشك المسببي من الآثار الشرعية المترتبة على أحد طرفي الشك السببي ، فالشك في بقاء الكلي لأجل الشك في حدوث الفرد الباقي خارج عن محل الكلام ، لان بقاء الكلي ببقاء الفرد عقلي ، فلا يكون استصحاب عدم حدوث الفرد حاكما على استصحاب بقاء الكلي ، بل يجري استصحاب بقاء الكلي في عرض استصحاب عدم حدوث الفرد ، ولا معارضة بينهما ، وقد تقدم تفصيل ذلك في استصحاب الكلي.
ثانيهما : أن يكون الأصل السببي رافعا للشك المسببي ، فالشك في جواز الصلاة في الثوب لأجل الشك في اتخاذه من الحيوان المحلل خارج عن محل الكلام أيضا ، فان أصالة الحل في الحيوان وإن كان تجري ، إلا أنها لا تقتضي جواز الصلاة في الثوب ، لبقاء الشك في جواز الصلاة فيه على حاله ، لان أصالة الحل لا تثبت كون الثوب متخذا من الأنواع المحللة ، على ما تقدم بيانه أيضا في استصحاب الكلي.
فإذا كان الأصل السببي واجدا لهذين الشرطين فلا ينبغي التأمل في حكومته على الأصل المسببي ، لأنه رافع لموضوعه ، فلا يمكن أن يعارضه الأصل
ص: 682
المسببي ، لان كل حكم مشروط بوجود موضوعه ، فلابد من فرض وجود الموضوع في ترتب الحكم عليه ، ولا يعقل أن يكون الحكم متكفلا لوجود موضوعه. فالأصل المسببي إنما يجري إذا بقي الشك الذي اخذ موضوعا فيه والأصل السببي رافع ومعدم له في عالم التشريع ، لان التعبد بمؤدى الأصل السببي بمدلوله المطابقي يقتضي إلغاء الشك المسببي ، ولا عكس ، وبداهة أن التعبد بطهارة الماء المغسول به الثوب النجس بنفسه يقتضي التعبد بطهارة الثوب (1) إذ لا معنى لطهارة
ص: 683
الماء إلا كونه مزيلا للحدث والخبث ، سواء كانت طهارة الماء مؤدى الاستصحاب أو مؤدى قاعدة الطهارة ، فيرتفع الشك في بقاء نجاسة الثوب ، وأما التعبد بنجاسة الثوب : فهو بنفسه لا يقتضي التعبد بنجاسة الماء المغسول به ، نعم : لازم بقاء النجاسة في الثوب هو نجاسة الماء ، فإنه لو كان الماء طاهرا لم تبق النجاسة في الثوب ، فاستصحاب بقاء نجاسة الثوب بمدلوله المطابقي لا يقتضي نجاسة الماء وغير مزيل للشك فيها. فاثبات نجاسة الماء المغسول به الثوب باستصحاب بقاء نجاسة الثوب
ص: 684
يتوقف على مقدمتين - الأولى : بقاء الشك في نجاسة الثوب بعد غسله بالماء المشكوك الطهارة. الثانية : حجية الأصل المثبت. والأصل الذي يكون مؤداه طهارة الماء يرفع الشك في بقاء نجاسة الثوب ، لما عرفت : من أنه لا معنى لطهارة الماء إلا كونه مزيلا للحدث والخبث ، فلم يبق موضوع لاستصحاب بقاء نجاسة الثوب.
ومن هنا يظهر : أن عدم جريان الأصل المسببي لا يبتني على عدم حجية الأصل المثبت ، بل لا يجري الأصل المسببي ولو فرض حجية الأصل المثبت ، لان الأصل إنما يثبت اللوازم والملزومات العقلية والعادية بعد جريانه ، وجريانه يتوقف على وجود موضوعه ، والأصل الجاري في الشك السببي رافع لموضوع الأصل المسببي ، فهو يسقط بسقوط موضوعه في الرتبة السابقة ، ولا تصل النوبة إلى المنع عن إثباته اللوازم والملزومات.
والحاصل : أن جريان الأصل المسببي يتوقف على الشك في مؤداه والشك في مؤداه يتوقف على عدم جريان الأصل السببي - إذ مع جريانه يرتفع الشك في مؤدى الأصل المسببي - وعدم جريان الأصل السببي يتوقف على جريان الأصل المسببي وإثباته اللوازم العقلية. وأما جريان الأصل السببي : فهو لا يتوقف على شيء ، لان موضوعه محرز بالوجدان وليس له في مرتبة جريانه رافع.
وظني أن المسألة أوضح من أن تحتاج إلى إطالة الكلام فيها ، ولم يعهد الاشكال فيها من أحد إذا كان دليل اعتبار الأصل السببي مغايرا لدليل اعتبار الأصل المسببي ، وإنما استشكل من استشكل فيها مع اتحاد دليل اعتبار الأصلين ، كقوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك ». ومنشأ الإشكال : هو أن نسبة قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » إلى كل واحد من الشك السببي والمسببي يتوقف على شيء ، لان موضوعه محرز بالوجدان وليس له في مرتبة جريانه رافع. وظني أن المسألة أوضح من أن تحتاج إلى إطالة الكلام فيها ، ولم يعهد الاشكال فيها من أحد إذا كان دليل اعتبار الأصل السببي مغايرا لدليل اعتبار الأصل المسببي ، وإنما استشكل من استشكل فيها مع اتحاد دليل اعتبار الأصلين ، كقوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك ».
ومنشأ الإشكال : هو أن نسبة قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » إلى كل واحد من الشك السببي والمسببي على حد سواء ، فإنه يعم كل فرد من أفراد اليقين ولا شك ، كما أن قوله : « أكرم العلماء » يعم جميع
ص: 685
الافراد المتدرجة في الوجود ، فلا وجه لملاحظة الدليل أولا مع الشك السببي حتى يقال بارتفاع الشك المسببي ، بل يمكن العكس ويلاحظ الدليل أولا مع الشك المسببي فيرتفع به الشك السببي بناء على حجية الأصل المثبت.
وبعبارة أوضح : فردية الشك المسببي للعام محرزة بالوجدان كما أن فردية الشك السببي له أيضا محرزة بالوجدان ، فلا معنى لاخراج الشك المسببي عن كونه فردا للعام بادخال الشك السببي في أفراد العام ، مع أن نسبة العام إلى كل من الفردين على حد سواء.
ويمكن تقريب الاشكال بوجه آخر : وهو أن الحكومة تتوقف على تعدد الدليل ليكون أحد الدليلين حاكما على الآخر ومفسرا لمدلوله ، فلا يعقل الحكومة في دليل واحد ، لأنه يلزم اتحاد الحاكم والمحكوم وكون الدليل الواحد شارحا ومفسرا لنفسه ، فالأصل السببي لا يمكن أن يكون حاكما على الأصل المسببي مع اتحاد دليل اعتبارهما.
هذا ، ولكن لا يخفى عليك فساد ذلك ، فان قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » عام انحلالي ينحل إلى قضايا متعددة حسب تعدد أفراد اليقين والشك في الخارج ، فهو بالنسبة إلى الشك السببي والمسببي بمنزلة دليلين متغايرين ، كما إذا كان لكل منهما دليل يخصه من أول الامر ، فيكون أحد الدليلين رافعا لموضوع دليل الآخر وحاكما عليه. وأما حديث اعتبار الشرح والتفسير في الحكومة : فقد عرفت ما فيه ، وسيأتي تفصيله أيضا ( إن شاء اللّه تعالى ).
فالتحقيق : أنه لا مجال للتوقف في حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي ، سواء توافقا في المؤدى أو تخالفا ، وسواء كان دليل اعتبارهما متحدا أو متعددا ، فان اتحاد الدليل وتعدده لا دخل له بذلك بعدما كان الدليل عاما انحلاليا.
ص: 686
وإن شئت قلت : إن قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » لا يمكن أن يعم الأصل السببي والمسببي في عرض واحد جمعا ، إذ يلزم من دخول كل منهما خروج الآخر ، ولكن خروج الأصل السببي عن العموم يوجب التخصيص بلا مخصص ، لأنه فرد للعام وجدانا ، وليس في البين ما يوجب خروجه عنه ، وأما خروج الأصل المسببي عنه فلا يلزم منه ذلك ، بل الأصل المسببي خارج عنه بالتخصص ، لارتفاع موضوعه ، لما عرفت : من أن الأصل السببي رافع للشك المسببي ومعدم له في عالم التشريع ، فلا يلزم من خروجه التخصيص بلا مخصص.
وبعبارة أوضح : دخول الشك المسببي في العموم يحتاج إلى مؤنة خروج الشك السببي عنه ، فإنه لولا خروجه لا يكاد يمكن دخول الشك المسببي فيه ، لعدم انحفاظ الشك ، فلابد في دخوله من خروج الشك السببي ، بخلاف دخول الشك السببي في العموم ، فإنه لا يحتاج إلى مؤنة ، لكونه من أفراد العموم وجدانا ، فهو داخل بنفسه ، ومن المعلوم : أنه إذا توقف شمول العموم لفرد على خروج فرد عنه لا يكون العموم شاملا له من أول الامر لكي يلزم من شموله خروج ما هو معلوم الفردية ، وذلك واضح لا خفاء فيه.
هذا كله إذا كان الشك في أحد المستصحبين مسببا عن الشك في الآخر.
وإن كان الشك في كل منهما مسببا عن أمر ثالث : فهو على أقسام ، لأنه إما أن يلزم من العمل بالاستصحابين مخالفة عملية للتكليف المنجز ، وإما أن لا يلزم منهما مخالفة عملية. وعلى الثاني : فإما أن يقوم دليل من الخارج على عدم إمكان الجمع بين المستصحبين - كتتميم الماء النجس كرا بماء طاهر حيث قام الاجماع على اتحاد حكم المائين المجتمعين فلا يمكن بقاء النجس على نجاسته والطاهر على طهارته - وإما أن لا يقوم دليل على عدم إمكان الجمع بينهما. فان لم يقم دليل على ذلك : فإما أن يكون لبقاء كل من المستصحبين في
ص: 687
زمان الشك أثر شرعي - كما لو توضأ المكلف بمايع مردد بين الماء والبول غفلة فان استصحاب طهارة البدن يقتضي ترتيب آثار الطهارة على البدن واستصحاب بقاء الحدث يقتضي ترتيب آثار الحدث - وإما أن يكون لاحد المستصحبين أثر شرعي في زمان الشك دون الآخر ، كما في دعوى الموكل التوكيل في شراء العبد ودعوى الوكيل التوكيل في شراء الجارية فهذه جملة ما ذكره الشيخ قدس سره من الأقسام.
وقبل بيان أحكامه ينبغي تمهيد مقدمتين ، وإن كان قد تقدم الكلام فيهما في أول مبحث الشك في المكلف به.
الأولى : هل الأصل في تعارض الأصول يقتضي التخيير في إعمال أحدها؟ أو أن الأصل في تعارض الأصول يقتضي التساقط؟ فقد يقال ، بل قيل : إن الأصل يقتضي التخيير ، قياسا لها على تعارض الطرق والامارات على القول بالسببية فيها ، على ما سيأتي ( إن شاء اللّه تعالى ) في مبحث التعادل والتراجيح : من أن الأصل في تعارض الامارات هو التساقط بناء على الطريقية والتخيير بناء على السببية.
والأقوى : هو التساقط ، فان التخيير في إعمال أحد الأصلين المتعارضين مما لا دليل عليه ولا يقتضيه أدلة اعتبار الأصول ، لان أدلة اعتبارها تقتضي إعمال كل أصل بعينه ، فإذا لم يمكن ذلك فلابد من التساقط. وقياس الأصول المتعارضة على الامارات المتعارضة مع الفارق ، فان الامارات المتعارضة بناء على السببية فيها إنما تندرج في صغرى التزاحم ، سواء قلنا بالسببية الباطلة التي ترجع إلى التصويب أو قلنا بالسببية الصحيحة التي توافق مسلك التخطئة. أما على الأول : فرجوع التعارض في الامارات إلى باب التزاحم واضح. وأما على الثاني : فالسببية التي لا تنافي مذهب التخطئة عبارة عن اشتمال كل من الامارات المتعارضة على المصلحة السلوكية ، على ما تقدم بيانها في الجمع بين
ص: 688
الحكم الظاهري والواقعي (1)كذا في النسختين، و الصحيح (الحكمين الفعليين القائمين» (المصحّح).(2).
وتقدم أيضا : أنه لا وجه للالتزام بالمصلحة السلوكية ، بل الحق هو أن المجعول في باب الامارات نفس الطريقية والوسطية في الاثبات ، من دون أن يكون في العمل بها مصلحة سوى مصلحة الواقع عند الإصابة. ولكن لو قلنا بالمصلحة السلوكية فإنما نقول بها في حال انفتاح باب العلم والتمكن من إدراك الواقع ، فإنه في هذا الحال يمكن أن يتوهم بقبح التعبد بالامارات مع كونها قد تخالف الواقع ، لأنه يلزم تفويت مصلحة الواقع على المكلف مع تمكنه منها بتحصيل العلم. وأما في صورة انسداد باب العلم وعدم تمكن المكلف من إدراك الواقع : فلا موجب للالتزام بالمصلحة السلوكية ، لأنه لا يلزم من التعبد بالامارات تفويت مصلحة الواقع ، بل باب الوصول إلى المصالح الواقعية منسد على المكلف حسب الفرض ، والمقدار الذي يدركه المكلف من إصابة الامارة للواقع خير جاءه من قبل التعبد بها ، فلا وجه للالتزام بالمصلحة السلوكية في
ص: 689
صورة انسداد باب العلم ، بل المصلحة السلوكية تختص بصورة انفتاح باب العلم إن لم نقل : إنه يكفي في صحة التعبد بالامارات مصلحة التسهيل ، وإلا فنمنع عن المصلحة السلوكية حتى في صورة انفتاح باب العلم.
وعلى كل حال : السببية التي توافق مسلك المخطئة عبارة عن اشتمال الامارة على المصلحة السلوكية في صورة التمكن من إدراك الواقع وانفتاح باب العلم.
وعلى هذا تندرج الامارات المتعارضة في باب التزاحم ويكون التخيير في الاخذ بأحدها على القاعدة ، لأنه لا يتمكن المكلف من الجمع بين الامارتين المتعارضتين (1) فلا يمكنه إلا سلوك أحد الطريقين وإدراك إحدى المصلحتين ، فيكون المكلف مخيرا في سلوك أحدهما إن لم يكن لأحدهما مرجحات باب التزاحم. هذا كله في الطرق والامارات.
وأما الأصول العملية : فهي وإن لم تكن طريقا إلى الواقع لأنها ليست كاشفة عن الواقع ، إلا أنه لا يمكن القول بالسببية فيها ، لان التعبد بالأصول العملية إنما يكون في ظرف انسداد باب العلم (2) وعدم التمكن من إدراك الواقع ، لأنها وظيفة الشاك والمتحير الذي لا تصل يده إلى الواقع ، فالتعبد بها يختص بصورة انسداد باب العلم ، ومعه لا يمكن اشتمال الأصول على المصلحة
ص: 690
السلوكية ، لأنه يكفي في التعبد بها مصلحة التسهيل وعدم وقوع المكلفين في كلفة الاحتياط ، فإذا لم يكن في الأصول العملية مصلحة السلوك لا يمكن إدراج الأصول المتعارضة في باب التزاحم ، لما عرفت : من أن إدراج الامارات المتعارضة في باب التزاحم إنما كان لأجل اشتمالها على المصلحة السلوكية ، والأصول العملية فاقدة لها ، فلا تندرج في صغرى التزاحم.
وما ذكره الشيخ قدس سره من إمكان إدراج الاستصحابين المتعارضين في باب التزاحم إذا فرض أن العمل بأحد الاستصحابين يقتضي سلب القدرة وعدم التمكن من العمل بالآخر ، مجرد فرض لا واقع له ، بل الظاهر أن يكون من المستحيل.
فالانصاف : أن القول بالتخيير في إعمال أحد الأصلين المتعارضين مما لا سبيل إليه ، بل هو قول بلا دليل ، لان نسبة أدلة الاعتبار إلى كل من الأصلين على حد سواء ولا يمكن الجمع بينهما حسب الفرض ، فلابد من التساقط.
ولا موقع للترجيح بين الأصول المتعارضة ، فان الترجيح إن كان لأجل موافقة أحد المتعارضين لأصل عملي آخر ، فالأصل المعارض يعارض كل من الأصلين المتعارضين مع اتحاد رتبتهما ، لان تعارض الأصول العملية إنما يكون باعتبار المؤدى ، فقد يعارض مؤدى أصل لمؤدى أصول متعددة مع اتحاد الرتبة ، وإلا لا يعقل وقوع التعارض بينها ، فالأصل العملي لا يصلح لان يكون مرجحا لاحد الأصلين المتعارضين.
وإن كان الترجيح لأجل موافقة مؤدى أحد المتعارضين لامارة غير معتبرة ، فالامارة لا تكون في رتبة الأصل ولا يمكن أن تكون الامارة مرجحة للأصل ، لان اعتبار الأصل ليس من جهة كشفه عن الواقع حتى تكون موافقة الامارة له مقتضية لأقوائية كشفه وأقربية مؤداه للواقع.
ص: 691
فالترجيح في باب الأصول المتعارضة ساقط من أصله ولا محيص عن القول بالتساقط ، وقد تقدم في مبحث الاشتغال ما ينفع المقام (1) فراجع.
المقدمة الثانية : المجعول في باب الأصول العملية وإن كان هو البناء العملي على أحد طرفي الشك ، الا أنه تارة : يكون المجعول هو البناء العملي على ثبوت الواقع في أحد طرفي الشك وتنزيله عملا منزلة الواقع. وأخرى : يكون المجعول مجرد تطبيق العمل على أحد طرفي الشك ، من دون أن يكون الجعل متكفلا لثبوت الواقع في أحد الطرفين. ويعبر عن الأول بالأصل المحرز أو المتكفل للتنزيل ، وعن الثاني بالأصل الغير المحرز ، ولا يخفى ما في التعبير من المناسبة.
ويدخل في القسم الأول الاستصحاب وقاعدة الفراغ والتجاوز وأصالة الصحة ، فان هذه الأصول كلها متكفلة للتنزيل والاحراز ، والمجعول فيها هو البناء العملي على ثبوت الواقع إن كان مؤدى الأصل مقام الثبوت - كالاستصحاب - أو البناء العملي على الاتيان بالواقع إن كان مؤدى الأصل مقام الفراغ والسقوط - كقاعدة الفراغ والتجاوز -.
ويدخل في القسم الثاني البراءة والاحتياط وأصالة الحل والطهارة ، فان المجعول في هذه الأصول مجرد تطبيق العمل على أحد طرفي الشك من دون أن تكون متكفلة لثبوت الواقع أو الاتيان به (2).
ص: 692
وتظهر الثمرة بين الأصول المحرزة وغيرها في موارد عديدة :
منها : قيام الأصول المحرزة مقام القطع الطريقي ، دون الأصول الغير المحرزة ، وقد تقدم الكلام فيه في مبحث القطع.
ومنها : عدم جريان الأصول المحرزة في أطراف العلم الاجمالي مطلقا ، سواء كان مؤداها نفي التكليف المعلوم بالاجمال ولزم من جريانها مخالفة عملية ، أو كان مؤداها ثبوت التكليف المعلوم بالاجمال ولم يلزم من جريانها مخالفة عملية ، فان التعبد ببقاء الواقع في كل واحد من أطراف العلم الاجمالي ينافي العلم الوجداني بعدم بقاء الواقع في أحدها ، وكيف يعقل الحكم ببقاء النجاسة مثلا في كل واحد من الانائين مع العلم بطهارة أحدهما؟ ومجرد أنه لا يلزم من الاستصحابين مخالفة عملية لا يقتضي صحة التعبد ببقاء النجاسة في كل منهما ، فان الجمع في التعبد ببقاء مؤدى الاستصحابين ينافي ويناقض العلم الوجداني بالخلاف.
وهذا بخلاف الأصول الغير المحرزة ، فإنه لما كان المجعول فيها مجرد تطبيق العمل على أحد طرفي الشك فلا مانع من التعبد بها في أطراف العلم الاجمالي إذا لم يلزم منها مخالفة عملية.
وبذلك يظهر : أن المانع من جريان الأصول المحرزة في أطراف العلم الاجمالي إنما هو عدم قابلية المجعول فيها لان يعم جميع الأطراف ، لا لقصور أدلة اعتبارها ، فإنه لا مانع من شمول قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » لكل واحد من اليقين والشك المتعلق بكل واحد من الأطراف.
فما يظهر من الشيخ قدس سره من أن المانع من جريان الأصول في
ص: 693
الأطراف هو عدم شمول الدليل لها لأنه يلزم أن يناقض صدر الدليل ذيله ، لا يخلو عن إشكال ، بل منع ، وقد تقدم منا الكلام في تفصيل ذلك في مبحث الاشتغال. والغرض من إعادته دفع ما ربما يناقش فيما ذكرناه - من عدم جريان الأصول المحرزة في أطراف العلم الاجمالي مطلقا وإن لم يلزم منها مخالفة عملية - بأنه يلزم على هذا عدم جواز التفكيك بين المتلازمين الشرعيين ، كطهارة البدن وبقاء الحدث عند الوضوء بمايع مردد بين البول والماء ، لان استصحاب بقاء الحدث وطهارة البدن ينافي العلم الوجداني بعدم بقاء الواقع في أحدهما ، لأنه إن كان المايع ماء فقد ارتفع الحدث وإن كان بولا فقد تنجس البدن ، فالتعبد بالجمع بينهما لا يمكن. بل يلزم عدم جواز التفكيك بين المتلازمين العقليين أو العاديين ، فان استصحاب حياة زيد وعدم نبات لحيته ينافي العلم بعدم الواقع في أحدهما ، لما بين الحياة والنبات من الملازمة ، وكذا التعبد ببقاء الكلي وعدم حدوث الفرد ونحو ذلك من الأمثلة التي تقتضي الأصول العملية فيها التفكيك بين المتلازمين. والالتزام بعدم جريان الاستصحابين إذا أوجبا التفكيك بين المتلازمين الشرعيين أو العقليين والعاديين بعيد غايته ، بل لا يمكن الالتزام به ، فان ثمرة القول بعدم حجية الأصل المثبت إنما تظهر في التفكيك بين المتلازمين ، فدعوى : عدم جريان الأصول المحرزة إذا استلزم منها التفكيك بين المتلازمين ، تنافي القول بعدم حجية الأصل المثبت.
هذا ، والتحقيق في دفع الشبهة هو أن يقال :
إنه تارة : يلزم من التعبد بمؤدى الأصلين العلم التفصيلي بكذب ما يؤديان إليه ، لأنهما يتفقان على نفي ما يعلم تفصيلا ثبوته أو على ثبوت ما يعلم تفصيلا نفيه ، كما في استصحاب نجاسة الانائين أو طهارتهما مع العلم بطهارة أحدهما أو نجاسته ، فان الاستصحابين يتوافقان في نفي ما يعلم تفصيلا من طهارة أحدهما أو نجاسته.
ص: 694
وأخرى : لا يلزم من التعبد بمؤدى الأصلين العلم التفصيلي بكذب ما يؤديان إليه (1) بل يعلم إجمالا بعدم مطابقة أحد الأصلين للواقع من دون أن يتوافقا في ثبوت ما علم تفصيلا نفيه أو نفي ما علم تفصيلا ثبوته ، بل لا يحصل من التعبد بمؤدى الأصلين إلا العلم بمخالفة أحدهما الواقع ، كما في الأصول الجارية في الموارد التي يلزم منها التفكيك بين المتلازمين الشرعيين أو العقليين ، فإنه لا يلزم من استصحاب طهارة البدن وبقاء الحدث عند الوضوء بمايع مردد بين البول والماء أو من استصحاب بقاء الحياة وعدم نبات اللحية العلم التفصيلي بمخالفة ما يؤديان إليه ، لأنهما لم يتحدا في المؤدى ، بل كان مؤدى أحدهما غير مؤدى الآخر ، غايته أنه يلزم من جريانهما التفكيك بين المتلازمين ، بخلاف استصحاب النجاسة أو الطهارة في كل من الانائين ، فان الاستصحابين متحدان في المؤدى مع العلم التفصيلي بالخلاف.
فالفرق بين القسم الأول والثاني مما لا يكاد يخفى ، والذي منعنا عن جريانه في أطراف العلم الاجمالي هو القسم الأول ، لأنه لا يمكن التعبد بالجمع بين الاستصحابين اللذين يتوافقان في المؤدى مع مخالفة مؤداهما للمعلوم بالاجمالي.
وأما التعبد بالجمع بين الاستصحابين المتخالفين في المؤدى الذي يلزم من جريانهما التفكيك بين المتلازمين : فلا محذور فيه ، فان التلازم بحسب الواقع لا يلازم التلازم بحسب الظاهر ، لأنه يجوز التفكيك الظاهري بين المتلازمين
ص: 695
الواقعيين ، إلا أن يقوم دليل آخر من إجماع أو غيره على ثبوت التلازم واقعا وظاهرا ، كما في تتميم النجس كرا بطاهر ، على ما سيأتي بيانه.
فظهر : أن القول بعدم جريان الأصول المحرزة في أطراف العلم الاجمالي لا يلازم القول بعدم جريانها إذا استلزم منها التفكيك بين المتلازمين الشرعيين أو العقليين أو العاديين ، فتأمل.
إذا عرفت ذلك فاعلم : أن الأقسام التي ذكرها الشيخ قدس سره لتعارض الاستصحابين ولو كانت تشترك في العلم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما ، إلا أنه منها : مالا يجري فيه إلا أحد الاستصحابين. ومنها : ما يجري فيه كل من الاستصحابين. ومنها : مالا يجري فيه شيء من الاستصحابين (1).
والأولى في تحرير الأقسام هو أن يقال : إن الاستصحابين إما أن يلزم منهما المخالفة العملية وإما أن لا يلزم منهما ذلك. وعلى الثاني : فاما أن يؤديان جمعا إلى ما يخالف المعلوم بالتفصيل فيما بين الأطراف أو لا يؤديان إلى ذلك. وعلى الثاني : فاما أن لا يكون لأحدهما أثر شرعي في زمان الشك وإما أن يكون لكل منهما أثر شرعي. وعلى الثاني : فاما أن يلزم منهما التفكيك بين المتلازمين اللذين قام الدليل على عدم جواز التفكيك بينهما ولو ظاهرا وإما أن يلزم منهما التفكيك بين المتلازمين مع عدم قيام الدليل على عدم جواز التفكيك بينهما ، فالأقسام خمسة.
ولكن منها : مالا يجري فيه إلا أحد الاستصحابين ، وهو ما إذا لم يكن لاحد المستصحبين أثر شرعي في زمان الشك ، بداهة أن الاستصحاب إنما يجري باعتبار الأثر ، فإذا لم يكن لأحدهما أثر فلا مجال لجريانه. ومنها : ما يجري فيه الاستصحابان من دون أن يكون بينهما معارضة ، وهو ما إذا لزم من جريان
ص: 696
الاستصحابين التفكيك بين المتلازمين مع عدم قيام الدليل على عدم جواز التفكيك بينهما ، كاستصحاب طهارة البدن وبقاء الحدث عند الوضوء بمايع مردد بين البول والماء. ومنها : مالا يجري فيه كل من الاستصحابين ، وهو القسم الأول والثاني والرابع. ولكن لا بمناط واحد ، بل في القسم الأول لا يجري الاستصحابان لأنه يلزم منهما المخالفة العملية ، كما في استصحاب طهارة الانائين مع العلم بنجاسة أحدهما. وفي القسم الثاني لا يجريان لمكان أنهما يؤديان إلى ما يخالف المعلوم بالاجمال ، كما في استصحاب نجاسة الانائين مع العلم بطهارة أحدهما. وفي القسم الرابع لا يجريان لمكان قيام الدليل من الخارج على عدم صحة الجمع بين الاستصحابين ، كما في تتميم الماء النجس كرا بماء طاهر ، فإنه لولا قيام الاجماع على اتحاد حكم المائين المختلطين لكانت القاعدة تقتضي بقاء الطاهر على طهارته والنجس على نجاسته ، ولكن قيام الاجماع على اتحاد حكم المائين المختلطين يوجب حصول الشك في بقاء الطاهر على طهارته وفي بقاء النجس على نجاسته ، فان الاجماع لم يقم إلا على اتحاد حكم المائين ، فيمكن أن يكون الماء الطاهر باقيا على طهارته والماء النجس صار طاهرا بالخلط ، ويمكن العكس ، فإن الاجماع لا يفيد أزيد من حصول الشك في بقاء الحالة السابقة لكل من المائين ، فموضوع الاستصحاب في كل منهما ثابت ، إلا أنه لا يجريان معا ، لأنه يلزم من جريانهما اختلاف حكم المائين المختلطين ، والمفروض : قيام الاجماع على الاتحاد. فالقسم الرابع يشارك القسم الأول والثاني في سقوط كل من الاستصحابين ، إلا أنه في القسم الأول كان السقوط لأجل عدم إمكان التعبد بهما ، وفي القسم الثاني يكون السقوط لأجل قيام الدليل من الخارج على عدم صحة الجمع بينهما ، فتأمل جيدا.
ثم لا يخفى عليك : أن الشيخ قدس سره لم يتعرض في تقسيمه للقسم الثاني ، وعلل سقوط الاستصحابين في القسم الأول بأنه يلزم منهما المخالفة
ص: 697
العملية. والتعليل بذلك ينافي مسلكه : من أن أدلة الاستصحاب بل مطلق الأصول لا تعم أطراف العلم الاجمالي ، فإنه على هذا ينبغي أن لا يفرق بين ما إذا لزم من جريان الاستصحابين مخالفة عملية وبين ما لم يلزم منه ذلك ، كما صرح بذلك في ذيل العبارة ، حيث قال : « ولذا لا نفرق في حكم الشبهة المحصورة بين كون الحالة السابقة في المشتبهين هي الطهارة أو النجاسة » انتهى. فإنه لو كانت الحالة السابقة فيهما النجاسة لم يلزم من جريان الاستصحابين مخالفة عملية.
والانصاف : أن كلام الشيخ قدس سره في المقام وفي مبحث الاشتغال عند البحث عن الشبهة المحصورة وفي مبحث القطع عند البحث عن وجوب الموافقة الالتزامية ، لا يخلو عن اضطراب ، فإنه تارة : يحوم حول المخالفة العملية ، وأخرى : يحوم حول قصور الأدلة وعمد شمولها لأطراف العلم الاجمالي ، فراجع وتأمل جيدا.
هذا تمام الكلام في الاستصحاب.
وقد وقع الفراغ منه في ليلة الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول من شهور سنة 1345.
* * *
ص: 698
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأولين والآخرين محمد وآله الطيبين الطاهرين ، واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
والأولى تبديل العنوان بالتعارض ، فان التعادل والترجيح من الأوصاف والحالات اللاحقة للدليلين المتعارضين ، فكان الأنسب جعل العنوان للقسم والجامع بينهما.
وعلى كل حال : لا إشكال في أن البحث عن التعادل والتراجيح من أهم مباحث الأصول ، وليست المسألة من المسائل الفقهية ولا من المبادي ، لأنها تقع كبرى لقياس الاستنباط ، بل عليها يدور رحى الاستنباط في معظم المسائل. وقد تقدم : أن ضابط المسألة الأصولية وقوعها في كبرى قياس الاستنباط ، فلا ينبغي التأمل في كون المسألة من المسائل الأصولية ، مع أن البحث عن كونها من المبادي أو من المسائل قليل الجدوى. فالأولى صرف عنان الكلام إلى ما هو أهم من ذلك ، وهو بيان ما يتحقق به التعارض والفرق
ص: 699
بينه وبين التزاحم والحكومة وأقسام التعارض وأحكامها ، فالكلام يقع في مباحث.
إعلم أن تعارض الدليلين إنما يكون باعتبار عدم إمكان اجتماع المحكي والمنكشف بهما بحيث يؤل حكايتهما إلى اجتماع الضدين ويكشفان عن ثبوت النقيضين في نفس الامر وفي عالم الجعل والثبوت ، ضرورة أنه لو أمكن اجتماع المحكيين بهما في عالم الجعل والتشريع لم يتحقق التعارض بين الدليلين ، فان التعارض إنما يعرض الدليلين باعتبار كونهما يثبتان المتنافيين ويحكيان عن المتناقضين ، فلابد في تعارض الدليلين من تنافي مدلوليهما بحيث لا يمكن اجتماعهما في الوعاء المناسب لهما : من وعاء التكوين أو وعاء الاعتبار والتشريع ، سواء كان التنافي في تمام المدلول أو في جزئه - كالعامين من وجه - وسواء كان التنافي بينهما لأجل امتناع اجتماعهما ذاتا في حد أنفسهما ، أو كان التنافي بينهما لأجل ما يلزمهما من اللوازم التكوينية والشرعية ، أو كان التنافي بينهما باعتبار بعض العوارض والحالات اللاحقة للموضوع : من الانقسامات السابقة على الحكم أو اللاحقة له بعد الحكم ، فكما يتحقق التنافي بين الدليلين لو كان مفاد أحدهما حرمة شرب الخمر في زمان ومكان خاص وحالة مخصوصة وغير ذلك من الوحدات الثمانية التي يعتبر في التناقض وكان مفاد الآخر عدم الحرمة في تلك الوحدات ، كذلك يتحقق التنافي لو كان مفاد أحد الدليلين حرمة شرب الخمر في جميع حالاته وكان مفاد الآخر جواز شربه في بعض
ص: 700
حالاته ، فإنه بالنسبة إلى ذلك الحال يلزم اجتماع النقيضين لورود النفي والاثبات عليه ، وكذا يتحقق التنافي لو كان مفاد أحد الدليلين وجوب الصلاة على العالم والجاهل وكان مفاد الآخر عدم وجوبها على الجاهل.
ومن ذلك يظهر (1) فساد الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي بتغاير موضوعيهما (2) فان موضوع الحكم الظاهري مقيد بالجهل وعدم العلم بالحكم الواقعي وموضوع الحكم الواقعي غير مقيد بذلك ، ضرورة أن الحكم الواقعي وإن لم يمكن فيه الاطلاق والتقييد اللحاظي لحالة العلم والجهل ، إلا أنه لا محيص من نتيجة الاطلاق أو التقييد ، لأنه لا يعقل الاهمال النفس الأمري.
فان كانت النتيجة مطلقة وكان الحكم الواقعي محفوظا في حال علم المكلف وجهله : فلا محالة يلزم اجتماع النقيضين في حال جهل المكلف بالحكم
ص: 701
الواقعي ، لاجتماع موضوع الحكم الواقعي والظاهري معا في ذلك الحال ، فيلزم اجتماع الضدين : من الوجوب والحرمة.
وإن كانت النتيجة مقيدة بحال العلم وكان الحكم الواقعي مخصوصا بصورة العلم به : فاجتماع النقيضين وإن لم يلزم لتغاير الموضوعين ، إلا أنه يلزم التصويب الجمع على بطلانه. فالجمع بين الحكم الظاهري والواقعي بتغاير الموضوع ضعيف غايته.
ويتلوه في الضعف الجمع بينهما بحمل الاحكام الواقعية على الانشائية والاحكام الظاهرية على الفعلية ، وقد تقدم الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في حجية الظن مع ما عندنا من الوجه في دفع التنافي بين الحكمين ، فراجع.
وعلى كل حال : قد عرفت أن التعارض إنما يلحق الدليلين ثانيا وبالعرض ، والذي يتصف به أولا وبالذات هو مدلول الدليلين وما يحكيان ويكشفان عنه ويؤديان إليه مطابقة أو التزاما. فإذا تكاذب الدليلان في المؤدى امتنع اجتماع المدلول المطابقي أو الالتزامي لأحدهما مع مدلول الآخر كذلك في عالم الجعل والتشريع ، فلا محالة يقع التعارض بين الدليلين مطلقا أو في بعض الافراد والحالات ، من غير فرق بين أن يتكاذب الدليلان بأنفسهما ابتداء - كما إذا كان أحدهما ينفي ما يثبته الآخر - وبين أن ينتهي الامر إلى التكاذب ولو لأمر خارج ، كما إذا كان مفاد أحد الدليلين وجوب صلاة الظهر وكان مفاد الآخر وجوب صلاة الجمعة وعلم من الخارج أن الواجب هي إحدى الصلاتين ، فان الدليلين وإن لم يتكاذبا ابتداء ولم يمتنع اجتماع مؤداهما ثبوتا إلا أنه بعد العلم بعدم وجوب إحدى الصلاتين يقع التكاذب بين الدليلين ، فان كلا منهما يثبت مؤداه وينفي بلازمه مؤدى الآخر ، فيؤول الامر إلى امتناع اجتماع المؤديين.
والحاصل : أن ضابط تعارض الدليلين هو أن يؤديان إلى ما لايمكن تشريعه
ص: 702
ويمتنع جعله في نفس الامر ولكن بعد أن يكون كل منهما واجدا لشرائط الحجية ، فلو علم بكذب أحد الدليلين لمكان العلم بكون أحدهما غير واجد لشرائط الحجية واشتبه بما يكون واجدا لشرائطها كان ذلك خارجا عن باب التعارض (1) بل يكون من اشتباه الحجية باللا حجية ، ولا يأتي فيه أحكام التعارض ، وإنما يعمل فيه ما تقتضيه قواعد العلم الاجمالي.
وفي حكم ذلك ما إذا علم بعدم تشريع مؤدى أحد الدليلين مع إمكانه ثبوتا ، كما إذا كان مؤدى أحد الدليلين وجوب الدعاء عند الهلال وكان مؤدى الآخر وجوب دية الحر في قتل العبد المدبر وعلم بكذب مضمون أحدهما ، فإنه أيضا ليس من باب التعارض ، بل من باب اشتباه الحجية باللا حجة ، ويعمل على ما يقتضيه العلم الاجمالي.
فظهر : أنه مجرد العلم بكذب أحد الدليلين صدورا أو مضمونا لا يكفي في وقوع التعارض بينهما ، بل يعتبر في وقوع التعارض بين الدليلين أمران : أحدهما : أن يكون كل منهما واجدا لشرائط الحجية ، ثانيهما : أن يمتنع اجتماع مدلولهما ثبوتا
ص: 703
في عالم الجعل والتشريع ، فتأمل جيدا.
وحاصله : أن التزاحم وإن كان يشترك مع التعارض في عدم إمكان اجتماع الحكمين ، إلا أن عدم إمكان الاجتماع في التعارض إنما يكون في مرحلة الجعل والتشريع ، بحيث يمتنع تشريع الحكمين ثبوتا ، لأنه يلزم من تشريعهما اجتماع الضدين أو النقيضين في نفس الامر.
وأما التزاحم : فعدم إمكان اجتماع الحكمين فيه إنما يكون في مرحلة الامتثال بعد تشريعهما وإنشائهما على موضوعهما المقدر وجوده وكان بين الحكمين في عالم الجعل والتشريع كمال الملائمة من دون أن يكون بينهما مزاحمة في مقام التشريع والانشاء (1) وإنما وقع بينهما المزاحمة في مقام الفعلية بعد تحقق الموضوع خارجا ، لعدم القدرة على الجمع بينهما في الامتثال ، فيقع التزاحم بينهما لتحقق القدرة على امتثال أحدهما ، فيصلح كل منهما لان يكون تعجيزا مولويا عن الآخر ورافعا لموضوعه ، فان كل تكليف يستدعي حفظ القدرة على متعلقه
ص: 704
وصرفها نحوه وإن لزم منه سلب القدرة عن التكليف الآخر ، والمفروض : ثبوت القدرة على كل منهما منفردا وإن لم يمكن الجمع بينهما ، فكل من الحكمين يقتضي حفظ موضوعه ورفع موضوع الآخر بصرف القدرة إلى امتثاله ، فيقع التزاحم بينهما في مقام الامتثال.
فما في بعض الكلمات : من أن تزاحم الحكمين إنما يكون لأجل تزاحم المقتضيين والملاكين اللذين يقتضيان تشريع الحكمين على طبقهما ، ضعيف غايته ، فان تزاحم الملاكين لا دخل له بتزاحم الحكمين ، بداهة أن عالم تزاحم الملاكات غير عالم تزاحم الاحكام ، فان تزاحم الملاكات إنما يكون في عالم تشريع الاحكام وإنشائها على موضوعاتها ، ولا محالة يقع الكسر والانكسار بين الملاكين ، فتتعلق إرادة الشارع بتشريع الحكم على طبق أقوى الملاكين لو كان أحدهما أقوى من الآخر ، وإلا فلابد من الحكم بالتخيير ، وأين هذا من تزاحم الحكمين؟ فان تزاحم الاحكام إنما يكون في عالم صرف قدرة المكلف على الامتثال بعد تشريع الاحكام على طبق ما اقتضته الملاكات ، فإرجاع تزاحم الاحكام إلى تزاحم الملاكات لا يخلو عن غرابة ، مع ما بين البابين من البون البعيد. وقد تقدم منا الكلام في تفصيل ذلك في الجزء الأول من الكتاب.
فتحصل : أن الفرق بين باب التعارض وباب التزاحم هو أن التعارض إنما يكون باعتبار تنافي مدلولي الدليلين في مقام الجعل والتشريع ، والتزاحم إنما يكون باعتبار تنافي الحكمين في مقام الامتثال ، إما لعدم القدرة على الجمع بينهما في الامتثال ، كما هو الغالب في باب التزاحم (1) وإما لقيام الدليل من الخارج
ص: 705
ص: 706
على عدم وجوب الجمع بينهما ، كما في بعض فروع زكاة المواشي ، كما لو كان المكلف مالكا لخمس وعشرين من الإبل في ستة أشهر ثم ملك واحدا آخر من الإبل وصارت ستة وعشرين ، فمقتضى أدلة الزكاة هو وجوب خمس شياه عند انقضاء حول الخمس والعشرين ووجوب بنت مخاض عند انقضاء حول الستة والعشرين ، ولكن قام الدليل على أن المال لا يزكى في المقام الواحد مرتين ، فيقع التزاحم حينئذ بين الحكمين ، لأنه لابد من سقوط ستة أشهر إما من حول الخمس والعشرين وإما من حول الستة والعشرين ، فإنه لولا السقوط وبقاء كل حول منهما على حاله يلزم تزكية المال في ظرف ستة أشهر مرتين ، كما لا يخفى.
وبالجملة : وقوع التزاحم بين الحكمين لا يختص بصورة عدم القدرة على الجمع بينهما في الامتثال ، بل قد يتفق التزاحم بين الحكمين مع التمكن من الجمع بينهما ، إلا أن ذلك نادر ، والغالب أن يكون التزاحم لعدم القدرة على الجمع بين المتزاحمين ، وأقسامه خمسة.
فان التزاحم تارة : يكون لأجل اتفاق اتحاد متعلق الحكمين في الوجود مع كونهما متغايرين بالذات ومختلفين في الهوية ، بحيث يكون الاتحاد بينهما من قبيل التركيب الانضمامي - نظير تركب الجسم من المادة والصورة - وعلى ذلك يبتني جواز اجتماع الأمر والنهي ويندرج مورد تصادق متعلق الأمر والنهي في صغرى التزاحم ، كما هو المختار. وأما لو كان التركيب بين المتعلقين اتحاديا - نظير التركيب من الجنس والفصل - وكان أحد المتعلقين متحدا مع الآخر بالهوية والذات ولو في الجملة وفي بعض الموارد ، فلا يكون من باب التزاحم ، بل
ص: 707
يندرج مورد تصادق متعلق الأمر والنهي في صغرى التعارض - كتعارض العامين من وجه - وعلى ذلك يبتني امتناع اجتماع الأمر والنهي ، فإنه على هذا يكون الامر بالصلاة والنهي عن الغصب بعينه كالأمر باكرام العالم والنهي عن إكرام الفاسق ، ولا إشكال في أنه في مورد تصادق العالم والفاسق يقع التعارض بين الدليلين ، لأنه يلزم أن يتعلق الامر بعين ما تعلق به النهي ، وقد تقدم في الجزء الثاني من الكتاب تفصيل ذلك بما لا مزيد عليه.
وأخرى : يكون التزاحم لأجل اتفاق وقوع التلازم بين متعلق الحكمين ، بمعنى أنه اتفق الملازمة بين امتثال أحد الحكمين لمخالفة الآخر ، فلو كانت الملازمة بينهما دائمية يندرجان في صغرى التعارض ، لامتناع تشريع حكمين يلزم من امتثال أحدهما مخالفة الآخر دائما (1) كما لو فرض أنه قام الدليل على وجوب استقبال القلبة وحرمة استدبار الجدي في القطر الذي تكون القبلة فيه نقطة الجنوب - كالعراق - فان الدليلين يتعارضان لا محالة ، وذلك واضح.
وثالثة : يكون التزاحم لأجل اتفاق وقوع أحد المتعلقين مقدمة لوجود الآخر ، كما لو توقف انقاذ الغريق على التصرف في أرض الغير ، فلو كان أحد المتعلقين مقدمة لوجود الآخر دائما لم يندرجا في باب التزاحم ، بل يندرجان في باب التعارض ، لامتناع تشريع الحكمين على هذا الوجه ، كما لا يخفى.
ورابعة : يكون التزاحم لأجل اتفاق وقوع المضادة بين المتعلقين ، كما لو
ص: 708
اتفقت نجاسة المسجد في وقت الصلاة ، فلو كانت المضادة دائمية يخرج عن باب التزاحم.
وخامسة : يكون التزاحم لأجل كون أحد المتعلقين مترتبا في الوجود والامتثال على الآخر وقد اتفق عدم قدرة المكلف على الجمع بين إيجاد المتعلقين كل في محله ، كالقيام في الركعة الأولى والثانية مع عدم تمكن المكلف من القيام إلا في إحدى الركعتين لضعف ونحوه. فهذه جملة أقسام التزاحم.
فهي أمور :
منها : ما إذا كان أحد المتزاحمين مضيقا والآخر موسعا ، فان المضيق يقدم على الموسع.
ومنها : ما إذا كان أحد المتزاحمين مشروطا بالقدرة الشرعية دون الآخر ، فيقدم ما لايكون مشروطا بالقدرة الشرعية على ما يكون مشروطا بها.
ومنها : ما إذا كان لاحد المتزاحمين بدل اضطراري دون الآخر ، فان مالا بدل له مقدم على ماله البدل.
ومنها : ما إذا كان ظرف امتثال أحد المتزاحمين مقدما على ظرف امتثال الآخر ، فان المقدم في الامتثال يقدم على غيره.
ومنها : ما إذا كان أحد المتزاحمين أهم من الآخر ، فإنه يقدم الأهم على غيره.
فهذه الأمور الخمسة مرجحات باب التزاحم ، وقد تقدم الكلام فيها وفي أمثلتها في الجزء الأول ، فراجع.
وأما مرجحات باب التعارض : فسيأتي الكلام فيها ( إن شاء اللّه تعالى ).
ص: 709
فتحصل : أن التعارض يغاير التزاحم موضوعا وحكما ولا يمكن أن يشتبه أحدهما بالآخر ، فتأمل جيدا
يعتبر في التعارض أن لا يكون أحد الدليلين حاكما على الآخر ، فان الحاكم إنما يثبت أو ينفي مالا يثبته دليل المحكوم أو ينفيه ، فلا يعقل أن يعارض المحكوم دليل الحاكم ، وذلك واضح لم يقع فيه الكلام. وإنما وقع الكلام في ضابط الحكومة.
فقيل : إن ضابط الحكومة هو أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي شارحا ومفسرا لما أريد من الدليل الآخر.
ولعل منشأ تفسير الحكومة بذلك : هو ما ذكره الشيخ قدس سره في مبحث التعادل والتراجيح ، قال قدس سره « وضابط الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا لحال الدليل الآخر ورافعا للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه ، فيكون مبينا لمقدار مدلوله مسوقا لبيان حاله متفرعا عليه » إلى أن قال : « والفرق بينه وبين التخصيص أن كون التخصيص بيانا للعام بحكم العقل الحاكم بعدم جواز إرادة العموم مع العمل بالخاص ، هذا بيان بلفظه ومفسر للمراد من العام ، وهو تخصيص في المعنى بعبارة التفسير » انتهى.
والتحقيق : أنه لا يعتبر في الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي مفسرا لمدلول الآخر وشارحا له ، بحيث يكون مصدرا بأحد أداة التفسير أو ما يلحق بذلك ، فان غالب موارد الحكومات لا ينطبق على هذا الضابط ، بل لم يوجد فيها ما يكون مصدرا بأحد أداة التفسير.
ص: 710
وإن قيل : إن المراد من التفسير ما يعم تفسير قرينة المجار لذي القرينة ، حيث إن قرينة المجاز إنما تكون شارحة لما أريد من لفظ ذي القرينة مع عدم كونها مصدرة بأداة التفسير.
قلنا : قصر الحكومة على ذلك أيضا يوجب خروج غالب الموارد عنها.
فدعوى : أنه يعتبر في الحكومة أن يكون أحد الدليلين مبينا لما أريد من مدلول الآخر وما يكون اللفظ ظاهرا فيه ، مما لا شاهد عليها ، فإنه ليست الحكومة مدلول دليل لفظي حتى يدعى أن المستفاد من الدليل ذلك.
والظاهر أن مراد الشيخ قدس سره من التفسير في قوله : « وهو تخصيص في المعنى بعبارة التفسير » ليس هو التفسير اللفظي ، بل المراد منه نتيجة التفسير وإن لم يكن تفسيرا لفظيا ، بداهة أنه لو كان مفاد أحد الدليلين بمدلوله المطابقي ما تقتضيه نتيجة تحكيم الخاص والمقيد على العام والمطلق ، لكان حاكما على الآخر ، مع أنه ليس في تحكيم الخاص والمقيد على العام والمطلق ما يوجب شرح اللفظ : فان الخاص والمقيد لم يتعرض لما أريد من لفظ العام والمطلق ، بل وظيفة الخاص والمقيد بيان الموضوع النفس الأمري وما تعلقت به الإرادة الواقعية ، من دون أن يتصرف في لفظ العام والمطلق ، بناء على ما هو التحقيق : من أن التخصيص والتقييد لا يوجب التجوز في لفظ العام والمطلق. نعم : بناء على أن التخصيص والتقييد يقتضي المجازية ، يكون الدليل الذي كان مفاده المطابقي ما تقتضيه نتيجة تحكيم الخاص والمقيد على العام والمطلق شارحا ومبينا لما أريد من لفظ العام والمطلق ، فان الخاص والمقيد يكون حاله حال سائر قرائن المجاز ، إلا أن ذلك بمعزل عن الواقع ، كما أوضحناه في محله.
وبالجملة : تحكيم قوله : « لا تكرم النحويين » على قوله : « أكرم العلماء » لا يقتضي أزيد من أن الموضوع النفس الأمري لوجوب الاكرام هو العام الغير النحوي ، من دون أن يستلزم ذلك تصرفا في لفظ « العلماء » فلو فرض أنه كان
ص: 711
هذا المعنى مدلول دليل آخر لا بلسان التخصيص والتقييد ، كما لو قال عقيب قوله « أكرم العلماء » : « العالم هو غير النحوي » أو قال : « النحوي ليس عالما » كان قوله هذا حاكما على قوله : « أكرم العلماء » مع أنه ليس فيه شرح وتفسير لفظي ، فتخصيص الحكومة بما يكون فيها شرح اللفظ بلا موجب ، بل سيأتي في شرح عبارة الشيخ قدس سره ما يظهر منه جريان الحكومة فيما بين الأصول العقلائية التي لا مسرح للفظ فيها.
فالتحقيق : أنه لا يعتبر في الحكومة أزيد من أن يرجع مفاد أحد الدليلين إلى تصرف في عقد وضع الآخر بنحو من التصرف (1) إما بأن يكون مفاد أحدهما رافعا لموضوع الآخر في عالم التشريع ، كما في حكومة الامارات على الأصول العملية وحكومة الأصول بعضها على بعض - على ما تقدم بيانه في خاتمة الاستصحاب - وإما بأن يكون مفاد أحدهما إدخال ما يكون خارجا عن موضوع الآخر أو إخراج ما يكون داخلا فيه. وقد يرجع مفاد أحد الدليلين إلى التصرف في عقد حمل الآخر لا في عقد وضعه ، كأدلة نفي الضرر والعسر والحرج ، فإنها تكون حاكمة على الاحكام الأولية ، مع أنه لا يرجع مفادها إلى التصرف
ص: 712
في موضوعات الاحكام ، بل يرجع تصرفها إلى إلى نفس الاحكام ، كما أوضحناه في « رسالة لا ضرر ». ولكن الغالب في الحكومات رجوع تصرف الحاكم إلى عقد وضع المحكوم ، سواء كانت الحكومة فيما بين الأدلة المتكفلة لبيان الاحكام الواقعية ، كحكومة قوله : « لا شك لكثير الشك » على قوله : « من شك بين الثلاث والأربع فليبن على الأربع » أو كانت الحكومة فيما بين الأدلة المتكفلة لبيان الاحكام الظاهرية ، كحكومة الامارات على الأصول ، فان الحكومة في جميع ذلك ترجع إلى تصرف دليل الحاكم في عقد وضع دليل المحكوم بنحو من التصرف ، من غير فرق بين أن يتقدم دليل المحكوم على دليل الحاكم في الورود والتعبد والتشريع أو يتأخر عنه. ولا وجه لما في بعض الكلمات : من أنه يعتبر في الحكومة أن يتقدم تشريع مفاد المحكوم على تشريع مفاد الحاكم ، بحيث يلزم لغوية التعبد بدليل الحاكم لولا سبق تشريع ما يتكفله دليل المحكوم والتعبد به.
وكأن من اعتبر في الحكومة ذلك غره ما يعطيه ظاهر كلام الشيخ قدس سره من قوله في كلامه المتقدم : « مسوقا لبيان حاله متفرعا عليه الخ » وأنت خبير بأنه من أوضح أفراد الحكومة حكومة الامارات على الأصول ، مع أنه يصح التعبد بالامارات ولو لم يسبق التعبد بالأصول ، بل ولو مع عدم التعبد بها رأسا.
نعم : الغالب في الحكومة التي تكون بين الأدلة المتكفلة للأحكام الواقعية هو سبق تشريع مفاد دليل المحكوم على مفاد دليل الحاكم ، كقوله : « لا شك لكثير الشك » أو قوله : « لا شك للامام مع حفظ المأموم » ونحو ذلك ، فإنه لولا سبق تشريع أحكام الشكوك لا يحسن تشريع مفاد قوله : « لا شك لكثير الشك ».
فتحصل مما ذكرنا : أنه لا يعتبر في الحكومة شرح اللفظ وتفسير أحد الدليلين لما أريد من دليل الآخر ، ولا يعتبر أيضا تقدم تشريع مفاد المحكوم على مفاد الحاكم ، بل الذي يعتبر في الحكومة : هو أن يرجع مفاد أحد الدليلين إلى
ص: 713
نحو تصرف في عالم التشريع في عقد وضع الآخر - كما هو الغالب - مع بقاء الموضوع في عالم التكوين على حاله ، ولذلك كانت نتيجة الحكومة هي التخصيص كما أن نتيجة الورود هي التخصص ، وقد تقدم تفصيل الفرق بين التخصيص والورود والحكومة والتخصص في أول مبحث البراءة وأشرنا إليه أيضا في خاتمة الاستصحاب.
وإجمال الفرق بين هذه العناوين : هو أن التخصص عبارة عن « خروج الشيء عن موضوع الدليل بذاته تكوينا » كخروج الجاهل عن قوله : « أكرم العلماء » وكخروج العالم بالحكم الشرعي عن موضوع التعبد بالامارات والأصول العملية.
وأما الورود : فهو عبارة عن « خروج الشيء عن موضوع أحد الدليلين حقيقة بعناية التعبد بالآخر » كخروج الشبهة عن موضوع الأصول العقلية بالتعبد بالامارات والأصول الشرعية ، فالورود يشارك التخصص في كون الخروج في كل منهما يكون على وجه الحقيقة ، إلا أن الخروج في التخصص يكون بذاته تكوينا بلا عناية التعبد ، وفي الورود يكون بعناية التعبد.
وأما الحكومة : فقد عرفت أنها عبارة عن « تصرف أحد الدليلين في موضوع الآخر رفعا أو وضعا ولكن لا حقيقة بل حكما » ففي الحقيقة دليل الحاكم إنما يتصرف فيما يتكفله دليل المحكوم من الحكم الشرعي بعناية التصرف في الموضوع.
وأما التخصيص : فهو عبارة عن « سلب الحكم عن بعض أفراد موضوع العام بلا تصرف في الموضوع » فالتخصيص يشارك الحكومة في كون التصرف في كل منهما إنما يكون في الحكم الشرعي ، إلا أن التصرف في الحكومة إنما يكون بتوسط التصرف في الموضوع ، وفي التخصيص يكون التصرف ابتداء في الحكم ، ولأجل ذلك لا تلاحظ النسبة بين دليل الحكام والمحكوم ولا قوة الظهور وضعفه ، بل يقدم الحاكم ولو كانت النسبة بينه وبين المحكوم العموم من وجه
ص: 714
وكان ظهور الحاكم أضعف من ظهور المحكوم ، بداهة أن لحاظ النسبة وقوع الظهور فرع التعارض ، وقد عرفت : أن دليل المحكوم لا يمكن أن يعارض دليل الحاكم ، لان دليل المحكوم إنما يثبت الحكم على فرض وجود موضوعه - كما هو الشأن في جميع القضايا الحقيقة - ودليل الحاكم ينفي وجود الموضوع أو يثبته ، فلا يمكن أن يعارض قوله : « أكرم العلماء » مع قوله : « النحوي ليس بعالم » أو قوله : « المنجم عالم » فدليل الحاكم دائما يتكفل بيان مالا يتكفل بيانه دليل المحكوم ، فلا يعقل وقوع المعارضة بينهما ، وذلك واضح لا ينبغي تطويل الكلام فيه (1)و الظاهر زيادة كلمة «في» (المصحّح).(2).
العام والخاص المتخالفان في السلب والايجاب وإن كانا متعارضين بحسب ما لكل منهما من الظهور ابتداء ، إلا أن أصالة الظهور في طرف الخاص تكون
ص: 715
حاكمة على أصالة الظهور في طرف العام ، بل في بعض الفروض يحتمل أن تكون واردة عليها ، وإلى ذلك إشارة الشيخ قدس سره بقوله : « ثم إن ما ذكرنا من الورود والحكومة جار في الأصول اللفظية أيضا ، فإن أصالة الحقيقة أو العموم معتبرة إذا لم يعلم هناك قرينة على المجاز. فان كان المخصص مثلا دليلا علميا كان واردا على الأصل المذكور ، فالعمل بالنص القطعي في مقابل الظاهر كالعمل بالدليل العلمي في مقابل الأصل العملي. وإن كان المخصص ظنيا معتبرا كان حاكما على الأصل الخ ». ولا بأس بشرح عبارة الشيخ قدس سره في المقام ، فإنها لا تخلو عن دقة ، بل قد التبس المراد منها على كثير من الاعلام ، وقبل ذلك ينبغي تقديم مقدمة قد تقدم الكلام فيها في حجية الظواهر.
وهي أن لكل كلام صادر عن كل متكلم دلالة تصورية ودلالة تصديقية. أما الدلالة التصورية : فهي عبارة عن دلالة مفردات الكلام على معانيها اللغوية ، فان لكل كلمة من الكلمات التي يتركب منها الكلام ظهورا في المعنى الموضوعة له ، وهو الذي يخطر في ذهن السامع عند اشتغال المتكلم في الكلام إذا كان السامع عالما بالأوضاع.
وأما الدلالة التصديقية : فتطلق على معنيين :
أحدهما : دلالة جملة الكلام على ما هو المتفاهم منه عند أهل المحاورات ، وهو الذي يقع في جواب السؤال عما قاله المتكلم ، فيقال : قال كذا وكذا ، وثبوت هذه الدلالة للكلام يتوقف على فراغ المتكلم عنه ، فإنه لا يصح السؤال والجواب عما قاله المتكلم مع اشتغاله بالكلام ، إذ للمتكلم أن يلحق بكلامه ما شاء من القرائن والمقيدات والمخصصات في حال اشتغاله بالكلام ، فلا ينعقد لجملة الكلام ظهور إلا بعد فراغ المتكلم عن كلامه ، فينعقد لكلامه ظهور فيما له من المعنى العرفي بحسب ما جرت عليه طريقة المحاورات ، فقد يكون الظهور
ص: 716
العرفي لجملة الكلام مطابقا لظهور مفردات الكلام إذا لم يحتف به قرينة المجاز أو التقييد والتخصيص ، وقد يكون ظهور الجملة مخالفا لظهور المفردات إذا احتف بالكلام أحد هذه الأمور.
ثانيهما : دلالة الكلام على إرادة المتكلم مؤداه وأن مفاده العرفي هو المقصود من إلقاء الكلام ، وهذا المعنى من الدلالة هي التي تقع في جواب السؤال عما أراد المتكلم من كلامه فيقال : أراد كذا وكذا ، فقد يصح الجواب عن السؤال بأنه أراد ما يكون الكلام ظاهرا فيه بحسب المحاورات العرفية إذا لم يعتمد المتكلم على القرائن المنفصلة ، وقد لا يصح الجواب بذلك إذا علم أن المتكلم اعتمد في بيان تمام مراده على القرائن المنفصلة أو كان عادته على ذلك وإن لم يعلم اعتماده على المنفصل في هذا الكلام الخاص ، كما هو الشأن فيما صدر من الأئمة علیهم السلام فإنه جرت عادتهم على الاعتماد بالمنفصلات غالبا لمصالح هم أعرف بها ، ولذا ترى أن العام أو المطلق ورد عن إمام علیه السلام والخاص أو المقيد ورد عن إمام آخر علیه السلام مع ما بينهما من الفصل الطويل ، وسيأتي الكلام في توجيه ذلك. والمقصود في المقام هو بيان عدم جواز الحكم بان ظاهر الكلام هو المراد النفس الأمري إذا كان المتكلم ممن يعتمد غالبا على المنفصلات. وأما إذا لم يكن من عادته ذلك : فان علم في كلام خاص أنه اعتمد على المنفصل فلا يجوز الاخذ بظاهر كلامه ، وإن لم يعلم ذلك فلا إشكال في جواز الاخذ بظاهر كلامه ولو احتمل أنه اعتمد على المنفصل ، لان الطريقة العقلائية قد استقرت على اتباع ظهور الكلام وعدم الاعتناء باحتمال مخالفته للمراد النفس الأمري ، وهذا كله مما لا إشكال فيه.
إنما الاشكال في أن عمل العقلاء على ما يكون الكلام ظاهرا فيه (1) هل
ص: 717
هو لأجل حصول الظن منه - ولو نوعا - بأن ظاهره هو المراد؟ أو أن متابعة العقلاء لظهور الكلام لأجل البناء على أصالة عدم القرينة المنفصلة؟ (1) ولا محيص عن أحد الوجهين ، فإنه لا يمكن أن يكون بناء العقلاء على الاخذ بالظهور لمحض التعبد ، إذ ليس في طريقة العقلاء ما يقتضي التعبد ، فاما أن يكون الوجه في عمل العقلاء على الظهور كون الكلام كاشفا في نوعه عن المراد النفس الأمري فلا يحتاج في استخراج المراد إلى أصالة عدم القرينة المنفصلة ، وإما أن يكون الوجه فيه أصالة عدم القرينة فلا يكفي كون الكلام كاشفا في نوعه عن المراد ، بل لابد مع ذلك من إحراز عدم القرينة المنفصلة ولو بالأصل ، فيكون بناء العقلاء أولا على أصالة عدم القرينة ثم يعتمدون على أصالة الظهور ، وهذا بخلاف الوجه الأول ، فإنه ليس فيما وراء أصالة الظهور أصل آخر يعول عليه العقلاء في مقام استخراج المراد من الكلام.
والتحقيق يقتضي التفصيل بين الموارد ، فإنه في المورد الذي يتعلق الغرض باستخراج واقع مراد المتكلم وما تعلقت به الإرادة النفس الأمرية لا يكتفى بمجرد
ص: 718
ظهور الكلام ، بل لابد من إحراز عدم القرينة المنفصلة ولو بالأصل (1) وفي المورد الذي لم يتعلق الغرض باستخراج واقع مراد المتكلم يكتفى بظهور الكلام ، كما إذا كان صدور الكلام لأجل البعث والزجر وتحريك إرادة العبد نحو المؤدى ، فان العبد ملزم بظاهر الكلام وليس له الاعتذار باحتمال وجود القرينة المنفصلة على خلاف ما يقتضيه ظاهر الكلام ، كما أنه ليس للمولى إلزام العبد بغير ظاهر كلامه.
وبالجملة : المتبع في مقام الاحتجاج والاعتذار نفس ظهور الكلام لا غير ، وقد تقدم تفصيل ذلك في حجية الظن.
إذا عرفت ذلك فاعلم : أنه إذا ورد عام وخاص فالخاص لا يخلو : إما أن يكون قطعي السند والدلالة ، كالنص المتواتر أو المحفوف بالقرائن القطعية. وإما أن يكون ظني السند والدلالة ، كالخبر الواحد الظاهر في المؤدى. وإما أن يكون قطعي السند وظني الدلالة ، كالمتواتر الظاهر في المؤدى. وإما أن يكون ظني السند وقطعي الدلالة ، كالنص من الخبر الواحد. فهذه جملة ما يتصور من أقسام الخاص.
فان كان قطعي السند والدلالة : فلا إشكال في تخصيص العام به ، ولا مجال لجريان أصالة الظهور في طرف العام ، لان الخاص رافع لموضوعها ، للعلم بأن العموم ليس بمراد ، فالخاص يكون واردا على أصالة العموم.
بل يمكن أن يقال : إن مؤدى الخاص يكون خارجا عن مفاد أصالة الظهور بالتخصص لا بالورود ، لما عرفت : من أن ورود أحد الدليلين على الآخر إنما
ص: 719
يكون بمعونة التبعد بأحدهما ، والخاص القطعي السند والدلالة لا يحتاج إلى التعبد ، لأنه يعلم بصدوره وإرادة مؤداه ، والعلم لا تناله يد التعبد. وعلى كل حال : لا إشكال في تقدم الخاص على العام إذا كان قطعي السند والدلالة.
وإن كان ظني السند والدلالة أو كان قطعي السند وظني الدلالة : فظاهر إطلاق كلام الشيخ قدس سره هو عدم تخصيص العام به ، بل يعمل بأقوى الظهورين : ظهور العام في العموم وظهور الخاص في التخصيص.
ولكن الأقوى : وجوب الاخذ بظهور الخاص وتخصيص العام به ولو كان ظهوره أضعف من ظهور العام (1) فان أصالة الظهور في طرف الخاص تكون حاكمة على أصالة الظهور في طرف العام ، لان الخاص يكون بمنزلة القرينة على التصرف في العام ، كما يتضح ذلك بفرض وقوع العام والخاص في مجلس واحد من متكلم واحد ، فإنه لا يكاد يشك في كون الخاص قرينة على التصرف في العام ، كما لا ينبغي الشك في حكومة أصالة الظهور في القرينة على أصالة الظهور
ص: 720
في ذي القرينة ولو كان ظهور القرينة أضعف من ظهور ذيها ، كما يظهر ذلك من قياس ظهور « يرمي » في قولك : « رأيت أسدا يرمي » في رمي النبل على ظهور « أسد » في الحيوان المفترس ، فإنه لا إشكال في كون ظهور « أسد » في الحيوان المفترس أقوى من ظهور « يرمي » في رمي النبل ، لأنه بالوضع وذلك بالاطلاق ، والظهور الوضعي أقوى من الظهور الاطلاقي ، ومع ذلك لم يتأمل أحد في حكومة أصالة ظهور « يرمي » في رمي النبل على أصالة ظهور « أسد » في الحيوان المفترس وليس ذلك إلا لأجل كون « يرمي » قرينة على التصرف في « أسد » ونسبة الخاص إلى العام كنسبة « يرمي » إلى « أسد ». فلا مجال للتوقف في تقديم ظهور الخاص في التخصيص على ظهور العام في العموم.
والشيخ قدس سره في المقام وإن عارض ظهور الخاص مع ظهور العام وحكم بأنه يؤخذ بأقوى الظهورين ، إلا أنه لم يلتزم بذلك في شيء من المسائل الفقهية ، فإنه لم يتفق في مورد عامل مع الخاص والعام معاملة التعارض ، بل يقدم الخاص مطلقا على العام ، سواء كان الخاص ظني السند والدلالة أو كان قطعي السند وظني الدلالة ، غايته أنه في الأول يكون الخاص حاكما على العام من جهتين : من جهة السند ومن جهة الدلالة ، وسيأتي لذلك مزيد توضيح ( إن شاء اللّه تعالى ).
وبذلك يندفع ما ربما يتوهم : من أن تقديم الخاص على العام لو كان بالحكومة فما الفرق بينها وبين التخصيص؟ فان التخصيص على هذا يرجع إلى الحكومة ، فلا وجه للمقابلة بينهما.
بيان الدفع : هو أن المقابلة بينهما إنما يكون لمكان أن أحد الدليلين تارة : يكون بنفسه حاكما على الآخر ولو كانت النسبة بينهما العموم من وجه. وأخرى : يكون أحد الدليلين في حد نفسه معارضا للدليل الآخر ، إلا أن أصالة الظهور فيه تكون حاكمة على أصالة الظهور في الآخر ، كالعام والخاص ، فان
ص: 721
الخاص في حد نفسه معارض مع العام ولو في بعض المدلول ، ولكن أصالة ظهوره في التخصيص تكون حاكمة على أصالة ظهور العام في العموم ، فترتفع المعارضة من بينهما ، فتأمل جيدا.
بقي في المقام حكم ما إذا كان الخاص ظني السند وقطعي الدلالة ، ولأجله مهدنا المقدمة ، وكان غرضنا منها شرح ما ذكره الشيخ قدس سره في حكم هذا القسم من الخاص ، فإنه بنى أولا على كون ظهور الخاص حاكما على ظهور العام ، ثم احتمل أن يكون واردا عليه بناء على كون العمل بظاهر العموم معلقا على عدم القرينة على التخصيص ، وعقبه بقوله : « فتأمل » وأما بناء على كون العمل بالظهور من جهة الظن النوعي بأنه هو المراد النفس الأمري : فقد جزم فيه بالورود ولم يحتمل فيه الحكومة. وقد خفي مراد الشيخ قدس سره من ذلك على كثير من طلبة العلم.
وعلى كل حال : لا كلام في تخصيص العام بهذا القسم من الخاص ، وإنما الكلام في وجه ذلك ، وأنه للحكومة أو للورود؟ أو يفصل بين الوجهين في اعتبار أصالة الظهور؟ فان بنينا على كون الوجه فيها أصالة عدم القرينة يكون الخاص حاكما على العام ، وإن بنينا على كون الوجه فيها الظن النوعي يكون الخاص واردا عليه (1).
ص: 722
والأقوى : هو الحكومة مطلقا. ولعل نظر الشيخ قدس سره في احتمال الورود في الوجه الأول إلى أن بناء العقلاء على متابعة الظهور مقيد من أول الامر بعدم قيام القرينة على خلاف الظهور والخاص يكون قرينة على عدم إرادة ظهور العام ، فإنه قطعي الدلالة ، وكونه ظني السند لا يمنع عن قرينيته ، لأن المفروض. أنه قام الدليل القطعي على التعبد بسنده ، فيكون التعبد بسند الخاص رافعا لموضوع أصالة الظهور في طرف العام حقيقة ، لما عرفت : من أن موضوع أصالة الظهور مقيد بعدم قيام قرينة الخلاف وعدم ثبوت ما يقتضي عدم إرادة الظهور ، وقد ثبت ذلك ، فيكون نسبة الخاص إلى العام كنسبة الأدلة الشرعية إلى الأصول العقلية ، فكما أن التعبد بالأدلة رافع لموضوع الأصول العقلية ، كذلك التعبد بسند قطعي الدلالة رافع لموضوع بناء العقلاء على أصالة ظهور العام في العموم ، هذا غاية ما يمكن من تقريب الورود.
وفيه : أن الخبر الخاص بما هو خبر لا يكون قرينة على إرادة خلاف الظهور ، لاشتراك العام والخاص في ذلك ، وليس بناء العقلاء مقيدا بعدم ورود مطلق الخبر الخاص ، فان مطلق الخبر الخاص لا يكون قرينة على عدم إرادة العموم ، بل الخاص إنما يكون قرينة باعتبار كون مثبتا لمؤداه ، فان كان ثبوت المؤدى قطعيا كان رافعا لموضوع أصالة الظهور حقيقة وتصح دعوى الورود ، وإن لم يكن قطعيا فلا مجال لدعوى الورود. والخاص المبحوث عنه في المقام وإن كان قطعي الدلالة ، إلا أنه ظني السند ، ومعه لا يمكن حصول العلم بثبوت المؤدى ، فلو لم يقم دليل على التعبد بالسند كان وجوده كعدمه ، لا تصادم دلالته القطعية ظهور العام ولا يكون مثبتا للمؤدى ولا يصح لان يكون قرينة على التصرف
ص: 723
فيه. نعم : بعد قيام الدليل على التعبد بالسند يكون الخاص مثبتا للمؤدى ، وبتوسط ذلك يكون قرينة على إرادة خلاف الظهور ، فقرينية الخاص إنما تتم بمقدمتين : التعبد بسنده وثبوت المؤدى به ، وقد تقدم في المباحث السابقة : أن ضابط الورود هو أن يكون أحد الدليلين رافعا لموضوع الآخر بنفس التعبد ولو مع عدم ثبوت المتعبد به ، بحيث لو فرض انفكاك التعبد عن ثبوت المتعبد به لكان رافعا لموضوع الآخر. وأما إذا توقف الرفع على ثبوت المتعبد به ، فلا يكون أحدهما واردا على الآخر ، بل يكون حاكما عليه ، فما نحن فيه لا يندرج في ضابط الورود.
فالانصاف : أنه لا مجال لاحتمال كون الخاص واردا على أصالة الظهور ورافعا لموضوعها حقيقة مع كونه ظني السند ، ولعل الشيخ قدس سره أشار بقوله : « فتأمل » إلى تضعيف احتمال الورود لا إلى تقويته - كما عن بعض المحشين - هذا كله إذا كان الوجه في بناء العقلاء على متابعة الظهور هو أصالة عدم القرينة.
وإن كان الوجه فيه هو حصول الظن النوعي بكون الظهور كاشفا عن كونه هو المراد النفس الأمري : فالأقوى فيه أيضا الحكومة ، فإنه لا موجب لتوهم الورود إلا دعوى : أن بناء العقلاء على حجية الظهور مقيد بما إذا لم يكن في البين حجة أقوى توجب بطلان اقتضاء الظهور للحجية ، بداهة أن المتقضي لحجية الظهور والاخذ به إنما هو حيثية كشفه وحكايته عن المراد وإرائته لمتعلق الإرادة الواقعية ، والخاص إذا كان قطعي الدلالة مع التعبد بصدوره يوجب بطلان كشف العام عن كونه هو المراد وتبطل إرائته عن كونه متعلق الإرادة الواقعية ، فيكون الخاص رافعا لموضوع أصالة الظهور في طرف العام حقيقة ، ولا نعني بالورود إلا كون أحد الدليلين رافعا لموضوع الآخر حقيقة.
وبالجملة : الفرق بين الوجهين في اعتبار أصالة الظهور مما لا يكاد يخفى ،
ص: 724
فإنه بناء على كون المدرك في اعتبارها أصالة عدم القرينة يمكن أن يقال : إن الخبر الخاص بنفسه لا يكون قرينة ، بل قرينيته باعتبار كونه مثبتا للمؤدى بتوسط التعبد بالسند ، فلا يتم فيه الورود ، بالبيان المتقدم. وأما بناء على كون المدرك في اعتبار أصالة الظهور هو جهة كشفه وإرائته ولو نوعا عن المراد النفس الأمري : فلا محيص عن كون الخاص واردا على أصالة الظهور ورافعا لموضوعها ، فان القطع بدلالة الخاص بضميمة التعبد بصدوره يقتضي بطلان كاشفية الظهور وإرائته عن المراد النفس الأمري ، ولعله لذلك جزم الشيخ قدس سره بالورود في هذا الوجه.
ولكن مع ذلك كله لا يتم الورود ، فإنه على كل حال الخاص إنما يكون رافعا لموضوع أصالة الظهور بتوسط إثباته للمؤدى ، ولا يكفي في ذلك مجرد التعبد بالسند ما لم يقتض ثبوت المتعبد به والمخبر عنه ، وقد تقدم : أنه مهما كان رفع موضوع أحد الدليلين بتوسط ثبوت المتعبد به في الآخر يخرج عن ضابط الورود ويندرج في ضابط الحكومة.
فالأقوى : أنه لا فرق بين الوجهين وأنهما يشتركان في كون الخاص حاكما على ظهور العام ، ولا يكون واردا عليه ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا ، وتأمل في عبارة الشيخ قدس سره حق التأمل.
اعلم : أن التعارض إما أن يكون بين دليلين لا غير ، كما إذا قام أحد الدليلين على الوجوب والآخر على الحرمة. وإما أن يكون بين أكثر ، كما إذا
ص: 725
قام ثالث في المثال على الإباحة. وعلى كلا التقديرين : فإما أن يكون أحد المتعارضين واجدا لمزية وخصوصية يكون الآخر فاقدا لها ، وإما أن يكونا متساويين في المزايا والخصوصيات. وعلى الأول : فالمزية إما أن تكون في السند ، أو في جهة الصدور ، أو في الدلالة ، فهذه جملة ما يتصور في أقسام تعارض الأدلة.
فان كانا متساويين في المزايا والخصوصيات : فالقاعدة فيهما تقتضي التساقط. ولكن قام الدليل على التخيير في الأخذ بأحدهما وطرح الآخر ، وسيأتي البحث فيه.
وإن كان أحدهما واجدا للمزية : فالمزية إن كانت في السند أو في جهة الصدور ، فلابد من الاخذ بصاحب المزية وطرح الآخر. ويدل على ذلك أخبار الترجيح ، ويأتي البحث عنها أيضا ( إن شاء اللّه تعالى ).
وإن كانت المزية في الدلالة : فاللازم هو الجمع بين المتعارضين وعدم جواز طرح أحدهما. وعن « غوالي اللئالي » دعوى الاجماع على أن الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من الطرح.
والمقصود بالكلام في هذا المبحث هو بيان المزية التي توجب الجمع بين المتعارضين في الدلالة إذا كان التعارض بين دليلين لا غير. وأما إذا كان التعارض بين أكثر من دليلين : فسيأتي الكلام فيه في مبحث مستقل. فنقول : لا إشكال في أنه ليس كل مزية تقتضي الجمع بين الدليلين. والمراد من « الامكان » في قولهم : « الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من الطرح » ليس هو الامكان العقلي ، فإنه ما من دليلين متعارضين إلا ويمكن الجمع بينهما عقلا ، فينسد باب التعارض ، بل المراد من « الامكان » هو الامكان العرفي على وجه لا يوجب الجمع بين الدليلين خروج الكلام عن قانون المحاورات العرفية ، فلابد من الجمع بين الدليلين من أن يكون أحدهما واجدا
ص: 726
لمزية تكون قرينة عرفية على التصرف في الآخر.
وبالجملة : مجرد إمكان التأويل وحمل أحد المتعارضين على خلاف طاهره لا يكفي في جواز الجمع بين الدليلين ، وإلا لزم طرح الأخبار الواردة في باب المتعارضين - من الترجيح بالسند أو التخيير - أو حملها على الفرد النادر ، وهو ما إذا كان التعارض بين النصين اللذين لا يحتمل فيهما الخلاف ، وإلا ففي غالب موارد التعارض يمكن فيه التأويل وحمل أحد المتعارضين على خلاف ظاهره. فلابد وأن يكون مرادهم من « الامكان » هو الامكان العرفي ، بحيث يساعد عليه طريقة المحاورة بين أهل اللسان ، على وجه لا يبقى العرف متحيرا في استكشاف المراد من الدليلين ، فلا عبرة بالجمع التبرعي الذي لا يساعد عليه العرف والعقلاء ، كما لا عبرة بمجرد كون أحد الدليلين أظهر من الآخر ، فان الأظهرية لا تقتضي التصرف في الظاهر وحمله على خلاف ظاهره ما لم تصل الأظهرية إلى حد تكون قرينة عرفية على التصرف في الآخر (1) وكذا لا عبرة بما ذكروه في تعارض الأحوال : من الشيوع والغلبة وكثرة الاستعمال ونحو ذلك ، فإنه لا أثر لشيء منها في رفع التعارض عن المتعارضين ، بل طريق رفع التعارض ينحصر بأحد أمرين : إما أن يكون أحدهما نصا في مدلوله والآخر ظاهرا ، وإما أن يكون أحدهما بظهوره أو أظهريته في مدلوله قرينة عرفية على التصرف في الآخر (2) والجمع العرفي يدور مدار أحد هذين الأمرين ويندرج في كل منهما موارد عديدة.
ص: 727
فمن الموارد التي تندرج في النصوصية : ما إذا كان أحد الدليلين أخص من الآخر وكان نصا في مدلوله قطعي الدلالة ، فإنه يوجب التصرف في العام ورودا أو حكومة ، على التفصيل المتقدم.
ومنها : ما إذا كان لاحد الدليلين قدر متيقن في مقام التخاطب (1) فان القدر المتيقن في مقام التخاطب وإن كان لا ينفع في مقام تقييد الاطلاق ما لم يصل إلى حد يوجب انصراف المطلق إلى المقيد - كما تقدم تفصيله في مبحث المطلق والمقيد - إلا أن وجود القدر المتيقن ينفع في مقام رفع التعارض عن الدليلين ، فان الدليل يكون كالنص في القدر المتيقن ، فيصلح لان يكون قرينة على التصرف في الدليل الآخر ، مثلا لو كان مفاد أحد الدليلين وجوب إكرام العلماء ، وكان مفاد الآخر حرمة إكرام الفساق ، وعلم من حال الآمر أنه يبغض العالم الفاسق ويكرهه أشد كراهة من الفاسق الغير العالم ، فالعالم الفاسق متيقن الاندراج في عموم قوله : « لا تكرم الفساق » ويكون بمنزلة التصريح بحرمة إكرام العالم الفاسق ، فلابد من تخصيص قوله : « لا تكرم العلماء » بما عدا الفساق منهم.
ومنها : ما إذا كانت أفراد أحد العامين من وجه بمرتبة من القلة بحيث لو خصص بما عدا مورد الاجتماع مع العام الآخر يلزم التخصيص المستهجن ، فيجمع بين الدليلين بتخصيص مالا يلزم منه التخصيص المستهجن وإبقاء ما يلزم منه ذلك على حاله ، لان العام يكون نصا في المقدار الذي يلزم من خروجه عنه
ص: 728
التخصيص المستهجن ، ولا عبرة بقلة أفراد أحد العامين وكثرتها ، بل العبرة باستلزام التخصيص المستهجن.
ومنها : ما إذا كان أحد الدليلين واردا مورد التحديدات والأوزان والمقادير والمسافة ونحو ذلك ، فان وروده في هذه الموارد يوجب قوة الظهور في المدلول بحيث يلحقه بالنص ، فيقدم على غيره عند التعارض.
ومنها : ما إذا كان أحد العامين من وجه واردا في مورد الاجتماع مع العام الآخر ، كما إذا ورد قوله : « كل مسكر حرام » جوابا عن سؤال حكم الخمر ، وورد أيضا ابتداء قوله : « لا بأس بالماء المتخذ من التمر » فان النسبة بين الدليلين وإن كانت هي العموم من وجه ، إلا أنه لا يمكن تخصيص قوله : « كل مسكر حرام » بما عدا الخمر ، فإنه لا يجوز إخراج المورد ، لان الدليل يكون نصا فيه ، فلابد من تخصيص قوله : « لا بأس بالماء المتخذ من التمر » بما عدا الخمر.
هذا كله فيما يندرج في « الامر الأول » وهو ما إذا كان أحد المتعارضين نصا في تمام المدلول أو في بعضه دون الآخر.
وأما ما يندرج في الامر الثاني : وهو أن يكون أحد الدليلين قرينة عرفية على التصرف في الآخر ، فهو وإن لم ينضبط كلية ، لاختلاف ذلك باختلاف المقامات والخصوصيات المحتفة بالكلام - من القرائن الحالية والمقالية وخصوصيات المتكلم وغير ذلك مما يكون أحد الكلامين قرينة على التصرف في الآخر - إلا أن المنضبط من ذلك أمور :
منها : ما إذا تعارض العام الأصولي والاطلاق الشمولي ودار الامر بين تقييد المطلق أو تخصيص العام (1) كقوله : « أكرم العالم » و « لا تكرم الفساق » فإنهما
ص: 729
يتعارضان في العالم الفاسق ، ويدور الامر بين تقييد قوله : « أكرم العالم » بغير الفاسق ، وبين تخصيص قوله : « لا تكرم الفساق » بما عدا العالم ، ولكن شمول العام الأصولي لمورد الاجتماع أظهر من شمول المطلق له ، لان شمول العام لمادة الاجتماع يكون بالوضع (1) وشمول المطلق له يكون بمقدمات الحكمة ، ومن جملتها عدم ورود ما يصلح أن يكون بيانا للتقييد ، والعام الأصولي يصلح لان يكون بيانا لذلك ، فلا تتم مقدمات الحكمة في المطلق الشمولي ، ولابد حينئذ من تقديم العام الأصولي وتقييد المطلق بما عدا مورد الاجتماع. ولا مجال لتوهم العكس وتخصيص العام الأصولي بالمطلق الشمولي ، فان المطلق لا يصلح للتخصيص إلا إذا تمت فيه مقدمات الحكمة ، ومع وجود العام الأصولي لا يكاد يتم فيه مقدمات الحكمة ، لأنه يصح للمتكلم الاعتماد في بيان مراده على ظهوره الوضعي ، فالمطلق لا يصلح لان يكون مخصصا للعام
ص: 730
الأصولي ، والعام الأصولي يصلح لان يكون مقيد للمطلق الشمولي ، فلا مجال للتشكيك في تقديم التقييد على التخصيص ، من غير فرق بين ورود العام قبل المطلق أو مقارن له أو متأخر عنه (1).
ودعوى : أن الذي يكون من مقدمات الحكمة هو عدم البيان في مقام التخاطب لا مطلقا فالعام المتأخر عن المطلق لا يصلح لان يكون بيانا ، واضحة الفساد ، فان الذي يكون من مقدمات الحكمة هو عدم البيان المطلق ، لا عدم البيان في خصوص مقام التخاطب (2) كما أوضحناه في محله.
والمحقق الخراساني قدس سره قد أفاد في بعض فوائده الأصولية : من أن اللازم علينا جمع كلمات الأئمة علیهم السلام المتفرقة في الزمان وتفرض أنها وردت في زمان ومجلس واحد ويؤخذ ما هو المتحصل منها على فرض الاجتماع.
وهذا الكلام منه ينافي ما ذهب إليه : من أن العبرة على عدم البيان في مقام التخاطب ، لا مطلقا ، فتأمل جيدا.
ومما ذكرنا ظهر وجه تقديم تقييد الاطلاق البدلي على تخصيص العام الأصولي لو دار الامر بينهما (3) كقوله : « أكرم عالما » و « لا تكرم الفساق » بل
ص: 731
الامر في تقييد الاطلاق البدلي أوضح من تقييد الاطلاق الشمولي ، لان المطلوب في الاطلاق البدلي صرف الوجود ، فلا يصلح لان يعارض ما يكون المطلوب فيه مطلق الوجود.
وبذلك يظهر : تقديم تقييد الاطلاق البدلي على تقييد المطلق الشمولي ، كقوله : « أكرم عالما » و « لا تكرم الفاسق » فإن الاطلاق الشمولي يمنع عن كون الافراد في الاطلاق البدلي متساوية الاقدام في حصول الامتثال بأي منها. ولا ينافي ذلك كون الاطلاق في كل منهما بمقدمات الحكمة ، فان مقدمات الحكمة في الاطلاق الشمولي تمنع عن جريان مقدمات الحكمة في الاطلاق البدلي ، لان من مقدمات الحكمة في الاطلاق البدلي كون الافراد متساوية الاقدام ، ومقدمات الحكمة في الاطلاق الشمولي يمنع عن ذلك ، ولا يمكن العكس ، كما لا يخفى وجهه على المتأمل ، فتدبر.
ومنها : ما إذا وقع التعارض بين مفهوم الشرط ومفهوم الغاية ، كقوله : « يجب الامساك إلى الليل » وقوله : « إن جاءك زيد فلا يجب الامساك في الليل » (1) فان مفهوم الشرط يقتضي وجوب الامساك في الليل عند مجيء زيد (2) ومفهوم الغاية يقتضي عدم
ولكن لما كان ثبوت المفهوم للقضية الشرطية بمقدمات الحكمة - كما بيناه في محلة - بخلاف القضية الغائية فإنها بالوضع تدل
ص: 732
على انتفاء حكم ما قبل الغاية عما بعدها ، فاللازم تقديم مفهوم الغاية على مفهوم الشرط وسقوط القضية الشرطية عن كونها ذات مفهوم.
ومنها : ما إذا وقع التعارض بين مفهوم الشرط ومفهوم الوصف - بناء على كون القضية الوصفية ذات مفهوم - فإنه يقدم مفهوم الشرط على مفهوم الوصف ، فان القضية الشرطية أظهر في كونها ذات مفهوم عن القضية الوصفية ، حتى قيل : « إن القضية الشرطية بالوضع تدل على المفهوم » فتصلح أن تكون قرينة على التصرف في القضية الوصفية وإخراجها عن كونها ذات مفهوم.
ومنها : ما إذا دار الامر بين التخصيص والنسخ ، فقيل : إن التخصيص أولى ، لكثرة التخصيص وقلة النسخ. وقيل : إن النسخ أولى.
وتفصيل الكلام في ذلك : هو أنه يعتبر في النسخ أن يكون واردا بعد حضور وقت العمل بالمنسوخ (1) كما أنه يعتبر في التخصيص أن يكون واردا قبل حضور
ص: 733
وقت العمل بالعام ، ولأجل ذلك وقع الاشكال في التخصيصات الواردة على الأئمة علیهم السلام بعد حضور وقت العمل بالعام ، فإنه رب عام نبوي صلی اللّه علیه و آله وخاص عسكري علیه السلام والمحتملات في مثل هذه المخصصات ثلاثة :
أحدها : أن تكون ناسخة لحكم العمومات.
ثانيها : أن تكون كاشفة عن اتصال كل عام بمخصصه ، وقد اختفت علينا المخصصات المتصلة ووصلت إلينا هذه المخصصات المنفصلة.
ثالثها : أن تكون هي المخصصات حقيقة ولا يضر تأخرها عن وقت العمل بالعام ، لان العمومات المتقدمة لم يكن مفادها الحكم الواقعي ، بل الحكم الواقعي هو الذي تكفل المخصص المنفصل بيانه ، وإنما تأخر بيانه لمصلحة كانت هناك في التأخير ، وإنما تقدم العموم ليعمل به ظاهرا إلى أن يرد المخصص ، فيكون مفاد العموم حكما ظاهريا ، ولا محذور في ذلك ، فان المحذور إنما هو تأخر الخاص عن وقت العمل بالعام إذا كان مفاد العام حكما واقعيا لا حكما ظاهريا.
هذا ، ولكن الالتزام بكون هذه المخصصات ناسخة على كثرتها بعيد غايته ، بل قيل : إنه لا يمكن ، لانقطاع الوحي بعد النبي صلی اللّه علیه و آله فلا يتحقق النسخ بعده ، وإن كان القول بذلك ضعيف غايته ، فإن انقطاع الوحي لا يلازم عدم تحقق النسخ بعده صلی اللّه علیه و آله لأنه يمكن أن يكون النبي صلی اللّه علیه و آله قد أودع الحكم الناسخ إلى الوصي علیه السلام وأودع الوصي إلى وصي آخر إلى أن يصل زمان ظهوره وتبليغه. وقد وردت أخبار عديدة في تقويض دين اللّه ( تعالى ) إلى الأئمة علیهم السلام وعقد في الكافي بابا في ذلك ، وبعد هذا لا يصغى إلى شبهة عدم إمكان تحقق النسخ بعد النبي صلی اللّه علیه و آله ولكن مع ذلك لا يمكن الالتزام
ص: 734
بكون المخصصات الواردة بعد حضور وقت العمل بالعمومات كلها تكون ناسخة للعمومات (1) فالاحتمال الأول ساقط ، ويدور الامر بين أحد الاحتمالين الأخيرين.
ص: 735
وقد استبعد الشيخ قدس سره الاحتمال الثاني ، بل أحاله عادة ، لكثرة الدواعي إلى ضبط القرائن والمخصصات المتصلة واهتمام الرواة إلى حفظها ونقلها ، فمن المستحيل عادة أن تكون مخصصات متصلة بعدد المخصصات المنفصلة وقد خفيت كلها علينا. فيتعين الاحتمال الثالث ، وهو أن يكون مفاد العمومات حكما ظاهريا والحكم الواقعي هو مفاد المخصصات المنفصلة وقد تأخر بيانها لمصالح أوجبت اختفاء الحكم الواقعي إلى زمان ورود المخصصات ، وقدم العام ليعول عليه ظاهرا ، فيكون التكليف الظاهري في حق من تقدم عن زمان ورود المخصصات هو الاخذ بعموم العام ، نظير الاخذ بالبراءة العقلية قبل ورود البيان من الشارع ، بداهة أن بيان الاحكام إنما كان تدريجيا ، فكما أنه قبل ورود البيان كان الحكم الظاهري هو ما يستقل به العقل : من البراءة والاحتياط ، كذلك كان الحكم الظاهري قبل ورود المخصصات هو ما تضمنته العمومات ، والفرق بينهما : هو أنه في البراءة كان عدم البيان وفي العمومات يكون بيان العدم (1).
هذا حاصل ما أفاده الشيخ قدس سره في تقريب الاحتمال الثالث وتبعيد الاحتمال الثاني.
ص: 736
ولكن الانصاف : أن الاحتمال الثاني لو لم يكن أقرب من الاحتمال الثالث فلا أقل من أن يكون مساويا له ، فانا نرى أن كثيرا من المخصصات المنفصلة المروية من طرقنا من الأئمة علیهم السلام مروية عن العامة بطرقهم عن النبي صلی اللّه علیه و آله فيكشف ذلك عن اختفاء المخصصات المتصلة علينا ، فلا وجه لاستحالة الوجه الثاني أو استبعاده ، بل يمكن أن يقال : باستحالة الوجه الثالث ، فإنه إن كانت مصلحة الحكم الواقعي الذي يكون مفاد المخصصات المنفصلة تامة فلابد من إظهاره والتكليف به (1) وإن لم تكن تامة - ولو بحسب مقتضيات الزمان حيث يكون للزمان دخل في ملاك الحكم - فلا يمكن ثبوت الحكم الواقعي حتى يكون مفاد العام حكما ظاهريا ، بل يكون الحكم الواقعي هو مفاد العام إلى زمان ورود الخاص ، ولا محالة يكون الخاص ناسخا لا مخصصا ، ففي الحقيقة الاحتمال الثالث يرجع إلى الاحتمال الأول وهو النسخ. وقد عرفت : أنه لا يمكن الالتزام به ، فلا أقرب من الاحتمال الثاني ، فتأمل جيدا.
وعلى كل حال : لو تردد الخاص بين أن يكون مخصصا أو ناسخا ، فقيل : بتقديم التخصيص لكثرته وشيوعه ، حتى قيل : « ما من عام إلا وقد خص ».
ص: 737
وقيل : بتقديم النسخ ، فإنه لا يلزم من النسخ إلا تقييد الاطلاق ، وهو أولى من تخصيص العام عند الدوران بينهما ، كما تقدم.
وتوضيح ذلك : هو أنه قد اجتمع في العام ظهوران : ظهور في شموله لجميع الافراد حتى الافراد المندرجة تحت عنوان الخاص ، وظهور في استمرار حكمه ودوامه في جميع الأزمنة ، والظهور الأول يستند إلى الوضع ، لان العام بمدلوله الوضعي يعم جميع الافراد ، والظهور الثاني يستند إلى الاطلاق ومقدمات الحكمة ، فان استمرار الحكم لجميع الأزمنة إنما هو بمعونة الاطلاق ومقدمات الحكمة وليس مدلولا لفظيا للعام ، فإذا دار أمر الخاص بين التخصيص والنسخ يقدم النسخ ، لأنه لا يقتضي أزيد من تقييد الاطلاق ، بخلاف التخصيص ، فإنه يلزم منه مخالفة الظهور الوضعي ، وقد عرفت : أنه لو دار الامر بين التصرف في العام الأصولي وبين التصرف في المطلق الشمولي ، يكون الثاني أولى. ولذلك أورد على الشيخ قدس سره من قوله بتقديم التخصيص على النسخ مع التزامه بتقديم تقييد الاطلاق على تخصيص العام.
هذا ، ولكن لا يخفى عليك ما في كلا الوجهين من النظر. أما في الوجه الأول : فلان مجرد كون التخصيص أكثر من النسخ لا يوجب حمل الخاص على التخصيص ، لما عرفت : من أنه لا عبرة بالكثرة ما لم تكن قرينة عرفية بحيث توجب ظهور اللفظ في موردها.
وأما الوجه الثاني : فلان النسخ يتوقف على ثبوت حكم العام لما تحت الخاص من الافراد ، ومقتضى ما تقدم : من حكومة أصالة الظهور في طرف الخاص على أصالة الظهور في العام ، هو عدم ثبوت حكم العام لافراد الخاص (1) فيرتفع موضوع النسخ.
ص: 738
ودعوى : أن النسخ يكون من قبيل تقييد الاطلاق فيقدم على تخصيص العام ، لا تخلو عن مغالطة ، فان النسخ عبارة عن رفع الحكم الثابت ، وثبوت أحكام الشريعة في جميع الأزمنة ليس من جهة إطلاق الأدلة ، بل من جهة قوله علیه السلام « حلال محمد صلی اللّه علیه و آله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة » (1) ونحو ذلك من الأدلة الدالة على استمرار أحكام الشريعة وعدم نسخها (2) فلو ثبت نسخ الحكم في مورد فإنما هو تخصيص لهذه الأدلة ، لا تقييد لاطلاق الأدلة الأولية المتكفلة لبيان أصل ثبوت الاحكام في الشريعة.
نعم : قد يستفاد استمرار الحكم من إطلاق الدليل بمعونة مقدمات الحكمة ، كقوله تعالى : « أوفوا بالعقود » حيث إنه يلزم لغوية تشريع وجوب الوفاء بالعقد مع عدم استمراره في الأزمنة ، وقد تقدم ( في تنبيهات الاستصحاب » أن العموم الافرادي في الآية الشريفة يستتبع العموم الزماني ، ولكن الاستمرار الذي يستفاد من مقدمات الحكمة غير الاستمرار المقابل للنسخ ، فان الاستمرار المقابل للنسخ عبارة عن استمرار الحكم ودوامه إلى يوم القيامة ، والاستمرار بهذا
ص: 739
المعنى لا يقتضيه أدلة الاحكام ، بل يحتاج إلى دليل آخر ، بخلاف الاستمرار في مثل الآية الشريفة ، فإنه عبارة عن عدم تحديد الحكم بزمان دون زمان ، وهذا الاستمرار يمكن أن يتكفله دليل الحكم بمعونة مقدمات الحكمة. وبالجملة : الاستمرار المقابل للنسخ غير الاستمرار المقابل لتقييد الحكم وتحديده بزمان خاص.
فدعوى : أن النسخ يكون من تقييد الاطلاق ، واضحة الفساد ، مع أنه لو سلم كونه من تقييد الاطلاق ، فقد عرفت : أنه لا مجال للنسخ إلا بعد ثبوت الحكم ، وظهور الخاص في التخصيص يمنع عن ثبوت حكم العام في أفراد الخاص (1) فيرتفع به موضوع النسخ.
فالأقوى : تقديم التخصيص على النسخ لو دار الامر بينهما ، فتأمل جيدا. هذا تمام الكلام فيما إذا كان لاحد المتعارضين مزية في الدلالة تقتضي التصرف في الآخر بحسب المحاورات العرفية.
فصوره وإن كانت كثيرة ، إلا أنه نحن نقتصر على ذكر أصولها ويعرف منها حكم سائر الصور (2).
ص: 740
ص: 741
الصورة الأولى : ما إذا ورد عام وخاصان متباينان ، كما إذا قام دليل على وجوب إكرام النحويين ، ودليل آخر على عدم وجوب إكرام الكوفيين من النحويين ، وقام دليل ثالث على عدم وجوب إكرام البصريين منهم ، فان النسبة بين كل من قوله : « لا تكرم الكوفيين » و « لا تكرم البصريين » وبين قوله : « أكرم النحويين » هي العموم المطلق ، والنسبة بين قوله : « لا تكرم الكوفيين » وبين قوله : « لا تكرم البصريين » هي التباين ، ولا إشكال في تخصيص العام بكل من الخاصين إذا لم يلزم منه التخصيص المستهجن أو بقاء العام بلا مورد ، وإلا فيقع التعارض بين العام ومجموع الخاصين ، كما إذا قام دليل على وجوب إكرام العلماء ، وقام دليل آخر على عدم وجوب إكرام فساق العلماء ، وقام دليل ثالث على كراهة إكرام عدول العلماء ، فإنه لو خصص قوله : « أكرم العلماء » بكل من قوله : « لا تكرم فساق العلماء » وقوله : « يكره إكرام عدول العلماء » يبقى العام بلا مورد ، ففي مثل ذلك لابد من معاملة التعارض بين
ص: 742
العام ومجموع الخاصين ، وذلك واضح.
الصورة الثانية : ما إذا ورد عام وخاصان مع كون النسبة بين الخاصين العموم المطلق ، كقوله : « أكر العلماء » و « لا تكرم النحويين منهم » و « لا تكرم الكوفيين من النحويين ». وحكم هذا القسم حكم القسم السابق : من وجوب تخصيص العام بكل من الخاصين إن لم يلزم التخصيص المستهجن أو بقاء العام بلا مورد ، وإلا فيعامل مع العام ومجموع الخاصين معاملة التعارض.
وقد يتوهم في هذا القسم : أن العام يخصص بأخص الخاصين ، وبعد ذلك تلاحظ النسبة بين الباقي تحت العام وبين الخاص الآخر ، فقد تنقلب النسبة إلى العموم من وجه بعدما كانت قبل تخصيص العام بأخص الخاصين العموم المطلق - كالمثال - فإنه بعد تخصيص قوله : « أكرم العلماء » بما عدا الكوفيين من النحويين - الذي هو أخص الخاصين - تصير النسبة بينه وبين قوله : « لا تكرم النحويين » العموم من وجه ، لان النحوي يعم الكوفي وغيره ، والعالم الغير الكوفي يعم النحوي وغيره ، فيتعارضان في العالم النحوي غير الكوفي.
هذا ، ولكن لا يخفى فساد التوهم ، فإنه لا وجه لتخصيص العام بأخص الخاصين أولا ، ثم تلاحظ النسبة بين الباقي تحت العام وبين الخاص الآخر ، مع أن نسبة العام إلى كل من الخاصين على حد سواء ، فاللازم تخصيص العام بكل منهما دفعة واحدة إن لم يلزم منه المحذور المتقدم ، وإلا فيقع التعارض بينه وبين مجموع الخاصين.
نعم : لو كان أخص الخاصين متصلا بالعام كانت النسبة بين العام المتصل به الأخص وبين الخاص الآخر العموم من وجه ، كما ورد في المثال قوله : « أكرم العلماء غير الكوفيين من النحويين » فان النسبة بينه وبين قوله : « لا تكرم النحويين » العموم من وجه ، لان النسبة إنما تلاحظ بين الكلامين بما لهما من الخصوصيات المحتفة بهما ، فان لحاظ النسبة إنما يكون بين الظهورات
ص: 743
الكاشفة عن المرادات ، وللخصوصيات دخل في انعقاد الظهور ، فالفرق بين المخصص المتصل والمنفصل مما لا يكاد يخفى.
وكما أن النسبة بين العام المتصل به الأخص وبين الخاص الآخر تكون العموم من وجه ، كذلك تكون النسبة بين العام الفوق الذي لم يتصل به الخاص لو كان وبين الخاص الآخر العموم من وجه ، كما لو فرض أنه قال : « أكرم العلماء » ثم قال : « أكرم العلماء الغير الكوفيين » ثم قال : « لا تكرم النحويين » فإنه كما يقع التعارض بين قوله : « أكرم العلماء غير الكوفيين » وبين قوله : « لا تكرم النحويين » لان النسبة بينهما العموم من وجه ، كذلك يقع التعارض بين قوله : « أكرم العلماء » وبين قوله : « لا تكرم النحويين » ، فان النحوي الكوفي كما يكون خارجا عن عموم قوله : « أكرم العلماء غير الكوفيين من النحويين » كذلك يكون خارجا عن قوله : « أكرم العلماء » فان العام بعد تخصيصه بالمتصل أو المنفصل يخرج عن كون كبرى كلية ويكون معنونا بما عدا الخاص ، فالكوفي من النحوي يكون خارجا عن عموم قوله : « أكرم العلماء » لا محالة ، لاتفاق العام المخصص بالمتصل والخاص الآخر على خروجه وعدم وجوب إكرامه ، فلا يمكن أن يبقى عموم قوله : « أكرم العلماء » على حاله ، بل لابد من أن يكون المراد منه العالم الغير الكوفي من النحويين ، فتكون النسبة بينه وبين قوله : « لا تكرم النحويين » العموم من وجه.
وتوهم : أن قوله : « أكرم العلماء » كما يكون معنونا بغير الكوفي من النحويين كذلك يكون معنونا بغير النحوي مطلقا ، فان النسبة بينه وبين قوله : « لا تكرم النحويين » العموم مطلقا ، وإن كانت النسبة بين العام المتصل به الخاص وبين قوله : « لا تكرم النحويين » العموم من وجه
فاسد ، فان قوله : « لا تكرم النحويين » لا يمكن أن يعنون قوله : « أكرم العلماء » ويخصصه بما عدا النحوي ، لكونه معارضا بقوله : « أكرم العلماء غير
ص: 744
الكوفيين من النحويين ) والدليل المبتلى بالمعارض لا يمكن أن يعنون العام ويصير مخصصا له. وأما تخصيص العام بما عدا الكوفي من النحويين : فهو مما لا محيص عنه ، لتوافق الأدلة على عدم وجوب إكرامه ، فلا محالة يكون خارجا عن عموم قوله : « أكرم العلماء » فتنقلب النسبة بينه وبين قوله : « لا تكرم النحويين » إلى العموم من وجه.
الصورة الثالثة : ما إذا ورد عام وخاصان وكانت النسبة بين الخاصين العموم من وجه ، كما إذا قال : « أكرم العلماء » ثم قال : « لا تكرم النحويين » وقال أيضا : « لا تكرم الصرفيين » ولا إشكال في تخصيص العام بكلا الخاصين ، فيكون مجمع تصادق الخاصين وهو الصرفي النحوي موردا لكلا الخطابين (1).
الصورة الرابعة : ما إذا ورد عامان من وجه وخاص ، فان كان مفاد الخاص إخراج مورد افتراق أحد العامين تنقلب النسبة إلى العموم المطلق ، كما إذا ورد بعد قوله : « أكرم النحويين ولا تكرم الصرفيين » قوله : « ويستحب إكرام النحوي غير الصرفي » فإنه حينئذ يختص قوله : « لا تكرم النحويين » بالنحويين من الصرفيين ، فتنقلب النسبة بينه وبين قوله : « لا تكرم الصرفيين » إلى العموم المطلق. وإن كان مفاد الخاص إخراج مورد الاجتماع تنقلب النسبة بين العامين إلى التباين ، كما إذا قال في المثال : « ويستحب إكرام الصرفي من النحويين » فإنه على هذا يختص قوله : « لا تكرم الصرفيين » بما عدا النحويين ، ويختص قوله : « لا تكرم النحويين » بما عدا الصرفيين ، فتكون النسبة بينهما التباين.
فظهر : أنه إذا كان بين الدليلين العموم من وجه ، فتارة : تنقلب النسبة إلى
ص: 745
العموم المطلق إذا قام دليل ثالث على إخراج مادة افتراق أحدهما عن الآخر وأخرى : تنقلب النسبة إلى التباين إذا كان مفاد الدليل الثالث إخراج مادة الاجتماع (1).
الصورة الخامسة : ما إذا ورد دليلان متعارضان بالتباين ، فقد يرد دليل آخر يوجب انقلاب النسبة من التباين إلى العموم المطلق ، وقد يوجب انقلابها إلى العموم من وجه.
فالأول : كقوله : « أكرم العلماء » وقوله : « لا تكرم العلماء » ثم ورد دليل ثالث وأخرج عدول العلماء عن قوله : « لا تكرم العلماء » فتنقلب النسبة بينه وبين قوله : « أكرم العلماء » إلى العموم المطلق. ومن هذا القبيل الأدلة الواردة في إرث الزوجة ، فان منها ما تدل على أنها ترث من العقار مطلقا ، ومنها ما تدل على عدم إرثها مطلقا ، ومنها ما تدل على إرثها إن كانت أم ولد.
والثاني : ما إذا ورد دليل رابع في المثال وخص قوله : « أكرم العلماء » بالفقهاء ، فان النسبة بين قوله : « أكرم العلماء » بعد تخصيصه بالفقهاء وبين قوله : « لا تكرم العلماء » بعد تخصيصه بما عدا العدول ، هي العموم من وجه.
هذا كله في انقلاب النسبة بين الدليلين. ومنه يظهر : انقلاب النسبة بين أكثر من دليلين ، كقوله : « أكرم العلماء » و « لا تكرم الفساق » و « يستحب إكرام الشعراء » فان النسبة بين الأدلة الثلاثة هي العموم من وجه. فقد تنقلب إلى التباين ، كما إذا ورد دليل وأخرج مورد الاجتماع - وهو العالم الفاسق الشاعر - عن مفاد الأدلة الثلاثة ، فتنقلب النسبة بين الأدلة إلى التباين بلا معارضة. وقد تنقلب النسبة إلى العموم المطلق ، كما إذا أخرج الدليل الرابع مورد الافتراق عن أحد الأدلة الثلاثة ، فتصير النسبة بينه وبين الآخرين العموم
ص: 746
المطلق. وقد تنقلب النسبة إلى التباين مع المعارضة بينهما ، كما إذا أخرج الدليل الرابع مورد الافتراق عن جميع الأدلة الثلاثة ، فيقع التعارض بينها ، لان مجمع العناوين يكون مورد النفي والاثبات ، فتأمل فيما تمر عليك من الأمثلة وكيفية انقلاب النسبة بينها.
وقد أشرنا إلى الوجه في انقلاب النسبة في مثل هذه الموارد ، وحاصله : أن ملاحظة النسبة بين الأدلة إنما هي لأجل تشخيص كونها متعارضة أو غير متعارضة ، وقد تقدم : أن تعارض الأدلة إنما هو لأجل حكايتها وكشفها عما لا يمكن جعله وتشريعه لتضاد مؤدياتها ، فالتعارض بين الأدلة إنما يكون بمقدار كشفها وحكايتها عن المراد النفس الأمري. ومن الواضح : أن تخصيص العام يقتضي تضييق دائرة كشفه وحكايته (1) فان التخصيص يكشف لا محالة عن عدم كون عنوان العام تمام المراد ، بل المراد هو ما وراء الخاص ، لان دليل الخاص لو لم يكشف عن ذلك يلزم لغوية التعبد به وسقوطه عن الحجية ، فلازم حجية دليل المخصص هو سقوط دليل العام عن الحجية في تمام المدلول وقصر دائرة حجيته بما عدا المخصص. وحينئذ لا معنى لجعل العام بعمومه طرف النسبة ، لان النسبة إنما يلاحظ بين الحجتين ، فالذي يكون طرف النسبة هو
ص: 747
الباقي تحت العام الذي يكون العام حجة فيه ، فلو خصص أحد العامين من وجه بمخصص متصل أو منفصل يسقط عن الحجية في تمام المدلول ويكون حجة فيما عدا عنوان الخاص ، فتلاحظ النسبة بينه بمقدار حجيته وبين العام الآخر ، ولا محالة تنقلب النسبة من العموم من وجه إلى العموم المطلق.
وبالجملة : انقلاب النسبة بين الأدلة إنما يكون من ثمرات تقديم الخاص على العام وحكومة أصالة الظهور فيه على أصالة الظهور في العام. وبذلك يظهر ضعف ما قيل : من أن النسبة بين الأدلة إنما تكون بما لها من الظهورات والمخصص المنفصل لا يزاحم الظهور وإنما يزاحم الحجية ، فالتخصيص بالمنفصل لا يوجب انقلاب النسبة.
هذا ، والانصاف : أن هذا الكلام بمكان من الغرابة ، فإنه لا معنى لملاحظة النسبة بين ظهور كلامين لا يجوز العمل على أحدهما ، فالقول بعدم انقلاب النسبة عند التخصيص بالمنفصل يساوق القول بعدم حجية المخصص المنفصل ، فتأمل جيدا.
ينبغي تتميم البحث في المقام بالإشارة إلى بيان النسبة بين أدلة ضمان العارية ، وقد كثر الكلام فيها. والأدلة الواردة في باب العارية على طوائف أربع :
منها : ما يدل بعمومه أو إطلاقه على عدم ضمان العارية مطلقا ، كرواية مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمد علیه السلام قال : سمعته يقول : « لا غرم على مستعير عارية إذا هلكت أو سرقت أو ضاعت إذا كان المستعير مأمونا » (1).
ص: 748
ومنها : ما يدل على عدم الضمان إلا في عارية الدراهم ، كرواية عبد الملك عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « ليس على صاحب العارية ضمان إلا أن يشترط صاحبها ، إلا الدراهم ، فإنها مضمونة اشترط صاحبها أو لم يشترط » (1).
ومنها : ما يدل على عدم الضمان إلا في عارية الدنانير ، كرواية عبد اللّه بن سنان قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام « لا تضمن العارية إلا أن يكون قد اشترط فيها الضمان ، إلا الدنانير فإنها مضمونة وإن لم يشترط فيها ضمانا » (2).
ومنها : ما يدل على عدم الضمان إلا في عارية مطلق الذهب والفضة ، كرواية إسحاق بن عمار عنه علیه السلام قال : « العارية ليس على مستعيرها ضمان ، إلا ما كان ذهب أو فضة فإنهما مضمونان اشترطا أو لم يشترطا » (3).
وهذه الأدلة قد توافقت على عدم ضمان العارية إذا لم تكن من جنس الذهب والفضة ، إلا أن يشترط فيها الضمان.
وأما ما كان من جنس الذهب والفضة : فقد اختلفت فيها الروايات ، فظاهر إطلاق رواية « مسعدة بن زياد » عدم المضان فيهما أيضا ، ولكن لابد من الخروج عن هذا الاطلاق لتطابق بقية الأدلة على الضمان فيهما في الجملة. والنسبة بينها وبين رواية « مسعدة » العموم المطلق ، فلابد من تقييد إطلاق رواية « مسعدة » بما عدا جنس الذهب والفضة في الجملة.
وأما النسبة بين بقية الروايات : فهي قد اشتملت على عقد سلبي وعقد إيجابي ، فرواية « الدراهم » تنفي بعموم عقدها السلبي الضمان عما عدا الدراهم حتى الدنانير ، ورواية « الدنانير » تنفي بعموم عقدها السلبي الضمان عما عدا الدنانير حتى الدراهم ، والنسبة بين العقد الايجابي في كل منهما مع العقد السلبي
ص: 749
في الآخر هي العموم المطلق ، فيجب تخصيص عموم العقد السلبي في كل منهما بما عدا مورد العقد الايجابي في الآخر ، فتصير النتيجة عدم الضمان إلا في عارية الدراهم والدنانير ويرتفع التعارض عنهما ، لان الروايتين تكون بمنزلة رواية واحدة تنفي الضمان عما عدا الدراهم والدنانير.
نعم : يبقى التعارض بينها وبين ما دل على الضمان في مطلق الذهب والفضة وإن لم يكونا مسكوكين ، فان مقتضى العقد السلبي في روايتي الدراهم والدنانير هو عدم الضمان في غير المسكوك من الذهب والفضة ، فيعارض مع ما دل على الضمان في مطلق الذهب والفضة.
وقد يقال : إن النسبة بينهما العموم المطلق ، فان ما يدل بعمومه على عدم الضمان أعم مطلقا مما دل على الضمان في الدراهم والدنانير ومما دل على الضمان في مطلق الذهب والفضة ، فيندرج المقام فيما تقدم : من أنه لو ورد عام وخاصان يجب تخصيص العام بكل من الخاصين ولو كانت النسبة بين الخاصين العموم المطلق ، كقوله : « أكرم العلماء » و « لا تكرم النحويين » و « لا تكرم الصرفيين من النحويين ».
وروايات الباب تكون كذلك ، فان فيها عاما ينفي الضمان عن عموم العارية ، وفيها خاصين :
أحدهما : إثبات الضمان في عارية الدراهم والدنانير.
وثانيهما : إثبات الضمان في مطلق الذهب والفضة ، فيكون أحد الخاصين أخص من الآخر.
ولازم ذلك تخصيص العام بكل من الخاصين ، فتكون النتيجة ضمان عارية مطلق الذهب والفضة سواء كانا من المسكوكين أو من غير المسكوكين.
وإلى ذلك يرجع حاصل كلام الشهيد رحمه اللّه على طوله.
ص: 750
والمحكي عن الكفاية والرياض : أن النسبة بينهما هي العموم من وجه ، وقد أفادا في وجه ذلك بما لا تخلو عن إشكال.
ولذلك اعترض عليهما صاحب الجواهر قدس سره بأن إرجاع النسبة بينهما إلى العموم من وجه يقتضي التصرف في ألفاظ الروايات وتغيير عبارة الاخبار ، وإلا فبحسب ما يقتضيه ظاهر الاخبار هو كون النسبة بينهما العموم المطلق ، كما أفاده الشهيد رحمه اللّه .
هذا ، ولكن التحقيق أن النسبة بينهما العموم من وجه ، فان أخص الخاصين - وهو ما دل على ضمان عادية الدراهم والدنانير - متصل بالعام ، لان رواية الدراهم والدنانير قد اشتملت على عقد سلبي وعقد إيجابي ، ومفاد العقد السلبي هو عدم ضمان العارية ، ومفاد العقد الايجابي ضمان الدراهم والدنانير ، فيكون مفاد العقدين عدم الضمان إلا في عارية الدراهم والدنانير ، وقد تقدم : أنه لو كان أخص الخاصين متصلا بالعام تكون النسبة بينه وبين الخاص الآخر العموم من وجه
فان العقد السلبي في رواية الدراهم والدنانير بعمومه بدل على عدم ضمان الذهب والفضة الغير المسكوكين - كالحلي - والعقد الايجابي في رواية الذهب والفضة بإطلاقه يدل على ضمان الذهب والفضة الغير المسكوكين ، فيتعارضان ، ولابد إما من تخصيص عموم العقد السلبي في رواية الدراهم والدنانير بما عدا الذهب والفضة الغير المسكوكين ، وإما من تقييد إطلاق العقد الايجابي في رواية الذهب والفضة بخصوص المسكوكين.
ولا يتوهم : أنه بعد التعارض يرجع إلى عمومات عدم الضمان التي لم يتصل بها استثناء الدراهم والدنانير (1) فإنه قد تقدم أيضا أن تلك العمومات قد
ص: 751
خصصت - ولو بالمنفصل - بما عدا الدراهم والدنانير ، فيكون حكمها حكم العام المتصل به الخاص في انقلاب النسبة بينها وبين الخاص الآخر إلى العموم من وجه ، ويكون الحلي الغير المسكوك موردا للنفي والاثبات.
هذا ، وربما يقال : إن تقييد إطلاق رواية الذهب والفضة بخصوص المسكوك منهما أولى من تخصيص عموم ما دل على عدم الضمان بما عدا الحلي الغير المسكوك ، فان قوله علیه السلام « ليس في العارية ضمان إلا الدراهم والدنانير » يدل على نفي الضمان في عارية الحلي بالعموم أو بما هو بمنزلة العموم ، فان النكرة في سياق النفي في قوة العموم ، وقد تقدم : أن تقييد الاطلاق أولى من تخصيص العموم إذا دار الامر بينهما.
هذا ، ولكن الانصاف : أن تقييد إطلاق رواية الذهب والفضة بخصوص المسكوك منهما يكون من التقييد بالفرد النادر المستهجن عرفا (1) فان عارية الدراهم والدنانير نادر جدا ، والغالب في عارية الذهب والفضة هو عارية الحلي الغير المسكوك ، لأنه هو الذي يستعار للزينة ، فحمل قوله علیه السلام « في عارية الذهب والفضة ضمان » على خصوص الدراهم والدنانير بعيد غايته يأباه أهل المحاورة.
ص: 752
فالأولى : تخصيص عموم ما دل على عدم الضمان بما عدا مطلق الذهب والفضة ، فان تقييد الاطلاق وإن كان أولى من تخصيص العموم ، إلا أنه إذا لم يلزم محذور التقييد بالفرد النادر ، وإلا فيقدم تخصيص العام على تقييد المطلق. فالأقوى : ثبوت الضمان في عارية مطلق الذهب والفضة ، كما هو المحكي عن المشهور ، فتأمل جيدا.
إذا لم يكن لاحد المتعارضين مزية في الدلالة تقتضي الجمع العرفي بينهما ، فهل الأصل يقتضي سقوطهما رأسا مع قطع النظر عن أخبار الترجيح والتخيير؟ أو أن الأصل لا يقتضي سقوطهما؟ والبحث عن ذلك تارة : يكون مبنيا على القول بالطريقية في الامارات ، وأخرى : يكون مبنيا على القول بالسببية فيها.
أما على القول بالطريقية : فقد يقال ، بل قيل : إن أدلة التعبد بالصدور تعم المتعارضين ، فيكون حكم مظنوني الصدور حكم مقطوعي الصدور في وجوب العمل بظاهرهما معا إن أمكن ، وإلا فيجمع بينهما ولو بضرب من التأويل ، وإن لم يمكن التأويل فيهما يحكم باجمالهما.
وفيه - أولا : أنه لا يجب التأويل في المقيس عليه وهو مقطوعا الصدور فضلا عن مظنوني الصدور ، فإنه لا دليل على وجوب التأويل وحملهما على خلاف ظاهرهما مع عدم مساعدة العرف وطريق المحاورة على ذلك. والقطع بالصدور لا يقتضي التأويل ، بل القطع بالصدور يلازم القطع بعدم إرادة المتكلم ظاهر كل منهما ، وأما استخراج المراد منهما بالتأويل : فهو ما لايقتضيه القطع بالصدور ، بل لابد من التوقف.
فما يظهر من الشيخ قدس سره من تسليمه وجوب التأويل في مقطوعي
ص: 753
الصدور ليس على ما ينبغي.
وثانيا : سلمنا وجوب التأويل في مقطوعي الصدور ، ولكن قياس مظنوني الصدور على مقطوعي الصدور ليس في محله ، لان أدلة التعبد بالسند لا يمكن أن تعم المتعارضين ، فان معنى التعبد بالسند هو البناء على صدور الكلام بما له من الظهور في مؤداه ، والمفروض : أنه لا يمكن البناء على صدور كل من المتعارضين بما لهما من الظهور ، وأين هذا من مقطوعي الصدور اللذين لا تنالهما يد التعبد؟.
والحاصل : أن الكلام في إمكان التعبد بسند المتعارضين مع عدم العلم بصدورهما ، واستحالة ذلك بمثابة لا يكاد تخفى ، فإذا لم يمكن التعبد بهما معا فلا يعمهما أدلة الاعتبار ، ولا محيص حينئذ من سقوط كل منهما وعدم وجوب العمل بأحدهما. ولا سبيل إلى توهم وجوب الجمع بينهما ولو بحمل أحدهما أو كلاهما على خلاف الظاهر ، فان ذلك تصرف في الروايتين بلا برهان ، بل تأويل أحدهما وحمله على خلاف ظاهره ينافي التعبد بالسند ، لما عرفت : من أن حقيقة التعبد بالسند هو البناء على صدور الكلام بما له من الظاهر ، فحمله على خلاف الظاهر ينافي أدلة التعبد بالصدور.
فظهر : أن قولهم : « الجمع بين الدليلين أولى من الطرح » إن أريد به ما يعم التأويل والحمل على خلاف الظاهر ، فهو كلام شعري لا محصل له ولا يساعد عليه الدليل والاعتبار! فالأقوى : أن القاعدة في المتعارضين تقتضي سقوطهما معا ، سواء قلنا : إن التعارض يكون بين الظهورين أو قلنا : إنه يكون بين السندين أو قلنا : إنه يكون بين سند كل منهما وظهور الآخر ، فإنه على جميع التقادير أدلة اعتبار السند والظهور لا تعم المتعارضين ، لأنه لا يترتب على التعبد بصدور المتعارضين أثر سوى البناء على إجمالهما وعدم إرادة الظاهر في كل منهما ، ولا معنى للتعبد بصدور كلام تكون نتيجة التعبد إجمال الكلام.
نعم : يمكن التعبد بصدور كلام مجمل يقتضي إجمال كلام آخر ، كما لو ورد
ص: 754
عقيب قوله : « أكرم العلماء » « لا تكرم بعض العلماء » وتردد البعض بين جميع أفراد العلماء ، فإنه لا مانع من التعبد بصدور قوله : « لا تكرم بعض العلماء » وإن كان أثر التعبد بصدوره إجمال قوله : « أكرم العلماء » فان هذا المقدار من الأثر يكفي في التعبد ، ففرق بين التعبد بمجمل يوجب إجمال ظاهر وبين التعبد بظاهر يوجب إجماله ، فان التعبد بالصدور في الأول لا محذور فيه ، بخلاف التعبد به في الثاني ، إذ لا معنى للتعبد بصدور ظاهر تكون نتيجة التعبد به إجماله وعدم جواز الاخذ بظاهره.
فالانصاف : أنه لا مجال لتوهم شمول أدلة حجية الخبر الواحد للخبرين المتعارضين معا حتى يجب تأويلهما ، فالأصل في المتعارضين السقوط ، ولكن بالنسبة إلى خصوص المؤدى (1).
وأما بالنسبة إلى نفي الثالث : فلا وجه لسقوطهما ، فان المتعارضين يشتركان في نفي الثالث بالدلالة الالتزامية فيكونان معا حجة في عدم الثالث.
وتوهم : أن الدلالة الالتزامية فرع الدلالة المطابقية وبعد سقوط المتعارضين في المدلول المطابقي لا مجال لبقاء الدلالة الالتزامية لهما في نفي الثالث ، فاسد (2)أقول: كلام أستاذنا على مبناه في غاية المتانة، إذ مبناه في حكمه بالتساقط إنما هو من جهة ان في المتعارضين لما نعلم بكذب أحدهما فلا يكاد يدخل المعلوم الكذب بنحو الإجمال تحت دليل التعبد، فلا يكون داخلا فيه إلّا غيره المشكوك إجمالا، و حينئذ فبالنسبة إلى المدلول المطابقي كان من باب اشتباه الحجة بلا حجة، فلا مجال للأخذ بواحد منهما، بخلاف المدلول الالتزامي، فانه يؤخذ بما هو حجة في البين لعدم معارض له، و لعمري! إنك لو تأملت في مسلكك في الأصول التنزيلية من عدم صلاحية دليل التنزيل لما هو معلوم المخالفة إجمالا، لتصدّق في المقام أيضا بان المعلوم المخالفة لا يكون حجة رأسا حتّى في مدلوله الالتزامي، فلا يبقى لك المثبت له إلّا أحدهما المشكوك في البين. نعم: بناء على عدم إضرار العلم الإجمالي بمخالفة أحدهما لشمول دليل التنزيل لكل منهما بمحض كونه مشكوكا تفصيلا، لا بأس بالأخذ بكلّ منهما في نفي الثالث بلا إضرار العلم الإجمالي بكذب أحدهما في كونه مشمول دليل التعبد بالنسبة إلى ما لا يلزم منه مناقضة أو مخالفة عملية، و لازم هذا المسلك الالتزام بجريان الأصول التنزيلية في طرفي العلم إذا لم يلزم منه محذور المخالفة العملية. فهذا المقرّر لو أمعن النّظر و فتح البصر! يرى التهافت بين مبانيه و بخلط بعضها ببعض و رميه في كلّ باب رميا بلا شعور.(3)أقول: و هذا الكلام الّذي سمعنا منه مرارا صريح في تفكيكه بين المدلول المطابقي و الالتزامي، فكيف تنسب إليه عدم التفكيك؟.(4)
ص: 755
فان الدلالة الالتزامية إنما تكون فرع الدلالة المطابقية في الوجود لا في الحجية.
وبعبارة أوضح : الدلالة الالتزامية للكلام تتوقف على دلالته التصديقية أي دلالته على المؤدى ، وأما كون المؤدى مرادا : فهو مما لا يتوقف عليه الدلالة الالتزامية. فسقوط المتعارضين عن الحجية في المؤدى لا يلازم سقوطهما عن الحجية في نفي الثالث ، لان سقوطهما عن الحجية في المؤدى إنما كان لأجل التعارض ، وأما نفي الثالث : فلا معارضة بينهما ، بل يتفقان فيه ، فلو كان مفاد أحد المتعارضين وجوب الدعاء عند رؤية الهلال وكان مفاد الآخر حرمة الدعاء في ذلك الوقت ، فبالنسبة إلى نفي الكراهة والإباحة والاستحباب عن
ص: 756
الدعاء عند رؤية الهلال يتوافقان.
نعم : إذا كان التعارض بينهما لأمر خارج من دون أن يكونا في حد أنفسهما متعارضين ، فلا يتوافقان في نفي الثالث أيضا ، كما إذا كان مفاد أحد الدليلين وجوب صلاة الظهر وكان مفاد الآخر وجوب صلاة الجمعة وثبت من الخارج عدم وجوب الصلاتين معا ، فان الدليلين في حد أنفسهما لا يكونان متعارضين ، لامكان تشريع وجوب كل من الصلاتين واقعا ، وإنما وقع التعارض بينهما لقيام الدليل من الخارج على عدم وجوب الصلاتين معا ، فالدليلان لا يشتركان في وجوب أحدهما في الجملة وعدم وجوب ما عداهما ، بل مفاد أحدهما وجوب خصوص فريضة الظهر ومفاد الآخر وجوب خصوص فريضة الجمعة ، وليس لكل منهما دلالة التزامية على عدم وجوب ما عدا المؤدى ، فلا مانع من سقوط كل منهما في إثبات المؤدى بالمعارضة والرجوع إلى البراءة عن وجوب فريضة.
نعم : لو كان مفاد الدليلين وجوب فريضة في اليوم واختلفا في تعيينها ، فلا يجوز الرجوع إلى البراءة ، لاشتراكهما في وجوب فريضة في الجملة ، فيلزم من الرجوع إلى البراءة طرح ما توافقا عليه. ولكن ليس مفاد الدليلين ذلك ، بل مفاد أحدهما وجوب خصوص صلاة الظهر ومفاد الآخر وجوب خصوص صلاة الجمعة ، فلم يتوافقا في وجوب فريصة. ولا عبرة بتحليل مفاد كل منهما إلى الجنس والفصل واشتراكهما في الجنس ، فان التحليل العقلي لا أثر له في باب الظهورات وما يستفاد من الألفاظ.
فتحصل : أن الدليلين إن كانا متعارضين في المؤدى بأنفسهما ، فهما يشتركان في نفي الثالث الخارج عن المؤديين ، أي يشتركان في نفي الأصل الجاري في المسألة لولا وجود المتعارضين. وإن كانا متعارضين لأمر خارج ، فلا يشتركان في نفي الثالث ، ويجوز الرجوع إلى الأصل الجاري في المسألة : من البراءة والاحتياط. وعلى كلا التقديرين : يتساقطان في المؤدى.
ص: 757
هذا كله على القول بحجية الامارات من باب الطريقية.
وأما على القول بحجيتها من باب السببية : فحكم الامارات المتعارضة حكم الاحكام المتزاحمة في وجوب الاخذ بأحدها تخييرا إن لم يكن لاحدها مزية تقتضي تعين الاخذ به.
وظاهر إطلاق كلام الشيخ قدس سره أنه لا فرق في ذلك بين السببية التي توافق مذهب التصويب وبين السببية التي توافق مسلك التخطئة ، بل سوق كلامه يقتضي أن يكون محل البحث خصوص السببية التي توافق مسلك التخطئة.
وتوضيح الكلام في ذلك : هو أن السببية تستعمل بمعنيين :
أحدهما : ما ينسب إلى المعتزلة ، وهو أن قيام الامارة على وجوب شيء أو حرمته سبب لحدوث مصلحة أو مفسدة في المؤدى غالبة على ما هو عليه تقتضي وجوب المؤدى أو حرمته ، فيكون حال قيام الامارة على الشيء حال تعلق النذر به. وهذا المعنى من السببية لا ينطبق على مذهب المخطئة ، فإنه من أحد وجوه التصويب الذي استقر المذهب على بطلانه.
ثانيهما : ما ينسب إلى بعض الامامية ، وهو أن قيام الامارة على وجوب الشيء أو حرمته وإن لم يكن من العناوين المغيرة للمصلحة أو المفسدة ولا يقتضي وجوب المؤدى أو حرمته ، إلا أن في سلوك الامارة والتطرق بها مصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع عند عدم إصابة الامارة له (1)
ص: 758
وهذا المعنى من السببية لا ينافي التخطئة ، فان المصلحة السلوكية في طول الواقع لا في عرضه ، فلم يجتمع في المؤدى مصلحتان أو حكمان متماثلان أو متضادان ، بل المؤدى بعد باق على ما هو عليه ، غايته أن في سلوك الامارة مصلحة تداركية ، فالسببية بهذا المعنى لا ترجع إلى التصويب ولا تنافي الطريقية. وقد تقدم في مبحث الظن : أن من التزم بالمصلحة السلوكية كالشيخ قدس سره لم يلتزم بها مطلقا ، بل إنما يلتزم بها في خصوص انفتاح باب العلم وتمكن المكلف من تحصيل الواقع ، لمكان قبح التعبد بالامارات مع تمكن المكلف من استيفاء المصلحة الواقعية ، فلابد وأن يكون في سلوك الامارات مصلحة تداركية. ونحن قد منعنا عن المصلحة السلوكية حتى في صورة انفتاح باب العلم وقلنا بكفاية مصلحة التسهيل في صحة التعبد بالامارات ولو مع تمكن المكلف من إدراك الواقع ، فراجع ما ذكرناه في مبحث الظن.
إذا عرفت ذلك فاعلم : أنه لو قلنا بالسببية التي توافق مسلك التصويب ، فاندراج الامارات المتعارضة في باب التزاحم واضح إذا كان التعارض لأجل تضاد المتعلقين ، كما إذا كان مفاد أحد الدليلين وجوب شيء وكان مفاد الآخر وجوب ضده.
وأما إذا كان التعارض لأجل اتحاد المتعلقين مع اختلاف الامارتين في السلب والايجاب (1) كما إذا كان مفاد أحد الدليلين وجوب الشيء ومفاد
ص: 759
الآخر عدم وجوبه أو حرمته ، ففي اندراج التعارض على هذا الوجه في صغرى التزاحم والقول بالتخيير في الاخذ بأحدهما إشكال بل منع ، لان أقصى ما تقتضيه الامارة هو أن تكون من العناوين الثانوية المغيرة لحسن الشيء وقبحه ، وتوارد العناوين الثانوية على متعلق واحد لا يقتضي التخيير ، ألا ترى؟ أنه لو نذر الشخص فعل شيء ونذر وكيله - بناء على صحة الوكالة في النذر - ترك الشيء لا يمكن القول بالتخيير في اختيار نذره أو نذر وكيله ، بحيث تلزمه الكفارة لو اختار أحدهما وخالفه ، بل لا محيص من سقوط كل من نذر نفسه ونذر وكيله ، ويرجع متعلق النذر إلى ما كان عليه قبل النذر ، فليكن حال الامارة المتعارضة في متعلق واحد بناء على القول بالسببية فيها حال النذر في التساقط. والذي يسهل الخطب بطلان أصل المبنى وفساده ، هذا إذا قلنا بالسببية التصويبية.
وإن قلنا بالسببية المخطئة : ففي اندراج الامارات المتعارضة في صغرى
ص: 760
التزاحم إشكال ، وإن كان يظهر من الشيخ قدس سره القول بالتزاحم فيها. وغاية ما يمكن أن يقال في توجيهه : هو أن كلا من الامارتين المتعارضتين تشتمل على مصلحة سلوكية لازمة الاستيفاء بمقتضى دليل الحجية ، فيقع التزاحم بين المصلحتين في مقام السلوك ، ولا ملازمة بين سقوط طريقية كل منهما بالنسبة إلى المؤدى وبين وقوع التزاحم بينهما بالنسبة إلى المصلحة السلوكية ، فان المفروض : أن دليل الحجية يقتضي وجوب استيفاء تلك المصلحة ، وحيث لا يمكن الجمع بينهما ، فلابد من التخيير في استيفاء إحديهما ، كما هو الشأن في جميع موارد تزاحم الحكمين.
هذا ، ولكن للنظر فيه مجال ، فان المصلحة السلوكية على القول بها إنما تكون قائمة بالطريق (1) فان سلوك الطريق ذو مصلحة ، فطريقية الطريق تكون بمنزلة الموضوع للمصلحة السلوكية ، والمفروض : سقوط طريقية المتعارضين. فلا يبقى موضوع للمصلحة السلوكية حتى يقال : بوقوع المزاحمة بين استيفاء إحدى المصلحتين ، مضافا إلى أن التزاحم إنما يكون بين الأحكام الشرعية ، ولا يكفي التزاحم بين المصلحتين ، كما تقدم.
فالانصاف : أن إدراج الامارات المتعارضة على مسلك المخطئة في صغرى
ص: 761
التزاحم في غاية الاشكال. ولعل مراد الشيخ قدس سره من السببية السببية التصويبية وإن كان يبعد ذلك - مضافا إلى أنها خلاف مسلكه - تصريحه بالسببية الظاهرية ، والسببية التصويبية تكون واقعية لا ظاهرية ، فتأمل جيدا. هذا كله إذا وقع التعارض بين الطرق والامارات في الأحكام التكليفية الشرعية.
وإن وقع التعارض بينها في حقوق الناس : فقد يكون التعارض موجبا للتساقط ، كما لو تداعيا شخصان فيما يكون بيد ثالث ، وأقام كل منهما البينة ، فان البينتين يتساقطان ويقر المال في يد ذي اليد إذا ادعى الملكية. وقد لا يوجب التساقط ، بل يجب إعمال المتعارضين معا - ولو في بعض المدلول - كالمثال إذا لم يدع ذو اليد الملكية ، فإنه ينصف المال بينهما بالسوية (1).
وكذا الحكم إذا وقع التعارض بين الأسباب في الوضعيات ، فإنه تارة : يحكم فيه بتساقط السببين المتعارضين ، كما إذا عقد الوكيل والموكل في زمان واحد على مال واحد مع اختلاف المعقود له ، كما لو باع أحدهما من زيد والاخر من عمرو. واخري : يحكم فيه باعمال السببين ، كما لو وضع شخصان يدهما دفعة واحدة علي ما يكون مباحا بالاصل في مقام الحيازة ، فينصف المال بينهما بالسوية.
وقد فات مني كتابة بعض ما يتعلق بالمقام من المباحث ، لخطب نزل بي في هذه الايام ، وهو فات الوالد ( تغمدة اللّه بغفرانه ) وكان ذلك في شهر جمادي الاخر سنة 1345 ، ولذلك طوينا الكلام عما افادة شيخنا الاستاذ - مذ ظله - في هذا المقام.
* * *
ص: 762
قد عرفت : أن القاعدة تقتضي سقوط الخبرين المتعارضين ، ولكن قد استفاضت النصوص على عدم السقوط مع فقد المرجح.
وقد اختلفت كلمات الأصحاب - قدس اللّه أسرارهم - في المتعارضين المتكافئين في المزايا الداخلية والخارجية ، وعلى ما سيأتي بيانها.
فقيل : بالتخيير في الاخذ بأحدهما.
وقيل : بالتوقف ، ومرجعه إلى الاحتياط ، لان التوقف في الفتوى يستلزم الاحتياط في العمل.
وقيل : بوجوب الاخذ بما يوافق منهما الاحتياط إن كان ، وإلا فالتخيير.
ومنشأ الاختلاف اختلاف الروايات الواردة في ذلك.
فان منها : ما يدل على التخيير مطلقا ، كرواية الحسن بن جهم عن الرضا علیه السلام « قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيهما الحق؟ قال علیه السلام فإذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت » (1).
ومنها : ما يدل على التخيير في زمان الحضور ، كرواية الحرث بن المغيرة (2) عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « إذا سمعت من أصحابك الحديث [ وكلهم ثقة ] فموسع
ص: 763
عليك حتى ترى القائم فترد إليه » (1) وفي معناها روايات اخر ذكرها في الوسائل في كتاب القضاء.
ومنها : ما يدل على التوقف في زمان الحضور ، كما في ذيل مقبولة عمر بن حنظلة ، حيث قال علیه السلام « إذا كان ذلك فارجه حتى تلقى إمامك ، فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات » (2).
هذا ما وقفت عليه من الاخبار ، ولم أقف على رواية تدل على التوقف مطلقا حتى في زمان الغيبة. ولكن حكي ما يدل على ذلك أيضا ، فتكون الاخبار على طوائف أربع.
والتحقيق في الجمع بينها : هو أن النسبة بين ما دل على التخيير في زمان الحضور وبين ما دل على التخيير المطلق وإن كانت هي العموم والخصوص وكذا النسبة بين ما دل على التوقف المطلق وما دل على التوقف في زمان الحضور ، إلا أنه لا تعارض بينهما ، فإنه لا منافاة بين التوقف أو التخيير المطلق وبين التوقف أو التخيير في زمان الحضور ، لان المطلوب من المطلق إذا كان مطلق الوجود فلا يحمل على المقيد ، بل يبقى إطلاق المطلق على حاله - كما أوضحناه في محله - فالتعارض إنما هو بين ما دل على التخيير وبين ما دل على التوقف ، غايته أن التعارض بين ما دل على التوقف والتخيير مطلقا يكون بالعموم من وجه ، وبين ما دل على التخيير والتوقف في زمان الحضور يكون بالتباين. ولا يهمنا البحث عن رفع التعارض بين ما دل على التوقف والتخيير في زمان الحضور ، فإنه لا أثر له ، مضافا إلى أنه لم يعلم العمل بما دل على التخيير في زمان الحضور.
فالحري رفع التعارض بين ما دل على التوقف والتخيير مطلقا ، وقد عرفت : أن النسبة بينهما العموم من وجه ، ولكن نسبة ما دل على التخيير مطلقا مع
ص: 764
ما دل على التوقف في زمان الحضور هي العموم والخصوص ، فلابد من تقييد إطلاق ما دل على التخيير بغير زمان الحضور ، فتنقلب النسبة حينئذ بين أدلة التخيير وأدلة التوقف مطلقا من العموم من وجه إلى العموم المطلق ، لان أدلة التخيير تختص بعد تقييدها بما دل على التوقف في زمان الحضور بزمان الغيبة وعدم التمكن من ملاقاة الحجة علیه السلام فتكون أخص من أدلة التوقف مطلقا ، وصناعة الاطلاق والتقييد تقتضي حمل أخبار التوقف على زمان الحضور والتمكن من ملاقاة الامام علیه السلام فيرتفع التعارض من بينها (1) وتكون النتيجة هي التخيير في زمان الغيبة - كما عليه المشهور - ولا وجه للقول بالتوقف أو الاخذ بما يوافق الاحتياط.
والاستدلال على وجوب الاخذ بما يوافق الاحتياط بقوله علیه السلام في خبر غوالي اللآلي : « إذن فخذ بما فيه الاحتياط لدينك » (2) ضعيف ، لضعف الرواية وعدم العمل بها ، كما سيأتي.
فالأقوى : هو التخيير مطلقا ، كان أحدهما موافقا للاحتياط أو لم يكن.
الأول : لا إشكال في اختصاص أدلة التخيير بتعارض الروايات المروية عن
ص: 765
الأئمة - صلوات اللّه عليهم أجمعين - فلا تعم تعارض الأقوال في سلسلة طرق الروايات ، كما إذا تعارض أقوال أهل الرجال في التوثيق والتعديل. وكذا لا تعم تعارض أقوال أهل اللغة في مداليل ألفاظ الروايات ، وذلك واضح.
الثاني : الظاهر اختصاص أدلة التخيير بصورة تعارض الروايتين المرويتين عنهم علیهم السلام ولا تعم صورة اختلاف النسخ - كما حكي وقوع ذلك كثيرا في كتاب التهذيب - فان التعارض إنما جاء من قبل الكتاب ، فلا يندرج في قوله : « يأتي عنكما الخبران المختلفان » بل الظاهر أن أدلة التخيير لا تعم تعارض قول تلميذي الكليني في النقل عنه ، وإن كان المحكي عن بعض الاعلام اندراج ذلك في أدلة التخيير ، بدعوى : أن تعارض النقل عن الكليني رحمه اللّه يرجع إلى تعارض الخبرين.
الثالث : لا يجوز الاخذ بأحد المتعارضين تخييرا إلا بعد الفحص عن المرجحات التي يأتي بيانها ، فإنه بناء على وجوب الترجيح يتعين الاخذ بالراجح ولا يكون المرجوح حجة شرعية ولا يجوز العمل به ، فالفحص عن المرجحات يرجع إلى الفحص عن الحجية ، كالفحص عما يعارض الأصول اللفظية والعملية ، ولا إشكال في وجوب الفحص عنه.
الرابع : الأقوى كون التخيير في المسألة الأصولية أي في أخذ أحدهما حجة محرزة وطريقا إلى الواقع ، لا في المسألة الفقهية أي التخيير في العمل بمؤدى أحد الخبرين نظير التخيير بين القصر والاتمام في المواطن الأربعة ، فان الظاهر من قوله علیه السلام « بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك » (1) هو الاخذ بأحدهما ليكون حجية وطريقا مثبتا للواقع لا مجرد الاخذ في مقام العمل (2)
ص: 766
ولا ينافي ذلك إطلاق قوله علیه السلام « فتخير » كما في خبر غوالي اللآلي (1) فان قوله علیه السلام « فتخير » صالح لكلا الوجهين ، فلا يعارض ظهور قوله علیه السلام « بأيهما أخذت » في أخذ أحدهما حجة.
نعم : ربما يتوهم دلالة قوله علیه السلام « موسع عليك بأية عملت » (2) - كما في رواية ابن مهزيار عن كتاب عبد اللّه بن محمد - على كون التخيير في المسألة الفقهية.
ولكن الظاهر من قوله علیه السلام « بأية عملت » هو الاخذ بأحد المتعارضين حجة وطريقا إلى العمل ، لا مجرد العمل بمضمون أحدهما ، فتأمل جيدا.
ويترتب على كون التخيير في المسألة الأصولية أو في المسألة الفقهية ثمرات مهمة
منها : كون التخيير للمفتي في الفتوى بمضمون أحد الخبرين لو كان التخيير في المسألة الأصولية ، والتخيير للمستفتي في العمل بمضمون أحدهما لو كان التخيير في المسألة الفقهية ، إلا في مقام الترافع وفصل الخصومة ، فإنه لا معنى
ص: 767
لتخيير المتخاصمين في العمل بأحدهما ، بل لابد للحاكم من اختيار مضمون أحدهما والحكم على طبقه ، لعدم فصل الخصومة إلا بذلك.
ومنها : كون التخيير استمراريا إذا كان التخيير في المسألة الفقهية ، لأنه يكون كالتخيير بين القصر والامام في المواطن الأربعة ، فللمكلف أن يعمل بمضمون أحد المتعارضين تارة وبمضمون الآخر أخرى ، إلا أن يقوم دليل على خلاف ذلك. وبدويا إذا كان التخيير في المسألة الأصولية ، فان معنى كون التخيير في المسألة الأصولية هو التخيير في جعل أحد المتعارضين حجة شرعية وأخذ أحدهما طريقا محرزا للواقع ، ولازم ذلك وجوب الفتوى بما اختاره أولا وجعل مؤداه هو الحكم الكلي الواقعي المتعلق بأفعال المكلفين ، فلا معنى لاختيار الآخر بعد ذلك.
وبالجملة : بعدما عرفت : من أن مقتضى القاعدة سقوط كل من المتعارضين عن الحجية وعدم شمول أدلة الاعتبار لهما ، فحجية أحدهما إنما تكون بمعونة أخبار التخيير ، وأدلة التخيير إنما تدل على اختيار أحدهما حجة ، وبعد اختيار أحدهما حجة يكون المجتهد محرزا للواقع ، ولا يبقى مجال لاختيار الآخر بعد ذلك حجة شرعية.
وبما ذكرنا يظهر : أنه لا مجال لاستصحاب بقاء التخيير بعد اختيار أحدهما ، إذا بناء على كون التخيير في المسألة الفقهية يكون الحكم بالتخيير باقيا قطعا وبناء على كون التخيير في المسألة الأصولية يكون الحكم بالتخيير مرتفعا قطعا. ولا ينبغي الشك في البقاء على كل من الوجهين حتى يجري فيه الاستصحاب.
نعم : يمكن فرض الشك في كون التخيير في أي المسألتين ، بدعوى : عدم استظهار أحد الوجهين من الاخبار ، فيشك في كون التخيير في المسألة الأصولية أو في المسألة الفقهية. ولكن إذا فرض الشك بهذا الوجه فلا مجال للاستصحاب ، للشك في موضوعه ، فإنه على أحد الوجهين يكون الموضوع باقيا ،
ص: 768
وعلى الوجه الآخر يكون الموضوع مرتفعا ، فالشك في أحد الوجهين يستلزم الشك في بقاء الموضوع. ولا جامع بين الوجهين حتى يجري فيه الاستصحاب ، فإذا لم يجر الاستصحاب وفرض الشك في أحد الوجهين فالامر يدور بين التعيين والتخيير ، لأنه على تقدير كون التخيير في المسألة الأصولية يتعين ما اختاره المكلف أولا ، وبناء على كون التخيير في المسألة الفقهية يكون المكلف مخيرا في اختيار أحدهما دائما ، وقد تقدم في مبحث البراءة : أنه مهما دار الامر بين التعيين والتخيير فالأصل العملي يقتضي التعيين (1) خصوصا في مثل المقام مما كان دوران الامر بين التعيين والتخيير في باب الطرق والامارات (2) فراجع ما ذكرناه في مبحث البراءة.
المشهور بين الأصحاب : أن التخيير إنما هو في صورة تعادل المتعارضين وتكافئهما في المزايا المنصوصة - على ما سيأتي بيانها - فلا يجوز الاخذ بأحدهما
ص: 769
تخييرا (1) إلا عند فقد ما يقتضي ترجيح أحدهما.
وقد حكي عن بعض : القول بالتخيير مطلقا ، لاطلاق أدلة التخيير وحمل أخبار الترجيح على الاستحباب.
وأنت خبير : بأنه يجب الخروج عن إطلاق أدلة التخيير بظهور أدلة الترجيح في الوجوب ، فان المطلق مهما بلغ في الظهور لا يقاوم ظهور المقيد في التقييد ، القول باستحباب الترجيح ضعيف غايته.
منها : مقبولة عمر بن حنظلة ، قال : « سئلت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاء ، أيحل ذلك؟ قال علیه السلام من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت » إلى أن قال : « قلت : فان كان كل رجل يختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما فاختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال علیه السلام الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر ، قلت : فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على الآخر؟ قال علیه السلام ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع
ص: 770
عليه بين أصحابك ، فيؤخذ به من حكمهما ، ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فان الجمع عليه لا ريب فيه » إلى أن قال : « قلت : فان كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال علیه السلام ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة ويترك ما خالف الكتاب والسنة ووافق العامة ، قلت : جعلت فداك! أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة فوجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا بأي الخبرين يؤخذ؟ قال علیه السلام ما خالف العامة ففيه الرشاد ، قلت : جعلت فداك! فان وافقهما الخبران جميعا؟ قال علیه السلام ينظر إلى ما هم أميل إليه حكامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر ، قلت : فان وافق حكامهم الخبرين جميعا؟ قال : إذا كان ذلك فارجه حتى تلقى إمامك ، فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات » (1).
وظهور هذه الرواية الشريفة في وجوب ترجيح أحد المتعارضين بهذه المزايا مما لا يكاد يخفى.
والاشكال عليها : بأن موردها اختلاف الحكمين في مستند حكمهما وفي مثله لابد من الترجيح ، لعدم قطع الخصومة بالتخيير - كما تقدم - فلا تعم الرواية موارد تعارض الروايات في مقام الفتوى (2)
ص: 771
ضعيف غايته ، فان الترجيح إنما يكون في مقابل التخيير ، وقد عرفت أن التخيير إنما يكون في المسألة الأصولية ، ومعنى الترجيح في المسألة الأصولية : هو أخذ الراجح حجة شرعية وطريقا محرزا إلى الواقع. وعليه : لا يمكن أن يفرق بين باب الحكومة وبين باب الفتوى ، بل نفوذ حكم من وافق حكمه الراجح إنما هو لأجل موافقة فتواه له.
وبالجملة : بعد البناء على كون التخيير والترجيح في المسألة الأصولية لا معنى للتفرقة بين باب الحكومة وبين باب الفتوى ، فإنه كما يلزم الحكم على طبق الراجح لأنه هو الحجة والطريق دون غيره ، كذلك يلزم الفتوى والعمل على طبقه.
وكأن من استشكل على الاستدلال بالرواية لوجوب الترجيح في مطلق المتعارضين غفل عن كون الترجيح في المسألة الأصولية ، أو بنى على كونه في المسألة الفقهية ، وقد تقدم ضعفه.
هذا كله ، مضافا إلى أن صدر الرواية سؤالا وجوابا وإن كان في مورد الحكومة ، إلا أن الظاهر من قوله علیه السلام « ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا » إلى آخر الرواية ، هو أن الامام علیه السلام صار بصدد بيان الوظيفة الكلية عند تعارض مطلق الاخبار.
فالانصاف : أن التأمل في الرواية يوجب القطع بكون الترجيح لمطلق
ص: 772
تعارض الروايات ، فلا ينبغي الاشكال عل الاستدلال بها على وجوب الترجيح في مقام العمل والفتوى :
كما لا ينبغي الاشكال على الاستدلال بها بأن الظاهر من قوله في الذيل : « إذا كان ذلك فارجه حتى تلقى إمامك » كون الترجيح بتلك المزايا إنما هو في زمان الحضور فلا دليل على وجوب الترجيح بها في زمان الغيبة ، فان اختصاص التوقف بزمان الخصوص لا يقتضي اختصاص الترجيح به.
وكذا لا ينبغي الاشكال بمعارضة الرواية لرواية « الاحتجاج » عن سماعة بن مهران عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام يرد علينا حديثان ، واحد يأمرنا بالأخذ به ، والآخر ينهانا؟ قال علیه السلام لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأل. قلت : لابد أن يعمل بواحد منهما ، قال علیه السلام خذ بما فيه خلاف العامة » (1).
وجه المعارضة : هو أنه في المقبولة كان التوقف بعد فقد المرجحات ، وفي رواية « الاحتجاج » الامر بالعكس يكون الترجيح بمخالفة العامة بعد عدم إمكان التوقف ، لحضور وقت العمل أو غير ذلك.
هذا ، ولكن الأصحاب لم يعملوا برواية « الاحتجاج » بل عملهم على طبق ما في المقبولة ، فلا تصلح رواية الاحتجاج للمعارضة.
وبالجملة : دلالة المقبولة على وجوب الترجيح بالمزايا المذكورة في غاية الوضوح ، وجميع الاشكالات الواردة على الرواية يمكن الذب عنها ، وقد عمل بمضمونها الأصحاب واعتمدوا عليها ، ولذلك سميت بالمقبولة ، مضافا إلى اعتضادها بروايات اخر قد استقصاها الشيخ قدس سره في « الفرائد » أجمعها بعد المقبولة مرفوعة زرارة ، قال : « سئلت أبا جعفر علیه السلام فقلت : جعلت
ص: 773
فداك! يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ؟ فقال علیه السلام يا زرارة! خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر ، فقلت : يا سيدي! إنهما معا مشهوران مأثوران عنكم؟ فقال علیه السلام خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك ، فقلت : إنهما معا عدلان مرضيان موثقان؟ فقال علیه السلام انظر ما وافق منهما العامة فاتركه وخذ بما خالف ، فان الحق فيما خالفهم ، قلت : ربما كانا موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع ، قال علیه السلام إذن فخذ بما فيه الاحتياط لدينك واترك الآخر ، قلت : فإنهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟ فقال علیه السلام إذن فتخير أحدهما فتأخذ به ودع الآخر » (1).
وهذه الرواية وإن كانت ضعيفة رواها ابن أبي جمهور الأحسائي في كتاب « غوالي اللآلي » عن العلامة مرفوعا إلى زرارة ، وقد طعن صاحب الحدائق رحمه اللّه في الكتاب ومصنفه ، مع عدم وجود الرواية في كتب العلامة قدس سره إلا أنها تصلح لان تكون مؤيدة لمقبولة « عمر بن حنظلة » مضافا إلى سائر الروايات ، وبعد هذا لا ينبغي التأمل والاشكال في وجوب الترجيح بين الروايات المتعارضة.
نعم : يبقى الاشكال في وجوب الاقتصار على المرجحات المذكورة في الروايات ، أو أنه يجب التعدي عنها إلى كل مرجح لسند أحد المتعارضين أو لمضمونه ، وقد اختلفت في ذلك كلمات الاعلام. والأقوى : وجوب الاقتصار على المرجحات المنصوصة وعدم جواز التعدي عنها ، فان الأصل وإن كان يقتضي وجوب الاخذ بكل ما يحتمل أن يكون مرجحا لاحد المتعارضين ، للشك في حجية الآخر والأصل عدمها ، إلا أنه
ص: 774
يحب الخروج عما يقتضيه الأصل باطلاقات أدلة التخيير (1) فان المتيقن من تقييدها هو ما إذا كان في أحد المتعارضين أحد المزايا المنصوصة ، ولا يستفاد من أدلة الترجيح وجوب الاخذ بكل مزية تقتضي أرجحية أحدهما سندا أو مضمونا ، فالقول بوجوب التعدي عن المرجحات المنصوصة خال عن الدليل.
نعم : يمكن أن يستدل له بقوله علیه السلام في مقبولة « عمر بن حنظلة » في وجه الترجيح بالشهرة : « فان الجمع عليه مما لا ريب فيه » وبقوله في وجه الترجيح بمخالفة العامة : « فان الرشد في خلافهم ». بتقريب : أن المراد من « المجمع عليه » ليس هو الاجماع المصطلح ، بحيث تكون الرواية مما قد أجمع الأصحاب ورواة الأحاديث على روايتها ، وإلا كانت الرواية متواترة مقطوعة الصدور ، بل المراد منه هو كون الرواية مشهورة بين الأصحاب معروفة بين الرواة وإن كانت من أخبار الآحاد ، ولا منافاة بين كون الرواية من أخبار الآحاد وبين اشتهارها بين أرباب الحديث وتدوينها في الأصول والكتب والمجامع ، ويقابلها الرواية الشاذة التي لم تكن معروفة عند الرواة ولم يشتهر نقلها وتدوينها في الأصول وكتب الأحاديث ، ومن المعلوم : أنه لا يصح حمل عدم الريب بقول مطلق على مثل هذه الرواية التي يجامعها احتمال عدم الصدور ، فان الخبر الواحد مهما بلغ في الاشتهار لا يكون مقطوع الصدور ، فلابد وأن يكون المراد من قوله علیه السلام « ممالا ريب فيه » هو عدم الريب بالإضافة إلى الرواية الشاذة التي لم تكن معروفة عند أصحاب الحديث ، فان الرواية المشهورة تكون أقرب إلى الصدور من الرواية الشاذة ، فيكون الريب المحتمل في الرواية الشاذة
ص: 775
أقرب من الريب المحتمل في الرواية المشهورة ، لأنه يحتمل فيها مالا يحتمل في الرواية المشهورة فيصح حمل عدم الريب الإضافي على الرواية المشهورة ، ولازم ذلك هو التعدي إلى كل مزية تقتضي أقربية صدور ذي المزية من الفاقد لها ، فان قوله علیه السلام « فان المجمع عليه مما لا ريب فيه » يكون من منصوص العلة وبمنزلة الكبرى الكلية ، فيكون مفاد التعليل : هو الامر بأخذ كل خبر لا ريب فيه بالإضافة إلى الخبر الآخر وأقرب صدورا منه. وهذا كما ترى يقتضي وجوب الاخذ بكل مرجع صدوري ولو لم يكن من مقولة الشهرة. هذا كله في قوله علیه السلام « فان المجمع عليه ممالا ريب فيه ».
وأما قوله علیه السلام « فان الرشد في خلافهم » فتقريب الاستدلال به على وجوب التعدي إلى كل مزية : هو أن التعليل بذلك إنما هو لأجل أن مضمون الخبر المخالف للعامة أقرب إلى الواقع من الخبر الموافق لهم ، لأنه يحتمل في الموافق أن يكون قد صدر تقية ، وليس المراد من قوله علیه السلام « فان الرشد في خلافهم » هو أن كل ما يكون مخالفا للعامة فهو الحق الموافق للواقع وكل ما يكون موافقا لهم فهو الباطل المخالف للواقع ، بداهة أن كثيرا من الاحكام الموافقة لرأي العامة ليست من الباطل ، فلابد وأن يكون المراد من قوله علیه السلام « فان الرشد في خلافهم » هو أقربية مضمون الخبر المخالف للعامة من الخبر الموافق لهم ، لأنه يحتمل في الموافق مالا يحتمل في المخالف ، فيكون حاصل التعليل : هو وجوب الاخذ بكل ما يكون مضمونه أقرب إلى الواقع من الخبر الآخر. ولازم ذلك هو التعدي إلى كل مزية تقتضي ذلك ولو لم تكن من مقولة مخالفة العامة. هذا غاية ما يمكن أن يستدل به للقول بوجوب التعدي عن المزايا المنصوصة.
ولكن للنظر فيه مجال. أما في قوله علیه السلام « فان المجمع عليه مما لا ريب فيه » فلانه لا شاهد على كون المراد منه عدم الريب بالإضافة إلى الغير ، بل ظاهره عدم الريب بقوله مطلق. ولا ملازمة بين كون الخبر مما لا ريب
ص: 776
فيه بقول مطلق وبين كونه مقطوع الصدور ، بل يصح حمل عدم الريب على الخبر المشهور المدون في كتب الأحاديث المعروف عند الرواة وأرباب الحديث ، فان مثل هذا الخبر مما تطمئن النفس بصدوره ويحصل الركون إليه بحيث لا يلتفت إلى احتمال عدم صدوره ولو كان موجودا في خزانة النفس ، فيصح أن يقال : إنه مما لا ريب فيه بقول مطلق ، بخلاف الخبر النادر الشاذ الذي لم يدون في كتب الأصحاب ولم يكن مشهورا عند أرباب الحديث ، فإنه لا تطمئن النفس بصدوره ، بل ولا يحصل الظن به.
فدعوى : أن المراد من قوله : « ما لا ريب فيه » هو عدم الريب بالإضافة إلى غيره ، مما لا شاهد عليها حتى يقتضي التعدي إلى كل مزية تقتضي أقربيه صدور أحد المتعارضين عن الآخر ، بل قصارى ما يقتضيه التعليل : هو التعدي إلى كل مزية تقتضي الاطمينان بالصدور وركون النفس إليه.
وأما قوله علیه السلام « فان الرشد في خلافهم » فالامر فيه أوضح ، فان التعليل لا ينطبق على ضابط منصوص العلة ولا يصلح أن يكون كبرى كلية ، لان ضابط منصوص العلة - على ما أوضحناه في محله - هو أن تكون العلة على وجه يصح ورودها وإلقائها إلى المكلفين ابتداء بلا ضم المورد إليها ، كما في قوله : « الخمر حرام لأنه مسكر » فإنه يصح أن يقال : « كل مسكر حرام » بلا ذكر الخمر ، وكما في قوله علیه السلام « فان المجمع عليه مما لا ريب فيه » فإنه يصح أن يقال : « خذ بكل ما لا ريب فيه ».
وهذا بخلاف قوله علیه السلام « فان الرشد في خلافهم » فإنه لا يصح أن يقال : « خذ بكل ما خالف العامة » لما عرفت : من أنه كثير من الاحكام الحقة توافق قول العامة ، فلا يمكن أن يرد قوله علیه السلام « فان الرشد في خلافهم » دستورا كليا للمكلفين بحيث يكون بمنزلة الكبرى الكلية ، بل لابد
ص: 777
وأن يكون التعليل بذلك لبيان حكمة التشريع ، وليس من العلة المنصوصة ، فلا يجوز التعدي عنها إلى كل مزية تقتضي أقربية مضمون أحد المتعارضين للواقع. فالانصاف : أنه لم يظهر من الأدلة جواز التعدي عن المرجحات المنصوصة ، فالأقوى : هو الاقتصار عليها ، فتأمل جيدا.
منها : ما يكون مرجحا لسند أحد المتعارضين ، كموافقة أحدهما للشهرة وككون الراوي لأحدهما أوثق أو أعدل أو أصدق ونحو ذلك مما يرجع إلى صفات الراوي.
ومنها : ما يكون مرجحا لجهة الصدور ، ككون أحد المتعارضين مخالفا للعامة (1).
ص: 778
ومنها : ما يكون مرجحا لمضمون أحد المتعارضين ، ككون أحدهما موافقا للكتاب. وقد وقع الكلام في ترتب هذه المرجحات وتقدم بعضها على بعض.
فقيل : إنها غير مترتبة ، بل كلها مرجحة في عرض واحد ، فلو كان أحد المتعارضين واجدا لبعضها وكان الآخر واجدا لبعضها الآخر وقع التزاحم بينها فيقدم ما هو الأقوى مناطا ، وإلا فالتخيير. وهو الذي اختاره المحقق الخراساني قدس سره .
وقيل : بتقديم المرجح الراجع إلى جهة الصدور على المرجح السندي والمرجح المضموني ، فلو كان أحد المتعارضين مخالفا للعامة وكان الآخر موافقا للشهرة أو للكتاب قدم ما يخالف العامة. وهذا القول منسوب إلى الوحيد البهبهاني قدس سره .
وقيل : بتقديم المرجح السندي على المرجح الجهتي والمرجح المضموني ، فيقدم الخبر المشهور على الخبر المخالف للعامة أو الموافق للكتاب. وهذا هو الأقوى ، فان التعبد بجهة الصدور متأخر في الرتبة عن التعبد بأصل الصدور. وقد تقدم في حجية الظن ما ينفع المقام ، ولا بأس بإعادته.
فنقول : إن استنباط الحكم الشرعي من الخبر الواحد يتوقف على أمور :
الأول : كون الخبر صادرا عن الامام علیه السلام والمتكفل لاثبات هذا الامر هو أدلة حجية الخبر الواحد.
الثاني : كون ظاهرا في المعنى ، والمتكفل لاثباته هو العرف واللغة.
الثالث : كونه صادرا لبيان الحكم الواقعي لا لجهة أخرى : من تقية ونحوها ، والمتكفل لاثبات ذلك بناء العقلاء على حمل الكلام على كونه صادرا لبيان إفادة المراد النفس الأمري ، لان الظاهر من المتكلم نوعا هو أن يكون كلامه
ص: 779
على طبق مراده ، وهذا أصل عقلائي يرجع إليه عند الشك في جهة الصدور.
الرابع : كون مضمونه تمام المراد لا جزئه ، والمتكفل لاثبات ذلك أصالة عدم التقييد والتخصيص وقرينة المجاز ، ونحو ذلك من الأصول اللفظية التي عليها بناء العقلاء عند الشك في إرادة التقييد والتخصيص والحقيقة.
ولا يخفى : أن التعبد بجهة الصدور فرع التعبد بالصدور والظهور (1) كما أن التعبد بكون المضمون تمام المراد فرع التعبد بجهة الصدور ، بداهة أنه لابد من فرض صدور الخبري لبيان حكم اللّه الواقعي حتى يتعبد بكون مضمونه تمام المراد ، لا جزئه. نعم : ليس بين التعبد بالصدور والتعبد بالظهور ترتب وطولية ، فإنه كما لا يصح التعبد بصدور كلام غير ظاهر ، كذلك لا يصح التعبد بظهور كلام غير صادر ، فالتعبد بكل من الصدور والظهور يتوقف على الآخر ، ولذلك
ص: 780
ربما يتوهم أنه يلزم الدور. ولكن يدفع بأن التعبد بالظهور لا يتوقف على فعلية الصدور والتعبد به ، بل يكفي في صحة التعبد بالظهور فرض الصدور ، ولا يصح العكس ، فتأمل.
وعلى كل حال : لا إشكال في أن التعبد بجهة الصدور يتوقف على التعبد بالصدور ، والتعبد بالمضمون يتوقف على التعبد بجهة الصدور ، ولازم ذلك هو تقديم المرجح الصدوري على المرجح الجهتي عند التعارض بينهما ، كما هو ظاهر أدلة الترجيح ، فان في مقبولة « عمر بن حنظلة » قدم المرجح الصدوري على المرجح الجهتي. ولا يعارضها اقتصار بعض الأدلة على ذكر بعض المرجحات ، فإنه يجب تقييدها بما في المقبولة.
نعم : ربما يقع التعارض بين المقبولة وبين سائر الأدلة من جهة أخرى سيأتي البحث عنها. والمقصود في المقام : بيان تقديم المرجح الصدوري على المرجح الجهتي ، فان القاعدة تقتضي ذلك ، مضافا إلى دلالة أدلة الترجيح عليه.
فلا وجه لما عن الوحيد البهبهاني رحمه اللّه من تقديم المرجح الجهتي على المرجح الصدوري ، كما لا وجه لما أفاده المحقق الخراساني قدس سره من وقوع التزاحم بين المرجحات عند التعارض وتقديم ما هو أقوى مناطا وإلا فالتخيير بدعوى : أن الترجيح بجميع المرجحات يرجع إلى الصدور ، فان التعبد بالأخذ بما يخالف العامة معناه : البناء على أنه هو الصادر وأن الموافق لهم غير صادر ، لأنه لا معنى للتعبد بصدور الخبر مع وجوب حمله على التقية ، إذ الحمل على التقية يساوق الطرح ، ولا يعقل أن تكون نتيجة التعبد بالصدور هي الطرح ، فمعنى عدم الاخذ بالخبر الموافق للعامة هو البناء على عدم صدوره ، فلا تشمله أدلة حجية الخبر الواحد. وكذا الحال في موافقة أحد المتعارضين للكتاب ، فان معنى الاخذ بالموافق : هو البناء على عدم صدور المخالف للكتاب. فالمرجحات المنصوصة كلها ترجع إلى الصدور.
ص: 781
هذا ، ولكن يرد عليه : أن الترجيح بالمخالفة للعامة والموافقة للكتاب إنما يرجع إلى التخصيص في الأصول العقلائية التي تقتضي البناء على صدور الكلام على وفق المراد وأن مضمونه تمام المراد. وأما الترجيح بالشهرة وصفات الراوي : فهو يرجع إلى التخصيص في أدلة حجية الخبر الواحد التي تقتضي البناء على صدور الخبر. فإرجاع المرجحات كلها إلى المرجح الصدوري وكونها مخصصة لأدلة حجية الخبر الواحد مما لا سبيل إليه.
وما قيل : من أنه لا معنى للتعبد بالصدور مع الحمل على التقية - فان الحمل على التقية يرجع إلى طرح الخبر الموافق للتقية ولا يمكن أن تكون نتيجة التعبد بالصدور طرح الخبر - فهو ناش عن الخلط بين الحمل على التقية في باب تعارض الخبرين وبين الحمل على التقية في غير باب التعارض.
وتوضيح ذلك : هو أن الخبر تارة : يكون بنفسه ظاهرا في الصدور تقية ، بحيث يكون فيه قرائن التقية ولو لم يكن له معارض ، كالاخبار الواردة في عدم بطلان الصلاة بالحدث قبل التسليم.
وأخرى : لا يكون في الخبر قرائن الصدور تقية بل مجرد كون مؤداه موافقا لمذهب العامة ، وقد تقدم : أن مجرد موافقة الخبر للعامة لا يقتضي الحمل على التقية ، بل لو لم يكن له معارض كان مشمولا لأدلة حجية الخبر الواحد ويجب العمل به ، وإنما يحمل على التقية في صورة التعارض بأدلة العلاج وأخبار الترجيح. والذي لا يمكن فيه التعبد بالصدور مع الحمل على التقية هو ما إذا كان الخبر في حد نفسه ظاهرا في التقية ، وأما إذا لم يكن في الخبر قرائن التقية ، فالحمل عليها إنما يكون بعد وقوع التعارض بينه وبين الخبر المخالف للعامة ، ووقوع التعارض بينهما فرع شمول أدلة التعبد بالصدور لكل من الموافق والمخالف.
لا أقول : إن أدلة التعبد بالصدور تعم كلا منهما بالفعل مع كونهما
ص: 782
متعارضين ، فان ذلك واضح الفساد ، بل أقول : إن كلا منهما في حد نفسه مشمول لأدلة الاعتبار ، فحمل الخبر الموافق للعامة على التقية إنما يكون بعد فرض التعبد بصدوره ، فلو فرض أن الخبر الموافق لهم كان مشهورا عند أرباب الحديث والخبر المخالف كان شاذا غير مشهور عند الأصحاب ، فمقتضى أدلة الترجيح هو البناء على عدم صدور الشاذ (1) ولا أثر لجهة مخالفته للعامة حتى يتدارك بها جهة شذوذه ، ليزاحم الخبر المشهور الذي تقتضي أدلة الترجيح البناء على صدوره.
ص: 783
ومما ذكرنا يظهر الوجه في تقديم المرجح الجهتي على المرجح المضموني ، لتقدم رتبته عليه ، وإن كان يظهر من صحيح « القطب الراوندي » عن الصادق علیه السلام تقديم الترجيح بموافقة الكتاب على مخالفة العامة ، حيث قال علیه السلام « إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب اللّه فما وافق كتاب اللّه فخذوه وما خالف كتاب اللّه فذروه ، وإن لم تجدوه في كتاب اللّه فاعرضوهما على أخبار العامة فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه » (1) والعمل بهذا الصحيح مشكل ، إلا أن يقال : إن موافقة الكتاب تكون من المرجحات الصدورية ، فتأمل.
الترجيح بصفات الراوي وإن لم يصرح به في المقبولة لأنه لم يجعل صفات الراوي فيها من مرجحات الخبرين المتعارضين بل جعلت من مرجحات الحكمين المتعارضين ، إلا أنه يمكن أن يقال : إنه لما كان منشأ اختلاف الحكمين هو اختلاف الروايتين ، فيستفاد من ذلك أن المناط في ترجيح أحد الحكمين على الآخر بالصفات ، لكون مثل هذه الصفات مرجحة لمنشأ الحكم وهو الرواية (2) ويؤيد ذلك أن الأصدقية إنما تناسب كونها مرجحة للرواية لا لنفس الحكم.
ص: 784
فالأقوى : وجوب الترجيح بالصفات التي لها دخل في أقربية صدور أحد المتعارضين - كالأصدقية في القول والأوثقية في النقل - ضرورة أنه ليس كل صفة في الراوي تكون مرجحة لروايته ، فان الورع والتقوى والمواظبة على أداء الفرائض والسنن لا دخل لها في نقل الرواية ، إذ ربما يكون الفاسق أضبط وأتقن في نقل الحديث من العادل. والمراد من قوله علیه السلام في المقبولة : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما » ليس الأعدلية والأورعية بمعنى الزهد في الدنيا ، بل المراد منه الأعدلية والأورعية في نقل الأحاديث.
ثم إن في وجوب تقديم الترجيح بالصفات على الترجيح بالشهرة إشكال (1) ولا يبعد أن يكون الترجيح بالشهرة مقدما على الترجيح بالصفات ، لأنه في المقبولة جعلت الشهرة أو مرجحات الخبرين المتعارضين ، حيث قال علیه السلام بعد فرض كون الحكمين متساويين في الصفات : « ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به الجمع عليه بين أصحابك الخ ». والظاهر : أن يكون عمل المشهور أيضا على ذلك ، فإنهم لا يزالون يقدمون المشهور على غيره ولو كان راوي الغير أعدل وأصدق.
قد تقدم - في مبحث الظن - أقسام الشهرة وما يصلح منها للترجيح ، ولا بأس بإعادته إجمالا في المقام ، فنقول : إن الشهرة على أقسام ثلاثة : شهرة روايتيه ، وشهرة عملية ، وشهرة فتوائية.
أما الشهرة الروايتية : فهي عبارة عن اشتهار الرواية بين الرواة وتدوينها في
ص: 785
كتب الأحاديث. ولا إشكال في كونها مرجحة لاحد المتعارضين ، بل هي المراد من قوله علیه السلام في المقبولة : « فان الجمع عليه لا ريب فيه ».
وأما الشهرة العملية : فهي عبارة عن عمل المشهور بالرواية واعتمادهم عليها واستنادهم إليها. والنسبة بين الشهرة الروايتية والشهرة العملية العموم من وجه ، إذ رب رواية لم تكن مشهورة عند الرواة وأرباب الحديث ولكن عمل المشهور بها ، ورب رواية لم يعمل المشهور بها ولكن كانت مشهورة عند الرواة.
ولا إشكال في أن الشهرة العملية تكون مرجحة أيضا ، بل الترجيح بها أولى من الترجيح بالشهرة الروايتية ، فان عمل الأصحاب يكشف عن اعتبار الرواية ، بل لو كانت الشهرة العملية على خلاف الشهرة الروايتية فالعبرة على الشهرة العملية ، فان عدم عمل المشهور بالرواية المشهورة يكشف عن خلل فيها (1).
وأما الشهرة الفتوائية : فهي عبارة عن اشتهار الفتوى بمضمون الرواية مع عدم
ص: 786
العلم باستناد فتوى المشهور إليها. والذي يهم البحث عنه هو بيان حكم الشهرة الفتوائية من حيث كونها جابرة لضعف السند ومرجحة لاحد المتعارضين ، فان الذي يمكن لنا إحرازه هو الشهرة الفتوائية ، وأما الشهرة العملية : فلا سبيل لنا إلى إحرازها ، لأنها إنما تكون في عصر الحضور أو ما قاربه قبل تأليف كتب الفتوى ، فالذي لنا إليه سبيل هي الشهرة الفتوائية.
ولا إشكال في كون الشهرة الفتوائية على خلاف مضمون الرواية تكون موهنة لها على كل حال ، لان إعراض الأصحاب عن الرواية أقوى موهن لها ، وإنما الاشكال في كونها مرجحة لاحد المتعارضين أو جابرة لضعف سند الرواية ولو لم يكن لها معارض ، فان الترجيح والجبر يتوقف على الاستناد والاعتماد إلى الرواية. ولا يكفي في ذلك مجرد مطابقة الفتوى لمضمون الرواية ، كما لا يكفي في الترجيح والجبر عمل المتأخرين بالرواية واستنادهم إليها ، فان العبرة على عمل المتقدمين من الأصحاب بالرواية ، لقرب زمانهم بزمان الأئمة علیهم السلام ومعرفتهم بحال الرواة وتشخيصهم غث الرواية عن سمينها ، فلا أثر لشهرة المتأخرين واستنادهم إلى الرواية ما لم تتصل بشهرة المتقدمين. وحينئذ ربما يشكل علينا الحال ، فإنه لا طريق لنا إلى العلم باستناد القدماء إلى ما بأيدينا من الرواية ، لأنه ليس من دأبهم ذكر مستند الفتوى ، بل بناءهم غالبا على مجرد الفتوى على طبق الاخبار بلا ذكر المستند ، كما لا يخفى على من راجع المتون ، فان قل ما يوجد فيها بيان المستند ، فلا سبيل لنا إلى إثبات أن مستند فتواهم كان ما بأيدينا من الرواية ، لاحتمال أن يكون لهم مستند آخر قد خفي علينا ، وقد عرفت : أنه ما لم يعلم استنادهم إلى الرواية لم تكن فتواهم مرجحة ولا جابرة.
هذا ، ولكن التحقيق : أن الامر ليس بتلك المثابة من الاشكال ، فإنه إذا توافقت شهرة المتأخرين مع شهرة المتقدمين على الفتوى بمضمون الرواية وكانت
ص: 787
الفتوى على خلاف ما تقتضيه القاعدة ولم يكن فيما بأيدينا ما يصلح أن يكون مستندا لفتوى المتقدمين إلا ما استند إليه المتأخرون من الرواية ، فيكشف ذلك كشفا عاديا على أن مستند المتقدمين هو تلك الرواية ، فان احتمال أن يكون للمتقدمين مستند آخر غير ما استند إليه المتأخرون - وقد خفي عليهم - بعيد غايته ، بل لا ينبغي احتماله ، فان اتصال المتأخرين بالمتقدمين مع انحصار المستند عند المتأخرين بما بأيدينا من الرواية يمنع عن احتمال اختلاف مستند المتقدمين لمستند المتأخرين ، بل لو ادعى أحد القطع باتحاد المستند لم يكن في دعواه مجازف. نعم : لو كانت شهرة المتأخرين على طبق ما تقتضيه القاعدة وإن استندوا إلى الرواية أيضا ، فلا مجال لاستكشاف كون مستند المتقدمين تلك الرواية ، لأنه يحتمل قريبا أن يكون مستند المتقدمين في الفتوى هو ما اقتضته القاعدة لا الرواية.
فلا أثر لشهرة المتأخرين واستنادهم إلى الرواية ، وكذا لا أثر لشهرة المتأخرين والمتقدمين لو فرض أنه لم يكن فيما بأيدينا من الكتب ما يصلح أن يكون مستندا لفتواهم ولو كانت الفتوى على خلاف القاعدة ، فان أقصى ما يستفاد من اشتهار الفتوى بين المتأخرين والمتقدمين هو استنادهم في الفتوى إلى ما يكون حجة عندهم - لان عدالتهم تأبى عن الفتوى بلا مستند - ولكن مجرد ذلك لا يقتضي وجوب موافقتهم في الفتوى ، لعدم العلم بالمستند وكيفية دلالته.
والفرق بين الشهرة والاجماع : هو أن الاجماع يكشف عن وجود مستند تام الدلالة والحجية عند الكل ، فيرجع الاجماع على الفتوى إلى الاجماع على وجود ما يكون حجة قطعية على المسألة ، فلا يجوز مخالفة المجمعين في الفتوى ، بخلاف الشهرة ، فإنها لا تكشف عن وجود حجة قطعية عند الكل ، بل غاية ما يستفاد منها هو استناد المشهور إلى ما يكون حجة عندهم ، وذلك لا يقتضي وجوب متابعتهم.
ص: 788
فتحصل : أنه إذا توافقت شهرة المتأخرين مع شهرة المتقدمين في الفتوى على خلاف ما تقتضيه القاعدة وكان فيما بأيدينا من الكتب - ولو لم تكن من الكتب المعتبرة كدعائم الاسلام والأشعثيات والفقه الرضوي - رواية على فتوى المشهور ، فهذه الشهرة تكون مرجحة للرواية إذا كانت معارضة مع غيرها وجابرة لضعف سندها ولو مع عدم المعارضة.
وأما إذا خالفت شهرة المتأخرين مع شهرة المتقدمين في الفتوى - كما اتفق ذلك في عدة مواضع منها جواز الصلاة في السنجاب - فالعبرة إنما تكون بشهرة المتقدمين. ومما ذكرنا ظهر وجه الحاجة إلى تحصيل شهرة المتقدمين على الفتوى ، فتأمل جيدا.
قد ذكر الشيخ قدس سره للترجيح بمخالفة العامة وجوها أربعة. ولكن الظاهر : رجوع بعضها إلى بعض ، فان مرجع كون المخالفة للعامة من حيث نفسها مطلوبة للشارع إلى التعبد بمخالفة العامة ، فلا يكون كل منهما وجها على حدة ، مضافا إلى أنه لا ينبغي احتمال أن تكون المخالفة لهم من حيث إنها مخالفة مطلوبة ، بحيث تلاحظ المخالفة معنى اسميا فيأمر بها عنادا لهم ، فان ذلك لا يناسب مذهبنا.
بل التحقيق : أن المخالفة لوحظت معنى حرفيا للوصول إلى الحق ، لان الرشد في خلافهم - كما ورد التعليل به في الروايات - ومعنى كون الرشد في خلافهم : هو أن مؤدى الخبر المخالف لهم هو الحق المطابق للواقع ، كما يدل عليه جملة من الروايات. وأما بقية الوجوه التي ذكرها الشيخ : فالانصاف أنه لا ينبغي احتمالها في الروايات الواردة في باب الترجيح لاحد المتعارضين ، وإن كان يحتمل بعضها في بعض الروايات الواردة في غير باب الترجيح ، فراجع.
ص: 789
الأخبار الواردة في الاخذ بموافق الكتاب وطرح المخالف له على طائفتين :
إحديهما : الأخبار الواردة في عرض الأحاديث على القرآن وأن ما خالفه فهو زخرف أو باطل أو لم نقله أو اضربه على الجدار ، ونحو ذلك مما ورد عنهم علیهم السلام في الامر بطرح الخبر المخالف للكتاب.
ثانيهما : الأخبار الواردة في خصوص الروايات المتعارضة : من الامر بالعمل بما يوافق الكتاب وعدم العمل بما يخالفه. ولا إشكال في أن من شرائط حجية الخبر الواحد أن لا يكون مخالفا للكتاب ، ولذلك قد يستشكل في التوفيق بين الطائفتين ، فان الترجيح بموافقة الكتاب إنما يكون بعد فرض كون الخبر المخالف له واجدا لشرائط الحجية ، والمفروض : أن من شرائط الحجية عدم المخالفة للكتاب ، فكيف تكون الموافقة للكتاب من المرجحات؟ وقد اضطربت كلمات الاعلام في التوفيق بين الطائفتين.
وهذا الاشكال بعينه يرد على أخبار الترجيح بمخالفة العامة ، فان من شرائط حجية الخبر أن لا يكون واردا مورد التقية ، فكيف صارت المخالفة للعامة من المرجحات؟ ولعله لذلك ذهب بعض إلى كون مخالفة العامة أول المرجحات ، نظرا إلى أن الخبر الموافق لهم لم يكن جامعا لشرائط الحجية ، فلا تصل النوبة إلى المرجحات الاخر. وبعض آخر جعل موافقة الكتاب أول المرجحات ، نظرا إلى أن الخبر المخالف للكتاب لم يكن واجدا لشرايط الحجية ، فلا تصل النوبة إلى المرجحات الصدورية.
والتحقيق : أنه فرق بين ما يكون من شرايط حجية الخبر وبين ما يكون من مرجحاته.
أما في باب مخالفة العامة وموافقتهم : فقد أشرنا إليه سابقا ، وحاصله : أن
ص: 790
الذي يكون من الشرائط لحجية الخبر هو أن لا يكون في الخبر قرائن التقية بحيث يستفاد من نفس الخبر أنه صدر تقية ، والذي يكون مرجحا مجرد المخالفة والموافقة للعامة من دون أن يكون في الخبر الموافق قرائن التقية.
وأما في باب موافقة الكتاب ومخالفته : فالذي يكون من شرائط الحجية هو عدم مخالفة الخبر للكتاب بالتباين الكلي (1) فإنه هو الذي لا يمكن صدوره عنهم - صلوت اللّه عليهم - فيكون زخرفا وباطلا ، فإذا كان الخبر أعم من وجه من الكتاب كان اللازم إعمال قواعد التعارض بينهما ، ولا يندرج في قوله علیه السلام « ما خالف الكتاب فهز زخرف » بل يقدم ما هو الأظهر منهما ، وإلا فالتخيير أو الرجوع إلى الأصل. وكون الكتاب قطعي الصدور لا يوجب تقديمه على الخبر بعدما كانت دلالته على العموم ظنية.
وأما الذي يكون مرجحا لاحد المتعارضين : فهو الموافقة والمخالفة للكتاب بالعموم من وجه. وأما الموافقة والمخالفة بالعموم المطلق : فهي ليست من المرجحات أيضا ، لعدم المعارضة بين العام والخاص ، كما تقدم بيانه. فلو كان أحد المتعارضين موافقا للكتاب والآخر مخالفا له بالعموم والخصوص ، فاللازم هو الجمع بين الكتاب وبين الخبر المخالف له بتخصيص العام الكتابي بما عدا مورد الخاص الخبري ، أو تخصيص العام الخبري بما عدا مورد الخاص الكتابي.
ص: 791
فالمخالفة بالعموم والخصوص خارجة عن الطائفتين من الأخبار الواردة في عرض الاخبار على الكتاب. والمخالفة بالتباين الكلي تندرج فيما دل على طرح المخالف للكتاب وأنه زخرف وباطل ولو لم يكن للخبر المخالف معارض. والمخالفة بالعموم من وجه تندرج فيما دل على الترجيح بموافقة الكتاب عند التعارض ، فلو تعارض العامين من وجه وكان أحدهما موافقا للكتاب والآخر مخالفا له قدم الموافق له إذا كانا متكافئين بالنسبة إلى سائر المرجحات.
وكذا يندرج في أدلة الترجيح ما إذا كان التعارض بين الخبرين بالتباين الكلي وكان أحدهما موافقا للعام الكتابي ، كما إذا فرض أن مفاد أحد الخبرين حلية لحم الحمير وكان مفاد الآخر حرمة لحمه ، فيقدم ما دل على حليته لكونه موافقا للعام الكتابي وهو قوله تعالى : « وأحل لكم ما في الأرض جميعا » (1) فان ما دل على الحرمة وإن كان أخص من العام الكتابي وكان اللازم تخصيص العام الكتابي به - بناء على ما هو الحق من جواز تخصيص العام الكتابي بالخبر الواحد - إلا أنه لما كان مبتلى بالمعارض فلا يصلح لان يكون مخصصا ، ونتيجة ذلك هو الاخذ بما دل على الحلية ، لموافقة العام الكتابي ، فتشمله أدلة الترجيح ، فما أفاده الشيخ قدس سره في الفرض : من أنه « يجب الرجوع إلى المرجحات الصدورية والجهتية ومع فقدها يتخير المكلف في اختيار أحدهما » لا يخلو عن إشكال ، فإنه كيف يكون الحكم في الفرض التخيير مع كون أحد المتعارضين موافقا للكتاب؟ بل لابد من الاخذ بالموافق بمقتضى أدلة الترجيح.
الظاهر : أنه لا يجوز الرجوع إلى المرجحات الصدورية في تعارض العامين
ص: 792
من وجه ، بل لابد من الرجوع إلى المرجحات الجهتية ومع فقدها فإلى المرجحات المضمونية (1) فان التعارض في العامين من وجه إنما يكون في بعض مدلوليهما وهو مادة اجتماعهما ، وأما مادة افتراقهما فلا تعارض بينهما ، ومع فرض كون التعارض في بعض المدلول لا معنى للرجوع إلى المرجحات الصدورية.
فإنه إن أريد من الرجوع إليها : طرح ما يكون راويه غير أعدل أو غير أصدق أو ما يكون شاذا بحيث يعامل معه معاملة الخبر الغير الصادر ، فهو مما لا وجه له ، لأنه لا معارض له في مادة الافتراق ، والمفروض : أنه في حد نفسه مما تعمه أدلة حجية الخبر الواحد ، فلا وجه لطرحه كلية.
وإن أريد من الرجوع إليها : طرحه في خصوص مادة الاجتماع الذي هو مورد التعارض فهو غير ممكن ، فان الخبر الواحد لا يقبل التبعيض في المدلول من حيث الصدور بحيث يكون الخبر الواحد صادرا في بعض المدلول وغير صادر في بعض آخر.
ص: 793
وما يقال : من أن الخبر الواحد ينحل إلى أخبار متعددة حسب تعدد أفراد الموضوع ، كما هو الشأن في جميع القضايا الحقيقية ، فان قوله : « أكرم العلماء » بمنزلة قوله : « أكرم زيدا وأكرم عمروا وأكرم خالدا » وهكذا ، فلا محذور في طرح أحد العامين من وجه في خصوص مادة الاجتماع ، لان الانحلال يقتضي أن يكون لخصوص مادة الاجتماع قضية تخصه ، فتسقط بالمعارضة مع ما هي أقوى منها صدورا
واضح الفساد ، فان الانحلال في القضايا الحقيقية لا يقتضي تعدد الرواية ، بل ليس في البين إلا رواية واحدة رتب فيها الحكم على موضوعه المقدر وجوده ، وانطباق ما اخذ في الرواية موضوعا على المصاديق الخارجية أمر قهري عقلي. وبالجملة : لا ينبغي الاشكال في عدم الرجوع إلى المرجحات السندية في تعارض العامين من وجه ، بخلاف المرجح الجهتي والمرجح المضموني ، فإنه لا محذور في الرجوع إليه.
نعم : ربما يشكل الحال على رأي من أرجع جميع المرجحات إلى المرجحات السندية ، فتأمل. فلو كان عموم أحد العامين من وجه موافقا للعامة وكان عموم الآخر مخالفا لهم ، فالواجب هو الاخذ بعموم المخالف وعدم العمل بعموم الموافق (1) ولا يجوز ترك العمل بالعام الموافق رأسا ، فان العام المخالف لهم لا يعارض العام الموافق لهم في تمام المدلول بل في خصوص مادة الاجتماع ، ونتيجة ذلك ترك العمل بالعام الموافق في خصوص مادة الاجتماع. وكذا لو كان عموم أحد العامين من وجه مخالفا للكتاب ، فإنه أيضا يجب ترك العمل بعمومه ، أي بالمقدار الذي يخالف الكتاب ، لا في تمام مدلوله.
ص: 794
فتحصل : أن تقديم أحد العامين من وجه على الآخر إما بالمرجح الجهتي وإما بالمرجح المضموني ، ومع التساوي : فالقاعدة المستفادة من الاخبار تقتضي التخيير في العمل بأحد العامين وترك العمل بعموم الآخر. ولكن الذي يظهر من الأصحاب التسالم على تساقط العامين من وجه مع تساويهما في المرجحات والرجوع في مادة الاجتماع إلى الأصل الجاري في المسألة ، إلا ما يحكى عن الشيخ قدس سره في الاستبصار : من القول بالتخيير. ولم يظهر لنا وجه تسالم الأصحاب على التساقط مع إطلاق أدلة التخيير ، فتأمل جيدا.
لا ينبغي الاشكال في أن موافقة أحد المتعارضين للأصل لا يقتضي ترجيحه على الآخر ، فان الأصل ليس في مرتبة الامارة ، فلا يمكن أن يكون الأصل مرجحا ، مضافا إلى ما عرفت : من أنه لا يجوز التعدي عن المرجحات المنصوصة ، فالبحث عن الترجيح بالأصل الناقل أو المقرر ساقط من أصله.
هذا تمام الكلام في مبحث التعادل والتراجيح.
وقد تم بحمد اللّه الجزء الرابع من الكتاب ، ووقع الفراغ من تسويده في 21 شهر الصيام سنة 1345.
وأنا العبد الآثم محمد علي ابن المرحوم الشيخ حسن الكاظمي الخراساني
عفى اللّه تعالى عن جرائمهما
ص: 795
ص: 796
الفصل الثانيمن المقام الثالثفي الشك
في المكلف به
والكلام يقع فيه في مقامين... 4
المقام الأول في تردد المكلف به بين المتباينين... 4
فا ضابط الشك في المكلف به ... 4
أقسام الشك في المكلف به ... 7
في بيان ما هو المبحوث عنه ... 8
المبحث الأول : في الشك في المكلف به في الشبهة الموضوعية التحريمية والبحث نه يقع في مقامين : 9
المقام الأول : في الشبهة المحصوره : والكلام يقع فيه من جهتين :
الجهة الأولى : في حرمة المخالفة القطعيّة ... 10
في أن الأصول العملية تختلف من حيث الجريان وعدم الجريان في أطراف العلم الاجمالى بحسب اختلاف المجعول فيها وحسب اختلاف المعلوم بالإجمال ... 10
في عدم جريان اصالة الإباحة عند دوران الامر بين المخذورين لمضادّتها لنفس المعلوم بالإجمال 12
في عدم جريان الأصول التنزيلية المحرزة في أطراف العلم الإجمالى من حيث قصور المجعول فيها عن شمولة لأطراف العلم الإجمالى... 14
ص: 797
لامانع من جريان الأصول الغير التنزيلّية في أطراف العلم الاجمالى إلا المخالفة لقطعيّة العمليّة للكتليف المعلوم في البين 16
اختلاف كلمات الشخ رحمه اللّه في القام ، حيث يظهر من بعضها الاشكال الثبوتي ومن بعضها الاشكال الإثباتي... 19
ما يرد على الشيخ على فرض رجوع كلامه إلى مقام الإثبات... 21
وأما الجهة الثانية : في وجوب الموافقة القطعية... 24
بيان ما قيل في وجه التخيير في إجراء أحد الأصلين المتعارضين قياساً على الأمارات بناءً على السببيّة 25
رفع شبهة التخيّر في تعارض الأصول ، وبيان ملاك التخيير... 27
كفاية الامتثال التعبّدي عن المعلوم بالإجمال... 32
في بيان ما يوجب الترخيص الواقعي أو الظاهري في بعض الأطراف دون الآخر 36
وجوه انحلال العلم الإجمالى... 37
رد ما يظهر من بعض : من تسمية ما نحن فيه بالانحلال التعبّدي ، وإثبات أنّه لا معنى للتعبّد بالانحلال 42
لا فرق في انحلال العلم الإجمالي بين أن يكون الأصل المثبت للتكليف موجوداً من اول الامر وبين أن يوجد بعد سقوط الأصول النافية للتكليف ... 44
دفع ما يتوهّم : من أنّه كيف يمكن انحلال العلم الإجمالى بالأصل المثبت للتكليف
في البعض ، مع أن قوام الاصل المثبت للتكليف يكون بالعلم الإجمالى ... 46
تتمة - في فرض انحلال العلم الإجمالى وإن ولم يكن في الطرف الآخر اصل مثبت للتكليف ، وبيان ما يمكن أن يقع مثالاً لذلك... 46
ص: 798
التنبيه على أمور :
الأول : لافرق في تأثير العلم الإجمالى بين أن يكون متعلق العلم عنواناً معيّناً ذا حقيقة واحدة وبين أن يكون المتعلق عنواناً مردّداً بين عنوانين مختلفى الحقيقة ، وردّ ما توهّمه صاحب الحدائق... 49
الامر الثاني : لايترتّب على مخالفة الاحتياط أزيد ممّأ يترتّب على مخالفة الواقع... 50
الامر الثالث : يعتبر في تأثير العلم الإجمالى امكان الابتلاء بكل واحد من الأطراف 50
فساد قياس باب عدم الابتلاء بباب عدم الإرادة... 52
حكم الشك في الخروج عن مورد الإبتلاء... 54
الاقوى : وجوب الاجتناب عن المشكوك لمكان العلم بالملاك... 55
ما أفاده الشيخ في المسألة : من التمسّك بالطلاق أدلّة المحرمات... 57
الاشكال على التمسك بالمطلقات وجوابه ... 59
تكملة - في بيان أقسام الخروج عن مورد الابتلاء... 65
الامر الرابع : لايجب الاجتناب عن الملاقي لأحد طرفي المعلوم بالإجمال ، إلا إذ قلنا بأن وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس لأجل سراية النجاسة ... 67
اشكال على قياس الثمرة والحمل على منافع الدار ، والجواب عنه... 74
في وجه نجاسة الملاقي وأنّها هل بالتعبّد أم بالسراية؟ وبيان إبتناء المسألة عل الوجهين 76
الاشكال على المحقق الخراساني رحمه اللّه حيث ذهب إلى عدم وحوب الاجتناب على الملاقي لأحد الطرفين مطلقاً حتى على القول بالسرابة ... 78
في ماهو المستفاد من الأدلّة ، وتحقيق أنّه لادليل على كون نجاسة
ص: 799
الملاقي من الآثار المترتّبة على نفس النجس... 79
الاشكال على جريان الاصل في الملاقي لأحد الأطراف ، والجواب عنه... 81
نقل كلام المحقق الخراساني قدس سره في مسألة الملاقي ، وإزاحة شبهته... 85
تذييل - في تأسيس الاصل عند الشك في وجه نجاسة الملاقي... 89
الامر الخامس : في حكم الاضطرار إلى ارتكاب بعض الأطراف ... 93
حكم الاضطرار إلى المعيّن بعد تعلّق التكليف وقبل العلم به ، وما إذ كان العلم مقارناً للاضطرار 94
حكم الاضطرار إلى المعيّن بعد العلم الإجمالى... 95
قياس الاضطرار قبل العلم الاجمالى بتلف البعض قبله والاضطرار بعد العلم الاجمالى بتلف البعض بعده ، وردّ ما قيل في المقام من الفرق... 97
حكم الاضطرار إلى غير المعيّن ... 98
بيان الفرق بين الاضطرار إلى المعين والاضطرار إلى غير المعين... 100
رد ما أفاده المحقق الخراساني قدس سره من أن الترخيص في بعض الأطراف ينافي فعلية الحكم 101
كشف قناع - وهو أن الاضطرار إلى غير المعين هل يقتضي التوسط في التكليف أو التخبير؟ 104
الامر السادس - حكم ما لو كانت الأطراف تدريجية الوجود ... 108
توجيه ما أفاده الشيخ قدس سره في المقام ، والإيرد عليه ... 109
استقلال العقل بقبح الإقدام على ما يؤدي إلى المخالفة وتفويت مراد المولى مطلقاً ، من دون فرق بين أن لايكون للزمان دخل في الملاك والخطاب بين أن يكون له دخل فيهما... 112
تذييل - في أنه لو بنينا في الموجودات التدريجية على عدم وجوب الموافقه القطعية فلا تحرم المخالفة القطعية أيضاً 112
ص: 800
الاشكال على ما أفاده الشيخ رحمه اللّه من ان العلم الاجمالى كما لايمنع من جريان الاصول العملية كذلك لايمنع من جريان الاصول اللفظية... 113
الاشكال على ما افاده الشيخ قدس سره من عدم الملازمة بين الحلية التكليفية والحليّة الوضعية في المعاملات 115
المقام الثاني : في الشبهة الغير المحصورة... 116
بيان الضابط لكون الشبهة غير محصورة وتحقيق حكمها ، وبيان وجه عدم حرمة المخالفة القطعيّة وعدم وجوب الموافقة القطعيّة فيها ... 116
تنبيه - في بيان امكان المخالفة القطعية في الشبهات الوجوبيّة ، ولزوم القول بتبعيض الاحتياط فيها 119
ضعف الوجوه المذكورة لعدم وجوب الموافقة القطعية في الشبهه الغير المحصورة ... 120
تذييل - هل يسقط حكم الشك عن اطراف الشبهة الغير المحصوره أم لا؟... 122
المبحث الثاني : في المكلف به في الشبهة التحريمية الحكميّة ، والكلام فيه الكلام في الشبهة الموضوعية من حيث وجوب الموافقة القطعية ... 123
المبحث الثالث : في الشك في المكلف به في الشبهة الوجوبية والأقوى فيه : وجوب الموافقة القطعيّة ، ورد ما ينسب إلى المحقق الخونساري والقمي 0 من جواز المخالفة القطعية ... 123
رد ما ذكره الشيخ من عدم تصوير إجمال النص بالنسبة إلى الغائبين ... 124
دفع ما ربما يتوهم : من أن وجوب الإتيان بالمحتمل الآخر عند الأيتان بأحد المحتملين ممّا يقتضيه استصحاب بقاء التكليف فلاحاجة في إثبات ذلك إلى قاعدة الاشتغال ... 125
تحقيق عدم جريان استصحاب الفرد المردّد... 126
ص: 801
يعتبر الاستصحاب أن يكون الأثر المقصود إثباته مترتّباً على بقاء المستصحب لا على حدوثه ، وأن يكون مترتّباً على النفس الواقع المشكوك فيه لاعلى الشك... 129
لا إشكال في أن الاستصحاب وارد على قاعدة الشتغال والبراءة ... 130
رد ما نسبه بعض إلى شيخ قدس سره من القول بعدم جريان الاستصحاب في الموارد التي يستقلّ العقل فيها بالبراءة والاشتغال 130
تحقيق عدم جريان استصحاب بقاء التكليف عند العلم بوجوب أحد الشيئين وإتيان أحد المحتملين ، وتميز مورد قاعدة الاشتغال عن مورد الاستصحاب... 131
التنبيه على أمور :
الأمر الأول : في رد القول بعد وجوب الاحتياط في موارد الشبهة الموضوعيّة في الشرائط والموانع ، وردّ ما حكى عن المحقق القمّي رحمه اللّه من التفصيل في ذلك ... 134
الامر الثاني : في رد ما يظهر من الشيخ قدس سره من التفصيل بين الشبهات البدوية والمقرونه بالعلم الاجمالى في كيفية النيّة إذا كان المحتمل أوالمعلوم بالاجمال من العبادات ... 136
الامر الثالث : حكم ما لو كان المعلوم بالاجمال أمرين مترتّبين ، وتحقيق وجوب تأخير محتملات العصر عن محتملات الظهر 137
الامر الرابع : بيان تأثير العلم الاجمالى في الشبهات الوجوبية وإن كانت الأطراف غير محصورة 141
المقام الثاني في دوران الامر بين الأقل والأكثر
في بيان أقسام الاقل والاكثر ، ولزوم إفراد كلّ واحد من هذه الأقسام بفصل يخصّه 143
ص: 802
الفصل الأول : في دوران الأمر بين الاقل والأكثر في الاسباب والمحصلات والأقوى فيه : عدم جريان البراءة عن الأكثر مطلقاً 144
مجرد القول بالسببية لايكفي في شمول أدلّة البراءة لموارد الشك في المحصل مالم ينضم إليه القول بجعل الجزئية والشرطية مستقلا 146
الفصل الثاني : في دوران الأمر بين الأقل والاكثر في الشبهات التحريمية والاقوى : فيه جريان البراءة عن حرمة الاقل مطلقاً ... 148
الفصل الثالث : في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الغير ارتباطيين في الشبهة الوجوبية ، وأنه لاكلام ولا إشكال في جريان البراءة في الأكثر... 150
الفصل الرابع : في دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطي في الشبهة الوجوبية الحكمية في باب الاجزاء والأقوى فيه : التفصيل بين البراءة العقليّة والشرعيّة... 150
تقرير ما أفاده الشيخ قدس سره في المسألة : من جريان البراءة مطلقاً... 151
في ما حكي عن المحقق صاحب الحاشية رحمه اللّه في الإشكال على الشيخ... 152
بيان مقالة المحقق الخراساني رحمه اللّه وردّها... 155
بيان المختار في وجه عدم جريان البراءة العقليّة ... 159
تحقيق جريان البراءة الشرعية في الجزء المشكوك ، وفع توهم لزوم القول بالأصل المثبت 162
استغراب ما زعمه المحقق الخراساني : من حكومة حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل على أدلّة البراءة الشرعية 165
تذييل : في شرح الكلام الشيخ قدس سره حيث استثنى من موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر مورد الشك في حصول العنوان ومورد الشك في حصول الغرض ، وبيان الفرق بين المسبّبات التوليديّة والعلل الغائيّة 165
في بيان معنى «الغرض» المعطوف على «العنوان» في كلام الشيخ... 169
ص: 803
تحقيق عدم صحة تعلق الطلب بالملاكات... 174
ضعف ما أفاده الشيخ قدس سره في دفع الاشكال... 177
في رد ما أفاده المحقق الخراساني رحمه اللّه من أن الملاك يكون مسبّباً توليدياً ، وعليه بني عدم جريان البراءة العقليّة في الأقل والأكثر الارتياطي... 180
دفع وهم : وهو التمسك باستصحاب الاشتغال لإثبات وجوب الأكثر وفي مقابلة التمسك باستصحاب عدم وجوب الأكثر لإثبات وجوب الأقل... 181
بسط الكلام في أقسام استصحاب عدوم وجوب الأكثر ، وتحقيق عدم جريانه بأقسامه الأربعة 182
الفصل الخامس : في دوران الأمربين الأقل والأكثر في باب الشروط والموانع والكلام فيه عين الكلام في الأجزاء 189
في وجه إفراد البحث عن الشروط ، وبيان التفصيل بينها بحسب منشأ انتزاعها... 190
تتمة. في أن وجود النص المجمل في المسألة لايمنع عن الرجوع إلى الأصول العملية واللفظية ، إلا في المخصص المحمل المتصل بالعام حيث إنّ إجماله يسري إلى العام ... 193
في أن المتعلقات التكاليف وموضوعاتها إنّما هي المسميّات والمعنونات الخارجيّة ، لا المفاهيم والعناوين 195
فساد ما ربما يتوهم : من أنّه لابد من إحراز انطباق مفهوم الصلاة مثلاً على المأتي به خارجاً فلايجوز الاقتصار على الأقل المتقّين للشك في صدق الصلاة عليه... 195
لولا إطلاق أدلة التخيير في باب تعارض الأخبار كان الحكم - عند تعارض النصّين في وجوب الأكثر - الرجوع إلى البراءة 196
حاصل ما أفاده الشيخ قدس سره في وجه المنع عن إطلاق أدلة التخيير
ص: 804
وعدم شمولها لمورد وجود العام الموافق لأحد المتعارضين ، وعدوله عن ذلك واختياره التفصيل بين القول بالتخيير في المسألة الاصولية والقول بالتخيير في المسألة الفقهيّة... 197
الفصل السادس : في دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطي في الشبهة الموضوعية 200
في بيان إمكان تحقق الشبهة الموضوعية في الأقل والأكثر الارتباطي ورد إرجاع الشيخ قدس سره هذه المسألة بمسألة الشك في المحصل... 200
مثال فقهي لتردد النفس متعلق التكليف بين الأقل والأكثر في الشبهة الموضوعية... 203
تحقيق عدم امكان تحقق الشبهة الموضوعية في الأجزاء والشرائط وانحصارها بباب الموانع 204
الفصل السابع في دوران الامر بين الأقل والأكثر في المركبات التحليلية وبيان المراد من المركب التحليلي 205
في اختصاص مركب التحليلي بما اذا كان من قبيل الجنس والنوع. وأن الأقوى فيه : وجوب الاحتياط وعدم جريان البراءة عن الأكثر ... 207
التنبيه على أمور :
الأول : لو شك في ركينة جزء للعمل فهل الأصل يقتضي الركنيّة أولا؟... 208
بيان الفرق بين الجزء الركني وغيره ... 209
أما المقام الأول : في اقتضاء نقص الجزء سهواً للبطلان وعدمه ، والكلام يقع فيه من جهات ثلاث : 210
الجهة الأولى : هل يمكن ثبوتاً التكليف بما عدا الجزء المسنىّ أولا يمكن؟... 210
في بيان ما قيل أو يمكن أن يقال في تصوير تكليف الناسي بماعدا الجزء المنسىّ... 211
ص: 805
1 - ما حكاه الشيخ الاستاذ عن تقريرات بعض الأجلة لبحث الشيخ قدس سره وهو عدم لزوم التفات المكلف إلى العنوان 211
2 - ما أفاده المحقق الخراساني رحمه اللّه من أنّه يمكن أن يؤخذ عنوان آخر يلازم عنوان الناسي 212
3 - ما أفاده المحقق الخراساني أيضاً وارتضاه الشيخ الاستاذ : من إمكان أن يكون المكلف به في الواقع في حق الذاكر والناسي هو خصوص ماعداه الجزا المسنيّ ،ثمّ يختص الذاكر بخطاب يخصّه بالنسبة إلى الجزء الذاكرله 213
الاشكال على الوجه الثالث والجواب عنه ... 214
الجهة الثانية : هل يكون في مقام الأثبات دليل على كون الناسي مكلفاً ببقيّة الأجزاء أم لا؟ 216
إناطة المسألة باطلاق دليل الجزء المسنىّ وعدمه ... 216
توجيه كلام الشيخ رحمه اللّه في المقام... 217
في ما حكى عن المحقق القمي قدس سره ... 219
أقصى ما تقتضيه أصالة البراءة عن الجزء المسنىّ هو رفع الجزئيّة في حال النسيان فقط ، ولا تقتضي رفعهما تمام الوقت إلا مع استيعاب النسيان لتمام الوقت... 220
دفع ما يتوهّم : من أن مقتضي «حديث الرفع» الحاكم على الادلة الأولية هوعدم الجزئية في الحال النسيان واختصاصها بحال الذكر ... 221
يعتبر في جواز التمسك بحديث الرفع امور... 222
وجوب رفع اليد عما يقتضيه الظاهر الأوّلي للحديث ... 223
في اختصاص الحديث الشريف بالأحكام الانحلاليّة العدمية التي لها تعلق بالموضوعات الخارجيّة 224
ص: 806
بيان الفرق بين قوله صلی اللّه علیه و آله : «رفع ما لايعلمون» وقوله : «رفع النسيان» حيث إن مقتضي الأول رفع التكليف عن الجزء المجهول فقط، ومقتضي الثاني رفع التكليف عن الكلّ رأساً ... 227
الجهة الثالثة : هل هناك دليل اجتهادي أو أصل عملي يقتضي الإجزأ بالمأتي به في الحال النسيان وكونه مجزيا عن الواقع ، أم لا؟ ... 228
المقام الثاني : في بطلان العمل بزيادة الجزء عمداً أو سهواً والكلام فيه يقع من جهات ثلاث : 229
الجهة الأولى : في تصوير وقوع الزيادة والاجزاء والشرائط ... 229
الاستشكال في امكان تحقق الزيادة ثبوتاً ، والجواب عنه بالصدق العرفي ... 230
الجهة الثانية : في بطلان العمل بالزيادة العمديّة أو السهويّة وعدمه ، وتحقيق أن الزيادة العمديّة تجتمع مع الصحّة ثبوتاً فضلاً عن السهويّة ... 231
التمسك باستصحاب الصحّة التأهليّة لإثبات عدم مانعيّة الزيادة ، والإشكال عليه 232
في بيان استصحاب بقاء الهيئة الاتصاليّة ، وإمكان تصورها في الصلاة ، وبيان الفرق بين المانع والقاطع 233
الاشكال على استصحاب الهيئة الاتّصالية... 235
الجهة الثالثة : هل قام الدليل على خلاف ما اقتضته القاعده أم لا؟ وتحقيق أنّه لم يقم دليل على بطلان المركب بالزيادة السهوية أوالعمديّة إلا في باب الصلاة... 238
في الجمع بين الأخبار الواردة في بطلان الصلاة بالزيادة وحديث لا تعاد... 239
تكملة - في أنه لا يتحقق الزيادة بفعل ما لايكون من سنخ اجزاء المركّب قولا ً وفعلاً ، والتفصيل بين قصد الجزئية وعدمه فيما اذا كانت من سنخها ... 240
الامر الثاني من التنبيهات : فيما لو تعذر أحد القيود الوجودية أو العدمية باضطرار ونحوه 243
ص: 807
تحرير محل النزاع... 243
تحقيق عدم سقوط المانعيّة بسقوط النهي في باب النهى عن العبادة ، والتفصيل بين ما إذا كانت المانعيّة معلولة للنهي وبين ما إذا كانت معلولة للملاك، والإشارة إلى المحكي عن المشهور : من جواز الصلاة في الحرير عند الاضطرار إلى لبسه 244
في المانعية المنتزه من النهى في باب اجتماع الأمر والنهى ، وتحقيق سقوط المانعية بسقوط النهى في هذا الباب 246
في ما تقتضيه القاعدة الأولية في باب القيود ... 249
حكم القيدية المستفادة من نفس الأمر بالمركب بماله من القيود والشرايط ولأقوى فيه : سقوط الأمر بالمقيد عند تعذّر القيد 250
حكم ما إذا كان للقيد أمر يخصّه ، والتفصيل بين اطلاق دليل القيد وإطلاق دليل المقيّد ، وما إذا لم يكن لهما إطلاق ؛ وبيان حكم كلّ من الصور الثلاث عليحدة ... 250
في التفصيل المنسوب إلى الوحيد البهبهانى قدس سره في مورد إطلاق دليل القيد ، ومايرد عليه 251
في قيام الدليل على خلاف ما اقتضته القاعدة الأوليّة ... 253
مدرك القاعدة «الميسور» والتمسك بها على وجوب الباقي المتمكن منه ... 254
إيقاظ - يعتبر في القاعدة أن يكون الباقي المتمكن منه مما يعدّ عرفاً ميسور المتعذّر ولا بد من إحراز ذلك 256
صعوبة تشخيص الركن عن غيره والميسور عن الماين في الموضوعات الشرعيّة 257
في وجه ما قيل : إنّ التمسك بالقاعدة «الميسور» يتوقف على عمل الأصحاب 258
التمسك بالاستصحاب على وجود الباقي وبيان ضابط جريان الاستصحاب... 258
الأقوى في جريان الاستصحاب التفصيل بين إجمال دليل القيد وإطلاقه... 260
ص: 808
فرعان : 1 - إذا دار الأمر بين سقوط الجزء أو الشرط 2 - إذا كان للمركب بدل اضطراري - كالوضوء ودار الأمر بين الناقص والبدل ... 260
الامر الثالث من التنبيهات : فيما لو دار الأمر بين كون الشء شرطاً أومانعاً والأقوى فيه: الاحتياط بتكرار العبادة لكونه من دوران الأمر بين المتباينين ، ورد ما يظهر من الشيخ قدس سره من اندارجه في الأقل والأكثر 261
تتمة - في اشتباه الواجب بالحرام ... 263
الإشكال على الشيخ رحمه اللّه حيث أطلق الحكم بالتخيير بين فعل أحدهما وترك الآخر وترجيح ملاحضة مرحّجات باب التزاحم 263
خاتمة : في بيان ما يعتبر في العمل بالاحتياط ... 264
المقام الأول : في ما يعتبر في العمل بالاحتياط يعتبر في حسن الاحتياط اذا كان على خلافة حجة شرعية أن يعمل المكلف أولا بمودي الحجّة ، ثم يعقّبه بالعمل على خلاف ما اقتضته الحجة احرازاً للواقع ... 265
في ان وجوب تقديم العمل بمودي الحجة يختص بالأمارات والأصول المحرزة ، أما الأصول الغير المحرزة فلا يجب التقديم 266
التفصيل بين القول بالكشف والقول بالحكومة إذا كان اعتبار الحجة بدليل انسداد 266
إزاحة شهبة اعتبار قصة الوجة ، وبيان فساد بعض التوهمات في المقام ... 267
في تقدم رتبة الامتثال التفصيلى على الامتثال الاجمالى ... 269
تذييل : لايجوز الاحتياط في الشبهة الحكمية الإلزامية إلا بعد الفحص واليأس عن زوال الشبهة ، بخلاف الاحتياط في الشبهات الموضوعية والحكمية الغير الإلزامية ، حيث يحسن الاحتياط فيهما ولو مع التمكن من الفحص 271
ص: 809
التنبيه علي أمرين :
1 - الاقوى : سقوط الامتثال التفصيلى عند دوران الأمر بينه وبين سقوط الجزء أوالشرط 2 - لو عرض في الأثنا ما يوجب الترديد في النيّة ، والجوه المحتملة في ذلك ... 272
المقام الثاني : في شرائط العمل بالبراءة ، واستقصاء الكلام في ذلك يستدعى البحث عن جهات ثلاث : 277
في أدلة وجوب الفحص من طريق العلم الإجمالى ، ودفع الاشكالات الواردة عنه 277
تقرير حكم العقل بوجوب الفحص من طريق العلم الاجمالى ، ودفع الإشكالات الواردة عنه 278
الجهة الثانية : في استحقاق التارك للفحص العقاب وعدمه ... 280
ذكر الاقوال في المسألة وبيان مبناها ، وأن هذه الأقوال تأتي أيضاً في التارك للاحتياط في موارد وجوبه للإحيتاط في موارد وجوبه ... 281
في أن مناط وجوب التعلم والاحتياط غير مناط وجوب حفظ القدرة وتحصيلها ، والاشاره إلى خلط الشيخ رحمه اللّه بين البابين 281
الجهة الثالثة : في صحة العمل المأتي في حال الجهل وفساده ... 285
مقتضى اصول المخظئة أن يكون المدار في الصحة والفساد على موافقته العمل للواقع ومخالفته ، لاعلى موافقته للطريق المنصوب ومخالفته ... 285
لو عمل الجاهل عملاً ثم بنى على التقليد أوالاجتهاد... 286
التنبيه على أمور :
الأول : في حكم التارك للفحص إذا وافقه عمله للواقع وخالف الطريق ، أو بالعكس 287
الامر الثاني : في بيان الملازمة بين استحقاق العقاب وبطلان العمل ، وكذا الملازمة بين عدم استحقاق العقاب وصحّة العمل. واستثناء
ص: 810
الأصحاب من هذه الملازمة مسألة الجهر بالقراءة في موضع وجوب الإخفاف وبالعكس ، ومسألة الإتمام في موضع وجوب القصر ... 289
وجوه التفصيّ عن الاشكال :
1 - ما أفاده المحقق الخراساني قدس سره من منع الملازمة بين صحة العمل والأمر به 290
2 - ما أفاده الشيخ قدس سره من الالتزام تارة :بعدم تعلق الأمر بالصلاة المقصورة عند الجهل بالحكم ، واخرى : بعدم تعلق الامر بالمأتي به في حال الجهل ... 292
3 - ما أفاده الشيخ الكبير رحمه اللّه من الالتزام بالأمر الترتّي... 293
4 - ما أفاده الشيخ الاستاد : من منع استحقاق الجاهل العامل العقاب... 294
الامر الثالث : في وجوب الفحص في بعض الشبهات الموضوعيّة : التحريميّة والوجوبيّة 301
تذييل - قد ذكر لأصل البراءة شرطان آخران 1 - أن لايلزم من العمل بالبراءة إثبات حكم آخر2 - أن لايلزم من جريانها ضرر على الغير... 302
الفصل الثالث من المقام الثالث في الاستصحاب
الأمر الأول : في تعريف الاستصحاب... 306
الامر الثاني : في ضابط المسألة الاصولية ، وتحقيق أن الاستصحابات الجارية في الشبهات الحكمية تكون من المسائل الاصولية والاستصحابات الجارية في الشبهات الموضوعية تكون من القواعد الفقهية ... 307
الامر الثالث : في الفرق بين الاستصحاب و «قاعدة اليقين» و «قاعدة المقتضي والمانع » 313
إيقاظ - في أن المراد من المقتضي الذي ذهب الشيخ قدس سره إلى عدم اعتبار الاستصحاب عند الشك فيه معنى آخر أجنبّي عن
ص: 811
«قاعدة المقتضي والمانع» وبيان الوجوه المحتمله في المراد من المقتضي والمانع في القاعدة 314
الامر الرابع : يعتبر في الاستصحاب امور ثلاثة :
1 - اجتماع اليقين والشك في الزمان ... 316
2 - سبق زمان المتيقّن والشك في الزمان ... 316
3 - فعلية الشك واليقين ... 317
الامر الخامس : في بيان الانقسامات اللاحقة للاستصحاب باعتبار : اختلاف المستصحب ، الدليل الدال عليه ، منشأ الشكّ في بقائه... 319
تحرير ما أفاده الشيخ قدس سره من عدم جريان الاستصحاب فيما إذا كان الدليل الدل على ثبوت المستصحب هو العقل ، والإشكال عليه ... 320
الامر السادس : في بيان مراد الشيخ والمحقق الخوانساري 0 من الشك المقتضي ، حيث اختارا عدم جريان الاستصحاب فيه ... 324
توضيح معنى الشك في المقتضي ، وبيان الفرق بين الشك في الرافع والشك في الغاية 326
أدلّة الاستصحاب :
1 - بنا العقلاء على الأخذ بالحالة السابقة 2 : الاجماع المحكي في جملة من الكلمات 3 - الأخبار - منها : مضمرة زرارة 331
الاستدلال بالرواية يتوقف على إلغاء خصوصيّة تعلق اليقين بالوضوء ... 335
في عدم توقف الاستدلال بالرواية على تعيين الجزاء ... 336
دفع ما يتوهّم : من أنّ غاية ما تدلّ عليه الرواية هو سلب العموم لاعموم السلب ، وتمييز الموارد التي يصح فيها سلب العموم عما لايصحّ ... 338
مضمرة اخرى لزرارة :
إزاحة شبهة : في تطبيق التعليل الوارد في الرواية على المورد ... 341
ص: 812
إشارة إلى كيفية أخذ العلم في باب الطهارة والنجاسة الخبثيّة موضوعا لصحّة الصلاة وفسادها 342
منافات ماورد في بعض الروايات مع أخذ العلم بالنجاسة موضوعاً لوجوب الإعادة 348
في ما تضمّنت المضمرة : من حكم جملة من صور وقوع الصلاة مع النجاسة 353
تذييل - في وجه الجمع بين ما دل على عدم وجوب إعادة الصلاة عند انكشاف وقوعها في نجاسة الثوب أوالبدن وبين ما دل على اشتراط الصلاة بطهارة الثوب والبدن الظاهر في الطهارة الواقعيّة ... 354
في بيان وجه اجزاء الناقص عن التامّ عند قيام الدليل عليه ، ودفع توهم لزوم التخيير بين التام والناقص 356
صحيحة ثالثة لزرارة
الاشكال على استدلال بالرواية ... 358
الاشكال على ما افاده الشيخ في وجه عدم صحّة الاستدلال بالرواية ... 361
تحقيق أن مفاد الرواية ليس إلا استصحاب بلا مؤنة الحمل على التقية حتى في تطبيق الاستصحاب على المورد 362
رواية محمد بن مسلم ... 364
دفع ما اورد من استدلال بها : من انها ظاهرة في القاعدة اليقين ... 365
مكاتبة على بن محمد القاساني... 366
الاشكال على الشيخ قدس سره حيث جعلها من أظهر الروايات في دلالتها على حجيّة الاستصحاب 366
دفع ما يتوهم : من دلالة أخبار أصالة الحلّ والطهارة على اعتبار الاستصحاب 367
الكلام في مقدار دلالة أدلة الاستصحاب ... 372
بيان وجه المختار ، وهو حجيّة الاستصحاب في جميع الأقسام ، إلا في
ص: 813
الشك في المقتضي وما يلحق به من الشكّ في الغاية... 372
تحقيق عميق في معنى «اليقين» وامتيازه عن العلم والقطع ... 374
في عدم شمول الاخبار للشك في المقتضى... 375
تحقيق اندارج الشك في الرافع بجميع أقسامه في الأخبار، وردّ ما ينسب إلى المحقق السبزواري رحمه اللّه من عدم اعتبار الاستصحاب عند الشك في الرافعية الموجود. وردّ ما يحكي عن الفاضل التوني رحمه اللّه من التفصيل بين الأحكام التكليفية والأحكام الوضعيّة واختصاص الاستصحاب بالوضعيّات... 377
تذييل - في تفصيل الأحكام الوضعيّة ، واستقصاء الكلام في ذلك يستدعي تقديم امور : 378
الأمر الأول : في بيان ابتناء تقسيم الأحكام إلى التكليفية والوضعيّة على القول بأن للشارع جعل وإنشاء ، وردّما حكى عن بعض : من انكار الجعل والإنشاء بتوهم عدم امكان قيام الإراده والكراهة في المبدء الاعلى 378
الامر الثاني : في القرن بين الامور النتزاعية والاعتباريّة ، وإلإشارة إلى الخلط الواقع في جملة من الكلمات 380
الامر الثالث : في بيان المراد من الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية ، وبيان أقسامهما 384
الامر الرابع : في تحقيق أنّ الأحكام الوضعيّة متأصّلة بالجعل ، وردّ مقاله الشيخ 1 حيث التزم بأنّ هذه الأمور كلّها منتزعة عن التكاليف التي في موردها... 386
الامر الخامس : في أن موضوعات التكاليف إنما تكون من المخترعات الشرعيّة ، وأمّا موضوعات الأحكام الوضعية قد تكون تأسيسيه وقد تكون إمضائية ، وبيان الاصطلاح الجاري في السبب والموضوع والشرط 388
ص: 814
الامر السادس : في الفرق بين شرائط الجعل وشرائط المجعول ، والاشاره إلى الخلط الواقع للمحقق الخراساني رحمه اللّه في باب الشرط المتأخر ... 389
بيان نتيجة المقدّمات ، وإثبات عدم امكان جعل السببيّة ... 392
إزاحة شبهة - التي حصلت للمحقق الخراسانى رحمه اللّه وهي الخلط بين علل التشريع وموضوعات الأحكام ، والخلط بين كون المجعولات الشرعيّة من الأحكام الخارجيّة الجزئيّة أوكونها من القضايا الحقيقيّة الكليّة 395
تتمة : في بيان معنى الصحة والفساد ، وتحقيق أنّهما ليسا من الأحكام الوضعيّة المتأصّلة بالجعل 398
تعقيب كلام الشيخ قدس سره في الطهارة والنجاسة حيث حعلهما من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشرع 401
في أن الرخصة والعزيمة أمسّ إلى الأحكام التكليفية من الأحكام الوضعيّة ... 403
تنبيهات الاستصحاب ..........................................................
التنبيه الأول : يعتبر في الاستصحاب فعليّة الشك ... 403
التنبيه الثاني : إثبات جريان الاستصحاب في مؤديات الطرق والأمارات ، والإشكال على جريانه في مؤدّيات الاصول 403
تقريب جريان الاستصحاب في مؤديات الاصول ... 406
ما أفاده المحقق الخراسانى رحمه اللّه في الذبّ عن الإشكال المتوهّم في استصحاب مؤدّيات الطرق والامارات 407
دفع ما توهّمه المحقق الخراساني قدس سره ... 409
التنبيه الثالث : في بيان أقسام استصحاب الكلّي وأحكامها ... 411
تحقيق جريان استصحاب الكلي في القسم الاول بلا إشكال ... 412
تحقيق جريان استصحاب الكلي في القسم الثاني لوجود المقتضي وفقد المانع... 413
ص: 815
المانع الذي يمكن توهّمه هو أنّ الجامع إنّما يكون مسبّباً عن حدوث الفرد الباقي فبجريان الاستصحاب في السبب لاتصل النوبة إلى المسبّب ... 413
دفع المانع المتوهم اولاً : بأن ارتفاع القدر المشترك ليس مسبّباً عن عدم حدوث الفرد الباقي بل هو مسبب عن ارتفاع الفرد الزائل ... 416
وثانياً : تعتبر في حكومة الأصل السببي على الاصل المسببي :
1 - أن يكون الترتّب شرعياً
2 - أن يكون الأصل الجاري في الشك السببي رافعاً لموضوع الأصل المسببّي ومزيلاً للشكّ فيه 416
في أنّ استصحاب بقاء الكلي إنّما يقتضي ترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة على نفس الكلي ولايثبت به الآثار المترتّبه على حدوث الفرد الباقي ... 419
في أن محل الكلام في استصحاب الكلي إنما هو فيما إذا كان نفس المتيقّن السابق بهويّته وحقيقته مردّداً بين ما هو مقطوع الارتفاع وماهو مقطوع البقاء ؛ أما إذا كان الإجمال والترديد في محلّ المتيقّن وموضوعه فلايجري ؛ والجواب عن الشبهة العبائيّة 421
في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي ، وبيان الوجوه المتصوّره فيه ... 423
تحقيق عدم جريان استصحاب في الوجه الاول من القسم الثالث ... 424
في بيان فساد الثمرة المذكورة في الوجه الأول... 426
تحقيق عدم جريان الاستصحاب في الوجه الثاني... 428
الأقوى جريان الاستصحاب في الوجه الثالث ... 428
فيما يتفرّع على الوجه الثالث ... 429
تذييل - في الإشارة إلى مخالفة الفاضل التوني رحمه اللّه للمشهور في جريان أصالة عدم التزكيّة عند الشكّ فيها ، والاستدلال عليه بوجهين
ص: 816
يمكن تطبيق كلام الفاضل على كلّ منهما
بيان ما في كلا الوجهين من النظر ، وتحقيق جريان استصحاب عدم التزكيّة... 431
التنبيه الرابع : في الاستشكال على جريان الاستصحاب في الزمان والزماني ، والكلام فيه يقع في مقامين : 434
المقام الأول : في استصحاب بقاء نفس الزمان ... 435
الشكّ في الزمان يمكن فرضه بوجهين :
1 - الشك بمفاد «كان» و «ليس» التامتين
2 - الشك بمفاد «كان» و «ليس» ناقصتين ... 435
إثبات عدم جريان الاستصحاب في الوجه الثاني ، وجريانه في الوجه الأول... 435
الإشكال في أن استصحاب وجود الليل أو النهار هل يثبت وقوع متعلّق التكليف أو موضوعه في الليل والنهار، أو أنّه لا يثبت ذلك إلا على القول بالأصل المثبت؟... 436
ادّعا أن أدلّة التوقيت لاتقتضي أزيد من اعبتار وقوع الفعل عند وجود وقته وإن لم يتحقق معنى الظريفة ، وردّ هذه الدعوى 437
إشكال آخر يتولّد من استصحاب بقاء الوقت ... 438
المقام الثاني : في استصحاب الزمانيّات ... 439
بيان ما يتصور من وجوه الّتي يمكن أن يقع عليها الشكّ في بقاء الزمانيّات المتدرّجه في الوجود 439
تحقيق جريان الاستصحاب في الوجه الاول والثاني دون الوجه الثالث ... 440
تذييل - في ما حكاه الشيخ قدس سره عن الفاضل النراقي رحمه اللّه من القول بتعارض استصحاب الوجود مع استصحاب العدم الأزلي في الأحكام ... 442
ما أورده الشيخ رحمه اللّه على الفاضل النراقي بقوله : أوّلاً ، ثانياً ، ثالثا ً... 444
ص: 817
الإشكال على أفاده الشيخ قدس سره ... 445
في فساد مقالة الفاضل النراقي قدس سره ... 448
التنبيه الخامس : في جريان الاستصحاب في الموضوعات التي حكم العقل بحسنها أو قبحها والأحكام الشرعيّة المستكشفة من الأحكام العقليّة بقاعدة الملازمة. والمناظرة مع الشيخ قدس سره في المقام ... 449
التنبة على جرايان البراءة في المستقلات العقليّة وبيان منشأ الفرق بينها وبين الأخكام الشرعية ، والإشارة إلى أن الحكم العقلي تارة : تعمّ صورة العلم والظنّ والشك بمناط واحد ، واخرى : يكون للعقل حكمان : حكم لصورة العلم ، وحكم طريقي لصورة الظنّ والشكّ... 453
التنبيه السادس : تحقيق الكلام في الاستصحاب التعليقي ... 458
يعتبر في الاستصحاب الوجودي أن يكون المستصحب شاغلاً لصفحة الوجود في الوعاء المناسب له 458
الأسماء والعناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام تارة ً : يستفاد من نفس الديل أو من الخارج أنّ لها دخلاً في موضوع الحكم. واخرى : ليس لها دخل وثالثة لايستفاد أحد الوجهين ... 458
الشكّ في بقاء الحك الكلّي يتصور على أحد وجه ثلاث :
1 - الشك في بقائه من جهة احتمال النسخ ... 461
تنظير استصحاب الملكيّة المنشأة بالعقود التعليقيّة - كالجعاله والسبق والرمايه - باستصحاب بقاء الحكم عند الشك في النسخ ... 461
الإيراد على الشيخ قدس سره حيث منع - في مبحث الخيارات من المكاسب - عن جريان الاستصحاب في العقود التعليقيّة ، مع أنّه من القائلين بصحّة الاستصحاب التعليقي في مثل العنب والزبيب ... 462
2 - الشك في بقاء الحكم الكلي على موضوعه المقدّر وجوده عند
ص: 818
فرض تغييّر بعض حالات الموضوع ... 462
3 - الشك في بقاء الحكم الكلي المرتب على موضوع مركّب من جزئين عند فرض وجود أحد جزئية وتبدّل حالاته قبل فرض الحزء الآخر ، وهذا القسم من الاستصحاب هو المصطلح عليه ب- «الاستصحاب التعليقي» 463
تحقيق أن الاستصحاب التعليقي ممّا لا أساس له ولايرجع إلى معنى محصّل... 466
تقريب آخر للاستصحاب التعليقي ، وبيان فساده... 468
في أن أخذ موضوع الدليل المثبت للحكم من العرف غير أخذ موضوع الاستصحاب من العرف 469
ردّ ما يظهر من كلام الشيخ قدس سره من استصحاب الملازمة بين الغليان والحرمة والنحاسة 471
القائل بالاستصحاب التعليقي لايلتزم بجريانه في جميع الموارد ... 472
المناقش في مثال العنب والزبيب ، بأن موضوع الحرمة والنجاسة هو ماء العنب وقد جفّ والزبيب لا يغلي إلا إذا اكتسب ماءً جديداً من الخارج... 472
تتمة - في حكومة الاستصحاب التعليقي المثب لنجاسة الزبيب وحرمته عند غليانه (على فرض الصحة) على استصحاب الطهارة والحلّيّة الفعليّة ، الثابتة للزبيب قبل غليانه ... 473
اشكال نشأ من الخلط بين الاصول السببيّة والمسبّبيّة الحارية في الشبهات الحكميّة والجارية في الشبهات الموضوعيّة 475
التنبيه السابع : في استصحاب أحكام الشرايع السابقة ورد الوجهين الذي استدلّ بهما على المنع 478
التنبيه الثامن : في بيان اعتبار مثبتات الأمارات دون مثبتات الاصول ... 481
امور تمتاز بها الامارت عن الاصول موضوعاً... 481
ص: 819
ما تمتاز به الأمارات عن الأصول حكماً ... 482
تحقيق أن المجعول في باب الطرق والأمارت إنّما هو الطريقيّة والكاشفيّةوالوسيطيّة في الإثبات ، دون مجرد تطبيق العمل على المؤدّى ، بل تطبيق العمل على المؤدي من لوازم المجعول فيها ... 484
المجعول في باب الاصول العمليّة مطلقاً هو مجرد تطبيق العمل على مؤدّي الأصل ، سواء كان الأصل من الأصول المحرزة أو كان من الاصول الغير المحرزة ، وأن الإحراز في باب الاصول المحرزة غير الإحراز في باب الأمارت 486
تفصيل الكلام في وجه اعتبار مثبتات الأمارات دون الأصول ... 487
تضعيف ما في بعض الكلمات : من أنّ الوجه في اعتبار المثبتات الأمارة هوحكايتها عن اللوازم والملزومات ، وأضعف من ذلك دعوى دلالة إطلاق أدلة اعتبار الأمارات على إثبات اللوازم والملزومات دون الاصول 491
تنظير الحكم الواقعي المجعول في باب الأصول ، من حيث عدم إثبات اللوازم والملزومات 492
في أنّه لا أثر لخلفاء الواسطة أوجلائها في جريان الأصل المثبت وعد جريانه 494
توجيه الأمثلة التي ذكرها الشيخ قدس سره لخلفاء الواسطة ... 496
تحقيق معنى «أول الشهر» وأنّ استصحاب بقاء رمضان أوعدم هلال شوّال لا يثبت كون الغد أوّل شوّال 498
في الفروع الّتي توهّم ابتنائها على الأصل المثبت ... 500
التنبيه التاسع : في مقتضى الأصل عند الشك في تقدم الحدوث وتأخّره مع العلم بأصل الحدوث 503
تحقيق جريان الاستصحاب إذا كان الشك في التقدم والتأخّر
ص: 820
بالإضافة إلى أجزاء الزمان ... 503
فيما إذا كان الشك في القدّم والتأخّر بالإضافة إلى حادث زماني آخر ، واختيار التفصيل في المسألة 504
في أنّ اعتبار التوصيف وكون أحد الشيئين وصفاً للآخر إنّما يتصوّر بالنسبة إلى العرض ومحلّه 504
عدم جريان الأصل في مفهوم التاريخ... 508
تحقيق جريان الأصل في مجهول التاريخ ... 509
الإشكال على بعض الأعاظم حيث ذهب إلى عدم جريان الأصل في مجهول التاريخ بزعم عدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين فيه ... 510
بسط الكلام لتمييز الموراد التي لايتصل فيها الشكّ باليقين ، وبيان الضابط في المسألة 510
تفريع عدم جريان استصحاب النجاسة في الدم المرددّ بين كونه من المسفوح أو من المتخلّف والدم المردّد بين كونه من البقّ أومن البدن على مسألة اتصال زمان الشك بزمان اليقين ... 516
بيان فساد ما ذكره المحقق الخراساني رحمه اللّه من عدم احراز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين في باب الحادثين بعد العلم بالحدوث والشك في المتقدّم والمتأخر منهما ... 517
تكملة - في أن عدم جريان الأصل في المعلوم التاريخ وجريانه في مجهول التاريخ ليس على إطلاقه ، بل قد يجري في معلوم التاريخ أيضاً ، وقد لايجري في كلّ من معلوم التاريخ ومجهوله ... 522
التنبيه العاشر : في الإشارة إلى ما تقدم في مباحث الأقلّ والأكثر: من أنّه لامجال لاستصحاب صحّة الأجزاء السابقة في العبادات عند الشك في عروض المانع أو القاطع ... 530
ص: 821
التنبيه الحادي عشر : إشاره إجماليّة إلى عدم جريان الاستصحاب في الأمور الاعتاقديّة المطلوب فيها العلم واليقين 531
التنبيه الثاني عشر : في بيان تمييز الموارد التي يرجع فيها إلى استصحاب حكم المخصّص عن الموارد التي يرجع فيها إلى عموم العامّ... 531
1 - تنقيح البحث يستدعي تقديم امور: الأصل في باب الزمان أن يكون ظرفاً لوجود الزماني ، إلا أن يقوم دليل بالخصوص على القيديّة ... 532
2 - الزمان المأخوذ قيداً في الحكم أو المتعلّق تارة : يلاحظ على وجه الاتباطيّة ، واخرى : على وجه الاسقلاليّة 533
3 - اعتبار العموم الزماني بأحد الوجهين يتوقف على قيام الدليل عليه ، والدليل الدال على العموم تارة يكون نفس دليل الحكم ، واخرى يستفاد من دليل لفظي آخر ، وثالثة من مقدّمات الحكمة ... 534
4 - مصبّ العموم الزماني تارة يكون متعلّق الحكم، واخرى يكون نفس الحكم... 535
5 - يختلف العموم الزماني الملحوظ في ناحية المتعلق مع العموم الزماني الملحوظ في ناحية الحكم من جهتين 536
ضابط استصحاب حكم المخصّص هو ما إذا كان مصبّ العموم الزماني نفس الحكم، ومورد التمسك بالعامّ هو ما إذا كان مصبّ العموم الزماني متعلّق الحكم ... 537
شرح مراد الشيخ في المسألة ، ودفع ما تخيّله بعض الأعلام في مراده ... 543
تكملة - في تشخيص مصبّ العموم الزماني ، وأنّه في كل مورد شكّ في مصبّ العموم الزماني بعد العلم به،فالأصل يقتضي أن يكون مصبّه نفس الحكم الشرعي ، لاالمتعلق ... 545
ص: 822
مصبّ العموم الزماني في باب الأحكام الوضعيّة ... 548
مصبّ العموم الزماني في باب المحرّمات ... 550
مصبّ العموم الزماني في باب الواجبات ... 552
في بيان الثمرة بين أن يكون الاستمرار قيداً للطلب وبين أن يكون قيداً للمطلوب... 553
التنبيه الثالث عشر : في استصحاب الوجوب عند تعذّر بعض أجزاء المركّب الارتباطي 556
تضعيف الوجوه التي ذكرها الشيخ قدس سره في وجه جريان الاستصحاب في المقام 556
تقريب الاستصحاب بوجه آخر لعلّه يسلّم عن الإشكال ... 559
تتمة:يظهر من كلام الشيخ قدس سره عدم الفرق في جريان الاستصحاب بين التعذّر الجزء بعد دخول الوقت أوقبله 561
التنبيه الرابع عشر : في أن المراد من الشكّ الذي اخذ موضوعا ً في باب الأصول العمليّة ومورداً في باب الأمارات ليس خصوص ما تساوى طرفاه ، بل يشمل الظنّ بالخلاف ... 563
خاتمة في بيان امور :
الأمر الأول : في أن اعتبار اتحاد متعلّق الشكّ مع متعلق اليقين في الاستصحاب من القضايا التي قياساتها معها 564
تحقيق جريان الاستصحاب في المحمولات الأوليّة وفي المحمولات المترتّبة وتفصيل الكلام في ذلك 565
في معنى أخذ الموضوع من العرف ، وأنّ محلّ الكلام والإشكال إنّما هو في الاستصحابات الحكميّة 570
في أنّ تعويل على العرف إنّما يكون في باب المفاهيم ولاعبرة بنظر العرف في باب المصاديق 574
ص: 823
الاستشكال فيما أفاده الشيخ قدس سره من الترديد بين أخذ الموضوع من العقل أو العرف أوالدليل بأنّ الرجوع إلى العقل إنّما يستقيم في المستقلات العقليّة وأما الموضوعات الشرعيّة فليس للعقل إليها سبيل ، وأنهّ لاوجه للمقابلة بين الموضوع العرفي والشرعي 575
دفع الإشكال عمّا أفاده الشيخ قدس سره ... 575
في بيان معنى «الرافع» المقابل للمانع وأنّه غير «الرافع» القمابل للمقتضي ، وبذلك يندفع ما ربّما يتوهّم : من أنّه بعد البناء على عدم جريان الاستصحاب في الشكّ في المقتضي لم يبق فرق بين أحذ الموضوع من العقل أوالعرف أو الديل 577
توضيح معنى أخذ موضوع من العرف ، وأن الرجوع إلى العرف في الصدق غير الرجوع إليه في المصداق 581
الأقوى : اتّباع نظر العرف في بقاء الموضوع ولاعبرة بنظر العقل ،كما أنّه لاعبرة بظاهر الديل بعدما كان المرتكز العرفي بمناسبة الحكم والموضوع على خلاف ما يقتضيه الدليل ابتداءً ... 585
الامر الثاني : في الفرق بين الاستصحاب وقاعدة اليقين ، وتحقيق عدم شمول الأخبار لقاعدة اليقين 586
الامر الثالث : في وجه تقدّم الأمارات على الاصول العمليّة والاصول المحرزة على غيرها ، وتحقيق أنه بالحكومة لابالورود 591
في الفرق بين الورود والتخصّص ، والحكومة والتخصيص ... 591
لا يعتبر في الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلولة اللفظي شارحاً ومفسّراً لما اريد من دليل المحكوم 593
تحقيق أنه لايعتبر في الحكومة أزيد من تصرّف أحد الدليلين في عقد وضع الآخر وفي عقد حملة ولولم يكن بلسان الشرح والتفسير ... 594
ص: 824
في تقسيم الحكوم على قسمين ... 595
في أنّ دعوى ورود الأمارات على الأصول والأصول بعضها على بعض لاتقسيم إلا بأحد وجوه الثلاث ، وكلّها مخدوشة 597
الامر الرابع : في الامور التي قد وقع البحث والخلاف في أنها من الأمارات أو من الاصول العمليّة 602
1 - قاعدة اليد
استظهار كون اليد من الامارات وتحقيق تقديمها على الاستصحاب ولوكانت من الأصول العمليّة 603
لا أثرلليد مع العلم بحالها من كونها غصباً أو أمانه أو إجارة ، بل لابدّ من العمل بما يقتضيه الاستصحاب ، وعلى ذلك يبتني قبول السجلات وأوراق الإجارة... 604
في عدم اعتبار اليد على ما كان وقفاً ، وبطلان قياسه بالأراضي المفتوحة عنوة ومدعي الحريّة 606
القسم المتيقن من موارد اعتبار اليد وحكومتها على الاستصحاب هوما إذا لم يعلم حال اليد واحتمل أنّ المال حدث في ملك صاحبها ... 609
تتمة - فيما لوكان في المقابل ذي اليد من يدّعي الملكيّة مع ثبوت كون المال ملكاً للمدّعي قبل استيلاء ذي اليد عليه 610
انقلاب الدعوي وصيرورة المنكر مدعياً باقرار ذي اليد بالملكيّة السابقة للمدّعي 611
دفع دخل - في محاجّة أمير المؤمنين علیه السلام مع أبي بكر في قصّة فدك ... 613
2 - قاعدة الفراغ والتجاوز
استظهار كون قاعدة الفراغ والتجاوز من الأمارات ، وأنّها تقدم على الاستصخاب ولو كانت من الأصول العمليّة 618
ص: 825
الكلام في بعض المباحث الفقهيّة المرتبطة بالقاعدة ... 619
المبحث الأول : في أن الكبرى المجعولة في القاعدة الفراغ هل هي عين الكبرى المجعولة في قاعدة التجاوز؟ 620
في ما يرد على الشيخ حيث يستظهر من كلامه اتّحاد القاعدتين... 620
استظهار اتّحاد القاعدتين من ملاحظة مجموع الأخبار الواردة في الباب ودفع الإشكالات الواردة 623
المبحث الثاني : تحقيق أنّ التجاوز عن الجزء إنما يكون بالتجاوز عن محلّه لاعن نفسه ، أنّه لااعتبار بالمحلّ العادي ، وأنّه لايعتبر في صدق المضيّ والتجاوز عن الشيء عدم كون المشكوك فيه الجزء الأخير... 627
المبحث الثالث : في اعتبار «الدخول في الغير» في قاعدة التجاوز طبعاً وفي قاعدة الفراغ تعبّداً 631
المبحث الرابع : في بيان المراد من «الغير» الذي يعتبر الدخول فيه ، وتحقيق أنه يختص بالأجزاء المستقلّة بالتبويب - كالقراءة والركوع والسجود وغير ذلك - فلا يعمّ المقدمات ولاأجزاء الأجزاء... 633
التنبه على بعض فروع قاعدة التجاوز ... 636
المبحث الخامس : في جريان قاعدة التجاوز والفراغ في الشرائط ... 639
التنبيه على كون قاعدتي التجاوز الفراغ من الأصول المحرزة... 639
تقسيم الشروط على أقسام ثلاثة وبيان ما لكلّ منها من الحكم ... 640
المبحث السادس : يعتبر في قاعدة التجاوز أن يكون الشك في صحّة العمل رجعاً إلى كيفيّة صدوره وانطباقه على المأمور به بعد العلم بمتعلق التكليف بأجزائه وشرائطه وموانعه موضوعاً وحكماً ، فلوكان الشك في الصحّة من جهة الشبهة الحكميّة أوالموضوعية لاتجري فيه القاعدة ... 647
الوجوه المتصورة في الشك في صحة العمل المأتي به وفساده... 647
ص: 826
المبحث السابع : في عدم جريان قاعدة الفراغ والتجاوز في حقّ من يحتمل الترك عمداً... 652
3 - أصالة الصحة
في مدرك اصالة الصحّة ... 653
بسط الكلام في اصالة الصحة في العقود ، وبيان اختلاف كلمات الأعلام في حكومتها على اصول الموضوعيّه المقتضيّة للفساد ... 654
تحقيق تقدم أصالة الصحة على أصالة بقاء المال على ملك مالكه الأول ، وعدم تقدمها على سائر الاصول المضوعيّة الاخر 657
في معنى اصالة الصحة وأنّ صحة كل شيء بحسبه ... 661
تحقيق عدم جريان أصالة الصحّة في العمل الغير إلا بعد احراز صدور العمل بعنوانه الذي تعلّق به الأمر أو ترتّب عليه الأثر 663
هل يكفي في إثبات كون العمل المأتي به كان واجداً للعنوان إخبار العامل بذلك؟ أو أنّه لابدّ من العلم به أوقيام البيّنه عليه؟ 665
في عدم حجّية مثبتات أصالة الصحّة ، وشرح كلام العلامة رحمه اللّه في مسألة اختلاف المالك والمستأجر 666
في ما إذا كان في مقابل أصالة الصحّة أصل موضوعي آخر غير أصالة عدم النقل والانتقال 669
إشارة إلى اختلاف نسخ الفرائد في هذه المقام، ونقل كلام السيّد الكبير الشيرازي قدس سره وبيان المقصود منه 671
الامر الخامس : في بيان نسبة الاستصحاب مع سائر الوظائف المقرّرة للجاهل 678
نسبة الاستصحاب مع القرعة ... 678
نسبة الاستصحاب مع سائر الاصول العمليّة ... 680
الامر السادس : في تعارض الاستصحابين ... 681
ص: 827
في حكومة كل أصل سببيّ على كل أصل مسببّي اذا كان الأصل السببي واجداً لشرطين : 1 - أن يكون ترتّب المسبّب على السبب شرعيّاً 2 - أن يكون الأصل السببي رافعاً للشكّ المسببّى ... 682
بيان منشأ الإشكال والترديد في حكومة الأصل السببي على المسبّبي ... 685
في ما إذا كان الشك في كل منهما مسبّباً عن أمر ثالث ... 687
هل الأصل في تعارض الاصول يقتضي التخيير في إعمال أحدها؟ أو يقتضي التساقط؟ والأقوى هوالتساقط 688
بيان الفرق بين الامارات المتعارضة والاصول المتعارضة ... 689
في عدم جريان الأصول المحرزة في أطراف العلم الإجمالى ، وتحقيق أنّ المانع من جريانها في أطراف العلم الاجمالى إنما هو عدم قابليّة المجعول فيها لأن يعمّ جميع الأطراف،لا ما يظهر من الشيخ قدس سره من لزوم تناقض الصدر والذيل في دليل الاستصحاب 693
تحقيق في دفع شبهة عدم جواز التكليف بين المتلازمين الشرعيّين ، وأنّه لامحذور في التعبّد بالاستصحابين المتخالفين الذي يلزم من جريانها التفكيك بين المتلازمين ... 694
الإشكال على الشيخ قدس سره في تحرير الأقسام التي ذكرها لتعارض الاستصحابين ، وبيان ما هو الأولى في ذلك 696
في التعادل والترجيح
في أن البحث عن التعادل والترجيح من أهم المباحث الاصوليّة وليست من المباحث الفقهيّة ولا من المبادي 699
المبحث الأول : في ضابط التعارض ... 700
المبحث الثاني : في الفرق بين التعارض والتزاحم ... 704
ص: 828
ردّ ما في بعض الكلمات : من أنّ التزاحم الحكمين إنّما يكون لأجل تزاحم المقتضيين والملاكين 705
وقوع التزاحم بين من الحكمين لا يختصّ بصورة عدم القدرة على الجمع بينها في الامتثال 707
أقسام التزاحم ... 707
مرجحات باب التزاحم ... 709
المبحث الثالث : في أنه يعتبر في التعارض أن لايكون أحد الدليلين حاكماً على الآخر ، وتحقيق أنّه لايعتبر في الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلولة اللفظي شارحاً ومفسّراً لمدلول الآخر... 710
إجمال الفرق بين الحكومة والورود والتخصيص والتخصّص ... 714
المبحث الرابع : في أنه إصالة الظهور في طرف الخاصّ حاكمة على إصالة الظهور في طرف العامّ ، بل في بعض الفروض يحتمل أن تكون واردة عليها. وشرح ما أفاده الشيخ 1 في المقام ... 715
الدلالة الصديقيّة تطلق على معينين ... 716
هل المناط في عمل العقلاء على ظواهر الكلام هو حصول الظنّ بأنّ ظاهره هو المراد؟ أولأجل البناء على أصلة عدم القرينة المنفصلة؟ ... 717
الوجوه المتصوره في العام والخاص ... 719
الأقوى وجوب الأخذ بظور الخاص وتخصيص العامّ به ولوكان ظهوره أضعف من ظهور العامّ ، وبيان الوجه في ذلك 720
في حكم ما إذا كان الخاصّ ظنّيّ السند وقطعيّ الدلالة ، وشرح ما ذكره الشيخ 1 في المقام ، فانّه بني أوّلاً على كون ظهور الخاصّ حاكماً على ظهور العامّ ثمّ احتمل أن يكون وارداً عليه ... 722
المبحث الخامس : في بيان حكم التعارض ... 725
ص: 829
بيان المزيّة التي توجب الجمع بين المتعارضين في الدلالة إذا كان التعارض بين دليلين 726
في انحصار رفع التعارض بين الدليلين باحد أمرين : 1 - أن يكون احدهما نصّاً في مدلولة ولآخر ظاهراً فيه 2 - أن يكون أحدهما بظهوره أواظهريّته في مدلولة قرينة عرفيّة على التصرف في الآخر ... 727
في بيان الموارد التي تندرج في النصوصية ... 728
في بيان الموارد التي تندرج في القرينة العرفيّة ... 729
تفصيل الكلام في دوران الأمر بين التخصيص والنسخ ، وتوجيه التخصيصات الوارده عن الأئمة علیهم السلام بعد حضور وقت العمل بالعامّ ، وبيان المحتملات في ذلك ... 733
استبعاد الشيخ قدس سره الاحتمال الثاني وتقويته الاحتمال الثالث... 736
الإشكال فيما أفاده الشيخ قدس سره تقوية الاحتمال الثاني ... 737
النسخ على التخصيص ، والنظر في كلا الوجهين ... 738
المبحث السادس : فيما اذا كان التعارض بين أكثرمن دليلين ... 740
في بيان صور وقوع التعارض بين أكثر من دليلين ، وتمييز موارد انقلاب النسبة عن غيرها 742
تكملة - في الإشارة إلى بيان النسبة بين أدلّة ضمان العارية ... 748
المبحث السابع : فيما إذا لم يكن الجمع بين المتعارضين ، هل الأصل يقتضي سقوطهما رأساً - مع قطع النظر عن أخبار الترجيح والتخيير - أويجب التعبّد بصدورهما؟... 753
تحقيق عدم صحّة التعبّد بصدور المتعارضين على القول بالطريقيّة ... 753
حجيّة المتعارضين لنفي الثالث... 755
ص: 830
حكم الامارات المتعارضة على القول بحجيّتها من باب السبيّية ... 758
الكلام فيما يظهر من اطلاق كلام الشيخ قدس سره من أنّه لافرق في جريان حكم التزاحم هنا بين القول بالسببيّة الَّتي توافق مذهب التصويب وبين السببيّة التي توافق مسلك التخطئة ... 758
المبحث الثامن : في النصوص المستفيضة الدالّة على عدم سقوط المتعارضين مع فقد المرجّح 763
التحقيق في الجمع بين الأخبار ... 764
اختصاص ادلة التخيير بتعارض الروايات وعدم شمولها لتعارض الأقوال في سلسة طرق الروايات 765
عدم شمول الادلّة لصورة اختلاف النُسخ ... 766
لايجوز الاخذ بأحد المتعارضين تخييراً إلا بعد الفحص عن المرجّحات ... 766
الأقوى : كون التخيير في المسألة الأصولية ، لافي المسألة الفقهيّة ... 766
بيان بعض الثمرات التي تترتّب على كون التخيير في المسألة الاصوليّة أو في المسألة الفقهيّة 767
المبحث التاسع : في بيان أنّ المشهور بين الأصحاب اختصاص التخيير بصورة تعادل المتعارضين وفقد ما يقتضي ترجيح أحدهما ، خلافاً لما حكى عن بعض من القول بالتخيير مطلقاً - لإطلاق أدلّة التخيير - وحمل أخبار الترجيح على الاستحباب 769
الاستدلال للمشهور - وجوب الأخذ بالمرجّحات - بمقبولة « عمر بن حنظلة » ورفع الاشكالات الواردة عليها 770
الأقوى وجوب الاقتصار على المرجّحات المنصوصة ... 774
المبحث العاشر: في أنّ المرجّحات المنصوصة أربعة ، والكلام في ترتّب المرجّحات المنصوصة وتقدّم بعضها على بعض 778
ص: 831
بيان الأقوال في المسألة ، وتقوية القول بتقديم المرجّح السندي على المرجّح الجهتي والمرجّح المضموني 779
ردّ ما ينسب إلى الوحيد البهبهاني رحمه اللّه من تقديم المرجّح الجهتي على المرجّح الصدوري ، وما أفاده المحققّ الخراساني قدس سره من وقوع التزاحم بين المرجّحات عند التعارض وتقديم ماهو الأقوى مناطاً وإلا فالتخيير 781
التنبيه على أمور :
1 - الأقوى : وجوب الترجيح بصفات الراوي التي لها دخل في أقربيّة صدور أحد المتعارضين 784
2 - في أقسام الشهرة وأحكامها ... 785
3 - في ما ذكره الشيخ قدس سره للترجيح بمخالفة العامّة : من الوجوه الأربعة ، وتحقيق الكلام في ذلك 789
4 - وجه الجمع بين الطائفتين من الأخبار الوارده في الأخذ بموافق الكتاب وطرح المخالف له 790
5 - في حكم تعارض العامّين من وجه ، وتحقيق عدم جواز الرجوع فيه إلى المرجّحات الصدوريّة ، بل لابدّ من الرجوع إلى المرجّحات الجهتيّة ومع فقدها إلى المرجّحات المضمونيّة ... 792
6 - في أنّ موافقة أحد المتعارضين للأصل لايقتضي ترجيحه على الآخر... 795
وقد تمّ بحمد اللّه فهر الجزء الرابع من كتاب فوائد الأصول ، وقع الفراغ من تسويده في يوم الأحد لثمان خلون من المحرّم الحرام من سنة 1409 ( ه. ق ) على هاجرها آلاف التحيّة والسلام.
وأنا العبد المذنب المحتاج إلى رحمة ربّه الغنيّ «رحمت اللّه رحمتي الأراكي»
ص: 832