المؤلف: الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني
المحقق: الشيخ رحمة اللّه رحمتي الأراكي
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: 0
ISBN: 978-964-470-899-2
الموضوع : أصول الفقه
تاريخ النشر : 1406 ه.ق
الصفحات: 470
فوائد الأصول
من إفادات قدوة الفقهاء و المجتهدين آية اللّه في الارضين
الميرزا محمد حسين الغروي النائيني
(1355 ه ق)
تأليف الأصولي المدقق والفقيه المحقق العلامة الرباني
الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني
(1365 ه ق)
مع تعليقات خاتم الفقهاء والأصوليين آية اللّه في العالمين
الشيخ آغا ضياء الدين العراقي
(1361 ه ق)
رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3250360
ص: 1
ص: 2
الحمد لله الذي علّم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم. والصلاة والسلام على رسوله الأمين مزكي الأمة ومعلّمها الكتاب والحكمة، وعلى آله أولي الأمر وأهل الذكر الذين حصنوا امة الاسلام ضد تيارات الكفر والنفاق بما بثوا من علوم ربانية وبما ربوا من شخصيات إسلامية تسير على خط الاسلام الأصيل.
و جاء علم أصول الفقه في طليعة العلوم الإسلامية التي تدور عليها رحى الاستنباط والاجتهاد في الأحكام الشرعية الفرعية والقدرة على الاستنباط من أولى مؤهلات القيادة الإسلامية. ومن هنا كان علم الأصول علماً حياً مثمراً على مدى التأريخ.
و قد نذرت مؤسسة النشر الإسلامي نفسها لإحياء التراث الإسلامي الأصيل وعرضه إلى طلاب الحقيقة وروّاد الفضيلة، بشكل فنّي أنيق، يُسهل الانتفاع به، ويوفر على الأساتذة والطلاب وقتاً هم والأمة بأمس الحاجة إليه لاسيما بعد انتصار الثورة الإسلامية المباركة واشتداد الحاجة الى فضلاء الحوزات العلمية والمجتهدين منهم في شتى المجالات العلمية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتربوية...
و من جملة هذا التراث الإسلامي الثر الذي قامت هذه المؤسسة بنشره هو الموسوعة الاصولية الفريدة لأبحاث قدوة الفقهاء والمجتهدين، العالم الرباني آية اللّه العظمى الميرزا محمد حسين الغروي النائيني - طاب ثراه - بقلم تلميذه الألمعي الاصولي المدقق والفقيه المحقق الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني قدس سره المسماة ب- : فوائد الأصول. وقد تم نشر الجزءين الأول والثاني، والآن نقدم الجزء الثالث من هذه الموسوعة مزداناً بتعليقات رشيقة وعميقة المعاصره الفذ صاحب الفكر الثاقب والاصولي البارع العلم الباقي آية اللّه العظمى الشيخ آقا ضياء الدين العراقي - طاب ثراه -.
ولا يخفى على أولي الألباب ما في هذا الجمع بين أنظار هذين العلمين من
ص: 3
امتياز يساعد المحقق على سرعة التحقيق والاستنتاج.
و حيث كانت هذه التعليقة كتاباً مستقلاً، استلزم إلحاقها بأصل الكتاب حذف الجمل التي اقتطعها المعلّق - قدس سره - من فوائد الأصول لبيان محط بحثه منها .
وقد قام الفاضل الألمعي حجة الإسلام الشيخ رحمة اللّه رحمتي الأراكي بمهمة التصحيح والمقابلة والتنظيم والفهرسة للأبحاث فلله تعالى دره وعلى اللّه تعالى أجره، ونسأل المولى الجليل أن يتقبل منا ومنه بمنه وجوده وكرمه.
و من الجدير بالذكر تقديم جزيل الشكر لما بذله عدة من الحجج الأفاضل من السعي الوافر للحصول على بعض النسخ المخطوطة للتعليقة، لا سيما الفقيه المحقق والأصولي المدقق آية اللّه الحاج الشيخ هاشم الآملي - مدظله والعلامة الجليل حجة الإسلام الشيخ محمد المؤمن والعلامة الجليل حجة الإسلام الشيخ محمد مهدي الآصفي أدام اللّه عزهما
وقد اعتمدنا في تصحيح الكتاب على النسخة المشهورة المطبوعة والمصححة في زمن حياة المؤلّف (الكاظمي قدس سره ) .
و اعتمدنا في تصحيح التعليقة على النسخة المخطوطة بخط تلميذ صاحب التعليقة، الأصولي المدقق آية اللّه الشيخ محمد تقي البروجردي - قدس سره التي أهداها إلينا سماحة الحجّة الآصفي، وقابلناها مع النسخة المخطوطة التي تفضل بها آية اللّه الأملي .
والذي سبب تأخير إصدار هذا الجزء هو فقدان التعليقة المهمة على الكتاب لسبب غير معلوم - واللّه أعلم بالسرائر - ولهذا نعتذر إلى قرائنا الكرام من هذا التأخير لا لتقصير منا. ومن يتوكل على اللّه فهو حسبه، إن اللّه بالغ أمره وهو مؤيد من ينصره. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
مؤسسة النشر الإسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة - ايران
شهر الصيام 1406 ه.ق
ص: 4
الصورة
ص: 5
الصورة
ص: 6
الصورة
ص: 7
ص: 8
فوائد الأصول
الجزء الثالث
ص: 1
ص: 2
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأولين والآخرين محمد وآله الطيبين الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
وبعد ، فهذا هو الجزء الثالث من كتابنا الموسوم ب ( فوائد الأصول ) وهو يشتمل على مهمات مباحث القطع والظن وبعض الأصول العملية ، وهي نتيجة ما تلقيته من بحث شيخنا الأستاذ ، الإمام الفقيه ، علم العلم وبدر سمائه ومشكاة نوره ، مفصل الصواب وفصل الخطاب ، من قد استبطن أسرار العلوم واستجلى غوامضها ومحص حقائقها وأحصى مسائلها وأحاط بفروعها وأصولها ومعقولها وومنقولها ، صدر العلماء وعين الفقهاء ، قبلة المشتغلين وخاتمة المجتهدين ، آية اللّه في العالمين ، من قد ألقت إليه الرياسة الدينية أزمتها في أواسط القرن الرابع عشر ، حضرة « الميرزا محمد حسين الغروي النائيني » متع اللّه الاسلام بشريف وجوده.
وقد جعل ( مد ظله ) عنوان بحثه كتاب « فرائد الأصول » تأليف أستاذ الأساتيذ الشيخ الأنصاري ( قده ) لمكان أنه أحسن كتاب صنف في المباحث العقلية من حيث الترتيب وتبويب المباحث وتمييز الطرق والأمارات عن الأصول العملية ، فان المتقدمين لم يميزوا المباحث بعضها عن بعض وأدرجوا كثيرا من الأدلة الاجتهادية في الأدلة الفقاهية.
قال قدس سره : « اعلم أنّ المكلف إذا التفت الخ » والمراد من المكلف هو خصوص المجتهد ، إذ المراد من الالتفات هو الالتفات التفصيلي الحاصل للمجتهد
ص: 3
بحسب اطلاعه على مدارك الأحكام. ولا عبرة بظن المقلد وشكه. وكون بعض مباحث القطع تعم المقلد لا يوجب أن يكون المراد من المكلف الأعم من المقلد والمجتهد ، إذ البحث عن تلك المباحث وقع استطرادا وليست من مسائل علم الأصول ، ومسائله تختص بالمجتهد ولا حظ للمقلد فيها. ولا سبيل إلى دعوى شمول أدلة اعتبار الطرق والأصول للمقلد ، غايته أن المقلد عاجز عن تشخيص مواردها وومجاريها ويكون المجتهد نائبا عنه في ذلك ، فإنه كيف يمكن القول بشمول خطاب مثل « لا تنقض اليقين بالشك » في الشبهات الحكمية للمقلد ، مع أنه لا يكاد يحصل له الشك واليقين ، بل لو فرض حصول الشك واليقين له فلا عبرة بهما ما لم يكن مجتهدا في مسألة حجية الاستصحاب.
ثم إنه لا وجه للاشكال على تثليث الأقسام : بأن الظن إن قام دليل على اعتباره فهو ملحق بالعلم وإلا فملحق بالشك فلا يصح تثليث الأقسام ، فان عقد البحث في الظن إنما هو لأجل تميز الظن المعتبر الملحق بالعلم عن الظن الغير المعتبر الملحق بالشك ، فلابد أولا من تثليث الأقسام ثم البحث عن حكم الظن من حيث الاعتبار وعدمه. نعم : لازم اعتباره هو أن يكون كالعلم ، كما أن لازم عدم اعتباره هو أن يكون كالشك. ثم إنه قد اختلفت كلمات الشيخ ( قده ) في تشخيص مجاري الأصول ، ولا تخلو بعضها أو جميعها عن اشكال عدم الاطراد والانعكاس.
والأحسن ، أن يقال : إن الشك ، إما أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أو لا ، وعلى الثاني : فاما أن لا يعلم بالتكليف أصلا ولو بجنسه وإما أن يعلم ، وعلى الثاني : فإما أن يمكن فيه الاحتياط وإما أن لا يمكن ، فالأول مجرى الاستصحاب ، والثاني مجرى البراءة ، والثالث مجرى الاحتياط ، والرابع مجرى التخيير (1) وإنما
ص: 4
قيّدنا مجرى الاستصحاب بلحاظ الحالة السابقة ولم نكتف بمجرد وجودها ، فان مجرد وجودها بلا لحاظها لا يكفي في كونها مجرى الاستصحاب ، إذ هناك من ينكر اعتبار الاستصحاب كلية ، أو في خصوص الأحكام الكلية ، أو في خصوص الشك في المقتضى - على اختلاف الأقوال فيه - فالمنكر يدعى أن وجود الحالة السابقة كعدمها لا تكون مجرى الاستصحاب. وهذا بخلاف ما إذا لوحظت فيه الحالة السابقة ، فان لحاظها انما يكون لأجل جريان الاستصحاب ويكون الشك الملحوظ فيه الحالة السابقة مجرى للاستصحاب على جميع الأقوال فيه.
ولا يخفى أنّ الحصر في مجاري الأصول إنما يكون عقليا لدورانه بين النفي والإثبات. وأما حصر الأصول في الأربع فليس بعقلي ، لامكان أن يكون هناك أصل آخر وراء هذه الأصول الأربعة. ولكن هذا بالنسبة إلى خصوص الاستصحاب حيث إن اعتباره شرعي.
وأما بالنسبة إلى الأصول العقلية : من البراءة والتخيير والاحتياط ، فالحصر فيها عقلي ، لأنه في صورة الشك : إما أن يراعى جهة التكليف وإما أن لا يراعى ، وفي صورة المراعاة : إما أن يراعى من كل وجه وإما أن يراعى في الجملة ، فالأول عبارة عن البراءة ، والثاني الاحتياط ، والثالث التخيير. ولا يعقل أن يكون هناك أصل عقلي آخر وراء هذه الأصول الثلاثة.
ثم إن الأصول العملية الجارية في الشبهات الحكمية لا تختص بهذه الأصول الأربعة ، بل هناك أصول أخرى تجرى في الشبهات الحكمية - كأصالة الطهارة والحل - وإنما وقع البحث عن خصوص هذه الأصول الأربعة ، لمكان أن كل شك في كل باب من أبواب الفقه لابد وأن ينتهى إلى أحدها ، بخلاف الأصول الاخر فإنها تختص ببعض الأبواب ، مع أن بعضها لا كلام في اعتبارها ، كأصالة الطهارة.
وعلى كل حال : بعدما عرفت من أن المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي ، فإما أن يحصل له القطع ، أو الظن ، أو الشك ، فالبحث يقع في مقامات ثلاث.
ص: 5
والمراد من وجوب متابعة القطع (1) وجوب متابعة المقطوع من الواقع المرئي بالقطع ولزوم العمل بما أدى إليه قطعه والجري على وفق علمه. وهذا الوجوب ليس وجوبا شرعيا ، لأن طريقية القطع ذاتية له لا تنالها يد التشريع ، إذ لا معنى لتشريع ما هو حاصل بذاته ومنجعل بنفسه ، فان الجعل التشريعي إنما يتعلق بما يكون تكوينه عين تشريعه لا ما يكون متكونا بنفسه ، وطريقية القطع تكون كذلك. وهذا من غير فرق ، بين أن نقول بصحة جعل الحجية والطريقية - كما هو المختار - وبين أن نقول بعدم الصحة وأن المجعول هو منشأ الانتزاع - كما هو مختار الشيخ ( قده ) فان الطريقية التي نقول بصحة جعلها إنما هي في غير الطريقية التكوينية - كطريقية القطع - فإنها من لوازم ذات القطع كزوجية الأربعة ، بل بوجه
ص: 6
يصحّ أن يقال : إنها عين القطع ، وما يكون شأنه ذلك كيف يصح أن تناله يد الجعل التشريعي!.
وبعبارة أخرى : طريقية كل شيء لابد وأن تنتهي إلى العلم وطريقية العلم لابد وأن تكون ذاتية له ، لأن كل ما بالغير لابد وأن ينتهى إلى ما بالذات وإلا لزم التسلسل.
ومما ذكرنا يعلم : أن نفي الطريقية والحجية عن القطع أيضا لا يعقل ، إذ لا يمكن شرعا سلب ما هو من لوازم الذات ، مضافا إلى لزوم التناقض. وذلك كله واضح لا يحتاج إلى أزيد من تصور حقيقة القطع.
ولا يصح إطلاق الحجة عليه ، فان الحجة باصطلاح المنطقي عبارة عن « الوسط الذي يكون بينه وبين الأكبر الذي يراد إثباته للأصغر علقة وربط ثبوتي » إما علقة التلازم وإما علقة العلية والمعلولية ، سواء كان الوسط علة لثبوت الأكبر الذي هو البرهان اللمي ، أو كان معلولا له الذي هو البرهان الإني ، وأمثلة الكل واضحة. ومن المعلوم : أن القطع لا يكون حجة بهذا المعنى ، إذ لا يصح أن يقع وسطا في القياس ، فلا يقال « هذا معلوم الخمرية وكل معلوم الخمرية خمر أو يجب الاجتناب عنه » لأن الكبرى كاذبة ، إذ معلوم الخمرية يمكن أن يكون خمرا ويمكن أن لا يكون ، ووجوب الاجتناب لم يترتب شرعا على معلوم الخمرية بل على الخمر الواقعي ، لأن الكلام في القطع الطريقي ، فلا يكون هناك علقه ثبوتية بين العلم وبين الأكبر ، لا علقة التلازم ولا علقة العلية والمعلولية ، وما لم يكن علقة لا يصح جعله وسطا فلا يكون حجة باصطلاح المنطقي ، كما لا يكون حجة باصطلاح الأصولي أيضا ، فان الحجة باصطلاح الأصولي عبارة عن الأدلة الشرعية من الطرق والأمارات التي تقع وسطا لإثبات متعلقاتها بحسب الجعل الشرعي من دون أن يكون بينها وبين المتعلقات علقة ثبوتية بوجه من الوجوه ، فان متعلقاتها إن كانت من الموضوعات الخارجية فعدم ثبوت العلقة بينهما واضح ، إذ لا علقة بين الظن بخمرية شيء وبين نفس الخمر - لا علقة التلازم ولا علقة العلية والمعلولية - وإن
ص: 7
كانت من الأحكام الشرعية ، فلأن الأحكام الشرعية (1) مترتبة على موضوعاتها الواقعية لا على ما أدى إليه الطريق ، إلا بناء على التصويب الذي لا نقول به.
ومن هنا يظهر : انه لا يصح تأليف القياس الحقيقي من الأدلة الشرعية ، بل صورة قياس أشبه بالمغالطة ، فقولك « هذا مظنون الخمرية وكل مظنون الخمرية يجب الاجتناب عنه فهذا يجب الاجتناب عنه » قياس صوري لا واقع له ، إذ الذي يجب الاجتناب عنه هو الخمر الواقعي لا مظنون الخمرية وإنما كان الظن طريقا شرعيا إلى الخمر ، فالظن يكون من قبيل المعرف والواسطة في الاثبات فقط من دون أن يكون واسطة في الثبوت ، ومعه لا يصح تأليف القياس الحقيقي منه إلا بنحو من التأويل بعناية جعل الشارع الظن طريقا إلى الخمر ومثبتا له في الظاهر. وهذا بخلاف القطع فإنه لا يصح جعله وسطا بوجه من الوجوه ولا يمكن تأليف القياس منه ولو قياس صوري ، إذ تلك العناية التي كانت في الظن لم تكن في العلم ، لعدم جعل الشارع العلم طريقا إلى إثبات متعلقه ، لما تقدم من أن طريقية القطع غير قابلة لأن تنالها يد
ص: 8
الجعل التشريعي ، وما لم يكن هناك جعل شرعي لا يكون حجة باصطلاح الأصولي.
ومن هنا ظهر : أن مسألة حجية القطع لا تكون من مسائل علم الأصول ، فان الضابط في كون المسألة أصولية هو أن تقع نتيجتها كبرى لقياس الاستنباط - على ما بيناه في محله - ومسألة حجية القطع ليست كذلك ، فظهر : أنه لا يصح إطلاق الحجة على القطع باصطلاح أهل الميزان ولا باصطلاح الأصولي. ولكن هذا في القطع الطريقي الذي لم يؤخذ شرعا في موضوع حكم.
وأما القطع الموضوعي : فيطلق عليه الحجة ويتألف منه القياس حقيقة ، ويكون أشبه بالحجة باصطلاح المنطقي ، فان موضوع الحكم يكون بمنزلة العلة لثبوت ذلك الحكم ، حيث إن نسبة الموضوعات إلى الأحكام نسبة العلل إلى معلولاتها وان لم تكن من العلل الحقيقية الا أنه لمكان عدم تخلف الحكم عن موضوعه صار بمنزلة العلة ، فالقطع الموضوعي يقع وسطا للقياس ، ويقال مثلا « هذا معلوم الخمرية وكل معلوم الخمرية يجب الاجتناب عنه » إذا فرض أن وجوب الاجتناب رتب على معلوم الخمرية لا على الخمر الواقعي. وهذا من غير فرق بين أن يكون القطع تمام الموضوع أو جزئه - على ما سيأتي من الفرق بينهما - فإنه على كل تقدير يقع وسطا ، غايته انه لو كان تمام الموضوع يكون تمام الوسط للقياس ، ولو كان جزء الموضوع يكون جزء الوسط وجزئه الآخر هو الواقع المنكشف به ، وذلك كله واضح.
اعلم : أن القطع إما أن يتعلق بموضوع خارجي ، وإما أن يتعلق بحكم شرعي. فان تعلق بموضوع خارجي : إما أن يكون ذلك الموضوع ذا حكم شرعي مع قطع النظر عن تعلق القطع به ، وإما أن يكون لتعلق القطع به دخل في ثبوت
ص: 9
الحكم الشرعي ؛ ولا إشكال في أن القطع بالنسبة إلى الموضوع الخارجي يكون طريقا محضا لا يعقل أن يكون له دخل في عنوان ذلك الموضوع ، بل عنوان الموضوع أمر واقعي يدور مدار واقعه ، وكذا يكون طريقا محضا بالنسبة إلى الحكم الشرعي المترتب على ذلك الموضوع ، كما لو فرض أن وجوب الاجتناب رتب شرعا على نفس الخمر الواقعي ، فان العلم بالنسبة إليه يكون طريقا محضا ، ويكون العلم بالموضوع علما بالحكم بعد العلم بالكبرى الكلية المجعولة شرعا من وجوب الاجتناب عن الخمر.
وأما إذا لم يكن الموضوع الذي تعلق به العلم ذا حكم شرعي بل كان للعلم دخل في الحكم ، فهذا يتصور على وجوه : فإنه يمكن أن يكون العلم تمام الموضوع بحيث يدور الحكم مدار العلم وجودا وعدما صادف الواقع أو خالف ، كما لو فرض أن وجوب الاجتناب رتب شرعا على العلم بخمرية الشيء سواء صادف العلم الواقع أو خالف.
ويمكن أن يكون العلم جزء الموضوع بحيث يكون للواقع المنكشف بالعلم دخل في ثبوت الحكم أيضا ويكون الموضوع مركبا من العلم والواقع وينتفى الحكم قهرا بانتفاء أحدهما ، وعلى كلا التقديرين : يمكن أن يؤخذ العلم موضوعا على وجه الصفتية ، ويمكن أن يؤخذ على وجه الطريقية.
بيان ذلك : هو أن العلم لما كان ظاهرا بنفسه مظهرا لغيره وكان من الصفات الحقيقية ذي الإضافة وتكون جهة الحقيقية قائمة بنفس العالم من حيث قيام الصورة بنفسه التي هي المعلوم بالذات - على ما سيأتي الإشارة إلى بيانه - وجهة الإضافة قائمة بذى الصورة التي تكون معلومة بالعرض وبالغير من حيث كونه كاشفا ومظهرا لها ، فيمكن أن يؤخذ العلم من الجهة الأولى موضوعا لحكم وهو المراد من أخذه على نحو الصفتية ، ويمكن أخذه موضوعا من الجهة الثانية وهو المراد من أخذه على نحو الطريقية والكاشفية ، فتكون أقسام القطع المأخوذ في الموضوع أربعة : اخذه تمام الموضوع ، أو جزئه ، وعلى كلا التقديرين : أخذه على وجه الصفتية ، أو الطريقية.
ص: 10
نعم : في إمكان أخذه تمام الموضوع (1) على وجه الطريقية إشكال ، بل الظاهر أنه لا يمكن ، من جهة أن أخذه تمام الموضوع يستدعى عدم لحاظ الواقع وذي الصورة بوجه من الوجوه ، وأخذه على وجه الطريقية يستدعى لحاظ ذي الطريق وذي الصورة ويكون النظر في الحقيقة إلى الواقع المنكشف بالعلم ، كما هو الشأن في كل طريق ، حيث إن لحاظه طريقا يكون في الحقيقة لحاظا لذي الطريق ، ولحاظ العلم كذلك ينافي أخذه تمام الموضوع. فالانصاف أن أخذه تمام الموضوع لا يمكن إلا بأخذه على وجه الصفتية. وربما يأتي مزيد توضيح لهذه الأقسام الأربعة في المبحث الآتي. هذا كله إذا تعلق العلم بموضوع خارجي.
وأما إذا تعلق بحكم شرعي : فيمكن أيضا أخذه موضوعا لحكم آخر غير ما تعلق العلم به ، كما لو رتب وجوب التصدق على العالم بوجوب الصلاة ، ويأتي فيه الأقسام الأربعة : من كونه تمام الموضوع ، أو جزئه ، على وجه الطريقية ، أو الصفتية.
وأما أخذه موضوعا بالنسبة إلى نفس الحكم الذي تعلق العلم به فهو مما لا يمكن إلا بنتيجة التقييد. وتوضيح ذلك : هو أن العلم بالحكم لما كان من الانقسامات الحقة للحكم ، فلا يمكن فيه الاطلاق والتقييد اللحاظي لاستلزامه الدور ، كما أوضحناه ( في مبحث التعبدي والتوصلي ) وقلنا : إن أخذ العلم قيدا جزء أو شرطا أو مانعا مما لا يمكن في مرتبة الجعل والتشريع - كما هو الشأن في
ص: 11
الإنقسامات اللاحقة للمتعلق باعتبار تعلق الحكم به كقصد التعبد والتقرب في العبادات - وإذا امتنع التقييد امتنع الإطلاق أيضا ، لان التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة ، ولكن الإهمال الثبوتي أيضا لا يعقل ، بل لا بد إما من نتيجة الإطلاق أو من نتيجة التقييد ، فان الملاك الذي اقتضى تشريع الحكم ، إما أن يكون محفوظا في كلتي حالتي الجهل والعلم فلابد من نتيجة الاطلاق (1) وإما أن يكون محفوظا في حالة العلم فقط فلابد من نتيجة التقييد ، وحيث لم يمكن أن يكون الجعل الأولى متكفلا لبيان ذلك فلابد من جعل آخر يستفاد منه نتيجة الإطلاق أو التقييد ، وهو المصطلح عليه بمتمم الجعل ، فاستكشاف كل من نتيجة الإطلاق والتقييد يكون من دليل آخر.
وقد ادعي تواتر الأدلة على اشتراك الإحكام في حق العالم والجاهل ؛ ونحن وإن لم نعثر على تلك الأدلة سوى بعض أخبار الآحاد التي ذكرها « صاحب الحدائق » في مقدمات كتابه ، إلا أن الظاهر قيام الاجماع بل الضرورة على ذلك ، ومن هنا كان الجاهل المقصر معاقبا إجماعا. ومن تلك الأدلة والإجماع والضرورة يستفاد نتيجة الإطلاق وأن الحكم مطلق في حق العالم والجاهل. ولكن تلك
ص: 12
الأدلة قابلة للتخصيص وقد خصصت في غير مورد (1) كما في مورد الجهر والإخفات والقصر والإتمام ، حيث قام الدليل على اختصاص الحكم في حق العالم ، فقد اخذ العلم شرطا في ثبوت الحكم واقعا.
وكما يصح أخذ العلم بالحكم شرطا في ثبوت الحكم كذلك يصح أخذ العلم بالحكم من وجه خاص وسبب خاص مانعا عن ثبوت الحكم واقعا ، بحيث لا حكم مع العلم به من ذلك السبب. كما في باب القياس ، حيث إنه قام الدليل على أنه لا عبرة بالعلم بالحكم الحاصل من طريق القياس ، كما في رواية « أبان » في مسألة دية أصابع المرأة (2) حيث نهى (عليه السلام) عن العمل بالقياس ، مع أن « أبان » كان عالما بأن في قطع أربعة من أصابع المرأة يثبت أربعين من الإبل من طريق القياس ، ومن هنا تعجب من حكم الإمام علیه السلام بأنه يثبت ثلاثين من الإبل ، ومع ذلك نهى الإمام (عليه السلام) عن العمل بعلمه ، فقد أخذ العلم بالحكم من طريق القياس مانعا. وليس هذا في الحقيقة نهيا عن العمل بالعلم حتى يقال : إن ذلك لا يعقل من جهة أن طريقية العلم وكاشفيته ذاتية لا يمكن نفيها في عالم التشريع ولا يعقل التصرف في ناحية العلم بوجه من الوجوه ، بل مرجع ذلك إلى التصرف في المعلوم والواقع الذي أمره بيد الشارع ، فالتصرف يرجع إلى ناحية المتعلق لا إلى ناحية العلم ، وبعد الالتفات إلى هذا التصرف لا يمكن أن يحصل للمكلف علم بالحكم من طريق القياس ، إذ الحكم الواقعي قيد بغير ما أدى إليه القياس ، فكيف يمكن أن يحصل له العلم بالواقع من ذلك الطريق. نعم : لو لم يلتفت إلى هذا التصرف يحصل له العلم ، كما حصل ل « أبان » العلم بالحكم قبل نهى الإمام (عليه السلام).
ص: 13
وبذلك يمكن أن توجه مقالة الأخباريين « من أنه لا عبرة بالعلم الحاصل من الكتاب والسنة » بأن يقال : إن الأحكام الواقعية قيدت بنتيجة التقييد بما أدى إليها الكتاب والسنة ولا عبرة بغير ذلك. فلا يرد عليهم : ان ذلك غير معقول ، بل شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) نفي البعد عن كون الأحكام مقيدة بما إذا لم يكون المؤدى إليها مثل الجفر والرمل والمنام وغير ذلك من الطرق الغير المتعارفة.
وبما ذكرنا يرتفع ما ربما يستشكل (1) في عبارة الشيخ ( قده ) من جعله مقالة الأخباريين من أمثله العلم المأخوذ موضوعا ، مع أنه لا يمكن أخذ العلم موضوعا بالنسبة إلى نفس متعلقه ، فإنه بالبيان الذي ذكرنا ظهر أنه لا مانع من أخذ العلم موضوعا بالنسبة إلى نفس متعلقه إذا كان حكما شرعيا بنتيجة التقييد.
فتحصل من جميع ما ذكرناه : أن العلم إذا تعلق بموضوع خارجي فالعلم بالنسبة إلى ذلك الموضوع يكون طريقا محضا ، وبالنسبة إلى أحكام ذلك الموضوع يمكن أن يكون طريقا ، ويمكن أن يكون موضوعا ، وإذا تعلق بحكم شرعي فيمكن أن يكون بالنسبة إلى حكم آخر موضوعا ، كما أنه يمكن أن يكون موضوعا بالنسبة إلى نفس ذلك الحكم لكن بنتيجة التقييد ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه حتى لا تبادر بالإشكال ، هذا كله إذا تعلق العلم بالحكم الشرعي.
وأما الأحكام العقلية : فالعلم فيها دائما يكون موضوعا ، من غير فرق بين الإرشاديات العقلية أو مستقلاتها ، فان حكم العقل بحسن شيء أو قبحه لا يكون إلا بعد العلم والالتفات إلى الموضوع العقلي ، فلا يحكم العقل بقبح التصرف في مال الناس إلا بعد الالتفات إلى كونه مال الناس ، على اختلاف الأحكام
ص: 14
العقلية ، من حيث إن للعقل حكم واحد أو حكمين ، على ما سيأتي توضيحه في محله ( إنشاء اللّه تعالى ).
في قيام الطرق والأمارات والأصول بنفس أدلة اعتبارها مقام القطع بأقسامه.
وتفصيل ذلك يستدعى تقديم أمور :
الأمر الأول : المراد من الأصول المبحوث عنها في المقام من حيث قيامها مع القطع ليس مطلق الأصول ، بل خصوص الأصول التنزيلية - أي المتكفلة لتنزيل المؤدى منزلة الواقع - بحيث يكون المجعول فيها البناء العملي (1)
ص: 15
على أحد طرفي الشك على أنه هو الواقع وإلقاء الطرف الآخر كالاستصحاب ، وأصالة الصحة ، وقاعدة التجاوز ، وأمثال ذلك من الأصول المحرزة - كما يأتي تفصيله إنشاء اللّه تعالى في محله - فمثل أصالة الطهارة والبرائة والاشتغال ليس داخلا في محل الكلام في المقام ، ولذا قيد الشيخ ( قده ) ببعض الأصول (1).
الأمر الثاني : قد عرفت أن القطع من الصفات الحقيقية ذات إضافة ، ولأجل ذلك يجتمع في القطع جهات ثلاث :
الجهة الأولى : جهة كونه صفة قائمة بنفس العالم من حيث إنشاء النفس في صقعها الداخلي صورة على طبق ذي الصورة ، وتلك الصورة هي المعلومة بالذات ، ولمكان انطباقها على ذي الصورة ، يكون ذيها معلوما بتوسط تلك الصورة ، فالمعلوم أولا وبالذات هي الصورة ، وتلك الصورة هي حقيقة العلم والمعلوم ، وهذا من غير فرق بين أن نقول : إن العلم من مقولة الكيف ، أو من مقولة الفعل ، أو من مقولة الانفعال ، أو من مقولة الإضافة - على اختلاف الوجوه والأقوال - فإنه على جميع التقادير تكون هناك صفة قائمة في نفس العالم ، فهذه أول جهات العلم.
الجهة الثانية : جهة إضافة الصورة لذي الصورة ، وهي جهة كشفه عن المعلوم ومحرزيته له وإرائته للواقع المنكشف ، وهذه الجهة مترتبة على الجهة الأولى ، لما عرفت من أن إحراز الواقع وكشفه إنما يكون بتوسط الصورة.
ص: 16
الجهة الثالثة : جهة البناء والجري العملي على وفق العلم ، حيث إن العلم بوجود الأسد مثلا في الطريق يقتضي الفرار عنه ، وبوجود الماء يوجب التوجه إليه إذا كان العالم عطشانا ، ولعله لذلك سمى العلم اعتقادا ، لما فيه من عقد القلب على وفق المعتقد والبناء العملي عليه.
فهذه الجهات الثلاث كلها مجتمعة في العلم وتكون من لوازم ذات العلم ، حيث إن حصول الصورة عبارة عن حقيقة العلم ومحرزيته وجداني والبناء العملي عليه قهري.
ثم إن المجعول في باب الطرق والأمارات هي الجهة الثانية من جهات العلم ، وفي باب الأصول المحرزة هي الجهة الثالثة ، وتوضيح ذلك هو أن المجعول في باب الأمارات نفس الطريقية والمحرزية والكاشفية ، بناء على ما هو الحق عندنا : من تعلق الجعل بنفس الطريقية ، لا بمنشأ انتزاعها ، كما هو مختار الشيخ ( قده ) - وسيأتي إنشاء اللّه تفصيله في مبحث الظن - وأن تصوير ما يكون منشأ لانتزاع الطريقية في غاية الإشكال بل كاد أن يكون من المحالات. وليس المجعول في باب الأمارات هو المؤدى بحيث يتعلق حكم بالمؤدى غير ما للمؤدى من الحكم الواقعي ، فان ذلك غير معقول كما سيأتي ، بل المجعول هو الطريقية والوسطية في الإثبات والكاشفية عن الواقع ، أي تتميم الكاشفية بعد ما كان في الطرق والأمارات جهة كشف في حد أنفسها ، غايته أن كشفها ناقص وليس ككاشفية العلم.
ومن هنا اعتبرنا في كون الشيء أمارة من أن يكون له في حد ذاته جهة كشف ، والشارع في مقام الشارعية تمم كشفه وجعله محرزا للواقع ووسطا لاثباته ، فكأن الشارع في عالم التشريع جعل الظن علما من حيث الكاشفية والمحرزية بلا تصرف في الواقع ولا في المؤدى ، بل المؤدى بعد باق على ما هو عليه من الحكم الواقعي صادفت الأمارة للواقع أو خالفت ، لأنه يكون من مصادفة الطريق أو مخالفة الطريق لذي الطريق من دون توسعة في
ص: 17
الواقع وتنزيل شيء آخر منزلة الواقع ، فان كل ذلك لم يكن ، بل المجعول هو نفس الطريقية والكاشفية والمحرزية (1) التي كان القطع واجدا لها بذاته والظن يكون واجدا لها بالتعبد والجعل الشرعي ، فهذا هو المجعول في باب الطرق والأمارات.
ص: 18
وأمّا المجعول في باب الأصول التنزيلية فهي الجهة الثالثة من العلم ، وهو الجري والبناء العملي على الواقع من دون أن يكون هناك جهة كشف وطريقية ، إذ ليس للشك الذي اخذ موضوعا في الأصول جهة كشف عن الواقع كما كان في الظن - فلا يمكن أن يكون المجعول في باب الأصول الطريقية والكاشفية ، بل المجعول فيها هو الجري العملي والبناء على ثبوت الواقع عملا الذي كان ذلك في العلم قهريا وفي الأصول تعبديا.
ومما ذكرنا ظهر : أن حكومة الطرق والأمارات والأصول على الأحكام الواقعية ليست الحكومة الواقعية ، مثل قوله « الطواف بالبيت صلاة » (1) وقوله « لا شك لكثير الشك » (2) بل الحكومة الظاهرية.
والفرق بين الحكومة الواقعية والحكومة الظاهرية ، هو أن الحكومة الواقعية توجب التوسعة والتضيق في الموضوع الواقعي ، بحيث يتحقق هناك موضوع آخر واقعي في عرض الموضوع الأولى كما في قوله « الطواف بالبيت صلاة » وهذا بخلاف الحكومة الظاهرية مع ما لها من العرض العريض : من حكومة الأمارات بعضها على بعض ، وحكومتها على الأصول ، وحكومة الأصول بعضها على بعض ، وحكومة الجميع على الأحكام الواقعية ، فإنه ليس في الحكومة الظاهرية توسعة وتضييق واقعي ، إلا بناء على بعض وجوه جعل المؤدى الذي يرجع إلى التصويب. وأما بناء على المختار : من عدم جعل المؤدى وأن المجعول فيها هو الوسطية في الإثبات والكاشفية والمحرزية ، فليس هناك توسعة وتضييق واقعي ، وحكومتها إنما تكون باعتبار وقوعها في طريق إحراز
ص: 19
الواقع في رتبة الجهل به ، فيكون المجعول في باب الطريق والأمارات والأصول في طول الواقع لا في عرضه. وليس للشارع حكمان : حكم واقعي وحكم ظاهري ، بأن يكون تكليفان مجعولان شرعيان : أحدهما تكليف واقعي ، والآخر تكليف ظاهري ، فان التكليف الظاهري بهذا المعنى مما لا نعقله.
والمراد من كون مؤديات الطرق والأصول أحكاما ظاهرية هو كونها مثبتة للواقع عند الجهل والحكم بأن مؤدياتها هو الواقع لمكان كونها محرزة له ، وليس هناك حكم آخر وراء الواقع يسمى بالحكم الظاهري ، كما ربما يتخيل.
فظهر : أن ما بين الحكومة الواقعية والحكومة الظاهرية بون بعيد ، وأن حكومة الأمارات إنما تكون حكومة ظاهرية واقعة في طول الواقع وفي طريق إحرازه ، ويكون المجعول فيها نفس المحرزية ، والتنجيز والعذر من اللوازم العقلية المترتبة على ما هو المجعول ، لوضوح أن التنجز لا يكون إلا بالوصول إلى الواقع وإحرازه ، إما بنفسه ( كما في العلم والطرق والأمارات والأصول المتكفلة للتنزيل ) وإما بطريقه ( كما في موارد جريان أصالة الاحتياط ) على ما سيأتي توضيحه في محله. وعلى كل حال : نفس التنجيز والعذر غير قابل للجعل ، كما ربما يوهمه بعض الكلمات ، وإنما الذي يكون قابلا للجعل هو المحرزية والوسطية في الإثبات ليكون الواقع واصلا إلى المكلف ، ويلزمه عقلا تنجيز الواقع.
الأمر الثالث : قد ظهر مما ذكرنا : أنه ليس لنا واقع حقيقي وواقع جعلي ، وعلم بالواقع الحقيقي وعلم بالواقع الجعلي ، بأن يكون للواقع فردان : فرد حقيقي وفرد جعلي ، وللعلم فردان : علم بالواقع الحقيقي وعلم بالواقع الجعلي ، فان ذلك كله مبنى على جعل المؤدى ، فيصح أن يقال - بنحو من المسامحة - إن للخمر مثلا فردان : خمر واقعي وخمر جعلي تعبدي ، وكذا للعلم فردان : علم بالخمر وعلم بالخمر التعبدي. وأما بناء على عدم جعل المؤدى فليس للخمر إلا فرد واحد ، وهو الخمر الواقعي ، والإحراز إنما يتعلق به. نعم : هناك علم
ص: 20
بحجية الطرق والأصول ، وهذا غير العلم بالواقع الجعلي.
إذا عرفت ذلك فاعلم : أن الوجوه أو الأقوال في قيام الطرق والأمارات والأصول التنزيلية مقام القطع ثلاثة :
الأول : قيامها مقامه بجميع أقسامه حتى فيما إذا اخذ موضوعا على نحو الصفتية.
الثاني : عدم قيامها مقام ما اخذ في الموضوع مطلقا ولو على نحو الطريقية والكاشفية.
الثالث : قيامها مقام القطع الطريقي مطلقا ولو كان مأخوذا في الموضوع ، وعدم قيامها مقام القطع الصفتي ، وهذا هو الأقوى ، فان ما ذكر مانعا عن قيامها مقام القطع المأخوذ موضوعا على وجه الطريقية - من استلزام الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي في لحاظ واحد - ضعيف غايته ، فان الاستلزام المذكور مبنى على جعل المؤدى الذي قد تبين فساده. وأما على المختار : من أن المجعول في باب الطرق والأمارات هو نفس الكاشفية والمحرزية والوسطية في الإثبات ، فيكون الواقع لدى من قامت عندي الطرق محرزا كما كان في صورة العلم ، والمفروض أن الأثر مترتب على الواقع المحرز ، فان ذلك هو لازم أخذ العلم من حيث الكاشفية موضوعا ، وبنفس دليل حجية الأمارات والأصول يكون الواقع محرزا فتقوم مقامه بلا التماس دليل آخر (1) وتركيب
ص: 21
الموضوع من الواقع والإحراز ليس على حد الموضوع المركب من الأجزاء العرضية كالصلاة ، فان الأجزاء العرضية تحتاج إلى أن تكون كل منها محرزة بالوجدان ، أو بالتعبد ، أو بعضها بالوجدان وبعضها بالتعبد ، ولا يكون إحراز أحد الأجزاء إحرازا للآخر أو التعبد بأحدهما تعبدا بالآخر ، بل يحتاج كل منها إلى تعبد مستقل أو إحراز مستقل ، وهذا بخلاف التركيب من الشيء وإحرازه ، فإنه بنفس إحراز ذلك الشيء يتحقق كلا جزئي الموضوع ولا يحتاج إلى احرازين أو تعبدين ، بل لا معنى لذلك ، فلو فرض أن الشارع جعل الظن محرزا للواقع فبنفس جعله يتحقق كلا جزئي الموضوع ، ولا يحتاج إلى جعلين حتى يقال : إنه ليس في البين جعلان والجعل الواحد لا يمكن أن يتكفل كلا الجزئين لاستلزامه الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي ، حيث إن تنزيل الظن منزلة العلم باعتبار المودى يرجع في الحقيقة إلى تنزيل المظنون منزلة المعلوم ، فيكون النظر إلى الظن والعلم نظرا مرآتيا ، وتنزيل الظن منزلة العلم باعتبار نفسه وبما أنه جزء الموضوع يرجع في الحقيقة إلى لحاظ الظن والعلم شيئا بحيال ذاته ، ويكون النظر إليهما نظرا استقلاليا ولا يمكن الجمع بين اللحاظين في جعل واحد ، لا لمكان أنه ليس هناك مفهوم عام يجمعهما ، كما يقال : إن الجمع بين الشيئين في استعمال واحد لا يمكن لعدم الجامع بينهما ، بل لمكان عدم إمكان الجمع بين اللحاظين لتنافيهما ذاتا. وهذا الاشكال قد كان دائرا على ألسنة أهل العلم من زمن الشيخ ( قده ) إلى زماننا هذا ، على ما حكاه شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) وقد تبين أنه لا موضوع لهذا الإشكال ولا محمول ، فان مبنى الإشكال هو تخيل أن المجعول في باب الطرق والأمارات والأصول هو المؤدى وتنزيله منزلة الواقع والخلط بين الحكومة الواقعية والحكومة
ص: 22
الظاهرية ، فيقال : إن في قيام الظن مقام العلم المأخوذ موضوعا يحتاج إلى تنزيلين : تنزيل المظنون منزلة المقطوع ، وتنزيل الظن منزلة القطع ، وأنت بعد ما عرفت حقيقة المجعول في باب الأمارات والأصول ظهر لك : انه ليس في البين تنزيل أصلا ، بل الشارع إنما أعطى صفة المحرزية للظن ، فيرتفع الإشكال من أصله.
فان قلت : هب ان المجعول في باب الأمارات والأصول ذلك ، إلا أن الذي اخذ جزء الموضوع في ظاهر الدليل هو العلم والإحراز الوجداني ، وبأي دليل تقولون : إن الإحراز التعبدي يقوم مقام الإحراز الوجداني؟.
قلت : يمكن التفصي عن هذه بوجوه :
الأول : دعوى أن المراد من العلم الذي اخذ في ظاهر الدليل موضوعا هو العنوان الكلي - أي عنوان المحرز - بلا أخذ الإحراز الوجداني قيدا له (1) غايته أنه لولا جعل الشارع الطرق والأصول محرزة كان مصداق عنوان المحرز منحصرا بالمحرز الوجداني ، وبعد ذلك الجعل الشرعي يتحقق مصداق آخر
ص: 23
للمحرز ، كما هو الشأن في جميع العناوين الكلية ، كما يقال في الشمس : إنها كوكب نهاري ناسخ ضوئه وجود الليل ولكن في الخارج منحصر في الفرد ، فلو فرض أنه وجد فرد آخر مثل هذا الموجود كان أيضا من مصاديق ذلك العنوان ، فكذا يقال في العلم وأنه عبارة عن عنوان « المحرز » ويكون الموضوع في الحقيقة هو هذا العنوان ، وبالتعبد الشرعي يتحقق مصداق آخر لعنوان « المحرز » هذا.
ولكن للمنع عن هذا الدعوى مجال ، من جهة أن هذا في الحقيقة يرجع إلى البحث اللغوي وأن العلم موضوع لكلي المحرز أو لخصوص المحرز الوجداني ، ولا سبيل إلى إثبات أنه موضوع للعنوان الكلى.
الثاني : دعوى استخراج المناط نظير العلة المستنبطة ، بأن يقال : إنه وإن كان المأخوذ في لسان الدليل هو خصوص العلم والإحراز الوجداني ، إلا أنه نقطع بأنه ليس للوجدان دخل ، بل المناط هو جهة الإحراز الموجودة في الظن أيضا بعد اعتباره شرعا ، هذا وللمنع عن هذه الدعوى أيضا مجال ، فإنها موقوفة على استخراج المناط القطعي ولا سبيل إلى إثبات ذلك.
الثالث : ( وهو الذي يحسم مادة الإشكال ) دعوى أن ذلك من مقتضيات حكومة أدلة الطرق والأمارات والأصول على الواقعيات (1) بالبيان
ص: 24
المتقدم من معنى الحكومة وأنها ظاهرية لا واقعية وأن حكومتها لأجل كونها واقعة في طريق إحراز الواقعيات فتكون حاكمة على كلا جزئي الموضوع : من الواقع ومن الإحراز ، بل حكومتها على الواقع لمكان كونها محرزة له ، فتكون حكومتها على أحد جزئي الموضوع انما هي بعناية حكومتها على الجزء الآخر وهو الإحراز فأي أثر رتب في الشريعة على العلم بما أنه محرز يترتب على الطرق والأمارات والأصول المحرزة ولو كان ذلك الأثر من جهة دخله في الموضوع وكونه جزئه ، فإنه يكفي هذا المقدار من الأثر في صحة التعبد ولا يتوقف على أن يكون تمام الموضوع.
والحاصل : أن نتيجة الحكومة الظاهرية هي التوسعة في الإحراز وأنه أعم من الإحراز الوجداني ، وإلا لم يكن للحكومة معنى ، وبملاحظة هذه الحكومة صح أن يقال : إن الموضوع هو الأعم من الإحراز الوجداني وهو العنوان الكلي ، لكن لا لمكان أن معنى العلم ذلك - كما هو مفاد الوجه الأول - بل لمكان الحكومة وأن نتيجتها تكون ذلك.
فظهر : أن في قيام الطرق والأمارات والأصول مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية لا يحتاج إلى التماس دليل آخر غير أدلة حجيتها ، وأن قيامه مقامه من لوازم حجيتها وحكومتها على الأحكام الواقعية بالحكومة الظاهرية.
هذا إذا اخذ العلم في الموضوع على وجه الطريقية ، وأما إذا لم يؤخذ في موضوع أصلا وكان طريقا عقليا محضا فقيامها مقامه أولى ، لأن الواقع يكون
ص: 25
حينئذٍ مرسلا غير مقيد بقيد ، والمفروض أنها مثبتة للواقع فلا مانع من قيامه مقامه.
وأما قيامها مقام القطع المأخوذ على جهة الصفتية فلا يمكن ، لأنه يكون حينئذ كسائر الصفات النفسانية ومفاد حجية الطرق والأمارات أجنبي عن إفادة ذلك ، فان مفادها الوسطية في الإثبات وإحراز الواقع ، وأين هذا من تنزيل الظن منزلة القطع من حيث الصفتية! فقيام الظن مقام القطع من هذه الجهة يحتاج إلى دليل آخر وراء أدلة الحجية.
وظاهر عبارة الشيخ ( قده ) أنه هو لو قام دليل آخر على قيام الظن منزلة العلم من هذه الجهة يكون مفاد ذلك الدليل مفاد أدلة حجية الطرق والأمارات من حيث قيامها مقام العلم الطريقي ، أي يكون مدلول ذلك الدليل من سنخ مدلول الأمارات من حيث كونه حكما ظاهريا.
ولا يخفى ما فيه ، فإنه لو فرض أنه قام دليل على تنزيل الظن منزلة العلم من هذه الجهة يكون ذلك من التنزيل الواقعي والتعميم في ناحية الموضوع واقعا من قبيل قوله « الطواف بالبيت صلاة » وليس ذلك من الحكم الظاهري ، لما تقدم من أن الحكم الظاهري ما كان في طول الواقع وواقعا في طريق إحرازه ، وأين هذا من تنزيل صفة مقام صفة أخرى ، فإن الظن حينئذ لم يعتبر من حيث إحرازه للمتعلق ، بل من حيث إنه صفة ، فيكون في عرض العلم موضوعا واقعيا لحكم واقعي ، وذلك واضح.
والذي يسهل الخطب أنه لم نعثر في الفقه على مورد اخذ العلم فيه موضوعا على وجه الصفتية ، والأمثلة التي ذكرها الشيخ ( قده ) في الكتاب ليس شيء منها من هذا القبيل ، فان العلم في باب الشهادة اخذ من حيث الطريقية ، ولذا جاز الشهادة في موارد اليد ، كما دلت عليه رواية ( حفص ) (1) وفي باب
ص: 26
الركعتين الأولتين لم يؤخذ فيهما على نحو الصفتية ، بل على نحو الطريقية ، كما يدل على ذلك بعض الأخبار الواردة في ذلك الباب قوله علیه السلام : « حتى تثبتهما أو تحرزهما » (1) وأمثال ذلك من التعبيرات الظاهرة في أن العلم اعتبر من حيث الطريقية. وبالجملة : ظاهر العلم مهما اخذ في لسان الدليل هو العلم الطريقي ، وإرجاعه إلى العلم الصفتي يحتاج إلى قرينة لم نعثر عليها في شيء من المقامات.
ثم إن للمحقق الخراساني ( قده ) كلام في حاشيته على « الفرائد » في وجه قيام الطرق والأصول مقام القطع بجميع أقسامه ، حتى بما اخذ على وجه الصفتية ( وقد عدل عنه في الكفاية ) وحاصل ما أفاده في « الحاشية » هو أن أدلة الطرق والأمارات إنما توجب تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، ولمكان العلم بحجية الأمارات يتحقق العلم بالمؤدى وأنه بمنزلة الواقع ، وهناك ملازمة عرفية بين تنزيل المؤدى منزلة الواقع وتنزيل العلم بالمؤدى وأنه بمنزلة الواقع منزلة العلم بالواقع ، فيتحقق كلا جزئي الموضوع بلا استلزامه الجمع بين اللحاظين الآلي والاستقلالي ، فإن أدلة الأمارات لم تتكفل إلا لتنزيل المؤدى فقط ، وكان تنزيل العلم بالمؤدى منزلة العلم بالواقع بالملازمة العرفية بين التنزيلين ، فكأنه تحقق كل جزء من جزئي الموضوع بدليل يخصه ، كما أنه لو قام دليل بالخصوص في ما اخذ العلم جزء الموضوع على تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، فإنه بدلالة الاقتضاء وصون كلام الحكيم عن اللغوية لابد من تنزيل العلم به منزلة العلم بالواقع ، لأن المفروض أنه لا أثر للواقع حتى ينضم إليه العلم ، هذا إذا قام دليل بالخصوص على تنزيل المؤدى فيما اخذ العلم جزء الموضوع.
وأما الأدلة العامة لحجية الطرق والأمارات فدلالة الاقتضاء لا تقتضي ذلك ، لأنه لو لم ينزل العلم بالمؤدى منزلة العلم بالواقع لا يلزم لغوية
ص: 27
جعل الحجية إذ يبقى لها مورد ، وهو ما إذا كان الأثر مترتبا على نفس المودى بلا دخل للعلم فيه ، ولكن مع ذلك الملازمة العرفية تقتضي تنزيل أحد العلمين منزلة الآخر.
هذا حاصل ما أفاده في « الحاشية » ورده في « الكفاية » بما حاصله :
ان ذلك يستلزم الدور المحال (1) فان تنزيل المؤدى منزلة الواقع فيما كان للعلم دخل لا يمكن إلا بعد تحقق العلم في عرض ذلك التنزيل ، فإنه ليس للواقع أثر يصح بلحاظه التنزيل ، بل الأثر مترتب على الواقع والعلم به ، والمفروض أن العلم بالمؤدى يتحقق بعد تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، فيكون التنزيل موقوفا على العلم والعلم موقوفا على التنزيل ، وهذا دور محال ، هذا.
ولكن لا يخفى عليك : أنه لا ينحصر الإشكال على ما أفاده في « الحاشية » بالدور ، بل مضافا إلى الدور يرد عليه :
أولا : ان ذلك مبنى على أن يكون المجعول في باب الطرق والأمارات هو المؤدى ، وقد تقدم فساده وأن جعل المؤدى يوجب التصويب (2) ويقتضي أن تكون الحكومة واقعية لا ظاهرية ، وهذا ينافي ما عليه المخطئة ، وسيأتي أيضا تفصيل ذلك ( إن شاء اللّه تعالى ) في باب جعل الطرق والأمارات.
وثانيا : ان المفروض أن الموضوع مركب من العلم ومتعلقه ، و
ص: 28
التركيب من العلم ومتعلقه ليس على حد سائر الموضوعات المركبة من الأمور المتباينة كالصلاة ، فان المركب من الأمور المتباينة يقتضي أن يكون لكل من الأجزاء إحراز يخصه ، وقد يكون إحراز بعض الأجزاء متقدما زمانا أو رتبة على إحراز الجزء الآخر ، ولا يتوقف إحراز أحدها على إحراز البقية. نعم : الأثر يتوقف على إحراز الجميع ، إما بالوجدان ، وإما بالتعبد ، وهذا بخلاف الموضوع المركب من العلم ومتعلقه (1) فإنه لا يمكن أن يتعلق بكل من العلم والمتعلق إحراز يخصه ، إذ ليس للإحراز إحراز ولا يتعلق العلم بالعلم ، بل بنفس إحراز المتعلق يتحقق كلا جزئي المركب في زمان واحد وفي مرتبة واحدة ، ولا يعقل أن يتقدم إحراز المتعلق على إحراز الجزء الآخر ، وإحراز المتعلق ، إما أن يكون بالعلم الوجداني كما إذا علم وجدانا بالملكية فيجوز له الشهادة لصاحبها - بناء على أخذ العلم جزء لموضوع الشهادة - وإما أن يكون بالتعبد الشرعي بجعل ما يكون محرزا للمتعلق ، فيتحقق أيضا كلا الجزئين بنفس الجعل الشرعي كما كان يتحقق بالعلم الوجداني. وهذا إنما يستقيم بناء على بيناه : من أن المجعول في باب الطرق والأمارات نفس الوسطية في الإثبات والمحرزية للمتعلق ، فيتحقق كلا جزئي الموضوع بنفس هذا الجعل ، بلا حاجة إلى جعلين ولحاظين.
وأما لو بنينا على تعلق الجعل بالمؤدى : فهذا الجعل بنفسه لا يوجب تحقق كلا الجزئين ، إذ الإحراز لم يتحقق بهذا الجعل ، وبعد ذلك يستحيل أن يتحقق جزئه الآخر ، لما عرفت : من أن الموضوع المركب من الإحراز ومتعلقه
ص: 29
يتحقق كلا جزئيه في مرتبة واحدة ولا يتقدم إحراز أحدهما على الآخر ، ولا يمكن أن يصير الإحراز بشيء آخر غير الملكية مثلا في المثال المتقدم جزء موضوع الشهادة بعد ما اخذ جزء الموضوع هو إحراز نفس الملكية ، والإحراز الحاصل من تنزيل المؤدى هو إحراز الحجية والعلم بها ، وأين ذلك من العلم بالملكية؟ وكيف ينضم العلم بالحجية إلى الملكية التي هو مؤدى الإمارة ويلتئم جزئي الموضوع من الإحراز والملكية مع أن الموضوع هو إحراز الملكية (1) فتأمل. (2).
فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن قيام الطرق والأصول مقام العلم الطريقي لا يحتاج إلى كلفة جعلين ولحاظين ، بل نفس أدلة حجيتها تفي بذلك بعد ما كانت حجيتها عبارة عن وسطيتها في الإثبات ووقوعها في طريق إحراز الواقع وكونها محرزة له - كما هو الشأن في الطرق العقلائية - بل الظاهر أنه ليس للشارع طريق مخترع ، بل الطرق الشرعية كلها إمضاء لما في يد العقلاء من الطرق المحرزة لمؤدياتها ، ولكونها واقعة في طريق إحراز الواقع كان حكومتها حكومة ظاهرية ، ويستقيم حينئذ جميع ما فرع على ذلك مما يقتضيه أصول المخطئة من عدم الإجزاء وإيجاب الإعادة والقضاء عند المخالفة ، وهذا بخلاف ما إذا كان المجعول هو المؤدى ، فإنه يكون من الحكومة الواقعية ولابد حينئذ من القول بالإجزاء ، ويكون ذلك من التصويب المعتزلي. على ما سيأتي تفصيله.
ثم إن شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) قد تعرض في المقام لوجه حكومة الأمارات على الأصول ، وحكومة الأمارات والأصول بعضها على بعض ، وأن
ص: 30
الحكومة في الجميع تكون حكومة ظاهرية ومن شؤون حكومتها على الواقعيات ، ونحن قد استقصينا الكلام في ذلك في خاتمة الاستصحاب فراجع (1) هذا تمام الكلام في أقسام القطع وأحكامها.
وأما الظن : فمجمل الكلام فيه ، هو أن الظن ليس كالعلم حجيته منجعلة ومن مقتضيات ذاته ، بل لابد وأن تكون حجيته بجعل شرعي.
وما يقال : من أن الظن في حال الانسداد على الحكومة يكون حاله كالعلم لم تكن حجيته بجعل شرعي بل عقلية محضة وليس موردا لحكم شرعي - ولو بقاعدة الملازمة - فضعيف غايته ، فإن الظن لا يكون حجة عقلية في شيء من الحالات ، ولا تكون منجعلة كالعلم ، واعتبار الظن في حال الانسداد بناء على الحكومة ليس معناه حجية الظن عقلا بحيث يقع في طريق إحراز الواقعيات إثبات التكاليف به ، بل معناه كفاية الامتثال الظني في الخروج عن عهد التكاليف المعلومة إجمالا ، فالحكم العقلي واقع في طريق الامتثال والإطاعة ، لا في طريق الإثبات والإحراز حتى يكون الظن حجة عقلية ، وسيأتي توضيح ذلك مفصلا ( إن شاء اللّه تعالى ) في محله (2) وبالجملة : حجية الظن لا تكون منجعلة في شيء من الحالات ، بل إما أن يكون حجة شرعية ، وإما أن لا يكون ، ولا ثالث لهما.
ثم ما يكون حجة شرعية لإثبات متعلقه وواقعا في طريق إحرازه تارة : يؤخذ موضوعا لحكم آخر غير حكم متعلقه لا يضاده ولا يماثله ، كما إذا قال « إذا ظننت بعدد ركعات الصلاة يجب عليك التصدق » حيث إن الظن الذي هو حجة في عدد ركعات الصلاة ومحرز لها شرعا اخذ موضوعا لوجوب
ص: 31
التصدق. وأخرى : يؤخذ موضوعا لما يضاد حكم متعلقه. وثالثة : لما يماثله. ورابعة : يؤخذ موضوعا لنفس حكم المتعلق ، هذا فيما إذا كان حجة شرعية لإثبات متعلقه ، وكذا الحال فيما إذا لم يكن حجة شرعية ، فإنه يجرى فيه هذه الأقسام الأربعة.
وعلى جميع التقادير : تارة يؤخذ على وجه الصفتية ، وأخرى على وجه الطريقية ، تمام الموضوع أو جزئه ، ولكن هذه غالبا مجرد تصورات لا واقع لها ، بل بعضها محال لا يعقل. والذي هو واقع في الشريعة ليس إلا اعتبار الظن على وجه الطريقية والكاشفية والمحرزية لمتعلقه الذي هو مفاد أدلة حجية الطرق والأمارات ، من دون أن يؤخذ الظن موضوعا لحكم آخر. هذا هو الواقع.
وأما الذي يمكن أن يقع عليه : فهو أنه لا إشكال في إمكان أخذه موضعا لحكم آخر لا يضاد حكم متعلقه ولا يماثله ، سواء كان الظن حجة وطريقا شرعا إلى متعلقه أو لم يكن ، وسواء أخذ على وجه الصفتية أو الطريقية ، وسواء كان تمام الموضوع أو جزئه - على إشكال فيما اخذ تمام الموضوع على وجه الطريقية - وقد تقدم في العلم (1).
وأما أخذه موضوعا لمضاد حكم متعلقه فلا يمكن مطلقا ، من غير فرق بين أن يكون حجة لاثبات متعلقه أو لم يكن ، ومن غير فرق بين أخذه على وجه الصفتية أو الطريقية ، تمام الموضوع أو جزئه ، لأنه يلزم اجتماع الضدين ولو في الجملة (2) وفي بعض الموارد على كل حال ، ولا يندرج في مسألة اجتماع الأمر والنهي كما توهم ، فان مسألة اجتماع الأمر والنهي إنما هي فيما
ص: 32
إذا كانت نسبة العموم من وجه بين نفس متعلق التكليف ، وهو الفعل الصادر على المكلف - كالصلاة والغصب - بالشرائط المتقدمة في محله ، وأين هذا مما نحن فيه مما يؤخذ الظن موضوعا لمضاد حكم متعلقه؟ فإنه يلزم اجتماع الأمر والنهي في محل واحد ، مثلا لو فرض أن حكم الخمر واقعا هو الحرمة وحكم مظنون الخمرية هو الوجوب ، ففي صورة مصادفة الظن للواقع يلزم اجتماع الوجوب والحرمة ، بل في صورة أخذ الظن جزء الموضوع دائما يلزم اجتماع الضدين في الواقع وعالم الجعل.
هذا إذا تعلق الظن بموضوع خارجي ، وكذا لو تعلق بحكم شرعي ، كما لو فرض أن حكم صلاة الجمعة هو الوجوب والظن بهذا الوجوب اخذ موضوعا للحرمة ، فإنه يلزم أيضا اجتماع الضدين في صلاة الجمعة على كل حال ، وذلك واضح.
وأما لو اخذ موضوعا لمماثل حكم متعلقه ، فإن لم يكن الظن حجة شرعية لإثبات متعلقه فلا مانع من أخذه كذلك ، غايته أنه في صورة مصادفة الظن للواقع يتأكد الحكمان ، كما هو الشأن في اجتماع كل عنوانين على موضوع واحد ، ولا يلزم اجتماع المثلين ، فإن اجتماع المثلين المستحيل إنما هو فيما إذا تعلق حكم على موضوع بعنوان ثم يتعلق حكم آخر مماثل لذلك الحكم على ذلك الموضوع بذلك العنوان. وأما إذا تعلق حكم على موضوع مع قطع النظر عن الطوارئ ثم تعلق حكم مماثل على ذلك الموضوع باعتبار الطوارئ ، فهذا ليس من اجتماع المثلين ولو كانت النسبة بين ذلك الموضوع وبين الطوارئ العموم المطلق ، فإنه في صورة الاجتماع يتأكد الحكمان (1) ويتولد منهما حكم واحد آكد ، في موارد تعلق
ص: 33
النذر بالواجب - حيث يتأكد الوجوب - وتعلق الظن بشيء من الطوارئ ، فيمكن أن يكون حكم الخمر واقعا هو الحرمة ومظنون الخمرية أيضا حكمه الحرمة وفي صورة مصادفة الظن للواقع يتأكد حرمته ، هذا إذا لم يكن الظن طريقا محرزا لحكم متعلقه ولم يكن حجة شرعية لذلك.
وأما الظن المحرز لمتعلقه وما يكون حجة شرعية عليه : فلا يمكن أن يؤخذ موضوعا لحكم المماثل ، فإن الواقع في طريق إحراز الشيء لا يكون من طوارئ ذلك الشيء ، بحيث يكون من العناوين الثانوية الموجبة لحدوث ملاك في ذلك الشيء غير ما هو عليه من الملاك ، فلو كان حكم الخمر في الواقع هو الحرمة فلا يمكن أن يكون إحراز تلك الحرمة موجبا لطرو حكم آخر على الخمر المحرز ، لأن الحكم الثاني لا يصلح لأن يكون باعثا ومحركا لإرادة العبد ، فإن الانبعاث إنما يتحقق بنفس إحراز الحكم الواقعي المجعول على الخمر ، فلا معنى لجعل حكم آخر على ذلك المحرز ، ولذلك لا يعقل أخذ العلم موضوعا لحكم مماثل للمتعلق أو لحكم المتعلق ، من جهة أن العلم بالشيء لا يكون من طوارئ ذلك الشيء الموجبة لملاك آخر غير ما هو عليه.
والفرق بين العلم والظن ، هو أنه في العلم مطلقا لا يمكن ، لكون إحرازه ذاتيا له ، بخلاف الظن ، فإنه فيما اخذ حجة شرعية لا يمكن ، وفيما لا يؤخذ يمكن بالبيان المتقدم.
فتحصل : أن أخذ الظن موضوعا لحكم آخر لا يضاد حكم متعلقه ولا يماثله بجميع أقسامه يمكن ، وهي ستة : فان أخذ الظن موضوعا لحكم آخر ، إما
ص: 34
أن يكون على وجه الصفتية وإما أن يكون على وجه الطريقية. والصفتية إما أن تكون تمام الموضوع وإما أن تكون جزئه. وأما أخذه تمام الموضوع على وجه الطريقية فقد عرفت الإشكال فيه.
والموضوع في كل من هذه الأقسام الثلاثة ، إما أن يكون هو الظن المجعول حجة شرعية لمتعلقه ، وإما الظن الغير المجعول ، فتكون الأقسام ستة. هذا في الظن المأخوذ موضوعا لحكم آخر لا يضاد حكم متعلقه ولا يماثله.
وأما أخذه موضوعا لمضاد حكم متعلقه : فقد عرفت أنه لا يعقل بجميع أقسامه. وأخذه للمماثل فقد عرفت أيضا إمكانه على بعض الوجوه.
وأما أخذه موضوعا لنفس متعلقه إذا كان حكما ، كما لو قال : « إذا ظننت بوجوب الصلاة تجب عليك الصلاة بذلك الوجوب الذي ظننت به » فإن كان ذلك بنتيجة التقييد لا محذور فيه ، إذ لا يزيد الظن عن العلم ، وفي العلم قلنا إنه يمكن أن يؤخذ كذلك بنتيجة التقييد كما تقدم ، وإن كان بالتقييد اللحاظي فهو مما لا يمكن لاستلزامه الدور كالعلم ، من غير فرق بين الظن المعتبر وغير المعتبر ، بل في الظن المعتبر لا يمكن ولو بنتيجة التقييد ، فإن أخذ الظن حجة محرزا لمتعلقه معناه أنه لا دخل له في المتعلق إذ لو كان له دخل في المتعلق لما اخذ طريقا محرزا للمتعلق ، فأخذه محرزا مع أخذه موضوعا يوجب التهافت ولو بنتيجة التقييد ، وذلك واضح.
قد اختلف بيان شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) في أقسام الظن المأخوذ موضوعا ، وما بينه أخيرا هو أن الظن الغير المعتبر لا يصح أخذه موضوعا على وجه الطريقية ، لا لمماثل حكم متعلقه ولا لمخالفه ، فإن أخذه على وجه الطريقية يستدعى اعتباره ، إذ لا معنى لاعتبار الظن إلا لحاظه طريقا ، فحينئذ تكون الأقسام ثمانية أو سبعة ، فإن الظن ، إما أن يؤخذ موضوعا لمماثل حكم
ص: 35
المتعلق ، وإما أن يؤخذ موضوعا لمخالفه ، والأول لا يمكن إلا إذا كان الظن غير معتبر ، إذ الظن المعتبر لا يصلح لأن يؤخذ موضوعا لحكم المماثل - على ما تقدم بيانه - فالمأخوذ لحكم المماثل لابد وأن يكون الظن الغير المعتبر ويلزمه أن يكون ملحوظا على وجه الصفتية ، لما تقدم : من أن لحاظه على وجه الطريقية يستدعى اعتباره ، والمفروض أنه غير معتبر ، وحينئذ فالذي يمكن من هذا قسمان :
الأول : أخذه تمام الموضوع على وجه الصفتية ، بأن يكون الخمر حراما ومظنون الخمرية أيضا حراما ، صادف الظن للواقع أو خالفه.
الثاني : أخذه جزء الموضوع على وجه الصفتية ، بأن يكون الخمر حراما والخمر المظنون أيضا حراما. ولا إشكال في كل من القسمين ، أما في الأول : فلأن النسبة تكون حينئذ العموم من وجه ، وفي مورد الاجتماع يكون الحكم آكد ، كما في مثل قوله : أكرم العلماء وأكرم الهاشميين. وأما في الثاني : فربما يتوهم لغوية الحكم المماثل ، من جهة أن الحكم الأولى المجعول لذات الخمر محفوظ في حال العلم والظن والشك ، فجعل حكم آخر على الخمر المظنون لغو لا أثر له.
ولكن يدفعه : أنه يكفي في الأثر تأكد الحرمة في صورة تعلق الظن بالخمر وتكون مثلا واجدة لعشر درجات من المفسدة ، بخلاف ما إذا لم يتعلق الظن به ، فإنه يكون واجدا لخمس درجات ، وربما لا يقدم الشخص على ما يكون مفسدته عشر درجات مع إقدامه على ما يكون خمس درجات وهذا المقدار من الأثر يكفي بعد إمكان أن يكون الظن من العناوين الثانوية الموجبة للمصلحة والمفسدة ، فالإنصاف أنه لا إشكال في شيء من هذين القسمين. هذا إذا اخذ موضوعا لحكم المماثل.
وأما إذا اخذ موضوعا لحكم المخالف : فإن لم يكن الظن حجة فهو كأخذه لحكم المماثل لابد وأن يكون على وجه الصفتية تمام الموضوع أو جزئه ، وإن كان الظن حجة فيمكن أخذه على وجه الصفتية ويمكن أخذه على وجه
ص: 36
الطريقية ، وفي كل منهما إما أن يكون تمام الموضوع وإما أن يكون جزئه ( على إشكال في إمكان أخذه تمام الموضوع على وجه الطريقية قد تقدم في العلم ) فتكون أقسام الظن الغير المعتبر أربعة وأقسام الظن المعتبر أيضا أربعة بناء على إمكان أخذه تمام الموضوع على وجه الطريقية ، وإلا فالأقسام سبعة. هذا بناء على عدم صحة أخذ الظن الغير المعتبر موضوعا على وجه الطريقية لحكم المماثل أو المخالف ، وإلا فتكون الأقسام عشرة ، مضافا إلى ما اعتبر طريقا محضا لمتعلقه وكاشفا عنه ومحرزا له من دون أخذه موضوعا لحكم أصلا. والظاهر : أن تكون الأقسام العشرة كلها تصورات لا واقع لها في الشريعة ، والموجود فيها هو اعتبار الظن طريقا محضا ، ويقوم مقامه ساير الطرق العقلية والشرعية والأصول المحرزة.
ولا يخفى عليك : أن عبارة الشيخ ( قده ) في بيان أقسام الظن لا تخلو عن اضطراب وإغلاق ، فعليك بالتأمل فيها. هذا تمام الكلام في القطع بأقسامه ، والظن بأقسامه.
إعلم : أن القائل باستحقاق المتجرى للعقاب لابد له من أن يستند إلى إحدى الجهات الأربع : بعضها أصولية وبعضها كلامية وبعضها فقهية.
الجهة الأولى : دعوى أن الخطابات الأولية تعم صورتي مصادفة القطع للواقع ومخالفته ، ويندرج المتجرى في عموم الخطابات الشرعية حقيقة ، ببيان أن التكليف لابد وأن يتعلق بما يكون مقدورا للمكلف ، والتكليف الذي له
ص: 37
تعلق بموضوع خارجي كقوله « لا تشرب الخمر ، وصل في الوقت » وإن كان وجوده الواقعي مشروطا بوجود ذلك الموضوع (1) من غير دخل للعلم والجهل في ذلك ، إلا أن مجرد الوجود الواقعي لا يكفي في انبعاث المكلف وحركة إرادته نحوه ، فإن الحركة والانبعاث إنما يكون بالوجود العلمي ، ولا أثر للوجود الواقعي في ذلك ، فالعلم وإن كان بالنسبة إلى الموضوع طريقا ، إلا أنه بالنسبة إلى الاختيار والإرادة والانبعاث يكون موضوعا ، ومتعلق التكليف إنما يكون هو الاختيار والانبعاث الناشئ عن العلم بالموضوع والتكليف ، وهذا المعنى موجود في كلتي صورتي مصادفة العلم للواقع ومخالفته ، فإنه في صورة المخالفة قد تحقق اختيار شرب ما أحرز أنه خمر ، والفرق بين الصورتين ليس إلا مصادفة العلم للواقع في إحديهما ومخالفته له في الأخرى ، والمصادفة والمخالفة ليست اختيارية ، فلا تصلح لأن يتعلق بها التكليف ، فالذي يصلح لأن يتعلق به التكليف ليس إلا اختيار شر ما أحرز أنه خمر ، فيكون مفاد قوله : لا تشرب الخمر مثلا - بعد ضم المقدمة العقلية إليه : من أن متعلق التكليف لابد وأن يكون أمرا مقدورا وليس هو إلا الاختيار والانبعاث نحو ما علم أنه موضوع
ص: 38
التكليف - وهو لا تختر شرب ما أحرزت أنه خمر ، وهذا المعنى كما ترى موجود في المتجرى.
ولعله إلى ذلك يرجع ما أفاده الشيخ ( قده ) من الوجه العقلي في استحقاق المتجرى للعقاب ، من قوله « وقد يقرر دلالة العقل على ذلك بأنا إذا فرضنا شخصين قاطعين الخ » فإنه يمكن أن يكون ( قده ) في مقام بيان اندراج المتجرى تحت الخطابات الأولية ، كما أنه يمكن أن يكون في مقام بيان كون المتجرى عاصيا حكما وإن لم يكن عاصيا حقيقة - على ما سيأتي في الجهة الثالثة -.
وعلى كل حال : ترجع هذه الدعوى إلى أن متعلق التكليف هو القدر الجامع بين مصادفة القطع للواقع ومخالفته ، بعد ما كانت المصادفة والمخالفة غير اختيارية ، والقدر الجامع ليس إلا تحريك العضلات نحو ما أحرز أنه خمر واختيار شرب ذلك ، فيكون المتجرى عاصيا حقيقة ومخالفا للخطاب النفس الأمري.
وحاصل هذه الدعوى تتركب من مقدمتين :
الأولى : دعوى أن متعلق التكليف هو الانبعاث وحركة الإرادة والاختيار نحو ما أحرز أنه من مصاديق الموضوع الذي تعلق به التكليف الواقعي.
الثانية : دعوى أن الاحراز والعلم يكون موضوعا على وجه الصفتية بمعنى الاختيار والإرادة ، وإن كان طريقا بالنسبة إلى الموضوع. ولا يخفى عليك ما في كلتي المقدمتين من المنع.
أما في الأولى : فلأن المتعلق هو الفعل الصادر عن إرادة واختيار لا نفس الإرادة والاختيار ، فان الإرادة والاختيار تكون مغفولة عنها حين الفعل ولا يلتفت الفاعل إليها ، فلا يصلح لأن يتعلق التكليف بها ، فإذا كان متعلق التكليف هو الشرب المتعلق بالخمر الصادر عن إرادة واختيار فالمتجري لم يتعلق شربه بالخمر.
وأما في الثانية : فلأن الإرادة وإن كانت تنبعث عن العلم ، لكن لا
ص: 39
بما أنّه علم وصورة حاصلة في النفس (1) بل بما أنه محرز للمعلوم ، فالعلم يكون بالنسبة إلى كل من الإرادة والخمر طريقا ، بل العلم يكون في باب الإرادة من مقدمات وجود الداعي ، حيث إنه تتعلق الإرادة بفعل شيء بداعي أنه الشيء الكذائي ، وهذا الداعي ينشأ عن العلم بأنه الشيء الكذائي.
والحاصل : أن دعوى اندراج المتجرى في الخطابات الأولية لا يمكن إلا بأن يكون التكليف متعلقا بالعنوان الجامع والقدر المشترك بين مصادفة القطع للواقع ومخالفته ، والقدر الجامع المتصور ليس إلا إرادة شرب الخمر المحرز خمريته ، فإن هذا هو الجامع بين الصورتين.
وأما لو فرض أن التكليف لم يتعلق بالإرادة وتعلق بشرب الخمر ، فلا ينتج ما أراده المدعى ، لان المتجرى لم يشرب الخمر ولو فرض أن العلم في باب الإرادة اخذ موضوعا على نحو الصفتية ، إذ غايته أنه يعتبر العلم بإرادة شرب الخمر ، إلا أن الإرادة لو خطت مرآة للمراد وهو شرب الخمر ولم يتعلق التكليف بنفسها ، وفي صورة المخالفة لم يتحقق المراد فلم يأت بما هو متعلق التكليف. وكذا لو فرض أن الإرادة لوحظت معنى اسميا وكانت هي متعلق التكليف ، ولكن العلم اخذ موضوعا في باب الإرادة على نحو الطريقية والكاشفية عن المراد ، فان متعلق التكليف يكون حينئذ هو حرمة إرادة شرب الخمر الذي علم بخمريته على وجه يكون العلم طريقا إلى الخمر الواقعي ، والمتجري وإن أراد شرب الخمر الذي أحرز خمريته ، إلا أن إحرازه لم يقع طريقا إلى الخمر الواقعي ، لأنه لم يؤد إلى الخمر الواقعي ، فدعوى المدعى لا تتم إلا بأخذ
ص: 40
متعلق التكليف هو الإرادة وأخذ العلم على وجه الصفتية ، وكل منهما في محل المنع ، لما عرفت من أن متعلق التكليف هو الفعل الصادر عن المكلف عن إرادة على وجه تكون الإرادة فانية في المراد ، ودخل العلم في الإرادة إنما يكون على وجه الطريقية والكاشفية عن المراد ، لا على وجه الصفتية.
مضافا إلى ما عرفت : من أن العلم في باب الإرادة يكون من مقدمات الداعي ، ولا يكون موضوعا للإرادة ، فدعوى اندراج المتجرى في الخطابات الأولية واضحة الفساد ، مع أن هذه الدعوى لا تصلح في مثل ما إذا علم بوجوب الصلاة ولم يصل وتخلف علمه عن الواقع ، فان البيان المتقدم لا يجرى في هذا القسم من التجري ، كما هو واضح.
الجهة الثانية : دعوى أنّ صفة تعلق العلم بشيء تكون من الصفات والعناوين الطارية على ذلك الشيء المغيرة لجهة حسنه وقبحه ، فيكون القطع بخمرية ماء موجبا لحدوث مفسدة في شربه تقتضي قبحه.
والإنصاف : انه ليس كذلك ، فان إحراز الشيء لا يكون مغيرا لما عليه ذلك الشيء من المصلحة والمفسدة. وليس من قبيل الضرر والنفع العارض على الصدق والكذب المغير لجهة حسنه وقبحه ، لوضوح أن العلم بخمرية ماء وتعلق الإحراز به لا يوجب انقلاب الماء عما هو عليه وصيرورته قبيحا ، فدعوى أن الفعل المتجرى به يكون قبيحا ويستتبعه الحكم الشرعي بقاعدة الملازمة ، واضحة الفساد (1).
ص: 41
نعم : لا بأس بدعوى القبح الفاعلي (1) بأن يكون صدور هذا الفعل عن مثل هذا الفاعل قبيحا وإن لم يكن الفعل قبيحا. ولا ملازمة بين القبح الفاعلي والقبح الفعلي ، إذ ربما يكون الفعل قبيحا ولكن صدوره عن الفاعل حسن - كما في صورة الانقياد - وربما ينعكس الأمر - كما في صورة التجري - وحينئذ يقع الكلام في أن هذا القبح الفاعلي هل يصلح لأن يكون ملاكا للخطاب بحيث يتعلق خطاب بالفعل الصادر عن الفاعل قبيحا؟ أو أنه لا يصلح لأن يكون ملاكا للخطاب؟ والكلام في ذلك تارة : يقع من حيث عموم الخطابات الأولية لما يصدر عن المكلف قبيحا ، بحيث تكون تلك الخطابات مطلقة تعم صورة القبح الفعلي والقبح الفاعلي ، وأخرى : يقع من حيث استتباع القبح الفاعلي لخطاب يخصه ، غير الخطابات المترتبة على الموضوعات الواقعية.
ص: 42
أمّا الكلام من الحيثية الأولى : فالحق فيه أن الخطابات الأولية لا تعم القبح الفاعلي ، فان الحسن والقبح الفاعلي إنما يكون مترتبا على الخطابات الأولية (1) ومن الانقسامات اللاحقة له ، إذ بعد تعلق الخطابات بموضوعاتها تتحقق رتبة الحسن الفاعلي وقبحه ، فان ذلك يقع في رتبة امتثال تلك الخطابات وعصيانها ، فلا يمكن أن تكون الخطابات مطلقة تعم الحسن الفاعلي وقبحه بالاطلاق والتقييد اللحاظي.
نعم : يمكن ذلك بنتيجة الإطلاق والتقييد (2) إلا أن دعوى إطلاق تلك الخطابات ولو بنتيجة الإطلاق للفعل الصادر عن الفاعل قبيحا تكون بلا برهان ، بعد ما كانت الخطابات مترتبة على موضوعاتها الواقعية ، والموضوع في مثل قوله ( لا تشرب الخمر ) هو الخمر الواقعي.
نعم : قد يتفق تقييد الخطاب بصورة صدور الفعل عن الفاعل حسنا وعدم صدوره قبيحا ، كما في مثل الصلاة في الدار المغصوبة ، حيث قلنا ببطلان الصلاة فيها عند الالتفات إلى موضوع الغصب وحكمه ، مع أنا نقول : بجواز اجتماع الأمر والنهي (3) وليس ذلك إلا من جهة أن صدور الصلاة المشتملة على المصلحة من مثل هذا الشخص يكون قبيحا ، فلا تصلح لأن يتقرب بها ، فقد قيدت الصلاة بصورة عدم صدورها عن الفاعل قبيحا بنتيجة التقييد ، كما
ص: 43
قيّدت بقصد القربة ، بل يكون ذلك التقييد من شؤون التقييد بقصد القربة ، لكن هذا في خصوص العبادات التي يعتبر فيها التقرب ، وأما في غير ذلك فتقييد الخطاب وإطلاقه بالنسبة إلى الحسن الفاعلي وقبحه يكون بلا موجب ، فدعوى أن الخطابات الأولية تعم قبح الفاعلي ضعيفة جدا.
وأمّا الكلام من الحيثية الثانية : وهي اختصاص القبح الفاعلي بخطاب يخصه غير الخطابات الأولية ، فمجمل الكلام فيها : هو أن توجيه الخطاب إلى ما يختص بالقبح الفاعلي مما لا يمكن ، فان موضوع الخطاب الذي يمكن أن يختص بذلك إنما هو عنوان المتجرى (1) أو العالم المخالف علمه للواقع وأمثال ذلك من العناوين المختصة بالقبح الفاعلي ، والخطاب على هذا الوجه لا يعقل ، لأن الالتفات إلى العنوان الذي تعلق به الخطاب مما لا بد منه ، والمتجرى لا يمكن أن يلتفت إلى أنه متجري ، لأنه بمجرد الالتفات يخرج عن كونه متجريا ، فتوجيه الخطاب على وجه يختص بالقبح الفاعلي فقط لا يمكن ، مع أنه لا موجب إلى هذا الاختصاص (2) فان القبح الفاعلي مشترك بين
ص: 44
المصادفة للواقع والمخالفة ، بل القبح الفاعلي في صورة المصادفة أتم وأكمل ، فلو كان القبح الفاعلي مناطا للخطاب فلابد وأن يكون الخطاب على وجه يعم صورة المصادفة والمخالفة ، بأن يقال : لا تشرب معلوم الخمرية ، فان هذا العنوان يعم كلتا الصورتين.
ولكن الخطاب على هذا الوجه أيضا لا يمكن ، لا لمكان أن العلم لا يكون ملتفتا إليه غالبا والفاعل لا يشرب الخمر بعنوان أنه معلوم الخمرية ، بل بعنوان أنه خمر ، فان الالتفات إلى العلم من أتم الالتفاتات ، بل هو عين الالتفات ولا يحتاج إلى التفات آخر ، ولو لم يمكن أخذ العلم موضوعا في المقام فكيف يعقل أخذه موضوعا لحكم آخر؟ وهل يمكن الفرق بين مواضع أخذ العلم موضوعا؟ مع أن صاحب الدعوى سلم إمكان أخذ العلم موضوعا لحكم آخر ، فهذا لا يصلح أن يكون مانعا لتوجيه الخطاب كذلك ، كما لا يصلح عدم ثبوت المصلحة والمفسدة في المتعلق في صورة المخالفة لأن يكون مانعا عن الخطاب ، لأن صحة الحكم لا تدور مدار وجودهما في المتعلق بعد ما كان القبح الفاعلي مناط للخطاب ، بل المانع من ذلك هو لزوم اجتماع المثلين في نظر العالم دائما وإن لم يلزم ذلك في الواقع ، لأن النسبة بين حرمة الخمر الواقعي ومعلوم الخمرية هي العموم من وجه ، وفي مادة الاجتماع يتأكد الحكمان - كما في مثل أكرم العالم وأكرم الهاشمي - إلا أنه في نظر العالم دائما يلزم اجتماع المثلين ، لأن العالم لا يحتمل المخالفة ودائما يرى مصادفة علمه للواقع ، فدائما يجتمع في نظره حكمان ، ولا يصلح كل من هذين الحكمين لأن يكون داعيا ومحركا لإرادة العبد بحيال ذاته ، ولا معنى لتشريع حكم لا يصلح الانبعاث عنه ولو في مورد ، وفي مثل أكرم العالم وأكرم الهاشمي يصلح كل من الحكمين للباعثية بحيال ذاته ولو في مورد افتراق كل منهما عن الآخر ، وفي صورة الاجتماع يلزم التأكد ، فلا مانع من تشريع مثل هذين الحكمين. بخلاف المقام ، فإنه لو فرض أن للخمر حكماً ولمعلوم الخمرية أيضا حكماً ، فبمجرد
ص: 45
العلم بخمرية شيء يعلم بوجوب الاجتناب عنه الذي فرض أنه رتب على ذات الخمر ، فيكون هو المحرك والباعث للاجتناب ، والحكم الآخر المترتب على معلوم الخمرية لا يصلح لأن يكون باعثا ويلزم لغويته ، وليس له مورد آخر يمكن استقلاله في الباعثية ، فان العلم بالخمرية دائما ملازم للعلم بوجوب الاجتناب عنه المترتب على الخمر الواقعي ، وذلك واضح بعد ما كان العالم لا يحتمل المخالفة ، فتوجيه خطاب آخر على معلوم الخمرية لا يمكن.
فظهر : أن القبح الفاعلي بوجه من الوجوه لا يستتبع الخطاب.
الجهة الثالثة : دعوى استحقاق المتجرى للعقاب لا من باب المخالفة لخطاب شرعي كما في الجهتين الأوليين ، بل من باب استقلال العقل باستحقاق المتجرى للعقاب ، وأنه يكون في حكم العاصي ، بدعوى أن المناط في استحقاق العاصي للعقاب موجود في المتجرى أيضا ، وأنه بمناط واحد يحكم العقل باستحقاق العاصي والمتجري للعقاب ، ببيان أن العلم والالتفات في باب الأحكام العقلية له جهة موضوعية (1) بل هو تمام الموضوع في المستقلات العقلية ، من غير فرق بين الأحكام العقلية الواقعة في سلسلة علل الأحكام الراجعة إلى باب التحسين والتقبيح باعتبار كونها مناطات الأحكام الشرعية و
ص: 46
التي تكون مورد قاعدة الملازمة ، وبين الأحكام العقلية الواقعة في سلسلة معلولات الأحكام مما يرجع إلى باب الطاعة والمعصية وما يستتبعهما من الثواب والعقاب الغير المستتبعة لحكم شرعي ، لاستلزامه التسلسل المحال ، ومن غير فرق بين ما يكون للعقل حكم واحد في صورة العلم والظن والشك كحكمه بقبح التشريع ، وبين ما يكون له حكمان : حكم على الواقع المعلوم ، وحكم طريقي آخر على المشكوك على طبق الحكم الواقعي ، كحكمه بقبح الظلم وقبح الإقدام على ما لا يؤمن منه الوقوع في الظلم ، على ما يأتي تفصيل ذلك في محله ( إن شاء اللّه تعالى ). وعلى جميع التقادير : العقل لا يستقل بشيء إلا بعد العلم والالتفات إليه ، فالعلم يكون في الأحكام العقلية دائما له دخل على وجه الموضوعية ، ومن ذلك حكمه بقبح المعصية ، فإنه لا يحكم بذلك إلا بعد العلم بالمعصية والالتفات إلى أن للمولى إرادة ، ومن المعلوم : أنه لا يمكن اعتبار خصوص العلم المصادف للواقع ، فان المصادفة وعدمها ليست من الأمور الاختيارية ، فلا يمكن أن يكون ذلك مناطا لحكم العقل بقبح المخالفة واستحقاق العقاب ، بل العبرة في نظر العقل هو مطلق العلم صادف الواقع أو خالف. وإن شئت قلت : إن المناط في حكم العقل باستحقاق العقاب هو جهة البغض الفاعلي وحيثية صدور الفعل الذي يعلم بكونه مبغوضا للمولى ، من دون دخل للواقع في ذلك فان الإرادة الواقعية مما لا أثر لها عند العقل إلا بعد الوجود العلمي ، وهذا المعنى كما ترى مشترك بين العاصي والمتجري
ص: 47
والحاصل : أن المناط عند العقل في استحقاق العقاب هو البغض الفاعلي الناشئ عن العلم بالمخالفة والمعصية ، وهذا بعد ما كان العلم في باب الطاعة والمعصية موضوعا عند العقل واضح.
فالدعوى في المقام تتركب من أمرين : الأول : كون العلم تمام الموضوع في المستقلات العقلية خصوصا في باب الطاعة والمعصية ، حيث إن الإرادة الواقعية لا أثر لها عند العقل ، ولا يمكن أن تكون محركة لعضلات العبد إلا بالوجود العلمي والوصول. الثاني : كون المناط في استحقاق العقاب عند العقل هو القبح الفاعلي ، ولا أثر للقبح الفعلي المجرد عن ذلك ، ولعل الأمران اللذان يبتني عليهما الدعوى متلازمان ، كما لا يخفى على المتأمل ، هذا.
ويمكن المنع عن كل من الأمرين الذين بنى الدعوى عليهما ، أما الأول : فلأن العلم وإن كان له دخل في المستقلات العقلية ، إلا أنه لا العلم الأعم من المصادف وغير المصادف ، فان غير المصادف لا يكون علما بل هو جهل ، فليس إخراج غير المصادف من باب التخصيص في موضوع حكم العقل ، بل من أول الأمر غير المصادف خارج ، لأنه ليس في الحقيقة علما بل جهلا مركبا ، فان العلم هو الكاشف عن الواقع ، وغير المصادف لا يكون كاشفا عن الواقع فليس علما ، وإطلاق العلم عليه لمكان أنه في نظر العالم يكون كاشفا عنه ، واعتبار العلم في المستقلات العقلية ليس من جهة دلالة دليل عليه حتى يتمسك باطلاقه ، بل لمكان أن الإرادة الواقعية غير قابلة لتحريك إرادة الفاعل ، بل المحرك هو انكشاف الإرادة ووصولها إلى الفاعل ، وفي المقام الإرادة الواقعية لم تصل إلى الفاعل ، بل هو من تخيل الإرادة ، فلا عبرة بمثل هذا العلم في نظر العقل.
والحاصل : أن العقل يستقل بلزوم انبعاث العبد عن بعث المولى (1) و
ص: 48
أنّ وظيفة العبد ذلك ، والانبعاث عن البعث يتوقف على وصول البعث وإحرازه ، إذ لا أثر للبعث الواقعي ولا يمكن الانبعاث عنه ما لم يكن له وجود علمي ، وأين هذا مما لم يكن في الواقع بعث وكان من تخيل البعث؟ فدعوى أن العلم في باب المعصية الأعم من المصادف وغير المصادف ضعيفة.
وأما الأمر الثاني الذي بنى عليه الدعوى : فلأن المناط في استحقاق العقاب عند العقل وإن كان هو القبح الفاعلي ، إلا أن القبح الفاعلي المتولد من القبح الفعلي الذي يكون إحرازه موجبا للقبح الفاعلي ، لا القبح الفاعلي المتولد من سوء السريرة وخبث الباطن (1) وكم بين هذا وذلك من الفرق؟ فإن المناط في أحدهما غير المناط في الآخر ، حيث إن مناط أحدهما القبح الفعلي المحرز وعدم الانبعاث عن البعث الواقعي المعلوم ، ومناط الآخر سوء السريرة التي أوجبت عدم الانبعاث عن تخيل البعث ، ودعوى عدم الفرق بينهما في نظر العقل مما لا شاهد عليها.
فتحصل : أن القبح الفاعلي الناشئ عن سوء السريرة وخبث الباطن لا يستتبع استحقاق العقاب ، إلا إذا تعلق به الخطاب بأحد الوجهين
ص: 49
المتقدمين ، وقد عرفت أن ذلك أيضا لا يمكن بالبيان المتقدم ، فالقول باستحقاق المتجرى للعقاب من الجهة الثالثة أيضا لا يتم.
الجهة الرابعة : دعوى حرمة التجري من جهة قيام الإجماع ودلالة الأخبار عليه ، فيكون البحث من هذه الجهة فقهيا ، كما أن البحث من الجهة الثالثة يكون كلاميا ، ومن الجهة الثانية يكون أصوليا من حيثية وكلاميا من أخرى ، ومن الجهة الأولى يكون أصوليا. ولا يخفى عليك أن البحث عن الجهة الرابعة إنما يستقيم بعد تصوير ما يمكن أن يتعلق به خطاب شرعي ، بحيث يكون فعلا اختياريا ملتفتا إليه حتى يكون حراما شرعا ، ولا يمكن أن يكون عنوان التجري معروض الحرمة (1) لما تقدم من أن الالتفات إلى هذا العنوان لا يمكن ، كما لا يمكن أن يكون فعل المتجرى به معروض الحرمة ، لما تقدم أيضا من أن العلم لا يحدث عنوانا يكون ملاكا للحرمة ، فيقع الكلام حينئذ فيما هو معروض الحرمة وما انعقد عليه الإجماع وما دل عليه الأخبار ، وأنه أي عنوان يكون ذلك ، ولابد أيضا أن يكون ذلك العنوان الذي يعرض عليه الحرمة يعم كلا قسمي التجري ، وهما ما إذا قصد الحرام وأتى ببعض مقدماته ثم عدل عن قصده بنفسه أو بصارف - بناء على أن يكون ذلك من التجري أيضا - وما إذا قصد الحرام وجرى على طبق مقصده ثم تبين له الخلاف أو لم يتبين له ولكن كان في الواقع مخالفا له ، فمعروض الحرمة لابد وأن يكون جامعا بين هذين القسمين ، ولا يمكن أن يكون الجامع هو قصد المعصية لدلالة جملة من
ص: 50
الأخبار على عدم المؤاخذة على القصد.
نعم : يمكن أن يكون الجامع هو القصد مع الجري على طبقه ، وبعبارة أخرى : القصد الذي يكون له مظهر ، فإن هذا المعنى موجود في قسمي التجري ، وبذلك يجمع بين الأخبار الدالة على عدم المؤاخذة على قصد السوء والأخبار الدالة على المؤاخذة بحمل الطائفة الأولى على القصد المجرد ، والثانية على القصد الذي يكون له مظهر ، ولكن الكلام حينئذ في الشاهد على هذا الجمع ، فإنه بدون ذلك يكون من الجمع التبرعي الذي لا عبرة به ، وليس في الأخبار ما يمكن أن يكون شاهدا على ذلك.
ومما ذكرنا يظهر ما في دعوى الإجماع في المقام ، لا من جهة كون المسألة عقلية ولا عبرة بالإجماع في المسائل العقلية فان المسألة - على ما حررناها - تكون فقهية ومن المسائل الشرعية ، بل لعدم الإجماع في المسألة ، فإنه لم ينعقد الإجماع على حرمة القصد الذي يكون له مظهر ولا ادعاه أحد.
نعم : ادعى الإجماع في موردين : أحدهما : فيمن ظن ضيق الوقت وأخر الصلاة ثم تبين الخلاف وسعة الوقت ، حيث ادعى الإجماع على عصيانه بتأخير الصلاة واستحقاقه العقاب ، وذلك لا يكون إلا بناء على حرمة التجري. ثانيهما : فيمن سلك طريقا مظنون الضرر ، حيث ادعى الإجماع أيضا على عصيانه ووجوب الإتمام عليه لكون سفره سفر معصية ولو انكشف عدم الضرر ، وهذا أيضا لا يتم إلا بناء على حرمة التجري ، هذا.
ولكن يمكن أن يقال : إن كلا من الموردين اللذين ادعى عليهما الإجماع خارج عما نحن فيه ، وليس من موارد التجري.
أما في الأول : فلان خوف الضيق يكون تمام الموضوع لوجوب المبادرة بالصلاة شرعا (1) ويكون وجوب المبادرة حينئذ نفسيا لا طريقيا إرشاديا.
ص: 51
وأمّا في الثاني : فلأن للعقل في باب الضرر الدنيوي حكم واحد ، وهو قبح الإقدام على ما لا يؤمن معه من الوقوع في الضرر ، نظير حكمه بقبح التشريع ، وليس حكم العقل بقبح الإقدام على مظنون الضرر أو مشكوكه طريقيا نظير حكمه بقبح ما لا يؤمن معه من الوقوع في التصرف في مال الغير ، فان محل الكلام إنما هو الضرر الدنيوي ، إذ الضرر الأخروي ليس هو إلا العقاب وحكم العقل في لزوم دفعه يكون إرشاديا محضا لا يستتبع حكما مولويا ، كحكمه بقبح المعصية. وأما الضرر الدنيوي فالعقل وإن استقل بلزوم دفع بعض مراتبه ، إلا أن حكم العقل في باب الضرر يكون في صورة العلم والظن بل الاحتمال العقلائي بمناط واحد ، وهو قبح الإقدام على ما لا يؤمن منه من الضرر ، وعلى هذا يخرج من موضوع التجري وليس فيه انكشاف الخلاف.
فتحصل : أنه لم يتم إجماع على حرمة التجري بالقسم المبحوث عنه في المقام ولا دل عليه دليل.
نعم : يمكن القول بحرمة القسم الآخر من التجري (1) وهو ما إذا قصد المعصية وتلبس بمقدماتها ومنعه عن وقوع المعصية مانع. وعلى ذلك تحمل
ص: 52
الأخبار الواردة على المؤاخذة على القصد كما هو مورد بعضها ، وعليه يكون حرمة التجري المبحوث عنه في المقام خاليا عن الدليل ، فالأقوى عدم حرمته.
الأول : لا فرق في قبح التجري أو استحقاق المتجرى للعقاب بين مخالفة العلم أو مخالفة الطرق والأصول المثبتة للتكليف ، فإنه في الجميع يتحقق عنوان التجري ، ولا خصوصية للعلم بعد ما كانت الطرق والأصول منجزة للواقع ، والعبرة إنما تكون بمخالفة المنجز علما كان أو غيره ، بل في غير العلم يمكن أن يقع التجري على وجهين ، فإنه لو قامت الأمارة على خمرية مايع فتارة : يشربه المكلف على أنه خمر ، وأخرى : يشربه برجاء أنه لم يكن خمرا ، لاحتمال مخالفة الأمارة للواقع ، فعلى الأول : يكون متجريا بالنسبة إلى الواقع إذا كانت الأمارة مخالفة له. وعلى الثاني : يكون متجريا بالنسبة إلى الطريق (1) والتعبد بإلقاء احتمال الخلاف والبناء على أنه خمر ، فتأمل.
وهذا في العلم لا يأتي ، لعدم جريان احتمال الخلاف في نظر العالم ، فالتجري في حقه لا يكون إلا بالنسبة إلى الواقع. هذا إذا لم نقل بالسببية في باب الطرق والأصول ، وإلا كان المخالف لها عاصيا حقيقة ، وليس من التجري ، هذا في الأصول والأمارات المثبتة للتكليف.
وأما النافية : فلا إشكال في رجحان الاحتياط معها ، ولكن لو فعل متعلقها برجاء مخالفتها للواقع فلا يبعد أن يكون من التجري ، كما لو قامت
ص: 53
البينة على عدم خمرية مايع وشرب المكلف ذلك المايع برجاء أنه خمر وأن البينة مخالفة للواقع ، فحيث لم يكن شربه ذلك مستندا إلى الترخيص الشرعي كان ذلك من التجري ، بل لا يبعد أن يكون ذلك من المعصية الحقيقية إذا كانت البينة في الواقع مخالفة وكان ما شربه خمرا ، ويكون المقام نظير الاقتحام في الشبهات قبل الفحص ، فتأمل.
الثاني : ذكر « صاحب الفصول » ان قبح التجري يختلف بالوجوه والاعتبار ، وربما يطرء عليه ما يخرجه عن القبح ، كما إذا علم بحرمة ما يكون في الواقع واجبا وكان مصلحة الوجوب غالبة على مفسدة التجري أو مساوية ، وعلى هذا يختلف التجري حسنا وقبحا شدة وضعفا باختلاف الفعل المتجرى به. ثم ذكر أن التجري لو صادف المعصية الحقيقية يتداخل عقابه مع عقاب المعصية ولا يتعدد عقابه ، هذا.
ولكن لا يخفى عليك أنه لا يستقيم شيء مما ذكره ، أما في دعواه الأولى : من كون قبح التجري يختلف بالوجوه والاعتبار. ففيها أنه لا يعقل الاختلاف في قبح التجري (1) فان القبح ذاتي له ، كقبح المعصية وحسن الطاعة وقبح الظلم وما شابه ذلك من العناوين التي تتغير عما هي عليها ، وليس كقبح الكذب وحسن الصدق مما يمكن أن يطرء عليه جهة توجب حسن الأول وقبح الثاني ، وكيف يعقل أن يطرء على التجري جهة توجب حسنه؟ فكما لا يمكن أن تتصف الطاعة بالقبح والمعصية بالحسن كذلك لا يمكن أن يتصف التجري بالحسن.
ص: 54
وأمّا في دعواه الثانية : من أن العلم بحرمة ما يكون واجبا مغير لجهة قبح التجري. ففيها أنه لو سلمنا اختلاف قبح التجري بالوجوه والاعتبار ، ولكن الجهات المغيرة للحسن والقبح لابد وأن تكون ملتفتا إليها ، لما تقدم من أن العلم في باب الحسن والقبح العقلي له جهة موضوعية ، ولا يمكن أن يكون الشيء قبيحا عقلا بلا أن يكون الموجب للقبح ملتفتا إليه (1) فالكذب الذي يتوقف عليه إنجاء البنى قبيح إذا لم يلتفت إلى التوقف ، والصدق الموجب لهلاك البنى حسن إذا لم يلتفت إلى ذلك ، وباب الحسن والقبح غير باب المصلحة والمفسدة التي لا دخل للعلم بها ، فمجرد كون الفعل المتجرى به ذا مصلحة واقعا لا يوجب تغيير قبح التجري بعد ما لم تكن المصلحة معلومة ولم يكن المكلف ملتفتا إلى وجوبه ، ففي مثل هذا قبح التجري يكون على حاله ، كما هو واضح.
وأما ما في دعواه الثالثة : من أن التجري لو صادف المعصية يتداخل عقابه ، ففيها أن التجري لا يعقل أن يجتمع مع المعصية حتى يتداخل العقاب ، بل التجري في طرف النقيض للمعصية ، إذ قوام التجري هو عدم المصادفة ومخالفة الواقع (2) كما أن قوام المعصية هو المصادفة للواقع ، فكيف يجتمع التجري
ص: 55
مع المعصية؟.
نعم : يمكن أن يوجه كلامه بحيث يرجع إلى أمر معقول وإن كان خلاف ظاهر كلامه ، بأن يقال : إن مراده من المعصية المجتمعة مع التجري غير المعصية التي علم بها وتجري فيها ، بل معصية أخرى ، كما لو علم بخمرية مايع فتجري وشربه ، ثم تبين أنه مغصوب (1) فان في مثل هذا يمكن أن يقال : إن المكلف تجرى بالنسبة إلى شرب الخمر وعصى بالنسبة إلى شرب المغصوب ، بناء على أن العلم بجنس التكليف والإلزام يكفي في تنجز التكليف وإن لم يعلم فصله - كما سيأتي في العلم الإجمالي - فيقال في المثال : إنه قد تعلق علمه بحرمة شرب المايع على أنه خمر ، فبالنسبة إلى كونه خمرا أخطأ علمه ، وبالنسبة إلى الحرمة لم يخطأ وصادف الواقع ، لأنه كان مغصوبا ، فيكون قد فعل محرما ويعاقب عليه وإن لم يعاقب على خصوص الغصبية لعدم تعلق العلم بها ، بل يعاقب على القدر المشترك بين الخمرية والغصبية ، فلو فرض أن عقاب الغصب أشد يعاقب عقاب الخمر - أي عقاب مقدار شرب الخمر - ولو انعكس الأمر وكان عقاب الخمر أشد يعاقب عقاب الغصب ، لأن المفروض أنه لم يشرب الخمر فلا يعاقب عليه. وفي الصورة الأولى إنما كان يعاقب عقاب شرب الخمر مع أنه لم يشرب الخمر ، من جهة أن عقاب ما يقتضيه شرب الخمر هو المتيقن الأقل والمنفى عنه هو العقاب الزائد الذي يقتضيه الغصب ، فتأمل جيّداً.
ص: 56
ينسب إلى جملة من الأخباريين عدم اعتبار القطع الحاصل من المقدمات العقلية ، وقد أنكر بعض الأعاظم هذه النسبة وادعى أن الأخباريين إنما ينكرون الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع. وذهب آخرون منهم إلى عدم حصول القطع من المقدمات العقلية وأنها لا تفيد إلا الظن.
وحيث انجر الكلام إلى ذلك ، ينبغي بيان نبذة من المباحث الراجعة إلى المستقلات العقلية. والقوم وإن أطالوا البحث عن ذلك وصنفوا فيها رسائل ، إلا أنه لما كان خارجا عن المقصود فالأنسب أن نقتصر بالإشارة إلى الجهات التي وقع البحث عنها ، وتفصيلها يطلب من المطولات.
قد نسب إلى جملة من الأشاعرة إنكار الحسن والقبح العقليين وأن العقل لا يدرك حسن الأشياء وقبحها ، بل بالغ بعضهم وأنكر ثبوت جهة الحسن والقبح للأشياء وأن الحسن ما حسنه الشارع والقبيح ما قبحه ، وليست الأحكام تدور مدار المصالح والمفاسد. بل الشارع يكون مقترحا في أحكامه من دون أن يكون هناك مرجح ، وأنه لا مانع من الترجيع بلا مرجح.
ولما كان هذا القول في غاية السخافة والسقوط أعرض عنه المحققون من الأشاعرة والتزموا بثبوت المصالح والمفاسد ، ولكن اكتفوا بالمصلحة والمفسدة النوعية القائمة بالطبيعة في صحة تعلق الأمر ببعض أفراد تلك الطبيعة ، وإن لم تكن لتلك الأفراد خصوصية توجب تعلق الأمر بها بل كانت الأفراد متساوية الأقدام بالنسبة إلى الطبيعة التي تقوم بها المصلحة ويصح ترجيح بعض الأفراد على بعض بلا مرجح بعد ما كان هناك مرجح في أصل
ص: 57
الطبيعة.
ولهم على ذلك براهين ، ويمثلون لذلك برغيفي الجايع وطريقي الهارب مع تساوى الرغيفين والطريقين من جميع الجهات ، فإنه لا إشكال في اختيار أحد الرغيفين والطريقين مع أنه ليس في اختيار ذلك مرجح أصلا ، لأن المفروض تساوى الفردين في الغرض من جميع الجهات (1). وكان شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) يميل إلى هذا بعض الميل. وهذا القول ليس بتلك المثابة من الفساد (2) ويمكن الالتزام به ولا ينافيه تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، لكفاية المصلحة النوعية في ذلك ، والذي لا يمكن الالتزام به هو إنكار المصالح والمفاسد في متعلقات الأوامر وأنها كلها تكون محض الاقتراح ، لعدم معقولية الترجيح بلا مرجح ، مضافا إلى إمكان دعوى تواتر الأخبار على خلافه ، كقوله صلی اللّه علیه و آله « ما من شيء يقربكم إلى الجنة ويبعدكم عن النار إلا وقد
ص: 58
أمرتكم به » الخبر (1).
ويتلو هذا في الضعف دعوى تبعية الأوامر والنواهي لمصالح في نفسها من دون أن يكون هناك مصلحة في المتعلق ، بل المصلحة في نفس الأمر والنهى. ومن ادعى هذه المقالة وإن لم يدعيها كلية وفي جميع الأوامر والنواهي ، بل ادعاها موجبة جزئية ، ومثل لها بالأوامر الامتحانية ، حيث إنه ليس في متعلقاتها مصلحة ، فلابد وأن تكون هناك مصلحة في نفس الأمر والجعل. ألا أن الأنصاف فساد هذا الدعوى ولو بنحو الإيجاب الجزئي ، فان المصلحة في الأمر مما لا معنى لها (2) وإلا يلزم أن تتحقق المصلحة بمجرد الأمر بلا انتظار شيء آخر ، والأوامر الامتحانية ليست كذلك ، فان المصلحة فيها إنما تكون قائمة في إظهار العبد الإطاعة وكونه بصدد امتثال الأوامر الصادرة من المولى ، وإظهار الإطاعة لا يتحقق إلا بالجري على وفق ما تعلق الأمر به ، وأين هذا من كون المصلحة في نفس الأمر؟.
فتحصّل : أنه لا سبيل إلى إنكار تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات ، وأن في الأفعال في حد ذاتها مصالح ومفاسد كامنة مع قطع النظر عن أمر الشارع ونهيه وأنها تكون عللا للأحكام ومناطاتها ، كما أنه لا سبيل إلى إنكار إدراك العقل تلك المناطات موجبة جزئية وأن العقل ربما يستقل بقبح شيء وحسن آخر. ولا يمكن عزل العقل عن إدراك الحسن والقبح - كما عليه بعض الأشاعرة - فان عزل العقل عن ذلك يوجب هدم أساس إثبات الصانع ، ويلزم إفحام الأنبياء ، لأنه على هذا لا يستقل بقبح إعطاء المعجزة بيد الكاذب ولا قبح المعصية وحسن الطاعة.
وبالجملة : عزل العقل عن الإدراك مما يوجب هدم أساس الشريعة ، فلا إشكال
ص: 59
في أنّ العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها ولو موجبة جزئية وفي بعض الموارد ، ولا ندعي الكلية ولا يمكن دعواها ، بل نتكلم في قبال السلب الكلي الذي عليه بعض الأشاعرة.
في الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، بمعنى أنه في المورد الذي استقل العقل بحسن شيء أو قبحه فعلى طبقه يحكم الشرع بوجوبه أو حرمته ، وهو المراد من قولهم « كلما حكم به العقل حكم به الشرع » وقد أنكر هذه الملازمة بعض الأخباريين ، وتبعهم بعض الأصوليين ك « صاحب الفصول » حيث أنكر الملازمة الواقعية بين حكم العقل وحكم الشرع والتزم بالملازمة الظاهرية ، بدعوى أن العقل وإن كان مدركا للمصالح والمفاسد والجهات المحسنة والمقبحة ، إلا أنه من الممكن أن تكون لتلك الجهات موانع ومزاحمات في الواقع وفي نظر الشارع ولم يصل العقل إلى تلك الموانع والمزاحمات ، إذ ليس من شأن العقل الإحاطة بالواقعيات على ما هي عليها ، بل غاية ما يدركه العقل هو أن الظلم مثلا له جهة مفسدة فيقبح والإحسان له جهة مصلحة فيحسن ، ولكن من المحتمل أن لا تكون تلك المفسدة والمصلحة مناطا للحكم الشرعي لمقارنتها بالموانع والمزاحم في نظر الشارع ، فربما تكون مصلحة ولم يكن على طبقها حكم شرعي ، كما يظهر من قوله صلی اللّه علیه و آله « لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك » (1) وقوله صلی اللّه علیه و آله « إن اللّه سكت عن أشياء ولم يسكت عنها نسيانا » الخبر (2) فان الظاهر منه هو أنه ( تعالى ) سكت
ص: 60
مع ثبوت المصلحة والمقتضى في تلك الأشياء ، والمراد من السكوت هو عدم جعل الحكم ، فمن المحتمل أن يكون المورد الذي أدرك العقل جهة حسنه أو قبحه كان من الموارد التي سكت اللّه عنها ، وربما يكون حكم بلا مصلحة في المتعلق ، كما في الأوامر الامتحانية والأوامر الصادرة تقية. وغير ذلك مما حكاه في « التقريرات » عن « الفصول » من الوجوه الستة التي أقامها على منع الملازمة الواقعية بين حكم العقل وحكم الشرعي والتزم بالملازمة الظاهرية ، ببيان أن مجرد احتمال وجود المانع والمزاحم لما أدركه العقل لا يكون عذرا في نظر العقل ، بل لابد من البناء على الملازمة إلى أن يتبين المانع والمزاحم ، فلو خالف وصادف عدم المزاحم كان عاصيا ، وهو المراد من الملازمة الظاهرية.
هذا حاصل ما أفاده « صاحب الفصول » في وجه منع الملازمة. ولا يخفى عليك ضعفه ، فان الكلام إنما هو في المستقلات العقلية ، والعقل لا يستقل بحسن شيء أو قبحه إلا بعد إدراكه لجميع ماله دخل في الحسن والقبح. ودعوى أن العقل ليس له هذا الإدراك ترجع إلى منع المستقلات العقلية ولا سبيل إلى منعها ، فإنه لا شبهة في استقلال العقل بقبح الكذب الضار الموجب لهلاك النبي مع عدم رجوع نفع إلى الكاذب ، ومع استقلال العقل بذلك يحكم حكما قطعيا بحرمته شرعا (1) لأن المفروض تبعية الأحكام الشرعية
ص: 61
للمصالح والمفاسد ، وقد استقل العقل بثبوت المفسدة في مثل هذا الكذب ، ومعه كيف يحتمل تخلف حكم الشارع؟ وما ذكره من الموارد التي ثبت فيها المصلحة ولم يكن على طبقها حكم شرعي لا يرد نقضا على ما ذكرناه ، فانا لا ننكر أنه يمكن أن تكون للمصالح والمفاسد النفس الأمرية موانع ومزاحمات ، فان ذلك مما لا سبيل إلى إنكاره ، وإنما ندعي أنه يمكن موجبة جزئية إدراك العقل لجميع الجهات من المقتضيات والموانع والمزاحمات. ودعوى أنه مع ذلك يحتمل أن يكون من الموارد التي سكت اللّه عنها مما لا يلتفت إليها ، وكيف يكون مما سكت اللّه عنها مع أن العقل رسول باطني وقد استقل به!.
وأما ما ذكره من الموارد التي كان هناك حكم ولم تكن مصلحة فهو مما لا يصغى إليه ، فإنه لا يعقل حكم بلا مصلحة ، غايته أن المصلحة قد تكون خفية لم يطلع عليها العقل.
وأضعف من ذلك كله دعوى الملازمة الظاهرية ، فان احتمال المانع والمزاحم إن تطرق عند العقل فلا يكون مستقلا ولا حكم له بالقبح والحسن مطلقا لا واقعا ولا ظاهرا ، وإن لم يتطرق فيستقل ويحكم بالملازمة الواقعية ولا معنى للملازمة الظاهرية ، إلا أن تبتنى على قاعدة المقتضى والمانع الفاسدة من أصلها ، كما سيأتي في محله ( إن شاء اللّه تعالى ).
فتحصل : أنه لا سبيل إلى منع الملازمة بعد الاعتراف بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد وبعد الاعتراف بادراك العقل لتلك المصالح والمفاسد.
* * *
ص: 62
ما نسب إلى بعض الأخباريين أيضا : من أن القاعدة وان اقتضت الملازمة بين حكم العقل والشرع ، إلا أنه قامت الأدلة السمعية على منع العمل بهذه الملازمة وأنه لابد من توسيط تبليغ الحجة ، ولا عبرة بالحكم الواصل من غير تبليغ الحجة ، ولذلك حكى عن بعض الأخباريين من المنع عن العمل بالقطع الحاصل من المقدمات العقلية. وهذا المعنى لو تم وصحت النسبة فلابد وأن يكون ذلك بنتيجة التقييد (1) - على ما تقدم بيانه في حجية القطع - ولا يرد عليه إشكال عدم المعقولية إلا أن الشأن في دلالة الأخبار المذكورة على ذلك ، فان الأخبار على كثرتها بين طوائف ثلاث : طائفة منها ظاهرة في المنع عن الأخذ بالقياس والاستحسانات الظنية والاعتبارات الوهمية (2) كما عليه العامة ، وهذا لا ربط له بما نحن فيه. وطائفة منها ظاهرة في اعتبار الولاية في صحة العبادات (3) وهذا أيضا لا ربط له بما نحن فيه. وطائفة منها ظاهرة في مدخلية تبليغ الحجة (4) وهي التي يمكن أن يستدل بها في المقام (5) وأوقعت الأخباريين في الوهم.
والانصاف : أنه لا دلالة لها على مدعاهم ، فان الحكم الشرعي المستكشف من المستقلات العقلية يكون مما وصل إلى المكلف بتبليغ الحجة
ص: 63
الباطنية ، وهو العقل الذي به يثاب وبه يعاقب ، كما في الخبر (1).
وبالجملة : لا دلالة في الأخبار على مدخلية السماع عن الصادقين علیهم السلام وإن شئت الإحاطة بهذه الجهات فراجع تقريرات الشيخ قدس سره
حكى عن « الشيخ الكبير » عدم اعتبار قطع القطاع. وهو بظاهره فاسد ، فإنه إن أراد من قطع القطاع القطع الطريقي الذي لم يؤخذ في موضوع الدليل فهو مما لا يفرق فيه بين القطاع وغيره (2) لعدم اختلاف الأشخاص والأسباب والموارد في نظر العقل في طريقية القطع وكونه منجزا للواقع عند المصادفة وعذرا عند المخالفة. وإن أراد القطع الموضوعي فهو وإن كان له وجه ، لأن العناوين التي تؤخذ في ظاهر الدليل تنصرف إلى ما هو المتعارف من غير فرق في ذلك بين الشك والظن والقطع ، فالشك المأخوذ في باب الركعات ينصرف إلى ما هو المتعارف ، ولا عبرة بشك كثير الشك ولو فرض أنه لم يرد قوله علیه السلام « لا شك لكثير الشك » غايته أنه لو لم يرد ذلك كان شك كثير الشك مبطلا للصلاة ولو تعلق في الأخيرتين ، لأنه لا يندرج في أدلة البناء على الأكثر ، فلا يكون له طريق إلى إتمام الصلاة ، فتبطل ، ولكن بعد ورود قوله علیه السلام « لا شك لكثير الشك » يلزمه البناء على الأقل أو الأكثر ، أي
ص: 64
هو في الخيار بين ذلك. وكذا الحال في الظن الذي أخذ موضوعا في عدد الركعات ، فإنه أيضا ينصرف إلى المتعارف ولا يعم كثير الظن ، فيكون حكم ظن كثير الظن حكم الشك. وكذا الحال في القطع المأخوذ موضوعا ينصرف إلى المتعارف ولا يعم قطع القطاع ، إلا أن الشأن في إمكان التفات القاطع حال قطعه إلى أنه قطاع (1) فإنه يمكن أن يقال بعدم التفاته إلى ذلك.
نعم : تظهر الثمرة بالنسبة إلى غير القاطع ، كما لو فرض أن الحاكم علم أن الشاهد قطاع ، فيمكن أن يقال بعدم قبول شهادته ، ولكن المحكى عن « الشيخ الكبير » هو عدم اعتبار قطع القطاع في القطع الطريقي المحض ، وقد عرفت أن ذلك مما لا سبيل إليه.
لا فرق في نظر العقل في الآثار المترتبة على العلم بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي ، فان العلم الإجمالي من حيث كونه علما هو العلم التفصيلي ، وإن كان من حيث شوبه بالإجمال وخلطه بالجهل يفارق العلم التفصيلي على ما سيأتي تفصيله.
ولا يخفى أن المباحث الراجعة إلى العلم الإجمالي كثيرة طويلة الذيل ، يذكر جملة منها في هذا المقام ، وجملة منها في مباحث البراءة والاشتغال ، ونحن وإن كان قد استقصينا الكلام فيما يتعلق بالعلم الإجمالي من المباحث ( في الجزء الرابع من الكتاب ) عند البحث عن أصالة الاشتغال ، إلا أنه تبعا للقوم لا بأس
ص: 65
بالإشارة إليها هنا أيضا.
فنقول : إن المباحث التي تذكر في المقام ، منها ما ترجع إلى مرحلة ثبوت التكليف بالعلم الإجمالي ، ومنها ما ترجع إلى مرحلة سقوط التكليف به ، فالكلام يقع في مقامين :
ولنقدم الكلام في المقام الثاني مع أنه كان حقه التأخير تبعا للشيخ قدس سره .
فنقول : المراد من سقوط التكليف بالعلم الإجمالي هو سقوطه بالامتثال الإجمالي على وجه الاحتياط ، ولا إشكال في سقوطه بذلك في الجملة.
وتفصيل ذلك : هو أن التكليف المعلوم بالإجمال ، إما أن يكون توصليا وإما أن يكون تعبديا. فان كان توصليا فلا ينبغي الإشكال في حسن الاحتياط وسقوط التكليف بذلك ، سواء استلزم التكرار أو لم يستلزم ، كانت الشبهة موضوعية أو حكمية ، قبل الفحص أو بعد الفحص ، كان الترديد بين الوجوب والاستحباب أو مع احتمال الإباحة أيضا ، فإنه على جميع التقادير يحسن الاحتياط ويسقط التكليف به ولو مع التمكن من الامتثال التفصيلي ، لحصول الغرض ، وذلك واضح.
وإن كان تعبديا ففي حسن الاحتياط وسقوط التكليف به مطلقا ولو مع التمكن من الامتثال ، أو عدم حسنه مطلقا ، أو التفصيل بين ما إذا لم يستلزم منه تكرار جملة العمل وبين ما إذا استلزم ذلك وجوه ، وقبل بيان ذلك ينبغي التنبيه على أمور :
الأمر الأول : ينسب إلى جمهور المتكلمين وبعض الفقهاء اعتبار معرفة الوجه وقصده في العبادة ، وقد حكى الإجماع على ذلك أيضا.
والأقوى : عدم اعتبار ذلك ، لأن حقيقة الطاعة عند العقل عبارة عن الانبعاث وكون الإرادة الفاعلية منبعثة عن الإرادة الآمرية ، وهذا المعنى لا
ص: 66
يتوقف على معرفة الوجه وقصده ، بل المعتبر هو أن يكون الداعي إلى الفعل إرادة الآمر.
وأما معرفة كون البعث إلزاميا أو غير إلزامي فلا دخل لها في ذلك أصلا عند العقل والعقلاء الحاكم في هذا الباب ، فلو كان قصد الوجه معتبرا فلابد وأن يكون اعتباره بأمر شرعي ، وليس فيما بأيدينا من الأدلة ما يستشم منه اعتبار ذلك ، مع أنه مما تعم به البلوى وتكثر الحاجة إليه ، وليس المقام من المقامات التي تتوفر الدواعي إلى إخفائها في الأمور التي ترجع إلى باب الولاية والإمامة ، فالمقام يكون من أظهر المقامات التي كان عدم الدليل فيها دليل العدم ، بل مما يقطع بعدم اعتبار ذلك شرعا ، وإلا لاستفاضت به الروايات.
والإجماع المحكى في المقام مما لا اعتبار به ، لأنه من الممكن أن يكون مدعى الإجماع قد سلك مسلك المتكلمين وادعى الإجماع على مذاق المتكلمين في المسألة الكلامية لا في المسألة الفقهية ، مع أنه لو سلم يكون من الإجماع المنقول الذي لا عبرة به.
فالإنصاف : أن مدعى القطع بعدم اعتبار قصد الوجه في العبادات لا يكون مجازفا في دعواه. ثم لو سلم عدم القطع ، فلا أقل من الشك والأصل في ذلك يقتضي البراءة لا الاشتغال ، لأن الشك في اعتبار قصد الوجه يرجع إلى الشك في اعتبار قيد في المأمور به شرعا زائد عما يعتبره العقل في الطاعة ، لما تقدم من أن العقل لا يعتبر في الإطاعة أزيد من كون الشخص منبعثا عن البعث ومتحركا عن الإرادة ، فقصد الوجه لو كان معتبرا فلابد وأن يكون ذلك من جهة الشرع ، والمرجع حينئذ عند الشك في الاعتبار هو البراءة ، كما أن المرجع عند الشك في أصل التعبدية والتوصلية ذلك ، بناء على ما هو المختار : من أن التعبدية تتوقف على الأمر بها ولو بمتمم الجعل ، على ما تقدم تفصيله في مبحث التعبدي والتوصلي.
نعم : بناء على أن اعتبار قصد الامتثال من باب دخله في الغرض و
ص: 67
أنّ اللازم هو تحصيل الغرض يكون المرجع عند الشك هو الاشتغال (1) من غير فرق بين الشك في أصل اعتبار قصد الامتثال أو الشك فيما يستتبعه من قصد الوجه ومعرفته ، فإنه على هذا المعنى لا يرجع الشك إلى ما يكون مجعولا شرعيا حتى تجرى فيه البراءة الشرعية ، وصاحب هذا المسلك لابد له من دعوى القطع بعدم اعتبار قصد الوجه ، وإلا فلو وصلت النوبة إلى الشك يكون الأصل فيه هو الاشتغال. ولكن المبنى عندنا فاسد ، فالأصل يقتضي البرائة.
الأمر الثاني : لا إشكال في أن الحاكم بالاستقلال في باب الطاعة وحسنها هو العقل ، لا بمعنى أنه ليس للشارع التصرف في كيفية الإطاعة. فان ذلك بمعزل عن الصواب ، لوضوح أن حكم العقل في باب الطاعة إنما هو لأجل رعاية امتثال الأوامر الشرعية والخروج عن عهدتها ، فللشارع أن يتصرف في كيفية إطاعة أوامره زائدا عما يعتبره العقل كبعض مراتب الرياء ، حيث قامت الأدلة الشرعية على اعتبار خلو العبادة عن أدنى شائبة الرياء مع أن العقل لا يستقل بذلك ، وللشارع أيضا أن يكتفى في امتثال أوامره بما لا يكتفى به العقل لو خلى ونفسه ، كما في الأصول الشرعية الجارية في وادى الفراغ ، ولكن كل ذلك يحتاج إلى قيام الدليل عليه ، فلو لم يقم دليل شرعي على التصرف في بيان كيفية الإطاعة فالأمر موكول إلى نظر العقل ، فان استقل بشيء فهو ، وإلا فالمرجع هو أصالة الاشتغال لا البراءة ، لأن الشك في اعتبار شيء في كيفية
ص: 68
الإطاعة عقلا يرجع بالأخرة إلى الشك في التعيين والتخيير لا الأقل والأكثر ، والأصل يقتضي التعيين ، كما سيأتي توضحيه في محله.
ولا يقاس الشك في اعتبار شيء في كيفية الإطاعة العقلية بالشك في اعتبار مثل قصد التعبد والوجه ، لما عرفت من أن اعتبار مثل قصد التعبد والوجه إنما يكون بتقييد العبادة شرعا بذلك ولو بنتيجة التقييد (1) فالشك فيه يرجع إلى الشك في الأقل والأكثر الارتباطي ، وهذا بخلاف الشك في اعتبار شيء في كيفية الإطاعة العقلية ، فإنه يرجع إلى الشك في التعيين والتخيير (2) كما لو فرض الشك في كون الإمتثال التفصيلي في عرض الإمتثال الاحتمالي أو طوله ، كما سيأتي بيانه.
الأمر الثالث : مراتب الامتثال والإطاعة عند العقل أربعة (3)
ص: 69
المرتبة الأولى : الامتثال التفصيلي ، سواء كان بالعلم الوجداني أو بالطرق والأمارات والأصول المحرزة التي تقوم مقام العلم ، فان الامتثال بالظنون الخاصة وبالأصول المحرزة يكون في حكم الامتثال بالعلم الوجداني ، بل الامتثال بالظن المطلق عند انسداد باب العلم بناء على الكشف أيضا يكون حكمه حكم الامتثال بالعلم وفي عرضه ، فان حال الظن المطلق بناء على الكشف حال الظن الخاص ، لأن معنى الكشف هو أن الشارع جعل الظن حجة مثبتا للأحكام الواقعية وطريقا محرزا لها ، فيكون الامتثال به في عرض الامتثال العلمي.
وما ربما يتوهم : من أنه كيف يكون الظن بناء على الكشف في عرض العلم مع أن اعتباره موقوف على انسداد باب العلم ، فهو واضح الفساد ، فان المراد من انسداد باب العلم انسداده في معظم الأحكام لا في جميعها (1)
ص: 70
ففي المورد الذي يمكن تحصيل العلم مع انسداد بابه في معظم الأحكام يكون المستنتج حجيته من مقدمات الانسداد بناء على الكشف في عرض العلم.
وظاهر كلام الشيخ قدس سره عدم الفرق في الظن بين القول بالكشف وبين القول بالحكومة في تأخر رتبة الامتثال به عن الامتثال العلمي ، قال ( قده ) في مقام الرد على مقالة المحقق القمي (رحمه اللّه) « والعجب ممن يعمل بالأمارات من باب الظن المطلق ثم يذهب إلى عدم صحة عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد والأخذ بالاحتياط » انتهى.
والإنصاف : أن تعجب « الشيخ » ليس في محله ، فان « المحقق القمي ره » من القائلين بالكشف ، فيكون حال الظن حال العلم.
فتحصل : انه لا فرق بين العلم الوجداني والظن الخاص والظن المطلق على الكشف في حصول الامتثال بكل واحد منها. نعم : بين الامتثال بالعلم الوجداني والامتثال بالطرق والظنون الخاصة فرق لا دخل له فيما نحن فيه ، وهو أنه بعد الامتثال بالعلم الوجداني لا يبقى موقع للاحتياط ، لعدم تطرق احتمال مخالفة الامتثال للواقع ، بخلاف الامتثال بالظنون الخاصة ، فإنه يبقى موقع للاحتياط ، لتطرق احتمال مخالفة الظن للواقع.
ولكن ينبغي بل يمكن أن يقال : إنه يتعين أولا العمل بمقتضى الطريق (1) ثم العمل بما يقتضيه الاحتياط. وعلى ذلك يبتني الخلاف الواقع بين العلمين « الشيخ الأنصاري » و « السيد الشيرازي » ( قدس سرهما ) في
ص: 71
مسألة تقديم القصر على التمام أو تقديم التمام على القصر في المسافر إلى أربع فراسخ مع إرادة الرجوع ليومه ، فان « الشيخ قده » لما اختار في المسألة تقديم أدلة وجوب التمام جعل الاحتياط بالقصر بعد فعل التمام ، و « السيد » اختار تقديم أدلة وجوب القصر جعل الاحتياط بالتمام بعد فعل القصر.
المرتبة الثانية : ( من مراتب الامتثال ) الامتثال العلمي الإجمالي ، كالاحتياط في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي.
المرتبة الثالثة : الامتثال الظني ، سواء في ذلك الظن الذي لم يقم دليل على اعتباره ، أو الظن المطلق عند انسداد باب العلم بناء على الحكومة ، فان معنى الحكومة هو حكم العقل بتعين الامتثال الظني عند تعذر الامتثال العلمي ، فيكون الظن بناء على الحكومة واقعا في طريق الامتثال ، على ما سيأتي توضيحه.
المرتبة الرابعة : الامتثال الاحتمالي ، كما في الشبهات البدوية أو الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي عند تعذر الامتثال الإجمالي أو الظني.
ولا إشكال في أنه لا تصل النوبة إلى الامتثال الاحتمالي إلا بعد تعذر الامتثال الظني (1) ولا تصل النوبة إلى الامتثال الظني إلا بعد تعذر الامتثال الإجمالي ، إنما الإشكال في المرتبتين الأولتين.
فقيل : إنهما في عرض واحد ، وقيل بتقديم رتبة الامتثال التفصيلي مع الإمكان على الامتثال الإجمالي ، وعلى ذلك يبتني بطلان عبادة تاركي طريق
ص: 72
الإجتهاد والتقليد والعمل بالاحتياط. وهذا هو الأقوى ، ولكن في خصوص ما إذا استلزم منه تكرار جملة العمل ، فان حقيقة الإطاعة عند العقل هو الانبعاث عند بعث المولى ، بحيث يكون الداعي والمحرك له نحو العمل هو تعلق الأمر به وانطباق المأمور به عليه ، وهذا المعنى في الامتثال الإجمالي لا يتحقق ، فان الداعي له نحو العمل بكل واحد من فردي الترديد ليس إلا احتمال تعلق الأمر به ، فإنه لا يعلم انطباق المأمور به عليه بالخصوص. نعم : بعد الإتيان بكلا فردي الترديد يعلم بتحقق ما ينطبق المأمور به عليه ، والذي يعتبر في حقيقة الطاعة عقلا هو أن يكون عمل الفاعل حال العمل بداعي تعلق الأمر به حتى يتحقق منه قصد الامتثال التفصيلي فيما بيده من العمل ، ومجرد العلم بتعلق الأمر بأحد فردي الترديد لا يقتضي أن يكون الانبعاث عن البعث المولوي ، بل أقصاه أن يكون الانبعاث عن احتمال البعث بالنسبة إلى كل واحد من العملين. نعم : الانبعاث عن احتمال البعث وإن كإن أيضا نحوا من الطاعة عند العقل إلا أن رتبته متأخرة عن الامتثال التفصيلي.
فالإنصاف : أن مدعى القطع بتقدم رتبة الامتثال التفصيلي على الامتثال الإجمالي في الشبهات الموضوعية والحكمية مع التمكن من إزالة الشبهة لا يكون مجازفا في دعواه (1) مع أنه لو سلم الشك في ذلك فقد عرفت أن الأصل يقتضي الاشتغال لا البراءة ، لأن مرجع الشك في ذلك إلى الشك في التخيير بين الامتثال التفصيلي والإجمالي أو تعين الامتثال التفصيلي.
هذا إذا كان المعلوم بالإجمال مرددا بين المتباينين بحيث استلزم من الاحتياط تكرار جملة العمل. وإن كان مرددا بين الأقل والأكثر - كالشك في
ص: 73
وجوب السورة مثلا في الصلاة - فالأقوى أنه لا يجب على المكلف إزالة الشبهة وإن تمكن منها بالعلم والاجتهاد أو التقليد ، لأنه يمكن قصد الامتثال التفصيلي بالنسبة إلى جملة العمل ، للعلم بتعلق الأمر به وإن لم يعلم بوجوب الجزء المشكوك ، إلا إذا قلنا باعتبار قصد الوجه في الأجزاء ، وقد تقدم ضعفه. وهذا من غير فرق بين ما إذا تردد أمر الجزء المشكوك بين الوجوب والاستحباب كالسورة ، أو مع احتمال الإباحة أيضا كجلسة الاستراحة ، بل لو تردد أمره بين المتباينين - كالجهر والإخفات في ظهر الجمعة - فإنه للمكلف الاحتياط بتكرار القراءة بلا تكرار الصلاة.
هذا كله إذا كانت الشبهة مقرونة بالعلم الإجمالي. وإن كانت الشبهة بدوية : ففي الشبهات الموضوعية يحسن الاحتياط مطلقا قبل الفحص وبعده ، لعدم وجوب الفحص فيها. وإن كانت الشبهة حكمية : فلا يحسن الاحتياط إلا بعد الفحص ، لأن التكاليف في الشبهات الحكمية تتنجز بما يعتبر فيها بمجرد الالتفات إليها ، إلا إذا تفحص المكلف ولم يعثر عليها فإنه يكون حينئذ معذورا. وبعد البناء على اعتبار الامتثال التفصيلي في حسن الطاعة يكون حاله حال ساير القيود والأجزاء يتنجز التكليف به على تقدير ثبوت التكليف واقعا مع التمكن من إزالة الشبهة بالفحص. هذا تمام الكلام في المقام الأول وهو سقوط التكليف بالعلم الإجمالي.
في ثبوت التكليف بالعلم الإجمالي.
وينبغي أن نقتصر في المقام على فهرست ما يتعلق بذلك من المباحث والإشارة الإجمالية إلى ما هو المختار فيها : ونحيل تفصيلها إلى الجزء الرابع من
ص: 74
كتابنا ، فإنه قد استقصينا الكلام فيها بما لا مزيد عليه ، إلا بعض الأمور التي تختص ذكرها هنا.
فنقول : إن الأمور التي وقع البحث عنها في باب العلم الإجمالي كثيرة.
قد توهم أن العلم الذي يكون موضوعا عند العقل في باب الطاعة والمعصية يختص بالعلم التفصيلي ولا يعم العلم الإجمالي ، بتقريب : أن العقل إنما يستقل بقبح الإقدام على عمل يعلم أنه معصية لأمر المولى ونهيه ، وهذا يتوقف على العلم بتعلق الأمر أو النهى بما يأتي به من العمل ، وفي العلم الإجمالي لا يكاد يتحقق هذا المعنى ، لانه عند الاقتحام بكل واحد من أطراف المعلوم بالإجمال لا يعلم بأن اقتحامه يكون معصية لأمر المولى أو نهيه ، لعدم العلم بتعلق الأمر أو النهى به بخصوصه ، غايته أنه بعد الاقتحام بجميع الأطراف يعلم بتحقق المخالفة ، والعقل لا يستقل بقبح الاقتحام على ما يعلم بعد ذلك بحصول المخالفة ، هذا.
ولكن فساد هذا التوهم بمكان من الوضوح ، بداهة أن العقل يستقل بقبح مخالفة التكليف المحرز الواصل إلى المكلف بأحد طرق الوصول. ومن جملتها العلم الإجمالي ، فان التكليف في موارد العلم الإجمالي واصل إلى المكلف ومحرز لديه ، والإجمال إنما يكون في المتعلق ، وإلا فنفس التكليف والإلزام معلوم تفصيلا (1) وهو على ما عليه من إجمال المتعلق يصلح لأن يكون بعثا مولوياً و
ص: 75
يمكن الانبعاث عنه ، بحيث لو فرض أنه لو كان الخطاب الواقع كذلك - أي على ما هو عليه من الإجمال (1) من دون أن يتعلق بخصوصية أحد الأطراف - لكان لك تكليفا مولويا ، يصلح لأن يكون داعيا ومحركا لإرادة العبد نحو امتثاله وينتج نتيجة التخيير الشرعي أو العقلي - على اختلاف المقامات - فالجهل بالخصوصية لا يضر بالمعلوم بالإجمال ولا يمنع عن حكم العقل بقبح الاقتحام على مخالفته ، وذلك واضح لا ينبغي إطالة الكلام فيه.
الأمر الثاني :
ذهب بعض الأعاظم إلى انحفاظ رتبة الحكم الظاهري في أطراف العلم الإجمالي (2) لأن موضوع الحكم الظاهري هو الجهل بالواقع ، والأصول
ص: 76
العملية إنما تجرى في كل واحد من الأطراف بخصوصه وكل واحد منها مجهول الحكم ، وليس في البين أصلى عملي يجرى في مقابل نفس المعلوم بالإجمال حتى يقع التضاد والمنافاة بين مؤدى الأصل والمعلوم بالإجمال ، فلا يلزم من جريان الأصول في الأطراف محذور المناقضة والتضاد.
قلت : جريان الأصول العملية في كل واحد من الأطراف يستلزم الجمع في الترخيص بين جميع الأطراف (1) والترخيص في الجميع يضاد التكليف المعلوم بالإجمال ، فلا يمكن أن تكون رتبة الحكم الظاهري محفوظة في جميع الأطراف. نعم : يمكن الترخيص في بعض الأطراف والاكتفاء عن الواقع بترك الآخر أو فعله.
ودعوى الملازمة بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية وأن العلم الإجمالي إما أن يكون علة تامة بالنسبة إلى كلا المرحلتين وإما أن لا يكون ، فهي مما لا شاهد عليها ولا سبيل لها ، بداهة أن العلم الإجمالي لا يزيد عن العلم التفصيلي (2) وللشارع الاكتفاء بالإطاعة الاحتمالية في العلم
ص: 77
التفصيلي ، كما هو مفاد الأصول الجارية في وادى الفراغ ، فما ظنك بالعلم الإجمالي؟ وقد أشبعنا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في مبحث الاشتغال ، فراجع.
الأصول المتكفلة للتنزيل كالاستصحاب لا تجري في أطراف العلم الإجمالي مطلقا لزم منها المخالفة العملية أو لم يلزم ، فلا يجري استصحاب النجاسة في كل واحد من الإنائين اللذين علم إجمالا بطهارة أحدهما مع سبق النجاسة في كل منهما ، كما لا يجرى استصحاب الطهارة فيهما مع العلم بنجاسة أحدهما وسبق الطهارة في كل منهما ، مع أنه لا يلزم من جريان الاستصحابين في الفرض الأول مخالفة عملية للتكليف المعلوم بالإجمال ، لان التعبد ببقاء الواقع في كل من الإنائين ينافي العلم بعدم بقائه في واحد منهما. وهذا بخلاف الأصول الغير المتكفلة للتنزيل - كأصالة البراءة والحل والاحتياط - فان جريانها في أطراف العلم الإجمالي يدور مدار لزوم المخالفة العملية وعدمه ، فإن لم يلزم من جريانها مخالفة عملية تجرى ويلزم العمل على مقتضاها ، وقد ذكرنا تفصيل الكلام في ذلك بأمثلته في خاتمة الاستصحاب.
المانع من جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي ليس قصور أدلة اعتبارها وعدم شمولها للشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي كما توهم ، لوضوح أن ذلك على تقدير تسليمه يختص ببعض أخبار الاستصحاب مما اشتمل على لزوم نقض اليقين باليقين ، فان اشتماله على ذلك هو الذي أوجب توهم عدم شمول الدليل للشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي. وأما بقية أخبار الاستصحاب وأدلة سائر الأصول فليس فيها ما يقتضي توهم اختصاصها بغير الشبهة المقرونة بالعلم
ص: 78
الإجمالي ، بل المانع من جريانها هو قصور المجعول فيها وعدم انحفاظ رتبتها ، من جهة لزوم المناقضة بين مؤدى الأصول والتكليف المعلوم بالإجمال ، كما تقدمت الإشارة إليه ، فالبحث عن عموم أدلة الأصول وعدم عمومه مما لا أثر له ، فإنه مع فرض عمومها لابد من تخصيصها عقلا بغير الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ، على تفصيل بين الأصول المتكفلة للتنزيل وغيرها ، كما تقدم الإشارة إليه.
كما أنه لا أثر للبحث عن أن عدم جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي إنما هو لعدم المقتضى أو لثبوت المانع ، مع أنه لم يظهر المراد من المقتضى والمانع المبحوث عنه في المقام.
فان كان المراد من المقتضى ، هو أن كل واحد من الأطراف من حيث كونه مجهول الحكم فيه اقتضاء جريان الأصل والعلم الإجمالي بتعلق التكليف بأحدهما مانع عن جريانه ، فهذا معنى صحيح غير قابل للنزاع والبحث فيه.
وإن كان المراد من المقتضى ، هو أن أدلة الأصول تعم أطراف العلم الإجمالي ولزوم المخالفة العملية من جريانها مانع في مقابل من يقول : إن أدلة الأصول لا تعم أطراف العلم الإجمالي - كما يظهر من الشيخ - فقد عرفت أن البحث عن عموم الدليل وعدمه مما لا أثر له بعد عدم قابلية المجعول في باب الأصول لان يعم أطراف العلم الإجمالي.
فالإنصاف : أن البحث عن ثبوت المقتضى ولا ثبوته مما لا يرجع إلى محصل ، ويأتي تفصيله في خاتمة الاستصحاب وفي الاشتغال.
يعتبر في تأثير العلم الإجمالي أمور :
الأمر الأول : أن يكون التكليف المعلوم بالإجمال صالحا للإنبعاث
ص: 79
عنه وقابلا لأن يكون محركا لإرادة المكلف نحو امتثاله مع ما هو عليه من الإجمال ، بحيث يمكنه المخالفة القطعية للتكليف ، فلا أثر للعلم الإجمالي إذا تعلق بما لا يمكن أن يكون محركا لإرادة العبد ، كموارد دوران الأمر بين المحذورين ، فان التكليف المردد ين وجوب الحركة أو السكون غير صالح للانبعاث عنه بعد ما كان العبد لا يخلو عن أحدهما تكوينا ، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى ( في مبحث البراءة ) ان شيئا من الأصول العقلية والشرعية لا تجري في موارد دوران الأمر بين المحذورين.
وليعلم أنه يعتبر في دوران الأمر بين المحذورين أمور :
الأول : وحدة القضية وعدم تكررها ، فان في صورة تكرار القضية يتمكن المكلف من المخالفة القطعية ، كما لو دار أمر المرأة بين كونها محلوفة الوطي في كل ليلة من ليالي الأسبوع ، أو محلوفة الترك كذلك ، فإنه مع وطيها في بعض ليالي الأسبوع وترك وطيها في الليالي الاخر يعلم بمخالفة التكليف.
الثاني : أن لا يكون المكلف به في كل من طرف الفعل والترك تعبديا أو كان أحدهما المعين تعبديا ، فإنه لو كان كذلك لكان المكلف متمكنا من المخالفة القطعية بترك قصد التعبد في أحدهما أو في خصوص المعين ، ومهما تمكن المكلف من المخالفة القطعية فالعلم الإجمالي يقتضي التنجيز ولو بهذا المقدار ولو لم تجب الموافقة القطعية لعدم التمكن منها. ودعوى الملازمة بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية فإذا لم تجب الموافقة القطعية لم تحرم المخالفة القطعية ، قد عرفت ما فيها.
الثالث : عدم القول بوجوب الموافقة الالتزامية للتكليف المعلوم بالإجمال ، فإنه لو بنينا على وجوب الموافقة الالتزامية لكان المكلف متمكنا أيضا من المخالفة القطعية بترك الالتزام بالتكليف المعلوم بالإجمال أو الالتزام بضده. ولكن في أصل الموافقة الالتزامية موضوعا وحكما إشكال ، فان المراد من الموافقة الالتزامية إن كان هو التصديق بما جاء به النبي ( صلى اللّه
ص: 80
عليه وآله ) فهذا مما لا إشكال في وجوبه ، لأن عدم الالتزام بذلك يرجع إلى إنكار النبي صلی اللّه علیه و آله . وإن كان المراد منها معنى آخر ، فلو سلم أن وراء التصديق بما جاء به النبي صلی اللّه علیه و آله معنى آخر فلا دليل على وجوبه ، ولو سلم قيام الدليل عليه فهو يختص بما إذا علم بالتكليف تفصيلا ليمكن الالتزام به ، ولو سلم أن الدليل يعم العلم الإجمالي فالالتزام بالواقع على ما هو عليه في موارد العلم الإجمالي بمكان من الإمكان ، وهذا لا ينافي كون أمر التكليف من حيث العمل يدور بين المحذورين.
الأمر الثاني : يعتبر في تأثير الإجمالي أن لا يسبق التكليف ببعض الإطراف على العلم الإجمالي (1) وإلا كان الأصل النافي للتكليف جاريا في الطرف الآخر بلا معارض ، كما إذا علم بوقوع قطرة من الدم في أحد الإنائين مع أن أحدهما المعين كان نجسا قبل وقوع القطرة من الدم في أحدهما ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك بما له من الفروع في مبحث الاشتغال.
الأمر الثالث : أن يكون التكليف المعلوم بالإجمال مما له تعلق بشخص العالم ، أي كان شخص العالم هو المخاطب بالتكليف ، فلا أثر للعلم الإجمالي إذا كان التكليف المعلوم بالإجمال مرددا بين شخصين - كالجنابة المرددة بين الشخصين في الثوب المشترك - فان أصالة عدم الجنابة تجرى في حق كل من الشخصين بلا معارض.
نعم : قد يتولد من العلم بجنابة أحد الشخصين ما يقتضي تعارض الأصلين ، وذلك يتصور في موارد :
منها : ما إذا اجتمعا في صلاة الجمعة بحيث كانا من المتممين للعدد
ص: 81
المعتبر فيها سواء كانا مأمومين أو كان أحدهما مأموما والآخر إماما ، فلا تصح صلاة كل منهما. بل لا تصح صلاة كل من اجتمع معهما لأنه يعتبر في صلاة الجمعة أن يكون كل من المأمومين محرزا - ولو بالأصل - صحة صلاة الإمام وبقية المأمومين ، ومع العلم بجنابة المجتمعين لصلاة الجمعة لا يمكن إحراز صحة صلاة الجميع ، فلا يمكن أن يجرى كل شخص أصالة عدم الجنابة في حق نفسه. وإن شئت قلت : إن صلاة المجتمعين في صلاة الجمعة بمنزلة صلاة واحدة مرتبطة بعضها مع بعض ، فأصالة عدم الجنابة في كل من الشخصين تعارض أصالة عدمها في الشخص الآخر.
ومنها : ما إذا اقتدى أحدهما بالآخر في غير صلاة الجمعة ، أو اقتدى ثالث بكل منهما في صلاتين أو صلاة واحدة ، فإنه في الفرض الأول يعلم بفساد إحدى الصلاتين إما صلاة نفسه أو صلاة إمامه ، وفي الفرض الثاني يعلم بفساد صلاة أحد الإمامين ، إلا إذا قلنا : إنه يكفي في صحة صلاة الجماعة إحراز كل من الإمام والمأموم صحة صلاة نفسه ولو بالأصل ، ولا يعتبر في الصحة إحراز المأموم صحة صلاة الإمام ، فإنه على هذا تصح صلاة الجميع وتجرى أصالة عدم الجنابة في حق كل منهما بلا معارض ، وتفصيل ذلك موكول إلى محله.
ومنها : ما إذا استأجر كل منهما لما يكون مشروطا بالطهارة كالصلاة والصوم ، فان المستأجر يعلم بفساد صلاة أحد الأجيرين. فلا تفرغ ذمة المنوب عنه ، إلا إذا قلنا أيضا بأنه يكفي في صحة الإجارة وتفريغ ذمة المنوب عنه كون الأجير محرزا لصحة عمله ولو بالأصل.
ومنها : ما إذا استأجر كل منهما لما يحرم على الجنب فعله - ككنس المسجد والدخول فيه لحمل المتاع ونحو ذلك - فإنه قد يقال : بفساد الإجارة للعلم بحرمة دخول أحد الأجيرين.
ولكن الأقوى في هذا الفرض صحة الإجارة لأنه لا يعتبر في صحتها
ص: 82
سوى كون العمل مملوكا للأجير وممكن الحصول للمستأجر وكل من الشرطين حاصل في الفرض ، لأن كلا من الأجيرين مالك لعمل نفسه فإنه يباح لكل منهما الدخول في المسجد وكنسه ولو بمقتضى الأصل ، فيجوز لهما ذلك ، وإذا جاز لهما ذلك جاز استيجارهما عليه.
ومنها : غير ذلك من الموارد التي تظهر للمتأمل.
الأمر الرابع : أن لا يكون للعلم بالخصوصية دخل في الحكم ، بحيث كان إجمال المتعلق مما يقتضي تبدل الحكم واقعا. وبعبارة أخرى : يعتبر في تأثير العلم الإجمالي أن لا يكون الموضوع من الموضوعات التي يعتبر العلم بالخصوصية في ترتب الحكم عليه ، سواء كان الحكم من الأحكام التكليفية ، أو من الإحكام الوضعية ، وعلى ذلك يبتني حصول الشركة في الأموال عند الخلط ، فإنه تبطل ملكية الخصوصية وتحصل الإشاعة في المالين المختلطين واقعا ، من غير فرق بين خلط الحنطة بالحنطة أو خلط الدراهم بالدراهم ، وإن خالف بعض في حصول الشركة وثبوت الإشاعة بخلط الدارهم.
ولكن الأقوى : حصول الشركة فيها أيضا ، والسر في حصول الشركة بخلط الأموال هو أن الملكية لما كانت من الأمور الاعتبارية العرفية (1) كان إجمال الخصوصية موجبا لبطلانها وعدم اعتبارها لمالكها ، فتخرج الخصوصية الإفرازية عن ملك صاحبها وتحصل الشركة بنسبة المالين المختلطين : من النصف والثلث والربع.
ص: 83
وما ورد في الدرهم الودعي : من إعطاء أحد الدرهمين عند تلف الثالث لصاحب الدرهمين وتنصيف الدرهم الآخر بين مالك الدرهم والدرهمين بالسوية - كما في رواية السكوني - لابد من حمله على صورة عدم خلط الدراهم ، وإلا كان الحكم فيه التثليث.
وبالجملة : الخلط في باب الأموال يوجب الشركة وبطلان خصوصية الإفراز كما عليه الأصحاب واستفاضت به الروايات. نعم : الحكم بالشركة يختص بصورة الخلط. وأما في صورة اشتباه المالين وعدم تميز أحدهما عن الآخر بلا خلط ، فالحكم فيها هو التصالح أو القرعة ، وتفصيل الكلام في ذلك موكول إلى محله.
الأمر الخامس : أن لا يكون في البين ما يوجب بطلان اقتضاء العلم الإجمالي وسقوطه عن الأثر : من التحالف وحكم الحاكم والإقرار المستتبع لتنصيف المال ، أو فسخ العقد المتنازع فيه.
والفرق بين هذا الأمر والأمر السابق هو أنه في الأمر السابق كان إجمال المتعلق بنفسه يوجب بطلان اقتضاء العلم الإجمالي ، وفي هذا الأمر إجمال المتعلق بنفسه لا يوجب ذلك ، بل لابد من تعقبه بحكم الحاكم أو التحالف أو الإقرار ، فان هذه الأمور توجب تبدل موضوع الحكم ، إما تبدلا واقعيا ، وإما تبدلا ظاهريا.
وتفصيل ذلك : هو أنه في مورد التحالف يتبدل الموضوع واقعا ، لأنه يقتضي فسخ العقد المتنازع فيه ورجوع كل من الثمن والمثمن إلى ملك مالكه قبل العقد ، فيبطل اقتضاء العلم الإجمالي بانتقال أحد الثمنين أو المثمنين المتنازع فيه ، بل يبطل اقتضاء العلم التفصيلي بانتقال ما لا نزاع فيه ملك مالكه ، فإنه يكون حكم الفسخ بالتحالف حكم الفسخ بالخيار أو الإقالة موجبا لانتقال كل ملك إلى مالكه الأصلي.
ص: 84
وأمّا حكم الحاكم : فبالنسبة إلى غير المحكوم له يوجب التبدل الواقعي أيضا ، فلو ادعى أحد الشخصين ملكية جميع الدار ، وادعى الآخر ملكية الجميع أيضا ، وكانت الدار في يد كل منهما ، أو أقام كل منهما البينة ، أو حلف كل منهما على نفي ما يدعيه الآخر ، فالذي عليه الأصحاب ونطقت به الروايات هو الحكم بالتنصيف ، وبعد حكم الحاكم بالتنصيف ينتقل نصف الدار عن مالكها ، يعنى يجب ترتيب آثار الانتقال الواقعي ما لم يبطل الحكم باقرار المحكوم له أو بالانكشاف القطعي ، فان الإقرار أو الانكشاف القطعي يكون بمنزلة فسخ العقد ، فلا أثر للعلم الإجمالي بكون الدار كلها لأحد المتداعيين وأخذ أحدهما النصف بلا حق ، فللثالث أن يشترى كل من النصفين من كل من المتداعيين.
نعم : بالنسبة إلى المحكوم له يكون حكم الحاكم بمنزلة الحكم الظاهري ، له التصرف في النصف المحكوم له ما لم يعلم بالخلاف وأن دعواه كانت بلا حق.
وأما الإقرار : فهو بالنسبة إلى المقر له يكون طريقا محضا ليس له التصرف في المقر به مع علمه بمخالفة الإقرار للواقع ، وأما في حق غير المقر له فيجرى الإقرار مجرى السبب الواقعي ، ويجب ترتيب آثار انتقال المقر به إلى المقر له ، فلو أقر شخص بأن ما في يدي لزيد ، ثم أقر بأنه لعمرو ، يعطى ما في يده لزيد ويغرم قيمته لعمرو ، ويجوز للثالث أن يجمع عنده عين ما في يد المقر مع ما يغرمه لعمرو بأحد موجبات الاجتماع ، إلا إذا علم ببطلان خصوص أحد الإقرارين تفصيلا.
ولا يخفى أن في كثير من فروض هذه المسائل إشكال وخلاف (1) وحيث كانت المسائل فقهية لا ينبغي إطالة الكلام فيها. وتفصيلها موكول إلى
ص: 85
محلّها.
والغرض في المقام مجرد الإشارة إلى بيان أن ما ذكره الشيخ قدس سره من الموارد التي توهم فيها انحزام القاعدة التي يقتضيها العلم الإجمالي - من عدم جواز المخالفة القطعية للمعلوم بالإجمال - ليس شيء منها تقتضي ذلك.
إذ منها : ما لا يصح الالتزام به ، كمسألة جواز إحداث القول الثالث عند اختلاف الأمة على قولين يعلم أن الإمام مع أحدهما ، وكجواز ارتكاب كلا المشتبهين دفعة أو تدريجا.
ومنها : ما نلتزم به ولا يكون مخالفا لما يقتضيه العلم الإجمالي ، كمسألة اقتداء أحد واجدي المنى بالآخر ، وكمسألة التنصيف في باب التداعي والتحالف ، فان العلم الإجمالي يسقط عن التأثير في هذه الموارد بالبيان المتقدم.
وهو أنه لو تردد المعلوم بالإجمال بين ما يكون بوجوده الواقعي ذا أثر وبين ما يكون بوجوده العلمي ، كما لو تردد حال الثوب بين الغصب والنجاسة ، فالعلم الإجمالي ما دام موجودا يقتضي أثره ويترتب عليه جميعه الآثار المترتبة على الغصب والنجاسة ، فلا يجوز استعمال الثوب والتصرف فيه تصرفا مشروطا بالطهارة والإباحة.
وأما الآثار الزائدة المترتبة على الشيء بوجوده الواقعي فلا تترتب ، فلو غفل المكلف عن علمه وصلى في الثوب لم يجب عليه الإعادة والقضاء لاحتمال أن يكون غصبا ، والصلاة في الثوب المغصوب مع النسيان صحيحة واقعا.
والنجاسة لم يتعلق العلم بها في وقت حتى يقال : إن العلم بالنجاسة آناً ما
ص: 86
يكفي في فساد الصلاة ولو مع الذهول والنسيان (1) وسيأتي لذلك مزيد وتوضيح في مبحث الاشتغال.
هذا قليل من كثير مما يتعلق بالعلم الإجمالي من المباحث وما يعتبر فيه من الشرائط ، واستقصاء الكلام في الجميع موكول إلى « الجزء الرابع » من الكتاب ، وليكن هذا آخر ما أردنا بيانه في المقام الأول المتكفل للبحث عن مسائل القطع.
والحمد اللّه أوّلاً وآخراً
والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين
واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
ص: 87
وتفصيل البحث عن ذلك يستدعى رسم مباحث :
والمراد من الإمكان المبحوث عنه في المقام هو الإمكان التشريعي ، يعنى أن من التعبد بالأمارات هل يلزم محذور في عالم التشريع : من تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة واستلزامه الحكم بلا ملاك واجتماع الحكمين المتنافيين ، وغير ذلك من التوالي الفاسد المتوهمة في المقام؟ أو أنه لا يلزم شيء من ذلك؟ وليس المراد من الإمكان هو الإمكان التكويني بحيث يلزم من التعبد بالظن أو الأصل محذور في عالم التكوين (1) فان الإمكان التكويني لا يتوهم البحث عنه في المقام ، وذلك واضح.
ص: 88
ثم إن المحاذير المتوهمة من التعبد الأمارات - منها : ما يرجع إلى المحذور الملاكي. ومنها : ما يرجع إلى المحذور الخطابي (1).
أمّا الأوّل : فتقريبه - أنه يلزم من التعبد بالظن تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة عند مخالفة الظن للواقع ، وإدائه إلى وجوب ما يكون حراما أو حرمة ما يكون واجبا (2) وإلى ذلك ينظر الاستدلال المحكى عن « ابن قبة » من أنه يوجب تحليل الحرام وتحريم الحلال.
ولا يخفى : أن محذور تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة يتوقف على أمور :
الأول : الالتزام بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات وأن تلك المصالح تجرى في عالم التشريع مجرى العلل التكوينية من استتباعها للأحكام وكونها لازمة الاستيفاء في عالم التشريع (3) لا أنها من المرجحات والمحسنات لتشريع الأحكام من دون أن تكون لازمة الاستيفاء ، فإنها لو كانت كذلك لا يلزم من تفويتها محذور.
الثاني : الالتزام بأن المجعول في باب الأمارات نفس الطريقية المحضة و
ص: 89
لم نقل بالمصلحة السلوكية ، وإلا لم يلزم تفويت الملاك من التعبد بالظن ، وسيأتي المراد من المصلحة السلوكية.
الثالث : اختصاص المحذور بصورة انفتاح باب العلم وإمكان الوصول إلى الواقعيات. وأما في صورة الانسداد فلا يلزم محذور التفويت ، بل لابد من التعبد به ، فان المكلف لا يتمكن من استيفاء المصالح في حال انسداد باب العلم إلا بالاحتياط التام ، وليس مبنى الشريعة على الاحتياط في جميع الأحكام ، فالمقدار الذي تصيب الأمارة للواقع يكون خيرا جاء من قبل التعبد بالأمارة ، ولو كان مورد الإصابة أقل قليل ، فان ذلك القليل أيضا كان يفوت لولا التعبد ، فلا يلزم من التعبد إلا الخير.
فظهر : أن محذور التفويت إنما يلزم في صورة الانفتاح بناء على الطريقية المحضة على القول بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد مع كونها لازمة الاستيفاء.
والتحقيق : أن مع هذه القيود لا يلزم محذور من التعبد بالأمارات الغير العلمية ، فان المراد من انفتاح باب العلم هو إمكان الوصول إلى الواقع بالسؤال عن شخص الإمام علیه السلام لا فعلية الوصول ، فان انفتاح باب العلم بهذا المعنى مما لا يمكن دعواه ، بل المراد من الانفتاح هو إمكان الوصول وهو غير فعلية الوصول ، فقد يكون الشخص متمكنا من الوصول إلى الواقع ، ولكن لم يصل إليه لاعتماده على الطرق المفيدة للعلم (1) مع خطأ علمه وكونه من الجهل المركب.
ودعوى انسداد باب العلم بالنسبة إلى هذا الشخص - لأنّ المراد من
ص: 90
العلم هو العلم المصادف لا الأعم منه ومن الجهل المركب - ضعيفة ، لما عرفت من أن المراد من الانفتاح هو إمكان الوصول ، فلا ملازمة بين الانفتاح وبين عدم الوقوع في خلاف الواقع ، وعلى هذا يمكن أن تكون الأمارات الظنية في نظر الشارع كالأسباب المفيدة للعلم التي يعتمد عليها الانسان من حيث الإصابة والخطأ ، أي كانت إصابة هذه الأمارات وخطائها بقدر إصابة العلم وخطائه. فإذا كان الحال هذه ، فلا يلزم محذور من التعبد بالأمارات الغير العلمية ، لعدم تفويت الشارع من التعبد مصلحة على العباد.
فما يظهر من الشيخ قدس سره من الاعتراف بالقبح في صورة الانفتاح ليس في محله ، لما عرفت : من إمكان أن تكون الأمارات الغير العلمية من حيث الإصابة والخطأ كالعلم ، بل الطرق المبحوث عنها في المقام كلها طرق عقلائية عرفية عليها يدور رحى معاشهم ومقاصدهم ومعاشراتهم ، وليس فيما بأيدينا من الطرق ما يكون اختراعية شرعية ليس منها عند العقلاء عين ولا أثر ، بل جميعها من الطرق العقلائية ، وتلك الطرق من حيث الإتقان والاستحكام عند العقلاء كالعلم. أي حالها عندهم حال العلم من حيث الإصابة والخطأ ، والشارع قرر العقلاء على الأخذ بها ولم يردع عنها ، لعدم ما يقتضي الردع عنها كما ردع عن القياس مع أنه من الطرق العقلائية ويعتمدون عليه في مقاصدهم الدنيوية ، إلا أن الشارع ردع عنه في الأمور الدينية ، لأن القياس مبنى على استخراج المناط ، وذلك لا يخلو عن إعمال نظر واجتهاد ، وهو في الموضوعات الخارجية قليل الخطأ ، لأن غالب الأمور الخارجية المتشابه تحت جامع واحد وكانت مناطاتها بأيدي العقلاء ، فإعمال النظر وتخريج المناط لا يضر بمقاصدهم ، وهذا بخلاف الأحكام الشرعية ، فان مناطاتها ليست مما تنالها الأفهام ، لأن مبنى الشرع على تفريق المجتمعات وجميع المتفرقات ، فكان القياس كثير الخطأ في الشرعيات ولذلك نهى الشارع من إعماله ، وأين ذلك من سائر الطرق العقلائية الغير المبنية على النظر والاجتهاد؟ فان الخطأ فيها
ص: 91
ليس بأكثر من خطأ العلم عند العقلاء ولذا يعتمدون عليها في مقام اعتمادهم على العلم ، والشارع قررهم على ذلك واكتفى بها في إثبات أحكامه.
ولا يمكن أن يتفاوت الحال في الأمارة من حيث قلة الخطأ والإصابة بين الموضوعات الخارجية والأحكام الشرعية ، فان خبر الثقة لو كان قليل الخطأ في إخباره عن الموضوعات الخارجية فهو قليل الخطأ أيضا في إخباره عن الأحكام الشرعية.
ومن ذلك يظهر : أن لا وجه لتكثير الأقسام من كون الأمارة غالب المصادفة ودائم المصادفة أو أغلب مصادفة من الأسباب المفيدة للعلم ، فإنه لا فائدة في تكثير الأقسام ، مع أنه كلها من التخرص بالغيب.
فالمدار على كون الأمارة من حيث الإتقان والاستحكام كالعلم ، كما هو الشأن في ما بيد العقلاء من الطرق والأمارات ، ولا سبيل إلى دعوى كون الأمارة أكثر خطأ من العلم.
فان قلت : هب انه لا سبيل إلى دعوى العلم بكون الأمارة أكثر خطأ من العلم إلا أنه ليست الأمارة (1) أقرب إلى الخطأ من العلم لكونها في مظنة الوقوع في خلاف الواقع ، وهذا المقدار يكفي في صحة ردع الشارع عن العمل بها ، بل يقبح إمضائها ، فان في الإمضاء مظنة التفويت.
قلت : أولا : نمنع الأقربية.
وثانيا : مجرد الأقربية لا تقتضي الردع ، بل لزوم الردع يتوقف على أن تكون الأمارات أكثر خطأ من العلم في الواقع حتى يلزم من الإمضاء تفويت المصالح ، فالأقربية بنفسها ما لم تقتض كثرة الخطأ لا توجب الردع.
وثالثا : سلمنا أن مجرد الأقربية تقتضي الردع ، إلا أنه إذا لم تكن
ص: 92
هناك ما يلزم رعايته ، وهو مصلحة التسهيل (1).
فإنه لا إشكال في أن إمضاء ما بأيديهم من الطرق وعدم ردعهم عن العمل بها يقتضي التوسعة عليهم والتسهيل لهم في عملهم ، وهذه مصلحة نوعية يصح للشارع مراعاتها ، وإن كان رعاية ذلك يوجب تفويت بعض المصالح الشخصية ، وكم من مصلحة نوعية قدمت على المصلحة الشخصية! وليس ذلك بعزيز الوجود في الشرعيات بل في العرفيات.
فان قلت : إن كانت مصلحة التسهيل على وجه يلزم من ردع الشارع عن تلك الطرق وقوع العباد في العسر والحرج الرافعين للتكاليف ، فهذا
ص: 93
يرجع إلى انسداد باب العلم وعدم إمكان الوصول إلى الواقعيات ، لأن المراد من انفتاح باب العلم هو انفتاحه بلا عسر ولا حرج رافع للتكليف ، والكلام إنما هو في صورة انفتاح باب العلم. وإن كانت مصلحة التسهيل على وجه لم يلزم من عدم رعايتها العسر والحرج ، فمثل هذه المصلحة لا يجب رعايتها على وجه تفوت بعض المصالح الشخصية بل لا يجوز ، فالإشكال لا يرتفع بالالتزام بالمصلحة التسهيلة.
قلت : ليس المراد من مصلحة التسهيل ما يلزم من عدم رعايتها العسر والحرج حتى يرجع ذلك إلى انسداد باب العلم ، بل المراد مجرد التسهيل الذي يناسب الملة السمحة والشريعة السهلة.
ودعوى : أنه لا يجوز تفويت المصالح الشخصية لأجل هذا المقدار من التسهيل ، مما لا شاهد عليها ، ولا سبيل إلى منع إمكان رعاية الشارع التسهيل النوعي وإن استلزم من ذلك فوات بعض المصالح الشخصية ، فتأمل. (1).
فتحصل : أنه لا يلزم من التعبد بالأمارات في حال الانفتاح محذور تفويت الملاك فضلا عن حال الانسداد ، فلا ملزم للالتزام بالمصلحة التداركية ، كما التزم به بعض الأعلام.
وإن أبيت عن ذلك كله ، وقلت : إن في التعبد بالأمارة يلزم تفويت المصلحة - إما لكونها أكثر خطأ من العلم ، وإما لكونها أقرب إلى الخطاء ، وإما لكون المصلحة التسهيلية لا يصح رعايتها - فلنا أن نلتزم حينئذ بالسببية على وجه تتدارك المصلحة الفائتة على أصول المخطئة من دون أن يلزم التصويب
ص: 94
الباطل. وتفصيل ذلك هو أن سببية الأمارة لحدوث المصلحة تتصور على وجوه ثلاث :
الأول : أن تكون الأمارة سببا لحدوث مصلحة في المؤدى تستتبع الحكم على طبقها ، بحيث لا يكون وراء المؤدى حكم في حق من قامت عنده الأمارة ، فتكون الأحكام الواقعية مختصة في حق العالم بها ولا يكون في حق الجاهل بها سوى مؤديات الطرق والأمارات ، فتكون الأحكام الواقعية تابعة لآراء المجتهدين ، وهذا هو « التصويب الأشعري » الذي قامت الضرورة على خلافه. وقد ادعى تواتر الأخبار على أن الأحكام الواقعية يشترك فيها العالم والجاهل أصابها من أصاب وأخطأها من أخطأ.
الثاني : أن تكون الأمارة سببا لحدوث مصلحة في المؤدى أيضا أقوى من مصلحة الواقع ، بحيث يكون الحكم الفعلي في حق من قامت عنده الأمارة هو المؤدى ، وإن كان في الواقع أحكام ويشترك فيها العالم والجاهل على طبق المصالح والمفساد النفس الأمرية ، إلا أن قيام الأمارة على الخلاف تكون من قبيل الطوارئ والعوارض والعناوين الثانوية اللاحقة للموضوعات الأولية المغيرة لجهة حسنها وقبحها ، نظير الضرر والحرج ، ولابد وأن تكون المصلحة الطارئة بسبب قيام الأمارة أقوى من مصلحة الواقع ، إذ لو كانت مساوية لها كان الحكم هو التخيير بين المؤدى وبين الواقع ، مع أن المفروض أن الحكم الفعلي ليس إلا المؤدى ، وهذا الوجه هو « التصويب المعتزلي » ويتلو الوجه السابق في الفساد والبطلان ، فان الإجماع انعقد على أن الأمارة لا تغير الواقع ولا تمس كرامته بوجه من الوجوه ، وسيأتي ما في دعوى : أن الحكم الفعلي في حق من قامت عنده الأمارة هو مؤدى الأمارة.
الثالث : أن تكون قيام الأمارة سببا لحدوث مصلحة في السلوك مع بقاء الواقع والمؤدى على ماهما عليه من المصلحة والمفسدة ، من دون أن يحدث في المؤدى مصلحة بسبب قيام الأمارة غير ما كان عليه قبل قيام الأمارة ، بل
ص: 95
المصلحة إنما تكون في تطرق الطريق وسلوك الأمارة وتطبيق العمل على مؤداها والبناء على أنه هو الواقع بترتيب الآثار المترتبة على الواقع على المؤدى ، وبهذه المصلحة السلوكية يتدارك ما فات على المكلف من مصلحة الواقع بسبب قيام الأمارة على خلافه.
والفرق بين هذا الوجه والوجه الثاني مما لا يكاد يخفى ، فان الوجه الثاني كان مبنيا على سببية الأمارة لحدوث مصلحة في المؤدى غالبة على ما فات من المكلف من مصلحة الواقع على تقدير تخلفها وإدائها إلى غير ما هو الواجب واقعا ، أو غالبة على ما في المؤدى من المفسدة على تقدير إدائها إلى وجوب ما هو حرام واقعا ، وأين هذا من الوجه الثالث؟ فان المؤدى على الوجه الثالث باق على ما كان عليه ، ولا يحدث فيه مصلحة بسبب قيام الأمارة عليه ، وإنما المصلحة كانت في سلوك الأمارة وأخذها طريقا إلى الواقع من دون أن تمس الأمارة كرامة المصلحة والحكم الواقعي بوجه من الوجوه ، والسببية بهذا المعنى عين الطريقية التي توافق أصول المخطئة ، بل ينبغي عد هذا الوجه من وجوه الرد على التصويب ، بخلاف الوجه الثاني ، فإنه من أحد وجوه التصويب.
وبالجملة : المصلحة في الوجه الثالث إنما تكون في السلوك وتطبيق العمل على مؤدى الأمارة لا في نفس المؤدى ، ولا بد وأن تكون مصلحة السلوك بمقدار ما فات من المكلف بسبب قيام الأمارة على خلاف الواقع ، وهذا يختلف باختلاف مقدار السلوك ، فلو قامت الأمارة على وجوب صلاة الجمعة في يومها وعمل المكلف على طبقها ثم تبين مخالفة الأمارة للواقع وأن الواجب هو صلاة الظهر ، فان كان انكشاف الخلاف قبل مضى وقت فضيلة الظهر فلا شيء للمكلف ، لأن قيام الأمارة على الخلاف لم توجب ايقاعه على خلاف ما يقتضيه الواقع من المصلحة ، لتمكن المكلف من استيفاء مصلحة الواقع بتمامها وكمالها حتى الفضيلة الوقتية ، وإن كان انكشاف الخلاف بعد انقضاء وقت
ص: 96
الفضيلة فبمقدار ما فات من المكلف من فضل أول الوقت يجب أن يتدارك ، وإن كان انكشاف الخلاف بعد انقضاء تمام الوقت فاللازم هو تدارك ما فات منه من المصلحة الوقتية ، وإن لم ينكشف الخلاف إلى الأبد ، فالواجب هو تدارك ما فات منه من مصلحة أصل الصلاة. والسر في ذلك : هو أن التدارك إنما يكون بمقدار ما اقتضته الأمارة من ايقاع المكلف على خلاف الواقع وبالقدر الذي سلكه ، ولا موجب لأن يستحق المكلف زائدا عما سلكه.
فما أفاده الشيخ قدس سره من التبعيض في الإجزاء قدر ما فات من المكلف من المصلحة الواقعية بسبب سلوك الأمارة ، هو الحق الذي يقتضيه أصول المخطئة.
وما قيل : من أن الحكم الظاهري إن كان يقتضي الإجزاء فينبغي أن يقتضيه مطلقا وإن انكشف الخلاف في الوقت فضلا عن خارجه ولابد أن تتدارك المصلحة الواقعية بتمامها وكمالها ، وإن لم يقتض الإجزاء فينبغي أن لا يتدارك شيء من المصلحة الواقعية من غير فرق بين فضيلة الوقت وغيرها.
فضعفه ظاهر مما قدمناه ، لأن المفروض أن الأمارة لم تحدث في المؤدى شيئا من المصلحة ، والمصلحة إنما كانت في السلوك ، وإلا فهي متمحضة في الطريقية ، فالتدارك لابد وأن يكون بمقدار ما تقتضيه من السلوك ، وذلك إنما يكون قبل انكشاف الخلاف.
نعم : لو قلنا بالوجه الثاني من أن الأمارة تحدث مصلحة في المؤدى أقوى من مصلحة الواقع ، كان اللازم هو الإجزاء مطلقا (1) فيكون انكشاف الخلاف من قبيل تبدل الموضوع كالمسافر والحاضر ، وظني أن ذلك بمكان من
ص: 97
الوضوح.
تنبيه :
نقل شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) أن العبارة التي صدرت من قلم الشيخ قدس سره في الوجه الثالث كانت هكذا : « الثالث : أن لا يكون للأمارة القائمة على الواقعة تأثير في الفعل الذي تضمنت الأمارة حكمه ولا تحدث فيه مصلحة ، إلا أن بالعمل على طبق الأمارة والالتزام به في مقام العمل على أنه هو الواقع وترتيب الآثار الشرعية المترتبة عليه واقعا ، يشتمل على مصلحة الخ » ولم يكن في أصل العبارة لفظ « الأمر » وإنما أضافها بعض أصحابه ، وعلى ذلك جرت نسخ الكتاب.
والإنصاف : أن زيادة لفظ « الأمر » مما لا حاجة إليه لو لم يكن مخلا بالمقصود (1) ولعل نظر من أضافها إلى أن المجعول في باب الأمارات نفس الحجية والطريقية ، وهي من الأحكام الوضعية التي لا تتعلق بعمل المكلف ابتداء ، فليس في البين عمل يمكن اشتماله على المصلحة ، بل لابد وأن تكون المصلحة في نفس الأمر والجعل.
ص: 98
بخلاف الأحكام التكليفية ، فإنه لما كان الأمر يتعلق بعمل المكلف ابتداء ، فيمكن أن تكون المصلحة في العمل.
هذا ، ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنه مضافا إلى ما تقدم في مباحث القطع : من أنه لا معنى لاشتمال نفس الأمر على المصلحة.
يرد عليه : أنه إن قلنا : بأن الأحكام الوضعية منتزعة عن الأحكام التكليفية ، كما عليه الشيخ قدس سره فالحكم التكليفي الذي ينتزع عنه الحجية والطريقية لابد وأن يتعلق بعمل المكلف ، وذلك العمل هو الذي يشتمل على المصلحة السلوكية بالبيان المتقدم.
وإن قلنا : إن الأحكام الوضعية متأصلة في الجعل - كما هو الحق عندنا على ما سيأتي بيانه - فالمصلحة إنما تكون في المجعول لا في نفس الجعل ، بداهة أن النجاسة أو الطهارة المجعولة هي التي على المفسدة والمصلحة ، لا أن المصلحة في نفس جعل النجاسة والطهارة ، وكذا الحال في سائر الأحكام الوضعية.
فالإنصاف : أن إضافة لفظ « الأمر » في العبارة كان بلا موجب ، بل لعله يخل بما هو المقصود : من كون المصلحة في السلوك وتطبيق العمل على المؤدى.
هذا تمام الكلام فيما يلزم من التعبد بالأمارات والأصول من المحذور الملاكي ، وقد عرفت : أنه لا محذور فيه أصلا.
وأما المحذور الخطابي فحاصله : أنه يلزم اجتماع حكمين متضادين أو متناقضين من التعبد بذلك عند مخالفة الأمارة أو الأصل للواقع وإدائها إلى حرمة ما يكون واجبا أو عدم وجوب ما يكون واجبا.
وقد يقال : بلزوم اجتماع المثلين عند مصادفة الأمارة أو الأصل للواقع وإدائها إلى وجوب ما يكون واجبا ، فلا يختص الإشكال بصورة المخالفة ، ولكن قد تقدم في بعض مباحث القطع : من أن لزوم اجتماع المثلين ليس محذورا ، فان الاجتماع يوجب التأكد ، ويكون الوجوب المجامع لمثله آكد
ص: 99
وأقوى مناطاً ، (1) فلو كان الوجوب الواقعي ذا مراتب عشر وأدت الأمارة إلى وجوبه وقلنا : بأن الأمارة سبب لحدوث حكم على طبق مؤداها - كما هو مبنى الإشكال - وفرضنا أن الوجوب الجائي من قبل الأمارة أيضا ذا مراتب عشر ، فيتأكد الوجوب ويثبت في المؤدى وجوب ذو مراتب عشرين ، ولا محذور في ذلك ، فاشكال اجتماع المثلين ليس بشئ.
وإنما الإشكال لزوم اجتماع الضدين والنقيضين من الإرادة والكراهة والوجوب والحرمة ، وهذا الإشكال يرد حتى على مبنى « الأشاعرة » من عدم تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد. وقد تفصى عن الأشكال بوجوه :
الوجه الأول : ما هو ظاهر كلام الشيخ قدس سره في أول مبحث التعادل والتراجيح - على بعض النسخ - وحاصله : أن الموضوع في الحكم الظاهري مغاير لموضوع الحكم الواقعي ، فان موضوع الحكم الظاهري هو الشك في الحكم الواقعي ، والحكم الواقعي لم يؤخذ في موضوعه الشك ، واختلاف الموضوع يوجب رفع التضاد والتناقض من البين.
وفيه : أن الحكم الواقعي وإن لم يؤخذ في موضوعه الشك ، إلا أنه محفوظ في حالة الشك ولو بنتيجة الإطلاق ، كانحفاظه في حالة العلم ، فان الحكم الواقعي إذا كان مقيدا بغير صورة الشك فيه - ولو بنتيجة التقييد - رجع ذلك إلى التصويب الباطل ، ولم يكن وجه لتسمية مؤديات الأمارات والأصول بالأحكام الظاهرية ، بل كانت من الأحكام الواقعية ، إذ المفروض
ص: 100
أنّه لا حكم في الواقع إلا المؤديات.
والحاصل : أن الإشكال إنما هو بعد فرض انحفاظ الحكم الواقعي في حالة الشك ، فيلزم اجتماع الضدين في تلك الحالة ، هذا مع أن في باب الأمارات لم يؤخذ الشك في موضوعها وإنما الشك اخذ في موضوع الأصول ، فهذا الوجه ضعيف غايته.
ويتلوه في الضعف الوجه الثاني ( من وجوه الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ) وهو اختلاف المحمول ، فان الحكم في أحدهما واقعي وفي الآخر ظاهري ، ولا منافاة بينهما.
وأنت خبير! بأن الكلام إنما هو في تصوير الحكم الظاهري ، وأنه كيف يجتمع مع الحكم الواقعي على وجه لا يلزم منه اجتماع الضدين ، فكيف يجمع بينهما بما هو محل الكلام؟.
الوجه الثالث : ما أفاده بعض الأساطين من حمل الأحكام الواقعية على الشأنية أو الإنشائية - على اختلاف في تعبيراته - والأحكام الظاهرية على الفعلية.
والجمع بهذا الوجه بكلا تعبيريه مما لا يستقيم.
أما الشأنية : فان كان المراد منها أنه في مورد قيام الأمارة على الخلاف ليس في الواقع إلا شأنية الحكم ومجرد ثبوت المقتضى فتكون الأحكام الواقعية اقتضائية محضة ، فهو بمكان من الضعف ، فإنه إن رجع إلى أن في مورد الأمارة ليس في الواقع أحكام حقيقية بل مجرد الملاكات وقيام الأمارة على خلافها مانع عن تأثيرها وتشريع الأحكام على طبقها ، فهذا يرجع إلى التصويب الباطل ، لأنه يلزم خلو الواقع عن الحكم.
وإن رجع إلى أن في مورد قيام الأمارة على الخلاف يكون في الواقع
ص: 101
أحكام اقتضائية ، فنحن لا نتعقل للأحكام الاقتضائية معنى(1) ، لأن الإهمال الثبوتي لا يعقل في الأحكام بالنسبة إلى الانقسامات السابقة ولا بالنسبة إلى الانقسامات اللاحقة ، بل الحكم بالنسبة إلى جميع الانقسامات إما مطلق ، أو مقيد بالإطلاق والتقييد اللحاظي أو بنتيجة الإطلاق والتقييد ، ومن جملة الانقسامات اللاحقة قيام الأمارة على الخلاف.
والحكم الواقعي المترتب على موضوعه الواقعي ، إما أن يكون مطلقا بالنسبة إلى قيام الأمارة على الخلاف ، وإما أن يكون مقيدا بعدم قيام الأمارة على ذلك. فعلى الأول : يلزم التضاد بين الحكم الواقعي والحكم الجائي من قبل الأمارة. وعلى الثاني : يلزم التصويب.
ولا يعقل إنشاء الحكم على طبق المقتضى والملاك مهملا غير ملحوظ فيه قيام الأمارة على الخلاف وعدم قيام الأمارة ، حتى يكون الحكم الاقتضائي حكما بحيال ذاته ، مع أنه لا أثر لإنشاء الحكم على هذا الوجه ، فان
ص: 102
قيام الأمارة إما أن يوجب ملاكا مزاحما لملاك الواقع وأقوى منه ، وإما أن لا يوجب ، فعلى الأول : يقتضي إنشاء الحكم المقيد. وعلى الثاني : يقتضي إنشاء الحكم المطلق ، فأي أثر لإنشاء الحكم الاقتضائي لو سلم إمكانه؟ (1) وإن كان المراد من الشأنية الحكم الإنشائي ، ليرجع التعبيران إلى أمر واحد ، ففيه : أنه ليس في الواقع أحكام إنشائية ، بل الذي يكون هو إنشاء الأحكام ، وهو عبارة عن تشريعها وجعلها على موضوعاتها المقدرة وجودها بجميع ما اعتبر فيها من القيود والشرائط على نهج القضايا الحقيقة - كما حققناه في الواجب المشروط بما لا مزيد عليه - وفعلية الحكم عبارة عن تحقق موضوعه بجميع ما اعتبر فيه من القيود والشرائط وعدم الموانع ، ولا نعقل لفعلية الحكم معنى غير ذلك ، والكلام في المقام إنما هو بعد فعلية الحكم بتحقق موضوعه.
ودعوى : أن الحكم الواقعي في مورد الأمارة لا يكون فعليا ، واضحة الفساد.
فإنه لا يمكن أن لا يكون الحكم فعليا إلا إذا اخذ في موضوعه عدم قيام الأمارة على الخلاف بحيث يكون قيدا في ذلك ، ومعه لا يكون في الواقع حكم عند قيام الأمارة على الخلاف ، لعدم تحقق قيده ، فيعود محذور التصويب.
والحاصل : أن في الواقع ونفس الأمر ، إما أن يكون الحكم الواقعي مقيدا بعدم قيام الأمارة على الخلاف ، وإما أن لا يكون مقيدا ، فان كان مقيدا يلزم التصويب ، وإن لم يكن مقيدا يلزم أن يكون فعليا عند قيام الأمارة على الخلاف إذا تحقق موضوعه بما له من القيود - كما هو محل الكلام - فانّ الكلام
ص: 103
في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي إنما هو بعد تحقق موضوع الحكم الواقعي (1) بجميع ما اعتبر فيه من القيود.
ولا يعقل أن يقيد فعلية الحكم بعدم قيام الأمارة على الخلاف ، فان أخذ ذلك قيدا إنما يمكن في مرحلة إنشاء الحكم وتشريعه ، بمعنى أنه ينشأ الحكم على ما لا تقوم الأمارة على الخلاف (2) فيكون الموضوع الذي قامت الأمارة على خلافه مما لم ينشأ في حقه حكم ، وهذا عين التصويب.
فظهر : أنه لا معنى لحمل الحكم الواقعي على الإنشائي ، لأنه ليس لنا في الواقع حكم إنشائي في مقابل الحكم الفعلي ، بل الذي يكون هو إنشاء الحكم على موضوعه ، فعند تحقق ذلك الموضوع يكون الحكم فعليا لا محالة ، ومع عدم تحققه لا يكون في الواقع حكم أصلا (3) فلو فرض أن وجوب الحج قيد في الواقع بمن لم تقم عنده الأمارة على الخلاف ، فالذي قامت عنده الأمارة على الخلاف لم يكلف بالحج ولم ينشأ في حقه التكليف بالحج ، ويكون حاله حال غير البالغ أو غير المستطيع.
وبالجملة : في مورد قيام الأمارة على الخلاف ، إما أن يكون الموضوع للحكم الواقعي متحققا ، وإما أن لا يكون ، وعلى الأول : يلزم الفعلية ويعود إشكال التضاد. وعلى الثاني : لا حكم في الواقع حتى نحتاج إلى الجواب ، مع أن الذي تقتضيه أصول المخطئة : هو أن الأحكام الواقعية بما هي عليها من المصالح مشتركة بين العالم والجاهل ، والجهل إنما يكون عذرا فقط في ما إذا لم
ص: 104
يكن عن تقصير ، (1) فالتصرف في الأحكام الواقعية بأي تصرف ينافي ما عليه أصول المخطئة ، فهذه الوجوه مما لا تحسم مادة الإشكال.
والتحقيق في الجواب هو أن يقال : إن الموارد التي توهم وقوع التضاد بين الأحكام الظاهرية والواقعية على أنحاء ثلاثة :
أحدها : موارد قيام الطرق والأمارات المعتبرة في الخلاف.
ثانيها : موارد مخالفة الأصول المحرزة للواقع.
ثالثها : موارد تخلف الأصول الغير المحرزة عن الواقع.
والتفصي عن الإشكال يختلف حسب اختلاف المجعول في هذه الموارد الثلاثة ، ويختص كل منها بجواب يخصه ، فينبغي إفراد كل منها بالبحث.
فنقول : أما في باب الطرق والأمارات فليس المجعول فيها حكما تكليفيا حتى يتوهم التضاد بينه وبين الحكم الواقعي ، بناء على ما هو الحق عندنا : من أن الحجية والطريقية من الأحكام الوضعية المتأصلة بالجعل ومما تنالها يد الوضع والرفع ابتداء ، ما عدا الجزئية والشرطية والمانعية والسببية - على ما أوضحناه بما لا مزيد عليه في بعض مباحث الاستصحاب - خلافا للشيخ قدس سره حيث ذهب إلى أن الأحكام الوضعية كلها منتزعة عن الأحكام التكليفية التي تكون في موردها.
والإنصاف : أنه لو أمكن في بعض الأحكام الوضعية تصوير ما يكون منشأ لانتزاع الحكم الوضعي منه ، ففي بعضها الآخر لا يمكن تصويره ، فان الزوجية مثلا من الأحكام الوضعية ويستتبعها جملة من الأحكام التكليفية ، كوجوب
ص: 105
الإنفاق على الزوجة ، وحرمة تزويج الغير لها ، ووجوب القسم بينها وبين غيرها ، وحرمة ترك وطئها أكثر من أربعة أشهر ، ووجوب المضاجعة ، وحرمة العزل على القول به ، وغير ذلك من الأحكام المترتبة على الزوجية. وقد يتخلف بعض هذه الأحكام مع انحفاظ الزوجية - كوجوب الإنفاق عند النشوز - فأي حكم تكليفي يمكن انتزاع الزوجية منه؟ وأي جامع بين هذه الأحكام التكليفية ليكون منشأ لانتزاع الزوجية؟ وهكذا غير الزوجية من الأحكام الوضعية المستتبعة لجملة من الأحكام التكليفية مع تخلف بعضها في بعض الموارد ، كالطهارة والنجاسة ولزوم العقد والملكية والرقية والولاية والحرية وغير ذلك من الأمور الاعتبارية العرفية ، فلا محيص عن القول بتأصل مثل هذه الأحكام الوضعية في الجعل كالأحكام التكليفية.
ومنها : الطريقية والوسطية في الإثبات ، فإنها بنفسها مما تنالها يد الجعل ولو إمضاء ، لما تقدمت الإشارة إليه : من أنه ليس فيما بأيدينا من الطرق والأمارات ما لا يعتمد عليه العقلاء في محاوراتهم وإثبات مقاصدهم ، بل هي عندهم كالعلم لا يعتنون باحتمال مخالفة الطريق للواقع (1) وليس
ص: 106
اعتمادهم عليها من باب الاحتياط ورجاء إدراك الواقع ، لأنه ربما يكون طرف الاحتمال تلف النفوس والأموال وهتك الأعراض ، فلو كان اعتمادهم على الطرق لمحض رجاء إدراك الواقع لكان الاحتياط بعدم الاعتماد عليها في مثل هذه الموارد مما يكون خطر المخالفة عظيما ، فاقدامهم على العمل بالطرق والأمارات والاعتماد عليها مع هذا الاحتمال ليس إلا لمكان تنزيل احتمال المخالفة منزلة العدم وكأنه لم يكن مع وجوده تكوينا.
فلا يقال : لعل اعتمادهم عليها لمكان حصول العلم لهم منها ، فان ذلك مما يكذبه الوجدان ، لوضوح وجود احتمال مخالفة الطريق للواقع في أنفسهم ومع ذلك يعتمدون عليها في إثبات مقاصدهم ، لمكان أن الطرق عندهم من حيث الإتقان والاستحكام كالأسباب المفيدة للعلم ، وليس عند العقلاء جعل وتعبد وتشريع ، حتى يقال : إن المجعول عندهم ما يكون منشأ لانتزاع هذا الاعتبار والحجية ، بل نفس الحجية والوسطية في الإثبات أمر عقلائي قابل بنفسه للاعتبار من دون أن يكون هناك ما يكون منشأ للانتزاع
ص: 107
من حكم تكليفي.
فالأقوى : أن الحجية والوسطية في الإثبات بنفسها مما تنالها يد الجعل بتتميم كشفها ، فإنه لابد في الأمارة من أن يكون لها جهة كشف عن الواقع كشفا ناقصا ، فللشارع تتميم كشفها ولو إمضاء بالقاء احتمال الخلاف في عالم التشريع ، كما ألقى احتمال الخلاف في العلم في عالم التكوين ، فكأن الشارع أوجد في عالم التشريع فردا من العلم ، وجعل الطريق محرزا للواقع كالعلم بتتميم نقض كشفه وإحرازه ، ولذا قامت الطرق والأمارات مقام العلم المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية ، كما تقدم تفصيله.
وإذ قد عرفت حقيقة المجعول في باب الطرق والأمارات وأن المجعول فيها نفس الوسطية في الإثبات ، ظهر لك : أنه ليس في باب الطرق والأمارات حكم حتى ينافي الواقعي ليقع في إشكال التضاد أو التصويب ، بل ليس حال الأمارة المخالفة إلا كحال العلم المخالف ، فلا يكون في البين إلا الحكم الواقعي فقط مطلقا أصاب الطريق الواقع أو أخطأ ، فإنه عند الإصابة يكون المؤدى هو الحكم الواقعي كالعلم الموافق ويوجب تنجيز الواقع وصحة المؤاخذة عليه ، وعند الخطأ وعدم الإصابة يوجب المعذورية وعدم صحة المؤاخذة عليه كالعلم المخالف من دون أن يكون هناك حكم آخر مجعول. هذا بناء على ما هو المختار من تأصل الحجية والطريقية في الجعل.
وأما بناء على مسلك الشيخ قدس سره من أن المجعول هو منشأ الانتزاع ، فيتوجه حينئذ إشكال التضاد ولابد من دفعه ، وينبغي أولا تصوير ما يصح أن يكون منشأ لانتزاع الحجية.
والإنصاف : أن تصويره في غاية الإشكال ، لأن منشأ انتزاع الحجية لا بد وأن يكون أمرا لا دخل له بإطاعة المكلف وعصيانه ، إذ الحجية محفوظة في كلا الحالين ولا دخل لعمل المكلف في ذلك ، فان المكلف عمل أو لم يعمل يكون الخبر الواحد حجة ، فلابد وأن يكون منشأ انتزاع الحجية حكما تكليفياً
ص: 108
مستمراً لا يسقط بعصيانه في زمان لتكون الحجية مستمرة باستمراره.
وأحسن ما يمكن أن يقال - في منشأ انتزاع الحجية - هو ما ذكره الشيخ قدس سره في دليل الانسداد عند نقل كلام « المحقق صاحب الحاشية » في الوجه الثاني من الوجهين اللذين ذكرهما في بيان أن مقدمات دليل الانسداد لا تثبت إلا اعتبار الظن بالطريق لا في نفس الحكم الفرعي.
قال قدس سره : في رد هذا الوجه « فيه : أن تفريغ الذمة عما اشتغلت به ، إما بفعل نفس ما أراده الشارع في ضمن الأوامر الواقعية ، وإما بفعل ما حكم حكما جعليا بأنه نفس المراد وهو مضمون الطرق المجعولة » انتهى موضع الحاجة من كلامه.
وله قدس سره في هذا المقام عبارة أخرى تقرب من هذه ، وغرضه من ذلك : هو أن المجعول في باب الطرق والأمارات إنما هو الحكم بأن المؤدى هو الواقع النفس الأمري وأنه هو ، فليس المجعول فيها أمرا مغايرا للواقع ، بل المجعول فيها هو الحكم بأن المؤدى هو الواقع ، فان أصابت الأمارة الواقع فهو ، وإن أخطأت يتبين أنه ليس المؤدى هو الواقع ، وعلى كلا التقديرين : لا يكون في البين إلا الحكم الواقعي.
وبالجملة : حيث كان المؤدى هو الوجوب أو الحرمة الواقعية فيكون المجعول هو وجوب المؤدى أو حرمته على أنه هو الواقع ، فليس ما وراء الواقع حكما آخر حتى يقع التضاد بينهما ، ولا إشكال في أنه للشارع جعل الهوهوية والحكم بأن المؤدى هو الواقع في صورة الجهل به والشك فيه.
وكان شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) في الدورة السابقة يقرب هذا الوجه ويرتضيه على تقدير عدم القول بتأصل الحجية في الجعل ، ولكن في هذه الدورة ضعفه بما حاصله : أن الحكم بأن المؤدى هو الواقع لا يمكن أن يكون إخبارا ، بل لابد وأن يكون إنشاء ، وإنشاء الحكم بالهوهوية وكون المؤدى هو الواقع لا يصح إلا باعطاء صفة الوجوب أو الحرمة للمؤدى ، فيعود إشكال التضاد عند
ص: 109
مخالفة الأمارة للواقع.
وبالجملة : لا نرى في دفع محذور التضاد عند مخالفة الطرق والأمارات للواقع أقرب من القول بتأصلها في الجعل (1) هذا كله في باب الطرق والأمارات.
وأما الأصول المحرزة : فالأمر فيها أشكل ، وأشكل منها الأصول الغير المحرزة - كأصالة الحل والبراءة - فان الأصول بأسرها فاقدة للطريقية ، لأخذ الشك في موضوعها ، والشك ليس فيه جهة إرائة وكشف عن الواقع ، حتى يقال : إن المجعول فيها تتميم الكشف ، فلابد وأن يكون في مورد الأصول حكم مجعول شرعي ، ويلزمه التضاد بينه وبين الحكم الواقعي عند مخالفة الأصل له.
هذا ، ولكن الخطب في الأصول التنزيلية هين ، لأن المجعول فيها هو البناء العملي على أحد طرفي الشك على أنه هو الواقع وإلغاء الطرف الآخر وجعله كالعدم (2) ولأجل ذلك قامت مقام القطع المأخوذ في الموضوع على
ص: 110
وجه الطريقية ، لكونها متكفلة للجهة الثالثة التي يكون القطع واجدا لها ، وهو الجري على وفق القطع وترتيب آثار المقطوع عملا ، كما أن الأمارة تكون واجدة للجهة الثانية ، وهي جهة الإحراز والكاشفية - على ما تقدم بيانه ، فالمجعول في الأصول التنزيلية ليس أمرا مغايرا للواقع ، بل الجعل الشرعي إنما تعلق بالجري العملي على المؤدى على أنه هو الواقع ، كما يرشد إليه قوله علیه السلام في بعض أخبار قاعدة التجاوز « بلى قد ركعت » (1) فان كان المؤدى هو الواقع فهو ، وإلا كان الجري العملي واقعا في غير محله من دون أن يكون قد تعلق بالمؤدى حكم على خلاف ما هو عليه.
وبالجملة : الهوهوية التي بنى عليها الشيخ قدس سره في باب الأمارات ونحن أبطلناها ، هي التي تكون مجعولة في باب الأصول التنزيلية.
نعم : يتوجه على الشيخ قدس سره إشكال الفرق بين الأمارات والأصول ، فإنه على هذا يكون المجعول في كل منهما هو الهوهوية ، فكيف صارت مثبتات الأمارة حجة دون مثبتات الأصول مع اتحاد المجعول فيها؟ ولكن نحن في فسحة عن هذا الإشكال ، لما عرفت : من أن المجعول في باب الأمارات غير المجعول في باب الأصول ، ومن اجل اختلاف المجعول صارت مثبتات الأمارات حجة دون مثبتات الأصول ، كما سيأتي في محله.
وبالجملة : ليس في الأصول التنزيلية حكم مخالف لحكم الواقع ، بل
ص: 111
إذا كان المجعول فيها هو البناء العملي على أن المؤدى هو الواقع ، فلا يكون ما وراء الواقع حكم آخر حتى يناقضه ويضاده.
وتوهم : أن الذي ذكرناه في تضعيف ما أفاد الشيخ قدس سره من جعل الهوهوية في باب الأمارات يجرى بعينه في باب الأصول المحرزة ، فاسد ، فان الهوهوية المجعولة في باب الأصول المحرزة هي الهوهوية العملية ، أي البناء العملي على كون المؤدى هو الواقع ، وهي لا تستلزم جعل حكم في المؤدى على خلاف ما هو عليه من الحكم ، بخلاف الهوهوية في الأمارة فإنها إما أن تكون إخبارا ، وإما أن تكون إنشاء حكم في مؤدى الأمارة ، فان المجعول في باب الأمارات ليس هو البناء العملي ، فلو كان في المؤدى حكم فلابد وأن يكون مضادا لما عليه من الحكم الواقعي ، فتأمل.
وأما الأصول الغير المحرزة - كأصالة الاحتياط والحل والبراءة - فقد عرفت : أن الأمر فيها أشكل ، فان المجعول فيها ليس الهوهوية والجري العملي على بقاء الواقع ، بل مجرد البناء على أحد طرفي الشك من دون إلقاء الطرف الآخر والبناء على عدمه (1) بل مع حفظ الشك يحكم على أحد طرفيه بالوضع أو الرفع ، فالحرمة المجعولة في أصالة الاحتياط والحلية المجعولة في أصالة الحل تناقض الحلية والحرمة الواقعية على تقدير تخلف الأصل عن الواقع ، بداهة أن المنع عن الاقتحام في الشيء ( كما هو مفاد أصالة الاحتياط ) أو الرخصة فيه ( كما هو مفاد أصالة الحل ) ينافي الجواز في الأول ، والمنع في الثاني.
وقد تصدّي بعض الأعلام لرفع غائلة التضاد بين الحكمين باختلاف الرتبة ، فان رتبة الحكم الظاهري رتبة للشك في الحكم الواقعي ، والشك في الحكم الواقعي متأخر في الرتبة عن نفس وجوده ، فيكون الحكم الظاهري في
ص: 112
طول الحكم الواقعي ، ولا تضاد بين المختلفين في الرتبة ، لأن وحدة الرتبة من جملة الوحدات الثمان التي تعتبر في التناقض والتضاد.
هذا ، وأنت خبير بفساد هذا التوهم ، فان الحكم الظاهري وإن لم يكن في رتبة الحكم الواقعي ، إلا أن الحكم الواقعي يكون في رتبة الحكم الظاهري ، لانحفاظ الحكم الواقعي في مرتبة الشك فيه ولو بنتيجة الإطلاق (1) فيجتمع الحكمان المتضادان في رتبة الشك.
ولا يقاس المقام بالخطاب الترتبي المبحوث عنه في باب الضد ، فان العمدة في رفع غائلة التضاد بين الحكمين في الخطاب الترتبي إنما هو اشتراط خطاب المهم بعصيان خطاب الأهم وعدم إطلاق خطاب الأهم لحالتي اطاعته وعصيانه - على ما أوضحناه بما لا مزيد عليه في مبحث الضد - وأين هذا من اجتماع الحكم الظاهري مع الحكم الواقعي مع إطلاق الحكم الواقعي لحالة العلم والظن والشك فيه ولو بنتيجة الإطلاق؟ فتأخر رتبة الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي لا يرفع غائلة التضاد بينهما إلا بضم مقدمة أخرى إلى ذلك ، وهي أن الأحكام الواقعية بوجوداتها النفس الأمرية لا تصلح للداعوية وقاصرة عن أن تكون محركة لإرادة العبد نحو امتثالها في صورة الشك في وجودها (2)
ص: 113
فانّ الحكم لا يمكن أن يتكفل لأزمنة وجوده - التي منها زمان الشك فيه - ويتعرض لوجود نفسه في حال الشك وإن كان محفوظا في ذلك الحال على تقدير وجوده الواقعي ، إلا أن انحفاظه في ذلك الحال غير كونه بنفسه مبينا لوجوده فيه ، بل لابد في ذلك من مبين آخر وجعل ثانوي يتكفل لبيان وجود الحكم في أزمنة وجوده ، - ومنها زمان الشك فيه - ويكون هذا الجعل الثانوي من متممات الجعل الأولى ويتحد الجعلان في صورة وجود الحكم الواقعي في زمان الشك.
ولا يخفى : أن متمم الجعل على أقسام : فان ما دل على وجوب قصد التعبد في العبادات يكون من متممات الجعل ، وما دل على وجوب السير للحج قبل الموسم يكون من متممات الجعل ، وما دل على وجوب الغسل على المستحاضة قبل الفجر في اليوم الذي يجب صومه من متممات الجعل ، وغير ذلك من الموارد التي لابد فيها من متمم الجعل ، وهي كثيرة في أبواب متفرقة وليست بملاك واحد ، بل لكل ملاك يخصه ، وإن كان يجمعها قصور الجعل الأولى عن أن يستوفى جميع ما يعتبر استيفائه في عالم التشريع ، ولاستقصاء الكلام في ذلك محل آخر. والغرض في المقام : بيان أن من أحد أقسام متمم الجعل هو الذي يتكفل لبيان وجود الحكم في زمان الشك فيه إذا كان الحكم الواقعي على وجه يقتضي المتمم ، وإلا فقد يكون الحكم لا يقتضي جعل المتمم في زمان الشك.
وتوضيح ذلك : هو أن للشك في الحكم الواقعي اعتبارين :
ص: 114
أحدهما : كونه من الحالات والطوارئ اللاحقة للحكم الواقعي أو موضوعه - كحالة العلم والظن - وهو بهذا الاعتبار لا يمكن أخذه موضوعا لحكم يضاد الحكم الواقعي ، لانحفاظ الحكم الواقعي عنده.
ثانيهما : اعتبار كونه موجبا للحيرة في الواقع وعدم كونه موصلا إليه ومنجزا له ، وهو بهذا الاعتبار يمكن أخذه موضوعا لما يكون متمما للجعل ومنجزا للواقع وموصلا إليه ، كما أنه يمكن أخذه موضوعا لما يكون مؤمنا عن الواقع - حسب اختلاف مراتب الملاكات النفس الأمرية ومناطات الأحكام الشرعية - فلو كانت مصلحة الواقع مهمة في نظر الشارع كان عليه جعل المتمم - كمصلحة احترام المؤمن وحفظ نفسه - فإنه لما كان حفظ نفس المؤمن أولى بالرعاية وأهم في نظر الشارع من مفسدة حفظ دم الكافر اقتضى ذلك تشريع حكم ظاهري طريقي بوجوب الاحتياط في موارد الشك حفظا للحمى وتحرزا عن الوقوع في مفسدة قتل المؤمن ، وهذا الحكم الطريقي إنما يكون في طول الحكم للواقع نشأ عن أهمية المصلحة الواقعية ، ولذا كان الخطاب بالاحتياط خطابا نفسيا وإن كان المقصود منه عدم الوقوع في مخالفة الواقع (1) إلا أن هذا لا يقتضي أن يكون خطابه مقدميا ، لأن الخطاب المقدمي هو ما لا مصلحة فيه أصلا ، والاحتياط ليس كذلك ، لأن أهمية مصلحة الواقع دعت
ص: 115
إلى وجوبه فالاحتياط إنما يكون واجبا نفسيا للغير لا واجبا بالغير ، ولذا كان العقاب على مخالفة التكليف بالاحتياط عند تركه وإدائه إلى مخالفة الحكم الواقعي ، لا على مخالفة الواقع ، لقبح العقاب عليه مع عدم العلم به ، كما أوضحناه بما لا مزيد عليه في خاتمة الاشتغال.
فان قلت : إن ذلك يقتضي صحة العقوبة على مخالفة الاحتياط صادف الواقع أو خالفه ، لأن المفروض كونه واجبا نفسيا وإن كان الغرض من وجوبه هو الوصلة إلى الأحكام الواقعية وعدم الوقوع في مفسدة مخالفتها ، إلا أن تخلف الغرض لا يوجب سقوط الخطاب ، فلو خالف المكلف الاحتياط وأقدم على قتل المشتبه وصادف كونه مهدور الدم كان اللازم استحقاقه للعقوبة ، لأنه قد خالف تكليفا نفسيا.
قلت : فرق بين علل التشريع وعلل الأحكام ، والذي لا يضر تخلفه ولا يدور الحكم مداره هو الأول ، لأنها تكون حكمة لتشريع الأحكام ، فيمكن أن يكون تحقق الحكمة في مورد علة لتشريع حكم كلي ، وأما علة الحكم ، فالحكم يدور مدارها ولا يمكن أن يتخلف عنها - كما أوضحناه في محله - ولا إشكال أن الحكم بوجوب حفظ نفس المؤمن علة للحكم بالاحتياط (1)
ص: 116
لأنّ أهمية ذلك أوجب الاحتياط ، فلا يمكن أن يبقى وجوب الاحتياط في مورد الشك مع عدم كون المشكوك مما يجب حفظ نفسه ، ولكن لما كان المكلف لم يعلم كون المشكوك مما يجب حفظ نفسه أو لا يجب؟ كان اللازم عليه هو الاحتياط تحرزا عن أن يكون المشكوك مما يجب حفظ نفسه فيقع في مخالفة الحكم الواقعي. ومن ذلك يظهر : أنه لا مضادة بين ايجاب الاحتياط وبين الحكم الواقعي ، فان المشتبه إن كان مما يجب حفظ نفسه واقعا فوجوب الاحتياط يتحد مع الوجوب الواقعي ويكون هو هو ، وإن لم يكن المشتبه مما يجب حفظ نفسه فلا يجب الاحتياط ، لانتفاء علته ، وإنما المكلف يتخيل وجوبه لعدم علمه بحال المشتبه ، فوجوب الاحتياط من هذه الجهة يشبه الوجوب المقدمي ، وإن كان من جهة أخرى يغايره. والحاصل : أنه لما كان ايجاب الاحتياط متمما للجعل الأولى من وجوب حفظ نفس المؤمن ، فوجوبه يدور مدار الوجوب الواقعي ، ولا يعقل بقاء المتمم ( بالكسر ) مع عدم وجود المتمم ( بالفتح ) فإذا كان وجوب الاحتياط يدور مدار الوجوب الواقعي فلا يعقل أن يقع بينهما التضاد ، لاتحادهما في مورد
ص: 117
المصادفة وعدم وجوب الاحتياط في مورد المخالفة ، فأين التضاد؟.
هذا كله إذا كانت مصلحة الواقع تقتضي جعل المتمم : من ايجاب الاحتياط. وإن لم تكن المصلحة الواقعية تقتضي ذلك ولم تكن بتلك المثابة من الأهمية بحيث يلزم للشارع رعايتها كيفما اتفق ، فللشارع جعل المؤمن ، كان بلسان الرفع ، كقوله صلی اللّه علیه و آله - « رفع ما لا يعلمون » ، أو بلسان الوضع كقوله صلی اللّه علیه و آله « كل شيء لك حلال » فان المراد من الرفع في قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » ليس رفع التكليف عن موطنه حتى يلزم التناقض ، بل رفع التكليف عما يستتبعه من التبعات وايجاب الاحتياط ، فالرخصة المستفادة من قوله صلی اللّه علیه و آله : « رفع ما لا يعلمون » نظير الرخصة المستفادة من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، فكما أن الرخصة التي تستفاد من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لا تنافى الحكم الواقعي ولا تضاده ، كذلك الرخصة التي تستفاد من قوله علیه السلام « رفع ما لا يعلمون » والسر في ذلك : هو أن هذه الرخصة تكون في طول الحكم الواقعي ومتأخر رتبتها عنه (1) لأن الموضوع فيها هو الشك
ص: 118
في الحكم من حيث كونه موجبا للحيرة في الواقع وغير موصل إليه ولا منجز له ، فقد لوحظ في الرخصة وجود الحكم الواقعي ، ومعه كيف يعقل أن تضاد الحكم الواقعي.
وبالجملة : الرخصة والحلية المستفادة من « حديث الرفع » و « أصالة الحل » تكون في عرض المنع والحرمة المستفادة من ايجاب الاحتياط ، وقد عرفت : أن ايجاب الاحتياط يكون في طول الواقع ومتفرعا عليه ، فما يكون في عرضه يكون في طول الواقع أيضا ، وإلا يلزم أن يكون ما في طول الشيء في عرضه ، فتأمل.
هذا تمام الكلام في إمكان التعبد بالأمارات الغير العلمية ، وقد عرفت بما لا مزيد عليه : أنه لا محذور فيه ، لا ملاكا ولا خطابا.
ولا ينبغي التأمل والإشكال في أن الأصل يقتضي حرمة التعبد بكل أمارة لم يعلم التعبد بها من قبل الشارع.
ويدل على ذلك من الكتاب ، قوله تعالى : « قل آلله أذن لكم أم على اللّه تفترون » (1) بناء على شمول الافتراء لمطلق إسناد الشيء إليه تعالى ولو مع عدم العلم بأنه منه تعالى ، لا خصوص ما علم أنه ليس منه تعالى - كما قيل - ولو سلم عدم شمول الافتراء لما لا يعلم موضوعا فلا أقل من شموله حكما ، لأنه جعل في مقابل الإذن ، فتدل الآية الشريفة على أن كل ما لم يؤذن
ص: 119
فيه فهو افتراء ، إما موضوعا ، وإما حكما.
ومن السنة : قوله علیه السلام « رجل قضى بالحق وهو لا يعلم » (1) بناء على كون التوبيخ لأجل القضاء بما لا يعلم ، لا لأجل التصدي للقضاء مع عدم كونه أهلا له.
ومن الإجماع : ما ادعاه الوحيد البهبهاني قدس سره من أن حرمة العمل بما لا يعلم من البديهيات عند العوام فضلا عن الخواص.
ومن العقل : إطباق العقلاء على تقبيح العبد وتوبيخه على تشريعه وإسناده إلى المولى ما لا يعلم أنه منه ، فان ذلك تصرف في سلطنة المولى وخروج عما يقتضيه وظائف العبودية.
وبالجملة : لا إشكال ولا كلام في قبح التشريع واستتباعه استحقاق العقوبة. نعم : وقع الكلام في مسألة قبح التشريع من جهات :
الجهة الأولى : هل حكم العقل بقبح التشريع نظير حكمه بقبح المعصية مما لا تناله يد الجعل الشرعي ولا يستتبع خطابا مولويا بحرمته؟ أو أن حكمه بقبح التشريع يستتبع الحكم الشرعي بحرمته ولو بقاعدة الملازمة؟ ذهب إلى الأول المحقق الخراساني قدس سره وحمل ما ورد في الكتاب والسنة في هذا الباب على الإرشاد ، نظير قوله تعالى : « أطيعوا اللّه ورسوله ».
وظاهر كلام الشيخ قدس سره هو الثاني ، حيث استدل على حرمة التشريع بالأدلة الأربعة ، وهو الأقوى ، لأن الأحكام العقلية التي لا تستتبع الخطابات الشرعية إنما هي فيما إذا كانت واقعة في سلسلة معلولات الأحكام كقبح المعصية وحسن الطاعة ، لا في ما إذا كانت واقعة في سلسلة علل الأحكام الراجعة إلى باب التحسين والتقبيح العقلي الناشئ عن إدراك المصالح
ص: 120
والمفاسد ، فان الأحكام العقلية الراجعة إلى هذا الباب كلها تكون مورد القاعدة الملازمة ، ويستتبعها الخطابات الشرعية ، ومسألة قبح التشريع من هذا الباب ، لأن حكم العقل بقبحه ليس واقعا في سلسلة معلولات الأحكام ، بل هو حكم ابتدائي من العقل لما فيه من المفسدة من تصرف العبد فيما ليس له ، وإن شئت قلت : إن التشريع من أفراد الكذب الذي يستقل العقل بقبحه والشرع بحرمته (1).
الجهة الثانية : هل قبح التشريع يسرى إلى الفعل المتشرع به بحيث يصير الفعل قبيحا عقلا وحراما شرعا ، أو إنه لا يسرى إلى الفعل بل يكون التشريع من الآثام القلبية مع بقاء الفعل المتشرع به على ما هو عليه؟ ذهب إلى الوجه الثاني المحقق الخراساني قدس سره وظاهر كلام الشيخ قدس سره هو الأول ، حيث قال قدس سره : والحاصل : أن المحرم هو العمل بغير علم متعبدا به ومتدينا به .. الخ ، ومال إليه شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) بتقريب : انه من الممكن أن يكون القصد والداعي من الجهات والعناوين المغيرة لجهة حسن العمل وقبحه ، فيكون الالتزام والتعبد والتدين بعمل لا يعلم التعبد به من الشارع موجبا لانقلاب العمل عما هو عليه (2) وتطرأ عليه
ص: 121
بذلك جهة مفسدة تقتضي قبحه عقلا وحرمته شرعا ، وظاهر قوله : « رجل قضى بالحق وهو لا يعلم » (1) حرمة القضاء واستحقاق العقوبة عليه ، فيدل على حرمة نفس العمل.
الجهة الثالثة : هل صحة التعبد بالأمارة والالتزام بمؤداها على أنه حكم اللّه تعالى يلازم حجيتها بحيث يستكشف من عدم جواز التعبد عدم الحجية؟ أو أن الحجية من اللوازم الأعم؟ فقد تكون الأمارة حجة مع عدم جواز التعبد بها وإسنادها إلى الشارع.
ظاهر كلام المحقق الخراساني قدس سره هو الثاني ، بل صريح كلامه ذلك ، حيث قال : وأما صحة الالتزام بما أدى إليه من الأحكام وصحة نسبته إليه تعالى فليسا من آثارها ، ضرورة أن حجية الظن عقلا على تقرير الحكومة في حال الانسداد لا يوجب صحتهما .. الخ.
ولا يخفى ما فيه ، فان معنى جعل الأمارة حجة هو كونها وسطا لإثبات متعلقها وإحراز مؤداها (2) فيكون حالها حال العلم ، وهل يمكن أن يقال : إنه لا يصح التعبد بمتعلق العلم ولا يجوز إسناده إلى الشارع إذا كان المتعلق من الأحكام الشرعية؟ والأمارة بعد جعلها حجة تكون كالعلم. وما
ص: 122
أفاده : من أن الظن بناء على الحكومة يكون حجة عقلية مع عدم صحة إسناد متعلقه إلى الشارع وعدم جواز التعبد به ، فقد عرفت - في أول مبحث الظن - ما فيه ، وحاصله : أنه ليس من وظيفة العقل جعل الظن حجة مثبتا لمتعلقه ، بل شأن العقل هو الإدراك وليس من وظيفته التشريع ، وحكمه باعتبار الظن في حال الانسداد ليس معناه كون الظن حجة مثبتا لمتعلقه ، بل معناه الاكتفاء بالإطاعة الظنية للأحكام المعلومية بالإجمال عند تعذر الإطاعة العلمية ، وهذا المعنى أجنبي عن معنى الحجية ، فان الحجة تقع في طريق إثبات التكاليف والظن بناء على الحكومة يقع في طريق إسقاط التكاليف ، وسيأتي توضيح ذلك - إنشاء اللّه تعالى - في دليل الانسداد.
وبالجملة صحة التعبد بالأمارة وجواز إسناد مؤداها إلى الشارع من اللوازم التي لا تنفك عن حجيتها ، ولا يعقل التفكيك بينهما ، فمن حرمة التعبد بالأمارة التي لم يعلم التعبد بها من الشارع - كما هو مقتضى الأدلة المتقدمة - يستكشف عدم حجيتها ، بل الشك في الحجية يلازم القطع بعدم الحجية ، لا بمعنى أخذ العلم بالحجية موضوعا لها بحيث لا تكون حجة واقعا مع عدم العلم بها ، فان ذلك واضح الفساد ، بداهة أن الحجية كسائر الأحكام الوضعية والتكليفية لا يدور وجودها الواقعي مدار العلم بها ، بل بمعنى عدم ترتب آثار الحجية عليها من كونها منجزة للواقع عند الإصابة وعذرا عند المخالفة ، فان التنجز يتوقف على العلم بالحكم أو ما يقوم مقامه ، والمكلف لا يكون معذورا إلا إذا استند في العمل إلى الحجة ويتوقف على العلم بها موضوعا وحكما ، ويأتي مزيد توضيح لذلك في المباحث الآتية.
الجهة الرابعة : هل الحكم العقلي بقبح التعبد بما يشك في التعبد به وإسناد الشيء إلى الشارع مع عدم العلم بتشريعه من الأحكام العقلية الطريقية نظير حكمه بقبح الإقدام على ما لا يأمن منه الوقوع في الظلم من
ص: 123
التصرف في أموال الناس وأعراضهم؟ أو أن حكم العقل بذلك ليس طريقيا؟ الظاهر أن يكون هو الثاني ، بل لا ينبغي التأمل فيه ، فان تمام المناط في نظر العقل هو الإسناد إلى الشارع ما لا يعلم أنه منه ، من غير دخل للواقع في ذلك ، فلو فرض أن المتعبد به كان في الواقع مما شرعه الشارع ولكن المكلف لم يعلم بتشريعه وأسنده إلى الشارع من غير علم كان ذلك من التشريع القبيح ، لتحقق تمام المناط والموضوع الذي يستقل العقل بقبحه ، ولو انعكس الأمر وأسند المكلف إلى الشارع ما علم بتشريعه إياه وكان في الواقع مما لم يشرعه الشارع لم يكن المكلف مشرعا ، لا أنه يكون مشرعا ولمكان جهله يكون معذورا عند العقل.
وبالجملة : ليس للتشريع واقع يمكن أن يصيبه المكلف أو لا يصيبه ، بل واقع التشريع هو إسناد الشيء إلى الشارع مع عدم العلم بتشريعه إياه ، سواء علم المكلف بالعدم أو ظن أو شك ، وسواء كان في الواقع مما شرعه الشارع أو لم يكن ، فليس حكم العقل بقبح التشريع نظير حكمه بقبح الظلم ، فان العقل إنما يستقل بقبح الظلم ، وهو عبارة عن التصرف في أموال الناس وأنفسهم وأعراضهم ، غايته أنه من الشك في كون المال مال الناس يحكم العقل حكما طريقيا بقبح التصرف فيه ، مخافة أن يكون المال مال الناس فيقع المكلف في مفسدة التصرف في مال الناس ظلما وعدوانا ، فللعقل في باب الظلم حكمان : حكم موضوعي بقبح التصرف فيما هو مال الناس واقعا عند الالتفات إليه ، وحكم آخر طريقي بقبح التصرف فيما يشك كونه مال الناس (1) فلو خالف المكلف وأقدم على التصرف في المشكوك ولم يكن
ص: 124
في الواقع مال الناس فليس عليه إلا تبعة التجري ، وأين هذا من باب التشريع؟ فإنه ليس للعقل فيه إلا حكم واحد بمناط واحد يعم صورة العلم والظن والشك. والحاصل : أن الأحكام العقلية قسمين : أحدهما : ما يكون للعقل حكم واحد بمناط واحد يعم صورة العلم والظن والشك ، ومن أوضح مصاديق هذا القسم حكمه بقبح التشريع. ثانيهما : ما يكون للعقل حكمان : حكم على الموضوع الواقعي الذي استقل بقبحه ، وحكم آخر طريقي على ما يشك أنه من مصاديق الموضوع الواقعي ، ومن أوضح مصاديق هذا القسم حكمه بقبح الظلم. وقد يقع الشك في بعض الأحكام العقلية أنه من أي القسمين؟ كحكمه بقبح الإقدام على الضرر ، فإنه يحتمل أن يكون الموضوع لحكم العقل بقبح الإقدام عليه هو الضرر الواقعي ، وله حكم آخر طريقي بقبح الإقدام على ما لا يأمن منه الوقوع في الضرر ، ويحتمل أن يكون الموضوع لحكم العقل مطلقا « ما لا يأمن منه الوقوع في الضرر » سواء في ذلك صورة العلم بالضرر أو الظن أو الشك ، كان في الواقع ضرر أو لم يكن. هذا ، ولكن ظاهر المحكى من تسالم الأصحاب على أن سلوك الطريق الذي يظن أو يقطع فيه الضرر والخطر يكون معصية ويجب إتمام الصلاة فيه ولو بعد انكشاف الخلاف وتبين عدم الضرر ، هو أن يكون قبح الضرر عندهم كقبح التشريع ليس للعقل فيه إلا حكم واحد ، إذ لو كان للعقل فيه حكمان - كباب الظلم - كان اللازم عدم وجوب إتمام الصلاة عند انكشاف الخلاف
ص: 125
وتبيّن عدم الضرر ، لأنه لم يتحقق ما هو الموضوع لحكم العقل بالقبح ليستتبع الحكم الشرعي بالحرمة حتى يكون السفر معصية يجب فيه إتمام الصلاة ، بل غايته أن يكون سلوك الطريق من التجري ، فتسالم الأصحاب على هذه الفتوى لا ينطبق إلا بالحاق باب الضرر بباب التشريع ، من حيث كون الموضوع لحكم العقل بالقبح مطلق ما لا يأمن ، فتأمل جيدا.
قد عرفت : أن الأصل عند الشك في حجية كل أمارة يقتضي حرمة التعبد بها والالتزام بمؤداها بمقتضى الأدلة المتقدمة.
وقد يقرر الأصل بوجه آخر ، وهو استصحاب عدم الحجية ، لأن حجية الأمارة من الحوادث وكل حادث مسبوق بالعدم.
وقد منع الشيخ قدس سره عن جريان استصحاب عدم الحجية ، وأفاد في وجهه بما حاصله : أنه لا يترتب على مقتضى الاستصحاب أثر عملي ، فإنه يكفي في حرمة العمل والتعبد نفس الشك في الحجية ، ولا يحتاج إلى إحراز عدم ورود التعبد بالأمارة حتى يجرى استصحاب العدم ، فان الاستصحاب إنما يجرى فيما إذا كان لا أثر مترتبا على الواقع المشكوك فيه ، لا على نفس الشك. هذا حاصل ما افاده الشيخ قدس سره في وجه المنع عن جريان استصحاب عدم الحجية.
ورده المحقق الخراساني قدس سره بما حاصله : أن الحاجة إلى الأثر في جريان الأصل إنما هو في الأصول الجارية في الشبهات الموضوعية ، وأما الأصول الجارية في الشبهات الحكمية فلا يتوقف جريانها على أن يكون في البين أثر عملي ما وراء المؤدى ، بل يكفي في صحة جريان الأصل ثبوت نفس المؤدى - من بقاء الحكم في الاستصحابات الوجودية وعدمه في الاستصحابات العدمية - بداهة أن وجوب الشيء أو عدم وجوبه بنفسه من الآثار التي يصح جريان
ص: 126
الأصل بلحاظها ، فلا حاجة إلى أثر آخر وراء ذلك ، والحجية وعدمها من جملة الأحكام ، فيجرى استصحاب عدم الحجية عند الشك فيها بلا انتظار أثر آخر وراء عدم الحجية ، فان استصحاب عدم الحجية كاستصحاب عدم الوجوب ، فكما أنه لا يتوقف استصحاب عدم الوجوب على أثر آخر وراء نفس عدم الوجوب ، كذلك استصحاب عدم الحجية.
ثم أفاد قدس سره أنه لو سلم كون الحجية من الموضوعات الخارجية التي يتوقف جريان الأصل فيها على أن يكون في البين أثر عملي ، إلا أن ذلك لا يمنع عن استصحاب عدم الحجية ، فان حرمة التعبد كما يكون أثرا للشك في الحجية كذلك يكون أثرا لعدم الحجية واقعا ، فيكون الشك في الحجية موردا لكل من الاستصحاب والقاعدة المضروبة لحال الشك ، ويقدم الاستصحاب على القاعدة لحكومته عليها ، كحكومة استصحاب الطهارة على قاعدتها. ثم بين ضابطا كليا بما حاصله : أن الأثر إذا كان مترتبا على الواقع فقط فلا مجال للاستصحاب ، وإن كان مترتبا على الشك فقط فلا مجال إلا للقاعدة المضروبة للشك ، وإن كان مترتبا على كل من الواقع والشك فلكل من الاستصحاب والقاعدة مجال ، إلا أن الاستصحاب يقدم لحكومته عليها.
هذا حاصل ما أفاده المحقق الخراساني قدس سره ردا على ما افاده الشيخ قدس سره .
وأنت خبير بما فيه! أما ما أفاده قدس سره أولا : من أن الحجية بنفسها من الأحكام فلا يتوقف جريان استصحاب عدمها على أن يكون وراء المؤدى أثر عملي ، ففيه : أن ما اشتهر من أنه « في الأصول الحكمية لا يتوقف جريانها على أن يكون في البين أثر عملي » إنما هو لأجل أن المؤدى بنفسه من الآثار العملية (1) وإلا فلا يمكن أن تجرى الأصول من دون أن يترتب
ص: 127
عليها أثر عملي ، من غير فرق في ذلك بين الأصول الموضوعية والحكمية ، فان الأصول إنما تكون وظائف عملية ، لما عرفت آنفا : من أن المجعول فيها هو الجري العملي ، وبذلك تمتاز الأصول من الأمارات ، فان الأمارة تقتضي الثبوت الواقعي ولا يتوقف التعبد بها على أن يكون المؤدى مما يقتضي الجري العملي ، بل يكفي في التعبد بها أن يترتب عليها أثر عملي ولو بألف واسطة لكي لا يلزم اللغوية ، فلا مانع من قيام الأمارة على عدم الحجية بعد ما كان مفادها عدم الثبوت الواقعي.
وبالجملة : لا يعقل أن يجرى الأصل من دون أن يقتضي الجري والبناء العملي ، ولما كانت الأصول الحكمية بنفسها تقتضي الجري العملي على طبق المؤدى كان الأصل جاريا بلا حاجة إلى أن يكون أثر عملي وراء المؤدى ، وإلا فلو فرض أصل حكمي لا يقتضي الجري العملي فلا يكاد يجرى ، لعدم
ص: 128
صحة التعبد به ؛ والحجية وإن كانت من الأحكام الوضعية وكانت بنفسها مما تنالها يد الجعل ، إلا أنها بوجودها الواقعي لا يترتب عليها أثر عملي أصلا ، والآثار المترتبة عليها - منها : ما يترتب عليها بوجودها العلمي ، ككونها منجزة للواقع عند الإصابة وعذرا عند المخالفة. ومنها : ما يترتب على نفس الشك في حجيتها ، كحرمة التعبد بها وعدم جواز إسناد مؤداها إلى الشارع ، فعدم الحجية الواقعية بنفسه لا يقتضي الجري العملي حتى يجرى استصحاب العدم ، إذ ليس لإثبات عدم الحجية أثر إلا حرمة التعبد بها ، وهو حاصل بنفس الشك في الحجية وجدانا ، لما عرفت : من أن الشك تمام الموضوع لحرمة التشريع وعدم جواز التعبد ، فجريان الاستصحاب لإثبات هذا الأثر يكون من تحصيل الحاصل ، بل أسوء حالا منه ، فان تحصيل الحاصل إنما هو فيما إذا كان المحصل والحاصل من سنخ واحد كلاهما وجدانيان أو كلاهما تعبديان ، وفي المقام يلزم إحراز ما هو محرر بالوجدان بالتعبد ، فهو أسوء حالا من تحصيل الحاصل.
وبالجملة : فرق بين استصحاب عدم الوجوب واستصحاب عدم الحجية ، فان عدم الوجوب كالوجوب بنفسه مما يتعلق بعمل المكلف ويقتضي الجري العملي نحوه ، لأن عدم الوجوب يقتضي الرخصة الشرعية في الفعل ، وهي ليست حاصلة بنفس الشك وجدانا ، ولذلك كان استصحاب عدم الوجوب حاكما على البراءة العقلية والشرعية ، لأن البراءة لا تقتضي أزيد من عدم العقاب وعدم تنجز الواقع. وأما الرخصة الواقعية فلا يكاد تثبتها البراءة ، بخلاف استصحاب عدم الوجوب ، وأين هذا من استصحاب عدم الحجية الذي لا يترتب عليه أثر إلا ما كان حاصلا بنفس الشك ، فتأمّل. (1)أقول : لو كان أثر الحجية منحصراً بجواز التعبد لا شبهة فى أنّ هذا الجواز منوط بالعلم بها، فقبل العلم يحرم التعبد به بمقتضى كلامه؛ وحينئذ يتوقف الأثر على الإستصحاب كي يوجب له العلم بالحجية، والإستصحاب أيضاً ينوط بهذا الأثر ، فيدور؛ وحينئذ لا يرفع هذه الغائلة إلا بدعوى كفاية اقتضاء الأثر في المستصحب بلا احتياج إلى فعليته؛ ولازمه حينئذٍ كفاية نفى المقتضى فى طرف استصحاب عدمه بلا احتياج إلى أثر آخر، كما هو فى استصحاب الوجوب ونفيه - على ما أسلفناه ومن هذا البيان ظهر أيضاً وجه جريان الأمارة على عدم الحجية، شكر اللّه سعيه في هذا التعب العظيم ! .(2)
ص: 129
وأمّا ما أفاده قدس سره ثانيا : من أن حرمة التعبد بالأمارة كما يكون أثرا للشك في حجيتها كذلك يكون أثرا لعدم حجيتها واقعا ، ففي ظرف الشك يجرى كل من الاستصحاب والقاعدة المضروبة له ، ويقدم الاستصحاب لحكومته عليها.
ففيه : أنه لا يعقل أن يكون الشك في الواقع موضوعا للأثر في عرض الواقع (1). مع أنه على هذا الفرض لا يجرى الاستصحاب أيضا ، لأن الأثر
ص: 130
يترتب بمجرد الشك ، لتحقق موضوعه ، فلا يبقى مجال لجريان الاستصحاب ، لانه لا تصل النوبة إلى إثبات بقاء الواقع ليجري فيه الاستصحاب ، فإنه في المرتبة السابقة على هذا الإثبات تحقق موضوع الأثر وترتب عليه الأثر ، فأي فائدة في جريان الاستصحاب؟.
وما قرع سمعك ، من أن الاستصحاب يكون حاكما على القاعدة المضروبة لحال الشك ، فإنما هو فيما إذا كان ما يثبته الاستصحاب غير ما تثبته القاعدة - كقاعدة الطهارة والحل واستصحابهما - فان القاعدة لا تثبت الطهارة والحلية الواقعية (1) بل مفادها ليس إلا ترتيب آثار الطهارة والحلية : من جواز الاستعمال وحلية الأكل ونحو ذلك ، بخلاف الاستصحاب ، فان مفاده بقاء الطهارة والحلية الواقعية ، وقد يترتب على بقاء الطهارة والحلية الواقعية غير جواز الاستعمال وحلية الأكل من آثار اخر ، وعلى ذلك يبتني جواز الصلاة في أجزاء الحيوان الذي شك في حليته إذا كان يجرى في الحيوان استصحاب الحلية - كما إذا كان غنما فشك في مسخه إلى الأرنب - وعدم جواز الصلاة في
ص: 131
أجزائه إذا لم يجرى فيه استصحاب الحلية وإن كان تجرى فيه أصالة الحل ، فإنها لا تثبت الحلية الواقعية وكون الحيوان من الأنواع المحللة ، مع أن جواز الصلاة قد رتب على الحلية الواقعية.
وكذا الكلام في قاعدة الاشتغال مع استصحاب بقاء التكليف ، فإنه في المورد الذي تجرى فيه قاعدة الاشتغال لا يجرى فيه الاستصحاب ، وفي المورد الذي يجرى فيه الاستصحاب لا تجري فيه القاعدة ، فان القاعدة إنما تجرى في مورد العلم الإجمالي عند خروج بعض أطرافه عن الابتلاء بالامتثال ونحوه ، والاستصحاب يجرى عند الشك في فعل المأمور به.
فما ربما يتوهم من عبارة الشيخ قدس سره في المقام : من عدم جريان الاستصحاب في جميع موارد الشك في فعل المأمور به ، فاسد ، فتصريحه في مبحث الاشتغال بجريان استصحاب بقاء التكليف عند الشك في إتيان المأمور به وقد أوضحنا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في مبحث الاشتغال ، وأين هذا مما نحن فيه مما كان الأثر المترتب على الاستصحاب عن الأثر المترتب على الشك!؟ فالإنصاف : أنه لا مجال لتوهم جريان استصحاب عدم الحجية عند الشك فيها ، فتأمل فيما ذكرناه جيدا.
بعد ما عرفت : من أن مقتضى القاعدة عدم حجية ما شك في حجيته من الطرق والأمارات إلا أن يقوم دليل بالخصوص على حجية أمارة خاصة أو على حجية كل أمارة تفيد الظن ، فلابد من صرف عنان الكلام إلى ما دل الدليل على اعتباره ، أو قيل باعتباره من الأمارات.
ولا يخفى : أن البحث عن ذلك من أهم المباحث التي ينبغي تنقيحها ، خصوصا بالنسبة إلى من لم يلتزم بحجية الظن المطلق ، فإنه لابد له من إقامة الدليل على حجية ما بأيدينا من الأخبار المودعة في الكتب من حيث
ص: 132
الظهور والصدور (1) ولا يغنى البحث في حجية الظهور عن البحث في جهة الصدور (2) بل لابد من إثبات حجية كل منهما ، ولذلك عقد الأصحاب بحثا في حجية الظواهر وبحثا آخر في حجية الأخبار (3) وعلى كل حال : ينبغي عقد الكلام في مقامين :
المقام الأول : في بيان الأمارات قام الدليل على اعتبارها بالخصوص أو ما قيل بقيامه عليه.
المقام الثاني : في بيان الأدلة التي توهم دلالتها على اعتبار كل أمارة مفيدة للظن.
أما المقام الأوّل ففيه فصول :
عن الأوضاع اللغوية ، والقرائن العامة ، من وقوع الأمر عقيب الحظر ، والاستثناء عقيب الجمل المتعددة ، ونحو ذلك مما يوجب انعقاد الظهور لمفردات الكلام أو للجملة التركيبية - أي ما يوجب تعيين الظهور وتشخيصه - فالبحث عن جميع ذلك يكون بحثا عن المبادئ ، كالبحث عن الرواة وسلسلة السند.
وأخرى : يكون كبرويا كالبحث عن حجية الظهور بعد فرض انعقاده للكلام ، فان البحث عن حجية الظهور يكون من المباحث الأصولية ، لا من المبادئ - كما توهم - بتخيل أن البحث عن دليلية الدليل لا يرجع إلى البحث عن العوارض ، بل من المباحث الراجعة إلى أصل تحقق الموضوع.
ولا يخفى ما فيه ، لما تقدم ( في صدر الجزء الأول من الكتاب ) من أن الموضوع في علم الأصول ليس هو خصوص الأدلة الأربعة بذواتها أو بوصف دليليتها لتختص مسائل علم الأصول بما يكون البحث فيه عن عوارض الأدلة الأربعة ، بل البحث عن كل ما يقع في طريق الاستنباط يكون بحثا أصوليا ، لأن مسائل علم الأصول هي الكبريات التي تقع في طريق الاستنباط ، ومن أوضحها مسألة حجية الظواهر وحجية الخبر الواحد.
ثم إن المباحث التي ترجع إلى الصغرى - منها : ما تقدم البحث عنه في باب الأوامر والنواهي والعام والخاص ، كالبحث عن وقوع الأمر عقيب الحظر والاستثناء عقيب الجمل المتعددة ، ونحو ذلك من القرائن العامة التي تقتضي
ص: 134
ظهور الكلام على خلاف ما كان ظاهرا فيه لولا احتفافه بتلك القرائن.
ومنها : ما يأتي البحث عنه بعد ذلك ، كالبحث عن حجية قول اللغوي.
والمقصود بالكلام فعلا هو البحث عن الكبرى ( وهي حجية الظواهر ) ونعني بحجية الظواهر الحكم بأن ما تكفله الكلام من المعنى الظاهر فيه هو المراد النفس الأمري والبناء على أن الكلام بظاهره قد سيق لإفادة المراد ، ولا إشكال في أن بناء العقلاء على ذلك في الجملة ، بل عليه يدور رحى معاشهم ونظامهم ، فإنه لولا اعتبار الظهور والبناء على أن الظاهر هو المراد لاختل النظام ولما قام للعقلاء سوق.
ومن المعلوم : أنه ليس في طريقة العقلاء ما يقتضي التعبد بذلك ، بل لمكان أنهم لا يعتنون باحتمال عدم إرادة المتكلم ما يكون الكلام ظاهرا فيه ، لأن احتمال إرادة خلاف الظاهر إنما ينشأ من احتمال غفلة المتكلم من نصب قرينة الخلاف ، أو احتمال عدم إرادة استيفاء مراده من الكلام ، ونحو ذلك مما يوجب انقداح احتمال عدم إرادة المتكلم ظاهر الكلام ، وكل هذه الاحتمالات منفية بالأصول العقلائية التي جرت عليها طريقتهم ، والشارع قررهم عليها ولم يردع عنها ، بل اتخذها طريقة له أيضا لأنه أحدهم ، فإنه ليس للشارع طريق خاص في بيان مراداته ، بل يتكلم على طبق تكلم العقلاء ، بل لا يتطرق بعض الاحتمالات التي توجب الشك في إرادة ظاهر الكلام في كلامه كاحتمال الغفلة عن نصب القرينة - فلم يبق إلا احتمال عدم إرادة استيفاء تمام مراده من الكلام وهو منفى بالأصل.
وبالجملة : لا إشكال في اعتبار الظواهر ، من غير فرق بين ظواهر كلام الشارع وغيره ، ومن غير فرق بين ظواهر الكتاب العزيز وغيره ، وإن نسب إلى الأخباريين عدم جواز العمل بظاهر الكتاب العزيز ، واستدلوا على ذلك بوجهين :
ص: 135
الأول : العلم الإجمالي بتقييد وتخصيص كثير من المطلقات والعمومات الكتابية ، والعلم الإجمالي كما يمنع عن جريان الأصول العملية يمنع عن جريان الأصول اللفظية : من أصالة العموم والإطلاق التي عليها مبنى الظهورات.
الثاني : الأخبار الناهية عن العمل بالكتاب.
ولا يخفى ما في كلا الوجهين.
أما الأول : فلان العلم الإجمالي ينحل بالفحص عن تلك المقيدات والمخصصات والعثور على مقدار منها يمكن انطباق المعلوم بالإجمال عليها (1) وقد تقدم تفصيل ذلك في مبحث العام والخاص.
وأما الثاني : فلأن الأخبار الناهية عن العمل بالكتاب وإن كانت مستفيضة بل متواترة ، إلا أنها على كثرتها بين طائفتين : طائفة تدل على المنع عن تفسير القرآن بالرأي والاستحسانات الظنية ، وطائفة تدل على المنع عن الاستقلال في العمل بظاهر الكتاب من دون مراجعة أهل البيت الذين نزل الكتاب في بيتهم ( صلوات اللّه عليهم ).
ولا يخفى : أن مفاد كل من الطائفتين أجنبي عما يدعيه الأخباريون.
أمّا الطائفة الأولى : فلأن العمل بالظاهر لا يندرج في التفسير ، لأنه
ص: 136
عبارة عن « كشف القناع » فلا يعم الظاهري الذي لا قناع عليه ، خصوصا بعد تقييد التفسير في جملة من الروايات بالرأي الذي يحتاج إلى إعمال الاستحسانات الظنية ، ولا إشكال أن سوق الروايات يقتضي وحدة المراد منها وأنها وردت لبيان إفادة معنى واحد ، من غير فرق بين ما أطلق في التفسير ، وبين ما قيد بالرأي.
وأمّا الطائفة الثانية : فلأن المدعى هو العمل بظاهر الكتاب بعد مراجعة ما ورد عن أهل البيت من التفسير وبعد الفحص عن المقيدات والمخصصات ، فإنه لا يدعى أحد جواز الاستقلال في العمل بظاهر الكتاب بلا مراجعة الأخبار الواردة عنهم علیهم السلام .
هذا مضافا إلى ما ورد في جملة من الأخبار - لا يبعد أن تكون متواترة معنى - من جواز العمل بالكتاب والتمسك به والرجوع إليه وعرض الأخبار المتعارضة عليه والأخذ بما وافقه الكتاب وطرح المخالف وغير ذلك مما يظهر منه المفروغية عن صحة التمسك بظاهر الكتاب ، فراجع أخبار الباب وتأمل فيها.
والشيخ قدس سره وإن أطال الكلام في مقالة الأخباريين وكلام ( السيد الصدر ) إلا أن الإنصاف : أن المراجعة في أخبار الباب تغنى عن إطالة الكلام في فساد مقالة الأخباريين ، فالتفصيل بين ظاهر الكتاب وغيره مما لا سبيل إليه.
نعم : في باب الظواهر تفصيل آخر محكى عن المحقق القمي قدس سره لعله أقرب من تفصيل الأخباريين ، وهو التفصيل بين من قصد إفهامه من الكلام وبين ما لم يقصد ، وحجية الظواهر تختص بالأول دون الثاني.
وحاصل ما أفاده في وجه ذلك : هو أنه تارة : يكون الغرض من الكلام إفهام كل من ينظر إليه أو يطرق سمعه من دون أن يقصد من الكلام
ص: 137
إفهام شخص خاص - كما هو الشأن في كتب التأليف والتصنيف والأسناد والسجلات الراجعة إلى الوصايا والأقارير والأوقاف وغير ذلك مما يكون يكون المقصود نفس مفاد الكلام من دون أن يخاطب به شخص خاص - ولا إشكال في اعتبار الظواهر في مثل ذلك وعليه جرت طريقة العرف والعقلاء. وأخرى : يكون الغرض من الكلام إفهام شخص خاص - كما لو كان الكلام في مقام الجواب عن سؤال سائل خاص - فللسائل الأخذ بظاهر الجواب دون غيره. أما السائل : فلأن الاحتمال الذي يحتمله في مقام التخاطب ليس إلا احتمال غفلة المتكلم عن نصب قرينة المراد ، وهذا الاحتمال منفى بالأصل ، وليس في البين احتمال آخر يحتمله المخاطب. وأما غير المخاطب : فلا ينحصر الاحتمال فيه باحتمال الغفلة ، بل في البين احتمال آخر ، وهو احتمال أن تكون بين السائل والمجيب قرينة حالية أو مقالية سابقة الذكر أو لاحقة الذكر معهودة بين المتكلم والمخاطب ، ومع هذا الاحتمال لا يمكن الوثوق بأن ظاهر الكلام هو المراد ، بل قد لا يحصل الظن بالمراد ، خصوصا بالنسبة إلى المتكلم الذي دأبه الاعتماد على القرائن المنفصلة عن الكلام ، وغالب الروايات التي بأيدينا تكون من هذا القبيل ، لأنها وردت أجوبة عن أسئلة لأشخاص خاصة ، فلا يجوز الاعتماد على ظواهرها ، خصوصا مع أن من عادة الشارع الاعتماد على القرائن المنفصلة - كما يظهر للمتتبع في الأخبار - فعلى هذا ينبغي أن تكون حجية الأخبار المودعة في الكتب من صغرويات حجية الظن المطلق بمعونة مقدمات الانسداد. هذا حاصل ما أفاده « المحقق القمي » فيما اختاره من التفصيل في حجية الظواهر بين المخاطب وغيره.
وأنت خبير بما فيه ، فان جميع المحتملات التي تقتضي عدم إرادة المتكلم ظاهر كلامه منفية بالأصول العقلائية (1) ولا اختصاص لاحتمال غفلة
ص: 138
المتكلم عن نصب قرينة المراد ، بل احتمال نصب القرينة السابقة أو اللاحقة أو احتمال قرينة الحال - وغير ذلك مما يفرض من الاحتمالات - كلها مرجوحة في نظر العرف منفية بأصالة العدم التي عليها بناء العقلاء ، من غير فرق بين المخاطب وغيره.
نعم : احتمال القرينة المنفصلة بالنسبة إلى المتكلم الذي من عادته الاعتماد على القرائن المنفصلة يكون راجحا ، إلا أن ذلك يكون إنما يقتضي وجوب الفحص عنها ، لا سقوط ظاهر كلامه عن الاعتبار ، مع أن نسبة الأخبار إلينا نسبة كتب التأليف والتصنيف ، فان نقلة الروايات في مبدء السلسلة غالبا كانوا هم المخاطبين بالكلام - وقد اعترف بأن ظاهر الكلام حجة في حقهم - وبعد ذلك أودعت تلك الروايات في الأصول ثم في الجوامع والكتب ، ولابد وأن يكون الراوي عن الإمام علیه السلام يودع أو ينقل ما سمعه من الكلام بما احتف به من قرائن الحال والمقال ، لأن الغرض من نقله هو إفهام الغير ، فتكون الكتب المودعة فيها الروايات ككتب التأليف والتصنيف التي اعترف بحجية ظواهرها أيضا لكل من نظر فيها.
فالإنصاف : أنه لا فرق في حجية الظواهر بين ظواهر الأخبار وغيرها ، وبين من قصد إفهامه وغيره ، هذا كله فيما يتعلق بحجية الظواهر من المباحث.
فخلاصة الكلام فيها : هو أن كل كلام يتضمن النسبة
ص: 139
التامة الخبرية والإنشائية له دلالة تصورية ودلالة تصديقية ، ونعني بالدلالة التصورية دلالة مفردات الكلام على معانيها اللغوية والعرفية ، وبالدلالة التصديقية دلالة جملة الكلام على ما يتضمنه من المعنى ، فقد تكون دلالة الجملة على طبق دلالة المفردات - كما إذا لم يحتف بالكلام قرينة المجاز والتقييد والتخصيص ونحو ذلك مما يوجب صرف مفاد جملة الكلام عما يقتضيه مفاد المفردات - وقد يكون مفاد دلالة الجملة مغايرا لمفاد دلالة المفردات - كما إذا احتف بالجملة ما يوجب صرفها عما يقتضيه مفاد المفردات - ولذا كانت الدلالة التصديقية تتوقف على فراغ المتكلم من كلامه ، فان لكل متكلم أن يلحق بكلامه ما شاء من القرائن ، فما دام متشاغلا بالكلام لا ينعقد لكلامه الدلالة التصديقية ، فإنه لا يصح الأخبار بما قال ونقل كلامه بالمعنى أو ترجمته بلغة أخرى إلا بعد الفراغ من الكلام ، حتى يصح ضم أجزاء الكلام بعضها مع بعض وإلحاق ذيله بصدره ليخبر عن مفاد الجملة ، فلا يصح الإخبار بأن المتكلم قال ، « رأيت حيوانا مفترسا » عقيب قوله : « رأيت أسدا » إلا إذا سكت المتكلم ولم يلحق « أن يرمى » بقوله « رأيت أسدا » وتستتبع هذه الدلالة التصديقية الدلالة على أن الظاهر هو المراد الذي كان مبحوثا عنه سابقا ، فان التصديق بأن الظاهر هو المراد إنما يكون بعد فرض انعقاد الظهور للكلام ليصح الإخبار بما قال ، فيقال : قال كذا وما قاله هو المراد.
وهذا بخلاف الدلالة التصورية ، فإنه في حين تشاغل المتكلم بالكلام تكون لمفردات كلامه هذه الدلالة ، فان السامع للكلام العارف بالأوضاع ينتقل ذهنه إلى مفاد المفردات ، وإن كان المتكلم بعد متشاغلا بالكلام ، وذلك واضح.
ثم إن المتكفل لإثبات مفاد الدلالة التصديقية التركيبية إن كان مفادها على خلاف ما يقتضيه مفاد المفردات إنما هو القرائن التي تحتف
ص: 140
بالكلام (1) فإنها هي المرجع في تشخيص الظهورات للجمل التركيبية ، وهي قد تكون من القرائن العامة المضبوطة ، كوقوع الأمر عقيب الحظر أو توهم الحظر وكالاستثناء عقيب الجمل المتعددة وكتعقب العام بضمير يرجع إلى بعض أفراده ، ونحو ذلك من القرائن العامة التي ادعى أنها توجب انعقاد الظهور للكلام على خلاف ما يقتضيه لولا احتفافه بتلك القرينة ، وقد تقدم البحث عنها في الجزء الأول والثاني من الكتاب ، وقد تكون من القرائن الخاصة في الموارد الجزئية ، وهي ليست تحت ضابط كلي ، بل تختلف باختلاف الخصوصيات والحالات والمتكلمين.
والمتكفل لإثبات مفاد الدلالة التصورية لمفردات الكلام هو الأوضاع اللغوية إذا لم تكن المعاني مرتكزة في أذهان أهل العرف ، وإلا فالعبرة عليه وإن خالف الأوضاع اللغوية.
واستكشاف الأوضاع اللغوية إنما يكون من قول اللغوي ، فان أفاد قوله العلم بالوضع فهو ، وإلا ففي حجية الظن الحاصل من قوله إشكال : وإن
ص: 141
كان قد حكى الإجماع على اعتبار الظن الحاصل من قول اللغوي بالخصوص ، لا من باب الظن المطلق.
وقد يستدل على ذلك بما دل على اعتبار قول أهل الخبرة ، ولا ينبغي الإشكال في الكبرى ، فان الرجوع إلى أهل الخبرة والاعتماد على قولهم مما قد استقرت عليه طريقة العقلاء واستمرت عليه السيرة ولم يردع عنها الشارع ، ولا يعتبر في الرجوع إلى قولهم شرائط الشهادة : من التعدد والعدالة ، بل ولا الإسلام ، فان اعتبار قولهم ليس من باب الشهادة حتى يحتاج إلى ذلك ، لأن الشهادة هي الأخبار عن حس ، وقول أهل الخبرة يتضمن إعمال الرأي والحدس (1) فهو باب آخر غير باب الشهادة ، ولكن القدر المتيقن من بناء العقلاء هو ما إذا حصل من قولهم الوثوق لا مطلقا ، إذ ليس بناء العقلاء على التعبد بقول أهل الخبرة مع الشك وعدم الوثوق ، بل التعبد إنما هو من وظائف المتشرعة ، وليس بناء العقلاء في شيء من المقامات على التعبد ، فلابد من حصول الوثوق من قول أهل الخبرة وإن لم يجتمع فيه شرائط الشهادة ، إلا إذا كان في مورد الدعوى والخصومة ، فإنه لا بد من التعدد والعدالة ، لقوله صلی اللّه علیه و آله : « إنما أقضى بينكم بالبينات والأيمان » (2) وغاية ما يقتضيه الدليل على اعتبار قول أهل الخبرة هو أن يكون حدسهم كحسهم في الاعتبار ، وهذا لا ينافي اعتبار اجتماع شرائط الشهادة : من التعدد والعدالة في خصوص
ص: 142
باب الخصومة (1) كما عليه الفتوى في باب خيار العيب والتقويم وغير ذلك.
وأما الصغرى : ( وهي كون اللغوي من أهل الخبرة بمعاني الألفاظ وتعيين حقايقها ومجازاتها ) فللمنع عنه مجال ، لأن أهل اللغة شأنهم بيان موارد الاستعمالات ، وتشخيص مواردها لا يحتاج إلى إعمال الحدس والرأي بل هو من الأمور الحسية. نعم : في استخراج المعنى الموضوع له من بين المعاني المستعمل فيها اللفظ قد يحتاج إلى إعمال نحو من الرأي والاجتهاد ، وبهذا الاعتبار يمكن اندراج قول اللغوي في ضابط أهل الخبرة ، إلا أن الغالب في اللغة هو بيان موارد الاستعمالات ، مع أنه لو فرض أنه عين المعنى الموضوع له ففي حصول الوثوق من قول لغوي واحد محل منع.
فالإنصاف : أن كون اللغوي من أهل الخبرة واعتبار قوله لذلك دون إثباته خرط القتاد!.
وقد يستدل أيضا على اعتبار قول اللغوي بالانسداد الصغير ، كما قربه الشيخ قدس سره بعد ما منع عنه أوّلاً.
ولا يخفى : أن انسداد باب العلم في بعض الموضوعات التي يتوقف عليه العلم بالحكم إن أوجب انسداد باب العلم في معظم الأحكام بحيث استلزم منه الخروج عن الدين أو العسر والحرج عند إعمال الأصول النافية أو العمل بالاحتياط ، فهو يرجع إلى الانسداد الكبير ، كما لو فرض انسداد باب العلم بوثاقة الرواة وانحصر الطريق بالظنون الحاصلة من توثيقات أهل الرجال ، فان انسداد باب العلم في ذلك يوجب انسداد باب العلم في معظم الأحكام ، لأن غالب الأحكام إنما تثبت بأخبار الآحاد ، فانسداد باب العلم بوثاقة الرواة
ص: 143
يستلزم انسداد باب العلم في معظم الأحكام ويرجع إلى الانسداد الكبير ، وسيأتي البحث عنه.
وإن كان انسداد باب العلم في بعض ما يتوقف عليه العلم بالحكم لا يوجب انسداد باب العلم في معظم الأحكام وإن استلزم انسداد باب العلم في جملة من الأحكام بحيث لا يلزم من الرجوع إلى الأصول والعمل بالاحتياط فيه محذور الخروج عن الدين أو العسر والحرج ، فهذا الانسداد مما لا أثر له ولا يوجب اعتبار الظن المطلق في تلك الأحكام ، بل لابد من الأخذ بالقواعد.
وحينئذ ينبغي البحث عن أن انسداد باب العلم بتفاصيل اللغات هل يوجب انسداد باب العلم بمعظم الفقه أولا؟ الإنصاف : انه لا يوجب ذلك ، لأن الحاجة إلى قول اللغوي أقل قليل ، فان الغالب انفتاح باب العلم بمعاني الألفاظ ، فعدم العمل بالظن فيما لا يعلم والأخذ بالاحتياط لا يوجب المحذور المذكور.
والألفاظ التي ذكرها الشيخ قدس سره من انسداد باب العلم فيها - مع أنها ليست بتلك المثابة من الكثرة - أغلبها يكون لمعانيها قدر متيقن معلوم ، والزائد المشكوك ليس بشيء يقتضي انسداد باب العلم بمعظم الفقه ، وسيأتي لذلك مزيد توضيح في مبحث الانسداد.
الأوّل : لو حصل الوثوق من قول اللغوي بمعنى اللفظ ، فهل يصير ذلك منشأ لظهور اللفظ في المعنى كما لو حصل العلم به؟ أو أنه لا يصير منشأ لذلك ، بل أقصاه أن يكون ذلك من الظن الخارجي الذي يوجب الظن بالحكم؟.
الأقوى أنه يصير منشأ للظهور (1) وليس من الأمور الخارجية التي لا
ص: 144
توجب انعقاد الظهور ، فإنه لو كان هذا الوثوق حاصلا قبل إلقاء الكلام إلى المخاطب لما كاد يشك في كونه موجبا لظهور الكلام ، كما لو فرض أنه حصل الوثوق من قول اللغوي قبل نزول آية التيمم بأن معنى « الصعيد » هو خصوص التراب ، ثم نزل قوله تعالى : « فتيمموا صعيدا طيّباً » فإنه لا إشكال في أن الوثوق السابق يوجب ظهور لفظ « الصعيد » في خصوص التراب ، فكذا الحال فيما لو حصل هذا الوثوق بعد نزول الآية ، فإنه لا يعقل الفرق في ذلك بين حصول الوثوق قبل النزول أو بعده ، كما لا يخفى.
الثاني : قد تقدم أنه لا يجوز الأخذ بظاهر كلام من كان من عادته الاعتماد على القرائن المنفصلة قبل الفحص عنها ، وأما بعد الفحص فيجب الأخذ بالظهور ولو لم يحصل الوثوق بإرادة الظاهر ، كما لا يبعد عدم حصوله في الغالب بالنسبة إلى الروايات ، لقوة احتمال أن تكون في البين قرينة منفصلة تدل على إرادة خلاف الظاهر وقد اختفت علينا لدواعي الاختفاء ، إلا أن ذلك لا يوجب التوقف في متابعة الظاهر بعد الفحص ، ولا ينافي هذا ما تقدم : من أن بناء العقلاء ليس على التعبد بالظواهر ولو لم يحصل لهم الوثوق ، لأنه فرق بين ما إذا تعلق الغرض باستخراج واقع مراد المتكلم من ظاهر كلامه فهذا لا يكون إلا بعد الوثوق بأن الظاهر هو المراد - وعليه بناء العقلاء -(1) وبين ما
ص: 145
إذا كان الغرض الإلزام والالتزام بالظواهر في مقام الحجة والاحتجاج ، فإنه في مثل ذلك لابد من الأخذ بظاهر الكلام ولو لم يحصل الوثوق بكونه هو المراد ، إذ ليس للمولى مؤاخذة العبد على العمل بالظاهر عند عدم إرادته ، كما أنه ليس للعبد ترك العمل بالظاهر بمجرد احتمال القرينة المنفصلة ، وهذا ليس تفصيلا في بناء العقلاء ، حتى يقال : إنه لا معنى للتفصيل في بناء العقلاء ، بل هذا التفصيل اقتضاه دليل الحجية وطريقية الاحتجاج بين الموالى والعبيد وما يلحق بذلك مما كان في البين إلزام والتزام ، كالكلام الصادر بين الوكيل والموكل ونحو ذلك.
ويأتي لذلك مزيد توضيح في « الجزء الرابع ».
الثالث : قد عرفت أن العبرة في الظهور هو ظهور الجملة التركيبية ، ولا عبرة بظهور المفردات ، إذ الكاشف عن المراد هو جملة الكلام بما له من النسب وبما له من الملحقات والقرائن المحتفة بالكلام ، فلو فرض أن ظهور الجملة كان على خلاف ما يقتضيه وضع المفردات ، كان اللازم هو الأخذ بظهور الجملة ، بل لا يجوز الأخذ بما يقتضيه وضع المفردات إذا احتف بالكلام ما يوجب إجمال الجملة وعدم ظهورها في المراد ، وذلك كله واضح لا يحتاج إلى بيان.
وكان ينبغي تأخير البحث عنه عن حجية الخبر الواحد ، فإنه لا دليل على حجية الإجماع المنقول إلا توهم اندراجه في الخبر الواحد فيعمه أدلته ، ولكن الشيخ قدس سره قدم البحث عنه ، ونحن أيضا نقتفي أثره. وتنقيح البحث في ذلك يستدعى تقديم أمور :
ص: 146
الأمر الأول ، يعتبر في الخبر أن يكون المخبر به من الأمور المحسوسة بأحد الحواس الظاهرة (1) سواء في ذلك باب الخبر الواحد وباب الشهادة ، فإنه يعتبر في
ص: 147
كلّ منهما أن يكون الإخبار عن حس ، غايته أنه لو كان المخبر به من الأحكام الشرعية وما يلحق بها من الموضوعات التي ينبغي أن تتلقى من الشارع كان داخلا في باب الخبر الواحد ويندرج في أدلة حجيته ، ولو كان المخبر به موضوعا من الموضوعات الخارجية كان داخلا في باب الشهادة ويندرج في أدلة حجيتها ، كقوله علیه السلام في ذيل رواية ابن صدقة : « والأشياء كلها على ذلك حتى تستبين أو تقوم بها البينة » (1).
وقد قيل : بعموم حجية الخبر الواحد للموضوعات أيضا. وفيه نظر ، وبيانه موكول إلى محله.
وعلى كل حال : لا إشكال في أنه يعتبر في كل من الشهادة وخبر الواحد أن يكون الإخبار عن حس (2) وبذلك يفترقان عن قول أهل الخبرة ، لأن إخبارهم ليس عن حس بل عن حدس ورأى واجتهاد ، ولذا قلنا : لا يعتبر في حجية قول أهل الخبرة ما يعتبر في حجية الخبر الواحد والشهادة من الشرائط ، كما تقدم.
* * *
ص: 148
الأمر الثاني : نقل الإجماع تارة : يرجع إلى نقل السبب من أقوال العلماء وفتاويهم الكاشفة عن رأى المعصوم علیه السلام وأخرى : يرجع إلى نقل نفس المسبب وهو رأيه علیه السلام ، فان رجع إلى نقل السبب كان ذلك إخبارا عن الحس (1) ويندرج في عموم أدلة حجية الخبر الواحد ، وإن رجع إلى نقل المسبب كان ذلك إخبارا عن الحدس ، فلا عبرة به (2) ولا دليل على حجيته ، إلا على بعض الوجوه في تقدير مدرك حجية الإجماع ، كما سيأتي.
الأمر الثالث : اختلفت مشارب الأعلام في مدرك حجية الإجماع المحصل الذي هو أحد الأدلة الأربعة ، فقيل : إن الوجه في حجيته دخول شخص المعصوم علیه السلام في المجمعين ، ويحكى ذلك عن السيد المرتضى قدس سره .
وقيل : إن قاعدة اللطف تقتضي أن يكون المجمع عليه هو حكم اللّه الواقعي الذي امر المعصوم علیه السلام بتبليغه إلى الأنام ، ويحكى ذلك عن شيخ الطائفة قدس سره .
وقيل : إن المدرك في حجيته هو الحدس برأيه علیه السلام ورضاه بما أجمع عليه ، للملازمة العادية بين اتفاق المرؤوسين المنقادين على شيء وبين رضا الرئيس بذلك الشيء (3) ويحكى ذلك عن بعض المتقدمين.
وقيل : إن حجيته لمكان تراكم الظنون من الفتاوى إلى حدّ يوجب
ص: 149
القطع بالحكم ، كما هو الوجه في حصول القطع من الخبر المتواتر.
وقيل : إن الوجه في حجيته إنما هو لأجل كشفه عن وجود دليل معتبر عند المجمعين.
ولعل هذا الأخير أقرب المسالك ، لأن مسلك الدخول مما لا سبيل إليه عادة في زمان الغيبة (1) بل ينحصر ذلك في زمان الحضور الذي كان الإمام علیه السلام يجالس الناس ويجتمع معهم في المجالس ، فيمكن أن يكون الإمام علیه السلام أحد المجمعين ، وأما في زمان الغيبة فلا يكاد يحصل ذلك عادة.
نعم : قد يتفق في زمان الغيبة للأوحدي التشرف بخدمته وأخذ الحكم منه علیه السلام فيدعى الإجماع عليه ، وأين هذا من دعوى كون مبنى الإجماع على دخول شخصه علیه السلام في المجمعين؟!.
وأمّا مسلك اللطف : فهو بمكان من الضعف ، لأنه مبنى على أنه يجب على الإمام علیه السلام إلقاء الخلاف بين الأمة إذا لم يكن الحكم المجمع عليه من أحكام اللّه تعالى ، وذلك من أصله فاسد ، فان الواجب على الإمام علیه السلام إنما هو بيان الأحكام بالطرق المتعارفة ، وقد أدى علیه السلام ما هو وظيفته ، وعروض الاختفاء لها بعد ذلك لبعض موجبات الاختفاء لا دخل له بالإمام علیه السلام حتى يجب عليه إلقاء الخلاف.
وأما مسلك الملازمة العادية : فاتفاق المرؤوسين على أمر إن كان نشأ عن تواطئهم على ذلك كان لتوهم الملازمة العادية بين إجماع المرؤسية ورضا
ص: 150
الرئيس مجال ، وأما إذا اتفق الاتفاق بلا تواطئ منهم على ذلك ، فهو مما لا يلازم عادة رضا الرئيس ولا يمكن دعوى الملازمة.
وأمّا مسلك تراكم الظنون : فهو مما لا يندرج تحت ضابط كلي ، إذ يختلف ذلك باختلاف مراتب الظنون والموارد والأشخاص ، فقد يحصل من تراكم الظنون القطع لشخص وقد لا يحصل ، فلا يصح أن يجعل ذلك مدركا لحجية الإجماع.
فالإنصاف : أن الذي يمكن أن يدعى ، هو أن يكون اتفاق العلماء كاشفا عن وجود دليل معتبر عند المجمعين ، ولكن هذا إذا لم يكن في مورد الإجماع أصل أو قاعدة أو دليل على وفق ما اتفقوا عليه ، فإنه مع وجود ذلك يحتمل أن يكون مستند الاتفاق أحد هذه الأمور ، فلا يكشف اتفاقهم عن وجود دليل آخر وراء ذلك. نعم : لو كان الاتفاق مستمرا من زمان الصحابة المعاصرين للأئمة علیهم السلام ك « زرارة » و « محمد بن مسلم » إلى زمان أرباب الفتوى إلى زمن المتأخرين ، فهو يكشف كشفا قطعيا عن رضاء المعصوم بذلك ولا يلتفت إلى القاعدة أو الأصل الموافق ، إلا أن تحصيل مثل هذا الاتفاق مما لا سبيل إليه ، بل القدر الممكن هو تحصيل الاتفاق من زمان أرباب الفتوى ، وهذا الاتفاق لا يكشف عن نفس رضاه علیه السلام بل أقصاه أنه يكشف عن وجود دليل معتبر عند الكل إذا لم يكن في المورد أصل أو قاعدة ، فإنه لا يمكن الاتفاق في الفتوى اقتراحا بلا مدرك.
ومما ذكرنا ظهر : ما في عد الإجماع دليلا برأسه في مقابل الأدلة الثلاثة الأخر ، فإنه على جميع المسالك لا يكون الإجماع مقابلا للسنة.
نعم : بناء على ما قربناه من المسلك يكون التقابل بين الإجماع والسنة تقابل الإجمال والتفصيل ، فان الإجماع يكشف عن وجود دليل على الإجمال ، فتأمّل.
ص: 151
إذا عرفت ذلك فاعلم : أن الحاكي للاجماع إنما يحكى السبب الكاشف عن المسبب والمنكشف ، إلا على مسلك الدخول ، قد عرفت فساد أصل المسلك. وأما على المسالك الاخر : فالحكاية إنما هي للسبب ، وقد تقدم أن الحكاية إن رجعت إلى السبب تكون عن حس (1) لا عن حدس ، فلا بد من الأخذ بما يحكيه من السبب ، ويندرج ذلك في حجية الخبر الواحد ، فان كانت الحكاية لتمام السبب في نظر المنقول إليه فهو ، وإلا احتيج إلى ضم ما يكون تمام السبب ، وهذا يختلف باختلاف الحاكي والمحكى له ، فان كان الحاكي للإجماع من المتقدمين على « العلامة » و « المحقق » و « الشهيد » رحمهم اللّه فلا عبرة بحكايته ، لأن الغالب فيهم حكاية الإجماع على كل ما ينطبق على أصل أو قاعدة في نظرهم ، ولا عبرة بنظر الغير في تطبيق المورد على الأصل أو القاعدة وإن كان نفس الأصل والقاعدة مورد الإجماع.
وأما إذا كان الحاكي من قبيل « الشهيد » و « المحقق » و « العلامة » فالإنصاف اعتبار حكايتهم ، لأنهم يحكون نفس الفتاوى وبلسان الإجماع الكاشفة عن وجود دليل معتبر مع عدم وجود أصل أو قاعدة أو دليل في البين.
هذا خلاصة الكلام في الإجماع المنقول ، ولا يستحق إطالة الكلام فيه أزيد مما ذكرنا ، فتدبر جيدا حتى يتضح لك الحال.
ولا بأس بالإشارة إلى أقسام الشهرة وأحكامها في المقام ، وإن كان يأتي الكلام فيها في مبحث التعادل والتراجيح.
ص: 152
فنقول : الشهرة على أقسام ثلاثة : الشهرة الروايتية ، والشهرة العملية ، والشهرة الفتوائية.
أمّا الشهرة الروايتية : فهي عبارة عن اشتهار الرواية بين الرواة وأرباب الحديث بكثرة نقلها وتكررها في الأصول والكتب قبل الجوامع الأربع ، وهذه الشهرة هي التي تكون من المرجحات في باب التعارض والمقصودة من قوله علیه السلام : « خذ بما اشتهر بين أصحابك » (1).
وأمّا الشهرة العملية : فهي عبارة عن اشتهار العمل بالرواية والاستناد إليها في مقام الفتوى ، وهذه الشهرة هي التي تكون جابرة لضعف الرواية وكاسرة لصحتها إذا كانت الشهرة من قدماء الأصحاب القريبين من عهد الحضور ، لمعرفتهم بصحة الرواية وضعفها. ولا عبرة بالشهرة العملية إذا كانت من المتأخرين ، خصوصا إذا خالفت شهرة القدماء ، والنسبة بين الشهرة الروايتية والشهرة العملية العموم من وجه ، إذ ربما تكون الرواية مشهورة بين الرواة ولكن لم يستندوا إليها في مقام العمل ، وربما ينعكس الأمر ، وقد يتوافقان.
وأمّا الشهرة الفتوائية : فهي عبارة عن مجرد اشتهار الفتوى في مسألة لا استناد إلى رواية ، سواء لم تكن في المسألة رواية ، أو كانت رواية على خلاف الفتوى ، أو على وفقها ولكن لم يكن عن استناد إليها ، وهذه الشهرة الفتوائية لا تكون جابرة لضعف الرواية ، إذ الجبر إنما يكون بالاستناد إلى الرواية ولا أثر لمجرد مطابقة الفتوى لمضمون الرواية بلا استناد إليها ، ولكن
ص: 153
تكون كاسرة لصحة الرواية إذا كانت الشهرة من القدماء ، لأن الكسر إنما يتحقق بالإعراض وعدم العمل بالرواية.
وهذه الشهرة الفتوائية هي المبحوث في حجيتها وعدم حجيتها في المقام ، وقد استدل للحجية بوجوه :
الوجه الأوّل : قوله علیه السلام في مقبولة ابن حنظلة : « ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فان المجمع عليه لا ريب فيه ». الخبر (1).
وجه الاستدلال : هو أن المراد من « المجمع عليه » ليس اتفاق الكل بقرينة قوله علیه السلام : « ويترك الشاذ » فلابد وأن يكون المراد منه المشهور بين الأصحاب ، فيرجع مفاد التعليل إلى أن المشهور مما لا ريب فيه. وعموم التعليل يشمل الشهرة الفتوائية وإن كان المورد الشهرة الروايتية ، وكذا قوله علیه السلام في مرفوعة زرارة : « خذ بما اشتهر بين أصحابك » (2) بدعوى عموم الموصول لكل ما اشتهر بين الأصحاب.
ولا يخفى عليك ضعف الاستدلال.
أن التعليل : فلأنه ليس من العلة المنصوصة ليكون من الكبرى الكلية التي يتعدى عن موردها ، فان المراد من قوله « فان المجمع عليه لا ريب فيه » إن كان هو الإجماع المصطلح فلا يعم الشهرة الفتوائية ، وإن كان المراد منه المشهور فلا يصح حمل قوله علیه السلام « مما لا ريب فيه » عليه بقول مطلق ، بل لابد من أن يكون المراد منه عدم الريب بالإضافة إلى ما يقابله ، وهذا يوجب خروج
ص: 154
التعليل عن كونه كبرى كلية ، لأنه يعتبر في الكبرى الكلية صحة التكليف بها ابتداء بلا ضم المورد إليها ، كما في قوله « الخمر حرام لأنه مسكر » فإنه يصح أن يقال « لا تشرب المسكر » بلا ضم الخمر إليه ، والتعليل الوارد في المقبولة لا ينطبق على ذلك ، لأنه لا يصح أن يقال « يجب الأخذ بكل ما لا ريب فيه بالإضافة إلى ما يقابله » وإلا لزم الأخذ بكل راجح بالنسبة إلى غيره وبأقوى الشهرتين وبالظن المطلق ، وغير ذلك من التوالي الفاسدة التي لا يمكن الالتزام بها ، فالتعليل أجنبي عن أن يكون من الكبرى الكلية التي لا يصح التعدي عن مورده. (1).
وأما الموصول : فلا يعم الشهرة الفتوائية ، بل هو خاص بالشهرة الروايتية ، وليس ذلك من جهة تخصيص العام بالمورد حتى يقال : إن المورد لا يخصص العام ، بل من جهة عدم العموم.
الوجه الثاني : قوله تعالى في ذيل آية النبأ : « أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين » (2) بتقريب : أن المراد من « الجهالة » السفاهة والاعتماد على ما لا ينبغي الاعتماد عليه ، والاعتماد على الشهرة ليست من السفاهة :
وفيه : أن أقصى ما يقتضيه التعليل هو عدم جواز الأخذ بكل ما يقتضي الجهالة والسفاهة خبرا كان أو غيره ، هذا لا يقتضي وجوب الأخذ بكل ما ليس فيه جهالة ، إذ ليس له مفهوم حتى يتمسك به ، ألا ترى : أن قوله « لا تأكل الرمان لأنه حامض » لا يدل على جواز أكل كل ما ليس بحامض ، وذلك واضح.
ص: 155
الوجه الثالث : دعوى أن الظن الحاصل من الشهرة الفتوائية أقوى من الظن الحاصل من الخبر الواحد.
وفيه : أن حجية الخبر ليس لأجل إفادته الظن ، بل لأجل قيام الدليل عليه وإن كانت الحكمة في حجيته كونه مفيدا للظن نوعا.
نعم : لو قلنا باعتبار الظن المطلق كان من أحد أفراده الشهرة الفتوائية إذا حصل منها الظن ، وإلا فلم يقم دليل بالخصوص على حجية الظن الحاصل من الشهرة الفتوائية.
إعلم : أن إثبات الحكم الشرعي من الخبر الواحد يتوقف على : أصل الصدور ، وجهة الصدور ، وعلى الظهور ، وإرادة الظهور.
والمتكفل لإثبات الظهور وإرادة الظهور هو الأوضاع اللغوية ، والقرائن العامة ، والأصول العقلائية ، وقد تقدم تفصيل ذلك كله في الفصل الأول.
والمتكفل لإثبات جهة الصدور - من كون الخبر صادرا لبيان حكم اللّه الواقعي لا لأجل التقية ونحوها - هو الأصول العقلائية أيضا ، فان الأصل العقلائي يقتضي أن يكون جهة صدور الكلام من المتكلم لبيان المراد النفس الأمري وأن مؤداه هو المقصود ، إلا أن يثبت خلافه ، وعلى ذلك استقرت طريقة العقلاء واستمرت سيرتهم في محاوراتهم ، ويأتي توضيح ذلك - إن شاء اللّه تعالى - في محله.
والمتكفل لأصل الصدور هو الأدلة الدالة على حجية الخبر الواحد ، وهو
ص: 156
المقصود بالبحث في هذا الفصل ، وهو من أهم المسائل الأصولية ، لما تقدم : أن الموضوع في علم الأصول ليس خصوص الأدلة الأربعة بذواتها أو بوصف دليليتها ليقع الإشكال في بعض المسائل المهمة - كمسألة حجية الخبر الواحد وكمسألة التعادل والتراجيح - من حيث عدم رجوع البحث عنها إلى البحث عن عوارض الأدلة فيحتاج إلى إتعاب النفس لإدراج البحث عنها في البحث عن عوارض الأدلة ، كما أتعب الشيخ قدس سره نفسه الزكية في ذلك ، بتقريب : أن البحث عن حجية الخبر الواحد يرجع إلى البحث عن أن السنة - التي هي أحد الأدلة الأربعة - هل تثبت بخبر الواحد؟ أو لا تثبت به؟ فيكون بحثا عن عوارض الموضوع.
وقد أورد عليه : بأن البحث عن ثبوت الموضوع ولا ثبوته بمفاد « كان التامة » لا يرجع إلى البحث عن عوارض السنة ، فان البحث عن عوارض الشيء إنما يكون بعد الفراغ عن وجوده ، وإن كان المراد من الثبوت ، الثبوت التعبدي بمفاد « كان الناقصة » لا الثبوت الواقعي - ليؤول البحث إلى البحث عن التعبد بالسنة المحكية بخبر الواحد - فهذا يرجع في الحقيقة إلى البحث عن عوارض الخبر لا عن عوارض السنة.
هذا ، ولكن يمكن توجيه ما أفاده الشيخ قدس سره بما لا يرد عليه ذلك ، ببيان : أن المراد من ثبوت السنة ولا ثبوتها ليس هو الثبوت الواقعي ولا ثبوته ليرجع البحث إلى البحث عن وجود الموضوع ولا وجوده ، بل المراد منه هو أن البحث عن حجية الخبر يرجع إلى البحث عن أن مؤدى الخبر هل هو من السنة أو لا؟ وإن شئت قلت : إن البحث إنما هو عن انطباق السنة على مؤدى الخبر وعدم الانطباق (1) وهذا لا يرجع إلى البحث عن وجود السنّة ولا
ص: 157
وجودها ، بل يكون البحث عن عوارض ، السنة ، بداهة أن انطباق الموضوع وعدم انطباقه يكون من العوارض اللاحقة له ، كالبحث عن وجود الموضوع في زمان أو مكان ولا وجوده.
هذا ، ولكن لو أمكننا إدراج مسألة حجية الخبر الواحد في مسائل الأصول بما ذكرناه من التوجيه ، فلا يمكننا إدراج كثير من مهمات المباحث في علم الأصول لو جعلنا الموضوع خصوص الأدلة الأربعة ، مع أنه لا ملزم إلى ذلك بعد إمكان أخذ الموضوع بمعنى يعم جميع هذه المسائل ، وهو « كل ما يقع في طريق الاستنباط » ومن أوضح مصاديقه مسألة حجية الخبر الواحد ، فإنها تقع كبرى لقياس الاستنباط والجزء الأخير من علته ، بل عليها يدور رحى الاجتهاد ، فان الأخبار المتواترة والمحفوفة بالقرائن القطعية قليلة جدا لا تفي بمعظم الفقه ، بل استفادة غالب الأحكام إنما تكون من الخبر الواحد ، فلابد للأصولي من إثبات حجيته ، أو الاعتماد على الظن المطلق بمقدمات الانسداد.
ثمّ لا يخفى عليك : أنه قد انعقد الإجماع على حجية الأخبار المودعة فيما بأيدينا من الكتب ، ولكن لا يصح الاعتماد والإتكال على هذا الإجماع ، لاختلاف مشرب المجمعين في مدرك الحجية ، فان منهم من يعتمد على هذه الأخبار لتخيل أنها قطعية الصدور ، ومنهم من يعتمد عليها من أجل اعتماده على الظن المطلق بمقدمات الانسداد ، ومنهم من يعتمد عليها لأجل قيام الدليل بالخصوص عنده على حجيتها ، والإجماع الذي يكون هذا شأنه لا يصح الإتكال عليه
ص: 158
وأخذه دليلا في المسألة ، ولا يكفي مجرد ثبوت الإجماع على النتيجة مع اختلاف نظر المجمعين (1) فان هذا الإجماع لا يكشف عن رأى المعصوم علیه السلام ولا عن وجود دليل معتبر ، بل الكاشف عن ذلك هو الإجماع على الحكم الشرعي مرسلا ، فلا عبرة بالإجماع التقييدي الذي هو عبارة عن اختلاف مدرك المجمعين.
فلابد للقائل بحجية أخبار الآحاد من إقامة الدليل على مدعاه إذا لم يكن ممن يرى حجية مطلق الظن بمقدمات الانسداد ولم تكن الأخبار في نظره مقطوعة الصدور - كما هو الواقع - بداهة أنه لا يمكن القطع بصدور جميع الأخبار المودعة فيما بأيدينا من الكتب مع ما بينها من الاختلاف الفاحش ، فدعوى القطع بالصدور غريبة جدا! خصوصا من بعد زمان الغيبة الكبرى! وما كنا نترقب من المتأخرين هذه الدعوى ، وقد نسب إلى شرذمة من الأخباريين ، بل هذه الدعوى ممن كان عهده قريبا بزمان الحضور كانت أولى وأحرى ك « السيد المرتضى » لأنه كان يتمكن من العلم بما صدر من الأخبار وما دس فيها.
وأما اعتبارها من باب الظن المطلق فهو مبنى على صحة مقدمات الانسداد ، وسيأتي الكلام فيها ، فعلى هذا ينبغي إقامة الدليل بالخصوص على حجية ما بأيدينا من الأخبار ، ولنقدم الكلام أولا في أدلة النافين للحجية ، ثمّ
ص: 159
نعقّبه بذكر أدلة المثبتين لها.
فنقول : قد استدل النافون بالأدلة الأربعة.
فمن الكتاب : الآيات الناهية عن العمل بالظن وما وراء العلم ، كقوله تعالى : « قل إن الظن لا يغني من الحق شيئا » (1).
ومن السنة : الأخبار الناهية عن العمل بالخبر إذا لم يكن عليه شاهد من كتاب اللّه تعالى والأخبار الآمرة بطرح ما خالف كتاب اللّه تعالى ، وهي كثيرة تبلغ التواتر ، ولا شبهة أن غالب الأخبار التي بأيدينا ، إما أن تكون مخالفة لكتاب اللّه تعالى ولو بالعموم ، وإما أن لا يكون عليها شاهد من الكتاب ، فلا يجوز العمل بها ، خصوصا بعد ما ورد في جواب سؤال « داود بن فرقد » كما في البحار عن بصائر الدرجات قال : « كتبت إليه علیه السلام عن العلم المنقول عن آبائك وأجدادك قد اختلفوا علينا فيه ، كيف العمل به على اختلافه؟ فكتب علیه السلام بخطه : ما علمتم أنه قولنا فالزموه وما لم تعملوا فردوه إلينا » (2).
ومن الإجماع : ما ادعاه السيد رحمه اللّه في مواقع من كلامه ، حتى جعل العمل بالخبر الواحد بمنزلة العمل بالقياس في قيام الضرورة على بطلانه.
ومن العقل : ما ذكره « ابن قبة » من أن العمل بخبر الواحد موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال ، والعقل يستقل بقبحه على الشارع.
وأنت خبير بأنه لا دلالة لشئ من هذه الأدلة على المنع عن العمل بخبر الواحد.
أمّا الآيات : فلأن مساقها حرمة العمل بالظن في باب العقائد وأصول الدين وعلى فرض تسليم عمومها لمطلق الأحكام الشرعية ، فغايته أن تكون
ص: 160
دلالتها على المنع عن الظن الحاصل من الخبر الواحد بالعموم ، فلابد من تخصيصه بما سيأتي من الأدلة الدالة على جواز العمل بخبر الواحد ، بل نسبة تلك الأدلة إلى الآيات ليست نسبة التخصيص بل نسبة الحكومة ، فان تلك الأدلة تقتضي إلقاء احتمال الخلاف وجعل الخبر محرزا للواقع ، فيكون حاله حال العلم في عالم التشريع ، فلا يمكن أن تعمه الأدلة الناهية عن العمل بالظن لنحتاج إلى التخصيص ، لكي يقال : إن مفاد الآيات الناهية آبية عن التخصيص ، هذا في غير السيرة العقلائية القائمة على العمل بالخبر الموثوق به.
وأمّا السيرة العقلائية : فيمكن بوجه أن تكون نسبتها إلى الآيات الناهية نسبة الورود بل التخصص ، لأن عمل العقلاء بخبر الثقة ليس من العمل بالظن ، لعدم التفاتهم إلى احتمال مخالفة الخبر للواقع ، فالعمل بخبر الثقة خارج بالتخصيص عن العمل بالظن ، فلا تصلح الآيات الناهية عن العمل به لأن تكون رادعة عن السيرة العقلائية القائمة على العمل بخبر الثقة (1)
ص: 161
فانّه مضافا إلى خروج العمل به عن موضوع الآيات الناهية يلزم الدور المحال ، لأن الردع عن السيرة بالآيات الناهية يتوقف على أن لا تكون السيرة مخصصة لعمومها ، وعدم كونها مخصصة لها يتوقف على أن تكون رادعة عنها.
وإن منعت عن ذلك كله ، فلا أقل من أن يكون حال السيرة حال سائر الأدلة الدالة على حجية الخبر الواحد : من كونها حاكمة على الآيات الناهية ، والمحكوم لا يصلح لأن يكون رادعا عن الحاكم ، كما لا يخفى ، وسيأتي لذلك مزيد توضيح إن شاء اللّه تعالى.
وأمّا السنة : فلأن الأخبار الدالة على طرح الخبر المخالف أو الذي لا شاهد عليه من الكتاب والعمل بخبر الموافق والذي عليه شاهد من الكتاب وإن كانت متواترة معنى أو إجمالا - للعلم بصدور بعضها عن المعصوم علیه السلام وهي آبية عن التخصيص - كما لا يخفى على المتأمل فيها - إلا أنه يعلم أيضا بصدور جملة من الأخبار المخالفة للكتاب ولو بالعموم والخصوص أو الإطلاق والتقييد ، لا يسعنا طرح جميع ما بأيدينا من الأخبار المودعة في الكتب ، لأنه يلزم من الاقتصار على ما يستفاد من ظاهر الكتاب تعطيل كثير من الأحكام ، خصوصا في باب العبادات ، بل معظم الأحكام إنما يستفاد من الأخبار ، ولو بنينا على الأخذ بظاهر هذه الأخبار الناهية عن العمل بما يخالف الكتاب أو الذي لا يوجد له شاهد منه والاقتصار في العمل بما يوافق ظاهر الكتاب يلزم طرح جميع ما بأيدينا من الأخبار المخالفة لظاهر الكتاب بالعموم
ص: 162
والخصوص والإطلاق والتقييد ، وهذا مما لا سبيل إلى الالتزام به ، فلا بد وأن يكون المراد من « المخالفة » غير المخالفة بالعموم والخصوص أو الإطلاق والتقييد : من المخالفة بالتباين الكلي أو بالعموم من وجه ، بل المخالفة بالعموم والخصوص لا تعد من المخالفة لما بينهما من الجمع العرفي ، والتخالف بينهما إنما يكون بدويا يزول بالتأمل في مدلولهما ، فالأخبار الناهية عن العمل بالخبر المخالف للكتاب لا تعم المخالفة بالعموم والخصوص.
ولا يبعد أن يكون صدور هذه الأخبار في مقام الرد على الملاحدة الذين كانوا يضعون الأخبار ويدسونها في كتب الأصحاب هدما للشريعة المطهرة ، حتى نقل عن بعضهم انه قال - بعد ما استبصر ورجع إلى الحق - « إني قد وضعت إثنا عشر ألف حديثا » فأقرب المحامل لهذه الأخبار حملها على الخبر المخالف للكتاب بالتباين أو بالعموم من وجه ، وإن كان يبعد حملها على المخالفة بالتباين ، لأنه ليس في الأخبار ما يخالف الكتاب بالتباين الكلي ، حتى أن من يريد الوضع والدس في الأخبار لا يضع ما يخالف الكتاب بالتباين الكلي ، لأنه يعلم أنه من الموضوع.
ولا يبعد أيضا حمل الأخبار الناهية على الأخبار الواردة في باب الجبر والتفويض والقدر ونحو ذلك.
ويمكن أيضا حمل بعضها على صورة التعارض بين الروايات ، فيؤخذ بالموافق للكتاب ويطرح المخالف له.
وكيف كان : لابد من حمل هذه الأخبار على أحد هذه المحامل ، لما عرفت من أنه لو بنينا على شمولها للمخالفة بالعموم والخصوص يلزم تعطيل كثير من الأحكام.
ومما ذكرنا يظهر ما في الاستدلال برواية « داود بن فرقد » فإنه مضافا إلى أنها من أخبار الآحاد ولا يصلح التمسك بها لما نحن فيه - لأنه يلزم من حجيتها عدم حجيتها - لا تشمل العمل بخبر الثقة ، لأنه ليس من أفراد قوله
ص: 163
علیه السلام : « وما لم تعلموا فردوه إلينا » (1) بل أدلة حجيته تقتضي أن يكون من أفراد قوله علیه السلام : « ما علمتم أنه قولنا فالزموه » (2) بالبيان المتقدم في الجواب عن الاستدلال بالآيات الناهية عن العمل بالظن.
وأمّا الإجماع : فموهون بمصير الأكثر إلى خلافه ، مع أنه معارض بمثله.
وأمّا الدليل العقلي : فقد عرفت ما فيه في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ، من أنه لا يلزم من التعبد بكلى الأمارات تحليل الحرام وتحريم الحلال.
هذا كله في أدلة النافين.
وأمّا المثبتون لحجية الخبر الواحد : فقد استدلوا أيضا بالأدلة الأربعة.
أمّا الكتاب : فبآيات ، منها : آية النبأ ، قال تعالى : « إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين » (3) وتقريب الاستدلال بها يمكن بأحد وجهين :
الأول : بمفهوم الشرط ، ببيان أنه تعالى علق وجوب التبين عن الخبر بمجئ الفاسق به ، فإذا انتفى الشرط وكان المخبر عدلا ينتفى وجوب التبين عن خبره ، وإذا لم يجب التبين عن خبر العادل ، فاما أن يرد ، وإما أن يقبل ، ولا سبيل إلى الأول ، لأنه يلزم أن يكون العادل أسوء حالا من الفاسق ، فيتعين الثاني وهو المطلوب ، لأنه لا نعنى بحجية الخبر الواحد إلا قبوله.
ولعل أخذه هذه المقدمة الأخيرة وهي أنه « لو لم يجب قبول قوله يلزم أن يكون أسوأ حالا من الفاسق » مبنى على كون التبين واجبا نفسيا ، ولو كان
ص: 164
وجوبه شرطاً للعمل بخبر الفاسق فلا نحتاج إلى هذه المقدمة (1) فإنه على هذا يكون مفاد المنطوق وجوب التبين عند العمل بخبر الفاسق ومفاد المفهوم عدم وجوب التبين عند العمل بخبر العادل ، فيتم الاستدلال بلا ضم تلك المقدمة.
ولا إشكال في أن وجوب التبين يكون شرطيا لا نفسيا كما يظهر ذلك من التعليل في ذيل الآية ، فان إصابة القوم بالجهالة إنما تكون عند العمل بخبر الفاسق لا مطلقا ، فلا يحتمل الوجوب النفسي في التبين ، وذلك واضح.
الثاني : بمفهوم الوصف ، وتقريبه : ان الآية الشريفة نزلت في شأن « الوليد » لما أخبر بارتداد « بني المصطلق » وقد اجتمع في خبر « الوليد » وصفان : أحدهما كونه من الخبر الواحد ، ثانيهما كون المخبر به فاسقا ، ولا إشكال أن العلة لوجوب التبين لو كان هو الخبر الواحد لكان ذلك أولى بالذكر من كون المخبر به فاسقا ، فان اتصاف الخبر خبرا واحدا يكون مقدما بالرتبة على اتصافه بالفاسق ، لأن خبر الواحد يكون مقسما لخبر الفاسق والعادل ، فيكون الخبر الواحد بمنزلة الموضوع للفاسق.
وبعبارة أخرى : يجتمع في خبر الفاسق وصفان : وصف ذاتي وهو كونه خبرا واحدا ، ووصف عرضي وهو كونه فاسقا ، ومن المعلوم : أنه لو اجتمع في
ص: 165
الشي وصفان : أحدهما ذاتي والآخر عرضي (1) وكان منشأ الحكم هو الوصف الذاتي لكان هو المتعين بالذكر - كما عليه طريقة أهل المحاورة - فلو قال « أكرم عالما » وكان علة الإكرام هو إنسانية العالم لا عالمية الانسان ، كان الكلام خارجا عن الطريقة المألوفة عند أهل المحاورة لسبق الانسانية التي هي من الأوصاف الذاتية على العالمية ، فلو كان المتكلم يتكلم على طبق الطريقة المألوفة وقال « أكرم عالما » يستفاد من كلامه لا محالة أن المنشأ للإكرام هو وصف العالمية لا وصف الإنسانية ، وحيث كان المذكور في الآية الشريفة هو الوصف العرضي وهو عنوان « الفاسق » فيستفاد منها أن منشأ وجوب التبين هو كون المخبر فاسقا لا كون خبره من الخبر الواحد ، فإذا لم يكن المخبر فاسقا وكان عادلا ، فإما أن يجب قبول خبره بلا تبين ، وإما أن يرد ، ولا سبيل إلى الثاني ، لأنه يلزم أن يكون أسوء حالا من الفاسق ، فيتعين الأول وهو المطلوب.
وبما ذكرنا في تقريب مفهوم الشرط من كون وجوب التبين شرطا للعمل لا مطلقا يظهر عدم الحاجة إلى هذه المقدمة في مفهوم الوصف أيضا ، لاتحاد مفاد المفهوم والمنطوق فيهما.
هذا ، ولكن يمكن الخدشة في الاستدلال على كل من تقريبي مفهوم الوصف ومفهوم الشرط.
أمّا مفهوم الوصف : فلما بيناه ( في باب المفاهيم ) من أن القضية
ص: 166
الوصفية ليست ذات مفهوم ، خصوصا في الوصف الغير المعتمد على الموصوف ، فان ذلك أقرب إلى مفهوم اللقب ، ومجرد ذكر الوصف في القضية لا يقتضي انتفاء سنخ الحكم بانتفاء الوصف ، بل أقصاه أن يكون الحكم المذكور في القضية لا يشمل الموصوف الفاقد للوصف يعنى عدم التعرض لحكمه ، وهذا غير المفهوم ، فان كون القضية ذات مفهوم لابد وأن يرجع مفادها بالنتيجة إلى التعرض لانتفاء الحكم عما عدا المنطوق ، غاية ما تدل عليه القضية الوصفية هو عدم التعرض لحكم ما عدا المنطوق ، فمن الممكن أن لا يكون المتكلم بصدد بيان تمام أفراد الموضوع ، واقتصر في البيان على بيان بعض الأفراد مع اشتراك الأفراد الاخر في الحكم ، إلا أنه لمصلحة أخر بيانها ، فلا دلالة لقوله « أكرم عالما » على كون المناط في وجوب الإكرام هو وصف العالمية لا وصف الإنسانية ، لأنه من الممكن أن يكون مطلق الانسان يجب إكرامه ، ولكن لأهمية إكرام العالم اقتصر في الكلام على بيانه ، فالآية الشريفة لا تدل على أن تمام المناط لوجوب التبين هو كون المخبر فاسق حتى ينتفى الحكم عن خبر العادل.
وأمّا مفهوم الشرط : فلأن الشرط المذكور في الآية مما يتوقف عليه وجود الجزاء عقلا ، ولا تكون القضية الشرطية ذات مفهوم إذا كان الشرط مما يتوقف عليه المشروط عقلا ، فان ذكر الشرط يكون حينئذ لمجرد فرض وجود الموضوع ، كقوله « إن رزقت ولدا فاختنه » و « إن ركب الأمير فخذ ركابه » ونحو ذلك من القضايا التي يتوقف تحقق الجزاء عقلا على وجود الشرط ، فان مثل هذه القضايا الشرطية لا يكاد يتوهم دلالتها على المفهوم ، وإلا كانت كل قضية حملية ذات مفهوم ، لأنها تنحل إلى قضية شرطية مقدمها عنوان الموضوع وتاليها عنوان المحمول.
وحاصل الكلام : أنه يعتبر في كون القضية الشرطية ذات مفهوم أن يكون الشرط المذكور فيها من الشرائط التي لا يتوقف تحقق المشروط على وجود الشرط عقلا ، بل يمكن فرض وجود المشروط بلا فرض وجود الشرط ، كقوله
ص: 167
« إن جاءك زيد فأكرمه » فان الإكرام لا يتوقف على مجيء زيد لإمكان تحقق الإكرام مع عدم مجيئه ، ففي مثل ذلك يمكن أن تكون القضية ذات مفهوم ، بأن يكون الشرط قيدا للحكم لا للموضوع فينتفى الحكم عند انتفاء شرطه ، ويمكن أيضا أن يكون الشرط قيدا للموضوع ، فيكون مفاد قوله « إن جاءك زيد فأكرمه » أكرم زيد الجائي ، فلا تدل القضية على انتفاء الحكم عن الفاقد للشرط ، إلا أن إرجاع الشرط إلى الموضوع خلاف ظاهر القضية ، بل الظاهر منها - بحسب المحاورات العرفية - هو أن يكون الشرط قيدا للحكم ، فينتفى عند انتفائه.
وأمّا إذا كان الشرط مما يتوقف عليه وجود المشروط عقلا ، بحيث لا يمكن فرض وجود المشروط بلا فرض وجود الشرط ، فلا يكاد يمكن أن تكون القضية ذات مفهوم ، فان « انتفاء الختان » أو « أخذ الركاب » في المثالين عند « انتفاء الولد » و « ركوب الأمير » قهري لانتفاء الموضوع ، وهذا ليس من المفهوم ، فان المفهوم هو انتفاء الحكم عن الموضوع عند انتفاء الشرط ، لا انتفاء الحكم بانتفاء الموضوع ، وإلا يلزم - كما عرفت - أن تكون كل قضية حملية ذات مفهوم ، لانتفاء المحمول فيها بانتفاء الموضوع ، والشرط المذكور في الآية الشريفة من جملة الشرائط التي يتوقف عليها وجود الجزاء عقلا ، فان التبين عن الخبر فرع وجود الخبر ومما يتوقف عليه عقلا ، والشرط المذكور في الآية هو « مجيء الفاسق بالنبأ » فانتفاء التبين عند عدم مجيء الفاسق بالنبأ قهري من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، ولم يؤخذ الموضوع فيها مطلق النبأ والشرط مجيء الفاسق به ، حتى يقال : بانتفاء التبين عن النبأ عند انتفاء كون الجائي به فاسقا ، ليثبت عدم التبين عن نبأ العادل ، بل الشرط في الآية « نبأ الفاسق » وعدم التبين بانتفاء نبأ الفاسق لعدم ما يتبين عنه ، نظير انتفاء الختان عند انتفاء الولد.
نعم : لو كان نزول الآية هكذا « النبأ إن كان الجائي به فاسقاً
ص: 168
فتبيّنوا » كانت الآية ذات مفهوم ويكون مفادها « النبأ إن لم يكن الجائي به فاسقا فلا تتبينوا عنه » فتدل على اعتبار نبأ العادل ، ولكن هذا تصرف في الآية بلا شاهد عليه وخلاف ما يقتضيه ظاهرها ، وإلا فكل قضية يمكن أن يتصرف فيها على وجه ترجع إلى كونها ذات مفهوم.
هذا ، ولكن الإنصاف : أنه يمكن استظهار كون الموضوع في الآية مطلق النبأ والشرط هو مجيء الفاسق به من مورد النزول ، فان موردها - كما تقدم - كان إخبار « الوليد » بارتداد « بني المصطلق » فقد اجتمع في إخباره عنوانان : كونه من الخبر الواحد وكون المخبر فاسقا ، والآية الشريفة إنما وردت لإفادة كبرى كلية لتمييز الأخبار التي يجب التبين عنها عن الأخبار التي لا يجب التبين عنها ، وقد علق وجوب التبين فيها على كون المخبر فاسقا ، فيكون الشرط لوجوب التبين هو « كان المخبر فاسقا » لا « كون الخبر واحدا » لأنه لو كان الشرط ذلك لعلق وجوب التبين في الآية عليه (1) لأنه باطلاقه شامل لخبر الفاسق ، فعدم التعرض لخبر الواحد وجعل الشرط خبر الفاسق كاشف عن انتفاء التبين في خبر غير الفاسق.
ولا يتوهم : أن ذلك يرجع إلى تنقيح المناط أو إلى دلالة الإيماء ، فان ما بيناه من التقريب ينطبق على مفهوم الشرط.
وبالجملة : لا إشكال في أن الآية تكون بمنزلة الكبرى الكلية ، ولابد من أن يكون مورد النزول من صغرياتها (2) وإلا يلزم خروج المورد عن العام وهو قبيح ، بل العام بالنسبة إلى المورد كالنص وكأنه مذكور في العام
ص: 169
بالنصوصية ؛ فلا بد من أخذ المورد مفروض التحقق في موضوع القضية ، ولما اجتمع في مورد النزول عنوانان وعلق الحكم على أحدهما دون الآخر كان الجزاء مترتبا على خصوص ما علق عليه في القضية ، وهو « كون المخبر فاسقا » مع فرض وجود العنوان الآخر وعدم دخله في الجزاء ، وإلا لعلق الجزاء عليه ، فيكون مفاد منطوق الآية بعد ضم المورد إليها « أن الخبر الواحد إن كان الجائي به فاسقا فتبينوا » ومفاد المفهوم « أن الخبر الواحد إن لم يكن الجائي به فاسقا فلا تتبينوا » فالقضية تكون من القضايا الشرطية التي علق الحكم فيها على ما لا يتوقف عليه الحكم عقلا ، فتأمل جيدا.
قد أورد على التمسك بالآية الشريفة لحجية الخبر الواحد بأمور :
منها : ما يختص بالآية.
ومنها : ما يشترك بينها وبين سائر الأدلة التي يستدل بها على حجية الخبر الواحد.
ولكن الشيخ قدس سره تعرض لها في طي الاستدلال بآية النبأ ، ونحن نقتفي إثره ، وينبغي أن نقتصر على بيان بعض الإشكالات المهمة.
فمن الإشكالات التي تختص بآية النبأ : هو كون المفهوم فيها على تقدير ثبوته معارضا بعموم التعليل في ذيل الآية ، وهو قوله تعالى : « أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين » فان المراد من الجهالة عدم العلم بمطابقة المخبر به للواقع ، وهو مشترك بين خبر العادل والفاسق ، فعموم التعليل يقتضي وجوب التبين عن خبر العادل أيضا ، فيقع التعارض بينه وبين المفهوم ، والترجيح في جانب عموم التعليل ، لأنه أقوى ظهورا من ظهور القضية الشرطية في المفهوم ، خصوصا مثل هذا التعليل الذي يأبى عن التخصيص ، كما لا يخفى.
وما يقال : « من أن النسبة بين المفهوم والتعليل العموم والخصوص
ص: 170
المطلق ، فان المفهوم يختص بخبر العدل الغير المفيد العلم ، لأن الخبر المفيد للعلم خارج عن المنطوق والمفهوم ، إذ الموضوع في القضية هو الخبر القابل لأن يتبين عنه وهو ما لا يكون مفيدا للعلم ، فالمفهوم خاص بخبر العدل الذي لا يفيد العلم والتعليل عام لكل ما لا يفيد العلم ، فلابد من تخصيص عموم التعليل بالمفهوم وإلا يبقى المفهوم بلا مورد ، كما هو الشأن في جميع موارد العموم والخصوص » فضعيف غايته ، فان لحاظ النسبة بين المفهوم والتعليل فرع ثبوت المفهوم للقضية الشرطية ، والمدعى أن عموم التعليل يمنع عن انعقاد الظهور للقضية في المفهوم ، فلا يكون لها مفهوم حتى يخصص عموم التعليل به ، خصوصا في مثل المقام مما كان التعليل متصلا بالقضية الشرطية ، فان احتفاف القضية بالتعليل يوجب عدم ظهور القضية في كونها ذات مفهوم ، وعلى فرض تسليم ظهورها في المفهوم مع اتصال التعليل بها لا بد من رفع اليد عن ظهورها ، لأن عموم التعليل يأبى عن التخصيص ، فأن إصابة القوم بالجهالة لا تحسن في حال من الحالات.
وهذا لا ينافي التسالم على جواز تخصيص العام بمفهوم المخالف - كما أوضحناه في مبحث العام والخاص - فان ذلك يختص بما إذا كان العام منفصلا عن القضية التي تكون ذات مفهوم ولم يكن العام علة لما تضمنته القضية من الحكم ، لا في مثل المقام مما كان العام متصلا بالقضية وكان علة للحكم ، فان المعلول يتبع العلة في العموم والخصوص ، فلا يبقى مجال لثبوت المفهوم للقضية الشرطية. هذا ، ولكن الإنصاف : أنه لا وقع لأصل الإشكال ، لما فيه :
أولا : أنه مبنى على أن يكون معنى الجهالة عدم العلم ليشترك خبر العادل مع الفاسق في ذلك ، وليس الأمر كذلك ، بل الجهالة بمعنى السفاهة والركون إلى ما لا ينبغي الركون إليه والاعتماد على ما لا ينبغي الاعتماد عليه (1) ولا شبهة في أنه يجوز الركون إلى خبر العدل والاعتماد عليه - كما عليه طريقة
ص: 171
العقلاء - بخلاف خبر الفاسق ، فان الاعتماد عليه يعد من السفاهة والجهالة ، فخبر العادل لا يشارك خبر الفاسق في العلة ، بل هو خارج عنها موضوعا.
فان قلت : لو لم يصح الاعتماد على خبر الفاسق ، فكيف اعتمدت الصحابة على خبر « الوليد الفاسق » وأرادوا تجهيز الجيش على قتال « بني المصطلق » عند إخبار « الوليد » بارتدادهم وامتناعهم عن أداء الصدقة؟.
قلت : ربما يركن الشخص إلى ما لا ينبغي الركون إليه غفلة أو لاعتقاده عدالة المخبر (1) فنزلت الآية الشريفة للتنبيه على غفلتهم أو لسلب اعتقادهم عن عدالة « الوليد ». وبالجملة : لا إشكال : في أن الاعتماد على خبر الفاسق يكون من الجهالة ، دون الاعتماد على خبر العادل.
وثانيا : أنه على فرض أن يكون معنى الجهالة عدم العلم بمطابقة الخبر للواقع لا يعارض عموم التعليل للمفهوم ، بل المفهوم يكون حاكما على العموم ، لأنه يقتضي إلغاء احتمال مخالفة خبر العادل للواقع وجعله محرزا له وكاشفا عنه فلا يشمله عموم التعليل ، لا لأجل تخصيصه بالمفهوم لكي يقال : إنه يأبى عن التخصيص ، بل لحكومة المفهوم عليه ، فليس خبر العدل من أفراد العموم ، لأن أقصى ما يقتضيه العموم هو عدم جواز العمل بما وراء العلم ، والمفهوم يقتضي أن يكون خبر العدل علما في عالم التشريع ، فلا يعقل أن يقع التعارض بين المفهوم وعموم التعليل ، لأن المحكوم لا يعارض
ص: 172
الحاكم ولو كان ظهور المحكوم أقوى من ظهور الحاكم أو كانت النسبة بينهما العموم من وجه. والسر في ذلك : هو أن الحاكم إنما يتعرض لعقد وضع المحكوم ، إما بتوسعة الموضوع بإدخال ما ليس داخلا فيه ، وإما بتضييقه باخراج ما ليس خارجا عنه ، كما ذكرنا تفصيله في « الجزء الرابع » والمفهوم في الآية يوجب تضييق موضوع العام وإخراج خبر العادل عنه موضوعا بجعله محرزا للواقع.
فان قلت : إن ذلك كله فرع ثبوت المفهوم للقضية الشرطية ، والمدعى هو أن عموم التعليل واتصاله بها يمنع عن ظهور القضية في المفهوم.
قلت : المانع من ثبوت المفهوم ليس إلا توهم منافاته لعموم التعليل وعمومه يقتضي عدم كون القضية ذات مفهوم ، وإلا فظهورها الأولى في المفهوم مما لا سبيل إلى إنكاره. وبالبيان المتقدم ظهر : أنه لا منافاة بين المفهوم وعموم التعليل. لأن ثبوت المفهوم للقضية لا يقتضي تخصيص عمومه ، بل العموم على حاله ، والمفهوم يوجب خروج خبر العادل عن موضوعه لا من حكمه. ولا يكاد يمكن أن يتكفل العام بيان موضوعه من وضع أو رفع ، بل إنما يتكفل حكم الموضوع على فرض وجوده ، والمفهوم يمنع عن وجوده ويخرج خبر العادل عما وراء العلم الذي هو الموضوع في العام ، فلا يعقل أن يقع التعارض بينهما ، وذلك واضح.
فظهر : أن التفصي عن الإشكال لا يحتاج إلى القول بأن المراد من الجهالة ما يقابل الظن الاطميناني.
فالآية تدل على حجية كل ظن اطميناني ، كما أفاده الشيخ قدس سره فان ذلك تبعيد للمسافة ، مع إمكان التفصي عن لإشكال بوجه أقرب ، وهو ما تقدم ، فتأمل جيدا.
ومن الإشكالات التي تختص بآية النبأ أيضاً : هو أنه يلزم خروج المورد عن عموم المفهوم ، مع أن العام يكون نصا في المورد ولا يمكن تخصيصه بما
ص: 173
عدا المورد ، لأنه كان مورد نزول الآية الشريفة هو الأخبار بالارتداد ، وهو لا يثبت إلا بالبينة - كما هو الشأن في جميع الموضوعات الخارجية - فإنه لا تثبت بخبر الواحد إلا ما قام الدليل بالخصوص عليه ، وإلا فحجية الخبر الواحد تختص بالأحكام ، فلابد من تقييد عموم المفهوم بما ينطبق على المورد ، وحيث إن المورد مما لا يقبل فيه خبر الواحد فلا يدل المفهوم على حجية خبر العدل.
وفيه : أن المورد إنما كان إخبار « الوليد الفاسق » بارتداد « بني المصطلق » والآية الشريفة إنما نزلت في شأنه لبيان كبرى كلية ، والمورد داخل في عموم الكبرى وهي قوله تعالى : « إن جائكم فاسق بنبأ فتبينوا » فان خبر الفاسق لا اعتبار به مطلقا ، لا في الموضوعات ولا في الأحكام. وأما المفهوم فلم يرد كبرى لصغرى مفروضة الوجود والتحقق ، لأنه لم يرد في مورد إخبار العادل بالارتداد ، بل يكون حكم المفهوم من هذه الجهة حكم سائر العمومات الابتدائية التي لم ترد في مورد خاص قابل للتخصيص بأي مخصص. فلا مانع من تخصيص عموم المفهوم بما عدا الخبر الواحد القائم على الموضوعات الخارجية ، ولا فرق بين المفهوم والعام الابتدائي ، سوى أن المفهوم كان مما تقتضيه خصوصية في المنطوق استتبعت ثبوت المفهوم ، وإلا فهو كالعام الابتدائي الذي لم يرد في مورد خاص ، ولا ملازمة بين المفهوم والمنطوق من حيث المورد حتى إذا كان المنطوق في مورد خاص فالمفهوم أيضا لابد وأن يكون في ذلك المورد ، بل القدر اللازم هو أن يكون الموضوع في المنطوق عين الموضوع في المفهوم ، فتأمل.
ومما ذكرنا ظهر فيما أجاب به الشيخ قدس سره عن الإشكال بقوله : « وفيه أن غاية الأمر لزوم تقييد المفهوم بالنسبة إلى الموضوعات بما إذا تعدد المخبر العادل فكل واحد من خبر العدلين في البينة لا يجب التبين فيه ، وأما لزوم إخراج المورد فممنوع ، لأن المورد دخل في منطوق الآية لا مفهومها ، وجعل أصل خبر الارتداد موردا للحكم بوجوب التبين إذا كان المخبر به فاسقاً ولعدمه
ص: 174
إذا كان المخبر به عادلا لا يلزم منه إلا تقييد الحكم في طرف المفهوم وإخراج بعض أفراده ، وهذا ليس من إخراج المورد المستهجن في شيء » انتهى. (1)لم أجد موردا خاصا لهذه التعليقة. والظاهر أنها والتعليقة الآتية تردان على مورد واحد ( المصحح ).(2).
إذ فيه : أنه بعد تسليم كون مورد المفهوم هو الخبر بالارتداد (3) فلا محالة يلزم خروج المورد عن عموم المفهوم ، ولابد حينئذ من تقييد عموم المفهوم بما ينطبق على المورد ، فإذا كان المورد مما يعتبر فيه التعدد فالمفهوم يختص بالبينة ولا يصح التمسك به لحجية الخبر الواحد ، لما عرفت : من أنه لابد وأن يكون كبرى لصغرى المورد ، فتدبر.
وقد أشكل على التمسك بآية النبأ بأمور اخر يختص بمفهوم الآية لا يهمنا التعرض لها ، لأنها واهية جدا.
فالأولى التعرض لما لا يختص بالآية من الإشكالات ، بل يعم جميع الأدلة الدالة على حجية خبر العدل.
منها : وقوع التعارض بينها وبين عموم الآيات الناهية عن العمل بالظن وما وراء العلم ، والمرجع بعد التعارض إلى أصالة عدم الحجية.
وفيه : ما عرفت سابقا من أنه لا مجال لتوهم المعارضة ، لان أدلة الحجية التي منها مفهوم الآية تقتضي خروج العمل بخبر العدل عن كونه عملا بالظن أو بما وراء العلم بالحكومة ، بالبيان المتقدم. هذا مع أن النسبة بين المفهوم مثلا والآيات الناهية عن العمل بالظن هي العموم والخصوص ، لأنه يختص
ص: 175
بخبر العدل الذي لا يفيد العلم ولا يعم ما يفيد العلم ، فان المفهوم يتبع المنطوق في العموم والخصوص ، ولا إشكال في أن المنطوق يختص بخبر الفاسق الذي لا يفيد العلم ، كما يظهر من التعليل ، فالمفهوم أيضا يختص بذلك وتكون النسبة بينه وبين عموم الآيات العموم والخصوص ، والصناعة تقتضي تخصيص عمومها بما عدا خبر العدل.
وما ربّما يقال : من أن الآيات الناهية أيضا مختصة بصورة التمكن من العلم وبما عدا البينة وبعد تخصيصها بذلك تنقلب النسبة بينها وبين المفهوم إلى العموم من وجه بعد ما كانت النسبة العموم والخصوص المطلق ، لأن المفهوم وإن كان يختص بما لا يفيد العلم ولكن يعم صورة التمكن من تحصيل العلم وعدمه ، والآيات الناهية وإن كانت أعم من خبر العدل وغيره ، إلا أنها تختص بصورة التمكن من العلم ، فيقع التعارض بينهما في خبر العدل مع التمكن من العلم ، وبعد التعارض يرجع إلى أصالة عدم الحجية.
فضعيف غايته ، فان انقلاب النسبة مبنى على ملاحظة العام أولا مع بعض المخصصات وتخصيصه به ثم ملاحظة النسبة بينه وبين المخصصات الاخر ، فربما تنقلب النسبة بينه وبينها إلى نسبة أخرى (1) ولكن هذا مما لا وجه له ، فان نسبة العام إلى جميع المخصصات على حد سواء ولابد من تخصيصه بالجميع في عرض واحد ، إلا إذا كان التخصيص بالجميع يوجب الاستيعاب أو التخصيص المستهجن ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك بما لا مزيد عليه ( في مبحث التعادل والتراجيح ) ففي المقام خبر العدل ومورد عدم التمكن من العلم والبينة والفتوى كلها في عرض واحد خارجة عن عموم الآيات الناهية عن العمل بالظن بالتخصيص ، وذلك أيضاً واضح.
ص: 176
وممّا أورد على التمسك بالآية : هو أنه لو دلت على حجية الخبر الواحد لكان من جملة أفراده الإجماع الذي أخبر به السيد (رحمه اللّه) على عدم حجية خبر الواحد ، فإنه من أفراد الخبر العادل وقد أخبر برأي المعصوم علیه السلام وهذا الإشكال أيضا لا يختص بمفهوم آية النبأ ، بل يعم جميع الأدلة.
وأنت خبير بما فيه ، فإنه يرد عليه - مضافا إلى أنه من الإجماع المنقول الذي لا اعتبار به ومضافا إلى معارضته بالإجماع الذي أخبر به الشيخ (رحمه اللّه) على حجية خبر العدل - انه يلزم من دخول خبر السيد (رحمه اللّه) خروجه ، ولا يمكن أن تشتمل أدلة اعتبار أخبار الآحاد ما يلزم من اعتباره عدم اعتباره (1) مع أنه يمكن أن يقال : بقيام الإجماع على عدم اعتبار ما أخبر به السيد (رحمه اللّه) حتى من نفس السيد (رحمه اللّه) لأن حكاية ( السيد ) الإجماع على عدم حجية خبر العدل يشمل خبر نفسه ، فيكون قد حكى الإجماع على عدم اعتبار قوله ، فتأمل.
ومن الإشكالات التي لا تختص بمفهوم آية النبأ : إشكال شمول أدلة الحجية للأخبار الحاكية لقول الإمام علیه السلام بواسطة أو بوسائط ، كإخبار « الشيخ » عن « المفيد » عن « الصدوق » عن « الصفار » عن العسكري علیه السلام ويمكن تقريب هذا الإشكال بوجوه :
الوجه الأول : دعوى انصراف الأدلة عن الأخبار بالواسطة.
وهذا الوجه ضعيف غايته ، فإنه لا موجب للانصراف ، مع أن كل واسطة من الوسائط إنما تخبر عن الخبر السابق عليها ، فكل لاحق يخبر عن سابقه بلا واسطة.
ويتلو هذا الوجه في الضعف الوجه الثاني وهو دعوى أنه لا يترتب
ص: 177
على خبر الوسائط أثر شرعي يصح التعبد به ، فان المخبر به بخبر « الشيخ » هو قول « المفيد » والمخبر به بخبر « المفيد » هو قول « الصدوق ره » ولا أثر لقول « الشيخ ره » و « المفيد » و « الصدوق » بحيث يصح باعتباره التعبد بأخبارهم.
وأنت خبير : بأنه يكفي في صحة التعبد كون المتعبد به مما له دخل في موضوع الحكم ، وكل واحد من سلسلة الوسائط له دخل في ثبوت قول العسكري علیه السلام لأنه واقع في طريق إثبات قوله علیه السلام وهذا المقدار من الأثر يكفي في صحة التعبد به ، فهذا الوجه ضعيف غايته. نعم : يمكن تقريب هذا الإشكال بوجه آخر ليس بهذه المثابة من الضعف ، سيأتي بيانه ( إن شاء اللّه تعالى ).
الوجه الثالث : دعوى أنه يلزم إثبات الموضوع بالحكم بالنسبة إلى الوسائط (1) فان إخبار « المفيد » للشيخ قدس سره وإخبار « الصدوق » للمفيد وإخبار « الصفار » للصدوق ليس محرزا بالوجدان ، بل المحرز بالوجدان هو إخبار « الشيخ » عن « المفيد » بسماع منه أو أخذه من كتابه ، وأما الوسائط فليس شيء من أخبارها محرزا بالوجدان ، بل إنما يراد إثباتها بالتعبد والحكم بتصديق العادل ، فيلزم أن يكون الحكم بتصديق العادل مثبتا لأصل أخبار الوسائط ، مع أن خبر الوسائط يكون موضوعا لهذا الحكم ، فلابد وأن يكون الخبر في المرتبة السابقة محرزا إما بالوجدان وإما بالتعبد ليحكم عليه بوجوب تصديقه ،
ص: 178
لأنّ نسبة الموضوع إلى الحكم نسبة المعروض إلى العرض ، فلا يعقل أن يكون الحكم موجدا لموضوعه لاستلزامه الدور المحال.
ولكن لا يخفى عليك فساد هذا الوجه أيضا ، فإن الذي لا يعقل هو إثبات الحكم موضوع شخصه ، لا إثبات موضوع لحكم آخر ، فان هذا بمكان من الإمكان ، والمقام يكون من هذا القبيل ، فان خبر « المفيد » إنما يثبت بوجوب تصديق الشيخ (رحمه اللّه) في إخباره عنه الذي فرضنا أنه محرز بالوجدان ، وإذا ثبت خبر « المفيد » بوجوب تصديق « الشيخ » يعرض عليه وجوب التصديق ، ومن وجوب تصديق « المفيد » يثبت خبر الصدوق (رحمه اللّه) فيعرض عليه وجوب التصديق ، وهكذا إلى أن ينتهى إلى أول سلسلة الوسائط ، فكل حكم لموضوع مثبت لموضوع آخر يترتب عليه حكم آخر ، فتكون موضوعات متعددة لأحكام متعددة ، غايته أن الأحكام تكون من سنخ واحد ، وتعدد الإحكام إنما ينشأ من انحلال قضية « صدق العادل » كما هو الشأن في جميع القضايا الحقيقة حيث إنها تنحل إلى أحكام متعددة حسب ما لموضوعها من الأفراد.
والحاصل : أن خبر المنقول عنه يثبت بالتعبد بتصديق الناقل ، فلا يلزم إثبات الحكم لموضوع شخصه.
الوجه الرابع : هو أنه يلزم أن يكون الأثر الذي بلحاظه وجب تصديق العادل نفس تصديقه ، من دون أن يكون في البين أثر آخر كان وجوب التصديق بلحاظه.
وتوضيح ذلك : هو أن التعبد بالأصول والأمارات القائمة على الموضوعات الخارجية إنما هو باعتبار ما يترتب عليها من الآثار الشرعية ، ولابد أن تكون تلك الآثار مترتبة على الموضوعات بأدلتها ليصح التعبد بالأمارة بلحاظ تلك الآثار ، مثلا التعبد بخبر العدل القائم على عدالة « زيد » ووجوب تصديقه إنما يكون باعتبار ما يترتب على عدالته من الآثار : من جواز الصلاة
ص: 179
خلفه والطلاق عنده ، ونحو ذلك من الآثار الشرعية المترتبة على عدالة « زيد » فلابد وأن يكون ترتب الأثر على الموضوع مفروغا عنه ليصح التعبد بالإمارة القائمة على ذلك الموضوع والحكم بوجوب تصديقها.
فإذا كان الخبر بلا واسطة كإخبار « زرارة » عن الصادق علیه السلام بوجوب شيء أو حرمته ، فلا إشكال في صحة التعبد بقول « زرارة » والحكم بوجوب تصديقه ، لأنه يترتب على ذلك قول الصادق علیه السلام من وجوب الشيء أو حرمته.
وأما إذا كان الخبر مع الواسطة كإخبار « الشيخ » عن « المفيد » عن « الصدوق » عن « الصفار » عن العسكري علیه السلام فالتعبد بخبر « الشيخ » ووجوب تصديقه في إخباره عن « المفيد » مما لا يترتب عليه أثر شرعي سوى نفس هذا الحكم وهو وجوب التصديق ، ووجوب التصديق وإن كان من الأحكام والآثار الشرعية ، إلا أنه لابد وأن يكون بلحاظ ما يترتب على المخبر به بخبر العادل من الآثار ، ولا يعقل أن يكون الحكم بوجوب التصديق بلحاظ نفسه.
وبعبارة أخرى : إن إخبار « الشيخ » عن « المفيد » وإن كان يترتب عليه أثر شرعي وهو وجوب تصديقه ، إلا أن هذا الأثر لم يكن ثابتا لخبر « الشيخ » مع قطع النظر عن دليل اعتبار قوله والحكم بوجوب تصديقه ، بل جاء من نفس وجوب التصديق ، فيلزم أن يكون الأثر الذي بلحاظه وجب تصديق العادل نفس وجوب التصديق وهو لا يعقل.
وقد ظهر : أن هذا الإشكال لا يختص بالوسائط ، بل يأتي في آخر السلسلة وهو إخبار « الشيخ » المحرز بالوجدان ، بخلاف الإشكال الثالث ، فإنه يختص بالوسائط ولا يشمل آخر السلسلة.
ولا يخفى : أن هذا الإشكال إنما يتوجه بناء على أن يكون المجعول في باب الأمارات منشأ انتزاع الحجية. أما بناء على ما هو المختار : من أن المجعول في
ص: 180
باب الطرق والأمارات نفس الكاشفية والوسطية في الإثبات (1) فلا إشكال حتى نحتاج إلى التفصي عنه ، فإنه لا يلزم شيء مما ذكر ، لأن المجعول في جميع السلسلة هو الطريقية إلى ما تؤدى إليه أي شيء كان المؤدى ، فقول « الشيخ » طريق إلى قول « المفيد » وقول « المفيد » طريق إلى قول « الصدوق » وهكذا إلى أن ينتهى إلى قول « زرارة » الحاكي لقول الإمام علیه السلام ولا يحتاج في جعل الطريقية إلى أن يكون في نفس مؤدى الطريق أثر شرعي ، بل يكفي الانتهاء إلى الأثر ولو بألف واسطة - كما في المقام - فان جعل الطريقية لأقوال السلسلة لمكان أنها تنتهي إلى قول الإمام علیه السلام فتكون جميع الأقوال واقعة في طريق إثبات الحكم الشرعي ، فتأمل.
ويمكن تقريب « الوجه الرابع » بوجه آخر لعله يأتي حتى بناء على المختار : من كون المجعول نفس الطريقية ، وإن شئت فاجعله « خامس الوجوه » وهو أنه لو عم دليل الاعتبار للخبر مع الواسطة يلزم أن يكون الدليل حاكما على نفسه ويتحد الحاكم والمحكوم.
وتقريب ذلك : هو أن أدلة اعتبار الأصول والأمارات إنما تكون حاكمة على الأدلة الأولية المتكفلة لبيان الأحكام المترتبة على موضوعاتها الواقعية : من الواجبات والمحرمات وغير ذلك من الأحكام التكليفية والوضعية ، ومعنى حكومتها هو أنها مثبتة لتلك الأحكام ، فلو فرضنا أن مؤدى الأمارة كان إخبار العدل كإخبار « الشيخ » عن « المفيد » فالذي يترتب على إخبار « الشيخ » هو وجوب تصديقه ، ومفاد الدليل الدال على اعتبار قول « الشيخ » أيضا هو وجوب التصديق ، والمفروض أن دليل الاعتبار يكون حاكما على
ص: 181
الأحكام الواقعية ، والحكم الواقعي المترتب على خبر « الشيخ » هو وجوب تصديقه الجائي من قبل دليل الاعتبار ، ومفاد دليل الاعتبار أيضا هو وجوب التصديق ، فيلزم أن يكون وجوب التصديق حاكما على نفسه.
ونظير هذا الإشكال يأتي في حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي ، فان في كل من الشك السببي والمسببي يقين سابق وشك لاحق ، فيعمه دليل اعتبار الاستصحاب ، وليس في البين إلا قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » فلو كان الأصل السببي حاكما على الأصل المسببي كان دليل الاعتبار حاكما على نفسه. نعم : لو كان لكل من الأصل الجاري في الشك السببي والمسببي دليل يخصه أمكن أن يكون أحد الدليلين حاكما على الآخر ، هذا.
والتحقيق في حلّ الإشكال الرابع - مع ما يتلوه من الوجه الخامس - هو أن يقال : إن دليل الاعتبار وإن كان بحسب الصورة قضية واحدة ، إلا أنه ينحل إلى قضايا متعددة ويكون الملحوظ فيه طبيعة الأثر (1) فإذا فرضنا أن سلسلة سند الروايات تنتهي بالأخرة إلى الرواية الحاكية لقول الإمام علیه السلام فدليل التعبد ينحل إلى قضايا متعددة حسب تعدد السلسلة ، ويكون لكل منها أثر يخصه غير الأثر المترتب على الآخر ، ولا يلزم اتحاد الحاكم والمحكوم ، بل تكون كل قضية حاكمة على غيرها ، فان المخبر به يخبر « الصفار » الحاكي لقول العسكري علیه السلام في مبدأ السلسلة لما كان حكما شرعيا من وجوب الشيء أو حرمته وجب تصديق « الصفار » في إخباره عن العسكري علیه السلام بمقتضى أدلة خبر العادل ، فيكون وجوب
ص: 182
تصديق « الصفار » من الآثار الشرعية المترتبة على خبر « الصفار » ف « الصدوق » الحاكي لقول « الصفار » قد حكى موضوعا ذا أثر شرعي ، فيعم قول « الصدوق » دليل الاعتبار ويجب تصديقه في إخبار « الصفار » له ، فيكون وجوب التصديق أثرا شرعيا رتب على قول « الصدوق ». ثم إن « المفيد » الحاكي لقول « الصدوق » قد حكى موضوعا ذا أثر شرعي فيجب تصديقه أيضا ، وهكذا إلى أن ينتهى إلى قول « الشيخ » المحرز بالوجدان ، فكل لاحق يخبر عن موضوع سابق ذي أثر ، غايته أن الآثار تكون من سنخ واحد ، ولا محذور في ذلك إذا انتهت الآثار إلى أثر مغاير ، وهو وجوب الشيء أو حرمته الذي حكاه عن الإمام علیه السلام مبدأ السلسلة وهو « الصفار » فلا يلزم أن يكون الأثر المترتب على التعبد بالخبر بلحاظ نفسه ولا حكومة الدليل على نفسه (1) لما عرفت من تغاير الآثار وتغاير الحاكم والمحكوم.
أما الأول : فلأن أثر التعبد بكل خبر باعتبار ما يترتب عليه من وجوب التصديق في المرتبة السابقة على التعبد به.
وأما الثاني : فلأن دليل الاعتبار اللاحق يكون حاكم على الحكم المترتب على الموضوع السابق عليه ، والمنشأ في ذلك هو انحلال قضية وجوب تصديق العادل وانتهاء أخبار السلسلة إلى قول الإمام علیه السلام فبهذه المقدمتين يرتفع الإشكال الرابع والخامس.
ص: 183
ومن ذلك يظهر : عدم الإشكال في حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي فان انحلال قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » إلى ما لليقين والشك من الأفراد يقتضي حكومة أحد الفردين على الآخر ، لا حكومته على نفسه ، كحكومة أحد فردي دليل الاعتبار فيما نحن فيه على الآخر ، غايته أن الحكومة في باب الأصل السببي والمسببي تقتضي إخراج الأصل المسببي عن تحت قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » وحكومة دليل الاعتبار فيما نحن فيه تقتضي إدخال فرد في دليل الاعتبار ، فان وجوب تصديق « الشيخ » في إخباره عن « المفيد » يقتضي وجوب تصديق « المفيد » في إخباره عن الصدوق (رحمه اللّه) فوجوب التصديق « الشيخ » يدخل فردا تحت عموم وجوب التصديق بحيث لولاه لما كان داخلا فيه.
ولعل خفاء الفرق بين الحكومة في الأصل السببي والمسببي وفيما نحن فيه وأن هناك بإخراج فرد عن العموم وفي المقام بإدخال فرد فيه ، أوجب أن يضرب على عبارة الشيخ قدس سره في بعض نسخ « الرسائل » مما كانت تتضمن تنظير المقام بالأصل السببي والمسببي.
ولا يخفى أن عبارة « الشيخ » في بيان الإشكالات والأجوبة مضطربة ، فان جملة من العبارة تتكفل الإشكال الثالث ، وجملة منها تتكفل الإشكال الرابع ، ولذا قد ضرب على كثير من نسخ الكتاب في هذا المقام ، وعليك بالتأمل التام فيما ذكرناه.
هذا تمام الكلام فيما يتعلق بآية النبأ من تقريب الاستدلال بها والإشكالات المتوجهة عليه.
وقد بقى بعض الإشكالات ولكن لا يهم التعرض لها ، لوضوح فسادها ، فراجع فرائد الشيخ قدس سره .
ومن جملة الآيات التي استدل بها على حجية أخبار الآحاد قوله تعالى : « فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا
ص: 184
إليهم لعلّهم يحذرون » (1) وتقريب الاستدلال بها على وجه يندفع ما أورد على الاستدلال بها يتركب من أمور :
الأمر الأوّل : كلمة « لعل » مهما تستعمل تدل على أن ما يتلوها يكون من العلل الغائية لما قبلها (2) سواء في ذلك التكوينيات والتشريعيات وسواء كان ما يتلوها من الأفعال الاختيارية التي يمكن تعلق الإرادة بها أو من الموضوعات الخارجية التي لا يصح أن يتعلق بها الإرادة ، فإنه على جميع التقادير كلمة « لعل » تقتضي أن يكون ما يتلوها علة غائية لما قبلها ، فإذا كان ما يتلوها من الأفعال الاختيارية التي تصلح لان يتعلق بها الإرادة الفاعلية والآمرية كان لا محالة بحكم ما قبلها ، فان كان ما قبلها واجبا يكون ما يتلوها أيضا واجبا ، وإن كان مستحبا فكذلك ، فان جعل الفعل الاختياري غاية للواجب أو للمستحب يلازم وجوب ذلك الفعل أو استحبابه ، وإلا لم يكن من العلل الغائية.
وبالجملة : لا إشكال في استفادة الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب علته الغائية إذا صح أن يتعلق الطلب بها من حيث كونها فعلا اختياريا قابل لتعلق الإرادة به ، وفي الآية الشريفة جعل التحذر علة غائية للإنذار ، ولما كان الإنذار واجبا كان التحذر أيضا واجبا.
وسيأتي أن المراد من « التحذر » هو التحذر من حيث العمل بقول المنذر لا مجرد الخوف ، فهو من الأفعال الاختيارية التي يصح أن يتعلق
ص: 185
التكليف بها ، وإذا تأمل الشخص في موارد استعمال كلمة « لعل » يرى أن في جميع الموارد ما بعدها يكون في حكم ما قبلها من حيث الوجوب والاستحباب إن كان ما بعدها من الأفعال الإختيارية.
الأمر الثاني : المراد من الجمع (1) في قوله تعالى « ليتفقهوا » وفي قوله « لينذروا » وفي قوله « ليحذروا » هو الجمع الاستغراقي الأفرادي ، لا المجموعي الارتباطي ، لوضوح أن المكلف بالتفقه هو كل فرد فرد من أفرد الطائفة النافرين أو المتخلفين - على الوجهين في تفسير الآية - وليس المراد تفقه مجموع الطائفة من حيث المجموع ، كما أنه ليس المراد إنذار المجموع من حيث المجموع ، بل المراد أن يتفقه كل واحد من النافرين أو المتخلفين وينذر كل واحد منهم. وبالجملة : كما أن المراد من الجمع في قوله تعالى « يحذرون » هو الجمع الاستغراقي الأفرادي ، كذلك المراد من الجمع في قوله تعالى « ليتفقهوا » و « لينذروا » هو الجمع الإفرادي.
الأمر الثالث : ليس المراد من الحذر مجرد الخوف والتحذر القلبي ، بل المراد منه هو التحذر الخارجي ، وهو يحصل بالعمل بقول المنذر وتصديق قوله والجري على ما يقتضيه من الحركة والسكون. وليس المراد أيضا الحذر عند حصول العلم من قول المنذر ، بل مقتضى الإطلاق والعموم الاستغراقي في قوله تعالى « لينذروا » هو وجوب الحذر مطلقا ، حصل العلم من قول المنذر أو لم
ص: 186
يحصل ؛ غايته أنه يجب تقييد إطلاقه بما إذا كان المنذر عدلا ، لقيام الدليل على عدم وجوب العمل بقول الفاسق ، كما هو مفاد منطوق آية النبأ.
وبعد العلم بهذه الأمور لا أظن يشكك أحد في دلالة الآية الشريفة على حجية خبر العدل ، فان مفادها بعد ضم الأمور السابقة ، هو وجوب قبول قول المنذر والحذر منه عملا عند إخباره بما تفقه من الحكم الشرعي إذا كان المنذر عدلا ، ولا نعنى بحجية خبر الواحد إلا ذلك ، فيكون مفاد الآية الشريفة مفاد سائر الأدلة الدالة على حجية قول العدل في الأحكام.
وبما ذكرنا من تقريب الاستدلال يمكن دفع جميع ما ذكر من الإشكالات على التمسك بالآية الشريفة.
منها : ان غاية ما تدل عليه الآية هو مطلوبية الحذر عقيب الإنذار ، إلا أنها ليس لها إطلاق يعم صورة عدم حصول العلم من قول المنذر.
وأنت خبير : بأنه بعد ما عرفت من أن المراد من الجمع هو العام الاستغراقي لا يبقى موقع لهذا الإشكال ، فإنه أي إطلاق يكون أقوى من إطلاق الآية بالنسبة إلى حالتي حصول العلم من قول المنذر وعدمه (1).
ومنها : ان وجوب الحذر إنما يكون عقيب إنذار المنذر بما تفقه ، والتفقه عبارة عن العلم بأحكام الدين من الواجبات والمحرمات الواقعية ، فلابد وأن يكون المنذر ( بالفتح ) عالما بأن إنذار المنذر ( بالكسر ) كان بالمحرمات والواجبات الواقعية ، فيختص اعتبار قول المنذر بما إذا حصل للمنذر ( بالفتح ) العلم بالحكم الشرعي من قوله ، ولا يخفى أن هذا الإشكال وإن كان بالنتيجة يتحد مع الإشكال السابق ، إلا أن طريق الإشكال يختلف ، كما هو واضح.
ص: 187
وهذا الإشكال يتلو السابق في الفساد ، فان نفس الآية تدل على ما أنذر به المنذر يكون من الأحكام ، لأن قول المنذر إذا جعل طريقا إليها ومحرزا لها فيجب اتباع قوله والبناء على أنه هو الواقع ، كما هو الشأن في سائر الأدلة الدالة على اعتبار الطرق والأمارات ، فان نتيجة دليل الاعتبار كون مؤدى الطريق هو الواقع ، لا يجعل المؤدى حتى يرجع إلى التصويب (1) بل جعل الطريقية يقتضي ذلك ، ومن هنا كانت أدلتها حاكمة على الأدلة المتكفلة للأحكام الواقعية ، فالآية بنفسها تدل على أن ما أنذر به المنذر يكون من الأحكام الواقعية.
ومنها : ان الحذر إنما يجب عقيب الإنذار (2) والإنذار ليس مطلق الإخبار عن الحكم ، بل هو الإخبار المشتمل على التخويف ، والتخويف ليس من شأن الراوي ، بل هو من شأن المفتي والواعظ ، فالآية تدل على حجية قول المفتي لا قول الراوي.
وفيه : أن الإنذار وإن كان هو الإخبار المشتمل على التخويف ، إلا أنه أعم من الصراحة والضمنية (3) فإنه يصدق الإنذار على الإخبار المتضمن للتخويف ضمنا وإن لم يصرح به المنذر ، وإلا لم يصدق الإنذار على فتوى المفتي ، فإنه ليس في الفتوى التصريح بالتخويف ، مع أن المستشكل سلم صدق الإنذار على الفتوى ، ولا فرق بين الفتوى والرواية في أن كلا منهما يشتمل على
ص: 188
التخويف ضمنا ، فان الإخبار بالوجوب يتضمن الإخبار بما يستتبع مخالفته من العقاب.
فالإنصاف : أن الآية لو لم تكن أظهر من آية النبأ في الدلالة على حجية خبر العدل فلا تقصر عنها ، فتأمل جيدا (1).
وقد استدل على حجية الخبر الواحد بآيات اخر ، كآية السؤال وآية التصديق ، ولكن في دلالتها تأمل ، فراجع فرائد الشيخ قدس سره .
منها : الأخبار العلاجية (2) المتكفلة لبيان حكم الروايات المتعارضة من الترجيح بالأشهرية والأورعية والأوثقية وغير ذلك من المرجحات ، ومع فقدها فالتخيير ، فإنها ظاهرة الدلالة في حجية الخبر الواحد عند عدم ابتلائه بالمعارض ووجوب الأخذ به مع عدم العلم بصدوره أو بمضمونه ، لأن الترجيح بالأوثقية والأعدلية لا يكاد يمكن إلا مع عدم العلم بالصدور والمضمون.
نعم : ليس فيها إطلاق يعم جميع أخبار الآحاد ، لأن إطلاقها مسوق لبيان حكم التعارض ، والقدر المتيقن دلالتها على حجية الخبر الموثوق به صدورا أو مضمونا (3) كما يدل على الأول الترجيح باشتهار الرواية بين الرواة أو
__________________
1 -
2 -
3 -
ص: 189
وثاقة الراوي وعدالته - فان هذه المرجحات كلها ترجع إلى اعتبار الخبر الموثوق صدوره - وعلى الثاني الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة.
ومنها : الأخبار الواردة في إرجاع الأئمة - صلوات اللّه عليهم - بعض الصحابة إلى بعض في أخذ الفتوى والرواية ، كإرجاعه علیه السلام إلى « زرارة » بقوله علیه السلام « إذا أردت حديثا فعليك بهذا الجالس » (1) وأشار إلى « زرارة » وقوله علیه السلام « وأما ما رواه زرارة عن أبي فلا يجوز رده » (2) وقوله علیه السلام « العمري ثقة فما أدى إليك عني فعني يؤدي » (3) وغير ذلك من الأخبار التي يستفاد منها اعتبار الخبر الموثوق به ، وهي كثيرة مستفيضة.
ومنها : ما دل على وجوب الرجوع إلى الرواة والعلماء ، كقوله علیه السلام في خبر الاحتجاج : « وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا » الخبر (4).
ومنها : الأخبار الواردة في الرجوع إلى كتب « بني فضال » (5). ولا إشكال في أنه يستفاد من المجموع اعتبار الخبر الموثوق به ، بل يستفاد من بعضها أن الاعتماد على خبر الثقة كان مفروغا عنه عند الصحابة مرتكزا في أذهانهم ، ولذلك ورد في كثير من الأخبار السؤال عن وثاقة الراوي ، بحيث يظهر منها أن الكبرى مسلمة والسؤال كان عن الصغرى.
ص: 190
ولا يتوهّم : ان هذه الأخبار من أخبار الآحاد ولا يصح الاستدلال بها لمثل المسألة ، فإنها لو لم تكن أغلب الطوائف متواترة معنى فلا إشكال في أن مجموعها متواترة إجمالا ، للعلم بصدور بعضها عنهم ( صلوات اللّه عليهم أجمعين ).
والإنصاف : أن التتبع في هذه الأخبار يوجب القطع باعتبار الخبر الموثوق به.
فقد ذكر في تقريره وجوه : من الإجماع القولي ، والعملي ، وسيرة المسلمين ، وطريقة العقلاء. وينبغي أولا بيان الفرق بين هذه الوجوه ، ثم نعقبه بصحة الاستدلال بها ، فنقول :
أمّا الإجماع القولي : فهو عبارة عن اتفاق أرباب الفتوى على الفتوى بحكم فرعى أو أصولي. وطريق إحراز ذلك إنما يكون من تتبع أقوالهم في كتبهم ورسائلهم.
وأمّا الإجماع العملي : فهو عبارة عن عمل المجتهدين في المسألة الأصولية ، بحيث يستندون إليها في مقام الاستنباط ويعتمدون عليها عند الفتوى ، كإجماعهم على التمسك بالاستصحاب في أبواب الفقه ، سواء أجمعوا على الفتوى بحجيته أيضا ، أو كان مجرد الإجماع على الاستناد إليه في مقام الاستنباط ، غايته أنه في صورة الإجماع على الفتوى يجتمع الإجماع القولي والعملي. فالإجماع العملي لا يكون إلا في المسائل الأصولية التي تقع في طريق الاستنباط ، ولا معنى للإجماع العملي في المسائل الفرعية ، لاشتراك المجتهد في العمل بها مع غيره ، وليس العمل في المسألة الفرعية من مختصات المجتهد بما أنه مجتهد ، والإجماع الذي يكون من الأدلة إنما هو إجماع المجتهدين بما أنهم مجتهدون ، فالإجماع العملي لا يكاد يتحقق في المسائل الفرعية ، بل يختص بالمسائل الأصولية.
ص: 191
وأمّا السيرة : فهي عبارة عن عمل المسلمين بما أنهم مسلمون وملتزمون بأحكام الشريعة ، ولا إشكال في كشفها عن رضاء صاحب الشريعة إذا علم استمرارها إلى ذلك الزمان ، إذ من المستبعد جدا بل من المحال عادة استقرار سيرة المسلمين واستمرار عملهم على الشيء من عند أنفسهم من دون أن يكون ذلك بأمر الشارع ودستوره ، ولو سلم أنه يمكن تحقق السيرة بلا أمر منه ، فلا أقل من أنها تكشف عن رضاه ، وإلا كان عليه الردع إظهارا للحق وإزاحة للباطل.
نعم : يعتبر في حجية السيرة أن تكون من الملتزمين بالشريعة والمتدينين بها ، فلا عبرة بسيرة العوام الذين لا يبالون بمخالفة آداب الشريعة ويصغون إلى كل ناعق ، لوضوح أن سيرتهم لا تكشف عن رضا المعصوم ، لعدم ارتداعهم بردعه.
وأمّا طريقة العقلاء : (1) فهي عبارة عن استمرار عمل العقلاء بما هم عقلاء على شيء سواء انتحلوا إلى ملة ودين أو لم ينتحلوا ، ومنهم المسلمون ، وسواء كان ما استمرت عليه طريقتهم من المسائل الأصولية أو من المسائل الفقهية ، وقد يعبر عن الطريقة العقلائية ببناء العرف ، والمراد منه العرف العام ، كما يقال : إن بناء العرف في المعاملة الكذائية على كذا ، وليس بناء العرف شيئا يقابل الطريقة العقلائية ، ولا إشكال أيضا في اعتبار الطريقة العقلائية وصحة التمسك بها ، فان مبدأ الطريقة العقلائية لا يخلو : إما أن يكون لقهر قاهر وجبر سلطان جائر قهر جميع عقلاء عصره على تلك الطريقة واتخذها العقلاء في الزمان المتأخر طريقة لهم واستمرت إلى أن صارت من مرتكزاتهم ، وإما أن يكون مبدئها أمر نبي من الأنبياء بها في عصر حتى استمرت ، وإما أن
ص: 192
تكون ناشئة عن فطرتهم المرتكزة في أذهانهم حسب ما أودعها اللّه تعالى في طباعهم بمقتضى الحكمة البالغة حفظا للنظام.
ولا يخفى بعد الوجه الأول بل استحالته عادة ، وكذا الوجه الثاني ، فالمتعين هو الوجه الثالث ، ولكن على جميع الوجوه الثلاث يصح الاعتماد عليها والإتكال بها ، فإنها إذا كانت مستمرة إلى زمان الشارع وكانت بمنظر منه ومسمع وكان متمكنا من ردعهم ، ومع هذا لم يردع عنها فلا محالة يكشف كشفا قطعيا عن رضاء صاحب الشرع بالطريقة ، وإلا لردع عنها كما ردع عن كثير من بناءات الجاهلية ، ولو كان قد ردع عنها لنقل إلينا لتوفر الدواعي إلى نقله.
ومن ذلك يظهر : أنه لا يحتاج في اعتبار الطريقة العقلائية إلى إمضاء صاحب الشرع لها والتصريح باعتبارها ، بل يكفي عدم الردع عنها ، فان عدم الردع عنها مع التمكن منه يلازم الرضاء بها وإن لم يصرح بالإمضاء.
نعم : لا يبعد الحاجة إلى الإمضاء في باب المعاملات (1) لأنها من الأمور الاعتبارية التي تتوقف صحتها على اعتبارها ، ولو كان المعتبر غير الشارع فلابد من إمضاء ذلك ولو بالعموم أو الإطلاق. وتظهر الثمرة في المعاملات المستحدثة التي لم تكن في زمان الشارع كالمعاملة المعروفة في هذا الزمان ب ( البيمة ) فإنها إذا لم تندرج في عموم « أحل اللّه » و « أوفوا بالعقود » ونحو ذلك ، فلا يجوز ترتيب آثار الصحة عليها.
وإذا قد عرفت الفرق بين هذه الوجوه الأربعة في تقرير الإجماع.
فاعلم : أنه يصح التمسك بالإجماع القولي المحكى عن الشيخ
ص: 193
قدس سره على اعتبار حجية خبر الثقة إذا فرض أنه يكشف كشفا قطعيا عن رأى المعصوم علیه السلام وعن وجود دليل معتبر عند الكل ، وإلا فلا عبرة به.
وأمّا الإجماع العملي : فهو وإن كان متحققا في المقام ، لما عرفت في صدر المبحث من حصول الاتفاق على التمسك بما في الكتب المعتبرة من الأخبار ، إلا أنه لا يصح التمسك للمقام بمثل هذا الإجماع العملي والاعتماد عليه ، لما تقدم من اختلاف مشرب المجمعين في ذلك ، فان بعضهم يعمل بها لكونها مقطوعة الصدور في نظره ، وبعضهم يعمل بها لكونها تفيد الظن مع بنائه على حجية مطلق الظن بدليل الانسداد ، وبعضهم يعمل بها لكونها مما قام الدليل على اعتبارها ، فالإجماع العملي في المقام يكون من الإجماع التقييدي الذي لا عبرة به في شيء من المقامات.
وأمّا سيرة المسلمين : فلا إشكال في حجيتها والاعتماد عليها ، لكن إذا كان الذي قامت السيرة عليه من الأمورات التوقيفية التي من شأنها أن تتلقى من الشارع ، فإنها تكشف لا محالة عن الجعل الشرعي فيما قامت السيرة عليه. وأما في الأمورات الغير التوقيفية التي كانت تنالها يد العرف والعقلاء قبل الشرع ، فمن المحتمل قريبا رجوع سيرة المسلمين إلى طريقة العقلاء. ولكن ذلك لا يضر جواز الاستدلال بها ، فإنه كما أن استمرار طريقة العقلاء يكشف عن رضاء صاحب الشرع بها ، كذلك سيرة المسلمين تكشف عن ذلك ، غايته أنه في مورد اجتماع السيرة والطريقة تكونان من قبيل تعدد الدليل على أمر واحد وذلك يضر بصحة الاستدلال بعمل واحد منهما ، ولا إشكال في قيام سيرة المسلمين على العمل بخبر الثقة واستمرارها إلى زمان الأئمة ( صلوات اللّه عليهم ) فتكون السيرة من جملة الأدلة الدالة على حجية خبر الثقة.
وأمّا طريقة العقلاء : فهي عمدة أدلة الباب ، بحيث لو فرض أنه كان سبيل إلى المناقشة في بقية الأدلة فلا سبيل إلى المناقشة في الطريقة العقلائية القائمة على الاعتماد بخبر الثقة والإتكال عليه في محاوراتهم ، بل على
ص: 194
ذلك يدور رحى نظامهم.
ويمكن أن يكون ما ورد من الأخبار المتكفلة لبيان جواز العمل بخبر الثقة من الطوائف المتقدمة كلها إمضاء لما عليه بناء العقلاء وليست في مقام تأسيس جواز العمل به ، لما تقدم من أنه ليس للشارع في تبليغ أوامره طريق خاص ، بل طريق تبليغها هو الطريق الجاري بين الموالى والعبيد العرفية من دون أن يكون له طريق مخترع ، وحال الخبر الموثوق به عند الموالى والعبيد حال العلم في جواز الركون إليه والإلزام والالتزام به في مقام المخاصمة والمحاجة.
ومنه يظهر : أن الآيات الناهية عن العمل بالظن لا تشمل خبر الثقة ، حتى يتوهم أنها تكفى للردع عن الطريقة العقلائية ، لأن العمل بخبر الثقة في طريقة العقلاء ليس من العمل بما وراء العلم ، بل هو من أفراد العمل بالعلم (1) لعدم التفات العقلاء إلى مخالفة الخبر للواقع ، لما قد جرت على ذلك طباعهم واستقرت عليه عادتهم ، فهو خارج عن العمل بالظن موضوعا ، فلا تصلح لأن تكون الآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم رادعة عن العمل بخبر الثقة ، بل الردع عنه يحتاج إلى قيام الدليل عليه بالخصوص ، بل لابد من تشديد النكير على العمل به ، كما شدد النكير على العمل بالقياس ، لاشتراك العمل بالقياس مع العمل بخبر الثقة في كونه مما استقرت عليه طريقة العقلاء وطبعت عليهم جبلتهم.
والإنصاف : أن التأمل في طريقة العقلاء يوجب القطع بخروج الاعتماد على خبر الثقة عن الاعتماد بالظن ، فما سلكه الشيخ قدس سره في وجه عدم كون الآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم رادعة عن العمل بخبر الثقة تبعيد للمسافة بلا ملزم ، مع أن ما أفاده لا يخلو عن المناقشة ؛ فراجع.
* * *
ص: 195
فقد ذكر في تقريره وجوه :
ما أفاده الشيخ قدس سره واعتمد عليه سابقا ( عند البحث عن حجية كلام اللغوي ) وهو ترتيب مقدمات الانسداد الصغير في خصوص الأخبار المودعة فيما بأيدينا من الكتب لاستنتاج حجية الظن بالصدور.
وينبغي أولا بيان المراد من « الانسداد الصغير » ثم نعقبه بما أفيد في المقام.
فنقول : قد تقدم أن استفادة الحكم الشرعي من الخبر يتوقف على أمور : الأول : العلم بصدور الخبر. الثاني : العلم بجهة صدوره من كونها لبيان حكم اللّه الواقعي لا للتقية ونحوها. الثالث : كون الخبر ظاهرا في المعنى المنطبق عليه. الرابع : حجية الظهور ووجوب العمل على طبقه.
فهذه الأمور لابد من إثباتها في مقام استنباط الحكم الشرعي من الرواية وإقامة الدليل على كل واحد منها ، وإذا اختل أحدها يختل الاستنباط ، فان قام الدليل بالخصوص على كل واحد منها فهو ، وإن لم يقم الدليل على شيء منها وانسد طريق إثباتها ، فلابد حينئذ من جريان مقدمات الانسداد لإثبات حجية مطلق الظن بالحكم الشرعي ، للعلم بثبوت الأحكام في الشريعة ولا يجوز إهمالها وترك التعرض لها - إلى آخر المقدمات الآتية في باب الانسداد - وقد جرى الاصطلاح على التعبير عن ذلك بالانسداد الكبير.
وإن قام الدليل على إثبات بعض ما يتوقف عليه استنباط الحكم من الرواية دون بعض ، كما لو فرض أنه قام الدليل على الصدور وجهة الصدور وإرادة الظهور ، ولكن لم يمكن تشخيص الظهور وتوقف على الرجوع إلى كلام
ص: 196
اللغوي في تعيين أن اللفظ الكذائي كلفظ « الصعيد » مثلا موضوع للمعنى الكذائي ولم يقم دليل بالخصوص على اعتبار قوله ، فاعتبار الظن الحاصل من كلام اللغوي وعدمه مبنى على صحة جريان مقدمات الانسداد في خصوص معاني الألفاظ لاستنتاج حجية الظن الحاصل من كلام اللغوي في معنى اللفظ - وإن لم يحصل الظن بالحكم الشرعي من قوله - وقد جرى الاصطلاح على التعبير عن ذلك بالانسداد الصغير.
وحاصل الفرق بين الانسداد الكبير والانسداد الصغير : هو أن مقدمات الانسداد الكبير إنما تجرى في نفس الأحكام ليستنتج منها حجية مطلق الظن فيها ، وأما مقدمات الانسداد الصغير (1) فهي إنما تجرى في بعض ما يتوقف عليه استنباط الحكم من الرواية من إحدى الجهات الأربع المتقدمة ليستنتج منها حجية مطلق الظن في خصوص الجهة التي انسد باب العلم فيها.
وفي صحة جريان مقدمات الانسداد الصغير مطلقا في أي جهة من هذه الجهات الأربع ، أو عدم صحته مطلقا ، أو التفصيل بين الجهات ، فأي جهة توقف العلم بأصل ثبوت الحكم على العلم بها لا يصح جريان مقدمات الانسداد الصغير فيها بل لابد إما من إقامة الدليل بالخصوص على إثباتها وإما من جريان مقدمات الانسداد الكبير لاثبات حجية مطلق الظن بالحكم الشرعي ، وأي جهة توقف تشخيص الحكم وتعيينه على العلم بها من دون أن يكون لها دخل في أصل العلم بالحكم فان لم يقم دليل بالخصوص عليها تجرى
ص: 197
فيها مقدمات الانسداد الصغير.
وتوضيح ذلك : هو أن بعض هذه الجهات مما يتوقف عليها العلم بأصل الحكم - كجهة الصدور - فإنه لولا إثبات صدور الرواية لا يكاد يحصل العلم بالحكم لا بجنسه ولا بفصله موضوعا ومتعلقا ، ففي مثل ذلك لابد إما من قيام الدليل على الصدور ، وإما من جريان مقدمات الانسداد الكبير بالنسبة إلى أصل الأحكام. وبعضها الآخر مما لا يتوقف عليها العلم بأصل الحكم بل كان لها دخل في تشخيص الحكم وتعيينه من حيث الموضوع أو المتعلق كالظهور - فان العلم بأصل الحكم لا يتوقف على العلم بالظهور عند العلم بالصدور وجهة الصدور وإرادة الظهور ، بل تشخيص الحكم يتوقف على ذلك إذا كان الإجمال في ناحية الموضوع أو المتعلق ، مثلا في قوله تعالى : « فتيمموا صعيدا طيبا » متعلق الجهل هو خصوص « الصعيد » من أجل تردده بين مطلق وجه الأرض أو خصوص التراب الخالص ، والجهل بمعنى « الصعيد » لا يضر العلم بأصل الحكم ، لأن المكلف يعلم بأنه مكلف بما تضمنته الآية الشريفة من الحكم ، ففي هذه الجهة إن لم يقم دليل بالخصوص على حجية قول اللغوي في تعيين معنى « الصعيد » تجرى فيها مقدمات الانسداد الصغير ، ولا تصل النوبة إلى مقدمات الانسداد الكبير ، لأنها إنما تجرى بالنسبة إلى نفس الحكم ، والمفروض حصول العلم بالحكم في مورد الكلام.
فلابد من جريان مقدمات الانسداد الصغير لإثبات حجية مطلق الظن الجهة التي انسد باب العلم فيها.
وكان شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) في الدورة السابقة يميل إلى هذا التفصيل ، بل كان يقويه ، وعليه بنى حجية الظن الحاصل من قول اللغوي في تعيين مداليل الألفاظ بعد ما كان يمنع عنه ، كما تقدم بيانه.
وعلى كل حال : المقصود من الوجه الأول ( من وجوه تقرير حكم العقل بحجية الخبر الواحد ) هو إجراء مقدمات الانسداد بالنسبة إلى خصوص
ص: 198
جهة الصدور لإثبات حجية مطلق الظن به (1) وبيانه : هو أنه لا إشكال في أنا نعلم إجمالا بصدور كثير من الأخبار المودعة فيما بأيدينا من الكتب ، ولا سبيل إلى منع العلم الإجمالي بذلك ، فان من تتبع حال الرواة وكيفية اهتمامهم في ضبط الأخبار وأخذها من الكتب المعتبرة يعلم علما وجدانيا بصدور كثير منها عن الأئمة ( صلوات اللّه عليهم ) ولا إشكال أيضا بأنا مكلفون بما تضمنته هذه الأخبار من الأحكام الشرعية ، فلا يجوز إهمالها. ولا يجب الاحتياط فيها لعدم إمكانه أو تعسره ، ولا يجوز أيضا الرجوع إلى الأصول العملية لمنافاتها للعلم الإجمالي - على ما سيأتي بيانه في مقدمات الانسداد - لابد حينئذ من الأخذ بمظنون الصدور فقط ، أو مع مشكوك الصدور ، أو مع الموهوم أيضا ، حسب اختلاف مراتب العلم الإجمالي - على ما سيأتي تفصيله - هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب هذا الوجه.
ولكن يرد عليه :
أوّلاً : انّ العلم الإجمالي بالأحكام لا ينحصر أطرافه في ما بأيدينا من الأخبار ، بل الأمارات الظنية - كالشهرة والإجماع المنقول والأولوية الظنية - أيضا من أطراف العلم الإجمالي ، بل دائرة العلم الإجمالي أوسع من ذلك أيضا ، فان العلم الإجمالي بثبوت الأحكام في الشريعة يقتضي أن تكون جميع الوقايع المشتبهة ( من المظنونة والمشكوكة والموهومة ) من أطرافه ، فيكون للعلم الإجمالي مراتب ثلاث : الأولى : العلم الإجمالي بثبوت الأحكام فيما بأيدينا من الأخبار. الثانية : العلم الإجمالي بثبوت الأحكام فيما بين الأخبار والأمارات الظنية. الثالثة : العلم الإجمالي بثبوت الأحكام في مجموع الوقايع المشتبهة ، وهذه المرتبة
ص: 199
أوسع من الثانية ، والثانية أوسع من الأولى.
ومقتضى العلم الإجمالي في المرتبة الثالثة وإن كان هو الاحتياط في جميع الوقايع المشتبهة ( مظنوناتها ومشكوكاتها وموهوماتها ) إلا أنه ينحل بالعلم الإجمالي في المرتبة الثانية ، لأن المعلوم بالإجمال بين الوقايع المشتبهة لا يزيد قدرا عن المعلوم بالإجمال بين جميع الأمارات الظنية. والذي يدلك على ذلك ، هو أنه لو عزلنا طائفة من الأمارات الظنية بقدر المعلوم بالإجمال بينها بحيث يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال فيها عليها ثم ضممنا الوقايع المشتبهة إلى الباقي من الأمارات الظنية لم يكن لنا علم إجمالي بتكليف بين الوقايع المشتبهة مع الباقي من الأمارات.
مثلاً لو فرضنا : أن المتيقن من المعلوم بالإجمال بين الأمارات الظنية مآت من الأحكام ، وعزلنا بذلك المقدار منها بحيث يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال على المعزول ، فلا يبقى العلم الإجمالي فيما بقى من الأمارات الظنية ، ولو ضممنا إلى الباقي الوقايع المشكوكة لا يحصل لنا العلم الإجمالي بثبوت حكم فيما بين بقية الأمارات الظنية والوقايع المشكوكة ، لأن نفس بقية الأمارات ليس فيها علم إجمالي ، فضم الوقايع المشكوكة لا يؤثر في حصول العلم ، لأن الشك لا ينقلب عن كونه شكا ، فلا يعقل أن يكون ضم الشك إلى الظن موجبا لحدوث العلم الإجمالي ، وهذا أقوى شاهد على أن العلم الإجمالي الوسيع الذي يكون منشأ العلم بثبوت التكاليف في الشريعة ينحل ببركة العلم الإجمالي بثبوت التكاليف فيما بين الأمارات الظنية المتوسط بين ذلك وبين العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في خصوص الأخبار المودعة في الكتب.
فان قلت : العلم الإجمالي المتوسط أيضا ينحل بالعلم الإجمالي الصغير الذي يكون أطرافه خصوص الأخبار ، لأنه لا يعلم بثبوت التكاليف أزيد مما في بين الأخبار ، فلا أثر للعلم الإجمالي المتوسط.
قلت : هذه الدعوى مما يكذبها الوجدان ، بداهة أن الأمارات الظنية
ص: 200
ما عدا الأخبار لو لم تكن بنفسها متعلقة للعلم الإجمالي فلا أقل من كونها من أطراف العلم الإجمالي ، لأن متعلق الإجمالي هو المجموع من الأخبار ومن بقية الأمارات الظنية ، وهذا لا ينافي أن تختص الأخبار بعلم إجمالي آخر فيما بينها. وليس العلم الإجمالي في المجموع مستندا إلى العلم الإجمالي في الأخبار لينحل العلم الإجمالي فيه بالعلم الإجمالي فيها.
والشاهد على ذلك (1) هو أنه لو عزلنا طائفة من الأخبار بقدر المتيقن من الأحكام المعلوم بالإجمال فيما بينها بحيث يحتمل انطباق المعلوم بالإجمال فيها على المعزول منها ، فلا يبقى العلم الإجمالي في بقية الأخبار ، ولو ضممنا إلى البقية سائر الأمارات الظنية كان العلم الإجمالي بثبوت التكاليف بين بقية الأخبار والأمارات الظنية بحاله ، وإنكار ذلك يكون مكابرة واضحة.
فان قلت : إن ذلك يقتضي أن يكون متعلق العلم الإجمالي نفس الأمارات الظنية فقط ، لا أنها من أطراف العلم الإجمالي ، لأن المفروض أن في بقية الأخبار المنضمة إليها ليس علم بالتكليف ، لانحلاله بسبب عزل طائفة منها ، فضمها إلى الأمارات يكون من قبيل ضم الحجر في جانب الإنسان لا يؤثر في حصول العلم الإجمالي ، فالعلم الإجمالي الحاصل لابد وأن يكون في خصوص الأمارات الظنية.
قلت : أولا : دعوى العلم الإجمالي في خصوص الأمارات الظنية ليست ببعيد ، لأن من تراكم الظنون يحصل العلم الإجمالي بخلاف تراكم الشكوك.
ص: 201
وثانياً : انه قد يكون الشيء بنفسه ليس موردا للعلم الإجمالي ، إلا أن ضمه إلى بعض أطراف المعلوم بالإجمال يوجب حصول العلم الإجمالي ، مثلا لو كان إنائات ثلاث في الجانب الشرقي من الدار ، وإنائات ثلاث أخرى في الجانب الغربي ، وعلم إجمالا بأنه أصاب أحد الإنائات في الشرقية قطرة من الدم ، وعلم إجمالا أيضا أنه زمان وقوع تلك القطرة وقعت قطرة أخرى من الدم ، إما في أحد الإنائات الشرقية غير ما وقعت فيه تلك القطرة ، وإما في أحد الإنائات الغربية ، ففي الفرض الإنائات الغربية ليست مما تعلق العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ، لاحتمال أن تكون كلتا القطرتين وقعتا في الإنائات الشرقية ، ولكن ضم الإنائات الغربية إلى الإنائات الشرقية يوجب زيادة في أطراف المعلوم الإجمالي ، ولو بعد عزل ما يوجب انحلال العلم الإجمالي في الإنائات الشرقية ، فتكون الإنائات الست كلها من أطراف العلم الإجمالي ، فإنه لو عزلنا أحد الإنائات الشرقية ، فالعلم الإجمالي الذي كان بنجاسة أحدهما بسبب وقوع أحد القطرتين في خصوص أحدهما ينحل لا محالة ، لأنه لا يعلم إجمالا بنجاسة أحد الإنائين الباقيين ، كما لا يعلم بنجاسة أحد الإنائات الغربية ، ولكن من ضم الإنائات الغربية إلى الإنائين الباقيين في طرف الشرق يحصل العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ، وحال الأمارات الظنية مع بقية الأخبار بعد عزل طائفة منها حال الإنائات بعينه ، وعليه تكون الأمارات الظنية أطراف العلم الإجمالي وحالها حال الأخبار.
إلا أن يدعى أنه من أول الامر ليست الأمارات من أطراف العلم الإجمالي ، وليس لنا علم بثبوت التكليف في الأخبار وعلم بثبوت التكاليف في الأعم من الأخبار والأمارات الظنية ، فإنه ، على هذا تكون الأمارات خارجة عن أطراف العلم الإجمالي. ولكن عهدة هذه الدعوى على مدعيها.
فان قلت : سلمنا كون الأمارات من أطراف العلم الإجمالي الحاصل بين بقية الأخبار - بعد عزل طائفة منها - وبينها ، ولكن لما كانت بقية الأخبار من
ص: 202
أطراف علم إجمالي آخر - وهو العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في خصوص الأخبار - فقد تنجز التكليف بها بذلك العلم الإجمالي ، فلا يبقى أثر للعلم الإجمالي الحاصل بينها وبين الأمارات الظنية ، لأن بعض أطرافه قد تنجز التكليف به بمنجز آخر ، وقد ذكرنا في محله : أنه لو تنجز التكليف بأحد أطراف العلم الإجمالي بمنجز آخر غير العلم الإجمالي فالطرف الآخر لا يجب الاجتناب عنه ، لأن الشبهة فيه تكون بدوية ، كما لو علم بنجاسة أحد الإنائين ثم علم بوقوع قطرة من الدم إما في أحد الإنائين وإما في الإناء الثالث ، فالإناء الثالث لا يجب الاجتناب عنه وتجري فيه أصالة الطهارة بلا معارض ، وحال الأمارات الظنية حال الإناء الثالث.
قلت : ذلك إنما يكون إذا كان المعلوم بالإجمال في أحد العلمين متأخرا زمانا عن المعلوم بالإجمال في العلم الآخر - كما في المثال - حيث فرض أن وقوع القطرة الثانية من الدم المرددة بين كونها في أحد الإنائين أو في الإناء الثالث كان بعد نجاسة أحد الإنائين ، من غير فرق بين تقارن نفس العلمين أو في سبق أحدهما الآخر يكون معلومة متأخرا (1) ولو كان السابق ، فان العبرة إنما هو في تقدم المعلوم وتأخره ، لا في تقدم العلم وتأخره.
وأما لو كان المعلومين بالإجمال حدثا في زمان واحد ، فلا وجه لانحلال أحد العلمين بالآخر. بل تكون جميع أطراف العلمين في عرض واحد ويجب الاجتناب عن الجميع. وقد ذكرنا تفصيل ذلك في « الجزء الرابع » وما نحن فيه من القسم الثاني ، لأن ثبوت الأحكام في الأخبار ليس أسبق في الزمان عن ثبوت الأحكام في الأمارات ، فالأخبار والأمارات تكون في عرض واحد طرفا للعلم الإجمالي ، وذلك واضح.
وثانياً : سلمنا أن الأمارات الظنية ليست من أطراف العلم الإجمالي ،
ص: 203
ولكن وجوب الأخذ بما في أيدينا من الأخبار إنما هو لأجل ما تضمنتها من الأحكام الواقعية لا بما هي هي ، فالمتعين هو الأخذ بكل ما يظن أن مضمونه حكم اللّه الواقعي لا خصوص ما يظن بصدوره من الأخبار ، لأن الأخذ بمظنون الصدور إنما هو لاستلزامه الظن بالمضمون غالبا ، ومقتضى ذلك هو اعتبار الظن بالحكم سواء حصل من الظن بالصدور أو من الشهرة والإجماع المنقول (1).
وثالثا : أقصى ما يقتضيه هذا الدليل هو الأخذ بمظنون الصدور من الأخبار باب التبعيض في الاحتياط ، لأن العلم الإجمالي كان يقتضي الأخذ بجميع ما في الكتب من الأخبار ، ولمكان لزوم العسر والحرج وجب التبعيض في الاحتياط والأخذ بخصوص مظنون الصدور ، والرواية التي كان العمل بها من باب الاحتياط لا تكون حجية شرعية بحيث تنهض لتخصيص العمومات وتقييد المطلقات (2) والمدعى هو كون مظنون الصدور حجة شرعية.
وهذا الإشكال يتوجه في الانسداد الكبير أيضا ، كما سيأتي. ولكن سنحرر ( إن شاء اللّه تعالى ) أن نتيجة مقدمات الانسداد لو كانت هي التبعيض في الاحتياط كان الإشكال واردا ، وأما لو كانت النتيجة هي جعل الشارع مظنون الصدور في المقام ومطلق الظن في الانسداد الكبير طريقا للوصول إلى أحكامه - كما هو المعنى الكشف - فلا محالة يترتب على مظنون الصدور أو مطلق الظن جميع ما يترتب على الحجة من نهوضها للتخصيص والتقييد وغير ذلك ، فانتظر
ص: 204
تفصيل ذلك.
فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن مقدمات الانسداد الصغير لا تنتج اعتبار الظن بالصدور ، بل أقصى ما تقتضيه هو اعتبار الظن بالمضمون ، هذا.
ولكن يمكن تقريب مقدمات الانسداد الصغير بوجه آخر تنتج اعتبار الظن بالصدور ، مع سلامته عما أورد على الوجه الأول.
بيانه : هو أنه نعلم بصدور غالب الأخبار المودعة فيما بأيدينا من الكتب ، ولا إشكال في أنه يجب الأخذ بما صدر عنهم ( صلوات اللّه عليهم ) من الأخبار ، لا من حيث أنها تتضمن الأحكام الواقعية ليرجع إلى الوجه الأول ، بل من حيث إن نفس الأخبار الصادرة عنهم أحكام ظاهرية من جهة وقوعها في طريق إحراز الواقعيات بعد فرض جريان الأصول اللفظية والجهتية فيها ، وحيث لم يمكن لنا تحصيل العلم بالأخبار الصادرة عنهم ، فلابد من التنزل إلى الظن والأخذ بمظنون الصدور. ولا يرد على هذا التقريب شيء مما ذكر في التقريب السابق ، فان الإشكالات المتقدمة كانت مبتنية على أن وجوب العمل بالأخبار من باب أنها تتضمن الأحكام الواقعية ، فكان يرد عليه : أن متعلق العلم بالأحكام الواقعية لا يختص بالأخبار ، بل الأمارات الظنية أيضا من أطراف العلم الإجمالي ، فلابد من العمل بكل ما يظن أنه حكم اللّه الواقعي لا خصوص مظنون الصدور من الأخبار ، إلى آخر الإشكالات المتقدمة.
وأمّا هذا التقريب : فهو مبنى على وجوب العمل بنفس الأخبار الصادرة من حيث إنها أخبار لكونها أحكاما ظاهرية ، فلا تكون سائر الأمارات من أطراف هذا العلم الإجمالي ، لأن الأمارات الظنية التي لم يقم دليل على اعتبارها ليست أحكاما ظاهرية ، فدائرة العلم الإجمالي يتخصص بالأخبار ، ونتيجته هي الأخذ بمظنون الصدور عند تعذر تحصيل العلم التفصيلي بما صدر وعدم وجوب الاحتياط في الجميع ، بل مقتضى العلم بصدور غالب ما في الكتب من الأخبار هو انحلال العلم الإجمالي بوجود التكاليف بين الأخبار
ص: 205
والأمارات ، لأن ما صدر عنهم علیهم السلام يكون بقدر المعلوم بالإجمال من التكاليف بين الاخبار والأمارات ، فترتفع الإشكالات المتقدمة على التقريب السابق بحذافيرها.
نعم : الإشكال الأخير مشترك الورود ، وهو أن ذلك لا يقتضي حجية مظنون الصدور بحيث يكون مخصصا ومقيدا للعموم والإطلاق ، إلا إذا قلنا بالكشف.
وتقريب مقدمات الانسداد الصغير على هذا الوجه يقرب مما سيأتي من المحقق « صاحب الحاشية » وأخيه « صاحب الفصول » من تقريب مقدمات الانسداد الكبير على وجه ينتج خصوص الظن بالطريق لا الظن بالحكم ، وإن كان بين ما ذكرناه في المقام وما ذكراه في ذلك المقام فرق ، وهو أن الغرض من ترتيب مقدمات الانسداد في المقام إنما هو تعيين موضوع الطريق ومصداقه بعد العلم بأن ما صدر عنهم ( صلوات اللّه عليهم ) يكون طريقا ، وأما مقصودهما من ترتيب مقدمات الانسداد في ذلك المقام هو اعتبار الظن في طريقية الطريق وتعيين ما جعله الشارع طريقا ، هذا.
ولكن لا يخفى عليك : أن ما ذكرناه من التقريب وإن كان يسلم عن كثير من الإشكالات المتقدمة ، إلا أنه يرد عليه : أن وجوب العمل بالأحكام الظاهرية إنما هو لأجل كونها موصلة إلى الأحكام الواقعية ومحرزة لها ، لا أنها أحكام في مقابل الأحكام الواقعية ، فالعبرة إنما تكون بامتثال الأحكام الواقعية ، ووجوب العمل بالأخبار إنما هو لأجل كونها من الطرق الموصلة إليها ، فلو فرض الوصول إليها من طريق آخر غير الأخبار كان مجزيا ، ونتيجة ذلك بعد تعذر العلم بها وعدم وجوب الاحتياط هي التنزل إلى الظن بها ، لا الظن بالصدور - كما أفيد في المقام - ولا الظن بالطريق ، كما أفاده « المحقق » واخوه في ذلك المقام.
وبالجملة : عمدة مقدمات دليل الانسداد الصغير والكبير هو عدم جواز
ص: 206
إهمال الاحكام الواقعية وترك التعرض لها ، إذ لولا ذلك لم يبق مجال لبقية المقدمات لكل من يقول : إنه يجب الأخذ بمظنون الصدور ، أو يقول : إنه يجب الأخذ بمظنون الطريق ، أو يقول : إن يجب الأخذ بمظنون الحكم ، أن يحوم حول امتثال الأحكام الواقعية وعدم جواز إهمالها ، إذ ليس للعمل بمظنون الصدور أو مظنون الطريق خصوصية سوى كونه طريقا إلى الواقع ومحرزا له. وعليه كان الواجب ترتيب مقدمات الانسداد بالنسبة إلى نفس الأحكام لاستنتاج حجية الظن بها ، ولا أثر لترتيب مقدمات الانسداد بالنسبة إلى ما صدر عنهم من الأخبار أو ما نصب من الطرق.
فان قلت : نعم ، الواجب أولا وبالذات وإن كان هو امتثال الأحكام الواقعية المعلومة بالإجمال في الوقايع المشتبهة ، إلا أنه حيث علم بصدور غالب ما بأيدينا من الأخبار بقدر المعلوم بالإجمال من الأحكام الواقعية ، فالعلم الإجمالي بها ينحل إلى العلم التفصيلي بوجوب العمل على طبق الأحكام الظاهرية التي هي فيما بين الأخبار المودعة في الكتب والشك البدوي بالنسبة إلى ما عداها من الوقايع المشتبهة ، وحيث لم يتمكن من احراز تلك الأحكام الظاهرية تفصيلا ولم يمكن أو لم يجب الاحتياط في العمل بجميع الأخبار المودعة في الكتب وجب التنزل إلى الظن بالحكم الظاهري ، وهو المراد من الظن بالصدور ، فلا يبقى موقع للانسداد الكبير ، لأن مبناه العلم الإجمالي بثبوت التكاليف في الوقايع المشتبهة ، وقد انحل ببركة العلم بثبوت التكاليف الظاهرية في الأخبار المودعة.
قلت : مجرد العلم بصدور جملة من الأخبار التي بأيدينا لا يقتضي أن يترتب على الأخبار الصادرة آثار الأحكام الظاهرية ، فان الحكم الظاهري يتوقف على العلم به موضوعا وحكما ، لا أقول : إن وجوده الواقعي يتوقف على العلم بالموضوع والحكم فان ذلك ضروري البطلان ، بداهة أن الحكم الظاهري من الطريقية والحجية كالحكم الواقعي من الوجوب والحرمة لا
ص: 207
يتوقف وجوده الواقعي وجعله النفس الأمري على العلم به ، ولكن الآثار المرغوبة من الحكم الظاهري : من كونه منجزا للواقع عند الإصابة وعذرا عند المخالفة ، لا تكاد تترتب مع الجهل به موضوعا أو حكما ، فان الحكم الظاهري ليس أمرا مقابلا للحكم الواقعي - كما تقدم بيانه في باب جعل الطرق والأمارات - بل الوجه في كون الشيء حكما ظاهريا إنما هو لمكان أنه موصل إلى الواقع ، وهذا كما ترى ما لم يكن الطريق محرزا لدى المكلف لا يكون موصلا إليه ، لوضوح أن وجود الرواية في الكتب من دون العلم بها تفصيلا لا تكون منجزة للواقع ، لأن الواقع بعد باق على ما كان عليه من الجهل به.
وكذا مع العلم بالرواية تفصيلا والجهل بظهورها أو جهة صدورها أو إرادة ظهورها ، فان الجهل بأي من هذه الجهات يضر بحجية الرواية - أي بالآثار المرغوبة منها - لأن الجهل بأي منها يقتضي الجهل بالواقع فلا يكون محرزا لدى المكلف ، وما لم يكن محرزا لا يكون منجزا ، فلا بد من العلم بالرواية صدورا وظهورا لتجري الأصول العقلائية واللفظية في جهة الصدور وإرادة الظهور ، لتكون الرواية حكما ظاهريا منجزة للواقع عند الإصابة وعذرا عند المخالفة. وهذا المعنى لا يكاد يتحقق في العلم الإجمالي بصدور جملة من الأخبار المودعة في الكتب ، لعدم العلم بظهور ما هو الصادر منها لتجري فيه الأصول العقلائية (1) فلا يمكن أن يترتب على الصادر من الأخبار ما للحكم الظاهري من الآثار ، فيبقى العلم الإجمالي بالتكاليف الواقعية بين الأخبار والأمارات الظنية على حاله ، ولابد من ترتيب مقدمات الانسداد الكبير بالنسبة
ص: 208
إلى نفس الأحكام الواقعية لاستنتاج حجية الظن بالحكم ، ولا أثر للظن بالصدور.
وثانياً : فعلى فرض تسليم كون الإجمال غير مانع عن ترتب آثار الأحكام الظاهرية على ما صدر من الأخبار ، ولكن مجرد ذلك لا يكفي في انحلال العلم الإجمالي بالتكاليف فيما بأيدينا من الأخبار وسائر الأمارات الظنية ، فان تلك الأحكام الظاهرية التي فرض كونها بقدر المعلوم بالإجمال من الأحكام الواقعية لم تحرز بالوجدان ، ولم يجب الاحتياط في جميع ما بأيدينا من الأخبار وثبت الترخيص في غير مظنون الصدور - كما هو المفروض - فلا يمكن مع هذا أن ينحل العلم الإجمالي بالتكاليف ، لأن انحلال العلم الإجمالي إنما يكون بانحلال القضية المانعة الخلو - التي كل علم إجمالي يتضمنها - إلى قضيتين حمليتين ، إحديهما متيقنة والأخرى مشكوكة ، وقضية العلم الإجمالي بالتكاليف لا تنحل إلى ذلك ، لأن وجوب الأخذ بمظنون الصدور من الأحكام الظاهرية لا يوجب انحلال العلم بالنسبة إلى بقية الأخبار وساير الأمارات بحيث يكون الشك فيها بدويا ، بل العلم الإجمالي بثبوت التكاليف بينها على حاله ، لأن الأحكام الظاهرية في مظنون الصدور ليست بقدر الأحكام الواقعية في مجموع الإخبار والأمارات (1) بل أقصى ما يدعى هو أن مجموع ما صدر عنهم ( صلوات اللّه عليهم ) من الأحكام الظاهرية بقدر التكاليف الواقعية ، فالترخيص في ما عدا مظنون الصدور يوجب نقصا في الأحكام الظاهرية ، ويلزمه زيادة الأحكام الواقعية عن الأحكام الظاهرية التي يلزم الأخذ بها.
فان قلت : الموجب للإنحلال هو العلم بصدور الأخبار بمقدار المعلوم
ص: 209
بالإجمال من التكاليف ، ومجرد الترخيص في ترك العمل بما عدا مظنون الصدور من الأخبار لا يقتضي عدم الانحلال ، لأن عدم ايجاب الشارع الجمع بين جميع الأخبار في العمل لا يضر بالانحلال.
قلت : قد عرفت أن الترخيص في ترك العمل ببعض الأخبار يوجب نقصا في الأحكام الظاهرية ، للعلم بأن بعض الأحكام الظاهرية تكون في الأخبار التي رخص في ترك العمل بها ، لأن مظنون الصدور من الأخبار ليس بقدر التكاليف الواقعية ، فلا يبقى مجال للإنحلال.
مثلا لو علم إجمالا بأن في القطيع من الغنم موطوء وأقله عشرون ويحتمل أن يكون أزيد ، وقام الدليل على أن في البيض من القطيع عشرين موطوء ، وكان عدد البيض يزيد عن مقدار عدد المعلوم بالإجمال في مجموع القطيع ، ففي هذا لا إشكال في انحلال العلم الإجمالي المتعلق بمجموع القطيع بقيام الدليل على وجود عشرين موطوء في البيض ، لان المعلوم بالإجمال في المجموع محتمل الانطباق على ما في البيض.
ولكن لو لم يجب الاجتناب عن بعض أفراد البيض للعسر والحرج والاضطرار وكان الذي يجب الاجتناب عنه أقل عددا من المعلوم بالإجمال في مجموع القطيع ، فالعلم الإجمالي المتعلق بالمجموع لا ينحل ، لأن الاضطرار إلى بعض أطراف المعلوم بالإجمال وإن كان يوجب التوسط في التنجيز - على ما سيأتي بيانه في محله - بحيث لو كان الموطوء في الأفراد التي لا يجب الاجتناب عنها للاضطرار كان التكليف بالاجتناب عن الموطوء غير منجز ، إلا أن هذا إذا لم يلزم عن عدم الاجتناب عن بعض أفراد البيض محذور المخالفة القطعية للتكليف بالاجتناب عن الموطوء من الغنم في القطيع ، وإلا عاد العلم الإجمالي في المجموع على حاله ولابد من علاجه ، لأن عدد المعلوم بالإجمال فيه يزيد عن عدد ما يجتنب عنه من أفراد البيض ، فلا يبقى أثر لقيام الدليل على وجود الموطوء في البيض بقدر المتيقن من المعلوم بالإجمال في المجموع من البيض ومن
ص: 210
غيره ؛ وحال المقام بعينه حال المثال ، فتدبر.
فان قلت : الأخذ بمظنون الصدور فيما بأيدينا من الأخبار إن كان من باب التبعيض في الاحتياط كان لعدم الانحلال مجال ، وأما إن كان من باب أن الشارع جعل الظن بالصدور حجة وطريقا إلى الأحكام الظاهرية وما صدر من الأخبار ، فلا محالة ينحل العلم الإجمالي المتعلق بالمجموع من الأخبار والأمارات الظنية ، لأن الأحكام الظاهرية التي فرضناها أنها بقدر الأحكام الواقعية تكون محرزة ببركة حجية الظن ، فان نتيجة جعل الشارع الظن بالصدور طريقا إلى ما صدر من الأخبار هي : أن ما عدا المظنون ليس مما صدر (1) واختصاص ما صدر بمظنون الصدور ، والمفروض أن ما صدر بقدر المعلوم بالإجمال من الأحكام التكليفية ، فيلزمه انطباقه على مظنون الصدور وينحل العلم الإجمالي بالتكاليف.
قلت : هذا إذا تمت المقدمات ووصلت النوبة إلى أخذ النتيجة ، فتكون النتيجة حجية الظن وأن الشارع جعل الظن طريقا إلى ما صدر. ولكن المدعى انه لا تصل النوبة إلى أخذ النتيجة ، من جهة أن عمدة المقدمات التي يتوقف عليها أخذ النتيجة هو عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة من الأحكام الظاهرية ، وبعد بطلان هذه المقدمة بجواز إهمال بعض الوقايع - وهو ما عدا المظنون - لا تصل النوبة إلى أخذ النتيجة ، فينهدم أساس الانحلال قبل أخذ النتيجة ، وانتظر لذلك مزيد توضيح في باب الانسداد الكبير.
فتحصل : أن مقدمات الانسداد الصغير بكلا وجهيه لا تنتج اعتبار الظن بالصدور ، فالوجه الأول ( من وجوه تقرير حكم العقل بحجية الخبر الواحد ) فاسد.
ص: 211
هو ما ذكره المحقق صاحب الحاشية (رحمه اللّه) وحاصله : أن وجوب العمل بالكتاب والسنة ثابت بالإجماع والضرورة ، فان أمكن الرجوع إليهما على وجه يحصل العلم منهما بالحكم أو الظن المعتبر فهو ، وإلا فلابد من الرجوع إليهما على وجه يحصل الظن منهما بالحكم ، فلا محيص عن الأخذ بمظنون الصدور.
وقد جعل هذا الوجه من أقوى الوجوه الثمانية التي أقامها على اعتبار الظن بالطريق.
وأنت خبير بما فيه ، فإنه إن أراد من السنة نفس قول المعصوم (عليه السلام) وفعله وتقريره - كما هو المصطلح عليه وقام الإجماع والضرورة على الرجوع إليها - كان اللازم عند تعذر تحصيل العلم بما هو واقع السنة من قول الإمام علیه السلام وفعله وتقريره هو العمل بما ظن أنه مدلول السنة - أي ما ظن أنه مقول قول المعصوم علیه السلام - من غير فرق بين ما إذا حصل الظن بذلك من الأخبار أو من الشهرة والإجماع المنقول والأولوية الظنية ، لاستواء الكل في حصول الظن منها بمدلول السنة ، إلا إذا شك أو ظن بأن مدلول الشهرة لم يكن مقول قول المعصوم علیه السلام ولم يصدر ما قامت عليه الشهرة عن الإمام علیه السلام بل كان مما سكت اللّه عنه وأمر الحجج بعدم تبليغه إلى الأنام ، ولكن دون حصول الشك أو الظن بذلك خرط القتاد! بل من المحالات العادية ، لأن المسائل التي انعقدت الشهرة عليها أو حكى الإجماع بها من المسائل التي تعم بها البلوى ، بحيث نعلم بصدور حكمها عنهم ( صلوات اللّه عليهم ). وإن أراد من السنة الأخبار الحاكية لها لا نفس قول المعصوم علیه السلام وفعله وتقريره ( كما حكى أنه صرح في ذيل كلامه بأن المراد منها ذلك ) على خلاف ما هو المصطلح من السنة ففيه : مضافا إلى أنه لم تعم الإجماع والضرورة على العمل بالأخبار
ص: 212
الحاكية عن السنة - لأنها هي محل الكلام بين الأعلام - إن ذلك يرجع إلى التقريب الثاني من الوجه الأول ( إن كان الوجه في وجوب الرجوع إلى الأخبار الحاكية لكونها من الأحكام الظاهرية ) وإلى التقريب الأول منه ( إن كان الوجه في الرجوع إليها كونها تتضمن الأحكام الواقعية ) وقد تقدم ما في كلا التقريبين من النقض والإبرام.
ما ذكره « صاحب الوافية » مستدلا به على خصوص الأخبار المودعة في الكتب الأربعة مع عمل جمع بها.
وحاصل ما أفاده من الوجه : هو أنا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة ، خصوصا بالضروريات - كالصلاة والصوم والزكاة والحج والخمس وغير ذلك من العبادات والمعاملات - ولا إشكال أن غالب أجزاء هذه الأمور وشرائطها إما تثبت بخبر الواحد بحيث لو ترك العمل به لخرجت عن حقايقها ولم تستحق إطلاق أساميها عليها ، فلابد من العمل بخبر الواحد.
أولا : أن اللازم حينئذ العمل بخصوص الأخبار المثبتة للأجزاء والشرايط دون الأخبار النافية.
وثانياً : أنه لا خصوصية للأخبار المودعة في الكتب الأربعة مع اشتراط العمل بها ، بل العلم الإجمالي بثبوت الأجزاء والشرائط حاصل في مطلق الأخبار ، بل في مطلق الأمارات ، فالمتعين هو الاحتياط بكل ما دل على جزئية شيء أو شرطيته.
وثالثاً : أنه لا موجب لقصر العلم الإجمالي بخصوص الأجزاء والشرائط ، بل يعلم بثبوت الأحكام والتكاليف النفسية والغيرية في الأخبار المودعة في الكتب الأربعة وفي مطلق الأخبار والأمارات ، فيرجع هذا الوجه
ص: 213
إلى الانسداد الكبير مع حذف بعض مقدماته التي لابد منها ، كما سيأتي بيانه.
فالانصاف : أن ما استدلوا به على حجية الخبر الواحد من الحكم العقلي بتقريباته مما لا يستقيم. ولكن المسألة في غنى عن ذلك ، لأنه يكفي لإثبات حجية الخبر الموثوق به ما تقدم من الأدلة وعمدتها الطريقية العقلائية مع عدم ردع الشارع عنها.
هذا تمام الكلام في المقام الأول المتكفل لبيان ما اعتبر فيه من الظنون الخاصة.
في الوجوه التي استدلوا بها على حجية مطلق الظن بالحكم الشرعي أو في الجملة ( على ما سيأتي بيانه ) وهي أربعة :
ان الظن بالحكم يلازم الظن بالضرر عند ترك العمل به ، ودفع الضرر المظنون لازم عقلا ، فيجب العمل بالظن.
ولا يخفى أن الفرق بين هذا الوجه والوجه الرابع - المعروف بدليل الانسداد - هو أن الوجه الرابع يتوقف على انسداد باب العلم والعلمي في معظم الأحكام ، وهذا الوجه مع ما يتلوه من الوجه الثاني لا يتوقف على ذلك ، بل مع فرض انفتاح باب العلم في المعظم إذا حصل الظن بالحكم في المورد الذي اتفق انسداد باب العلم فيه يكون الظن حجة على هذا الوجه والوجه الثاني.
ثم إن هذا الوجه يتركب من صغرى وكبرى.
أما الكبرى - وهي لزوم دفع الضرر المظنون عقلا - فهي في الجملة مما لا ينبغي التأمل والإشكال فيها ، لاستقلال العقل بلزوم دفع الضرر المظنون ،
ص: 214
بل المشكوك ، بل الموهوم أيضا إذا كان الضرر المحتمل من سنخ العقاب الأخروي ، ولذلك لا تكفى الإطاعة الظنية عند التمكن من الإطاعة العلمية ، مع أن الضرر في الإطاعة الظنية يكون موهوما.
وأما الصغرى : فهي ممنوعة أشد المنع.
وتنقيح البحث في كل من الصغرى والكبرى يحتاج إلى تمهيد أمور :
الأمر الأوّل : انه لا إشكال في استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان ، كما أنه لا إشكال في استقلال العقل بلزوم دفع ضرر العقاب الموهوم فضلا عن المشكوك فضلا عن المظنون. ومورد حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان إنما هو فيما إذا أعمل العبد ما تقتضيه وظيفته وجرى على ما يلزمه الجري عليه من الفحص والسؤال عن مرادات المولى ، فإذا فعل ذلك ولم يعثر على مراد المولى قبح عقابه ، سواء كان للمولى مراد واقعا أو لم يكن ، فان المراد من « البيان » في قاعدة « قبح العقاب بلا بيان » هو البيان الواصل إلى العبد لا البيان الواقعي ، لأن الإرادة النفس الأمرية لا تكون محركة للعضلات ولا تصلح للداعوية ، فلا أثر للبيان الواقعي ما لم يصل إلى العبد ، وليس قبح العقاب بلا بيان مورد الدليل اللفظي حتى يستظهر منه الأعم من البيان الواقعي والبيان الواصل ، بل هو حكم عقلي ملاكه قصور الإرادة الواقعية عن تحريك إرادة العبد نحو المراد ، فالعقل يستقل بقبح عقاب العبد وعتابه إذا أعمل وظيفته بالفحص والسؤال فلم يعثر على مراد المولى ، فان عدم عثور العبد مع الفحص : إما لكون المولى أخل بوظيفته بعدم بيان مراده بالطرق التي يمكن الوصول إليه منها ، وإما لأجل تقصير الوسائط في ايصال مراد المولى إلى العبد ، وعلى كلا التقديرين : لا دخل للعبد في عدم حصول مراد المولى على تقدير وجوده النفس الأمري ، وذلك واضح.
وأمّا مورد حكم العقل بلزوم دفع ضرر العقاب المحتمل ، فهو إمّا في
ص: 215
الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، وإما في الشبهات البدوية إذا أخل العبد بما تقتضيه وظيفته بترك الفحص والسؤال عن مرادات المولى واعتمد على الشك ، فان مثل هذا العبد يستحق العقاب والعتاب إذا صادف فوت مراد المولى.
ويشهد لذلك الطريقة المألوفة بين الموالى والعبيد العرفية ، فإنه لكل من المولى والعبد وظيفة تخصه ، أما وظيفة المولى : فهي أن يكون بيان مراده على وجه يمكن وصول العبد إليها إذا لم يتوسط في البين ما يمنع عن ذلك من تقصير الوسائط في التبليغ ونحو ذلك. وأما وظيفة العبد : فهي الفحص والسؤال عن مرادات المولى في مظان وجودها ، فعند إخلال العبد بوظيفته يستحق العقاب ويكون مورد حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل.
وبما ذكرنا من الضابط في حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان مع حكمه بلزوم دفع الضرر المحتمل يظهر : أنه لا يكاد يتحقق الشك في مورد أنه من موارد قبح العقاب بلا بيان أو من موارد دفع الضرر المحتمل؟ إلا إذا قلنا : إن المراد من البيان في « قاعدة قبح العقاب بلا بيان » هو البيان الواقعي ، فإنه يمكن حينئذ فرض الشك في ذلك ، ولابد من التحرز عن المشكوك ، لأن احتمال الضرر فيه وجداني والشك في جريان البراءة فيه ، فتأمل جيدا.
الأمر الثاني : قد تقدم في بعض المباحث السابقة أن ملاكات الأحكام تختلف من حيث الأهمية ، فقد يكون الملاك بمثابة من الأهمية في نظر الشارع ، بحيث يقتضي تحريم جملة من المحللات ظاهرا ، لإحراز الملاك والتحفظ عليه ، وقد لا يكون الملاك بتلك المثابة من الأهمية ، وطريق استكشاف أن ملاك الحكم من أي قبيل إنما يكون بجعل المتمم ، فإنه لابد للشارع من جعل المتمم إذا كان الملاك مما يجب رعايته ، إذ لا طريق للعباد إلى إحراز كون الملاك بتلك المثابة من الأهمية حتى يجب عليهم التحرز عن فوته في موارد الشك ، فلو كان الملاك ثبوتا مما يلزم رعايته فعلى الشارع بيان ذلك بجعل
ص: 216
المتمم من ايجاب الاحتياط في موارد الشك ، كما أوجبه في باب الدماء والأعراض والأموال ، فمن عدم ايجاب الاحتياط في مورد يستكشف كون الملاك ليس بتلك المثابة من الأهمية. ولو شك في جعل المتمم ووجوب الاحتياط في مورد فالأصل يقتضي البراءة ، لأنه يندرج في قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » فان أمر المتمم وضعا ورفعا بيد الشارع ، فيشمله حديث الرفع.
الأمر الثالث : الضرر الذي يستقل العقل بقبح الإقدام على ما لا يؤمن من الوقوع فيه ، إما يكون أخرويا ، وإما يكون دنيويا.
فان كان أخرويا فلا إشكال في أن حكم العقل بلزوم دفع المقطوع والمظنون والمحتمل منه يكون للإرشاد لا يستتبع حكما مولويا شرعيا على طبقه ، لان حكم العقل في باب العقاب الأخروي واقع في سلسلة معلولات الأحكام ، وكل حكم عقلي وقع في هذه السلسلة لا يستتبع الحكم المولوي الشرعي وليس مورد القاعدة الملازمة وإلا يلزم التسلسل ، فحكم العقل بلزوم دفع الضرر المظنون بل المحتمل يكون إرشاديا وطريقيا لا يترتب على مخالفته سوى ما يترتب على المرشد إليه من العقاب الواقعي لو فرض مصادفة الظن أو الاحتمال للواقع ، وإلا كان من التجري في حكم العقل ، وذلك واضح.
وإن كان الضرر دنيويا : فالذي يظهر من بعض كلمات الشيخ قدس سره في مبحث البراءة ، هو أن الظن في المضار الدنيوية يكون طريقا مجعولا شرعيا كسائر الطرق الشرعية ، فلا يترتب العقاب على مخالفته إلا إذا صادف الظن الواقع وكان ما أقدم عليه ضررا واقعا ، فيستحق المكلف العقاب على مخالة الواقع لا مخالفة الطريق ، وقد تقدم منا الإشكال في ذلك ، وأن الظاهر من تسالم الأصحاب - على ما هو المحكى عنهم - من أن سلوك الطريق الذي لا يؤمن من الوقوع في الضرر معصية يجب إتمام الصلاة فيه ولو تبيّن عدم
ص: 217
الضرر (1) هو أن للعقل في باب الضرر الدنيوي حكم واحد بمناط واحد يعم صورة القطع والظن بل الاحتمال العقلائي ، نظير حكمه بقبح التشريع ، لا أنه للعقل حكمان : حكم على الضرر الواقعي ، وحكم آخر طريقي على ما لا يؤمن منه من الوقوع في الضرر ، نظير حكمه بقبح الظلم.
وعلى كل حال : سواء قلنا : بأن حكم العقل في موارد احتمال الضرر طريقي أو موضوعي ، فحيث كان هذا الحكم العقلي واقعا في سلسلة علل الأحكام فيستتبع الحكم الشرعي بقاعدة الملازمة على طبق ما حكم به العقل ، فان كان الحكم العقلي طريقيا فالحكم الشرعي المستكشف منه أيضا يكون طريقيا ، نظير ايجاب الاحتياط في باب الدماء والفروج ، وإن كان موضوعيا فالحكم الشرعي أيضا يكون كذلك ، ولا يمكن أن يختلف الحكم الشرعي عن الحكم العقلي في الموضوعية والطريقية ، بل يتبعه في ذلك لا محالة.
وهذا الحكم العقلي الطريقي أو الموضوعي المستتبع للحكم الشرعي على طبقه يكون حاكما على أدلة الأصول الشرعية : من البراءة والاستصحاب (2) كما يكون واردا على البراءة العقلية ، فإنه يخرج المورد عن كونه « ما لا يعلمون » وعن « نقض اليقين بالشك » وعن كون « العقاب عليه بلا بيان » بل يكون « ما يعلمون » ومن « نقض اليقين باليقين » ومن « كون العقاب عليه عقابا مع البيان الواصل » ويأتي لذلك مزيد توضيح ( إن شاء اللّه تعالى ).
* * *
ص: 218
الأمر الرابع : المصالح والمفاسد التي تبتنى عليها الأحكام ، قد تكون شخصية راجعة إلى آحاد المكلفين كالواجبات العبادية وغالب المحرمات ، كالصوم والصلاة والحج والزنا وشرب الخمر وغير ذلك مما تعود المصلحة والمفسدة إلى شخص الفاعل.
وقد تكون نوعية كالواجبات النظامية ، من الطبابة والصياغة والخياطة ونحو ذلك مما يتوقف عليها حفظ الجامعة والنظام.
وفي كلا القسمين تكون المصلحة والمفسدة في متعلق الأمر ، لا في نفس الأمر ، فإنه لو كانت المصلحة في نفس الأمر والجعل كان اللازم حصولها بمجرد الأمر ولم يبق موقع للامتثال ، فالمصلحة لابد وأن تكون في المتعلق ، بل في الأوامر الامتحانية أيضا لا تكون المصلحة في نفس الأمر ، وإنما المصلحة في إظهار العبد الطاعة والعبودية.
وبالجملة : دعوى كون المصلحة في نفس الأمر والجعل ولو موجبة جزئية مما لا سبيل إليها.
إذا عرفت هذه الأمور ، فاعلم : أن المراد من « الضرر » في قول المستدل « إن الظن بالحكم يستلزم الظن بالضرر » إن كان هو العقاب فالملازمة ممنوعة ، فان العقاب يدور مدار التنجيز وهو يدور مدار وصول التكليف وإحرازه بالعلم أو ما يقوم مقامه من الطرق الشرعية ، لما عرفت ( في الأمر الأول ) من أن التكليف بوجوده الواقعي قاصر عن أن يكون داعيا ومحركا لإرادة العبد ويقبح العقاب عليه. والظن بالحكم مع عدم قيام الدليل على اعتباره وجعله كاشفا ومحرزا لا يقتضي وصول الحكم ، وما لم يصل لا عقاب عليه ، لاستقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان واصل إلى المكلف ، فالظن بالحكم لا يلازم احتمال العقاب فضلا عن الظن به ، لأن العقاب فرع التنجيز وهو فرع الوصول ، فما يقال : من « أن الظن بالحكم وإن لم يلازم الظن بالعقاب إلاّ أنّه يحتمل
ص: 219
العقاب ، ودفع العقاب المحتمل كالمظنون مما يلزم به العقل » ضعيف غايته ، فإنه كيف يحتمل العقاب مع عدم اعتبار الظن وعدم كونه منجزا للتكليف ، بل ينبغي القطع بعدم العقاب لاستقلال العقل بقبحه.
وإن أريد من « الضرر » غير العقاب من المصالح والمفاسد الكامنة في متعلقات التكاليف - بناء على ما ذهب إليه المشهور من العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد الراجعة إلى العباد لاستغنائه ( تعالى ) عن ذلك - فالظن بالتكليف يلازم الظن بالمصلحة والمفسدة ، لأن المصالح والمفاسد من الأمورات الواقعية التكوينية ولا تأثير للعلم والجهل بها ، ولا يمكن أن يدور وجودها الواقعي مدار العلم بالتكليف ، فالظن به يلازم لا محالة الظن بها ، إلا أن الشأن في كون فوت المصالح أو الوقوع في المفاسد من المضار الدنيوية ليندرج الظن بها في صغرى حكم العقل بلزوم دفع الضرر المظنون.
والإنصاف : أنه ليس كذلك ، فان التكليف المظنون ، إما أن يكون من العبادات التي تتوقف على قصد الامتثال ، وإما أن يكون من التوصليات.
فان كان من العبادات : فالمصلحة فيها تدور مدار قصد الامتثال ، وهو يدور مدار العلم بالتكليف أو ما يقوم مقامه (1) ليتمكن المكلف من قصد الامتثال ، فالظن بالحكم مع عدم قيام الدليل على اعتباره لا يصحح قصد الامتثال ، بل لا يتمكن المكلف من ذلك إلا على نحو التشريع المحرم ، فحال المصلحة في العبادات حال العقاب في عدم الملازمة بين الظن بالحكم وبين الظن بها ، فالظن بالأحكام العبادية لا يندرج في صغرى حكم العقل بلزوم
ص: 220
دفع الضرر المظنون على فرض تسليم كون فوات المصلحة من الضرر.
وإن لم يكن الحكم المظنون من العبادات ، فان كان من الأحكام النظامية : فالظن بها لا يلزم الظن بالمصلحة والمفسدة الشخصية ، فان الأحكام النظامية تبتنى على المصالح والمفاسد النوعية ، والضرر الذي يستقل العقل بقبح الإقدام على ما لا يؤمن منه هو الضرر الشخصي لا الضرر النوعي ، فلو سلم أن فوت المصلحة والوقوع في المفسدة يندرج في الضرر فإنما هو في المصلحة والمفسدة الشخصية ، فالظن بالأحكام النظامية لا يلازم الظن بالضرر الشخصي الذي يستقل العقل بقبح الإقدام عليه.
وإن كان من الأحكام الشخصية : فالظن بها يلازم الظن بالمصلحة والمفسدة الشخصية ، ولا يصغى إلى ما قيل : من « أنه يمكن أن تكون المصلحة والمفسدة في نفس الأمر لا في المأمور به ، فالظن بالحكم لا يلازم الظن بالمصلحة والمفسدة الشخصية » لما عرفت : من أن دعوى كون المصلحة في الأمر مما لا سبيل إليها ، بل المصالح والمفاسد إنما تكون في نفس المتعلقات.
فان قلنا : إن فوات المصلحة والوقوع في المفسدة من الضرر ، فلا محالة يلزم التحرز عنه بفعل ما ظن وجوبه وترك ما ظن حرمته.
ولكن للمنع عن كون فوات المصلحة والوقوع في المفسدة من الضرر مجال واسع ، فان أقصى ما يقتضيه فوات المصلحة هو عدم النفع ، والعقل لا يستقل بقبح الإقدام على ما يقطع منه فوات النفع فضلا عن الظن ما لم يلزم منه محذور آخر من معصية المولى ومخالفة أمره. وأما الوقوع في المفسدة : فكذلك أيضا ، لأنه ليس كل مفسدة ضررا حتى يجب عقلا التحرز عن الوقوع فيها ، إلا أن يدعى أن دفع المفسدة كدفع الضرر يجب عقلا وإن لم تكن المفسدة من أفراد الضرر.
ولكن لو صحت هذه الدعوى فهي جهة أخرى لا دخل لها بما رامه المستدل لحجية مطلق الظن بقاعدة قبح الإقدام على الضرر المظنون ، مع أنّه
ص: 221
سيأتي ( في مبحث البراءة ) ما يظهر منه فساده هذه الدعوى.
فالتحقيق : ان الظن بالحكم لا يلازم الظن بالضرر.
والشيخ قدس سره بعد أن سلم الملازمة بين الظن بالحكم والظن بالضرر واعترف أن المفسدة من أفراد الضرر الذي يستقل العقل بقبح الإقدام على ما لا يؤمن من الوقوع فيه سلك مسلكا آخر في منع الصغرى.
وحاصل ما أفاده في وجه المنع هو : أن المفسدة المظنونة مما يقطع أو يظن بتداركها ، والعقل لا يستقل بقبح الإقدام على المفسدة المظنونة مع القطع أو الظن بتداركها ، بيان ذلك هو : أن أدلة الأصول الشرعية - من الاستصحاب والبرائة - في المورد الذي لم يثبت التكليف به ، إما أن تكون مقطوعة الصدور عنهم ( صلوات اللّه عليهم ) كما هو ليس ببعيد وإما أن تكون مظنونة الصدور عنهم ، وعلى كلا التقديرين : إما أن يقطع أو يظن بتدارك المفسدة المظنونة عند الظن بالتكليف مع عدم قيام الدليل على اعتبار الظن ، فإنه إما يقطع بالبرائة الشرعية عن التكليف المظنون إن كانت أدلتها قطعية وإما أن يظن بها إن كانت أدلتها ظنية ، ويلزمه القطع أو الظن بتدارك المفسدة المظنونة حتى لا يلزم ايقاع المكلف في الضرر والمفسدة الواقعية ، فإنه مع عدم إحراز التكليف لابد للشارع : إما من ايجاب الاحتياط ليتحرز المكلف عن الوقوع في المفسدة وإما من تداركها ، وحيث لا يجب الاحتياط عند الظن بالتكليف - إما علما وإما ظنا - فلا يظن بالمفسدة الغير المتداركة ، بل يعلم أو يظن بالتدارك ، والعقل لا يستقل بقبح الإقدام على المفسدة المتداركة.
هذا حاصل ما أفاده قدس سره في وجه المنع عن الصغرى إن كان المراد من « الضرر » فيها المفسدة لا العقاب.
وأنت خبير بما فيه ، أما أولا : فلأن تدارك الضرر والمفسدة إنما يجب إذا كان الشارع أوقع المكلف في الضرر والمفسدة الواقعية ، وذلك ينحصر بالتعبد بالأمارات في مورد انفتاح باب العلم وتمكن المكلف من الوصول إلى
ص: 222
الواقع وإدراك المصالح والمفاسد الواقعية ، فان التعبد بالأمارة مع مخالفتها للواقع يكون قبيحا إلا بأن يتدارك بالمصلحة السلوكية ما فات من المكلف بسبب العمل بالأمارة من مصلحة الواقع - كما تقدم بيانه - وأما الأصول العملية : فالتعبد بها إنما يكون في مورد انسداد باب العلم وعدم التمكن من الوصول إلى الواقع ، لأن الأصول العملية لا اعتبار بها في الشبهات الحكمية إلا بعد الفحص واليأس عن الوصول إلى الواقع بالعلم أو العلمي ، فلا يكون الوقوع في الضرر والمفسدة الواقعية مستندا إلى الشارع ، لأنه لولا التعبد بالأصول كان المكلف يقع في ذلك إلا إذا وجب عليه الاحتياط عقلا أو شرعا. وقد لا تكون مصلحة الواقع بمثابة يلزم رعايتها بجعل المتمم وايجاب الاحتياط (1) فتأمل.
وأما ثانيا : فلأن العموم في كل مورد إنما يشمل الأفراد التي لا يتوقف شمول العام لها إلى مؤنة زائدة من إثبات أمر آخر (2) إلا إذا بقى العام بلا مورد لولا تلك المؤنة الزائدة - كما أوضحناه في محله - وشمول عموم أدلة الأصول لمورد الظن بالحكم يتوقف على إثبات تدارك الضرر والمفسدة ، وإذا توقف على ذلك فمن أول الأمر العموم لا يشمل مورد الظن بالحكم ، ولا يلزم من عدم شموله بقاء العموم بلا مورد ، لأن المشكوكات والموهومات تبقي تحت العموم.
وأما ثالثا : فلأنه بعد تسليم كون الظن بالحكم يلازم الظن بالضرر على تقدير ترك العمل بالظن لا يبقى موقع للبرائة والاستصحاب ، لاستقلال العقل بقبح الإقدام على ما لا يؤمن منه من الضرر المستتبع للحكم الشرعي
ص: 223
بحرمته ، سواء كان الحكم العقلي موضوعيا أو طريقيا ، فإنه على كل تقدير هذا الحكم العقلي يكون واردا أو حاكما على البراءة العقلية والشرعية وعلى الاستصحاب (1) كما تقدم بيانه في الأمور المتقدمة.
والعجب من الشيخ قدس سره حيث أفاد ( في مبحث البراءة ) أن الظن بالضرر غير العقاب قد جعل طريقا شرعيا إلى الضرر الواقعي ولا تجرى فيه البراءة كسائر موارد الطرق الشرعية ، وفي المقام التزم بجريان البراءة مع اعترافه بأن الظن بالحكم يلازم الظن بالضرر (2). ولا يمكن الجمع بين كلاميه.
والحق هو ما أفاده ( في مبحث البراءة ) من أنه لا تجري البراءة العقلية والشرعية في موارد الظن بالضرر الدنيوي وتجري في موارد الظن بالضرر الأخروي ( لو سلم أن الظن بالحكم يلازم الظن بالضرر الدنيوي والأخروي معا ) فان جريان البراءة في أحد اللازمين لا يلازم جريان البراءة في اللازم الآخر إذا كان لكل من اللازمين مناط يخصه غير مناط الآخر ، فلو كان الظن بالحكم يلازم الظن بالعقاب والظن بالمفسدة معا ، فمن حيث العقاب تجرى البراءة العقلية ، لأن الظن الذي لم يقم دليل على اعتباره ليس بيانا ولا يكون منجزا للتكليف ، فيندرج في حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان. ومن حيث الظن بالضرر غير العقاب لا تجري البراءة العقلية لاستقلال العقل بلزوم دفع الضرر المظنون ويستتبعه الحكم الشرعي بوجوبه ، فلا يكون العقاب عليه بلا بيان.
ص: 224
والتحقيق : أن الظن بالحكم لا يلازم الظن بالعقاب ولا الظن بالضرر ، بل إنما يلازم الظن بالمفسدة وهي لا تلازم الضرر ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه.
من الوجوه التي استدلوا بها لحجية مطلق الظن - ما ذكره السيد المجاهد (رحمه اللّه) : من أنا نعلم بوجود واجبات ومحرمات في الشبهات ، ومقتضى القاعدة وإن كان هو الاحتياط بالأخذ بالمظنونات والمشكوكات والموهومات ، ولكن يلزم من الاحتياط في الجميع العسر والحرج المنفى في الشريعة ، فلابد من الأخذ بالمظنونات فقط وترك المشكوكات والموهومات ، فإنه لا يلزم العسر والحرج من الأخذ بها.
وفيه : أن ذلك لا يتم إلا بعد ضم ساير مقدمات دليل الانسداد ، فان ما ذكر من الوجه إنما هو بعض المقدمات ، ولابد من ضم البقية إليه : من انسداد باب العلم والعلمي وعدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة وغير ذلك مما سيأتي بيانه.
ويتلو هذا الوجه في الضعف الوجه الثالث ( من وجوه حجية الظن المطلق ) وهو أنه لولا العمل بالمظنونات يلزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح عقلا.
إذ فيه : أن ذلك إنما يلزم إذا وجب الأخذ بالمظنونات أو المشكوكات ، ولمانع أن يمنع عن وجوب الأخذ بها إلا بعد ضم سائر مقدمات الانسداد. فهذه الوجوه ضعيفة ولا تستحق إطالة الكلام فيها.
فالأولى عطف عنان الكلام إلى البحث عن الوجه الرابع المعروف بدليل الإنسداد وهو من المباحث التي ينبغي أن يشكر عليها شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) فإنه قد حرر البحث عن دليل الانسداد على وجه لم يسبقه إليه
ص: 225
أحد (1) وأفاد فيه من الدقايق العلمية ما كانت الأفهام قاصرة عن إدراكه كما سيتضح لك ذلك ( إن شاء اللّه تعالى ) فشكر اللّه مساعيه وجزاه عن العلم وأهله خيرا.
وعلى كل حال : دليل الانسداد يتألف من مقدمات أربع.
وقيل : إنها خمس ، بجعل العلم بالتكاليف من جملة المقدمات. والشيخ قدس سره أسقط هذه المقدمات نظرا إلى أن المراد من العلم بثبوت التكاليف ، إن كان هو العلم بثبوت الشريعة وعدم نسخ أحكامها فهذا من البديهيات التي لا ينبغي عدها من المقدمات ، فان العلم بذلك كالعلم بأصل وجود الشارع. وإن كان المراد من العلم بثبوت التكاليف العلم الإجمالي بثبوتها في الوقايع المشتبهة التي لا يجوز إهمالها ، فهو أيضا ليس من مقدمات دليل الانسداد ، بل هو من أحد الوجوه الثلاثة التي تبتنى عليها المقدمة الثانية ( على ما سيأتي بيانه ) فالأولى الاقتصار على ما ذكره الشيخ قدس سره من المقدمات الأربع.
الأولى : انسداد باب العلم والعلمي في معظم الفقه. وهي عمدة المقدمات ، حتى حكى عن بعض المتقدمين الاكتفاء بها في استنتاج حجية مطلق الظن ، والمقدمات الآخر أضافها المتأخرون.
الثانية : عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة وترك التعرض لها بالرجوع إلى البراءة في جميع موارد الشك في التكليف.
* * *
ص: 226
الثالثة : بطلان الرجوع إلى الطرق المقررة للجاهل بالأحكام : من الاحتياط في جميع الوقايع المشتبهة ، أو الرجوع إلى الأصل الجاري في كل مسألة : من البراءة والاستصحاب والتخيير والاحتياط أو التقليد والرجوع إلى فتوى الغير.
الرابعة : قبح ترجيح المرجوح على الراجح والأخذ بالموهومات والمشكوكات وترك المظنونات.
وهذه المقدمات الأربع إذا تمت وسلمت عن الإشكال تكون نتيجتها حجية الظن المطلق أو في الجملة ( على ما سيأتي توضيحه ) فلا بد من التعرض لكن مقدمة بالخصوص وإثباتها بما يمكن الاستدلال به لها (1).
ص: 227
أمّا المقدمة الأولى : فهي بالنسبة إلى انسداد باب العلم الوجداني مسلمة لا يمكن الخدشة فيها ، بداهة أن ما يوجب العلم الوجداني التفصيلي بالحكم من الخبر النص المتواتر أو المحفوف بالقرائن القطعية ظهورا وصدورا مع ساير ما يتوقف عليه الاستنباط لا يفي بأقل قليل من الأحكام الشرعية ، وذلك مما يصدقه كل مجتهد يخوض في الاستنباط.
وأما بالنسبة إلى انسداد باب العلمي فللمنع عنه مجال واسع ، فان ما تقدم من الأدلة الدالة على حجية الخبر الموثوق به ظهورا وصدورا - سواء حصل الوثوق به من وثاقة الراوي أو من ساير الأمارات الاخر - مما لا سبيل إلى الخدشة فيه ، بل ينبغي عدها من الأدلة القطعية ، ومعها لا يبقى مجال لدعوى انسداد باب العلمي في معظم الفقه ، لأن الخبر الموثوق به ( بحمد اللّه ) واف بمعظم الأحكام ، بحيث لم يلزم من الرجوع إلى الأصول العملية في الشبهات التي لم يكن على طبقها خبر موثوق به محذور الخروج من الدين أو مخالفة العلم
ص: 228
الإجمالي وغير ذلك من المحاذير الآتية.
ومن هنا يظهر : أن البحث عن دليل الانسداد - على طوله وكثرة مباحثه - قليل الفائدة لا يترتب عليه أثر مهم ، لفساد أساسه وهو انسداد باب العلمي.
نعم : لو قلنا بمقالة المحقق القمي (رحمه اللّه) من أن « اعتبار الظهورات مقصور بمن قصد إفهامه من الكلام » وأغمضنا عما تقدم من الإشكال في ذلك ، أو قلنا : إن أقصى ما تقتضيه الأدلة المتقدمة إنما هو حجية الخبر الصحيح الأعلائي عند المتأخرين - وهو ما كان جميع سلسلة سنده من الإمامية مع تعديل كل من الرواة بعدلين في جميع الطبقات - كان لدليل الانسداد مجال ، بل مما لا بد منه ، بداهة أن الخبر الصحيح الأعلائي بهذه الأوصاف - كالخبر المتواتر والمحفوف بالقرائن القطعية - أقل لا يفي بمعظم الفقه.
ولكن الأدلة المتقدمة تدل على اعتبار ما هو أوسع من ذلك ، وهو مطلق الخبر الموثوق به - كما تقدم تفصيله - ومعه لا تصل النوبة إلى دليل الانسداد لاستنتاج حجية مطلق الظن.
ومن الغريب : ما حكى عن المحقق القمي قدس سره في هذا المقام من أن « حجية ظواهر الكتاب وأخبار الآحاد سندا وظهورا إنما هو لأجل إفادتها الظن ، لا لخصوصية فيها » وعلى ذلك بنى حجية مطلق الظن مع اعترافه بأنه لو كان حجية ظواهر الكتاب والأخبار لخصوصية فيها تقتضي ذلك كان الواجب الاقتصار عليها وعدم التعدي عنها إلى مطلق الظن لأنها تفي بمعظم الفقه ولكن من المحتمل أن تكون حجيتها لأجل إفادتها الظن فيجوز التعدي عنها إلى كل ما يفيد الظن.
وقد أطال النقض والإبرام في ذلك ، وزاد في قوله « إن قلت قلت » على ما يبلغ العشرين. وقد تبعه في ذلك بعض من تأخر عنه حتى حكى : أنه صنف بعض المتأخرين رسالة عدم الخصوصية في ظواهر الكتاب والأخبار ، بل كان
ص: 229
حجيتها لأجل كونها تفيد الظن بالحكم الشرعي.
وأنت خبير بما فيه ، فان مجرد احتمال أن يكون اعتبار ظواهر الكتاب والأخبار لأجل إفادتها الظن لا يقتضي التعدي عنها إلى مطلق الظن ، فان اعتبار مطلق الظن يتوقف على جريان مقدمات الانسداد ، وإذا احتمل أن يكون اعتبار ظواهر الكتاب والأخبار لخصوصية فيها حينئذ لا تجري مقدمات الانسداد مع الاعتراف بكونها وافية بمعظم الفقه ، فإنها تكون متيقنة الاعتبار ، فلا تصل النوبة إلى دليل الانسداد ، مع أنه لو بنينا على أن أدلة حجية الظواهر والأخبار إنما تدل على حجيتها من أجل كونها تفيد الظن بالحكم الشرعي لا لخصوصية فيها - ولو لأجل تنقيح المناط القطعي - فأقصاه أن يكون الظن المطلق مما قام الدليل بالخصوص على اعتباره ، فيكون حال الظن المطلق حال الظن الخاص الذي قام الدليل الخاص على اعتباره ، فلا تصل النوبة إلى دليل الانسداد.
فظهر : أنه إنما تمس الحاجة إلى دليل الانسداد إذا منعنا عن حجية ظواهر الكتاب والأخبار بالخصوص ، وقد عرفت : أنه لا سبيل إلى المنع عن ذلك ، فدليل الانسداد فاسد من أصله. هذا كله في المقدمة الأولى.
وأمّا المقدمة الثانية : ( وهي عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة وترك التعرض لها والاعتماد على البراءة الأصلية ) فالظاهر : أن تكون ضرورية. وقد استدل عليها بوجوه ثلاثة :
الأول ، الإجماع القطعي على عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة عند انسداد باب العلم والعلمي والرجوع إلى البراءة وأصالة العدم في جميع الموارد المشتبهة (1) والإجماع المدعى في المقام وإن لم يكن من الإجماع المحصل الفعلي ،
ص: 230
فانّ المسألة لم تكن معنونة عند العلماء أجمع ولم يقع البحث عنها في قديم الزمان عند أرباب الفتوى ، إلا أنه يكفي الإجماع التقديري ، فإنه رب مسألة لم يقع البحث عنها في كلمات الأصحاب ، إلا أنه مما يعلم إجماعهم واتفاقهم عليها ، فإنه لا يكاد يمكن إسناد جواز الاعتماد على أصالة العدم وطرح جميع الأحكام في الوقايع المشتبهة إلى أحد من أصاغر الطلبة فضلا عن أرباب الفتوى.
الثاني : انه يلزم من الرجوع إلى البراءة وأصالة العدم في الوقايع المشتبهة الخروج عن الدين ، لقلة الأحكام المعلومة بالتفصيل ، فالاقتصار عليها وترك التعرض للوقايع المشتبهة وإهمالها يوجب المخالفة الكثيرة القطعية ، بحيث يعد المقتصر على امتثال المعلومات خارجا عن الدين وكأنه غير ملتزم بشريعة سيد المرسلين صلی اللّه علیه و آله وهذا بنفسه محذور يعلم أنه مرغوب عنه شرعا ، وإن لم نقل بأن العلم الإجمالي منجز للتكليف - كما هو مبنى الوجه الثالث - فان المخالفة القطعية الكثيرة والخروج عن الدين بنفسه مما يقطع بكونه مرغوبا عنه عند الشارع ومخالف لضرورة الدين والشريعة ، ويكفيك شاهدا على ذلك ملاحظة كلمات الأعلام كالسيد والشيخ ( قدس سرهما ) وغيرهما ، فراجع « الفرائد ».
الثالث : العلم الإجمالي بثبوت التكاليف الوجوبية والتحريمية في الوقايع المشتبهة (1) والعلم الإجمالي كالعلم التفصيلي يقتضي وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية ، فلا تجرى الأصول النافية للتكليف في أطرافه ،
ص: 231
والفرق بين هذا الوجه والوجه الثاني مما لا يكاد يخفى ، فان مبنى الوجه الثاني هو لزوم المخالفة الكثيرة المعبر عنها بالخروج عن الدين ، وذلك بنفسه محذور مستقل حتى على مسلك من يقول : إن العلم الإجمالي لا يقتضي التنجيز ولا يستدعي الموافقة القطعية بل يجوز المخالفة القطعية ، كما ذهب إليه بعض الأعلام. وهذا بخلاف الوجه الثالث ، فإنه مبنى على منجزية العلم الإجمالي وعدم جريان الأصول النافية في أطرافه ولو كان المعلوم بالإجمال تكليفا واحدا تردد بين أمور محصورة بحيث لم يلزم من مخالفته إلا مخالفة تكليف واحد لا مخالفة تكاليف كثيرة ، كما هو مبنى الوجه الثاني.
والإنصاف : أن الوجوه الثلاثة - التي استدلوا بها على المقدمة الثانية من مقدمات دليل الانسداد - في غاية الصحة والمثابة غير قابلة للخدشة فيها.
وينبغي أن يعلم اختلاف هذه الوجوه الثلاثة في مدرك المقدمة الثانية هو الذي يوجب اختلاف النتيجة من حيث الكشف والحكومة ، فإنه لو كان المستند في بطلان إهمال الوقايع المشتبهة والرجوع إلى الأصول العدمية هو الوجه الأول والثاني كانت النتيجة الكشف لا محالة (1) فإن مرجع الإجماع أو
ص: 232
لزوم الخروج عن الدين إلى أن الشارع أراد من العباد التعرض للوقايع المشتبهة ولم يرخص لهم إهمالها ، فالعقل يحكم حكما ضروريا بأنه لابد للشارع من نصب طريق للعباد ليتمكنوا من امتثال التكاليف الثابتة في الوقايع المشتبهة ، ولابد وأن يكون الطريق المجعول واصلا إلى العباد ، إما بنفسه ، وإما بطريقه ، والطريق الذي يصح جعله في حال انسداد باب العلم والعلمي مع كونه واصلا بنفسه ينحصر بالاحتياط ، فإنه الطريق الواصل بنفسه لكونه محرزا للواقع وموصلا إليه فعلى هذا يكون الاحتياط في الوقايع المشتبهة طريقا مجعولا شرعيا ، نظير الاحتياط في باب الدماء والفروج. وليس من الاحتياط العقلي ، فان الاحتياط العقلي هو الذي يحكم به العقل في أطراف العلم الإجمالي ، ومحل الكلام إنما هو فيما إذا كان المدرك لعدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة الإجماع أو الخروج عن الدين ، لا العلم الإجمالي ، وليس للعقل الحكم بالاحتياط في غير العلم الإجمالي ، وإلا يلزم أن يكون احتمال التكليف في نظر العقل منجزا للواقع ليحكم بالاحتياط في الوقايع المشتبهة مع قطع النظر عن ثبوت العلم الإجمالي فيها ، وهو كما ترى! فان مجرد احتمال التكليف لا يكون منجزا عند العقل مع انسداد باب العلم به على المكلّف.
وبالجملة : لا إشكال في أن الاحتياط يكون طريقا مجعولا شرعيا إذا كان المستند في المقدمة الثانية هو الإجماع أو الخروج عن الدين ، فإنّه لا طريق
ص: 233
واصلاً إلى العباد غيره ، والمفروض أنه لابد للشارع من نصب طريق للعباد يتوصلون به إلى امتثال التكاليف التي لم يرض بإهمالها. ولا يمكن ايكال الأمر إلى العقل ، لما عرفت : من أنه ليس للعقل حكم في غير موارد العلم الإجمالي (1).
ثم بعد إثبات بطلان طريقية الاحتياط وأن الشارع لم ينصبه طريقا (2) - بأحد الوجوه الآتية في المقدمة الثالثة - تكون النتيجة حجية الظن شرعا ، وهي معنى الكشف ، فإنه حينئذ لا طريق غيره يصح للشارع عليه ، فيكون الظن طريقا شرعيا واصلا بطريقه لا بنفسه ، على ما سيأتي بيانه ( إن شاء اللّه تعالى ) هذا إذا كان المدرك في المقدمة الثانية الإجماع أو الخروج عن الدين.
وإن كان المدرك هو العلم الإجمالي ، فيمكن أن تكون النتيجة الكشف ، ويمكن أن تكون النتيجة التبعيض في الاحتياط ، كما سيتضح وجه ذلك ( إن شاء اللّه تعالى ) والغرض في المقام مجرد الإشارة إلى أن أساس الكشف والحكومة هو اختلاف الوجوه الثلاثة التي تبتنى عليها المقدمة الثانية ، فتفطن.
وأمّا المقدمة الثالثة : وهي عدم جواز الرجوع إلى الطرق المقررة للجاهل ، فقد عرفت أنها ثلاثة - الأولى : التقليد والرجوع إلى فتوى الغير العالم بالحكم. الثانية : الرجوع في كل شبهة إلى الأصل الجاري فيها : من البراءة والاشتغال والتخيير والاستصحاب. الثالثة : الاحتياط في الوقايع المشتبهة بالجمع بين جميع المحتملات. ولابد من إثبات بطلان كل من هذه الطرق
ص: 234
الثلاثة في المقام ، لتصل النوبة إلى المقدمة الرابعة.
أمّا بطلان التقليد : فواضح ، فإنه يشترط في جواز رجوع الجاهل إلى العالم أن لا يكون الجاهل معتقدا بطلان مدرك علم العالم ولا يرى علمه جهلا ، وإلا كان من رجوع العالم إلى الجاهل ، لا رجوع الجاهل إلى العالم ، ففي المقام من يرى انسداد باب العلم والعلمي لا يجوز له الرجوع إلى من يرى انفتاح بابهما ، لأن من يرى انفتاح باب العلمي يعتقد حجية ظواهر الكتاب والأخبار صدورا وظهورا ، ومن يرى انسداد بابه يعتقد عدم حجية ذلك وعدم دلالة الأدلة التي استدل بها على الحجية ، ومع هذا كيف يجوز له عقلا الرجوع إلى الغير القائل بالانفتاح؟ فالتقليد في المقام فاسد من أصله.
وأمّا بطلان الرجوع في كل مسألة إلى الأصل الجاري فيها : فبالنسبة إلى الأصول العدمية النافية للتكليف واضح ، لأنه يلزم من إعمالها المخالفة القطعية ، للعلم بثبوت التكاليف في مواردها. ولا سبيل إلى دعوى عدم العلم بالتكليف في جميع موارد الأصول النافية.
وأما بالنسبة إلى الأصول الوجودية المثبتة للتكليف : من الاحتياط ( إذا كانت المسألة من أطراف العلم الإجمالي الشخصي المتعلق بها بخصوصها مع قطع النظر عن كونها من أطراف العلم الإجمالي الكلي المتعلق بأحكام الشريعة ) ومن الاستصحاب المثبت للتكليف ( إذا لم تكن المسألة من أطراف العلم الإجمالي ) فقد أفاد الشيخ قدس سره في وجه بطلان الرجوع إليها : أنه يلزم من إعمالها العسر والحرج المنفيين لكثرة المشتبهات.
والإنصاف : أن دعوى العسر والحرج بالنسبة إلى الاحتياط التام في جميع الوقايع المشتبهة في محلها ، وسيأتي الكلام فيه.
وأما بالنسبة إلى الاحتياط في بعض الموارد مما يقتضيه نفس المورد - من حيث كونه من أطراف العلم الإجمالي الشخصي - وكذا الاستصحاب الجاري في المورد الذي علم التكليف به سابقا : فليسا بمثابة يلزم من الرجوع إليهما العسر
ص: 235
والحرج ، لقلة مواردهما. نعم : لا يبعد ذلك في خصوص المعاملات ، فإن الاستصحاب فيها يقتضي الفساد ، فالرجوع فيها إلى الاستصحاب قد يفضى إلى العسر والحرج ، فتأمل جيدا.
ولكن صحة الرجوع إلى الاحتياط في موارد العلم الإجمالي الشخصي والاستصحابات المثبتة للتكليف لا يغني عن شيء ، لأنها لا تفي بأقل قليل من الأحكام المعلومة بالإجمال في الشريعة ، مضافا إلى العلم الإجمالي بانتفاض الحالة السابقة في بعض موارد الاستصحابات ، وقد تقدم ( في مبحث القطع ) أن الأصول المحرزة لا تجري في أطراف العلم الإجمالي ولو لم يستلزم منها المخالفة العملية (1).
ومن ذلك يظهر الخلل فيما أفاده المحقق الخراساني قدس سره في المقام : من دعوى انحلال العلم الإجمالي بالأحكام الثابتة في الشريعة ببركة جريان الأصول المثبتة بضميمة ما علم تفصيلا من الأحكام.
والإنصاف : أن دعوى انحلال العلم الإجمالي المتعلق بأحكام الشريعة بهذا المقدار من الأصول المثبتة والمعلومات التفصيلية بمكان من الغرابة ، عهدتها على مدعيها ، وكيف يمكن ذلك مع كثرة الأحكام في الشريعة وقلة موارد الأصول المثبتة والمعلومات التفصيلية؟.
وأغرب من هذه الدعوى ما أفاده قبل ذلك بأسطر : من أن العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في بعض مؤديات الأصول المثبتة لا يمنع عن جريانها في خصوص المقام ولو بنينا على عدم جريانها مع العلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض أطراف العلم الإجمالي في ساير المقامات لاستلزام شمول الدين لها التناقض في مدلوله فان حرمة نقض اليقين بالشك في كل واحد من الأطراف بمقتضى قوله علیه السلام في الصدر : « لا تنقض اليقين
ص: 236
بالشك » يناقض وجوب النقض في البعض بمقتضى قوله علیه السلام في الذيل : « ولكن تنقضه بيقين آخر » لأن تناقض الصدر والذيل إنما يلزم إذا كان اليقين والشك في جميع الأطراف فعليا ملتفتا إليه ، وأما إذا لم يكن الشك الفعلي إلا في بعض الأطراف وكان الطرف الآخر غير ملتفت إليه ، فالاستصحاب إنما يجرى في خصوص الطرف الملتفت إليه الذي يكون الشك فيه فعليا ، ولا يجرى في الطرف الآخر في ظرف جريانه في ذلك الطرف ، لانتفاء شرطه - وهو الشك الفعلي - وإذا وصلت النوبة إلى جريان الاستصحاب فيه بعد وجود شرطه وحصول الشك الفعلي فيه يكون ذلك الطرف الذي جرى فيه الاستصحاب سابقا خارجا عن محل الابتلاء ، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه أيضا ، غايته أنه بعد ذلك يعلم أن أحد الاستصحابين كان مؤداه مخالفا للواقع ، ولا ضير في ذلك بعد ما لم يكن هذا العلم حاصلا في طرف جريان الاستصحاب ، والاستصحابات التي يعملها المجتهد في مقام الاستنباط تكون من هذا القبيل ، فان استنباط الأحكام إنما يكون على التدريج وليس جميع موارد الاستصحابات ملتفتا إليها دفعة ليكون الشك فيها فعليا ، بل الالتفات والشك يكون تدريجيا حسب تدريجية الاستنباط ، فلا يجري الاستصحاب في جميع أطراف الشبهة دفعة واحدة ليكون العلم بانتقاض الحالة السابقة في بعضها مانعا عن جريانه ، بل أقصاه حصول العلم بعد تمامية الاستنباط في أبواب الفقه بمخالفة بعض الاستصحابات التي أعملها في مقام الاستنباط للواقع ، وقد عرفت : أن هذا العلم لا يضر بصحة الاستصحابات. هذا حاصل ما أفاده قدس سره بتوضيح منا.
وأنت خبير بما فيه ، فان كل مجتهد قبل خوضه الاستنباط يعلم بأن الأحكام الشرعية المترتبة على موضوعاتها المقدرة وجوداتها قد تنتفي بعض خصوصيات الموضوع عند تحققه خارجا الموجب للشك في بقاء الحكم ، وأن الوظيفة عند ذلك هي استصحاب بقاء الحكم ، ويعلم أيضا بانتقاض الحالة
ص: 237
السابقة في بعض الموارد التي يجرى فيها استصحاب بقاء الحكم ، وإنكار حصول العلم بذلك للمجتهد قبل خوضه في الاستنباط مكابرة واضحة ، والعلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض الاستصحابات يمنع عن جريان الاستصحاب في كل شبهة في موطنه ، وعدم فعلية الشك في جميع الموارد لعدم الالتفات إليها تفصيلا قبل الاستنباط لا يوجب عدم حصول العلم قبل الاستنباط بمخالفة بعض مؤديات الاستصحاب للواقع في موطن الاستنباط مع كون المسائل التي يخوض فيها للاستنباط مما تعم بها البلوى ولو بالنسبة إلى بعض المقلدين : ومع هذا كيف يصح للمجتهد الافتاء بمقتضى الاستصحابات والحال أنه يعلم بالخلاف ولو في بعضها؟.
والحاصل : أن فعلية الشك في كل شبهة وإن كانت شرطا لجريان الاستصحاب فيها ، وهي تتوقف على الالتفات إلى الشبهة ، إلا أن المفروض حصول العلم بفساد بعض الاستصحابات قبل وصول النوبة إلى جريانه في موطنه ، وهذا العلم هو المانع عن جريان كل استصحاب في موطنه (1).
فالتحقيق : أنه لا يجوز الرجوع في كل شبهة إلى الأصل الجاري فيها مع قطع النظر عن انضمام ساير الشبهات إليها لا إلى الأصول النافية ولا إلى الأصول المثبتة. أما الأصول النافية : فللعلم بثبوت التكليف في موردها ، فيلزم
ص: 238
من جريانها المخالفة القطعية للتكليف. وأما الأصول المثبتة : فلقلتها وعدم كفايتها لأحكام الشريعة ولو مع ضم المعلومات التفصيلية إليها ، مضافا إلى العلم بانتقاض الحالة السابقة في بعض مواردها.
وأمّا بطلان الاحتياط التام في جميع الوقايع المشتبهة : فيدل عليه الإجماع وقاعدة « نفي العسر والحرج » بل « اختلال النظام » على ما سيأتي بيانه.
ولابد في المقام من زيادة بسط في الكلام ، فان كثيرا من المباحث العلمية المذكورة في دليل الانسداد محلها في هذا المقام. ولأجل عدم خلط المباحث ينبغي تقديم أمور :
الأمر الأول : قد عرفت أن الاحتياط يختلف حكمه حسب اختلاف الوجوه الثلاثة المتقدمة في الاستدلال على المقدمة الثانية وهي : عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة.
فعلى الوجه الأول والثاني : يكون الاحتياط طريقا مجعولا شرعيا ، فان الإجماع على عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة أو لزوم المخالفة الكثيرة الموجبة للخروج عن الدين يقتضي عقلا جعل الشارع طريقا إلى أحكامه ، فان المفروض انسداد باب العلم والعلمي إلى الأحكام ، فلا يمكن عدم نصب الطريق مع الحكم بعدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة ، ولا يصح ايكال الأمر إلى العقل ، فان العقل لا حكم له في غير مورد العلم بالتكليف تفصيلا أو إجمالا ، والمفروض أنه لا علم بالتكليف تفصيلا ، لانسداد بابه. والعلم الإجمالي وإن كان حاصلا إلا أن ذلك يرجع إلى الوجه الثالث ، والكلام إنما هو في الوجهين الأولين ، فلابد أولا : من قطع النظر عن العلم الإجمالي وفرض كون جميع الوقايع من الشبهات البدوية ، أو فرض عدم كون العلم الإجمالي منجزا للتكليف - كما هو رأى بعض - ثم الكلام فيما يقتضيانه الوجهان الأوّلان.
ص: 239
ولا إشكال أنهما يقتضيان عقلا نصب الشارع طريقا موصلا إلى التكاليف لأن لا يلزم إهمالها ، ولا بد وأن يكون الطريق المنصوب واصلا إلى العباد ، إما بنفسه وإما بطريقه - على ما سيأتي المراد من كون الطريق واصلا بطريقه - فان الطريق الغير الواصل بنفسه وبطريقه لا يزيد حكمه عن نفس التكاليف التي انسد باب العلم والعلمي بها ، والطريق الواصل بنفسه في حال انسداد باب العلم والعلمي ليس هو إلا الاحتياط (1) فإنه محرز للواقع لما فيه من الجمع بين المحتملات وإدراك الواقعيات. وليس الظن في عرض الاحتياط ، فإنه لا يعقل أن تكون حجية الظن منجعلة بنفسها في حال من الحالات ، كما في بعض الكلمات ، فان الحجية المنجعلة بنفسها منحصرة بالعلم ، لكونه تاما في الكاشفية ومحرزا للواقع بنفسه ، فالظن لولا التعبد به وتتميم نقص كشفه لا يكون محرزا للواقع ، بخلاف الاحتياط فإنه بنفسه بلا حاجة إلى التماس دليل يكون محرزا للواقع ، فالطريق الواصل بنفسه بلا مؤنة ليس هو إلا الاحتياط (2) وإذا بطل الاحتياط بأحد الوجوه الآتية يتعين عقلا نصب الشارع الظن طريقا ، إذ لا طريق غيره حينئذ. هذا لو كان الوجه في المقدمة الثانية
ص: 240
الإجماع أو الخروج عن الدين.
ولو كان الوجه فيها العلم الإجمالي : فالاحتياط يكون هو الأصل من باب حكم العقل بلزومه إرشادا حذرا عن مخالفة التكاليف وتحصيلا لامتثالها. وهذا الحكم العقلي لا يمكن أن يستتبع الحكم الشرعي المولوي لأنه واقع في سلسلة معلولات الأحكام.
لا أقول : إنه لا يمكن للشارع جعل ايجاب الاحتياط طريقا في موارد العلم الإجمالي ، فان اقتضاء العلم الإجمالي للتنجيز عقلا لا يمنع عن جعل الشارع في مورده حكما ظاهريا طريقيا بعنوان الاجتناب عن المحتملات ، إذ العقل إنما يستقل بقبح المخالفة للتكليف المعلوم بالإجمال وأنه لابد من الخروج عن عهدته. وليس للعقل حكم بوجوب الإتيان بالمحتملات في الشبهات الوجوبية أو حرمة الإتيان بها في الشبهات التحريمية ، فان الحكم بالوجوب والحرمة من وظيفية الشارع ، وليس وظيفة العقل سوى الحكم بلزوم إفراغ الذمة عما اشتغلت به من التكليف ، غايته أن فراغ الذمة عن ذلك يتوقف عقلا على الجمع بين المحتملات فعلا أو تركا - حسب اختلاف الشبهات - فللشارع جعل حكم ظاهري طريقي بوجوب الإتيان بالمحتمل بما أنه محتمل أو حرمة تركه كذلك (1)
ص: 241
ويكون الغرض من ذلك الوصلة إلى التكليف الواقعي ، سواء كان المحتمل من أطراف العلم الإجمالي ، أو كان من الشبهات البدوية ، ك « باب الدماء والفروج والأموال ».
ولا يتوهّم : أن حكم الشارع بوجوب الاحتياط في موارد استقلال العقل به لغو لا يترتب عليه أثر عملي ، فإنه لو فتحنا باب هذا الإشكال يلزم عدم صحة حكم الشارع بالإباحة الظاهرية في موارد استقلال العقل بالبرائة ، وعدم صحة حكم الشارع بالبناء على بقاء التكليف عند الشك في بقائه في موارد استقلال العقل بالاشتغال.
وحلّ الإشكال في الجميع ، هو ان وظيفة العقل ليس الحكم بالوجوب أو الحرمة أو الإباحة ، بل وظيفته إدراك الحسن والقبح ، سواء كان إدراكه واقعا في سلسلة علل الأحكام أو في سلسلة معلولاتها ، غايته أنه لو وقع في سلسلة المعلولات لا يصح للشارع جعل حكم مولوي على طبق ما أدركه العقل ، للزوم التسلسل. وأما جعل حكم آخر مغاير لما أدركه العقل فهو بمكان من الإمكان وإن اتحدا في النتيجة ، والعقل إنما يحكم لزوم الخروج عن عهدة التكليف المعلوم بالإجمال وليس على طبقه حكم مولوي من الشارع ، بل المدعى أن الحكم الشرعي يتعلق بالمحتمل بما أنه محتمل لغرض الوصول إلى التكليف الواقعي ، فدعوى استحالة تعلق الجعل الشرعي بالاحتياط في موارد العلم الإجمالي مما لا ينبغي الإصغاء إليها. ولكن مجرد صحة الجعل لا يكفي ما لم يقم دليل عليه ، وإلا فنفس العلم الإجمالي لا يقتضي ذلك ، لأن حكم العقل بلزوم الخروج عن عهدة التكاليف المعلومة بالإجمال يكفي في لزوم الاحتياط والجمع بين المحتملات.
ص: 242
فلو استندنا في بطلان المقدمة الثانية إلى العلم الإجمالي ومنجزيته للتكاليف المعلومة بالإجمال في الوقايع المشتبهة كان الاحتياط هو الأصل من جهة حكم العقل به إرشادا ، لا من جهة جعل الشارع له طريقا - كما هو مقتضى الوجهين الأولين - ولأجل اختلاف حكم الاحتياط من حيث حكم العقل به إرشادا أو من حيث جعل الشارع له طريقا تختلف نتيجة مقدمات الانسداد من حيث الكشف والحكومة والتبعيض في الاحتياط ، على ما سيأتي تفصيله.
الأمر الثاني : للاحتياط مراتب ثلاث :
المرتبة الأولى : الاحتياط التام في جميع الوقايع المشتبهة : من مظنوناتها ومشكوكاتها وموهوماتها ، على وجه يقتضي إحراز جميع التكاليف الواقعية على ما هي عليها ، وهذه المرتبة من الاحتياط تخل بالنظام النوعي والشخصي ، لكثرة الوقايع المشتبهة وانتشارها في جميع ما يتوقف عليه النظام : من المعاش والمعاشرة والمحاورة والعقود والايقاعات وغيرها ، ولا إشكال أن التجنب عن جميع ذلك يخل بالنظام.
المرتبة الثانية : الاحتياط الموجب للعسر والحرج من دون أن يستلزم اختلال النظام ، بل مجرد الضيق الذي لا يناسب الملة السهلة السمحة. المرتبة الثالثة : الاحتياط الذي لا يوجب العسر والحرج ، فإذا كان الحاكم بلزوم الاحتياط في الوقايع المشتبهة هو العقل من جهة اقتضاء العلم الإجمالي ، فبطلان كل مرتبة سابقة يوجب تعين المرتبة اللاحقة ، لأن الضرورات عند العقل تتقدر بقدرها ، فإذا بطل الاحتياط المخل بالنظام ولم يجز العمل به عند العقل تتعين المرتبة الثانية ، وإذا بطلت المرتبة الثانية بأدلة نفي العسر والحرج - على ما سيأتي بيانه - تتعين المرتبة الثالثة ، فإذا فرضنا أن الاحتياط في جميع الوقايع المشتبهة - من المظنونات والمشكوكات والموهومات -
ص: 243
يوجب اختلال النظام يتعين الأخذ بالمظنونات والمشكوكات إذا لم يستلزم الاحتياط فيهما ذلك ، وإذا كان الاحتياط فيهما يوجب العسر والحرج وقلنا : إن أدلة العسر والحرج تنفى الاحتياط الموجب لذلك وإن كان الحاكم بالاحتياط هو العقل على الأقوى - خلافا لبعض الأعاظم على ما سيأتي بيانه - كان اللازم الأخذ بالمظنونات فقط ، أوهى مع بعض المشكوكات على وجه لا يلزم منه العسر والحرج. والسر في ذلك هو ما عرفت : من أن الضرورات عند العقل تتقدر بقدرها ، ولا يعقل أن يكون بطلان مرتبة موجبا لسقوط ساير المراتب ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك في الأمور اللاحقة. هذا إذا كان الملزم بالاحتياط حكم العقل إرشادا من جهة العلم الإجمالي.
وإن كان الملزم بالاحتياط هو الحكم الشرعي من جهة نصبه طريقا إلى إحراز التكاليف في الوقايع المشتبهة ، فقد عرفت : أن الطريق الواصل بنفسه هو الاحتياط التام في جميع الوقايع المشتبهة (1) فإذا فرضنا بطلان هذا الطريق من جهة استلزامه اختلال النظام ، فتعيين بقية مراتب الاحتياط تحتاج إلى معين آخر ، فإنه من الممكن أن يكون الشارع قد جعل الاحتياط في بعض الوقايع طريقا ، ومن الممكن أيضا أن يكون قد جعل الظن طريقا محرزا. وإن كان يمكن أن يقال : إن الوجهين الأولين يقتضيان نصب الشارع طريقا واصلا إلى العباد والطريق الواصل بنفسه هو الاحتياط الذي لا يخل بالنظام ، فان الاحتياط المخل بالنظام مما يستقل العقل بقبح نصبه ، ولازم ذلك : هو كون الطريق المنصوب شرعا الاحتياط في الشبهات على وجه لا يلزم منه اختلال النظام ، فيتعين التبعيض في الاحتياط ، إلا ان يقوم إجماع على بطلان التبعيض
ص: 244
في الإحتياط أو على أن بناء الشريعة ليس على الامتثال الاحتمالي - على ما سيأتي بيانه - حينئذ جعل الظن طريقاً.
ومن ذلك يظهر : أن نتيجة مقدمات الانسداد ، إما أن تكون التبعيض في الاحتياط (1) وإما أن تكون حجية الظن ، ولا تصل النوبة إلى الحكومة بمعنى الامتثال الظني ، وسيأتي تفصيل ذلك ، فانتظر.
الأمر الثالث : قد تقدم : أن التعرض للوقايع المشتبهة بعد الفراغ عن عدم جواز إهمالها لابد وأن يكون بأحد الطرق الثلاثة المقررة للجاهل : من التقليد والرجوع في كل شبهة إلى الأصل الجاري فيها والاحتياط في جميع الشبهات. وقد عرفت : بطلان التقليد والرجوع إلى الأصل الجاري في كل شبهة.
وأما بطلان الاحتياط في جميع الوقايع : فقد استدل عليه بوجهين : الأول : الإجماع على عدم وجوب الاحتياط. الثاني : استلزامه العسر والحرج ، بل اختلال النظام.
أمّا الإجماع : فيمكن تقريبه بوجهين :
الأول : الإجماع على عدم وجوب إحراز جميع المحتملات في الوقايع
ص: 245
والجمع بينها بفعل كل ما يحتمل الوجوب وترك كل ما يحتمل الحرمة.
الثاني : الإجماع على أن بناء الشريعة المطهرة ليس على امتثال التكاليف بالاحتمال ، بل بنائها على امتثال كل تكليف بعنوانه : من الوجوب والحرمة ، لا بمعنى اعتبار قصد الوجوب والحرمة ، بل معنى : أن الإتيان بالشيء بما أنه محتمل الوجوب أو محتمل الحرمة أو محتمل الإباحة - بحيث يكون الإتيان بمتعلقات التكاليف بعنوان الاحتمال وبرجاء انطباقه على المكلف به - أمر مرغوب عنه شرعا ليس بناء الشريعة عليه.
وهذان الوجهان من الإجماع وإن لم يقع التصريح بهما في كلام القوم ، إلا أنه مما يقطع باتفاق الأصحاب عليهما (1) كما مر نظيره في دعوى الإجماع على عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة. وقد عرفت : أن الإجماع التقديري كالمحصل الفعلي في الاعتبار.
ونتيجة هذين الوجهين من الإجماع تختلف ، فإنه على الوجه الثاني تكون النتيجة حجية الظن شرعا المعبر عنها بالكشف ، من غير فرق بين أن يكون المدرك في المقدمة الثانية ( وهي عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة ) هو الإجماع أو الخروج عن الدين أو العلم الإجمالي ، ولا يمكن أن تكون النتيجة التبعيض في الاحتياط ، كما لا يمكن أن تكون النتيجة الامتثال الظني المعبر عنه بالحكومة ، فان في التبعيض في الاحتياط أيضا يكون الامتثال احتماليا ، والمفروض أن بناء الشريعة ليس على الامتثال الاحتمالي - كما هو مفاد الوجه الثاني من تقريب الإجماع على بطلان الاحتياط - فوجوب العمل بالمظنونات من الوقايع المشتبهة الذي هو المقصود من دليل الانسداد ليس لأجل التبعيض في
ص: 246
الإحتياط إذا كان بطلانه في جميع الوقايع من جهة قيام الإجماع على أن بناء الشريعة على الإتيان بكل تكليف بعنوانه ، بل لأجل كشف ذلك عن أن الشارع جعل الظن طريقا محرزا للواقع مثبتا للتكاليف المعلومة بالإجمال. وليس وجوب العمل بالمظنونات أيضا لأجل حكم العقل بلزوم التنزل إلى الامتثال الظني عند تعذر الامتثال العلمي ، فان الامتثال في الامتثال الظني أيضا يكون بنحو الاحتمال الذي فرضنا أن بناء الشريعة ليس على ذلك.
فالامتثال الظني مما لا يمكن أن يحكم العقل به مع انعقاد الإجماع على وجوب الإتيان بكل تكليف بما هو هو لا بما أنه محتمل ، وإنما يحكم العقل بالامتثال الظني في الشبهات الموضوعية عند تعذر الامتثال العلمي أو تعسره ، كموارد الجهل بالقبلة ، وكتردد الفوائت اليومية بين الأقل والأكثر ، ونحو ذلك من موارد اشتباه المكلف به لأجل الشبهة الموضوعية ، فان العقل يستقل بلزوم الإطاعة والامتثال الظني مع تعذر الامتثال العلمي والإجمالي ، وهذا أجنبي عن المقام ، فان العمل بالمظنونات لا يلازم الظن بامتثال التكاليف المنتشرة في الوقايع المشتبهة ، وسيأتي لذلك مزيد توضيح ( إن شاء اللّه تعالى ).
والغرض في المقام مجرد بيان أن قيام الإجماع على الوجه الثاني ، وهو وجوب امتثال التكاليف بعناوينها الخاصة (1) يكشف كشفا قطعيا على أن
ص: 247
الشارع نصب الظن طريقا محرزا للتكاليف موصلا إليه عند انسداد باب العلم بها ، سواء كان عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة لأجل الإجماع ، أو الخروج عن الدين ، أو العلم الإجمالي.
وأما على الوجه الأول من تقريب الإجماع على بطلان الاحتياط ( وهو قيام الإجماع على عدم وجوب الجمع بين المحتملات ) فالنتيجة تختلف حسب اختلاف الوجوه الثلاثة في عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة المتقدمة في المقدمة الثانية.
فانّه لو كان الوجه في عدم جواز إهمال الوقايع هو العلم الإجمالي كانت النتيجة التبعيض في الاحتياط لا محالة ، لأن العلم الإجمالي كان يقتضي الجمع بين جميع المحتملات ، وقد انعقد الإجماع على عدم وجوب الجمع ، وذلك لا يقتضي سقوط الاحتياط رأسا عن جميع الأطراف بل عن بعض الأطراف ويبقى بعضها الآخر على ما يقتضيه العلم الإجمالي من الاحتياط. وعلى هذا تبقي مقدمات الانسداد عقيمة لا تصل النوبة إلى المقدمة الرابعة لاستنتاج النتيجة ، وسيأتي بيانه.
وإن كان الوجه في عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة هو الإجماع أو الخروج عن الدين اللذان كانا يقتضيان جعل الشارع طريقية الاحتياط في جميع الوقايع ، فقيام الإجماع على عدم وجوب الجمع بين جميع المحتملات وإن كان يبطل جعل الشارع طريقية الاحتياط في الجميع ، ولكن لا يقتضي جعل الشارع طريقية الظن ، فإنه كما يمكن ذلك يمكن جعل التبعيض في الإحتياط ،
ص: 248
من جهة أنه هو الطريق الواصل بنفسه وطريقية الظن يحتاج إلى جعل لم يثبت ، فالتبعيض في الاحتياط لا ينحصر أن يكون بالزام من العقل في أطراف العلم الإجمالي عند تعذر الاحتياط في الجميع ، بل يمكن أن يكون بجعل شرعي.
فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن قيام الإجماع على أنه « ليس بناء الشريعة على العمل بالاحتمال » يقتضي حجية الظن شرعا مطلقا سواء كان المستند في عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة الإجماع ، أو الخروج عن الدين ، أو العلم الإجمالي. وقيام الإجماع على عدم وجوب الجمع بين المحتملات في الوقايع المشتبهة يقتضي التبعيض في الاحتياط ، إما عقلا إن كان المستند في عدم جواز إهمال الوقايع هو العلم الإجمالي ، وإما شرعا إن كان المستند في ذلك هو الإجماع أو الخروج عن الدين. هذا كله إذا كان الوجه في بطلان الاحتياط الإجماع بكلا تقريبيه.
وإن كان الوجه فيه كونه موجبا للعسر والحرج فالنتيجة أيضا تختلف حسب اختلاف الوجوه الثلاثة - المتقدمة في المقدمة الثانية - فإنه لو كان الوجه في عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة العلم الإجمالي ، فالنتيجة هي التبعيض في الاحتياط مطلقا ، كان الاحتياط التام في جميع الوقايع مما يخل بالنظام أو كان مما يوجب العسر والحرج ، فإنه على كلا التقديرين العقل لا يلزم بالاحتياط التام ، بل يستقل بقبحه إذا كان مما يخل بالنظام ، فلابد من التبعيض في الاحتياط إلى حد لا يلزم منه العسر والحرج ، وسيأتي الوجه في ذلك.
ولو كان الوجه في عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة هو الإجماع أو الخروج عن الدين فان كان الاحتياط التام مما يخل بالنظام ، فالعقل يستقل أيضا بعدم نصب الشارع الاحتياط المخل بالنظام طريقا إلى امتثال التكاليف الواقعية ، بل يقبح على الشارع الإلزام بسلوك طريق يؤدى إلى اختلال النظام النوعي والشخصي ، فلابد حينئذ : إما من ايجاب التبعيض في
ص: 249
الإحتياط ، وإما من نصب الظن طريقا ، على ما تقدم بيان ذلك.
وإن كان الاحتياط التام مما لا يخل بالنظام ، بل كان يلزم منه مجرد العسر والحرج : ففي بطلان الاحتياط واستكشاف عدم نصب الشارع له طريقا من عموم أدلة نفي العسر والحرج إشكال ، من حيث إن أدلة نفي العسر والحرج كأدلة نفي الضرر إنما تكون حاكمة على الأدلة الأولية المتكفلة لبيان الأحكام المترتبة على الموضوعات الواقعية الشاملة باطلاقها لحالة الضرر والعسر والحرج ، فلابد وأن يكون لمتعلق الحكم الواقعي حالتان : حالة يلزم منها الضرر والعسر والحرج ، وحالة لا يلزم منها ذلك لتكون أدلة نفيها حاكمة على دليل الحكم الواقعي وموجبة لنفي الحكم عن المتعلق أو الموضوع الذي يلزم منه الضرر والعسر والحرج. وأما لو اختص الحكم الواقعي بما يلزم منه الضرر أو العسر والحرج دائما بحيث لم يكن له حالة لا يلزم منها ذلك - كوجوب الخمس والزكاة والجهاد ونحو ذلك من الأحكام الضررية - فلا يمكن أن تكون أدلة نفي الضرر والعسر والحرج حاكمة على دليل الحكم ورافعة له ، لأن الحكم رتب من أول الأمر على الموضوع الضرري ، فكيف يمكن أن يكون دليل نفي الضرر حاكما على دليله! مع أن الضرر محقق لموضوع الحكم ومتعلقه ، فلا يعقل أن ينفيه ، فان الموضوع إنما يستدعى ثبوت الحكم لا نفيه ، والاحتياط في المقام يكون كالخمس والزكاة والجهاد ليس له حالة لا يلزم منها العسر والحرج ، فان الاحتياط عبارة عن الجمع بين المحتملات : من المظنونات والمشكوكات والموهومات في الوقايع المشتبهة ، والاحتياط على هذا الوجه يوجب العسر والحرج دائما ، فلو أوجبه الشارع ونصبه طريقا إلى ما في الوقايع المشتبهة من التكاليف - كما هو مقتضى الوجهين الأولين اللذين بنيت عليهما المقدمة الثانية - كان كايجاب الخمس والزكاة لا يمكن أن تكون أدلة نفي العسر والحرج حاكمة على دليل ايجابه وموجبة لنفي وجوبه.
وتوهّم : أن من أدلة نفيهما يستكشف عدم ايجاب الشارع الإحتياط
ص: 250
ونصبه طريقاً (1) فاسد ، فان أدلة نفيهما إنما تكون حاكمة على أدلة الأحكام المجعولة في الشريعة ، وليس من شأنها نفي جعل حكم في الشريعة أو إثباته ابتداء باعتبار وجود مناط الجعل وعدمه ، فان بناء أدلة نفي العسر والحرج ليس مجرد الإخبار عن أن الشارع لم يشرع حكما يلزم منه العسر والحرج.
وبالجملة : لا إشكال في أن أدلة نفي العسر والحرج لا تنفى الأحكام التي يختص تشريعها بحال يلزم منه العسر والحرج ، فلو كان مدرك عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة هو الإجماع أو الخروج عن الدين الموجبان لنصب الشارع الاحتياط طريقا في حال انسداد باب العلم والعلمي كان اللازم وجوب الاحتياط وإن استلزم العسر الحرج ، ولا تصل النوبة إلى حجية الظن أو التبعيض في الاحتياط.
وهذا بخلاف ما إذا كان المدرك لعدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة العلم الإجمالي ، فإنه لا محيص عن التبعيض في الاحتياط بمقدار لا يلزم منه العسر والحرج. ولا موجب لسقوط الاحتياط رأسا في جميع الوقايع المشتبهة - كما قيل - فان الضرورات تتقدر بقدرها ، فلو اضطر المكلف إلى الاقتحام في بعض أطراف العلم الإجمالي كان الاضطرار موجبا عقلا للترخيص فيما يدفع به
ص: 251
الإضطرار ، سواء كان الاضطرار من جهة لزوم الضرر أو العسر والحرج أو غير ذلك من الأسباب ، وسواء كان الاضطرار إلى البعض المعين أو غير المعين (1) غايته أنه إذا كان إلى المعين يتعين دفع الاضطرار به بخصوصه ، وإن كان إلى غير المعين يكون المكلف بالخيار في دفع الاضطرار بكل واحد من الأطراف ، وليس له التعدي عن غير ما يدفع به الضرورة ، فان مقتضى العلم الإجمالي عقلا هو لزوم الخروج عن عهدة التكليف المعلوم بالإجمال بأي وجه اتفق ، لأن المفروض أن العلم الإجمالي كالتفصيلي يقتضي التنجيز ، فبمجرد العلم الإجمالي يتنجز التكليف ، غايته لو صادف دفع الاضطرار بمتعلق التكليف كان ذلك موجباً
ص: 252
للعذر عقلا ، وأما الطرف الآخر غير المضطر إليه فهو باق على حكمه السابق لولا عروض الاضطرار ، وحيث لم يؤمن من أن يكون هو متعلق التكليف فالعقل يستقل بلزوم التحرز عنه واستحقاق العقوبة عليه عند الاقتحام فيه وصادف كونه هو متعلق التكليف المعلوم بالإجمال. وأقصى ما تقتضيه حكومة أدلة رفع الاضطرار ونفى الضرر والعسر والحرج على أدلة الأحكام الواقعية ، هو أنه لو صادف كون متعلق التكليف أو موضوعه هو المضطر إليه ( إذا كان الاضطرار إلى المعين ) أو هو الذي دفع به الاضطرار ( إذا كان إلى غير المعين ) كان موجبا إما لرفع التكليف واقعا وإما لعدم تنجزه على الوجهين في أن الاضطرار هل يوجب التوسط في التكليف أو التوسط في التنجيز ، على ما سيأتي بيانه في محله.
فالقول بأن الاضطرار إلى بعض أطراف العلم الإجمالي يوجب سقوط التكليف رأسا وجواز الاقتحام في غير ما يدفع به الاضطرار مطلقا ، سواء كان الاضطرار إلى المعين أو غير المعين وسواء كان طرو الاضطرار قبل العلم الإجمالي أو بعده (1) ضعيف غايته ، فان الضرورات تتقدر بقدرها ، ولا معنى لسقوط التكليف عن موضوع لعروض الاضطرار إلى موضوع آخر ، سواء أريد من السقوط السقوط الواقعي أو السقوط عن التنجز. وإن أردت الاطلاع على أطراف الكلام فراجع تنبيهات الاشتغال ، فإنه قد استوفينا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في ذلك المقام.
فتحصل : أن استلزام الاحتياط في جميع الوقايع المشتبهة العسر والحرج يوجب التبعيض في الاحتياط بترك الاحتياط في الموهومات والاحتياط في المظنونات والمشكوكات إن كان الاحتياط فيهما لا يستلزم العسر والحرج ، وإلا فبترك المشكوكات كلا أو بعضا والاحتياط في المظنونات ، ولو استلزم الإحتياط
ص: 253
في المظنونات العسر والحرج تعين التبعيض في الاحتياط بترك بعض المظنونات.
وبالجملة : لما كانت التكاليف المعلومة بالإجمال منتشرة بين المظنونات والمشكوكات والموهومات وكان الاحتياط في الجميع موجبا للعسر والحرج تعين التبعيض في الاحتياط على وجه لا يلزم منه محذور العسر والحرج ، ولكن ليس المكلف بالخيار بترك الاحتياط في أي من الطوائف الثلاث ، فان الخيار في دفع الاضطرار بأي واحد من أطراف العلم الإجمالي إذا كان الاضطرار إلى غير المعين إنما هو فيما إذا كانت الأطراف متساوية الإقدام بالنسبة إلى التكليف المعلوم بالإجمال فيها ولم يكن لأحدها مزية توجب أقوائية احتمال تعلق التكليف به ، وإلا كان اللازم عقلا دفع الاضطرار بما يكون الاحتمال فيه أضعف (1) فان الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي إنما استقل به العقل لأجل رعاية التكليف المعلوم بالإجمال. فبالمقدار الذي يمكن رعاية التكليف - ولو بقوة الاحتمال - يتعين عقلا ، ففي المقام ليس للمكلف الاحتياط في الموهومات والمشكوكات وترك الاحتياط في المظنونات ، فان احتمال ثبوت التكاليف في المظنونات أقوى من ثبوتها في المشكوكات ، كما أن احتمال ثبوتها في المشكوكات أقوى من ثبوتها في الموهومات ، فإذا امتنع الاحتياط في الجميع - لمكان العسر والحرج - تعين الاحتياط في المظنونات أو مع المشكوكات وترك الاحتياط في الموهومات ، لما في المظنونات من المزية التي توجب تعينها عقلا وهي كونها أقرب الإصابة إلى الواقع من الموهومات ، وذلك كله واضح ، وإنما أطلنا الكلام فيه ولم نكتف بالإشارة دفعا لشبهة غرست في أذهان طلبة العصر (2) منشأها ما أفاده المحقق الخراساني قدس سره في هذا المقام : من منع
ص: 254
حكومة أدلة نفي العسر والحرج على ما يحكم به العقل من الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي أولا ، ومن عدم وجوب التبعيض في الاحتياط على فرض تسليم الحكومة ثانيا.
وحاصل ما أفاده في وجه منع الحكومة : هو أن مفاد أدلة نفي الضرر والعسر والحرج إنما هو نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، ومقتضى التوفيق بينها وبين أدلة الأحكام التكليفية والوضعية - المتعلقة بما يعم الضرر والعسر والحرج - هو تخصيص أدلة الأحكام بما عدا مورد الضرر والعسر والحرج وإن كانت النسبة بين آحاد أدلة الأحكام وأدلة نفيهما العموم من وجه ، إلا أن التوفيق العرفي يقتضي تقديم أدلة نفيهما على أدلة الأحكام.
وليس وجه التقديم حكومة أدلة نفيهما عليها كما أفاده الشيخ قدس سره لأنه يعتبر في الحكومة أن يكون أحد الدليلين شارحا ومفسرا لما أريد من الآخر ، وليس أدلة نفي الضرر والعسر والحرج شارحة لأدلة الأحكام ، فلا حكومة بينهما ، إلا أنه مع ذلك تقديم أدلة نفيهما على أدلة الأحكام ، لما بينهما من الجمع العرفي بتخصيص أدلة الأحكام بغير موارد الضرر والعسر والحرج.
ولكن هذا فيما إذا كانت الأحكام بنفسها تستلزم الضرر والعسر ، وفي المقام إنما يلزم العسر والحرج من حكم العقل بالاحتياط والجمع بين المحتملات في الوقايع المشتبهة لا من نفس الأحكام ، فلا وجه لتقديم أدلة نفي العسر والحرج على الاحتياط العقلي ، إلا إذا قلنا : إن مفاد أدلة نفي العسر والحرج نفي الحكم الذي ينشأ من قبله العسر والحرج وإن كان ذلك بضميمة حكم العقل ، فتقدم أدلة نفيهما على حكم العقل بالاحتياط.
هذا حاصل ما أفاده في وجه منع تقديم أدلة نفي العسر والحرج على الاحتياط العقلي.
وأما ما أفاده من المنع عن التبعيض في الاحتياط على تقدير تسليم الحكومة : فلم يبين وجهه ، ولعله مبنى على ما اختاره : من الملازمة بين حرمة
ص: 255
المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية ، فإذا لم تجب الموافقة القطعية للعسر والحرج لم تحرم المخالفة القطعية. أو مبنى على ما ذهب إليه : من أن العلم الإجمالي مع الاضطرار إلى بعض الأطراف لا يقتضي التنجيز مطلقا ، سواء كان الاضطرار قبل العلم الإجمالي أو بعده ، وسواء كان الاضطرار إلى المعين أو غير المعين ، بدعوى : أن الاضطرار لما كان من حدود التكليف وقيوده ، فلا يحصل العلم بالتكليف المطلق ليقتضي التنجيز والاجتناب عما عدا المضطر إليه.
والإنصاف : أنه لا يمكن المساعدة على شيء مما ذكره.
أما ما أفاده أخيرا : من عدم الوجه لوجوب التبعيض في الاحتياط بعد تسليم حكومة أدلة نفي العسر والحرج على الاحتياط العقلي ، فقد عرفت الوجه فيه (1) وحاصله : لزوم رعاية التكاليف بالمقدار الممكن عقلا ، لأن الضرورات تتقدر بقدرها ، ودعوى الملازمة بين وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية أو دعوى عدم اقتضاء العلم الإجمالي للتنجيز مع الاضطرار إلى بعض الأطراف ، فضعيفة غايته ، فان الملازمة ممنوعة (2) إذ للشارع الاكتفاء عن الواقع
ص: 256
بترك بعض الأطراف في الشبهات التحريمية أو فعله في الشبهات الوجوبية ، فان العلم الإجمالي لا يزيد عن العلم التفصيلي ، وللشارع الاكتفاء بالإطاعة الاحتمالية في العلم التفصيلي - كما هو مفاد الأصول الجارية في مرحلة الفراغ - والاضطرار إلى بعض الأطراف لا يزيد حكمه عن تلف بعض الأطراف بعد العلم الإجمالي (1) فكما أن تلف البعض لا يوجب سقوط العلم الإجمالي عن التأثير بالنسبة إلى الباقي ، كذلك الاضطرار إلى البعض. ومجرد أن الاضطرار إلى متعلق التكليف يكون من قيود التكليف وحدوده دون تلف المتعلق لا يصلح فارقا في نظر العقل الحاكم بالاستقلال في باب الامتثال والخروج عن عهدة التكليف في موارد العلم الإجمالي. وقد أشبعنا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في مبحث الاشتغال.
وأما ما أفاده أولا : من أنه لا حكومة لأدلة نفي العسر والحرج على الحكم العقلي بالاحتياط.
ففيه أولا : أن عدم وجوب الاحتياط التام في جميع الوقايع المشتبهة ووجوب التبعيض فيه لا يبتني على حكومة أدلة نفي العسر والحرج على الحكم العقلي بوجوب الاحتياط ، بل ليس حال لزوم العسر والحرج من الجمع بين المحتملات في المظنونات والموهومات والمشكوكات إلا كحال الاضطرار إلى ترك بعض الأطراف أو فعل بعضها في موارد العلم الإجمالي (2) بل العسر
ص: 257
والحرج من أفراد الاضطرار ، فإنه لا يعتبر في الاضطرار عدم القدرة التكوينية على الاحتياط في جميع الأطراف. والاضطرار إلى بعض الأطراف المعين يوجب التوسط في التكليف - ونعني بالتوسط في التكليف هو ثبوت التكليف على تقدير كون المضطر إليه غير متعلق التكليف أو موضوعه وعدم ثبوته على تقدير كونه نفس متعلق التكليف أو موضوعه - وإلى بعض الأطراف الغير المعين يوجب التوسط في التنجيز على أحد الوجهين ، أو التوسط في التكليف أيضا على الوجه الآخر ، ذكرناهما في تنبيهات الاشتغال.
ففي المقام حيث كان يتعين الأخذ بالمظنونات وترك المشكوكات والموهومات إن كان يلزم من الأخذ بهما كلا أو بعضا العسر والحرج كان حكمه حكم الاضطرار إلى المعين تكون النتيجة التوسط في التكليف ، بمعنى سقوط التكاليف إن كانت في المشكوكات والموهومات وثبوتها إن كانت في المظنونات فتأمل (1).
وثانيا : أنه يمكن أن تكون أدلة نفي العسر والحرج حاكمة على نفس الحكم العقلي بالاحتياط ، بتقريب : أن حكم العقل بالاحتياط إنما هو لأجل رعاية الأحكام الشرعية ، فإذا كان رعايتها في حال انسداد باب العلم والعلمي موجبا للعسر والحرج فأدلة نفيهما تقتضي عدم إلزام العقل بالاحتياط بمقدار يلزم منه العسر والحرج ، فتكون حكومتها على حكم العقل بالاحتياط من شؤون حكومتها على الأحكام الشرعية ، فان انتشار الأحكام الشرعية بين المظنونات
ص: 258
والمشكوكات والموهومات مع وجوب التعرض لها وعدم جواز إهمالها هو الذي أوجب العسر والحرج ، فالعسر والحرج ينتهى بالأخرة إلى الأحكام الشرعية ولو لمكان الجهل بها وانتشارها في الوقايع المشتبهة.
والحاصل : أنه حيث وجب الاحتياط عقلا في جميع المظنونات والمشكوكات والموهومات رعاية للتكاليف المعلومة بالإجمال وكان الاحتياط في الجميع موجبا للعسر والحرج ، فلو كانت التكاليف في الموهومات كان الحرج مستندا إليها ، فلابد وأن تكون منفية بأدلة العسر والحرج ، وكذا الحال في المشكوكات لو كان الاحتياط فيها مع المظنونات موجبا للعسر والحرج ، فلا محيص عن التبعيض في الاحتياط بمقدار لا يوجب العسر والحرج لو كان المستند في عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة ولزوم الاحتياط فيها هو العلم الإجمالي ، ليكون الاحتياط في الأطراف عقليا.
فان قلت : ما الفرق بين الاحتياط العقلي والاحتياط الشرعي؟ حيث تقدم : أن أدلة نفي العسر والحرج لا تكون حاكمة على الاحتياط المنصوب شرعا طريقا إلى امتثال التكاليف في الوقايع المشتبهة إذا كان المستند في عدم جواز إهمالها هو الإجماع أو الخروج عن الدين.
قلت : الفرق بين الاحتياط العقلي الاحتياط الشرعي في غاية الوضوح ، فان الاحتياط الشرعي من أول الأمر ورد على موضوع يوجب العسر والحرج دائما ليس له حالة لا توجب ذلك ، نظير الأمر بالجهاد ، فيكون الاحتياط الشرعي أخص مطلق من أدلة نفي العسر والحرج. والسر في ذلك : هو أن الوقايع المشتبهة لوحظت قضية واحدة مجتمعة الأطراف قد حكم عليها بالاحتياط ، لأن الإجماع أو الخروج عن الدين إنما كان دليلا على عدم جواز إهمال مجموع الوقايع المشتبهة من حيث المجموع ، لا على كل شبهة شبهة (1) فان
ص: 259
إهمال كل شبهة مع قطع النظر عن انضمام إهمال ساير الشبهات إليها لا يوجب الخروج عن الدين ولا قام الإجماع على عدم جوازه ، بل معقد الإجماع ولزوم الخروج عن الدين إنما هو إهمال مجموع المحتملات : من المظنونات والمشكوكات والموهومات ، وذلك يقتضي نصب الشارع طريقية الاحتياط في المجموع ، فيكون حكما خاصا ورد على موضوع خاص يلازم العسر والحرج دائما ، ومعه لا يمكن أن تكون أدلة نفي العسر والحرج حاكمة على إلزام الشارع بالاحتياط ورافعة لوجوبه. وهذا بخلاف الاحتياط العقلي ، فان العقل في كل واقعة واقعة تكون طرفا للعلم الإجمالي يحكم بالاحتياط ويلزم به ، وكل واقعة واقعة مع قطع النظر عن انضمام ساير الوقايع إليها لا تقتضي العسر والحرج ، بل العسر والحرج يلزم من الاحتياط في مجموع الوقايع : مظنوناتها ومشكوكاتها وموهوماتها ، وفي كل من المظنونات والمشكوكات والموهومات يستقل العقل بالاحتياط لكونها من أطراف العلم الإجمالي ، فيكون حكم العقل بالاحتياط في الوقايع المشتبهة بمنزلة أحكام متعددة يلزم من رعاية جميعها العسر والحرج ، ولابد حينئذ من التبعيض في الاحتياط ، لأن الضرورات عند العقل تتقدر بقدرها (1).
فتحصل ما ذكرنا : أنه لو كان المستند في المقدمة الثانية هو العلم الإجمالي - وكان الوجه في بطلان الاحتياط هو لزوم العسر والحرج - كان المتعين
ص: 260
هو التبعيض في الإحتياط بمقدار لا يلزم منه العسر والحرج ، لحكومة أدلة نفيهما على التكاليف المعلومة بالإجمال المنتشرة في الوقايع المشتبهة التي يلزم من رعايتها في حال الجهل وانسداد باب العلم والعلمي بها العسر والحرج.
وأمّا ما أفاده قدس سره من أن مفاد أدلة نفي العسر والحرج والضرر إنما هو نفي الحكم بلسان نفي الموضوع وأن التوفيق العرفي يقتضي تقديمها على أدلة الأحكام من دون أن تكون حاكمة عليها لعدم كونها بمدلولها اللفظي شارحة لها ومفسرة لما أريد منها ، فلتفصيل الكلام فيه محل آخر ، وإجماله : هو أنه لا يعتبر في الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي شارحا ومفسرا لما أريد من الدليل الآخر بمثل كلمة « أي » أو « أعني » وما أفاد معنى ذلك - وإن كان يوهمه ظاهر عبارة الشيخ قدس سره في مبحث التعادل والتراجيح - فإنه لم يوجد فيما بأيدينا من الأدلة ما يكون بهذه المثابة ، إلا بعض ما ورد في أخبار تنصيف المهر في موت الزوجة وطلاقها (1) وإلا فأغلب الحكومات لا يكون دليل الحاكم بمدلوله اللفظي شارحا ومفسرا لما أريد من دليل المحكوم ، بل الذي يعتبر في الحكومة ، هو أن يكون مفاد دليل الحاكم النتيجة المتحصلة من تحكيم قرينة المجاز على ذيها ، أو تحكيم الخاص على العام والمقيد على المطلق.
والضابط الكلي في ذلك : هو أن يكون أحد الدليلين متكفلا لبيان ما لا يتكفله دليل المحكوم. وبذلك تفترق الحكومة عن التخصيص وإن كانت النتيجة واحدة ، فان مفاد دليل المخصص نفي ما أثبته العام أو إثبات ما نفاه مع اتحاد الموضوع والمحمول فيهما وكان الاختلاف بينهما في مجرد السلب والايجاب ، كما في مثل قوله : « أكرم العلماء ولا تكرم الفساق من العلماء » وهذا بخلاف الحاكم والمحكوم ، فان الاختلاف بينهما ليس بمجرد السلب والايجاب ، بل دليل
ص: 261
الحاكم يتكفل معنى لا يتكفله دليل المحكوم ولا يرد السلب والايجاب فيهما على محل واحد ، ولذلك لا تلاحظ النسبة بين الحاكم والمحكوم ولا قوة الظهور وضعفه ، بل يقدم دليل الحاكم وإن كانت النسبة بينهما العموم من وجه أو كان ظهوره أضعف من ظهور دليل المحكوم ، فان ملاحظة النسبة وقوة الظهور فرع التعارض ولا تعارض بينهما ، لأن دليل الحاكم قد يتعرض عقد وضع دليل المحكوم بإدخال ما ليس داخلا فيه ، كقوله « زيد عالم » عقيب قوله : « أكرم العلماء » أو إخراج ما ليس خارجا عنه كقوله : « زيد ليس بعالم » عقيب قوله ذلك ، وهو الغالب في باب الحكومات ، سواء كانت الحكومة واقعية ، كحكومة قوله : « لا شك لكثير الشك » على قوله : « من شك من الثلاث والأربع فليبن على الأربع » أو حكومة ظاهرية كحكومة الأمارات على الأحكام الواقعية ، وبعضها على بعض وعلى الأصول على ما بيناه في خاتمه الاستصحاب.
وقد يكون دليل الحاكم متعرضا لعقد حمل دليل المحكوم ، كما هو مفاد أدلة نفي الضرر والعسر والحرج ، فان الضرر والعسر والحرج من العناوين الثانوية التي تتصف بها نفس الأحكام الشرعية : من الوضعية والتكليفية - كما أوضحناه بما لا مزيد عليه - في رسالة لا ضرر - فهي بمدلولها المطابقي تنفى الأحكام الواقعية عن بعض حالاتها ، وهي حالة كونها ضرورية أو حرجية ، فمفاد أدلة نفي الضرر والعسر والحرج نفي تشريع الأحكام الضررية والحرجية ، فلا يعقل أن يقع التعارض بينهما وبين الأدلة المتكفلة لبيان الأحكام الواقعية بعناوينها الأولية ، فان شمول أدلة الأحكام لحالة الضرر والعسر والحرج إنما يكون بالإطلاق المتأخر رتبة عن أصل الجعل والتشريع ، فان الإطلاق والتقييد من الحالات والأوصاف اللاحقة للأحكام بعد فرض وجودها وجعلها وتشريعها ، فلا يمكن أن يكون في مرتبة الجعل والتشريع الدليل متكفلا لبيان وجود الأحكام في حال كونها ضررية أو حرجية حتى يعارض ما دل على نفي الجعل والتشريع للأحكام الضررية والحرجية.
ص: 262
وأمّا حديث كون مفاد أدلة نفي العسر والحرج والضرر نفي الحكم بلسان نفي الموضوع (1) فهو بمعزل عن الصواب.
لما فيه أولا : أن نفي الحكم بلسان نفي الموضوع إنما يكون فيما إذا كان مدخول النفي موضوعا ذا حكم ، إما في الشرايع السابقة ، وإما في زمان الجاهلية ، وإما في هذه الشريعة ، ليرد النفي على الموضوع بلحاظ نفي حكمه ، كما في مثل قوله صلی اللّه علیه و آله « لا رهبانية في الاسلام » (2) و « لا ضرورة في الاسلام » (3) وقوله تعالى « فلا رفث ولا فسوق في الحج » (4) وقوله علیه السلام « لا شك لكثير الشك » (5) و « لا سهو للإمام مع حفظ المأموم » (6) وغير ذلك من القضايا يكون مفادها نفي الحكم بلسان نفي الموضوع. وفي مثل نفي الضرر والعسر والحرج لا يمكن ذلك ، فان الحكم المترتب على الضرر مع قطع النظر عن ورود النفي عليه ليس هو إلا الحرمة ، فيكون مفاد
ص: 263
قوله صلی اللّه علیه و آله لا ضرر ( بناء على أن يكون من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ) هو نفي حرمة الضرر ، وهو كما ترى يلزم منه عكس المقصود ، فان المقصود منه عدم وقوع الضرر لا عدم حرمته والترخيص فيه ، وأما العسر والحرج فليس له حكم حتى يكون النفي بلحاظه.
وثانيا : أن توهم كون المفاد نفي الحكم بلسان نفي الموضوع إنما يكون له سبيل في مثل قوله صلی اللّه علیه و آله « لا ضرر ولا ضرار » وأما قوله تعالى : « وما جعل عليكم في الدين من حرج » فهو مما لا سبيل إليه ، فان النفي فيه ورد على « الدين » وهو عبارة عن الأحكام والتكاليف الشرعية ، فمعنى قوله تعالى : « وما جعل عليكم في الدين من حرج » هو أنه لم يجعل في الأحكام حكما حرجيا ، فالنفي من أول الأمر ورد على الأحكام ، لا على الموضوع حتى يتوهم أنه من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع.
وثالثا : أن نفي الحكم بلسان نفي الموضوع أيضا يكون من أحد أقسام الحكومة إذا كان من النفي التركيبي بمفاد « ليس الناقصة » كقوله علیه السلام « لا شك لكثير الشك » و « لا سهو في السهو » ونحو ذلك ، فمجرد كون مفاد الدليل نفي الحكم بلسان نفي الموضوع لا ينافي الحكومة.
وليس الغرض في المقام تفصيل الكلام في أقسام الحكومات فإنه قد استقصينا الكلام في ذلك في رسالة مفردة ، بل المقصود مجرد التنبيه إلى أن الوجه في تقديم أدلة نفي العسر والحرج على أدلة الأحكام إنما هو الحكومة ، ولولا ذلك لم يكن وجه للجمع بينهما بتقديمها عليها عرفا ، فان الجمع العرفي لابد وأن يكون عن منشأ : من الحكومة أو قوة الظهور ونحو ذلك مما يأتي البحث عنه في مبحث « التعادل والتراجيح » ولا سبيل إلى دعوى أظهرية أدلة نفي العسر والحرج من أدلة الأحكام ، مع أن النسبة بينها وبين آحاد أدلة الأحكام العموم من وجه ، فلا وجه لتقديمها عليها إلا الحكومة. وقد عرفت : أنه بعد تسليم الحكومة لا محيص عن التبعيض في الاحتياط فيما نحن فيه إذا كان المستند في
ص: 264
المقدمة الثانية « وهي عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة » العلم الإجمالي واقتضائه الاحتياط في المظنونات والمشكوكات والموهومات ، فان الاحتياط في الجميع مستلزم للعسر والحرج ، وبعد ضم أدلة نفيهما إلى ما يستقل العقل به - من الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي - تكون النتيجة التبعيض في الاحتياط بترك الاحتياط في الموهومات إذا لم يلزم من الاحتياط في المظنونات والمشكوكات العسر والحرج ، وإلا فيجب الاحتياط في المظنونات فقط أو مع بعض المشكوكات ، إلا أن يقوم إجماع على عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات ولو لم يستلزم الاحتياط فيها العسر والحرج ، وإلا كان اللازم الاحتياط في المظنونات فقط إذا كان مفاد الإجماع مجرد عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات ، فان حال المظنونات يكون في حال أحد الإنائات الثلاثة التي علم بنجاسة أحدها مع الاضطرار إلى الاقتحام في أحدها المعين وقيام الدليل على جواز الاقتحام على الآخر (1) فإنه يجب الاجتناب عن الثالث مخافة أن يكون هو النجس المعلوم بالإجمال في البين ، ففي المقام يجب الاحتياط في المظنونات بعد قيام الإجماع بجواز ترك الاحتياط في المشكوكات وكان الاحتياط في الموهومات
ص: 265
موجباً للعسر والحرج ولو مع ضم الاحتياط في المظنونات والمشكوكات ، فإنه قد تقدم : أنه يتعين دفع العسر والحرج بترك الاحتياط في خصوص الموهومات ، لأنها أبعد عن الواقع من المظنونات والمشكوكات ، فيكون حالها حال الاضطرار إلى الاقتحام في أحد الإنائات الثلاثة المعين ، فإذا ضممنا إلى ذلك الإجماع على عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات يتعين الاحتياط في المظنونات فقط ، فان صادف كون التكاليف المعلومة بالإجمال في المظنونات فهو ، وإن صادف كونها في الموهومات والمشكوكات فهي منفية بأدلة نفي العسر والحرج وبالإجماع. هذا إذا كان مفاد الإجماع مجرد عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات من باب أنها من أحد أطراف العلم الإجمالي.
وإن كان مفاده عدم وجوب الاحتياط فيها من باب أن مبنى الشريعة ليس على امتثال التكاليف بنحو الاحتمال ، بل لابد وأن يكون امتثال كل تكليف بعنوانه الخاص من الوجوب والحرمة ، فهذا الإجماع بضميمة انسداد باب العلم والعلمي يكشف لا محالة عن جعل الشارع حجية الظن وطريقيته إلى التكاليف الواقعية ، فيكون العمل بالمظنونات من باب أن الظن محرز للواقع ، لا من باب التبعيض في الاحتياط.
فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن نتيجة المقدمة الثانية مع ضم المقدمة الثالثة إليها تختلف حسب اختلاف المستند في المقدمة الثانية مع اختلاف المستند في بطلان الاحتياط ، فلو كان المستند في عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة الإجماع أو الخروج عن الدين - وكان الوجه في بطلان الاحتياط هو الإجماع على عدم وجوب الجمع بين جميع المحتملات أو لزوم اختلال النظام من الاحتياط في الجميع - كان اللازم هو التبعيض في الاحتياط ، ولكن هذا الاحتياط إنما يكون بجعل شرعي وليس من الاحتياط العقلي ، لما عرفت : من أن الإجماع أو الخروج عن الدين يقتضي جعل الشارع الاحتياط طريقا إلى امتثال التكاليف ، وأقصى ما يقتضيه الإجماع على وجوب الجمع بين جميع
ص: 266
المحتملات أو اختلال النظام هو نفي جعل الشارع الاحتياط في الجميع طريقا ، وأما جعل الطريقية في البعض فلا ينفيه ، ولا سبيل إلى دعوى نصب الشارع الظن طريقا ، لما عرفت : من أن الطريق الواصل بنفسه ليس هو إلا الاحتياط. هذا إذا كان الوجه في بطلان الاحتياط الشرعي هو الإجماع أو اختلال النظام. وإن كان الوجه فيه لزوم العسر والحرج ، فقد عرفت : أن أدلة نفيهما لا تكفى في بطلانه ، لان الاحتياط الشرعي يكون أخص مطلق من أدلة نفيهما.
ولو كان المستند في عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة العلم الإجمالي - وكان بطلان الاحتياط لأجل الإجماع على عدم وجوب الجمع بين المحتملات أو لأجل اختلال النظام أو لزوم العسر والحرج - فالنتيجة هي التبعيض في الاحتياط أيضا ، ولكن لزوم الاحتياط في البعض على هذا يكون لأجل استقلال العقل به إرشادا ، لا لأجل ايجابه شرعا ، فهذا الوجه مع الوجه السابق وإن كان يشترك في كون النتيجة التبعيض في الاحتياط ، إلا أنه في الوجه السابق يكون الاحتياط في البعض من الاحتياط الشرعي ، وفي هذا الوجه يكون من الاحتياط العقلي.
ولو كان الوجه في بطلان الاحتياط هو الإجماع على أن بناء الشريعة ليس على الامتثال الاحتمالي والإتيان بمتعلقات التكاليف على وجه الاحتمال ، فالنتيجة تكون حجية الظن شرعا على جميع التقادير ، سواء كان عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة لأجل الإجماع ، أو الخروج عن الدين ، أو العلم الإجمالي ، فإنه لا يمكن المنع عن الامتثال الاحتمالي بلا نصب طريق إلى إحراز التكاليف مع انسداد باب العلم بها (1) والطريق الذي يمكن نصبه شرعاً
ص: 267
بحسب الدوران العقلي منحصر بالظن ، إذ لا طريق يمكن إحراز الواقع به على وجه لا يكون الامتثال احتماليا سوى الظن ، فيتعين هو للنصب.
فظهر : أن العمل بالمظنونات مع الوقايع المشتبهة لا يخلو عن أحد وجهين لا ثالث لهما ، وإما لكونه من التبعيض في الاحتياط في أطراف الشبهة ، وإما لكونه محرزا للواقع بجعل الظن حجة شرعا.
ومن ذلك يظهر : أن مقدمات الانسداد ، إما أن تكون عقيمة لا تصل النوبة إلى المقدمة الرابعة لأخذ النتيجة ( إذا كان بطلان الاحتياط في المقدمة الثالثة من جهة لزوم العسر والحرج ، وكان عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة في المقدمة الثانية من جهة العلم الإجمالي ) وإما أن تكون النتيجة الكشف وحجية الظن شرعا ، إذا وصلت النوبة إلى المقدمة الرابعة ( وذلك إنما يكون إذا كان بطلان الاحتياط لأجل قيام الإجماع على أن مبنى الشريعة ليس على امتثال التكاليف بالاحتمال ) فجعل النتيجة الحكومة بمعنى الامتثال الظني مما لا أساس له ، ولا يمكن أن تكون النتيجة ذلك ، مع أن العمل بالمظنونات لا يلازم الامتثال الظني ، على ما سيأتي بيانه عن قريب ( إن شاء اللّه تعالى ).
فما اختاره الشيخ قدس سره من الحكومة وأن نتيجة مقدمات الانسداد هي كفاية الامتثال الظني في مقام الطاعة مما لا يمكن المساعدة عليه.
قال قدس سره بعد الاعتراف بأنه يجب التبعيض في الاحتياط بترك الاحتياط في الموهومات بأدلة نفي العسر والحرج ووجوبه في المظنونات
ص: 268
والمشكوكات ما لفظه : ( اللّهم إلا ان يدعى قيام الإجماع على عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات أيضا ، وحاصله : دعوى أن الشارع لا يريد الامتثال العلمي الإجمالي في التكاليف الواقعية المشتبهة بين الوقايع ، فيكون حاصل دعوى الإجماع دعوى انعقاده على أنه لا يجب شرعا الإطاعة العلمية الإجمالية في الوقايع المشتبهة مطلقا ، لا في الكل ولا في البعض ، وحينئذ يتعين الانتقال إلى الإطاعة الظنية.
لكن الإنصاف : أن دعواه مشكلة جدا وإن كان تحققه مظنونا بالظن القوى ، لكنه لا ينفع ما لم تنته إلى حد العلم ».
ثم عقب ذلك بقوله : « فان قلت : إذا ظن بعدم وجوب الاحتياط في المشكوكات فقد ظن بأن المرجع في كل مورد منها إلى ما يقتضيه الأصل الجاري في ذلك المورد ، فتصير الأصول مظنونة الاعتبار في المسائل المشكوكة ، فالمظنون في تلك المسائل عدم وجوب الواقع فيها على المكلف وكفاية الرجوع إلى الأصول ، وسيجيء أنه لا فرق في الظن الثابت حجيته بدليل الانسداد بين الظن المتعلق بالواقع وبين الظن المتعلق بكون الشيء طريقا إلى الواقع وكون العمل به مجزيا عن الواقع وبدلا عنه ولو تخلف عن الواقع ».
ثم أجاب عن قوله : « إن قلت » بقوله : « قلت : مسألة حجية الظن بالطريق موقوف على هذه المسألة الخ ».
وحاصل ما أفاده في الجواب عن ذلك بقوله : « قلت » على طوله يرجع إلى أن نتيجة مقدمات الانسداد وإن كانت أعم من الظن بالواقع والظن بالطريق ، إلا أن ذلك فرع سلامة المقدمات ووصول النوبة إلى أخذ النتيجة ، والكلام بعد في سلامة المقدمة الثالثة ، فإنه لم يثبت بطلان الاحتياط رأسا في جميع الوقايع لينتقل إلى المقدمة الرابعة ، لتكون النتيجة اعتبار الظن مطلقا سواء تعلق بالواقع أو بالطريق.
ص: 269
ولا يخفى ما في هذا الجواب من الإشكال (1) فإنه بعد تسليم عدم وجوب الاحتياط في الموهومات بأدلة نفي العسر والحرج ووجوبه في المظنونات سواء تعلق الظن بالواقع أو بالطريق - فان الظن بالطريق يلازم الظن بالواقع ولو من حيث الأثر - لا يبقى موقع لهذا الجواب ، فان قيام الإجماع - ولو ظنا - على عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات يلازم الظن باعتبار الأصول النافية للتكليف في موارد الشك ، كما اعترف به قدس سره فتكون التكاليف في المشكوكات موهومة ولو من حيث الأثر ، فان الظن باعتبار الطريق وإن لم يلازم الظن بالواقع ، إلا أنه يلازم الظن بالخروج عن عهدة الواقع عند العمل به ، فيكون التكليف في مورد الأصل النافي له - الذي فرض الظن باعتباره بسبب قيام الإجماع الظني على عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات - موهوما من حيث الأثر ، والمفروض عدم وجوب الاحتياط في الموهومات - فتأمل - فبنفس المقدمة الثالثة يثبت اعتبار الظن بالطريق بمقتضى الإجماع الظني ونحتاج إلى المقدمة الرابعة ، ولعله لذلك ضرب على قوله : « قلت : مسألة حجية الظن موقوف على هذه المسألة الخ » وتبديله - على ما في النسخ المصححة - بقوله : « قلت : مرجع الإجماع قطعيا أو ظنيا على الرجوع في المشكوكات إلى الأصول هو الإجماع على وجود الحجية الكافية في المسائل التي انسد فيها باب العلم حتى تكون المسائل
ص: 270
الخالية عنها موارد للأصول ، ومرجع هذا إلى دعوى الإجماع على حجية الظن بعد الانسداد » انتهى (1).
وهذا الكلام وإن لم يكن منه قدس سره بل هو لبعض الأعاظم من تلامذته وهو السيد الكبير الشيرازي قدس سره إلا أن المحكى أن ذلك كان برضى من الشيخ قدس سره وإمضائه. والمقصود من تبديل الجواب عن « إن قلت » إلى ذلك ، هو أن قيام الإجماع على جواز الرجوع في المشكوكات إلى الأصول النافية يكشف لا محالة عن جعل الشارع حجة كافية لينحل ببركتها العلم الإجمالي في الوقايع المشتبهة لتجري الأصول النافية للتكليف في المشكوكات ، فان مجرد الترخيص في المشكوكات لا يكفي في اعتبار الأصول النافية ما لم يثبت التكليف في المظنونات ، وثبوته فيها إنما يكون بجعل الظن حجة محرزا للتكاليف الواقعية المعلومة بالإجمال في الوقايع المشتبهة ، فمرجع الإجماع على الرجوع إلى الأصول النافية في المشكوكات إلى الإجماع على جعل الشارع حجية الظن ليثبت به التكليف في المظنونات ، فتجري الأصول النافية في المشكوكات.
وبذلك يظهر : أن استكشاف حجية الظن إنما يكون بأحد وجهين :
ص: 271
أحدهما : قيام الإجماع على أن مبنى الشريعة ليس على الإتيان بالمحتملات وامتثال التكاليف على سبيل الاحتمال ليبطل بذلك الاحتياط من أصله كلا وبعضا ، فان قيام الإجماع على ذلك لا يمكن إلا بجعل طريق شرعي محرز للتكاليف ليتمكن المكلف ببركته على امتثال التكاليف بعنوانها الخاص.
ثانيهما : قيام الإجماع على اعتبار الأصول النافية في المشكوكات (1) فان قيام الإجماع على ذلك يكشف أيضا عن وجود حجة كافية في المسائل محرزة للتكاليف ، وتلك الحجة بحسب الدوران العقلي منحصرة في الظن ، إذ ليس في البين ما يصح جعله محرزا للواقع سواه. وعلى كل تقدير : تكون النتيجة الكشف ، ولا يبقى مجال للحكومة.
ولا يكاد ينقضي تعجبي من الشيخ قدس سره من البناء على الحكومة وجعل النتيجة هي حكم العقل بكفاية الامتثال الظني في مقام الطاعة والخروج عن عهدة التكاليف المعلومة بالإجمال في الوقايع المشتبهة ، مع أن مفاد قوله قدس سره : « قلت مرجع الإجماع قطعيا كان أو ظنيا الخ » ليس إلا الكشف وحجية الظن شرعا.
ومن ذلك يظهر : ما في الوجوه الثلاثة التي ذكرها لإبطال الكشف في التنبيه الثاني من تنبيهات دليل الانسداد - المتكفل لبيان كلية النتيجة أو إهمالها - قال قدس سره : « الحق في تقرير دليل الانسداد هو التقرير الثاني وأن التقرير على وجه الكشف فاسد ، أما أولا : فلأن المقدمات المذكورة لا تستلزم جعل الشارع الظن - مطلقا أو بشرط حصوله من أسباب خاصة - حجة ، لجواز أن لا يجعل الشارع طريقا للامتثال بعد تعذر العلم أصلا الخ ».
وحاصل ما أفاده في الوجه الأول من الوجوه الثلاثة يرجع إلى دعوى
ص: 272
إمكان اكتفاء الشارع بما هو طريقة العقلاء : من العمل بالظن في التكاليف الصادرة من الموالى العرفية مع القطع بعدم نصب المولى طريقا إليها ، ولا يجب عقلا على المولى نصب الطريق عند انسداد باب العلم بالتكاليف على العبد ، بل يصح له إحالة العبد إلى ما يستقل العقل به من العمل بالظن. نعم : يجب على المولى الرضاء بما يستقل به العقل ، وليس له مؤاخذة العبد على العمل بالطريق العقلي ، هذا.
ولا يخفى ما فيه ، فان الحكم العقلي إنما يقع في سلسلة الإطاعة ، والعقل يستقل أولا بالإطاعة العلمية تفصيلا مع الإمكان ، أو إجمالا بالاحتياط مع عدم الإمكان : أو مطلقا - على التفصيل المتقدم في باب العلم الإجمالي - فإذا تعذرت الإطاعة العلمية تفصيلا وإجمالا يستقل العقل حينئذ بلزوم الإطاعة الظنية والخروج عن عهدة التكاليف ظنا (1) فلابد أولا من إبطال الإحتياط
ص: 273
رأساً لتصل النوبة إلى الإطاعة الظنية (1) وإلا كان اللازم هو الاحتياط ولو في المظنونات إذا كان الاحتياط في المشكوكات والموهومات موجبا للعسر والحرج. والعمل بالمظنونات من باب التبعيض في الاحتياط غير الإطاعة الظنية ، إذ لا ملازمة بينهما - على ما سيأتي بيانه - فما لم يثبت بطلان الاحتياط كلا وبعضا في المقدمة الثالثة لا تصل النوبة إلى المقدمة الرابعة لأخذ النتيجة كشفا أو حكومة.
وقد عرفت : أن بطلان الاحتياط كلا وبعضا يتوقف على قيام الإجماع على أحد الوجهين السابقين : أحدهما قيامه على أن بناء الشريعة ليس على الإتيان بالتكاليف على سبيل الاحتمال. ثانيهما : قيامه على اعتبار الأصول النافية للتكليف في المشكوكات ليرجع إلى جعل حجة كافية في المسائل ، فإنه لولا قيام الإجماع بأحد الوجهين كان المتعين هو التبعيض في الاحتياط ، ومفاد هذا الإجماع - بكلا وجهيه - ليس هو إلا الكشف.
والحاصل : أن العمل بالمظنونات من باب الاحتياط ليس من الكشف والحكومة ، بل هو من التبعيض في الاحتياط ، فان الكشف معناه : حجية الظن شرعا وجعله مثبتا ومحرزا لمتعلقه لا مجرد العمل بالظن. والحكومة عبارة عن الامتثال الظني والظن بالخروج عن عهدة ما اشتغلت الذمة به من التكاليف ، وهو قد يحصل من العمل بالمظنونات وقد لا يحصل.
ص: 274
وكون نتيجة مقدمات الانسداد الكشف أو الحكومة يتوقف على إبطال الاحتياط ولو في المظنونات ، وإبطاله إنما يكون بالإجماع بأحد وجهيه ، وكل من الوجهين لا ينتج إلا الكشف. فمن أين صارت النتيجة الحكومة؟ فما افاده في الوجه الأول - من الوجوه الثلاثة التي أقامها لإبطال الكشف - ضعيف غايته.
ويتلو هذا الوجه في الضعف الوجه الثاني ، وهو ما أفاده بقوله « وأما ثانيا : فلأنه إذ بنى على كشف المقدمات المذكورة عن جعل الظن على وجه الإهمال والإجمال صح المنع الذي أورده بعض المتعرضين لرد هذا الدليل ، وقد أشرنا إليه سابقا. وحاصله : أنه كما يحتمل أن يكون الشارع قد جعل لنا مطلق الظن أو الظن في الجملة المردد بين الكل والبعض المردد بين الأبعاض ، كذلك يحتمل أن يكون قد جعل لنا شيئا آخر حجة من دون اعتبار إفادته الظن ، لأنه أمر ممكن غير مستحيل ، والمفروض عدم استقلال العقل بحكم في هذا المقام ، فمن أين يثبت جعل الظن في الجملة دون شيء آخر؟ ».
وأنت خبير بما في هذا الوجه ، فان قيام الإجماع على أحد الوجهين المتقدمين يكشف عن أن الشارع قد جعل للعباد طريقا واصلا إليهم ليتمكنوا بسببه من الإتيان بالتكاليف بعناوينها الخاصة من الوجوب والحرمة (1) فان الطريق الغير الواصل لا يزيد حكمه عن أصل التكليف الذي انسد باب العلم
ص: 275
به ؛ والطريق الواصل ليس إلا الظن ، فان ما عداه يكون باب العلم به منسدا ، مع أنه لابد في الطريق المجعول من أن يكون له جهة كشف وإرائة عن الواقع ليمكن تتميم كشفه بجعله ونصبه طريقا ، وبحسب الدوران العقلي ينحصر ذلك بالعلم والظن ، والمفروض انسداد باب الأول ، فلم يبق إلى الثاني ، فلا مجال لاحتمال نصب غير الظن طريقا.
ومن ذلك يظهر ضعف ما أفاده في الوجه الثالث لإبطال الكشف بقوله : « وأما ثالثا : فلأنه لو صح كون النتيجة مهملة مجملة لم ينفع أصلا إن بقيت على إجمالها ، وإن عينت ، فإما أن تعين في ضمن كل الأسباب وإما أن تعين في ضمن بعضها المعين ، وسيجيء عدم تمامية شيء من هذين الوجهين إلا بضميمة الإجماع ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى دعوى الإجماع على حجية مطلق الظن بعد الانسداد ، فتسميته دليلا عقليا لا يظهر له وجه عدا كون الملازمة بين تلك المقدمات الشرعية ونتيجتها عقلية ، وهذا جار في جميع الأدلة السمعية ، كما لا يخفى » انتهى.
قلت : الوجه في تسميته بالدليل العقلي ، هو أن الكاشف عن جعل الشارع الظن حجة إنما هو العقل ، فان الإجماع بوجهيه لا يفيد أزيد من أنه لابد للشارع من نصب طريق للعباد يتوصلون به إلى التكاليف ، وأما كون المنصوب الشرعي خصوص الظن فليس هو مفاد الإجماع ، بل تعيين ذلك إنما يكون بحسب الدوران العقلي ، من جهة أنه لا أقرب من الظن في الإصابة والايصال بعد العلم.
وبالجملة : مجرد كون بعض مبادئ الدليل شرعيا لا يوجب خروج الدليل عن كونه عقليا بعد ما كان الحاكم بالنتيجة هو العقل ، مع أن مجرد عدم صحة تسمية الدليل بالدليل العقلي لا يقتضي البناء على الحكومة بعد ما كانت نتيجة مقدمات الدليل الكشف.
فالإنصاف : أنه ما كنا نترقب من الشيخ قدس سره البناء على
ص: 276
الحكومة (1) خصوصا بعد قوله - في الجواب عن الإشكال المتقدم - قلت : مرجع الإجماع قطعيا كان أو ظنيا الخ.
فالتحقيق : أن القول بالحكومة مما لا أساس له ولا ينبغي المصير إليه (2) لما فيه :
أولا : أن الانتقال من المقدمة الثالثة إلى المقدمة الرابعة لأخذ النتيجة كشفا أو حكومة لا يمكن إلا بعد قيام الإجماع على أن الشارع لا يريد من المكلف فعل متعلقات التكاليف على سبيل الاحتمال ، فان هذا الإجماع هو الذي يوجب الانتقال من المقدمة الثالثة إلى المقدمة الرابعة ، إذ لولاه كان اللازم التبعيض في الاحتياط إذا لم يمكن في الكل لعسر ونحوه ، فلابد في بطلان التبعيض في الاحتياط من قيام الإجماع على ذلك ، ولازم قيام الإجماع على ذلك هو أن الشارع جعل للعباد طريقا محرزا للواقع يتوصلون به إلى التكاليف الواقعية ليتمكنوا من امتثال كل تكليف بعنوانه الخاص ، وليس في البين طريق محرز إلا الظن ، فتكون النتيجة حجية الظن شرعا.
وثانيا : أن الحكومة بمعنى الامتثال الظني مما لا مسرح لها في المقام (3)
ص: 277
فانّ الامتثال الظني عبارة عن الإتيان بالمحتملات بمقدار يحصل معه الظن بالفراغ والخروج عن عهدة ما اشتغلت الذمة به من التكاليف ، كما في باب قضاء الفوائت اليومية ، فإنه عند العلم بفوات جملة من الفرائض اليومية مع عدم العلم بعددها يجب على المكلف أولا تكرار قضاء الصلوات بمقدار يحصل معه العلم بالفراغ ، ولو تعذر ذلك عليه أو تعسر يجب عليه التكرار بمقدار يحصل معه الظن بالفراغ ، وهذا المعنى من الامتثال الظني أجنبي عن وجوب العمل بالمظنونات في مقابل المشكوكات والموهومات كما هو المقصود في المقام ، فإنه - مضافا إلى أن الإتيان بالمظنون لا يكاد يحصل الامتثال الظني مع ترك الاحتياط في المشكوكات والاقتصار على فعل المظنونات فان المشكوكات مع المظنونات سيان في كونهما من أطراف العلم الإجمالي - مجرد تعلق الظن بالتكاليف في جملة من الوقايع المشتبهة لا يلازم الظن بانحصار التكاليف في المظنونات ليحصل الامتثال الظني بالعمل بالمظنونات ، فالامتثال الظني لا يحصل إلا بالاحتياط في المشكوكات أيضا ، ولو فرض قيام الإجماع على عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات - كما هو المدعى - والاقتصار في الاحتياط بالعمل بالمظنونات ، فمعناه كفاية الامتثال الاحتمالي.
والحاصل : أن الامتثال الظني إنما يحصل بفعل ما يحصل معه الظن بالفراغ بتكرار العمل في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي مقدارا يوجب الظن بالامتثال والخروج عن عهدة التكليف المعلوم بالإجمال ، كما في تكرار الصلاة عند الجهل بالقبلة أو بعدد الفوائت ونحو ذلك ، فلو أريد حصول الامتثال الظني في المقام فلابد من الاحتياط في المظنونات والمشكوكات ، وإلا لا يكاد يحصل
ص: 278
الإمتثال الظني ، والمفروض عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات ، فكيف صارت النتيجة الحكومة؟.
وثالثاً : المقصود من ترتيب مقدمات دليل الانسداد إنما هو لاستنتاج حجية الظن المطلق على وجه يصلح لتخصيص العمومات وتقييد المطلقات وغير ذلك مما يكون من لوازم الحجة (1) وهذه الآثار إنما تترتب على الكشف ، لأن الظن يكون حينئذ حجة محرزا للواقع كالعلم. وأما الظن بمعنى الحكومة : فهو بمعزل عن هذه الآثار ، لأنه ليس محرزا للواقع حتى يصلح للتقييد والتخصيص ، وإنما يستقل العقل به في مقام الطاعة والامتثال عند تعذر الامتثال العلمي.
وما في بعض الكلمات : من أن الظن بناء على الحكومة يكون حجة عقلية ، فهو بمكان من الفساد ، فان الحكومة عبارة عن الامتثال الظني ، وأين هذا من كونه حجية محرزا يقع وسطا لإثبات متعلقه؟ وليس من وظيفة العقل جعل الظن حجة ، بل ذلك من وظيفة الشارع ، وليست وظيفة العقل إلا الحكم بكفاية الامتثال الظني عند تعذر الامتثال العلمي.
فتحصّل : أنه لا محيص عن القول بالكشف إن تم الإجماع المتقدم بأحد وجهيه (2) وإلا فلابد من التبعيض في الاحتياط ، فتأمل في أطراف ما
ص: 279
ذكرناه جيدا واغتنمه ، فإنه مما لم يسبق إليه أحد (1) هذا تمام الكلام في أصل ترتيب مقدمات الانسداد.
اختلفت الأقوال في النتيجة التي يقتضيها دليل الانسداد.
فقيل : إن مقدمات دليل الانسداد إنما تقتضي اعتبار الظن في خصوص المسألة الأصولية ، وهي « كون الشيء طريقا » ذهب إليه صاحب الفصول
ص: 280
تبعاً لأخيه المحقق صاحب الحاشية.
وقيل : إن مقدمات دليل الانسداد تقتضي اعتبار الظن في خصوص المسألة الفقهية ، وهي « كون الشيء واجبا أو حراما » ذهب إليه غير واحد من المشايخ.
وقيل : إن المقدمات تقتضي عموم النتيجة واعتبار الظن في كل من الطريق والحكم الفرعي. وهو الأقوى.
وقد استدل للقول الأول بوجهين :
أحدهما : ما ذكره « صاحب الفصول » مقتصرا عليه ، تبعا للمحقق أخيه ، قال ما لفظه « إنا كما نقطع بأنا مكلفون في زماننا هذا تكليفا فعليا بأحكام فرعية كثيرة لا سبيل بحكم العيان وشهادة الوجدان إلى تحصيل كثير منها بالقطع ولا بطريق معين نقطع من السمع بحكم الشارع بقيامه أو قيام طريقه مقام القطع ولو عند تعذره ، وكذلك نقطع بأن الشارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طرقا مخصوصة وكلفنا تكليفا فعليا بالرجوع إليها في معرفتها ، ومرجع هذين القطعين عند التحقيق إلى أمر واحد ، وهو القطع بأنا مكلفون تكليفا فعليا بالعمل بمؤدى الطرق المخصوصة ، وحيث لا سبيل لنا غالبا إلى تعيينها بالقطع ولا طريق نقطع من السمع بقيامه بالخصوص أو قيام طريقه كذلك ولو بعد تعذره ، فلا ريب أن الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنما هو الرجوع في تعيين تلك الطرق إلى الظن العقلي الذي لا دليل على عدم حجيته ، لأنه أقرب إلى العلم وإصابة الواقع مما عداه » انتهى موضع الحاجة من كلامه.
ولعل الذي دعاه إلى اختيار اعتبار خصوص الظن بالطريق ، هو ما زعمه : من أن الوجوه التي استدل بها على حجية الخبر الواحد لو لم تفد القطع بحجيته بالخصوص فلا أقل من كونها تفيد الظن بها ، فيكون الخبر الواحد مما ظن اعتباره طريقا ، ومع تعذر العلم بكون الشيء طريقا يتنزل إلى الظن بكونه طريقا ، لأنه أقرب إلى العلم.
ص: 281
والذي يرشد إلى ما ذكرناه : من أن الذي دعاه إلى القول باعتبار خصوص الظن بالطريق ذلك ، هو أنه قد جعل دليل الانسداد من جملة الأدلة الدالة على حجية الخبر الواحد.
قال قدس سره في ذيل كلامه المتقدم : « ولا ريب أن الخبر الواحد إن لم يكن من الطرق القطعية فهو من الطرق الظنية ، للوجوه التي ذكرناها ، فيجب العمل به ، وهو المطلوب » انتهى.
والظاهر : أن يكون مراده من « الطرق » في قوله : « كذلك نقطع بأن الشارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طرقا مخصوصة » هي الطرق العقلائية التي قد أمضاها الشارع ولم يردع عنها. وليس غرضه من الجعل الشرعي تأسيس الشارع طرقا مخصوصة مخترعة من قبله ليس لها عند العقلاء عين ولا أثر ، فان ذلك بعيد غايته لا ينبغي دعواه.
كما أن الظاهر أن يكون مراده من قوله : « ومرجع هذين القطعين عند التحقيق إلى أمر واحد ، وهو القطع بأنا مكلفون تكليفا فعليا بالعمل بمؤدى الطرق المخصوصة » هو انحلال العلم الإجمالي المتعلق بالأحكام الشرعية إلى العلم التفصيلي بما تضمنته تلك الطرق والشك البدوي بما عداها إذا كانت مؤديات الطرق بقدر المعلوم بالإجمال من الأحكام - كما هو المفروض - لأن الطرق المنصوبة إلى الأحكام لابد وأن تكون وافية بها. وليس غرضه تقييد الأحكام الواقعية إلى مؤديات الطرق أو صرفها إليها ، فان ذلك من التصويب الباطل الذي يخالف المذهب ، فلا يليق ب « صاحب الفصول » الالتزام به ، فلابد وأن يكون مراده من التكليف بالعمل بمؤدى الطرق هو العمل بالأحكام الواقعية التي تؤدى إليها الطرق بحسب دليل الحجية وجعلها محرزة لها ، فيرجع حاصل كلامه بعد توجيهه - وإن كانت خلاف ظاهره - إلى أنا وإن علمنا بثبوت الأحكام الواقعية الفعلية ، إلا أنه علمنا أيضا بنصب طرق مخصوصة - تأسيسية كانت أو إمضائية - وافية بالمعلوم بالإجمال من الأحكام ، فالواجب علينا امتثال
ص: 282
تلك الأحكام بتلك الطرق ، لانحلال العلم الإجمالي ببركتها ، وإذا لم يكن لنا تحصيل العلم بالطرق المنصوبة ، فلابد من التنزل إلى الظن بها ، لأنه أقرب إلى العلم.
ولا يخفى : أنه على ما وجهنا به كلامه يندفع غالب ما أورد عليه الشيخ قدس سره بقوله : « وفيه أولا : إمكان منع نصب الشارع طرقا خاصة للأحكام الواقعية وافية بها ، وإلا لكان وضوح تلك الطرق كالشمس في رابعة النهار الخ ».
وأنت خبير بأن ذلك إنما يرد عليه لو كان مراده من « الطرق المنصوبة » طرقا مخترعة أسسها الشارع من دون أن يكون لها عند العرف والعقلاء عين ولا أثر ، فإنها هي التي تتوفر الدواعي إلى نقلها وكانت من الوضوح كالشمس في رابعة النهار ، كما أفاده قدس سره ولكن دعوى « صاحب الفصول » لا تتوقف على ذلك ، بل يكفي في صحة دعواه إمضاء ما بيد العرف والعقلاء من الطرق مع انسداد باب العلم بها ، بمعنى أنه يعلم إجمالا إمضاء بعض الطرق العقلائية الوافي بالأحكام الشرعية ، وقد خفى علينا ما أمضاه وانسد باب العلم به ، بل قد تقدم سابقا : انه لا يحتاج إلى الإمضاء ويكفي عدم الردع عما بيد العقلاء من الطرق (1) ودعوى ذلك قريبة جدا لا سبيل إلى المنع عنها.
ص: 283
نعم : لو كان مراده ما هو ظاهر كلامه : من اختراع الشارع وتأسيسه طرقا مخصوصة ، كان للمنع عن ذلك مجال واسع ، بل كان ينبغي القطع بعدمه ، لأن عدم نقلها كاشف قطعي على العدم.
إلا أن الإنصاف : أن كلام « صاحب الفصول » ليس بمثابة لا يمكن حمله على ما ذكرنا ، فلا يرد عليه ما ذكره قدس سره بقوله : « وفيه أولا ».
وكذا لا يرد عليه ما ذكره بقوله : « وثانيا : سلمنا نصب الطريق ، لكن بقاء ذلك الطريق لنا غير معلوم ، بيان ذلك : أن ما حكم بطريقيته لعله قسم من الأخبار ليس منه بأيدينا اليوم إلا قليل ، كأن يكون الطريق المنصوب هو الخبر المفيد للاطمئنان الفعلي بالصدور الذي كان كثيرا في الزمان السابق الخ » فان المدعى هو أن الشارع قد نصب طريقا وافيا بالأحكام على وجه يوجب انحلال العلم الإجمالي بها ، والخبر المفيد للاطمئنان ليس بتلك المثابة من الكثرة بحيث يفي بالأحكام الشرعية حتى في الزمان السابق التي كانت قرائن الصدق فيه كثيرة ، فان كثرة قرائن الصدق لا تقتضي كثرة الخبر الذي عليه قرائن الصدق على وجه يوجب الاطمئنان بحيث يفي بالأحكام المعلومة بالإجمال لينحل به العلم الإجمالي ، فلا بد من أن يكون الطريق المنصوب غير الخبر المفيد للاطمئنان وقد انسد باب العلم به علينا.
ومن ذلك يظهر : ما في قوله : « وثالثا : سلمنا نصب الطريق ووجوده في جملة ما بأيدينا من الطرق الظنية : من أقسام الخبر والإجماع المنقول والشهرة وظهور الإجماع والاستقراء والأولوية الظنية ، إلا أن اللازم من ذلك هو الأخذ بما هو المتيقن من هذه ، فان وفي بغالب الأحكام اقتصر عليه وإلا فالمتيقن من الباقي الخ » إذ فيه : أن ما هو المتيقن في النصب من هذه الطرق هو ما ذكره بقوله : « وثانيا » وهو الخبر المفيد للاطمئنان ، وقد عرفت : أنه قليل لا يفي بالأحكام الشرعية ، والطرق الاخر ليس فيها ما هو متيقن الاعتبار ، بل احتمال النصب في كل واحد منها على حد سواء. ودعوى : أن مطلق الخبر أو الإجماع
ص: 284
المنقول متيقن الاعتبار بالإضافة إلى غيره - مما لا شاهد عليها ، إذ لا مزية له على سائر الطرق الظنية ، فيتردد الطريق المنصوب بينها ، ولابد حينئذ من التنزل إلى تعيينه بالظن.
وأمّا ما أفاده بقوله : « ورابعا : سلمنا عدم وجود القدر المتيقن ، لكن اللازم من ذلك وجوب الاحتياط ، فإنه مقدم على العمل بالظن الخ » ففيه : أن الاحتياط في الطرق - مع أنه لا يمكن لمعارضة بعضها مع بعض وغير المعارض منها قليل لا يفي بالأحكام - يرجع إلى الاحتياط في الأحكام ، فان الاحتياط بالطريق إنما يكون باعتبار المؤدى والطرق إنما تؤدى إلى الأحكام ، فالاحتياط فيها يلازم الاحتياط في الأحكام ، بل هو هو ، والمفروض عدم وجوبه أو عدم جوازه. وهذا بخلاف الظن بطريقية الطريق ، فإنه لا يلازم الظن بالحكم حتى يتوهم : أن اعتبار الظن بالطريق يرجع إلى اعتبار الظن بالحكم.
فالإنصاف : أن هذه الوجوه الأربعة قابلة للدفع عن « صاحب الفصول ».
نعم : يرد عليه ما أفاده بقوله : « وخامسا : سلمنا العلم الإجمالي بوجود الطرق المجعولة وعدم المتيقن وعدم وجوب الاحتياط ، لكن نقول : إن ذلك لا يوجب تعين العمل بالظن في مسألة تعيين الطريق فقط ، بل هو مجوز له ، كما يجوز العمل بالظن في المسألة الفرعية الخ ».
وتوضيح ذلك : هو أنه قد تقدم في الدليل العقلي الذي أقيم على حجية الخبر الواحد أن مجرد العلم الإجمالي بنصب طريق لا يقتضي انحلال العلم الإجمالي بالأحكام الشرعية الواقعية ، فإنه لا يترتب عيه آثار الحجية : من تنجيز الواقع عند المصادفة والمعذورية عند المخالفة ، فان هذه الآثار إنما ترتب على الطريق الواصل إلى المكلف تفصيلا لتجري فيه الأصول اللفظية والجهتية ، بداهة أن الطريق ما لم يكن محرزا لدى المكلف وواصلا إليه موضوعا وحكما لا يجرى فيه الأصل اللفظي : من أصالة إرادة الظهور والأصل الجهتي : من أصالة
ص: 285
كون صدوره لبيان حكم اللّه الواقعي لا لتقية ونحوها ، فان هذه الأصول تتوقف على العلم بكون الشيء طريقا والعلم بالمؤدى والظهور ، وإلا لم يكن موضوعا لها.
وانحلال العلم الإجمالي بالأحكام إنما يكون من لوازم جريان الأصول ، وإلا كان العلم الإجمالي بها بحاله (1) فإنه لم يعلم بالطريق المنصوب موضوعا ولا بمؤداه حتى يكون العلم بما يؤدى إليه من الأحكام موجبا لانحلال العلم الإجمالي بها إذا كان ما أدى إليه بقدر المعلوم بالإجمال منها.
فالعلم الإجمالي بنصب الشارع طريقا إلى الأحكام لا أثر له ولا يكون العباد مكلفين بالعمل به ما لم يصل إليهم تفصيلا ، والمفروض عدم وصوله إليهم كذلك ، فيبقى العلم الإجمالي بالأحكام على حاله ، وهو يقتضي الخروج عن عهدتها ، إما علما مع الإمكان ، وإما ظنا مع عدمه.
نعم : العمل بمؤدى ما يظن كونه طريقا يجزى أيضا ، لعدم التفاوت بين العمل بالظن بالحكم الفرعي وبين العمل بمؤدى الطريق المظنون فيما هو المهم في نظر العقل : من حصول الظن بالمؤمن عن تبعة التكاليف والخروج عن عهدتها عند انسداد باب العلم بها ، فلا وجه لتخصيص النتيجة بخصوص الظن بالطريق بعد اشتراكه مع الظن بالواقع في الأثر.
هذا كله ، مضافا إلى أن ما ذكره من الدليل لا يقتضي اعتبار خصوص الظن بطريق خاص ، فان ما أفاده من الوجه - على فرض صحته وسلامته عما تقدم - لا يثبت أزيد من وجوب امتثال التكاليف المعلومة بالإجمال من طرقها المقررة لها شرعا ، وذلك يقتضي كفاية الظن بأنّ الحكم
ص: 286
الكذائي مؤدى طريق معتبر وإن لم يحصل الظن بطريقية طريق خاص ، فلو حصل للمكلف الظن بان وجوب صلاة الجمعة مؤدى طريق معتبر كان حكمه حكم الظن بطريقية طريق خاص. والظن بالأحكام غالبا يلازم الظن بأنها مؤدى طريق معتبر ، خصوصا إذا كانت الأحكام المظنونة مما تعم بها البلوى ، فان الظن بها لا ينفك عن الظن بأنها مؤدى طريق معتبر وإن لم يتشخص ذلك الطريق لدى المكلف.
فالإنصاف : أن الوجه الأول - الذي اقتصر عليه « صاحب الفصول » لإثبات كون نتيجة دليل الانسداد اعتبار خصوص الظن بالطريق لا بالواقع - مما لا يرجع إلى محصل ولا يثبت دعواه.
الوجه الثاني : ما أفاده « المحقق صاحب الحاشية » مضافا إلى الوجه الأول ، وحاصله يتألف من مقدمات :
الأولى : ان الواجب علينا أولا - بعد العلم بأننا مكلفون بالأحكام الشرعية ولم تسقط عنا - هو العلم بتفريغ الذمة في حكم المكلف أو الشارع (1)
ص: 287
سواء حصل معه العلم بأداء الواقع أو لم يحصل ، بل المناط هو حصول اليقين بأن الشارع قد حكم بتفريغ ذمتنا عما كلفنا به.
الثانية : ان الشارع قد جعل لنا طرقا خاصة (1) وحكم بأن سلوكها يوجب فراغ الذمة والخروج عن عهدة التكاليف ، سواء أصابت الواقع أو لم تصب ، بل تكون تلك الطرق التي عينها الشارع في عرض الواقع (2) فكما أن العلم بأداء الواقع يوجب فراغ الذمة والخروج عن عهدته ، كذلك سلوك الطرق المنصوبة شرعا يوجب ذلك : فمع التمكن وانفتاح باب العلم يجزى العمل بما علم أنه الواقع والعمل بما علم أنه مؤدى الطريق الخاص ، لأنه في كل منهما يعلم بفراغ الذمة في حكم الشارع.
الثالثة : أنه قد انسد علينا باب العلم بفراغ الذمة في حكم الشارع ، فلابد من تحصيل الظن بالفراغ كذلك ، والظن بالفراغ في حكم الشارع لا يحصل بمجرد الظن بأداء الواقع ، فان الظن بأداء الواقع لا يلازم الظن بأن الشارع قد اكتفى عن الواقع وحكم بفراغ الذمة عنه بما ظن أنه الواقع ، فتحصيل الظن بالفراغ في حكم الشارع ينحصر بالعمل بمؤدى ما يظن أن الشارع جعله طريقا إلى أحكامه ، لأن العمل بما يظن كونه طريقا يلازم الظن بالفراغ في حكم الشارع.
هذا حاصل ما أفاده في وجه اعتبار خصوص الظن بالطريق ، وقد أطال الكلام والنقض والإبرام فيه ، والمتحصل من كلامه هو ما ذكرناه.
وأنت خبير بأن المقدمات التي اعتمد عليها في بيان مختاره ممنوعة أشدّ المنع.
ص: 288
أمّا المقدمة الأولى : فقوله : « الواجب علينا أولا تحصيل العلم بتفريغ الذمة في حكم المكلف » مما لا محصل له (1) فان باب الامتثال وفراغ الذمة ليس مما يقبل الجعل الشرعي والحكم بأنه حصل الامتثال وفرغت الذمة أو لم يحصل ولم تفرغ الذمة ، فان حصول الامتثال وفراغ الذمة يدور مدار فعل متعلقات الأوامر وترك متعلقات النواهي ، وهذا أمر واقعي غير قابل للجعل الشرعي ، وأي معنى لحكم الشارع بأنه فرغت ذمتك أيها المكلف من التكاليف؟ فدعوى : أن اللازم على المكلف تحصيل العلم بأن الشارع قد حكم بفراغ ذمته من التكاليف غريبة (2).
وأغرب من ذلك أنه جعل المناط في الامتثال ذلك مطلقا حتى مع العلم بأداء الوقع - كما يقتضيه ظاهر كلامه - مع أنه لقائل أن يقول : إنه في صورة العلم بأداء الواقع ، هل يكون حكم من الشارع بفراغ الذمة؟ وهل يحتاج المكلف إلى تحصيل العلم بحكمه ذلك بعد العلم بفعل متعلق التكليف الواقعي؟ وأي أثر يترتب على حكمه بذلك مع أن إجزاء المأتى به عن الأمور الواقعي قهري لا يمكن أن يكون حكم شرعي في مورده؟.
وبالجملة : لم يظهر لنا معنى محصلا (3) لقوله : « إن الواجب علينا هو العلم بتفريغ الذمة في حكم المكلف » ولو مع انسداد باب العلم وعدم التمكن من تحصيل العلم بأداء الواقع ، فضلا عن صورة انفتاح باب العلم والتمكن من
ص: 289
أداء الواقع ، إلا أن نقول : إن العلم مما تناله يد الجعل الشرعي وأن وادى الفراغ والامتثال مما يقبل الحكم المولوي ، فتصح دعوى أنه مع العلم بأداء الواقع للشارع الحكم بفراغ الذمة.
وأمّا المقدمة الثانية : فجعل الطريق في عرض الواقع وأن المكلف مخير بين تحصيل العلم بأداء الواقع وبين العمل بالطريق واضح الفساد ، فان الطريق ليس أمرا مغايرا للواقع وفي عرضه ، بل ليس مفاد جعل الطريق سوى كون مؤداه هو الواقع بالجعل والتعبد الشرعي ، فان معنى كون الشيء طريقا هو أن ما يحكى عنه هو الواقع ، كما تقدم بيان ذلك بما لا مزيد عليه في أول مبحث الظن.
ولقد أجاد الشيخ قدس سره في المقام من قوله : « إن تفريغ الذمة عما اشتغلت به ، إما بفعل نفس ما أراده الشارع في ضمن الأوامر الواقعية (1)
ص: 290
وإمّا بفعل ما حكم حكما جعليا بأنه نفس المراد وهو مضمون الطرق المجعولة ، فتفريغ الذمة بهذا - على مذهب المخطئة - من حيث إنه نفس المراد الواقعي بجعل الشارع ، لا من حيث إنه شيء مستقل في مقابل المراد الواقعي ، فضلا عن أن يكون هو المناط في لزوم تحصيل العلم واليقين » انتهى.
فلا معنى لجعل الطرق في عرض الواقع والتخيير بينهما ، بل إجزاء العمل بالطرق إنما يكون باعتبار أن مؤداها هو الواقع بجعل الشارع والحكم بالهوهوية ، وعلى ذلك يبتني عدم الإجزاء ووجوب الإعادة والقضاء عند انكشاف مخالفة الطريق للواقع - كما عليه أصول المخطئة - فالتخيير بين العمل بالطريق وبين تحصيل العلم بالواقع في صورة انفتاح باب العلم ليس من باب التخيير بين فردي الواجب المخير - نظير خصال الكفارة - بل من باب اتحاد مفاد أحدهما للآخر بحسب الجعل الشرعي ، فقوله في طي كلامه « إن الواجب أولا هو تحصيل اليقين بتحصيل الأحكام وأداء الأعمال على وجه أراده الشارع في الظاهر وحكم معه بتفريغ ذمتنا بملاحظة الطرق المقررة لمعرفتها مما جعلها وسيلة للوصول إليها سواء علم بمطابقة الواقع أو ظن ذلك أو لم يحصل شيء منهما » مما لا يستقيم ولا يقتضيه مذهب المخطئة.
وأمّا المقدمة الثالثة : ففيها أن الظن بالواقع ملازم للظن بالفراغ في
ص: 291
حكم الشارع ، كما أن العلم بالواقع يلازم العلم بالفراغ في حكم الشارع (1) كما اعترف به ، فإنه لا يعقل الفرق بين العلم والظن من هذه الجهة ، لأن العلم والظن بأحد المتلازمين يلازم العلم والظن بالآخر ، فلا معنى للتفكيك بين العلم والظن في ذلك.
والحاصل : أنه كما لا فرق بين العلم بأداء الواقع وبين العمل بمؤدى الطريق الذي علم كونه طريقا في حصول العلم بالفراغ - على ما زعمه في مورد انفتاح باب العلم والتمكن من تحصيل اليقين بذلك - كذلك لا فرق بين الظن بالواقع والعمل بمؤدى الطريق الذي ظن كونه طريقا في حصول الظن بالفراغ ، ولا حاجة معه إلى حكم الشارع بالفراغ ، بل في صورة انسداد باب العلم يستقل العقل بحصول الامتثال.
وكأن منشأ تخيل المحقق ( صاحب المقالة ) في اختياره اعتبار خصوص الظن بالطريق عند عدم التمكن من تحصيل العلم بالواقع ، هو أن مجرد نصب الشارع طريقا إلى أحكامه يقتضي اشتغال الذمة بمؤدى الطريق ويكون مدار فراغ الذمة والخروج عن عهدة التكاليف عليه لا على الواقع (2) كما كان هذا منشأ تخيل « صاحب الفصول » فيما أفاده من الوجه المتقدم ، وقد عرفت : أن مجرد نصب الطريق ما لم يكن محرزا لدى المكلف وواصلا إليه لا أثر له ولا يحصل الامتثال والفراغ بمجرد مطابقة العمل لمؤداه من باب الاتفاق والمصادفة.
وبذلك يظهر : أن الطريق الغير الواصل أسوء حالا من الحكم الواقعي الغير الواصل ، فان مطابقة العمل للواقع من باب المصادفة والإتفاق
ص: 292
- وإن لم يعلم المكلف به - يجزى في غير التكاليف العبادية بل حتى فيها إذا تمشى من المكلف قصد التعبد والتقرب ، وأما مطابقة العمل للطريق المنصوب من باب المصادفة والاتفاق لا يجزى ، لأن الطريق الغير الواصل لا يقتضي التنجيز ولا المعذورية ، وكيف يقتضي المعذورية مع عدم استناد المكلف إليه في العمل؟ لأن الذي يستقل به العقل هو امتثال التكاليف الواقعية ولزوم الخروج عن عهدتها إلا إذا استند المكلف في العمل إلى ما نصبه الشارع طريقا إلى التكاليف ، فلا مجال لتوهم اشتغال الذمة بالطرق المنصوبة مع عدم إحرازها ووصولها تفصيلا ، ونتيجة ذلك : هو مع العلم بالطريق يجزى العمل بمؤداه مع عدم العلم بمخالفته للواقع. كما يجزى العلم بالواقع ، ومع انسداد باب العلم يجزى العمل بما ظن كونه طريقا كما يجزى العمل بما ظن كونه حكما واقعيا ، لعدم التفاوت فيما هو المهم عند العقل : من لزوم الخروج عن تبعة التكاليف بوجه ، إما علما مع التمكن ، وإما ظنا مع عدم التمكن ، وذلك يحصل بالظن بكل من الواقع والطريق ، فتخصيص النتيجة بخصوص الظن بالطريق لا وجه له ، كما لا وجه لتخصيصها بخصوص الظن بالواقع - كما ذهب إليه بعض المشايخ - لاشتراكهما في الأثر.
ولعل منشأ توهم اختصاص النتيجة بخصوص الظن بالواقع ، هو أن مقدمات الانسداد إنما تجرى في المسائل الفرعية والأحكام الشرعية دون المسائل الأصولية ، فان أول المقدمات هو انسداد باب العلم والعلمي بالأحكام الشرعية ويتبعها ساير المقدمات ، فلابد وأن تكون النتيجة اعتبار خصوص الظن بالواقع لأن النتيجة تابعة للمقدمات ، هذا.
ولكن لا يخفى أن المقدمات وإن كانت تجرى في خصوص الأحكام الشرعية ، إلا أن نتيجتها أعم من الظن بالواقع والظن بالطريق (1) فانّ تمهيد
ص: 293
مقدمات الانسداد إنما كان لأجل رعاية التكاليف المعلومة بالإجمال والخروج عن عهدتها بوجه ، وهو كما يحصل مع الظن بالواقع يحصل مع الظن بالطريق.
هذا بناء على الحكومة وكون النتيجة حكم العقل بكفاية الامتثال الظني في مقام الطاعة والخروج عن عهدة التكاليف واضح ، فان الامتثال الظني يحصل بالعمل بما ظن كونه حكما واقعيا ، ويحصل أيضا بالعمل بمؤدى ما ظن كونه طريقا شرعيا.
وأما بناء على المختار من الكشف : فقد يتوهم أن أقصى ما يستكشف من المقدمات هو حجية الظن في الأحكام الشرعية ، وأما حجيته في المسألة الأصولية وتعيين الطرق المنصوبة فلا تقتضيها المقدمات المذكورة.
ولكن التوهم في غير محله ، فإنه لا موجب لاستكشاف نصب الشارع خصوص الظن في المسألة الفرعية طريقا ، بل العقل يستكشف من المقدمات نصب مطلق الظن طريقا ، كان مؤداه مسألة فرعية من كون الشيء واجبا أو حراما ، أو مسألة أصولية من كون الشيء طريقا.
فالأقوى : عموم النتيجة بالنسبة إلى كل من الظن بالحكم والظن بالطريق مطلقا بناء على الكشف والحكومة.
ونعني بكلية النتيجة هو اعتبار الظن مطلقا في أي مسألة من المسائل ، ومن أي سبب حصل ، وأي مرتبة من الظن كان. ويقابله إهمال النتيجة ، إما مطلقا من حيث المرتبة والسبب والمسألة ، وإما في الجملة وبالنسبة إلى بعض هذه الجهات.
والوجوه المحتملة ثلاثة : الأول : كون النتيجة كلية مطلقا. الثاني : كونها مهملة مطلقا. الثالث : التفصيل بين المرتبة فالنتيجة مهملة وبين السبب والمورد فالنتيجة كلية ، أو التفصيل بين السبب والمورد ، فبالنسبة إلى السبب كلية وبالنسبة إلى المورد مهملة ، على ما سيأتي تفصيل ذلك كله ( إن شاء اللّه تعالى ).
وينبغي أن يعلم أولا : أن المقصود من كون النتيجة مهملة ، هو أن ما تقتضيه مقدمات الانسداد أولا وبالذات ليس إلا قضية جزئية (1) وهي اعتبار الظن في الجملة في بعض الموارد ، أو بعض المراتب ، أو من بعض الأسباب ، وتعيين النتيجة من حيث العموم والمخصوص بالنسبة إلى هذه الأمور لابد وأن يكون بمعين آخر غير تلك المقدمات الأولية التي مهدت لاستنتاج اعتبار الظن. وليس المقصود من إهمال النتيجة كونها مهملة إلى الآخر من دون أن يكون لها معين ، فان ذلك يلزم لغوية دليل الانسداد (2) وهو واضح.
وإلى ذلك يرجع ما اشتهر في الألسن : من كون الطريق قد يكون واصلا بنفسه وقد يكون واصلا بطريقه ، فان معنى كون الطريق واصلا بنفسه : هو أنه لا يحتاج في استنتاج النتيجة وتعيينها إلى مقدمة خارجية أخرى وراء مقدمات الانسداد (3) ومعنى كون الطريق واصلا بطريقه : هو أنه لا تكفى تلك
ص: 295
المقدمات في أخذ النتيجة وتعيينها ، بل لابد من ضم مقدمة أخرى إليها ، وتلك المقدمة ، إما أن تكون عناية أخرى من العقل في عرض أخذ النتيجة - كقبح الترجيح بلا مرجح ونحو ذلك مما سيأتي بيانه في وجه عموم النتيجة - وإما أن تكون تلك العناية مقدمات انسداد آخر غير المقدمات المتقدمة التي يتركب منها دليل الانسداد المعروف - على ما سيأتي توضيحه - وعلى كلا التقديرين تكون النتيجة واصلة بطريقها لا بنفسها ، ولكن العناية التي تكون في عرض أخذ النتيجة متقدمة على عناية مقدمات انسداد آخر ، فان أول مقدمة من مقدمات الانسداد الآخر هو انسداد باب العلم والعلمي فيما هو الحجة والطريق المتبع عند انسداد باب العلم والعلمي بالأحكام ، فإذا كان في رتبة أخذ النتيجة ما يوجب تعميمها من حيث الموارد والمراتب والأسباب أو تعيينها في بعض هذه الجهات ، فلا تصل النوبة إلى ترتيب مقدمات انسداد آخر ، لانفتاح باب العلم والعلمي فيما هو الحجة والطريق.
وعلى كل حال : من يقول بأن نتيجة مقدمات دليل الانسداد كلية يقول : إن الطريق واصل بنفسه ، لأنه بعد البناء على كلية النتيجة لا يحتاج إلى عناية أخرى لأخذ النتيجة. ومن يقول بإهمال النتيجة يقول : إن الطريق واصل بطريقه ، وسيأتي أن الأقوى عندنا كون النتيجة من حيث المراتب خصوص الظن المفيد للاطمئنان ، وهو الظن الحاصل من خبر الثقة المحفوف بعمل المشهور ، ولمكان كونه وافيا بمعظم الأحكام صح دعوى كون النتيجة لو كانت
ص: 296
كلية فهي من حيث المراتب أيضا كلية ، لأن اعتبار خصوص الظن الاطمئناني لا ينافي كلية النتيجة ، فإنه ينحل به العلم الإجمالي ويجوز الرجوع إلى الأصل النافي للتكليف في المورد الذي لم يرد فيه خبر ثقة ، فلا نحتاج في أخذ النتيجة إلى إعمال مقدمة أخرى وراء نفس دليل الانسداد ، وسيأتي توضيح ذلك.
إذا عرفت ذلك فاعلم : أن منشأ الاختلاف في كون النتيجة كلية أو مهملة ، هو أن ما تقدم في المقدمة الثالثة : من عدم جواز الاحتياط والرجوع إلى البراءة (1) هل هو في كل مسألة من مسائل الفقه؟ أو هو في مجموع المسائل؟
ص: 297
فان قلنا بعدم جواز الاحتياط والرجوع إلى البراءة في كل مسألة على حدة مع قطع النظر عن انضمام ساير المسائل إليها كانت النتيجة كلية من الجهات الثلاث موردا ومرتبة وسببا. وإن قلنا بعدم جواز الاحتياط والرجوع إلى البراءة في مجموع المسائل والوقايع المشتبهة كانت النتيجة مهملة ، إما من الجهات الثلاث ، وإما من بعض الجهات - كما سيأتي بيانه - ولابد من تعيينها عموما أو خصوصا من التماس معين آخر وراء مقدمات الانسداد.
وقد ذهب المحقق القمي (رحمه اللّه) إلى كلية النتيجة من الجهات الثلاث ، لأن بنائه على بطلان الاحتياط في كل مسألة مسألة وعدم جواز الرجوع إلى البراءة كذلك. ويظهر ذلك أيضا عن المحكى عن صاحبي « المعالم » و « الزبدة ».
وقد أورد عليهم الشيخ قدس سره بما لفظه « لكنك قد عرفت مما سبق : أنه لا دليل على منع جريان البراءة وأصالة الاحتياط أو الاستصحاب المطابق لأحدهما في كل مورد من مواردها بالخصوص (1) إنما الممنوع جريانها في جميع المسائل ، للزوم المخالفة القطعية الكثيرة ، وللزوم الحرج من الاحتياط ، وهذا المقدار لا يثبت الا وجوب العمل بالظن في الجملة ، دون تعميمه بحسب الأسباب ولا بحسب الموارد ولا بحسب مرتبة الظن » انتهى.
وأنت خبير بما فيه ، لأن بطلان الاحتياط في الوقايع المشتبهة لا ينحصر دليله بالعسر والحرج ، حتى يقال : إن العسر والحرج إنما كان يلزم من الاحتياط في مجموع الوقايع لا في كل واقعة واقعة ، بل لو انحصر دليله في ذلك
ص: 298
كان اللازم هو التبعيض في الاحتياط وكان دليل الانسداد عقيما لا تصل النوبة إلى المقدمة الرابعة لأخذ النتيجة كشفا أو حكومة (1) بل يقف الدليل على المقدمة الثالثة ، كما تقدم بيانه.
فالعمدة في بطلان الاحتياط إنما كان هو الإجماع على أن بناء الشريعة ليس على الإتيان بالمحتملات وامتثال التكاليف على سبيل الاحتمال وأنه لابد من امتثال كل تكليف بعنوانه الخاص ، وقيام الإجماع على هذا الوجه هو الذي كان يقتضي الانتقال من المقدمة الثالثة إلى المقدمة الرابعة لأخذ النتيجة ، ولذلك بنينا على الكشف وأبطلنا الحكومة ، لأن قيام الإجماع على هذا الوجه يلازم جعل الشارع حجية الظن ونصبه طريقا إلى التكاليف ، كما اعترف هو قدس سره بذلك فيما تقدم من قوله : « قلت : مرجع الإجماع قطعيا كان أو ظنيا الخ » ومفاد هذا الإجماع بطلان الاحتياط في كل مسألة مسألة لا في مجموع المسائل ، فان كل تكليف في كل واقعة يقتضي الإتيان به بعنوانه الخاص ، فلا يجوز الاحتياط ولو في مسألة واحدة.
وأما عدم جواز الرجوع إلى البراءة في الوقايع المشتبهة : فالدليل فيه أيضا لا ينحصر بلزوم المخالفة القطعية الكثيرة المعبر عنها بلزوم الخروج عن الدين ، حتى يقال : إن المخالفة الكثيرة إنما تلزم من الرجوع إلى البراءة في مجموع الوقايع
ص: 299
لا في كل واقعة واقعة مع قطع النظر عن الرجوع إليها في ساير الوقايع ، بل لزوم المخالفة الكثيرة كان أحد الوجوه الثلاثة المتقدمة في المقدمة الثانية.
وأما الوجه الثالث - وهو العلم الإجمالي - فهو يقتضي عدم جواز الرجوع إلى البراءة في كل مسألة مسألة ، لأن الأصول النافية للتكليف لا تجري في كل واحد من أطراف العلم الإجمالي ، وحيث إن كل مسألة مسألة من أطراف العلم الإجمالي ، فلا تجرى فيها أصالة البراءة.
بل يمكن تقريب الوجه الأول - وهو الإجماع - على وجه يقتضي عدم جواز الرجوع إلى البراءة في كل واقعة واقعة ، بدعوى : أن انعقاد الإجماع على عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة ليس لقيام دليل تعبدي عند المجمعين عليه ، بل لأجل ما استقل به العقل من قبح الاعتماد على البراءة قبل الفحص واليأس عن الظفر بمراد المولى (1) لأن من وظيفة العبد التفحص عن الأحكام ، وقبل الفحص يستقل العقل باستحقاقه للعقوبة وصحة مؤاخذته على تفويته لمرادات المولى ، وليس له الاعتذار بعدم العلم بها ، كما يستقل العقل بعدم استحقاقه للعقاب وقبح مؤاخذته وصحة الاعتذار منه بعد الفحص واليأس عن الظفر بالأحكام أو بما يكون قاطعا للعذر من الحجة القائمة عليها ، فلا يجوز للعبد الرجوع إلى البراءة في كل مسألة مسألة مع قطع النظر عن كونها من أطراف العلم الإجمالي ،
ص: 300
وفي هذه الرتبة - أي رتبة سقوط البراءة - تجرى مقدمات الانسداد ويستقل العقل بلزوم العمل على طبق الظن كشفا أو حكومة ، فلا تصل النوبة إلى جريان البراءة ولو في مسألة واحدة مطلقا ، لا قبل رتبة جريان مقدمات الانسداد - لاستقلال العقل بلزوم الفحص عن الحكم فيها - ولا بعدها ، لاستقلال العقل بلزوم العمل بالظن مع حصوله فيها.
فظهر : أن العقل بنفسه أيضا يستقل بعدم جواز الرجوع إلى البراءة في كل مسألة مسألة مع قطع النظر عن العلم الإجمالي ، ويمكن أن يكون مدرك قيام الإجماع على عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة هو هذا الحكم العقلي ، وإن أبيت إلا عن أن يكون الإجماع على حكم شرعي تعبدي ، فهذا الوجه بنفسه - كالعلم الإجمالي - يقتضي عدم جواز الرجوع في كل واقعة واقعة إلى البراءة ، وإن أبيت عن ذلك أيضا - بدعوى : أن المفروض انسداد باب العلم والعلمي وعدم التمكن من تحصيل الواقع أو ما يقوم مقامه ومعه يستقل العقل بالبرائة وقبح العقاب بلا بيان في كل مسألة مسألة إلا أن يتشبث بذيل الإجماع التعبدي على عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة والرجوع إلى البراءة فيها أو بلزوم الخروج عن الدين أو بالعلم الإجمالي فلو لم تكن هذه الوجوه الثلاثة لم يكن موقع لدليل الانسداد واستنتاج حجية الظن كشفا أو حكومة لاستقلال العقل بالبرائة بعد انسداد باب العلم والعلمي - فيكفي في عدم جواز الرجوع إلى البراءة في كل مسألة مسألة نفس العلم الإجمالي.
فتحصل : أنه لو كان الوجه في بطلان الاحتياط هو استلزامه العسر والحرج وكان الوجه في عدم جواز الرجوع إلى البراءة في الوقايع المشتبهة هو لزوم المخالفة الكثيرة القطعية ، لم يكن مجال لدعوى كون النتيجة كلية من حيث المورد والسبب والمرتبة (1) لأن أقصى ما يقتضيه العسر والحرج ولزوم المخالفة
ص: 301
الكثيرة هو بطلان الاحتياط والبرائة في مجموع المسائل والوقايع المشتبهة ، وذلك لا يقتضي اعتبار الظن في كل مسألة مسألة ولا أي مرتبة من مراتبه ولا من أي سبب حصل ، بل أقصى ما يقتضيه : اعتبار الظن في الجملة ، فتكون النتيجة مهملة ، ولابد من تعيينها من حيث العموم والخصوص بمعين آخر وراء مقدمات الانسداد ، وسيأتي الكلام فيه.
وأما لو كان الوجه في بطلان الاحتياط هو قيام الإجماع على أن بناء الشريعة ليس على الامتثال الاحتمالي وكان الوجه في عدم جواز الرجوع إلى البراءة هو العلم الإجمالي بالتكاليف في الوقايع ، كانت النتيجة كلية لا محالة ، فإنه لو كان اعتبار الظن في بعض المسائل دون بعض ، ففيما لا يعتبر فيه الظن لا يخلو الحال فيه ، إما من الاحتياط ، وإما من الرجوع إلى البراءة ، والمفروض بطلانهما في كل مسألة مسألة. وكذا الكلام في السبب ، فإنه لو اعتبر الظن من سبب خاص ، فالمسألة التي لا يحصل فيها الظن من ذلك السبب لا يخلو أمرها عن الاحتياط أو البراءة ، والمفروض عدم جواز الرجوع إليها مطلقا ، وقس على ذلك الكلام في المرتبة.
وحيث إن قيام الإجماع على لزوم الإتيان بكل تكليف بعنوانه الخاص مما لا محيص عنه في استنتاج النتيجة من مقدمات الانسداد والانتقال من المقدمة الثالثة إلى المقدمة الرابعة وكان العلم الإجمالي بالتكاليف حاصلا في الوقايع المشتبهة ، فالأقوى ما عليه المحقق القمي رحمه اللّه : من كون النتيجة كلية والطريق واصلا بنفسه ، لا مهملة ليكون الطريق واصلا بطريقه مطلقا (1) سواء قلنا بالكشف أو الحكومة.
أما بناء على الكشف : فواضح ، فان حال الظن المطلق يكون حينئذ حال الظن الخاص الذي قام الدليل بالخصوص على حجيته يتبع في العموم
ص: 302
والخصوص دليل اعتباره ، وحيث إن دليل اعتبار الظن المطلق ليس هو إلا مقدمات الانسداد ، فان العقل يستكشف منها جعل الشارع حجية الظن ، وهي لا تقتضي جعله حجة في الجملة وفي بعض الموارد أو من بعض الأسباب أو بعض المراتب ، بل قد عرفت أنها تقتضي جعله حجة مطلقا في جميع الموارد والأسباب والمراتب ، لأن بطلان الاحتياط والبرائة في كل مسألة مسألة يقتضي التعميم بالنسبة إلى المسائل ، والتعميم في المسائل يستلزم التعميم بالنسبة إلى الأسباب والمراتب - كما تقدم وجهه - فلا محيص من استكشاف العقل من المقدمات حجية الظن مطلقا من الجهات الثلاث.
وأما بناء على الحكومة : فكذلك بحسب الأسباب والمراتب ، فان المدار في الحكومة على حصول الظن بالامتثال ولزوم الخروج عن عهدة التكاليف ظنا بعد تعذر الامتثال والخروج عنها علما ، ولا دخل للأسباب المفيدة للظن في ذلك عند العقل ، فمن أي سبب حصل منه الظن بالامتثال يجزى عقلا ، كما لا دخل للمراتب في ذلك ، إلا إذا أمكن حصول الظن الاطمئناني وكان وافيا بالمعلوم بالإجمال ، فان الظن الاطمئناني مقدم عند العقل على غيره ، لأنه أقرب إلى العلم.
وأما بحسب الموارد : فقد يقال : إن العقل لا يستقل بكفاية الامتثال الظني في الموارد التي علم اهتمام الشارع بها على وجه يلزم رعاية الواقع والتحفظ عليه كيف ما اتفق - كباب الأعراض والدماء والأموال - بل لابد فيها من الامتثال العلمي ولو بالاحتياط ، وهذا لا ينافي ما تقدم من بطلان الاحتياط في كل مورد مورد ، لأن ذلك إنما كان من حيث كون المورد محتمل الوجوب أو الحرمة ، وأما إذا كان المورد بنفسه مما تجرى فيه أصالة الحرمة ، فلا محيص من الاحتياط فيه ولا يكفي فيه الامتثال الظني ، بل يمكن أن يقال : إنه حتى على الكشف لا يكون الظن حجة في هذه الموارد ، لأن العلم باهتمام الشارع بها يمنع عن استكشاف العقل من المقدمات اعتبار الظن فيها شرعاً.
ص: 303
ولكن الإنصاف : أنه لا يمكن القول بذلك (1) فإنه قد تقدم في بعض المباحث السابقة : أنه يجب على الشارع ايجاب الاحتياط في الموارد التي يلزم رعاية الواقع فيها لأهمية الملاك والمصلحة التي اقتضت تشريع الحكم على طبقها ، فإنه لا سبيل للعباد إلى تشخيص الملاكات والمصالح النفس الأمرية وأنه في أي مورد يلزم رعاية المصلحة كيفما اتفق وفي أي مورد لا يلزم إلا من طريق السمع وايجاب الاحتياط في الموارد المشتبهة وعدمه. ولابد وأن يكون ايجاب الاحتياط واصلا إلى المكلف ، وإلا فهو لا يزيد على نفس التكليف الواقعي ، فكما أن احتمال التكليف لا يكون ملزما عند العقل ما لم يكن من أطراف العلم الإجمالي كذلك احتمال ايجاب الاحتياط ، فان قام دليل على وجوب الاحتياط في مورد فهو ، ويكون ذلك بمنزلة المخصص لما انعقد عليه الإجماع : من أن بناء الشريعة على امتثال التكاليف بعناوينها الخاصة - الذي كان مدرك الكشف - وحاكما على ما استقل به العقل من الحكومة وكفاية الامتثال الظني ، ولا كلام فيه حينئذ ، فيكون حال ما دل على ايجاب الاحتياط في بعض الموارد حال ما دل على المنع عن العمل بالظن القياسي ، وسيأتي أنه لا إشكال فيه. وإن لم يقم دليل على ايجاب الاحتياط في مورد ، فهو يكون كسائر الموارد التي انسد باب العلم والعلمي فيها لابد من اعتبار الظن فيه كشفا أو حكومة (2) ولا أثر لمجرد احتمال ايجاب الشارع الاحتياط فيه ، فان حكمه حكم
ص: 304
احتمال التكليف في كل واقعة واقعة من الوقايع المشتبهة ، ولو كان البناء على فتح باب الاحتمال لكان احتمال عدم جعل الشارع حجية مطلق الظنون النافية للتكليف في جميع الموارد أقرب وأولى ، لأنه يمكن أن يتوهم أن مقدمات الانسداد إنما تجرى لإثبات التكاليف المعلومة بالإجمال والخروج عن عهدتها ، فتختص النتيجة بالظن المثبت للتكليف دون الظن النافي له (1) وإن كان هذا التوهم أيضا فاسدا ، فان جعل الظن المطلق طريقا محرزا كجعل الظن الخاص طريقا محرزا ، لا يفرق فيه بين كون المؤدى ثبوت التكليف أو نفيه.
وبالجملة : ليس حال الظن - بناء على الكشف - إلا كحال سائر الحجج الشرعية التي قام الدليل بالخصوص على اعتبارها من كونه طريقا مثبتا للواقع محرزا له كالعلم على الأصول العملية ، فلو فرضنا أن المورد مما تجرى فيه أصالة الحرمة في حد نفسه كان الظن المستنتج حجيته من دليل الانسداد حاكما عليها ، كحكومته على سائر الأصول العملية مطلقا ، سواء كانت نافية للتكليف أو مثبتة له ، فتأمل (2)أقول: قد تقدم أن ذلك يتم في فرض الجهل باهتمام التكليف المشكوك، وإلا فمع الجزم به لا يحتاج،في تقديمه على الظن إثبات ايجاب الاحتياط الشرعي ، كما لا يخفى.(3) (4)
ص: 305
وبناء على الحكومة فالأمر يدور مدار حصول الامتثال الظني من غير فرق أيضا بين الموارد ، إلا أن يقوم دليل بالخصوص على اعتبار الامتثال العلمي ، فلو ظن كون المرأة خلية يجوز للشخص تزويجها ، لأن احتمال كونها ذات بعل موهوم ، وقد أثبتنا في المقدمة الثالثة أنه لا يجب الاحتياط في الموهومات ، وكذا الكلام في الأموال والدماء.
فتحصّل : أنه لو بنينا على بطلان الاحتياط في كل واقعة واقعة - كما هو مفاد الإجماع على أن بناء الشريعة ليس على الامتثال الاحتمالي - وبنينا على عدم جواز الرجوع إلى البراءة في كل شبهة شبهة - كما هو مقتضى العلم الإجمالي بثبوت التكاليف بين الشبهات - كانت النتيجة كلية سببا وموردا ومرتبة مطلقا بناء على الكشف والحكومة ، إلا إذا أمكن تحصيل المرتبة الاطمئناني من الظن وكان وافيا بالمعلوم بالإجمال ، فإنه يكون مقدما إلى غيره مطلقا ، قلنا بالكشف أو الحكومة.
وأما لو بنينا على بطلان الاحتياط في مجموع الوقايع - كما هو مفاد أدلة نفي العسر والحرج - أو بنينا على عدم جواز الرجوع إلى البراءة في مجموع الشبهات - كما هو مقتضى لزوم الخروج عن الدين والمخالفة الكثيرة - كانت النتيجة مهملة (1).
ولا يخفى أنه يكفي في إهمال النتيجة أحد الأمرين : إما من عدم جواز الرجوع إلى البراءة في مجموع الشبهات وإن لم نقل ببطلان الاحتياط في المجموع بل بنينا على بطلانه في كل واقعة واقعة ، وإما من بطلان الاحتياط في المجموع وإن قلنا بعدم جواز الرجوع إلى البراءة في كل شبهة شبهة ، وحيث إنّه لا سبيل
ص: 306
إلى القول ببطلان الاحتياط في المجموع لأنه يلزم من ذلك التبعيض في الاحتياط ولم تصل النوبة إلى المقدمة الرابعة لأخذ النتيجة (1) فالقائل بإهمال النتيجة لابد وأن يلتزم بعدم جواز الرجوع إلى البراءة في المجموع لا في كل شبهة شبهة ، مع التزامه ببطلان الاحتياط في كل واقعة واقعة.
والالتزام بعدم جواز الرجوع إلى البراءة في المجموع إنما يمكن بأحد أمرين : إما بقطع النظر عن العلم الإجمالي بالتكاليف الثابتة بين الشبهات وفرض عدم كونه منجزا لها وانحصار المدرك في بطلان الرجوع إلى البراءة بلزوم المخالفة الكثيرة أو الإجماع إن كان مفاده عدم جواز الرجوع إليها في المجموع ، وأما بالبناء على أن العلم الإجمالي لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية وإنما تحرم مخالفته القطعية حتى يصح الرجوع في بعض الشبهات إلى البراءة لتكون النتيجة مهملة.
وبعد البناء على إهمالها لابد من تعيينها عموما أو خصوصا (2) والكلام في ذلك تارة : يقع على القول بالكشف ، وأخرى : يقع على القول بالحكومة.
أما على القول بالحكومة : فالظاهر أنه لا ينبغي الإشكال في التعميم بحسب الموارد والأسباب ، لأنه لا يتفاوت في حصول الامتثال الظني عند العقل اختلاف الموارد والأسباب ، لاستواء الكل فيما هو المناط : من تحقق الامتثال الظني. ولا ينبغي الإشكال أيضا في وجوب الاقتصار على المرتبة الاطمئناني وإن لم يكن وافيا بالأحكام ، لأنه أقرب إلى العلم.
ص: 307
ولا يتوهّم : أن التعميم بحسب الموارد يقتضي التعميم بحسب المراتب - بالبيان المتقدم - فان ما تقدم من استلزام التعميم موردا للتعميم مرتبة إنما كان لأجل البناء على بطلان الاحتياط والبرائة في كل مسألة مسألة ، وذلك كان يقتضي التعميم مرتبة كما كان يقتضي التعميم موردا - بالبيان المتقدم - وأما لو بنينا على بطلان الرجوع إلى البراءة في مجموع الوقايع - كما هو مفروض الكلام - فالتعميم موردا وسببا لا يلازم التعميم مرتبة ، لأنه في المورد الذي لا يمكن تحصيل الظن الاطمئناني يرجع فيه إلى البراءة ، فعلى القول بالحكومة الإهمال إنما يتصور بالنسبة إلى المرتبة فقط.
وأما على القول بالكشف : فيمكن فرض الإهمال بالنسبة إلى الجهات الثلاث : موردا ومرتبة وسببا (1) ولابد حينئذ من التماس ما يعين النتيجة عموما أو خصوصا.
أما بحسب الموارد : فقد ادعى الإجماع على التعميم فيها [ وقد ادعى الإجماع على التعميم بالنسبة إلى الموارد ].
وقد أورد عليه : بأن المسألة من المسائل المستحدثة لا يصح دعوى الإجماع فيها.
والأولى التمسك للتعميم بحسب الموارد بما تقدم : من أنه بناء على الكشف يكون الظن المطلق كالظن الخاص الذي قام الدليل بالخصوص على اعتباره لا يفرق فيه بين مسائل الفقه وأبوابه ، فتأمل ، مع أنّ دعوى الإجماع في
ص: 308
المسائل المستحدثة يمكن توجيهها بما تقدم في دعوى الإجماع على عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة.
وأما بحسب الأسباب : فقد ذكر للتعميم فيها وجوه ثلاثة :
تساوى الأسباب وعدم رجحان بعضها على بعض ، فلابد من التعميم بحسبها ، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح.
وهذا الوجه يتوقف على إبطال ما يصلح لترجيح بعض الظنون على بعض ، وقد ذكر لترجيح بعضها على بعض وجوه ثلاثة :
كون بعض الظنون متيقن الاعتبار بالنسبة إلى غيره ، بمعنى أن بعضها مما يقطع اعتباره في حال الانسداد ، بحيث يعلم أنه لو كان شيء حجة عند انسداد باب العلم لكان هو الحجة ، وهذا يكفي في الترجيح ، فيجب الأخذ بما علم اعتباره.
وقد أورد على هذا الوجه بما حاصله : أنه لابد وأن تكون الحجة في حال الانسداد وافية بمعظم الأحكام ، على وجه لا يلزم عن الرجوع إلى الأصول العملية في الموارد التي لم تقم عليها الحجة المحاذير المتقدمة ، وليس في أقسام الظنون ما يكون بهذه المثابة ، فان ما يعلم اعتباره بالإضافة إلى غيره هو الخبر الصحيح الأعلائي ، وهو ما زكى جميع الرواة بعد لين ، ولم يعمل في تصحيح رجاله وتميز مشتركاته في سلسلة السند ما يكون مشتركا بين الثقة والضعف بظن أضعف نوعا من سائر الأمارات ، ولم يكن موهونا بمعارضة بعض الأمارات له وكان مما اعتمد عليه الأصحاب وعملوا به مفيدا للظن الاطمئناني ، فالخبر الواجد لهذه القيود هو الذي يكون متيقن الاعتبار بالإضافة إلى غيره من الأمارات في حال الانسداد ، وهو كما ترى! إذ ليس في ما بأيدينا من الأخبار
ص: 309
ما يكون بهذه المثابة إلا أقل قليل لا يفي بمقدار معتد به من الفقه ، فضلا عن أن يكون وافيا بمعظمه ، على أنه لو فرض كثرته وأنه يفي بمعظم الأحكام ، إلا أنه حيث يعلم إجمالا بثبوت المخصصات والمقيدات له فيما بأيدينا من الأخبار فلا يجوز الاعتماد عليه ، لأنه يكون حينئذ كظواهر الكتاب لا يجوز التمسك بها من جهة العلم الإجمالي بالمخصصات والمقيدات لها.
فان قلت : لو فرض عزة وجود هذا الصنف من الخبر وعدم كونه وافيا بمعظم الأحكام ، لكان المتعين حينئذ هو التعدي عنه إلى ما هو المتيقن بالإضافة إلى غيره مما يكون دون الخبر الصحيح الأعلائي ، فان كان وافيا وإلا يتعدى إلى غيره مما هو المتيقن بالإضافة إلى غيره ، وهكذا إلى أن يحصل فيما بين أصناف الأخبار ما يكون وافيا بمعظم الأحكام ، فعلى هذا لا يجوز التعدي إلى كل أمارة ، ولا موجب لتعميم النتيجة لكل ظن ، مثلا لو فرض أن الخبر المزكى رواته بعدل واحد مع كونه. واجدا لسائر القيود والشروط المتقدمة كان كثير الوجود وافيا بالأحكام ، فالواجب هو الاقتصار عليه ، ولا يجوز التعدي عنه إلى ما دونه مما كان فاقدا لبعض القيود الاخر ، ولو فرض أن هذا الصنف من الخبر أيضا قليل لا يفي بالأحكام ، فاللازم التعدي عنه إلى ما دون ذلك مما يكون فاقدا لشرطين وهكذا ، وبالأخرة لابد وأن ينتهى الأمر إلى وجود ما يكون بقدر الحاجة.
قلت : ليس الخبر المزكى رواته بعدل واحد مع اشتماله على سائر الشرائط والأوصاف متيقن الاعتبار بالإضافة إلى غيره ، فإنه ليس أولى من غيره مما زكى رواته بعدلين مع كونه فاقدا لبعض القيود الاخر.
وبالجملة : الخبر الواجد لجميع الأوصاف المتقدمة هو الذي يكون متيقن الاعتبار بالإضافة إلى غيره في حال الانسداد ، وما عدا ذلك من سائر أصناف الخبر ليس فيما بينها مما يكون متيقن الاعتبار ، فان احتمال الحجية في الخبر المشتمل على بعض الأوصاف الفاقد لبعضها الآخر ليس أقوى من الخبر
ص: 310
الواجد لما فقده غيره والفاقد لما وجده ، هذا.
ولكن الأنصاف : أن دعوى كون المتيقن في المرتبة الأولى هو الخبر الواجد للأوصاف والشروط المتقدمة مما لا شاهد عليها (1) بل الذي يكون متيقن الاعتبار في حال الانسداد هو مطلق الخبر الموثوق به - ولو بواسطة عمل الأصحاب به واعتمادهم عليه - وإن كان فاقدا للشرائط المتقدمة.
نعم : الخبر الواجد للأوصاف إنما يكون متيقن الاعتبار بالنسبة إلى الأدلة الدالة على حجية الخبر الواحد ، فان القدر المتيقن دلالتها على حجية الخبر الواجد للأوصاف لو ادعى عدم إطلاقها لمطلق الخبر ، وأما القدر المتيقن في الحجية في حال الانسداد هو الخبر الموثوق به بعمل الأصحاب ، فإنه لا يمكن أن يكون غيره حجة في هذا الحال ولا يكون هو حجة.
فما أفاده الشيخ قدس سره : من أن المتيقن عند انسداد باب العلم هو الخبر المشتمل على القيود المتقدمة ، يمكن منعه ، وكأنه اشتبه عليه ما هو المتيقن من دلالة أدلة حجية الخبر مع ما هو المتيقن من دليل الانسداد. والخبر الموثوق به بمثابة من الكثرة يفي بمعظم الأحكام ، فلا وجه لتعميم النتيجة إلى مطلق ما يفيد الظن.
مع أنه لو سلم أن ما هو متيقن الاعتبار في المرتبة الأولى هو الخبر الواجد للأوصاف ، ولكن نقول : إن ما هو المتيقن في المرتبة الثانية هو مطلق الخبر الموثوق به ، ولا سبيل إلى دعوى أنه إذا لم يكن المتيقن في المرتبة الأولى وافيا بالأحكام فليس في المرتبة الثانية ما يكون متيقن الاعتبار بالإضافة ، مع أنه لو سلم أنه ليس في المرتبة الثانية ما يكون متيقن الاعتبار ، ولكن يوجد في المرتبة
ص: 311
الأولى ما يكون واجدا للأوصاف المتقدمة وكان مفاده حجية مطلق الخبر الموثوق به ، فتكون نتيجة دليل الانسداد هو الخبر الموثوق به ، فإنه هو المتيقن في حال الانسداد ، وحيث إنه - بحمد اللّه - يفي بمعظم الأحكام ، فلا موجب لتعميم النتجية لمطلق الظن ، فتدبر جيدا.
( من الوجوه التي ذكروها لترجيح بعض الظنون على بعض ) هو كون بعض الظنون أقوى من بعض ، فيتعين الأخذ بما هو الأقوى ، لأنه يلزم الاقتصار في مخالفة الاحتياط - الذي كان هو الأصل في حال انسداد باب العلم - على القدر المتيقن ، وهو ما كان الاحتمال الموافق للاحتياط فيه بعيدا.
وفيه : أن القوة والضعف من الأمور الإضافية لا يمكن ضبط مرتبة خاصة منها على وجه يمكن الإحالة عليها في تعيين النتيجة ، مع أن تعيين النتيجة المهملة بالقوة الضعف لا يخلو عن إشكال ، إذ من الممكن أن يكون الشارع قد جعل الظن الضعيف حجة ولم يجعل الظن القوى حجة (1).
نعم : الترجيح بالقوة والضعف إنما يستقيم بناء على الحكومة ، فان العقل يستقل بلزوم الأخذ بأقوى الظنون في مقام الخروج عن عهدة التكاليف. وأما بناء على الكشف - كما هو مفروض الكلام - فلا عبرة بالقوة والضعف ، لأن الجعل الشرعي يدور مدار ملاكه الواقعي ، وقد لا تكون القوة ملاكا في نظر الشارع.
ص: 312
( من وجوه الترجيح ) هو أن بعض الظنون مظنون الحجية والاعتبار ، فيكون أولى من غيره ، وقد ذكر للأولوية وجهان :
أحدهما : كون مظنون الحجية أقرب إلى الحجية ، فيجب صرف القضية المهملة إلى ما هو الأقرب إلى الحجية.
ثانيهما : انه أقرب إلى إحراز مصلحة الواقع ، لأن الظن بحجية ظن من الأمارات التي تفيد الظن بالواقع ، فيكون ما ظن بحجيته للواقع أقرب إلى الواقع ، وأقرب إلى إدراك مصلحة بدل الواقع على تقدير التخلف ، لأن الظن بحجية ظن يلازم الظن بحصول المصلحة السلوكية على تقدير مخالفته للواقع ، فيكون احتمال فوات الواقع وبدله موهوما في موهوم ، وهذا بخلاف الظن الحاصل من أمارة لم يظن بحجيتها ، فإنه ليس فيه إلا الظن بمطابقة الواقع فقط ، ولا إشكال أنه لو دار الأمر بين العمل بما يظن معه إدراك الواقع أو بدله وبين العمل بما يظن معه إدراك الواقع فقط ، يتعين العمل بما يظن معه إدراك الواقع أو بدله ، فتكون النتيجة خصوص مظنون الحجية لا كل ظن (1).
وقد أفاد الشيخ قدس سره في تضعيف هذا الوجه بما حاصله : أن ما ذكر في الوجه الثاني من وجهي اعتبار مظنون الحجية لا يقتضي تعيين العمل بخصوص مظنون الحجية ، بل أقصى ما يفيده هو أن العمل بما ظن حجيته أولى من العمل بما لا يظن حجيته ، لا أنه يتعين ذلك ، مع أن هذا الوجه يرجع في
ص: 313
الحقيقة إلى الترجيح بالقوة والضعف ، وقد تقدم الجواب عنه ، مضافا إلى أنه يلزم على هذا عدم العمل بمطلق مظنون الحجية ، بل يتعين العمل بما يظن حجيته بظن قد ظن حجيته ، لأنه أبعد عن مخالفة الواقع وبدله ، هذا.
ولكن لا يخفى عليك : ضعف ما أفاده أخيرا ، فان الظن بحجية ظن يلازم الظن بادراك بدل الواقع على تقدير مخالفة الظن للواقع ، ولا يحتاج إلى كون الظن بحجية ظن مظنون الحجية بظن آخر ، بل لو فرض حصول الظن كذلك لم يترتب عليه أثر أصلا.
وما أفاده الشيخ قدس سره من أنه يكون أبعد عن مخالفة الواقع وبدله مما لا نعقله (1) فإنه لو فرض حصول ألف ظن لا يحصل من ذلك إلا الظن بادراك الواقع أو بدله ، مثلا لو فرض حصول الظن بالواقع من الشهرة ثم حصل الظن بحجية الشهرة من الخبر الواحد ثم حصل الظن بحجية الخبر عن الاستقراء ثم حصل الظن بحجية الاستقراء من الإجماع المنقول ثم حصل الظن بحجية الإجماع المنقول من أمارة ظنية أخرى ، فهذه الظنون المترتبة لا توجب إلا الظن بحصول الواقع أو بدله ، وهذا حاصل من الظن بحجية الشهرة الحاصل من الخبر الواحد ، والظنون المترتبة الأخرى لا توجب حصول ظن آخر ، بل لا توجب قوة الظن بالواقع أو بدله الذي كان حاصلا في المرتبة الأولى ، فما أفاده قدس سره بقوله : « مع أن اللازم على هذا أن لا يعمل بكل مظنون الحجية الخ » لا يخلو عن مناقشة.
ص: 314
وعلى كل تقدير : الصواب في الجواب عن الترجيح بمظنون الاعتبار ، هو أن يقال : إنه إن كان المراد من الترجيح بمظنون الاعتبار أن مجرد الظن باعتبار ظن - وإن لم يقم دليل على اعتبار الظن - يكفي في صرف القضية المهملة ويقتضي أن تكون نتيجة دليل الانسداد خصوص الظن الذي ظن باعتباره ، فهو مما لا يمكن المساعدة عليه ، فان تعيين القضية المهملة لابد وأن يكون بمعين قطعي الاعتبار (1) حتى لا يلزم الترجيح بلا مرجح ، فلا يجوز الترجيح بكل مزية ما لم يقم دليل على اعتبارها.
وتوهم : أن رجحان الظن الذي ظن باعتباره على مشكوك الاعتبار وموهومه أمر قطعي وجداني فلابد وأن يكون مرجحا ومعينا للقضية المهملة ، واضح الفساد ، فان رجحان مظنون الاعتبار على أخويه وإن كان وجدانيا قطعيا ، إلا أن كونه مرجحا ومعينا للقضية المهملة ليس قطعيا بعد عدم قيام الدليل على الترجيح به ، لما عرفت : من أنه ليس كل مزية تقتضي الترجيح.
ص: 315
ولا يقاس الترجيح في تعيين الحجة الشرعية على الترجيح في الأمور العادية ، فإنه في الأمور العادية يكفي أدنى مزية موافقة للغرض وميل النفس وملائمة الطبع لترجيح أحد الطرفين واختياره ، وأما الأمور الشرعية : فلابد من أن يكون الترجيح بما ثبت حجيته واعتباره شرعا أو عقلا ، ولا يكفي في الخروج عن الترجيح بلا مرجح مطلق المزية ما لم يقم دليل على وجوب الترجيح بها.
وإن كان المراد من الترجيح بمظنون الاعتبار ، هو أن القضية المهملة المرددة بين مظنون الاعتبار ومشكوكه وموهومه تتعين في خصوص مظنون الاعتبار (1) بترتيب مقدمات انسداد آخر ، بأن يقال : إنا نعلم من مقدمات الانسداد المتقدمة أن الشارع جعل لنا حجة وطريقا إلى الأحكام المعلومة بالإجمال ، وقد انسد علينا باب العلم به لتردد الطريق المجعول بين مظنون الاعتبار ومشكوكه وموهومه ، ولا يجوز لنا إهمال الطريق المجعول لأنه يلزم من إهماله إهمال الإحكام ، ولا يجوز أو لا يجب الاحتياط في جميع الأطراف : من مظنون الاعتبار أو مشكوكه وموهومه ، فالعقل يستقل حينئذ بتعين الأخذ بمظنون الاعتبار وترك المشكوك والموهوم ، ولو فرض تردد الظن بالاعتبار أيضا بين مظنون الاعتبار ومشكوكه وموهومه ، فلا بد من إجراء مقدمات انسداد ثالث لتعيين النتيجة وانتهاء الأمر إلى اعتبار ظن واحد أو ظنون متعددة ، فيؤخذ بالجميع ، فيكون الترجيح بمظنون الاعتبار لقيام دليل قطعي على الترجيح به ،
ص: 316
وهو مقدمات الانسداد الثاني أو الثالث أيضا إن وصلت النوبة إليه.
فيرد عليه : أن إجراء مقدمات الانسداد الثاني والثالث يتوقف على بقاء النتيجة مهملة بحيث لا يمكن تعيينها إلا بمقدمات انسداد آخر ، وليس كذلك ، فإنه بمجرد عدم ثبوت مرجح لبعض أفراد الظنون يستقل العقل بعموم النتيجة لكل ظن ، لقبح الترجيح بلا مرجح ، فلا إهمال حتى نحتاج إلى مقدمات انسداد آخر.
فان قلت : يمكن قلب الدليل بأن يقال : إن حكم العقل بعموم النتيجة موقوف على ثبوت المرجح لبعض أفراد الظنون وبمعونة الانسداد الثاني يثبت المرجح لمظنون الاعتبار ، فيرتفع موضوع حكم العقل بالتعميم الذي كان مبنيا على قبح الترجيح بلا مرجح.
وبالجملة : كما يصح أن يقال : إن العقل يستقل بعموم النتيجة لكل ظن بمجرد عدم ثبوت المرجح لبعض أفراد الظنون فلا إهمال حتى نحتاج إلى دليل الانسداد ، كذلك يصح أن يقال : إن العقل يستقل ببركة مقدمات الانسداد بترجيح مظنون الاعتبار ، فلا قبح في ترجيحه ، فلا تعميم في النتيجة.
قلت : حكم العقل بالتعميم مقدم بالرتبة على حكمه بترجيح مظنون الاعتبار بمعونة مقدمات الانسداد الثاني ، لما عرفت سابقا : من أن نتيجة مقدمات الانسداد لابد من أن تكون واصلة إلى المكلف إما بنفسها وإما بطريقها (1) فإنه لا أثر لترتيب مقدمات لا تكون النتيجة منها واصلة لا بنفسها
ص: 317
ولا بطريقها ، وحيث استكشفنا من مقدمات الانسداد : أن الشارع جعل الظن في الجملة طريقا إلى إحراز الأحكام وتردد الطريق المجعول بين أفراد الظن ، فلابد وأن يستقل العقل إما بالتعميم لجميع أفراد الظن وإما بتعيين بعض أفراده ، ولكن حكم العقل بالتعيين يتوقف على ثبوت معين ومرجح لبعض الأفراد في تلك المرتبة - أي في مرتبة استكشاف النتيجة من المقدمات - وفي تلك المرتبة لم يكن ما يقتضي الترجيح والتعيين لبعض الأفراد ، بل ترجيح البعض يتوقف على ترتيب انسداد آخر ، وهو يتوقف على بقاء الإهمال والإجمال في الطريق المنصوب في المرتبة المتأخرة من أخذ النتيجة ، والعقل يستقل في المرتبة السابقة بعموم النتيجة ، لأنه في تلك المرتبة لم يثبت الترجيح ، فلا يبقى موضوع للانسداد الثاني ، فتأمل.
فتحصل : أن الوجوه الثلاثة التي ذكروها لترجيح بعض أفراد الظنون على بعض وتخصيص النتيجة بالبعض المعين - ردا على ما ذكره في وجه التعميم من عدم الترجيح لبعض الأفراد على بعض - كلها مخدوشة.
هو ما حكى عن بعض الأعلام : من أن القاعدة وإن كانت تقتضي الاقتصار على مظنون الاعتبار إذا كان وافيا بمعظم الأحكام ، إلا أنه يعلم إجمالا أن في مشكوك الاعتبار وموهومه مقيدات ومخصصات لمظنون الاعتبار ، فيجب
ص: 318
العمل بالجميع.
وفيه أولا : منع العلم الإجمالي. وثانيا : أنه يلزم الاقتصار على الأخذ بالمشكوكات أو الموهومات التي تكون كاشفة عن المرادات في مظنون الاعتبار ، ولا موجب للأخذ بجميع المشكوكات والموهومات ، فهذا الوجه لا يقتضي تعميم النتيجة إلى كل ظن.
ما حكى عن بعض المشايخ : من أن قاعدة الاشتغال تقتضي العمل بجميع أفراد الظنون ، لأن الثابت من دليل الانسداد وجوب العمل بالظن في الجملة ، وحيث إنه لم يكن في أفراد الظن ما يكون قدرا متيقنا وافيا بالأحكام ، فلابد من العمل بكل ما يحتمل الحجية.
وفيه : أن الاحتياط في المسائل الأصولية يرجع إلى الاحتياط في المسائل الفقهية (1) وقد تقدم ( في المقدمة الثالثة من مقدمات الانسداد ) بطلان الاحتياط في المسائل الفقهية.
فتحصل من جميع ما ذكرنا : أنه على فرض كون النتيجة مهملة لا سبيل إلى تعميمها بأحد الوجوه الثلاثة ، ولكن قد عرفت : أنه لا وجه لأن تكون النتيجة مهملة بعد البناء على بطلان الاحتياط في كل واقعة واقعة وعدم جواز الرجوع إلى البراءة كذلك ، وعلى فرض كون النتيجة مهملة ، فلابد من الاقتصار على العمل بالخبر الموثوق به ، لأنه هو القدر المتيقن في حال الانسداد
ص: 319
ويفي بمعظم الأحكام الشرعية.
ولا وجه لان يكون القدر المتيقن هو الخبر الصحيح الأعلائي باصطلاح المتأخرين وهو الواجد للقيود والشروط المتقدمة ، حتى يقال : إنه لا يفي بأقل قليل من الأحكام ، مع أنه لو سلم كونه هو المتيقن ، ففيما بين الأخبار التي دلت على حجية الخبر ما يكون واجدا للقيود والشروط ، فلا محيص من البناء على كون النتيجة خصوص الخبر الموثوق به ولو لم يعمل به الأصحاب ، لأنه المتيقن الحقيقي أولا ، والمتيقن الإضافي ثانيا ، وأنه مما قام ظن واحد على حجيته ثالثا.
فسواء قلنا بصحة مقدمات الانسداد أو لم نقل يكون الطريق المنصوب هو خبر الثقة ، وهو بحمد اللّه واف بمعظم الأحكام ، فلا محذور في الرجوع إلى الأصول العملية فيما لم يقم عليه خبر الثقة ، فتأمل جيدا.
قد وقع الإشكال في خروج العمل بالظن القياسي عن عموم العمل بالظن المستنتج اعتباره من دليل الانسداد بناء على الحكومة ، بتوهم : أن الحكم العقلي غير قابل للتخصيص ، فكيف يصح المنع عن الظن الحاصل من القياس مع استقلال العقل بكفاية الامتثال الظني في حال انسداد باب العلم وعدم جواز الاقتصار على الامتثال الاحتمالي.
وقد أجيب عن الإشكال بأجوبة متعددة ، من أراد الاطلاع عليها مع ما فيها فليراجع فرائد الشيخ قدس سره .
ولكن الإنصاف : أنه لا وقع لأصل الإشكال ، فان حكم العقل بكفاية الامتثال الظني من أول الأمر مقيد ومعلق على عدم قيام الدليل القطعي على المنع عنه في مورد ، مع أن القياس في الأحكام الشرعية ليس من السبب
ص: 320
العقلائي الذي يصح الاعتماد عليه (1) لعدم الإحاطة بمناطاتها ، بخلاف الأمور والأحكام العادية والعرفية ، فان ملاكاتها بيد العرف يمكن قياس بعضها على بعض ، بخلاف الأحكام الشرعية فان مبنى الشرع على تفريق المجتمعات وجمع المتفرقات ، والعقل إنما يستقل بكفاية الامتثال الظني إذا كان حاصلا من سبب عقلائي لا يكثر خطأه ، فمع قطع النظر عن قيام الدليل القطعي على المنع عن القياس ما كان العقل يحكم بكفاية الامتثال الظني الحاصل من القياس بعد التفاته إلى كثرة خطأه.
وبالجملة : لا ينبغي الإشكال في خروج الامتثال الظني الحاصل من القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد.
نعم : ينبغي الإشكال في صحة أصل المنع عن العمل بالقياس كلية مع قطع النظر عن دليل الانسداد مع أنه قد يصيب الواقع. وحل الإشكال انما يكون بأحد أمرين : إما الالتزام بأن الأحكام الواقعية مقيدة بما إذا لم يؤد إليها القياس ، فلا يكون الحكم الواقعي في مورد القياس على طبق ما أدى إليه القياس فيكون النهى عن العمل به من باب الموضوعية ، وإما الالتزام بالمفسدة السلوكية على عكس المصلحة السلوكية التي كانت في باب الطرق والأمارات ، فيكون النهى عنه لمكان أن في العمل بالقياس وسلوكه وأخذه طريقا مفسدة غالبة على مصلحة الواقع ، فتأمّل.
* * *
ص: 321
في الظن المانع والممنوع.
وفيه وجوه :
والأقوى : اعتبار الظن المانع دون الظن الممنوع ، فان حال الظن الممنوع حال الظن القياسي مما قام الدليل القطعي على المنع عنه وعدم اعتباره ، وهو الظن المانع ، فإنه مما تعمه نتيجة دليل الانسداد بلا مؤنة ، بخلاف الظن الممنوع ، حيث إن اندراجه في النتيجة يتوقف على خروج الظن المانع عنها ، فيكون حال الظن المانع والممنوع حال الأصل السببي والمسببي (1) وسيأتي في محله أن الأصل السببي يمنع عن جريان الأصل المسببي ، ولا يمكن العكس ، لأن اندراج الأصل السببي في عموم قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » لا يحتاج إلى مؤنة ، بخلاف اندراج الأصل المسببي ، فان شمول خطاب « لا تنقض اليقين » له يتوقف على خروج الأصل السببي عن العموم ، ومن المقرر في محله : أنه إذا توقف شمول العام لفرد على خروج فرد آخر عنه فالعام لا يشمل ذلك الفرد ، لا أنه يشمله ويخرج ما يكون داخلا فيه بلا مؤنة ، فان العام إنما يشمل الأفراد التي تكون متساوية الأقدام بالنسبة إلى اندراجها تحت عنوان العام ، وسيأتي توضيح ذلك ( إن شاء اللّه تعالى ) في محله ، والظن المانع والممنوع يكونان من هذا القبيل.
ودعوى : أنه لا يمكن حصول الظن بعدم حجية ظن آخر ، مخالفة
ص: 322
للوجدان لا ينبغي الالتفات إليها. وبما ذكرنا يظهر ضعف ما قيل في المقام ، فراجع.
ونحن نقتصر على الإشارة إليها ، لأنه قد تقدم جملة منها في المباحث السابقة ، وجملة منها لا تستحق إطالة الكلام فيها ، وإن كان الشيخ قدس سره قد أطنب البحث فيها.
الأوّل : في حجية الظن الحاصل من قول اللغوي في معاني الألفاظ الواردة في الروايات. وقد تقدم البحث عما قيل أو يمكن أن يقال في وجه ذلك.
الثاني : في حجية الظن بوثاقة الراوي الحاصل من توثيق أهل الرجال. وتقدم أن الأقوى اعتبار الظن بذلك ، لأنه يوجب حصول الوثوق بصدور الرواية ، ومعه لا حاجة إلى دعوى انسداد باب العلم غالبا بوثاقة الراوي من غير طريق إخبار أهل الرجال ولا يحصل من إخبارهم غالبا سوى الظن ، فلو لم يكن الظن حجة يلزم إهمال ما تضمنته الأخبار من الأحكام ، أو الرجوع إلى الأصول ، أو الاحتياط ، إلى آخر ما تقدم في مقدمات دليل الانسداد.
وهذه الدعوى وإن كانت في محلها - كما تقدم سابقا - إلا أنه لا يتوقف اعتبار الظن الحاصل من قول أهل الرجال عليها ، بل لو فرض انفتاح باب العلم بوثاقة الرواة كان الظن بالوثاقة أيضا حجة ، لأنه يوجب الوثوق بالصدور الذي هو المناط في حجية الروايات.
ص: 323
الثالث : انسداد باب العلم في بعض موضوعات الأحكام لا يوجب اعتبار الظن فيه (1) فإنه لا يلزم من الرجوع إلى الأصول أو الاحتياط فيها محذور ، إلا إذا تولد من الظن فيها عنوان آخر كان هو الموضوع للحكم ك « باب الضرر » فان الظن بتحقيق الضرر يلازم الخوف الذي هو الموضوع في الحقيقة ، بل قد يحصل الخوف من الشك أيضا.
الرابع : لا عبرة بالظن في باب الأصول والعقايد ، فإنه لابد فيها من تحصيل العلم ، وفي الموارد التي انسد فيها باب العلم يمكن الالتزام وعقد القلب بها على سبيل الإجمال ، بمعنى أنه يلتزم بالواقعيات على ما هي عليها. وقد أطال الشيخ قدس سره الكلام في هذا المقام بلا موجب.
وليكن هذا آخر ما أردنا ذكره من المباحث المتعلقة بالظن.
والحمد لله أولا وآخرا.
والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين
واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
ص: 324
وقبل الخوض في المباحث ينبغي تقديم أمور :
ان الشك في الشيء قد يؤخذ موضوعا للحكم الواقعي كالشك في عدد ركعات الصلاة ، حيث إنه يوجب تبدل الحكم الواقعي إلى الركعات المنفصلة. وقد يؤخذ موضوعا لحكم ظاهري ، وهو المقصود بالبحث في المقام.
ومتعلق الشك قد يكون حكما جزئيا أو موضوعا خارجيا ، وقد يكون حكما كليا - على ما مر منا مرارا من بيان الفرق بين الحكم الجزئي والكلي - والغرض من البحث إنما هو بيان ما هو الوظيفة عند الشك في الحكم الكلي ، وقد يبحث عن الشك في الحكم الجزئي أو الموضوع الخارجي استطرادا.
والوظيفة المقررة لحال الشك هي الأصول العملية ، وهي على قسمين : منها : ما تختص بالشبهات الخارجية كأصالة الصحة وقاعدة الفراغ والتجاوز ومنها : ما تعم الشبهات الحكمية ، وعمدتها الأصول الأربعة ، وهي : الاستصحاب والتخيير والبرائة والاحتياط ، وقد تقدم في صدر الكتاب بيان مجاريها ، وإجماله : هو أنه إما أن يلاحظ الحالة السابقة للشك ، أولا. وعلى الثاني : إما أن يكون التكليف معلوما بفصله أو نوعه أو جنسه. أولا. وعلى
ص: 325
الأوّل : إما أن يمكن فيه الاحتياط ، أولا. فالأول مجرى الاستصحاب ، والثاني مجرى الاحتياط ، والثالث مجرى التخيير ، والرابع مجرى البراءة.
ظاهر كلام الشيخ قدس سره في المقام وفي مبحث « التعادل والتراجيح » أن الوجه في التنافي بين الأمارات والأصول العملية هو الوجه في التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري ، وما هو المناط في الجمع بين الأمارات والأصول هو المناط في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.
والتحقيق : أن التنافي بين الإمارات والأصول غير التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري ، وطريق الجمع بينهما غير طريق الجمع بين هذين ، فان التنافي بين الحكم الواقعي والظاهري إنما كان لأجل اجتماع المصلحة والمفسدة والإرادة والكراهة والوجوب والحرمة وغير ذلك من المحاذير الملاكية والخطابية المتقدمة ، وقد تقدم طريق الجمع بينهما ، وأين هذا من التنافي بين الأمارات والأصول؟ فإنه ليس في باب الأمارات حكم مجعول من الوجوب والحرمة حتى يضاد الوظيفة المجعولة لحال الشك ، بل ليس المجعول في باب الأمارات إلا الطريقية والوسطية في الإثبات وكونها محرزة للمؤدى ، ووجه التنافي بينها وبين الأصول إنما هو لمكان أنه لا يجتمع إحراز المؤدى في مورد الشك فيه مع إعمال الوظيفة المقررة لحال الشك إذا كانت الوظيفة المقررة على خلاف مؤدى الأمارة ، ورفع التنافي بينهما إنما هو لحكومة الأمارات على الأصول (1) وسيأتي
ص: 326
تفصيل ذلك ( إن شاء اللّه تعالى ) في آخر الاستصحاب.
وإجماله : هو أن الأمارات إنما تكون رافعة للشك الذي اخذ موضوعا في الأصول العملية ، لا رفعا وجدانيا بنفس التعبد بالأمارة ، بل رفعا تعبديا بثبوت المتعبد به ، وبذلك تفترق « الحكومة » عن « الورود » كما يفترق « الورود » عن « التخصيص » بأن خروج فرد عن موضوع الحكم في « الورود » إنما يكون بعناية التعبد ، وفي « التخصص » بلا عناية التعبد ، بل بالتكوين ، كخروج الجاهل عن العالم ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك بما لا مزيد عليه في مبحث الاستصحاب ، وبينا الوجه في حكومة الأمارات بعضها على بعض ، وحكومتها على الأصول ، وحكومة الأصول بعضها على بعض ، فراجع.
لا يجوز إعمال الوظيفة المقررة لحال الشك إلا بعد الفحص واليأس عن وجود أمارة على أحد طرفي الشك ، لما عرفت : من أن الأمارات تكون حاكمة على الأصول ، فلا يجوز الاعتماد على الأصول مع احتمال وجود أمارة في مورد الشك إلا بعد الفحص واليأس عن الظفر بالأمارة ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك.
قد عرفت : أن الوظيفة المقررة للشاك إنما هو الأصول العملية ، والتي
ص: 327
تجرى في الشبهات الموضوعية والحكمية وتعم بها البلوى وتطرد في جميع أبواب الفقه تنحصر في الأصول الأربعة ، وهي : البراءة والاشتغال والتخيير والاستصحاب ، وحيث إن مباحث التخيير قليلة لا يستحق إفراد فصل يخصه ، فالأولى التعرض لمباحثه في ضمن مباحث البراءة ، وعقد فصول ثلاثة للبرائة والاشتغال والاستصحاب.
قد تقدم : أن مجرى البراءة إنما هو الشك في التكليف ، وهو على أقسام : لأن الشك قد يكون في التكليف النفسي الاستقلالي وقد يكون في التكليف الغيري ، وعلى كلا التقديرين قد تكون الشبهة حكمية وقد تكون موضوعية ، والشبهة الحكمية قد تكون وجوبية وقد تكون تحريمية ، ومنشأ الشك في الشبهة الحكمية تارة : يكون فقد النص ، وأخرى : يكون إجمال النص ، وثالثة : يكون تعارض النصين ، ومناط البحث في جميع هذه الأقسام وإن كان متحدا ، إلا أنه قد يكون لبعض هذه الأقسام خصوصية تقتضي إفراد البحث عنه ، فالأولى : إفراد البحث عن كل واحد من هذه الأقسام بخصوصه ، وسيأتي أن محل النزاع بين الأصولي والأخباري خصوص الشبهات التحريمية الحكمية ، دون سائر الإقسام.
قد يتوهم : أن البحث عن مسألة كون الأصل في الأشياء الحظر أو الإباحة يغنى عن البحث عن مسألة البراءة والاشتغال ، بل البحث عن إحدى المسألتين عين البحث عن الأخرى ، فلا وجه لعقد مسألتين يبحث في إحديهما عن الحظر والإباحة وفي الأخرى عن البراءة والاشتغال.
ولكن التحقيق : أن البحث عن إحديهما لا يغني عن البحث عن
ص: 328
الاخرى ، لأن جهة البحث عن كون الأصل في الأشياء الحظر أو الإباحة تغاير جهة البحث عن أصالة البراءة والاشتغال من وجهين :
أحدهما : ان البحث عن الحظر والإباحة ناظر إلى حكم الأشياء من حيث عناوينها الأولية بحسب ما يستفاد من الأدلة الاجتهادية ، والبحث عن البراءة والاشتغال ناظر إلى حكم الشك في الأحكام الواقعية المترتبة على الأشياء بعناوينها الأولية ، فللقائل بالإباحة في تلك المسألة أن يختار الاشتغال في هذه المسألة وبالعكس.
ثانيهما : أن البحث عن الحظر والإباحة راجع إلى جواز الانتفاع بالأعيان الخارجية من حيث كونه تصرفا في ملك اللّه تعالى وسلطانه ، والبحث عن البراءة والاشتغال راجع إلى المنع والترخيص في فعل المكلف من حيث إنه فعله وإن لم يكن له تعلق بالأعيان الخارجية كالتغني ، فتأمل.
وقد يقال : إن البحث عن مسألة الحظر والإباحة ناظر إلى حكم الأشياء قبل ورود البيان من الشارع ، والبحث عن البراءة والاشتغال بعد ورود البيان. وهذا بظاهره فاسد إن أريد من القبلية والبعدية الزمانية ، إلا أن يكون المراد أن البحث عن مسألة الحظر والإباحة إنما هو بلحاظ ما يستقل به العقل مع قطع النظر عن ورود البيان من الشارع في حكم الأشياء ، والبحث عن البراءة والاشتغال إنما يكون بعد لحاظ ما ورد من الشارع في حكم الأشياء ، وعلى كل تقدير : لا تلازم بين المسألتين فضلا عن عينية إحديهما للأخرى.
نعم : من قال في مسألة الحظر والإباحة بالحظر ، عليه إقامة الدليل على انقلاب الأصل إلى البراءة ، ومن قال في تلك المسألة بالإباحة فهو في فسحة عن إقامة الدليل على البراءة ، بل على الطرف إقامة الدليل على الاشتغال ، فالذي اختار في مسألة الحظر والإباحة أحد الطرفين قد يستغنى عن إقامة الدليل على ما يختاره في مسألة البراءة والاشتغال ويكون على الخصم إقامة الدليل على مدعاه ، وقد لا يستغنى ذلك ، فتأمل جيّداً.
ص: 329
قد يتوهّم : أنه بعد ما كان حكم الشبهة قبل الفحص هو الاحتياط ، فعلى الأصولي القائل بالبرائة إقامة الدليل على انقلاب حكم الشبهة بعد الفحص إلى البراءة والأخباري في فسحة عن ذلك.
ولكن لا يخفى عليك فساد التوهم ، فان لزوم الاحتياط في الشبهات قبل الفحص إنما يكون بمناط تكون الشبهة فاقدة له بعد الفحص ، فان استقلال العقل بوجوب الفحص في الشبهات إنما يكون لوجهين : أحدهما ثبوت العلم الإجمالي بوجود تكاليف إلزامية فيما بين الشبهات. ثانيهما حكم العقل بوجوب إعمال العبد ما تقتضيه وظيفته : من السؤال والفحص عن مرادات المولى وعدم الاعتماد على أصالة العدم ، فان الطريقة المألوفة بين العبيد والموالي العرفية هي ذلك - وقد تقدم في بعض المباحث السابقة توضيح ذلك - وهذان الوجهان لا يجريان بعد الفحص ، لانحلال العلم الإجمالي بالفحص وإعمال العبد على ما تقتضيه وظيفته ، فعلى الإخباري أيضا إقامة الدليل على اتحاد حكم الشبهة قبل الفحص وبعد الفحص ، كما أنه على الأصولي إقامة الدليل على البراءة.
إذا عرفت ذلك ، فلنشرع فيما يتعلق بالفصل الأول من المقام الثالث من المباحث.
في حكم الشك في التكليف في الشبهة التحريمية لأجل فقدان النص.
والأقوى : أنه تجرى فيه البراءة وفاقا لقاطبة الأصوليين خلافا لقاطبة
ص: 330
الأخباريين.
وقد استدل على البراءة بالأدلة الأربعة.
أمّا الكتاب : فبآيات منها : قوله تعالى « لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ ما آتاها » (1) والاستدلال بها مبنى على أن يكون المراد من « الموصول » التكليف ومن « الايتاء » الوصول والإعلام ، فيكون المعنى « لا يكلف اللّه نفسا إلا بتكليف واصل إلى المكلف » وفي حال الشك لا يكون التكليف واصلا ، فلا تكليف.
وفيه أولا : أن المحتملات في الموصول ثلاثة : أحدها : ما ذكر في تقريب الاستدلال. ثانيها : أن يكون المراد من « الموصول » المال ومن « الايتاء » الملك ، فيكون المعنى : « لا يكلف اللّه نفسا بمال إلا بما ملكه » ثالثها : أن يكون المراد من « الموصول » مطلق الشيء ، ومن « الايتاء » الإقدار ، أي « لا يكلف اللّه نفسا بشيء إلا بما أقدرها ومكنها عليه ».
والآية المباركة ليس لها ظهور في الوجه الأول ، بل يمكن أن يقال بظهورها في الوجه الثالث ، لظهور « الموصول » في كونه مفعولا به ، وعلى الوجه الأول لابد وأن يكون « الموصول » مفعولا مطلق ، لأنه لا يعقل أن يتعلق التكليف بالتكليف إلا على وجه تعلق الفعل بالمفعول المطلق.
ولا يمكن أن يراد من « الموصول » الأعم من التكليف والمال والشيء (2) فإنه لا جامع بين المفعول به والمفعول المطلق ، لأن نحو تعلق الفعل بالمفعول به يباين نحو تعلقه بالمفعول المطلق.
ص: 331
نعم : ربما يستظهر من استشهاد الامام علیه السلام بالآية المباركة عن السؤال عن تكليف الناس بالمعرفة ، وجوابه علیه السلام « لا ، على اللّه البيان - لا يكلف اللّه نفسا إلا ما آتاها » (1) أن المراد من « الموصول » التكليف ، لا المال ولا مطلق الشيء ، فيكون المراد من « الايتاء » الوصول والإعلام ، وإن كان يمكن أن يقال : إن المراد من المعرفة المسؤول عنها المعرفة التفصيلية بصفات الباري وأحوال الحشر والنبوة الخاصة ونحو ذلك ، لا المعرفة الإجمالية بوجود الباري تعالى ، فان المعرفة الإجمالية لا يمكن أن يتعلق التكليف بها إلا على وجه دائر ، والمعرفة التفصيلية لا يمكن إلا باقدار اللّه تعالى عليها ، لأنه لا يتمكن العبد من ذلك إلا بعناية اللّه تعالى وإقداره ، هذا.
ولكن الإنصاف : أنه يمكن أن يراد من « الموصول » الأعم من التكليف وموضوعه ، وايتاء كل شيء إنما يكون بحسبه ، فان إيتاء التكليف إنما يكون بالوصول والإعلام ، وايتاء المال إنما يكون باعطاء اللّه تعالى وتمليكه ، وايتاء الشيء فعلا أو تركا إنما يكون باقدار اللّه تعالى عليه ، فان للايتاء معنى ينطبق على الإعطاء وعلى الإقدار ، ولا يلزم أن يكون المراد من « الموصول » الأعم من المفعول به والمفعول المطلق ، بل يراد منه خصوص المفعول به.
وتوهم : أن المفعول به لابد وأن يكون له نحو وجود وتحقق في وعائه قبل ورود الفعل عليه ويكون الفعل موجبا لايجاد وصف على ذات المفعول به التي كانت مفروضة التحقق والوجود (2) كزيد في قولك : « إضرب زيدا » فان زيدا كان موجودا قبل ورود الضرب عليه - وعلى ذلك يبتني إشكال « الزمخشري » في
ص: 332
قوله تعالى : « خلق اللّه السماوات » من أنه لا يمكن أن تكون السماوات مفعولا به لأنه لا وجود للسماوات قبل ورود الخلق عليها مع أن المشهور جعلوا السماوات مفعولا به فعلى هذا لا يمكن أن يتعلق التكليف بالتكليف على نحو تعلق الفعل بالمفعول به لأنه ليس للتكليف نحو وجود سابق عن تعلق التكليف به بل وجوده إنما يكون بنفس إنشاء التكليف لأن المفعول المطلق من كيفيات الفعل فلا يمكن وجوده قبله - فاسد ، فان المفعول المطلق النوعي والعددي يصح جعله مفعولا به بنحو من العناية ، مثلا الوجوب والتحريم وإن كان وجودهما بنفس الإيجاب والإنشاء وليس لهما نحو تحقق في المرتبة السابقة ، إلا أنهما باعتبار ما لهما من المعنى الاسم المصدري يصح تعلق التكليف بهما. نعم : هما بمعنى المصدر لا يصح تعلق التكليف بهما ، فتأمل.
وثانيا : على فرض ظهور الآية الشريفة في إرادة التكليف من « الموصول » وإرادة الوصول والإعلام من « الايتاء » فأقصى ما تدل عليه الآية المباركة هو أن المؤاخذة والعقوبة لا تحسن إلا بعد بعث الرسل وإنزال الكتب وتبليغ الأحكام والتكاليف إلى العباد (1) وهذا لا ربط له بما نحن فيه من الشك في التكليف بعد البعث والإنزال والتبليغ وعروض اختفاء التكليف لبعض الموجبات التي لا دخل للشارع فيها ، فالآية المباركة لا تدل على البراءة ، بل مفادها مفاد قوله تعالى : « وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا » (2).
وقد قيل : إن هذه الآية أظهر الآيات التي استدل بها للبرائة.
وأنت خبير : بأن مفادها أجنبي عن البراءة ، فان مفادها الأخبار بنفي التعذيب قبل إتمام الحجة ، كما هو حال الأمم السابقة ، فلا دلالة لها على
ص: 333
حكم مشتبه الحكم من حيث إنه مشتبه ، فهي أجنبية عما نحن فيه.
كما أن مفادها أجنبي عما زعمه الأخباريون : من دلالتها على نفي الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، بتقريب : أن الملازمة تقتضي ثبوت العذاب عند استقلال العقل بقبح شيء ولو مع عدم بعث الرسل والآية تنفى العذاب مع عدم بعث الرسل فلا ملازمة بين حكم العقل والعذاب ويلزمه عدم الملازمة بين حكمه وحكم الشرع وإلا لما احتاج التعذيب إلى بعث الرسل.
وأنت خبير : بأن الرسول في الآية الشريفة كناية عن الحجة ، فيعم الرسول الباطني والرسول الظاهري.
وقد قيل في رد مقالة الأخباريين : إن أقصى ما تدل عليه الآية المباركة هو نفي فعلية التعذيب قبل بعث الرسل ، والملازمة المدعاة إنما هي بين حكم العقل واستحقاق العقوبة ، ونفى فعلية العذاب لا يقتضي نفي الملازمة ، فإنه من الممكن أن يكون الشارع قد حكم بحرمة ما استقل بقبحه العقل وكانت مخالفة الحكم الشرعي تقتضي استحقاق العقوبة ، ولكن الشارع تفضل بالعفو وأخبر به ، كما تفضل بالعفو عن نية السيئة (1) وكما تفضل بالعفو عن الصغائر عند الاجتناب عن الكبائر (2) وكما تفضل بالعفو عن الظهار مع حرمته (3) على ما قيل.
ولا يخفى ما فيه - أما أولا فلأن الاستدلال بالآية المباركة على البراءة لا يجتمع مع القول بأن مفادها نفي فعلية التعذيب لا استحقاقه (4) لأن النزاع في البراءة إنما هو في استحقاق العقاب على ارتكاب الشبهة وعدم استحقاقه ، لا في
ص: 334
فعلية العقاب ، فالاستدلال بها على البراءة يتوقف على أن يكون المراد من نفي العذاب نفي الاستحقاق ، وذلك ينافي رد مقالة الأخباريين المنكرين للملازمة بما تقدم : من أن المراد من نفي العذاب نفي الفعلية لا الاستحقاق ، وإلى ذلك ينظر كلام المحقق القمي (رحمه اللّه) حيث قال : « إن من جمع في الآية بين الاستدلال بها على البراءة وبين رد الأخباريين لإثبات الملازمة يكون قد جمع بين النقيضين ».
وأما ثانيا : فلأن الحرمة الشرعية مع إخبار الشارع بنفي التعذيب والتفضل بالعفو لا يجتمعان ، لأنه يلزم أن يحمل الشارع العباد على التجري بفعل الحرام ، فان الإخبار بالعفو يوجب إقدامهم على فعل الحرام المعفو عنه ، فيلزم لغوية جعل الحرمة (1).
نعم : لا مانع من الإخبار بالعفو بالنسبة إلى المعصية التي لا يكون الإخبار به موجبا للتجري وإقدام العباد عليها ، كالإخبار بالعفو عن نية السيئة ، فان المخبر به هو العفو عن نية السيئة المجردة عن تعقبها بالسيئة ، ولا يمكن للعبد التجري على ذلك ، فان القصد والتجري على النية المجردة لا يعقل ، إذ لا يتحقق العزم على العزم المجرد.
وكالإخبار بالعفو عن الصغاير عند الاجتناب عن الكبائر ، فان المخبر به هو العفو عن الصغاير إذا كان العبد مجتنبا عن الكبائر ما دام العمر وفي تمام أزمنة حياته (2) ولا يمكن بحسب العادة أن يعتقد الشخص أنه يجتنب عن الكبائر في مدة حياته حتى يتحقق منه التجري والإقدام على الصغاير اعتماداً
ص: 335
على العفو عنها ، لأنه بعد التفاته إلى أن العفو عنها مشروط بعدم ارتكاب الكبيرة أبدا ما دام العمر لا يمكن أن يكون الإخبار بالعفو موجبا لتجريه.
وأما العفو على الظهار فلم يثبت وإن قيل به ، وآية الظهار لا تدل على ذلك ، ولو ثبت العفو عنه فلابد من القول بعدم حرمته.
ثم إنه قد استدل للبرائة بآيات اخر لا دلالة لها على ذلك.
فالأولى عطف عنان الكلام إلى بيان الأخبار التي استدل بها للبرائة. أظهرها وعمدتها « حديث الرفع » وهو قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع عن أمتي تسعة أشياء الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه والطيرة والحسد والوسوسة في الخلق » (1)
واشتهار الحديث المبارك بين الأصحاب واعتمادهم عليه يغنى عن التكلم في سنده ، مع أنه من الصحاح ، فالمهم بيان فقه الحديث وما يستفاد منه ، وذلك يتم برسم أمور :
لا يصح استعمال « الرفع » وكذا « الدفع » إلا بعد تحقق مقتضى الوجود ، بحيث لو لم يرد الرفع أو الدفع على الشيء لكان موجودا في وعائه المناسب له ، سواء كان وعائه وعاء العين والتكوين أو وعاء الاعتبار والتشريع ، لوضوح أن كلا من الرفع والدفع لا يرد على ما يكون معدوما في حد ذاته لا وجود له ولا اقتضاء الوجود ، فالعناية المصححة لاستعمال كلمة « الرفع » و « الدفع » إنما هي بعد فرض ثبوت مقتضى الوجود ، وهذا المقدار مما لا بد منه في صحة استعمالهما ، وبعد ذلك يفترق « الرفع » عن « الدفع » فان استعمال « الرفع » إنما يكون غالبا في المورد الذي فرض وجوده في الزمان السابق أو في
ص: 336
المرتبة السابقة عن ورود الرفع ، و « الدفع » يستعمل غالبا في المورد الذي فرض ثبوت المقتضى لوجود الشيء قبل إشغاله لصفحة الوجود في الوعاء المناسب له ، فيكون الرفع مانعا عن استمرار الوجود ، والدفع مانعا عن تأثير المقتضى للوجود.
ولكن هذا المقدار من الفرق لا يمنع عن صحة استعمال « الرفع » بدل « الدفع » على وجه الحقيقة بلا تصرف وعناية ، فان الرفع في الحقيقة يمنع ويدفع المقتضى عن التأثير في الزمان اللاحق أو المرتبة اللاحقة (1) لأن بقاء الشيء كحدوثه يحتاج إلى علة البقاء وإفاضة الوجود عليه من المبدء الفياض في كل آن ، فالرفع في مرتبة وروده على الشيء إنما يكون دفعا حقيقة باعتبار علة البقاء وإن كان رفعا باعتبار الوجود السابق ، فاستعمال « الرفع » في مقام « الدفع » لا يحتاج إلى علاقة المجاز ، بل لا يحتاج إلى عناية أصلا ، بل لا يكون خلاف ما يقتضيه ظاهر اللفظ ، لأن غلبة استعمال « الرفع » فيما يكون له وجود سابق لا يقتضي ظهوره في ذلك.
ومما ذكرنا من معنى « الرفع » و « الدفع » يظهر : أنه لا مانع من جعل « الرفع » في الحديث المبارك بمعنى « الدفع » في جميع الأشياء التسعة المرفوعة ، ولا يلزم من ذلك مجاز في الكلمة ، ولا في الإسناد.
أما عدم المجازية في الإسناد : فلما سيأتي من أن إسناد الرفع إلى المذكورات يكون على وجه الحقيقة بلا تقدير وإضمار.
وأما في الكلمة : فلما عرفت : من أن حقيقة الرفع هي الدفع ، فيكون المراد من رفع التسعة دفع المقتضى عن تأثيره في جعل الحكم وتشريعه في الموارد التسعة.
ص: 337
غايته أنه في الثلاثة الأخيرة - وهي الحسد والطيرة والوسوسة في الخلق - يكون المراد دفع المقتضى عن تأثيره في أصل تشريع الحكم وجعله فيها مع ثبوت المقتضى له منة على العباد وتوسعة عليهم ، وسيأتي بيان المراد من الحكم الذي كان له اقتضاء الجعل والتشريع في الحسد وأخويه.
وفي غير « ما لا يعلمون » من الخمسة الاخر - وهي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما لا يطيقون وما اضطروا إليه - يكون المراد دفع تأثير المقتضى عن شمول الحكم واطراده لحال النسيان والاضطرار والإكراه والخطأ وما لا يطاق ، فتكون نتيجة الدفع تخصيص الحكم بما عدا هذه الموارد ، وسيأتي أن التخصيص في ذلك يكون من التخصيص الواقعي وليس من التخصيص الظاهري.
وفي « ما لا يعلمون » يكون المراد دفع مقتضيات الأحكام الواقعية عن تأثيرها في ايجاب الاحتياط ، مع أن ملاكاتها كانت تقتضي ايجاب الاحتياط (1).
ويظهر من الشيخ قدس سره : أن « الدفع » من أول الأمر ورد على ايجاب الاحتياط ، لا أنه ورد على مقتضيات الأحكام الواقعية من حيث تأثيرها في ايجاب الاحتياط.
قال قدس سره : « وحينئذ فنقول : معنى رفع أثر التحريم فيما لا يعلمون عدم ايجاب الاحتياط والتحفظ فيه الخ ».
ولا يخفى ما فيه من المسامحة ، فان المراد من « الموصول » في قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » نفس الأحكام الواقعية ، لأنها هي
ص: 338
المجهولة ، وما أريد من « الموصول » هو المرفوع ، فلابد وأن يرد الرفع على الحكم الواقعي (1) وإن كانت نتيجة رفعه عدم ايجاب الاحتياط ، لأنه لا يمكن رفعه حقيقة عن موطنه وهو عالم التشريع ، وإلا يلزم اختصاص الأحكام الواقعية بالعالمين بها ، وهو ينافي ما عليه أصول المخطئة.
وورود الرفع على الأحكام الواقعية على وجه ينتج عدم ايجاب الاحتياط لا يمكن إلا بأن يراد دفع الأحكام الواقعية عن تأثير مقتضياتها في ايجاب الاحتياط ، وتكون النتيجة الترخيص الظاهري في ارتكاب الشبهة والاقتحام فيها.
وتوضيح ذلك : هو أن أدلة الأحكام لما كانت قاصرة لأن تتكفل بيان وجود الأحكام في زمان الشك فيها - كما أن نفس الجعل والتشريع الأول للأحكام لا يمكن أن يتكفل لحال الشك فيها - فلابد من جعل ثانوي يكون هو المتكفل لبيان صورة الشك في الحكم من ثبوته وعدم ثبوته ، فيكون هذا الجعل الثانوي متمما للجعل الأولى ليس له ملاك يخصه ، نظير ما دل على اعتبار قصد التقرب في العبادات ، حيث إن الأمر الأولى لا يمكن أن يتكفل ببيان اعتبار ذلك ، بل لابد من جعل ثانوي يتكفل ببيان ذلك ويكون من متممات الجعل الأولى ، وقد تقدم في بعض المباحث السابقة : أنه في كثير من الموارد نحتاج إلى متمم الجعل بجعل ثانوي.
والحكم الذي يتكفله الجعل الثانوي يختلف ، فقد يكون حكما واقعيا بإضافة قيد في المأمور به الواقعي ، مثل ما دل على اعتبار قصد التقرب ، ومثل ما
ص: 339
دلّ على اعتبار غسل المستحاضة قبل الفجر.
وقد يكون حكما طريقيا ، مثل ما دل على وجوب السير للحج قبل الموسم.
وقد يكون حكما ظاهريا ، وهو ما إذا اخذ الشك في الحكم الواقعي في موضوعه ، فان الحكم المجعول في ظرف الشك في الحكم الواقعي لا يمكن أن يكون حكما واقعيا ، بل لابد أن يكون حكما ظاهريا ، على اختلاف مفاده ، فقد يكون مفاده وضع الحكم الواقعي في موطن الشك بجعل ايجاب الاحتياط ، وقد يكون مفاده رفع الحكم الواقعي بلسان الحل والترخيص ، كقوله - علیه السلام « كل شيء لك حلال » أو بلسان الرفع ، كقوله صلی اللّه علیه و آله « رفع عن أمتي تسعة أشياء » ومنها ما لا يعلمون.
وهذا الاختلاف ينشأ عن اختلاف ملاكات الأحكام الواقعية ومناطاتها ، فقد يكون الملاك بمرتبة من الأهمية في نظر الشارع يقتضي جعل ايجاب الاحتياط في ظرف الشك تحرزا عن الوقوع في مخالفة الواقع.
وقد لا يكون الملاك بتلك المثابة من الأهمية ، فللشارع الترخيص في ارتكاب الشبهة منة على العباد وتوسعة عليهم ، لأنه كان له التضييق عليهم بالزامهم على حفظ الملاكات بأي مرتبة كانت على أي وجه اتفق ولو بالاحتياط مطلقا في جميع موارد الشك ، ولكن الملة السهلة السمحة اقتضت عدم ايجاب الاحتياط ورفع تأثير المقتضيات والملاكات عن اقتضائها ايجاب الاحتياط ، ولازم ذلك : عدم المؤاخذة على الاقتحام في الشبهة لو صادف كونه مخالفا للواقع واتفق كون الشبهة من المحرمات الواقعية.
وبذلك تمتاز البراءة الشرعية عن البراءة العقلية ، فان البراءة العقلية عبارة عن قبح المؤاخذة بلا بيان ، فالحكم العقلي من أول الأمر يتوجه على المؤاخذة واستحقاق العقوبة ، لأن استحقاق المؤاخذة والعقوبة من المدركات العقلية ليس من وظيفة الشارع وضعه ورفعه إلا بوضع ما يكون منشأ ذلك أو
ص: 340
رفعه ؛ كما أنه ليس من وظيفة العقل الحكم بجواز الاقتحام في الشبهة والترخيص في ارتكابها ، لأن ذلك من وظيفة الشارع. نعم : لازم حكم العقل بقبح المؤاخذة بلا بيان هو الترخيص في الارتكاب ، كما أن لازم حكم الشارع بالترخيص هو عدم المؤاخذة في الاقتحام ، فالبرائة الشرعية من أول الأمر تتوجه على جواز الارتكاب عكس البراءة العقلية.
فتحصل مما ذكرنا : أن « الرفع » في الحديث المبارك بمعنى « الدفع » في جميع الأشياء التسعة ، ولا يلزم من ذلك تجوز ولا حمل اللفظ على خلاف ما يقتضيه ظاهره.
وإن أبيت عن ذلك وجمدت على ما ينسبق إلى الذهن في بادئ الأمر : من أن العناية المصححة لورود الرفع على الشيء إنما هي باعتبار وجوده السابق ولا يكفي مجرد ثبوت مقتضى الوجود ، فيمكن الالتزام بذلك أيضا لوجود العناية المصححة لورود الرفع في جميع الأمور التسعة المذكورة في الحديث.
أما في غير « ما لا يعلمون » من الثمانية الاخر فواضح ، فان الرفع قد أسند فيها إلى ما هو ثابت خارجا ، لوجود الخطأ والنسيان والاضطرار وغير ذلك خارجا ، فالرفع قد ورد على ما هو موجود في الخارج ، ولا منافاة بين ورود الرفع على المذكورات وبين بقائها على ما كانت عليه بعد ورود الرفع عليها ، لأن الرفع التشريعي لا ينافي الثبوت التكويني ، كما لا ينافي وجود الضرر خارجا مع نفيه تشريعا ، وسيأتي معنى الرفع التشريعي في المذكورات.
وأما في « ما لا يعلمون » فقد يقال : إنه لا يمكن أن يكون الرفع فيه بمعناه ، فان المراد من « الموصول » نفس الحكم الشرعي ، فان كل الحكم في مورد الشك ثابت فلا يتصور رفعه إلا على سبيل النسخ ، وإن لم يكن ثابتا فلا يصح إسناد الرفع إليه ، لعدم سبق الوجود ، فلابد من جعل « الرفع » في قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » بمعنى « الدفع » هذا.
ولكن يمكن ثبوت العناية المصححة لإسناد الرفع إلى الحكم من دون
ص: 341
أن يلزم النسخ أو التصويب. أما في الشبهات الموضوعية : فواضح ، فإنه في مورد الشك في خمرية الشيء يصح أن يقال : رفع الحكم بالحرمة عن المشكوك ، بلحاظ أن حرمة شرب الخمر قد ثبتت في الشريعة ، فصح أن يقال : رفعت حرمة شرب الخمر عن هذا المشتبه. وأما في الشبهات الحكمية : فيمكن أيضا فرض وجود العناية المصححة لاستعمال الرفع (1) فتأمل.
ولكن هذا كله إتعاب للنفس وتبعيد للمسافة بلا ملزم ، فان استعمال « الرفع » بمعنى « الدفع » ليس بعزيز الوجود ، بل قد عرفت : أن الرفع حقيقة هو الدفع ، فيستقيم معنى الحديث المبارك بلا تصرف وتأويل.
قيل : إن دلالة الاقتضاء تقتضي تقديرا في الكلام ، لشهادة الوجدان والعيان على وجود الخطأ والنسيان في الخارج ، وكذا غير الخطأ والنسيان مما ذكر في الحديث الشريف ، فلابد من أن يكون المرفوع أمرا آخر مقدرا ، صونا لكلام الحكيم عن الكذب واللغوية.
وقد وقع البحث والكلام في تعيين ما هو المقدر ، فقيل : إن المقدر هو المؤاخذة والعقوبة. وقيل : إنه عموم الآثار. وقيل : إنه أظهر الآثار بالنسبة إلى كل واحد من التسعة.
والتحقيق : أنه لا حاجة إلى التقدير ، فان التقدير إنما يحتاج إليه إذا توقف تصحيح الكلام عليه ، كما إذا كان الكلام إخبارا عن أمر خارجي أو كان الرفع رفعا تكوينيا ، فلابد في تصحيح الكلام من تقدير أمر يخرجه عن الكذب. وأما إذا كان الرفع رفعا تشريعيا (2) فالكلام يصح بلا تقدير ، فانّ
ص: 342
الرفع التشريعي كالنفي التشريع ليس إخبارا عن أمر واقع بل إنشاء لحكم يكون وجوده التشريعي بنفس الرفع والنفي ، كقوله صلی اللّه علیه و آله « لا ضرر ولا ضرار » وكقوله علیه السلام « لا شك لكثير الشك » ونحو ذلك مما يكون متلو النفي أمرا ثابتا في الخارج.
وبالجملة : ما ورد في الأخبار مما سيق في هذا المساق سواء كان بلسان الرفع أو الدفع أو النفي إنما يكون في مقام تشريع الأحكام وإنشائها ، لا في مقام الإخبار عن رفع المذكورات أو نفيها حتى يحتاج إلى التقدير ، وسيأتي معنى الرفع التشريعي ونتيجته.
والغرض في المقام مجرد بيان أن دلالة الاقتضاء لا تقتضي تقديرا في الكلام حتى يبحث عما هو المقدر.
لا أقول : إن الرفع التشريعي تعلق بنفس المذكورات (1) فان المذكورات في الحديث غير « ما لا يعلمون » لا تقبل الرفع التشريعي ، لأنها من الأمور التكوينية الخارجية ، بل رفع المذكورات تشريعا إنما يكون برفع آثارها الشرعية - على ما سيأتي بيانه - ولكن ذلك لا ربط له بدلالة الاقتضاء وصون كلام الحكيم عن اللغوية والكذب ، بل ذلك لأجل أن رفع المذكورات في عالم التشريع هو رفع ما يترتب عليها من الآثار والأحكام الشرعية ، كما أن معنى « نفي الضرر » هو نفي الأحكام الضررية ، فتأمل جيّداً.
ص: 343
قيل : إن وحدة السياق تقتضي أن يكون المراد من « الموصول » في « ما لا يعلمون » الموضوع المشتبه ، لأن المراد من « الموصول » فيما استكرهوا وما اضطروا وما لا يطيقون ، هو الفعل الذي استكرهوا عليه أو اضطروا إليه أو لا يطيقونه ، فان هذه العناوين لا تعرض الأحكام الشرعية ، بل إنما تعرض الأفعال الخارجية ، ومقتضى وحدة السياق أن يكون المراد من « الموصول » في « ما لا يعلمون » أيضا الفعل الذي اشتبه عنوانه ، كالشرب الذي اشتبه كونه شرب التتن أو شرب الخمر ، فيختص الحديث المبارك بالشبهات الموضوعية ولا يعم الشبهات الحكمية ، مضافا إلى أنه لا جامع بين الشبهات الموضوعية والشبهات الحكمية بحيث يمكن أن يراد من « الموصول » معنى يعمها ، فان المرفوع في الشبهات الحكمية إنما هو نفس متعلق الجهل وما لا يعلمون ، وهو الحكم الشرعي (1) فاسناد الرفع إلى « الموصول » يكون من قبيل الإسناد إلى ما هو له ، لأن « الموصول » الذي تعلق الجهل به بنفسه قابل للوضع والرفع الشرعي. وأما الشبهات الموضوعية : فالذي تعلق الجهل به فيها أولا وبالذات إنما هو الموضوع الخارجي وبالتبع يتعلق بالحكم الشرعي ، والموضوع الخارجي بنفسه غير قابل للوضع والرفع الشرعي ، بل إسناد الرفع إليه يكون من قبيل الإسناد إلى غير ما هو له ، فمع قطع النظر عن وحدة السياق كان الأولى اختصاص الحديث
ص: 344
بالشبهات الحكمية ، إلا أن وحدة السياق تقتضي اختصاصه بالشبهات الموضوعية ، هذا.
ولكن لا يخفى عليك ما في هذا الكلام من الضعف ، فان المرفوع في جميع الأشياء التسعة إنما هو الحكم الشرعي ، وإضافة الرفع في غير « ما لا يعلمون » إلى الأفعال الخارجية إنما هو لأجل أن الإكراه والاضطرار ونحو ذلك إنما يعرض الأفعال لا الأحكام - كما ذكر - وإلا فالمرفوع فيها هو الحكم الشرعي ، كما أن المرفوع في « ما لا يعلمون » أيضا هو الحكم الشرعي ، وهو المراد من « الموصول » والجامع بين الشبهات الحكمية والموضوعية.
ومجرد اختلاف منشأ الجهل - وأنه في الشبهات الحكمية إنما يكون إجمال النص أو فقده أو تعارض النصين وفي الشبهات الموضوعية يكون المنشأ اختلاط الأمور الخارجية - لا يقتضي الاختلاف فيما أسند الرفع إليه ، فان الرفع قد أسند إلى عنوان « ما لا يعلم » ولمكان أن الرفع التشريعي لابد وأن يرد على ما يكون قابلا للوضع والرفع الشرعي ، فالمرفوع إنما يكون هو الحكم الشرعي ، سواء في ذلك الشبهات الحكمية والموضوعية ، فكما أن قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » يعم كلا الشبهتين بجامع واحد ، كذلك قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع عن أمتي تسعة أشياء » فتدبر.
قد عرفت : نتيجة الرفع في « ما لا يعلمون » وأنه بمعنى دفع مقتضيات الأحكام في تأثيرها لإيجاب الاحتياط ، من دون أن يمس الرفع فيه كرامة الحكم الواقعي بوجه من الوجوه من حيث الوجود والفعلية ، فلا نسخ ولا تصويب ولا صرف.
وأما النتيجة في غير « ما لا يعلمون » فبالنسبة إلى رفع الحسد والطيرة والوسوسة في الخلق ، سيأتي البحث عنه. وأما بالنسبة إلى الخمسة الاخر : من
ص: 345
الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما اضطروا إليه وما لا يطيقونه ، فنتيجة الرفع فيها هي تخصيص الأحكام الواقعية المترتبة على موضوعاتها المقدرة وجودها بما عدا عروض هذه الطوارى.
بيان ذلك : هو أن مقتضى عموم أدلة الأحكام الواقعية عدم دخل الخطأ والنسيان وغير ذلك من الطوارئ والحالات في ترتبها على موضوعاتها ، فان مقتضى عموم قوله تعالى « السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما » وقوله تعالى « الزانية والزانية فاجلدوا كل واحد منهما مأة جلدة » هو ثبوت القطع والجلد على من أكره على السرقة والزنا أو اضطر إليهما. ومقتضى الجمع بين تلك الأدلة وقوله صلی اللّه علیه و آله « رفع عن أمتي الخطأ والنسيان الخ » هو اختصاص الأحكام بغير صورة عروض ذلك ، فلا قطع ولا جلد على من أكره على السرقة والزنا ، وقد عرفت : أن الرفع في الحديث المبارك بمعنى الدفع ، فيكون حاصل المعنى : هو « أن مقتضيات الأحكام الواقعية وإن كانت تقتضي ترتب الأحكام على موضوعاتها مطلقا من غير دخل للخطأ والنسيان في ذلك ، إلا أن الشارع دفع تلك المقتضيات عن تأثيرها في ترتب الحكم على الموضوع الذي عرض عليه الخطأ والنسيان والإكراه ونحو ذلك » فلا حكم مع عروض هذه الحالات ، فتكون النتيجة تخصيص الإحكام الواقعية بالموارد التي لم تطرء عليها هذه الطوارئ.
والذي يدل على أن مقتضيات الأحكام الواقعية كانت تقتضي ترتب الأحكام على موضوعاتها مطلقا من غير دخل للإكراه ونحوه في ذلك ، هو أن سياق « حديث الرفع » يقتضي كون الرفع للامتنان والتوسعة على العباد ، فلولا ثبوت المقتضى في الموارد التي تعرض عليها هذه الطوارئ والحالات لم يكن موقع للامتنان ، كما لا يخفى.
وتوهم : أن النسبة بين كل واحد من أدلة الأحكام مع كل واحد من العناوين الخمسة العموم والخصوص من وجه ، فان ما دل على وجوب الجلد في
ص: 346
الزنا وإن كان يعم صورة الإكراه عليه وعدمه إلا أنه يختص بخصوص الزنا ، كما أن ما دل على رفع الإكراه وإن كان يختص بالإكراه إلا أنه يعم الإكراه على الزنا وغيره ، فلا وجه لتقديم ما دل على رفع الإكراه على ما دل على وجوب الجلد على الزاني.
فاسد ، فان « حديث الرفع » يكون حاكما على أدلة الأحكام ، فلا تلاحظ النسبة بينهما ، كما لا تلاحظ النسبة بين أدلة الأحكام وبين ما دل على نفي الضرر والعسر والحرج. ولا فرق بين أدلة نفي الضرر والعسر والحرج وبين دليل رفع الاضطرار والإكراه ونحو ذلك ، سوا أن الحكومة في أدلة نفي الضرر والعسر والحرج إنما تكون باعتبار عقد الحمل حيث إن الضرر والعسر والحرج من العناوين الطارية على نفس الأحكام فان الحكم قد يكون ضرريا أو حرجيا وقد لا يكون - كما أوضحناه بما لا مزيد عليه في محله - وفي دليل رفع الإكراه والاضطرار وغير ذلك إنما تكون باعتبار عقد الوضع ، فإنه لا يمكن طرو الإكراه والاضطرار والخطأ والنسيان على نفس الأحكام ، بل إنما تعرض موضوعاتها ومتعلقاتها ، فحديث الرفع يوجب تضييق دائرة موضوعات الأحكام ، نظير قوله علیه السلام « لا شك لكثير الشك » و « لا سهو مع حفظ الإمام » ونحو ذلك مما يكون أحد الدليلين متكفلا لما أريد من عقد وضع الآخر ، وسيأتي في محله : أنه لا تلاحظ النسبة بين دليل الحاكم والمحكوم ولا قوة الظهور وضعفه ، بل دليل الحاكم يقدم على دليل المحكوم وإن كانت النسبة بينهما العموم من وجه أو كان دليل المحكوم في المفاد أظهر من دليل الحاكم ، ونتيجة كل حكومة هي التخصيص ، فلا ينبغي التأمل في حكومة « حديث الرفع » على أدلة الأحكام ، وتكون النتيجة تخصيص الأحكام بما عدا عروض العناوين الخمسة على موضوعات الأحكام ومتعلقاتها ، فتأمل جيّداً.
* * *
ص: 347
في بيان عموم النتيجة وأن المرفوع في هذه الموارد هل هو جميع الآثار والإحكام المترتبة على الموضوعات؟ أو بعض الآثار؟ وهو من أهم الأمور التي ينبغي البحث عنها في « حديث الرفع » وقبل بيان ذلك ينبغي التنبيه على أمرين :
الأوّل : انه يعتبر في التمسك بحديث الرفع أمور :
الأول : أن يكون الأثر الذي يراد رفعه من الآثار الشرعية التي أمر وضعها ورفعها بيد الشارع ، لا من الآثار العقلية التي ليس أمر وضعها ورفعها بيد الشارع.
الثاني : أن يكون في رفعة منة وتوسعة على العباد ، فالأثر الذي يلزم من رفعه التضييق عليهم لا يندرج في عموم الحديث.
الثالث : أن يكون الأثر بحسب جعله الأولى مترتبا على الموضوع لا بشرط عن طرو العناوين المذكورة في الحديث ، أي لم يعتبر في موضوع الأثر عنوان الخطأ والنسيان ونحو ذلك ، وإلا لم يكن مرفوعا بحديث الرفع ، فان عنوان الموضوع يقتضي وضع الأثر لا رفعه ، فلو فرض أنه قد اخذ في موضوع بعض الآثار عنوان خصوص الإكراه أو خصوص الاضطرار أو غير ذلك من أحد العناوين الخمسة كان ذلك الأثر خارجا عن عموم « حديث الرفع » فهذه الأمور الثلاثة مما لابد منها في صحة التمسك بحديث الرفع ، والسر في اعتبارها واضح.
الثاني : إن الرفع التشريعي للشئ عبارة عن خلو صفحة التشريع عنه ، وإن كان صفحة التكوين مشغولة به ، لعدم المنافاة بين الرفع التشريعي والثبوت التكويني ، من غير فرق بين تعلق الرفع بالحكم الشرعي ابتداء أو بالموضوع الخارجي إذا كان الموضوع ذا حكم شرعي ، فان رفع الموضوع في عالم
ص: 348
التشريع عبارة من رفع حكمه لا بتقدير في الكلام ، بل معنى رفع الموضوع شرعا هو ذلك (1).
فمفاد قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع عن أمتي الخطأ والنسيان » - بحسب ما يقتضيه ظاهر اللفظ أولا - هو رفع نفس الخطأ والنسيان وتنزيل الصفتين منزلة العدم ، فكأنه لم يقع الخطأ والنسيان خارجا ، ومعنى عدم وقوع الخطأ والنسيان ، هو أن الفعل الصادر على أحد الوجهين كأن لم يصدر على هذا الوجه.
وهذا المعنى بظاهره فاسد ، فإنه يلزم على هذا ترتيب آثار العمد على الفعل الصادر عن خطأ أو نسيان ، وذلك ينافي الامتنان والتوسعة ، فلابد وأن يكون المراد من رفع الخطأ والنسيان رفع الفعل الصادر عن ذلك ، يعنى جعل الفعل كالعدم وكأنه لم يصدر عن الشخص ولم يقع ، لا أن الفعل وقع وحيثية صدوره عن خطأ أو نسيان لم يكن ، ليلزم ترتيب آثار الصدور عن عمد عليه حتى ينافي الامتنان ، بل لابد من أن يكون مفاد رفع الخطأ والنسيان رفع أصل الفعل الواقع عن نسيان أو خطأ ، فتوافق مفاد رفع الخطأ والنسيان مع مفاد رفع ما استكرهوا عليه وما اضطروا إليه وما لا يطيقونه ، فان المرفوع في هذه الأمور الثلاثة هو الفعل الذي وقع عن إكراه أو عن اضطرار إليه أو ما لا طاقة عليه ، لا رفع صفة الإكراه والاضطرار. ومقتضى وحدة السياق والمفاد هو أن يكون المرفوع في الخطأ والنسيان ذلك ، وقد عرفت : أن رفع الفعل تشريعا إنّما يكون
ص: 349
بلحاظ رفع الآثار والأحكام ، فيقع الكلام حينئذ في أن المرفوع عموم الآثار أو بعضها؟ (1)
ص: 350
فنقول : الأحكام المترتبة على أفعال العباد ، إما أن تكون وضعية - كما في باب العقود والإيقاعات والطهارة والنجاسة وأمثال ذلك - وإما أن تكون تكليفية ، وهي إما أن تكون مترتبة على الفعل بلحاظ صرف الوجود بحيث لا يكون لوجوده الثاني ذلك الأثر ، وإما أن تكون مترتبة عليه بلحاظ مطلق الوجود بحيث كلما وجد الفعل كان الأثر مترتبا عليه.
ثم إن معروض الحكم والأثر ، إما أن يكون هو الفعل الصادر عن الفاعل بمعنى أن الفاعل يكون هو المخاطب بالحكم كحرمة شرب الخمر حيث إن خطاب « لا تشرب » متوجه إلى شخص الشارب ، وإما أن يكون الفعل الصادر عن الفاعل علة لتوجه حكم إلى غير الفاعل ، كوجوب إقامة الحد على من شرب الخمر ، حيث إن شرب الخمر من شخص يكون علة لتوجه خطاب « إقامة
ص: 351
الحد » إلى الحاكم المقيم للحد. فهذه جملة الأحكام والآثار المترتبة على أفعال العباد.
فان كان الحكم من الأحكام التكليفية وكان مترتبا على الفعل بلحاظ مطلق الوجود وكان الفاعل هو المخاطب بالحكم ، فلا إشكال في سقوط الحكم إذا صدر الفعل عن إكراه أو اضطرار أو نسيان أو خطأ ، فان نتيجة رفع الفعل الصادر على هذا الوجه في عالم التشريع هو ذلك ، فمن شرب الخمر عن إكراه أو اضطرار لم يكن فعله حراما شرعا ، ولا يخرج بذلك عن العدالة لو كان واجدا لها قبل الشرب ، لأن الشرب عن إكراه كالعدم ، والحكم تابع لموضوعه ، فرفع الموضوع يقتضي رفع الحكم ، فلا حرمة ، وهو واضح.
وإن كان الأثر مترتبا على الفعل بلحاظ صرف الوجود ، فان أكره المكلف على الفعل أو اضطر إليه ، فهذا يختلف حسب اختلاف الآثار ، فقد يكون الأثر من الآثار التي لا تقتضي المنة رفعه ، كمن نذر أن يكرم عالما فأكره على الإكرام أو اضطر إليه ، فإنه لا يصح أن يكون الإكراه المكره عليه مشمولا لحديث الرفع ، لأن فرض الإكرام كالعدم وجعله كأن لم يكن يقتضي عدم تحقق الامتثال ووجوب الإكرام عليه ثانيا ، وذلك ينافي الامتنان. وقد يكون الأثر من الآثار التي تقتضي المنة رفعه ، كما لو نذر المكلف أن لا يكرم شخصا خاصا أو لا يشرب ماء الدجلة فأكره على الإكرام أو الشرب ، فان رفع ما يترتب على الإكرام والشرب من الحنث والكفارة يوافق المنة ، فيصح أن يقال : إن الإكرام كذلك إكرام وجعله كالعدم لرفع ما يترتب عليه من الحنث والكفارة.
وإن أكره المكلف على الترك أو اضطر إليه أو نسى الفعل : ففي شمول « حديث الرفع » لذلك إشكال ، مثلا لو نذر أن يشرب من ماء الدجلة فأكره على العدم أو اضطر إليه أو نسى أن يشرب ، فمقتضى القاعدة وجوب الكفارة عليه لو لم تكن أدلة وجوب الكفارة مختصة بصورة تعمد الحنث ومخالفة النذر
ص: 352
عن إرادة والتفات ، فان شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم ، لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود ، لأن تنزيل المعدوم منزلة الموجود إنما يكون وضعا لا رفعا ، والمفروض أن المكلف قد ترك الفعل عن إكراه أو نسيان فلم يصدر منه أمر وجودي قابل للرفع ، ولا يمكن أن يكون عدم الشرب في المثال مرفوعا وجعله كالشرب ، حتى يقال : إنه لم يتحقق مخالفة النذر فلا حنث ولا كفارة.
والحاصل : أنه فرق بين الوضع والرفع ، فان الوضع يتوجه على المعدوم فيجعله موجودا ويلزمه ترتيب آثار الوجود على الموضوع ، والرفع يتوجه على الموجود فيجعله معدوما ويلزمه ترتيب آثار العدم على المرفوع ، فالفعل الصادر من المكلف عن نسيان أو إكراه يمكن ورود الرفع عليه وجعله كأن لم يصدر ، فلا يترتب عليه آثار الوجود إن كان موافقا للتوسعة والامتنان ، وأما الفعل الذي لم يصدر من المكلف وكان تاركا له عن النسيان وإكراه فلا محل للرفع فيه (1) لأن رفع المعدوم لا يمكن إلا بالوضع والجعل ، و « حديث الرفع » لا يتكفل الوضع ، بل مفاده الرفع.
ومن هنا يظهر : أنه لا يمكن تصحيح العبادة الفاقدة لبعض الأجزاء والشرايط لنسيان أو إكراه ونحو ذلك بحديث الرفع ، فإنه لا محل لورود الرفع على السورة المنسية في الصلاة مثلا لخلو صفحة الوجود عنها ، مضافا إلى أن الأثر المترتب على السورة ليس هو إلا الإجزاء وصحة العبادة ، ومع الغض عن أن الإجزاء والصحة ليست من الآثار الشرعية التي تقبل الوضع والرفع لا يمكن أن يكون رفع السورة بلحاظ رفع أثر الإجزاء والصحة ، فان ذلك يقتضي عدم الإجزاء وفساد العبادة ، وهذا ينافي الامتنان وينتج عكس المقصود ، فانّ
ص: 353
المقصود من التمسك بحديث الرفع تصحيح العبادة لا فسادها ، فنفس الجزء أو الشرط المنسى موضوعا وأثرا لا يشمله « حديث الرفع » ولا يمكن التشبث به لتصحيح العبادة.
وأمّا بالنسبة إلى المركب الفاقد للجزء أو الشرط المنسى : فهو وإن كان أمرا وجوديا قابلا لتوجه الرفع إليه ، إلا أنه أولا : ليس هو المنسى أو المكره عليه ليتوجه الرفع إليه ، وثانيا : لا فائدة في رفعه ، لأن رفع المركب الفاقد للجزء أو الشرط لا يثبت المركب الواجد له ، فان ذلك يكون وضعا لا رفعا ، وليس للمركب الفاقد للجزء أو الشرط أثر يصح رفع المركب بلحاظه ، فان الصلاة بلا سورة مثلا لا يترتب عليها أثر إلا الفساد وعدم الإجزاء وهو غير قابل للرفع الشرعي.
ومن ذلك يظهر فساد ما قيل : من أن المرفوع في حال النسيان إنما هو جزيئة المنسى للمركب ، وما أشكل عليه : من أن الجزئية لا تقبل الجعل فلا تقبل الرفع ، وما أجيب عن ذلك : من أن الجزئية مجعولة بتبع جعل منشأ انتزاعها فتقبل الرفع برفع منشأ الانتزاع.
فان ذلك كله خروج عن مفروض الكلام ولا ربط له بالمقام ، لأن جزئية الجزء لم تكن منسية وإلا كان ذلك من نسيان الحكم ، ومحل الكلام إنما هو نسيان الموضوع ونسيان قراءة السورة مثلا ، فلم يتعلق النسيان بالجزئية حتى يستشكل بأن الجزئية غير مجعولة فيجاب بأنها مجعولة بجعل منشأ الإنتزاع.
والحاصل : أن الإشكال في شمول « حديث الرفع » للجزء المنسى ليس من جهة عدم قابلية الجزء للرفع الشرعي ، إذ لا إشكال في أنه عند الشك في جزئية شيء للمركب أو شرطيته تجرى فيه البراءة الشرعية ويندرج في قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » بل الإشكال إنما هو من جهة أنه عند ترك الجزء نسيانا مع العلم والالتفات بجزئيته ليس في البين ما يرد الرفع الشرعي عليه من حيث الموضوع والأثر ، فلا يمكن تصحيح العبادة الفاقدة للجزء أو الشرط بمثل « حديث الرفع » بل لابد من التماس دليل آخر على
ص: 354
الصحة ، وهو في الصلاة قوله علیه السلام « لا تعاد الصلاة إلا عن خمس ».
وعلى ذلك يبتني جملة من القواعد التي تسالم عليها الأصحاب في باب الخلل الواقع في الصلاة ، من جملتها : أنه لو كان المنسى من الأركان فما لم يدخل المصلى في ركن آخر يجب عليه العود لتدارك الركن المنسى ومع الدخول في ركن آخر تبطل الصلاة ، بخلاف ما إذا كان المنسى من غير الأركان ، فإنه لا تبطل الصلاة بنسيانه وإن دخل في ركن آخر ، بل إن كان الجزء من الأجزاء التي يجب قضائها بعد الصلاة يقضى ، وإلا فلا شيء عليه إلا سجدتا السهو ، ونحو ذلك من الفروع والقواعد التي تستفاد من « حديث لا تعاد » وقد استقصينا الكلام فيها في « رسالة الخلل ».
ولو كان المدرك في صحة الصلاة الفاقدة للجزء أو الشرط نسيانا « حديث الرفع » كان اللازم صحة الصلاة بمجرد نسيان الجزء أو الشرط مطلقا من غير فرق بين الأركان وغيرها ، فإنه لا يمكن استفادة التفصيل من « حديث الرفع ». ويؤيد ذلك : أنه لم يعهد من الفقهاء التمسك بحديث الرفع لصحة الصلاة وغيرها من ساير المركبات.
هذا إذا كان النسيان مستوعبا في تمام الوقت المضروب للمركب ، وأما في النسيان الغير المستوعب فالأمر فيه أوضح ، فإنه لا يصدق نسيان المأمور به عند نسيان الجزء في جزء من الوقت مع التذكر في بقية الوقت ، لأن المأمور به هو الفرد الكلي الواجد لجميع الأجزاء والشرائط ولو في جزء من الوقت الذي يسع فعل المأمور به ، فمع التذكر في أثناء الوقت يجب الإتيان بالمأمور به لبقاء وقته - لو كان المدرك حديث الرفع - لأن المأتى به الفاقد للجزء أو الشرط لا ينطبق على المأمور به ، فلو لا « حديث لا تعاد » كان اللازم هو إعادة الصلاة الفاقدة للجزء نسيانا مع التذكر في أثناء الوقت.
فتحصل مما ذكرنا : أنه في كل مورد مست الحاجة إلى تنزيل الفاقد منزلة الواجد لابد من التماس دليل آخر غير « حديث الرفع » كما أنه في كل
ص: 355
مورد مسّت الحاجة إلى تنزيل الواجد منزلة الفاقد يتمسك لذلك بحديث الرفع (1) ومن هنا يمكن أن يفرق بين الأجزاء والشرائط وبين الموانع وأنه في صورة ايجاد المانع نسيانا يصح التمسك بحديث الرفع إذا كان النسيان مستوعبا لتمام الوقت ، فتأمل جيدا.
هذا كله في الأحكام التكليفية. وأما الأحكام الوضعية - كالعقود والايقاعات والطهارة والنجاسة - فالكلام فيها تارة : يقع في الأسباب : الايجاب والقبول مثلا ، وأخرى : في المسببات ، وثالثة : في الآثار والأحكام المترتبة على المسببات.
أما الأسباب : فمجمل الكلام فيها ، هو أن وقوع النسيان والإكراه أو الاضطرار في ناحية الأسباب لا تقتضي تأثيرها في المسبب ولا تندرج في « حديث الرفع » لما تقدم في باب الأجزاء والشرائط : من أن « حديث الرفع » لا يتكفل تنزيل الفاقد منزلة الواجد ولا يثبت أمرا لم يكن ، فلو اضطر إلى ايقاع
ص: 356
العقد بالفارسية أو أكره عليه أو نسى العربية كان العقد باطلا بناء على اشتراط العربية في العقد ، فان رفع العقد الفارسي لا يقتضي وقوع العقد العربي (1) وليس للعقد الفارسي أثر يصح رفعه بلحاظ رفع أثره ، وشرطية العربية ليست هي المنسية حتى يكون الرفع بلحاظ رفع الشرطية.
وأما المسببات : فهي على قسمين : فإنها تارة : تكون من الأمور الاعتبارية ليس لها ما بحذاء في وعاء العين ، بل وعائها وعاء الاعتبار - كالملكية والزوجية والرقية ونحو ذلك من الوضعيات الاعتبارية التي أمضاها الشارع - وأخرى : تكون من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع - كالطهارة والنجاسة الخبثية - على احتمال قواه الشيخ قدس سره وإن ضعفناه نحن في محله ، ويأتي بيانه في مبحث الاستصحاب.
أمّا القسم الأوّل : فهو بنفسه مما تناله يد الوضع والرفع التشريعي ، على ما هو الحق عندنا : من أن هذا القسم من الأحكام الوضعية يستقل بالجعل وليس منتزعا من الأحكام التكليفية ، فلو فرض أنه أمكن أن يقع المسبب عن إكراه ونحوه كان للتمسك بحديث الرفع مجال (2) فينزل المسبب منزلة العدم وكأنه لم
ص: 357
يقع ؛ ويلزمه عدم ترتيب الآثار المترتبة على المسبب : من حلية الأكل وجواز التصرف في باب العقود والايقاعات.
لا أقول : إن الرفع تعلق بالآثار ، بل تعلق بنفس المسبب ، لأنه بنفسه مما تناله يد الرفع ، ولكن رفعه يقتضي رفع الآثار ، لارتفاع العرض بارتفاع موضوعه ، ولكن فرض وقوع المسبب عن إكراه ونحوه في غاية الإشكال (1) فان الإكراه إنما يتعلق بايجاد الأسباب ، وقد ذكرنا في « كتاب البيع » ما قيل وما يمكن أن يقال في المقام.
وأمّا القسم الثاني : وهو ما إذا كان المسبب من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع - كالطهارة والنجاسة - فهو مما لا تناله يد الرفع والوضع التشريعي (2) لأنه من الأمور التكوينية وهي تدور مدار وجودها التكويني متى تحققت ووجدت ، لا تقبل الرفع التشريعي ، بل رفعها لابد وأن يكون من سنخ وضعها تكوينا. نعم : يصح أن يتعلق الرفع التشريعي بها بلحاظ ما رتب عليها من الآثار الشرعية.
ولا يتوهم : أن لازم ذلك عدم وجوب الغسل على من أكره على الجنابة أو عدم وجوب التطهير على من أكره على النجاسة ، بدعوى : أن الجنابة المكره عليها وإن لم تقبل الرفع التشريعي إلا أنها باعتبار ما لها من الأثر - وهو الغسل - قابلة للرفع ، فان الغسل والتطهير أمران وجوديان قد أمر الشارع بهما
ص: 358
عقيب الجنابة والنجاسة مطلقا ، من غير فرق بين الجنابة والنجاسة الاختيارية وغيرها (1) فتأمل ، فان المقام يحتاج إلى بسط من الكلام لا يسعه المجال ، والبحث عن ذلك وقع استطرادا.
والمقصود الأصلي بالبحث هو البحث عن مفاد قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » فإنه هو المدرك في البراءة الشرعية ، وقد عرفت : أن الرفع في « ما لا يعلمون » يغاير الرفع في البقية ، فان الرفع في البقية رفع واقعي ينتج نتيجة التخصيص الواقعي - بالبيان المتقدم - والرفع في « ما لا يعلمون » رفع ظاهري ينتج عدم وجوب الاحتياط في موارد الشك والشبهات على ما تقدم بيانه بما لا مزيد عليه - والغرض من إعادة الكلام فيه هو بيان ما يندرج في قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » من الشبهات.
فنقول : المشكوك فيه تارة : يكون هو التكليف النفسي الاستقلالي ، كالشك في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال وكالشك في حرمة تصوير الصور المجردة من ذوات الأرواح. وأخرى : يكون هو التكليف الغير الاستقلالي - كالشك في جزئية شيء للمأمور به أو شرطيته أو مانعيته. وثالثة : يكون في
ص: 359
المحصّلات والأسباب العقلية أو العادية أو الشرعية الاختراعية أو الإمضائية ، كالشك في اعتبار الغسلة الثانية في التطهير من النجاسة الخبثية ، وكالشك في اعتبار أن يكون المسح ببلة الوضوء - بناء على أن تكون الغسلات والمسحات في باب الطهارة الخبثية والحدثية من المحصلات والأسباب لا أنها بنفسها وبما هي هي متعلقات التكليف ، وكالشك في اعتبار العربية والماضوية في العقد ونحو ذلك مما كان الشك فيما هو السبب والمحصل لمتعلق التكليف أو الوضع.
فان كان الشك في التكليف النفسي الاستقلالي ، فهذا هو المتيقن في اندراجه في قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » سواء كانت الشبهة وجوبية أو تحريمية ، وسواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية. وقد تقدم ضعف الإشكال في عموم « حديث الرفع » للشبهات الحكمية والموضوعية ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك.
وإن كان الشك في التكليف الغير الاستقلالي ، فهذا هو المبحوث عنه في باب الأقل والأكثر الارتباطي ، وسيأتي البحث عنه بما لا مزيد عليه في مبحث الاشتغال ، وأن الأقوى شمول « حديث الرفع » له.
وإن كان الشك في الأسباب والمحصلات ، فالأقوى : أنها بجميع أقسامها لا تجري فيها البراءة ولا يعمها « حديث الرفع » وإن حكى عن بعض الأعلام جريان البراءة في خصوص الأسباب الشرعية ، كالغسلات والمسحات في باب الطهارة الخبثية والحدثية ، بناء على أن تكون الغسلات والمسحات من الأسباب والمحصلات وأن المأمور به في باب الطهارة الخبثية هو إفراغ المحل عن القذارة الظاهرية فيكون الغسل سببا لذلك ، وفي باب الطهارة الحدثية هو تطهير الباطن عن القذارة المعنوية الحاصلة من الأحداث والغسلات والمسحات أسباب لذلك ، لا أن المأمور به نفس الغسلات والمسحات وتطهير الباطن حكمة للأمر بها ، وسيأتي البحث عن ذلك أيضا ( إن شاء اللّه تعالى ) في مبحث الإشتغال.
ص: 360
وعلى ذلك يبتني الخلاف المعروف في باب الوضوء : من أنه هل يعتبر في الوضوء مع عدم القصد إلى إحدى الغايات الواجبة أو المستحبة قصد رفع الحدث أو الكون على الطهارة؟ أو لا يعتبر قصد ذلك؟ بل يكفي مجرد قصد أفعال الوضوء من الغسلات والمسحات بقصد امتثال الأمر المتعلق بها ، فان قلنا : إن المأمور به هو نفس الغسلات والمسحات ، فلا يعتبر قصد رفع الحدث أو الكون على الطهارة. وإن قلنا : إن المأمور به هو الطهارة وتلك الأفعال محصلات لها ، فلابد مع عدم قصد إحدى الغايات من قصد الكون على الطهارة ، لأن قصد حقيقة المأمور به مما لابد منه في كل عبادة.
ومنشأ الخلاف : هو وقوع كل من التطهير والأفعال في حيز الطلب في « القرآن المجيد ».
فمن الأول : قوله تعالى : « وإن كنت جنبا فاطهروا » (1) بضميمة عدم الفرق بين الوضوء والغسل في ذلك.
ومن الثاني قوله تعالى : « إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم » الآية (2).
فمن قال : بأنه يعتبر في الوضوء قصد الكون على الطهارة وأنها من المسببات التوليدية للأفعال حمل الأمر بالأفعال في آية الوضوء على أن الأمر بها لأجل كونها محصلة للطهارة لا من حيث هي هي ، فإنه في المسببات التوليدية يصح تعلق الأمر بكل من المسبب والسبب لكن لا بما هو هو ، بل بما أنه يتولد منه المسبب ، وهذا إذا كان الربط بين السبب والمسبب على وجه يكون الأمر بالسبب عين الأمر بالمسبب عرفا ، كما لو أمر بالإلقاء في النار ، فان الأمر به عرفا أمر بالإحراق. والظاهر أن تكون جميع الأسباب والمسببات التوليدية من هذا القبيل.
ص: 361
ومن قال : إنه لا يعتبر في الوضوء قصد الكون على الطهارة (1) حمل الأمر بالتطهير في آية الغسل على أن المراد منه نفس الأفعال لا المعنى الحاصل منها ويكون التطهير من قبيل الحكم والمصالح ، ويؤيد ذلك ما ورد في بعض الأخبار : من « أن اللّه تعالى إنما أمر بالوضوء ليكون العبد متطهرا بين يدي اللّه تعالى » (2) فان الظاهر منه هو أن تكون الطهارة من الخواص والآثار المترتبة على أفعال الوضوء ، لا أنها من المسببات التوليدية ، وذكرنا - في مبحث الاشتغال - الفرق بين المسببات التوليدية والمقدمات الإعدادية ، وأن باب المصالح والمفاسد ليست من المسببات التوليدية ، بل إنما هي من الخواص والآثار المترتبة على متعلقات التكاليف ، فراجع ذلك المبحث ، فإنه قد استوفينا الكلام فيه بما لا مزيد عليه ، وغرضنا في المقام مجرد الإشارة ، فلا فائدة في تكرار الكلام في ذلك ، مع أنه أمامنا مباحث مهمة ينبغي صرف عنان الكلام فيها ، ولعل اللّه يوفقنا للتعرض إلى جملة مما يتعلق بلباس المشكوك من المباحث النفيسة التي أفادها شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) ما لم تخطر ببال من سبقه من الأعلام.
وقد تحصل من جميع ما ذكرنا : أن دلالة قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » على ما هو محل البحث بين الأصوليين والأخباريين - وهو جواز الاقتحام في الشبهات التحريمية - في غاية الوضوح.
ص: 362
وقد استدل للبرائة بأخبار أخر ، أظهرها دلالة قوله علیه السلام « كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهى » (1).
والاستدلال به مبنى على أن يكون « الورود » بمعنى الوصول إلى المكلفين ، لا الورود المقابل للسكوت ، وإلا كان مفاده أجنبيا عن محل البحث ، فان الورود المقابل للسكوت هو بمعنى الجهل بالتشريع ، فيكون مفاد الحديث المبارك : « كل شيء مطلق والناس منه في سعة ما لم يبين اللّه تعالى حكمه » أي ما دام مسكوتا عنه ، كما ورد في الخبر : « إن اللّه تعالى سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا » الخبر (2) وأين هذا مما هو مورد البحث من الشك في التكليف بعد تبين الأحكام وتبليغها إلى الأنام وعروض الاختفاء لبعضها لبعض موجبات الاختفاء!.
وقد استدل على البراءة بقوله علیه السلام « كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه » أو « حتى تعرف الحرام منه بعينه » على اختلاف النسخ (3).
وقوله علیه السلام : « كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه (4).
ولا يخفى : ظهور كلمة « فيه » و « منه » و « بعينه » في الانقسام والتبعيض الفعلي - أي كون الشيء بالفعل منقسما إلى الحلال والحرام - بمعنى أن يكون قسم منه حلالا وقسم منه حراما واشتبه الحلال منه بالحرام ولم يعلم أن المشكوك من القسم الحلال أو الحرام ، كاللحم المطروح المشكوك كونه من الميتة أو المذكى ، أو المايع المشكوك كونه من الخل أو الخمر ، فان اللحم أو المايع
ص: 363
بالفعل منقسم إلى ما يكون حلالا وإلى ما يكون حراما ، وذلك لا يتصور إلا في الشبهات الموضوعية.
وأمّا الشبهات الحكمية : فليس القسمة فيها فعلية وإنما تكون القسمة فيها فرضية ، - أي ليس فيها إلا احتمال الحل والحرمة - فان شرب التتن الذي فرض الشك في كونه حلالا أو حراما ليس له قسمان : قسم حلال وقسم حرام ، بل هو إما أن يكون حراما وإما أن يكون حلالا ، فلا يصح أن يقال : إن شرب التتن فيه حلال وحرام ، إلا بضرب من التأويل والعناية التي لا يساعد عليها ظاهر اللفظ.
فكلمة « فيه » ظاهرة في اختصاص الحديث في الشبهات الموضوعية ، وكذا كلمة « بعينه » فان معرفة الشيء بعينه إنما يكون في الموضوعات الخارجية (1) ولا معنى لأن يقال : حتى تعرف الحكم بعينه.
ومن ذلك يظهر : اختصاص قوله علیه السلام « كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه » بالشبهات الموضوعية ، فإنه لولا كلمة « بعينه » كان الخبر عاما للشبهات الحكمية والموضوعية ، كقوله علیه السلام « كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه قذر » ولكن لفظة « بعينه » توجب ظهور الخبر في الشبهات الموضوعية.
وقد استدل للبرائة بقوله صلی اللّه علیه و آله « الناس في سعة ما لا يعلمون » (2) وفي دلالته تأمل إلاّ على بعض الوجوه.
ص: 364
والإنصاف ، أن أظهر ما استدل به على البراءة من الأخبار هو « حديث الرفع » وفيه الكفاية.
فقد أفاد الشيخ قدس سره في تقريره وجوها.
ولكن الذي ينفع منه في المقام هو إجماع العلماء كافة من الأصوليين والأخباريين على البراءة ، والإجماع على هذا الوجه لم ينعقد ، بل هو مقطوع العدم ، كيف! وجل الأخباريين ذهبوا إلى وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية الحكمية التي هو مورد البحث ، ولا يمكن دعوى عدم قدح مخالفتهم في تحقق الإجماع مع أن جملة منهم من أجلاء الأصحاب وأعيانهم. وأما بقية تقريرات الإجماع : فلا يمكن الركون إليها والاعتماد عليها ، بحيث تقدم أو تعارض ما سيأتي من الوجوه التي تمسك بها الأخباريون على وجوب الاحتياط ، لو تمت دلالتها وسلمت عن المناقشة في حد نفسها.
فحكمه بالبرائة مما لا يكاد يخفى ، لاستقلاله بقبح العقاب بلا بيان واصل إلى المكلف بعد إعمال العبد ما تقتضيه وظيفته من الفحص عن حكم الشبهة واليأس عن الظفر به في مظان وجوده ، ولا يكفي في صحة المؤاخذة واستحقاق العقوبة مجرد البيان الواقعي مع عدم وصوله إلى المكلف ، فان وجود البيان الواقعي كعدمه غير قابل لأن يكون باعثا ومحركا لإرادة العبد ما لم يصل إليه ويكون له وجود علمي.
فتوهم : أن البيان في موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان هو البيان الواقعي - سواء وصل إلى العبد أو لم يصل - فاسد ، فان العقل وإن استقل بقبح العقاب مع عدم البيان الواقعي ، إلا أنه استقلاله بذلك لمكان أن مبادئ الإرادة الآمرية بعد لم تتم ، فلا إرادة في الواقع ، ومع عدم الإرادة لا مقتضى لاستحقاق العقاب ، لأنه لم يحصل تفويت لمراد المولى واقعا ، بخلاف البيان
ص: 365
الغير الواصل فإنه وإن لم يحصل مراد المولى وفات مطلوبه واقعا ، إلا أن فواته لم يستند إلى المكلف بعد إعمال وظيفته ، بل فواته إما أن يكون من قبل المولى إذا لم يستوفى مراده ببيان يمكن وصول العبد إليه عادة ، وإما أن يكون لبعض الأسباب التي توجب اختفاء مراد المولى عن المكلف ، وعلى كل تقدير : لا يستند الفوات إلى العبد ، فلأجل ذلك يستقل العقل بقبح مؤاخذته ، فمناط حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان واقعي غير مناط حكمه بقبح العقاب من غير بيان واصل إلى المكلف.
فان قلت : يكفي في البيان حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، فان الشك في التكليف يلازم الشك في الضرر ، والعقل يستقل بلزوم دفع الضرر المحتمل ، فيرتفع موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.
قلت : قد تقدم الكلام في كل من الصغرى والكبرى بما لا مزيد عليه - في مبحث الظن قبل دليل الانسداد - وإجماله : أن المراد من الضرر في حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل ، إما أن يكون هو الضرر الدنيوي من نقص في الأنفس والأطراف والأعراض ، وإما أن يكون هو الضرر الأخروي من العذاب والعقاب ، وإما أن يكون هو المصالح والمفاسد التي تبتنى عليها الأحكام من القرب والبعد ونحو ذلك مما لا يرجع إلى الضرر الدنيوي ولا إلى العقاب الأخروي ، فإنه يمكن أن تكون مناطات الأحكام أمورا اخر غير المضار الدنيوية والعقاب الأخروي.
وحكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل في هذه الوجوه الثلاثة ليس بمناط واحد ، بل حكمه بوجوب دفع الضرر الدنيوي بالنسبة إلى خصوص الأنفس والأطراف أو الأعراض أيضا يمكن أن يكون لأجل ما في الضرر الواقعي من المفسدة التي أدركها العقل فاستقل بقبح الإقدام عليه ، ويتبعه حكم الشرع بحرمته لقاعدة الملازمة ، فان الحكم العقلي في ذلك واقع في سلسلة علل الأحكام ، وكلما كان الحكم العقلي واقعا في هذه السلسلة يكون مورد
ص: 366
القاعدة الملازمة فيستتبعه الحكم الشرعي.
فعلى هذا يكون حكمه بقبح الإقدام على ما يحتمل فيه الضرر أو يظن طريقا محضا للتحرز عن الوقوع في الضرر الواقعي ، فلا يترتب على موافقته ومخالفته غير ما يترتب على نفس الواقع عند موافقة الظن أو الاحتمال للواقع أو مخالفته.
ويمكن أن يكون تمام موضوع حكم العقل هو الإقدام على ما لا يأمن معه من الوقوع في الضرر الواقعي ، من غير فرق بين صورة القطع بالضرر أو الظن أو الاحتمال ، نظير حكمه بقبح التشريع ، على ما تقدم بيان ذلك.
وعلى كل تقدير : سواء كان حكم العقل في باب الضرر الدنيوي بهذا الوجه أو بذلك الوجه يستتبع الحكم الشرعي المولوي على وفقه (1).
هذا كله إن كان المراد من الضرر في حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل هو الضرر الدنيوي.
وإن كان المراد منه الضرر الأخروي ، فحكمه بلزوم دفع المقطوع والمظنون والمحتمل بل الموهوم إنما يكون إرشادا محضا ليس فيه شائبة المولوية ، ولا يمكن أن يستتبع حكما شرعيا ، لأن حكم العقل في ذلك إنما يكون واقعا في سلسلة معلولات الأحكام فلا يكون موردا لقاعدة الملازمة - كما أوضحناه في محله - ولكن ذلك فرع احتمال العقاب ، ومع عدم وصول التكليف بوجه لا تفصيلا ولا إجمالا يحتمل العقاب ، لقبح العقاب بلا بيان ، فحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان يكون حاكما وواردا على حكمه بلزوم دفع الضرر المحتمل.
وبالجملة : بعد استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان واصل إلى المكلف ، تختص « قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل » بأطراف العلم الإجمالي
ص: 367
أو الشبهة البدوية قبل الفحص ، وأما الشبهة البدوية بعد الفحص فلا يحتمل فيها العقاب ، لأن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان يوجب القطع بعدم العقاب.
والحاصل : أن حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل لا يصلح أن يكون بنفسه بيانا للتكليف المشكوك (1) لأنه لا يكون رافعا للشك ، وتمام الموضوع لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان هو نفس الشك في التكليف ، فإنه بمجرده يستقل العقاب بقبح العقاب عليه فينقطع بعد العقاب ، فيرتفع موضوع قبح الإقدام على ما لا يأمن معه من الضرر. هذا إذا كان المراد من الضرر في القاعدة الضرر العقابي.
وإن أريد منه المصالح والمفاسد التي تكون مناطات الأحكام ، فالشك في التكليف وإن كان يلازم الشك في المصلحة والمفسدة ، إلا أن التحرز عن احتمال المفسدة وفوات المصلحة ليس مما يستقل العقل بلزومه ، بل إن أدرك العقل المصلحة والمفسدة التامة وأحاط بجميع الجهات ولم ير مزاحما لها حكم بقبح تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة. وأما مجرد احتمال وجود المصلحة والمفسدة مع احتمال وجود المزاحم فلا سبيل إلى دعوى استقلال العقل بقبح الاقتحام على ما فيه احتمال المفسدة وترك ما فيه احتمال المصلحة.
نعم : قد تكون المفسدة أو المصلحة المحتملة بمثابة من الأهمية يلزم التحرز عن الوقوع في مخالفتها ولو احتمالا ، إلا أنه لو كانت بهذه المثابة فعلى الشارع جعل المتمم وايجاب الاحتياط ، كما أوجبه في باب الدماء والفروج والأموال ، ومع الشك في ايجاب الاحتياط كان المرجع هو البراءة ، لأنه كأحد التكاليف المجهولة ، فيعمه « حديث الرفع ».
ومما ذكرنا يظهر : ما في كلام الشيخ قدس سره من الخلل ، حيث
ص: 368
قال قدس سره : « ودعوى أن حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بيان عقلي فلا يقبح بعده المؤاخذة مدفوعة بأن الحكم المذكورة على تقدير ثبوته لا يكون بيانا للتكليف المجهول المعاقب عليه ، وإنما هو بيان لقاعدة كلية ظاهرية وإن لم يكن في مورده تكليف في الواقع ، فلو تمت عوقب على مخالفتها » إلى أن قال : « وإن أريد بها مضرة أخرى غير العقاب التي لا يتوقف ثبوتها على العلم ، فهو وإن كان محتملا لا يرتفع احتماله بقبح العقاب من غير بيان ، إلا أن الشبهة من هذه الجهة موضوعية » إلى آخر ما أفاده.
والإنصاف : أنه ما كنا نترقب من الشيخ قدس سره ذلك (1) فان حكم العقل بقبح الإقدام على ما يحتمل فيه الضرر العقابي إنما يكون إرشادا محضا لا يمكن أن يستتبع حكما مولويا شرعيا ، فكيف يمكن أن يكون العقاب على مخالفته وإن لم يكن في مورده تكليف واقعي؟ وكيف صار هذا الحكم العقلي من القواعد الظاهرية؟ مع أن مخالفة الأحكام الظاهرية لا تستتبع
ص: 369
استحقاق العقاب مع عدم مصادفتها للواقع ، بل العقاب يدور مدار مخالفة الواقع مع وجود طريق إليه ، وفي جميع موارد القواعد الظاهرية يكون العقاب على مخالفة الواقع أو على مخالفة القاعدة عند إدائها إلى مخالفة الواقع لا مطلقا ، على اختلاف فيها : من كونها محرزة للواقع كالأمارات والأصول التنزيلية فالعقاب على الواقع ، أو غير محرزة كأصالة الاحتياط فالعقاب على مخالفة القاعدة ولكن بشرط كونه مؤديا إلى مخالفة الواقع ، ويأتي بيان ذلك ( إن شاء اللّه تعالى ) في خاتمة الاشتغال.
وعلى كل حال : ما أفاده الشيخ قدس سره من أن العقاب على مخالفة نفس القاعدة الظاهرية وإن لم تؤدى إلى مخالفة الواقع مما لا يستقيم.
وأغرب من ذلك : ما أفاده أخيرا : من أنه لو كان المراد من الضرر غير العقاب من المصالح والمفاسد فاحتماله لا يرتفع بقاعدة قبح العقاب بلا بيان. وهذا الكلام منه قدس سره يعطى أن المصالح والمفاسد من أفراد الضرر (1) وتعمها قاعدة « قبح الإقدام على ما لا يأمن معه من الضرر » ولكن الشارع رخص في الاقتحام في موارد احتمال المفسدة.
وأنت خبير بما فيه ، فان باب المصلحة والمفسدة غير باب الضرر الذي يستقل العقل بلزوم التحرز عن محتمله. وعلى كل تقدير : فقد ظهر لك : أن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان وارد على حكمه بقبح الاقتحام على ما لا يأمن معه عن الضرر العقابي ، وهذا الحكم العقلي يعم جميع الشبهات الحكمية والموضوعية التحريمية والوجوبية.
ثم إنه ربما يستدل للبرائة باستصحاب البراءة المتيقنة حال الصغر ، وسيأتي البحث عن حال هذا الاستصحاب وأن استصحاب البراءة مما لا يجرى في شيء من المقامات ، سواء كان المراد من العدم المستصحب العدم
ص: 370
حال الصغر قبل البلوغ ، أو العدم قبل الوقت في الموقتات ، فانتظر ما يأتي في مبحث الاشتغال ، فإنه قد استوفينا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في ذلك المقام.
وقد استدل للبرائة بوجوه أخر لا تخلو عن ضعف ، فلا يهمنا التعرض لها وفيما ذكرناه كفاية.
وقد استدلوا بالأدلة الثلاثة :
فمن الكتاب قوله تعالى : « فاتقوا اللّه حق تقاته » (1) وقوله تعالى : « واتقوا اللّه ما استطعتم » (2) وقوله تعالى : « ولا تقف ما ليس لك به علم » (3) فان الاقتحام في الشبهة ينافي التقوى المأمور بها. وكذا الحكم بالترخيص وجواز الاقتحام فيها قول بغير علم.
ولا يقال : إن الحكم بحرمة الاقتحام فيها أيضا قول بغير علم ، فان الأخباريين لا يقولون بالحرمة ، وإنما قالوا بترك الاقتحام فيها لاحتمال الحرمة ، فتأمل.
ولا يخفى : أن الآيات الشريفة بمعزل عن الدلالة على مذهب الأخباريين. أما آيات التقوى : فمع أنها لا تدل على الوجوب ، لا تنافى الاقتحام في الشبهة اعتمادا على حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان واتكالا على قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » ومنه يظهر : أن القول بجواز الاقتحام ليس قولا بغير علم ، لدلالة حكم العقل والشرع على عدم استحقاق العقاب على التكليف الغير الواصل ، فيكون القول بالجواز قولاً عن علم.
ص: 371
منها : أخبار التوقف كقوله علیه السلام « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة » (1) وهي كثيرة مستفيضة ، بل تبلغ حد التواتر ، وظاهر التوقف هو السكون وعدم الحركة فالتوقف في الشبهات عبارة عن الاحتياط فيها وترك المضي فيها.
ومنها : الأخبار الدالة على وجوب الاحتياط ، وهي كثيرة أيضا تبلغ حد الاستفاضة ، ففي الصحيح : عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان الجزاء بينهما أو على كل واحد منهما جزاء؟ قال لا ، بل عليهما أن يجزى كل واحد منهما الصيد ، قلت : إن بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه ، فقال : إذا أصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسئلوا عنه فتعلموا (2).
وفي موثقة عبد اللّه ، قال : كتبت إلى العبد الصالح علیه السلام يتوارى القرص ويقبل الليل ثم يزيد الليل ارتفاعا وتستتر عين الشمس ويرتفع فوق الجبل حمرة ويؤذن عندنا المؤذنون فأصلي حينئذ وأفطر إن كنت صائما أو أنتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الليل [ الجبل ] فكتب إلى : أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائط لدينك ، الخبر (3).
وعن « المفيد الثاني » قال : إن أمير المؤمنين علیه السلام قال لكميل بن زياد : أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت (4).
وقوله علیه السلام ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل الإحتياط (5).
ص: 372
إلى غير ذلك من الروايات الدالة على حسن الاحتياط ووجوبه.
ومنها : أخبار التثليث ، كقوله علیه السلام في ذيل مقبولة عمر بن حنظلة : وإنما الأمور ثلاثة : أمر بين رشده فيتبع ، وأمر بين غيه فيجتنب ، وأمر مشكل يرد علمه إلى اللّه تعالى وإلى رسوله صلی اللّه علیه و آله قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم (1).
وتقريب الاستدلال بها : هو أن « المقبولة » دلت على وجوب ترك الشاذ معللا بأنه فيه الريب ، ومقتضى عموم العلة هو وجوب ترك كل ما كان فيه الريب والشك ، ومنه ما هو المبحوث عنه من الشبهات التحريمية ، بل مورد الرواية مختص بما كان الشك فيه لأجل احتمال الحرمة ، كما يظهر من قوله صلی اللّه علیه و آله « حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك » أي بين الحلال والحرام.
فدلالة أخبار التثليث على وجوب التحرز عن الشبهات التحريمية وحرمة الاقتحام فيها أوضح من الأخبار السابقة ، هذا.
والجواب أمّا عن الطائفة الأولى : فالأمر بالتوقف فيها لا يصلح إلا للإرشاد ، ولا يمكن أن يكون أمرا مولويا يستتبع الثواب والعقاب ، فان المراد من « الهلكة » في قوله علیه السلام « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة » هي العقاب ولا يمكن أن يكون المراد منه العقاب الجائي من قبل مخالفة الأمر بالتوقف ، لأن الظاهر أن يكون قوله علیه السلام ذلك لبيان الملازمة بين الاقتحام والوقوع في الهلكة ، فلابد وأن تكون الهلكة مفروضة الوجود والتحقق مع قطع النظر عن الأمر بالتوقف ، لتكون في البين ملازمة بين
ص: 373
عدم التوقف والهلكة ، ولا يمكن فرض وجود الهلكة إلا بعد فرض تنجز التكليف ، وذلك لا يكون إلا في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، فيكون حاصل مفاد قوله علیه السلام « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة « هو أن ترك التعرض للشبهة التي يحتمل انطباق التكليف عليها خير من الوقوع في عقاب مخالفة التكليف إذا صادفت الشبهة متعلق التكليف ، فعلى هذا يكون الأمر بالتوقف للإرشاد وهو تابع للمرشد إليه ، فان صادفت الشبهة متعلق التكليف يستحق المكلف العقوبة لفرض تنجز التكليف ، وإن خالفت الشبهة متعلق التكليف لم يكن في البين شيء إلا التجري.
ويحتمل قريبا أن تكون روايات التوقف لإفادة معنى آخر ، وهو أن الاقتحام في الشبهات يوجب وقوع المكلف في المحرمات ، لا أن نفس الاقتحام في الشبهة حرام إذا صادف الحرام المعلوم بالإجمال - كما هو مفاد الوجه الأول - بل ترك الوقوف عندها والاقتحام فيها مظنة الوقوع في المحرمات ، فان الشخص إذا لم يجتنب عن الشبهات وعود نفسه على الاقتحام فيها هانت عليه المعصية وكان ذلك موجبا لجرئته على فعل المحرمات ، وقد ورد نظير ذلك في باب المكروهات (1) فإنه لو لم يعتنى المكلف بالمكروهات وأكب على فعلها أدى ذلك إلى الجرئة على فعل المحرمات ، كما أن الشخص لو لم يعتنى بالمعصية الصغيرة هانت عليه الكبيرة ( أعاذنا اللّه من ذلك ) وأما إذا لم يعود الشخص نفسه على الاقتحام في الشبهات بل عود نفسه على التجنب عنها والوقوف عندها حصلت ملكة التجنب عن المعاصي ، وإلى ذلك يشير قوله علیه السلام « والمعاصي حمى اللّه فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها » (2).
وعلى هذا فالأمر بالوقوف عند الشبهة يكون استحبابيا ، كما هو الظاهر
ص: 374
من قوله علیه السلام في بعض أخبار التوقف « أورع الناس من وقف عند الشبهة » (1) وقوله علیه السلام « لا ورع كالوقوف عند الشبهة » (2).
وعلى كل حال : من راجع أخبار التوقف وتأمل فيها يقطع بأن الأمر فيها ليس أمرا مولويا بنفسه يستتبع الثواب والعقاب ، فلا يصلح للأخباري الاستدلال بها على مدعاه.
وأمّا الطائفة الثانية : وهي الأخبار الواردة في الأمر بالاحتياط ، فأظهرها دلالة ما تقدم منها ، وهي لا تصلح للاستدلال بها على وجوب الاحتياط في الشبهات البدوية.
أما الصحيحة الأولى : فلعدم العمل بها في موردها ، فان الشك في وجوب الجزاء على كل من اللذين اصطادا ، إما أن يرجع إلى الأقل والأكثر الارتباطيين ، وإما أن يرجع إلى الأقل والأكثر الغير الارتباطيين ، لأن في صورة اشتراك الشخصين في الصيد ، إما أن نقول بوجوب إعطاء نفس البدنة ، وإما ان نقول بوجوب إعطاء قيمة البدنة.
فان قلنا : بوجوب إعطاء القيمة فالشك في مورد السؤال يرجع إلى الأقل والأكثر الغير الارتباطيين ، لأن اشتغال ذمة كل منهما بنصف قيمة البدنة متيقن ويشك في اشتغال الذمة بالزائد ، نظير تردد الدين بين الأقل والأكثر.
وإن قلنا : بوجوب إعطاء نفس البدنة فالشك في مورد السؤال يرجع إلى الأقل والأكثر الارتباطيين ، لأنه يدور الأمر بين وجوب إعطاء تمام البدنة على كل منهما أو نصفها ، وعلى تقدير كون الواجب هو تمام البدنة لا يجزى الأقل ولا يسقط به التكليف (3) نظير تردد أجزاء الصلاة بين الأقل والأكثر ؛
ص: 375
وعلى كلا التقديرين : الشبهة في مورد السؤال إنما تكون وجوبية ولا يجب الاحتياط فيها باتفاق الأخباريين ، فالصحيحة في موردها لم يعمل بها.
مضافاً إلى أن مورد البحث هو الشبهة البدوية التي لم يسبق العلم بالتكليف في موردها بوجه من الوجوه ، ومورد الصحيحة هو ما إذا علم بالتكليف في الجملة وإن تردد متعلقه بين الأقل والأكثر ، فيمكن الالتزام بوجوب الاحتياط في مورد الصحيحة وعدم وجوب الاحتياط في مورد البحث ، مع أن ظاهر الصحيحة هو كون المكلف متمكنا من الفحص وتحصيل العلم بحكم الواقعة ، ومحل الكلام هو ما إذا لم يكن تحصيل العلم بحكم الواقعة ، فلا يصح التمسك بالصحيحة لمورد البحث.
وأما الموثقة : فالشبهة في موردها لا تخلو : إما أن تكون موضوعية ، وإما أن تكون حكمية ، فان كانت موضوعية - كما لا يبعد ذلك بل يقربه استبعاد تقرير الإمام علیه السلام الجاهل على جهله في الشبهات الحكمية فإنه على الإمام علیه السلام رفع الشبهة وتبيين الأحكام للجاهلين لا الأمر بالاحتياط - فالاحتياط فيها واجب على كل حال ، لاستصحاب بقاء النهار وعدم دخول الليل ، ومع جريان الاستصحاب لا يبقى موضوع للبرائة ، مع أنه لو كانت الشبهة موضوعية وأغمضنا النظر عن الاستصحاب فالاحتياط لا يجب فيها باتفاق الأخباريين.
وإن كانت الشبهة حكمية : بأن يكون المراد من الحمرة المرتفعة الحمرة المشرقية التي لابد من زوالها في تحقق الغروب ، فيكون السؤال حينئذ عن وقت المغرب الذي تجب الصلاة فيه ويجوز الإفطار عنده وأنه هل يتحقق باستتار
ص: 376
القرص أو لابد من ذهاب الحمرة المشرقية؟ والإمام علیه السلام في مقام رفع هذه الشبهة وبيان أن الحمرة المشرقية لابد من زوالها في جواز الإفطار وصحة الصلاة - كما هو المشهور عند الخاصة - فبين الحكم الشرعي بلسان الأمر بالاحتياط ، وقال علیه السلام « تأخذ بالحائطة لدينك ».
ولعلّ السر في الأمر بالاحتياط - مع أنه كان ينبغي إزالة الشبهة ورفع جهل السائل بالزامه بالانتظار إلى أن تذهب الحمرة المشرقية - هو التقية والتباس الأمر على العامة القائلين بتحقق المغرب باستتار القرص ، فأمر علیه السلام بالاحتياط لكي يتخيل لهم أن الأمر بالانتظار إنما كان لأجل الاحتياط وحصول اليقين باستتار القرص ، لا لأجل أن المغرب لا يتحقق إلا بذهاب الحمرة المشرقية ، فالإمام علیه السلام قد أفاد وجوب الانتظار على خلاف فتوى العامة ببيان لا ينافي التقية ، كما أن قوله علیه السلام « أرى لك أن تنتظر » الذي يستشم منه رائحة الاستحباب - إنما كان للتقية والتباس الأمر على العامة لكي يزعموا أن الحكم بالتأخير إلى ذهاب الحمرة عند الخاصة إنما هو للاستحباب. وعلى كل حال : فالاحتياط بمعنى التأخير إلى ذهاب الحمرة مفروض السؤال واجب لا دخل له بما نحن فيه.
وأما عن بقية الأخبار المطلقة ( التي لم ترد في مورد خاص ) كقوله علیه السلام : « أخوك دينك فاحتط لدينك » فإنها وردت في مقام الإرشاد ، فالأمر فيها تابع للمرشد إليه ، ولا يمكن أن يكون الأمر بالاحتياط فيها أمرا مولويا ، وإلا يلزم تخصيص الأكثر ، لعدم وجوب الاحتياط في الشبهات الموضوعية مطلقا ، وفي الشبهات الحكمية الوجوبية بالاتفاق.
وأمّا عن الطائفة الثالثة : فبأن الأمر فيها لا يصلح إلا للإرشاد ، فان الظاهر من قوله علیه السلام « ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات » هو الملازمة بين التعرض للشبهات والوقوع في المحرمات ، فالأخذ بالشبهات بنفسه ليس من المحرمات ، بل يستلزم ذلك الوقوع فيها ؛ فيكون النهى عن الأخذ
ص: 377
بالشبهات للإرشاد إلى عدم الوقوع في المحرمات (1) لأن التجنب عن الشبهات يوجب حصول ملكة الردع عن المحرمات ، كما أن الاقتحام فيها يوجب التجري على فعل المحرمات ، وذلك هو الظاهر من قوله صلی اللّه علیه و آله « فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم » فمفاد أخبار التثليث أجنبي عن مقالة الأخباريين.
الدليل الثالث : ( الذي استدل به الأخباري على وجوب الاحتياط في الشبهات التحريمية ) هو حكم العقل ، وتقريره من وجهين :
أحدهما : العلم الإجمالي بثبوت محرمات في الشريعة وهذا العلم الإجمالي حاصل لدى كل أحد قبل مراجعة أدلة الأحكام ، ولا إشكال في استقلال العقل بأن الاشتغال اليقيني يستدعى البراءة اليقينية ، فلابد من ترك كل ما يحتمل الحرمة ليحصل اليقين بالفراغ ، ولا يجوز الاقتصار على ترك ما علم حرمته ، لأن ذلك لا يوجب حصول العلم بالفراغ.
ثانيهما : كون الأصل في الأفعال الغير الضرورية والتي لا يتوقف عليها حفظ النظام الحظر ، فلا يجوز الاقتحام في كل أمر لم يعلم الإذن فيه.
ولا يخفى ما في كلا الوجهين من الضعف.
أمّا الوجه الأوّل : فلانحلال العلم الإجمالي بعد الرجوع إلى الأدلة والاطلاع على مقدار من المحرمات يمكن انطباق المعلوم بالإجمال عليها ، بل يمكن أن يقال : إنا نعلم بمصادفة بعض الأمارات للواقع بقدر المعلوم بالإجمال من الأحكام الواقعية. وعلى ذلك يحمل ما أجاب به الشيخ قدس سره عن الدليل العقلي بقوله : « منع تكليف غير القادر على تحصيل العلم إلا بما أدى إليه الطريق » وإن كان ذلك خلاف ظاهر العبارة ، فان ظاهرها لا ينطبق على
ص: 378
القواعد (1) فتأمل.
ودعوى ثبوت العلم الإجمالي في خصوص الشبهات التي لم يقم عليها دليل ، مما لا شاهد عليها ، وقد تقدم في دليل الانسداد تفصيل ذلك بما لا مزيد عليه ، هذا ، مضافا إلى أن متعلق العلم الإجمالي أعم من الشبهات الوجوبية والتحريمية ، فلا وجه لجعل ذلك وجها لوجوب الاحتياط في خصوص الشبهات التحريمية.
وأمّا الوجه الثاني : فهو أسوء حالا من الوجه الأول ، لما فيه أولا : من المنع عن كون الأصل في الأشياء الحظر بل الأصل فيها الإباحة لعموم قوله تعالى : « خلق لكم ما في الأرض جميعا » (2). وثانيا : من الفرق بين مسألة الحظر والإباحة ومسألة البراءة والاشتغال ، وقد تقدم تفصيل ذلك أيضا ( في أول مبحث البراءة ) فراجع.
فالإنصاف : أنه ليس للأخباري ما يمكن أن يقاوم حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وقوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » فالأقوى : جواز الاقتحام في الشبهات التحريمية الحكمية التي هي مورد البحث والنزاع بين الأخباريين والأصوليين.
وقد ذكر الشيخ قدس سره في خاتمة المسألة تنبيهات لا يهمنا التعرض لها.
نعم : ينبغي التنبيه على أمر ، وهو أن أصالة البراءة والإشتغال إنّما
ص: 379
هي من الأصول الحكمية الغير المتكفلة للتنزيل ، فكل أصل متكفل للتنزيل يكون حاكما عليها ، ونعني ب « الأصل المتكفل للتنزيل » هو أن يكون مفاد الأصل إثبات المؤدى بتنزيله منزلة الواقع بحسب الجري العملي ، سواء كان المؤدى موضوعا خارجيا أو حكما شرعيا.
ومراد الشيخ قدس سره من الأصل الموضوعي في قوله : « إن أصل أصالة الإباحة في مشتبه الحكم إنما هو مع عدم أصل موضوعي حاكم عليها » هو ما ذكرنا ، لا خصوص الأصل الجاري في الموضوع مقابل الحكم الشرعي - كما ربما يوهمه ظاهر العبارة - بل كل أصل محرز متكفل للتنزيل يكون حاكما على أصالتي البراءة والاشتغال ، فلو شك في حلية الحيوان وطهارته - من جهة الشك في قبوله التذكية - حكم عليه بالحرمة ، لأصالة عدم التذكية ، ولا تجرى أصالة الحل والبرائة فيه.
ولا بأس باستقصاء الكلام في ما يتعلق بالمثال ، وإن كان خارجا عن المقام ، وذلك يتم برسم أمور :
اختلفت كلمات الأصحاب فيما يقبل التذكية من الحيوان ، فقيل : لا يقبل التذكية إلا ما يحل أكله : من الغنم والبقر وغير ذلك. وقيل : كل حيوان يقبل التذكية ما عدا المسوخ. وقيل : بقبول المسوخ للتذكية أيضا ويختص ما لا يقبل التذكية بالحشرات. وينسب إلى العامة القول بقبول الحشرات للتذكية أيضا. ولا يبعد استفادة التعميم لغير الحشرات ونجس العين من بعض الأدلة. وعليه : لا يبقى مورد لجريان أصالة عدم التذكية في الشبهات الحكمية بعد العلم بكون الحيوان ليس من الحشرات ولا من نجس العين ، فلو تولد حيوان من الغنم والأرنب - ولم يتبع أحدهما في الاسم - يحكم عليه بأنه يقبل التذكية ، وبعد ورود التذكية عليه - من فرى الأوداج وغير ذلك من الأمور الخمسة المعتبرة في
ص: 380
التذكية - يحكم عليه بالطهارة (1).
هذا إذا قلنا : بأن كل حيوان مما يقبل التذكية بمقتضى بعض الإطلاقات. وإن منعنا عن ذلك ، وشك في كون الحيوان المتولد من حيوانين - أحدهما يقبل التذكية والآخر لا يقبل التذكية - مما يقبل التذكية أو لا يقبل؟ فعلى بعض التقادير تجرى فيه أصالة عدم التذكية ويحكم عليه بالحرمة والنجاسة ، وعلى بعض التقادير لا تجري فيه أصالة عدم التذكية ويحكم عليه بالحل والطهارة (2) بمقتضى أصالة الحل والطهارة وسيأتي توضيح ذلك. هذا إذا كانت الشبهة حكمية ، وإن كانت الشبهة موضوعية ، كما لو شك في كون اللحم المطروح من الحيوان الذي يقبل التذكية أو من الذي لا يقبل التذكية - بعد إحراز ما يقبل التذكية وما لا يقبل بحسب الحكم الشرعي - فمع العلم بورود فعل المذكى عليه ( من فرى الأوداج وغيره ) يحكم عليه بالحل والطهارة ، لأنه لا يجرى فيه أصالة عدم التذكية (3) ومع الشك في ورود فعل المذكى عليه يحكم عليه بالحرمة والنجاسة ، لأصالة عدم التذكية (4) وذلك واضح.
هل التذكية الموجبة للطهارة والحلية عبارة عن المعنى المتحصل من قابلية المحل والأمور الخمسة - من فرى الأوداج بالحديد على القبلة مع التسمية وكون المذكى مسلما - بمعنى كون التذكية معنى بسيطا يحصل من المجموع
ص: 381
المركّب من قابلية المحل وتلك الأمور الخمسة؟ أو أن التذكية عبارة عن نفس الأمور الخمسة ، وقابلية المحل أمر خارج عن حقيقة التذكية وإن كان لها دخل في تأثير الأمور الخسمة في الطهارة والحلية؟ وجهان : لا يخلو ثانيهما عن قوة ، لقوله تعالى : « إلا ما ذكيتم » (1) فان نسبة التذكية إلى الفاعلين تدل على أنها من فعلهم (2) وعليه : لا يبقى موقع لأصالة عدم التذكية عند الشك في قابلية الحيوان للتذكية (3) لأن قابلية الحيوان للتذكية ليس لها حالة سابقه وجودا وعدما ، فلا موقع لاستصحاب عدمها ، بل المرجع عند الشك في القابلية أصالة الحل والطهارة ، بناء على جريان « قاعدة الحل » في الشبهات الحكمية. ولكن هذا إذا لم نقل بقابلية كل حيوان للتذكية - حسبما يستفاد من الأدلة - وإلا لم يكن حاجة إلى أصالة الحل والطهارة ، كما تقدم في الأمر الأول.
هذا إذا كانت التذكية عبارة عن نفس الأمور الخمسة وكانت قابلية المحل شرطا للتأثير. وإن كانت التذكية عبارة عن الأمر المتحصل عن قابلية المحل والأمور الخمسة ، فعند الشك في قابلية الحيوان للتذكية - من جهة الشبهة الحكمية تجرى أصالة عدم التذكية ، لأن الحيوان في حال الحياة لم يكن مذكى فيستصحب العدم إلى زمان خروج روحه وورود فعل المذكى عليه.
وتوهم : أن التذكية لو كانت مركبة من قابلية المحل وفعل المذكى ، والمفروض أنه قد تحقق أحد جزئيها - وهو فعل المذكى - فلم يبق إلا الجزء الآخر
ص: 382
وهو ليس له حالة سابقة فلا معنى لاستصحاب عدم التذكية المركبة من جزئين قد تحقق أحد جزئيها وجدانا والجزء الآخر ليس مما تعلق به اليقين سابقا لعدم العلم به.
فاسد (1) فان المفروض أن التذكية ليست مركبة من جزئين ، بل هي عبارة عن الأمر البسيط المتحصل من مجموع الأمرين ، وهذا المعنى البسيط كان مقطوع العدم في حال حياة الحيوان قبل ورود فعل المذكى عليه ، وبعد ورود فعل المذكى يشك في وجوده فيستصحب عدمه ، غايته أن جهة اليقين والشك تختلف ، فإنه في حال الحياة كانت جهة اليقين بعدم التذكية عدم ورود فعل المذكى عليه وهذه الجهة قد انتفت بورود فعل المذكى عليه ، وجهة الشك في كونه مذكى هي قابليته للتذكية. واختلاف جهة الشك واليقين لا يضر بالاستصحاب. نعم : لو كانت التذكية عبارة عن نفس المجموع المركب لم يكن للاستصحاب مجال ، فتدبر جيّداً.
قد عرفت : أنه لو استفيد من الأدلة قابلية كل حيوان للتذكية فلا
ص: 383
موقع لأصالة عدم التذكية عند الشك فيها من جهة الشبهة الحكمية ، بل المرجع عند الشك عموم الدليل ، فيحكم عليه بالطهارة ، ولو شك في حلية أكل لحمه يحكم عليه بالحلية ، لقوله علیه السلام - « كل شيء لك حلال » لو قلنا بعموم قاعدة الحل للشبهات الحكمية.
ولو لم يستفيد من الأدلة قابلية كل حيوان للتذكية ، وقلنا : إن التذكية عبارة عن المعنى المتحصل من قابلية المحل وفعل المذكى ، فالمرجع عند الشك في القابلية - كالحيوان المتولد من طاهر ونجس لم يتبعهما في الاسم وليس له اسم خاص يندرج تحت أحد العناوين الطاهرة أو النجسة - أصالة عدم التذكية ، فيحكم عليه بالنجاسة وحرمة الأكل ، لأن غير المذكى حرام ونجس.
وإن قلنا : إن التذكية عبارة عن نفس فعل المذكى واجدا للأمور الخمسة وقابلية المحل أمر خارج عن التذكية ، فالمرجع عند الشك فيها أصالة الطهارة وقاعدة الحل ، فعلى جميع التقادير : لا يمكن التفكيك بين الطهارة والحلية بحسب الأصول العملية ، هذا.
ولكن يظهر من بعض الأساطين : التفصيل بين الطهارة والحلية في المثال المتقدم ، فحكم عليه بالطهارة وحرمة لحمه.
ولم يظهر وجه لهذا التفصيل ، فان مقتضى أصالة عدم التذكية النجاسة والحرمة ، ومقتضى أصالة الطهارة والحل الطهارة والحلية ، فلا وجه للتفكيك بينهما.
نعم : قد ذكر « شارح الروضة » في وجه ذلك ما حاصله : ان ما حل أكله من الحيوانات محصور معدود في الكتاب والسنة ، وكذلك النجاسات محصورة ومعدودة فيهما ، فالمشكوك إذا لم يدخل في المحصور منهما كان الأصل فيه الطهارة وحرمة لحمه.
وتوضيح ذلك : هو أن تعليق الحكم على أمر وجودي يقتضي إحرازه ، فمع الشك في تحقق ذلك الأمر الوجودي الذي علق الحكم عليه يبنى ظاهراً على
ص: 384
عدم تحققه ؛ لا من جهة استصحاب العدم إذ ربما لا يكون لذلك الشيء حالة سابقة قابلة للاستصحاب ، بل من جهة الملازمة العرفية بين تعليق الحكم على أمر وجودي وبين عدمه عند عدم إحرازه ، وهذه الملازمة تستفاد من دليل الحكم ولكن لا ملازمة واقعية ، بل ملازمة ظاهرية ، أي في مقام العمل يبنى على عدم الحكم مع الشك في وجود ما علق الحكم عليه.
منها : البناء على نجاسة الماء المشكوك الكرية عند ملاقاته للنجاسة مع عدم العلم بحالته السابقة ، كما لو فرض ماء مخلوق الساعة لم يعلم كريته وقلته ، فان الحكم بالعاصمية قد علق في ظاهر الدليل على كون الماء كرا ، كما هو الظاهر من قوله علیه السلام إذا بلغ الماء قدر كر لم يحمل خبثا أو لم ينجسه شيء (1) فلا يجوز ترتيب آثار الطهارة على ماء لم يحرز كريته عند ملاقاته للنجاسة ، لأنه يستفاد من دليل الحكم أن العاصمية إنما تكون عند إحراز الكرية ، لا من جهة أخذ العلم والإحراز في موضوع الحكم ، بل من جهة الملازمة العرفية الظاهرية.
ومنها : أصالة الحرمة في باب الدماء والفروج والأموال ، فان الحكم بجواز الوطي مثلا قد علق على الزوجة وملك اليمين ، والحكم بجواز التصرف في الأموال قد علق على كون المال مما قد أحله اللّه ، كما في الخبر « لا يحل مال إلا من وجه أحله اللّه » (2) فلا يجوز الوطي أو التصرف في المال مع الشك في كونها زوجة أو ملك اليمين أو الشك في كون المال مما قد أحله اللّه.
ومنها : غير ذلك من الفروع التي تبتنى على ما ذكرناه (3).
ص: 385
وقد تخيّل « شارح الروضة » : أن باب النجاسات واللحوم من صغريات تلك الكبرى ، بتقريب : أن النجاسات في الشريعة معدودة محصورة في عناوين خاصة - كالدم والميتة والكلب والخنزير وغير ذلك - وقد علق وجوب الاجتناب على تلك العناوين الوجودية ، فلابد في الحكم بالنجاسة ووجوب الاجتناب من إحراز تلك العناوين ، ومع الشك في تحقق العناوين يبنى على الطهارة ، وحيث إن الحيوان المتولد من طاهر ونجس لم يعلم كونه من العناوين النجسة يبنى على طهارته. وكذا جواز التناول والأكل قد علق في الشريعة على عنوان الطيب ، كما قال تعالى : « أحل لكم الطيبات » والطيب أمر وجودي عبارة عما تستلذه النفس ويأنس الطبع به ، والحيوان المتولد من حيوانين : أحدهما مأكول اللحم والآخر غير مأكول اللحم ، لم يعلم كونه من الطيب ، فلا يحكم عليه بالحلية وجواز الأكل ، بل ينبغي البناء على حرمته ظاهرا ما لم يحرز كونه من الطيب. هذا غاية ما يمكن أن توجه به مقالة « شارح الروضة ».
ولكن يرد عليه أولا : أن الكبرى - وهي ان تعليق الحكم على أمر وجودي يقتضي إحرازه - وإن كانت من المسلمات ، إلا أن ذلك في خصوص ما علق فيه الحكم الترخيصي الإباحي على عنوان وجودي ، لا الحكم العزيمتي التحريمي ، فان الملازمة العرفية بين الأمرين إنما هي فيما إذا كان الحكم لأجل التسهيل والامتنان وقد علق على أمر وجودي والأموال ، فان المدرك عندهم هو الأصل المزبور لا غيره ، كما أن الحكم بالنجاسة في المثال الأول أيضا ربما تكون ب « قاعدة المقتضى والمانع » لو لم نقل بجريان الأصل في الأعدام الأزلية ولو في أمثال هذه الأوصاف الزائدة عن الذات وغير الملازمة معها ، وإلا - كما هو التحقيق - فالأمر في كثير من الفروع السابقة واضح من جهة الأصل الموضوعي فيها ، فراجع وتدبر.(1) فلا يجوز الحكم بالترخيص
ص: 386
والإباحة ما لم يحرز ذلك الأمر الوجودي ، لا في مثل وجوب الاجتناب عن النجاسة ، وإلا لم يبق موضوع لقوله علیه السلام « كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر » (1) فادراج باب النجاسات في تلك الكبرى ليس في محله. نعم : إدراج الحكم بحل الطيبات في تلك الكبرى في محله لو سلم عما سيأتي.
وثانياً : منع كون الطيب أمرا وجوديا ، بل الطيب عبارة عما لا تستقذره النفس ولا يستنفر منه الطبع ، في مقابل الخبيث الذي هو عبارة عما يستنفر منه الطبع ، فالحكم بالحلية لم يعلق على أمر وجودي ، بل الحكم بالحرمة قد علق على أمر وجودي.
وثالثاً : سلمنا كون الطيب أمرا وجوديا ولكن الخبيث الذي علق عليه الحرمة أيضا أمر وجودي ، والكبرى المذكورة إنما هي في مورد لم يعلق نقيض الحكم المعلق على أمر وجودي ، على أمر وجودي آخر ، وإلا كان المرجع عند الشك في تحقق أحد الأمرين الوجوديين - اللذين علق الحكمان المتضادان عليهما - إلى الأصول العملية ، وهي في مورد البحث ليست إلا أصالة الحل ، ولا يجرى استصحاب الحرمة الثابتة للحيوان في حال حياته ، فان للحيوة دخلا عرفا في موضوع الحرمة ولا أقل من الشك ، فلا مجال للاستصحاب والطهارة ، فالأقوى : ثبوت الملازمة بين الحل والطهارة في جميع فروض المسألة ، فتدبر جيدا.
هذا تمام الكلام في الشبهة التحريمية الحكمية إذا كان منشأ الشبهة
ص: 387
فقدان النص ؛ وكذا الكلام فيما إذا كان منشأ الشبهة إجمال النص ، لعموم الأدلة المتقدمة ، من غير فرق بين أن يكون إجمال النص لأجل اشتراك اللفظ الدال على الحكم بين الحرمة وغيرها مع عدم نصب قرينة معينة - كما لو فرض اشتراك صيغة النهى بين الحرمة والكراهة لغة وعرفا - أو كان الإجمال لأجل إجمال متعلق الحكم بحسب ماله من المعنى اللغوي والعرفي ، ك « الغناء » إذا فرض إجمال معناه وتردده بين كونه خصوص الصوت المطرب المشتمل على الترجيع وبين كونه مطلق الصوت المطرب.
وقد يتوهم : عدم شمول أدلة البراءة لصورة إجمال المتعلق ، لأنه قد علم تعلق التكليف بمفهوم « الغناء » وما هو واقعه ، فلا يكون العقاب عليه بلا بيان ، ولا يندرج في قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » بل يجب العلم بالخروج عما اشتغلت به الذمة من التكليف ، وذلك لا يتحقق إلا بالاجتناب عن الأفراد المشتبهة والاحتياط بترك كل ما يحتمل كونه من أفراد « الغناء » هذا.
ولكن لا يخفى ما فيه ، فان متعلق التكليف ليس هو مفهوم « الغناء » بما هو مفهوم (1) بل المفاهيم إنما تؤخذ في متعلق التكليف باعتبار كونها مرآة لما تنطبق عليها من المصاديق ، فالنهي إنما تعلق بما يكون بالحمل الشايع الصناعي غناء ، فالمقدار الذي علم كونه من مصاديق الغناء لا يندرج في أدلة البراءة ، وأما الزائد المشكوك فتعمه أدلة البراءة ويندرج في قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » ويشمله حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، فتوهم الفرق بين كون منشأ الشبهة فقدان النص أو إجماله ، فاسد.
ص: 388
وفي حكم ذلك ما إذا كان منشأ الشبهة تعارض النصين ، لعدم العلم بالتكليف أيضا الذي هو تمام المناط في البراءة الشرعية والعقلية.
نعم : قد ورد في مرفوعة « العلامة » إلى « زرارة » على ما في كتاب « غوالي اللئالي » عن الباقر علیه السلام في الخبرين المتعارضين بعد أمره علیه السلام بالأخذ بأشهرهما ثم بأعدلهما وأوثقهما ثم بما خالف العامة « قلت : ربما كانا موافقين لهما أو مخالفين لهما فكيف نصنع؟ قال علیه السلام فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط » (1) وهذه المرفوعة وإن كانت أخص من الأخبار الآمرة بالتخيير عند فقد المرجحات المذكورة ، إلا أن الشأن في اعتبار المرفوعة (2) إذ لا اعتبار بالكتاب وصاحبه ، كما اعترف بذلك « صاحب الحدائق » حيث طعن في صاحب الكتاب وزيف ما فيه من الروايات ، مع أنه من الأخباريين الذين ليس من شأنهم الطعن في الروايات!. هذا كله إذا كانت الشبهة حكمية ، وقد عرفت : أنه لا فرق بين كون الشبهة لأجل فقدان النص أو إجماله أو تعارض النصين.
وان كانت الشبهة موضوعية : فالظاهر انعقاد الإجماع من الأصوليين والأخباريين على عدم وجوب الاجتناب عنها وجواز الاقتحام في الشبهة اعتمادا على أدلة البراءة الشرعية والعقلية.
وقد يتوهم : أن قاعدة « قبح العقاب بلا بيان » تختص بالشبهات الحكمية ولا تعم الشبهات الموضوعية ، لأن مورد القاعدة هو ما إذا لم يرد بيان من الشارع أصلا أو ورد ولكن لم يصل إلى المكلف ، وفي الشبهات الموضوعية البيان الذي هو من وظيفة الشارع قد ورد ووصل إلى المكلف ، لأنّ وظيفة الشارع
ص: 389
إنّما هي بيان الكبريات ، كقوله تعالى : « حرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير » وأما بيان الصغريات من كون هذا الشيء من أفراد لحم الخنزير أو لحم الغنم فليس هو من وظيفة الشارع ، وفي الشبهات الموضوعية الكبرى المجعولة الشرعية قد وردت ووصلت إلى المكلف وحصل العلم بها ، وإنما كانت الشبهة في الصغرى ، فلا مجال للتمسك بقاعدة « قبح العقاب بلا بيان » بل ينبغي التمسك بقاعدة الاشتغال ، لأن العلم باشتغال الذمة بالكبرى المجعولة المعلومة الواصلة يقتضي العلم بالفراغ عقلا ، وذلك لا يحصل إلا بالتجنب عن موارد الشبهة.
والحاصل : أن المراد من البيان في قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو بيان الأحكام الكلية التي وظيفة الشارع بيانها ، وأما الأحكام الجزئية - فضلا عن الموضوعات الخارجية - فليس من وظيفة الشارع بيانها ، بل الأحكام الجزئية تدور مدار تحقق موضوعاتها الخارجية في عالم التكوين ، والمشكوك فيه أولا وبالذات في الشبهات الموضوعية إنما هو وجود الموضوع في الخارج ويستتبعه الشك في الحكم الجزئي ، وكل منهما ليس من وظيفة الشارع بيانه ، وأما الكبرى الكلية فقد بينها الشارع وهي واصلة إلى المكلف ، فلا مسرح لقاعدة « قبح العقاب بلا بيان » في الشبهات الموضوعية ، بل لابد من الاحتياط فيها لقاعدة الاشتغال.
هذا كله ، مع أنه يبقى سؤال الفرق بين الأصول اللفظية والعملية ، وأنه كيف لا يجوز التمسك بالأصول اللفظية في الشبهات المصداقية ويجوز التمسك بالأصول العملية فيها؟.
وأنت خبير بفساد التوهم ، فان مجرد العلم بالكبريات المجعولة لا يكفي في تنجزها وصحة العقوبة على مخالفتها ما لم يعلم بتحقق صغرياتها خارجا ، فان تنجز التكليف الذي عليه تدور صحة العقوبة إنما يكون بعد فعلية الخطاب ، وفعلية الخطاب إنما يكون بوجود موضوعه خارجا في التكاليف التي لها تعلق
ص: 390
بالموضوعات الخارجية ؛ وذلك وإن كان بمثابة من الوضوح ، إلا أنه لا بأس بزيادة بيان في المقام حسما لمادة الشبهة.
فنقول : إن الأحكام الشرعية الوجوبية والتحريمية بعد ما كان لا محيص عن تعلقها بفعل المكلف الصادر عنه بتحريم عضلاته عن إرادته واختياره ، إما لا يكون لها تعلق بموضوع خارجي - كالصلاة حيث إن أجزائها ليست إلا الأفعال والأقوال الصادرة عن جوارح المكلف من دون أن يكون لها تعلق بموضوع خارجي ، وكذا الغناء والكذب ونحو ذلك ، وإما أن يكون لها تعلق بموضوع خارجي ، كوجوب إكرام العالم وحرمة شرب الخمر ، وأمثال ذلك من التكاليف الوجوبية والتحريمية التي لها ربط وتعلق بموضوع خارجي ، سواء كان الموضوع من الموضوعات التي يمكن للمكلف ايجادها في الخارج ويجعلها ثابتة في عالم الأعيان - كالخمر الذي يكون صنعه وايجاده من التمر والزبيب بيد المكلف - أو كان من الموضوعات التي ليست من صنع المكلف ولا يتمكن من ايجادها في الخارج - كحرمة وطي الام ووجوب استقبال القبلة - وأمثال ذلك من التكاليف التي لها تعلق بموضوع خارجي لا يتمكن المكلف من ايجاده في الخارج.
فان لم يكن للتكليف تعلق بموضوع خارجي ، فلا يعتبر في فعليته سوى وجود شخص المكلف واجدا للشرائط العامة والخاصة المعتبرة فيه ، فعند وجود المكلف يكون التكليف فعليا علم به المكلف أو لم يعلم ، إذ ليس للعلم دخل في فعلية التكاليف - كما أوضحناه في محله - وبعد العلم به يتنجز وتصح العقوبة على مخالفته (1) وفي هذا القسم من التكاليف لا يتصور تحقق الشبهة الموضوعية.
ص: 391
وإن كان للتكليف تعلق بموضوع خارجي ، فيمكن في عالم الثبوت أن يكون التكليف بالنسبة إلى وجود الموضوع مطلقا سواء كان الموضوع موجودا أو لم يكن - غايته أنه مع عدم وجوده يجب عليه ايجاده إن كان مما يمكنه ايجاده كسائر مقدمات الواجب المطلق - ويمكن أن يكون التكليف بالنسبة إلى الموضوع مشروطا ، ولكن هذا في التكاليف الوجودية المطلوب منها صرف الوجود.
وأما التكاليف العدمية الانحلالية : فالتكليف دائما يكون فيها مشروطا بوجود الموضوع (1) وقد ذكرنا تفصيل ذلك بما لا مزيد عليه في « رسالة المشكوك » نسئل اللّه تعالى التوفيق لإلحاقها في آخر الكتاب. وعلى كل تقدير : إن كان للتكليف تعلق بموضوع خارجي ، فما لم يعلم
ص: 392
وجود ذلك الموضوع لم تصح العقوبة على مخالفة ذلك التكليف ، فسواء كان الموضوع من الموضوعات التي يمكن للمكلف ايجادها أو كانت خارجة عن قدرة المكلف لا يكاد يكون الخطاب فعليا إلا بعد وجود الموضوع خارجا (1) فان نسبة الموضوع إلى التكليف كنسبة الفاعل والمكلف ، فكما أنه لا يمكن أن يكون الخطاب فعليا إلا بعد وجود المكلف ، كذلك لا يمكن أن يكون الخطاب فعليا إلا بعد وجود الموضوع ، والسر في ذلك واضح ، فان التكاليف الشرعية إنما تكون على نهج القضايا الحقيقية التي تنحل إلى قضية شرطية مقدمها وجود الموضوع وتاليها عنوان المحمول ، فلابد من فرض وجود الموضوع في ترتب المحمول (2) فمع العلم بعدم وجود الموضوع خارجا يعلم بعدم فعلية التكليف ، ومع الشك في وجوده يشك في فعليته ، لأن المناط في صحة العقوبة عقلا هو أن يكون التكليف قابلا للباعثية والداعوية ، بحيث يكون محركا - في عالم التشريع -
ص: 393
لعضلات المكلف ، وذلك لا يكون إلا بعد العلم بتحقق الموضوع وانطباق الكبرى المجعولة الشرعية عليه ، فلا أثر للعلم بتشريع الكبرى مع عدم العلم بانضمام الصغرى إليها ، لأن وجود الصغرى خارجا مما له دخل في فعلية الكبرى ، غايته أن التكليف قد يكون على وجه يجب على المكلف ايجاد الصغرى - إن كان مما يمكنه ايجاده - فتنطبق الكبرى عليها فيكون الحكم فعليا ، وقد يكون التكليف على وجه لا يجب على المكلف ايجاد الصغرى - وإن كان يمكنه ايجادها.
ثم لا يخفى أن ما ذكرنا : من أن التكاليف العدمية الانحلالية إنما تكون مشروطة بوجود الموضوع في الخارج ومع الشك في وجود الموضوع لا علم بالتكليف ، إنما هو إذا كان المنهى عنه نفس الطبيعة المطلقة على نحو السالبة المحصلة ، كقوله : « لا تشرب الخمر » حيث ينحل إلى قضايا جزئية حسبما للخمر من الأفراد الخارجية.
وأمّا إذا كانت القضية على نحو الموجبة المعدولة المحمول (1) كأن يقال :
ص: 394
« كن لا شارب الخمر » فحكمها يغاير حكم السالبة المحصلة ، فان متعلق التكليف في مثله قوله : « كن لا شارب الخمر » هو كون المكلف واجدا لوصف « اللاشاربية » ومعنونا بكونه تارك شرب الخمر ، من دون نظر إلى ترك الأفراد الخارجية من الخمر ، وإنما يكون تركها مقدمة عقلية لاتصاف المكلف بوصف « اللاشاربية » بحيث لو فرض محالا اتصافه بهذا الوصف مع عدم ترك شرب الأفراد الخارجية من الخمر لم يكن عاصيا ومخالفا للتكليف ، وبالعكس لو فرض محالا ترك شرب الأفراد الخارجية ولم يتصف بذلك الوصف كان عاصيا ومخالفا للتكليف ، وهذا الفرض وإن كان محالا وبحسب النتيجة لا فرق بين قوله : « كن لا شارب الخمر » وبين قوله : « لا تشرب الخمر » فإنه على كل حال يجب ترك الأفراد الخارجية ، إما لكون تركها مقدمة عقلية لحصول الوصف ، وإما لكونه متعلق النهى.
ولكن بحسب الأصول العملية تختلف النتيجة ، فإنه لو كان متعلق النهى ترك شرب الأفراد الخارجية وكانت القضية على نحو السلب المحصل ، فعند الشك في خمرية مايع تجرى البراءة ، للشك في تعلق النهى به - بالبيان المتقدم - وإن كانت القضية على نحو الموجبة المعدولة المحمول ، فالمرجع عند الشك في خمرية مايع قاعدة الاشتغال لا البراءة ، للشك في حصول الوصف مع عدم ترك المشكوك ، فيرجع الشك إلى الشك في الامتثال ، هذا.
ص: 395
ولكن لم نعثر في باب النواهي على ما يكون من هذا القبيل ، وإنما يكون ذلك مجرد فرض لا واقع له ، فان ظاهر النواهي الواردة في الكتاب والسنة ، هو أن يكون متعلق النهى نفس الطبيعة باعتبار ما يفرض لها من الأفراد الخارجية ، إما على نحو العام المجموعي ، وإما على نحو العام الأصولي ، بل العام المجموعي أيضا مجرد فرض لا واقع له ، فإرجاع القضية السالبة المحصلة إلى المعدولة المحمول خلاف ما يقتضيه ظاهر النواهي.
ولنطوي الكلام في هذا المقام ونقتصر على هذا المقدار ونحيل تفصيله إلى ما نلحقه بالكتاب من « رسالة المشكوك » إن شاء اللّه تعالى ، فان استقصاء الكلام في ذلك وجمع أطرافه لا يمكن في المقام ، بل يحتاج إلى رسالة مفردة ، وقد استوفينا البحث عنه في تلك الرسالة ، فانتظر.
وعلى كل حال : فقد ظهر مما ذكرنا : أن قاعدة « قبح العقاب بلا بيان » لا تختص بالشبهات الحكمية ، بل تجرى في الشبهات الموضوعية أيضا ، من غير فرق بينهما ، سوى أنه في الشبهات الحكمية تختص القاعدة بما بعد الفحص وفي الشبهات الموضوعية لا يجب الفحص ، إلا على بعض الوجوه يأتي ذكرها في خاتمة الاشتغال.
بقى الجواب عن سؤال الفرق بين الأصول اللفظية والأصول العملية ، وأنه كيف صح التمسك بالأصول العملية في الشبهات الموضوعية ولم يصح التمسك بالأصول اللفظية فيها؟.
ولعمري! أن الفرق بينهما في غاية الوضوح ، فان الأصول اللفظية إنما تكون كاشفة عن المرادات النفس الأمرية ، وعنوان العام بعد تخصيصه يكون جزء الموضوع وجزئه الآخر عنوان المخصص (1) ولا يمكن أن يتكفل الدليل
ص: 396
وجود الموضوع ، بل إنما يتكفل بيان الحكم على تقدير وجود الموضوع ، والمصداق المشتبه لم يعلم أنه من مصاديق العام أو من مصاديق الخاص؟ فلا يجوز التمسك بأصالة العموم لإثبات كونه من مصاديق العام ، وإلا يلزم أن يكون العام متكفلا لوجود مصاديقه.
وهذا بخلاف الأصول العملية فإنها وظايف عملية. والمصداق المشتبه إذا لم يقم دليل على بيان حكمه ، فبحسب الوظيفة لابد وأن ينتهى الأمر إلى أحد الأصول العملية ، ولا أقل من البراءة والاشتغال اللذين تنتهي إليهما الوظيفة العملية عقلا عند فقدان الأصول الحاكمة عليها.
هذا تمام الكلام في الشبهة التحريمية بأقسامها الأربعة.
فأقسامها أيضا أربعة - على حذو الشبهة التحريمية - لأن منشأ الشبهة ، إما أن يكون فقدان النص ، وإما أن يكون إجماله ، وإما أن يكون تعارض النصين ، وإما أن يكون لأجل الاشتباه في الموضوع الخارجي ، وهذه الأقسام الأربعة وإن لم يختلف حكمها ، إلا أن الشيخ قدس سره أفرد البحث عن كل واحد منها ونحن نقتفي إثره.
القسم الأوّل : ما إذا كان منشأ الشك في الوجوب فقدان النص. والأقوى وفاقا لقاطبة الأصوليين ومعظم الأخباريين - جريان البراءة فيه وعدم وجوب الاحتياط ، سواء كان طرف احتمال الوجوب الاستحباب أو الإباحة أو الكراهة ، للأدلة المتقدمة في الشبهة التحريمية ، فان تلك الأدلة تعم الشبهات الوجوبية أيضا ما عدا أخبار أصالة الحل ، ولا حاجة إلى إعادة البحث عنها.
ص: 397
فالأولى عطف عنان الكلام إلى ما يهم ذكره من التنبيهات التي ذكرها الشيخ ( قدس سره القدوسي ).
لا إشكال في رجحان الاحتياط عقلا في جميع أقسام الشبهة التحريمية والوجوبية الحكمية والموضوعية (1).
وفي استحبابه الشرعي من جهة أوامر الاحتياط إشكال ، لاحتمال أن تكون الأخبار الواردة في الباب - على كثرتها - للإرشاد إلى ما يستقل به العقل من حسن الاحتياط تحرزا عن الوقوع في المفسدة الواقعية وفوات المصلحة النفس الأمرية ، وحكم العقل برجحان الاحتياط وحسنه إنما يكون طريقا إلى ذلك ، لا أنه نشأ عن مصلحة في نفس ترك ما يحتمل الحرمة وفعل ما يحتمل الوجوب ، بحيث يكون ترك المحتمل وفعله بما أنه محتمل ذا مصلحة يحسن استيفائها عقلا.
ومن ذلك يظهر : فساد ما ربما يتوهم : من استحباب الاحتياط شرعاً
ص: 398
بقاعدة الملازمة ، فان المورد ليس من موارد « القاعدة الملازمة » لما تكرر منا : أن مورد الملازمة إنما هو فيما إذا كان الحكم العقلي واقعا في سلسلة علل الأحكام من المصالح والمفاسد التي تبتنى عليها الأحكام ، وأما إذا كان الحكم العقلي واقعا في سلسلة معلولات الأحكام من الإطاعة والعصيان وما يستتبعهما من الثواب والعقاب ، فلا محل لقاعدة الملازمة ، والحكم العقلي في باب الاحتياط يكون من القسم الثاني (1) لما عرفت : من أنه طريق محض للتخلص عن فوات المصلحة والوقوع في المفسدة النفس الأمرية ، فهو نظير حكمه بحسن الإطاعة وقبح المعصية ، فلا يمكن إثبات استحباب الاحتياط شرعا من طريق قاعدة الملازمة.
نعم : يمكن أن يستفاد استحبابه الشرعي من بعض الأخبار الواردة في الترغيب على الاحتياط كقوله علیه السلام « من ارتكب الشبهات نازعته نفسه أن يقع في المحرمات » (2) وقوله علیه السلام « من ترك الشبهات كان لما استبان له من الاثم أترك » (3) وقوله علیه السلام « من يرتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه » (4) ونحو ذلك من الأخبار التي يمكن أن يستظهر من التعليلات الواردة فيها أنها من قبيل الحكمة لتشريع استحباب الاحتياط ، وإن كان للمنع عن ذلك أيضا مجال.
وعلى كل حال : لا شبهة في حسنه العقلي وإمكانه في التوصليات بترك ما يحتمل حرمته وفعل ما يحتمل وجوبه.
وأمّا العبادات : فقد استشكل الشيخ قدس سره في إمكان
ص: 399
الإحتياط فيها ، بل قوى العدم في هذا المقام ، مع أن بنائه في الكتب الفقهية والرسائل العملية على خلاف ذلك ، وقد نقل أن كلمة « أقواهما » لم تكن في نسخة الأصل.
وذلك هو المظنون ، فان النفس تأبى أن يكون مثل الشيخ قدس سره ينكر إمكان الاحتياط في العبادات ، مع أن ما ذكر في وجه ذلك في غاية الضعف والسقوط ، فان مبنى الإشكال - على ما ذكره الشيخ قدس سره - إنما هو اعتبار قصد التقرب والأمر في صحة العبادة (1) وذلك يتوقف على العلم بالأمر تفصيلا أو إجمالا ، وفي الشبهات البدوية لا علم بالأمر فلا يمكن فيها الاحتياط.
وبعبارة أخرى : الاحتياط في الشيء عبارة عن الإتيان بكل ما يحتمل دخله فيه على وجه يحصل العلم بعد الاحتياط بتحقق ما احتاط فيه بجميع ما له من الأجزاء والشرائط ، ومن جملة الشرايط المعتبرة في العبادة قصد أمرها والتقرب بها ، فان العمل الفاقد لذلك لا يكون عبادة ، وقصد الأمر والتقرب يتوقف على العلم بتعلق الأمر بالعمل (2) والا كان من التشريع المحرم ، ففي الشبهات البدوية العبادية لا يمكن فيها حقيقة الاحتياط ، هذا.
ولكن الإنصاف : أنه ما كان ينبغي أن يجرى هذا الإشكال على قلم « الشيخ » فضلا عن أن يختاره ويقويه ، فإنه قد تقدم منا - في مبحث القطع - أن للامتثال مراتب أربع : أحدها : الامتثال العلمي التفصيلي ، ثانيها : الامتثال العلمي الإجمالي (3) ثالثها : الامتثال الظني ، رابعها : الامتثال الاحتمالي ؛ وهذه
ص: 400
المراتب الأربع مترتبة عند العقل حسب ترتبها في الذكر ، بمعنى أنه لا تحسن المرتبة اللاحقة إلا عند تعذر المرتبة السابقة.
وعلى كل حال : بعد تعذر المراتب الثلاث من الامتثال التفصيلي والإجمالي والظني تصل النوبة إلى الامتثال الاحتمالي ، والعقل يستقل بحسنه ، ويكون ذلك امتثالا للأمر الواقعي على تقدير وجوده ، ولا يتوقف حقيقة الامتثال على قصد الأمر التفصيلي ، وإلا كان اللازم عدم حصول الامتثال في موارد العلم الإجمالي (1).
وتوهّم : أن الأمر في موارد العلم الإجمالي مقطوع معلوم فلا يقاس بالشبهات البدوية التي ليس فيها إلا احتمال الأمر - فاسد ، فان مجرد العلم بتعلق الأمر بأحد فردي الترديد لا يكفي لو بنينا على اعتبار قصد التقرب والأمر التفصيلي في عبادية العبادة ، فإنه حين الاشتغال بكل واحد من فردي الترديد لا يمكن قصد التقرب به وامتثال أمره ، لعدم العلم بتعلق الأمر به ، لاحتمال أن يكون متعلق الأمر هو الفرد الآخر الذي يأتي به بعد ذلك ، أو الذي أتى به قبل ذلك ، ففي موارد العلم الإجمالي لا يمكن أزيد من قصد امتثال الأمر الاحتمالي بالنسبة إلى كل واحد من العملين اللذين يعلم إجمالا بتعلق الأمر بأحدهما ، فلو كان الامتثال الاحتمالي لا يكفي في صحة العبادة كان اللازم عدم التمكن من الامتثال في موارد العلم الإجمالي ، وهو كما ترى!.
وبالجملة : لا ينبغي الإشكال في أن الامتثال الاحتمالي من أحد مراتب الامتثال والعقل يستقل بحسنه وسقوط الأمر به على تقدير ثبوته واقعا (2) نعم : ليس هو في عرض الامتثال التفصيلي بل في طوله. وما أبعد ما بين القول :
ص: 401
بأنّ الامتثال الإجمالي في عرض الامتثال التفصيلي ، وبين القول : بأن الامتثال الاحتمالي ليس من مراتب الامتثال ولا تصح به العبادة ولا يسقط به الأمر (1)! مع أنه قد عرفت : أن لازم ذلك عدم كفاية الامتثال الإجمالي (2).
فظهر : أن دعوى عدم إمكان الاحتياط في العبادات في غاية الوهن والسقوط.
وقد حاول بعض الأساطين في تصحيح الاحتياط في العبادات بالأوامر الواردة فيه ، كقوله علیه السلام « أخوك دينك فاحتط لدينك » (3) بتقريب : أن الأمر بالاحتياط قد تعلق بذات العمل الذي يحتمل وجوبه ، لا بالعمل بقيد أنه محتمل الوجوب بحيث يكون احتمال الوجوب قيدا في المأمور به ، بل متعلق الأمر نفس العمل الذي يحتمل وجوبه توصليا يكفي الإتيان به بلا قصد الأمر المتعلق به وإن كان عباديا - أي كان بحيث لو تعلق الأمر به لكان أمره عباديا - فلابد من قصد الأمر الذي تعلق به ، وهو الامر بالاحتياط الذي فرض تعلقه بذات العمل ، فينوي التقرب به ويقصد امتثاله ، ولذلك حكى : أن سيرة أهل الفتوى في العصر السابق كانت على الفتوى باستحباب نفس العمل في الشبهات البدوية الحكمية ، من غير تقييد باتيان العمل بداعي احتمال المطلوبية ، بل يطلقون الفتوى باستحباب العمل ، ولو لم تكن أوامر الاحتياط متعلقة بنفس العمل وموجبة لاستحبابه لم يكن وجه لإطلاق الفتوى باستحباب العمل ، بل كان اللازم تقييد الفتوى بإتيان العمل بداعي احتمال الأمر ، كما جرت عليه السيرة بين أهل الفتوى في العصر المتأخر ، هذا.
ص: 402
وأنت خبير بما فيه ، فان الأمر بالعمل ، إما أن يكون بنفسه عباديا - أي كان الغرض من الأمر التعبد والتقرب به - كالأمر المتعلق بالصلاة ، وإما أن يكتسب العبادية من أمر آخر لأجل اتحاد متعلقهما ، كوجوب الوفاء بالنذر (1) فان الأمر بالوفاء بالنذر بنفسه لم يكن عباديا ، بل هو كسائر الأوامر التوصلية لا يعتبر في سقوطه قصد الامتثال والتقرب ، ولكن لو تعلق النذر بما يكون عبادة - كنذر صلاة الليل - يكتسب الأمر بالوفاء بالنذر العبادية من الأمر بصلاة الليل ، كما أن الأمر بصلاة الليل يكتسب الوجوب من الأمر بالوفاء ، والسر في ذلك : هو أن النذر إنما يتعلق بذات صلاة الليل لا بها بما أنها مستحبة بحيث يؤخذ استحبابها قيدا في متعلق النذر ، وإلا كان النذر باطلا لعدم القدرة على وفائه ، فان صلاة الليل بالنذر تصير واجبة ، فلا يمكن بعد النذر فعل صلاة الليل بقيد كونها مستحبة ، فلابد وان يتعلق النذر بذات صلاة الليل ، والأمر الاستحبابي الذي تعلق بها أيضا قد تعلق بذات صلاة الليل لا بوصف كونها مستحبة ، فان هذا الوصف إنما جاء من قبل الأمر بها فلا يمكن أخذه في متعلق
ص: 403
الأمر ؛ فيكون كل من الأمر الاستحبابي والأمر بالوفاء بالنذر قد تعلق بذات صلاة الليل ، ولمكان اتحاد متعلقهما يكتسب كل منهما من الآخر ما كان فاقدا له ، فالأمر النذري يكتسب العبادية من الأمر الاستحبابي ، والأمر الاستحبابي يكتسب الوجوب من الأمر النذري ، هذا إذا اتحد متعلق الأمرين.
وأما إذا لم يتحد متعلقهما : فلا يكاد يمكن أن يكتسب أحد الأمرين العبادية مع كونه فاقدا لها من الآخر الواجد لها ، كالأمر بالوفاء بالإجارة إذا كان متعلق الإجارة أمرا عباديا ، كما لو أوجر الشخص على الصلاة الواجبة أو المستحبة على الغير ، فان الأجير إنما يستأجر لتفريغ ذمة الغير ، فالإجارة إنما تتعلق بما في ذمة المنوب عنه ، وما في ذمة المنوب عنه إنما هي الصلاة الواجبة أو المستحبة بوصف كونها مستحبة أو واجبة ، فمتعلق الإجارة إنما تكون الصلاة بقيد كونها مستحبة على المنوب عنه لا بذات الصلاة بما هي هي ، ومتعلق الأمر الاستحبابي إنما هو نفس الصلاة ، فلا يتحد الأمر الاستحبابي مع الأمر الإجاري ، ومع عدم اتحاد المتعلق لا يمكن أن يكتسب الأمر الإجاري العبادية من الأمر الاستحبابي ، كما لا يكتسب الأمر الاستحبابي وصف الوجوب من الأمر الإجاري ، فان الأمر الاستحبابي إنما تعلق بالمنوب عنه والفعل بعد باق على استحبابه بالنسبة إلى المنوب عنه (1) والأمر الوجوبي إنما يتعلق بالأجير ، فلا ربط لأحدهما بالآخر حتى يكتسب أحدهما من الآخر ما يكون فاقدا له.
ص: 404
ومن ها يظهر : فساد ما أجاب به بعض الأعلام عن الإشكال المعروف في صحة عبادة الاجراء - وهو عدم تمشى قصد التقرب منهم مع أن المحرك والداعي لهم أخذ الأجرة - من أن لهم قصد امتثال الأمر الإجاري والتقرب به ، فان الأمر الإجاري وإن كان توصليا إلا أنه يصح التقرب به خصوصا إذا تعلق بما يكون عبادة.
وجه الفساد : هو أن الأمر الإجاري وإن صح التقرب به كسائر الأوامر التوصلية ، إلا أن قصد امتثال الأمر الإجاري لا يوجب صحة العبادة المستأجر عليها (1) فان المعتبر في صحة العبادة قصد أمر نفسها والأمر الإجاري لم يتعلق بذات العبادة ليكتسب العبادية من الأمر المتعلق بها ، وقد استقصينا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في « كتاب القضاء » وفي « المكاسب المحرمة » عند البحث عن أخذ الأجرة على الواجبات.
وعلى كل حال : فقد عرفت أن الأمر العبادي ، إما أن يكون بنفسه عبادة - أي كان الغرض من الأمر التعبد به - وإما أن يكتسب العبادية من أمر آخر ، والأوامر المتعلقة بالاحتياط فاقدة لكلتا الجهتين.
أمّا الجهة الأولى : فواضح ، فان الأمر بالاحتياط إنما يكون توصليا ليس الغرض منه التعبد والتقرب به ، وإلا يلزم بطلان الاحتياط في التوصليات ، ولا سبيل إلى دعوى صيرورة الأمر بالاحتياط عباديا إذا كان الفعل المحتاط فيه عبادة ، وتوصليا إذا كان الفعل المحتاط فيه غير عبادة ، إلا على وجه يأتي بيانه مع فساده.
وأمّا الجهة الثانية : فلأن الأمر بالاحتياط لم يتعلق بذات العمل مرسلا عن قيد كونه محتمل الوجوب ، بل التقييد بذلك مأخوذ في موضوع أوامر
ص: 405
الإحتياط (1) وإلا لم يكن من الاحتياط بشيء ، بخلاف الأمر المتعلق بالعمل المحتاط فيه ، فإنه على تقدير وجوده الواقعي إنما تعلق بذات العمل ، فلم يتحد متعلق الأمرين حتى يكتسب الأمر بالاحتياط العبادية من الأمر المتعلق بالعمل لو فرض أنه كان مما تعلق الأمر العبادي به ، وقد عرفت : أنه ما لم يتحد متعلق الأمر الغير العبادي مع متعلق الأمر العبادي لا يمكن أن يصير الأمر الغير العبادي عبادياً.
وبالجملة : الأمر الذي يتعلق بالعمل الذي يحتمل وجوبه لا يخلو : إما
ص: 406
أن يتعلق به مطلقا سواء قصد به التقرب أو لم يقصد ، وإما أن يكون مقيدا بقصد التقرب ، وإما أن يكون مقيدا بقصد احتمال الأمر ، سبيل إلى الأول والثاني ، فان الأول ينافي كون العمل عباديا ، والثاني يتوقف على إحراز الأمر ليمكن التقرب به والمفروض أنه غير محرز ، فيتعين الثالث ، فلابد أن يؤخذ الإتيان بداعي احتمال الأمر في متعلق الأمر بالاحتياط ، وحينئذ فان كان إتيان العمل بداعي الاحتمال كافيا في العبادية فلا يحتاج إلى أوامر الاحتياط ، وإن لم يكن كافيا فأوامر الاحتياط لا توجب عبادية العمل.
فان قلت : أوامر الاحتياط تعم التوصليات والتعبديات بجامع واحد ، وفي التوصليات لا يعتبر أن يكون العمل بداعي احتمال تعلق الأمر به ، بل يكفي الإتيان بنفس العمل الذي يحتمل تعلق الأمر به ، فلابد وأن يكون الأمر متعلقا بذات العمل بلا قيد إتيانه بداعي الاحتمال ، والا فيلزم التفكيك بين التوصليات والتعبديات مع وحدة الدليل ، وإذا كان الأمر بالاحتياط متعلقا بذات العمل بلا أخذ قيد قصد احتمال الأمر ، فان كان العمل من الأعمال العبادية فلا محالة أوامر الاحتياط تكشف عن تعلق الأمر العبادي به ، وحينئذ يمكن قصد الأمر القطعي المستكشف من أوامر الاحتياط ، بل يمكن قصد التعبد بنفس الأمر بالاحتياط ، لاتحاده مع الأمر المتعلق بالعمل ، فيكون عبادة بلا حاجة إلى قصد احتمال الأمر ليستشكل بأن قصد احتمال الأمر لا يكفي في العبادية ، وهذا ما وعدناه به سابقا من الوجه.
قلت : وحدة الدليل لا ينافي استفادة قيد قصد امتثال الأمر المحتمل في العبادات من الخارج - كساير القيود التي يستفاد اعتبارها لبعض أصناف العام من دليل خارجي آخر - مثلا لو ورد « أكرم العلماء » فقد تعلق وجوب الإكرام بالنحوي والفقيه بجامع واحد ، ومع ذلك يمكن أن يعتبر في الفقيه العدالة ويستفاد ذلك من الخارج ، وكذلك نقول في المقام : إن أوامر الاحتياط قد تعلقت بالتوصليات والعباديات بجامع واحد ، ولكن قد استفيد
ص: 407
من دليل خارجي اعتبار قصد امتثال احتمال الأمر في العباديات ، والدليل الخارجي الذي يستفاد منه القيد هو ما ذكرناه من البرهان ، وحاصله : أنه لا يمكن أن تكون أوامر الاحتياط مهملة ، بل لابد إما من كونها مطلقه بالنسبة إلى قصد الامتثال وعدمه ، وإما أن تكون مقيدة بقصد امتثال الأمر ، وإما أن تكون مقيدة بقصد امتثال احتمال الأمر ، لا سبيل إلى الأول والثاني بالبيان المتقدم ، فيتعين الثالث.
هذا كله مضافا إلى ما عرفت : من أن حقيقة الاحتياط هو قصد امتثال احتمال الأمر ، فلو الغى هذا القيد لم يكن من الاحتياط بشيء ، بل كان العمل بنفسه مستحبا نفسيا كسائر الأفعال المستحبة.
فالإنصاف : أن ما يحكى عن المشهور : من الفتوى باستحباب العمل الذي يحتمل وجوبه من غير تقييد إتيانه بداعي احتمال المطلوبية ، لا ينطبق على القواعد ، إلا أن يكون نظر المشهور إلى مسألة التسامح في أدلة السنن ، وذلك على إطلاقه أيضا لا يستقيم ، فان التسامح في أدلة السنن يختص بما إذا قام خبر ضعيف على استحباب الشيء أو وجوبه - لو قلنا : بأن الخبر الضعيف القائم على وجوب الشيء يندرج في أخبار « من بلغ » ولا تختص بالخبر القائم على الاستحباب - والكلام في استحباب الاحتياط أعم من ذلك ، فان فتوى المشهور باستحباب العمل الذي يحتاط فيه تشمل ما إذا كان منشأ الشبهة فقدان النص ، وأخبار « من بلغ » التي هي المدرك في مسألة التسامح في أدلة السنن لا تشمل صورة فقدان النص.
وحيث انجر الكلام إلى ذلك ، فلا بأس بالإشارة إلى مدرك ما اشتهر في الألسن : من التسامح في أدلة السنن.
فنقول : المدرك في ذلك هو ما ورد من الأخبار ، وهي كثيرة.
منها : صحيحة هشام بن سالم ، عن الصادق علیه السلام قال : من بلغه عن النبي صلی اللّه علیه و آله شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له
ص: 408
وإن كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يقله (1).
ومنها : ما عن « الكليني » عنهم علیهم السلام من بلغه شيء من الخير فعمل به كان له من الثواب ما بلغه وإن لم يكن الأمر كما فعله (2).
ومنها : ما عن « الإقبال » عن أبي عبد اللّه علیه السلام من بلغه شيء من الخير فعمل به كان له ذلك (3).
ومنها : ما عن محمد بن مروان قال : سمعت أبا جعفر علیه السلام يقول : من بلغه ثواب من اللّه تعالى على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه (4).
إلى غير ذلك من الأخبار المتقاربة بحسب المضمون ، ويغنى عن التكلم في سندها عمل المشهور بها والفتوى على طبقها ، مع أن بعضها من الصحاح ، فلا إشكال من حيث السند ، إنما الإشكال من حيث الدلالة. والوجوه المحتملة فيها ثلاثة :
أحدها : أن يكون مفادها مجرد الأخبار عن فضل اللّه سبحانه من غير نظر إلى حال العمل وأنه على أي وجه يقع ، وبعبارة أخرى : يمكن أن تكون هذه الروايات ناظرة إلى العمل بعد وقوعه وأن اللّه تعالى حسب فضله ورحمته يعطى الثواب الذي بلغ العامل وإن تخلف قول المبلغ عن الواقع ولم يكن الأمر كما أخبر به (5) وحينئذ لا تكون الروايات بصدد بيان حال
ص: 409
العمل قبل وقوعه من العامل وأنه مستحب ، ولا بصدد بيان إلقاء شرائط حجية الخبر الواحد في المستحبات وأنه لا يعتبر فيها ما يعتبر في الخبر القائم على وجوب شيء : من الوثاقة أو العدالة.
ولا يمكن التمسك باطلاق الموضوع - وهو البلوغ - ويقال : إن الموضوع في القضية مطلق لم يعتبر فيه شرائط الحجية ، فان الإطلاق في القضية إنما سيق لبيان حكم آخر وهو إعطاء الثواب على العمل الذي بلغ عليه الثواب ، وإذا كان الإطلاق قد سيق لبيان حكم آخر لحكم نفسه فلا يجوز التمسك به ، نظير قوله تعالى :
« فكلوا ممّا أمسكن عليه » (1) فان إطلاق الأمر بالأكل قد ورد لبيان حلية
ص: 410
ما يصطاده كلب الصيد وأنه ليس من الميتة ، فلا يجوز التمسك باطلاق الأمر بالأكل لطهارة موضع إمساك الكلب ، وفي المقام إطلاق قوله علیه السلام « إذا بلغه شيء من الثواب فعمله كان له ذلك » لم يرد لبيان استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب حتى يؤخذ باطلاقه ، ليستفاد منه عدم اعتبار ما اعتبر في الخبر الواحد من الشرائط ، بل إنما ورد لبيان فضل اللّه تعالى على العباد وأن الثواب لا يدور مدار إصابة قول المبلغ للواقع ، وهذا لا ينافي أن يعتبر في قول المبلغ ما يعتبر في الخبر الواحد ، أي كان ترتب الثواب مشروطا بكون قول المبلغ واجدا لشرائط الحجية.
والحاصل : أن مبنى الاحتمال الأول هو أن تكون هذه الأخبار بصدد بيان ما يترتب على العمل المتفرع على بلوغ الثواب عليه ، كما يرشد إلى ذلك فاء التفريع ، فان الظاهر من قوله علیه السلام « فعمله » هو أن يكون العمل متفرعا على البلوغ وأنه بلغ فعمل معتمدا على البلوغ ومستندا إليه ، والعامل لا يعتمد في عمله على قول المبلغ إلا إذا كان قوله واجدا لشرائط الحجية ، فكأن واجدية قول المبلغ للشرائط اخذ في القضية مفروغ الوجود وإلا لا يصح تفريع العمل على البلوغ ، فإنه إذا لم يكن قول المبلغ واجدا للشرائط فلا يصح من العامل إسناد عمله إلى قول المبلغ والاعتماد عليه ، بل لابد من أن يكون عمله بداعي الاحتمال وأنه لعل أن يكون قوله مصادفا للواقع ، وهذا ينافي ظاهر تفريع العمل على البلوغ ، فان التفريع لا يكون إلا بعد الاعتماد على قول المبلغ وفرض إصابته للواقع.
فان قلت : الظاهر من قوله علیه السلام في خبر محمد بن مروان « ففعله التماس ذلك الثواب أوتيه » هو أن يكون العمل برجاء إصابة قول المبلغ للواقع واحتمال كونه مطلوبا في نفس الأمر ، فلابد أن لا يكون قول المبلغ واجدا للشرائط ، فإنه لو كان واجدا لها لا يكون العمل بداعي احتمال المطلوبية ، بل مقتضى حجية قوله هو إلقاء احتمال مخالفة قوله للواقع وإتيان
ص: 411
العمل بداعي كونه مطلوباً واقعاً.
قلت : تقييد العمل بالالتماس ليس لبيان وجه العمل وأنه يعتبر في إعطاء الثواب أن يكون العمل بداعي الاحتمال والتماس الثواب (1) بل التقييد بذلك إنما هو لأجل أن عبادة أغلب الناس إنما تكون لرجاء الثواب والأمن من العقوبة ، فقوله علیه السلام « ففعله التماس ذلك الثواب » إنما ورد مورد الغالب ولا عبرة بالقيد الوارد مورد الغالب.
نعم : ربما يستظهر من قوله علیه السلام في بعض الأخبار « فعمل ذلك طلب قول النبي صلی اللّه علیه و آله » كون العمل برجاء قول النبي صلی اللّه علیه و آله فتأمل.
وعلى كل حال : فهذا أحد الاحتمالات التي تتحملها روايات الباب.
ثانيها : أن تكون الجملة الخبرية بمعنى الإنشاء ويكون مفاد قوله علیه السلام « فعمله » أو « ففعله » الأمر بالفعل والعمل (2) كما هو الشأن في غالب الجمل الخبرية الواردة في بيان الأحكام ، سواء كانت بصيغة الماضي كقوله علیه السلام « من سرح لحيته فله كذا » أو بصيغة المضارع كقوله : « تسجد سجدتي السهو » وغير ذلك من الجمل الخبرية التي وردت في مقام الحث والبعث نحو الفعل ، فيكون المعنى : إذا بلغ الشخص شيء من الثواب على عمل فليعمله ، وعلى هذا يصح التمسك باطلاق البلوغ والقول باستحباب
ص: 412
العمل مطلقاً ، سواء كان قول المبلغ واجدا لشرائط الحجية أو لم يكن ، فان الموضوع في القضية هو نفس البلوغ بقول مطلق ، والإطلاق يكون مسوقا لبيان حكم نفسه لا لبيان حكم آخر ، فلا مانع من التمسك بالإطلاق.
ثم إن كون الجملة الخبرية بمعنى الإنشاء وأنها في مقام بيان استحباب العمل يمكن أن يكون على أحد وجهين :
أحدهما : أن تكون القضية مسوقة لبيان اعتبار قول المبلغ وحجيته ، سواء كان واجدا لشرائط الحجية أو لم يكن - كما هو ظاهر الإطلاق - فيكون مفاد الأخبار مسألة أصولية ، فإنه يرجع مفادها إلى حجية الخبر الضعيف الذي لا يكون واجدا لشرائط الحجية ، وفي الحقيقة تكون أخبار « من بلغ » مخصصة لما دل على اعتباره الوثاقة أو العدالة في الخبر وأنها تختص بالخبر القائم على وجوب الشيء ، وأما الخبر القائم على الاستحباب فلا يعتبر فيه ذلك. وظاهر عناوين كلمات القوم ينطبق على هذا الوجه ، فان الظاهر من قولهم : « يتسامح في أدلة السنن » هو أنه لا يعتبر في أدلة السنن ما يعتبر في أدلة الواجبات.
فان قلت : كيف تكون أخبار « من بلغ » مخصصة لما دل على اعتبار الشرايط في حجية الخبر ، مع أن النسبة بينهما العموم من وجه؟ حيث إن ما دل على اعتبار الشرائط يعم الخبر القائم على الوجوب وعلى الاستحباب ، وأخبار « من بلغ » وإن كانت تختص بالخبر القائم على الاستحباب ، إلا أنه أعم من أن يكون واجدا للشرائط أو فاقدا لها ، ففي الخبر القائم على الاستحباب الفاقد للشرائط يقع التعارض ، فلا وجه لتقديم أخبار « من بلغ » على ما دل على اعتبار الشرائط في الخبر.
قلت : مع أنه يمكن أن يقال : إن أخبار « من بلغ » ناظرة إلى إلقاء الشرائط في الأخبار القائمة على المستحبات فتكون حاكمة على ما دل على اعتبار الشرائط في أخبار الآحاد وفي الحكومة لا تلاحظ النسبة - إن الترجيح لأخبار « من بلغ » لعمل المشهور بها ، مع أنه لو قدم ما دل على اعتبار الشرائط
ص: 413
في مطلق الأخبار لم يبق الأخبار « من بلغ » مورد ، بخلاف ما لو قدمت أخبار « من بلغ » على تلك الأدلة ، فان الواجبات والمحرمات تبقي مشمولة لها ، بل يظهر من الشيخ قدس سره - في الرسالة التي صنفها في مسألة التسامح في أدلة السنن - اختصاص ما دل على اعتبار الشرائط بالواجبات والمحرمات ، فان ما دل على اعتبار ذلك إما الإجماع وإما آية النبأ.
أما الإجماع : فمفقود في الخبر القائم على الاستحباب ، بل يمكن دعوى الإجماع على عدم اعتبار الشرائط في المستحبات.
وأما آية النبأ : فلا إشكال في اختصاصها بالواجبات والمحرمات ، كما يشهد بذلك ما في ذيلها من التعليل ، وعلى هذا تبقي أخبار « من بلغ » بلا معارض ، هذا.
ولكن الإنصاف : أن ما أفاده الشيخ قدس سره لا يخلو عن ضعف ، فان ما دل على اعتبار الشرائط في أخبار الآحاد لا ينحصر بالإجماع وآية النبأ ، بل العمدة في اعتبار الشرائط هو ما تقدم من الأخبار المتظافرة أو المتواترة ، وهي تعم المستحبات.
وعلى كل حال : لا ينبغي التأمل في ترجيح أخبار « من بلغ » على ما دل على اعتبار الشرايط ، إما للحكومة ، وإما لبقائها بلا مورد لو قدمت تلك الأدلة عليها ، مضافا إلى عمل المشهور بها ، وقد عرفت : أن هذا الوجه يقتضي أن يكون مفاد الأخبار مسألة أصولية.
الوجه الثاني : (1) أن تكون أخبار « من بلغ » مسوقه لبيان أن البلوغ يحدث مصلحة في العمل بها يكون مستحبا ، فيكون البلوغ كسائر العناوين الطارية على الأفعال الموجبة لحسنها وقبحها والمقتضية لتغيير أحكامها ، كالضرر
ص: 414
والعسر والنذر والإكراه وغير ذلك من العناوين الثانوية ، فيصير حاصل معنى قوله علیه السلام « إذا بلغه شيء من الثواب فعمله الخ » - بعد حمل الجملة الخبرية على الإنشائية - هو أنه يستحب العمل عند بلوغ الثواب عليه كما يجب العمل عند نذره.
والفرق بين هذا الوجه والوجه الثاني مما لا يكاد يخفى ، فان الوجه الثاني كان مبنيا على أن يكون مفاد أخبار « من بلغ » حجية قول المبلغ وأن ما أخبر به هو الواقع ، فيترتب عليه كل ما يترتب على الخبر الواجد للشرائط ، وهذا بخلاف الوجه الثالث ، فان مفاده مجرد إعطاء قاعدة كلية ، وهي استحباب العمل إذا بلغ عليه شيء من الثواب ، فيكون مفاد أخبار « من بلغ » قاعدة فقهية ك « قاعدة لا ضرر ولا حرج » وإن كان يظهر من الشيخ قدس سره كون المسألة أصولية على كل حال ، لأنه لاحظ للمقلد فيها ولا يجوز للمفتي الإفتاء بمفاد الأخبار ، فإنه لا يمكن للعامي تطبيق القاعدة الكلية على مواردها وتشخيص جزئياتها ، لأن معرفة شرائط الحجية وأن قول المبلغ فاقد لها وأنه ليس له معارض أو التخلص عن معارضه مما يختص بالمجتهد ، فالمسألة لا تكون فقهية.
وعلى كل حال : من كون المسألة فقهية أو أصولية يشترك الوجه الثاني والوجه الثالث في استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب ، سواء كان قول المبلغ واجدا لشرائط الحجية أو لم يكن.
ولا يبعد أن يكون الوجه الثاني أقرب - كما عليه المشهور - (1) حيث إن
ص: 415
بنائهم في الفقه على التسامح في أدلة السنن ، وقد عرفت : أن ظاهر العنوان لا ينطبق إلا على القول بالقاء شرائط الحجية في الخبر القائم على استحباب الشيء.
هذا ملخص الكلام في مسألة التسامح في أدلة السنن. وقد ذيلها الشيخ قدس سره بتنبيهات قد تعرض لجملة منها شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) ولكن حيث لم تكن بتلك المثابة من الأهمية طوينا الكلام فيها ، من أراد الاطلاع عليها فليراجع رسالة الشيخ قدس سره التي صنفها في خصوص هذه المسألة.
في جريان البراءة عند الشك في الواجب التعييني والتخييري.
والشك في ذلك يتصور على وجهين :
أحدهما : ما لو علم بوجوب الشيئين أو الأشياء وشك في كون كل منهما واجبا عينيا لا يسقط أحدهما بفعل الآخر ، أو واجبا تخييريا يسقط كل منهما بفعل الآخر (1).
ثانيهما : ما لو علم بوجوب الشيء الخاص وتوجه الخطاب نحوه وشك في شيء آخر في أنه عدل لذلك الذي علم وجوبه فيكون من أحد فردي الواجب التخييري؟ أو أنه ليس بعدل ذلك بل هو مباح أو مستحب؟.
والشيخ قدس سره قد اقتصر - في التنبيه الثالث من تنبيهات الشبهة الوجوبية - على بيان حكم الوجه الثاني ولم يذكر حكم الوجه الأول في هذا
ص: 416
المقام ، بل تعرض له في طي تنبيهات مبحث الأقل والأكثر ، ولعل بين الوجهين نحوا من الملازمة في النتيجة بحسب ما تقتضيه الأصول العملية.
وعلى كل حال : تنقيح البحث في دوران الأمر بين التعيينية والتخييرية يستدعى رسم أمور :
الواجب التخييري على أقسام ثلاثة :
القسم الأوّل : الواجب التخييري بحسب الجعل الابتدائي الشرعي - أي كان الخطاب من أول الأمر خطابا تخييريا ذا أفراد في مقابل الخطاب التعييني - كخصال الكفارات ، فان الحكم المجعول الشرعي عند تعمد الإفطار في نهار شهر رمضان إنما هو التخيير بين الخصال الثلاث : من العتق والإطعام والصيام ، وفي كيفية إنشاء الخطاب التخييري وتصويره وجهان بل قولان :
فقيل : إن الخطاب التخييري عبارة عن تقييد إطلاق الخطاب المتعلق بكل من الفردين أو الأفراد بما إذا لم يأت المكلف بعدله ، فيكون وجوب العتق في الخصال مقيدا بعدم الإطعام والصيام ، ووجوب الإطعام مقيدا بعدم العتق والصيام ، وهكذا ، ومن تقييد إطلاق الخطابين ينشأ التخيير (1).
ص: 417
وقيل : إن الخطاب التخييري بنفسه سنخ آخر من الخطاب في مقابل الخطاب التعييني ، لا أنه ينشأ من تقييد الإطلاق ، بل التخييرية والعينية سنخان متباينان بحسب الجعل والإنشاء ، ينشئان عن كيفية تعلق الإرادة الأزلية نحو المراد ، فقد تتعلق الإرادة الأزلية بشيء مخصوص لا يقوم غيره مقامه فيكون واجبا عينيا مطلقا كان أو مشروطا ، وقد تتعلق بأحد الشيئين أو الأشياء التي لم يكن بينها جامع قريب عرفي مقدور للمكلف يكون هو متعلق التكليف - كما في أفراد الواجب التخييري العقلي حيث إن التكليف فيه إنما يتعلق بالجامع بينها - فيكون واجبا تخييريا ، فالضابط في التخيير الشرعي هو أن لا يكون بين الأفراد جامع أصلا ، أو كان الجامع مجرد وحدة الملاك.
ومحصل القول الثاني هو أن مجرد تقييد إطلاق الخطاب لا يقتضي الوجوب التخييري ما لم يكن في البين اختلاف في سنخ الإرادة وكيفية تعلقها نحو المراد ، وربما نشير إلى الثمرة بين القولين بعد ذلك.
القسم الثاني : ( من أقسام الواجب التخييري ) هو التخيير الناشئ عن
ص: 418
تزاحم الحكمين وتمانع الخطابين في مقام الامتثال إذا لم يكن أحد الحكمين أهم وأولى بالرعاية - على أحد الوجهين في باب التزاحم (1) وقد تقدم تفصيل ذلك ( في الجزء الأول من الكتاب ) ويأتي أيضا ( في مبحث التعادل والتراجيح ).
وإجمال ذلك : هو أن الخطابات والتكاليف الشرعية إذا كانت بحسب أصل الجعل والتشريع مطلقا بالنسبة إلى حال اجتماع كل واحد منها مع الآخر ولم يكن بين متعلقاتها تمانع وتضاد ولكن عرض التمانع والتزاحم بينها في مقام الامتثال - من حيث إنه اتفق للمكلف العجز عن امتثالها جمعا وعدم القدرة على ايجاد كل من المتعلقين أو المتعلقات - فلابد حينئذ من تقييد الإطلاق ، لأن المفروض عدم قدرة المكلف على الجمع بينها في الامتثال ، واشتراط التكليف بالقدرة ضروري ، فلا يمكن بقاء الإطلاق بالنسبة إلى كل من الخطابين أو الخطابات المتزاحمة ، فان كان أحد المتعلقين أهم وأولى بالرعاية عقلا أو شرعا يبقى إطلاق خطابه على حاله ويقيد إطلاق خطاب غير الأهم - وعلى ذلك يبتني الخطاب الترتبي - وإن لم يكن أحد المتعلقين أهم وأولى بالرعاية من الآخر وكانا ككفتي الميزان من حيث الأهمية ومن حيث ساير مرجحات باب التزاحم التي استقصينا الكلام فيها في مبحث الضد - فعلى المختار لابد من تقييد إطلاق كل من الخطابين بصورة عدم امتثال الآخر ، فتكون النتيجة التخيير في الإتيان بأحد المتعلقين وامتثال أحد الخطابين.
وهذا التخيير يعرض للخطابين بعد ما كانا عينيين ، وبذلك يمتاز عن القسم الأول.
هذا بناء على ما قويناه ( في بيان التزاحم ) من أن منشأ التزاحم إنما هو إطلاق الخطابين بالنسبة إلى فعل متعلق الآخر وعدمه ، فلابد أن يكون هو
ص: 419
الساقط ؛ ولا موجب لسقوط أصل الخطاب ، لأن التزاحم لم ينشأ من وجود الخطابين بل من إطلاقهما. ولكن في المسألة قول بسقوط أصل الخطابين ، ولمكان تمامية الملاك في باب التزاحم العقل يستكشف خطابا تخييريا آخر بعد سقوط الخطابين الأصليين. وهذا القول وإن كان قد زيفناه في محله ، إلا أنه بناء عليه يكون الخطاب التخييري الذي استكشفه العقل من تمامية الملاك بعد سقوط الخطابين الأصليين كالخطاب التخييري المجعول ابتداء بحسب أصل التشريع ، ويندرج في القسم الأول ، وذلك واضح.
القسم الثالث : التخيير الناشئ عن تعارض الحجتين وتنافي الطريقين - كتعارض فتوى المجتهدين المتساويين ومؤدى الخبرين مع تساويهما في مرجحات باب التعارض - فبناء على المختار في باب الطرق والأمارات : من أن المجعول فيها نفس الحجية والطريقية والوسطية في الإثبات من دون أن يحدث في مؤدى الطريق مصلحة بسبب قيام الطريق عليه بل المؤدى باق على ما كان عليه قبل قيام الطريق من الحكم ، يكون الأصل في باب التعارض التساقط وعدم حجية كل منهما بالنسبة إلى المؤدى ، والتخيير في الأخذ بأحد المتعارضين يكون لمحض التعبد من جهة الأخبار الآمرة بالتخيير عند تعارض الروايات وفقد المرجحات ، فهذا قسم آخر من التخيير أجنبي عن القسم الأول والثاني.
وأمّا بناء على ما ينسب إلى المشهور من القدماء : من القول بالسببية في باب الطرق والأمارات وأن قيام الأمارة يوجب حدوث مصلحة في المؤدى غالبة على ما كان عليه من الملاك عند مخالفتها للواقع (1) فالتخيير بين الأمارتين
ص: 420
المتعارضتين يكون على القاعدة ، ويكون من صغريات التخيير في باب المتزاحمين فيندرج في القسم الثاني ، فان كلا من الأمارتين فقد استتبعت حكما على طبقها ، وحيث لا يمكن للمكلف الجمع بين الحكمين في الامتثال ، لتضاد مؤداهما الذي هو منشأ التعارض ، فلا محيص عن التخيير ، إما بتقييد الإطلاق ، وإما بسقوط الحكمين واستكشاف العقل حكما تخييريا ، لتمامية الملاك ، وذلك أيضا واضح.
كما يمكن أن يكون التكليف في عالم الجمع والثبوت ومرحلة التشريع والحدوث مشروطا - كاشتراط وجوب الحج بالاستطاعة والصلاة بالوقت - كذلك يمكن أن يحدث للتكليف الاشتراط في مرحلة البقاء والاستمرار بعد ما كان مطلقا في مرحلة الحدوث والثبوت ، كما لو فرض اشتراط بقاء التكليف بالصلاة بعدم الصيام.
وهذان الفرضان متعاكسان في جريان البراءة والاشتغال عند الشك فيهما.
ص: 421
فلو شك في إطلاق التكليف واشتراطه في عالم الجعل والتشريع ، فالأصل يقتضي البراءة عند عدم وجود ما شك في شرطيته ، للشك في التكليف ، وإن شك في الإطلاق والاشتراط في مرحلة البقاء والاستمرار فالأصل يقتضي الاشتغال ، لأن حقيقة الشك يرجع إلى أن الصيام في المثال المتقدم هل يكون مسقطا للتكليف بالصلاة أو لا يكون مسقطا؟ (1) وكلما رجع الشك إلى الشك في المسقط ، فالأصل يقتضي عدم السقوط. فلا يقاس الشك في الإطلاق والاشتراط في مرحلة الحدوث بالشك في الإطلاق والاشتراط في مرحلة البقاء ، فان الأول يرجع إلى الشك في التكليف عند عدم تحقق الشرط ، والثاني يرجع إلى الشك في سقوط التكليف عند عدم الشرط ، وذلك أيضا واضح لا ينبغي إطالة الكلام فيه.
يعتبر في جريان البراءة أن يكون الشك في أمر مجعول شرعي تناله يد الوضع والرفع ولو بتبع منشأ الانتزاع (2) كالشك في الجزئية والشرطية ، وإن لم تنلها يد الوضع والرفع في حد نفسها وبحيال ذاتها لأنها من الأمور الانتزاعية كما أوضحناه في محله - إلا أنه يمكن وضعها ورفعها بوضع التكليف الذي يكون منشأ انتزاع الجزئية والشرطية ورفعه ، وهذا المقدار يكفي في جريان البراءة عند الشك فيها.
والحاصل : أن الذي يعتبر في جريان البراءة أمران :
ص: 422
أحدهما : أن يكون المشكوك فيه مما بيد الشارع أمر وضعه ورفعه ولو لم يستقل بالخطاب ولم يمكن جعله ابتداء بل كان من الكيفيات والخصوصيات اللاحقة للخطاب بحيث يكون وضعه بوضع الخطاب ورفعه برفعه ، فان هذا المقدار من الوضع والرفع يكفي في جريان البراءة فيه.
ثانيهما : أن يكون في وضعه تضييق على العباد وفي رفعه منة وتوسعة ، فان قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » ورد مورد الامتنان ، فلابد ان يكون رفع المشكوك مما يقتضي التسهيل والتوسعة ، فلو فرض أن رفع المشكوك يقتضي الضيق والكلفة على العباد ، فلا يمكن أن يعمه « حديث الرفع » ولو كان مما تناله يد الوضع والرفع شرعا ، فمجرد كون أمر وضع المشكوك ورفعه بيد الشارع لا يكفي في جريان البراءة العقلية والشرعية فيه ما لم يستتبع وضعه العقاب والتضييق ، ليكون في رفعه التوسعة ورفع العقاب.
الشك في التعيين والتخيير يتصور على وجوه :
فإنه تارة : في أصل التكليف التعييني أو التخييري ، بمعنى أن أصل ثبوت التكليف المردد بينهما مشكوك أو المردد بين خصوص التخيير والإباحة ، كما لو شك في أن الارتماس في نهار شهر رمضان هل يقتضي وجوب إحدى الخصال تخييرا أو لا يقتضي شيئا أصلا؟ كما لو فرض الشك في أن المفطر الكذائي هل يقتضي الكفارة أو لا يقتضيه؟ وعلى تقدير اقتضائه فهل يقتضي كفارة معينة أو يقتضي التخيير بين إحدى الخصال الثلاث؟.
ولا ينبغي التأمل والإشكال في جريان البراءة في ذلك ، فان الشك فيه يرجع إلى الشك في أصل التكليف ، فما نسبه بعض إلى ظاهر صدر كلام الشيخ قدس سره في المقام : من أنه يعطى عدم جريان البراءة في هذا القسم من الشك ، ليس في محله ولا توهمه عبارة الشيخ ، خصوصا بعد ضمّ ذيل
ص: 423
كلامه إلى صدره ، بل كلام الشيخ قدس سره ناظر إلى ما سيتلى عليك من ساير الأقسام.
وأخرى : يشك في التعيين والتخيير بعد العلم بتوجه الخطاب وثبوت التكليف ، وهذا يتصور على وجوه :
فإنه تارة : يعلم بتعلق التكليف بأحد الشيئين بخصوصه ، ويشك في أن الشيء الآخر هل هو عدله حتى يكون ما علمه تعلق التكليف به أحد فردي الواجب التخييري؟ أو أنه ليس عدله بل يتعين هو ، لا يقوم شيء آخر مقامه؟ كما لو علم بوجوب العتق وشك في وجوب الصيام على نحو يكون عدلا للعتق وأحد فردي الواجب وعدم وجوبه بل هو مستحب أو مباح.
وأخرى : يعلم بتعلق التكليف بكل من الشيئين ، ولكن يشك في أن كلا منهما واجب عينا لا يقوم أحدهما مقام الآخر ، أو أنهما واجبان تخييرا يسقط كل منهما بفعل الآخر فيكون كل واحد منهما عدلا للآخر.
وثالثة : يعلم بتعلق الوجوب بأحد الشيئين المعين ويعلم أيضا بأن الشيء الآخر مسقط لوجوب ما علم وجوبه ، ولكن يشك في أن إسقاطه للوجوب لمكان أنه قد تعلق الوجوب به أيضا وجعل أحد فردي الواجب المخير؟ أو أنه لم يتعلق الوجوب به بل هو إما مباح أو مستحب إلا أنه مسقط للواجب؟ فإنه ثبوتا يمكن أن يكون ما ليس بواجب مسقطا للواجب ، إما لفوات الملاك ، أو عدم إمكان استيفائه ، وسيأتي الثمرة بين كونه أحد فردي الواجب المخير وبين كونه مسقطا للواجب.
فهذه جملة ما يتصور من وجوه دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، وقد عرفت أقسام الواجب التخييري.
فيقع الكلام حينئذ في ما يقتضيه الأصل العملي وأن الأصل عند الشك في التعيين والتخيير في جميع أقسام الواجب التخييري هل البراءة مطلقا؟ أو الاشتغال مطلقا؟ أو التفصيل بالنسبة إلى بعض وجوه الشك في
ص: 424
التعيين والتخيير أو بعض أقسام الواجب التخييري ، ففي بعض وجوه الشك تجرى البراءة ، وفي بعضها لا تجري ، أو إذا كان طرف الشك بعض أقسام الواجب التخييري تجرى البراءة ، وإذا كان طرف الشك بعض آخر لا تجرى.
والأقوى : أن الأصل في جميع الأقسام على جميع وجوه الشك - ما عدا الوجه الأوّل - هو الإشتغال (1)
ص: 425
وينبغي إفراد كل قسم من أفراد الواجب التخييري بالبحث ، فان لكل واحد من الأقسام الثلاثة خصوصية لم تكن في الآخر ، بحيث لو أمكن القول بجريان البراءة في بعضها لا يمكن القول بجريانها في البعض الآخر ، كما سنوضحه ( إن شاء اللّه تعالى ).
فنقول : إذا كان الشك في التعيين والتخيير على الوجه الثاني من الوجوه المتقدمة في دوران الأمر بين التعيين والتخيير - وهو ما إذا علم بتعلق التكليف بأحد الشيئين بخصوصه وشك في كون الشيء الآخر عدلا له وأحد فردي الواجب التخييري وكان الواجب التخييري الذي هو طرف الشك من الواجبات التخييرية الابتدائية في عالم الجعل والتشريع الذي كان هو القسم الأول من أقسام الواجب التخييري - فقد قيل : إنه تجرى البراءة عن التعيينية ، لأن صفة التعيينية كلفة زائدة توجب الضيق على المكلف ، بداهة أنه لو لم يكن الواجب تعيينيا لكان المكلف بالخيار بين الإتيان به أو بعدله ، فيشملها قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » وقوله علیه السلام « الناس في سعة ما لا يعلمون » وغير ذلك من أدلة البراءة ، ويلزمه جواز الاكتفاء بفعل ما يحتمل كونه عدلا لما علم تعلق التكليف به.
وقيل : بعدم جريان البراءة ، ويلزمه عدم جواز الاكتفاء بما يحتمل كونه عدلا للواجب ، وهو الأقوى ، فان صفة التعيينية وإن كانت كلفة زائدة توجب الضيق على المكلف ، إلا أن مجرد ذلك لا يكفي في جريان البراءة ، بل لابد مع ذلك من أن يكون المشكوك فيه أمرا مجعولا شرعيا تناله يد الوضع والرفع التشريعي ولو بتبع خطاب آخر ، كما تقدم (1) وإلا كان اللازم جريان البرائة
ص: 426
في جميع موارد الشك في الامتثال والسقوط ، فان عدم حصول الامتثال وعدم السقوط ضيق وكلفة على المكلف ، كما أن حصول الامتثال والسقوط توسعة ، فلو اكتفينا في جريان البراءة بمجرد كون المشكوك فيه مما يوجب الضيق والكلفة ، كان اللازم جريان البراءة عند الشك في سقوط الأمر الصلاتي مثلا بالصيام ، وهو كما ترى! وليس ذلك إلا من جهة أنه يعتبر في أصالة البراءة - مضافا إلى كونها موجبة للتوسعة ورفع الكلفة - أن يكون المشكوك فيه أمرا وجوديا تناله يد الوضع والرفع التشريعي ولو كان من توابع نفس التكليف وخصوصياته أو من توابع متعلقه وقيوده ، ولذلك كان الأقوى عندنا جريان البراءة عند الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين ، سواء كان المشكوك فيه جزءا أو قيدا ، كما أوضحناه في محله.
وحاصل الكلام : أن الكلفة والضيق الذي يراد رفعه بالبرائة إنما هو الضيق الجائي من قبل جعل التكليف وتشريعه ، بحيث يكون الجعل متضمنا لكيفية توجب الضيق وتوقع المكلف في الكلفة ، ولابد أن تكون تلك الكيفية وجودية ليمكن رفعها عند الشك فيها وأن يكون في رفعها منة وتوسعة على العباد ، وهذا هو الضابط الكلي الذي لابد من رعايته في جميع الموارد التي تجرى فيها البراءة.
ومنه : يظهر أنه لا مجال لتوهّم جريان البراءة عند الشك في التعيين والتخيير ، لأن صفة التعيينية المشكوكة ليست من الأمور الوجودية المجعولة
ص: 427
شرعاً ولو بالتبع ، بل إنما هي عبارة عن عدم جعل العدل والبدل ، بداهة أن نحو تعلق الخطاب لا يختلف تعيينيا كان أو تخييريا ، فالتكليف المتعلق بالعتق مثلا لا يتغير ولا يزيد ولا ينقص ولا يتكيف بكيفية وجودية إذا كان التكليف المتعلق به تعيينيا ، وإنما الاختلاف ينشأ عن قبل وجوب العدل ، فان تعلق التكليف بشيء آخر يكون عدلا له فالتكليف المتعلق بالعتق كان تخييريا ، وإلا كان تعيينيا ، فالتعيينية ليست صفة وجودية للخطاب حتى تجرى فيها البراءة.
وبالجملة : كما أنه في مقام الإثبات ظاهر الخطاب يقتضي التعيينية لأنها لا تحتاج إلى بيان زائد بل التخييرية تحتاج إلى مؤنة زائدة من العطف ب « أو » ونحوه ، كذلك في مقام الثبوت التعيينية عبارة عن تعلق الإرادة المولوية بشيء ، وليس لها فصل وجودي ، بل حدها عدم تعلق الإرادة بشيء آخر يكون عدلا لما تعلقت الإرادة به ، ففي الحقيقة الشك في التعيينية والتخييرية يرجع إلى الشك في وجوب العدل وعدمه ، فالذي يمكن أن يعمه « حديث الرفع » لولا كونه خلاف المنة - هو وجوب العدل المشكوك ، فينتج التعيينية وهي ضد المقصود.
فظهر : أنّ المرجع عند الشك في التعيين والتخيير قاعدة الاشتغال ، لرجوع الشك فيهما إلى الشك في سقوط ما علم تعلق التكليف به بفعل ما يحتمل كونه عدلا له ، من غير فرق بين أن يكون الشك فيهما على الوجه الثاني من الوجوه المتقدمة ( وهو ما إذا لم يعلم تعلق الطلب بما يحتمل كونه عدلا للواجب ) أو على الوجه الثالث ( وهو ما إذا علم بتعلق الطلب به أيضا وكان الشك في مجرد كونه عدلا للآخر ) (1) فان الشك في كل من الوجهين يرجع إلى
ص: 428
الشك في الامتثال والسقوط ، غايته أنه في الوجه الثاني الشك إنما يكون في مسقطية خصوص مشكوك الوجوب عن مقطوعه ، وفي الوجه الثالث يكون الشك في مسقطية كل منهما عن الآخر.
وكذا لا فرق بين القول بان الواجب التخييري عبارة عن تقييد الإطلاق واشتراط التكليف في كل واحد من الفردين بما إذا لم يأت بالآخر ، والقول بأنه بنفسه سنخ آخر من الطلب يقابل الواجب التعييني ، بل رجوع الشك إلى الشك في الامتثال والسقوط لو كان من باب تقييد الإطلاق أوضح ، فان الشك يرجع إلى الشك في السقوط على كل حال ولو كانت صفة العينية وجودية ، فإنه لو قلنا بأن الواجب التخييري من باب تقييد الإطلاق ، فالتقييد إنما يكون باعتبار البقاء ومرحلة السقوط لا باعتبار الثبوت ومرحلة الحدوث ، وقد عرفت : أن الأصل عند الشك في الإطلاق والاشتراط الراجع إلى مرحلة السقوط يقتضي الاشتغال وعدم السقوط ، فتأمّل جيّداً.
بقى الكلام في الوجه الثالث من وجوه الشك في التعيين والتخيير ، وهو ما إذا علم بتعلق التكليف بأحد الشيئين وعلم أيضا بأن الشيء الآخر مسقط التكليف به ، ولكن يشك في أن إسقاطه للتكليف لكونه عدلا له وأحد فردي الواجب المخير ، أو مجرد كونه مسقطا له ومفوتا لموضوعه ، سواء كان إسقاطه من حيث كون عدمه شرطا لملاك الواجب بحيث يكون وجوده معدما للملاك والمصلحة ، أو كان إسقاطه من حيث كونه مانعا عن استيفاء الملاك مع بقائه على ما هو عليه ، وعلى كلا التقديرين : يكون عدمه شرطا لوجوب الواجب ، ولا يمكن أن يكون أحد فردي الواجب المخير ، لأنه ليس فيه مصلحة الوجوب ولا حاويا لملاكه ، وإلا لم يكن إسقاطه للواجب بأحد الوجهين ، بل كان إسقاطه له من باب استيفاء الملاك ، فإنه يعتبر في الواجب التخييري أن يكون بين الأفراد جامع ملاكي.
وعلى كل حال : فان علم أن الشيء الفلاني - كالصيام مثلاً - ليس
ص: 429
من أفراد الواجب التخييري وليس فيه ملاك الوجوب وإنما هو مباح أو مستحب مسقط للوجوب عن العتق فهو ، وإن شك في ذلك وتردد أمره بين أن يكون من أفراد الواجب التخييري أو مجرد كونه مسقطا ، فمع التمكن من الإتيان بما علم تعلق التكليف به - من العتق مثلا - لا يترتب على الوجهين أثر حتى يبحث عن الوظيفة في حال الشك إلا من حيث العصيان وعدمه ، فإنه عند ترك المكلف العتق مع العلم بتعلق التكليف به والاكتفاء بالصيام - مع أنه يمكن أن يكون في الواقع مما لم يتعلق به التكليف وكان مسقطيته للتكليف عن العتق لمكان كونه مفوتا لملاكه ومانعا عن استيفائه من دون أن يكون عدمه شرط للملاك - يستحق العقوبة.
وأمّا مع عدم التمكن من الإتيان بما علم تعلق التكليف به وتعذر على المكلف عتق الرقبة ، فيظهر بين الوجهين أثر عملي ، فإنه لو كان الصيام من أفراد الواجب التخييري يتعين الإتيان به ، لأنه إذا تعذر أحد فردي الواجب المخير يتعين الآخر ، وإن لم يكن الصيام من أفراد الواجب التخييري بل كان مجرد كونه مسقطا للوجوب عن العتق ، فلا يجب الإتيان به مع تعذر العتق ، لأنه بالتعذر قد سقط التكليف عنه ، والمفروض أن الصيام لم يتعلق التكليف به ، فلا ملزم لفعله بل لا أثر له ، والوظيفة عند الشك هي البراءة عن التكليف بالصيام ، للشك في تعلق التكليف به ، وذلك واضح.
وقد قيل : إن من هذا القبيل الشك في وجوب الجماعة عند تعذر القراءة على المكلف.
بيان ذلك : هو أنه تارة : نقول : إن الصلاة جماعة إحدى فردي الواجب التخييري الشرعي ، فان التخيير العقلي لا يحتمل لسقوط فيها وثبوتها في الصلاة فرادى ، فلا يمكن أن يجمعهما خطاب واحد (1) مع أنه يعتبر في التخيير العقلى أن
ص: 430
يكون بين الأفراد جامع خطابي حتى تكون الأفراد متساوية الأقدام ، فالتخيير الذي يحتمل أن يكون بين الصلاة فرادى والجماعة هو التخيير الشرعي ، وعليه : فان تعذرت الصلاة فرادى - ولو لمكان تعذر جزئها وهي القراءة - تتعين الصلاة جماعة ، فإنه عند تعذر أحد فردي الواجب المخير يتعين الآخر.
وأخرى : نقول باستحباب الجماعة وأنها ليست إحدى فردي الواجب التخييري ولكنها مسقطة للوجوب عن الصلاة فرادى ، فلا تجب الجماعة عند تعذر القراءة ، بل للمكلف الصلاة فرادى بدون القراءة أو بما يحسن منها ، ولو شك في أحد الوجهين فالأصل يقتضي البراءة عن وجوب الجماعة عند تعذر القراءة ، للشك في تعلق التكليف بها ، كما تقدم ، هذا.
ولكن في الصلاة جماعة احتمال آخر لا يبعد استظهاره من الأخبار (1) وهو أن يكون الاكتفاء بالصلاة جماعة وإسقاطها للتكليف عن الصلاة فرادى ليس من حيث كونها مفوتة لملاك الصلاة فرادى ولا من حيث كونها إحدى فردي الواجب التخييري ، بل من حيث تنزيل قرائة الإمام منزلة قرائة المأموم ، فيكون المأموم واجدا للقرائة لكن لا بنفسه بل بإمامه ، إلا أن تنزيل قرائة الإمام منزلة قرائة المأموم لا يقتضي أن تكون الصلاة جماعة في عرض الصلاة فرادى حتى يلزم تعين الجماعة عند تعذر القراءة في الصلاة فرادى ، بدعوى : أنه يمكن تحصيل القراءة التنزيلية ، كما هو الشأن في باب الطرق والأمارات ، حيث
ص: 431
إنّه يجب الأخذ بمؤدياتها عند تعذر الوصول إلى الواقع ، لتنزيل مؤدياتها منزلة الواقع - بالبيان المتقدم في باب جعل الطرق والأمارات - فان التنزيل في باب الجماعة إنما يكون على تقدير اختيار الصلاة جماعة ، فتكون قرائة الإمام قرائة المأموم على هذا التقدير ، فلا يقتضي ذلك تعين الجماعة عند تعذر القراءة ، فتأمل جيدا.
ولو فرض الشك في كل ذلك فالمرجع البراءة عن وجوب الجماعة ، فعلى جميع التقادير : لو وصلت النوبة إلى الشك فلا محالة ينتهى إلى الشك في التكليف ، كما لا يخفى.
هذا كله إذا كان الشك بين التعيين والتخيير في القسم الأول من أقسام الواجب التخييري ( وهو ما كان التخيير فيه بجعل ابتدائي ).
وإذا كان الشك بين التعيين والتخيير في القسم الثاني من أقسام الواجب التخييري ( وهو ما كان التخيير فيه لأجل التزاحم ) فعدم جريان البراءة عن التعيينية أوضح على كلا المسلكين ، سواء قلنا : إن التخيير في باب التزاحم لأجل تقييد الإطلاق أو لأجل سقوط الخطابين المتزاحمين واستكشاف العقل حكما تخييريا ، فان رجوع الشك فيه إلى الشك في المسقط في غاية الوضوح ، سواء قلنا : إن صفة التعيينية وجودية أو عدمية.
فلو وقع التزاحم في إنقاذ الغريقين مثلا لعدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في الإنقاذ وكان متمكنا من أحدهما فقط ، فان علم بتساوي الغريقين من حيث الملاك والمصلحة التي اقتضت ايجاب الإنقاذ ، فلا إشكال في التخيير في اختيار إنقاذ أحدهما.
أما على المختار : فلأن نتيجة تقييد إطلاق كل من الخطابين بصورة عدم الإتيان بمتعلق الآخر هو التخيير في إنقاذ أحدهما.
وأما على المسلك الآخر : فلأن العقل بعد سقوط الخطابين المتزاحمين يستكشف حكماً تخييرياً.
ص: 432
وإن علم بأقوائية الملاك في أحدهما المعين وأهميته في نظر الشارع فلا إشكال أيضا في تعينه على كلا المسلكين. أما على المسلك المختار. فلبقاء الإطلاق في جانب الأهم والتقييد يختص في طرف المهم ، ومنه ينشأ الخطاب الترتبي. وأما على المسلك الآخر : فلأن أقوائية ملاكه يمنع عن استكشاف العقل الحكم التخييري ، لأن التخيير فرع أن تكون الأفراد متساوية الأقدام في الملاك.
وإن شك في أهمية أحدهما المعين واحتمل أقوائية ملاكه ، كما إذا احتمل أن يكون أحدهما المعين هاشميا مع العلم بأهمية إنقاذ الهاشمي ، أو احتمل أهمية الهاشمي مع العلم بهاشمية أحدهما المعين ، فبناء على المختار : يرجع الشك إلى الشك في تقييد إطلاق محتمل الأهمية في مرحلة البقاء والامتثال مع العلم بتقييد الإطلاق في الأطراف الاخر (1) ولا إشكال في أن الأصل عند الشك في تقييد الإطلاق في مرحلة البقاء يقتضي الاشتغال لا البراءة ، للشك في سقوط التكليف عن محتمل الأهمية بعد العلم بتعلق التكليف به.
وأما بناء على المسك الآخر : فالشك فيه يرجع إلى الشك في سقوط أصل الخطاب مع العلم بالملاك التام ، فعلى كلا المسلكين : يرجع الشك إلى الشك في المسقط ، والمرجع أصالة الاشتغال لأن العلم باشتغال الذمة يستدعى العلم بالفراغ ، وذلك كله واضح.
بقى الكلام في القسم الثالث من أقسام الواجب التخييري ( وهو
ص: 433
ما إذا كان التخيير فيه لأجل تعارض الحجتين والطريقين ) وقد عرفت : أنه في باب الطرق والأمارات إن قلنا بالسببية فالتخيير فيه يكون من صغريات التخيير في باب التزاحم ، فان لم يكن لأحد الطرفين مزية فالمكلف بالخيار بين الأخذ بأحدهما. وإن كان لأحدهما مزية يتعين الأخذ بذى المزية (1).
وإن احتمل أن يكون لأحدهما المعين مزية ، كما إذا احتمل أعلمية أحد المجتهدين بعد العلم بوجوب الأخذ بقول الأعلم ، أو احتمل وجوب الأخذ بقول الأعلم بعد العلم بأعملية أحدهما المعين ، أو احتمل أن يكون لإحدى الأمارتين مزية يجب الأخذ بها - سواء كانت الشبهة موضوعية أو حكمية - فالكلام فيه الكلام في الفريقين عند احتمال أهمية أحدهما المعين ، ويأتي فيه المسلكان المتقدمان.
هذا إذا قلنا في باب الطرق والأمارات بالسببية ، وإن قلنا بالطريقية المحضة وأن المجعول في باب الطرق والأمارات مجرد الحجية والوسطية في الإثبات - كما هو المختار وعليه قاطبة المتأخرين - فوجوب الأخذ بمحتمل المزية في غاية الوضوح ولا يمكن الخدشة فيه ، فإنه يقطع أن سلوكه يوجب الأمن عن العقاب على تقدير مخالفته للواقع ، بخلاف سلوك الطريق الذي لا يحتمل فيه المزية فإنه يشك في حجيته ، وقد تقدم ( في مبحث الظن ) أن الأصل عند الشك في الحجية عدمها بالأدلة الأربعة ، فلا يكون المكلف معذورا على تقدير مخالفة مشكوك الحجية للواقع ويستحق العقوبة عقلا ، لأنه لم يعتمد في عمله على ما يكون مؤمنا.
فظهر : أن اقتضاء الأصل التعيين عند دوران الأمر بينه وبين التخيير
ص: 434
في باب الطرق والأمارات أوضح من اقتضائه التعيين في باب التزاحم ، كما أن اقتضائه التعيين في باب التزاحم أوضح من اقتضائه التعيين في باب التكاليف الابتدائية ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا. هذا تمام الكلام في دوران الأمر بين التعيين والتخيير.
إن محل الكلام إلى الآن كان في ما يقتضيه الأصل العملي بالنسبة إلى ما يشك في كونه واجبا عينيا. وأما الطرف الآخر الذي يحتمل أن يكون عدلا لما تعلق الوجوب به ، فالبحث عما يقتضيه الأصل بالنسبة إليه بعد البناء على أصالة التعيينية ساقط (1) إذ لا أثر للبحث عن جريان أصالة البراءة أو أصالة عدم وجوبه ، فإنه بمقتضى أصالة الاشتغال يتعين على المكلف الإتيان بما علم تعلق الطلب به ، والمفروض أنه لا يجب على المكلف إلا عمل واحد ، وذلك العمل يتعين بما يحتمل عينيته ، فأي أثر يترتب على البحث عن جريان أصالة البراءة أو أصالة عدم الوجوب بالنسبة إلى ما يحتمل كونه أحد فردي الواجب التخييري؟.
وبالجملة : التكلم عما يقتضيه الأصل بالنسبة إلى ما علم تعلق الطلب به وشك في عينيته يغنى عن التكلم فيما يقتضيه الأصل بالنسبة إلى الطرف الآخر ، فلا أثر للبحث عن أن أصالة البراءة هل تختص بالشك في الواجبات
ص: 435
التعيينية أو تعم الشك في الواجبات التخييرية؟ وعلى تقدير الاختصاص : فهل تجرى أصالة عدم الوجوب أو لا تجري؟ فالبحث عن كل هذا ساقط بعد البناء على أصالة التعيين ، بل لا أثر للبحث عن جريان أصالة البراءة أو عدم الوجوب بالنسبة إلى ما يحتمل تعلق الطلب التخييري به مطلقا ولو بنينا على أصالة البراءة عن التعيينية عند الشك في التعيين والتخيير ، فان معنى أصالة البراءة عن التعيينية جواز الاكتفاء بفعل ما يحتمل كونه عدلا للواجب ، فلا فائدة في جريان أصالة البراءة أو عدم الوجوب فيه ، فالبحث عما أفاده الشيخ قدس سره في التنبيه الثالث من قوله : « إن الظاهر اختصاص البراءة بصورة الشك في الوجوب التعييني » مستغن عنه ، فتأمّل جيّداً.
لو شك في الوجوب العيني والكفائي ، فهل الأصل يقتضي العيني - كالشك في التعييني والتخييري - فلا يسقط الواجب بفعل الغير؟ أو أن الأصل لا يقتضي العيني؟.
ربما توهم : أن الأصل لا يقتضي العينية ، لأن مرجع الشك في العينية والكفائية إلى الشك في التكليف عند فعل الغير ما هو الواجب ، والأصل عدمه ، هذا.
ولكن رجوع الشك إلى الشك في الامتثال والسقوط في الواجب العيني والكفائي أوضح من رجوعه إلى ذلك في الواجب التعييني والتخييري ، وتوضيح ذلك : هو أن في تصوير الواجب الكفائي وكيفية تشريعه - مع أن المطلوب إشغال أحد المكلفين صفحة الوجود بالفعل الذي لا يقبل التكرر أو إذا كان قابلا للتكرر لا يكون وجوده الثاني متعلق الطلب - وجهان : (1)
ص: 436
أحدهما : أن يكون المخاطب به آحاد المكلفين لكن لا على وجه الإطلاق ، بل بتقييد الخطاب المتوجه على كل أحد بصورة عدم سبق الغير بالفعل المخاطب به ، فينحل الخطاب إلى خطابات متعددة حسب تعدد أفراد المكلفين ، كل خطاب مقيد بعدم سبق الغير بفعل متعلق الخطاب.
ثانيهما : أن يكون المخاطب النوع ، ولمكان انطباق النوع على الآحاد يكون كل فرد من أفراد المكلفين مخاطبا بذلك الخطاب الواحد ، فلو أشغل أحد المكلفين صفحة الوجود بالفعل سقط الخطاب عن الباقي ، لأن الخطاب الواحد ليس له إلا امتثال واحد وقد امتثله من خوطب به من جهة انطباق النوع عليه ، فتأمل.
وعلى كلا الوجهين : يرجع الشك في العيني والكفائي إلى الشك في سقوط الواجب بفعل الغير ، أما على الوجه الأول : فواضح ، لأن الشك في ذلك يرجع إلى الشك في تقييد الإطلاق في مرحلة البقاء والامتثال وهو يقتضي الاشتغال لا البراءة. وأما على الوجه الثاني : فكذلك أيضا ، فان المكلف قبل فعل الغير يعلم بكونه مكلفا بالفعل ، إما لكون التكليف عينيا ، وإما لانطباق النوع عليه ، وبعد فعل الغير يشك في سقوط التكليف عنه ، والأصل يقتضي عدم السقوط.
فالأقوى : أن الشك في العيني والكفائي كالشك في التعييني والتخييري لا تجري فيه البراءة ، بل مقتضى أصالة الاشتغال هو البناء على كون الواجب عينيا في الأول وتعيينيا في الثاني.
هذا تمام الكلام في الشبهة الوجوبية الحكمية إذا كان منشأ الشبهة
ص: 437
فقدان النص. وفي حكمها ما إذا كان منشأ الشبهة إجمال النص أو تعارض النصين ، فان الأدلة الدالة على البراءة لا تختص بصورة فقدان النص ، بل تعم صورة إجمال النص وتعارضه. وقد نسب الخلاف في ذلك إلى « صاحب الحدائق » فقال : بوجوب الاحتياط في صورة إجمال النص وتعارضه. وليس له وجه.
هذا إذا كانت الشبهة حكمية ، وإن كانت الشبهة موضوعية - كما إذا علم بوجوب إكرام العالم على وجه يكون الحكم انحلاليا ، وشك في بعض مصاديقه - فقد تقدم البحث عنها في الشبهة التحريمية ، وعرفت : أن العلم بالكبريات الكلية ما لم يعلم انطباقها على الموارد الجزئية غير منجز للتكليف لا يستتبع استحقاق العقوبة ، والظاهر إطباق الأصوليين والإخباريين على ذلك.
نعم : نسب إلى المشهور وجوب الاحتياط عند تردد الفرائض الفائتة بين الأقل والأكثر (1) ويشكل الفرق بينه وبين تردد الدين بين الأقل والأكثر ، مع أن الظاهر اتفاقهم على عدم وجوب الاحتياط في الدين المردد بين الأقل والأكثر وجواز الاكتفاء بأداء القدر المتيقن وجريان البراءة عن الأكثر.
والظاهر : أن يكون نظر المشهور في مسألة قضاء الفوائت إلى القاعدة وأنها تقتضي الاحتياط ، لا لأجل التعبد وقيام دليل خاص على ذلك ، فيتوجه حينئذ سؤال الفرق بينها وبين مسألة الدين المردد بين الأقل والأكثر؟
ص: 438
وقد نقل عن بعض المحققين : أنه حاول تطبيق فتوى المشهور على القاعدة ، وحاصل ما أفاده في وجه ذلك - بتحرير منا - هو أنه يعتبر في جريان البراءة أن لا يكون الشك الذي اخذ موضوعا فيها مسبوقا بالعلم ولو آنا ما ، فان الأصول العملية كلها مغياة بعدم العلم ومنها البراءة ، فالشك الطارئ بعد العلم لنسيان ونحوه ليس موردا للبرائة ، بل موردهما الشك الابتدائي ، ومع احتمال سبق العلم لا تجري البراءة أيضا ، لاحتمال حصول الغاية ، فيرجع التمسك بقوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » مع احتمال سبق العلم - إلى التمسك بالعام في الشبهات المصداقية (1) وقد حرر في محله عدم جوازه.
وبعبارة أوضح : لا يجوز الاقتحام في الشبهة إلا مع القطع بالمؤمن إما عقلا وإما شرعا ، ومع احتمال سبق العلم بحكم الشبهة وتنجز التكليف لا قطع بالمؤمن ، فلا يجوز الاقتحام في الشبهة ، بل لابد من الاحتياط ليحصل القطع بأداء الواقع والخروج عن عهدته.
وعلى هذا تكون فتوى المشهور في محلها ، فإنه عند فوات كل فريضة لا محالة يتعلق العلم بها ، إلا إذا فرض أنه استدام نوم المكلف أو سكره أياما متعددة فانتبه أو أفاق ولم يعلم أيام نومه وسكره ، وهذا فرض نادر ، والغالب حصول العلم بالفائتة وقت فوتها ، فإذا تردد الفائت بين الأقل والأكثر فبالنسبة إلى الأكثر المشكوك كما أنه يحتمل فوته كذلك يحتمل تعلق العلم بفوته على
ص: 439
تقدير فوته واقعاً ، ومع احتمال سبق العلم به لا تحرى البراءة. ومسألة الدين المردد بين الأقل والأكثر لو كان من هذا القبيل كان كذلك لا تجري البراءة بالنسبة إلى الزائد المشكوك.
والحاصل : أنه في كل شك احتمل سبق العلم به لا تجري الأصول العملية مطلقا ، سواء في ذلك أصالة البراءة وغيرها.
ومنه يعلم : أنه لا يجوز التمسك في مسألة الفوائت ب « قاعدة الشك بعد الوقت » فأنها أيضا من الأصول العملية المضروبة في حال الشك فيعتبر فيها ما يعتبر في البراءة ، ومع احتمال سبق العلم بالفائتة المشكوكة لا تجري « قاعدة الشك بعد الوقت » وليس في البين أصل موضوعي ينقح حال الشك وأنه مما سبقه العلم أو لم يسبقه.
فلا يتوهم : جريان أصالة عدم سبق العلم ، لأنه قبل الفوات لا موضوع للعلم وبعد الفوات يشك في تعلق العلم به حال الفوت ، فليس للعلم حالة سابقة يمكن استصحابها وجودا وعدما.
فظهر : أنه لو قلنا : إن العلم بحال الشبهة ولو آنا ما يكفي في التنجز ولا يعتبر استدامته ، ففي كل شبهة احتمل سبق العلم بها لا تجري الأصول العملية مطلقا شرعية كانت أو عقلية. أما الشرعية : فلاحتمال حصول الغاية ، فيكون التمسك بها من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية. وأما العقلية : فلأنه مع سبق العلم لا يكون العقاب بلا بيان ، ومع احتمال سبق العلم لا مؤمن ، فلا يستقل العقل بقبح العقاب.
هذا غاية ما يمكن أن يوجه به فتوى المشهور ، وعليه بنى « شيخنا الأستاذ مد ظله » في الدورة السابقة ، وقد عدل عن ذلك في الدورة الأخيرة والتزم بجريان البراءة العقلية والشرعية.
أما البرائة العقلية : فلأنه لا يعتبر في جريانها إلا عدم وصول التكليف الذي يدور التنجز واستحقاق العقاب مداره ، إذ المراد بالبيان في « قاعدة قبح
ص: 440
العقاب بلا بيان » على ما تقدم سابقا - هو البيان الواصل إلى المكلف ، فما لم يصل البيان ولم يكن له وجود علمي لا يكاد يتنجز التكليف ويستحق عليه العقوبة ، ولا يكفي في ذلك مجرد احتمال سبق العلم والوصول مع طرو النسيان ، فان المعتبر هو الحالة الفعلية وفي الحالة الفعلية لا يكون البيان واصلا فيتحقق موضوع القاعدة.
وأما البراءة الشرعية : فلأنه لا يعتبر في موضوعها إلا عدم العلم ، ففي كل زمان صدق هذا العنوان يندرج في قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » ومجرد احتمال حصول العلم في آن ما لا يكفي. ولا يكون من الشك في حصول الغاية حتى يندرج في التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، فان الغاية حصول العلم بالواقع ، واحتمال حصول العلم عين الشك في الواقع ، فلم تحصل الغاية ، مع أنه لو كان احتمال سبق العلم مانعا عن جريان البراءة لا نسد باب البراءة في غالب الشبهات الموضوعية - كالدين والنذر والكفارة والصوم - فإنه في جميع ذلك يحتمل سبق العلم بالأكثر المشكوك ، مع أن الظاهر اختصاص فتوى المشهور بقضاء الصلوات الفائتة ولم يلتزموا بوجوب الاحتياط في قضاء الصوم عند تردده بين الأقل والأكثر.
والإنصاف : أنه لا يمكن تطبيق فتوى المشهور على القاعدة (1) فالأقوى جريان البراءة عن الأكثر المشكوك في قضاء الصلوات الفائتة ، وإن كان لا ينبغي ترك الاحتياط خروجا عن مخالفة المشهور.
وليكن هذا آخر ما أردنا بيانه من المباحث الراجعة إلى أصالة البراءة.
والحمد أولا وآخرا.
والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين.
ص: 441
قد عرفت - في مبحث القطع وفي أول مبحث البراءة - أن الأصول العملية في جميع الشبهات الحكمية والموضوعية أربعة : البراءة والتخيير والاشتغال والاستصحاب ، فكان ينبغي عقد فصول أربعة كل فصل يتكفل البحث عن أحد هذه الأصول ، ولكنا جعلنا الفصول ثلاثة : الفصل الأول في البراءة ، والثاني في الاشتغال ، والثالث في الاستصحاب ، ولأجل قلة مباحث أصالة التخيير لم نعقد لها فصلا مستقلا وجعلنا البحث عنها في خاتمة البراءة المناسبة ، وتنقيح البحث عنها يستدعى رسم أمور :
قد تقدم المختار في مجاري الأصول ، وأن مجرى أصالة التخيير هو ما إذا علم بجنس الإلزام ولم يمكن الاحتياط لأجل عدم التمكن من الموافقة والمخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال ، وقد تقدم أيضا - في الفعل الأول - ضابط تأثير العلم الإجمالي وتنجيزه للتكليف ، وحاصله : أن المعلوم بالإجمال إذا صح وأمكن أن يتعلق به التكليف على ما هو عليه من الإجمال بحيث كون قابلا لأن تتعلق به إرادة العبد وتحريك عضلاته نحوه ، فالعلم الإجمالي المتعلق به يكون منجزا للتكليف ، كما إذا علم بوجوب إحدى الصلاتين أو حرمة أحد الشيئين
ص: 442
أو وجوب أحدهما وحرمة الآخر وغير ذلك من الأقسام المتصورة التي يأتي ذكرها - في الجزء الرابع - فان المعلوم بالإجمال في جميع هذه الموارد يكون بعثا مولويا محركا لإرادة العبد مع ما هو عليه من الإجمال ، إذ لو فرض أن التكليف من أول الأمر شرع على هذا الوجه - أي تعلق التكليف واقعا وفي نفس الأمر بأحد الشيئين لا على التعيين - لم يلزم محذور من ذلك وصح أن يكون معجزا مولويا ومحركا للإرادة في عالم التشريع نحو المتعلق ، غايته أن المكلف يكون مخيرا بين أحد الشيئين ، إما تخييرا شرعيا ، وهو فيما إذا لم يكن بين الشيئين جامع خطابي ( كما إذا دار الأمر بين وجوب أحد الشيئين وحرمة الآخر أو وجوب أحد الشيئين ووجوب شيء آخر لا يجمعهما جنس قريب ) وإما تخييرا عقليا وهو فيما إذا كان بين الشيئين جامع خطابي ( كما إذا دار الأمر بين وجوب إكرام هذا العالم أو ذلك العالم ) فإنه يصح التكليف باكرام العالم مبهما ، فيكون المكلف مخيرا عقلا في إكرام أحد الفردين أو الأفراد.
وعلى كل حال : يعتبر في تأثير العلم الإجمالي أن يكون المعلوم بالإجمال صالحا لتشريعه كذلك ، أي على ما هو عليه من الإجمال.
فان كان المعلوم بالإجمال غير صالح لتشريعه كذلك وكان قاصرا عن أن يكون داعيا ومحرما لإرادة العبد ، فالعلم الإجمالي المتعلق به لا يقتضي التأثير والتنجيز وكان وجوده كعدمه ، كما في موارد دوران الأمر بين المحذورين ، فان التكليف المردد بين وجوب الشيء أو حرمته قاصر عن أن يكون داعيا ومحركا نحو فعل الشيء أو تركه ، لأن الشخص بحسب خلقته التكوينية لا يخلو عن الفعل أو الترك ، فلا يصح تشريع التكليف على هذا الوجه ، لأن تشريع التكليف على هذا الوجه لا أثر له ولا يزيد على ما يكون المكلف عليه تكوينا ، فإنه إما أن يفعل وإما أن لا يفعل ، فهو غير قابل لتحريك عضلات العبد وغير صالح للداعوية والباعثية ، فإذا كان متعلق العلم الإجمالي وجوب الفعل أو حرمته ، فالعلم لا يقتضي تنجيز متعلقه وكان وجوده كعدمه.
ص: 443
إذا عرفت ذلك فاعلم : أن في موارد دوران الأمر بين المحذورين لا يمكن جعل التخيير الشرعي الواقعي ولا جعل التخيير الظاهري - كالتخيير في باب تعارض الطرق والأمارات - (1) فان التخيير بين فعل الشيء وتركه حاصل بنفسه تكوينا ، فلا يمكن جعل ما هو الحاصل بنفسه ، سواء كان جعلا واقعيا أو جعلا ظاهريا ، فما قيل : من أن الأصل في دوران الأمر بين المحذورين هو التخيير ، ليس على ما ينبغي (2) إن كان المراد منه الأصل العملي المجعول وظيفة في حال الشك ، لما عرفت : من أنه لا يمكن جعل الوظيفة في باب دوران الأمر بين المحذورين ، من غير فرق بين الوظيفة الشرعية والعقلية.
أما الوظيفة الشرعية : فواضح بالبيان المتقدم.
وأما الوظيفة العقلية : فلأن التخيير العقلي إنما هو فيما إذا كان في طرفي التخيير ملاك يلزم استيفائه ولم يتمكن المكلف من الجمع بين الطرفين كالتخيير الذي يحكم به في باب التزاحم - وفي دوران الأمر بين المحذورين
ص: 444
ليس كذلك ، لعدم ثبوت الملاك في كل من طرفي الفعل والترك ، فالتخيير العقلي في باب دوران الأمر بين المحذورين إنما هو من التخيير التكويني ، حيث إن الشخص لا يخلو بحسب الخلقة من الأكوان الأربعة ، لا التخيير الناشئ عن ملاك يقتضيه ، فأصالة التخيير عند دوران الأمر بين وجوب الفعل وتركه ساقطة.
وأما الأصول الاخر : من أصالة الإباحة والبرائة الشرعية والعقلية واستصحاب عدم الوجوب وعدم الحرمة ، فلا مجال لها أيضا ، ولكن لا بملاك واحد بل عدم جريان كل واحد منها بملاك يخصه.
أمّا أصالة الإباحة - فمضافاً إلى عدم شمول دليلها لصورة دوران الأمر بين المحذورين فإنه يختص بما إذا كان طرف الحرمة الإباحة والحل كما هو الظاهر من قوله علیه السلام « كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال » وليس في باب دوران الأمر بين المحذورين احتمال الإباحة والحل بل طرف الوجوب ، ومضافا إلى ما قد تقدم : من أن دليل أصالة الحل يختص بالشبهات الموضوعية ولا يعم الشبهات الحكمية - إن جعل الإباحة الظاهرية مع العلم بجنس الإلزام لا يمكن ، فان أصالة الإباحة بمدلولها المطابقي تنافى المعلوم بالإجمال ، لأن مفاد أصالة الإباحة الرخصة في الفعل والترك ، وذلك يناقض العلم بالإلزام (1) وإن لم يكن لهذا العلم أثر عملي وكان وجوده كعدمه لا يقتضي التنجيز ، إلا أن العلم بثبوت الإلزام المولوي حاصل بالوجدان ، وهذا العلم لا يجتمع مع جعل الإباحة ولو ظاهرا ، فان الحكم الظاهري إنما يكون في مورد الجهل بالحكم الواقعي ، فمع العلم به وجدانا لا يمكن جعل حكم ظاهري يناقض بمدلوله المطابقي نفس ما تعلق العلم به.
والحاصل : أن بين أصالة الإباحة وأصالة البراءة والاستصحاب فرقاً
ص: 445
واضحاً ، فان مورد أصالة البراءة والاستصحاب - على ما سيأتي بيانه - إنما يكون خصوص ما تعلق بالفعل من الوجوب أو الحرمة ، فيحتاج كل من الوجوب والحرمة إلى براءة أو استصحاب يخصه ، ولا تغنى أصالة البراءة في طرف الوجوب عن أصالة البراءة في طرف الحرمة ، وكذا الاستصحاب.
وهذا بخلاف « أصالة الحل والإباحة » فان جريانها في كل من طرف الفعل والترك يعنى عن جريانها في الطرف الآخر ، فان معنى إباحة الفعل وحليته هو الرخصة في الترك وبالعكس ، ولذلك كان مفاد أصالة الحل بمدلوله المطابقي يناقض نفس العذر المشترك المعلوم بالإجمال ، وهو جنس الإلزام.
فظهر : أن عدم جريان أصالة الحل في دوران الأمر بين المحذورين إنما هو لعدم انحفاظ رتبتها ، لا لأجل مخالفة مؤداها للموافقة الالتزامية الواجبة كما قيل ، فان الموافقة الالتزامية إن كانت بمعنى التدين بما جاء به النبي صلی اللّه علیه و آله والتصديق بالإحكام والالتزام بها على ما هي عليها ، فوجوبها بهذا المعنى وإن كان غير قابل للإنكار ، فان الحكم إن كان من الضروريات فالالتزام به عبارة عن الإيمان والتصديق بالنبي صلی اللّه علیه و آله ولذلك كان إنكاره كفرا ، وإن لم يكن من الضروريات وكان من القطعيات المذهبية فانكاره وإن لم يوجب الكفر إلا أن عدم الالتزام به يكون من التشريع المحرم ، فتأمل ، إلا أن البناء على الإباحة الظاهرية لا ينافي هذا الالتزام ، فان الالتزام الواجب عند دوران الأمر بين المحذورين هو الالتزام والتصديق بجنس الإلزام لا بخصوص الوجوب أو الحرمة ، فان الالتزام بأحدهما بالخصوص لا يمكن إلا مع العلم بالخصوصية وإلا كان من التشريع المحرم ، فالذي يمكن من الالتزام هو الالتزام بأن لله تعالى في هذه الواقعة حكما إلزاميا ، وذلك لا ينافي البناء على الإباحة والرخصة الظاهرية في ظرف الجهل بنوع الإلزام. نعم : لو كانت أصالة الإباحة من الأصول المتكفلة للتنزيل المحرزة
ص: 446
للواقع لكان الالتزام بمفادها ينافي الالتزام بجنس التكليف المعلوم في البين ، فان البناء على الإباحة الواقعية وإلقاء الشك وجعل أحد طرفيه هو الواقع - كما هو مفاد الأصول التنزيلية - لا يجتمع مع البناء والالتزام بأن الحكم المجعول في الواقعة ليس هو الحل والإباحة ، ولكن أصالة الإباحة ليست من الأصول التنزيلية ، بل مفادها مجرد الرخصة في الفعل مع حفظ الشك من دون البناء على كون أحد طرفيه هو الواقع ، وهذا المعنى كما ترى لا ينافي الالتزام بحكم اللّه الواقعي على ما هو عليه من الإجمال.
هذا إذا كان المراد من الموافقة الالتزامية التصديق والتدين بالإحكام التي جاء بها النبي صلی اللّه علیه و آله وإن كان المراد منها معنى آخر ، فموضاعا وحكما محل إشكال.
فتحصل : أن العمدة في عدم إمكان جعل الإباحة الظاهرية في باب دوران الأمر بين المحذورين هو مناقضتها للمعلوم بالإجمال بمدلولها المطابقي ، فتأمل جيدا.
هذا كله في أصالة الحل والإباحة.
وأمّا أصالة البراءة : فهي بالنسبة إلى الموافقة الالتزامية كأصالة الحل لا ينافي مفادها لها ، لأنها أيضا من الأصول الغير المتكفلة للتنزيل. وأما بالنسبة إلى انحفاظ رتبتها : فبينها وبين أصالة الحل فرق ، فان أصالة الحل - كما عرفت - بمدلولها المطابقي تناقض المعلوم بالإجمال ، من غير فرق بين إعمالها في طرف الفعل أو الترك ، فان إباحة الفعل عبارة أخرى عن إباحة الترك وبالعكس. وأما أصالة البراءة : فمفادها رفع خصوص الوجوب والعقاب عن خصوص الفعل أو خصوص الترك أو رفع خصوص الحرمة عنهما كذلك ، وخصوصية الوجوب والحرمة مشكوكة ، فلا يناقض مفادها نفس المعلوم بالإجمال ، فان المعلوم بالإجمال هو جنس الإلزام لا خصوص الوجوب والحرمة.
نعم : لازم رفع الوجوب والحرمة عدم الإلزام ، إلا أن هذا لا يوجب
ص: 447
المناقضة بين مفاد كل من أصالة البراءة عن وجوب الفعل وأصالة البراءة عن حرمته للمعلوم بالإجمال.
وبالجملة : لما كان مجرى أصالة البراءة الشك في نوع التكليف المتعلق بالفعل وكان نوع التكليف المتعلق به مشكوكا - ولذا كان كل من الوجوب والحرمة يحتاج إلى براءة يخصه ولا تغنى أصالة البراءة في أحدهما عنها في الآخر - فلا يكون مفادها مناقضا للمعلوم بالإجمال ، وإن كان يلزم من الجمع بين البرائتين نفي الإلزام المعلوم في البين ، وذلك أيضا لا يمنع من جريان البراءة ، فإنه لم يلزم من الجمع بين البرائتين مخالفة عملية للإلزام المعلوم ، فان المكلف على كل حال لا يخلو : إما من الفعل وإما من الترك ، فهذه الجهات الثلاث - أي جهة وجوب الموافقة الالتزامية وجهة انحفاظ رتبة جعل الحكم الظاهري وجهة المخالفة العملية - لا تقتضي المنع من جريان البراءة في موارد دوران الأمر بين المحذورين.
نعم : في البين جهة أخرى توجب المنع عن جريان البراءة في باب دوران الأمر بين المحذورين ، وهي أنه لا موضوع لها.
أما البراءة العقلية : فلأن مدركها « قبح العقاب بلا بيان » وفي باب دوران الأمر بين المحذورين يقطع بعدم العقاب ، لأن وجود العلم الإجمالي كعدمه لا يقتضي التنجيز والتأثير - بالبيان المتقدم - فالقطع بالمؤمن حاصل بنفسه بلا حاجة إلى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.
وأما البراءة الشرعية : فلأن مدركها قوله : « رفع ما لا يعلمون » والرفع فرع إمكان الوضع ، وفي موارد دوران الأمر بين المحذورين لا يمكن وضع الوجوب والحرمة كليهما ، لا على سبيل التعيين ولا على سبيل التخيير - كما تقدم وجهه - ومع عدم إمكان الوضع لا يعقل تعلق الرفع ، فأدلة البراءة الشرعية لا تعم المقام أيضا ، فتأمل جيدا.
وأمّا الاستصحاب : فهو من جهة انحفاظ الرتبة لا محذور فيه ، فان كلاً
ص: 448
من الوجوب والحرمة مجهول والاستصحاب إنما يجرى بالنسبة إلى خصوص نوع التكليف المتعلق بالفعل ، فهو من هذه الجهة كأصالة البراءة لا يكون مؤداه مضادا للمعلوم بالإجمال الذي هو جنس الإلزام ، وكذا من جهة المخالفة العملية ، فإنه أيضا لا يلزم من جريانه في كل من الوجوب والحرمة مخالفة عملية ، لأن المكلف لا يخلو من الفعل والترك.
نعم : لما كان الاستصحاب من الأصول المتكفلة للتنزيل - كما سيأتي بيانه في محله - فلا يمكن الجمع بين مؤداه والعلم الإجمالي ، فان البناء على عدم وجوب الفعل وعدم حرمته واقعا - كما هو مفاد الاستصحابين - لا يجتمع مع العلم بوجوب الفعل أو حرمته (1) وسيأتي في محله : أن الأصول التنزيلية لا تجري في أطراف العلم الإجمالي مطلقا ، سواء لزم منها المخالفة العملية أو لم يلزم.
وإن شئت قلت : إن البناء على مؤدى الاستصحابين ينافي الموافقة الالتزامية ، فان التدين والتصديق بأن اللّه تعالى في هذه الواقعة حكما إلزاميا إما الوجوب أو الحرمة لا يجتمع مع البناء على عدم الوجوب والحرمة واقعا.
فتحصل : أن شيئا من الأصول العملية العقلية والشرعية لا تجري في باب دوران الأمر بين المحذورين ، يعنى لا موقع لجعل وظيفة عقلية أو شرعية فيه ، بل المكلف بحسب خلقته التكوينية مخير بين الفعل والترك ، وهذا التخيير ليس بحكم شرعي أو عقلي واقعي أو ظاهري.
وما ورد من التخيير في باب تعارض الأمارات إن كان المراد منه التخيير في المسألة الأصولية - وهو التخيير في أخذ أحد المتعارضين حجة وطريقا إلى الواقع في مقام الاستنباط - فهو أجنبي عما نحن فيه ، وإن كان المراد منه التخيير في المسألة الفقهية - أي التخيير في العمل - فيكون من التخيير العقلي التكويني لا تعبدي شرعي إذا كان التعارض على وجه يوجب دوران الأمر بين
ص: 449
المحذورين في مقام العمل ، وإلا كان من التخيير الشرعي الظاهري ، فتأمل جيّداً.
إذا كان لأحد الحكمين اللذين تعلق العلم الإجمالي بأحدهما مزية على الآخر ، إما من حيث الاحتمال ( كما إذا فرض كون احتمال الوجوب أقوى من احتمال الحرمة ) وإما من حيث المحتمل ( كما إذا كان الشيء الذي يحتمل تعلق الوجوب به على تقدير وجوبه من أقوى الواجبات الشرعية وأهمها بخلاف ما إذا كان الشيء حراما فليس بتلك المرتبة من الأهمية ).
فهل المزية تقتضي تعين الأخذ بصاحبها ، فيبنى على الوجوب إذا كان من حيث الاحتمال أو المحتمل أقوى من الحرمة ، فيتعين على المكلف ترتيب آثار الوجوب على الفعل ، فلا يجوز تركه اعتمادا على احتمال أن يكون الفعل حراما؟.
أو أن المزية لا تقتضي تعين الأخذ بصاحبها ، بل للمكلف اختيار الفعل واختيار الترك؟.
ربما يتوهم : أن المزية تقتضي تعين الأخذ بصاحبها ، لأن المقام يكون من صغريات دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، وقد تقدم : أن الأصل يقتضي التعيينية.
وأنت خبير بما فيه ، فان ما تقدم من اقتضاء الأصل التعيينية عند الشك في التعيين والتخيير إنما كان لأجل العلم بالخطاب والتكليف الشرعي الذي يلزم امتثاله وكان مرجع الشك فيهما إلى الشك في الامتثال والسقوط ، وأين هذا مما نحن فيه؟ فان التخيير في دوران الأمر بين المحذورين ليس لاقتضاء الخطاب ذلك ، بل إنما هو من التخيير العقلي التكويني كما تقدم ، فإذا لم يكن في البين خطاب شرعي يكون المكلف ملزما باتيانه وكان وجود العلم
ص: 450
الإجمالي كعدمه لا أثر له ولا يقتضي التنجيز ، فوجود المزية أيضا كعدمها (1) فان المزية إنما توجب الأخذ بصاحبها بعد الفراغ من تنجز التكليف ولزوم رعايته وامتثاله ، والتكليف في دوران الأمر بين المحذورين غير لازم الرعاية.
ثم على تقدير كون المزية توجب تعين الأخذ بصاحبها ، فهل نفس احتمال الحرمة يكفي في ترجيح جانبها على احتمال الوجوب فيتعين ترك الفعل وترتيب آثار الحرمة عليه؟ أو أن مجرد كون طرف احتمال الوجوب هو احتمال الحرمة لا يكفي في ترجيح جانب الحرمة ما لم تكن الحرمة من حيث الاحتمال أو المحتمل أقوى من الوجوب؟.
فقد قيل : إن مجرد كون طرف احتمال الوجوب هو احتمال الحرمة يكفي في ترجيح جانب الحرمة ، بدعوى : أن في احتمال الحرمة احتمال المفسدة وفي احتمال الوجوب احتمال النفع ، ودفع المفسدة المحتملة أولى من جلب النفع المحتمل ، كما أن دفع المفسدة المتيقنة أولى من جلب المنفعة المتيقنة ، وعلى ذلك يبتني القول بتغليب جانب الحرمة على جانب الوجوب في مسألة اجتماع الأمر والنهى.
وفيه أولا : أن المنافع والمفاسد تختلف بحسب القلة والكثرة ، فرب نفع يكون جلبه أولى من دفع المفسدة ، وعلى فرض التساوي من حيث القلة والكثرة لم يقم برهان على أن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ، ولم يظهر من طريقة العقلاء أن بنائهم على ذلك.
وثانيا : أن دعوى أنه ليس في الواجبات إلا جلب المنافع فلا يكون في تركها مفسدة بل مجرد فوات النفع ، ممنوعة ، فلم لا يكون في ترك الواجب مفسدة كفعل الحرام؟.
ص: 451
وثالثاً : على تقدير تسليم أن يكون دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة مطلقا وتسليم أن ترك الواجب ليس فيه مفسدة ، فإنما يكون ذلك في المنافع والمفاسد الراجعة إلى شخص الفاعل والمباشر لما فيه المنفعة والمفسدة. ودعوى : أن منافع الواجبات ومفاسد المحرمات راجعة إلى شخص الفاعل ، دون إثباتها خرط القتاد! فإنه من المحتمل أن تكون المنافع والمفاسد راجعة إلى النوع بحسب ما يقتضيه النظام التام ، إلا أن يقال : إن مجرد احتمال ذلك لا يكفي مع احتمال أن تكون راجعة إلى المباشر ، فتأمل جيدا.
يعتبر في دوران الأمر بين المحذورين أن يكون كل من الواجب والحرام توصليا أو يكون أحدهما الغير المعين توصليا ، فلو كان كل منهما تعبديا أو كان أحدهما المعين تعبديا فليس من دوران الأمر بين المحذورين ، لأن المكلف يتمكن من المخالفة القطعية بالفعل أو الترك لا بقصد التعبد والتقرب وإن لم يتمكن من الموافقة القطعية ، فبالنسبة إلى المخالفة القطعية العلم الإجمالي يوجب التأثير ويقتضي التنجيز وإن لم يقتض ذلك بالنسبة إلى الموافقة القطعية ، وذلك واضح.
دوران التكليف بين الوجوب والحرمة بالنسبة إلى الفعل الواحد ، تارة : يكون مع وحدة الواقعة ، كما لو دار الأمر بين كون المرأة المعينة محلوفة الوطي أو محلوفة الترك في ساعة معينة.
وأخرى : مع تعدد الواقعة ، كالمثال إذا فرض أن الحلف على الفعل أو الترك كان في كل ليلة من ليالي الجمعة.
فان كان على الوجه الأول : فلا إشكال في كون الحالف مخيراً بين
ص: 452
الوطي وعدمه في الساعة التي تعلق الحلف بها ، ولا موقع للنزاع في كون التخيير بدويا أو استمراريا ، لأنه لا تعدد في الواقعة حتى يتصور فيها التخيير الاستمراري.
وإن كان على الوجه الثاني : فللنزاع في كون التخيير بدويا أو استمراريا مجال. فقيل : إن التخيير بدوي ، فما اختاره المكلف في ليلة الجمعة الأولى من الفعل أو الترك لابد أن يختاره أيضا في الليالي اللاحقة ، وليس له أن يختار في الليلة اللاحقة خلاف ما اختاره في الليلة السابقة ، فإنه لو اختلف اختياره في الليالي لزم منه المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال ، فأنه يعلم بتحقق الحنث ، إما في الليلة السابقة ، وإما في الليلة التي هو فيها ، فلأجل الفرار عن حصول المخالفة القطعية لابد من أن يكون التخيير بدويا ، هذا.
ولكن للنظر في ذلك مجال ، فان المخالفة القطعية لم يتعلق بها التكليف التحريمي شرعا بحيث تكون المخالفة القطعية كسائر المحرمات الشرعية قد تعلق بها النهى المولوي الشرعي ، بل قبح المخالفة القطعية كحسن الطاعة من المستقلات العقلية التي لا تستتبع الخطاب المولوي ، وحكم العقل بقبح المخالفة القطعية فرع تنجز التكليف ، وإلا فنفس المخالفة بما هي مخالفة لا يحكم العقل بقبحها ما لم يتنجز التكليف.
وبالجملة : مخالفة التكليف المنجز قبيحة عقلا ، وأما مخالفة التكليف الغير المنجز فلا قبح فيها ، كما لو اضطر إلى الاقتحام في أحد أطراف المعلوم بالإجمال واتفق مصادفة ما اضطر إليه للحرام الواقعي ، فأنه مع حصول المخالفة يكون المكلف معذورا ، وليس ذلك إلا لعدم تنجز التكليف بالنسبة إلى الوجوب أيضا إلا أن تنجزه بنحو الموافقة التدريجية كان ملغى ، فيبقى تنجزه بالنسبة إلى المخالفة القطعية على حاله.
وحينئذ الأولى فى الجواب أن يقال: إنّ عدم الجمع بين امتثال لزوم الموافقة وحرمة المخالفة القطعية إذا
كان بمناط «لايطاق» فالعقل فى هذا المقام لا يفرق بينهما بالإقتضاء والعلية، وإنما الفرق في الاقتضاء والعلية في قابلية العلم للرخص الشرعى فى أحد الطرفين بمناط البرائة الشرعية وعدمه، بلا نظر إلى مناط «لايطاق» والترخيص في المقام هو بمناط «لا يطاق» وفى هذا المقام نسبة حكم العقل علية واقتضاء بمناط واحد، كما لا يخفى فتدبر.
قد تم والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً
في شهر شوال المكرم سنة 1362(1) ففي ما نحن فيه
ص: 453
لا يكون التكليف منجزا في كل ليلة من ليالي الجمعة ، لأنه في كل ليلة منها الأمر دائر بين المحذورين ، فكون الواقعة مما تكرر لا يوجب تبدل المعلوم بالإجمال ولا خروج المورد عن كونه من دوران الأمر بين المحذورين ، فان متعلق التكليف إنما هو الوطي أو الترك في كل ليلة من ليالي الجمعة ، ففي كل ليلة يدور الأمر بين المحذورين. ولا يلاحظ انضمام الليالي بعضها مع بعض ، حتى يقال : إن الأمر فيها لا يدور بين المحذورين لأن المكلف يتمكن من الفعل في جميع الليالي المنضمة ومن الترك في جميعها أيضا ومن التبعيض ففي بعض الليالي يفعل وفي بعضها الآخر يترك ومع اختيار التبعيض تتحقق المخالفة القطعية لأن الواجب عليه إما الفعل في الجميع وإما الترك في الجميع ، وذلك : لأن الليالي بقيد الانضمام لم يتعلق الحلف والتكليف بها ، بل متعلق الحلف والتكليف كل ليلة من ليالي الجمعة مستقلة بحيال ذاتها ، فلابد من ملاحظة الليالي مستقلة ، ففي كل ليلة يدور الأمر فيها بين المحذورين ويلزمه التخيير الاستمراري.
والحاصل : أن التخيير البدوي في صورة تعدد الواقعة يدور مدار أحد أمرين : إما من حرمة المخالفة القطعية شرعا ليجب التجنب والفرار عن حصولها ولو بعد ذلك فيجب على المكلف عدم ايجاد ما يلزم منه المخالفة القطعية ، وإمّا
ص: 454
من ملاحظة الوقايع المتعددة منضما بعضها إلى بعض في تعلق التكليف بها حتى يتمكن المكلف من مخالفة التكليف بتبعيض الوقايع واختياره في البعض ما يخالف اختياره في الآخر. وكل من الأمرين اللذين يبتني على أحدهما التخيير البدوي محل منع ، فلا محيص من التخيير الاستمراري وإن حصل العلم بالمخالفة ، فتأمل جيدا.
لو دار أمر الشيء بين كونه شرطا للعبادة أو مانع عنها أو دار الأمر بين الضدين - كما إذا دار الأمر في القراءة بين وجوب الجهر بها أو وجوب الإخفات - فالأمر وإن كان يدور بين المحذورين بالنسبة إلى العبادة الواحدة ، فإنه لا يمكن أن تكون العبادة الواحدة واجدة للشئ وفاقدة له فيما إذا تردد بين كونه شرطا لها أو مانع عنها ، وكذا لا يمكن أن تكون القراءة الواحدة جهرية وإخفاتية ، إلا أنه حيث يتمكن المكلف من الموافقة القطعية - ولو بتكرار الصلاة تارة مع ما يحتمل كونه شرطا وأخرى بدون ذلك ، أو بتكرار القراءة فقط بقصد القربة المطلقة - فلا محالة يجب الاحتياط بتكرار العمل أو الجزء ، فلا يندرج في باب دوران الأمر بين المحذورين.
هذا تمام الكلام في « الجزء الثالث » من الكتاب ، ويتلوه « الجزء الرابع » إن شاء اللّه تعالى.
والحمد اللّه أوّلاً وآخراً
والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين
وقد وقع الفراغ من تسويده ليلة الأربعاء التاسعة والعشرين من شهر شوال
المكرّم سنة ألف وثلاثمأة وإثنين وأربعين
ص: 455
قد اكتفينا في كثير من المباحث الراجعة إلى هذا الجزء من الكتاب بالإشارة إليها - خصوصا ما يرجع إلى مباحث القطع والبرائة - اعتمادا على ما سيأتي - في الجزء الرابع - من استقصاء الكلام فيها وتفصيلها بما لا مزيد عليه ، وحرصا على نشر ما أفاده حضرة شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) في مسألة اللباس المشكوك : من الكنوز والنفائس العلمية التي لم تصل إليها أفهام أولى الألباب وكانت تحت الخبا ، حتى من اللّه تعالى على حملة العلم بطلوع الشمس العلم من مركزه ، أعني به حضرة « شيخنا الأستاذ متع اللّه المسلمين بطول بقاه » فحق على حملة العلم أن يقدروا ويشكروا ما أنعم اللّه تعالى عليهم من شريف وجوده ، وحق علينا نشر ما أفاده في ذلك أداء المقدار من حقوقه وخدمة لأهل العلم ، سائلين منه ( سبحانه وتعالى ) قبول ذلك ، وأن يجعله في صحيفة حسناتنا
ويكفّر به سيئاتنا ، إنه أرحم الراحمين.
ص: 456
تحقيق أنّ المراد من «المكلّف» فى كلامهم ، هو خصوص المجتهد... 3
دفع الإشكال عن تثليث الأقسام... 4
الإشكال على الشيخ قدس سره فى تشخيص مجارى الاصول ، وبيان ما هو الأحسن أن يقال في المقام 4
الحصر فى الأربع فى مجارى الاصول عقلى، بخلاف نفس الاصول... 5
المقام الأول فى القطع ، وفيه مابحث
المبحث الأوّل :
فى وجوب متابعة القطع وأنّ طريقيته ذاتية لا تنالها يدالجعل... 6
فى عدم صحّة إطلاق الحجّة على القطع وعدم كون البحث عن حجيته من مسائل علم الاصول 7
المبحث الثاني :
فى القطع الطريقى والموضوعى ، وبيان المراد من القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الصفتية والمأخوذ على نحو الطريقية والكاشفية 9
عدم إمكان أخذ العلم بالحكم موضوعاً للحكم الذى تعلّق العلم به إلّا بنتيجة التقييد 11
ادّعاء تواتر الأدلّة على اشتراك الأحكام فى حق العالم والجاهل ، والايراد عليه ... 12
صحة أخذا العلم بالحكم من وجه خاص مانعاً عن ثوت الحكم واقعاً ... 13
توجيه مقالة الأخباريين فى قولهم : لا عبرة بالعلم الحاصل من غير الكتاب والسنّة... 14
ص: 457
المبحث الثالث :
في قيام الطرق والاصول مقام القطع ... 15
فى أنّ المراد من الاصول المبحوث عنها فى المقام هو الاصول المحرزة... 15
فى بيان الجهات الثلاث التيى تجتمع فى القطع ... 16
فى الفرق بين لحكومة الظاهرية والواقعية ... 19
فى أنّه ليس للواقع فردان : فرد حقيقى وفرد جعلى ، إلّا على مبنى جعل المؤدّى بنحو من المسامحة 20
الوجوه والأقوال فى قيام الطرق والأمارات والاصول التنزيلية مقام القطع ... 21
اختيار القول الثالث ، وهو قيامها مقام القطع الطريقى مطلقاً وعدم قيامها مقام القطع الصفتى ، وتضعيف ما ذكر من المنع عن قيامها مقام القطع المأخوذ موضوعاً على وجه الطريقية ... 21
الإشكال بأنّ الذى اخذ جزء الموضوع فى ظاهر الدليل هو العلم والإحراز الوجدانى لا الإحراز التعبّدى ، والتفصّى عنه بوجوه 23
عدم إمكان قيام الأمارات والاصول مقام القطع المأخوذ على جهة الصفتية ... 26
لم نعثر فى الفقه على مورد اُخذ العلم فيه موضوعاً على وجه الصفتية ، وردّ الأمثلة التى ذكرها الشيخ قدس سره 26
فى بيان ما أفاده المحقّق الخراسانى فى الحاشية فى وجه قيام الطرق والاُصول مقام القطع بجميع أقسامه ، والإشكال عليه مضافاً إلى ما أورده عليه فى الكفاية ... 27
فى أنّ الظن ليس كالعلم حجيته منجعلة ومن مقتضيات ذاته ، بل لابدّ أن يكون حجيته بجعل شرعى 31
فى بيان أقسام الظن من حيث أخذه موضوعاً لحكم آخر ... 31
فذلكة : فى الإشارة إلى اختلاف بيان «الاستاذ» فى أقسام الظن المأخوذ موضوعاً ... 35
المبحث الرابع :
فى استحقاق المتجرّى للعقاب ، والبحث يقع فيه من جهات : ... 37
الجهة الاولى: دعوى أنّ الخطابات الأوّلية تعمّ صورتى موافقه القطع للواقع ومخالفته ... 37
ص: 458
الجهة الثانية : دعوى أنّ صفة تعلّق العلم بشىء تكون من الصفات والعناوين الطارية على ذلك الشىء المغيّرة لجهة حسنه وقبحه 41
الجهة الثالثة : دعوى استحقاق المتجرّى للعقاب من باب استقلال العقل بذلك ... 46
الجهة الرابعة : دعوى حرمة التجرى من جهة قيام الاجماع ودلالة الأخبار عليه ... 50
تنبيهان :
الأوّل : فى بيان عدم الفرق فى التجرّى بين مخالفة العلم وبين مخالفة الطرق والاصول المثبتة للتكليف 53
الثانى : فيما ذكره صاحب الفصول : من أنّ قبح التجرّى يختلف بالوجوه والاعتبار ، والإشكال عليه 54
المبحث الخامس
فى المستقلاّت العقلية ، والبحث يقع فيها من جهات : ... 57
الجهة الاولى : فى فساد مقالة الأشاعرة حيث أنكروا الحسن والقبح العقليين ... 57
الجهة الثانية : فى الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، وردّ مقالة بعض الأخباريين ومن تبعهم - كصاحب الفصول - فى ذلك المقام ... 60
الجهة الثالثة : فى ردّ ما ادّعاه الأخباريون : من قيام الأدلّة السمعية على منع العمل بحكم العقل 63
المبحث السادس :
فى ما حكى عن الشيخ الكبير : من عدم اعتبار قطع القطّاع ، وبيان فساده إن أراد من قطع القطّاع الطريقى منه وتوجيهه إن أراد الموضوعى منه ... 64
المبحث السابع :
فى أحكام العلم الإجمالى وأنّه لافرق فى نظر العقل فى الآثار المترتبة على العلم بين العلم بين العلم التفصيلى والعلم الإجمالى 65
المقام الأوّل : فى ما يرجع إلى مرحلة سقوط التكليف بالعلم الإجمالى ... 66
فى عدم اعتبار معرفة الوجه وقصده فى العبادة ... 66
فى أنّه لم يقم دليل شرعىّ على التصرف فى كيفية الاطاعة ، والأمر موكول إلى نظر العقل 68
ص: 459
فى بيان مراتب الامتثال ... 69
المقام الثانى : فى ما يرجع إلى مرحلة ثبوت التكليف بالعلم الإجمالى ... 74
فى بيان فساد ما توهّم : من أنّ العلم الذى يكون موضوعاً عند العقل فى باب الطاعة والمعصية يختصّ بالعلم التفصيلى ولا يعمّ العلم الإجمالى ... 75
فى ردّ ما ذهب إليه بعض الأعاظم : من انحفاظ رتبة الحكم الظاهرى فى أطراف العلم الإجمالى 76
فى عدم جريان الاصول التنزيلية فى أطراف العلم الإجمالى وإن لم يلزم منه المخالفة العملية 78
تحقيق ماهو المانع من جريان الاصول فى أطراف العلم الإجمالى ... 78
فى شرائط تأثير العلم الإجمالى ... 79
الإشارة إلى ما ذكره الشيخ قدس سره من الموارد التى توهّم فيها انحزام القاعدة العقلية التى يقتضيها العلم الإجمالى ، وحلّ الإشكال فى كل مسألة عليحدة ... 84
فيما لوتردّد المعلوم بالإجمال بين مايكون بوجوه الواقعى ذا أثر وبين مايكون بوجوده العلمى كذلك 86
المقام الثانى فى الظن ، وفيه مباحث
المبحث الأوّل:
فى إمكان التعبد بالظن ... 88
المحاذير المتوهّمة من التعبد بالأمارات ، من جهة الملاكات ... 89
الامور التى يتوقف عليها محذور تفويت المصلحة والإلقاء فى المفسدة... 89
تحقيق إمكان التعبد بالأمارة حتى فى صورة انفتاح باب العلم... 90
وجوه سببية الأمارة لحدوث المصلحة ، وبيان أقسام التصويب ... 95
فى بيان المراد من المصلحة السلوكية ... 96
فى ما يلزم من التعبد بالأمارات والاصول من المحذور الخطابى ، وهو اجتماع حكمين متضادين أو متناقضين ، وبيان وجوه التفصّى عنه ... 99
فيما أفاده الشيخ قدس سره فى الجمع بين الحكم الظاهرى والواقعى ... 100
ص: 460
فيما أفاده بعض الأساطين : من حمل الأحكام الواقعية على الشأنية والأحكام الظاهرية على الفعلية ، والايراد عليه 101
فى أنّه لابدّ من حلّ الإشكال فى كلّ مورد عليحدة ... 105
حلّ الإشكال فى باب الطرق والأمارات ... 105
حلّ الإشكال فى باب الاصول المحرزة ... 110
حلّ الإشكال فى باب الاصول الغير المحرزة ... 112
تصدّي بعض الأعلام لرفع غائلة التضاد بين باختلاف الرتبة ، والإشكال عليه ... 112
المبحث الثانى :
فى تأسيس الأصل عند الشك فى التعبد بالأمارة ... 119
حرمة التعبد بكل أمارة لم يعلم التعبد بها من قبل الشارع ، بالأدّلة الأربعة ... 119
الكلام فى مسألة قبح التشريع
فى أنّ حرمة التشريع ممّا تناله يدالجعل ... 120
هل قبح التشريع يسرى إلى الفعل المتشرع به؟ ... 121
فى أنّ حجية الأمارة يستلزم صحّة التعبد بها وجواز إسنادها إلى الشارع ، وردّ ما توهّمه المحقق الخراسانى ، بالنسبة إلى الظن على الحكومة ... 122
فى مناط قبح التشريع ، وأنّه قبيح بمناط نفسه ... 123
تتمة : فى تقرير أصالة عدم الحجية بوجه آخر ، وهو استصحاب عدم الحجية. وما أفاده الشيخ والمحقق الخراسانى - قدس سرهما - فى المقام ... 126
المبحث الثالث :
فى حجية الأمارات ، والبحث عنها يقع فى ما مقامين : ... 132
المقام الأوّل :
فى بيان الأمارات التى قام الدليل على اعتبارها بالخصوص ، وما قيل بقيامه عليها ، وفيه فصول : 133
الفصل الأوّل : فى حجية الظواهر... 133
مقالة الأخباريين فيما ادّعوه : من عدم جواز العمل بظواهر الكتاب العزيز ... 135
التفصيل الذى أفاده المحقق القمى رحمه اللّه فى جحية الظواهر ... 137
ص: 461
فى المباحث المتعلقة بتشخيص الظواهر ... 139
حجية قول أهل الخبرة ... 142
الإشكال على كون اللغوى من أهل الخبرة ... 143
الاستدلال على اعتبار قول اللغوى بالانسداد الصغير ، والإشكال عليه ... 143
التنبيه على امور :
الأوّل : فى أنّ الوثوق الحاصل من قول اللغوى قد يصير منشأً للظهور ... 144
الثانى : فى أنّه يجب الأخذ بالظهور بعد الفحص عن القرائن ولو لم يحصل الوثوق بارادة الظاهر 145
الثالث : لا عبرة فى الظهور بظهور المفردات وإنّما الاعتبار بظهور الجملة التركيبية فيقدّم على ظهور المفردات عند التعارض 146
الفصل الثانى : فى حجية الإجماع المنقول ... 146
اعتبار محسوسية الخبر باحدى الحواس الظاهرة ... 147
مدرك حجية الإجماع المحصّل ... 149
الفصل الثالث : حجية الشهرة الفتوائية وبيان أقسامها ... 152
الفصل الرابع : فى حجية الخبر الواحد ... 156
الإشكال على كون البحث عن حجية الخبر الواحد من مسائل علم الاصول ، والجواب عنه 157
ادّعاء الإجماع على حجية الأخبار المودعة فيما بأيدينا من الكتب ، والإشكال عليه 158
استدلال النافين لحجية الخبر الواحد بالأدلّة الأربعة ، والجواب عنه ... 160
أدلة المثبتين لحجية الخبر الواحد ... 164
1 - آية النبأ وتقريب الاستدلال بها ... 164
الخدشة فى الاستدلال بالآية على كل من تقريبى مفهوالوصف ومفهوم الشرط ... 166
استفاده المفهوم من الآية بضميمة شأن النزول ... 169
تكملة :
حول الإشكالات التى تختص بآية النبأ فى الاستدلال بها لحجية خبر العدل
ص: 462
منها : تعارض المفهوم على فرض ثبوته مع عموم التعليل فى ذيل الآية ... 170
منها : لزوم خروج المورد عن عموم المفهوم ... 173
حول الإشكالات التى لا تختص بالآية
منها : وقوع التعارض بينها وبين الآيات الناهية عن العمل بالظن ... 175
منها : أنّه لوكان الخبر الواحد حجّة لكانت من جملة أفراده الإجماع الذى أخبر به السيد رحمه اللّه على عدم حجية الخبر الواحد 177
منها : إشكال شمول أدلّة الحجية للأخبار الحاكية لقول المعصوم علیه السلام بواسطة أو بوسائط 177
تحقيق الحال فى حلّ الإشكال ... 182
2 - آية النفر ، وتقريب الاستدلابها ... 184
دفع ماذكر من الإشكالات على التمسك بالآية الشريفة... 187
3 - الاستدلال على حجية الخبر الواحد بالسنّة ... 189
4 - الاستدلال على حجية الخبر الواحد بالإجماع ، ووجوه تقرير الإجماع ... 191
5 - الاستدلال على حجية الخبر الواحد بدليل العقل.
الوجه الأوّل : ما أفاده الشيخ من ترتيب مقدمات الانسداد الصغير ... 196
فى بيان المراد من الانسداد الصغير والفرق بينه وبين الانسداد الكبير ... 197
تقرير إجراء مقدمات الانسداد الصغير بالنسبة إلى الأخبار المودعة فى الكتب ... 199
ثلاث ايرادات على جريان مقدّمات الانسداد الصغير ... 199
تقريب مقدمات الانسداد الصغير بوجه آخر ، والإشكال عليه ... 205
الوجه الثانى : ما أفاده المحقق صاحب الحاشية قدس سره ... 212
الوجه الثالث : ما أفاده صاحب الوافية رحمه اللّه ... 213
المقام الثانى :
فى الوجوه التى استدلّوا بها على حجية مطلق الظن بالحكم الشرعى ، أو فى الجملة الوجه الاوّل : لزوم دفع الضرر المظنون عقلاً 214
منع تحقق صغرى الضرر المظنون فى المقام ... 219
ص: 463
فى بيان ما سلكه الشيخ رحمه اللّه فى منع الصغرى ، والايراد عليه ... 222
الوجه الثانى - من الوجوه التى استدلوا بها لحجية مطلق الظن - ما ذكره السيّد المجاهد رحمه اللّه 225
الوجه الثالث : لزوم ترجيح المرجوح على الراجح ... 225
الوجه الرابع : الدليل المعروف بدليل انسداد ... 225
فى بيان المقدمات الأربع ... 226
فى منع المقدمة الاولى وإثبات كفاية الخبر الموثوق به بمعظم الأحكام ... 228
استغراب ما حكى عن المحقق القمى قدس سره فى هذا المقام ... 229
القول فى المقدمة الثانية ، والاستدلال عليها بوجوه ثلاثة ... 230
فى أنّ الاختلاف فى النتيجة من حيث الكشف والحكومة ينشأ من الاختلاف فى مدرك المقدمة الثانية 232
فى بيان المقدمة الثالثة ، وهى عدم جواز الرجوع إلى الطرق المقرّره للجاهل ... 234
نقد ما أفاده المحقق الخراسانى فى المقام ... 236
بسط الكلام فى بطلان الاحتياط التام فى الوقايع المشتبهة ... 239
فى بيان مراتب الاحتياط ، وأنّ الضرورات تتقدر بقدرها ... 243
الاستدلال على بطلان الاحتياط بالإجماع وبيان اختلاف نتيجة الإجماع على كلا تقريبيه 245
إذا كان الوجه فى بطلان الاحتياط لزوم العسر والحرج ... 249
الإشكال على بطلان الاحتياط التام إِذا لم يلزم منه الإخلال بالنظام ، بل كان يلزم منه مجرّد العسر والحرج 250
فى ما أفاده المحقق الخراسانى قدس سره من منع حكومة أدّلة العسر والحرج على ما يحكم به العقل فى أطراف العلم الإجمالى ، والإشكال عليه ... 255
لا يعتبر فى الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظى شارحاً ومفسّراً لما اريد من الدليل الآخر ، وبيان الظابط الكلّى فى المقام 261
الإشكال فيما أفاده الآخوند رحمه اللّه من أنّ مفاد أدلّة نفى العسر والحرج هو نفى الحكم بلسان نفى الموضوع... 263
اختلاف النتيجة حسب اختلاف المستند فى المقدمة الثانية... 266
ص: 464
نقل ما أفاده الشيخ قدس سره فى مقام النتيجة ، والمناقشة فيما اختاره من الحكومة ... 268
تحقيق أنّ القول بالحكومة ممّا لا أساس له وأنّه لا محيص عن القول بالكشف ... 277
التنبيه على امور :
1 - هل النتيجة التى يقتضيها دليل الانسداد ، هى اعتبار الظن فى خصوص المسألة الاصولية؟ أو فى خصوص المسألة الفقهية؟ أو تعمّهما؟ ... 280
ما ذهب إِليه صاحب الفصول ... 281
ما أورده الشيخ على صاحب الفصول - قدس سرهما - ... 283
حاصل ما أفاده صاحب الحاشية - طاب ثراه - والايراد عليه ... 287
2 - هل يقتضى دليل الانسداد كلّية النتيجة؟ أو يقتضى إِهمالها؟ ... 294
بيان منشأ الاختلاف فى كون النتيجة كلّية أو مهملة ... 297
ما ذهب إِليه المحقق القمى قدس سره من كلّية النتيجة ، وايراد الشيخ رحمه اللّه عليه ... 298
الإشكال على ما أورده الشيخ ، وتقوية ما عليه المحقق القمى ... 298
الإشكال على التعميم بحسب الموارد إذا كان المورد من الموارد التى اهتم به الشارع ، والجواب عنه 303
تعيين النتيجة من حيث العموم والخصوص بعد البناء على إِهمالها ... 307
ادّعاء الإجماع على التعميم بحسب الموارد ... 308
الوجه الأوّل ممّا ذكر للتعميم بحسب الأسباب ... 309
ذكر وجوه ثلاثة لترجيح بعض الظنون على بعض ... 309
الوجه الثانى من وجوه التعميم ... 318
الوجه الثالث من وجوه التعميم ... 319
3 - الإشكال على عموم النتيجة من حيث دخول الظن القياسى فيه ، والجواب عنه 320
4 - الأقوى اعتبار الظن المانع دون الظن الممنوع ... 322
خاتمة يذكر فيها امور :
1 - فى حجية الظن الحاصل من قول اللغوى ... 323
2 - حجية الظن بوثاقة الراوى الحاصل من توثيق أهل الرجال ... 323
3 - عدم العبرة بالظن فى الموضوعات ... 324
ص: 465
4 - عدم العبرة بالظن فى باب الاصول والعقائد ... 324
المقام الثالث فى الشك
فى بيان مجارى الاصول الأربعة ... 325
فى أنّ التنافى بين الأمارات والاصول غير التنافى بين الحكم الواقعى والظاهرى ، وطريق الجمع بينهما غير طريق الجمع بين هذين 326
بعض الامور التى ينبغى تقديمها ... 327
البحث عن أصالة الحذر أو الإباحة لا يغنى عن البحث عن مسألة البرائة والاشتغال 328
دفع ما يتوهّم : من أنّه بعد ما كان حكم الشبهة قبل الفحص هوالاحتياط فعلى الاصولى القائل بالبرائة إِقامة الدليل على انقلاب حكم الشبهة ... 330
المبحث الأوّل :
فى حكم الشك فى التكليف فى الشبهة التحريمية لأجل فقدان النصّ ... 330
الاستدلال على البرائة بالآيات الشريفة ... 331
ردّ ما زعمه الأخباريون : من دلالة آية «وما كنّا معدّبين الخ» على نفى الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع 334
ردّ ما قيل : بأنّ الشارع تفضّل بالعفو عن نيّة السيّئة ، وعن الصغائر عند الاجتناب عن الكبائر ، وعن الظهار مع حرمته 334
الكلام فى حديث الرفع :
فى تحقيق معنى الرفع والدفع ، وأنّ الرفع يرجع إلى الدفع ... 336
عدم لزوم التجوّز فى الكلمة ولا فى الإسناد وإِن جعلنا الرفع فى الحديث بمعنى الدفع فى جميع الأشياء التسعة المرفوعة 337
نقد ما يظهر من كلام الشيخ قدس سره من أنّ الدفع من أوّل الأمر ورد على ايجاب الاحتياط 338
حول العناية المصححة لورود الرفع على العناوين المذكورة فى الحديث ... 341
فى أنّ دلالة الاقتضاء لا تقتضى تقديراً فى الكلام حتى يبحث عمّا هو المقدّر ... 342
ردّ ما قيل : إنّ وحدة السياق تقتضى أن يكون المراد من الموصول فى «مالا يعلمون»
ص: 466
الموضوع المشتبه ولا تعم الشبهات الحكمية ... 344
فى أنّ حديث الرفع يكون حاكماً على أدلّة الأحكام ولا يلزم منه نسخ ولا تصويب ولا صرف 345
هل المرفوع فى هذه الموارد جميع الآثار أو بعض الآثار؟ ... 348
يعتبر فى التمسك بحديث الرفع امور ثلاثة :
1 - كون الأثر من الآثار الشرعية
2 - أن يكون فى رفعة منّة
3 - أن يكون الأثر مترتّباً على الموضوع لا بشرط عن طروّ العناوين المذكورة فى الحديث 348
فى بيان معنى رفع الخطأ والنسيان تشريعاً ... 349
تفصيل الكلام فى رفع جميع الآثار أو بعضها ... 351
شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود ... 352
لا يمكن تصحيح العباة الفاقدة لبعض الأجزاء والشرايط بحديث الرفع ... 353
تفصيل الكلام فى جريان حديث الرفع فى الأحكام الوضعية ... 356
بيان ما يندرج فى قوله صلی اللّه علیه و آله «رفع مالا يعلمون» ومالا يندرج فيه ... 359
الأقوى عدم جريان البرائة فى الأسباب والمحصّلات ... 360
ابتناء الخلاف المعروف فى باب الوضوء على مسألة الأسباب والمحصّلات ... 361
الاستدلال للبرائة بأخبار آخر : مثل «كل شىء مطلق حتى يرد فيه نهى» و «كل شىءٍ فيه حلال وحرام فهو لك حلال» و «كل شىءٍ لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه» ... 363
الاستدلال على البرائة بالاجماع ، وتقريره وردّه ... 365
الاستدلال على البرائة بقاعدة «قبح العقاب بلابيان» ... 365
ردّ ما توهّم : من أنّ البيان فى موضوع حكم العقل هو البيان الواقعى ... 365
هل يكفى فى البيان حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل؟ ... 366
استدلال الأخباريين على الاحتياط بالآيات الشريفه ، والجواب عنه ... 371
احتجاج الأخباريين على الاحتياط بالسنّة ... 372
الجواب عمّا استدل به الأخباريون ... 373
استدلال الأخباريين بدليل العقل ، والجواب عنه ... 378
ص: 467
التنبيه على أنّ أصالة البرائة والاشتغال من الاصول الغير المتكفّلة للتنزيل فكلّ أصل تنزيلى يكون حاكماً عليها 379
الكلام فى أصالة عدم التذكية :
نقل كلمات الأصحاب فيما يقبل التذكية من الحيوان ... 380
هل التذكية عبارة عن المعنى المتحصّل من قابلية المحل والاُمور الخمسة أو هى عبارة عن نفس الاُمور لخمسة؟ 381
لا يمكن التفكيك بين الطهارة والحلّية والنجاسة والحرمة بحسب الاصول العملية ... 383
فى ما يظهر من بعض الأساطين : من التفصيل بين الطهارة والحلّية ، وما ذكره شارح الروضة فى وجه ذلك 384
ما يرد على شارح الروضة ... 386
تحقيق جريان البرائة فيما إذا كان منشأ الشبهة إجمال النص وتعارض النصين ... 388
انعقاد الإجماع من الاصوليين والأخباريين على عدم وجوب الاجتناب عن الشبهة الموضوعية ، ودفع ما يتوهّم من اختصاص قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» بالشبهات الحكمية ... 389
مجرّد العلم بالكبريات المجعولة لا يكفى فى تنجّزها وصحة العقوبة عليها مالم يعلم بتحقق صغرياتها خارجاً 390
اختلاف النتيجة بين ما إذا كانت القضية بنحو السالبة المحصّلة وبين ما إذا كانت بنحو الموجوبة المعدولة المحمول 394
سؤال الفرق بين الاصول العملية والاصول اللفظية ، حيث يصحّ التمسك بالاصول العملية فى الشبهات الموضوعية ولم يصح التمسك بالاصول اللفظية فيها ، والجواب عنه ... 396
جريان البرائة فى الشبهات الوجوبية بأقسامها الأربعة ... 397
تنبيهات البرائة :
التنبيه الأوّل : فى رحجان الاحتياط عقلاً ، والإشكال فى استحبابه الشرعى ... 398
استشكال الشيخ قدس سره فى إمكان الاحتياط فى العبادات ، والجواب عنه ... 399
ما أفاده بعض الأساطين فى تصحيح الاحتياط فى العبادات بالأوامر الواردة فيه ، والإشكال عليه 402
ص: 468
فساد ما أجاب به بعض الأعلام عن الإشكال المعروف فى صحة عبادة الاجراء : من أنَّ لهم قصد امتثال الأمر الإجارى 405
قاعدة التسامح فى أدّلة السنن
ما ورد من الأخبار فى ذلك ... 408
بيان الوجوه المحتملة فى الروايات ... 409
التنبيه الثانى : فى جريان البرائة عند الشك فى الواجب التعيينى والتخييرى ... 416
الواجب التخييرى على أقسام ثلاثة ... 417
لا يقاس الشك فى الإطلاق والاشتراط فى مرحلة الحدوث على الإطلاق والاشتراط فى مرحلة البقاء 421
يعتبر فى جريان البرائة أن يكون الشك فى أمر مجعول شرعى ممّا تناله يد الوضع والرفع ، وأن يكون فى رفعه منّة وتوسعة 422
الشك فى التعيين والتخيير يتصوّر على وجوه ثلاثة ... 423
الأقوى أنّ الأصل فى جميع الأقسام على جميع وجوه الشك - ما عدى الوجه الأوّل - هو الاشتغال 425
الكلام فى الوجه الثانى من وجوه الشك فى التعيين والتخيير ... 426
الكلام فى الوجه الثالث من وجوه الشك فى التعيين والتخيير ... 429
حول ما قيل : من أنّ الشك فى وجوب الجماعة عند تعذر القرائة من قبيل الوجه الثالث 430
حكم الشك فى التعيين والتخيير فى القسم الثانى من أقسام الواجب التخييرى ... 432
الكلام فى القسم الثالث من أقسام الواجب التخييرى ... 433
تتميم البحث بالتنبيه على أمرين :
1 - لا أثر للبحث عمّا يقتضيه الأصل العملى بالنسبة إِلى ما يحتمل كونه عدلاً لما تعلق الوجوب به بعد النباء على أصالة التعيينية 435
2 - الأقوى عدم جريان البرائة فى الشك فى الوجوب العينى والكفائى ... 436
الكلام فى الشبهة الوجوبية الموضوعية
إطباق الاصولين والأخباريين على عدم وجوب الاحتياط فيها ... 438
حول ما نسب إِلى المشهور : من وجوب الاحتياط عند تردّد الفرائض الفائتة بين الأقلّ
ص: 469
والأكثر ... 438
تحرير ما نقل عن بعض المحققين : من تطبيق فتوى المشهور على القاعدة ... 439
تحقيق عدم إِمكان التطبيق وتقوية جريان البرائة فى المسألة ... 440
خاتمة : فى أصالة التخيير
تحقيق عدم إِمكان جعل التخيير الشرعى الواقعى ولا الظاهرى فى موارد دوران الأمر بين المحذورين 443
تحقيق عدم جريان الاصول مطلقاً فى باب دوران الأمر بين المحذورين وأنّ المكلّف مخيّر بين الفعل والترك بحسب خلقته التكوينية 445
هل المزيّة توجب الأخذ بصاحبها فى باب دوران الأمر بين المحذورين؟ ... 450
يعتبر فى دوران الأمر بين المحذورين أن يكون كل من الواجب والحرام توصّلياً أو يكون أحدهما الغير المعيّن توصّلياً 452
فى أنّ التخيير فى صورة تعدّد الواقعة استمرارى ، ودفع ما قيل إِنّه بدوىّ ... 453
عدم جريان حكم الدوران فى ما إِذا كان المكلّف متمكّناً من الموافقة القطعية ولو بتكرار العمل أو الجزء 455
الحمد اللّه أوّلاً وآخراً
وصلّى اللّه على نبيّنا محمّد وآله الطيبين الطاهرين
ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين
ص: 470