فوائد الأصول المجلد 1 و 2

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي

الطبعة: 0

ISBN: 978-964-470-899-2

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1404 ه.ق

الصفحات: 613

فوائد الأصول

من افادات قدوة الفقهاء والمجتهدين وخاتم الأصولين

الميرزا محمد حسين الغرويّ النائيني قدس سرّه العالي

المتوفي سنة 1355 ه ق

تأليف الأصولي المدقق الفقيه المحقق العلّامة الرباني

الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني طاب ثراه

المتوفي سنة 1365 ه ق

الجزء الأول والثاني

مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 3250360

ص: 1

اشارة

فرائد الأصول (ج 1 و 2)

تأليف: العلامة الرباني (الفقيه المحقق) الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني طاب ثراه

تقرير و أبحاث: الأستاذ الأعظم آية اللّه العظمی الميرزا محمد حسين الغروي النائيني قدس سره

تحقيق: الشيخ رحمة اللّه الرحمتي الأراكي

الموضوع: الأصول

طبع و نشر: مؤسسة النشر الإسلامي

عدد الصفحات: 616

الطبعة: الثانية عشر

المطبوع: 500

التاريخ: 1438 ه . ق.

شابك ج 1 و 2: 2-899-470-964-978

ISBN: 978-964-470-899-2

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

ص: 2

كلمة الناشر

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله

الطاهرين المعصومين ...

اما بعد ، فإنه لما كان ما ألقاه فخر المتأخرين وقبلة المشتغلين صفوة الفقهاء والمجتهدين آية اللّه العظمى في العالمين « الميرزا محمد حسين الغروي النائيني » أعلى اللّه مقامه الشريف في المباحث الأصولية من أتقن المباني في هذا الفن وأحكمها ، وان المحقق الجليل والفقيه النبيل آية اللّه « الشيخ محمد على الكاظمي الخراساني » قدس سره الشريف من أقدم تلامذته وحافظي دقائق انظاره ، وما قرره من أبحاث أستاذه الجليل من أحسن ما صنف في طريقه واليه مراجعة أهل النظر في تحقيق مباني المحقق الأستاذ ، فلذا بذلنا جهدنا في نشر هذا السفر الجليل المسمى ب « فوائد الأصول » بصورة جديدة وأسلوب حديثه مع ما تمتاز به من الطبعة الأولى من التصحيح والتعليق واخراج المصادر وتنظيم الفهرس التفصيلي المبين لمباني الأستاذ في كل مبحث.

وقد تصدى الاخراج مصادر الأقوال والكلمات ، الفاضل الجليل حجة الاسلام « السيد محمد جواد العلوي الطباطبائي » ولمصادر الآيات والاخبار واعجام الكتاب وتشكيله بأسلوب جديد ( بوضع النقط وعلامة البيان وعلامة السؤال وغيرها من العلائم العصرية المتداولة ) وتنظيم الفهرس ، الفاضل النبيل حجة الاسلام

ص: 1

« الشيخ رحمت اللّه الرحمتي الآراكي » شكر اللّه سعيهما وجعل جهدهما وجهدنا ذخيرة ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون الا من اتى اللّه بقلب سليم. ونسئل اللّه التوفيق لنشر ساير مجلدات الكتاب ومنه التوفيق وعليه التكلان.

مؤسسة النشر الاسلامي

التابعة لجماعة المدرسين في قم المقدسة

20 ذي حجة الحرام 1404

ص: 2

مقدمة الأستاذ المحقق محمود الشهابي الخراساني

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين. والصلاة على رسوله وعلى آله الطاهرين.

- 1 -

كان الناس أمة واحدة وفي غمرات من الجهالة والضلالة ، فبعث اللّه النبيين مبشرين ومنذرين ، وانزل معهم الكتاب واصطفى لهم الدين ، وأكمل عليهم الرحمة والهدى ، فأرسل رسله تترى واتبع بعضهم بعضا.

تلك الرسل وان لم يفرق اللّه بين أحد منهم في أصل الرسالة ، لكنه فضل بعضهم على بعض بما آتاهم من الكمال في الشريعة حتى جاء بأفضلهم فرقا وجمعا وأشرفهم أصلا وفرعا وأكملهم دينا وشرعا. فختم بارساله دور النبوة والرسالة. وحتم على كافة الناس اتباعه إلى يوم القيمة. وأرسله شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى اللّه باذنه وسراجا منيرا.

وأشار إلى هذا الختم والا تمام بالحصر في قوله تعالى : « ان الدين عند اللّه الاسلام » بل صرح بذلك وأكده بالتأبيد حيث قال عزوجل : « ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين » (1).

ص: 3


1- آل عمران : 85

- 2 -

الدين الاسلامي بما انه خاتم للشرائع الإلهية يشتمل على جميع ما يجب أو يناسب ان يقصده الشارع في وضع الشريعة : من المقاصد ، والحاجيات ، والكماليات فليس شيء مما يتوقف عليه حفظ مصالح الدين والدنيا من الضروريات الخمس التي هي المقاصد الا وقد شرع له في الاسلام ما يقوم به أركانها ويحفظ وجودها وكيانها ، وما يدفع به عما يورث اختلالها ويمكن ان يؤثر في زوالها.

وكذلك الشأن في الحاجيات ، فليس امر يحتاج إليه في التوسعة على الناس الا وقد ثبت له في الشريعة السمحة السهلة مواد ، وانتفى التضييق فيه برفع العسر ، والحرج ، والمشقة ، والضرر عن العباد ، ووسع عليهم فيما لا يعلمون. ورفع عنهم المؤاخذة في الخطاء ، والنسيان ، وما اضطروا إليه ، وما استكرهوا عليه ، وما لا يطيقون .. الخ.

وهكذا الامر في الكماليات ومحاسن العادات ، فليس شيء يصلح لان يجعل ذريعة إلى تحصيل مكارم الأخلاق ، ويناسب ان يتوسل به إلى تطهير الأعراق الا وقد أرشد إليه أئمة الاسلام. وتوصل إلى رعايته بتعليم الآداب ومندوبات الاحكام. وبالجملة ، الدين الاسلامي جامع لكل ما يحتاج الانسان إليه ، أو ينفعه ، أو يحسن له في نشأتيه.

- 3 -

صدر من الشارع في بيان وظائف الأمة احكام من طريق الكتاب والسنة ، لكنها غير مجتمعة بالتدوين ، بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم والدين ، ومع ذلك كان تحصيل العلم بالأحكام في ذلك العصر ، عصر السعادة وخير القرون. سهلا ميسورا إذا كان باب العلم على الأمة مفتوحا. والمسألة عن الرسول للمؤمنين مقدورا.

انقضى عصر الوحي والتنزيل ، وخضع الناس لسلطان الاسلام وإطاعة الاحكام جيلا بعد جيل ، وانبسط حكم الشريعة على البلاد البعيدة والأمم المختلفة من حيث الخلق والعادة والعقيدة. فانعطف توجه الزعماء من الصحابة إلى جمع

ص: 4

القرآن أولا ، والبحث عن الاحكام وأدلتها ثانيا ، فحصل لبادئ بدء طور جديد في الاحكام ، طور الاستنباط والاستدلال.

طلعت غرة هذا الطور في أوائل القرن الأول من الاسلام. وبادرت مسرعة نحو التقدم بالانتظام. فما انسلخ ذلك القرن الا عن البشارة بحدوث علم في العالم الاسلامي كافلا لجميع ما يحتاج الانسان إليه في معاشه ومعاده. ضامنا لسعادة من يعمل بمتضمنه ومفاده.

الا وهو علم الفقه.

- 4 -

وجد في العالم أنحاء شتى من القوانين ، يجمعها قسمان أصليان وهما :

1 - الشرائع السماوية.

2 - الشرائع المدينة.

لا يهمنا هنا استقصاء ما يكون بين القسمين من وجوه الفرق. لكن ما يجدر بان لا يهمل ذكره هنا وجهان أساسيان :

الأول - ان الشرائع الإلهية ناظرة إلى حفظ جميع الصالح. سواء كانت متعلقة بالفرد أم بالمجتمع. وعلى تعلقه بالفرد سواء كانت من حيث جسمه أم روحه ، وسواء كانت باعتبار نشأته الفانية أم باعتبار حياته الباقية الخالدة. على أن حيثية مناسبات هذه الشؤون بينها ملحوظة في تلك الشرايع.

الثاني - ان مقصود المعتقد المتعبد بتلك الشرائع ليس رفع المسؤولية تجاه الشرع واسقاط التكليف فحسب ، بل يولى وجه دقته شطر « الواقع » ليحرزه ويصرف عنان همته نحو ما خوله الشارع ليحفظه ، وذلك لان الاحكام عنده تابعة للمصالح والمفاسد ، والشرعيات في نظره الطاف في العقليات من العوائد والفوائد.

على أن نفسه مطمئنة بان الشارع أصاب الواقع ولا بتخلف حكم من احكامه عما يكون هوله تابع.

هذا الفرق الثاني هو الذي حمل حماة الدين وحملة الفقه على أنحاء من البحث في نواحي أدلة الاحكام ومناحيها ، فبحثوا عن الأوامر ومعانيها ، وعن

ص: 5

النواهي ومطاويها. وعن مداليل هذه الكلمات ، وعن المنطوق والمفهوم ، وعن العموم والخصوص والتخصيص ، وعن الاطلاق والتقييد ، وعن الاجمال والتبيين ، وعن حقيقة النسخ وكيفية الناسخ والمنسوخ ، وغير ذلك مما لا يستغنى عن تحقيقه من يتصدى لاستنباط « الواقع » واستخراجه من الأدلة التفصيلية التي اعتبرها الشارع واعتمد عليها التابع.

فتحصل عن جميع هذه المباحث علم جديد في عالم الاسلام ، علم أوجده كثرة العناية بأحكام الدين وشدة العلاقة باحراز « الواقع » من طريق القطع واليقين.

علم يحتاج إلى الانتفاع بمضامينه والاستناد إلى أصوله وقوانينه كل من كان له مساس القانون باقسامه وأفانينه ، علم لا يختص « المنفعة » فيه بحملة الفقه وان اختص الفقيه بالاستفادة منه ، علم ابتكره الاسلام ويكون تأسيسه من مفاخر الاعلام.

الا وهو علم أصول الفقه.

- 5 -

وجود علل أشرنا إلى بعضها آنفا أنتج حدوث علم في العلوم الاسلامية لتحقيق أدلة الاستنباط ومداركها ، وتنقيح مسائل الفقه وتوضيح مسالكها.

وقد بحثنا في مقدمة مختصرة علقناها على تقريراتنا الأصولية عن تلك العلل والعوامل. وفحصنا عن زمان حدوث هذا النسخ من المباحث والمسائل ، وشخصنا البصر لتشخيص أول من شرع في تدوين هذا العلم الحادث ، ودرسنا تاريخ العلم للاطلاع على أول عصر توجه فيه اعتماد فقهاء الشيعة نحو هذه المباحث ، وأتممنا الدراسة بالحديث عن كيفية مجاراتهم مع هذا العلم بتتابع البحث وسرد التصنيف والتأليف من بادئ بدء الاستناد به ، والانتحاء لتدوين مطالبه إلى عصرنا الحاضر وبالوضع الموجود ، وألممنا في ختام الكلام بما الف في عصرنا من المؤلفات المهام ، واما الآن فلما لا يساعدني الحال ، ولا يسعني المجال لبسط المقال ، فلنقتصر بالإشارة إلى بعض تلك الأحوال.

ص: 6

فنقول وعلى اللّه الاتكال (1) :

- 6 -

اعلم أن بعض مباحث الأصول كانت في القرن الأول كما أشرنا موردا للبحث والنظر ولكنه لم يخرج الأصول إلى عرصة التدوين والتأليف الا بعد مضى النصف الأول من القرن الثاني.

وقد صرح جمع من الجهابذة كابني خلكان وخلدون. وصاحب كشف الظنون بان أول من صنف في أصول الفقيه محمد بن إدريس الشافعي ، بل نقل عن كتاب « الأوائل » للسيوطي اطباقهم على ذلك حيث قال : « أول من صنف في أصول الفقه ، الشافعي بالاجماع ».

لكني لست على يقين من ذلك ، بل المحتمل عندي ان يكون أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم ، وهو أول من لقب ب « قاضي القضاة » سابقا على الشافعي بتأليف الأصول ، لان القاضي توفى في سنة ( 182 ه. ق ) والشافعي مات في سنة ( 204 ه. ق ) وقد قال ابن خلكان في ترجمته : ان أبا يوسف « أول من صنف في أصول الفقه وفق مذهب أستاذه أبي حنيفة ».

وهكذا يحتمل جدا ان يكون محمد بن حسن الشيباني فقيه العراق ، الذي لما مات هو والكسائي في يوم واحد بري وكانا ملازمين للرشيد في سفره إلى خراسان قال في حقه الرشيد : « دفنت الفقه والأدب بر نبوية (2) » مقدما على الشافعي في تأليف الأصول لان الشيباني توفى ( سنة 182 ه. ق أو سنة 189 ) وقد صرح ابن النديم في « الفهرست » بان للشيباني من مؤلفاته الكثيرة تأليف يسمى ب « أصول الفقه » وتأليف سماه « كتاب الاستحسان » وتأليف « كتاب اجتهاد الرأي ». على أن الشافعي ، بتصريح من ابن النديم ، لازم الشيباني سنة كاملة و

ص: 7


1- ومن أراد اطلاعا أزيد فعليه بمراجعة التعليقة المزبورة ، وإذا شاء إحاطة كاملة على الموضوع فليسئل اللّه ان يوفقنا لاتمام طبع كتاب ألفناه في تاريخ الفقه الاسلامي ونحولاته ، وقد طبع منه إلى الان عدة صفحات.
2- وهي على ما في معجم البلدان قرية كانت قرب الري.

استنسخ في المدة لنفسه من كتب الشيباني ما استحسن وقد أذعن الشافعي نفسه بذلك ، وأعلن فقال من غير نكير « كتبت من كتب الشيباني حمل بعير ».

وكيف كان فان لم يحصل اليقين بتقدم القاضي والشيباني على الشافعي في التأليف ، فلا أقل من أن لا يحصل لنا يقين بتقدمه عليهما. فالحكم البات بكون الشافعي « أول من صنف في أصول الفقه » كما ترى.

- 7 -

هذا بالنسبة إلى حدوث العلم والاستناد به على نحو الاطلاق ، اما بدء الاستناد به في خصوص مذهب التشيع فهو كما احتملناه وعللناه في التعليقة المزبورة لا يتقدم على الغيبة الكبرى ( 329 ه. ق ).

أول من انتحى إلى أصول الفقه واعتمد عليه في مقام الاستنباط واستمد منه الشيخ الثقة الجليل حسن بن علي بن أبي عقيل (1) صاحب كتاب « المتمسك بحبل آل الرسول » في الفقه ، وهو أيضا « أول من هذب الفقه ، واستعمل النظر ، وفتق البحث عن الأصول والفروع في ابتداء الغيبة الكبرى ».

ثم اقتفى اثر ابن أبي عقيل واستحسن آرائه أبو على محمد بن أحمد بن جنيد الإسكافي الذي قال السيد الاجل بحر العلوم بعد عنوانه في ترجمته : « من أعيان الطائفة وأعاظم الفرقة وأفاضل قدماء الامامية. وأكثرهم علما وفقها وأدبا ، وأكثرهم تصنيفا وأحسنهم تحريرا ، وأدقهم نظرا متكلم فقيه محدث أديب واسع العلم. صنف في الفقه والكلام والأصول والأدب وغيرها تبلغ مصنفاته ، عدا أجوبة مسائله ، من نحو خمسين كتابا منها كتاب « تهذيب الشيعة لاحكام الشريعة » كتاب كبير من نحو عشرين مجلدا يشتمل على جميع كتب الفقه ، وعدة كتبه تزيد على مائة وثلاثين كتابا ، وكتاب « المختصر الأحمدي في الفقه المحمدي » مختصر كتاب التهذيب وهو الذي وصل إلى المتأخرين ومنه انتشرت مذاهبه وأقواله .. » .

ص: 8


1- كان ابن أبي عقيل من مشايخ جعفر بن محمد بن قولويه ، أحد شيوخ العالم السديد المعروف بابن المعلم والملقب بالشيخ المفيد.

إلى أن قال السيد العلامة بعد تعديد كتبه وأجوبة مسائلة : « وهذا الشيخ على جلالته في الطائفة ورئاسته وعظم محله قد حكى القول عنه بالقياس ، ونقل ذلك عنه جماعة من أعاظم الأصحاب ، وعلى ذلك فقد اثنى عليه علماؤنا وبالغوا في اطرائه ومدحه وثنائه .. ».

كان هذا الشيخ الجليل شيخا وأستاذا للشيخ المفيد ومعاصرا للشيخ الكليني وتوفى ، على ما ذكره المحدث القمي (رحمه اللّه) ( سنة 381 ه. ق ) في الري.

- 8 -

ثم وصل دور البحث عن عوارض أدلة الاحكام إلى أبى عبد اللّه محمد بن محمد بن نعمان بن عبد السلام الملقب ب « المفيد » عند الاعلام ، المتولد ( سنة 336 ) والمتوفى ( 413 ه. ق ) فالشيخ المفيد تبع أستاذه ابن الجنيد وابن أبي عقيل في الاعتماد على الأصول وان لم يتلق كل ما قاله ابن الجنيد بالقبول ، بل وكتب على رده ونقضه كما هو المنقول.

نقل صاحب « الذريعة » عن النجاشي ذكر كتاب للشيخ المفيد في الأصول مشتمل مع اختصاره على أمهات المباحث والفصول. ونقل أيضا ان العلامة الكراجكي ضمن ذلك في كتابه المسمى ب « كنز الفوائد ».

حدث الاستناد بالأصول من زمن ابن أبي عقيل وتوجه نحو التكامل في أيام ابن جنيد ودخل ذلك العلم في طور البحث والتأليف في عصر المفيد. فرج في عصره وشاء وانتشر صيته وذاع ، وذلك لان الشيخ المفيد كان يفيد العلم على تلامذة له ، كلهم أساتذة وفي نقد العلوم جهابذة ، منهم السيد السند والأجل الأوحد السيد المرتضى الملقب ب « علم الهدى » توفى السيد سنة « 336 ه. ق » ومنهم تلميذه أستاذ الفرقة وشيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن حسين بن علي الطوسي ( المتوفى 460 ه. ق ) ومنهم سلار « معرب سالار » بن عبد العزيز الديلمي صاحب كتاب « التقريب » في أصول الفقه ( المتوفى 436 ه. ق ) وغيرهم من أساطين العلم وأساتيذ الفن.

فقد صنف السيد في الأصول كتبا شريفة ورسائل منيفة ، قال السيد

ص: 9

الاجل بحر العلوم في فوائده الرجالية « .. ومن مصنفاته في أصول الفقه كتاب « الذريعة إلى الأصول الشريعة » وهو أول كتاب صنف في هذا الباب ، ولم يكن للأصحاب قبله الا رسائل مختصرة ، كتاب مسائل الخلاق في الأصول أثبته الشيخ والنجاشي قال الشيخ ولم يتمه. رسالة في طريقة الاستدلال موجودة عندنا. كتاب المنع من العمل باخبار الآحاد تعرف بالمسائل التبانية وهي أجوبة الشيخ الفاضل محمد بن عبد الملك التبان في ما عمله في انتصار حجية الاخبار تشتمل على عشرة فصول قد بسط السيد القول فيها. رسالة أخرى عندنا في المنع من خبر الواحد منقولة من خط الشهيد الثاني طاب ثراه .. ».

وقد صنف الشيخ الطوسي كتاب « عدة الأصول » الذي قال في شانه بحر العلوم : « وهو أحسن كتاب صنف في الأصول ».

وبالجملة فصار علم الأصول ( بعد ما صار في أواسط النصف الأول من القرن الرابع موردا للاستناد وعمدة في الاجتهاد ) في أواخر القرن الرابع موضوع البحث والدرس والتأليف ، وتوجه إليه أمثال هذه الفحول وصنفوا فيها ، لا رسائل مختصرة فقط ، بل كتبا قيمة مرتبة على أبواب وفصول.

- 9 -

ثم لعله توقف سير الاجتهاد في مسائل الفقه بعد الشيخ الطوسي مدة تقرب من قرن ، وذلك لحسن ظن من تلامذة الشيخ بما استنبطه وأفتى به في كتبه ، فكانوا بالحقيقة في تلك المدة ، على ما قيل « مقلدين » ( بل لقبوا به ) لما استنبط ، ومقتفين اثره في ما اجتهد واعتقد ، لا يتجاوزون عما قال ، ولا يتكلفون البحث في المقال حتى قام بأعباء الاجتهاد وأقام سوق البحث والانتقاد الفقه الفحل الأوحد محمد بن أحمد ، سبط الشيخ الطوسي الأمجد وحفيد ابن إدريس الممجد ، فألف في الفقه الاستدلالي كتابه السامي « السرائر الحاوي لتحرير الفتاوى » ( توفى هذا الفقه سنة 598 ه. ق ).

انفتح باب البحث والاجتهاد بعد ما وقع فيه الانسداد أو كاد. فانتحى تلامذة ابن إدريس ، تبعا لأستاذ ، نحو الأصول بالاستناد. ثم تلاميذ تلامذته

ص: 10

كالمحقق الحلي صاحب « شرايع الاسلام » أبى القاسم نجم الدين جعفر بن حسن بن يحيى بن سعيد ( تولد المحقق سنة 602 وتوفى سنة 676 ه. ق ) وألفوا فيه كتبا نفيسة ، فمما الفه المحقق كتاب « نهج الوصول إلى معرفة الأصول » وكتاب « المعارج ».

انتقل الدور بعد المحقق إلى تلميذه وابن أخته الذي انتشر صيت علمه في الآفاق واشتهر له لقب « العلامة » على الاطلاق آية اللّه بالاستحقاق أبو منصور جمال الدين حسن بن يوسف بن علي بن مطهر ( 648 - 726 ه. ق ) فاحكم أساس البحث والنظر ، ونظر في كتب القوم ما تقدم منها وما تأخر ، فهذبها وحرر. أرشد العلامة إلى نهج الوصول ومنتهاه لمن أراد السلوك إلى هذه الأصول وتمناه فألف كتاب « النكت البديعة في تحرير الذريعة » وكتاب « تهذيب الوصول إلى علم الأصول » وكتاب « نهج الوصول إلى علم الأصول » وكتاب « منتهى الوصول إلى علمي الكلام والأصول » وكتاب « غاية الوصول .. » وكتاب « مبادئ الوصول إلى علم الأصول » وصادف ما كتبه العلامة في الأصول كسائر ما الفه في المعقول والمنقول اقبالا خاصا ، يليق بشأنها ، من العلماء الفحول ولا سيما كتابه الذي سماه « نهج الوصول .. » فقد تصدى لشرح هذا الكتاب جمع من فضلاء الأصحاب كالسيد عميد الدين عبد المطلب بن محمد الحسيني ( 681 - 754 ) ، وأخيه السيد ضياء الدين عبد اللّه بن محمد ابني أخت العلامة وتلميذيه وشيخي الإجازة للأول من الشهيدين وكفخر المحققين أبو طالب محمد بن العلامة ( 682 - 771 ه. ق ) وكالأمير جمال الدين عبد اللّه الحسيني الاسترآبادي صدر دولة السلطان الاجل الشاه إسماعيل الصفوي الأول.

وهذا الشرح الأخير على ما قال صاحب الروضات أحسن من شرح الاميدي والضيائي والفخري والمنصور ( تأليف الفقيه الفاضل منصور بن عبد اللّه الشيرازي المشتهر ب « راستگو » والمعاصر للشهيد الثاني ، وقد فرغ الشارح من تأليف هذا الشرح سنة 929 ه. ق ).

جمع الفقيه الاجل محمد بن مكي المشهور بالشهيد الأول ( الفائز بالشهادة

ص: 11

سنة 786 ه. ق ) بين شرحي العميدي والضيائي ، وهذا الجمع بالحقيقة شرح آخر على كتاب التهذيب.

وخلاصة القول ان من زمان العلامة إلى زمان الشهيد الثاني ، أي في القرن الثامن والتاسع وشطر من القرن العاشر ، كان أكثر مدار البحث والدرس في الأصول على ما الفه العلامة.

نعم كان للمختصر الحاجبي الذي الفه أبو عمر وعثمان بن عمر بن أبي بكر ( المعروف بابن الحاجب المتوفى سنة 646 ه. ق ) في القرن السابع أيضا شأن عند علماء المذهب. فقد كانوا يدرسونه ويشرحونه ويعلقون عليه الحواشي ، ويرفعون عن وجوه مقاصده الغواشي.

- 10 -

كان جريان الامر في تلك القرون على ما حدد ، حتى مهد العالم الرباني زين الدين بن نور الدين المشهور بالشهيد الثاني ( توفى شهيدا سنة 966 ) قواعد الاستنباط للمجتهد وسماه « تمهيد القواعد ».

ثم الف أبو منصور جمال الدين حسن بن زين الدين ( ابن الشهيد الثاني المتوفى سنة 1011 ه. ق ) كتابه الموسوم ب « معالم الدين ». كتاب المعالم في الأصول لسلاسة تعبيره وسلامة تنظيمه وجودة جمعه وتأليفه صار سهل التناول كثير التداول بحيث انسى ما كتبه السلف ، وما اغنى عنه ما الفه الخلف. صنف المعالم وتداول فيه البحث والدرس بين الأعاظم ، فاقبلوا عليه بالتحشية والتعليق وامعنوا في مباحثه بالتدقيق والتحقيق.

من أحسن تلك التعاليق وأمتنها وأدقها وأتقنها ما علقه عليه العالم الأصول الشيخ محمد تقي ( المتوفى 1248 ه. ق ) وسماه ب « هداية المسترشدين ».

بعد القرن العاشر إلى عصرنا الحاضر ألفت في الأصول كتب كثيرة مشهورة وغير مشهورة. لكنه كانت مدارسة كتاب المعالم في جميع المدة معمولة ، ولعله يكون كذلك متى كان قلوب طلاب العلم بتحصيل الأصول مشغولة.

ص: 12

- 11 -

ومما ينبغي ان لا يترك هنا الإشارة إليه والتنبيه عليه ، ان للأصول في سيره من زمان تأليف المعالم إلى عصرنا الحاضر ثلث مراحل :

الأولى : مرحلة البطؤ أو التوقف.

الثانية : مرحلة البسط والتقدم.

الثالثة : مرحلة التحرير والتلخيص. فهذه ثلاثة أدوار حصلت للأصول في تلك القرون.

الدور الأول من الأدوار الثلاثة استوعب القرنين ، الحادي عشر والثاني عشر ، فكان أكثر مدار البحث والدرس في ذينك القرنين على كتاب المعالم ، ولم يؤلف فيهما مؤلفات مهمة تقع من حيث المدارسة في عرض المعالم أو في طوله ، ولعله كان ذلك ناشئا عن كثرة الاقبال على الاخبار وغلبة علمائنا الأخباريين الأخيار.

وكان الدور الثاني في القرن الثالث عشر ، فجدد فيه أساس البحث والنظر وحصل في هذا الدور للأصول صولة للأصوليين في ميدان التصنيف والتأليف والتحقيق جولة. فصار هذا الدور دور البسط والتفصيل بل دور الاطناب والتطويل ، وناهيك ما ترى من كتاب « هداية المسترشدين » ( حاشية على المعالم ) وكتاب « قوانين الأصول » للمحقق الجيلاني القمي ( المرزا أبو القاسم المتوفى 1231 ه. ق ) وكتاب « الفصول » للشيخ محمد حسين ( تلميذ الشيخ محمد تقي وأخيه المتوفى 1261 ه. ق ) ، وكتاب « بحر الفوائد » للاشتياني ( الحاج مرزا حسن المتوفى 1319 ه. ق ) حاشية على « فرائد الأصول » تأليف أستاذه الأنصاري ( أول من أدرك الأصول في هذا الدور بالتنقيح والتهذيب ، ورتبه على ترتيبه الأنيق المتين الشيخ المطلق في لسان المتأخرين الحاج شيخ مرتضى بن محمد أيمن المتوفى 1281 ) وغيرها من الكتب المؤلفة في ذلك القرن.

كان هذا التحول في سير الأصول من آثار الأصولي الفحل ما لك أزمة الفضل الأستاذ الأكبر المولى الاجل الأفضل آقا محمد باقر بن محمد أكمل ( المتوفى سنة 1206 أو 1208 ه. ق ) إذ لأستاذ بقوة تقريره وجودة تحريره في مناظراته

ص: 13

المكررة ومراسلاته المحررة برع على خصماء الأصول وجعل دعاويهم كعصف مأكول.

- 12 -

شرع الدور الثالث من ابتداء القرن الرابع عشر ، وانعكس طور التأليف في هذا الدور فتلخص وتحرر. أول من بادر إلى تحرير الأصول عن الفضول تدريسا وتدوينا وهيج الأشواق إلى سلوك هذا السبيل تدريبا وتمرينا ، هو أستاذ المتأخرين على الاطلاق شيخ المجتهدين المعاصرين في الآفاق الذي لخص المقاصد والمعاني ، وأسس في الأصول جملة من المباني المولى محمد كاظم الخراساني ( المتوفى 1329 ه. ق ).

خلب المحقق الخراساني قلوب طلبة العلم بمعاليه ، وجلب عقول حملته من تلامذته ومعاصريه بما أنعم اللّه عليه من لباقة تقرير لا يعادله فيها أحد وأناقة تحرير لا يسهل تحديدها بحد ، فاقتفوا في التلخيص والتحرير اثره ، وآثروا في ايراد ما اصطلح عليه أرباب المعقول والاستناد به في تآليفهم الأصولية فكره.

صار كتاب « كفاية الأصول » الذي الفه المحقق الخراساني كتابا نهائيا لمدارسة الأصول.

جملة الكلام ، ان أهل العلم في القرن حملوا العناء وبذلوا العناية لا في التلخيص والتحرير فحسب ، بل في الدقيق والتحقيق ، وأيضا في التنسيق والتانيق.

- 13 -

ممن تابع في تنقيح مطالب الأصول وتوضيح مآربه أئمته والقى إليه التحقيق في هذا العصر أزمته. العالم العليم الأستاذ الأعظم المرزا محمد حسين الغروي الناييني فهو قد أكب مجاهدا على تهذيب الأصول بالبحث ، والب لتدريب الفضلاء وتعليمهم على الدرس ، فتخرج من معهد بحثه ومجلس درسه علماء جلة وفضلاء أولى تجلة يوعون ما يسمعون ويكتبون ما يستفيدون ويوعون.

ص: 14

وهذه المكتوبات هي التي اصطلح عليها عنوان « التقريرات » (1)

- 14 -

من جملة ما عرف بعنوان التقريرات هذا الكتاب ( كتاب فوائد الأصول ) الذين يريه الناظر حاضرا بين يديه ، وتهوى أفئدة عشاق الفضل إليه الفه قرة عين الأستاذ الاجل وغرة وجه العلم والعمل الشيخ محمد على الكاظمي الخراساني ، الذي مات (رحمه اللّه) ولم تظهر أسرار دفائنه ولم تفتح اغلاق خزائنه ( توفى سنة 1365 ه. ق ).

هذا التأليف ان لم يكن أحسن ما كتب من دروس الأستاذ على الاطلاق فهو من أحسنها تنقيحا وأجودها توضيحا وأمتنها تعبيرا وأكثرها تحريرا ، وكيف لا؟ وقد أفاد الأستاذ في شأن المؤلف وما أفاد عين هذه الكلمات وهي ترشدنا إلى الفرق بينه وبين غيره « .. فان من أعظم ما أنعم به سبحانه وتعالى على العلم وأهله ، هو ما حباه من التوفيق والتأييد لقرة عيني العالم العلم العلام والفاضل البارع الهمام الفائز بأسنى درجات الصلاح والسداد بجهده والفائز بأسنى رتبة الاستنباط والاجتهاد بجده ، صفوة المجتهدين العظام وركن الاسلام ، والمؤيد المسدد التقى الزكي جناب الاغا الشيخ محمد على الخراساني الكاظمي أدام اللّه تعالى تأييده وأفضاله وكثر في العلماء الاعلام أمثاله.

« فقد أودع في هذه الصحائف الغر ما نقحناه في أبحاثنا مجدا في تنقيحه مجيدا في توضيحه ببيان رائق وترتيب فائق فلله دره وعليه سبحانه اجره .. » هكذا كان سير الأصول في تلك القرون الاسلامية إلى زماننا الحاضر ، و

ص: 15


1- في القرون الأولية من الاسلام قد يلقون الأساتذة على تلاميذهم عبارات مربوطة بالكتاب أو السنة أو غير ذلك فيملونها وسمى تلك المكتوبات ب « الأمالي » ومن ذلك أمالي الصدوق والمفيد والطوسي. و في القرون الأخيرة و لا سيّما في القرن الثالث عشر كان التّلامذة يكتبون بعد درس الأستاذ ما يستفيدون ممّا حقق و أفاد و يعرضونه عليه للبحث و الانتقاد، و تسمى تلك المكتوبات ب «التّقريرات». أوّل ما اشتهر بذلك العنوان على ما أظنّ، كتاب «مطارح الأنظار» الّذي ألّفه المحقّق العالم الميرزا أبو القاسم (المشهور بكلانتري المتوفى 1292 ه. ق) من إفادات أستاذه و أستاذ الكلّ الشيخ الأنصاري.

على ما دريت صار هذا العلم منتقلا من الغابرين إلى المعاصرين ، فلله در المجتهدين من العلماء ، وجزاهم اللّه عن الاسلام والعلم خير الجزاء.

هذا ما قصدنا ايراده على سبيل الاستعجال وطريق الاجمال مقدمة على الكتاب ، حسب ما أشار على بذلك من عنى بطبع هذا المجلد الأول وهو صديقي الممجد المبجل العالم العامل والفاضل الكامل حجة الاسلام الشيخ نصر اللّه المشتهر بالخلخالي بين الاعلام أدام اللّه بركاته وزاد ، تبارك وتعالى ، في حسناته.

والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا

طهران 20 ربيع الثاني 1368

محمود الشهابي الخراساني

ص: 16

الجزء الأول من كتاب فوائد الأصول

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف بريته وعلى اله الطيبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

وبعد ، فيقول العبد المذنب الراجي عفو ربه محمد على الكاظمي ابن المرحوم الشيخ حسن الكاظمي قدس سره : انى لما حضرت مجلس بحث المولى خاتمة المجتهدين فريد عصره وفقيه زمانه ، من إليه انتهت الرياسة العامة ، شيخنا وملاذنا آية اللّه حضرة الميرزا محمد حسين الغروي النائيني متع اللّه المسلمين ببقائه ، رأيت أن بحثه الشريف ذو فوائد جليلة ، بحيث ينتفع منه المنتهى من أهل العلم فضلا عن المبتدي ، ويستفيد منه من كثر باعه فضلا عمن قصر ، فأحببت تزيين هذه الأوراق بما استفدته من إفاداته الشريفة حسبما يسعني ويؤدى إليه فهمي القاصر.

فأقول : ومن اللّه استمد.

القول في أصول الفقه

اشارة

وتنقيح البحث عن ذلك يستدعى رسم مقدمة ، ومقاصد ، وخاتمة.

اما المقدمة : ففي بيان نبذة من مباحث الألفاظ

ولما كان داب أرباب العلوم عند الشروع في العلم ذكر موضوع العلم ، وتعريفه ، وغايته ، فنحن أيضا نقتفي أثرهم. وينبغي قبل ذلك بيان مرتبة علم

ص: 17

الأصول وموقعه ، إذ لعله بذلك يظهر تعريفه وغايته.

فنقول : لا اشكال في أن العلوم ليست في عرض واحد ، بل بينها ترتب وطولية ، إذ رب علم يكون من المبادئ لعلم اخر ، ولأجل ذلك دون علم المنطق مقدمة لعلم الحكمة ، وكذلك كان علم النحو من مبادئ علم البيان ، ومن الواضح ان جل العلوم تكون من مبادئ علم الفقه ومن مقدماته حيث يتوقف الاستنباط على العلوم الأدبية : من الصرف ، والنحو ، واللغة ، وكذا يتوقف على علم الرجال ، وعلم الأصول ، ولكن مع ذلك ليست هذه العلوم في عرض واحد بالنسبة إلى الفقه ، بل منها ما يكون من قبيل المقدمات الاعدادية للاستنباط ، ومنها ما يكون من قبيل الجزء الأخير لعلة الاستنباط. وعلم الأصول هو الجزء الأخير لعلة الاستنباط بخلاف سائر العلوم ، فإنها من المقدمات ، حتى علم الرجال الذي هو أقرب العلوم للاستنباط ، ولكن مع هذا ليس في مرتبة علم الأصول بل علم الأصول متأخر عنه ، وعلم الرجال مقدمة له.

والحاصل

ان علم الأصول يقع كبرى لقياس الاستنباط وسائر العلوم تقع في صغرى القياس. مثلا استنباط الحكم الفرعي من خبر الواحد يتوقف على عدة أمور فإنه يتوقف على معرفة معاني الألفاظ التي تضمنها الخبر ، ويتوقف أيضا على معرفة أبنية الكلمات ومحلها من الاعراب ليتميز الفاعل عن المفعول والمبتدأ عن الخبر ، ويتوقف أيضا على معرفة سلسلة سند الخبر وتشخيص رواته وتمييز ثقتهم عن غيره ، ويتوقف أيضا على حجية الخبر ، ومن المعلوم : ان هذه الأمور مترتبة من حيث دخلها في الاستنباط حسب ترتبها في الذكر والمتكفل لاثبات الامر الأول هو علم اللغة ، ولاثبات الثاني هو علم النحو والصرف ، ولاثبات الثالث هو علم الرجال ، ولاثبات الرابع الذي به يتم الاستنباط هو علم الأصول ، فرتبة علم الأصول متأخرة عن جميع العلوم ، ويكون كبرى لقياس الاستنباط. فيقال : الشيء الفلاني مما قام على وجوبه خبر الثقة ، وكلما قام على وجوبه خبر الثقة يجب ، بعد البناء على حجية خبر الواحد الذي هو نتيجة البحث في مسألة حجية خبر الواحد ، فيستنتج من تأليف

ص: 18

القياس وجوب الشيء الفلاني.

بما ذكرنا من مرتبه علم الأصول يظهر الضابطة الكلية لمعرفة مسائل علم الأصول ، وحاصل الضابط : ان كل مسألة كانت كبرى لقياس الاستنباط فهي من مسائل علم الأصول.

وبذلك ينبغي تعريف علم الأصول ، بان يقال : ان علم الأصول عبارة عن العلم بالكبريات التي لو انضمت إليها صغرياتها يستنتج منها حكم فرعى كلي ، فان ما عرف

به علم الأصول : من أنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الخ - لا يخلو عن مناقشات عدم الاطراد وعدم الانعكاس ، كما لا يخفى على من راجع كتب القوم.

وهذا بخلاف ما عرفنا به علم الأصول ، فإنه يسلم عن جميع المناقشات ، ويدخل فيه ما كان خارجا عن تعريف المشهور مع أنه ينبغي ان يكون داخلا ، ويخرج منه ما كان داخلا في تعريف المشهور مع أنه ينبغي ان يكون خارجا.

ثم إن المايز بين المسألة الأصولية والقاعدة الفقهية بعد اشتراكهما في أن كلا منهما يقع كبرى لقياس الاستنباط ، هو ان المستنتج من المسألة الأصولية لايكون الا حكما كليا ، بخلاف المستنتج من القاعدة الفقهية ، فإنه يكون حكما جزئيا وان صلحت في بعض الموارد لاستنتاج الحكم الكلي أيضا الا ان صلاحيتها لاستنتاج الحكم الجزئي هو المايز بينها وبين المسألة الأصولية ، حيث إنها لا تصلح الا لاستنتاج حكم كلي ، كما يأتي تفصيله في أوايل مباحث الاستصحاب (1) انشاء لله ، ويأتي هناك أيضا ان المسألة الأصولية قد تقع أيضا صغرى لقياس الاستنباط وتكون كبراه مسألة أخرى من مسائل علم الأصول ، الا انه مع وقوعها صغرى لقياس الاستنباط تقع في مورد اخر كبرى للقياس.

وهذا بخلاف مسائل سائر العلوم ، فإنها لا تقع كبرى لقياس الاستنباط أصلا فراجع. وعلى كل حال ، فقد ظهر لك مرتبة علم الأصول وتعريفه.

ص: 19


1- الجزء الرابع من فوائد الأصول ، الامر الثاني

واما غايته

فهي غنية عن البيان ، إذ غايته هي القدرة على استنباط الأحكام الشرعية عن مداركها.

بقى الكلام في بيان موضوعه

وقد اشتهر ان موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ، وقد أطالوا الكلام في البحث عن العوارض الذاتية والفارق بينها وبين العوارض الغريبة ، وربما كتب بعض في ذلك ما يقرب من الف بيت أو أكثر.

وقد يفسر العرض الذاتي بما يعرض الشيء لذاته ، أي بلا واسطة في العروض وان كان هناك واسطة في الثبوت. والمراد من الواسطة في العروض ، هو ما كان العرض أولا وبالذات يعرض نفس الواسطة ويحمل عليها ، وثانيا وبالعرض يعرض لذي الواسطة ويحمل عليه ، كحركة الجالس في السفينة ، فان الحركة أولا وبالذات تعرض السفينة وتستند إليها ، وثانيا وبالعرض تعرض الجالس وتستند إليه وتحمل عليه ، من قبيل الوصف بحال المتعلق.

وهذا بخلاف ما إذا لم يكن هناك واسطة في العروض ، سواء لم يكن هناك واسطة أصلا - كادراك الكليات بالنسبة إلى الانسان ، فان ادراك الكليات من لوازم ذات الانسان وهويته ، ويعرض على الانسان بلا توسيط شيء أصلا ، وليس ادراك الكليات فصلا للانسان ، بل الفصل هو الصورة النوعية التي يكون بها الانسان انسانا ، ومن لوازم ذلك ادراك الكليات ، الا انه لازم نفس الذات بلا واسطة - أو كان هناك واسطة الا انها لم تكن واسطة في العروض ، بل كانت واسطة في الثبوت ، سواء كانت تلك الواسطة منتزعة عن مقام الذات ، كالتعجب العارض للانسان بواسطة ادراكه الكليات الذي هو منتزع عن مقام الذات ، حيث كان ذات الانسان يقتضى الادراك كما عرفت ، أو كانت الواسطة أمرا خارجا عما يقتضيه الذات كالحرارة العارضة للماء بواسطة مجاورة النار.

والسر في تفسير العرض الذاتي بذلك ، أي بان لايكون هناك واسطة في العروض ، مع أن هذا خلاف ما قيل في معنى العرض الذاتي : من أن العرض الذاتي

ص: 20

ما كان يقتضيه نفس الذات ، ومنتزعا عن مقام الهوية ، فمثل حرارة الماء من العرض الغريب لان عروض الحرارة على الماء يكون بواسطة امر خارج مباين ، بل ما كان يعرض الشيء بواسطة امر خارج مط ، سواء كان أعم أو أخص أو مباينا ، يكون من العرض الغريب اتفاقا ، وانما المختلف فيه ما كان يعرض الشيء بواسطة امر خارج مساوي ، كالضحك العارض للانسان بواسطة التعجب ، حيث ذهب بعض إلى أنه من العرض الذاتي ، وبعض اخر إلى أنه من العرض الغريب ، فالعبرة في العرض الذاتي عندهم هو كونه بحيث يقتضيه نفس الذات ، لاما لايكون له واسطة في العرض ، هو ان البحث في غالب مسائل العلوم ليس بحثا عن العوارض الذاتية لموضوع تلك المسألة على وجه يقتضيه ذات الموضوع ، بداهة ان خبر الواحد مثلا بهوية ذاته لا يقتضى الحجية ، إذ الحجية انما هي من فعل الشارع.

فالبحث عن حجية خبر الواحد ليس بحثا عن العوارض الذاتية للخبر ، وكذا الكلام في سائر المسائل لعلم الأصول وغيره من العلوم ، كقولنا : الفاعل مرفوع ، والمفعول منصوب ، فان الرفع والنصب ليسا مما يقتضيه نفس ذات الفاعل والمفعول بهويتهما ، بل لمكان لسان العرب ، حيث إنهم يرفعون الفاعل وينصبون المفعول ، فيلزم بناء على ما قيل في تفسير العرض الذاتي ان يكون البحث في غالب العلوم بحثا عن العوارض الغريبة لموضوع العلم ، فلا بد من توسعة العرض الذاتي ، حتى يكون البحث في مسائل العلوم بحثا عن العوارض الذاتية لموضوعاتها ، بان يق : ان العرض الذاتي هو ما كان يعرض نفس الذات بلا واسطة في العروض وان كان لأمر لا يقتضيه نفس الذات. وعلى هذا يكون البحث في جميع مسائل العلوم بحثا عن العوارض الذاتية ، بداهة ان الحجية عارضة لذات الخبر وان كان ذلك بواسطة الجعل الشرعي ، وكذلك الرفع والنصب يعرضان لذات الفاعل والمفعول ، وان كان ذلك لأجل لسان العرب.

فالضابط الكلي للعرض الذاتي ، هو ان لا يتوسط بينه وبين الموضوع امر يكون هو معروض العرض أولا وبالذات ، كما هو الشأن في الوسائط العروضية.

إذا عرفت ذلك فالكلام في المقام يقع من جهات :

ص: 21

الأولى : في نسبة موضوع كل علم إلى موضوع كل مسألة من مسائله.

الثانية : في المايز بين العلوم بعضها من بعض.

الثالثة : في موضوع علم الأصول.

اما الجهة الأولى

اشارة

فنسبة موضوع كل علم إلى موضوع كل مسألة من مسائله ، هو نسبة الكلي لافراده والطبيعي لمصاديقه ، بداهة ان الفاعل في قولنا كل فاعل مرفوع مصداق من مصاديق كلي الكلمة ، التي هي موضوع لعلم النحو.

فان قلت :

ان الرفع انما يعرض الفاعل ، وبتوسطه يعرض الكلمة ، وليس هو عارضا لذات الكلمة من حيث هي ، فيكون الرفع بالنسبة إلى الكلمة من العوارض الغريبة وان كان بالنسبة إلى الفاعل من العوارض الذاتية.

وبعبارة أخرى :

الموضوع للرفع هي الكلمة بشرط الفاعلية ، وموضوع علم النحو هو نفس الكلمة من حيث هي ، ومن المعلوم مغايرة الشيء بشرط شيء مع الشيء لا بشرط ، فيلزم اختلاف موضوع العلم مع موضوعات المسائل ، ويلزم ان يكون المبحوث عنه في مسائل العلم من العوارض الغريبة لموضوع العلم. وهذا ينافي قولكم : موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ، وان موضوع العلم عين موضوعات المسائل. وهذا الاشكال سيأتي في جميع العلوم.

قلت :

الفاعلية علة لعروض الرفع على نفس الكلمة ، لا ان الرفع يعرض للفاعلية أولا وبالذات ، فالواسطة في المقام انما تكون واسطة في الثبوت لا واسطة في العروض ، وقد تقدم ان الواسطة الثبوتية لا تنافى العرض الذاتي.

والحاصل :

ان ما يعرض الفاعل من الرفع يعرض الكلمة بعين عروضه الفاعل من دون

ص: 22

واسطة.

وتوضيح ذلك

هو ان الموضوع في علم النحو مثلا ليس هو الكلمة من حيث هي لا بشرط ، بل الكلمة من حيث لحوق الاعراب والبناء لها ، كما أن الكلمة من حيث لحوق الصحة والاعتلال لها موضوع لعلم الصرف ، فيتحد موضوع العلم مع موضوعات المسائل ، لان الموضوع في قولنا : كل فاعل مرفوع أيضا ، هو الكلمة من حيث لحوق الاعراب والبناء لها ، بداهة ان البحث عن الفاعل ليس من حيث صدور الفعل عنه ، أو من حيث تقدم رتبته عن رتبة المفعول ، بل من حيث لحوق الاعراب له ، والمفروض ان الكلمة من هذه الحيثية أيضا تكون موضوعا لعلم النحو ، وكذا يق في مثل الصلاة واجبة ، حيث إن الموضوع في علم الفقه ليس هو فعل المكلف من حيث هو ، بل من حيث عروض الأحكام الشرعية عليه ، فيتحد موضوع العلم مع موضوعات المسائل ، لان كلا من موضوع العلم مع موضوعات المسايل يكون ملحوظا بشرط شيء وهو قيد الحيثية.

وربما يستشكل

في اخذ قيد الحيثية ، بأنه يلزم اخذ عقد الحمل في عقد الوضع ، إذ الموضوع في قولنا : الكلمة اما معربة أو مبنية ليس هو مطلق الكلمة حسب الفرض ، بل الكملة من حيث لحوق الاعراب والبناء لها ، فيلزم ان يكون قولنا : كل كلمة اما معربة أو مبنية ، بمنزلة قولنا : الكلمة المعربة أو المبنية ، اما معربة أو مبنية. وهذا كما ترى يلزم منه اخذ المحمول في الموضوع ، وهو ضروري البطلان ، لاستلزامه حمل الشيء على نفسه. هذا.

ولكن لا يخفى عليك ضعف الاشكال ، بداهة ان المراد من قولنا : الكلمة من حيث البناء والاعراب موضوع لعلم النحو ، ليس الكلمة المتحيثة بحيثية الاعراب والبناء فعلا المتلونة بذلك حالا ، بل المراد الكلمة القابلة للحوق الاعراب والبناء لها ، والتي لها استعداد وقوة لحوق كل منهما لها ، فهذه الكلمة اما معربة فعلا ، واما مبنية فعلا.

ص: 23

والحاصل :

ان الكلمة من حيث ذاتها قابلة للحوق كل من الاعراب والبناء لها ، كما انها قابلة للحوق كل من الصحة والاعتلال والفصاحة والبلاغة لها ، فتارة : تلاحظ الكلمة من حيث قابليتها لقسم خاص من هذه العوارض ، كالاعراب والبناء ، فتجعل موضوعا لعلم النحو. وأخرى : تلاحظ من حيث قابليتها لقسم آخر من هذه العوارض ، كالصحة والاعتلال ، فتجعل موضوعا لعلم الصرف وهكذا.

فتحصل :

ان اعتبار قيد الحيثية بهذا المعنى يوجب ارتفاع اشكال تغاير موضوع العلم مع موضوعات المسائل ، ويتحد موضوع العلم مع موضوعات المسائل اتحادا عينيا ، ويكون ما به يمتاز موضوع كل مسألة عن موضوع مسالة أخرى هو عين ما به يشتركان ، لان الموضوع في قولنا : كل فاعل مرفوع ، هو الكلمة القابلة للحوق الاعراب لها ، وتكون الفاعلية علة لعروض الرفع عليها ، كما أن الموضوع في قولنا : كل مفعول منصوب هو ذلك ، وتكون المفعولية علة لعروض النصب عليها ، فيحصل الاتحاد بين موضوعات المسائل وموضوع العلم.

وبما ذكرنا من اعتبار قيد الحيثية في موضوع العلم يظهر لك البحث عن الجهة الثانية ، وهو المايز بين العلوم.

وتوضيح ذلك :

ان المشهور ذهبوا إلى أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ، وذهب بعض إلى أن تمايز العلوم بتمايز الاغراض والجهات التي دون لأجلها العلم ، كصيانة المقال عن الألحان في علم النحو ، والفكر عن الخطاء في علم المنطق ، واستنباط الأحكام الشرعية في علم الأصول.

ووجه العدول عن مسلك المشهور : هو انه يلزم تداخل العلوم بعضها مع بعض لو كان المايز بينها هو الموضوع ، وهذا الاشكال انما يتوجه بناء على أن يكون ما يعرض الشيء لجنسه من العوارض الذاتية ، كالتحرك بالإرادة العارض للانسان

ص: 24

بواسطة كونه حيوانا ، أو العارض للجنس بواسطة الفصل ، كالتعجب العارض للحيوان بواسطة كونه ناطقا ، فان كلا من هذين القسمين وقع محل الكلام في كونه من العرض الذاتي ، حيث ذهب بعض إلى أن ما يعرض الشيء لجزئه الأعم أو الأخص يكون من العرض الغريب ، كما أن من العرض الغريب ما كان لأمر خارج أعم أو أخص أو مباين على مشرب المشهور ، فيلزم ان يكون البحث عن كل ما يلحق الكلمة ولو بواسطة فصولها بحثا عن عوارض الكملة ، فيتداخل علم النحو والصرف واللغة ، لان البحث في الجميع يكون عن عوارض الكلمة التي هي موضوع في العلوم الثلاثة ، وان اختلفت جهة البحث ، حيث إن جهة البحث في النحو هي الاعراب والبناء ، وفي الصرف هي الصحة والاعتلال ، وفي اللغة هي المعاني والمفاهيم ، الا ان الجميع يكون من العوارض الذاتية لجنس الكلمة حسب الفرض ، وان كان عروضها لها باعتبار ما لها من الفصول : من الفاعل والمفعول ، والثلاثي والمزيد فيه ، الا ان الجميع يعرض جنس الكلمة ، والمفروض ان عوارض الجنس عوارض ذاتية للكلمة ، فيلزم تداخل العلوم الثلاثة.

ولأجل ورود هذا الاشكال زيد قيد الحيثية ، وقيل : ان تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ، وتمايز الموضوعات بتمايز الحيثيات.

وقد أشكل على زيادة الحيثية : بأنها مما لا تسمن ولا تغنى من جوع ، كما لا يخفى على المراجع في المطولات هذا.

ولكن الانصاف

انه يمكن حسم مادة الاشكال بما ذكرناه من معنى الحيثية التي اخذت قيدا في موضوع العلم ، فإنه هب ان هذه العوارض من العوارض الذاتية للكلمة ، الا ان المبحوث عنه في علم النحو ليس مطلق ما يعرض الكلمة من العوارض الذاتية لها ، بل من حيث خصوص قابليتها للحوق البناء والاعراب لها ، على وجه تكون هذه الحيثية هي مناط البحث في علم النحو ، فالحيثية في المقام حيثية تقييدية ، لا تعليلية ، ولا الحيثية التي تكون عنوانا للموضوع كالحيثية في قولنا : الماهية من حيث هي هي ليست الا هي. فإذا صار الموضوع في علم النحو هي الكلمة من حيث خصوص لحوق

ص: 25

البناء والاعراب لها ، والموضوع في علم الصرف هي الكلمة من حيث خصوص لحوق الصحة والاعتلال لها ، فيكون المايز بين علم النحو والصرف هو الموضوع المتحيث بالحيثية الكذائية.

وبعد ذلك ، لا موجب لدعوى ان تمايز العلوم بتمايز الاغراض ، مع أن هناك مايز ذاتي في الرتبة السابقة على الغرض.

وما يقال : من أن الموضوع في علم المعاني هو الكلمة القابلة للحوق البناء والاعراب لها ، فيرتفع المايز بين علم النحو وعلم المعاني فضعفه ظاهر ، إذا لموضوع في علم المعاني ، ليس هو الكلمة من حيث لحوق الاعراب والبناء لها ، بل هو الكلمة من حيث لحوق الفصاحة والبلاغة لها ، وان كان لحوق الفصاحة والبلاغة لها في حال لحوق البناء والاعراب لها ، الا ان كون الكملة في حال كذا موضوعا لعلم لايكون البحث في ذلك العلم عن ذلك الحال غير كون الكلمة موضوعا بقيد ذاك الحال فتأمل.

وبما ذكرنا من قيد الحيثية يظهر :

ان البحث في جل مباحث الأوامر والنواهي مما يرجع البحث عن مفاهيم الألفاظ ومداليل صيغ الأمر والنهي ، يكون بحثا عما يلحق موضوع علم الأصول وليس من المعاني اللغوية ، إذ البحث في تلك المباحث انما يكون من حيثية استنباط الحكم الشرعي ، وان كان عنوان البحث أعم ، الا ان قيد الحيثية ملحوظ فتأمل.

وإذا عرفت ما ذكرناه : من أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ، وتمايز الموضوعات بتمايز الحيثيات ، فلا يهمنا البحث عن أن عوارض الجنس من العوارض الذاتية أو العوارض الغريبة ، ونفصل القول في اقسام كل منها ، فليطلب من المطولات.

بقى في المقام البحث عن الجهة الثالثة

اشارة

وهي البحث عن موضوع خصوص علم الأصول.

فقيل :

ان موضوع علم الأصول هو الأدلة الأربعة بذواتها ، أو بوصف كونها أدلة.

ص: 26

والاشكالات الواردة على اخذ الموضوع ذلك مما لا تخفى على المراجع. وكفى في الاشكال هو انه لو كان موضوع علم الأصول ذلك يلزم خروج أكثر مباحثه : من مسألة حجية خبر الواحد ، ومسألة التعادل والتراجيح ، ومسألة الاستصحاب ، وغير ذلك مما لا يرجع البحث فيها عما يعرض الأدلة الأربعة ، بل يلزم خروج جل من مباحث الألفاظ ، كالمباحث المتعلقة بمعاني الأمر والنهي ، ومثل مقدمة الواجب ، واجتماع الأمر والنهي ، حيث تكون من المبادئ التصورية أو التصديقية ، أو من مبادئ الاحكام التي زادها القوم في خصوص علم الأصول ، حيث أضافوا إلى المبادئ التصورية والتصديقية مبادئ أحكامية.

وتوضيح ذلك :

هو ان لكل علم مبادئ تصورية ، ومبادي تصديقية. والمراد من المبادئ التصورية هو ما يتوقف عليه تصور الموضوع واجزائه وجزئياته وتصور المحمول كذلك. والمراد من المبادئ التصديقية هو مما يتوقف عليه التصديق والاذعان بنسبة المحمول إلى الموضوع. فمسألة العلم تكون حينئذ ، هي عبارة عن المحمولات المنتسبة ، أو مجموع القضية - على الخلاف. والمراد من المبادئ الأحكامية هو ما يتوقف عليه معرفة الأحكام الشرعية : من التكليفية والوضعية بأقسامهما ، وكذا الأحوال والعوارض للأحكام : من كونها متضادة ، وكون الأحكام الوضعية متأصلة في الجعل ، أو منتزعة عن التكليف ، وغير ذلك من حالات الحكم. ووجه اختصاص المبادئ الأحكامية بعلم الأصول ، هو ان منه يستنتج الحكم الشرعي وواقع في طريق استنباطه.

ثم إن البحث عن المبادئ بأقسامها ، وليس من مباحث العلم ، بل كان حقها ان تذكر في علم اخر ، مما كانت المبادئ من عوارض موضوعه ، الا انه جرت سيرة أرباب العلوم على ذكر مبادئ كل علم في نفس ذلك العلم ، لعدم تدوينها في علم آخر.

وعلى كل تقدير يلزم بناء على أن يكون موضوع علم الأصول هو خصوص الأدلة الأربعة كون كثير من مباحثه اللفظية مندرجة في مبادئ العلم :

ص: 27

المبادئ الأحكامية ، أو المبادئ التصديقية ، أو التصورية ، على اختلاف الوجوه التي يمكن البحث عنها ، مضافا إلى لزوم خروج كثير من مهمات مسائله عنه ، كمسألة حجية خبر الواحد ، وتعارض الأدلة ، وغير ذلك.

وما تكلف به الشيخ قده

في باب حجية (1) خبر الواحد ، من ادراج تلك المسألة في مسائل علم الأصول على وجه يكون البحث فيها بحثا عن عوارض السنة بما لفظه : « فمرجع هذه المسألة إلى أن السنة أعني قول الحجة أو فعله أو تقريره هل يثبت بخبر الواحد ، أم لا يثبت الا بما يفيد القطع من التواتر والقرينة ، ومن هنا يتضح دخولها في مسائل أصول الفقه ، الباحثة عن أحوال الأدلة الخ ».

لا يخلو عن مناقشة

فان البحث عن ثبوت الموضوع بمفاد كان التامة ، ليس بحثا عن عوارض الموضوع ، فان البحث عن العوارض يرجع إلى مفاد كان الناقصة ، أي البحث عن ثبوت شيء لشيء ، لا البحث عن ثبوت نفس الشيء.

هذا ان أريد من السنة ، نفس قول الحجة ، أو فعله ، أو تقريره ، كما هو ظاهر العبارة. وان أريد من السنة ، ما يعم حكايتها ، بان يكون خبر الواحد قسما من اقسام السنة ، فهو واضح البطلان ، بداهة ان السنة ليست الا نفس قول الحجة ، أو فعله ، أو تقريره.

وبالجملة : لا داعي إلى جعل موضوع علم الأصول ، خصوص الأدلة الأربعة ، حتى يلتزم الاستطراد ، أو يتكلف في الأدراج ، بل الأولى ان يق : ان موضوع علم الأصول ، هو كل ما كان عوارضه واقعة في طريق استنباط الحكم الشرعي ، أو ما ينتهى إليه العمل ان أريد من الحكم الحكم الواقعي ، وان أريد الأعم منه ومن الظاهري ، فلا يحتاج إلى قيد ( أو ما ينتهى إليه العمل ) لان المستفاد .

ص: 28


1- فرائد الأصول - مباحث الظن - بحث خبر الواحد - بعد قوله قدس سره : « اما المقدمة الأولى .. » ص.

من الأصول العملية أيضا هو الحكم الشرعي الظاهري ، اللّهم الا ان يكون المراد من القيد ، بعض الأصول العقلية فتأمل جيدا.

ولا يلزمنا معرفة الموضوع بحقيقته واسمه ، بل يكفي معرفة لوازمه وخواصه. فموضوع علم الأصول هو الكلي المتحد مع موضوعات مسائله ، التي يجمعها عنوان وقوع عوارضها كبرى لقياس الاستنباط ، وهذا المقدار من معرفة الموضوع يكفي ويخرج عن كون البحث عن امر مجهول.

فظهر من جميع ما ذكرنا : رتبة علم الأصول ، وتعريفه ، وغايته ، وموضوعه. حيث كانت رتبته : هي الجزء الأخير من علة الاستنباط. وتعريفه : هو العلم بالكبريات التي لو انضم إليها صغرياتها يستنتج حكم فرعى. وغايته : الاستنباط. وموضوعه : ما كان عوارضه واقعة في طريق الاستنباط. وإذ فرغنا من ذلك فلنشرع في المقدمة التي هي في مباحث الألفاظ ، وفيها مباحث :

المبحث الأول في الوضع

اعلم : انه قد نسب إلى بعض ، كون دلالة الألفاظ على معانيها بالطبع ، أي كانت هناك خصوصية في ذات اللفظ اقتضيت دلالته على معناه ، من دون ان يكون هناك وضع وتعهد من أحد ، وقد استبشع هذا القول ، وأنكروا على صاحبه أشد الانكار ، لشهادة الوجدان على عدم انسباق المعنى من اللفظ عند الجاهل بالوضع ، فلا بد من أن يكون دلالته بالوضع.

ثم أطالوا الكلام في معنى الوضع وتقسيمه إلى التعييني والتعيني ، مع ما أشكل على هذا التقسيم ، من أن الوضع عبارة عن الجعل والتعهد واحداث علقة بين اللفظ والمعنى ، ومن المعلوم ان في الوضع التعيني ليس تعهد وجعل علقة ، بل اختصاص اللفظ بالمعنى يحصل قهرا من كثرة الاستعمال ، بحيث صار على وجه ينسبق المعنى من اللفظ عند الاطلاق.

وربما فسر الوضع بمعناه الاسم المصدري ، الذي هو عبارة عن نفس العلقة والاختصاص الحاصل تارة : من التعهد وأخرى : من كثرة الاستعمال هذا.

ص: 29

ولكن الذي ينبغي ان يق :

ان دلالة الألفاظ وان لم تكن بالطبع ، الا انه لم تكن أيضا بالتعهد من شخص خاص على جعل اللفظ قالبا للمعنى ، إذ من المقطوع انه لم يكن هناك تعهد من شخص لذلك ولم ينعقد مجلس لوضع الألفاظ ، وكيف يمكن ذلك مع كثرة الألفاظ والمعاني على وجه لا يمكن إحاطة البشر بها؟ بل لو ادعى استحالة ذلك لم تكن بكل البعيد بداهة عدم تناهى الألفاظ بمعانيها ، مع أنه لو سلم امكان ذلك ، فتبليغ ذلك التعهد وايصاله إلى عامة البشر دفعة محال عادة.

ودعوى : ان التبليغ والايصال يكون تدريجا ، مما لا ينفع ، لان الحاجة إلى تأدية المقاصد بالألفاظ يكون ضروريا للبشر ، على وجه يتوقف عليه حفظ نظامهم ، فيسئل عن كيفية تأدية مقاصدهم قبل وصول ذلك التعهد إليهم ، بل يسئل عن الخلق الأول كيف كانوا يبرزون مقاصدهم بالألفاظ ، مع أنه لم يكن بعد وضع وتعهد من أحد.

وبالجملة : دعوى ان الوضع عبارة عن التعهد واحداث العلقة بين اللفظ والمعنى من شخص خاص مثل يعرب بن قحطان ، كما قيل ، مما يقطع بخلافها. فلا بد من انتهاء الوضع إليه تعالى ، الذي هو على كل شيء قدير ، وبه محيط ، ولكن ليس وضعه تعالى للألفاظ كوضعه للأحكام على متعلقاتها وضعا تشريعيا ، ولا كوضعه الكائنات وضعا تكوينيا ، إذ ذلك أيضا مما يقطع بخلافه. بل المراد من كونه تعالى هو الواضع ان حكمته البالغة لما اقتضت تكلم البشر بابراز مقاصدهم بالألفاظ ، فلا بد من انتهاء كشف الألفاظ لمعانيها إليه تعالى شانه بوجه ، اما بوحي منه إلى نبي من أنبيائه ، أو بالهام منه إلى البشر ، أو بابداع ذلك في طباعهم ، بحيث صاروا يتكلمون ويبرزون المقاصد بالألفاظ بحسب فطرتهم ، حسب ما أودعه اللّه في طباعهم ، ومن المعلوم ان ايداع لفظ خاص لتأدية معنى مخصوص لم يكن باقتراح صرف وبلا موجب ، بل لابد من أن يكون هناك جهة اقتضت تأدية المعنى بلفظه المخصوص ، على وجه يخرج عن الترجيح بلا مرجح. ولا يلزم ان تكون تلك الجهة راجعة إلى ذات اللفظ ، حتى تكون دلالة الألفاظ على معانيها ذاتية ، كما ينسب

ص: 30

ذلك إلى سليمان بن عباد ، بل لابد وأن يكون هنا جهة ما اقتضت تأدية معنى الانسان بلفظ الانسان ، ومعنى الحيوان بلفظ الحيوان.

وعلى كل حال : فدعوى ان مثل يعرب بن قحطان أو غيره هو الواضع مما لا سبيل إليها ، لما عرفت من عدم امكان إحاطة البشر بذلك.

ثم انه قد اشتهر تقسيم الوضع : إلى الوضع العام والموضوع له العام ، والى الوضع الخاص والموضوع له الخاص ، والى الوضع العام والموضوع له الخاص. وربما زاد بعض على ذلك الوضع الخاص والموضوع له العام ، ولكن الظاهر أنه يستحيل ذلك ، بداهة ان الخاص بما هو خاص لا يصلح ان يكون مرآة للعام. ومن هنا قيل : ان الجزئي لايكون كاسبا ولا مكتسبا ، وهذا بخلاف العام ، فإنه يصلح ان يكون مرآة لملاحظة الافراد على سبيل الاجمال.

نعم ربما يكون الخاص سببا لتصور العام وانتقال الذهن منه إليه ، الا انه يكون حينئذ الوضع عاما كالموضوع له ، فدعوى امكان الوضع الخاص والموضوع له العام ، مما لا سبيل إليها. وهذا بخلاف بقية الأقسام ، فان كلا منها بمكان من الامكان إذ يمكن ان يكون الملحوظ حال الوضع عاما قابل الانطباق على كثيرين ، أو يكون خاصا.

ثم ما كان عاما ، يمكن ان يوضع اللفظ بإزاء نفس ذلك العام ، فيكون الموضوع له أيضا عاما على طبق الملحوظ حال الوضع ، كما أنه يمكن ان يوضع اللفظ بإزاء مصاديق ذلك العام وافراده المتصورة اجمالا بتصور ما يكون وجها لها وهو العام وتصور الشيء بوجهه بمكان من الامكان ، فيكون الموضوع له ح خاصا ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك ، ان هذا صرف امكان لا واقع له ، بداهة ان الوضع العام والموضوع له الخاص ، يتوقف تحققه على أن يكون هناك وضع وجعل من شخص خاص ، حتى يمكنه جعل اللفظ بإزاء الافراد ، وقد عرفت المنع عن تحقق الوضع بهذا الوجه ، وانه لم يكن هناك واضع مخصوص ، وتعهد من قبل أحد ، بل الواضع هو اللّه تعالى بالمعنى المتقدم. وح فالوضع العام والموضوع له الخاص بالنسبة إلى الألفاظ المتداولة التي وقع النزاع فيها مما لا واقع له. نعم يمكن ذلك بالنسبة إلى

ص: 31

المعاني المستحدثة والأوضاع الجديدة.

ثم لا يذهب عليك ان الوضع العام والموضوع له الخاص يكون قسما من اقسام المشترك اللفظي ، بداهة ان الموضوع له في ذلك انما يكون هي الافراد ، ومن المعلوم تباين الافراد بعضها مع بعض ، فيكون اللفظ بالنسبة إلى الافراد من المشترك اللفظي ، غايته انه لم يحصل ذلك بتعدد الأوضاع ، بل بوضع واحد ، ولكن ينحل في الحقيقة إلى أوضاع متعددة حسب تعدد الافراد.

وبالجملة :

لافرق بين الوضع العام والموضوع له الخاص ، وبين قوله : كلما يولد لي في هذه الليلة فقد سميته عليا ، فكما ان قوله ذلك يكون من المشترك اللفظي ، إذ مرجع ذلك إلى أنه قد جمع ما يولد له في الليلة في التعبير ، وسماهم بعلي ، فيكون من المشترك اللفظي ، إذ لا جامع بين نفس المسميات ، لتباين ما يولد له في هذه الليلة ، فكذلك الوضع العام والموضوع له الخاص.

بل يمكن ان يق : ان قوله كلما يولد لي في هذه الخ يكون من الوضع العام والموضوع له الخاص أيضا ، غايته ان الجامع المتصور حين الوضع ، تارة يكون ذاتيا للأفراد كما إذا تصور الانسان وجعل اللفظ بإزاء الافراد ، وأخرى يكون عرضيا جعليا ، كتصور مفهوم ما يولد فتأمل جيدا ، هذا.

ولكن يظهر (1) من الشيخ قده - على ما في التقرير - في باب الصحيح والأعم عند تصور الجامع بناء على الصحيح ، الفرق بين الوضع العام والموضوع له .

ص: 32


1- واليك نص ما افاده صاحب التقريرات : « ان المتشرعة توسعوا في تسميتهم إياها صلاة ، فصارت حقيقة عندهم لا عند الشارع من حيث حصول ما هو المقصود من المركب التام من غيره أيضا. كما سموا كلما هو مسكر خمرا وان لم يكن مأخوذا من العنب مع أن الخمر هو المأخوذ منه وليس بذلك البعيد ، ونظير ذلك لفظ الاجماع .. إلى أن قال : « فكان مناط التسمية بالصلاة موجود عندهم في غير ذلك المركب الجامع ، فالوضع فيها نظير الوضع العام والموضوع له الخاص ، دون الاشتراك اللفظي ». مطارح الأنظار - ص 5 - في تصوير الجامع بناء على القول بوضع الألفاظ للصحيح.

الخاص وبين المشترك اللفظي هذا. ولكن يمكن ان يكون مراده من المشترك اللفظي في ذلك المقام ، هو ما تعدد فيه الوضع حقيقة ، لا ما كان التعدد بالانحلال ، كما في الوضع العام والموضوع له الخاص.

وعلى كل حال ، لا اشكال في ثبوت الوضع العام والموضوع له العام كوضع أسماء الأجناس ، والوضع الخاص والموضوع له الخاص كوضع الاعلام.

واما الوضع العام والموضوع له الخاص ، فقيل : انه وضع الحروف وما يلحق بها ، وقيل : ان الموضوع له فيها أيضا عام ، كالوضع. وربما قيل : ان كلا من الوضع والموضوع له فيها عام ، ولكن المستعمل فيه خاص. وينبغي بسط الكلام في ذلك ، حيث جرت سيرة الاعلام على التعرض لذلك في هذا المقام.

فنقول : البحث في الحروف يقع في مقامين : المقام الأول : في بيان معاني الحروف والمايز بينها وبين الأسماء.

المقام الثاني : في بيان الموضوع له في الحروف ، من حيث العموم والخصوص.

اما البحث عن المقام الأول

اشارة

فقد حكى في المسألة أقوال ثلاثة.

القول الأول

هو انه لا مايز بين المعنى الحرفي والمعنى الأسمى في هوية ذاته وحقيقته ، لا في الوضع ولا في الموضوع له ، بل المعنى الحرفي هو المعنى الأسمى ، وكل من معنى لفظة ( من ) ولفظة ( الابتداء ) متحد بالهوية ، وان الاستقلالية بالمفهومية المأخوذة في الأسماء ، وعدم الاستقلالية المأخوذة في الحروف ، ليس من مقومات المعنى الأسمى والمعنى الحرفي. فمرجع هذا القول في الحقيقة إلى أن كلا من لفظ ( من ) ولفظ ( الابتداء ) موضوع للمعنى الجامع بين ما يستقل بالمفهومية ، وما لا يستقل ، فكان كل منهما في حد نفسه يجوز استعماله في مقام الاخر ، الا ان الواضع لم يجوز ذلك ، ووضع لفظة ( من ) لان تستعمل فيما لا يستقل بان يكون قائما بغيره ، ولفظة ( الابتداء ) لان تستعمل فيما يستقل وما يكون قائما بذاته ، فكأنه شرط من قبل الواضع ، مأخوذ في

ص: 33

ناحية الاستعمال من دون ان يكون مأخوذا في حقيقة المعنى.

القول الثاني

هو انه ليس للحروف معنى أصلا ، بل هي نظير علامات الاعراب من الرفع والنصب والجر ، حيث إن الأول علامة للفاعلية ، والثاني علامة للمفعولية ، والثالث علامة للمضاف إليه ، من دون ان يكون لنفس الرفع والنصب والجر معنى أصلا ، فكذلك الحروف ، حيث وضعت لمجرد العلامة لما أريد من مدخولها حسب تعدد ما يراد من الدخول ، مثلا الدار تارة : تلاحظ بما لها من الوجود العيني ، التي هي موجودة كسائر الموجودات التكوينية ، وأخرى : تلاحظ بما لها من الوجود الأيني الذي هو عبارة عن المكان الذي يستقر فيه الشيء ، وكذلك البصرة مثلا تارة : تلاحظ بما لها من الوجود العيني ، وأخرى : تلاحظ بما لها من الوجود الأيني ، وثالثة : تلاحظ بما انها مبدء السير ، ورابعة : تلاحظ بما انها ينتهى إليها السير.

ومن المعلوم : انه في مقام التفهيم والتفهم لا بد من علامة ، بها يقتدر على تفهيم المخاطب ما أريد من الدار والبصرة من اللحاظات ، فوضع الاعراب علامة لملاحظة الدار بوجودها العيني ، فتقع ح مبتداء أو خبرا فيقال : الدار كذا ، أو زيد في الدار ، ووضعت كلمة ( من ) للعلامة على أن الدار أو البصرة لوحظت كونها مبدء السير ، و ( إلى ) علامة كونها ملحوظة منتهى السير ، وكلمة ( في ) علامة لكونها ملحوظة بوجودها الأيني المقابل لوجودها العيني ، فليس لكلمة ( من ) و ( إلى ) و ( في ) معنى أصلا ، بل حالها حال أداة الاعراب ، من كونها علامة صرفة لما يراد من مدخولاتها ، من دون ان يكون تحت قوالب ألفاظها معنى أصلا. وهذان القولان نسبا إلى الرضى ره لان اختلاف عبارته يوهم ذلك.

القول الثالث

هو ان للحروف معاني ممتازة بالهوية عن معاني الأسماء ، ويكون الاختلاف بين الحروف والاسم راجعا إلى الحقيقة ، بحيث تكون معاني الحروف مباينة لمعاني الأسماء تباينا كليا ، لا ان معانيها متحدة مع معاني الأسماء ، ولا انها علامات صرفة ليس لها معاني. وهذا القول هو الموافق للتحقيق الذي ينبغي البناء عليه. و

ص: 34

توضيح ذلك يقضى رسم أمور :

الامر الأول :

في شرح ما قيل في معنى الاسم : من أنه ما دل على معنى في نفسه أو قائم بنفسه ، والحرف ما دل على معنى في غيره أو قائم بغيره ، وقبل ذلك ينبغي الإشارة إلى ما يراد من المعنى والمفهوم.

فنقول : المراد من المعنى والمفهوم هو المدرك العقلاني ، الذي يدركه العقل من الحقائق ، سواء كان لتلك الحقايق خارج يشار إليه ، أو لم يكن ، وذلك المدرك العقلاني يكون مجردا عن كل شيء وبسيطا غاية البساطة ، بحيث لايكون فيه شائبة التركيب ، إذ التركيب من المادة والصورة انما يكون من شأن الخارجيات ، واما المدركات العقلية فليس فيها تركيب ، بل لا تركيب في الأوعية السابقة على وعاء العقل من الواهمة والمتخيلة بل الحس المشترك أيضا ، إذ ليس في الحس المشترك الا صورة الشيء مجردا عن المادة ، ثم يرقى الشيء المجرد عن المادة إلى القوة الواهمة ، ثم يصعد إلى أن يبلغ صعوده إلى المدركة العقلانية ، فيكون الشيء في تلك المرتبة مجردا عن كل شيء حتى عن الصورة ، فالمفهوم عبارة عن ذلك المدرك العقلاني الذي لا وعاء له الا العقل ، ولا يمكن ان يكون ذلك الشيء في ذلك الوعاء مركبا من مادة وصورة ، بل هو بسيط كل البساطة.

وما يقال : من أن الجنس والفصل عبارة عن الاجزاء العقلية ، فليس المراد ان المدركات العقلية مركبة من ذلك ، بل المراد ان العقل بالنظر الثانوي إلى الشيء يحكم : بأن كل مادي لابد وأن يكون له ما به الاشتراك الجنسي ، وما به الامتياز الفصلي ، والا فالمدرك العقلي لايكون فيه شائبة التركيب أصلا ، فمرادنا من المعنى والمفهوم في كل مقام ، هو ذلك المدرك العقلي.

إذا عرفت ذلك فنقول :

في شرح قولهم : ان الاسم ما دل على معنى في نفسه ، أو قائم بنفسه ، هو ان المعنى الأسمى مدرك من حيث نفسه ، وله تقرر في وعاء العقل ، من دون ان يتوقف ادراكه على ادراك امر اخر ، حيث إنه هو بنفسه معنى يقوم بنفسه في مرحلة التصور و

ص: 35

الادراك ، وله نحو تقرر وثبوت ، سواء كان المعنى من مقولة الجواهر ، أو من مقولة الاعراض ، إذ الاعراض انما يتوقف وجودها على محل ، لا ان هويتها تتوقف على ذلك ، حتى الاعراض النسبية ، كالأبوة والبنوة ، فان تصور الاعراض النسبية وان كان يتوقف على تصور طرفيها ، الا انه مع ذلك لها معنى متحصل في حد نفسه عند العقل ، وله نحو تقرر وثبوت في وعاء التصور والادراك.

والحاصل :

ان المراد من كون المعنى الأسمى قائما بنفسه ، هو ان للمعنى نحو تقرر وثبوت في وعاء العقل ، سواء كان هناك لافظ ومستعمل ، أو لم يكن ، وسواء كان واضع ، أو لم يكن ، كمعاني الأسماء : من الأجناس والاعلام ، من الجواهر المركبة والمجردات والاعراض وكل موجود في عالم الامكان ، فإنه كما أن لكل منها نحو تقرر وثبوت في الوعاء المناسب له من عالم المجردات وعالم الكون والفساد ، فكذلك لكل منها نحو تقرر وثبوت في وعاء العقل عند تصورها وادراكها ، من دون ان يكون لاستعمال ألفاظها دخل في ذلك ، بل معاني تلك الألفاظ بأنفسها ثابتة ومتقررة عند العقل في مقام التصور ، كما يشاهد ان للفظة الجدار مثلا معنى ثابتا عند العقل في مرحلة ادراكه وتصوره على نحو ثبوته العيني التكويني ، من دون ان يتوقف ادراكه على وضع ولفظ واستعمال ، كما لا توقف لوجوده العيني على ذلك ، فهذا معنى قولهم : ان الاسم ما دل على معنى قائم بنفسه ، إذ معنى كونه قائما بنفسه هو ثبوته النفسي ، وتقرره عند العقل.

واما معنى قولهم : ان الحرف ما دل على معنى في غيره ، أو قائم بغيره ، فالمراد منه : هو ان المعنى الحرفي ليس له نحو تقرر وثبوت في حد نفسه ، بل معناه قائم بغيره ، لا بمعنى انه ليس له معنى ، كما توهمه من قال إنه ليس للحروف معنى بل هي علامات صرفه ، بل بمعنى ان معناه ليس قائما بنفسه وبهوية ذاته ، بل قائم بغيره ، نظير قيام العرض بمعروضه وان لم يكن من هذا القبيل ، الا انه لمجرد التنظير والتشبيه ، والا فللعرض معنى قائم بنفسه عند التصور ، وان كان وجوده الخارجي يحتاج إلى محل يقوم به.

ص: 36

والحاصل : ان المعنى الحرفي يكون قوامه بغيره ، ونحو تقرره وثبوته بتقرر الغير وثبوته ، كالنسبة الابتدائية والظرفية القائمة بالبصرة والدار عند قولنا : سرت من البصرة وزيد في الدار. ولعل من توهم انه ليس للحروف معنى اشتبه من قولهم في تعريف الحرف : بأنه ما دل على معنى في غيره ، فتخيل ان مرادهم من ذلك هو انه ليس له معنى ، ولكن قد عرفت : انه ليس مرادهم ذلك ، بل مرادهم ان المعنى الحرفي ليس قائما بنفسه نظير قيام المعنى الأسمى بنفسه.

والفرق بين كونه علامة صرفة ، وبين كون معناه قائما بغيره ، هو انه بناء على العلامة يكون الحرف حاكيا عن معنى في الغير متقرر في وعائه ، كحكاية الرفع عن الفاعلية الثابتة لزيد في حد نفسه ، مع قطع النظر عن الاستعمال. وهذا بخلاف كون معناه قائما بغيره ، فإنه ليس فيه حكاية عن ذلك المعنى القائم بالغير ، بل هو موجد لمعنى في الغير ، على ما سيأتي توضيحه انشاء اللّه تعالى.

الامر الثاني :

لا اشكال في أن المعاني المرادة من الألفاظ على قسمين منها : ما تكون اخطارية ، ومنها : ما تكون ايجادية.

اما الأولى : فكمعاني الأسماء حيث إن استعمال ألفاظها في معانيها يوجب اخطار معانيها في ذهن السامع واستحضارها لديه ، والسر في ذلك هو ما ذكرناه من أن المفاهيم الاسمية لها نحو تقرر وثبوت في وعاء العقل ، الذي هو وعاء الادراك ، فيكون استعمال ألفاظها موجبا لاخطار تلك المعاني في الذهن.

واما الثانية : فكمعاني الحروف حيث إن استعمال ألفاظها موجب لايجاد معانيها من دون ان يكون لمعانيها نحو تقرر وثبوت مع قطع النظر عن الاستعمال ، بل توجد في موطن الاستعمال ، وذلك ككاف الخطاب وياء النداء ، وما شابه ذلك ، بداهة انه لولا قولك يا زيد وإياك ، لما كان هناك نداء ولا خطاب ، ولا يكاد يوجد معنى ياء النداء وكاف الخطاب الا بالاستعمال وقولك يا زيد وإياك ، فنداء زيد وخطاب عمرو انما يوجد ويتحقق بنفس القول ، فتكون ياء النداء وكاف الخطاب موجدة لمعنى لم يكن له سبق تحقق ، بل يوجد بنفس الاستعمال ، لوضوح انه

ص: 37

لا يكاد توجد حقيقة المخاطبة والنداء بدون ذلك ، فواقعية هذا المعنى وهويته تتوقف على الاستعمال ، وبه يكون قوامه. وهذا بخلاف معنى زيد ، فان له نحو تقرر وثبوت في وعاء التصور مع قطع النظر عن الاستعمال ، ومن هنا صار استعماله موجبا لاخطار معناه ، بخلاف معنى ياء النداء وكاف الخطاب ، فإنه ليس له نحو تقرر وثبوت مع قطع النظر عن الاستعمال. نعم مفهوم النداء ومفهوم الخطاب له تقرر في وعاء العقل ، الا انه لم توضع لفظة يا وكاف الخطاب بإزائه بل الموضوع بإزاء ذلك المفهوم هو لفظة النداء ولفظة الخطاب ، لا لفظة يا وكاف الخطاب ، بل هما وضعتا لايجاد النداء والخطاب ، وهذا في الجملة مما لا اشكال فيه. انما الاشكال في أن جميع معاني الحروف تكون ايجادية أولا. ظاهر كلام المحقق (1) صاحب الحاشية : هو اختصاص ذلك ببعض الحروف ، وكان منشأ توهم الاختصاص ، هو تخيل ان مثل ( من ) و ( إلى ) و ( على ) و ( في ) وغير ذلك من الحروف تكون معانيها اخطارية ، حيث كان استعمالها موجبا لاخطار ما وقع في الخارج من نسبة الابتداء والانتهاء ، مثلا في قولك سرت من البصرة إلى الكوفة تكون لفظة ( من ) و ( إلى ) حاكية عما وقع في

ص: 38


1- هداية المسترشدين في شرح معالم الدين. الفائدة الثانية من الفوائد التي وضعها في تتمة مباحث الألفاظ. ص 22. واليك نص ما افاده قدس سره في هذا المقام : « الثانية : الغالب في أوضاع الألفاظ ان تكون بإزاء المعاني التي يستعمل اللفظ فيها ، كما هو الحال في معظم الألفاظ الدائرة في اللغات ، وحينئذ فقد يكون ذلك المعنى أمرا حاصلا في نفسه مع قطع النظر عن اللفظ الدال عليه ، فليس من شأن اللفظ الا احضار ذلك المعنى ببال السامع ، وقد يكون ذلك المعنى حاصلا بقصده من اللفظ من غير أن يحصل هناك معنى قبل أداء اللفظ ، فيكون اللفظ آلة لايجاد معناه وأداة لحصوله ويجرى كل من القسمين في المركبات والمفردات. » إلى أن قال : « والنوع الأول من المفردات معظم الألفاظ الموضوعة ، فإنها انما تقضى باحضار معانيها ببال السامع من غير أن تفيد اثبات تلك المعاني في الخارج فهي أعم من أن تكون ثابتة في الواقع أولا. والنوع الثاني منها كأسماء الإشارة والافعال الانشائية بالنسبة إلى وضعها النسبي ، وعدة من الحروف كحروف النداء والحروف المشبهة بالفعل ونحوها ، فان كلا من الإشارة والنسبة الخاصة والنداء والتأكيد حاصل من استعمال هذا ، واضرب ، ويا ، وان ، في معاينها .. »

الخارج كحكاية لفظة زيد عن معناه هذا.

ولكن الذي يقتضيه التحقيق ان معاني الحروف كلها ايجادية وليس شيء منها اخطارية. وتوضيح ذلك يستدعى بسطا من الكلام في معنى النسبة وأقسامها.

فنقول : ان النسبة عبارة عن العلقة والربط الحاصل من قيام إحدى المقولات التسع بموضوعاتها ، بيان ذلك هو انه لما كان وجود العرض - في نفسه ولنفسه - عين وجوده - لموضوعه وفي موضوعه - لاستحالة قيام العرض بذاته ، فلا بد ان تحدث هناك نسبة وإضافة بين العرض وموضوعه ، بداهة ان ذلك من لوازم قيام العرض بالموضوع ، وعينية وجوده لوجوده الذي يكون هو المصحح للحمل ، فإنه لولا قيام البياض بزيد واتحاد وجوده بوجوده لما كاد ان يصح الحمل ، فلا يقال : زيد ابيض ، الا بلحاظ العينية في الوجود ، إذ لولا لحاظ ذلك لكان البياض أمرا مباينا لزيد ، ولا ربط لأحدهما بالآخر ، ولا يصح حمل أحدهما على الاخر ، إذ ملاك الحمل هو الاتحاد في الوجود في الحمل الشايع الصناعي ، فالإضافة الحاصلة من قيام العرض بموضوعه هي المصحح للحمل ، إذ بذلك القيام يحصل الاتحاد والعينية في الوجود ، بل الإضافة تحتاج إليها في كل حمل ، وان لم يكن من الحمل الشايع الصناعي ، كقولك : الانسان حيوان ناطق ، وزيد زيد ، غايته ان في مثل هذا الحمل لابد من تجريد الموضوع بنحو من التجريد حتى لايكون من حمل الشيء على نفسه ، الا ان التجريد يكون بضرب من الجعل والتنزيل ، إذ لا يمكن تجريد الشيء عن نفسه حقيقة ، بل لابد من اعتبار التجريد حتى يصح الحمل ، ويخرج عن كونه من حمل الشيء على نفسه. وهذا بخلاف التجريد في الحمل الشايع الصناعي ، فان التجريد فيه يكون حقيقيا ذاتيا ، لتغاير ذات زيد وحقيقته عن حقيقة الأبيض ، ولا ربط لأحدهما بالآخر لولا الاتحاد الخارجي. وعلى كل حال ، فلا اشكال في أنه عند قيام كل عرض من أي مقولة بمعروضه تحدث إضافة بينهما ، وتلك الإضافة هي المعبر عنها بالنسبة.

ثم انه ، لما كان قيام العرض بموضوعه وعينية وجوده لوجوده فرع وجوده ، بداهة ان وجوده لنفسه كان عين وجوده لموضوعه ، ومن المعلوم : ان عينية الوجود لموضوعه متأخرة بالرتبة عن أصل وجوده ، كان أول نسبة تحدث هي النسبة

ص: 39

الفاعلية التي هي واقعة في رتبة الصدور والوجود ، إذ الفاعل ما كان يوجد عنه الفعل على اختلاف الافعال الصادرة عنه ، فنسبة الفعل إلى الفاعل هي أول النسب ، ومن ذلك تحصل الافعال الثلاثة من الماضي والمضارع والامر ، على ما هي عليها من الاختلاف ، الا ان الجميع يشترك في كون النسبة فيه نسبة التحقق والصدور ، وإيجاد المبدء ، فهذه أول نسبة تحدث بين العرض والموضوع ، ثم بعد ذلك تحدث نسبة المشتق ، لان المشتق انما يتولد من قيام العرض بالموضوع والاتحاد في الوجود الموجب للحمل ، فيقال : زيد ضارب ، ومن المعلوم : ان هذا الاتحاد لمكان صدور الضرب عنه ، فالنسبة الأولية الحادثة هي النسبة الفاعلية ، وفي الرتبة الثانية تحدث نسبة المشتق ، ثم بعد ذلك تصل النوبة إلى نسبة الملابسات من المفاعيل الخمسة ، من حيث إن وقوع الفعل من الفاعل لابد وأن يكون في زمان خاص ، ومكان مخصوص ، في حالة خاصة ، فالنسبة الحاصلة بين الفعل وملابساته انما هي بعد نسبة الفعل إلى الفاعل وقيامه به واتحاده معه المصحح للحمل ، فهذه النسب الثلاث هي التي تتكفلها هيئات تراكيب الكلام ، من قولك : ضرب زيد عمرا ، وزيد ضارب ، وغير ذلك.

ثم إن هناك أدوات اخر تفيد النسبة ، إذ لا يختص ما يفيد النسبة بهيئات التراكيب ، بل الحروف أيضا تفيد النسبة ك ( من ) و ( إلى ) و ( على ) و ( في ) وغير ذلك من الحروف الجارة ، فإنه ( من ) مثلا تفيد نسبة السير الصادر من السائر إلى المكان المسير عنه ، و ( إلى ) تفيد النسبة إلى المكان الذي يسير إليه ، فيقال : سرت من البصرة إلى الكوفة ، فلولا كلمة ( من ) و ( إلى ) لما كاد يكون هناك نسبة بين السير والبصرة والكوفة. وكذا الكلام في كلمة ( في ) حيث إنها تفيد النسبة بين الظرف والمظروف ، فيقال : زيد في الدار ، وضرب زيد في الدار ، غايته انها تارة : تفيد نسبة قيام العرض بالموضوع ، فيكون الظرف مستقرا ، وأخرى : تفيد نسبة ملابسات الفعل ، فيكون الظرف لغوا ، فمثل زيد في الدار يكون من الظرف المستقر ، إذ معنى قولك : زيد في الدار ، هو ان زيدا موجود في الدار وكائن فيها ، وهذا معنى قول النحاة في تعريف الظرف المستقر بأنه ما قدر فيه : كائن ، ومستقر ، وحاصل ، وما شابه

ص: 40

ذلك. وليس مرادهم ان هناك لفظا منويا في الكلام ومقدرا فيه ، بل الظرف المستقر هو بنفسه يفيد ذلك من دون ان يكون هناك تقدير في الكلام ، إذ معنى قولك : زيد في الدار ، هو وجود زيد في الدار ، وانه كائن فيها. وهذا بخلاف قولك : ضرب زيد في الدار ، فإنه يفيد نسبة الضرب الحاصل من زيد إلى الدار ، فالظرف اللغو ما أفاد نسبة المبدء إلى ملابسات الفعل بعد فرض تحقق المبدء وصدوره عن الفاعل. وهكذا الكلام في كلمة ( على ) حيث إنها تارة : تفيد نسبة قيام العرض ، وأخرى : تفيد نسبة الملابسات ، فيقال زيد على السطح ، وضرب زيد على السطح ، وكذا الكلام في كلمة ( من ) فإنها تارة يكون الظرف فيها مستقرا كقوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : حسين منى وانا من حسين ، وأخرى : يكون لغوا كقولك : سرت من البصرة ، حيث إنها تفيد نسبة السير إلى ملابسه من المكان المخصوص.

وحاصل الفرق بين الظرف اللغو والمستقر ، هو ان الظرف المستقر ما كان بنفسه محمولا كقولك : زيد في الدار ، والظرف اللغو يكون من متممات الحمل. فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان النسبة على اقسام ، والمتكفل لبيانها أمور : من هيئات التراكيب ، والحروف الجارة. وليكن هذا على ذكر منك لعله ينفعك في مبحث المشتق.

إذا عرفت ذلك ، فلنرجع إلى ما كنا فيه من أن الهيئات والحروف المفيدة للنسبة أيضا تكون معانيها ايجادية لا اخطارية.

فنقول :

قد تقدم ان منشأ توهم ذلك هو تخيل ان هذه الحروف انما تكون حاكية عن النسبة الخارجية المتحققة من قيام إحدى المقولات بموضوعاتها ، ومن هنا تتصف بالصدق والكذب ، إذ لولا حكايتها عن النسبة الخارجية لما كانت تتصف بذلك ، بداهة ان الايجاديات لا تتصف بالصدق والكذب ، بل بالوجود والعدم ، وما يتصف بالصدق والكذب هي الحواكي ، حيث إنه ان طابق الحاكي للمحكي يكون الكلام صادقا ، والا فلا ، فكلمة ( من ) في قولك سرت من البصرة إلى الكوفة تكون حاكية عن النسبة الخارجية الواقعة بين السير والبصرة ومخطرة لها في ذهن

ص: 41

السامع.

هذا ولكن التحقيق :

ان معاني الحروف كلها ايجادية حتى ما أفاد منها النسبة.

وبيان ذلك : هو ان شأن أدوات النسبة ليس الا ايجاد الربط بين جزئي الكلام ، فان الألفاظ بما لها من المفاهيم متباينة بالهوية والذات ، لوضوح مباينة لفظ زيد بما له من المعنى للفظ القائم بما له من المعنى ، وكذا الفظ السير مباين للفظ الكوفة والبصرة بما لها من المعنى ، وأداة النسبة انما وضعت لايجاد الربط بين جزئي الكلام بما لهما من المفهوم ، على وجه يفيد المخاطب فائدة تامة يصح السكوت عليها ، فكلمة ( من ) و ( إلى ) انما جيئ بهما لايجاد الربط ، واحداث العلقة بين السير والبصرة والكوفة الواقعة في الكلام ، بحيث لولا ذلك لما كان بين هذه الألفاظ ربط وعلقة أصلا.

ثم بعد ايجاد الربط بين جزئي الكلام بما لهما من المفهوم ، يلاحظ المجموع من حيث المجموع ، أي يلاحظ الكلام بما له من النسبة بين اجزائه ، فان كان له خارج يطابقه يكون الكلام صادقا ، أي كانت النسبة الخارجية على طبق النسبة الكلامية ، والا يكون الكلام كاذبا ، وذلك فيما إذا لم تطابق النسبة الكلامية للنسبة الخارجية ، وأين هذا من كون النسبة الكلامية حاكية عن النسبة الخارجية؟ بل النسبة الكلامية انما توجد الربط بين اجزاء الكلام ، والمجموع المتحصل يكون اما مطابقا للخارج ، أو غير مطابق. وفرق واضح بين كون النسبة الكلامية حاكية عن النسبة الخارجية ومخطرة لها في ذهن السامع وبين ان تكون النسبة موجدة للربط بين اجزاء الكلام ، ويكون المجموع المتحصل من جزئي الكلام بما لهما من النسبة له خارج يطابقه أو لا يطابقه ، فظهر : ان الحروف النسبية أيضا تكون معانيها ايجادية لا اخطارية.

الامر الثالث :

قد ظهر مما ذكرنا وجه المختار من امتياز معاني الحروف بالهوية عن معاني الأسماء تمايزا كليا ، لما تقدم : من أن معاني الأسماء متقررة في وعاء العقل ، ثابتة

ص: 42

بأنفسها ، مع قطع النظر عن الاستعمال ، بخلاف معاني الحروف ، فإنها معان ايجادية تتحقق في موطن الاستعمال ، من دون ان يكون لها سبق تحقق قبل الاستعمال ، نظير المعاني الانشائية التي يكون وجودها بعين انشائها ، كايجاد الملكية بقوله بعت ، حيث إنه لم يكن للملكية سبق تحقق مع قطع النظر عن الانشاء ، ومعاني الحروف تكون كذلك بحيث كان وجودها بنفس استعمالها ، وان كان بين الانشائيات والايجاديات فرق على ما سيأتي بيانه ، فالحروف وضعت لايجاد معنى في الغير ، على وجه لايكون ذلك الغير واجدا للمعنى من دون استعمال الحرف ، كما لايكون زيد منادى من دون قولك يا زيد ، ويكون النسبة بين ما يوجده الحرف من المعنى وبين المعاني الاسمية المتقررة في وعاء العقل نسبة المصداق إلى المفهوم.

مثلا يكون النداء مفهوم متقرر عند العقل مدرك في وعاء التصور وهو من هذه الجهة يكون معنى اسميا ، وقد جعل لفظة النداء بإزائه ، واما الندا الحاصل من قولك يا زيد ، فهو انما يكون مصداقا لذلك المفهوم ، ويتوقف تحققه على التلفظ بقولك يا زيد ، بحيث لا يكاد يوجد مصداق النداء وصيرورة زيد منادى الا بقولك يا زيد ، فلفظة ( ياء النداء ) انما وضعت لايجاد مصداق النداء ، لا انها وضعت بإزاء مفهوم النداء ، كما يدعيه من يقول بعدم الفرق بين المعنى الحرفي والمعنى الأسمى ، وكذا الحال في سائر الحروف ، حيث إنها بأجمعها وضعت لايجاد المصاديق. مثلا لفظة ( الابتداء ) وضعت بإزاء المفهوم المتقرر عند العقل ، واما لفظة ( من ) فلم توضع بإزاء ذلك المفهوم ، بل وضعت لايجاد نسبة ابتدائية بين المتعلقين. وقول النحاة : من أن ( من ) وضعت للابتداء لا يخلو عن تسامح ، بل حق التعبير ان يق : ان لفظة ( من ) وضعت لايجاد النسبة الابتدائية ، وتلك النسبة الابتدائية التي توجدهما لفظة ( من ) لا يكاد يمكن ان يكون لها سبق تحقق في عالم التصور نعم يمكن تصورها بوجه ما ، أي بتوسط المفاهيم الاسمية ، كان يتصور الواضع النسبة الابتدائية الكذائية التي توجد بين السير والبصرة ، وهذه كلها مفاهيم اسمية قد توصل بها إلى معنى حرفي فوضع لفظة ( من ) بإزاء ذلك المعنى الحرفي المتصور بتلك المفاهيم.

فتحصل : ان النسبة بين المعاني الحرفية والمعاني الاسمية ، هي النسبة بين

ص: 43

المصداق والمفهوم ، وكم بين المفهوم والمصداق من الفرق ، بداهة تغاير المفهوم والمصداق بالهوية ، وبالاثر والخاصية ، إذ المفهوم لا موطن له الا العقل ، وموطن المصداق هو الخارج ، ولا يعقل اتحاد ما في العقل مع ما في الخارج الا بالتجريد والقاء الخصوصية ، ولا يمكن القاء الخصوصية في الحرف ، لان موطنه الاستعمال وهو قوامه ، فالتجريد والقاء الخصوصية يوجب خروجه عن كونه معنى حرفيا ، هذا بحسب الهوية. وكذا الحال في الآثار والخواص ، فان الرافع للعطش مثلا مصداق الماء ، لا مفهومه ، والمحرق هو مصداق النار ، لا مفهومها.

وحاصل الكلام :

ان الحروف بأجمعها ، وما يلحق بها مما يتكفل معنى نسبيا رابطيا ، انما وضعت لايجاد مصاديق الربط والنسبة ، على ما بين النسب والروابط من الاختلاف من النسبة الابتدائية والانتهائية والظرفية وغير ذلك ، والأسماء وضعت بإزاء مفاهيم تلك الروابط ، فلا ترادف بين لفظة ( ياء ) النداء وبين لفظة ( النداء ) بما لهما من المعنى ، ولا يصح حمل أحدهما على الاخر ، لان لفظة ( يا ) موجدة لمعنى في الغير ، ولفظة ( النداء ) حاكية عن معنى متقرر في وعائه.

ولا يتوهم انه لو كانت نسبة المعنى الحرفي للمعنى الأسمى نسبة المصداق إلى المفهوم لكان اللازم صحة حمل أحدهما على الاخر ، كصحة حمل الانسان على زيد ، فلازمه صحة حمل ( النداء ) على ( ياء ).

وذلك لان صحة الحمل في قولك زيد انسان انما هو لأجل حكاية زيد عن معنى متحد في الخارج مع الانسان ، وهذا بخلاف ( يا ) فإنها ليست حاكية عن معنى متحد مع ( النداء ) بل هي موجدة لمعنى في الغير. نعم ما يوجد بياء النداء يحمل عليه انه نداء من باب حمل الكلي على المصداق فتأمل في المقام جيدا.

الامر الرابع :

قد ظهر مما ذكرنا ان قوام المعنى الحرفي يكون بأمور أربعة :

الأول : ان يكون المعنى ايجاديا ، لا اخطاريا.

الثاني : ان يكون المعنى قائما بغيره لا بنفسه ، كالمعاني الموجدة في باب العقود

ص: 44

والايقاعات ، على ما يأتي بيانه.

الثالث : ان لايكون لذلك المعنى الايجادي نحو تقرر وثبوت بعد ايجاده ، بل كان ايجاده في موطن الاستعمال ، ويكون الاستعمال مقوما له ، ويدور حدوثه وبقائه مدار الاستعمال.

الرابع : ان يكون المعنى حين ايجاده مغفولا عنه غير ملتفت إليه ، وهذا لازم كون المعنى ايجاديا وكون موطنه الاستعمال ، بداهة انه لو كان المعنى الحرفي بما انه معنى حرفيا ملتفتا إليه قبل الاستعمال أو حين الاستعمال لما كان الاستعمال موطنه ، بل كان له موطن غير الاستعمال ، إذ لا يمكن الالتفات إلى شيء من دون ان يكون له نحو تقرر في موطن ، فحيث انه ليس للمعنى الحرفي موطن غير الاستعمال ، فلا بد من أن يكون غير ملتفت إليه ومغفولا عنه حين الاستعمال ، نظير الغفلة عن الألفاظ حين تأدية المعاني بها لفناء اللفظ في المعنى وكونه مرآة له ، ولا يمكن الالتفات إلى ما يكون فانيا في الشيء حين الالتفات إلى ذلك الشيء ، كما لا يمكن الالتفات إلى الظل حين الالتفات إلى ذي الظل والمرآة حين الالتفات إلى المرئي.

وبالجملة :

لما كان قوام المعنى الحرفي هو الاستعمال ، ولا موطن له سواه ، فلا بد من أن يكون المعنى غير ملتفت إليه ، بل يوجد مصداق النداء بنفس قولك يا زيد مثلا ، من دون ان يكون هذا المصداق ملتفتا إليه عند القول ، إذ قوامه بنفس القول ، فكيف يكون له سبق التفات. نعم ما يكون ملتفتا إليه هو تنبيه زيد واحضاره وما شابه ذلك ، وهذه كلها معاني اسمية ، والمعنى الحرفي هو ما يتحقق بقولك يا زيد ، ولا يمكن سبق الالتفات إلى ما لا وجود له الا بالقول كما لا يخفى. فهذه أركان أربعة بها يتقوم المعنى الحرفي ويمتاز عن المعنى الأسمى. وبذلك يظهر الفرق بين المعاني الايجادية في باب الحروف ، والمعاني الايجادية في باب المنشآت بالعقود والايقاعات.

وتوضيح ذلك :

هو ان للصيغ الانشائية كبعت وطالق جزء ماديا وجزء صوريا. اما

ص: 45

الجزء المادي : فهو مبدء الاشتقاق ، وهو معنى اسمى وله مفهوم متقرر في وعاء العقل. واما الجزء الصوري فهو عبارة عن الهيئة التي وضعت لايجاد انتساب المبدء إلى الذات ، واما الأخبارية والانشائية فهما خارجان عن مدلول اللفظ ، وانما يستفادان من المقام والسياق وقرائن الحال ، لا ان لفظ بعت مثلا يكون مشتركا بين الأخبارية والانشائية. وحينئذ إذا كان المتكلم في مقام الاخبار بحيث استفيد من السياق انه في ذلك المقام ، كان اللفظ موجبا لاخطار المعنى في الذهن من دون ان يوجد باللفظ معنى أصلا ، كما في الأسماء ، وإذا كان المتكلم في سياق الانشاء فايضا يكون موجبا لاخطار المعنى في ذهن السامع ، الا انه مع ذلك يكون موجدا للمنشأ من الملكية ، وموجبا لايجاد شيء لم يكن قبل التلفظ ببعت من ملكية المشترى للمال ، ولكن الذي يوجده اللفظ امر متقرر في حد نفسه ، لا ان تقرره يكون منحصرا في موطن الاستعمال ، بل بالاستعمال يوجد معنى متقرر في الوعاء المناسب له من وعاءات الاعتبار ، حيث كانت الملكية من الأمور الاعتبارية.

والحاصل : ان استعمال صيغ العقود في معانيها يوجب حدوث امر لم يكن إذا كان في مقام الانشاء ، واما بقاء ذلك الامر فلا يدور مدار الاستعمال ، بل يدور مدار بقاء وعائه من وعاء الاعتبار ، فملكية المشترى للمال تبقى ببقاء الاعتبار ، ولا تدور مدار بقاء الانشاء والاستعمال ، بل الملكية هي بنفسها متقررة بعد الانشاء ، وهذا بخلاف المعنى الموجد بالحرف ، فان المعنى الحرفي قراره وقوامه يكون في موطن الاستعمال ، بحيث يدور مدار الاستعمال حدوثا وبقاء ، مثلا ( من ) في قولك سرت من البصرة إلى الكوفة انما توجد الربط والنسبة بين لفظة السير بما لها من المفهوم ، ولفظة البصرة كذلك ، ومن المعلوم : ان هذا الربط يدور مدار الاستعمال ، فما دام متشاغلا بالاستعمال يكون الربط محفوظا ، وبمجرد خروج المتكلم عن موطن الاستعمال ينعدم الربط ، وكذلك النداء في قولك : يا زيد انما يكون قوامه بنفس الاستعمال ، ويكون قائما بقولك : يا زيد ، وليس للنداء الحاصل من القول نحو تقرر وثبوت في وعاء من الأوعية غير وعاء الاستعمال ، بخلاف الملكية الحاصلة من قولك بعت ، حيث إن لها تقررا في وعاء الاعتبار ، فالمعنى الحرفي حدوثا وبقاء متقوم

ص: 46

بالاستعمال.

وبالجملة : هناك فرق بين المعنى المنشأ بقولك بعت ، والمعنى الموجد بهيئة بعت ، فان الهيئة انما توجد النسبة بين المبدء والفاعل ، وهذا قوامه بالاستعمال ، فما دام متشاغلا بقوله بعت تكون النسبة بين المبدء والفاعل محفوظة ، وبمجرد الخروج عن موطن الاستعمال تنعدم النسبة ، ويكون لفظ البيع بما له من المعنى مباينا للبايع من دون ان يكون بينهما ربط ، وهذا بخلاف الموجد بالانشاء ، فإنه لا يقوم بالاستعمال وان كان يوجد بالاستعمال ، بل يقوم في الوعاء المناسب له.

فتحصل : ان صيغ العقود وان اشتركت مع الحروف في ايجادها المعنى ، الا انها تفترق عنها في أن المعنى الحرفي يكون قائما بغيره والمعنى الانشائي يكون قائما بنفسه ، والمعنى الحرفي لا موطن له الا الاستعمال والمعنى الانشائي موطنه الاعتبار ، والمعنى الحرفي مغفول عنه عند الاستعمال والمعنى الانشائي ملتفت إليه فتأمل جيدا.

وإذا عرفت مباينة المعنى الحرفي للمعنى الأسمى ، ظهر لك ضعف ما قيل : من أنه ليس للحروف معنى أصلا بل انما هي علامات لإفادة ما أريد من متعلقاتها ، كما حكى نسبة ذلك إلى الشيخ الرضى ره.

وجه الضعف : هو ان العلامة لم تحدث في ذي العلامة معنى يكون فاقدا له لولا العلامة ، بل يكون ذو العلامة على ما هو عليه ، وتكون العلامة لمجرد التعريف ، وشأن الحروف ليس كذلك لوضوح انها تحدث معنى في الغير كان فاقدا له لولا دخول الحرف عليه ، بداهة ان زيدا لم يكن منادى ويصير منادى بسبب ياء النداء ، ومع ذلك كيف يمكن القول بأنها علامة؟.

وكذلك ظهر ضعف ما قيل أيضا : من أنه لا مايز بين معاني الحروف ومعاني الأسماء في ناحية الوضع والموضوع له ، وانما لم يصح استعمال أحدهما مكان الاخر ، لاعتبار الواضع قيد ( ما قصد لنفسه ) في الأسماء في ناحية الاستعمال ، و ( ما قصد لغيره ) في الحروف في تلك الناحية.

وبعبارة أخرى : الأسماء وضعت لتستعمل في المعاني الاستقلالية ، و

ص: 47

الحروف وضعت لتستعمل في المعاني الغيرية ، فلا مايز بين المعنى الحرفي والمعنى الأسمى بالهوية.

وجه الضعف : هو ان صاحب هذا القول تتركب دعواه من أمرين :

الأول : دعوى ان كلا من الحرف والاسم وضع للقدر المشترك ، بين ما يستقل بالمفهومية ، وما لا يستقل.

الثاني : دعوى كون عدم صحة استعمال الحرف في مقام الاسم وبالعكس انما هو لأجل منع الواضع عن ذلك في مقام الاستعمال واخذ كل من قيد الآلية والاستقلالية شرطا في ناحية الاستعمال ، ولكن لا يخفى فساد كل من الامرين.

اما الأول : فلان المعنى في حاق هويته ، اما ان يستقل بالمفهومية ، واما ان لا يستقل ، فالامر يدور بين النفي والاثبات من دون ان يكون في البين جامع ، إذ ليس في المعنى تركيب من جنس وفصل حتى يتوهم وضع كل من الحرف والاسم بإزاء الجنس ، وتكون الآلية والاستقلالية من الفصول المنوعة للمعنى كالناطقية والصاهلية ، لما تقدم في الامر الأول من أن المعنى بسيط غاية البساطة ، ليس فيه شائبة التركيب ، وعليه يبتنى عدم الدلالة التضمنية ، كما نوضحه في محله انشاء اللّه.

فالمعاني في وعاء العقل ، كالأعراض في وعاء الخارج في كونها بسيطة لا تركيب فيها ، ولذا كان ما به الامتياز فيها عين ما به الاشتراك ، كما في السواد والبياض ، أو السواد الشديد والضعيف ، حيث كان امتياز السواد الشديد عن الضعيف بنفس السواد ، وكذا امتياز السواد عن البياض انما يكون بهوية ذاته لا بالفصول المنوعة ، كما في المركبات ، بل السواد بما انه لون يمتاز عن البياض في حد ذاته ، وكذا الشديد والضعيف مع اشتراكهما في الحقيقة يمتاز ان بنفس الحقيقة ، من دون ان يكون هناك مايز خارجي ، هذا حال الاعراض. وكذا الحال في المعاني ، حيث إن المعاني عبارة عن المدركات العقلية التي لا موطن لها الا العقل وهي من أبسط البسائط ، وامتياز بعضها عن بعض يكون بنفس الهوية ، لا بالفصول المنوعة ، وليس لها جنس وفصل ، فدعوى كون ألفاظ الحروف والأسماء موضوعة للقدر

ص: 48

الجامع بين الالية والاستقلالية مما لا محصل لها ، إذ لا يعقل ان يكون المعنى لا مستقل ولا غير مستقل ، فإنه يكون من ارتفاع النقيضين ، فتأمل جيدا.

واما الثاني : فهو أوضح فسادا لما فيه.

أولا : من أن ذلك مبنى على أن يكون للألفاظ واضع خاص حتى يتأتى منه اشتراط ذلك ، وقد تقدم امتناع ذلك في أول المبحث ، مع أنه لو فرض ثبوت واضع خاص فمن المقطوع انه لم يشترط ذلك في مقام الوضع ، لان ذلك خارج عن وظيفة الواضع ، إذ وظيفة الواضع انما هو تعيين مداليل الألفاظ ، لا تعيين تكليف على المستعملين ، لأنه لا ربط للاستعمال بالواضع.

وثانيا : هب ان الواضع اشترط ذلك ، وفرض ان هذا الشرط مما يلزم العمل به ، فما الذي يلزم من مخالفة الشرط باستعمال الحروف مقام الأسماء ، إذ غاية ما يلزم هو مخالفة الواضع ، وهذا لا يوجب كون الاستعمال غلطا ، إذ لا يقصر عن المجاز ، بل ينبغي ان يكون هذا أولى من المجاز ، لان المجاز استعمال اللفظ في غير ما وضع له ، وهذا استعمال في ما وضع له ، غايته انه على غير جهة ما وضع له ، وهذا لا يوجب استهجان الاستعمال ، مع أنه من الواضح استهجان استعمال كلمة ( من ) في مقام كلمة ( الابتداء ) و ( إلى ) في مقام ( الانتهاء ) و ( في ) في مقام ( الظرفية ).

الا ترى : انه لو أراد المتكلم ان يتكلم بألفاظ مفردة بلا نسبة ، يصح ان يتكلم بلفظة الابتداء ، والانتهاء ، والظرف ، والنداء ، والخطاب ، وغير ذلك من الألفاظ المفردة التي يكون لكل منها معنى متحصل في نفسه ، بحيث يسبق إلى ذهن السامع لتلك الألفاظ معانيها ، ولا يصح ان يق للمتكلم : انه ليس لمفردات كلامه معنى متحصل ، وان صح ان يق له : انه ليس لكلامه نسبة يصح السكوت عليها. وهذا بخلاف التكلم بلفظة ( من ) و ( إلى ) و ( في ) و ( يا ) و ( كاف ) وغير ذلك من الحروف ، فأنه لا يسبق إلى ذهن السامع من هذه الألفاظ معنى أصلا ، ويصح ان يق للمتكلم بذلك : انه ليس لمفردات كلامه معنى ، بل يعد هذا الوجه من التكلم مستهجنا ومستبشعا ، فهذا أقوى شاهد على مباينة الحروف للأسماء ، وعدم اتحاد معانيهما ، بداهة ان الاتحاد في المعنى يوجب صحة استعمال كل منهما في مقام الاخر ، و

ص: 49

المفروض انه لا يصح ، فلابد من أن يكون هناك مايز بينهما على وجه يختلف هوية كل منهما عن هوية الاخر ، بحيث لا يصح استعمال كل منهما في مقام الاخر ولو على نحو المجازية ، لعدم ثبوت علاقة بين المعنيين مصححة للاستعمال.

فتحصل

من جميع ما ذكرنا انه لا جامع بين المعنى الحرفي والمعنى الأسمى ، وان الحروف وضعت لايجاد معنى في الغير بالقيود الأربعة المتقدمة ، والأسماء وضعت بإزاء المفاهيم المقررة في وعاء العقل ، فتأمل في المقام فإنه مما زلت فيه الاقدام. وبما ذكرنا ظهر : الخلل في ما عرف به الحرف ، من أنه ما دل على معنى في الغير.

وجه الخلل : هو ان الدلالة تستدعى ثبوت المدلول وتقرره ، والمفروض انه ليس للمعنى الحرفي تقرر وثبوت. ونحن لم نجد في تعاريف القوم ما يكون مبينا لحقيقة المعنى الحرفي ، على وجه يكون جامعا لأركانه الأربعة ، الا ما روى (1) عن أمير المؤمنين علیه السلام من قوله : الاسم ما أنبأ عن المسمى ، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى ، والحرف ما أوجد معنى في غيره ، على بعض النسخ ، وفي بعض آخر : والحرف ما أنبأ عن معنى ليس بفعل ولا اسم ، والظاهر أن يكون الأول هو الصحيح ، لأنه هو المناسب لان يكون عن إفاداته (عليه السلام) التي يفتتح منها الف باب ، و .

ص: 50


1- نقلت هذه الرواية من مآخذ متعددة بعبارات مختلفة : منها : فالاسم ما أنبأ عن المسمى والفعل ما أنبأ به والحرف ما جاء لمعنى. ومنها : فالاسم ما دل على المسمى والفعل ما دل على حركة المسمى والحرف ما أنبأ عن معنى وليس باسم ولا فعل. ومنها : الاسم ما أنبأ عن المسمى والفعل ما أنبأ حركة المسمى والحرف ما أوجد معنى في غيره. راجع لتحقيق مأخذ هذه الرواية « تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام » تصنيف العالم الجليل السيد حسن الصدر. ص 46 إلى 61 وصنف العالم الجليل السيد على البهبهاني (رحمه اللّه) كتابا مستقلا في تحقيق معنى الرواية وسماه ( بالاشتقاق ) وذكر فيه : « الرواية مشتهرة بين أهل العربية اشتهار الشمس في رابعة النهار ».

قد جمع علیه السلام في هذا لحديث تمام علم النحو ، ومن هنا اعترف المخالف بأنه علیه السلام هو المبتكر لعلم النحو ، ولا باس بشرح الحديث المبارك على وجه الاختصار.

فنقول :

اما قوله علیه السلام الاسم ما أنبأ عن المسمى ، فهو عين ما ذكرناه : من أن المعاني الاسمية اخطارية ، والأسماء وضعت لاخطار تلك المعاني في الذهن ، فان الانباء بمعنى الاظهار والاخطار.

واما قوله (عليه السلام) : والحرف ما أوجد معنى في غيره فكذلك أي انه منطبق على ما ذكرناه : من أن معاني الحروف ايجادية بقيودها الأربعة ، إذ لازم كونهما أوجد معنى في غيره ، هو ان يكون المعنى ايجاديا ، وأن يكون ذك المعنى قائما في غيره ، وان لايكون له موطن غير الاستعمال ، وأن يكون مغفولا عنه ، على ما عرفت : من أن القيدين الأخيرين من لوازم كون المعنى في الغير.

واما قوله (عليه السلام) : والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى ، فتوضيحه يتوقف على معرفة حقيقة معنى الفعل ، وما يكون المايز بينه وبين الاسم والحرف ، إذ ربما يستشكل في تصوير معنى لايكون باسم ولا حرف ، مع أن الفعل مركب من مادة وهيئة ، والمادة معنى اسمى ، والهيئة معنى حرفي ، فالفعل يكون مركبا من اسم وحرف ، وليس خارجا عنهما ، فما وجه تثليث الأقسام؟ وجعل الفعل مقابلا للاسم والحرف؟ وليس تثليث الأقسام من كلام النحويين حتى يقال : أخطأوا في تثليث الأقسام ، بل هو من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي كلامه ملوك الكلام ، فلابد من بذل الجهد لمعرفة معنى يقابل المعنى الأسمى والمعنى الحرفي ، بان يكون متوسطا بين المعنيين ، ولا بد أولا من معرفة مبدء الاشتقاق والأصل فيه.

فنقول : انه قد اختلفت الكلمات في مبدء الاشتقاق ، فقيل : انه المصدر ، وقيل : انه اسم المصدر ، والحق انه لا هذا ولا ذاك.

وذلك لان مبدء الاشتقاق لابد ان يكون أمرا محفوظا في تمام الهيئات الاسمية والفعلية ، ويكون بالنسبة إليها من قبيل المادة والصورة ، فلا بد ان يكون

ص: 51

مبدء الاشتقاق معرى عن الهيئة ، حتى يكون معروضا لكل هيئة ، ومن المعلوم ان لكل من المصدر واسم المصدر هيئة تخصه ، ويكون ما يستفاد من اسم المصدر بهيئته مباينا لما يستفاد من المصدر بهيئته ، كالغسل والغسل ، فلا يمكن ان يكون مبدء الاشتقاق المصدر أو اسم المصدر (1) بل لابد من أن يكون مبدء الاشتقاق أمرا معرى عن الهيئة قابلا لعروض كل هيئة عليه ، كالضاد والراء والباء في ضرب ، ولا يمكن ان يتلفظ به ، لان كل ملفوظ لابد ان يكون ذا هيئة.

وحاصل الكلام : ان مبدء الاشتقاق لابد ان يكون أمرا غير متحصل في عالم اللفظ والمعنى ، ويكون تحصله في كلتا المرحلتين بواسطة الهيئة ، فنسبة المبدء إلى الهيئات كنسبة المادة إلى الصور النوعية ، حيث إن المادة تكون صرف القوة ، ويكون فعليتها بالصور النوعية ، كذلك مبدء الاشتقاق يكون معنى غير متحصل بالذات ، ويكون في عالم المفهومية صرف قوة ، ويتوقف فعليته وتحصله على الهيئة ، فمبدء الاشتقاق في الافعال أسوء حالا من الحروف ، إذ الحروف وان لم يكن لها معنى في حد أنفسها ، ولكن يمكن التلفظ بها ، وهذا بخلاف مبدء الاشتقاق فإنه لا يمكن التلفظ به ، كما عرفت ، الا بتوسط الهيئات ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك في بحث المشتق انشاء اللّه تعالى.

ثم إن الهيئات اللاحقة لمبدء الاشتقاق.

منها :

ما يكون مفادها معنى افراديا استقلاليا لا يحتاج في تحصله إلى ضم نسبة تركيبية ، وذلك كالأسماء المشتقة كضارب ومضروب ، وما شابه ذلك ، فان لكل منها معنى افراديا استقلاليا متحصلا بهوية ذاته بلا ضم نسبة ، على ما هو الحق من بساطة معاني الأسماء المشتقة ، كما يأتي تفصيله. فللضارب معنى متحصل افرادي اسمى ، والتلفظ به موجب لاخطار ذلك المعنى في الذهن ، ومن هنا صار معربا يقبل

ص: 52


1- وربما يظهر من بعض الكلمات ان مبدء الاشتقاق هو اسم المصدر ولا دخل لهيئته في معناه ، وانما تكون الهيئة حافظة للمادة ، بخلاف هيئات سائر المشتقات ، فان لها دخلا في المعنى ، فتأمل - منه.

الحركات الاعرابية ، إذ لو كان مفاد هيئته معنى حرفيا لكان مبنيا ولم يقبل الحركات الاعرابية ، كما هو الشأن في هيئات الافعال ، حيث كان مفادها معنى حرفيا ، ولأجل ذلك صارت مبنية. وليس مفاد هيئة ضارب نسبة تركيبية ، حتى يكون معنى ضارب هو ذات ثبت لها الضرب كما زعم من يقول : بان المشتقات مركبة.

ومنها :

ما يكون مفادها معنى حرفيا نسبيا ، وذلك كهيئات الافعال من الماضي والمضارع والامر ، فان هيئاتها تفيد معنى نسبيا أعني انتساب المبدء إلى الذات ، فهيئات الافعال تغاير هيئات الأسماء ، حيث كان مفاد هيئات الافعال النسبة ، وهيئات الأسماء معراة عن النسبة.

إذا عرفت ذلك

ظهر لك : تغاير معاني الافعال لمعاني الأسماء والحروف ، وان الفعل له معنى متوسط بين الاسم والحرف ، فان له حظا من المعنى الأسمى ، حيث يكون موجبا لاخطار المعنى في الذهن عند اطلاق لفظ الفعل ، ويكون له معنى استقلالي تحت قالب لفظه ، غايته انه ليس بافرادي بل هو تركيبي ، وله حظ من المعنى الحرفي ، حيث لم يكن لمبدئه تحصل ولا لهيئته معنى متحصل ، بل كان المبدء صرف القوة ومفاد الهيئة معنى حرفي نسبي ، فكلا جزئي الفعل لايكون لهما معنى متحصل بهوية ذاته.

وحاصل الكلام : ان تثليث الأقسام ، انما هو لأجل ان للفعل حقيقة ثالثة غير حقيقة الاسم والحرف ، فان مفاد الفعل وان كان اخطاريا ، الا انه اخطار نسبة تركيبية بين المبدء والفاعل. وهذا بخلاف مفاد الأسماء ، فان مفادها معان افرادية استقلالية ، ومفاد الحروف ايجادية ، على ما عرفت. إذا عرفت ذلك ، فلنرجع إلى شرح الحديث المبارك.

فنقول : انه قد اختلفت الأنظار في شرح قوله (عليه السلام) : والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى. والذي يقتضيه النظر الدقيق ، هو ان يقال : ان المراد من الحركة هو

ص: 53

الحركة من القوة إلى الفعل ، لا بمعنى الحركة من العدم إلى الوجود ، كما ذهب إليه بعض الأوهام ، بل المراد الحركة في عالم المفهومية ، حيث إن المبدء خرج عن اللاتحصلية وتحرك من القوة إلى التحصلية والفعلية ، فالمراد من المسمى هو مبدء الاشتقاق ، والفعل بجملته يظهر وينبأ عن حركة ذلك المسمى من القوة إلى الفعلية ، ومن اللاتحصلية إلى التحصلية في عالم المفهومية ، حيث كان غير متحصل فصار بواسطة هيئة الفعل متحصلا فتأمل ، في المقام فإنه بعد يحتاج إلى مزيد توضيح.

المقام الثاني : في عموم الموضوع له وخصوصه

اشارة

والأقوال فيه ثلاثة.

قول : بان كلا من الوضع والموضوع له والمستعمل فيه في الحروف عام.

وقول : بان الوضع والموضوع له عام والمستعمل فيه خاص.

وقول : بان الوضع عام والموضوع له والمستعمل فيه خاص.

وقبل تحقيق الحال ينبغي تمهيد مقدمة لتحرير محل النزاع ، وبيان الفارق بين الكلية والجزئية المبحوث عنهما في الحروف ، والكلية والجزئية التي تتصف الأسماء بهما.

وحاصل المقدمة :

هو ان ما يقال في تفسير الكلية والجزئية : من أن المفهوم ان امتنع فرض صدقه على كثيرين فجزئي والا فكلي ، انما يستقيم في المفاهيم الاسمية ، واما المعاني الحرفية ، فلا يمكن اتصافها بالكلية والجزئية بهذا المعنى ، لما عرفت : من أنه ليس للحروف مفاهيم متقررة يمكن لحاظها ، حتى يحكم عليها بامتناع الصدق وعدم الامتناع ، بل الحروف انما وضعت لايجاد المعاني في الغير في موطن الاستعمال ، من دون ان يكون لها وعاء غير وعاء الاستعمال ، ومن المعلوم ان وصف الشيء بامتناع فرض صدقه على كثيرين وعدم امتناعه ، انما هو بعد تقرر ذلك الشيء في وعاء من الأوعية ، والمعنى الحرفي لم يكن له تقرر الا في وعاء الاستعمال ، فلا معنى لان يتصف بامتناع فرض صدقه على كثيرين وعدم امتناعه.

والحاصل : ان الشيء الموجود الخارجي بما انه موجود خارجي لا يتصف

ص: 54

بالكلية والجزئية ، إذ الكلية والجزئية انما تعرضان المفاهيم ، والمفروض ان المعنى الحرفي قوامه بايجاده ، فلا يتصور فيه الكلية والجزئية بذلك المعنى بل الكلية والجزئية المبحوث عنهما في باب الحروف انما تكون بمعنى اخر ، وهو ان الموجد في الحروف في جميع مواطن الاستعمالات ، هل هو امر واحد بالهوية ، وتكون الخصوصيات اللاحقة لها في تلك المواطن خارجة عن حريم المعنى الحرفي ، وانما هي من خصوصيات الاستعمالات؟ أو ان تلك الخصوصيات داخلة في حريم المعنى الحرفي ، ومقومة له؟

وتوضيح ذلك

هو انه لا اشكال في أن كل استعمال متخصص بخصوصية خاصة يكون الاستعمال الاخر فاقدا لها ، فقولك : سرت من البصرة إلى الكوفة مغاير لقولك : سرت من الكوفة إلى البصرة ، بل مغاير لنفس قولك : سرت من البصرة إلى الكوفة ثانيا عقيب القول الأول ، ويكون المعنى الذي وجد بأداة النسبة الابتدائية في كل استعمال متخصصا بخصوصية خاصة ، فيرجع النزاع في المقام حينئذ إلى أن تلك الخصوصيات اللاحقة للمعنى الحرفي عند كل استعمال ، هل هي مقومة للمعنى الحرفي وداخلة في هويته حتى يكون الموضوع له في الحروف خاصا؟ أو انها خارجة عن حقيقة المعنى الحرفي ، وانما هي من لوازم تشخص المعنى فيكون الموضوع له عاما كالوضع؟.

والى ذلك يرجع ما افاده (1) في الفصول : من أن التقييد والقيد كلاهما خارجان ، فإنه بناء على كلية المعنى الحرفي يكون كل من نفس القيد الذي هو المتعلق في قولك : سرت من البصرة مثلا والتقييد وهو الخصوصية اللاحقة للنسبة الابتدائية التي أوجدتها كلمة ( من ) في خصوص ذلك الاستعمال خارجين من المعنى الحرفي ، فلا يرد على صاحب الفصول (رحمه اللّه) : انه كيف يكون القيد والتقييد

ص: 55


1- الفصول ص 14 « فهي عند التحقيق موضوعة بإزاء المفاهيم المقيدة بأحد افراد الوجود الذهني الآلي من غير أن يكون القيد والتقييد داخلا ، فيكون مداليلها جزئيات حقيقية متحدة في مواردها ذاتا ومتعددة تقييدا وقيدا ».

خارجين؟ وأي معنى لهذا التقييد حينئذ وما فائدته؟ ولكن بالبيان الذي بيناه ، اتضح مراده ( قده ) من كون كل من التقييد والقيد خارجين.

وحاصله : انه بعد ما كان قوام المعنى الحرفي بالغير ، وكان وجوده بعين استعماله ، فالخصوصية اللاحقة له باعتبار ذلك الغير ، كالبصرة في قولك : سرت من البصرة ، ومكة في قولك : سرت من مكة ، هل هي مما يتقوم بها المعنى الحرفي ولاحقة له بالهوية؟ على نحو التقييد داخل والقيد خارج ، لان نفس ذلك الغير خارج عن المعنى الحرفي قطعا ، لأنه معنى اسمى فالذي يمكن هو دخول التقيد ، أو ان تلك الخصوصية خارجة عن المعنى الحرفي؟ على نحو خروج القيد ، وهي من لوازم التحقق في موطن الاستعمال ، حيث لا يمكن ايجاد المعنى الحرفي الا باحتفافه بخصوصية خاصة لاحقة له في موطن الاستعمال ، نظير المحل الذي يحتاج إليه العرض في التحقق مع أنه خارج عن هوية ذاته ومما لا يتقوم به معنى العرض ، فان كان على الوجه الأول فيكون الموضوع له خاصا ، ان كان على الوجه الثاني فيكون الموضوع له عاما كالوضع.

وبما ذكرنا ظهر الفرق بين عموم الموضوع له في الأسماء ، وبين عموم الموضوع له في الحروف ، فان عموم الموضوع له في الأسماء ، انما يكون على وجه يصح حمله على ماله من الافراد الخارجية ، نحو حمل الكلي على الفرد بالحمل الشايع الصناعي الذي يكون ملاكه الاتحاد في الوجود ، كما يقال : زيد انسان ، وهذا فرس ، وما شابه ذلك. وهذا بخلاف عموم الموضوع له في الحروف ، فإنه ليس له افراد خارجية يصح حمله عليها ، إذ قوام المعنى الحرفي بالايجاد ، بحيث لا موطن له الا الاستعمال على ما تقدم ، والشيء الذي يكون قوامه بالوجود ليس له وراء ذلك خارج يمكن حمله عليه ، كما كان للمفهوم الكلي الأسمى خارج من افراده الموجودة يمكن حمله عليه.

وبالجملة : فرق بين اتصاف المعنى الحرفي بالكلية ، واتصاف المعنى الأسمى بالكلية ، فان الكلية في الأسماء عبارة عما كان ينطبق على الخارجيات ، ويحمل عليها بالحمل الشايع الصناعي ، كزيد انسان. واما الكلية في الحروف

ص: 56

فليست بمعنى ان لها افراد يمكن حمل الكلي عليها ، إذ المعنى الحرفي انما يكون ايجاديا موطنه الاستعمال ، ولا معنى لحمل ما يكون موطنه الاستعمال وما يكون ايجاديا على غيره ، إذ ليس هناك خارج وراء نفسه يمكن ان يحمل عليه ، بل هو بنفسه من الخارجيات ، والخارجيات ليس لها خارج وراء نفسها ، كما كان للمفاهيم الاسمية خارج يصح حملها عليه.

وحاصل الكلام : ان المفاهيم الاسمية انما تقع في عقد الحمل ، ويكون عقد الوضع مصداقا من مصاديقه الخارجية ، كما يقال : زيد انسان. واما المفاهيم الحرفية ، فلا يصح ان تقع في عقد الحمل ، إذ هي بنفسها من الايجاديات الخارجية ، وليس لها مصداق خارجي يصح حملها عليه ، بل المعاني الحرفية دائما تقع في عقد الوضع ، ويكون المحمول مفهوما اسميا. كما يقال عند قولك يا زيد ، هذا نداء ، أي ما وجد بقولك يا زيد مصداق من مصاديق كلي النداء ، وهذا لا ينافي كلية المعنى الحرفي ، إذ قد عرفت المراد من الكلية في المعنى الحرفي مع حفظ أركانه الأربعة المتقدمة : من كونه ايجاد معنى في الغير في موطن الاستعمال مغفولا عنه ، وهذه القيود الأربعة كلها لا تنافى كلية المعنى الحرفي ، بعد ما عرفت المراد من الكلية : من أن الذي يوجد ب ( من ) مثلا في جميع مواطن الاستعمالات معنى واحد بالهوية الذي لا يمكن تصوره ولا التعبير عنه الا بتوسط المفاهيم الاسمية ، بحيث لا يمكن ان يقع ذلك المعنى بنفسه في جواب ما هو ، بل الذي يصح ان يقع في جواب ما هو ، هو وجه المعنى وعنوانه من المعاني الاسمية. كما يقال : في جواب السؤال عما يوجد ب ( من ) نسبة ابتدائية ، ومعلوم ، ان كلا من لفظة ( النسبة ) و ( الابتدائية ) له مفهوم اسمى ، ولكن ذلك المفهوم الأسمى يصلح ان يكون معرفا للمعنى الحرفي الذي يوجد ب ( من ) لما عرفت : من أن نسبة المعنى الحرفي إلى المفهوم الأسمى نسبة المصداق إلى المفهوم ، ومن المعلوم : ان المفهوم يكون وجها وعنوانا لمصاديقه ، ومعرفة الشيء بوجهه بمكان من الامكان.

وبالجملة : الكلية المتنازع فيها في الحروف ، انما هي بمعنى ان ما توجده لفظة ( من ) في جميع الاستعمالات معنى واحد بالهوية والحقيقة ، وتكون الخصوصيات

ص: 57

اللاحقة لذلك المعنى بتوسط الاستعمالات خارجة عن حقيقة المعنى ، لازمة لتحققه في موطن الاستعمال ، نظير خصوصية القيام بالمحل الذي هي من لوازم وجود العرض مع عدم قوام هويته به. وهذا بخلاف ما إذا قلنا بجزئية المعنى الحرفي ، فإنه تكون تلك الخصوصيات حينئذ مقومة لهوية المعنى الحرفي وداخلة في حقيقته.

إذا عرفت المتنازع فيه في المقام فنقول :

ان الحق هو كلية المعنى الحرفي ، وكون الموضوع له في الحروف عاما كالوضع ، إذ لا منشأ لتوهم الجزئية وكون الموضوع له خاصا الا أحد أمرين.

الأول : اعتبار كون المعنى الحرفي قائما بالغير ، فيتوهم ان الخصوصية اللاحقة للمعنى بتوسط ذلك الغير مما يتقوم بها هوية المعنى الحرفي.

الثاني : اعتبار كونه ايجاديا ، ومن المعلوم ان الشيء ما لم يتشخص لم يوجد ، والتشخص مساوق للجزئية هذا.

ولكن كلا من هذين الوجهين لا يصلح ان يكون مانعا عن كلية المعنى الحرفي.

اما الامر الأول : فلوضوح ان وجود المعنى الحرفي خارجا يتقوم بالغير ، لا هويته وحقيقته ، وفرق بين ما كان من لوازم الوجود ، وبين ما كان من لوازم الهوية. والحاصل : ان المعنى الحرفي لما كان ايجاد معنى في الغير ، فتوهم ان الخصوصية اللاحقة للمعنى بتوسط الغير مقومة لهوية المعنى الحرفي ، وكانه غفل من أن خصوصية الغير ليست مقومة لهوية المعنى ، بل هي من لوازم وجود ذلك المعنى ، كما كان القيام بالغير في العرض من لوازم وجوده ، وليس مقوما لهويته.

واما الامر الثاني : فلوضوح ان كونه ايجاديا لا ينافي كلية المعنى الا بناء على القول بعدم وجود الكلي الطبيعي ، والا فبعد البناء على وجوده لا يبقى مجال لتوهم ان كون المعنى ايجاديا ينافي كليته ، وسيأتي انشاء اللّه تعالى ان الحق هو وجود الكلي الطبيعي ، بحيث يكون التشخص والوجود يعرضان له دفعة ، لا انه يتشخص فيوجد كما حكى القول به ، ولا انه انتزاعي صرف لا وجود له.

نعم بناء على سبق التشخص أو عدم الوجود يتم التنافي بين الايجادية و

ص: 58

الكلية.

فتحصل : انه لا الحاجة إلى قيام المعنى الحرفي بالغير ينافي كليته ، ولا كونه ايجاديا ينافي ذلك ، ومن المعلوم انه لا نرى اختلافا بين ما يوجد ( بمن ) في جميع موارد استعمالاتها ، كما نرى الاختلاف بين ما يوجد ( بمن ) وما يوجد ( بإلى ) حيث إن ما يوجد ( بمن ) نسبة ابتدائية وما يوجد ( بإلى ) نسبة انتهائية ، وهذا بخلاف ما يوجد ( بمن ) فإنه معنى واحد في جميع الاستعمالات. ولو كان المعنى جزئيا لكان ما يوجد بقولك : سرت من البصرة مباينا لما يوجد بقولك : سرت من الكوفة ، كمباينة زيد مع عمرو ، بداهة تباين الجزئيات بعضها مع بعض ، وحيث نرى انه لايكون هناك اختلاف وتباين في النسب الابتدائية التي توجدها لفظة ( من ) في جميع موارد الاستعمالات ، فيعلم ان لفظة ( من ) موضوعة للقدر الجامع بين ما يوجد في تلك الموارد ، ولا نعنى بكلية المعنى الحرفي الا ذلك فتأمل جيدا.

هذا تمام الكلام في المعاني الحرفية.

ثم إن شيخنا الأستاذ قد أسقط بعض المباحث التي قد تعرض لها القوم في المقدمة التي يبحث فيها عن نبذة من المباحث اللغوية ، ونحن نقتفي اثره. والحمد لله أولا وآخرا.

المبحث الثاني في الصحيح والأعم

اشارة

وتنقيح البحث في ذلك يستدعى رسم مقدمات :

( الأولى )

لا يختص النزاع في الصحيح والأعم بالقول بثبوت الحقيقة الشرعية ، بل يجرى حتى على القول بعدمها ، إذ لا اشكال في اطلاق الشارع ألفاظ العبادات والمعاملات على مالها من المعاني عند المتشرعة ، فيقع الكلام في ذلك المعنى الذي أطلق اللفظ عليه حقيقة أو مجازا ، وانه هل هو خصوص الصحيح ، أو الأعم منه ومن الفاسد؟ وبعبارة أخرى : لو لم نقل بالحقيقة الشرعية ، فلا اشكال في ثبوت الحقيقة المتشرعية ، فيقع الكلام في المسمى عند المتشرعة ، وانه هل هو الصحيح أو الأعم؟ ومن المعلوم ان ما هو المسمى عند المشترعة هو المراد الشرعي عند اطلاق تلك الألفاظ ،

ص: 59

سواء كان الاطلاق على نحو الحقيقة ، أو على نحو المجاز ، فدعوى اختصاص النزاع في المقام بالقول بثبوت الحقيقة الشرعية مما لا وجه لها.

( الثانية )

قد عرف الفقهاء الصحة والفساد بما يوجب سقوط الإعادة والقضاء وعدمه ، والمتكلمون بما وافق الشريعة وعدمه ، هذا.

ولكن الظاهر : انه ليس للصحة والفساد معنى مغاير لما هو عند العرف واللغة ، وتعريف الفقيه أو المتكلم بذلك انما يكون تعريفا باللازم ، كما هو الشأن في غالب التعاريف ، غايته ان المهم في نظر الفقيه لما كان سقوط الإعادة والقضاء فسر الصحة بذلك ، ولما كان المهم في نظر المتكلم هو موافقة الشريعة فسر الصحة بذلك ، والا فمعنى الصحة والفساد أوضح من أن يخفى ، بل لا يمكن تعريفهما بما يكون أجلى أو مساويا لما هو المرتكز عند العرف من معناهما ، فالصحة ليس الا عبارة عما يعبر عنها بالفارسية ب ( درست ) في مقابل ( نادرست ) الذي هو عبارة عن الفساد. واختلاف الآثار في العبادات والمعاملات والمركبات الخارجية انما هو باعتبار اختلاف الموارد وما هو المطلوب منها ، لا ان الصحة في العبادات تكون بمعنى مغاير لمعنى الصحة في المعاملات ، أو في ساير المركبات الخارجية كما لا يخفى.

( الثالثة )

اتصاف الشيء بالصحة والفساد تارة : يكون باعتبار الاجزاء الخارجية ، وأخرى : يكون باعتبار الاجزاء الذهنية ، المعبر عنها بالشروط ، مثلا الصلاة تارة : تكون صحيحة باعتبار اشتمالها على تمام مالها من الاجزاء وان كانت فاقدة للشرائط ، وأخرى : تكون صحيحة باعتبار اشتمالها على الشرائط وان كانت فاقدة للاجزاء ، إذ الصحة من جهة لا تنافى الفساد من جهة أخرى ، إذ الصحة والفساد من الأمور الإضافية ، ومن هنا ذهب بعض إلى وضع ألفاظ العبادات للصحيح بالنسبة إلى الاجزاء ، وللأعم بالنسبة إلى الشرائط.

ثم إن وصف الصلاة مثلا بالصحة باعتبار الشرائط تارة : يكون باعتبار خصوص الشرائط الملحوظة في مرحلة الجعل وتعيين المسمى التي يمكن الانقسام

ص: 60

إليها قبل تعلق الطلب بها ، كالطهور ، والاستقبال ، والستر ، وغير ذلك من الانقسامات السابقة. وأخرى : تكون باعتبار الشرائط التي لا يمكن لحاظها في مرحلة تعيين المسمى ، بل هي من الانقسامات اللاحقة عن مرحلة تعلق الطلب بها ، كقصد القربة وما يستتبعها من قصد الوجه ووجه الوجه ، على القول باعتباره.

لا ينبغي الاشكال في خروج الصحة بالاعتبار الثاني عن حريم النزاع في المقام ، بداهة تأخر اتصاف الشيء بالصحة بهذا المعنى عن تعيين المسمى بمرتبتين : مرتبة تعيين المسمى ، ومرتبة تعلق الطلب به ، وما يكون متأخرا عن المسمى لا يعقل اخذه في المسمى ، بل لا يعقل اخذه في متعلق الطلب ، فضلا عن اخذه في المسمى ، فلا يمكن القول بان لفظ الصلاة موضوعة للصحيح الواجد لشرط قصد القربة ، أو للأعم من الواجد لها والفاقد ، كما لا يمكن القول بوضعها للأعم من تعلق النهى بها وعدم تعلقه ، أو للأعم من وجود المزاحم لها وعدم المزاحم. فالفساد اللاحق لها من ناحية النهى في العبادات ، أو من ناحية اجتماع الأمر والنهي ، بناء على الجواز مع تغليب جانب النهى في مقام المزاحمة عند عدم المندوحة على ما سيأتي بيانه ، خارج عن حريم النزاع أيضا ، كخروج الصحة اللاحقة لها من باب عدم النهى ، أو من باب عدم المزاحم. والسر في ذلك كله ، هو تأخر رتبة الاتصاف بالصحة أو الفساد بذلك عن مرتبة تعيين المسمى. فالذي ينبغي ان يكون محل النزاع ، هو خصوص الاجزاء والشرائط الملحوظة عند مرحلة الجعل وتعيين المسمى التي يجمعها - ما يمكن فرض الانقسام إليها قبل تعيين المسمى - فتأمل جيدا.

( الرابعة )

لا اشكال في أن لكل من العبادات افراد عرضية وطولية تختلف باختلاف حالات المكلفين ، كالصلاة مثلا حيث إن لها افرادا لا تحصى من حيث اختلاف حالات المكلفين من السفر والحضر والصحة والمرض والقدرة والعجز والخوف والامن وغير ذلك. ولا ينبغي توهم ان لفظة الصلاة موضوعة بالاشتراك اللفظي لكل من هذه الافراد ، بحيث يكون لكل فرد وضع يخصه ، فان ذلك بعيد غايته. وكذلك لا ينبغي الاشكال في أنها ليست من قبيل الوضع العام والموضوع له

ص: 61

الخاص ، وذلك لأنه.

أولا : يحتاج في الوضع العام والموضوع له الخاص إلى الوضع التعييني ، بان يكون هناك واضع مخصوص يتصور جامعا ، ويضع اللفظ بإزاء افراده ، ولا يمكن تحقق الوضع العام والموضوع له الخاص بالوضع التعيني كما لا يخفى ، ومن المعلوم : ان لفظة الصلاة لم توضع كذلك إذ غايته حصول التعيني لها ، سواء قلنا بالحقيقة الشرعية أو لم نقل ، لان غاية ما يمكن ان يقال ، هو ان الشارع استعمل لفظ الصلاة في هذه المهية مجازا ، ثم كثر استعمالها في ذلك في لسانه ولسان تابعيه ، حتى صارت حقيقة ، فمن يدعى الحقيقة الشرعية يريد بها هذا المعنى.

واما دعوى ان الشارع من أول الامر عين لفظ الصلاة لهذه المهية على وجه النقل ، فمما لا يمكن المساعدة عليها ، إذ لو كان ذلك لبان ونقل مع توفر الدواعي لنقله. وبالجملة من المقطوع : انه صلی اللّه علیه و آله لم يرق المنبر وقال : أيها الناس انى وضعت لفظة الصلاة بإزاء هذه المهية.

وثانيا : ان ذلك بالآخرة يرجع إلى الاشتراك اللفظي ، إذ لو كان الموضوع له هو خصوص الافراد المتباينة لكان لكل فرد وضع يخصه ، فلا تكون لفظة الصلاة موضوعة بإزاء الجامع ، إذ المسمى يكون هي الافراد حينئذ والافراد متباينة.

وثالثا : ان الوضع العام والموضوع له الخاص ، انما يتصور بالنسبة إلى الافراد العرضية ، وهذا لا يمكن بالنسبة إلى الصلاة ، بداهة ان فردية صلاة الجالس للصلاة انما تكون بعد ثبوت الامر بها ، وان الصلاة لا تسقط بحال ، وما يكون فرديته متوقفة على الامر به لا يعقل اخذه في المسمى ، فتأمل ، فان هذا يمكن دفعه. فيدور الامر ، بين ان نقول بالاشتراك المعنوي ، وبين ان نقول بان لفظة الصلاة موضوعة بإزاء قسم خاص من اقسام الصلاة ، وهو الجامع لجميع الاجزاء والشرائط عدا قصد القربة وأمثالها مما تكون مرتبة اعتبارها متأخرة عن مرتبة تعيين المسمى حسب ما تقدم تفصيله ، ويكون اطلاق الصلاة حينئذ على سائر الأقسام بنحو العناية ، بتنزيل الفاقد لبعض الاجزاء والشرائط منزلة الواجد ادعاء ، على ما ذهب إليه السكاكي في الحقيقة الادعائية.

ص: 62

وهذا الوجه ، هو الذي قربه شيخنا الأستاذ مد ظله ، ومال إلى أن الموضوع له للفظة الصلاة ، هو خصوص الصلاة الواجدة لجميع الاجزاء والشرائط ، وهو الصحيح التام ، ويكون اطلاقها على الفاقد لها بالعناية والتنزيل. وحيث إن هذا المعنى باطلاقه لا يستقيم ، بداهة ان التنزيل والادعاء يحتاج إلى مصحح ، إذ لا يمكن تنزيل كل شيء منزل كل شيء ، بل لابد ان يكون هناك مصحح للادعاء ، ولو باعتبار الصورة والشكل ، ومن العلوم : ان صلاة الغرقى التي يكتفى فيها بالايماء القلبي مما لا يمكن تنزيلها منزله الصلاة التامة الواجدة لجميع الاجزاء والشرائط ، ولا يصح ادعاء انها هي ، التزم مد ظله بان اطلاق الصلاة على مثل هذا انما يكون شرعيا ، بحيث لولا اطلاق الشارع الصلاة على مثل صلاة الغرقى لما كان هناك مصحح للاطلاق ، ثم بعد اطلاق الشارع الصلاة على صلاة الغرقى وأمثالها مما لا يمكن ادعاء انها تلك الصلاة التامة ، يصح اطلاق الصلاة على الفاسد من تلك الحقيقة بالتنزيل والادعاء.

وحاصل الكلام :

ان لفظة الصلاة موضوعة بإزاء الصلاة التامة ، ويكون اطلاقها على الفاسد أو الصحيح الفاقد لبعض الاجزاء والشرائط بحسب اختلاف حال المكلف بالعناية والتنزيل وادعاء انها هي إذا كان هناك مصحح للادعاء ، بان لا تكون فاقدة لمعظم الاجزاء والشرائط ، وان لم يكن هناك مصحح الادعاء ، فيدور اطلاق الصلاة عليه مدار اطلاق الشارع ، وبعد الاطلاق الشرعي يمكن التنزيل والادعاء بالنسبة إلى ما يكون فاقدا للبعض وما هو فاسد من تلك الحقيقة التي أطلق عليها الشارع الصلاة ، وح لا يلزم هناك مجاز ولا سبك من مجاز ، بل يكون الاطلاق على نحو الحقيقة ، غايته انه لا حقيقة بل ادعاء. هذا حاصل ما افاده في المقام ، موافقا لما افاده الشيخ ( قده ) على ما في تقرير (1) بعض الأجلة. ولازم ذلك ، هو انه لا يمكن التمسك

ص: 63


1- مطارح الأنظار - ص 6 - عند البحث عن تصوير الجامع عند الأعمى من قوله : « وهناك وجه آخر في تصوير مذهب القائل بالأعم .. » وعبر عنه بان ذلك مما لا ينبغي ان يستبعد عند الملاحظ المتأمل في طريقة المحاورات العرفية.

باطلاق قوله لا صلاة الا بفاتحة الكتاب مثلا ، على اعتبار الفاتحة في صلاة الجالس ، للشك في أن المراد من الصلاة في قوله لا صلاة الخ ، هل هي الصلاة التامة التي تكون موضوعا لها لفظ الصلاة؟ أو الأعم من ذلك ومن الصلاة التي تكون صلاة بالتنزيل والادعاء؟ هذا ولكن مع ذلك ربما لا يخلو عن بعض المناقشات ، كما لا تخفى على المتأمل.

ثم لو أغمضنا عن ذلك ، وقلنا بالاشتراك المعنوي من قبيل الوضع العام والموضوع له العام ، فلا محيص من أن يكون هناك جامع بين تلك الافراد التي لا تحصى حسب اختلاف أصناف المكلفين ، بحيث وضع اللفظ بإزاء نفس ذلك الجامع حتى يكون الموضوع له عاما ، فالجامع مما لا محيص عنه بعد ابطال الاشتراك اللفظي والاغماض عما ذكرنا في وجه تصحيح الاطلاق ، وحينئذ يقع الاشكال في تصوير الجامع المسمى على كل من القول بالصحيح والأعم. فينبغي ح بيان ما قيل أو يمكن ان يقال في ما يكون جامعا بين الافراد الصحيحة ، أو الأعم منها ومن الفاسدة. وقبل بيان ذلك لابد من تمهيد مقال.

وهو انه لابد ان يكون الجامع على وجه يصلح ان يتعلق به التكليف نفسه ، إذ الجامع انما يكون هو المسمى ، ومن المعلوم ان المسمى هو متعلق التكليف ، فهناك ملازمة بين المسمى وبين متعلق التكليف ، فلا يمكن ان يكون المسمى أمرا ومتعلق التكليف أمرا اخر.

وأيضا لابد ان يكون ذلك الجامع بسيطا على وجه لا يصلح للزيادة والنقيصة بناء على الصحيحي ، إذ لو كان مركبا فكل مركب يتصف بالصحة والفساد باعتبار اشتماله على تمام الاجزاء أو بعضها ، وما يكون قابلا للاتصاف بالصحة والفساد لا يصلح ان يكون جامعا بين الافراد الصحيحة.

وأيضا لابد ان يكون ذلك الجامع مما لا يتوقف تحققه على الامر ، لما عرفت من سبق رتبة المسمى على متعلق الامر ، فضلا عن نفس الامر ، فمثل عنوان ( المطلوب ) أو ( وظيفة الوقت ) وما شابه ذلك من العناوين لا يصلح ان يكون هو الجامع المسمى بالصلاة مثلا ، لتأخر رتبة هذه العناوين عن رتبة المسمى ، مضافا إلى أن الأسماء و

ص: 64

الألفاظ انما تكون موضوعة بإزاء الحقائق ، لا بإزاء المفاهيم العقلية ، فلا يصح ان يكون لفظ الصلاة موضوعا بإزاء مفهوم المطلوب ، بل بإزاء الواقع والحقيقة ، فيسئل عن تلك الحقيقة التي تسمى بالصلاة ما هي؟.

وبالجملة : لا بد ان لايكون ذلك الجامع من سنخ المفاهيم التي لا موطن لها الا العقل ، ولا ما يكون مرتبة وجوده متأخرة عن مرتبة الطلب والامر ، ولا مما يمكن اتصافه بالصحة والفساد ، ولا مما لا يمكن ان يتعلق به الطلب ، فهذه القيود الأربعة مما لابد منها في الجامع.

إذا عرفت ذلك فنقول :

قد قيل إنه يمكن فرض الجامع بين الافراد الصحيحة على وجه يكون هو المسمى ، غايته انه لا يمكن الإشارة إليه تفصيلا بل يشار إليه بوجه ما ، اما من ناحية المعلول ، واما من ناحية العلة ، أي اما من ناحية الأجر والثواب المترتب على افراد الصلاة الصحيحة ، أو من ناحية المصالح والمفاسد التي اقتضت الامر بها.

اما الأول : فتفصيله هو انه لا اشكال في أن وحدة الأثر تستدعى وحدة المؤثر ، إذ لا يمكن صدور الشيء عن متعدد ، ولا يمكن توارد علل متعددة على معلول واحد ، فوحدة الأثر بالنسبة إلى افراد الصلاة الصحيحة المختلفة بالصورة المشتملة على تمام الاجزاء والشرائط تارة وعلى بعضها أخرى لا يمكن الا بان يكون هناك جامع بين تلك الافراد المختلفة يقتضى ذلك الجامع ذلك الأثر ، إذ لا يمكن ان تكون تلك الافراد بما انها متباينة تقتضي ذلك ، لاستلزام ذلك صدور الواحد عن متعدد وهو محال ، فلا محيص من ثبوت جامع بين تلك الافراد يكون هو المؤثر ، ويكون ذلك الجامع هو المسمى بالصلاة ، وهو متعلق الطلب هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه.

اما أولا : فلامكان تعدد الأثر ومنع وحدته ، بداهة انه لا طريق لنا إلى اثبات وحدة الأثر ، فمن الممكن جدا ان يكون الأثر المترتب على الصلاة الواحدة لجميع الاجزاء والشرائط غير الأثر المترتب على الصلاة الفاقدة لبعضها.

وثانيا : ان الاشتراك في الأثر لا يقتضى وحدة المؤثر بالهوية والحقيقة ولا

ص: 65

دليل على ذلك ، بل الوجدان يقتضى خلافه ، بداهة اشتراك الشمس مع النار في الحرارة مع عدم اتحاد حقيقتهما ، بل هما ممتازان بالهوية. وبالجملة : مجرد اشتراك شيئين في اثر لا يكشف عن اتحاد حقيقتهما ، ولم يقم برهان على ذلك (1) نعم لابد ان يكون بين الشيئين جامع يكون ذلك الجامع هو المؤثر لذلك إذ لا يمكن صدور الواحد عن متعدد ، الا ان مجرد ثبوت الجامع بينهما لا يلازم اتحاد هويتهما وحقيقتهما ، بل من الممكن ان يكونا مختلفي الحقيقة ، ومع ذلك يكون بينهما جامع في بعض المراتب يقتضى ذلك الجامع حصول ذلك الأثر ، فإذا لم يكن ذلك الجامع راجعا إلى وحدة الهوية والحقيقة لم يكن هو المسمى بالصلاة مثلا ، لما عرفت : ان الأسماء انما تكون بإزاء الحقائق ، والمفروض اختلاف حقايق مراتب الصلاة وان كان بينهما جامع بعيد يقتضى اثرا واحدا فتأمل.

وثالثا : الأثر انما يكون مترتبا على الصلاة بعد الاتيان بها وبعد الامر بها ، والامر بها انما يكون بعد التسمية ، فلا يمكن ان يكون ذلك الأثر المتأخر في الوجود عن المسمى بمراتب معرفا وكاشفا عن المسمى ، بداهة انه عند تعيين المسمى لم يكن هناك اثر حتى يكون ذلك الأثر وجها للمسمى لكي يمكن تصور المسمى بوجهه ، لان تصور الشيء بوجهه انما هو فيما إذا كان الوجه سابقا في الوجود عن التصور ، والمفروض ان الأثر انما يكون متأخرا في الوجود من تصور المسمى ، فكيف يمكن جعله معرفا للمسمى فتأمل.

ورابعا : لو جعل المسمى هو ما يترتب عليه ذلك الأثر على وجه يكون ذلك الأثر قيدا في المسمى ، لكان اللازم هو القول بالاشتغال عند الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين ، بداهة ان المأمور به ح ليس هو نفس أفعال الصلاة ، بل ما يترتب عليها ذلك الأثر ، فمرجع الشك في جزئية شيء للصلاة هو الشك في ترتب ذلك الأثر على الفاقد لذلك الجزء ، ويكون ح من الشك في حصول ما هو قيد للمأمور به ، ومن

ص: 66


1- فان الاشتراك في اثر غير الاشتراك في جميع الآثار ، كما هو المدعى في المقام ، فان الاشتراك في جميع الآثار يلازم وحدة الحقيقة - منه.

المعلوم : انه لا مجال للبرائة في ذلك ، لان المقام يكون من صغريات الشك في المحصل الذي لا تجرى فيه البراءة ، هذا كله إذا أردنا ان نستكشف الجامع من ناحية المعلول.

وأما إذا أردنا ان نستكشفه من ناحية العلل وملاكات الاحكام ففساده أوضح ، وذلك لعدم امكان تعلق التكليف بالملاكات ، لا بأنفسها ، ولا بما يكون مقيدا بها ، فلا تكون هي المسميات ، ولا ما هو مقيد بها.

وتوضيح ذلك يستدعى بسطا من الكلام في المايز ، بين باب الدواعي ، وبين باب المسببات التوليدية ، حتى يتضح ان الملاكات ، هل هي من قبيل الدواعي؟ أو من قبيل المسببات التوليدية؟ ونحن وان استقصينا الكلام في ذلك في الأصول العملية ، بل تكرر منا الكلام في ذلك ، الا انه لا باس بالإشارة الاجمالية إليه في المقام ، لما فيه من المناسبة ونحيل تفصيله إلى تلك المباحث.

فنقول : ان المقصود الأصلي والغرض الأولى للفاعل تارة : يكون هو بنفسه فعلا اختياريا للمكلف من دون نظر إلى ما يترتب على ذلك الفعل من الأثر ، بل إن نفس الفعل يكون مقصودا بالأصالة ، كما إذا كان مقصوده القيام أو القعود وأمثال ذلك.

وأخرى : يكون المقصود الأصلي والغرض الأولى هو الأثر المترتب على ذلك الفعل الاختياري ، بحيث يكون الفعل لمجرد المقدمية للوصول إلى ذلك الأثر. وهذا أيضا تارة : يكون الفعل الاختياري تمام العلة أو الجزء الأخير منها لحصول ذلك الأثر ، بحيث لا يتوسط بين الفعل وبين ذلك الأثر شيء اخر أصلا ، كالالقاء بالنسبة إلى الاحراق ، حيث إن اثر الاحراق يترتب على الالقاء في النار ترتب المعلول على علته ، من دون ان يتوسط بين الالقاء والاحراق شيء أصلا. وأخرى : يكون الفعل الاختياري مقدمة اعدادية لترتب ذلك الأثر المقصود ، بحيث يتوسط بين الفعل الاختياري وبين الأثر أمور اخر ، كالزرع فان الأثر المترتب على الزرع هو صيرورته سنبلا ، ومن المعلوم : ان الفعل الاختياري : من البذر والسعي والحرث ، ليس علة تامة لتحقق السنبل ، إذ يحتاج صيرورة الزرع سنبلا إلى مقدمات اخر متوسطة بين ذلك وبين الفعل الاختياري ، كاشراق الشمس ، ونزول الأمطار ،

ص: 67

وغير ذلك. (1) فان كان الأثر المقصود مترتبا على الفعل الاختياري ترتب المعلول على علته ، من دون ان يكون هناك واسطة أصلا ، أمكن تعلق إرادة الفاعل به ، نحو تعلق ارادته بالفعل الاختياري الذي هو السبب لحصول ذلك الأثر ، بداهة ان الأثر يكون مسببا توليديا للفعل ، وما من شانه ذلك يصح تعلق إرادة الفاعل به ، لان قدرته على السبب عين قدرته على المسبب ويكون تعلق الإرادة بكل منهما عين تعلق الإرادة بالآخر (2) ويصح حمل أحدهما على الاخر نحو الحمل الشايع الصناعي فيقال : الالقاء في النار احراق ، إذ لا انفكاك بينهما في الوجود ، وهذا الحمل وان لم يكن حملا شايعا صناعيا بالعناية الأولية ، لان ضابط الحمل الصناعي هو الاتحاد في الوجود ، ولا يمكن اتحاد الوجود بين العلة والمعلول ، الا انه لما لم يمكن الانفكاك بينهما في الوجود وكان المعلول من رشحات وجود العلة صح الحمل بهذه العناية.

وبالجملة : كلما كان نسبة الأثر إلى الفعل الاختياري نسبة المعلول إلى العلة التامة أو الجزء الأخير من العلة يصح تعلق إرادة الفاعل به نحو تعلقها بالفعل الاختياري ، وان كان الفعل الاختياري من المقدمات الاعدادية للأثر المقصود ، فلا يمكن تعلق إرادة الفاعل به ، لخروجه عن تحت قدرته واختياره ، ولا يمكن تعلق الإرادة بغير المقدور ، بل الإرادة الفاعلية مقصورة التعلق بالفعل الاختياري ، واما ذلك الأثر فلا يصلح الا ان يكون داعيا للفعل الاختياري ، فمثل صيرورة الزرع سنبلا انما يكون داعيا إلى الحرث والسقى ، فظهر الفرق بين باب الدواعي وبين باب المسببات التوليدية.

وحاصل الفرق ، هو امكان تعلق الإرادة الفاعلية بالمسببات التوليدية ، دون الدواعي ، لتوسط أمور خارجة عن تحت القدرة بين الفعل الاختياري وبين .

ص: 68


1- أفاد ذلك الشاعر بقوله : ابر وباد ومه وخورشيد وفلك در كارند *** تا تو نانى بكف آرى وبه غفلت نخورى - منه.
2- لا يخفى ان باب العلة والمعلول غير باب العناوين التوليدية ، فجعل الالقاء والاحراق من باب العلة والمعلول لا يخلو عن مسامحة ، فعليك بمراجعة ما ذكرناه في أول مقدمة الواجب ( في ضابط البابين ) ولكن لا فرق بين البابين في الجهة المبحوث عنها في المقام ، فتأمل - منه.

الأثر المقصود ، فلا يمكن تعلق إرادة الفاعل به. والضابط الكلي بين باب الدواعي وبين باب المسببات التوليدية ، هو ما ذكرنا من أنه ان كان الفعل الاختياري تمام العلة أو الجزء الأخير منها لحصول الأثر فهذا يكون من المسببات التوليدية ، وان لم يكن كذلك بل كان أول المقدمات أو وسط المقدمات وكان حصول الأثر متوقفا على مقدمات اخر ، فهذا يكون من الدواعي.

وحيث عرفت امكان تعلق إرادة الفاعل بما كان من المسببات التوليدية ، وعدم امكان تعلق الإرادة بما كان من الدواعي ، فنقول : ان هناك ملازمة بين الإرادة الآمرية والإرادة الفاعلية ، وانه كلما صح تعلق إرادة الفاعل به يصح تعلق إرادة الآمر به ، وكلما لا يصح تعلق إرادة الفاعل به لا يصح تعلق إرادة الآمر به ، والسر في ذلك واضح ، لان الإرادة الامرية انما تكون تحريكا للإرادة الفاعلية نحو الشيء المطلوب ، فلابد من أن يكون ذلك الشيء قابلا لتعلق إرادة الفاعل به حتى تتعلق به إرادة الآمر ، فإذا فرض انه لا يمكن تعلق إرادة الفاعل به لكونه غير مقدور له ، فلا يمكن تعلق إرادة الآمر به ، لأنه يكون من طلب المحال.

وحيث قد عرفت : انه لو كان نسبة الفعل الاختياري إلى الأثر الحاصل منه نسبة السبب التوليدي إلى مسببه التوليدي ، كان تعلق إرادة الفاعل بذلك المسبب بمكان من الامكان ، فيصح تعلق إرادة الامر بايجاد ذلك المسبب ، بل لا فرق في الحقيقة بين تعلق الامر بالسبب أو بالمسبب ، لان تعلقه بالسبب أيضا لمكان انه يتولد منه المسبب ، ومن هنا قيل : في (1) مقدمة الواجب : ان البحث عن وجوب السبب قليل الجدوى ، إذ تعلق الامر بالمسبب هو عين تعلقه بالسبب وبالعكس ، فلا فرق بين ان يقول أحرق الثوب ، أو الق الثوب في النار ، لان الامر بالالقاء انما هو من حيث ترتب الاحراق عليه ، فيكون الالقاء معنونا بعنوان الاحراق. )

ص: 69


1- والقائل هو صاحب المعالم قدس سره ، فإنه قد صرح في مبحث مقدمة الواجب من المعالم : « .. فالذي أراه ان البحث في السبب قليل الجدوى ، لان تعليق الامر بالمسبب نادر ، واثر الشك في وجوبه هين » ( معالم الأصول. ص 64 )

وهذا هو المراد لما ذكره الشيخ قده (1) في مبحث الأقل والأكثر الارتباطيين : من أنه لو كان المأمور به عنوانا لفعل المكلف لم تجر فيه البراءة ، إذ العنوانية انما تكون فيما إذا كان المأمور به من المسببات التوليدية لفعل المكلف ويكون فعل المكلف سببا له ، فإنه يكون الفعل معنونا بذلك المسبب ولا تجرى فيه البراءة ، لرجوع الشك فيه إلى الشك في المحصل ، بداهة ان فعل المكلف بما هو لم يكن متعلق التكليف ، بل متعلق التكليف هو ما يستتبع الفعل من السبب ، فلو شك في أن الجزء الفلاني له دخل في ترتب المسبب كان مقتضى الأصل عدم الترتب ويلزمه الاشتغال ، من غير فرق بين ان يتعلق الامر بالمسبب فيقول : أحرق الثوب ، وبين ان يتعلق بالسبب فيقول : الق الثوب في النار ، لما عرفت من أن الامر بالالقاء لا لمطلوبية نفس الالقاء بما هو فعل من أفعال المكلف ، بل بما هو محصل للاحراق ، فعند الشك في حصول الاحراق لاحتمال دخل شيء فيه كان اللازم فيه هو الاحتياط ، ولا مجال للبرائة أصلا ، كما هو الشأن في الشك في باب المحصلات مط.

هذا كله فيما إذا كان الأثر من المسببات التوليدية لفعل المكلف وأما إذا كان الأثر من الدواعي ، وكان الفعل من المقدمات الاعدادية ، فحيث لا يصح تعلق إرادة الفاعل به فلا يصح تعلق إرادة الامر بايجاده ، لما عرفت من الملازمة ، فمتعلق التكليف انما يكون هو الفعل الاختياري لا غير ، ولو شك في اعتبار جزء أو شرط فيه تجرى فيه البراءة ، إذ ليس وراء الفعل شيء تعلق التكليف به ، والمفروض ان الفعل المتعلق به التكليف مردد بن الأقل والأكثر ، فالبرائة العقلية والشرعية أو خصوص

ص: 70


1- ذكر الشيخ قدس سره في المسألة الأولى من صور دوران الامر في الواجب بين الأقل والأكثر بعد الفراغ عن تقريب حكم العقل : « نعم قد يأمر المولى بمركب يعلم أن المقصود منه تحصيل عنوان يشك في حصوله إذا اتى بذلك المركب بدون ذلك الجزء المشكوك كما إذا امر بمعجون وعلم أن المقصود منه اسهال الصفراء بحيث كان هو المأمور به في الحقيقة ، أو علم أنه الغرض من المأمور به ، فان تحصيل العلم باتيان المأمور به لازم كما سيجيء في المسألة الرابعة ». واختار هناك بان الشك فيه كان من قبيل الشك في المحصل الذي يجب فيه الاحتياط. ( فرائد الأصول ص 265 - 254 )

الشرعية تجرى بلا مانع.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ضابط جريان البراءة في الأقل والأكثر وعدم جريانها ، وانه لو كان الأثر المترتب على الفعل الاختياري من المسببات التوليدية فلا تجرى فيه البراءة لرجوع الشك فيه إلى الشك في المحصل ، وان كان الأثر من الدواعي فالبرائة تجرى فيه لان نفس متعلق التكليف مردد بين الأقل والأكثر.

ثم انه ان علم أن الأثر من أي القبيلين فهو ، وان لم يعلم ، فان كان هناك مايز عرفي فهو المتبع ، كما في الطهارة الخبيثة ، حيث إن العرف يفهم من الامر بالغسل ان الامر به انما هو لافراغ المحل عن القذارة والخباثة ، لا بما انه غسل واجراء الماء على المحل ، ففي مثل هذا يكون الغسل معنونا بالطهارة ، وتكون الطهارة بنظر العرف من المسببات التوليدية للغسل ، فلو شك في حصول الطهارة بالغسل الكذائي كمرة في البول ، كان مقتضى الأصل عدم حصول الطهارة ، من غير فرق بين تعلق الامر بالطهارة وبين تعلقه بالغسل ، لان المرتكز العرفي في الامر بالغسل انما هو الغسل المستتبع للطهارة المعنون بذلك ، كالأمر بالالقاء من حيث تعنونه بالاحراق ، وعلى هذا يترتب فروع كثيرة في باب الطهارة الخبثية.

وان لم يكن هناك مايز عرفي ، فلا طريق لنا إلى معرفة كون الأثر من المسببات أو من الدواعي ، الا من ظاهر الامر ، فان تعلق الامر بالأثر ، فمن نفس تعلقه يستكشف انه من المسببات التوليدية ، لاستحالة تعلق الامر بما لايكون فعلا اختياريا ولا مسببا توليديا ، ويلزمه عدم جريان البراءة كما عرفت. وان لم يتعلق التكليف به ، بل تعلق بنفس الفعل الاختياري فيستكشف من ذلك كشفا آنيا ان متعلق التكليف هو نفس الفعل ، وذلك الأثر لايكون من المسببات التوليدية ، إذ لو كان كذلك لوجب على الحكيم التنبيه عليه بعد ما لم يكن مرتكزا عرفيا ، بداهة انه لو كان متعلق التكليف هو الأثر الحاصل من الفعل الاختياري لا نفسه لكان قد أخل بغرضه حيث لم يبينه. ومن هنا قيل : ان القول بعدم اعتبار قصد الوجه في العبادات من حيث خلو الاخبار عن التكليف به ، مع أنه ليس مما يفهمه العرف.

ص: 71

وبالجملة : من نفس تعلق التكليف بالفعل الاختياري يستكشف انه هو المأمور به ، لا الأثر الحاصل منه ، والا لوجب التنبيه عليه ، والا لم يكن الآمر متكلما على طبق غرضه ويكون قد أخل ببيان غرضه ، فتأمل جيدا.

إذا عرفت ذلك كله ، فنقول :

ان باب الملاكات وعلل التشريع لا تكون من المسببات التوليدية لافعال العباد ، بل ليست العبادات بالنسبة إلى الملاكات الا كنسبة المقدمات الاعدادية ، والذي يدل على ذلك عدم وقوع التكليف بها في شيء من الموارد ، من أول كتاب الطهارة إلى اخر كتاب الديات. فالملاكات انما تكون من باب الدواعي ، لا المسببات التوليدية ، وليست الصلاة بنفسها علة تامة لمعراج المؤمن والنهى عن الفحشاء ، ولا الصوم بنفسه علة تامة لكونه جنة من النار ، ولا الزكاة بنفسها علة تامة لنمو المال ، بل تحتاج هذه المقدمات إلى مقدمات اخر ، من تصفية الملائكة وغيرها حتى تتحقق تلك الآثار ، كما يدل على ذلك بعض الاخبار. فإذا لم تكن الملاكات من المسببات التوليدية ، فلا يصح تعلق التكليف بها ، لا بنفسها ، ولا باخذها قيدا لمتعلق التكليف ، فكما لا يصح التكليف بايجاد معراج المؤمن مثلا. لا يصح التكليف بالصلاة المقيدة بكونها معراج المؤمن ، إذ يعتبر في التكليف ان يكون بتمام قيوده مقدورا عليه ، فإذا لم يصح التكليف بوجه من الوجوه بالملاكات لم يصح ان تكون هي الجامع بين الافراد الصحيحة للصلاة ، ولا اخذها معرفا وكاشفا عن الجامع ، بداهة انه يعتبر في المعرف ان يكون ملازما للمعرف بوجه ، وبعد ما لم تكن الملاكات من المسببات التوليدية لا يصح اخذ الجامع من ناحية الملاكات.

والحاصل : انه قد عرفت ان هناك ملازمة بين الجامع المسمى وبين كونه متعلق التكليف ، فإذا لم يمكن تعلق التكليف بالملاكات بوجه من الوجوه لا يصح استكشاف الجامع من ناحية الملاكات بوجه من الوجوه ، لا على أن تكون هي المسمى ، ولا قيدا في المسمى ، ولا كاشفا عن المسمى ، بداهة انه بعد ما كانت الملاكات من باب الدواعي وكان تخلف الدواعي عن الأفعال الاختيارية بمكان

ص: 72

من الامكان ، فكيف يصح اخذها معرفا أو قيدا للمسمى ، فتأمل (1) جيدا.

ثم على فرض تسليم كون الملاكات من المسببات التوليدية واخذ الجامع من ناحيتها بأي وجه كان ، فلا محيص عن القول بالاشتغال وسد باب اجراء البراءة في العبادات بالمرة ، لما عرفت : من أن الأثر المقصود لو كان مسببا توليديا للفعل الاختياري ، كان تعلق التكليف بالسبب أو بالمسبب موجبا لرجوع الشك في اعتبار شيء إلى الشك في المحصل ، ولا مجال فيه لاجراء البراءة.

وما يقال : من أن المسبب التوليدي إذا كان مغايرا في الوجود للسبب كان الامر كما ذكر من القول بالاشتغال ، وأما إذا كان متحدا معه في الوجود فنفس متعلق التكليف يكون مرددا بين الأقل والأكثر ولا مانع من الرجوع إلى البراءة حينئذ ، فليس بشيء ، إذ لا نعقل ان يكون هناك مسبب توليدي يكون متحدا في الوجود مع السبب على وجه يرجع الشك في حصوله إلى الشك في نفس متعلق التكليف فتأمل.

فتحصل : ان تصوير الجامع بناء على الصحيح في غاية الاشكال ، بل مما لا يمكن.

نعم يمكن ان يقال في خصوص الصلاة ، ان المسمى هو الهيئة الاتصالية القائمة بالاجزاء المستكشفة من أدلة القواطع ، وهذه الهيئة المعبر عنها بالجزء الصوري محفوظة في جميع افراد الصلاة ، لعموم أدلة القواطع بالنسبة إلى جميع افراد الصلاة على حسب اختلاف حالات المكلفين ، وهذه الهيئة امر واحد مستمر يوجد بأول الصلاة وينتهي باخرها ، وبهذا الاعتبار يجرى فيه الاستصحاب عند الشك في عروض القاطع ، هذا. .

ص: 73


1- وكذا لا يمكن جعل الملاكات من قبيل الصور النوعية والاجزاء من قبيل المواد على وجه لا يضر تبادلها ببقاء الصورة ، فتكون الصلاة موضوعة بإزاء تلك الصورة القائمة بتلك المواد المتبادلة ، حسب اختلاف حالات المكلفين. ونقل ان شيخنا الأستاذ مد ظله كان يميل إلى هذا الوجه في الدورة السابقة ، ولكن أشكل عليه في هذه الدورة بعين ما أشكل على الوجه الأول : من أن تلك الصورة لا يمكن ان تكون متعلق التكليف ، مع أنه يلزم القول بالاشتغال ، فتأمل - منه.

ولكن الانصاف : ان ذلك أيضا لا يخلو عن اشكال ، لمنع ان يكون هناك امر وجودي قائم باجزاء الصلاة ، وأدلة القواطع لا يستفاد منها أزيد من اعتبار عدم تخلل القواطع. من الالتفات والوثبة وغير ذلك في أثناء الصلاة ، مع أنه لو سلم ان هناك امر وجودي قائم بالاجزاء ، فكونه هو المسمى ومتعلق التكليف محل منع. هذا كله بناء على الصحيح.

واما بناء على الأعم ، فتصوير الجامع فيه أشكل ، والوجوه التي ذكروها في تصويره لا تخلو عن مناقشة.

فمنها : ما نسب إلى المحقق القمي (1) من أن المسمى هو خصوص الأركان ، واما الزايد عليها فهي أمور خارجة عن المسمى اعتبرها الشارع في المأمور به.

وفيه ما لا يخفى.

اما أولا : فلوضوح ان التسمية لا تدور مدار الأركان ، إذ يصح السلب عن الفاقد لما عدا الأركان ، كما لا يصح السلب عن الواجد لما عدا بعض الأركان. وكان منشأ توهم كون المسمى هو الأركان ، هو ما يستفاد من صحيحة (2) لا تعاد ، من صحة الصلاة الفاقدة لما عد الأركان إذا كان ذلك عن نسيان هذا.

ص: 74


1- ومن استظهر ذلك من كلام صاحب القوانين الشيخ قدس سره في التقريرات. قال : « أحدها : ما يظهر من المحقق القمي من كون ألفاظ العبادات اسما للقدر المشترك بين اجزاء معلومة كالأركان الأربعة في الصلاة وبين ما هو أزيد من ذلك وان لم يقع شيء من تلك الأركان أو ما هو زايد عليها صحيحة في الخارج ، فجميع هذه الافراد ، أعني لصحيحة المشتملة على الأركان والزائدة عليها ، والفاسدة المقتصرة عليها والزائدة عليها من حقيقة الصلاة ويطلق على جميعها لفظ الصلاة على وجه الاشتراك المعنوي ، ولعل نظره بعد ما ذهب إليه من القول بالأعم إلى الحكم باجزاء الصلاة المشتملة على الأركان وان لم يشتمل على جزء غيرها إذا وقعت نسيانا ، فجعل الأركان مدار صدق التسمية ، ولازمه انتفاء الصدق بانتفاء أحد الأركان وان اشتملت على بقية الاجزاء والصدق مع وجودها وان لم يشتمل على شيء من الاجزاء والشرائط ». مطارح الأنظار مبحث الصحيح والأعم. الهداية الثانية ( تصوير الجامع على مذهب الأعمى ) ص 5. راجع القوانين ، قانون ، كل ما ورد في كلام الشارع فلابد ان يحمل على ما علم ارادته. بحث الصحيح والأعم. ص 17 - 18
2- الوسائل. الجزء 4 - كتاب الصلاة. الباب 7 من أبواب التشهد. لحديث 1 ص 995

ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنه مضافا إلى أن ذلك مقصور بصورة النسيان ، دون سائر الاعذار ، لوضوح ان العاجز عن الأركان تصح منه الصلاة الفاقدة للأركان ، ان اجتزاء الشارع بخصوص الأركان في صورة النسيان لا يدل على أن المسمى هو خصوص الأركان.

واما ثانيا : فلان نفس الأركان تختلف بحسب اختلاف حال المكلف ، بداهة ان الواجب في الركوع أولا هو الانحناء إلى أن يبلغ كفاه ركبتيه ، فان عجز عن ذلك يجب عليه الانحناء بمقدار ما تمكن إلى أن يبلغ الايماء ، وكذا الحال في سائر الأركان ، فالقول بان المسمى هو خصوص الأركان ، اما ان يراد به خصوص الأركان التامة في حال الاختيار ، واما ان يراد به الأركان بجميع مراتبها ، فان كان المراد هو الأول يلزمه عدم صدق الصلاة على من لم يتمكن من الأركان التامة ، والالتزام بذلك كما ترى. وان كان المراد هو الثاني يلزمه القول بالوضع للجامع بين مراتب الأركان ، فيقع الكلام في ذلك الجامع وانه ما هو؟ فيعود المحذور ، كما لا يخفى ذلك على التأمل.

واما ثالثا : فلان الاجزاء الاخر غير الأركان ، اما ان يقال : بخروجها عن المسمى عند وجودها ، واما ان يقال : بدخولها ، فان قيل بخروجها يلزم ان يكون اطلاق الصلاة على التامة الاجزاء مجازا من باب اطلاق اللفظ الموضوع للجزء على الكل ، وهو كما ترى. وان قيل بالثاني يلزم ان تكون الاجزاء عند وجودها داخلة في المسمى ، وعند عدمها خارجة عن المسمى فيعود المحذور والاشكال ، إذ مبنى الاشكال ، هو انه كيف يعقل ان يكون الشيء الواحد داخلا وخارجا في الماهية؟ مع امتناع اختلاف معنى واحد بالزيادة والنقصان.

وتوهم انه يمكن ان تكون الصلاة من الماهيات القابلة للتشكيك بناء على امكان التشكيك في الذاتيات فتكون الصلاة حينئذ من الماهيات القابلة للشدة والضعف ، بزيادة بعض الاجزاء ونقصانها مع انحفاظ الماهية في جميع المراتب ، وليس شيء من تلك المراتب خارجا عن الهوية والذات ، كالسواد الضعيف والشديد ، حيث يكون كل من الشدة والضعف من مراتب نفس السواد وليسا

ص: 75

خارجين عن حقيقته ، ويكون ما به الامتياز عن ما به الاشتراك.

ففساده غنى عن البيان ، بداهة ان التشكيك انما يمكن في البسيط المتحد الحقيقة كالسواد ، لا في مختلفي الحقيقة كالصلاة التي تكون مركبة من عدة اجزاء مختلفة في المقولة ، حيث إن بعضها من مقولة الفعل ، وبعضها من مقولة الوضع.

والحاصل : ان التشكيك انما يكون في مثل الوجود ، والمقولات الكيفية : من السواد والبياض ، ولا يعقل التشكيك في المركبات التي تكون اجزائها مختلفة بالحقيقة كما هو أوضح من أن يخفى.

ومنها : ما نسب إلى المعظم من أن الصلاة موضوعة لمعظم الاجزاء التي تدور التسمية مداره.

وفيه : ما لا يخفى ، بداهة انه ان أريد ان الصلاة موضوعة لمفهوم المعظم ، ففساده غنى عن البيان ، فان الألفاظ موضوعة بإزاء الحقايق ، لا المفاهيم التي لا موطن لها الا العقل كما تقدم ، وان أريد واقع المعظم وحقيقته ، فالمفروض ان المعظم يختلف حسب اختلاف حالات المكلفين ، فيلزم كون المعظم بالنسبة إلى بعض غير المعظم بالنسبة إلى الاخر ، فيعود المحذور ، وهو كون الشيء الواحد داخلا عند وجوده وخارجا عند عدمه ، مع أنه يلزم ان يكون اطلاق الصلاة على التامة الاجزاء والشرائط مجازا بعلاقة الكل والجزء كما تقدم.

وقد مال شيخنا الأستاذ مد ظله ، إلى تصحيح كون الصلاة مثلا موضوعة لمعظم الاجزاء ، بتقريب كون الموضوع له من قبيل الكلي في المعين الصادق على كل ما يمكن ان ينطبق عليه ، نظير الصاع من الصبرة ، فتكون الصلاة مثلا موضوعة لسبعة اجزاء من عشرة اجزاء على نحو الكلي ، بحيث لا يضر تبادل السبعة بحسب اختلاف الحالات فتأمل ، فإنه يلزم أيضا ان يكون الاطلاق على مجموع العشرة مجازا كما لا يخفى ، مع أن تصوير كون المسمى من قبيل الكلي في المعين ، بحيث يكون المسمى محفوظا مع تبادل المعظم ، في غاية الاشكال.

ومنها : غير ذلك ، مما لا يخفى على المراجع ، مع ما فيها من الاشكالات. فالانصاف : ان تصوير الجامع بين الافراد الصحيحة في غاية الاشكال ، فضلا عن

ص: 76

تصوير الجامع بين الافراد الصحيحة والفاسدة.

ثم انه قد استدل لكل من القول بالصحيح والأعم بما لا يخلو عن مناقشة ، ولا يهمنا التعرض لها ، انما المهم بيان ما قيل في الثمرة بين القولين ، وقد ذكر لذلك ثمرتان : الأولى : صحة التمسك بالاطلاقات بناء على الأعم ، وعدم صحته بناء على الصحيح. الثانية : عدم جريان البراءة عند الشك في الاجزاء والشرائط بناء على الصحيح ، وجريانها بناء على الأعم.

وتوضيح ذلك : هو انه لا ينبغي الاشكال في عدم جواز التمسك بالاطلاقات الواردة في الكتاب والسنة : من قوله تعالى أقيموا الصلاة ، واتوا الزكاة ، ولله على الناس حج البيت ، إلى غير ذلك ، الا بعد معرفة الصلاة ، والزكاة ، والحج ، والعلم بما هو المصطلح عليه شرعا من هذه الألفاظ ، بداهة ان هذه الماهيات من المخترعات الشرعية ، وليس في العرف منها عين ولا اثر ، فلو خلينا وأنفسنا لم نفهم من قوله - أقيموا الصلاة - شيئا ، فلا يمكن ان تكون مثل هذه الاطلاقات واردة في مقام البيان.

نعم بعد معرفة ما هو المصطلح الشرعي من هذه الألفاظ والعلم بعدة من الاجزاء والشرائط بدليل منفصل ، تظهر الثمرة حينئذ بين الأعمي والصحيحي ، إذ بعد معرفة عدة من الاجزاء بحيث يصدق عليها المسمى ، ويطلق عليها في عرف المتشرعة - الذي هو مرآت للمراد الشرعي - انها صلاة أو حج ، فبناء على الأعم يتمسك بالاطلاق في نفى اعتبار ما شك في جزئيته أو شرطيته ، الا إذا شك في مدخلية المشكوك في المسمى ، وهذا في الحقيقة ليس تمسكا باطلاق أقيموا الصلاة ، بل هو تمسك باطلاق ما دل على اعتبار تلك الأجزاء والشرائط كما لا يخفى.

والحاصل : انه بناء على الأعم يمكن التمسك باطلاق قوله : (1) انما صلوتنا هذه ذكر ودعاء وركوع وسجود ، ليس فيها شيء من كلام الآدميين - على نفى جزئية شيء لو فرض انه وارد في مقام البيان للمسمى بالصلاة ، واما لو كان واردا في مقام

ص: 77


1- راجع المستدرك المجلد الأول كتاب الصلاة. الباب 1 من أبواب أفعال الصلاة الحديث 9 ، ص 995

بيان ما هو المأمور به ، فيمكن التمسك باطلاقه على كلا القولين. واما بناء على الصحيحي فلا يمكن التمسك باطلاق ذلك ، لاحتمال ان يكون المشكوك له دخل في الصحة. نعم يمكن التمسك بالاطلاق المقامي في مثل صحيحة حماد (1) الواردة في مقام بيان كل ماله دخل في الصلاة ، ولو فرض كون الصلاة اسما لذلك الجامع الذي يكون هذه الأفعال محصلة له ، فان مثل صحيحة حماد حينئذ تكون واردة في مقام بيان كل ماله دخل في حصول ذلك الجامع.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان التمسك بالاطلاقات الواردة في الكتاب لا يمكن على كلا القولين ، ووجهه : انه لا يمكن ان تكون تلك الاطلاقات واردة في مقام البيان ، والتمسك باطلاق مثل صيحة حماد يمكن على القولين ، والتمسك باطلاق مثل قوله علیه السلام انما صلوتنا هذه ذكر ودعاء ، يصح على الأعمى لو كان واردا في مقام بيان المسمى.

وما يقال : من أنه لا يمكن التمسك باطلاق ذلك حتى على القول بالأعمى ، للعلم بان المراد ومتعلق الطلب هو الصحيح وان كان اللفظ موضوعا للأعم ، فمجرد صدق المسمى لا يكفي في نفى ما شك في جزئيته مع عدم العلم بحصول المراد ، - ففساده غنى عن البيان ، لأن الصحيح ليس الا ما قام الدليل على اعتباره ، والمفروض ان ما قام الدليل على اعتباره هو هذا المقدار ، فبالاطلاق يحرز ان الصحيح هو ما تكفله الدليل ، كما هو الشأن في جميع الاطلاقات ، والمانع من التمسك بالاطلاق - بناء على القول الصحيحي - هو ان متعلق التكليف امر اخر غير ما تكفله الاطلاق ، فلا يمكن احرازه بالاطلاق ، وهذا بخلاف القول الأعمى ، فان متعلق التكليف بناء عليه هو نفس ما تكفله الاطلاق ، فتأمل في المقام جيدا. هذا كله في الثمرة الأولى.

واما الثمرة الثانية :

وهي الرجوع إلى الأصول العملية ، فقد قيل : انه لافرق في الرجوع إلى

ص: 78


1- راجع الوسائل ، الجزء 4 كتاب الصلاة الباب 1 من أبواب الصلاة الحديث 1 ص 673

البراءة والاشتغال على القولين عند فقد الأصول اللفظية ، ولكن الحق هو التفصيل ، لما عرفت من أنه بناء على الصحيح واخذ الجامع بالمعنى المتقدم لا محيص من القول بالاشتغال ، لرجوع الشك فيه إلى الشك في المحصل ، وعدم التزام القائلين بالصحيح بذلك لا ينافي ذلك ، إذ التكلم في المقام انما هو على ما تقضيه القاعدة ، والقاعدة تقتضي الاشتغال بناء على الصحيح ولا بد من التزامهم بذلك فعدم التزامهم بذلك ينافي مبناهم ، أو يكشف عن فساد المبنى فتأمل. هذا كله بناء على مشرب القوم.

واما بناء على ما اخترناه : من أن الصلاة انما تكون اسما للتامة الاجزاء والشرائط وهي التي تستحق اطلاق الصلاة عليها أولا وبالذات وبلا عناية واطلاق الصلاة على ما عدا ذلك انما يكون بعناية الاجتزاء حيث إن الشارع لما اجتزء عند الاستعجال بما عدا السورة ، صح اطلاق الصلاة على الفاقدة للسورة عند الاستعجال ، ولمكان المشابهة في الصورة صح اطلاق الصلاة على الفاقدة للسورة ، ولولا الاستعجال تكون حينئذ فاسدة ، نظير سبك المجاز من المجاز ، وان لم يكن هو هو حقيقة ، على ما تقدم ، فجريان البراءة عند الشك في الاجزاء والشرائط واضح ، لان متعلق التكليف يكون حينئذ نفس الاجزاء.

نعم في التمسك بالاطلاقات اشكال تقدم وجهه ، ولكن الاشكال بالتمسك بالاطلاقات مطرد على جميع المسالك ، فلا ينبغي جعل مسألة التمسك بالاطلاقات من ثمرات الصحيح والأعم ، بل تختص الثمرة بالرجوع إلى الأصول على عكس ما ذكره في الكفاية (1) من اختصاص الثمرة بالتمسك بالاطلاقات ، فتأمل جيدا. هذا تمام الكلام في العبادات.

واما المعاملات :

فظاهر عبارة الشهيد قده (2) انها كالعبادات في وضعها للصحيح ، حيث .

ص: 79


1- كفاية الأصول الجلد الأول ص 43 - 42 « ومنها ان ثمرة النزاع .. »
2- قال الشهيد الأول قدس سره في القواعد : « الماهيات الجعلية كالصلاة والصوم وسائر العقود لا تطلق على الفاسد الا الحج لوجوب المضي فيه ». القواعد والفوائد ، القسم الأول - الفائدة الثانية من قاعدة 43 ص 158 - الطبعة الجديدة.

عطف العقود على الماهيات المخترعة في عبارته المحكية عن القواعد ، وحينئذ ربما يشكل عليه بأنها لو كانت موضوعة للصحيح ، فلازمه عدم جواز التمسك بالمطلقات الواردة في باب المعاملات على نفى ما شك في اعتباره ، كالماضوية ، والعربية ، كما كان لازم القول بوضع العبادات للصحيح عدم التمسك بالمطلقات عند الشك في اعتبار شيء منها ، على ما عرفت ، مع أنه جرت سيرة الاعلام على التمسك بالمطلقات في باب المعاملات ، ولولا التمسك بالمطلقات لكان اللازم هو الاحتياط ، لان الأصل العملي في المعاملات يقتضى الفساد.

والتحقيق في حل الاشكال : هو انه لو قلنا بان ألفاظ المعاملات موضوعة بإزاء الأسباب ونفس العقد من الايجاب والقبول ، فلا ينبغي الاشكال في صحة التمسك بالمطلقات ولو قلنا بأنها موضوعة للصحيحة ، لان الاطلاق يكون منزلا على ما يراه العرف صحيحا ، حيث كانت الأسباب أمورا عرفية ، واطلاق دليل الامضاء يدل على امضاء كل ما هو سبب عند العرف ، فالعقد الفارسي لو كان عند العرف سببا لحصول الملكية أو الزوجية كان اطلاق أحل اللّه البيع امضاء لذلك.

نعم لو قلنا بأنها موضوعة للمسببات - كما هو كذلك بداهة ان ألفاظ المعاملات موضوعة بإزاء المسببات لا الأسباب ، ولا محل لتوهم ان البيع مثلا اسم للسبب ، نعم في خصوص قوله تعالى أوفوا بالعقود ربما يتوهم ذلك ، الا انه مع ذلك لا يصح بقرينة الوفاء الذي لا يتعلق الا بالمسبب - فيشكل الامر ، لان امضاء المسبب لا يلازم امضاء السبب.

وما يقال في حله : من أن امضاء المسبب يلازم عرفا امضاء السبب ، إذ لولا امضاء السبب كان امضاء المسبب لغوا ، فليس بشيء ، إذ لا ملازمة عرفا في ذلك وان يظهر (1) من الشيخ ( قده ) الميل إلى ذلك حسب ما افاده قبل المعاطاة بأسطر

ص: 80


1- قال الشيخ في المكاسب بعد ذكر كلام الشهيد الثاني في المسالك. والشهيد الأول في القواعد : « ويشكل ما ذكراه بان وضعها للصحيح يوجب عدم جواز التمسك باطلاق نحو أحل اللّه البيع واطلاقات أدلة ساير العقود في مقام الشك في اعتبار شيء فيها ، مع أن سيرة علماء الاسلام التمسك بها في هذه المقامات. نعم يمكن ان يقال : ان البيع وشبهه في العرف إذا استعمل في الحاصل من المصدر الذي يراد من قول القائل ( بعت ) عند الانشاء لا يستعمل حقيقة الا فيما كان صحيحا مؤثرا ولو في نظرهم ، ثم إذا كان مؤثرا في نظر الشارع كان بيعا عنده والا كان صورة بيع نظير بيع الهازل عند العرف. فالبيع الّذي يراد منه ما حصل عقيب قول القائل (بعت) عند العرف و الشرع حقيقة في الصحيح المفيد للأثر و مجاز في غيره إلّا ان الإفادة و ثبوت الفائدة مختلف في نظر العرف و الشرع، و اما وجه تمسك العلماء بإطلاق أدلة البيع و نحوه فلأنّ الخطابات لما وردت على طبق العرف حمل لفظ البيع و شبهه في الخطابات الشرعيّة على ما هو الصحيح المؤثر عند العرف أو على المصدر الّذي يراد من لفظ بعت فيستدل بإطلاق الحكم بحلّه أو بوجوب الوفاء على كونه مؤثرا في نظر الشارع أيضا فتأمل ... (المكاسب، كتاب البيع، ص 81- 80)

عند نقل كلام الشهيد ( قده ) واللغوية انما تكون إذا لم يجعل الشارع سببا ، أو لم يمض سببا أصلا ، إذ لا لغوية لو جعل سببا أو امضى سببا في الجملة ، غايته انه يلزم حينئذ الاخذ بالمتيقن ، فلزوم اللغوية لا يقتضى امضاء كل سبب ، بل يقتضى امضاء سبب في الجملة ، ويلزمه الاخذ بالمتيقن.

فالتحقيق في حل الاشكال : هو ان باب العقود والايقاعات ليست من باب الأسباب والمسببات ، ان أطلق عليها ذلك ، بل انما هي من باب الايجاد بالآلة ، والفرق بين باب الأسباب والمسببات ، وبين باب الايجاد بالآلة ، هو ان المسبب في باب الأسباب لم يكن بنفسه فعلا اختياريا للفاعل ، بحيث تتعلق به ارادته أولا وبالذات ، بل الفعل الاختياري وما تتعلق به الإرادة هو السبب ، ويلزمه حصول المسبب قهرا.

وهذا بخلاف باب الايجاد بالآلة ، فان ما يوجد بالآلة كالكتابة ، هو بنفسه فعل اختياري للفاعل ، ومتعلق لإرادته ويصدر عنه أولا وبالذات ، فان الكتابة ليس الا عبارة عن حركة القلم على القرطاس بوضع مخصوص ، وهذا هو بنفسه فعل اختياري صادر عن المكلف أولا وبالذات ، بخلاف الاحراق ، فان الصادر عن المكلف هو الالقاء في النار لا الاحراق ، وكذا الكلام في سائر ما يوجد بالآلة : من آلات النجار ، والصايغ ، والحداد ، وغير ذلك ، فان جميع ما يوجده النجار يكون فعلا اختياريا له ، والمنشار مثلا آلة لايجاده ، وباب العقود والايقاعات كلها من هذا القبيل ، فان هذه الألفاظ كلها آلة لايجاد الملكية ، والزوجية ، والفرقة ، وغير ذلك ،

ص: 81

وليس البيع مثلا مسببا توليديا لهذه الألفاظ ، بل البيع هو بنفسه فعل اختياري للفاعل متعلق لإرادته أولا وبالذات ، ويكون ايجاده بيده ، فمعنى حلية البيع هو حلية ايجاده ، فكل ما يكون ايجادا للبيع بنظر العرف فهو مندرج تحت اطلاق قوله تعالى : أحل اللّه البيع ، والمفروض ان العقد بالفارسية مثلا يكون مصداقا لايجاد البيع بنظر العرف ، فيشمله اطلاق حلية البيع ، وكذا الكلام في سائر الأدلة وساير الأبواب ، فيرتفع موضوع الاشكال ، إذ مبنى الاشكال هو تخيل ان المنشئات بالعقود من قبيل المسببات التوليدية ، فيستشكل فيه من جهة ان امضاء المسبب لا يلازم امضاء السبب ، والحال ان الامر ليس كذلك ، فتأمل في المقام جيدا.

المبحث الثالث في المشتق

اشارة

وتحقيق الحال فيه يستدعى رسم أمور :

( الامر الأول )

اختلفوا في أن اطلاق المشتق على ما انقضى عنه التلبس بالمبدء ، هل هو على نحو الحقيقة أو المجاز؟ بعد اتفاقهم على المجازية بالنسبة إلى من يتلبس في المستقبل ، وعلى الحقيقة بالنسبة إلى المتلبس في الحال.

والسر في اتفاقهم على المجازية في المستقبل ، والاختلاف فيما انقضى ، هو ان المشتق لما كان عنوانا متولدا من قيام العرض بموضوعه ، من دون ان يكون الزمان مأخوذا في حقيقته ، بل لم يؤخذ الزمان في الافعال - كما سيأتي - فضلا عن المشتق ، وقع الاختلاف بالنسبة إلى ما انقضى عنه المبدء حيث إنه قد تولد عنوان المشتق لمكان قيام العرض بمحله في الزمان الماضي ، وهذا بخلاف من يتلبس بعد ، فإنه لم يتولد عنوان المشتق لعدم قيام العرض بمحله ، فكان للنزاع في ذلك مجال ، دون هذا ، إذ يمكن ان يقال فيما تولد عنوان المشتق : ان حدوث التولد في الجملة ولو فيما مضى يكفي في صدق العنوان على وجه الحقيقة ولو انقضى عنه المبدء ، كما أنه يمكن ان يقال : انه يعتبر في صدق العنوان على وجه الحقيقة بقاء التولد في الحال ، ولا يكفي حدوثه مع انقضائه. هذا فيما إذا تولد عنوان المشتق في الجملة.

واما فيما لم يتولد فلا مجال للنزاع في أنه على نحو الحقيقة ، لعدم قيام العرض

ص: 82

بمحله ، فكيف يمكن ان يتوهم صدق العنوان على وجه الحقيقة ، مع أنه لم يتحقق العنوان بعد ، فلا بد ان يكون على وجه المجاز بعلاقة الأول والمشارفة.

( الامر الثاني )

لا اشكال في اختصاص النزاع بالعناوين العرضية المتولدة من قيام أحد المقولات بمحالها ، وخروج العناوين الذاتية التي يتقوم بها الذات وما به قوام شيئية الشيء ، كحجرية الحجر ، وانسانية الانسان ، وما شابه ذلك من المصادر الجعلية التي بها قوام الشيء ، فلا يصح اطلاق الحجر على ما لايكون متلبسا بعنوان الحجرية فعلا ، ولا اطلاق الانسان على ما لايكون متلبسا بالانسانية فعلا ، فلا يقال للتراب : انه انسان باعتبار انه ، أحد العناصر التي يتولد منها الانسان ، وذلك لان انسانية الانسان ليست بالتراب ، بل انما تكون بالصورة النوعية التي بها يمتاز الانسان عن غيره ، بل التراب لم يكن انسانا في حال من الحالات ، حتى في حال تولد الانسان منه ، فضلا عن حال عدم التولد. وبعبارة أخرى : في حال كون الانسان انسانا لم يكن انسانيته بالتراب الذي هو أحد عناصره ، بل انسانيته انما هي بالصورة النوعية ، فإذا لم يكن التراب في حال كونه عنصر الانسان مما يصح اطلاق اسم الانسان عليه ، فكيف يصح اطلاق اسم الانسان عليه في غير ذلك الحال ، مع أنه لا علاقة بينه وبين الانسان ، حتى علاقة الأول والمشارفة ، لان التراب لا يصير انسانا ، ولا يؤل إليه ابدا.

وهذا بخلاف العناوين العرضية ، كضارب ، فان ضاربية الضارب انما يكون بالضرب ، لمكان قيام الضرب به على جهة الصدور ، ومن المعلوم : ان من لم يكن ضاربا في الحال ، هو الذي يكون ضاربا في الغد حقيقة ، وهو الذي يتعنون بهذا العنوان ، واليه مآله ، فعلاقة الأول والمشارفة في مثل هذا ثابتة ومتحققة ، بخلاف التراب والانسان حيث لم يكن مآل التراب إلى الانسان في حال من الحالات ، بخلاف ضارب ، فان الذي يكون ضاربا هو زيد ، فصح اطلاق الضارب على زيد بعلاقة انه يؤل إلى هذا العنوان في المستقبل.

وحاصل الكلام : انه فرق ، بين أسماء الذوات : من الأجناس والأنواع

ص: 83

والاعلام ، وبين أسماء العرضيات ، فإنه في الأول لا يصح اطلاق الاسم عليها الا في حال ثبوت الذات بما لها من الصور النوعية التي بها يتحقق عنوان الذات كحيوانية الحيوان وانسانية الانسان وزيدية زيد ، بخلاف الثاني ، فإنه يصح اطلاق الاسم عليها ، وان لم تكن متلبسة بالعرض فعلا بعلاقة الأول والمشارفة.

وكذا الكلام في علاقة ما كان ، فان زيدا الفاقد للضرب في الحال ، هو الذي كان ضاربا بالأمس حقيقة ، فصح اطلاق الضارب عليه بعلاقة ما كان ، وهذا بخلاف الكلب الواقع في المملحة بحيث صار ملحا ، فان هذا الملح لم يكن كلبا ، إذ الكلبية انما هي بالصورة النوعية التي لم تكن ، فظهر : سر اختصاص النزاع بالعرضيات ، دون الذاتيات (1) فتأمل.

( الامر الثالث )

ليس المراد من المشتق مطلق ما كان له مصدر حقيقي مقابل المصدر الجعلي ، بحيث يعم الافعال ، ولا خصوص اسم الفاعل والمفعول والصفة المشبهة كما توهم ، بل المراد من المشتق كل عنوان عرضي كان جاريا على الذات متحدا معها وجودا على وجه يصح حمله عليها ، سواء كان من المشتق الاصطلاحي كضارب ومضروب ، أو لم يكن كبعض الجوامد التي تكون من العناوين العرضية مقابل العناوين الذاتية ، كالزوجية ، والرقية ، والحرية ، وغير ذلك من العناوين العرفية ، ولا موجب لتوهم الاختصاص بخصوص المشتق الاصطلاحي ، وان كان ظاهر العنوان ربما يعطى ذلك ، الا انه يظهر من بعض الكلمات التعميم لكل عنوان عرضي ، ويدل على ذلك : العبارة المحكية عن القواعد ، مع ما في الايضاح من شرحها ، والعبارة المحكية عن المسالك (2) فيمن كان له زوجتان كبيرتان وزوجة :

ص: 84


1- وكان غرض شيخنا الأستاذ مد ظله من هذا البيان هو انه بالنسبة إلى الذاتيات لا يصح اطلاق الاسم على غير المتلبس بالذات ، لا على وجه الحقيقة ، ولا على وجه المجاز ، بل يكون الاستعمال غلطا ، ولكن الظاهر من بعض الكلمات : هو انه بالنسبة إلى الذاتيات لا يصح الاطلاق على غير المتلبس على وجه الحقيقة ، واما على وجه المجاز فكأنه لا كلام في صحة الاطلاق ، فتأمل - منه.
2- قال الشهيد الثاني قدس سره في المسالك : « وبقى الكلام في تحريم الثانية من الكبيرتين ، فقد قيل إنها لا تحرم ، واليه مال المصنف حيث جعل التحريم أولى وهو مذهب الشيخ في النهاية وابن الجنيد لخروج الصغيرة عن الزوجية إلى البنتية ، وأم البنت غير محرمة على أبيها خصوصا على القول باشتراط بقاء المعنى المشتق منه في صدق الاشتقاق كما هو رأى جمع من الأصوليين. ( مسالك الأفهام في شرح شرايع الاسلام ، الجلد الأول كتاب النكاح ، ص 475 )

صغيرة وأرضعت الكبيرتان الصغيرة ، حيث بنوا حرمة المرضعة الثانية على مسألة المشتق ، ولا بأس بنقل العبارة المنقولة عن الايضاح والقواعد وبيان المراد منها وان كانت المسألة فقهية.

فنقول : انه حكى من القواعد (1) « انه لو أرضعت الصغيرة زوجتاه على التعاقب ، فالأقرب تحريم لجميع ، لان الأخيرة صارت أم من كانت زوجته ، ان كان قد دخل بإحدى الكبيرتين ، والا حرمت الكبيرتان مؤبدا ، وانفسخ عقد الصغيرة انتهى » وحكى عن الايضاح (2) انه قال : « أقول تحريم المرضعة الأولى والصغيرة مع الدخول بإحدى الكبيرتين بالاجماع ، واما المرضعة الأخيرة ففي تحريمها خلاف ، فاختار والدي المصنف وابن إدريس تحريمها ، لان هذه يصدق عليها انها أم زوجته ، لأنه لا يشترط في صدق المشتق بقاء المعنى المشتق منه ، فكذا هنا ، ولأن عنوان الموضوع لا يشترط صدقه حال الحكم ، بل لو صدق قبله كفى ، فيدخل تحت قوله : وأمهات نسائكم ، ولمساوات الرضاع النسب ، وهو يحرم سابقا ولا حقا فكذا مساويه » انتهى موضع الحاجة.

أقول :

عبارة القواعد مع ما عليها من الشرح قد تكفلت لبيان فروع :

الأول : حرمة المرضعة الكبيرة الأولى على كل حال ، وعدم ابتنائها على المشتق.

الثاني : توقف حرمة المرتضعة الصغيرة على الدخول بإحدى الكبيرتين.

الثالث : انفساخ عقد الصغيرة مع عدم الدخول بإحدى الكبيرتين ، وان لم تحرم عليه مؤبدا ، فله تجديد العقد عليها.

ص: 85


1- إيضاح الفوائد في شرح القواعد - الطبعة الجديدة ، الجزء 3 ص 52.
2- إيضاح الفوائد في شرح القواعد - الطبعة الجديدة ، الجزء 3 ص 52.

الرابع : ابتناء حرمة المرضعة الثانية الكبيرة على مسألة المشتق. ولا بأس ببيان مدرك هذه الفروع.

فنقول : اما الفرع الأول ، وهو حرمة المرضعة الأولى على كل حال ، فلصيرورتها أم الزوجة في حال اكمال الرضعة الخامسة عشر ، بداهة انه في ذلك الحال تكون المرتضعة الصغيرة زوجة ، والمرضعة الكبيرة أم الزوجة ، فيصدق عليها في ذلك الحال - أمهات نسائكم - فتحرم.

واما الفرع الثاني : وهو حرمة المرتضعة الصغيرة مع الدخول بإحدى الكبيرتين ، فلان الصغيرة تكون حينئذ ربيبته إذا لم يكن اللبن للزوج ، كما هو مفروض الكلام ، حيث إنهم ذكروا ذلك في فروع المصاهرة ، ومن المعلوم : حرمة الربيبة إذا كانت أمها مدخولا بها ، من غير فرق بين الدخول بالأولى أو الدخول بالثانية ، لأنها على كل تقدير تصير ربيبة من الزوجة المدخول بها.

واما الفرع الثالث : وهو انفساخ عقد الصغيرة فيما إذا لم يكن قد دخل بإحدى الكبيرتين وعدم حرمتها ، فلأنها وان صارت ربيبة بالارضاع ، الا انها ربيبة لم يكن قد دخل بأمها فلا تحرم ، واما انفساخ عقدها ، فلانه في حال اكمال الرضعة الخامسة عشر يلزم اجتماع الام والربيبة في عقد الازدواج ، وهو موجب لانفساخ عقد الصغيرة ، لعدم جواز الاجتماع.

واما الفرع الرابع : وهو ابتناء حرمة المرضعة الثانية على مسألة المشتق ، فلانه في حال ارضاع الثانية لم تكن الصغيرة زوجة ، لخروجها عن الزوجية بارتضاعها من الأولى ، فإذا لم تكن في ذلك الحال زوجة ، فلا تكون المرضعة الثانية أم الزوجة فعلا ، بل تكون أم من كانت زوجة في السابق ، فلو قلنا بان المشتق حقيقة فيمن انقضى منه المبدء ، تحرم المرضعة الثانية أيضا ، لصدق أم الزوجة عليها حقيقة ، وان لم نقل فلا موجب لحرمتها.

بقى الكلام فيما ذكره في الايضاح من الوجهين الأخيرين لحرمة المرضعة الثانية.

اما الوجه الأول منهما ، وهو قوله : ولأن عنوان الموضوع لا يشترط صدقه

ص: 86

حال الحكم بل لو صدق قبله كفى فيدخل تحت قوله : وأمهات نسائكم ، فربما يتخيل انه يرجع إلى الوجه الأول ، وهو صدق المشتق على من انقضى عنه المبدء ، فهو تكرار لذلك الوجه بعبارة أخرى هذا ، ولكن يمكن ان يكون مراده منه ، هو انه لا يتوقف الحكم بحرمة أم الزوجة على صدق هذا العنوان حال الحكم ، حتى يقال : ان ذلك مبنى على كون المشتق حقيقة فيمن انقضى ، بل يكفي في حرمة الام تلبس البنت بالزوجة آنا ما.

والحاصل : انه وان لم يصدق على الام انها أم الزوجة فعلا لخروج الزوجة عن الزوجية ، الا انه لا يتوقف الحكم بحرمة الام على صدق الزوجية على البنت في حال صيرورتها اما لها ، بل يكفي في الحكم بحرمة أمها ثبوت الزوجية لها في زمان ، وهو الزمان الذي قبل الارتضاع من المرضعة الأولى ، نظير قوله تعالى : لا ينال عهدي الظالمين ، حيث إن التلبس بالظلم في زمان يكفي في عدم نيل العهد وان لم يكن حال النيل ظالما ، فتأمل جيدا.

واما الوجه الأخير : فحاصله ان لحمة الرضاع كلحمة النسب ، وانه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، ومن المعلوم : انه لو تزوج بابنة ثم طلقها ، يحرم عليه أمها مع زوال زوجيتها بالطلاق ، فكذلك في الام والبنت الرضاعية تحرم الام الرضاعية ولو خرجت البنت عن الزوجية ، كما في المقام. وعلى كل حال : فقد خرجنا عما هو المقصود في المقام ، من عدم اختصاص المشتق المتنازع فيه بالمشتق الاصطلاحي ، وهو ما كان له مصدر حقيقي ، بل يجرى في الجوامد التي تكون لها مصادر جعلية إذا كانت من العرضيات لا الذاتيات.

وضابط العرضي هو ما كان متولدا من قيام إحدى المقولات بموضوعاتها ، سواء كانت من الأمور المتأصلة في عالم العين ، كما إذا كان العنوان متولدا من مقولة الكم والكيف ، كالأبيض والأسود ، أو كان متولدا من الأمور النسبية ، كسائر المقولات السبع : من مقولة الفعل والانفعال والإضافة والجدة وغير ذلك ، وسواء كان من الأمور الاعتبارية ، أو كان من الأمور الانتزاعية ، وسواء كان من

ص: 87

المحمول بالضميمة ، أو كان خارج المحمول ، ولعل هذا هو مراد صاحب (1) الكفاية من تعميم محل النزاع بالنسبة إلى العرض والعرضي ، وان كان ذلك خلاف ما اشتهر من اصطلاح العرض والعرضي ، حيث إن مرادهم من العرض نفس المقولة ، أي عرضا مباينا غير محمول كالبياض ، ومرادهم من العرضي ، المتحد مع الذات المحمول عليها كالأبيض ، فالتعبير عن المحمول بالضميمة وخارج المحمول - بالعرض والعرضي - خلاف ما اشتهر من اصطلاحهم في ذلك.

وعلى كل حال : المراد من المحمول بالضميمة ، هو ما كان الحمل بلحاظ قيام أحد الاعراض التسعة بمحالها ، ولو كان العرض من مقولة الإضافة والنسبة كقولك : هذا ابيض ، هذا اسود ، هذا أب ، هذا زوج ، هذا فوق ، هذا تحت ، وغير ذلك مما كان من مقولة الكم ، والكيف ، والإضافة ، والنسبة المتكررة. والمراد من الخارج المحمول ، ما كان المحمول أمرا خارجا عن الذات ، ولكن كان من مقتضيات الذات ، كهذا ممكن ، هذا وأحب ، وغير ذلك مما لم يكن المحمول من أحد المقولات.

وربما عبر عن الأمور الانتزاعية التي تنتزع من قيام العرض بمحله بخارج المحمول ، كالسبق واللحوق والتقارن المنتزعة من تقارن الشيئين في زمان أو مكان أو سبق أحد الشيئين في المكان والزمان ، فمثل السبق واللحوق والتقارن ينتزع من قيام مقولة الأين ومتى بموضوعها ، فمثل هذا أيضا ربما يعبر عنه بخارج المحمول على ما حكاه شيخنا الأستاذ مد ظله ، ولكن المعروف من اصطلاح - خارج المحمول - هو ما كان من مقتضيات الذات خارجا عن حقيقتها ، كالامكان والوجوب.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان الخارج عن محل النزاع هو خصوص العناوين الذاتية المنتزعة عن نفس مقام الذات ، على ما تقدم في الامر الثاني ، واما سائر العناوين المتولدة من أي مقولة كانت ، فهي داخلة في محل النزاع ، سواء كانت من خارج المحمول ، أو من المحمول بالضميمة. »

ص: 88


1- كفاية الجلد الأول ص 59 « ثم انه لا يبعد ان يراد بالمشتق .. »

ومما ذكرنا من تعريف المحمول بالضميمة ظهر : ان جعل مثل الزوجية من خارج المحمول ، كما يظهر من صاحب الكفاية (1) حيث أم بالتعميم ادراج مثل الزوجية كما يشهد بذلك سياق كلامه مما لا وجه له ، إذ الزوجية من المحمول بالضميمة ، لا خارج المحمول ، حيث إن الزوجية من مقولة النسبة التي هي من المقولات التسع ، فتكون من المحمول بالضميمة ، على ما بيناه من ضابط المحمول بالضميمة.

( الامر الرابع )

يعتبر في المشتق المتنازع فيه ، بقاء الذات مع انقضاء المبدء ، كالضارب ، حيث تكون الذات فيه باقية مع انقضاء الضرب ، ولأجل ذلك ربما يستشكل في ادراج مثل اسم الزمان في محل النزاع ، لانعدام الذات فيه كانقضاء المبدء ، لان الذات فيه انما يكون هو الزمان ، وهو مبنى على التقضى والتصرم ، فمثل مقتل الحسين علیه السلام لا يمكن ادراجه في محل النزاع ، لان كلا من الزمان والقتل قد انقضى ، فلا يصح ان يقال : ان هذا اليوم مقتل الحسين علیه السلام هذا.

ولكن يمكن ان يقال : ان المقتل عبارة عن الزمان الذي وقع فيه القتل ، وهو اليوم العاشر من المحرم ، واليوم العاشر لم يوضع بإزاء خصوص ذلك اليوم المنحوس الذي وقع فيه القتل ، بل وضع لمعنى كلي متكرر في كل سنة ، وكان ذلك اليوم الذي وقع فيه القتل فردا من افراد ذلك المعنى العام المتجدد في كل سنة ، فالذات في اسم الزمان انما هو ذلك المعنى العام ، وهو باق حسب بقاء الحركة الفلكية ، وقد انقضى عنه المبدء الذي هو عبارة عن القتل ، فلا فرق بين الضارب وبين المقتل ، إذ كما أن الذات في مثل الضارب باقية وقد انقضى عنها الضرب ، فكذا الذات في مثل المقتل الذي هو عبارة عن اليوم العاشر من المحرم باقية لتجدد ذلك اليوم في كل سنة وقد انقضى عنها القتل ، نعم لو كان الزمان في اسم الزمان موضوعا لخصوص تلك القطعة الخاصة من الحركة الفلكية التي وقع فيها القتل ، لكانت الذات فيه

ص: 89


1- المدرك السابق ص 60 « فعليه كلما كان مفهومه متنزعا .. »

متصرمة ، كتصرم نفس المبدء ، الا انه لا موجب للحاظ الزمان كذلك ، فتأمل جيدا.

( الامر الخامس )

المراد من الحال في قولهم : اطلاق المشتق على المتلبس بالمبدء في الحال يكون حقيقة ، ليس زمان الحال المقابل لزمان الماضي والاستقبال الذي هو عبارة عن زمان التكلم والنطق ، بل المراد من الحال ، هو حال التلبس بالمبدأ أي حال تحقق المبدء وفعلية قيامه بالذات. وبعبارة أخرى : المراد بالحال ، هو وجود العنوان المتولد من قيام العرض بمحله ، سواء كان مقارنا لزمان الحال ، كما إذا كان زيد ضاربا حين قولي : زيد ضارب ، أو كان سابقا على زمان الحال ، أو لاحقا له ، كما إذا قلت : كان زيد ضاربا ، أو سيكون زيد ضاربا.

وبذلك يندفع : ما ربما يستشكل في المقام : من المنافاة ، بين الاتفاق على أن اطلاق المشتق على المتلبس في الحال يكون على وجه الحقيقة ، وبين الاتفاق على أن الأسماء مط لا تدل على الزمان ، سواء في ذلك الجوامد والمشتقات ، وانما قيل بدلالة الافعال على الزمان ، وهو أيضا محل منع كما سيأتي.

وجه المنافاة ، هو انه لو لم يكن الزمان مأخوذا في مفهوم الاسم ، ولا جزء الموضوع له ، فكيف يكون اطلاق المشتق على المتلبس في الحال على وجه الحقيقة؟ إذ معنى كونه على وجه الحقيقة ، هو انه تمام ما وضع له اللفظ ، فيكون زمان الحال جزء مدلول اللفظ ، وهذا كما ترى ينافي الاتفاق على عدم دلالة الأسماء على الزمان ، هذا.

ومما ذكرنا من معنى الحال يظهر لك وجه الدفع وعدم المنافاة بين الاتفاقين ، إذ ليس المراد من - الحال - في اتفاقهم على أن اطلاق المشتق على المتلبس في الحال يكون حقيقة هو زمان الحال حتى يكون زمان الحال جزء مدلول المشتق ، بل المراد من - الحال - هو حال فعلية المبدء وتحققه ، غايته ان فعليته لابد ان يكون في زمان لاحتياج الزماني إلى الزمان ، الا ان ذلك غير كونه جزء مد لول اللفظ.

ومما ذكرنا أيضا من معنى الحال يندفع اشكال آخر ، وهو ان النحاة قالوا : ان اسم الفاعل ان كان بمعنى الحال أو الاستقبال يعمل عمل الفعل المضارع ، وان

ص: 90

كان بمعنى الماضي لا يعمل عمل الفعل ، وهذا الكلام منهم ربما يوهم المنافاة لما اتفقوا عليه : من عدم دلالة الأسماء على الزمان ، هذا.

ولكن قد عرفت عدم المنافاة ، إذ ليس المراد من الحال والاستقبال في قولهم : يعمل عمل الفعل - هو زمان الحال والاستقبال ، بل المراد حال تلبسه بالمبدء أو تلبسه فيما بعد في مقابل من كان متلبسا في السابق ، مع أنه لو فرض ان مرادهم من الحال والاستقبال هو زمان الحال والاستقبال ، فلا يلازم ان يكون اسم الفاعل بنفسه يدل على زمان الحال والاستقبال ، حتى ينافي قولهم بعدم دلالة الأسماء على الزمان ، بل يمكن استفادة زمان الحال والاستقبال من وقوع اسم الفاعل في طي التركيب ، حيث إن الكلام إذا كان مشتملا على الرابط الزماني : من - كان وأخواتها - أو السين وسوف الذين لا يدخلان الا على الفعل المضارع ، فلا محالة يستفاد منه الزمان الماضي أو زمان الاستقبال ، كقولك : كان زيد ضاربا ، أو سيكون زيد ضاربا. وان لم يكن مشتملا على الرابط الزماني كقولك : زيد قائم ، أو زيد ضارب ، فيستفاد منه زمان الحال بمقتضى ظهور اطلاق الكلام في ذلك ، وهذا معنى قولهم : ان الجملة الحملية ظاهرة في زمان الحال ، حيث إن الاخبار عن شيء يقتضى تحقق المخبر به في زمان النطق إذا لم تكن الجملة مشتملة على ما يصرفها عن هذا الظهور ، من الروابط الزمانية التي يستفاد منها المضي والاستقبال ، فلا منافاة بين قولهم : بعدم دلالة الأسماء على الزمان ، وبين قولهم : ان اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال يعمل عمل الفعل ، وقولهم : ان الجملة الخبرية ظاهرة في تحقق المخبر به في زمان النطق ، فان ظهور الجملة في ذلك انما يكون لمكان الاطلاق وعدم اقترانها بالرابط الزماني ، كما أن كون اسم الفاعل بمعنى الاستقبال انما يكون بالرابط الزماني ، لا ان نفس اسم الفاعل يدل على الزمان.

وحاصل الكلام : ان البحث في باب المشتق ، انما يكون في مفهومه الافرادي من أنه حقيقة في خصوص المتلبس ، أو الأعم منه ومما انقضى عنه التلبس؟ وكلامهم في ظهور الجملة الخبرية في تحقق المخبر به في حال النطق ، انما هو لمكان النسبة وظهور تركيب الكلام في ذلك عند خلوه عما يدل على تحقق المخبر به في

ص: 91

الماضي ، فلا ربط له بما نحن فيه من تعيين الفهوم الافرادي للمشتق ، كما لا يرتبط بالمقام ما حكى عن الفارابي والشيخ : من أن اتصاف الموضوع بالعنوان في القضايا الموجهة ، هل يكفي فيه الامكان؟ كما عن الفارابي ، أو يعتبر الفعلية ووجود العنوان في أحد الأزمنة الثلاثة؟ كما عن الشيخ الرئيس ، وذلك : لان كلامنا على ما عرفت ناظر إلى معنى المشتق وما هو مفهومه الافرادي ، وكلام الفارابي والشيخ ناظر إلى جهة صحة الحمل في القضية ، وانه هل يكفي في صحة الحمل امكان تحقق الوصف العنواني للموضوع في مقابل الامتناع؟ أو يعتبر تحقق الوصف في حد الأزمنة ولا يكفي الامكان؟ فالموضوع في قولنا : كل كاتب متحرك الأصابع ، هو ما يمكن ان يكون كاتبا وان لم يصدر منه الكتابة في زمان على رأى الفارابي ، أو ما يتحقق منه الكتابة في أحد الأزمنة على رأى الشيخ ، وكذا قولنا : كل مركوب زيد حمار ، هو ما أمكن ان يكون مركوب زيد وان لم يتلبس بالمركوبية في زمان من الأزمنة ، أو ما كان متلبسا في زمان ، وهذا كما ترى لا ربط له بما نحن فيه من أن معنى الكاتب والمركوب ما هو؟.

وحاصل الكلام : ان كلام الفارابي والشيخ انما هو في أن المحمول الذي يكون موجها بإحدى الجهات ، من الضرورة والامكان والفعلية هل يصح حمله على موضوع لم يتلبس بالوصف العنواني في زمان من الأزمنة الا انه ممكن التلبس؟ أو انه لا يصح الا إذا تلبس به في أحد الأزمنة؟ وهذا أجنبي عما نحن فيه من معنى المشتق وان صدقه بالنسبة إلى المستقبل مجاز وبالنسبة إلى حال التلبس حقيقة وبالنسبة إلى ما انقضى حقيقة أو مجاز على الخلاف ، فلا يتوهم المنافاة ، بين ما حكى عن الفارابي والشيخ في ذلك المقام ، وبين ما ذكرناه في هذا المقام ، كما لا يتوهم المنافاة ، بين ما ذكرناه في الامر الثاني : من اعتبار التلبس بالعنوان بالفعل في الذاتيات ولا يكفي التلبس فيما مضى فضلا عن التلبس في المستقبل ، وبين ما ذكره الفارابي : من كفاية امكان التلبس بالعنوان في عقد الوضع في صحة الحمل ، بناء على تعميم العنوان في كلامه بالنسبة إلى الذاتيات كما هو الظاهر ، وذلك لما عرفت من أن كلامه في صحة الحمل ، وكلامنا في المفهوم الافرادي ، فتأمل جيدا.

ص: 92

( الامر السادس )

هل النزاع في المقام راجع إلى ناحية الاستعمال ، وان استعمال المشتق فيما انقضى عنه المبدء حقيقة أو مجاز أو ان النزاع راجع إلى ناحية التطبيق والانطباق؟ ولا بد قبل ذلك من بيان المراد من الاستعمال ، والتطبيق ، والانطباق.

فنقول : ان الاستعمال عبارة عن القاء المعنى باللفظ وجعل اللفظ مرآة له ، فان كان ذلك هو المعنى الموضوع له اللفظ ، كان الاستعمال على وجه الحقيقة. وان لم يكن ما وضع له اللفظ ، فان كان هناك علاقة بينه وبين الموضوع له ، كان الاستعمال على وجه المجاز ، وان لم يكن علاقة كان الاستعمال غلطا ، فالاستعمال يتصف بكل من الحقيقة والمجاز والغلطية.

واما الانطباق ، فهو عبارة عن انطباق المعنى الكلي على مصاديقه وصدقه عليها ، وهذا لا يتصف بالحقيقة والمجاز ، بل هو من الأمور الواقعية التكوينية ، يتصف بالوجود والعدم إذ الكلي اما منطبق على هذا واما غير منطبق ، هذا بحسب الواقع. واما بحسب الاطلاق فكذلك لا يتصف بالحقيقة والمجاز ، بل بالصدق والكذب ، فلو أطلق الكلي على ما يكون مصداقا له يكون الكلام صادقا ، وان أطلق على ما لايكون مصداقا له يكون الكلام كاذبا ، فاطلاق الانسان على زيد يكون صدقا ، واطلاقه على الحمار يكون كذبا ، ومن هنا أنكر على السكاكي القائل بالحقيقة الادعائية ، بأنه لا معنى للحقيقة الادعائية ، إذ اطلاق الأسد بمعناه الحيوان المفترس على زيد الشجاع يكون كذبا ، ومجرد الادعاء لا يصحح الكلام.

والحاصل : انه لو أطلق الأسد على زيد من دون تصرف في معنى الأسد ، بل يراد منه معناه الحقيقي الذي هو الحيوان المفترس ، يكون هذا الكلام كذبا ، ومجرد الادعاء بان زيدا من افراد الأسد لا يخرج الكلام عن الكذب ، بل يكون في ادعائه لها أيضا كاذبا ، فاطلاق الأسد على زيد انما يصح إذ توسع في معنى الأسد بجعل معناه مطلق الشجاع الصادق على الحيوان المفترس وعلى زيد الشجاع ، ثم بعد هذه التوسعة يطلق الأسد على زيد فيكون زيد من افراد المعنى الموسع فيه حقيقة ، ويكون من مصاديقه واقعا إذا كان شجاعا ، فالاطلاق يكون ح على نحو الحقيقة وان

ص: 93

كان استعمال الأسد في مطلق الشجاع مجازا ، لأنه استعمال في خلاف ما وضع له.

وبالجملة : صحة اطلاق شيء على شيء انما يكون بتوسعة في ناحية ذلك الشيء على وجه يعم ذلك الشيء الذي أطلق عليه ، فتارة يكون الشيء هو بنفسه موسعا بلا عناية ويكون نسبته إلى المصاديق نسبة المتواطي ، كما لو أطلق الماء على ماء الدجلة والفرات ، ففي مثل هذا يكون كل من الاطلاق والاستعمال حقيقيا إذا لم يكن الاطلاق بلحاظ الخصوصية الفردية ، بل جرد الفرد عن الخصوصية وأريد به نفس تلك الحصة من الطبيعة الموجودة في ضمنه.

وأخرى : لايكون الشيء هو بنفسه بلا عناية يعم ذلك الشيء الذي أطلق عليه ، وان كان من افراده الحقيقية ، الا ان نسبته إلى ذلك الشيء نسبة المشكك لا المتواطي كاطلاق الماء على ماء الزاج والكبريت ، فان ماء الزاج والكبريت وان كان من افراد الماء حقيقة ، الا ان الماء لما كان منصرفا عن ذلك فاطلاق الماء عليه يحتاج إلى نحو عناية وتوسعة ، ولكن تلك العناية لا توجب المجازية ، بل يكون أيضا كل من الاطلاق والاستعمال على وجه الحقيقة.

وثالثة : لايكون الشيء مما يعمه على وجه الحقيقة ، بل يكون مباينا له بالهوية ، الا انه يصح تعميم دائرة الشيء على وجه يكون ذلك الشيء من افراده حقيقة بعد التعميم ، وذلك كصحة تعميم الأسد لمطلق الشجاع لمكان العلاقة ، وبعد التعميم والتوسعة في دائرة مفهوم الأسد يطلق على زيد الشجاع ، ويكون زيد من افراد المفهوم الموسع حقيقة ، وان كان استعمال الأسد في مطلق الشجاع مجازا ، لأنه خلاف ما وضع له اللفظ.

إذا عرفت ذلك فنقول : ان السكاكي ان أراد من قوله : اطلاق الأسد على زيد يكون حقيقة ادعائية ، هو انه يطلق الأسد على زيد من دون توسعة في دائرة مفهوم الأسد ، فهذا مما لا معنى له ويكون الكلام كذبا ، وان أراد ان الاطلاق بعد التوسعة في دائرة مفهوم الأسد ، فهذا هو المجاز الذي يقول به المشهور ، ويكون من المجاز في الكلمة ، حيث إنه قد استعمل لفظ الأسد في مطلق الشجاع ، وهو خلاف ما وضع له فتأمل ، فان الانكار على السكاكي ربما لا يساعد عليه الشخص ابتداء و

ص: 94

ان كان بعد التأمل يعترف (1) بفساد مقالته.

وعلى كل حال ، فلنرجع إلى ما كنا فيه من أن النزاع في المقام ، هل هو في صحة الاطلاق والتطبيق؟ أو في الحقيقة والمجاز بالنسبة إلى استعمال المشتق فيما انقضى عنه المبدء؟ ربما قيل : ان النزاع في المقام انما هو في صحة الاطلاق وتطبيق عنوان المشتق على ما انقضى عنه المبدء ، لا في أن استعماله فيما انقضى عنه المبدء حقيقة أو مجاز. قلت : هذا الكلام بمكان من الغرابة ، ضرورة ان اطلاق عنوان على شيء وتطبيقه على المصاديق يتوقف على معرفة ذلك العنوان إذ لا معنى للتطبيق مع الجهل بالعنوان.

وبالجملة : صحة اطلاق المشتق على ما انقضى عنه المبدء وعدم صحته يتوقف على معرفة الموضوع له للمشتق ، والكلام بعد في أصل مفهوم المشتق وما وضع له ، فكيف يكون النزاع في الاطلاق والتطبيق؟ مع أن انطباق الكلي على مصاديقه امر خارجي تكويني لا معنى لوقوع النزاع فيه من الاعلام.

والحاصل : ان صدق عنوان الضارب على زيد الذي انقضى عنه الضرب وعدم صدقه يدور مدار مفهوم الضارب وان الموضوع له ما هو؟ فان قلنا : ان الموضوع له هو المعنى الأعم من المتلبس بالحال وما انقضى عنه المبدء ، فلا محالة يصدق على زيد عنوان الضارب ، وان قلنا : ان الموضوع له هو خصوص المتلبس ، فلا يصدق على زيد عنوان الضارب ، فالعمدة هو تعيين الموضوع له وما هو المفهوم الافرادي ، فكيف صار النزاع في صحة الاطلاق والتطبيق ، مع أنه بعد لم يتضح الموضوع له.

هذا كله ، مضافا إلى أن جعل محل النزاع هو الاطلاق والانطباق ، انما يصح فيما إذا كان هناك فرد أطلق عليه عنوان المشتق كما في زيد الضارب وعمر و

ص: 95


1- هذا ما افاده شيخنا الأستاذ مد ظله في هذا المقام ، ولكن ربما يختلج في البال ان الكذب لازم على كل حال ، سواء قلنا بالتوسعة في ناحية المفهوم ، أو قلنا بمقالة السكاكي : من الحقيقة الادعائية وان اطلاق الأسد على زيد لمكان ادعاء انه من افراد الحيوان المفترس. نعم لو قلنا بان المجاز عبارة عن استعمال اللفظ في خلاف ما وضع له لعلاقة بين المعنيين من دون ان يكون هناك تصرف لا في ناحية المفهوم ولا في ناحية الفرد - كما هو المشهور في الألسن - لما كان يلزم كذب في الكلام أصلا ، فتأمل - منه.

الراكب ، وأما إذا لم يكن هناك فرد أطلق عليه عنوان المشتق ، كقولك : جئني بضارب ، أو تحرم أم الزوجة وما شابه ذلك من العناوين الكلية التي تكون موضوعا للأحكام ، فلا اطلاق هناك ولا تطبيق وانطباق ، بل عنوان كلي وقع موضوعا لحكم ، فلابد ان يكون النزاع في هذا في نفس المفهوم الافرادي وحقيقة الضارب وأم الزوجة ، والمفروض ان عقد البحث في المشتق انما هو لمعرفة مفاهيم تلك العناوين ليصح موضوع الحكم.

والحاصل : ان التكلم في الاطلاق والتطبيق ، انما هو فيما إذا كان التطبيق مذكورا في الكلام صريحا ، كقولك زيد ضارب. وأما إذا لم يكن التطبيق مذكورا في الكلام صريحا ، سواء كان مذكورا فيه ضمنا ، كقولك : رأيت ضاربا حيث إن الرؤية لابد ان تتعلق بشخص ، أو لم يكن مذكورا فيه ولو ضمنا ، كما في العناوين المشتقة التي وقعت موضوعا للأحكام الشرعية ، كقوله علیه السلام مثلا يكره البول تحت الشجرة المثمرة أو تحرم أم الزوجة وما شابه ذلك ، فلا محالة ان يكون التكلم فيه من حيث الحقيقة والمجاز وتعيين ما هو الموضوع له لتلك العناوين المشتقة. وثمرة النزاع انما تظهر في مثل هذا ، إذ غالب الفروع التي رتبها الاعلام على مسألة المشتق ، انما ترتب على العناوين الكلية التي وقعت موضوعا للأحكام الشرعية ، ومع هذا كيف يصح ان يقال : ان الكلام في المقام في الاطلاق والانطباق؟ ولو كان من عادتنا إساءة الأدب ، لأسئنا الأدب بالنسبة إلى من قال بهذه المقالة كما أساء الأدب بالنسبة إلى الاعلام. فتأمل في المقام جيدا ، حتى لا تعثر بمقالته.

( الامر السابع )

في شرح الحال في الاشتقاق ومبدء الاشتقاق.

اعلم : ان بناء المتقدمين كان على أن مبدء الاشتقاق هو المصدر ، وحكى عن المتأخرين ان مبدء الاشتقاق هو اسم المصدر. والحق : انه لا هذا ولا ذلك ، وتوضيحه يتوقف على بيان المراد من المصدر واسم المصدر وما هو المايز بينهما ، وان كان قد تقدم منا في المعاني الحرفية شرح ذلك على وجه الاجمال ، ونزيده في المقام

ص: 96

وضوحا.

فنقول : انه لا اشكال في أن المقولة هي بنفسها من الماهيات الامكانية في قبال الماهية الجوهرية ، وفي عالم الهوية لا ربط لاحديهما بالأخرى ، ولكن ماهية العرض تحتاج في مقام التحقق إلى محل تقوم به ، لعدم امكان قيام الماهية العرضية بنفسها ، بل وجودها انما يكون بوجود الموضوع ، ومن هنا قالوا : ان وجود العرض لنفسه وفي نفسه عين وجوده لمحله وفي محله ، والمراد من عينية الوجود للمحل هو الاتحاد في الوجود خارجا ، بحيث لايكون هناك أمران منحازان في الخارج ، ولأجل ذلك صح لحاظ العرض بما هو هو ، وبما هو قائم بالمحل ومتحد وجوده مع وجوده. وبعبارة أخرى تارة : يلاحظ بشرط لا عما يتحد معه ، وأخرى : يلاحظ لا بشرط عما يتحد معه : فان لوحظ بما هو هو وبشرط لا عما يتحد معه وبما انه شيء من الموجودات الامكانية ، يقال له العرض كالسواد والبياض ، وان لوحظ بما هو قائم بالمحل ولا بشرط عما يتحد معه في الوجود وبما انه وجود رابطي ، يقال له العرضي كالأبيض والأسود. وبعبارة أخرى تارة : يلاحظ أمرا مباينا غير محمول ، وأخرى : يلاحظ أمرا متحدا محمولا كقولك : زيد ابيض ، حيث إنه يصح ذلك ، ولا يصح قولك : زيد بياض.

ثم إن العرض ان لو حظ أمرا مباينا غير محمول ، فاما ان يلاحظ بما هو هو ، من دون لحاظ انتسابه إلى محله ، فهو المعبر عنه باسم المصدر ، حيث قيل في تعريفه : انه ما دل على نفس الحدث بلا نسبة. واما ان يلاحظ منتسبا إلى فاعله ، فتارة : يكون اللحاظ بنسبة ناقصة تقييدية ، وهو المعبر عنه بالمصدر كقولك : ضرب زيد ، وأخرى : بنسبة تامة خبرية ، وهو المعبر عنه بالفعل باقسامه الثلاثة : من الماضي والمضارع والامر ، فيشترك كل من المصدر والفعل في الدلالة على النسبة ، غايته ان هيئة المصدر تدل على النسبة الناقصة التقييدية على ما قيل ، وان كان لنا فيه كلام يأتي انشاء اللّه تعالى ، وهيئة الفعل تدل على النسبة التامة الخبرية ، فإذا كان معنى المصدر هو ذلك ، فلا يمكن ان يكون هو مبدء الاشتقاق ، بداهة انه يكون للمصدر ح هيئة تخصه ، ويكون بما له من المعنى مباينا لسائر المشتقات ، فكيف يكون هو مبدء

ص: 97

الاشتقاق؟ مع أنه يعتبر في مبدء الاشتقاق ان يكون معرى عن الهيئة حتى يمكن عروض الهيئات المشتقة عليها ، وما يكون له هيئة مخصوصة غير قابل لذلك ، إذ لا يعقل عروض الهيئة على الهيئة ، فالمصدر بما له من المادة والهيئة لا يمكن ان يكون مبدء الاشتقاق. وكذا الحال في اسم المصدر ، إذ اسم المصدر على ما عرفت ، هو عبارة عن نفس الحدث بشرط انتسابه إلى محله ، والغالب اتحاد هيئته مع هيئة المصدر من دون ان يكون له هيئة تخصه ، كما في الضرب والقتل ، وغير ذلك من المصادر التي يمكن ان يراد منها الاسم المصدر ، وقد يكون له هيئة تخصه ، كما في الغسل بالضم حيث إنه اسم المصدر والمصدر هو الغسل بالفتح. وعلى كل حال : اسم المصدر أيضا بما له من المعنى والهيئة يباين معاني سائر المشتقات وهيئاتها ، فلا يصح ان يكون هو مبدء الاشتقاق ، بل لابد ان يكون مبدء الاشتقاق أمرا معرى عن كل هيئة ( كالضاد ) و ( الراء ) و ( الباء ) ولا بأس بالتعبير عنه بالضرب من دون لحاظ وضع هيئة ودلالتها على النسبة ، بل تكون الهيئة لمجرد حفظ المادة ليسهل التعبير عنها.

وحاصل الكلام : انه لابد ان يكون مبدء الاشتقاق من حيث المعنى واللفظ لا بشرط ، ليكون قابلا لان يرد على لفظه كل هيئة مع انحفاظ معناه في جميع المعاني المشتقة ، ومعنى المصدر واسم المصدر ، انما يكون بشرط شيء كما في المصدر حيث يلاحظ فيه الانتساب ، أو بشرط لا كما في اسم المصدر حيث يلاحظ فيه عدم الانتساب ، فلا يصلحان لان يكونا مبدء الاشتقاق ، فتأمل في المقام جيدا هذا.

ولكن لا يخفى عليك : ان ما قيل : من أن المصدر بهيئته يدل على الانتساب مما لا معنى له ، بداهة ان الانتساب انما يستفاد من إضافة المصدر إلى فاعله ، كما هو الغالب ، والى مفعوله نادرا كما في قولك : ضرب زيد عمروا حيث يكون زيد فاعلا ، أو ضرب زيد عمرو بالرفع حيث يكون عمرو فاعلا ، وعلى كل تقدير ليست هيئة المصدر موضوعة للدلالة على انتساب الحدث إلى فاعله بالنسبة الناقصة التقيدية ، كوضع هيئة الافعال للدلالة على النسبة التامة الخبرية ، بل النسبة انما تستفاد من

ص: 98

الإضافة أي إضافة المصدر إلى معموله ، بحيث لولا الإضافة لما كاد يستفاد نسبة أصلا ، بل المصدر بهيئته انما وضع للدلالة على ذات المنتسب ، لكن لا بشرط عدم لحاظ الانتساب ، كما في اسم المصدر ، بل في حال قابليته للانتساب.

وبعبارة أخرى : المصدر انما وضع للحدث في حال صدوره عن فاعله ، لا بما هو هو كما في اسم المصدر ، ولا بما هو منتسب كما في الافعال ، وبهذا يباين المصدر كل من الفعل واسم المصدر. فلا يتوهم انه إذا لم تكن هيئة المصدر موضوعة للدلالة على النسبة الناقصة التقييدية بل كان المصدر بهيئته موضوعا لنفس ذات الحدث المنتسب ، فاما ان يرتفع المايز بينه وبين اسم المصدر إذا لوحظ ذات المنتسب بشرط عدم الانتساب ، واما ان لا يلاحظ ذلك بل يكون لا بشرط من هذه الجهة فيكون هو المعنى المحفوظ في جميع الصيغ المشتقة ، ويلزمه ان يكون هو مبدء الاشتقاق.

وذلك : لان اسم المصدر موضوع لنفس الحدث الغير القابل للانتساب ، فمعناه ملحوظ بشرط لا ، والمصدر بمادته وهيئته موضوع للحدث القابل لورود الانتساب عليه ، فالتباين بين المصدر واسم المصدر أوضح من أن يخفى. وكذا عدم امكان كون المصدر مبدء الاشتقاق ، لان للمصدر هيئة تخصه ، وما كان له هيئة مخصوصة لا يمكن ان يكون مبدء الاشتقاق ، لاعتبار ان يكون مبدء الاشتقاق معرى عن الهيئة القابل لطرو الهيئات المختلفة عليه.

فتحصل : ان كلا من المصدر واسم المصدر والافعال والمفاعيل واسم الفاعل والصفة المشبهة وغير ذلك من المشتقات ، انما يشتق من مبدء واحد محفوظ في جميع هذه الصيغ ، وهو في حدث الضرب يكون ( الضاد ) و ( الراء ) و ( الباء ) وفي حدث القتل يكون ( القاف ) و ( التاء ) و ( اللام ) وهكذا الحال في سائر الاحداث والاعراض.

هذا كله في الاشتقاق اللفظي ، وقد عرفت ان جميع الصيغ تشتق في عرض واحد من مبدء واحد ، وليست الصيغ المشتقة مترتبة في الاشتقاق لفظا ، أو تكون بعض الصيغ مشتقة من بعض آخر ، بل الكل يشتق من امر واحد.

واما المعاني التي تكفلتها الصيغ المشتقة ، فلا اشكال في أن بينها ترتبا ،

ص: 99

بحيث يكون بعض المعاني متولدا من بعض آخر. وتفصيل ذلك هو انه لا اشكال في أن معنى الاسم المصدري متولد عن المعنى المصدري ، ومن هنا قيل في تعريف اسم المصدر : بأنه ما حصل من المصدر. والسر في ذلك : هو ان اسم المصدر عبارة عن نفس الحدث والعرض كما تقدم ، ومن المعلوم : ان تحقق العرض انما هو لمكان انتسابه إلى محله ، إذ لا وجود له مع قطع النظر عن الانتساب ، فلا بد ان يحصل الغسل ( بالفتح ) من الشخص حتى يتحقق الغسل ( بالضم ) وذلك واضح.

واما المصدر فقد اختلف في تقدم معناه على معنى الفعل الماضي أو تأخره ، وقد نسب إلى الكوفيين تأخره وان معناه اشتق من معنى الفعل الماضي ، وذلك لان الفعل الماضي انما هو متكفل لبيان النسبة التحققية أي كون العرض متحققا في الخارج مع انتسابه إلى فاعله بنسبة تامة خبرية ، فالماضي انما يدل على تحقق الحدث من فاعله وليس مفاده أزيد من ذلك وما اشتهر من أنه يدل على الزمان الماضي فهو اشتباه ، بل إن فعل الماضي بمادته وهيئته لا يدل الا على تحقق الحدث من فاعله ، نعم لازم الاخبار بتحققه عقلا هو سبق التحقق على الاخبار آنا ما قبل الاخبار والا لم يكن اخبارا بالتحقق ، وأين هذا من أن يكون الزمان الماضي جزء مدلول الفعل الماضي ، وكيف يعقل ذلك؟ مع أن هيئة الفعل الماضي انما وضعت للدلالة على النسبة التحققية ، وهي معنى حرفي ، ولذا كان الفعل الماضي مبنيا الذي هو لازم المعنى الحرفي ، والزمان انما يكون معنى اسميا استقلاليا ، فلا يعقل ان يكون مفاد الحرف معنى اسميا.

والحاصل : ان دلالة الفعل الماضي على الزمان ، اما ان يكون بمادته ، واما ان يكون بهيئته. اما المادة فهي مشتركة بين الافعال والأسماء المشتقة ، فليس فيها دلالة على الزمان والا كانت الأسماء المشتقة أيضا لها دلالة على الزمان ، وهو ضروري البطلان. واما الهيئة : فليس مفادها الا انتساب العرض إلى محله بالنسبة التحققية ، وذلك معنى حرفي لا يمكن ان يدل على الزمان الذي هو معنى اسمى ، فإذا كان مفاد الفعل الماضي هو تحقق العرض منتسبا إلى محله ، فهذا أول نسبة يتحقق بين العرض والمحل ، لأنه واقع في رتبة الصدور والتحقق ، وقبل ذلك لا تكون الا

ص: 100

الماهية الامكانية المباينة لماهية المحل ، فانتساب العرض إلى محله بالنسبة التحققية التي تكون تامة خبرية يكون أول النسب ، ثم بعد ذلك تحصل النسبة الناقصة التقييدية التي تكون مفاد المصدر بالبيان المتقدم بداهة انه بعد تحقق الضرب من زيد وصدوره عنه يضاف الضرب إلى زيد ، ويقال : ضرب زيد كذا من الشدة والضعف ، فإضافة العرض إلى الذات بالإضافة التقييدية التي تكون مفاد المصدر ، تكون متأخرة عن إضافة العرض إلى الذات بالإضافة الفاعلية التحققية ، التي تتكفلها هيئة الفعل الماضي.

ومن هنا قيل : ان الأوصاف قبل العلم بها اخبار ، كما أن الاخبار بعد العلم بها أوصاف ، إذ معنى ذلك هو ان توصيف الذات بالشيء كزيد العالم مثلا يكون متأخرا عن العلم بتحقق الوصف منه الذي يخبر به ، كقولك : زيد عالم ، فبعد الاخبار بعالمية زيد يتصف زيد بالعالمية عند المخاطب الجاهل واقعا أو المفروض جهالته في مقام الاخبار ، فتنقلب النسبة التامة الخبرية من قولك زيد عالم إلى النسبة الناقصة التقييدية من قولك : زيد العالم. هذا في الجمل الاسمية ، وقس على ذلك الجمل الفعلية بعد اخبارك بضرب زيد بقولك : ضرب زيد ، تنقلب النسبة التامة الخبرية إلى النسبة الناقصة التقييدية ، ويقال : ضرب زيد مثلا شديد. فهذا معنى ما نسب إلى الكوفيين ، من اشتقاق المصدر من الفعل الماضي ، فان مرادهم من الاشتقاق هو ترتب معناه على معناه ، لا انه مشتق منه لفظا ، هذا.

ولكن شيخنا الأستاذ مد ظله ، لم يرتض هذه المقالة ، وقال : يتأخر رتبة معنى الفعل الماضي عن معنى المصدر ، والتزم بان ما اشتهر : من أن الأوصاف قبل العلم بها اخبار والاخبار بعد العلم بها أوصاف ، مقصور على الجمل الاسمية. والسر في ذلك : هو ان المصدر - على ما تقدم - عبارة عن الحدث القابل للانتساب ، ولم يؤخذ فيه انتساب فعلى ، ومن المعلوم : ان الحدث القابل للانتساب هو الذي يصدر من الفاعل ، فالنسبة التحققية التي تكفلها هيئة الماضي متأخرة بالرتبة عن معنى المصدر فتأمل.

وعلى كل حال : فان وقع الاختلاف في اشتقاق المصدر عن الفعل

ص: 101

الماضي أو اشتقاق الفعل الماضي عن المصدر ، فلم يقع خلاف بينهم في اشتقاق الفعل المضارع عن الفعل الماضي بمعنى تأخر رتبته على رتبة الفعل الماضي ، وذلك لما عرفت : من أن الفعل الماضي بهيئته يدل على النسبة التحققية التي هي أول نسبة يمكن ان تفرض بين العرض ومحله ، وهذا بخلاف الفعل المضارع فإنه يدل على انتساب الذات إلى العرض واتصافها به كقولك : يضرب زيد ، فان مفاده تكيف زيد بالضرب وتلونه واتصافه به ، ومن المعلوم : ان هذا متأخر رتبة عن تحقق العرض منتسبا إلى فاعله ، إذ بعد التحقق تتكيف الذات بتلك الكيفية وتوصف به.

والحاصل : انه في الفعل الماضي يلاحظ العرض منتسبا إلى فاعله بالنسبة التحققية فيقال : ضرب زيد ، وفي الفعل المضارع يلاحظ الذات متصفة بالعرض فيقال : يضرب زيد ، ومن المعلوم : ان رتبة اتصاف الذات بالعرض متأخرة عن رتبة تحقق العرض عن الذات ، إذ بعد التحقق وصدور العرض من الذات يتصف به الذات ، فمعنى المضارع انما يتولد من الفعل الماضي ، فهذه هي النسبة الثانية للعرض ، والنسبة الأولى هي النسبة التحققية.

ثم إن ما اشتهر : من أن المضارع يكون بمعنى الحال والاستقبال أيضا من الاشتباهات ، فان الظاهر من اطلاق الفعل المضارع من قولك : يضرب أو يقول وغير ذلك هو التلبس الحالي ، وصرفه إلى الاستقبال يحتاج إلى قرينة من ادخال السين وسوف ، والا فظهوره الأولى هو التلبس بالحال ، كما هو الظاهر من قوله تعالى : ويقول الذين كفروا الخ ، فان الظاهر منه هو ان حال نزول الآية كان ما تكفلته الآية مقولا لقول الكفار ، لا انهم بعد ذلك يقولون ويصدر منهم ذلك القول. وعلى كل حال ، فقد ظهر لك تأخر رتبة المضارع عن الماضي.

ثم إن رتبة اسم الفاعل متأخرة عن رتبة المضارع ، لان مفاد اسم الفاعل انما يكون عنوانا متولدا من قيام العرض بمحله واتصافه به ، فان مفاده هو الاتحاد في الوجود ، وعينية وجود العرض لمحله ، وهذا المعنى كما ترى متأخر بالرتبة عن تحقق العرض من فاعله الذي هو مفاد الفعل الماضي ، وعن اتصاف الذات بالعرض الذي هو مفاد الفعل المضارع ، فمفاد اسم الفاعل انما يتولد من مفاد الفعل المضارع. ومن

ص: 102

هنا قيل : ان اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال يعمل عمل الفعل المضارع ، لان المضارع مبدئه القريب ، بخلاف الماضي فإنه يكون مبدئه البعيد ، فنسبة اسم الفاعل واقعة في المرتبة الثالثة من النسب.

ثم بعد ذلك ، تصل النوبة إلى نسبة ملابسات الفعل من المفاعيل ، من حيث وقوع الضرب من زيد في زمان خاص ، أو مكان مخصوص ، فيقال : زيد ضارب في المسجد ، أو في الليل وأمثال ذلك ، فنسبة ملابسات الفعل تكون في المرتبة الرابعة من النسب.

( الامر الثامن )

في بساطة مفهوم المشتق وتركيبه ، وهو من أشكل الأمور المبحوث عنها في المشتق ، وقبل بيان المختار لابد من تقديم أمور :

الأول : الظ ان هناك ملازمة ، بين القول بدلالة هيئة المشتق على النسبة الناقصة التقييدية ، والقول بأخذ الذات في مفهومه ، إذ المراد من النسبة الناقصة نسبة المبدء إلى الذات ، فلابد من دلالته على الذات التي هي طرف النسبة ، كدلالته على المبدء الذي هو الطرف الآخر لها ، فلا يجتمع القول بخروج الذات عن مفهوم المشتق مع القول بدلالته على النسبة الناقصة التقييدية (1) فتأمل.

الثاني : المراد من التركيب المتنازع فيه في المقام ، هو التركيب بحسب التحليل العقلي في عالم الادراك واخذ المفهوم ، بحيث يكون المدرك العقلاني من ضارب ، هو من جملة الذات التي ثبت لها الضرب على وجه يكون مدلول اللفظ هو هذه الجملة المركبة من الذات والمبدء وثبوته لها ، ويقابله البساطة ، فإنه معنى البساطة هو خروج الذات عن مدلوله ، بحيث يكون المدرك العقلاني من ضارب مثلا أمرا واحدا ومعنى فاردا ليست الذات داخلة فيه.

والحاصل : ان للقائم مثلا وجودا خارجيا ، ووجودا عقلانيا ، اما الوجود .

ص: 103


1- يمكن ان يقال : بأنه موضوع لنفس النسبة مع خروج المنتسبين عن المدلول ، كخروج الفاعل عن مدلول الفعل ، مع أنه وضع للنسبة التحققية في الماضي - منه.

الخارجي : فهو عبارة عن الهيئة الخاصة والشكل المخصوص القائم بالهواء. واما الوجود العقلاني المدرك من اطلاق القائم فهو المتنازع فيه من حيث اخذ الذات فيه ، فمن يقول بالتركيب ، يقول : ان المدرك العقلاني والمفهوم من قائم ، هو الذات التي ثبت لها تلك الهيئة الخاصة والقائم بها ذلك المبدء. ومن يقول بالبساطة يقول : بخروج الذات عن المفهوم ، وانما المفهوم من قائم هو عنوان الذات يتولد من قيام المبدء بها ، من دون ان يكون الذات جزء المفهوم والمدرك حتى عند التحليل العقلي ، إذ التركيب ولو تحليلا ينافي البساطة.

فما يظهر من بعض الاعلام : من الالتزام بالتركيب عند التحليل العقلي مع الالتزام بالبساطة (1) مما لا وجه له.

ثم إن اخذ الذات في مفهوم المشتق يتصور على وجهين :

الأول : ان يكون الذات المبهمة الكلية مأخوذة فيه بمعنى اخذ ذات ما فيه.

الثاني : اخذ الذوات الشخصية في مفهومه من باب الوضع العام والموضوع له الخاص ، وسيأتي ما في كلا الوجهين انشاء اللّه تعالى.

الثالث :

حكى عن الشيخ قده ، انه قاس المشتق بالجوامد من حيث عدم اخذ الذات فيه ، وقال : كما أن الذات لم تؤخذ في مفهوم الجوامد ، وليس معنى الحجر هو ذات ثبت له الحجرية ، بل هو معنى بسيط ، فكذلك المشتق لم تكن الذات مأخوذة فيه. وقد تعجب من هذا القياس بعض وقال في وجه التعجب : ان الذات لا محالة مأخوذة في مفهوم الجوامد ، إذ الحجر مثلا من أسماء الذوات ، فلا يعقل خروج الذات عنه ، فلا مجال لقياس المشتقات بالجوامد. ثم أشكل على ما افاده الشيخ قده بقوله : أولا ، وثانيا ، وثالثا ، ورابعا ، وخامسا ، كما لا يخفى على المراجع هذا. .

ص: 104


1- هذا ما ذكره شيخنا الأستاذ مد ظله ، ولكن حكى انه يظهر من كلمات القوم : ان القائلين بالبساطة مختلفون ، فمنهم من يقول ببساطة المفهوم وان كان عند التحليل العقلي مركبا ، ومنهم من يقول بالبساطة حتى عند التحليل ، فراجع - منه.

ولكن الظ ان القياس في محله ، وذلك : لان الحجر وان كان من أسماء الذات ، الا ان منشأ توهم دخول الذات في المشتق هو بعينه موجود في الجوامد ، ويلزمه القول بتركيب الجوامد مع بداهة بساطتها ، إذ لا منشأ لتوهم تركب المشتق من المبدء والذات ، سوى ان المبدء في المشتق انما يلاحظ لا بشرط عما يتحد معه من الذات الذي بهذا اللحاظ يكون عرضيا ويصح حمله على الذات ، على ما سيأتي من معنى اللابشرطية في المقام ، بخلاف ما إذا لوحظ بشرط لا ، فإنه يكون عرضا غير محمول. وهذا اللحاظ أي لحاظ اللابشرطية بعينه موجود فيما يتحصل منها الأنواع ، كالانسان ، والشجر ، والحجر ، وغير ذلك ، فان المادة أو الصورة ان لوحظت بشرط لا ، يكون كل منها مباينا للاخر ، ولا يصح حمل أحدهما على الاخر ولا حملهما على ثالث ، بل تكون المادة ح صرف القوة مباينة للصورة التي هي فعلية صرفة. وان لوحظت لا بشرط يصح حمل أحدهما على الآخر وحملهما على ثالث ، ويعبر عن أحدهما حينئذ بالجنس والاخر بالفصل ، فان الجنس هو المادة وانما الفرق بينهما بالاعتبار ، حيث إن المادة تعتبر بشرط لا ، والجنس يعتبر لا بشرط ، وكذا الحال في الصورة والفصل. وحينئذ ان كان لحاظ مبدء الاشتقاق في المشتقات لا بشرط موجبا لدخول الذات فيه ، فليكن لحاظ الجنس لا بشرط عما يتحد معه من الفصل موجبا لدخول الفصل في الجنس ، وكذلك دخول الجنس في الفصل ، إذ الفصل أيضا يلاحظ لا بشرط عن الجنس ، فيلزم دخول الجنس في الفصل ، والفصل في الجنس ، ودخولهما في النوع ، ودخول النوع في كل منهما ، فان حمل الحيوان على الانسان في قولك : الانسان حيوان انما يكون بعد لحاظ الحيوان لا بشرط عن اتحاده مع الانسان ، والا بان لوحظ بشرط لايكون ح صرف المادة ، ولا يصح حمله على الانسان ، فلو كان لحاظ الشيء لا بشرط عما يتحد معه موجبا لدخول ذلك المتحد مع الشيء في الذات لكان يلزم دخول الانسان في الحيوان عند حمله عليه ، فان ما يكون حيوانا هو الانسان ، وما يكون انسانا هو الحيوان ، وكذلك في الفصل. وهذا معنى ما قلنا : من أنه يلزم دخول كل من الجنس والفصل والنوع في مفهوم الاخر ، مع أن ذلك بديهي البطلان.

ص: 105

فيعلم من ذلك : ان لحاظ المبدء لا بشرط عما يتحد معه من الذات في المشتقات غير مستلزم لدخول الذات فيه ، والا لاستلزم في الجوامد دخول كل من الجنس والفصل والنوع في الاخر ، فيكون معنى الحجر حينئذ شيء ثبت له الحجرية إذا الفصل في الحجر انما يكون فصلا له بعد لحاظه لا بشرط عما يتحد معه من الجسمية فتكون الجسمية داخلة في مفهوم الحجر ، وهكذا الكلام في سائر الأنواع والأجناس والفصول ، عاليها وسافلها (1).

إذا عرفت ذلك فاعلم : انه يدل على المختار من بساطة المشتق وجوه :

الأول :

ان المشتق على ما عرفت مرارا انما ينتزع من لحاظ المبدء لا بشرط ، فلو كانت الذات مأخوذة في مفهومه وجزء لمدلوله لخرج عن كونه لا بشرط إلى بشرط شيء ، وهذا خلف ، إذ الفرق بين المشتق ومبدئه ليس الا باللابشرطية والبشرط اللائية ، واعتبار الذات يلازم البشرط الشيئية ، وهو خلاف ما اتفقوا عليه.

الثاني :

ان الألفاظ موضوعة بإزاء المفاهيم بما أنها مرآة الحقايق ، لا بما هي هي حتى يمتنع صدق ما وضع له الألفاظ على الخارجيات ، والمفهوم عبارة عن المدرك العقلاني ، وهو في غاية البساطة ليس فيه شائبة التركيب ، فلا يمكن ان يكون مفهوم المشتق مركبا من الذات والمبدء.

الثالث :

انه يلزم تكرار الموصوف في مثل قولك : ذات باردة لأنه لو كان معنى .

ص: 106


1- وينبغي مراجعة كلام المستشكل فان ظاهر كلامه ان اشكاله مقصور بدعوى خروج الذات عن الجوامد ، كما هو الظاهر من الكلام المحكى عن الشيخ قدس سره وظني ان استلزام دخول الجنس في الفصل وبالعكس لا يرفع اشكال المستشكل ، فتأمل - منه.

الباردة ذات ثبت لها البرودة لزم تكرار الذات في القضية ، مع شهادة الوجدان بخلافه ، بل يلزم التكرار في كل قضية كان المحمول فيها من العناوين المشتقة إذا كان المراد من اخذ الذات اخذ مصداق الذات ، أي الذوات الشخصية ، لا مفهوم الذات ، فان في قولك : زيد كاتب ، يكون شخص زيد مأخوذا في مفهوم الكاتب ، فيكون مفاد القضية زيد زيد ثبت له الكتابة ، فيلزم تكرار الموصوف في كل قضية ، وانسباقه إلى الذهن مرتين وهو كما ترى ، بل يلزم ان يدخل المشتق في متكثر المعنى ، بناء على اخذ الذوات الشخصية في مفهومه ، ويكون من باب الوضع العام والموضوع له الخاص ، مع أن هيئة فاعل موضوعة بوضع نوعي لكلي المتلبس بالمبدء على نحو عموم الموضوع له.

ومن الغريب : ما صدر عن بعض في هذا المقام ، حيث أساء الأدب إلى أستاذ الأساتيذ السيد الجليل الميرزا الشيرازي قده ، عند ما أورد اشكال لزوم كون المشتق من متكثر المعنى ، بناء على اخذ الذوات الشخصية في مفهومه ، وقال : ان الاشكال بذلك انما هو لأجل عدم تعقل المعاني الحرفية ، ثم أطال الكلام في أن هيئة المشتق كهيئات الافعال انما هي موضوعة للمعاني الحرفية النسبية بالوضع العام والموضوع له العام ، غايته ان هيئات الافعال موضوعة للنسبة التامة الخبرية ، وهيئة المشتق موضوعة للنسبة الناقصة التقييدية. وأنت خبير بما في هذا الكلام من الخلط والاشتباه في قياس هيئة المشتق على هيئة الافعال ، وحسبان ان الهيئة مط موضوعة للمعنى الحرفي النسبي ، مع وضوح بطلان القياس.

وذلك : لأنه لا يعقل ان يكون مفاد الهيئة في المشتق معنى حرفيا ، بان تكون موضوعة للنسبة الناقصة التقييدية ، بداهة ان النسبة الناقصة التقييدية انما تكون نتيجة النسبة التامة الخبرية ، ومتأخرة عنها بالذات ، ولذا قالوا : ان الاخبار بعد العلم بها تكون أوصافا ، فالنسبة الناقصة التقيدية دائما انما تحصل من النسبة التامة الخبرية وتكون من نتايجها ، وحينئذ نسئل عن النسبة التامة الخبرية التي تكون النسبة الناقصة المستفادة من هيئة ضارب نتيجة لها ، مع أنه لم يكن هناك نسبة تامة خبرية قبل حمل الضارب على زيد في قولك : زيد ضارب ، إذ هذا القول هو الذي

ص: 107

يتضمن النسبة التامة ، وتنقلب هذه النسبة التامة بعد الاخبار بها إلى النسبة الناقصة التقييدية. واما قبل الحمل والاخبار فليس هناك نسبة تامة خبرية حتى تكون نتيجتها النسبة الناقصة المستفادة من هيئة ضارب.

والحاصل : انه يلزم القول بدلالة هيئة المشتق على النسبة الناقصة التقييدية ، القول بان في مثل حمل الضارب على زيد في قولك : زيد ضارب يتضمن (1) نسبا أربع : نسبتين تامتين ، ونسبتين ناقصتين.

اما التامتان : فإحديهما نسبة الضارب إلى زيد التي تكفلها نفس الكلام ، وثانيهما النسبة التامة التي تكون نتيجتها النسبة الناقصة المستفادة من هيئة ضارب ، لما عرفت : من أن كل نسبة ناقصة تقييدية فهي من نتايج النسبة التامة ، فيلزم القول بدلالة الهيئة على النسبة الناقصة القول بوجود نسبة تامة أخرى ، غير نسبة الضارب إلى زيد في قولك : زيد ضارب ، حتى تكون نتيجة تلك النسبة التامة هي النسبة الناقصة المدعى دلالة الهيئة عليها.

واما الناقصتان : فإحديهما هي النسبة الناقصة التقييدية ، الموضوع لها هيئة ضارب كما هو المدعى ، وثانيهما النسبة الناقصة التقييدية التي تكون نتيجة حمل الضارب على زيد ، حيث إن الاخبار بعد العلم بها تكون أوصافا ، فلابد ان تحصل هناك نسبة ناقصة أخرى بعد الاخبار بضاربية زيد ، فيتحصل من قولك زيد ضارب نسب أربع ، وهو كما ترى يكذبه الوجدان. مع أنه يلزم ان تكون النسبة الناقصة التقييدية في عرض النسبة التامة الخبرية ، إذ قولك : زيد ضارب ، متكفل لنسبة تامة خبرية ، ومتكفل لنسبة ناقصة تقييدية الموضوع لها هيئة ضارب ، والحال انه لا يعقل ان تكون النسبة الناقصة في عرض النسبة التامة ، لما عرفت من أن النسبة الناقصة تكون في طول النسبة التامة ومن نتايجها ، فكيف يعقل ان تكون في عرضها؟.

وبالجملة : دعوى ان هيئة ضارب موضوعة بوضع حرفي للنسبة الناقصة .

ص: 108


1- مرادنا من التضمن الأعم من المطابقة والالتزام ، فلا تغفل وتتخيل خلاف المراد - منه.

التقييدية ، (1) مما لا ترجع إلى محصل ، إذ يلزم عليه مضافا إلى ما ذكرنا ، ان يكون المشتق لازم البنا ، ولا يمكن ان يكون معربا يقع مسندا ومسندا إليه ، لان المعنى الحرفي يلازم البنا ، فكيف صار معربا يقع مبتداء وخبرا في الكلام؟ (2) فلا محيص من القول بان هيئة المشتق موضوعة بوضع استقلالي اسمى للعنوان المتولد من قيام العرض بمحله. فظهر صحة ما حكى عن سيدنا الميرزا قده : من أنه لو كانت الذوات الشخصية مأخوذة في مفهوم المشتق يلزم ان يكون من متكثر المعنى مع أنه ليس كذلك فإذا لا يمكن ان تكون الذوات الشخصية مأخوذة في مفهومه ، كما لا يمكن ان تكون الذات الكلية مأخوذة فيه لما تقدم من المحاذير ، مضافا إلى أنه يلزم دخول الجنس في مفهوم الفصل وبالعكس على ما عرفت ، فلا محيص ح عن القول ببساطة المشتق.

بقى في المقام : ما افاده السيد الشريف في حاشيته على شرح المطالع ، من الاستدلال على بساطة المشتق عند تعريف صاحب المطالع النظر بأنه « ترتيب أمور حاصلة في الذهن ، يتوصل بها إلى تحصيل غير الحاصل » حيث قال الشارح : « وانما قال أمور ، لان الترتيب لا يتصور في امر واحد والمراد منها ما فوق الواحد » ثم قال الشارح : « والاشكال الذي استصعبه قوم ، بأنه لا يشتمل تعريف النظر التعريف بالفصل وحده أو بالخاصة وحدها حتى غيروا التعريف إلى ترتيب امر أو أمور فليس من تلك الصعوبة في شيء ، وذلك لان التعريف بالمفردات انما يكون بالمشتقات ، والمشتق وان كان في اللفظ مفردا ، الا ان معناه شيء له المشتق منه ، فيكون من حيث المعنى مركبا (3) و

ص: 109


1- ولا ينافي ذلك ما تقدم منا : من أن المشتق واقع في المرتبة الثالثة من النسب ، لان مرادنا من ذلك : هو ان معنى المشتق متأخرة في الرتبة عن الماضي والمضارع ، لا انه يدل على النسبة حقيقة ، فتأمل - منه.
2- ولكن لا اشكال في أن هيئة المضارع تدل على النسبة التامة مع أنه قد يعرض عليه الاعراب ، فدلالته على النسبة لا يلزم البناء - منه.
3- ولا يخفى ان المحقق المقرر قدس سره نقل عبارة شارح المطالع مع تصرفات موضحة لمعنى المقصود منها. واليك نص عبارته : « وانما قال أمور لان الترتيب لا يتصور في امر واحد ، والمراد بها ما فوق الواحد سواء كانت متكثرة أولا ، و هي أعم من الأمور التصورية و التصديقيّة، و قيّدها بالحاصلة لامتناع الترتيب فيها بدون كونها حاصلة و يندرج فيها مواد جميع الأقيسة» إلى ان قال: «و الإشكال الّذي استصعبه قوم بأنه لا يتناول التعريف بالفصل وحده و لا بالخاصّة و حدها، مع انه يصح التعريف بأحدهما على رأي المتأخرين حتى غيّروا التعريف إلى تحصيل امر أو ترتيب أمور فليس من تلك الصعوبة في شي ء، اما أولا، فلأنّ التعريف بالمفردات انما يكون بالمشتقات كالناطق و الضاحك و المشتق و ان كان في اللفظ مفردا إلّا ان معناه شي ء له المشتق منه فيكون من حيث المعنى مركّبا. (انتهى موضع الحاجة من كلامه).

فاورد عليه السيد الشريف في حاشيته على هذا الجواب : بان مفهوم الشيء لا يعتبر في معنى الناطق ، والا لكان العرض العام داخلا في الفصل ، ولو اعتبر في المشتق ما صدق عليه الشيء انقلب مادة الامكان الخاص ضرورية ، فان الشيء الذي له الضحك هو الانسان ، وثبوت الشيء لنفسه ضروري. (1) انتهى ما حكى عن المطالع وشرحها والمحشى.

وحاصل ما افاده المحشى في وجه بساطة المشتق : هو انه ان اخذ مفهوم الشيء في مفهوم الفصل يلزم ان يدخل العرض العام في الفصل ، فان الناطق الذي هو الفصل يكون معناه شيء ثبت له النطق ، والشيء امر عرضي والنطق ذاتي ولا يعقل دخول العرضي في الذاتي ، وان اخذ مصداق الشيء يلزم انقلاب القضية الممكنة إلى القضية الضرورية ، فان المصداق الذي يثبت له الضحك في قولك : الانسان ضاحك ليس هو الا الانسان ، فيرجع الامر في القضية الحملية إلى ثبوت الانسان للانسان ، ومن المعلوم : ان ثبوت الشيء لنفسه ضروري ، فتنقلب القضية من الامكان إلى الضرورة.

ثم انه أورد على كل من شقي الترديد اللذين ذكرهما المحشى. فما أورد على الشق الأول ( وهو ما إذا كان المأخوذ في المشتق مفهوم الشيء يلزم دخول العرض العام في الفصل ) ما ذكره صاحب الفصول : (2) من أن الناطق انما يكون فصلا في

ص: 110


1- حاشية مير سيد شريف هامش ص 8 من شرح المطالع.
2- الفصول ص 62. تنبيهات المشتق. « ويدفع الاشكال بان كون الناطق مثلا فصلا مبنى على عرف المنطقيين حيث اعتبروه مجردا عن مفهوم الذات وذلك لا يوجب ان يكون وضعه لغة كذلك ».

عرف المنطقيين ، والذي جعله المنطقيون فصلا ليس هو تمام ما وضع له لفظ الناطق ، بل الذي جعل فصلا هو المعنى المجرد عن مفهوم الشيء ، فيكون الفصل أحد جزئي المدلول فلا يلزم دخول العرض في الفصل بعد هذا التجريد هذا.

وقد أورد على الفصول المحقق صاحب الكفاية (1) بما حاصله : انه من المقطوع ان المنطقيين لم يتصرفوا في مفهوم الناطق ، بل جعلوا الناطق فصلا بماله من المعنى من دون تجريد. ومما أورد على المحشى أيضا ما ذكره المحقق صاحب الكفاية (2) وحاصله : ان الناطق ليس بفصل حقيقي ، بل انما هو من لوازم الفصل وخواصه ، ويكون بالنسبة إلى الانسان من الاعراض الخاصة وليس هو من الذاتي له ، فلا يلزم من اخذ مفهوم الشيء في مفهوم الناطق الا دخول العرض العام في العرض الخاص ، وهو ليس بمحذور هذا.

ولكن لا يخفى عليك : ان هذا الايراد مبنى على جعل الناطق بمعنى المدرك للكليات فان ادراك الكليات يكون من خواص الانسان وعوارضه ، واما لو كان الناطق عبارة عما يكون له النفس الناطقة ، التي بها يكون الانسان انسانا ، فهو فصل حقيقي للانسان وليس من العوارض.

ومما أورد على المحشى أيضا ما ذكره شيخنا الأستاذ مد ظله.

وحاصل ما ذكره : هو ان جعل الشيء من العرض العام مما لا يستقيم ، إذ الضابط في العرض العام ، والمايز بينه وبين الخاصة ، هو انه إذا كان الشيء أمرا خارجا عن حقيقة الذات وكان يلحق الذات لجنسها - كالمتحرك بالإرادة والحساس اللاحق للانسان لمكان كونه حيوانا - فهو يكون من العرض العام ، كما أن ما يلحق الذات باعتبار فصلها يكون من العرض الخاص ، كالضحك والتعجب اللاحقين للانسان بواسطة كونه ناطقا ، فيعتبر في العرض العام ان يكون أمرا خارجا »

ص: 111


1- الكفاية - المجلد الأول ص 78 « وفيه : ان من المقطوع ان مثل الناطق قد اعتبر فصلا بلا تصرف في معناه أصلا ، بل بما له من المعنى كما لا يخفى.
2- المدرك السابق ص 78 قوله : « والتحقيق ان يقال ان مثل الناطق ليس بفصل حقيقي .. »

عن الحقيقة والهوية ، ويكون مما يلحق الجنس ويعرض له ، سواء كان مما يعرض الجنس القريب كالمتحرك بالإرادة العارض للحيوان ، أو الجنس البعيد كالنامي العارض للجسم. وحينئذ لو كان مفهوم الشيء من العرض العام لكان اللازم ان يكون من اللواحق والعوارض الجنسية ، ونحن لا نتعقل ان يكون هناك جنس يكون الشيء من عوارضه ، إذ ليس فوق مفهوم الشيء امر يكون الشيء عارضا عليه ، بل الشيء هو فوق كل موجود في العالم ، بحيث يصدق على جميع الموجودات من الماديات والمجردات والجواهر والاعراض - انه شيء ، فكيف يمكن ان يكون الشيء من العوارض الجنسية؟ وأي جنس يكون فوق الشيء؟ حتى يكون الشيء عارضا له ، فلابد ان يكون الشيء هو بنفسه جنسا عاليا لجميع الموجودات الامكانية من الماديات وغيرها.

واما توهم انه لا يمكن ان يكون الشيء جنسا للموجودات ، لاطلاق الشيء على الباري تعالى ، مع أنه لا جنس له لاستلزامه التركيب.

فلا يخفى فساده ، فإنه تعالى شيء الا انه لا كالأشياء ، كما ورد ذلك في خطبته علیه السلام (1) فليس اطلاق الشيء عليه كاطلاقه على سائر الأشياء حتى يلزم التركيب في ذاته تعالى.

فان قلت : ان الشيئية انما تكون من الأمور الانتزاعية الخارجة المحمول ، فلا يمكن ان تكون جنسا عاليا ، لان الجنس لابد ان يكون ذاتيا للشيء ، فلا يمكن ان .

ص: 112


1- لم نجد في خطب نهج البلاغة ما ورد بهذا المضمون. نعم ورد هذا المضمون في بعض الروايات كقوله (عليه السلام) : هو شيء بخلاف الأشياء في خبر هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّه (عليه السلام). وقوله (عليه السلام) انه شيء لا كالأشياء في خبر محمد بن عيسى بن عبيد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام). ولكن الأول مجهول بعباس بن عمرو الفقيمي والثاني مرسل. وفى المقام روايات أخرى يستفاد منها صحة اطلاق القول بأنه تعالى شيء ، راجع أصول الكافي الجزء 1 ، كتاب التوحيد ، باب اطلاق القول بأنه شيء ص 109. توحيد الصدوق. باب في أنه تبارك وتعالى شيء ص 62. بحار الأنوار الجزء 3 ، باب 9 من كتاب التوحيد ص 257.

يكون ما هو خارج المحمول وما يكون انتزاعيا محضا جنسا للأنواع المندرجة تحته.

قلت : ان الشيئية وان كانت من الأمور الانتزاعية ، الا انها لما كانت تنتزع من مقام الذات فهي ملحقة بالذاتي ، كما أن ما يكون منتزعا من غير مقام الذات ملحق بالعرض كالتقدم والتأخر ، على ما تقدم تفصيل ذلك ، فكون الشيئية من الأمور الانتزاعية لا يضر بدعوى كون الشيء جنسا للأجناس ، فان الشيئية انما تنتزع من الماهيات عند وجودها ، ولذا كان شيئية الشيء مساوقة لوجوده ، لان الماهية عند وجودها تكون شيئا فتأمل.

فتحصل : ان دعوى كون الشيء من العرض العام مما لا نتعقله ، فلوا بدل المحشى اشكال دخول العرض العام في الفصل باشكال دخول الجنس في الفصل كان أولى. فتأمل في المقام جيدا ، فان ما ذكره شيخنا الأستاذ مد ظله في المقام مما لا يخلوا عن اشكال. (1) هذا تمام الكلام في الشق الأول الذي ذكره المحشى.

واما الشق الثاني : وهو ما إذا اخذ مصداق الشيء في مفهوم المشتق ، حيث قال : يلزم انقلاب الامكان إلى الضرورة.

فقد أورد (2) عليه صاحب الفصول بما حاصله : ان اخذ مصداق الشيء في مفهوم المشتق لا يلازم الانقلاب ، فان عقد الحمل قد قيد بقيد تكون القضية باعتبار ذلك القيد ممكنة. مثلا في قولنا : الانسان ضاحك ، قد قيد الانسان الذي تضمنه الضاحك بقيد الضحك ، فيكون المحمول المجموع من القيد والمقيد ، وثبوت الانسان .

ص: 113


1- وظني ان مرادهم من العرض العام في المقام غير العرض العام الذي اصطلح عليه المنطقيون الذي يجعلونه مقابل العرض الخاص وهو ما كان يعرض الشيء لجنسه ، بل المراد من العرض العام في المقام هو المعقول الثانوي الذي ينتزعه العقل كالامكان والوجوب وغير ذلك ، وما ذكره شيخنا الأستاذ من جعل ( الشيء ) جنس الأجناس مما لا يمكن المساعدة عليه ، إذ يلزم ان يكون بين الجوهر والعرض جنسا ذاتيا ، ويلزم تركب العرض ، وغير ذلك مما لا يخفى على المتأمل - منه.
2- الفصول ص 62 تنبيهات المشتق التنبيه الأول ، « ويمكن ان يختار الوجه الثاني أيضا ويجاب بان المحمول ليس مصداق الشيء والذات مطلقا ، بل مقيدا بالوصف ، وليس ثبوته حينئذ للموضوع بالضرورة ، لجواز ان لايكون ثبوت القيد ضروريا.

المقيد بالضحك لمطلق الانسان الذي اخذ موضوعا في القضية ليس ضروريا باعتبار قيد الضحك وان كان ثبوت الانسان المجرد عن القيد للانسان ضروريا لان ثبوت الشيء لنفسه ضروري ، فالقضية باعتبار القيد لا تخرج عن كونها ممكنة ، لان النتيجة تتبع أخس المقدمات.

ثم تنظر هو قده (1) في الايراد بما حاصله : ان القيد ان كان ثابتا للمقيد واقعا صدق الايجاب بالضرورة ، وان لم يكن ثابتا له صدق السلب بالضرورة هذا ، ولكن لا يخفى ما في كل من الايراد والجواب من النظر.

اما في الايراد فتوضيحه : ان الجزئي بما هو جزئي غير قابل للتقييد ، لان التقييد انما يرد على الماهيات الكلية القابلة للتنويع بالقيود ، واما الأمور الجزئية فهي غير قابلة للتنويع ، فلا يمكن ان تقيد بقيد. نعم الأمور الجزئية قابلة للتوصيف ، حيث إن الجزئي يمكن ان يكون موصوفا بوصف في حال وبوصف اخر في حال آخر كما يقال : زيد راكب في اليوم وجالس في الغد ، واما اخذ الركوب قيدا لزيد على وجه يكون متكثرا للموضوع واقعا فهو غير معقول. ومن هنا قالوا : انه لو قال : بعتك هذا الكاتب يكون المبيع هو الشخص المشار إليه كاتبا كان أو لم يكن ، غايته انه عند تخلف الوصف يكون للمشتري الخيار ، بخلاف ما إذا قال : بعتك عبدا كاتبا فان المبيع يكون المقيد بالكتابة.

وبالجملة : لا اشكال في أن الجزئي غير قابل للتقييد ، وان كان قابلا للتوصيف ، فح إذا اخذ مصداق الشيء في مفهوم الضاحك مثلا فلا يمكن ان يكون المصداق مقيدا بالضحك ، لان المصداق ليس هو الا الجزئي ، وقد عرفت ان الجزئي غير قابل للتقييد ، فليس المحمول في قولك : زيد ضاحك أو الانسان ضاحك ، هو زيد المقيد بالضحك ، بل المحمول زيد الموصوف بالضحك ، ومن المعلوم : ان المحمول حينئذ

ص: 114


1- المدرك السابق. قوله : « وفيه نظر ، لان الذات المأخوذة مقيدة بالوصف قوة أو فعلا ان كانت مقيدة به واقعا صدق الايجاب بالضرورة والا صدق صدق السلب بالضرورة ، مثلا لا يصدق زيد كاتب بالضرورة لكن يصدق زيد الكاتب بالفعل أو بالقوة بالضرورة ».

يكون كلا من الموصوف والصفة ، فتنحل قضية زيد ضاحك أو الانسان ضاحك إلى قولنا الانسان انسان وقولنا الانسان ذو ضحك ، لان القضية تتعدد حسب تعدد الموضوع أو المحمول ، وفي المقام المحمول متعدد واقعا وان كان واحدا صورة ، لما عرفت : من أن المحمول يكون كلا من الصفة والموصوف ، وليس المحمول أمرا واحدا مقيدا ، فقضية الانسان ضاحك أو كاتب تنحل إلى قضية ضرورية ، وهي قولنا الانسان انسان ، والى قضية ممكنة ، وهي قولنا الانسان ذو ضحك أو كتابة ، والمراد من الانقلاب في كلام السيد الشريف هو هذا ، أي ان القضية بعد ما كانت ممكنة تنقلب إلى قضية ضرورية وان كان هناك قضية أخرى ممكنة ، لان ذلك لا يضر بدعوى الانقلاب.

والحاصل : انه فرق ، بين ان يكون المحمول أمرا واحدا مقيدا ، وبين ان يكون المحمول متعددا من الوصف والموصوف. ففي الأول لا تنحل القضية إلى ضرورية وممكنة ، وفي الثاني تنحل إلى ضرورية وممكنة ، فان اخذ الموضوع في المحمول يوجب كون القضية ضرورية ، كما في قولك : زيد زيد الكاتب. كما أن اخذ المحمول في الموضوع يوجب كون القضية ضرورية كقولك : زيد الكاتب كاتب ، فتأمل في المقام جيدا.

واما ما أجاب به عن الايراد بقوله : وفيه نظر الخ ، فلم نعرف له معنى محصلا ، فان العبرة في كون القضية ضرورية أو ممكنة ، هو ملاحظة مادة المحمول ونسبته إلى الموضوع ، فان كان المحمول مما يقتضيه ذات الموضوع ، فالقضية تكون ضرورية لا محالة كما في قولك : الانسان ناطق ، فان ذات الانسان يقتضى الناطقية. وان لم يكن المحمول مما يقتضيه ذات الموضوع بل كان من الأوصاف الخارجة عن متقضيات الذات ، فالقضية لا محالة لا تكون ضرورية ، سواء دام ثبوت الوصف للموضوع كما في قولك : كل فلك متحرك دائما ، أولم يدم كما في قولك : الانسان كاتب ، فالعبرة في كون القضية ممكنة أو ضرورية هو هذا ، لا ان العبرة بقيام الوصف بالموضوع خارجا وعدم قيامه ، كما يعطيه ظاهر كلام الفصول (رحمه اللّه) فان القيام وعدم القيام خارجا أجنبي عن جهة القضية وانها موجهة بأي جهة من

ص: 115

الضرورة والدوام والامكان كما لا يخفى. فتأمل ، فان عبارة الفصول في قوله - وفيه نظر - تحتمل وجها اخر.

وعلى كل حال لا اشكال فيما ذكره السيد الشريف في كلا شقي الترديد ، وان كان الأولى تبديل الشق الأول بدخول الجنس في الفصل.

ثم انه يمكن ان يجاب عن الشق الثاني ( وهو لزوم انقلاب الممكنة إلى الضرورية ) بان الانقلاب انما يكون إذا اخذ الكاتب مثلا بمفهومه المركب من الذات والمبدء محمولا في القضية ، وأما إذا جرد عن الذات ، كما لا محيص عنه لئلا يلزم حمل الشيء على نفسه ، فلا تنقلب القضية إلى الضرورية. ودعوى : انه لم يكن هناك عناية التجريد ، بل الكاتب بماله من المعنى يحمل على زيد ، فهي من الشواهد على بساطة المفهوم.

فتحصل : انه لا محيص عن القول ببساطة المشتق ولا يمكن القول بتركبه.

( الامر التاسع )

في شرح ما يقال : من أن الفرق بين المشتق ومبدئه ، هو البشرط اللائية واللابشرطية ، كما هو الفرق بين الجنس والمادة والفصل والصورة.

فنقول : ان المراد من لا بشرط وبشرط لافى المقام ، غير المراد من بشرط لا ولا بشرط وبشرط شيء في تقسيم الماهية المبحوث عنها في باب المطلق والمقيد ، فان تقسيم الماهية إلى ذلك في ذلك المبحث انما هو باعتبار الطوارئ والانقسامات اللاحقة للماهية المنوعة والمصنفة لها.

فتارة : تلاحظ الماهية مجردة عن جميع الطوارئ واللواحق والانقسامات التي يمكن ان يفرض لها ، فهذه هي الماهية بشرط لا التي تكون من الأمور العقلية ، التي يمتنع صدقها على الخارجيات ، بداهة انه لا وجود لها بما هي كذلك.

وأخرى : تلاحظ واجدة لطور خاص وامر مخصوص كالايمان بالنسبة إلى الرقبة ، فهذه هي الماهية بشرط شيء.

وثالثة : تلاحظ على وجه السريان في جميع الانقسامات والطواري ، بحيث

ص: 116

يساوى كل لاحق مع نقيضه ، فهذه هي الماهية لا بشرط ، وهي المعبر عنها بالمطلق كما أوضحناه في محله.

وهذا المعنى من اللا بشرط وبشرط لا غير مقصود في المقام. بل مرادهم من قولهم : ان الفرق بين المشتق ومبدئه ، هو ان المشتق اخذ لا بشرط ، والمبدء اخذ بشرط لا ، انما هو معنى آخر ، غير المعنى المذكور في باب المط والمقيد.

وتوضيح المراد في المقام : هو ان العرض لما كان وجوده لنفسه وبنفسه وفي نفسه عين وجوده لغيره وبغيره وفي غيره لاستحالة قيام العرض بذاته بل تقرره انما يكون بمحله ، فيمكن ان يلاحظ العرض بما هو هو ومع قطع النظر عن عينية وجوده لوجود الموضوع ، كما أنه يمكن ان يلاحظ على ما هو عليه من القيام والاتحاد ، من دون تجريده وتقطيعه عما هو عليه من الحالة ، أي حالة القيام بالغير. فان لوحظ على الوجه الأول كان حينئذ عرضا مباينا غير محمول ويكون ملحوظا بشرط لا ، أي بشرط عدم الاتحاد والقيام بالمحل. وان لوحظ على الوجه الثاني كان حينئذ عرضيا متحدا محمولا ويكون ملحوظا لا بشرط ، أي لا بشرط عن التجرد والتقطيع ، بل لوحظ على ما هو عليه من الحالة من القيام بالموضوع.

والحاصل : انه لا اشكال في أن العرض مط من أي مقولة كان ، هو بنفسه من الماهيات الامكانية التي لها حظ من الوجود ، ويقابل الجوهر عند تقسيم الممكنات. وكذا لا اشكال في أن قوام تقرر العرض بالموضوع ، حيث إنه ليس هو بنفسه متقررا في الوجود كتقرر الجوهر ، بل لابد في العرض من أن يوجد في محل ويقوم به ويتحد معه بنحو من الاتحاد ، وهو الاتحاد في الوجود ، وهذا معنى ما يقال : من أن وجود العرض لنفسه وبنفسه وفي نفسه عين وجوده لموضوعه وبموضوعه وفي موضوعه. وإذا كان الامر كذلك ، فتصل النوبة حينئذ إلى التفكيك بين الحيثيتين في مرحلة اللحاظ ، فيمكن لحاظه من الحيثية الأولى وذلك لايكون الا بالتجريد عن عينية وجوده لوجود موضوعه ، فيكون عرضا مفارقا غير محمول ، إذ التجريد يوجب مباينة وجوده لوجود موضوعه ، ومن المعلوم : انه لا يصح حمل أحد المتباينين على الاخر ، إذ يعتبر في الحمل نحو من الاتحاد ، سواء كان على وجه

ص: 117

الاتحاد في الهوية ، كما في اتحاد الحد للمحدود في قولك : الانسان حيوان ناطق ، أو على وجه الاتحاد في الوجود كقولك : زيد ضارب ، فلا يصح قولنا : زيد ضرب. ولحاظه بهذا لوجه هو المعنى بقولهم بشرط لا أي بشرط ان لايكون في الموضوع ، لا انه لايكون واقعا لاستحالة ذلك ، بل يقطع النظر عن كونه في الموضوع ، إذ قطع النظر عن ذلك ولحاظه على هذا الوجه بمكان من الامكان. كما أنه يمكن لحاظه من الحيثية الثانية ، أي لحاظه لا بشرط التجرد ، بل يلاحظ على ما هو عليه من العينية والاتحاد ، فيكون عرضيا متحدا محمولا ويكون هو مفاد المشتق.

ومن هنا يظهر : ان مبدء الاشتقاق لابد ان يكون معنى قابلا للحاظه بشرط لا أولا بشرط ، بان يكون هو بنفسه مجردا عن ذلك ، فلا يصح جعل المصدر أو اسم المصدر مبدء الاشتقاق ، لان كلا من المصدر واسم المصدر له معنى لا يمكن لحاظه لا بشرط ، بحيث يصح حمله على الخارج الا إذا جرد عن معناه فيخرج حينئذ عن كونه مصدرا أو اسم مصدر ، فتأمل جيدا.

وعلى كل حال ، فقد ظهر المراد من قولهم : ان الفرق بين المشتق ومبدئه هو اللابشرطية والبشرط اللائية ، واتضح ان المشتق عبارة عن تلك الكيفية الحاصلة للعرض من قيامه بمعروضه ، واتحاد وجوده لوجوده ، وأين هذا من دخول الذات في مفهومه؟.

ثم انه لا فرق في ما ذكرناه من معنى المشتق ، بين اسم الفاعل والصفة المشبهة ، وغيرهما من الأسماء المشتقة : من اسم المفعول ، واسم المكان ، واسم الآلة كمضروب ومقتل ومفتاح وغير ذلك ، فإنه بعد ما كان وجود العرض وجودا رابطيا ، فلا محالة يكون بين العرض وبين موضوعه - من الآلة والمكان وغير ذلك من ملابسات الفعل - نحو من الربط والاتحاد المصحح للحمل ، غايته ان كيفية الاتحاد تختلف ، ففي اسم الفاعل يكون نحو من الاتحاد ، وفي اسم المفعول يكون نحوا آخر من الاتحاد ، وفي اسم الآلة أو اسم المكان نحو آخر. ويجمع الجميع : ان من قيام المبدء بالذات - على اختلاف أنحاء القيام والإضافة الحاصلة بين المبدء والذات - يحصل عنوان للعرض وكيفية للمبدء ، يكون الاسم موضوعا لذلك

ص: 118

العنوان ولتلك الكيفية.

إذا عرفت هذه الأمور

فاعلم : انه اختلف القوم في كون المشتق حقيقة في خصوص المتلبس أو للأعم منه وما انقضى على أقوال.

ثالثها : التفصيل ، بين اسم الفاعل واسم المفعول ، وغيره من سائر هيئات المشتقات.

ورابعها : التفصيل ، بين ماذا كان المبدء من الملكات والصناعات ، وغيرهما.

وخامسها : التفصيل ، بين المتعدى كضارب ، وغيره كعالم.

وسادسها : التفصيل ، بين ما إذا طرء ضد وجودي ، وغيره.

وغير ذلك من الأقوال التي يقف عليها المراجع. الا ان الظاهر : ان هذه الأقوال حادثة بين المتأخرين ، بعد ما كانت المسألة ذات قولين : قول بوضعه لخصوص المتلبس مط في جميع التقادير ، وقول بوضعه للأعم كذلك. وهذه التفاصيل كلها نشأت من حسبان اختلاف الهيئات الاشتقاقية ، أو اختلاف مبادئ المشتقات فيما نحن فيه ، مع أن الظاهر أن ذلك لا يوجب اختلافا فيما نحن فيه ، إذ الكلام في وضع الهيئة للأخص أو الأعم ، وذلك مما لا يختلف فيه المبادئ كما لا يخفى ، غايته لو كان المبدء ملكة أو حرفة يكون الانقضاء باعتبار ذهاب الملكة ورفع اليد عن الحرفة ، ولو كان المبدء من الفعليات يكون الانقضاء بعدم الفعلية. وكان منشأ توهم التفصيل بين المبادئ ، هو تخيل صدق البقال مثلا بالنسبة إلى من لم يكن مشتغلا ببيع البقل ، فتوهم ان البقال لابد ان يكون للأعم. وكذا الكلام في غير البقال من سائر الصيغ التي تكون المبادئ فيها حرفة أو صناعة أو ملكة ، ولكن لا يخفى فساد التوهم ، فإنه بعد ما كان المبدء حرفة أو ملكة أو صناعة يكون العبرة في الانقضاء هو تبدل الحرفة والصناعة بحرفة وصناعة أخرى ، أو مجرد رفع اليد عن تلك الحرفة وان لم يتلبس بحرفة أخرى.

وبالجملة : لا وجه للتفصيل بين مبادئ المشتقات أو هيئاتها ، فالعمدة في

ص: 119

المسألة هو اثبات وضع المشتق لخصوص المتلبس مط في جميع الموارد ، أو وضعه للأعم كذلك مط.

والأقوى : انه موضوع لخصوص المتلبس مجاز في غيره ويدل على المختار أمور.

الأول :

انه بعد القول بالبساطة وخروج الذات عن مفهوم المشتق ، لا محيص عن القول بوضعه لخصوص المتلبس ، ولا يمكن ان يكون موضوعا للأعم ، إذ الوضع للأعم لايكون الا إذا كان هناك جامع بين المتلبس والمنقضى عنه المبدء ، حتى يكون اللفظ موضوعا بإزاء ذلك الجامع وليس في البين جامع بناء على البساطة ، وذلك لان المشتق يكون ح عبارة عن نفس العرض الملحوظ لا بشرط كما تقدم ، وليس وظيفة الهيئة الا جعل العرض المباين عرضيا محمولا ، فالمشتق هو عبارة عن العرض المحمول ، ومن المعلوم : توقف ذلك على وجود العرض حتى يصح لحاظه لا بشرط.

والحاصل : ان انقضاء المبدء موجب لانعدام ما هو قوام المشتق وحقيقته ، إذ بعد ما كانت الذات منسلخة عن مدلول المشتق وكان حقيقة المشتق عبارة عن نفس العرض لا بشرط ، فلا يعقل ان يكون هناك جامع بين حالتي الانقضاء والتلبس يكون اللفظ موضوعا بإزائه ، لان الانقضاء موجب لانعدام عنوان المشتق ، ولا يعقل ان يكون اللفظ موضوعا بإزاء كلتا حالتي وجود المعنى وانعدامه ، إذ لا جامع بين الوجود والعدم ، فلا محيص من أن يكون المشتق موضوعا لخصوص المتلبس.

وبالجملة : بناء على البساطة يرتفع الفارق وبين الجوامد والمشتقات ، الا من حيث كون الجوامد عناوين للذاتيات ، والمشتقات عناوين للعرضيات ، واما من حيث الوضع لخصوص المتلبس فلا فرق بينهما ، إذ كما أن انعدام الصورة النوعية الذاتية التي بها يكون الحجر حجرا يوجب انعدام العنوان وعدم انحفاظ ما وضع اللفظ بإزائه ، كذلك انعدام الصورة النوعية العرضية التي بها يكون الضارب ضاربا موجب لانعدام عنوان الضارب وعدم انحفاظ ما وضع اللفظ بإزائه. كل ذلك لمكان عدم ثبوت الجامع الباقي بين الحالتين الا الهيولي في الجوامد والذات

ص: 120

في المشتقات ، وكل من الهيولي والذات خارجة عنى المعنى وأجنبية عنه.

فظهر : ان هناك ملازمة بين القول بالبساطة والقول بالوضع لخصوص المتلبس ، وحيث اخترنا البساطة على ما تقدم بيانه ، فلا بد ان نقول بوضع المشتق بإزاء خصوص المتلبس.

نعم للقائل بالتركيب ان يقول بوضعه للأعم ، إذ للقائل بالتركيب ان يقول : ان ( ضارب ) مثلا موضوع للذات التي ثبت لها الضرب في الجملة ، من غير تقييد بخصوص المتلبس هذا.

ولكن مع ذلك لا يستقيم ، لتوجه اشكال عدم ثبوت الجامع بين التلبس والانقضاء حتى على القول بالتركيب ، وذلك لان أقصى ما يدعيه القائل بالتركيب ، هو ان المشتق موضوع للذات المقيدة بالمبدء على وجه النسبة الناقصة التقييدية معرى عن الزمان ، بداهة خروج الزمان عن مداليل الأسماء ، ومن المعلوم : انه ليس هناك جامع بين الانقضاء والتلبس الا الزمان ، فلو كان الزمان جزء مدلول المشتق لأمكن للقائل بالتركيب ان يقول : ان الهيئة موضوعة للذات التي ثبت لها المبدء في زمان ما ، الصادق على الزمان الماضي والمتلبس ، واما لو لم يكن الزمان جزء مدلول اللفظ فلا يكون هناك جامع يمكن ان يوضع اللفظ بإزائه ، بداهة ان الذات انما تنتسب إلى المبدء عند فعلية المبدء ، واما مع عدم فعليته فليست منتسبة إليه الا باعتبار الزمان الماضي ، والمفروض ان الزمان خارج عن مدلول اللفظ.

وحاصل الكلام : ان المشتق ، اما ان يكون موضوعا لخصوص المتلبس ، واما ان يكون موضوعا للأعم بالاشتراك المعنوي ، إذ لا يحتمل ان يكون موضوعا لخصوص ما انقضى عنه المبدء ، أو موضوعا لكل منهما بالاشتراك اللفظي ، فلابد ان يكون موضوعا ، اما للمتلبس ، واما للأعم ، ومن المعلوم : ان الوضع للأعم يتوقف على أن يكون هناك جامع قريب عرفي ، ولا يمكن ان يكون هناك جامع بين التلبس والانقضاء الا من ناحية الزمان ، والمفروض ان الزمان خارج عن مدلول الأسماء ، فلابد ان يكون موضوعا لخصوص المتلبس.

ص: 121

فظهر : ان القول بالتركيب لا يلازم القول بالأعم ، كما ربما يتخيل ، (1) بل قوى ذلك شيخنا الأستاذ مد ظله ابتداء ، وان كان قد عدل عنه أخيرا وأفاد : انه لا يمكن القول بالوضع للأعم مط ، سواء قلنا بالبساطة ، أو قلنا بالتركيب ، وان كان الامر على البساطة أوضح ، لما عرفت : من أن المشتق بناء على البساطة ليس الا عبارة عن نفس الحدث لا بشرط ، واللفظ انما يكون موضوعا بإزاء هذا المعنى ، وبعد الانقضاء لم يبق حدث حتى يتوهم كونه حقيقة فيه ، كما أنه عند انعدام الصورة النوعية في الجوامد لم يبق ما هو الموضوع له.

ولا يتوهم انه بناء على هذا ينبغي ان لا يصح اطلاق المشتق على ما انقضى عنه المبدء ، إذ معنى المشتق لم يبق والذات الباقية أجنبية عن المشتق ، فعلى أي وجه يصح اطلاق المشتق على ما انقضى عنه المبدء؟ فان الذات وان لم تكن مأخوذة في المشتق ، الا انها لما كانت معروضة للمشتق ومتصفة به في السابق ، صح اطلاق المشتق عليها بعلاقة ما كان.

وبالجملة : لا محيص عن القول بوضع المشتق لخصوص المتلبس ، ولا يمكن عقلا ان يكون موضوعا للأعم. هذا مضافا إلى وجود علائم الحقيقة والمجاز في المقام ، حيث إنه يتبادر خصوص المتلبس عند الاطلاق ، ويصح سلب عنوان المشتق عمن انقضى عنه المبدء ، فيصح ان يقال : زيد ليس بضارب إذا كان قد انقضى عنه الضرب ، ولا ينافي صحة السلب لصحة الحمل ، بداهة ان صحة الحمل ليس لمكان جوهر اللفظ ، بل بعناية ما كان ، بخلاف صحة السلب ، فإنه يصح سلب الضارب بما له من المعنى من دون عناية عن زيد الذي لم يكن بضارب فعلا ، كما يصح سلب الأسد بما له من المعنى عن الرجل الشجاع ، مع صحة حمله عليه أيضا ، الا ان صحة الحمل لمكان العناية ، بخلاف صحة السلب.

ص: 122


1- بتقريب انه موضوع لنفس النسبة من غير تقييد بالانقضاء والتلبس ، وبعبارة أخرى : موضوع للذات التي ثبت لها الضرب كما هو المتأول في تفسير الضارب ، ومن المعلوم : ان هذا المعنى يصدق على المنقضى والمتلبس ، فاعتبار خصوص المتلبس يحتاج إلى مؤنة زائدة ، فتأمل - منه.

وبالجملة : لو أنكر صحة السلب في سائر المقامات ، فليس لأحد انكاره في المقام ، لان سائر المقامات يمكن دعوى وضع اللفظ فيها للأعم ، كما لو ادعى ان الأسد موضوع لمطلق الشجاع الجامع بين الحيوان المفترس والرجل ، فمن ادعى ذلك فليس ممن ادعى ما يخالف العقل ، غايته انه ادعى ما يخالف الواقع.

وهذا بخلاف المقام ، فان ادعاء وضع المشتق للأعم مما لا يمكن ، لعدم الجامع في البين عقلا على ما تقدم بيانه. فالتمسك في المقام بصحة السلب مما لا غبار عليه ، كما لا غبار لصحة التمسك بلزوم اجتماع الضدين بناء على القول بالأعم فيما إذا تلبس بضد ما كان متلبسا به كالقيام والقعود ، وتوضيح ذلك : هو انه لا اشكال في تضاد نفس المبادئ : من القيام والقعود والسواد والبياض وغير ذلك ، وحينئذ فان قلنا ببساطة المشتق وانه عبارة عن نفس المبادئ لا بشرط ، فلا اشكال في تحقق التضاد بين نفس المشتقات أيضا : من القائم والقاعد والأسود والأبيض ، إذ القائم هو عبارة عن نفس القيام المتحد وجودا مع الذات وكذلك القاعد ، فالتضاد بين القيام والقعود لا محالة يستلزم التضاد بين القائم والقاعد بل هو هو ، فبناء على البساطة لا مجال لتوهم عدم التضاد بين القائم والقاعد ، ويلزم الوضع للأعم اجتماع الضدين فيما إذا تلبس القائم بالقعود ، لصدق القائم والقاعد عليه حقيقة ، وهو كما ترى يكون من اجتماع الضدين.

واما بناء على القول بالتركيب ، فربما يتوهم عدم التضاد بين المشتقات وان كان هناك تضاد بين نفس المبادئ ، تقريب ان الهيئة موضوعة للذات التي ثبت لها المبدء في الجملة ، ولو آنا ما ، فيكون القائم هو الذي صدر عنه القيام ، وهذا المعنى كما ترى يجامع القاعد الذي هو عبارة عن الذات التي صدر عنها القعود.

والحاصل : انه الهيئة توجب توسعة في ناحية المبادئ على وجه يقع التخالف بينها ، فيكون ضد القائم هو القاعد الدائمي بحيث لم يتلبس بالقيام أصلا ، وكذا الحال في القاعد ، واما التلبس بالقيام في الجملة فليس ضدا للقعود ، وكذا العكس هذا.

ولكن مع ذلك لا يستقيم ، بداهة انه بعد تعرية الأسماء المشتقة عن الدلالة

ص: 123

على الزمان يكون شغل الهيئة هو الصاق المبدء بالذات وربطه بها ، من دون تصرف في المبادئ والذوات ، بل المبادئ باقية على ما هي عليه من المعاني وكذا الذوات ، وبعد تسليم التضاد بين المبادئ فلا معنى لعدم تسليمه بين المشتقات ، مع أن الهيئات المشتقة لم تحدث في المبادئ والذوات ما يوجب خروجها عن التضاد. نعم لو اخذ الزمان في مدلول الهيئة لكان للتوهم المذكور مجال. فظهر : ان التضاد بين المبادئ يسرى إلى التضاد بين نفس المشتقات ، وذلك ينافي وضعها للأعم للزوم اجتماع الضدين ، فلابد عن القول بوضعها لخصوص المتلبس ، لأنه لا يتصادق عنوان القائم والقاعد في آن واحد.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : انه لا محيص عن القول بوضع المشتق لخصوص المتلبس ولا يمكن عقلا وضعه للأعم ، مضافا إلى الوجوه الاخر.

بقى الكلام فيما استدل به القائل بالأعم ، وهو أمور :

الأول : تبادر الأعم.

الثاني : عدم صحة السلب. وفيهما ما عرفت : من تبادر خصوص المتلبس ، وصحة السلب عما انقضى عنه المبدء.

الثالث : كثرة الاستعمال في المنقضى. وفيه انها دعوى لا شاهد عليها ، إذ المسلم هو كثرة اطلاق المشتق على ما انقضى عنه المبدء ، ولكن مجرد ذلك لا يكفي ، لان الاطلاق انما يكون بلحاظ حال التلبس ، لا اطلاقه عليه في الحال وجعله معنونا بالعنوان فعلا بلحاظ انه كان متلبسا قبل ذلك.

وبالجملة : فرق ، بين ان يكون الاستعمال بلحاظ حال التلبس وان انقضى عنه التلبس ، وبين ان يكون باللحاظ الفعلي لمكان انه كان متلبسا ، والذي ينفع القائل بالأعم هو ان يكون الاستعمال على الوجه الثاني دون الأول ، إذ لا اشكال في أن الاستعمال بلحاظ حال التلبس يكون على وجه الحقيقة ، وأنت إذا راجعت وجدانك واستعمالك ، ترى ان استعمالاتك انما تكون بلحاظ حال التلبس ، إذ الاستعمال بهذا اللحاظ لا يحتاج إلى عناية ومؤنة ، بخلاف استعماله بلحاظ الفعلي لمكان تلبسه قبل ، فان ذلك يحتاج إلى لحاظ زائد عما هو عليه.

ص: 124

والحاصل : ان المصنف يرى أن اطلاق الضارب على من لم يكن متلبسا بالضرب فعلا وكان متلبسا في الزمان الماضي انما يكون بلحاظ حال تلبسه ، لا بلحاظه الفعلي بحيث يكون الاطلاق لمكان تعنونه فعلا بالعنوان لمكان صدور الضرب عنه في الزمان الماضي.

وبذلك يظهر : ضعف التمسك بآيتي السرقة والزنا اللتين تمسك بهما القائل بالأعم ، بتوهم ان المشتق في الآيتين انما استعمل في الأعم من المنقضى ، بل ربما يتخيل انه مستعمل في خصوص المنقضى ، حيث إنه بعد تحقق السرقة والزنا يحكم عليه بالقطع والحد ، لوضوح انه لولا تحقق الموجب للحد ، وانقضاء زمانه ولو آنا ما ، لا يحكم عليه بالحد من القطع والجلد.

ولكن لا يخفى عليه فساد التوهم ، لان المشتق في الآيتين لم يستعمل في المنقضى ، بل لا يمكن ان يكون مستعملا في ذلك ، لان المشتق انما جعل في الآيتين موضوعا للحكم ، ومن المعلوم : انه لا يعقل تخلف الحكم عن الموضوع ولو آنا ما ، والا لزم ان لايكون المشتق وحده موضوعا ، بل كان مضى الزمان ولو آنا ما له دخل في الموضوع ، والمفروض ان المشتق تمام الموضوع للحكم.

والحاصل : ان كل عنوان اخذ موضوعا لحكم من الاحكام فلا يخلو ، اما ان يكون اخذه لمجرد المعرفية من دون ان يكون له دخل في الموضوع ، واما ان يكون له دخل فيه. وهذا أيضا على قسمين ، لأنه ، اما ان يكون له دخل حدوثا وبقاء ، بحيث يدور الحكم مدار فعلية العنوان ، كما في مثل حرمة وطئ الحائض ، حيث إن الحرمة تدور مدار فعلية الحيض في كل زمان. وأخرى : يكون له دخل حدوثا فقط ، كما في عنوان السارق والزاني.

وفى كلا القسمين انما يكون الحكم بلحاظ التلبس ، ولا يمكن ان يكون بلحاظ الانقضاء ، لأن المفروض ان العنوان هو الموضوع للحكم ، فلابد ان يكون الحكم بلحاظ التلبس ، إذ لو اخذ بلحاظ الانقضاء يلزم ان لايكون العنوان تمام الموضوع ، بل كان مضى الزمان له دخل ، فيلزم الخلف.

وبالجملة : لا اشكال في أن السرقة والزنا علة للحكم بالجلد والقطع ،

ص: 125

ولا يمكن تخلف الحكم عنهما ، وليس الحكم بالجلد والقطع وكذا سائر الحدود من الاحكام التي يتوقف استمرارها على استمرار موضوعاتها ، كما في مثل حرمة وطئ الحائض ، حيث إن الحرمة في كل زمان يتوقف على ثبوت الحائض في ذلك الزمان ، لا ان يكون حدوث الحيض في زمان كافيا في بقاء الحرمة ولو مع عدم التلبس بعنوان الحائض ، بداهة ان الامر لايكون كذلك.

وهذا بخلاف باب الحدود ، فإنه يكفي في ترتب الحكم بالحد التلبس بالعنوان آنا ما ، وبعد التلبس يبقى الحكم إلى أن يمتثل ، ولا يتوقف بقاء الحكم على بقاء الموضوع في كل آن.

فظهر : ان في مثل آية السرقة والزناء لا يمكن ان يراد من المشتق المنقضى ولا الأعم منه ومن التلبس ، بل لا محيص من أن يراد منه خصوص المتلبس لئلا يلزم تخلف الحكم عن موضوعه.

وبما ذكرنا يظهر الجواب عما استدل به القائل بالأعم أيضا ، بقوله تعالى : (1) « ولا ينال عهدي الظالمين » بضميمة استدلال الامام (2) بها على عدم قابلية الرجلين للخلافة لمكان عبادتهما الأوثان.

تقريب الاستدلال : هو انه لولا كون المشتق للأعم لما صح استدلاله (عليه السلام) لعدم كون الرجلين حين التصدي للخلافة من عبدة الأوثان هذا.

ولكن ظهر الجواب عن ذلك ، لان استدلال الإمام علیه السلام لا يتوقف على استعمال المشتق في المنقضى ، بل الاستدلال يتم ولو كان موضوعا لخصوص المتلبس ، لان التلبس بالعنوان ولو آنا ما يكفي في عدم نيل العهد إلى الأبد ، ولا يتوقف على بقاء العنوان ، فحدوث العنوان في مثل هذا يوجب ترتب الحكم ، فالمشتق في مثل الآية أيضا قد استعمل في المتلبس.

ويؤيد ذلك : ان جلالة قدر الخلافة وولاية العهد تناسب ان لا يكون

ص: 126


1- سورة البقرة ، الآية 124
2- راجع أصول الكافي ، الجزء 1 ، كتاب الحجة ، باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة ، ص 326

الخليفة متلبسا بالظلم ابدا في آن من الآنات ، فالتلبس بالظلم في آن ينافي منصب الخلافة الذي هو منصب إلهي ، لسقوطه عن أعين الناس ، فلا يؤثر كلامه في تزكية النفوس.

فتحصل : ان المشتق في هذه الآية وفي آيتي السرقة والزناء انما استعمل في خصوص المتلبس ، لا في الأعم ، ولا في خصوص المنقضى.

ص: 127

المقصد الأول في الأوامر

اشارة

وقبل البحث عما يتضمنه هذا المقصد من المباحث الأصولية ، ينبغي تقديم أمور : يبحث فيها عن بعض ما يتعلق بمادة الامر وصيغته.

( الامر الأول )

قد ذكر لمادة الامر معان عديدة ، حتى أنهاها بعض إلى سبعة أو أكثر ، وعد منها : الطلب ، والشأن ، والفعل ، وغير ذلك. وقد طال التشاجر بينهم في كون ذلك على نحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي ، وحيث لم يكن البحث عن ذلك كثير الجدوى ، فالاعراض عنه أجدر. وان كان ادعاء الاشتراك اللفظي بين تمام المعاني السبعة بعيدا غايته ، بل لا يبعد ان يكون ذلك على نحو الاشتراك المعنوي بين تمام المعاني السبعة ، أو ما عدى الطلب منها ، وانه بالنسبة إلى الطلب وما عداه مشترك لفظي كما في الفصول ، (1) بل مال شيخنا الأستاذ مد ظله ، إلى أن مادة الامر موضوعة لمعنى كلي ومفهوم عام جامع للمعاني السبعة ، نحو جامعية الكلي لمصاديقه ، وان كان التعبير عن ذلك المعنى العام بما يسلم عن الاشكال مشكلا ، الا ان الالتزام بالاشتراك اللفظي أشكل.

وعلى كل حال ، لا اشكال في أن الطلب من معاني الامر ، سواء كان بوضع يخصه ، أو كان من مصاديق الموضوع له ، ولكن ليس كل طلب أمرا ، بل إذا كان الطالب عاليا ومستعليا على اشكال في اعتبار الأخير.

ص: 128


1- الفصول ص 63. المقالة الأولى. « الحق ان لفظ الامر مشترك بين الطلب المخصوص كما يقال امره بكذا ، وبين الشأن كما يقال شغله كذا لتبادر كل منهما من اللفظ عند الاطلاق .. »

واما اعتبار العلو فلا ينبغي الاشكال فيه ، بداهة ان الطلب من المساوي يكون التماسا ، ومن الداني يكون دعاء ، ولا يصدق على ذلك أنه امر ، بل لا يبعد عدم صدق الامر على طلب العالي الغير المستعلى ، فان ذلك بالارشاد والاستشفاع أشبه. كما يؤيد ذلك قوله صلی اللّه علیه و آله (1) لا بل انا شافع عند قول السائل : أتأمرني يا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

( الامر الثاني )

الوجوب والاستحباب خارجان عن مفاد الامر بحسب وضعه ، وان كان اطلاقه يقتضى الوجوب على ما سيأتي بيانه انشاء اللّه تعالى ، الا ان اقتضاء الاطلاق ذلك غير كونه مأخوذا فيه وضعا كما لا يخفى.

( الامر الثالث )

قد ذكر لصيغة الامر معان عديدة أيضا ، حتى نقل ان بعضنا انها ها إلى أربعة وعشرين ، أو أكثر ، وعد منها : الطلب والتعجيز والتهديد وغير ذلك.

وقد وقع البحث أيضا في أن ذلك على نحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي ، الا ان الانصاف انه لا وقع للبحث عن ذلك في الصيغة ، وان كان له وقع في المادة ، بداهة ان صيغة الامر كصيغة الماضي والمضارع تشتمل على مادة وهيئة ، وليس للمادة معنى سوى الحدث ، كما أنه ليس للهيئة معنى سوى الدلالة على نسبة المادة إلى الفاعل. نعم تختلف كيفية انتساب المادة إلى الفاعل حسب اختلاف الافعال ، ففي الفعل الماضي الهيئة انما تدل على النسبة التحققية ، وفي المضارع تدل على النسبة التلبسية ، على ما مر ذلك مشروحا في مبحث المشتق.

واما فعل الامر ، فهيئته انما تدل على النسبة الايقاعية ، من دون ان تكون الهيئة مستعملة في الطلب ، أو في التهديد ، أو غير ذلك من المعاني المذكورة للهيئة ، لوضوح انه ليس معنى اضرب : اطلب ، ولا أهدد ، ولا غير ذلك. بل الطلب ، و

ص: 129


1- راجع سنن أبي داود. الجزء الثاني. كتاب الطلاق ، باب « المملوكة تعتق وهي تحت حر أو عبد » ص 270

التهديد ، والتعجير ، انما تكون من قبيل الدواعي لايجاد النسبة الايقاعية بقوله : افعل. ومن هنا تمحضت صيغة افعل للانشاء ولا تصلح ان تقع اخبارا ، إذ الايقاع لا يمكن ان يكون اخبارا. وهذا بخلاف صيغة الماضي والمضارع ، حيث إنهما يصلحان لكل من الانشاء والاخبار. اما الماضي ، فوقوعه انشاء في باب العقود واضح. واما المضارع ، فانشاء العقد به محل خلاف واشكال. نعم المضارع انما يقع انشاء في مقام الطلب والبعث ، كيصلي ، ويصوم ، وما شابه ذلك وهذا بخلاف الماضي ، فإنه لم يعهد وقوعه انشاء في مقام البعث والطلب ابتداء ، وان استعمل في القضايا الشرطية في ذلك لانقلابه فيها إلى الاستقبال ، ولكن استعماله في الطلب في غيرها مما لم نعهده. وعلى كل حال ، لا اشكال في أن صيغة افعل ليست بمعنى الطلب ولا غيره من سائر المعاني ، وانما هي موضوعة لايقاع النسبة بين المبدء والفاعل لدواعي : منها الطلب ومنها التهديد ومنها غير ذلك ، فتأمل جيدا. (1).

فتحصل : ان الصيغة لم تستعمل في الطلب ، بل إن كان ايقاع النسبة بداعي البعث والطلب يوجد مصداق من كلي الطلب عند استعمال الصيغة وايقاع النسبة ، كما هو الشأن في غير النسبة من سائر الحروف حيث إن باستعمالها يوجد مصداق من معنى كلي اسمى ، كالنداء عند قولك : يا زيد ، والخطاب عند قولك : إياك ، وغير ذلك من الحروف على ما تقدم تفصيل ذلك.

( الامر الرابع )

لا باس في المقام بالإشارة إلى اتحاد الطلب والإرادة وتغايرهما ، حيث جرت سيرة الاعلام على التعرض لذلك في هذا المقام ، وان لم يكن له كثير ارتباط به. وعلى كل حال ، ذهبت الأشاعرة إلى تغاير الطلب والإرادة ، وان ما بحذاء أحدهما غير ما بحذاء الآخر. وذهبت المعتزلة إلى اتحادهما وان الإرادة عين الطلب ، والطلب عين الإرادة. ولا يخفى ان الكلام في المقام أعم من إرادة الفاعل وإرادة

ص: 130


1- وفي بعض الكلمات ان النسبة التي تكون في صيغة ( افعل ) انما هي بين المبدء والآمر ، غايته انه نسبة تسبيبية كما أنه تكون بينه وبين الفاعل نبسة مباشرية ، فتأمل - منه.

الآمر ، إذ لا خصوصية في إرادة الآمر حتى يختص الكلام فيها ، فان المقدمات التي يحتاج إليها الفعل الاختياري في مرحلة وقوعه من فاعله ، هي بعينها يحتاج إليها الامر في مرحلة صدوره عن الآمر.

وبعد ذلك نقول : لا اشكال في توقف الفعل الاختياري على مقدمات : من التصور والتصديق والعزم والإرادة. وهذا مما لا كلام فيه ، انما الكلام في أنه هل وراء الإرادة امر آخر؟ يكون هو المحرك للعضلات يسمى بالطلب ، أو انه ليس وراء الإرادة امر آخر يسمى بالطلب؟ بل الإرادة بنفسها تستتبع حركة العضلات. ثم لا اشكال أيضا في أن الإرادة من الكيفيات النفسانية التي تحصل في النفس قهرا كسائر المقدمات السابقة عليها : من التصور والعلم وغير ذلك وليست الإرادة من الأفعال الاختيارية للنفس بحيث تكون من منشأتها الاختيارية.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : لا ينبغي الاشكال في أن هناك وراء الإرادة امر آخر يكون هو المستتبع لحركة العضلات ويكون ذلك من أفعال النفس ، وان شئت سمه بحملة النفس ، أو حركة النفس ، أو تصدى النفس ، وغير ذلك من التعبيرات.

وبالجملة : الذي نجده من أنفسنا ، ان هناك وراء الإرادة شيئا آخر يوجب وقوع الفعل الخارجي وصدوره عن فاعله. ومن قال باتحاد الطلب والإرادة لم يزد على استدلاله سوى دعوى الوجدان ، وانه لم نجد من أنفسنا صفة قائمة بالنفس وراء الإرادة تسمى بالطلب. وقد عرفت : ان الوجدان على خلاف ذلك ، بل البرهان يساعد على خلاف ذلك ، لوضوح ان الانبعاث لايكون الا بالبعث ، والبعث انما هو من مقولة الفعل ، وقد عرفت ان الإرادة ليست من الافعال النفسانية ، بل هي من الكيفيات النفسانية ، فلو لم يكن هناك فعل نفساني يقتضى الانبعاث يلزم ان يكون انبعاث بلا بعث.

وبالجملة : لا سبيل إلى دعوى اتحاد مفهوم الإرادة ومفهوم الطلب ، لتكذيب اللغة والعرف ذلك ، إذ ليس لفظ الإرادة والطلب من الألفاظ المترادفة ، كالانسان والبشر. وان أريد من حديث الاتحاد التصادق الموردي وان تغايرا مفهوما فله وجه ، إذ يمكن دعوى صدق الإرادة على ذلك الفعل النفساني ، كما تصدق

ص: 131

على المقدمات السابقة من التصديق ، والعزم ، والجزم ، ويطلق عليها الإرادة هذا.

ولكن فيه : ما فيه ، إذ دعوى ذلك لايكون الا بدعوى ان الإرادة لها مفهوم واسع ، يسع المقدمات السابقة وما هو فعل النفس ، والحال انه ليس كذلك ، إذ الإرادة كيفية خاصة للنفس تحدث بعد حدوث مباديها فيها ، ولذا تسمى بالشوق المؤكد ، إذ التعبير بذلك انما هو لبيان انه ليس كل ما يحدث في النفس يسمى بالإرادة ، بل الإرادة انما تحدث بعد التصور والتصديق وغير ذلك من مباديها ، واطلاق الإرادة على بعض المبادئ أحيانا انما هو لمكان التسامح في توسعة المفهوم ، لا ان المفهوم هو بنفسه موسع بحيث يشمل ذلك. فظهر : انه لا سبيل إلى دعوى الاتحاد ، بل المغايرة بينهما عرفا أوضح من أن تخفى.

بل لا يمكن دفع شبهة الجبر الا بذلك ، بداهة انه لو كانت الافعال الخارجية معلولة للإرادة لكان اللازم وقوع الفعل من فاعله بلا اختيار ، بل يقع الفعل قهرا عليه ، إذ الإرادة كما عرفت ، كيفية نفسانية تحدث في النفس قهرا بعد تحقق مباديها وعللها ، كما أن مبادئ الإرادة أيضا تحصل للنفس قهرا ، لان التصور امر قهري للنفس ، وهو يستتبع التصديق استتباع العلة لمعلولها وهو يستتبع العزم والإرادة كذلك استتباع العلة لمعلولها ، والمفروض انها تستتبع الفعل الخارجي كذلك ، فجميع سلسلة العلل والمعلولات انما تحصل في النفس عن غير اختيار ، ومجرد سبق الإرادة لا يكفي في اختيارية الفعل. وليس كلامنا في الاصطلاح حتى يقال : انهم اصطلحوا على أن كل فعل يكون مسبوقا بالإرادة فهو اختياري ، إذ هذا الاصطلاح مما لا يغنى عن شيء ، لان كلامنا في واقع الامر ومقام الثبوت ، وانه كيف يكون الفعل اختياريا؟ مع أنه معلول لمقدمات كلها غير اختيارية ، فكيف يصح الثواب والعقاب على فعل غير اختياري؟.

والحاصل : انه لو كانت الافعال معلولة للإرادة ، وكانت الإرادة معلولة لمباديها السابقة ، ولم يكن بعد الإرادة فعل من النفس وقصد نفساني ، لكانت شبهة الجبر مما لا دافع لها ، ولقد وقع في الجبر من وقع مع أنه لم يكن من أهله ، وليس ذلك الا لانكار التغاير بين الطلب والإرادة وحسبان انه ليس وراء الإرادة شيء يكون

ص: 132

هو المناط في اختيارية الفعل.

واما بناء على ما اخترناه من أن وراء الإرادة والشوق المؤكد أمرا آخر ، وهو عبارة عن تصدى النفس نحو المطلوب وحملتها إليه ، فيكون ذلك التصدي النفساني هو مناط الاختيار ، وليس نسبة الطلب والتصدي إلى الإرادة نسبة المعلول إلى علته حتى يعود المحذور ، بل النفس هي بنفسها تتصدى نحو المطلوب ، من دون ان يكون لتصديها علة تحملها عليه.

نعم الإرادة بمالها من المبادئ تكون من المرجحات لطلب النفس وتصديها ، فللنفس بعد تحقق الإرادة بما لها من المبادئ التصدي نحو الفعل. كما أن لها عدم التصدي والكف عن الشيء ، وليس حصول الشوق المؤكد في النفس علة تامة لتصدي النفس ، بحيث ليس لها بعد حصول ذلك الكيف النفساني الامتناع عن الفعل ، كما هو مقالة الجبرية ، بل غايته ان الشوق المؤكد يكون من المرجحات لتصدي النفس ولا يخفى الفرق بين المرجح والعلة. هذا كله في نفى الجبر.

واما نفى التفويض

فالامر فيه أوضح ، لان أساس التفويض هو تخيل عدم حاجة الممكن في بقائه إلى العلة ، وانه يكفي فيه علة الحدوث ، مع أن هذا تخيل فاسد لا ينبغي ان يصغى إليه ، بداهة ان الممكن بحسب ذاته يتساوى فيه الوجود والعدم ، ويحتاج في كل آن إلى أن يصله الفيض من المبدء الفياض ، بحيث لو انقطع عنه الفيض آنا ما لانعدم وفنى ، فوجوده في كل آن يستند إلى الفياض. هذا بالنسبة إلى أصل وجوده. وكذا الحال بالنسبة إلى ارادته وأفعاله يحتاج إلى المبدء لكن لا على نحو الجبر كما عرفت. فتأمل في المقام جيدا ، فإنه خارج عما نحن فيه ولا يسع التكلم فيه أزيد من ذلك ، والغرض في المقام بيان تغاير الطلب والإرادة ، وقد عرفت بما لا مزيد عليه تغايرهما.

هذا كله في إرادات العباد وافعالهم التكوينية ، وقس على ذلك الطلب والإرادة التشريعية ، فان المبادئ التي يتوقف عليها الفعل التكويني كلها مما يتوقف عليها الامر التشريعي ، غايته : ان الطلب في التكوينيات انما هو عبارة : عن تصدى

ص: 133

النفس لحركة عضلاتها نحو المطلوب ، وفي التشريعي عبارة عن تصدى الآمر بأمره لحركة عضلات المأمور نحو المطلوب ، والا فمن حيث معنى الطلب لافرق بينهما ، وانه في كلا المقامين بمعنى التصدي.

وبما ذكرنا ظهر : ما في بعض الكلمات - من تقسيم الإرادة والطلب إلى الواقعي والانشائي - من الخلل ، لوضوح ان الإرادة من الكيفيات النفسانية الغير القابلة للانشاء ، إذ الانشاء عبارة عن الايجاد ، والإرادة غير قابلة لذلك فتأمل.

( الامر الخامس )

قد عرفت ان صيغة الامر ليست موضوعة للطلب ، ولا غيره من المعاني المذكورة لها ، بل انما هي موضوعة لايقاع النسبة بين المبدء والفاعل لدواعي : منها الطلب ومنها التهديد ومنها الامتحان ومنها غير ذلك. وليس الصيغة من أول الامر مستعملة في الطلب ، ولا المنشأ فيها مفهوم الطلب ، بل بها يوجد مصداق من الطلب إذا كان ايقاع النسبة بداعي الطلب ، دون ما إذا كان بداعي التهديد والسخرية.

نعم ، فيما إذا كان بداعي الامتحان يمكن ان يقال : انه طلب ، غايته ان صدق الطلب عليه ليس لمكان مطلوبية الفعل لمصلحة فيه ، بل لمكان بعث حركة عضلات العبد.

وبعبارة أخرى : المطلوب في الأوامر الامتحانية نفس حركة عضلات العبد لا نفس الفعل ، وعلى أي حال الامر في ذلك سهل.

انما الاشكال في طريق استفادة الوجوب من الصيغة ، بعد ما كان استفادة الوجوب منها مما لا اشكال فيه ، كما يدل على ذلك قوله تعالى : (1) « ما منعك ان لا تسجد إذ أمرتك » ، مع أن الامر كان بصيغته ، كما هو ظاهر قوله تعالى : فقعوا له ساجدين. وبالجملة : لا اشكال في استفادة الوجوب منها ، انما الاشكال في طريق استفادة الوجوب منها.

ص: 134


1- سورة الأعراف الآية 12

فنقول : لهم في ذلك طرق :

منها : دعوى وضعها لغة للوجوب وهذه الدعوى بظاهرها لا تستقيم ، لما عرفت : ان الصيغة لها مادة وهيئة ، والمادة موضوعة لمعناها الحدثي ، ومفاد الهيئة معنى حرفي ، لكونها موضوعة لنسبة المادة إلى الفاعل بالنسبة الايقاعية. فلا معنى لدعوى وضعها للوجوب. اللّهم الا ان توجه بان المراد وضعها لايقاع النسبة إذا كان بداعي الطلب الوجوبي ، بان يؤخذ - بداعي الطلب الوجوبي - قيدا في وضع الهيئة.

واما دعوى : أكثرية استعمالها في الاستحباب فيلزم أكثرية المجاز على الحقيقة ، فهذا مما ليس فيه محذور إذا كان ذلك بقرينة تدل على ذلك انما الشأن في اثبات هذه الدعوى أي دعوى الوضع لذلك بل هي فاسدة من أصلها.

وتوضيح الفساد يتوقف على بيان حقيقة الوجوب والاستحباب وبيان المايز بينهما.

فنقول : ربما قيل بان الوجوب عبارة عن الاذن في الفعل مع المنع من الترك والاستحباب عبارة عن الاذن في الفعل مع الرخصة في الترك ، فيكون مفاد كل من الوجوب والاستحباب مركبا من أمرين. ولما كان التفسير بذلك واضح الفساد ، لوضوح بساطة مفهوم الوجوب والاستحباب ، عدل عن ذلك المتأخرون ، وجعلوا المايز بينهما بالشدة والضعف ، وقالوا : ان الوجوب والاستحباب حقيقة واحدة مقولة بالتشكيك ، فالوجوب عبارة عن الطلب الشديد ، والاستحباب عبارة عن الطلب الضعيف هذا.

ولكن الانصاف : ان هذه الدعوى كسابقتها واضحة الفساد ، لان الطلب لا يقبل الشدة والضعف ، لوضوح ان طلب ما كان في غاية المحبوبية وما لم يكن كذلك على نهج واحد ، وهذا ليس من الأمور التي يرجع فيها إلى اللغة ، بل العرف ببابك ، فهل ترى من نفسك اختلاف تصدى نفسك وحملتها نحو ما كان في منتهى درجة المصلحة وقوة الملاك ، كتصدي نفسك نحو شرب الماء الذي به نجاتك ، أو نحو ما كان في أول درجة المصلحة ، كتصدي نفسك لشرب الماء لمحض التبريد ، كلا لا يختلف تصدى النفس المستتبع لحركة العضلات باختلاف ذلك ، بل إن بعث

ص: 135

النفس للعضلات في كلا المقامين على نسق واحد. نعم ربما تختلف الإرادة بالشدة والضعف كسائر الكيفيات النفسانية ، الا ان الإرادة ما لم تكن واصلة إلى حد الشوق المؤكد الذي لا مرتبة بعده لا تكون مستتبعة لتصدي النفس. هذا في طلب الفاعل وارادته ، وقس على ذلك طلب الآمر ، فإنه لا يختلف بعث الآمر حسب اختلاف ملاكات البعث ، بل إنه في كلا المقامين يقول : افعل ، ويبعث المأمور نحو المطلوب ، ويقول مولويا : اغتسل للجمعة ، كما يقول : اغتسل للجنابة.

فدعوى اختلاف الطلب في الشدة والضعف ، وكون ذلك هو المايز بين الوجوب والاستحباب مما لاوجه لها ، بل العرف والوجدان يكذبها وان قال به بعض الأساطين.

والذي ينبغي ان يقال : هو ان الوجوب انما يكون حكما عقليا ، لا انه امر شرعي ينشأه الآمر حتى يكون ذلك مفاد الصيغة ومدلولها اللفظي ، كما هو مقالة من يقول بوضعها لذلك ، ومعنى كون الوجوب حكما عقليا ، هو ان العبد لابد ان ينبعث عن بعث المولى الا ان يرد منه الترخيص بعد ما كان المولى قد اعمل ما كان من وظيفته وأظهر وبعث وقال مولويا : افعل ، وليس وظيفة المولى أكثر من ذلك ، وبعد اعمال المولى وظيفته تصل النوبة إلى حكم العقل من لزوم انبعاث العبد عن بعث المولى ، ولا نعنى بالوجوب سوى ذلك.

وبما ذكرنا يندفع ما استشكل : من أنه كيف يعقل استعمال الصيغة في الأعم من الوجوب والاستحباب ، كما ورد في عدة من الاخبار ذكر جملة من الواجبات والمستحبات بصيغة واحدة كقوله : اغتسل للجمعة ، والجنابة ، والتوبة ، وغير ذلك ، فإنه لو كان الوجوب عبارة عن شدة الطلب ، والاستحباب عبارة عن ضعفه لكان الاشكال في محله ، بداهة انه لا يعقل ان يوجد الطلب بلا حد خاص من الشدة والضعف ، إذ لا يمكن وجود الكلي بلا حد.

واما بناء على ما قلناه من معنى الوجوب فلا اشكال فيه ، إذ ليس الطلب منقسما إلى قسمين ، بل الطلب انما يكون عبارة عن البعث ، وهو غير مقول بالتشكيك والصيغة في جميع المقامات لم تستعمل الا لايقاع النسبة بداعي البعث والتحريك

ص: 136

غايته انه في بعض المقامات قام الدليل على عدم لزوم الانبعاث عن ذلك البعث ، وفي بعض المقامات لم يقم ، فيكون المورد على ما هو عليه من حكم العقل بلزوم الانبعاث عن البعث.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان الوجوب لا يستفاد من نفس الصيغة وضعا أو انصرافا ، بل انما يستفاد منها بضميمة حكم العقل. وبتقريب آخر : الوجوب ليس معناه لغة الا الثبوت ، ومنه قولهم : الواجب بالذات والواجب بالغير ، فان معنى كونه واجبا بالذات ، هو ان ثبوته يكون لنفسه ولمكان اقتضاء ذاته لا لعلة خارجية تقتضي الثبوت ، ومعنى كونه واجبا بالغير ، هو ثبوت علة وجوده ، أي ان علة وجوده قد تمت وثبتت. هذا في الواجبات التكوينية ، وقس عليه الواجبات التشريعية ، فان معنى كون الشيء واجبا شرعا هو ثبوت علة وجوده في عالم التشريع ، وليس علة وجوده الا البعث ، فالبعث يقتضى الوجود لو خلى وطبعه ولم يقم دليل على أن البعث لم يكن للترغيب الذي هو معنى الاستحباب ، وليكن هذا معنى قولهم : اطلاق الصيغة يقتضى الوجوب ، فتأمل في المقام جيدا.

( الامر السادس )

في دلالة الصيغة على التعبدية والتوصلية.

اعلم : ان البحث في ذلك يقع في مقامين :

المقام الأول : فيما يقتضيه الأصلي اللفظي.

المقام الثاني : فيما يقتضيه الأصل العملي عند عدم الأصل اللفظي ، وتنقيح البحث عن المقام الأول يستدعى تقديم أمور :

الامر الأول :

في معنى التعبدية والتوصلية اما التعبدية : فهي عبارة عن الوظيفة التي شرعت لأجل ان يتعبد بها العبد لربه ويظهر عبوديته ، وهي المعبر عنها بالفارسية ( بپرستش ) ومعلوم : ان أهل كل نحلة لهم أفعال يظهرون بها عبوديتهم ، ويعبدون بها معبودهم حتى عبدة الصنم والشمس ، فان لهم حركات خاصة وأفعالا مخصوصة ، بها يتذللون لمعبودهم ، ويظهرون له العبودية. فالمراد من العبادة في شرعنا ، هو ما

ص: 137

شرع لان يتعبد به العبد لربه ، ومعلوم : ان فعل الشيء لاظهار العبودية لايكون الا بفعله امتثالا لامره ، أو طلبا لمرضاته ، أو طمعا في جنته ، أو خوفا من ناره أو غير ذلك مما يحصل به قصد التقرب ، على ما ذكرنا تفصيل ذلك في الفقه عند البحث عن نية الصلاة ، (1) ولا يكون الشيء عبادة بدون ذلك كما لا يخفى.

ويقابلها التوصلية ، وهي ما لم يكن تشريعه لأجل اظهار العبودية.

وقد يطلق التوصلية ويراد منها : عدم اعتبار المباشرة ، أو عدم اعتبار الإرادة والاختيار ، أو عدم اعتبار الإباحة والسقوط بفعل المحرم. ولا يخفى ان النسبة بين الاطلاقين هي العموم من وجه ، إذ ربما يكون الشيء توصليا بالمعنى الأول ، أي ( لم يشرع لأجل اظهار العبودية ) ومع ذلك يعتبر فيه الإرادة والاختيار ، كوجوب رد التحية ، فإنه لا يعتبر فيه قصد التعبد ، ومع ذلك يعتبر فيه المباشرة ، وربما ينعكس الامر ويكون الشيء توصليا بالمعنى الثاني أي لا يعتبر فيه المباشرة ويسقط بالاستنابة وفعل الغير ، ومع ذلك لايكون توصليا بالمعنى الأول بل يكون تعبديا ، كقضاء صلاة الميت الواجب على الولي ، فإنه يعتبر فيه التعبد مع عدم اعتبار المباشرة. وعلى كل حال البحث يقع في مقامين :

المقام الأول : في أصالة التعبدية المقابلة للتوصلية بالمعنى الأول لها.

المقام الثاني : في أصالة التعبدية المقابلة للتوصلية بالمعنى الثاني لها.

ولنقدم الكلام في المقام الثاني ، ثم نعقبه بالمقام الأول.

فنقول : ان الحق فيه ، هو أصالة التعبدية ، بمعنى اعتبار المباشرة والإرادة والاختيار والإباحة ، فلا يسقط بفعل الغير ، ولا بلا إرادة واختيار ، ولا بفعل المحرم ، الا ان يقوم دليل على عدم اعتبار أحد القيود الثلاثة أو جميعها ، ولكن تحرير الأصل بالنسبة إلى هذه القيود الثلاثة يختلف ، وليس هناك أصل واحد يقتضى القيود الثلاثة. فينبغي تحرير الأصل الجاري في اعتبار كل قيد على حدة.

ص: 138


1- راجع تفصيل هذا البحث في المجلد الثاني من تقرير أبحاث المحقق النائيني قدس سره في مباحث الصلاة لتلميذه المحقق الحاج شيخ محمد تقي الآملي طاب مضجعه. الفصل الأول من فصول أفعال الصلاة ص 2.

فنقول : اما تحرير أصالة التعبدية ، بمعنى اعتبار المباشرة وعدم سقوطه بالاستنابة وفعل الغير ، فيتوقف على بيان كيفية نحو تعلق التكليف فيما ثبت جواز الاستنابة فيه وسقوطه بفعل الغير تبرعا ، بعد ما كان هناك ملازمة بين جواز الاستنابة وجواز التبرع ، فان كلما يدخله الاستنابة (1) يدخله التبرع كذا العكس.

وليعلم : ان التكليف لا يسقط بمجرد الاستنابة فيما ثبت جواز الاستنابة فيه ، بل انما يسقط بفعل النائب ، لا بنفس الاستنابة ، فيقع الاشكال ح في كيفية تعلق التكليف على هذا النحو ، وانه من أي سنخ من الأقسام المتصورة في التكاليف؟ من حيث الاطلاق والاشتراط والتعيينية والتخييرية وغير ذلك من الأقسام.

فنقول : اما تعلق التكليف بالنسبة إلى المادة ، أي الفعل المطالب به ، فيكون على وجه التعيين ، بمعنى انه لا يقوم شيء مقامه ، كما يقوم العتق مقام الصيام والصيام مقام الاطعام في خصال الكفارة. واما من حيث جهة الصدور عن الفاعل فلا يعتبر فيه التعيينية ، بمعنى انه لا يعتبر فيه مباشرة المأمور بنفسه ، واصدار المكلف بعينه ، بل للمكلف الاستنابة فيه واستيجار الغير له.

وبذلك يمتاز عن الواجب الكفائي ، فان الوجوب فيه بالنسبة إلى المادة وان كان على وجه التعيين ، ولا يعتبر مباشرة شخص خاص فيه ، الا ان الوجوب فيه متوجه إلى عامة المكلفين ، بحيث ان كل من اتى به فقد اتى بما هو واجب عليه نفسه ، لا انه يأتي به نيابة عن الغير. وهذا بخلاف المقام ، فان الآتي بالعمل ، سواء كان على وجه الاستنابة ، أو على وجه التبرع ، انما يأتي به عن الغير ، ويقصد تفريغ ذمة الغير ، بحث لو لم يأت به على هذا الوجه لكان الواجب بعد باقيا في ذمة الغير ولا يسقط عنه ، كما في القضاء عن الميت ، وأداء الدين ، وأمثال ذلك من الواجبات .

ص: 139


1- الا في بعض فروع الجهاد ، حيث يجوز الاستنابة فيه ويقع الفعل عن المنوب عنه ويترتب عليه قسمة الغنيمة ولا يدخله التبرع بل يقع الفعل عن المتبرع ، الا ان يتأمل في ذلك أيضا ، فتأمل وراجع أدلة الباب - منه.

التي يكون المكلف بها شخصا خاصا ، ومع ذلك يسقط بفعل الغير استنابة أو تبرعا ، فقولنا في المقام : انه لا يعتبر فيه صدوره عن المكلف لا يلازم كونه واجبا كفائيا ، بل التكليف بالنسبة إلى جهة جواز الاستنابة يكون على وجه التخيير ، ويكون نتيجة التكليف بعد قيام الدليل على جواز الاستنابة فيه هو التخيير بين المباشرة والاستنابة لان الاستنابة أيضا فعل اختياري للشخص قابلة لتعلق التكليف بها تخييرا أو تعيينا ، ومعلوم ان التخيير على هذا الوجه انما يكون شرعيا لا عقليا ، إذ ليس هناك جامع قريب عرفي حتى يكون التخيير عقليا.

وبعبارة أخرى : ليس هناك جامع خطابي بين المباشرة والاستنابة ، وما لم يكن في البين جامع خطابي لايكون التخيير عقليا وان كان هناك جامع ملاكي ، فان مجرد وجود الجامع الملاكي لا يكفي في التخيير العقلي.

وبعبارة ثالثة : يعتبر في التخيير العقلي ان تكون افراد التخيير مندرجة تحت حقيقة واحدة عرفية ، كالانسان بالنسبة إلى افراده ، ولا يكفي في التخيير العقلي الاشتراك في الأثر مع تباين الافراد بالهوية ، كالشمس والنار ، حيث إنهما متباينان بالهوية مع اشتراكهما في الأثر وهو التسخين ، فالتخيير بين المباشرة والاستنابة لابد ان يكون شرعيا.

وربما يتوهم : ان الاستنابة ترجع إلى التسبيب ، وان المنوب عنه يكون سببا لوقوع الفعل عن الفاعل الذي هو النايب والفعل يستند إليه بتسبيبه.

وفيه ان ضابط باب التسبيب ، هو ان لا يتوسط بين السبب وبين الأثر إرادة فاعل مختار تام الإرادة والاختيار ، كفتح قفص الطائر الذي يكون سببا لهلاك الطير وامر الصبي الغير المميز ، فان الفعل في مثل هذا يستند إلى السبب دون المباشر ، وأما إذا توسط في البين إرادة فاعل مختار فالفعل انما يستند إلى المباشر دون السبب كما في المقام ، حيث إن الفعل يستند إلى النائب دون المنوب عنه الا بعناية وتسامح كما في بنى الأمير المدينة. فجعل باب الاستنابة من صغريات باب التسبيب كما يظهر من بعض الكلمات مما لا وجه له ، بل الاستنابة هي باب على حدة وعنوان مستقل وتكون في موارد جوازها أحد فردي التخيير الشرعي هذا.

ص: 140

وحيث عرفت : ان جواز الاستنابة يلازم جواز التبرع ولو مع عدم رضا المتبرع عنه ، بل تفرغ ذمته قهرا عليه ، فينبغي ح ان يبحث عن كيفية سقوط التكليف بتبرع المتبرع ، وان نحو تعلق التكليف بالمكلف مع سقوطه بفعل المتبرع على أي وجه يكون؟ فان في مثل هذا لا يمكن ان يكون على وجه التخيير ، وليس تبرع المتبرع من قبيل الاستنابة ، بان يكون أحد فردي التخيير الشرعي فضلا عن التخيير العقلي ، لان أحد طرفي التخيير لابد ان يكون مقدورا للمكلف ويتعلق به ارادته نحو تعلقه بالطرف الاخر ، وفعل الغير لا يدخل تحت قدرة المكلف ، ولا يمكن تعلق الإرادة به ، فلا معنى لان يقال : افعل أنت بنفسك أو غيرك.

والحاصل : انه لا يمكن ان يكون الشخص مكلفا بفعل غيره ولو على وجه التخيير بين فعله وفعل غيره. بل فيما يكون فعل الغير مسقطا للتكليف عن المكلف إذا توقف اسقاطه على قصد النيابة واتيان الفعل عنه - كما في الحج ، والقضاء عن الميت وأداء الدين حيث لا يسقط التكليف عن المكلف الا باتيان الغير نيابة عنه وبقصد تفريغ ذمته ، والا لا يقع الفعل عن المكلف ولا تفرغ ذمته ، بخلاف إزالة النجاسة حيث إن الوجوب يسقط فيها على أي وجه اتفق - يكون هناك جهة أخرى تمنع من كونه أحد فردي التخيير ، مضافا إلى أنه خارج عن تحت القدرة والاختيار ، وهي ان اسقاط فعل الغير التكليف عن غيره انما يكون بعد توجه التكليف إليه ومطالبته به ، حتى يمكن للغير قصد النيابة عنه واتيانه بالفعل بداعي تفريغ الذمة وتنزيل نفسه منزلة المكلف ، فيكون السقوط بفعل الغير في طول التكليف وتوجهه نحو المكلف ، إذ بعد توجه التكليف نحوه واشتغال ذمته به يمكن للغير تفريغ ذمته وفعله نيابة عنه ، ومن المعلوم : ان ما كان في طول الشيء لا يمكن ان يكون في عرضه واحد فردي التخيير فتأمل.

وعلى كل حال ، ان فعل الغير وتبرعه لا يمكن ان يكون أحد فردي التخيير ، وليس فعل الغير كالاستنابة ، حيث إنها يمكن ان تكون أحد فردي التخيير ، لان الاستنابة فعل اختياري للمكلف ، فيمكن تعلق التكليف بها تعيينا أو تخييرا ، وأين هذا من فعل الغير الذي لايكون تحت قدرة المكلف وارادته؟ فسقوط التكليف بفعل

ص: 141

الغير لا يمكن ان يكون على وجه التخيير ، بل لابد ان يكون ذلك على وجه تقييد الموضوع فيما إذا كان للتكليف تعلق بموضوع خارجي كخطاب أد الدين ، أو تقييد الحكم فيما إذا لم يكن له تعلق بموضوع خارجي كالحج ، فيكون وجوب أداء الدين من جهة السقوط بفعل الغير من قبيل الواجب المشروط ، ويرجع حقيقة التكليف إلى وجوب أداء الدين الذي لم يؤده الغير ، فالواجب على المكلف هو الدين المقيد. وكذا يقال في الحج : ان وجوب الحج مشروط بعد قيام الغير به تبرعا.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان التكليف الذي ثبت فيه جواز الاستنابة وجواز تبرع الغير يجتمع فيه جهات ثلث : جهة تعيينية وهي بالنسبة إلى المادة حيث لا يقوم شيء مقامها ، وجهة تخييرية وهي بالنسبة إلى الاستنابة ، وجهة اشتراط وتقييد وهي بالنسبة إلى السقوط بفعل الغير. هذا إذا ثبت جواز الاستنابة فيه.

وأما إذا شك ، كما هو المقصود بالكلام ، فالشك في جواز الاستنابة يستتبع الشك في السقوط بفعل الغير ، لما عرفت من الملازمة بينهما ، فيحصل الشك فيه من جهتين : التعيين والتخيير ، ومن جهة الاطلاق والاشتراط ، وأصالة التعيينية والاطلاق ترفع كلتا جهتي الشك ، كما هو الشأن في جميع موارد دوران الامر بين التعيين والتخيير ، والاطلاق والاشتراط ، حيث إن ظاهر الامر ومقتضى الأصل اللفظي هو التعيين والاطلاق ، فالأصل اللفظي يقتضى التعبدية بمعنى عدم جواز الاستنابة وعدم السقوط بفعل الغير ، هذ إذا كان هناك اطلاق.

وأما إذا لم يكن ، ووصلت النوبة إلى الأصل العملي ، فمقتضى الأصل يختلف باختلاف جهتي الشك. اما من جهة الشك في التعيين والتخيير ، فالأصل يقتضى الاشتغال وعدم السقوط بالاستنابة ، على ما هو الأقوى عندنا : من أن الأصل هو الاشتغال في دوران الامر بين التعيين والتخيير كما حررناه في محله.

واما من جهة الشك في الاطلاق والاشتراط ، فالأصل العملي في موارد دوران الامر بين الاطلاق والاشتراط وان كان ينتج نتيجة الاشتراط ، على عكس الأصل اللفظي ، لرجوع الشك فيه إلى الشك في التكليف في صورة فقدان الشرط ، والأصل البراءة عنه ، كالشك في وجوب الحج عند عدم الاستطاعة لو فرض الشك في

ص: 142

اشتراط الوجوب بها ، الا انه في المقام لا يمكن ذلك ، لأن الشك في المقام راجع إلى مرحلة البقاء وسقوط التكليف بفعل الغير ، لا في مرحلة الجعل والثبوت ، ومقتضى الاستصحاب هو بقاء التكليف وعدم سقوطه بفعل الغير. وما قلناه : من أصالة البراءة عند دوران الامر بين الاطلاق والاشتراط ، انما هو فيما إذا رجع الشك إلى ناحية الثبوت كمثال الحج ، لا إلى ناحية البقاء كما في المقام. هذا تمام الكلام في أصالة التعبدية بمعنى اعتبار المباشرة وعدم السقوط بالاستنابة وفعل الغير.

واما الكلام في أصالة التعبدية بمعنى اعتبار الإرادة والاختيار وعدم السقوط بدون ذلك ، فمجمل القول فيه : هو ان الأقوى فيه أيضا أصالة التعبدية ، بمعنى عدم سقوط التكليف عند فعله بلا إرادة واختيار ، وليس ذلك لأجل اخذ الاختيار في مواد الافعال ، لوضوح فساده ، بداهة عدم توقف الضرب والقتل وغير ذلك من المواد على وقوعها عن إرادة واختيار ، وكذا ليس ذلك لأجل اخذ الاختيار في هيئات الافعال ، لوضوح انه لا يتوقف صدق انتساب المادة إلى الفاعل على الإرادة والاختيار ، وكيف يمكن ذلك؟ مع أن الافعال تعم أفعال السجايا وغيرها ، كنجل ، وعلم ، وكرم ، واحمر ، واصفر ، وذلك مما لا يمكن فيه الإرادة والاختيار ، فهيئة الفعل الماضي والمضارع لا دلالة فيها على الاختيار. نعم تمتاز هيئة فعل الامر عن سائر الأفعال في اعتبار الاختيارية وذلك لامرين :

الأول : انه يعتبر في متعلق التكليف ان يكون صدوره عن الفاعل حسنا. وبعبارة أخرى : يعتبر عقلا في متعلق التكليف القدرة عليه ليتمكن المكلف من امتثال الامر على وجه يصدر الفعل عنه حسنا ، ومن المعلوم : ان صدور الفعل حسنا من فاعله يتوقف على الإرادة والاختيار ، إذ الافعال الغير الاختيارية لا تتصف بالحسن والقبح الفاعلي ، وان اتصفت بالحسن والقبح الفعلي ، فلابد من خروج ما لايكون بإرادة واختيار عن متعلق التكليف عقلا ، ولا يمكن ان يعمه سعة دائرة الامر.

الثاني : هو ان نفس الامر يقتضى اعتبار الإرادة والاختيار مع قطع النظر عن الحكم العقلي ، وذلك لان الامر الشرعي انما هو توجيه إرادة العبد نحو المطلوب و

ص: 143

تحريك عضلاته ، فالامر هو بنفسه يقتضى اعتبار الإرادة والاختيار ، ولا يمكن ان يتعلق بالأعم لأنه بعث للإرادة وتحريك لها ، وح لو قام دليل على سقوط التكليف عند فعل متعلقه بلا إرادة واختيار ، كان ذلك من قبيل سقوط التكليف بفعل الغير ، وهو يرجع إلى تقييد الموضوع ، واطلاق الخطاب عند الشك يدفع التقييد المذكور ، فالأصل اللفظي يقتضى عدم السقوط عند عدم الإرادة والاختيار. وكذا الحال في الأصل العملي على حذو ما تقدم عند الشك في سقوطه بفعل الغير.

واما أصالة التعبدية بمعنى عدم سقوطه بفعل المحرم ، فتوضيح الكلام فيه : هو ان السقوط بفعل المحرم لابد ان يكون لمكان اتحاد متعلق الامر مع متعلق النهى خارجا ، والا لم يعقل السقوط بدون ذلك ، وهذا الاتحاد انما يكون بأحد أمرين : اما لكون النسبة بين المتعلقين العموم والخصوص المطلق ، واما لكون النسبة هي العموم من وجه ، إذ لا يمكن الاتحاد بدون ذلك. فان كان بين المتعلقين العموم والخصوص المطلق ، فيندرج في باب النهى عن العبادة ويخرج الفرد المحرم عن سعة دائرة الامر ويقيد الامر لا محالة بما عدا ذلك ، من غير فرق بين العبادة وغيرها كما لا يخفى. وإن كان بين المتعلقين العموم من وجه ، فيندرج في باب اجتماع الأمر والنهي ، فان قلنا في تلك المسألة بالامتناع مع تقديم جانب النهى ، كان من صغريات النهى عن العبادة أيضا على ما سيأتي بيانه انشاء اللّه تعالى ، وان قلنا بالجواز كما هو المختار فالمتعلق وان لم يتحد واندرج في باب التزاحم ، الا انه مع ذلك لا يصلح الفرد المحرم للتقريب (1) لعدم حسنه الفاعلي وان كان فيه ملاك الامر ، الا انه لما يقع مبغوضا عليه لمكان مجامعته للحرام ، فلا يصلح لان يتقرب به ، فلا يسقط الامر به. فالأصل .

ص: 144


1- لا يخفى : ان هذا البيان انما يتم فيما إذا كان المأمور به عبادة ، وأما إذا لم يكن عبادة فبغضه الفاعلي مما لا اثر له بعد ما كان المقام من باب التزاحم واشتمال الفعل على تمام الملاك ، فلا محيص من سقوط الامر حينئذ ولا مجال للشك فيه. وهذا بخلاف المقامات المتقدمة ، فان في جميعها مجالا واسعا لتطرق الشك فيها ، لاحتمال دخل الاختيار مثلا أو المباشرة في ملاك الحكم ، ولأجله نحتاج إلى دليل خارجي يدل على السقوط بذلك بخلاف ما كان من باب التزاحم ، فان نفس دليل الحكم يقتضى السقوط لمكان كشفه عن الملاك حتى في الفرد المزاحم للحرام ، كما هو لازم القول بجواز الاجتماع ، فتأمل - منه.

اللفظي وكذا العملي يقتضى عدم السقوط بفعل المحرم ، كما اقتضيا عدم السقوط بالاستنابة وفعل الغير وعن لا إرادة واختيار. هذا تمام الكلام في المقام الثاني. فلنعطف الكلام إلى المقام الأول ، الذي هو المقصود بالأصالة في هذا المبحث ، وهو ان الأصل يقتضى التعبدية بالمعنى الآخر لها أو لا يقتضى ، وقد عرفت في الامر الأول من الأمور التي أردنا تقديمها في هذا المبحث معنى التعبدية ، وحاصله : ان التعبدية عبارة عن الوظيفة التي شرعت لأجل ان يتعبد بها ، ويظهر العبد عبوديته لمولاه.

الامر الثاني :

لا اشكال في أن كل حكم له متعلق وموضوع. والمراد من المتعلق هو ما يطالب به العبد من الفعل أو الترك ، كالحج ، والصلاة ، والصوم ، وغير ذلك من الافعال. والمراد بالموضوع هو ما اخذ مفروض الوجود في متعلق الحكم ، كالعاقل البالغ المستطيع مثلا. وبعبارة أخرى : المراد من الموضوع هو المكلف الذي طولب بالفعل أو الترك بما له من القيود والشرائط : من العقل والبلوغ وغير ذلك.

ثم إن كلا من الموضوع والمتعلق له انقسامات عقلية سابقة على مرحلة ورود الحكم عليه ، وهذه الانقسامات تلحق له بحسب الامكان العقلي ولو لم يكن هناك شرع ولا حكم ، ككون المكلف عاقلا ، بالغا ، قادرا ، روميا ، زنجيا ، احمر ، ابيض ، اسود ، وغير ذلك من الانقسامات التي يمكن ان تفرض له. وككون الصلاة مثلا إلى القبلة ، أو في المسجد ، أو الحمام ، مقرونة بالطهارة ، إلى غير ذلك من الانقسامات التي يمكن ان تفرض لها في حد نفسها ولو لم تكن متعلقة لحكم أصلا.

ولكل منهما أيضا انقسامات تلحقهما بعد ورود الحكم عليهما ، بحيث لولا الحكم لما أمكن لحوق تلك الانقسامات لهما ، ككون المكلف عالما بالحكم ، أو جاهلا به ، بداهة ان العلم بالحكم لا يمكن الا بعد الحكم. وهذا بخلاف العلم ، بالموضوع ، فإنه يمكن لحوقه بدون الحكم. هذا بالنسبة إلى الموضوع. واما بالنسبة إلى المتعلق ، ككون الصلاة مما يتقرب ويمتثل بها ، فان هذا انما يلحق الصلاة بعد الامر بها ، إذ لولا الامر لما كان عروض هذا الوصف لها ممكنا.

ص: 145

ثم انه لا اشكال في امكان التقييد أو الاطلاق بالنسبة إلى كل من الموضوع والمتعلق بلحاظ الانقسامات السابقة على ورود الحكم ، بل لا محيص اما من الاطلاق أو التقييد ، لعدم امكان الاهمال الواقعي بالنسبة إلى الآمر الملتفت ، لوضوح انه لابد من تصور موضوع حكمه ومتعلقه ، فإذا كان ملتفتا إلى الانقسامات اللاحقة للموضوع أو المتعلق ، فاما ان لا يعتبر فيه انقساما خاصا فهو مطلق ، أو ان يعتبر فيه انقساما خاصا فهو مقيد.

وبالجملة : لو أوجب اكرام الجيران وهو ملتفت إلى أن الاكرام يمكن ان يكون بالضيافة ويمكن ان يكون بغيرها ، وكذا كان ملتفتا إلى أن في الجيران عدوا وصديقا ، فان تساوت الأقسام في نظره فلا محيص من اطلاق حكمه ، والا فلابد من التقييد بما يكون منها موافقا لنظره ، هذا بحسب الثبوت ونفس الامر. واما بحسب مقام الاثبات ومرحلة الاظهار ، وفيمن فيه الاهمال لغرض له في ذلك. هذا في الانقسامات السابقة على الحكم اللاحقة للموضوع أو المتعلق.

واما الانقسامات اللاحقة للحكم فلا يمكن فيها التقييد ثبوتا ، وإذا امتنع التقييد امتنع الاطلاق أيضا لما بين الاطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة ، فالقدرة على أحدهما عين القدرة على الآخر ، كما أن امتناع أحدهما عين امتناع الآخر وذلك واضح. فالشأن انما هو في اثبات امتناع التقييد. فنقول : يقع الكلام تارة : بالنسبة إلى الموضوع ، وأخرى : بالنسبة إلى المتعلق. اما بالنسبة إلى الموضوع ، فالتقييد تارة : يكون في مرحلة فعلية الحكم ، وأخرى : يكون في مرحلة انشائه.

واما التقييد في مرحلة فعلية الحكم فلا يعقل ، للزوم الدور. وذلك لان فعلية الحكم انما يكون بوجود موضوعه ، كما أوضحناه في محله ، فنسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلة إلى المعلول ، ولا يعقل تقدم الحكم على موضوعه ، والا يلزم عدم موضوعية ما فرض كونه موضوعا ، وذلك واضح. ومن المعلوم : ان العلم بالشيء يتوقف على ثبوت الشيء في الموطن الذي تعلق العلم به ، إذ العلم لابد له من متعلق ورتبة المتعلق سابقة على العلم ليمكن تعلق العلم به ، فلو فرض ان العلم بالحكم اخذ قيد للموضوع فلا بد من ثبوت الموضوع بماله من القيود في المرتبة السابقة على الحكم ، لما

ص: 146

عرفت : من لزوم تقدم الموضوع على الحكم ، ففعلية الحكم تتوقف على وجود الموضوع ، فلو فرض ان العلم بالحكم اخذ قيدا في الموضوع يلزم توقف الموضوع على الحكم ، لان من اجزاء الموضوع العلم بالحكم ، فلابد من وجود الحكم ليلتئم الموضوع بماله من الاجزاء ، وهذا كما ترى يلزم منه الدور المصرح ، غايته ان التوقف من أحد الجانبين يكون شرعيا وهو توقف الحكم على الموضوع لان الموضوع انما يكون بحسب الجعل الشرعي إذ لو لم يعتبره الشارع لما كاد ان يكون موضوعا ، ومن الجانب الاخر يكون عقليا وهو توقف الموضوع على الحكم ، لان توقف العلم الذي اخذ قيدا للموضوع على المعلوم الذي هو الحكم حسب الفرض عقلي ، ولك ان تجعل التوقف من الجانبين عقليا فتأمل.

وعلى كل حال ، لا اشكال في لزوم الدور ان اخذ العلم بالحكم قيدا للموضوع في مقام فعلية الحكم. واما ان اخذ قيدا في مقام الانشاء فربما يتوهم عدم المانع من ذلك ، لان انشاء الحكم لا يتوقف على وجود الموضوع وان توقف فعليته عليه ، بل انشاء الاحكام انما يكون قبل وجود موضوعاتها ، فيرتفع التوقف من أحد الجانبين هذا.

ولكن اخذ العلم بالحكم قيدا للموضوع في مرحلة الانشاء وان لم يلزم منه الدور المصطلح ، الا انه يلزم منه توقف الشيء على نفسه ابتداء بدون توسيط الدور.

وتوضيح ذلك : هو ان الدور عبارة عن الذهاب والإياب في سلسلة العلل والمعلولات ، بان يقع ما فرض كونه علة لوجود الشيء في سلسلة معلوله ، اما بلا واسطة كتوقف ( ا ) على ( ب ) و ( ب ) على ( ا ) أو مع الواسطة كما إذا فرض توسط ( ج ) في البين ، والأول هو المصرح ، والثاني هو المضمر.

والوجه في امتناع الدور ، هو لزوم تقدم الشيء على نفسه الذي هو عبارة عن اجتماع النقيضين ، فان هذا هو الممتنع الأولى العقلي الذي لابد من رجوع كل ممتنع إليه ، والا لم يكن ممتنعا ، فالممتنع الأولى هو ان يكون الشيء موجودا في حال كونه معدوما الذي هو عبارة عن اجتماع الوجود والعدم في شيء واحد في آن واحد ، والدور انما يكون ممتنعا لأجل استلزامه ذلك ، فان توقف ( ا ) على ( ب ) يستدعى تقدم

ص: 147

( ب ) في الوجود على ( الف ) ، فلو فرض توقف ( ب ) على ( الف ) أيضا يلزم تقدم ( الف ) على ( ب ) المفروض تأخره عنه ، ويرجع بالآخرة إلى توقف ( الف ) على نفسه ، فلو فرض في مورد لزوم هذا المحذور بلا توسط الدور ، فهو أولى بان يحكم عليه بالامتناع.

وبعد ذلك نقول في المقام : لو اخذ العلم بالحكم قيدا للموضوع في مرحلة الانشاء يلزم تقدم الشيء على نفسه ، وذلك لأنه لابد من فرض وجوده بما انه مرآة لخارجه قبل وجود نفسه ، إذ الانشاءات الشرعية انما تكون على نهج القضايا الحقيقية التي هي المتعبرة في العلوم ، وليس من القضايا العقلية التي لا موطن لها الا العقل ، ولا من أنياب الأغوال التي تكون مجرد فرض لا واقعية لها أصلا ، بل الانشاءات الشرعية انما هي عبارة عن جعل الاحكام على موضوعاتها المقدرة وجوداتها ، هذا الجعل انما يكون قبل وجود الموضوعات في الخارج ، وعند وجودها تصير تلك الأحكام فعلية.

وحينئذ لو فرض اخذ العلم بالانشاء قيدا للموضوع في ذلك المقام ، فلابد من تصور الموضوع بماله من القيود لينشأ الحكم على طبقه ، والمفروض ان من قيود الموضوع العلم ، بهذا الانشاء نفسه ، فلابد من تصور وجود الانشاء مرآة لخارجه قبل وجود نفسه ، وهذا كما ترى يلزم منه تقدم الانشاء على نفسه ، وهو ضروري الامتناع.

والحاصل :

انه لو اخذ العلم بالحكم قيدا في مقام الانشاء ، والمفروض انه لا حكم سوى ما أنشأ ، فلابد من تصور وجود الانشاء قبل وجوده ليمكن اخذ العلم به قيدا ، وليس ذلك مجرد قضية فرضية من قبيل أنياب الأغوال ، حتى يقال : لا مانع من تصور وجود الشيء قبل نفسه لامكان فرض اجتماع النقيضين ، بل قد عرفت : ان الأحكام الشرعية وانشاءاتها انما تكون على نهج القضايا لحقيقية القابلة الصدق على الخارجيات ، وتصور وجود الشيء القابل للانطباق الخارجي قبل وجود نفسه محال هذا كله في الانقسامات اللاحقة للموضوع المترتبة على الحكم.

ص: 148

واما الانقسامات اللاحقة للمتعلق المترتبة على الحكم ، كقصد امتثال الامر في الصلاة مثلا ، فامتناع اخذه في المتعلق انما هو لأجل لزوم تقدم الشيء على نفسه في جميع المراحل ، أي في مرحلة الانشاء ، ومرحلة الفعلية ، ومرحلة الامتثال.

اما في مرحلة الانشاء : فالكلام فيه هو الكلام في اخذ العلم في تلك المرحلة ، حيث قلنا : انه يلزم منه تقدم الشيء على نفسه ، فان اخذ قصد امتثال الامر في متعلق نفس ذلك الامر يستلزم تصور الامر قبل وجود نفسه ، وكذا الحال عند اخذه في مقام الفعلية ، فان قصد امتثال الامر يكون ح على حذو سائر الشرائط والاجزاء كالفاتحة ، ومن المعلوم : ان فعل المكلف إذا كان له تعلق بما هو خارج عن قدرته ، فلابد من اخذ ذلك مفروض الوجود ليتعلق به فعل المكلف ويرد عليه ، كالأمر في قصد امتثال الامر ، فان قصد الامتثال الذي هو فعل المكلف انما يتعلق بالامر ، وهو من فعل الشارع خارج عن قدرة المكلف ، فلابد ان يكون موجودا ليتعلق القصد به ، كالفاتحة التي يتعلق بها القراءة التي هي فعل المكلف ، وكالقبلة حيث يتعلق الامر باستقبالها ، فلابد من وجود ما يستقبل ليتعلق الامر بالاستقبال ، إذ لا يعقل الامر بالاستقبال فعلا مع عدم وجود المستقبل إليه. وفي المقام لابد من وجود الامر ليتعلق الامر بقصده ، والمفروض انه ليس هناك الا امر واحد تعلق بالقصد وتعلق القصد به ، وهذا كما ترى يلزم منه وجود الامر قبل نفسه كما لا يخفى.

وبالجملة : قصد امتثال الامر إذا اخذ قيدا في المتعلق في مرحلة فعلية الامر بالصلاة فلابد من وجود الامر ليتعلق الامر بقصد امتثاله ، مع أنه ليس هناك الا امر واحد ، فيلزم وجود الامر قبل نفسه.

واما في مرحلة الامتثال : فكذلك أي يلزم وجود الشيء قبل نفسه ، بمعنى انه لا يمكن للمكلف امتثاله لاستلزامه ذلك المحذور ، وذلك لان قصد امتثال الامر إذا تعلق الطلب به ووقع تحت دائرة الامر واخذ في المتعلق قيدا على حذو سائر الشروط والاجزاء ، فلابد للمكلف من أن يأتي بهذا القيد بداعي امتثال امره ، كما يأتي بسائر الاجزاء بداعي امتثال امره ، فيلزم المكلف ان يقصد امتثال الامر بداعي امتثال امره ، وهذا كما ترى ، يلزم منه ان يكون الامر موجودا قبل نفسه ،

ص: 149

ليتحقق منه قصد امتثال الامر بداعي الامر المتعلق به.

والحاصل : ان المكلف لا يتمكن من الامتثال ، إذ ليس له فعل الصلاة بداعي أمرها ، لان الامر لم يتعلق بنفس الصلاة فقط حسب الفرض ، بل تعلق بها مع قصد امتثال الامر ، فالامر قد تعلق بقصد امتثال الامر ولو في ضمن تعلقه بالصلاة على هذا النحو ، فيلزم المكلف ان يقصد امتثال الامر بداعي امره ، وهذا لايكون الا بعد فرض وجود الامر قبل نفسه ليمكن القصد إلى امتثاله بداعي امره الذي هو نفسه ، إذ ليس في المقام الا امر واحد ، وهذا معنى لزوم وجود الامر قبل نفسه.

هذا كله ، ان اخذ خصوص امتثال الامر قيدا للمتعلق ، بناء على ما حكى عن الجواهر : (1) من أن العبرة في العبادة انما هو فعلها بداعي امتثال أمرها ولا يكفي قصد الجهة ولا سائر الدواعي الاخر. بل جعل سائر الدواعي في طول داعي امتثال .

ص: 150


1- قال في الجواهر : « اما العبادات فلا اشكال في اعتبار القصد فيها ، لعدم صدق الامتثال والطاعة بدونه ، واعتبارهما في كل امر صدر من الشارع معلوم بالعقل والنقل كتابا وسنة ، بل ضرورة من الدين ، بل لا يصدقان الا بالاتيان بالفعل بقصد امتثال الامر فضلا عن مطلق القصد ، ضرورة عدم تشخص الافعال بالنسبة إلى ذلك عرفا الا بالنية ، فالخالي منها عن قصد الامتثال والطاعة لا ينصرف إلى ما تعلق به الامر إذ الامر والعبثية فضلا عن غيرها على حد سواء بالنسبة إليه ، ومن هنا إذا كان الامر متعددا توقف صدق الامتثال على قصد التعيين لعدم انصراف الفعل بدونه إلى أحدهما .. وذكر بعد سطور : « اما القربة بمعنى القرب الروحاني الذي هو شبيه بالقرب المكاني فهو من غايات قصد الامتثال المزبور ودواعيه ، ولا يجب نية ذلك وقصده قطعا ». وذكر أيضا بعد رد الاستدلال على اعتبار قصد الوجه بان جنس الفعل لا يستلزم وجوهه الا بالنية. « .. ولا ريب في عدم توقف صدق الامتثال على شيء من هذه المشخصات ، ضرورة الاكتفاء باتحاد الخطاب مع قصد امتثاله عن ذلك كله ، إذ هو متشخص بالوحدة مستغن بها عنها ، والا لوجب التعرض لغيرها من المشخصات الزمانية والمكانية وسائر المقارنات ، إذا لكل على حد سواء بالنسبة إلى ذلك. بل ليست صفة الوجوب الا كتأكد الندب في المندوب المعلوم عدم وجوب نيته زيادة على أصل الندب. » راجع جواهر الكلام ، الجزء 9 ، ص 161 - 157 - 155 وملخص مختاره هناك ، عدم كون تلك الدواعي عرضية ، بل المعتبر في صحة العبادة اتيانها بداعي امتثال الامر وهذا مما لا محيص عنه.

الامر ، وجعل هذا هو الأصل في تحقق العبادة ، وتلك الدواعي من باب الداعي للداعي ، ولا تصلح ان تكون هي تمام الداعي ، بل لابد من أن يأتي بالصلاة بداعي امتثال أمرها ويكون داعيه إلى ذلك هو دخول الجنة مثلا ، أو خوف النار ، أو كونه اهلا لذلك. فجعل أهليته للعبادة التي هي أقصى مراتب العبادة في طول داعي امتثال الامر.

وذهب جماعة (1) إلى كفاية قصد جهة الامر في العبادة ، ولا تتوقف على قصد خصوص امتثال الامر ، بل يكفي قصد الملاك والمصلحة التي اقتضت الامر. وذهب شيخنا الأستاذ مد ظله إلى كفاية فعل العبادة لله ولو مع عدم قصد الامتثال أو الجهة ، بل يكفي كونها لله كما يدل على ذلك بعض الاخبار ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في الفقه عند البحث عن نية الصلاة (2) فراجع.

وعلى كل حال ، ان اخذ خصوص قصد امتثال الامر في متعلق الامر يستلزم ما ذكرناه من تقدم الشيء على نفسه في مرحلة الانشاء ، والفعلية ، والامتثال. وان اخذ قصد الجهة في متعلق الامر لا قصد امتثال الامر يلزم الدور ، وذلك لان قصد المصلحة يتوقف على ثبوت المصلحة ولو فيما بعد ، والمفروض انه لا مصلحة بدون قصدها ، إذ قصد المصلحة يكون من أحد القيود المعتبرة ، والصلاة لا تشتمل على المصلحة الا بعد جامعيتها لجميع القيود المعتبرة فيها التي منها قصد المصلحة ، فكما ان الصلاة الفاقدة للفاتحة لايكون فيها مصلحة ، كذلك الصلاة الفاقدة لقصد المصلحة لا تشتمل عليه المصحلة ، فيلزم ح ان تكون المصلحة متوقفة على القصد إليها ، والقصد إليها يتوقف على ثبوتها في نفسها من غير ناحية القصد إليها ، فلو جاءت من ناحية نفس القصد إليها يلزم الدور ، وذلك واضح. فإذا امتنع القصد على هذا الوجه ، امتنع جعل قصد المصحلة قيدا في المتعلق ، لان جعل ما يلزم منه المحال محال. هذا إذا قلنا باعتبار قصد الجهة.

ص: 151


1- ذهب إليه أستاذ الأساطين الشيخ الأنصاري ، وعليه جماعة من محققي تلامذته.
2- راجع المجلد الثاني من تقريرات بحث الأستاذ في مباحث الصلاة للمحقق الآملي قدس سره . ص 27

وأما إذا لم نعتبر ذلك أيضا ، وقلنا بكفاية القصد إلى كون العبادة لله في مقابل العبادة للسمعة والرياء ، فهو وان لم يستلزم منه محذور الدور وتقدم الشيء على نفسه لامكان الامر بالصلاة التي يأتي بها لله ، بان يؤخذ ذلك في متعلق الامر من دون استلزام محذور الدور ولا تقدم الشيء على نفسه ، الا انه يرد عليه محذور آخر سار في الجميع حتى اخذ قصد الامر والجهة ، مضافا إلى ما يرد عليهما من المحاذير المتقدمة ، وهو ان باب الدواعي لا يمكن ان يتعلق بها إرادة الفاعل ، لأنها واقعة فوق الإرادة ، والإرادة انما تنبعث عنها ، ولا يمكن ان تتعلق الإرادة بها ، لان الإرادة انما تتعلق بما يفعل ، ولا يمكن ان تتعلق بما لايكون من سنخ الفعل كالدواعي.

والحاصل : ان الداعي انما يكون علة للإرادة ، فلا يعقل ان تكون معلولة للإرادة ، وإذا لم يكن الدواعي متعلقة لإرادة الفاعل فلا يمكن ان يتعلق بها إرادة الآمر عند ارادته للفعل ، لما بيناه مرارا من الملازمة بين إرادة الفاعل وإرادة الآمر ، بمعنى انه كلما يتعلق به إرادة الفاعل يتعلق به إرادة الآمر وكلما لا يتعلق به إرادة الفاعل لا يتعلق به إرادة الآمر ، لان إرادة الآمر انما تكون محركة لإرادة الفاعل ، فلا بد من أن تتعلق إرادة الآمر ، بما يمكن تعلق إرادة الفاعل به ، والدواعي لا يمكن تعلق إرادة الفاعل بها عند ارادته للفعل ، لأنها واقعة في سلسلة علل الإرادة ، فلا تتعلق بها إرادة الآمر عند ارادته الفعل من العبد.

فتحصل من جميع ما ذكر : انه لا يمكن اخذ ما يكون به العبادة عبادة في متعلق الامر مط ، سواء كان المصحح لها خصوص قصد الامر ، أو الأعم منه ومن قصد الجهة ، أو الأعم من ذلك وكفاية اتيانها لله تعالى. فيقع الاشكال ح في كيفية اعتبار ما يكون به العبادة عبادة ، ولهم في التفصي عن هذا الاشكال وجوه :

الوجه الأول :

ما نسب إلى الميرزا الشيرازي قده.

وحاصله : ان العبادية انما هي كيفية في المأمور به وعنوان له ، ويكون قصد الامر ، أو الوجه ، أو غير ذلك ، من المحققات لذلك العنوان ومحصلا له ، من دون ان يكون ذلك متعلقا للامر ، ولا مأخوذا في المأمور به. وبالجملة : العبادة كما

ص: 152

فسرناها في أول العنوان ، هي عبارة عن الوظيفة التي شرعت لأجل ان يتعبد العبد بها ، فالصلاة المأتى بها بعنوان التعبد واظهارا للعبودية هي المأمور بها ، والامر بها على هذا الوجه بمكان من الامكان ، والمكلف يتمكن من اتيان الصلاة كذلك ، بان يأتي بالصلاة اظهارا للعبودية. وحينئذ فللمكلف ان يأتي بالصلاة على هذا الوجه ، من دون ان يقصد الامر ، ولا الجهة ، ولا غيرهما من الدواعي ، فتقع عبادة. وله ان يأتي بها بداعي الامر أو الجهة ، ويكون ذلك محققا لعنوان العبادة في الصلاة ومحصلا لها ، من دون ان يتعلق امر بتلك الدواعي أصلا ، إذ ليس حصول العبادة منحصرا بتلك الدواعي ، حتى نقول : لابد من تعلق الامر بها ، بل عبادية العبادة انما هي امر آخر وراء تلك الدواعي ، وذلك الامر الآخر عنوان للمأمور به وكيفية له يمكن تعلق إرادة الفاعل به ، غايته ان بتلك الدواعي أيضا يمكن تحقق العنوان هذا.

ولكن هذا الوجه مما ينبغي القطع بعدمه ، لوضوح ان الملاك في العبادية انما هو فعلها بأحد الدواعي القريبة كما يدل عليه الاخبار ، فلو أتي بالفعل لا بأحد تلك الدواعي تبطل ، كما أنه لو أتى بها بأحد تلك الدواعي تصح ولو فرض محالا عدم حصول ذلك العنوان في المأمور به ، فالعبرة في عبادية العبادة انما هي بتلك الدواعي.

الوجه الثاني :

هو ان يكون الامر التعبدي بهوية ذاته يقتضى عدم سقوطه الا بقصده ، بحيث يكون هناك خصوصية في ذاته تستدعى ذلك ، من دون ان يؤخذ ذلك في متعلقه ، ويكون الميز بين التعبدي والتوصلي بنفس الهوية وان اشتركا في البعث والطلب ، نعم لابد هناك من كاشف يدل على أن الامر الفلاني تعبدي أو توصلي هذا.

ولكن يرد عليه :

أولا : عدم انحصار التعبدية بقصد الامر ، بل يكفي سائر الدواعي أيضا.

وثانيا : ان هذه دعوى لا شاهد عليها ، إذ نحن لا نتعقل ان يكون هناك خصوصية في ذات الامر تقتضي التعبدية ، بحيث يكون ذات الامر يقتضى قصد نفسه تارة ، وأخرى لا يقتضيه ، حتى يكون الأول تعبديا ، والثاني توصليا ، بل الامر في

ص: 153

التعبدي والتوصلي يكون على نسق واحد ، بمعنى انه لا ميز هناك في الذات.

الوجه الثالث :

هو ان تكون التعبدية من كيفيات الامر وخصوصية لاحقة له ، لكن لا لمكان اقتضاء ذاته ذلك حتى يرجع إلى الوجه الثاني ، بل هي لاحقة له من ناحية الغرض ، وليس مرادنا من الغرض في المقام ملاكات الاحكام والمصالح الكامنة في الافعال ، فان تلك المصالح مما لا عبرة بها في باب التكاليف ، بمعنى انها ليست لازمة التحصيل على المكلف ، لان نسبة فعل المكلف إليها نسبة المعدو ليست من المسببات التوليدية - كما أوضحنا ذلك فيما تقدم في بحث الصحيح والأعم - بل الغرض في المقام يكون بمعنى آخر حاصله : ان يكون غرضه من الامر التعبدية وقصد امتثاله ، لوضوح ان الغرض من الامر يختلف ، فتارة : يكون الغرض منه مجرد تحقق الفعل من المكلف خارجا على أي وجه اتفق ، وأخرى : يكون الغرض منه تعبد المكلف به وقصد امتثاله ، فيلحق الامر لمكان هذا الغرض خصوصية يقتضى التعبدية ويكون طورا للامر وشأنا من شؤونه ، فيرتفع ح محذور اخذ قصد الامر في المتعلق ، بل اعتبار قصد الامر انما هو لمكان اقتضاء الامر ذلك ، حيث إن الغرض منه يكون ذلك. ولعل هذا المعنى من الغرض هو الذي ذكره الشيخ قده في بحث الأقل والأكثر ، وان كان لا يساعد عليه ذيل كلامه عند قوله فان قلت ، فراجع ذلك المقام مع ما علقناه عليه.

وعلى كل حال يرد على هذا الوجه :

أولا : ما أوردناه على الوجه الثاني من أن ذلك انما يتم على مقالة صاحب الجواهر باعتبار خصوص قصد الامر في العبادة ، ونحن قد أبطلنا ذلك ، وقلنا : بكفاية قصد الجهة أو الأعم من ذك.

ثانيا : ان ذلك مما لا يرفع الاشكال ، لوضوح ان الامر هو بنفسه لا يمكن ان يتكفل الغرض منه ويبين المقصود منه ، بل لابد هناك من بيان آخر يدعو إلى الغرض ، ويبين ما هو المقصود من الامر والغرض الداعي إليه. (1) .

ص: 154


1- قد عدل شيخنا الأستاذ عن هذا الاشكال ، فراجع ما يأتي في الهامش في هذا المقام - منه.

وحيث قد عرفت عدم سلامة هذه الوجوه ، فيقع الكلام ح في الامر الثالث من الأمور التي أردنا تمهيدها.

الامر الثالث :

وهو انه لا أصل في المسألة يعين أحد طرفيها ، فلا أصالة التوصلية تجرى في المقام ولا أصالة التعبدية فيما لم يحرز توصليته وتعبديته. اما جريان أصالة التوصلية ، فلا نعقل لها معنى سوى دعوى : ان اطلاق الامر يقتضى التوصلية ، وحيث قد عرفت امتناع التقييد فلا معنى لدعوى اطلاق الامر ، فان امتناع التقييد يستلزم امتناع الاطلاق ، بناء على ما هو الحق : من أن التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة ، كما هو طريقة سلطان المحققين ومن تأخر عنه.

وعليه يبتنى عدم استلزام التقييد للمجازية. والسر في ذلك : هو ان الاطلاق انما يستفاد ح من مقدمات الحكمة ، وليس نفس اللفظ متكفلا له ، كما هو مقالة من يقول : بان التقابل بينهما تقابل التضاد ، وعليه يبتنى كون التقييد مجازا. ومن مقدمات الحكمة عدم بيان القيد مع أنه كان بصدد البيان ، ومن المعلوم : ان هذه المقدمة انما تصح فيما إذا أمكن بيان القيد حتى يستكشف من عدم بيانه عدم اعتباره ، لا فيما إذا لم يمكن كما فيما نحن فيه ، فان عدم بيان ذلك انما يكون لعدم امكانه لا لعدم اعتباره كما هو واضح. بل لو قلنا : ان التقابل بين الاطلاق والتقييد هو التضاد - كما هو مسلك من تقدم على سلطان المحققين - كان الامر كذلك ، فان الاطلاق يكون ح عبارة عن الارسال والتساوي في الخصوصيات ، وهذا انما يكون إذا أمكن التقييد بخصوصية خاصة ، والا فلا يمكن الارسال كما هو واضح.

وبالجملة : بعد امتناع التقييد بقصد الامر وغير ذلك من الدواعي لا يمكن القول بأصالة التوصلية اعتمادا على الاطلاق ، إذ لا اطلاق في البين يمكن التمسك به.

والعجب من الشيخ قده ، فإنه مع تسليمه كون امتناع التقييد يوجب امتناع الاطلاق ، ولكن مع ذلك يقول في المقام : ان ظاهر الامر يقتضى التوصلية ، ولم يظهر لنا المراد من الظهور ، إذ لا نعقل للظهور معنى سوى الاطلاق ، والمفروض انه هو

ص: 155

بنفسه قد أنكر الاطلاق ، فراجع عبارة التقرير في هذا المقام ، فإنها ربما لا تخلو عن توهم التناقض (1).

وعلى كل حال ، لا موقع لأصالة التوصلية ، كما أنه لا موقع لأصالة التعبدية ، كما ربما يظهر من بعض الكلمات ، نظرا إلى أن الامر انما يكون محركا لإرادة العبد نحو الفعل ، ولا معنى لمحركية الامر سوى كون الحركة عنه ، إذ لولا ذلك لما كان هو المحرك بل كان المحرك هو الداعي الاخر.

والحاصل : ان الامر بنفسه يقتضى ان يكون محركا للإرادة نحو الفعل ، فإذا كانت حركة العبد نحو الفعل لمكان الامر كان الامر محركا ، والا لم يكن الامر محركا ، وهذا خلف لما فرض ان الامر هو المحرك ، ولا نعنى بقصد الامتثال سوى كون الحركة عن الامر هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه.

اما أولا : فلان ذلك يقتضى انحصار التعبدية بقصد الامر ، كما هو مقالة صاحب الجواهر ، والحال انه لا ينحصر التعبدية بذلك كما تقدمت الإشارة إليه.

ص: 156


1- ذكر الشيخ قدس سره في التقريرات حسب ما نقل عنه المحقق المقرر : « ويظهر من جماعة أخرى ان الامر ظاهر في التوصلية ولعله الأقرب ». ثم قال بعد سطور : « واحتج بعض موافقينا على التوصلية بان اطلاق الامر قاض بالتوصلية .. » ورده : بان « الاستناد إلى اطلاق الامر في مثل هذا التقييد فاسد ، إذ القيد مما لا يتحقق الا بعد الامر. توضيحه : ان الاطلاق انما ينهض دليلا فيما إذا كان القيد مما يصح ان يكون قيدا له ، كما إذا قيل : أكرم انسانا ، أو أعتق رقبة ، فإنه يصح ان يكون المطلق في المثالين مقيدا بالايمان والكفر والسواد والبياض ونحوها من أنواع القيود التي لا مدخل في الامر فيها ، وأما إذا كان القيد من القيود التي لا يتحقق الا بعد اعتبار الامر في المطلق ، فلا يصح الاستناد إلى اطلاق اللفظ في دفع الشك في مثل التقييد المذكور ، وما نحن فيه من قبيل الثاني .. ». ثم أفاد في آخر البحث : « فالحق الحقيق بالتصديق هو ان ظاهر الامر يقتضى التوصلية ، إذ ليس المستفاد من الامر الا تعلق الطلب الذي هو مدلول الهيئة للفعل على ما هو مدلول المادة ، وبعد ايجاد المكلف نفس الفعل في الخارج ، فلا مناص من سقوط الطلب لامتناع تحصيل الحاصل ». راجع مطارح الأنظار - ص 59 - 58

وثانيا : ان ذلك مغالطة ، لان الامر انما يكون محركا نحو الفعل ، واما كون هذه الحركة عنه وبداعيه فهو امر آخر لا يمكن ان يكون الامر متعرضا له. والحاصل : ان الامر لا يكاد يكون متعرضا لدواعي الحركة وانه عنه أو عن غيره ، فان الامر انما يدعو للفعل ، واما دواعي الفعل فلا يكون الامر متكفلا له فتأمل جيدا. فدعوى أصالة التعبدية من هذه الجهة لا يمكن.

كما أن دعوى أصالة التعبدية - من جهة دلالة قوله تعالى : (1) « وما أمروا الا ليعبدوا اللّه مخلصين » الخ ، وقوله صلی اللّه علیه و آله : (2) انما الأعمال بالنيات ، وغير ذلك من الآيات والاخبار التي استدلوا بها على اعتبار التعبد في الأوامر - واضحة الفساد ، لوضوح ان قوله تعالى : وما أمروا - انما يكون خطابا للكفار ، كما يدل عليه صدر الآية ، ومعنى الآية : ان الكفار لم يؤمروا بالتوحيد الا ليعبدوا اللّه ويعرفوه ويكونوا مخلصين له غير مشركين ، وهذا المعنى كما ترى أجنبي عما نحن فيه ، مع أنه لو كان ظاهرا فيما نحن فيه لكان اللازم صرفه عن ذلك ، لاستلزامه تخصيص الأكثر لقلة الواجبات التعبدية بالنسبة إلى الواجبات التوصلية ، فتأمل فإنه لو عم الامر للمستحبات لأمكن منع أكثرية التوصليات بالنسبة إلى التعبديات لو لم يكن الامر بالعكس لكثرة الوظائف التعبدية الاستحبابية.

واما قوله (3) صلی اللّه علیه و آله : انما الأعمال بالنيات ، فهولا دلالة له على المقام ، فان مساقه كمساق قوله : لا عمل الا بالنية ، وليس فيه دلالة على أن كل عمل لابد فيه من نية التقرب ، بل معناه ان العمل المفروض كونه عبادة لا يقع الا بالنية ، أو يكون معناه كمعنى قوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : (4) لكل امرء ما نوى ، فتأمل جيدا. وعلى كل حال ، لا دلالة في الاخبار والآيات على اعتبار قصد الامتثال في الأوامر.

ص: 157


1- سورة البينة ، الآية 5.
2- راجع الوسائل ، الجزء الأول ، باب 5 من أبواب مقدمة العبادات حديث 7 ص 34.
3- نفس المصدر ، حديث 1 ص 33.
4- نفس المصدر ، حديث 10 ص 35.

الامر الرابع :

وربما يتوهم من بعض كلمات الشيخ - على ما في التقرير - التشبث (1) بقاعدة ( الاجزاء العقلية ) لأصالة التوصلية وعدم اعتبار قصد الامر ، حيث إن الامر لم يتعلق الا بذات الاجزاء والشرائط ، من دون ان يكون له تعلق بقصد الامتثال ولا غير ذلك من الدواعي ، وح يكون اتيان ما تعلق به الامر مجزيا عقلا ، فيسقط الامر ح ولو مع عدم قصد امتثاله هذا.

ولكن هذا الكلام بمكان من الغرابة ، لوضوح ان قاعدة ( الاجزاء العقلي ) انما تكون فيما إذا اتى بتمام ما يعتبر في المأمور به ، وهذا انما يكون بعد تعيين المأمور به ، ومن مجرد تعلق الامر بذات الاجزاء والشرائط لا يمكن تعيين المأمور به ، لما عرفت : من أنه لا يمكن ان يتعلق الامر بمثل قصد الامتثال ، ومع ذلك كيف يمكن تعيين المأمور به من نفس تعلق الامر بذات الاجزاء والشرائط؟ حتى يقال : ان اتيانها يكون مجزيا عقلا.

نعم لو كان للامر اطلاق أمكن تعيين المأمور به من نفس الاطلاق حسب ما يقتضيه مقدمات الحكمة ، والمفروض انه ليس للامر اطلاق بالنسبة إلى قصد الامتثال ، لامتناع التقييد به الملازم لامتناع الاطلاق كما تقدم ، فالامر من هذه الجهة يكون مهملا لا اطلاق فيه ولا تقييد ، كما كان بالنسبة إلى العلم والجهل به مهملا لا اطلاق فيه ولا تقييد ، هذا بحسب عالم الجعل والتشريع.

ص: 158


1- نظير قوله : قدس سره « وبعد ايجاد المكلف نفس الفعل في الخارج فلا مناص من سقوط الطلب لامتناع تحصيل الحاصل. » وكذا ما افاده في جواب المحقق الكرباسي القائل بان ظاهر الامر قاض بالتعبدية : « فان أريد بالامتثال مجرد عدم المخالفة والآتيان بالفعل فهو مسلم ، لكنه ليس بمفيد ، وان أريد به الاتيان بالفعل على وجه التقرب ، كان يكون الداعي إلى الفعل نفس الامر فهو ممنوع ، والقول بان العقل قاض بذلك ليس بسديد إذ غاية ما يحكم به العقل هو عدم المخالفة وعدم ترك المأمور به في الخارج فان استند في ذلك إلى أن الاتيان بنفس الفعل في الخارج على تقدير ان يكون الامتثال به مطلوبا للآمر يعد من المخالفة التي يحكم بقبحها العقل على ما عرفت ، نقول : نعم ، ولكن الكلام بعد في اعتبار الامتثال في المأمور به وليس المستفاد من الامر الا مطلوبية الفعل فقط ، فلا مخالفة على تقدير الاتيان به كما لا يخفى ... » ( راجع مطارح الأنظار ص 58 )

واما بحسب الثبوت والواقع ، فلا بد اما من نتيجة الاطلاق ، واما من نتيجة التقييد. والسر في ذلك : هو انه في الواقع وفي عالم الثبوت ، اما ان يكون ملاك الحكم والجعل محفوظا في كلتا حالتي العلم والجهل وكلتا حالتي قصد الامتثال وعدمه ، واما ان يكون مختصا في أحد الحالين ، فالأول يكون نتيجة الاطلاق ، والثاني يكون نتيجة التقييد.

وليس مرادنا من الاهمال هو الاهمال بحسب الملاك ، فان ذلك غير معقول ، بل المراد الاهمال في مقام الجعل والتشريع حيث لا يمكن فيه الاطلاق والتقييد كما تقدم.

إذا عرفت ذلك كله ، فيقع الكلام في كيفية اعتبار قصد الامتثال على وجه نتيجة التقييد من دون ان يستلزم فيه محذورا ، وكيفية استكشاف نتيجة الاطلاق وعدم اختيار قصد الامتثال.

فنقول :

اما طريق استكشاف نتيجة الاطلاق فليس هو على حذو طريق استكشاف الاطلاق في سائر المقامات بالنسبة إلى الانقسامات السابقة على الحكم ، فان استكشاف الاطلاق في تلك المقامات انما هو لمكان السكوت في مقام البيان بعد ورود الحكم على المقسم ، كقوله : أعتق رقبة ، التي تكون مقسما للايمان وغيره ، فحيث ورد الحكم على نفس المقسم وسكت عن بيان خصوص أحد القسمين مع أنه كان في مقام البيان ، فلابد ان يكون مراده نفس المقسم ، من دون اعتبار خصوص أحد القسمين وهو معنى الاطلاق.

ولكن هذا البيان في المقام لا يجرى ، إذ الحكم لم يرد على المقسم ، لان انقسام الصلاة إلى ما يقصد بها امتثال الامر وما لا يقصد بها ذلك انما يكون بعد الامر بها ، فليست الصلاة مع قطع النظر عن الامر مقسما لهذين القسمين ، حتى يكون السكوت وعدم التعرض لاحد القسمين دليلا على الاطلاق. نعم سكوته عن اعتبار قصد الامتثال في مرتبة تحقق الانقسام يستكشف منه نتيجة الاطلاق ، وبعبارة أخرى : عدم ذكر متمم الجعل - على ما سيأتي بيانه - في المرتبة القابلة لجعل المتمم

ص: 159

يكون دليلا على نتيجة الاطلاق.

والفرق بين استكشاف نتيجة الاطلاق في المقام ، واستكشاف الاطلاق في سائر المقامات ، هو ان من عدم ذكر القيد في سائر المقامات يستكشف ان مراده من الامر هو الاطلاق ، وهذا بخلاف المقام ، فان من عدم ذكر متمم الجعل لا يستكشف ان مراده من الامر هو الاطلاق ، لما عرفت : من أنه لا يمكن ان يكون مراده من الامر هو الاطلاق ، بل من عدم ذكر متمم الجعل يستكشف انه ليس له مراد آخر سوى ما تعلق به الامر.

وبعبارة أخرى : من عدم ذكر متمم الجعل في مرتبة وصول النوبة إليه يستكشف ان الملاك لا يختص بصورة قصد الامتثال ، بل يعم الحالين فيحصل نتيجة الاطلاق.

واما كيفية اعتبار قصد الامتثال على وجه تحصل نتيجة التقييد ، فقد حكى عن الشيخ قده : الترديد فيه بالنسبة إلى الغرض أو الجعل الثانوي ، بمعنى ان اعتبار قصد الامتثال ، اما ان يكون من ناحية الغرض ، واما ان يكون من ناحية الجعل الثانوي. اما اعتبار قصد الامتثال من ناحية الغرض ، فيمكن ان يقرب بوجهين قد تقدمت الإشارة إليهما.

الوجه الأول :

هو ان يكون المراد من الغرض ، الغرض من الامر عند ارادته ، بان يكون غرضه من الامر التعبدية وقصد امتثاله ، فيكون امره لان يتعبد به.

وقد تقدم فساد هذا الوجه ، وانه مما لا يرجع إلى محصل ، لما فيه :

أولا : من أن ذلك يتوقف على خصوص قصد امتثال الامر ونحن لا نقول به.

وثانيا : (1) ان مجرد كون غرضه ذلك مما لا اثر له ما لم يلزم به المكلف ويؤمر

ص: 160


1- وقد عدل شيخنا الأستاذ عن هذا الاشكال بعد ذلك ، وقال : انه لو علم أن غرض المولى من الامر التعبد به فنفس ذلك يكفي في الزام العقل به ، لاندراجه تحت الكبرى العقلية من لزوم الإطاعة ، ومن المعلوم : انه لو كان الامر بهذا الغرض كان اطاعته بقصد امتثاله ، فيكون الغرض في عرض الامر ومرتبته ملقى إلى المكلف ، وكما أن الامر الملقى يجب اطاعته كذلك الغرض الملقى يجب اطاعته. هذا وقد تقدم سابقا ان هناك اشكالا آخر علی اعتبار الغرض بهذا الوجه، وهو انّ الأمر لا يمكن ان يتكفل بيان الغرض منه، ولكن هذا الاشكال سهل الجواب، لأنه يمكن ان يكون غرضه من الأمر ذلك غايته انّه تحتاج الی كاشف يكشف عن انّ غرضه من الأمر كان ذلك، فتأمل - منه.

به ويقع تحت دائرة التكليف ، والا فلا يزيد هذا المعنى من الغرض عن الغرض بمعنى المصلحة الذي سيأتي انه مما لا اثر له.

الوجه الثاني :

ان يكون مراده من الغرض المصالح التي هي ملاكات الاحكام ، فيكون اعتبار قصد التقرب والامتثال لأجل ان المصلحة الواقعية لا تحصل الا بذلك ، وحينئذ لا يحتاج إلى جعل مولوي لاعتبار قصد الامتثال ، بل نفس المصلحة الواقعية تقتضي قصد الامتثال ، فلو علم أن المصلحة الواقعية لا تحصل الا بقصد الامتثال فهو ، وان شك فسيأتي الكلام فيه.

وهذا الوجه أردء من سابقه إذ المصالح الواقعية انما تكون مناطات للأوامر وليست هي لازمة التحصيل ، لعدم كونها من المسببات التوليدية لفعل المكلف ، كما يدل على ذلك عدم تعلق التكليف بها في شيء من المقامات. وقد تقدم منا تفصيل الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في مبحث الصحيح والأعم فراجع (1). وحينئذ نفس العلم بالمصلحة لا يكفي في الزام المكلف بشيء الا من جهة استكشاف الحكم المولوي لمكان انه يقبح على الحكيم تفويت المصلحة على العباد ، فلو لم يستكشف ذلك كان العلم بالمصلحة مما لا اثر له ، فاثر العلم بالمصلحة ليس الا استكشاف الجعل المولوي لمكان الملازمة. فيرجع الكلام إلى أن الواجب على المكلف هو ما تعلق الجعل به ، لا ما قامت المصلحة به من دون جعل مولوي ومن دون تعلق الامر الشرعي بالفعل الذي قامت المصلحة به. وحينئذ يبقى الكلام في كيفية تعلق الجعل والامر المولوي باعتبار قصد الامتثال على وجه يسلم عن كل محذور.

والتحقيق في المقام :

انه ينحصر كيفية الاعتبار بمتمم الجعل ولا علاج له سوى ذلك ، فلابد 7

ص: 161


1- راجع مباحث الصحيح والأعم من هذا الكتاب ص 67

للمولى الذي لا يحصل غرضه الا بقصد الامتثال من تعدد الامر بعد ما لا يمكن ان يستوفى غرضه بأمر واحد ، فيحتال في الوصول إلى غرضه. وليس هذان الأمران عن ملاك يخص بكل واحد منهما حتى يكون من قبيل الواجب في واجب ، بل هناك ملاك واحد لا يمكن ان يستوفى بأمر واحد. ومن هنا اصطلحنا عليه بمتمم الجعل ، فان معناه هو تتميم الجعل الأولى الذي لم يستوف تمام غرض المولى ، فليس للامرين الا امتثال واحد وعقاب واحد.

وبذلك يندفع ما في بعض الكلمات : من الاشكال على من يقول بتعدد الامر.

بما حاصله : ان الامر الأولى ان كان يسقط بمجرد الموافقة ولو مع عدم قصد الامتثال فلا موجب للامر الثاني إذ لايكون له موافقة حينئذ ، وان كان لا يسقط فلا حاجة إليه لاستقلال العقل ح باعتباره الخ ما ذكره في المقام.

وحاصل الدفع : ان الاشكال مبنى على تخيل ان تعدد الامر انما يكون عن ملاك يختص بكل واحد ، وقد عرفت : انه ليس المراد من تعدد الامر ذلك بل ليس هناك الا ملاك واحد لا يمكن ان يستوفى بأمر واحد.

ثم إن متمم الجعل تارة : ينتج نتيجة الاطلاق ، وأخرى : ينتج نتيجة التقييد. فالأول : كمسألة اشتراك الاحكام بالنسبة إلى العالم والجاهل ، حيث حكى تواتر الاخبار على الاشتراك. والثاني : كمسألة قصد الامتثال في موارد اعتباره. وتفصيل الكلام في متمم الجعل باقسامه ذكرناه في بعض مباحث الأصول العملية ، وعلى كل حال ، قد عرفت ان التعبدية انما تستفاد من متمم الجعل ، لا من الغرض بكلا معنييه.

ثم إن هنا طريقا آخر لاستفادة التعبدية بنى عليه بعض الاعلام ، وهو ان قصد الامتثال انما يعتبره العقل في مقام الإطاعة ، حيث إنه من كيفيات الإطاعة التي هي موكولة إلى نظر العقل من دون ان يكون للشارع دخل في ذلك هذا.

ولكن الانصاف : انه لم نعرف معنى محصلا لهذا الوجه ، فإنه ان أراد ان العقل يعتبر قصد الامتثال من عند نفسه فهو واضح الفساد ، إذ العقل لم يكن مشرعا

ص: 162

يتصرف من قبل نفسه ويحكم بما يريد ، إذ ليس شأن العقل الا الادراك.

وان أراد ان العقل يعتبر ذلك بعد العلم بان ما تعلق الامر به انما شرع لأجل ان يكون من الوظايف التي يتعبد بها العباد ، فهذا ليس معنى اعتبار العقل ذلك من قبل نفسه ، بل العقل ح يستقل بجعل ثانوي للمولى على اعتبار قصد التقرب ، ويكون حكمه في المقام نظير حكمه بوجوب المقدمة ، حيث إنه بعد وجوب ذيها شرعا يستقل العقل بوجوبها أيضا ، بمعنى انه يدرك وجوب ذلك ويكون كاشفا عنه ، لا انه هو يحكم بالوجوب ، فإنه ليس ذلك من شأن العقل. فكذا في المقام ، حيث إنه بعد اطلاع العقل بان وجوب الصلاة مثلا انما هو لأجل ان تكون من الوظايف المتعبد بها ، فلا محالة يدرك ان هناك جعلا مولويا تعلق باعتبار قصد الامتثال ، ويكشف عن ذلك ككشفه عن وجوب المقدمة ، وأين هذا من دعوى كون قصد الامتثال مما يعتبره العقل من دون ان يكون للشارع دخل في ذلك؟.

وبالجملة : دعوى ان التعبدية من الاحكام العقلية بالمعنى المذكور مما لا يمكن المساعدة عليها ، بل الحق الذي لا محيص عنه ، هو ان التعبدية انما تكون بأمر ثانوي متمم للجعل ، فتأمل في أطراف المقام فإنه من مزال الاقدام.

ثم انه ان علم بالتوصلية والتعبدية فهو ، وان شك فيقع الكلام فيما يقتضيه الأصل العملي : من البراءة ، والاشتغال. فاعلم : انه قد قال بالاشتغال في المقام من لم يقل به عند الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين ، وربما يبنى ذلك على الفرق بين المحصلات الشرعية والمحصلات العقلية ، بجريان البراءة في الأولى دون الثانية.

فينبغي أولا تحقيق الحال في ذلك ، وان كنا قد تعرضنا له في مبحث الأقل والأكثر ، الا انه لا باس بالإشارة إليه في المقام.

فنقول :

ربما يتوهم الفرق بين المحصلات الشرعية وغيرها بما حاصله : ان المحصل ان كان عقليا أو عاديا لا مجال لاجراء البراءة فيه عند الشك في دخل شيء فيه ، لأنه يعتبر في البراءة ان يكون المجهول مما تناله يد الجعل والرفع الشرعي ، والمفروض ان المحصل العقلي والعادي ليس كذلك ، فلو كان احراق زيد واجبا ، وشك في أن

ص: 163

الالقاء الخاص هل يكون موجبا للاحراق أولا؟ كان المرجع هو الاشتغال ، لرجوع الشك فيه إلى الشك في المسقط ، ولا يجرى فيه حديث الرفع لان ما هو المجعول الشرعي غير مجهول وما هو المجهول غير مجعول شرعي.

وهذا بخلاف ما إذا كان المحصل شرعيا ، كالغسلات بالنسبة إلى الطهارة الخبثية ، حيث إنه لما كان محصلية الغسلات للطهارة بجعل شرعي ، فلو شك في اعتبار الغسلة الثانية أو العصر كان موردا للبرائة ويعمه حديث الرفع ، إذ امر وضعه بيد الشارع ، فرفعه أيضا بيده ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك فساده ، فان المحصلات ليست هي بنفسها من المجعولات الشرعية ، بل لا يمكن تعلق الجعل بها ، إذ السببية غير قابلة للجعل الشرعي ، فإنها عبارة عن الرشح والإفاضة ، وهذا مما لا تناله يد الجعل التشريعي ، كما أوضحناه في محله ، بل المجعول الشرعي هو نفس المسببات وترتبها عند وجود أسبابها ، فالمجعول هو الطهارة عقيب الغسلات لا سببية الغسلات للطهارة ، وكذا المجعول هو وجوب الصلاة عند الدلوك ، لا سببية الدلوك لوجوب الصلاة ، وح لا يمكن اجراء حديث الرفع عند الشك في دخل شيء في المحصل ، لما عرفت : من أنه يعتبر في المرفوع ان يكون مجعولا شرعيا ، والمجعول المجهول في المقام ، هو ترتب المسبب على الفاقد للمشكوك ، واجراء حديث الرفع في هذا ينتج ضد المقصود ، إذ يرفع ترتب المسبب على الأقل وينتج عدم حصول المسبب عقيب السبب الفاقد للخصوصية المشكوكة ، وهذا كما ترى يوجب التضييق وينافي الامتنان ، مع أن الرفع انما يكون للامتنان والتوسعة على العباد.

والحاصل : ان الامر في باب المحصلات ومتعلقات التكاليف يختلف ، فان في باب متعلقات التكاليف يكون تعلق التكليف بالأقل معلوما وبالأكثر مشكوكا ، فيعمه حديث الرفع ، لان في رفعه منة وتوسعة. وهذا بخلاف باب المحصلات ، فان ترتب المسبب على الأكثر معلوم وعلى الأقل مشكوك ، فما هو معلوم لا يجرى فيه حديث الرفع ، وما هو مشكوك لا موقع له فيه ، لاستلزام جريانه الضيق على العباد ، مع أنه ينتج عكس المقصود.

ص: 164

هذا إذا لم نقل بجعل السببية. وأما إذا قلنا محالا بجعل السببية فكذلك أيضا ، لان سببية الأكثر الواجد للخصوصية المشكوكة معلومة ، فلا يجرى فيه حديث الرفع ، وسببية الأقل مشكوكة ، ورفعها ينتج عدم جعله سببا ، وهذا يوجب التضييق.

نعم لو قلنا : بجعل الجزئية مضافا إلى جعل السببية أمكن جريان البراءة حينئذ ، لان جزئية الغسلة الثانية مثلا أو شرطية العصر مشكوك ، وفرضنا انها تنالها يد الجعل ، فيعمها حديث الرفع ويوجب رفع جزئيتها للسبب ، فيكون السبب هو الفاقد للعصر أو الغسلة الثانية ، ولكن هذا يستلزم الالتزام بمحال في محال ، محال جعل السببية ، ومحال جعل الجزئية فتأمل.

فتحصل : انه لافرق بين المحصل الشرعي والمحصل العقلي ، وانه في الكل لا مجال الا للاشتغال ، لرجوع الشك فيه إلى الشك في المسقط والامتثال.

ثم انه لا فرق في المحصلات ، بين ان تكون مسبباتها من الواجبات الشرعية كالطهارة بالنسبة إلى الغسلات ، أو كان من الملاكات ومناطات الاحكام والمصالح التي تبتنى عليها ، بناء على كونها من المسببات التوليدية وان منعناه سابقا أشد المنع ، ولكن بناء على كونها من المسببات التوليدية يكون حالها بالنسبة إلى الافعال التي تقوم بها حال الطهارة بالنسبة إلى الغسلات التي تحصل بها ، في عدم جريان البراءة عند الشك في دخل شيء في حصولها. مع أنه لو سلم الفرق بين المحصلات الشرعية والمحصلات العقلية ، وقلنا بجريان البراءة في المحصلات الشرعية ، لا يمكن القول بها عند الشك في دخل شيء في حصول الملاك ، بناء على كونه من المسببات التوليدية ، وذلك : لان محصلية الصلاة مثلا للملاك ليس بجعل شرعي ، بل هو امر واقعي تكويني ، وليس من قبيل محصلية الغسلات للطهارة حيث تكون بجعل شرعي ، لوضوح ان سببية الصلاة للنهي عن الفحشاء ليس بجعل شرعي ، فيكون حال الصلاة بالنسبة إلى النهى عن الفحشاء كحال الأسباب العقلية بالنسبة إلى مسبباتها وانه لا مجال لجريان البراءة فيها ، وحينئذ ينسد جريان البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين.

ص: 165

فان قلت :

نعم وان كان دخل الصلاة في حصول الملاك أمرا واقعيا تكوينيا ، الا ان الامر لما تعلق بالصلاة ووقعت هي مورد التكليف ، كان جريان البراءة فيما شك في اعتباره في الصلاة بمكان من الامكان.

والحاصل : انه فرق في باب الأسباب والمسببات ، بين تعلق التكليف بالمسبب كقوله تعالى : (1) « وثيابك فطهر » ، وبين تعلقه بالسبب كالصلاة وغيرها مما يكون سببا لحصول الملاك ، حيث إن التكليف انما تعلق بنفس الأسباب ، لا المسببات التي هي عبارة عن الملاكات. فان تعلق التكليف بالمسبب فلا مجال لجريان البراءة عند الشك في دخل شيء في حصوله ، كما إذا شك في دخل الغسلة الثانية أو العصر في حصول الطهارة ، لان متعلق التكليف معلوم ، والشك انما هو في ناحية الامتثال ، فالمرجع أصالة الاشتغال لا البراءة. وهذا بخلاف ما إذا تعلق التكليف بالسبب ، فإنه يكون ح للسبب بماله من الاجزاء والشرائط حيثيتان : حيثية دخله في حصول الملاك ، وحيثية تعلق التكليف به ، والبرائة وان لم تجر فيه من الحيثية الأولى لأنها ليست جعلية بل هي واقعية تكوينية ، الا انها تجرى فيه من الحيثية الثانية ، لرجوع الشك فيها إلى الشك في التكليف ، وبعد اخراج المشكوك كالسورة مثلا عن تحت دائرة الطلب والتكليف يكون المحصل هو خصوص الفاقد للسورة ، وتخرج الحيثية الأولى عن اقتضائها الاشتغال ، ببركة جريان البراءة عن الحيثية الثانية.

وبذلك يحصل الفرق ، بين قصد الامتثال المعتبر في العبادة ، وبين سائر الأجزاء والشرائط ، فان قصد الامتثال لما لم يتعلق به الطلب لاستحالته على ما عرفت ، بل كان مما يعتبره العقل في حصول الطاعة ، كان المرجع عند الشك في اعتباره هو الاشتغال ، لعدم تعلق التكليف بناحية السبب ، فلو شك في حصول الملاك بدون قصد الامتثال كان اللازم عليه قصد الامتثال ، للشك في حصوله بدون

ص: 166


1- سورة المدثر ، الآية 4

ذلك من دون ان يكون له مؤمن شرعي. وهذا بخلاف سائر الأجزاء والشرائط مما أمكن تعلق الطلب به ، فإنه لمكان امكان ذلك لو شك في تعلق الطلب بالسورة كان المرجع هو البراءة ، لرجوع الشك فيه إلى الشك في التكليف ، وبعد جريان البراءة يحصل المؤمن الشرعي عن الشك في حصول الملاك ، لان لازم خروج المشكوك عن دائرة الطلب ، هو كون المحصل للملاك خصوص الصلاة بلا سورة مثلا.

قلت :

يرد على ذلك.

أولا : انه لا فرق في باب الأسباب والمسببات بين تعلق التكليف بنفس المسبب أو تعلقه بالسبب ، لأنه لايكون السبب بما هو فعل جوارحي متعلق التكليف ، بل هو معنون بمسببه التوليدي يكون متعلق التكليف ، فليس الامر بالغسل بما هو هو وبما انه اجراء الماء على المحل مطلوبا ، بل بما انه افراغ للمحل عن النجاسة الذي هو عبارة عن الطهارة وقع متعلق الطلب.

ومن هنا قيل - كما في المعالم - ان البحث عن وجوب المقدمة السببية قليل الجدوى ، وليس ذلك الا لان تعلق التكليف بكل من السبب والمسبب عين تعلقه بالآخر ، وحينئذ لا يجدى تعلق التكليف بالسبب في جريان البراءة ، إذ ليس السبب بما هو متعلق التكليف ، بل بما هو معنون بالمسبب ومتولد منه قد تعلق التكليف به ، فليس هناك حيثيتان : حيثية دخله في حصول المسبب ، وحيثية تعلق التكليف به ، بل ليس هناك الا حيثية واحدة ، وهي حيثية دخله في حصول المسبب وقد تعلق التكليف به من نفس تلك الحيثية ، والمفروض ان الشك من تلك الحيثية راجع إلى الشك في الامتثال الذي لا مجال فيه للبرائة ، فتعلق التكليف بالصلاة انما يكون من حيثية دخلها بمالها من الاجزاء والشرائط في الملاك ، فعند الشك في دخل السورة في الملاك يلزم الاحتياط.

وثانيا : هب ان هناك حيثيتين ، الا ان إحدى الحيثيتين تقتضي الاشتغال والأخرى لا تقتضيه ، ومن المعلوم : ان ما ليس له الاقتضاء لا يمنع عن اقتضاء ما فيه الاقتضاء ، فلو اجتمع في شيء واحد جهتان : جهة تقتضي الاشتغال ، وجهة تقتضي

ص: 167

البراءة ، فالاعتماد على الجهة التي تقتضي الاشتغال ، لان عدم المقتضى لا يمكن ان يزاحم ما فيه المقتضى.

واما دعوى : ان مقتضى اجراء البراءة عن تعلق التكليف بالسورة ، هو ان المجعول الشرعي وما هو المحصل هو خصوص الفاقد للسورة ، فلا يبقى مجال لدعوى دخل السورة في الملاك حتى تكون هذه الحيثية مقتضية للاشتغال ، بل هذه الحيثية تنعدم ببركة اجراء البراءة في الحيثية الأخرى.

فهي في غاية السقوط ، لابتنائها على اعتبار الأصل المثبت الذي لا نقول به ، إذ لا فرق في الأصل المثبت ، بين باب اللوازم والملزومات ، وبين باب الملازمات.

وبعبارة أخرى : كما أن اثبات الحكم الشرعي المترتب على اللازم العقلي أو العادي لمؤدى الأصل المثبت - كاثبات الآثار المترتبة على انبات اللحية الملازم للحيوة باستصحاب الحياة - كذلك لو ترتب جعل شرعي على جعل آخر أو نفى جعل آخر وكان مؤدى الأصل اثبات أحد الجعلين أو نفيه - كما فيما نحن فيه - لا يمكن اثبات ذلك الجعل الشرعي الا على القول بالأصل المثبت ، فتأمل في المقام جيدا.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان القول بالاشتغال عند الشك في اعتبار قصد القربة لمكان الشك في حصول الملاك مما لا يرجع إلى محصل ، لعدم كون الملاكات من المسببات التوليدية حتى يلزم تحصيلها على المكلف ، بحيث لو شك في حصولها لزمه الاحتياط. هذا إذا كان مبنى اعتبار قصد الامتثال هو حيثية دخله في حصول الملاك.

وأما إذا كان مبنى اعتباره أحد الامرين الآخرين ، وهما الغرض بمعناه الاخر - أي الغرض من الامر لان يتعبد به العبد - ومتمم الجعل ( على ما هو الحق عندنا ) فان كان منشأ اعتباره هو غرض الامر ، فالذي ينبغي ان يقال عند الشك في ذلك ، هو الرجوع إلى البراءة ، للشك في أنه امر لذلك. وقد عرفت فيما تقدم : انه لو امر لذلك يكون الغرض من كيفيات الامر وملقى إلى العبد بنفس القاء الامر ويكون ملزما به شرعا ، كما يكون ملزما بتعلق الامر شرعا ، ويندرج الامر على هذا الوجه تحت الكبرى العقلية ، وهي لزوم الانبعاث عن امر المولى على ما مر بيانه ، وحينئذ لو

ص: 168

شك في أنه هل كان غرضه من الامر تعبد المكلف به أو لم يكن غرضه ذلك كان الشك راجعا إلى الزام شرعي فينفي بالأصل.

والحاصل : ان الامر يدور بين الأقل والأكثر ، لاشتراك التعبدي والتوصلي في تعلق الامر بالفعل ، فيكون في التعبدي امر زائد اراده المولى من المكلف. وليس المقام من دوران الامر بين المتباينين ، بدعوى انا نعلم أن للمولى غرضا ولكن نشك في أن غرضه من الامر نفس المتعلق أو ان غرضه تعبد المكلف بأمره ، ودلك : لاشتراك التعبدي والتوصلي في تعلق الغرض بالفعل ، وفي التعبدي يكون غرض زائد على ذلك ، وهو تعبد المكلف بأمره ، فيكون الامر من الدوران بين الأقل والأكثر.

نعم يمكن ان يقال : انه بالنسبة إلى فروع التعبد : من قصد الوجه والتميز وغير ذلك ، يكون الأصل هو الاشتغال ، للشك في حصول المسقط المفروض انه غرض المولى بدون ذلك.

وبالجملة : فرق بين الشك في أصل التعبد ، وبين الشك فيما يحصل به التعبد ، فان الأول مجرى البراءة والثاني مجرى الاشتغال ، فتأمل.

هذا بناء على أن يكون التعبد جائيا من ناحية الغرض. وأما إذا كان لمتمم الجعل ، فعند الشك يكون المرجع هو البراءة مط ، سواء كان الشك في أصل التعبد أو فروع التعبد ، لرجوع الشك إلى الشك في قيد زائد على كل حال كما لا يخفى. وليكن هذا آخر ما أردنا بيانه في مسألة التعبدية والتوصلية.

ثم انه كان المناسب ان يستوفى اقسام الواجب : من كونه تعبديا أو توصليا ، وكونه مط أو مشروطا ، وكونه عينيا أو كفائيا ، وكونه تعيينيا أو تخييريا ، إلى غير ذلك من الأقسام المتصورة فيه ، ثم بعد ذلك يذكر مسألة الاجزاء ، والمرة والتكرار ، لان هذه تقع في مرحلة سقوط التكليف ، وذلك يقع في مرحلة ثبوت التكليف ، وتفرع الأول على الثاني واضح ، ولكن الاعلام لم يسلكوا هذا المسلك وقدموا ما حقه التأخير وأخروا ما حقه التقديم. كما أنهم ذكروا تقسيم الواجب إلى المط والمشروط في بحث مقدمة الواجب ، مع أن ذلك المبحث متكفل لحال المقدمة وأقسامها ، لا لاقسام الواجب ، وتقسيم المقدمة إلى الوجوبية والوجودية وان كان باعتبار اطلاق وجوب

ص: 169

ذيها واشتراطه ، الا ان ذلك لا يوجب البحث عنه في ذلك المقام. فالأولى : ان يستوفى اقسام الواجب أولا ، ثم بعد ذلك يبحث عن مسألة الاجزاء وغيرها مما يقع في مرحلة السقوط ، وان كان ذلك على خلاف ما رتبه الاعلام في الكتب الأصولية ، ولكن الامر في ذلك سهل.

وعلى كل حال ينقسم الواجب ، إلى كونه مطلقا ومشروطا ، وتنقيح البحث عن ذلك يستدعى رسم أمور :

الأول :

قسم أهل المعقول القضية إلى كونها عقلية ، وطبيعية ، وحقيقة ، وخارجية. ولا يتعلق لنا غرض بالعقلية والطبيعية ، وانما المهم بيان الفرق بين الخارجية والحقيقية ، وما يختلفان فيه بحسب الآثار والاحكام ، حتى لا يختلط أحدهما بالأخرى ولا يرتب ما لأحدهما على الأخرى ، كما وقع هذا الخلط في جملة من الموارد كما نشير إليه انشاء اللّه تعالى.

فنقول : القضية الخارجية عبارة عن ثبوت وصف أو حكم على شخص خاص ، بحيث لا يتعدى ذلك الوصف والحكم عن ذلك الشخص إلى غيره وان كان مما ثلاله في الأوصاف ، ولو فرض انه ثبت ذلك المحمول على شخص آخر كان ذلك لمجرد الاتفاق من دون ان يرجع إلى وحدة الملاك والمناط ، بل مجرد المقارنة الاتفاقية ، من غير فرق في ذلك بين ان تكون القضية خبرية ، أو طلبية ، كقولك : زيد قائم ، أو أكرم زيدا. ومن غير فرق أيضا ، بين القاء القضية بصورة الجزئية ، أو القائها بصورة الكلية ، نحو كل من في العسكر قتل وكل ما في الدار نهب ، إذ القائها بصورة الكلية لا يخرجها عن كونها خارجية ، إذ المناط في القضية الخارجية ، هو ان يكون الحكم واردا على الأشخاص لا على العنوان ، كما سيأتي في بيان القضية الحقيقية. وهذا لا يتفاوت بين وحدة الشخص وتعدده كما في المثال ، بعد ما لم يكن بين الأشخاص جامع ملاكي أوجب اجتماعهم في الحكم ، بل كان لكل مناط يخصه غايته انه اتفق اجتماعهم في ثبوت المحمول كما في المثال ، حيث إن ثبوت القتل لكل من زيد وعمرو وبكر كان لمحض الاتفاق واجتماعهم في المعركة ، و

ص: 170

الا لم يكن مقتولية زيد بمناط مقتولية عمرو ، بل زيد انما قتل لمناط يخصه ، حسب موجبات قتله من خصوصياته وخصوصيات القاتل ، وكذا مقتولية عمرو.

وبالجملة : العبرة في القضية الخارجية ، هو ان يكون الحكم واردا على الأشخاص وان كانت بصورة القضية الكلية ، مثل كل من في العسكر قتل ، فإنه بمنزلة زيد قتل ، وعمرو قتل ، وبكر قتل ، وهكذا.

واما القضية الحقيقية : فهي عبارة عن ثبوت وصف أو حكم على عنوان اخذ على وجه المرآتية لافراده المقدرة الوجود ، حيث إن العناوين يمكن ان تكون منظرة لمصاديقها ومرآة لافرادها ، سواء كان لها افراد فعلية أو لم يكن ، بل يصح اخذ العنوان منظرة للأفراد وان لم يتحقق له فرد في الخارج لا بالفعل ولا فيما سيأتي ، لوضوح انه لا يتوقف اخذ العنوان مرآة على ذلك ، بل العبرة في القضية الحقيقية هو اخذ العنوان موضوعا فيها ، لكن لا بما هو هو حتى يمتنع فرض صدقه على الخارجيات ويكون كليا عقليا ، بل بما هو مرآة لافراده المقدر وجودها بحيث كلما وجد في الخارج فرد ترتب عليه ذلك الوصف والحكم ، سواء كانت القضية خبرية ، أو طلبية ، نحو كل جسم ذو ابعاد ثلاثة ، أو كل عاقل بالغ مستطيع يجب عليه الحج ، فان الحكم في مثل هذا يترتب على جميع الافراد التي يفرض وجودها بجامع واحد وبملاك واحد.

وبذلك تمتاز القضية الخارجية عن القضية الحقيقية ، حيث إنه في القضية الخارجية ليس هناك ملاك جامع وعنوان عام ينطبق على الافراد ، بل كل فرد يكون له حكم يخصه بملاك لا يتعدى عنه ، ومن هنا لا تقع القضية الخارجية كبرى القياس ولا تقع في طريق الاستنباط ، لان القضية الخارجية تكون في قوة الجزئية لا تكون كاسبة ولا مكتسبة ، فلا يصح استنتاج مقتولية زيد من قوله : كل من في العسكر قتل ، لأنه لا يصح قوله : كل من في العسكر قتل ، الا بعد العلم بمن في العسكر وان زيدا منهم ، وبعد علمه بذلك لا حاجة إلى تأليف القياس لاستنتاج مقتولية زيد ، وعلى فرض التأليف يكون صورة قياس لا واقع له ، كقوله : زيد في العسكر وكل من في العسكر قتل فزيد قتل ، لما عرفت : من أنه لا يصح قوله : كل من في العسكر قتل ، الا بعد العلم بقتل زيد ، فلا يكون هذا من الأقيسة المنتجة.

ص: 171

وهذا بخلاف القضية الحقيقية ، فإنها تكون كبرى لقياس الاستنتاج ويستفاد منها حكم الافراد ، كما يقال : زيد مستطيع وكل مستطيع يجب عليه الحج فزيد يجب عليه الحج ، ولا يتوقف العلم بكلية الكبرى على العلم باستطاعة زيد ووجوب الحج عليه ، كما كان يتوقف العلم بكلية القضية الخارجية على العلم بكون زيد في العسكر وانه قد قتل ، بل كلية الكبرى في القضية الحقيقية انما تستفاد من قوله تعالى (1) « ولله على الناس حج البيت » الخ.

وبما ذكرنا ظهر : ان ما أشكل على الشكل الأول الذي هو بديهي الانتاج من استلزامه الدور - حيث إن العلم بالنتيجة يتوقف على العلم بكلية الكبرى ، والعلم بكلية الكبرى يتوقف على العلم باندراج النتيجة فيها - فإنما هو لمكان الخلط بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية ، فان في القضية الحقيقية لا يتوقف العلم بكلية الكبرى على العلم باندراج النتيجة فيها ، بل كلية الكبرى انما تستفاد من مكان آخر كما عرفت. نعم في القضية الخارجية العلم بكلية القضية يتوقف على العلم بما يندرج تحتها من الافراد ، وقد عرفت : ان القضية الخارجية لا تقع كبرى القياس ، ولا يتألف منها القياس حقيقة ، وانما يكون صورة قياس لا واقع له ، فان القضايا المعتبرة في العلوم التي يتألف منها الأقيسة انما هي ما كانت على نحو القضايا الحقيقية ، فيرتفع الاشكال من أصله ، ولا حاجة إلى التفصي عن الدور بالاجمال والتفصيل ، كما في بعض كلمات أهل المعقول.

وقد وقع الخلط بين القضية الخارجية والحقيقية في جملة من الموارد ، كمسألة امر الآمر مع علمه بانتفاء الشرائط ، وكمسألة التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، وكمسألة الشرط المتأخر ، وغير ذلك مما يأتي الإشارة إليه كل في محله. فان هذه الفروع كلها تبتنى على تخيل كون القضايا الشرعية من قبيل القضايا الخارجية ، وهو ضروري البطلان ، لوضوح ان القضايا الواردة في الكتاب والسنة انما

ص: 172


1- سورة آل عمران ، 97

هي قضايا حقيقية ، وليست اخبارات عما سيأتي بان يكون مثل قوله تعالى ولله على الناس الخ اخبارا بان كل من يوجد مستطيعا فأوجه عليه خطابا يخصه ، بل انما هي اخبارات عن انشاءات في عالم اللوح المحفوظ. وبالجملة : كون القضايا الشرعية من القضايا الحقيقية واضح لا يحتاج إلى مزيد برهان وبيان.

إذا عرفت ذلك فاعلم : ان الجهات التي تمتاز بها القضية الخارجية عن القضية الحقيقية وان كانت كثيرة قد أشرنا إلى بعضها ، الا ان ما يرتبط بما نحن فيه من الواجب المشروط والمط ، هي جهات ثلاث :

الجهة الأولى :

ان العبرة في القضية الخارجية ، هو علم الآمر باجتماع الشروط وما له دخل في حكمه ، فلا يوجه التكليف على عمرو مثلا بوجوب اكرام زيد الا بعد علمه باجتماع عمرو لجميع الشروط المعتبرة في حكمه : من العقل ، والبلوغ ، والقدرة ، وغير ذلك مما يرى دخله في مناط حكمه ، ولو فرض ان الآمر كان جاهلا بوجود شرط من شروط صدور الحكم ، كمجئ بكر الذي له دخل في تكليف عمرو بوجوب اكرام زيد ، فلا محالة يعلق حكمه بصورة وجود الشرط ، ويقول : ان جاء بكر فأكرم زيدا ، وتكون القضية الخارجية من هذه الجهة - أي من جهة تعليقها على الشرط - ملحقة بالقضية الحقيقية ، على ما سيأتي بيانه.

والحاصل : ان المدار في صدور الحكم في القضية الخارجية انما هو على علم الآمر باجتماع شروط حكمه وعدم عمله ، فان كان عالما بها فلا محالة يصدر منه الحكم ولو فرض خطأ علمه وعدم اجتماع الشروط واقعا ، إذ لا دخل لوجودها الواقعي في ذلك ، بل المناط في صدور الحكم هو وجودها العلمي ، فان كان عالما بها يحكم وان لم تكن في الواقع موجودة ، وان لم يكن عالما بها لا يحكم وان كانت موجودة في الواقع الاعلى وجه الاشتراط بوجودها ، فيرجع إلى القضية الحقيقية من هذه الجهة ، فلا يعتبر في صدور الحكم في القضية الخارجية الا علم الآمر باجتماع الشرائط.

واما في القضية الحقيقية : فيعتبر فيها تحقق الموضوع خارجا ، إذ الشرط في

ص: 173

القضية الحقيقية هو وجود الموضوع عينا ولا عبرة بوجوده العلمي ، لان الحكم في القضية الحقيقية على الافراد المفروض وجودها ، فيعتبر في ثبوت الحكم وجود الافراد ، ولا حكم مع عدم وجودها ولو فرض علم الآمر بوجودها ، فالحكم في مثل قوله : العاقل البالغ المستطيع يحج ، مترتب على واقع العاقل البالغ المستطيع ، لا على ما يعلم كونه عاقلا بالغا مستطيعا ، إذ لا اثر لعلمه في ذلك ، فلو فرض انه لم يعلم أن زيدا عاقل بالغ مستطيع لترتب حكم وجوب الحج عليه قهرا بعد جعل وجوب الحج على العاقل البالغ المستطيع ، كما أنه لو علم أن زيدا عاقل بالغ مستطيع وفي الواقع لم يكن كذلك لما كان يجب عليه الحج ، فالمدار في ثبوت الحكم في القضية الحقيقية انما هو على وجود الموضوع خارجا ، من دون دخل للعلم وعدمه في ذلك.

وبذلك يظهر : امتناع الشرط المتأخر ، لأنه بعد ما كان الشيء شرطا وقيدا للموضوع فلا يعقل ثبوت الحكم قبل وجوده ، والا يلزم الخلف وعدم موضوعية ما فرض كونه موضوعا ، على ما سيأتي بيانه ، وارجاع الشرط المتأخر إلى الوجود العلمي انما نشأ من الخلط بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية ، فان الوجود العلمي بتحقق الشرائط انما ينفع في القضية الخارجية كما عرفت ، لا في القضية الحقيقية.

نعم في القضية العلم بترتب الملاك والمصلحة على متعلق حكمه له دخل أيضا في صدور الحكم ، الا ان ذلك يرجع إلى باب الدواعي التي تكون بوجودها العلمي مؤثرة ، وأين هذا من باب الشروط الراجعة إلى قيود الموضوع كما سيأتي بيانه ، فان العبرة في ذلك انما هو بوجودها العيني ، ولا اثر لوجودها العلمي.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان الشرط في ثبوت الحكم في القضية الخارجية هو العلم باجتماع شرائط التكليف لا وجودها الواقعي وفي القضية الحقيقية هو وجودها الواقعي لا وجودها العلمي. فهذه إحدى الجهات الثلاث التي تمتاز بها القضية الحقيقية عن القضية الخارجية.

الجهة الثانية :

هي ان القضية الخارجية لا يتخلف فيها زمان الجعل والانشاء عن زمان ثبوت الحكم وفعليته ، بل فعليته تكون بعين تشريعه وانشائه ، فبمجرد قوله : أكرم

ص: 174

زيدا ، يتحقق وجوب الاكرام ، الا إذا كان مشروطا بشرط لم يحرزه الآمر فتلحق بالقضية الحقيقية من هذه الجهة كما أشرنا إليه ، والا لا يعقل تخلف الانشاء عن فعلية الحكم زمانا ، وان كان متخلفا رتبة نحو تخلف الانفعال عن الفعل.

واما في القضية الحقيقية : فالجعل والانشاء انما يكون أزليا ، والفعلية انما تكون بتحقق الموضوع خارجا ، فان انشائه انما كان على الموضوع المقدر وجوده ، فلا يعقل تقدم الحكم على الموضوع ، لأنه انما انشاء حكم ذلك الموضوع ، وليس للحكم نحو وجود قبل وجود الموضوع حتى يسمى بالحكم الانشائي في قبال الحكم الفعلي ، كما في بعض الكلمات.

والحاصل : انه فرق بين انشاء الحكم وبين الحكم الانشائي ، والذي تتكفله القضايا الحقيقية الشرعية انما هو انشاء الحكم ، نظير الوصية ، حيث إن الوصية انما هي تمليك بعد الموت ولا يعقل تقدمه على الموت ، لان الذي أنشأ بصيغة الوصية هو هذا أي ملكية الموصى له بعد موته ، فلو تقدمت الملكية على الموت يلزم خلاف ما أنشأ ، ولا معنى لان يقال الملكية بعد الموت الآن موجودة ، لان هذا تناقض. فكذا الحال في الأحكام الشرعية ، فان انشائها عبارة عن جعل الحكم على الموضوع المقدر وجوده ، فما لم يتحقق الموضوع لايكون شيء أصلا ، وإذا تحقق الموضوع يتحقق الحكم لا محالة ولا يمكن ان يتخلف.

فتحصل : انه ليس قبل تحقق الموضوع شيء أصلا حتى يسمى بالحكم الانشائي في قبال الحكم الفعلي ، إذ ليس الانشاء الا عبارة عن جعل الحكم في موطن وجود موضوعه ، فقبل تحقق موطن الوجود لا شيء أصلا ، ومع تحققه يثبت الحكم ويكون ثبوته عين فعليته ، وليس لفعلية الحكم معنى آخر غير ذلك.

وحاصل الكلام : انه ليس للحكم نحو ان من الوجود يسمى بالانشاء تارة ، وبالفعلي أخرى ، بل الحكم هو عبارة عما يتحقق بتحقق موضوعه ، وهذا هو الذي أنشأ أزلا قبل خلق عالم وآدم ، فلو فرض انه لم يتحقق في الخارج عاقل بالغ مستطيع فلم يتحقق حكم أيضا أصلا ، فالحكم الفعلي عبارة عن الذي أنشأ وليس وراء ذلك شيء آخر ، فلو أنشأ الحكم على العاقل البالغ المستطيع ، فلا محيص من

ص: 175

ثبوت الحكم بمجرد تحقق العاقل البالغ المستطيع ، ولا يعقل ان يتخلف عنه ، فلو توقف ثبوت الحكم وفعليته على قيد اخر كعدم قيام الامارة على الخلاف مثلا يلزم تخلف المنشأ عن الانشاء ، لأنا فرضنا ان ذلك القيد لم يؤخذ في انشائه ، بل انشاء الحكم على خصوص العاقل البالغ المستطيع ، فإذا وجد العاقل البالغ المستطيع ولم يوجد الحكم يلزم ان لا يوجد ما أنشأه وهو محال ، إذ لا يعقل تخلف المنشأ عن الانشاء. ومعنى عدم معقولية تخلف المنشأ عن الانشاء ، هو انه لابد من أن يوجد المنشأ على طبق ما أنشأ وعلى الوجه الذي أنشأه ، فلو أنشأ الملكية في الغد فلابد من وجود الملكية في الغد ، ولا يعقل ان تتقدم عليه أو تتأخر عنه ، بان توجد الملكية قبل الغد أو بعد الغد ، لأنه يلزم تخلف المنشأ من الانشاء ، إذ الذي أنشأ هو خصوص ملكية الغد لا غير ، فكيف تتقدم الملكية على الغد أو تتأخر عنه؟.

وحاصل الكلام : انه لو كان زمام المنشأ بيد المنشى وله السلطنة على ايجاده كيف شاء وباي خصوصية أراد كما هو مفروض الكلام ، فح يدور المنشأ مدار كيفية انشائه ، فله انشائه في الحال كما في البيع الفعلي فلا بد ان يتحقق المنشأ في الحال والا يلزم التخلف ، وله ان ينشأه في الغد فلا بد ان يكون البيع في الغد والا لزم التخلف. وليس الانشاء والمنشأ من قبيل الكسر والانكسار التكويني ، بحيث لا يمكن ان يتخلف زمان الانكسار عن الكسر ، كما ربما يختلج في بعض الأذهان ، ولأجل ذلك تخيل انه لا يعقل تخلف زمان وجود المنشأ عن زمان وجود الانشاء ، فيكف يعقل ان يكون انشاءات الاحكام أزلية ومنشائها تتحقق بعد ذلك عند وجود موضوعاتها في الخارج؟ مع أنه يلزم ان يتخلف زمان الانشاء عن زمان وجود المنشأ لأنه لا يمكن ان يتخلف زمان الوجود عن الايجاد ، وزمان الانكسار عن الكسر ، ولأجل هذه الشبهة ربما وقع بعض في اشكال كيفية تصور كون انشاءات الاحكام أزلية مع عدم وجود منشئاتها في موطن انشائها ، هذا.

ولكن لا يخفى ضعف الشبهة ، وان قياس باب الانشائيات بباب التكوينيات في غير محله ، فان في التكوينيات زمام الانكسار ليس بيد الكاسر ، بل الذي بيده هو الكسر واما الانكسار فيحصل قهرا عليه.

ص: 176

وهذا بخلاف باب المنشئات ، فإنها أمور اعتبارية ، ويكون زمامها بيد المعتبر النافذ اعتباره ، وله ايجادها على أي وجه أراد. فالذي بيده زمام الملكية ، له ان يوجد الملكية في الحال ، وله ان يوجدها في المستقبل كما في الوصية ، فلو أنشأ الملكية في المستقبل بمعنى انه جعل ملكية هذا الشيء لزيد في الغد فلا بد من أن توجد الملكية في الغد ، والا يلزم تخلف المنشأ عن الانشاء.

وكذا الحال في الأحكام الشرعية ، فان زمام الاحكام بيد الشارع ، فله جعلها وانشائها على أي وجه أراد ، فلو جعل الحكم على موضوع ليس له وجود في زمان الجعل بل يوجد بعد الف سنة ، فلابد ان يوجد الحكم عند وجود موضوعه ولا يمكن ان يتخلف عنه. والسر في ذلك : هو انه الآن يلاحظ ذلك الزمان المستقبل ويجعل الحكم في ذلك الزمان ، حيث إن اجزاء الزمان بهذا اللحاظ تكون عرضية كاجزاء المكان ، فكما انه يمكن وضع الحجر في المكان البعيد عن الواضع إذا أمكنه ذلك لطول يده ، كذلك يمكن وضع الشيء في الزمان البعيد لمن كان محيطا بالزمان.

فظهر معنى كون انشاءات الاحكام أزلية ، وان تحقق المنشأ يكون بتحقق الموضوع ولا يلزم منه تخلف المنشأ عن الانشاء ، وانما التخلف يحصل فيما إذا وجد غير ما أنشأه ، اما لمكان الاختلاف في الكيف ، واما لمكان الاختلاف في الزمان ، أو غير ذلك من سائر أنحاء الاختلافات. فتأمل في المقام جيدا ، لئلا ترسخ الشبهة المتقدمة في ذهنك.

فظهر الفرق ، بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية ، بعدم تخلف زمان الفعلية عن الانشاء في الخارجية نظير الهبة ، وتخلفه في الحقيقية نظير الوصية. فهذه هي الجهة الثانية التي تمتاز إحديهما عن الأخرى.

الجهة الثالثة :

ان السببية المتنازع فيها من حيث كونها مجعولة أو غير مجعولة وان المجعول الشرعي هل هو نفس المسببات عند وجود أسبابها أو سببية السبب ، انما يجرى في القضايا الحقيقية ، دون القضايا الخارجية ، لوضوح ان القضايا الخارجية ليس لها موضوع اخذ مفروض الوجود حتى يتنازع في أن المجعول ما هو ، بل ليس فيها الا

ص: 177

حكم شخصي على شخص خاص ، كقول الآمر لزيد اضرب عمروا ، فلا معنى لان يقال : ان المجعول في قوله اضرب عمروا ما هو ، إذ ليس فيه الا حكم وعلم باجتماع شرائط الحكم من المصالح ، والمصالح غير مجعولة بجعل شرعي ، بل هي أمور واقعية تكوينية تترتب على أفعال المكلفين فلم يبق فيها الا الحكم وهو المجعول الشرعي.

وهذا بخلاف القضايا الحقيقية ، فإنه لما اخذ فيها موضوع ورتب الحكم على ذلك الموضوع في ظرف وجوده ، كان للنزاع في أن المجعول الشرعي ما هو ، هل هو الحكم على فرض وجود الموضوع؟ أو سببية الموضوع لترتب الحكم عليه؟ مجال. وان كان الحق هو الأول ، والثاني غير معقول ، على ما أوضحناه في باب الأحكام الوضعية. والغرض في المقام مجرد بيان ان النزاع انما يتأتى فيما إذا كان جعل الاحكام على نحو القضايا الحقيقية ، ولا يتصور النزاع في القضايا الخارجية لانتفاء الموضوع فيها بالمعنى المتقدم ، أي بمعنى اخذ عنوان الموضوع منظرة ومرآة لافراد المقدر وجودها. فهذه جهات ثلث تمتاز بها القضية الحقيقية عن القضية الخارجية.

الامر الثاني :

من الأمور التي أردنا رسمها في مبحث الواجب المطلق والمشروط ، هو انه قد عرفت ان القضايا الشرعية انما تكون على نهج القضايا الحقيقية ، دون القضايا الخارجية ، وح تكون الأحكام الشرعية مشروطة بموضوعاتها ثبوتا واثباتا.

اما ثبوتا ، فلما تقدم من أن القضية الحقيقية عبارة عن ترتب حكم أو وصف على عنوان اخذ منظرة لافراده المقدر وجودها ، فلا يمكن جعل الحكم الا بعد فرض الموضوع ، فالحكم ثبوتا مشروط بوجود الموضوع ، نظير اشتراط المعلول بوجود علته.

واما اثباتا ، والمراد به مرحلة الابراز واظهار الجعل فتارة : يكون الابراز لا بصورة الاشتراط أي لا تكون القضية ، مصدرة بأداة الشرط ، كما إذا قيل : المستطيع يحج. وأخرى : تكون القضية مصدرة بأداة الشرط ، كما إذا قيل : ان استطعت فحج ، وعلى أي تقدير لا يتفاوت الحال ، إذ مآل كل إلى الآخر ، فان مآل الشرط إلى الموضوع ومآل الموضوع إلى الشرط ، والنتيجة واحدة ، وهي عدم تحقق الحكم الا بعد وجود الموضوع والشرط.

ص: 178

نعم يختلف الحال بحسب الصناعة العربية والقواعد اللغوية ، فإنه ان لم تكن القضية مصدرة بأداة الشرط تكن القضية ح حملية طلبية أو خبرية ، وان كانت مصدرة بأداة الشرط تكون القضية الشرطية ، ولكن مآل القضية الحملية إلى القضية الشرطية أيضا ، كما قالوا : ان كل قضية حملية تنحل إلى قضية شرطية ، مقدمها وجود الموضوع ، تاليها عنوان المحمول. فقولنا الجسم ذو ابعاد ثلاثة يكون بمنزلة قولنا : كلما وجد في العالم شيء وكان ذلك الشيء جسما فهو ذو ابعاد ثلاثة ، فبالآخرة لا يتفاوت الحال ، بين كون القضية حملية طلبية ، أو شرطية طلبية. كما هو الشأن في الخبرية ، حيث لا يتفاوت الحال فيها ، بين كونها حملية كالمثال المتقدم ، أو شرطية كقوله كلما طلعت الشمس فالنهار موجود ، إذ الحملية ترجع إلى الشرطية ، كما أن نتيجة القضية الشرطية ترجع إلى قضية حملية ، فان النتيجة في قولنا كلما طلعت الشمس فالنهار موجود ، هي عبارة عن وجود النهار عند طلوع الشمس ، فلا فرق ، بين ان نقول : النهار موجود عند طلوع الشمس ، وبين قولنا : كلما طلعت الشمس فالنهار موجود. وقس على ذلك حال القضايا الطلبية ، وان مرجع الحملية منها إلى الشرطية ، والشرطية إلى الحملية ، والنتيجة هي وجود الحكم عند وجود الموضوع والشرط. ومن هنا قلنا : ان الشرط يرجع إلى الموضوع ، والموضوع يرجع إلى الشرط.

فتحصل : انه لافرق ، بين ابراز القضية بصورة الشرطية ، وبين ابرازها بصورة الحملية. نعم بحسب الصناعة ينبغي ان يعلم محل الاشتراط والذي يقع الشرط عليه ، بحسب القواعد العربية عند ابراز القضية بصورة الشرطية.

فنقول : يمكن تصورا ان يرجع الشرط إلى المفهوم الافرادي قبل ورود التركيب والنسبة عليه ، أي يرجع القيد إلى المتعلق الذي هو فعل المكلف في المرتبة السابقة على ورود الحكم عليه ، وهذا هو المراد من رجوع القيد إلى المادة الذي ينتج الوجوب المط ، فان معنى رجوع القيد إلى المادة هو لحاظ المتعلق في المرتبة السابقة على ورود الحكم عليه مقيدا بذلك القيد ، وبعد ذلك يرد الحكم عليه بما انه مقيد بذلك القيد ، كما ذا لاحظ الصلاة مقيدة بكونها إلى القبلة أو مع الطهارة وبعد ذلك أوجبها على هذا الوجه. فح يكون وجوب الصلاة مطلقا غير مقيد بقيد ، وان المقيد هو

ص: 179

الصلاة.

ويمكن ان يرجع الشرط إلى المفهوم التركيبي أي إلى النسبة التركيبية ، بمعنى ان تكون النسبة الايقاعية التي تتكفلها الهيئة مقيدة بذلك القيد.

ويمكن ان يكون المنشأ بتلك النسبة أي الطلب المستفاد منها مقيدا بذلك القيد.

ويمكن ان يكون راجعا إلى المحمول المنتسب ، وهذا وان كان يرجع إلى تقييد المنشأ ، الا انهما يفترقان اعتبارا من حيث المعنى الأسمى والحرفي على ما يأتي بيانه.

ثم إن رجوعه إلى المحمول المنتسب تارة : يكون في رتبة انتسابه ، وأخرى : يكون في الرتبة المتأخرة رتبة أو زمانا ، فهذه جملة الوجوه المتصورة في الشرط والقيد ، ولكن بعض هذه الوجوه مما لا يمكن.

وبيان ذلك : هو انهم عرفوا القضية الشرطية بما حكم فيها بثبوت نسبة على تقدير أخرى ، ومعنى ذلك هو لزوم ان يكون راجعا إلى مفاد الجملة والمفهوم التركيبي ، ولا يصح ارجاعه إلى المفهوم الافرادي ، بل تقييد المفهوم الافرادي انما يكون بنحو التوصيف والإضافة ، لا بأداة الشرط ، فما في التقرير (1) من ارجاع الشرط إلى المادة اشتباه.

ص: 180


1- وربما يختلج في البال : ان رجوع الشرط إلى وجوب الاكرام عبارة عن رجوع الشرط إلى المنشأ الذي قد تقدم انه لا يمكن رجوع الشرط إليه لكونه معنى حرفيا ، إذ المنشأ هو وجوب الاكرام المستفاد من الهيئة ، وكونه في المرتبة المتأخرة عن النسبة الايقاعية لا يخرجه عن كونه معنى حرفيا غير ملتفت إليه عند ايقاع النسبة الطلبية. كما أنه ربما يختلج في البال : عدم امكان رجوع الشرط إلى المادة الواجبة ، لأنه عند ورود الهيئة على المادة ، اما ان ترد عليها غير مشروطة بشرط ، واما ان ترد عليها مشروطة. وعلى الأول : لا يمكن لحوق الاشتراط لها. وعلى الثاني : يرجع القيد إلى المادة الذي أنكرناه. وربما يختلج في البال أيضا : رجوع الشرط إلى ما هو الموضوع في القضية الجزائية ، وهو النهار في مثل النهار موجود إذا كانت القضية خبرية ، والى الفاعل المكلف إذا كانت القضية طلبية ، فيكون المعنى : النهار الذي طلع عليه الشمس موجود ، وزيد المستطيع يحج ، فتأمل جيدا - منه.

وقد حكى عن السيد الكبير الشيرازي قده ، بان المقرر قد اشتبه ولم يصل إلى مطلب الشيخ قده ، وكان نظر الشيخ قده في انكار رجوع الشرط إلى الهيئة إلى أن الانشاء غير قابل للتقييد ، وعلى كل حال لا يهمنا تصحيح ما في التقرير بعد وضوح المطلب ، وان الشرط لا يمكن ان يرجع إلى المفهوم الافرادي ، بل الشرط لابد ان يرجع إلى المفهوم التركيبي ومفاد الجملة ، كما هو ظاهر تعريف القضية الشرطية : بأنها ما حكم فيها بثبوت نسبة على تقدير أخرى.

وكذلك لا يمكن ارجاع الشرط إلى الهيئة بمعناها الايقاعي ، بحيث يرجع الشرط إلى الانشاء ، لوضوح ان الانشاء غير قابل للاشتراط والتعليق ، ولا يتصف بالاطلاق والاشتراط ، وانما يتصف بالوجود والعدم.

وكذلك لا يمكن ارجاع الشرط إلى المنشأ بالهيئة ، لان الاشتراط يتوقف على لحاظ المعنى اسميا استقلاليا ، ولا يعقل ورود الشرط على المعنى الحرفي ، لا لكون المعنى الحرفي جزئيا وان الموضوع له فيه خاص ، حتى يرد عليه ان المعنى الحرفي ليس بجزئي بل الموضوع له فيه عام كالوضع ، بل لان المعنى الحرفي مما لا يمكن ان يلتفت إليه بما انه معنى حرفي ، لفنائه في الغير وكونه مغفولا عنه في موطن وجوده الذي هو موطن الاستعمال ، على ما تقدم بيانه في مبحث الحروف ، فالمنشأ بهذه الهيئة لا يمكن ان يقيد ، لعدم الالتفات إليه ولا يقع النظر الاستقلالي نحوه ، بل هو مغفول عنه عند القاء الهيئة ، فلا يعقل ان يرجع الشرط إلى مفاد الهيئة الذي هو معنى حرفي.

وكذا لا يعقل ان يرجع الشرط إلى المحمول المنتسب بعد الانتساب في الزمان لاستلزامه النسخ ، إذ لو فرض تأخر الاشتراط عن وجوب الاكرام مثلا زمانا يلزم النسخ كما لا يخفى. وكذا لا يمكن ان يرجع الشرط إلى المحمول في رتبة الانتساب ، سواء أريد من المحمول المتعلق ، وهو الاكرام الذي يحمل على الفاعل ، أو أريد منه الوجوب ، لأنه على كل تقدير يرجع التقييد إلى المفهوم الافرادي. فلا بد من أن يرجع التقييد إلى المحمول المنتسب بوصف كونه منتسبا ، (1) أي وجوب الاكرام أو ه

ص: 181


1- مطارح الأنظار - الهداية الرابعة من مباحث مقدمة الواجب « إذا ثبت وجوب شيء وشك في كونه مشروطا أو مطلقا .. » ص 46. وقد تكلم صاحب التقريرات حول هذا المعنى في الهداية الخامسة أيضا راجع ص 48 من المصدر. واعلم أن المذكور في « قوامع الفضول » أيضا رجوع القيد إلى المادة دون الهيئة واستدل له بنفس الوجهين الذين استدل بهما صاحب التقريرات حكاية عن الشيخ قدس سره . راجع قوامع الفضول - المقالة الأولى - مبحث مقدمة الواجب الامر الثاني ، ص 141 - 140. والمحقق الجليل الحاج ميرزا حبيب اله الرشتي قدس سره نسب هذا الوجه في « بدايع الأفكار » إلى الشيخ قدس سره مترددا ، قال : « وقد يجاب عن هذا الاشكال بما أجبنا به عن الاشكال الأول من رجوع القيد إلى المادة ، وكانه يقول به شيخ مشايخنا الأعظم العلامة الأنصاري طاب ثراه وان معنى قوله : أكرم زيدا ان جائك ، أريد منك الاكرام بعد المجيئ فيكون أصل الاكرام مقيدا لا الوجوب المتعلق به حتى يرد : ان التقييد لا يناسب المبهمات .. ». راجع بدايع الأفكار. المقصد الأول من المقاصد الخمسة. المبحث الثالث من مباحث تقسيم الواجب إلى المطلق والمشروط. ص 314. وهذا ما يستفاد منه عدم تفرد صاحب التقريرات في تقرير هذا المعنى من الشيخ قدس سرهما واللّه أعلم.

الاكرام الواجب.

وبعبارة أوضح : الشرط لابد ان يرجع إلى ما هو نتيجة الحمل في القضية الخبرية ، أو نتيجة الطلب في القضية الطلبية. ففي مثل كلما كانت الشمس طالعة فالنهار موجود يكون المشروط هو وجود النهار ، وفي مثل ان جائك زيد فأكرمه ، يكون المشروط هو الاكرام الواجب أو وجوب الاكرام. والظاهر رجوع كل منهما إلى الاخر ، والسر في لزوم رجوع الشرط إلى مفاد الجملة والمتحصل منها ، هو ما عرفت : من كون القضية الشرطية انما هي تعليق جملة بجملة أخرى ، وهذا لا يستقيم الا ان يرجع الشرط إلى مفاد الجملة الخبرية أو الطلبية ، وهو في القضية الخبرية وجود النهار مثلا ، وفي القضية الطلبية وجوب الاكرام أو الاكرام المتلون بالوجوب ، والنتيجة امر واحد. وعلى كل تقدير يحصل المطلوب ، وهو اخذ الشرط مفروض الوجود ، لان أداة الشرط انما خلقت لفرض وجود متلوها ، ويرجع بالآخرة إلى الموضوع ويكون مفاد ( ان استطعت فحج ) مع ( يجب الحج على المستطيع ) أمرا واحدا ، كما عرفت بما لا مزيد عليه.

ص: 182

قد ظهر مما قدمناه : الفرق بين المقدمة الوجوبية والمقدمة الوجودية ، حيث إن المقدمة الوجوبية ما كانت واقعة فوق دائرة الطلب ، وتؤخذ مفروضة الوجود في المرتبة السابقة على الطلب ، ولا يمكن وقوعها بعد ذلك تحت دائرة الطلب بحيث يلزم تحصيلها ، للزوم الخلف كما لا يخفى.

وهذا بخلاف المقدمة الوجودية ، فإنها واقعة تحت دائرة الطلب ويلزم تحصيلها.

وبعد ذلك نقول : ان القيود والإضافات التي اعتبرت في ناحية المتعلق أو المكلف على اختلافها ، من حيث كونها من مقولة المكان أو الزمان وغير ذلك من ملابسات الفعل حتى الحال ، لا تخلو اما ان تكون اختيارية تتعلق بها إرادة الفاعل ، واما ان تكون غير اختيارية.

فان كانت غير اختيارية فلا محيص من خروجها عن تحت دائرة الطلب ، إذ لا يعقل التكليف بأمر غير اختياري ، فكل طرف إضافة خارج عن تحت الاختيار لابد من خروجه عن تحت الطلب ويكون الطلب متعلقا بالقطعة الاختيارية ، والقطعة الغير الاختيارية لابد من اخذها مفروضة الوجود واقعة فوق دائرة الطلب ، وتكون ح من المقدمات الوجوبية ويكون الواجب مشروطا بالنسبة إليها.

وأما إذا كانت الملابسات اختيارية وتتعلق بها إرادة الفاعل فوقوعها تحت دائرة الطلب بمكان من الامكان ، كما أن وقوعها فوق دائرة الطلب أيضا بمكان من الامكان ، فتصلح ان تكون مقدمة وجودية بحيث يتعلق الطلب بها ، وتكون لازمة التحصيل كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة ، وتصلح ان تكون مقدمة وجوبية تؤخذ مفروضة الوجود وتكون غير لازمة التحصيل كالاستطاعة في الحج. هذا بحسب عالم الثبوت.

واما في عالم الاثبات فالمتبع هو لسان الدليل وما يستفاد منه بحسب القرائن ومناسبات الحكم والموضوع. فان استفيد منه انه مقدمة وجوبية فهو ، وان استفيد انه مقدمة وجودية كانت لازمة التحصيل. وان لم يمكن استفادة أحد الوجهين من الأدلة ووصلت النوبة إلى الشك ، كان ذلك من الشك بين الواجب المشروط و

ص: 183

المطلق ، وسيأتي ما هو الوظيفة عند الشك في ذلك.

ثم إن القيود ربما يكون لها دخل في أصل مصلحة الوجوب بحيث لا يتم ملاك الامر الا بعد تحقق القيد. وقد تكون لها دخل في مصلحة الواجب ، بمعنى ان فعل الواجب لا يمكن ان يستوفى المصلحة القائمة به الا بعد تحقق القيد الكذائي ، وان لم يكن ذلك القيد له دخل في مصلحة الوجوب. (1) وهذان الوجهان يتطرقان في جميع القيود الاختيارية وغيرها. مثلا الزمان الخاص يمكن ان يكون له دخل في مصلحة الوجوب ، ويمكن ان لايكون له دخل في ذلك بل له دخل في مصلحة الواجب ، ولا ملازمة بين الامرين ، مثلا خراب البيت يقتضى الامر بالبناء ، وهذا الخراب حصل في أول الصبح ، فمصلحة الامر بالبناء قد تمت وتحققت من أول الصبح ، ولكن البناء والتعمير الواجب لا يمكن ان يستوفى المصلحة القائمة به الا بعد الزوال.

والحاصل : انه يمكن ان تكون مصلحة الوجوب قد تحققت ، ولكن مصلحة الواجب لم تتحقق الا من بعد مضى زمان ، كما ربما يدعى ذلك في باب الصوم ، حيث يدعى ان المستفاد من الاخبار هو ان مصلحة وجوب الصوم في الغد متحقق من أول الليل ، ولكن المصلحة القائمة بالصوم لا يمكن تحققها الا عند الفجر ، كما ربما يدعى ظهور مثل قوله : إذا زالت الشمس وجب الصلاة والطهور (2) في أن الزوال له دخل في كل من مصلحة الوجوب والواجب.

وعلى كل حال ، إذا كان القيد غير اختياري ، فلا بد من أن يؤخذ مفروض الوجود ، ويكون من الشرائط الوجوبية الواقعة فوق دائرة الطلب ، سواء كان ذلك القيد مما له دخل في مصلحة الوجوب أو كان له دخل في مصلحة الواجب ، وسواء كان ذلك القيد من مقولة الزمان أو كان من سائر المقولات ، إذ العبرة في اخذه مفروض الوجود ، هو كونه غير اختياري غير قابل لتعلق الطلب به ، من غير فرق في ذلك »

ص: 184


1- كما أنه يمكن ان لايكون للخصوصية الكذائية دخل لا في ملاك الوجوب ولا في ملاك الواجب ، فيكون كل من الوجوب والواجب بالنسبة إليه مطلقا ، كطيران الغراب مثلا - منه.
2- الوسائل ، الجزء الأول ، الباب 4 من أبواب الوضوء الحديث 1 ص 261 ولا يخفى ان في الخبر « إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة »

بين الزمان وغيره.

وخالف في ذلك صاحب الفصول (1) وقال : بامكان وقوع الطلب فوق قيد غير اختياري إذا لم يكن ذلك القيد مما له دخل في مصلحة الوجوب وان كان له دخل في مصلحة الواجب ، والتزم بامكان كون الطلب والوجوب حاليا وان كان الواجب استقباليا ، وسمى ذلك بالواجب المعلق ، وجعله مقابل الواجب المشروط والمطلق ، وتبعه في ذلك بعض من تأخر عنه ، وعليه بنى لزوم تحصيل مقدماته قبل حضور وقت الواجب إذا كان لا يمكنه تحصيلها في وقته ، كالغسل قبل الفجر في باب الصوم ، فإنه لما كان الوجوب حاليا قبل حضور وقت الواجب كان ترشح الوجوب من ذي المقدمة إلى مقدماته بمكان من الامكان ، ويرتفع اشكال وجوب المقدمة قبل وقت ذيها.

ثم إن صاحب الفصول قد عمم ذلك بالنسبة إلى المقدمة المقدورة ، وقال : بامكان الواجب المطلق فيما إذا كان القيد أمرا اختياريا ، فراجع (2) كلامه في المقام. وعلى كل حال ، قد تبع بعض صاحب الفصول في امكان الواجب المعلق وانه مقابل الواجب المشروط والمط ، الا انه قال : لا ينحصر التفصي عن اشكال وجوب تحصيل المقدمات قبل مجيء وقت الواجب بذلك ، بل يمكن دفع الاشكال أيضا بالتزام كون الوقت أو غيره مما اخذ قيدا للواجب من قبيل الشرط المتأخر ، وحينئذ

ص: 185


1- الفصول ص 81 - 80 تمهيد مقال لتوضيح حال. « وينقسم باعتبار آخر إلى ما يتعلق وجوبه بالمكلف ولا يتوقف حصوله على امر غير مقدور له كالمعرفة وليسم منجزا ، والى ما يتعلق وجوبه به ويتوقف حصوله على امر غير مقدور له وليسم معلقا كالحج ، فان وجوبه يتعلق بالمكلف من أول زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة ويتوقف فعله على مجيئ وقته وهو غير مقدور له ، والفرق بين هذا النوع وبين الواجب المشروط هو ان التوقف هناك للوجوب ، وهنا للفعل .. »
2- نفس المصدر فإنه قدس سره ذكر بعد سطور مما نقلنا عنه في الصدر : « واعلم أنه كما يصح ان يكون وجوب الواجب على تقدير حصول امر غير مقدور ( وقد عرفت بيانه ) كذلك يصح ان يكون وجوبه على تقدير حصول امر مقدور فيكون بحيث لا يجب على تقدير عدم حصوله وعلى تقدير حصوله يكون واجبا قبل حصوله وذلك كما لو توقف الحج المنذور على ركوب الدابة المغصوبة. »

يكون الوجوب فيه أيضا حاليا إذا فرض وجود الشرط في موطنه ، فتجب مقدماته قبل وقته.

والفرق بين هذا والواجب المعلق الذي قال به صاحب الفصول ، هو ان الشرط في الواجب المعلق انما يكون شرط الواجب ومما يكون له دخل في مصلحته ، من دون ان يكون الوجوب مشروطا به وله دخل في ملاكه. وهذا بخلاف ذلك ، فان الشرط انما يكون شرطا للوجوب وله دخل في ملاكه ، لكن لما اخذ على نحو الشرط المتأخر كان تقدم الوجوب عليه بمكان من الامكان ، للعلم بحصول الشرط في موطنه ، على ما حققه من ارجاع الشرط المتأخر إلى الوجود العلمي.

وعلى كل حال ، كلامنا الان في امكان الواجب المعلق وعدم امكانه ، وانه هل يعقل ان يكون الوجوب حاليا مع توقف الواجب على قيد غير اختياري بحيث يترشح منه الوجوب إلى مقدماته؟ أو ان ذلك غير معقول ، بل لابد ان يكون الوجوب مشروطا بالنسبة إلى ذلك الامر الغير الاختياري ، ولا محيص من اخذه مفروض الوجود قبل الطلب حتى يكون الطلب متأخرا عنه على ما أوضحناه. وح إذا فرض وجوب مقدماته قبل ذلك ، فلا بد ان يكون ذلك بملاك آخر غير ملاك الوجوب الغيري الذي يترشح من وجوب ذي المقدمة ، إذ لا وجوب له قبل حصول الشرط ، فكيف يترشح الوجوب إلى مقدماته؟ بل وجوب المقدمات يكون حينئذ لبرهان التفويت على ما سيأتي بيانه.

إذا عرفت ذلك

فاعلم : ان امتناع الواجب المعلق في الأحكام الشرعية التي تكون على نهج القضايا الحقيقية بمكان من الوضوح ، بحيث لا مجال للتوهم فيه. نعم في القضايا الخارجية يكون للتوهم مجال ، وان كان الحق في ذلك أيضا امتناعه كما سيأتي.

اما امتناعه في القضايا الحقيقية ، فلان معنى كون القضية حقيقية ، هو اخذ العنوان الملحوظ مرآة لمصاديقه المفروض وجودها موضوعا للحكم ، فيكون كل حكم مشروطا بوجود الموضوع بما له من القيود ، من غير فرق بين ان يكون الحكم من الموقتات أو غيرها ، غايته ان في الموقتات يكون للموضوع قيد آخر سوى القيود المعتبرة

ص: 186

في موضوعات سائر الأحكام : من العقل والبلوغ والقدرة وغير ذلك ، وهذه القضية انشائها انما يكون أزليا وفعليتها انما تكون بوجود الموضوع خارجا. وحينئذ ينبغي ان يسئل ممن قال بالواجب المعلق ، انه أي خصوصية بالنسبة إلى الوقت حيث قلت بتقدم الوجوب عليه ، ولم تقل بذلك في سائر القيود؟ فكيف لم تقل بفعلية الوجوب قبل وجود سائر القيود من البلوغ والاستطاعة ، وقلت بها قبل وجود الوقت مع اشتراك الكل في اخذه قيدا للموضوع؟.

وليت شعري ما الفرق بين الاستطاعة في الحج والوقت في الصوم ، حيث كان وجوب الحج مشروطا بالاستطاعة بحيث لا وجوب قبلها ، وكان وجوب الصوم غير مشروط بالفجر بحيث يتقدم الوجوب عليه ، فان كان ملاك اشتراط وجوب الحج بالاستطاعة لمكان قيدية الاستطاعة للموضوع واخذها مفروضة الوجود ، فلا يمكن ان يتقدم الوجوب عليها والا يلزم الخلف ، فالوقت أيضا كذلك بالنسبة إلى الصوم فإنه قد اخذ قيدا للموضوع ، بل الامر في الوقت أوضح ، لأنه لا يمكن الا اخذه مفروض الوجود ، لأنه امر غير اختياري ينشأ من حركة الفلك ولا يمكن ان تتعلق به إرادة الفاعل من وجوه ، وقد عرفت ان كل قيد غير اختياري لابد ان يؤخذ مفروض الوجود ويقع فوق دائرة الطلب ، ويكون التكليف بالنسبة إليه مشروطا لا محالة والا يلزم تكليف العاجز. وهذا بخلاف الاستطاعة ، فإنها من الأمور الاختيارية التي يمكن تحصيلها.

وبالجملة : التكليف في القضايا الحقيقية لابد ان يكون مشروطا بالنسبة إلى جميع القيود المعتبرة في الموضوع ، من غير فرق في ذلك بين الزمان وغيره ، مضافا إلى ما في الزمان وأمثاله من الأمور الغير الاختيارية ، من أنه لا بد من اخذه مفروض الوجود ، والا يلزم تكليف العاجز. وح كيف يمكن القول بان التكليف بالنسبة إلى سائر قيود الموضوع يكون مشروطا؟ وبالنسبة إلى خصوصية الوقت والزمان يكون مط؟ فإنه مضافا إلى امتناع ان يكون مط بالنسبة إليه ، يسئل عن الخصوصية التي امتاز الوقت بها عن سائر القيود ، فإنه ان كان لمكان تقدم الانشاء عليه فالانشاء متقدم على جميع القيود ، لأنه أزلي ، وان كان لمكان عدم دخله في مصلحة الوجوب

ص: 187

وانما يكون له دخل في مصلحة الواجب ، فهذا مما لا دخل له بالمقام بعد ما فرض انه اخذ قيدا للموضوع وقال : يجب الصوم عند طلوع الفجر ، وقد عرفت : ان قيدية شيء للموضوع انما يكون باعتبار اخذه مفروض الوجود ، كما هو الشأن في القضايا الحقيقية ، وبعد اخذه مفروض الوجود لا يعقل ان يتقدم التكليف عليه ، لان معنى تقدم التكليف عليه هو ان يكون التكليف بالنسبة إليه مط ، كما هو الشأن في سائر القيود التي يتقدم التكليف عليها ، كالطهارة ، والساتر ، وغير ذلك. وهذا كما ترى يستلزم محالا في محال ، لأنه يلزم أولا لزوم تحصيله ، كما هو الشأن في جميع القيود التي تقع تحت دائرة الطلب ، كالطهارة والستر ، والمفروض انه لا يمكن تحصيله ، لأنه غير اختياري للمكلف ، ويلزم أيضا تحصيل الحاصل لاستلزامه تحصيل ما هو مفروض الوجود.

وبالجملة : دعوى امكان الواجب المعلق في القضايا الشرعية التي تكون على نهج القضايا الحقيقية في غاية السقوط والفساد ، بحيث لا ينبغي ان يتوهم.

واما دعوى امكانه في القضايا الخارجية فكذلك أيضا ، بل إن برهان الامتناع يطرد في كلا المقامين على نسق واحد ، لوضوح انه لو قال : صل في مسجد الكوفة عند طلوع الفجر ، فقد اخذ طلوع الفجر مفروض الوجود ، ولا يمكن ان لا يأخذه كذلك ، وبعد اخذه مفروض الوجود لا يمكن ان يتقدم التكليف عليه ، والا يلزم ما تقدم من المحال ، فكما ان التكليف يكون مشروطا بمجئ زيد عند قوله : لو جائك زيد فأكرمه ، فكذلك يكون التكليف مشروطا بطلوع الفجر عند قوله : صل في المسجد عند طلوع الفجر ، وبرهان الاشتراط في الجميع واحد ، وانه لابد من اخذ القيد مفروض الوجود إذا كان القيد غير اختياري للمكلف ، كمجئ زيد ، وقدوم الحاج ، وطلوع الفجر ، وغير ذلك ، وبعد اخذه مفروض الوجود لا يمكن ان يكون التكليف مط ويتقدم الوجوب عليه.

فظهر : ان برهان امتناع الواجب المعلق انما هو لأجل انه لا يمكن ان يكون التكليف مطلقا بالنسبة إلى قيد غير اختياري للمكلف ، بحيث لا يمكن ان تتعلق ارادته به ، بل لابد ان يكون التكليف بالنسبة إليه مشروطا. وليس برهان امتناع

ص: 188

الواجب المعلق هو امتناع تعلق التكليف بأمر مستقبل كما توهم ، فان ذلك مما لا يدعيه أحد ولا يمكن ادعائه ، وكيف يمكن انكار امكان تعلق التكليف بأمر مستقبل؟ مع أن الواجبات الشرعية كلها من هذا القبيل ، فلا كلام في ذلك ، وانما الكلام في كون التكليف مط أو مشروطا ، والا فان تعلق الإرادة بأمر مستقبل بمكان من الوضوح ، بحيث لا مجال لانكاره ، بل يستحيل ان لا تتعلق الإرادة من الملتفت بأمر مستقبل إذا كان متعلقا لغرضه ، لوضوح ان الشخص إذا التفت إلى شيء : من اكل ، وشرب ، وصلاة ، وصوم ، فاما ان لايكون ذلك الشيء متعلقا لغرضه ولا تقوم به مصلحة ولا مفسدة ، فلا كلام فيه. وأمان ان يكون ذلك الشيء متعلقا لغرضه ، فاما ان يكون متعلقا لغرضه على كل تقدير وفي جميع الحالات ، واما ان يكون متعلقا لغرضه على تقدير دون تقدير. وعلى الثاني اما ان يكون ذلك التقدير حاصلا عند الالتفات إلى الشيء ، واما ان يكون غير حاصل. وعلى الجميع ، اما ان يكون ذلك أمرا اختياريا له بحيث يمكن ان تتعلق الإرادة به ، واما ان يكون غير اختياري فهذه جملة ما يمكن ان يكون الشخص الملتفت عليه ، ولا يمكن ان يخلو عن أحدها. فان التفت إلى الشيء وكان ذلك الشيء متعلقا لغرضه بقول مط وعلى جميع التقادير ، فلا محيص من أن تنقدح الإرادة الفاعلية والآمرية نحو ذلك الشيء إرادة فعلية غير منوطة بأمر أصلا. وان كان ذلك الشيء متعلقا لغرضه على تقدير دون تقدير ، فان لم يكن ذلك التقدير حاصلا فلا يمكن ان تتعلق ارادته الفعلية به ، بل تتعلق الإرادة به على تقدير حصول ذلك التقدير ، بمعنى انه تحصل له إرادة منوطة بذلك التقدير ، واما فعلية الإرادة بان يستتبع حملة النفس وتصديها المستتبع لحركة العضلات فلا يمكن الا بعد حصول ذلك التقدير ، هذا بالنسبة إلى إرادة الفاعل.

وقس على ذلك إرادة الآمر ، فان الآمر لو التفت إلى أن الشيء الفلاني ذو مصلحة على تقدير خاص من مجيء زيد ، أو طلوع الفجر ، فلابد له من الامر بذلك الشيء مشروطا بحصول ذلك التقدير ، ولا يتوقف عن الامر عند الالتفات إليه ويصبر حتى يحصل التقدير فيأمر في ذلك الحال ، بل يأمر في حال الالتفات قبل حصول التقدير لكن مشروطا بحصول التقدير ، وهذا هو معنى كون انشاء الاحكام أزلية ، و

ص: 189

انه ليست الاحكام من قبيل القضايا الجزئية الخارجية ، بحيث يكون انشاء الحكم بعد حصول الموضوع وتحقق القيود خارجا ، فإنه مضافا إلى امكان دعوى قيام الضرورة على خلافه ، لا يمكن ذلك بعد ما كان الآمر الحكيم ملتفتا أزلا إلى أن الشيء الفلاني ذو مصلحة في موطن وجوده ، فلا بد من الامر بذلك الشيء قبلا ، لكن مشروطا بتحقق موطن وجوده ، ولا يصبر ويسكت فعلا عن الامر إلى أن يتحقق موطن وجوده.

والى هذا كان نظر الشيخ قده فيما افاده بقوله : لان العاقل إذا توجه إلى شيء والتفت إليه ، فاما ان يتعلق طلبه به أولا يتعلق الخ ، (1) فراجع ما في التقرير ،

ص: 190


1- اعلم أن لصاحب التقريرات في المقام تقريبان ذكرهما في دفع ما ذهب إليه صاحب الفصول من التخلص عن العويصة بالالتزام بالواجب المعلق. أحدهما : ما ذكره بناء على ما ذهب إليه الإمامية من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد ، قال : « فالطالب إذا تصور الفعل المطلوب فهو اما ان تكون المصحلة الداعية إلى طلبه موجودة فيه على تقدير وجوده في ذلك الزمان فقط ، أولا يكون كذلك ، بل المصلحة فيه تحصل على تقدير خلافه أيضا ، فعلى الأول فلا بد ان يتعلق الامر بذلك الفعل على الوجه الذي يشتمل على المصلحة كان يكون المأمور به هو الفعل المقيد بحصوله في الزمان الخاص ، وعلى الثاني يجب ان يتعلق الامر بالفعل المطلق بالنسبة إلى خصوصيات الزمان ولا يعقل ان يكون هناك قسم ثالث يكون القيد الزماني راجعا إلى نفس الطلب دون الفعل المطلوب ، فان تقييد الطلب حقيقة مما لا معنى له ، إذ لا اطلاق في الفرد الموجود منه المتعلق بالفعل حتى يصح القول بتقييده بالزمان أو نحوه ، فكل ما يحتمل رجوعه إلى الطلب الذي يدل عليه الهيئة فهو عند التحقيق راجع إلى نفس المادة وبعد ذلك يظهر عدم اختلاف المعنى الذي هو المناط في وجوب المقدمة. ». ثانيهما : ما ذكره بناء على عدم الالتزام بالتبعية. قال : « فان العاقل إذا توجه إلى امر والتفت إليه ، فاما ان يتعلق طلبه بذلك الشيء أولا يتعلق طلبه به ، لا كلام على الثاني. وعلى الأول فاما ان يكون ذلك الامر موردا لامره وطلبه مطلقا على جميع اختلاف طواريه أو على تقدير خاص ، وذلك التقدير الخاص قد يكون شيئا من الأمور الاختيارية كما في قولك : ان دخلت الدار فافعل كذا وقد يكون من أمور التي لا مدخل للمأمور به فيه لعدم ارتباطه بما هو مناط تكليفه كما في الزمان وأمثاله ، لا اشكال فيما إذا كان المطلوب مطلقا. وأما إذا كان مقيدا بتقدير خاص راجع إلى الأفعال الاختيارية فقد عرفت فيما تقدم اختلاف وجوه مصالح الفعل ، إذ قد يكون المصلحة في الفعل على وجه يكون ذلك القيد خارجا عن المكلف به بمعنى ان المصلحة في الفعل المقيد لكن على وجه لايكون ذلك القيد أيضا موردا للتكليف ، هذا على القول بالمصلحة. واما على تقدير عدمها كما هو المفروض فالطلب متعلق بالفعل على هذا الوجه فيصير واجبا مشروطا ، وقد يكون المصلحة في الفعل المقيد مطلقا فيصير واجبا مطلقا ، لكن المطلوب شيء خاص يجب تحصيل تلك الخصوصية أيضا ، ومما ذكرنا في المشروط يظهر الاطلاق أيضا بناء على عدم المصلحة لتعلق الطلب بالفعل على الوجه المذكور. وأما إذا لم يكن راجعا إلى الأمور الاختيارية فالمطلوب في الواقع هو الفعل المقيد بذلك التقدير الخاص ولا يعقل فيه فيه الوجهان كما إذا كان فعلا اختياريا كما عرفت ، فرجوع القيد تارة إلى الفعل وأخرى إلى الحكم بحسب القواعد العربية مما لا يجهل بعد اتحاد المناط في هذه المسألة العقلية. » ( مطارح الأنظار ، الهداية الخامسة من مباحث مقدمة الواجب ص 49 - 48 )

فان نظر الشيخ في هذا التقسيم انما هو إلى ما ذكرنا : من أنه ليس انشاءات الأحكام الشرعية بعد تحقق الموضوع خارجا حتى تكون من قبيل القضايا الخارجية ، بل انما تكون انشاءاتها أزلية حيث إن الآمر يكون ملتفتا إليها أزلا ، وليس غرض الشيخ قده من هذا التقسيم ارجاع القيود إلى المادة حتى ينتج امتناع الواجب المشروط ، أو اثبات الواجب المعلق كما استظهره بعض ، وان كانت عبارة التقرير لا تخلو عن مسامحة وايهام.

وعلى كل تقدير ، ليس مبنى انكار الواجب المعلق هو امتناع التكليف بأمر مستقبل ، بل مبنى الانكار هو ما عرفت : من أن كل قيد غير اختياري لابد ان يؤخذ مفروض الوجود ، ويقع فوق دائرة الطلب ، ومعه لا يكاد يمكن تقدم الوجوب عليه لأنه يلزم الخلف ، وح لو وجبت مقدماته قبل الوقت ، فلا بد ان يكون ذلك بملاك اخر غير ملاك الوجوب الغيري الذي يترشح من وجوب ذي المقدمة ويستتبع ارادته ارادتها.

فان قلت :

نحن لا نجد فرقا ، بين ما لو امر المولى بشيء في وقت خاص على نحو اخذ الوقت قيدا ، كما إذا قال : صل في مسجد الكوفة عند طلوع الفجر ، وبين ما لو أطلق امره ولم يقيده بوقت خاص ، ولكن المكلف لا يتمكن من امتثاله الا بعد مضى مقدار من الوقت ، كما لو امر بالصلاة في مسجد الكوفة من غير تقييد ، ولكن المكلف كان في مكان لا يمكنه الصلاة في مسجد الكوفة الا عند طلوع الفجر لاحتياجه إلى السير والمشي الذي لا يصل إليه قبل ذلك ، فإنه كما أن نفس الامر يقتضى وجوب المشي و

ص: 191

السير عند اطلاقه ، ويستتبع وجوب مقدمات الصلاة في المسجد ، وتترشح إرادة المقدمات من نفس إرادة الصلاة في المسجد ، فكذلك في صورة تقييد الامر بالصلاة في المسجد عند طلوع الفجر ، فإنه يجب عليه أيضا المشي والسير لادراك الصلاة في المسجد عند الطلوع ويستتبع وجوب المقدمات وتترشح ارادتها من نفس إرادة الصلاة في المسجد عند الطلوع ، وهذا لايكون الا بتقدم الوجوب على الفجر حتى يقتضى وجوب السير وان كان الواجب استقباليا ، ولا نعنى بالواجب المعلق الا هذا.

والحاصل : انه بعد تمامية مبادئ الإرادة كما هو مفروض الكلام ، حيث إن الكلام فيما إذا لم يكن للزمان دخل في مصلحة الوجوب وكان له دخل في مصلحة الواجب ، فلابد من انقداح الإرادة الآمرية والفاعلية في نفس الآمر والفاعل ، وكون المراد متأخرا أو متوقفا على قيد غير حاصل لا يمنع من انقداح الإرادة الفعلية في النفس ، كما يتضح ذلك بما قدمناه من المثال ، حيث لا نجد فرقا بين ما كان المطلوب نفس الصلاة في المسجد ، أو كان المطلوب الصلاة في المسجد في وقت خاص ، فإنه في كلا المقامين يقتضى الجري نحو المقدمات ، ويوجب السعي والمشي لادراك المطلوب ، وليس ذلك الا لمكان فعلية الإرادة.

قلت :

ليس الامر كذلك ، فإنه لو كان المطلوب نفس الصلاة في المسجد من غير اعتبار وقت خاص ، فالإرادة الفاعلية أو الآمرية تتعلق بنفس الصلاة لكونها مقدورة ، وان توقف فعلها على سعى ومشى ولكن ذلك لا يخرجها عن كونها مقدورة ولو بالواسطة ، كما هو الشأن في جميع ما يكون مقدورا بالواسطة ، حيث تتعلق الإرادة به نفسه في الحال ، ومن تعلق الإرادة به تتعلق إرادة تبعية بمقدماته ، فلو كانت نفس الصلاة بلا قيد مطلوبا كانت الإرادة لا محالة متعلقة بها ، ويلزمها تعلق الإرادة التبعية بمقدماتها من السعي والمشي.

واما لو كانت الصلاة مطلوبة على تقدير خاص من وقت مخصوص ، والمفروض ان ذلك التقدير ليس اختياريا للشخص بحيث يمكنه تحصيله ، فلا يمكن ان

ص: 192

تتعلق الإرادة بها مرسلة ، بل انما تتعلق الإرادة بها على تقدير حصول الوقت ، وكيف يمكن ان تتعلق الإرادة بأمر مقيد بما هو خارج عن القدرة مع عدم حصوله؟ إذ ليست الإرادة عبارة عن نفس الحب والشوق حتى يقال : يمكن تعلق الحب والشوق بأمر محال التحقق ، فضلا عما يمكن تحققه ولو عن غير اختيار ، فضلا عما هو مقطوع التحقق كالفجر في المثال ، بل المراد من الإرادة هي التي يعبر عنها بالطلب عند من يقول باتحاد الطلب والإرادة ، ومعلوم : ان الطلب عبارة عن حملة النفس وتصديها نحو المطلوب ، وهل يعقل تصدى النفس نحو ما يكون مقيدا بأمر غير اختياري؟ كلا لا يمكن ذلك ، بل النفس انما تتصدى نحو الامر الاختياري ، وهو ذات الصلاة ، والمفروض ان ذاتها ليست مطلوبة ، بل المطلوب منها هو خصوص المقيدة بكونها عند الطلوع ، وفرضنا انها باعتبار القيد غير اختيارية ، فكيف يمكن ان تتعلق الإرادة الفعلية بها؟ وما يترائى من المشي والسعي نحو مسجد الكوفة لادراك الصلاة عند طلوع الفجر إذا كانت مطلوبة بهذا الوجه ، فإنما هو لمكان التفويت ، حيث إنه لو لم يسع إلى ذلك يفوت عنه مصلحة الصلاة في المسجد عند الفجر ، وأين هذا مما نحن فيه ، من تعلق الإرادة التبعية الناشئة من إرادة ذي المقدمة؟ فان باب الإرادة التبعية امر ، وباب التفويت امر آخر ، فالمستشكل كان حقه ان لا يمثل بما يجرى فيه برهان التفويت ، بل يفرض الكلام فيما إذا لم يتوقف المطلوب على مقدمات يلزم تحصيلها لمكان التفويت ، كما لو فرض ان الشخص حاضر في مسجد الكوفة ، ففي مثل هذا يتضح الفرق بين المثالين : مثال كون الصلاة مطلوبة بلا قيد ، ومثال كونها مطلوبة عند طلوع الفجر ، فهل يمكنه ان يقول : انه لا نجد فرقا بين المثالين؟ كلا لا يمكنه ذلك ، فإنه لو كانت نفس الصلاة مطلوبة بلا قيد فلا محالة انه يحرك عضلاته نحوها ويأتي بها في الحال ، بخلاف ما إذا كانت مطلوبة على تقدير طلوع الفجر ، فإنه لا يحرك عضلاته نحوها في الحال بل ينتظر ويصبر حتى يطلع الفجر. وليس ذلك الا لمكان عدم تعلق الإرادة الفعلية بها ، وهل يمكن لاحد ان يدعى عدم الفرق بين المثالين وان الإرادتين في كليهما على نهج واحد؟.

فعلم من جميع ما ذكرنا : انه لا مجال لدعوى امكان الواجب المعلق ، وان

ص: 193

تثليث الأقسام مما لاوجه له ، بل الواجب ينقسم إلى مطلق ومشروط ، من دون ان يكون لهما ثالث ، فكل خصوصية لم تؤخذ مفروضة الوجود فالواجب يكون بالنسبة إليها مط ، وان اخذت مفروضة الوجود فالواجب بالنسبة إليها مشروط ، وتقسيم المقدمة إلى الوجودية والوجوبية انما ينشأ من هذا ، فان المقدمة الوجودية هي ما اخذت تحت دائرة الطلب ، والمقدمة الوجوبية هي ما اخذت فوق دائرة الطلب ، وهي التي لوحظت مفروضة الوجود ، سواء كانت اختيارية أو غير اختيارية ، فإنه لا يفترق الحال في ذلك بعد اخذها مفروضة الوجود.

ثم انه لا اشكال ، في أن وجوب المقدمات الوجودية يتبع في الاطلاق والاشتراط وجوب ذيها ، فان كان وجوب ذي المقدمة مط فلابد ان يكون وجوب المقدمات الوجودية أيضا مط ، وان كان مشروطا فكذلك ، والسر في ذلك واضح ، لان وجوب المقدمة انما يترشح من وجوب ذيها ، فلا يعقل ان يكون وجوب ذي المقدمة مشروطا ووجوب المقدمة مط ، لان فاقد الشيء لا يمكن ان يكون معطي الشيء ، فلا تجب المقدمات الوجودية الا عند وجوب ذيها وحصول ما يكون شرطا لوجوبها. هذا حسب ما تقتضيه قاعدة التبعية عقلا.

ولكن انحزمت هذه القاعدة في عدة موارد ، حيث كانت المقدمات الوجودية لازمة التحصيل قبل وجوب ذيها وحصول المقدمة الوجوبية ، والذي ألجأ صاحب الفصول إلى الالتزام بالواجب المعلق هو هذا ، حيث شاهد وجوب بعض المقدمات الوجودية قبل حصول ما هو الشرط في وجوب ذي المقدمة كالوقت ، فالتزم بتقدم الوجوب على الوقت. وحيث أبطلنا الواجب المعلق فلا بد لنا من بيان وجه وجوب تلك المقدمات الوجودية قبل وجوب ذيها.

ولا يخفى عليك : اختلاف كلمات الفقهاء واضطرابها في بيان الموارد التي تجب فيها المقدمات ، فتريهم في مورد يحكمون بوجوب المقدمة الوجودية قبل حصول وقت ذي المقدمة ، وتريهم في مورد آخر لا يحكمون بذلك ، كما أنه في المورد الواحد يفرقون بين المقدمات الوجودية ، فيوجبون بعضها ولا يوجبون البعض الاخر ، مثلا تريهم يقولون : لا يجوز إراقة الماء قبل الوقت لمن يعلم بأنه لا يتمكن من الوضوء بعد

ص: 194

الوقت ، ومع ذلك يقولون : بجواز اجناب نفسه مع علمه بعدم تمكنه من الغسل. وكذا تريهم في باب الاستطاعة يقولون : انه لا يجوز تفويتها بعد حصولها ولو قبل أشهر الحج ، وربما خص ذلك بعض بأشهر الحج وانه قبل ذلك يجوز تفويتها. وربما يفرقون ، بين المقدمات الوجودية الحاصلة قبل الوقت فلا يجوز تفويتها ، وبين المقدمات الغير الحاصلة فلا يجب تحصيلها.

وبالجملة : المسألة مشكلة جدا والكلمات فيها مضطربة غاية الاضطراب.

وقد يدفع الاشكال باعتبار الملاك ، حيث إن المقدمات الوجودية لما لم يكن لها دخل في الملاك ، فكل مورد تم ملاك الوجوب لزم تحصيل مقدمات الواجب وإن كان ظرف امتثال الواجب متأخرا ، الا انه لما لم يتمكن من تحصيل المقدمات في ظرف وجوبه ، كان اللازم عليه عقلا حفظ قدرته من قبل لمكان تمامية الملاك ، ويكون هذا الحكم العقلي كاشفا عن متمم الجعل وان هناك جعلا مولويا بلزوم تحصيل المقدمات.

لكن هذا البيان لا يفي بالموارد التي حكموا فيها بلزوم تحصيل المقدمات قبل وجوب ذي المقدمة ، فإنك تريهم يحكمون بلزوم تحصيل بعض المقدمات ولو قبل تمامية الملاك ، كإراقة الماء قبل الوقت ، مع أن الوقت في باب الصلاة له دخل في أصل الملاك ، كما ربما يستظهر ذلك من قوله : إذا زالت الشمس وجب الطهور والصلاة ، فان الظاهر منه ان للزوال دخلا في أصل ملاك الوجوب ، مع أنه بناء على هذا لا ينبغي الفرق بين المقدمات الوجودية ، فكيف حرم إراقة الماء؟ ولم يجب تحصيل الماء لمن كان فاقدا له؟ حيث إن الظاهر أنهم لم يقولوا بوجوب تحصيل الماء قبل الوقت لمن يعلم بعدم حصوله بعده.

وبالجملة : هذا البيان انما يتم في بعض موارد المسألة كوجوب المسير للحج بعد الاستطاعة ، والغسل قبل الفجر ، حيث تم ملاك وجوب الحج والصوم بالاستطاعة ودخول الليل ، فلابد من بيان آخر يكون حاويا لأطراف المسألة.

والذي ينبغي ان يقال هو انه تارة : يقع الكلام في المقدمات المفوتة التي يوجب فواتها عجز المكلف عن فعل المأمور به وعدم قدرته عليه ، كترك المسير إلى

ص: 195

الحج ، وإراقة الماء ، وعدم الغسل قبل الفجر ، وأمثال ذلك من المقدمات الوجودية التي يوجب فواتها سلب قدرة المكلف عن الفعل. وأخرى : يقع الكلام في المقدمات العلمية ، أي في لزوم تحصيل العلم بالأحكام والفحص عنها ، ولا يندرج هذا في المقدمات المفوتة على ما سيأتي بيانه ، فالكلام يقع في مقامين :

المقام الأول :

في المقدمات المفوتة أي المقدمات التي لها دخل في قدرة المكلف على فعل المأمور به بحيث انه لولاها لما كان قادرا عليه ، وبعبارة أخرى : المراد من المقدمات المفوتة هي المقدمات التي لها دخل في حصول الواجب بما له من القيود الشرعية في وقته على وجه لا يتمكن المكلف من فعله في وقته بدون تلك المقدمات ، كالماء الذي يتوقف الصلاة مع الطهارة عليه ، والساتر الذي يتوقف الصلاة مع الستر عليه ، وهكذا ، وكنفس حفظ القدرة التي يتوقف عليها الواجب ، كما لو فرض انه لو عمل العمل الكذائي لا يتمكن من الصلاة في وقتها فيكون العمل مفوتا للقدرة عليها ، وبذلك يندرج في المقدمات المفوتة ، فالمراد من المقدمات المفوتة هي المقدمات العقلية التي يتوقف عليها الواجب ، لا المقدمات الشرعية من القيود والشرائط ، ومن هنا نقول : لا يجب الوضوء قبل الوقت لمن يعلم أنه لا يتمكن من الوضوء بعده ، بخلاف حفظ الماء حيث إنه يجب حفظه.

والسر في ذلك : هو ان الوضوء انما يجب بعد الوقت لأنه من قيود المأمور به ، فحاله من هذه الجهة كحال الاجزاء وكذا الستر وغير ذلك من القيود الشرعية ، ومعلوم : انه لم يقم دليل على هذه الكلية بحيث يلزم تحصيل كل مقدمة يكون لها دخل في قدرة المكلف مط ولو قبل حصول شرط الوجوب وقبل مجيئ وقته لمن يعلم بحصوله فيما بعد ، إذ لم يقل أحد بوجوب السير إلى الحج قبل الاستطاعة لمن يعلم بحصولها فيما بعد مع عدم تمكنه من السير بعدها ، فلزوم تحصيل المقدمات المفوتة بهذه الكلية مما لا دليل عليه ، ولم يدعه أحد ، بل انما قالوا بلزوم تحصيل المقدمات المفوتة في الجملة في بعض الموارد ، وفي بعض الحالات في خصوص بعض المقدمات ، ومعلوم : انه لم يقم دليل بالخصوص في كل مورد حكموا فيه بلزوم تحصيل المقدمات

ص: 196

المفوتة ، فلابد ح من بيان ما يكون ضابطا للموارد التي يجب تحصيل المقدمات فيها ويحرم تفويتها ، ويتوقف ذلك على تحرير كيفية اعتبار القدرة على متعلقات التكاليف بعد ما كان لا اشكال في اعتبارها.

فنقول :

ان القدرة اما ان تكون عقلية ، واما ان تكون شرعية ، ونعني بالقدرة العقلية : ما إذا لم تؤخذ في لسان الدليل ، بل كان اعتبارها لمكان حكم العقل بقبح تكليف العاجز من دون ان يكون الشارع قد اعتبرها ، ويقابلها القدرة الشرعية ، وهي ما إذا اخذت في لسان الدليل بحيث يكون الشارع قد اعتبرها.

فان كانت القدرة المعتبرة هي القدرة العقلية ، فحيث لم يكن للقدرة العقلية دخل في ملاك الحكم وانما يكون لها دخل في حسن الخطاب ، فلابد من الاقتصار على المقدار الذي يحكم العقل باعتباره ، ومعلوم : ان مناط حكم العقل باعتبار القدرة انما هو قبح تكليف العاجز ، وهذا انما يكون إذا كان الشخص عاجزا بنفسه وبذاته ، بحيث لايكون له إلى الفعل سبيل كالطيران في الهواء فان التكليف بمثل هذا قبيح على المولى كما يقبح العقاب منه عليه.

وأما إذا لم يكن الشخص عاجزا بنفسه وبذاته ، بل هو عجز نفسه بسوء اختياره وسلب عنه القدرة ، ففي مثل هذا لا يحكم العقل بقبح عقابه وان قبح تكليفه بعد عجزه ، ولا ملازمة بين قبح التكليف وقبح العقاب ، فان قبح التكليف لمن عجز نفسه انما هو لمكان لغوية التكليف حيث لا يصلح ان يكون التكليف محركا وباعثا نحو الفعل ، وهذا بخلاف العقاب فإنه لا يقبح عقابه بعد ما كان الامتناع بسوء اختياره. وهذا معنى ما يقال : ان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فإنه انما لا ينافيه عقابا لا خطابا خلافا للمحكى عن أبي هاشم حيث قال : انه لا ينافيه لا خطابا ولا عقابا ، وسيأتي ضعفه في بعض المباحث الآتية انشاء اللّه تعالى.

إذا عرفت ذلك

فنقول : ان كل واجب لم يعتبر فيه القدرة شرعا ، كان مقتضى القاعدة لزوم

ص: 197

تحصيل مقدماته التي لم تكن حاصلة وحرمة تفويت المقدمات الحاصلة ولو قبل مجيئ زمان الواجب ، بل وقبل تمامية ملاك الوجوب أيضا ، إذ العقل يستقل بحفظ القدرة ولزوم تحصيل المقدمات الاعدادية ، لما عرفت : من أن اعتبار القدرة العقلية انما هو لمكان قبح تكليف العاجز ، ومثل هذا الشخص لايكون عاجزا بل يكون قادرا ولو بحفظ قدرته ، أو تحصيلها بتهيئته المقدمات الاعدادية التي له إليها سبيل ، والا لا ندرج في قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فان القاعدة لا تختص بما بعد ثبوت التكليف وتوجه الخطاب ، حتى يقال : ان الكلام في لزوم تحصيل المقدمات قبل ثبوت التكليف وتوجه الخطاب ، بل مورد القاعدة أعم من ذلك ، فتشمل ما نحن فيه ، فأنه لو فرض ان التكليف بصوم الغد لم يقيد بالقدرة الشرعية ، وانما اعتبر فيه القدرة العقلية حتى لايكون من التكليف العاجز ، وكان صوم الغد يتوقف على مقدمات لا يمكن تهيئتها في الغد ، وكان متمكنا من تهيئتها قبل ذلك ، كان عدم تهيئة المقدمات موجبا لامتناع التكليف بالصوم بسوء اختياره ، فيندرج في القاعدة ، من غير فرق بين ان يكون لزمان الغد دخل في ملاك الواجب فقط ، أو كان له دخل في ملاك الوجوب أيضا ، فان العبرة انما هو بكون الامتناع بالاختيار ، وهذا لا يفرق فيه بين القسمين كما لا يخفى.

فتحصل : ان كل واجب كان مشروطا بالقدرة العقلية يلزم تحصيل مقدماته التي يتوقف القدرة عليه في زمانه عليها. هذا إذا كانت القدرة المعتبرة عقلية.

وان كانت القدرة المعتبرة شرعية ، فلابد من النظر في كيفية اعتبارها ، فتارة : تعتبر شرعا على النحو الذي تعتبر عقلا من دون ان يتصرف الشارع فيها ، بان اعتبر القدرة على وجه خاص أو في زمان مخصوص ، بل اعتبرها بتلك السعة التي كان العقل معتبرا لها ، كما إذا قال : ان قدرت فأكرم زيدا في الغد ، وح يكون الكلام فيها هو عين الكلام في القدرة العقلية ، من لزوم تهيئة المقدمات التي يتوقف القدرة على صوم الغد عليها ، فإنه لافرق ح بين هذه القدرة الشرعية والقدرة العقلية. سوى ان القدرة العقلية لا دخل لها في الملاك ، والقدرة الشرعية لها دخل فيه ، وهذا لا يصلح فارقا في المقام.

ص: 198

فان قلت :

كيف لا يصلح فارقا؟ فإنه بعد البناء على أن القدرة الشرعية لها دخل في الملاك كيف يمكن القول بلزوم تهيئة مقدمات القدرة؟ فان معنى ذلك هو لزوم تهيئة مقدمات حدوث الملاك ، وبعبارة أخرى : الملاك انما يحصل ويحدث بالقدرة ، بحيث لولا القدرة لما كان هناك ملاك ، كما هو الحال في سائر القيود الشرعية التي لها دخل في الملاك ، ومع هذا كيف توجبون تحصيل القدرة عليه؟ وكيف يندرج عند عدم تحصيلها تحت قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار؟ فإنه لو لم يحصل القدرة لم يكن هناك ملاك للحكم ومع عدم ثبوت الملاك واقعا كيف يعاقب وعلى أي شيء يعاقب؟ مع أنه لا ملاك ولا حكم واقعا ، ومورد قاعدة الامتناع بالاختيار - حيث نقول بالعقاب فيه انما هو فيما إذا أوجب الامتناع بالاختيار تفويت الملاك بعد ثبوته ، واما الامتناع بالاختيار مع عدم ثبوت الملاك واقعا في ظرف التفويت ، فان العقاب يكون حينئذ بلا موجب.

قلت :

نعم القدرة الشرعية وان كان لها دخل في الملاك بحيث لولاها لما كان هناك ملاك واقعا ، الا ان المفروض ان الذي له دخل في الملاك ، هي القدرة بمعناها الأعم الشامل للقدرة على تحصيلها وتهيئة مقدماتها الاعدادية ، لان محل الكلام هو ما إذا اعتبر القدرة بتلك السعة التي يحكم بها العقل في لسان الدليل ، فالذي يكون له دخل في الملاك هي القدرة الواسعة الشاملة للقدرة على تحصيلها وحفظها بعد حصولها وتهيئة مقدماتها ، وهذا المعنى من القدرة حاصل بالفرض ، لان الكلام فيمن يمكنه تهيئة مقدمات القدرة وحفظها ، والا كان خارجا عن الكلام موضوعا ، فما له دخل في الملاك حاصل ، ومعه يندرج تحت قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، لأنه لو لم يحفظ قدرته مع تمكنه من حفظها فقد فوت الملاك بسوء اختياره مع ثبوته ، لحصول شرطه وهو تمكنه من حفظ القدرة أو تحصيلها ، فتأمل في المقام جيدا فإنه لا يخلوا من دقة.

فتحصل : انه لو اعتبرت القدرة شرعا بنحو ما يعتبرها العقل من السعة ،

ص: 199

كان اللازم وجوب تهيئة مقدمات القدرة على الواجب ، ولو قبل مجيئ زمان وجوبه إذا لم يتمكن من تهيئتها في زمانه ، والا كان مندرجا تحت قاعدة الامتناع بالاختيار.

ويندرج في هذه القسم مسألة حفظ الماء قبل الوقت ، فان القدرة على الماء انما اعتبرت شرعا بقرينة قوله تعالى : (1) « فلم تجدوا ماء فتيمموا » الخ ، حيث إن التفصيل قاطع للشركة ، فيظهر منه ان الوضوء مقيد شرعا بوجدان الماء ، وبعد قيام الدليل على وجوب حفظ الماء قبل الوقت - على ما حكى شيخنا الأستاذ مد ظله بأنه وردت رواية في ذلك ، وان لم أعثر عليها - يستفاد منه : ان القدرة المعتبرة في الوضوء انما تكون على نحو القدرة العقلية وبتلك السعة (2) ولكن هذا بعد قيام الدليل على وجوب حفظ الماء ، والا فان من نفس اخذ القدرة شرعا في الوضوء لا يمكن استفادة ذلك ، بل غايته استفادة القدرة بعد الوقت. هذا بالنسبة إلى الماء.

واما بالنسبة إلى الساتر ونحوه مما يتوقف عليه القدرة على الواجب بقيوده في الوقت ، فالقدرة المعتبرة فيه انما تكون عقلية محضة كالقدرة على نفس الصلاة ، وعليه يجب حفظ الساتر أو تحصيله قبل الوقت لمن لا يتمكن منه بعده ، ولا نحتاج في ذلك إلى قيام دليل عليه ، بل القدرة العقلية تقتضي ذلك كلزوم حفظ القدرة على أصل الصلاة بان لا يعمل عملا يوجب فوات القدرة عليها في وقتها ، والسر في ذلك : هو ان القدرة المعتبرة فيها عقلية فيجب حفظها. هذا إذا اعتبرت القدرة شرعا بتلك السعة.

وأخرى : لا تعتبر بتلك السعة ، بل اعتبرت على وجه خاص ، فالمعتبر ملاحظة كيفية الاعتبار ، فتارة : تعتبر على كيفية يقتضى أيضا تحصيل مقدمات القدرة ولو قبل مجيء وقت الواجب ، كما إذا قال : أكرم عمروا في الغد ان ، قدرت عليه بعد مجيء زيد ، ففي مثل هذا يكون العبرة بحصول القدرة بعد مجيء زيد ، ولا اثر .

ص: 200


1- المائدة ، الآية 6
2- ولازم ذلك هو لزوم تحصيل الماء قبل الوقت ، والظاهر : انه لا يلتزمون بذلك ، فتأمل - منه.

للقدرة قبل مجيئه ولا يلزم تحصيلها من قبل لو علم بعدمها بعد مجيء زيد ، لأن المفروض ان القدرة بعد المجئ هي المعتبرة وهي التي يكون لها دخل في الملاك ، فما لم تحصل القدرة بعد المجئ لم يكن هناك ملاك للحكم ثبوتا ، وح لا موجب لايجاب تحصيلها قبل مجيء زيد ، فان عدم تحصيلها لا يوجب الا عدم ثبوت الملاك ، وهذا لا ضير فيه لعدم اندراجه تحت دائرة الامتناع بالاختيار ، لما عرفت غير مرة ان مورد القاعدة انما هو فيما إذا كان الامتناع موجبا لتفويت الملاك بعد ثبوته ، فلا يدخل فيها مورد عدم ثبوته ، نعم يلزمه تحصيل القدرة على الاكرام في الغد بعد مجيء زيد بتهيئة مقدماته لو لم يمكنه ذلك في الغد ، لاندراجه حينئذ تحت قاعدة الامتناع بالاختيار كما لا يخفى وجهه.

ولعل مثال الحج من هذا القبيل ، حيث نقول : انه لا يجب عليه تحصيل المقدمات من السير وغيره قبل تحقق الاستطاعة ، ويجب عليه ذلك بعد حصولها ، فان السير قبل الاستطاعة يكون من قبيل تحصيل القدرة قبل مجيء زيد في المثال المتقدم ، بخلافه بعد الاستطاعة فإنه يكون من قبيل تحصيلها بعد مجيئه الذي قلنا بلزومه.

وأخرى : تعتبر على وجه لا يلزم تحصيل المقدمات قبل مجيء زمان الواجب ، كما إذا اخذت القدرة شرطا شرعيا في وقت وجوب الواجب ، كما إذا قال : ان قدرت على اكرام زيد في الغد فأكرمه ، بان يكون الغد قيدا للقدرة أيضا ، كما أنه قيد للاكرام ، وفي مثل هذا لا يلزم تحصيل مقدمات القدرة من قبل الغد كما لا يخفى.

ثم لا يخفى عليك : ان عدم وجوب تحصيل القدرة في هذا القسم ، انما هو فيما إذا لم يتوقف الواجب على تهيئة مقدماته العقلية التي لها دخل في القدرة قبل الوقت دائما أو غالبا ، فلو توقف الواجب دائما أو غالبا على تهيئة المعدات قبل الوقت ، بحيث يكون حصول المقدمات في الوقت لا يمكن ، أو أمكن بضرب من الاتفاق ، كان اللازم تهيئة المقدمات من قبل ، لان نفس كون الواجب كذلك يلازم الامر بتحصيل المقدمات من قبل ، والا للغي الواجب بالمرة فيما إذا كان التوقف دائميا ، أو قل مورده فيما إذا كان غالبيا ، ففي مثل هذا لا نحتاج إلى قاعدة الامتناع بالاختيار ، بل نفس

ص: 201

الدليل الدال على وجوب الواجب يدل على وجوب تحصيل مقدماته من قبل بالملازمة ودليل الاقتضاء ، وذلك كما في الغسل قبل الفجر ، حيث إن الامر بالصوم متطهرا من الحدث الأكبر من أول الفجر يلازم دائما وقوع الغسل قبل الفجر ، وح نفس الامر بالصوم يقتضى ايجاب الغسل قبله بالملازمة المذكورة ، هذا.

ولكن المثال خارج عما نحن فيه لان الغسل من القيود الشرعية ، وقد عرفت في أول البحث ان الكلام في المقدمات المفوتة ، انما هو في المقدمات العقلية والمعدات التي لها دخل في القدرة على الواجب ، ولك ان تجعل مثال الحج مما نحن فيه ، حيث إن الحج بالنسبة إلى البعيد دائما يتوقف على السير من قبل ، فنفس الامر بالحج يقتضى الامر بالسير من قبل أيام الحج للملازمة المذكورة.

وعلى كل حال ، قد عرفت اقسام اعتبار القدرة في الواجب ، من كونها عقلية ، أو شرعية على أقسامها الثلاثة ، وعرفت أيضا مورد المقدمات المفوتة للقدرة ، واندراجها تحت قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

وحينئذ نقول : ان كل مورد حكم العقل بتحصيل القدرة أو حفظها قبل مجيئ زمان الواجب ، فلابد ان نستكشف من ذلك خطابا شرعيا على طبق ما حكم به العقل بقاعدة الملازمة ، وعليه يجب تحصيل القدرة أو حفظها شرعا ، ويكون السير للحج وحفظ الماء وتحصيل الساتر مأمورا به شرعا ، وكذا حرمة العمل الذي يوجب سلب القدرة على الواجب ، وغير ذلك من المقدمات المفوتة.

ولكن ينبغي ان يعلم : ان الوجوب الشرعي في المقام ليس على حد سائر الواجبات الشرعية في كونه نفسيا يثاب ويعاقب على فعله وتركه ، بل الوجوب في المقام مقدمي ويكون من سنخ وجوب المقدمة غايته : ان وجوب المقدمة في سائر المقامات يجئ من قبل وجوب ذيها ويترشح منه إليها ، وهذا في المقام لا يمكن لعدم وجوب ذيها بعد ، فلا يعقل ان يكون وجوبها ترشحيا ، الا انه مع ذلك لم يكن وجوب المقدمات المفوتة نفسيا لمصلحة قائمة بنفسها بحيث يكون الثواب والعقاب على فعلها وتركها ، بل وجوبها انما يكون لرعاية ذلك الواجب المستقبل ، ولمكان التحفظ عليه وعدم فواته في وقته أوجب الشارع تحصيل المقدمات وحفظ القدرة ، فيكون

ص: 202

وجوبها من سنخ وجوب المقدمة ، وان افترقا فيما ذكرناه ، فالثواب والعقاب انما يكون على ذلك الواجب المستقبل.

وحاصل الكلام : ان التكليف الشرعي المتعلق بحفظ المقدمات المفوتة ليس تكليفا نفسيا استقلاليا ، بل يكون من متمم الجعل ، ويكون كل من هذا التكليف المتعلق بحفظ المقدمات مع ذلك التكليف المتعلق بنفس الواجب المستقبل ناشيا عن ملاك واحد ومناط فارد ، لا ان لكل منهما ملاكا يخصه ، حتى يكونا من قبيل الصوم والصلاة يستدعى كل منهما ثوابا وعقابا ، بل ليس هناك الا ملاك واحد ، ولما لم يمكن استيفاء ذلك الملاك بخطاب واحد ، حيث إن خطاب الحج في أيام عرفة لا يمكن ان يستوفى الملاك وحده مع عدم وجوب السير ، احتجنا إلى خطاب آخر بوجوب السير يكون متمما لذلك الخطاب ، ويستوفيان الملاك باجتماعهما ، فليس هناك الا ملاك واحد اقتضى خطابين ، وليس لهذين الخطأ بين الا ثواب واحد وعقاب فارد ، ويكون عصيان الخطاب المقدمي عصيانا للخطاب الآخر ، حيث إنه يمتنع الحج بنفس ترك السير ، فبتركه للسير قد ترك الحج وتحقق عصيانه ، ولا يتوقف العصيان على مضى أيام الحج إذ قد امتنع عليه الحج بسوء اختياره لتركه السير في أوانه ، فبنفس ترك السير يتحقق عصيان الحج.

فان قلت :

لا اشكال في أن العقاب انما يكون لعصيان الخطاب وترك المأمور به ، وح نقول في المقام : ان العقاب على أي شيء يكون؟ لا يمكن ان يقال على عصيان خطاب السير وتركه له ، لان خطاب السير انما كان مقدميا ولم يكن الملاك قائما به ، وليس في البين خطاب آخر يوجب العصيان ، لان الحج لم يكن له خطاب فعلى قبل أيام عرفه ، لاشتراطه بها حسب ما تقدم من امتناع الواجب المعلق ، والمفروض انه بتركه للسير قد امتنع عليه الحج فلا يعقل تكليفه بالحج ، ومن هنا اطبقوا على رد الهاشم ، حيث ذهب إلى أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار خطابا وعقابا ، فالتارك للسير ليس مخاطبا بالحج لعدم القدرة عليه ولو بسوء اختياره ، فإذا لم يكن مخاطبا بالحج لم يكن معاقبا على تركه ، لان العقاب انما يكون على ترك المأمور به.

ص: 203

ومجرد اشتمال الحج على الملاك وتفويته له لا يوجب العقاب ما لم يكن الحج واجبا ومتعلقا للامر ، حسبما تقدم منا مرارا ، من أن الملاكات غير لازمة التحصيل ولا يوجب فواتها شيئا ، وانما العبد ملزم عقلا بالخطابات الشرعية لا بملاكاتها.

قلت :

ما كنت أحب بعد البيان المتقدم موقعا لهذا الاشكال ، ولا مجال لهذا التوهم ، فان السير انما صار واجبا لرعاية الحج ، وامر به شرعا تحفظا على تركه ، ومع ذلك كيف يسئل عن أن العقاب على أي شيء يكون؟ مع وضوح ان العقاب يكون على ترك الحج حينئذ ، لان مناط حكم العقل باستحقاق العقاب على ترك الواجب الفعلي كترك الصلاة بعد الوقت - ولو لمكان امتناعها بسوء اختياره - بعينه متحقق في مثل المقام ، وما أنكرناه سابقا من أن الملاكات غير لازمة التحصيل انما هو لمكان ان الملاكات ليست مقدورة للمكلف ، ولا تكون من المسببات التوليدية لأفعاله ، وأين هذا من ترك الحج الذي يقوم به الملاك بسوء اختياره ، مع ايجاب الشارع السير عليه تحفظا عن ترك الحج وعدم فواته منه؟.

وبالجملة : لافرق في نظر العقل الذي هو الحاكم في هذا الباب ، بين ان يعجز المكلف نفسه عن الحج في أيام عرفه ، وبين ان يعجز نفسه عنه قبل ذلك بتركه السير ، فإنه في كلا المقامين يستحق العقاب على ترك الحج على نسق واحد ، فتأمل في المقام جيدا. هذا تمام الكلام في المقام الأول ، وهو باب المقدمات المفوتة.

واما الكلام في المقام الثاني :

وهو باب وجوب تعلم الاحكام. فحاصله : انه يظهر من الشيخ قده (1) في آخر مبحث الاشتغال عند التعرض لشرائط الأصول ، ادراج المقام في باب المقدمات المفوتة ، وجعله من صغريات باب القدرة ، ولكن الانصاف انه ليس الامر كذلك ، فان بين البابين بونا بعيدا ، إذ باب المقدمات المفوتة يرجع إلى مسألة القدرة على ما عرفت ، وباب وجوب التعلم أجنبي عن باب القدرة ، لان الجهل بالحكم لا يوجب .

ص: 204


1- راجع الرسائل. آخر مباحث البراءة ، خاتمة في ما يعتبر في العمل بالأصل. شرط البراءة. ص 282.

سلب القدرة ، ومن هنا كانت الاحكام مشتركة بين العالم والجاهل.

والحاصل : انه فرق بين ترك الشيء لعدم القدرة عليه ، وبين تركه لجهله بحكمه ، فالتعلم ليس من المقدمات العقلية التي لها دخل في القدرة ، وح لايكون تركه من باب ترك المقدمات المفوتة ، وليس ملاك وجوبه هو قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، بل ملاك وجوب التعلم هو ملاك وجوب الفحص في الشبهات الحكمية ، وهو حكم العقل بلزوم أداء العبد وظيفته ، حيث إن العقل يرى أن ذلك من وظائف العبد بعد تمامية وظائف المولى ، فان العقل يستقل بان لكل من المولى والعبد وظيفة ، فوظيفة المولى هي اظهار مراداته ، وتبليغها بالطرق المتعارفة التي يمكن للعبد الوصول إليها ان لم يحدث هناك مانع ، فوظيفة المولى هي تشريع الاحكام وارسال الرسل وانزال الكتب ، وبعد ذلك تصل النوبة إلى وظيفة العبد ، وانه على العبد الفحص عن مرادات المولى واحكامه ، وحينئذ يستقل العقل باستحقاق العبد للعقاب عند ترك وظيفته ، كما يستقل بقبح العقاب عند ترك المولى وظيفته.

والحاصل : انه بعد التفات العبد إلى أن هناك شرعا وشريعة ، يلزمه تحصيل العلم بأحكام تلك الشريعة ، والا كان مخلا بوظيفته ، حيث إن وظيفة العبد هو الرواح إلى باب المولى لامتثال أوامره ، ولولا استقلال العقل بذلك لا نسد طريق وجوب النظر إلى معجزة من يدعى النبوة ، وللزم افحام الأنبياء ، إذ لو لم يجب على العبد النظر إلى معجزة مدعى النبوة لما كان للنبي ان يحتج على العبد بعدم تصديقه له ، إذ للعبد ان يقول : لم اعلم انك نبي ، وليس للنبي ان يقول : لم لم تنظر في معجزتي ليظهر لك صدق مقالتي؟ إذ للعبد ان يقول إنه لم يجب على النظر في معجزتك.

وبالجملة : العقل كما يستقل بوجوب النظر في معجزة مدعى النبوة ، كذلك يستقل بوجوب تعلم أحكام الشريعة والفحص عن الأدلة والمقيدات والمخصصات ، إذ المناط في الجميع واحد ، وهو استقلال العقل بان ذلك من وظيفة العبد ، ومن هنا لا يختص وجوب التعلم بالبالغ ، كما لا يختص وجوب النظر إلى المعجزة به ، بل يجب ذلك قبل البلوغ إذا كان مميزا مراهقا ليكون أول بلوغه مؤمنا ومصدقا بالنبوة ،

ص: 205

والا يلزم ان لايكون الايمان واجبا عليه في أول البلوغ ، هذا بالنسبة إلى الايمان وكذلك بالنسبة إلى سائر أحكام الشريعة يجب على الصبي تعلمها إذا لم يتمكن منه بعد البلوغ ، أو نفرض الكلام في الاحكام المتوجهة عليه في آن أول البلوغ ، فإنه يلزمه تعلم تلك الأحكام قبل البلوغ ، كما لو فرض انه سيبلغ في آخر وقت ادراك الصلاة ، فإنه لا اشكال في وجوب الصلاة عليه حينئذ ، ويلزمه تعلم مسائلها قبل ذلك.

وما قيل من أن الاحكام مشروطة بالبلوغ ، ليس المراد ان جميع الأحكام مشروطة به ، حتى مثل هذا الحكم العقلي المستقل ، فان هذا غير مشروط بالبلوغ ، بل مشروط بالتميز والالتفات مع العلم بعدم التمكن من التعلم عند حضور وقت الواجب.

فتحصل : انه لا يقبح عند العقل عقاب تارك التعلم ، والاحكام تتنجز عليه بمجرد الالتفات إليها والقدرة على امتثالها الا ان يكون هناك مؤمن عقلي أو شرعي.

نعم حكم العقل بوجوب التعلم ليس نفسيا ، بان يكون العقاب على تركه وان لم يتفق مخالفة الواقع ، وان قال بذلك صاحب المدارك ، بل حكم العقل في المقام انما يكون على وجه الطريقية ، ويدور العقاب مدار مخالفة الواقع كما استقصينا الكلام في ذلك في اخر مبحث الاشتغال فراجع ذلك المقام.

ومن الغريب ان الشيخ قده مع التزامه بان التعلم لم يكن واجبا نفسيا وان العقاب على مخالفة الواقع ، حكم بفسق تارك تعلم مسائل الشك والسهو في الصلاة ولو لم يتفق الشك والسهو فيها ، على ما حكى عنه في بعض الرسائل العملية ، وهذه الفتوى من الشيخ قده لا توافق مسلكه في وجوب التعلم.

ثم انه لا اشكال في وجوب التعلم قبل الوقت مع العلم أو الاطمينان بعدم تمكنه منه بعد الوقت ، وعلمه أو اطمئنانه أيضا بتوجه التكليف إليه في وقته ، سواء كان الحكم مما تعم به البلوى أولا ، إذ ليس ما وراء العلم شيء.

واما لو لم يعلم بتوجه التكليف إليه بعد ذلك ، ولكنه كان يحتمل ، فان كانت المسألة مما تعم بها البلوى فكذلك يجب التعلم ، لأنه يكفي في حكم العقل

ص: 206

كون الشخص في معرض الابتلاء وان لم يعلم بالابتلاء ، لان مناط حكم العقل - وهو لزوم رواح العبد إلى باب المولى وان ذلك من وظيفته - لا يختص بالعالم بان للمولى مرادا ، بل يكفي احتمال ذلك مع كونه في معرض ذلك ، ومن هنا قلنا : انه يجب على المكلف تعلم مسائل الشك والسهو ولو لم يعلم بابتلائه بهما ، الا إذا علم بعدم الابتلاء فإنه لا يجب عليه ذلك ، ولكن انى له بهذا العلم؟ وكيف يمكن ان يحصل لاحد ، مع أن الشك والسهو امر يقع بغير اختيار وعلى خلاف العادة ، فمجرد انه ليس من عادته السهو والشك لا يكفي في حصول العلم.

وعلى كل حال : لا اشكال في لزوم التعلم إذا كانت المسألة مما تعم بها البلوى ، كمسائل السهو والشك ، والتيمم وغير ذلك ، من غير فرق بين ان يعلم بالابتلاء أولا يعلم.

واما لو لم تكن المسألة مما تعم بها البلوى ، فظاهر الفتاوى عدم وجوب التعلم مع عدم العلم أو الاطمئنان بعد الابتلاء ولعله لجريان أصالة عدم الابتلاء ، فان حكم العقل بوجوب التعلم لما كان حكما طريقيا ، نظير حكمه بالاحتياط في باب الدماء والفروج والأموال ، كان الأصل الموضوعي رافعا لموضوع حكم العقل ، فيكون استصحاب عدم الابتلاء في المقام نظير استصحاب ملكية المال في باب الأموال ، فكما لا يجب الاحتياط عند استصحاب ملكية المال لخروج المال ببركة الاستصحاب عن احتمال كونه مال الغير الذي هو موضوع حكم العقل بلزوم الاحتياط ، كذلك استصحاب عدم الابتلاء يوجب دفع احتمال الابتلاء الذي هو الموضوع عند العقل بلزوم التعلم.

وبعبارة أخرى : موضوع حكم العقل بلزوم التعلم انما هو الحكم الذي يبتلى به ، واستصحاب عدم الابتلاء يرفع ذلك الموضوع ، ولا دافع لهذا الاستصحاب الا توهم عدم جريان الاستصحاب بالنسبة إلى المستقبل ، أو توهم ان حكم العقل في المقام نظير حكمه بقبح التشريع الذي يحكم بقبحه في صورة العلم والظن والشك والوهم بمناط واحد ، ومن هنا لا تصل النوبة إلى الأصول الشرعية كما فصلنا الكلام في ذلك في محله.

ص: 207

ويدفع الأول بأنه : لا مانع من جريان الاستصحاب في المستقبل إذا كان الشيء بوجوده الاستقبالي ذا اثر ، وان لم يكن بوجوده الماضي أو الحالي ذا اثر ، وتفصيل ذلك في محله.

ويدفع الثاني : ان حكم العقل في المقام ، ليس كحكمه في باب التشريع ، فان مناط حكمه بقبح التشريع انما هو لمكان حكمه بقبح اسناد ما لا يعلم أنه من قبل المولى إلى المولى ، وهذا المناط موجود في صورة العلم والظن والشك ، وليس حكم العقل بقبح التشريع يدور مدار واقع عدم التشريع حتى يكون حكمه في صورة عدم العلم حكما طريقيا ، كحكمه بلزوم التحرز عن المال المحتمل كونه مال الغير حذرا عن الوقوع في الظلم والتصرف في مال الغير ، وحكم العقل في المقام كذلك يكون طريقيا محضا ، وح يكون الاستصحاب الموضوعي حاكما عليه هذا.

ولكن شيخنا الأستاذ مد ظله ، كان بنائه في السابق ، هو التفصيل بين ما تعم به البلوى وما لاتعم ، من حيث وجوب التعلم في الأول دون الثاني ، وعليه جرى في رسائله العملية ، ولكن لما وصل بحثه إلى هذا المقام توقف في ذلك بل قرب عدم التفصيل ، وان احتمال الابتلاء يكفي في حكم العقل بوجوب التعلم كحكمه بوجوب النظر عند احتمال صدق مدعى النبوة ، فتأمل في المقام ، فان المسألة مما تعم بها البلوى ويترتب عليها آثار عملية.

هذا تمام الكلام في المقدمات المفوتة وما يلحق بها من وجوب التعلم. وتحصل : ان وجوب بعض المقدمات قبل الوقت لا يتوقف على القول بالواجب المعلق كما ذكره في الفصول ، أو على أحد الامرين من الواجب المعلق أو الشرط المتأخر كما ذكره في الكفاية.

بقى في المقام ، التنبيه على بعض المسائل الفقهية ، التي توهم انها تبتنى على تصحيح الواجب المعلق والشرط المتأخر معا.

( منها ) مسألة الصوم ، حيث إنه لا اشكال في أنه يعتبر في الصوم اجتماع شرائط التكليف من القدرة والصحة وعدم الحيض والسفر ، من أول الطلوع إلى الغروب ، بحيث لو اختل أحد هذه الشرائط في جزء من النهار لم يكن الصوم واجبا ،

ص: 208

فوجوب الامساك في أول الفجر يتوقف على بقاء الحياة والقدرة إلى الغروب ، وهذا لايكون الا على نحو الشرط المتأخر بحيث تكون القدرة على الامساك فيما قبل الغروب شرطا في وجوب الامساك في أول الفجر ، وهذا عين الشرط المتأخر ، وأيضا لا اشكال في أن التكليف بالامساك في الآن الثاني ، والثالث ، وهكذا ، انما يكون متحققا في الآن الأول ، وهو آن طلوع الفجر ، إذ ليس هناك الا تكليف واحد يتحقق في أول الطلوع ويستمر إلى الغروب ، وليس هناك تكاليف متعددة يحدث في كل آن تكليف يخصه ، فان ذلك ينافي الارتباطية ، بل التكليف بالامساك في جميع آنات النهار انما يتحقق في الآن الأول ، وهو آن الطلوع ، فيكون التكليف بامساك ما قبل الغروب ثابتا قبل ذلك ، وهذا عين الواجب المعلق حيث يتحقق الوجوب الفعلي قبل وقت الواجب ، وهو آن ما قبل الغروب الذي هو وقت الامساك الواجب فيه. وكذا الحال بالنسبة إلى التكليف بالصلاة في أول الوقت ، حيث إن الكلام فيها عين الكلام في الصوم ، من حيث ابتنائه على الشرط المتأخر والواجب المعلق كما لا يخفى ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك ضعف ذلك بكلا وجهيه.

اما ضعف وجه ابتنائه على الشرط المتأخر ، فلما يأتي انشاء اللّه تعالى من أن الشرط في أمثال ذلك هو وصف التعقب ، ويكون الامساك في أول الطلوع واجبا عند وجود الحياة في ذلك الآن وتعقبه بالحياة فيما بعد إلى الغروب ، فيكون الشرط في وجوب الامساك في كل آن هو فعلية الحياة في ذلك الآن وتعقبها بالحياة في الان الثاني ، وهذا المعنى امر معقول يساعد عليه الدليل والاعتبار ، بل المقام من أوضح ما قيل فيه : ان الشرط هو وصف التعقب ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك انشاء اللّه تعالى.

واما ضعف ابتنائه على الواجب المعلق ، فلان الخطاب وان كان أمرا واحدا مستمرا يتحقق بأول الطلوع ويستمر إلى الغروب ، الا ان فعليته تدريجية حسب تدريجية المتعلق والشروط ، فكما ان الشروط من الحياة والقدرة وغير ذلك تحصل تدريجا - إذ لا يعقل تحقق الحياة من الطلوع إلى الغروب دفعة واحدة وفي آن واحد ، بل لا بد من أن تتحقق تدريجا حسب تدرج آنات الزمان ، وكذا الحال

ص: 209

بالنسبة إلى الامساك فيما بينها الذي يكون متعلقا لابد وان يتحقق متدرجا في آنات الزمان - فكذلك فعلية الخطاب انما تكون تدريجية ، ويكون فعلية وجوب الامساك في كل آن مشروطا بوجود ذلك الآن ، وتكون الفعلية متدرجة في الوجود حسب تدرج آنات الزمان ، ولا يعقل غير ذلك ، إذ كما لا يعقل تحقق امساك الآن الثاني في الآن الأول لعدم معقولية جر الزمان ، كذلك لا يعقل فعلية وجوب امساك الآن الثاني في الآن الأول ، وكما يكون امساك كل آن موقوفا على وجود ذلك الآن ، كذلك فعلية وجوب الامساك في كل آن موقوفة على وجود ذلك الآن ، ففعلية الخطاب في التدرج والدفعية تتبع الشروط والمتعلق في التدرج والدفعية ، فإذا كانت الشروط والمتعلق تدريجية فلا بد ان يكون فعلية الخطاب أيضا تدريجية ، ولا فرق في هذا بين ان نقول ان الزمان في باب الصوم اخذ قيدا للمتعلق ، أو اخذ قيدا لنفس الحكم على ما بينا (1) تفصيله في التنبيه العاشر من تنبيهات الاستصحاب في مسألة استصحاب حكم المخصص أو الرجوع إلى حكم العام.

نعم تظهر الثمرة بين الوجهين في وجوب امساك بعض اليوم لمن يعلم بفقدان بعض الشروط في أثناء النهار أو عدم وجوبه ، فإنه بناء على أن يكون الزمان قيدا لنفس الحكم يكون وجوب الامساك في البعض والكفارة عند المخالفة على القاعدة ، بخلاف ما إذا قلنا بكون الزمان قيدا للمتعلق ، فإنه يكون وجوب امساك البعض والكفارة على خلاف القاعدة ، يتبع ورود الدليل ، ولا باس بالإشارة إلى وجه ذلك اجمالا.

فنقول :

ان كان الزمان قيدا للمتعلق وهو الامساك فيكون الواجب هو الامساك ما بين الحدين ( الطلوع والغروب ) عند اجتماع الشرائط : من القدرة وعدم السفر والحيض فيما بين الحدين ، فيكون متعلق التكليف أمرا واحدا مستمرا وهو الامساك ة

ص: 210


1- راجع تفصيل هذا البحث في التنبيه الثاني عشر من تنبيهات الاستصحاب. الجزء الرابع من هذا الكتاب - ص 196 الطبعة القديمة

ما بين الطلوع والغروب ، ويكون هذا هو الصوم المأمور به ، فلو اختل أحد الشرائط في جزء من النهار لم يكن الامساك حينئذ واجبا واقعا ، إذ امساك بعض اليوم لم يكن واجبا وليس صوما شرعا ، وحينئذ كان مقتضى القاعدة عدم وجوب الامساك من أول الفجر عند العلم باختلال بعض الشرائط ، كمن يعلم أنه يسافر في أثناء النهار أو علمت المرأة انها تحيض ، فوجوب الامساك عليه وثبوت الكفارة يحتاج إلى دليل تعبدي ، ولا يكفي في ذلك أدلة نفس وجوب الصوم.

وأما إذا كان الزمان قيدا للحكم ، فيصير المعنى ، ان الحكم بوجوب الصوم والامساك مستمر إلى الغروب ، بحيث يكون الغروب منتهى عمر الحكم ، فيحدث من أول الطلوع وينتهي بالغروب ، ومرجع ذلك إلى أن الحكم بالامساك في كل آن من آنات النهار ثابت ، فاختلال الشرائط في أثناء النهار لايكون كاشفا عن عدم ثبوت الحكم من أول الامر ، بل الحكم كان واقعا ثابتا إلى زمان اختلال الشرائط وينقطع بالاختلال.

وهذا لا ينافي ارتباطية الصوم وانه ليس هناك تكاليف متعددة مستقلة ، فان ارتباطية التكليف ليس الا عبارة عن وحدة الملاك وترتبه على مجموع الامساك الواقع في النهار ، لا ان لكل امساك ملاكا يخصه ، وهذا أجنبي عما نحن فيه من استمرار الحكم في مجموع النهار على وجه يكون قيدا للحكم ، فيكون ثبوت الحكم في كل زمان تابعا لثبوت الشرط في ذلك الزمان ، وانتفاء الشرط في زمان لا يوجب انتفاء الحكم في الزمان السابق عليه ، وح يجب الامساك على من يعلم أنه يسافر وتلزمه الكفارة عند المخالفة ، لأنه قد خالف حكما واقعيا ثابتا في الواقع ، فتأمل في المقام جيدا.

وعلى كل حال تكون فعلية الحكم في باب الصوم تدريجية ، سواء قلنا بان الزمان فيه قيد للحكم أو قيد للمتعلق ، لان مناط التدريجية هو تدريجية الشروط والمتعلق ، الذي قد عرفت ان مع تدريجيتها لا يعقل فعلية الحكم دفعة ، إذ فعلية الحكم يدور مدار تحقق شرطه ، وتكون تابعة لوجوده ، ومع كون الشرط تدريجي الحصول فلا محالة يكون الفعلية أيضا تدريجية ، حسبما تقتضيه التبعية ، هذا بالنسبة إلى الصوم.

ص: 211

واما بالنسبة إلى الصلاة فيفترق الحال فيها بالنسبة إلى أول الوقت في مضى مقدار أربع ركعات منه ، وما عدا ذلك من بقية الوقت ، فان التكليف بأربع ركعات لما كان مشروطا بالزمان الذي يمكن ايقاع الأربع فيه ، إذ لا يعقل ان يكون الزمان أضيق دائرة عن متعلق التكليف ، فالتكليف بأربع ركعات مشروط بزمان يسع الأربع ، وح لا يمكن ان يكون التكليف بالأربع من أول الوقت فعليا ، بل لابد ان يكون فعليته تدريجية حسب تدريجية اجزاء الزمان إلى مقدار أربع ركعات ، وعند انقضاء ذلك المقدار تتم الفعلية لتمامية شرطها من مضى مقدار أربع ركعات ، ولأجل ذلك أفتوا بعدم وجوب القضاء على من حصل له أحد الاعذار الموجبة لسقوط التكليف كالجنون والحيض قبل مضى مقدار أربع ركعات من الوقت ووجوب القضاء عند حصوله بعد ذلك ، والسر في ذلك هو ما ذكرنا من أن الحكم بالأربع لايكون فعليا من أول الوقت دفعة واحدة ، بل فعليته تكون تدريجية حسب تدرج شرط الحكم من الزمان ، فلا تتم الفعلية الا عند انقضاء ذلك المقدار من الزمان ، فالعذر الحاصل قبل ذلك يكون حاصلا قبل تمامية فعلية لحكم ، فلا موجب للقضاء. وهذا بخلاف ما إذا انقضى ذلك المقدار من الزمان فان شرط الفعلية ح حاصل ، فلا مانع من فعلية الحكم بالأربع ، وتكون التسليمة ح في عوض التكبيرة من حيث فعلية حكمها وكونه مخاطبا بها كخطابه بالتكبيرة.

فان قلت :

كيف يكون الحكم بالتسليمة فعليا مع عدم القدرة عليها شرعا الا بعد التكبيرة وما يلحقها من الاجزاء ، وبعبارة أخرى : كيف يكون الحكم فعليا دفعة مع تدريجية المتعلق؟.

قلت :

العبرة في الفعلية التدريجية هي تدريجية الشرائط لا تدريجية المتعلق ، وقولك : لا يقدر على التسليمة في الحال ، قلنا : هي مقدورة له بتوسط القدرة على الاجزاء السابقة ، فتكون ح من المقدور بالواسطة ، غايته ان الواسطة تارة تكون عقلية كنصب السلم بالنسبة إلى الصعود على السطح ، وأخرى تكون جعلية شرعية كالاجزاء

ص: 212

السابقة بالنسبة إلى التسليمة ، وقد تقدم صحة فعلية التكليف بالنسبة إلى كل ما يكون مقدورا بالواسطة ، فالتكليف بالتسليمة بعد مضى مقدار أربع ركعات من الوقت يكون كالتكليف بالصلاة في مسجد الكوفة غير مقيد بالزمان ، واما التكليف بها قبل ذلك فيكون كالتكليف بالصلاة في المسجد عند طلوع الفجر ، وقد تقدم الكلام في الفرق بين المثالين ، وان التكليف في أحدهما يكون مط وفي الآخر يكون مشروطا ، فتأمل جيدا. هذا تمام الكلام في الواجب المشروط والمطلق والمعلق.

بقى في المقام : حكم صورة الشك في كون الواجب مشروطا أو مطلقا ، الذي يرجع الشك فيه إلى الشك في كون القيد قيدا للهيئة أو قيدا للمادة ، وقد اضطربت الكلمات في ذلك ، وسلك كل مسلكا ، وينبغي ان يعلم أولا : ان محل الكلام فيما إذا كان القيد فعلا اختياريا للمكلف ، إذ لو لم يكن كذلك فلا بد ان يكون التكليف مشروطا به ، على ما تقدم تفصيل ذلك ، وكذا محل الكلام فيما إذا لم يكن في البين ما يعين أحدهما كما إذا سيق القيد بصورة القضية الشرطية فإنه يتعين رجوعه إلى الهيئة ، حيث إن القضية الشرطية ما تكون ربط جملة بجملة أخرى على ما تقدم بيانه أيضا ، أو سيق القيد على وجه اخذ وصفا للمادة ، كما إذا قيل متطهرا وأمثال ذلك ، مما يكون القيد ظاهرا في رجوعه إلى المادة.

إذا عرفت ذلك

فنقول : ربما قيل إنه عند الدوران يقدم تقييد المادة على تقييد الهيئة ، لان في تقييد الهيئة يلزم كثرة التقييد وتعدده ، والأصل يقتضى خلافه ، بخلاف تقييد المادة ، فان تقييد الهيئة يستلزم تقييد المادة لا محالة ، إذ لا يمكن اطلاق المادة مع تقييد الهيئة ، وهذا معنى ما يقال : من أن اشتراط الوجوب بشيء يرجع إلى اشتراط الواجب به أيضا ولا عكس ، إذ تقييد المادة لا يستلزم تقييد الهيئة كما لا يخفى هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه.

لان التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة ، فإذا امتنع الاطلاق امتنع التقييد وحينئذ نقول في المقام : انه لو رجع القيد إلى الهيئة وكان وجوب الحج مثلا مشروطا بالاستطاعة ، فلا يعقل الاطلاق في طرف المادة ، إذ بعد ما

ص: 213

كان وجوب الحج بعد فرض حصول الاستطاعة ، فكيف يكون الحج واجبا في كلتا صورتي وجود الاستطاعة وعدمها الذي هو معنى الاطلاق؟ وهل هذا الا الخلف والتناقض؟ فإذا امتنع الاطلاق في طرف المادة امتنع التقييد أيضا لا محالة ، فان تقييد المادة بالاستطاعة مثلا يقتضى لزوم تحصيلها ، كما هو الشأن في كل قيد يرجع إلى المادة ، وبعد فرض حصول الاستطاعة ، كما هو لازم اخذها قيدا للهيئة - لما عرفت من أن القيود الراجعة إلى الحكم لا بد ان يؤخذ مفروضة الوجود - لا معنى لتقييد المادة بالاستطاعة الذي يقتضى تحصيلها ، لأنه يكون من طلب الحاصل. فدعوى ان تقييد الهيئة يستلزم تقييد المادة مما لا ترجع إلى محصل.

نعم النتيجة المقصودة من تقييد المادة حاصلة عند تقييد الهيئة ، لان المقصود من تقييد الحج بالاستطاعة ليس الا وقوع الحج بعد التلبس بالاستطاعة ، كما أن المقصود عن تقييد الصلاة بالطهارة هو وقوع الصلاة في حال التلبس بالطهارة ، وهذا المعنى حاصل بعد تقييد الهيئة ، لأنه لو تأخر وجوب الحج من الاستطاعة ، فالحج الواجب يقع بعد الاستطاعة لا محالة ، فالنتيجة المطلوبة من تقييد المادة حاصلة قهرا عند تقييد الهيئة ، ولكن هذا غير تقييد المادة بحيث يكون رجوع القيد إلى لهيئة موجبا لتعدد التقييد ويرجع الشك في المقام إلى الشك في قلة التقيد وكثرته حتى يقال : ان الأصل اللفظي يقتضى قلة التقييد.

فظهر انه عند دوران الامر بين تقييد المادة وتقييد الهيئة يكون من الدوران بين المتباينين ، لا الأقل والأكثر.

وبعد ذلك نقول : ان القيد تارة يكون متصلا بالكلام ، كما إذا ورد : حج مستطيعا ، ودار الامر بين رجوع قيد الاستطاعة إلى الوجوب حتى لا يجب تحصيلها ، أو إلى الحج حتى يجب تحصيلها.

وأخرى يكون منفصلا ، كما إذا ورد حج ، وبعد ذلك ورد دليل منفصل يدل على اعتبار قيد الاستطاعة ، ودار أمرها بين الامرين ، فان كان القيد متصلا بالكلام فلا اشكال في اجمال الكلام حينئذ لاحتفافه بما يصلح لكلا الامرين بلا معين ، فلا يكون للهيئة اطلاق ولا للمادة ، لاتصال كل منهما بما يصلح للقرينية ،

ص: 214

فلا يمكن التمسك باطلاق أحدهما بعد العلم الاجمالي بورود القيد على أحدهما ، بل لابد ح من الرجوع إلى الأصول العملية ، وسيأتي البحث عن ذلك.

واما لو كان القيد منفصلا ، فهذا هو الذي (1) ذكر الشيخ ( قده ) فيه وجهين لرجوع القيد إلى المادة لا إلى الهيئة.

( الوجه الأول )

ان الامر في المقام يدور بين تقييد اطلاق الهيئة ، وتقييد اطلاق المادة ، لأن المفروض انه انعقد الظهور الاطلاقي لكل منهما حيث كان التقييد بالمنفصل ، ولذلك خصصنا كلام الشيخ ( قده ) بالمنفصل ، إذ مع الاتصال لا ينعقد ظهور اطلاقي لكل منهما ، فلا معنى للدوران ح. وهذا بخلاف ما إذا كان بالمنفصل ، فان الظهور الاطلاقي انعقد لكل منهما ، فيدور الامر بين تقييد اطلاق المادة وتقييد اطلاق الهيئة ، ولما كان اطلاق الهيئة شموليا وكان اطلاق المادة بدليا ، كان اللازم تقييد اطلاق المادة ، لأقوائية الاطلاق الشمولي من الاطلاق البدلي ، كما هو الشأن في كل ما دار الامر بين تقييد اطلاق الشمولي وتقييد اطلاق البدلي.

اما كون اطلاق الهيئة شموليا واطلاق المادة بدليا ، فلان معنى اطلاق الهيئة هو ثبوت الوجوب في كلتا حالتي ثبوت القيد وعدمه ، فيكون اطلاق الوجوب شاملا لصورة وجود الاستطاعة وصورة عدمها ، وهذا بخلاف اطلاق المادة فإنه بدلي ، حيث إن الواجب هو صرف وجود الحج ، والمطلوب فرد واحد منه على البدل بين الفرد قبل الاستطاعة والفرد بعده ، وهذا عين الاطلاق البدلي.

واما تقديم تقييد الاطلاق البدلي على تقييد الاطلاق الشمولي ، فهو موكول إلى محله في مبحث التعادل والتراجيح ، وقد أوضحناه في محله.

ثم إن المحقق الخراساني قده ، (2) سلم ان المقام يكون من دوران الامر بين تقييد الاطلاق البدلي والاطلاق الشمولي. الا انه ناقش في الكبرى ، ومنع تقديم

ص: 215


1- راجع مطارح الأنظار ، الهداية الرابعة من مباحث مقدمة الواجب ص 47.
2- الكفاية ، الجلد 1 ص 169 « فلان مفاد اطلاق الهيئة وان كان شموليا .. »

الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي ، نظرا إلى أن الاطلاق في كل منهما يكون بمقدمات الحكمة لا بالوضع ، فلا موجب لتقديم أحدهما على الاخر هذا.

ولكن الانصاف ان المقام أجنبي عن مسألة تقديم الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي ، لان تلك المسألة انما هي في ما إذا تعارض الاطلاقان وتنافيا بحسب المدلول ، كما إذا ورد لا تكرم الفاسق وورد أيضا أكرم عالما ، حيث إن اطلاق لا تكرم الفاسق يقتضى عدم اكرام العالم الفاسق ، واطلاق أكرم عالما يقتضى اكرامه ، فيتنافيان في مورد الاجتماع ، ويصح التعارض بينهما ، فيبحث ح عن أن اطلاق الشمولي مقدم على الاطلاق البدلي أو غير مقدم. والمقام ليس من هذا القبيل ، إذ ليس بين اطلاق المادة واطلاق الهيئة تعارض وتناف ، بل بينهما كمال الملائمة والألفة ، إذ لا يلزم من اطلاق كل منهما محذور لزوم اجتماع المتناقضين الذي هو المناط في باب التعارض ، والعلم بورود المقيد على أحدهما من الخارج لمكان الدليل المنفصل لا يوجب التنافي بينهما. غايته انه يعلم بعدم إرادة أحد الاطلاقين وان أحدهما لا محالة مقيد ، وأي ربط لهذا باقوائية اطلاق الهيئة لكونه شموليا من اطلاق المادة لكونه بدليا؟ فان الأقوائية لا توجب ان يكون القيد واردا على الضعيف ، وأي ملازمة في ذلك؟ بل لو فرض ان الهيئة بالوضع تدل على الشمول لا بالاطلاق كان ذلك العلم الاجمالي بحاله ، فان القيد لا محالة اما ان يكون واردا على الهيئة أو يكون واردا على المادة ، وأقوائية الهيئة لا ربط لها بذلك ، فالمقام نظير ما إذا علم بكذب أحد الدليلين من دون ان يكون بين مدلوليهما تناف ، حيث أوضحنا في محله انه لا يعامل معاملة التعارض في مثل هذا ، بل يكون من باب اشتباه الحجة باللاحجة ، ويعامل معهما معاملة قواعد العلم الاجمالي ، والمقام بعينه يكون من هذا القبيل.

( الوجه الثاني )

الذي ذكره الشيخ ( قده ) لترجيح ارجاع القيد إلى المادة ، هو ان تقييد الهيئة وان لم يستلزم تقييد المادة ، بحيث يلزم تعدد التقييد كما تقدم ، الا انه لا اشكال في أنه يوجب بطلان اقتضاء المادة للاطلاق ، ويخرجها عن قابليته ، وكما أن

ص: 216

أصل التقييد مخالف للأصل ، كذلك عمل ما ينتج نتيجة التقييد واخراج المحل عن قابلية الاطلاق يكون مخالفا للأصل ، لاشتراكهما في الأثر. وهذا بخلاف ارجاع القيد إلى المادة ، فإنه سالم عن هذا المحذور لبقاء اطلاق الهيئة على حاله هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه فان التقييد انما كان على خلاف الأصل لمكان جريان مقدمات الحكمة ، وأين هذا من عمل ما يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة وهدم أساسها كما هو الحال عند ارجاع القيد إلى الهيئة حيث إنه يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة في صرف المادة وهدم أساس اطلاقها ، فإنه لا أصل يقتضى بطلان مثل هذا العمل.

وبالجملة ما ذكره الشيخ ( قده ) من الوجهين لارجاع القيد إلى المادة ، مما لا يمكن المساعدة عليه. فلابد من اعمال قواعد العلم الاجمالي ، إذ الأصول اللفظية من أصالة اطلاق المادة وأصالة اطلاق الهيئة متعارضة ، للعلم بتقييد أحد الاطلاقين ، فتصل النوبة حينئذ إلى الأصول العملية ، ومعلوم ان الشك في المقام يرجع إلى الشك في لزوم تحصيل القيد ، ومقتضى أصالة البراءة عدم لزوم تحصيله. هذا حاصل ما افاده شيخنا الأستاذ مد ظله في هذا المقام.

ثم تنظر في جميع ما افاده بما حاصله : ان المراد من تقييد الهيئة هو تقيد المادة المنتسبة على ما عرفت ، إذ تقييد الهيئة بما انها معنى حرفي لا يعقل ، فلا بد من رجوع القيد إلى المادة المنتسبة ، ويكون الفرق بين تقييد المادة وتقييد الهيئة هو انه تارة : يكون التقييد للمادة بلحاظ ما قبل الاستناد ، وأخرى : يكون تقييدا لها بلحاظ الاستناد - كما تقدم تفصيل ذلك - وحينئذ يكون رجوع القيد إلى المادة متيقنا ، والشك يرجع إلى امر زائد وهو تقييدها بلحاظ الاستناد ، واطلاق الهيئة ينفى هذا الامر الزائد ، من غير فرق بين ان يكون التقييد بالمتصل أو المنفصل ، إذ رجوع القيد المتصل إلى المادة أيضا متيقن ، ورجوعه إلى المادة المنتسبة مشكوك وأصالة الاطلاق الجارية في طرف الهيئة تنفى ذلك.

وتوهم انه يكون من احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية فاسد ، إذ الضابط فيما يصلح للقرينية هو امكان رجوع القيد إلى ما تقدم بلا حاجة إلى عناية زائدة و

ص: 217

صلوحه للقرينية بلا كلفة ، كاستثناء الفساق من العلماء مع تردد الفساق بين مرتكب الكبيرة فقط ، أو الأعم منه ومن مرتكب الصغيرة لأجل اجمال المفهوم ، وكالضمير المتعقب لجمل متعددة ، أو الاستثناء المتعقب لذلك ، فإنه في الجميع يكون القيد صالحا لرجوعه إلى ما تقدم بلا عناية ، بحيث يصح للمتكلم الاعتماد على ذلك وبذلك ينهدم أساس مقدمات الحكمة. وهذا بخلاف المقام ، فان رجوع القيد إلى الهيئة يحتاج إلى عناية زائدة ، وهي لحاظ الانتساب في طرف المادة هذا.

مع أن رجوع القيد إلى الهيئة والوجوب ، لا يصح الا بعد اخذ القيد مفروض الوجود كما تقدم ، وذلك أيضا امر زائد ينفيه اطلاق القيد ، حيث إنه لم يتعقب بمثل أداة الشرط التي خلقها اللّه تعالى لأجل فرض الوجود ، فمقتضى اطلاقه عدم لحاظه مفروض الوجود.

هذا كله. مضافا إلى أن القيود التي تصلح لان ترجع إلى المادة أو الوجوب انما هي القيود التي تكون بصيغة الحال ، كحج مستطيعا ، إذ ما عدا ذلك لا تصلح لذلك ، فان ما كان مصدرا بأدوات الشرط (1) وما يلحق بها لا تصلح الا للرجوع إلى الهيئة ، وما كان من قبيل المفعول به وفيه لا تصلح الا للمادة كصل في المسجد ، حيث إن ظاهره الأولى يقتضى بناء المسجد الا ان تقوم قرينة شخصية أو نوعية على خلافه. فينحصر ما يصلح للرجوع إلى كل منهما بما كان على هيئة الحال ، ومعلوم ان مقتضى الظهور النوعي في مثل حج مستطيعا ، وصل متطهرا ، وأمثال ذلك ، هو رجوع القيد إلى المادة ، حيث لا يستفاد منه الا ذلك ، هذا إذا كان التقييد بالمتصل. وأما إذا كان التقييد بالمنفصل ، فان كان لفظيا فالكلام فيه هو الكلام في المتصل ، بل هو أولى كما لا يخفى.

وان كان لبيا ، كما إذا انعقد اجماع على أن الحج لا يقع بصفة المطلوبية الا

ص: 218


1- كالعقود التي لا تتعلق بها إرادة الفاعل لكونها خارجة عن القدرة كالزمان ، حيث عرفت ان مثل ذلك لابد ان يؤخذ مفروض الوجود - منه.

في حال الاستطاعة ، وشك في كون الاستطاعة شرطا للوجوب أو للحج ، فالظاهر أيضا رجوع القيد إلى المادة فقط ، لاحتياج رجوع القيد إلى الهيئة إلى عناية زائدة ، والاطلاق يدفع ذلك.

نعم لا يتمشى الوجه الثاني (1) والثالث فيما إذا كان دليل القيد لبيا كما لا يخفى. هذا حاصل ما افاده مد ظله ، ولكن للنظر فيه مجال ، كما لا يخفى على المتأمل. هذا تمام الكلام في الواجب المشروط والمطلق وما يتعلق بذلك من المباحث.

وينقسم الواجب أيضا إلى نفسي وغيري

وعرف الغيري : بما امر به للتوصل إلى واجب آخر. ويقابله النفسي ، وهو ما لم يؤمر به لأجل التوصل به إلى واجب آخر. وقد يعرف النفسي : بما امر به لنفسه ، والغيري : بما امر به لأجل غيره.

وقد أشكل على التعريف الأول بما حاصله : انه يلزم ان يكون جل الواجبات غيرية ، لان الامر بها انما هو لأجل التوصل بها إلى ما لها من الفوائد والملاكات المترتبة عليها ، التي تكون هي الواجبة في الحقيقة ، وكونها مقدورة بالواسطة لأنها من المسببات التوليدية.

ثم وجه المستشكل بان ترتب الملاكات على الواجبات وكون الملاكات من المسببات التوليدية لا ينافي الوجوب النفسي ، لأنه يمكن ان تكون الواجبات معنونة بعنوان حسن ، وبانطباقه عليها تكون واجبات نفسية ، وارجع تعريف الواجب النفسي بأنه ما امر به لنفسه إلى ذلك هذا.

وقد أشبعنا الكلام في بطلان توهم كون الملاكات من المسببات التوليدية في مبحث الصحيح والأعم ، وانه ليست الملاكات واجبة التحصيل لكونها من الدواعي ، ولا يمكن تعلق إرادة الفاعل بها. فراجع ذلك المبحث. وعليه لا يرد .

ص: 219


1- مرادنا من الوجه الثاني : هو ظهور دليل القيد في عدم اخذه مفروض الوجود ، ومن الوجه الثالث : هو الظهور النوعي في رجوع ما كان بصيغة الحال إلى المادة فقط - منه.

الاشكال على التعريف المذكور.

نعم يرد عليه ، خروج الواجبات التهيئية والواجبات التي يستقل العقل بوجوبها لأجل برهان التفويت عن كونها واجبات نفسية ، لان الامر في جميعها انما يكون لأجل التوصل بها إلى واجبات آخر ، من الحج في وقته ، والصلاة مع الطهور في وقتها ، وغير ذلك ، فيلزم ان يكون جميعها واجبات غيرية ، مع أنها ليست كذلك كما تقدم سابقا.

فالأولى ان يعرف الواجب النفسي بما امر به لنفسه ، أي تعلق الامر به ابتداء وكان متعلقا للإرادة كذلك ، ويقابله الواجب الغيري ، وهو ما إذا كانت ارادته ترشحية من ناحية إرادة الغير ، فتكون الواجبات التهيئية كلها من الواجبات النفسية ، حيث لم تكن ارادتها مترشحة من إرادة الغير ، لوجوبها مع عدم وجوب الغير ، على ما تقدم تفصيل ذلك.

ثم إن ما دفع به الاشكال عن الواجبات النفسية ، بأنه يمكن ان يكون ذلك لأجل انطباق عنوان حسن الخ ، لم نعرف معناه ، فان العنوان الحسن من أين جاء؟ وهل ذلك العنوان الا جهة ترتب الملاكات عليها الذي التزم انها من تلك الجهة تكون واجبات غيرية؟ فتأمل جيدا.

وعلى كل حال لو شك في واجب انه نفسي أو غيري فتارة ، يقع الكلام فيما يقتضيه الأصل اللفظي وأخرى ، فيما يقتضيه الأصل العملي.

( اما الأول )

فمجمل القول فيه : هو ان الواجب الغيري لما كان وجوبه مترشحا عن وجوب الغير ، كان وجوبه مشروطا بوجوب الغير ، كما أن وجود الغير يكون مشروطا بالواجب الغيري ، فيكون وجوب الغير من المقدمات الوجوبية للواجب الغيري ، ووجود الواجب الغيري من المقدمات الوجودية لذلك الغير ، مثلا يكون وجوب الوضوء مشروطا بوجوب الصلاة ، وتكون نفس الصلاة مشروطة بوجود الوضوء ، فالوضوء بالنسبة إلى الصلاة يكون من قيود المادة ، ووجوب الصلاة يكون من قيود الهيئة بالنسبة إلى الوضوء بالمعنى المتقدم من تقييد الهيئة ، بحيث لا يرجع إلى تقييد المعنى

ص: 220

الحرفي. وحينئذ يرجع الشك في كون الوجوب غيريا إلى شكين : أحدهما : الشك في تقييد وجوبه بوجوب الغير ، وثانيهما : الشك في تقييد مادة الغير به.

إذا عرفت ذلك فنقول : انه ان كان هناك اطلاق في كلا طرفي الغير والواجب الغيري ، كما إذا كان دليل الصلاة مط لم يأخذ الوضوء قيدا لها ، وكذا كان دليل ايجاب الوضوء مط لم يقيد وجوبه بالصلاة ، كما في قوله تعالى (1) « إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم » الخ ، حيث إنه قيد وجوب الوضوء بالقيام إلى الصلاة فلا اشكال في صحة التمسك بكل من الاطلاقين ، وتكون النتيجة هو الوجوب النفسي للوضوء ، وعدم كونه قيدا وجوديا للصلاة ، فان اطلاق دليل الوضوء يقتضى الأول ، واطلاق دليل الصلاة يقتضى الثاني.

والاشكال في التمسك باطلاق الهيئة في طرف الوضوء ، بان الهيئة موضوعة لافراد الطلب ومصاديقه لا لمفهومه ، فلا معنى للرجوع إلى اطلاق الهيئة كما في التقريرات (2) ضعيف جدا. واضعف منه ، دفع الاشكال بان الهيئة موضوعة لمفهوم الطلب ، وهو الذي ينشأ ، إذ لا معنى لانشاء المصداق الخ ما ذكره في الكفاية (3).

اما ضعف ما في التقرير ، فلان كون الهيئة موضوعة لمفهوم الطلب أو لمصاديقه أجنبي عما نحن فيه ، إذ لا اشكال في ثبوت الواجبات الغيرية في الشريعة ، فيسئل ان الشيء بأي صناعة يكون واجبا غيريا؟ وهل يكون الشيء واجبا غيريا الا بتقييد وجوبه بالغير؟ على معنى تقييد جملة بجملة ، على ما تقدم بيانه في الواجب المشروط. وبالجملة : الواجب الغيري يكون قسما من الواجب المشروط ، وكما أن اطلاق دليل الحج مثلا يقتضى عدم تقييد وجوبه بالاستطاعة ، كذلك

ص: 221


1- المائدة ، الآية 6
2- مطارح الأنظار ، مباحث مقدمة الواجب « هداية : ينقسم الواجب باعتبار اختلاف دواعي الطلب على وجه خاص كما ستعرفه إلى غيري ونفسي .. » ص 65
3- كفاية الأصول ، الجلد 1 ص 173 « ففيه ان مفاد الهيئة كما مرت الإشارة إليه ليس الافراد ، بل هو مفهوم الطلب .. »

اطلاق دليل الوضوء يقتضى عدم تقييد وجوبه بمثل « إذا قمتم إلى الصلاة » فتأمل.

واما ضعف ما في الكفاية ، فلانه لا معنى لوضع الهيئة لمفهوم الطلب ، ولا معنى لانشاء مفهوم الطلب ، بل الهيئة على ما عرفت لم توضع الا لايقاع النسبة بين المبدء والفاعل بالنسبة الايقاعية ، مقابل النسبة التحققية والتلبسية ، التي وضعت هيئة الماضي والمضارع لهما ، وبايقاع هذه النسبة إذا كان بداعي الطلب يتحقق مصداق من الطلب ، حيث إن حقيقة الطلب هو التصدي لتحصيل المطلوب ، والآمر بايقاعه للنسبة مع كونه بداعي الطلب قد تصدى لتحصيل مطلوبه بتوسط عضلات العبد ، فالهيئة لم توضع للطلب أصلا لا لمفهومه ولا لمصداقه ، وقد تقدم ذلك مشروحا في أول مبحث الأوامر ، فراجع.

وعلى كل حال ظهر صحة التمسك باطلاق كل من الغير والواجب الغيري لو كان لكل منهما اطلاق. بل لو كان لأحدهما اطلاق يكفي في المقصود من اثبات الوجوب النفسي ، لان مثبتات الأصول اللفظية حجة ، فلو فرض انه لم يكن لدليل الوضوء اطلاق وكان لدليل الصلاة اطلاق ، فمقتضى اطلاق دليلها هو عدم تقييد مادتها بالوضوء ، ويلزمه عدم تقييد وجوب الوضوء بها ، لما عرفت من الملازمة بين الامرين ، وكذا الحال لو انعكس الامر وكان لدليل الوضوء اطلاق دون دليل الصلاة.

وبالجملة الأصل اللفظي يقتضى النفسية عند الشك فيها ، سواء كان لكل من الدليلين اطلاق أو كان لأحدهما اطلاق ، ولا تصل النوبة إلى الأصول العملية ، الا إذا فقد الاطلاق من الجانبين ، وحينئذ ينبغي البحث عما يقتضيه الأصل العملي.

فنقول : الشك في الوجوب الغيري له اقسام ثلاثة :

القسم الأول

ما إذا علم بوجوب كل من الغير والغيري من دون ان يكون وجوب الغير مشروطا بشرط غير حاصل ، كما إذا علم بعد الزوال بوجوب كل من الوضوء والصلاة ، وشك في وجوب الوضوء من حيث كونه غيريا أو نفسيا ، ففي هذا القسم

ص: 222

يرجع الشك إلى الشك في تقييد الصلاة بالوضوء وانه شرط لصحتها ، حيث عرفت ملازمة الشك في ذلك للشك في تقييد الصلاة ، وح يرجع الشك بالنسبة إلى الصلاة إلى الشك بين الأقل والأكثر الارتباطي ، وأصالة البراءة تقتضي عدم شرطية الوضوء للصلاة وصحتها بدونه ، فمن هذه الجهة تكون النتيجة النفسية. واما من جهة تقييد وجوب الوضوء بوجوب الصلاة فلا اثر لها ، للعلم بوجوب الوضوء على كل حال نفسيا كان أو غيريا ، نعم ربما يثمر في وحدة العقاب وتعدده عند تركه لكل من الوضوء والصلاة ، وليس كلامنا الآن في العقاب.

القسم الثاني

ما إذا علم بوجوب كل من الغير والغيري ، ولكن كان وجوب الغير مشروطا بشرط غير حاصل ، كالمثال المتقدم فيما إذا علم قبل الزوال ، ففي هذا القسم يرجع الشك في غيرية الوضوء ونفسيته إلى الشك في اشتراطه بالزوال وعدم اشتراطه ، إذ لو كان واجبا غيريا يكون مشروطا بالزوال لمكان اشتراط الصلاة به ، وحينئذ يكون من افراد الشك بين المط والمشروط ، وقد تقدم ان مقتضى الأصل العملي هو الاشتراط ، للشك في وجوبه قبل الزوال ، وأصالة البراءة تنفى وجوبه ، كما تنفى شرطية الصلاة بالوضوء ، ولا منافاة بين اجراء البراءة لنفى وجوب الوضوء قبل الزوال واجراء البراءة لنفى قيديته للصلاة كما لا يخفى.

القسم الثالث

ما إذا علم بوجوب ما شك في غيريته ، ولكن شك في وجوب الغير ، كما إذا شك في وجوب الصلاة في المثال المتقدم وعلم بوجوب الوضوء ، ولكن شك في كونه غيريا حتى لا يجب لعدم وجوب الصلاة ظاهرا بمقتضى البراءة ، أو نفسيا حتى يجب.

فقد قيل في هذا القسم بعدم وجوب الوضوء واجراء البراءة فيه ، لاحتمال كونه غيريا ، فلا يعلم بوجوبه على كل حال هذا.

ولكن الأقوى وجوبه ، لان المقام يكون من التوسط في التنجيز الذي عليه يبتنى جريان البراءة في الأقل والأكثر الارتباطي ، إذ كما أن العلم بوجوب ما عدا السورة مع الشك في وجوبها يقتضى وجوب امتثال ما علم ، ولا يجوز اجراء البراءة

ص: 223

فيه ، مع أنه يحتمل كون ما عدا السورة واجبا غيريا ومقدمة للصلاة مع السورة ، فكذلك المقام من غير فرق بينهما ، سوى تعلق العلم بمعظم الواجب في مثل الصلاة بلا سورة ، وفي المقام تعلق العلم بمقدار من الواجب كالوضوء فقط ، وهذا لا يصلح ان يكون فارقا فيما نحن بصدده. كما لا يصلح الفرق بين المقامين : بأنه في المقام قد تعلق العلم بما يحتمل كونه مقدمة خارجية كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة ، وفي ذلك المقام تعلق العلم بما يحتمل كونه مقدمة داخلية ، فان المناط في الجميع واحد وهو العلم بالوجوب ، مع أنه لنا ان نفرض مثال المقام بما يحتمل كونه مقدمة داخلية ، كما إذا علم بوجوب السورة فقط وشك في النفسية والغيرية ، فتأمل.

بقى في المقام التنبيه على أمرين

( الأول )

قد اختلف الاعلام في استحقاق الثواب والعقاب على فعل الواجب الغيري وتركه على أقوال.

( ثالثها ) التفصيل بين ما إذا كان الوجوب الغيري مستفادا من خطاب اصلى فيترتب ، أو تبعي فلا يترتب.

( رابعها ) التفصيل بين استحقاق الثواب فلا يترتب ، واستحقاق العقاب فيترتب.

والأولى تحرير محل النزاع في المقام ، بالأعم من الاستحقاق والتفضل ، إذ استحقاق الثواب في الواجبات النفسية محل كلام.

فقد حكى شيخنا الأستاذ مد ظله ، عن المفيد (رحمه اللّه) القول بعدم استحقاق العبد للثواب على الإطاعة وامتثال أوامر مولاه عقلا على وجه يكون عدم ترتب الثواب على اطاعته من الظلم المستحيل في حقه تعالى وكيف يحكم العقل بذلك؟ مع أن العبد مملوك لمولاه ، فعليه اطاعته وامتثال أوامره ، ولا يمتنع عقلا عدم إثابة العبد لإطاعة مولاه ، بل الثواب انما يكون بالتفضل منه تعالى على عبيده ومنة عليهم بذلك. وقد خالف في ذلك المتكلمون ، حيث قالوا بالاستحقاق. ونظير هذا البحث وقع في وجوب قبول التوبة ، حيث ذهب المتكلمون إلى وجوب قبولها عليه تعالى و

ص: 224

خالف في ذلك بعض. وعلى كل حال مسألة استحقاق الثواب في امتثال الواجبات النفسية محل كلام ، فما ظنك بالواجبات الغيرية؟ فالأولى تحرير النزاع بالأعم من الاستحقاق ، (1) والتفضل.

ثم انه لا اشكال في أن استحقاق الثواب على القول به ، انما يتوقف على قصد الطاعة وامتثال الامر ، وليس هو من لوازم فعل ذات الواجب من دون قصد ذلك ، بداهة ان الاتيان بذات الواجب من دون قصد امتثال الامر مما لا يوجب استحقاق الثواب.

إذا عرفت هذا

فنقول : انه لا معنى للبحث عن استحقاق الثواب على امتثال الواجب الغيري ، لان امتثاله انما يكون بعين امتثال ذي المقدمة الذي تولد امره منها ، وليس له امر بحيال ذاته ، حتى يبحث عن استحقاق الثواب عند امتثاله ، من غير فرق في ذلك بين المقدمات الشرعية أو العقلية.

اما المقدمات الشرعية فواضح ، لان أمرها انما يكون بعين الامر المنبسط على الواجب بما له من الاجزاء والشرائط والموانع ، ويكون حال المقدمات الخارجية حال المقدمات الداخلية ، من حيث إن امتثال أمرها انما يكون بامتثال الامر الواقع على الجملة ، سواء قلنا بوجوب المقدمة أو لم نقل ، بداهة تعلق الامر بالشرائط في ضمن تعلقه بالمركب ، ويكون امتثال الامر بالشرائط بعين امتثال الامر بالمركب ، وينبسط الثواب على الجميع ، ويختلف سعة دائرة الثواب وضيقه بسعة المركب وضيقه ، فلا معنى للبحث عن أن امتثال الامر بالمقدمات الشرعية يوجب استحقاق الثواب ، وذلك واضح.

اما المقدمات العقلية : فما كان منها من قبيل الأسباب التوليدية ، فقد عرفت في بعض المباحث السابقة ان الامر بالسبب امر بالمسبب وكذا العكس ، لان

ص: 225


1- والانصاف : ان البحث عن التفضل مما لا ينبغي لسعة فضله ( تعالى ) فلا معنى للبحث عن تفضله بالثواب على الواجبات الغيرية ، فالأولى : ابقاء عنوان النزاع على حاله من استحقاق الثواب ، غايته انه يبنى البحث على استحقاق الثواب في الواجبات النفسية ، ويكون التكلم في المقام بعد الفراغ عن ذلك - منه.

المسبب يكون عنوانا للسبب ويكون وجوده بعين وجود سببه ويتحد معه في الوجود بنحو من الاتحاد ، فليس هناك أمران : تعلق أحدهما بالسبب والآخر بالمسبب ، حتى يبحث عن استحقاق الثواب على امتثال امر السبب ، بل هناك امر واحد وله امتثال فارد ، وذلك أيضا واضح.

واما ما كان منها من قبيل المعدات ، فقد يتوهم جريان البحث فيه ، حيث إنه قد تعلق بالمعد امر مقدمي ، فيبحث عن استحقاق الثواب عند امتثال ذلك الامر هذا.

ولكن الانصاف انه أيضا لا مجال للبحث عن ذلك ، لان الامر المقدمي بالمعد انما تولد من الامر بذى المقدمة ، فليس له امتثال بحيال ذاته ، بل امتثاله انما يكون بامتثال الامر الذي تولد هو منه ، وليس له امتثال على غير هذا الوجه ، فيسقط البحث عن استحقاق الثواب عند امتثال الواجب الغيري بالمرة ، فتأمل في المقام.

( الامر الثاني )

قد أشكل في الطهارات الثلث ، أولا في وجه استحقاق الثواب عند فعلها المعلوم بالضرورة ، مع أن أوامرها غيرية لمكان مقدميتها للصلاة ، وقد تقدم ان الامر الغيري لا يقتضى استحقاق الثواب.

وثانيا ان الأوامر الغيرية كلها توصلية ، لا يعتبر في سقوطها قصد امتثال أمرها والتعبد بها ، مع قيام الضرورة على اعتبار قصد التعبد بالطهارات الثلث.

وهذان الاشكالان قد ذكرهما الشيخ ( قده ) على ما في التقرير (1) وتبعه صاحب الكفاية ( قده ) (2) ولكن الشيخ ( قده ) قد قرر الاشكال في كتاب الطهارة عند البحث عن نية الوضوء بوجه آخر (3) ولعله يرجع إلى اشكال ثالث.

ص: 226


1- راجع مطارح الأنظار ، مباحث مقدمة الواجب - « هداية ، لا ريب في استحقاق العقاب عقلا على مخالفة الواجب النفسي .. » ص 66
2- كفاية الأصول - الجلد الأول ، تقسيمات الواجب ، ومنها تقسيمه إلى النفسي والغيري ، التذنيب الأول ص 175
3- كتاب الطهارة ، لأستاذ الأساطين الشيخ الأنصاري. الركن الثاني ، في كيفية نية الوضوء ، الامر الأول مما لزم التنبيه عليه ، فيما بقى في نية الوضوء. ص 80

وحاصل ما ذكره في ذلك المقام : هو انه لا اشكال في أن نفس أفعال الوضوء من الغسلات والمسحات ليست مقدمة للصلاة ، إذ ليست هذه الأفعال رافعة للحدث ، أو مبيحة للصلاة التي يكون الوضوء بهذا الاعتبار مقدمة لها ، بل المقدمة هو الوضوء المتعبد به وما يكون عبادة ، ولا اشكال أيضا ان العبادية تتوقف على الامر ، إذ لا يقع الشيء عبادة الا بقصد امتثال امره.

وبعد ذلك نقول : انه يتوقف رافعية الحدث للوضوء على أن يكون عبادة ، ويتوقف عباديته على الامر الغيري ، إذ المفروض انه لا امر له سوى ذلك ، والامر الغيري يتوقف على أن يكون الوضوء عبادة ، إذ الامر الغيري لا يقع الا على ما كان بالحمل الشايع مقدمة ، والوضوء العبادي يكون بالحمل الشايع مقدمة ، فلابد ان يكون عبادة قبل تعلق الامر الغيري به ، والمفروض ان عباديته تتوقف على الامر الغيري ، إذ لا امر له سوى ذلك حسب الفرض ، فيلزم الدور.

والانصاف ان الشيخ ( قده ) قد بعد المسافة في تقرب الاشكال ، لأنه قال في تقرير الدور ما لفظه : « فتحقق الامر الغيري يتوقف على كونه مقدمة ، ومقدميته بمعنى رفعه للمانع متوقفة على اتيانه على وجه العبادة المتوقفة على الامر به ، فيلزم الدور » انتهى. فإنه لا وجه لاخذ اتيانه على وجه العبادة من أحد المقدمات إذ لا ربط للاتيان وعدم الاتيان بالدور ، بل الدور انما يتوجه في مرحلة الجعل والامر ، فلا يحتاج إلى هذه المقدمة ، بل الأولى في تقريب الدور هو ان يقال : ان الامر الغيري يتوقف على أن يكون الوضوء عبادة ، وعباديته تتوقف على الامر الغيري ، فيلزم الدور المصرح ، فتأمل.

ثم لا يخفى عليك ان هذا الاشكال لا ربط له بالاشكال الثاني الذي ذكره في التقريرات ، فان ذلك الاشكال مبنى على أن الامر الغيري لا يقتضى العبادية بل هو توصلي. وهذا الاشكال يتوجه بعد الغض عن ذلك ، وتسليم اقتضاء الامر الغيري التعبدية ، ومع ذلك يلزم الدور ، كما هو واضح هذا.

ص: 227

ولكن لا يذهب عليك ، ان هذه الاشكالات كلها مبنية على أن جهة عبادية الوضوء انما تكون من ناحية امره الغيري ، وهو بمعزل عن التحقيق ، بل الوضوء انما يكتسب العبادية من ناحية الامر النفسي المتوجه إلى الصلاة بما لها من الاجزاء والشرائط ، بداهة ان نسبة الوضوء إلى الصلاة كنسبة الفاتحة إليها من الجهة التي نحن فيها ، حيث إن الوضوء قد اكتسب حصة من الامر بالصلاة لمكان قيديته له ، كاكتساب الفاتحة حصتها من الامر الصلواتي لمكان جزئيتها ، فكما ان الفاتحة اكتسبت العبادية من الامر الصلواتي ، كذلك الوضوء اكتسب العبادية من الامر الصلواتي بعد ما كان الامر الصلواتي عباديا ، وكذا الحال في الغسل والتيمم.

فان قلت : نسبة الوضوء إلى الصلاة كنسبة الستر والاستقبال إليها ، فكيف اكتسب الوضوء العبادية ، ولم يكتسب الستر والاستقبال العبادية؟.

قلت : التفاوت بين الطهارات الثلث وغيرها من القيود التي لا يعتبر ايقاعها على وجه العبادية ، انما هو من ناحية الملاك ، حيث إن الملاك الذي اقتضى قيدية الوضوء للصلاة اقتضاه على هذا الوجه ، أي وقوعه على وجه العبادية ، بخلاف ملاكات سائر الشروط ، حيث لم تقتضي ذلك.

والحاصل : ان عبادية الامر الصلواتي انما يكون بمتمم الجعل ، على ما تقدم تفصيله ، وذلك المتمم انما اقتضى عبادية الامر بالنسبة إلى خصوص الاجزاء والطهارات الثلث ، دون غيرها من الشرائط ، ولا منافاة في ذلك بعد ما كان استكشاف العبادية بأمر آخر اصطلحنا عليه بمتمم الجعل.

فتحصل ان الوضوء انما اكتسب العبادية من الامر الصلواتي ، والامر الغيري بالوضوء على القول به انما يكون متأخرا عن الامر الصلواتي الذي اخذ الوضوء حصة منه ، فالامر الغيري لايكون له جهة العبادية ، حتى يستشكل بان الأوامر الغيرية توصلية ، وكذا عبادية الوضوء لا يتوقف على الامر الغيري ، وان كان الامر الغيري متوقفا عليها ، فلا دور.

واما مسألة الثواب فقد عرفت الوجه فيها في الامر المتقدم ، فترتفع الاشكالات بحذافيرها.

ص: 228

ثم لو أغمضنا عن ذلك كله ، كان لنا التفصي عن الاشكالات بوجه آخر يختص بالوضوء والغسل فقط ، ولا يجرى في التيمم. وحاصل ذلك الوجه ، هو ان الوضوء والغسل لهما جهة محبوبية ذاتية ومطلوبية نفسية أوجبت استحبابهما قبل الوقت ، وعروض الوجوب لهما بعد الوقت لا ينافي بقاء تلك الجهة وان قربت بعد الوقت وحصلت لها شدة أوجبت الوجوب.

والحاصل : ان عروض ملاك الوجوب على ملاك الاستحباب لا يوجب انعدام الملاك الاستحبابي ، وحدوث ملاك آخر للوجوب ، بل غايته تبدل الاستحباب بالوجوب وفوات الرخصة من الترك التي كانت قبل الوقت ، مع اندكاك الملاك الاستحبابي في الملاك الوجوبي ، نظير اندكاك السواد الضعيف في السواد الشديد.

ولكن لا يخفى عليك ، ان ما ذكرناه من تبدل الاستحباب بالوجوب ، فإنما هو بالنسبة إلى الوجوب النفسي الثابت للوضوء بعد الوقت ، لا الوجوب الغيري له ، فان التبدل بالوجوب الغيري لا يعقل لاختلاف المتعلق.

ولا بأس بالإشارة إلى ضابط تبدل الاحكام بعضها مع بعض ، ليتضح المقصود في المقام.

فنقول :

ضابط التبدل هو ان يتعلق الوجوب بعين ما تعلق به الاستحباب ، كما لو نذر صلاة الليل ، فان الامر الاستحبابي انما تعلق بذات صلاة الليل لا بما انها مستحبة ، والنذر أيضا انما يتعلق بالذات ، إذ لا يمكن ان يتعلق النذر بصلاة الليل بوصف كونها مستحبة ، لأنها بالنذر يصير واجبة فلا يمكنه اتيانها بوصف الاستحباب ، فلابد ان يتعلق النذر بالذات ، فيكون الامر الوجوبي الجائي من قبل النذر متعلقا بعين ما تعلق به الامر الاستحبابي ، فيتبدل الامر الاستحبابي بالامر الوجوبي ، ويكتسب الامر الوجوبي التعبدية ، كما اكتسب الامر الاستحبابي الوجوب ، فان الامر النذري وان كان توصليا ، الا انه لما تعلق بموضوع عبادي اكتسب التعبدية ، فتأمل.

ص: 229

فتحصل : ان تبدل حكم إلى غيره ، انما يكون بوحدة المتعلق ، وتعلق الثاني بعين ما تعلق به الأول. وأما إذا لم يكن كذلك ، بل تعلق الثاني بما تعلق به الأول بقيد كونه مأمورا به بالامر الأول ، ففي مثل هذا لا يعقل التبدل كما في صلاة الظهر ، حيث اجتمع فيها أمران : امر تعلق بذاتها وهو الامر النفسي العبادي الذي لا يسقط الا بامتثاله والتعبد به ، ولمكان كون صلاة الظهر مقدمة لصلاة العصر - حيث إن فعلها شرط لصحتها - قد تعلق بها امر آخر مقدمي ، ولكن الامر المقدمي قد تعلق بصلاة الظهر بقيد كونها مأمورا بها بالامر النفسي وبوصف وقوعها عبادة امتثالا لأمرها النفسي ، حيث إن ذات صلاة الظهر لم تكن مقدمة لصلاة العصر ، بل المقدمة هي صلاة الظهر المتعبد بها بالامر النفسي ، والامر المقدمي انما يقع على ما هو مقدمة ، فيختلف موضوع الامر النفسي مع موضوع الامر المقدمي ، ولا يتحدان ، فلا يمكن التبدل في مثل هذا ، فلو قصد الامر المقدمي في فعل صلاة الظهر تقع باطلة ، فان الامر المقدمي يكون توصليا ولا يكتسب التعبدية ، لاختلاف متعلق الامر العبادي مع الامر التوصلي.

وكذا الحال بالنسبة إلى الصوم حيث يكون للاعتكاف. ومثل ذلك أيضا الامر الإجاري عند استيجار شخص لعبادة فان المستأجر عليه هو العبادة المأمور بها بالنسبة إلى المنوب عنه ، وهي بهذا الوصف تقع متعلقا للإجارة ، فلا يعقل ان يتحد الامر الجائي من قبل الإجارة مع الامر المتعلق بالعبادة ، حيث إن الامر العبادي انما تعلق بالذات ، والامر الإجاري تعلق بها بوصف كونها مأمورا بها بالنسبة إلى المنوب عنه ، فلا اتحاد. ومن هنا يظهر : انه لا يمكن تصحيح عبادة الاجراء ، بقصد امتثال الامر الإجاري ، وللكلام محل آخر.

إذا عرفت ذلك فنقول : ان الوضوء قبل الوقت كان امره استحبابيا ، وبعد الوقت يكون وجوبيا بالامر الصلواتي ، ولمكان اتحاد المتعلق يتبدل الامر الاستحبابي بالامر الوجوبي ، حيث إن الامر الاستحبابي قبل الوقت قد تعلق بالذات ، والامر الوجوبي النفسي العارض من جهة الامر بالصلاة بعده أيضا تعلق بالذات ، فيتبادلان. واما الامر الغيري العارض له بعد الامر بالصلاة ، فلا يعقل ان يتحد مع

ص: 230

الامر الاستحبابي أو النفسي ، لان الامر الغيري اما يعرض على ما هو بالحمل الشايع مقدمة ، والوضوء المأمور به بالامر الصلواتي يكون مقدمة ، فيكون حال الوضوء بالنسبة إلى الامر النفسي والامر الغيري كحال صلاة الظهر التي تكون مقدمة لصلاة العصر من حيث عدم تبدل أمريها ، وبالنسبة إلى الامر النفسي والامر الاستحبابي كحال نذر صلاة الليل من حيث التبدل ، فتأمل.

ومما ذكرنا يظهر : ان قصد الامر الغيري لا يكفي في وقوع الوضوء عبادة ، لان العبرة في وقوع الشيء عبادة هو قصد امره المتعلق به نفسه ، لا قصد الامر المتعلق به بوصف كونه مأمور به بأمره الذي تعلق به أولا وبالذات فتأمل.

ثم انه قد بقى في المقام بعض الفروع المتعلقة بباب الطهارات ، قد تعرض لها الشيخ ( قده ) في كتاب الطهارة (1) وأشار إليها شيخنا الأستاذ مد ظله في المقام.

منها : انه هل يعتبر في وقوع الطهارات بل كل مقدمة عبادية قصد فعل ذي المقدمة ولا يكفي قصد أمرها الغيري من دون قصد امتثال امر ذي المقدمة ، أو انه لا يعتبر ذلك؟ والأقوى اعتبار ذلك ، لان امتثال الامر الغيري بنفسه لا يوجب قربا من دون امتثال امر ذيها ، فلا يقع الستر أو الاستقبال مثلا عبادة بقصد أمرهما الغيري مع عدم القصد إلى الصلاة.

ومنها : انه لو توضأ بقصد الصلاة ثم بداله عدم الصلاة ، فلا ينبغي الاشكال في صحة وضوئه ، لان قصد الصلاة عند فعل الوضوء يكون شرطا لصحته ، مع قطع النظر عن كونه بنفسه عبادة ، أو نفرض الكلام في التيمم ، فإذا قصد ذلك يقع وضوئه صحيحا ورافعا للحدث ، ويجوز فعل كل مشروط بالطهارة ، كما لا يخفى. ولا يقتضى المقام تفصيل ذلك ، فإنه من المسائل الفرعية الخارجة عن عنوان البحث. هذا تمام الكلام في الواجب النفسي والغيري.

ص: 231


1- طهارة الشيخ قدس سره ، الركن الثاني ، في كيفية نية الوضوء ، الكلام هنا في مقامات ، المقام الأول ، الثالث ص 82 - 81

وينقسم الواجب ، باعتبار آخر إلى تعييني وتخييري.

وقد يستشكل في تصوير الواجب التخييري ، وانه كيف يعقل تعلق إرادة الآمر بأحد الشيئين أو الأشياء من غير تعيين؟ مع عدم امكان تعلق إرادة الفاعل بذلك ، لوضوح ان إرادة الفاعل المستتبعة لحركة العضلات لا تتعلق الا بمعين محدود بحدوده الشخصية ، ولا يعقل تعلقها بأحد الشيئين على وجه الابهام والترديد ، فإذا لم يعقل تعلق إرادة الفاعل على هذا الوجه ، فكيف يعقل تعلق إرادة الآمر بذلك؟ ومن هنا اختلفت الكلمات في كيفية الواجب التخييري. والوجوه العلمية التي ذكروها في المقام ترجع إلى أربعة :

الوجه الأول :

هو ان الواجب في الواجب التخييري ، الكلي الانتزاعي ، وهو عنوان ( أحدها ) ولا مانع من تعلق التكليف بالأمور الانتزاعية إذا كان منشأ انتزاعها بيد المكلف ، ولم تكن من أنياب الأغوال ، وواضح ان هذا العنوان الانتزاعي قابل للانطباق على كل من افراد الواجب المخير ، فإنه يصدق على كل من العتق والصيام والاطعام عنوان ( أحدها ) فيكون هو متعلق التكليف هذا.

ولكن يرد عليه

ان ذلك خلاف ظواهر الأدلة المتكفلة لبيان الواجب التخييري ، حيث إن الظاهر منها ، كون كل من الخصال واجبا ، لا ان الواجب هو عنوان ( أحدها ).

والحاصل : ان هذا الوجه وان كان ممكنا ثبوتا ، ولا محذور فيه عقلا ، الا انه خلاف ظواهر الأدلة لا يصار إليه الا بقرينة معينة ، أو انحصار الوجه في ذلك وعدم تمامية الوجوه الآتية.

الوجه الثاني :

هو ان يكون الوجوب في كل واحد من افراد التخيير مشروطا بعدم فعل الاخر ، فيكون العتق واجبا عند عدم الصيام والاطعام ، وكذا العكس ، فتكون الإرادة قد تعلقت بكل على نحو الواجب المشروط ، وذلك انما يكون إذا كان لكل من الصيام والعتق والاطعام ملاك يخصه ، ولكن لا يمكن الجمع بين الملاكات و

ص: 232

كان استيفاء واحد منها مانعا عن استيفاء الباقي ، فإذا كان كذلك فلا بد من ايجاب الكل على نحو الواجب المشروط ، إذ تخصيص الوجوب بأحدهما يكون بلا مرجح ، هذا.

ولكن يرد عليه : أولا : انه لا يتوقف الواجب التخييري على أن يكون لكل من الافراد ملاك يخصه ، بل يمكن ان يكون هناك ملاك واحد قائم بكل من الافراد ، غايته انه يحتاج إلى جامع بينها حتى لا يصدر الواحد من المتعدد. وسيأتي توضيح ذلك.

وثانيا : لو فرض ان هناك ملاكات متعددة ، ولكن بعد فرض وقوع التزاحم والتمانع بينها في المرتبة السابقة على الخطاب لا يمكن ان يكون كل واحد منها تاما في الملاكية ، إذ الملاك المزاحم بغيره لايكون تاما في ملاكيته ، فبالآخرة يرجع إلى أن الملاك التام واحد ، والعبرة بالملاك التام ، ومع وحدة الملاك لا تكون الافراد من الواجب المشروط ، إذ مبنى ذلك كان على تعدد الملاكات.

نعم : لو وقع التزاحم في المرتبة المتأخرة عن الخطاب لمكان عدم القدرة على الجمع بين متعلقي الخطابين - كما في انقاذ الغريقين - كان الخطاب في كل واحد مشروطا بعدم فعل متعلق الاخر ، إذا قلنا في باب التزاحم بسقوط اطلاق الخطابين ، لا أصل الخطابين ، كما سيأتي تفصيله في مبحث الترتب انشاء اللّه تعالى ، لان الملاك في كل واحد يكون تاما ، وانما المانع عدم قدرة المكلف على الجمع بين المتعلقين ، ولمكان اشتراط كل تكليف بالقدرة يكون الخطاب في كل مشروطا بعدم فعل الآخر ، لثبوت القدرة على هذا الوجه.

والحاصل : انه فرق بين عروض التزاحم في المرتبة المتأخرة عن الخطاب بعد تمامية الملاك في كل من المتعلقين ، وبين وقوع التزاحم في المرتبة السابقة على الخطاب لمكان التمانع بين الملاكات ، ففي الأول يكون الخطاب في كل مشروطا بعدم الاخر ، لمكان اشتراط كل خطاب بالقدرة ، وينتج نتيجة ، الواجب التخييري ، حيث يكون المكلف مخيرا في اختيار أيهما شاء.

وفى الثاني لايكون الخطاب بكل مشروطا بعدم الاخر ، إذ ليس هناك الا

ص: 233

ملاك واحد ، ومع وحده الملاك وانطباقه على كل واحد من الخصال مثلا لا يمكن ان يكون التكليف بكل واحد مشروطا بعدم فعل الآخر ، إذ يلزم فعلية جميع التكاليف عند ترك فعل الكل ، لتحقق شرط الوجوب في كل واحد ، ولازم ذلك تعدد العقاب وهو ضروري البطلان إذ ليس في ترك الواجب التخييري الا عقاب واحد ، مع أنه كيف يعقل ان يكون هناك واجبات متعددة فعلية مع وحدة الملاك؟ وهذا بخلاف الاشتراط الناشئ عن تزاحم الخطابين ، فان تعدد العقاب لا مانع منه ، وفعلية كل من الواجبين لا محذور فيه لتمامية الملاك في كل منهما ، كما سيأتي تفصيله في مبحث الترتب انشاء اللّه تعالى. مع أن ارجاع الواجب التخييري إلى الواجب المشروط خلاف ظاهر الأدلة ، حيث إن الواجب المشروط لابد ان يكون مشروطا بأحد أدوات الشرط فتأمل جيدا.

( الوجه الثالث )

هو ان الواجب في الحقيقة في الواجب التخييري هو الجامع بين الافراد الذي يؤثر في الملاك الواحد ، لوضوح ان المتعدد بما هو متعدد لا يمكن ان يقتضى اثرا واحدا ، لان الواحد لا يصدر الا من واحد ، فلا بد ان يكون هناك جامع بين الافراد يقتضى الأثر الواحد ، ويكون الواجب هو ذلك الجامع ، فيرجع التخيير الشرعي إلى التخيير العقلي ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه.

فان وجود الجامع بين الافراد وان كان مما لا بد منه فرارا عن المحذور المتقدم ، الا انه ليس كل جامع ينفع في التخيير العقلي ، بل يعتبر في الجامع ان يكون أمرا قريبا عرفيا يصح تعلق التكليف به بنفسه ، بحيث يكون من المسببات التوليدية ، بل لا يكفي مجرد كونه سببا توليديا ، إذ التسخين يكون من المسببات التوليدية ، لكل من الشمس والنار ، ومع ذلك ليس بينهما جامع قريب عرفي ، وان كان بينهما جامع عقلي لا محالة ، وتباين افراد خصال الكفارة عرفا ليس بأدون من تباين الشمس والنار ، فلا يمكن ارجاع التخيير بينهما إلى التخيير العقلي ، لما عرفت من أنه يعتبر في التخيير العقلي ان يكون الجامع بين الافراد جامعا قريبا عرفيا ، كالماء ، و

ص: 234

الانسان ، والحيوان ، وغير ذلك من العناوين المنطبقة على الافراد الخارجية ، فهذا الوجه أردء من الوجهين السابقين.

( الوجه الرابع )

هو الذي اختاره شيخنا الأستاذ مد ظله ، وحاصله : انه لا مانع من تعلق إرادة الامر بكل واحد من الشيئين أو الأشياء على وجه البدلية ، بان يكون كل واحد بدلا عن الاخر ، ولا يلزم التعيين في إرادة الامر بان تتعلق ارادته بأمر معين ، بل يمكن تعلق إرادة الآمر بأحد الشيئين بهما ، وان لم يمكن تعلق إرادة الفاعل بذلك ، ولا ملازمة بين الإرادتين على هذا الوجه. مثلا لا اشكال في تعلق إرادة الآمر بالكلي ، مع أن إرادة الفاعل لا يعقل ان تتعلق بالكلي مجردا عن الخصوصية الفردية.

والحاصل : ان بعض الخصوصيات من لوازم الإرادة الفاعلية ، حيث إن الإرادة الفاعلية انما تكون مستتبعة لحركة عضلاته ولا يمكن حركة العضلات نحو المبهم المردد ، وهذا بخلاف إرادة الآمر ، فإنه لو كان كل من الشيئين أو الأشياء مما يقوم به غرضه الوجداني ، فلا بد ان تتعلق ارادته بكل واحد لا على وجه التعيين بحيث يوجب الجمع ، فان ذلك ينافي وحدة الغرض ، بل على وجه البدلية ، ويكون الاختيار ح بيد المكلف في اختيار أيهما شاء ، ويتضح ذلك بملاحظة الأوامر العرفية ، فان امر المولى عبده بأحد الشيئين أو الأشياء بمكان من الامكان ، ولا يمكن ارجاعه إلى الكلي المنتزع كعنوان ( أحدهما ) ، فان ذلك غير ملحوظ في الأوامر العرفية قطعا ولا يلتفت إليه ، فلتكن الأوامر الشرعية كذلك ، فالإرادة في الواجب التخييري سنخ من الإرادة في قبال الإرادة المشروطة أو الإرادة المطلقة بشيء معين ، فتأمل جيدا.

بقى في المقام : التخيير بين الأقل والأكثر ، وهو مع ملاحظة الأقل لا بشرط لا يعقل ، ومع ملاحظته بشرط لا بمكان من الامكان ، ويخرج حينئذ عن الأقل والأكثر ، لمباينة الشيء بشرط لا مع الشيء بشرط شيء كما هو واضح. هذا تمام الكلام في الواجب التعييني والتخييري.

وينقسم الواجب أيضا : إلى عيني وكفائي

والبحث في الواجب الكفائي هو البحث في الواجب التخييري ، غايته ان

ص: 235

البحث في الواجب التخييري كان بالنسبة إلى المكلف به ومتعلق التكليف ، وفي الكفائي بالنسبة إلى الفاعل والمكلف ، ويكون المكلف هو جميع الآحاد وجميع الأشخاص على وجه يكون كل واحد بدلا عن الآخر ، ومن هنا يتجه عقاب الجميع عند ترك الكل ، أو ثواب الجميع عند فعل الكل دفعة واحدة ، لعصيان كل واحد حيث إنه ترك متعلق التكليف لا إلى بدل ، أي مع عدم قيام الآخر به ، وإطاعة كل واحد حيث فعل متعلق التكليف ، وقد أطال شيخنا الأستاذ مد ظله البحث في ذلك ، ولقلة فائدته قد تسامحنا في كتابته.

وينقسم الواجب : إلى موقت وعير موقت

والموقت إلى مضيق وموسع ، ولا اشكال في امكان كل واحد من ذلك ووقوعه في الشريعة ،

نعم : ربما يستشكل في المضيق بأنه لا يعقل اتحاد زمان البعث والانبعاث ، بل لابد من تقدم البعث ولو آنا ما ، ولكن سيأتي في مبحث الترتب انشاء اللّه تعالى ضعف هذا الاشكال ، وعدم اختصاصه بالمضيق فانتظر.

ثم انه وقع البحث في الموقتات ، في أن الأصل يقتضى سقوط الواجب فيما بعد الوقت ، أو ان الأصل يقتضى عدم سقوطه. وبعبارة أخرى : وقع البحث في دلالة الامر بالموقت على بقاء الوجوب بعد الوقت وعدم دلالته ، وربما يعنون البحث بان القضاء هل هو بالامر الأول أو بأمر جديد؟ ولا يخفى ما في هذا التعبير من المسامحة ، لوضوح ان لا معنى لتسمية الفعل قضاء مع دلالة الدليل الأول على بقاء الوجوب فيما بعد الوقت ، بل يكون الواجب بعد الوقت هو ذلك الواجب بعينه قبل الوقت ، فلا معنى لاطلاق القضاء عليه ، وعلى كل حال ان البحث في الواجب الموقت يقع من جهات.

( الجهة الأولى )

في دلالة الامر على بقاء الوجوب فيما بعد الوقت ، وهو المراد من كون القضاء بالامر الأول ، والوجوه المحتملة في ذلك ثلاثة :

الأول : دلالة الامر على ذلك مط ، سواء كان التوقيت بالمتصل أو المنفصل.

ص: 236

الثاني : عدم دلالته على ذلك مط.

الثالث : التفصيل بين المتصل فلا دلالة فيه ، والمنفصل فيدل على بقاء الوجوب فيما بعد الوقت ، ولكن إذا لم يكن لدليل القيد اطلاق ، وهذا هو الذي اختاره في الكفاية (1).

والأقوى : هو الوجه الثاني ، ووجهه ظاهر ، لان التقييد بالوقت يكون كالتقييد بغيره من الأوصاف والملابسات ، وقد بينا في محله وجه حمل المط على المقيد مط متصلا كان أو منفصلا ، وعدم صحة حمل دليل القيد على كونه واجبا في واجب ، أو كونه أفضل الافراد ، ولا خصوصية لقيدية الوقت ، فكما ان التقييد بالايمان يوجب انحصار الواجب في المؤمنة وعدم وجوب عتق الكافرة من غير فرق بين المتصل والمنفصل ، فكذا التقييد بالوقت. وما ذكره في الكفاية من التفصيل مما لا يمكن المساعدة عليه ، فان دليل التوقيت اما ان يدل على التقييد واما ان لا يدل ، فان دل على التقييد فلا يمكن دلالته على بقاء الوجوب بعد ذلك واستفادة كونه من قبيل تعدد المطلوب ، وان لم يدل على التقييد فيخرج عن كونه واجبا موقتا.

والحاصل : انه مع كون الواجب موقتا لا يمكن دعوى ان التقييد بالوقت يكون على نحو تعدد المطلوب وانه من قبيل الواجب في واجب ، من غير فرق بين المتصل والمنفصل. فوجوب الفعل في خارج الوقت يحتاج إلى دليل ، ولا يكفي الدليل الأول.

( الجهة الثانية )

لا اشكال في قيام الدليل في بعض الموارد على وجوب الفعل في خارج الوقت عند فوته في الوقت كالفرائض اليومية ، وصوم رمضان ، والنذر المعين ، فح يقع البحث في أنه بعد قيام الدليل على ذلك هل يكون التقييد بالوقت من باب تعدد المطلوب وكونه واجبا في واجب؟ أو يكون من باب التقييد ولكن قيديته مقصورة

ص: 237


1- كفاية الأصول ، الجلد الأول ، ص 230 « ثم انه لا دلالة للامر بالموقت بوجه .. »

بحال التمكن ، كما هو الشأن في سائر القيود المعتبرة في العبادة ما عدا الطهور ، حيث تكون مقصورة بحال التمكن وتسقط عند التعذر ، لا ان المقيد يسقط ، لان الصلاة لا تسقط بحال ، أو انه لايكون هذا ولا ذاك ، بل يكون القضاء واجبا آخر مغايرا للواجب الأول بحسب العنوان ، وليس هو ذلك الواجب بعينه وانما سقط قيده.

ولا يخفى عليك الفرق بين الوجوه الثلاثة ، فإنه لو كان من قبيل الواجب في واجب ، لكان اللازم عند ترك القيد عمدا حصول الامتثال بالنسبة إلى أصل الواجب وان تحقق العصيان بالنسبة إلى الواجب الآخر ، ولو كان من قبيل القيدية المقصورة بحال التمكن كان اللازم عدم حصول الامتثال عند ترك القيد عمدا مع التمكن منه ، ولكن هذا انما يثمر بالنسبة إلى غير التقييد بالوقت من سائر القيود التي يمكن فيها الاتيان بالمقيد بدون القيد كالصلاة بلا ركوع مع التمكن ، واما بالنسبة إلى التقييد بالوقت فلا يتحقق اثر بين الوجهين ، إذ لا يعقل وقوع الصلاة في خارج الوقت مع كونها في الوقت ، فلا فرق بين ان يكون قيدية الوقت من باب الواجب في واجب ، أو من باب القيدية المقصورة بحال التمكن.

نعم : ثبوتا يمكن ان يكون على أحد الوجهين ، كما يمكن ان يكون على الوجه الثالث ، وهو اختصاص الواجب بما كان في الوقت والذي يجب خارجه هو واجب آخر أجنبي عما وجب في الوقت ، وان اشتمل على مقدار من مصلحة ذلك الواجب.

والفرق بين هذا الوجه والوجهين الأولين : هو ان الواجب في خارج الوقت بناء على الوجهين الأولين ، هو ذلك الواجب في الوقت بعينه ، وانما الساقط قيد من قيوده ، أو واجب آخر الذي كان يجب في ذلك الظرف ، ويكون وجوبه في خارج الوقت بنفس العنوان الذي كان يجب قبله ، وهذا بخلاف الوجه الثالث فإنه يكون ح واجبا آخر مغايرا للواجب الأول ومعنونا بغير ذلك العنوان.

والحاصل : انه لو لم يقم دليل على وجوب القضاء كان مقتضى الدليل ، القيدية المطلقة التي يسقط فيها المقيد عند تعذر القيد ، ولا يكون من قبيل تعدد المطلوب ، ولا من قبيل كون القيدية مقصورة بحال التمكن ، من غير فرق بين ان

ص: 238

يكون دليل التوقيت متصلا أو منفصلا كما عرفت ، ولكن بعد قيام الدليل على القضاء يمكن ان يستظهر منه أحد الوجوه الثلاثة ، فإنه لا مانع من كل منها ثبوتا.

ولكن الانصاف : انه لا سبيل إلى أحد الوجهين الأولين ، لان الظاهر من قوله علیه السلام (1) ( اقض ما فات ) هو ان الواجب في خارج الوقت امر آخر مغاير لما وجب أولا ، وان ما وجب أولا قد فات ، وان هذا الواجب هو قضاء ذلك.

وبالجملة دلالة لفظة القضاء والفوت على أنه لم يكن التوقيت من قبيل تعدد المطلوب ولا من قبيل القيدية المقصورة بحال التمكن ، مما لا تخفى ، لأنه لو كان على أحد الوجهين لا يستقيم التعبير بالفوت ، إذ بناء عليهما لم يتحقق فوت ، بل كان ذلك الواجب هو بعينه باق ، فيظهر منه ان الواجب في خارج الوقت امر آخر مغاير لما وجب أولا ومعنون بعنوان آخر. ويدل على ذلك أيضا انه ربما يتحقق الفعل زمانا بين وجوب الأداء ووجوب القضاء ، كما إذا لم يبق من الوقت مقدار ركعة ولم يتحقق الغروب بعد ، فإنه لم يكن مكلفا في هذا المقدار من الزمان إلى أن يتحقق الغروب لا بالأداء ولا بالقضاء ، فيظهر منه ان المكلف به في خارج الوقت مغاير لما كلف به أولا ، فتأمل.

( الجهة الثالثة )

بعد ما ثبت ان القضاء انما يكون بأمر جديد ، ويكون الواجب في خارج الوقت مغايرا لما وجب في الوقت ، فيقع البحث ح عن موضوع ما يجب في خارج الوقت وانه هل يمكن احراز موضوعه باستصحاب عدم الفعل في الوقت؟ وبعبارة أخرى : الفوت الذي اخذ موضوعا في دليل القضاء هل هو عبارة عن عدم الفعل في الوقت؟ حتى يجرى استصحاب عدم الفعل في الوقت ويحرز به الفوت ، أو ان الفوت ليس عبارة عن عدم الفعل ، بل هو ملازم لذلك ، فالاستصحاب لا ينفع »

ص: 239


1- راجع الوسائل ، الجزء 5 الباب 6 من أبواب قضاء الصلاة الحديث 1 ص 359 وفي متن الخبر « يقضى ما فاته كما فاته »

الا بناء على اعتبار الأصل المثبت.

ثم لا يخفى عليك : ان هذا البحث لا اثر له بالنسبة إلى قضاء الصلوات ، لجريان قاعدة الشك بعد الوقت الحاكمة على الاستصحاب المذكور. ومن هنا أشكلنا على الشيخ قده - عنه توجيه مقالة المشهور القائلين بوجوب قضاء الفوائت حتى يعلم بالبرائة مع أن قاعدة الشك في الأقل والأكثر الغير الارتباطي تقضى جريان البراءة فيما عدا المتيقن من الفوائت ، بان استصحاب عدم فعل المشكوك في وقته يقتضى وجوب قضائه - بما حاصله : ان الاستصحاب لا ينفع ولا يوجه به مقالة المشهور ، لجريان قاعدة الشك بعد الوقت ، كما اعترف هو ( قده ) بذلك ، بل لابد من العمل بما يقتضيه العلم الاجمالي فيما ذكره المشهور وقد بينا وجه مقالة المشهور في تنبيهات البراءة ، فراجع. وعلى كل حال البحث عن معنى الفوت لا اثر له في باب الصلاة.

نعم : تظهر الثمرة في سائر المقامات مما ثبت فيه القضاء كالصوم المعين ونحوه ، فلو قلنا : بان الفوت عبارة عن عدم الفعل في وقته فبأصالة عدم الفعل فيه يترتب وجوب القضاء ولو قلنا : ان الفوت ليس مجرد عدم الفعل ، بل هو عبارة عن خلو المحل عن الشيء وعدم وجوده مع أنه كان فيه اقتضاء الوجود وكان مما من شانه ان يوجد بحيث يبقى المحل خاليا عنه وهذا المعنى ملازم لعدم الفعل لا انه هو بعينه ، فيكون أصالة عدم الفعل مثبتة بالنسبة إلى ذلك ، ولا يتحقق بها موضوع الفوت ، فيكون المرجع في صورة الشك البراءة ، للشك في التكليف. وقد اختار هذا الوجه شيخنا الأستاذ مد ظله ، فتأمل جيدا.

هذا تمام الكلام في اقسام الواجب

فلنشرع ح في مباحث الاجزاء ، والفور والتراخي ، والمرة والتكرار ، ولما كانت مباحث مسئلتي الفور والتراخي ، والمرة والتكرار ، قليلة الجدوى بل لا طائل تحتها كان الاعراض عنهما أجدر ، ولكن تبعا للقوم لا بأس بالإشارة الاجمالية إليهما أولا ، ثم نتكلم في مسألة الاجزاء فنقول :

ص: 240

اما مسألة المرة والتكرار

فقد أطالوا القول في البحث عنها ، وذهب إلى دلالة الامر على التكرار طائفة ، والى المرة طائفة أخرى ، وإذا لاحظت أدلة الطرفين ترى انها خالية عن السداد ولم يكن فيها ما يدل على المدعى ، فان من جملة أدلة القائلين بالتكرار ، هو تكرار الصلاة في كل يوم وهذا كما ترى ، فان تكرار الصلاة في كل يوم انما هو لمكان قيام الدليل ، وان الامر بالصلاة من قبيل الأوامر الانحلالية التي تتعدد حسب تعدد موضوعاتها ، وليس هذا محل الكلام ، بل محل الكلام في التكرار انما هو بالنسبة إلى موضوع واحد كتكرار اكرام العالم الواحد ، كما إذا قال : أكرم عالما ، ولا أظن أن يلتزم أحد في إفادة مثل هذا الامر للتكرار ، كما لا يستفاد منه المرة أيضا ، والاكتفاء بالمرة لمكان ان الامر لا يقتضى الا طرد العدم ، وهو يتحقق بأول الوجود ، لا ان الامر بالدلالة اللفظية يدل على ذلك ، فالبحث عن المرة والتكرار مما لا طائل تحته ، كالبحث عن الفور والتراخي ، فان الامر يصلح لكل منهما من دون ان يكون له دلالة لفظية على أحدهما.

فالأولى عطف الكلام إلى مسألة الاجزاء التي تعم بها البلوى.

فنقول :

ربما عنون في بعض الكلامات مسألة الاجزاء ، بان الامر هل يقتضى الاجزاء أو لا يقتضيه؟ ولمكان ان التعبير بذلك فيه مسامحة واضحة - بداهة ان الاجزاء لا يستند إلى الامر وليس من مقتضياته ، بل يستند إلى فعل المكلف وما هو الصادر عنه - عدل المحققون وأبدلوا العنوان بان اتيان المأمور به على وجهه هل يقتضى الاجزاء أو لا يقتضيه؟ ومعلوم ان المراد من قيد ( وجهه ) ليس الوجه الذي اعتبره المتكلمون في العبادة من قصد الوجوب أو الاستحباب أو جهتهما ، بل المراد منه الكيفية التي اعتبرت في متعلق الامر ، أي ان اتيان المأمور به على الوجه الذي امر به وبالكيفية التي تعلق الامر بها هل يقتضى الاجزاء أو لا يقتضيه؟.

ثم لا يخفى عليك : انه لا ربط لهذه المسألة بمسألة المرة والتكرار ، فان البحث عن مسألة المرة والتكرار انما هو في مفاد الامر بحسب ما يقتضيه من الدلالة ، و

ص: 241

البحث عن مسألة الاجزاء انما هو بعد الفراغ عن مفاد الامر ، فتكون تلك المسألة بمنزلة الموضوع لهذه المسألة ، فإنه لو قلنا بان الامر يدل على المرة يقع البحث في أن الاتيان بالمتعلق يقتضى الاجزاء أو لا يقتضيه ، وكذا لو قلنا بالتكرار فإنه يقع البحث في أن الاتيان بالتكرار بأي مقدار أريد من التكرار هل يقتضى الاجزاء أو لا يقتضيه؟ نعم : لو قلنا بإفادته للتكرار ابدا تتحد نتيجة المسئلتين.

والحاصل : ان البحث في هذا المقام عقلي ، وفي ذلك المقام لفظي ، وعلى كل حال ان استقصاء الكلام في مسألة الاجزاء يتم برسم مقامات.

( المقام الأول )

في أن الاتيان بالمأمور به يقتضى الاجزاء عن نفس ذلك الامر ، أو لا يقتضيه؟ أي الاتيان بمتعلق الامر الواقعي الأولى يقتضى الاجزاء عن نفس ذلك الامر ويوجب سقوطه؟ أو لا يقتضيه؟ والآتيان بمتعلق الامر الواقعي الثانوي يقتضى الاجزاء من نفس ذلك الامر؟ أو لا يقتضيه؟ وكذا الحال في الامر الظاهري. والحاصل : انه يلاحظ كل امر بالنسبة إلى متعلقه ويبحث عن اقتضائه للاجزاء وعدم اقتضائه له.

( المقام الثاني )

في أن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي الثانوي هل يقتضى الاجزاء عن الامر الواقعي الأولى عند تبدل الموضوع وزوال العذر في الوقت أو في خارجه؟ أو لا يقتضيه؟.

( المقام الثالث )

في أن الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهري هل يقتضى الاجزاء عن الامر الواقعي؟ أو لا يقتضيه؟ عند انكشاف الخلاف ظنا أو علما.

اما الكلام في المقام الأول :

فالانصاف انه مما لا ينبغي فيه توهم عدم الاجزاء ، بل الاتيان بمتعلق كل امر يقتضى الاجزاء عن نفس ذلك الامر عقلا ، ويسقط به الامر قهرا ، فلا ينبغي البحث عن ذلك. نعم : ينبغي البحث عن مسألة تبديل الامتثال مع سقوط الامر. و

ص: 242

الذي يظهر من بعض الاعلام : ان تبديل الامتثال يكون على القاعدة ، وللمكلف ان يبدل امتثاله ، ويعرض عما امتثل به أولا ، ويأتي بالفعل ثانيا ، هذا.

ولكن الانصاف : انه لا يمكن المساعدة على ذلك ، بل يحتاج تبديل الامتثال إلى قيام دليل على ذلك ، فان تبديل الامتثال يحتاج إلى عدم سقوط الغرض عند سقوط الامر ، كما لو امر بالماء لغرض الشرب واتى به العبد والمولى لم يشربه بعد ، فان الامر بالاتيان بالماء وان سقط الا ان الغرض بعد لم يحصل ، فللعبد تبديل الامتثال ورفع ما اتى به من الماء وتبديله بماء آخر ، فيحتاج تبديل الامتثال إلى بقاء الغرض أو مقدار منه ، وامكان قيام الفعل الثاني مقام الغرض.

وهذا كما ترى يحتاج في الشرعيات إلى دليل يكشف عن ذلك ، ومع عدم قيامه لا يمكن للمكلف التبديل من عند نفسه ، ولم نعثر في الشريعة على دليل يقوم على جواز تبديل الامتثال ، الا ما ورد (1) في باب إعادة الصلاة جماعة وان اللّه يختار أحبهما إليه ، وذلك مقصور أيضا على إعادة المنفرد صلوته جماعة ، أو إعادة الامام صلوته إماما لا مأموما ولا منفردا مرة واحدة ، وليس له الإعادة ثانيا وثالثا على ما هو مذكور في محله.

واما الكلام في المقام الثاني :

وهو اقتضاء الاتيان بالمأمور به بالامر الثانوي للاجزاء عن الامر الواقعي الأولى ، فالبحث فيه يقع في مقامين :

( المقام الأول )

في اقتضائه للاجزاء بالنسبة إلى القضاء في خارج الوقت عند استيعاب العذر لتمام الوقت وزواله بعد الوقت.

( المقام الثاني ) في اقتضائه للاجزاء بالنسبة إلى الإعادة عند زوال العذر في الوقت. 7

ص: 243


1- الوسائل ، الجزء 5 الباب 54 من أبواب صلاة الجماعة الحديث 10 ص 457

اما المقام الأول :

فاجمال القول فيه ، انه لا محيص عن الاجزاء وعدم وجوب القضاء ، والسر في ذلك هو ان القيد الساقط بالتعذر كالطهارة المائية لابد ان لايكون ركنا مقوما للمصلحة الصلواتية مط ، والا لما امر بالصلاة مع الطهارة الترابية ، فان امره يكون ح بلا ملاك ، وهو مناف لمسلك العدلية من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد ، فمن نفس تعلق الامر بالصلاة الفاقدة للطهارة المائية عند تعذرها يستكشف عدم ركنية الطهارة المائية للصلاة ، وعدم قوام المصلحة الصلواتية بها في حال تعذرها ، وان الصلاة مع الطهارة الترابية واجدة لمصلحة الصلواتية التي لابد منها في الامر بها ، فلا بد من اجزائها وسقوط القضاء ، فان وجوب القضاء يدور مدار الفوت ، والمفروض انه لم يفت من المكلف شيء ، لفعله المكلف به الواجد للمصلحة الصلواتية. مع أنه لم يكن الشخص مكلفا الا بصلاة واحدة وقد اتى بها ، فأي موجب للقضاء؟ وأي شيء فات من المكلف حتى يقضيه؟ فلو وجبت في خارج الوقت والحال هذه كان ذلك واجبا آخر مستقلا أجنبيا عما نحن بصدده من قضاء ما فات من المكلف.

وحاصل الكلام : ان قيدية الطهارة المائية ، اما ان تكون ركنا في الصلاة مط ، وبها قوام مصلحتها في كلتا حالتي التمكن وعدمه ، واما ان لا تكون ركنا كذلك ، بل كانت ركنا في خصوص حال التمكن واما في غير ذلك الحال فليست بركن ولا تقوم بها المصلحة الصلواتية. فان كانت ركنا مط فلا يعقل الامر بالصلاة الفاقدة للطهارة المائية ، بل لابد من سقوط الامر الصلواتي كما في صورة فقد الطهورين ، وحيث انه امر بالصلاة كذلك ، فلا بد ان لايكون لها دخل لا في الخطاب بالصلاة ولا في الملاك الصلواتي وتكون الصلاة مع الطهارة الترابية واجدة لكل من الخطاب والملاك الذي يتقوم به الصلاة ، ولا محذور في أن يكون الشيء له دخل في الملاك في حال وليس له دخل في حال أخرى ، فتكون الطهارة المائية لها دخل في الملاك في حال التمكن ولا يكون لها دخل فيه في حال عدم التمكن ، فإذا كانت الصلاة مع الطهارة الترابية واجدة للخطاب وللملاك الصلواتي ، اما على الوجه الذي كانت الصلاة مع الطهارة المائية واجدة له في حال التمكن منها ، بان تكون تلك

ص: 244

المصلحة بما لها من المرتبة قائمة بالصلاة مع الطهارة الترابية عند عدم التمكن ، فان ذلك بمكان من الامكان كما لا يخفى ، واما لا على ذلك الوجه بل دون تلك المصلحة ولكن كانت واجدة لأصل المصلحة الصلواتية ، فان هذا المقدار مما لا محيص عنه لكشف الامر انا عن ذلك. فلا يعقل القضاء ح إذا لم يفت من المكلف شيء حتى يقضيه. اما على الوجه الأول فواضح ، فإنه تكون الصلاة مع الطهارة الترابية واجدة لجميع الملاك بماله من المرتبة ، فلم يتحقق فوت شيء أصلا.

واما على الوجه الثاني ، فلانه وان فات من المكلف مقدار من المصلحة ، الا ان ذلك المقدار مما لا يمكن استيفائه ، لان استيفائه انما يكون في طي استيفاء المصلحة الصلواتية وفي ضمنه ، والمفروض ان المكلف قد استوفى المصلحة الصلواتية في ضمن الطهارة الترابية ، فلا يمكنه استيفاء مصلحة الطهارة المائية ، إذ ليست مصلحتها قائمة بنفسها بل في ضمن الصلاة ، مع أن القضاء لا يدور مدار فوت المصحلة ، بل يدور مدار فوت المكلف به ، والمفروض انه قد اتى به في وقته فلا يمكن قضائه.

واما المقام الثاني :

وهو سقوط الإعادة ، فقد اتضح وجهه مما ذكرناه في سقوط القضاء ، إذ الكلام فيه هو الكلام في القضاء ، فإنه بعد البناء على جواز البدار لذوي الاعذار اما مط ، أو مع القطع بعدم زوال العذر إلى آخر الوقت ، أو مع اليأس عن زواله - على الأقوال في المسألة - وبعد البناء على أن جواز البدار له يكون حكما واقعيا لا حكما ظاهريا لا يمكن القول بعدم الاجزاء ، لأن جواز البدار على هذا يرجع إلى سقوط القيد المتعذر وعدم ركنيته للواجب وعدم قوام المصلحة الصلواتية به مط فتكون التوسعة في الوقت محفوظة وعدم خروج تلك القطعة من الزمان الذي تعذر فيه القيد عن صلاحية وقوع الصلاة فيها ، ويكون معنى البدار البدار إلى صلاة الظهر المكلف بها ، ومعه كيف يمكن القول بعدم الاجزاء؟ مع أنه لا يجب على المكلف في الوقت صلاتان للظهر.

والحاصل : انه اما ان نقول بعدم جواز البدار لذوي الاعذار مط ، واما ان

ص: 245

نقول بجوازه اما مط أو على التفصيل المتقدم ، فان قلنا بعدم جواز البدار له كان ما اتى به من الفعل الفاقد للقيد غير مأمور به وخاليا عن المصلحة ، ومعه لا يعقل الاجزاء ، وليس الكلام فيه أيضا ، وان قلنا بجواز البدار له على الوجه الذي نقول به كاليأس عن زوال العذر - كما هو المختار - فاما ان نقول : ان جواز البدار يكون حكما طريقيا ظاهريا ، واما ان نقول : انه حكم واقعي. فان قلنا : انه حكم طريقي ظاهري فهو خارج عن محل الكلام ، فإنه عند زوال العذر في الوقت ينكشف عدم كون المأتى به مأمورا به ، فلا يكون مجزيا على ما سيأتي في المقام الثالث من عدم اقتضاء الحكم الظاهري للاجزاء ، وان قلنا : ان جواز البدار يكون حكما واقعيا ، فمعناه ان المصلحة الصلواتية قائمة بالفاقد للقيد في زمان تعذره وانه ليس ركنا مقوما للمصلحة وان التوسعة في الوقت بعد محفوظة ، ومعه لا محيص من القول بالاجزاء وسقوط الإعادة عند زوال العذر.

واما المقام الثالث :

وهو اقتضاء المأتى به بالامر الظاهري للاجزاء عن الامر الواقعي عند انكشاف الخلاف ، فالكلام فيه أيضا يقع في مقامين :

المقام الأول : في اقتضاء المأتى به بالامر الظاهري الشرعي لاجزاء كما في موارد الطرق والامارات والأصول الشرعية.

المقام الثاني : في اقتضاء المأتى به بالامر الظاهري العقلي للاجزاء ، كما في موارد القطع.

اما الكلام في المقام الأول فيقع من جهات :

الجهة الأولى :

في اقتضاء المأتى به بالامر الظاهري الشرعي الذي يكون مؤدى الطرق والامارات في باب الاحكام الكلية الشرعية عند انكشاف الخلاف القطعي ، كما إذا قام خبر الواحد على عدم وجوب السورة في الصلاة ، فأفتى المجتهد على طبقه ، وعمل هو ومقلدوه عليه ، ثم بعد بذلك عثر على خبر متواتر قطعي يدل على وجوب السورة في الصلاة ، ففي مثل هذه الصورة ، الحق عدم الاجزاء بالنسبة إلى الإعادة والقضاء ، بل

ص: 246

يلزمه الإعادة أو القضاء عند انكشاف الخلاف في الوقت أو خارجه ،

وقد حكى على ذلك دعوى الاجماع ، بل جعلوا ذلك من فروع التخطئة والتصويب ، وان القول بالاجزاء يلازم القول بالتصويب ، حيث إنه لا يمكن القول بالاجزاء الا بعد الالتزام بحدوث مصلحة في متعلق الامارة عند قيام الامارة عليه وانشاء حكم على طبق الامارة على خلاف الحكم الواقعي المجعول الأولى ، بحيث يوجب تقييد الاحكام الأولية أو صرفها إلى مؤديات الطرق والامارات ، وهذا كما ترى عين القول بالتصويب المخالف لمسلك الامامية ، فإنه بناء على أصول المخطئة ليست الاحكام الا الاحكام الواقعية المجعولة الأولية من غير تقييدها بالعلم والظن والشك ، ولا بقيام الامارة على الوفاق أو الخلاف ، وليس هناك تقييد وصرف إلى مؤديات الطرق والامارات ، وليس شأن الطرق والامارات الا التنجيز عند الموافقة والعذر عند المخالفة ، وان المجعول فيها ليس الا الطريقية والحجية والوسطية في الاثبات ، من دون ان توجب حدوث مصلحة أو مفسدة في المتعلق ، بل المتعلق باق على ما هو عليه قبل قيام الامارة عليه ، ومع هذا كيف يمكن القول بالاجزاء؟ مع أنه لم يأت بالمأمور به والمكلف به الواقعي.

وبالجملة : ليس حال الطرق والامارات الا كحال العلم ، وانما الفرق ان العلم طريق عقلي والطريقية ذاتية له ، والامارات طرق شرعية وطريقيتها مجعولة بجعل شرعي ، فكأنما جعلها من افراد العلم جعلا تشريعيا لا تكوينيا ، وح يكون حالها حال العلم ، وسيأتي في المقام الثاني ان الطريق العقلي من العلم والقطع لا يوجب الاجزاء وكذا الطريق الشرعي.

وتوهم ان السببية التي ذهب جملة من الامامية إليها في باب الطرق والامارات يلازم القول بالاجزاء ، فاسد ، فان المراد من تلك السببية هي اقتضاء جعل الامارة للمصلحة السلوكية ، وليس المراد من السببية المذكورة هو سببية الامارة لحدوث مصلحة في المتعلق ، لما عرفت من أنها عين التصويب ، فكيف يقول بها من أنكر التصويب؟ ومن المعلوم : ان المصلحة السلوكية لا تقتضي الاجزاء عند انكشاف الخلاف ، فان المصلحة السلوكية على القول بها انما هو لتدارك فوت

ص: 247

مصلحة الواقع ، وهذا مع انكشاف الخلاف وامكان تحصيل المصلحة الواقعية لا يتحقق. فتحصل : انه لا محيص عن القول بعدم الاجزاء في باب الطرف والامارات القائمة على الاحكام الكلية الشرعية.

الجهة الثانية :

في اقتضاء المأتى بالامر الظاهري الشرعي الذي يكون مؤدى الامارات في باب الموضوعات الشرعية للاجزاء ، كما إذا قامت البينة على نجاسة الماء ، فصلى مثلا مع التيمم ، ثم انكشف مخالفة البينة للواقع وان الماء كان طاهرا ، والحق فيه أيضا عدم الاجزاء ، فان تقييد الموضوعات الشرعية بالعلم والظن والشك واقعا وان كان بمكان من الامكان ، كما إذا رتب النجاسة على معلوم البولية ، والحرمة على معلوم الخمرية أو الذي لم تقم امارة على نجاسته أو خمريته ، الا ان الكلام فيما إذا لم يقيد الموضوع بذلك ، وكان الشيء بعنوانه الأولى موضوعا للحكم ، وان حجية البينة لمجرد الطريقية من دون ان يكون لها شائبة الموضوعية - كما هو ظاهر أدلة اعتبارها - وح يكون الكلام في هذه الجهة كالكلام في الجهة الأولى ، من حيث عدم اقتضاء الاجزاء ، على ما عرفت تفصيله.

الجهة الثالثة :

في اقتضاء المأتى به بالامر الظاهري الشرعي الذي يكون مؤدى الأصول الشرعية العملية للاجزاء ، كقاعدة الطهارة ، واستصحابها.

وقد ذهب بعض الاعلام إلى اقتضاء ذلك للاجزاء ، على تفصيل بين الأصول الغير المتكلفة للتنزيل كاصالة الطهارة والحل ، وبين الأصول المتكفلة للتنزيل كاستصحابهما ، حيث إنه في الأول جزم بالاجزاء ، وفي الثاني تردد ، ولعل الوجه في التفصيل ، هو ان الاستصحاب له جهتان : جهة تلحقه بالطرق والامارات ، وجهة تلحقه بالأصول العملية ، والجهة التي تلحقه بالامارات هي جهة احرازه وتكفله للتنزيل ، والجهة التي تلحقه بالأصل العملية هي كون المجعول فيه البناء العملي لا الطريقية ، فبالنظر إلى الجهة الأولى يقتضى عدم الاجزاء ، كما في الطرق والامارات ، وبالنظر إلى الجهة الثانية يقتضى الاجزاء.

ص: 248

وعلى كل حال : ان نظره في اقتضاء الأصول للاجزاء إلى أنها توجب توسعة في دائرة الشرط وتعميما له ، بحيث يعم الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية المجعولة بقاعدتها أو باستصحابها ، وحينئذ تكون الصلاة المأتى بها بقاعدة الطهارة أو الحلية واجدة للشرط ، فلا موجب للإعادة والقضاء ، والالتزام بهذه التوسعة انما هو لحكومة أدلة الأصول على الأدلة الواقعية ، ودليل الحاكم قد يوجب التوسعة ، وقد يوجب التضييق ، وفي المقام أوجب التوسعة هذا.

ولكن قد أشكل عليه شيخنا الأستاذ مد ظله.

أولا : بان هذا لا يستقيم على مسلكه ، من تفسير الحكومة من كون أحد الدليلين مفسرا للدليل الآخر على وجه يكون بمنزلة قوله : أي أو أعني أو أريد وما شابه ذلك من أدوات التفسير ، لوضوح ان قوله : كل شيء طاهر أو حلال ، ليس مفسرا لما دل على أن الماء طاهر والغنم حلال ، ولا لما دل على أنه يعتبر الوضوء بالماء المطلق الطاهر ، وا الصلاة مع اللباس المباح وأمثال ذلك ، فتأمل.

وثانيا :

ان التوسعة والحكومة انما تستقيم إذا كانت الطهارة أو الحلية الظاهرية مجعولة أولا ، ثم يأتي دليل على أن ما هو الشرط في الصلاة أعم من الطهارة الواقعية والطاهرة الظاهرية فيكون حينئذ هذا الدليل موسعا وحاكما على ما دل على اعتبار الطهارة الواقعية ، والمفروض انه لم يقم دليل سوى ما دل على جعل الطهارة الظاهرية وهو قوله (1) علیه السلام : كل شيء لك طاهر ، والسر في اعتبار كون الطهارة الظاهرية مجعولة في التوسعة والحكومة ، هو ان الطهارة الظاهرية بناء على التوسعة والحكومة تكون بمنزلة الموضوع للدليل الحاكم ، فتأمل.

ص: 249


1- الوسائل ، الجزء 2 ، الباب 37 من أبواب النجاسات ، الحديث 4 ص 1054 وفي هذا الخبر « كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر » وروى في المستدرك عن الصدوق قدس سره في ( المقنع ) كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر » راجع المستدرك الجلد 1 ص 164

وثالثا :

وهو العمدة ، ان الحكومة التي نقول بها في الطرق والامارات والأصول غير الحكومة التي توجب التوسعة والتضييق ، فان الحكومة التي توجب التوسعة والتضييق انما هي بالنسبة إلى الأدلة الأولية الواقعية بعضها مع بعض ، كما في مثل قوله (1) لا شك لكثير الشك ، حيث يكون حاكما على مثل قوله (2) ان شككت فابن على الأكثر ، وأين هذا من حكومة أدلة الاحكام الظاهرية على أدلة الاحكام الواقعية؟ واجمال الفرق بينهما - وان كان تفصيله موكولا إلى محله - هو ان الحكمين اللذين تكفلهما الدليل الحاكم والدليل المحكوم في الأدلة الواقعية انما يكونان عرضيين ، بان يكونا مجعولين في الواقع في عرض واحد ، لان الحكومة بمنزلة التخصيص ، وحكم الخاص انما يكون مجعولا واقعيا في عرض جعل الحكم العام من دون ان يكون بينهما طولية وترتب ، فكان هناك حكم مجعول على كثير الشك ، وحكم آخر مجعول على غير كثير الشك ، وتسمية ذلك حكومة لا تخصيصا انما هو باعتبار عدم ملاحظة النسبة بين الدليلين ، والا فنتيجة الحكومة التخصيص.

واما الحكومة في الأدلة الظاهرية ، فالمجعول فيها انما هو في طول المجعول الواقعي وفي المرتبة المتأخرة عنه ، خصوصا بالنسبة إلى الأصول التي اخذ الشك في موضوعها. وبعبارة أخرى : المجعول الظاهري انما هو واقع في مرتبة احراز الواقع والبناء العملي عليه بعد جعل الواقع وانحفاظه على ما هو عليه من التوسعة والتضييق ، فلا يمكن ان يكون المجعول الظاهري موسعا أو مضيقا للمجعول الواقعي ، مع أنه لم يكن في عرضه وليس هناك حكمان واقعيان مجعولان. ولتفصيل الكلام محل آخر ، والغرض في المقام مجرد بيان ان الاحكام الظاهرية ليست موسعة للأحكام الواقعية ولا مضيقة لها ، ولا توجب تصرفا في الواقع ابدا. .

ص: 250


1- الوسائل ، الجزء 5 الباب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ص 329
2- الوسائل ، الجزء 5 الباب 8 من أبواب الخلل ، ص 317 الحديث 1. وفي متن هذا الخبر « متى شككت فخذ بالأكثر » وفي خبر 3 من هذا الباب. « إذا سهوت فابن على الأكثر ».

ورابعا :

انه لو كانت الطهارة المجعولة بأصالة الطهارة أو استصحابها موسعة للطهارة الواقعية ، لكان اللازم الحكم بطهارة ملاقي مستصحب الطهارة وعدم القول بنجاسته بعد انكشاف الخلاف وان الملاقى ( بالفتح ) كان نجسا ، لأنه حين الملاقاة كان طاهرا بمقتضى التوسعة التي جاء بها الاستصحاب ، وبعد انكشاف الخلاف لم تحدث ملاقاة أخرى توجب نجاسة الملاقى ( بالكسر ) فينبغي القول بطهارته ، وهو كما ترى.

فظهر من جميع ما ذكرنا : ان التوسعة المدعاة في باب الأصول مما لا محصل لها ، ومعه لا محيص عن القول بعدم اقتضاء الأصول للاجزاء عند انكشاف الخلاف القطعي مط ، سواء كانت جارية في الشبهات الحكمية أو في الشبهات الموضوعية.

الجهة الرابعة :

في اقتضاء الماتى به بالامر الظاهري الشرعي للاجزاء عند انكشاف الخلاف الظني ، كما في موارد تبدل الاجتهاد والتقليد ، ولا يتفاوت الحال في البحث عن هذه الجهة بين كون الامر الظاهري مؤدى الطرق والامارات ، أو مؤدى الأصول العملية ، نعم : البحث في المقام مقصور على خصوص الطرق والامارات والأصول التي يكون مؤديها الأحكام الشرعية.

واما ما كانت جارية في الموضوعات الخارجية ، فلا اشكال في عدم اقتضائها الاجزاء ، كما لو كان الشيء مستصحب الطهارة أو الملكية ، ثم قامت البينة على النجاسة أو عدم الملكية ، فان البينة توجب نقض الآثار التي عمل بها بمقتضى الاستصحاب من أول الامر ، ولا يتوهم الاجزاء في مثل هذا. وهذا بخلاف ما إذا كانت الامارات والأصول قائمة على الأحكام الشرعية ، ثم انكشف الخلاف ، كما في موارد تبدل الاجتهاد ، فان الاجزاء في مثل ذلك وقع محل الخلاف ، وقد قيل فيها بالأجزاء ، وان كان الأقوى عندنا عدم الاجزاء ايض مط في جميع موارد تبدل الاجتهاد ، سواء كان تبدله لأجل استظهاره من الدليل خلاف ما استظهره أولا ، كما لو استظهر من الدليل الاستحباب أو الإباحة ثم عدل عن استظهاره واستظهر

ص: 251

الوجوب أو الحرمة ، أو كان تبدله لأجل عثوره على المقيد أو المخصص أو الحاكم أو المعارض الأقوى ، وغير ذلك من موارد تبدل الرأي ، فان مقتضى القاعدة في جميع ذلك عدم الاجزاء ، وان حال متعلق الطرق والامارات والأصول حال متعلق العلم عند انكشاف الخلاف ، وكذا حال الامارات والأصول حال نفس العلم إذا زال وتبدل بغيره. فلنا في المقام دعويان :

الأولى : اتحاد متعلق الامارات والأصول مع متعلق العلم من الجهة التي نحن فيها.

الثانية : اتحاد نفس الامارات والأصول مع العلم ، وان قيام الامارة على شيء كقيام العلم عليه ، ويتضح الوجه في كلتا الدعويين برسم أمور :

( الامر الأول )

انه ليس المراد من الحكم الظاهري الا عبارة عن الحكم الواقعي المحرز بالطرق والامارات والأصول ، وليس هناك حكمان : حكم واقعي وحكم ظاهري ، بان يكون للشارع انشائان وجعلان ، بل ليس الحكم الا الحكم الواقعي المجعول أزلا والحكم الظاهري عبارة عن احراز ذلك الحكم بالطرق والأصول المقررة الشرعية ، وتسميته ظاهريا لمكان احتمال مخالفة الطريق والأصل للواقع وعدم ايصاله إليه ، والا فليس الحكم الظاهري الا هو الحكم الواقعي الذي قامت عليه الامارات والأصول مط ، محرزة كانت الأصول أو غير محرزة ، وهذا هو الذي قام عليه المذهب ويقتضيه أصول المخطئة.

نعم : بناء على أصول المصوبة من المعتزلة ، من أن قيام الامارة يوجب حدوث مصلحة في المتعلق ، ويقع التزاحم بينها وبين المصلحة الواقعية ، وتكون مصلحة مؤدى الطريق غالبة على مصلحة الواقع ، يكون هناك حكمان وانشائان ، ويكون للشارع جعلان ، أحدهما متعلق بالواقع الأولى ، والثاني متعلق بمؤدى الطريق والأصل ، ولكن بناء على هذا لا ينبغي تسمية ذلك حكما ظاهريا ، بل يكون ح حكما واقعيا ثانويا كما لا يخفى وجهه ، وهذا هو الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة من وجوه التصويب التي ذكرها الشيخ ( قده ) في أول حجية الظن حيث ذكر للتصويب

ص: 252

وجوها ثلاثة : (1).

الأول التصويب الأشعري ، وانه لم يكن في الواقع حكم الا مؤدى الامارات والأصول.

الثاني التصويب المعتزلي ، وهو ما أشرنا إليه ، وحاصله انه وان كان هناك في الواقع حكم يشترك فيه العالم والجاهل ، الا انه قيام الامارة على الخلاف يحدث في المتعلق مصلحة غالبة على مصلحة الواقع ، ويكون الحكم الفعلي هو مؤديات الطرق والأصول.

الثالث التصويب الامامي وهو المصلحة السلوكية على ما يأتي الإشارة إليها.

وبالجملة ، بناء على أصول المخطئة ليس الحكم الظاهري أمرا في قبال الحكم الواقعي ، بل الحكم الظاهري هو عبارة عن الحكم الواقعي المحرز بالطرق والأصول.

( الامر الثاني )

ان جعل الطرق والامارات والأصول انما يكون في رتبة احراز الحكم الواقعي ، ومن هنا كان في طول الحكم الواقعي ولا يعارضه ويزاحمه ، فكما ان احراز الواقع بالعلم يكون في المرتبة المتأخرة عن الواقع ، كذلك ما جعله الشارع بمنزلة العلم من الطرق والامارات والأصول ، حيث إنه جعلها محرزة له تشريعا ، وفردا للعلم شرعا ، فكان الشارع بجعله للطرق والأصول خلق فردا آخر للعلم في عالم التشريع ، ونفخ فيها صفة الاحراز وجعلها علما ، فجعل الطرق والأصول انما يكون في واد الاحراز واقعا في رتبة العلم ، وهذا معنى حكومتها على الواقع ، فان معنى حكومتها عليه ، هو انها محرزة للواقع وموصلة إليه ، لا انها توجب توسعة أو تضييقا في ناحية الواقع.

وبالجملة : ليس حال الطرق والامارات والأصول الا كحال العلم في

ص: 253


1- راجع الرسائل ، أو مباحث حجية الظن. ص 24

كونه محرزا للواقع ، غايته ان العلم محرز بذاته ، وتلك محرزة بالجعل التشريعي.

( الامر الثالث )

بعد ما عرفت من أن جعل الامارات والأصول واقع في رتبة الاحراز ، يظهر لك ان طريقية الطريق ومحرزيته يتوقف على وجود العلم به ، بان يكون واصلا لدى المكلف عالما به موضوعا وحكما ، إذ لا معنى لكون الشيء طريقا وحجة فعلية مع عدم الوصول إليه ، لان طريقيته انما تكون لمحرزيته ومحرزيته تتوقف على الوصول ، وبذلك تمتاز الطرق والأصول عن الاحكام الواقعية ، فان ثبوت الاحكام الواقعية وتحققها لا يتوقف على العلم بها ، وانما العلم يكون موجبا لتنجيزها بخلاف الامارات والأصول ، فان أصل تحققها يتوقف على العلم بها.

لا أقول ان أصل انشائها وجعلها يتوقف على العلم بها ، فان ذلك واضح البطلان لاستلزامه الدور.

بل أقول تحقق المنشأ خارجا وثبوت وصف الحجية والطريقية والمحرزية للشيء فعلا يتوقف على الوصول والوجود العلمي ، فانشائها يكون نظير ايجاب الموجب الذي لا يتحقق ما أوجبه خارجا الا بقبول الاخر ، كما أن انشاء الاحكام الواقعية يكون نظير الايقاعات التي لا يتوقف تحقق منشئاتها على شيء.

وبالجملة : انشاء الطرق والأصول وان لم يتوقف على العلم ، الا ان واجدية المنشأ لصفة الطريقية والمحرزية وكونه طريقا فعلا يتوقف على العلم به ، ولا معنى لطريقية طريق لم يعلم به المكلف ، كما إذا كان هناك خبر عدل لم يعثر عليه ، فالخاص الذي لم يعثر عليه المكلف ولم يصل إليه لايكون حجة فعلية ، ولا طريقا محرزا ، بل الحجة الفعلية والطريق المحرز هو العام ، نعم بعد العثور على الخاص والوصول إليه يتبدل احرازه ويخرج العام عن الطريقية ، ويكون الخاص ح طريقا.

ولا يتوهم : ان العام المخصص واقعا الذي لم يعثر المكلف على مخصصه لم يكن حجة واقعا بل كان من تخيل الحجة ، فان ذلك واضح البطلان ، لأن المفروض ان الخاص لم يكن حجة فعلية ، وحيث لم تخل الواقعة عن حجة فالعام الذي كان قد عثر عليه هو الحجة فعلا ، كما أنه لو لم يعثر على العام أيضا كان الأصل الجاري في

ص: 254

المسألة هو الحجة.

وبالجملة : الحجة هو الطريق الواصل ليس الا ، ومن هنا كانت أصالة العموم متبعة عند الشك في المخصص ولو كان هناك مخصص في الواقع ، فإنه حيث لم يصل الخاص إليه كان العموم هو المرجع والحجة فعلا.

إذا عرفت ذلك ، ظهر لك الوجه في عدم الاجزاء عند تبدل الاجتهاد ، فان حقيقة تبدل الاجتهاد ليس الا تبدل الاحراز ، حيث كانت الطرق والأصول واقعة في مرتبة الاحراز ، فتبدل اجتهاده عبارة عن تبدل حجته وطريقه واحرازه ، وانه إلى الان كان الحجة هو العام ، والآن صار الحجة هو الخاص ، فيكون حاله حال تبدل الاحراز العلمي بغيره ، وليس حال ما قام عليه الطريق الا حال متعلق العلم عند مخالفته للواقع ، من حيث عدم ايجاب العلم في المتعلق شيئا من مصلحة أو مفسدة ، بل هو باق على ما هو عليه قبل تعلق العلم ، ولا يوجب تبدلا في الواقع ، فكذا الحال في متعلق الطريق ، فلا فرق بين تعلق العلم بشيء وبين تعلق الطريق به ، وكذا لا فرق بين تبدل العلم وتبدل الطريق ، فلا معنى للفرق بينهما من حيث الاجزاء وعدمه ، فكل من قال بعدم الاجزاء عند تبدل العلم يلزمه القول بعدم الاجزاء عند تبدل الاجتهاد. هذا إذا لم يعلم في استنباطه بعض الظنون الاجتهادية.

وأما إذا اعمل ذلك ، كما هو الغالب ، حيث إن الاستنباط غالبا يتوقف على الاستفادة وأعمال الرأي في الجمع بين الأدلة ومقدار مفادها ، فعدم الاجزاء يكون ح أوضح ، لان تبديل الاجتهاد في مثل هذا يرجع في الحقيقة إلى عدم صحة الاجتهاد الأول ، وعدم استناده إلى حجة شرعية ، بل هو مستند إلى فهمه ورايه وهو ليس حجة شرعية.

ثم انه لا فرق فيما ذكرنا بين القول بالسببية أو الطريقية ، لان المراد من السببية على وجه لا ترجع إلى التصويب هو انها توجب مصلحة سلوكية ، لا انها توجب مصلحة في المؤدى ، ومن المعلوم : ان المصلحة السلوكية لا تقتضي الاجزاء مع انكشاف الخلاف ، فان المراد من المصلحة السلوكية هي مصلحة تدارك الواقع ، حيث إن الشارع لمكان نصبه الطرق في حال تمكن المكلف من الوصول إلى الواقع

ص: 255

وانفتاح باب العلم لديه قد فوت الواقع عليه فلابد من تداركه ، ومن المعلوم : ان تدارك الواقع انما يكون بالمقدار الذي يستند فوته إلى الشارع ، أي بمقدار سلوك الامارة مع كونها قائمة عنده ، فلو فرض انه قامت الامارة في أول الوقت على وجوب الجمعة ، فصلاها ثم بعد انقضاء فضيلة الوقت تبين مخالفة الامارة للواقع وان الواجب هو صلاة الظهر ، فالذي فات من المكلف في مثل هذا هو فضيلة أول الوقت ليس الا ، واما فضيلة أصل الوقت واصل الصلاة فلم تفت من المكلف ، لامكان تحصيلها. وكذا الكلام فيما إذا انكشف الخلاف بعد الوقت ، فإنه بالنسبة إلى القضاء لم يفت.

وبالجملة : المصلحة السلوكية تدور مدار البناء على مقدار اعمال الامارة ومقدار فوت الواقع. فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان القاعدة لا تقتضي الاجزاء عند تبدل الاجتهاد ، بل القاعدة تقتضي عدم الاجزاء.

وربما قيل بان القاعدة تقتضي الاجزاء لوجوه :

الأول.

لزوم العسر والحرج من القول بعدم الاجزاء ، وقد وقع الاستدلال بذلك في جملة من الكلمات بدعوى انه يكفي الحرج النوعي في نفى الحكم رأسا ، ولا يعتبر الحرج الشخصي حتى يدور الاجزاء مداره ، ونظير هذا وقع في التمسك بلا ضرر. وقد تكرر في جملة من الكلمات كون العبرة بالضرر والحرج الشخصي أو النوعي ، حتى أثبتوا جملة من الاحكام بواسطة استلزام عدمها الحرج في الجملة ، ولو بالنسبة إلى بعض الأشخاص وفي بعض الأحوال كمسئلتنا ، حيث أثبتوا الاجزاء بواسطة استلزام عدم الاجزاء الحرج في بعض المقامات ، وكان منشأ ذلك هو تعليل بعض الأحكام الشرعية الكلية بالضرر والحرج ، كما ورد في بعض اخبار الشفعة (1) تعليلها بنفي الضرر ، وطهارة الحديد بنفي الحرج ، ومن المعلوم ان عدم الشفعة ونجاسة الحديد لا يستلزم الضرر والحرج بالنسبة إلى جميع الأشخاص في جميع الأحوال ،

ص: 256


1- الوسائل ، الجزء 17 الباب 5 ، من أبواب الشفعة الحديث 1 ص 319

فتخيل ان الضرر والحرج المنفى هو الضرر والحرج النوعي لا الشخصي هذا.

ولكن الظاهر أن ذلك من جهة الاشتباه والخلط بين ما يكون حكمة التشريع ، وبين ما يكون علة الحكم ، فان الضرر والحرج المعلل بهما حكم الشفعة وطهارة الحديد انما يكونان حكمة للتشريع ، حيث إن الحكيم تعالى لمكان فضله على العباد وتوسعته على الناس جعل طهارة الحديد مع أن فيه مقتضى النجاسة ، وجعل الاخذ بالشفعة لحكمة استلزامه الضرر والحرج بالنسبة إلى نوع العباد ، ولكن هذه الحكمة صارت سببا لجعل حكم كلي إلهي على جميع العباد ، وليس من شان الحكمة الاطراد ، ففي مثل هذا لا معنى لدعوى الضرر الشخصي ، وليس لاحد الفتوى بنجاسة الحديد أو عدم الشفعة بالنسبة إلى من لم يكن في حقه ضرر وحرج ، لان الفتوى بذلك فتوى على خلاف حكم اللّه تعالى ، حيث جعل الشفعة وطهارة الحديد حكما كليا في حق جميع العباد ، فكيف يمكن الفتوى على خلاف ذلك؟ الا ان يكون مبدعا في الدين والعياذ باللّه. ولكن هذا غير الضرر المنفى بمثل قوله : لا ضرر ولا ضرار - الوارد في قضية سمرة بن جندب ، والحرج المنفى بقوله تعالى : ما جعل عليكم في الدين من حرج ، فان الضرر والحرج في مثل ذلك انما يكون علة لنفى الحكم الضرري والحرجي ، ويكون أدلة نفي الضرر والحرج حاكمة على الأدلة الأولية المتكلفة لبيان احكام الموضوعات مط الشاملة لحالة الضرر والحرج ، ففي مثل هذا لا يمكن ان يكون الضرر والحرج نوعيا ، لان حكومتها على تلك الأدلة تكون بمنزلة تخصيصها وقصر دائرتها بغير حالة الضرر والحرج ، فيكون الحكم الأولى ثابتا في غير صورة الضرر والحرج ، ولا معنى لتوهم ان العبرة في ذلك بالضرر والحرج النوعي ، ولا يمكن الفتوى بنفي الحكم كلية في حق جميع العباد بعد تشريعه لمكان استلزامه الضرر والحرج بالنسبة إلى بعض العباد ، فان المفتى بذلك يكون مبدعا في الدين ، وكيف يمكن رفع الحكم الثابت في الشريعة لمكان استلزامه الضرر والحرج في الجملة؟ فالعبرة في ذلك لايكون الا بالضرر والحرج الشخصي.

إذا عرفت ذلك فنقول : انه بعد تشريع الاحكام من وجوب صلاة الظهر في الوقت وقضائها في خارجه بالنسبة إلى كل أحد ، كيف يمكن القول بعدم وجوب

ص: 257

ذلك مط إعادة وقضاء بالنسبة إلى جميع العباد لمكان استلزام الإعادة والقضاء الحرج في الجملة في حق بعض الأشخاص في بعض الأحوال ، بل لابد في مثل ذلك من الاقتصار على المورد الذي يلزم منه الحرج.

وبالجملة : اثبات حكم كلي إلهي وهو الاجزاء مط بأدلة نفى الحرج لا يمكن ، لان أدلة نفي الحرج والضرر انما تنفى الحكم الضرري والحرجي ، وليس من شانها اثبات حكم في الشريعة.

الوجه الثاني :

من الوجوه التي استدلوا بها للاجزاء ، هو انه لا ترجيح للاجتهاد الثاني على الاجتهاد الأول ، بعد ما كان كل منهما مستندا إلى الطرق الشرعية الظنية ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما في هذا الاستدلال ، فإنه ليس المقام من باب التعارض حتى يقال : انه لا موجب لترجيح أحدهما على الاخر ، بل المفروض ان الاجتهاد الأول قد زال بسبب الاجتهاد الثاني ، وكان المستنبط بالاجتهاد الثاني هو الحكم الإلهي الأزلي والأبدي ، والمستنبط بالاجتهاد الأول وان كان كذلك أيضا ، الا انه قد زال ، فلم يبق الا العمل على مقتضى الاجتهاد الثاني ، وليس ذلك ترجيحا للاجتهاد الثاني ، حتى يقال : انه ترجيح بلا مرجح.

الوجه الثالث :

هو ما حكى عن بعض الكلمات ، من أن المسألة الواحدة لا تتحمل اجتهادين ، فلا يمكن ان يرد الاجتهادان على صلاة ظهر هذا اليوم ، وح فإذا اجتهد في عدم وجوب السورة وصلى صلاة الظهر بلا سورة بمقتضى اجتهاده ، فالاجتهاد الثاني الذي يكون مؤداه وجوب السورة لا يتعلق بتلك الصلاة التي صلاها في ذلك اليوم ، بل يتعلق بصلاة سائر الأيام ، هذا.

ولكن لم يظهر لنا معنى محصل لقولهم : ان المسألة الواحدة لا تتحمل اجتهادين ، فإنه ان أريد عدم التحمل في زمان واحد فذلك ضروري ، لعدم تعلق اجتهادين في زمان واحد بمسألة واحدة ، وان أريد عدم التعلق ولو في زمانين فذلك واضح البطلان ، لتحملها الف اجتهاد ، ولم يكن مؤدى الاجتهاد صلاة هذا اليوم أو ذلك

ص: 258

اليوم ، بل مؤداه هو الحكم الكلي المتعلق بجميع الأيام ، وعليك بملاحظة سائر الوجوه التي استدلوا بها للاجزاء ، فإنها مما لا تسمن ولا تغنى.

فتحصل : ان مقتضى القاعدة عدم الاجزاء مط في جميع موارد تبدل الاجتهاد. وكذا الحال بالنسبة إلى المقلد إذا عدل من تقليده لموجب من موت ، أو خروج المقلد من أهلية التقليد ، أو غير ذلك من موجبات العدول ، فان حال المقلد حال المجتهد ، غايته ان طريق المجتهد هو الأدلة الاجتهادية والأصول العملية التي يجريها في الشبهات الحكمية ، وطريق المقلد هو رأى المجتهد ، وليس لرأى المجتهد موضوعية حتى يتوهم الاجزاء ، بل انما يكون طريقا صرفا كطريقية الأدلة بالنسبة إلى المجتهد ، كما لا يخفى.

ثم انك بعد ما عرفت من أن القاعدة لا تقتضي الاجزاء بل تقتضي عدمه ، فنقول : انه قد حكى الاجماع على الاجزاء ، ونحن وان لم نعثر على من ادعى الاجماع ، الا ان شيخنا الأستاذ مد ظله ادعاه ، ولكن لو فرض تحقق الاجماع ، فربما يشكل التمسك به من جهة احتمال كون الاجماع في المقام مدركيا ، لذهاب جمله إلى أن القاعدة تقتضي الاجزاء ، ومع هذا لا عبرة بهذا الاجماع.

ثم لو أغمضنا عن ذلك وقلنا بكفاية الاجماع على النتيجة ، فيقع الكلام في مقدار دلالة هذا الاجماع ، فنقول : لعل المتيقن من هذا الاجماع هو سقوط الإعادة والقضاء ، واما فيما عدا ذلك من الوضعيات - في باب العقود والايقاعات ، وباب الطهارة والنجاسة ، ومسألة الاقتداء وغير ذلك من المسائل العامة البلوى التي تتفرع على مسألة الاجزاء - فالامر فيها مشكل ، ولا بد من الفحص التام في كلمات الاعلام في المقام. هذا تمام الكلام في اقتضاء الامر الظاهري الشرعي للاجزاء.

واما اقتضاء الامر الظاهري العقلي للاجزاء ، فمجمل القول فيه ، هو ان المراد من الامر الظاهري العلم ، وما يلحق به من الأصول العقلية ، وما يعمله المجتهد من الظنون الاجتهادية والاستفادات ، حيث إنه في الجميع ليس أمرا شرعيا ظاهريا ، لما عرفت من أن المراد من الامر الشرعي هو الطرق والأصول الشرعية ، وما عدا ذلك يكون ملحقا بالعلم الذي يكون حجيته عقلية محضة ،

ص: 259

وعلى كل حال فلا ينبغي توهم الاجزاء في الامر العقلي ، بل لا يفيد شيئا سوى المعذورية ، وذلك أيضا إذا لم يكن مقصرا في المقدمات والا لا يفيد المعذورية أيضا ، من غير فرق بين تعلق العلم بالفروع أو الأصول ، وذلك واضح لا غبار عليه ، هذا تمام الكلام في مسألة الاجزاء.

ثم إن شيخنا الأستاذ مد ظله ، تعرض في المقام لبعض المسائل الأصولية التي لا طائل تحتها ، كمسألة ان الامر بالامر امر ، ومسألة انه إذا نسخ الوجوب فهل يبقى الجواز أم لا؟ ومسألة امر الآمر مع علمه بانتفاء الشرط ، ونحن قد اعرضنا عن ذكرها لأنه لا فائدة فيها وهو مد ظله أيضا قد طواها ولم يعتن بالبحث فيها.

والحمد لله أولا وآخرا

وقد وقع الفراغ من تسويده ليلة الجمعة 10 شعبان سنه 1346.

ص: 260

القول في مقدمة الواجب

اشارة

وتنقيح البحث فيها يستدعى تقديم أمور :

الامر الأول :

لا ينبغي الاشكال في كون المسألة من المسائل الأصولية ، وليست من المبادئ الأحكامية ، ولا من المسائل الفقهية ، وذلك لما تقدم من أن الضابط في مسألة الأصولية هو وقوعها في طريق الاستنباط بحيث تكون نتيجتها كبرى لقياس الاستنباط على وجه يستنتج منها حكم فرعى كلي ، وهذا المعنى موجود في المقام ، فان البحث في المقام انما يكون عن الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدماته ، لا عن نفس وجوب المقدمة ، بل يكون وجوب المقدمة نتيجة الملازمة على القول بها ، فلا وجه لجعل المسألة من المسائل الفقهية ، كما لا وجه لجعلها من المبادئ الأحكامية التي هي عبارة عن البحث عن الاحكام وما يلازمها ، كالبحث عن تضاد الأحكام الخمسة ، وتقسيم الحكم إلى الوضعي والتكليفي ، وغير ذلك مما عدوه من المبادئ الأحكامية ، في مقابل المبادئ التصورية والتصديقية ، فان جعلها من المبادئ الأحكامية بلا موجب ، بعد امكان جعلها من المسائل الأصولية.

نعم : هي ليست من المسائل اللفظية ، كما يظهر من المعالم (رحمه اللّه) بل هي من المسائل العقلية ، ولكن ليست من المستقلات العقلية الراجعة إلى باب التحسين والتقبيح ومناطاة الاحكام ، بل هي من الملازمات العقلية ، حيث إن حكم العقل في المقام يتوقف على ثبوت وجوب ذي المقدمة ، فيحكم العقل بالملازمة بينه وبين وجوب مقدماته ، وليس من قبيل حكم العقل بقبح القعاب من غير بيان الذي

ص: 261

لا يحتاج إلى توسيط حكم شرعي ، بل البحث في المقام نظير البحث عن مسألة الضد ومسألة اجتماع الأمر والنهي يتوقف على ثبوت امر أو نهى شرعي ، حتى تصل النوبة إلى حكم العقل بالملازمة كما في مسئلتنا ، أو اقتضاء النهى عن الضد كما في مسألة الضد ، أو جواز الاجتماع وعدمه كما في مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي ، ولكن القوم لما لم يفردوا بابا للبحث عن الملازمات العقلية - مع أنه كان حقه ذلك أدرجوا المسألة وما شابهها في مباحث الألفاظ مع أنها ليست منها كما لا يخفى.

الامر الثاني :

ليس الوجوب المبحوث عنه في المقام بمعنى اللا بدية العقلية ، فان ذلك مما لا سبيل إلى انكاره إذ هو معنى المقدمية كما هو واضح ، وليس المراد من الوجوب أيضا الوجوب التبعي العرضي نظير وجوب استدبار الجدي عند وجوب استقبال القبلة ، حيث إن الاستدبار لم يكن واجبا ، وانما ينتسب الوجوب إليه بالعرض والمجاز لمكان الملازمة نظير اسناد الحركة إلى الجالس في السفينة ، فان هذا المعنى من الوجوب أيضا مما لا ينبغي انكاره ، بل هو يرجع إلى المعنى الأول من اللابدية ، وكذا ليس المراد من الوجوب المبحوث عنه في المقام الوجوب الاستقلالي الناشئ عن مبادئ مستقلة وإرادة متأصلة ، فان هذا المعنى مما لا يمكن الالتزام به ، وكيف يمكن ذلك مع أنه كثيرا ما تكون المقدمة مغفولا عنها ولا يلتفت إلى أصل مقدميتها ، بل ربما يقطع بعدمها ، مع أنها في الواقع تكون مقدمة ، وهذا المعنى من وجوبها يستدعى الالتفات إليها تفصيلا.

بل المراد من الوجوب في المقام : هو الوجوب القهري المتولد من ايجاب ذي المقدمة ، بحيث يريد المقدمة عند الالتفات إليها ولا يمكن ان لا يريدها ، فالمقدمة متعلقة لإرادة الآمر ، وليس اسناد الوجوب إليها بالعرض والمجاز بل يكون الاسناد على وجه الحقيقة ، ولكن ليست الإرادة عن مبادئ مستقلة ، بل يكون مقهورا في ارادتها بعد إرادة ذي المقدمة ولو على جهة الاجمال ، بحيث تتعلق الإرادة بالعنوان الكلي الذي يتوقف عليه ذو المقدمة وان لم يلتفت إلى المقدمات الخاصة ، ولكن المقدمات الخاصة تتصف بالوجوب حقيقة بعد انطباق العنوان عليها.

ص: 262

الامر الثالث :

في تقسيمات المقدمة : ولها تقسيمات باعتبارات مختلفة فمنها تقسيمها إلى الداخلية والخارجية ، والداخلية إلى الداخلية بالمعنى الأخص والداخلية بالمعنى الأعم. كما أن الخارجية أيضا تنقسم إلى الأعم والأخص. والمراد من الداخلية بالمعنى الأخص خصوص الاجزاء التي يتألف منها المركب ، والمراد من الداخلية بالمعنى الأعم ما يعم الاجزاء والشرائط والموانع التي اعتبر التعبد بها داخلا في المأمور به.

وبعبارة أخرى : المراد من الداخلية بالمعنى الأخص ما كان كل من القيد والتقييد داخلا في حقيقة المأمور به وهويته ، وذلك يختص بالاجزاء لا غير ، ويقابلها الخارجية بالمعنى الأعم ، وهي ما كان ذات الشيء خارجا عن حقيقة المأمور به ، سواء كان التقييد والإضافة داخلا كالشرائط والموانع ، حيث يكون ذات الشرط والمانع خارجا والتقييد والإضافة داخلا ، أو كانت الإضافة أيضا خارجة كالمقدمات العقلية التي لا دخل لها في المأمور به أصلا ، كنصب السلم بالنسبة إلى الصعود إلى السطح.

والمراد من الداخلية بالمعنى الأعم ما كان التقييد داخلا ، سواء كان نفس القيد أيضا داخلا كالاجزاء أو كان نفسه خارجا كالشرائط ، ويقابلها الخارجية بالمعنى الأخص ، وهي ما كان كل من القيد والتقييد خارجا ، كالمقدمات العقلية ، فالشرط والمانع له جهتان : بجهة يكون من المقدمات الداخلية باعتبار دخول التقييد ، وبجهة يكون من المقدمات الخارجية باعتبار خروج ذاته.

ثم إن المقدمة الخارجية بالمعنى الأخص تنقسم إلى علة ومعد ، والمراد من المعد ما كان له دخل في وجود الشيء ، من دون ان يكون وجود ذلك الشيء مترشحا منه بحيث يكون مفيضا لوجوده ، بل كان لمجرد التهيئة والاستعداد لإفاضة العلة وجود معلولها ، كدرجات السلم ما عدا الدرجة الأخيرة ، حيث إن كل درجة تكون معدة للكون على السطح ، كما تكون معدة أيضا للكون على الدرجة التي فوقها بمعنى انه يتوقف وجود الكون على الدرجة الثانية على الكون على الدرجة الأولى ، وقد

ص: 263

يطلق المعد على ما يكون له دخل في وجود المعلول ، من دون ان يكون له دخل في وجود الجزء اللاحق كالبذر ، حيث إن له دخلا في وجود الزرع ، ولا يتوقف وجود الشمس أو الهواء عليه ، وان توقف تأثيرهما عليه. ولكن فرق بين التوقف في التأثير ، وبين التوقف في الوجود ، كمثال السلم. وقد يطلق المعد بهذا المعنى على المعد بالمعنى الأخص. والمراد من العلة هو ما يترشح منه وجود المعلول وبإفاضته يتحقق.

ثم إن العلة تنقسم إلى بسيطة ، ومركبة ، والمركبة إلى ما تكون اجزائها متدرجة في الوجود ، وما لا تكون كذلك.

فالأول كالصعود على السلم بالنسبة إلى الصعود على السطح ، حيث إن الصعود على السلم يكون متدرجا في الوجود.

والثاني كالنار المجاورة مع عدم البلة بالنسبة إلى الاحراق ، حيث تكون العلة مركبة من النار والمجاورة وعدم البلة ، ولكن ليست هذه الاجزاء متدرجة في الوجود ، بل يمكن ان توجد العلة بجميع اجزائها دفعة واحدة ، فان كانت العلة متدرجة في الوجود كانت العلة التامة هي الجزء الأخير منها التي يتعقبها وجود المعلول ، والاجزاء السابقة عليها تكون من المعدات. وهذا بخلاف ما إذا لم تكن متدرجة في الوجود ، فان العلة التامة هو مجموع الاجزاء ، بل المعلول يستند إلى المقتضى وان فرض تأخره في الوجود عن الشرط وعدم المانع ، فظهر ان ما اشتهر من أن الشيء يستند إلى الجزء الأخير من العلة انما هو فيما إذا كانت اجزاء العلة متدرجة في الوجود.

وعلى كل حال ، لا اشكال في دخول المقدمات الخارجية بالمعنى الأخص في محل النزاع ما عدا العلة التامة ، واما العلة التامة ففيها كلام يأتي انشاء اللّه تعالى ، وكذا لا اشكال في دخول الشروط وعدم الموانع الشرعية في محل النزاع ، سواء جعلت من المقدمات الداخلية أو المقدمات الخارجية على اختلاف الاعتبارات كما تقدم.

واما دخول المقدمات الداخلية بالمعنى الأخص أي الاجزاء في محل النزاع فلا يخلو عن كلام ، بل ربما حكى عن بعض خروجها عن حريم النزاع ، بل ربما

ص: 264

يستشكل في كون الاجزاء مقدمة ، مع أنه لا بد من المغايرة بين المقدمة وذي المقدمة ، إذ لا يعقل ان يكون الشيء مقدمة لنفسه ، فكيف تكون الاجزاء مقدمة للكل مع أنها ليست الا عين الكل إذ الكل عبارة عن نفس الاجزاء بالأسر ، وح تكون الاجزاء واجبة بالوجوب النفسي ولا معنى لوجوبها بالوجوب المقدمي بعد كونها عين الكل واتحادها معه هذا.

وقد دفع الاشكال الشيخ ( قده ) على ما في التقريرات (1) بما حاصله : ان الكل هو عبارة عن الاجزاء لا بشرط ، والجزء عبارة عنه بشرط لا ، فالاجزاء لها لحاظان : لحاظها بشرط لا فتكون اجزاء ومقدمة ، ولحاظها لا بشرط فتكون عين الكل وذا المقدمة ، فاختلفت المقدمة مع ذيها اعتبارا ولحاظا هذا.

وكان الشيخ ( قده ) قاس المقام بالهيولى والصورة ، والجنس والفصل ، والمشتق ومبدء الاشتقاق ، حيث إنهم في ذلك المقام يفرقون بين الهيولي والصورة ، وبين الجنس والفصل ، باللابشرطية والبشرط اللائية ، فان اجزاء الانسان مثلا ان لوحظت بشرط لا ، تكون هيولى وصورة ، ويغاير كل منهما الآخر ، ويمتنع حمل أحدهما على الاخر ، وحملهما على الانسان ، وحمل الانسان على كل منهما. وان لوحظت لا بشرط تكون جنسا وفصلا ويصح حمل أحدهما على الاخر ، وحمل كل منهما على الانسان ، وحمل الانسان على كل منهما. وكذا الحال بالنسبة إلى المشتق ومبدء الاشتقاق على ما تقدم تفصيله في مبحث المشتق هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه ، فان قياس الاجزاء في المقام بمثل الهيولي والصورة والجنس والفصل مع الفارق ، فان معنى اللابشرط الذي يذكرونه في ذلك المقام انما هو بمعنى لحاظ الشيء لا بشرط عما يتحد معه بنحو من الاتحاد ، سواء كان من قبيل اتحاد المشتق مع ما يجرى عليه من الذات على اختلاف أنواعه : من كونه

ص: 265


1- راجع مطارح الأنظار ، الهداية الثانية من مباحث مقدمة الواجب ، « وتحقيق ذلك أن يقال .. » ص 38 - 37

اتحادا صدوريا ، أو حلوليا ، أو غير ذلك ، أو كان من قبيل اتحاد الجنس والفصل ، فإنه في مثل هذا إذا لوحظ الشيء لا بشرط كان قابلا للحمل لمكان الاتحاد الذي بينهما ، وأين هذا مما نحن فيه من الاجزاء العرضية التي يكون كل جزء منها مبائنا للاخر وللكل؟ ولا يعقل ان يتحد الجزء مع الكل في الوجود وان لوحظ بألف لا بشرط ، ولا يمكن حمل الفاتحة على الصلاة ولا حمل الأنكبين على السكنجبين.

والسر في ذلك : هو ان المركب من الاجزاء العرضية الذي يكون التركيب فيه انضماميا لا يمكن فيه اتحاد الاجزاء بعضها مع بعض ولا بعضها مع الكل في الوجود ، بل لكل وجود مغاير ، سواء كان من المركبات الاعتبارية أو كان من المركبات الخارجية ، فلا يصح حمل الفاتحة على الصلاة وان لوحظت لا بشرط ، فان لحاظ الفاتحة لا بشرط ليس معناه لحاظها لا بشرط عما يتحد معها ، إذ لم تتحد هي مع شيء في الوجود حتى يمكن لحاظها كذلك ، كما أمكن لحاظ الجنس كذلك لمكان الاتحاد الذي بينه وبين الفصل ، بل المعنى المتصور من لحاظ الفاتحة لا بشرط انما هو لحاظها بنفسها ، سواء كانت منضمة إلى غيرها أو غير منضمة ، وهذا المعنى كما ترى لا يوجب ان تكون عين الكل ولا حملها عليه ، بل بعد بينهما كمال المباينة.

وهذا بخلاف التركيب الاتحادي بنحو من الاتحاد ، ولو كان من قبيل اتحاد المشتق مع الذات الذي هو أضعف من اتحاد الجنس والفصل ، فإنه لمكان الاتحاد الذي بينهما - حيث إن وجود العرض لنفسه عين وجوده لغيره - يمكن لحاظ الاجزاء لا بشرط ، أي لحاظها على ما هي عليها من الاتحاد من دون لحاظ تجردها عما اتحد معها ، فتكون بهذا اللحاظ عين الكل ويصح الحمل حينئذ ، كما يمكن لحاظها بشرط لا - أي لحاظها غير متحدة - فتكون مغايرة للكل ويمتنع الحمل ، وأين هذا من اجزاء المركب بالتركيب الانضمامي الذي ليس فيه شائبة الاتحاد؟ كما فيما نحن فيه.

وبالجملة : دعوى ان الاجزاء في المقام ان لوحظت لا بشرط تكون عين الكل ، ما كانت ينبغي ان تصدر من مثل الشيخ ( قده ) ولعل المقرر لم يصل إلى مراد الشيخ ( قده )

ص: 266

والذي ينبغي ان يقال في المقام : هو ان الكل عبارة عن الاجزاء بالأسر ، أي مجموع الاجزاء منضما بعضها مع بعض ، فهي بشرط الاجتماع تكون عين الكل ، لا هي لا بشرط ، كما في التقرير ، والاجزاء انما تكون لا بشرط. واعتبار الكل والاجزاء على هذا الوجه مما لا اشكال فيه.

ولكن مع ذلك اشكال دخول الاجزاء في محل النزاع بعد على حاله ، لأنه هب ان الاجزاء انما تكون لا بشرط ، والكل يكون بشرط الانضمام ، الا ان اللابشرط لما كان يجتمع مع الف شرط من دون ان يكون ذلك موجبا لتبدل في ذاته وتغير في حقيقته ، فالفاتحة التي تكون لا بشرط هي بعينها الفاتحة التي تكون منضمة إلى السورة والركوع والسجود وغير ذلك من اجزاء الصلاة ، فان لا بشرطيتها لا يمنع عن انضمام الغير معها ، والمفروض ان الفاتحة التي تكون منضمة إلى غيرها واجبة بالوجوب النفسي المتعلق بالكل ، وليس هناك ذات أخرى وشيء آخر يكون واجبا بالوجوب المقدمي.

وحاصل الكلام : ان اعتبار الجزء لا بشرط واعتبار الكل بشرط الانضمام ، لا يدفع اشكال كون ما وجب بالوجوب النفسي يلزم ان يكون واجبا مقدميا لنفسه بناء على دخول الاجزاء في محل النزاع ، فان الاجزاء التي اعتبرت لا بشرط هي بعينها تكون منضما بعضها مع بعض ، لما عرفت من أن اللاشرطية لا تنافى الانضمام ، وما يكون واجبا بالوجوب النفسي هو هذه الاجزاء المنضمة بعينها ، فيعود محذور كون الشيء واجبا مقدميا لنفسه الواجب بالوجوب النفسي حسب الفرض.

هذا حاصل ما افاده شيخنا الأستاذ مد ظله في تقريب الاشكال في الدورة السابقة على ما حكى عنه ، وكان الاشكال كان قويا في نظره سابقا ورجح قول من قال بخروج الاجزاء عن محل النزاع ، ولكنه في هذه الدورة قد ضعف الاشكال وبنى على دخول الاجزاء في محل النزاع.

وحاصل ما افاده في وجه ذلك : هو ان المراد من البشرط الشيئية التي هي عبارة عن الكل ليس مجرد انضمام الاجزاء بعضها مع بعض بمعنى مجرد الاجتماع في الوجود ، حتى يقال : ان لا بشرطية الاجزاء لا ينافي هذا الانضمام والاجتماع في

ص: 267

الوجود بل هي هي بعينها لان اللابشرط يجامع هذا الانضمام فلا يحصل المغايرة بين الاجزاء والكل ، بل المراد من البشرط الشيئية في المقام هو لحاظ الجملة شيئا واحدا على وجه يكون للاجزاء المجتمع حالة وحدة بها يقوم الملاك والمصلحة ، وهذا المعنى من البشرط الشيئية يباين اللابشرطية ويضاده ، إذ ذوات الاجزاء ح لم تكن ملحوظة بهذا اللحاظ ، بل هذا اللحاظ يوجب فناء الذوات واندكاكها في ضمن الوحدة على وجه لا تكون الذوات ملحوظة الا تبعا ، ولا بشرطية الجزء لا يمكن ان يجامع هذا المعنى من الاجتماع والانضمام ، بل الذي يجامعه هو مجرد الاجتماع في الوجود وانضمام بعضها مع بعض. ولكن قد عرفت انه ليس المراد من الانضمام المعتبر في الكل هذا المعنى ، بل الانضمام المعتبر هو الانضمام على وجه تكون الجملة شيئا واحدا.

والذي يدل على أن المراد من الانضمام المعتبر في الكل هذا المعنى ، هو انه لو نوى الصلاة لا على وجه لحاظ الوحدة ، بل نوى كل جزء جزء مستقلا واتى بالاجزاء على هذا الوجه متعاقبة ومنضما بعضها مع بعض كانت صلوته باطلة. فيظهر من ذلك : ان المعتبر في الكل ليس مجرد الانضمام ، بل لا بد من لحاظ الوحدة. وهذا المعنى من الانضمام كما ترى متأخر في الرتبة عن لحاظ ذوات الاجزاء لا بشرط ، إذ لا بد أولا من تصور ذوات الاجزاء وبعد ذلك يجعل الجملة شيئا واحدا ، فحصلت المغايرة بين الاجزاء والكل ، وتقدم الأول على الثاني. هذا غاية ما يمكن ان يوجه دعوى مقدمية الاجزاء للكل.

ولكن مع ذلك لا ينفع في دخول الاجزاء في محل النزاع ، فان التقدم المدعى للاجزاء انما هو التقدم بحسب عالم اللحاظ والتصور ، واما بحسب عالم الوجود والتحقق فليس بين الاجزاء والكل تقدم وتأخر ، بل الاجزاء بوجودها العيني عين الكل ، وتوكن واجبة بنفس وجوب الكل ، وليس لها وجود آخر تكون به واجبة بالوجوب المقدمي ، فتأمل في المقام جيدا ، هذا تمام الكلام في المقدمات الداخلية بالمعنى الأخص ، واما المقدمات الخارجية بالمعنى الأخص قد عرفت ان ما عدا العلة التامة منها داخلة في محل النزاع.

ص: 268

واما العلة التامة :

فقد يقال بخروجها عن محل النزاع ، نظرا إلى أن إرادة الآمر لا بد ان تتعلق بما تتعلق به إرادة الفاعل ، وإرادة الفاعل لا تتعلق بالمعلول لأنه ليس فعلا اختياريا له ، بل هو يتبع العلة ويترشح وجوده منها قهرا ، بل إرادة الفاعل انما تتعلق بالعلة التي هي فعل اختياري له ، ومقتضى الملازمة بين الإرادتين ان تكون العلة هي متعلقة لإرادة الآمر ، فتكون هي الواجبة بالوجوب النفسي ، ولا معنى لان تكون واجبة بالوجوب المقدمي ، وربما ينقل عن السيد المرتضى (رحمه اللّه) القول بذلك ، ولكن العبارة المحكية عنه لا تنطبق على ذلك فراجع.

وعلى كل حال الذي ينبغي ان يقال : هو انه تارة يكون لكل من العلة والمعلول وجود مستقل ، وكان ما بحذاء أحدهما غير ما بحذاء الاخر كطلوع الشمس التي يكون علة لضوء النهار ، حيث إن لكل من الطلوع والضوء وجودا يخصه ، وان كان وجود الضوء مترشحا عن وجود الطلوع وكان متولدا منه ، الا انه مع ذلك يكون ما بحذاء أحدهما غير ما بحذاء الاخر.

وأخرى لايكون كذلك ، بل كان هناك وجود واحد معنون بعنوانين : عنوان أولى ، وعنوان ثانوي ، كالالقاء والاحراق ، والغسل والطهارة ، حيث إنه ليس هناك الا فعل واحد ، ويكون هذا الفعل بعنوانه الأولى القاء أو غسلا ، وبعنوانه الثانوي احراقا أو تطهيرا ، وليس ما بحذاء الالقاء أو الغسل غير ما بحذاء الاحراق أو الطهارة ، بل هو هو ولذا يحمل أحدهما على الآخر فيقال : الالقاء احراق وبالعكس والغسل طهارة وبالعكس ، لما بين العنوانين من الاتحاد في الوجود.

فان كانت العلة على الوجه الأول بحيث يغاير وجودها وجود المعلول ، فالحق انها داخلة في محل النزاع ، وتكون واجبة بالوجوب المقدمي ، والذي يكون واجبا بالوجوب النفسي هو المعلول ، وإرادة الفاعل انما تتعلق به لكونه مقدورا له ولو بالواسطة ، ولا يعتبر في متعلق التكليف أزيد من ذلك. ولا يمكن ان تكون العلة واجبة بالوجوب النفسي مع أن المصلحة والملاك قائمة بالمعلول ، بل الذي يكون واجبا بالوجوب النفسي هو المعلول ، وهو الذي تتعلق به إرادة الفاعل والآمر ، و

ص: 269

العلة لا تكون واجبة الا بالوجوب المقدمي.

وان كانت العلة على الوجه الثاني أي لم يكن هناك وجودان منحازان ، بل كان هناك فعل واحد معنون بعنوانين طوليين ، فالحق انه ليس هناك الا وجوب نفسي تعلق بالفعل ، غايته انه لا بعنوانه الأولى بل بعنوانه الثانوي ، فان الامر بالاحراق امر بالالقاء والامر بالالقاء امر بالاحراق ، وكذا الحال في الغسل والطهارة والانحناء والتعظيم ، وغير ذلك من العناوين التوليدية ، وذلك لوضوح انه لم يصدر من المكلف فعلان يكون أحدهما الالقاء والاخر احراقا ، بل ليس هناك الا فعل واحد معنون بعنوانين : عنوان أولى وعنوان ثانوي ، بل ليس ذلك في الحقيقة من باب العلة والمعلول ، إذ العلة والمعلول يستدعيان وجودين ، وليس هنا الا وجود واحد وفعل واحد ، فليس الاحراق معلولا للالقاء ، بل المعلول والمسبب التوليدي هو الاحتراق لا الاحراق الذي هو فعل المكلف ، وكذا لكلام في الغسل والتطهير ، حيث إن التطهير ليس معلولا للغسل ، بل المعلول هو الطهارة ، ومن ذلك ظهر ان اطلاق المسببات التوليدية على العناوين التوليدية لا يخلو عن مسامحة لان المسبب التوليدي ما كان له وجود يخصه غير وجود السبب كطلوع الشمس وإضاءة النهار ، وليس المقام من هذا القبيل ، مثلا فرق بين فرى الأوداج الذي يكون معنونا بعنوان القتل ، وبين اسقاء السم الذي يتولد منه القتل ، فان القتل في الأول يكون من العناوين التوليدية ، وفي الثاني يكون من المسببات التوليدية ، والأسباب التي جعلوها موجبة للضمان في مقابل المباشرة كلها ترجع إلى المسببات التوليدية ، فتأمل جيدا.

فالالقاء أو الغسل ليس واجبا بالوجوب المقدمي ، بل هو واجب بالوجوب النفسي ، غايته لا بعنوانه الأولى أي بما انه القاء أو صب الماء ، بل بعنوانه الثانوي أي بما انه احراق وافراغ للمحل عن النجاسة ، والذي يدل على أنه ليس هناك فعلان وليس من باب المقدمة وذي المقدمة ، هو صحة حمل أحدهما على الاخر وصحة تعلق التكليف بكل منهما ، كما ورد : اغسل ثوبك عن أبوال ما لا يوكل ، وورد أيضا وثيابك فطهر.

ص: 270

وبالجملة باب العناوين التوليدية ، ليس من باب المقدمة وذي المقدمة ، فليس هناك الا واجب نفسي واحد تعلق بالفعل لا بما هو وبعنوانه الأولى ، بل بعنوانه الثانوي. هذا تمام الكلام في المقدمات الداخلية والخارجية بمعناهما الأعم والأخص.

ومن جملة تقسيمات المقدمة :

تقسيمها إلى العقلية والعادية والشرعية. والمراد من الشرعية الشروط والموانع ، وقد تقدم انها مندرجة في المقدمات الداخلية أو الخارجية على اختلاف الاعتبارين. والمراد من العادية ما جرت العادة على التوقف عليها كنصب السلم ، وهي في الحقيقة ترجع إلى العقلية باعتبار وليس هذا تقسيما آخر للمقدمة ، بل تكون من الخارجية بالمعنى الأخص.

وقد تقسم المقدمة إلى مقدمة الصحة ومقدمة الوجود ، ومقدمة الصحة ترجع إلى مقدمة الوجود ، وهي تدخل في المقدمة الداخلية أو الخارجية.

وقد تقسم أيضا إلى مقدمة العلم ومقدمة الوجود ، ولا يخفى ان مقدمة العلم ليست من اقسام المقدمة المبحوث عنها في المقام ، بل هي مقدمة للعلم بتحقق الامتثال الذي يحكم به العقل في موارد العلم الاجمالي.

ومن جملة تقسيمات المقدمة :

تقسيمها إلى المقارنة ، والمتقدمة ، والمتأخرة في الوجود ، وهي المعبر عنها بالشرط المتأخر ، وقد وقع النزاع في جوازه وامتناعه. وتحرير محل النزاع يتوقف على تقديم أمور :

( الامر الأول )

ينبغي خروج شرط متعلق التكليف عن حريم النزاع ، لان حال الشرط حال الجزء في توقف الامتثال عليه وعدم الخروج عن عهدة التكليف الا به ، فكما انه لا اشكال فيما إذا كان بعض اجزاء المركب متأخرا عن الاخر في الوجود ومنفصلا عنه في الزمان ، كما إذا امر بمركب بعض اجزائه في أول النهار والبعض الاخر في آخر النهار ، كذلك لا ينبغي الاشكال فيما إذا كان شرط الواجب متأخرا في

ص: 271

الوجود ومنفصلا عنه في الزمان ، ومجرد دخول الجزء قيدا وتقييدا في المركب وخروج الشرط قيدا لايكون فارقا في المقام بعد ما كان التقييد داخلا في متعلق التكليف.

والحاصل : ان اشكال الشرط المتأخر انما هو لزوم الخلف والمناقضة ، وتقدم المعلول على علته ، وتأثير المعدوم في الموجود على ما سيأتي بيانه ، وشيء من ذلك لا يجرى في شرط متعلق التكليف ، لأنه بعد ما كان الملاك والامتثال والخروج عن عهدة التكليف موقوفا على حصول التقييد الحاصل بحصول ذات القيد ، فأي خلف يلزم؟ وأي معلول يتقدم على علته؟ أو أي معدوم يؤثر في الموجود؟ فأي محذور يلزم إذا كان غسل الليل المستقبل شرطا في صحة صوم المستحاضة؟ فان حقيقة الاشتراط يرجع إلى أن الإضافة الحاصلة بين الصوم والغسل شرط في صحة الصوم ، بحيث لايكون الصوم صحيحا الا بحصول الإضافة الحاصلة بالغسل.

نعم لو قلنا : ان غسل الليل المستقبل موجب لرفع حدث الاستحاضة عن الزمان الماضي ، بحيث يكون غسل المغرب يوجب رفع الحدث من الظهر ، أو قلنا : ان غسل الليل يوجب تحقق الامتثال من السابق وان لم يوجب رفع الحدث عنه ، كان الاشكال في الشرط المتأخر جاريا فيه كما لا يخفى ، الا ان حديث جعل الغسل شرطا للصوم لا يقتضى ذلك ، بل أقصاه انه لا يتحقق صحة الصوم الا به ، غايته انه لا على وجه الجزئية ، بل على وجه القيدية ، وذلك مما لا محذور فيه بعد ما كان الغسل فعلا اختياريا للمكلف وكان قادرا على ايجاده في موطنه ، فتسرية اشكال الشرط المتأخر إلى قيود متعلق التكليف مما لا وجه له.

( الامر الثاني )

لا اشكال في خروج العلل الفائتة عن حريم النزاع ، فان العلل الفائتة غالبا متأخرة في الوجود عما تترتب عليه ، وليست هي بوجودها العيني علة للإرادة وحركة العضلات نحو ما تترتب عليه حتى يلزم تأثير المعدوم في الموجود ، وتقدم المعلول على علته ، بل العلة والمحرك هو وجوده ا العلمي ، مثلا علم النجار بترتب النوم على السرير موجب لحركة عضلاته نحو صنع السرير ، وكذا علم المستقبل

ص: 272

بمجيئ زيد في الغد يوجب ارادته للاستقبال ، ولا اثر لوجودهما العيني في ذلك ، فان من لم يعلم بقدوم زيد في الغد لا يتحقق منه إرادة الاستقبال وان فرض قدومه في الغد ، كما أن علمه بقدومه يوجب إرادة الاستقبال وان فرض عدم قدومه ، فالمؤثر هو الوجود العلمي ، وكذا الحال في علل التشريع ، فان علل التشريع هي العلل الفائتة ولا فرق بينهما ، الا انهم اصطلحوا في التعبير عنها في الشرعيات بعلل التشريع وحكم التشريع ، وفي التكوينيات بالعلل الفائتة ، وعلى كل حال علم الآمر بترتب الحكمة موجب للامر وان كانت هي بوجودها العيني متأخرة عن الامر ، فما كان من العلل الفائتة والعلل التشريعية لا يندرج في الشرط المتأخر المبحوث عنه في المقام ، وذلك واضح.

( الامر الثالث )

ليس المراد من الشرط المتأخر المبحوث عنه في المقام باب الإضافات والعناوين الانتزاعية ، كالتقدم ، والتأخر ، والسبق ، واللحوق ، والتعقب ، وغير ذلك من الإضافات والأمور الانتزاعية ، فلو كان عنوان التقدم والتعقب شرطا لوضع أو تكليف لايكون ذلك من الشرط المتأخر ، ولا يلزم الخلف وتأثير المعدوم في الموجود وتقدم المعلول على علته ، وذلك لان عنوان التقدم ينتزع من ذات المتقدم عند تأخر شيء عنه ، ولا يتوقف انتزاع عنوان التقدم عن شيء على وجود المتأخر في موطن الانتزاع ، بل في بعض المقامات مما لا يمكن ذلك ، كتقدم بعض اجزاء الزمان على بعض ، فان عنوان التقدم ينتزع لليوم الحاضر لتحقق الغد في موطنه ، فيقال : هذا اليوم متقدم على غد ، ولا يتوقف انتزاع عنوان التقدم لليوم الحاضر على مجيء الغد ، بل لا يصح لتصرم اليوم الحاضر عند مجيء الغد ، ولا معنى لاتصافه بالتقدم حال تصرمه وانعدامه. هذا حال الزمان ، وقس على ذلك حال الزمانيات الطولية في الزمان ، حيث يكون أحد الزمانيين مقدما على الاخر في موطن وجوده لمكان وجود المتأخر في موطنه ، فيقال زيد مقدم على عمرو ولو لم يكن عمرو موجودا في الحال ، بل يكفي وجوده فيما بعد في انتزاع عنوان التقدم لزيد في موطن وجوده.

ص: 273

( الامر الرابع )

لا اشكال في خروج العلل العقلية عن حريم النزاع مط بجميع أقسامها وشؤونها : من البسيطة ، والمركبة ، والتامة ، والناقصة ، والشرط ، والمقتضى ، وعدم المانع ، والمعد ، وكل ما يكون له دخل في التأثير ، سواء كان له دخل في تأثير المقتضى كالشرط وعدم المانع ، أو كان له دخل في وجود المعلول بحيث يترشح منه وجود المعلول كالمقتضى ، فان امتناع تأخر بعض اجزاء العلة عن المعلول من القضايا التي قياساتها معها ، ولا يحتاج إلى مؤنة برهان ، لان اجزاء العلة بجميع أقسامها تكون مما لها دخل في وجود المعلول على اختلاف مراتب الدخل حسب اختلاف مراتب اجزاء العلة من الجزء الأخير منها إلى أول مقدمة اعدادية ، ويشترك الكل في اعطاء الوجود للمعلول ، ومعلوم : ان فاقد الشيء لايكون معطي الشيء ، وكيف يعقل الإفاضة والرشح مما لا حظ له من الوجود.

وبالجملة : امتناع الشرط المتأخر في باب العلل العقلية أوضح من أن يحتاج إلى بيان بعد تصور معنى العلية والمعلولية. وعليك بمراجعة (1) ما علقه السيد

ص: 274


1- هذا إشارة إلى ما ذكره الفقيه الجليل السيد محمد كاظم الطباطبائي في التعليقة في دفع ما افاده الشيخ قدس سره في المكاسب من عدم الفرق في استحالة تأثير المتأخر في المتقدم شرطا كان أو سببا بين الأمور العقلية والشرعية. توضيح ذلك : ان صاحب الجواهر قدس سره التزم بكاشفية الإجازة في العقد الفضولي وذكر ان استحالة تأثير المتأخر في المتقدم سببا كان أو شرطا تختص بالأمور العقلية ، واما الاعتباريات ومنها المجعولات الشرعية ليست مجرى هذه القاعدة ، وذكر ان الشارع كثيرا ما جعل ما يشبه تقديم السبب على المسبب كغسل الجمعة يوم الخميس واعطاء الفطرة قبل وقته فضلا عن تقدم المشروط على الشرط كغسل الفجر بعد الفجر للمستحاضة الصائمة و .. ودفعه الشيخ قدس سره : بأنه لا فرق فيما فرض شرطا أو سببا بين الشرعي وغيره ، وتكثير الامثلة لا يوجب وقوع المحال العقلي. وأورد عليه السيد في حاشيته على المكاسب بما هذا لفظه : « ودعوى ان ذلك من المحال العقلي ، وتكثير الأمثلة لا يوجب وقوعه مدفوعة. أولا : بان الوجه في الاستحالة ليس الا كونه معدوما ولا يمكن تأثير المعدوم في الموجود وهذا يستلزم عدم جواز تقدم الشرط أيضا على المشروط ، لأنه حال وجود المشروط معدوم ، وكذا تقدم المقتضى واجزائه ، ولازم هذا التزام ان المؤثر في النقل ( التاء ) من قوله : ( قبلت ) وان الاجزاء السابقة ليست بمؤثرة أو انها معدات. وثانيا : بامكان دعوى ان المؤثر انما هو الوجود الدهري للإجازة وهو متحقق حال العقد وانما تأخره في سلسلة الزمان. وثالثا : نقول : ان الممتنع انما هو تأثير المعدوم الصرف ، لا ما يوجد ولو بعد ذلك. ورابعا : على فرض تسليم الامتناع نقول : ان ذلك مسلم فيما إذا كان المؤثر تاما لا مجرد المدخلية ، فان التأخر في مثل هذا مما لا مانع منه ، وأدل الدليل على امكانه وقوعه اما في الشرعيات ففوق حد الاحصاء ، واما في العقليات فلان من المعلوم ان وصف التعقب مثلا متحقق حين العقد مع أنه موقوف على وجود الإجازة بعد ذلك ، فان كانت في علم اللّه موجودة فيما بعد فهو متصف الان بهذا الوصف والا فلا ، لا يقال : انه من الأمور الاعتبارية. لأنا نقول : لو لم يكن هناك معتبر أيضا يكون هذا الوصف متحققا ، وكذا الكلام في وصف الأولوية والتقدم مثلا يوم أول الشهر متصف الان بأنه أول ، مع أنه مشروط بوجود اليوم الثاني بعد ذلك ومتصف بالتقدم فعلا مع أنه مشروط بمجيئ التأخر ، وهكذا الجزء الأول من الصلاة متصف بأنه صلاة إذا وجد في علم اللّه بقية الاجزاء ، وكذا لو اشتغل بتصوير صورة من أول الشروع يقال : انه مشتغل بالتصوير بشرط ان يأتي ببقية الاجزاء ، وهكذا امساك أول الفجر صوم لو بقى إلى الآخر ، وكذا لو هيأ غذاء للضيف يقال : انه فيه مصلحة وليس بلغو إذا جاء الضيف بعد ذلك ، والا فهو من أول الامر متصف بأنه لغو ، وكذا لو حفر بئرا ليصل إلى الماء فإنه متصف من الأول بعدم اللغوية ان وصل إليه ، والا فباللغوية ، وهكذا إلى ما شاء اللّه من اتصاف شيء بوصف فعلى مع اناطته بوجود مستقبلي. بل أقول : لا مانع من أن يدعى مدع ان النفوس الفلكية والأوضاع السماوية والأرضية كما أن كل سابق معد لوجود اللاحق كذلك كل لاحق له مدخلية في وجود السابق. بل يمكن ان يقال : ان جميع اجزاء العالم مرتبطة بمعنى انه لولا هذا لم يوجد ذاك وبالعكس ، فلو لم يوجد الغد لم يوجد اليوم ، وهكذا ، فجميع العالم موجود واحد تدريجي ولا يمكن ايجاد بعضه من دون بعض والانصاف : انه لا ساد لهذا الاحتمال ولا دليل على بطلان هذا المقال .. » ( حاشية السيد على المكاسب. كتاب البيع. في تحقيق وجوه الكشف والنقل ص 150

الطباطبائي ره على المكاسب في باب الإجازة في العقد الفضولي ، ليظهر لك ما وقع في كلامه من الخلط والاشتباه.

إذا عرفت هذه الأمور ، ظهر لك ان محل النزاع في الشرط المتأخر انما هو في الشرعيات في خصوص شروط الوضع والتكليف ، وبعبارة أخرى : محل الكلام انما هو في موضوعات الاحكام وضعية كانت أو تكليفية ، فقيود متعلق التكليف ، و

ص: 275

العلل الفائتة ، والأمور الانتزاعية ، والعلل العقلية ، خارجة عن حريم النزاع.

وبعد ذلك نقول : ان امتناع الشرط المتأخر في موضوعات الاحكام يتوقف على بيان المراد من الموضوع ، وهو يتوقف على بيان الفرق بين القضايا الحقيقية والقضايا الخارجية ، وان المجعولات الشرعية انما تكون على نهج القضايا الحقيقية لا القضايا الخارجية ، وقد تقدم منا شطر من الكلام في ذلك في باب الواجب المشروط والمطلق ، ولا بأس بالإشارة الاجمالية إليه ثانيا.

فنقول : القضايا الخارجية عبارة عن قضايا جزئية شخصية خارجية ، كقوله : يا زيد أكرم عمروا ، ويا عمرو حج ، ويا بكر صل ، وغير ذلك من القضايا المتوجهة إلى آحاد الناس من دون ان يجمعها جامع ، وهذا بخلاف القضايا الحقيقية ، فان الأشخاص والآحاد لم تلاحظ فيها ، وانما الملحوظ فيها عنوان كلي رتب المحمول عليه ، كما إذا قيل : أهن الجاهل ، وأكرم العالم ، فان الملحوظ هو عنوان الجاهل والعالم ويكون هو الموضوع لوجوب الاكرام من غير أن يكون للآمر نظر إلى زيد وعمرو وبكر ، بل إن كان زيد من افراد العالم أو الجاهل فالعنوان ينطبق عليه قهرا ، كما هو الشأن في جميع القضايا الحقيقية ، حيث يكون الموضوع فيها هو العنوان الكلي الجامع ويكون ذلك العنوان بمنزلة الكبرى الكلية ، ومن هنا يحتاج في اثبات المحمول لموضوع خاص إلى تأليف قياس ، ويجعل الموضوع الخاص صغرى القياس والعنوان الكلي كبرى القياس ، فيقال : زيد عالم وكل عالم يجب اكرامه فزيد يجب اكرامه ، وهذا بخلاف القضايا الخارجية ، فان المحمول فيها ثابت لموضوعه ابتداء من دون توسط قياس كما هو واضح ، وقد استقصينا الكلام في الفرق بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية والأمور التي تترتب عليه ، والغرض في المقام مجرد الإشارة إلى الفرق ، حيث إن المقام أيضا من تلك الأمور المترتبة على الفرق بين القضيتين. ومجمل الفرق بينهما : هو ان الموضوع في القضية الحقيقية حملية كانت أو شرطية ، خبرية كانت أو انشائية ، هو العنوان الكلي الجامع بين ما ينطبق عليه من الافراد ، وفي القضية الخارجية يكون هو الشخص الخارجي الجزئي ، ويتفرع على هذا الفرق أمور تقدمت الإشارة إليها - منها : ان العلم انما يكون له دخل في القضية

ص: 276

الخارجية دون القضية الحقيقية.

وتوضيح ذلك : هو ان حركة إرادة الفاعل نحو الفعل ، أو الآمر نحو الامر انما يكون لمكان علم الفاعل والآمر بما يترتب على فعله وأمره ، وما يعتبر فيه من القيود والشرائط ، وليس لوجود تلك القيود دخل في الإرادة ، بل الذي يكون له دخل فيها هو العلم بتحققها ، مثلا لو كان لعلم زيد دخل في اكرامه ، فمتى كان الشخص عالما بان زيدا عالم يقدم على اكرامه مباشرة أو يأمر باكرامه ، سواء كان زيد في الواقع عالما أو لم يكن ، وان لم يكن الشخص عالما بعلم زيد لا يباشر اكرامه ولا يأمر به وان كان في الواقع عالما ، فدخل العلم في وجوب اكرام زيد يلحق بالعلل الفائتة التي قد عرفت انها انما تؤثر بوجودها العلمي لا بوجودها الواقعي ، وهكذا الحال في سائر الأمور الخارجية ، مثلا العلم بوجود الأسد في الطريق يوجب الفرار لا نفس وجود الأسد واقعا ، وكذا العلم بوجود الماء في الطريق يوجب الطلب لا نفس الماء ، وهكذا جميع القضايا الشخصية حملية كانت أو انشائية المدار فيها انما يكون على العلم بوجود ما يعتبر في ثبوت المحمول ، لا على نفس الثبوت الواقعي.

وهذا بخلاف القضايا الحقيقية ، فإنه لا دخل للعلم فيها أصلا ، لمكان ان الموضوع فيها انما هو العنوان الكلي الجامع لما يعتبر فيه من القيود والشرائط ، والمحمول فيها انما هو مترتب على ذلك العنوان الجامع ، ولا دخل لعلم الآمر بتحقق تلك القيود وعدم تحققها ، بل المدار على تحققها العيني الخارجي ، مثلا الموضوع في مثل - لله على الناس حج البيت الخ - انما هو المستطيع ، فان كان زيد مستطيعا يجب عليه الحج ويترتب عليه المحمول ، ولو فرض ان الآمر لم يعلم باستطاعة زيد بل علم عدم استطاعته. ولو لم يكن مستطيعا لا يجب عليه الحج ولو فرض ان الآمر علم بكونه مستطيعا. فالقضية الخارجية انما تكون في طريق النقيض للقضية الحقيقية من حيث دخل العلم وعدمه. وان أردت توضيح ذلك فعليك بمراجعة ما سطرناه في الواجب المعلق. (1)

ص: 277


1- راجع بحث الواجب المعلق من مباحث تقسيمات الواجب من هذا الكتاب ، ص 170

إذا عرفت ذلك

فنقول : لا ينبغي الاشكال في أن المجعولات الشرعية ليست على نهج القضايا الشخصية الخارجية ، بحيث يكون ما ورد في الكتاب والسنة اخبارات عن انشاءات لا حقة ، حتى يكون لكل فرد من افراد المكلفين انشاء يخصه عند وجوده ، فان ذلك ضروري البطلان كما أوضحناه فيما سبق ، بل هي انشاءات أزلية ، وان المجعولات الشرعية انما تكون على نهج القضايا الحقيقية ، كما هو ظاهر ما ورد في الكتاب والسنة.

وحيث عرفت الفرق بين القضيتين ، وان المجعولات الشرعية ليست على نهج القضايا الخارجية ، ظهر لك المراد من موضوعات الاحكام التي هي محل النزاع في المقام ، وانها عبارة عن العناوين الكلية الملحوظة مرآة لمصاديقها المقدر وجودها في ترتب المحمولات عليها ، ويكون نسبة ذلك الموضوع إلى المحمول نسبة العلة إلى معلولها وان لم يكن من ذاك الباب حقيقة بناء على المختار من عدم جعل السببية ، الا انه يكون نظير ذلك من حيث التوقف والترتب ، فحقيقة النزاع في الشرط المتأخر يرجع إلى تأخر بعض ما فرض دخيلا في الموضوع على جهة الجزئية أو الشرطية عن الحكم التكليفي أو الوضعي ، بان يتقدم الحكم على بعض اجزاء موضوعه.

ومما ذكرنا ظهر ان ما صنعه في الكفاية (1) والفوائد (2) من ارجاع الشرط المتأخر إلى الوجود العلمي والى عالم اللحاظ ، مما لا ماس له فيما هو محل النزاع ، وخروج عن موضوع البحث بالكلية ، فان تأثير الوجود العلمي انما يكون في العلل الفائتة ، لا في موضوعات الاحكام. وارجاع الشرط المتأخر في باب الاحكام إلى الوجود العلمي لا يستقيم ، الا إذا جعلنا الاحكام من قبيل القضايا الخارجية ، وأن يكون ما ورد في الكتاب اخبارا عن انشاء لاحق عند تحقق افراد المكلفين ،

ص: 278


1- راجع كفاية الأصول ، الجلد الأول ، مباحث مقدمة الواجب منها تقسيمها إلى المتقدم والمتأخر بحسب الوجود بالإضافة إلى ذي المقدمة. ص 145 إلى 148
2- راجع الفوائد ، المطبوعة في آخر حاشية على الرسائل ص 291 ، فائدة : لا يخفى ان قضية الاشتراط تقدم الشرط على المشروط ..

فيكون لكل فرد انشاء يخصه عند وجوده ، وح يكون المناط هو علم الآمر بواجدية الفرد لمناط حكمه من كونه عالما مستطيعا ، أو كون هذا العقد مما يلحقه إجازة المالك ، وغير ذلك من العناوين التي تكون في القضايا الخارجية كلها من العلل الفائتة التي تكون بوجودها العلمي مؤثرة ، على ما تقدم بيانه ، وليس في القضايا الخارجية طائفتان : طائفة تسمى بموضوعات الاحكام ، وطائفة تسمى بالعلل الفائتة وعلل التشريع ، كما كان في القضايا الحقيقية كذلك ، أي كان لكل قضية طائفتان : موضوع الحكم ، وعلة التشريع ، بناء على ما ذهبت إليه العدلية من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد.

وهذا بخلاف القضية الخارجية ، فان جميع العناوين فيها تكون من علل التشريع ، وليس لها موضوع يترتب الحكم عليه سوى شخص زيد ، وما عدا شخص زيد لا دخل له في الحكم بوجوده العيني ، وانما يكون له دخل بوجوده العلمي ، ومن هنا تسالم الفقهاء : على أنه لو اذن لزيد في اكل الطعام أو دخول الدار لمكان علمه بان زيدا صديق له جاز لزيد اكل الطعام أو دخول الدار ، وان لم يكن في الواقع صديقا له ، بل كان عدوا له ، لان الاذن قد تعلق بشخص زيد ولا اثر لعلمه بصداقته في جواز الدخول ، وانما يكون العلم له دخل في نفس اذنه.

وهذا بخلاف ما إذا اذن لعنوان صديقه وقال : من كان صديقي فليدخل ، أو قيد الحكم بالصداقة وقال : يا زيد ادخل الدار ان كنت صديقي ، فإنه في مثل هذا لا يجوز لزيد دخول الدار إذا لم يكن صديقا وان علم الآذن بأنه صديق ، فإنه ليس المدار على علم الآذن ، بل المدار على واقع الصداقة ، من غير فرق بين اخذ الصداقة عنوانا أو قيدا من الجهة التي نحن فيها.

نعم : بينهما فرق من جهة أخرى : وهو انه لو اخذ الشيء على جهة العنوانية أوجب تعدى الحكم عن مورده إلى كل ما يكون العنوان منطبقا عليه ، فلو قال مخاطبا لزيد : يا صديقي ادخل الدار جاز لعمرو أيضا دخول الدار إذا كان صديقا ، الا إذا علم مدخلية خصوصية زيد فيخرج العنوان عن كونه تمام الموضوع. وهذا بخلاف ما إذا كان قيدا ، فإنه لا يجوز لغير زيد دخول الدار وان كان مشاركا له في القيد ، و

ص: 279

تفترق العنوانية والقيدية أيضا في باب العقود ، حيث إن العقد على عنوان يوجب بطلان العقد عند تخلفه ، بخلاف العقد على مقيد ، فإنه عند تخلف القيد يوجب الخيار.

وعلى كل حال : قد أطلنا الكلام في ذلك ، لتوضيح ان العلم لا دخل له في القضايا التي تكون موضوعاتها العناوين الكلية. وانما العلم يكون له دخل في القضايا الشخصية. وارجاع الشرط المتأخر المبحوث عنه في المقام إلى الوجود العلمي وان المؤثر هو العلم ، لا يستقيم الا بجعل الأحكام الشرعية من قبيل القضايا الخارجية ، ولكن هو ( قده ) لم يلتزم بذلك ، ولا يمكن الالتزام به ، لما تقدم من أن الضرورة قاضية بان الأحكام الشرعية كلها من قبيل القضايا الحقيقية ، فلا معنى لارجاع الشرط المتأخر إلى عالم اللحاظ والوجود العلمي.

إذا عرفت ذلك ظهر لك : ان امتناع الشرط المتأخر من القضايا التي قياساتها معها ، ولا يحتاج إلى برهان ، بل يكفي في امتناعه نفس تصوره ، من غير فرق في ذلك بين ان نقول بجعل السببية ، أو لا نقول بذلك وقلنا : ان المجعول هو نفس الحكم الشرعي مترتبا على موضوعه ، فإنه بناء على جعل السببية يكون حال الشرعيات حال العقليات ، التي قد تقدم امتناع تأخر العلة فيها أو جزئها أو شرطها أو غير ذلك مما له أدنى دخل في تحقق المعلول ، عن معلولها.

واما توهم ان الممتنع هو تأخر المقتضى الذي يستند وجود المعلول إليه - دون تأخر الشرط حيث لا محذور في تأخره - ففساده غنى عن البيان ، وان كان ربما يظهر من بعض الكلمات القول به ، فإنه بعد فرض كون الشيء شرطا اما لتأثير المقتضى ، واما لقابلية المحل - على الوجهين في الشروط العقلية - كيف يعقل حصول اثر المقتضى مع عدم وجود شرطه؟ وهل هذا الا لزوم تقدم المعلول على علته؟ واما بناء على عدم جعل السببية كما هو المختار ، فلان الموضوع وان لم يكن علة للحكم ، الا انه ملحق بالعلة من حيث ترتب الحكم عليه ، فلا يعقل تقدم الحكم عليه بعد فرض اخذه موضوعا ، للزوم الخلف ، وان ما فرض موضوعا لم يكن موضوعا.

واما توهم ان امتناع الشرط المتأخر انما يكون في التكوينيات - دون

ص: 280

الاعتباريات والشرعيات التي أمرها بيد المعتبر والشارع ، حيث إن له ان يعتبر كون الشيء المتأخر شرطا لأمر متقدم - ففساده أيضا غنى عن البيان ، لأنه ليس المراد من الاعتبار مجرد لقلقة اللسان ، بل للاعتباريات واقع ، غايته ان واقعها عين اعتبارها ، وبعد اعتبار شيء شرطا لشيء واخذه مفروض الوجود في ترتب الحكم عليه كما هو الشأن في كل شرط ، كيف يمكن تقدم الحكم على شرطه؟ وهل هذا الا خلاف ما اعتبره؟.

وبالجملة : بعد فرض اعتبار شيء موضوعا للحكم لا يمكن ان يتخلف ويتقدم ذلك الحكم على موضوعه ، فظهر فساد ما ذكر من الوجوه لجواز الشرط المتأخر. وأحسن ما قيل في المقام من الوجوه : هو ان الشرط عنوان التعقب والوصف الانتزاعي ، وقد تقدم عدم توقف انتزاع وصف التعقب على وجود المتأخر في موطن الانتزاع ، بل يكفي في الانتزاع وجود الشيء في موطنه ، فيكون الشرط في باب الفضولي هو وصف التعقب ، وان السبب للنقل والانتقال هو العقد المتعقب بالإجازة ، وهذا الوصف حاصل من زمن العقد هذا.

ولكن لا يخفى عليك ، ان هذا الوجه وان لم يلزم منه محذور عقلي ، ولا يرد عليه شيء من المحاذير المذكورة في الشرط المتأخر ، الا ان ارجاع الشرط إلى الامر الانتزاعي ووصف التعقب يحتاج إلى قيام الدليل عليه ، وأن يكون مما يساعد عليه العقل والاعتبار ، وليس لنا ارجاع كل شرط إلى عنوان التعقب.

نعم : يستقيم ذلك في باب المركبات الارتباطية التي اعتبرت الوحدة فيها ، كالصوم على ما تقدم بيانه في الواجب المعلق ، حيث قلنا : ان في باب الصوم ، لما كان ظرف التكليف وشرطه وامتثاله متحدا ، لمكان ان الصوم ليس الا عبارة عن الامساكات المتتابعة في آنات النهار المتصلة ، والتكليف بالامساك في كل آن مشروط بالقدرة عليه في ذلك الآن ، واما القدرة على الامساكات الاخر المتأخرة فليست شرطا للتكليف بالامساك في الآن السابق حتى يلزم اشتراط التكليف بأمر متأخر ، بل الشرط هو تعقب القدرة في الآن السابق بالقدرة في الآن اللاحق ، فالتكليف في كل آن يكون مشروطا بالقدرة على ذلك الآن نفسه ، ومشروطا أيضا

ص: 281

بتعقبها بالقدرة على الآن اللاحق لمكان اعتبار الصوم أمرا واحدا وكون امساكاته مرتبطا بعضها مع بعض ، فنفس اعتبار الوحدة والارتباطية يقتضى ان يكون الشرط هو عنوان التعقب ، ولا نلتمس في ذلك دليلا آخر. وان أردت تفصيل ذلك فعليك بمراجعة ما ذكرناه في الواجب المعلق.

وبالجملة : اعتبار عنوان التعقب في الارتباطيات التي لها جهة وحدة مما يساعد عليه الاعتبار ، حيث إن أصل التكليف بالجزء السابق وحصول امتثاله بما انه جزء للمركب انما يكون بتعقب ذلك الجزء للاجزاء الاخر ، فاعتبار الوحدة في المكلف به يقتضى ذلك.

وليس الشأن في باب الإجازة كذلك ، لأن الاعتبار والعقل لا يساعد على انتقال المال عن مالكه من زمن العقد لمجرد انه يتعقبه الرضا والإجازة ، مع أن الرضا مقوم للانتقال ، حيث إنه لا يحل مال امرء الا عن طيب نفسه. وهل يمكن لاحد ان يقول : بإباحة مال الناس لمكان تحقق الرضاء منهم بعد ذلك؟ أو هل يفرق بين الإباحة وبين خروج المال عن ملكه؟ فدعوى ان الشرط في باب الفضولي هو وصف التعقب مما لا يساعد عليه لا العقل ، ولا الدليل ، ولا الاعتبار ، فلا محيص ح عن القول بالنقل وانه من حين الإجازة ينتقل المال إلى المشترى. الا ان يقوم دليل على ترتيب بعض الآثار من حين الإجازة من زمن العقد ، بان يقوم دليل على أنه حين ما أجاز المالك يكون النماء للمشتري من حين العقد ، وهذا في الحقيقة يرجع إلى النقل ، لأنه من حين الإجازة ينتقل النماء السابق إلى المشترى ، كما ربما يدعى دلالة رواية عروة البارقي على ذلك ، وهذا هو المراد من الكشف الحكمي الذي اختاره الشيخ ( قده ) (1).

وربما حكى عن بعض المشايخ عدم الحاجة إلى قيام دليل في الكشف الحكمي ، بل نفس دليل نفوذ الإجازة واعتبارها يقتضى ترتيب الآثار من حين العقد عند إجازة المالك ، وذلك لان مفاد العقد هو النقل من حينه ، والإجازة انما 3

ص: 282


1- راجع المكاسب ، قسم البيع ، تحقيق وجوه الكشف من مباحث بيع الفضولي ص 133

تتعلق بما أنشأه العاقد ، فيكون مفاد الإجازة هو انفاذ ما أنشأه العاقد ، وقام الدليل على صحة انفاذ المالك ما أنشأه العاقد ، والمفروض ان العاقد انما أنشأ الملكية من حين العقد ، غايته ان أصل الملكية لا يمكن ان تكون حين العقد ، لاستلزامه المحذور المتقدم في الشرط المتأخر ، واما ترتيب الآثار من زمن العقد عند الإجازة فلا محذور فيه ، ولا نلتمس في ذلك دليلا آخر غير دليل صحة الإجازة هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه ، فان العاقد لم ينشأ الملكية من حين العقد ، بل انشائه كان في ذلك الحين ، واما منشأه فهو أصل الملكية معراة عن الزمان ، وليس للعاقد تقييد الملكية من زمان خاص ، فان امر ذلك ليس بيده ، فهل ترى ان يكون للعاقد انشاء الملكية من قبل السنة؟.

وبالجملة : المنشأ هو أصل الملكية معراة عن الزمان ، والإجازة انما تتعلق بأصل الملكية المنشأة ، ودليل نفوذها لا يقتضى أزيد من تحقق الملكية ، ومقتضى ذلك هو النقل من حيث الملكية ومن حيث الآثار ، فالكشف الحكمي لا بد من قيام الدليل عليه ، والا فالقاعدة لا تقتضي أزيد من النقل.

وما استدل به على بطلان النقل وان القاعدة تقتضي الكشف الحقيقي : من أن العقد عدم حين الإجازة ، فلو قيل بالنقل يلزم تأثير المعدوم في الموجود ، وهذا هو الذي حكاه الفخر عن بعض ، وليس من كلام نفس الفخر - على ما حكاه شيخنا الأستاذ من عبارته - حيث نقل ( مد ظله ) ان الفخر بعد ما نقل الاستدلال بذلك رده والتزم بالنقل بعد التنزل والقول بصحة عقد الفضولي ، والا فهو منكر لأصل صحة الفضولي.

وعلى كل حال : ان الاستدلال للكشف بذلك واضح الفساد ، فان العقد بناء على كون الإجازة شرطا يكون حاله حال العقد في الصرف والسلم ، حيث تتوقف الملكية على القبض فيهما ، وليس المقام من باب التأثير والتأثر حتى يقال : يلزم تأثير المعدوم في الموجود ، لان التأثير والتأثر انما يكون بناء على جعل السببية الذي قد أبطلناه.

واما بناء على أن المجعول هو الحكم على فرض وجود موضوعه فلا يلزم تأثير

ص: 283

المعدوم في الموجود ، بل غايته ان الشارع رتب الملكية على الايجاب والقبول والإجازة ، فيكون كل من الايجاب والقبول والإجازة جزء الموضوع ، ولا يلزم ان تكون اجزاء الموضوع مجتمعة في الزمان ، بل يكفي وجودها ولو متفرقة ، ويكون نسبة الجزء السابق إلى اللاحق نسبة المعد في اجزاء العلة التكوينية المتصرمة في الوجود ، حيث إن الجزء السابق انما يكون معدا واثره ليس الا الاعداد وهو حاصل عند وجوده ، فلا يلزم تأخر الأثر عن المؤثر ، بل اثر كل جزء انما يتحقق في زمان ذلك الجزء ، غايته ان الأثر يختلف ، فاثر الاجزاء السابقة على الجزء الأخير من العلة التامة انما هو الاعداد ، واثر الجزء الأخير هو وجود المعلول ، فليس في سلسلة اجزاء العلة المتدرجة في الوجود ما يلزم منه تأخر الأثر عن المؤثر وتأثير المعدوم في الموجود.

وبما ذكرنا ظهر فساد مقايسة الشرط المتأخر بالشرط المتقدم ، وتسرية اشكال الشرط المتأخر إلى الشرط المتقدم ، وذلك لما عرفت من أن الشرط المتقدم كالجزء المتقدم مما لا اشكال فيه حيث إنه ليس اثر المتقدم الا الاعداد ، وهو حاصل مقارنا لوجود المتقدم ، كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في تحرير محل النزاع في مقدمة الواجب. وبعد ذلك نقول : لا ينبغي الاشكال في وجوب المقدمة بالمعنى المتقدم ، لوضوح انه لا يكاد يتخلف إرادة المقدمة عند إرادة ذيها بعد الالتفات إلى كون الشيء مقدمة وانه لا يمكن التوصل إلى المطلوب الا بها ، وان أردت توضيح ذلك ، فعليك بمقايسة إرادة الآمر بإرادة الفاعل ، فهل ترى انك لو أردت شيئا وكان ذلك الشيء يتوقف على مقدمات يمكنك ان لا تريد تلك المقدمات؟ لا بل لابد من أن تتولد إرادة المقدمات من إرادة ذلك الشيء قهرا عليك ، بحيث لا يمكنك ان لا تريد بعد الالتفات إلى المقدمات ، والا يلزم ان لا تريد ذا المقدمة ، وهذا واضح وجدانا ، إرادة الآمر حالها حال إرادة الفاعل.

ودعوى انه لا موجب لإرادة المقدمات - بعد حكم العقل بأنه لابد من اتيانها لتوقف الطاعة عليها ، وبعد ذلك لا حاجة إلى تعلق الإرادة بها - فاسدة ، فإنه ليس كلامنا في الحاجة وعدم الحاجة ، بل كلامنا ان إرادة المقدمات تنقدح في نفس الآمر قهرا ، بحيث لا يمكن ان لا يريدها ، فلا تصل النوبة إلى الحاجة وعدم

ص: 284

الحاجة ، حتى يقال : لا حاجة إلى ارادتها بعد حكم العقل.

نعم : لو كان الوجوب المبحوث عنه في المقام هو الوجوب الأصلي الناشئ عن مبادئ مستقلة لكانت دعوى عدم الحاجة في محلها ، وكان الأقوى ح عدم وجوبها ، الا انه ليس الكلام في هذا النحو من الوجوب ، بل الكلام في الوجوب القهري التبعي الترشحي ، وهذا النحو من الوجوب مما لابد منه وان لم يكن له اثر على ما يأتي بيانه في ثمرة المسألة - الا ان عدم الثمرة لا يضر بهذا المعنى من الوجوب القهري ، وانما يضر بالوجوب الأصلي النفسي ، ونحن لا نقول به.

وبالجملة : بعد شهادة الوجدان بتعلق الإرادة بالمقدمة عند إرادة ذيها ، لا حاجة إلى إطالة الكلام في الاستدلال على ذلك بما لا يخلو عن مناقشة ، فلاحظ ما استدل به في المقام للطرفين ، والأولى إحالة الامر إلى الوجدان.

وينبغي التنبيه على أمور :

( الامر الأول )

لا اشكال في أن وجوب المقدمة يتبع في الاطلاق والاشتراط وجوب ذيها ، ولا يعقل ان يكون وجوبها مغايرا لوجوب ذيها ، لأن المفروض ان وجوبها انما تولد من ذلك ، فلا يمكن ان يتلون بلون مغاير ، وما يشاهد في بعض المقامات من وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها فإنما هو لبرهان التفويت ، وقد تقدم الكلام فيه سابقا.

( الامر الثاني )

اختلفوا في أن معروض الوجوب في باب المقدمة ما هو؟.

فقيل : ان معروضه هو ذات المقدمة مط.

وقيل : ان معروضه هو الذات الموصلة إلى ذيها.

وقيل : هو الذات عند إرادة ذيها ،

وقيل : هو الذات بشرط قصد التوصل بها إلى ذيها ،

ولعل منشأ اعتبار القيود الزائدة على الذات هو استبعاد كون الواجب هو نفس الذات من غير اعتبار شيء ، مع أنه قد تكون الذات محرمة ويتوقف واجب أهم عليها ، كما لو فرض توقف انقاذ الغريق على التصرف في ملك الغير ، فان القول بكون

ص: 285

التصرف واجبا مط ولو لم يكن من قصد المتصرف انقاذ الغريق - بل تصرف للعدوان ، أو للتنزه والتفرج - مما يأباه الذوق ولا يساعد عليه الوجدان ، وكذا يبعد ان يكون خروج من وجب عليه الحج من داره إلى السوق لقضاء حاجة واجبا ، بحيث يكون كلما خرج من داره قد اشتغل بفعل الواجب ، ويكون عوده إلى داره هدما لذلك الواجب ، فان هذا بعيد غايته.

ولمكان هذا الاستبعاد قيد صاحب المعالم (رحمه اللّه) (1) وجوب المقدمة بقيد إرادة ذيها ، فلا تتصف المقدمة بالوجوب الا عند إرادة ذيها. وقيد الشيخ ( قده ) (2) على ما في التقرير وجوبها بصورة قصد التوصل إلى ذي المقدمة. وقيد (3) صاحب الفصول بصورة التوصل بها إلى ذيها ، فيكون الواجب هو المقدمة الموصلة. كل ذلك يكون دفعا للاستبعاد المذكور هذا.

ولكن لا يخفى عليك ، انه لا يمكن المساعدة على شيء من هذه القيود.

اما ما اختاره صاحب المعالم (رحمه اللّه) حيث جعل إرادة ذي المقدمة من قيود وجوب المقدمة ، ففيه : ان اشتراط الوجوب بالإرادة ، اما ان يكون مقصورا على .

ص: 286


1- هذا ما يوهمه ظاهر عبارة صاحب المعالم في آخر بحث الضد. المعالم بحث الضد ص 77 قال : « وأيضا فحجة القول بوجوب المقدمة على تقدير تسليمها انما ينهض دليلا على الوجوب في حال كون المكلف مريدا للفعل المتوقف عليها كما لا يخفى على من أعطاها حق النظر ». وقد صرح الشيخ قدس سره في التقريرات دفعا لهذا التوهم « ونحن بعد ما أعطينا الحجج الناهضة على وجوب المقدمة حق النظر واستقصينا التأمل فيها ما وجدنا رائحة من ذلك فيها ... » ( مطارح الأنظار ، ص 70 )
2- مطارح الأنظار ص 70 قوله : « وهل يعتبر في وقوعه على صفة الوجوب ان يكون الاتيان بالواجب الغيري لأجل التوصل به إلى الغير أولا ، وجهان أقواهما الأول ... »
3- الفصول ، ص ، 87 التنبيه الأول. « ان مقدمة الواجب لا تتصف بالوجوب والمطلوبية من حيث كونها مقدمة الا إذا ترتب عليها وجود ذي المقدمة ، لا بمعنى ان وجوبها مشروط بوجود فيلزم الا يكون خطاب بالمقدمة أصلا على تقدير عدمه فان ذلك متضح الفساد ، كيف؟ واطلاق وجوبها وعدمه عندنا تابع لاطلاق وجوبه وعدمه ، بل بمعنى ان وقوعها على الوجه المطلوب منوط بحصول الواجب حتى أنها إذا وقعت مجردة عنه تجردت عن وصف الوجوب والمطلوبية ، لعدم وجوبها على الوجه المعتبر ، فالتوصل بها إلى الواجب من قبيل شرط الوجود لها لا من قبيل شرط الوجوب ، وهذا عندي هو التحقيق الذي لا مزيد عليه ، وان لم اقف على من يتفطن له ».

وجوب المقدمة وليس هذا شرطا في وجوب ذيها ، واما ان يكون وجوب ذيها أيضا مشروطا بإرادته. فعلى الأول : يلزم ان يكون وجوب المقدمة مشروطا بشرط لايكون وجوب ذيها مشروطا به ، وهذا ينافي ما قدمناه في الامر الأول ، من تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في الاطلاق والاشتراط ، قضية للتبعية والترشحية.

وعلى الثاني : يلزم إناطة التكليف بشيء بإرادة ذلك الشيء وهو محال ، لأنه يلزم ان يكون التكليف به واقعا في رتبة حٍصوله ، لحصول الشيء عند تعلق الإرادة به ، فلو تأخر التكليف عن الإرادة - كما هو لازم الاشتراط - يلزم ما ذكرنا : من وقوع التكليف في مرتبه حًصول المكلف به.

هذا مضافا : إلى أنه لا معنى لاشتراط التكليف بالإرادة ، لان التكليف انما هو بعث للإرادة وتحريكها ، فلا يمكن إناطة التكليف بها ، لاستلزام ذلك إباحة الشيء ، كما لا يخفى.

واما ما اختاره الشيخ : من جعل قصد التوصل إلى ذيها من شرائط وجود المقدمة لا وجوبها ، فيكون قصد التوصل من قيود الواجب ، فهو يتلو كلام المعالم في الضعف.

والانصاف : ان المحكى عن الشيخ في المقام مضطرب غاية الاضطراب ، ولم يتحصل لنا مراد الشيخ (رحمه اللّه) كما هو حقه ، فان جملة من كلامه ظاهرة في أن قصد التوصل انما يكون شرطا في وقوع المقدمة على صفة العبادية ، بحيث لا تقع المقدمة عبادة الا إذا قصد بها التوصل إلى ذيها. وجملة أخرى من كلامه ظاهرة في أن الواجب هو عنوان المقدمة لا ذات ما يتوقف عليه الشيء بل بوصف كونه مما يتوقف عليه الشيء. وجملة من كلامه ظاهرة فيما ذكرناه : من أن قصد التوصل من قيود الواجب ، وانه يعتبر في وقوع المقدمة على صفة الوجوب قصد التوصل إلى ذيها.

ثم إن الا عجب من ذلك ، ما فرعه على اعتبار قصد التوصل ، من بطلان الصلاة إلى بعض الجهات إذا لم يكن من قصده الصلاة إلى الجهات الأربع فيمن كان تكليفه ذلك ، وانه لو صلى إلى بعض الجهات قاصدا للاقتصار عليه فبدا له الصلاة إلى سائر الجهات الاخر فلا يجزيه ، الا إذا أعاد ما صلاه أولا. فان تفريع ذلك

ص: 287

على اعتبار قصد التوصل في باب المقدمة مما لم يظهر لنا وجهه ، حيث إن الكلام في المقام انما هو في مقدمة الواجب ، والتفريع انما يكون في مقدمة العلم ، ولا ملازمة بين البابين ، لأنه هب انه لم نعتبر قصد التوصل في وقوع المقدمة على صفة الوجوب ، مع ذلك يقع الكلام في المقدمة العلمية ، وانه هل يعتبر في صحة المقدمة العلمية إذا كانت عبادة ان يكون قاصدا لامتثال الواجب المعلوم في البين على كل تقدير؟ أو انه لا يعتبر ذلك؟ بل يكفي قصد امتثال الواجب على تقدير دون تقدير. وتظهر الثمرة ، فيما إذا تبين مطابقة ما اتى به للواقع ، فإنه بناء على الأول لا يكفي عن الواقع إذا لم يكن من قصده الامتثال على كل تقدير ، بل يجب عليه الإعادة. وبناء على الثاني يكفي ولا يجب عليه الإعادة. وأين هذا مما نحن فيه من اعتبار قصد التوصل في باب المقدمة؟.

وبالجملة : المحكى عن الشيخ ( قده ) في المقام مضطرب من حيث المبنى ، ومن حيث ما فرع عليه ، وظني ان المقرر لم يصل إلى مراد الشيخ.

وعلى كل حال : لا ينبغي الاشكال ، في أنه لا يعتبر قصد التوصل في وقوع المقدمة على صفة الوجوب ، فان اعتبار القصد اما ان يكون في العناوين القصدية التي يتوقف تحقق عنوان المأمور به على القصد نظير التعظيم والتأديب وغير ذلك من العناوين القصدية ، واما عن جهة قيام الدليل على ذلك. وليس المقام من العناوين القصدية ، ولا مما قام الدليل عليه ، فمن أين يجئ اعتبار القصد في وقوع المقدمة على صفة الوجوب؟.

وتوهم ان الواجب هو عنوان المقدمة ، فلا بد من القصد إلى ذلك العنوان ، وقصده انما يكون بقصد التوصل إلى ذيها - والى ذلك ينظر بعض ما حكى عن الشيخ (رحمه اللّه) في المقام - واضح الفساد ، فان عنوان المقدمة ليس موضوعا للحكم بل الموضوع للحكم هو الذات ، ومقدميتها انما تكون علة لثبوت الحكم على الذات ، فهي تكون من قبيل علل التشريع. وبعبارة أوضح : جهة المقدمية انما تكون من الجهات التعليلية لا التقييدية ، وليست المقدمية واسطة في العروض بل هي واسطة في الثبوت.

ص: 288

وبالجملة : دعوى ان الواجب هو الذات المقيدة بقصد التوصل أو عنوان المقدمة مما لا يمكن المساعدة عليها ، وهي من الشيخ غريبة. هذا إذا أريد اعتبار قصد التوصل في مطلق المقدمات.

وأما إذا أريد اعتبار ذلك في خصوص المقدمة المحرمة بالذات الذي صارت مقدمة لواجب أهم - كما ذكر شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) ان ببالي حكاية ذلك عن الشيخ ( قده ) وانه خص اعتبار ذلك في خصوص المقدمة المحرمة - فمما يمكن ان يوجه بدعوى ان وجوب المقدمة حينئذ لمكان حكم العقل حيث زاحم حرمتها واجب أهم ، والمقدار الذي يحكم به العقل هو ما إذا اتى بها بقصد التوصل إلى الواجب الأهم ، لا بقصد التنزه والتفرج والتصرف في ملك الغير عدوانا ، فان مثل ذلك يأبى العقل عن وجوبه. ولا يقاس ذلك بالمقدمة المباحة ، فان المقدمة المباحة لمكان وجوبها لمجرد توقف واجب عليها وكان ما يتوقف عليه هو الذات ، وحيث لم تكن الذات مقتضية لشيء بل كانت لا اقتضاء ، فتكون الذات واجبة من دون اعتبار قصد التوصل ، لان اللامقتضى لا يزاحم المقتضى. واما المقدمة المحرمة فوجوبها انما هو لأجل المزاحمة ، والا فالذات بنفسها مقتضية للحرمة ، والمقدار الذي نرفع اليد عما يقتضيه الذات من الحرمة هو صورة قصد التوصل بها إلى الواجب الأهم لا مط. هذا غاية ما يمكن ان يوجه به مقالة الشيخ ( قده ) على تقدير اختصاص اعتبار قصد التوصل بخصوص المقدمة المحرمة.

ولكن مع ذلك لا يتم ، لان وجوب المقدمة وان كان لأجل المزاحمة الا ان المزاحمة انما تكون بين الانقاذ الذي يتوقف على التصرف في ملك الغير وبين التصرف في ملك الغير ، ولا ربط لها بالقصد وعدم القصد.

وبعبارة أخرى : التصرف المؤدى إلى الانقاذ واقعا هو الذي يكون مزاحما لحرمة التصرف في ملك الغير ، لا التصرف الذي قصد به الانقاذ ، إذ لا يلزم التصرف الذي قصد به الانقاذ ان يترتب عليه الانقاذ ، ويرجع ح إلى تقييد حرمة التصرف بخصوص الصورة التي لا يترتب عليها الانقاذ ، وهو راجع إلى مسألة الترتب ، على ما سيأتي بيانه عن قريب انشاء اللّه تعالى.

ص: 289

واما ما افاده صاحب الفصول من اعتبار نفس التوصل فهو أوضح فسادا ، فان اعتبار التوصل ان اخذ قيدا للوجوب ، فيلزم ان يكون وجود ذي المقدمة من شرائط وجوب المقدمة ، لان قيدية التوصل انما تحصل بحصول ذي المقدمة ، وهو كما ترى يكون أردء من طلب الحاصل ، إذ يلزم ان يتأخر الطلب عن وجود المقدمة وعن وجود ذيها المتأخر عن وجودها ، ولكن الظاهر أن لايكون هذا مراد صاحب الفصول ، لأنه يصرح بان التوصل يكون قيدا للواجب لا للوجوب ، فلا يرد عليه ما ذكرنا.

نعم يرد عليه : انه يلزم حينئذ ان يكون وجود ذي المقدمة من شرائط وجود المقدمة ، وان لم يكن من شرائط وجوبها ، الا انه لا فرق في الاستحالة ، ضرورة انه لا يعقل ان يكون وجود ذي المقدمة من شرائط وجود المقدمة لاستلزامه الدور ، فإنه يلزم ان يكون وجود كل من المقدمة وذي المقدمة متوقفا على الاخر.

هذا مضافا إلى أنه يلزمه القول بمقدمية الذات أيضا ، فان المقدمة ح تكون مركبة من أمرين : أحدهما الذات ، والاخر قيدية التوصل ، ولو على وجه دخول التقييد وخروج القيد ، فتكون الذات مقدمة لحصول المقدمة المركبة ، كما هو الشأن في جميع اجزاء المركب ، حيث يكون وجود كل جزء مقدمة لوجود المركب. مثلا لو كان الوضوء الموصل إلى الصلاة مقدمة أو السير الموصل إلى الحج مقدمة ، فذات الوضوء والسير يكون مقدمة للوضوء الموصل والسير الموصل ، وان اعتبر قيد الايصال فيه أيضا يلزم التسلسل. ولا محيص بالآخرة من أن ينتهى إلى ما يكون الذات مقدمة.

فإذا كان الامر كذلك ، فلتكن الذات من أول الامر مقدمة لذيها من دون اعتبار قيد التوصل.

وبالجملة : ان وصف التوصل للمقدمة لما لم يكن منوعا لها حال وجودها ، نظير الفصول بالنسبة إلى الأجناس ، بل يكون متأخر عن وجودها ، ويكون رتبة حصول الوصف رتبة وجود ذي المقدمة ، فلو اعتبر قيد التوصل يلزم ما ذكرنا من المحاذير المتقدمة.

ص: 290

ومن الغريب (1) ما استدل به على مدعاه بما حاصله : ان العقل لا يأبى ان يقول الآمر الحكيم : أريد الحج وأريد المسير الذي يتوصل به إلى الحج ، دون ما لا يتوصل به إليه ، والضرورة قاضية بجواز تصريح الآمر بمثل ذلك. وذلك لان الكلام في إرادة المقدمة التي تترشح من إرادة ذيها ، ومعلوم : ان مناط إرادة المقدمة انما هو توقف ذيها عليها ، بمعنى انها لولاها لما أمكن التوصل إلى ذي المقدمة ، واستلزام عدمها عدم ذيها ، وليس مناط وجوب المقدمة استلزام وجودها وجود ذيها ، فان الشأن في غالب المقدمات ليس كذلك ، فان الملازمة بين الوجودين انما يكون في العلة التامة بحيث لا يمكن التخلف بينها وبين معلولها ، فلو كان مناط وجوب المقدمة هو استلزام وجودها لوجود ذيها يلزم القول بوجوب خصوص العلة التامة ، وصاحب الفصول لا يقول بذلك. فيظهر من ذلك : انه ليس ملاك إرادة المقدمة الا استلزام عدمها عدم ذيها ، وهذا الملاك مطرد في جميع المقدمات موصلها وغير موصلها.

فتحصل : ان الامر المقدمي لا يدعو الا إلى ما يلزم من عدمه عدم الواجب ، فكل ما يعتبر زائدا على ذلك يكون خارجا عما يقتضيه الامر المقدمي.

وبذلك يظهر ما في استدلاله بجواز تصريح الآمر الحكيم بإرادة خصوص السير الموصل إلى الواجب ، فان التصريح بذلك انما يجوز إذا كان السير واجبا نفسيا مشروطا بشرط متأخر ، لما عرفت من أن اعتبار التوصل مما لا يقتضيه الامر المقدمي ، فاعتباره يكون أمرا زايدا ، ولا محالة يكون واجبا نفسيا ، فمجرد جواز تصريح الآمر بذلك لا يوجب ان يكون التوصل من مقتضيات الامر المقدمي ، بل يكون من الواجبات النفسية الخارجة عن محل الكلام ، فالذي يهم صاحب الفصول ، هو اثبات »

ص: 291


1- الفصول ص 87 قوله : « وأيضا لا يأبى العقل ان يقول الآمر الحكيم : أريد الحج وأريد المسير الذي يتوصل به إلى فعل الحج له دون ما لا يتوصل به إليه وان كان من شأنه ان يتوصل به إليه ، بل الضرورة قاضية بجواز التصريح بمثل ذلك كما انها قاضية بقبح التصريح بعدم مطلوبيتها له مطلقا أو على تقدير التوصل بها إليه ، وذلك آية عدم الملازمة بين وجوب الفعل ووجوب مقدمته على تقدير عدم التوصل بها إليه. »

ان التوصل ما يقتضيه الامر المقدمي ، وانى له باثبات ذلك بعد ما عرفت من أن ملاك إرادة المقدمة هو الاستلزام بين العدمين ، لا الملازمة بين الوجودين.

ثم انه استدل صاحب الفصول (1) أيضا على عدم المانع من اعتبار خصوص المقدمة الموصلة بجواز منع المولى من غيرها وقصر الرخصة عليها ، كما إذا قال : أنت مرخص في التصرف في ملك الغير المؤدى إلى انقاذ الغريق وممنوع عما عداه.

ورد بمنع ذلك ، وانه ليس للمولى قصر الرخصة على خصوص المقدمة الموصلة لاستلزامه التكليف بما لا يطاق وطلب الحاصل ، لان رتبة موصلية المقدمة رتبة حصول ذيها ، فلا يمكن ان يريدها بهذا القيد ، هذا.

ولكن الانصاف : انه لو أغمضنا عما يرد على المقدمة الموصلة من المحاذير المتقدمة لم يتوجه على استدلاله ما ذكر من الرد ، لان قصر الرخصة على خصوص المقدمة الموصلة مما لا يلزم منه التكليف بغير المقدور ، لأنه يكون من قبيل اشتراط الشيء بأمر متأخر ، فالتوصل وان تأخر وجوده عن وجود المقدمة ، وكان يحصل بالانقاذ مثلا ، الا انه اخذ شرطا في جواز المقدمة ، وهذا مما لا محذور فيه بعد ما كان الانقاذ فعلا اختياريا للمكلف ، فيكون شرطية التوصل كشرطية الغسل للصوم ، فلا يجوز له الدخول الا إذا كان من عزمه انقاذ الغريق.

ولا يرد على ذلك شيء أصلا لو قطعنا النظر عما تقدم من محاذير المقدمة الموصلة ، ولكن لا يمكن قطع النظر عن تلك المحاذير ، فإنها لازمة على القول باعتبار قيد التوصل لا محالة.

ثم انه ربما يوجه مقالة اعتبار المقدمة الموصلة بما حاصله : انه ليس المراد »

ص: 292


1- نفس المصدر قوله : « وأيضا حيث إن المطلوب بالمقدمة مجرد التوصل بها إلى الواجب وحصوله فلا جرم يكون التوصل إليه وحصوله معتبرا في مطلوبيتها ، فلا تكون مطلوبة إذ انفكت عنه ، وصريح الوجدان قاض بان من يريد شيئا لمجرد حصول شيء آخر لا يريده إذا وقع مجردا عنه ، ويلزم منه ان يكون وقوعه على الوجه المطلوب منوطا بحصوله. »

تقييد الواجب بخصوص الموصلة ، بان يكون التوصل قيدا للواجب ، بل يكون على وجه خروج القيد والتقييد معا ، ولكن مع ذلك لا تكون الذات مط واجبة بل الذات من حيث الايصال ، والمراد بالذات من حيث الايصال هو الذات في حال الايصال ، على وجه يلاحظ الآمر المقدمة وذا المقدمة توأمين ، من دون ان يكون أحدهما قيدا للآخر ، بل يلاحظ المقدمة على ما هي عليها من وقوعها في سلسلة العلة ، فإنه لو كانت سلسلة العلة مركبة من اجزاء فكل جزء انما يكون جزء العلة إذا كان واقعا في سلسلة العلة لا واقعا منفردا ، فان لحاظ حالة انفراده ينافي لحاظه جزء للعلة ، بل انما يكون جزء العلة إذا لوحظ على ما هو عليه من الحالة ، أي حالة وقوعه في سلسلة العلة من دون ان تؤخذ سائر الا جزأ قيدا له ، ففي المقام يكون معروض الوجوب المقدمي هي الذات ، لكن لا بلحاظ انفرادها ، ولا بلحاظ التوصل بها ، بان يؤخذ التوصل قيدا ، بل بلحاظها في حال كونها مما يتوصل بها أي لحاظها ولحاظ ذيها على وجه التوأمية. وبذلك يسلم عن المحاذير المتقدمة ، فان تلك المحاذير انما كانت ترد على تقدير كون التوصل قيدا ، وبعد خروج قيدية التوصل لايكون فيه محذور. وقد تقدم (1) نظير هذا الكلام في المعاني الحرفية ، حيث كانت لصاحب الفصول في ذلك المقام عبارة خروج القيد والتقييد معا ، وقد وجهنا مراده من ذلك في ذلك المقام بما لا مزيد عليه فراجع. فيمكن ان يكون المقام أيضا من باب خروج القيد والتقييد معا.

وهذا وان لم يمكن ان ينطبق عليه مقالة صاحب الفصول لتصريحه بأخذ التوصل قيدا ، الا انه يمكن ان ينطبق عليه كلام (2) أخيه المحقق صاحب الحاشية ، حيث إنه قد تكرر في كلامه نفى اعتبار قيد التوصل ، ومع ذلك يقول إن الواجب هو المقدمة من حيث الايصال ، فيمكن ان يكون مراده من قيد الحيثية ما ذكرنا من »

ص: 293


1- قد مر توجيه ذلك في المقام الثاني من المبحث الأول ص 55
2- راجع هداية المسترشدين في شرح معالم الدين ، الامر الرابع من الأمور التي ذكرها في خاتمة بحث مقدمة الواجب. « قد يتخيل ان الواجب من المقدمة هو ما يحصل به التوصل إلى الواجب دون غيره ... »

خروج كل من القيد والتقييد على وجه لا يستلزم الاطلاق أيضا هذا. (1)

ولكن لا يخفى عليك ، انه ان كان المراد من الحيثية ، والتوأمية ، والحالية وغير ذلك مما شئت ان تعبر به ، هو نفى التقييد بالموصلة لحاظا وان أوجب التقييد بها نتيجة ، فسيأتي ان نتيجة التقييد بالموصلة أيضا لا يمكن كالتقييد اللحاظي ، وان أريد نفى نتيجة التقييد أيضا فمرجعه إلى أن معروض الوجوب هي الذات المهملة لا اطلاق فيها ولا تقييد لا لحاظا ولا نتيجة ، فهو حق لا محيص عنه ، فان امتناع التقييد عين امتناع الاطلاق ، لما سيأتي في محله من أن التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة على ما هو الحق ، أو تقابل التضاد على ما هو المشهور قبل سلطان العلماء ، حيث جعلوا الاطلاق أمرا وجوديا مدلولا للفظ ، ولأجل ذلك قالوا ان التقييد يوجب المجازية وسيأتي ضعف ذلك في محله. وعلى كلا التقديرين يكون امتناع التقييد موجبا لامتناع الاطلاق ، وليس التقابل بينهما تقابل السلب والايجاب ، حتى يقال : ان امتناع أحدهما يوجب ثبوت الآخر لئلا يلزم ارتفاع النقيضين.

وبما ذكرنا ظهر فساد ما سلكه الشيخ ( قده ) في المقام (2) وغير الشيخ ، حيث قالوا باطلاق القول بوجود المقدمة مط موصلة كانت أو غيرها ، لمكان امتناع التقييد بالموصلة ، فجعلوا نتيجة امتناع التقييد هو الاطلاق ، مع انك قد عرفت ان ذلك لا يعقل ، لان امتناع التقييد يوجب امتناع الاطلاق أيضا. وقد سلك الشيخ قده (3) هذا المسلك أيضا في مسألة امتناع اعتبار قصد القربة في متعلق الامر و .

ص: 294


1- ولكن الظاهر أن مراد المحقق من الحيثية الحيثية التعليلية ، ويكون حيثية الايصال علة لعروض الوجوب على ذات المقدمة ولو لم تكن موصلة ، وظني ان المحقق يصرح بذلك منه.
2- راجع ما حققه الشيخ قدس سره في دفع مقالة صاحب الفصول من اطلاق القول بوجوب المقدمة لامتناع تقييده بالموصلة. مطارح الأنظار مباحث مقدمة الواجب ، « هداية ، زعم بعض الأجلة ... » ص 74
3- نفس المصدر. مبحث التعبدي والتوالي ص 58 وقد نقلنا ما افاده الشيخ قدس سره هناك ، من عدم جواز التمسك باطلاق الامر عند الشك في تقييده بقصد القربة ، لمكان امتناع تقييده به في هامش ص 158 فراجع.

امتناع تقييد الاحكام بالعلم بها ، حيث إنه استنتج الاطلاق من امتناع ذلك وقال : بأصالة التوصلية واشتراك الاحكام بين العالم بها والجاهل ، وقد عرفت ان امتناع الاطلاق ملازم لامتناع التقييد مط في المقام ، وفي مسألة اعتبار قصد القربة ، وفي مسألة العلم بالأحكام.

نعم : بين المقام وبين المسئلتين فرق ، وهو ان الممتنع في تينك المسئلتين انما هو الاطلاق والتقييد اللحاظي ، لا نتيجة الاطلاق والتقييد ، فإنه بمكان من الامكان ، بل هو ثابت كما في مسألة الجهر والاخفات والقصر والاتمام ، حيث كان الحكم مخصوصا بالعالم به بنتيجة التقييد ، وفيما عدا ذلك كان الحكم يعم العالم والجاهل بنتيجة الاطلاق لقيام الدليل على كل ذلك. واما في المقام فلا يمكن فيه ، لا الاطلاق والتقييد اللحاظيان ، ولا نتيجة الاطلاق والتقييد ، بل معروض الوجوب يكون مهملا ثبوتا ، وذلك لان خطاب المقدمة انما يتولد من خطاب ذيها ، فهو تابع لخطاب ذي المقدمة ، ويكون له ما يكون له ، ولا يكون له ما لايكون له ، وسيأتي انشاء اللّه تعالى في مبحث الترتب ، ان كل خطاب لا يمكن ان يكون مط أو مقيدا بالنسبة إلى حالتي حصول متعلقه وعدم حصوله أي حالتي اطاعته وعصيانه ، فان ذلك لا يعقل لا بالاطلاق والتقييد اللحاظيين ، ولا بنتيجة الاطلاق والتقييد ، بل يكون الخطاب من هذه الجهة مهملا ثبوتا ليس له تعرض إلى ذلك ، إذ الشيء لا يمكن ان يكون متعرضا لحالة وجوده أو عدمه ، وسيأتي برهان ذلك انشاء اللّه تعالى ، فإذا كان خطاب ذي المقدمة بالنسبة إلى حالة حصوله وعدم حصوله مهملا ، فلا بد ان يكون خطاب المقدمة بالنسبة إلى حصول ذيها وعدم حصول ذيها أيضا مهملا ، قضية للتبعية والترشحية.

وليس خطاب المقدمة مع خطاب ذيها خطابين ، حتى يقال : ان الممتنع هو الاطلاق والتقييد في كل خطاب بالنسبة إلى متعلق نفسه ، واما بالنسبة إلى متعلق خطاب آخر فالاطلاق والتقييد بمكان من الامكان ، فلا مانع من اطلاق أو تقييد خطاب المقدمة بحصول متعلق خطاب ذيها ، وربما يختلج ذلك في جملة من الأذهان.

ولكن لا يخفى ما فيه ، فان الممكن هو اطلاق الخطاب أو تقييده بالنسبة إلى

ص: 295

متعلق خطاب آخر مغاير له ، كاطلاق خطاب الصلاة بالنسبة إلى الصوم وعدمه ، وليس ما نحن فيه من هذا القبيل ، لان خطاب المقدمة لم يكن مغايرا لخطاب ذيها ، لمكان التولد والتبعية فلابد ان يكون تابعا له فيما هو مهمل فيه ، كما كان تابعا له في الاطلاق والاشتراط ، فإذا كان خطاب المقدمة مهملا بالنسبة إلى حصول ذيها وعدم حصوله ، فلا يمكن تقييد المقدمة بالموصلة التي هي بمعنى الحصول ، ولا اطلاقها لا لحاظا ولا نتيجة. فتصل النوبة ح إلى الخطاب الترتبي ، وتكون حرمة المقدمة فيما إذا كانت محرمة واباحتها فيما إذا كانت مباحة لولا عروض وصف توقف الواجب عليها مشروطة بعصيان خطاب ذي المقدمة وعدم انقاذ الغريق ، فيتحقق الترتب بين الخطاب الا إلى الذي كان للمقدمة ، وبين خطاب ذيها المتولد منه خطاب المقدمة ، وببركة الخطاب الترتبي يرتفع ما ذكرناه من استبعاد كون مطلق التصرف في ملك الغير واجبا ولو لم يتوصل به إلى انقاذ الغريق.

هذا تمام الكلام في المقدمة الموصلة ، وبعده لم يبق لنا من مباحث المقدمة الواجبة ما يهمنا البحث عنه ، لان أكثر المباحث التي تعرضوا لها في مقدمة الواجب قد تقدم منا الكلام فيها ، نعم ينبغي ختم المسألة بذكر أمرين :

الامر الأول :

في الثمرات التي رتبوها على وجوب المقدمة.

فمنها : فساد العبادة إذا كانت ضدا لواجب أهم ، حيث إن ترك تلك العبادة يكون مقدمة لذاك الواجب ، وعلى القول بوجوب المقدمة يكون الترك واجبا ، فيكون الفعل منهيا عنه فلا يصلح لان يتقرب به فيفسد ، فلا تصح الصلاة إذا توقف إزالة النجاسة عن المسجد على تركها ، لان تركها يكون واجبا من باب كونه مقدمة لإزالة النجاسة ، فيكون فعلها منهيا عنه فلا تصح ، هذا.

وقد أشكل على هذه الثمرة بما حاصله : انه مبنى أولا : على أن يكون ترك أحد الضدين مقدمة لفعل الضد الآخر ، وسيأتي فساد ذلك. وثانيا : انه لا يتوقف فساد العبادة على وجوب تركها من باب المقدمة ، بل لو لم نقل بوجوب المقدمة أو بمقدمية الترك لكانت العبادة فاسدة أيضا لمكان عدم الامر بها ، حيث إن ضدها و

ص: 296

هو الإزالة مثلا يكون مأمورا به ، ولا يمكن الامر بالضدين ، فلا تكون الصلاة مأمورا بها ، وعدم الامر بها يكفي في فسادها. وسيأتي البحث عن ذلك انشاء اللّه تعالى في مبحث الضد.

ثم إن صاحب الفصول (1) أنكر هذه الثمرة على طريقته من القول بالمقدمة الموصلة ، وحاصل ما افاده في وجه ذلك : هو ان مطلق ترك الصلاة مثلا لم يكن واجبا بالوجوب المقدمي ، حتى يكون نقيضه - وهو فعل الصلاة - منهيا عنه ، بل الواجب هو الترك الموصل للإزالة ، ومع فعل الصلاة لا تحصل الإزالة ، ومع عدم حصولها لايكون ترك الصلاة واجبا ، ومع عدم وجوب تركها لايكون فعلها منهيا عنه ، ومع عدم النهى لا تفسد ، هذا.

وقد أشكل (2) عليه الشيخ ( قده ) على ما في التقرير بما حاصله : ان فعل الصلاة وان لم يكن ح نقيض الترك الموصل ، لان نقيض الأخص أعم كما أن نقيض الأعم أخص ، فنقيض الترك الموصل هو ترك الترك الموصل ، وترك الترك الموصل له افراد ، منها النوم والأكل والشرب ، ومنها الصلاة ، فالصلاة تكون أحد افراد النقيض المنهى عنه ، ومعلوم ان النهى عن الكلي يسرى إلى افراده ، فتكون الصلاة منهيا عنها ، غايته انه لا بخصوصها بل بما انها من أحد افراد نقيض الواجب.

والحاصل انه لو كان مط ترك الصلاة واجبا بالوجوب المقدمي لإزالة النجاسة ، فنقيض مط الترك ترك الترك وهو متحد خارجا مع فعل الصلاة ، فتكون الصلاة بما انها نقيض الترك الواجب منهيا عنها. واما لو كان الترك الخاص واجبا أي الترك الموصل للإزالة ، فنقيض الترك الموصل هو ترك الترك الموصل ، وهو الذي يكون منهيا عنه لكونه نقيض الواجب ، وترك الترك الموصل المنهى عنه له افراد ،

ص: 297


1- الفصول - مسألة الضد « إذا تقرر هذا فاعلم أن جماعة زعموا ان ثمرة النزاع في الضد الخاص تظهر ... » ص 96
2- مطارح الأنظار ، مبحث مقدمة الواجب ، تذنيب ، « إذا تقرر ذلك نقول : ان الترك الخاص نقيضه رفع ذلك الترك .... » ص 76

منها الصلاة ، فتكون الصلاة منهيا عنها. فلا فرق في فساد الصلاة بين ان نقول مط الترك واجب ، أو خصوص الترك الموصل - بعد البناء على مقدمية ترك أحد الضدين لفعل الضد الاخر - هذا.

وقد أورد عليه المحقق الخراساني ره (1) في كفايته بما حاصله : انه فرق بين القول بوجوب مط الترك وبين القول بوجوب الترك الموصل ، فإنه على الأول يكون نقيضه ترك الترك ، وترك الترك وان كان مفهوما غير الصلاة ، الا انه خارجا عين الصلاة ، لان ترك ترك الصلاة ليس هو الا عبارة عن الصلاة. وهذا بخلاف ما إذا كان الترك الخاص واجبا ، فان نقيض الترك الخاص ترك الترك الخاص ، والصلاة ليست من افراد هذا النقيض بحيث يحمل عليه بالحمل الشايع الصناعي وتتحد معه خارجا ، بل هي من المقارنات ، فان رفع الترك الخاص قد يجامع فعل الصلاة وقد لا يجامعها ، كما إذا ترك الصلاة والإزالة معا ، ومعلوم ان النهى عن شيء لا يسرى إلى ما يلازمه فضلا عما يقارنه ، هذا. وقد ارتضى شيخنا الأستاذ مد ظله ما ذكره المحقق في المقام واستجوده ، فتأمل.

ومنها : برء النذر باتيان مقدمة الواجب عند نذر الواجب بناء على القول بوجوب المقدمة ، هذا.

ولكن لا يخفى ان مسألة برء النذر لا تصلح ان تكون ثمرة للمسألة الأصولية ، لان ثمرتها ما تقع في طريق الاستنباط ، وتكون كبرى قياس الاستنباط ، ومسألة برء النذر هي بنفسها حكم فرعى ، مع أن البرء يتبع قصد الناذر ، فقد يقصد نذر الواجب النفسي فلا يحصل بفعل الواجب المقدمي ، وقد لا يقصد ذلك.

ومنها : حصول الفسق عند ترك واجب له مقدمات عديدة ، حيث يحصل به الاصرار ، لمكان ترك عدة واجبات بناء على وجوب المقدمة.

وفيه ، ان الواجب مهما تعددت مقدماته ليس فيه الا عصيان واحد وإطاعة واحدة ، ويكون تركه بترك أول مقدمة له ، حيث يمتنع الواجب ح عليه فلا يحصل

ص: 298


1- كفاية الأصول ، « قلت : وأنت خبير بما بينهما من الفرق ... » ص 193

الاصرار.

ومنها : صلاحية وقوع التعبد بها ، بناء على وجوبها وذلك بقصد أمرها. وفيه ، انه قد تقدم ان الامر الغيري يكون التعبد به بتعبد امر ذي المقدمة ، وليس هو بما انه امر غيري مما يتعبد به ما لم يرجع إلى التعبد بأمر ذيها.

ومنها : عدم جواز اخذ الأجرة عليها ، بناء على عدم جواز اخذ الأجرة على الواجبات.

وفيه ، انه ليس مط الواجب مما لا يجوز اخذ الأجرة عليه ، بل تختلف الواجبات في ذلك ، فربما يكون الواجب هو الفعل بمعناه المصدري فيجوز اخذ الأجرة عليه ، وربما يكون الواجب هو الفعل بمعناه الاسم المصدري فلا يجوز اخذ الأجرة عليه ، على ما أوضحناه في محله ، وجواز اخذ الأجرة على المقدمات يتبع وجوب ذي المقدمة ، فلو كان الواجب فيها هو الفعل بمعناه الاسم المصدري لا يجوز اخذ الأجرة حتى على مقدماتها ، لأنه قد خرجت المقدمات عن تحت سلطانه ، ولو لمكان اللا بدية العقلية ، فتكون الإجارة عليها من قبيل وهب الأمير ما لا يملك. وان كان الواجب في ذي المقدمة هو الفعل بمعناه المصدري يجوز اخذ الأجرة على مقدماتها ولو قلنا بوجوبها ، لان وجوبها لا يزيد على وجوب ذيها ، كما لا يخفى.

ومنها : ما نسب إلى الوحيد البهبهاني ره من لزوم اجتماع الأمر والنهي على القول بوجوب المقدمة ، فيما إذا كانت المقدمة محرمة.

وقد أورد عليه : بأنه لايكون من ذاك الباب ، بل من باب النهى في العبادة أو المعاملة. والانصاف ان ما نسب إلى الوحيد باطلاقه غير تام ، وكذا ما أورد عليه ، وتوضيح ذلك : هو انه تارة : تكون المقدمة في نوعها محرمة بحيث لايكون للمكلف مندوحة ، كما إذا انحصر الانقاذ بالتصرف في ملك الغير ، ففي مثل هذا يقع التزاحم بين وجوب الانقاذ وحرمة التصرف ، وينبغي مراعاة الأهم أو سائر مرجحات باب التزاحم ، ولا يندرج هذا الا في باب اجتماع الأمر والنهي ، لا في باب النهى من العبادة أو المعاملة. وأخرى : لا تكون المقدمة في نوعها محرمة بل كان لها افراد مباحة ، فتارة : يرد النهى عن فرد منها بالخصوص ، كما إذا نهى عن سير

ص: 299

خاص للحج ، فهذا يندرج في باب النهى عن العبادة ان كانت المقدمة عبادية ، أو المعاملة ان لم تكن كذلك.

وأخرى : لا يرد النهى عن فرد منها بالخصوص ، بل كان المنهى عنه عنوانا كليا انطبق على بعض افراد المقدمة ، كما في السير على الدابة المغصوبة في الحج ، حيث إن الواجب بالوجوب المقدمي هو السير الذي له افراد والمنهى عنه هو الغصب الذي له افراد أيضا ، وقد اجتمع كل من عنوان الواجب والحرام في السير على الدابة المغصوبة ، فهذا يكون من باب اجتماع الأمر والنهي ، وليس من باب النهى عن العبادة أو المعاملة ، ولا يتوقف اندراجه في باب الاجتماع على أن يكون الواجب بالوجوب المقدمي هو عنوان المقدمة حتى يمنع عن ذلك بل يكفي ان يكون الواجب عنوانا كليا ذا افراد ، كالمثال المتقدم فتأمل جيدا.

ثم انه لا ثمرة في ادراج المسألة بباب اجتماع الأمر والنهي ، فإنه ان كانت المقدمة توصلية فالغرض منها يحصل بمجرد فعلها ، قلنا بوجوب المقدمة أو لم نقل ، قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي أو لم نقل. وان كانت عبادية فلما كان وجوبها مترشحا عن وجوب ذيها وكان لها افراد مباحة فالوجوب انما يترشح إلى المقدمة المباحة لامحة ، ومعه لا يصح التعبد بها على كل حال ، فتأمل.

الامر الثاني :

لا أصل في وجوب المقدمة عند الشك ، لا من حيث المسألة الأصولية ، ولا من حيث المسألة الفقهية. اما من حيث المسألة الأصولية ، فلان البحث فيها من هذه الحيثية انما كان في الملازمة وعدمها ، ومعلوم : ان الملازمة وعدم الملازمة ليست مجرى لأصل من الأصول ، لعدم الحالة السابقة لها ، بل إن كانت فهي أزلية ، وان لم تكن فكذلك.

واما من حيث المسألة الفقهية ، فلان وجوب المقدمة وان لم يكن عند عدم وجوب ذيها ، فتكون بهذا الاعتبار مجرى للاستصحاب عند وجوب ذيها والشك في وجوبها ، الا انه لا اثر لهذا الاستصحاب بعد ما فرض كونها مقدمة وانه مما لا بد منها ، لمكان التوقف.

ص: 300

والحاصل : انه بعد ما تقدم من أنه لا يترتب على البحث في وجوب المقدمة ثمرة عملية أصلا ، بل كان البحث علميا صرفا ، فلا تكون المسألة مجرى لأصل من الأصول ، بعد ما كانت الأصول مجعولة في مقام العمل ، وذلك واضح.

هذا تمام الكلام في مقدمة الواجب. والحمد لله أولا وآخرا والصلاة على محمد واله.

وقد وقع الفراغ من تسويده ليلة الحاد يعشر من شهر ذي القعدة.

القول في اقتضاء الامر بالشيء النهى عن ضده

اشارة

وتنقيح البحث فيه يستدعى تقديم أمور.

الامر الأول :

لا اشكال في أن المسألة من مسائل الأصول ، وليست من المبادئ الأحكامية ، وان كان فيها جهتها ، الا ان مجرد ذلك لا يكفي في عدها من المبادئ بعد ما كان نتيجتها تقع في طريق الاستنباط ، على ما تكرر منا في ضابط المسألة الأصولية.

الامر الثاني :

ليست المسألة من المباحث اللفظية ، لوضوح ان المراد من الامر العنوان الأعم من اللفظي واللبي المستكشف من الاجماع ونحوه ، بل هي من المباحث العقلية ، وليست من المستقلات العقلية ، بل هي من الملازمات - على ما تقدم شرح ذلك في أول البحث عن وجوب المقدمة - وذكرها في المباحث اللفظية لكون الغالب في الأوامر كونها لفظية.

الامر الثالث :

المراد من الاقتضاء في العنوان الأعم من كونه على نحو العينية ، أو التضمن ، أو الالتزام بالمعنى الأخص أو الأعم ، لان لكل وجها بل قائلا. كما أن المراد من الضد ليس خصوص الامر الوجودي ، وان كان الظاهر منه ذلك ، بل المراد منه مطلق المعاند الشامل : للنقيض بمعنى الترك ، وللامر الوجودي الخاص المعبر عنه

ص: 301

بالضد الخاص ، وللقدر المشترك بين الأضداد الوجودية ان كان للشيء اضداد متعددة ، وهو المعبر عنه بالضد العام في كلام جملة.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : البحث يقع في مقامين :

المقام الأول

في اقتضاء الامر النهى عن ضده بمعنى النقيض ، والظ انه لا خلاف في اقتضائه ، انما الكلام في كيفية الاقتضاء.

فربما قيل : انه بنحو العينية ، وان الامر بالصلاة عين النهى عن تركها ، لان النهى عن الترك عبارة عن طلب ترك الترك ، وهو عين طلب الفعل خارجا ، حيث إنه لا فرق بين ان يقول : صل ، وبين ان يقول : لا تترك الصلاة ، فان العبارتين تؤديان معنى واحدا ، وهو طلب وجود الصلاة في الخارج ، هذا.

ولكن لا يخفى ضعفه ، فإنه ان كان المراد من عدم الفرق بين العبارتين : انهما يكونان بمنزلة الانسان والبشر لفظين مترادفين ، وكان ما بإزاء أحدهما عين ما بحذاء الآخر مفهوما وخارجا ، ففساده غنى عن البيان ، لوضوح ان مدلول لا تترك الصلاة أو اطلب منك ترك ترك الصلاة غير مدلول صل ، لان معاني مفردات تلك الجملة غير معنى جملة صل ، فلا يكون هناك اتحاد مفهومي. وان كان المراد : ان النتيجة واحدة والمقصود هو طلب وجود الصلاة ، فهو مما لا ينفع القائل بالعينية ، فان حديث العينية ان يكون قوله : صل - عين قوله : لا تترك الصلاة ، وذلك لايكون الا بدعوى الاتحاد المفهومي ، وقد عرفت ، انه مما لا سبيل إلى دعواه.

وربما قيل : انه بنحو التضمن ، بتوهم ان معنى الوجوب مركب من الاذن في الفعل مع المنع من الترك ، فيدل على المنع من الترك تضمنا.

وفيه ، انه ليس معنى الوجوب مركبا بل هو بسيط بالهوية لا تركيب فيه أصلا ، وانما الوجوب عبارة عن مرتبة من الطلب ، وبذاته يمتاز عن الاستحباب ، بل قد تقدم في أول الأوامر (1) انه ليس الفرق بين الوجوب والاستحباب باختلاف

ص: 302


1- بحث الأوامر - الامر الخامس ص 134

المرتبة أيضا ، وانما الوجوب حكم عقلي ، والشددة والضعف انما تكون في ملاكات الاحكام لا في نفسها ، فراجع. فلا دعوى العينية تستقيم ولا دعوى التضمن.

نعم : لا بأس بدعوى اللزوم بالمعنى الأخص ، حيث إن نفس تصور الوجوب والحتم والالزام يوجب تصور المنع من الترك والانتقال إليه ، وذلك معنى اللازم بالمعنى الأخص.

والحاصل : انه سواء قلنا : بان الوجوب عبارة عن مرتبة شديدة من الطلب ، أو قلنا : بان الوجوب عبارة عن حكم العقل بلزوم الانبعاث من بعث المولى ، يلزمه المنع من الترك ، كما لا يخفى. وعلى كل حال الامر في ذلك سهل ، لان الظاهر عدم ترتب ثمرة عملية على ذلك ، كما هو واضح.

المقام الثاني

في اقتضاء الامر للنهي عن ضده الوجودي ، سواء كان الضد الخاص ، أو القدر المشترك بين الأضداد الوجودية. فقد قيل : بالاقتضاء أيضا على نحو العينية ، أو الاستلزام بالمعنى الأخص أو الأعم ، على اختلاف الأقوال في ذلك.

نعم : لا يعهد القول بالتضمن في هذا المقام ، ولا سبيل إلى دعواه. والأقوى في هذا المقام عدم الاقتضاء مطلقا.

وقد استدل القائل بالاقتضاء بوجهين :

الوجه الأول : استلزام وجود الضد المأمور به لعدم الضد الآخر ان كان الضدان مما لا ثالث لهما ، ولعدم كل من الأضداد الآخران كان هناك ثالث ، لوضوح انه لا يمكن الجمع بين الضدين أو الأضداد في الوجود ، فوجود كل ضد يلازم عدم الأضداد الاخر ، والمتلازمان لابد ان يكونا متوافقين في الحكم ، فلو كان أحد الضدين واجبا لابد ان يكون عدم الاخر أيضا واجبا ، قضية للتوافق ، فإذا كان عدمه واجبا كان وجوده محرما ، فيثبت المقصود من كونه منهيا عنه ، هذا.

وفيه ، ان المتلازمين لا يلزم ان يكونا متوافقين في الحكم ، بل الذي لابد منه هو ان لا يكونا متخالفين في الحكم ، بان يكون أحد الضدين واجبا والاخر محرما ، و

ص: 303

الا كان بين الدليلين تعارض ان كانت الملازمة دائمية ، وان كانت اتفاقية كان من التزاحم.

وبالجملة ، حديث الملازمة لا يقتضى أزيد من عدم المخالفة بين حكمي المتلازمين ، واما التوافق ، فلا ، بل يمكن ان لايكون أحد المتلازمين محكوما بحكم ملازمه أصلا هذا.

ولكن يمكن ان يقال : في الضدين الذين لا ثالث لهما ، كالحركة والسكون ، والاجتماع والافتراق ( بناء على أن يكون السكون والافتراق وجوديين ) ان الامر بأحد الضدين يلازم الامر بعدم ضده الاخر ، فان الحركة وان لم تكن مفهوما عين عدم السكون ، ولا الاجتماع عين عدم الافتراق مفهوما ، الا انه خارجا يكون عدم السكون عبارة عن الحركة ، وعدم الافتراق عبارة عن الاجتماع بحسب المتعارف العرفي ، وان كان بحسب العقل ليس كذلك ، لوضوح انه عقلا لايكون عدم السكون عين الحركة ، بل يلازمها ، فان العدم لا يتحد مع الوجود خارجا ولايكون هو هو مفهوما وعينا ، ولكن بحسب المتعارف العرفي يكون الحركة عبارة عن عدم السكون ، ويكون الامر بأحدهما أمرا بالآخر ، بحيث لا يرى العرف فرقا بين ان يقول - تحرك - وبين ان يقول - لا تسكن - ويكون مفاد إحدى العبارتين عين مفاد الأخرى ، فيكون حكم الضدين الذين لا ثالث لهما حكم النقيضين ، من حيث إن الامر بأحدهما امر بعدم الآخر ، وان كان في النقيضين أوضح من جهة ان عدم العدم في النقيضين هو عين الوجود خارجا ، وليس الامر في الضدين كذلك ، الا ان العرف لا يرى فرقا بينهما ، والاحكام انما تكون منزلة على ما هو المتعارف العرفي ، فدعوى ان الامر بالشيء يقتضى النهى عن ضده الخاص فيما لا ثالث لهما ليس بكل البعيد ، واما فيما كان لهما ثالث فالامر بأحد الأضداد لا عقلا يلازم النهى عن الأضداد الاخر ولا عرفا ، إذ لايكون صل بمعنى لا تبع مثلا ولا بمعنى لا تأكل حتى عند العرف.

وتوهم انه وان لم يقتض النهى عن كل واحد من الأضداد الوجودية بخصوصه عرفا ، الا انه يقتضى النهى عن الجامع بين أضداده الوجودية ، فان الضد المأمور به مع ذلك الجامع يرجع إلى الضدين الذين لا ثالث لهما ، فيكون ذلك الجامع

ص: 304

منهيا عنه ، ولمكان انطباق ذلك الجامع على كل واحد من الأضداد الوجودية يسرى النهى إلى كل واحد من تلك الأضداد ، لسراية النهى أو الامر المتعلق بالكلي إلى افراده ، فيكون كل واحد من تلك الأضداد الوجودية منهيا عنه ، غايته انه لا بخصوصه ، بل لمكان انطباق المنهى عنه عليه ، فيصح ان يقال : ان الامر بالشيء يقتضى النهى عن ضده الخاص مط ، سواء كان الضدان مما لا ثالث لهما أو لم يكن فاسد.

فإنه يرد عليه :

أولا : ان هذا الجامع ليس من الأمور المتأصلة التي يتعلق بها التكليف كالكلي الطبيعي ، بل هو من الأمور الانتزاعية ، والنهى عن الجامع الانتزاعي يكون نهيا عن منشأ الانتزاع ، ومنشأ الانتزاع في المقام ليس الا الأضداد الخاصة ، ولا ملازمة بين الامر بالشيء والنهى عن شيء منها.

وثانيا : ان النهى عن كل جامع وكلي انما يكون بلحاظ المرآتية لما ينطبق عليه في الخارج ، كما أن الامر بكل جامع يكون كذلك ، لوضوح ان الكلي بما هو هو من غير لحاظه مرآة لما في الخارج لا يتعلق به امر ولا نهى ، لأنه كلي عقلي لا موطن له الا العقل ويمتنع امتثاله ، وفي المقام يكون المرئي بذلك الجامع انما هو الأضداد الخاصة ، والامر بشيء لا يلازم النهى عن شيء منها كما هو واضح. فتأمل ، فان ما افاده مد ظله في المقام لا يخلو عن اشكال.

هذا كله ، إذا كان بين الشيئين تناقض أو تضاد ، وقد عرفت ان الامر بالشيء يقتضى النهى عن النقيض باللازم بالمعنى الأخص ، ويقتضيه بالنسبة إلى الضدين الذين لا ثالث لهما باللازم بالمعنى الأعم ، حيث لم يكن بوضوح النقيض كما عرفت ، وفي الضدين الذين لهما ثالث لا يقتضيه أصلا. واما فيما إذا كان بين الشيئين عدم وملكة فالظاهر أنه ملحق بالنقيضين في الموضوع القابل لهما ، حيث إن الامر بأحدهما يلازم النهى عن الآخر باللزوم بالمعنى الأخص ، فالامر بالعدالة يلزمه النهى عن الفسق ، كما لا يخفى.

* * *

ص: 305

الوجه الثاني :

من الوجهين الذين استدل بهما القائل باقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده الخاص ، هو مقدمية عدم أحد الضدين لوجود الضد الاخر ، فيكون عدمه واجبا لوجوب مقدمة الواجب ، فيكون وجوده منهيا عنه وهو المقصود. اما وجه كون عدم الضد مقدمة لوجود الآخر ، فلما بين المتضادين من التمانع ، ومعلوم ان عدم المانع من اجزاء علة وجود الشيء ، وحيث انجر الكلام إلى ذلك ، فلا بأس بالإشارة إلى مسألة مقدمية ترك أحد الضدين للآخر التي وقعت معركة للآراء بين المتقدمين والمتأخرين. فنقول : الأقوال في هذه المسألة على ما يظهر منهم خمسة :

(1) قول بمقدمية وجود أحد الضدين لعدم الآخر ومقدمية عدم أحدهما لوجود الآخر ، فتكون المقدمية من الطرفين وهذا هو الذي ينسب إلى الحاجبي والعضدي.

(2) وقول بمقدمية عدم أحد الضدين لوجود الآخر ولا عكس ، وهذا هو الذي ينسب إلى المحقق القمي ، وصاحب الحاشية ، والسبزواري وغيرهم ، وعلى ذلك بنوا اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده الخاص.

(3) وقول بمقدمية الوجود للعدم ولا عكس ، وعليه يبتنى شبهة الكعبي من نفى المباح.

(4) وقول بنفي المقدمية من الجانبين لا مقدمية الوجود للعدم ولا مقدمية العدم للوجود وهذا هو الذي اختاره بعض المحققين والذي ينبغي البناء عليه ، على ما سيأتي.

(5) وقول بالتفصيل بين الضد الموجود فيتوقف وجود الآخر على رفع الموجود وعدمه فيكون عدم الضد الموجود من اجزاء علة وجود الضد الآخر ، وبين ما لم يكن أحد الضدين موجودا ، فإنه لا توقف ح من الجانبين.

اما القول الأول ، ففساده غنى عن البيان ، لاستلزامه الدور الذي لا يخفى على أحد.

واما القول الثاني ، فقد عرفت ان عمدة استدلالهم عليه هو تمانع الضدين

ص: 306

وان عدم المانع من اجزاء علة وجود الشيء ، وتوضيح فساده يتوقف على بيان المراد من المانع الذي يكون عدمه من اجزاء العلة.

فنقول : المانع هو ما يوجب المنع عن رشح المقتضى ، بحيث انه لولاه لاثر المقتضى اثره من افاضته لوجود المعلول ، فيكون الموجب لعدم الرشح والإفاضة هو وجود المانع ، وهذا المعنى من المانع لا يتحقق الا بعد فرض وجود المقتضى بما له من الشرائط فإنه عند ذلك تصل النوبة إلى المانع ، ويكون عدم الشيء مستندا إلى وجود المانع ، واما قبل ذلك فليس رتبة المانع ، لوضوح انه لايكون الشيء مانعا عند عدم المقتضى أو شرطه ، فلا يقال للبلة الموجودة في الثوب انها مانعة عن احتراق الثوب الا بعد وجود النار وتحقق المجاورة والمماسة بينها وبين الثوب ، فح يستند عدم احتراق الثوب إلى البلة الموجودة فيه ، واما مع عدم النار أو عدم المجاورة فيكون عدم الاحتراق مستندا إلى عدم المقتضى أو شرطه ، فان الشيء يستند إلى أسبق علله ، ولا يصح اطلاق المانع على البلة مع عدم وجود النار ، فرتبة المانع متأخرة عن رتبة المقتضى والشرط ولا يقال للشيء انه مانع الا بعد وجود المقتضى والشرط ، فكما ان المعلول مترتب على علته بجميع اجزائها فيقال : وجدت العلة فوجد المعلول ويتخلل بينهما فاء الترتب ، كذلك اجزاء العلة من المقتضى والشرط وعدم المانع تكون مترتبة ، فيقال : وجد المقتضى فوجد شرطه فلم يكن ما يمنعه ، فالشرط والمانع متأخران عن المقتضى ، والمانع متأخر عن الشرط أيضا. ومرادنا من ترتب اجزاء العلة ليس ذواتها في الوجود فان ذلك واضح البطلان لوضوح انه يمكن وجود ذات البلة في الثوب قبل وجود النار ، كما أنه يمكن وجود النار والمجاورة دفعة واحدة ، بل مرادنا من الترتب في الاستناد والتأثير على وجه يصح اطلاق الشرط أو المانع على الشيء ، وقد عرفت الترتب في التأثير وصحة الاطلاق وانه لا يصح اطلاق كون الشيء شرطا أو مانعا الا بعد وجود المقتضى.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنه مما يتفرع على ما قلناه من تأخر رتبة المانع عن المقتضى والشرط ، هو عدم امكان جعل أحد الضدين شرطا والآخر مانعا ، وان مثل هذا الجعل ممتنع ، كما استقصينا الكلام في ذلك في رسالة اللباس المشكوك عند

ص: 307

بيان كون اللباس من محلل الاكل شرطا أو ان كونه من محرم الاكل مانعا ، حيث أوضحنا بما لا مزيد عليه في ذلك أنه لا يمكن الجمع بين هذين الجعلين فراجع. (1).

ومما يتفرع على ما قلناه : من تأخر رتبة المانع عن وجود المقتضى والشرط ، هو عدم امكان مانعية وجود أحد الضدين للآخر ، لان مانعية وجود أحدهما لوجود الآخر انما يمكن بعد فرض وجود المقتضى لكلا الضدين ، لان كون وجود أحدهما مانعا لايكون الا بعد تحقق علته التامة من المقتضى والشرط وعدم المانع ، حتى يتحقق له وجود ليكون مانعا من وجود الآخر ، فالمقتضي لهذا الضد الذي فرض مانعا لابد ان يكون موجودا ، ثم فرض مانعية هذا الضد للضد الاخر لايكون الا بعد وجود مقتضيه ، لما تقدم من أنه لايكون الشيء مانعا عن وجود الشيء الا بعد وجود مقتضى ذلك الشيء ، ففرض مانعية أحد الضدين للآخر لايكون الا بعد فرض وجود المقتضى لكل من الضدين وذلك محال. لأنه كما لا يمكن اجتماع الضدين ، كذلك لا يمكن اجتماع مقتضى الضدين لمضادة مقتضيهما أيضا ، وبعد عدم امكان اجتماع مقتضى الضدين لا يمكن كون أحدهما مانعا عن الآخر ، لما عرفت من توقف المانعية على ذلك ، فالمانعية موقوفة على فرض محال ، وهو اجتماع كل من مقتضى الضدين ، من غير فرق بين المقتضيات التكوينية الخارجة عن القدرة والإرادة وبين المقتضيات الإرادية ، فان تعلق الإرادة بايجاد كل من الضدين محال ، سواء كانت إرادة شخص واحد أو إرادة شخصين ، فان المقتضى في الشخصين يكون هو الإرادة القاهرة والغالبة على إرادة الاخر ، فتخرج الإرادة المغلوبة عن كونها مقتضية فعلا ، فلا يمكن وجود المقتضى لكل من الضدين مط.

ومن الغريب ان المحقق الخونساري ، والمحقق صاحب الحاشية ، قد حاولا دفع الدور الوارد على القول بمقدمية عدم أحد الضدين لوجود الآخر - على ما سيأتي بيانه - بذلك ، أي بامتناع اجتماع المقتضيين للضدين ، ومع ذلك ذهبا إلى المقدمية ، و

ص: 308


1- راجع ما الفه المحقق النائيني قدس سره في حكم اللباس المشكوك فيه المطبوع في آخر الجزء الثاني من كتاب « منية الطالب في حاشية المكاسب » ، الامر الثالث من مقدمة البحث ، ص 243

الحال ان ما دفعا به الدور يهدم أساس المقدمية ، لما عرفت من أن امتناع اجتماع المقتضيين يوجب ان لايكون وجود أحد الضدين مانعا عن وجود الاخر ، فلا يكون عدمه من اجزاء علة وجوده ، فلا يجتمع القول بالمقدمية مع القول بامتناع اجتماع المقتضيين.

وعلى كل حال ، فقد ظهر لك انه لا سبيل إلى القول بمقدمية عدم أحد الضدين لوجود الاخر.

هذا كله ، مضافا إلى ما يرد على القول بالمقدمية من لزوم الدور ، فإنه لو كان عدم أحد الضدين مقدمة لوجود الآخر ، كان وجود أحد الضدين علة لعدم الآخر ، وذلك لأنه لا موجب لدعوى مقدمية العدم للوجود الا كون وجود أحدهما مانعا عن وجود الآخر ليكون عدمه من اجزاء العلة ، فإذا كان وجود أحد الضدين مانعا عن وجود الاخر ، فيكون علة لعدم الاخر ، لان كل مانع يكون سببا لعدم ما لولاه لوجد ، فيلزم ان يكون وجود أحد الضدين علة لعدم الآخر وعدم أحدهما من اجزاء علة وجود الآخر وان لم يكن تمام علته ، الا انه لا فرق في الاستحالة ولزوم الدور بين ان يكون كل من طرفي التوقف علة تامة للآخر ، وبين ان يكون أحدهما علة تامة والآخر جزء العلة كما في المقام ، حيث إن وجود أحد الضدين علة تامة لعدم الاخر لكونه مانعا ، وعدم أحد الضدين من اجزاء علة وجود الآخر لكونه من قبيل عدم المانع الذي هو جزء العلة ، فالقول بمقدمية العدم للوجود موجب للدور المحال. وقد أجيب عن هذا الدور بوجوه :

أحدها : ما حكى عن المحقق الخونساري وصاحب الحاشية (1) من امكان منع مانعية أحد الضدين لوجود الآخر حتى يكون علة لعدمه ، لان مانعيته له .

ص: 309


1- حكاه الشيخ قدس سره في التقريرات ، راجع مطارح الأنظار ، الهداية الثانية من مباحث الضد ، ص 102. هداية المسترشدين ، مبحث الضد ، ما افاده في مقام الجواب عن الوجه الثاني من الوجوه التي استدل بها لنفى المقدمية ، وهو محذور الدور ، « ان وجود الضد من موانع وجود الضد الآخر ... ».

فرع وجود المقتضى له ، ولا يمكن فرض وجود المقتضى له مع وجود المقتضى للآخر - على ما تقدم بيانه - فلا دور.

وتوهم انه يفرض وجود المقتضى والشرط للضد الآخر فيكون وجود هذا الضد مانعا فيعود محذور الدور ، فاسد ، لاستحالة هذا الفرض وامتناع صلاحية وجود الضد لان يكون مانعا عن الاخر وعلة لعدمه على هذا الفرض المحال ، فان فرض وجود المقتضى له ممنوع ، أي لا نسلم امتناع مثل هذه الصلاحية الفرضية ، لان ذلك لا يوجب دورا فعليا ، فتأمل ، فإنه يكفي في الدور الصلاحية. ولقد أجادوا في منع كون أحد الضدين مانعا عن الآخر ، وفي عدم امكان اجتماع المقتضيين ، الا انهم غفلوا عن أن لازم ذلك انكار المقدمية من الطرفين ، وذهبوا إلى مقدمية العدم للوجود.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : انه لا يمكن القول بمقدمية العدم للوجود ، ومنه يظهر فساد القول الثالث من مقدمية الوجود للعدم.

واما التفصيل بين الضد الموجود فيتوقف وجود الاخر على رفعه ، وبين فراغ المحل عن كلا الضدين فلا توقف من الجانبين ، فهو الذي ينسب إلى المحقق الخونساري ، وحكى ميل الشيخ إليه ، ولعل منشأ التوهم هو ما يشاهد بالوجدان من أن وجود البياض في مكان مشغول بالسواد يتوقف على رفع السواد واعدامه ، فيكون اعدام السواد من مقدمات وجود البياض.

ولكن لا يخفى عليك ، ان مناط الاستحالة مطرد في الضد الموجود والضد المعدوم ، فإنه لا يفرق الحال في كون الشيء مقدمة بين ان يكون موجودا وبين ان يكون معدوما ، فإنه في كلا الحالين يكون مقدمة ، لان مناط المقدمية هو كونه مما يتوقف عليه الشيء ، فإذا امتنع كون الشيء مقدمة في حال عدمه امتنع كونه مقدمة في حال وجوده أيضا ، فان صعود السلم مقدمة للكون على السطح في كل حال.

ومن الغريب ، ان المحقق الخونساري مع اعترافه بامتناع اجتماع المقتضيين للضدين كيف ذهب إلى ذلك ، مع أنه يلزمه القول باجتماع المقتضيين ، فان الضد الموجود انما يكون وجوده بوجود المقتضى ، ومع وجود مقتضيه كيف يمكن وجود

ص: 310

مقتضى الآخر حتى يكون عدم الموجود ورفعه من مقدمات وجود الآخر؟ الا ان يقول : باستغناء الضد الموجود في بقائه عن المؤثر والمقتضى ، وانما الذي يحتاج إلى المقتضى هو الحدوث واما البقاء فلا يحتاج إلى ذلك بل هو يبقى بنفسه ، فلا يكون بقاء وجود الضد الموجود مجامعا لوجود مقتضيه حتى يمتنع وجود مقتضى الاخر ، هذا.

ولكن مع أن هذه المقالة من أصلها فاسدة ، لوضوح ان الموجب لحاجة الشيء في حدوثه إلى المؤثر ليس هو الا الامكان ، وذلك بعينه يقتضى الحاجة في بقائه إلى المؤثر لبقائه على صفة الامكان ، والا يلزم تعطيل الباري تعالى ، وما مثل به من الحجر واللون حيث إن بقائه لا يحتاج إلى مؤثر فليس كذلك بل يحتاج أيضا إلى ذلك ، غايته انه في بعض المقامات تكون العلة المحدثة هي المبقية ، مثلا في مثل الحجر يكون الميل إلى المركز موجبا لبقائه في المكان ، وفي مثل اللون يكون الموجب هو ما أودعه اللّه تعالى في طبعه من أنه لا يزول الا برافع ، وبالجملة : كون المحدثة هي المبقية غير كون البقاء لا يحتاج إلى مؤثر ، كما لا يخفى.

ثم إن ذلك على تقدير تسلميه فهو في الأمور التكوينية الخارجة عن الإرادة ، واما في الأمور الإرادية فلا يمكن ذلك ، لان الفعل الإرادي لابد ان يكون حدوثه وبقائه بالإرادة ، فبقاء الصلاة انما تكون ببقاء ارادتها ، ومع ذلك كيف يجامع إرادة ضدها من الإزالة ، وهل هو الا اجتماع المقتضيين؟ فلو كان وجود الإزالة متوقفا على عدم الصلاة ورفعها يلزم ما فر منه : من اجتماع المقتضيين.

فالانصاف : انه لا فرق في الاستحالة بين كون المحل ، مشغولا بأحد الضدين أو كونه خاليا عنها ، وانه ليس في البين توقف ومقدمية أصلا ، ومجرد تمانع الضدين في الوجود لا يقتضى المقدمية ، بل هو مجرد التعاند في الوجود حسب ذاتهما ، ولكن العلة المحدثة لأحدهما هي الطاردة للآخر ، وليس التعاند بين الضدين أقوى من التعاند بين النقيضين ، بل تعاند النقيضيين أقوى وأشد وأتم ، ومع ذلك ليس بين النقيضين ترتب وتوقف ومقدمية ، والا يلزم توقف الشيء على نفسه ، فكذلك ليس بين الضدين ترتب وتوقف لاستلزام توقف الشيء على نفسه أيضا كالنقيضين. وكما أن العلة للوجود هي الطاردة للعدم في النقيضيين ، فكذلك العلة

ص: 311

لوجود أحد الضدين هي الطاردة للاخر ، سواء كان المحل فارغا عنه أو مشغولا به.

وبما ذكرنا اندفعت شبهة الكعبي أيضا ، وهي انتفاء المباح بدعوى ان ترك الحرام يتوقف على فعل وجودي لعدم خلو الانسان عنه ، فيكون الفعل مقدمة لترك الحرام. وجه الدفع : هو ان ترك الحرام لا يتوقف على فعل وجودي ، بل يتوقف على الصارف عنه ، والفعل لايكون الا من المقارنات ، نعم لا مضايقة في وجوب الفعل إذا توقف بقاء الصارف عليه ، كما إذا توقف بقاء الصارف عن الزناء على الخروج عن الدار بحيث لولاه لوقع في الزنا ، فالالتزام بوجوب الخروج في مثل هذا الفرض لا محذور فيه ولا يلزم نفى المباح رأسا. مع أنه يمكن المنع حتى في هذا الفرض ، لان الصارف لم يكن واجبا شرعيا حتى يجب ما يتوقف عليه ، بل هو واقع في مرحلة الامتثال الذي يكون الحاكم به العقل ، فتأمل جيدا.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان الامر بالشيء لا يقتضى النهى عن ضده الخاص فيما كان للضد ين ثالث ، كما هو الغالب ، لا من جهة الملازمة ولا من جهة المقدمية ، كما مر. ثم انهم عدوا للنزاع في الاقتضاء وعدم الاقتضاء ثمرات :

منها : وهي العمدة - فساد الضد إذا كان عبادة بناء على الاقتضاء لأنه يكون من النهى في العبادة ، وعدم فساده بناء على عدم الاقتضاء. وعن البهائي (1) انكار هذه الثمرة ، والقول بان الفساد لا يتوقف على القول بالاقتضاء ، بل يكفي في الفساد عدم الامر بالضد ، حيث إن صحة العبادة تتوقف على الامر بها ، وبعد ما لم يكن الضد مأمورا به لامتناع الامر بالضدين فلا محالة من أن يقع فاسدا ، هذا. وحكى (2) عن المحقق الكركي (3) وجماعة ممن تأخر عنه : المنع عن .

ص: 312


1- راجع زبدة الأصول ، المطلب الأول من المنهج الثالث بحث الضد ، ص 82.
2- ولا يخفى عليك انه ليس في عبارة المحقق تصريح بهذا البيان والتفصيل ، بل له كلام في شرح قول العلامة ببطلان الصلاة في أول وقتها لمن كان عليه دين واجب الأداء فورا يظهر منه ان اطلاق الامر بالموسع يعم الفرد المزاحم للمضيق ولازم كلامه ذلك هو ما ذكرناه من التفصيل في المقام ، كما أن له كلاما يظهر منه صحة الامر الترتبي ، فراجع كلامه وتأمل في ما افاده من جواب الاشكالات التي أوردها على نفسه - منه.
3- راجع « جامع المقاصد في شرح القواعد » كتاب الدين وتوابعه ، المطلب الأول من المقصد الأول.

اطلاق مقالة البهائي ره من فساد الضد لو قلنا بتوقف العبادة على الامر ، بل ذلك انما يتم في خصوص المتزاحمين المضيقين إذا كان أحدهما أهم ، كما لو فرض مزاحمة الصلاة في اخر الوقت لواجب آخر أهم ، فان في مثل هذا يتم كلام البهائي من فساد الصلاة بناء على توقف صحة العبادة على الامر بها ، لأنه لا امر بها ح مع مزاحمتها لواجب أهم. واما لو فرض وقوع التزاحم بين مضيق وموسع ، كما لو فرض مزاحمة الصلاة في بعض أوقات وجوبها لواجب آخر مضيق ، ففي مثل هذا يمكن القول بصحة الفرد المزاحم من الصلاة لذلك الواجب ، ولو قلنا بتوقف صحة العبادة على الامر.

وحاصل ما يمكن من توجيه ما افاده المحقق هو انه : لما تعلق الامر بالطبيعة على نحو صرف الوجود ، لا على نحو السريان كما في النهى عن الطبيعة كانت القدرة على ايجاد الطبيعة ولو في ضمن فرد ما كافية في تعلق الامر بالطبيعة ، لخروجه بذلك عن قبح التكليف بما لا يطاق ، ولا يتوقف الامر بالطبيعة على القدرة على جميع افرادها ، بل يكفي في صحة تعلق الامر بالطبيعة تمكن المكلف من صرف الايجاد حتى لا يلزم التكليف بما لا يطاق ، وبعد تعلق الامر بالطبيعة تكون جميع الافراد متساوية الاقدام في الانطباق ، لان انطباق الكلي على افراده قهري ، وبعد الانطباق يكون الاجزاء عقليا ، وحينئذ لا مانع من الاتيان بذاك الفرد من الصلاة المزاحم للإزالة مثلا بداعي امتثال الامر المتعلق بالطبيعة ، ولا يتوقف صحته على تعلق الامر به بالخصوص ، حتى يقال : بعد الامر بالإزالة لا يمكن الامر بذاك الفرد المزاحم لاستلزامه الامر بالضدين ، بل يكفي في صحته تعلق الامر بالطبيعة ، وبعد ذلك يكون الانطباق قهريا والاجزاء عقليا. فلو قلنا : ان صحة العبادة تتوقف على الامر بها كان الضد الموسع صحيحا إذا كان عبادة ، نعم لو قلنا : ان الامر بالشيء يقتضى النهى عن ضده كان ذلك الفرد من الصلاة المزاحم للإزالة منهيا عنه ، وبعد تعلق النهى به يخرج عن قابلية انطباق الطبيعة المأمور بها عليه ، فلا يصلح ان يأتي به بداعي الامر بالطبيعة ، لان هذا الداعي انما يصح في الافراد المنطبقة لا الافراد الغير المنطقة.

فظهر ان نفى الثمرة في اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده وعدم اقتضائه

ص: 313

بناء على توقف صحة العبادة على الامر - كما عن البهائي ره - على اطلاقه لا يستقيم ، بل هو مختص بالمضيقين المتزاحمين ، واما في المضيق والموسع فالثمرة تظهر على ما بينا. هذا غاية ما يمكن ان يوجه به مقالة المحقق ومن وافقه.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه ، فإنه لو كان وجه اعتبار القدرة في التكاليف هو مجرد حكم العقل بقبح تكليف العاجز لكان الامر كما ذكر ، حيث إنه يكفي في صحة التكليف بالطبيعة القدرة على ايجادها ولو في ضمن فرد ما ، ولكن هناك وجه آخر في اعتبار القدرة وهو اقتضاء الخطاب ذلك ، حيث إن البعث والتكليف انما يكون لتحريك إرادة المكلف نحو أحد طرفي المقدور ، بل حقيقة التكليف ليس الا ذلك ، فالقدرة على المتعلق مما يقتضيه نفس الخطاب ، بحيث انه لو فرض عدم حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، وقلنا بمقالة الأشاعرة من نفى التحسين والتقبيح العقليين ، لقلنا باعتبار القدرة في متعلق التكليف لمكان اقتضاء الخطاب والبعث ذلك ، حيث إن حقيقة الخطاب هي البعث وتحريك الإرادة نحو أحد طرفي المقدور وترجيح أحد طرفيه ، وحينئذ يدور سعة دائرة المتعلق وضيقه مدار سعة القدرة وضيقها ولا يمكن ان يكون دائرة المتعلق أوسع من دائرة القدرة ، فالفرد المزاحم لواجب مضيق لا يمكن ان يعمه سعة المتعلق لعدم سعة قدرته ذلك حسب الفرض ، حيث إن الممتنع الشرعي كالممتنع العقلي ، ومجرد انطباق طبيعة الصلاة على ذلك الفرد لا ينفع بعد عدم انطباق الصلاة المتعلقة للطلب عليه. فدعوى انه لا يحتاج الفرد إلى القدرة عليه بعد القدرة على ايجاد الطبيعة ولو في ضمن فرد ما - لان الانطباق يكون ح قهريا والاجزاء عقليا - مما لا تستقيم ، بعد ما كان الخطاب يقتضى القدرة على المتعلق بحيث يدور سعة دائرة المتعلق أو ضيقه مدار سعة القدرة وضيقها ، وبعد عدم القدرة على ايجاد الطبيعة في ضمن الفرد المزاحم لواجب مضيق تخرج تلك الحصة من الطبيعة عن متعلق الامر ، فلا يمكن ايجاد الفرد امتثالا للامر المتعلق بالطبيعة ، فلو قلنا بتوقف العبادة على الامر يبطل ذلك الفرد المزاحم ولا يمكن تصحيحه.

تبصرة :

لا يخفى عليك ان ما قلناه : من أن كل خطاب يقتضى القدرة على متعلقه ،

ص: 314

لا يلزم منه ان يكون القدرة المعتبرة في جل التكاليف شرعية حتى ينافي تقسيم القدرة إلى شرعية وعقلية وترتيب ما يترتب على هذا التقسيم من الثمرات كما سيأتي ، وذلك لان مرادنا من القدرة الشرعية ما اخذت في لسان الدليل بحيث يستكشف منه ان لها دخلا في ملاك الحكم ومناطه ، كما في قوله (1) تعالى ، « لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا » ، حيث قيد الوجوب بالاستطاعة في نفس الدليل ، وأين هذا مما نقوله في المقام من اقتضاء كل خطاب القدرة على متعلقه ، فان ذلك لا يوجب ان تكون القدرة شرعية.

وحاصل الضابط بين القدرة التي نسميها شرعية والقدرة التي نسميها عقلية ، هو انه إذا اخذت القدرة في موضوع الخطاب المستكشف من ذلك مدخليتها في ملاك الخطاب كانت القدرة حينئذ شرعية ، سواء اخذت في موضوع الخطاب صريحا كما في آية الحج ، أو كانت مستفادة من خطاب آخر كما في آية الوضوء - على ما سيأتي بيانه - وان لم تؤخذ في موضوع الخطاب ، بل كانت مما يقتضيه نفس الخطاب ، اما لمكان قبح مخاطبة العاجز عقلا ، واما لمكان كون الخطاب هو البعث والتحريك نحو المقدور - على ما بيناه - كانت القدرة عقلية ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك.

وعلى كل حال ، فقد ظهر لك : ان بناء على توقف صحة العبادة على الامر بها يكون الحق مع البهائي من عدم الثمرة في اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده وعدم اقتضائه ، إذ لا امر بالضد على كل حال ، فالعبادة لا تصح مطلقا ، الا ان الشأن في أصل المبنى ، لوضوح انه لا يتوقف صحة العبادة على الامر بها ، بل يكفي في صحة العبادة اشتمالها على الملاك التام ، وان لم يؤمر بها فعلا لمانع. ومن هنا قلنا : يكفي قصد الجهة في العبادة ولا يحتاج إلى قصد امتثال الامر ، خلافا للمحكى عن صاحب الجواهر (2) حيث اعتبر خصوص قصد امتثال الامر في صحة العبادة ، ويلزمه القول ببطلان الضد إذا كان عبادة. ولكن الانصاف : ان الالتزام بذلك

ص: 315


1- آل عمران ، الآية 97.
2- قدم كلام صاحب الجواهر قدس سره في المقام في هامش ص 150

بلا موجب ، بل يكفي في صحة العبادة اشتمالها على الملاك التام سواء امر بها فعلا كما إذا لم يتزاحم ما هو أهم منها ، أو لم يؤمر بها فعلا كما في صورة المزاحمة ، فوجود الامر وعدمه سيان في ذلك.

ولكن مع ذلك لا تظهر الثمرة في اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده ، لأنه هب ان الضد يكون منهيا عنه ، ولكن لما كان النهى غيريا لمكان الملازمة أو المقدمية - على الوجهين الذين بنوا عليهما النهى عن الضد - لم يكن ذلك موجبا لخلل في الملاك ، بل الضد يكون باقيا على ما هو عليه من الملاك لولا المزاحمة ، وليس النهى في المقام عن ملاك يقتضيه ، كما في باب النهى عن العبادة ، وباب الاجتماع الأمر والنهي بناء على الامتناع وتقديم جانب النهى ، فان النهى في البابين يكون استقلاليا عن ملاك يتقضيه ولم يبق معه الملاك المصحح للعبادة ، لأنه لا يتعلق النهى الاستقلالي بالعبادة الا لمكان اقوائية ملاك النهى والمفسدة التي أوجبته عن ملاك العبادة ومصلحتها ، ومعه لايكون في العبادة ملاك تام يقتضى صحة العبادة. وهذا بخلاف النهى الغيري المتعلق بالعبادة ، فإنه لما لم يكن عن مفسدة تقتضيه بل كان لمجرد المزاحمة لواجب آخر أهم والوصلة إليه كانت العبادة على ما هي عليه من الملاك التام المقتضى لصحتها.

ومما ذكرنا ظهر فساد ما تسالموا عليه من فساد العبادة بناء على اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده ، لما عرفت من أنه لا فساد حتى بناء على الاقتضاء لصحة الضد بالملاك لذي لا يضره النهى الغيري.

واما توهم انه لا طريق لنا إلى احراز الملاك ، لتعارض الامر بالإزالة مثلا مع الامر بالصلاة ، وبعد تقديم الامر بالإزالة ، اما لضيق وقتها ، واما لأهميتها ، لم يبق مجال لاستكشاف الملاك للصلاة كما هو الشأن في جميع موارد التعارض ، حيث إنه لا يمكن القول ببقاء الملاك لاحد المتعارضين عند تقديم الآخر لاحد موجبات التقديم.

ففساده غنى عن البيان ، لوضوح انه ليس المقام من باب التعارض ، بل من باب التزاحم ، وكم بين البابين من الفرق بحيث لا يمكن ان يشتبه أحدهما بالآخر.

ص: 316

وحيث انجر الكلام إلى ذلك ، فلا بأس بتفصيل الكلام في التزاحم واحكامه ، حيث إن الاعلام أهملوا ذلك ، مع أنه مما يترتب عليه فروع كثيرة ، وكان حقه ان يفردوا له عنوانا مستقلا. وعلى كل حال : ان تفصيل القول في التزاحم يقع في مقامات ثلاثة :

المقام الأول

اشارة

في الفرق بين التزاحم والتعارض.

وتوضيح الفرق : هو انه يفترق باب التعارض عن باب التزاحم من جهات :

( الجهة الأولى )

هي ان باب التعارض يرجع إلى تعاند المدلولين في مقام الثبوت ، بحيث لا يمكن جمعهما في مرحلة الجعل والتشريع ، لاستلزامه التناقض واجتماع الإرادة والكراهة في نفس الآمر بالنسبة إلى متعلق واحد ، أو لزوم التكليف بما لا يطاق لتضاد المتعلقين ذاتا مع اتحادهما في الحكم ، كما إذا أوجب القيام دائما وأوجب القعود كذلك ، أو لتلازم المتعلقين تلازما دائميا مع اختلافهما في الحكم ، كما إذا أوجب استقبال المشرق وحرم استدبار المغرب ، أو غير ذلك مما لا يمكن فيه الجمع بين الحكمين ثبوتا لتعاندهما في مقام تشريع الاحكام على موضوعاتها المقدرة وجوداتها ، بحيث يلزم من الجمع : اما اجتماع الإرادة والكراهة في موضوع واحد ، واما لزوم التكليف بما لا يطاق ، كل ذلك في مقام الجعل والتشريع.

وهذا بخلاف باب التزاحم ، فإنه لم يكن بين الحكمين المتزاحمين منافرة وتعاند في مقام الجعل والتشريع ، بل كان بينهما كمال الملائمة والموافقة ، وانما نشأ التعاند في مقام فعلية الحكمين وتحقق موضوعهما خارجا ، كالمزاحمة بين انقاذي الغريقين ، أو بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها ، أو غير ذلك من اقسام التزاحم على ما يأتي بيانه ، فإنه لا محذور في تشريع انقاذ كل غريق ، أو تشريع حرمة التصرف في ملك الغير ووجوب انجاء المؤمن من الهلكة ، إذ لا ربط لاحد الحكمين بالآخر ، بل شرع كل منهما على موضوعه المقدر وجوده من دون ان يستلزم ذلك التشريع اجتماع الإرادة والكراهة في شيء واحد ، أو التكليف بما لا يطاق ، بل اتفق التزاحم في مقام

ص: 317

الفعلية كما إذا اتفق انه صار التصرف في ملك الغير مقدمة لانجاء المؤمن ، أو اتفق عدم التمكن من انقاذ كل من الغريقين ، فان هذا الاتفاق لا يضر بذلك التشريع والجعل أصلا.

( الجهة الثانية )

هي ان نتيجة تقديم أحد المتعارضين على الاخر - بأحد وجوه التقديم المذكورة في محلها - ترجع إلى رفع الحكم عن موضوعه. وفي باب التزاحم ترجع إلى رفع الحكم برفع موضوعه ، مثلا في العامين من وجه ، لو حكمنا أكرم العلماء على لا تكرم الفساق في مورد الاجتماع يكون نتيجة التحكيم هو رفع حكم لا تكرم عن موضوعه ، حيث إنه مع بقاء زيد العالم مثلا على فسقه ومع قدرة المكلف على اكرامه يرتفع حكمه. واما في مثل الغريقين ، لو قدمنا أحدهما على الآخر لاحد موجبات التقديم في باب التزاحم تكون نتيجة التقديم هو سلب قدرة المكلف عن انقاذ الاخر وتعجيزا مولويا بالنسبة إليه ، لوجوب صرف قدرته إلى الأهم ، فعدم وجوب انقاذه لعدم قدرته عليه ، حيث إن الممتنع الشرعي كالممتنع العقلي.

( الجهة الثالثة )

هي ان المرجحات لاحد المتعارضين على الاخر كلها ترجع ، اما إلى باب الدلالة ، واما إلى باب السند. واما في باب التزاحم : فالمرجحات هي أمور آخر لا ربط لها بباب الدلالة والسند ، بل ربما يقدم ما هو أضعف دلالة وسندا على ما هو الأقوى ، نعم : ربما يكون بعض المرجحات مرجحا لكلا البابين ، لكن لا بمناط واحد بل بمناطين ، كالأهمية مثلا ، حيث إنه في باب التعارض تكون مرجحة أيضا في بعض الأحيان ، كما قيل فيما لو تعارض الأمر والنهي قدم جانب النهى ، لأهمية التحرز عن المفسدة ، أو أولوية دفعها عن جلب المصلحة. وفي باب التزاحم أيضا يقدم ما هو الأهم ، لكن مناط التقديم ليس من جهة ان في النهى مفسدة ، بل امر آخر بحسب ما يقتضيه المقام ، وكتقديم ما لا بدل له على ماله البدل ، فإنه في باب التعارض يقدم ذلك من باب ان ما لا بدل له يكون حاكما ومبينا لما له البدل ، كما في مثل تقديم العام الأصولي والمطلق الشمولي على المطلق البدلي. وفي باب التزاحم

ص: 318

أيضا يقدم ما لا بدل له ، لكن لا بذلك المناط ، بل بمناط ان ماله البدل لا يصلح ان يكون معجزا مولويا لما لا بدل له ، بخلاف العكس - على ما سيأتي توضيحه انشاء اللّه تعالى وبالجملة : المرجحات في أحد البابين أجنبية عن المرجحات في الباب الاخر.

( الجهة الرابعة )

هي ان التزاحم انما يكون باعتبار الشرائط المعتبرة في التكليف التي يمكن وضعها ورفعها في عالم التشريع ، فمثل العقل والبلوغ من الأمور التكوينية المعتبرة في التكليف لا يقع فيها التزاحم ، بل الذي يقع فيه التزاحم هو خصوص القدرة ، حيث إن للشارع تعجيز العبد وصرف قدرته إلى أحد الواجبين في عالم التشريع ، وان كان قادرا في عالم التكوين.

وان شئت قلت : ان التزاحم انما يكون في الشرائط التي ليس لها دخل في الملاك ، بل كانت من شرائط حسن الخطاب ، فمثل البلوغ والعقل اللذين لهما دخل في ثبوت الملاك ليسا موقعا للتزاحم ، وانما الذي يكون موقع التزاحم هو خصوص القدرة التي هي من شرائط حسن الخطاب ،

نعم : قد يتفق التزاحم في غير باب القدرة ، كما في بعض فروع الزكاة مثل ما إذا كان مالكا لخمس وعشرين من الإبل في ستة أشهر ، ثم ملك واحدة أخرى ، فمقتضى القاعدة الأولية هو انه عند انقضاء حول الخمس والعشرين يؤدى خمس شياه ( لكل خمس شاة ) وبعد انقضاء ستة أشهر الذي به يتم حول الستة والعشرين يؤدى ( بنت لبون ) زكاة الست والعشرين ، فيلزمه في كل ستة أشهر زكاة. ولكن بعد ما قام الدليل على أنه لا يزكى المال في عام مرتين ، يقع التزاحم بين حول النصاب الخمس والعشرين والست والعشرين ولا بد من سقوط ستة أشهر من حول أحدهما ، ولعله يتفق التزاحم في غير هذا المورد ، الا ان الغالب في باب التزاحم هو التزاحم في القدرة.

وعلى كل حال ، فقد ظهر لك الفرق بين باب التزاحم وباب التعارض ، وان بينهما بونا بعيدا ، بحيث لا يمكن ان يشتبه أحدهما بالآخر ، فلا محل بعد ذلك لان يقال : ان الأصل في الدليلين المتنافيين هو التزاحم ، أو التعارض ، إذ لم يكن مورد

ص: 319

يصلح لكل منهما حتى يبحث عما هو الأصل عند الشك.

ومن جميع ما ذكرنا ظهر أيضا ضعف ما في بعض الكلمات : من ارجاع باب التزاحم إلى تزاحم المقتضيين ، والتعارض إلى تعارض المقتضى واللا مقتضى ، وجعل مثل أكرم العلماء ولا تكرم الفساق من باب التزاحم لوجود المقتضى لكل منهما ، وليسا من باب التعارض. وذلك لان مجرد تزاحم المقتضيين لا يصحح الاندراج في باب التزاحم المقابل لباب التعارض ، والا لكان جميع موارد التعارض من باب التزاحم ، لكاشفية كل دليل عن ثبوت المقتضى لمؤداه ، فيلزم ان يكون جميع موارد تعارض الدليلين من تزاحم المقتضيين.

فالعبرة في التزاحم انما يكون بتزاحم الحكمين في مقام الفعلية لا تزاحم المقتضيين ، والا فقد يتزاحم المقتضيان ثبوتا في نفس الامر ولا محالة يقع الكسر والانكسار بينهما ، فينشأ الحكم على طبق أحدهما ان ترجح في نظره أحد المقتضيين ، والا فعلى كل منهما تخييرا. وليس ذلك من تزاحم الحكمين ، ولذا يعتبر في باب التزاحم ان يكون المكلف عالما بالحكم واصلا إليه ، لان الحكم الذي لم يصل إلى المكلف لا يمكن ان يكون مزاحما لغيره ، لان المزاحمة انما تنشأ من شاغلية كل من الحكمين عن الآخر واقتضاء صرف القدرة إليه ، والحكم الغير الواصل لايكون شاغلا لنفسه ، فكيف يكون شاغلا عن غيره؟ فالتزاحم لايكون الا بعد العلم والوصول. وهذا لا ربط له بتزاحم المقتضيين ، لان تزاحم المقتضيين انما يكون في عالم الثبوت ونفس الامر من دون دخل لعلم المكلف وجهله ، فارجاع باب التزاحم إلى تزاحم المقتضيين مما لا يستقيم ، وسيأتي مزيد توضيح لذلك انشاء اللّه تعالى في مبحث اجتماع الأمر والنهي.

المقام الثاني

في منشأ التزاحم وهو أمور خمسة :

الأول : تضاد المتعلقين ، بمعنى انه اجتمع المتعلقان في زمان واحد ، بحيث لا يمكن للمكلف فعلهما ، كما في الغريقين ، والإزالة والصلاة ، وأمثال ذلك مما اجتمع المتعلقان في زمان واحد.

ص: 320

الثاني : عدم قدرة المكلف على فعل كل من المتعلقين مع اختلاف زمانهما ، كما إذا لم يتمكن من القيام في الركعة الأولى والثانية معا ، بل كان قادرا على القيام في أحدهما فقط. والفرق بين هذا وسابقه : هو ان عدم القدرة في هذا الوجه ناش عن عجز المكلف في حد ذاته عن فعل المتعلقين ، وفي سابقه كان ناشئا عن وحدة زمان المتعلقين ، من دون ان يكون المكلف في حد ذاته عاجزا لولا اتحاد الزمان.

الثالث : تلازم المتعلقين مع اختلافهما في الحكم ، كما إذا وجب استقبال القبلة وحرم استدبار الجدي ، مع تلازمهما في بعض الأمكنة.

الرابع : اتحاد المتعلقين وجودا ، كما في موارد اجتماع الأمر والنهي بناء على الجواز ، وسيأتي في مبحث اجتماع الأمر والنهي انشاء اللّه تعالى توضيح هذا الوجه والفرق بينه وبين الاتحاد المصداقي ، كالعالم الفاسق ، وان الثاني ليس من باب التزاحم.

الخامس : صيرورة أحد المتعلقين مقدمة وجودية لمتعلق الاخر ، كما إذا توقف انجاء المؤمن على التصرف في ملك الغير بغير رضاه. وليعلم ان هذه الأمور انما تكون من باب التزاحم إذا كان وقوعها اتفاقيا لا دائميا ، بحيث اتفق تضاد المتعلقين واجتماعهما في الزمان ، أو اتفق عدم قدرة المكلف على جمعهما ، أو اتفق تلازم المتعلقين ، أو اتحادهما ، أو مقدمية أحدهما للاخر.

وأما إذا كان التضاد أو التلازم أو الاتحاد أو غير ذلك من الأمور المذكورة دائميا ، فيخرج عن باب التزاحم ويندرج في باب التعارض ، على ما تقدم من الضابط بين البابين ، فان دائمية ذلك توجب امتناع جعل الحكمين وتشريعهما ثبوتا ، كما لا يخفى. وليعلم أيضا ان التزاحم انما يتحقق بعد البناء على كون الاحكام مجعولة على نهج القضايا الحقيقية. واما لو قلنا بجعلها على نهج القضايا الخارجية فالتزاحم غير معقول ، بل جميع ذلك يكون من التعارض ، لأنه يرجع إلى امتناع الجعل أيضا كما لا يخفى وجهه.

المقام الثالث

اشارة

في مرجحات باب التزاحم وهي أيضا أمور :

ص: 321

( الامر الأول )

ترجيح ما لا بدل له ، على ما له البدل عرضا ، كما لو زاحم واجب موسع له افراد تخييرية عقلية لمضيق لا بدل له ، أو زاحم أحد افراد الواجب التخييري الشرعي لواجب تعييني ، فإنه لا اشكال في تقديم ما لا بدل له على ما له البدل ، بل هذا في الحقيقة خارج عن باب التزاحم ، وانما يكون التزاحم فيه بالنظر البدوي ، لان ما لا اقتضاء له لا يمكن ان يزاحم ما فيه الاقتضاء ، فان الواجب المضيق يقتضى صرف القدرة له في زمانه ، والواجب الموسع لا يقتضى صرف القدرة في ذلك الزمان ، لأن المفروض انه موسع ، فلا معنى لمزاحمته للمضيق ، وذلك واضح.

( الامر الثاني )

من المرجحات ، ترجيح ما لايكون مشروطا بالقدرة الشرعية على ما يكون مشروطا بها ، والمراد من القدرة الشرعية هي ما إذا اخذت في لسان الدليل ، كما في الحج وأمثاله مما قيد المتعلق بالقدرة في نفس الخطاب. والسر في ترجيح ما لايكون مشروطا بالقدرة الشرعية على ما يكون مشروطا بها ، هو ان الغير المشروط بها يصلح لان يكون تعجيزا مولويا عن المشروط بها ، حيث إن وجوبه لم يكن مشروطا بشرط سوى القدرة العقلية ، والمفروض انها حاصلة فلا مانع من وجوبه ، ومع وجوبه يخرج ما كان مشروطا بالقدرة الشرعية عن تحت سلطانه وقدرته شرعا ، للزوم صرف قدرته في ذلك ، فإذا لم يكن قادرا شرعا لم يجب ، لانتفاء شرط وجوبه ، وهو القدرة.

والحاصل : ان ما يكون مشروطا بالقدرة العقلية يصلح ان يكون معجزا مولويا عما يكون مشروطا بالقدرة الشرعية ، لان وجوبه لا يتوقف على أزيد من القدرة العقلية الحاصلة بالفرض ، ومع التعجيز المولوي لم يتحقق شرط وجوب الواجب الاخر ، وهذا من غير فرق بين فعلية وجوب ما لايكون مشروطا بالقدرة الشرعية لمكان تحقق شرائط وجوبه ، وبين ما إذا كان مشروطا بشرط لم يتحقق بعد ، غايته ان المزاحم لما يكون مشروطا بالقدرة الشرعية نفس وجوب الواجب الغير المشروط بها على الأول ، أي إذا كان وجوب الغير فعليا قد تحقق زمان امتثاله. وعلى الثاني يكون المزاحم هو الخطاب الطريقي العقلي وهو خطاب احفظ قدرتك.

وبعبارة أخرى : المزاحم هو عدم جواز تفويت القدرة ، فان وجوب حفظ

ص: 322

القدرة وعدم جواز تفويتها لا يتوقف على فعلية وجوب ما يجب حفظ القدرة له ، على ما تقدم تفصيله في المقدمات المفوتة. وكذا لافرق بين ان يكون الغير المشروط بالقدرة الشرعية أهم مما يكون مشروطا بها ، أو مساويا له ، أو أضعف منه ، لأنه على جميع التقادير يكون معجزا مولويا ، اما بنفسه ، واما بخطاب لزوم حفظ القدرة له ، فأي واجب فرض يكون مقدما على الحج مثلا عند المزاحمة ، سواء كان أهم من الحج أو أضعف ، وسواء كان وجوبه فعليا ، أو مشروطا بشرط يتحقق بعد ذلك. كل ذلك لمكان عدم اشتراط ذلك الواجب بالقدرة الشرعية.

ثم إن في المقام اشكالا ربما يختلج في البال ، وحاصله : انه لا طريق لنا إلى معرفة تقييد المتعلق بالقدرة شرعا وعدم تقييده ، لأنه في غير المقام لو شك في التقييد وعدمه فالاطلاق يدفعه ، واما في المقام فلا سبيل إلى دفع احتمال التقييد باطلاق الخطاب.

اما أولا : فلما عرفت من أن كل خطاب بنفسه يقتضى القدرة على متعلقه ، لان حقيقة الخطاب ليس الا ترجيح أحد طرفي المقدور ، فاعتبار القدرة على المتعلق وتقييده بها انما يكون من مقتضيات نفس الخطاب ، بناء على ما هو الحق عندنا من أن المدرك في اعتبار القدرة انما هو اقتضاء الخطاب ذلك ، لا مجرد حكم العقل بقبح تكليف العاجز. وعليه بنينا فساد مقالة المحقق الكركي من صحة اتيان الفرد الواجب الموسع المزاحم للمضيق امتثالا للامر بالطبيعة المنطبقة عليه قهرا فيجزى عقلا. ومع اقتضاء كل امر القدرة على متعلقه كيف يصح التمسك باطلاق الامر على عدم تقييد المتعلق بالقدرة ، حتى يقال : ان القدرة المعتبرة فيه عقلية لا شرعية ، فيقدم على ما قيد بالقدرة الشرعية عند المزاحمة ، بل نتيجة اقتضاء الخطاب القدرة على متعلقة هو ان القدرة في جميع التكاليف تكون شرعية ، وليس لنا ما يكون القدرة المعتبرة فيه عقلية محضة ليترتب عليها ما يترتب.

واما ثانيا : فلانه هب ان اقتضاء الخطاب ذلك لا يوجب تقييد المتعلق شرعا بالقدرة ، الا انه لا أقل من أن يكون من قبيل احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية المانع من التمسك بالاطلاق ، لأنه لا اشكال في صلاحية اقتضاء الخطاب

ص: 323

لان يكون مقيدا شرعا ، وكفاية اكتفاء الشارع بذلك عن التصريح بتقييد المتعلق بالقدرة ، ومع هذه الصلاحية كيف يجوز التمسك باطلاق المتعلق على عدم اخذ القدرة قيدا له؟.

واما ثالثا : فلان التمسك بالاطلاق في رفع ما شك في قيديته في سائر المقامات انما هو لأجل مقدمات الحكمة ، التي منها لزوم نقض الغرض ، وايقاع المكلف في خلاف الواقع ، لو كان المشكوك في الواقع قيدا ، فمن عدم بيانه نستفيد انه لم يكن في الواقع قيدا. وهذا البيان في المقام لا يتمشى لان المتعلق لو كان في الواقع مقيدا بالقدرة وكانت القدرة لها دخل في ملاكه لم يلزم من اهمال ذكر القدرة نقض الغرض ولا ايقاع المكلف في خلاف الواقع لأنه لا يمكنه فعل غير المقدور حتى يقع في خلاف الواقع. فلا مجال ح للتمسك بالاطلاق لعدم قيدية القدرة.

وهذا الاشكال يرد على كلا المسلكين في كيفية اعتبار القدرة ، من كونها من مقتضيات الخطاب كما هو الحق عندنا ، أو كونها من باب حكم العقل بقبح مطالبة العاجز ، لان مقدمات الحكمة لا تجرى على كل تقدير.

ولا يخفى عليك : ان هذا الاشكال يوجب هدم أساس ما قلناه من صحة الضد إذا كان عبادة بالملاك كما عليه بعض الاعلام ، أو بالامر الترتبي كما هو الحق عندنا ، لأنه لا طريق لنا إلى استكشاف الملاك واشتمال الصلاة مثلا على المصلحة الا من ناحية اطلاق الامر وعدم تقييد المتعلق بالقدرة ، فلو لم يكن للامر اطلاق كما حرر في وجه الاشكال ، فمن أين يمكن استفادة الملاك في صورة سقوط الامر للمزاحمة؟ حتى نقول ان سقوط الامر لا يوجب سقوط الملاك فتصح العبادة به أو بالامر الترتبي.

وبالجملة : بعد تقييد المتعلق بالقدرة ، أو احتمال تقييده - على اختلاف وجوه تقرير الاشكال ، حيث إن على بعض وجوهه يوجب التقييد ، كما هو مقتضى الوجه الأول ، وعلى بعض وجوهه يحتمل التقييد كما هو مقتضى الوجهين الأخيرين - لا يمكن دعوى بقاء الملاك عند سقوط الامر بالمزاحمة.

ولعله لأجل ذلك حكى عن صاحب الجواهر : المنع عن ثبوت الملاك ، بعد

ص: 324

المنع عن كفايته في صحة العبادة واحتياج العبادة إلى الامر. فعلى كل من قال بصحة العبادة بالملاك أو بالامر الترتبي دفع هذا الاشكال. كما أنه يتوقف على دفعه دعوى ترجيح ما لايكون مشروطا بالقدرة الشرعية على ما يكون مشروطا بها عند المزاحمة ، لان مقتضى الاشكال هو ان جميع التكاليف مشروطة بالقدرة الشرعية ، فليس هناك واجب لم يكن مشروطا بها حتى يقدم على ما يكون مشروطا بها ، هذا.

والذي ينبغي ان يقال في حل الاشكال على الوجه الأخير من وجوه تقريره : هو انه ليس من مقدمات الحكمة لزوم ايقاع المكلف في خلاف الواقع ، حتى يقال في المقام انه لا يلزم ذلك ، بل الذي نحتاج إليه في مقدمات الحكمة هو كون المتكلم في مقام بيان مراده ، وحيث لم يبين القيد فلا بد ان يكون مراده الاطلاق.

والحاصل : انه يكفي في صحة التمسك بالاطلاق مجرد عدم بيان القيد مع أنه كان بصدد بيان مراده. ولا نحتاج في التمسك بالاطلاق إلى توسيط لزوم وقوع المكلف في مخالفة الواقع ، مع أنه في المقام أيضا يلزم ذلك لو كانت القدرة المعتبرة قيدا في المتعلق ، لوضوح ان المراد من القدرة الأعم من القدرة العقلية المقابلة للعجز العقلي ، أو القدرة الشرعية المقابلة للعجز الشرعي ، فلو كان المتعلق مقيدا ثبوتا بالقدرة عليه وعدم العجز عنه ومع ذلك لم يبينه في لسان الدليل واخل ببيان ذلك يلزم أحيانا وقوع المكلف في مخالفة الواقع ، لأنه ربما يتخيل المكلف انه قادر على ايجاد المتعلق شرعا فيأتي به ، مع أنه عاجز عنه شرعا ، فيلزم وقوعه في خلاف الواقع من جهة عدم تقييد المولى المتعلق بالقدرة ، فإنه لو قيده بذلك لم يلزم ذلك. مثلا لو كانت الصلاة مقيدة بالقدرة عليها وعدم العجز عنها ولو شرعا ، بان اعتبر فيها عدم العجز الشرعي عنها ، ومع ذلك أخل ببيان ذلك في لسان الدليل ، فقد يكون الشخص عاجزا عن الصلاة شرعا لمكان مزاحمتها بالأهم ، ومع هذا يغره اطلاق الامر بالصلاة وعدم تقييدها بالقدرة عليها فيأتي بها ، مع أنه لو لم يخل ببيان التقييد لم يأت بها ، فالاتيان بها وايقاع الشخص في مخالفة الواقع انما جاء من قبل الاطلاق.

فدعوى : ان اعتبار القدرة في المتعلق لا يضر بايراد الكلام مطلقا ولا قبح في

ص: 325

الاخلال ببيانه لأنه لا يلزم منه مخالفة الواقع ، فاسدة جدا. فالانصاف انه لو كان المدرك في اعتبار القدرة في التكاليف مجرد حكم العقل بقبح تكليف العاجز وأغمضنا عن أن ذلك من مقتضيات نفس الخطاب ، لكان التمسك بالاطلاق في رفع احتمال قيدية القدرة ودخلها في الملاك في محله. فالتقرير الثالث من وجوه تقرير الاشكال ساقط.

نعم : يبقى التقرير الأول والثاني منه ، وقد عرفت ان هذين التقريرين انما يردان بناء على المختار : من أن اعتبار القدرة ليس لمجرد حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، بل لمكان اقتضاء الخطاب ذلك.

والتحقيق في حل الاشكال بناء على المختار هو ان هذا الاقتضاء الآتي من قبل الخطاب لا يمكن ان يكون مقيدا للمتعلق وغير صالح لذلك ، وتوضيح ذلك : هو ان للاطلاق جهتين : جهة اثباته للمراد ، وجهة كشفه عن قيام الملاك بالمتعلق.

والمحرز للجهة الأولى هو مقدمات الحكمة من كون المتكلم في مقام بيان المراد وعدم ذكر القيد ، فلا بد ان يكون مراده الاطلاق. وهذه المقدمات وحدها لا تنفع في احراز الجهة الثانية ، لأنه لا يمكن اثبات كون المتكلم في مقام بيان ما قام به الملاك ومتى كان المتكلم في مقام بيان ذلك بل يحتاج في اثبات قيام الملاك بالمتعلق إلى مقدمة أخرى وهي : ما ذهب إليه العدلية من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد الكامنة في مسألة المتعلقات ، ولولا هذه المقدمة لم يكن لنا طريق إلى قيام الملاك بالمتعلق ، فاطلاق الامر بضميمة تلك المقدمة يكون كاشفا عن قيام الملاك بذات المتعلق والمادة ، فلا بد ان يكون ذات المتعلق مما قام به الملاك ثبوتا ، ليتطابق عالم الاثبات وعالم الثبوت ، والكاشف والمنكشف ، فالاطلاق يكشف عن قيام الملاك بما يرد عليه الهيئة ، والذي يرد عليه الهيئة هو نفس المتعلق بلا قيد وان كان بورود الهيئة يتقيد ، فالتقييد الآتي من قبل الهيئة لا ينافي اطلاق ما يرد عليه الهيئة.

والذي ينفعنا في المقام في استكشاف الملاك وعدم قيدية القدرة هو الثاني ، والمفروض ان الكلام فيما إذا كان ما يرد عليه الهيئة مط غير مقيد بالقدرة ، وان كان يتقيد بورود الهيئة. فيصح التمسك بالاطلاق في قيام الملاك بالمتعلق وعدم

ص: 326

تقييده بالقدرة ، فتكون القدرة المعتبرة في مثل هذا عقلية لا شرعية ، وينحصر القدرة الشرعية بما إذا قيد المتعلق بالقدرة ، كما في مثال الحج. فارتفع الاشكال بحذافيره ، فتأمل في المقام جيدا.

إذا عرفت ذلك ، فلنرجع إلى ما كنا فيه من مرجحات باب التزاحم. وقد ظهر لك : ان المرجح الثاني ما كان أحد المتزاحمين غير مشروط بالقدرة الشرعية فإنه يقدم على ما كان مشروطا بها.

( المرجح الثالث )

ترجيح ما لا بدل له شرعا على ما له البدل شرعا ، كما إذا زاحمت الطهارة المائية واجبا آخر لا بدل له ، فإنه يقدم ما لا بدل له على ما له البدل. والسر في ذلك واضح ، لان كل مورد ثبت فيه البدل شرعا لواجب فلا محالة يكون ذلك الواجب مقيدا بالقدرة والتمكن ، لأنه لا معنى لجعل شيء بدلا طوليا لشيء الا كون ذلك البدل مقيدا بالعجز عن ذلك الشيء وعدم التمكن منه ، ولازم ذلك هو تقييد ذلك الواجب بصورة التمكن والقدرة ، سواء وقع التصريح بذلك في لسان الدليل - كما في قوله تعالى : فان لم تجدوا ماء فتيمموا ، حيث إنه قيد التيمم بصورة عدم وجدان الماء فيستفاد منه تقييد الوضوء بصورة وجدان الماء والتمكن منه - أو لم يقع التصريح بذلك في لسان الدليل.

وبالجملة : نفس جعل البدلية الطولية يقتضى التقييد بالقدرة ، فتكون النسبة بين هذا المرجح والمرجح السابق العموم المطلق ، لان كل ماله البدل يكون مقيدا بالقدرة الشرعية ، وليس كل ما يكون مقيدا بالقدرة الشرعية له البدل ، كما هو واضح.

فالوضوء إذا زاحم واجبا آخر من واجبات الصلاة يسقط وينتقل التكليف إلى التيمم ، من غير فرق في ذلك بين الوقت وغيره ، فلو دار الامر بين الوضوء وادراك ركعة أو أزيد من الوقت وبين التيمم وادراك جميع الوقت ، قدم الوقت وتيمم ليدرك جميع الوقت.

واما توهم ان الوقت أيضا مما ثبت له البدل ، حيث إن الظاهر من

ص: 327

قوله : (1) من أدرك ركعة من الوقت فقد أدرك الوقت جميعا ، هو بدلية الركعة من الوقت عن جمع الوقت ، فيكون الوقت أيضا مقيدا بالقدرة كتقييد الوضوء بها ، فلا وجه لتقديمه على الوضوء عند المزاحمة ، بل لا بد اما من التخيير ، واما من ملاحظة الأهمية على الوجهين الآتيين في تزاحم الواجبين المشروطين بالقدرة الشرعية - ولعله لذلك حكى عن بعض الاعلام تقديم الوضوء عند مزاحمته للوقت - فهو في غاية الفساد ، لوضوح ان الوقت غير مقيد بالقدرة من أول الامر كتقييد الوضوء بها كذلك ، بل بعد فرض تحقق العجز عن المكلف وعدم تمكنه من الوقت واداركه له ، جعل الشارع ادراك الركعة من الوقت بمنزلة ادراك جميع الوقت.

والحاصل : انه فرق بين تقييد الشيء من أول الامر بالقدرة اما بلا واسطة واما بواسطة جعل البدلية ، وبين جعل شيء بدلا عن شيء بعد فرض تحقق العجز خارجا وعدم تمكن المكلف منه كذلك ، أي بعد فرض عدم التمكن خارجا ، فان الثاني لا يقتضى التقييد بالقدرة شرعا ، بل أقصاه جعل البدلية بعد فرض العجز عن القدرة العقلية. ومسألة من أدرك ركعة من الوقت فقد الخ يكون من هذا القبيل ، فتأمل جيدا.

وعلى كل حال ، قد ظهر : ان المرجح الثالث من مرجحات باب التزاحم هو ترجيح ما لا بدل له شرعا على ما له الدبل. وفي هذه المرجحات الثلاثة لا يلاحظ مسألة الأهمية والمهمية ، ولا السبق واللحوق الزماني. فيقدم ما لا بدل له أو ما لم يكن مشروطا بالقدرة الشرعية ، على ماله البدل أو المشروط بالقدرة الشرعية وان تأخر زمان امتثاله أو زمان خطابه ، إذا فرض تمامية ملاكه ، كالصلاة قبل الوقت ، حيث تقدم منا في الواجب المعلق : انه يستفاد من وجوب حفظ الماء قبل الوقت تمامية ملاك الصلاة قبله ، وان الوقت شرط للخطاب بالصلاة لا لملاكها.

وحينئذ لو فرض قبل الوقت انه توجه عليه تكليف له بدل أو مشروط بالقدرة الشرعية وكان الاشتغال به يوجب سلب القدرة عن الصلاة في وقتها ،

ص: 328


1- لم نجد حديثا بهذه العبارة ، ولعله مصطاد من روايات الباب ، راجع الوسائل باب 30 من أبواب المواقيت والمستدرك باب 24 منه.

فمقتضى القاعدة ترك الاشتغال بذلك الواجب ووجوب حفظ قدرته للصلاة في وقتها كما تقدم. نعم لو فرض عدم ثبوت الملاك للصلاة قبل وقتها وكان ملاكها كخطابها مشروطا بالوقت ، كان اللازم الاشتغال بذلك الواجب الذي له بدل أو المشروط بالقدرة الشرعية ، حيث لا مزاحم له فعلا ، بل في الحقيقة هذا خارج عما نحن فيه ، فتأمل. (1).

فتحصل : انه في هذه المرجحات الثلاث لا يلاحظ الأهمية ، ولا السبق واللحوق الزماني ، نعم : لو فرض تساوى المتزاحمين من هذه المرجحات ، بان كان كل من المتزاحمين مشروطا بالقدرة الشرعية ، أو كان كل منهما مشروطا بالقدرة العقلية ، فتصل النوبة ح إلى الترجيح بالأهمية والمهمية ، والسبق واللحوق.

وتفصيل ذلك : هو ان لو تزاحم الواجبان المتساويان من جهة المرجحات الثلاثة المتقدمة ، فاما ان يكون الواجبان كل منهما مشروطا بالقدرة الشرعية ، واما ان يكون كل منهما مشروطا بالقدرة العقلية. فان كان الأول ، فلا يخلو اما ان يتقدم زمان امتثال أحدهما أو لا يتقدم ، فان تقدم زمان امتثال أحدهما فهو المتقدم ، وفي مثل هذا لا يلاحظ أهمية المتأخر وعدم أهميته ، لأن المفروض انه ليس هناك الا ملاك واحد ، حيث إنه لا يمكنه الجمع بينهما ، وكانت القدرة في كل منها معتبرة في الملاك ، ومع عدم القدرة على كل منهما لا يتحقق الملاك في كل منهما ، بل ليس هناك الا ملاك واحد ، فلا موقع لملاحظة الأهمية والمهمية ، فان لحاظ ذلك يستدعى ثبوت ملاكين ، فلا محيص من ترجيح المتقدم زمان امتثاله ، لقدرته عليه فعلا وعدم ما يوجب سلب قدرته عنه شرعا. فلو فرض انه نذر صوم يوم الخميس ، وصوم يوم الجمعة ، وبعد ذلك عرض له ما يمنعه من الجمع بين صوم اليومين ، ودار امره بين صوم أحدهما وترك الآخر ، كان مقتضى القاعدة تقديم صوم يوم الخميس وترك صوم يوم الجمعة ، لتقدم زمان امتثال الأول وعدم مانع شرعي عنه ، لاعتبار القدرة

ص: 329


1- وجهه : هو انه يمكن ان يقال بلزوم حفظ القدرة في هذا الفرض أيضا ، للعلم بتحقق الملاك التام بعد ذلك ، فيكون اشتغاله بذلك الواجب موجبا لتفويت الملاك في موطنه ، فتأمل - منه.

الشرعية في كل منهما ، حيث إن خطاب الوفاء بالنذر مشروط بالقدرة الشرعية ، لان دليل الوفاء بالنذر تابع لما التزم به المكلف على نفسه ، وما التزم به المكلف على نفسه هو الفعل المقدور ، فقد اخذ المكلف في الالتزام القدرة ، وخطاب الوفاء متأخر عن الالتزام فالخطاب يرد على الفعل الذي اخذت القدرة فيه في المرتبة السابقة على ورود الخطاب ، فيكون كما إذا قيد المتعلق في لسان الدليل بالقدرة صريحا ، فتأمل جيدا.

وبعد ما ظهر ان النذر مشروط بالقدرة الشرعية ، ففي الفرع المتقدم - من تزاحم الواجبين المشروط كل منها بالقدرة الشرعية مع تقدم زمان امتثال أحدهما على الآخر - فقد عرفت ان المتقدم زمان امتثاله هو المتقدم ، وكذا إذا فرض اتحاد زمان امتثالهما ولكن تقدم زمان خطاب أحدهما ، كما إذا وجب عليه فعل شيء معين في وقت خاص مشروط بالقدرة الشرعية ، وصادف توجه واجب آخر مشروط بالقدرة الشرعية في ذلك الوقت ، فإنه يقدم الأول لمكان سبق خطابه ، فيكون خطاب السابق قد شغل ذلك الوقت ، فلم يبق موقع للواجب الآخر ، الا إذا كان السابق مشتملا على خصوصية توجب تأخره وتعين امتثال اللاحق خطابه ، كما في النذر وشبهه ، حيث إنه يعتبر فيه ان لايكون موجبا لتحليل حرام أو تحريم حلال ، سواء كان نفس متعلقه حراما ، كما إذا نذر ما يحرم فعله لولا النذر ، أو كان ملازما لذلك (1) كما إذا نذر ما يوجب تفويت واجب لولا النذر. كما لو نذر زيارة الحسين علیه السلام يوم عرفة قبل أشهر الحج ، ثم حصلت له الاستطاعة في أشهر الحج ، فان مقتضى القاعدة انحلال النذر وتعين الحج عليه ، وان تقدم خطاب الوفاء بالنذر وكان كل من النذر والحج مشروطا بالقدرة الشرعية.

والسر في ذلك : هو ان النذر في المقام يوجب تفويت الحج الواجب لولا النذر ، وتفويت الواجب كذلك يوجب انحلال النذر ، والمفروض ان الحج لولا

ص: 330


1- ولا يخفى عليك ان الظاهر من تحليل الحرام هو ان يكون نفس المتعلق موجبا لذلك ، بان نذر ما هو حرام أو نذر ترك واجب ، لا ما إذا استلزم ذلك كما في المقام ، فتأمل. منه

النذر كان واجبا لحصول ما هو شرط وجوبه وهو الاستطاعة ، فلا مانع من وجوبه سوى النذر ، والنذر لا يصلح ان يكون مانعا ، لأنه قد اعتبر في انعقاد النذر ان لايكون موجبا لتحليل الحرام ولو بالاستلزام ، فالنذر والحج وان اشتركا في اخذ القدرة الشرعية في متعلقهما ، الا ان النذر قد اشتمل على خصوصية أوجبت عدم مزاحمته للحج وتقدم الحج عليه ، وتلك الخصوصية هي عدم كونه موجبا لتحليل ما هو حرام أو واجب لولا النذر ، والحج واجب لولا النذر فلا بد من انحلاله.

فانحلال النذر في مثل هذا ليس لمكان اعتبار الرجحان في متعلقه حال الفعل حتى يستشكل بأنه يكفي الرجحان حال النذر ، وزيارة الحسين علیه السلام يوم عرفة في حال النذر كانت راجحة لعدم تحقق الاستطاعة بعد ، فلا موجب لانحلاله. أو يفرض الكلام في العهد واليمين الذين لا يعتبر الرجحان في متعلقهما - ولعله لذلك حكى انه كان عمل صاحب الجواهر ( قده ) على ذلك ، حيث كان ينذر قبل أشهر الحج زيارة الحسين علیه السلام يوم عرفة لئلا يتوجه عليه خطاب الحج في اشهره - بل إن انحلال النذر انما هو لمكان استلزامه تفويت واجب لولا النذر.

فان قلت :

ان هذه الخصوصية لا تختص بالنذر ، بل ورد في باب الشروط والصلح وغير ذلك أن لايكون موجبا لتحليل الحرام أو تحريم الحلال. وح يلزم وجوب الحج عليه إذا آجر نفسه قبل أشهر الحج لعمل كذائي في يوم عرفة ، ثم حصلت الاستطاعة له ، فان مقتضى ما تقدم هو بطلان الإجارة ووجوب الحج عليه ، مع أن الظاهر أنه لا يمكن الالتزام به ، وان سبق الإجارة يوجب عدم تحقق الاستطاعة ، فلا يتحقق موضوع وجوب الحج.

قلت :

فرق بين التكليف والوضع ، وكلامنا في المقام من الحيثية الأولى ، وان التكليف بالوفاء بالنذر لا يزاحم تكليف الحج ، فلو فرض ان هناك جهة أخرى من وضع وملكية بحيث كان عمله مملوكا للغير فذلك امر آخر لا ربط له بالجهة التي نحن فيها ، فتأمل.

ص: 331

وحاصل الكلام : ان تصحيح عمل صاحب الجواهر ره لايكون الا بأمرين :

الأول : ان مثل هذا النذر لا يوجب تحليل الحرام ، بل الموجب له هو ما كان متعلقه حراما والمقام ليس كذلك.

الثاني : كفاية الرجحان حال النذر في انعقاده ، وزيارة الحسين علیه السلام يوم عرفة حال النذر كانت راجحة ، لعدم تحقق الاستطاعة في ذلك الحال.

وكل من الامرين محل منع.

اما الامر الأول : فقد عرفت كفاية كون المتعلق مما يوجب تفويت واجب لولا النذر في اندراجه في كونه محللا للحرام.

واما الامر الثاني : فلان المستفاد من أدلة النذر هو اعتبار ان يكون متعلق النذر حال الفعل راجحا ولا عبرة بحال النذر ، وزيارة الحسين علیه السلام حال فعلها مع كون الشخص مستطيعا يجب عليه الحج لولا النذر ليست راجحة ، ولذا لا يصح نذرها بعد أشهر الحج ، وليس المراد من الرجحان هو الرجحان الذاتي ، حتى يقال : ان زيارة الحسين علیه السلام يوم عرفة راجحة ذاتا ولو مع الاستطاعة ، ولذا لو ترك الحج وزار الحسين علیه السلام يوم عرفة فقد يثاب لزيارته وليس ذلك الا لمكان رجحانها الذاتي ، بل المراد من الرجحان المعتبر في متعلق النذر هو الرجحان الفعلي ، بحيث يكون مما رغب فيه شرعا ، وزيارة الحسين علیه السلام في حق المستطيع ليست مما رغب فيها ، ولذا لا يصح نذرها في حال كونه مستطيعا اتفاقا. فيظهر منه ان الرجحان الذاتي لا ينفع.

هذا حاصل ما افاده شيخنا الأستاذ مد ظله في المقام. وعليك بالتأمل في أطراف المسألة وفي أدلة النذر.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان المتزاحمين المشروطين بالقدرة الشرعية يقدم منهما ما هو الأسبق امتثالا أو خطابا ، والا فالتخيير. ولا يلاحظ في مثل هذا الأهمية والمهمية ، فإنه ليس هناك الا ملاك واحد ، فلا معنى لملاحظة الأهمية ، فتأمل.

ص: 332

ولا يخفى عليك : ان التخيير في المشروطين بالقدرة الشرعية عند التساوي غير التخيير في المشروطين بالقدرة العقلية عند التساوي ، فان التخيير في القدرة العقلية انما هو لمكان تقييد كل من الاطلاقين بعدم فعل الاخر ، من دون سقوط أصل الخطابين على أقوى المسلكين فيه كما يأتي ، ولكن في القدرة الشرعية التخيير انما هو لسقوط الخطابين واستكشاف العقل خطابا تخييريا ، لمكان وجود ملاك تام في البين وعدم العلم بمتعلقه ، فيكون التخيير في المشروطين بالقدرة الشرعية كالتخيير في المشروطين بالقدرة العقلية على المسلك الاخر الذي هو خلاف التحقيق عندنا ، وسيأتي بيانه انشاء اللّه تعالى.

واما المتزاحمان المشروطان بالقدرة العقلية : فان كان أحدهما أهم قدم على الآخر سواء تقدم زمان امتثاله أو خطابه أو تأخر ، للزوم حفظ القدرة له فيكون خطابه أو خطاب ( احفظ قدرتك ) معجزا مولويا عن المهم. واما ان لم يكن في البين أهمية ومهمية فالسابق امتثاله هو المقدم ، ولا تصل النوبة إلى التخيير سواء كان من قبيل المقدمة وذيها ، أو كان من قبيل القيام في الركعة الأولى والثانية ، وسواء تنجز التكليف بالمتأخر كمثال القيام أولا ، كما إذا كان المتأخر مشروطا بشرط لم يحصل بعد ، فإنه على جميع التقادير يقدم ما هو الأقدم امتثالا ، الا إذا كان المتأخر أهم ، كما إذا دار الامر بين القيام حال الفاتحة ، أو القيام قبل الركوع ، حيث إن الثاني أهم لركنية ، فان أهمية المتأخر يوجب التعجيز المولوي عن المتقدم ، لمكان انه يتولد من أهمية خطاب ( احفظ قدرتك ) فيكون عاجزا شرعا عن المتقدم.

وأما إذا لم يكن المتأخر أهم كالقيام في الركعة الأولى أو الثانية أو التصرف في ارض الغير لانقاذ مال الغير حيث إنه ليس انقاذ مال الغير أهم من التصرف في ارض الغير ، فمقتضى القاعدة تقديم قيام الركعة الأولى وان أوجب القعود في الثانية ، وترك التصرف في ارض الغير وان أوجب تلف مال الغير المتوقف عليه. والسر في ذلك : هو انه ليس له معجز مولوي عن القيام في الركعة الأولى ، أو ترك التصرف في ارض الغير ، لعدم أهمية المتأخر حتى يلزم حفظ القدرة له ، فليس

ص: 333

خطاب المتأخر شاغلا مولويا عن المتقدم. وإذا لم يكن للمتقدم شاغل مولوي كان هو المتعين ، لحصول القدرة عليه بالفعل ، فلا موجب لتركه ليحفظ قدرته للمتأخر.

وبالجملة : التخيير انما يكون في الواجبين المتساويين من حيث عدم أهمية أحدهما مع اتحاد زمان امتثالهما ، لصلاحية الاشتغال بكل منهما للتعجيز عن الآخر. فالتعجيز في العرضيين انما يكون بالاشتغال بأحدهما لا بنفس الخطاب ، وانما يكون التعجيز بالخطاب إذا كان أحدهما أهم.

واما في غير ذلك فالتعجيز انما يكون بالاشتغال ، لعدم صلاحية الخطاب للتعجيز ، لتساوي كل من الخطابين ، والتعجيز عن أحدهما بالاشتغال بالآخر انما يكون في العرضيين.

واما في الطوليين المتقدم زمان امتثال أحدهما على الآخر ، فلا يتصور فيه التعجيز عن أحدهما بالاشتغال بالآخر ، بل يتعين الاشتغال بالمتقدم لتقدم زمان امتثاله ، وبالاشتغال به يحصل التعجيز عن المتأخر.

فتحصل : انه لا موقع للتخيير في الطوليين ، ولعل منشأ القول بالتخيير هو توهم سقوط الخطابين في المتزاحمين ، واستكشاف العقل من تمامية الملاك في كل منهما وعدم قدرة المكلف على الجمع بينهما خطابا تخييريا شرعيا. واما بناء على المختار : من أن التخيير في المتزاحمين العرضيين انما هو لمكان اشتراط اطلاق كل من الخطابين بعدم فعل الآخر مع بقاء أصل الخطاب ، فلا معنى للتخيير في الطوليين ، إذ ليس المتأخر في رتبة المتقدم حتى يقيد به اطلاق خطاب المتقدم. وسيأتي بيان وجه المختار وضعف القول الأول ، وما يتفرع على القولين من الفروع التي :

منها : تعدد العقاب عند ترك الكل بناء على المختار ، ووحدته بناء على القول الاخر.

ومنها : دوران الامر بين التعيين والتخيير عند احتمال أهمية أحدهما ، بناء على سقوط كلا الخطابين واستكشاف العقل خطابا تخييريا ، فيبنى : اما على البراءة ، أو الاشتغال ، على القولين في مسألة دوران الأمريين التعيين والتخيير.

واما بناء على المختار : من تقييد الاطلاقين ، فلا محيص من القول بالاشتغال

ص: 334

عند أهمية أحدهما ، للقطع بتقييد غير محتمل الأهمية والشك في تقييد محتمل الأهمية ، فيرجع الشك فيه إلى الشك في المسقط.

هذا إذا تقدم زمان امتثال أحد المتزاحمين المشروطين بالقدرة العقلية. وأما إذا اتحد زمان امتثالهما كالغريقين فحينئذ تصل النوبة إلى الترجيح بالأهمية ، فأي منهما أهم يقدم ، لان الامر بالأهم يكون معجزا مولويا عن غيره. ومسألة الأهمية يختلف باختلاف ما يستفاد من الأدلة ومناسبة الحكم والموضوع ، فما كان لحفظ بيضة الاسلام يقدم على كل شيء ، وما كان من حقوق الناس يقدم على غيره ، كما أن ما كان من قبيل الدماء والفروج يقدم على غيره ، واما فيما عدا ذلك فاستفادة الأهمية يحتاج إلى ملاحظة المورد وملاحظة الأدلة.

وعلى كل حال قد ظهر لك : ان الترجيح بالأهمية ، انما هو بعد فقد المرجحات السابقة : من البدلية واللابدلية ، والاشتراط بالقدرة الشرعية وعدم الاشتراط ، وغير ذلك من المرجحات السابقة ، وعند فقد جميع المرجحات يكون الحكم هو التخيير. هذا تمام الكلام في تزاحم الحكمين في التكليف الاستقلالية.

واما الكلام في التزاحم في باب القيود والواجبات الغيرية ، كما لو دار الامر بين ترك جزء أو شرط ، أو دار الامر بين ترك شرط أو شرط آخر ، أو جزء وجزء آخر ، فله عرض عريض ويحتاج إلى بسط من الكلام لا يسعه المقام ، وان كان شيخنا الأستاذ قد تعرض له في هذا المقام على سبيل الاجمال ، الا انا قد اعرضنا عن بيانه لاجمال ما ذكره ( مد ظله ) في هذا المقام. فالأولى عطف عنان الكلام إلى مسألة الترتب التي هي من فروع باب التزاحم ، ووقعت معركة الآراء بين الاعلام خصوصا في زماننا الحاضر.

وينبغي أولا تنقيح ما هو محل النزاع في المقام فنقول : قد عرفت ان اقسام التزاحم خمسة.

الأول : تضاد المتعلقين ، لاجتماعهما في زمان واحد ، كالغريقين.

الثاني : قصور قدرة المكلف عن الجمع بينهما من دون ان يكون بينهما مضادة ، لاختلاف زمانهما ، كالقيام في الركعة الأولى أو الثانية.

ص: 335

الثالث : تلازم المتعلقين كاستقبال القبلة واستدبار الجدي.

الرابع : مقدمية أحد المتعلقين للآخر ، كالتصرف في ارض الغير لانجاء مؤمن.

الخامس : اتحاد المتعلقين في الوجود ، كالصلاة في الأرض المغصوبة. وعنوان النزاع في مسألة الترتب في كلمات الاعلام وان كان في خصوص القسم الأول ، وهو ما إذا كان التزاحم لأجل تضاد المتعلقين ، الا ان الظاهر عدم اختصاص مسألة الترتب بذلك ، بل تجرى في بعض الأقسام الاخر وان لم تجر في جميع الأقسام الخمسة. فالأولى جعل الكلام في باب الترتب في مسائل خمس حسب اقسام التزاحم ، وافراد كل قسم بالبحث عن جريان الترتب فيه.

المسألة الأولى :

في امكان الترتب في المتزاحمين الذين كان التزاحم فيها لأجل تضاد المتعلقين ، وكان أحدهما أهم من الآخر ، بحيث يكون اطلاق الامر بالأهم على حاله ، والامر بالمهم يقيد بصورة عصيان الأهم وتركه. فيرجع النزاع في الترتب إلى أن تقييد المهم بذلك مع بقاء اطلاق الأعم هل يوجب رفع غائلة التمانع والمطاردة ، والتكليف بالمحال ، وخروج الامر بالضدين عن العرضية إلى الطولية؟ كما هو مقالة مصحح الترتب. أو ان هذا التقييد لا يوجب رفع تلك الغائلة ، بل التكاليف بالمحال بعد على حاله ، ولا يخرج الامر بالضدين عن العرضية إلى الطولية بذلك التقييد. بل رفع تلك الغائلة لايكون الا بسقوط الامر بالمهم رأسا كما هو مقالة منكر الترتب. والأقوى هو الأول.

وينبغي ان يعلم أنه لا يختص الترتب بخصوص الأهم والمهم ، بل يجرى في الموسع والمضيق أيضا ، وعلى كل حال ان تنقيح البحث فيه يستدعى رسم مقدمات :

المقدمة الأولى :

لا اشكال في أن الذي يوجب وقوع المكلف في مضيقة المحال واستلزام التكليف بما لا يطاق ، انما هو ايجاب الجمع بين الضدين ، إذ لولا ايجاب الجمع على

ص: 336

المكلف لم يقع المكلف في مضيقة المحال. فالمحذور كل المحذور انما ينشأ من ايجاب الجمع بين الضدين. ولا اشكال أيضا في أنه لابد من سقوط ما هو منشأ ايجاب الجمع ليس الا ، ولا يمكن سقوط ما لا يوجب ذلك. وهذان الأمران مما لا كلام فيهما. فالكلام كله في أن الموجب لايجاب الجمع بين الضدين هل هو نفس الخطابين واجتماعهما وفعليتهما مع وحدة زمان امتثالهما لمكان تحقق شرطهما؟ أو ان الموجب لايجاب الجمع ليس نفس الخطابين بل الموجب هو اطلاق كل من الخطابين لحالتي فعل متعلق الآخر وعدمه.

والحاصل : انه لا اشكال في أن الموجب لايجاب الجمع في غير باب الضدين انما هو اطلاق الخطابين لحالتي فعل متعلق الاخر وعدمه ، كالصلاة والصوم ، فان الموجب لايجاب الجمع بينهما انما هو اطلاق خطاب الصلاة وشموله لحالتي فعل الصوم وعدمه ، واطلاق خطاب الصوم وشموله لحالتي فعل الصلاة وعدمه. ونتيجة الاطلاقين ايجاب الجمع بين الصلاة والصوم على المكلف. ولو كان كل من خطاب الصوم والصلاة مشروطا بعدم فعل الآخر ، أو كان أحدهما مشروطا بذلك ، لما كانت النتيجة ايجاب الجمع بين الصوم والصلاة. وهذا في غير الضدين واضح. فيقع الكلام في أن حال الضدين حال غيرهما في أن الموجب لايجاب الجمع بينهما هو اطلاق كل من الخطابين حتى يكون هو الساقط ليس الا؟ أو ان الموجب لذلك هو فعلية الخطأ بين مع وحدة زمان امتثالهما حتى يكون الساقط أصل الخطابين. وعلى ذلك يبتنى المسلكان في التخيير في المتزاحمين المتساويين من حيث المرجحات ، من حيث كون التخيير عقليا ، أو شرعيا ، فإنه لو كان المقتضى لايجاب الجمع هو اطلاق الخطابين فالساقط هو الاطلاق ليس الا مع بقاء أصل الخطابين ، ويكون التخيير لمكان اشتراط كل خطاب بالقدرة على متعلقة ، فيكون كل من الخطابين بالضدين مشروطا بترك الآخر ، لحصول القدرة عليه عند ترك الآخر وينتج التخيير عقلا. وهذا بخلاف ما إذا قلنا : بان المقتضى لايجاب الجمع هو أصل الخطابين ووحدة زمان امتثالها ، فإنه ح لابد من سقوط كلا الخطابين ، لان سقوط أحدهما ترجيح بلا مرجح ، ولمكان تمامية الملاك في كل منهما يستكشف

ص: 337

العقل خطابا شرعيا تخيريا بأحدهما ، ويكون كسائر التخييرات الشرعية كخصال الكفارات ، غايته ان التخيير الشرعي في الخصال يكون بجعل ابتدائي ، وفي المقام يكون بجعل طارئ. ويكون وزان التخيير في المشروطين بالقدرة العقلية وزانه في المشروطين بالقدرة الشرعية ، حيث تقدم ان التخيير فيهما يكون شرعيا.

وعلى ذلك أيضا يبتنى وحدة العقاب وتعدده عند ترك الضدين معا ، فإنه بناء على سقوط الخطابين لايكون هناك الا عقاب واحد ، لان الواجب شرعا ح هو أحدهما. واما بناء على اشتراط الاطلاقين فيتعدد العقاب ، لحصول القدرة على كل منهما ، فيتحقق شرط وجوب كل منهما ، فيعاقب على ترك كل منهما. وربما يترتب على ذلك ثمرات اخر قد تقدمت الإشارة إلى بعضها.

فتحصل : ان الذي ينبغي ان يقع محل النفي والاثبات ، هو ان الموجب لايجاب الجمع ما هو؟ هل اطلاق الخطابين؟ أو فعليتهما؟ وعلى الأول يبتنى صحة الترتب ، وعلى الثاني يبتنى بطلانه.

ومن الغريب : ما صدر عن الشيخ ( قده ) حيث إنه في الضدين الذين يكون أحدهما أهم ينكر الترتب غاية الانكار (1) ولكن في مبحث التعادل والتراجيح التزم بالترتب من الجانبين عند التساوي وفقد المرجح ، حيث قال في ذلك المقام ، في ذيل قوله : « فنقول وباللّه المستعان قد يقال بل قيل : ان الأصل في المتعارضين عدم حجية أحدهما » ما لفظه : « لكن لما كان امتثال التكليف بالعمل بكل منهما كسائر التكاليف الشرعية والعرفية مشروطا بالقدرة ، والمفروض ان كلا منهما مقدور في حال ترك الآخر ، وغير مقدور مع ايجاد الآخر ، فكل منهما مع ترك الاخر مقدور يحرم تركه ويتعين فعله ، ومع ايجاد الآخر يجوز تركه ولا يعاقب عليه ، فوجوب الاخذ بأحدهما نتيجة أدلة وجوب الامتثال والعمل بكل منهما بعد تقييد وجوب الامتثال بالقدرة. وهذا مما يحكم به بديهة العقل ، كما في كل واجبين .

ص: 338


1- راجع تفصيل ما افاده الشيخ قدس سره في المقام في مباحث مقدمة الواجب من مطارح الأنظار ، الهداية التي تكلم فيها عن صحة اشتراط الوجوب عقلا بفعل محرم مقدم عليه وعدمها ، ص 54 إلى 57.

اجتمعا على المكلف ولا مانع من تعيين كل منهما على المكلف بمقتضى دليله الا تعيين الاخر عليه كذلك » (1) انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علو مقامه.

وهذا كما ترى صريح في أن التخيير في الواجبين المتزاحمين انما هو من نتيجة اشتراط كل منهما بالقدرة عليه وتحقق القدرة في حال ترك الآخر ، فيجب كل منهما عند ترك الآخر ، فيلزم الترتب من الجانبين مع أنه ( قده ) أنكره من جانب واحد وليت شعري ان ضم ترتب إلى ترتب آخر كيف يوجب تصحيحه.

وبالجملة : هذه المناقضة من الشيخ غريبة. وعلى كل حال ، فقد تحصل من المقدمة الأولى : ان العمدة هو اثبات ما يوجب ايجاب الجمع بين الضدين على المكلف ، حتى يكون هو الساقط.

المقدمة الثانية :

الواجب المشروط بعد تحقق شرطه حاله حاله قبل تحقق شرطه ، من حيث إنه بعد على صفة الاشتراط ، ولا يتصف بصفة الاطلاق ، ولا ينقلب عما هو عليه. وذلك لما عرفت في الواجب المشروط : من أن الشرط فيه يرجع إلى الموضوع ، فيكون الواجب المشروط عبارة عن الحكم المجعول على موضوعه المقدر وجوده على نهج القضايا الحقيقية. وليست الاحكام من قبيل القضايا الشخصية ، بل هي احكام كلية مجعولة أزلية على موضوعاتها المقدرة ، والحكم المجعول على موضوعه لا ينقلب عما هو عليه ، ولا يخرج الموضوع عن كونه موضوعا ، ولا الحكم عن كونه مجعولا على موضوعه. ووجود الشرط في الواجب المشروط عبارة عن تحقق موضوعه خارجا ، وبتحقق الموضوع خارجا لا ينقلب الواجب المجعول الأزلي عن الكيفية التي جعل عليها ، ولا يتصف بصفة الاطلاق بعد ما كان مشروطا ، لان اتصافه بذلك يلزم خروج ما فرض كونه موضوعا عن كونه موضوعا. فوجوب الحج انما أنشأ أزلا مشروطا بوجود موضوعه الذي هو العاقل البالغ المستطيع ، وهذا لا يفرق الحال فيه ، بين تحقق الاستطاعة لزيد أو عدم تحققها ، إذ ليس لزيد حكم يخصه حتى يقال : انه

ص: 339


1- فرائد الأصول ( الرسائل ) ، مباحث التعادل والتراجيح ، المقام الأول في المتكافئين. ص 416.

لا معنى لكون وجوب الحج بالنسبة إلى زيد المستطيع مشروطا بالاستطاعة ، بل لابد من أن يكون الخطاب بالنسبة إلى زيد ح مط. وهو كذلك لو كانت الأحكام الشرعية من قبيل القضايا الجزئية الخارجية ، وعليه يكون الشرط من علل التشريع لا من قيود الموضوع ، كما استقصينا الكلام في ذلك في الواجب المشروط والمعلق ، وتقدم بطلان ذلك وان الأحكام الشرعية مجعولة على نهج القضايا الحقيقية.

فما في بعض الكلمات : من أن الواجب المشروط بعد تحقق شرطه يكون واجبا مط مبنى على ذلك المبنى الفاسد : من كون الأحكام الشرعية قضايا جزئية. واما بناء على ما هو الحق عندنا ، فالواجب المشروط دائما يكون مشروطا ، ولو بعد تحقق شرطه وفعليته.

وبعبارة أخرى : الشرط دائما يكون من وسائط العروض ، لا وسائط الثبوت. وبذلك ظهر فساد ما في بعض الألسن : من أن الواجب المشروط بعد تحقق شرطه يكون واجبا مط. فالامر بالمهم المشروط بعصيان الامر بالأهم دائما يكون مشروطا ، ولو بعد تحقق شرطه. نعم يصير فعليا عنده. وعلى ذلك تبتنى طولية الامر بالمهم بالنسبة إلى الامر بالأهم وخروجه عن العرضية ، كما سيأتي توضيحه انشاء اللّه تعالى. والمحقق الخراساني ( قده ) مع اعترافه (1) برجوع الشرط إلى الموضوع الذي عليه يبتنى الواجب المشروط ، وأنه يكون قسيما للواجب المطلق - كما أوضحناه (2) في محله - ذهب في جملة من الموارد إلى كون الشرط من وسائط الثبوت ، وانه من قبيل العلل للتشريع كما يظهر من ارجاعه الشرط المتأخر إلى الوجود العلمي - على ما تقدم تفصيله - (3) وكما يظهر منه في المقام (4) حيث جعل الامر بالمهم بعد تحقق 3

ص: 340


1- راجع كفاية الأصول ، الجلد الأول ، تقسيمات الواجب ، منها تقسيمه إلى المطلق والمشروط ص 152 -
2- راجع الجزء الأول من هذا الكتاب ، مباحث تقسيمات الواجب ، منها تقسيمه إلى المطلق والمشروط ، الامر الأول ص 170
3- الجزء الأول من هذا الكتاب ، مباحث تقسيمات الواجب في الفرق بين القضايا الحقيقية والخارجية ص 276 وراجع الكفاية ، الجلد الأول. مباحث مقدمة الواجب. منها تقسيمها إلى المتقدم والمتأخر.
4- كفاية الأصول. الجلد الأول ، الامر الرابع من الأمور التي رسمها في مقدمة بحث الضد ، ص 213

شرطه في عرض الامر بالأهم. وذلك لا يستقم الا بعد القول بصيرورة الواجب المشروط مطلقا بعد تحقق شرطه. ويظهر منه ذلك أيضا في موارد أخر لعله نشير إليها في محلها.

المقدمة الثالثة

قسموا الواجب إلى موسع ومضيق وعرفوا الأول بما إذا كان الزمان المضروب لفعل الواجب أوسع من الفعل ، وبعبارة أخرى : ما كان له افراد وابدال طولية بحسب الزمان. ويقابله المضيق وهو ما إذا كان الزمان المضروب للفعل بقدره ، أي ما لايكون له بدل طولي بحسب الزمان.

ثم إن المضيق على قسمين : قسم اخذ فيه الشيء شرطا للتكليف بلحاظ حال الانقضاء ، سواء كان ذلك الشيء من مقولة الزمان ، أو من مقولة الزماني ، أي يكون انقضاء ذلك الشيء وسبقه شرطا للتكليف. ولعل باب الحدود والديات من هذا القبيل ، بناء على أن يكون التكليف بالحد مضيقا ، فان الشرط لوجوب الحد هو انقضاء القتل من القاتل وتحققه منه ، ولا يتوجه التكليف بالحد حال تلبس القاتل بالقتل ، بل يعتبر انقضاء القتل منه ولو آنا ما. ولو ناقشت في المثال فهو غير عزيز ، مع أن مع المقصود في المقام مجرد تصور اخذ الشيء شرطا للتكليف بلحاظ حال انقضائه ، وجد له في الشريعة مثال أو لم يوجد.

ويمكن تصوير ذلك في الواجب الموسع أيضا ، بان يؤخذ الشيء شرطا للتكليف بالموسع بلحاظ حال الانقضاء ، وان لم نعثر على مثال له ، أو قلنا ان الحد من الواجبات الموسعة. والمقصود انه لا اختصاص لما قلناه بالمضيق.

وقسم اخذ الشيء فيه شرطا بلحاظ حال وجوده ، ولا يعتبر فيه الانقضاء ، فيثبت التكليف مقارنا لوجود الشرط ، ولا يتوقف ثبوته على انقضاء الشرط ، بل يتحد زمان وجود الشرط وزمان وجود التكليف وزمان امتثاله ويجتمع الجميع في آن واحد حقيقي. وأغلب الواجبات المضيقة في الشريعة من هذا القبيل ، كما في باب الصوم ، حيث إن الفجر شرط للتكليف بالصوم ، ومع ذلك يثبت التكليف مقارنا لطلوع الفجر ، كما أن زمان امتثال التكليف بالصوم أيضا يكون من أول

ص: 341

الطلوع ، لان الصوم هو الامساك من أول الطلوع ، ففي الآن الأول الحقيقي من الطلوع يتحقق شرط التكليف ونفس التكليف وامتثاله ، بمعنى ان ظرف أمثاله أيضا يكون في ذلك الآن وان لم يتحقق الامتثال خارجا وكان المكلف عاصيا ، الا ان اقتضاء التكليف بالصوم للامتثال انما يكون من أول الفجر ، ففي أول الطلوع تجتمع الأمور الثلاثة : شرط التكليف ، ونفس التكليف ، وزمان الامتثال. ولا يتوقف التكليف على سبق تحقق شرطه آنا ما. كما أنه لا يتوقف الامتثال على سبق التكليف آنا ما ، بل يستحيل ذلك.

اما استحالة تقدم زمان شرط التكليف على نفس التكليف ، فلما عرفت من رجوع كل شرط إلى الموضوع. ونسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلة إلى معلولها ، أي من سنخ العلة والمعلول ، وان لم يكن من العلة والمعلول حقيقة ، الا ان الإرادة التشريعية تعلقت بترتب الاحكام على موضوعاتها نحو تعلق الإرادة التكوينية بترتب المعلولات على عللها. فيستحيل تخلف الحكم عن موضوعه ، كاستحالة تخلف المعلول عن علته ، لان مع التخلف يلزم : اما عدم موضوعية ما فرض كونه موضوعا وهو خلف ، واما تأخر المعلول عن علته وهو محال. ولذا قلنا بامتناع كل من الشرط المتقدم والمتأخر ، وانه يعتبر في شرط المتكليف ان يكون مقارنا له زمانا ، وان تأخر عنه رتبة ، وذلك لان الآن المتخلف اما ان يكون له دخل في ثبوت الحكم ، واما ان لايكون ، فان كان له دخل فيلزم ان لايكون ما فرض كونه تمام الموضوع أو الجزء الأخير منه كذلك ، بل كان انقضاء ذلك الآن هو الجزء الأخير من الموضوع. وان لم يكن لذلك الآن دخل يلزم تخلف المترتب عما رتب عليه وتأخر المعلول عن علته ، وذلك واضح.

واما استحالة تأخر زمان الامتثال عن التكليف ، فلان التكليف هو الذي يقتضى الامتثال ويكون هو المحرك ، فيكون نسبة اقتضاء التكليف للحركة كنسبة اقتضاء حركة اليد لحركة المفتاح ، وغير ذلك من العلل والمعلولات التكوينية.

نعم : الفرق بين المقام ، والعلل التكوينية ، هو انه لا يتوسط في سلسلة العلل التكوينية العلم ولا الإرادة بل يوجد المعلول بعد علته التكوينية من دون دخل

ص: 342

للعلم والإرادة في ذلك. واما في المقام فيتوسط بين الامتثال والتكليف علم الفاعل بالتكليف وارادته الامتثال ، إذ مع عدم العلم بالتكليف ، أو عدم إرادة الامتثال ، يستحيل تحقق الامتثال. الا انه على كل تقدير لا يخرج التكليف عن كونه واقعا في سلسلة العلل ، غايته ان العلم والإرادة أيضا واقعة في سلسلتها ، ولا يتفاوت في استحالة تخلف المعلول عن علته زمانا بين قلة ما يقع في سلسلة العلة وكثرته. فالامتثال المعلول للتكليف والعلم والإرادة يستحيل ان يتخلف عن ذلك زمانا ، وانما التخلف في الرتبة فقط. فلا يعقل سبق زمان التكليف على زمان الامتثال. وقد تقدم منا في الواجب المعلق امتناع فعلية التكليف قبل زمان امتثاله ، لان الزمان المتخلل ، اما ان يكون لانقضائه دخل في فعلية التكليف فيستحيل فعلية التكليف قبل انقضائه ، واما ان لايكون له دخل فيستحيل تأخر الامتثال عنه أي اقتضائه للامتثال.

وبالجملة : مقتضى البرهان ، هو ان لا يتخلف التكليف عن الشرط ، ولا الامتثال عن التكليف زمانا ، بل يتقارنان في الزمان ، وان كان بينهما تقدم وتأخر رتبي ، هذا.

ولكن حكى عن بعض الاعلام : انه لا بد في هذا القسم من المضيق ( وهو ما إذا اتحد زمان وجود الشرط والتكليف والامتثال ، كالصوم وكصلاة الآيات ) من تقدير سبق التكليف آنا ما قبل زمان الامتثال ، ليتمكن المكلف من الامتثال ، ولا يمكن ان يقارن التكليف لزمان الامتثال.

بل يظهر (1) من المحقق الخراساني في الواجب المعلق : انه يعتبر سبق زمان التكليف على زمان الامتثال في جميع الواجبات فراجع.

ص: 343


1- الكفاية المجلد الأول ص 163 ، قوله : « مع أنه لا يكاد يتعلق البعث الا بأمر متأخر عن زمان البعث ، ضرورة ان البعث انما يكون لاحداث الداعي للمكلف إلى المكلف به بان يتصوره بما يترتب عليه من المثوبة وعلى تركه من العقوبة ، ولا يكاد يكون هذا الا بعد البعث بزمان ، فلا محاله يكون البعث نحو امر متأخر عنه بالزمان ، ولا يتفاوت طوله وقصره فيما هو ملاك الاستحالة والامكان في نظر العقل الحاكم في هذا الباب ».

وقد يوجه ذلك : بأنه لولا السبق يلزم : اما التكليف بالحاصل ، واما التكليف بالمتعذر ، لأنه ان كان المكلف في الآن الأول الحقيقي من الفجر ممسكا فتوجه التكليف إليه في ذلك يكون من الطلب الحاصل ، وان لم يكن ممسكا فيتعذر عليه التكليف بالامساك في آن الطلوع ، فلا بد من سبق التكليف على الطلوع آنا ما ليتمكن المكلف من الامساك في أول الفجر منبعثا عن التكليف السابق ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك ما فيه :

اما أولا :

فلانه لا موجب لهذا التقدير ، لان توقف الانبعاث على البعث ليس بأزيد من توقف المعلول على علته ، فكما ان وجود المعلول يكون مستندا إلى علته المقارنة له في الوجود ويكون صادرا عنها ، فكذلك الانبعاث يكون مستندا إلى البعث المقارن له في الوجود ويكون حاصلا بذلك البعث.

ودعوى انه يكون من تحصيل الحاصل ممنوعة ، فإنه لو كان الانبعاث حاصلا بنفسه لا عن البعث كان من تحصيل الحاصل ، وليس الامر كذلك ، بل يكون حاصلا عن البعث ، والا فيمكن تقريب ذلك بالنسبة إلى العلل والمعلولات التكوينية أيضا ، بان يقال : ان المعلول حاصل في زمان علته فتكون العلة علة لما هو حاصل. وكما يجاب عن ذلك بان المعلول حاصل من قبل علته المقارنة له في الوجود المتقدمة عليه في الرتبة ، كذلك يقال في المقام : ان الانبعاث حاصل من قبل البعث المقارن له في الوجود المتقدم عليه رتبة. فلا يتوقف الانبعاث على سبق البعث زمانا.

نعم : يتوقف على سبق العلم بالبعث في زمانه ، فإنه لو لم يكن عالما بتحقق البعث في أول طلوع الفجر لم يكن يصدر عنه الانبعاث والامساك من أول الطلوع. ومن هنا قلنا بوجوب تحصيل العلم بالأحكام قبل أوقاتها لمن لا يتمكن من تحصيله في وقتها ، كالمضيقات مط ، وكالموسعات في بعض الأحيان.

والحاصل : ان الذي يتوقف عليه الانبعاث في أول الفجر ، هو سبق العلم بالتكليف على أول الفجر ، لا سبق التكليف على الفجر. وأظن أن الذي أوجب القول بتقدير التكليف آنا ما قبل الفجر في هذا القسم من المضيقات ، هو ملاحظة

ص: 344

عدم امكان تحقق الانبعاث من أول الفجر الا بسبق التكليف عليه. ولكن هذا خلط بين سبق التكليف وبين سبق العلم به. والذي يتوقف عليه الانبعاث هو سبق العلم ، لا سبق التكليف ، والا فسبق التكليف لا يوجب تحقق الانبعاث من دون سبق العلم ، كما لا يخفى. فتقدير سبق التكليف آنا ما يكون بلا موجب.

واما ثانيا :

فلان سبق التكليف لا اثر له ، ويكون لغوا إذ المكلف انما ينبعث عن البعث المقارن لا عن البعث السابق ، لان البعث السابق ، اما ان يكون مستمرا إلى زمان الانبعاث ، واما ان لا يكون. فان لم يكن مستمرا لا يعقل الامتثال والانبعاث ، إذ لا يمكن امتثال تكليف معدوم ، وان كان مستمرا فالذي يوجب الانبعاث هو استمراره وانحفاظه إلى زمان الانبعاث ، فوجوده السابق لغو والانبعاث دائما يكون عن البعث المقارن.

واما ثالثا :

فلان سبق التكليف ولو آنا ما لا يعقل ومن المستحيل ، كما تقدمت الإشارة إليه في المقام ، وتقدم تفصيله في الواجب المعلق وعليه بنينا امتناع الواجب المعلق ، فراجع. (1).

واما رابعا :

فلانه لا اختصاص لهذا التقدير بهذا القسم من المضيقات ، بل يلزم القول بسبق التكليف حتى في الموسعات ، لوضوح صحة الصلاة المقارنة لأول الزوال حقيقة ، بحيث شرع فيها في الان الأول الحقيقي من الزوال ، فإنه وان لم يلزم ذلك ، الا انه لا اشكال في الصحة. ولو فعل ذلك فيلزم تقدير سبق التكليف بالصلاة على الزوال ليكون الامتثال عن التكليف السابق ، مع أن الظاهر أن القائل بالتقدير لم يلتزم به في الموسعات ، فيطالب حينئذ بالفرق.

ص: 345


1- راجع مباحث مقدمة الواجب ، ما افاده المصنف قدس سره في امتناع الواجب المعلق. ص 186

فتحصل من جميع ما ذكرنا :

انه لا يتوقف التكليف بالمضيقات على سبقه على زمان امتثالها ، بل يستحيل ذلك ، وانه لا بد من اجتماع التكليف والشرط والامتثال في زمان واحد حقيقي ، ويكون التقدم والتأخر بالرتبة فقط.

إذا عرفت ذلك

ظهر لك : دفع بعض الاشكالات التي أشكلوها على الخطاب الترتبي.

منها :

انه يتوقف صحة الخطاب الترتبي على صحة الواجب المعلق والشرط المتأخر ، وحيث أبطلنا كلا منهما في محله ، فيلزم بطلان الخطاب الترتبي.

وهذا الاشكال انما يكون من القائل بالتقدير ، وانه يعتبر سبق التكليف على زمان الامتثال في الواجبات المضيقة. فالاشكال انما يرد على ذلك المبنى الفاسد. ووجه الابتناء : هو انه لما كان الكلام في الخطاب الترتبي واقعا في المتزاحمين المضيقين الذين كان أحدهما أهم ، فكان كل من خطاب الأهم والمهم مضيقا ، ولما كان خطاب المهم مشروطا بعصيان الأهم ، وكان زمان عصيانه هو زمان امتثال المهم ، كما هو لازم التضييق ، فلا يمكن ان يكون الخطاب بالمهم مقارنا لزمان عصيان الأهم ، لأنه زمان امتثاله. فلا بد ان يتقدم الخطاب بالمهم آنا ما على عصيان الأهم ، لما تقدم من اعتبار سبق التكليف في المضيقات ، فيلزم كل من الواجب المعلق والشرط المتأخر ، لأنه باعتبار سبق زمان التكليف على زمان الامتثال يكون من الواجب المعلق ، إذ لا نعني بالواجب المعلق الا ما يكون ظرف الامتثال فيه متأخرا عن ظرف التكليف ، ويكون الامتثال معلقا على مضى ذلك الآن الذي قدر سبق التكليف عليه. وباعتبار ان الخطاب بالمهم مشروط بعصيان الأهم وقد سبقه يكون من الشرط المتأخر ، فالخطاب الترتبي يتوقف على كل من الواجب المعلق والشرط المتأخر هذا. ولكن لا يكاد ينقضي تعجبي من هذا الاشكال.

اما أولا :

فلا اختصاص لهذا الاشكال بالخطاب الترتبي ، بل يجرى في جميع

ص: 346

المضيقات ، فان الصوم مثلا بناء على سبق التكليف به على الفجر يلزم أيضا كونه من الواجب المعلق والشرط المتأخر. فباعتبار سبق التكليف على زمان الامتثال يلزم الواجب المعلق. وباعتبار اشتراط التكليف بالصوم بالفجر يلزم الشرط المتأخر ، فهذا الاشكال بناء على التقدير يرد في جميع المضيقات ، بل في الموسعات أيضا ، بناء على ما تقدم من أن التقدير في المضيقات يلزمه التقدير في الموسعات أيضا ، ولا اختصاص لهذا الاشكال بالخطاب الترتبي ، فما يجاب به عن الاشكال في سائر المقامات يجاب به أيضا في الخطاب الترتبي.

واما ثانيا :

فلما عرفت من أن الاشكال مبنى على ذلك المبنى الفاسد ، وهو تقدير سبق التكليف ، وقد أوضحنا فساده. فلا اشكال في المقام ، كما لا اشكال في سائر المضيقات ، فضلا عن الموسعات.

ومنها :

ان خطاب المهم لو كان مشروطا بنفس عصيان الأهم لم يلزم محذور طلب الجمع ، لان امتثال خطاب المهم اعتبر في زمان خلو المكلف عن الأهم ، فلا يعقل اقتضائه لطلب الجمع. واما ان اخذ الشرط هو العنوان الانتزاعي ووصف التعقب - أي كون المكلف ممن يعصى - فيلزم محذور طلب الجمع ، لان خطاب المهم يكون فعليا قبل عصيان الأهم إذا كان ممن يعصى بعد ذلك ، فلم يعتبر في ظرف امتثاله خلو المكلف عن الأهم ، بل يلزم اجتماع كل من الأهم والمهم في زمان واحد ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك ضعفه ، لما فيه :

أولا :

انه لا موجب لجعل الشرط هو العنوان الانتزاعي ووصف التعقب الا بناء على اعتبار سبق التكليف آنا ما مع عدم القول بالشرط المتأخر ، فيستقيم ح ان يكون الشرط هو الوصف الانتزاعي ، لأن المفروض ان خطاب المهم لا بد ان يكون قبل زمان امتثاله وهو زمان عصيان الأهم ، ولا يمكن ح ان يكون نفس العصيان شرطا ، لاستلزامه الشرط المتأخر ، فلا بد ان يكون الشرط هو العنوان الانتزاعي. الا انه قد

ص: 347

تقدم فساد المبنى ، وان تقدير سبق التكليف بلا موجب بل مستحيل. وحينئذ لا يتم جعل الشرط هو العنوان المنتزع ، بل يكون الشرط هو نفس العصيان ، وقد اعترف انه بناء على ذلك لا يلزم طلب الجمع.

وثانيا :

لو فرض ان الشرط هو الوصف الانتزاعي فلا يلزم أيضا طلب الجمع ، لان الوصف انما انتزع من العصيان الذي هو زمان خلو المكلف عن الأهم ، فمعنى كونك ممن تعصى : كونك ممن تخلو عن فعل الأهم. ومع ذلك كيف يلزم طلب الجمع؟ ومجرد اجتماع الخطابين في زمان وفعليتهما بتحقق شرطهما لا يقتضى ايجاب الجمع ، بل إن أساس الترتب انما هو على اجتماع الخطابين في زمان ، فغاية ما يلزم من اخذ الشرط الوصف الانتزاعي هو اجتماع كل من خطاب الأهم والمهم في زمان واحد ، وهذا مما لا محيص عنه في الخطاب الترتبي. بل لو اخذ نفس العصيان شرطا فلا بد ان يؤخذ على وجه يجتمع فيه كل من خطاب الأهم والمهم ، وذلك بان يكون الشرط هو التلبس بالعصيان الذي يكون خطاب الأهم في حاله محفوظا ، لا تحقق العصيان بمعنى الانقضاء والمضي الذي يكون خطاب الأهم عنده ساقطا ، لسقوط كل خطاب بعصيانه.

وبالجملة : لا فرق بين ان يكون الشرط هو نفس العصيان أو الوصف الانتزاعي ، في اجتماع كل من الخطابين في زمان واحد ، وفي عدم اقتضائهما لطلب الجمع بعد ما اعتبر في خطاب المهم خلو المكلف عن فعل الأهم ، سواء كان الشرط نفس ذلك ، أو كان هو منشأ انتزاع ما هو الشرط كما لا يخفى ، فتأمل جيدا.

المقدمة الرابعة :

التي هي أهم المقدمات ، بل عليها يبتنى أساس الترتب ، هي ان انحفاظ كل خطاب بالنسبة إلى ما يتصور من التقادير والانقسامات يكون على أحد أنحاء ثلاثة :

الأول :

ما كان انحفاظه بالاطلاق أو التقييد اللحاظي ، وذلك بالنسبة إلى كل

ص: 348

تقدير وانقسام يمكن لحاظه عند الخطاب ، وذلك انما يكون في التقادير والانقسامات المتصورة في المتعلق مع قطع النظر عن ورود الخطاب ، بحيث أمكن وقوع المتعلق مقترنا بتلك التقادير وان لم يتعلق به خطاب أصلا ، كقيام زيد وقعوده ، وطيران الغراب وعدمه ، حيث يكون الامر بالصلاة محفوظا عنده بالاطلاق اللحاظي ، وكالوقت ، حيث يكون الامر بالصلاة محفوظا عنده بالتقييد اللحاظي ، لمكان امكان ايقاع الصلاة عند قيام زيد وقعوده ، وفي الوقت وخارجه ، ولو لم يتعلق بها امر ، فيمكن لحاظ هذه التقادير عند الخطاب والامر بالصلاة ، فلو لاحظ تقديرا خاصا كان ذلك تقييدا لحاظيا ، كما لاحظ الوقت عند الامر بالصلاة. وان لم يلاحظ تقديرا خاصا ، بل ساوى في امره لكلتا حالتي وجود التقدير وعدمه يكون ذلك اطلاقا لحاظيا ، كما ساوى في امره بالصلاة في كلتا حالتي قيام زيد وقعوده.

الثاني :

ان يكون انحفاظ الخطاب بنتيجة الاطلاق أو التقييد ، وذلك بالنسبة إلى كل تقدير وانقسام لاحق للمتعلق بعد تعلق الخطاب به ، بحيث لايكون لذلك التقدير وجود الا بعد ورود الخطاب كتقدير العلم والجهل بالخطاب ، حيث إن تقدير العلم والجهل بالأحكام لايكون الا بعد ورود الخطاب ، لأنه بعد ورود الخطاب ، يتحقق تقدير العلم والجهل بذلك الخطاب ، فلا وجود لهذا التقدير قبل الخطاب. فلا يمكن فيه الاطلاق أو التقييد اللحاظي ، بل لابد اما من نتيجة الاطلاق ، كما في تقديري العلم والجهل ، حيث يكون الخطاب محفوظا في كلا التقديرين بنتيجة الاطلاق ، واما من نتيجة التقييد كما في العلم والجهل أيضا بالنسبة إلى خصوص مسئلتي القصر والاتمام والجهر والاخفات ، لان الاهمال الثبوتي في مثل هذه التقادير لا يعقل ، لان الملاك والمصلحة الباعثة للامر بالصلاة اما : ان يكون محفوظا في كلا الحالين ، أي حالة وجود التقدير وعدمه ، فلابد من نتيجة الاطلاق كما في العلم والجهل بعد قيام الأدلة والضرورة على اشتراك العالم والجاهل في الاحكام الا في موارد القصر والاتمام والجهر والاخفات ، واما : ان يكون الملاك محفوظا في تقدير خاص دون عدمه فلا بد من نتيجة التقييد.

ص: 349

الثالث :

ما كان انحفاظ الخطاب لا بالاطلاق والتقييد اللحاظي ، ولا بنتيجة الاطلاق والتقييد. وذلك بالنسبة إلى كل تقدير يقتضيه نفس الخطاب ، وهو الفعل أو الترك الذي يطالب به أو بنقيضه ، حيث يكون انحفاظ الخطاب في حالتي الفعل والترك بنفسه وباقتضاء هوية ذاته ، لا باطلاقه لحاظا أو نتيجة ، إذ لا يعقل الاطلاق والتقييد بالنسبة إلى تقديري فعل متعلق الخطاب وتركه ، بل يؤخذ المتعلق معرى عن حيثية فعله وتركه ويلاحظ نفس ذاته ، فيحمل عليه بالفعل ان كان الخطاب وجوبيا ، وبالترك ان كان الخطاب تحريميا. فيكون البعث نحو فعل المتعلق أو تركه نظير حمل الوجود أو العدم على شيء ، حيث إنه يؤخذ ذلك الشيء معرى عن الوجود والعدم ، فيحمل عليه الوجود تارة ، والعدم أخرى ، ويقال مثلا زيد موجود أو معدوم. ولا يعقل تقييد زيد بالوجود في حمل الوجود عليه ، ولا تقييده بالعدم ، ولا اطلاقه بالنسبة إلى الوجود والعدم ، للزوم حمل الشيء على نفسه في الأول ، واجتماع النقيضيين في الثاني ، وكلا المحذورين في الثالث.

وكذا يقال في المقام : انه لا يمكن تقييد المتعلق بالفعل في مقام البعث إليه ، ولا تقييده بالترك ، ولا اطلاقه بالنسبة إلى تقديري الفعل والترك ، لاستلزامه طلب الحاصل في الأول ، وطلب الجمع بين النقيضين في الثاني ، وكلا المحذورين في الثالث ، فلا بد من لحاظ ذات المتعلق مهملا معرى عن كلا تقديري الفعل والترك ، فيخاطب به بعثا أو زجرا. وليس فيه تقييد ولا اطلاق لا لحاظا ولا نتيجة ، ولكن مع ذلك يكون الخطاب محفوظا في كلتا حالتي الفعل والترك ما لم تتحقق الإطاعة أو العصيان ، فإنه عند ذلك يسقط الخطاب. وانحفاظ الخطاب في كلا التقديرين انما يكون باقتضاء ذاته ، لأنه بنفسه يقتضى فعل المتعلق وطرد تركه ، فيكون وجود الخطاب في الحالين لمكان نفسه ولأنه خطاب بالفعل أو الترك. وبذلك يظهر لك : ان الفرق بين هذا التقدير الذي يكون الخطاب محفوظا عنده ، وبين سائر التقادير التي يكون الخطاب محفوظا عندها أيضا من وجهين :

الأول : ان نسبة تلك التقادير إلى الخطاب نسبة العلة إلى معلولها ، بمعنى ان

ص: 350

تلك التقادير تكون علة أو ملحقة بالعلة بالنسبة إلى الخطاب ، ويكون الخطاب بمنزلة المعلول لها. فان اخذ تلك التقادير قيدا وشرطا للخطاب ، فلمكان رجوع الشرط إلى الموضوع وكون الموضوع علة لترتب الخطاب عليه يكون ذلك التقدير علة للخطاب. وان أطلق الخطاب بالنسبة إلى تقدير فذلك التقدير وان لم يكن علة للخطاب - لعدم اخذ ذلك التقدير شرطا - الا انه يجرى مجرى العلة من حيث إن الاطلاق والتقييد من الأمور الإضافية ، فهما في مرتبة واحدة ، فإذا كان التقييد علة للخطاب ، فالاطلاق الواقع في رتبته يجرى مجرى العلة من حيث الرتبة ، فتأمل.

وهذا بخلاف تقديري فعل المتعلق وتركه ، فان الامر يكون فيه بالعكس ، حيث إن التقدير معلول الخطاب والخطاب يكون علة له ، لان الخطاب يقتضى فعل متعلقه وطرد تركه ، فيكون تقديرا الفعل والترك معلولي الخطاب بالنسبة إلى الفعل من حيث الوجود ، وبالنسبة إلى الترك لمكان اقتضائه عدم الترك.

الثاني : ان الخطاب بالنسبة إلى سائر التقادير يكون متعرضا ومتكفلا لبيان امر آخر غير تلك التقادير. غايته انه تعرض لذلك الامر عند وجود تلك التقادير ، فان خطاب الحج يكون متعرضا لفعل الحج من الاحرام والطواف وغير ذلك عند وجود الاستطاعة ، وليس لخطاب الحج تعرض لتقدير الاستطاعة. وهذا بخلاف تقديري الفعل والترك فان الخطاب بنفسه متكفل لبيان هذا التقدير ومتعرض لحاله ، حيث إنه يقتضى فعل المتعلق وعدم تركه ، وليس للخطاب تعرض لشيء آخر سوى هذا التقدير ، بخلاف سائر التقادير فان الخطاب فيها متعرض لشيء آخر غير تلك التقادير.

إذا عرفت ذلك

فاعلم : انه يترتب على ما ذكرناه ( من الفرق بين تقديري الفعل أو الترك المطالب به بالخطاب أو بنقيضه وبين سائر التقادير ) طولية الخطابين ، وخروجها من العرضية. وذلك لان خطاب الأهم حينئذ يكون متعرضا لموضوع خطاب المهم وطاردا ومقتضيا لهدمه ورفعه في عالم التشريع ، لان موضوع خطاب المهم هو عصيان خطاب الأهم وترك امتثاله ، وخطاب الأهم دائما يقتضى طرد الترك ورفع

ص: 351

عصيانه ، لان البعث على الفعل يكون زجرا عن الترك ، فخطاب الأهم يقتضى طرد موضوع المهم ورفعه. واما خطاب المهم فهو انما يكون متعرضا لحال متعلقه ولا تعرض له لحال موضوعه ، لان الحكم لا يتكفل حال موضوعه من وضع أو رفع ، بل هو حكم على تقدير وجوده ومشروط به ، ولا يخرج عن هذا الاشتراط إلى الاطلاق ولو بعد تحقق موضوعه ، لما عرفت : من أن الواجب المشروط لا يصير مط بعد تحقق شرطه. فلسان خطاب المهم هو : انه ان وجد موضوعي وتحقق خارجا فيجب فعل متعلقي. ولسان خطاب الأهم هو : انه ينبغي ان لا يوجد موضوع خطاب المهم وان لا يتحقق. وهذان اللسانان كما ترى ليس بينهما مطاردة ومخالفة ، وليسا في رتبة واحدة ، بل خطاب الأهم يكون مقدما في الرتبة على خطاب المهم ، لان خطاب الأهم واقع في الرتبة السابقة على موضوع خطاب المهم السابق عليه ، فهو متقدم عليه برتبتين أو ثلاث ، ولا يمكن ان ينزل خطاب الأهم عن درجته ويساوي خطاب المهم في الرتبة ، وكذا لا يمكن ان يصعد خطاب المهم من درجته ويساوي خطاب الأهم ، بل كل منهما يقتضى مرتبة لا يقتضيها الآخر. ومع هذا الاختلاف في الرتبة كيف يعقل ان يكونا في عرض واحد؟.

فاتضح من المقدمة الثانية والمقدمة الرابعة ، طولية الخطابين المترتبين وخروجهما عن العرضية.

بقى في المقام : بيان ان هذين الخطابين المترتبين لا يقتضيان ايجاب الجمع ، فلا يبق محذور في الخطاب الترتبي. والمقدمة الخامسة التي سنذكرها هي المتكفلة لبيان عدم اقتضائهما ايجاب الجمع. ففي الحقيقة المقدمات التي يتوقف عليها صحة الخطاب الترتبي هي ثلث : المقدمة الثانية ، والمقدمة الرابعة ، والمقدمة الخامسة. واما المقدمة الأولى ، فهي لبيان تحرير محل النزاع. والمقدمة الثالثة ، لبيان دفع بعض ما تخيل : من توقف الخطاب الترتبي عليه ، من كونه موقوفا على الواجب المعلق والشرط المتأخر ، على ما تقدم تفصيله.

المقدمة الخامسة :

تنقسم موضوعات التكاليف وشرائطها ، إلى ما لا يمكن ان تنالها يد الوضع

ص: 352

والرفع التشريعي ، والى ما يمكن ان تناله ذلك.

فالأول : كالعقل ، والبلوغ ، والوقت ، وغير ذلك من الأمور التكوينية الخارجية التي لا يمكن وضعها ورفعها في عالم التشريع.

والثاني : كالاستطاعة في الحج ، وفاضل المؤنة في الخمس والزكاة ، فإنها وان كانت من الأمور التكوينية أيضا ، الا انها قابلة للوضع والرفع التشريعي ، فإنه يمكن رفع الاستطاعة بخطاب شرعي كوجوب أداء الدين ، حيث إنه بذلك يخرج عن كونه مستطيعا. وكذا الحال بالنسبة إلى فاضل المؤنة.

ثم إن الموضوع والشرط ، اما ان يكون لحدوثه دخل في ترتب الحكم وبقائه ، من دون ان يكون لبقائه دخل في بقاء الحكم ، كالسفر والحضر ، بناء على أن العبرة بحال الوجوب لا الأداء ، فان ثبوت السفر أو الحضر في أول الوقت يكون له دخل في وجوب القصر أو التمام وان زال السفر أو الحضر عنه ، فان الحكم يبقى وان زالا. وهذا القسم من الموضوع انما يكون قابلا للدفع فقط لا للرفع ، إذ ليس له بقاء حتى يكون قابلا للرفع.

واما ان يكون لبقائه أيضا دخل في بقاء الحكم ، بحيث يدور بقاء الحكم مدار بقاء الموضوع ، كما في المثال لو قلنا بان العبرة بحال الأداء ، فح يكون بقاء وجوب القصر لمن كان مسافرا في أول الوقت مشروطا ببقاء السفر إلى زمان الأداء ، ويسقط وجوب القصر بسقوط السفر.

واما ان يكون لبقائه في مقدار من الزمان دخل في بقاء الحكم ، كاشتراط وجوب الصوم بالحضر إلى الزوال فيكون بقاء الحضر إلى الزوال شرطا لبقاء وجوب الصوم إلى الغروب. وهذان القسمان قابلان لكل من الدفع والرفع ، كما لا يخفى.

وعلى كل حال : الموضوع القابل للوضع والرفع التشريعي ، اما ان يكون قابلا للوضع والرفع الاختياري أيضا بحيث يكون اختيار الموضوع بيد المكلف له ان يرفعه ليرتفع عنه التكليف ، واما ان لايكون قابلا للوضع والرفع الاختياريين ، بل كان أمرا وضعه ورفعه بيد الشارع فقط ، واما ان يكون امر رفعه بيد المكلف واختياره فقط وليس بيد الشارع.

ص: 353

فالأول : كالسفر فإنه للمكلف رفعه باختيار الحضر ، فيرتفع عنه وجوب القصر. وللشارع أيضا رفعه بايجاب الإقامة عليه فلا يجب عليه القصر أيضا.

والثاني : كالاستطاعة فإنه ليس للمكلف رفعها وتفويتها بعد حدوثها ، فلو فوتها لم يسقط عنه وجوب الحج ، بل يستقر في ذمته ، ولكن للشارع رفعها بخطاب مثل وجوب أداء الدين مثلا فيسقط عنه وجوب الحج.

والثالث : لم نعثر له على مثال.

ثم إن الخطاب الرافع لموضوع خطاب آخر ، اما ان يكون بنفس وجوده رافعا ، كالتكاليف المالية التي توجب ان تكون متعلقها من المؤن كخطاب أداء الدين إذا كان من عام الربح لا من العام الماضي ( وأما إذا كان من العام الماضي فأدائه وامتثال التكليف يكون رافعا لموضوع الخمس لا نفس اشتغال الذمة به ) فيرتفع موضوع وجوب الخمس الذي هو عبارة عن فاضل المؤنة ، فان نفس تلك التكاليف توجب جعل متعلقاتها من المؤن ، فيخرج الربح عن كونه فاضل المؤنة ، ولا يتوقف صيرورتها من المؤن على امتثالها ، بل نفس وجود الخطاب رافع لموضوع خطاب الخمس.

واما ان يكون بامتثاله رافعا كخطاب الأهم فيما نحن فيه ، حيث يكون بامتثاله رافعا لموضوع خطاب المهم لا بوجوده ، على ما سيأتي بيانه.

فهذه جملة الأقسام التي يهمنا تنقيحها في المقام ، ليعلم الموارد التي يلزم ايجاب الجمع من اجتماع الخطابين ، والموارد التي لا يلزم ذلك. والا فالأقسام المتصورة في موضوعات التكاليف أكثر من ذلك.

وحاصل التقسيم : هو ان الموضوع لحكم ، اما ان يكون قابلا للوضع والرفع التشريعي ، واما ان لايكون قابلا لذلك. والأول : اما ان يكون قابلا لكل من الدفع والرفع ، واما ان يكون قابلا للدفع فقط. وعلى كلا التقديرين : اما ان يكون قابلا للرفع الاختياري أيضا ، واما ان لا يكون. والرفع التشريعي اما ان يكون بنفس التكليف ، واما ان يكون بامتثاله. وقد تقدم أمثلة ذلك كله فينبغي ح التكلم في احكام هذه الأقسام.

ص: 354

فنقول :

فما كان الموضوع لخطاب مما لا تناله يد الوضع والرفع التشريعي ، كالوقت بالنسبة إلى الصلاة ، فالخطاب المجامع لهذا الخطاب يقتضى ايجاب الجمع على المكلف ، إذا كان كل من الخطابين مط بالنسبة إلى حالتي فعل الآخر وتركه.

وان لم يكونا مطلقين ، بل كان كل منهما مشروطا بعدم فعل الآخر ، أو كان أحدهما مشروطا بفعل الآخر ، فلا يعقل اقتضائهما لايجاب الجمع. مثلا لو جامع خطاب آخر لخطاب الصلاة في وقتها ، فاما ان يكون كل من خطاب الصلاة وذلك الخطاب الاخر المجامع له مط بالنسبة إلى حالتي فعل متعلق الاخر وتركه ، واما ان يكون كل منهما مشروطا بعدم فعل الآخر ، أو كان أحدهما مشروطا دون الآخر.

فان كان كل منهما مط ، فلا محالة يقتضيان ايجاب الجمع ، فان أمكن للمكلف جمع المتعلقين وجبا معا ، كالصوم المجامع للصلاة خطابا وامتثالا ويمكن للمكلف الجمع بينهما أيضا. والمفروض ان كلا من الخطابين أيضا مطلق فيجب الجمع بينهما. وان لم يكن للمكلف الجمع بينهما ، اما لتضاد المتعلقين ، واما لقصور قدرة المكلف عن الجمع بينهما ، فلا محالة يكون الحكم فيه هو التخيير ، على ما تقدم تفصيله.

وان كان كل منهما مشروطا بعدم فعل الاخر ، أو كان أحدهما مشروطا بذلك ، فلا يعقل ان يقتضيا ايجاب الجمع ، لأن المفروض ان التكليف بكل منهما مقيد بعدم الآخر ، فيكون حكمه حكم الاحكام التخييرية الأولية ، كخصال الكفارات ، بل يكون هو هو بناء على أن الاحكام التخييرية عبارة عن اشتراط التكليف بكل فرد بعدم فعل الاخر ، كما هو أحد الوجوه في تصوير الواجب التخييري ، على ما تقدم بيانه. وكذا الحال ان كان أحدهما بالخصوص مشروطا بعدم فعل الآخر ، فإنه أيضا لا يلزم منه ايجاب الجمع كما هو واضح. وكيف يعقل اقتضائهما لايجاب الجمع ، مع أن الجمع لايكون مطلوبا ، بحيث لو أمكن للمكلف الجمع بينهما لم يقعا على صفة المطلوبية ، بل لو قصد بكل منهما امتثال الامر كان من التشريع المحرم ، بل لا يقع الامتثال بكل منهما لو كان كل منهما مشروطا بعدم فعل

ص: 355

الآخر ، لعدم تحقق شرط التكليف في كل منهما ، فلا يكون كل منها متعلق التكليف وذلك كله واضح. هذا إذا كان موضوع الخطاب غير قابل للتصرف التشريعي.

وأما إذا كان قابلا لذلك ، فالخطاب المجامع له ان لم يكن متعرضا لموضوع الآخر : من دفع أو رفع ، فالكلام فيه هو الكلام في القسم السابق طابق النعل بالنعل. فان كان كل من الخطابين مط يلزم ايجاب الجمع ، فان أمكن وجب ، وان لم يمكن فالتخيير. وان لم يكن كل منهما مط فلا يلزم ايجاب الجمع ، لاتحاد المناط في هذا القسم والقسم السابق في ذلك. ومجرد كون الموضوع في هذا القسم قابلا للدفع والرفع التشريعي لايكون فارقا بين القسمين ، ما لم يكن أحد الخطابين متعرضا لدفع موضوع الآخر أو رفعه.

وهذا من غير فرق ، بين ان يكون الموضوع قابلا للرفع الاختياري أيضا ، أو لم يكن. فإنه يلزم ايجاب الجمع على المكلف أيضا إذا كان كل من الخطابين مطلقا. ومجرد انه يمكنه رفع الموضوع اختيارا لا يرتفع عنه محذور ايجاب الجمع ، إذا استلزم ايجاب الجمع محذورا ، كما إذا كان بين المتعلقين تضاد ، فان القدرة المعتبرة في التكاليف انما هو القدرة على متعلقاتها ، لا على موضوعاتها ، ولا اثر للقدرة على موضوعاتها ، فهل ترى انه يصح تكليف المسافر بالمحال من جهة انه قادر على رفع السفر؟.

والحاصل : ان قبح التكليف بما لا يطاق انما هو بالنظر إلى المتعلق فالعبرة به ، لا بالموضوع. فاجتماع التكليفين الموجبين لايجاب الجمع على المكلف مع عدم قدرة المكلف على الجمع قبيح ولو فرض ان امر الموضوع بيد المكلف وان له رفعه ، ليرتفع عنه أحد التكليفين.

وبذلك ظهر : ان تصحيح الامر الترتبي - بان العصيان الذي هو موضوع خطاب المهم امر اختياري للمكلف ، له رفعه بعدم عصيان الأهم وإطاعته فلا مانع من اجتماع كل من خطاب الأهم والمهم - فاسد جدا. لما عرفت : من أن القدرة على رفع الموضوع لا اثر لها في قبح التكليف بما لا يطاق ، فالخطاب الترتبي لا يمكن تصحيحه بذلك. هذا إذا كان الخطاب المجامع لخطاب آخر غير متعرض لموضوع

ص: 356

الآخر من دفع ورفع.

وأما إذا كان متعرضا له ، فاما ان يكون نفس الخطاب رافعا أو دافعا لموضوع الآخر ، واما ان يكون امتثاله. فان كان الأول ، فهذا مما يوجب عدم اجتماع الخطابين في الفعلية ، ولا يعقل ان يكون كل من الخطابين فعليا ، لان وجود أحد الخطابين رافع لموضوع الآخر ، فلا يبقى مجال لفعلية الآخر حتى يقع المزاحمة بينهما. بل أحد الخطابين يكون مقدما على الآخر بمرتبتين ، فإنه يكون مقدما على موضوع الآخر ، كما هو مقتضى رفعه له ، والموضوع أيضا يكون مقدما على ما يستتبعه من الخطاب ، فالخطاب الرافع لموضوع الاخر يكون مقدما على الآخر بمرتبتين. ومع هذا كيف يعقل ان يقع التزاحم بين الخطابين؟ فخطاب أداء الخمس لا يعقل ان يزاحم خطاب أداء الدين ، بعد ما كان خطاب أداء الدين رافعا لموضوع خطاب الخمس وذلك واضح.

وان كان الثاني ، أي كان أحد الخطابين بامتثاله رافعا لموضوع الآخر ، فهذا هو محل البحث في الخطاب الترتبي ، حيث يتحقق اجتماع كل من الخطابين في الفعلية ، لأنه ما لم يتحقق امتثال أحد الخطابين الذي فرضنا انه رافع لموضوع الآخر بامتثاله لا يرتفع الخطاب الآخر ، لعدم ارتفاع موضوعه بعد ، فيجتمع الخطابان في الزمان وفي الفعلية بتحقق موضوعهما ، فيقع البحث حينئذ عن أن اجتماع مثل هذين الخطابين أيضا يوجب ايجاب الجمع حتى يكون من التكليف بالمحال ، أو لا يوجب ذلك؟.

والحق انه لا يوجب ذلك لجهتين. وينبغي أولا التنبيه على بعض الفروع الفقهية التي لا محيث للفقيه عن الالتزام بها ، مع أنها تكون من الخطاب الترتبي.

منها :

ما لو فرض حرمة الإقامة على المسافر من أول الفجر إلى الزوال ، فلو فرض انه عصى هذا الخطاب وأقام ، فلا اشكال في أنه يجب عليه الصوم ويكون مخاطبا به ، فيكون في الآن الأول الحقيقي من الفجر قد توجه إليه كل من حرمة الإقامة ووجوب الصوم ، ولكن مترتبا ، يعنى ان وجوب الصوم يكون مترتبا على عصيان حرمة

ص: 357

الإقامة ، ففي حال الإقامة يجب عليه الصوم مع حرمة الإقامة أيضا لأن المفروض حرمة الإقامة عليه إلى الزوال ، فيكون الخطاب الترتبي محفوظا من الفجر إلى الزوال. فيكون عين الخطاب الترتبي فيما نحن فيه من مسألة الضدين ، ان قلنا بان الإقامة قاطعة لحكم السفر لا لموضوعه ، فإنه يكون خطاب الصوم حينئذ مترتبا على عصيان خطاب الإقامة بلا توسيط شيء ، كترتب خطاب المهم على عصيان خطاب الأهم حذو النعل بالنعل.

نعم : لو قلنا بان الإقامة قاطعة لموضوع السفر ، كالمرور على الوطن ، كان خطاب الصوم مترتبا على موضوع الحاضر وغير المسافر ، لا على عصيان حرمة الإقامة. ولكن يكون عصيان حرمة الإقامة علة لتحقق ما هو موضوع وجوب الصوم ، حيث إن بعصيان حرمة الإقامة يتحقق عدم السفر وعنوان الحاضر ، وبتحقق ذلك العنوان يتحقق خطاب الصوم ، فيتوسط بين عصيان خطاب الإقامة وخطاب الصوم هذا العنوان. بخلاف ما إذا قلنا بان الإقامة قاطعة لحكم السفر لا لموضوعه ، فإنه لا يتوسط بين الخطابين شيء أصلا.

ولكن على كل حال وتقدير : ان توسط العنوان لا يدفع المحذور لو كان هناك محذور ، فإنه يجتمع كل من خطاب حرمة الإقامة ووجوب الصوم في الآن الأول من الفجر. غايته انه بناء على قاطعية الإقامة لحكم السفر يكون خطاب الصوم مترتبا على نفس عصيان خطاب الإقامة. ولو كانت قاطعة لموضوع السفر يكون خطاب الصوم مترتبا على ما يكون عصيان خطاب الإقامة علة له.

ومنها :

ما لو فرض وجوب الإقامة على المسافر من أول الزوال ، فيكون وجوب القصر عليه مترتبا على عصيان وجوب الإقامة ، حيث إنه لو عصى ولم يقصد الإقامة توجه عليه خطاب القصر. وكذا لو فرض حرمة الإقامة ، فان وجوب التمام يكون مترتبا على عصيان حرمة الإقامة.

ومنها :

وجوب الخمس المترتب على عصيان خطاب أداء الدين إذا لم يكن الدين

ص: 358

من عام الربح. وأما إذا كان من عام الربح فيكون خطاب أداء الدين بنفس وجوده رافعا لخطاب الخمس لا بامتثاله ، على ما تقدم.

ومنها :

غير ذلك من الفروع التي لا مفر للفقيه عن الالتزام بها ، مع أنها كلها تتوقف على الخطاب الترتبي. ولا فرق بين الفروع المتقدمة وبين ما نحن فيه ، سوى ان الفروع المتقدمة تكون في ممكني الجمع ، حيث لا تضاد بين المتعلقين ، فيمكنه الجمع بين ترك الإقامة والصوم معا ، حيث لا تضاد بينهما من حيث أنفسهما وان كان بعد النهى الشرعي عن الصوم في السفر لا يمكنه الصوم الصحيح في السفر ، الا ان هذا غير التضاد بحسب ذاتهما ، كما فيما نحن فيه ، حيث إن الكلام في الخطاب الترتبي ، لا فيما إذا كان بين المتعلقين تضاد. ولكن امكان الجمع وعدم امكانه لا يوجب فرقا فيما هو ملاك الاستحالة كما لا يخفى. فان استحال الخطاب الترتبي ففي الجميع لا بد ان يستحيل ، والا ففي الجميع أيضا ينبغي الالتزام به. والغرض من هذا التطويل التنبيه على أن الخطاب الترتبي ليس بعزيز الوجود في الفقه.

فلنرجع إلى ما كنا فيه : من أن الخطاب الترتبي لا يقتضى ايجاب الجمع ، وما لم يكن مقتضيا لايجاب الجمع لا وجه لاستحالته. اما عدم اقتضائه لايجاب الجمع فمن وجهين. ولا بد أولا من معرفة معنى الجمع وما يوجب ايجابه.

فنقول : اما الجمع فهو عبارة عن اجتماع كل منهما في زمان امتثال الآخر ، بحيث يكون امتثال أحد الخطابين مجامعا في الزمان لامتثال الاخر ، كمجامعة الصلاة للصوم وبالعكس.

واما الذي يوجب ايجاب الجمع فهو أحد أمرين :

اما تقييد كل من المتعلقين بحال فعل الاخر ، أو تقييد أحدهما بحال الآخر ، كتقييد القراءة بحال القيام.

واما اطلاق كل من الخطابين لحال فعل الاخر ، كاطلاق الامر بالصلاة في حال فعل الصوم وبالعكس ، فان الاطلاق ينتج نتيجة التقييد في اقتضائه ايجاب الجمع.

ص: 359

إذا عرفت ذلك ، ظهر لك ان الخطاب الترتبي لا يقتضى ايجاب الجمع ، بل يقتضى نقيض ايجاب الجمع ، بحيث لايكون الجمع مطلوبا لو فرض امكانه ، لمكان ان الخطاب بالمهم مشروط بعصيان الأهم وخلو الزمان عنه ، ومع هذا كيف يقتضيان ايجاب الجمع؟ فلو اقتضيا ايجاب الجمع والحال هذه يلزم من المحالات ما يوجب العجب في كل من طرف الواجب الذي هو المهم ووجوبه ، أي يلزم المحال في كل من طرف الطلب والمطلوب.

اما استلزام المحال في طرف المطلوب : فلان مطلوبية المهم ووقوعه على هذه الصفة انما تكون في ظرف عصيان الأهم وخلو الزمان عنه ، بداهة ان ما يكون قيدا للطلب يكون قيدا للمطلوب ، لا بمعنى انه يكون من قيود المادة التي يجب تحصيلها ، حتى يقال : ان ذلك ينافي كونه قيدا للطلب ، بل بمعنى انه يقتضى وقوع المطلوب عقيب وجود القيد ، كوقوع الحج على صفة المطلوبية عقيب الاستطاعة ، فوقوع المهم على صفة المطلوبية يكون بعد عصيان الأهم ، بحيث يعتبر فيه ذلك. فلو فرض وقوعه على صفة المطلوبية في حال وجود الأهم وامتثاله أيضا ، كما هو لازم ايجاب الجمع ، يلزم الجمع بين النقيضين ، إذ يلزم ان يعتبر في مطلوبية المهم وقوعه بعد العصيان ، ويعتبر أيضا في مطلوبيته وقوعه في حال عدم العصيان ، بحيث يكون كل من حالتي وجود العصيان وعدمه قيدا في المهم ، وهذا كما ترى يستلزم الجمع بين النقيضين.

واما استلزام المحال في طرف الوجوب : فلان خطاب الأهم يكون من علل عدم خطاب المهم ، لاقتضائه رفع موضوعه ، فلو اجتمع خطاب الأهم والمهم وصار خطاب المهم في عرض خطاب الأهم كما هو لازم ايجاب الجمع ، لكان من اجتماع الشيء مع علة عدمه. وح اما ان تقول : بأنه قد خرجت العلة عن كونها علة للعدم ، واما ان تقول : قد خرج العدم عن كونه عدما ، واما ان تقول : ببقاء العلة على عليتها والعدم على عدمه ومع ذلك اجتمعا ، وكل هذا كما ترى يلزم منه الخلف والمناقضات العجيبة.

فدعوى ان الخطاب الترتبي يقتضى ايجاب الجمع مساوقة لدعوى وقوع الخلف واجتماع النقيضين من جهات عديدة.

ص: 360

مضافا إلى أن البرهان المنطقي يقتضى أيضا عدم ايجاب الجمع ، فان الامر الترتبي المبحوث عنه في المقام إذا أبرزناه بصورة القضية الحملية يكون من المنفصلة المانعة الجمع لا مانعة الخلو. وذلك لان الضابط في كون القضية مانعة الجمع ، هو كون الحكم فيها بتنافي النسبتين بحيث يمتنع اجتماعهما ، كقولك : ان فاض ماء الشط فاما ان يغرق الزرع واما ان يسيل الماء إلى الأودية ، حيث يمتنع اجتماع كل من غرق الزرع وسيلان الماء إلى الأودية ، فان سيلان الماء إلى الأودية يوجب عدم غرق الزرع ، لنقصان ماء الشط بتوجه مائه إلى الأودية ، فلا يصل الماء إلى الزرع ليغرقه ، فغرق الزرع ينافي سيلان الماء إلى الأودية ، ولا يمكن اجتماعهما ، بل غرق الزرع مترتب على عدم السيلان ولا غرق مع السيلان.

وحينئذ نقول في المقام : ان امر الأهم له نسبتان ، كما تقدم منا في أول مبحث الأوامر من أن هيئة افعل تتضمن نسبتين : نسبة المادة إلى الآمر بالنسبة الطلبية ، ونسبتها إلى الفاعل بالنسبة التلبسية. والتنافي في الامر الترتبي انما يكون بين النسبة الطلبية في جانب المهم والنسبة الفاعلية في جانب الأهم ، لا النسبة الطلبية في جانبه فان المفروض انحفاظ طلب الأهم عند طلب المهم. فلا تنافى بين النسبتين الطلبيتين ، كما في باب الوضوء والتيمم ، حيث إن التنافي هناك بين النسبة الطلبية للتيمم والنسبة الطلبية للوضوء ، وكان طلب التيمم مترتبا على عدم طلب الوضوء. وهذا بخلاف المقام ، فان التنافي فيه انما يكون بين النسبة الطلبية من جانب المهم والنسبة الفاعلية من جانب الأهم. فصورة القضية الحملية تكون هكذا : اما ان يكون الشخص فاعلا للأهم ، واما ان يجب عليه المهم ، فهناك تناف بين وجوب المهم وفعل الأهم ، ومع هذا التنافي كيف يعقل ايجاب الجمع؟ مع أن ايجاب الجمع يقتضى عدم التنافي بين كون الشخص فاعلا للأهم وبين وجوب المهم عليه. بل لا بد ان يكون كذلك فضلا عن عدم التنافي.

فتحصل من جميع ما ذكرنا :

ان الامر الترتبي لا يعقل اقتضائه لايجاب الجمع ، حتى يقال باستحالته وانه تكليف بالمحال لعدم القدرة على الجمع بين الضدين ، وذلك لوجوه ثلاثة :

ص: 361

الأول :

ان الامر الترتبي لا يختص بالضدين الذين لا يمكن جمعهما في الوجود ، بل يجرى في ممكني الجمع أيضا ، كما في مثل الإقامة والصوم ، والدين والزكاة ، وغير ذلك من الأمثلة المتقدمة. فكما ان الامر الترتبي في ممكني الجمع لا يتقضى ايجاب الجمع ، فكذلك في ممتنعي الجمع كالضدين.

ودعوى ان الأمثلة المذكورة مجرد فرض لا تحقق له في الخارج فلا تصلح ان تجعل دليلا على امكان الخطاب الترتبي واضحة الفساد ، فان مبنى الاستنباط على فرض الاحكام على نهج القضايا الحقيقية. فهذه الدعوى أشبه شيء بما يقال : من أن الغراب لا يقع في البئر فلا معنى لتقدير ما ينزح له عند فرض وقوعه في البئر.

الثاني :

ان الامر الترتبي لو اقتضى ايجاب الجمع يلزم من الجمع بين المتنافيين في كل من طرف الوجوب والواجب ومن الخلف في طرف الوجوب ، ما لا يخفى ، على ما تقدم تفصيله.

الثالث :

ان ايجاب الجمع ينافي البرهان المنطقي ، كما تقدم. فهذه الوجوه الثلاثة كلها تقتضي ان الامر الترتبي لا يوجب ايجاب الجمع ، وبعد ذلك لا ينبغي لمن هو من أفضل العلماء الاصغاء إلى دعوى امتناع الخطاب الترتبي من جهة استلزامه ايجاب الجمع.

نعم بقى في المقام : بعض الاشكالات التي ربما تختلج في الذهن ونحن نوردها بلسان ( ان قلت ) ونجيب عن كل واحد منها.

فان قلت :

ان ايجاب الجمع لا يتوقف على ثبوت الاطلاق من الطرفين ، بل يكفي فيه ثبوت الاطلاق من طرف واحد. وفي المقام وان كان خطاب المهم مشروطا بعصيان الأهم وخلو الزمان عنه ، الا ان خطاب الأهم مطلق ويعم كلتا حالتي فعل المهم وعدمه. ففي رتبه تحقق خطاب المهم وهي رتبة عصيان الأهم ، يكون خطاب

ص: 362

المهم مقتضيا لايجاد متعلقه وباعثا نحوه ، وفي تلك الرتبة يكون خطاب الأهم محفوظا حسب الفرض فيقتضى ايجاد متعلقه والبعث إليه ، فتكون نتيجة الخطابين البعث نحو الضدين ، ونتيجة ذلك هو ايجاب الجمع ، فإنه حال اشتغال المكلف بفعل المهم المطالب به يطالب بفعل الأهم أيضا حسب اطلاقه ، ومع هذا كيف لا يلزم ايجاب الجمع؟.

قلت :

دعوى ان ايجاب الجمع لا يتوقف على ثبوت الاطلاق من الطرفين ويكفي فيه الاطلاق من طرف واحد ، مساوقة لدعوى جواز اجتماع النقيضين ، لما عرفت : من أن ايجاب الجمع معناه انه في حال الاشتغال بكل من متعلقي الخطابين يطالب بالآخر ويؤمر به ، وفي المقام في حال الاشتغال بالأهم لا يطالب بالمهم ولا يتعلق الامر به ، فيكون نسبة المهم إلى الأهم في حال الاشتغال بالأهم كنسبة المباحات إليه ، ومع هذا كيف يلزم ايجاب الجمع؟.

والحاصل : ان ايجاب الجمع لايكون الا إذا كان هناك مطلوبان ، بحيث لو فرض محالا امكان الجمع بينهما ، كان كل منهما مطلوبا ويقع محبوبا. وفي المقام لو فرض محالا انه جمع المكلف بين الأهم والمهم كان المهم لغوا ، ولا يقع على صفة المطلوبية ، لعدم تحقق ملاك وجوبه من ترك الأهم ، فإذا لم يكن هناك الا مطلوب واحد في جميع الحالات ، غايته انه في حال فعل الأهم يكون هو المطلوب ، وفي حال تركه يكون المهم مطلوبا وان كان طلب الأهم لم يسقط ، فكيف يقال انه يجب الجمع ، وهل هذا الا تناقض؟.

فان قلت :

لا يصح الخطاب المولوي الشرعي الا إذا أمكن ان يكون داعيا نحو الفعل ، وباعثا إليه. وداعوية الخطاب بالنسبة إلى غالب نفوس البشر انما هي باعتبار ما يستتبعه من الثواب والعقاب ، إذ قل ما يكون نفس الخطاب بما هو خطاب صادرا من المولى المنعم داعيا نحو الامتثال ، الا بالنسبة إلى الأوحدي ، بل ينحصر ذلك بالأولياء المقربين الذين لا يعبدون اللّه خوفا من النار أو طمعا في الجنة بل وجدوه

ص: 363

اهلا للعبادة فعبدوه. واما ما سوى ذلك فالعبادة انما تكون للخوف من العقاب والطمع في الثواب ، فلا بد ان يكون كل خطاب الزامي مولوي مستتبعا لاستحقاق العقاب ليصلح ان يكون داعيا ، والا خرج عن المولوية إلى الارشادية.

وحينئذ نقول : ان الخطابين المترتبين ، اما ان يستتبعا عقابين ، واما ان لا يستتبعا الا عقابا واحدا. فان استتبعا عقابين يلزم ان يكون العقاب على غير المقدور ، وهو في الاستحالة كالخطاب بغير المقدور ، لوضوح انه لا يمكن للمكلف امتثال الخطابين المترتبين ، لتضاد متعلقهما ، فلا يمكنه الجمع في الامتثال. فإذا امتنع امتثالهما امتنع بالعقاب على تركهما ، لاستلزام العقاب على الممتنع وغير المقدور ، فلا بد ح من الالتزام بوحدة العقاب عند ترك امتثال الخطابين ، ومعلوم ان العقاب حينئذ يكون على ترك الأهم لا على ترك المهم ، فيخرج خطاب المهم عن كونه مولويا ، لامتناع ما يستتبعه من العقاب ، ويكون ارشاديا محضا لادراك مصلحته. فظهر ان الخطاب الترتبي لو لم يكن محالا من جهة اقتضائه لايجاب الجمع ، فهو محال من جهة ما يستتبعه من العقاب.

قلت :

منشأ امتناع تعدد العقاب في المقام ليس الا من جهة انه ليس هناك الا مطلوب واحد في جميع الحالات ، لا مطلوبان ، لعدم الامر بالجمع حتى يكون هناك مطلوبان ، كما تقدم من أنه حال فعل الأهم لايكون المطلوب الا هو ، وفي حال تركه لايكون المطلوب الا المهم ، وان لم يسقط طلب الأهم بعد ، والمطلوب الواحد لا يستتبع الا عقابا واحدا.

وحينئذ نقول : ان المطلوب الواحد لا يستلزم وحدة العقاب دائما لما فيه.

أولا : نقضا بالواجبات الكفيائة ، وتعاقب الأيادي ، فإنه ليس هناك الا مطلوب واحد وهو دفن الميت مثلا أو تكفينه ، أو أداء مال الناس في تعاقب الأيادي. وهذا المطلوب الواحد لا يمكن ان يجتمع المكلفون على امتثاله ، بل لا يصلح الخطاب الكفائي أو خطاب أداء مال الناس الا لامتثال واحد. وذلك الامتثال الواحد لا يمكن ان يصدر الا من مكلف واحد ، ومع ذلك عند ترك الجميع يتعدد

ص: 364

العقاب ، حسب تعدد المكلفين وذوي الأيادي ، فكيف تعدد العقاب مع عدم امكان تعدد الامتثال؟ فما يجاب به عن ذلك في ذلك المقام ، نجيب به في المقام.

وثانيا : حلا وحاصله : ان العبرة في استحقاق العقاب هو ملاحظة كل خطاب بالنسبة إلى كل مكلف في حد نفسه وبحيال ذاته ، بمعنى انه يلاحظ الخطاب هو وحده مع قطع النظر عن اجتماعه مع خطاب آخر ، ويلاحظ كل مكلف أيضا هو وحده مع قطع النظر عن اجتماعه مع مكلف آخر ، فان كان متعلق ذلك الخطاب الملحوظ وحده مقدورا بالنسبة إلى ذلك المكلف الملحوظ وحده ، فعند تركه وعصيانه يستحق العقاب ، والا فلا. واما ملاحظة اجتماع الخطاب لخطاب آخر ، أو اجتماع المكلف مع مكلف آخر ، واعتبار القدرة على المجموع من متعلقي الخطابين ، أو مجموع المكلفين ، فهو مما لا عبرة به ولا موجب لهذا اللحاظ ، بل العبرة انما هي بالقدرة على متعلق كل خطاب من حيث نفسه لكل مكلف كذلك.

نعم : لو تعلق التكليف في مكان بالجمع بين الشيئين ، أو اجتماع المكلفين في شيء واحد ، فلا بد حينئذ ان يكون الجمع بين الشيئين مقدورا ، ليصح التكليف به ، وكذا اجتماع المكلفين. الا ان هذا يحتاج إلى دليل بالخصوص على اعتبار الجمع. ومع عدم قيامه ، فالعبرة بالقدرة على متعلق كل خطاب من حيث نفسه مع قطع النظر عن اجتماعه مع خطاب آخر وكل مكلف كذلك. ومن المعلوم : تحقق القدرة في كل من متعلق الخطابين المترتبين في حد نفسه وكل مكلف في الواجب الكفائي وفي أداء مال الناس من حيث نفسه ، فعند ترك كلا المتعلقين يستحق عقابين. وكذا عند ترك الكل للواجب الكفائي أو أداء مال الناس يستحق الجميع للعقاب ، لتحقق شرط استحقاق العقاب ، وهو القدرة على كل متعلق في حد نفسه وقدرة كل مكلف على امتثال الواجب الكفائي وأداء الدين. وان لم تتحقق القدرة على الاجتماع بعد عدم تعلق التكليف بالاجتماع ، فضم لفظ الاجتماع في المقام مما لا معنى له. مع أنه لو فرض ان للاجتماع دخلا في العقاب ، فالذي له دخل هو الجمع في العصيان لا الجمع في الامتثال ، فان العقاب انما يكون مترتبا على العصيان ، لا على الامتثال.

ص: 365

فالذي يعتبر فيه القدرة هو الجمع في العصيان ، والمفروض انه قادر على الجمع في العصيان بترك الأهم والمهم ، إذ ليس الكلام في الضدين الذي لا ثالث لهما ، فعند جمعه في العصيان لابد ان يتعدد عقابه ، كما أنه لابد عند اجتماع المكلفين في ترك الواجب الكفائي من استحقاق كل منهم العقاب. فلا محيص في المقام من الالتزام بتعدد العقاب عند ترك كل من الأهم والمهم ، ولا محذور فيه أصلا.

فان قلت :

هب انه أمكن الخطاب الترتبي من حيث الخطاب والعقاب ، الا انه مجرد الامكان لا يكفي في الوقوع ، بل لابد من إقامة الدليل عليه. نعم : الخطاب الترتبي في مثل الإقامة والصوم لا يحتاج إلى دليل ، بل نفس أدلة وجوب الصوم على من كان مقيما في أول الفجر إلى الزوال يكفي في اثبات الامر الترتبي عند عصيان حرمة الإقامة ، ولكن في مثل الضدين لم يقم دليل على وجوب المهم عند عصيان الأهم. فالقائل بالترتب لابد له من إقامة الدليل على ذلك.

قلت :

نفس الأدلة الأولية المتعرضة لحكم المتزاحمين مع قطع النظر عن تزاحمهما كافية في اثبات الامر الترتبي ، لأن المفروض ان لكل من الأهم والمهم حكما بحيال ذاته مع قطع النظر عن وقوع المزاحمة بينهما ، وكان الدليل المتكفل لذلك الحكم مط يعم حالتي فعل الآخر وعدمه ، فإذا وقع التزاحم بينهما من حيث قدرة المكلف وعدم تمكنه من الجمع الذي كان يقتضيه الاطلاق ، فان لم يكن لاحد الحكمين مرجح من أهمية أو غيرها ، فلابد من سقوط كلا الاطلاقين ، لان سقوط أحدهما ترجيح بلا مرجح ، وتكون نتيجة الخطابين بعد سقوط اطلاقهما ( لمكان اعتبار القدرة ) هو التخيير عقلا. وان كان لأحدهما مرجح ، كالأهمية فيما نحن فيه ، فالساقط هو اطلاق المرجوح فقط ، مع بقاء اطلاق الراجح على حاله. واما أصل الخطاب بالمرجوح فلا موجب لسقوطه إذ من اطلاقه نشئت المزاحمة لا من أصل وجوده ، والضرورات تتقدر بقدرها ، فإذا سقط اطلاقه يبقى مشروطا بترك الراجح ، وهو المراد من الامر الترتبي. فالمتكفل لاثبات الامر الترتبي هي الأدلة الأولية المتعرضة لحكم المتزاحمين من

ص: 366

حيث أنفسهما ، بضميمة حكم العقل باشتراط التكليف بالقدرة وقبح ترجيح المرجوح على الراجح أو مساواته له. فإنه من هذه الأمور الثلاثة ينتج اشتراط خطاب المهم بترك الأهم ، كما لا يخفى. هذا تمام الكلام في المسألة الأولى من مسائل الترتب ، وهي ما إذا كان التزاحم ناشئا عن تضاد المتعلقين.

وينبغي التنبيه على أمور :

الامر الأول :

قد عرفت في أول البحث ، ان مورد البحث في الامر الترتبي انما هو فيما إذا كان الملاك لكل من الامرين - من المترتب والمترتب عليه - ثابتا ومتحققا عند التزاحم ، بحيث لو منعنا عن الامر الترتبي أمكن تصحيح العبادة بالملاك ، بناء على كفاية ذلك في صحة العبادة ، وعدم القول بمقالة صاحب الجواهر : من توقف الصحة على الامر وعدم كفاية الملاك على ما هو المحكى عنه. والسر في اعتبار الملاك في الامر الترتبي واضح ، فإنه لو لم يكن ملاك امتنع الامر ، لتوقف الامر على الملاك ، على ما عليه العدلية.

ومن ذلك يظهر : امتناع الامر الترتبي في المتزاحمين الذي كان أحدهما مشروطا بالقدرة الشرعية ، لان المزاحم المشروط بذلك يكون خاليا عن الملاك ، لما تقدم : من أن القدرة الشرعية لها دخل في الملاك ، فعند انتفائها ينتفى الملاك ، ومع انتفائه يمتنع الامر الترتبي.

وهذا من غير فرق بين استفادة اعتبار القدرة الشرعية من دليل متصل كما في الحج ، أو بدليل منفصل كما في الوضوء ، حيث إن الامر الوضوئي وان لم يقيد بالقدرة في لسان دليله ، الا انه من تقييد الامر التيممي بذلك يستفاد تقييد الامر الوضوئي بالقدرة. وهذا بعد تفسير الوجدان المأخوذ في آية التيمم بالتمكن ، فان مقتضى المقابلة بين الوضوء والتيمم من حيث تقييد التيمم بعدم التمكن من الماء يستفاد ان الوضوء مشروط شرعا بالتمكن ، والا لم تتحقق المقابلة بين الوضوء والتيمم ، ولزم ان يكون ما في طول الشيء في عرضه ، وأن يكون التفصيل غير قاطع للشركة ، وبطلان كل ذلك واضح. مع أن نفس بدلية التيمم للوضوء يقتضى

ص: 367

اشتراط الوضوء بالقدرة الشرعية ، على ما تقدم في مرجحات التزاحم : من أن لازم البدلية الشرعية ذلك. فاستفادة اعتبار القدرة الشرعية في الوضوء تكون من وجهين : من تقييد التيمم بعدم التمكن ، ومن بدلية التيمم للوضوء. وح لو فرض انتفاء القدرة الشرعية للوضوء ، بحيث انتقل تكليفه إلى التيمم - كما لو وجب صرف ما عنده من الماء لحفظ النفس المحترمة - كان وضوئه خاليا عن الملاك ، فلو عصى وتوضأ كان وضوئه باطلا ، ولا يمكن تصحيحه لا بالملاك ، ولا بالامر الترتبي. ومن الغريب ما حكى عن بعض الأعاظم في حاشيته على النجاة : من القول بصحة الوضوء والحال هذه ، ولا يخفى فساده.

الامر الثاني :

الامر الثاني : (1).

قد عرفت أيضا ان مورد الخطاب الترتبي انما هو في التكليفين المتزاحمين الذين لا يمكن الجمع بينهما لمكان عدم القدرة ، وتزاحم التكاليف انما يكون بعد تنجزها ووصولها إلى المكلف وكونها محرزة لديه بأنفسها ، اما بالاحراز الوجداني العلمي ، واما بالطرق المحرزة للتكاليف : من الطرق والامارات والأصول المحرزة ، فلا يتحقق التزاحم فيما إذا لم تكن التكاليف واصلة إلى المكلف وكانت مجهولة لديه ، وان كان بالجهل التقصيري ، بحيث كان الواجب عليه الاحتياط أو التعلم ، فان مجرد ذلك لا يكفي في التزاحم لعدم خروج التكليف بذلك عن كونه مجهولا. والعقاب انما يكون على ترك التعلم عند مصادفته لترك الواقع ، لا مطلقا كما هو المحكى من المدارك ، على ما فصلنا القول في ذلك في محله.

والحاصل : انه في صورة الجهل بالتكليف لا يعقل الخطاب الترتبي ، لعدم المزاحمة بين التكليفين ، وان فرض استحقاق العقاب على ترك التكليف المجهول في .

ص: 368


1- لا يخفى عليك : ان شيخنا الأستاذ مد ظله عدل عما افاده في هذا التنبيه بكلا التقريبين الآتيين ، والتزم بالآخرة بجريان الخطاب الترتبي في كل ما يكون منجزا ، ولو كان من جهة وجوب التعلم ، سواء في ذلك الشبهات الموضوعية والحكمية. نعم : في خصوص مسئلتي الجهر والاخفات وما شابههما لا يجرى الخطاب الترتبي لكون التضاد فيهما دائميا وكونه يلزم الامر بالحاصل ، على ما بيناه في المتن ، فراجع - منه.

صورة كون الجاهل مقصرا. وكيف يعقل الخطاب الترتبي مع أنه عبارة عن اخذ عصيان أحد التكليفين شرطا للتكليف الآخر؟ ومعلوم ان الجاهل بالتكليف وان كان عن تقصير لا يرى نفسه عاصيا ولا يلتفت إلى ذلك ، إذ الالتفات إلى كونه عاصيا يتوقف على العلم بالتكليف ، فيخرج عن كونه جاهلا ، فلا يعقل ان يقال : أيها العاصي للتكليف المجهول يجب عليك كذا ، فإنه بمجرد التفاته إلى كونه عاصيا ينقلب جهله بالتكليف إلى كونه عالما به.

وهذا نظير ما قلنا في محله : من أنه لا يعقل تكليف الناسي لجزء بالفاقد له ، لأنه بمجرد الالتفات إلى كونه ناسيا يخرج عن كونه ناسيا. ومن هنا ظهر : ان تصحيح عبادة تارك الجهر أو الاخفات والقصر أو الاتمام بالخطاب الترتبي - كما عن الشيخ الكبير كاشف الغطاء - (1) مما لا يستقيم. إذ لا يعقل ان يقال : أيها العاصي بترك الجهر أخفت أو بالعكس ، لان التفاته إلى كونه عاصيا يستدعى العلم بوجوب الجهر عليه ومع علمه بوجوب الجهر لا يصح الاخفات منه ، إذ صحة الاخفات مقصورة بصورة الجهل بوجوب الجهر عليه.

ولا يتوهم : ان لا يتوقف صحة التكليف بالاخفات على الالتفات إلى كونه عاصيا للجهر ، بل يكفي كونه عاصيا في الواقع ، كما حكى عن الشيخ ( قده ) نظير هذا في الناسي (2) وقال بصحة تكليف الناسي وان لم يلتفت إلى كونه ناسيا ، بل يرى نفسه ذاكرا إلى أنه يقصد الامر المتوجه إليه واقعا ، غايته انه يتخيل انه ذاكر

ص: 369


1- قال في مقدمة كشف الغطاء : « ان انحصار المقدمة بالحرام بعد شغل الذمة لا ينافي الصحة وان استلزم المعصية ، وأي مانع من أن يقول الآمر المطاع لمأموره : إذا عزمت على معصيتي في ترك كذا فافعل كذا كما هو أقوى الوجوه في حكم جاهل الجهر والاخفات والقصر والاتمام .. » ( مقدمات كشف الغطاء ، البحث الثامن عشر من المقصد الأول من الفن الثاني ، ص 27
2- ذكر المحقق المقرر قدس سره في المجلد الثاني من الفوائد ، في الامر الأول من تنبيهات الأقل والأكثر « هذا ما حكاه شيخنا الأستاذ مد ظله عن تقريرات بعض الأجلة لبحث الشيخ قدس سره في مسائل الخلل وهو إلى الان لم يطبع » الامر الأول من تنبيهات الأقل والأكثر ، الجهة الأولى من المقام الثاني ص 70 الطبعة القديمة

فيكون من قبيل الخطاء في التطبيق. وفي المقام يجرى هذا الكلام أيضا.

وذلك لأنه لا يصح التكليف الا فيما إذا أمكن الانبعاث عنه ، ولا يمكن الانبعاث عن التكليف الا بعد الالتفات إلى ما هو موضوع التكليف والعنوان الذي رتب التكليف عليه. وفي المقام لا يعقل الالتفات إلى ما هو موضوع التكليف بالاخفات الذي هو كون الشخص عاصيا للتكليف الجهري ، وكذا الكلام في الناسي. وقد أوضحنا الكلام في ذلك وفساد كون المقام من باب الخطاء في التطبيق في تنبيهات الأقل والأكثر ، فراجع.

هذا ما ذكره شيخنا الأستاذ مد ظله في الليلة الأولى تحت عنوان ( الامر الثاني ) وفي الليلة الثانية قرر ما يلي :

الامر الثاني : يعتبر في الخطاب الترتبي ان يكون التكليف في المترتب عليه منجزا واصلا إلى المكلف بنفسه وجدانا ، أو بالطرق المحرزة من الامارات والأصول المحرزة. فلو لم يكن منجزا - كما في الشبهات البدوية التي تكون مجرى البراءة ، أو كان منجزا ولكن ما كان واصلا إلى المكلف بنفسه ، كما في الشبهات البدوية التي تكون مجرى الاحتياط ، كباب الدماء والفروج والأموال ، وكالشبهات الحكمية قبل الفحص والتعلم ، وكما في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي - لم يكن موقع للخطاب الترتبي.

اما في الشبهات البدوية التي تكون مجرى البراءة فمن جهات ثلث :

الأولى : ان التكليف الواقعي المجهول غير قابل لان يكون محركا وباعثا مولويا نحو متعلقه ، فلا يكون مزاحما للتكليف الاخر ، وبعبارة أخرى : التكليف الواقعي المجهول لايكون شاغلا لنفسه ، فبان لايكون شاغلا عن غيره أولى.

الثانية : انه لا يتحقق عصيانه الذي هو شرط للخطاب المترتب ، لأن المفروض ان الشبهة مورد البراءة فلا عصيان له.

الثالثة : انه لا يمكن تحقق العلم بالخطاب المترتب ، لمكان عدم العلم بما هو موضوعه : من كونه عاصيا للخطاب المترتب عليه ، لان العلم بالعصيان فرع العلم بالتكليف ، والمفروض انه جاهل به.

ص: 370

واما الشبهات الحكمية قبل الفحص ، والشبهات التي تكون مجرى الاحتياط ، فلا يجرى فيها الخطاب الترتبي من جهتين :

الأولى : انه لا يتحقق عصيان التكليف المجهول ، حيث لا عقاب على نفس التكليف المجهول ، بل العقاب على ترك التعلم والاحتياط عند المصادفة.

الثانية : انه لا يتحقق العلم بالخطاب المترتب ، لعدم تحقق ما هو موضوعه من عصيان الخطاب المترتب عليه.

واما في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي ، فمن جهة واحدة لا يجرى فيها الخطاب الترتبي ، وهي الجهة الأخيرة أعني من عدم امكان حصول العلم بالخطاب الترتبي ، لعدم العلم بعصيان الخطاب المترتب عليه ، وان كان منجزا بالعلم الاجمالي وتحقق عصيانه في صورة المصادفة ، حيث إنه لو ارتكب بعض الأطراف وصادف الواقع كان عاصيا له ومعاقبا عليه ، لا على ترك الاحتياط ، بخلاف الشبهات البدوية.

هذا ما قرره شيخنا الأستاذ مد ظله في الليلة الثانية. وحيث انه يرد على هذا التقرير من الاشكال ما لا يخفى ، عدل مد ظله عن هذا التقرير في الليلة الثالثة والتزم بجريان الخطاب الترتبي في جميع الشبهات الموضوعية التي لا تجرى فيها البراءة ، وفي الشبهات الحكمية المقرونة بالعلم الاجمالي أو التي تكون مجرى الاحتياط ، كما إذا بنينا على الاحتياط في الشبهات التحريمية ، كما عليه الأخباريون حتى بعد الفحص. نعم في خصوص الشبهات الحكمية التي يجب فيها الفحص قال : بعدم جريان الخطاب الترتبي. (1)

اما تصحيح عبادة الجاهل بالجهر والاخفات والقصر والاتمام ، بالخطاب الترتبي فلا يمكن ، لان التضاد بين القصر والاتمام والجهر والاخفات

ص: 371


1- والذي يقوى في النظر : جريان الخطاب الترتبي حتى في ذلك أيضا ، الا إذا كان الجاهل مركبا قاطعا بعدم الحكم ، فان مثل هذا لا مجال فيه لجريان الخطاب الترتبي ، وان فرض كون الجاهل مقصرا معاقبا ، فتأمل جيدا - منه.

يكون دائميا ، بعد ما كان الواجب في اليوم فريضة واحدة ، اما جهرية أو اخفائية ، واما القصر أو الاتمام ، فليس في عالم التشريع الا حكم واحد وملاك واحد. ولو فرض ان كلا من الجهر والاخفات ذو ملاك في الواقع ، فلا بد من وقوع الكسر والانكسار بين الملاكين في عالم التشريع وانشاء الحكم على طبق أقوى الملاكين. وقد عرفت : ان مورد البحث عن الترتب انما هو بعد ثبوت الملاكين وتشريع الحكم على طبق كل منهما على نهج القضايا الحقيقية ووقوع التزاحم والتضاد بينهما اتفاقا ، لمكان عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما. وأين هذا مما إذا كان التضاد دائميا ، فإنه يكون حينئذ من باب التعارض ، لا التزاحم ، على ما تقدم من الفرق بينهما. والتضاد في مسألتي القصر والاتمام والجهر والاخفات ، يكون من التضاد الدائمي ، بحيث لو ورد الدليل على وجوب كل منهما كان الدليلان متعارضين ، وذلك بعد ما كان الواجب في اليوم صلاة واحدة واضح. فلا تندرج المسألة في صغرى التزاحم ، حتى يجرى فيها الخطاب الترتبي.

هذا كله ، مضافا إلى أن الامر الترتبي في الضدين الذين لا ثالث لهما ، كالجهر والاخفات في القراءة ، مما لا يعقل - مع قطع النظر عما ذكرنا - فإنه يكون من الامر بالحاصل ، لان ترك الجهر يلازم خارجا الاخفات فيها فلا معنى للامر بالاخفات مثلا عند ترك الجهر ، لان الاخفات عند ترك الجهر يكون حاصلا بنفسه ، فلا يعقل ان يكون الامر به باعثا مولويا.

والحاصل : انه كما لا يعقل الامر بأحد النقيضين عند عدم الآخر - لان عدم أحد النقيضين عين وجود الآخر خارجا ، وان لم يكن عينه مفهوما ( على ما تقدم في بعض المباحث السابقة ) فلا يعقل ان يقال مثلا : لا تغصب الغصب الصلواتي ، وان غصبت الغصب الصلواتي فصل ، فإنه يكون من تحصيل الحاصل - كذلك لا يعقل الامر بأحد الضدين الذين لا ثالث لهما عند عدم الآخر ، فان عدم أحد الضدين وان لم يكن خارجا عين وجود الضد الآخر ، كما كان في النقيضين كذلك ، الا انه يلازمه خارجا ، فيلزم أيضا الامر بالحاصل. فالامر الترتبي في الضدين الذين لا ثالث لهما لا يعقل ، كما في النقيضين.

ص: 372

فتحصل من جميع ما ذكرنا : انه يرد على ادراج مسألة جاهل القصر والاتمام والجهر والاخفات في صغرى الترتب ودفع الاشكال الوارد فيها الناشئ عن الالتزام باستحقاق العقاب مع القول بصحة الصلاة بذلك أمور ثلاثة :

الأول : ان مورد الامر الترتبي انما يكون بعد نحو تنجز التكليف بكل من الواجبين ووصول كل من التكليفين إلى المكلف وصولا وجدانيا أو بأحد طرقه ، والمفروض في المسألة كون الشخص جاهلا بوجوب الاخفات عليه.

الثاني : ان مورد الترتب انما هو في التضاد الاتفاقي ، والمسألة تكون من التضاد الدائمي.

الثالث : ان مورد الامر الترتبي في الضدين الذين لهما ثالث ، والمسألة مما لا ثالث لهما ، فتأمل جيدا.

الامر الثالث :

ان عقد الكلام في المسألة وان كان في المتزاحمين المضيقين كالغريقين ، الا انه قد ظهر من مطاوي ما ذكرنا حال مزاحمة المضيق للموسع ، كمزاحمة أداء الدين أو إزالة النجاسة عن المسجد للصلاة ، فإنه يجرى في الموسع أيضا الامر الترتبي ، بناء على ما اخترناه سابقا : من خروج الفرد من الموسع المزاحم للمضيق عن اطلاق الامر بالطبيعة وعدم اندراجه تحت الطبيعة المأمور بها. فإنه ح يصح ان يقال : ان خروجه عن تحت الاطلاق ليس مطلقا ، سواء اشتغل بالمضيق أو لم يشتغل ، بل إن الخروج مقصور على صورة الاشتغال بالمضيق ، واما عند عدم الاشتغال به وعصيانه فالاطلاق يعمه.

ويكون الفرق بين المضيقين والموسع والمضيق ، هو انه في المضيقين أصل الامر بالمهم يكون مشروطا بعصيان الأهم ، وفي الموسع والمضيق اطلاق الامر بالموسع على وجه يشمل الفرد المزاحم للمضيق يكون مشروطا بعصيان المضيق ، لا أصل الامر ، لان جميع افراد الموسع لم تكن مزاحمة للمضيق ، حتى يكون أصل الامر به مشروطا بعصيان المضيق. ولكن هذا إذا قلنا : بخروج الفرد المزاحم عن اطلاق الامر لمكان اشتراط كل امر بالقدرة على متعلقه ، حيث إن الامر يكون بعثا لاحد

ص: 373

طرفي المقدور وتحريكا لاحد جانبي الاختيار ، فإنه حينئذ نحتاج في صحة الفرد المزاحم إلى الامر الترتبي.

واما بناء على ما اختاره المحقق الكركي قده (1) « من أن تعلق الامر بالطبيعة مع القدرة عليها في الجملة ولو في بعض الافراد يكفي في صحة الفرد المزاحم للمضيق ، لانطباق الطبيعة عليه قهرا ، ويتحقق الاجزاء عقلا » فلا نحتاج في صحة الفرد المزاحم إلى الامر الترتبي ، بل نفس الامر الأول بالصلاة يكفي في صحة الفرد المزاحم. وقد تقدم تفصيل الكلام في ذلك ، فراجع. (2)

الامر الرابع :

الخطاب المترتب عليه ، تارة : يكون آنيا ليس له نحو بقاء واستمرار في وعاء الزمان حتى يكون لعصيانه الذي هو شرط للخطاب المترتب أيضا نحو بقاء واستمرار ، بل يكون عصيانه دفعيا آنيا ولو عرفا ، لعدم قابلية بقاء الموضوع حتى يستمر عصيانه ، كانقاذ الغريق الذي لو لم يبادر إليه يوجب موت الغريق الموجب لسقوط التكليف. وأخرى : لايكون كذلك ، بل يكون له نحو بقاء واستمرار بحيث يستمر عصيانه ويبقى مع عدم الامتثال ، لبقاء الموضوع ، كأداء الدين حيث إنه يستمر الخطاب والعصيان ببقاء الدين ، ولا يسقط الا بأدائه.

فان لم يكن للخطاب المترتب عليه بقاء ولا يكون لعصيانه استمرار ، فهذا الذي تقدم الكلام عنه : من أن الخطاب المترتب يكون مشروطا بعصيان الخطاب المترتب عليه ، من دون استلزامه للشرط المتأخر ، بل يكون الشرط الذي هو العصيان مقارنا للامر المترتب ، سواء كان الامر المترتب أيضا كالمترتب عليه آنيا ليس له نحو بقاء واستمرار ، كالغريقين الذين كان أحدهما أهم ، أو كان الامر المترتب له نحو

ص: 374


1- راجع ما افاده المحقق الثاني قدس سره في جامع المقاصد ، في شرح قول العلامة قدس سره في القواعد « ولا يصح الصلاة في أول وقتها ممن عليه دين واجب الأداء .. » كتاب الدين وتوابعه ، المطلب الأول من المقصد الأول.
2- راجع ما افاده المصنف في تحقيق ثمرات الاقتضاء وعدمه ص 312 - 313 من هذا الكتاب.

بقاء واستمرار لتدرج امتثاله في الوجود وليس آني الحصول ، كالصلاة حيث إن فعلها ليس آني الحصول ، بل هو متدرج في الوجود حسب تدرج الاجزاء. غايته انه في مثل هذا يكون الامر بالجزء الأول من الصلاة المقارن لعصيان انقاذ الغريق من الامر الترتبي ، واما الامر بساير الاجزاء الاخر ، التي يكون وجودها بعد تحقق عصيان الامر المترتب عليه ، فلا يكون من الامر الترتبي ، لعدم بقاء الامر المترتب عليه ، لفرض تحقق عصيانه وانعدام موضوعه بموت الغريق مثلا. فمثل الحمد والركوع والسجود الذي يكون ظرف وجوده بعد موت الغريق ، لايكون امره من الامر الترتبي ، بل الامر بالتكبير يكون من ذلك ، لمقارنة وجودها لعصيان الامر بالانقاذ. وذلك واضح.

وأما إذا كان للخطاب المترتب عليه نحو بقاء ، وكان لعصيانه استمرار ، فان كان امتثال الخطاب المترتب دفعيا ليس متدرجا في الزمان - كالأمر برد السلام مثلا المترتب على الامر بترك أداء الدين أو إزالة النجاسة من المسجد مثلا - فهذا أيضا مما لا اشكال فيه ، فإنه يكون في حال رد السلام عاصيا لخطاب الإزالة ، ويكون عصيان الإزالة أيضا من الشرط المقارن لوجوب رد السلام ، وان كان العصيان يبقى بعد سقوط الامر برد السلام ، لمكان امتثاله.

وأما إذا كان امتثال الامر المترتب تدريجي الوجود كالصلاة ، وكان لعصيان الامر المترتب عليه استمرار وبقاء - كأداء الدين وإزالة النجاسة عن المسجد - فربما يستشكل في مثل هذا بتوقف الامر المترتب على الشرط المتأخر ، وحيث امتنع الشرط المتأخر امتنع الخطاب الترتبي.

وجه التوقف : هو توهم ان الامر بالمتدرج مشروط باستمرار عصيان الامر المترتب عليه إلى آخر جزء من المتدرج الذي فرض تعلق الامر الترتبي به ، مثلا الامر بالصلاة بالامر الترتبي يكون مشروطا باستمرار عصيان الامر بالإزالة إلى آخر الصلاة ، فيكون عصيان الامر بالإزالة في حال التسليمة شرطا للامر بالتكبيرة ، إذ لولا العصيان في ذلك الحال لما تعلق الامر بالتكبيرة ، فيكون تعلق الامر الترتبي بالتكبيرة مشروطا بشرط مقارن ، وهو عصيان الامر بالإزالة في حال التكبيرة ،

ص: 375

ومشروطا بالشرط المتأخر أيضا ، وهو العصيان في حال التسليمة ، وحيث كان المختار امتناع الشرط المتأخر كان اللازم امتناع الامر الترتبي. وارجاع الشرط إلى عنوان التعقب انما يكون بعد مساعدة الدليل والاعتبار عليه ، والمفروض انه لم يقم دليل بالخصوص على ثبوت الامر الترتبي في جميع موارد التدريجيات ، حتى يقال : ان دلالة الاقتضاء تقتضي كون الشرط هو عنوان التعقب ، بل قد تقدم ان نفس الأدلة الأولية تقتضي الخطاب الترتبي ، بعد اشتراط كل تكليف بالقدرة على متعلقه ، ومعلوم : ان اقتضاء الأدلة الأولية ذلك انما هو فيما إذا لم يلزم من الخطاب الترتبي امر غير معقول : من الشرط المتأخر. واما مع استلزامه ذلك ، فالأدلة ح لا تقتضي الخطاب الترتبي ، وتقل فائدة البحث عنه ح ، لان الغالب في الخطابات الترتبية كون متعلقاتها تدريجية ، مع استمرار عصيان الامر المترتب عليه ، فيلزم في الغالب من الخطاب الترتبي الشرط المتأخر.

أقول : ضعف هذا الاشكال مما لا يكاد يخفى ، لوضوح ان هذا ليس اشكالا مخصوصا بالامر الترتبي ، بل توهم هذا الاشكال مطرد في جميع الأوامر التي تتعلق بعدة اجزاء متدرجة في الوجود ، كالصوم ، والصلاة ، والوضوء ، وغير ذلك من المركبات الارتباطية ، لوضوح ان الامر بكل جزء مشروط بالقدرة على الاجزاء اللاحقة ، فيلزم الشرط المتأخر في جميع المركبات ، ولو لم يكن هناك امر ترتبي. ولا يلزم من القول بالامر الترتبي اشكال زائد على الاشكال المطرد ، فان الامر المترتب المتعلق بما يكون تدريجي الحصول أيضا يكون مشروطا ببقاء القدرة إلى آخر الاجزاء ، غايته ان القدرة على الاجزاء اللاحقة انما تكون باستمرار عصيان الامر المترتب عليه ، فليس في الامر الترتبي اشكال سوى اشكال اعتبار بقاء القدرة إلى آخر الاجزاء في الامر بأول الاجزاء في المركبات الارتباطية ، هذا.

وقد تقدم الجواب عن هذا الاشكال المطرد ، وبيان ضعف توهم استلزام الامر بالمركب للشرط المتأخر في بعض المباحث المتقدمة. وحاصل الجواب : هو ان لازم اعتبار الوحدة في المركب من عدة اجزاء متدرجة في الوجود ، هو ان تكون القدرة على كل جزء في حال وجوده شرطا بوجودها العيني الخارجي ، وبالنسبة إلى

ص: 376

الاجزاء الاخر من السابقة واللاحقة يكون الشرط هو التقدم والتأخر. مثلا الامر بالتكبيرة مشروط بالقدرة عليها خارجا وتعقبها بالقدرة على سائر الأجزاء. وكذا الامر بالحمد مشروط بالقدرة عليها خارجا وسبقها بالقدرة على التكبيرة وتعقبها بالقدرة على الاجزاء المتأخرة. فشرطية التعقب والتقدم مما يقتضيه نفس الامر بالمركب بعد اعتبار الوحدة فيه واخذه على جهة الارتباطية. فالقول بان الشرط في مثل هذا هو عنوان التعقب ليس قولا بلا دليل ، بل نفس دليل المركب بعد اعتبار الوحدة فيه يقتضى ذلك ، وعليه يساعد الاعتبار. وقد تقدم تفصيل الكلام في ذلك في مسألة الشرط المتأخر ، فراجع. (1) وعلى كل حال : لا يرد على الامر الترتبي في التدريجيات اشكال زائد على الاشكال في المركبات ، والجواب واحد في الجميع.

وحينئذ نقول : ان الامر بأول جزء من متعلق الامر المترتب مشروط بعصيان الامر المترتب عليه بالشرط المقارن وبتعقبه باستمرار العصيان إلى آخر الاجزاء. ولا محذور فيه أصلا ، لان شرطية عنوان التعقب انما تستفاد من نفس اعتبار الوحدة في متعلق الامر المترتب.

ثم لا يخفى عليك : ان الامر الترتبي قد يثبت من أول الشروع في العمل التدريجي ويستمر إلى آخره ، وقد يحدث في أثناء العمل ، وربما ينعكس الامر ، بحيث يكون الامر المترتب مترتبا عليه لو حدث في الأثناء ، بعد ما كان مترتبا لو كان من أول العمل. مثلا في إزالة النجاسة عن المسجد والصلاة يختلف الحال فيها. فتارة : يعلم بنجاسة المسجد قبل الدخول في الصلاة ، وأخرى : يعلم به في أثناء الصلاة.

فان كان عالما بها قبل الصلاة مع سعة الوقت ، يكون ح الامر بالصلاة من أولها إلى آخرها مترتبا على عصيان الإزالة ، لأنه يكون من مزاحمة الموسع والمضيق. وقد تقدم ان الامر بالموسع يكون مترتبا على عصيان الامر بالمضيق. وهذا الامر الترتبي محفوظ من أول الصلاة إلى آخرها ، فله بعد الشروع في الصلاة قطع الصلاة

ص: 377


1- راجع الجزء الأول من هذا الكتاب ، مباحث الشرط المتأخر ص 280 - 281

للاشتغال بالإزالة ، بل يجب عليه قطعها لبقاء موضوع الإزالة واستمرار عصيانها إلى آخر الصلاة ، فلا يحرم قطع مثل هذه الصلاة. ولا موقع للتمسك بحرمة الابطال ، بعد ما كان الامر الترتبي محفوظا من أول الصلاة إلى آخرها. فأقصى ما يقتضيه الامر الترتبي هو صحة الصلاة لو لم يقطعها ، ولا يقتضى حرمة قطعها. هذا إذا كان عالما بالنجاسة قبل الصلاة.

واما ان كان جاهلا بها ، فحيث لم يتنجز عليه الامر بالإزالة لمكان الجهل بها ، كان دخوله في الصلاة ليس بالامر الترتبي بل بأمرها الأولى ، وتوجه عليه حرمة الابطال وقطع الصلاة. فإذا علم بنجاسة المسجد في الأثناء ، فيكون كما لو حدثت النجاسة في المسجد في الأثناء ، ومن حين العلم يتوجه عليه الامر بالإزالة ، فتقع المزاحمة ح بين الامر بالإزالة مع حرمة قطع الصلاة ، وكل منهما يكون من المضيق. ودعوى أهمية حرمة القطع من وجوب الإزالة ليس بكل البعيد ، فيكون الامر بالإزالة حينئذ مترتبا على عصيان الامر باتمام الصلاة ، مع أنه كان مترتبا عليه لو كان عالما بالنجاسة من أول الصلاة. وهذا ما قلناه : من أن الامر قد ينعكس ويكون المترتب مرتبا عليه.

ثم إن هناك فرعا محكيا عن الفصول ، يناسب ذكره في المقام (1) وهو انه لو انحصر ماء الوضوء فيما يكون في الآنية المغصوبة ، على نحو يحرم عليه الاغتراف منها للوضوء ، وذلك فيما إذا لم يكن بقصد التخليص - على ما سيأتي ضابط التخليص - فان اغترف منها ما يكفيه للوضوء دفعة واحدة ، فهذا مما لا اشكال في وجوب الوضوء عليه بعد اغترافه ، وان عصى في أصل الاغتراف ، الا انه بعد العصيان والاغتراف يكون واجدا للماء ، فيجب عليه الوضوء. وأما إذا لم يغترف ما يكفيه للوضوء دفعة واحدة ، بل كان بنائه على الاغتراف تدريجا فاغترف ما يكفيه لغسل الوجه فقط ، فالمحكي عن صاحب الفصول : انه لا مانع من صحة وضوئه ح بالامر

ص: 378


1- راجع الفصول ، تقسيمات الواجب ، تقسيمه إلى الواجب والمشروط ، بيان وجه الفرق بين الواجب المعلق والواجب المشروط ، وتظهر الثمرة في وجوب المقدمات التي .. » ص 81

الترتبي ، فإنه يكون واجدا للماء بعد ما كان يعصى في الغرفة الثانية والثالثة التي تتم بها الغسلات الثلث للوضوء ، فيكون امره بالوضوء نظير امره بالصلاة إذا كان مما يستمر عصيانه لإزالة إلى آخر الصلاة ، فان المصحح للامر بالصلاة ، انما كان من جهة حصول القدرة على كل جزء منها حال وجوده ، لمكان عصيان الامر بالإزالة في ذلك الحال وتعقبه بالعصيان بالنسبة إلى الاجزاء اللاحقة ، على ما تقدم بيانه. وفي الوضوء يأتي هذا البيان أيضا ، فان القدرة على كل غسلة من غسلات الوضوء تكون حاصلة عند حصول الغسلة ، لمكان العصيان بالتصرف في الآنية المغصوبة ، والعصيان في الغرفة الأولى لغسل الوجه يتعقبه العصيان في الغرفة الثانية والثالثة لغسل اليدين ، فيجرى في الوضوء الامر الترتبي كجريانه في الصلاة ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك : الفرق بين باب الوضوء ، وباب الصلاة ، فان الصلاة لا يعتبر فيها أزيد من القدرة العقلية على اجزائها ، المفروض حصولها باستمرار عصيان الإزالة ، فلا مانع من الامر الترتبي فيها. واما في الوضوء ، فالقدرة المعتبرة فيه انما تكون شرعية ومما لها دخل في الملاك ، ولا قدرة شرعية على الوضوء بعد ما كان موقوفا على التصرف في الآنية المغصوبة ، ولا ملاك له حينئذ ، فيكون غسل الوجه بالغرفة الأولى لغوا لا اثر له ، بعد ما لم يكن في ذلك الحال واجدا لماء مباح شرعا يكفي للوضوء ، فلا يجرى في الوضوء الامر الترتبي. هذا إذا لم يكن الاغتراف للتخليص. وأما إذا كان للتخليص ، فلا اشكال في جواز الاغتراف دفعة واحدة ، بل بدفعات - على اشكال في الأخير - فيكون مكلفا بالوضوء ولا ينتقل تكليفه إلى التيمم.

ثم انه ليس المراد من التخليص مجرد القصد والنية ، بل ضابطه ان يكون الماء الموجود في الآنية المغصوبة ملكا له لا مباحا ، وكان وقوعه في الآنية لا باختياره ، فإنه ح له تخليص مائه عن الآنية وان استلزم التصرف فيها.

وأما إذا كان مباحا ، أو كان وقوعه في الآنية بسوء اختياره ، ففي مثل هذا لا يجوز له التصرف في الآنية. اما فيما إذا كان الماء مباحا فواضح ، حيث إنه لا ربط له به حتى يجوز له التصرف في الآنية. واما فيما إذا كان ملكا له فلان الماء وان لم يخرج عن ملكه ، الا انه هو بسوء اختياره سلب سلطنته عن ملكه ، فليس له

ص: 379

التصرف في الآنية لاخراج مائه من دون اذن صاحبها ، فتأمل جيدا.

هذا تمام الكلام في المسألة الأولى من مسائل الترتب ، مع ما يستتبعها من التنبيهات.

المسألة الثانية :

هي ما إذا كان التزاحم ناشئا عن قصور قدرة المكلف على الجمع بينها ، من دون ان يكون هناك تضاد في المتعلقين ، كالقيام في الركعة الأولى والثانية. وقد تقدم حكم التزاحم في ذلك ، وان المتأخر ان كان أهم يجب حفظ القدرة له ، ويكون بأهميته شاغلا مولويا عن المتقدم. وان لم يكن أهم وجب صرف القدرة إلى المتقدم ، وليس مخيرا في صرف القدرة في أيهما شاء ، فان التخيير انما يكون في المتزاحمين العرضيين ، لا الطوليين. وقد تقدم ان عدم التخيير في المقام من ثمرات كون التخير في المتزاحمين المتساويين عقلا باعتبار اشتراط التكليف بالقدرة عقلا ، لا شرعيا على ما تقدم تفصيله - فراجع - فلا موجب لإعادته.

والغرض في المقام هو بيان جريان الخطاب الترتبي فيما إذا كان المتأخر أهم الذي فرضنا وجوب حفظ القدرة إليه. فلو خالف وعصى ولم يحفظ القدرة إليه ، فهل يجب صرف القدرة إلى المتقدم بالخطاب الترتبي ، أو ان المقام لا يجرى فيه الخطاب الترتبي؟.

والأقوى : ان الخطاب الترتبي في هذه المسألة مما لا يمكن ولا يعقل ، وتوضيح ذلك هو ان الخطاب الترتبي ، اما ان يلاحظ بالنسبة إلى نفس الخطاب المتأخر واخذ عصيانه شرطا للامر بالمتقدم ، واما ان يلاحظ بالنسبة إلى الخطاب المتولد منه ، وهو وجوب حفظ القدرة له ، فيكون عصيان هذا الخطاب شرطا للامر بصرف القدرة إلى المتقدم.

فان كان الأول ، فيرد عليه - مضافا إلى استلزامه للشرط المتأخر من دون قيام دليل عليه بالخصوص ليرجع الشرط إلى وصف التعقب ، فإنه في التدريجيات التي قلنا فيها ان الامر بالاجزاء السابقة مشروط باستمرار العصيان إلى الاجزاء اللاحقة وارجعنا الشرط إلى عنوان التعقب انما كان من جهة ان استمرار العصيان

ص: 380

عبارة أخرى عن استمرار القدرة المعتبرة فيها التي لا يمكن الا بكون الشرط هو عنوان التعقب ، لمكان اعتبار الوحدة في الاجزاء التدريجية ، وأين هذا مما نحن فيه؟ من جعل عصيان الواجب المتأخر شرطا للمتقدم ، فان هذا لا ربط له بباب اشتراط الواجب بالقدرة حتى نلتجي إلى ارجاع الشرط إلى عنوان التعقب كما لا يخفى - ان ذلك لا يجدى في رفع المزاحمة ، فان المزاحم للمتقدم ليس نفس خطاب المتأخر ولو كان أهم ، بل المزاحم له هو الخطاب المتولد منه ، وهو لزوم حفظ القدرة له وعدم صرفها في غيره ، إذ لولا ذلك لما كاد يقع مزاحمة بين المتقدم ، والمتأخر ، لعدم اجتماعهما في الزمان ، فالمزاحم هو خطاب وجوب حفظ القدرة ، ومعلوم : انه من فرض عصيان المتأخر في زمانه لا يسقط خطاب وجوب حفظ القدرة ، لعدم سقوط خطاب المتأخر بعد ما لم يتحقق عصيانه ، ففرض عصيان المتأخر في موطنه لا يوجب سقوط خطاب - احفظ قدرتك - فإذا لم يسقط فالمزاحمة بعد على حالها ، وخطاب - احفظ قدرتك - موجب للتعجيز عن المتقدم ، ولا يعقل الامر بالمتقدم في مرتبة وجوب حفظ القدرة للمتأخر ، فتأمل.

وان كان الثاني ، أي لو حظ الخطاب الترتبي بالنسبة إلى خطاب - احفظ قدرتك - فهو وان كان يسلم عن اشكال الشرط المتأخر الا انه يرد عليه : ان عدم حفظ القدرة للمتأخر لايكون الا بفعل وجودي يوجب صرف القدرة إليه ، وذلك الفعل الوجودي اما نفس المتقدم ، أو فعل آخر. فان كان الأول يلزم طلب الحاصل ، وان كان الثاني يلزم تعلق الطلب بالممتنع ، فإنه مع صرف قدرته في المتقدم يكون المعنى : ان لم تحفظ قدرتك إلى الركعة المتأخرة مثلا وقمت في الركعة الأولى فقم فيها. وهذا كما ترى يلزم تحصيل الحاصل.

وان صرف قدرته في فعل آخر كما إذا صار حمالا بحيث يمتنع عليه القيام في الركعة الثانية مع ذلك الفعل ، يكون المعنى : ان لم تحفظ قدرتك للقيام في الركعة الثانية وصرت حمالا فقم في الركعة الأولى. وهذا أيضا كما ترى يلزم طلب الممتنع ، لأنه مع صرف قدرته في ذلك يتعذر عليه القيام في الركعة الأولى.

وان كان المراد من عدم حفظ القدرة في المتأخر : المعنى الجامع بين صرف

ص: 381

القدرة إلى المتقدم أو فعل وجودي آخر مضاد لذلك ، يلزم كلا المحذورين ، من طلب الحاصل ، والتكليف بالممتنع.

ولا يقاس المقام بالإزالة والصلاة ، حيث قلنا : انه يصح الامر بالصلاة عند ترك الإزالة ، ولا يلزم من ذلك طلب الحاصل ، ولا التكليف بالممتنع. مع أنه يمكن هذا التقريب في ذلك أيضا ، بان يقال : ان تركت الإزالة واشتغلت بالصلاة فصل ، فيلزم طلب الحاصل ، وان اشتغلت بغيرها يلزم طلب الممتنع ، وان كان الأعم يلزم كلا المحذورين. فان قياس المقام بذلك فاسد جدا ، لوضوح ان ترك الإزالة لا يلازم الصلاة ، ولا فعلا آخر مضادا لها ، بل كل فعل وجودي يفرض فإنما هو مقارن لترك الإزالة ، لا عينه ولا يلازمه ، لتمكن المكلف من عصيان الامر بالإزالة مع عدم اشتغاله بفعل وجودي أصلا ، كما تقدم في رد شبهة الكعبي. وليست الافعال الوجودية من مصاديق ترك الإزالة ، إذ الوجود لايكون مصداقا للعدم ، فمع فرض تركه للإزالة يمكنه ان لا يشتغل بفعل وجودي ، فلا مانع من امره بالصلاة ح عند ترك الإزالة ، ولا يكون من طلب الحاصل أو الطلب بالممتنع ولو فرض انه اشتغل بفعل وجودي آخر ، لأنه لم يقيد الامر الصلواتي بصورة الاشتغال بالصلاة ، أو صورة الاشتغال بفعل وجودي آخر حتى يلزم ذلك ، بل الامر الصلواتي كان مقيدا بترك الإزالة فقط ليس الا. وقد عرفت ان الافعال الوجودية ، لا هي عين ترك الإزالة مفهوما أو مصداقا ، ولا ملازمة بينهما.

وهذا بخلاف المقام ، فان ترك حفظ قدرته للمتأخر لايكون الا بالاشتغال بفعل وجودي يوجب سلب القدرة عن المتأخر ، لوضوح انه لو لم يشتغل بفعل وجودي كذلك تكون قدرته إلى المتأخر محفوظة ، فالفعل الوجودي يكون ملازما لعدم انحفاظ القدرة ، ولا يكون الفعل الوجودي مقارنا. وحينئذ يرجع الكلام السابق : من أن ذلك الفعل الوجودي ، اما ان تفرضه هو المتقدم ، أو فعل آخر مضاد ، أو الجامع بين الافعال الوجودية الموجبة لسلب القدرة عن المتأخر ، وعلى كل تقدير يلزم أحد المحاذير المتقدمة.

وبتقريب آخر : ان الحكم في المقام عقلي ، وليس هناك دليل لفظي. و

ص: 382

العقل يستقل بقبح صرف القدرة إلى غير المتأخر الذي فرضناه أهم وبلزوم حفظ القدرة إلى المتأخر. ومعلوم ان كل فعل وجودي يفرض كونه موجبا لعدم القدرة على المتأخر ، فإنما هو من مصاديق صرف القدرة إلى غير المتأخر ، ومعلوم ان قبح الشيء يسرى إلى مصاديقه ، ولا مجال للامر الترتبي في مثل هذا.

فالمقام نظير ما سيأتي من عدم جريان الترتب في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، حيث نقول في ذلك : انه لا يمكن تصحيح الصلاة بالامر الترتبي بعد تقديم جانب النهى ، فلا يصح ان يقال : لا تغصب وان غصبت فصل. فان المراد من قوله ( ان غصبت ) ان كان خصوص الغصب الصلواتي يلزم طلب الحاصل ، وان كان غير ذلك يلزم طلب الممتنع ، وان كان الأعم يلزم كلا المحذورين. وليس ذلك الا لمكان ان كل فعل وجودي يفرض فإنما يكون من مصاديق الغصب ، فالصلاة أيضا تكون مصداقا للغصب ، لا مقارنة له ، كما في الصلاة والإزالة. فالصلاة تكون منهيا عنها بنفس النهى عن الغصب. ويرجع الامر الترتبي في ذلك إلى قوله : لا تغصب الغصب الصلواتي وان فعلت ذلك فصل ، وهو كما ترى يلزم طلب الحاصل. وسيأتي لذلك مزيد توضيح في محله إن شاء اللّه.

وعلى كل حال قد ظهر لك : ان الامر الترتبي لا يجرى في المسألة الثانية من مسائل التزاحم ، وهي ما كان التزاحم فيه لقصور قدرة المكلف ، لا لتضاد المتعلقين.

المسألة الثالثة :

من مسائل الترتب هي : ما إذا كان التزاحم واقعا بين المقدمة وذيها. والأقوى جريان الترتب فيها.

وتفصيل الكلام في ذلك : هو ان المقدمة ، اما ان تكون سابقة في الوجود على ذيها كالتصرف في ارض الغير لانقاذ الغريق. واما ان تكون مقارنة في الوجود لذيها كالتصرف في الماء الذي وقع الغريق فيه لانقاذه ، وكترك أحد الضدين لوجود الآخر ، بناء على مقدمية ترك أحد الضدين لوجود الآخر فينبغي عقد الكلام في مقامين :

ص: 383

( المقام الأول )

في المقدمة السابقة في الوجود على ذيها. والكلام فيها يقع من جهات :

الجهة الأولى :

قد تقدم ان المقدمة المحرمة ذاتا بحسب حكمها الأولى لا تسقط حرمتها بمجرد كونها مقدمة لواجب ، بل إن كان وجوب ذي المقدمة أهم من حرمة المقدمة ، ففي مثل هذا تسقط حرمتها وتجب بالوجوب المقدمي. وان لم تكن أهم فحرمة المقدمة باقية على حالها ، ولا تصل النوبة إلى التخيير في صورة التساوي. وقد تقدم أيضا ان ذلك من ثمرات كون التخيير في الواجبين المتزاحمين المتساويين عقليا أو شرعيا ، وانه بناء على المختار : من كون التخيير عقليا ، لا يتحقق التخيير بين المقدمة وذيها ، بل إن كان ذو المقدمة أهم كان بأهميته موجبا للتعجيز عن المقدمة وسلب القدرة عنها فتجب. وان لم تكن أهم فلا معجز مولوي يوجب سقوط الحرمة عن المقدمة ، بل يكون حرمتها الحالية معجزا عن وجوب ذيها ، فلا يجب وتبقى الحرمة على حالها. ولا يختص هذا بالمقدمة السابقة في الوجود على ذيها ، بل يجرى في المقدمة المقارنة أيضا ، لوضوح ان التصرف في ماء الغير انما يجب إذا توقف عليه واجب أهم : من انقاذ نفس محترمة أو تلف مال كثير. وأما إذا لم يكن الواجب أهم ، فحرمة التصرف تبقى على حالها ، إذ ليس له معجز مولوي عن ذلك ، فتأمل.

هذا إذا كانت المقدمة محرمة ذاتا ، وأما إذا كانت مباحة أو مستحبة أو مكروهة ، فلا اشكال في سقوط كل من هذه الأحكام عند كونها مقدمة لواجب ، لان الوجوب لا يمكن ان يزاحمه الإباحة والاستحباب والكراهة.

الجهة الثانية :

قد تقدم في مبحث مقدمة الواجب : ان الذوق والاعتبار يأبى عن وقوع المقدمة المحرمة الذاتية على صفة الوجوب والمطلوبية الغيرية مطلقا ولو لم يقصد بها فعل ذي المقدمة ولا ترتب عليها ذلك ، لوضوح انه لا يمكن الالتزام بكون التصرف في ارض الغير واجبا لمجرد انه توقف انقاذ الغريق عليه ، مع أن الشخص لم يتصرف لأجل ذلك ، بل قصد في تصرفه النزهة والعدوان والتفرج. فان دعوى كون

ص: 384

التصرف مع هذا واجبا ومطلوبا يكذبها الوجدان والاعتبار ، ولأجل ذلك تشتتت الآراء فيما هو الواجب من المقدمة ، وسلك كل مسلكا. فذهب صاحب المعالم إلى أن وجوب المقدمة مشروط بإرادة ذيها ، وذهب صاحب الفصول إلى المقدمة الموصلة ، وذهب الشيخ ( قده ) إلى اعتبار قصد التوصل. (1) كل ذلك لأجل استبعاد كون المقدمة واجبة مط. وقد تقدم منا بيان فساد ذلك كله ، وانه لا يمكن اعتبار قيد التوصل أو قصد التوصل في وجوب المقدمة ، أو في وقوعها على صفة الوجوب بحيث يكون قيدا للواجب ، لاستلزام تلك المحاذير المتقدمة.

ولنا في المقام مسلك آخر به يحسم مادة الاشكال ، ويوافق عليه الذوق والاعتبار وهو : ان الحرمة الذاتية التي كانت للمقدمة لم تسقط مطلقا ، بل سقط اطلاقها لحالتي فعل ذي المقدمة وتركها مع انحفاظ الحرمة في صورة ترك ذي المقدمة ، بل انحفاظ كل حكم كان للمقدمة ذاتا ولو لم يكن الحرمة ، بل كان الحكم هو الإباحة أو الكراهة أو الاستحباب.

وبالجملة : الدعوى هو ان كل حكم كان للمقدمة مع قطع النظر عن عروض وصف المقدمية عليها فهو محفوظ في حال ترك ذي المقدمة ، أعني الواجب الذي فرضناه أهم. وذلك لايكون الا بالامر الترتبي الذي قد تقدم الكلام عنه ، وعن امكانه بل وقوعه. نعم : يختص الامر الترتبي في المقام ببعض الاشكالات ، التي لا ترد على الامر الترتبي في سائر المقامات. وحاصل تلك الاشكالات يرجع إلى أمرين :

الأول : ان الامر الترتبي في المقام يوجب اجتماع الوجوب والحرمة في نفس المقدمة ، والوجوب والحرمة متضاد ان لا يمكن اجتماعهما.

الثاني : ان الامر الترتبي في المقام يتوقف على القول بالشرط المتأخر ، لان الحرمة ح تكون مشروطة بعصيان ذي المقدمة المتأخر زمانا عن المقدمة ، ولم يقم دليل بالخصوص على اعتبار الشرط المتأخر في المقام ، حتى نرجعه إلى وصف التعقب. هذا

ص: 385


1- قدم تحقيق ذلك في هامش ص 286 من هذا الكتاب

وسيتضح لك دفع الاشكالين بما سنذكره في الجهة الثالثة التي نذكره فيها مقدمتين لبيان جريان الامر الترتبي في المقام.

( المقدمة الأولى )

لا اشكال في أن الامر بالمقدمة انما يكون في رتبة كون المولى بصدد تحصيل مراده من ذي المقدمة وفي مرتبة الوصول إلى غرضه ومطلوبه النفسي ، فإنه في هذه المرتبة تنقدح إرادة المقدمة في نفس المولى ، لوضوح ان إرادة المقدمة لا تكون الا لمكان الوصول إلى ذيها ، فتكون واقعة في رتبة الوصول إلى ذي المقدمة وكون المولى بصدد تحصيله ، لا في رتبة اليأس عن ذي المقدمة وعدم الوصول إليه ، فان هذه المرتبة ليست مرتبة انقداح إرادة المقدمة في نفس المولى ، وذلك واضح.

( المقدمة الثانية )

قد تقدم في المقدمة الرابعة من مقدمات الترتب : انه لا يعقل الاطلاق والتقييد لحاظا ونتيجة بالنسبة إلى حالتي فعل الواجب وتركه ، وان هذا الانقسام ليس كسائر الانقسامات اللاحقة للمتعلق مما يمكن فيها الاطلاق والتقييد اللحاظي أو نتيجة الاطلاق والتقييد ، لاستلزامه طلب الحاصل ، أو طلب النقيضين ، على ما تقدم تفصيله. ولكن هذا في كل واجب بالنسبة إلى حالتي فعله وتركه.

واما بالنسبة إلى حالتي فعل واجب آخر وتركه ، فالاطلاق والتقييد بمكان من الامكان ، بل لا محيص عنه إذ لا يعقل الاهمال الثبوتي بالنسبة إلى ذلك ، الا ان هذا انما يكون في الواجبين الملحوظين على جهة الاستقلالية والاسمية ، كالصوم والصلاة ، حيث لا محيص : اما من اطلاق الامر بالصوم لحالتي فعل الصلاة وتركها ، واما من تقييده بإحدى الحالتين. وكذا الامر بالصلاة.

وأما إذا كان أحد الواجبين ملحوظا على جهة التبعية والحرفية ، كالأمر المقدمي فهو في الاطلاق ، والاشتراط ، والاهمال ، تابع للامر بذى المقدمة. وانه كل ما يكون الامر بذى المقدمة مطلقا أو مقيدا بالنسبة إليه ، فالامر المقدمي أيضا يكون مطلقا أو مقيدا بالنسبة إلى ذلك الشيء وكل ما يكون الامر بذى المقدمة مهملا بالنسبة إليه ، فالامر المقدمي أيضا مهمل بالنسبة إليه. والسر في ذلك واضح ، لان

ص: 386

الامر المقدمي انما يتولد من الامر بذى المقدمة ، ويكون معلولا له ومترشحا منه ، وليس ناشئا عن مبادئ استقلالية ، بل يكون انشائه قهرا على المولى ، بحيث لا يمكن ان لا ينشأه بعد انشاء الامر بذى المقدمة ، على ما تقدم بيانه في مقدمة الواجب. فإذا كان كذلك ، فلا بد ان يكون الامر المقدمي تابعا في الاطلاق والاشتراط والاهمال للامر بذيها ، كما يكون تابعا في أصل وجوده ، فلا يقاس الامر بالمقدمة مع الامر بذيها بالامر بالصلاة والصوم حيث قلنا : انه في مثل الصلاة والصوم لا بد من الاطلاق أو التقييد ، من دون ان يكون الاطلاق في أحدهما تابعا للاطلاق في الآخر ، فان بين الامر المقدمي وذيها وبين الامر بالصلاة والصوم بونا بعيدا.

نعم : ان لوحظ الامر المقدمي معنى اسميا صح القياس ، الا ان الامر المقدمي لم يلاحظ معنى اسميا ، فلا بد ح من التبعية المذكورة. وحيث كان الامر بذى المقدمة مهملا بالنسبة إلى حالتي فعله وتركه ، فلا بد ان يكون الامر المقدمي أيضا مهملا بالنسبة إلى حالتي فعل ذي المقدمة وتركه ، فلا يكون فيه اطلاق ولا تقييد بالنسبة إلى ذلك ، بل يكون الامر المقدمي كالأمر بذيها مقتضيا في عالم التشريع لرفع الترك عن ذي المقدمة وطاردا له. وبعد ما عرفت ذلك ، يتضح جريان الامر الترتبي في باب المقدمة وذيها ، وانه لا مانع من انحفاظ حرمة المقدمة أو كل حكم فرض لها ولو كان هو الإباحة في مرتبة ترك ذي المقدمة وعصيان امره ، بحيث يكون الحكم الأصلي لها مترتبا على عصيان ذي المقدمة ، فان هذه الرتبة ليست رتبة الامر بالمقدمة. لأنا قد فرضنا ان الامر بالمقدمة مهمل بالنسبة إلى حالة ترك ذي المقدمة وعصيانه ، بل الامر بالمقدمة يكون في الرتبة السابقة على ذلك ، وهي رتبة الوصول إلى ذي المقدمة ، لا على وجه يكون مقيدا بذلك ، حتى يرجع إلى المقدمة الموصلة ، بل هو واقع في تلك الرتبة مع كونه مهملا بالنسبة إلى حالتي الفعل والترك. فارتفع الاشكال الأول الذي ذكرنا انه مختص بالامر الترتبي في المقام ، وهو لزوم اجتماع الحكمين المتضادين في المقدمة ، لان الحكمين وان اجتمعا في المقدمة زمانا الا انهما قد اختلفا بالرتبة ، حيث إن الامر واقع في رتبة الوصول ، والنهى واقع في رتبة الياس وترك الوصول بعصيان ذي المقدمة. ولا مانع من اجتماع الحكمين

ص: 387

المتضادين في الزمان مع اختلافهما بالرتبة ، إذ ليس عدم جواز اجتماع الحكمين المتضادين مما قام عليه دليل لفظي ، حتى نتمسك باطلاقه ونقول : لا يكفي اختلاف الرتبة بل الحكم في المقام عقلي والعقل لا يمنع عن الاجتماع مع الاختلاف بالرتبة. إذ امتناع اجتماع الضدين انما هو لمكان انه يرجع إلى اجتماع النقيضين ، ويعتبر في النقيضين الممتنعي الجمع وحدة الرتبة.

فتحصل : انه لا مانع من كون المقدمة محكوما بحكمين متضادين ، مع كونهما مختلفي الرتبة.

نعم : يبقى اشكال استلزام الامر الترتبي في المقام للشرط المتأخر الذي لم يقم عليه دليل بالخصوص. ولكن هذا الاشكال أيضا مندفع بان الشرط المتأخر في المقام مما يحكم به العقل ويستقل به ، بعد ما بينا سابقا : من اباء الذوق والاعتبار عن اتصاف المقدمة بالمطلوبية مط على أي وجه اتفقت ولو كان التصرف في ارض الغير مثلا لأجل التنزه والتفرج ، وبعد ما بيناه من أن الامر بالمقدمة واقع في رتبة الوصول إلى ذيها ، لا في رتبة اليأس عنه ، وبعد ما كان كل مقدمة منقسمة في حد ذاتها إلى ما يتعقبها وجود ذي المقدمة وما لا يتعقبها ، فان هذه الأمور توجب استقلال العقل باعتبار الشرط المتأخر ، فهو مما قام عليه دليل بالخصوص ، غايته انه ليس شرعيا بل عقليا.

والحاصل : انه لا يختص اعتبار الشرط المتأخر بمعنى التعقب بباب القدرة ، بل يجرى في المقام أيضا ، لان صريح العقل والوجدان حاكم باعتبار الشرط المتأخر ( بمعنى التعقب ) بعد ما كان الوجدان شاهدا على عدم وقوع المقدمة على صفة المطلوبية كيف ما اتفقت. وهذا الوجدان هو الذي أوجب الشرط المتأخر ، وأوجب الامر الترتبي. فليس اعتبار الشرط المتأخر في المقام من جهة اقتضاء الامر الترتبي ذلك ، حتى يقال : انه لم يقم دليل بالخصوص في المقام على الامر الترتبي ليقتضي بدلالة الاقتضاء اعتبار الشرط المتأخر ، بل الموجب للذهاب إلى الامر الترتبي في المقام هو الموجب لاعتبار الشرط المتأخر فيه ، وهو تلك المقدمات العقلية فلا تغفل.

ص: 388

ولا تقس المقام بالمسألة المتقدمة التي أنكرنا جريان الامر الترتبي فيها لمكان استلزام الشرط المتأخر ، وهي ما إذا كان التزاحم لأجل قصور قدرة المكلف على الجمع بينها ، وذلك لان المقدمات العقلية الجارية في المقام لم تكن جارية في تلك المسألة. هذا تمام الكلام في المقام الأول.

( المقام الثاني )

ما إذا كانت المقدمة مقارنة بحسب الزمان لذيها ، وله أمثلة كثيرة ، ولكن المثال المهم الذي يترتب عليه الأثر ، هو باب الضدين ، بناء على مقدمية ترك أحدهما لفعل الآخر. والأقوى جريان الامر الترتبي فيه أيضا. واشكال استلزام الامر الترتبي للشرط المتأخر لا يجرى في المقام ، لأن المفروض كون المقدمة مقارنة بحسب الزمان.

نعم : اشكال استلزام اجتماع الوجوب والحرمة في زمان واحد يجرى ، كالمقدمة المتقدمة بحسب الزمان. ويزداد الاشكال في الضدين ، حيث إنه يلزم اجتماع الحكمين في كل من طرف الأهم والمهم ، حيث إنه كما أن ترك المهم يكون مقدمة لفعل الأهم فيجب من باب المقدمة مع أنه حرام لغرض وجوب فعل المهم بمقتضى الامر الترتبي ، فيكون ترك الصلاة واجبا بالوجوب الغيري وحراما نفسيا لغرض وجوب الصلاة. كذلك يكون ترك الأهم مقدمة لفعل المهم الذي فرضناه واجبا بالامر الترتبي ، فيجب ترك الأهم بالوجوب المقدمي مع أنه يحرم لوجوب فعل الأهم. فاشكال اجتماع الحكمين المتضادين يأتي في كل من الأهم والمهم بناء على المقدمية. ولكن يندفع الاشكال في طرف المهم بما دفعنا به الاشكال في المقدمة المتقدمة بحسب الزمان.

وحاصله : ان ترك المهم وان كان حراما نفسيا وواجبا مقدميا ، الا ان وجوبه المقدمي انما يكون في مرتبة الوصول إلى الأهم ، والحرمة انما تكون في مرتبة تركه وعصيانه ، فتختلف رتبة الوجوب والحرمة ولا مانع من الاجتماع مع الاختلاف بالرتبة.

واما الاشكال في طرف الأهم فلا يندفع بذلك ، لان الامر في طرف الأهم

ص: 389

ليس ترتبيا حتى يتحقق اختلاف الرتبة ويصح اجتماع كل من الوجوب والحرمة لمكان اختلاف الرتبة ، بل إن الامر في طرف الأهم هو الامر الأولى الذاتي. الا ان الذي يسهل الخطب هو ان ترك الأهم لايكون واجبا بالوجوب المقدمي أصلا ، بل ليس حكمه الا الحرمة ، فان ترك الأهم وان كان مقدمة وجودية لفعل المهم ، الا انه مع ذلك يكون مقدمة وجوبية له أيضا ، لان وجوب المهم مشروط بترك الأهم ، ومعلوم ان المقدمة الوجوبية لا تجب بالوجوب المقدمي ، فترك الأهم حرام ليس الا ، ولا يجتمع فيه الحكمان المتضادان.

نعم لو قيل : بان المقدمة الوجوبية أيضا تجب بالوجوب المقدمي يلزم ذلك ، الا انه لا يعقل القول بذلك لما فيه :

أولا : من أن المقدمة الوجوبية تكون علة لثبوت الوجوب على ذيها ، ولا يعقل ان يؤثر المعلول في علته ، لان التأثير يستدعى سبق الرتبة ، والمعلول لا يعقل ان يسبق علته في الرتبة ، بل هو متأخر عنها.

وثانيا : ان المقدمة الوجوبية لا بد ان تؤخذ مفروضة الوجود ، ومع اخذها مفروضة الوجود لا يعقل ان تجب بالوجوب المقدمي لاستلزامه طلب الحاصل.

وثالثا : انه يلزم من وجوب المقدمة الوجوبية ان يتقدم زمان وجوب ذيها على موطنه ، وذلك في كل مقدمة تكون سابقة التحقق في الزمان على موطن وجوب ذي المقدمة ، مثلا لو كان قيام زيد في أول طلوع الشمس مقدمة وجوبية لوجوب الصلاة في أول الزوال ، فلو وجب قيام زيد مع ذلك بالوجوب المقدمي يلزم تقدم وجوب الصلاة على موطنه ، وان يتحقق من أول الشمس ليترشح منه الوجوب إلى المقدمة. وهذا خلف ، لأنا فرضنا ان موطن وجوب الصلاة هو الزوال. فالمقدمة الوجوبية لا يمكن ان تتصف بالوجوب المقدمي لهذه الجهات الثلث. فترك الأهم الذي يكون مقدمة وجوبية للمهم لا يجب بالوجوب المقدمي من الجهات الثلث.

نعم : الجهة الأخيرة لا ترد ، بناء على القول بالتقدير وفرض سبق زمان وجوب المهم على ترك الأهم آنا ما ، على ما تقدم تفصيله. فإنه لا يلزم من وجوب ترك الأهم بالوجوب المقدمي تقدم وجوب ذي المقدمة على موطنه وزمانه ، لأنا قد

ص: 390

فرضنا ان موطن وجوب ذي المقدمة الذي هو المهم سابق على مقدمته الوجوبية الذي هو ترك الأهم ، فلا يلزم الخلف من وجوب المقدمة الوجوبية.

ولكن مع ذلك لا يعقل ان يكون ترك الأهم واجبا بالوجوب المقدمي ، لكفاية الجهتين الأوليين في امتناعه ، وهما العمدة لاطرادها في جميع المقدمات الوجوبية واختصاص الجهة الثالثة بالمقدمة السابقة في الزمان على ذيها.

وكان المحقق الرشتي (رحمه اللّه) لم يلتف إلى الجهتين الأوليين ، واقتصر على الأخيرة ، فأنكر على المحقق صاحب الحاشية الذي أجاب (1) عن اشكال لزوم اجتماع الحكمين المتضادين في ترك الأهم بناء على المقدمية والامر الترتبي بما ذكرنا : من أن ترك الأهم مقدمة وجوبية فلا تجب ، بما حاصله : انه لا مانع من وجوب ترك الأهم بالوجوب المقدمي ، بعد القول بالتقدير وسبق زمان وجوب المهم على ترك الأهم ، لأنه لا يلزم بناء على هذا القول سبق وجوب ذي المقدمة على موطنه. وحيث إن المحقق صاحب الحاشية من القائلين بالتقدير ، فأنكر (2) عليه المحقق الرشتي : بأنه يلزمك القول بوجوب ترك الأهم مقدمة لوجود المهم ، فيلزم اجتماع الحكمين المتضادين في ترك الأهم. وجعل المحقق الرشتي هذا هو المانع عن الامر الترتبي ، وكانه سلم ان الامر الترتبي لا مانع عنه سوى ذلك ، وتخيل ان هذا المانع مما لا دافع عنه. وأنت خبير بأنه لو انحصر المانع عن الامر الترتبي بذلك فالامر فيه هين ، لأنه أولا مبنى على التقدير الذي قد تقدم فساده بما لا مزيد عليه ، وثانيا ان المانع عن وجوب المقدمة الوجوبية لا ينحصر بالجهة الثالثة ، بل الجهتان الأوليان هما العمدة في المنع ، فترك الأهم لا يعقل ان يجب بالوجوب المقدمي ، حتى يجتمع فيه الحكمان المتضادان. فتحصل : انه لا مانع من الامر الترتبي ، حتى بناء على اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده من جهة المقدمية ، فتأمل جيدا.

ص: 391


1- راجع هداية المسترشدين - بحث الضد - في بيان الثمرة المتفرعة - على الخلاف في المسألة. « فان قلت : ان المنافاة حاصلة في المقام .. »
2- بدايع الأفكار - المقصد الأول من المقاصد الخمسة - بحث الضد ، القول في ثمرات المسألة ، اما الاشكال الخامس .. » ص 391

المسألة الرابعة :

من مسائل الترتب ، ما إذا كان التزاحم لأجل لملازمة بين المتعلقين. والأقوى عدم جريان الامر الترتبي في ذلك ، لأنه يلزم منه طلب الحاصل. فإنه لو كان استقبال القبلة الملازم لاستدبار الجدي هو المأمور به الأصلي ، وأريد اثبات وجوب استقبال الجدي بالامر الترتبي عند عصيان استقبال القبلة ، لزم من ذلك طلب استقبال الجدي بعد فرض حصوله. فلا يصح ان يقال : ان لم تستقبل القبلة فاستقبل الجدي لان عدم استقبال القبلة ملازم لاستقبال الجدي خارجا ، فيلزم طلب استقبال الجدي بعد حصوله. وان ناقشت في المثال فعليك بمثال الجهر والاخفات ، وقد تقدم الكلام عن ذلك في الامر الثاني في رد مقالة الشيخ كاشف الغطاء (1).

المسألة الخامسة :

من مسائل الترتب ، ما إذا كان التزاحم لأجل اتحاد المتعلقين خارجا ، ولا يمكن جريان الامر الترتبي فيه أيضا ، لأنه يلزم اما طلب الممتنع ، واما طلب الحاصل. فإنه لو قال : لا تغصب وان غصبت فصل ، فالمراد من ( ان غصبت ) ان كان العزم والقصد على الغصب ، فهذا لايكون من الامر الترتبي ، لان شرط الامر الترتبي هو التلبس بالعصيان ، لا العزم على العصيان ، والا لزم الامر بالضدين على وجه المحال كما لا يخفى. وان كان المراد منه التلبس بالعصيان خارجا وفعلية الغصب منه ، فان كان المراد التلبس بالغصب الصلواتي يلزم طلب الحاصل بالعينية لا بالملازمة ، وان كان المراد التلبس بغير الصلاة يلزم طلب الممتنع ، وان كان الأعم يلزم كلا المحذورين ، وقد تقدم الكلام في ذلك أيضا في طي المباحث السابقة. (2)

فتحصل : ان الامر الترتبي لا يجرى الا في مسئلتين من مسائل التزاحم ، إحديهما مسألة الضدين ، وثانيهما مسألة المقدمة وذيها. واما فيما عدى ذلك من

ص: 392


1- راجع الامر الثاني من تنبيهات الترتب ، ص 369
2- تقدم تفصيل هذا البحث في المسألة الثانية ص 380

المسائل الثلث الآخر فلا يعقل فيها الترتب أصلا.

والحمد لله أولا وآخرا والصلاة على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين.

وقد وقع الفراغ من تسويده يوم الثلثا تاسع عشر من شهر ربيع المولود سنة 1347.

وانا الأحقر الجاني محمد على بن حسن الكاظمي الخراساني.

ص: 393

المقصد الثاني في النواهي

اشارة

وفيه مباحث : المبحث الأول : في مفاد صيغة النهى لا اشكال في أن متعلقات النواهي كمتعلقات الأوامر انما هي الطبايع الكلية ، وان كان المطلوب في باب الأوامر هو وجود الطبيعة ، وفي باب النواهي هو الترك. وليس المطلوب في باب النواهي هو الكف ، بتوهم ان نفس الترك امر عدمي ، والعدم خارج عن الاختيار ، فلا يصح ان يتعلق التكليف به. وذلك لان نفس العدم الأزلي وان كان خارجا عن الاختيار الا ان ابقاء العدم واستمراره امر اختياري ، وهو المطلوب في النواهي ، وهذا لا اشكال فيه.

انما الاشكال في أن المطلوب في باب النواهي ، هل هو السلب الكلي على نحو العام المجموعي؟ بحيث يتحقق عصيانه بأول وجود الطبيعة ويسقط النهى حينئذ رأسا ، أو ان المطلوب هو العام الاستغراقي الانحلالي؟ بحيث تكون جميع وجودات الطبيعة مبغوضة ويكون لكل وجود عصيان يخصه. ولا اشكال في امكان كل من الوجهين في عالم الثبوت ، بل قد ذكرنا في رسالة المشكوك ، انه يتصور وجهان آخران في باب النواهي.

أحدهما : ان يكون المطلوب هو ترك مجموع الافراد ، بمعنى ان ارتكاب جميع الافراد مبغوض ، فلا يتحقق عصيانه الا بارتكاب الجميع. كما ربما يدعى ظهور مثل قوله - لا تأكل كل رمانة في البستان - في ذلك ، فلو اكل جميع رمانات البستان الا واحدة لم يكن فاعلا للمنهي عنه.

ثانيهما : ان يكون المطلوب في النهى على نحو القضية المعدولة المحمول ، بحيث يكون المطلوب في مثل لا تشرب الخمر هو كون الشخص لا شارب الخمر ، على وجه

ص: 394

يكون وصفا للمكلف. ففي عالم الثبوت يمكن ان يكون المطلوب بالنهي على أحد وجوه أربعة. واما في مقام الاثبات والاستظهار ، فلا اشكال في أن الوجهين الأخيرين خلاف ظواهر النواهي. واما الوجهان الأولان ، فاستظهار كون المطلوب بالنهي هو السلب الكلي على نحو العام المجموعي مبنى على استظهار كون المطلوب بالنهي هو خلو صفحة الوجود عن الطبيعة المنهى عنها ، بحيث يلاحظ خلو الصفحة معنى اسميا ، ويكون المبغوض هو اشتغال صفحة الوجود بالطبيعة ، فيكون مفاد النهى ح هو السلب الكلي.

ومقتضى مقابلة النهى للامر ، هو ان يكون مفاد النهى السلب الكلي ، حيث إن المطلوب في باب الأوامر هو صرف الوجود على نحو الايجاب الجزئي ، لا مطلق الوجود على نحو الايجاب الكلي ، فان ظاهر تعلق الامر بالطبيعة يقتضى ان يكون المطلوب ايجاد الطبيعة وخروجها عن كتم العدم إلى عرصة الوجود ، وذلك يتحقق بأول وجود الطبيعة ، الا ان تقوم قرينة على إرادة مطلق الوجود. والايجاب الجزئي انما يقابل السلب الكلي ، حيث إن نقيض الموجبة الجزئية هو السالبة الكلية ، هذا.

ولكن الظاهر في باب النواهي ، ان يكون النهى لأجل مبغوضية متعلقه لقيام المفسدة فيه ، لا ان المطلوب هو خلو صفحة الوجود عنه ، بل مبغوضية الطبيعة بافرادها أوجبت النهى عنها ، ومبغوضية الطبيعة تسرى إلى جميع افرادها ، فينحل النهى حسب تعدد الافراد ويكون لكل فرد معصية تخصه ، من غير فرق بين ان يكون للنهي تعلق بموضوع خارجي ، كقوله : لا تشرب الخمر ، أو ليس له تعلق بموضوع خارجي ، كقوله : لا تكذب. غايته ان الانحلال فيما إذا كان له تعلق بموضوع خارجي يكون بالنسبة إلى كل من الموضوع والمتعلق ، فيكون كل فرد من افراد الشرب الذي يمكن ان يقع الشرب عليه لكل فرد من افراد الخمر مبغوضا ومتعلقا للنهي. وفيما إذا لم يكن له تعلق بموضوع خارجي يكون الانحلال في ناحية المتعلق فقط. وعلى كل حال ، لا ينبغي التأمل في أن الظاهر في باب النواهي هو ان يكون المطلوب فيها هو ترك كل فرد فرد ، على نحو العام الاستغراقي. ودلالة النهى

ص: 395

على ذلك في الافراد العرضية مما لا اشكال فيه.

واما الافراد الطولية : فدلالة النهى عليها مبنية على أن يكون نفس تعلق النهى بالطبيعة يقتضى نهى جميع الافراد العرضية والطولية ، بحيث يكون مفاد صيغة النهى في مثل قوله : لا تشرب الخمر ، هو ان يكون شرب الخمر في كل آن آن مبغوضا ، فيدل النهى على المنع في الافراد الطولية أيضا ، ويكون العموم الزماني مستفادا من نفس تعلق النهى بالطبيعة ، بلا حاجة إلى استفادة العموم الزماني من دليل الحكمة بل النهى وضعا يدل على ذلك ، ويكون مصب العموم الزماني هو المتعلق لا الحكم.

وقد ذكرنا ما عندنا في ذلك ، في - التنبيه الثاني عشر من تنبيهات الاستصحاب - عند تعرض الشيخ ( قده ) لمقالة المحقق الكركي (رحمه اللّه) في مفاد أوفوا بالعقود ، من أن المرجع بعد تخصيص العام في بعض الأزمنة بالنسبة إلى بعض الافراد والشك في الزمان الزائد هل هو عموم العام أو استصحاب حكم المخصص ، وبينا الفرق بين استفادة العموم الزماني من نفس مفاد النهى ، أو من دليل الحكمة. وقد اختار شيخنا الأستاذ مد ظله في المقام كون العموم الزماني في باب النهى مستفادا من دليل الحكمة ، وفي ذلك المقام اختار كونه مستفادا من نفس تعلق النهى بالطبيعة. فراجع ذلك المقام لكي تكون على بصيرة.

ثم إن القوم قد تعرضوا في باب النواهي لبعض المباحث التي لا يهمنا البحث عنها. فالأولى عطف عنان الكلام إلى مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي ، التي وقعت معركة الآراء قديما وحديثا فنقول : ومن اللّه التوفيق. المبحث الثاني : في جواز اجتماع الأمر والنهي.

والقوم وان عنونوا النزاع على هذا الوجه ، الا انه ليس ظاهر العنوان مرادا قطعا ، فان ظاهر العنوان يعطى ان يكون النزاع في تضاد الأمر والنهي وعدمه ، مع أن تضاد الاحكام بأسرها امر مفروغ عنه غير قابل للنزاع فيه. بل المبحوث عنه في المقام ، هو أصل لزوم الاجتماع وعدمه ، لا جوازه وعدمه. فالأولى تبديل العنوان بان يقال : إذا اجتمع متعلق الأمر والنهي من حيث الايجاد والوجود ، فهل يلزم من

ص: 396

الاجتماع كذلك ان يتعلق كل من الأمر والنهي بعين ما تعلق به الآخر؟ كما هو مقالة القائل بالامتناع ، أو لا يلزم ذلك؟ كما هو مقالة القائل بالجواز. وسيأتي ما هو المراد من الاجتماع ايجادا ووجودا.

ثم إن البحث عن مسألة اجتماع الأمر والنهي يقع في مقامين.

المقام الأول :

هو ما عنونا به المسألة ، من أن اجتماع متعلق الأمر والنهي من حيث الايجاد والوجود هل يوجب ان يتعلق الامر بعين ما تعلق به النهى ولو لمكان اطلاق كل منهما لمتعلق الآخر؟ فيمتنع صدور مثل هذا الأمر والنهي وتشريعهما معا بلحاظ حال الاجتماع ، ويكون بين الدليلين المتكفلين لذلك تعارض العموم من وجه. أو انه لا يلزم من الاجتماع المذكور تعلق كل منهما بعين ما تعلق به الآخر؟ فلا يمتنع تشريع مثل هذا الأمر والنهي ، ولا يكون بينهما تعارض. وبعبارة أخرى : البحث في المقام الأول ، انما هو في أن جهة الأمر والنهي هل تكون تقييدية مكثرة للموضوع؟ فلا تعلق لأحدهما بالآخر ، أو ان الجهة تعليلية؟ فيتعلق كل منهما بعين ما تعلق به الآخر.

المقام الثاني :

هو انه بعد ما كانت الجهتان تقييديتين ولا يتعلق الأمر والنهي بعين ما تعلق به الآخر ولا يكون بين الدليلين تعارض ، فهل وجود المندوحة للمكلف وتمكنه من ايجاد الصلاة خارج الدار الغصبية يجدى في رفع غائلة التزاحم بين الامر والنهى؟ ويكفي في انطباق المأمور به والمنهى عنه على الجامع وهو الصلاة في الدار الغصبية فتصح الصلاة. أو ان وجود المندوحة لا يجد في ذلك؟ ولا ينطبق المأمور به على المجمع. والبحث عن المقام الثاني هو عين البحث المتقدم مع المحقق الكركي (رحمه اللّه) من أن القدرة على الطبيعة المأمور بها في الجملة ولو في ضمن فرد ما يكفي في انطباق الطبيعة المأمور بها على الفرد المزاحم بالأهم فيكون الاجزاء عقليا - على ما (1)

ص: 397


1- راجع الجزء الأول من هذا الكتاب ، مبحث الضد ص 312 - 313

تقدم تفصيله في بعض مقدمات الترتب - والمحقق الكركي (رحمه اللّه) وان كانت مقالته في وجود المندوحة بالنسبة إلى الافراد الطولية ، الا ان جهة البحث مشتركة بين الافراد الطولية والعرضية ، حيث إن العبرة بوجود المندوحة وتمكنه من فعل ما لايكون مزاحما بالأهم منه ، سواء في ذلك الافراد الطولية كتمكنه من الاتيان بالفرد من الصلاة الذي لايكون مزاحما لأداء الدين أو إزالة النجاسة ، أو الافراد العرضية كتمكنه من الاتيان بالفرد من الصلاة الذي لايكون مجامعا للغصب.

وعلى كل حال : البحث عن المقام الثاني ، انما يكون بعد الفراغ عن المقام الأول كما عرفت ، إذ لا يتفاوت الحال في البحث عن المقام الأول بين وجود المندوحة وعدمه ، فان البحث في ذلك المقام يكون بحثا عن عالم التشريع والثبوت ، الذي لا يتفاوت الحال فيه بين وجود المكلف والمندوحة وعدمه ، فاعتبار المندوحة انما تنفعنا في البحث عن المقام الثاني.

ومن هنا يمكن ان يستظهر من اخذ قيد المندوحة في عنوان النزاع - كما عليه قاطبة المتقدمين - ان النزاع انما كان في المقام الثاني ، وان المقام الأول كأنه كان مفروغا عنه ، وانه لا كلام في جواز الاجتماع من الجهة الأولى. ولكن المتأخرين كأنهم أهملوا البحث عن المقام الثاني ، وخصوا النزاع بالمقام الأول. ولكن نحن نتكلم في كل من المقامين على حده.

والأقوى عندنا في المقام الأول الجواز ، وان الاتحاد لا يوجب تلعق كل من الأمر والنهي بعين ما تعلق به الآخر ، وفي المقام الثاني عدم كفاية المندوحة في رفع التزاحم. ولنقدم امام المقصود مقدمات : منها ما يشترك فيها كلا المقامين ، ومنها ما تختص بالمقام الأول ، ومنها ما تختص بالمقام الثاني. اما المقدمات المشتركة.

فمنها :

ان الظاهر كون المسألة من المبادئ ، لا من المسائل الأصولية ، ولا من مسائل علم الكلام ، ولا من المسائل الفقهية.

اما عدم كونها من المسائل الكلامية والفقهية فواضح ، فلان البحث في

ص: 398

المقام ليس عن امكان الاجتماع وامتناعه ، حتى يكون البحث عن مسألة كلامية ، حيث إن علم الكلام هو المتكفل لبيان حقايق الأشياء من واجباتها وممكناتها وممتنعاتها. وكان توهم ، كون المسألة كلامية نشأ عن ظاهر العنوان ، حيث إن ظاهره يعطى كون البحث عن جواز اجتماع الأمر والنهي وامتناعه ، فتخيل كون البحث راجعا إلى مسألة كلامية ، الا انه قد تقدم ان البحث في المقام راجع إلى أصل الاجتماع وعدمه ، لا إلى جوازه وامتناعه.

وكذا ليس البحث في المقام راجعا إلى صحة الصلاة في الدار الغصبية وعدم الصحة أو حرمتها وعدم الحرمة حتى تكون المسألة فقهية ، فان جهة البحث ليست ذلك ، وان كانت النتيجة تنتهي بالآخرة إلى ذلك ، الا ان مجرد ذلك لا يكفي في كون المسألة فقهية ما لم تكن الجهة المبحوث عنها مما تتعلق بفعل المكلف بلا واسطة ، وذلك واضح.

واما عدم كون المسألة من المسائل الأصولية ، فلان البحث فيها وان كان راجعا إلى باب الملازمات العقلية للخطابات الشرعية ، كالبحث عن مقدمة الواجب ، واقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده - وان كان الفرق بين المسألة وتلك المسائل ، هو ان البحث في تلك المسائل عن لازم خطاب واحد ، وفي هذه المسألة عن لازم خطابين أعني خطاب الامر وخطاب النهى - الا ان مجرد ذلك لا يكفي في كون المسألة أصولية ما لم تكن الكبرى المبحوث عنها بنفسها واقعة في طريق الاستنباط ، بحيث تصلح ان تكون كبرى لقياس الاستنباط ويستنتج منها حكم كلي فقهي. والكبرى المبحوث عنها في المقام لا تصلح ان تكون كبرى لقياس الاستنباط ، فان الكبرى المبحوث عنها انما هي اقتضاء اتحاد المتعلقين من حيث الايجاد والوجود وتعلق كل من الأمر والنهي بعين ما تعلق به الآخر. وهذا كما ترى يكون بحثا عن صغرى التعارض. وفي المقام الثاني أعني كفاية المندوحة يكون بحثا عن صغرى التزاحم ، فتكون المسألة من مبادئ مسائل التعارض والتزاحم. فان حقيقة البحث في المقام ، يرجع إلى البحث عما يقتضى تعارض الأمر والنهي - في مورد الاجتماع واتحاد المتعلقين من حيث الايجاد والوجود - وعدم ما يقتضى تعارضهما ، أو تزاحم

ص: 399

الأمر والنهي عند وجود المندوحة وعدم التزاحم. وهذا بحث عن وجود ما هو الموضوع لمسائل التعارض والتزاحم ، وأين هذا من المسألة الأصولية؟.

والحاصل : ان البحث عن الملازمات العقلية للخطابات الشرعية ، تارة : يكون بحثا عن المسألة الأصولية ، كالبحث عن مسألة الضد ومقدمة الواجب ، فان المبحوث عنه في هذه المسألة عن اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده ، واقتضاء ايجاب الشيء لايجاب مقدماته يكون بحثا عن كبرى قياس الاستنباط ، ويستنتج منه حكم كلي فقهي ، وهو فساد الضد إذا كان عبادة ، ووجوب مقدمة الواجب. وأخرى : لايكون البحث عن الملازمات العقلية بنفسه بحثا عن مسألة أصولية ، لعدم وقوع المبحوث عنه كبرى لقياس الاستنباط ، كما في المقام.

فان المبحوث عنه فيما نحن فيه في المقام الأول انما هو استلزام تعلق الأمر والنهي بعين ما تعلق به الآخر عند اتحاد المتعلقين ، فيكون الأمر والنهي متعارضين ، أو عدم استلزام ذلك فلا تعارض. وثبوت التعارض وعدمه لا يقع بنفسه كبرى القياس ، ما لم ينضم إليه قواعد التعارض من الترجيح والتخيير. وفي المقام الثاني : انما هو في كفاية وجود المندوحة في رفع غائلة التزاحم وعدم كفايته ، فيكون بحثا عما يقتضى وجود التزاحم وعدمه وهو أيضا ليس بنفسه كبرى القياس ، ما لم ينضم إليه قواعد التزاحم.

فالانصاف : ان البحث في المسألة أشبه بالبحث عن المبادئ التصديقية ، لرجوع البحث فيه إلى البحث عما يقتضى وجود الموضوع لمسألة التعارض والتزاحم ، وليس بحثا عن المسألة الأصولية ، ولا عن المبادئ الاحكامية التي هي عبارة عما يتوقف عليه معرفة الأحكام الشرعية المستنبطة ، ككون الحكم تكليفيا أو وضعيا ، وان الحكم الوضعي قابل للجعل أو غير قابل. وقد كان بناء شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) سابقا على أن البحث في المقام راجع إلى البحث عن مسألة أصولية ، الا انه عدل عن ذلك وجعل البحث راجعا إلى المبادئ. والامر في ذلك سهل.

ومنها :

ان متعلقات الاحكام ليست هي المفاهيم والعناوين الكلية ، التي يكون

ص: 400

موطنها العقل بما ان موطنها العقل ، لامتناع انطباق تلك المفاهيم على الحقايق الخارجية ، بل هي من المعقولات الثانوية الممتنعة الصدق على الخارجيات ، فلا يعقل ان يتعلق بها التكليف. بل تلك المفاهيم انما تكون كليات عقلية ليس موطنها الا العقل ، وهي باعتبار ذلك الموطن متباينة دائما ، ليس بينها نسبة التساوي ، أو العموم من وجه ، أو العموم المطلق ، بل متعلقات التكاليف انما هي المفاهيم والعناوين الملحوظة مرآة لحقايقها الخارجية القابلة الصدق والانطباق على الخارجيات ، التي تكون بهذا الاعتبار كليات طبيعية ، وبذلك يصح ملاحظة النسبة بينها ، فتارة : يكونان متلازمين في الصدق فيكون النسبة هي التساوي. وأخرى : لا يكونان كذلك ، فاما ان يتصادقا في مورد أصلا فالنسبة تكون هي التباين ، وأخرى يتصادقان في مورد ويفترقان في مورد آخر فالنسبة تكون هي العموم من وجه ان كان الافتراق من الجانبين ، والا فالعموم المطلق ، على ما سيأتي من ضابطة النسب الأربع. وملاحظة النسبة كذلك لايكون الا في الكليات الطبيعية الملحوظة مرآة لما في الخارج ، لا الكليات العقلية.

ثم إن المفاهيم والعناوين الملحوظة مرآة لما تنطبق عليه من الخارجيات ، تارة : تكون متأصلة في عالم العين سواء كانت من مقولة الجواهر أو الاعراض ، وأخرى : تكون متأصلة في عالم الاعتبار ، بحيث يكون وجودها عين اعتبارها ممن بيده الاعتبار. وللامر الاعتباري نحو وجود متأصل في عالمه نحو وجود المتأصل في عالم العين ، وان كان وجود الامر الاعتباري أضعف من وجود الامر العيني ، الا ان ذلك لا يلحقه بالانتزاعيات التي ليس لها وجود الا بوجود منشأ انتزاعها ، وتكون من خارج المحمول ، بل الانتزاعي امر والاعتباري امر آخر ، وليس الاعتباري عين الانتزاعي ، وان كان ربما يطلق أحدهما على الآخر ، الا ان ذلك لا يخلو عن مسامحة. فالامر الاعتباري مقابل للامر الانتزاعي ، حيث إن للأول نحو وجود في وعاء الاعتبار وليس للثاني وجود ، بل الموجود هو منشأ الانتزاع ، سواء كان المنشأ من الأمور المتأصلة في عالم العين ، أو كان من الأمور المتأصلة في عالم الاعتبار ، فان الامر الاعتباري يصلح ان يكون منشأ لانتزاع امر ، كصلاحية الامر العيني لذلك.

ص: 401

فالعنوان الملحوظ على وجه المرآتية يكون على اقسام ثلاثة : متأصل في عالم العين ، ومتأصل في عالم الاعتبار ، ومنتزع عن أحدهما ، وهو باقسامه يصلح ان يتعلق به التكليف ، غايته ان التكليف بالانتزاعي يكون تكليفا بمنشأ الانتزاع ، إذ هو المقدور الذي تتعلق به إرادة الفاعل ، والانتزاعي انما يكون مقدورا بواسطته ، وذلك كله واضح. (1).

ومنها :

ان العناوين والمفاهيم التي يكون بينها التباين الجزئي لا يعقل ان يتصادقا على متحد الجهة ، فان جهة الصدق والانطباق في أحد العنوانين لا بد ان تغاير جهة الصدق والانطباق في الآخر ، والا لامتنع صدق أحدهما بدون صدق الآخر ، وكانا متلازمين في الصدق والانطباق ولم يحصل بينهما افتراق. فإنه بعد فرض وحدة الجهة يكون الموجب لانطباق أحد العنوانين على شيء هو الموجب لانطباق العنوان الآخر عليه ، فلا يعقل الافتراق من جانب أو من جانبين ، فافتراق العنوانين في الصدق والانطباق يكشف عن تعدد جهة الصدق في مورد الاجتماع ، فلا يعقل تصادق عنوانين على متحد الجهة مع فرض امكان افتراق أحد العنوانين عن الآخر ولو في الجملة ومن جانب واحد.

ولا ينتقض ذلك بالباري تعالى حيث إنه ينطبق عليه عناوين متباينة بالتباين الجزئي ، مع أنه تعالى ليس فيه تعدد جهة لكونه تعالى بسيطا كل البساطة ، ومع ذلك ينطبق عليه عنوان العالم والقادر ، مع أن بينهما العموم من وجه : وذلك لأنه لا يقاس التراب مع رب الأرباب ، فان العناوين المنطبقة عليه تعالى كلها راجعة إلى الذات ، فهو بذاته قادر ، وعالم ، وحى قيوم ، وليس العلم أو القدرة مغايرا للذات.

والحاصل : ان القياس ليس في محله ، فان مقام الباري تعالى مقام لا تصل

ص: 402


1- ولا يخفى عليك ان هذه المقدمة وما يتلوها من المقدمات ليس لها كثير ربط بالمقام الثاني ، بل ينبغي جعلها من مقدمات المقام الأول كما لا يخفى - منه.

إليه الأوهام ، ولا يمكن تعقل حقيقة انطباق تلك العناوين عليه ، فلا يصح جعل ذلك نقضا للبرهان العقلي الفطري الذي هو - عدم امكان انطباق العناوين المتباينة المفترقة في الصدق على متحد الجهة - وهذا يكفي في تصديقه نفس تصوره ، ولا يحتاج إلى مزيد بيان.

نعم : ينبغي بيان مناط تصادق العناوين وعدم تصادقها وانه كيف يتصادق بعض العناوين دون بعض.

فنقول : لا اشكال في أن صدق أي عنوان على أي شيء لا بد ان يكون لجهة تقتضي ذلك الصدق ، سواء كانت تلك الجهة راجعة إلى الذات كصدق الانسان على زيد ، أو إلى امر خارج عن الذات كصدق العالم عليه ، إذ لا يعقل صدق عنوان من دون ان يكون هناك جهة الصدق ، والا لصدق كل شيء على كل شيء.

ثم إن جهة صدق أحد العنوانين ، اما ان تكون متباينة مع جهة صدق العنوان الآخر ، واما ان لا تكون متباينة. وما كانت متباينة ، فاما ان يكون بينهما مضافا إلى التباين منافرة ومضادة ، واما ان لا يكونا كذلك ، بل كان بينهما مجرد المخالفة والمغايرة. والمخالفة والمغايرة ، اما ان تكون من قبيل المغايرة الجنسية والفصلية وما يلحق بذلك بحيث يكون التخلف من إحدى الجهتين دون الأخرى ، واما ان لا تكون من هذا القبيل بل كان التخلف من الجهتين. فهذه جملة ما يمكن ان يتصور عقلا في الجهات الموجبة لصدق العناوين على حقايقها الخارجية ، ولا خامس لهذه الأقسام ، فان الحصر عقلي لا استقرائي.

فان لم يكن بين الجهتين مباينة ومخالفة : فلا محالة يتلازم العنوانان في الصدق ، فان عدم التلازم يكشف عن تخلف إحدى الجهتين عن الأخرى ، مع أن المفروض عدم المخالفة بينهما ، فلا بد ان يكون بين العنوانين تلازم في الصدق ويكون العنوانان متساويين في الانطباق ، بحيث انه كلما صدق أحدهما صدق الآخر كما في الانسان والضاحك.

وان كان بين الجهتين مخالفة ومباينة : فان كان التخالف على وجه التنافر والتضاد ، كالفصول المنوعة للأجناس - حيث إن بين الفصول والصور النوعية

ص: 403

كمال المنافرة والمضادة ، لان الجنس لا يمكن ان يتحمل فصلين ويعتوره صورتان مجتمعتان - فلا محالة يكون بين العنوانين تباين كلي ، كالانسان والشجر ، حيث إن جهة صدق الانسان هي الفصل المقوم له والصورة النوعية التي يكون بها الانسان انسانا ، وجهة صدق الشجر أيضا هي الفصل والصورة النوعية التي يكون بها الشجر شجرا ، وبين الصورتين كمال المنافرة والمضادة ، فلامحة يكون بين الانسان والشجر تباين كلي.

وان لم يكن بين الجهتين تنافر وتضاد ، بل كان بينهما مجرد المخالفة : فان كان التخلف من إحدى الجهتين دون الأخرى ، كما إذا كان إحدى الجهتين جهة الجنسية والأخرى جهة الفصلية - حيث إن التخلف انما يكون من جهة الفصلية لامكان تحمل الجنس فصلا آخر دون جهة الجنسية ، لعدم امكان القاء الفصل جهة الجنسية ، كما يتضح ذلك في مثل الحيوان والانسان - فلامحة يكون بين العنوانين العموم المطلق. وان كان التخلف من جانب كل من الجهتين ، فيكون بين العنوانين العموم من وجه.

ومما ذكرنا ظهر ان نسبة العموم من وجه لا يعقل ان تتحقق بين العنوانين الجوهريين ، لان جهة صدق العنوان الجوهري على شيء انما يكون باعتبار ماله من الصورة النوعية التي بها يكون الشيء شيئا ، وقد عرفت : ان الصور النوعية متباينة بالتباين الكلي لا يمكن ان يجتمعا ، نعم : جهة الجنسية والفصلية يمكن اجتماعهما. والنسبة بين الجهة الجنسية والفصلية دائما تكون العموم المطلق. فالعموم من وجه لا بد ان يكون ، اما بين الجوهري والعرضي كالانسان والأبيض ، واما بين العرضيين كالعالم والفاسق. ومعلوم : ان جهة الصدق والانطباق في العرضيين المجتمعين انما تكون هي مبدء الاشتقاق ، حيث إن المبدء هو العلة لتولد عنوان المشتق منه ، ويكون انطباق العالم على زيد من جهة علمه ، وانطباق الفاسق عليه من جهة فسقه ، فالعلة لانطباق العنوانين الذين يكون بينهما العموم من وجه ليست الا مبدء الاشتقاق ، وذلك المبدء هو الذي أوجب حدوث نسبة العموم من وجه بين العنوانين ، حيث لم يكن بين المبدئين منافرة ومضادة ، وقد تقدم في المشتق انه لا فرق بين المشتق ومبدء

ص: 404

الاشتقاق الا باللابشرطية والبشرط اللائية ، حيث إن العرض ان لوحظ لا بشرط عما يتحد معه يكون عنوانا عرضيا محمولا ، وان لوحظ بشرط لايكون عرضا مفارقا غير محمول. فالعرض هو الذي يكون عرضيا عند ملاحظته لا بشرط ، ويكون هو العلة لصدق العرضي المشتق منه على الذات فجهة الصدق في المشتقات ليست الا مبدء الاشتقاق.

ومن هنا ظهر : ان الجهتين اللتين أوجبتا صدق العنوانين العرضيين على شيء لا تكونان الا تعليليتين ، ولا تصلحان ان تكونا تقييديتين ، لما عرفت : من أن المبدء دائما يكون علة لصدق المشتق على الذات المتحدة معه ، فجهة انطباق عنوان العالم على زيد وكذا جهة انطباق الفاسق عليه تكون تعليلية ، ويقال : زيد عالم وفاسق ، لعلة علمه وفسقه. هذا بالنسبة إلى العناوين الاشتقاقية.

واما بالنسبة إلى نفس المبادئ الاشتقاقية ، فلا يعقل اتحاد بعضها مع بعض ، ولا اتحادها مع الذات القائمة بها ، فإنها من هذه الحيثية تكون بشرط لا دائما ، ولا يعقل ان تلاحظ المبادئ بعضها مع بعض لا بشرط ، إذ المبادئ كلها متباينة ، والعلم على أي وجه لوحظ يكون غير الفسق ، وكذا الفسق يكون غير العلم ، ولا يصح حمل أحدهما على الآخر ، ولا حملهما على الذات ، فلا يقال : زيد علم ولا العلم فسق.

والحاصل : ان العرض بالنسبة إلى الذات القائم بها يصح لحاظه لا بشرط فيكون عنوانا مشتقا يصح حمله على الذات المنطبق عليها ، ويصح لحاظه بشرط لا فيكون مفارقا لا يصح حمله على الذات. فصحة لحاظه لا بشرط أو بشرط لا انما يكون بالنسبة إلى الذات القائم بها ، واما بالنسبة إلى عرض آخر فدائما يكون بشرط لا ، إذ لا ربط بينهما ، لعدم قيام عرض بعرض آخر ، فلا يصح لحاظ العلم لا بشرط بالنسبة إلى الفسق ، وان صح لحاظه لا بشرط بالنسبة إلى الذات القائم بها. وح فلا يعقل الاتحاد بين المبادئ.

نعم : تختلف المبادئ من حيث امكان اجتماع بعضها مع بعض في الوجود وعدم امكانه ، لان المبادئ ان كانت مقولة الكيف ، كالعلم ، والفسق ، والحلاوة ، والبياض ، فلا يعقل اجتماع بعضها مع بعض في الوجود ، بحث يكون مبدء مجامعا

ص: 405

لمبدء آخر في الوجود ، على وجه يلتصق به ويتحد معه في الوجود بنحو من الاتحاد ، لوضوح ان مثل العلم لا يلتصق بالفسق ولا يتحد معه بوجه من الوجوه. نعم هما يجتمعان في الذات التي يقومان بها ، فيكون زيد مثلا مجمعا للعلم والفسق ، بمعنى انه وجد فيه كل من المبدئين ، ولمكان وجود المبدئين فيه انطبق عليه عنوان العالم والفاسق ، الا ان اجتماعهما في الذات غير اجتماع العلم مع الفسق على وجه الالتصاق والتركيب ، بحيث يتركب العلم مع الفسق ويكونان بمنزلة شيء واحد وما بحذاء أحدهما عين ما بحذاء الآخر ، فان ذلك امر غير معقول في مثل ذلك.

واما ان كانت من الافعال الصادرة عن الشخص - بالمعنى المصطلح عليه عند الفقهاء لا بالمعنى المصطلح عليه عند أهل المعقول من معنى الفعل - فيمكن اجتماع المبادئ بعضها مع بعض ، على وجه يكون فعل واحد مصداقا لمبدئين ، ويتركب أحدهما مع الآخر ويلتصق به ، بحيث لايكون ما بحذاء أحدهما غير ما بحذاء الآخر. وذلك كما في مثل الصلاة والغصب ، حيث يمكن ان يوجدا بفعل واحد وحركة فاردة ، وتكون تلك الحركة مجمعا لكل من الصلاة والغصب ، على وجه لا يتميز أحدهما عن الآخر ، مع ما هما عليه من المغايرة وعدم الاتحاد ، لما تقدم : من أنه لا يعقل اتحاد المبدئين وملاحظتهما لا بشرط بالنسبة إلى الآخر الذي هو ملاك الاتحاد ، كما في العناوين المشتقة ، فيكون التركيب في مثل الصلاة والغصب نظير التركيب في الهيولي والصورة.

ومنها :

ان العناوين المجتمعة تارة : تكون من العناوين الاشتقاقية ، وأخرى : تكون من المبادئ. وما تكون من المبادئ تارة : يكون اجتماعها لا على وجه الانضمام والتركيب ، بل كان ما بحذاء أحدهما خارجا غير ما بحذاء الآخر وكان كل منهما قابلا للإشارة الحسية إليه وكان اجتماعهما مجرد واجدية الموضوع لهما واجتماعهما فيه ، سواء كان ذلك من جهة تلازمهما في الوجود ، كالاستقبال والاستدبار للقبلة والجدى ، حيث إنه وان وجد كل من استقبال القبلة واستدبار الجدي في الشخص ، الا ان الاستقبال انما يكون باعتبار مقاديم البدن والاستدبار

ص: 406

باعتبار مآخيره ، وكان لكل منهما ما بحذاء غير ما بحذاء الآخر وقابلا للإشارة الخارجية إليه وان كانا متلازمين في الوجود. أو كان ذلك من جهة الاتفاق والمقارنة من دون ان يكون بينهما تلازم ، كالعلم والفسق المجتمعين في زيد ، حيث إنه وان اجتمعا في زيد ، الا انه كان لكل منهما ما بحذاء في الخارج غير ما بحذاء الآخر ، وقابل للإشارة إليه.

وأخرى : يكون اجتماعهما على جهة التركيب والانضمام والالتصاق ، وذلك كما في الصلاة والغصب وأمثال ذلك مما كان المبدء من الأفعال الاختيارية ، حيث إنه وان اجتمعا في الدار الغصبية ، الا ان اجتماعهما يكون على وجه الانضمام والتركيب بينهما ، وكان الموجود في الدار الغصبية مركبا منهما على وجه لا يمكن الإشارة الحسية إلى أحدهما دون الآخر. هذا مع ما هما عليه من المغايرة ، بحيث لا يصح حمل أحدهما على الآخر ، ولا تكون الصلاة غصبا ولا الغصب صلاة ، لما تقدم من أن المبادئ بالقياس إلى أنفسها تكون بشرط لا ، وان كان بالقياس إلى الذات التي تقوم بها يصح لحاظها لا بشرط.

وهذا بخلاف العناوين الاشتقاقية ، فإنها ملحوظة لا بشرط بالنسبة إلى أنفسها وبالنسبة إلى الذات القائمة بها. ومن هنا كان التركيب فيها تركيبا اتحاديا بحيث يصح حمل كل من العنوانين على الآخر ، وحملهما على الذات ، وحمل الذات عليهما ، فيقال : زيد عالم وفاسق ، والعالم والفاسق زيد ، والعالم فاسق ، والفاسق عالم ، لمكان اتحاد الجميع بحسب الخارج. وهذا بخلاف التركيب بين المبادئ فيما إذا كان بينهما تركيب ، فان التركيب بينها يكون انضماميا ، لا اتحاديا ، لاعتبارها بشرط لا ، فلا اتحاد بينها حتى يصح حمل بعضها على بعض ، لان العرض لا يعقل ان يقوم بعرض آخر حتى يمكن فيهما الاتحاد. فالتركيب بين المبادئ يكون نظير التركيب بين المادة والصورة ، حيث إن التركيب فيهما يكون انضماميا ، لا اتحاديا ، لمكان انهما أيضا ملحوظان بشرط لا ، كالمبادئ ، وان كان بين المبادئ والصورة والهيولي فرق وهو : ان اجتماع المبادئ انما يكون في الموضوع القائمة به ، إذ لا جامع بينها سوى ذلك ، والموضوع في مثل الصلاة والغصب هو الشخص. وهذا بخلاف اجتماع المادة والصورة ،

ص: 407

فان اجتماعهما يكون باعتبار كون الهيولي مركب الصورة ومحلا لها ، وهدا لمكان ان الهيولى قوة محضة والصورة فعلية محضة ، والا فالجواهران الفعليان أيضا كالعرضيين لا يعقل ان يقوم أحدهما بالآخر. وعلى كل حال : جهة تشبيه اجتماع المبادئ باجتماع الهيولي والصورة في مجرد كون التركيب انضماميا لا اتحاديا ، كما أن التركيب بين العناوين المشتقة نظير التركيب بين الجنس والفصل من حيث كونه اتحاديا ، حيث إن الجنس والفصل أيضا ملحوظان لا بشرط كالعناوين المشتقة.

ومنها : ان التركيب الاتحادي يقتضى ان تكون جهة الصدق الانطباق فيه تعليلية ، ولا يعقل ان تكون تقييدية ، لان الجهة لا تكون مكثرة للموضوع ، فانا قد فرضنا كون التركيب اتحاديا ، ومع التركيب الاتحادي لا تكثر لوحدة الموضوع.

وبالجملة : علم زيد وفسقه لا يوجب ان يكون زيد العالم غير زيد الفاسق ، بل هو هو ، وانما يكون العلم والفسق علة لانطباق العالم والفاسق عليه. وهذا بخلاف التركيب الانضمامي فان الجهة فيه تكون تقييدية ولا تصلح ان تكون تعليلية ، لأنا قد فرضنا عدم الاتحاد بين العنوانين. والجهتان في التركيب الانضمامي هما عبارة عن نفس العنوانين المجتمعين ، وليس هناك عنوان آخر حتى يصح كون الجهة تعليلية.

وبالجملة : لازم عدم اتحاد العنوانين هو كون الجهة تقييدية ، والمراد من التقييد في المقام غير التقييد المراد منه في باب المطلق ، بمعنى ان التقييد في باب المطلق انما يرد على الماهية الجنسية أو النوعية ، ويوجب تضييق دائرة الماهية ، ويجعلها منقسمة إلى نوعين أو صنفين. والتقييد في المقام انما يرد على الشخص ، ويوجب اندراج الشخص تحت نوعين أو صنفين باعتبار الجهتين اللتين هما فيه. ففي مثل الصلاة في الدار الغصبية التي اجتمع فيها عنوان الغصب وعنوان الصلاة تكون كل من الجهتين اللتين هما عبارة عن الصلاة والغصب مقيدة لذلك الموجود في الدار وموجبة لاندراجه تحت نوعين ، أي مقولتين ، على ما سيأتي بيانه.

فظهر : ان هذه المقدمات الثلث الأخيرة كلها متلازمة ، وترتضع من ثدي

ص: 408

واحد ، فان لازم كون العنوانين ملحوظين على وجه اللابشرطية ، هوان يكون التركيب بينهما اتحاديا وكون الجهتين تعليليتين ، كالعالم ، والفاسق ، والمصلى ، والغاصب. ولازم لحاظها بشرط لا كون التركيب بينهما انضماميا وكون الجهتين تقييديتين ، كالصلاة والغصب ، وما شابه ذلك من المبادئ التي أمكن التركيب بينها ، لا مثل العلم والفسق الذين ليس بينهما تركيب.

فان قلت :

انه بناء على هذا يلزم ان لايكون بين المبادئ نسبة العموم من وجه ، لان ضابط العموم من وجه هو تصادق العنوانين على جهة الاتحاد الموجب لصحة الحمل ، فمثل الصلاة والغصب ينبغي ان لا تكون النسبة بينهما العموم من وجه ، لعدم الاتحاد المصحح لحمل أحدهما على الآخر.

قلت :

لا يختص العموم من وجه بصورة تصادق العنوانين على جهة الاتحاد ، بل ضابط العموم من وجه هو تصادق العنوانين على جهة التركيب ، سواء كان التركيب اتحاديا أو انضماميا. مع أنه ليس كلامنا في المقام في التسمية والاصطلاح ، بل كلامنا في المقام فيما يمكن في العناوين وبيان أنحاء تصادقها عقلا ، واما التسمية فهي بيدك ما شئت فسم. والغرض في المقام : الفرق بين تصادق مثل العالم والفاسق ، وتصادق مثل الصلاة والغصب. والذي يدل على أن التصادق في مثل العالم والفاسق يكون على وجه التركيب الاتحادي وفي مثل الصلاة والغصب يكون على وجه الانضمام ، هو ان العناوين الاشتقاقية ليس الموجود منها في مادة الافتراق هو تمام ما هو الموجود في مادة الاجتماع ، بل الموجود في مادة الافتراق نفس الجهة وتبدل تلك الذات التي كان العنوانان قائمين بها بذات أخرى ، حيث إن الذي يكون عالما هو بكر ، والذي يكون فاسقا هو عمرو ، والذي يكون عالما وفاسقا هو زيد ، فهناك ذوات ثلث بحسب مادة الاجتماع ومادتي الافتراق ، ولا يكون تمام ما هو مناط الصدق في مادة الاجتماع من المبدء والذات محفوظا في مادة الافتراق. وهذا بخلاف مثل الصلاة والغصب ، فان تمام ما هو مناط صدق الصلاة بهويتا و

ص: 409

حقيقتها محفوظ في مادة الافتراق ، من دون نقصان شيء أصلا ، وكذا في مادة الافتراق في جانب الغصب. ولو كان التركيب في مثل الصلاة والغصب اتحاديا وكانت الجهة تعليلية ، لكان ينبغي ان يكون مثل العناوين الاشتقاقية موجبا لان لايكون في مادة الافتراق الصلاة بتمامها محفوظة ، كما لا يخفى.

ومنها :

ان مورد البحث انما هو فيما إذا كان بين العنوانين العموم من وجه ، فان في العموم المطلق يلزم تعلق الامر بعين ما تعلق به النهى ان لم نقل بالتخصيص ، وان قلنا بالتخصيص فلا اجتماع ، فلو قال ( صل ولا تغصب بالصلاة ) كان الفرد من الصلاة الجامع للغصب خارجا من اطلاق الامر بالصلاة ، والا لزم ان يكون فعلا موردا لحكمين متضادين.

فما ذكره (1) في الفصول وغيره من جريان البحث في العموم المطلق فمما لا وجه له ، بل لابد ان تكون النسبة بين العنوانين العموم من وجه ، وذلك أيضا ليس على اطلاقه ، بل لابد ان تكون نسبة العموم من وجه بين نفس الفعلين الصادرين عن المكلف بإرادة واختيار الذين تعلق بهما الطلب الأمري والنهيي ، كما في مثل الصلاة والغصب.

وأما إذا كانت النسبة بين الموضوعين - كما في العالم والفاسق في مثل قوله : أكرم العالم ولا تكرم الفاسق - فهو خارج عن محل البحث ، وان توهم أيضا دخوله فيه ، الا انه لا ينبغي التأمل في خروجه لما عرفت : من أن التركيب في مثل ذلك يكون على جهة الاتحاد ، ويكون متعلق الامر بعينه هو متعلق النهى ، من غير فرق بين العام الأصولي ، أو الاطلاق الشمولي ، أو الاطلاق البدلي ، أو بالاختلاف ، فإنه

ص: 410


1- قال في الفصول : « ثم لافرق في موضع النزاع بين ان يكون بين الجهتين عموم من وجه كالصلاة والغصب ، وبين ان يكون بينهما عموم مطلق مع عموم المأمور به ، كما لو امره بالحركة ونهاه عن التداني إلى موضع مخصوص فتحرك إليه ، فان الحركة والتداني طبيعتان متخالفتان ، وقد أوجدهما في فرد واحد والأولى منها أعم ... » راجع الفصول ، بحث الاجتماع ، في تحرير محل النزاع ، ص 126

في الجميع ينبغي اعمال قواعد التعارض. وليس من مسألة اجتماع الأمر والنهي ، بل مسألة الاجتماع انما تكون فيما إذا كانت النسبة العموم من وجه بين نفس الفعلين الصادرين من المكلف بإرادة واختيار ، بحيث يجتمع الفعلان بتأثير واحد وإيجاد فارد.

ومن ذلك ينقد ح أيضا انه ليس من ( مسألة الاجتماع ) ما إذا كانت النسبة بين العناوين المتولدة من الفعل الصادر عن المكلف ، كما إذا كان للفعل عنوانان توليديان تكون النسبة بين العنوانين العموم من وجه ، كما لو أكرم العالم المأمور باكرامه والفاسق المنهى عنه بفعل واحد تولد منه كل من الاكرامين ، كما لو قام بقصد التعظيم لكل من العالم والفاسق ، فان تعظيم كل منهما وان اجتمعا بتأثير واحد ، وكان اجتماع التعظيمين على وجه التركيب الانضمامي ، لا الاتحادي - فان تعظيم زيد غير تعظيم عمرو ، وكل منهما يكون بالإضافة إلى الآخر بشرط لا ، ولا يصح حمل أحدهما على الآخر - الا انه لما كان التعظيمان من المسببات التوليدية التي لم تتعلق إرادة المكلف بها أولا وبالذات ، لكونها غير مقدورة له بلا واسطة ، فلا جرم يكون متعلق التكليف هو السبب الذي يتولد منه ذلك ، لا بما هو هو ، بل بما انه معنون بعنوان التعظيم - على ما تقدم تفصيله في بعض المباحث السابقة - والمفروض ان السبب هو فعل واحد بالحقيقة والهوية ، ويكون العنوان المتولد منه بمنزلة العلة غير موجب لتكثر السبب ، بل العنوانان التوليديان يكونان من قبيل العلم والفسق القائمين بزيد ، من حيث إنهما لا يوجبان تكثرا في الذات ، بل الوحدة فيها محفوظة والجهتان تعليليتان. وباب العناوين التوليدية بعينه يكون من هذا القبيل ، حيث إن تعدد العناوين لا يوجب تعدد المعنون ، والمفروض ان المعنون هو الفعل الاختياري الذي تعلق به الطلب ، فيجتمع الأمر والنهي في شيء واحد شخصي ، ولابد حينئذ من اعمال قواعد التعارض ، ولا يكون من مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فتأمل. (1) .

ص: 411


1- سيأتي في بعض الأمور اللاحقة ان ذلك على اطلاقه ممنوع ، بل بعض العناوين التوليدية تندرج في مسألة اجتماع الأمر والنهي منه.

ولا يتوهم : ان الصلاة والغصب في الدار الغصبية يكونان كذلك ، أي يكون الغصب من العناوين التوليدية ، فان ذلك واضح الفساد ، بداهة ان الغصب الذي هو عبارة عن التصرف في ارض الغير بنفسه من الأفعال الاختيارية الصادرة عن المكلف أولا وبالذات ، وليس من العناوين التوليدية ، مع أن المناقشة في المثال ليس بسديد. فان لم يعجبك مثال الصلاة والغصب لمسألة الاجتماع - مع أنه من أوضح أمثلتها - فعليك بمثال آخر ، لان المثال ليس بعزيز.

والمقصود هو : ان مسألة الاجتماع ، انما تكون فيما إذا كانت نسبة العموم من وجه بين نفس الفعلين الصادرين عن المكلف أولا وبالذات ، لا بين العناوين المتولدة عن الفعل ، ولا بين الموضوعين ، كالعالم والفاسق. بل نفس كون النسبة بين الفعلين العموم من وجه لا يكفي ما لم يكن التركيب بينهما على جهة الانضمام ، والا فربما تكون النسبة كذلك مع كون التركيب اتحاديا ، كما في مثل قوله : أنفق على أقاربك ، أو اشرب الماء ، ولا تغصب ، فان التركيب في مورد الاجتماع من شرب الماء المغصوب أو انفاق الدرهم المغصوب يكون على وجه الاتحاد ، فان الفرد من الماء الذي يشربه مصداق لكل من الشرب والغصب ، ويكون نفس شرب الماء غصبا ، فيتحد متعلق الأمر والنهي ، ولابد في مثل ذلك من اعمال قواعد التعارض ، وليس من مسألة اجتماع الأمر والنهي.

والسر في ذلك : هوان كلا من الأمر والنهي تعلق بموضوع خارجي ، ويكون الاتحاد من جهة هذا التعلق ، حيث إن المأمور به هو شرب الماء ، والمنهى عنه هو التصرف في مال الغير الذي من جملة افراده الماء الذي يكون من جملة افراد المأمور به ، فيتحد المتعلقان. نعم : الشرب من حيث كونه شربا وفعلا اختياريا للمكلف مع قطع النظر من متعلقه لا يتحد مع القصد. ومن هنا لو شرب الماء المباح في ارض الغير كان من مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فلا يشتبه عليك الامر ، فتأمل جيدا.

ومنها :

انه بعد ما ظهر من أن التركيب بين المبادئ لايكون الا على وجه

ص: 412

الانضمام ، ولا يمكن ان يكون على وجه الاتحاد - حيث إن المبادئ دائما تكون بشرط لا بالنسبة إلى أنفسها ، أي بعضها مع بعض - فربما بتوهم في مثل الصلاة والغضب : ان الصلاة وان كانت بشرط لا بالنسبة إلى الغصب وكذا الغصب بالنسبة إلى الصلاة ، الا ان كلا من الصلاة والغصب يكون لا بشرط بالنسبة إلى الحركة الموجودة في الدار المغصوبة ، ويتحد كل من الصلاة والغصب في تلك الحركة وتكون تلك الحركة صلاة وغصبا ، فيعود اجتماع تعلق كل من الأمر والنهي بعين ما تعلق به الآخر ، لان تلك الحركة حركة واحدة بالهوية ، وينطبق عليها كل من الصلاة والغصب ، كانطباق العالم والفاسق على زيد ، من غير فرق بينهما ، سوى ان كلا من العالم والفاسق يكون لا بشرط بالنسبة إلى الآخر ، ولا بشرط بالنسبة إلى زيد. واما في مثل الصلاة والغصب ، فاللابشرطية انما تكون بالنسبة إلى الحركة التي تقوم بها كل من الصلاة والغصب فقط ، ولكن النتيجة واحدة ، وهي استلزام اتحاد متعلق الأمر والنهي وتواردهما على واحد شخصي وهو المعنون بعنوان الصلاة والغصب ، والموجه بذلك هو الحركة الشخصية. فالمقدمات السابقة كلها تكون عقيمة ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك : فساد التوهم ، لوضوح ان الغصب لا يعقل ان يكون قائما بالحركة ، فان الحركة لا تكون موضوعا للصلاة والغصب ، لان موضوعيتها لذلك اما ان يكون من قبيل موضوعية الجنس للفصل والمادة للصورة ، واما ان يكون من قبيل موضوعية المعروض لعرضه ، وكل منهما لا يعقل ، لان الجنس لا يعقل ان يتحمل فصلين ، والعرض لا يعقل ان يقوم بعرض ، مع أن الحركة في كل مقولة تكون عين تلك المقولة ، وليست هي مقولة مستقلة ، مع أن الاعراض بسيطة ليست مركبة وكان ما به الامتيار فيها عين ما به الاشتراك ، فلا يعقل ان يكون الغصب قائما بالحركة. الا ان يدعى ان الغصب من العناوين التوليدية ، وهو بمراحل عن الواقع ، بل الغصب هو بنفسه من الأفعال الاختيارية الصادرة عن المكلف بلا واسطة. وليس الغصب من مقولة الفعل باصطلاح أهل المعقول ، بل الغصب انما يكون من مقولة الأين ، وليس الغصب الا عبارة عن شاغلية الشخص للمكان ، فهو قائم بالشخص ، ويكون الغصب عبارة عن الكون الصلواتي الذي هو عبارة عن شاغلية

ص: 413

المكان ، وأين هذا من قيام الغصب بالحركة واتحاده معها؟ فليست الحركة معنونة بعنوان الغصب وموجهة به ، وليس اجتماع الصلاة والغصب من قبيل اجتماع العناوين في المعنونات والجهات في الموجهات ، بل ليس هناك الا نفس العنوانين والجهتين ، من دون ان يكون هناك معنون وموجه يكون الغصب والصلاة قائمين به ، والغصب والصلاة انما يكونان قائمين بالشخص ، ويكون هو الموضوع ، نظير قيام العلم والفسق بزيد ، وان كان بينهما فرق من حيث عدم التركيب في مثل العلم والفسق ، بخلاف الصلاة والغصب ، على ما تقدم تفصيله.

فان قلت :

ان التركيب بين الصلاة والغصب على أي وجه يكون ، بعد ما لم يكن هناك جامع بينهما وكانا متباينين بالهوية والحقيقة وليسا من مقولة واحدة ، فمن أين جاء التركيب بينهما؟ وليس تركيبهما نحو تركيب المادة والصورة ، فان التركيب هناك لمكان ان المادة صرف القوة وفعليتها تكون بالصورة ، وفي المقام كل من الصلاة والغصب يكون فعليا.

قلت :

التركيب في المقام انما يكون لأجل تشخص كل من الصلاة والغصب بالآخر ويجرى كل منهما بالنسبة إلى الآخر مجرى المشخص ، فتكون الصلاة متشخصة بالغصب ، ويكون الغصب متشخصا بالصلاة. ومن المعلوم : ان كل طبيعي يوجد في الخارج لابد ان يكون محفوفا بمشخصات عديدة من مقولات متعددة ، وكل واحد من تلك المشخصات لابد ان يكون مندرجا تحت عنوان كلي ، ويكون من أحد مصاديقه. مثلا المشخص المكاني مندرج تحت مقولة الأين ، والمشخص الزماني مندرج تحت مقولة متى ، وغير ذلك من المشخصات. والمشخصات ، تارة : تكون ملتفتا إليها ، وأخرى : تكون مغفولا عنها ، ولكن مع ذلك لا محيص من وقوع الطبيعي محفوفا بمشخص. ففي المقام تكون كل من طبيعة الصلاة والغصب ، متشخصة بالأخرى ، أي يكون وجود كل من الصلاة والغصب مشخصا للآخر ، والتشخص بذلك يكون في رتبة وجودهما ، ويكون من المشخص للصلاة هو الفرد

ص: 414

الغصبي ، وبالعكس.

ومنها :

ان العناوين المجتمعة في فعل المكلف وما هو الصادر عنه بايجاد واحد لا تخلو : اما ان تكون من العناوين القابلة للحمل مستقلا والمتأصلة في الصدق ، كالصلاة والغصب ، حيث إن كلا من الصلاة والغصب قابل للحمل على فعل المكلف ، ويكون هو الصادر عنه ابتداء ، وليسم مثل هذه العناوين بالمقولات المستقلة ، وتسميتها بذلك لا ينافي كونها من المقولات النسبية التي لا تكون مستقلة في التعقل ، كالكم والكيف ، حيث إنهما مستقلان في التعقل ، من دون توقف تعقلهما على تعقل امر آخر ، بخلاف ما عداهما من المقولات النسبية ، حيث إن تعقلها يتوقف على تعقل المنتسبين ، ولكن عدم استقلالها في التعقل لا ينافي استقلالها في الحمل والصدق على ما هو الصادر من الشخص ابتداء ، كما لا يخفى.

واما ان لا تكون من العناوين المستقلة ، بمعنى انها لا تكون هي الصادرة عن المكلف ابتداء ، بل كانت من متعلقات الفعل ومتمماته ، كالإضافات اللاحقة لفعل المكلف : من الظرفية ، والابتدائية ، والانتهائية ، كما تقول : ضرب زيد في الدار ، وسير زيد من البصرة ، وانتهائه إلى الكوفة ، وكون اكله استعمالا لآنية الذهب والفضة ، وغير ذلك من المتعلقات مما يكون الظرف فيها لغوا ، حيث إنه في ظرف اللغو دائما يكون من اجتماع المقولتين ، غايته ان إحدى المقولتين تكون من متعلقات الأخرى ومتمماتها ، بخلاف الظرف المستقر ، حيث إنه ليس فيه الا مقولة واحدة ، كقولك : زيد في الدار ، بخلاف قولك : ضرب زيد في الدار ، حيث إنه اجتمع فيه عنوانان أحدهما : الضرب ، والآخر : اضافته إلى الدار ، وكما في الاكل من آنية الذهب والفضة ، حيث إنه اجتمع فيه أيضا الاكل والاستعمال ، وليس الاكل عين الاستعمال ، بل هناك مقولتان مجتمعتان ، غايته ان إحداهما تكون من متممات الأخرى ، لان الاستعمال لايكون الا بإضافته إلى الاكل أو الشرب أو غير ذلك من وجوه الاستعمالات.

وهناك قسم آخر من العناوين المجتمعة ، وهو اجتماع العناوين التوليدية

ص: 415

مع أسبابها. ونحن سابقا وان قلنا بخروجها عن محل الكلام ، الا ان الأقوى دخولها في محل البحث في غير العناوين القصدية ، كالتعظيم والتوهين ، فلو كان الالقاء مثلا مأمورا به والاحراق منهيا عنه ، فالقى المكلف ما امر بالقائه في النار فيكون من اجتماع الأمر والنهي ، لان الالقاء بنفسه لايكون احراقا ، والا كان كل القاء احراقا ، بل الالقاء انما يكون احراقا باعتبار اضافته إلى النار ، فيكون من اجتماع المقولتين لا محالة. وكذا الحال لو فرض ان هناك عنوانين توليديين لسبب واحد ، فان السبب الواحد لا يعقل ان يتولد منه عنوانان ، الا ان يكون فيه جهتان من الإضافة ، فيتعدد السبب حسب تعدد الجهة ، وتكون الجهة تقييدية لا محالة ، على ما تقدم من الضابط. وعلى كل حال : جميع هذه الأقسام الثلاثة من اجتماع العنوانين يندرج في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فلا تغفل وتأمل جيدا.

ومنها : انهم قد بنوا المسألة على كون متعلقات الاحكام ، هل هي الطبايع أو الافراد؟ وقد أنكر بعض الاعلام هذا الابتناء ، وأفاد انه لا يفترق الحال في الجواز والامتناع ، بين ان نقول بتعلق الاحكام بالطبايع ، أو الافراد ، هذا.

ولكن الحق : هو ان يقال : انه يختلف الحال في ذلك على بعض وجوه تحرير النزاع في مسألة تعلق الاحكام بالطبايع أو الافراد ، ولا يختلف الحال على بعض الوجوه الآخر.

وتفصيل ذلك : هو ان النزاع في كون متعلقات الاحكام الطبايع أو الافراد يمكن ان يكون مبنيا على وجود الطبيعي وعدمه ، وان القائل بتعلق الاحكام بالافراد مبناه على عدم وجود الكلي الطبيعي وانه انتزاعي صرف ، بخلاف القائل بتعلق الاحكام بالطبايع ، فإنه يقول بوجود الكلي الطبيعي ، وعلى هذا لا تبتنى مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي على ذلك ، بل إن للبحث عن المسألة مجالا ، سواء قلنا بوجود الكلي الطبيعي ، أو لم نقل ، غايته انه بناء على عدم وجود الطبيعي يكون المتعلق للأحكام هو منشأ الانتزاع ، ويجرى فيه ما يجرى على القول بوجود الطبيعي : من كون الجهة تقييدية أو تعليلية ، وان التركيب اتحادي أو انضمامي ، لوضوح ان انتزاع الصلاة لابد ان يكون لجهة غير جهة انتزاع الغصب ، هذا.

ص: 416

ولكن يبعد ان يكون النزاع بتعلق الاحكام بالطبايع أو الافراد مبنيا على وجود الطبيعي وعدمه ، إذا لظاهر ان من يقول بتعلق الاحكام بالافراد ، لا ينكر وجود الطبيعي. فلا بد ان يرجع نزاعهم في ذلك إلى امر آخر. ومعلوم : انه ليس المراد من تعلق الاحكام بالافراد تعلقها بالافراد الشخصية ، لاستلزام ذلك طلب الحاصل حيث إن فردية الفرد انما يكون بالتشخص ، والتشخص يساوق الوجود.

ولا يمكن أيضا ان يكون مراد القائل بتعلق الاحكام بالافراد ، تعلقها بها على وجه يكون التخيير بينها شرعيا ، بحيث تكون الخصوصيات الشخصية مطلوبة على البدل ، فيكون قوله ( صل ) بمنزلة قوله : صل في هذا المكان أو في ذلك المكان ، وفي هذا الزمان أو ذلك الزمان ، وهكذا. بحيث يكون قوله ( صل ) بمنزلة الف ( صل ) فان سد باب التخيير العقلي بمكان من الفساد.

فالذي يمكن ان يكون محل النزاع على وجه يرجع إلى امر معقول : هو ان يكون النزاع في سراية الامر بالطبيعة إلى الامر بالخصوصيات ولو على النحو الكلي ، أي خصوصية ما ، بحيث تكون الخصوصية داخلة تحت الطلب تبعا ، نظير تعلق الإرادة التبعية بالمقدمة وان لم يكن من ذلك. فالقائل بتعلق الاحكام بالافراد يدعى السراية والتبعية ، القائل بتعلق الاحكام بالطبايع يدعى عدم السراية وان المأمور به هو الطبيعة المعراة عن كل خصوصية ، أي الساذجة الغير الملحوظ معها خصوصية أصلا ، ولا يسرى الامر إلى الخصوصيات بوجه من الوجوه. فلو كان النزاع في تعلق الاحكام بالطبايع أو الافراد على هذا الوجه ، فالحق ان مسألة اجتماع الأمر والنهي تبتنى على ذلك ، وتكون من مقدمات المسألة ، فإنه بعد ما عرفت : من أن كلا من متعلق الأمر والنهي يجرى بالنسبة إلى الآخر مجرى المشخص ، لو قيل بتعلق الاحكام بالافراد بالمعنى المتقدم من سراية الامر إلى الخصوصية ولو تبعا ، فلا مجال للنزاع في جواز الاجتماع ، لأنه يلزم ان يتعلق الامر بعين ما تعلق به النهى ولو بالتبعية ، فيمتنع الاجتماع ، ولو قلنا بتعلق الاحكام بالطبايع ، من دون ان يسرى الامر إلى الخصوصيات كان للنزاع مجال ، من جهة وجود المتعلقين بتأثير واحد. فظهر : ان منع ابتناء المسألة على تلك المسألة باطلاقه لا يستقيم.

ص: 417

نعم : ابتناء المسألة على مسألة أصالة الوجود أو الماهية مما لاوجه له ، فإنه لا يفرق الحال فيما نحن فيه ، بين ان نقول : بأصالة الوجود ، أو أصالة الماهية ، فإنه حتى على القول بأصالة الوجود يجرى النزاع ، من جهة دعوى اتحاد وجود المتعلقين أو عدم اتحاده ، وان لكل منهما حظا من الوجود يخصه لأربط له بالآخر ، وان كان المترائي وجودا واحدا بالعدد ، الا انه في الحقيقة وجودان منضمان ، فلا ربط للمسألة بمسألة أصالة الوجود أو الماهية.

كما أن ابتناء المسألة ، على كون كل من الدليلين متكفلا للمناط والمصلحة التي أوجبت الامر والمفسدة التي أوجبت النهى مما لاوجه له ، فان البحث في المقام لا يتوقف على المناط والمصلحة والمفسدة ، حيث إن البحث يجرى ولو قلنا بمقالة الأشاعرة وأنكرنا المصالح والمفاسد ، بل الذي يتوقف عليه البحث في المقام ، هو ان يكون الموجود في مورد الاجتماع تمام ما هو موضوع الامر وتمام ما هو موضوع النهى ، من دون ان يكون أحدهما فاقدا لقيد اعتبر فيه. فراجع ما ذكره في الكفاية في هذا المقام وما وقع منه من الخلط والاشتباه وتقسيمه الحكم إلى : اقتضائي ، وانشائي ، وفعلي ، وتصويره كون الحكم انشائيا بعد تحقق موضوعه. فان ذلك كله لا نعقله. وتقدم منا في بحث الواجب المشروط : المعنى الصحيح للانشاء والفعلية ، فراجع (1) ولعله يأتي أيضا ما يتعلق بمراتب الاحكام وفسادها في بعض المباحث.

إذا عرفت ما مهدناه لك من المقدمات فاعلم : ان المسألة ذات أقوال : ثالثها : التفصيل بالامتناع عرفا والجواز عقلا.

ورابعها : التفصيل بين الأوامر النفسية فالامتناع ، والأوامر الغيرية فالجواز. وقد استدل لكل من الجواز والامتناع بوجوه ، لا بأس أولا بالإشارة إلى جملة منها وبيان ما فيها من الخلل ثم نذكر ما عندنا من الوجه الصحيح ، فنقول : قد استدل للجواز بوجوه :

ص: 418


1- راجع الجزء الأول ، مباحث تقسيمات الواجب تقسيمه إلى المطلق والمشروط ، الجهة الثانية من الامر الأول ص 174

منها : ما افاده المحقق القمي ( قده ) : من أن متعلقات الأوامر والنواهي هي الطبايع ، والفرد انما يكون مقدمة لوجودها ، فالفرد من الصلاة الموجود في الدار الغصبية انما يكون مقدمة لوجود الطبيعة المأمور بها ، ومقدمة الواجب ليست واجبة ، فلم يجتمع هناك الوجوب والحرمة. ولو قيل : بوجوب المقدمة ، فوجوبها يكون غيريا تبعيا ، ولا مانع من اجتماع الوجوب الغيري مع النهى النفسي ، وانما المانع هو اجتماع الوجوب النفسي مع النهى النفسي ، على ما صرح به في مبحث مقدمة الواجب (1) هذا.

ص: 419


1- قوانين الأصول ، بحث الاجتماع ، الوجه الأول من الوجوه التي استدل بها لجواز الاجتماع ، ص 77. واليك نص ما افاده في المقام : « ان الحكم انما تعلق بالطبيعة على ما أسلفنا لك تحقيقه ، فمتعلق الامر طبيعة الصلاة ومتعلق النهى طبيعة الغصب ، وقد أوجدهما المكلف بسوء اختياره في شخص واحد ولا يرد من ذلك قبح على الآمر لتغاير متعلق المتضادين ، فلا يلزم التكليف بالمتضادين ولا كون الشيء الواحد محبوبا ومبغوضا من جهة واحدة. فان قلت : الكلي لا وجود له الا بالفرد ، فالمراد بالتكليف بالكي هو ايجاد الفرد وان كان متعلقا بالكلي على الظاهر ، وما لا يمكن وجوده في الخارج يقبح التكليف بايجاده في الخارج. قلت : ان أردت عدم امكان الوجود في الخارج بشرط لا فهو مسلم ولا كلام لنا فيه ، وان أردت استحالة وجوده لا بشرط فهو باطل جزما ، لان وجود الكلي لا بشرط لا ينافي وجوده مع الف شرط فإذا تمكن من اتيانه في ضمن فرد فقد تمكن من اتيانه لا بشرط ، غاية الامر توقف حصوله في الخارج على وجود الفرد والممكن بالواسطة لا يخرج عن الامكان وان كان ممتنعا بدون الواسطة وهذا كلام سار في جميع الواجبات بالنسبة إلى المقدمات ، فالفرد هنا مقدمة لتحقق الكلي في الخارج فلا غاية في التكليف به مع التمكن عن المقدمات. فان قلت : سلمنا ذلك ، لكن نقل ان الامر بالمقدمة اللازم من الامر بالكلي على ما بنيت عليه الامر يكفينا ، فان الامر بالصلاة امر بالكون ، والامر بالكون امر بهذا الكون الخاص الذي هو مقدمة الكون الذي هو جزء الصلاة ، فهدا لكون الخاص مأمور به وهو بعينه منهي عنه لأنه فرد من الغصب ، والنهى عن الطبيعة يستلزم النهى عن جميع افراده ولو كان ذلك أيضا من باب مقدمة الامتثال بمقتضى النهى فان مقدمة الحرام حرام أيضا فعاد المحذور وهو اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد شخصي. قلت : نمنع أولا وجوب المقدمة ، ثم نسلم وجوبه التبعي الذي بيناه في موضعه ولكن غاية الامر حينئذ توقف الصلاة على فرد ما من الكون ، لا الكون الخاص الجزئي وانما اختار المكلف مطلق الكون في ضمن هذا الشخص المحرم ». وقد بين في المقدمة السابعة من المقدمات التي مهدها لتحقيق وجوب مقدمة الواجب ، في مبحث المقدمة ،ص 49. « واما الوجوب المذكور أي وجوب المقدمة فلما كان هو أيضا تبعيا كاصل الخطاب به بمعنى انه لازم لأجل التوصل إلى ذي المقدمة ، وحكمه حكم الخطابات الأصلية التوصلية كانقاذ الغريق واطفاء الحريق وغسل الثوب النجس للصلاة ، فلم يحكم بكونه واجبا أصليا ولم يثبت له احكام الواجب الأصلي الذاتي ، فلا عقاب عليه لعدم ثبوت العقاب على الخطاب التبعي كما سنشير إليه ، ويجتمع مع الحرام لأجل كونه توصليا نظير الانقاذ والغسل الواجبين لاستخلاص النفس المحترمة والصلاة في الثوب الطاهر ولذلك يحصل المطلوب بالحرام أيضا ، بل بفعل الغير أيضا .. »

ولكن لا يخفى عليك ما فيه :

اما أولا : فلان الفرد لايكون مقدمة لوجود الطبيعي ، بل هو عينه خارجا. ولو قيل : ان المحقق لم يدع مقدمية الفرد للطبيعة مطلقا ، بل ادعى ذلك في طرف الامر فقط ، بقرينة قوله ( انه بناء على وجوب المقدمة يلزم اجتماع الامر الغيري مع النهى النفسي ) فلو كان مدعاه مقدمية الفرد مطلقا ، لكان في طرف النهى أيضا نهى غيري ، فمن ذلك يعلم : ان ما قاله من المقدمية مقصور على طرف الامر ، وحينئذ لابد ان يكون مراده من الامر خصوص الامر المطلوب منه صرف الوجود ، لا الامر الانحلالي ، لأنه لافرق بين الأوامر الانحلالية والنواهي الانحلالية من حيث عدم مقدمية الفرد للطبيعة. والذي يمكن ، هو الفرق بين الأوامر المطلوب منها صرف الوجود ، كالصلاة ، وبين الأوامر والنواهي الانحلالية ، حيث إنه تصح دعوى كون الفرد مقدمة لتحقق صرف الوجود ، بحيث يكون الفرد من المحصلات والمحققات لصرف الوجود.

ففيه : ان ذلك وان كان توجيها لكلامه ، الا انه مع ذلك لا يستقيم ، بداهة ان الفرد في صرف الوجود أيضا لم يكن مقدمة ، بل هو عينه. نعم : لو قلنا بعدم وجود الكلي الطبيعي وانه انتزاعي صرف ، كان الفرد مقدمة لانتزاعه ، كما هو الشأن في جميع الأمور الانتزاعية ، حيث يكون منشأ الانتزاع مقدمة لانتزاعها ، ولكن لا المحقق قائل بعدم وجود الطبيعي ، ولا يمكن القول به. فدعوى مقدمية الفرد مما لا أساس لها مطلقا.

ص: 420

واما ثانيا : فلان دعوى عدم وجوب المقدمة مما يكذبها الوجدان ، ولا يمكن القول به ، كما تقدم في بحث مقدمة (1) الواجب.

واما ثالثا : فلان دعوى : ان الممنوع هو اجتماع الوجوب النفسي مع النهى النفسي لا الوجوب الغيري ، فمما لا شاهد عليها ، ضرورة انه لافرق بين الوجوب النفسي والوجوب الغيري بعد ما كان مطلق الوجوب مضادا من حيث الاقتضاء للحرمة ، حيث إن الوجوب يقتضى البعث ، والحرمة تقتضي الزجر ، والتدافع بين الاقتضائين مما لا يخفى. نعم : لو سقط أحدهما عن اقتضائه أمكن الاجتماع ، وذلك لايكون الا بالامر الترتبي ، كما تقدم في مسألة المقدمة المحرمة.

ومنها :

ان متعلقات الاحكام ليست هي الموجودات الخارجية ، بل الصور الذهنية ، والصور الذهنية متباينة لا اتحاد بينها.

ولا يخفى عليك : ان هذا الاستدلال بظاهره في غاية الفساد ، لوضوح ان الصور الذهنية ، بما هي صور ذهنية ، لا يعقل ان يتعلق بها الطلب والتكليف ، لأنها كليات عقلية غير منطبقة على الخارجيات ، ولا تحمل عليها ، كما تقدم في المقدمات ، بل الصور الذهنية انما تتعلق بها التكاليف بلحاظ المرآتية لما في خارج ، والاتحاد والاجتماع بين المتعلقات انما يكون بهذا اللحاظ.

ومنها :

ان الاجتماع انما يكون مأموريا لا آمريا ، بمعنى ان المأمور جمع بين متعلق الامر ومتعلق النهى بسوء اختياره ، والآمر لم يجمع بين المتعلقين في امره ، حيث إن الآمر اخذ متعلق الامر أمرا مباينا لمتعلق النهى ، وكان أحدهما الصلاة والآخر الغصب ، ولا ربط لأحدهما بالآخر.

وهذا الوجه كسابقه في وضوح فساده ، فان المأمور انما جمع في مقام الامتثال ، ولا بد ان يكون الامتثال على طبق المأمور به ، فلو لم يجمع الآمر بين المتعلقين

ص: 421


1- راجع مباحث مقدمة الواجب ، بيان وجوب المقدمة ص 284

ولو بالاطلاق الشمولي أو البدلي ، فكيف يمكن للمكلف الجمع في الامتثال؟ مع أنه ان كان المراد من ( ان الآمر لم يجمع بين المتعلقين ) هو ان المتعلقات لا تكون بلحاظ الخارج ، رجع إلى أن الصور الذهنية بما انها صور ذهنية متعلقات الطلب ، وقد عرفت فساد ذلك. وان كان المراد : انه لم يجمع مع كونها مرآة لما في الخارج ، فالاجتماع لا محالة يكون آمريا لا مأموريا ، مع أنه لو بنينا على أن الاجتماع مأموري يلزم سد باب التعارض من وجه ، فإنه دائما يكون الاجتماع مأموريا وفي مقام الامتثال ، فيلزم ان لا يتحقق مورد للتعارض من وجه ، وتكون جميع الموارد من باب التزاحم. فهذا الوجه أيضا ليس بشيء ، وان حكى انه كان هو المعتمد عليه في عصر شريف العلماء.

ومنها :

ان متعلقات الاحكام انما تكون هي الماهيات الواقعة في رتبة الحمل ، لا الواقعة في رتبة نتيجة الحمل ، ولا الواقعة في الرتبة المباينة للحمل التي تكون بتلك الرتبة كليات عقلية ، كما أن الواقعة في رتبة نتيجة الحمل تكون من الأمور الخارجية وتكون تلك الرتبة رتبة الاتحاد ورتبة عينية الكلي لمصداقه. فلو كان المتعلق للحكم هي الماهية الواقعة في هذه الرتبة ، يلزم اتحاد المتعلقين ، لان هذه الرتبة كما عرفت رتبة عينية كل كلي لمصداقه ، والمفروض ان المصداق واحد ، فيلزم اتحاد المتعلقين. وأما إذا كان متعلق الحكم هو الماهية بلحاظ الرتبة السابقة على الحمل القابلة للحمل ، فلا يلزم حينئذ اتحاد المتعلقين ، لان هذه الرتبة رتبة مغايرة الموضوع للمحمول المصححة للحمل ، فلا اتحاد.

وبعبارة أوضح : متعلقات التكاليف انما تكون هي الصور الذهنية ، القابلة الصدق على الخارجيات ، الممكنة الانطباق عليها ، وهي بهذا المعنى متغايرة لا اتحاد بينها. والتي بينها اتحاد ، هي المنطبقة على الخارجيات انطباق المحمول على موضوعه ، المعبر عنه بنتيجة الحمل. ولعل هذا مراد من قال : ان ظرف عروض الاحكام على متعلقاتها انما هو الذهن ، وظرف اتصاف المتعلقات بالمطلوبية هو الخارج. والاتحاد انما يكون في ظرف الاتصاف ، لا في ظرف العروض ، هذا.

ص: 422

ولكن لا يخفى عليك : فساد هذا الوجه أيضا ، فان واقع الامر لا يخلو عن أحد وجهين : فإنه اما ان يكون متعلقات الاحكام هي الصور الذهنية بما انها صور ذهنية ، واما ان تكون هي بما انها مرآة لما في الخارج فانية فيه فناء الوجه في ذي الوجه والمرآة في المرئي. فان كان الأول ، يلزم ان تكون المتعلقات هي الكليات العقلية ، وهذا مما لا يعقل. وان كان الثاني يلزم محذور الاتحاد ، لاتحاد المرئي وذي الوجه ، وتعدد المرآت والوجه لا اثر له ، بعد ما لم يكن هو الملحوظ استقلالا والمتعلق للحكم بنفسه. فدعوى ان متعلقات الاحكام انما تكون الماهيات الواقعة في رتبة الحمل لا الواقعة في نتيجة الحمل ، مما ليس لها محصل.

ويتلو هذا الوجه في الضعف ، دعوى : ان متعلقات الاحكام هي الماهيات الغير المتحصلة وهي ليست متحدة بعضها مع بعض ، والاتحاد انما يكون بين الماهيات المتحصلة ، فان هذا عبارة أخرى عن الوجه السابق ، ولا يكون له معنى محصل ، فان متعلقات الاحكام وان كانت هي الماهيات الغير المتحصلة ، الا ان الامر بها انما يكون بلحاظ التحصل ، وهي في مقام التحصل متحدة.

والحاصل : ان الأمر والنهي ، انما يكونان بعثا لتحصيل الطبيعة ، أو عدم تحصيلها. وبالجملة : هذه الوجوه كلها مشتركة في المعنى ، وانما التفاوت بالتعبير ، وهي جميعا ناظرة إلى أن الاحكام من العوارض الذهنية للصور الذهنية ، وليست من العوارض الخارجية ، وانما الخارج يكون ظرف الاتصاف ، لا العروض ، بل ظرف العروض هو الذهن ليس الا ، وان كان المتصور الذهني ملحوظا على وجه المرآتية لما في الخارج.

والجواب عن الكل أيضا مشترك بأنه بعد تسليم اتحاد المتعلقين في الخارج وكون التركيب بينهما اتحاديا - كما هو مبنى الوجوه - لا سبيل إلى دعوى تغاير متعلق الأمر والنهي ، من جهة كون المتعلقات هي الصور الذهنية ، فان الصور الذهنية الملحوظة مرآة لما في الخارج يكون العبرة فيها بالمرئي وذي الوجه. فلو كانت وجوه الجواز هذه ، فالحق مع المانعين. والذي ينفع في المقام هو اثبات عدم الاتحاد بين المتعلقين في الخارج وكون التركيب بينهما انضماميا ، لا اتحاديا ، على ما سيأتي

ص: 423

توضيحه.

واما أدلة المانعين : فعمدتها ما ذكره المحقق الخراساني ( قده ) في كفايته (1) وحاصل ما افاده في وجه المنع يتركب من مقدمات ، بعضها مسلمة ، ككون متعلقات التكاليف هي الكليات الطبيعية ونفس المعنونات ، لا العناوين والكليات العقلية. وبعضها ممنوعة أشد المنع ، ككون تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون وانه يمكن انطباق العناوين المتعددة على ما ليس فيه جهة وان ذلك لا يوجب عدم بساطته. فإنه قد تقدم في المقدمات ان ذلك غير معقول ، وقياسه بصفات الباري مع الفارق ، بل لا بد من تعدد الجهة عند تعدد العنوان ، غايته انه يمكن ان تكون الجهة تعليلية ، ويمكن ان تكون تقييدية. فالمهم اثبات هذا المعنى.

وإذ قد عرفت عدم تمامية ما استدل به للجواز والامتناع ، فينبغي حينئذ بيان وجه المختار ، وهو وان تقدمت الإشارة إليه في ضمن المقدمات ، الا اننا نزيده في المقام وضوحا.

وحاصله : ان اجتماع المبادئ والمقولات ، لا يعقل ان يكون على نحو الاتحاد ، بحيث يكون ما بحذاء أحدهما في الخارج عين ما بحذاء الآخر حتى يلزم تعلق الامر بعين ما تعلق به النهى ، وذلك لما عرفت : من بساطة المقولات وعدم تركبها من مادة وصورة ، بحيث كان ما به الاشتراك فيها غير ما به الامتياز ، بل إن ما به الاشتراك فيها يكون عين ما به الامتياز ، ويكون السواد مثلا بهوية ذاته يمتاز عن البياض ، مع اشتراكهما في كون كل منهما لونا ، ولكن يمتازان أيضا بنفس اللون ، وليس اللون فيهما من قبيل الجنس ويكون هناك فصل مميز لأحدهما عن الآخر. وكذا الحال في سائر المقولات ، من غير فرق بين ان تكون من مقولة الكم والكيف ، أو من المقولات النسبية : من الفعل ، والانفعال ، والإضافة ، والأين ، ومتى ، والوضع ، والنسبة المتكررة ، فإنها جميعا تكون بسائط خارجية ، ويكون ما به الاشتراك فيها

ص: 424


1- كفاية الأصول ، الجلد الأول ص 248 قوله قدس سره « وتحقيقه على وجه يتضح به ... » إلى ص 253

عين ما به الامتياز ، وحينئذ لا يعقل التركيب الاتحادي بينها ، لان التركيب الاتحادي يستدعى ان يكون ما به الامتياز غير ما به الاشتراك حتى يتحدا في الموضوع في مادة الاجتماع ، ويفترقا عنه في مادة الافتراق ، ويستدعى كل منهما موضوعا غير موضوع الآخر ، كما في - العالم والفاسق - المجتمعين في زيد ، والمفترقين في عمرو وبكر ، ويكون ما به يمتاز العالم عن الفاسق في مادة الافتراق مغايرا لما يشتركان فيه في مادة الاجتماع.

وهذا بخلاف المبادئ ، فان امتيازها واشتراكها في مادة الاجتماع والافتراق يكون بنهج واحد ، ويكون امتيازها بهوية ذاتها وبنفس حقيقتها مجتمعة ومفترقة ، والا كان ما به الامتياز غير ما به الاشتراك ، فيلزم تركبها.

وحينئذ نقول : أي مقولتين فرض اجتماعهما فلا محالة انهما يكونان في عين اجتماعهما ممتازتين ، ويكون ما بحذاء إحديهما في الخارج غير ما بحذاء الأخرى ، وهذه المغايرة تكون بهوية ذاتهما ، من دون ان تكون هذه المغايرة بالفصول المنوعة لها ، بان يكون هناك ما هو بمنزلة الجنس لهما ، فان ذلك كله غير معقول ، بل هما على حد سواء اجتمعا أو افترقا ، وتكون الهوية والحقيقة محفوظة بتمامها وكمالها في صورتي الافتراق والاجتماع ، فكل ما تستحق الصلاة من الحقيقة والهوية محفوظا في صورة اجتماعها مع الغصب وفي صورة افتراقها عنه ، وكذا الحال في الغصب ، من دون ان تكون الصلاة المجامعة مع الغصب مغايرة مع الصلاة المفترقة عنه بجنس أو فصل ، وانما المغايرة تكون بالخصوصيات الفردية ، حيث إنها في صورة الاجتماع متشخصة بالغصب ، وفي صورة الافتراق متشخصة بأمر آخر : من كونها في المسجد ، أو الدار ، والخصوصيات الشخصية لا ربط لها بالحقيقة وليست مما يتعلق بها الطلب ، لا أصالة ولا تبعا ، كما عرفت من أن الاحكام متعلقة بنفس الطبايع والحقائق ، بلا سراية إلى الخصوصيات. والمفروض امتياز الحقائق مجتمعة ومفترقة ، وبعد ذلك لا يهمنا البحث عن أن الصلاة من أي مقولة ، والغصب من أي مقولة ، فإنهما من أي مقولة يفرضان على كل حال هما متعددان بحسب الحقيقة والمقولة كتعدد هما بحسب المفهوم. والظاهر أن تكون أفعال الصلاة من مقولة الوضع ، سواء قلنا ان

ص: 425

المأمور به في مثل الركوع والسجود هو الهيئة ، كما هو مختار الجواهر (1) أو الفعل كما هو المختار (2) فان المراد من ( الفعل ) ليس هو الفعل باصطلاح أهل المعقول ، بل الفعل الصادر عن المكلف ، فيكون الانحناء إلى الركوع أوضاعا متلاصقة متصلة.

وبذلك يندفع ، توهم اجتماع الصلاة والغصب في الحركة ، مع وحدتها وكونها من أصول الأكوان الأربعة التي لابد منها في كل جسم وعدم خلوه عن أحدها. وفي هذا الأصل الكوني قد اجتمع عنوان الغصب والصلاة ، مع أنه كون واحد.

وجه الدفع هو انه : ان كان المراد من وحدة الحركة وحدتها بالعدد ، بحيث تعد حركة واحدة ، فهذا مما لا ينفع. وان كان المراد من وحدة الحركة وحدة الحركة الصلواتية والحركة الغصبية بالهوية والحقيقة ، فهذا مما لا يعقل ، لاستدعاء ذلك اتحاد المقولتين ، لان الحركة في كل مقولة عين تلك المقولة. فلو كانت الحركة حركة واحدة حقيقة وهوية يلزم عينية الصلاة للغصب ، وهو كما ترى بمكان من الفساد ، لان المقولات تكون بشرط لا بعضها مع بعض ، فلا يعقل الاتحاد فيها ، كما تقدم.

وبالجملة : الحركة لا يعقل ان تكون بمنزلة الجنس للصلاة والغصب ، بحيث يشتركان فيها ويمتازان بأمر آخر ، لما عرفت من أنه يلزم التركيب في الاعراض ، مع كونها بسيطة. وليست هي أيضا عرضا آخر غير المقولات ، لأنه يلزم قيام العرض بالعرض ، وهو محال. فلا بد ان تكون الحركة في كل مقولة عين تلك المقولة. وحينئذ نقول : كما أن الصلاة مغايرة بالحقيقة والهوية للغصب ، فكذا الحركة الصلواتية مغايرة 4

ص: 426


1- إشارة إلى ما اختاره صاحب الجواهر قدس سره من أن الركوع هو الانحناء الخاص والحالة الخاصة من التقوس والسجود القسم الخاص من الخضوع والانحناء بالمعنى الاسم المصدري ( راجع جواهر الكلام الجزء 10 الخامس من أفعال الصلاة الركوع ص 74 ، الواجب السادس السجود ص 123 الجزء 9 تحقيق القول في القيام المتصل بالركوع. ص 238.
2- راجع تفصيل ما افاده قدس سره في المقام ، الجزء الثاني من تقرير أبحاثه في مباحث الصلاة للمحقق الآملي قدس سره . الفصل الثالث في القيام ص 60 الفصل الخامس في الركوع ص 194

للحركة الغصبية ، بعين مغايرة الصلاة والغصب ، ويكون في المجمع حركتان : حركة صلواتية ، وحركة غصبية. وليس المراد من الحركة رفع اليد ووضع اليد وحركة الرأس والرجل ووضعهما ، فان ذلك لا دخل له في المقام حتى يبحث عن انها واحدة أو متعددة ، بل المراد من الحركة : الحركة الصلواتية والحركة الغصبية ، وهما متعددتان لا محالة. وحاصل البرهان على ذلك يتركب من أمور بديهية :

الأول : بساطة المقولات ، وان ما به الاشتراك فيها عين ما به الامتياز.

الثاني : تغاير المقولات بحسب الحقيقة والهوية ، واعتبارها بشرط لا بالنسبة إلى أنفسها ، وان كانت بالنسبة إلى موضوعها يمكن لحاظها لا بشرط.

الثالث : كون الحركة في كل مقولة عين تلك المقولة ، وليست هي بمنزلة الجنس للمقولات ، حتى يلزم التركيب فيها ، ولا هي أيضا من الاعراض المستقلة ، حتى يلزم قيام عرض بعرض. وبعد هذه الأمور الواضحة ، كيف يعقل اتحاد متعلق الأمر والنهي وتعلق كل منهما بعين ما تعلق به الآخر؟ فإنه يلزم الخلف ، إذا الاتحاد يوجب عدم تباين المقولات وان ما به اشتراكها غير ما به امتيازها.

هذا كله ، مضافا إلى أن نسبة المكان إلى المكين والإضافة الحاصلة بين المكين والمكان لا يعقل ان تختلف بين ان يكون المكين من مقولة الجواهر أو من مقولة الاعراض. وكما لا يعقل التركيب الاتحادي بين الجوهر والإضافة في قولك : زيد في الدار ، فكذلك لا يعقل التركيب الاتحادي بين الضرب والإضافة في قولك : ضرب زيد في الدار ، أو الصلاة والإضافة في قولك : صلاة زيد في الدار. وكما لايكون زيد غصبا ، كذلك لا تكون الصلاة غصبا ، أو الضرب غصبا ، لما عرفت من وحدة الإضافة والنسبة في الظرف المستقر والظرف اللغو ، وانه لا تختلف بين ان يكون طرف الإضافة من مقولة الجواهر ، أو مقولة الاعراض ، وذلك واضح. وبعد هذا لا ينبغي الشبهة في جواز اجتماع الأمر والنهي ، وعدم لزوم تعلق الامر بعين ما تعلق به النهى وبذلك يمتاز باب اجتماع الأمر والنهي عن باب التعارض بالعموم من وجه ، حيث إن اجتماع العنوانين في باب التعارض يكون على وجه

ص: 427

التركيب الاتحادي ، كالعالم والفاسق ، وفي باب اجتماع الأمر والنهي على وجه التركيب الانضمامي. وبين البابين بون بعيد.

ومن الغريب : ما افاده بعض الاعلام من أن الفرق بين البابين انما هو باشتمال كل من الحكمين على المقتضى في باب اجتماع الأمر والنهي ، وعدم اشتمال أحدهما على ذلك في باب التعارض بالعموم من وجه ، فان الفرق بذلك مما لا محصل له ، لما فيه :

أولا : ان المسألة لا تبتنى على المقتضيات والملاكات ، بل النزاع في مسألة اجتماع الأمر والنهي أعم من ذلك ، فان النزاع جار حتى لو قلنا بمقالة الأشاعرة من عدم الملاكات.

وثانيا : انه عدم ثبوت المقتضى لاحد الحكمين لايكون ضابطا لباب التعارض ، ضرورة انه مع العلم بعدم المقتضى لأحدهما يعلم بكذب أحد الدليلين ، ومعه يكون من باب اشتباه الحجة باللاحجة ، ولا يكون حينئذ من باب التعارض ، ولا يجرى فيه شيء من احكام التعارض ، بل لابد من اعمال قواعد العلم الاجمالي حينئذ.

وثالثا : انه لا طريق لنا إلى احراز المقتضى والملاك الا بالدليل ، حيث إن كل دليل كاشف عن ثبوت المقتضى ، وليس لنا طريق سوى ذلك الا بالهام أو وحى. والدليلان في باب اجتماع الأمر والنهي وفي باب التعارض من وجه سيان في الكاشفية ، فمن أين صار الدليلان في مثل أكرم العالم ولا تكرم الفاسق متعارضين؟ وفي مثل صل ولا تغصب من مسألة اجتماع الأمر والنهي؟ وإحالة الامر إلى الاجماع كما ترى ، لأنه ليس في جميع موارد البابين اجماع يمكن الاعتماد عليه.

وبالجملة : ارجاع المايز بين البابين إلى المقضيات والملاكات مما لا يستقيم ، بل المايز بين البابين هو ما ذكرنا من أن اجتماع المتعلقين في باب الاجتماع يكون على وجه الانضمام ، وفي باب التعارض يكون على وجه الاتحاد. وقد عرفت بما لا مزيد عليه ان مسألة اجتماع الأمر والنهي لا تندرج في صغرى التعارض ، لكون

ص: 428

التركيب فيها انضماميا.

وبعد ذلك ينبغي التنبيه على أمور.

الأول :

انه لو قلنا : بالتركيب الاتحادي وامتناع اجتماع الأمر والنهي ، فلا محالة تندرج المسألة في صغرى التعارض ، للزوم تعلق الامر حينئذ بعين ما تعلق به النهى ، واستلزامه لاجتماع الضدين في واحد شخصي عددا وهوية ، وعليه لا بد من اعمال قواعد التعارض.

ومن الغريب (1) ان الشيخ ( قده ) قال : ان المسألة بناء على الامتناع تكون من صغرى التعارض ، ومع ذلك يجعلها من صغرى التزاحم عند ذكر الوجه الثالث للجواز. وحيث كان المطلوب في ( صل ) هو صرف الوجود ويكون الاطلاق فيه )

ص: 429


1- فإنه قدس سره قد أفاد في التقريرات في مقدمة بحث الاجتماع : « وقد يظهر من بعض آخر ان البحث فيها يرجع إلى البحث عن مقاصد الأصول ، فإنها يستنبط منها صحة الصلاة في الدار المغصوبة وفسادها ، وليس بشيء فان الصحة والفساد لا يترتبان على الجواز والعدم ، بل التحقيق ان الصحة متفرعة على عدم التعارض والتناقض بين مدلولي الأمر والنهي وتشخيص ذلك موقوف على مسألة الجواز والامتناع ، فهذه المسألة من مباني المسألة الأصولية وهي وجود التعارض وتحقق التناقض بين الأدلة وعدمه .. » ( مطارح الأنظار - مقدمة بحث اجتماع الأمر والنهي ص 124 ). وذكر في الوجه الثالث من وجوه الجواز. « فان قلت : فعلى ما ذكرت من أن الآمر لا بد وأن يكون الفرد المحرم خارجا عن مطلوبه ومقصوده أيضا يلزم فساد الصلاة في الدار المغصوبة ولو في حال النسيان والاضطرار ، لا بواسطة امتناع الامتثال بالمحرم بل بواسطة امتناع الامر كما هو قضية التقييد مع أن المشهور ان المانعين يحكمون بصحتها ، وكذا صحة نظائرها كصلاة الصبي بناء على كونها تشريعية في الدار المغصوبة وقد سمعت فيما تقدم كلام المقدس الأردبيلي طيب اللّه رمسه. قلت : ان المخصص لو كان لفظا كما في قولك : أكرم العلماء الا زيدا كان الوجه عدم اكرام زيد في جميع الأحوال ، واما لو كان المخصص عقلا فلابد من الاقتصار على قدر يقضيه ، وليس وجه التخصيص بالافراد الغير المحرمة في المقام الا مناقضة الطلب التحريمي والطلب الوجوبي ، وبعد ارتفاع التحريم بواسطة النسيان فلا مانع من القول بالصحة والاخذ باطلاق الامر بالصلاة ، فيكون ذلك من باب التزاحم كانقاذ الغريقين فان عدم تعلق التكليف بكل واحد منهما على سبيل الاجتماع ليس الا بواسطة وجود المصلحة فيهما على وجه سواء مع امتناع الاجتماع منهما ، وإذا فرضنا ارتفاع المانع صح الامر من غير اشكال. » ( نفس المصدر ، ص 148 )

بدليا ، وفي ( لا تغصب ) مطلق الوجود ويكون الاطلاق فيه شموليا ، وكان الاطلاق الشمولي مقدما عند التعارض مع الاطلاق البدلي ، حيث إن مقدمات الحكمة في الاطلاق الشمولي موجبة لخروج الافراد عن كونها متساوية الاقدام في الاطلاق البدلي ، على ما بيناه في محله (1) فلابد حينئذ من تقييد اطلاق متعلق الامر بما عدا الفرد المجامع للغصب ، ويكون المأمور به حينئذ هو الصلاة المقيدة بان لا تكون في الدار الغصبية ، وهذا التقييد راجع إلى مرحلة الثبوت والواقع ، كما هو الشأن في جميع الاطلاقات والمقيدات ، حيث إن دليل المقيد كاشف عن عدم تعلق إرادة الآمر بما تضمنه المطلق ، ولا دخل لعلم المأمور وجهله بذلك ، فان علم المأمور وجهله انما ينفع في باب التزاحم ، لا في باب التعارض ، كما تقدم تفصيله في مبحث التزاحم (2) ولازم ذلك هو فساد الصلاة في الدار الغصبية ، سواء علم المكلف بغصبية الدار أو لم يعلم ، لأنه لم يأت بما هو المأمور به. مع أن الظاهر تسالم الفقهاء على صحة الصلاة في الدار الغصبية عند الجهل بالغصب ، وهذا يكشف عن عدم ادراجهم المسألة في صغرى التعارض ، وذلك لايكون الا بالبناء على جواز اجتماع الأمر والنهي. ويدل على ذلك اخذهم في عنوان البحث قيد المندوحة ، فان المندوحة لا دخل لها بالتعارض ، وانما تنفع في باب التزاحم ، لان الضابط في باب التعارض ، هو عدم امكان تشريع الحكمين الذين تكفلهما الدليلان في عالم الثبوت والتشريع ، كان هناك مكلف أو لم يكن ، حصلت القدرة أو لم تحصل ، فاعتبار المندوحة لا دخل له بباب التعارض.

نعم : هي تنفع في باب التزاحم ، حيث إن التزاحم انما يكون باعتبار القدرة ، فيتوهم حينئذ ان القدرة على ايجاد الطبيعة في الجملة تكفى في صحة الفرد المزاحم للأهم أو المضيق ، على ما تقدم من مقالة المحقق الكركي وسيأتي توضيحه أيضا.

ص: 430


1- راجع الجزء الرابع من الفوائد ، التعادل والتراجيح ، المبحث الخامس ، ص 272 - 273 الطبعة القديمة
2- راجع بحث الضد ، المقام الأول في الفرق بين التزاحم والتعارض ص 317

وبالجملة : التسالم على اخذ قيد المندوحة في عنوان المسألة وعلى صحة الصلاة في الدار الغصبية عند الجهل بالغصب ، يكشف كشفا قطعيا عن كون الجواز من الجهة الأولى كان عندهم مفروغا عنه.

وما يقال : من أن الصحة عند الجهل انما هي لوجود الملاك والمقتضى ، حيث إنه يعتبر في مورد الاجتماع ثبوت كل من ملاك الحكمين ، وبذلك حصل المايز بين باب الاجتماع وباب التعارض من وجه ، فليس بشيء ، لان ثبوت الملاك المغلوب بما هو أقوى منه والمسكور بغيره في عالم الجعل والتشريع - بحيث كان الحكم المنشأ في عالم الثبوت والواقع هو خصوص ما كان واجدا للملاك الغالب والمقتضى الأقوى - لا يصلح ان يكون موجبا للصحة ، فان الموجب للصحة ، هو الملاك التام الذي لايكون مكسورا بما هو أقوى منه في عام الجعل والتشريع.

والحاصل : ان تصحيح العبادة بالملاك انما يكون بعد الفراغ عن ثبوت حكمها وتشريعه مطلقا ، غايته انه وقع التزاحم بين ذلك الحكم وبين حكم آخر في مقام الامتثال وصرف القدرة عند عدم تمكن المكلف من كلا الامتثالين ، والتزاحم بين الحكمين امر ، وبين المقتضيين امر آخر ، بينهما بون بعيد ، فان تزاحم الحكمين على ما عرفت ، انما يكون في مقام الفعلية وتحقق الموضوع بعد الفراغ عن تشريعهما على طبق موضوعاتهما المقدر وجودها ، وفي هذا القسم من التزاحم يكون لعلم المكلف وجهله دخل ، حيث إن الحكم المجهول لا يصلح ان يكون مزاحما لغيره ، فإنه لايكون شاغلا لنفسه ، فبان لايكون شاغلا عن غيره أولى.

واما تزاحم المقتضيين ، فإنما يكون في مقام الجعل والتشريع ، حيث يتزاحم المقتضيان في نفس الآمر وارادته ، ويقع الكسر والانكسار بينهما في ذلك المقام ، ويكون لعلم الآمر وجهله دخل في تزاحم المقتضيين ، حيث لو لم يعلم الآمر بثبوت المقتضيين ، لا يعقل ان يقع التزاحم بينهما في إرادة الآمر. وعلم المكلف وجهله أجنبي عن ذلك ، فان عالم الجعل والتشريع انما يكون بيد الآمر ، والمأمور أجنبي عنه ، فيكون لعلم الآمر وجهله دخل ، كما أن عالم الامتثال وصرف القدرة وأعمالها يكون بيد المكلف ، والآمر أجنبي عنه ، فيكون لعلم المأمور دخل.

ص: 431

واما دعوى : انه بعد ما كان لكل من الحكمين مقتض في عالم الثبوت فلا مانع من انشاء كل من الحكمين على طبق المقتضى ويكون الحكم في كل منهما اقتضائيا وكان الحكم الفعلي هو ما يكون ملاكه أقوى وأتم ، ففسادها غنى عن البيان ، بداهة ان المقتضى المزاحم بما هو أقوى منه دائما ، لا يصلح لانشاء حكم على طبقه ، لأنه.

أولا : يلزم اللغوية ، إذا لحكم الذي لا يصير فعليا ولا يجب امتثاله بوجه من الوجوه يكون تشريعه لغوا ، مثلا لو فرض ان العالم له اقتضاء الاكرام ، والفاسق له اقتضاء عدم الاكرام ، ففي غير مورد التصادق لا مزاحمة بين المقتضيين ، واما في مورد التصادق فيتزاحم المقتضيان ، فان لم يكن أحدهما أقوى ، فلابد من الحكم بالتخيير ثبوتا ، وان كان أحدهما أقوى - كما لو فرض ، ان العلم أقوى ملاكا للاكرام من الفسق لعدم الاكرام - فلا بد حينئذ من انشاء الحكم على طبق الأقوى وتشريع وجوب اكرام العالم مطلقا بحيث يشتمل مورد التصادق وعدم تشريع حرمة اكرام الفاسق مطلقا ، بل لابد من تخصيص دائرة التشريع بما عدا مورد التصادق. وتشريعه مطلقا - حتى في مورد التصادق ولكن الحكم الفعلي يدور مدار الأقوى ، ويكون الحكم الفعلي في مورد التصادق هو وجوب الاكرام - يوجب اللغوية ، إذ لا اثر للتشريع المطلق ، مع أنه لا تصل النوبة إلى امتثاله في مورد التصادق ، لأن المفروض ان الحكم الفعلي غيره. (1).

وثانيا : ان ذلك غير معقول ، لان إرادة الآمر في عالم الثبوت ، اما ان تتعلق باكرام العالم الفاسق ، واما ان تتعلق بعدم اكرامه ، ولا يعقل الاهمال الثبوتي ، فان تعلقت ارادته باكرام العالم الفاسق لأقوائية ملاكه ، فلابد ان لا تتعلق ارادته بعدم ه

ص: 432


1- لا يخفى عليك ان القائل بهذه المقالة يدعى : انه في صورة الجهل لايكون الحكم الذي ملاكه أتم وأقوى فعليا ، بل الحكم الفعلي هو الذي يكون ملاكه انقص واضعف ، فيظهر لتشريعه اثر في صورة الجهل ، فهو على مبناه من معنى الحكم الفعلي صحيح لا يرد عليه شيء من الايرادات ، نعم الاشكال الذي يرد عليه هو فساد المبنى وان معنى الحكم الفعلي ليس ذلك ، على ما تقدم بيانه. منه

الاكرام ، لامتناع اجتماع النقيضين ، ومع عدم تعلق ارادته بعدم الاكرام في مورد التصادق والاجتماع ، كيف يعقل ان يكون محكوما بحرمة الاكرام؟ حتى نسميه حكما اقتضائيا. وقس على ذلك مسألة الصلاة والغصب ، فإنه بناء على الامتناع ، يكون حالهما حال العالم والفاسق.

والحاصل : ان تشريع الحكم على وجه الاهمال لا يعقل في عالم الثبوت ، وان كان الاهمال في عالم الاثبات والدليل ممكنا ، من جهة انه لم يكن فعلا بصدد بيان تمام غرضه ، بل اعتمد على المبين المنفصل. واما في عالم الثبوت ، فذلك امر غير معقول ، إذ لا يعقل ان لا يدرى الآمر الملتفت أين تعلقت ارادته ، وتعلق الإرادتين المتضادتين في مورد الاجتماع والتصادق لا يعقل ، فلابد ان تكون الإرادة واحدة ، اما ان تتعلق بوجود الاكرام ، واما ان تتعلق بعدمه. وبعد ذلك ما معنى انشاء الحكمين على طبق كلا المقتضيين وكون الحكم الفعلي هو الأقوى ملاكا؟ وهل للحكم معنى غير الإرادة؟ وهل هذا الا عبارة عن القول باهمال متعلق الإرادة؟ أو اجتماع الإرادتين المتضادتين؟.

وثالثا : هب ، انه سلمنا ذلك كله وقلنا بهذا المحال ، ولكن مع ذلك لا دخل لعلم المكلف وجهله في ذلك ، لا في مقام تشريع الحكمين على طبق كلا المقتضيين ، ولا في مقام فعلية الحكم بالمعنى المذكور ، لان فعلية الحكم على هذا تدور مدار ما هو الأقوى ملاكا ، وهو امر واقعي لا دخل فيه لعلم المكلف وجهله ، فبأي وجه صحت الصلاة في الدار الغصبية في صورة الجهل؟ مع أن الحكم الفعلي بناء على هذا المبنى الفاسد ، هو حرمة الغصب ، لأقوائية ملاكه ، والملاك الثابت في الصلاة لا يصلح لذلك ، لمغلوبيته وانكساره بالأقوى ، فتأمل (1) جيدا.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : انه بناء على الامتناع لا محيص عن القول بفساد ه

ص: 433


1- وجهه هو ما تقدم منا في الحاشية السابقة ، من أنه في صورة الجهل لايكون الحكم فعليا ، فلعلم المكلف وجهله دخل في فعلية الحكم وعدمه فالمهم هو منع دخل علم المكلف وجهله في فعلية الحكم ، بل فعلية الحكم تدور مدار تحقق موضوعه ، على ما أوضحناه في محله. منه

الصلاة ، وتندرج المسألة في باب التعارض ، وتكون بعد تقديم جانب النهى من صغريات النهى في العبادة. وقد عرفت انه لابد من تقديم جانب النهى ، لكون الاطلاق فيه شموليا ، دون الامر.

واما بناء على الجواز ، فتكون المسألة مندرجة في باب التزاحم. والحكم فيه وان كان أيضا تقديم جانب الحرمة ، الا انه بملاك آخر ، وهو تقديم مالا بدل له على ماله البدل - على ما تقدم تفصيله في مرجحات باب التزاحم - ويكون لعلم المكلف وجهله حينئذ دخل في ذلك ، لما عرفت من أن المزاحمة تتوقف على الاحراز والوجود العلمي ،

فظهر مما ذكرنا : ان القول بصحة الصلاة في الدار الغصبية في صورة الجهل والنسيان لا يجتمع مع القول بالامتناع. ومن هنا يمكن ان نستكشف ان المشهور بنائهم على الجواز ، لقولهم بصحة الصلاة في صورة الجهل ، مضافا إلى اعتبار قيد المندوحة ، التي لا تنفع الا بعد الفراغ من الجهة الأولى ، كما أشرنا إليه.

التنبيه الثاني :

قد استدل لجواز اجتماع الأمر والنهي بوقوعه في الشرعيات كثيرا ، وجعلوا موارد العبادات المكروهة من ذلك الباب ، بتقريب : ان الاحكام بأسرها متضادة ، ولا اختصاص لذلك بالوجوب والحرمة ، وقد اجتمع في العبادات المكروهة الوجوب والكراهة ، أو الاستحباب والكراهة ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك : فساد الاستدلال بذلك لما عرفت : من أن مورد البحث في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، هو ما إذا كان بين المتعلقين العموم من وجه ، والنسبة بين المتعلقين في العبادات المكروهة هو العموم المطلق ، فلا ينبغي جعلها من موارد اجتماع الأمر والنهي.

نعم : ينبغي البحث عن كيفية تعلق الكراهة بالعبادة ، وانه ما المراد من الكراهة فيها ، فهل هي بمعناها المصطلح؟ أو انها بمعنى الأقل ثوابا؟ كما قيل. فنقول - ومن اللّه التوفيق - تعلق النهى التنزيهي بالعبادة يكون على اقسام ثلاثة :

الأول : ما إذا تعلق الامر بعنوان ، والنهى التنزيهي بعنوان آخر ، وكان

ص: 434

بين العنوانين العموم من وجه ، كالأمر بالصلاة والنهى عن الكون في بيوت الظلمة ، وهذا القسم يكون داخلا في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، غايته ان النهى تارة يكون تحريميا ، وأخرى يكون تنزيهيا ، نعم يختلف النهى التحريمي والتنزيهي من جهة أخرى ، كما سنبين.

الثاني : ان يكون بين متعلق النهى التنزيهي ومتعلق الامر العموم المطلق ، كالنهي عن الصلاة في الحمام.

الثالث : ان يتعلق النهى التنزيهي بعين ما تعلق به الامر ، وذلك كما في العبادات المكروهة التي لا بدل لها ، كالنهي عن النوافل المبتدئة في الأوقات الخاصة ، وكالنهي عن صوم يوم عاشوراء وأمثال ذلك ، مما تكون نفس العبادة المأمور بها منهيا عنها بالنهي التنزيهي ، وينبغي البحث عن كل واحد من هذه الأقسام مستقلا ، فنقول :

اما القسم الأول :

فحاصل الكلام فيه : هو ان التنزيهي ليس كالنهي التحريمي مما يوجب تقييد متعلق الامر بما عدا مورد الاجتماع مطلقا ، سواء قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي ، أو قلنا بامتناعه. اما لو قلنا بالجواز فواضح. واما لو قلنا بالامتناع ، فلان منشأ التقييد في النهى التحريمي انما هو لمكان منافاة المنع عن كل وجود للطبيعة - الذي تضمنه النهى التحريمي المتعلق بالطبيعة بلحاظ مطلق الوجود - مع الرخصة المستفادة من اطلاق الامر بأي وجود من وجودات الطبيعة ، لان تعلق الامر بالطبيعة بلحاظ صرف الوجود لا محالة يتضمن الرخصة بالنسبة إلى أي وجود يفرض من الطبيعة وأي فرد يأتي به المكلف ، لمكان انطباق الطبيعة المأمور بها على كل فرد ، وليس المأتى به في الخارج هو عين متعلق الامر ، لأنه لو كان المأمور به عين ذلك وكان هو الواجب لما جاز تركه إلى بدل ، والمفروض جواز تركه إلى بدل ، فالمأتي به لايكون هو عين متعلق الامر ، بل متعلق الامر هو الطبيعة المنطبقة على المأتى به انطباق الطبيعي على افراده ، والامر بالطبيعة يقتضى الرخصة باتيان الفرد المأتى به بمقتضى الاطلاق ، والمفروض ان النهى التحريمي لمكان اطلاقه الشمولي يقتضى المنع و

ص: 435

عدم الرخصة في اتيان ذلك الفرد ، فيحصل التدافع بين كل من اطلاق الامر واطلاق النهى ، من حيث ما يقتضيانه : من الرخصة وعدم الرخصة. فلا بد حينئذ من اطلاق متعلق الامر بما عدا ذلك الفرد ، لقوة اطلاق النهى من حيث كونه شموليا ، ويخرج ذلك الفرد من صلاحيته لانطباق الطبيعة المأمور بها عليه.

وهذا بخلاف النهى التنزيهي ، فان النهى التنزيهي لا يقتضى المنع وعدم الرخصة عن ذلك الفرد ، بل النهى التنزيهي بنفسه يقتضى الرخصة والمفروض ان الامر أيضا يقتضى الرخصة بذلك الفرد ، فلا تدافع بين ما يقتضيه اطلاق الامر ، وما يقتضيه اطلاق النهى التنزيهي ، وبعد عدم التدافع لا موجب لتقييد اطلاق الأوامر بما عدا المجمع ، بل اطلاق الامر بعد محفوظ على حاله ، من دون تصرف فيه. وذلك لا ينافي التضاد بين الوجوب والكراهة ، فان التضاد بينهما انما يمنع عن اجتماعهما في امر واحد شخصي ، بحيث تتعلق الكراهة بعين ما تعلق به الوجوب ، كما إذا كان هناك شيء واحد تعلق به الوجوب بحيث لا يرضى الآمر بتركه ، وتعلق به الكراهة بحيث يرضى بتركه ، من غير فرق بين ان يكون ذلك الشيء متعلقا للوجوب والكراهة ، بالنصوصية ، أو بالاطلاق ، بان يكون كل من اطلاق الأمر والنهي شموليا يعم جميع الافراد ، فإنه يلزم أيضا تعلق الامر والكراهة في واحد شخصي.

وأما إذا لم يتعلق الامر الوجوبي بعين ما تعلق به النهى الكراهتي - لا بالنصوصية ولا بالاطلاق الشمولي ، بحيث ينحل إلى جميع الافراد والوجودات التي تفرض للطبيعة ، بل تعلق الامر بالطبيعة على نحو صرف الوجود ، وتعلق النهى الكراهتي بالطبيعة على نحو مطلق الوجود - فلم تجتمع الكراهة مع الوجوب حتى يلزم اجتماع الضدين ، لما عرفت : من أن الافراد فيما إذا كان المطلوب صرف الوجود ليست هي بنفسها متعلق الامر ، والا للزم الاتيان بجميعها ، وليس المطلوب ومتعلق الامر ( أحدها ) على نحو الواجب التخييري الشرعي ، بل كان كل فرد من الافراد مما تنطبق عليه الطبيعة ، لمكان الاطلاق. وانطباق الطبيعة على فرد انما يقتضى الرخصة في اتيانه بحيث يجوز تركه إلى بدل ، لا تعينه ، كما إذا كان المطلوب مطلق الوجود. والرخصة في الفرد لا ينافي كراهته ، لأنها أيضا تتضمن الرخصة.

ص: 436

فالقائل بامتناع اجتماع الأمر والنهي لا يلزمه التقييد واخراج المجمع عن اطلاق الامر فيما إذا كان النهى تنزيهيا ، كما كان يلزمه فيما كان النهى تحريميا ، للمنافاة بين الرخصة في اتيان الفرد المستفادة من اطلاق الامر ، وعدم الرخصة فيه المستفاد من اطلاق النهى ، كما عرفت.

ولا يتوهم : ان القائل بالامتناع ، انما يقول به لأجل لزوم تعلق الامر بعين ما تعلق به النهى ، ومع العينية لا يفرق الحال بين ما إذا كان النهى تحريميا أو كان تنزيهيا ، لثبوت المضادة بين جميع الأحكام الخمسة.

وذلك : لان المراد من حديث العينية ، ليس هو ان المأتى به من الفرد هو عين ما تعلق به الأمر والنهي ، لوضوح ان الامر لم يتعلق بالمأتى به ، بل تعلق الامر بالطبيعة بما انها مرآة لما في الخارج ، ويكون المأتى به مما ينطبق عليه الطبيعة بمقتضى اطلاقها. وقد عرفت : ان الاطلاق لا يقتضى أزيد من الرخصة في كل فرد مع جواز تركه إلى بدل ، لمكان كون الافراد متساوية الاقدام في انطباق الطبيعة على كل منها. والنهى التحريمي يوجب دفع هذا التساوي ، والا لزم اجتماع الرخصة واللارخصة ، والنهى التنزيهي لا يرفع هذا التساوي لبقاء الرخصة على حالها ، فتأمل جيدا. فإنه لا يخلو عن دقة ولطافة.

هذا إذا كان بين متعلق الأمر والنهي التنزيهي العموم من وجه.

واما القسم الثاني :

وهو ما إذا كان بين المتعلقين العموم المطلق ، كصل ، ولا تصل في الحمام ، فالكلام فيه هو الكلام في القسم السابق ، لما عرفت سابقا : من أن القسم السابق بناء على الامتناع يكون من صغريات مسألة النهى عن العبادة ، وقد عرفت ان النهى التنزيهي عن العبادة لا يقتضى التقييد وليس كالنهي التحريمي. ففي مثل قوله : صل ، ولا تصل في الحمام ، يكون كل من الامر الوجوبي والنهى التنزيهي على حاله ، حيث إن الامر الوجوبي باطلاقه يقتضى الرخصة في الصلاة في الحمام. والنهى التنزيهي لا ينافي هذه الرخصة ، ولا يلزم أيضا اتحاد متعلق الامر الوجوبي والنهى التنزيهي وعينية أحدهما للآخر ، حتى يلزم اجتماع الضدين ، فان الامر الوجوبي

ص: 437

تعلق بالطبيعة على نحو صرف الوجود ولم يتعلق بجميع حصصها على نحو الشمول والسريان ، والامر المتعلق بالطبيعة على نحو صرف الوجود لا يقتضى أزيد من الرخصة في ايجاد الطبيعة في ضمن أي حصة ، وهذا لا ينافي النهى التنزيهي عن حصة خاصة ، لأنه أيضا يقتضى الرخصة.

وهذا هو السر فيما يصنعه الفقهاء في مقام الجمع بين الاخبار : من حمل النهى على التنزيه والكراهة ، ولا يعاملون النهى التنزيهي معاملة التعارض من وجه أو المطلق ، ولا يحملون المطلق على المقيد في مثل أعتق رقبة ولا تعتق الكافرة ، إذا استفادوا منه كون النهى تنزيهيا وكذا لا يعملون قواعد التعارض من وجه في مثل : أكرم عالما ، ولا تكرم الفاسق ، إذا كان النهى للتنزيه. بل ربما يجمعون بين الاخبار المتعارضة بحمل النهى فيها على التنزيه ، ويستشكلون بأنه لا شاهد على هذا الجمع. واشكالهم من حيث عدم ما يدل على أن النهى تنزيهي ، لا من حيث إن النهى التنزيهي بعد الفراغ عن كونه تنزيهيا لا يوجب الجمع بين الاخبار المتعارضة ، بل ذلك عندهم مفروغ عنه ، وانما ينازعون في الصغرى. فاحفظ ما ذكرناه فإنه يفتح به باب من أبواب الفقه في مقام الجمع بين الاخبار.

وما قيل : من أن التنزيهي في باب العبادات انما يكون بمعنى أقل ثوابا ، فهو بظاهره مما لا يستقيم ، لأنه ليس معنى النهى التنزيهي أقلية الثواب ، ولا موجب لاخراج النهى عن ظاهره من المولوية إلى الارشادية وجعله بمنزلة الاخبار عن قلة الثواب ، بل النهى على ظاهره من المولوية. نعم هو كاشف عن وجود حزازة ومنقصة في تلك الحصة من الطبيعة. وبهذا المعنى تكون جميع الأوامر والنواهي كاشفة وارشادا إلى المصالح والمفاسد ، ومع ذلك تكون الأوامر والنواهي مولوية.

بقى الكلام في القسم الثالث :

وهو ما إذا تعلق النهى التنزيهي بعين ما تعلق به الامر ، كصوم يوم عاشوا. والتوجيه الذي ذكرناه في القسمين الأولين لا يجرى في هذا القسم ، لان صوم يوم عاشوراء بما انه صوم يوم عاشورا مستحب ، لاستحباب صوم كل يوم بالخصوص ، ومعه لا يعقل ان يتعلق به النهى التنزيهي ، لما بين الأمر والنهي من التضاد ، وان

ص: 438

كان أحدهما استحبابيا والآخر تنزيهيا.

وما قيل في توجيه ذلك : من أنه يمكن ان يكون ترك صوم يوم عاشوراء ملازما لعنوان راجح ، أو سببا توليديا له ، فيكون الترك كالفعل راجحا ومستحبا وان كان الترك أرجح ، لمواظبة الأئمة علیهم السلام وأصحابهم عليه.

فاسد ، فإنه لا يعقل ان يكون كل من الفعل والترك راجحا ومستحبا شرعا ، لان المتيقن من وقوع الكسر والانكسار بين الجهات والمصالح هو ما إذا كانت الجهات بين النقيضين : من فعل شيء وتركه ، وكيف يعقل عدم وقوع الكسر والانكسار بين النقيضين؟ مع وقوعهما بين الضدين الذين لا ثالث لهما والمتلازمين في الوجود دائما. فإذا كان هذا حال المتضادين والمتلازمين ، فما ظنك في النقيضين.

وبالجملة : لا يعقل ان لا يقع الكسر والانكسار بين الجهات في باب النقيضين ، ولا يعقل ان يكون كل من النقيضين مأمورا به بالامر الاستحبابي ويكون كل من الفعل والترك راجحا مبعوثا إليه شرعا ، فلا محيص من وقوع الكسر والانكسار إذا كان في كل من الفعل والترك مصلحة. وحينئذ اما ان تغلب إحدى المصلحتين على الأخرى ، فيكون البعث نحوها فقط. واما ان لا تغلب ، فيكون الحكم هو التخيير ليس الا. فهذا الوجه الذي افاده في التقرير (1) وتبعه صاحب (2) الكفاية مما لا يحسم مادة الاشكال.

فالأولى في التوجيه ، هو ان يقال : ان مركب النهى التنزيهي غير مركب الامر الاستحبابي ، وان مركب الامر الاستحبابي هو نفس العمل وذات الصوم ، ومركب النهى التنزيهي هو التعبد بالعمل والتقرب به إليه تعالى ، فيكون الصوم مستحبا ، ومع ذلك يكون التعبد به مكروها. ولا منافاة بينهما ، إذ لم يتحد مركب الامر الاستحبابي ومركب النهى التنزيهي ، حتى يلزم اجتماع الضدين.

ص: 439


1- مطارح الأنظار ، بحيث الاجتماع ، الهداية التي تكلم فيها عن حجج المجوزين. المقام الثاني في تصوير الكراهة في العبادات. قوله : « الثالث لا يبعد ان يكون حاسما لمادة الاشكال وهو .. » ص 135
2- كفاية الأصول ، الجلد الأول ، بحث الاجتماع قوله : « اما القسم الأول فالنهي تنزيها عنه .. » ص 255

فالمقام يكون نظير تعلق الامر النفسي بصلاة الظهر ، مع الامر المقدمي بها ، من حيث كونها مقدمة وجودية لصلاة العصر ، فان الامر النفسي متعلق بذات صلاة الظهر ، والامر المقدمي تعلق بها بوصف كونها مأمورا بها ، إذ ليست ذات صلاة الظهر مقدمة لصلاة العصر ، بل صلاة الظهر المأتى بها بداعي أمرها وبما انها متعبد بها تكون مقدمة لصلاة العصر ، فيختلف مركب الامر المقدمي مع مركب الامر النفسي. ولا يكون من اجتماع المثلين ، ولا من اتحاد الامرين ، كاتحاد الامر بالوفاء بالنذر مع الامر بصلاة الليل عند نذرها ، لوحدة متعلق الامرين في مثل هذا ، فان المنذور هو فعل ذات صلاة الليل ، لا صلاة الليل بوصف كونها مستحبة ، فان وصف الاستحباب لا يدخل تحت النذر ، إذ لا يمكنه بعد النذر اتيان صلاة الليل بوصف كونها مستحبة ، لصيرورتها واجبة بالنذر ، والمنذور لا بد ان يكون مقدورا للناذر في ظرف الامتثال ، فلابد ان يكون متعلق النذر هو ذات صلاة الليل ، والامر الاستحبابي أيضا تعلق بالذات ، فيتحد متعلق الامر الاستحبابي المتعلق بالذات مع متعلق الامر الوجوبي الآتي من قبل الوفاء بالنذر ، ومعلوم ان الامر الاستحبابي يندك حينئذ في الامر الوجوبي ، كما أن الامر التوصلي الآتي من قبل النذر يكتسب التعبدية ، فيكتسب كل من الامر الوجوبي والاستحبابي من الاخر ما يكون فاقدا له ، فالامر الوجوبي يكتسب التعبدية ، والامر الاستحبابي يكتسب الوجوب ، لان الفاقد يكون من قبيل اللامقتضى ، والواجد يكون من المقتضى. ولا يعقل في مثل هذا بقاء الامر الاستحبابي على حاله ، لما عرفت من وحدة المتعلقين ، فيلزم اجتماع الوجوب والاستحباب في شيء واحد.

وهذا بخلاف مثل الامر الآتي من قبل الإجارة إذا آجر الشخص نفسه لما يكون مستحبا على الغير أو واجبا ، فأن الامر الوجوبي الآتي من قبل الوفاء بالعقود انما يكون متعلقا بالعمل بوصف كونه مستحبا على الغير أو واجبا عليه ، لا بما هو ذات العمل حتى يلزم اجتماع الضدين أو المثلين ، لان الشخص انما صار أجيرا لتفريغ ذمة الغير ، ولا يحصل ذلك الا بقصد الامر المتوجه إلى ذلك الغير ، فيكون متعلق الإجارة هو العمل المأمور به بوصف كونه كذلك.

ص: 440

والمقام بعينه يكون من هذا القبيل ، حيث إن الامر الاستحبابي انما يكون متعلقا بذات الصوم في يوم عاشوراء ، أو الصلاة عند طلوع الشمس. والنهى التنزيهي غير متعلق بذلك ، بل تعلق بالتعبد بالصوم والصلاة في ذلك اليوم والوقت ، لما في التعبد بهما من التشبه ببني أمية وعبدة الشمس ، حيث إن بنى أمية لعنهم اللّه انما كانوا يتعبدون بصوم يوم عاشوراء ويتقربون به إلى اللّه ، وكذا عبدة الشمس كانوا يتعبدون بعملهم في أول الشمس ، فيكون المنهى عنه بالنهي التنزيهي هو ما كان عليه عمل أولئك ، وليس هو الا التعبد ، فيكون التعبد مكروها مع كون العمل مستحبا ، إذ لا منافاة بين كراهة التعبد ورجحان تركه وبين استحباب العمل ورجحان فعله.

نعم : لو كان النهى تحريميا ، كان ذلك منافيا لاستحباب العمل ، لان حرمة التعبد لا يجامع صحة العمل. بخلاف كراهة التعبد المتضمن للرخصة ، فتأمل في ما ذكرناه جيدا. هذا تمام الكلام فيما يتعلق بالعبادات المكروهة.

ثم إن شيخنا الأستاذ مد ظله ، أراد ان يتعرض للتنبيه الثالث ، المتعلق بالمضطر والمتوسط في الأرض المغصوبة ، ولكنه اعرض عن ذلك واخره ، لان له تعلقا بكلا المقامين المبحوث عنهما في مسألة اجتماع الأمر والنهي. والأولى عطف عنان الكلام إلى المقام الثاني ، وهو انه هل وجود المندوحة يكفي في رفع غائلة التزاحم والتكليف بما لا يطاق ، أو انه لا يكفي؟ والأقوى في هذا المقام عدم الكفاية. وان كان مقتضى ما تقدم عن المحقق الكركي ( قده ) - من كفاية القدرة على الطبيعة في الجملة ولو في بعض الافراد في صحة تعلق التكليف بها وانطباقها على الفرد المزاحم للمضيق أو الأهم ويتحقق الاجزاء عقلا - هو كفاية وجود المندوحة في المقام أيضا. وان كان فرق بين المقام وبين ما افاده المحقق ( قده ) من حيث إن المراد بالمندوحة في المقام انما هي بالنسبة إلى الافراد العرضية ، حيث إن للمكلف ايجاد الصلاة في الدار المباحة وفي المسجد وفي الدار الغصبية ، فتكون الصلاة في الدار الغصبية من أحد افراد الصلاة العرضية. والمراد من المندوحة في مقالة

ص: 441

المحقق ( قده ) هي المندوحة بالنسبة إلى الافراد الطولية ، لان كلامه انما كان في الواجب المضيق المزاحم لبعض افراد الواجب الموسع في بعض الوقت. ولكن هذا الفرق لايكون فارقا في المناط ، فان مناط كفاية المندوحة في الافراد الطولية ، هو القدرة على الطبيعة في الجملة ولو في غير الفرد المزاحم للمضيق ، وهذا المقدار يكفي في حسن التكليف عقلا ، إذ لا يلزم التكليف بما لا يطاق لقدرة الفاعل على ايجاد الطبيعة ولو في الجملة. فلا مانع من شمول اطلاق الامر بالصلاة للفرد المزاحم للإزالة ، وتنطبق الطبيعة المأمور بها عليه قهرا فيتحقق الاجزاء عقلا. وهذا الكلام كما ترى يجرى في الافراد العرضية أيضا ، لتمكن المكلف من ايجاد الصلاة مثلا في غير الدار الغصبية ، وهذا المقدار يكفي في صحة التكليف بالصلاة ، ويكون الفرد المأتى به من الصلاة في الدار الغصبية مما تنطبق عليه الطبيعة ، هذا.

ولكن أصل المبنى عندنا فاسد ، كما تقدم في مبحث الترتب ، حيث إن القدرة المعتبرة في التكاليف لا ينحصر مدركها بحكم العقل بقبح التكليف بما لا يطاق ، بل القدرة معتبرة ولو لم يحكم العقل بذلك ، لمكان اقتضاء الخطاب القدرة على متعلقه ، حيث إن حقيقة الخطاب هو البعث على أحد طرفي المقدور وترجيح أحد طرفي الممكن ، فيعتبر في التكليف - مضافا إلى قدرة الفاعل التي يحكم بها العقل - القدرة على الفعل التي يقتضيها الخطاب. والفرد المزاحم للإزالة أو للغصب فيما نحن فيه ليس مقدورا عليه ، لان المانع الشرعي كالمانع العقلي ، فلا تنطبق عليه الطبيعة المأمور بها بما انها مأمور بها ، لان الانطباق من حيث السعة والضيق يدور مدار سعة القدرة وضيقها ، وليس للقدرة سعة تشمل الفرد ، على ما تقدم تفصيله في مبحث الترتب. وعليه لا تصح الصلاة في الدار الغصبية باطلاق الامر بالصلاة كما أنه لا يمكن تصحيحها بالامر الترتبي كما تقدم أيضا في ذلك المبحث ، لاستلزامه الامر بتحصيل الحاصل ، أو الامر بالمحال ، إذ لا معنى لقوله : لا تغصب وان غصبت بالصلاة فصل ، لأنه يكون من تحصيل الحاصل ، أو ان غصبت بغير الصلاة فصل ، لأنه يكون من طلب المحال ، على ما مر تفصيله.

واما تصحيحها بالملاك فربما يتوهم انه لا مانع عنه ، ولازم ذلك صحة

ص: 442

الصلاة في الدار الغصبية ، ولو عن علم وعمد ، مع أن الظاهر تسالم الاعلام على عدم الصحة حينئذ ، كتسالمهم على الصحة في صورة الجهل والنسيان. فيتوجه في المقام اشكال ، من حيث إنه لو بنينا على الامتناع في المقام الأول ، يلزم القول ببطلان الصلاة في صورة الجهل والنسيان ، ولو بنينا على الجواز ، يلزم القول بصحتها في صورة العلم والعمد ، ولا يمكن الالتزام بكل من القولين ، لتسالمهم على الخلاف ، هذا.

ولكن يمكن دفع الاشكال ، بأنه ليس لازم القول بالجواز في المقام الأول ، هو الصحة في صورة العمد ، لان الصلاة في الدار الغصبية وان كانت مشتملة على الملاك ، الا انها لمكان اتحادها مع الغصب في الايجاد والصدور كان ذلك مانعا عن التقرب بها ، لبغضها الفاعلي وعدم اتصاف صدورها منه بالحسن الفاعلي ، لخلطه بين المأمور به والمنهى عنه في الايجاد والصدور. والحسن الفعلي لا يكفي في التقرب ما لم ينضم إليه الحسن الفاعلي ، بحيث يصدر من الفاعل حسنا. وليس خلط الصلاة بالغصب واتحادها معه في الايجاد كالنظر إلى الأجنبية في الصلاة ، فان النظر إلى الأجنبية لا ربط له بجهة ايجاد الصلاة ، بخلاف الغصب المتحد معها في الايجاد. فالقول بجواز اجتماع الأمر والنهي لا يلازم القول بصحة الصلاة في صورة العلم والعمد ، كما كان القول بالامتناع يلازم القول بالبطلان في صورة الجهل والنسيان ، فتأمل جيدا.

هذا كله إذا كان للمكلف مندوحة ، بحيث كان يمكنه فعل الصلاة في المكان المباح. وأما إذا لم يكن للمكلف مندوحة بل انحصر مكان الصلاة في الدار الغصبية ، فترجيح الغصب بكونه مما لا بدل له لا يجرى في الفرض ، لان الصلاة أيضا مما لا بدل لها حسب الفرض ، بل لابد من اعمال سائر مرجحات باب التزاحم. وقبل بيان ذلك ، لابد من التنبيه على امر ، وان كان حقه ان يذكر في المقام الأول ، الا انه قد فاتنا ذكره هناك.

وحاصل ذلك الامر : هو انه لو فرض تعلق الامر بعنوان وتعلق النهى بعنوان آخر ، وكانت النسبة بين العنوانين العموم من وجه ، وكان التركيب بينهما انضماميا لا اتحاديا ، ولكن كان كل من اطلاق الأمر والنهي شموليا ، فهل

ص: 443

يندرج ذلك في المسألة المبحوث عنها؟ ويتأتى القول بجواز اجتماع الأمر والنهي في مورد التصادق في الفرض المذكور ، أو انه لا يندرج في ذلك؟ بل لابد من القول بتعارض الأمر والنهي في مورد التصادق وأعمال قواعد التعارض.

الحق هو الثاني ، لان التلازم بين متعلق الامر ومتعلق النهى في مورد التصادق دائمي ، ويمتنع اختلاف المتلازمين في الحكم إذا كان التلازم دائميا ، لعدم قدرة العبد على امتثالهما ، كما في الضدين. فكما لا يجوز الامر بالقيام والقعود في زمان واحد ، كذلك لا يجوز الامر باستقبال المشرق والنهى عن استدبار المغرب في زمان واحد ، لأنه لا يعقل امتثال كل من الأمر والنهي ، والتكليف الغير القابل للامتثال لا يعقل تشريعه ، وذلك واضح.

فالأقوى اعمال قواعد التعارض ، فيما إذا كان كل من اطلاق الأمر والنهي شموليا وكانت النسبة بينهما العموم من وجه ، سواء كان التركيب في مورد الاجتماع من التركيب الاتحادي ، أو من التركيب الانضمامي ، وبعد هذا لا تصل النوبة إلى اعمال مرجحات باب التزاحم.

إذا عرفت ذلك ، فلنرجع إلى ما كنا فيه ، وهو انه لو لم يكن للمكلف مندوحة وانحصرت الصلاة في الدار الغصبية ، فهذا تارة : يكون بسوء اختياره كمن توسط في الأرض المغصوبة اختيارا وضاق الوقت الا عن الصلاة فيها. وأخرى : يكون لا بسوء اختياره كالمحبوس في الدار الغصبية. فان كان عدم المندوحة لا بسوء اختياره فهذا مما لا اشكال في صحة الصلاة منه في الدار الغصبية وسقوط قيدية لزوم عدم ايقاعها في المكان المغصوب مطلقا ، سواء قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي - كما هو المختار - أو قلنا بامتناعه.

اما بناء على القول بالامتناع : فلان القيدية انما استفيدت من تعلق النهى بالصلاة في الدار الغصبية ، لما عرفت : من أنه بناء على الامتناع يكون مورد التصادق من صغريات النهى في العبادة ، والقيدية المستفادة من الحرمة النفسية تدور مدار الحرمة. وليست كالقيدية المستفادة من النواهي الغيرية ، مثل قوله : لا تصل في غير المأكول ، حيث قلنا ان الظاهر منها هو القيدية المطلقة ، سواء تمكن المكلف منها

ص: 444

أولم يتمكن ، غايته انه مع عدم التمكن من القيد يسقط التكليف عن المقيد ، الا ان يقوم دليل على عدم سقوطه بسقوط القيد ، فيستفاد منه كون القيدية مخصوصة بحال التمكن ، كما ربما يستفاد ذلك من قوله : الصلاة لا تسقط بحال ، ولكن هذا في القيدية المستفادة من النهى أو الامر الغيري. واما القيدية المستفادة من النهى النفسي فهي تابعة للنهي ، وبعد سقوط النهى بالاضطرار تسقط القيدية فقط ، ولا موجب لسقوط المقيد ، هذا.

ولكن للتأمل في ذلك مجال ، لان القيدية وان استفيدت من النهى ، الا انها ليست معلولة للنهي ، بل هي معلولة للملاك الذي أوجب النهى. فالحرمة والقيدية معلولان لعلة ثالثة ، وهو الملاك ، وسقوط أحد المعلولين بالاضطرار لا يوجب سقوط المعلول الآخر.

فالأولى ان يقال : ان القيدية المستفادة من النهى النفسي أيضا تقتضي القيدية المطلقة. وقد ذكرنا شطرا من الكلام في ذلك في رسالة المشكوك. وسيأتي انشاء اللّه البحث عنه أيضا في مسألة النهى في العبادات.

ولكن هذا لا اثر له في باب الصلاة ، لان الظاهر من قوله علیه السلام : الصلاة لا تسقط بحال ، هو كون قيدية كل قيد مقصورة بحال التمكن ، سواء كانت القيدية مستفادة من النهى الغيري ، أو من النهى النفسي. هذا كله بناء على الامتناع. واما بناء على الجواز فسقوط القيدية عند الاضطرار أولى ، من جهة انه بناء على الجواز تكون المسألة من صغريات التزاحم كما عرفت. والقيدية المستفادة من التزاحم تدور مدار وجود المزاحم لا محالة ، وبعد سقوط المزاحم بالاضطرار تنتفي القيدية لا محالة. وليس هناك ملاك اقتضى القيدية في صورة التزاحم ، حتى يقال : انه لا موجب لسقوط القيدية بسقوط المزاحم ، كما كان الامر في النهى النفسي كذلك - على ما عرفت - بل القيدية في باب التزاحم انما تكون معلولة للمزاحم ، وبعد سقوط المزاحم تسقط القيدية لا محالة ، ففساد الصلاة في الدار الغصبية لم يكن لها موجب الا حرمة الغصب ومزاحمة الصلاة للغصب ، بناء على الجواز ، وبعد الاضطرار إلى الغصب لايكون هناك مزاحم حتى يقتضى فساد الصلاة ، فالمحبوس في الدار الغصبية تصح

ص: 445

صلوته.

وتقييد بعض بما إذا لم تستلزم الصلاة تصرفا زائدا لم يظهر لنا وجهه ، فان شاغلية الشخص للمكان لا يختلف بين كونه قائما أو قاعدا أو نائما ، ولا يزيد بذلك أو ينقص ، فليس صلاة المحبوس تصرفا زائدا على ما إذا كان قاعدا ، بل لا يعقل ان يكون تصرفه في حال الصلاة زائدا على تصرفه في حال العقود ، وان كان العرف ربما يعد الصلاة لمكان اشتمالها على الهوى والجلوس والركوع والسجود تصرفا زائدا على ما إذا كان ساكنا ، الا ان لا عبرة بالنظر العرفي ، بعد ما كان تصرفه بحسب الدقة لا يزيد ولا ينقص.

هذا إذا كان محبوسا في الدار المغصوبة. وأما إذا دخل في الدار الغصبية لا عن اختيار ، ولكن كان مختارا في الخروج عنها ، فاللازم هو الصلاة في حال الخروج ماشيا إذا ضاق وقتها ، وليس له المكث فيها للصلاة ، لأنه اختياري محرم ، فتأمل جيدا.

ثم لا يخفى عليك : ان المراد من عدم المندوحة هو عدم المندوحة في الغصب ، بحيث كان غير متمكن من ترك الغصب ، كالمحبوس. واما لو كان متمكنا من ترك الغصب ، ولكن كان غير متمكن من الصلاة الا في المغصوب ، بحيث دار الامر بين ترك الصلاة وبين ترك الغصب ، فهذا خارج عما نحن فيه ، وفي مثل هذا لا بد من ملاحظة الأهمية والمهمية ، ولا يجرى فيه قوله علیه السلام : الصلاة لا تسقط بحال ، لأنه انما يكون بالنسبة إلى القيود الغير المحرمة ذاتا ، فتأمل جيدا.

هذا كله إذا لم يكن عدم المندوحة بسوء الاختيار ، وأما إذا كان ذلك بسوء الاختيار ، كمن توسط أرضا مغصوبة باختياره ، فالكلام فيه تارة : يقع من حيث الحكم التكليفي وان خروجه هل يكون مأمورا به أو منهيا عنه؟ وأخرى : يقع من حيث صحة الصلاة في حال الخروج وعدمها.

اما الجهة الأولى :

فقد وقعت معركة الآراء وتعددت فيها الأقوال.

فقول : بان الخروج واجب ليس الا ولا يعاقب عليه ، وهو المنسوب

ص: 446

إلى الشيخ ( قده ) على ما في التقرير (1).

وقول : بأنه واجب وحرام بمعنى انه مأمور به ومنهي عنه ، وهو المنسوب إلى أبى هاشم ، وحكى أيضا عن المحقق القمي (2).

وقول : بأنه مأمور به مع جريان حكم المعصية عليه ، بمعنى انه يعاقب عليه لا بالنهي الفعلي ، بل بالنهي السابق على الدخول الساقط حال الخروج ، وهو المنسوب إلى صاحب الفصول (3).

وقول : بأنه غير مأمور به ولا منهي عنه بالنهي الفعلي ، ولكن يعاقب عليه ويجرى عليه حكم المعصية مع الزام العقل بالخروج لكونه أقل محذورا ، من دون ان يكون مأمورا به شرعا ، وهو الذي اختاره المحقق الخراساني في كفايته (4).

وقول : بأنه منهي عنه بالنهي الفعلي وليس بمأمور به شرعا.

والأقوى من هذه الأقوال هو القول الأول الذي اختاره الشيخ ( قده ) : فان مبنى سائر الأقوال هو كون المقام من صغريات قاعدة - الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار - وسيتضح فساد ذلك ، وان المقام ليس مندرجا في ذلك.

ولكن لو بنينا على كون المقام من صغريات تلك القاعدة فالحق ما عليه المحقق الخراساني ( قده ) : من أنه ليس بمأمور به شرعا ولا منهيا عنه مع كونه يعاقب عليه ، وذلك لان الامتناع بالاختيار انما لا ينافي الاختيار عقابا ، لا خطابا ، فإنه

ص: 447


1- مطارح الأنظار ، ص 151 قوله قدس سره « والأقوى كونه مأمورا به فقط ولا يكون منهيا عنه ولا يفترق فيه النهى السابق واللاحق »
2- قوانين الأصول ، التنبيه الثاني ص 86 قوله قدس سره « الثالث انه مأمور به ومنهى عنه أيضا ، ويحصل العصيان بالفعل والترك كليهما ، وهو مذهب أبي هاشم وأكثر أفاضل متأخرينا ، بل هو ظاهر الفقهاء وهو الأقرب .. »
3- الفصول ، ص 140 قوله قدس سره « والحق انه مأمور بالخروج مطلقا أو بقصد التخلص ، وليس منهيا عنه حال كونه مأمورا به ، لكنه عاص به بالنظر إلى النهى السابق .. »
4- كفاية الأصول ، الجلد الأول ص 263 « والحق انه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار إليه ، وعصيان له بسوء الاختيار ولا يكاد يكون مأمورا به .. »

يستحيل الخطاب بالممتنع وان كان امتناعه بسوء الاختيار ، حيث إنه لا يصلح الخطاب للداعوية والباعثية ، ومع هذا كيف يصح الخطاب؟.

ودعوى ان الخطاب في مثل هذا يكون تسجيليا ليس فيه بعث حقيقي مما لا نعقلها ، فان الخطاب التسجيلي من المولى الحكيم مما لا يعقل ، بل يتوقف صحة الخطاب من الحكيم على امكان ان يكون داعيا ومحركا لعضلات العبد ، وان لم يكن بمحرك فعلى ، كالخطابات المتوجهة إلى العصاة والكفار. واما الخطاب الذي لا يمكن ان يكون داعيا ومحركا فهو مستحيل من الحكيم. فدعوى : ان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار خطابا ، فاسدة جدا.

ومنه يظهر فساد القول بكون الخروج مأمورا به ومنهيا عنه ، مضافا إلى اقتضاء ذلك للامر بالنقيضين والنهى عنهما كما لا يخفى.

واما القول بكونه مأمورا به فعلا مع جريان حكم المعصية عليه - لمكان النهى السابق الساقط - فهو أيضا مما لا يعقل ، لان اختلاف زمان الأمر والنهي مع تواردهما على شيء واحد بلحاظ حال وجوده مما لا اثر له ، لوضوح ان النهى عن الخروج في الزمان السابق على الدخول انما يكون بلحاظ حال وجود الخروج ، ومع كونه بهذا اللحاظ منهيا عنه كيف يكون مأمورا به؟ وهل هذا الا توارد الأمر والنهي على شيء واحد؟.

ودعوى : انه لا مانع من كون الخروج منهيا عنه قبل الدخول على نحو المعلق - بان يكون النهى فعليا وكان المنهى عنه استقباليا - لا تصحح هذا القول ، فان المعلق انما يقتضى تقدم زمان فعلية الحكم على زمان امتثاله ، ولكن مع استمرار الحكم إلى زمان الامتثال لا مع انقطاعه ، والمفروض من صاحب هذا القول هو سقوط النهى في حال الخروج ، وانما يجرى عليه حكم المعصية.

فظهر : انه بناء على كون المقام من صغريات قاعدة - الامتناع بالاختيار - لا محيص عن القول بان الخروج غير مأمور به ولا منهى عنه في الحال ، وان كان منهيا عنه قبل الدخول. ويجرى على الخروج حكم المعصية من حيث العقاب ، الا ان الشأن في كون المقام مندرجا تحت تلك القاعدة ، فان دعوى ذلك في غاية السقوط لما

ص: 448

فيها : (1).

أولا : ان الخروج غير ممتنع للتمكن من تركه ، والذي امتنع عليه هو مقدار من الكون في المغصوب ، الذي يحصل بالخروج تارة وبتركه أخرى ، ولكن ذلك لا يوجب امتناع الخروج ، لان الاضطرار إلى الجامع لا يلازم الاضطرار إلى ما يحصل به.

والحاصل : ان الاضطرار إلى مقدار من الغصب غير الاضطرار إلى الخروج ، ومحل الكلام هو امتناع الخروج. واما الاضطرار إلى الكون الغصبي في الجملة فسيأتي الكلام فيه ، فدعوى : ان الخروج مما يكون من الامتناع بالاختيار ، واضحة الفساد.

وثانيا : ان مورد قاعدة الامتناع بالاختيار ، هو ان يكون التكليف بالممتنع بالنسبة إلى المقدمة الاعدادية ، التي بتركها حصل الامتناع مطلقا ، بحيث تكون تلك المقدمة من المقدمات الوجودية ، على وجه لايكون الخطاب مشروطا بها ولا الملاك ، كالسير بالنسبة إلى الحج ، فان الحج وان كان مشروطا بالزمان من يوم عرفة امتثالا وخطابا - على ما هو الحق عندنا من امتناع الواجب المعلق - الا انه غير مشروط بالنسبة إلى السير. ومن هنا قلنا : ان السير واجب لا بالوجوب المقدمي الآتي من قبل وجوب الحج ، بل بالوجوب الطريقي الناشئ عن ملاك وجوب الحج ، على وجه يكون من قبيل متمم الجعل ، حيث إنه لا يمكن للآمر استيفاء ملاك الحج الا بأمرين : امر بالحج ، وامر بالسير إليه. وعلى كل حال ، ليس السير مقدمة وجوبية للحج ، بحيث يكون الملاك والخطاب مشروطا به ، فتركه حينئذ يوجب امتناع الحج عليه في يوم عرفة ، ويكون من الامتناع بالاختيار.

وأما إذا كان الواجب بالنسبة إلى تلك المقدمة الاعدادية مشروطا خطابا

ص: 449


1- ولا يخفى عليك : ان صاحب الكفاية لم يجعل الخروج مما امتنع على المكلف ، وانما يكون الخروج منهيا عنه قبل الدخول ، وبعد الدخول لمكان الزام العقل به لا يعقل بقاء النهى ، بل لا بد من سقوطه ، وان يعاقب عليه. فالمهم في رد مقالة الكفاية ، هو اثبات ان الخروج لم يكن منهيا عنه قبل الدخول فتأمل - منه

وملاكا ، فترك تلك المقدمة الاعدادية وان كان يوجب امتناع الواجب ، الا انه ليس من صغريات تلك القاعدة. مثلا لو فرض ، ان السير كان مقدمة وجوبية للحج ، بحيث كان الحج واجبا إذا كان الشخص في الحرم واتفق وقوع السير منه ، فترك مثل هذا السير لا يوجب العقاب على ترك الحج ، وان امتنع عليه. وفي المقام يكون الدخول في الدار الغصبية من المقدمات التي يتوقف عليها أصل الخطاب بالخروج ، إذ لا يعقل الخروج الا بالدخول ، فلا يعقل النهى من الخروج الا مشروطا بالدخول ، ولا يتحقق للخروج ملاك النهى الا بعد الدخول ، فهو مشروط بالدخول خطابا وملاكا ، والمفروض انه بعد الدخول ليس الخروج منهيا عنه حسب تسليم الخصم. فمتى كان الخروج منهيا عنه؟ حتى يندرج تحت تلك القاعدة.

وبعبارة أخرى : الدخول يكون موضوعا للخروج ، حيث إنه لا موضوع للخروج بدون الدخول ، فكيف يعقل النهى عنه قبل الدخول؟ حتى يندرج تحت قاعدة الامتناع بالاختيار.

وبتقريب آخر : ( وان شئت فاجعله وجها ثالثا لفساد كون المقام من صغريات تلك القاعدة ) وهو ان امتناع الخروج انما يكون بترك الدخول لا بفعل الدخول ، فهو عكس قاعدة - الامتناع بالاختيار - لان مورد تلك القاعدة هو ما إذا كان مخالفة الامر المقدمي يوجب امتناع ذي المقدمة ، كترك السير في مثال الحج. واما في المقام ، فامتثال النهى المقدمي وترك الدخول يوجب امتناع الخروج لعدم تحقق موضوعه ، لا فعل الدخول فان فعل الدخول موجب للتمكن من الخروج ، لا انه موجب لامتناعه.

وثالثا أو رابعا : انه يعتبر في مورد القاعدة ، ان يكون الفعل الممتنع عليه بالاختيار حال امتناعه غير محكوم بحكم يضاد حكمه السابق على الامتناع ، بل لا بد ان لايكون محكوما بحكم ، أولو كان محكوما بحكم لكان هو الحكم السابق على الامتناع ، كما يدعيه القائل بان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار خطابا وملاكا. مثلا الحج حال امتناعه على الشخص بترك المسير ، اما غير محكوم بحكم أصلا ، كما هو مقالة من يقول : ان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ملاكا فقط ،

ص: 450

أو محكوما بحكم الوجوب كما هو مقالة من يقول : انه لا ينافي الاختيار خطابا وملاكا.

واما لو فرض ان الفعل الممتنع حال امتناعه محكوم بحكم يضاد حكمه السابق على الامتناع فهو لايكون من صغريات تلك القاعدة ، كما في المقام ، حيث إن الخروج عن الدار الغصبية مما يحكم بلزومه العقل. وهذا في الجملة مما لا اشكال فيه ، سواء قلنا : انه حكمه من باب اختيار أقل المحذورين ، كما قيل : أو قلنا : انه من باب وجوب رد المغصوب ، كما هو الأقوى على ما سيأتي. وعلى كل حال : يكون الخروج حال وقوعه مما يلزم به العقل ، ومعه كيف يندرج في قاعدة - الامتناع بالاختيار -.

هذا كله إذا كانت الدعوى ان الخروج مما يكون ممتنعا بالاختيار.

وأما إذا كانت الدعوى ان مقدارا من الكون الغصبي ممتنع ، فهي حق ، إذ لا محيص من مقدار من الكون الغصبي ، سواء مكث في الدار الغصبية أو خرج ، الا ان الكون الغصبي المتحقق في ضمن الخروج لايكون منهيا عنه بوجه من الوجوه وفي زمان من الأزمنة ، بل هو يكون واجبا في جميع الحالات ، لوجوب رد المغصوب إلى صاحبه بالضرورة من الدين. وكونه هو الذي أوقع نفسه في هذا التصرف الغصبي بسوء اختياره - حيث دخل في الدار عن اختيار - لا يوجب كون الخروج حال وقوعه مبغوضا ، كمن شرب دواء مهلكا وانحصر حفظ نفسه بشرب الخمر ، فان شرب الخمر في هذا الحال يكون واجبا عقلا وشرعا ، لتوقف حفظ النفس عليه ، وان كان بسوء اختياره أوقع نفسه في شرب الخمر. لمكان شربه الدواء المهلك. فالعقاب ( لو كان ) انما يكون في شرب ذلك الدواء لو كان شرب الخمر من الأمور التي لم يرد الشارع وقوعها في الخارج لما فيه من المفسدة ، فإنه ح يحرم على الشخص ادخال نفسه في موضوع يوجب شرب الخمر.

وليس ذلك كشرب المرأة الدواء الموجب للحيض المستلزم لعدم أمرها بالصلاة ، حيث إنه يمكن القول بجواز شربها للدواء ، إذ لم يعلم من مذاق الشارع مبغوضية ايقاع الشخص نفسه في موضوع يوجب عدم تكليفه بالصلاة. وهذا بخلاف

ص: 451

شرب الخمر ، فان ادخال الشخص نفسه في موضوع يوجب تكليف بشرب الخمر مبغوض للشارع ، كما أن ادخال الشخص نفسه في موضوع يوجب تكليفه بالتصرف في مال الغير مبغوض للشارع ، فالدخول في الدار الغصبية يكون مبغوضا ومحرما من جهتين : من جهة كونه هو بنفسه تصرفا في ملك الغير ، ومن جهة استلزامه للتصرف الخروجي ، بخلاف مثل شرب الدواء الموجب لشرب الخمر فإنه محرم من جهة استلزامه شرب الخمر ، وليس له جهة أخرى إذا كان الدواء في حد نفسه مما يجوز شربه.

والحاصل : انه ينبغي ان يقع التكلم في الدخول من جهة ان حرمته تكون من جهتين ، لا في الخروج فان الخروج واجب على كل حال. وليس وجوبه من باب حكم العقل باختيار أقل المحذورين ، فان مناط حكم العقل بلزوم الخروج عن ملك الغير في صورة ما إذا كان الدخول فيه بالاختيار ، وفي صورة ما إذا كان الدخول فيه بلا اختيار امر واحد ، وهو لزوم فراغ ملك الغير ورده إلى صاحبه ، الذي يحصل بالتخلية في غير المنقول. وليس حكم العقل بلزوم الخروج فيما إذا كان الدخول بالاختيار بمناط يغاير مناط حكمه بلزوم الخروج فيما إذا كان الدخول بغير الاختيار - حيث إنه في الأول يكون من باب أقل المحذورين ، وفي الثاني يكون من باب رد المغصوب ورفع اليد عنه - حتى يكون الثاني واجبا شرعا وعقلا دون الأول ، بل مناط حكم العقل معلوم عندنا مطرد في جميع اقسام الغصب من المنقول وغيره ، وانه في الجميع يجب رد المغصوب إلى أهله شرعا وعقلا ، غايته انه في المنقول يكون الرد بالقبض ، وفي غيره يكون برفع اليد والتخلية.

فظهر : انه لا محيص عن القول بان الخروج عن الدار الغصبية فيما إذا توسطها بالاختيار مأمور به ليس الا ، ولا يجرى عليه حكم المعصية. هذا تمام الكلام في الحكم التكليفي.

واما الحكم الوضعي :

وهو صحة الصلاة في حال الخروج عند ضيق الوقت ، فمجمل الكلام فيه : هو انه ان قلنا بان الخروج مأمور به ولا يجرى عليه حكم المعصية ، فلا اشكال في

ص: 452

صحة الصلاة في حال الخروج وكونها مأمورا بها ، نعم لا بد من ملاحظة عدم وقوع تصرف زائد على الخروج ، فيؤمى للركوع والسجود.

واما ان قلنا بجريان حكم المعصية عليه ، فبناء على جواز اجتماع الأمر والنهي يقع التزاحم بين المأمور به والمنهى عنه ، حيث إن القيام في حال المشي يكون واجبا من جهة كونه من اجزاء الصلاة ، والساقط هو الاستقرار في حال القيام لا أصل القيام ، ولمكان انه يقتضى اشغال ملك الغير يكون منهيا عنه ، ولو بالنهي السابق الساقط ، حيث إن الكلام فيما إذا كان الخروج معصية حكمية ، فيقع التزاحم بين الامر بالقيام وبين النهى عن اشغال المكان حاله ، ولمكان - ان الصلاة لا تسقط بحال - يمكن ان يقال بوجوب الصلاة وسقوط قيدية القيام ، فتكون الصلاة في مثل هذا خالية عن القيام ، ان نقول ببقاء القيام على جزئيته للصلاة ويكون مأمورا به وان كان من جهة شاغليته لمكان الغير معصية ، أو نقول بأنه لا يجرى عليه حكم المعصية في مثل هذا الفرض لأهمية الصلاة ، فتأمل.

واما بناء على الامتناع ، فيكون نفس هذا القيام بما انه قيام معصية ومبغوضا للشارع ، ومعه ينبغي ان نقول بعدم صحة الصلاة ، وان كان يمكن ان يقال بسقوط قيدية القيام ، لمكان ان الصلاة لا تسقط بحال - فتأمل في المقام ، فإنه بعد لا يخلو عن اشكال ، ويحتاج إلى زيادة بيان. وشيخنا الأستاذ مد ظله لم يستوف الكلام في الحكم الوضعي على ما ينبغي. ونسئل اللّه حسن العاقبة والتوفيق لما يحب ويرضى. وقد وقع الفراغ من تسويد هذه الأوراق المتعلقة بمبحث اجتماع الأمر والنهي في ليلة الثلثا غرة جمادى الأولى سنة 1347.

ص: 453

فصل في اقتضاء النهى عن العبادة أو المعاملة للفساد

اشارة

وتنقيح البحث عن ذلك يستدعى تقديم أمور :

الامر الأول :

قد أطالوا البحث في الفرق بين هذه المسألة ومسألة اجتماع الأمر والنهي مع أنه ما كان ينبغي إطالة البحث عن ذلك ، فان الفرق بين المسئلتين جلى لا يكاد يخفى ، لما عرفت : من أن موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي هو ما إذا تعلق الامر بعنوان والنهى بعنوان آخر وكانت النسبة بين العنوانين العموم من وجه ، والبحث فيه يكون عن اتحاد المتعلقين وعدم اتحادهما. والموضوع في هذه المسألة هو ما إذا تعلق النهى ببعض ما تعلق الامر به على وجه تكون النسبة بين المتعلقين العموم المطلق ، ويكون البحث فيها عن اقتضاء النهى للفساد. فموضوع كل من المسئلتين مع جهة البحث فيه يفترق عن موضوع الأخرى وعن جهة البحث فيها.

نعم : من لم يعتبر في موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي كون النسبة العموم من وجه انحصر الفرق بين المسئلتين عنده في جهة البحث ، لا في الموضوع ، الا انه قد تقدم فساد ذلك وانه لابد في مسألة اجتماع الأمر والنهي من كون النسبة هي العموم من وجه.

نعم : بناء على القول بالامتناع وتقديم جانب النهى تندرج مسألة الاجتماع في صغرى مسألة النهى عن العبادة وتكون من افرادها ، الا ان ذلك لا يوجب اتحاد المسئلتين.

ثم انه لا اشكال في كون المسألة من مسائل علم الأصول وليست من المبادئ ، فإنها تقع كبرى في قياس الاستنباط ابتداء. وليست كمسألة اجتماع

ص: 454

الأمر والنهي ، حيث تقدم انها تكون من مبادئ مسألة التعارض والتزاحم وليست هي بنفسها من المسائل. واما مسألة النهى عن العبادة والمعاملة فهي بنفسها من المسائل ، ويستنتج منها فساد العبادة أو المعاملة.

وبذلك يظهر فرق آخر بين المسئلتين وذلك واضح ، كوضوح ان المسألة ليست من مباحث الألفاظ ، بل البحث فيها انما يكون عن الملازمات العقلية للأحكام ، خصوصا بناء على ما هو التحقيق عندنا من أن الفساد يدور مدار عدم الامر والملاك معا ، ولا يكفي فيه عدم الامر كما حكى عن الجواهر ، فإنه لا دخل للفظ بالملاك ، بل الملاك امر واقعي تكويني لا بد من استكشاف عدمه في العبادة من مقدمات ، على ما سيأتي بيانها. والنهى بنفسه لا يكفي في الفساد مع قطع النظر عن كونه كاشفا عن عدم الملاك ، سواء كان مدلول اللفظ أو لم يكن ، كالنهي المستفاد من الاجماع والعقل.

نعم : لو قلنا بأنه يكفي في الفساد عدم الامر ولا يحتاج إلى عدم الملاك كان النهى بنفسه دالا على عدم الامر ، ومع ذلك لا دخل للفظ ، فان النهى الواقعي يدل على عدم الامر ، سواء كان الدال على النهى لفظا أو عقلا أو اجماعا ، فلا موجب لعد المسألة من مباحث الألفاظ. وكان حق الاعلام ان يعقدوا بابا مستقلا للبحث عن الملازمات العقلية ، ويبحثوا فيه عن هذه المسألة وما شابهها مما يكون البحث فيه عن الملازمات العقلية للأحكام الشرعية ، كمسألة مقدمة الواجب ، ومسألة الضد. الا انهم لما لم يعقدوا لذلك بابا مستقلا ادرجوا هذه المسائل في مباحث الألفاظ.

الامر الثاني :

ينبغي خروج النهى التنزيهي عن حريم النزاع ، فإنه قد تقدم في مسألة الأمر والنهي انه لا يقتضى الفساد ، لان الرخصة الوضعية بالنسبة إلى الاتيان بأي فرد ( المستفادة من تعلق الامر بالطبيعة ) لا تنافى النهى التنزيهي المتضمن للرخصة أيضا ، على ما عرفت سابقا.

نعم : لو تعلق النهى التنزيهي بذات ما يكون عبادة لكان لدعوى اقتضائه

ص: 455

الفساد مجال ، من جهة ان ما يكون مرجوحا ذاتا لا يصلح ان يتقرب به ، الا ان النواهي التنزيهية الواردة في الشريعة المتعلقة بالعبادات لم تتعلق بذات العبادة على وجه يتحد متعلق الأمر والنهي ، على ما تقدم تفصيله. فالقول بان النهى التنزيهي كالنهي التحريمي داخل في حريم اقتضاء النهى للفساد ضعيف جدا.

ثم انه لا اشكال في دخول النهى النفسي في حريم النزاع ، وهل يختص النزاع به أو يعم النهى الغيري أيضا؟ والذي ينبغي ان يقال : هو ان النهى الغيري المسوق لبيان المعانعية كالنهي عن الصلاة في غير المأكول خارج عن مورد النزاع ، لأنه بنفسه يقتضى الفساد ، حيث يدل على دخل عدم ما تعلق النهى به في حقيقة المأمور به ، وانتفاء الشيء بوجود مانعه ضروري غير قابل للنزاع فيه.

واما النهى الغيري التبعي المستفاد من الامر بالشيء - بناء على اقتضائه النهى عن ضده - وأمثال ذلك من النواهي التبعية المتعلقة بالعبادة ، ففي دخوله في محل النزاع كلام ، من جهة كونه غير كاشف عن عدم الملاك ، بل غايته انه يوجب عدم الامر مع قطع النظر عن الامر الترتبي ، ومع عدم كشفه عن عدم الملاك لا يوجب الفساد ، بناء على كفاية الملاك في صحة العبادة ، وسيأتي البحث في ذلك.

فظهر : ان المراد من النهى في عنوان النزاع هو النهى التحريمي النفسي ، أو الغيري التبعي ، على ما فيه من الكلام.

واما العبادة : فالمراد بها في المقام معناها الأخص ، أي الوظيفة التي شرعت لأجل ان يتعبد بها ويتقرب بها منه تعالى.

والمراد من المعاملة : هي الانشائيات الأعم من العقود والايقاعات ، لا خصوص العقود ، ولا المعاملة بالمعنى الأعم الشاملة لمثل احياء الموات ، والحدود ، والمواريث ، وغير ذلك من الموضوعات لآثار شرعية ، فان النهى التحريمي فيها لا يوجب الفساد ، فان النهى عن الاحياء بالآلة الغصبية مثلا لا يوجب فساد الاحياء ، وذلك واضح. الا إذا كان النهى ارشاد إلى عدم كون المحياة ملكا للمحيى ، وهذا خارج عما نحن فيه.

واما المراد من الفساد : فهو عبارة عن عدم ترتب الأثر المطلوب من الشئ

ص: 456

عليه. ومن هنا كان التقابل بين الصحة والفساد تقابل العدم والملكة لا التضاد ، على ما سيأتي بيانه.

الامر الثالث :

للصحة اطلاقان : اطلاق في مقابل العيب ، واطلاق في مقابل الفساد ، كما يقال : ان هذا الجوز صحيح ، أي غير معيوب ، وأخرى يقال : صحيح ، أي غير فاسد. والمراد من الصحة في المقام هو ما يقابل الفساد. وحيث كانت الصحة والفساد من المحمولات المترتبة على الماهيات بعد وجودها ، فلا محالة لايكون التقابل بينهما تقابل السلب والايجاب ، وحيث لم يكن الفساد أمرا وجوديا فلا محالة لايكون التقابل بينهما تقابل التضاد ، وانحصر ان يكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، فيكون المراد من الصحيح هو ما يترتب عليه الأثر المطلوب منه ، والفاسد ما لم يترتب عليه ذلك الأثر. وحينئذ لا بد ان يكون المورد قابلا لان يتصف بالصحة والفساد ، فيحمل عليه الصحيح تارة ، والفساد أخرى. فالبسائط لا تتصف بالصحة والفساد ، بل تتصف بالوجود والعدم ، إذ فساد الشيء انما هو باعتبار عدم ترتب الأثر ، وذلك انما يكون باعتبار فقدانه بعض ما اعتبر فيه : من جزء ، أو شرط. وهذا انما يتصور في المركبات. واما البسائط ، فهي ان كانت موجودة فلامحة تكون صحيحه ، إذ ليس لها جزء أو شرط ، حتى يتصور فقدانه. وان لم تكن موجودة فلا تتصف ، لا بالصحة ، ولا بالفساد ، لما عرفت : من أن الصحة والفساد من المحمولات المترتبة على وجود الشيء.

ثم انه ليس كل مركب ذي حكم شرعي مما يتصف بالصحة والفساد ، فان موضوعات التكاليف مع كونها مركبة لا تتصف بالصحة والفساد ، فمثل قوله : العاقل البالغ المستطيع يحج ، مع كون الموضوع فيه مركبا من العقل والبلوغ والاستطاعة ، لا يتصف بالصحة والفساد ، بل بالوجود والعدم ، كالبسائط. والذي يتصف بالصحة والفساد هي متعلقات التكاليف وما يلحق بها من الأسباب كالعقد المركب من الايجاب والقبول ، والايقاع المشتمل على الشرائط المعتبرة فيه ، حيث إن المتعلق أو العقد يمكن ان يكون صحيحا باعتبار انطباقه على ما يترتب عليه الأثر ، ويمكن ان يكون فاسدا باعتبار عدم الانطباق. كما أن اجزاء المتعلق والعقد

ص: 457

أيضا تتصف بالصحة والفساد باعتبار اثرها الاعدادي ، ولا يلزم ان يكون الشيء صحيحا باعتبار كونه علة تامة للأثر المطلوب منه والمرغوب فيه ، بل يكفي ان يكون على وجه الاعداد ، كما هو الشأن في جميع متعلقات التكاليف ، حيث تكون من المعدات للمصالح التي من اجلها امر بها ، وليست هي علة تامة لذلك ، بحيث تكون المصالح من قبيل المسببات التوليدية لتلك المتعلقات ، والا كانت نفس الملاكات متعلقة للتكليف ، وكان فعل المكلف من قبيل المحصل والسبب لذلك ، وذلك يكون بمراحل عن الواقع وان توهمه بعض الاعلام ، وقد تقدم منا مرارا فساد التوهم.

فظهر : انه ليس المراد من الصحيح هو ما يكون علة تامة لترتب الأثر الذي لأجله صار متعلقا للتكليف ، بل يكفي ان يكون معدا لذلك. وان شئت قلت : ان المراد من الصحيح هو كون المأتى به في مقام الامتثال والخروج من عهدة التكليف مطابقا لما تعلق التكليف أو الوضع به ، لوضوح ان الذي يتصف بالصحة والفساد هو ما يوجد في الخارج من الافراد ، لا العنوان الكلي المتعلق للتكليف أو الوضع ، فان ذلك لا يتصف بالصحة والفساد ، واما المتصف بهما هو المأتى به في وادى الفراغ ، وما يلحق بذلك مما يأتي به في وادى الانشاء.

وبذلك يندفع ما ربما يتوهم : انه بعد ما كان الصحيح عبارة عما ترتب الأثر والملاك عليه في باب العبادات ، فكيف قلتم بكون الأثر والملاك لم يتعلق به التكليف وكان متعلق التكليف هو الاجزاء والشرائط؟ فان ذلك ينافي لحاظ الصحة باعتبار ترتب الأثر.

وجه الدفع : هو ان لحاظ الصحة بهذا الاعتبار لا ينافي خروج الأثر عن دائرة التكليف ، بل يكفي في ذلك كون الأثر حكمة التشريع ، فإنه بعد ما كان الصحيح عبارة عن كون المأتى به مطابقا لما تعلق التكليف به أو الوضع به ، فلا فرق بين كون الأثر مما تعلق التكليف به ، أو لم يتعلق.

نعم يبقى في المقام اشكال : وهو ان ألفاظ المعاملات انما تكون موضوعة لنفس المسببات ، لا للأسباب ، فالبيع اسم للنقل ، والنكاح اسم للازدواج ، وهكذا سائر ألفاظ المعاملات. ومن المعلوم : ان المسببات تكون بسائط لا تتصف بالصحة

ص: 458

والفساد ، بل بالوجود والعدم ، فان النقل مثلا اما ان يكون حاصلا واما ان لايكون ، ولا معنى لحصوله فاسدا. وحينئذ ينبغي خروج المعاملات عن حريم النزاع ، لان الذي يتصف بالصحة والفساد هو الأسباب ، حيث تكون مركبة من الايجاب والقبول ، وهذا ليس بيعا ، والذي يكون بيعا لا يتصف بالصحة والفساد ، هذا.

ولكن يمكن ان يدفع ، بما تقدم منا في الصحيح والأعم عند دفع اشكال التمسك بالاطلاقات لنفى شرطية ما شك في المعاملات بناء على كونها موضوعة للمسببات.

وحاصل ما ذكرناه في ذلك المقام ، هو ان العقد المؤلف من الايجاب والقبول في باب المعاملات ليس من قبيل العلل والأسباب ويكون النقل والانتقال في البيع معلولا له ، بل الايجاب والقبول انما يكون آلة لحصول النقل ، ويكون النقل هو الصادر عن المنشى ابتداء ، غايته انه لا بنفسه بل بآلته ، ويكون قوله ( بعت ) ايجادا للنقل بنفس القول ، لا ان القول علة لحصول النقل ، بحيث يكون هناك أمران ممتازان ، بل ليس هناك الا شيء واحد وفعل فارد صادر عن المنشى ، ويكون ذلك الفعل بما انه فعل صادر عن الشخص بمعناه المصدري ايجابا للبيع والنقل ، وبمعناه الاسم المصدري يكون بيعا ونقلا. ومن المعلوم : انه لا فرق بين المصدر واسم المصدر الا بالاعتبار ، فهذا القول ( ايجاب ) باعتبار صدوره وايجاده عن الشخص ، و ( نقل ) باعتبار انه اثر ذلك الصدور والايجاد. فحصول النقل من قوله ( بعت ) نظير حصول الكتابة من مد القلم على القرطاس ، وحصول قطع الخشب من اعمال النجار المنشار ، واشتراك الكل في كونها من الايجاد بالآلة. غايته ان القلم والمنشار آلة تكوينية ، بخلاف قوله ( بعت ) وحينئذ يكون المتصف بالصحة والفساد هو نفس الايجاب والقبول بما انه آلة لحصول النقل وبذلك يدخل في حريم النزاع في المقام. كما أنه بذلك يظهر وجه التمسك بالاطلاقات ، فراجع ما ذكرناه (1) في مبحث

ص: 459


1- راجع الجزء الأول من الفوائد ، بحث الصحيح والأعم ص 79 - 80. « واما المعاملات .. »

الصحيح والأعم.

فظهر : ان المعاملات تتصف بالصحة والفساد ، وان قلنا بكونها أسماء للمسببات.

ثم انه ربما يتوهم : ان الصحة والفساد في المعاملات من الأحكام الوضعية المتأصلة بالجعل ، بخلاف الصحة والفساد في العبادات ، فإنهما منتزعان عن مطابقة المأتى به للمأمور به وعدم المطابقة. وربما يقال : بأنهما مطلقا من المنتزعات الغير المتأصلة بالجعل في العبادات والمعاملات. وقد يقال : أيضا بأنهما مطلقا من المتأصلات في الجعل ، كالملكية والزوجية.

والأقوى : كونهما من الأمور الانتزاعية مطلقا في العبادات والمعاملات ، كالسببية والشرطية والجزئية والعانعية ، وانما المجعول هو منشأ الانتزاع. وهذا أيضا ليس على اطلاقه ، بل ربما يكون منشأ الانتزاع أيضا غير مجعول شرعي.

وتفصيل ذلك : هو ان الاتيان بكل من متعلق الامر الواقعي الأولى ، والواقعي الاضطراري الثانوي ، والظاهري ، يكون مجزيا كل عن امره عقلا ، وينطبق عليه تكوينا ، ومن هذا الانطباق ينتزع وصف الصحة وكون ما اتى به صحيحا ، فالصحة في مثل هذا تنتزع عن كون المأتى به منطبقا على ما هو المأمور به ، حسب اختلاف المأمور به من كونه : واقعيا أوليا ، أو ثانويا ، أو ظاهريا. وكون المأتى به منطبقا على المأمور به ليس أمرا مجعولا شرعيا ، وانما المجعول الشرعي هو تعلق الامر بما ينطبق على المأتى به ، واما كون المأتى به منطبقا عليه أو غير منطبق فهو يدور مدار واقعه ، والصحة والفساد تنتزع من نفس الانطباق وعدمه. فلا الصحة والفساد في مثل هذا مجعولان شرعيان ، ولا منشأ الانتزاع مجعول شرعي.

هذا إذا كان الشيء منطبقا على المأمور به أو غير منطبق. وأما إذا شك في الانطباق وعدم الانطباق ، فللشارع حينئذ الحكم بالبناء على الانطباق ، كما هو شأن الأصول الجارية في وادى الفراغ ، ومن حكم الشارع بالانطباق ينتزع وصف الصحة ، فيكون منشأ الانتزاع في مثل هذا مجعولا شرعيا ، حيث إن الشارع حكم بكون المأتى به منطبقا على المأمور به حسب ما أدى إليه الأصل. ولكن هذه الصحة

ص: 460

الظاهرية المنتزعة عن حكم الشارع بانطباق المأتى به على المأمور به انما تكون إذا لم ينكشف الخلاف ، وأما إذا انكشف الخلاف وتبين عدم الانطباق فالصحة تنعدم ، بناء على ما هو الحق من عدم اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء.

نعم : للشارع أيضا بعد انكشاف الخلاف الحكم بالصحة ، ومرجع الصحة في مثل هذا إلى الاكتفاء بما اتى به امتثالا للواقع عن الواقع وهذه ترجع إلى الصحة الواقعية بوجه.

وعلى كل حال : الصحة والفساد أينما كانا فإنما يكونان من الانتزاعيات.

ودعوى انها في المعاملات من الاحكام المجعولة فاسدة ، فان المجعول في باب المعاملات هو ترتب الأثر عند تحقق سببه ، وهذا لا يتصف بالصحة والفساد ، بل المتصف بهما هو الفرد المأتى به من المعاملة. وهذا الفرد انما يتصف بالصحة عند انطباقه على ما يكون مؤثرا ، وقد عرفت : ان الانطباق يكون أمرا واقعيا ومنه ينتزع الصحة ، فحال الصحة في المعاملات حالها في العبادات.

الامر الرابع :

البحث عن اقتضاء النهى للفساد لا يتوقف على ثبوت مقتضى الصحة للمنهى عنه لولا النهى ، بحيث كان صحيحا لولا النهى لمكان اندراجه تحت اطلاق دليل العبادة أو المعاملة ، كما يظهر من المحقق القمي (رحمه اللّه) بل يصح البحث عن اقتضاء النهى للفساد ولو كان المنهى عنه لولا النهى مشكوك الصحة والفساد من جهة الشبهة الحكمية أو المفهومية ، وكان الأصل العملي فيه يقتضى الفساد. مثلا لو كان ( صوم الوصال ) أو ( المقامرة ) مشكوك الصحة والفساد من جهة : عدم الدليل ، أو تعارض الدليلين ، أو غير ذلك من أسباب الشك ، فلا اشكال في أن الأصل عند الشك في ذلك هو الفساد ، لأصالة عدم مشروعية صوم الوصال ، وأصالة عدم ترتب الأثر من النقل والانتقال في المقامرة ، إذا فرض ان أوفوا بالعقود لا يعم المقامرة ، وعمومات الصوم لا تشمل صوم الوصال. ولكن مع ذلك لو تعلق النهى عن صوم الوصال أو المعاملة القمارية ، كان للبحث عن اقتضاء مثل هذا النهى للفساد مجال.

ص: 461

ولا يتوهم : انه لا معنى للبحث عن ذلك بعد ما كان مقتضى الأصل الفساد ، لأنه بناء على اقتضاء النهى للفساد يكون الفساد مستندا إلى الدليل الاجتهادي الحاكم على الأصل العملي ، وان كان موافقا له في المؤدى كما حقق في محله. فدعوى ان مورد البحث يختص فيما إذا كان هناك مقتض للصحة مما لا شاهد عليها.

الامر الخامس :

لا أصل في نفس الجهة المبحوث عنها لو شك فيها ، سواء كان البحث عن اقتضاء النهى الفساد من حيث الدلالة اللفظية ، أو كان من حيث الملازمات العقلية ، إذا لملازمة العقلية لو كانت فهي أزلية فليس لها حالة سابقة ، فلا أصل يحرز الملازمة وعدم الملازمة ، وكذلك لا أصل لنا يعين دلالة اللفظ وعدم دلالته لو شك في الدلالة ، وذلك واضح. هذا بالنسبة إلى المسألة الأصولية المبحوث عنها في المقام.

واما بالنسبة إلى المسألة الفرعية المستنتجة عن المسألة الأصولية ، ففي العبادات يرجع الشك فيها إلى الشك في المانعية ، لأن الشك في اقتضاء النهى للفساد يستتبع الشك في مانعية المنهى عنه عن العبادة ، ويندرج في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، ويكون المرجع هو البراءة فيها أو الاشتغال ، كل (1) على مسلكه.

هذا إذا كان هناك امر بالعبادة مع قطع النظر عن النهى. واما لو لم يكن امر بها فالشك في اقتضاء النهى للفساد يوجب الشك في مشروعية العبادة ، والأصل يقتضى عدم المشروعية ، فتأمل.

واما في المعاملات : فالشك في اقتضاء النهى للفساد يستتبع الشك في

ص: 462


1- وقد أطلق شيخنا الأستاذ مد ظله القول باندراج المقام في مسألة دوران الامر بين الأقل والأكثر ، ولكن ينبغي التفصيل ، بين ما إذا تعلق النهى بنفس العبادة ، وبين ما إذا تعلق بجزئها أو شرطها ، فإنه لو تعلق بنفس العبادة لا يرجع الشك فيها إلى الشك في المانعية ، لاقتضاء النهى حرمة العبادة على كل حال وان شك في اقتضائه الفساد ، ومع حرمة العبادة لا يمكن تصحيحها ، إذ ليس هناك شيء وراء العبادة تعلق النهى به يشك في مانعية ، حتى ينفى بالأصل ، فتأمل جيدا. منه

صحة المعاملة ، والأصل يقتضى عدم الصحة ، لأصالة عدم ترتب الأثر عليها ، الا إذا كان هناك اطلاق أو عموم يقتضى الصحة وترتب الأثر فتدبر جيدا.

وإذ تمهدت هذه المقدمات ، فالكلام في اقتضاء النهى للفساد يقع في مقامين :

المقام الأول :

في اقتضاء النهى عن العبادة للفساد.

وتعلق النهى عن العبادة يتصور على وجوه : إذ قد تكون العبادة منهيا عنها لذاتها ، وقد تكون منهيا عنها لجزئها على وجه يكون الجزء واسطة في الثبوت ، وقد تكون منهيا عنها لشرطها كذلك ، وقد تكون لوصفها الخارج كذلك. وقد يكون نفس الجزء ، أو الشرط ، أو الوصف منهيا عنه ، وكان النهى عن العبادة المشتملة على ذلك الجزء ، أو الشرط ، أو الوصف ، بالعرض والمجاز.

وقبل ذكر حكم هذه الأقسام ، لا بأس بالإشارة إلى ما ربما يستشكل في تعلق النهى بالعبادة.

فمنها : انه كيف يعقل ان تكون العبادة منهيا عنها؟ مع أن العبادة ما توجب القرب إليه تعالى ، ولا يعقل النهى عن ذلك.

ومنها : ان النهى عن العبادة لا يجتمع مع الامر بها ، ومع عدم الامر بها تكون العبادة فاسدة لعدم مشروعيتها ، فلا تصل النوبة إلى اقتضاء النهى للفساد ، بل الفساد يستند إلى أسبق علله ، وهو عدم المشروعية.

ومنها : انه لا يمكن النهى عن العبادة لذاتها ، حيث إن ذات العبادة بما انها ذات لم يتعلق بها النهى ، بل لا بد ان تكون هناك خصوصية أوجبت النهى ، كصلاة الحايض ، وصوم العيدين ، وأمثال ذلك مما كانت نفس العبادة منهيا عنها. فجعل النهى عن العبادة لذاتها قسيما للنهي عن العبادة لوصفها لا يستقيم ، بل دائما يكون النهى عن العبادة لوصفها ، ولو كان ذلك مثل الحيض في الحائض والزمان في العيدين ، هذا. ولكن لا يخفى عليك ضعف جميع ذلك.

اما الأول :

فلانه ، ليس المراد من تعلق النهى بالعبادة الفعلية ، بل المراد تعلق النهى بما

ص: 463

كان من سنخ الوظائف التي يتعبد بها ، بحيث لو لم يتعلق بها نهى وتعلق بها امر كان أمرها أمرا عباديا لا يسقط الا بالتعبد به والتقرب إليه تعالى ، من غير فرق بين ما كان ذاتا عبادة ، كالسجود لله - لو فرض تعلق النهى به - وما لم يكن كذلك ، كالصوم والصلاة ، فان السجود لله بوصف كونه مما يتقرب به إليه تعالى فعلا لا يعقل تعلق النهى به ، بل تعلق النهى به موجب لعدم كونه مقربا ، وان كان مقربا لولا النهى ، كما هو الحال في مثل الصلاة والصوم.

واما الثاني :

فلانه قد تقدم ان الفساد لولا النهى كان من جهة أصالة عدم المشروعية ، واما لو تعلق النهى بها كان الفساد من جهة قيام الدليل الاجتهادي عليه ، والأصل لا يقاوم الدليل ، مضافا إلى أنه ربما تكون العبادة مندرجة تحت اطلاق ما دل على مشروعيتها في نوعها ، فيكون الفساد مستندا إلى النهى ليس الا ، كما لا يخفى.

واما الثالث :

فلان ذلك مناقشة مثالية. والمقصود : ان النهى قد يتعلق بذات العبادة لأجل خصوصية نوعية قائمة بذاتها ، وان كانت تلك الخصوصية من قبيل أوصاف المكلف الآتي بالعبادة ، كالحيض. وأخرى : يتعلق النهى بالعبادة لأجل خصوصية صنفية أو شخصية خارجة عن الذات لاحقة لها. والمناقشة بان الحيض ليس من الخصوصيات المنوعة للذات لا أهمية لها.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم : ان النهى المتعلق بالعبادة يقتضى الفساد مطلقا ، سواء كان لذاتها ، أو لجزئها ، أو لشرطها ، أو لوصفها ، إذا كانت هذه من الوسائط الثبوتية ، سواء قلنا : بكفاية عدم الامر لفساد العبادة - كما يحكى عن الجواهر - أو عدم كفاية ذلك بل يتوقف الفساد على عدم الملاك أيضا - كما هو المختار - وسواء كان اطلاق الامر بدليا ( كصل ) أو شموليا ( كأكرم العالم ) لو فرض انه امر عبادي فإنه على جميع هذه التقادير النهى يقتضى الفساد ، فإنه لا محيص عن تقييد اطلاق متعلق الامر بما عدا مورد النهى بعد ما كانت النسبة بين المتعلقين العموم المطلق وكان متعلق النهى أخص ، فإنه لولا التقييد يلزم الغاء النهى بالمرة ، أو اجتماع

ص: 464

الضدين ، وكلاهما لا يمكن. فالتقييد مما لا بد منه ، فلا امر ، ومع عدم الامر ، فان قلنا بمقالة صاحب الجواهر ، ففساد العبادة المنهى عنها واضح لا يحتاج إلى تجشم برهان.

واما بناء على المختار : فكذلك أيضا لأنه وان قلنا بكفاية الملاك في صحة العبادة ، الا انه ليس كل ملاك مصححا للعبادة ، بل لا بد ان يكون الملاك تاما في عالم ملاكيته ، بحيث انه لم يكن مغلوبا ومقهورا بما هو أقوى منه ، إذا الملاك المغلوب غير صالح للعبادية ، والا لما صار مغلوبا. ومن المعلوم : ان النهى عن العبادة يكشف عن ثبوت مفسدة في العبادة أقوى من مصلحتها لو فرض انه كان فيها جهة مصلحة ، والا فمن الممكن ان لايكون في العبادة المنهى عنها جهة مصلحة أصلا ، وعلى تقدير ثبوتها فهي مغلوبة بما هو أقوى منها الذي أوجب النهى عنها ، إذ لو كانت مساوية أو أقوى من مفسدة النهى لما تعلق بها النهى ، فإذا كانت المصلحة مغلوبة سقطت عن صلاحيتها للتقرب ، وكانت العبادة فاسدة لا محالة. وينحصر تصحيح العبادة بالملاك بما إذا كان عدم الامر بها لأجل عدم القدرة عليها لمكان المزاحمة ، لا ما إذا كان عدم الامر بها من جهة التقييد والتخصيص.

هذا إذا تعلق النهى بنفس العبادة

وأما إذا تعلق بجزئها : فالأقوى انه كذلك أي يقتضى الفساد ، سواء كان الجزء من سنخ الافعال ، أو كان من سنخ الأقوال. وسواء اقتصر على ذلك الجزء المنهى عنه ، كما إذا اقتصر على قرائة سورة العزيمة بناء على كونها منهيا عنها ، أو لم يقتصر ، كما إذا قرء سورة أخرى بعد قرائة العزيمة أو قبلها. وسواء كان اعتبار ذلك الجزء في العبادة بشرط لا ، كما إذا قلنا بحرمة القران بين السورتين في الصلاة ، أو كان لا بشرط ، كما إذا قلنا بجواز القران. فإنه على جميع هذه التقادير يكون المنهى عنه مفسدا للعبادة ، لان النهى عن جزء يوجب تقييد العبادة بما عدا ذلك الجزء ، وتكون بالنسبة إليه بشرط لا لا محالة. ونفس اعتبار العبادة بشرط لا عن شيء يقتضى فساد العبادة الواجدة لذلك الشيء ، لعدم كون الواجد له من افراد المأمور به بل المأمور به غيره ، فالآتي بالمنهى عنه غير آت بالمأمور به. مضافا إلى أنه يعمه أدلة الزيادة ، و

ص: 465

يكون قد زاد في صلوته مثلا فتفسد. ومضافا إلى أنه يعمه أيضا أدلة التكلم إذا كان المنهى عنه من سنخ الأقوال ، فإنه وان لم يخرج بالنهي عن كونه قرآنا مثلا ولا يدخل في كلام الآدمي ، الا انه بعد النهى عنه يخرج عن أدلة جواز القرآن والذكر في الصلاة ، وبعد خروجه عن ذلك يندرج في اطلاقات مبطلية مطلق التكلم من غير تقييد بكلام الآدمي ، والقدر الخارج عن هذا الاطلاق هو التكلم بالقرآن والذكر الجائز ، ويبقى الذكر أو القرآن المنهى عنه داخلا تحت الاطلاق.

وبما ذكرنا يظهر : انه لا فرق في بطلان الصلاة بقرائة العزيمة ، بين ما إذا قرئها بعد الحمد في مكان السورة ، أو قرئها في حال التشهد ، أو الركوع ، أو غير ذلك ، إذ مناط الفساد مطرد بعد ما كانت العزيمة منهيا عنها في الصلاة مطلقا وفي جميع الحالات ، فتأمل جيدا.

هذا إذا تعلق النهى بالجزء. وأما إذا تعلق بالشرط فهو كتعلقه بالوصف ، إذ الشرط يرجع إلى الوصف. ومجمل القول في ذلك : هو ان الوصف المنهى عنه تارة : يكون متحدا مع العبادة في الوجود وليس له وجود استقلالي مغاير للموصوف ، كالجهر والاخفات في القراءة ، حيث إنه ليس للجهر وجود مغاير لوجود القراءة ، بل هو من كيفياتها. وأخرى : يكون للوصف وجود مغاير ، كالتستر والاستقبال في الصلاة. فان كان على الوجه الأول ، فالنهي عنه في الحقيقة يرجع إلى النهى عن العبادة الموصوفة بذلك الوصف ، ويندرج فيما تقدم من اقتضاء النهى للفساد ، كما لا يخفى. وأما إذا كان على الوجه الثاني ، فالنهي عنه لا يقتضى فساد العبادة ، حيث إنه لا موجب له ، إذ أقصى ما يقتضيه ذلك النهى هو حرمة ذلك الوصف والشرط ، ووقوع شيء محرم في أثناء العبادة لا يوجب فسادها إذا لم تقيد العبادة بالخالي عنه ، فيكون حال الوصف المنهى عنه في العبادة حال النظر إلى الأجنبية في أثناء العبادة ، وغير ذلك من المقارنات.

نعم : إذا كان الشرط المنهى عنه عبادة يكون الشرط فاسدا وبفساده تفسد العبادة المشروطة به أيضا ، والسر في ذلك واضح. هذا كله فيما إذا كان النهى عن العبادة نفسيا. وأما إذا كان غيريا تبعيا ، كالنهي المتولد من الامر بالشيء ، فقد تقدم

ص: 466

في مبحث الضد انه لا يقتضى الفساد ، الا إذا قلنا بتوقف العبادة على الامر ولم نقل بالامر الترتبي ، على ما تقدم. هذا تمام الكلام في النهى عن العبادة. وينبغي التنبيه على أمرين :

الامر الأول :

ان مقتضى القاعدة كون النهى عن العبادة موجبا لفسادها مطلقا ، وانه مانع من صحتها ، من غير فرق بين صورة الاضطرار والنسيان الموجب لارتفاع الحرمة واقعا ، لان المعانعية ليست معلولة للحرمة حتى تدور مدارها ، بل هي والحرمة كلاهما معلولان للجهة التي أوجبت النهى : من المفسدة والمبغوضية الواقعية التي لا ترتفع بالاضطرار والنسيان.

هدا ، ولكن المحكى عن المشهور خلاف ذلك ، حيث حكى عنهم : انه لو اضطر إلى لبس الحرير والذهب في الصلاة صحت صلوته ، وكذا في صورة النسيان. وكذا حكى عنهم : انه لو شك في كون اللباس حريرا ، أو كون الشيء ذهبا ، المستتبع للشك في حرمة لبسه المستتبع للشك في مانعيته ، فبأصالة الحل والبرائة يرتفع الشك في المانعية ، كما هو الشأن في كل شك سببي ومسببي ، حيث إن الأصل الجاري في الشك السببي رافع للشك المسببي ، ولا يجرى الأصل فيه موافقا كان أو مخالفا ، هذا.

ولنا في كل من المحكى عن المشهور نظر. اما في الأول : فلما فيه.

أولا : ان الموجب للمانعية ليس الا التضاد بين اطلاق الامر والحرمة ، إذ لولا التضاد لما كان وجه للمانعية وفساد العبادة ، وقد تقدم في مبحث الضد ان الضدين في عرض واحد ، ليس بينهما طولية وترتب ، وليس وجود أحدهما مقدمة لعدم الآخر ، ولا عدم أحدهما مقدمة لوجود الآخر. فيكون في المقام عدم الامر بالعبادة مع حرمتها في رتبة واحدة ، وليست الحرمة مقدمة لعدم الامر ، ولا عدم الامر مقدمة للحرمة ، فلو كان عدم الحرمة وارتفاعها في صورة الاضطرار والنسيان موجبا للامر بالعبادة ، يلزم كون عدم أحد الضدين مقدمة لوجود الآخر. وكان المشهور غفلوا عن مبناهم من عدم المقدمية في باب الضد ، والتزموا في المقام بان ارتفاع الحرمة

ص: 467

عن العبادة موجب لثبوت الامر بالعبادة ، مع أن هذا عين القول بالمقدمية ، فتأمل جيدا.

وثانيا : انه هب ان الحرمة في طول الامر وبينهما ترتب ، الا ان المانعية ليست معلولة للحرمة ومسببة عنها ، حتى يكون ارتفاعها موجبا لارتفاع المانعية ، بل المانعية والحرمة معا معلولان لعلة ثالثة ، وهي الملاك والمفسدة التي أوجبت الحرمة وأوجبت المعانعية ، ومن المعلوم : ان ارتفاع أحد معلولي علة ثالثة لا يوجب ارتفاع المعلول الآخر الا إذا ارتفعت نفس العلة. والاضطرار والنسيان لا يوجبان الا رفع الحرمة ، واما الملاك والمفسدة فهو بعد على حاله.

الا ان يقال : ان الاضطرار والنسيان حيث وردا في حديث الرفع كان رفعهما في الدليل كاشفا عن عدم لملاك. ولكن هذا لا يستقيم ، لورود حديث الرفع مورد الامتنان فهو لا ينافي بقاء الملاك والمفسدة ، ويكون المرفوع هو الحرمة فقط.

واما في الثاني : فلما فيه أولا : ما عرفت من أن المانعية ليست مسببة عن الحرمة ، حتى يكون جريان أصالة الحل عند الشك في الحرمة موجبا لرفع الشك في المانعية ، بل الشك في المانعية بعد على حاله ، ولا بد ان يجرى الأصل في نفس المانعية ، ولا يكفي جريان الأصل في الحرمة.

وثانيا : هب ، ان المعانعية مسببة عن الحرمة ، الا انه ليس كل أصل جار في السبب يكون رافعا للشك المسببي ، بل لا بد ان يكون المسبب من الآثار الشرعية المترتبة على السبب ، بحيث يكون التعبد بالسبب تعبدا بالمسبب ، كما في طهارة الثوب المغسول بالماء المشكوك الكرية. وهذا المعنى غير متحقق فيما نحن فيه ، لان الحلية المجعولة بأصالة الحل تكون من سنخ الحلية المجعولة في حال الاضطرار إلى اكل ما هو محرم الاكل ، كالأرنب ، غايته ان الحلية المجعولة في حال الاضطرار تكون واقعية ، والمجعولة بأصالة الحل تكون ظاهرية. ومن المعلوم : ان حلية اكل لحم الأرنب عند الاضطرار لا توجب عدم مانعية المتخذ منه من اللباس للصلاة ، لان الأرنب بعد محرم الاكل ، أي خلقه اللّه تعالى محرم الاكل ، كما خلق الغنم محلل الاكل ، وهذه الحرمة الاقتضائية المجعولة لذات الأرنب لا ترتفع بالحلية المجعولة في حال الاضطرار ، كما أن

ص: 468

الحلية المجعولة للغنم بحسب الذات لا ترتفع بالحرمة العارضة له بسبب الجلل أو الوطي ، إذ لا تنافي بينهما ، فان أحدهما حلية أو حرمة اقتضائية وضعية ذاتية ، والأخرى حلية أو حرمة تكليفية فعلية عارضية. والمانعية في غير المأكول على تقدير كونها معلولة للحرمة ، فإنما هي معلولة لتلك الحرمة الذاتية الاقتضائية ، وهي كما لا ترتفع بالاضطرار ، كذلك لا ترتفع بأصالة الحل عند الشك في كون الحيوان محلل الاكل أو محرمه ، لما عرفت : من أن الحلية المجعولة بأصالة الحل من سنخ الحلية المجعولة في حال الاضطرار المجامعة للحرمة الذاتية. فاجراء أصالة الحل لا ينفع في رفع الشك في المانعية ، بل إن الشك في المانعية بعد على حاله ، الا ان يدعى ان أصالة الحل تثبت الحلية الواقعية الاقتضائية ، وهو بمكان من الفساد بحيث لا يخفى. وهذا بالنسبة إلى مانعية غير المأكول واضح.

واما فيما نحن فيه. من مانعية الحرير والذهب ، فان كانت حرمة لبس الحرير والذهب في الصلاة ( نظير حرمة اكل لحم الأرنب ) المحفوظة في حال الاضطرار إلى لبس الحرير والذهب ، فأصالة الحل لا تنفع في رفع الشك في المانعية ، كما في غير المأكول. وأما إذا لم يكن للبس الحرير والذهب الا حرمة واحدة وحكم فارد ترتفع في حال الاضطرار إلى لبسهما ، فبجريان أصالة الحل يرتفع الشك في المانعية ، على تقدير تسليم كون المانعية معلولة للحرمة. وقد مال شيخنا الأستاذ مد ظله إلى أن الحرمة في لبس الحرير والذهب نظير الحرمة في غير المأكول ، وحينئذ تكون المانعية المستفادة من الحرمة كالمانعية المستفادة من النهى الغيري ، في أنها لا ترتفع بالاضطرار والنسيان ، وعند الشك فيها من جهة الشبهة الموضوعية لا بد ان يجرى الأصل في نفس المانعية ، ولا تنفع أصالة الحل ، فتأمل في المقام جيدا.

الامر الثاني :

محل الكلام في اقتضاء النهى للفساد ، انما هو فيما إذا كان النهى متعلقا بالعبادة ابتداء ، أي كانت العبادة محرمة ذاتا. وأما إذا كان النهى عنها من جهة قبح التشريع ، أي الحرمة المأتية من قبل قبح التشريع ، فهل هو كذلك؟ أي يقتضى الفساد ، أو انه لا يقتضيه؟ أو التفصيل بين العبادة فيقتضيه ، والمعاملة فلا

ص: 469

يقتضيه ، ومحل الكلام انما هو في العبادة أو المعاملة التي كانت في الواقع مشروعة وممضاة ، أي كانت مما تعلق بها الامر والامضاء ولكن المكلف لم يعلم بذلك وأسندها إلى الشارع تشريعا.

والحق في مثل هذا ، التفصيل بين العبادة والمعاملة ، ففي المعاملة : حرمة التشريع لا تقتضي الفساد ، لأنه هب انه كان اصدارها قبيحا عقلا ومحرما شرعا ، الا ان حرمة الاصدار ومبغوضية الايجاد لا تقتضي الفساد ، على ما سيأتي في المقام الثاني.

واما في العبادة : فالحرمة التشريعية كالحرمة الذاتية تقتضي الفساد لقبح التشريع عقلا المستتبع بقاعدة الملازمة للحرمة الشرعية. وحكم العقل بقبح التشريع لا يدور مدار الواقع ، بحيث إذا كانت العبادة في الواقع مشروعة كان المكلف متجريا ، بل تمام مناط حكم العقل بقبح التشريع هو الاسناد إلى المولى ما لم يعلم أنه منه ، من غير فرق بين ان يعلم أنه ليس منه ، أو يظن ، أو يشك. وليس حكم العقل بقبح التشريع كحكمه بقبح التصرف في مال الغير ، بحيث يكون له حكم واقعي وحكم طريقي في صورة الشك ، على ما بيناه في محله. فنفس عدم العلم بان الشارع لم يأمر بالعبادة يتحقق تمام موضوع حكم العقل بقبح التشريع ، ويتبعه الحرمة الشرعية. وليس حكم العقل بقبح التشريع كحكمه بقبح المعصية مما لا يستتبع حكما شرعيا فان قبح المعصية من جعل بذاته كحجية العلم ، ليس يقبل جعلا شرعيا ، موافقا أو مخالفا. بخلاف قبح التشريع ، فإنه قابل لجعل حكم مخالف ولا محذور فيه ، إذ يصح للشارع تجويز التشريع ، فهذا يدل على أن قبح التشريع ليس مما لا يستتبع بقاعدة الملازمة حكما شرعيا ، فحكم العقل بقبح التشريع يقتضى الحرمة الشرعية. وليس قبح التشريع أيضا من الآثام القلبية ، بحيث لا يسرى إلى العمل والفعل المتشرع به ، بل الفعل يكون مبغوضا وقبيحا ، غايته انه لا لذاته ، بل القبيح هو جهة الاصدار والايجاد ، وهذا المقدار يكفي في فساد العبادة لجهة بغضها الفاعلي. وقد تقدم منا : ان العبادة تحتاج إلى حسنها الفعلي والفاعلي معا ، ولا يكفي حسنها الفعلي ، فالحرمة التشريعية وان لم تناف المطلوبية الذاتية لكونهما في مرتبتين ،

ص: 470

الا انها تنافى حسنها الفاعلي فتفسد ، فتأمل.

المقام الثاني في النهى عن المعاملة

ومجمل القول في ذلك : ان النهى عن المعاملة تارة يكون للارشاد إلى عدم حصولها ، فهذا لا اشكال في كونه موجبا لفسادها ، سواء تعلق بناحية السبب ، أو بناحية المسبب. فان تعلق بناحية السبب فهو يقتضى عدم ترتب المسبب على ذلك السبب ، وان تعلق بناحية المسبب فهو يقتضى عدم حصوله في الخارج. وهذا مما لا اشكال فيه ، فان النهى الارشادي حيث ما تعلق يقتضى الفساد ، حيث إنه ارشاد إلى الفساد.

وأما إذا كان النهى عن المعاملة مولويا مفاده الحرمة ، فتارة : يتعلق بالسبب ، وأخرى : يتعلق بالمسبب ، وثالثة : يتعلق بآثار المسبب : من التصرف في الثمن والمثمن ، وغير ذلك من الآثار المترتبة على المعاملة. والتعبير بالسبب والمسبب لا يخلو عن مسامحة ، لما تقدم من أنه ليس باب العقود والايقاعات من الأسباب والمسببات ، بل هي من باب الايجاديات ، والايجاب والقبول بمنزلة الآلة لذلك ، ويكون المنشأ بنفسه هو الصادر عن المكلف ابتداء ، وهو الموجد له في وعاء الاعتبار ، لا ان الصادر عنه هو السبب ، حتى يكون النقل والانتقال من المسببات التوليدية. وقد تقدم تفصيل ذلك. فالمراد من تعلق النهى بالسبب تعلقه بالايجاد بمعناه المصدري ، ويكون المحرم المنهى عنه هو ايجاد المعاملة وانشائها والاشتغال بها ، كالبيع وقت النداء ، حيث إن المحرم هو الاشتغال بالبيع وقت النداء ، لا النقل والانتقال. والمراد من تعلقه بالمسبب تعلقه بالموجد ، بمعناه الاسم المصدري ، ويكون المحرم المبغوض هو المنشأ والنقل والانتقال ، كبيع المسلم والمصحف للكافر ، حيث إن المبغوض هو نقل المسلم والمصحف للكافر ، لا انشاء النقل ، ومبغوضية الانشاء لمكان ما يستتبعه من الأثر ، وهو النقل والانتقال.

إذا عرفت ذلك فنقول : ان النهى لو كان عن نفس الايجاد والانشاء والاشتغال بالمعاملة ، فهو لا يقتضى الفساد ، إذ حرمة الايجاد لا يلازم مبغوضية الموجد وعدم تحققه. واما لو تعلق النهى بنفس المنشأ والموجد ، فهو يقتضى الفساد

ص: 471

لخروج المنشأ حينئذ عن تحت سلطانه ، ولا قدرة عليه في عالم التشريع ، والمانع التشريعي كالمانع العقلي.

والحاصل :

ان الأمر والنهي الشرعيين موجبان لخروج متعلقهما عن سلطة المكلف ، ويكون في عالم التشريع مقهورا على الفعل أو الترك ، ومن هنا كان اخذ الأجرة على الواجبات حراما ، لخروج الفعل بالايجاب الشرعي عن تحت قدرته وسلطانه ، فليس يمكنه تمليكه إلى الغير ليأخذ الأجرة عليه ، الا إذا تعلق الايجاب بنفس الايجاد والاصدار كما في الصناعات النظامية ، فإنه له اخذ الأجرة على عمله ، لعدم خروج عمله بمعناه الاسم المصدري عن تحت سلطانه ، لعدم تعلق الايجاب به ، بل تعلق الايجاب بنفس الايجاد والاصدار وعدم احتكار العمل. وأما إذا تعلق الامر بنفس العمل بمعناه الاسم المصدري فقد خرج العمل عن تحت سلطانه ، كما أنه لو تعلق النهى بنفس العمل فإنه أيضا يخرج عن تحت سلطانه ، ويكون النهى مخصصا لعموم ( الناس مسلطون على أموالهم ) وعلى ذلك يبتنى عدم جواز بيع منذور الصدقة ومشروطها في ضمن العقد ، أو نذر البيع من زيد أو شرط ذلك ، فإنه لا يصح بيعه من غير زيد.

والسر في جميع ذلك : هو ان النذر ، والشرط ، والامر والنهى ، موجب لخروج المتعلق عن دائرة السلطنة ، ومخصص لعموم ( الناس مسلطون على أموالهم ) ومن شرائط صحة المعاملة السلطنة وعدم الحجر. ودعوى ان الوجوب والحرمة لا ينافيان السلطنة ضعيفة غايته ، فإنه لا معنى لبقاء السلطنة مع المنع الشرعي ، كما لا معنى لبقاء السلطنة مع سلبها عن نفسه بنذر أو شرط ، بعد ما دل الدليل على لزوم الوفاء بالنذر والشرط. وقد عرفت : ان جميع ذلك مندرج تحت جامع واحد وملاك فارد ، وهو ان الممنوع عنه شرعا موجب لسلب السلطنة. وبعض ما يترتب على ذلك من الفروع كأنه متسالم عليه عند الأصحاب ، وان كان بعضه الآخر لا يخلو عن خلاف. هذا إذا تعلق النهى بنفس المنشأ. وأما إذا تعلق بآثاره ، كقوله : ثمن العذرة أو الكلب سحت ، فهو يكشف أيضا انا عن عدم ترتب المنشأ وعدم تحققه. و

ص: 472

من الغريب : ان بعض الاعلام سلم دلالة النهى عن الآثار على الفساد ، وأنكر دلالة النهى عن نفس المنشأ على الفساد ، مع أن الثاني أولى ، فتأمل جيدا.

ثم انه ربما يستدل على الفساد ، ببعض الاخبار (1) المعللة لعدم فساد نكاح العبد بدون اذن مولاه : بأنه لم يعص اللّه وانما عصى سيده.

تقريب الاستدلال : هو ان الظاهر من الرواية ، ان الشيء إذا كان معصية لله تعالى فهو فاسد ، ولا يصححه إجازة الغير ، والنهى التحريمي المتعلق بالمعاملة يوجب كون المعاملة معصية لله فتفسد. وهذا بخلاف ما إذا لم تكن المعاملة مما نهى عنها الشارع ابتداء ، بل كان نهيه عنها يتبع حق الغير ، لكونها تصرفا في سلطان الغير وتضييعا لحقه ، فهذا لا يقتضى الفساد ، لان الحق راجع إلى الغير ، فله اسقاط حقه وإجازة المعاملة. فهذه الرواية تكون من أدلة جريان الفضولي في كل ما يكون متعلقا لحق الغير ، ولا يختص الفضولي بما إذا كانت الرقبة ملكا للغير ، بل مطلق تعلق حق الغير بالرقبة ، ولو لأجل الرهانة ، أو الخيار ، أو الجناية ، يوجب كون المعاملة معصية لذلك الغير المستتبع لمعصية اللّه تعالى ، لمكان تضييع حق الغير ، وليست معصية اللّه تعالى فيما إذا كانت المعاملة مما تعلق بها حق الغير سوى كونه تضييعا لحق الغير وتفويتا لسلطنته. وهذا بخلاف ما إذا كانت المعاملة بنفسها معصية اللّه تعالى وتصرفا في سلطنته تعالى ، لمكان النهى عنها والبعث إلى تركها ، فان مثل هذه المعصية توجب الفساد.

فيكون متحصل مفاد الرواية : ان المعاملة ان كانت معصية اللّه تعالى ابتداء ولم تكن معصية لغيره تعالى فهي فاسدة ولا تتحقق. وان كانت معصية للغير ، لمكان كونها تصرفا في سلطنة الغير ، فهي لا تقع فاسدة ، بل أمرها يرجع إلى ذلك الغير ، فان أجاز نفذت. وبذلك يندفع ما يقال : من أن معصية السيد أيضا معصية اللّه ، فتدل الرواية على أن معصية اللّه لا توجب فساد المعاملة ، والمراد من قوله : لم يعص اللّه ، هو انه ليس نكاح العبد مما لم يشرع اللّه تعالى كالنكاح في العدة ، فأقصى ما تدل عليه

ص: 473


1- الوسائل ، الجزء 14 الباب 24 من أبواب نكاح العبيد والإماء ص 523

الرواية هو ان المعاملة ان كانت مما لم يشرعها اللّه تعالى فهي تقع فاسدة ، وان كانت مما شرعها اللّه تعالى في نوعها ولكن نهى عن بعض افرادها لخصوصية هناك ، كالنكاح بلا اذن السيد ، فهذه المعاملة لا تقع فاسدة ، فالرواية أدل على الصحة من دلالتها على الفساد.

وجه الدفع : هو ان معصية السيد وان كانت معصية اللّه تعالى الا انه قد عرفت ان المراد من كونها معصية اللّه ليس الا كون المعاملة تضييعا لحق السيد وتصرفا في سلطنته ، حيث إن العبد مملوك للمولى وليس له سلطنة على شيء ، فالرواية تدل على أن كل ما يكون تصرفا في سلطنة الغير. فأمره راجع إلى الغير ، وكل ما يكون تصرفا في سلطان اللّه تعالى فهو يقع فاسدا. والمعاملة المنهى عنها شرعا تكون تصرفا في سلطانه تعالى ومعصية له فتقع فاسدة ، لكونها خروجا عن وظيفة العبودية. كما أن اطلاق المعصية على معصية السيد تكون بهذه العناية ، حيث إن العبد خرج عن وظيفته بنكاحه بلا اذن سيده ، فتأمل جيدا.

تنبيه

حكى عن أبي حنيفة : دلالة النهى عن العبادة والمعاملة على الصحة ، وقد تبعه في خصوص المعاملة بعض أصحابنا ، بتقريب : ان متعلق النهى كمتعلق الامر لا بد ان يكون مقدورا بعد النهى ، ليمكن موافقة النهى ومخالفته ، ومعلوم : ان النهى لم يتعلق بالعبادة أو المعاملة الفاسدة ، إذ لا حرمة في اتيان العبادة أو المعاملة الفاسدة ، فالمنهى عنه لا بد ان يكون صحيحا حتى بعد النهى ليمكن مخالفة النهى ، فلو اقتضى النهى الفساد يلزم ان يكون النهى سالبا لقدرة المكلف ، وموجبا لرفع قدرة المكلف على مخالفته ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك : فساد الاشكال. اما في العبادات : فلان النهى فيها لم يتعلق بما هو عبادة فعلية ، بل تعلق بشيء لو امر به لكان امره عباديا ، على ما تقدم بيانه ، والمكلف قادر على فعل متعلق النهى ومخالفته ولو بعد النهى. والذي لايكون قادرا عليه ، هو فعل ما يكون عبادة فعلية ، وليس هذا متعلق النهى ، وذلك واضح. واما في المعاملة : فلان متعلق النهى هو المبادلة التي يتعاطاها العرف وما

ص: 474

هي بيدهم ، لا المبادلة الصحيحة ، فان المبادلة العرفية لا تتصف بالصحة والفساد ، بل الصحة والفساد انما ينتزعان من امضاء الشارع لتلك المبادلة وعدم امضائها ، وما ينتزع عن الحكم الشرعي لا يعقل ان يؤخذ في متعلق ذلك الحكم ، والمبادلة العرفية مقدورة للمكلف ولو بعد النهى الشرعي ، كما هو المشاهد ان بايع الخمر مع علمه بالفساد والنهى الشرعي حقيقة يبيع الخمر ويقصد المبادلة ، بحيث يكون بيعه للخمر مع علمه بالفساد كبيعه له مع عدم علمه به ، بل مع علمه بالصحة. وكذا سائر المبادلات العرفية التي تكون منهيا عنها ، فان جميعها مقدورة ومما يتعلق بها القصد حقيقة ، والنهى الشرعي يوجب فسادها ، أي عدم تحقق المبادلة خارجا شرعا ، وان تحققت عرفا. فدعوى ان النهى من المعاملة يقتضى الصحة ضعيفة جدا ، فتأمل جيدا.

هذا تمام الكلام في في النهى عن العبادة والمعاملة. وقد وقع الفراغ من تسويده ليلة الجمعة 25 ج 1 سنة 1347.

ص: 475

المقصد الثالث : في المفاهيم

اشارة

وقبل الخوض في المقصد ينبغي تقديم مقدمة.

وهي : ان المفهوم - على ما عرفت منا مرارا - عبارة عن المدرك العقلاني الذي يدركه العقل عند الالتفات إلى الشيء ، حيث إن لكل شيء وجودا عقلانيا على طبق وجوده الخارجي ، سواء كان ذلك الشيء من الماديات ، أو المجردات. وسواء كان جزئيا ، أو كليا. وذلك المدرك العقلاني يكون بسيطا ، وليس مركبا من مادة وصورة ، إذ المادة والصورة تكون من شؤون الوجود الخارجي ، واما الوجود العقلاني فهو مجرد عن ذلك لا تركيب فيه. وذلك المدرك هو المعبر عنه : بالمفهوم ، والمدلول ، والمعنى ، والمقصود ، كل من جهة ، الا ان الجميع يشير إلى امر فارد وشيء واحد.

والمفهوم ، كما يكون في الألفاظ ، الأفرادية ، كذلك يكون في الجمل التركيبية ، حيث إنه كما أن للمفردات معنى ومفهوما مدركا عقلانيا ، كزيد ، وعمرو ، وانسان ، وشجر ، كذلك يكون للجمل التركيبية معنى ومفهوم ، كزيد قائم ، والنهار موجود ، وغير ذلك. وكما أن للألفاظ المفردة معنى مطابقيا ومعنى التزاميا ، فكذلك يكون للجمل التركيبية معنى مطابقي ومعنى التزامي. وكما أن لازم المعنى الافرادي تارة : يكون بينا أخص ، وأخرى : يكون أعم ، فكذلك لازم المعنى التركيبي ينقسم إلى هذين القسمين.

واما الدلالة التضمنية فهي لا واقع لها ، سواء في الألفاظ الأفرادية أو الجمل التركيبية لما عرفت : من أن المعنى والمفهوم هو المدرك العقلاني الذي يكون بسيطا مجردا عن المادة وليس له جزء ، فالدلالة التضمنية لا أساس لها وان كانت مشهورة في الألسن ، بل الدلالة اما ان تكون مطابقية ، واما ان تكون التزامية.

ص: 476

واللازم في الدلالة الالتزامية ، اما ان يكون لازما بالمعنى الأخص ، واما ان يكون لازما بالمعنى الأعم. واللازم بالمعنى الأعم ، سواء كان في المعاني الأفرادية أو في الجمل التركيبية ، ليس من المداليل اللفظية لان اللفظ لا يدل عليه ولا ينتقل الذهن إليه بواسطة اللفظ ، بل يحتاج إلى مقدمة عقلية.

ومن هنا قلنا : ان مسألة مقدمة الواجب ، ومسألة الضد ، ليست من المباحث اللفظية ، لكون اللازم فيها لازما بالمعنى الأعم ، لتوقف اللزوم على توسيط حكم العقل. ولعل دلالة الاقتضاء كقوله تعالى : واسئل القرية ، ودلالة الإشارة والايماء كدلالة الآيتين على أن أقل الحمل يكون ستة أشهر ، ودلالة قوله صلی اللّه علیه و آله : كفر ، عقيب قول السائل ( هلكت وأهلكت جامعت أهلي في نهار شهر رمضان ) على علية الجماع للتكفير - إذ لو العلية لبطل الاقتران - كل ذلك يكون اللازم فيه من اللازم بالمعنى الأعم ، فلا يكون من الدلالة اللفظية. وعلى تقدير تسليم كون بعضها من الدلالة اللفظية فهو ليس من المنطوق والمفهوم المبحوث عنه في المقام ، إذ المراد من المنطوق : هو ما دل عليه الجملة التركيبية بالدلالة المطابقية ، والمراد من المفهوم : هو ما دلت عليه الجملة التركيبية بالدلالة الالتزامية بالمعنى الأخص. فما لم يكن مدلولا مطابقيا للجملة ولا مدلولا التزاميا بالمعنى الأخص ، لايكون من المنطوق والمفهوم ، سواء قلنا : بأنه مدلول اللفظ - كما قيل في مثل دلالة الإشارة - أو قلنا : بأنه خارج عن مدلول اللفظ وكان من اللازم بالمعنى الأعم. فما يظهر من بعض من ادراج مثل دلالة الإشارة في المنطوق فاسد. كما أن ما يظهر من بعض من ادراجها في المفهوم فاسد أيضا ، فإنها وان قلنا بأنها من الدلالة اللفظية تكون خارجة عن المفهوم والمنطوق ، ولا مانع من ثبوت الواسطة بين المنطوق والمفهوم.

وعلى كل حال : الامر في ذلك سهل ، من جهة انه بحث يرجع إلى الاصطلاح.

والمقصود في المقام بيان ان المراد من المنطوق : هو المدلول المطابقي للجملة التركيبية ، والمراد من المفهوم : هو المدلول الالتزامي لها على وجه يكون بينا بالمعنى الأخص. ولعله إلى ذلك يرجع ما عن بعض من تعريف المنطوق بما دل عليه اللفظ

ص: 477

في محل النطق ، والمفهوم : بما دل عليه اللفظ لا في محل النطق ، بان يكون المراد من محل النطق ولا محله هو المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي. وبعد ذلك لا يهمنا البحث وإطالة الكلام في التعريفات التي ذكروها للمنطوق والمفهوم ، مع ما يرد عليها من عدم الانعكاس والاطراد ، فإنها تعاريف لفظية قلما تسلم عن الاشكال. كما لا يهمنا البحث عن أن المنطوق والمفهوم من صفات الدال أو المدلول ، وانما المهم هو البحث عن الجمل التي يكون لمدلولها المطابقي لازم بالمعنى الأخص ، المعبر عنه بالمفهوم.

وينبغي ان يعلم : ان النزاع في المقام انما يكون صغرويا ، أي انه بحث عن أصل ثبوت المفهوم واللازم ، لا عن حجيته ، لان حجيته بعد ثبوته مفروع عنها ولا كلام فيها.

إذا عرفت ذلك فاعلم : ان هناك جملا تركيبية وقع النزاع في ثبوت اللازم والمفهوم لها.

الفصل الأول في مفهوم الشرط

والبحث عن القضية الشرطية تارة : يقع في معنى الشرط ، وأخرى : في مفاد القضية الشرطية أي المدلول المطابقي لها ، وثالثة : في ثبوت المفهوم لها أي المدلول الالتزامي.

اما معنى الشرط : فهو يطلق على معنيين :

أحدهما : المعنى الحدثي ( أي الجعل ) وهو بهذا المعنى يكون متصرفا يشتق منه الشارط والمشروط وغير ذلك ، وهو المراد من قوله علیه السلام : (1) شرط اللّه قبل شرطكم ، وقوله علیه السلام : في الدعاء ولك شرطي ان لا أعود في معصيتك. ولا يختص هذا المعنى من الشرط بان يكون في ضمن عقد ، وان كان يظهر من القاموس ذلك.

وثانيهما : ما يلزم من عدمه العدم ، مع قطع النظر عن استلزام وجوده

ص: 478


1- الوسائل ، الجزء 17 الباب 22 من أبواب موانع الإرث الحديث 1 ص 409

الوجود ، وهو بهذا المعنى جامد لا يتصرف. ولتفصيل الكلام في ذلك محل آخر ، إذ البحث عن ذلك لا ربط له بالمقام.

واما مفاد الجملة الشرطية ، وان الشرط إلى أي شيء يرجع ، فقد تقدم البحث عن ذلك مفصلا في الواجب المشروط (1) وقلنا : ان التعليق لا يرجع إلى النسبة ، وان كان يظهر من عبارة التهذيب ذلك ، حيث عرف القضية الشرطية : بما حكم فيها بثبوت نسبة على تقدير أخرى. بل التعليق والشرط يرجع إلى المحمول المنتسب ، لا نفس المحمول بمعناه الافرادي ، حتى يرجع التقييد إلى المادة ويكون شرط الواجب ، بل يرجع إلى المحمول المنتسب. وبذلك دفعنا اشكال : ان النسبة معنى حرفي والمعنى الحرفي غير قابل للتقييد لان التقييد يستدعى لحاظ المقيد معنى اسميا ، فراجع ما تقدم منا في الواجب المشروط. والمهم في المقام ، هو البحث عن المدلول الالتزامي للقضية الشرطية ، المعبر عنه بالمفهوم.

فاعلم : ان ثبوت المفهوم للقضية الشرطية يتوقف :

على كون الترتب بين الجزاء والشرط ناشئا عن علاقة ثبوتية في نفس الامر والواقع ، وليس الترتب بينهما لمجرد الاتفاق والمصادفة ، كما في قولك : إذا كان الانسان ناطقا فالحمار ناهق ، إذ لا علاقة بين نهيق الحمار ونطق الانسان في نفس الامر ، بل العلاقة بينهما تكون علاقة جعلية لحاظية.

وعلى ان يكون الترتب ترتب العلية والمعلولية ، بان تكون العلاقة بين الجزاء والشرط علاقة العلية والمعلولية لا علاقة التلازم والتضايف ، وأن تكون العلة هو المقدم والشرط لا التالي والجزاء ، وأن يكون الشرط علة منحصرة لا يخلفه شرط آخر ، ولا يكون لشيء آخر دخل في عليته.

فإذا تمت هذه الأمور للقضية الشرطية كان لها مفهوم ، وإذا انتفى أحد هذه الأمور لم يكن للقضية مفهوم. والسر في اعتبار هذه الأمور واضح ، فإنه لو لم يكن بين

ص: 479


1- راجع الجزء الأول من الكتاب مبحث تقسيمات الواجب. الامر الثاني من بحث الواجب المشروط ص 178

الجزاء والشرط علقة ثبوتية وكانا متقارنين من باب الاتفاق ، لم يكن انتفاء الشرط مستتبعا لانتفاء الجزاء ، إذ لا مدخلية للشرط حينئذ في وجود الجزاء.

وكذا لو فرض ان بينهما علاقة ثبوتية ولكن لم تكن تلك العلاقة علاقة العلية والمعلولية بل كانت علاقة التلازم ، فإنه أيضا لا يقتضى انتفاء الشرط انتفاء الجزاء ، لان انتفاء أحد المتلازمين لا يستلزم انتفاء اللازم الآخر. الا إذا كان التلازم دائميا ، بحيث كانا معلولين لعلة ثالثة منحصرة ، فان انتفاء أحد المتلازمين في مثل هذا يقتضى انتفاء الآخر ، الا ان القضية الشرطية حينئذ لا تدل على هذا الوجه من التلازم ، فان العلة لم تكن مذكورة في القضية حتى يستفاد منها الانحصار أو عدم الانحصار ، وأقصى ما تقتضيه القضية الشرطية - بناء على عدم استفادة علية الشرط للجزاء - هو مجرد التلازم بين الشرط والجزاء ، واما كونه على هذا الوجه أو على ذلك الوجه فليس للقضية الشرطية دلالة عليه ، ولا بد في اثبات ذلك من الخارج ، فيخرج عما نحن فيه : من دلالة نفس القضية الشرطية على المفهوم. وكذا لو فرض عدم دلالة القضية الشرطية على كون الشرط علة منحصرة ، فان انتفاء الشرط في مثل ذلك أيضا لا يقتضى انتفاء الجزاء ، لامكان ان يخلفه شرط آخر. فالمهم هو اثبات ظهور القضية الشرطية في كون الشرط علة منحصرة ، اما وضعا واما اطلاقا.

فنقول : اما دلالة القضية الشرطية على ثبوت العلقة بين الشرط والجزاء وانه ليس ذلك محض الاتفاق ، فمما لا ينبغي الاشكال فيها ، بل لا يبعد كون دلالتها على ذلك بالوضع ، لعدم صحة مثل - إذا كان الانسان ناطقا كان الحمار ناهقا - بلا عناية ، بل يتوقف على لحاظ عناية وعلاقة جعلية لحاظية. والا فان نفس القضية الشرطية تقتضي ان يكون بين الشرط والجزاء علاقة لزومية ، فان لم يكن ذلك بالوضع - كما هو ليس ببعيد - فلا أقل من ظهورها العرفي في ذلك.

واما دلالة القضية الشرطية على كون العلقة بين الجزاء والشرط علقة الترتب وعلية الشرط للجزاء ، فهي وان لم تكن بالوضع وليس لنفس القضية الشرطية ظهور عرفي في ذلك ، الا انه لا يبعد دعوى الظهور السياقي في ذلك ، حيث إن سوق الكلام من جعل الشرط مقدما والجزاء تاليا ، هو ان يكون الكلام على وفق

ص: 480

ما هو الواقع بمقتضى تبعية عالم الاثبات لعالم الثبوت ، فإنه لو كان الجزاء علة للشرط ، أو كانا معا معلولين لعلة ثالثة ، لكان الكلام مسوقا لبيان البرهان الآني ، ويتوقف ذلك على كون المتكلم في مقام الاستدلال على انتفاء الشرط عند انتفاء الجزاء ، حسب ما يقتضيه الاستدلال الآني ، وهذا يحتاج إلى مؤنة خارجية ، والا فان طبع الكلام يقتضى كون المقدم هو المقدم والتالي هو التالي في الواقع وعالم الثبوت ، فيكون الكلام قد سيق على طبق الواقع.

والانصاف : ان دعوى الظهور السياقي للقضية الشرطية في كون الشرط علة للجزاء قريبة جدا لا مجال لانكارها ، ولكن هذا بنفسه لا يكفي في ثبوت المفهوم للقضية ما لم يكن الشرط علة منحصرة ، واثبات الانحصار لا يمكن الا بدعوى اطلاق الشرط واجراء مقدمات الحكمة لاثبات انحصاره ، بتقريب : انه لو لم يكن الشرط وحده علة منحصرة لكان على المولى الحكيم ، الذي فرض انه في مقام البيان ، ان يقيد اطلاق الشرط بكلمة الواو ، أو بكلمة أو ، ليبين بذلك ان الشرط ليس بعلة وحده ، بل يشاركه في عليته شيء آخر ولو عند الاجتماع ، أو ان الشيء الفلاني أيضا علة ، وحيث لم يبين ذلك يستفاد منه ان الشرط وحده علة ، سواء سبقه شيء آخر أو لم يسبقه ، قارنه شيء أو لم يقارنه ، وهو معنى كون الشرط علة منحصرة ، هذا.

ولكن الانصاف : ان هذا التقريب لا يستقيم ، لأنه أولا : ان مقدمات الحكمة انما تجرى في المجعولات الشرعية ، ومسألة العلية والسببية غير مجعولة ، على ما تقدم منا مرارا ، وانما المجعول هو المسبب على تقدير وجود سببه ، فلا معنى للتمسك باطلاق الشرط على كونه علة منحصرة.

وثانيا : ان القضية الشرطية لا دلالة لها على استناد الجزاء إلى الشرط ، وكون وجوده معلولا لوجوده ، بل غاية ما تدل عليه القضية الشرطية ، هو الترتب بين الجزاء والشرط ووجود الجزاء عند وجود الشرط. وهذا المعنى لا يتفاوت الحال فيه ، بين كون الشرط علة منحصرة ، أو غير منحصرة ، فان الجزاء يكون مترتبا على الشرط على نسق واحد ، سواء كان هناك شرط آخر ، أو لم يكن. بل لو فرض دلالة القضية الشرطية على استناد الجزاء إلى الشرط وكونه معلولا له لم يكن أيضا موقع للتمسك

ص: 481

باطلاق الشرط وجريان مقدمات الحكمة على الانحصار ، فان استناد المعلول إلى علته المنحصرة وغير المنحصرة على نسق واحد ، إذ في العلة الغير المنحصرة يكون المعلول مستندا إليها ، على نحو استناده إلى المنحصرة ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك : ان هذه الكلمات كلها أجنبية عن مسألة استظهار المفهوم للقضية الشرطية ، بل استظهار المفهوم لها يحتاج إلى بيان آخر. وحاصله : هو انه قد عرفت ان المفهوم عبارة عما يكون لازما للكلام ، ويكون الكلام دالا عليه بالدلالة الالتزامية بالمعنى الأخص ، والدلالة الالتزامية للكلام لا تكون الا إذا كان الكلام مشتملا على خصوصية توجب ذلك ، بحيث تكون تلك الخصوصية مما أنيط بها المحمول في الكلام ، سواء كان المحمول من سنخ الأحكام الشرعية ، أو غيرها ، على وجه يدور المحمول مدار تلك الخصوصية ، فإنه عند ذلك يدل الكلام بالدلالة الالتزامية على انتفاء المحمول عند انتفاء الخصوصية ، فلو لم تكن تلك الخصوصية مما أنيط بها المحمول لايكون انتفاء الخصوصية موجبا لانتفاء المحمول. وهذا المعنى لا يختص بالقضية الشرطية ، بل في جميع القضايا التي تكون من ذوات المفهوم لابد ان تكون على هذا الوجه ، أي تكون مشتملة على خصوصية قد أنيط بها المحمول ، وليست القضية الشرطية تختص بذلك ، فان كل قضية حملية تتضمن القضية الشرطية يكون موضوعها المقدم ومحمولها التالي. ومن هنا قلنا : ان كل شرط يرجع إلى الموضوع ، ويكون معنى ( ان جائك زيد فأكرمه ) هو ان زيد الجائي يجب اكرامه.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : ان الشرط الذي تتضمنه القضية الشرطية ، تارة : يمكن ان يناط به المحمول منوطا بذلك الشرط ، وأخرى : لا يمكن جعل الإناطة ، بل يكون المحمول بنفسه منوطا بالشرط تكوينا ، بحيث لا يعقل تحققه بدون تحقق الشرط ، فان كان الشرط على الوجه الثاني فليس للقضية مفهوم ، لان القضية تكون حينئذ مسوقة لبيان فرض وجود الموضوع ، مثل : ان رزقت ولدا فاختنه ، وان ركب الأمير فخذ ركابه ، حيث لا يعقل ختان الولد واخذ ركاب الأمير الا بعد تحقق الشرط ، فالمحمول في مثل هذا لا يمكن ان يقيد بالشرط ويناط به ، إذا التقييد فرع امكان الاطلاق. والمحمول الذي يتوقف على الشرط عقلا لا يمكن فيه الاطلاق ، فهو

ص: 482

بنفسه مقيد تكوينا. وهذا هو السر في عدم المفهوم للقضية اللقبية ، من جهة ان الاشتراط الذي يتضمنه اللقب ليس الا فرض وجود الموضوع ، فمثل قوله : أكرم زيدا معناه انه ان وجد زيد فأكرمه ، والاكرام يتوقف عقلا على وجود زيد.

وان كان الشرط ، على الوجه الأول ، كمجيئ زيد ، وركوبه ، وجلوسه ، وغير ذلك من الحالات التي لا يتوقف اكرامه عليها عقلا ، فلا محالة يكون الجزاء مقيدا بذلك الشرط في عالم الجعل والتشريع ، ومعنى التقييد هو إناطة الجزاء بذلك الشرط ، ومقتضى اناطته به بالخصوص هو دوران الجزاء مداره وجودا وعدما ، بمقتضى الاطلاق ومقدمات الحكمة ، حيث إنه قيد الجزاء بذلك الشرط بخصوصه ، ولم يقيد بشيء آخر ، لا على نحو الاشتراك بان جعل شيء آخر مجامعا لذلك الشرط قيدا للجزاء ، ولا على نحو الاستقلال بان جعل شيء آخر موجبا لترتب الجزاء عليه ولو عند انفراده وعدم مجامعته لما جعل في القضية شرطا ، ومقتضى ذلك هو دوران الجزاء مدار ما جعل شرطا في القضية ، بحيث ينتفى عند انتفائه ، وهو المقصود من تحقق المفهوم للقضية.

فمقدمات الحكمة انما تجرى في ناحية الجزاء من حيث عدم تقييده بغير ما جعل في القضية من الشرط ، لا في الشرط ، حتى يرد عليه ما تقدم من الاشكال.

والحاصل : ان اطلاق الجزاء في المقام بالنسبة إلى ما عدا الشرط في اقتضائه المفهوم يكون كاطلاق الوجوب في اقتضائه النفسية العينية التعيينية ، من غير فرق بين المقامين أصلا ، حيث إن مقدمات الحكمة انما تجرى لاستكشاف المراد ، وان المراد النفس الأمري هو ما تضمنه الكلام بعد احراز كون المتكلم في مقام البيان ، كما هو الأصل الجاري عند العقلاء في محاوراتهم ، حيث إن الأصل العقلائي يقتضى كون المتكلم في مقام بيان مراده النفس الأمري ، الا ان تكون هناك قرينة نوعية على الخلاف ، وفي المقام مقتضى تقييد الجزاء بالشرط هو كون المتكلم في مقام البيان.

ودعوى انه في مقام البيان من هذه الجهة دون سائر الجهات والقيود ، فاسدة فإنه لو بنى على ذلك لا نسد باب التمسك بالاطلاقات في جميع المقامات ، إذ ما من

ص: 483

مورد الا ويمكن فيه هذه الدعوى. ومقتضى كونه في مقام البيان وعدم تقييد الجزاء بقيد آخر هو ان الجزاء مترتب على ذلك الشرط فقط ، من دون ان يشاركه شرط آخر أو ينوب عنه. وبعد ذلك لا ينبغي التوقف في ثبوت المفهوم للقضية الشرطية التي لا يتوقف الجزاء فيها على الشرط عقلا ، فتأمل جيدا. وينبغي التنبيه على أمور :

الامر الأول :

ان المراد من انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط - المعبر عنه بالمفهوم - هو انتفاء سنخ الحكم ونوعه ، لا شخصه ، فان انتفاء الشخص انما يكون بانتفاء موضوعه عقلا ، من غير فرق في ذلك بين القضية الشرطية ، والوصفية ، واللقبية. فالذي تمتاز بها القضية الشرطية عن القضية اللقبية ، انما هو انتفاء سنخ الحكم في القضية الشرطية عند انتفاء الشرط ، دون القضية اللقبية ، حيث إن القضية الشرطية تدل على انتفاء سنخ الحكم ، بخلاف القضية اللقبية ، من غير فرق بين كون الجزاء في القضية الشرطية بصورة الاخبار ، كما إذا قال : ان جائك زيد يجب عليك اكرامه ، أو بصورة الانشاء كما إذا قال : ان جاء زيد أكرمه.

وتوهم الفرق بينهما - بان الشرط في الصورة الأولى انما كان شرطا للوجوب ، فبانتفاء الشرط ينتفى أصل الوجوب ونوعه ، وهذا بخلاف الصورة الثانية ، فان الشرط انما كان شرطا للانشاء المستفاد منه الوجوب وانتفاء الشرط انما يوجب انتفاء الانشاء الخاص ، وهذا لا يقتضى انتفاء نوع الوجوب وسنخه - ضعيف غايته ، لما عرفت سابقا من أن الشرط لا يرجع إلى الهيئة وان قلنا بان الموضوع له في الحروف عام لان المعنى غير قابل للتعليق والتقييد فان التقييد والتعليق يقتضى لحاظ الشيء معنى اسميا ، بل الشرط يرجع إلى المحمول المنتسب ، أي المحمول في رتبة الانتساب ، على ما تقدم تفصيله في الواجب المشروط ، فالمعلق عليه هو وجوب الاكرام على جميع الصور ، وهو الذي ينتفى بانتفاء الشرط.

ومما ذكرنا ظهر : انه لا يبتنى التوهم المذكور على كون الوضع في الحروف خاصا ، ولا جوابه على كون الوضع فيها عاما ، فتأمل جيدا.

ص: 484

الامر الثاني :

ان المفهوم يتبع المنطوق في جميع القيود المعتبرة فيه ، وانما التفاوت بينهما بالسلب والايجاب ، فالموضوع في المفهوم هو الموضوع في المنطوق ، والمحمول فيه هو المحمول فيه. فلو قال : ان جائك زيد في يوم الجمعة راكبا فأكرمه ، كان مفهومه ان لم يجئك زيد في يوم الجمعة راكبا فلا تكرمه. ويكفي في انتفاء وجوب الاكرام انتفاء أحد القيود المأخوذة في المنطوق فينتفى وجوب الاكرام إذا جاء زيد في يوم الجمعة غير راكب.

والسر في ذلك هو ما عرفت : من أن المفهوم تابع للمنطوق موضوعا ومحمولا ونسبة ، سوى ان المنطوق قضية موجبة أو سالبة ، والمفهوم عكس ذلك ، أي يكون مفهوم الايجاب السلب ومفهوم السلب الايجاب ، ولازم ذلك هو انه لو كان المنطوق سالبة كلية كان مفهومه موجبة جزئية ، لان نقيض السالبة الكلية موجبة جزئية ، كما أن نقيض الموجة الكلية سالبة جزئية.

ومن هنا ربما يستشكل في الحكم بنجاسة الماء القليل ، بمفهوم قوله : إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء ، حيث إن المنطوق سالبة كلية ، لمكان إفادة النكرة في سياق النفي العموم ، فمفاد المنطوق هو عدم نجاسة الكر بكل نجاسة ، ويكون مفهومه هو انه إذا لم يبلغ الماء قدر كر ينجسه شيء ، والنكرة في سياق الاثبات لا تفيد العموم ، فأقصى ما يقتضيه المفهوم ، هو نجاسة الماء القليل في الجملة بنجاسة ما ، ولا يفيد نجاسته بجميع النجاسات ، هذا.

ولكن يمكن ان يقال : ان المباحث الفقهية الأصولية انما يبتنى على الاستظهارات العرفية من الأدلة ، بخلاف المباحث المنطقية ، فإنها تبتنى على البراهين العقلية ، وربما يكون بين نظر الفقيه ونظر المنطقي العموم من وجه. فقد يكون نقيض السالبة الكلية موجبة كلية بحسب ما يستظهر من الدليل ، مع أنه بنظر المنطقي يكون النقيض موجبة جزئية كما في المقام ، فان المستفاد من المنطوق في مثل قوله : إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء ، هو عموم السلب ، لا سلب العموم ، أي يكون الظاهر من قوله : لم ينجسه شيء ، لم ينجسه كل فرد فرد من أنواع النجاسات :

ص: 485

من البول ، والدم ، والمنى وغير ذلك ، ويكون المنطوق في قوة قوله : إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه الدم ، والبول ، والغائط ، وهكذا ، لوضوح ان المراد من الشيء هو أنواع النجاسات ، لا كل شيء في العالم ، فيكون المفهوم إذا لم يبلغ الماء قدر كر ينجسه الدم ، والبول والغائط ، وغير ذلك ، فيكون دليلا على نجاسة الماء القليل بجميع أنواع النجاسات. وليست النكرة في سياق النفي كلفظة ( كل ) وما شابهها من أدوات العموم التي يكون لها معنى اسمى ، حتى يصح لحاظها على نحو العام المجموعي ويكون المنفى هو سلب العموم ، كقوله : لا تأكل كل رمانة في البستان ، بل العموم المستفاد من النكرة في سياق النفي انما هو بمقدمات الحكمة ، حسب ما يقتضيه المقام ، والمنفي في المثال انما هو أنواع النجاسات ، أي كل فرد فرد منها ، ويلزمه ما ذكرنا من كون المفهوم من مثل هذا المنطوق هو الايجاب الكلي ، لا الجزئي. مع أنه يكفي الايجاب الجزئي في اثبات نجاسة ماء القليل في الجملة في قبال عدم نجاسته أصلا ، كما هو المدعى ، والمسألة فقهية ليس المقام محل تفصيلها.

الامر الثالث :

لو تعدد الشرط ، على وجه كان شرطية كل منهما تنافى شرطية الآخر ، اما لتباين الشرطين ، أو لحصول أحدهما قبل حصول الآخر دائما ، كما في خفاء الاذان والجدران ، الذي تجعل كل منهما شرطا لوجوب القصر ، مع أن خفاء الاذان دائما يحصل قبل خفاء الجدران على ما قيل ، فهل اللازم رفع اليد عن استقلال كل منهما في السببية وجعل كل منهما جزء السبب؟ أو ان اللازم رفع اليد عن انحصار كل منهما في السبيية وجعل كل منهما سببا مستقلا. فعلى الأول : يكون الحكم في المثال هو انحصار وجوب التقصير عند خفاء كل من الاذان والجدران معا ، ولا يكفي خفاء أحدهما. وعلى الثاني : يكفي خفاء أحدهما في الحكم. ولكن الوجه الثاني في مثل المثال لا يستقيم ، لأن المفروض حصول خفاء الاذان دائما قبل حصول خفاء الجدران ، فيلزم لغوية جعل خفاء الجدران شرطا ، لعدم وصول النوبة إليه ابدا. نعم فيما إذا كان بين الشرطين التباين في الجملة - ولو بالعموم من وجه - يجرى فيه كل من الوجهين.

ص: 486

والبحث في المقام تارة : يقع في خصوص المثال من حيث المسألة الفقهية. وأخرى : يقع في كلي ما كان من هذا القبيل من حيث المسألة الأصولية.

اما البحث عن المقام الأول : فهو وان كان خارجا عما نحن فيه الا انه لا بأس بالإشارة إليه فنقول :

انه لا تنافى في مثل قوله : إذا حفى الاذان فقصر ، وإذا خفى الجدران فقصر ، من حيث إن الظاهر من خفاء الجدران هو خفاء صورة الجدران لا شبحها ، فهو من هذه الجهة لا اجمال فيه. واما خفاء الاذان فلما كان له مراتب : مرتبة خفاء فصوله في مقابل تميزها على وجه يمتاز كل فصل عن الآخر ، ومرتبة خفاء مجموع الاذان في مقابل تميزه بنفسه وان الصوت صوت اذان ، ومرتبة خفاء الهمهمة في مقابل عدم خفائها ، بحيث لا يظهر من الصوت بنفسه كونه اذانا ، بل يستفاد كونه صوت اذان من القرائن.

ومقتضى الجمع بين الدليلين وحمل المجمل على المبين ، هو حمل خفاء الاذان على المرتبة التي تنطبق على خفاء الجدران ، ولا يبعد ان تكون تلك المرتبة حين خفاء الاذان المجموع من حيث المجموع ، لا خفاء خصوص الفصول ، ولا خفاء الهمهمة ، فيرتفع التنافي بين الشرطين ، وتفصيله موكول إلى محله.

واما البحث عن المقام الثاني : فمجمله انه وان قيل فيه وجوه أربعة أو خمسة : من تقييد مفهوم كل منهما بمنطوق الأخرى ، ومن رفع اليد عن المفهوم في كل منهما ، وغير ذلك ، كما لا تخفى على المراجع. الا ان الانصاف : ان ذلك تطويل بلا طائل ، بل لا محصل لبعض الوجوه ، فان تقييد مفهوم كل منهما بمنطوق الأخرى لا يستقيم ، إذ ليس المفهوم قضية مستقلة يمكن تقييدها ما لم يقيد أولا المنطوق ، فان المفهوم تابع للمنطوق في جميع القيود ، فلا يعقل تقييد المفهوم بلا تقييد المنطوق.

فالتحقيق ، هو ان يقال : انه بعد ما كان الشرط ظاهرا في العلة التامة المنحصرة ، وكان تعدد الشرط ينافي ذلك ، فلابد اما : من رفع اليد عن كونه علة تامة وجعله جزء العلة ، فيكون المجموع من الشرطين علة تامة منحصرة ينتفى الجزاء عند انتفائهما معا ، ويكون قوله : مثلا ، إذا خفى الاذان فقصر وإذا خفى الجدران

ص: 487

فقصر ، بمنزلة قوله : إذا خفى الاذان والجدران فقصر. واما : من رفع اليد عن كونه علة منحصرة مع بقائه على كونه علة تامة ، فيكون الشرط أحدهما تخييرا ، ويكون المثال بمنزلة قوله : إذا خفى الاذان أو خفى الجدران فقصر ، ويكفي حينئذ أحدهما في ترتب الجزاء ، مع قطع النظر عن كون خفاء الاذان يحصل قبل خفاء الجدران دائما. وحينئذ لابد من رفع اليد عن أحد الظهورين ، اما ظهور الشرط في كونه علة تامة ، واما ظهوره في كونه علة منحصرة. وحيث لم يكن أحد الظهورين أقوى من ظهور الآخر ولا أحدهما حاكما على الآخر - لمكان ان كلا من الظهورين انما يكون بالاطلاق ومقدمات الحكمة ، على ما تقدم - كان اللازم الجري على ما يقتضيه العلم الاجمالي من ورود التقييد على أحد الاطلاقين.

وربما يتوهم ان ظهور الشرط في كونه علة تامة أقوى من ظهوره في الانحصار ، لان دلالة القضية على استناد الجزاء إلى الشرط انما يكون بالنصوصية فلابد ان يكون الشرط في الجملة ولو في مورد مما يستند إليه الجزاء ، واستناده إليه لايكون الا بان يكون الشرط علة تامة لترتب الجزاء ولو في مورد ، إذ استناد الشيء إلى جزء العلة ليس استنادا حقيقيا ، بل الاستناد الحقيقي هو ما يكون إلى تمام العلة. ولو تصرفنا في ظهور الشرط في كونه علة تامة وجعلناه جزء العلة يلزم ان لا يستند الجزاء إليه ابدا ولو في الجملة ، فظهور القضية في كون الشرط علة تامة ربما يدعى كونه بالنصوصية ، بخلاف ظهورها في الانحصار ، فإنه لايكون بتلك المثابة ، بل انما هو بالاطلاق ، فلابد من رفع اليد عن ظهوره في الانحصار والقول بكفاية أحد الشرطين.

وقد حكى : ان شيخنا الأستاذ مد ظله مال إلى هذا الوجه في الدورة السابقة ، ولكن عدل عنه في هذه الدورة ، وافسد التوهم المذكور بما حاصله : ان أصل استناد الجزاء إلى الشرط انما يكون بالاطلاق ، إذ من اطلاق الشرط وعدم ذكر شيء آخر معه يستفاد الاستناد ، ولولا الاطلاق لما كاد يستفاد الاستناد ، وهذا لا ينافي ان حقيقة الاستناد انما يكون في استناد الشيء إلى علته التامة ، فان ذلك بعد الفراغ عن الاستناد وان الجزاء يكون مستندا إلى الشرط ، وهذا المعنى انما يكون بالاطلاق ،

ص: 488

فظهور القضية في كون الشرط علة تامة كظهورها في الانحصار ، في أن كلا منهما يكون بالاطلاق.

وتوهم ان تقييد العلية التامة وجعل الشرط جزء العلة يستلزم تقييد الانحصار أيضا - فإنه لا يعقل الانحصار مع كونه جزء العلة ، وهذا بخلاف تقييد الانحصار ، فإنه لا يلزم منه تقييد العلية التامة ، كما لا يخفى ، فيدور الامر بين : تقييد واحد ، وتقييدين ، ومعلوم ان الأول أولى ، فلا بد من تقييد الانحصار - فاسد أيضا ، فان تقييد العلة التامة يوجب رفع موضوع الانحصار ، لا انه يوجب تقييدا زايدا ، وهذا نظير ما تقدم في الواجب المشروط : من أن تقييد الهيئة يوجب رفع موضوع اطلاق المادة ، لا انه يوجب تقييدا زايدا. فراجع ما ذكرناه في ذلك المقام. (1).

فتحصل : انه لا محيص من اعمال قواعد العلم الاجمالي في المقام.

وما ربما يتوهم أيضا ، ان رتبة تقييد العلية التامة مقدمة على رتبة تقييد الانحصار - لوضوح ان كون الشيء علة منحصرة أو غير منحصرة انما يكون بعد كون الشيء علة تامة ، ومقتضى تقدم الرتبة هو ارجاع القيد إلى العلية التامة وجعل الشرط جزء العلة - فهو في غاية الفساد ، فان تقدم الرتبة لا ينفع بعد العلم الاجمالي بورود التقييد على أحد الاطلاقين ، وليس تقدم الرتبة موجبا لانحلال هذا العلم الاجمالي ، كما لا يخفى ، فتأمل جيدا.

الامر الرابع :

لو تعدد الشرط واتحد الجزاء ، فهل اللازم تعدد الجزاء وفعله عقيب كل شرط؟ أولا ، بل يكتفى بفعل الجزاء مرة واحدة. وهذا هو العنوان المعروف بمسألة تداخل الأسباب ، أو تداخل المسببات. ولتوضيح البحث عن ذلك ينبغي تقديم أمور :

الأول : في المراد من تداخل الأسباب والمسببات.

اما المراد من تداخل الأسباب : فهو ان اجتماع الأسباب المتعددة لا يقتضى الا ايجاد جزاء واحد ، بمعنى ان الأسباب التي هي عند الانفراد تقتضي ايجاد

ص: 489


1- راجع الامر الثاني من مباحث الواجب المشروط ص 178

جزاء واحد ، فعند الاجتماع لا تقتضي أيضا الا ايجاد جزاء واحد ، لا انها يقتضى كل سبب ايجاد جزاء حتى يتعدد الجزاء حسب تعدد الأسباب. وهذا من غير فرق بين ان تكون الأسباب المجتمعة مندرجة تحت نوع واحد - كما إذا تعدد منه النوم أو البول - أو انها غير مندرجة تحت نوع واحد - كما إذا نام ، وبال - فهذا معنى تداخل الأسباب.

واما معنى تداخل المسببات : فهو عبارة عن الاكتفاء بايجاد جزاء واحد وعدم وجوب التعدد ، بعد الفراغ عن عدم تداخل الأسباب واقتضاء كل سبب جزاء ، الا انه في مقام الامتثال يكتفى بجزاء واحد ، فان ذمته وان اشتغلت بالمتعدد الا انه صح تفريغها عن المتعدد بالواحد.

وتظهر الثمرة بين تداخل الأسباب وتداخل المسببات بالرخصة والعزيمة فإنه لو قلنا : بتداخل الأسباب ، لا يجوز له ايجاد الجزاء متعددا ، إذ لم تشتغل ذمته الا بجزاء واحد ، فالزايد يكون تشريعا محرما. ولو قلنا : بتداخل المسببات فله ايجاد الجزاء متعددا ، وله أيضا الاكتفاء بالواحد. وهذا بخلاف ما إذا قلنا بعدم تداخل الأسباب والمسببات ، فإنه لا بد له من ايجاد الجزاء متعددا حسب تعدد السبب.

الثاني :

مقتضى الأصل العملي عند الشك في تداخل الأسباب ، هو البراءة ، لرجوع الشك فيه إلى الشك في التكليف ، لأن الشك في تداخل الأسباب يرجع إلى الشك في اقتضاء السبب الثاني لتعقبه بالجزاء وتوجه التكليف به زائدا على التكليف المتوجه بالسبب الأول. واما الشك في تداخل المسببات ، فالأصل فيه يقتضى الاشتغال لرجوع الشك فيه إلى الشك في فراغ الذمة بايجاد جزاء واحد ، مع أنها قد كانت مشغولة بالمتعدد. والمرجع في ذلك هو الاشتغال ليس الا. هذا في باب التكاليف.

واما باب الوضعيات فربما يختلف الأصل فيه. مثلا لو شك في اقتضاء العيب للخيار زائدا على ما اقتضاه بيع الحيوان أو المجلس ، فمقتضى الأصل وان كان عدم ثبوت خيار العيب ، ولكن يمكن ان يقال : ان مقتضى الأصل بقاء الخيار

ص: 490

بعدم الثلاثة أيام ، فتأمل حيدا.

الثالث :

الجزاء المأخوذ في القضية الشرطية : اما ان يكون قابلا للتعدد - كالوضوء والغسل - واما ان لايكون قابلا للتعدد - كالقتل والخيار - حيث إنه لا يمكن تكرر القتل وكذا الخيار ، فان الخيار ليس الا ملك فسخ العقد واقراره وهذا امر واحد لا يمكن فيه التعدد.

ثم إن الجزاء الغير القابل للتعدد : اما ان يكون قابلا للتقيد بالسبب كالخيار ، حيث إنه قابل للتقيد : بالمجلس والحيوان والعيب والغبن وغير ذلك من أسباب الخيار. ومعنى تقيده بالسبب ، هو انه يلاحظ الخيار المستند إلى المجلس فيسقطه أو يصالح عليه ، ويبقى له الخيار المستند إلى الحيوان. وكذا في القتل لأجل حقوق الناس ، فلو قتل زيد عمروا وبكرا وخالدا ، فقتل زيد قصاصا وان لم يقبل التعدد ، الا انه قابل للتقيد بالسبب ، أي يلاحظ استحقاق زيد للقتل باعتبار قتله لعمرو ، فلو أسقط ورثة عمرو حق القود لم يسقط حق ورثة بكر وخالد.

واما ان لايكون قابلا للتقيد بالسبب ، كقتل زيد إذا كان له أسباب متعددة راجعة إلى حقوق اللّه تعالى كما إذا كان محاربا ، وزانيا محصنا ، ومرتدا ، وغير ذلك من أسباب القتل ، فان قتل زيد لا يتقيد بهذه الأسباب ، إذ لا اثر لتقيده ، فان حقوق اللّه تعالى غير قابلة للاسقاط حتى يظهر للتقيد بالسبب اثر. نعم في المثال يتأكد وجوب قتل زيد من جهة اجتماع تلك الأسباب ، ولكن التأكد غير التقيد بالسبب ، كما لا يخفى.

ثم انه لا اشكال في دخول القسم الأول - وهو ما إذا كان الجزاء قابلا للتعدد - في محل النزاع في تداخل الأسباب والمسببات وعدم التداخل. وكذا لا ينبغي الاشكال في دخول القسم الثاني - وهو ما إذا كان الجزاء قابلا للتقيد بالسبب - في محل النزاع أيضا ، إذ يتحقق اثر للقول بعدم التداخل باعتبار قابلية الاسقاط من جهة خاصة ، مع بقاء الجزاء من سائر الجهات كما عرفت. واما القسم الثالث : فهو خارج عن محل النزاع ، إذ لا اثر عملي فيه للقول بالتداخل وعدم

ص: 491

التداخل ، ومجرد قابليته للتأكد لا يوجب اثرا عمليا ، كما هو واضح.

الرابع :

ربما يبتنى النزاع في المقام على كون الأسباب الشرعية معرفات أو مؤثرات ، فعلى الأول : فالأصل التداخل ، وعلى الثاني : فالأصل عدم التداخل.

ولكن الانصاف : ان قضية كون الأسباب الشرعية معرفات أو مؤثرات مما لا محصل لها ، فإنه ان كان المراد من الأسباب الشرعية هي موضوعات التكاليف ، فدعوى كونها مؤثرة أو معرفة مما لا ترجع إلى محصل ، لان موضوع التكليف ليس بمؤثر ولا معرف ، الا إذا كان المراد من المؤثر عدم تخلف الأثر عنه فيستقيم ، لان الحكم لا يتخلف عن موضوعه ، الا ان اطلاق المؤثر على هذا الوجه مما لا يخلو عن مسامحة.

وان كان المراد من الأسباب المصالح والمفاسد فهي مؤثرة باعتبار ( من حيث تبعية الاحكام لها ) ومعرفة باعتبار ( من حيث إنها لا تقتضي الاطراد والانعكاس ) كما هو شأن الحكمة ان كان المراد من المعرف هذا المعنى ، أي عدم الاطراد والانعكاس. وعلى كل حال : الكلام في المقام انما هو في الشروط الراجعة إلى موضوعات التكاليف ، واطلاق المعرف على ذلك مما لا معنى له.

الخامس :

قد يقال : ان القول بعدم تداخل المسببات والأسباب يستلزم القول بتعدد التكليف والمكلف به ، في مثل قوله : صم يوما وصم يوما ، مع أن المحكى عن المشهور : القول بكفاية صوم يوم واحد في المثال وحمل الطلب الثاني على التأكيد لا التأسيس. ومن هنا ربما يتوهم : المنافاة بين المحكى عن المشهور في مثل المثال ، وبين المحكى عنهم في مسألة تداخل الأسباب والمسببات ، حيث إنهم ذهبوا إلى عدم التداخل ، ويتخيل ان القول بكفاية صوم يوم واحد في المثال يرجع إلى القول بتداخل الأسباب ، حيث إن كل طلب سبب لايجاد متعلقه ، فالاكتفاء بصوم واحد يرجع إلى تداخل الطلبين واقتضائهما ايجاد متعلق واحد ، هذا.

ولكن التحقيق : ان المثال ليس من تداخل الأسباب والمسببات ، فان

ص: 492

المثال لما كان المتعلق واحدا ، وهو صوم اليوم ، ولم يكن هناك ظهور لفظي في تعدد التكليف والطلب ، لان قوله ثانيا : صم يوما ، لايكون ظاهرا في التأسيس الا من جهة الظهور السياقي ، والظهور السياقي لا يقاوم الظهور اللفظي في وحدة المتعلق ، بل الظهور اللفظي في وحدة المتعلق أقوى من الظهور السياقي في كون الطلب الثاني للتأسيس ، ولأجل ذلك يحمل على كونه للتأكيد. ولو سلم انه ليس بأقوى ، فلا أقل من أنه يوجب التوقف. وأين هذا من مسألة تداخل الأسباب التي سيأتي ان الظهور اللفظي فيها يقتضى عدم التداخل ، فلا ملازمة بين المسئلتين.

إذا عرفت هذه الأمور فاعلم : ان الأصل اللفظي يقتضى عدم تداخل الأسباب والمسببات. اما عدم تداخل الأسباب فتوضيحه : هو ان تعلق الطلب بصرف الوجود من الطبيعة وان كان مدلولا لفظيا ، الا ان عدم قابلية صرف الوجود للتكرر ليس مدلولا لفظيا ، حتى يعارض ظاهر القضية الشرطية في تأثير كل شرط لجزاء غير ما اثره الآخر ، بل من باب حكم العقل بان المطلوب الواحد إذا امتثل لا يمكن امتثاله ثانيا. واما ان المطلوب واحد أو متعدد ، فلا يحكم به العقل ، ولا يدل عليه اللفظ ، ولذا اختلف في دلالة الامر على المرة والتكرار. وبعبارة أخرى : وضعت صيغة الامر لطلب ايجاد الطبيعة ، والعقل يحكم بان ايجاد الطبيعة يحصل باتيانها مرة فلا موجب لاتيانها ثانيا ، وهذا لا ينافي ان يكون المطلوب ايجادها مرتين ، بحيث يكون امتثال كل مرة كافيا لامتثال مطلوب ، أي لو دل الدليل على أن المطلوب متعدد لا يعارضه حكم العقل على أن امتثال الطبيعة يحصل باتيانها ، لان كل مطلوب يحصل امتثاله باتيانه مرة عقلا. اما ان المطلوب متعدد أولا ، فلا يحكم به العقل. فإذا دل ظاهر الشرطيتين على تعدد المطلوب لا يعارضه شيء أصلا.

ومما ذكرنا انقدح : ما في تقديم ظهور القضيتين من جهة كونه بيانا لاطلاق الجزاء ، لأنه على ما ذكرنا ظهور الجزاء في الاكتفاء بالمرة ليس من باب الاطلاق أصلا ، حتى يقع التعارض ، بل يكون ظهور القضية الشرطية في تأثير الشرط مستقلا في الجزاء رافعا حقيقة لموضوع حكم العقل : بان المطلوب واحد يحصل امتثاله باتيانه مرة ، وواردا عليه ، بل على فرض ظهور الجزاء في المرة يكون ظهور الشرطية

ص: 493

حاكما عليه ، كما لا يخفى.

نعم : لو شك في الطلب الواحد ، كقوله : صل ، أو الجزاء المترتب على شرط واحد ، كقوله : إذا سهوت فاسجد سجدتي السهو ، انه يكفي المرة أم يجب تعدد الصلوات والسجدات ، فاطلاق الامر يقتضى حصول الامتثال بالمرة. وأين هذا مما إذا تعدد الامر أو الشرط؟ لأنه لا يمكن ان يكون الاطلاق متكفلا لوحدة الطلبين ، أو تأثير الشرطين اثرا واحدا. فتأمل في ذلك لئلا تخلط بين المقامين.

ثم إن عدم ظهور القضيتين في الاتحاد لا ينافي ما تقدم : من حكومة ظهور الامر في تعلقه بصرف الوجود في نحو ( صم يوما صم يوما ) على الظهور السياقي ، للفرق بين البابين ، فان الامر في مقام الجزاء حيث إنه متفرع على الشرط فيقتضى تعدد الشرط تعدد الجزاء. وهذا بخلاف الامر الابتدائي المكرر ، فإنه ليس ظاهرا في التعدد الا من جهة الظهور السياقي المحكوم بظهور تعلق الامر بصرف الوجود. واما الثاني فعلى فرض ظهور الجزاء في القضيتين في الاتحاد ، أي هذه الحقيقة التي جعلت جزاء في مثل ( إذا بلت توضأ ) بعينها هي التي جعلت جزاء فيما إذا تكرر منه البول ، والحقيقة الواحدة لا تقبل التكرار ، فيكون الجزاء الممكن فيه التعدد كالجزاء الذي لا يمكن فيه التعدد من لزوم التداخل في الأسباب.

ولكنا نقول : ان الجملة الشرطية في كونها انحلالية أظهر من اتحاد الجزاء في القضيتين ، وذلك لأنه لا شبهة ان القضية الشرطية كالقضية الحقيقة ، فكما ان قوله : المستطيع يحج - عام لمن استطاع في أي وقت ، فكذلك قوله : ان استطعت فحج ، لان كل قضية حقيقية راجعة إلى الشرطية ، وبالعكس ، غاية الامر انهما متعاكسان. فالشرطية تتضمن عنوان الموضوع ، لان نتيجة ( ان استطعت ) هو ( المستطيع ) وهي صريحة في الاشتراط. والحقيقية تتضمن الشرط ، وهي صريحة في عنوان الموضوع. ولازم الانحلالية ان يترتب على كل شرط جزاء غير ما رتب على الآخر. فعلى هذا لا اشكال في عدم التداخل ، حتى في مورد تعدد الشرط من جنس واحد ، فضلا عما إذا تعدد من الأجناس المختلفة ، فيصير هذا الظهور قرينة للجزاء ، ويصير بمنزلة ان يقال : إذا بلت فتوضأ وإذا بلت ثانيا فتوضأ وضوء آخر ، كما إذا تحقق منه النوم والبول.

ص: 494

ثم إن ظهور كل شرط في تأثيره اثرا غير اثر الشرط الآخر لا يختص بالأدلة اللفظية ، بل يمكن استفادته من اللبيات ، لان المدار على ظهور الشرط في الانحلالية ، فإذا كان الدليل عليه لفظيا فاستفادة الانحلالية اما : بالوضع ، كالعموم الأصولي المستفاد من الأسماء المتضمنة للشرط ، كمتى وانى وأين وإذا ومهما وحيثما ، وهكذا. واما : بالاطلاق ، ك ( إن ) وأخواتها ، فان استفادة كون مدخولها علة تامة لترتب الجزاء عليه بالاطلاق ، وإذا كان الدليل عليه لبيا ، فاستفادة الانحلال كأصل الاشتراط يمكن قيام الاجماع عليه ، أو دلالة العقل عليه.

ان قلت :

سلمنا ظهور كل شرط في كونه تمام السبب للجزاء ، الا ان الجزاء حيث إنه لم يترتب بوجوده على الشرط حتى يمكن التعدد - فان وجوده هو مقام امتثاله - بل رتب من حيث حكمه وهو لا يقبل التعدد. وبعبارة واضحة : وجود الاكرام لم يعلق على المجيئ حتى يمكن ان يتعدد ، بل وجوبه الذي هو حكمه علق عليه ، وغاية تأثير كل سبب ان يتأكد الحكم ، لان الوجوب لا يمكن فيه التعدد.

قلت :

قد بينا في المقدمات : ان الوجوب - وهو المعنى النسبي المستفاد من الهيئة - غير قابل للتعليق ، بل المعلق هو محصل الجملة ، وهو طلب الايجاد الذي يتحقق بايقاع نسبة المادة إلى الفاعل في مقام الانشاء. وبعبارة واضحة : قد تقدم في مبحث الأوامر (1) ان مفاد صيغة الامر ليس طلب الفعل كما هو المشهور ، لأنه ليس معنى ( صل ) اطلب منك الصلاة ، بل وضعت صيغة الامر لنسبة المادة إلى الفاعل انشاء وتشريعا ، فكون المتكلم في مقام التشريع ملقيا نسبة المادة إلى الفاعل يوجب ان يتحقق بنفس هذا الالقاء مصداق للطلب ، ففي مقام التشريع يطلب الشارع ايجاد الصلاة ، والايجاد قابل للتكرر.

إذا عرفت ذلك ، فلنرجع إلى ما برهن عليه العلامة - على ما يحكى عنه - لعدم تداخل الأسباب فنقول : هو ( قده ) أتم البرهان بمقدمات ثلث ، والمقدمتان منها صريحتان في كونهما من برهان عدم التداخل في الأسباب ، والثالثة ظاهرة فيه ، لا

ص: 495


1- راجع تفصيل هذا البحث في الامر الثالث من المقصد الأول ، الجزء الأول من الفوائد ص 129

صريحة ، لامكان رجوعها إلى برهان عدم التداخل في المسبب.

المقدمة الأولى : انه لا اشكال ، في أن ظاهر القضية الشرطية ، هو كون الشرط مؤثرا في الجزاء.

والثانية : ان ظاهر كل شرط ان يكون اثره غير اثر الشرط الاخر.

والثالثة : ان ظاهر التأثير ، ان الأثر هو تعدد الوجود لا تأكد المطلوب.

والعمدة من هذه المقدمات هي الأولى ، لان المقدمتين الأخيرتين واضحتان. اما الثانية : فلانه ، بعد ثبوت الأولى لا بد ان يكون اثر كل شرط غير اثر الآخر ، لان معنى تأثير الشرط التأثير بالاستقلال لا الانضمام. واما الثالثة : فلان التأكيد وان كان مغايرا لغير المؤكد ، الا انه في الحقيقة راجع إلى وحدة الأثر ، فمهما أمكن التعدد في المسبب لا موجب لتأثير الشرط التأكد.

نعم : مع حفظ المقدمتين وعدم امكان التعدد يجب المصير إلى التأكيد.

واما المقدمة الأولى : فعمدة المناقشة فيها مناقشة فخر المحققين : (1) من ابتنائها على كون العلل الشرعية مؤثرات ، لأنها بناء على كونها معرفات ، لا تأثير للشرط في الجزاء. ولكن ظهر مما ذكرنا : ان التداخل وعدمه لا يبتنى على هذا النزاع ، بل لا محصل لهذا النزاع أصلا ، لان علل التشريع ليست عللا حقيقية ، فلا يمكن النزاع فيها والقول بأنها مؤثرات. واما موضوعات الاحكام ، فليست الا كالعلل الحقيقية ولا يمكن ان تكون معرفات. وبالجملة لا وجه لهذه المناقشة أصلا.

ثم انه ، قد ذكرنا ضابطا مميزا بين العلل للجعل وبين موضوعات المجعول في غير مبحث. واجماله : ان كل ما لا يمكن ان يجعل عنوانا لفعل المكلف ويلقى إليه لعدم تميزه بين مورد حصوله وعدم حصوله ، كاختلاط المياه والنهى عن الفحشاء ، فهذا لا يمكن ان يكون موضوعا الذي قد يعبر عنه بالعلة للمجعول ، بل يجب ان يكون علة للجعل وملاكا له ، فهذا غير مطرد ولا منعكس.

وما أمكن ان يلقى إلى المكلف ، كاسكار الخمر ، لامكان تمييز المكلف بين حصوله وعدم حصوله ، فهذا يلاحظ فيه لسان الدليل ، فان اخذ فيه علة للجعل والتشريع ، فهو لا يطرد ولا ينعكس ، كقولهم علیهم السلام أتدري لم جعل أو لم شرع

ص: 496


1- راجع إيضاح الفوائد الجزء 1 ص 48

كذا ، ولم صار ماء الاستنجاء لا بأس به لان الماء أكثر من القذر ، وأمثال هذه القضايا التي صنف الصدوق ( قده ) لها كتاب على حدة ، وسماه علل الشرايع. وان اخذ فيه علة للمجعول ، كقوله علیه السلام الخمر حرام لأنه مسكر ، فهذا هو العلة التي يتعدى عن مورد معلولها إلى المشارك معه في هذه العلة.

فتحصل مما ذكرنا ان عمدة برهان القائل بالتداخل ، هو ان صرف الشيء لا يتكرر. وهذا الكلام مما لا ريب فيه بعد اثبات ان متعلق الامر هو الطبيعة المشتركة بين المرة والتكرار ، لا خصوص المرة ، ولا التكرار ، فإذا كان المتكلم في مقام البيان ، فبالاطلاق يثبت انه أراد القدر الجامع ، وبحكم العقل يثبت ان القدر الجامع إذا تحقق لا مجال لامتثاله ثانيا.

ولكن فيه أولا : ان هذا لا ينافي ظهور القضية الشرطية في تأثير كل شرط اثرا غير اثر الشرط الآخر ، لان كون صرف الشيء لا يتكرر لايكون مستندا إلى ظهور لفظي ، حتى يعارض ظهور الشرطية. وبعبارة أخرى : حكم العقل مفاده ان المطلوب الواحد لا يتكرر ، فلا يعارض ظهور ما دل على تعدد المطلوب. وثانيا : ان ظهوره في عدم التكرار بالاطلاق وعدم موجب التعدد ، ويكفي ظهور الشرطيتين في بيان موجب التعدد.

واما المقام الثاني :

فالحق فيه أيضا عدم التداخل ، لأنه بعد ما ظهر ان كل سبب يؤثر غير ما اثره الآخر ، فمع امكان التعدد في المسبب لا موجب للتداخل ، ولا وجه لدعوى أصالة التداخل. فالاكتفاء في الامتثال بمسبب واحد ، مع القول بعدم التداخل في الأسباب ، لا بد فيه اما : من ثبوت دليل عليه ، كالاكتفاء بغسل واحد إذا اجتمع عليه حقوق (1) لقيام الدليل الواضح على كفاية غسل واحد ، اما مطلقا ، واما لو نوى الجميع ، واما لو كان في الأسباب الجنابة. وعلى أي حال : ان ثبوته بالدليل غير دعوى أصالة التداخل. واما : من كون المسبب مصداقا لعنوانين بينهما عموم من وجه ، كضيافة الهاشمي العالم ، لو قال : أكرم هاشميا وأضف عالما ، فان اطلاق كل دليل حيث إنه يشمل مورد الاجتماع يوجب عدم البأس باتيان المجمع ، لامتثال الاكرام

ص: 497


1- المراد من الحقوق هو حقوق اللّه تعالى.

الذي بينه وبين الضيافة عموم من وجه في العالم الذي بينه وبين الهاشمي عموم من وجه. ولا يبتنى صحة الامتثال بالمجمع على مسألة الاجتماع ، لان موضوع تلك المسألة في الحكمين المتضادين. والمتماثلان وان كان كالمتضادين الا انه إذا بقى الحكمان باثنينيتهما ، واما مع اتحادهما كما في الحكمين الانحلاليين ، كقوله : أكرم العلماء وأكرم السادات ، واجتمع في مصداق واحد عنوان العالم والسيد ، أو في البدليين كما في امتثالهما باتيان المجمع ، فيتحدان ويؤثر كلاهما بوصف الاجتماع اثرا واحدا.

وبالجملة : تداخل المسبب لا بد ان يثبت بدليل ، أو يصدق الامتثال في اتيان واحد إذا كان بين العنوانين عموم من وجه. والكلام الذي نحن بصدد تنقيحه مفروض فيما كان بين الأسباب تباين ، كالبول والنوم ، أو الجماع والاكل ، أو تساو كتعدد النوم أو الاكل ، مع اتحاد المسبب بحسب المفهوم. ثم انه ينبغي التنبيه على أمرين :

الأول : ان هذا الذي ذكرنا من عدم تداخل الأسباب ، انما هو بمقتضى القواعد اللفظية ، فأصالة عدم التداخل تامة لو لم يقم دليل على خلافها ، كما في كل أصل قام الدليل على خلافه.

فمن جملة ما قام الدليل فيه على خلاف هذا الأصل موجبات الوضوء ، وبعض موجبات الكفارة. اما الوضوء : فقيام الدليل على كفاية وضوء واحد لجميع أسبابه موجب لاستكشاف أحد أمور ثلاثة فيه.

أولها : كون سبب الوضوء هو العنوان الواحد الحاصل بأحد النواقض ، بمعنى كون النواقض محصلة لهذا العنوان ، ونفس ذلك العنوان هو السبب ، وهذا غير قابل للتعدد بتعدد محصلاته ، ويعبر عنه بالقذارة المعنوية والحالة الحدثية. ثم انه إذا تحقق المحصلان في عرض واحد ، فالعنوان مستند إلى وصف الاجتماع ، ولو تحققا طولا فمستند إلى أول الوجود منهما ، كما لا يخفى.

ثانيها : كون السبب هو صرف الوجود من النواقض ، لا مطلق وجوده ، فأول سبب حصل في الخارج هو المؤثر في الوضوء ، دون ما يتحقق ثانيا وثالثا.

ثالثها : ان المسبب - وهو الطهارة الحاصلة بأول وضوء - غير قابل للتعدد ولا التأكد ولا الانتساب إلى سبب من حيث والى سبب آخر من حيث آخر ، فيخرج المورد عن محل النزاع. ولكنه لا يخفى : ان هذا الاحتمال في باب الوضوء لا

ص: 498

يتطرق ، لأنه ثبت : ان الوضوء على الوضوء نور على نور.

واما باب بعض الكفارات : فهو في غير الجماع ، كالأكل والشرب ونحوهما ، لأنه ورد في الدليل ( من أفطر في نهار شهر رمضان فعليه الكفارة ) والمفطر صادق بأول وجود من المفطرات ، وهو عنوان غير قابل للتعدد ، فكل من شرب واكل وارتمس ، يصدق عليه انه أفطر بمجرد تحقق أول المفطرات ، فاكله بعد شربه غير قابل للتأثير. ولا ينافي ذلك وجوب الامساك على المفطر أو استحبابه ، لأنه حكم تعبدي من جهة احترام شهر رمضان ، لا لامكان الافطار ثانيا لبقاء الصوم.

وبالجملة : لا ينافي الأصل قيام الدليل على خلافه ، كما أن أصالة عدم تداخل المسببات - أي عدم كفاية امتثال واحد لأسباب متعددة مؤثرة - لا ينافي قيام الدليل على كفايته ، كما في الأغسال ، وكما لو لم يكن المسبب قابلا للتعدد والتأكد ولا التقيد ، كما إذا اجتمع حقوق اللّه تعالى في القتل ، فإنه لا يمكن ان يتقيد القتل بحق دون حق ، لان حقه تعالى غير قابل للعفو ، حتى يتقيد بسبب غير تقيده بسبب آخر ، وكما في تداخل المسببين في ضيافة العالم الهاشمي.

الثاني :

انه قيل : بتعدد حقايق الأغسال ، كما هو المشهور. وقيل : باتحادها ، كما هو المحكى عن الأردبيلي ( قده ) وتابعيه. ومعنى اتحاد حقيقتها ان ما يوجبه الجنابة من الغسل عين ما يوجبه الحيض أو مس الميت أو الجمعة ، وهكذا. ثم انه وان اختلف القولان بحسب الآثار الفقهية والأحكام الشرعية ، ككفاية غسل واحد حتى الجمعة عن جميع الأغسال ولو لم ينو غيرها ، وكفاية كل غسل عن الوضوء بناء على الاتحاد ، وعدم كفايته في كلا المقامين بناء على التغاير ، الا انه ليس المقام مقام البحث عن الحكم الفرعي وبيان ان المختار هو التعدد كما هو المشهور ، لظاهر الاخبار (1) بأنه « إذا اجتمع عليه حقوق أجزئك غسل واحد » الظاهر في أن الموجب للغسل متعدد. ولا معنى لاتحاد حقيقة الغسل مع تعدد موجبه ، لأنه لو كان ما

ص: 499


1- الوسائل ، الجزء 1 الباب 43 من أبواب الجنابة الحديث 1 ص 526

توجبه الجنابة عين ما يوجبه الحيض للزم ان يكون السبب واحدا أيضا ورجوع جميع الأسباب إلى حدث واحد ، كموجبات الوضوء ، على ما عرفت ، لعدم امكان ترتب معلول واحد على علل مختلفة ، كما برهن في محله. بل المهم في المقام ، انما هو بيان الحكم الأصولي على المسلكين.

فنقول : لو قلنا بالاتحاد ، فلا محيص عن الالتزام بالتداخل وعدم تأثير كل ما هو السبب في الظاهر ولو قلنا بأصالة عدم التداخل في الأسباب والمسببات ، لعدم قابلية المورد لتعدد الوجود ، لان محل النزاع في باب التداخل هو ما لو كان الجزاء المترتب على الأسباب واحدا مفهوما وقابلا للتعدد مصداقا ، أو بحكم المتعدد المصداق من التأكيد أو التقييد. والمفروض - بناء على الاتحاد - ان ما يوجبه الجنابة من الغسل عين ما يوجبه الحيض. ولو قلنا بالتباين فلا محيص عن الالتزام بعدم التداخل ولو قلنا بأصالة التداخل في باب الأسباب والمسببات ، لما عرفت ان مورد النزاع هو المتحد في المفهوم القابل لتعدد الوجود ، ومعنى متحد المفهوم المتعدد في الوجود هو المشترك المعنوي ، كالرقبة المترتب عتقها على الافطار والظهار. وهذا بخلاف متباين الحقيقة المترتب أحد المتباينين على سبب كالوضوء مثلا على البول ، والمباين الآخر كالكفارة عل سبب آخر كالافطار ، فإنه لا معنى في هذا المقام للتداخل.

ثم انه بناء عل التباين ، كما هو المختار ، فمقتضى القاعدة عدم كفاية غسل واحد عن الأسباب المتعددة ، الا انه قام الدليل على أنه لو نوى الجميع بغسل واحد يجزى ، كما أنه قام الدليل على كفاية نية الجنابة لجميع الأغسال ولو لم ينو غيرها. فالأول : كقوله في كتاب (1) حريز : إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزئك غسلك ذلك للجنابة والجمعة وعرفة إلى آخر الحديث ، فان قوله : إذا اغتسلت - باطلاقه يشمل لو كان المتعدد هو الأغسال المستحبة ، أو الواجبة ، أو المركب منهما ، لا سيما بقرينة ذيل هذا الخبر ( فإذا اجتمعت لله عليك أجزئها عنك غسل واحد ) واما اعتبار نية الجميع ، فلقوله علیه السلام ( للجنابة والجمعة ) الظاهر في لحاظ الجنابة

ص: 500


1- الوسائل ، الجزء 1 الباب 43 من أبواب الجنابة الحديث 1 ص 526

والجمعة وغيرهما في الغسل.

والثاني : كقوله علیه السلام (1) « إذا اغتسل الجنب بعد طلوع الفجر أجزء عنه ذلك عن كل غسل يلزمه في ذلك اليوم » فان اطلاقه يشمل ما لو لم يلتفت الجنب حين غسل الجنابة إلى أسباب آخر. وبالجملة : لو قام الدليل كذلك لكشف عن كفاية نية الشيء عن اتيانه عن الأسباب المتعددة ، ويصير المميز للأسباب هو النية.

الفصل الثاني : في مفهوم الوصف

ولا يخفى : ان عنوان محل البحث ، وان جعل في كلمات الأساطين - كالكفاية بل التقرير - هو الأعم ، ولكن الحق هو اختصاص محل النزاع بالوصف المعتمد على الموصوف دون غيره ، فان غيره ليس الا كمفهوم اللقب ، فان اثبات حكم لموضوع بعد فرض كونه لا يدل على انتفاء سنخ هذا الحكم عن غير هذا الموضوع لا فرق فيه ، بين ان يكون الموضوع في القضية شخصيا كأكرم زيدا ، أو كليا كجئ بانسان ، أو اشتقاقيا كأكرم عالما ، فكما لا يدل اثبات حكم لزيد على انتفاء سنخ هذا الحكم عن غيره ، فكذلك اثبات حكم للعالم لا يدل على انتفاء سنخ هذا الحكم عن غير العالم. وتوهم ان المشتق مأخوذ فيه الذات بناء على قول ، أو متضمن لها على آخر - فكان الموضوع قد ذكر في القضية - من أعجب الغرائب.

وبالجملة : الالتزام بالمفهوم فيما إذا ذكر الموصوف صريحا ، انما هو لخروج الكلام عن اللغوية ، وتقريبه : ان الحكم لو لم يختص بمورد الوصف وكان ثابتا له وللفاقد لما كان لذكر الوصف وجه. وهذا لا يجرى في مثل أكرم عالما ، فان ذكر موضوع الحكم لا يحتاج إلى نكتة غير اثبات الحكم له ، لا اثباته له وانتفائه عن غيره. وبالجملة : الوصف الغير المعتمد على الموصوف ليس الا اللقب.

فالأولى ان يجعل العنوان هكذا : لو نعت موضوع القضية بنعت ، فهل يدل ذكر النعت بعد المنعوت على انتفاء الحكم عن ذات المنعوت الغير المتصف بهذا

ص: 501


1- الوسائل - الجزء الباب 43 - من أبواب الجنابة - الحديث 1 - 2 - ص 526

الوصف مطلقا؟ أو لا يدل مطلقا؟ أو يفصل بين ما إذا كان مبدء الاشتقاق للوصف علة للحكم فله الدلالة وبين ما لم يكن كذلك؟ أي التفصيل بين الوصف المشعر بعلية مبدء اشتقاقه للحكم ، وعدمه.

والحق : عدم الدلالة مطلقا ، وذلك لما ظهر في مفهوم الشرط : من أن كون القضية ذات مفهوم انما يتصور فيما إذا كان القيد راجعا إلى الحكم ، بالمعنى المعقول الذي بيناه ، وهو تقييد المتحصل من الجملة ، لا ذات الانتساب الذي هو معنى حرفي. واما لو كان القيد راجعا إلى عقدي الوضع والحمل - أي لو كان القيد واردا قبل الانتساب وكان مقيدا لاحد المنتسبين - فلا يتصور ثبوت المفهوم للقضية ، وفي المقام لا يمكن ارجاع القيد الا إلى الموضوع ، فيكون كالشرطية التي سيقت لفرض وجود الموضوع ، فلا مجال لتوهم المفهوم فيها. وبالجملة : القيد في المقام ليس كالقيد في باب القضية الشرطية ، ولا كالغاية التي يمكن ان تكون غاية للحكم.

ان قلت :

فلا وجه على هذا ، لحمل المطلق على المقيد ، فإنه لا وجه للحمل الا كون التقييد بالمنفصل كالتقييد بالمتصل ، ولا شبهة ان التقييد بالمتصل يوجب اختصاص الحكم بالمقيد ، فكذلك المنفصل ، ولو لم يكن الوصف ذا مفهوم لما كان وجه لحمل المطلق على المقيد وبعبارة أخرى : من اجل ظهور المقيد في اختصاص الحكم به ، لان الأصل في القيد الاحترازية ، يحمل المطلق على المقيد.

قلت :

حمل المطلق على المقيد ليس من جهة المفهوم ، بل من جهة التنافي بين التعين الذي يكون المقيد نصا فيه ، والتخيير الذي يكون المطلق ظاهرا فيه مع وحدة التكليف. والا فان مجرد اختصاص الحكم بالرقبة المؤمنة في المقيد ليس الا مثل ان يذكر المقيد ابتداء من دون ذكر المطلق ، فلا يفيد التقييد الا تضييق دائرة موضوع الحكم. وهذا ليس معنى المفهوم ، فإنه يجب ان يدل على انتفاء سنخ هذا الحكم عن غير هذا الموضوع بأي سبب فرض.

وبعبارة أخرى : كون الموضوع خاصا وامرا مخصوصا غير دلالة القضية على

ص: 502

انتفاء الحكم من غير هذا الموضوع. ومن هنا ظهر : ان كون الأصل في القيد احترازيا - لا للفوائد الاخر التي تذكر لمجيئ القيد - لا يفيد اثبات المفهوم ، فان الاحترازية ان كانت بمعنى دلالة القيد على انتفاء الحكم عن ذات المقيد الخالي عن هذا القيد ، فالمسلم منها انما هو في الحدود ، لان بناء التعريف على الاطراد والانعكاس ، دون غيرها ، وان كانت بمعنى دلالته على اختصاص الحكم بالمقيد ، فهذا لا يفيد الا اختصاص هذا الحكم بهذا الموضوع الخاص ، لا نفيه عن غيره.

فان قلت :

حمل المطلق على المقيد في المطلق المطلوب منه صرف وجوده وان لم يكن من باب المفهوم ، الا انه في المطلق الانحلالي يكون التقييد مستلزما للمفهوم لامحة ، فان تقييد وجوب الزكاة في مطلق الغنم بالسائمة ، معناه نفيها عن المعلوفة ، فكون القيد احترازيا لا يستقيم الا باخراج المعلوفة من دليل المطلق ، وهذا عين المفهوم.

قلت :

أولا : لا موجب للتقييد في المطلق الانحلالي لو كان القيد منفصلا ، نعم في المتصل لا مناص عن اختصاص الحكم بمورد القيد ، وذلك لعدم التنافي بين تعلق الزكاة بمطلق الغنم وتعلقها بالسائمة.

وثانيا : على فرض تسليم التقييد ، ان التقييد ليس الا قصر دائرة الحكم على الموضوع المقيد ، لا نفيه عما عداه. وفرق بين اثبات حكم لموضوع خاص مع سكوته عن غير هذا الموضوع ، واثباته له ونفيه عما عداه ، والثاني هو المفهوم ، لا الأول. ولذا لو دل دليل ثالث على تعلق الزكاة بالمعلوفة ، فبناء على التقييد لا تعارض بين المقيدين ، ونتيجة تقييد الحكم بكليهما هو الاطلاق ، لاستيعابهما جميع افراد المطلق. وبناء على المفهوم يتعارضان ، لان اثبات الحكم في السائمة مع القول بالمفهوم معناه : عدم ثبوت الزكاة في المعلوفة.

ثم انه لا اشكال في أن محل البحث هو فيما لو كان بين الموصوف والصفة عموم مطلقا أي كان الموصوف عاما والصفة أخص منه ، ويلحق به ما لو كان بينهما العموم من وجه مع الافتراق من جانب الموضوع ، أي وجد الموصوف كالغنم ولم يكن

ص: 503

سائمة. واما الافتراق من جانب الوصف ، أي وجدت السائمة ولم تكن غنما ، فهذا غير داخل في محل النزاع ، لان كون الوصف ذا مفهوم معناه تخصيص موصوفه به واخراج سائر افراد الموصوف عن ثبوت هذا الحكم لها ، لا تخصيص موصوف خارج عن هذين التركيبين. فلا بد من ملاحظة التقييد بالنسبة إلى الإبل السائمة وعدم وجوب الزكاة في معلوفها من ملاحظة نفس دليل تعلق الزكاة بالإبل ، وهذا واضح. وقول الشافية لا يعتنى به. واستفادة العلية من وصف خاص خارج عن ظهور الكلام بحسب طبعه.

الفصل الثالث : في مفهوم الغاية

وتنقيحه يتوقف على تحرير نزاع آخر وقع في باب الغاية ، وهو انه. هل الغاية داخلة في المغيى مطلقا ، أم لا مطلقا ، أو التفصيل بين أدواتها ، أو التفصيل بين كون الغاية من جنس المغيى وعدمه؟ ولا يخفى : انه لا يمكن اثبات وضع ولا قرينة عامة في الدخول أو الخروج. وكون لفظة الغاية والنهاية دالة على دخول الغاية - لان نهاية الشيء كابتدائه من حد الشيء ، وحد الشيء من اجزائه لا انه أول جزء من خارج الشيء - لا يفيد اثبات الوضع ( لحتى والى ) فإنهما لم يوصفا لما يستفاد من هذا اللفظ الأسمى. والأمثلة التي تذكر للدخول أو الخروج لا تفيد اثبات الوضع ، فان استفادة الدخول أو الخروج من هذه الأمثلة انما هي لقرائن خاصة خارجية. فدعوى ظهور الأداة في الدخول أو الخروج أو التفصيل دعوى بلا برهان. وليس هنا أصل لفظي يدل على الدخول أو الخروج ، فالمرجع عند الشك هو الأصول العملية.

إذا عرفت هذا فالكلام يقع في ثبوت المفهوم للغاية ، وقد ذكرنا في مفهوم الشرط : ان كون القضية ذات مفهوم مرجعه إلى تقييد الحكم ، وعدم كونها كذلك مرجعه إلى رجوع القيد إلى أحد عقدي الوضع أو الحمل. وبعبارة أخرى : لو كان التقييد - سواء كان للموضوع أو المحمول - قبل الاستناد فهذا يرجع إلى مفهوم اللقب. ولو كان في رتبة الاسناد - أي قيد الحكم وهو اسناد المحمول إلى الموضوع أي تقييد الجملة لا تقييد المفردات - فهذا يرجع إلى ثبوت المفهوم ، فهذان الأمران مما لا نزاع فيهما. فالأليق في النزاع ان يكون البحث في احراز الصغرى ، وان الغاية غاية للحكم

ص: 504

أو الموضوع.

والظاهر : ان الغاية قيد للحكم ، الا ان تقوم قرينة على خلافه ، لان قوله علیه السلام : كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام ، مع قوله (1) « عز اسمه » : وأتموا الصيام إلى الليل - بنسق واحد. فكما ان الحكم لو جعلت غايته المعرفة تكون الغاية قيدا للحكم ، فكذلك سائر الأمثلة التي جعلت فيها الغاية غاية بعد اسناد المحمول إلى موضوعه.

وكون الغاية قيد للموضوع - وأخرت عن الجملة لعدم امكان تقديمها - لا يصغى إليه ، لامكان تبديل هذا التركيب إلى آخر بان يقال : الصيام إلى الليل أتمه ، والسير من البصرة إلى الكوفة أوجده ، فجعل الغاية بعد اسناد المحمول إلى الموضوع كاشف عن رجوعها إلى الجملة ، لا إلى مفردات الكلام.

وبالجملة : ظاهر القضية بحسب القواعد العربية رجوع الغاية إلى اسناد المحمول إلى الموضوع ، فكأنه جعل وجوب اتمام الصيام مغيى بغاية الليل ، فيقتضى رجوع الغاية إلى الحكم انتفائه عما بعد الغاية ، وينفى ثبوت حكم آخر من سنخ هذا الحكم لليل.

الفصل الرابع : في مفهوم الحصر

لا يخفى : ان النزاع فيه أيضا يرجع إلى أن الحصر حصر للحكم ، أو للموضوع. ولا اشكال في أن مثل ( الا ) يفيد حصر الحكم في المستثنى منه واخراج المستثنى عنه بعد الاسناد. وما نقل عن نجم الأئمة : ان رفع التناقض المتوهم في باب الاستثناء منحصر بان يخرج المستثنى قبل الاسناد ، كلام لا ينبغي صدوره عن جنابه ، لأنه لا تناقض ابدا بين المستثنى منه والمستثنى حتى يتوقف رفعه على جعل الاخراج قبل الاسناد ، لان الكلام يحمل على ما هو ظاهر فيه بعد تماميته بمتمماته : من لواحقه وتوابعه ، بل لو عول المتكلم على بيان مرامه بقرينة منفصلة لا تعد القرينة مناقضة لذي القرينة.

ص: 505


1- البقرة ، 178

وبالجملة : هذا التناقض المتوهم يجرى بين قرائن المجازات والتخصيصات والتقييدات ، مع ذي القرائن والعمومات والمطلقات ، ولا اختصاص له بباب الاستثناء ، مع أنه لا وقع لهذا التوهم أصلا. فاخذ الاخراج قبل الاسناد الذي يرجع في المآل إلى أن كلمة ( الا ) صفتية وبمعنى الغير لا استثنائية ، لا وجه له ، بعد ظهورها في الاستثنائية في القضايا المتعارفة ، لأنها لو كانت صفتية لاقتضى مجيء الاستثناء قبل الحكم ، بان يقال : القوم الا زيد أي الموصوف بغير زيد جاؤوا ، كما ورد هكذا في الآية المباركة : لو كان فيهما آلهة الا اللّه لفسدتا.

وبالجملة : فالنزاع في الحقيقة راجع في قوله : جاء القوم الا زيد - إلى أن قوله ( الا زيد ) من قيود القوم؟ حتى تكون ( الا ) صفتيه ، فيكون محصل المعنى : ان القوم الذين هم غير زيد جاءوا ، فلا يكون لهذه القضية مفهوم ، لان اثبات حكم لموضوع خاص لا يدل على انتفاء سنخه عن غير هذا الموضوع. أو من قيود الحكم؟ حتى تكون ( الا ) استثنائية ويكون للقضية مفهوم ، لان اثبات حكم القوم واخراج زيد عن هذا الحكم الثابت لعشيرته مع أنه منهم موضوعا عين المفهوم ، لان المدعى ليس الا دلالة القضية على عدم ثبوت الحكم المذكور للقوم نفيا واثباتا لزيد وخروج حكمه عن حكمهم. وعلى هذا فلا اشكال انه إذا قال : له على عشرة الا درهما فهو اقرار بالتسعة ، ولو قال : له على عشرة الا درهم بالرفع فهو اقرار بالعشرة ، لان مقتضى القواعد العربية التي يجب حمل كلام المتكلم عليها لا على الغلط ان يجعل الدرهم بالرفع صفة للعشرة ، فكأنه قال : العشرة التي هي غير الدرهم على ، هذا في الاثبات. واما في النفي فحيث انه يجوز الوجهان في الاستثناء الواقع بعده ، فلو قال : ما له على عشرة الا درهم أو الا درهما ، فيحمل على اقراره بالدرهم ، فما أفادوه في أنه على النصب لم يكن اقرارا بشيء لا وجه له.

والعجب مما يحكى عن (1) المسالك ، فإنه مع اعترافه بان كلمة الا

ص: 506


1- راجع المسالك ، المجلد الثاني ، كتاب الاقرار ، المقصد الرابع في صيغ الاستثناء ، ما افاده في شرح قول المحقق قدس سره في الشرايع « ولو قال : ماله عندي شيء الا درهم كان اقرارا بدرهم .. » ص 171

استثناء حمله على الاخراج قبل الاسناد فكان النفي دخل على المستثنى والمستثنى منه ، ومرجع الكلام إلى أن المقدار الذي هو عشرة الا درهما ليس على ، وبعبارة أخرى : التسعة ليس على ، لان العشرة الا الدرهم هي التسعة. ولا يخفى : انه مع كون كلمة ( الا ) استثنائية لا يعقل ان يكون الاخراج قبل الاسناد ، فإنها يكون حينئذ وصفية ، ورفع اشكال التناقض ليس باخراج المستثنى من المستثنى منه قبل الاسناد. وبالجملة : مع أن القواعد العربية تساعد النصب بعد النفي أيضا ، فحمل ( الا ) على الوصفية لا وجه له. ومجرد كونه مطابقا لأصل البراءة لا يقتضى صرف الكلام عن ظاهره واخراجه عن كونه اقرارا ، فما افاده في الجواهر (1) هو الأقوى ، وهو ثبوت الدرهم على كل تقدير من الرفع والنصب.

ثم لا يخفى : انه يمكن ان يكون منشأ توهم أبي حنيفة : كون الموضوع له للفظة ( الا ) هو الأعم من الصفتية والاستثنائية ، والا فإنها لو كانت موضوعة للاستثناء لم يمكن توهم عدم ثبوت المفهوم للقضية. والأمثلة التي ذكرها لعدم الإفادة هي في الإفادة أظهر من عدمها ، لان قوله علیه السلام (2) لا صلاة الا بفاتحة الكتاب ، أو الا بطهور - مثلا - لو كان المراد من الصلاة هي الجامعة لجميع الشرائط الا الطهور ، فيفيد نفى الصلواتية عن فاقدة الطهور كون الصلاة المفروضة ( أي الجامعة مع الطهور ) صلاة ، ولا محذور فيه. ولو كان المراد من الصلاة الأعم من الجامع والفاقد فاثبات الصلواتية بمجرد وجدان الطهارة وحدها أيضا لا محذور فيه ، لان معناه ان الصلاة من هذه الجهة صلاة ، ولا ينافي عدم كونها كذلك من جهة فقد سائر الشروط والاجزاء. وبعبارة أخرى : بناء عليه ، الحصر إضافي ولا بأس به.

فتحصل مما ذكرنا : ان القيد لو كان راجعا إلى عقد الوضع والحمل ، أي كان التقييد قبل الاسناد ، فبانتفاء الموضوع المقيد أو المحمول المقيد لا ينتفى الحكم عن موضوع آخر ، وانتفاء الحكم عن هذا الموضوع عقلي لا ربط له بالمفهوم. والسر في

ص: 507


1- جواهر الكلام الجزء 35 ، كتاب الاقرار ، المقصد الرابع في صيغ الاستثناء ص 88
2- المستدرك الجلد الأول الباب 1 من أبواب القراءة في الصلاة الحديث 5 ص 274

ذلك : ان التقييد لا يوجب الا تضييق دائرة الموضوع أو المحمول ، وثبوت حكم لموضوع خاص لا يلازم انتفائه عن موضوع آخر. ولو كان راجعا إلى الحكم - أي المتحصل من الجملة أي كان التقييد في رتبة الاسناد - فالحكم المقيد ينتفى بانتفاء قيده بالملازمة ، وهذا هو المفهوم. ولا فرق فيما ذكرنا بين مفهوم الغاية ، والحصر ، أو غيرهما.

نعم : لا يمكن في باب الشرط ارجاع القيد إلى الموضوع ، لان أداة التعليق وضعت لتعليق جملة على جملة ، فمرجع النزاع فيه إلى كون القضية مسوقة لغرض وجود الموضوع ، أو لتحديد الحكم. فعلى هذا لو رجع الحصر إلى الاسناد - وكان الاخراج في رتبة قوله : جاء القوم الا زيدا - يدل على انتفاء الحكم الثابت للمستثنى منه عن المستثنى ، ومحل النزاع انما هو في ( الا ) الاستثنائية لا الوصفية ، فالقول بعدم دلالة القضية على المفهوم مرجعه إلى استعمال ( الا ) الاستثنائي في الوصف ، والمصير إليه من دون قرينة عليه لا وجه له.

ثم إن هنا اشكالا ، في إفادة كلمة ( لا إله إلا اللّه ) التوحيد ، وحاصله : ان خبر ( الا ) لو قدر ( موجود ) فلا دلالة لهذه الكلمة على عدم امكان اله آخر ، ولو قدر ( ممكن ) فلا دلالة لها على وجود الباري تعالى وان دلت على عدم امكان آلهة أخرى.

ولا يخفى : ان هذا الاشكال انما نشأ من قول أكثر النحويين ان خبر ( لا ) مقدر ، ولذا عدوها من نواسخ المبتدأ والخبر ، وجعلوا الفرق بين لا النافية للجنس ولا المشبهة بليس ، هو الفرق بين لولا الغالبية ولولا الغير الغالبية ، فان لولا الغالبية حيث إن خبرها من أفعال العموم أي الوجود المطلق ، فيجب ان يكون محذوفا كقوله : لولا علي لهلك عمر ، ومنشأ وجوب حذفه دلالة الكلام عليه ، فيكون ذكره لغوا ، كحذف الفاعل في فعل الامر ، والمضارع المخاطب منه ، والمتكلم وحده ، ومع الغير. ولولا الغير الغالبية حيث إن خبرها فعل خاص وجب ذكره كقوله علیه السلام : لولا قومك حديثوا عهد بالاسلام لهدمت الكعبة وجعلت لها بابين. وقالوا : ان لولا الغالبية هي لا النافية للجنس المركبة مع لو ، وغيرها هي المشبهة بليس المركبة مع لو.

ص: 508

وبالجملة : ( لولا ) على قسمين : قسم يمتنع فيها جوابها بمجرد وجود المبتدأ بعدها ، وهذا القسم لا بد ان يكون خبر المبتدأ وهو الكون المطلق ، نحو لولا على ، ويجب ان يكون محذوفا لتعيين المحذوف. وقسم يمتنع فيها جوابها لا بمجرد وجود المبتدأ ، بل لنسبة الخبر إلى المبتدأ ، وهذا القسم خبر المبتدأ امر خاص ، ويجب ان يذكر ، الا ان يدل قرينة عليه. ولا النافية للجنس هي لولا الغالبية ، فيجب ان يكون خبره الوجود المطلق المحذوف ، فيكون معنى ( لا إله إلا اللّه ) لا اله موجود.

وحاصل الكلام : حيث إنهم عدوا كلمة ( لا ) من نواسخ المبتدأ والخبر فالتجأوا إلى تقدير الخبر. ولكن الالتزام بذلك بلا موجب ، فان كلمة ( لا ) كما وضعت لمعنى حرفي رابطي ، كذلك وضعت لمعنى استقلالي ، وهو نفى الحقيقة والهوية ، أي وضعت تارة : للنفي الربطي وعدم وصف لموضوع ، وأخرى : لنفى المحمول ، أي عدم الشيء. كما أن الافعال الناقصة ، مثل ( كان ) قد تكون ناسخة وهي الرابطة الزمانية ، وقد تكون تامة وغير محتاجة إلى الخبر ، بل قيل ( ان ) النافية من الافعال الناقصة كليس أيضا لها جهتان : ربطي ، وهو ليس الناقصة ، وغير ربطي ، وهو ليس التامة. وهذا الكلام في ( ليس ) وان لم يكن بصحيح ، بل ليس وضعها الا وضع الحروف ، ربطي صرف وضعت لنفى شيء عن موضوع في الحال ، واستعمالها في نفى الوجود مسامحة ، الا ان هذا التقسيم للأفعال الناقصة التي وضعها وهيئتها كهيئة الافعال تام ، فإنها قد تكون زمانية ، وأخرى منسلخة عنها وتكون أداة ربطية. وعلى أي حال : فلا النافية للجنس ، حيث إنها وضعت لنفى هوية الشيء المعراة عن الوجود والعدم ، فلا خبر لها ، لا انه محذوف دل عليه الكلام ، فيصير معنى الكلمة الشريفة نفى هوية واجب الوجود واثباته لذاته تعالى ، ونفى واجب الوجود واثبات فرد منه هو عين التوحيد ، لان غيره لو كان واجب الوجود لوجب وجوده لوجوبه ذاتا ، فلو لم يكن غيره تعالى واجب الوجود ، فاما : ممتنع الوجود ذاتا ، واما : ممكن الوجود ذاتا ، وكلاهما ليسا بواجب الوجود ذاتا ، فانحصر الواجب فيه تعالى.

وعلى أي حال : سواء قلنا بتقدير خبر لا ، أو لم نقل به لعدم احتياجه إليه ، لا يرد الاشكال على كلمة التوحيد ، اما بناء على عدم التقدير فلما ذكرنا ، واما بناء

ص: 509

عليه فكذلك ، سواء قدر ممكن ، أو موجود ، لان المراد من الاله المنفى هو واجب الوجود. فلو قدر ممكن فنفى الامكان عن غيره تعالى واثبات الامكان له مساوق لوجوده تعالى ، لأنه لو أمكن وجوده لوجب ، لأن المفروض انه واجب الوجود ، فلو لم يمتنع لوجب. ولو قدر موجود فنفى الوجود عن غيره ملازم لامتناع غيره ، لأنه لو لم يمتنع لوجب وجوده بالملازمة التي بيناها : من أنه لو خرج الشيء عن الامتناع وأمكن لوجب وجوده ، لأن المفروض انه واجب الوجود.

ثم انه لا اشكال في إفادة كلمة ( انما ) الحصر ، كإفادة الاستثناء له ، اما : لأنه بمعنى ما والا ، واما : لأنها مركبة من كلمة ( ان ) التي للتحقيق واثبات الشيء وكلمة ( ما ) التي لنفى الشيء ، والنفي يرد على تالي انما ، والاثبات على الجزء الآخر. وقوله علیه السلام : انما الأعمال الخ بمنزلة لا عمل الا بنية. نعم سائر أداة الحصر مثل ( بل ) وتعريف المسند إليه ، فأفادتها له انما هي بقرائن المقام ، لا الوضع ، ولا القرينة العامة.

ص: 510

المقصد الرابع : في العام والخاص

اشارة

وفيه مباحث. وقبل الخوض في المباحث ينبغي تقديم أمور :

الامر الأول :

العموم هو الشمول وسريان المفهوم لجميع ما يصلح الانطباق عليه. وهذا الشمول والسريان قد يكون مدلولا لفظيا ، وقد يكون بمقدمات الحكمة. والمقصود بالبحث في المقام هو الأول ، لان المتكفل للبحث عن الثاني هو مبحث المطلق والمقيد. ولا فرق بين هذين القسمين من الشمول سوى انه عند التعارض يقدم الشمول اللفظي على الشمول الاطلاقي ، لان الشمول اللفظي يصلح ان يكون بيانا للمطلق الذي علق الحكم فيه على الطبيعة ، فلا تجرى فيه مقدمات الحكمة. وسيجيئ توضيحه في بعض المباحث الآتية. والغرض في المقام : هو بيان ان البحث انما هو في الشمول الذي يكون مدلولا لفظيا ، المعبر عنه بالعام الأصولي ، في مقابل الاطلاق الشمولي ، كلفظة ( كل ) وما رادفها ، من أي لغة كان ، حيث إن الشمول في مثل ذلك مدلول للفظ بحسب الوضع. وبعد ما عرفت : من أن معنى العموم هو الشمول اللفظي ، فلا حاجة إلى اتعاب النفس وتعريف العموم بما لا يسلم عن اشكال عدم الاطراد والانعكاس ، فان مفهوم العموم أجلى وأوضح من أن يحتاج إلى التعريف.

الامر الثاني :

قد تقدم في بعض المباحث السابقة الفرق بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية ، ونزيده في المقام وضوحا ، لابتناء كثير من المباحث الآتية على ذلك.

فنقول : القضية الحقيقية ، هي ما كان الحكم فيها واردا على العنوان

ص: 511

والطبيعة بلحاظ مرآتية العنوان لما ينطبق عليه في الخارج ، بحيث يرد الحكم على الخارجيات بتوسط العنوان الجامع لها. وبذلك تمتاز القضية الحقيقية عن القضية الطبيعية ، حيث إن الحكم في القضية الطبيعية وارد على نفس الطبيعة ، لا بلحاظ وجودها الخارجي ، بل بلحاظ تقررها العقلي ، كما في قولك : الانسان نوع ، أو كلي ، وغير ذلك من القضايا الطبيعية. وهذا بخلاف القضية الحقيقية ، فان الحكم فيها وان رتب على الطبيعة لكن لا بلحاظ تقررها العقلي ، بل بلحاظ تقررها الخارجي ، وهو معنى لحاظ العنوان مرآة لما في الخارج.

ومما ذكرنا ظهر : المايز بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية أيضا ، فان الحكم في القضية الحقيقية كما عرفت مترتب على الخارج بتوسط العنوان ، واما في القضية الخارجية فالحكم فيها ابتداء مترتب على الخارج بلا توسط عنوان ، سواء كانت القضية جزئية أو كلية ، فان الحكم في القضية الخارجية الكلية أيضا انما يكون مترتبا على الافراد الخارجية ابتداء ، من دون ان يكون هناك بين الافراد جامع اقتضى ترتب الحكم عليها بذلك الجامع ، كما في القضية الحقيقية. ولو فرض ان هناك جامعا بين الافراد الخارجية فإنما هو جامع اتفاقي ، كما في قولك : كل من في العسكر قتل ، وكل ما في الدار نهب ، فان قولك : كل من في العسكر قتل ، بمنزلة قولك : زيد قتل ، عمرو قتل ، وبكر قتل ، وليس بين قتل زيد وعمرو وبكر جامع عنواني اقتضى ذلك الجامع قتل هؤلاء ، بل اتفق ان كلا من زيد وعمرو وبكر كان في المعركة ، واتفق انهم قتلوا ، وأين هذا من القضية الحقيقية التي يكون فيها جامع بين الافراد؟ بحيث متى تحقق ذلك الجامع ترتب الحكم ، سواء في ذلك الافراد الموجودة والتي توجد بعد ذلك. ولأجل ذلك تقع القضية الحقيقية كبرى لقياس الاستنتاج ، وتكون النتيجة ثبوتا واثباتا موقوفة على تلك الكبرى ، بحيث يتوصل بتلك الكبرى بعد ضم الصغرى إليها إلى امر مجهول يسمى بالنتيجة ، كما يقال : هذا خمر وكل خمر يحرم ، فان حرمة هذا الخمر انما يكون ثبوتا موقوفا على حرمة كل خمر ، كما أن العلم بحرمة هذا الخمر يكون موقوفا على العلم بحرمة كل خمر ، فالعلم بالنتيجة يتوقف على العلم بكلية الكبرى ، اما العلم بكلية الكبرى فلا يتوقف

ص: 512

على العلم بالنتيجة ، بل العلم بكلية الكبرى يكون موقوفا على مباد اخر : من عقل ، أو كتاب ، أو سنة.

وهذا بخلاف القضية الخارجية ، فإنها لا تقع كبرى القياس بحيث تكون النتيجة موقوفة عليها ثبوتا ، وان كان قد يتوقف عليها اثباتا ، كما يقال للجاهل بقتل زيد : زيد في العسكر ، وكل من في العسكر قتل ، فزيد قتل ، فان العلم بقتل زيد وان كان يتوقف على العلم بقتل كل من في العسكر الا انه لا يتوقف على ذلك ثبوتا ، إذ ليس مقتولية كل من في العسكر علة لمقتولية زيد ، بل علة مقتولية زيد هو امر آخر بملاك يخصه ، فالقضية الكلية الخارجية ليست كبرى لقياس الاستنتاج بحيث تكون كليتها علة لتحقق النتيجة.

ومما ذكرنا ظهر : اندفاع الدور الوارد على الشكل الأول الذي هو بديهي الانتاج ، فان منشأ توهم الدور ليس الا تخيل توقف العلم بكلية الكبرى على العلم بالنتيجة ، مع أن العلم بالنتيجة يتوقف على العلم بكلية الكبرى ، والحال انه قد عرفت ان العلم بكلية الكبرى في القضايا الحقيقية لا يتوقف على العلم بالنتيجة ، بل يتوقف على مباد أخر : من عقل أو كتاب ، أو سنة ، أو اجماع.

والقضايا المعتبرة في العلوم انما هي القضايا الحقيقية ، ولا عبرة بالقضايا الخارجية ، لان القضية الخارجية وان كانت بصورة الكلية ، الا انها عبارة عن قضايا جزئية لا يجمعها عنوان كلي ، كما عرفت. فالقياس الذي يتألف من كبرى كلية على نهج القضية الحقيقية لايكون مستلزما للدور ، لما تقدم من أن النتيجة ثبوتا واثباتا تتوقف على كلية الكبرى ، ولا عكس. والقياس الذي يتألف من قضية خارجية أيضا لا يستلزم الدور ، فان النتيجة ثبوتا لا يتوقف على الكبرى ، بل ثبوت النتيجة له مبادئ أخر لا ربط لها بالكبرى ، على عكس نتيجة القضية الحقيقية.

وكان من توهم الدور في الشكل الأول قد خلط بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية ، والحال انه قد عرفت انه لا ربط لإحدى القضيتين بالأخرى. وقد وقع الخلط في عدة موارد بين القضيتين ، قد أشرنا إلى جملة منها في الشرط المتأخر ، وسيأتي جملة منها في محله أيضا.

ص: 513

ثم إن العموم والكلية كما تكون على نهج القضية الحقيقية وعلى نهج القضية الخارجية ، كذلك التخصيص تارة : يكون تخصيصا أنواعيا ، وأخرى : يكون تخصيصا افراديا ، سواء كان التخصيص بالمتصل أو بالمنفصل. والتخصيص الانواعي يناسب ان يرد على العموم المسوق بصورة القضية الحقيقية ، كما أن التخصيص الافرادي يناسب ان يرد على العموم المسوق بصورة القضية الخارجية ، بل القضية الخارجية لا تصلح الا للتخصيص الافرادي ، لما عرفت : من أن القضية الخارجية ما ورد الحكم فيها على الافراد ، فالتخصيص فيها انما يكون تخصيصا أفراديا ، ولو فرض ان المخصص سيق بصورة الأنواعي ، كما لو قال : كل من في العسكر قتل الا من كان في الجانب الشرقي ، فالمراد به أيضا الافرادي ، فهو بمنزلة قوله : الا زيد وعمرو وبكر ، كما أن أصل القضية كانت بهذا الوجه.

نعم : القضية الحقيقية تصلح لان يرد عليها المخصص الافرادي ، كما تصلح لان يرد عليها المخصص الأنواعي. ولا اشكال في أن التخصيص الأنواعي انما يهدم اطلاق مصب العموم ومدخوله ، واما التخصيص الافرادي فهو كذلك ، أي يرد على مصب العموم ، أو انه يرد على نفس العموم ويوجب هدمه ، ويكون التصرف في ( كل ) لا في ( العالم ) في قولك : أكرم كل عالم. والنتيجة وان كانت واحدة الا ان الصناعة اللفظية تختلف. وعلى كل حال : لما كانت الأحكام الشرعية كلها على نهج القضايا الحقيقية ، كان التخصيص الوارد في الأحكام الشرعية كلها من التخصيصات الأنواعية ، الا ما كان من قبيل خصائص النبي صلی اللّه علیه و آله .

الامر الثالث :

قسموا العموم إلى : عموم استغراقي ، وعموم مجموعي ، وعموم بدلي الذي هو بمعنى أي. وتسمية العموم البدلي بالعموم مع أن العموم بمعنى الشمول والبدلية تنافى الشمول لا تخلو عن مسامحة. وعلى كل تقدير : العموم بمعنى الشمول ليس الا الاستغراقي والمجموعي ، وتقسيم العموم إلى هذين القسمين ليس باعتبار معناه الافرادي بحيث يكون التقسيم إلى ذلك باعتبار وضع العموم بمعناه الافرادي ، بل التقسيم إلى ذلك انما يكون باعتبار الحكم ، حيث إن الغرض من الحكم تارة : تكون

ص: 514

على وجه يكون لاجتماع الافراد دخل ، بحيث تكون مجموع الافراد بمنزلة موضوع واحد ، وله إطاعة واحدة باكرام جميع افراد العلماء ، في مثل قوله : أكرم كل عالم ، وعصيانه يكون بعدم اكرام فرد واحد. وأخرى : يكون الغرض على وجه يكون كل فرد فرد من العالم موضوعا مستقلا ، وتتعدد الإطاعة والعصيان حسب تعدد الافراد ، وذلك أيضا واضح ، لان العموم بمعناه الافرادي بحسب الوضع ليس الا الشمول ، فالتقسيم إلى المجموعية والاستغراقية انما هو باعتبار ورود الحكم على العموم.

ثم انه ان كان هناك قرينة على أن المراد هو الاستغراقي أو المجموعي فهو ، والا فالأصل اللفظي الاطلاقي يقتضى الاستغراقية ، لان المجموعية تحتاج إلى عناية زائدة ، وهي لحاظ جميع الافراد على وجه الاجتماع وجعلها موضوعا واحدا. وهذا من غير فرق بين اقسام العموم ، سواء كان العموم مدلولا اسميا للأداة ، ككل وما شابها ، أو عرفيا ، كالجمع المحلى باللام ، بناء على أن العموم وتعيين أقصى مراتب العلماء في قوله : أكرم العلماء ، انما هو لإفادة الألف واللام ذلك ، حيث لايكون هناك عهد - ويلحق بذلك الأسماء التي تتضمن المعنى الحرفي ، كأسماء الاستفهام والشرط - أو سياقيا كالنكرة الواقعة في سياق النفي بلاء النافية للجنس ، فان العموم في جميع هذه الأقسام انما يكون على نحو العموم الاستغراقي الانحلالي ، ولا يحمل على المجموعي الا إذا قامت قرينة على ذلك ، والسر في ذلك واضح.

اما في مثل - أكرم كل عالم - مما كان العموم فيه معنى اسميا ، فان مفاد ( كل ) انما هو استيعاب ما ينطبق عليه مدخولها ، والمدخول ينطبق على كل فرد فرد من افراد العالم ، فهي تدل على استيعاب كل فرد فرد من افراد العالم ، وهو معنى الاستيعاب الانحلالي.

واما العموم السياقي فكذلك ، فان العموم انما يستفاد من ورود النفي أو النهى على الطبيعة وهو يقتضى انتفاء كل ما يصدق عليه الطبيعة وتنطبق عليه ، وكل فرد فرد من افراد الجنس مما تنطبق عليه الطبيعة ، فيقتضى انتفاء كل فرد فرد ، وهو معنى الاستغراق.

واما العموم المستفاد من الجمع المحلى باللام وما يلحق به من الأسماء

ص: 515

المتضمنة للمعاني الحرفية ، فقد يتوهم ان ظاهره يقتضى المجموعي ، لان مدخول اللام هو الجميع ، فان مثل زيدون ، أو علماء ، لا ينطبق على كل فرد فرد ، بل ينطبق على كل جماعة جماعة من الثلاثة فما فوق ، وغاية ما يستفاد من اللام ، هو أقصى مراتب الجمع التي تنطوي فيه جميع المراتب مع حفظ معنى الجمعية ، فاللام توجد معنى في المدخول كان فاقدا له ، وهو أقصى المراتب ، كما هو الشأن في جميع المعاني الحرفية التي توجد معنى في الغير ، وذلك يقتضى العموم المجموعي ، لا الاستغراقي.

وقد أفاد شيخنا الأستاذ مد ظله في دفع التوهم بما حاصله : ان أداة العموم من الألف واللام ان كان نفس الجمع ، بحيث كان ورود أداة العموم متأخرا عن ورود أداة الجمع : من الألف والتاء ، والواو والنون ، على المفرد لكان للتوهم المذكور مجال ، ولكن كيف يمكن اثبات ذلك؟ بل ورود أداة العموم وأداة الجمع على المفرد انما يكون في مرتبة واحدة ، فالألف واللام تدل على استغراق افراد مدخولها ، وهو المفرد ، غايته انه لا مطلق المفرد حتى يقال : ان المفرد المحلى باللام لا يدل على العموم ، بل المفرد الذي ورد عليه أداة الجمع عند ورود أداة العموم. والحاصل : ان مبنى الاشكال انما هو ورود أداة العموم على الجمع ، واما لو كانت أداة العموم واردة على المفرد الذي يرد عليه أداة الجمع ، فأداة العموم تدل على استغراق افراد ذلك المفرد ، ويكون حال الجمع المحلى باللام حال ( كل ) في الدلالة على استغراق الافراد على نحو الانحلال ، فتأمل. فان المقام يحتاج إلى بيان آخر.

الامر الرابع :

ذهب بعض إلى أن تخصيص العام يوجب المجازية مطلقا ، وبعض قال بذلك في خصوص المنفصل. وعليه رتبوا عدم حجية العام في الباقي بعد التخصيص ، لاجماله بعد تعدد مراتب المجاز.

والحق : ان التخصيص لا يقتضى المجازية مطلقا ، كما أن تقييد المطلق لا يقتضى ذلك ، وان قال به من تقدم على سلطان المحققين (رحمه اللّه) وقد استقرت طريقة المحققين من المتأخرين على عدم اقتضاء التخصيص والتقييد للمجازية. اما تقييد المطلق : فسيأتي الكلام فيه في محله انشاء اللّه.

ص: 516

واما تخصيص العام : فقد أفيد في وجه عدم استلزامه للمجازية ان العام لم يستعمل الا في العموم ، غايته ان العموم ليس بمراد بالإرادة الجدية النفس الامرية ، فالتخصيص انما يقتضى التفكيك بين الإرادة الاستعمالية والإرادة الجدية ، والحقيقة المجاز انما تدور مدار الاستعمال ، لا مدار الإرادة الواقعية ، ففي مثل أكرم كل عالم لم تستعمل أداة العموم الا في الاستغراق واستيعاب جميع افراد العالم ، غايته انه لم تتعلق الإرادة الجدية باكرام جميع الافراد ، بل تعلقت الإرادة باكرام ما عدى الفاسق ، والمصلحة اقتضت عدم بيان المراد النفس الأمري متصلا بالكلام فيما إذا كان المخصص منفصلا ، ويكون العام قد سيق لضرب القاعدة ، ليكون عليه المعول قبل بيان المخصص والعثور عليه.

وبذلك وجه الشيخ ( قده ) (1) في مبحث التعادل والتراجيح ، العمومات الواردة في لسان الأئمة السابقين علیهم السلام ، والمخصصات الواردة في لسان الأئمة اللاحقين علیهم السلام ، هذا.

ولكن شيخنا الأستاذ مد ظله لم يرتض هذا الوجه. وحاصل ما افاده في وجه ذلك : هو ان حقيقة الاستعمال ليس الا القاء المعنى بلفظه ، بحيث لايكون الشخص حال الاستعمال ملتفتا إلى الألفاظ ، بل هي مغفول عنها ، وانما تكون الألفاظ قنطرة ومرآة إلى المعاني ، وليس للاستعمال إرادة مغايرة لإرادة المعنى الواقعي ، فالمستعمل ان كان قد أراد المعاني الواقعة تحت الألفاظ فهو ، والا كان هازلا. ودعوى : ان العام قد سيق لبيان ضرب القاعدة مما لا محصل لها ، فان أداة

ص: 517


1- فرائد الأصول ، مبحث التعادل والتراجيح المقام الرابع المسألة الأولى ، ص 433. قال قدس سره : « فالأوجه هو الاحتمال الثالث ( كون المخاطبين بالعام تكليفهم ظاهرا العمل بالعموم المراد به الخصوص واقعا ) فكما ان رفع مقتضى البراءة العقلية ببيان التكليف كان على التدريج كما يظهر من الاخبار والآثار مع اشتراك الكل في الاحكام الواقعية ، فكذلك ورود التقييد والتخصيص للعمومات والمطلقات ، فيجوز ان يكون الحكم الظاهري للسابقين الترخيص في ترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات الذي يقتضيه العمل بالعمومات وان كان المراد منها الخصوص الذي هو الحكم المشترك. »

العموم والمدخول انما سيقت لبيان الحكم النفس المري ، وليست القاعدة جزء مدلول الأداة ولا جزء مدلول المدخول.

نعم : قد يعبر عن العام بالقاعدة ، الا ان المراد من القاعدة هي القاعدة العقلائية : من حجية الظهور ، وأصالة العموم. وقد تكون القاعدة مجعولة شرعية ، كاصالة الطهارة والحل ، وأمثال ذلك من الاحكام الظاهرية. وأين هذا من العام المسوق لبيان الحكم الواقعي؟ والحاصل : ان تفكيك الإرادة الاستعمالية عن الإرادة الواقعية مما لا محصل له ، بل العام قبل ورود التخصيص عليه وبعده يكون على حد سواء في تعلق الإرادة به وان هناك إرادة واحدة متعلقة بمفاده ، فهذا الوجه ليس بشئ.

بل التحقيق ، هو ان يقال : ان كل من أداة العموم ومدخولها لم يستعمل الا في معناه ، والتخصيص سواء كان بالمتصل أو بالمنفصل ، وسواء كان التخصيص أنواعيا أو أفراديا ، وسواء كانت القضية حقيقية أو خارجية ، لا يوجب المجازية ، لا في الأداة ، ولا في المدخول.

اما في الأداة : فلان الأداة لم توضع الا للدلالة على استيعاب ما ينطبق عليه المدخول ، وهذا لا يتفاوت الحال فيها بين سعة دائرة المدخول ، أو ضيقه. فلا فرق بين ان يقال : أكرم كل عالم ، وبين ان يقال : أكرم كل انسان ، فان لفظة ( كل ) في كلا المقامين انما تكون بمعنى واحد ، مع أن الثاني أوسع من الأول وذلك واضح.

واما في المدخول : فلان المدخول لم يوضع الا للطبيعة المهملة المعراة عن كل خصوصية ، فالعالم مثلا لايكون معناه الا من انكشف لديه الشيء ، من دون دخل العدالة ، والفسق ، والنحو ، والمنطق فيه أصلا. فلو قيد العالم بالعادل أو النحوي أو غير ذلك من الخصوصيات والأنواع ، لم يستلزم ذلك مجازا في لفظ العالم ، لأنه لم يرد من العالم الا معناه ولم يستعمل في غير من انكشف لديه الشيء ، والخصوصية انما استفيدت من دال آخر. وعلى هذا لا يفرق الحال بين ان يكون القيد متصلا بالكلام ، أو منفصلا ، أو لم يذكر تقييد أصلا لا متصلا ولا منفصلا ، ولكن كان المراد من العالم هو العالم العادل مثلا ، فإنه في جميع ذلك لم يستعمل العالم الا في

ص: 518

معناه ، فمن أين تأتى المجازية؟ وأي لفظ لم يستعمل في معناه؟ حتى يتوهم المجازية فيه. وهذا في التخصيص الأنواعي واضح لا سترة فيه.

نعم : في التخصيص الافرادي ربما يتوهم استلزامه المجازية ، سواء كان ذلك في القضية الحقيقية أو في القضية الخارجية ، من جهة ان التخصيص الافرادي لا يوجب تضييق دائرة المصب ومدخول الأداة كما في التخصيص الأنواعي ، من جهة ان المدخول كما تقدم لم يوضع الا للطبيعة ، فالتخصيص الافرادي انما يصادم نفس الأداة ، حيث إن الأداة موضوعة لاستيعاب افراد المدخول ، والتخصيص الافرادي يوجب عدم استيعاب الافراد ، فيلزم استعمال لفظ الأداة في خلاف ما وضع له. والذي يدل على وضع الأداة لاستيعاب افراد المدخول هو تقديم العام الأصولي على الاطلاق الشمولي ، بعد اشتراكهما في الحاجة إلى مقدمات الحكمة لسريان الحكم إلى جميع الأنواع ، ولكن بالنسبة إلى افراد النوع الواحد يكون السريان مدلولا لفظيا في العام الأصولي ، وبحسب مقدمات الحكمة في الاطلاق الشمولي ، فيكون زيد العالم الفاسق الذي تعارض فيه قوله : أكرم عالما ، وقوله : لا تكرم الفاسق ، مندرجا تحت العام الأصولي بالدلالة اللفظية ، وتحت الاطلاق الشمولي بمقدمات الحكمة التي من جملتها عدم ورود ما يصلح للبيان ، والدلالة اللفظية في العام الأصولي تصلح ان تكون بيانا ، فيحكم في المثال المتقدم بعدم وجوب اكرام زيد العالم الفاسق ، فتأمل.

وهذا لايكون الا من جهة ان لفظ ( كل ) يدل على استيعاب الافراد. فيكون التخصيص الافرادي مصادر ما لمفاد الأداة واستعمالا لها في خلاف ما وضعت له. هذا. ولكن الأقوى : ان التخصيص الافرادي أيضا لا يوجب المجازية. اما في القضية الحقيقية : فلان الافراد ليست مشمولة للفظ ابتداء ، بحيث يكون مثل أكرم كل عالم بمدلوله اللفظي يدل على اكرام زيد ، وعمرو ، وبكر ، وغير ذلك ، والا لما احتجنا في القضية الحقيقية إلى تأليف القياس ، واستنتاج حكم الافراد من ضم الكبرى إلى الصغرى.

والحاصل : ان كل فرد في القضية الحقيقية انما يعلم حكمه وبواسطة تأليف القياس وتطبيق الكبرى الكلية عليه ، فهذا يدل على أن اللفظ بنفسه ابتداء لا يدل على

ص: 519

حكم الافراد ، بل التخصيص الافرادي أيضا يوجب تضييق دائرة المصب ومدخول الأداة. والسر في تقدم العام الأصولي على الاطلاق الشمولي ، ليس من جهة ان العام الأصولي بنفسه متكفل لحكم الافراد ابتداء ، بل التقدم من جهة ان القضية الشرطية التي تتكفلها القضية الحقيقة في الاطلاق الشمولي انما تكون بمقدمات الحكمة ، وفي العام الأصولي انما تكون مفاد نفس اللفظ. مثلا في مثل أكرم العالم اللفظ لا يدل على أزيد من وجوب اكرام الطبيعة ، واما الشمول والاستيعاب ، بحيث كلما وجد في العالم عالم يجب اكرامه فإنما يستفاد من مقدمات الحكمة ، واما مفاد مثل أكرم كل عالم فهو بنفسه يدل على أنه كلما وجد في العالم عالم فأكرمه بلا حاجة إلى مقدمات الحكمة. فالفرق بين العام الأصولي والاطلاق الشمولي هو هذا ( فتأمل ) لا ان العام الأصولي ابتداء يدل على شمول الافراد ، حتى يكون التخصيص الافرادي موجبا لاستعمال أداة العموم في غير ما وضعت له ، بل التخصيص الافرادي كالأنواعي يرد على المصب ويضيق دائرته. هذا في القضية الحقيقية.

واما التخصيص الافرادي في القضية الخارجية : فالتوهم المذكور وان كان فيها أمس من جهة ان القضية الخارجية ابتداء متكفلة لحكم الافراد ، بلا حاجة إلى تأليف القياس ثبوتا وان احتاج إليه في بعض الأحيان اثباتا ، كما تقدم ، الا انه مع ذك التخصيص الافرادي في القضية الخارجية لا يوجب المجازية أيضا ، للعلم بان استعمال أداة العموم ومدخولها في القضية الحقيقية الخارجية انما يكون بنهج واحد ، وليس للأداة في القضية الخارجية وضع واستعمال مغاير لوضع الأداة واستعمالها في القضية الحقيقية. وانقسام القضية إليهما ليس باعتبار اختلاف الوضع والاستعمال ، بل الاختلاف انما يكون باعتبار اللحاظ ، حيث لحاظ الافراد الموجودة الفعلية في القضية الخارجية ، وعدم لحاظ الموجودة بالفعل في القضية الحقيقية. واختلاف اللحاظ انما يكون باختلاف الملاك في القضيتين ، حيث إن الملاك الذي أوجب ترتب المحمول على الموضوع في القضية الحقيقية انما يكون مطردا في جميع افراد الموضوع ، ليس هناك الا ملاك واحد قائم بالجميع ، سواء كانت موجودة بالفعل أو الذي توجد بعد ذلك. بخلاف الملاك في القضية الخارجية ، فان

ص: 520

هناك ملاكات متعددة حسب تعدد الافراد ، فإذا لم يختلف كيفية الوضع والاستعمال في القضيتين ، فكيف يوجب التخصيص المجازية في الخارجية ولا يوجبه في الحقيقية؟ فالتخصيص الافرادي في القضية الخارجية أيضا يرد على المصب والمدخول ويوجب تضييق دائرته.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان التخصيص لا يقتضى المجازية مطلقا ، وانما هو يوجب تضييق دائرة المصب ، من غير فرق بين المتصل والمنفصل.

ومما ذكرنا ، ظهر المناقشة فيما افاده الشيخ ( قده ) على ما في التقرير (1) في وجه حجية العام فيما بقى بعد التخصيص ، بعد تسليم المجازية : من أن دلالة العام على كل فرد غير منوطة بالدلالة على الافراد الاخر إلى آخر ما ذكره ( قده ) فإنه يرد على ظاهر ما افاده : ان العام لا دلالة له على الافراد في القضية الحقيقية ، وانما يكون الدلالة على الافراد في القضية الخارجية ، الا ان يكون مراده من الافراد الأنواع ، أو يكون كلامه في الخارجية. مع أنه لم يظهر وجه تسليمه المجازية ، فإنه لا يمكن توجيه المجازية بوجه من الوجوه. هذا كله ، مضافا إلى ما أورد عليه : من أنه بعد تسليم المجازية لا مجال لدعوى بقاء دلالة العام على الافراد الباقية من جهة ان دلالة العام على كل فرد غير منوطة بدلالته على الافراد الاخر. وذلك لان دلالة العام على الافراد الباقية انما كانت باعتبار دلالته على الجميع ، فدلالته على الافراد الباقية التي كانت قبل التخصيص انما كانت باعتبار دلالته على الجميع ، فدلالته على الافراد الباقية التي كانت قبل التخصيص انما كانت ضمنية ، لان العام حسب الفرض كان

ص: 521


1- مطارح الأنظار ، مبحث العام والخاص ، هداية 1 ص 190. قوله : « والأولى ان يجاب بعد تسليم مجازية الباقي بان دلالة العام على كل فرد من افراده غير منوطة بدلالته على فرد آخر من افراده ولو كانت دلالة مجازية ، إذ هي انما بواسطة عدم شموله للأفراد المخصوصة لا بواسطة دخول غيرها في مدلوله ، فالمقتضى للحمل على الباقي موجود والمانع مفقود ، لان المانع في مثل المقام انما هو ما يوجب صرف اللفظ عن مدلوله والمفروض انتفائه بالنسبة إلى الباقي لاختصاص المخصص بغيره ، فلو شك فالأصل عدمه ، فليس ذلك على حد ساير المجازات حتى يحتاج إلى معين آخر بعد الصرف مع تعددها ، فان الباقي متعين على حسب تعين الجميع عند عدم المخصص مطلقا. »

موضوعا لجميع الافراد على نحو الاجتماع ، كما هو لازم تسليم المجازية ، والتخصيص يوجب عدم بقاء دلالته على الجميع ، والدلالة على الباقي لم تكن مستقلة حتى تبقى بعد التخصيص ، هذا.

ولكن يمكن توجيه مقالة الشيخ ( قده ) بما لا يرد عليه ذلك ، بتقريب : ان توهم المجازية في العام المخصص لايكون الا بدعوى : ان المركب من الأداة والمدخول موضوع لجميع الافراد ، بحيث يكون للمركبات وضع وراء وضع المفردات. فإنه لا تستقيم دعوى المجازية الا بذلك. وحينئذ نقول : لو سلمنا هذه الدعوى الفاسدة ، فغاية ما يلزم من التخصيص هو خروج بعض افراد الموضوع له عن العموم ، ولكن خروج بعض الافراد لا يقتضى عدم دلالة العام على الافراد الباقية ، إذ دلالة العام على الافراد ليست على وجه الارتباطية ، بحيث يكون خروج البعض موجبا لانعدام الدلالة بالنسبة إلى الباقي ، بل العام يدل على كل فرد بدلالة مستقلة ، لما تقدم : من أن الأصل في العموم هو الانحلال ، فالعام لامحة يدل على الباقي ، سواء خرج بعض الافراد عنه أو لم يخرج ، والمجازية انما جاءت من قبل خروج بعض الافراد ، لا من قبل دخول الباقي.

ونظير العام في الدلالة على الباقي ، الإشارة بلفظ ( هؤلاء ) مشيرا إلى جماعة ، مع عدم إرادة جميع آحاد تلك الجماعة بل بعضها ، فان عدم إرادة البعض لا يوجب عدم وقوع الإشارة على الافراد ، بل الإشارة وقعت على تلك الافراد لامحة. وليست دلالة ( هؤلاء ) على الافراد المرادة من قبيل دلالة الأسد على الرجل الشجاع ، بحيث تكن دلالة مجازية صرفة أجنبية عن المعنى الموضوع له ، بل دلالة ( هؤلاء ) على الافراد المرادة دلالة حقيقية ، فكذلك دلالة العام على الافراد الباقية تكون دلالة حقيقية ، وان خرج بعض الافراد عنه.

هذا ما تحصل لي من توجيه شيخنا الأستاذ مد ظله لمقالة الشيخ ( قده ) ولكن بعد في النفس من ذلك شيء ، فان تسليم المجازية لا يمكن الا بدعوى وضع العام لجميع الافراد ، فإرادة البعض منه ينافي الموضوع له لامحة. وحينئذ يصح ان يقال : ان العام لا دلالة له على الباقي بعد التخصيص ، لان دلالته كانت على الجميع من حيث

ص: 522

المجموع ، فتأمل.

وعلى كل حال : نحن في غنى عن هذه المقالات ، لما عرفت : من أن التخصيص لا يقتضى المجازية أصلا ، لا في الأداة ، ولا في المدخول.

إذا عرفت هذه الأمور ، فلنشرع في مباحث العام والخاص.

المبحث الأول :

بعد ما عرفت من أن التخصيص لا يوجب المجازية ، فلا ينبغي الاشكال في حجية العام في الباقي بعد التخصيص ، إذ مبنى الاشكال في ذلك هو المجازية. وقد تقدم فساد المبنى ، وذلك واضح.

المبحث الثاني :

إذا كان المخصص مجملا مفهوما ، فتارة : يكون الاجمال من جهة دورانه بين المتباينين ، وأخرى : يكون بين الأقل والأكثر ، وعلى كلا التقديرين ، فتارة : يكون المخصص متصلا ، وأخرى : يكون منفصلا.

وحكم هذه الأقسام : هو انه لو كان المخصص متصلا ، فالعام يسقط عن الحجية بالنسبة إلى محتملات المخصص مطلقا ، سواء دار امره بين المتباينين أو بين الأقل والأكثر ، لسراية اجمال المخصص إلى العام ، وعدم انعقاد ظهور له ، لاحتفافه بالمخصص المجمل ، فلا يكون للعام دلالة تصديقية على معنى بحيث يصح ان يخبر بمفاده ، ويترجم بلفظ آخر أو لغة أخرى. وما لم يحصل للكلام هذه الدلالة لايكون له ظهور في معنى ، ومع عدم الظهور لايكون حجة. فسقوط العام عن الحجية في المخصص المتصل ليس من جهة العلم بالتخصيص حتى يقال : ان العلم بالتخصيص انما يوجب سقوط العام عن الحجية في المتباينين ، لا في الأقل والأكثر لعدم العلم بتخصيص الأكثر - كما سيأتي بيانه في المخصص المنفصل - بل من جهة اجمال العام وعدم انعقاد ظهور له ، وذلك واضح.

واما لو كان المخصص منفصلا : ففي صورة دورانه بين المتباينين يسقط العام عن الحجية أيضا في جميع الأطراف المحتملة ، فإنه وان انعقد للعام ظهور ، الا انه بعد العلم بالتخصيص يخرج العام عن كونه كبرى كلية ، ولا تجرى فيه أصالة

ص: 523

العموم ، لان أصالة العموم انما تجرى في صورة الشك ، ولا مجال لها مع العلم بالتخصيص. وبعبارة أخرى : يعلم أن الظهور المنعقد للعام ليس بمراد بالنسبة إلى بعض الأطراف المحتملة. وحيث إن ذلك البعض تردد امره بين فردين ، أو افراد ، ولا معين في البين ، فلامحة يسقط العام عن الحجية في جميع الافراد المحتملة ، وذلك أيضا واضح.

واما لو دار امر المخصص المنفصل بين الأقل والأكثر : فبالنسبة إلى الأكثر العام بعد باق على حجيته ، وأصالة العموم جارية فيه ، وانما سقطت حجية العام في خصوص الأقل المتيقن التخصيص ، لأنه بالنسبة إلى الأكثر يكون شكا في التخصيص ، والمرجع حينئذ هو أصالة العموم وعدم التخصيص بعد ما انعقد ظهور للعام. فلو قال : أكرم العلماء ، ثم ورد : لا تكرم فساق العلماء ، وتردد الفاسق بين ان يكون خصوص مرتكب الكبيرة ، أو الأعم منه ومن مرتكب الصغيرة ، فبالنسبة إلى مرتكب الكبيرة العام سقط عن الحجية ، للعلم بخروجه على كل حال. واما بالنسبة إلى مرتكب الصغيرة فيشك في خروجه ، ومقتضى أصالة العموم عدم خروجه.

وتوهم : ان الخارج هو عنوان الفاسق لا خصوص مرتكب الكبيرة - والعام ليس كبرى كلية بالنسبة إلى عنوان الفاسق للعلم بخروج هذا العنوان عن العام ، فلا مجال للتمسك بأصالة العموم بالنسبة إلى من شك في دخوله تحت عنوان الفاسق - فاسد ، لان الخارج ليس مفهوم الفاسق بل واقع الفاسق ، وحيث لم يعلم أن مرتكب الصغيرة مندرج في الفاسق الواقعي يشك لامحة في تخصيص العام واقعا بالنسبة إلى مرتكب الصغيرة ، والمرجع حينئذ هو أصالة العموم.

تنبيه : لو ورد عام وورد خاص ، ودار امر الخاص بين ان يكون مخصصا ، أو غير مخصص ، كما لو قال عقيب قوله أكرم العلماء : لا تكرم زيدا ، وكان هناك زيد عالم وزيد جاهل ، ولم يعلم أن مراده من قوله : لا تكرم زيدا أي منهما ، فالمرجع في مثل هذا أيضا أصالة العموم ، للشك في التخصيص ، وذلك واضح. هذا كله فيما إذا كان المخصص مجملا مفهوما.

ص: 524

وأما إذا كان مجملا مصداقا ، كما لو تردد زيد بين ان يكون فاسقا أو غير فاسق ، لأجل الشبهة المصداقية ، ففي الرجوع إلى العام وعدم الرجوع ، خلاف. والأقوى : عدم الرجوع إليه.

اما في القضايا الحقيقية : فالامر فيها واضح ، من جهة ان عنوان العام قبل العثور على المخصص كان تمام الموضوع للحكم الواقعي بمقتضى أصالة العموم المحرزة لعدم دخل شيء في موضوع الحكم غير عنوان العام وانه يتساوى في ترتب الحكم كل انقسام ونقيضه من الانقسامات المتصورة في عنوان العام ، ويكون مفاد قوله : أكرم العلماء - بمقتضى أصالة العموم - هو وجوب اكرام كل عالم ، سواء كان فاسقا أو غير فاسق ، وسواء كان نحويا أو غير نحوي. وهكذا الحال في جميع الانقسامات اللاحقة لعنوان العالم ، ولكن بعد العثور على المخصص يخرج عنوان العام عن كونه تمام الموضوع ويصير جزء الموضوع ، والجزء الآخر هو عنوان الخاص ، وتسقط أصالة العموم بالنسبة إلى ما تكفله الخاص ، وينهدم التسوية في بعض الانقسامات التي كانت في العام ، ولا يكون مفاد العام وجوب اكرام العالم سواء كان فاسقا أو غير فاسق ، بل يكون مفاد العام بضميمة المخصص هو وجوب اكرام العالم الغير الفاسق ، فيكون أحد جزئي الموضوع عنوان ( العالم ) وجزئه الآخر ( غير الفاسق ) فكما انه لو شك في عنوان العام من جهة الشبهة المصداقية لا يجوز التمسك بالعام بالنسبة إلى المشتبه ، كذلك لو شك في عنوان الخاص من جهة الشبهة المصداقية لا يجوز التمسك بالعام لاحراز حال المشتبه ، لأنه لا فرق حينئذ بين مشكوك العلم وبين مشكوك الفسق ، بعد ما كان لكل منهما دخل في موضوع الحكم. وكل دليل لا يمكن ان يتكفل وجود موضوعه ، بل الدليل انما يكون متكفلا لثبوت الحكم على فرض وجود موضوعه ، ولأجل ذلك كانت القضية الحملية متضمنة لقضية شرطية مقدمها عنوان الموضوع وتاليها عنوان المحمول.

وحاصل الكلام : ان القضايا الحقيقية غير متعرضة للافراد ، وانما يكون الحكم فيها مترتبا على العنوان بما انه مرآة لما ينطبق عليه من الخارجيات ، وليس لها تعرض لحال المصاديق ، ومع هذا كيف يمكن ان نحرز بالعام حال المشتبه بالشبهة

ص: 525

المصداقية؟ وكيف تجرى فيه أصالة العموم؟ مع ما عرفت من أن أصالة العموم انما تكون لاحراز المراد واقعا ولا تحرز المصاديق أصلا ، وهذا في القضايا الحقيقية واضح.

واما القضايا الخارجية : فقد يتوهم صحة التمسك فيها بالعام في الشبهات المصداقية ، من جهة ان القضية الخارجية وان سيقت بصورة الكبرى الكلية ، الا انه قد تقدم ان الحكم فيها ابتداء يرد على الافراد بلا توسط عنوان ، والعنوان المأخوذ في ظاهر القضية ليس له دخل في مناط الحكم ، فالعام في القضية الخارجية بنفسه ابتداء متكفل لحكم الافراد ، وقد تعرض العام لحكم الفرد المشتبه قبل ورود التخصيص ، وبعد ورود الخاص يشك في خروج الفرد المشتبه عن حكم العام ، والمرجع حينئذ هو أصالة العموم. فلو قال : أكرم كل من في الدار ، ثم قال : لا تكرم من كان في الطرف الشرقي منها ، أو قال : لا تكرم أعدائي الذين هم في الدار ، وتردد حال زيد بين ان يكون من الطرف الشرقي أو غيره ، أو تردد بين ان يكون من الأعداء أولا ، فحيث ان قوله أولا ( أكرم كل من في الدار ) قد شمل زيدا وتعرض لوجوب اكرامه ، ولم يعلم خروجه بعد ذلك عن حكم العام ، كان اللازم وجوب اكرامه لأصالة العموم وعدم التخصيص ، هذا.

ولكن الانصاف : انه لا فرق بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية ، في عدم التعويل على العام في الشبهات المصداقية ، للعلم بان كيفية استعمال العام والخاص يكون فيهما على نهج واحد ولا يكون الاستعمال في القضية الخارجية على نحو يغاير نحو الاستعمال في القضية الحقيقية وان المناط في عدم صحة الرجوع إلى العام فيهما واحد لا يختلف. غايته ان أصالة العموم في القضية الحقيقية قبل العثور على المخصص انما كانت محرزة لكون عنوان العام تمام الموضوع للحكم الواقعي ، وفي القضية الخارجية كانت محرزة لكون المتكلم لم يحرز ان في الدار عدوا له بعد العلم بأنه لا يريد اكرام عدوه ، وبعد ورود الخاص يعلم أن المتكلم أحرز ان له عدوا في الدار. كما أن بعد ورود الخاص في القضية الحقيقية يعلم أن عنوان العام لم يكن تمام الموضوع للحكم الواقعي ، وبعد ما علم المخاطب ان المتكلم لا يريد اكرام العدو وانه

ص: 526

محرز لوجود عدو له في الدار ، يعلم : انه لا يريد اكرام كل من في الدار بل خصوص من لم يكن له عدوا وانه ليس مجرد الوجود في الدار موجبا لاكرامه بل يعتبر عدم عداوته. فالمشكوك عداوته لا يعلم اندراجه تحت قوله : أكرم كل من في الدار بضميمة قوله : لا تكرم عدوى.

والحاصل : ان العنوان في القضايا الخارجية وان لم يكن له دخل في مناط الحكم ، الا انه على أي حال لوحظ مرآة لما تحته من الافراد ، والافراد التي تكون تحته هي ما عدى عنوان الخاص ، وحينئذ فالمشكوك لا يحرز كونه من افراد العام الذي لايكون معنونا بعنوان الخاص ، فيكون حال القضية الخارجية كحال القضية الحقيقية.

ولا ينتقض ما ذكرناه في القضية الخارجية ، بمثل قوله : أكرم ( هؤلاء ) مشيرا إلى جماعة ، وبعد ذلك قال : لا تكرم هؤلاء مشير إلى جماعة من تلك الجماعة التي أشار إليها أولا ، ثم شك في شمول ( هؤلاء ) الثاني لبعض ما شمله ( هؤلاء ) الأول ، فإنه لا اشكال في مثل هذا في الاخذ بما شمله ( هؤلاء ) الأول فيما عدى المتيقن خروجه وادراج المشكوك في الإشارة الأولى في وجوب اكرامه. وذلك : لان ما ذكر من المثال يكون من قبيل اجمال المخصص مفهوما ، لا مصداقا ، لرجوع الشك فيه إلى أصل وقوع الإشارة الثانية إلى المشكوك من حيث تردد مقدار الإشارة. والمثال المنطبق على الشبهة المصداقية ، هو ما إذا علم أن الإشارة الثانية وقعت على عشرة افراد من تلك الجماعة المشار إليها أولا ، ثم تردد حال زيد بين ان يكون من جملة العشرة ، أولا ، وفي مثل هذا قطعا لا يجب اكرام زيد ، ولا يجوز الرجوع في حكمه إلى الإشارة الأولى ، كما هو واضح.

ومما ذكرنا ظهر : ان ما يستدل به القائل بصحة التعويل على العام في الشبهات المصداقية - من أن المتكلم في القائه العام كأنه قد جمع النتايج وذكر حكم الافراد بعبارة العام ، فكل فرد من افراد العام قد ذكر حكمه بذكر العام ، ومن جملة الافراد الفرد المشكوك ، وحيث لم يعلم دخول الفرد المشكوك في الخاص وجب ترتب ما ذكره أولا من حكم الفرد المشكوك - فإنما هو يناسب القضية الخارجية ، لا

ص: 527

القضية الحقيقية ، فان القضية الحقيقية ليس لها تعرض لحكم الافراد ، وانما سيقت لبيان الكبرى الكلية ، وانما يعلم حكم النتايج والافراد بعد ضم الصغرى إليها. والقضية الخارجية قد عرفت الحال فيها ، وان الاستدلال لا يتم فيها أيضا.

كما أنه ظهر مما ذكرنا أيضا : ضعف ما استدل به القائل بذلك : من أن عنوان العام مقتض لثبوت الحكم على افراده ، وعنوان الخاص مانع ، ويجب الاخذ بالمقتضى إلى أن يحرز المانع. لمنع كل من الصغرى والكبرى. اما الصغرى : فلانه لا طريق إلى احراز كون عنوان العام مقتضيا والخاص مانعا ، لامكان ان يكون عنوان الخاص جزء المقتضى. واما الكبرى : فلان قاعدة المقتضى والمانع لا أساس لها كما حقق في محله.

وكذلك ظهر ضعف الاستدلال على ذلك : بان العام حجة بالنسبة إلى الفرد المشكوك لكونه من افراد العام ، والخاص ليس بحجة فيه للشك في كونه فردا له ، فيجب الاخذ بالحجة ، لان اللاحجة لا تزاحم الحجة. وذلك : لان عنوان العام بعد ما صار جزء الموضوع لمكان الخاص لايكون حجة بالنسبة إلى الفرد المشكوك ، ويكون الفرد المشكوك بالنسبة إلى كل من العام والخاص على حد سواء في عدم الحجية ، ولا تجرى فيه أصالة العموم ، على ما تقدم.

وقياس الأصول اللفظية بالأصول العملية - حيث إنه عند الشك في كون الشيء حلالا أو حراما يتمسك بمثل أصالة الحل ، فكذلك عند الشك في اندراج الفرد المشكوك فيما هو المراد من العام يتمسك بمثل أصالة العموم - قياس مع الفارق ، لان الأصول العملية مجعولة في مرتبة عدم الوصول إلى الواقع واليأس عنه ، بخلاف الأصول اللفظية ، فإنها واقعة في طريق احراز الواقع والوصول إليه واستخراج المراد النفس الأمري منها ، والمفروض انه قد أحرز المراد الواقعي من العام وهو العالم الغير الفاسق مثلا ، واما كون زيد عالما غير فاسق فهو أجنبي عن المراد الواقعي ، حتى تجرى فيه أصالة العموم.

وبالجملة : لا ينبغي التأمل في عدم جواز التعويل على العام في الشبهات المصداقية ، سواء في ذلك المخصص المتصل والمنفصل والقضية الحقيقية والخارجية.

ص: 528

ثم انه ربما يتوهم : ان الوجه في حكم المشهور بالضمان عند تردد اليد بين كونها عادية أو غير عادية ، هو التعويل على العام في الشبهة المصداقية. بل قد يتخيل ان ذلك يكون من الرجوع إلى العام مع الشك في مصداق العام الذي لم يقل به أحد ، بناء على أن يكون المستفاد من قوله ( على اليد ) خصوص اليد العادية ، ولا يعم اليد المأذون فيها من أول الامر ، فتكون اليد المأذون فيها خارجة بالتخصص ، لا بالتخصيص.

وبالجملة ، ان قلنا : انه لا يستفاد من عموم ( على اليد ) الا خصوص اليد العادية ، كانت اليد المشكوك كونها عادية من الشبهة المصداقية بالنسبة إلى نفس عنوان العام ، كما إذا شك في عالمية زيد عند قوله : أكرم العلماء. وان قلنا : ان قوله ( على اليد ) يعم اليد العادية والمأذون فيها ويكون اليد المأذون فيها خارجة بالتخصيص ، كانت اليد المشكوك كونها عادية من الشبهة المصداقية بالنسبة إلى عنوان المخصص ، كما إذا شك في فاسقية زيد في مثل قوله : أكرم العلماء الا فساقهم. وعلى كلا التقديرين لا يصح الحكم بالضمان عند الشك في حال اليد ، خصوصا على الأول. مع أن المشهور قالوا بالضمان ، وليس ذلك الا من جهة تعويلهم على العام في الشبهة المصداقية ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك : ان ذهاب المشهور إلى ذلك ليس لأجل صحة التعويل على العام في الشبهة المصداقية ، بل لأجل ان هناك أصلا موضوعيا ينقح حال المشكوك ويدرج المشكوك تحت عنوان العام ، فيتمسك بالعام لاثبات حكمه ، وهو أصالة عدم اذن المالك ورضاه بالتصرف. فيكون المقام من صغريات الموضوعات المركبة المحرز بعض اجزائها بالأصل ، وبعضها الآخر بالوجدان. والأصل الموضوعي في مثل المقام يجرى بلا اشكال ، لكونه مسبوقا بالتحقق بمفاد ليس التامة. والأثر مترتب على مؤدى الأصل بما هو كذلك ، وليس من المقامات التي يكون الأثر فيها مترتبا على مفاد ليس الناقصة ، حتى يستشكل في جريان الأصل من جهة عدم كون مؤداه مسبوقا بالتحقيق كما في مثل أصالة عدم قرشية المرأة ، ولا بأس ببسط الكلام في هذا المقام ليتضح خلط بعض الاعلام.

ص: 529

فنقول : ان العنوان الذي تكفله دليل المقيد والمخصص اما : ان يكون من العناوين اللاحقة لذات موضوع العام ، بحيث يكون من أوصافه وانقساماته ، كالعادل والفاسق بالنسبة إلى العالم ، وكالقرشية والنبطية بالنسبة إلى المرأة. واما : ان يكون من مقارنات الموضوع ، بحيث لايكون من انقسامات ذاته ، بل من الانقسامات المقارنة ، كما إذا قيد وجوب اكرام العالم بوجود زيد ، أو مجيئ عمرو ، أو فوران ماء الفرات ، وما شابه ذلك. فان وجود زيد ، ومجيئ عمرو ، وفوران ماء الفرات ، ليس من أوصاف العالم والانقسامات اللاحقة له لذاته ، بل يكون من مقارناته الاتفاقية ، أو الدائمية ، ولا يمكن ان يكون نعتا ووصفا للعالم ، فان وجود زيد بنفسه من الجواهر لايكون نعتا للعالم ، ومجيء عمرو وفوران ماء الفرات يكون وصفا لعمرو ولماء الفرات ، لا للعالم ، وذلك واضح.

فان كان عنوان المقيد والمخصص من الأوصاف اللاحقة لذات الموضوع ، فلامحة يكون موضوع الحكم في عالم الثبوت مركبا من العرض ومحله ، إذ العام بعد ورود التخصيص يخرج عن كونه تمام الموضوع للحكم لا محالة ويصير جزء الموضوع ، وجزئه الآخر يكون نقيض الخارج بدليل المخصص. ففي مثل قوله : أكرم العلماء الا فساقهم - يكون الموضوع هو العالم الغير الفاسق ، ويكون العالم أحد جزئي الموضوع ، وجزئه الآخر غير الفاسق ، ولما كان غير الفاسق من أوصاف العالم ونعوته اللاحقة لذاته ، كان موضوع الحكم مركبا من العرض ومحله.

وان كان عنوان المقيد والمخصص من المقارنات ، يكون موضوع الحكم مركبا أيضا ، لكن لا من العرض ومحله ، بل اما ان يكون مركبا من جوهرين ، أو عرضين لمحلين ، أو من جوهر وعرض لمحل آخر ، أو من عرضين لمحل واحد ، وأمثلة الكل واضحة.

إذا عرفت ذلك فاعلم : انه ان كان الموضوع مركبا من غير العرض ومحله بل من الأمور المتقارنة في الزمان ، كان الأصل الجاري في اجزاء المركب هو الوجود والعدم المحمولين بمفاد كان وليس التامتين ، لان الأمور المتقارنة في الزمان لا رابط بينها سوى الاجتماع في عمود الزمان ، فمجرد احراز اجتماعها في الزمان يكفي في

ص: 530

ترتب الأثر ، سواء كان احرازها بالوجدان ، أو بالأصل ، أو بعضها بالوجدان وبعضها بالأصل.

نعم : لو كان موضوع الأثر هو العنوان البسيط المنتزع ، أو المتولد من اجتماع الاجزاء في الزمان - كعنوان التقديم ، والتأخر ، والتقارن ، والقبلية ، والبعدية ، وقضية الحال ، وغير ذلك من العناوين المتولدة من اجتماع الأمور المتغايرة في الزمان - كان احراز بعض الاجزاء بالوجدان وبعضها بالأصل لا اثر له ، من جهة انه لا يثبت ذلك العنوان البسيط الذي هو موضوع الأثر ، الا بناء على القول بالأصل المثبت.

وذلك كما في قوله علیه السلام : لو أدرك المأموم الامام قبل رفع رأس الامام. فان استصحاب عدم رفع رأس الامام عن الركوع إلى حال ركوع المأموم لا يثبت عنوان القبلية. وكما في قوله : يعزل نصيب الجنين من التركة فان ولد حيا اعطى نصيبه. فان استصحاب حياته إلى زمان الولادة لا يثبت عنوان الحالية وانه ولد في حال كونه حيا.

وبالجملة : لا يجرى الأصل فيما إذا كان الموضوع للأثر هو العنوان البسيط المنتزع. ولكن كون الموضوع هو ذلك يحتاج إلى قيام الدليل عليه بالخصوص أو استظهاره من الدليل ، والا فالعنوان الأولى الذي يحصل من الأمور المتغايرة ليس الا اجتماعها في الزمان. واما سائر العناوين المتولدة من الاجتماع في الزمان فجعلها موضوعا للأثر يحتاج إلى عناية زائدة ، وقد عرفت : انه إذا كان نفس اجتماع الأمور المتغايرة في الزمان موضوعا للأثر ، كان الأصل في تلك الأجزاء بمفاد كان التامة وليس التامة جاريا بلا اشكال فيه ، إذا الأصل يثبت هذا الاجتماع.

ومما ذكرنا يظهر : وجه حكم المشهور بالضمان عند الشك في كون اليد يد عادية ، من جهة ان موضوع الضمان مركب من اليد والاستيلاء الذي هو فعل الغاصب ومن عدم اذن المالك ورضاه الذي هو عرض قائم بالمالك ، وأصالة عدم رضاء المالك تثبت كون اليد يد عادية ، إذ اليد العادية ليست الا عبارة عن ذلك ، وهذا المعنى يتحقق بضم الوجدان إلى الأصل.

فليس حكمهم بالضمان من جهة التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ،

ص: 531

بل من جهة جريان الأصل الموضوعي المنقح حال المشتبه. وقس على ذلك سائر الموضوعات المركبة من غير العرض ومحله ، فإنه في الجميع يكفي احراز الاجزاء بالأصول الجارية بمفاد كان أو ليس التامتين ، الا إذا كان العنوان المتولد موضوعا للأثر ، فان الأصل يكون حينئذ مثبتا ، كما عرفت.

وأما إذا كان التركيب من العرض ومحله ، فالأصل بمفاد كان وليس التامتين لا اثر له ، بل لا بد ان تكون الجهة النعتية والوصفية مسبوقة بالتحقق ، حتى يجرى الأصل بمفاد كان أو ليس الناقصتين ، لان العرض بالنسبة إلى محله انما يكون نعتا ووصفا له ، ويكون للجهة النعتية والتوصيفية دخل لامحة ، ولا يمكن اخذ العرض شيئا بحيال ذاته في مقابل المحل القائم به ، إذ وجود العرض بنفسه ولنفسه عين وجوده لمحله وبمحله ، فلا محيص من اخذ العرض بما هو قائم بمحله موضوعا للحكم ، وهذا لايكون الا بتوصيف المحل به. فكل أصل أحرز التوصيف والتنعيت كان جاريا ، وهذا لايكون الا إذا كانت جهة التوصيف مسبوقة بالتحقق بعد وجود الموصوف ، وهذا انما يكون بالنسبة إلى الأوصاف اللاحقة لموصوفها بعد وجود الموصوف ، كالفسق ، والعدالة ، والمشي ، والركوب ، وغير ذلك.

واما الأوصاف المساوق وجودها زمانا لوجود موصوفها ، كالقرشية والنبطية ، وغير ذلك ، فلا محل فيها لجريان الأصل بمفاد كان وليس الناقصتين ، لعدم وجود الحالة السابقة. والأصل بمفاد كان وليس التامتين وان كان جاريا الا انه لا يثبت جهة التوصيف الا على القول بالأصل المثبت. ففي مثل أكرم العلماء الا فساقهم ، يكون الموضوع مركبا من العالم الغير الفاسق ، وعند الشك في فسق زيد العالم تجرى أصالة عدم فسقه بمفاد ليس الناقصة إذا كان عدم فسق زيد مسبوقا بالتحقق ، أو أصالة فسقه بمفاد كان الناقصة إذا كان فسقه مسبوقا بالتحقق ، ويترتب على الأول وجوب اكرامه ، وعلى الثاني عدم وجوبه. وسيأتي في مبحث الاستصحاب ( انشاء اللّه ) انه لا فرق في مورد جريان الاستصحاب ، بين ان يكون المستصحب نفس موضوع الحكم ، أو نقيضه.

والاشكال : بأنه لا معنى لاستصحاب نقيض موضوع الحكم - إذ الأثر

ص: 532

الشرعي مترتب على وجود الموضوع ولا اثر لنقيضه - ضعيف غايته ، فإنه يكفي في جريان الاستصحاب اثبات عدم الأثر الشرعي ، والا لا نسد باب الاستصحابات العدمية بالنسبة إلى الاحكام ، إذ عدم الحكم ليس مجعولا شرعيا. وسيأتي تفصيل ذلك في محله انشاء اللّه. وعلى أي حال : ان كان الوجود أو العدم النعتي مسبوقا بالتحقق ، فلا اشكال في جريان الأصل فيه بما انه وجود وعدم نعتي ، وأما إذا لم يكن مسبوقا بالتحقق ، فلا محل للأصل فيه ، وذلك - كالمرأة القرشية - فان عروض وصف القرشية للمرأة مساوق زمانا لوجود المرأة ، فهي اما ان توجد قرشية واما ان توجد غير قرشية ، وليس العدم النعتي مسبوقا بالتحقق ، لان سبق تحقق العدم النعتي يتوقف على وجود الموضوع آنا ما فاقدا لذلك الوصف ، وأما إذا لم يكن كذلك كالمثال فلا محل لاستصحاب العدم النعتي.

نعم : استصحاب العدم الأزلي يجرى ، لان وصف القرشية كان مسبوقا بالعدم الأزلي لامحة ، لأنه من الحوادث ، الا ان الأثر لم يترتب على العدم الأزلي ، بل على العدم النعتي ، واثبات العدم النعتي باستصحاب العدم الأزلي يكون من أوضح أنحاء الأصل المثبت ، إذ عدم وجود القرشية في الدنيا يلازم عقلا عدم قرشية هذه المرأة المشكوك حالها.

ودعوى : ان عدم القرشية لم يؤخذ جزء الموضوع الا بمعناه الأزلي لا بمعناه النعتي ، قد عرفت ضعفها ، فإنه بعد ما كانت القرشية من الأوصاف اللاحقة لذات المرأة ، لا يمكن اخذها الا على جهة النعتية ، هذا.

وللمحقق الخراساني (1) ( قده ) كلام في المقام يعطى صحة جريان الأصول العدمية في مثل هذه الأوصاف ، لكن لا مطلقا ، بل فيما إذا كان دليل التقييد منفصلا ، أو كان من قبيل الاستثناء ، لا ما إذا كان متصلا بالكلام على وجه التوصيف ، فان في مثله لا يجرى الأصل. مثلا تارة : يقول : أكرم العالم الغير الفاسق ، أو

ص: 533


1- كفاية الأصول ، المجلد الأول ص 346 - 345 « ايقاظ ، لا يخفى ان الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل ، أو كالاستثناء من المتصل ...

ان المرأة الغير القرشية تحيض إلى خمسين. وأخرى : يقول : أكرم العالم الا فساقهم ، أو بدليل منفصل يقول : لا تكرم فساق العلماء ، أو يقول : المرأة تحيض إلى خمسين الا القرشية أو بدليل منفصل يقول : المرأة القرشية تحيض إلى ستين. ففي الأول : لا بد ان يكون الأصل بمفاد ليس الناقصة جاريا ، بحيث تكون النعتية مسبوقة بالتحقق ، ولا اثر للأصل بمفاد ليس التامة. وفي الثاني : يكفي جريان الأصل بمفاد ليس التامة ولا يحتاج إلى اثبات جهة النعتية.

ووجه هذا التفصيل - على ما يظهر في كلامه - ان التقييد في الأول يوجب تنويع العام وجعله معنونا بنقيض الخاص ، والأصل الجاري فيه لا بد ان يكون بمفاد ليس الناقصة على ما بيناه. وهذا بخلاف الثاني ، فإنه حيث لم يكن عنوان القيد وصفا ونعتا لعنوان العام في الكلام ، فلا يوجب التقييد تنويع العام ، بل العام بعد باق على اللاعنوانية ويتساوى فيه كل عنوان. نعم : لا بد ان لايكون عنوان الخاص مجامعا لعنوان العام ، لمكان التخصيص. وحينئذ يكفي نفى عنوان الخاص بأي وجه أمكن نفيه في ترتب الأثر ، لأن المفروض انا لا نحتاج إلى اثبات عنوان خاص ووصف مخصوص للعام ، حتى لا يكفي نفى عنوان الخاص في اثبات ذلك للعام ، بل العام بعد باق على لا عنوانيته ، غايته انه خرج عنه عنوان الخاص ، فيكفي في ثبوت الأثر نفى عنوان الخاص ولو بمفاد ليس التامة ، فصح حينئذ ان يقال : الأصل عدم تحقق الانتساب بين هذه المرأة وبين قريش ، فيحكم على المرأة انها ممن تحيض إلى خمسين ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك : ضعف ما افاده ( قده ).

اما أولا : فلان التقييد لا يعقل ان لا يوجب تنويع العام وجعله معنونا بعنوان نقيض الخاص ، إذ التقييد يوجب هدم الاطلاق ويخرج عنوان العام عن التسوية بين انقساماته اللاحقة له لامحة ، لان الاطلاق والتقييد لا يمكن ان يجتمعا ، مع ما بينهما من تقابل العدم والملكة الذي هو في المحل القابل يكون مثل تقابل الايجاب والسلب ، من حيث عدم امكان الاجتماع والارتفاع ، وان كان بينهما فرق من جهة امكان ارتفاع الموضوع في تقابل العدم والملكة ، فلا يصدق على الجدار انه

ص: 534

أعمى أو بصير ، بل يصح سلبهما عنه ، لان الجدار ليس موضوعا للعمى والبصر من جهة انتفاء القابلية ، بخلاف تقابل السلب والايجاب ، فإنه لا يعقل ارتفاع موضوعه ، من جهة ان موضوعه الماهيات المتصفة اما بالوجود واما بالعدم ، كما سيأتي بيانه في محله انشاء اللّه. ولكن بالنسبة إلى المحل القابل يكون حكم تقابل العدم والملكة حكم تقابل السلب والايجاب ، فلا يعقل ان يكون الانسان أعمى وبصيرا ولا لا أعمى ولا لا بصيرا ، فالتقييد يوجب هدم أساس الاطلاق لامحة ، ويوجب تعنون العام بنقيض الخاص ثبوتا وفي نفس الامر.

ومجرد ان القيد لايكون وصفا ونعتا اصطلاحيا لا يوجب ان لايكون كذلك ثبوتا ، بل لا يعقل ان لايكون بعد ما لم يكن القيد من الانقسامات المقارنة زمانا لعنوان العام بل كان من الانقسامات اللاحقة له ومن أوصافه ونعوته ، ومع هذا كيف لا يوجب التقييد تنويع العام؟ وكيف صح له ( قده ) ان يقول : لما لم يكن العام معنونا بعنوان خاص بل بكل عنوان لم يكن ذلك بعنوان الخاص؟ مع أن قوله ( قده ) « لم يكن ذلك بعنوان الخاص » هو عين التوصيف والتنعيت ، مع ما في قوله ( قده ) « بل بكل عنوان » من المسامحة ، إذ العام لا يعقل ان يكون معنونا بكل عنوان ، لما بين العناوين من المناقضة ، فكيف يكون معنونا بكل عنوان؟ بل العام يكون بلا عنوان وذلك يساوى كل عنوان يطرء عليه الذي هو معنى الاطلاق ، ولكن بعد ورود التقييد يخرج عن التساوي ويصير معنونا بنقيض الخاص.

وثانيا : انه أي فائدة في تغيير مجرى الأصل وجعل مجرى الأصل الانتساب الذي هو من الأمور الانتزاعية؟ فإنه لو كان الأثر مترتبا على العدم الأزلي ، فليجعل مجرى الأصل عدم القرشية بالعدم الأزلي بمفاد ليس التامة. وان كان العدم الأزلي لا يكفي بل يحتاج إلى العدم النعتي بمفاد ليس الناقصة ، فلا اثر لجعل مجرى الأصل عدم الانتساب بمعناه الأزلي ، وبمعناه النعتي غير مسبوق بالتحقق. مع أن قوله ( قده ) « أصالة عدم تحقق الانتساب بينها وبين قريش » هو عين العدم النعتي ، فتغيير العبارة ما أفاد شيئا.

وبالجملة : في مثل الأوصاف اللاحقة للذات لا ينفع الا العدم النعتي ، ولا

ص: 535

يجرى الأصل الا بمفاد ليس الناقصة ، ولا اثر للعدم الأزلي الا على القول بالأصل المثبت.

فما افاده صاحب الكفاية ( قده ) من كفاية العدم الأزلي وجريان الأصل بمفاد ليس التامة مما لا يمكن المساعدة عليه ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا.

هذا كله فيما إذا كان المخصص لفظيا ، وقد تبين عدم صحة التعويل على العام في الشبهات المصداقية ، الا إذا كان هناك أصل موضوعي ينقح حال المشتبه.

وأما إذا كان المخصص لبيا من اجماع ، أو عقل ضروري ، أو نظري ، فقد تداول في لسان المتأخرين جواز التمسك بالعام عند الشبهة المصداقية فيه. والظاهر : ان أول من أفاد ذلك هو الشيخ ( قده ) على ما في التقرير ، وتبعه من تأخر عنه ، هذا. (1)

ولكن التحقيق : انه لا فرق في ذلك بين المخصص اللبي والمخصص اللفظي فإنه على كل حال يكون نقيض الخارج قيدا للموضوع ، ولا يصح التعويل على العام مع الشك في الموضوع ، فبعد ما ثبت كون الشيء مخصصا لا يفرق الحال فيه بان يكون دليل المخصص لفظيا ، أو لبيا. والظاهر : ان لايكون مراد الشيخ ( قده ) ومن تبعه هذا المعنى من المخصص ، أي ما كان قيدا للموضوع ، وان كان التعبير بالمخصص اللبي يعطى ذلك ، الا انه من المسامحة في التعبير. فالأولى ان يقال : انه لو ورد عام ، وعلم أن المولى لا يريد جميع ما ينطبق عليه عنوان العام كيفما اتفق ، فان كان الذي لم يتعلق ارادته به من العناوين التي لا تصلح الا ان تكون قيدا للموضوع - ولم يكن احراز انطباق ذلك العنوان على مصاديقه من وظيفة الآمر والمتكلم ، بل كان من وظيفة المأمور والمخاطب - ففي مثل هذا يكون حال المخصص اللبي كالمخصص اللفظي ، في عدم صحة التعويل على العام فيما شك كونه من مصاديق الخارج ، وذلك كما في

ص: 536


1- مطارح الأنظار ، الهداية الثالثة من مباحث العام والخاص ص 192 وتبعه في ذلك صاحب الكفاية قدس سره بالنسبة إلى خصوص المخصص اللبي المنفصل. واما فيما كان كالمتصل بحيث يصح ان يتكل عليه المتكلم إذا كان بصدد البيان في مقام التخاطب ، فاختار فيه عدم حجية العام في المصداق المشتبه معللا بأنه لا ينعقد معه ظهور للعام الا في الخصوص. ( كفاية الأصول ، الجلد الأول ، ص 343 )

مثل قوله علیه السلام : انظروا إلى رجل قد روى حديثنا الخ ، حيث إنه عام يشمل العادل وغيره ، الا انه قام الاجماع على اعتبار العدالة في المجتهد الذي يرجع إليه في القضاء ، فتكون العدالة قيدا في الموضوع ، ولا يجوز الرجوع إلى العموم عند الشك في عدالة مجتهد ، كما إذا كان اعتبار العدالة بدليل لفظي.

وان كان الذي لم يتعلق ارادته به من العناوين التي لا تصلح ان تكون قيدا للموضوع - وكان احرازها من وظيفة الآمر والمتكلم ، بان كان من قبيل الملاكات - ففي مثل هذا يجوز الرجوع إلى العام في الشبهة المصداقية. وذلك كما في مثل قوله علیه السلام : اللّهم العن بنى أمية قاطبة ، حيث يعلم أن الحكم لا يعم من كان مؤمنا من بنى أمية ، لان اللعن لا يصيب المؤمن ، فالمؤمن خرج عن العام لانتفاء ملاكه ، لمكان ان ملاك اللعن هو الشقاوة ، فكأن قوله علیه السلام : اللّهم العن بنى أمية قاطبة - قد تكفل ملاك الحكم بنفسه وهو الشقاوة ، ومعلوم ان السعيد يقابل الشقي ، فليس في السعيد ملاك الحكم ، ولكن احراز ان في بنى أمية سعيدا انما هو من وظيفة المتكلم ، حيث لا يصح له القاء مثل هذا العموم ، الا بعد احراز ذلك ، ولو فرض انه علمنا من الخارج ان ( خالد بن سعيد ) مثلا كان سعيدا مؤمنا ، كان ذلك موجبا لعدم اندراجه تحت العموم ، ولكن المتكلم لم يبينه لمصلحة هناك اقتضت ذلك ، فلا يجوز لنا لعنه لمكان علمنا بعدم ثبوت ملاك الحكم فيه. وأما إذا شككنا في ايمان أحد من بنى أمية فاللازم الاخذ بالعموم وجواز لعنه ، لأنه من نفس العموم يستكشف انه ليس بمؤمن وان المتكلم أحرز ذلك ، حيث إنه من وظيفته كان احراز ذلك ، فلو لم يحرز ان المشكوك شقي لما ألقى العموم كذلك ، ولا ينافي ذلك علمنا بايمان بعض الافراد لو فرض علمنا بذلك ، فان عدم جواز اللعن انما هو لمكان علمنا بعدم ارادته من العموم ، وأين هذا مما إذا شك في ايمان أحد؟ فان أصالة العموم تكون حينئذ جارية ، ويكون المعلوم الخروج من التخصيص الافرادي ، حيث إنه لم يؤخذ عنوانا قيدا للموضوع ، ولم يخرج عن العموم الا بعض الافراد التي يعلم عدم ارادته من العموم.

والحاصل : ان الضابط الكلي في صحة التعويل على العام عند الشبهة

ص: 537

المصداقية ، هو ان الخارج لا يمكن ولا يصح اخذه قيدا لموضوع الخارج ، كما في المثال حيث إنه لا يصح ان يقال : اللّهم العن بنى أمية قاطبة الا الخير منهم أو العنوا بنى أمية الا الخير منهم ، فان مثل حكم اللعن بنفسه لا يصلح ان يعم المؤمن ، حتى يكون خروج الخير من باب التخصيص والتنويع. بخلاف خروج الفاسق عمن يعتبر قضائه ، فإنه يصلح ان يكون قيدا ، بل لا يصلح الا لذلك. وفي هذا القسم من المخصص اللبي لا يفرق الحال فيه بين ان يكون من العقل الضروري ، أو النظري ، أو لاجماع ، فإنه في الجميع يصح التعويل على العام في الشبهات المصداقية. كما أنه في القسم الأول أيضا لا يفرق الحال فيه في أنحاء لمخصص اللبي في عدم الصحة.

هذا كله إذا علم أن الخارج من أي قبيل من المخصص ، هل هو مما اخذ قيدا للموضوع أو مما لم يؤخذ؟ وأما إذا شك في ذلك - وذلك في كل مخصص صلح ان يؤخذ قيدا ويوكل احرازه بيد المخاطب وصلح أيضا ان يكون من قبيل الملاكات ويكون احرازه من ناحية الآمر والمتكلم - فهل في هذا القسم يرجع إلى العموم في الشبهة المصداقية مطلقا؟ أولا يرجع مطلقا؟ أو يفصل بين أنحاء المخصص اللبي من كونه عقلا ضروريا ، أو غيره؟ مثال ذلك : ما إذا قال : أكرم جيراني ، وعلم بعدم إرادة اكرام العدو من الجيران ، فان العداوة يمكن ان تكون مثل الايمان والسعادة من قبيل الملاكات ويكون الآمر قد أحرز انه ليس في جيرانه عدو ، ويمكن ان تكون من العناوين الراجعة إلى قيود الموضوع ويكون الآمر قد أو كل احرازها بيد المخاطب كعدالة المجتهد.

والأقوى : في مثل هذا هو التفصيل بين ما إذا كان الدليل الدال على اعتبار الصداقة وعدم العداوة في ( اكرام الجيران ) هو العقل الضروري الفطري ، وبين ما إذا كان عقلا نظريا أو اجماعا. ففي الأول : لا يجوز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، لان العقل الضروري بمنزلة المخصص المتصل ، ولمكان احتمال كون العداوة من قيود الموضوع يكون العقل الضروري مانعا عن الرجوع إلى العام ، لأنه يكون من احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية. والفرق بين هذا ، وبين القسم الأول مما علم كون الخارج من قيود الموضوع ، هو انه في الأول يكون الكلام مما يعلم باحتفافه بالقرينة

ص: 538

إذا كان الدليل من العقل الضروري ، وفي هذا القسم يكون من احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ، والنتيجة واحدة.

وأما إذا كان الدليل من العقل النظري ، أو الاجماع ، فهو بمنزلة المخصص المنفصل لا يوجب اجمال العام ، ويرجع إليه. ومجرد احتمال كون العداوة من قيود الموضوع لا اثر له ، بعد ما كان الكلام ظاهرا في اكرام جميع افراد الجيران ، فتأمل فيما ذكرناه.

المبحث الثالث :

من مباحث العام والخاص ، انه لا اشكال في عدم جواز الاخذ بالأصول اللفظية - من أصالة العموم والاطلاق - قبل الفحص عن المقيد والمخصص ، كما لا يجوز الاخذ بالأصول العملية قبل الفحص عن أدلة الاحكام وان كان بين البابين فرق ، من جهة ان الفحص في الأصول العملية انما يكون فحصا عن أصل الحجة ، حيث إن حجية الأصول العملية مقصورة على ما بعد الفحص وليس لها مقتضى قبل الفحص ، فالفحص فيها يكون لاحراز المقتضى لجريانها ، لان الأصول العملية اما ان يكون مدركها العقل : من قبح العقاب بلا بيان ، واما ان يكون مدركها الشرع : من حديث الرفع ، ولا تنقض اليقين بالشك.

اما العقل : فواضح ان حكمه بقبح العقاب انما هو بعد الفحص وحركة العبد على طبق ما يقتضيه وظيفة العبودية من البحث عن مرادات المولى. وحكم العقل بوجوب الفحص يكون من صغريات حكمه بوجوب النظر إلى معجزة من يدعى النبوة ، حتى لا يلزم افحام الأنبياء ، وذلك واضح.

واما النقل : فلو سلم اطلاق أدلة الأصول لما قبل الفحص ، الا انه قام الاجماع على اعتبار الفحص ، وانه لا مجرى للأصول الا بعد الفحص. مع أنه يمكن منع اطلاقها من جهة انه لا يمكن تشريع حكم يوجب افحام النبي صلی اللّه علیه و آله بعد ما عرفت : من أن الفحص في المقام يكون من صغريات الفحص عن معجزة النبي صلی اللّه علیه و آله ، فتأمل. وسيأتي لذلك مزيد بيان في محله انشاء اللّه. هذا في الأصول العملية.

ص: 539

واما في الأصول اللفظية : فالفحص فيها انما يكون فحصا عما يزاحم الحجية وعما يعارضها بعد الفراغ عن حجيتها وثبوت المقتضى لها ، لبناء العقلاء على الاخذ بها في محاوراتهم العرفية ، فالفحص فيها يكون فحصا عن المانع ، لا عن المقتضى. وعلى كل حال : تشترك الأصول اللفظية مع الأصول العملية في أصل وجوب الفحص.

ثم انه قد ذكر لوجوب الفحص في الأصول اللفظية والعملية وجوه كثيرة ، لا يسلم غالبها عن الاشكال ، والعمدة منها وجهان في كل من الأصول اللفظية والعملية.

اما الوجهان في الأصول العملية.

فالأول منهما : هو ما تقدمت الإشارة إليه من أن العقل يستقل بأنه لا بد للعبد من المشي لتحصيل مرادات المولى ، وانه لا بد للعبد من أن يقرع باب المولى ليصل إلى مراداته ، وهذا مما يقتضيه وظيفة العبودية. كما أن العقل يستقل أيضا بان وظيفة المولى ان يبين مراداته على النحو المتعارف ، بحيث يمكن للعبد الوصول إليها إذا جرى على ما تقتضيه وظيفته ، فلكل من المولى والعبد وظيفة يستقل العقل بها. فمن وظيفة المولى ان يبين مراداته على نحو يمكن للعبد الوصول إليها. ومن وظيفة العبد ان يبحث عن مرادات المولى حتى يصل إليها ، وذلك واضح.

والثاني منهما : هو العلم الاجمالي بثبوت احكام الزامية على خلاف الأصول النافية للتكليف ، ولهذا العلم الاجمالي مدركان :

الأول : هو ان العلم بان هناك شرعا وشريعة يقتضى العلم بان للشريعة احكاما الزامية في الجملة ، إذ لا معنى لشريعة ليس فيها حكم الزامي أصلا.

الثاني : انه بعد الاطلاع على ما بأيدينا من الكتب ، يعلم أن هناك أدلة تتضمن لاحكام الزامية على خلاف الأصول النافية للتكليف فيما بأيدينا من الكتب.

واما الوجهان في الأصول اللفظية.

فالأول منهما : هو العلم الاجمالي بوجود مقيدات ومخصصات فيما بأيدينا من

ص: 540

الكتب للعمومات والاطلاقات ، وذلك معلوم لكل من راجع الكتب.

والثاني : هو ان أصالة العموم والاطلاق انما تجرى فيما إذا لم يكن دأب المتكلم والتعويل على المقيدات والمخصصات المنفصلة ، إذ لا مدرك للاخذ بأصالة العموم والاطلاق الا بناء العقلاء عليها في محاوراتهم ، وليس من بناء العقلاء عليها إذا كان العام المطلق في معرض التخصيص والتقييد ، بحيث كان المتكلم بالعام والمطلق يعتمد كثيرا على المنفصلات ولم يبين تمام مراده في كلام واحد ، فإنه لا تجرى ح مقدمات الحكمة في مصب العموم والاطلاق ، لان عمدة مقدمات الحكمة هي كون المتكلم في مقام بيان مراده. وهذه المقدمة لا تجرى بالنسبة إلى المتكلم الذي يكون شانه ذلك ، أي يعتمد على المنفصلات كثيرا.

ومن المعلوم لكل من راجع الاخبار ، ان الأئمة صلوات اللّه عليهم كثيرا ما يعتمدون في بيان المخصصات والمقيدات على المنفصلات ، فإنه كثيرا ما يكون العام واردا من امام علیه السلام والمخصص من امام آخر. والعام الذي يكون من شانه ذلك أي في معرض التخصيص لا تجرى فيه أصالة العموم ، وذلك أيضا واضح.

فتحصل : ان لوجوب الفحص في كل من الأصول العملية واللفظية مدركين يشتركان في أحدهما ، وهو العلم الاجمالي. ويفترقان في الآخر ، لان المدرك الآخر لوجوب الفحص في الأصول العملية هو استقلال العقل بلزوم حركة العبد على ما تقتضيه وظيفته بالبيان المتقدم. وفي الأصول اللفظية هو كون العام في معرض التخصيص والتقييد.

ثم ، انه ربما يشكل في جعل المدرك لوجوب الفحص العلم الاجمالي في كلا البابين ، وكون العام والمط في معرض التخصيص والتقييد في خصوص الأصول اللفظية. اما الاشكال على العلم الاجمالي ، فقد يقرر على وجه يختص بالأصول العملية ، وقد يقرر على وجه يشترك البابان فيه.

اما التقرير على الوجه الأول ، فحاصله : انه قد تقدم ان للعلم الاجمالي مدركين :

الأول : هو العلم بان في الشريعة أحكاما الزامية على خلاف الأصول

ص: 541

النافية.

الثاني : هو العلم بثبوت احكام الزامية فيما بأيدينا من الكتب. ودائرة العلم الاجمالي الأول أوسع من الثاني ، لان متعلقه أعم مما بأيدينا. والفحص عن الاحكام الالزامية فيما بأيدينا من الكتب يوجب انحلال العلم الثاني ، والعلم الاجمالي الأول الذي هو أوسع دائرة بعد باق على حاله لا ينحل بالفحص فيما بأيدينا من الكتب ، ولازم ذلك هو عدم جريان الأصول النافية مط حتى بعد الفحص. نظير ما إذا علم بان في هذه القطيعة من الغنم موطوء ، وعلم أيضا ان في البيض منها موطوء ، فتفحصنا عن البيض وعثرنا على مقدار من الموطوء فيها الذي تعلق علمنا به ، فان العلم الاجمالي بان في البيض موطوء وان انحل ، الا ان العلم الاجمالي بان في القطيعة الأعم من السود والبيض موطوء بعد على حاله ، ولا تخرج السود عن كونها طرف العلم ، ومقتضى ذلك هو الاحتياط في الجميع.

وهذا الاشكال ، كما ترى يختص بالأصول العملية ، ولا يجرى في الأصول اللفظية ، لان العلم الاجمالي في الأصول اللفظية لا مدرك له سوى ما بأيدينا من الكتب ، وليس هناك علمان يكون أحدهما أوسع عن الآخر ، بل العلم الاجمالي من أول الامر تعلق بان فيما بأيدينا من الكتب مقيدات ومخصصات للعمومات والمطلقات ، وبعد الفحص عما بأيدينا ينحل العلم الاجمالي قهرا. فهذا التقريب من الاشكال يختص بالأصول العملية الذي يكون للعلم الاجمال فيها مدركان ، هذا.

ولكن يمكن دفع الاشكال بأنه بعد الفحص عن الاحكام الالزامية فيما بأيدينا من الكتب والعثور على مقدار من الاحكام ينحل العلم الاجمالي الكبير أيضا ، غايته انه ليس انحلالا حقيقيا كانحلال العلم الاجمالي الصغير ، بل هو انحلال حكمي ، لان ما عثرنا عليه من الأدلة المتكفلة للأحكام الالزامية قابل الانطباق على ما علم اجمالا بان في الشريعة أحكاما الزامية ، إذ لا علم بان في الشريعة أحكاما أزيد مما تكفلته الأدلة التي عثرنا عليها على تقدير إصابة تلك الأدلة للواقع ، فالاحكام التي تضمنتها الأدلة قابلة الانطباق على ما علم اجمالا من الاحكام الثابتة في الشريعة. نظير ما إذا علم اجمالا بنجاسة أحد الانائين ، ثم علم تفصيلا بنجاسة أحدهما المعين ،

ص: 542

واحتمل ان تكون النجاسة في المعين هي تلك النجاسة المعلومة اجمالا في أحد الانائين ، فان العلم الاجمالي ح ينحل لاحتمال انطباق ما علم نجاسته تفصيلا على المعلوم بالاجمال ، غايته انه ليس انحلالا حقيقيا كما إذا علم بان النجاسة المعلومة بالتفصيل هي عين تلك النجاسة المعلومة بالاجمال فإنه يكون الانحلال ح حقيقيا ، بل الانحلال يكون حكميا.

ومما ذكرنا ظهر : ان العلم الاجمالي في المثال المتقدم في القطيع من الغنم أيضا ينحل ، وتخرج السود عن كونها طرفا للعلم الاجمالي ، ولا يجب فيها الاحتياط.

واما تقرير الاشكال على وجه يشترك فيه البابان ، فحاصله : ان العلم الاجمالي بوجود احكام الزامية وبورود مقيدات ومخصصات فيما بأيدينا من الكتب وان اقتضى عدم جريان الأصول اللفظية والعملية قبل الفحص ، الا انه بعد الفحص والعثور على المقدار المتيقن من الاحكام والمقيدات والمخصصات يوجب انحلال العلم ، كما هو الشأن في كل علم اجمالي ترددت أطرافه بين الأقل والأكثر ، فان بالعثور على المقدار المتيقن الذي هو الأقل ينحل العلم الاجمالي ، ويكون الأكثر شبهة بدوية يجرى فيه الأصل. كما لو علم أن في هذه القطيعة من الغنم موطوء ، وتردد بين ان يكون عشرة أو عشرين ، فإنه بالعثور على العشرة ينحل العلم الاجمالي لامحة. وفي المقام لا بد ان يكون مقدار متيقن للعلم الاجمالي بالأحكام الالزامية والمقيدات والمخصصات الواقعة في الكتب ، إذ لا يمكن ان لايكون له مقدار متيقن ، فإنه لو سئل عن مقدار معلومة الاجمالي فلا بد ان يصل إلى حد وعدد يكون الزايد عليه مشكوكا ويجيب بأنه لا علم لي بأزيد من ذلك ، ومقتضى ذلك هو انه لو عثر على ذلك المقدار المتيقن ينحل العلم الاجمالي ولا يجب الفحص في سائر الشبهات ، بل ينبغي ان تجرى فيها الأصول اللفظية والعملية بلا فحص ، مع أنهم لا يقولون بذلك ، ولا قال به أحد ، لايجابهم الفحص عند كل شبهة شبهة ، ولا يلتفتون إلى انحلال العلم الاجمالي ، فلا بد ان يكون المدرك لوجوب الفحص غير العلم الاجمالي ، هذا.

ولكن يمكن دفع الاشكال أيضا ، بان المعلوم بالاجمالي تارة : يكون مرسلا

ص: 543

غير معلم بعلامة يشار إليه بتلك العلامة ، وأخرى : يكون معلما بعلامة يشار إليه بتلك العلامة ، وانحلال العلم الاجمالي بالعثور على المقدار المتيقن انما يكون في القسم الأول. واما القسم الثاني فلا ينحل بذلك ، بل حاله حال دوران الامر بين المتباينين. وضابط القسمين : هو ان العلم الاجمالي كليا انما يكون على سبيل المنفصلة المانعة الخلو المنحلة إلى قضيتين حمليتين.

وهاتان القضيتان تارة : تكونان من أول الامر إحديهما متيقنة والأخرى مشكوكة ، بحيث يكون العلم الاجمالي قد نشأ من هاتين القضيتين ، ويكون العلم الاجمالي عبارة عن ضم قضية مشكوكة إلى قضية متيقنة ليس الا. كما إذا علم اجمالا بأنه مديون لزيد ، أو علم بان في هذه القطيعة موطوء ، وتردد الدين بين ان يكون خمسة دراهم أو عشرة ، أو تردد الموطوء بين ان يكون خمسة أو عشرة ، فان هذا العلم الاجمالي ليس الا عبارة عن قضية متيقنة : وهي كونه مديونا لزيد بخمسة دراهم أو ان في هذه القطيعة خمس شياه موطوئة ، وقضية مشكوكة : وهي كونه مديونا لزيد بخمسة دراهم زائدا على الخمسة المتيقنة ، أو ان في هذه القطيعة خمس شياه موطوئة زائدا على الخمسة المتيقنة ، ففي مثل هذا ، العلم الاجمالي ينحل قهرا بالعثور على المقدار المتيقن ، إذ لا علم حقيقة بسوى ذلك المقدار المتيقن ، والزايد عليه مشكوك من أول الامر ولم يتعلق العلم به أصلا ، ولا يصح جعله طرفا للعلم ، إذ لم يتعلق العلم به بوجه من الوجوه ، فلا معنى لجعله من أطراف العلم ، فالعلم الاجمالي في مثل هذا من أول الامر منحل ، وذلك واضح.

وأخرى : لا تكون القضيتان على هذا الوجه ، أي بان يكون من أول الامر إحداهما متيقنة والأخرى مشكوكة ، بل تعلق العلم بالأطراف على وجه تكون جميع الأطراف مما تعلق العلم بها بوجه ، بحيث لو كان الأكثر هو الواجب لكان مما تعلق به العلم وتنجز بسببه ، وليس الأكثر مشكوكا من أول الامر بحيث لم يصبه العلم بوجه من الوجوه ، بل كان الأكثر على تقدير ثبوته في الواقع مما اصابه العلم. وذلك في كل ما يكون المعلوم بالاجمال معلما بعلامة كان قد تعلق العلم به بتلك العلامة ، فيكون كل ما اندرج تحت تلك العلامة وانطبقت عليه مما تعلق العلم به ،

ص: 544

سواء في ذلك الأقل والأكثر. وح لو كان الأكثر هو الثابت في الواقع ، فقد تعلق العلم به لمكان تعلقه بعلامته. وذلك : كما إذا علمت انى مديون لزيد بما في الدفتر ، فان جميع ما في الدفتر من دين زيد قد تعلق العلم به ، سواء كان دين زيد خمسة أو عشرة ، فإنه لو كان دين زيد عشرة فقد اصابه العلم لمكان وجوده في الدفتر وتعلق العلم بجميع ما في الدفتر. وأين هذا مما إذا كان دين زيد من أول الامر مرددا بين الخمسة والعشرة؟ فان العشرة في مثل ذلك مما لم يتعلق بها العلم بوجه من الوجوه ، وكانت مشكوكة من أول الامر ، فلا موجب لتنجيزها على تقدير ثبوتها في الواقع.

بخلاف ما إذا تعلق العلم بها بوجه. ولو لمكان تعلق العلم بما هو من قبيل العلامة لها ، وهي بعنوان ( كونها في الدفتر ) فإنها قد تنجزت على تقدير وجودها في الدفتر. وفي مثل هذا ليس له الاقتصار على المقدار المتين ، إذ لا مؤمن له على تقدير ثبوت الأكثر في الواقع بعد ما ناله العلم واصابه. فحال العلم الاجمالي في مثل هذا الأقل والأكثر حال العلم الاجمالي في المتباينين في وجوب الفحص والاحتياط.

وان شئت قلت : كان لنا هنا علمان : علم اجمالي باني مديون لزيد بجميع ما في الدفتر ، وعلم اجمالي آخر بان دين زيد عشرة أو خمسة ، والعلم الثاني غير مقتضى للاحتياط بالنسبة إلى العشرة ، والعلم الاجمالي الأول مقتض للاحتياط بالنسبة إليها ، لتعلق العلم بها على تقدير ثبوتها في الواقع ، واللا مقتضى لا يمكن ان يزاحم المقتضى. ونظير ذلك ما إذا علم بان في البيض من هذه القطيعة موطوء ، فإنه كل ابيض موطوء في هذه القطيعة فقد تعلق العلم به وأوجب تنجزه ، فلو عثر على مقدار متيقن من البيض موطوء ليس له اجراء أصالة الحل بالنسبة إلى الزايد ، لأنه لا مؤمن له على تقدير وجود موطوء آخر في البيض.

وإذ قد عرفت ذلك ، فنقول : ما نحن فيه يكون من العلم الاجمالي المعلم المقتضى للفحص التام الغير المنحل بالعثور على المقدار المتيقن ، لان العلم قد تعلق بان في الكتب التي بأيدينا مقيدات ومخصصات واحكاما الزامية ، فيكون نظير تعلق العلم باني مديون لزيد بما في الدفتر ، فيكون كل مقيد ومخصص وحكم الزامي ثابت فيما بأيدينا من الكتب قد اصابه العلم وتعلق به ، وقد عرفت ان مثل هذا

ص: 545

العلم الاجمالي لا ينحل بالعثور على المقدار المتيقن ، بل لا بد فيه من الفحص التام في جميع ما بأيدينا من الكتب. فتأمل فيما ذكرناه من قسمي العلم الاجمالي فإنه لا يخلو عن دقة.

هذا حاصل الاشكال والجواب في جعل المدرك لوجوب الفحص العلم الاجمالي.

واما لو جعل المدرك لوجوب الفحص كون دأب المتكلم وديدنه التعويل على المنفصلات ، فقد يستشكل أيضا بما حاصله : ان الفحص لا اثر له حينئذ ، إذ الفحص عن المقيدات والمخصصات فيما بأيدينا من الكتب لا يغير العمومات والمطلقات عن كونها في معرض التخصيص وعن كون دأب المتكلم التعويل على المنفصلات ، إذ الفحص لا دخل له في ذلك ولا يوجب قوة أصالة الظهور والعموم التي ضعفت وسقطت بدأب المتكلم وخروجه عن طريق المحاورات العرفية من بيان تمام مراده في كلام واحد ، إذ كل عام يحتمل ان يكون قد عول فيه على المخصص المنفصل ولم يكن ذلك المخصص في الكتب التي بأيدينا ولا دافع لهذا الاحتمال ، هذا.

ولكن يمكن الذب عن الاشكال أيضا ، بان كون شأن المتكلم ذلك يوجب عدم الاطمينان والوثوق بان واقع مراده هو ظاهر العام والمط ، فلو تعلق غرض باستخراج واقع مراد المتكلم لما أمكن بالنسبة إلى المتكلم الذي يكون شانه ذلك ، كما يتضح ذلك بالقياس على المحاورات العرفية فإنه لو فرض ان أحد التجار كتب إلى طرفه يخبره بسعر الأجناس في بلد وكان الكاتب ممن يعتمد على القرائن في بيان مراده ، فان هذا الكتاب لو وقع بيد ثالث لا يمكنه العمل على ما تضمنه ، لأنه لا يمكن الحكم بان واقع مراد الكاتب هو ما تضمنه ظاهر الكتاب ، مع أن هذا الثالث ليس له غرض سوى استخراج واقع مراد الكاتب.

وأما إذا لم يتعلق الغرض باستخراج واقع مراد المتكلم ، بل كان الغرض هو الالزام والالتزام بكلام المتكلم وجعله حجة قاطعة للعذر في مقام المحاجة والمخاصمة ، فلا بد من الاخذ بما هو ظاهر كلامه ، وكون شأن المتكلم التعويل على

ص: 546

المنفصل لا يوجب أزيد من الفحص.

والسر في ذلك : هو ان طريق الاخذ والالتزام والمحاجة انما هو بيد العقل والعقلاء ، وبناء العقلاء في محاوراتهم على ذلك ، كما أن العقل يحكم بذلك أيضا. وعليك بمقايسة الأحكام الشرعية على الاحكام العرفية الصادرة من الموالى العرفية الملقاة إلى عبيدهم ، فإنه لا يكاد يشك في الزام العبد بالأخذ بظاهر كلام المولى بعد الفحص عما يخالف الظاهر واليأس عن الظفر إذ كان شان المولى التعويل على المنفصل ، وليس للعبد ترك الاخذ بالظاهر والاعتذار باحتمال عدم إرادة المولى ظاهر كلامه ، كما أنه ليس للمولى الزام العبد وتأديبه عند اخذه بالظاهر إذا لم يكن الظاهر مراده وعول على المنفصل.

والحاصل : ان كون المتكلم من دأبه التعويل على المنفصلات انما يوجب عند العقلا عدم الاخذ بالظاهر قبل الفحص عن مظان وجود المنفصل ، واما بعد الفحص فالعقل والعقلاء يلزمون العبد بالأخذ بالظاهر ويكون ظاهر كلام المتكلم حجة على العبد ، ولكل من المولى والعبد الزام الآخر بذلك الظاهر.

نعم لو قلنا : بان اعتبار الظهور من باب إفادته الظن والاطمينان الشخصي بالمراد ، لكان الاشكال المذكور في محله ، إذ الفحص لا يوجب حصول الظن بالمراد بالنسبة إلى المتكلم الذي شأنه التعويل على المنفصل ، الا ان اعتبار الظهور من ذلك الباب فاسد ، بل اعتبار الظهور من باب بناء العقلاء على الاخذ ولو لمكان كشفه نوعا عن المراد ، لا من باب التعبد المحض ، وقد عرفت ان بناء العقلاء ليس أزيد من الفحص بالنسبة إلى المتكلم الذي يكون شانه ذلك ، فتأمل جيدا.

هذا كله في أصل وجوب الفحص ، واما مقداره : فهو وان اختلف فيه ، بين من يكتفى بالظن ، وبين من يعتبر العلم واليقين بعدم وجود مقيد ومخصص فيما بأيدينا من الكتب ، وبين من يعتبر الاطمينان وسكون النفس بعدم وجود ذلك ، الا ان الأقوى هو الأخير ، وهو اعتبار الاطمينان ، لان الاكتفاء بالظن مما لا وجه له بعد عدم قيام الدليل على اعتباره ، والاقتصار على حصول العلم واليقين يوجب الحرج وسد باب الاستنباط ، فان الاخبار وان بوبها الأصحاب ( جزاهم اللّه عن

ص: 547

الاسلام وأهله خير الجزاء ) وأوردوا كل خبر في بابه ، الا انه مع ذلك قد قطعوا الاخبار وأوردوا صدر الخبر في باب وذيله في باب آخر ، كما صنع صاحب الوسائل ، وذلك أوجب الاختلال ، إذ ربما يكون ذيل الخبر قرينة على المراد من صدره ، فلو اعتبرنا العلم واليقين للزم الضيق والعسر الشديد في الاستنباط ، مع أن الاطمينان هو طريق عقلائي يعتمد عليه العقلاء كما يعتمدون على العلم الوجداني ، ويكتفون بالاطمينان في كل ما يعتبر فيه الاحراز. فالأقوى : كفاية الاطمينان.

المبحث الرابع : في الخطابات الشفاهية.

وقد وقع النزاع في أن الخطابات المصدرة بأداة الخطاب - كياء النداء ، وكاف الخطاب ، وأمثال ذلك مما يختص بالمشافهة - هل تختص بالمشافهين الحاضرين في مجلس التخاطب؟ فلا تعم الغائبين فضلا عن المعدومين ، أو لا تختص بذلك؟ بل تعم المعدومين فضلا عن الغائبين.

ومحل الكلام ، هو خصوص الألفاظ المصدرة بأداة الخطاب كما عرفت. ولا كلام فيما عدى ذلك : من أسماء الأجناس ، كقوله تعالى : لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا - وكقوله تعالى : المؤمنون اخوة. وغير ذلك مما اخذ اسم الجنس فيه موضوعا للحكم ، فإنه لا اشكال في عموم اللفظ للحاضر والغائب والمعدوم.

ثم إن جهة البحث عن عموم الخطابات الشفاهية وعدمه ، يمكن ان تكون عقلية ويكون مرجع هذا النزاع إلى امكان مخاطبة الغائب والمعدوم وعدم امكانه عقلا ، ويمكن ان يكون لفظيا لغويا ويكون مرجع هذا النزاع ح إلى أن أداة الخطاب هل هي موضوعة لخصوص التخاطب بها مع الحاضر المشافه؟ أو انها موضوعة للأعم من ذلك ومن الغائب والمعدوم؟ ويمكن ان يكون النزاع في كلتا الجهتين عقليا ولغويا.

ثم إن ثمرة النزاع تظهر في حجية ظهور خطابات الشفاهية وصحة التمسك بها بالنسبة إلى الغائبين والمعدومين في زمن الخطاب. فان قلنا : باختصاصها بالمشافهين لا يصح التمسك بها في حق الغائبين والمعدومين ، لعدم كونهم مخاطبين بما

ص: 548

تضمنته تلك الخطابات. وتسرية ما تضمنته تلك الخطابات من الاحكام إلى الغائبين والمعدومين انما يكون بقاعدة الاشتراك في التكليف ، الذي انعقد عليه الاجماع والضرورة. وقاعدة الاشتراك في التكليف مختصة بما إذا اتحد الصنف ، ولا تجرى في مورد اختلاف الصنف ، بان كان الحاضرون في مجلس التخاطب واجدين لخصوصية يحتمل دخلها في موضوع الحكم ولو كانت تلك الخصوصية نفس حضورهم في مجلس التخاطب ، أو وجودهم في بلد الخطاب ، أو وجودهم في عصر الحضور ونزول الخطاب ، فإنه لو احتمل دخل شيء من تلك الخصوصيات لما كان ح مجال للتمسك بقاعدة الاشتراك ، لما عرفت : من اختصاصها بصورة اتحاد الصنف. وهذا بخلاف ما إذا قلنا : بعموم الخطابات الشفاهية للغائبين والمعدومين ، فانا لا نحتاج إلى قاعدة الاشتراك ، بل نفس عموم الخطاب يقتضى تكليف الغائب والمعدوم بما تضمنته تلك الخطابات من الاحكام ولو مع اختلاف الصنف ، وذلك واضح ، هذا.

وعن بعض الاعلام انكار هذه الثمرة ، ودعوى : ان ذلك مبنى على مقالة من يقول بحجية الظواهر بالنسبة إلى خصوص من قصد افهامه بالكلام ، دون من لم يقصد افهامه ، كما هو مقالة (1) المحقق القمي ( قده ) ، إذ لو قلنا : بحجية الظواهر مط ولو في حق من لم يقصد افهامه فظواهر الخطابات الشفاهية تكون ح حجة ولو قلنا باختصاصها بالمشافهين ، هذا.

ولكن لا يخفى عليك : ان الثمرة لا تبتنى على مقالة المحقق القمي (رحمه اللّه) ، فان الخطابات الشفاهية لو كانت مقصورة على المشافهين ولا تعم غيرهم فلا معنى للرجوع إليها وحجيتها في حق الغير ، سواء قلنا بمقالة المحقق القمي أو لم نقل ، فلا ابتناء للثمرة على ذلك أصلا.

وقد ذكر المحقق الخراساني (2) ( قده ) للنزاع ثمرتين ، وجعل إحدى الثمرتين

ص: 549


1- مقالة المحقق القمي. قوانين الأصول ، قانون 7 من الباب الثالث ( مبحث العموم والخصوص ) ص 131 ص
2- كفاية الأصول الجلد الأول ص 359 فصل : ربما قيل إنه يظهر لعموم الخطابات الشفاهية للمعدومين ثمرتان : الأولى : حجية ظهور خطابات الكتاب للمشافهين .. » وهذه هي الثمرة التي جعلها مبتنية على مقالة المحقق القمي بقوله « وفيه انه مبنى على اختصاص حجية الظواهر بالمقصودين بالافهام ، وقد حقق عدم الاختصاص بهم .. »

مبتنية على مقالة المحقق القمي (رحمه اللّه) ولم يجعل الأخرى مبتنية على ذلك. مع أنه لم يظهر لنا الفرق بين الثمرتين بل مرجعهما إلى امر واحد ، وانما التفاوت في التعبير فقط ، فراجع وتأمل لعلك تجد فرقا بين الثمرتين. وعلى كل حال قد ظهر : ان ثمرة النزاع في المقام جلية ولا تبتنى على مقالة المحقق القمي ( قده ).

إذا عرفت ذلك فاعلم : ان الكلام في اختصاص الخطابات الشفاهية بالحاضرين وعمومها لغيرهم تارة : يقع في القضايا الخارجية ، وأخرى : يقع في القضايا الحقيقية.

اما في القضايا الخارجية - فاختصاص الخطاب بالحاضر المشافه مما لا سبيل إلى انكاره ، لوضوح انه لا يمكن توجيه الكلام ومخاطبة الغائب الغير المتلفت إلى الخطاب ، فضلا عن المعدوم ، الا بتنزيل الغائب والمعدوم منزلة الحاضر ، كما قد ينزل غير ذوي العقول منزلة ذوي العقول فيخاطب ، كما في قول الشاعر :

الا يا ليل طلت على حتى *** كأنك قد خلقت بلا صباح

وبالجملة : مخاطبة الغائب والمعدوم بلا تنزيل مما لا يمكن.

واما في القضايا الحقيقية : فحيث انها متكفلة لفرض وجود الموضوع وكان الخطاب خطابا لما فرض وجوده من افراد الطبيعة في موطنه ، كانت الافراد متساوية الاقدام في اندراجها تحت الخطاب ، فيستوى في ذلك الافراد الموجودة في زمن الخطاب الحاضرون في مجلس التخاطب أو المعدومون الغير الحاضرين ، لان في الجميع لوحظت الافراد على نحو فرض الوجود ووجه الخطاب على ذلك الفرض.

وبعبارة أخرى : التنزيل الذي كان مما لا بد منه في القضية الخارجية أعني تنزيل المعدوم منزلة الموجود في صحة الخطاب ، يكون في القضية الحقيقية مما تضمنته نفس القضية ، وكانت القضية بنفسها دالة على ذلك التنزيل ، لان شأن

ص: 550

القضية الحقيقية فرض وجود الموضوع ، فالخطاب في القضية الحقيقية يعم الغائب والمعدوم بلا عناية.

ودعوى : ان أداة الخطاب موضوعة لخصوص ما يكون موجودا بالفعل في مجلس صدور الخطاب ، مما لا شاهد عليها ، لأنه إذا أمكن في عالم الثبوت توجيه الخطاب إلى ما سيوجد بعد ذلك على نهج القضية الحقيقية ، فعالم الاثبات يكون على طبق عالم الثبوت ، ولا موجب لدعوى وضع الأداة لخصوص الافراد الفعلية الحاضرين في مجلس التخاطب. وكان منشأ توهم اختصاص الخطابات الشفاهية بالحاضرين هو تخيل كون القضايا الشرعية من القضايا الخارجية وان ما ورد في الكتاب والسنة من الخطابات انما تكون اخبارات عن أن الاحكام تنشأ بعد ذلك عند وجود الافراد ، فيكون لكل فرد خطاب يخصه عند وجوده. وقد تقدم منا فساد ذلك ، وان القضايا الشرعية كلها ( الا ما شذ ) تكون على نهج القضايا الحقيقية ، وح الخطابات تعم المعدومين أيضا.

المبحث الخامس :

لو تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض افراده ، فهل ذلك يوجب تخصيص العام بخصوص ما أريد من الضمير؟ أو انه لا يوجب ذلك؟ مثاله قوله تعالى : (1) « والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يكتمن ما في أرحامهن » إلى قوله تعالى : « وبعولتهن أحق بردهن » فان ضمير « وبعولتهن » يرجع إلى خصوص الرجعيات ، بقرينة قوله تعالى : « أحق بردهن » والمطلقات في صدر الآية عام للرجعيات وغيرها ، لأنه من الجمع المحلى باللام. فيقع البحث حينئذ في أن رجوع الضمير إلى خصوص الرجعيات موجب لتخصيص المطلقات وان المراد منه خصوص الرجعيات فتكون الأحكام المذكورة في الآية السابقة على قوله تعالى : « وبعولتهن » مختصة بالرجعيات ، أو انه لا يوجب ذلك ، بل المراد من المطلقات الأعم ، والاحكام السابقة تكون لمطلق المطلقات.

ص: 551


1- البقرة : 228

فقد يقال : ان أصالة العموم معارضة بأصالة عدم الاستخدام ، فان لازم إرادة العموم من المطلقات هو الاستخدام في ناحية الضمير ، لرجوعه حينئذ إلى غير ما هو المراد من المرجع ، بل إلى بعض افراد المرجع ، كما أن لازم عدم الاستخدام هو تخصيص العام وان المراد منه خصوص الرجعيات. وكما أن أصالة العموم تقتضي الاستخدام كذلك أصالة عدم الاستخدام أيضا أصل عقلائي في باب المحاورات يقتضى تخصيص العام ، فيتعارض الأصلان من الطرفين ، وحينئذ لا طريق إلى اثبات تعلق الاحكام السابقة على قوله : « وبعولتهن » الخ بمطلق المطلقات ، إذ الطريق منحصر بأصالة العموم الساقطة بالمعارضة ، هذا.

ولكن الشأن في جريان أصالة عدم الاستخدام حتى يعارض أصالة العموم. الأقوى : عدم جريان أصالة عدم الاستخدام.

اما أولا : فلابتناء الاستخدام في المقام على مجازية العام المخصص ، واما بناء على الحقيقة ، فلا يلزم استخدام أصلا ، حتى تجرى أصالة عدم الاستخدام. وذلك : لان رجوع الضمير إلى المطلقات الرجعية لا يوجب المغايرة بين ما يراد من المرجع وما يراد من الضمير ، وما لم يوجب المغايرة لا يتحقق في الكلام استخدام. وحصول المغايرة بين المرجع والضمير لا بد ان تكون بأحد الوجوه الموجبة للمغايرة ، كما إذا كان المراد من المرجع بعض معاني المشترك وكان المراد من الضمير بعضا آخر ، أو يكون المراد من المرجع المعنى الحقيقي للفظ والمراد من الضمير المعنى المجازى ، أو غير ذلك من أسباب المغايرة. وفي المقام بناء على كون العام المخصص حقيقة في الباقي لا يتحقق شيء من أسباب المغايرة ، فإنه لا مغايرة بين معنى المطلقات المذكورة في صدر الآية ، وبين المطلقات الرجعيات التي يرجع الضمير إليها بعد ما كان استعمال المطلقات في الرجعيات لا يوجب المجازية ، إذ المطلقات موضوعة للطبيعة وكان العموم والشمول في مصب العموم مستفادا من دليل الحكمة على ما تقدم تفصيله ، والمعنى الموضوع له للفظ المطلقات محفوظ في المطلقات الرجعيات ، وليس المطلقات الرجعيات معنى مجازيا لمعنى مطلق المطلقات ، ولا ان المطلقات من المشتركات اللفظية حتى يكون المطلقات الرجعيات أحد المعاني ، فأين المغايرة بين

ص: 552

المرجع والضمير حتى يتحقق الاستخدام؟ فتأمل.

واما ثانيا : فلان استفادة الرجعيات في قوله تعالى : « وبعولتهن أحق بردهن » ليس من نفس الضمير ، بل يستفاد ذلك من عقد الحمل وهو قوله تعالى : « أحق بردهن » حيث إنه معلوم من الخارج ان ما هو الأحق بالرد هو خصوص الرجعيات ، فالضمير لم يرجع إلى الرجعيات ، بل رجع إلى نفس المطلقات وكان استفادة الرجعيات من عقد الحمل ، فيكون من باب تعدد الدال والمدلول ، فأين الاستخدام المتوهم؟.

والحاصل : ان الاستخدام انما يتوهم ثبوته في المقام لو كان المراد من الضمير هو خصوص الرجعيات. واما لو كان المراد من الضمير هو المطلقات ، وكان استفادة الرجعيات من عقد الحمل من باب تعدد الدال والمدلول فلا يلزم استخدام أصلا ، فتأمل.

واما ثالثا : فلان الأصول العقلائية انما تجرى عند الشك في المراد ، وفي المقام لا شك في المراد من الضمير وان المراد منه المطلقات الرجعيات ، وبعد العلم بما أريد من الضمير لا تجرى أصالة عدم الاستخدام حتى يلزم التخصيص في ناحية العام.

فان قلت :

ان عدم الاستخدام يقتضى أمرين : ( الأول ) ان المراد من الضمير هو المطلقات الرجعيات ( الثاني ) ان المراد من العام هو المعنى الخاص ليتطابق المرجع والضمير. وأصالة عدم الاستخدام وان كانت لا تجرى في الامر الأول لعدم الشك في المراد من الضمير ، الا انها تجرى لاثبات الامر الثاني ، لان مثبتات الأصول اللفظية حجة ، وحيث كان لازم عدم الاستخدام هو كون المراد من العام هو الخاص ، فأصالة عدم الاستخدام تجرى لاثبات هذا اللازم.

قلت :

إرادة الخاص من العام لازم عدم الاستخدام ، فلا بد أولا من اثبات عدم الاستخدام بوجه ولو بالأصل ، ليترتب عليه لازمه الذي هو إرادة الخاص من العام ،

ص: 553

وبعد عدم جريان أصالة عدم الاستخدام لاثبات أصل الاستخدام الذي هو مؤدى الأصل ، للعلم بالمراد من الضمير ، كيف يمكن اثبات لازمه الذي هو إرادة الخاص من العام؟ وأي ربط لهذا بكون مثبتات الأصول اللفظية حجة؟ فان معنى كون مثبتات الأصول حجة هو انه لو ثبت الملزوم ثبت اللازم ، والكلام في المقام في أصل ثبوت الملزوم ، وذلك واضح.

فتحصل : ان أصالة عدم الاستخدام لا تجرى حتى تعارض أصالة العموم ، بل الأصل في طرف العموم يجرى بلا معارض.

ودعوى : ان المقام يكون من باب احتفاف الكلام بما يصح للقرينية - لان رجوع الضمير إلى بعض افراد المطلقات يصلح ان يكون قرينة على أن المراد من العام هو الخاص ، فيكون الكلام مجملا لا يجرى فيه أصالة العموم - ضعيفة ، فان ضابط احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية هو ان يكون ذلك الصالح مجملا ، اما بحسب مفهومه الافرادي ، واما بحسب مفهومه التركيبي ، أي يوجب اجمال جملة الكلام وان كان مفهومه الافرادي مبينا.

وبعبارة أوضح : كان ( الصالح ) مما يصح ان يعتمد عليه المتكلم في مقام بيان مراده ولم يخرج بذلك عن طريق المحاورة ، والضمير المتعقب للعام الراجع إلى بعض افراده لايكون كذلك ، لأنه معلوم المراد ، ولا يوجب اجمال العام ، فتأمل ، فان ذلك لا يخلو عن اشكال.

المبحث السادس :

في الاستثناء المتعقب لجمل متعددة.

كقوله تعالى : (1) « والذين يرمون المحصنات ولم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوا كل واحد منهم مأة جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة ابدا وأولئك هم الفاسقون الا الذين تابوا ». وقد اختلفوا في رجوع الاستثناء إلى خصوص الجملة الأخيرة ، أو الجميع ،

ص: 554


1- النور : 4

أو التوقف ، إلى أقوال. والتحقيق هو التفصيل بين ما إذا كانت الجمل المتقدمة مشتملة على الموضوع والمحمول ، وبين ما إذا حذف فيها الموضوع. ففي الأول يرجع إلى خصوص الأخيرة. وفي الثاني يرجع إلى الجميع. مثال الأول : ما إذا قال أكرم العلماء وأضف الشعراء واهن الفساق الا النحوي ، أو قال أكرم العلماء وأكرم الشعراء وأكرم السادات الا النحوي. ومثال الثاني : ما إذا قال أكرم العلماء والشعراء والسادات الا النحوي.

المبحث السابع :

في تخصيص العام بالمفهوم الموافق والمخالف.

ونعني بالمفهوم الموافق : هو ما إذا وافق المفهوم المنطوق في الكيف من الايجاب والسلب ، كقوله تعالى : « ولا تقل لهما أف ». وكقولك : أكرم خدام العلماء. حيث إن الأول يدل على حرمة الضرب والايذاء الذي يكون أشد من قول « أف ». والثاني ، يدل على وجوب اكرام العلماء. ودلالتهما على ذلك انما تكون بمقدمة عقلية قطعية ، وهي أولوية حرمة الضرب من حرمة قول « أف » ، وأولوية اكرام العلماء من اكرام خدامهم. بل يمكن ان يكون ذكر « أف » في الآية المباركة من باب ذكر الخاص للتنبيه على العام وذكر الفرد الخفي للتنبيه على الفرد الجلي فتكون دلالة الآية على حرمة الايذاء الشديد من المداليل الالتزامية اللفظية ، لا من المداليل الالتزامية العقلية. نعم في مثل أكرم خدام العلماء تكون الدلالة عقلية ، لمكان الأولوية القطعية.

والحاصل : ان المفهوم الموافق يختلف بحسب الموارد. فتارة : يكون استفادة المفهوم من باب المقدمة العقلية القطعية. وأخرى : يكون من باب دلالة نفس اللفظ ، وذلك في كل مورد يكون ذلك المنطوق للتنبيه به على العام.

ثم إن هنا قسما آخر لم يصطلحوا عليه بالمفهوم ، وهو ما إذا استفيد حكم غير المذكور من علة المذكور ، كقوله ( الخمر حرام لأنه مسكر ) حيث يستفاد منه حكم النبيذ المسكر ، وهذا هو المعبر عنه بمنصوص العلة. فيكون المفهوم الموافق مخصوصا بما إذا كان ثبوت الحكم لغير المذكور أولى من ثبوته للمذكور ، أو كان مساويا لا من

ص: 555

جهة العلة المنصوصة المعبر عنه بلحن الخطاب. ومنصوص العلة هو ما إذا كان مساويا ، والامر في ذلك سهل إذ يرجع ذلك إلى الاصطلاح. والمقصود في المقام : هو بيان صورة تعارض العام مع المفهوم الموافق والمساوي الذي هو مورد منصوص العلة ، وتعارض العام مع المفهوم المخالف.

فنقول : اما تعارض العام مع المفهوم الموافق ، فقد نقل الاتفاق على تقديم المفهوم على العام وتخصيصه به ، ولو كانت النسبة بين المفهوم والعام العموم من وجه ، من دون لحاظ النسبة بين المنطوق والعام ، هذا.

ولكن التحقيق ، هو ان يقال : انه في المفهوم الموافق لا يمكن ان يكون المفهوم معارضا للعام من دون معارضة منطوقه ، لأنا فرضنا ان المفهوم موافق للمنطوق وان المنطوق سيق لأجل الدلالة به على المفهوم ، ومع هذا كيف يعقل ان يكون المنطوق أجنبيا عن العام وغير معارض له؟ مع كون المفهوم معارضا له. فالتعارض في المفهوم الموافق انما يقع ابتداء بين المنطوق والعام ، ويتبعه وقوعه بين المفهوم والعام. ففي مثل قوله : أكرم خدام العلماء ، ولا تكرم الفساق ، يكون التعارض بين نفس وجوب اكرام خدام العلماء وبين حرمة اكرام الفاسق بالعموم من وجه ، ويتبعه التعارض بين المفهوم وهو وجوب اكرام نفس العلماء وبين العام وهو حرمة اكرام الفساق. وكذا في مثل قوله تعالى : « لا تقل لهما أف » مع قوله : اضرب كل أحد ، فان قوله : اضرب كل أحد يدل بالأولوية على جواز قول « أف » لكل أحد ، فيعارض هذا العام بما له من المفهوم مع قوله « لا تقل لهما أف » ويتبعه المعارضة لمفهوم قوله : « لا تقل لهما أف » وهو حرمة ضرب الأبوين ، بالعموم المطلق.

وبالجملة : كلما فرض التعارض بين المفهوم الموافق والعام ، فلامحة يكون التعارض بين المنطوق والعام ، ولا بد أولا من علاج التعارض بين المنطوق والعام ويلزمه العلاج بين المفهوم والعام. إذا عرفت ذلك ، فنقول : ان التعارض بين المنطوق والعام تارة : يكون بالعموم المطلق مع كون المنطوق أخص ، وأخرى : يكون بالعموم من وجه. وما كان

ص: 556

بالعموم المط فتارة : يكون المفهوم أيضا أخص مط من العام ، وأخرى : يكون أعم من وجه. ولا منافاة بين كون المنطوق أخص مط من العام وكون المفهوم أعم من وجه ، كما في مثل قوله : أكرم فساق خدام العلماء ، وقوله : لا تكرم الفاسق ، فان النسبة بينهما يكون بالعموم المط ، مع أن بين مفهوم قوله : أكرم فساق خدام العلماء ( وهو اكرام فساق نفس العلماء الملازم لاكرام نفس العدول من العلماء بالألوية القطعية ) وبين العام ( وهو قوله : لا تكرم الفاسق ) يكون العموم من وجه ، إذ المفهوم حينئذ يكون اكرام مط العالم عادلا كان أو فاسقا.

فان كان بين المنطوق والعام العموم المط فلا اشكال في تقديم المنطوق على العام أو تخصيصه به على قواعد العموم والخصوص ، ويلزمه تقديم المفهوم الموافق على العام مطلقا سواء كان بين المفهوم والعام العموم المط أو العموم من وجه. أما إذا كان العموم المط ، فواضح. وأما إذا كان العموم من وجه ، فانا قد فرضنا ان المفهوم أولى في ثبوت الحكم له من المنطوق وأجلى منه ، وان المنطوق سيق لأجل إفادة حكم المفهوم ، فلا يمكن ان يكون المنطوق مقدما على العام المعارض له مع أنه الفرد الخفي والمفهوم لا يقدم عليه مع أنه الفرد الجلي.

والحاصل : ان المفهوم الموافق يتبع المنطوق في التقدم على العام عند المعارضة ولا يلاحظ النسبة بين المفهوم والعام ، بل تلاحظ النسبة بين المنطوق والعام ، فلو قدم المنطوق على العام لأخصيته فلامحة يقدم المفهوم عليه مط ، لوضوح انه لا يمكن اكرام خادم العالم الفاسق وعدم اكرام العالم الفاسق في المثال المتقدم ، وذلك واضح. وبذلك يظهر الخلل فيما أفيد في المقام ، فراجع. هذا كله في المفهوم الموافق.

واما المفهوم المخالف : فقد وقع الخلط فيه أيضا في جملة من الكلمات ، حتى أن الشيخ (1) ( قده ) توقف في تقديم المفهوم على العام أو العام عليه في آية النباء ،

ص: 557


1- فالمحكى عن الشيخ قدس سره في التقريرات : « واما مفهوم المخالفة فعلى تقدير القول بثبوته في قبال العام وعدم التصرف في ظاهر الجملة الشرطية والاخذ بظهورها ، لا اشكال في تخصيص العام به كما عرفت وانما الاشكال في أن الجملة الشرطية أظهر في إرادة الانتفاء عند الانتفاء بينهما أو العام أظهر في إرادة الافراد منه ، فمرجع الكلام إلى تعارض الظاهرين ، ربما يقال ان العام أظهر دلالة في شموله لمحل المعارضة كما قلنا بذلك في معارضة منطوق التعليل في آية النبأ مع المفهوم على تقدير القول به بالنسبة إلى خبر العدل الظني ، فان قضية عموم التعليل عدم الاعتماد على الخبر الظني ، ومقتضى المفهوم ثبوته ، وعموم التعليل أظهر ولا سيما إذا كان العام متصلا بالجملة الشرطية. وربما يقال بتقديم الظهور في الجملة الشرطية كما قلنا في تعارض المفهوم مع العمومات الناهية عن العمل بغير العلم. وبالجملة : فالانصاف ان ذلك تبع الموارد ، ولم نقف على ضابطة نوعية يعتمد عليها في الأغلب كما اعترف بذلك سلطان المحققين. » ( مطارح الأنظار ، مباحث العام والخاص. ص 208 ). وذكر قدس سره في الفرائد : « الثاني ( مما أورد على دلالة الآية بما ليس قابلا للذب عنه ) ما أورده في محكى العدة والذريعة والغنية ومجمع البيان والمعارج وغيرها ، من انا لو سلمنا دلالة المفهوم على قبول خبر العادل الغير المفيد للعلم ، لكن نقول : ان مقتضى عموم التعليل وجوب التبين في كل خبر لا يؤمن الوقوع في الندم من العمل به وان كان المخبر عادلا ، فيعارض المفهوم والترجيح مع ظهور التعليل. » ثم ذكر بعد سطور في جواب لا يقال ، بقوله : « .. لأنا نقول ، ما ذكره أخيرا من أن المفهوم أخص مطلقا من عموم التعليل مسلم الا انا ندعي التعارض بين ظهور عموم التعليل في عدم جواز العمل بخبر الواحد الغير العلمي وظهور الجملة الشرطية أو الوصفية في ثبوت المفهوم ، فطرح المفهوم والحكم بخلو الجملة الشرطية عن المفهوم أولى من ارتكاب التخصيص في التعليل ، واليه أشار في محكى العدة بقوله : لا نمنع ترك دليل الخطاب لدليل والتعليل دليل ، وليس في ذلك منافاة لما هو الحق وعليه الأكثر من جواز تخصيص العام بمفهوم المخالفة ، لاختصاص ذلك أولا بالمخصص المنفصل ، ولو سلم جريانه في الكلام الواحد منعناه في العلة والمعلول ، فان الظاهر عند العرف ان المعلول يتبع العلة في العموم والخصوص .. وذكر في مقام الجواب عن الايراد الأول من الايرادات القابلة للدفع ، بقوله : « ان المراد بالنبأ في المنطوق مالا يعلم صدقه ولا كذبه ، فالمفهوم أخص مطلقا من تلك الآيات ( أي الآيات الناهية عن العمل بغير العلم ) فيتعين تخصيصها بناء على ما تقرر من أن ظهور الجملة الشرطية في المفهوم أقوى من ظهور العام في العموم ، واما منع ذلك فيما تقدم من التعارض بين عموم التعليل وظهور المفهوم فلما عرفت من منع ظهور الجملة الشرطية المعللة بالتعليل الجاري في صورتي وجود الشرط وانتفائه في إفادة الانتفاء عند الانتفاء فراجع. » ( فرائد الأصول ، مباحث حجية الظن ، ص 66 - 65

حيث أفاد ان مفهوم قوله تعالى : « ان جائكم فاسق بنبأ » الخ معارض بعموم التعليل ، وهو قوله تعالى : « لئلا تصيبوا قوما بجهالة » لان المفهوم يدل على حجية قول العادل الذي لا يفيد العلم ، وعموم التعليل يدل على عدم اعتبار قول من لم يفد العلم ، لأنه من إصابة القول بجهالة ، سواء كان ذلك قول العادل أو لم يكن. والنسبة بين المفهوم والتعليل العموم المطلق ، لان المفهوم لا يعم الخبر المفيد للعلم

ص: 558

لخروج ذلك عن الآية بالتخصيص ، فالمفهوم مختص بالخبر العدل الغير المفيد للعلم ، والتعليل يعم خبر العدل وغيره. ومقتضى القاعدة تخصيص عموم التعليل بالمفهوم ، الا ان قوة التعليل وابائه عن التخصيص يمنع عن ذلك. وهذا بخلاف الآيات الناهية عن العمل بالظن ، فان النسبة بينها وبين المفهوم وان كانت العموم المطلق أيضا ، الا انه لا مانع من تخصيص تلك الآيات بالمفهوم لعدم اباء تلك الآيات عن التخصيص. هذا حاصل ما افاده الشيخ ( قده ) في تعارض المفهوم المخالف مع العام في آية النبأ.

ولكن لا يخفى عليك ضعف ذلك ، لان التعليل مهم بلغ من القوة لايكون أقوى من المفهوم الخاص ، والآيات الناهية عن العمل بالظن أيضا آبية عن التخصيص ، وكيف يمكن تخصيص مثل قوله تعالى : « ان الظن لا يغنى من الحق شيئا »؟.

فالانصاف : انه في مثل الآية لا يلاحظ النسبة ، بل المفهوم يكون مقدما على الآيات الناهية عن العمل بالظن وعن عموم التعليل بالحكومة ، لان خبر العدل بعد ما صار حجة يخرج عن كونه ظنا وعن كونه إصابة القوم بالجهالة ، ويكون علما ، كما حققناه في محله. فينبغي اخراج مثل الآية الشريفة عما هو المبحوث عنه في المقام : من تعارض المفهوم المخالف والعام ، لكون المفهوم حاكما على العام. ولو قطع النظر عن الحكومة ، فالمفهوم أيضا يقدم على العام. ولا يصغى إلى أن العام في مثل الآية يكون متصلا بالقضية الشرطية فلا تكون القضية ظاهرة في المفهوم ، لصلاحية كل من القضية الشرطية والعام للتصرف في الآخر ، بخلاف ما إذا لم يكن العام متصلا بالقضية الشرطية ، حيث إن العام يخصص بالمفهوم ولكن لا مط ، بل يختلف باختلاف الموارد ، فرب مورد يكون العام قرينة على عدم كون القضية ذات مفهوم ، وربما ينعكس الامر ويكون ظهور القضية في المفهوم قرينة على التصرف في العام وتخصيصه به.

هذا حاصل ما افاده بعض الاعلام في باب تعارض المفهوم الخالف مع العام.

ولكن الانصاف : ان ذلك كله خلاف التحقيق ، بل التحقيق هو ان المفهوم المخالف مهما كان أخص مط من العام يقدم على العام ، سواء كان بين

ص: 559

المنطوق والعام العموم المط ، أو العموم من وجه. ومهما كان بين المفهوم والعام العموم من وجه يعامل مهما معاملة العموم من وجه ، فربما يقدم العام وربما يقدم المفهوم في مورد التعارض ، من غير فرق في ذلك أيضا بين ان يكون بين المنطوق والعام العموم المط أو العموم من وجه.

والحاصل : ان الفرق بين المفهوم الموافق والمخالف من وجهين :

الأول :

ان في المفهوم الموافق يلاحظ التعارض والعلاج أولا بين المنطوق والعام ، ويتبعه العلاج بين المفهوم والعام ، بخلاف المفهوم المخالف ، فان التعارض وعلاجه أولا وابتداء انما يكون بين المفهوم والعام ، إذ المنطوق ربما لايكون معارضا أصلا.

الثاني :

ان المنطوق في المفهوم الموافق لو قدم على العام لأخصيته ، فالمفهوم أيضا يقدم على العام مط ولو كان نسبته مع العام العموم من وجه كما عرفت. بخلاف المفهوم المخالف ، فإنه لو كان بين المفهوم والعام العموم من وجه يعامل معهما معاملة العموم من وجه ، فربما يقدم العام على المفهوم في مورد التعارض ويخصص المفهوم به ، إذ المفهوم العام قابل للتخصيص ولا تخرج القضية بذلك عن كونها ذات مفهوم ، وذلك كله واضح.

إذا عرفت ذلك

فنقول : ان المفهوم المخالف ، مهما كان أخص من العام يقدم على العام ويخصص به مط ، سواء كان العام متصلا بالقضية التي تكون ذات مفهوم أو منفصلا ، ولا يصلح العام ان يكون قرينة على عدم كون القضية ذات مفهوم ، وذلك لما تقدم منا في باب المفاهيم : من أن العبرة في كون القضية ذات مفهوم هو ان يكون القيد راجعا إلى الحكم ، لا إلى الموضوع.

وبعبارة أخرى : يكون التقييد في رتبة الاسناد ، لا في الرتبة السابقة على الاسناد ، فإنه لو كان التقييد قبل الاسناد كان القيد راجعا إلى الموضوع وتكون القضية مسوقة لفرض وجود الموضوع ، بخلاف ما إذا كان التقييد في رتبة الاسناد ،

ص: 560

فان القيد يكون ح راجعا إلى الحكم ويكون من تقييد جملة بجملة ، على ما تقدم تفصيله في باب المفاهيم.

والقضية الشرطية مثلا بعد ما كانت ظاهرة في كون القيد راجعا إلى الحكم ، حيث إن القضية الشرطية وضعت لتقييد جملة بجملة - على ما عرفت سابقا - فتكون القضية الشرطية بنفسها ظاهرة في كونها ذات مفهوم. وأصالة العموم في طرف العام لا تصلح ان تكون قرينة على كون القيد راجعا إلى الموضوع ، لان العموم انما يستفاد من المقدمات الحكمة الجارية في مصب العموم ، وظهور القضية في المفهوم يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة في طرف العام ، فيكون ظهور القضية في المفهوم حاكما على ظهور العام في العموم ، لان كون القضية ذات مفهوم وان كان أيضا بالاطلاق ومقدمات الحكمة ، الا ان مقدمات الحكمة الجارية في طرف المفهوم تكون بمنزلة القرينة على أن المراد من العام هو الخاص. والعام لا يصلح لان يكون قرينة على كون القضية الشرطية سيقت لفرض وجود الموضوع ، لان كون القضية مسوقة لفرض وجود الموضوع يحتاج إلى دليل يدل عليه ، بعد ما لم يكن الشرط مما يتوقف عليه الحكم عقلا ، فتأمل جيدا. هذا إذا كان المفهوم أخص مط من العام.

وأما إذا كان أعم من وجه : فيعامل معهما معاملة العموم من وجه ، فربما يقدم المفهوم في مورد الاجتماع ، وربما يقدم العام ، فان العام لا يزيد على الدليل اللفظي العام من حيث كونه قابلا للتخصيص ، ولا تخرج القضية عن كونها ذات مفهوم عند تقديم العام ، كما كانت تخرج عن ذلك فيما إذا كان المفهوم أخص ، بل القضية بعد تكون ذات مفهوم ، غايته انه مخصص ، وذلك واضح.

المبحث الثامن :

انه لا ينبغي الاشكال في جواز تخصيص العام الكتابي بالخاص الخبري ، ومجرد كون الكتاب قطعي الصدور لا يمنع عن ذلك ، بعد ما كان التعارض بين ظهور الكتاب الذي هو ظني وأدلة التعبد بالخبر الواحد ، وحكومة أدلة التعبد على أصالة الظهور. وما ورد من طرح الاخبار المخالفة للكتاب لا يشمل المخالفة بالعموم والخصوص ، فان ذلك ليس من المخالفة عرفا وذلك كله واضح.

ص: 561

المقصد الخامس : في المطلق والمقيد

اشارة

وقبل الخوض في المقصود ينبغي تقديم أمور :

الامر الأول :

الاطلاق هو الارسال ، يقال : أطلق الدابة - أي أرسلها وأرخى عنانها - في مقابل تقييدها. والظ ان لايكون للأصوليين اصطلاح خاص في الاطلاق والتقييد غير ما لهما من المعنى اللغوي والعرفي. كما أن اختلاف المط من حيث كونه : شموليا تارة ، وبدليا أخرى ، انما هو من ناحية الحكم. وليس الاطلاق الشمولي مغايرا للاطلاق البدلي ، بل الاطلاق في الجميع بمعنى واحد وهو الارسال ، غايته ان الحكم الوارد على النكرة أو الطبيعة تارة : يقتضى البدلية كالنكرة الواقعة في سياق الاثبات والحكم الوارد على الطبيعة بلحاظ صرف الوجود ، حيث إن نتيجة البدلية في المقام الامتثال والاكتفاء بفرد واحد. وأخرى : يقتضى الشمول كالنكرة أو الطبيعة الواقعة في حيز النفي ، أو الطبيعة الواقعة في حيز الاثبات بلحاظ مط الوجود ، فالبدلية والشمولية انما يستفادان من كيفية تعلق الحكم بالنكرة والطبيعة مع كون الاطلاق في الجميع بمعنى واحد.

وبذلك يظهر النظر في تعريف المط : بأنه ما دل على شايع في جنسه ، فان التعريف بذلك ينطبق على الاطلاق المستفاد من النكرة ، ولا ينطبق على الاطلاق الشمولي ، وان أمكن توجيه التعريف على وجه ينطبق على كل من قسمي الاطلاق ، الا انه يرد على التعريف على كل حال ان الظاهر منه كون الاطلاق والتقييد من صفات اللفظ ، حيث إن المراد من الموصول هو اللفظ مع أن الظاهر هو كون الاطلاق والتقييد من صفات المعنى ، كالكلية والجزئية ، واتصاف اللفظ بهما

ص: 562

انما يكون بالتبع والعرض والمجاز. والامر في ذلك سهل بعد وضوح المراد.

ثم إن الاطلاق والتقييد كما يردان على المفاهيم الافرادية كذلك يردان على الجمل التركيبية. ومعنى اطلاق الجملة هو ارسالها وعدم تقييدها بما يوجب ظهورها في خلاف ما تكون ظاهرة فيه لولا تقييدها بذلك ، فإنه قد تكون الجملة التركيبية لو خليت ونفسها ظاهرة في معنى ، وكان تقييدها موجبا لانقلاب ظهورها كما في الجمل الطلبية ، فان اطلاق الامر والطلب يقتضى النفسية العينية التعيينية ، والتقييد يوجب الغيرية أو التخييرية أو الكفائية ، على اختلاف كيفية التقييد ، وكالعقد فان اطلاقه يقتضى نقد البلد أو التسليم والتسلم ، وتقييده يقتضى خلاف ذلك.

والفرق بين اطلاق المفاهيم الأفرادية والجمل التركيبية ، هوان اطلاق المفاهيم الأفرادية يقتضى التوسعة ، وتقييدها يقتضى التضييق. بخلاف اطلاق الجمل التركيبية ، فان اطلاقها يقتضى التضييق ، وتقييدها يقتضى التوسعة.

بل ربما يكون اطلاق الجملة موجبا لتضييق مفهوم مفرداتها ، بحيث لو لم تكن المفردات واقعة في ضمن الجملة لكان مفهومها موسعا ، الا ان وقوعها في ضمن ذلك يوجب تضييق مفهومها. وهذا كما في كون اطلاق العقد يقتضى نقد البلد ، فان الدرهم لولا وقوعه في ضمن العقد من جعله ثمنا أو مثمنا كان مفهومه عاما يعم كل درهم نقد البلد وغيره ، الا انه لما وقع في ضمن العقد اقتضى اطلاقه نقد البلد. وليس ذلك لأجل انصراف الدرهم إلى نقد البلد ، بل لأجل اطلاق العقد وعدم تقييده بالأعم من نقد البلد ، والا لكان الاقرار بالدرهم موجبا للانصراف إلى نقد البلد ، بحيث ليس له التفسير بغيره ، والظ انه لم يقل به أحد.

وعلى كل حال : لا اشكال في أن الجمل التركيبية تتصف بالاطلاق والتقييد ، كاتصاف المفاهيم الأفرادية بهما. ومحل الكلام في مبحث المط والمقيد انما هو في المفاهيم الأفرادية ، واما الجمل التركيبية فليس لها مبحث مخصوص ، وليس لاطلاقها ضابط كلي ، بل الجمل التركيبية تختلف حسب اختلاف المقامات. والبحث في باب المفاهيم كلها يرجع إلى البحث عن اطلاقها وتقييدها ، لما تقدم من

ص: 563

ان الضابط في كون القضية ذات مفهوم ، هو رجوع الشرط أو الوصف أو الغاية إلى الحكم ، فيكون من تقييد الجملة الطلبية.

الامر الثاني :

قد عرفت ان الاطلاق هو بمعنى الارسال والشمول والمراد من الشمول هو شمول الطبيعة لما يندرج تحتها وينطبق عليها انطباق الكلي على مصاديقه. فالمعاني الحرفية لا تتصف بالاطلاق والتقييد ، لان المعاني الحرفية وان قلنا : بان الموضوع له فيها عام ، الا ان عموم الموضوع له في الحروف يكون بمعنى آخر غير عموم الموضوع له في الأسماء ، فان معنى عموم الموضوع له في الأسماء هو كون المعنى قابل الصدق على كثيرين ، وهذا انما يكون إذا كان تحت ذلك المعنى : أنواع ، أو أصناف ، أو افراد ، يكون ذلك المعنى منطبقا عليها انطباق الطبيعي على مصاديقه ، وهذا يحتاج إلى أن يكون للمعنى تقرر في وعاء العقل والتصور ، والمعاني الحرفية - على ما حققناه في محله - لايكون لها تقرر الا في موطن الاستعمال ، وتكون ايجادية محضة ، فالكلية في الحروف تكون بمعنى آخر ، قد تقدم بيانه عند البحث عن المعاني الحرفية. وذلك المعنى غير قابل لورود الاطلاق والتقييد عليه ، وذلك واضح كوضوح ان الاعلام الشخصية لا تتصف بالاطلاق والتقييد بالمعنى المتقدم ، وانما يكون اطلاقها باعتبار الطوارئ والحالات ، إذ ليس تحت الاعلام افراد قابلة الانطباق عليها.

وحينئذ ينبغي خروج الاعلام عن محل الكلام ، كخروج الجمل التركيبية ، فان محل الكلام في المقام انما هو في الاطلاق القابل لان يكون جزء مدلول اللفظ - على ما ينسب إلى المشهور في مقابل مقالة سلطان المحققين - على ما سيأتي تحقيقه. وفي الاعلام لا يمكن ان يتوهم دخول الاطلاق باعتبار الطوارئ والحالات في مدلول اللفظ ، بحيث تكون التسوية بين القيام والعقود جزء مدلول لفظ زيد ، فان هذا ضروري الفساد ، لوضوح ان لفظ زيد موضوع للذات المشخصة مع قطع النظر عن الحالات والطواري ، واطلاقها لذلك انما يكون بمقدمات الحكمة. فالاطلاق المبحوث عنه بين المشهور وسلطان المحققين في كونه جزء مدلول اللفظ أو عدم كونه جزء مدلول اللفظ ، انما هو في العناوين الكلية القابلة الصدق على

ص: 564

كثيرين ، كأسماء الأجناس وما يلحق بها من العناوين العرضية.

الامر الثالث :

لا اشكال في أن التقابل بين الاطلاق والتقييد ليس من تقابل السلب والايجاب ، لان تقابل السلب والايجاب انما يكون بين الوجود والعدم المحمولين على الماهيات المتصورة ، لان الماهية المتصورة في العالم اما ان يحمل عليه الوجود ، واما ان يحمل عليها العدم ، ولا يمكن اجتماعهما في الماهية ولا ارتفاعهما عنها. والاطلاق والتقييد ليسا كذلك ، لامكان ارتفاعهما عن المحل الغير القابل لهما ، كما في الانقسامات اللاحقة للمأمور به بعد ورود الامر ، كقصد التقرب ، والعلم بالامر ، والايصال في المقدمة ، فإنه في جميع هذا لا اطلاق ولا تقييد ، فإذا امتنع التقييد بأحد هذه الأمور ( كما حقق في محله ) امتنع الاطلاق بعين امتناع التقييد ، لان الاطلاق ليس الا عبارة عن تساوى وجود ذلك القيد وعدمه ، فإذا امتنع لحاظ ذلك القيد امتنع لحاظ التسوية أيضا وذلك واضح.

فالتقابل بين الاطلاق والتقييد لا يمكن ان يكون تقابل السلب والايجاب ، فلم يحتمله أحد. فيدور الامر ح بين ان يكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، أو تقابل التضاد. فبناء على ما ينسب إلى المشهور : من أن الاطلاق جزء مدلول اللفظ ولا نحتاج في استكشاف الاطلاق إلى مقدمات الحكمة ، يكون الاطلاق ح أمرا وجوديا ، ويكون التقابل بينهما تقابل التضاد. وبناء على مسلك السلطان : من أن الاطلاق يستفاد من مقدمات الحكمة وليس جزء مدلول اللفظ ، يكون الاطلاق ح أمرا عدميا ، ويكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة. وعلى كلا المسلكين لا بد ان يردا على المحل القابل لهما ، ويمكن ح ارتفاعهما بانتفاء المحل القابل ، وان كان في المحل القابل لا يمكن ان يرتفعا ، فلا يمكن ان يكون الانسان لا أعمى ولا بصيرا ، وان كان الجدار مثلا لا أعمى ولا بصيرا ، لعدم قابلية الجدار لذلك.

والحاصل : ان التقابل بين القيام واللاقيام تقابل السلب والايجاب ، لان القيام هو بنفسه من الماهيات المتصورة مع قطع النظر عن المحل ، فهو اما موجود واما معدوم ، وقد عرفت : ان التقابل بين الوجود والعدم تقابل السلب والايجاب ، و

ص: 565

التقابل بين قيام زيد ولا قيامه تقابل العدم والملكة ، فان عدم قيام زيد يكون من العدم النعتي ، كما أن قيام زيد يكون من الوجود النعتي.

والتقابل بين الوجود والعدم النعتي دائما يكون تقابل العدم والملكة.

والتقابل بين القيام والعقود تقابل التضاد ، لان تقابل التضاد يكون بين الوجوديين.

والتقابل بين الاطلاق والتقييد يدور امره بين ان يكون من تقابل العدم والملكة ، أو من تقابل التضاد. وسيأتي ما هو الحق انشاء اللّه.

الامر الرابع :

في تحرير ما هو محل البحث فيما ينسب إلى المشهور وما ينسب (1) إلى السلطان : من كون الاطلاق يتوقف على مقدمات الحكمة كما هو مقالة السلطان ، أو انه لا يتوقف كما هو مقالة المشهور.

فنقول : انه لا اشكال في أن الاختلاف لا يرجع إلى الاختلاف في معنى الاطلاق ، بحيث يكون الاطلاق عند المشهور غير الاطلاق عند السلطان ، بل ليس للاطلاق الا معنى واحد ، وهو الارسال أو تساوى كل خصوصية مع عدمها ، بحيث يكون معنى ( أعتق رقبة ) في قوة قولنا : ( أي رقبة ) وهذا مما لا نزاع فيه ولا اشكال. وانما النزاع في أن هذه التسوية هل هي جزء مدلول اللفظ؟ أو انها تستفاد من مقدمات الحكمة؟ والحق انها تستفاد من مقدمات الحكمة. ولتوضيح ذلك ينبغي تمهيد مقدمة.

وهي انهم قسموا الماهية إلى : الماهية لا بشرط ، والماهية بشرط لا ، والماهية بشرط شيء. واللابشرط وبشرط لا تستعمل بمعنيين.

الأول : هو ما يذكرونه في باب الفرق بين الجنس والفصل والمادة

ص: 566


1- هذا ما افاده سلطان المحققين قدس سره في حاشيته على المعالم في ذيل قول صاحب المعالم « فلانه جمع بين الدليلين .. » ، في مباحث المطلق والمقيد ص 155 ، « طبعت هذه الحاشية في المعالم المطبوع سنة 1378. المكتبة العلمية الاسلامية »

والصورة ، والفرق بين المشتق ومبدء الاشتقاق. والمراد من بشرط لا في هذا الباب هو لحاظ الشيء بشرط لا عما يتحد به ، أي لحاظ الجنس بشرط عدم اتحاده مع الصورة ، وكذا لحاظ الصورة بشرط عدم اتحادها مع الجنس ، وهما بهذا الاعتبار آبيان عن الحمل ، ولا يصح حمل أحدهما على الآخر ، ولا حملهما على ثالث. ويقابل هذا اللحاظ لحاظ الجنس لا بشرط عما يتحد معه ، وكذا الصورة. وهما بهذا الاعتبار غير آبيين عن الحمل ، ويصح حمل أحدهما على الآخر ، وحملهما على ثالث. وكذا الكلام في باب المشتق ومبدئه ، وقد تقدم تفصيل ذلك في مبحث المشتق. والمراد من بشرط لا ولا بشرط في تقسيم الماهية غير هذا المعنى من لا بشرط وبشرط لا ، بل اللابشرطية والبشرط اللائية في تقسيم الماهية انما يكون باعتبار الطوارئ والخصوصيات اللاحقة للماهية.

وتفصيل ذلك : هو ان الماهية تارة : تلاحظ بشرط عدم انضمام شيء من الخصوصيات إليها ، بل تكون مجردة عن كل ما عداها من الطوارئ والاعراض ، وهي بهذا المعنى تكون من الكلية العقلية ولا موطن لها الا العقل ، ويمتنع صدقها على الخارجيات وحمل شيء من الخارجيات عليها ، بل محمولاتها تكون من المعقولات الثانوية كقولنا : الانسان نوع ، أو حيوان ناطق ، وما شابه ذلك من المحمولات العقلية ، لوضوح انه لا وجود للماهية المجردة عن كل خصوصية ، وهذه هي الماهية بشرط لا.

وأخرى : تلاحظ الماهية مقيدة بخصوصية خاصة : من العلم ، والايمان ، والعدالة ، وغير ذلك من الخصوصيات الخارجية اللاحقة للماهيات ، وهذه هي الماهية بشرط شيء ، وهذا مما لا اشكال فيه ولا كلام. وانما الاشكال والكلام في معنى الماهية لا بشرط ، والفرق بينها وبين اللابشرط المقسمي ، فإنه قد اضطربت كلمات الاعلام في ذلك. فمنهم من فسر اللابشرط القسمي بما يرجع إلى الكلي العقلي ، وجعل اللابشرط المقسمي الكلي الطبيعي. ومنهم من جعل الكلي الطبيعي اللابشرط القسمي. وينبغي أولا ان يقطع النظر عما قيل في المقام ، ويلاحظ ان المعنى المتصور لللابشرط في مقابل بشرط لا وبشرط شيء ما هو؟ حيث إن

ص: 567

البحث في المقام عقلي وأمره راجع إلى ما يتصوره العقل.

فنقول : قد عرفت الاعتبارين للماهية ، وان الماهية تارة : تكون مجردة عن كل خصوصية ، وهي الكلي العقلي. وأخرى : تكون منضمة إلى خصوصية خاصة ، هي الماهية المشروطة والمقيدة. والمعنى الثالث للماهية الذي يكون في مقابل هذا هو الماهية المرسلة المطلقة ، أي الماهية التي تكون محفوظة في جميع الخصوصيات والطواري المتقابلة والقدر المشترك الموجود في جميع ذلك ، وهو ذات الرقبة مثلا المحفوظة في ضمن الايمان ، والكفر ، والعلم ، والجهل ، والرومية ، والزنجية ، وغير ذلك من الخصوصيات والطواري ، فإنه لا اشكال في أن هناك ما يكون قدرا مشتركا بين جميع تلك الخصوصيات القابل لحمل كل خصوصية عليه كما يقال : الرقبة مؤمنة ، والرقبة كافرة ، وكذا رومية ، أو زنجية ، وغير ذلك. وهذا المعنى هو الذي يصح ان يجعل مقابلا للمعنيين الآخرين ، ويستقيم حينئذ تقابل الأقسام ويتميز بعضها عن بعض.

ومنه يتضح فساد اخذ الارسال قيدا في معنى اللابشرط القسمي ، فإنه لا معنى لاخذ الارسال قيدا ، إذ المراد من الارسال ان كان بمعنى التجرد يرجع حينئذ إلى بشرط لا ولا يكون قسما آخر ، وان كان المراد من الارسال هو عدم صلاحية الماهية للتقييد بشيء ، فهذا مما لا يرجع إلى محصل.

والحاصل : انه لا اشكال في أن التقسيم لا بد ان يكون على وجه لا تتداخل فيه الأقسام بعضها مع بعض ، فلا بد ان يكون لكل من الماهية بشرط شيء ، والماهية لا بشرط ، والماهية بشرط لا ، معنى يختص به ولا يرجع إلى الآخر. وقد عرفت معنى الماهية بشرط لا ، وهو بشرط التجرد عن جميع الخصوصيات الخارجية ، وان ذلك يكون كليا عقليا. وعرفت أيضا معنى الماهية بشرط شيء ، وهو بشرط الانضمام إلى خصوصية خاصة من الخصوصيات الخارجية أو الذهنية ، وان ذلك هو معنى التقييد والاشتراط. وبعد ذلك لا بد ان يكون للماهية لا بشرط معنى لا يرجع إلى الماهية بشرط ، لا ، ولا إلى الماهية بشرط شيء ، والا يلزم تثنية الأقسام لا تثليثها.

والمعنى القابل لان يكون للماهية لا بشرط - غير الماهية بشرط التجرد وغير

ص: 568

الماهية بشرط عدم التجرد - هو ما ذكرنا. وليس المراد من لا بشرط هو اللابشرطية عن البشرط اللائية والبشرط الشيئية ، بحيث يكون بشرط لا قسما من لا بشرط ، وبشرط شيء قسما آخر ، وكان لا بشرط يجتمع مع كل منهما ، فإنه يكون حينئذ لا بشرط مقسما لهما لا قسيما ، والمفروض ان الماهية لا بشرط القسمي قسيم للماهية بشرط لا وللماهية بشرط شيء لا انها مقسم لهما بحيث صح اجتماعه مع كل منهما ، فان هذا من شان اللابشرط المقسمي ، لا اللابشرط القسمي. فلا بد ان يكون لللابشرط القسمي معنى لا يجامع بشرط لا ولا بشرط شيء.

وحاصل ذلك المعنى : هو الماهية المرسلة السارية في جميع الخصوصيات والطوارئ المجامعة لها لا على نحو يكون الارسال قيدا لها ، حتى يقال : ان ذلك يرجع إلى بشرط لا أو بشرط شيء - كما قيل - فان ذلك ضروري البطلان ، فان المراد من الماهية المرسلة ، هو نفس الماهية وذات المرسل الساري في جميع الافراد والمحفوظ مع كل خصوصية والموجود مع كل طور.

وليس الفرق بين هذا المعنى من اللابشرط القسمي واللابشرط المقسمي اعتباريا - كما قيل - فإنه لا معنى لكون الفرق بينهما اعتباريا مع كون بشرط لا وبشرط شيء من اقسام اللابشرط المقسمي وهما يضادان اللابشرط القسمي ، بل الفرق بين اللابشرط القسمي واللابشرط المقسمي لابد ان يكون واقعيا ثبوتيا لا اعتباريا لحاظيا ، فان المراد من المقسم ، هو نفس الماهية وذاتها من حيث هي ، على وجه تكون الحيثية مرآة للذات ، فتأمل - فإنه قد يقال : ان الماهية من حيث هي ليست الا هي لا موجودة ولا معدومة ولا يصح حمل شيء عليها ، والمقسم لابد وأن يكون قابلا لحمل الأقسام عليه ، فلا يصح ان يقال : المقسم الماهية من حيث هي هي.

وعلى كل حال : اللابشرط المقسمي هو ما يكون مقسما لكل من : لا بشرط ، وبشرط لا ، وبشرط شيء. وهذا غير اللابشرط القسمي الذي يكون مضادا وقسيما لبشرط لا وبشرط شيء. وقد عرفت : ان ارجاع اللابشرط القسمي إلى بشرط لا أو بشرط شيء مما لا يمكن ، لما عرفت : من أن الشرط لا يرجع إلى الكلي العقلي ، و

ص: 569

الكلي العقلي قسم واحد.

ومن الغريب : ما صدر عن بعض المحققين في المقام ، حيث أشكل على المشهور القائلين : بان الاطلاق والارسال جزء مدلول اللفظ ولا يحتاج إلى مقدمات الحكمة ، بأنه يلزم ان يكون الاطلاق ح كليا عقليا ويمتنع صدقه على الخارجيات ، فلا يصح ان يتعلق طلب بالمط حيث لا يمكن امتثاله. والذي أوجب الوقوع في هذا الوهم ، هو اخذ الارسال قيدا للماهية ، فارجع اللابشرط القسمي إلى الكلي العقلي. وحيث إن المشهور ذهبوا إلى أن الألفاظ موضوعة لللابشرط القسمي ، فأشكل عليهم ان المط يكون ح من الكليات العقلية وانه يرجع إلى الماهية بشرط لا.

وهذا الاشكال والكلام بمكان من الغرابة ، لوضوح ان الاطلاق ليس له حقيقتان ، بل الاطلاق على ما عرفت : هو عبارة عن تساوى الخصوصيات. وقولنا مثلا ( أعتق رقبة ) بمنزلة قولنا ( أي رقبة ) غايته ان المشهور ذهبوا إلى أن هذه التسوية جزء مدلول اللفظ ، وسلطان المحققين ومن تبعه ذهبوا إلى أن هذه التسوية تستفاد من مقدمات الحكمة. فهل يمكن ان يقال : ان الاطلاق المستفاد من مقدمات الحكمة يكون كليا عقليا؟ أو هل يمكن ان يقال : ان الاطلاق المستفاد من مقدمات الحكمة غير الاطلاق الذي يكون جزء مدلول اللفظ؟ مع أنه ليس للاطلاق الا حقيقة واحدة ومعنى فارد.

فدعوى : ان الاطلاق الذي يقول به المشهور هو الماهية المقيدة بالارسال ويرجع إلى الماهية بشرط لا ويكون من الكلي العقلي ، مما لا محصل لها. بل الاطلاق الذي يقول به المشهور ، هو الماهية المرسلة أي ذات المرسل الموجود في ضمن جميع الخصوصيات والمحفوظ عند جميع الطوارئ ، وهو معنى اللابشرط القسمي في مقابل بشرط لا ، وبشرط شيء. وتكون أسماء الأجناس عند المشهور موضوعة للماهية اللابشرط القسمي وعند السلطان موضوعة للماهية اللابشرط المقسمي المحفوظة مع بشرط لا وبشرط شيء ، ولا بشرط. وليست التسوية والارسال داخلة في معاني أسماء الأجناس ، وانما تستفاد التسوية من مقدمات الحكمة ، ويكون المراد من اللفظ

ص: 570

هو اللابشرط القسمي ، لكن ببركة مقدمات الحكمة. والا فنفس اللفظ لا يدل الا على الماهية المهملة التي تكون مقسما للكلي العقلي وغيره.

فتحصل من جميع ما ذكرنا :

ان الاشكال على المشهور بان الاطلاق لو كان مستفادا من اللفظ يلزم ان تكون المطلقات من الكليات العقلية ، مما لا وجه له. كما أن ارجاع اللابشرط القسمي إلى بشرط لا أو بشرط شيء ، مما لا وجه له. كما أن جعل الفرق بين اللابشرط المقسمي واللابشرط القسمي بالاعتبار ، مما لا وجه له ، فان كل ذلك مما لا يمكن التصديق به.

نعم : هنا امر آخر وقع محل الكلام بين الاعلام ، وهو ان الكلي الطبيعي الذي وقع محل الكلام في وجوده وانتزاعيته ، هل هو مفاد اللابشرط المقسمي أو اللابشرط القسمي؟.

ذهب المحقق السبزواري في منظومته إلى أن الكلي الطبيعي هو اللابشرط المقسمي. (1) وذهب آخرون إلى أنه هو اللابشرط القسمي. وعلى كلا التقديرين فهو كلام آخر لا دخل له بما نحن فيه من كون اللابشرط القسمي غير اللابشرط المقسمي حقيقة ، وغير بشرط لا وبشرط شيء. وان كان الحق في ذلك المقام هو كون الكلي الطبيعي عبارة عن اللابشرط القسمي ، ولا يمكن جعله من اللابشرط المقسمي ، وذلك لان الكلي الطبيعي عبارة عن حقيقة الشيء الذي يقال في جواب ما هو والجامع بين جميع المتفقة الحقيقة من الافراد الخارجية الفعلية وما يفرض وجودها. والماهية بشرط لا - عبارة عن الماهية المجردة عن كل خصوصية حتى خصوصية وجودها الذهني ، وليست الماهية بشرط لا من افراد الحقيقة ، بل ليست هي الا عبارة عن المفهوم والمدرك العقلاني ، وليست هي الفرد العقلاني المجرد عن

ص: 571


1- قال المحقق السبزواري في منظومته كلي الطبيعي هي المهية *** وجوده وجودها شخصية إذ ليس بالكلية مرهونا *** بكل الأطوار بدا مقرونا ( منظومة السبزواري ، قسم المنطق ص 22 - 21 )

المادة فان الفرد العقلاني هو من افراد الحقيقة ، كما يقال : ان لكل حقيقة فردين : فردا خارجيا ماديا ، وفردا مجردا عقلانيا ، وهو المسمى ( برب النوع والمثل الأفلاطونية ) واما الماهية بشرط لا فليست هي الفرد العقلاني ، بل هي كما عرفت من الكليات العقلية وليست الا عبارة عن المفهوم ، والمفهوم غير المصداق.

فلو كان الكلي الطبيعي هو اللابشرط المقسمي يلزم ان تكون الماهية بشرط لا من افراد الحقيقة ، لما عرفت من أن الكلي الطبيعي عبارة عن الحقيقة الجامعة بين الافراد. وليس الانسان بشرط لا مثلا من افراد حقيقة الانسان حتى يقال : ان المقسم هي الحقيقة ، وافرادها : الماهية بشرط لا ، وبشرط شيء ، ولا بشرط ، فلابد ان يكون الكلي الطبيعي هو اللابشرط القسمي الذي يكون تمام حقيقة الافراد الخارجية. وعلى كل حال : فهذا بحث آخر لا يرتبط بما نحن فيه.

وإذ قد عرفت ما ذكرناه فاعلم : ان الحق هو كون أسماء الأجناس موضوعة بإزاء اللابشرط المقسمي كما هو مقالة السلطان ، وليست موضوعة بإزاء اللابشرط القسمي كما هو مقالة المشهور. وذلك : لوضوح ان استعمال الانسان في الماهية بشرط لا ، كقولنا ( الانسان نوع ) وفي الماهية بشرط شيء والماهية لا بشرط كقولنا ( الانسان ضاحك ) يكون بوزان واحد وعلى نهج فارد بلا تصرف وعناية. ولو كان الانسان موضوعا لللابشرط القسمي لكان استعماله في الماهية بشرط لا على نحو التجوز والعناية. ومما يقطع به انه ليس للانسان وضعان : وضع يكون باعتبار ما يحمل عليه من المقولات الثانوية ويكون من الماهية بشرط لا ، ووضع يكون باعتبار ما يحمل عليه من الخارجيات. ويقطع أيضا انه ليس استعمال الانسان في أحدهما على نحو الحقيقة وفي الآخر على المجاز ، فلابد ان يكون موضوعا للجامع بينهما ، وليس ذلك الا اللابشرط المقسمي ، وهو المهية المبهمة المهملة القابلة للانقسامات وحينئذ فنفس اللفظ لا دلالة له على شيء من الأقسام ، واستفادة كل واحد من الأقسام يحتاج إلى امر آخر وراء مدلول اللفظ. واستفادة ان المراد هو المهية بشرط لا أو أحد القسمين الآخرين انما يكون من عقد الحمل ، فان المحمول ان كان من المعقولات الثانوية فلابد ان يكون المراد من الموضوع هو المهية بشرط لا ، وان كان من

ص: 572

الخارجيات - كالعتق والاكرام والاكل والضرب - فلابد ان يكون المراد من الموضوع هو الماهية لا بشرط ، أو بشرط شيء.

والامر الذي يستفاد منه ان المراد من الموضوع هو اللابشرط القسمي الذي يكون هو معنى الاطلاق هو المعبر عنه بمقدمات الحكمة. فمقدمات الحكمة انما نحتاج إلهيا لاستفادة ان المراد من اللفظ الموضوع للمهية المبهمة هو المهية المرسلة التي يتساوى فيها كل خصوصية ونقيضها.

وفى أسماء الأجناس نحتاج إلى اعمال مقدمات الحكمة في موردين ، باعتبار كل من التقييد الأنواعي والتقييد الافرادي. بخلاف الألفاظ الموضوعة للعموم ، فإنه نحتاج فيها إلى مقدمات الحكمة في ناحية المصب باعتبار التخصيص الأنواعي فقط ، واما باعتبار الافرادي فنفس العام يتكفل ذلك بلا حاجة إلى مقدمات الحكمة. كما أن في المطلقات نحتاج إلى احراز كون المتكلم في مقام البيان من الخارج ولو بمعونة الأصل العقلائي ، كما سيأتي انشاء اللّه ، وفي العموم نفس أدلة العموم تقتضي كون المتكلم في مقام البيان. فالفرق بين العام الأصولي والمط يكون من جهتين. وعلى كل حال ، ان مقدمات الحكمة مركبة من عدة أمور :

الأول :

ان يكون الموضوع مما يمكن فيه الاطلاق والتقييد وقابلا لهما ، وذلك بالنسبة إلى الانقسامات السابقة على ورود الحكم. واما الانقسامات اللاحقة - كقصد القربة واعتبار العلم والجهل بالحكم - فهي ما لا يمكن فيها الاطلاق والتقييد ، فلا مجال فيها للتمسك بالاطلاق ، وفي الحقيقة هذا خارج عن مقدمات الحكمة ، بل هذا الامر يكون محققا لموضوع الاطلاق والتقييد.

الثاني :

كون المتكلم في مقام البيان ، لا في مقام الاجمال. وان لايكون الاطلاق تطفليا ، بحيث يكون الكلام مسوقا لبيان حكم آخر. كما في قوله تعالى : (1) « فكلوا

ص: 573


1- المائدة ، 4

مما أمسكن عليكم » فان الكلام مسوق لبيان حلية ما يصطاده الكلب المعلم ، وليس اطلاق « كلوا » واردا لطهارة موضع عضه أو نجاسته ، فهو في الحقيقة من هذه الجهة يكون مجملا ليس في مقام البيان. واعتبار هذا الامر في صحة التمسك بالمطلقات مما لا شبهة فيه. ولا شبهة أيضا في عدم استفادة الاطلاق من الأدلة الواردة في بيان أصل تشريع الاحكام ، كقوله تعالى : أقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وأمثال ذلك ، فان ورود ذلك في مقام التشريع يكون قرينة على أن المتكلم ليس في مقام البيان ، كما أن الاطلاق التطفلي المسوق لبيان شيء آخر يكون كذلك ، أي يكون قرينة على أنه ليس المتكلم في مقام البيان.

واما فيما عدا هذين الموردين وفرض الكلام خاليا عن قرينة كون المتكلم ليس في مقام البيان ، فالأصل العقلائي يقتضى كون المتكلم في مقام البيان لو فرض الشك في ذلك. وعلى ذلك يبتنى جواز التعويل على المطلقات من أول كتاب الطهارة إلى آخر كتاب الديات ، فإنه لا طريق لنا إلى احراز كون المتكلم في مقام البيان الا من جهة الأصل العقلائي ، لمكان ان الظاهر من حال كل متكلم هو كونه في مقام بيان مراده ، وكونه في مقام الاهمال والاجمال يحتاج إلى احراز ذلك ، والا فطبع الكلام والمتكلم يقتضى ان يكون في مقام البيان ، وذلك واضح.

الثالث :

عدم ذكر القيد : من المتصل والمنفصل ، لأنه مع ذكر القيد لا يمكن ان يكون للكلام اطلاق ، وذلك أيضا واضح.

فإذا تمت هذه الأمور الثلاثة ، فلا محالة يستفاد من الكلام الاطلاق ، ولا يحتاج في استفادة الاطلاق إلى شيء آخر وراء هذه الأمور الثلاثة.

نعم : ذكر في الكفاية (1) أمرا رابعا ، وهو عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب. والمراد من وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب ، هو ثبوت القيد المتيقن بحسب دلالة اللفظ وظهوره ، لا بحسب الحكم وواقع الإرادة ، فان ثبوت المتيقن بحسب

ص: 574


1- كفاية الأصول ، الجلد الأول ص 384 « ثالثتها انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب. »

واقع الإرادة مما لا يتوهم دخله في صحة التعويل على المطلقات ، وانما الذي يمكن دخله في ذلك هو عدم وجود المتيقن في مقام التخاطب ومرحلة دلالة اللفظ وظهوره.

والانصاف : ان وجود المتيقن في هذه المرحلة أيضا مما لا دخل له بالمقام ، الا إذا رجع إلى انصراف اللفظ إلى القدر المتيقن ، أو انصراف اللفظ عما عداه ، على اختلاف في كيفية الانصراف. واما مع عدم رجوعه إلى الانصراف فهو مما لا عبرة به ، كان هناك قدر متيقن في مقام التخاطب أو لم يكن ، فإنه على أي حال يصح التعويل على المطلق من غير فرق بين ان نقول : ان المراد من كون المتكلم في مقام البيان ، كونه في مقام بيان كل ما له دخل في متعلق حكمه وموضوعه النفس الأري - كما هو الحق والمختار - أو كونه في مقام بيان ما له دخل في ضرب القاعدة والقانون ، كما هو مسلكه ( قده ) من أن المطلقات انما وردت لضرب القاعدة والقانون لا لبيان المراد النفس الأمري ، فإنه على كل تقدير يكون وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب لا اثر له ، لأنه لو كان المراد النفس الأمري أو القانوني هو القدر المتيقن في مقام التخاطب لا خل ببيانه وما بينه ، وليس وجود المتيقن بيانا ولا يصلح للبيانية ، فان من أوضح مصاديق القدر المتيقن في مقام التخاطب هو ورود العام والمط في مورد خاص كقوله علیه السلام : (1) خلق اللّه الماء طهورا - في مورد السؤال عن ماء بئر بضاعة ، فان المورد هو المتيقن المراد من اللفظ المط مع أنه لا يخصص المط بالمورد ، لا قال به أحد ولا هو ( قده ) قال به.

فمن ذلك يظهر : ان وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب مما لا اثر له ، ولا يصلح لهدم الاطلاق ، بل حاله حال وجود المتيقن في الحكم والمراد النفس الأمري الذي اعترف ( قده ) بأنه مما لا اثر له.

نعم : لو كان تأسيس مقدمات الحكمة لأجل خروج الكلام عن اللغوية وعدم بقاء المخاطب في حيرة بحيث لا يفهم من الكلام شيئا ، لكان لثبوت القدر المتيقن دخل في ذلك ، لان وجود المتيقن في البين يوجب خروج الكلام عن اللغوية وان المخاطب يفهم عن الكلام ذلك ، الا ان تأسيس مقدمات الحكمة ليس لأجل

ص: 575


1- المستدرك ، الجلد 1 الباب 13 من أبواب الماء المطلق. الحديث 4 ص 28

ذلك ، بل لأجل استخراج ما هو الموضوع النفسي الأمري ، أو لأجل استخراج ما اراده المتكلم من اللفظ بالإرادة الاستعمالية من باب ضرب القاعدة والقانون ، على ما اختاره ( قده ). وثبوت القدر المتيقن في مقام التخاطب لا دخل له في ذلك ، لأنه لايكون بيانا ولا يصلح للبيانية ، الا إذا رجع القدر المتيقن إلى حد الانصراف ، سواء كان من الانصراف إليه ، ليكون بمنزلة القيد المذكور في الكلام ويكون المتكلم كأنه بين القيد في اللفظ. أو كان من الانصراف عنه ، بحيث يكون اللفظ منصرفا عما عدى القدر المتيقن وان لم ينصرف إليه بخصوصه ، فيكون القدر المتيقن ح مما يصلح للبيانية وان لم يكن مقطوع البيانية كما في القسم الأول. ولكن مجرد وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب لا يصلح لان يكون بيانا ولا لان يكون مما يصلح للبيانية ، والا لكان المورد أولى بذلك ، لأنه أوضح مصاديق القدر المتيقن ، مع أنه قد عرفت عدم الالتزام به.

فتحصل : ان الاطلاق يتوقف على أمرين لا ثالث لهما. الأول : كون المتكلم في مقام البيان. الثاني : عدم ذكر القيد متصلا كان أو منفصلا ، فان من ذلك يستكشف انا عدم دخل الخصوصية في متعلق حكمه النفس الأمري ، قضية تطابق عالم الثبوت لعالم الاثبات.

الامر الخامس :

بعد ما عرفت ان أسماء الأجناس موضوعة لللابشرط المقسمي ، ظهر لك : ان التقييد لا يوجب المجازية ، كما عليه المحققون من المتأخرين ، فان اللفظ لم يستعمل ح الا في معناه ، والخصوصية انما تستفاد من دال آخر.

نعم : المجازية انما تلزم بناء على مقالة المشهور : من كون الألفاظ موضوعة لللابشرط القسمي وان الاطلاق يستفاد من نفس اللفظ بحسب وضعه ، فالتقييد يوجب استعمال اللفظ في خلاف معناه ، لان التقييد يضاد الاطلاق من غير فرق بين التقييد المتصل أو المنفصل ، فان التقييد لا محالة يوجب انسلاخ اللفظ عن الخصوصية المأخوذة فيه التي هي الاطلاق وتساوى كل خصوصية ونقيضها ، ولا يمكن بقاء تلك الخصوصية مع التقييد متصلا كان أو منفصلا ، فالتقييد بناء على

ص: 576

مسلك المشهور لامحة يوجب المجازية. كما أنه بناء على ما هو الحق : من وضع الألفاظ للابشرط المقسمي لا يوجب المجازية مط ، متصلا أو منفصلا. فالقول بالتفصيل بين المتصل والمنفصل - بعدم استلزام التقييد للمجازية في الأول واستلزامه في الثاني - مما لا وجه له على كل حال ، وذلك واضح ، الا ان الشأن في صحة اخذ الاطلاق مدلولا لفظيا.

إذا عرفت هذه الأمور

فاعلم : ان الكلام يقع ح في حمل المط على المقيد ، والبحث عن ذلك يقع من جهات :

الجهة الأولى :

انه إذا ورد مط ومقيد متنافيان ، فلا بد من الجمع بينهما بحمل الامر في المط على المقيد ، لا بحمل الامر في المقيد على الاستحباب وكونه أفضل الافراد ، ولا بكونه من قبيل الواجب في واجب مط ، من غير فرق بين كون ظهور الامر في المط في الاطلاق أقوى من ظهور الامر في المقيد في التقييد ، أو أضعف ، فإنه على كل حال لابد من حمل المطلق على المقيد من غير ملاحظة أقوى الظهورين. وذلك لان الامر في المقيد يكون بمنزلة القرينة على ما هو المراد من الامر في المط ، والأصل الجاري في ناحية القرينة يكون حاكما على الأصل الجاري في ذي القرينة.

اما كونه بمنزلة القرينة ، فلانه وان لم يتحصل لنا بعد ضابط كلي في المايز بين القرينة وذيها ، الا ان ملحقات الكلام : من الصفة ، والحال ، والتميز ، بل المفاعيل ، تكون غالبا بل دائما قرينة على أركان الكلام : من المبتدأ والخبر والفعل والفاعل.

نعم : في خصوص المفعول به مع الفعل قد يتردد الامر بينهما في أن أيا منهما قرينة والآخر ذو القرينة ، كما في قوله : لا تنقض اليقين بالشك ، فإنه كما يمكن ان يكون عموم اليقين - في تعلقه بما له من اقتضاء البقاء وعدمه - قرينة على ما أريد من النقض الذي لابد من تعلقه بما له اقتضاء البقاء ، كذلك يمكن العكس. ومن هنا وقع الكلام في اعتبار الاستصحاب عند الشك في المقتضى. وكذا في ( لا تضرب

ص: 577

أحدا ) فإنه يمكن ان يكون عموم الأحد للاحياء والأموات قرينة على أن المراد من الضرب الأعم من المولم وغيره ، ويمكن العكس.

وبالجملة : لا يمكن دعوى الكلية في باب الفعل والفاعل والمفعول به ، بل قد يكون الفعل قرينة على الفعول به ، وقد يكون المفعول به قرينة على الفعل ، الا انه فيما عدى ذلك من المتممات وملحقات الكلام كلها تكون قرينة على ما أريد من أركان الكلام.

وإذا عرفت ذلك فنقول : ان الأصل الجاري في القرينة يكون حاكما على الأصل الجاري في ذيها من غير ملاحظة أقوى الظهورين ، كما هو الشأن في كل حاكم ومحكوم. ومن هنا كان ظهور ( يرمى ) في رمى النبل مقدما على ظهور ( أسد ) في الحيوان المفترس ، وان كان ظهور الأول بالاطلاق والثاني بالوضع والظهور المستند إلى الوضع أقوى من الظهور المستند إلى الاطلاق.

والسر في ذلك : هو ان أصالة الظهور في ( يرمى ) تكون حاكمة على أصالة الحقيقة في ( أسد ) ، لأن الشك في المراد من ( الأسد ) يكون مسببا عن الشك في المراد من ( يرمى ) ، وظهور ( يرمى ) في رمى النبل يكون رافعا لظهور ( الأسد ) في الحيوان المفترس. فلا يبقى للأسد ظهور في الحيوان المفترس حتى يدل بلازمه على أن المراد من ( يرمى ) رمى التراب ، فان الدلالة على اللازم فرع الدلالة على الملزوم ، وظهور ( يرمى ) في رمى النبل يرفع دلالة الملزوم.

وبذلك يندفع ما ربما يقال : ان مثبتات الأصول اللفظية حجة ، فكما ان أصالة الظهور في ( يرمى ) تقتضي ان يكون المراد من الأسد هو الرجل الشجاع ، كذلك أصالة الحقيقة في الأسد تقتضي ان يكون المراد من ( يرمى ) رمى التراب ، لان لازم أصالة الحقيقة هو ذلك.

توضيح الدفع : هو ان ( يرمى ) بمدلوله الأولى يقتضى ان يكون المراد من الأسد هو الرجل الشجاع ، لان ( يرمى ) عبارة عن رامي النبل وذلك عبارة أخرى عن الرجل الشجاع. وهذا بخلاف أسد ، فإنه بمدلوله الأولى غير متعرض لحال ( يرمى ) وان المراد منه رمى التراب ، بل مدلول الأولى ليس الا الحيوان المفترس.

ص: 578

نعم : لازم ذلك هو ان يكون المراد من ( يرمى ) رمى التراب ، ودلالته على لازمه فرع دلالته على مدلوله وبقاء ظهوره فيه ، وظهور ( يرمى ) يكون مصادما لظهور ( أسد ) في الحيوان المفترس وهادما له ، فلا يبقى له ظهور في الحيوان المفترس حتى يدل على لازمه وذلك واضح.

وإذا عرفت ذلك ، ظهر لك : ان المقيد يكون بمنزلة القرينة بالنسبة إلى المطلق ، لان القيد لا يخلو : اما من أن يكون وصفا ، أو حالا ، أو غير ذلك من ملحقات الكلام ، وقد تقدم ان ملحقات الكلام كلها تكون قرينة ، وأصالة الظهور في المقيد تكون حاكمة على أصالة الظهور في المط حتى لو فرض ان ظهور المطلق في الاطلاق أقوى من ظهور المقيد في التقييد ، فلا يبقى للمط ظهور في الاطلاق حتى يحمل الامر في المقيد على الاستحباب ، أو واجب في واجب. هذا إذا كان القيد متصلا.

وأما إذا كان منفصلا ، كما لو قال : أعتق رقبة ، وقال أيضا : أعتق رقبة مؤمنة ، فتمييز ان المنفصل يكون قرينة أو معارضا ، هو ان يفرض متصلا وانه في كلام واحد ، فان ناقض صدر الكلام ذيله يكون معارضا ، وان لم يكن مناقضا يكون قرينة. ففي المثال لابد من فرض المؤمنة متصلة بقوله : ( أعتق رقبة ) الوارد أولا ، إذ الذي يوهم المعارضة هو قيد المؤمنة ، والا فالدليلان يشتركان في وجوب عتق الرقبة ، فالذي لابد من فرضه متصلا هو قيد المؤمنة ، ومعلوم : ان التقييد بالمؤمنة تكون قرينة على المراد من المطلق. فلا فرق بين المتصل والمنفصل سوى ان المتصل يوجب عدم انعقاد الظهور للمطلق ، وفي المنفصل ينعقد الظهور الا انه يهدم حجيته. ولعله يأتي لذلك مزيد توضيح انشاء اللّه.

الجهة الثانية :

قد عرفت : ان مورد حمل المطلق على المقيد انما هو في صورة التنافي ، والتنافي لايكون الا بوحدة التكليف ، ووحدة التكليف تارة : يعلم بها من الخارج فهذا مما لا اشكال فيه. وأخرى : تستفاد وحدة التكليف من نفس الخطابين.

وتفصيل ذلك : هو انه اما ان يذكر السبب لكل من المطلق والمقيد ، واما

ص: 579

ان لا يذكر السبب في كل منهما ، واما ان يذكر السبب في أحدهما دون الآخر. وصورة ذكر السبب في كل منهما ، اما ان يتحد السبب ، واما ان يختلف ، فهذه صور أربع لا خامس لها.

الصورة الأولى :

ما إذا ذكر السبب في كل منهما مع اختلافه ، كما إذا ورد : ان ظاهرت فاعتق رقبة ، وان أفطرت فاعتق رقبة مؤمنة ، فهذا لا اشكال فيه في عدم حمل المطلق على المقيد ، لعدم التنافي بينهما ، وذلك واضح.

الصورة الثانية :

ما إذا اتحد السبب كما لو قال : ان ظاهرت فاعتق رقبة ، وان ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة ، وفي هذه الصورة أيضا لا اشكال في حمل المط على المقيد ، لأنه من نفس وحدة السبب يستفاد وحدة التكليف ، فيتحقق التنافي بينهما.

الصورة الثالثة :

ما إذا ذكر السبب في أحدهما دون الآخر ، كما لو قال : أعتق رقبة - بلا ذكر السبب ، وقال أيضا : ان ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة ، أو بالعكس ، بان ذكر السبب في المط دون المقيد ، وفي هذه الصورة يشكل حمل المط على المقيد ، لأنه لا يتحقق هنا اطلاقان ومقيدان : أحدهما في ناحية الواجب وهو عتق الرقبة مط وعتق الرقبة المؤمنة ، وثانيهما في ناحية الوجوب والتكليف وهو وجوب العتق غير مقيد بسبب ووجوب العتق مقيدا بسبب خاص من الظهار في المثال المذكور. وتقييد كل من الاطلاقين يتوقف على تقييد الاطلاق الاخر ، فيلزم الدور.

بيان ذلك : هو انه قد عرفت ان حمل المط على المقيد يتوقف على وحدة التكليف ، وفي المثال تقييد أحد الوجوبين بصورة تحقق سبب الآخر يتوقف على وحدة المتعلق ، إذ عند اختلاف متعلق التكليف لا موجب لحمل أحد التكليفين على الآخر ، كما لو ورد تكليف مطلق متعلق بشيء ، وورد تكليف مقيد متعلق بشيء آخر. ووحدة المتعلق في المقام يتوقف على حمل أحد التكليفين على الآخر ، إذ لو لم يحمل أحد التكليفين على الآخر ولم يقيد وجوب العتق المطلق بخصوص صورة الظهار

ص: 580

لم يتحقق وحدة المتعلق ، لان أحد المتعلقين هو عتق الرقبة المطلقة ، ومتعلق الآخر هو عتق الرقبة المؤمنة ، فيتوقف حمل أحد المتعلقين على الآخر على حمل أحد التكليفين على الآخر ، ويتوقف حمل أحد التكليفين على الآخر على حمل أحد المتعلقين على الآخر ، فيلزم الدور من حمل المط على المقيد في هذه الصورة ، والظاهر أنه لا دافع له ، فتأمل.

الصورة الرابعة :

ما إذا لم يذكر السبب في أحدهما وكان كل منهما مط بالنسبة إلى ذكر السبب ، وفي هذه الصورة لابد من حمل المط على المقيد إذا كان المطلوب في كل منهما صرف الوجود لا مط الوجود ، ولا يتوقف الحمل في هذه الصورة على العلم بوحدة التكليف من الخارج ، بل نفس كون المطلوب فيهما صرف الوجود مع كون التكليف الزاميا يقتضى حمل المط على المقيد. وذلك لان قوله : أعتق رقبة مؤمنة - يقتضى ايجاد صرف وجود عتق الرقبة المؤمنة ، ومقتضى كون الحكم الزاميا هو انه لابد من ايجاد عتق الرقبة المؤمنة وعدم الرضا بعتق الرقبة الكافرة ، والمفروض ان المطلوب في المطلق أيضا صرف الوجود ، ومقتضى كون المطلوب صرف وجود العتق وايجاب عتق الرقبة المؤمنة هو وحدة التكليف وكون المطلوب هو المقيد ليس الا. ومن هنا يظهر : ان الركن في حمل المط على المقيد ، هو كون الحكم الزاميا ، ولا يجرى في التكاليف المستحبة ، وسيأتي لذلك مزيد توضيح انشاء اللّه تعالى.

الجهة الثالثة :

الكلام في حمل المط على المقيد ، هو فيما إذا لم يكن دليل المقيد واردا لبيان المانعية ، والجزئية ، والشرطية ، بان يكون أمرا أو نهيا غيريا ، فإنه لو كان كذلك فلا اشكال في حمل المط على المقيد ، وذلك واضح. فالكلام في المقام انما هو فيما إذا كان امر المقيد أو نهيه نفسيا.

ثم إن المطلوب في المط والمقيد اما ان يكون صرف الوجود ، واما ان يكون مط الوجود. فان كان المطلوب مطلق الوجود فلا موجب لحمل المطلق على المقيد ، الا إذا اقتضاه خصوص المقام ، من غير فرق بين ان يكون ذلك في التكاليف أو

ص: 581

في الوضعيات ، وبين ان يكون التكليف أمرا أو نهيا ، وبين ان يكون الزاميا أو استحبابيا ، فان لا منافاة بين المطلق والمقيد. نعم : ذكر المقيد عقيب المطلق لا بد ان يكون لخصوصية ولو كانت تلك الخصوصية شدة الاهتمام بالمقيد ، الا ان ذلك لا يوجب الحمل ، فلا منافاة بين قوله : في الغنم زكاة ، وبين قوله : في الغنم السائمة زكاة ، الا إذا علم من خصوصية المقام ان القيد سيق لبيان التقييد ، فيندرج في الأمر والنهي الغيري الذي تقدم ان التقييد فيه لازم الغيرية. هذا إذا كان المطلوب مطلق الوجود.

وأما إذا كان المطلوب صرف الوجود فتارة : يكون أحدهما أمرا والآخر نهيا. وأخرى : يكون كل منهما أمرا أو كل منهما نهيا. فان كان الأول فلا يخلو اما ان يندرج في باب النهى عن العبادة ، واما ان يندرج في باب المطلق والمقيد ، واما ان يندرج في باب اجتماع الأمر والنهي ، واما ان يندرج في باب تعارض العموم من وجه ، ويلحق كل باب حكمه. ففي مثل قوله ( صل ولا تصل في الحرير ) يكون من النهى عن العبادة. وفي مثل قوله ( أعتق رقبة ولا تعتق الرقبة الكافرة ) يندرج في باب المط والمقيد ، ولابد من حمل المطلق على المقيد ولا يحمل النهى على الكراهة ، لما تقدم من حكومة أصالة الظهور في المقيد على المط ، فظهور النهى في الحرمة يكون مقدما على ظهور المط في الاطلاق. هذا إذا كانت النسبة بين الدليلين العموم المط ، كما هو محل البحث. وان كانت النسبة العموم من وجه فيندرج اما في باب اجتماع الأمر والنهي ، إذا كانت نسبة العموم من وجه بين نفس متعلق التكليف وهو الفعل والترك المطالب به الصادر من المكلف اختيارا كقوله : صل ولا تغصب ، واما في باب التعارض بالعموم من وجه إذا كانت النسبة بين متعلق المتعلق من الموضوعات الخارجية كقوله : أكرم العلماء ولا تكرم الفساق ، هذا إذا كان أحد الدليلين أمرا والآخر نهيا.

وان كان كل منهما أمرا أو نهيا مع كون المطلوب صرف الوجود فتارة : يكون الحكم الزاميا ، وأخرى : استحبابيا. فان كان الزاميا فتارة : يكون الاطلاق والتقييد في كل من الوجوب والواجب ، بان كان الوجوب في أحدهما مطلقا وفى

ص: 582

الآخر مقيدا والواجب أيضا كذلك كقوله : أعتق رقبة ، وقوله : ان ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة ، وهذا قد تقدم حكمه : من أنه لا يحمل فيه المط على المقيد لا في طرف الوجوب ولا في طرف الواجب ، لاستلزامه الدور.

وأخرى : يكون الاطلاق والتقييد في ناحية الوجوب فقط ، أو في ناحية الواجب فقط. فان كان في ناحية الوجوب فقط فتارة : يكون تقييد الوجوب بمثل الشرط والغاية ، بحيث تكون القضية ذات مفهوم ، كقوله : أعتق رقبة ، وقوله : ان جائك زيد فاعتق رقبة. وأخرى : يكون تقييد الوجوب بغير ذلك مما لا يقتضى المفهوم كقوله : أعتق رقبة ، وقوله : أعتق رقبة عند الظهار. فان كان تقييد الوجوب بما يقتضى المفهوم فهذا خارج عن محل الكلام ، فان مقتضى المفهوم هو انتفاء الوجوب عند عدم الشرط فيقيد الوجوب المطلق لا محالة. وان كان تقييد الوجوب بما لا يقتضى المفهوم - كالمثال المتقدم - فحكمه حكم تقييد الواجب من لزوم حمل المط على المقيد ، فان مقتضى قوله : عند الظهار أعتق رقبة ، هو انه عند الظهار لا بد من عتق الرقبة وعدم الرضا بتركه عند الظهار ، ومقتضى اطلاق قوله : أعتق رقبة ، هو جواز ترك العتق عند الظهار والعتق في غير حال الظهار ، وحيث انه لا يجتمع لزوم العتق عند الظهار مع جواز تركه عنده مع كون المتعلق واحدا والمطلوب صرف وجود العتق ، فيتحقق المنافاة بين الوجوب المط والوجوب المقيد ولا بد من حمل المط على المقيد. هذا إذا كان التقييد في ناحية الوجوب.

وأما إذا كان التقييد في ناحية الواجب كقوله : أعتق رقبة ، وقوله : أعتق رقبة مؤمنة ، فقد تقدم الكلام فيه وانه لا بد من حمل المط على المقيد. ونزيد في المقام وضوحا فنقول : ان المحتملات في المثال أربعة :

1 - احتمال ان يكون المطلوب واحدا وهو نتيجة حمل المط على المقيد.

2 - احتمال ان يكون الامر في المقيد استحبابيا فيكون المقيد أفضل الافراد.

3 - احتمال ان يكون الامر في المقيد لبيان كونه واجبا في واجب.

4 - احتمال ان يكون الواجب متعددا ويكون هناك تكليفان : تكليف

ص: 583

بالمط ، وتكليف بالمقيد.

والأظهر من هذه الاحتمالات بحسب الأصول اللفظية : هو الاحتمال الأول ، إذ الاحتمال الثاني قد تقدم ضعفه ، من حيث إن الأصول اللفظية الجارية في المقيد لمكان كونه قرينة تكون حاكمة على الأصول اللفظية الجارية في المط ، فيكون ظهور الامر في المقيد في الوجوب مقدما على ظهور المط في الاطلاق ، ولا تصل النوبة إلى حمل الامر في المقيد على الاستحباب ، لان حمله على الاستحباب انما هو من جهة ظهور المط في الاطلاق وأقوائية ظهوره في ذلك من ظهور الامر في المقيد في الوجوب ، وعلى فرض التساوي يتردد الامر بين الامرين : بين حمل المط على المقيد ، وبين حمل امر المقيد على الاستحباب ، هذا. ولكن قد عرفت : انه في باب القرينة وذيها لا يلاحظ أقوى الظهورين ، بل يكون ظهور القرينة وان كان أضعف مقدما على ظهور ذيها وان كان أقوى ، فالاحتمال الثاني ساقط.

وكذا الحال في الاحتمال الثالث ، بل هو أضعف من الثاني ، فإنه يلزم رفع اليد عن ظهور الامر المقيد في كون الواجب هو الجملة المركب من القيد والمقيد ، إذ لو حمل الامر فيه على كونه لبيان كون القيد من الواجب في الواجب يلزم ان يكون الواجب في قوله : أعتق رقبة مؤمنة ، هو خصوص القيد ، وانه سيق لبيان وجوب ذلك فقط ، وهذا ينافي ظهوره في وجوب الجملة والمركب من القيد والمقيد ، فحمله على وجوب خصوص القيد يوجب هدم ظهوره بالمرة ، بل ذلك أردأ من حمل الامر فيه على الاستحباب ، لان حمل الامر على الاستحباب ليس بعزيز الوجود ، بخلاف حمله على ذلك ، فإنه يحتاج إلى دليل قوى مفقود في المقام.

فبقى الاحتمال الرابع ، وهو تعدد التكليف ، وقد تقدم ان تعدد التكليف وكون الواجب هو كل من المط والمقيد ينافي كون المطلوب هو صرف الوجود مع كون التكليف بالمقيد الزاميا ، فان معنى الالزام هو عدم الرضا بخلو صفحة الوجود عن المقيد وانه لابد من اشغال صفحة الوجود به ، وهذا بخلاف المط فإنه يقتضى جواز ترك القيد ، فيتحقق التنافي بينهما ، ويتعين ح حمل المط على المقيد جمعا بين الدليلين ، فتأمل جيدا. هذا كله فيما إذا كان التكليف بالمط والمقيد الزاميا.

ص: 584

وأما إذا كان التكليف استحبابيا ، ففي جميع أقسامه لا موجب لحمل المط على المقيد. أما إذا كان التكليف الاستحبابي في كل منهما مط وكان التقييد في ناحية المستحب كما إذا قال : يستحب الدعاء ، وقال أيضا : يستحب دعاء كميل ، فلانه لا يتحقق شرط الحمل ، إذ لا منافاة بينهما بعد ما كان المقيد جايز الترك ، فلا منافاة بين استحباب الدعاء والمط واستحباب الدعاء المقيد.

وأما إذا كان التقييد في ناحية كل من التكليف والمكلف به كما إذا قال : يستحب الدعاء ، وقال أيضا : ان جاء زيد يستحب دعاء كميل مثلا ، فلانه إذا كان التكليف الإلزامي على هذا الوجه لا يحمل فكيف بالتكليف الاستحبابي؟.

وأما إذا كان التقييد في ناحية التكليف فقط ، فان لم يكن التقييد مما يقتضى المفهوم كما إذا قال : يستحب الدعاء ، وقال أيضا يستحب الدعاء عند رؤية الهلال ، فلانه وان قلنا في التكليف الإلزامي بالحمل ، الا انه في التكليف الاستحبابي لا موجب للحمل لمكان تفاوت مراتب الاستحباب. فلا منافاة بين الاستحباب المطلق والاستحباب المقيد ، بل ذهب شيخنا الأستاذ مد ظله إلى عدم الحمل حتى فيما إذا كان التقييد يقتضى المفهوم كما إذا قال : يستحب الدعاء ، وقال أيضا : ان جائك زيد يستحب الدعاء ، فان تفاوت مراتب الاستحباب يكون قرينة على عدم ثبوت المفهوم للقضية الشرطية. والمسألة بعد لا تخلو عن الاشكال ، بل ربما يستشكل في القسم السابق ، بل فيما إذا كان التقييد في ناحية المستحب فقط. فتأمل في المقام جيدا.

وقد تمت مباحث المط والمقيد في الليلة التاسعة والعشرين من شهر ربيع

الأول سنة 1348

وله الحمد أولا وآخرا

وانا العبد المذنب محمد علي الكاظمي الخراساني.

ص: 585

فهرس فوائد الأصول

مقدمة الأستاذ المحقق محمود الشهابي الخراساني

نشأة علم الأصول وسيره وارتقائه... 3

تعريف علم الأصول وبيان موضوعه ومسائله وغايته

الضابطة الكلية لمعرفة مسائل علم الأصول... 19

المايز بين المسئلة الأصولية والقاعدة الفقهية... 19

تفسير العرض الذاتي والعرض الغريب... 20

بيان النسبة بين موضوع العلم وموضوع كل مسئلة من مسائله... 22

اشكال لزوم أخذ عقد الحمل في عقد الوضع وبيان حله... 23

المايز بين العلوم ، وبيان وجه العدول عن مسلك المشهور... 24

بيان ما قيل : من أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات وتمايز الموضوعات بتمايز الحيثيات... 25

البحث في موضوع علم الأصول

الاشكالات الواردة على أخذ الموضوع خصوص الأدلة الأربعة... 26

تحقيق انه لا داعي لجعل موضوع علم الأصول خصوص الأدلة الأربعة... 28

المبحث الأول في بيان ماهية الوضع

تقسيم الوضع إلى التعييني والتعيني ، والإشكال عليه... 29

تقسيم الوضع بحسب الوضع والموضوع له إلى أربعة أقسام... 31

في بيان معاني الحروف والمايز بينها وبين الأسماء... 33

ص: 586

شرح ما قيل : من أن الاسم ما دل على معنى في نفسه والحرف ما دل على معنى في غيره... 35

تقسيم معاني الألفاظ إلى الاخطارية والايجادية... 37

الاشكال على كون جميع معاني الحروف ايجادية ، وحله... 38

بيان معنى ( النسبة ) وأقسامها وترتيبها... 39

تحقيق معنى قول النجاة في تعريف الظرف المستقر واللغو... 40

تحقيق كون معاني الحروف كلها ايجادية... 42

بيان ان النسبة بين المعاني الحرفية والمعاني الاسمية هي النسبة بين المصداق والمفهوم... 43

قوام المعنى الحرفي بأمور أربعة... 44

بيان الفرق بين المعاني الايجادية في باب الحروف والمعاني الايجادية في باب الانشائيات... 45

تضعيف مقالة من يقول : ليس للحروف معنى أصلا بل انما هي علامات... 47

فساد القول باتحاد المعنى الاسمي والمعنى الحرفي وانما لم يصح استعمال أحدهما مكان الآخر باشتراط الواضع 47

الإشكال على ما عرف به الحرف : من أنه ما دل على معنى في الغير... 50

بيان معنى ما روى عن أمير المؤمنين علیه السلام من قوله : الاسم ما أنبأ عن المسمى الخ... 51

تحقيق مبدء الاشتقاق وانه ليس بمصدر ولا اسم مصدر... 51

الفرق بين معاني الأسماء والافعال والسر في تثليث اقسام الكلمة... 53

بيان المراد من قوله علیه السلام ( والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى ) وانه هو الحركة من القوة إلى الفعل 53

تحقيق الموضوع له في الحروف ، هل انه عام أو خاص؟... 54

تفسير الكلية والجزئية في الحروف ، وانها بمعنى آخر غير ما تتصف الأسماء بهما... 54

وقوع المفاهيم الأسمية في عقد الحمل ، وعدم صحة وقوع المفاهيم الحرفية فيه... 57

ان الحق هو كلية المعنى الحرفي وكون الموضوع له فيه عاما... 58

المبحث الثاني في الصحيح والأعم

تعريف الصحة والفساد... 60

ص: 587

ملاحظة الصحة بالنسبة إلى الأجزاء والشرائط السابقة للأمر وبالنسبة إلى الأجزاء والشرائط اللاحقة للأمر 60

رد توهم ان الصلاة وضعت للأفراد الطولية والعرضية بالاشتراك اللفظي وانها من قبيل الوضع العام والموضوع له الخاص 61

الاشكال في تصوير الجامع المسمى على كل من القول بالصحيح والأعم... 64

بيان ما قيل : من أن الجامع بين الأفراد الصحيحة هو ( المسمى ) والإشارة إليه اما من ناحية المعلول واما من ناحية العلة وبيان ما فيه من الاشكالات... 65

بسط الكلام في المايز بين باب الدواعي وبين باب المسببات التوليدية وان الملاكات هل هي من قبيل الدواعي أو من قبيل المسببات 67

تصوير الجامع بناء على الأعم والمناقشة في الوجوه التي ذكروها... 74

فساد توهم ان تكون الصلاة من الماهيات القابلة للتشكيك... 75

بيان ما قيل في الثمرة بين القول بالصحيح والأعم... 77

اشكال جريان الأصل في المعاملات على القول بالصحيح ، وحله... 79

المبحث الثالث في المشتق

اختصاص النزاع بالعناوين العرضية لا الذاتية التي يتقوم بها الذات... 83

في أن المراد من المشتق كل عنوان عرضي كان جاريا على الذات متحدا معها وجودا... 84

نقل ما حكى عن ( القواعد ) من تفريع مسئلة الرضاع على المشتق... 85

بيان الفرق بين المحمول بالضميمة والخارج المحمول... 88

الاستشكال في إدراج مثل اسم الزمان في محل النزاع... 89

تحقيق ان المراد من الحال هو حال التلبس بالمبدء... 90

تحقيق المراد من الحال في قول النحاة حيث قالوا : ( ان اسم الفاعل ان كان بمعنى الحال يعمل عمل الفعل المضارع ) 90

في ان البحث في باب المشتق انما يكون في مفهومه الافرادي ، فلا يرتبط بالمقام اختلاف الشيخ والفارابي 91

ص: 588

بيان المراد من ( الاستعمال ) و ( التطبيق ) والفرق بينهما وعدم اتصاف التطبيق والانطباق بالحقيقة والمجاز 93

في بيان مبدء الاشتقاق ، وعدم الترتب بين صيغها... 96

تحقيق وجود الترتب بين المعاني التي تكفلتها الصيغ... 99

شرح ما قيل : من ان الأوصاف قبل العلم بها اخبار كما أن الاخبار بعد العلم بها أوصاف 101

رد ما اشتهر : من ان المضارع يكون بمعنى الحال والاستقبال... 102

في بساطة المشتق وتركيبه... 103

تحقيق ما حكى عن الشيخ (رحمه اللّه) من قياس المشتق بالجوامد من حيث عدم أخذ الذات فيه... 104

تحقيق ما حكى عن الميرزا الشيرازي : من أنه لو كانت الذوات الشخصية مأخوذة في مفهوم المشتق يلزم أن يكون من متكثر المعنى... 107

استدلال السيد الشريف (رحمه اللّه) على بساطة المشتق... 109

ايراد ( صاحب الكفاية ) على ( الفصول ) و ( السيد الشريف )... 111

اشكال ( السيد الشريف ) على أخذ مصداق الشيء في مفهوم المشتق بلزوم الانقلاب ، وايراد ( صاحب الفصول ) عليه 113

في شرح ما يقال : من أن الفرق بين المشتق ومبدئه هو البشرط اللائية واللا بشرطية... 116

بيان الأقوال في وضع المشتق ، للمتلبس بخصوصه أو للأعم... 119

تحقيق ان المشتق موضوع لخصوص المتلبس ومجاز في غيره... 120

اشكال عدم تصور الجامع بين التلبس والانقضاء حتى على القول بالتركيب... 121

بيان ما استدلال به القائل بالأعم... 124

ضعف التمسك بآيتي السرقة والزنا للقول بالأعم... 125

المقصد الأول في الأوامر

ذكر معاني مادة الأمر واشكال تصور الجامع بين المعاني... 128

ذكر معاني صيغة الأمر ، وتحقيق انها من قبيل الدواعي لا يجاد النسبة الإيقاعية... 129

في تغاير الطلب والإرادة... 130

ص: 589

عدم امكان دفع شبهة الجبر الا بالقول بتغاير الطلب والإرادة... 132

في طريق استفادة الوجوب من الصيغة ، واختيار انها بحكم العقل... 134

في التعبدي والتوصلي

بيان معنى التعبدية والتوصلية وان كلا منهما على معنيين... 137

تحقيق أصالة التعبدية بمعنى اعتبار المباشرة والإرادة والاختيار والإباحة... 138

مقتضى الأصل العملي في المسئلة... 142

تحقيق أصالة التعبدية بمعنى اعتبار قصد الأمر والجهة... 145

انقسامات متعلق الحكم وموضوعه... 145

ابطال أخذ العلم بالحكم في الموضوع بلزوم تقدم الشيء على نفسه... 148

بيان مذهب الأستاذ ، وهو كفاية كون الفعل ( لله ) ولو مع عدم قصد الامتثال... 151

الاشكال على الأستاذ بأن الداعي علة للإرادة فلا يعقل ان يكون معلولا للإرادة... 152

في امتناع أخذ العبادية في متعلق الأمر ، ووجوه التفصي عن الاشكال... 152

تحقيق عدم جريان الأصلين في المسئلة... 155

عدم صحة الاستدلال بالآيات والأخبار على أصالة التعبدية... 157

دفع ما يتوهم من كلام الشيخ (رحمه اللّه) من التمسك بقاعدة الاجزاء العقلية لأصالة التوصلية 158

في بيان نتيجة الاطلاق والتقييد... 159

بيان الفرق بين استكشاف نتيجة الاطلاق في المقام واستكشاف الاطلاق في ساير المقامات 160

تقريب اعتبار قصد الأمثال من ناحية الغرض... 160

تحقيق انحصار كيفية الاعتبار بمتمم الجعل ، وبيان وجه الاصطلاح بذلك... 161

دفع ما في بعض الكلمات : من الاشكال على تعدد الأمر ، وتحقيق ان ملاك الأمرين واحد 162

بيان ما أفاده بعض الأعلام : من أن التعبدية من الأحكام العقلية... 162

في بيان ما يقتضيه الأصل العملي في المسئلة... 163

فساد توهم الفرق بين المحصلات الشرعية والمحصلات العقلية... 163

ص: 590

بيان الفرق بين تعلق الأمر بالأسباب وبين تعلقه بالمسببات ، والإيراد عليه... 166

في الواجب المطلق والمشروط

بيان الفرق بين القضية الخارجية والحقيقية... 170

تحقيق ان الاشكال على الشكل الأول بلزوم الدور انما نشأ من الخلط بين القضية الخارجية والقضية الحقيقية 172

الجهات التي تمتاز بها القضية الخارجية عن القضية الحقيقية... 173

الأحكام الشرعية مشروطة بموضوعاتها ثبوتا وإثباتا... 178

في تحقيق مرجع الشرط وانه راجع إلى مفاد الجملة... 179

ظهور بطلان ما في التقريرات من ارجاع الشرط إلى المادة ، واعتذار السيد الشيرازي عنه 180

بيان الفرق بين المقدمة الوجوبية والمقدمة الوجودية... 183

تقرير قول ( صاحب الفصول ) في الواجب المعلق... 185

وضوح امتناع الواجب المعلق في الأحكام الشرعية التي تكون على نهج القضايا الحقيقية... 186

امتناع الواجب المعلق ، على فرض كون الأحكام من قبيل القضايا الخارجية أيضا... 188

بيان الأمر الذي ألجأ ( صاحب الفصول ) إلى الالتزام بالواجب المعلق ، وهو فتوى الفقهاء بلزوم تحصيل المقدمات المفوتة قبل حصول الشرط... 194

بيان وجه وجوب تلك المقدمات قبل وجوب ذيها... 194

دفع الاشكال باعتبار الملاك ، وبيان عدم تماميته... 195

الكلام في المقدمات المفوتة

تقسيم القدرة إلى العقلية والشرعية ، وبيان أحكامهما... 197

لزوم تحصيل المقدمات العقلية وحرمة تفويتها... 197

تفصيل القول في القدرة الشرعية... 198

الكلام في وجوب التعلم ، وما يظهر من الشيخ (رحمه اللّه) من ادراج المقام في باب المقدمات المفوتة ،

ص: 591

والاشكال عليه... 204

التفصيل بين ما تعم به البلوى ومالا تعم... 206

في كيفية فعلية وجوب الصوم... 208

ضعف ابتناء المسألة على الشرط المتأخر والواجب المعلق... 209

في كيفية فعلية وجوب الصلاة... 212

حكم صورة الشك في أن المشروط هو الوجوب؟ أو الواجب؟... 213

بيان ما قيل في المقام : من تقديم تقييد المادة على تقييد الهيئة ، والإيراد عليه... 213

بيان ما ذكره الشيخ (رحمه اللّه) من الوجهين لرجوع القيد إلى المادة... 215

في الواجب النفسي والغيري وتعريفهما

فيما يقتضيه الأصل اللفظي عند الشك في المسئلة... 220

تحقيق ان الشك في الوجوب الغيري له اقسام ثلاثة ولكل حكم يخصه... 222

في استحقاق الثواب والعقاب على فعل الواجب الغيري وتركه... 224

في الطهارات الثلث والاشكال على ترتب الثواب عليها وقصد التعبد بها... 226

الإشارة إلى ضابط تبدل الأحكام بعضها مع بعض... 229

بعض الفروع المتعلقة بباب الطهارات... 231

في الواجب التعييني والتخييري

في الواجب التعييني والتخييري الوجوه الأربعة التي ذكروها لتصوير الواجب التخييري... 232

تصوير التخيير بين الأقل والأكثر... 235

في الواجب العيني والكفائي

تحقيق ان البحث فيه هو البحث في الواجب التخييري... 235

في الواجب الموقت

مقتضى القاعدة في الفائت الموقت... 236

ص: 592

في ما يقتضيه دليل القضاء... 237

هل يمكن احراز ( الفوت ) الذي أخذ موضوعا في دليل القضاء باستصحاب عدم الفعل في الوقت؟ 239

إشارة إجمالية إلى مسئلة المرة والتكرار والفور والتراخي

مباحث الإجزاء وذلك في مقامات

المقام الأول : في اقتضاء الإتيان بمتعلق كل أمر للإجزاء عن نفس ذلك الأمر عقلا... 241

مسئلة تبديل الامتثال وتحقيق القول فيه... 242

المقام الثاني : في اقتضاء المأتي به بالأمر الثانوي للإجزاء بالنسبة إلى القضاء في خارج الوقت 243

تحقيق اجزاء الأمر الثانوي بالنسبة إلى الإعادة في الوقت عند زوال العذر... 245

المقام الثالث : في اقتضاء المأتي به بالأمر الظاهري الشرعي للإجزاء عن الأمر الواقعي عند انكشاف الخلاف ، والبحث فيه يقع من جهات... 246

الجهة الأولى : في اقتضاء مؤدى الطرق والأمارات في باب الأحكام الكلية الشرعية للإجزاء عند انكشاف الخلاف قطعا 246

الجهة الثانية : في اقتضاء مؤدى الأمارات في باب الموضوعات للإجزاء عند انكشاف الخلاف قطعا 248

الجهة الثالثة : في اقتضاء مودي الأصول العملية الشرعية للإجزاء ، واختيار بعض الأعلام الإجزاء في المقام بنحو الحكومة 248

أربع اشكالات للأستاذ على الحكومة في هذا المقام... 249

الجهة الرابعة : في اقتضاء المأتي به بالأمر الظاهري الشرعي للإجزاء عند انكشاف الخلاف ظنا ، كموارد تبدل الاجتهاد والتقليد... 251

تحقيق عدم الفرق بين انكشاف الخلاف قطعا وبين انكشافه ظنا ، وان مقتضى القاعدة في جميع ذلك عدم الإجزاء 252

ص: 593

بيان ما قيل : من أن القاعدة تقتضي الإجزاء لوجوه ثلاثة وهي : 1 - لزوم العسر والحرج 2 - عدم ترجيح الاجتهاد الثاني على الاجتهاد الأول 3 - ان المسئلة الواحدة لا تتحمل اجتهادين... 256

نقل الاجماع على الإجزاء ، والاشكال عليه... 259

تحقيق عدم اقتضاء الأمر الظاهري العقلي للإجزاء... 259

في مقدمة الواجب

تحقيق كون البحث فيها من المسائل الأصولية... 261

بيان المراد من الوجوب المبحوث عنه في المقام... 262

في تقسيمات المقدمة... 263

الاستشكال في مقدمية الأجزاء ، ودفعه من الشيخ قدس سره بان الكل عبارة عن الأجزاء لا بشرط ، والجزء عبارة عنه بشرط لا 264

تحقيق ان قياس المقام بالهيولي والصورة والجنس والفصل في غير محله... 265

حاصل ما افاده الأستاذ في تصوير الغيرية بين الأجزاء والكل... 267

عدم كفاية الغيرية اللحاظية لدخول الأجزاء في محل النزاع... 268

بيان ما قد يقال : بخروج العلة التامة عن محل النزاع... 269

التفصيل بين العناوين التوليدية والمسببات التوليدية : بخروج الأول عن محل النزاع ودخول الثاني فيه 269

تقسيم المقدمة إلى العقلية والعادية والشرعية... 271

تقسيمها إلى المقارنة والمتقدمة والمتأخرة المعبر عنها بالشرط المتأخر... 271

تحرير محل النزاع في الشرط المتأخر

في الفرق بين القضايا الحقيقية والخارجية... 276

رد ما صنعه في الكفاية والفوائد : من ارجاع الشرط المتأخر إلى الوجود العلمي وإلى عالم اللحاظ 278

فساد ما يتوهم : من أن امتناع الشرط المتأخر إنما يكون في التكوينيات دون الاعتباريات

ص: 594

والشرعيات... 280

أحسن ما قيل في المقام من الوجوه ، والايراد عليه من جهة الاثبات... 281

تحقيق ارجاع الشرط في باب المركبات الارتباطية ( كالصوم ) إلى عنوان التعقب... 281

عدم صحة الارجاع إلى عنوان التعقب في باب الإجازة في البيع الفضولي... 282

تحقيق وجوب المقدمة ، ومقايسة إرادة الآمر بإرادة الفاعل... 284

في بيان معروض الوجوب في باب المقدمة

الاشكال على ( صاحب المعالم ) حيث جعل إرادة ذي المقدمة من قيود وجوب المقدمة... 286

النظر فيما اختاره الشيخ : من جعل قصد التوصل إلى ذيها من شرائط وجود المقدمة... 287

فساد ما افاده ( صاحب الفصول ) من اعتبار نفس التوصل... 290

فساد ما سلكه الشيخ (رحمه اللّه) وغيره ، حيث جعلوا نتيجة امتناع التقييد هو الاطلاق... 294

بيان الفرق بين الاطلاق والتقييد في المقام وبين الاطلاق والتقييد في مسئلتي اعتبار قصد القربة والعلم بالأحكام 295

الإشارة إلى تابعية خطاب المقدمة لخطاب ذي المقدمة في الاهمال ، بالنسبة إلى حصول ذيها وعدم حصول ذيها 295

حل الاشكال بالخطاب الترتبي... 296

بيان الثمرات التي رتبوها على وجوب المقدمة

الثمرة الأولى : فساد العبادة إذا كانت ضدا لواجب أهم... 296

الاشكال على الثمرة أولا : بأن ترك أحد الضدين ليست مقدمة لفعل الضد الآخر ، وثانيا : بأنه لا يتوقف فساد العبادة على وجوب تركها من باب المقدمة... 296

إنكار ( صاحب الفصول ) هذه الثمرة على طريقته : من القول بالمقدمة الموصلة ، واشكال الشيخ (رحمه اللّه) عليه 297

ايراد ( صاحب الكفاية ) على اشكال الشيخ (رحمه اللّه)... 298

في بيان ساير ما ذكر من الثمرات لوجوب المقدمة وردها ، وهي :... 298

ص: 595

1 - برء النذر بإتيان مقدمة الواجب عند نذر الواجب

2 - حصول الفسق عند ترك واجب له مقدمات عديدة

3 - صلاحية التعبد بها بناء على وجوبها

4 - عدم جواز أخذ الأجرة عليها على القول بالحرمة

5 - ما نسب إلى ( الوحيد البهبهاني ) من لزوم اجتماع الأمر والنهي فيما إذا كانت المقدمة محرمة 298

تحقيق انه لا أصل في وجوب المقدمة عند الشك ، لا من حيث المسئلة الأصولية ، ولا من حيث المسئلة الفقهية 300

القول في اقتضاء الأمر بالشيء النهى عن ضده

تحقيق ان المسئلة من المسائل الأصولية ، وانها من الملازمات ، وبيان المراد من الاقتضاء... 301

المقام الأول : في اقتضاء الأمر النهى عن ضده بمعنى النقيض ، وبيان كيفية الاقتضاء... 302

المقام الثاني : في اقتضاء الأمر للنهي عن ضده الوجودي سواء كان الضد الخاص أو القدر المشترك بين الأضداد الوجودية 303

استدلال القائل بالاقتضاء ، باستلزام وجود الضد المأمور به لعدم الضد الآخر ، والاشكال عليه 303

تحقيق الفرق بين الضدين لا ثالث لهما والأضداد الوجودية ، واختيار الاقتضاء في الضدين بالملازمة العرفية 304

استدلال القائل بالاقتضاء ، بالمقدمية... 306

الإشارة إلى مسئلة مقدمية ترك أحد الضدين للآخر وبيان الأقوال في هذه المسئلة... 306

بيان المراد من المانع ، واثبات تأخر رتبته عن المقتضى والشرط ، وما يتفرع عليه : من عدم امكان مانعية وجود أحد الضدين للآخر... 307

بيان ما يرد على المقدمية : من لزوم الدور ، وما أجيب عن هذا الدور بوجوه... 309

في انكار المقدمية من الطرفين ، واندفاع شبهة الكعبي... 311

في بيان ثمرات النزاع ، والعمدة منها فساد الضد إذا كان عبادة ، وما عن البهائي (رحمه اللّه) من انكار

ص: 596

هذه الثمرة... 312

ما حكى عن ( المحقق الكركي ) من المنع من اطلاق مقالة ( البهائي ) وتخصيص ذلك بمزاحمة الواجب المضيق لواجب آخراهم... 312

الاشكال على ما افاده المحقق الثاني (رحمه اللّه)... 314

تحقيق كفاية الملاك في صحة المزاحم... 315

تفصيل الكلام في التزاحم والتعارض والتقديم والترجيح فيهما

المقام الأول : في الفرق بين التزاحم والتعارض وذلك في جهات... 317

الجهة الأولى : هي ان باب التعارض يرجع إلى تعاند المدلولين في مقام الثبوت... 317

الجهة الثانية : هي ان نتيجة تقديم أحد المتعارضين على الآخر ترجع إلى رفع الحكم عن موضوعه ، وفي باب التزاحم ترجع إلى رفع الحكم برفع موضوعه... 318

الجهة الثالثة : هي ان المرجحات في باب بالتعارض ترجع اما إلى الدلالة واما إلى السند ، وفي باب التزاحم فالمرجحات هي أمور أخر... 318

الجهة الرابعة : ان التزاحم انما يكون في الشرائط التي ليس لها دخل في الملاك بل كان من شرائط حسن الخطاب كالقدرة 319

رد ما في بعض الكلمات : من ارجاع باب التزاحم إلى تزاحم المقتضيين والتعارض إلى تعارض المقتضى واللا مقتضى 320

المقام الثاني : في منشأ التزاحم وهي أمور خمسة

1 - تضاد المتعلقين في مقام الامتثال في زمان واحد

2 - عدم قدرة المكلف على فعل كل من المتعلقين مع اختلاف زمانهما

3 - تلازم المتعلقين مع اختلافهما في الحكم

4 - اتحاد المتعلقين وجودا كما في موارد اجتماع الأمر والنهي

5 - صيرورة أحد المتعلقين مقدمة وجودية لمتعلق الآخر مع اختلافهما في الحكم إذا توقف انقاذ الغريق على التصرف في ملك الغير بغير رضاه... 320

المقام الثالث : في مرجحات باب التزاحم وهي أيضا أمور... 321

ص: 597

الأمر الأول : ترجيح مالا بدل له على ماله البدل عرضا

الأمر الثاني : ترجيح ما لايكون مشروطا بالقدرة الشرعية على ما يكون مشروطا بها... 322

الاشكال على التمسك بالاطلاق لا ثبات ان القدرة المأخوذة عقلية لا شرعية... 323

دفع الاشكال عن التمسك بالاطلاق... 325

المرجح الثالث : ترجيح مالا بدل له شرعا على ماله البدل شرعا... 327

فيما يتعلق بالمرجحات الثلاثة ، والمرجع عند فقدها... 328

في بيان تقديم المتقدم زمانا في المشروطين بالقدرة الشرعية الا في النذر ، وبيان خصوصيته 330

رد ما حكى في تصحيح عمل ( صاحب الجواهر ) حيث نذر زيارة الحسين علیه السلام يوم عرفة لئلا يتوجه عليه خطاب الحج 331

في ترجيح الأهم والمتقدم في المشروطين بالقدرة العقلية... 333

تحقيق انه لا معنى للتخيير في الطوليين المتساويين ، بل يتعين الاشتغال بالمتقدم ، وما يتفرع على القولين من الفروع 334

حكم ما إذا اتحد زمان امتثال المشروطين بالقدرة العقلية ، والإشارة إلى مسئلة الأهمية المستفادة من الأدلة 335

الترجيح بالأهمية انما هو بعد فقد المرجحات الثلاثة السابقة... 335

مسألة الترتب وتنقيح محل النزاع فيها

المسألة الأولى : في امكان الترتب في المتزاحمين الذين كان التزاحم فيهما لأجل تضاد المتعلقين و كان أحدهما أهما من الآخر. وتنقيح البحث يستدعى رسم مقدمات... 336

المقدمة الأولى : في ان الموجب لا يجاب الجمع بين الضدين هل هو نفس الخطابين؟ أو اطلاق الخطابين؟ فعلى الثاني تبتنى صحة الترتب وعلى الأول بطلانه... 336

بيان ما يترتب على القولين : من كون التخيير عقليا أو شرعيا في المتزاحمين المتساويين... 337

بيان ما يترتب على القولين من وحدة العقاب وتعدده عند ترك الضدين معا... 338

استغراب ما صدر عن الشيخ (رحمه اللّه) حيث إنه أنكر الترتب في الضدين الذين يكون أحدهما أهم ، ولكن التزم بالترتب من الجانبين في مبحث التعادل والتراجيح عند

ص: 598

التساوي وفقد المرجح... 338

المقدمة الثانية : في ان المشروط لا يصير مطلقا بتحقق شرطه... 339

المقدمة الثالثة : في تقسيم الشروط إلى ما لو حظ فيه الانقضاء و إلى ما لو حظ فيه المقارنة 341

في استحالة تخلف التكليف بالمضيق عن شرطه وامتثاله... 342

ما يرد على ( صاحب الكفاية ) حيث اعتبر سبق زمان التكليف على زمان الامتثال في جميع الواجبات 344

تحقيق ان ما يتوقف عليه الانبعاث بالصوم مثلا ، هو سبق العلم بالتكليف على أول الفجر ، لا سبق التكليف على الفجر 344

اثبات ان الانبعاث دائما يكون من البعث المقارن لا البعث السابق... 345

تحقيق انه على هذا التقدير لا يختص لزوم سبق التكليف بالمضيقات ، بل يلزم القول بذلك حتى في الموسعات 345

دفع بعض الاشكالات التي اشكلوها على الخطاب الترتبي ، منها : توقف صحة الخطاب الترتبي على صحة الواجب المعلق والشرط المتأخر ، وحيث ثبت بطلان كل منهما في محله ، فيلزم بطلان الخطاب الترتبي... 346

المقدمة الرابعة : في أنحاء الإطلاق والتقييد ، وهي ثلاثة :

1 - ان يكون انحفاظ الخطاب بالإطلاق والتقييد اللحاظي.

2 - ان يكون انحفاظ الخطاب بنتيجة الاطلاق والتقييد.

3 - ما كان انحفاظ الخطاب لا بالاطلاق والتقييد اللحاظي ولا بنتيجة الاطلاق والتقييد ، وذلك بالنسبة إلى كل تقدير يقتضيه نفس الخطاب... 348

بيان الفرق بين الوجه الثالث والوجهين الأولين... 350

بيان ما يترتب على الفرق المذكور : من طولية الخطابين وخروجهما من العرضية... 351

بيان ما يترتب على المقدمات... 352

المقدمة الخامسة : في انقسام موضوعات التكاليف وشرائطها إلى ما لا يمكن ان تنالها يد الوضع والرفع التشريعي ، وإلى ما يمكن ان تناله ذلك... 352

ص: 599

في ان الخطاب تارة يكون بنفس وجوده رافعا لموضوع خطاب آخر ، وتارة يكون بامتثاله رافعا ومسألة الأهم والمهم من هذا القبيل... 354

حكم مالا تناله يد الوضع والرفع التشريعي ، وهو انه يقتضى ايجاب الجمع إذا كانا مطلقين و مقدورين ، وعدم امكان الجمع إذا كان أحدهما أو كل منهما مشروطا بعدم الآخر... 355

حكم ما إذا كان قابلا للرفع والوضع ولكن الخطاب المجامع لم يكن متعرضا لموضوع الآخر ، فالكلام فيه هو الكلام في السابق... 356

تحقيق انه لا أثر لقدرة المكلف على رفع الموضوع إذا استلزم إيجاب الجمع محذورا ، وان قبح التكليف بما لا يطاق إنما هو بالنظر إلى المتعلق لا بالموضوع... 356

حكم ما إذا كان أحد الخطابين متعرضا لموضوع خطاب آخر ورافعا له بنفس الخطاب... 357

حكم ما إذا كان أحد الخطابين بامتثاله وإتيانه رافعا لموضوع الآخر... 357

التنبيه على بعض الفروع الفقهية التي لا محيص للفقيه عن الالتزام بالترتب فيها... 357

في معنى الجمع وما يوجب الجمع... 359

في استحالة اقتضاء الخطاب الترتبي لايجاب الجمع في كل من طرف الطلب والمطلوب... 360

في ان الأمر الترتبي لا يعقل اقتضائه لا يجاب الجمع وذلك لوجوه ثلاثة... 361

ايراد بعض الاشكالات التي تختلج في الذهن بلسان ( ان قلت ) والجواب عن كل واحد منها 362

التنبيه على أمور ترتبط بالمقام

الأمر الأول : في امتناع الأمر الترتبي في المتزاحمين الذين كان أحدهما مشروطا بالقدرة الشرعية الأمر الثاني : في امتناع الأمر الترتبي فيما إذا لم يكن التكليف المترتب عليه واصلا إلى المكلف ، وما يتفرع عليه : من عدم صحة تصحيح عبادة تارك الجهر أو الإخفات والقصر أو الاتمام بالخطاب الترتبي... 368

تقرير الأمر الثاني ببيان آخر... 370

تحقيق عدم جريان الخطاب الترتبي في الجهر والاخفات والقصر والاتمام ببيان آخر ، وهو ان

ص: 600

التضاد في المسئلتين دائمي فتخرجان بذلك عن باب التزاحم وتدخلان في باب التعارض... 371

تحقيق عدم جريان الخطاب الترتبي في الجهر والاخفات ببيان ثالث ، وهو لزوم تحصيل الحاصل في الضدين الذين لا ثالث لهما 372

الأمر الثالث : تقرير جريان الخطاب الترتبي في الموسع والمضيق ، كالصلاة والإزالة... 373

الأمر الرابع : في الاشكال على الترتب فيما إذا كان امتثال المترتب تدريجي الوجود - كالصلاة - وكان لعصيان المترتب عليه استمرار وبقاء - كأداء الدين - بأنه يتوقف الأمر المترتب بالشرط المتأخر... 374

الجواب عن الاشكال بأن هذا ليس اشكالا مخصوصا بالأمر الترتبي بل يطرد في جميع الأوامر التي تتعلق بعدة اجزاء متدرجة في الوجود... 376

جواب حلى عن الاشكال المطرد في جميع المركبات... 376

في بيان ان الأمر الترتبي قد يحدث في اثناء العمل ، وربما ينعكس الأمر بحيث يكون الأمر المترتب مترتبا عليه 377

فيما حكى عن ( صاحب الفصول ) في مسئلة الاغتراف من الآنية المغصوبة : من القول بصحة الوضوء بالأمر الترتبي ، والجواب عنه... 378

المسئلة الثانية : فيما إذا كان التزاحم ناشئا عن قصور قدرة المكلف على الجمع بينهما من دون ان يكون هناك تضاد في المتعلقين... 380

تحقيق ان الخطاب الترتبي في هذه المسئلة مما لا يمكن ولا يعقل... 380

في امتناع الترتب بين المتقدم وحفظ القدرة للمتأخر ، للزوم طلب الحاصل أو طلب الممتنع ، وبطلان قياس هذه المسئلة بمسألة الصلاة والإزالة... 381

المسئلة الثالثة : من مسائل الترتب ، هي ما إذ كان التزاحم واقعا بين المقدمة وذيها ، والكلام يقع في مقامين 383

المقام الأول : في المقدمة السابقة في الوجود على ذيها ، والكلام يقع فيها من جهات... 384

الجهة الأولى : في ان المقدمة المحرمة ذاتا لا تسقط حرمتها بمجرد كونها مقدمة لواجب الا إذا كان وجوب ذي المقدمة أهم ، ولا يتحقق التخيير في صورة التساوي

ص: 601

الجهة الثانية : في توضيح جريان الترتب في المقدمة المحرمة... 384

الجهة ثالثة : في دفع الاشكالين على جريان الترتب في المقدمة المحرمة وهما : اجتماع الوجوب والحرمة ، وتوقف الجريان على القول بالشرط المتأخر... 386

المقام الثاني : فيما إذا كانت المقدمة مقارنة بحسب الزمان لذيها... 389

اشكال استلزام اجتماع الوجوب والحرمة في زمان واحد في كل من طرف الأهم والمهم ، والجواب عنه 389

المسئلة الرابعة : فيما إذا كان التزاحم لأجل الملازمة بين المتعلقين ، والأقوى عدم جريان الترتب في ذلك لأنه يلزم منه طلب الحاصل... 392

المسئلة الخامسة : فيما إذا كان التزاحم لأجل اتحاد المتعلقين خارجا ، ولا يمكن جريان الأمر الترتبي فيه أيضا لأنه يلزم منه : اما طلب الممتنع واما طلب الحاصل... 392

المقصد الثاني في النواهي وفيه مباحث

المبحث الأول : في مفاد صيغة النهى... 394

المبحث الثاني : في اجتماع الأمر والنهي ، والبحث عنه يقع في مقامين... 396

تحرير المقامين المبحوث عنهما في مسئلة الاجتماع وهما : لزوم الاجتماع وعدمه ، وتأثير وجود المندوحة في رفع غائلة التزاحم وعدمه... 397

المقدمات المشتركة بين المقامين

منها : ان الظاهر كون المسئلة من المبادي الأصولية... 398

ومنها : ان متعلقات التكاليف انما هي المفاهيم والعناوين الملحوظة مرآة لحقايقها الخارجية 400

ومنها : ان العناوين والمفاهيم التي يكون بينها التباين الجزئي لا يعقل ان يتصادقا على متحد الجهة 402

في بيان النسب الأربع وان الحصر فيها عقلي... 403

في ان نسبة العموم من وجه لا يعقل ان تتحقق بين العنوانين الجوهريين... 404

ص: 602

ومنها : ان التركيب في العناوين الاشتقاقية اتحادي بخلاف التركيب بين المبادي فإنه يكون انضماميا 406

ومنها : ان التركيب الاتحادي يقتضى ان تكون جهة الصدق والانطباق فيه تعليلية ولا يعقل ان تكون تقييدية 408

ومنها : ان مورد البحث انما هو فيما إذا كان بين العنوانين العموم من وجه ، وذلك أيضا ليس على اطلاقه 410

ومنها : ان الحركة المقرونة للصلاة والغصب ليست معنونة بعنوانين وموجهة بهما... 412

ومنها : ان العناوين المجتمعة في فعل المكلف وما هو الصادر عنه - سواء كانت من العناوين المستقلة للحمل ، أو كانت من متعلقات الفعل ومتمماته ، أو اجتماع العناوين التوليدية مع أسبابها - بأقسامها الثلاثة تندرج في مسئلة اجتماع الأمر والنهي 415

ومنها : انهم قد بنوا المسئلة على كون متعلقات الأحكام هل هي الطبايع أو الأفراد؟ وقد أنكر بعض الأعلام هذا الابتناء ، والحق انه يختلف الحال في ذلك على بعض ونحوه تحرير النزاع ولا يختلف الحال على بعض الوجوه الأخر... 416

الأقوال في المسئلة ، وبيان ما استدل للجواز

منها : ما افاده المحقق القمي (رحمه اللّه) : من أن متعلقات الأوامر والنواهي هي الطبايع والفرد انما يكون مقدمة لوجودها 419

رد ما افاده المحقق القمي (رحمه اللّه) بوجوه ثلاثة... 420

ومنها : ان متعلقات الأحكام هي الصور الذهنية والصور الذهنية متباينة لا اتحاد بينها... 421

ومنها : ان الاجتماع انما يكون مأموريا لا آمريا ، وهذا الوجه هو المحكي المعتمد عليه في عصر ( شريف العلماء ) 421

ومنها : ان متعلقات الأحكام انما تكون هي الماهيات الواقعة في رتبة الحمل ، لا الواقعة في رتبة نتيجة الحمل 422

بيان أدلة المانعين. وعمدتها ما ذكره المحقق الخراساني (رحمه اللّه) الذي يتركب من مقدمات... 424

منع بعض المقدمات التي ذكرها المحقق الخراساني (رحمه اللّه)... 424

ص: 603

بيان الوجه المختار ، وهو عدم امكان اتحاد المقولتين وكون الترتيب فيهما انضماميا... 424

حاصل البرهان على الوجه المختار ، الذي يتركب من أمور بديهية... 427

الاشكال على ما افاده بعض الأعلام : من أن الفرق بين البابين انما هو باشتمال كل من الحكمين على المقتضى في باب اجتماع الأمر والنهي وعدم اشتمال أحدهما على ذلك في باب التعارض... 428

تنبيهات المسئلة

التنبيه الأول : في بيان ان الصحة عند الجهل مبنية على التزاحم والجواز. والاشكال على ما افاده الشيخ (رحمه اللّه) في المقام 429

في امتناع الحكم الاقتضائي الذي لا يصير فعليا أبدا... 432

التنبيه الثاني : في رد ما استدل للجواز بوقوعه في الشرعيات في مثل العبادات المكروهة... 434

البحث عن كيفية تعلق الكراهة بالعبادة ، وبيان المراد منها... 434

تحقيق بقاء اطلاق الأمر في العبادات المكروهة ، وان الكراهة لا تنافي اطلاق الرخصة في الأمر 435

الكلام فيما إذا تعلق النهى التنزيهي بعين ما تعلق به الأمر ، كصوم يوم عاشوراء والصلاة عند طلوع الشمس 438

هل وجود المندوحة يكفي في رفع غائلة التزاحم أو لا يكفي؟

في ان مقتضي ما تقدم عن المحقق الكركي ، هو كفاية وجود المندوحة في المقام أيضا. وبيان الفرق بين المقام وبين ما افاده المحقق (رحمه اللّه) وان هذا الفرق لايكون فارقا في المناط... 441

بيان فساد مبنى المحقق الكركي (رحمه اللّه)... 442

بيان عدم المنافاة بين القول بالجواز وعدم صحة الصلاة في المكان الغصبي في صورة العلم والعمد ، لبغضها الفاعلي 443

تحقيق أنه إذا كان كل من اطلاق الأمر والنهي شموليا تندرج المسئلة في باب التعارض وان

ص: 604

كان التركيب انضماميا... 443

في حكم صلاة المجوس في المكان المغصوب... 444

في حكم الخروج من المكان المغصوب وبيان الأقوال فيه... 446

في عدم اندراج المقام في قاعدة الامتناع بالاختيار... 449

في بيان حكم الصلاة حال الخروج عند ضيق الوقت... 452

في اقتضاء النهى عن العبادة أو المعاملة للفساد

بيان الفرق بين هذه المسئلة ومسألة اجتماع الأمر والنهي... 454

اثبات كون المسئلة من مسائل علم الأصول ، وانها ليست من مباحث الألفاظ بل من مباحث الملازمات العقلية للأحكام 454

في تحرير محل النزاع ، وبيان المراد من العبادة ، والمعاملة ، والفساد... 455

في بيان المراد من الصحة والفساد في محل البحث... 457

اشكال اتصاف المعاملات بالصحة والفساد ، وحله... 458

في كون الصحة والفساد انتزاعيين مطلقا... 460

في ان البحث عن اقتضاء النهى للفساد لا يتوقف على ثبوت مقتضى الصحة للمنهي عنه لولا النهى 461

تحقيق انه لا أصل في المسئلة بالنسبة إلى المسئلة الأصولية... 462

المقام الأول : في اقتضاء النهى عن العبادة للفساد... 463

وجوه تصوير النهى عن العبادة... 463

الإشارة إلى ما ربما يستشكل في تعلق النهى بالعبادة ، والجواب عنه... 463

تحقيق ان النهى المتعلق بالعبادة يقتضى الفساد مطلقا... 464

التنبيه على أمرين

الأول : في فساد العبادة مع الاضطرار أو النسيان ، والنظر في المحكى عن المشهور حيث حكى عنهم : لو اضطر إلى لبس الحرير والذهب في الصلاة صحت صلواته وكذا في صورة النسيان... 467

ص: 605

الثاني : في ان الحرمة التشريعية توجب فساد العبادة دون المعاملة... 469

المقام الثاني : في النهى عن المعاملة... 471

لا اشكال في كون النهى الارشادي موجبا لفساد المعاملة... 471

فيما يقتضيه النهى المولوي عن السبب والمسبب والأثر في المعاملات... 471

الاستدلال بالرواية على فساد المعاملة المنهية... 473

فساد ما حكى عن ( أبي حنيفة ) من دلالة النهى عن العبادة والمعاملة على الصحة... 474

المقصد الثالث في المفاهيم

مقدمة : في المفاهيم وتفسيرها ، وبيان ان النزاع في المقام انما يكون صغرويا... 476

الفصل الأول في مفهوم الشرط

الجهات التي تقع البحث فيها ( في القضية الشرطية )... 478

فيما يتوقف عليه ثبوت مفهوم الشرط... 479

في ان دلالة القضية الشرطية على ثبوت العلقة بين الشرط والجزاء وضعية ، ودلالتها على كون العلقة بينهما علقة الترتب وعلية الشرط للجزاء سياقية... 480

تقريب الاستدلال بمقدمات الحكمة ، لا ثبات كون الشرط علة منحصرة... 481

الاشكال على استفادة انحصار العلة من مقدمات الحكمة... 481

تقريب مقدمات الحكمة لاستفادة الانحصار بوجه آخر ، وهو اجراء المقدمات في ناحية الجزاء 482

تنبيهات المسئلة

الأول : في ان المراد من انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط ( المعبر عنه بالمفهوم ) هو انتفاء سنخ الحكم ونوعه لا شخصه 484

الثاني : في ان المفهوم يتبع المنطوق في جميع القيود المعتبرة فيه ، وانما التفاوت بينهما بالسلب والايجاب 485

ص: 606

اشكال منطقي على استفادة نجاسة الماء القليل من مفهوم قوله (عليه السلام) ( إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء ) والجواب عنه 485

الثالث : في تعارض المفهومين ، وتحقيق انه لا بد من الجري على ما يقتضيه العلم الاجمالي 486

الرابع : في تداخل الأسباب والمسببات... 489

بيان المراد ، من تداخل الأسباب والمسببات... 489

مقتضى الأصل الاعملى عند الشك في تداخل الأسباب أو المسببات بحسب الحكم التكليفي والوضعي 490

في ان الجزاء القابل للتعدد والقابل للتقيد بالسبب داخل في محل النزاع ، والجزاء الغير القابل للتعدد والتقيد خارج عن حريم النزاع... 491

تحقيق عدم ابتناء مسئلة التداخل على كون الأسباب الشرعية معرفات ، أو مؤثرات... 492

في بيان عدم التنافي بين القول بعدم التداخل وبين ما حكى عن المشهور : من القول بكفاية صوم يوم واحد في مثال ( صم يوما وصم يوما )... 492

في ان الأصل اللفظي يقتضى عدم تداخل الأسباب والمسببات... 493

في ان الجملة الشرطية في كونها انحلالية أظهر من اتحاد الجزاء في القضيتين... 494

اشكال : ان الجزاء لم يترتب بوجوده على الشرط حتى يمكن التعدد ، بل رتب من حيث حكمه - فان وجوده هو مقام امتثاله - والجواب عنه... 495

البرهان المحكى عن العلامة (رحمه اللّه) لعدم تداخل الأسباب الذي أتمه بمقدمات ثلث... 495

إشارة اجمالية إلى ما هو ضابط ومميز بين العلل للجعل وبين موضوعات المجعول... 496

تحقيق أصالة عدم التداخل في ناحية المسببات... 497

التنبيه على أمرين

الأول : في بيان موارد قيام الدليل على التداخل ، كموجبات الوضوء وبعض موجبات الكفارة ، وتوجيه التداخل في هذه الموارد... 498

الثاني : في بيان ارتباط مسئلة التداخل بمسألة القول بتعدد حقايق الأغسال - كما هو المشهور - والقول باتحادها ، كما هو المحكى عن الأردبيلي (رحمه اللّه)... 499

ص: 607

الفصل الثاني في مفهوم الوصف

تحرير عنوان البحث ، وتخصيص محل النزاع بالوصف المتعمد على الموصوف... 501

تحقيق عدم دلالة الوصف على المفهوم مطلقا... 502

مقايسة المقام بمسألة حمل المطلق على المقيد ، ورد هذه المقايسة... 502

في ان محل البحث هو فيما كان بين الموصوف والصفة عموم مطلق ، ويلحق به ما لو كان بينهما العموم من وجه مع الافتراق من جانب الموصوف لا الافتراق من جانب الوصف ، كالإبل السائمة... 503

الفصل الثالث في مفهوم الغاية

هل الغاية داخلة في المغيى أم لا؟... 504

تحقيق انه لا يمكن اثبات وضع ولا قرينة عامة في الدخول أو الخروج بل لا بد من قرينة خارجية خاصة ، والمرجع عند الشك هو الأصول العملية... 504

الظاهر ان الغاية قيد للحكم فيقتضى المفهوم... 505

الفصل الرابع في مفهوم الحصر

في ان مثل ( الا ) يفيد حصر الحكم في المستثنى منه واخراج المستثنى عنه بعد الاسناد ، ورد ما نقل عن ( نجم الأئمة ) 505

في ان النزاع في الحقيقة راجع إلى أن كلمة ( الا ) وصفية أو استثنائية؟ فعلى الأول : لا مفهوم لها ، وعلى الثاني : فثبوت المفهوم لها مسلم... 506

الاشكال في إفادة كلمة ( لا إله إلا اللّه ) التوحيد ، ودفعه... 508

في إفادة كلمة ( انما ) الحصر ، واحتياج ساير الأدوات بالقرائن الخاصة... 509

المقصد الرابع في العام والخاص

في بيان المراد من العموم... 511

ص: 608

في بيان الفرق بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية ، واندفاع الدور الوارد على الشكل الأول 511

في بيان اقسام العموم ، وان الأصل اللفظي الاطلاقي يقتضى الاستغراقية... 514

في ان العام المخصص ليس مجازا ، وبيان ما أفيد في وجه عدم استلزامه للمجازية... 516

حاصل ما افاده الأستاذ في وجه عدم المجازية... 517

رد توهم المجازية في التخصيص الأفرادي... 519

المناقشة في ما افاده الشيخ (رحمه اللّه) في وجه حجية العام فيما بقي بعد التسليم المجازية... 521

توجيه مقالة الشيخ بتقريب آخر... 522

في أقسام المخصص المجمل وحكم أصالة العموم فيها

حكم ما لو كان المخصص متصلا... 523

حكم ما لو كان المخصص منفصلا ودار أمره بين المتباينين... 523

حكم ما لو كان المخصص منفصلا ودار امره بين الأقل والأكثر... 524

في عدم صحة التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية للمخصص

دفع ما يتوهم : من صحة التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية إذا كان العام... 525

بصورة القضايا الخارجية... 526

في أن قياس الأصول اللفظية بالأصول العملية قياس مع الفارق... 528

بيان وجه حكم المشهور بالضمان عند تردد اليد بين كونها عادية أو غير عادية... 529

تحقيق جريان الأصل في الموضوعات المركبة ومنها يد المشكوكة... 530

بيان عدم جريان الأصل فيما كان التركيب من العرض ومحله ، لكون العدم فيه نعتيا... 532

في ضعف التفصيل الذي افاده المحقق الخراساني (رحمه اللّه) بين ما إذا كان دليل التقييد منفصلا أو كان من قبيل الاستثناء ، وبين ما إذا كان متصلا بالكلام على وجه التوصيف... 533

ص: 609

بيان ما تداول بين المتأخرين من جواز التمسك بالعام عند الشبهة المصداقية إذا كان المخصص لبيا 536

في ما يصح التمسك فيه بالعموم من المخصص اللبي... 536

في عدم صحة التمسك بالعمومات أو الأصول قبل الفحص

الوجهان العمدتان لوجوب الفحص ، في الأصول العلمية... 540

الوجهان العمدتان لوجوب الفحص في الأصول اللفظية... 540

الاشكال على العلم الاجمالي المقتضى للفحص ، على وجه يختص بالأصول العملية ، ودفعه بالانحلال الحكمي 541

تقرير الاشكال على وجه يشترك فيه البابان ، وهو انحلال العلم بعد الفحص والعثور على المقدار المتيقن من الأحكام والمقيدات والمخصصات ، فلا موجب للفحص التام... 543

دفع الاشكال : بان المعلوم بالاجمال هنا معلم بعلامة ( ما بأيدينا من الكتب ) فلا ينحل بالعثور على المقدار المتيقن من الأحكام... 543

الاشكال على ما لو جعل المدرك لوجوب الفحص ، كون دأب المتكلم وديدنه التعويل على المنفصلات ، والذب عنه 546

البحث عن مقدار الفحص ، وتحقيق انه يكفي في ذلك حصول الاطمينان وسكون النفس 547

في أن الخطابات هل تعم الغائبين والمعدومين أم لا؟

تحرير محل الكلام ، وتعيين جهة البحث هل انه عقلي أم لغوي؟... 548

في بيان ثمرة النزاع

تحقيق عدم ابتناء الثمرة على مقالة المحقق القمي (رحمه اللّه) حيث ذهب إلى حجية الظواهر بالنسبة إلى خصوص من قصد إفهامه 549

تفصيل الكلام بين القضية الحقيقية والخارجية بشمول الأولى للغائبين والمعدومين دون

ص: 610

الثانية... 550

في أن عود الضمير إلى بعض افراد العام يوجب التخصيص أم لا؟

بيان ما قد يقال : ان أصالة العموم معارضة بأصالة عدم الاستخدام... 552

تقرير عدم جريان أصالة عدم الاستخدام بوجوه ثلاثة... 552

في أن الاستثناء المتعقب لجمل متعددة ، هل يرجع إلى خصوص الجملة الأخيرة أو الجميع أو يقتضى التوقف؟

التفصيل بين ما إذا كانت الجمل المتقدمة مشتملة على الموضوع والمحمول وبين ما إذا حذف فيها الموضوع 554

في تخصيص العام بالمفهوم الموافق والمخالف

بيان معنى المفهوم الموافق... 555

في أن المفهوم الموافق يتبع المنطوق في التقدم على العام عند المعارضة... 556

الإشارة إلى الخلط الواقع في جملة من الكلمات في المفهوم المخالف... 557

تحقيق ان المفهوم المخالف مهما كان أخص مطلق من العام يقدم على العام ، ومهما كان بين المفهوم والعام العموم من وجه يعامل معهما معاملة العموم من وجه... 559

الوجهان الفارقان بين المفهوم المخالف والموافق... 560

بيان عدم صلاحية العام ان يكون قرينة على عدم كون القضية ذات مفهوم وان كان متصلا 560

في تخصيص العام الكتابي بالخاص الخبري... 561

المقصد الخامس في المطلق والمقيد

بيان معنى الاطلاق والتقييد ، والنظر في تعريف المطلق : بأنه ما دل على شايع في جنسه في أن الاطلاق والتقييد كما يردان على المفاهيم الأفرادية كذلك يردان على الجمل

ص: 611

التركيبية ، وبيان الفرق بين اطلاق المفاهيم الأفرادية واطلاق الجمل التركيبية... 563

في خروج الأعلام والمعاني الحرفية والجمل التركيبية عن محل الكلام ، واختصاص البحث بالعناوين الكلية القابلة الصدق على كثيرين كأسماء الأجناس وما يلحق بها من العناوين العرضية... 564

في أن التقابل بين الاطلاق والتقييد ليس من تقابل السلب والايجاب ، فيدور أمره بين ان يكون من تقابل العدم والملكة أو من تقابل التضاد... 566

تحرير ما هو محل البحث فيما ينسب إلى المشهور وما ينسب إلى سلطان العلماء... 566

في انقسامات الماهية... 566

في بيان اللا بشرط القسمي ، والفرق بينه وبين المقسمي... 568

اشكال بعض المحققين على المشهور القائلين : بأن الاطلاق والإرسال جزء مدلول اللفظ ، بأنه يلزم ان يكون الإطلاق حينئذ كليا عقليا ، والجواب عنه... 570

في ان الكلى الطبيعي هو اللا بشرط القسمي... 571

في ان الحق هو كون أسماء الأجناس موضوعة بإزاء اللا بشرط المقسمي ، كما هو مقالة السلطان (رحمه اللّه) 572

في بيان احتياج الإطلاق إلى اعمال مقدمات الحكمة في موردين باعتبار كل من التقييد الأنواعي والتقييد الأفرادي 573

في بيان مقدمات الحكمة التي تتركب من عدة أمور

1 - ان يكون الموضوع مما يمكن فيه الإطلاق والتقييد وقابلا لهما.

2 - كون المتكلم في مقام البيان لا في مقام الإجمال وان لايكون الإطلاق تطفليا.

3 - عدم ذكر القيد من المتصل والمنفصل... 573

في أن عدم القدر المتيقن ليس من مقدمات الحكمة... 574

في أن التقييد لا يوجب المجازية على مسلك ( السلطان ) والمحققين من المتأخرين ، وانما تلزم بناء على مقالة المشهور : من كون الألفاظ موضوعة لللابشرط القسمي... 576

ص: 612

في حمل المطلق على المقيد ، والبحث عن ذلك يقع من جهات

الجهة الأولى : في أن المقيد بمنزلة القرينة فيقدم على المطلق الذي يكون بمنزلة ذي القرينة ، من غير ملاحظة أقوى الظهورين ، ومن غير فرق بين المتصل والمنفصل... 577

الجهة الثانية : في بيان صور ذكر السبب وعدمه في كل من المطلق والمقيد ، وأحكام كل من الصور الأربعة 579

الجهة الثالثة : في بيان أنحاء ورود المطلق والمقيد ، وتمييز ما يحمل منها مما لا يحمل... 581

تحقيق انه لا موجب لحمل المطلق على المقيد مطلقا إذا كان التكليف استحبابيا... 585

وصلى اللّه على محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة اللّه على اعدائهم اجمعين

10 شوال المكرم سنة 1404 ه-

ص: 613

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.