المؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الناشر: مؤسسة الامام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: 2
الموضوع : القرآن وعلومه
تاريخ النشر : 1425 ه.ق
ISBN (ردمك): 964-357-148-3
المكتبة الإسلامية
مفاهيم القرآن
تأليف: العلامة جعفر السبحاني
الجزء العاشر
يبحث عن العدل والامامة وحقوق أهل البيت عليهم السلام في القرآن الكريم وتاريخ التفسير
مؤسسة التاريخ العربي
بيروت - لبنان
ص: 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ص: 2
مفاهيم القرآن
تأليف: العلامة جعفر السبحاني
الجزء العاشر
يبحث عن العدل والامامة وحقوق أهل البيت عليهم السلام في القرآن الكريم وتاريخ التفسير
مؤسسة التاريخ العربي
بيروت - لبنان
ص: 3
جميع الحقوق محفوظة للناشر
الطبعة الأولی
1431 ه - 2010 م
مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
The Arabic History Publishing Distributing
العنوان الجديد
بيروت - طريق المطار - خلف غولدن بلازا - هاتف 01/540000 - 01/455559 - فاكس 850717 - ص. ب . 11/7957 Beyroth - Air port street - Golden plazza - Tel: 01/54000- 01455559 -7957/11 Fax: 850717 - p. o
ص: 4
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد اللّه الذي قام بالقسط في خلقه ، وعدل عليهم في حكمه ، والصلاة والسلام على من كلامه ، الفصل وحكمه ، العدل سيد المرسلين وأفضل النبييّن محمّد ، وآله الطاهرين الذين انتظم بهم عقد الإمامة وتزيَّنت بهم مسند الخلافة.
أمّا بعد :
لقد قام الإسلام على دعائم متينة وأُسس راسخة تمثَّلت في أُصول الدين الّتي من أبرزها التوحيد والمعاد والنبوة ، وهذا ما اتّفق عليه المسلمون بكافة طوائفهم ونحلهم ، فلا يدخل أحد في حظيرة الإسلام إلا إذا آمن بتوحيده سبحانه ذاتاً وفعلاً وعبادة ، وآمن بمعاده وانّه سبحانه يبعث من في القبور ، وآمن بنبوّة محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم وانّها الحلقة الأخيرة من نظام النبوة التي ترتبط بالسماء.
وثمة أُصول أُخرى وقعت مثاراً للجدل والنقاش من قِبَل الفرق الإسلامية فمنهم من عدّها من جوهر الدين وصميمه ، كما أنّ منهم من عدّها من فروع الدين ، وهذه كالإمامة والخلافة بعد الرسول فهي عند السنَّة من فروع الدين ، لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرع وجود إمام عادل ذي قوة وقدرة وصولة ، فتكون الإمامة كالمقدمة لهذه المسؤولة الخطيرة ، ومنهم من يعدّها من أُصول الدين لأنّهم يرون الإمامة منصباً إلهيّاً وانّ وظيفتها هي استمرار وظائف النبوة ، وإن
ص: 5
كانت النبوة منقطعة بارتحال الرسول لكن الوظيفة بعد باقية.
وكالعدل الّذي اتّفق المسلمون برمّتهم على وصفه سبحانه به ، ولكن اختلفوا في مفهوم العدل وحقيقته كما سيوافيك ، ولذلك نكرّس جلّ جهودنا على تبيين هذين الموضوعين متمثّلين بقول الصاحب بن عباد حيث يقول :
لو شُقّ عن قلبي يُرى وسطَه *** سطران قد خُطّا بلا كاتب
العدل والتوحيد في جانب *** وحبّ أهل البيت في جانب
ولّما كان بين الإمامة والتعرّف على أهل البيت عليهم السلام الذين طهرّهم اللّه ، صلة قويمة ، أثرنا فتح باب لبيان سماتهم وحقوقهم في القرآن الكريم.
ومّما تجدر الإشارة إليه انّ هذه الموسوعة تشكّل الحلقة الأخيرة من سلسلة مفاهيم القرآن ، فالواجب يحتّم علينا التنويه بالسير التاريخي للتفسير لدى الإماميّة ، وقد ذكرنا من ألوان تفاسيرهم وأسماء كتبهم ما سمح به الوقت ، فانّ الإحاطة بها رهن تأليف مفرد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
جعفر السبحاني
قم - مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
21 شوال 1420 ه
ص: 6
إنّ العقيدة الإسلامية تنقسم إلى قسمين :
الأوّل : ما يعرف بأُصول الدين.
الثاني : ما يعرف بأُصول المذهب.
ويراد من الأوّل ، الأُصولُ الَّتي اتّفق عليها عامة المسلمين ولم يخالف فيها أحد ، وفي الحقيقة تُناط تسمية الإنسان مسلماً بهذه الأُصول الثلاثة ، وهي كالتالي :
أ : التوحيد بمراتبه.
ب : المعاد.
ج : النبوة العامة والخاصة.
وهذه الأُصول الثلاثة قد أشبعنا البحث فيها ضمن أجزاء هذه الموسوعة ، بقي الكلام في القسم الثاني ، وهو ما يعبَّر عنه بأُصول المذهب ، التي هي عقيدة بعض المذاهب الإسلامية وهي اثنان :
أ : العدل
ب : الإمامة.
ص: 7
أمّا الأوّل : فيؤمن به الإمامية والمعتزلة ، ويخالفهما الأشاعرة ، وسوف يوافيك تفصيل البحث فيه.
وأمّا الثاني : فهو مما يتميّز به المذهب الإمامي الاثنا عشري عن سائر المذاهب ، كما سيوافيك.
وربما يُثار سؤال وهو أنّه كيف يمكن عدّ الأصل الأوّل من خصائص الإمامية والمعتزلة على الرغم من أنّ كافّة الطوائف الإسلامية تصف اللّه سبحانه بالعدل ، ولا نجد بين المسلمين من يقول بأنّ اللّه ظالم ليس بعادل ؟
والجواب : انّ ما ذكر صحيح ، وانّ جميع الفرق تصف اللّه سبحانه بأنّه عادل لا يجور ، غير أنّهم يختلفون في معنى « العدل » وكونه عادلاً لا جائراً.
فالإمامية والمعتزلة أصفقت على أنّ العدل له مفهوم واحد ، ومعنى فارد ، اتّفق عليه قاطبة العقلاء.
مثلاً : أخذ البريء بذنب المجرم ظلم يتنزّه عنه اللّه سبحانه ، وهكذا ، فكلّ ما حكم العقل بفعل انّه ظلم ، فاللّه سبحانه منزَّه عنه.
وعلى ذلك فالحكم بالعدل وتمييز مصاديقه وجزئياته ، وانّ هذا عدل وذاك ظلم كلّها ترجع إلى العقل.
وأمّا الأشاعرة فهم وان يصفون اللّه سبحانه بالعدل ، لكنّهم لا يحدّدون العدل ، بمفهوم واضح ، بل يوكلون ذلك إلى فعل اللّه سبحانه ، وانّ كلّ ما صدر منه فهو عدل ، وكلّ ما نهى عنه فهو ظلم ، وبذلك أقصوا العقل عن القضاء في ذلك المقام.
وبعبارة أُخرى : انّ الشيعة والمعتزلة يرون أنّ للعدل والظلم ملاكاً عند
ص: 8
العقل ، وبه يتميز أحدهما عن الآخر ، ويوصف الفعل بالعدل أو الظلم ، ولكن الأشاعرة ينكرون ذلك الملاك ، ويرون انّ أفعاله سبحانه فوق ما يدركه العقل القاصر.
ولذلك كلّ ما يصدر منه فهو عدل ، محتجّين بقوله سبحانه : ( لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) .(1)
وعلى ضوء ذلك يتبين أنّ وحدة الفرق الإسلامية في وصفه سبحانه بالعدل وحدة صورية ، وإلا فالملاك عند الفرقتين للعدل غير ملاكه عند الأشاعرة. فلو أمر سبحانه بتعذيب الأنبياء والأولياء والصدّيقين فهو عند الأشاعرة عدل لا مانع من صدوره عنه ، ولكنّه عند غيرهم أمر قبيح لا يصدر منه سبحانه. وهو وإن كان متمكناً من ذلك العمل وقادراً عليه لكن حكمته سبحانه تحول دون ارتكابه.
هذا كلّه حول العدل.
وأمّا الإمامة : فيثار حولها نظير السؤال السابق ، فالمسلمون قاطبة يؤمنون بأصل الإمامة وانّه لابدّ للمسلمين من إمام يأتمّون به ، ولكنّهم اختلفوا في خصوصياتها ، فهل الإمامة منصب إلهي كالنبوة لا يناله إلاّ الأمثل فالأمثل من الأُمة ، ولا يمكن الوقوف على القائم بأعباء الإمامة إلاّ من خلال نصبه سبحانه ؟
أو انّه منصِب بشري ومقام اجتماعي يقوم بأعبائه من تُعيّنه طائفة من الأُمّة ؟ وبذلك تختلف وجهة النظر في واقع الإمامة عند الطائفتين.
نبدأ الكلام في الأصل الأوّل من أُصول المذهب ، وهو العدل الإلهي.
ص: 9
ص: 10
ص: 11
ص: 12
1. ( شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) .(1)
2. ( ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) .(2)
3. ( إِنَّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ) .(3)
4. ( فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) .(4)
5. ( وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا ) .(5)
6. ( وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ ) .(6).
ص: 13
وقبل أن نخوض في تفسير الآيات ، نشير إلى مقدمة ، وهي :
إنّ العدلية تصف اللّه سبحانه بالعدل بالمعنى المتفق عليه بين العقلاء ، وبرهانها على ذلك هو انّ العقل قادر على تمييز الحسن عن القبيح ، والعدل عن الظلم ، واللّه سبحانه بما انّه حكيم لا يجور أبداً ، فهاهنا دعويان :
الأُولى : انّ العقل له القابلية على تمييز الحسن عن القبح ، وانّ التحسين والتقبيح من الأُمور المنوطة بقضاء العقل.
الثانية : إذا تبيَّن أنَّ العدل حسن والظُّلم قبيح فاللّه سبحانه موصوف بالعدل ، نزيه عن فعل الظلم. وإليك بيان كلا الدعويين.
أمّا الدعوى الأُولى فتدلُّ عليها أُمور :
إنّ التحسين والتقبيح من الأُمور البديهيَّة التي يدركها كلّ إنسان سليم الفطرة ، فمثلاً يدرك انّ العمل بالميثاق حسن ، والتخلّف عنه قبيح ، أو انّ جزاء الإحسان بالإحسان جميل ، وجزاءه بالسيّء قبيح. وهكذا سائر الأفعال التي توصف بالحسن والقبح.
وموضوع قضاء العقل بالحسن والقبح هو نفس الفعل بما هوهو ، سواء أكان الفاعل واجباً أم ممكناً ، خالقاً أم مخلوقاً ، فيوصف الفعل من أي فاعل صدر بأحد الوصفين.
وبعبارة أُخرى : كما أنّ مسائل الحكمة النظرية تنقسم إلى نظرية وبديهية ، ويستنبط حكم الأُولى من الثانية ، ولذلك عدّوا مسألة امتناع اجتماع النقيضين أو
ص: 14
ارتفاعهما من المسائل البديهية في الحكمة النظرية.
فهكذا الأمر في الحكمة العملية فمسائلها تنقسم إلى بديهية وغير بديهية ، ويستنبط حكم الثانية من الأُولى.
والتحسين والتقبيح من المسائل البديهية في الحكمة العملية ، وقد حازتا على اهتمام واسع نظراً لدورهما في استنباط سائر مسائل الحكمة العملية.
ولأجل إيضاح المراد نقول : إنّ تحسين بعض الأفعال وتقبيحها من الأُمور البديهية للعقل ، ويدلّك على ذلك اتّفاق عامة العقلاء مع اختلاف ثقافاتهم وبيئاتهم على وصف أفعال بالحسن ، وأفعال أُخرى بالقبح ، نظير :
أ : حسن العدل وقبح الظلم.
ب : حسن العمل بالميثاق وقبح نقضه.
ج : حسن جزاء الإحسان بالإحسان وقبح جزائه بالسيّء.
د : حسن الصدق وقبح الكذب.
ه : حسن أداء الأمانة وقبح الخيانة بها.
إلى غيرها من الأُمور التي لا يختلف فيها اثنان ، وهذا يدل على أنّ تلك الأفعال موصوفة بالحسن والقبح بالبداهة ، وإلاّ لما اتفق عليه العقلاء كافة ، ولذلك قلنا : إنّ التحسين والتقبيح أمران عقليان.
لقد أنكرت الأشاعرة قابلية إدراك العقل حسنَ الأفعال وقبحها ، وذهبوا إلى أنّ القضاء بالتحسين والتقبيح بيد الشرع ، فكلّ ما أخبر بحسنه فهو حسن ،
ص: 15
وما أخبر بقبحه فهو قبيح ، ولكنّهم غفلوا عن أنّهم بإنكارهم قابلية العقل لإدراك الحسن والقبح ، أثبتوا عدم ثبوت الحسن والقبح مطلقاً حتى مع تصريح الشرع ، وذلك لأنّه إذا كان تمييز الحسن عن القبيح بيد الشرع دون العقل فإذا أخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بحسن شيء وقبحه ، فمن أين نعلم أنّه يصدق في أخباره ولا يكذب ، والمفروض انّ العقل عاجز عن درك حسن الأوّل وقبح الثاني ؟ فلا يصحّ إثبات حسن شيء أو قبحه من خلال تصريح الشارع ، إلاّ أن يثبت قبلاً انّ الصدق حسن والكذب قبيح ، ويثبت انّه سبحانه نزيه عن فعل القبيح ، ولولا هذان الأمران لذهب الإخبار بحسن الشيء أو قبحه سدى.
لو لم نقل بالتحسين والتقبيح العقليين يلزم عدم ثبوت شريعة من الشرائع السماوية ، حتى تثبت بها شريعة تحكم بحسن شيء أو قبحه ، وذلك لأنّ القائل بالتحسين والتقبيح العقليين ، يقول : إنّ حكمته سبحانه تصدّه عن تزويد الكاذب بالمعجزة ، فلو ادّعى رجل النبوة من اللّه وأتى بمعجزة عجز الناس عن مباراته ، فهي دليل على صدقه في دعوته.
وأمّا إذا أنكرنا قدرة العقل واستطاعته على درك الحسن والقبح ، لكان باب احتمال تزويد الكاذب بالمعجزة مفتوحاً على مصراعيه ، وليس هنا دليل يردّ هذا الاحتمال فلا يحصل يقين بصدق دعواه.
وهذه الأدلّة الثلاثة التي سردناها على وجه الإيجاز ، تُشرف القارئ على القطع بأنّ العقل له المقدرة على درك الحسن والقبح. هذا كلّه حول الدعوى الأُولى.
ص: 16
وأمّا الدعوى الثانية وهي انّه بعد ما تبيَّن انّ العدل حسن ، والظلم قبيح ، فاللّه سبحانه موصوف بالعدل ومنزّه عن الظلم ، وذلك ، مضافاً إلى أنَّه سبحانه حكيم ، والحكيم يعدل ولا يجور - أنّ الجور رهن أحد أمرين ، إمّا الجهل بقبح العمل ، أو الحاجة إليه ، والمفروض انتفاء كلا المبدأين عنه سبحانه.
وربما يقال إنّ كون الشيء حسناً أو قبيحاً عند الإنسان لا يلازم كونه كذلك عند اللّه ، فكيف يمكن استكشاف انّه سبحانه لا يفعل القبيح ؟
والجواب عنه واضح لأنّ المدرَك للعقل هو حسن الفعل على وجه الإطلاق ، أو قبحه كذلك ، من دون أن تكون للفاعل مدخلية فيه سوى كونه فاعلاً مختاراً ، وأمّا كونه واجباً أو ممكناً فليس بمؤثرٍ في قضاء العقل. وعلى ذلك فإذا ثبت كون الشيء جميلاً أو قبيحاً فهو عند الجميع كذلك.
يظهر من الآية الأُولى انّ عدله يعمُّ جميع شؤونه ، حيث يقول : ( شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ) (1) فقوله : « قائماً » حال من لفظ الجلالة ، في قوله : شهد اللّه ، أو الضمير المنفصل ، أعني : إلاّ هو.
والمتبادر منه أنّه سبحانه يجري العدل في عامة شؤونه في خلقه وتشريعه فهو عادل ذاتاً وفعلاً.
وتشهد على ذلك مضافاً إلى شهادته سبحانه به ، شهادة الملائكة وأُولي العلم ، فكأنّ الآية تنحل إلى الجمل التالية :
ص: 17
1. « شهد اللّه انّه لا إله إلا هو قائماً بالقسط ».
2. « شهدت الملائكة انّه لا إله إلا هو قائماً بالقسط ».
3. « شهد أُولو العلم انّه لا إله إلا هو قائماً بالقسط ».
فالآية تدلُّ على شهادته سبحانه على أمرين : (1)
الأوّل : لا إله إلاّ هو ، لا نظير له.
الثاني : انّه قائم بالقسط.
ومن المعلوم انّ الشهادتين ليستا من مقولة الشهادة اللفظية ، وإنّما هي من مقولة الشهادة التكوينية ، ففعله سبحانه في عالم الخلقة يدل على أمرين :
الأوّل : لا خالق ولا مدبّر إلاّ هو ، فانّ اتقان النظام ، وسيادته على جميع الكائنات من الذرّة إلى المجرّة ، لأوضح دليل على أنّ الخالق والمدبّر واحد ، وإلاّ لانفصمت عرى الانسجام والاتصال بين أجزاء الكون ، وقد أوضحنا في محلّه أنّ تعدّد العلة واختلاف السببين يستلزم اختلافاً في المسبب ، فلا يمكن أن يكون النظام الواحد معلولاً لفاعلين مدبّرين مختلفين في الحقيقة.
الثاني : يشهد فعله سبحانه في عالم التكوين والتشريع انّه سبحانه عادل وقائم بالعدل.
وأفضل كلمة قيلت في تعريف العدل هي ما روي عن علي عليه السلام ، حيث قال :
« العدل يضع الأُمور مواضعها ». (2)
ص: 18
بيان ذلك انّ لكلّ شيء وضعاً خاصاً يقتضيه إمّا بحكم العقل ، أو بحكم الشرع والمصالح الكلية في نظام الكون ، فالعدل هو رعاية ذلك الوضع وعدم الانحراف إلى جانب الإفراط والتفريط.
نعم موضع كلّ شيء بحسبه ، ففي التكوين بوجه ، وفي المجتمع البشري بوجه آخر ، وهكذا. وبلحاظ اختلاف موارده تحصل له أقسام ليس هنا مقام بيانها ، إلا أنّ العدل بالنسبة إلى اللّه تعالى على أنحاء ثلاثة :
1. العدل التكويني : وهو إعطاؤه تعالى كلّ موجود ما يستحقه ويليق به من الوجود فلا يهمل قابلية ، ولا يعطل استعداداً في مجال الإفاضة والإيجاد.
2. العدل التشريعي : وهو انّه تعالى لا يهمل تكليفاً فيه كمال الإنسان وسعادته ، وبه قوام حياته المادية والمعنوية الدنيوية ، والأُخروية ، كما أنّه لا يكلّف نفساً فوق طاقتها.
3. العدل الجزائي : وهو انّه تعالى لا يساوي بين المصلح والمفسد ، والمؤمن والمشرك ، في مقام الجزاء والعقوبة ، بل يُجزي كلّ إنسان بما كسب ، فيُجزي المحسن بالإحسان والثواب ، والمسيء بالإساءة والعقاب ، كما أنّه تعالى لا يعاقب عبداً على مخالفة التكاليف إلا بعد البيان والإبلاغ.
وبذلك تبيَّن معنى الآية ، وشهادته سبحانه على كونه قائماً بالقسط في جميع الأنحاء.
وأمّا شهادة الملائكة وأُولي العلم وذلك فبتعليم منه سبحانه.
وأمّا سائر الآيات التي أوردناها في صدر الفصل ، فهي غنية عن التفسير ، لأنّها بصدد بيان أنّ العذاب في الدنيا والآخرة رهن عمل الإنسان ، فلو عُذّب فإنّما
ص: 19
هو لأجل القبائح والذنوب التي اقترفها ، يقول سبحانه : ( ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) .(1)
وقال عزّ من قائل : ( فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) .(2)
واللّه سبحانه لا يظلم عباده ولو جاء العبد بحسنة يضاعفها ، كما قال سبحانه : ( وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ) .(3)
ولأجل إيضاح عدله سبحانه في عالم التكوين والتشريع نعطف النظر إلى آيات تدل على ذلك في الفصل التالي.
ص: 20
في عالم الخلق
آيات الموضوع
1. ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) .(1)
2. ( إِنَّ اللّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا ) .(2)
3. ( وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ المِيزَانَ ) .(3)
إنّ لعدله سبحانه مظاهر في عالم الخلق والتشريع ، وسنعرض في هذا الفصل مظاهر عدله في عالم الخلقة.
يقول سبحانه في هذا الصدد : ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) .
ص: 21
إنّ رفع صرح هذا البناء الشامخ دون الاستعانة بدعائم مرئيَّة يكشف عن تناغم دقيق في عالم الخلقة ، ولولاه لتداعت أركان العالم وانهارت ، وهذا النظام الرائع تقاسمته قوّتا الجاذبية والطاردة ( النابذة ) ، وفي ظلّ التعادل القائم بينهما انتظمت حركة النجوم والكواكب والمجرّات في مساراتها.
فالجاذبية قانون عام جار على جميع الأجسام في هذا العالم ، وهي تتناسب عكسياً مع الحدّ الفاصل بين الجسمين إذ تتعاظم كلما تضاءلت المسافة ، وتتضاءل كلما ازدادت الفاصلة ، فلو دارت رحى النظام الكوني الدقيق على قوة الجاذبية فقط لارتطمت الكواكب والنجوم بعضها مع بعض ولتداعى النظام السائد ، ولكن في ظل قانون الطرد يحصل التعادل المطلوب ، وقوة الطرد تلك تنشأ من الحركة الدورانية للأجسام.
ومهما يكن من أمر ففي ظل هاتين القوتين تبقى الملايين من المنظومات الشمسية والمجرّات معلّقة في الفضاء دون عَمَد ، وتحول دون سقوطها وفنائها ، وإلى هذه الحقيقة يشير القرآن الكريم ، ويقول : ( اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) . (1)
وتتضح دلالة الآية من خلال ملاحظة أمرين :
الأوّل : انّ قوله « ترونه » وصف ل « عَمَد » وهي جمع عمود.
الثاني : انّ الضمير في « ترونها » يرجع إلى الأقرب الذي هو « عمد » لا إلى السماوات التي هي أبعد ، ومعنى الآية أنّه سبحانه رفع السماوات من دون أعمدة مرئية ، وهو لا ينفي العمود بتاتاً ، بل وإنّما ينفي العمود المرئي ، ولازم ذلك وجود العمد في رفع السماوات من دون أن يراها البشر ، وهذا هو المعنى الذي اختاره ابن
ص: 22
عباس وغيره.(1)
وهو الظاهر مما رواه الحسين بن خالد ، عن علي بن موسى الرضا عليه السلام ، فإنّه عليه السلام قال في تفسير الآية : « أليس اللّه يقول : بغير عمد ترونها ؟ » فقلت : بلى ، قال : « ثمَّ عَمَد لكن لا ترونها ».
ويؤيده ما روي عن الإمام علي عليه السلام ، انّه قال : « هذه النجوم التي في السماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض ، مربوطة كلّ مدينة إلى عمود من نور ».(2)
ورواه الطريحي أيضاً لكن قال : « عمودين من نور » مكان قوله « عمود من نور ».(3)
ولعل المراد من العمودين هما قوتا الجاذبية والطاردة.
إنّ الكتاب الكريم صاغ الحقيقة المكتشفة من قبل « نيوتن » ، بعبارة يسهل فهمها على عامة الناس ، وقال : ( بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) .
وقد أشار سبحانه في غير واحد من الآيات ، أنّه سبحانه هو الممسك للسماوات من الزوال ، وقال : ( إِنَّ اللّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا ) .(4)
وكونه سبحانه هو المُمْسِك لا يمنع من وجود علل طبيعية حافظة لسقوط السماوات وزوالها ، فقد جرت سنّته سبحانه على تدبير العالم من خلال العلل الطبيعية التي هي من سننه سبحانه وجنوده الغيبية.
وأشار الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في غير واحد من خطبه إلى خلقة الأرض ، وقال : « أرساها على غير قرار ، وأقامها بغير قوام ، ورفعها بغير دعائم ».
وعلى كلّ تقدير فالتوازن الموجود في خلق السماوات والأرض هو مظهر من .
ص: 23
مظاهر عدله في عالم الخلقة.
وليس رفع السماوات وإبداعها وتنظيم حركاتها هو الوحيد في كونه مظهراً لعدله سبحانه في التكوين ، بل إبداع الجبال وإيجادها مظهر آخر من مظاهر التوازن والتعادل في الخلقة.
يقول سبحانه : ( وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ) .(1)
وقال سبحانه : ( وَالجِبَالَ أَوْتَادًا ) .(2)
إنّ الرواسي التي استخدمها القرآن جمع « راسية » ، والمراد منها الأََنجَر التي هي مرساة السفينة ، فللجبال دور المرساة ، فكما أنّها تحول دون اضطراب السفينة وتقاذفها من قِبل أمواج البحر العاتية ، فهكذا الجبال لها دور في تنظيم حركة الأرض.
وإلى هذا الحقيقة يشير الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في بعض خطبه ، ويقول : « وتّد بالصُّخُور مَيدان أَرضه ».(3)
وقال عليه السلام أيضاً : « وعدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها ».(4)
إنّ من مظاهر عدله سبحانه وجود الحياة في الأرض ، وهي رهن توفر
ص: 24
الظروف المناسبة لها ، مثلاً انّ الفاصلة الدقيقة بين الشمس والأرض هيّأت أجواءً مناسبةً لنمو ورشد الخلايا ، وهذه ما كان لها أن تنمو لو طرأ على تلك الفاصلة أدنى تغيير. وهذا يرشدك إلى توازن دقيق للغاية بين السماء والأرض.
واعطف نظرك إلى النباتات والحيوانات ، فانّ حياة الحيوان رهن استنشاق غاز الأوكسجين (O2) الذي تُولّده النباتات ، وحياة النبات رهن استنشاق غاز ثاني أوكسيد الكاربون (CO2) الذي تُولّده الحيوانات من خلال تنفّسها ، فالتوازن الموجود بين الإنتاج والاستهلاك مهّد المناخ المناسب لحياة كلّ من النبات والحيوان ، فلو كانت الأرض محتضنة للحيوان فقط أو للنبات فقط لما قامت للحياة قائمة.
فالتوازن القائم بين الغازين على وجه البسيطة مظهر من مظاهر عدله سبحانه ، يقول سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) (1).
ويزخر عالم النباتات والحيوانات بعدد لا حصر له من هذا النوع من التوازن والتعادل ، وها نحن نذكر نموذجاً آخر.
كان الملاّحون يعانون من مرض تشقّق الجلد وسيلان الدم منه ، وسببه يعود إلى قلة الفيتامينات في أبدانهم ، إلى أن اكتشف أحد الأخصائيين في « مدغشقر » أنّ علاجه الوحيد هو تناول وجبات كافية من الليمون والنارنج ، ففيها كمّيات هائلة من تلك الفيتامينات ، وبذلك نجا الملاّحون من هذا المرض الذي كانوا يعانون منه.
ص: 25
1. ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .(1)
2. ( وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) .(2)
3. ( وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) .(3)
4. ( وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ) .(4)
قد سبق انّه سبحانه وصف نفسه بقوله : ( قَائِمًا بِالْقِسْطِ ) ، وتلك الفقرة .
ص: 26
حاكية عن أنّه سبحانه قائم بأعباء القسط في جميع المجالات تكويناً وتشريعاً ، أمّا التكوين فقد وقفت على نماذج من التعادل الذي هو حجر الأساس لبقاء السماء والأرض واستقرار الحياة على وجه البسيطة.
بقي الكلام في مظاهر عدله في عالم التشريع ، ولنذكر نماذج من ذلك :
1. فرض سبحانه الصيام على كلّ مكلّف ، وقال : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) .(1)
وفي الوقت نفسه استثنى المريض والمسافر ومن يصوم ببذل الجهد الكبير ، قال سبحانه : ( فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) .(2)
فأوجب على المريض والمسافر القيام بأعباء هذا التكليف بعد استعادة صحته أو رجوعه إلى الوطن ، كما أنّه اكتفى فيمن يصوم ببذل جهد كبير كالهرم ، بالتكفير وإطعام مسكين.
2. لا شكّ انّ في القصاص حياة لأُولي الألباب ، وفي المثل المعروف : « إنّ الدم لا يُغسّله إلا الدم » ، ومع ذلك كلّه فقد أجاز لوليِّ الدم أن يسلك طريقاً آخر وهو إبدال القصاص بالدية ، فقد شرع ذلك ، وقال : ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ )(3)فالإصرار على أحد الحكمين ربما يولِّد الحرج ، فخيّر وليَّ الدم بين القصاص وأخذ الدية حتى يتبع ما هو الأفضل والأصلح لتشفِّي القلوب واستقرار الصلح في المجتمع.
ص: 27
3. لا شكّ انّ الربا من أعظم الجرائم وأكبرها ، كيف وقد وصف المرابي بالمحارب ، وقال : ( فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ )(1)ومع ذلك فإذا تاب المرابي من عمله فقد احترم ماله الذي اقترضه ، فعلى المقترض ردُّ رأس ماله فقط ، قال : ( وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) .
وفي الحقيقة هذه الفقرة أي ( لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) شعار كلّ مسلم في عامة المجالات وهو لا يَظلم ولا يتحمَّل الظلم.
4. حثَّ الناس على الإقراض وجعل أجره عشرة ، قال سبحانه : ( مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا )(2)وهو عام يعم كلّ حسنة ومنها الإقراض ، ومع ذلك كلّه فإذا عجز المقترض عن أداء قرضه وصار ذا عسرة أمر المقرض بالصبر حتى يستطيع المقترض من دفع دينه ، قال سبحانه : ( وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) .(3)
5. يأمر سبحانه المقرض والمقترض أن يكتبا سنداً للدين ، وفي الوقت نفسه يأمر الكاتب أن يكتب بالعدل من دون تحيّز إلى واحد من الطرفين ، يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ) .(4)
6. يأمر سبحانه من عليه الحق أن يُملي كما هو عليه ، من دون نقيصة ولا زيادة ، يقول سبحانه : ( وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ) .(5).
ص: 28
7. كما يأمر إذا كان من عليه الحقّ سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع الإملاء فليقم مكانه وليُّه وليملل بالعدل ، يقول سبحانه : ( فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ) . (1)
وباختصار : تتجلى في هذه الآية التي هي أطول آية وردت في القرآن الكريم مظاهر عدله في التشريع مرة تلو مرة ، وللقارئ الكريم أن يستشف منها ما ذكرناه من المعاني.
8. الطهارة من الحدث أحد شرائط صحّة الصلاة والصوم والحجّ ، وتحصل عن طريق استعمال الماء بكيفية خاصة متقرباً فيها إلى اللّه ، ولكن ربما يكون استعمال الماء مضرّاً بصحّة المتوضئ أو موجباً لبطء برء مرضه ، إلى غير ذلك من الاعذار فأوجب سبحانه التيمّم بالصعيد بدل استعمال الماء ، وهذا يدل على مرونة الإسلام في تشريعه وتعاطفه مع فطرة الإنسان التي ترغب في العافية وتنضجر عن كلّ ما يحول دونها ، قال سبحانه : ( وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) . (2)
فقوله : ( مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ ) يكشف اللثام عن وجه العدول من الطهارة المائية إلى الطهارة الترابية.
كما دلت الآيات القرآنية على استثنائه سبحانه طوائف ثلاث من الحضور
ص: 29
في ساحات الجهاد لأجل الحرج ، قال سبحانه : ( لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ ) .(1)
وفي آية أُخرى يُبيِّن بوضوح أنّ تشريعه خال من الحرج ، ويقول : ( مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (2). فكلّ حكم يتضمن الحرج فهو مرفوض بحكم أنّه حرجي ، وقد أخبر سبحانه عن عدم تشريع الحكم الذي في امتثاله حرج.
9. لقد شملت العناية الإلهية الأُمةَ الإسلامية من بين سائر الأُمم برفع النسيان والخطأ عنهم وعدم المؤاخذة عليهما ، في حين كانت الأُمم السالفة مسؤولة عن خَطاها ونسيانها إذا كانت مقصِّرة في مبادئ الخطأ والنسيان ، يقول سبحانه : ( رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) .(3)
روى الكليني عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم انّه قال : « إنّ هذا الدين متين ، فاوغلوا فيه برفق ولا تكرهوا عبادة اللّه إلى عباد اللّه ، فتكونوا كالراكب المنبتِّ الَّذي لا سفراً قطع ولا ظهراً أبقى ».(4)
فما أروع هذا التشبيه حيث إنّ الراكب المنبتِّ وإن كان يعدو بفرسه أميالاً عديدة بغية الوصول إلى غايته ، ولكنه بفعله هذا يُنتج عكس المطلوب حيث إنّ المركوب يُعْييه التعبُ ولا يكون بمقدوره الاستمرار في العدو ، ويبقى هو في وسط الطريق لا يهتدي إلى بغيته ، فهو لا سفراً قطع ولا ظهراً أبقى.
ص: 30
فهكذا الدعوة إلى الشريعة إذا كانت مقرونة بالشدة والضعف تنتج عكس المطلوب حيث لا تجد لها أُذناً صاغية ، بل يخرج الناس منها أفواجاً. ولأجل ذلك صدع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بسهولة شريعته ، وقال : « بعثت بالشريعة السهلة السمحة ».(1)
10. دلّت الآيات القرآنية على أنّ التكليف على القدر المستطاع وقد أطبق عليه العقل والنقل ، إذ كيف يمكن تكليف الناس بأعمال ، كإدخال الشيء الكبير في الظرف الصغير ، من دون تغيّر في الظرف والمظروف ؟ أو التحليق في الهواء دون وسيلة ، إلى غير ذلك من الأُمور الممتنعة التي تدخل في نطاق التكليف بما لايُطاق ، حتى أنّ محقّقي العدلية ذهبوا إلى أنّ هذا النوع من التكليف المحال ، بمعنى أنّه لا ينقدح في ذهن الآمر ، الطلب والإرادة الجدية المتعلِّقة ببعث العاجز إلى المطلوب ، ولو تظاهر به فإنّما تظاهر بظاهر التكليف لا بواقعه.
فتكون النتيجة : انّ امتناع المكلف به يلازم امتناع نفس التكليف أيضاً ، يقول سبحانه : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ) .(2)
وقال في آية أُخرى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا ) .(3)
ومضمون كلتا الآيتين واحد ، وهو أنّ اللّه يكلّف الإنسان بقدر طاقته وقابليته.
هذه نماذج استعرضناها لإثبات أنّ التشريع الإسلامي يتمتّع بمرونة ، وأنّه مبنيٌّ على أساس العدل.
وفي الحقيقة انّ التشريع الإسلامي من مظاهر عدله في هذا المجال.
ص: 31
ذهب لفيف من متكلّمي الإسلام - وللأسف الشديد - إلى جواز التكليف بما لا يطاق ، ولم يُصغوا لنداء العقل ولا الشرع ، بل أهالوا التراب على فطرتهم القاضية بعدم صحّة التكليف بما لا يطاق.
وقد اتَّخذوا ظواهر بعض الآيات ذريعة لعقيدتهم في هذا المجال ، وها نحن نستعرض تلك الآيات ونناقشها كي يتجلّى الحق.
1. ( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ) . (1)
استدل الإمام أبو الحسن الأشعري ( 260 - 324 ه ) على أنَّهم كانوا مكلَّفين بالسماع والإبصار ومع ذلك ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يُبصرون ، فدلّ على جواز التكليف بما لا يطاق.
وهذا الاستدلال يتبدَّد بالتوضيح التالي :
وهو أنَّهم وإن كانوا مأمورين مكلّفين بالسماع والإبصار ومع ذلك كانوا عاجزين عنهما لكن ذلك العجز لم يكن مقروناً بهم منذ بلوغهم وتكليفهم ، وإنّما أدّى بهم التمادي في المعصية إلى أن صاروا فاقدين للسمع والأبصار ، فقد سُلِبت عنهم هذه النعم بسوء اختيارهم نتيجة الذنوب التي اقترفوها ، فكان لهم قلوب لا يفقهون بها ، وآذان لا يسمعون بها ، يقول سبحانه : ( لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ
ص: 32
أَضَلُّ ) .(1)
إنّ التمادي في المعصية والإصرار عليها يترك انطباعات سيِّئة في القلوب على وجه يتجلّى الحسن سيّئاً والسيّء حسناً ، يقول سبحانه : ( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ) .(2)
فالآية تصرح بأنّ اقتراف الذنوب وارتكاب المعاصي ينجم عنه التكذيب بآيات اللّه.
فتحصل من ذلك أنّ عدم استطاعتهم للسماع والإبصار كان نتيجة قطعية لأعمالهم السيئة ، كما يقول سبحانه : ( وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ ) .(3)
2. ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الحَكِيمُ ) .(4)
استدلّ الإمام الأشعري بهذه الآية على جواز التكليف بما لا يطاق ، وقال : فقد أمروا بالإعلام وهم لا يعلمون ذلك ولا يقدرون عليه.
ولكن غاب عنه أنّ لصيغة الأمر معنى واحداً وهو إنشاء الطلب ، لكن الغايات من الإنشاء تختلف حسب اختلاف المقامات ، فتارة تكون الغاية من الإنشاء ، هي بعث المكلف نحو الفعل جداً ، وهذا هو الأمر الحقيقي الذي يُثاب فاعله ويُعاقب تاركه ، وتشترط فيه القدرة والاستطاعة ، وأُخرى تكون الغاية أُموراً
ص: 33
غيره ، وعند ذلك لا ينتزع منه التكليف الجدي ، وذلك كالتعجيز في الآية السابقة ، وكالتسخير في قوله سبحانه : ( كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ )(1)والإهانة مثل قوله : ( ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ )(2)، أو التمنّي مثل قول أمرئ القيس في معلّقته :
ألا أيُّها الليل الطويل ألا انجلي
بصُبحٍ وما الإصباحُ مِنكَ بأمثلِ
إلى غير ذلك من الغايات والحوافز التي تدعو المتكلم إلى التعبير عن مقاصده بصيغة الأمر وذلك واضح لمن ألقى السمع وهو شهيد.
3. ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ) .(3)
استدلّ بها الشيخ الأشعري على مقصوده ، وقال : إذا جاز تكليفه إياهم في الآخرة بما لا يطيقون ، جاز ذلك في الدنيا.
والحقّ أنّ الإمام الأشعري وأتباعه لا سيما الفطاحل منهم أجلُّ من أن يجهلوا هدف الآية ومغزاها ، إذ ليست الدعوة إلى السجود فيها عن جدّ وإرادة حقيقة ، بل الغاية من الدعوة إيجاد الحسرة في قلوب المشركين التاركين للسجود حال استطاعتهم في الدنيا ، والآية بصدد بيان أنّهم في أوقات السلامة والعافية رفضوا الانصياع والامتثال ، وعند العجز - بعد ما كشف الغطاء عن أبصارهم ورأوا العذاب بأُمّ أعينهم - همّوا بالسجود ولكن أنّى لهم ذلك.
وإليك توضيح الآية بمقاطعها الثلاثة :
أ : ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ) كناية عن اشتداد الأمر وتفاقمه ، لأنّ الإنسان
ص: 34
عند الشدة يكشف عن ساقه ويخوض غمار الحوادث.
ب : ( وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ ) لا طلباً وتكليفاً جدياً ، بل لازدياد الحسرة ، فلا يستطيعون ، إمّا لسلب السلامة عنهم ، أو لاستقرار ملكة الاستكبار في سرائرهم.
ج : ( وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ) والمعنى أنّهم لما دعوا إلى السجود في الدنيا امتنعوا عنه مع صحّة أبدانهم ، وهؤلاء يُدعون إلى السجود في الآخرة ولكن لا يستطيعون ، وما ذلك إلا لتزداد حسرتهم وندامتهم على ما فرَّطوا.
4. ( وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) . (1)
وقد استدل بها الشيخ الأشعري على ما يروم من جواز التكليف بما لا يطاق ، وقال : وقد أمر اللّه تعالى بالعدل ومع ذلك أخبر عن عدم الاستطاعة على أن يُعدل. (2)
أقول : لا شكّ أنّه سبحانه أمر من يتزوج بأكثر من واحدة بإجراء العدالة بينهنّ ، قال سبحانه : ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ) (3) وفي الوقت نفسه صرَّح في آية أُخرى بأنَّ إجراء العدالة بينهنّ ، أمر غير مقدور ، ومع ذلك نهى عن التعلّق بواحدة منهن والإعراض عن الأُخرى حتى تُصبح كالمعلّقة لا متزوجة ولا مطلقة.
وبالتأمل في الآية يظهر بأنّ العدالة التي أمر بها غير العدالة التي أخبر عن عدم استطاعة المتزوج القيام بها ، فالمستطاع منها هو الذي يقدر عليه كلّ متزوج بأكثر من واحدة ، وهو العدالة في الملبس والمأكل والمسكن وغيرها من الحقوق
ص: 35
الزوجية التي تقع على عاتق الزوج ويقوم بها بجوارحه ولا صلة لها بباطنه.
وأمّا غير المستطاع فهي المساواة في قسمة الحب بينهنّ لأنّ الباعث لها هو الوجدان والميل القلبي وهو ممّا لا يملكه المرء ولا يحيط به اختياره ، لأنّه رهن أُمور خارجة عن الاختيار.
قد مضى أنّ لعدله سبحانه مظاهر في التكوين والتشريع ، ومن مظاهر عدله في التشريع أنّه لا يساوي بين المطيع والعاصي ، والمسلم والمجرم ، والمؤمن والمفسد ، ولذلك صار يوم البعث مظهراً لعدله سبحانه بحيث لو لم يكن ذلك اليوم الموعود لما ظهر عدله في مجال الجزاء ، وبذلك أصبح يوم القيامة أمراً لا مفرّ منه لظهور عدله فيه ، وتشير آياتٌ كثيرة إلى هذا المضمون :
1. ( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) .(1)
2. ( أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) .(2)
وهاتان الآيتان تدلاّن على أنَّ التسوية بين الطائفتين على خلاف العدل ، فلا محيص من إحقاق الفرق ، وبما انّ الطائفتين يتعامل معهما في الدنيا على نحو سواء فلابدّ من تحقيقه في يوم ما وليس هو إلاّ يوم القيامة ، ويعرب عمّا ذكرناه قوله سبحانه : ( إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ
ص: 36
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ) .(1)
ثمّ إنّه سبحانه يحقّق عدله يوم القيامة بوضع موازين القسط ليجزي كلّ نفس بما كسبت ، يقول سبحانه :
( وَنَضَعُ المَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) .(2)
( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ) .(3)
هذه إلمامة عابرة لبيان مظاهر عدله في مجالات مختلفة ، والسابر في آيات القرآن الكريم يجد آيات كثيرة في مجال عدله سبحانه.
ص: 37
قد تعرفت على مظاهر عدله في التكوين والتشريع ، وحان البحث في بيان باقي المباحث التي لها صلة بالعدل الإلهي ، وهي تتمحور حول فاعلية الإنسان ، ونقاطها الرئيسية هي :
1. العدل الإلهي وحرية الإرادة الإنسانية.
2. العدل الإلهي وعلمه السابق بأفعال العباد.
3. العدل الإلهي والقضاء والقدر القطعيان.
4. العدل الإلهي وخلود العقاب.
وقد تناول الحكماء والمتكلّمون هذه الأبحاث من زوايا مختلفة واحتدم النقاش حولها ، وبما أنّ رائدنا في هذه البحوث هو القرآن الكريم فنحن نتناولها من ذلك الجانب ونترك جوانبها الأُخرى إلى الكتب المعدّة في هذا المجال.
ص: 38
البحث عن حرية الإرادة ، وأنّ الإنسان هل هو فاعل مجبور أو فاعل مختار ؟ من المسائل الفلسفية الّتي تمتد جذورها في تاريخ الفكر الإنساني ، ومنذ ذلك الحين اتجهت أنظار كافة الناس صوبها لأنّها تمسّ جانباً من حياتهم العملية ، وبذلك أصبحت دراسة تلك المسألة لا تقتصر على الحكماء فحسب بل شملت أكثر الناس.
إنّ الرؤية القرآنية تتلخص في أنّ الإنسان حرّ فيما شاء وأراد ، وهي تشطب بقلم عريض على مزعمة المشركين بتعلّق مشيئة اللّه سبحانه بعبادتهم الأوثان ولذلك صاروا مجبورين على الشرك. يقول سبحانه في ردّ تلك المزعمة : ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ ) . (1)
فهذه الآية تعكس لنا بوضوح جانباً من عقيدة المشركين في عصر الرسالة وانّهم كانوا يؤمنون بالجبر ، وإنّ كلّ ما يصدر منهم فهو خاضع لإرادته سبحانه إرادة سالبة للاختيار.
ويقول سبحانه في موضع آخر مبيّناً تلك العقيدة الفاسدة : ( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) . (2)
ص: 39
فإنّ الفقرة الأُولى من الآية تعكس عقيدة المشركين وأنّه لولا أمره ومشيئته لما كنّا مشركين ، لكن الفقرة الثانية تردُّ عليها ببيان أنّ الشرك ظلم وقبيح ، واللّه لا يأمر بهما ، وبالتالي لا تتعلق مشيئته بهما.
والعجب أنّ تلك العقيدة السخيفة لم تُجْتثّ بل بقيت عالقة في أذهان عدّة من الصحابة حتى بعد بزوغ نجم الإسلام.
روى السيوطي عن عبد اللّه بن عمر : انّه جاء رجل إلى أبي بكر ، فقال : أرأيت الزنا بقدر ؟
قال : نعم. قال : فإنّ اللّه قدّره عليّ ثمّ يعذِّبني ؟! قال : نعم يابن اللخناء ، أما واللّه لو كان عندي إنسان أمرته أن يجأ أنفك.(1)
وليس الخليفة الأوّل وحده ممن كان يحتج بالقدر السالب للاختيار ، بل كان غيره على هذه الفكرة. روى الواقدي عن أُم الحارث الأنصارية ، وهي تحدّث عن فرار المسلمين يوم حنين ، قالت : مرّ بي عمر بن الخطاب منهزماً ، فقلت : ما هذا ؟ فقال عمر : أمر اللّه.(2)
نرى أنّ عمر يلجأ إلى أمر اللّه وقضائه ، وأنّ الهزيمة كانت أمراً قطعياً لأنّه سبحانه شاءها وأرادها ، دون أن ينظر إلى سائر الأسباب التي حدت بهم إلى تلك الهزيمة.
لقد اتخذ الأمويون مسألة القدر أداة تبريرية لأعمالهم السيِّئة وكانوا ينسبون وضعهم بما فيه من شتى ضروب العيث والفساد إلى القدر ، قال أبو هلال العسكري : إنّ معاوية أوّل من زعم أنّ اللّه يريد أفعال العباد كلّها.(3).
ص: 40
ولأجل ذلك لما سألت أُمّ المؤمنين عائشة ، معاويةَ عن سبب تنصيب ولده يزيد خليفة على رقاب المسلمين فأجابها : إنّ أمر يزيد قضاء من القضاء وليس للعباد الخيرة من أمرهم. (1)
وبهذا الجواب أيضاً أجاب معاويةُ عبدَ اللّه بن عمر ، عندما استفسر من معاوية عن تنصيبه يزيد ، بقوله : إنّي أُحذِّرك أن تشقّ عصا المسلمين وتسعى في تفريق ملئهم ، وأن تسفك دماءهم وإنّ أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء وليس للعباد خيرة من أمره. (2)
وقد تسرّبت فكرة الجبر إلى أكثر الأوساط الإسلامية خصوصاً بين الشعراء وأصحاب الملاحم ، حيث راحوا يفسرون الوضع المزري الذي يعاني منه المسلمون بالقضاء والقدر. وسيوافيك أنّه لا صلة للقضاء والقدر بسلب الاختيار عن الإنسان.
إنّ الآيات القرآنية تصرّح باختيارية الإنسان وانّه فاعل مختار مسؤول عن عمله.
1. يقول سبحانه : ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ) . (3)
فالشاكر يسلك السبيل الذي أراده اللّه سبحانه له ، فيصل إلى الهدف المنشود ، بخلاف الكفور ، فيسلك غير هذا السبيل.
ص: 41
2. ( قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ) .(1)
ترى أنّ الآية تنسب الضلالة إلى نفس الإنسان ، والهداية إلى وحيه سبحانه إليه ، مع أنّ الهداية والضلالة كلّها من اللّه سبحانه ، وما هذا إلاّ لأنّه سبحانه قد هيّأ كافّة وسائل الهداية للإنسان منذ أنْ خُلِقَ إلى أن يُدرج في أكفانه ، وهي عبارة عن تزويده بفطرة التوحيد وتعزيزها ببعث الأنبياء والمرسلين ، والعقل السليم ، إلى غير ذلك من أدوات الهداية ، فمن انتفع بها فقد اهتدى ، فصحّ أن يقال : إنّ الهداية من اللّه لأنّه زوّد الإنسان بوسائلها ، ومن لم ينتفع بها فقد ضلّ فصحّ أن يقال ( إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي ) .
وبهذا المضمون قوله سبحانه : ( مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ) .(2)
3. ( وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) .(3)
ولا تجد في القرآن الكريم آية أكثر نصاعة في حرية الإنسان من هذه الآية ، وقد صبّ شهيدنا الثاني ( 909 - 966 ه ) مضمون هذه الآية ضمن بيتين ، حيث قال :
لقد جاء في القرآن آية حكمة *** تدمّر آياتِ الضلال ومن يُجبر
وتخُبر انّ الاختيار بأيدينا *** فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر
ص: 42
4. ( قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ) .(1)
5. ( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ) .(2)
6. ( كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ) .(3)
7. ( إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) .(4)
إلى غير ذلك من الآيات الدالَّة على أنّ الإنسان فاعل مسؤول عن أعماله ، حرّ في إرادته ، مختار فيما يكتسب.
وعلى ضوء هذا فمن حاول أن ينسب الجبر إلى القرآن فقد خبط خبطَ عشواء.
إنّ بعث الأنبياء ودعوة الناس إلى طريق الرشاد ، ونهيهم عن ارتكاب القبائح أوضح دليل على أنَّ الإنسان موجود قابل للإصلاح والتربية ، إذ لو كان مجبوراً على فعل المعاصي ، لكان بعث الأنبياء ودعوتهم أمراً سدى.
نعم الدعوة إلى حرية الإنسان وكونه فاعلاً مختاراً لا تعني أبداً انقطاع صلة الإنسان باللّه سبحانه وإرادته. لأنّ تلك الفكرة كفكرة الجبر باطلة تورد الإنسان في مهاوي الشرك والثنويّة التي ليست بأقلَّ ضرر من القول بالجبر.
فالتفويض بمعنى استقلال الإنسان في فعله وإرادته وكل ما يكتسب وخروجه عن سلطة اللّه سبحانه ، تفويض باطل كالقول بأنّه فاعل مجبور.
وقد أكّد أئمّة أهل البيت عليهم السلام على وهن تلك الفكرتين.
ص: 43
قال الإمام الصادق عليه السلام : « إنّ اللّه أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون ، واللّه أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد ».(1)
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام فسّر حرية الإنسان بهذا النحو : « وجود السبيل إلى إتيان ما أُمروا وترك ما نهوا عنه ».(2)
نعم التركيز على بطلان الجبر أكثر في الروايات من التصريح ببطلان التفويض.
قال الإمام الصادق عليه السلام : « اللّه أعدل من أن يجبر عبداً على فعل ثمّ يعذّبه عليه ».(3)
وسأل الحسن بن علي الوشاء الإمام الرضا عليه السلام : هل اللّه أجبر العباد على المعاصي ؟ فقال عليه السلام : « اللّه أعدل وأحكم من ذلك ».(4)
نعم موضوع الاختيار عبارة عن الأفعال التي يقوم بها الإنسان ، وأمّا الأُمور الخارجة عن حيطة الثواب والعقاب التي ربّما يبتلى بها الإنسان من حيث لم يشأ كالبلايا والمصائب والزلازل والسيول المخرّبة والأعاصير ، إلى غير ذلك فهي خارجة عن اختيار الإنسان ، فليس هو بالنسبة إليها لا فاعلاً جبرياً ولا فاعلاً بالاختيار.
هذه هي نظرة القرآن الكريم في أفعال الإنسان ، غير انّ هناك شبهات تذرَّعت بها بعض الفرق الإسلامية وحاولوا بذلك سلب الاختيار عنه ظناً منهم أنّهم بذلك يحسنون صنعاً.
ص: 44
دلّت البراهين العقلية كالنصوص القرآنية على أنّه سبحانه قائم بالقسط في جميع شؤونه ، بيد انّ ثمة شبهات أُثيرت حول الموضوع تنشد لنفسها حلولاً.
إنّ التوحيد الأفعالي يرشدنا إلى أنّ ما في الكون مخلوق لله سبحانه ، دون فرق بين الجواهر والأعراض ، وبين الإنسان وأعماله ، وهذا صريح الآيات التالية :
1. ( قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) . (1)
2. ( ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ... ) . (2)
3. ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللّهِ ) . (3)
فإذا لم يكن في صحيفة الوجود إلاّ خالق واحد لا شريك له في الخلق ، فكلّ
ص: 45
ما يصدر من الإنسان فهو مخلوق له وهو خالقه ، وهذا ما يعبّر عنه بالتوحيد في الخالقية.
ويستنتج منه أمران :
أ : إذا كان فعل الإنسان مخلوقاً لله سبحانه لا للإنسان فيكون مجبوراً في فعله لا مختاراً.
ب : إذا كان فعل العبد حسنُه وسيِّئه فعلاً لله سبحانه ومخلوقاً له ، فتكون المؤاخذة على أفعال العبد خلاف العدل والقسط ، لأنّ الخالق هو اللّه سبحانه والمَُجزيّ هو العبد ، مع أنّه لا دور له في فعله.
أقول : إنّما رتَّبوه على التوحيد في الخالقية يخالف الفطرة أوّلاً ، فانّها تشهد على حرية الإنسان في أفعاله ، ويخالف أهداف الأنبياء ثانياً. فإذا كان الإنسان مجبوراً فيما يفعل ويترك ، كان بعث الأنبياء ودعوتهم إلى الطريق المستقيم أمراً لغواً ، غير مؤثر في هداية الإنسان ، بل تعدُّ عامة القوانين الجزائية في الإسلام أمراً لغواً وظلماً في حقّ المرتكب ، لأنّه لم يقترف المعاصي والسيئات عن اختيار ، بل عن جبر وسوق من اللّه سبحانه إيّاه إلى العمل ، وهو تعالى هو الفاعل الخالق لأعمالهم ، لا العبدُ فيكون تعذيبه مصداقاً لقول الشاعر :
غيري جنى وأنا المعاقب فيكم *** فكأنّني سبّابة المتندِّم
لكنّ الأشاعرة مخطئون في تفسير التوحيد في الخالقية أو التوحيد الأفعالي الذي هو من المعارف الإسلامية التي صدع بها القرآن الكريم.
انّ التوحيد في الخالقية يُفسر بأحد تفسيرين :
أ : أنَّ كل ما في الكون من الظواهر الطبيعية والفلكية وغيرهما مخلوق لله
ص: 46
سبحانه مباشرة ، وبلا تسبيب سبب وتهيئة مقدمة وليس في صحيفة الكون إلاّ علة واحدة تقوم بجميع الأفعال ، وتنوب مناب العلل الطبيعية في كافة الموارد.
ب : إنَّ صحيفة الكون قائمة بوجوده سبحانه ومنتهية إليه ، غير انّه سبحانه خلق الأشياء من خلال نظام الأسباب والمسببات ، والعلل والمعلولات ، على وجه يكون للسبب والعلة دور في تحقّق المسبب والمعلول وإن كان ذلك بإذنه سبحانه.
وعلى ضوء ذلك فللعالم خالق واحد أصيل ، وعلّة واحدة قائمة بنفسها ، لكن تتوسط بينها وبين الظواهر الطبيعية والفلكية علل وأسباب مؤثرة في معاليلها ، قائمة بذاته سبحانه ، مؤثرة بأمره ، والجميع من سنن اللّه تبارك وتعالى.
أمّا التفسير الأوّل : فهو خيرة الأشاعرة الذين ينكرون العلل والأسباب الطبيعيَّة ولا يعترفون إلا بعلة واحدة ، وهي قائمة مقام عامة العلل المتصورة للطوائف الأُخرى ، ولكن هذا التفسير - وإن كان لأجل الغلو في التوحيد - يخالف نصوص القرآن الكريم ، فانّ الوحي الإلهي يذعن بعلل طبيعية مؤثرة في معاليلها ، وإليك بعضَ ما يدل على ذلك الأصل :
1. ( وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) . (1)
فالآية صريحة في تأثير الماء في اهتزاز الأرض وربوّها ، ثمّ إنباتها كلّ زوج بهيج ، فالأرض الهامدة كالجماد ، والذي يخرجها من هذه الحالة هو الماء ، يقول سبحانه : ( فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ ) فالاهتزاز والرباء والإنبات أثر الماء ولكن بإذنه سبحانه.
ص: 47
وجاء نفس المضمون في الآية التالية : ( وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) . (1)
والبيان نفس البيان فلا نطيل.
2. ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) . (2)
ترى أنّه سبحانه ينسب الإنبات إلى الحبة ، ويقول ( كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ ) وهو ظاهر في تأثير الحبة في ظهور السنابل ، وفي كلّ سنبلة مائة حبة ، وإن كان ذلك التأثير بأمره سبحانه ، حيث إنَّ الكلّ سُنَّة من سننه.
3. ( اللّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) . (3)
والآية صريحة في أنّ هناك عللاً طبيعيَّة مؤثرة في معاليلها التي منها إثارة الرياح السحاب ، فهي فعل الرياح ، كما هو صريح قوله ( فَتُثِيرُ سَحَابًا ) .
ثمّ إنّه سبحانه يستخدم السحاب المنثورة فيبسطها في السماء ، ويجعلها كسفاً ، أي قطعاً متفرقة ، فعند ذلك يخرج الودق من خلاله.
وعلى كلّ حال فالآية صريحة في وجود الصلة بين إرسال الرياح ، وإثارة السحاب ، وانبساطها في السماء ، وصيرورتها كسفاً التي تسفر عن خروج الودق من خلال السحاب ، كلّ ذلك مظاهر طبيعية وظواهر كونية يؤثر كل في الآخر
ص: 48
بإذن اللّه سبحانه ، والجميع من سننه الكونية والاعتراف بها اعتراف بقدرته وعلمه وحكمته وانّ الجميع من جنوده سبحانه الخاضعة لإرادته.
ومع هذه التصريحات كيف يمكن تفسير التوحيد في الخالقية بالمعنى الأوّل ، ورفض كلّ تفسير ضمني وتبعي لغيره سبحانه ؟!
والذي يدل على ذلك انّه سبحانه ينسب عمل الإنسان إليه ، ويقول :
( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ ) .(1)
( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ) .(2)
( وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ) .(3)
ففي هذه الآيات ينسب عمل الإنسان إليه ويرى أنّ له دوراً في مصيره ، ويرى أنّه ليس لكلّ إنسان إلاّ سعيه وجهده.
وثمة آيات تنسب الخلق إلى غيره سبحانه ، لكن لا على وجه ينافي التوحيد في الخالقية ، حيث يقول :
( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ المَوْتَى بِإِذْنِي ) .(4)
( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي المَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ ) .(5)
وأي تصريح أوضح من خطابه الموجّه إلى المسيح ، بقوله : ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ
ص: 49
الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) .
فمقتضى الجمع بين الآيات التي تحصر الخالقية في اللّه سبحانه ولا ترى خالقاً غيره ، والآيات التي تعترف بتأثير العلل بعضها في بعض ، وتنسب الخلقة إلى غيره سبحانه إيضاً ، هو القول بأنّ المقصود من حصر الخالقية في اللّه هو الخالقية النابعة من ذات الخالق غير المعتمد على شيء.
وأمّا الخالقية التبعية والظلية والتأثير الحرفي فهي قائمة بالعلل والأسباب التي أوجدها سبحانه وصيَّرها على نظام العلل والمعاليل والمسببات ، ولا منافاة بين ذلك الحصر ونفيه عن الغير ، وإثباته للآخرين ، لأنّ المحصور فيه سبحانه هو الخالقية التي يستقل الفاعل في خلقه عن غيره ، والمثبت لغيره هو القيام بالتأثير والخالقية التي أذن به سبحانه حيث إنَّ قيام الجميع من العلل والمعاليل به سبحانه.
وبذلك يظهر أمران :
الأوّل : انّ الاعتراف بالتوحيد في الخالقية الذي هو أصل من الأُصول لا يخالف الاعتراف بنظام العلل والمعاليل في الطبيعيات والفلكيات بل في عالم المجردات ، فانّه سبحانه خلق لكلّ شيء سبباً وجعل لها قدراً وقضاءً.
الثاني : انّ الاعتراف بالتوحيد في الخالقية لا يلازم الجبر وسلب المسؤولية عن الإنسان على وجه يكون كالريشة في مهبِّ الرياح ، بل له وجود بإيجاد اللّه سبحانه وقدره وإرادته وبأمر منه سبحانه.
قد وقع تعلَّق علمه سبحانه بكلّ ما وقع ويقع ، ذريعة للقول بالجبر ،
ص: 50
وبالتالي لنفي عدله سبحانه ، وإليك بيان الشبهة :
إنّ ما علم اللّه سبحانه تحقّقه من أفعال العباد ، فهو واجب الصدور ، وما عَلِمَ عدمَه فهو ممتنع الصدور منه ، وإلا انقلب علمه جهلاً ، وليس فعل العبد خارجاً عن كلا القسمين ، فهو إمّا ضروري الوجود ، أو ضروري العدم ، ومعه لا مفهوم للاختيار ، إذ هو عبارة عمّا يجوز فعله أو تركه ، مع أنّ الأوّل لا يجوز تركه ، والثاني لا يجوز فعله.
وقد وقع هذا الدليل عند الرازي موقع القبول ، وقال : ولو اجتمع جملة العقلاء لم يقدروا على أن يوردوا على هذا الوجه حرفاً إلاّ بالتزام مذهب هشام : وهو أنّه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها. (1)
إنّ هذه الشبهة لا تختص بعلمه سبحانه ، بل تسري أيضاً في مجال إرادته ، فانّ ما في الكون غير خارج عن إرادته ، وعند ذلك تتوجه الشبهة التي قررها الشريف الجرجاني ( المتوفّى عام 816 ه ) بالنحو التالي :
قالوا : ما أراد اللّه وجوده من أفعال العباد وقع قطعاً ، وما أراد عدمه منها ، لم يقع قطعاً ، فلا قدرة للإنسان على شيء منهما. (2)
وأظن انّ الرازي قد بالغ في شأن هذه الشبهة ، وانّه لو تأمّل فيما حقَّقه الأعلام حول كيفية تعلّق علمه وإرادته سبحانه بمعلومه ومراده لتجلَّت الحقيقة ناصعة.
وحاصل ما حقَّقه الفطاحل من أعلام الفلسفة والكلام ، هو ما يلي :
إنّ علمه الأزلي لم يتعلّق بصدور كلّ فعل عن فاعله على وجه الإطلاق ، بل
ص: 51
تعلّق علمه بصدور كلّ فعل عن فاعله حسب الخصوصيات الموجودة فيه. وعلى ضوء ذلك تعلق علمه الأزلي بصدور الحرارة من النار على وجه الجبر ، بلا شعور ، كما تعلّق علمه الأزلي بصدور الرعشة من المرتعش ، عالماً بلا اختيار ، ولكن تعلّق علمه سبحانه بصدور فعل الإنسان الاختياري منه بقيد الاختيار والحرية. وبالتالي : تعلَّق علمه بوجود الإنسان وكونه فاعلاً مختاراً ، وصدور فعله عنه اختياراً - فمثل هذا العلم - يؤكد الاختيار ويدفع الجبر عن ساحة الإنسان.
وإن شئت قلت : إنّ العلّة إذا كانت عالمة شاعرة ، ومريدة ومختارة كالإنسان ، فقد تعلق علمه بصدور أفعالها منها بتلك الخصوصيات وانصباغ فعلها بصبغة الاختيار والحرية ، فلو صدر فعل الإنسان منه بهذه الكيفية لكان علمه سبحانه مطابقاً للواقع غير متخلّف عنه ، وأمّا لو صدر فعله عنه في هذا المجال عن جبر واضطرار بلا علم وشعور أو بلا اختيار وإرادة ، فعند ذلك يتخلّف علمه عن الواقع.
يقول العلاّمة الطباطبائي ( 1321 - 1402 ه ) : إنّ العلم الأزلي متعلق بكلّ شيء على ما هو عليه ، فهو متعلق بالأفعال الاختيارية بما هي اختيارية ، فيستحيل أن تنقلب غير اختيارية.
وبعبارة أُخرى : المقضيّ هو أن يصدر الفعل عن الفاعل الفلاني اختياراً ، فلو انقلب الفعل من جهة تعلق القضاء به ، غير اختياري ناقض القضاء نفسه.(1)
هذا هو حال تعلّق علمه سبحانه بالأشياء والأفعال ، وقد عرفت أنّه لا يستلزم الجبر وبالتالي لا يستلزم خلاف عدله.
ص: 52
وبذلك تعلم كيفية تعلّق إرادته سبحانه بالأشياء والأفعال ، وانّ القول بسعة إرادته لا تستلزم الجبر شريطة أن نتأمل في متعلّق إرادته ، فنقول :
إنّ إرادته لم تتعلّق بصدور فعل الإنسان منه سبحانه مباشرة وبلا واسطة ، بل تعلّقت بصدور كلّ فعل من علّته بالخصوصيات التي اكتنفتها. مثلاً تعلّقت إرادته سبحانه على أن تكون النار مبدأ للحرارة بلا شعور وإرادة ، كما تعلّقت إرادته على صدور الرعشة من المرتعش مع العلم ولكن لا بإرادة واختيار ، وهكذا تعلّقت إرادته في مجال الأفعال الاختيارية للإنسان على صدورها منه مع الخصوصيات الموجودة فيه ، المكتنفة به من العلم والاختيار وسائر الأُمور النفسانية.
وصفحة الوجود الإمكاني زاخرة بالأسباب والمسببات المنتهية إليه سبحانه ، فمثل هذه الإرادة المتعلّقة على صدور فعل الإنسان بقدرته المحدثة واختياره الفطري ، تؤكد الاختيار ولا تسلبه منه.
ومع ذلك كله ليس فعل الإنسان فعلاً خارجاً عن نطاق قدرته سبحانه غير مربوط به ، كيف وهو بحوله وقوته يقوم ويقعد ويتحرك ويسكن ، ففعل الإنسان مع كونه فعله بالحقيقة دون المجاز ، فعل اللّه أيضاً بالحقيقة فكلّ حول يفعل به الإنسان فهو حوله ، وكلّ قوة يعمل بها فهي قوته.
إلى هنا تبيّن انّ تعلّق إرادته سبحانه بالأفعال والأشياء لا تستلزم الجبر وكون الإنسان مجبوراً في أعماله.
هذا كلّه حول ما أفاده المحقّقون فلنرجع إلى القرآن بغية استكشاف رؤيته حول هذا الموضوع.
ص: 53
فنقول : أمّا سعة إرادته سبحانه للأشياء والأفعال وعدم خروج فعل الإنسان عن حيطة علمه وإرادته فهذا ممّا يثبته القرآن الكريم بوضوح ، فمن حاول أن يُخرج فعل الإنسان من حيطة إرادته فقد خالف البرهان أوّلاً ، وخالف نص القرآن ثانياً. إذ كيف يمكن أن يقع في سلطانه مالا يريد ؟ ولذلك يقول سبحانه : إنّ الإنسان لا يشأ شيئاً إلاّ ما شاء اللّه ، وانّ إيمان كلّ نفس بإذنه ومشيئته ، وإنّ كلّ فعل خطير وحقير لا يتحقق إلاّ بإذنه.
يقول سبحانه :
( وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) . (1)
( مَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ) . (2)
( مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ) . (3)
وهذه الآيات الناصعة صريحة في عدم خروج فعل الإنسان عن مجاري إرادته سبحانه ، وقد أكّدت ما نزل به الوحي ، الرواياتُ المروية عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أئمّة أهل البيت عليهم السلام.
وبما انّ خروج فعل الإنسان عن حيطة إرادته ومشيئته يستلزم تحديد إرادته ، يقول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في رد تلك المزعمة :
« من زعم انّ الخير والشر بغير مشيئة اللّه فقد أخرج اللّه من سلطانه ». (4)
ص: 54
وبما انّ خروج أفعال الإنسان عن حيطة إرادته يستلزم تحديداً في سلطانه ، يقول الإمام الصادق عليه السلام : وَاللّهُ أَعَزُّ مِنْ أَنْ يَكُون في سُلْطانِهِ ما لا يُريد. (1)
وقد ورد في الحديث القدسي قوله : « يابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد ». (2)
يقول الإمام الباقر عليه السلام : « لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بهذه الخصال السبع : بمشيّة ، وإرادة ، وقدر ، وقضاء ، وإذن ، وكتاب ، وأجل ، فمن زعم أنّه يقدر على نقض واحدة منهنّ فقد كفر ». (3)
لا يليق لموحد أن يشك في سعة إرادته وتعلّقه بكلّ ما كان وما هو كائن وما يكون إلاّ أنّ اللازم هو إمعان النظر في متعلّقها ، فهل تعلّق بأصل صدور الفعل عن الإنسان ، أو تعلّق بصدوره عنه بقيد الاختيار ، والأوّل لا يفارق الجبر ، والثاني نفس الاختيار والعدل ، وقد علمت أنّ إرادته كما تتعلّق بأصل صدوره ، فهكذا تتعلق بكيفية صدوره من الاختيار ، وعند ذلك لا تكون سعة إرادته ذريعة لتوهم الجبر وخلاف العدل.
قد مضى الكلام في سعة إرادته وتعلّقها بكلّ شيء ، لكن هناك آيات ربما
ص: 55
توحي إلى خروج أفعال العباد عن دائرة إرادته وهي :
1. ( وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ ) .(1)
فالظلم الصادر من العباد فعل من أفعالهم ، خارج عن حيطة إرادته.
2. ( وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ... ) .(2)
فالكفر من أفعال العباد ، فهو ليس مرضياً لله سبحانه.
3. ( وَاللّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ ) .(3)
لكن إيضاح مفاد الآية الأُولى يتوقف على التدبّر في الفقرات التي تسبقها ، وهي :
( وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ ) .(4)
إنّ الإمعان في الآية يكشف على أنّ المراد من الظلم هو الهلاك والإبادة ، ومعنى الآية انّه سبحانه لا يريد إهلاك عباده وإبادتهم ، فإن هلكوا وابيدوا فانّما هو لأجل ما اقترفوه من الذنوب ، وعلى هذا فالظلم المنفي هو الإبادة والإهلاك بلا سبب الاستحقاق. وأين هذا من خروج أفعال العباد على وجه الإطلاق من حيطة إرادته ؟!
وأمّا الآية الثانية والثالثة فلا صلة لها بالإرادة التكوينية وإنّما تهدف إلى عدم أمره تشريعاً بالكفر والفساد ، فوزان هاتين الآيتين وزان قوله سبحانه : ( قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ )(5)، وقوله سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ
ص: 56
يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) .(1)
وعلى ذلك فما يصدر من العباد من الكفر والفساد فانَّما يصدر بحوله سبحانه وقوَّته وإرادته ومشيئته ، لا بمعنى تعلّق مشيئته بكفر العباد وفسادهم في الأرض ، مباشرة بل بكفرهم وفسادهم إذا قاموا بها عن اختيار ، ومع ذلك فهو في تشريعه ينهى عباده عن الكفر والفساد.
روى فضيل بن يسار ، قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول :
« شاء وأراد ولم يحبّ ولم يرض ، شاء أن لا يكون شيء إلاّ بعلمه وأراد مثل ذلك ، ولم يحب أن يقال له : ثالث ثلاثة ولم يرض لعباده الكفر ».(2)
ويظهر ذلك ممّا نقله أبو بصير عن الإمام الصادق عليه السلام ، قال :
قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : شاء لهم الكفر وأراده ؟ فقال : « نعم ».
قلت : فأحبّ ذلك ورضيه ؟ فقال : « لا ».
قلت : شاء وأراد ، مالم يحبّ ومالم يرض ، قال : « هكذا خرج إلينا ».(3)
إنّ البحث في القضاء والقدر رهن توضيح أمرين :
الأوّل : ما معنى القدر ؟
ص: 57
الثاني : ما معنى القضاء ؟
أمّا القدر بمعنى التقدير والتحديد ، فكل ظاهرة طبيعية بل كلُّ موجود إمكاني خلق على تقدير وتحديد خاص ، ولا يوجد في عالم الكون شيء غير مقدّر ولا محدّد ، وإليه يشير سبحانه بقوله : ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) (1). وقوله سبحانه : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) .(2)
فالموجودات من النبات إلى الإنسان محدّدة بالحدّ الذي نعبر عنه بالماهية ، وهكذا الحال في الجمادات.
وأمّا القضاء وهو حتمية وجود الشيء بعد تقديره وتحديده ، وذلك رهن وجود سببه التام الذي يلازم وجود المسبب على وجه القطع والبت ، فقضاؤه سبحانه عبارة عن إضفاء الحتمية على وجود الشيء عند وجود علته التامة ، قال سبحانه في مورد السماوات : ( فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ) .(3)
ويقول في حقّ الإنسان : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً )(4)أي حكم حكماً حتمياً بأنّ لوجود الشيء مدّة محدّدة لا يتجاوز عنها.
هذا هو معنى القضاء والقدر من غير فرق بين وجود الإنسان وأفعاله ووجود الجواهر وأعراضها ، غير انّ الجميع قبل التقدير والقضاء مكتوب في كتاب عند اللّه سبحانه ، وقد أشار إليه الكتاب العزيز في بعض الآيات : ( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ
ص: 58
يَسِيرٌ ) .(1)
وفي آية أُخرى : ( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) .(2)
وفي آية ثالثة : ( وَاللّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ ) .(3)
إذا وقفت على هذه الأُمور ، فاعلم أنّه ربما يتخذ القضاء والقدر الذي نعبر عنهما بالمصير ذريعة للقول بالجبر ، وبالتالي أمراً مخالفاً للعدل بحجّة انّ اللّهَ سبحانه قدّر وجود كلّ شيء ( القدر ) أوّلاً ، وحكم على وجوده وتحقّقه حكماً باتاً ( القضاء ) ثانياً ، وكتب كلّ ما يوجد في الكون في كتاب قبل وجودها ثالثاً.
وعلى ذلك فلا محيص من الفعل والعمل ، وإلاّ يلزم خلاف تقديره وقضائه أو خلاف المكتوب في الكتاب المبين.
أقول : إنّ هذه الشبهة لم تزل عالقة بالأذهان منذ قرون ، ولكن تندفع هذه الشبهة من خلال بيان ما للقضاء والقدر من المعاني ، فنقول :
إنّ التقدير والقضاء على أصناف ثلاثة :
أ : القضاء والقدر : السنن الكونية.
ب : القضاء والقدر : التكوينيّان.
ص: 59
ج : القضاء والقدر : علمه السابق ومشيئته النافذة.
وإليك البحث في كلّ واحد منها :
القضاء والقدر في السنن الكونيَّة عبارة عن النظام السائد في العالم و الإنسان ، فاللّه سبحانه قدّر وحتم احراق النار وتبريد الماء إلى غير ذلك من السنن التي كشفها الإنسان طيلة وجوده على هذه البسيطة ، فكلها من مظاهر القضاء والقدر ، فكلّ من اعتنى بصحته فالمقدَّر في حقّه هو السلامة ، ومن كان على خلافه فالمقضي في حقّه هو المرض ، وكذا الفارُّ من تحت جدار على وشك الانقضاض ، كتبت له النجاة ، والواقف تحته كتب عليه الموت إلى غير ذلك ، فهذه السنن الكونية التي جعلها اللّه دعائم يقوم عليها هذا النظام ، وقد وقف على بعضها الإنسان عبر حياته ، وهناك سنن كونية ربما لا يقف عليها الإنسان إلاّ عن طريق الوحي ، قال سبحانه حاكياً عن شيخ الأنبياء نوح عليه السلام :
1. ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ) . (1)
فترى أنّ نوحاً عليه السلام يجعل الاستغفار سبباً مؤثراً في نزول المطر وكثرة الأموال وجريان الأنهار ، ووفرة الأولاد. وإنكار تأثير الاستغفار في هذه الكائنات أشبه بكلمات الملاحدة. وموقف الاستغفار هنا موقف العلّة التامة أو المقتضي بالنسبة إليها ، والآية تهدف إلى أنّ الرجوع إلى اللّه وإقامة دينه وأحكامه يسوق المجتمع إلى النظم والعدل والقسط ، وذلك لأنَّ في ظلّه تنصبّ القُوى في بناء المجتمع
ص: 60
على أساس صحيح ، فتصرف القوى في العمران والزراعة وسائر مجالات المصالح الاقتصادية العامة ، كما أنّ العمل على خلاف هذه السنّة ، وهو رجوع المجتمع عن اللّه وعن الطهارة في القلب والعمل ، ينتج خلاف ذلك.
وللمجتمع الخيار في التمسّك بأهداب أيّ من السُّنَّتين ، فالكلّ قضاء اللّه وتقديره.
2. قال سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) .(1)
3. قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) .(2)
4. قال سبحانه : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّه لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) .(3)
والتقرير في مورد هذه الآيات الثلاث مثله في الآية السابقة عليها.
5. وقال سبحانه : ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) .(4)
ترى أنّ الآية تتكفّل ببيان كلا طرفي السنّة الإلهية إيجاباً وسلباً ، وتُبيّن النتيجة المترتبة على كلّ واحد منهما. والكلّ قضاؤه وتقديره ، والخيار في سلوكهما للمجتمع.
6. وقال سبحانه : ( وَمَن يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) .(5).
ص: 61
7. وقال سبحانه : ( يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ ) .(1)
فالمجتمع المؤمن باللّه وكتابه وسنّة رسوله إيماناً راسخاً يثبِّته اللّه سبحانه في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، كما أنّ الكافر باللّه سبحانه يُخذله اللّه سبحانه ولا يوفقه إلى شيء من مراتب معرفته وهدايته. ولأجل ذلك يُرتِّب على تلك الآية ، قوله : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ) .(2)
8. وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) .(3)
فالصالحون لأجل تحلِّيهم بالصلاح في العقيدة والعمل ، يغلبون الظالمين وتكون السيادة لهم ، والذلّة والخذلان لمخالفيهم.
9. وقال سبحانه : ( وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) .(4)
فالاستخلاف في الأرض نتيجة الإيمان باللّه ، والعمل الصالح ، وإقامة دينه على وجه التمام ، ويترتب عليه - وراء الاستخلاف - ما ذكر في الآية من التمكين وتبديل الخوف بالأمن.
ص: 62
10. وقال سبحانه : ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ) .(1)
والآيات الواردة حول الأمر بالسير في الأرض والاعتبار بما جرى على الأُمم السالفة لأجل عتوّهم وتكذيبهم رسل اللّه سبحانه ، كثيرة في القرآن الكريم تبيَّن سنّته السائدة في الأُمم جمعاء.
11. وقال سبحانه : ( قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ ) .(2)
12. وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) .(3)
13. وقال سبحانه : ( مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِم وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ * وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ) .(4)
والآية من أثبت الآيات لسنَّته تعالى في الذين كفروا ، فلا يصلح للمؤمن أن يُغرّه تقلّبهم في البلاد ، وعليه أن ينظر في عاقبة أمرهم كقوم نوح والأحزاب من بعدهم ، حتى يقف على أنّ للباطل جولة وللحقّ دولة ، وانّ مردّ الكافرين إلى الهلاك والدمار.
14. وقال سبحانه : ( وَأَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ
ص: 63
أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّهِ تَحْوِيلاً ) .(1)
هذه نبذة من السنن الإلهيّة السائدة في الفرد والمجتمع. وفي وسع الباحث أن يتدبر في آيات الكتاب العزيز حتى يقف على المزيد من سننه تعالى وقوانينه ، ثمّ يرجع إلى تاريخ الأُمم وأحوالها فيُصدِّق قوله سبحانه : ( فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّهِ تَحْوِيلاً ) .
هذا كلّه حول القضاء والقدر بمعنى السنن الكونية ، وإليك البحث في المعنى الثاني.
قد علمت أنّ وجود كلّ شيء رهن تقديره وتحديده أوّلاً ، ثمّ وصول الشيء حسب اجتماع أجزاء علته إلى حد ، يكون وجوده ضرورياً وعدمه ممتنعاً بحيث إذا نسب إلى علته يوصف بأنّه ضروري الوجود ، ولأجل ذلك ترى أنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام يفسرون القدر بالهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء ، والقضاء بالإبرام وإقامة العين.(2)
وعلى ذلك فلا يوجد في صفحة الوجود الإمكاني إلاّ في ظل هذين الأمرين ، ومن المعلوم انّ التقدير والقضاء بالمعنى السابق لا يتخذ ذريعة إلاّ في مورد فعل الإنسان حيث يتصور انّ وجوب وجوده ينافي الاختيار وبالتالي ينافي
ص: 64
العدل.
لكن الإجابة عنه واضحة وهي انّ المقضيّ وجوده من أفعاله على قسمين :
قسم فرض عليه صدوره عنه اضطراراً كالأعمال التي يقوم بها جهاز الهضم ، وهذا النوع من الفعل وإن كان ضروري الوجود خارجاً عن الاختيار ، لكنّه ليس ملاكاً للثواب والعقاب.
وقسم منه قضي عليه أن يصدر عنه بالاختيار ، فاللّه سبحانه قدّر فعله وقضى عليه بالوجود لكن مسبوقاً باختياره.
وبذلك يصبح القضاء والقدر مؤكداً للاختيار لا ذريعة للجبر.
القضاء والقدر بهذا المعنى ليس شيئاً إلاّ تعلق علمه سبحانه بأفعال الإنسان ووقوعها في إطار مشيئته فربما يتخذ علمه السابق ومشيئته النافذة ذريعة للجبر ، وبالتالي نفياً للعدل ، وبما انّا أشبعنا الكلام في ذلك عند البحث في علمه السابق ومشيئته النافذة فلا نرجع إليه.
ص: 65
المصائب والبلايا في حياة الإنسان من المسائل الشائكة التي شغلت بال المتكلمين والحكماء ، فراحوا يبحثون عنها في الأبواب الأربعة التالية :
1. التوحيد في الخالقية.
2. النظام الأحسن.
3. حكمته سبحانه.
4. عدله سبحانه.
زعموا أنَّ وجود البلايا والمصائب تخلُّ بالتوحيد في الخالقيَّة لأنَّه خير محض فكيف صار مصدراً للشر المطلق ؟! ، ربما زلّت أقدام بعضهم إلى الثنوية ، وزعموا انّ خالق الخير غير خالق الشر وانّ هناك خالقين مختلفين.
كما زعموا انّ المصائب والبلايا تخل بالنظام الأحسن الذي يجب أن يخلو عن كلّ شر.
كما انّها أيضاً لا تلائم حكمته سبحانه فإذا كان حكيماً فما معنى قتل
ص: 66
النفوس بالنوازل والحوادث.
وأخيراً انّها تضاد عدله سبحانه.
وعلى كلّ تقدير فبما انّ هذه المسألة من المسائل العويصة لها صلة بالأبواب الأربعة المذكورة سالفاً ، ووقعت محطَّ اهتمام الحكماء الإسلاميين ، وبما انّ البحوث المذكورة في هذا القسم من الكتاب تتمحور حول عدله سبحانه فنحن نتناول هذه المسألة من تلك الزاوية فقط. ولأجل إيضاح الإشكال نأتي بما يلي :
إنّ البحث في المقام يدور حول محاور ثلاثة :
الأوّل : البلايا والمصائب كالزلازل والسيول والأعاصير.
الثاني : اختلاف الناس في المواهب العقلية والاستعدادات.
الثالث : الفواصل الطبقية الهائلة بين الناس.
هذه الأُمور وأمثالها وقعت ذريعة لنفي عدله سبحانه ، فلنتناول كلّ واحد من هذه المحاور بالبحث.
الأوّل : البلايا والمصائب والعدل الإلهي
إنّ من يظن انّ البلايا والمصائب تخالف عدله فإنّما ينظر إليها من منظار ضيّق محدود ، فلو نظر إليها في إطار النظام الكوني العام ، لأذعن انّها خير برمّتها ، أو انّها خير يلازم شراً قليلاً ، وتكون المسألة كما يصفه الشاعر في البيت التالي :
ما ليس موزوناً لبعض من نغم *** ففي نظام الكلِّ كل منتظم
إنّ من ينظر إلى هذه الظواهر من منظار خاص ويتجاهل غير نفسه في العالم ، ففي نظره تتجلى هذه الحوادث أمامه شرّاًً وبليّة ، وأمّا إذا نظر إليها من منظار خارج عن إطار الإنانية والمصالح الشخصية الضيِّقة ، تنقلب هذه الحوادث
ص: 67
عنده إلى الخير والصلاح ، وتكتسي ثوبَ العدل ، ولبيان ذلك نضرب مثالاً :
إنّ الإنسان يرى أنّ الطوفان الجارف يكتسح مزرعته والسيل العارم يهدم منزله ، والزلزلة الشديدة تقتلع بنيانه ، ولأجل ذلك يصفها بالبلاء ، دون أن يرى ما تنطوي عليه هذه الحوادث والظواهر من نتائج إيجابية في مجالات أُخرى من الحياة البشرية.
وما أشبه حال هذا الإنسان في مثل هذه الرؤية المحدودة بعابر يرى جرَّافة تحفر الأرض وتهدم بناءً وتثير الغبار والتراب في الهواء ، فيقضي من فوره بأنّه ضارّ وسيّء ، ولكن المسكين لا يدري بأنّ ذلك يتم تمهيداً لبناء مستشفى كبير يستقبل المرضى ويعالج المصابين ويهيّئ للمحتاجين للعلاج ، وسائل المعالجة والتمريض ولو وقف على تلك الأهداف النبيلة لقضى بغير ما قضى ، ولوصف ذلك التهديم بأنّه خير.
إذا علمت ذلك ، فنحن نذكر مثالاً من نفس ما نحن بصدده.
إذا هبّت عاصفة هوجاء على السواحل ، فبما أنها تقطع الأشجار وتدمّر المنازل القريبة من الساحل ، حينها توصف بالشرِّ والبلية ، ولكنّها من جهة أُخرى خير محض حيث توجب حركة السفن الشراعية المتوقفة في عرض البحر بسبب سكون الرياح وبذلك تنقذ حياة المئات من ركّابها اليائسين من النجاة.
إنّ هذه العاصفة وإن كان يُكمن فيها الشر لكنها في نفس الوقت وسيلة فعّالة في عملية تلقيح الأزهار ، وإثارة السحب للمطر ، وتبيد الأدخنة الضارة المتصاعدة من فوهات المصانع والمعامل ، إلى غير ذلك من الآثار المفيدة لهبوب الرياح التي تتضاءل عندها بعض الآثار السيئة.
إنّ السبب لوصف بعض الحوادث بالشرور والبلايا هو ضيق علم الإنسان
ص: 68
وضآلته ولو وقف على أسرارها التي ربما تظهر بعد سنين لرجع عن قضائه ، ويُرتّل قوله سبحانه : ( رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ ) .(1)ولأذعن بقوله سبحانه : ( وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) .(2)
إنّ للبلايا والمصائب آثاراً تربوية تُضفي على العمل وصفَ الخير الكثير في مقابل الشر القليل ، وهذه الآثار عبارة عمّا يلي :
إنّ البلايا والمصائب خير وسيلة لتفجير الطاقات وتقدم العلوم ورقي الحياة ، فانّ الحضارات لم تزدهر إلاّ في أجواء الحروب والصراعات والمنافسات ، ففي مثل هذه الظروف تتفتح القابليات إلى جبران ما فات وتتميم ما نقص. فإذا لم يتعرض الإنسان إلى ضروب من المحن فانّ طاقاته تبقى كامنة ، وإنّما تتفتح في خضمِّ المصائب والشدائد. وإلى هذه الحقيقة يشير قوله سبحانه : ( فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ) (3)
كلّ ما ازداد الإنسان توغّلاً في اللذائذ والنعم ازداد ابتعاداً عن الجوانب المعنوية ، وهذه حقيقة يلمسها كلّ إنسان في حياته فلابدّ من انتباه الإنسان من
ص: 69
الغفلة ، من خلال جرس إنذار يذكّر ويوقظ فطرته وينبّهه من غفلته ، وليس هو إلاّ بعض الحوادث التي تقطع وتيرة الحياة الرغيدة ، حتى يتخلّى عن غروره ويخفّف من حدة طغيانه ، وإلى هذا الجانب يشير قوله سبحانه : ( إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ) .(1)
وبذلك يعلّل قوله سبحانه نزول الحوادث ، ويقول : ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ) .(2)
إلى غير ذلك من الآيات التي تشير إلى أن الهدف من وراء نزول البلايا هو تخلّي الإنسان عن غروره.
إنّ ما يسمّيه الإنسان بالبلايا والشرور لم يكتب عليها الشرُّ على وجه الإطلاق بل تتَّبع الظروف ، فالسيل الجارف يُعد شراً في البلاد المتخلِّفة عن ركب الحضارة ، وأمّا في البلاد المتقدمة فيعد خيراً ، لأنّها تقوم بمشاريع بناء السدود بغية جمع مياه تلك السيول واستثمارها في انتاج الطاقة الكهربائية ، ولذلك قلنا إنّه لم يكتب على السيل أنَّه شرٌّ أو خير وانّما هو يتَّبع همة الإنسان وقيامه بمسؤوليته في إعمار البلاد.
وهكذا الزلازل الأرضية فقد تُسبّب أضراراً فادحة في البلاد النائية المتخلّفة وتؤدّي إلى إزهاق أرواح كثيرة ، وهذا بخلاف البلاد المتطورة فقد اتخذت التدابير اللازمة للوقاية من دمار الزلازل من خلال تشييد المدن والقرى على دعائم متينة
ص: 70
لا تتأثر بالزلازل إلاّ القليل.
وبذلك تبيَّن انّ ما يسميه البشر بالبلايا والمصائب ليس على إطلاقها بلاءً بل لها فوائد وآثار اجتماعية وأخلاقية مهمة.
وإليك الكلام في المحور الثاني.
إنّ الاختلاف في الاستعدادات أساس النظام وبقاء الحضارة ، فلو خلق الناس على استعداد واحد لانفصم النظام وتقوّضت أركانه.
يقول الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام : « لا يزال الناس بخير ما تفاوتوا فإذا استووا هلكوا ». (1)
فالمجتمع الإنساني يزهو باستعدادات مختلفة كلّ يتحمل مسؤولية في المجتمع ، فمقتضى الحكمة خلق الناس بمواهب مختلفة كي يقوم كلّ حسب استعداده ، ومثل هذا يؤكد الحكمة ولا ينافي العدل.
وإنّما يلزم الجور إذا كانت هناك طوائف متنعمة بكافة المواهب ، وطوائف أُخرى محرومة منها ، ولكن الواقع خلاف ذلك.
لا شكّ انّ المجتمع الإنساني يضمّ في طياته طبقات اجتماعية مختلفه من حيث الفقر والغنى ، فهناك طبقة تهلكها التخمة ، وطبقة أُخرى تموت جوعاً ، وقد
ص: 71
عدّ ذلك مظهراً لخلاف عدله. ولكن الحقّ غير ذلك ، فالإنسان الجاهل ينسب تلك المحنة إلى خالق الكون ، مع أنّ الصواب أن ينسبه إلى نفسه ونتيجة عمله ، فانّ الأنظمة الجائرة هي التي سبَّبت تلك المحن وأوجدت تلك الكوارث ، ولو كانت هناك أنظمة قائمة على أُسس إلهية لما تعرض البشر لها.
يقول الإمام الصادق عليه السلام في حديث : « إنّ اللّه عزّ وجلّ فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم ، ولو علم أنّ ذلك لا يسعهم لزادهم إنّهم لم يؤتوا من قبل فريضة اللّه عزّوجلّ(1)ولكن أوتوا مِن منع مَن مَنعهم حقّهم لا ممّا فرض اللّه لهم ، ولو أنّ النّاس أدّوا حقوقهم لكانوا عايشين بخير ».(2)
إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة انّ الظواهر غير المتزنة حسب النظرة السطحية متزنة بالقياس إلى مجموع النظام ولها آثار اجتماعية وتربوية هامة قد بسطنا الكلام فيها في بعض مسفوراتنا.
ص: 72
لقد وقعت العقوبات الأُخروية ذريعة لإنكار عدله ، حيث يقولون ما هو الغرض من العقوبة ، فهل هو التشفّي الذي جاء في قوله سبحانه : ( وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا )(1)واللّه سبحانه منزّه من هذا الغرض لاستلزامه طروء الانفعال على ذاته.
أو الغرض من العقوبة الأُخروية هو اعتبار الآخرين ، الذي يشير إليه سبحانه في قوله : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ المُؤْمِنِينَ ) .(2)
ومن المعلوم أنّ تلك الغاية تختص بالدنيا التي هي دار التكليف ولا توجد في دار الجزاء ، أعني : الآخرة.
والجواب : انّ السؤال عن الغاية وانّها هل هي التشفِّي أو اعتبار غيره ، إنّما
ص: 73
يتوجه إلى العقوبات المفروضة عن طريق التقنين والتشريع ، فالتعذيب في ذلك المجال رهن إحدى الغايتين : التشفّي أو الاعتبار.
وأمّا إذا كانت العقوبة أثراً وضعيّاً للعمل فيسقط السؤال ، لأنّ هناك ضرورة وجودية بين وجود المجرم والعقوبة التي تلابس وجودَه في الحياة الأُخروية ، فعند ذلك لا يصحّ السؤال عن حكمة التعذيب ، وإنّما هي تتوجه إلى التعذيب الذي يمكن التفكيك بينه وبين المجرم كالعقوبات الوضعية.
وأمّا إذا كانت العقوبة من لوازم وجود الإنسان الأُخروي ، فالسؤال عن التعذيب ، ساقط جداً.
توضيح ذلك : انّ الإنسان إنّما يحشر بذاته وعمله ، وعمله لازم وجوده وكلّ ما اقترف من الأفعال فله وجود دنيوي ، يتجلّى باسم الكذب والنميمة ، وله وجود أُخروي يتجلّى بالوجود المناسب له ، فهكذا أعماله الصالحة فلها صورة دنيوية ، باسم الأذكار ، وصورة أُخروية تناسب وجود الإنسان في هذا الظرف.
فالصوم هنا إمساك ، وفي الحياة الأُخروية جُنَّة من النار ، وهكذا سائر الأعمال من صالحها وطالحها ، فلها وجودان : دنيوي وأُخروي ، وإليك ما يدلُّ على ذلك في القرآن الكريم.
يقول سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ) .(1)
ويقول سبحانه : ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) .(2).
ص: 74
وقال سبحانه : ( يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ) .(1)
على أنّ تعذيب المجرم وإثابة المحسن مظهر من مظاهر عدله ، فلو لم يعاقب المجرم تلزم تسوية المؤمن والكافر ، يقول سبحانه : ( أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) .(2)
ويقول أيضاً : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ) .(3)شبهة عدم التعادل بين الجريمة والعقوبة
وربما يقال كيف يصحّ الخلود الدائم مع كون الذنب منقطعاً ، وهل هذا إلاّ نقض للمساواة المفروضة بين الجريمة والعقوبة ؟!
والجواب عن الشبهة بوجهين :
الأوّل : انّه لم يدل دليل على وجوب المساواة بين الجرم والعقوبة من حيث الكمِّية ، بل المراد المساواة في الكيفية أي عظمة الجرم ، فربما يكون الجرم آناً واحداً وتتبعه عقوبة دائمة ، كما إذا قتل إنساناً وحكم عليه بالحبس المؤبد.
فالإنسان المقترف للذنوب وإن خالف ربه في زمن محدد ، لكن آثار تلك الذنوب ربما تنتشر في العالم.
الثاني : قد عرفت أنّ العذاب الأُخروي تجسيد للعمل الدنيوي وهو المسؤول عمّا اقترفه.
وقد عرّفه سبحانه نتيجة عمله في الآخرة وانّ أعماله المقطعية سوف تورث
ص: 75
حسرة طويلة أو دائمة ، وأنّ عمله هنا سيتجسَّد له في الآخرة ، أشواكاً تؤاذيه أو وروداً تطيبه ، وقد أقدم على العمل عن علم واختيار ، فلو كان هناك لوم فاللوم متوجه إليه ، قال سبحانه حاكياً عن الشيطان : ( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .(1)
وفيما مرّ من الآيات التي تعد الجزاء الأُخروي حرثاً للإنسان تأييد لهذا النظر ، على أنّ من المحتمل أنّ الخلود في العذاب مختص بما إذا بطل استعداد الرحمة وإمكان الإفاضة ، قال تعالى : ( بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) .(2)
ولعلّ المراد من قوله : ( وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ) إحاطتها به إحاطة توجب زوال أيَّة قابلية واستعداد لنزول الرحمة ، والخروج عن النقمة.
وكيف كان فتظهر صحّة ما ذكرنا إذا أمعنت النظر فيما تقدم في الجواب عن السؤال الأوّل وهو أنّ الجزاء إمّا مخلوق للنفس أو يلازم وجود الإنسان وفي مثله لا تجري شبهة التعادل بين الجريمة والعقوبة كما هو واضح.
تمّ الكلام في الأصل الأوّل من أُصول المذهب ، أعني : العدل الإلهي وركّزنا البحث فيه على الموضوعات التي تطرقت إليها الآيات القرآنية. ومن أراد التبسيط فليرجع إلى الكتب المفصَّلة في هذا الصدد.
ويليه البحث في الأصل الثاني وهو الإمامة والخلافة في الكتاب العزيز.
ص: 76
ص: 77
ص: 78
قد تقدّم في صدر الكتاب انّ هناك أصلين انفرد بهما مذهب الشيعة الإمامية ، ولذلك يُعدّان من أُصول المذهب ، دون أُصول الدين ، لأنّ الثاني عبارة عن الأُصول التي يشترك فيها جميع المسلمين بخلاف أُصول المذهب ، فانّها من خصوصيات مذهب دون مذهب آخر ، وقد تقدّم انّ التوحيد والمعاد والنبوة العامة والخاصة ممّا اتفقت عليه عامة المسلمين دون العدل والإمامة ، فالأوّل قالت به المعتزلة والشيعة ، والثاني انفردت به الشيعة وبالأخص الإمامية منهم ، وقد فرغنا عن بيان العدل ودلائله وشبهاته وحلولها ، فحان البحث في الأصل الثاني وهو الإمامة والخلافة.
وليُعلم انّ أصل الإمامة ممّا اتّفقت عليه كلمة المسلمين إلا بعض الفرق الشاذة ، فالجميع على لزوم وجود إمام يقود الأُمة إلى الصلاح والفلاح ، ويقوم بإدارة البلاد على أفضل وجه ، ويُطبّق الشريعة على صعيد الحياة إلى غير ذلك ممّا كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يقوم به. وهذا ممّا لا خلاف فيه بين المسلمين.
إنّما الكلام في أنّ تعيين النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ونصبه لهذا المنصب ، هل هو بيد اللّه سبحانه وبذلك يُعَدُّ منصب الإمامة كالنبوة ، منصباً إلهياً ؟ أو بيد الأُمَّة أو بعضهم فتصير الإمامة منصباً اجتماعياً كسائر المناصب الاجتماعية أو السياسية التي يقوم
ص: 79
به آحاد الأُمَّة أو طبقة منهم ؟
فالإمامية عن بكرة أبيهم على القول الأوّل ، حيث يرون انّ نصب الإمام بيد اللّه تبارك وتعالى ويسوقون على ذلك دلائل عقلية وتاريخية ، كما أنّ أهل السنة على القول الثاني ، وبذلك تجاذب تيّاران مختلفان الأُمَّة الإسلامية.
بما انّ أهل السنة يرون الإمامة منصباً اجتماعياً أو سياسياً ، قالوا بأنّ الإمامة من فروع الدين لا من أُصوله ، وهي من أغصان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وذلك لأنّ تحقيق ذلك الأصل في المجتمع ، أي إشاعة المعروف وتحجيم دور المنكر يتوقف على وجود إمام عادل مبسوط اليد يتمتع بنفوذ على نطاق واسع ، ولذلك يجب على الأُمّة نصب إمام بغية تحقّق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإليك سرد كلماتهم في هذا المجال :
1. يقول الإيجي ( المتوفّى عام 757 ه ) في كتاب « المواقف » : وهي عندنا من الفروع ، وإنّما ذكرناها في علم الكلام تأسّياً بمن قبلنا. (1)
2. يقول سعد الدين التفتازاني ( المتوفّى عام 791 ه ) : لا نزاع في أنّ مباحث الإمامة بعلم الفروع أليق لرجوعها إلى أنّ القيام بالإمامة ونصب الإمام الموصوف بالصفات المخصوصة من فروض الكفايات ، ولا خفاء انّ ذلك من الأحكام العملية دون الاعتقادية. (2)
وعلى هذا فالإمامة أمر لا يناط به الإيمان والكفر ، بل موقفه كسائر الأحكام الشرعية الفرعية التي لا يكفر المنكر إلا إذا استلزم إنكارهُ إنكارَ الرسالة والنبوة لنبينا صلى اللّه عليه وآله وسلم. فلا فرق بين مسألة الإمامة ، ومسألة المسح على الخفين حيث أصبحت
ص: 80
مسألة خلافية بين أهل السنّة.
ولكن - يا للأسف - انّهم ربما يتعاملون مع الإمامة والخلافة بعد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بغير هذا النحو ، فربما ويُكفرون أو يفسقون من لم يعترف بإمامة الخلفاء عن اجتهاد. ولذلك نرى أنّ إمام الحنابلة ( المتوفّى عام 241 ه ) يذكر خلافة الخلفاء الأربعة في عداد المسائل العقائدية (1) ، وتبعه أبو جعفر الطحاوي ( المتوفّى عام 321 ه ) في « العقيدة الطحاوية » (2) ، وقد تبعهما أكثر من جاء بعدهم كالأشعري ( المتوفّى عام 324 ه ) في كتاب « الإبانة » (3) وعبد القاهر البغدادي ( المتوفّى عام 429 ه ) في « الفرق بين الفرق » (4) ، كلّ ذلك تبعاً لإمام الأشاعرة أو الشيخ الطحاوي الذي أصبح الأخير إماماً للعقيدة في الديار المصرية.
والحقّ هو ما صرّح به عضد الدين الإيجي والتفتازاني من أنّ الإمامة من فروع الدين لا من أُصوله ، وانّ النصب لتحقيق غاية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا صلة له بأُصول الدين ، وقد كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يقبَل إسلام من أسلم واعترف بالشهادتين من دون أن يسأله عن واقع الإمامة ، وانّه هل هو منصب إلهي أو اجتماعي ، ومن دون أن يعلمه بلزوم اجتماع الأُمّة بعد رحيله على نصب إمام لهم ، ولم يكن أي أثر من تلك المباحث في عصر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فلذلك لم يتلق أهل السنّة الإمامة والخلافة بعد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أمراً أصيلاً من صميم الدين.
نعم أوّل من أدخل خلافة الشيخين في أُصول الدين هو داهية العرب عمرو
ص: 81
ابن العاص عند اجتماعه مع أبي موسى الأشعري في دومة الجندل للتشاور في مسألة التحكيم المعروفة ، ولم يكن هدفه من عدّ خلافة الخليفتين من أُصول الإسلام إلاّ الإطاحة بالإمام علي بن أبي طالب عليه السلام .
حيث تقدّم عمرو بن العاص بالكلام ، وقال للكاتب : اكتب ، فكتب الشهادة بالتوحيد والرسالة ، ثمّ قال للكاتب : ونشهد انّ أبا بكر خليفة رسول اللّه ، عمل بكتاب اللّه وسنّة رسول اللّه حتى قبضه اللّه إليه ، وقد أدّى الحق الذي عليه ...(1)
فخرجنا بالنتيجة التالية : انّ منصب الإمامة عندهم منصب اجتماعي يُشبه منصبَ رئاسة الجمهورية في الوقت الحاضر ، أو منصب رئاسة الوزراء في الحكومات الملكية أو ما يشبه ذلك ، ولذلك لا يشترط فيه سوى الكفاءة لإدارة البلاد. ولا ينعزل بالفسق والظلم ولا بأكبر من ذلك ، وما هذا إلاّ لأنّه منصب اجتماعي ، وما أكثر الظلم والفسق في أوساط الأمراء ورؤساء الجمهور ، وإن كنت في شكّ من ذلك فاقرأ ما كتبه عظيم الأشاعرة أبوبكر الباقلاني وغيره.
قال الباقلاني ( المتوفّى عام 403 ه ) : لا ينخلع الإمام بفسقه وظلمه بغصب الأموال ، وضرب الأبشار ، وتناول النفوس المحرمة ، وتضييع الحقوق ، وتعطيل الحدود ، ولا يجب الخروج عليه بل يجب وعظه وتخويفه وترك طاعته في شيء ممّا يدعو إليه من معاصي اللّه.(2)
وليس الباقلاني نسيج وحده في تلك الفكرة ، بل هي فكرة سادت عبر القرون ، تراها في كلمات الآخرين ، يقول التفتازاني : .
ص: 82
ولا ينعزل الإمام بالفسق أو بالخروج عن طاعة اللّه تعالى والجور ، لأنّه قد ظهر الفسق وانتشر الجور من الأئمّة والأُمراء بعد الخلفاء الراشدين ، والسلف كانوا ينقادون لهم ويقيمون الجُمَع والأعياد بإذنهم ، ولا يرون الخروج عليهم ، ونقل عن كتب الشافعية انّ القاضي ينعزل بالفسق ، بخلاف الإمام ، والفرق انّ في انعزاله ووجوب نصب غيره ، إثارة الفتن لما له من الشوكة بخلاف القاضي. (1)
هذا كلّه عند أئمّة السنة ، وأمّا الشيعة فماهيَّة الإمامة عندهم ، عبارة عن الرئاسة العامة في أُمور الدين والدنيا نيابة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم .
وبعبارة أُخرى : الإمامة هي استمرار وظائف النبوة ( لا نفس النبوة لانقطاعها برحيل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فيقوم الإمام بنفس ما كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يقوم به ، فالنبوة ونزول الوحي منقطعة لكن الوظائف الملقاة على عاتق النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كلّها على عاتق الإمام ، فهو يقوم وراء إدارة البلاد وعمرانها وتوزيع الأرزاق وتأمين السبل والطرق والجهاد في سبيل اللّه لإشاعة الإسلام وكسر الموانع والعوائق.
فهو يقوم مع هذه الوظائف بوظائف أُخرى ، تطلب لنفسها صلاحيات إلهية وتربية سماوية ، وتلك الوظائف عبارة عن :
1. بيان الأحكام الإسلامية من كليات وجزئيات.
2. تفسير الكتاب العزيز وشرح مقاصده ، وبيان أهدافه ، وكشف رموزه وأسراره.
3. تربية المسلمين ، وتهذيبهم وتزكيتهم وتخليص نفوسهم من شوائب الشرك والكفر والجاهلية.
ص: 83
4. الردّ على الشبهات والتشكيكات التي كان يُلقيها أعداء الإسلام ويوجهونها ضد الدعوة الإسلامية.
5. الحفاظ على الرسالة الإلهية من أية محاولة تحريفية ، ومن أي دسٍّ في التعاليم المقدسة.
فقد كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يقوم بهذه الأُمور معتمداً على الوحي ، فيجب أن يقوم من ناب بها عنه بتعليمٍ غيبيّ حتى لا يطرأ خلل في الحياة الدينيّة.
وعندئذٍ يطرح هذا السؤال نفسه ، وهو إذا كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قائماً بهذه الوظائف العلمية والفكرية معتمداً على الوحي ، فكيف يقوم غيره مقامه مع انقطاع الوحي والسفارة من اللّه سبحانه. والإجابة عن هذا واضحة ، فانّ الفيض الإلهي لم يزل يمدُّ عباده الصالحين وإن لم يكونوا رسلاً وأنبياء ، وهذا هو الذي يعبر عنه بالمحدَّث ، فيلهم إليه وإن لم يكن نبياً من عند اللّه ، وهذا هو مصاحب موسى يعرفه سبحانه بقوله : ( فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ) . (1)
فعلى ذلك فالإشراقات الإلهية على قلوب الصالحين لا تلازم النبوة والرسالة ، بل يكفي أن يكون إنساناً مثالياً ، وهذا هو جليس سليمان يصفه سبحانه بقوله : ( قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي ) . (2)
وهذا الجليس لم يكن نبيّاً ، ولكن كان عنده علم من الكتاب ، وهو لم يحصِّله
ص: 84
من الطرق العادية بل كان علماً إلهياً أُفيض إليه ، لصفاء قلبه وروحه ولأجل ذلك يَنسب علمه إلى فضل ربه ، ويقول : ( هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي ) .
كما تضافرت الروايات على أنّ في الأُمّة الإسلامية - كالأُمم الغابرة - رجالاً مخلصين محدَّثين تفاض عليهم حقائق من عالم الغيب من دون أن يكونوا أنبياء ، وإن كنت في شكّ من ذلك فارجع إلى ما رواه أهل السنّة في هذا الموضوع :
أخرج البخاري في صحيحه : « لقد كان في من كان قبلكم من بني إسرائيل يُكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء ، فإن يكن من أُمّتي منهم أحد فعمر » (1).
قال القسطلاني : ليس قوله : « فان يكن » للترديد بل للتأكيد ، كقولك : إن يكن لي صديق ففلان ، إذ المراد اختصاصه بكمال الصداقة لا نفي الأصدقاء.
وإذا ثبت أنّ هذا وجد في غير هذه الأُمّة المفضولة ، فوجوده في هذه الأُمّة الفاضلة أحرى (2).
وأخرج البخاري في صحيحه أيضاً بعد حديث الغار : عن أبي هريرة مرفوعاً : أنّه قد كان فيما مضى قبلكم من الأُمم محدَّثون ، إن كان في أُمّتي هذه منهم ، فإنّه عمر بن الخطاب (3).
قال القسطلاني في شرحه : قال المؤلف : يجري على ألسنتهم الصواب من غير نبوّة (4).
وقال الخطابي : يُلقى الشيء في روعه ، فكأنّه قد حُدِّث به يظن فيصيب ،
ص: 85
ويخطر الشيء بباله فيكون ، وهي منزلة رفيعة من منازل الأولياء.
وأخرج مسلم في صحيحه في باب فضائل عمر عن عائشة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : « قد كان في الأُمم قبلكم محدَّثون ، فإن يكن في أُمّتي منهم أحد فإنّ عمر بن الخطاب منهم ».
ورواه ابن الجوزي في صفة الصفوة ، وقال : حديث متّفق عليه. (1)
وأخرجه أبو جعفر الطحاوي في « مشكل الآثار » بطرق شتى عن عائشة وأبي هريرة ، وأخرج قراءة ابن عباس : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدّث. قال : معنى قوله محدَّثون أي ملهمون ، فكان عمر - رضي اللّه عنه - ينطق بما كان ينطق مُلهماً. (2)
قال النووي في شرح صحيح مسلم : اختلف تفسير العلماء للمراد ب « محدّثون » ، فقال ابن وهب : ملهمون ، وقيل : مصيبون ، إذا ظنّوا فكأنّهم حُدِّثوا بشيء فظنّوه. وقيل : تكلّمهم الملائكة ، وجاء في رواية : مكلّمون.
وقال البخاري : يجري الصواب على ألسنتهم ، وفيه إثبات كرامات الأولياء.
وقال الحافظ محبّ الدين الطبري في « الرياض » : ومعنى « محدّثون - واللّه أعلم - أي ويلهمون الصواب ، ويجوز أن يحمل على ظاهره ، وتحدّثهم الملائكة لا بوحي ، وإنّما بما يطلق عليه اسم حديث ، وتلك فضيلة عظيمة ». (3)
قال القرطبي : محدَّثون - بفتح الدال - اسم مفعول جمع محدَّث - بالفتح - أي
ص: 86
ملهم أو صادق الظن ، وهو من أُلقي في نفسه شيء على وجه الإلهام والمكاشفة من الملأ الأعلى ، أو من يجري الصواب على لسانه بلا قصد ، أو تكلّمه الملائكة بلا نبوّة ، أو مَن إذا رأى رأياً أو ظنّ ظنّاً أجاب كأنّه حُدِّث به وأُلقي في روعه من عالم الملكوت فيظهر على نحو ما وقع له ، وهذه كرامة يُكرم اللّه بها من شاء من عباده ، وهذه منزلة جليلة من منازل الأولياء.
فإن يكن من أُمّتي منهم أحد فإنّه عمر ، كأنّه جعله في انقطاع قرينة في ذلك كأنّه نبيّ ، فلذلك أتى بلفظ « إن » بصورة الترديد. قال القاضي : ونظير هذا التعليق في الدلالة على التأكيد والاختصاص ، قولك : إن كان لي صديق فهو زيد ، فإنّ قائله لا يريد به الشكّ في صداقته بل المبالغة في أنّ الصداقة مختصّة به لا تتخطّاه إلى غيره.(1)
فإذا كان في الأُمم السالفة رجال بهذا القدر والشأن ، فلِماذا لا يكون في الأُمّة الإسلامية رجال شملتهم العناية الإلهية فأحاطوا بالكتاب والسنّة إحاطة كاملة يرفعون حاجات الأُمّة في مجال العقيدة والتشريع.
فمن زعم أنّ مثل هذه الإفاضة تساوق النبوّة والرسالة ، فقد خلط الأعم بالأخصّ ، إذ النبوّة منصب إلهيّ يقع طرفاً للوحي يسمع كلام اللّه تعالى ويرى رسول الوحي ، ويكون إمّا صاحب شريعة مستقلّة أو مروّجاً لشريعة من قبله.
وأمّا الإمام : وهو الخازن لعلوم النبوّة في كل ما تحتاج إليه الأُمّة من دون أن يكون طرفاً للوحي أو سامعاً كلامه سبحانه أو رائياً للملك الحامل له. ولإحاطته بعلوم النبوّة طرق أشرنا إليها.
ص: 87
ومن التصوّر الخاطئ : الحكم بأنّ كل من أُلهم من اللّه سبحانه أو كلّمه الملك فهو نبيّ ورسول ، مع أنّ الذكر الحكيم يعرّف أُناساً ، أُلهموا أو رأوا الملك ولم يكونوا بالنسبة إلى النبوّة في حلّ ولا مرتحل.
هذه أُمّ موسى يقول سبحانه في حقّها : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ ) .(1)
أفصارت أُمّ موسى بهذا الإلهام نبيّة من الأنبياء ؟
وهذه مريم البتول ، تكلّمها الملائكة من دون أن تكون نبيّة ، قال سبحانه : ( وَإِذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ... ) .(2)
بلغت مريم العذراء مكاناً شاهدت رسول ربّها المتمثَّل لها بصورة البشر ، قال سبحانه : ( فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا ) .(3)
نرى أنّ مريم البتول رأت الملك وسمعت كلامه ولم تُصبح نبيّة ولا رسولة.
فمن تدبّر في الكتاب والسنّة يقف على أبدال شملتهم العناية الإلهية و وقفوا على أسرار الشريعة ومكامن الدين بفضل من اللّه سبحانه من دون أن يصيروا أنبياء.
ثمّ إن بيان نظام الحكم في الإسلام يأتي ضمن فصول :
ص: 88
إنّ الموضوع المهم هو تبيين نظام الحكم بعد رحيل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ودراسة الظروف التي رافقت رحيله ، فهل الظروف السائدة آنذاك تؤكِّد على تنصيب الإمام وتعيينه من جانبه سبحانه ، أو على تفويضها إلى الأُمّة وقيامها بتعيين الحاكم الإسلامي ، ودراسة هذا الموضوع عن كثب ، رهن الإشارة إلى الأخطار المحدقة بالمجتمع الإسلامي الفتيّ.
إنّ الأُمة الإسلامية قُبيل وفاة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كانت محاصرة من جهة الشمال والشرق من قبل امبراطوريتين عظيمتين ، وهما : الروم وإيران ، هذا من الخارج.
وأمّا من الداخل فلقد كان الإسلام والمسلمون يعانون من المنافقين الذين كانوا يشكّلون العدو الداخلي أو ما يسمّى بالطابور الخامس ، ولأجل الوقوف على مدى الخطر المحدِق من قبل هذه الأطراف الثلاثة ، نتناول كلّ واحد منها على وجه الإيجاز.
ص: 89
لقد كانت الامبراطورية الساسانية ذات حضارة مزدهرة ، ونفوذ واسع فرضته على أصقاع شاسعة خلال أحقاب عديدة من السنين ، إلى حدّ أصبح من العسير أن يعترفوا بسيادة أُمة طالما كانت تعيش تحت سلطانهم ، ولذلك رفض ملكهم « خسرو برويز » دعوة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى مزّق كتابه الذي أرسله ودعاه فيه إلى الإسلام وعبادة اللّه تعالى ، وكتب خسرو برويز إلى عامله في اليمن : إبعث إلى هذا الرجل بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني به. (1)
كانت الامبراطورية الرومية في شمال الجزيرة العربية وكانت تشغل بال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم طيلة حياته ، وقد نشبت بينها وبين المسلمين معارك طاحنة في السنة الثامنة من الهجرة ، عندما قتلوا رسول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أعني : الحارث بن عمير الأزدي ، فانّه لمّا وصل أرض « مؤتة » تعرض له شرحبيل بن عمرو الغسّاني وضرب عنقه ، وقد أدّى هذا الأمر إلى أن يبعث النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم جيشاً من ثلاثة آلاف مقاتل بقيادة جعفر بن أبي طالب ، وزيد بن الحارثة ، وعبد اللّه بن رواحة فقُتل الجميع ، ورجع الجيش منهزماً إلى المدينة.
ولقد أثارت هزيمة المسلمين في هذه المعركة نكسة في نفوس المسلمين ، وزادت جرأة جيوش الروم على التعرض للمسلمين. فلذلك قاد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في السنة التاسعة جيشاً جرّاراً قصد به غزو الروم لما وصلت إليه الأخبار بأنّ الروم بصدد الإغارة عليهم ، فقاد النبي ذلك الجيش إلى تبوك وكان له أثر بالغ في زعزعة معنويات جيوش الروم ، ورفع معنويات المسلمين ، ومع ذلك لم يكن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
ص: 90
بغافل عن خطرهم ، وقد أوصى في أواخر حياته بتجهيز جيش بقيادة أُسامة بن زيد بغية مواجهة الروم.
المنافقون هم الذين استسلموا للمدِّ الإسلامي وأسلموا بألسنتهم دون قلوبهم إمّا خوفاً أو طمعاً ، فكانوا يتجاهرون بالولاء للإسلام ، ويخفون نواياهم السيئة ويتحيّنون الفرُص بغية الانقضاض على المسلمين والإطاحة بهم.
ولقد بلغ خطر المنافقين بمكان أصبح يهدد كيان المجتمع الإسلامي ، لأنّهم كانوا يحيكون مؤمرات خفيّة ينقاد لها السُّذّّج من الناس ، ولأجل ذلك شدّد القرآن الكريم على ذكر عذابهم أكثر من أي صنف آخر ، وقال : ( إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ... ) . (1)
ويحدّثنا التاريخ كيف لعب المنافقون دوراً خبيثاً وخطيراً في تعكير الصف الإسلامي وإتاحة الفرصة لأعداء الإسلام بغية تمرير مخططاتهم سواء أكان قبل انتشار صولة الإسلام وبعده.
وعلى هذا فكان من المحتمل بمكان أن يتحد هذا الخطر الثلاثي الاجتثاث جذور الإسلام عقب رحيل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وغياب شخصه عن ساحة الصراع السياسي.
لقد كانت الروح القبلية سائدة على المجتمع الإسلامي الفتيّ يومذاك ، وكان لرئيس القبيلة نفوذ واسع بين أفراد قبيلته ، وقد كان الولاء للقبيلة متوغلاً في
ص: 91
نفوسهم حتى بعد إسلامهم رغم ما تلقّوه من التعاليم الإسلامية والتربية القرآنية ، ولذلك كانت تلك النزعة تظهر بين الفينة والأُخرى وينشب بسببها النزاع ويكاد يتسع لولا حكمة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم وتدبيره.
ويكفي في ذلك ما رواه أهل السير في تفسير قوله سبحانه : ( يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَ لَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) .(1)
وقد نشب نزاع في العام السادس من الهجرة في أرض بني المصطلق عند ماء ، حيث تنازع رجلان أحدهما من المهاجرين والآخر من الأنصار على سقي الماء ، فاقتتلا ، فصرخ الأنصاري فقال : يا معشر الأنصار ، والآخر قال : يا معشر المهاجرين ، فاجتمع من كلٍّ رهطٌ بسيوفهم ، فلولا حكمة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم لسالت دماء في أرض العدو حيث قدم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال : « دعوها فانّها دعوى منتنة »(2)يعني أنّها كلمة خبيثة لأنّها من دعوى الجاهلية ، وجعل اللّه المؤمنين إخوة وحزباً واحداً.
وكم لهذا الموقف من نظائر في التاريخ ، وبإمكانك أن تقرأ دور شاس بن قيس الذي كان شيخاً من اليهود كيف خطّط لإثارة النعرات الطائفية بين الأوس والخزرج حتى كادت أن تندلع الفتنة بينهما مرة أُخرى إلا أنَّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أخمدها بحكمة بالغة ، قائلاً : يا معشر المسلمين اللّه اللّه ، أبدعوى الجاهلية وانا بين أظهركم بعد أن هداكم اللّه للإسلام وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، واستنقذكم به من الكفر ، وألّف به بين قلوبكم ».(3).
ص: 92
كل ذلك يدل على وجود رواسب الجاهلية بين قبيلتي الأوس والخزرج حتى بعد اعتناقهم الإسلام وانضوائهم تحت لوائه. ويشهد على ذلك مضافاً إلى ما مرّ ما أخرجه البخاري في صحيحه في قصة الإفك ، قال : قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو على المنبر : « يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي واللّه ماعلمت على أهلي إلاّ خيراً ، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلاّ خيراً ، وما يدخل على أهلي إلاّ معي ».
قالت عائشة : فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل ، فقال : أنا يا رسول اللّه أعذرك ، فإن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا.
قالت : فقام رجل من الخزرج وهو سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج - ، قالت : وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحميّة - فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمرو اللّه ، واللّه لا تقتله ولا تقدر على قتله ، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يُقتل.
فقام أسيد بن حضير ، وهو ابن عم سعد ، فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر اللّه ، لنقتلنّه ، فإنّك منافق تجادل عن المنافقين.
قالت عائشة : فثار الحيّان ( الأوس والخزرج ) حتى همُّوا أن يقتتلوا ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قائم على المنبر.
قالت : فلم يزل رسول اللّه يخفّضهم حتى سكتوا وسكت. (1)
فكيف يجوز والحال هذه أن يترك الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم أُمَّته المفطورة على العصبيات القبلية ، وعلى الاستئثار بالسلطة والزعامة وحرصهاً على النفس ، ورفض
ص: 93
سلطة الآخر ؟
فهل كان يجوز للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يترك تعيين مصير الخلافة لأُمَّة هذه حالها ، وفي تعيينه قطع لدابر الاختلاف والفرقة ؟
وهل كان من المحتمل أن تتفق كلمة الأُمَّة جمعاء على واحد ، ولا تخضع للرواسب القبلية ، ولا تبرز إلى الوجود مرة أُخرى ما مضى من الصراعات العشائرية وما يتبع ذلك من حزازات ؟
أم هل يجوز لقائد يهتم ببقاء دينه وأُمّته أن يترك أكبر الأُمور وأعظمها وأشدها دخالة في حفظ الدين ، إلى أُمة نشأت على الاختلاف ، وتربَّت على الفرقة ، مع أنّه كان يشاهد الاختلاف منهم في حياته أحياناً ، كما عرفت ؟
إنّ التاريخ يدل على أنّ هذا الأمر قد وقع بعد وفاة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم في السقيفة حيث سارعت كلّ قبيلة إلى ترشيح نفسها للزعامة ، منتحلة لنفسها أعذاراً وحججاً وطالبة ما تريد بكلّ ثمن حتى بتجاهل المبادئ وتناسي التعاليم الإسلامية والوصايا النبوية.
فقد ذكر ابن هشام تحت عنوان « أمر سقيفة بني ساعدة ، تفرق الكلمة » (1) نقلاً عن عمر بن الخطاب ما يدل على اختلاف الكلمة وعدم الاتفاق على أحد.
هذه صورة مصغرة من تاريخ المسلمين في العصر الأوّل ، وقد عرفت أنّ الأعداء كانوا يتربصون بالمسلمين الدوائر للقضاء عليهم من الخارج والداخل.
ص: 94
ومن جانب آخر كانت الرواسب القبلية خامرة في نفوسهم تبرز بين الحين والآخر.
فهذه الظروف تفرض على قائد حكيم كالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يفكِّر مليّاً في مستقبل الأُمة الإسلامية بعد رحيله ، فيخطّط تخطيطاً حكيماً للحيلولة دون مضاعفات الخطر الثلاثي والتعصبات القبلية التي تهدد كيان الإسلام وتقوّض أركانه من خلال نصب قائد بأمر من قبل اللّه سبحانه يقود الأُمة الإسلامية إلى ساحة الجهاد بُغية دفع الأخطار المحدقة بهم ، وبقداسته ومثاليته وكونه منصوباً من اللّه سبحانه يقطع دابر الخلاف في تعيين الخليفة ، وهذا بخلاف ما لو ترك الأُمة على حالها والعدو ببابها والنزاع القبلي على قدم وساق.
لم تبلغ الأُمّة الإسلامية - كما يشهد عليه التاريخ - المستوى الفكري الذي يؤهلها إلى تدبير أُمورها وإدارة شؤونها وقيادة سفينتها إلى ساحل الأمان دون حاجة إلى نصب قائد من اللّه سبحانه.
وقد كان عدم بلوغ الأُمّة هذا المستوى أمراً طبيعياً ، لأنّ إعداد أُمّة كاملة بحاجة إلى مزيد من الوقت ولا يتيسر ذلك في فترة وجيزة تبلغ 23 سنة ، وهي حافلة بأحداث مريرة ومشحونة بحروب طاحنة.
إنّ إعداد مثل هذه الأُمّة لا يمكن في العادة إلاّ بعد انقضاء جيل أو جيلين ، وبعد مرور زمن طويل يكفي لبلورة التعاليم الإسلامية ورسوخها في أعماق النفوس بحيث تخالط مفاهيمُ الدين دماءهم ، وتتمكن العقيدة في نفوسهم إلى حد
ص: 95
يحفظهم من التذبذب والتراجع إلى الوراء.
وهذا الحد من الكمال لم يكن حاصلاً في فترة قصيرة ، وتشهد على ذلك الأحداث والوقائع التي كشفت عن تأصُّل الأخلاق الجاهلية في نفوسهم وعدم تغلغل الإيمان في قلوبهم ، حتى أنّنا نجد أنّ القرآن يشير إلى ذلك تعليقاً على ما حدث ووقع منهم في معركة أُحد ، إذ يقول سبحانه : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ) .(1)
ويقول أيضاً : ( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ ) .(2)
وربما يتصوَّر أنّ هذه النكسات تختص بالسنين الأُولى من الهجرة ، ولا تختص بالسنين التي أعقبت وفاة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لانتشار الإسلام في الجزيرة العربية واعتناق خلق كثير منهم الإسلام ، ولكن التاريخ يرد تلك المزعمة ويثبت عدم بلوغهم الذروة في أمر القيادة بحيث تغنيهم عن نصب قائد محنّك من جانبه سبحانه.
وهذه هي غزوة « حنين » التي غزاها النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في السنة الثامنة ، وقد أُصيب المسلمون بهزيمة نكراء تركوا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في ساحة الوغى ولم ينصره سوى عدد قليل ، فلمّا رأى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم تفرَّق المسلمين حينها قارعهم بصوت عال ، وقال : « أيّها الناس هلمُّوا إليّ أنا رسول اللّه » ، إلى غير ذلك من الكلمات التي علّمها لعمَّه العباس حتى يُجهر بها ، وقد نقل القرآن الكريم إجمال تلك الهزيمة ، وقال : ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ
ص: 96
اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ) .(1)
إنَّ قوله سبحانه : ( وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ) يعرب عن عدم نهوضهم بمهمة الدفاع عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، ومثل هذه الأُمَّة بحاجة ماسّة إلى نصب قائد محنّك يلمَّ شعثهم ولا يصح تفويض أُمورها إلى جماعة هذه حالهم وهذا مقدار ثباتهم في ساحات الحرب والدفاع عن كيان الدين.
وهناك كلمة قيمة للشيخ الرئيس في بيان الأُسلوب الأفضل للحكومة الإسلامية حيث يقول : الاستخلاف بالنص أصوب ، فانّ ذلك لا يؤدي إلى التشعب والتشاغب والاختلاف.(2).
ص: 97
إنّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم هو القائد الذي تفانى في أداء رسالة ربّه وهداية أُمَّته بكلّ إخلاص وعزيمة ، ولم يكن شيء عنده أعزّ من هداية الناس وبقاء شريعته والنظام الذي يحمي الشريعة ، فعلى ذلك كان على مفترق طرق :
أ : أن ينصب قائداً محنكاً يخلفه في كلّ مهامه ويقطع دابر الخلافات بعده ويكون عمله نموذجاً للآخرين.
ب : أن يبيِّن معالم الحكومة وخصوصياتها بكلّ دقة وتفصيل ، حتى تستغني الأُمة بذلك عن التنصيب ويكون كلامه هو الملهم عبْر الأجيال في تعيين نوع الحكومة للمسلمين.
بيد أنّ التصور السائد عند أهل السنّة هو أنّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يسلك الطريق الأوّل ولم ينصب خليفة بعده ، بل ترك الأمر إلى الأُمَّة ، ومع ذلك لا يوجد في مجموع ما بأيدينا من الكتاب والروايات المروية في الصحاح والمسانيد شيء يرسم الخطوط العريضة لنوع الحكومة وأركانها وخصائصها وصفات الحاكم وبرامجه ، مع أنّه تكلم في أبسط الأُمور فضلاً عن أخطرها ، كما هو واضح لمن طالع الصحاح والمسانيد خصوصاً فيما يرجع إلى حياة الإنسان.
ص: 98
ولمّا وجد علماء أهل السنة أنفسهم أمام تلك المعضلة حاولوا حلَّ عقدتها بترسيم خطوط عريضة لحكومة إسلامية من عند أنفسهم تارة باسم الشورى ، وأُخرى باسم أهل الحل والعقد ، وثالثة باتخاذ حكومة الخلفاء الأربعة وما يليها أُسوة وبياناً لنوع الحكومة الإسلامية وخصوصياتها.
كلّ ذلك يعرب عن أنّ علماء أهل السنة لم يتجردوا عن كلّ رأي مسبق فأخذوا خصوصيات الحكومات القائمة بعد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حجّة شرعية للمسلمين عامة.
مع أنَّهم لم يعتمدوا في إقامة دعائم الحكومة على دليل قرآني أو سنة نبوية ، وإنّما وضعوا حلولاً استحسانية والتي لا تكون حجّة إلاّ على أنفسهم.
وها نحن نطرح هذه الفروض على بساط البحث كي يعلم مدى إتقانها.
هناك من اتخذ الشورى أساساً للحكم الإسلامي ، واستدلُّوا على ذلك بآيتين :
الأُولى : قوله سبحانه : ( ... وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ... ) (1) قائلين بأنّه سبحانه أمر نبيَّه بالمشاورة تعليماً للأُمَّة ، بأن يتشاوروا في مهام الأُمور ومنها الخلافة.
والذي يؤخذ عليه : انّ الخطاب موجّه إلى الحاكم الذي ثبت كونه حاكماً بوجه من الوجوه ثمّ أمره بالمشاورة في غير هذا الأمر. بأن يشاور أفراد الأُمّة فيما
ص: 99
يرجع إلى غير أصل الحكومة ، غاية الأمر يتعدّى عنه إلى غير النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم من أفراد الأُمّة ، لكن مع حفظ الموضوع ، وهو إذا تمت حكومة فرد وثبتت مشروعيته ، فعليه أن يشاور الأُمّة ، وأمّا المشاورة في تعيين الإمام والخليفة عن طريق الشورى فلا تعمُّه الآية.
الثانية : قوله سبحانه ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) .(1)
استدلُّوا بالآية على أنّ نوع الحكومة يتلخص في الشورى فإنّ إضافة المصدر ( أمر ) إلى الغير ( هم ) يفيد العموم والشمول لكل أمر ، ومنه الخلافة والإمامة فالمؤمنون بحسب هذه الآية يتشاورون في جميع أُمورهم حتى الخلافة.
يلاحظ عليه : أنّ الآية تأمر بالمشورة في الأُمور الموضوعة على عاتق المؤمنين فلابدّ أن يحرز أنّ هذا الأمر ( تعيين الإمام ) أمر مربوط بهم فما لم يحرز ذلك لم يجز التمسك بعموم الآية في مورده.
وبعبارة أُخرى انّ النزاع في أنّ الخلافة هل هي مفوّضة إلى الأُمَّة ، أو هي أمر مختص بالسماء ؟ ومادام لم يحرز كون هذا الموضوع من مصاديق الآية لا يحتج بها على أنّ صيغة الحكومة الإسلامية هي الشورى.
1. ومما يدل على أنّ الشورى لم تدخل حيز التنفيذ طيلة التاريخ هي انّ بيعة أبي بكر قد انعقدت بخمسة ، وهم : عمر بن الخطاب ، أبو عبيدة الجراح ، أسيد بن حضير ، بشر بن سعد ، وأسلم مولى أبي حذيفة.
ص: 100
ثمّ خرجوا من السقيفة وابوبكر قدّامهم يدعون الناس لمبايعته ، ولأجل ذلك كان عمر بن الخطاب يرفع عقيرته فوق المنبر ، ويقول : كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه المسلمين شرها.
وأمّا خلافة عمر فقد عقدت له الخلافة بتعيين الخليفة الأوّل ، وأمّا خلافة عثمان فقد حصر عمر الشورى في ستة أشخاص انتخبهم هو بنفسه ليعقدوا لأحدهم ، كما هو واضح من التاريخ.
2. لو كان أساس الحكم ومنشؤه هو الشورى ، لوجب على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم الخوض في تفاصيلها وخصوصياتها وأُسلوبها على الأقلّ. مع انّه لا نجد في الصحاح والمسانيد أثراً لذلك.
فلو كانت الشورى مبدأًً للحكومة لكان على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بيان حدود الشورى وتوعية الأُمَّة وإيقافها على ذلك حتى لا تتحيَّر بعد رحيله ، ومع الأسف الشديد لا نجد شيئاً من ذلك في كلام النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم .
ومن جملة الأُمور التي كان من المفروض بيانها ، هي :
أوّلاً : من هم الذين يجب أن يشتركوا في الشورى المذكورة ؟ هل هم العلماء وحدهم ، أو السياسيون وحدهم ، أو المختلط منهم ؟
ثانياً : من هم الذين يختارون أهل الشورى ؟
ثالثاً : لو اختلف أهل الشورى في شخص فبماذا يكون الترجيح ، هل يكون بملاك الكم ، أم بملاك الكيف ؟
إنّ جميع هذه الأُمور تتصل بجوهر مسألة الشورى ، فكيف يجوز ترك بيانها ، وتوضيحها وكيف سكت الإسلام عنها ، إن كان جعل الشورى طريقاً إلى تعيين الحاكم ؟
ص: 101
3. لو كانت الشورى مبدأًً للحكم لكانت واضحة المعالم فيما يمس متن الشورى ، ومنها العدد الذي تنعقد به الشورى ، وقد اختلفوا في عدد من تنعقد بهم الشورى إلى مذاهب شتى يذكرها الماوردي ( 364 - 450 ه ) في كتابه : « الاحكام السلطانية » ويقول :
الإمامة تنعقد بوجهين :
أحدهما : باختيار أهل العقد والحل.
والثاني : بعهد الإمام من قبل.
فأمّا انعقادها باختيار أهل العقد والحل ، فقد اختلف العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم على مذاهب شتى ، فقالت طائفة : لا تنعقد إلاّ بجمهور أهل العقد والحل من كلّ بلد ليكون الرضا به عاماً ، والتسليم لإمامته إجماعاً ، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر على الخلافة ، باختيار من حضرها ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها.
وقالت طائفة أُخرى : أقلُّ من تنعقد به منهم الإمامة ( خمسة ) يجتمعون على عقدها أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة ، استدلالاً بأمرين :
أحدهما : أنّ بيعة أبي بكر انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ، ثمّ تابعهم الناس فيها ، وهم : عمر بن الخطاب ، وأبوعبيدة الجرّاح ، وأسيد بن حضير ، وبشر ابن سعد ، وسالم مولى أبي حذيفة.
الثاني : أنّ عمر جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة ، وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلّمين من أهل البصرة.
وقال آخرون من علماء الكوفة : تنعقد بثلاثة يتولاّها أحدهم برضا الاثنين
ص: 102
ليكونوا حاكماً وشاهدين ، كما يصحّ عقد النكاح بولي وشاهدين.
وقالت طائفة أُخرى : تنعقد بواحد لأنّ العباس قال لعلي : أُمدد يدك أُبايعك ، فيقول الناس : عمّ رسول اللّه بايع ابن عمه ، فلا يختلف عليك اثنان ، ولأنّه حكم وحكم الواحد نافذ. (1)
وهذه الوجوه تسقط كون الشورى أساس الحكم وأنّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ارتحل واعتمد في صيانة دينه بنظام مبني على الشورى وهي مجملة من جهات شتى.
هل البيعة سبيل إلى تعيين الحاكم الإسلامي وأساس له. وقد اتخذه غير واحد ممن كتب في نظام الحكومة الإسلامية أساساً لها ، وقد أمضاها النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن غير موضع ، حيث بايعه أهل المدينة في السنة 11 و 12 و 13 من البعثة ، بايعوه على أن لا يشركوا باللّه ولا يسرقوا ولا يقترفوا فاحشة.
كما بايعوه في البيعة الثانية على نصرته والدفاع عنه ، كما يدافعون عن أولادهم وأهليهم. (2)
إنّ الموارد التي بايع فيها المسلمون رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لا تنحصر في هذين الموردين بل توجد في موارد أُخرى ، أعظمها وأفضلها بيعة الرضوان المذكورة في تفسير قوله سبحانه : ( لَّقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ
ص: 103
فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) .(1)
يذكر المفسرون أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بعث رسولاً في صلح الحديبية إلى قريش ، وقد شاع أنَّ مبعوث النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قد قتل ، فاستعدّ المسلمون للانتقام من قريش ، ولمّا رأى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنّ الخطر على الأبواب ، وبما أنّ المسلمين لم يخرجوا للقتال وإنّما خرجوا للعمرة ، قرر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يُجدِّد بيعته مع المسلمين فجلس تحت شجرة وأخذ أصحابه يبايعونه على الاستقامة والثبات والوفاء واحداً بعد الآخر ، ويحلفون له أن لا يتخلّوا عنه أبداً وأن يدافعوا عن حياض الإسلام حتى النفس الأخير ، وقد سميت هذه البيعة « بيعة الرضوان ».(2)
وقد بايعت المؤمنات النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في فتح مكة ، وقد ذكر التفصيلَ قوله سبحانه وقال : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) .(3)
لو أمعن القارئ الكريم في تفاصيل الموارد التي بايع فيها المسلمون - كلّهم أو بعضهم - قائدهم يقف على أنَّه لم تكن الغاية من البيعة الاعتراف بزعامة الرسول ورئاسته فضلاً عن نصبه وتعيينه ، بل كان الهدف التأكيد العملي
ص: 104
على الالتزام بلوازم الإيمان المسبق ، ولذلك نجد جرير بن عبداللّه ، قال : بايعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم على إقام الصَّلاة ، وإيتاء الزَّكاة ، والنصح لكلِّ مسلم.(1)
وقال أيضاً : « وأن تدفعوا عني العدو حتى الموت(2)ولا تفرُّوا من الحرب ».(3)
والحاصل أنّ البيعة كانت تأكيداً للإيمان الذي أظهروه برسالته ونبوَّته فلازم ذلك إطاعة قوله وأمره ، فكانت البيعة تأكيداً لما أضمروا من الإيمان.
نعم لا يمكن أن ينكر أنّ البيعة في العهود التي أعقبت وفاة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كانت طريقاً لتنصيب الحاكم وذلك تقليداً للجاهلية ، حيث كان الرائج فيها انّه إذا مات أمير أو رئيس عمدوا إلى شخص فأقاموه مقام الراحل من خلال البيعة.
والظاهر أنّ تعيين بعض الخلفاء من خلال البيعة كان تقليداً لما كان رائجاً بينهم قبل الإسلام ، ولا يكون هذا دليلاً تاريخياً أو شرعياً على أنّ البيعة طريق لتعيين الخليفة ، بغض النظر عن سائر المواصفات والضوابط ، وغاية ما هناك أنّ البيعة إحدى الطرق فيما لم يكن هناك نص إذا كان المبايع واجداً للملاكات والمواصفات التي يجب أن يتمتع بها الحاكم.
ص: 105
دلّت البحوث السابقة على أنّ الشورى والبيعة ليسا أساس الحكم ، فحان البحث لبيان نظرية الحكم في كلمات النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم.
والسبر في كلماته طيلة حياته من البعثة إلى الوفاة ، يُثبت أنّ الإمامة عنده كالنبوة أمر موكول إلى اللّه تبارك وتعالى وليس للأُمّة حتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فيها دور.
إنّ الكلمات المأثورة عن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم وموقفه من قضية القيادة ، تعرب عن أنّه كان يعتبر أمر القيادة وتعيين القائد مسألة إلهية وحقاً إلهياً ، فاللّه سبحانه هو الذي له أن يعّين القائد وينصب خليفة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بعد رحيله ، نجد ذلك في كلماته بوفرة ولا نجد في كل ما نقل عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ما يدل على إرجاع الأمر إلى اختيار الأُمّة ونظرها ، أو آراء أهل الحلّ والعقد ، وها نحن نذكر هنا شاهدين من كلمات الرسول يكشف الستار عن وجه الحقيقة.
1. لما عرض الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم نفسه على بني عامر الذين جاءوا إلى مكة في موسم الحجّ ودعاهم إلى الإسلام. قال له كبيرهم : أرأيت ان نحن بايعناك على أمرك ثمّ أظهرك اللّه على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ؟
ص: 106
فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : « الأمر إلى اللّه يضعه حيث يشاء ». (1)
2. لما بعث النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم سليط بن عمرو العامري إلى ملك اليمامة ( هوذة بن علي الحنفي ) الذي كان نصرانياً ، يدعوه إلى الإسلام وقد كتب معه كتاباً ، فقدم على هوذة ، فأنزله وحباه وكتب إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول فيه : ( ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله وأنا شاعر قومي ، وخطيبهم ، والعرب تهاب مكاني فاجعل لي بعض الأمر أتبعك ).
فقدم سليط على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وأخبره بما قال هوذة ، وقرأ كتابه ، فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : « لو سألني سيابة من الأرض ما فعلت ، باد وباد ما في يده ». (2)
ونقل ابن الأثير على نحو آخر ، فقال : أرسل هوذة إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وفداً فيهم مُجاعة بن مرارة والرّجال بن عنفوة ، يقول له :
إن جعل الأمر له من بعده أسلم وصار إليه ونصره ، وإلاّ قصد حربه.
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « لا ولا كرامة ، اللّهم اكفنيه » ، فمات بعده بقليل. (3)
إنّ هذين النموذجين التاريخيين اللَّذين لم تمسّهما يد التحريف والتغيير يدلاّن بوضوح كامل على أنّ رؤية النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في مسألة الحكم والخلافة هي انّها أمر سماويّ خارج عن صلاحيته ، فالإرجاع إلى اللّه وضرب الصفح عن الشورى والبيعة أو الاستفتاء العام خير دليل على كونه منصباً إلهياً ، والعجب انّه لم يكن هذا رُؤى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في مورد الحكم فقط بل كانت الصحابة بعد رحيله يسيرون على هذا النهج غير انّهم بدّلوا التنصيب الإلهي بتنصيب الخليفة لمن يقوم مكانه بعده.
ص: 107
3. وهذا هو أبو بكر عيَّن عمر بن الخطاب للخلافة في عهد كتبه عثمان ابن عفان.(1)
4. كما أنّه تم استخلاف عثمان عن طريق الشورى الستة التي عيَّن اعضاءها عمر بن الخطاب.(2)
5. وقد كانت السيدة عائشة تتبنى نظرية التنصيب من جانب الخليفة ، وقالت لعبد اللّه بن عمر : يا بني بلِّغ عمر سلامي ، فقل له لا تدع أُمّة محمد بلا راع ، استخلف عليهم ولا تدعهم بعدك هملاً ، فانّي أخشى عليهم الفتنة ؛ فأتى عبد اللّه إلى أبيه فأعلمه.(3)
والعجب انّ أُمّ المؤمنين التفتت إلى أنَّ ترك الأُمة هملاً يورث الفتنة ، ولكن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حسب زعم القوم - لم يلتفت إلى تلك النكتة - فلقي اللّه سبحانه وترك الأُمّة هملاً !!!
6. انّ عبد اللّه بن عمر دخل على أبيه قُبيل وفاته ، فقال : إنّي سمعت الناس يقولون مقالة فآليت أن أقولها لك ، وزعموا انّك غير مستخلف ، وانّه لو كان لك راعي إبل أو راعي غنم ثمّ جاءك وتركها لرأيت أن قد ضيَّع ، فرعاية الناس أشد.(4)
7. قدم معاوية المدينة ليأخذ من أهلها البيعة ليزيد ، فاجتمع مع عدّة من الصحابة ، وأرسل إلى ابن عمر فأتاه وخلا به ، فكلّمه بكلام ، قال : إنّي كرهت أن أدع أُمّة محمد بعدي كالضعن بلا راع لها.(5).
ص: 108
هذه النصوص تدل بجلاء على أنّ انتخاب الخليفة عن طريق الاستفتاء الشعبي ، أو بمراجعة أهل الحلّ والعقد ، أو اتفاق الأنصار والمهاجرين ، أو بالشورى ، أو بالبيعة كلها فروض اختلقها المتكلّمون بعد تمامية الخلافة للخلفاء ، ولم يكن أي أثر من هذه العناوين بعد رحيل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إلاّ شيئاً لا يذكر عند محاجة علي عليه السلام مع المتقمّصين منصَّة الخلافة.
هذه الكلمات تعرب عن أنّ نظرية التنصيب هي التي كانت مهيمنة على الأفكار والعقول.
لقد بلّغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم خلافة علي عليه السلام بصورة رسمية في غدير خم كما سيوافيك ، ولكن لم يكن ذلك البلاغ بصورة عفوية بل هيّأ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أرضيته منذ أن صدع بالنبوّة في مواقف مختلفة نذكر منها :
يقول المفسرون : لمّا نزل قوله سبحانه : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ ) (1) أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عليّ بن أبي طالب عليه السلام أن يعد طعاماً ولبناً ، فدعا خمسةًً وأربعين رجلاً من وجوه بني هاشم ، ولما فرغوا من الطعام تكلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فقال : « إنّ الرائد لا يكذب أهله ؛ واللّه الذي لاإله إلاّ هو إنّي رسول اللّه إليكم خاصة ، وإلى الناس عامة ، واللّه لتموتُنّ كما تنامون ، ولتبعثنّ كما تستيقظون ، ولتحاسبُنَّ بما تعملون ، وإنّها الجنّة أبداً أو النار أبداً.
ص: 109
ثمّ قال :
يا بني عبد المطلب إنّي واللّه ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به ، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني اللّه عزّ وجلّ أن أدعوكم إليه فأيُّكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم ؟
ولمّا بلغ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى هذه النقطة ، وبينما أمسك القوم وسكتوا عن آخرهم وأخذوا يفكّرون مليّاً في ما يؤول إليه هذا الأمر العظيم ، وما يكتنفه من أخطار قام علي عليه السلام فجأة ، وهو آنذاك في الثالثة أو الخامسة عشرة من عمره ، وقال وهو يخترق بكلماته الشجاعة جدار الصمت والذهول :
أنا يا رسول اللّه أكون وزيرك على ما بعثك اللّه.
فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : اجلس ، ثمّ كرّر دعوته ثانية وثالثة وفي كلّ مرة يحجم القوم عن تلبية دعوته ، ويقوم علي ويعلن عن استعداده لمؤازرة النبي ، ويأمره رسول اللّه بالجلوس حتى إذا كانت المرة الثالثة أخذ رسول اللّه بيده والتفت إلى الحاضرين من عشيرته الأقربين ، وقال :
إنّ هذا أخي ، ووصيي ، وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا.
فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع وجعله عليك أميراً. (1)
هذا موجز ما ذكره المفسرون والمحدّثون حول الآية ، وفي صحاحهم ومسانيدهم.
ص: 110
وهناك من حرّف الكلم عن مواضعه ، أو حرّفها المستنسخون في كتبهم :
1. منهم محمد بن جرير الطبري ( المتوفّى عام 310 ه ) حيث ذكر في تاريخه حديث بدء الدعوة كما نقلناه غير أنّه حرف الكلم في موضعين :
أحدهما : قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : « على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي » وضع في مكانه قوله : « على أن يكون كذا وكذا ».
ثانيهما : قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي » حيث حرّفه إلى قوله : إنّ هذا أخي وكذا وكذا.
ونحن لا نتَّهم الطبري شخصاً بالتحريف ، ولكن يحتمل تطرق التحريف إلى تفسيره من جانب النُّسّاخ ، بشهادة سرد الواقعة في تاريخه برمّتها دون أدنى تحريف.
2. منهم ابن كثير ( المتوفّى عام 774 ه ) : فقد حرف الكلم عن مواضعه في تفسيره وتاريخه ولم يقتنع بالتحريف في مكان واحد. (1)
ولا نستبعد أن يكون التحريف مستنداً إلى نفس المؤلف لأنَّ له مواقف معادية من أهل بيت النبوة عليهم السلام.
ومما يثير الاستغراب أن تصدر تلك الهفوة من وزير المعارف المصرية « حسنين هيكل » الأسبق فقد أثبت في الطبعة الأُولى من كتابه « حياة محمد » قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : أيُّكم يؤازرني على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي ، ولم يذكر خطاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام عند ما أعلن مؤازرته له وهو قوله : إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي.
ولكنّه ارتكب في الطبعات الأُخرى جناية كبيرة بحذفه كلتا الجملتين من
ص: 111
رأس وكأنّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يتفوه بها وكأنّ الكاتب لم يذكر إحدى الجملتين في الطبعة الأُولى ، وبذلك أسقط كتابه عن أيَّة قيمة علمية.
فلو كان هذا هو الميزان في ضبط الحقائق لثبت أنّ كثيراً من فضائل آل البيت عليهم السلام لعبت بها يد التحريف الجانية وما بقي ليس إلاّ فلتات التاريخ.
لم تزل الشيعة عن بكرة أبيهم يستدلون على إمامة علي عليه السلام وقيادته وزعامته بعد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بقوله سبحانه : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) . (1)
استدلت الشيعة بهذه الآية على أنّ عليّاً عليه السلام وليّ المسلمين بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، قائلين بأنّ الآية تعد الولي - بعد اللّه ورسوله - الّذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة في حال الركوع ، وقد تضافرت الروايات بأنّ عليّاً عليه السلام تصدّق بخاتمه وهو راكع فنزلت الآية في حقّه.
أخرج الحفاظ وأئمّة الحديث عن أنس بن مالك وغيره أنّ سائلاً أتى المسجد وعليٌّ عليه السلام راكعٌ فأشار بيده للسائل ، أي اخلع الخاتم من يدي. قال رسول اللّه : يا عمر وجبت. قال : بأبي أنت وأُمّي يا رسول اللّه ما وجبت ؟! قال : وجبت له الجنّة ، واللّه ما خلعه من يده حتّى خلعه اللّه من كلِّ ذنب ومن كلِّ خطيئة. قال : فما خرج أحدٌ من المسجد حتّى نزل جبرئيل بقوله عزّ وجلّ : ( إِنَّمَا
ص: 112
وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) . فأنشأ حسّان بن ثابت يقول :
أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي *** بطيءٍ في الهدى ومسارع
أيذهب مدحي والمحبّين ضايعاً ؟! *** وما المدح في ذات الإله بضائع
فأنت الذي أعطيت إذ أنت راكعٌ *** فدتك نفوس القوم يا خير راكع
بخاتمك الميمون يا خير سيّدٍ *** ويا خير شارٍ ثمّ يا خير بائع
فأنزل فيك اللّه خير ولاية وقد وكلّ *** وبيَّنها في محكمات الشرائع (1)
وقد أخرجه ابن جرير الطبري (2) والحافظ أبوبكر الجصاص الرازي في أحكام القرآن (3) والحاكم النيسابوري ( المتوفّى 504 ه ) (4) والحافظ أبو الحسن الواحدي النيسابوري ( المتوفّى 468 ه ) (5) وجار اللّه الزمخشري ( المتوفّى 538 ه ) إلى غير ذلك من أئمّة الحفاظ وكبار المحدثين ربما ناهز عددهم السبعين ، وهم بين محدّث ومفسّر ومؤرخ ويطول بنا الكلام لو قمنا بذكر أسمائهم ونصوصهم ، وكفانا في ذلك مؤلّفات مشايخنا في ذلك المضمار. (6)
ص: 113
ولا يمكن لنا إنكار هذه الروايات المتضافرة لو لم تكن متواترة ، فانّ اجتماعهم على الكذب أو على السهو والاشتباه أمر مستحيل.
والمراد من الولي في الآية المباركة هو الأولى بالتصرف كما في قولنا : فلان وليّ القاصر ، وقول الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم « أيّما امرأة نُكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل » وقد صرّح اللغويّون ومنهم الجوهري في صحاحه بأنّ كلّ من ولي أمر أحد فهو وليّه ، فيكون المراد : انّ الّذي يلي أُموركم فيكون أولى بها منكم إنّما هو اللّه عزّوجلّ ورسوله ومن اجتمعت فيه هذه الصفات : الإيمان وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة في حال الركوع. ولم يجتمع يوم ذاك إلاّ في الإمام علي عليه السلام حسب النصوص المتضافرة.
وفي حقّه نزلت هذه الآية.
والدليل على أنّ المراد من الولي هو الأولى بالتصرّف أنّه سبحانه أثبت في الآية الولاية لنفسه ولنبيّه ولوليّه على نسق واحد ، وولاية اللّه عزّوجلّ عامة فولاية النبي والولي مثلها وعلى غرارها. غير انّ ولاية اللّه ، ولاية ذاتية وولاية الرسول والولي مكتسبة معطاة ، فهما يليان أُمور الأُمّة بإذنه سبحانه.
ولو كانت الولاية المنسوبة إلى اللّه تعالى في الآية غير الولاية المنسوبة إلى الّذين آمنوا » لكان الأنسب أن تفرّد ولاية أُخرى للمؤمنين بالذِّكر ، دفعاً للالتباس ، كما نرى نظيرها في الآيات التالية :
قال تعالى : ( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) . (1)
نرى أنّه سبحانه كرر لفظ الإيمان ، وعدّاه في أحدهما بالباء ، وفي الآخر
ص: 114
باللاّم لاختلاف في حقيقة إيمانه باللّه ، وللمؤمنين حيث إنّ إيمانه باللّه سبحانه إيمان جدّي وتصديق واقعي ، بخلاف تصديقه للمؤمنين المخبرين بقضايا متضادة حيث لا يمكن تصديق الجميع تصديقاً جدّياً ، والذي يمكن هو تصديقهم بالسماع وعدم الرفض والرد ، ثمّ التحقيق في الأمر ، وترتيب الأثر على الواقع المحقّق.
وممّا يكشف عن وحدة الولاية في الآية المبحوثة انّه سبحانه أتى بلفظ « وليكم » بالإفراد ، ونسبه إلى نفسه وإلى رسوله وإلى الّذين آمنوا ، ولم يقل : « إنّما أولياؤكم » ، وما هذا إلاّ لأنّ الولاية في الآية بمعنى واحد وهو : الأولى بالتصرف ، غير أنّ الأولوية في جانبه سبحانه بالأصالة وفي غيره بالتبعية.
وعلى ضوء ذلك يُعلم أنّ القصر والحصر المستفاد من قوله : « إنّما » لقصر الإفراد ، وكأنّ المخاطبين يظنون أنّ الولاية عامّة للمذكورين في الأُمة وغيرهم ، فأُفرد المذكورون للقصر ، وأنّ الأولياء هؤلاء لا غيرهم.
ثمّ يقع الكلام في تبيين هؤلاء الّذين وصفهم اللّه سبحانه بالولاية وهم ثلاثة :
1. اللّه جلّ جلاله.
2. ورسوله الكريم صلى اللّه عليه وآله وسلم .
وهما غنيان عن البيان.
3. فبما أنّه كان مبهماً بيّنه بذكر صفاته وخصوصياته الأربع :
1. ( الَّذِينَ آمَنُوا ) .
2. ( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ) .
3. ( وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ) .
ص: 115
ولا شكّ أنّ هذه السمات ، سمات عامة لا تميّز الولي عن غيره.
فالمقام بحاجة إلى مزيد توضيح يجسّد الولي ويحصره في شخص خاص لا يشمل غيره ، ولأجل ذلك قيّده بالسمة الرابعة أعني قوله : ( وَهُمْ رَاكِعُونَ ) .
وهي جملة حاليّة لفاعل « يؤتون » ، وهو العامل فيها. وعند ذلك انحصر في شخص خاص على ما ورد في الروايات المتضافرة.
هذا هو منطق الشيعة في تفسير الآية لا تتجاوز في تفسيرها عن ظاهرها قيد أنملة.
تقدّم أنَّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قد فوَّض في كلامه أمر الخلافة إلى اللّه سبحانه ، فقد كان يترصد أمره سبحانه في ذلك المجال حتى وافاه الوحي ، وخاطبه بقوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) .(1)
نزلت الآية الشريفة يوم الثامن عشر من ذي الحجة سنة حجة الوداع في العام العاشر من الهجرة ، لما بلغ النبي الأعظم غدير خم فأتاه جبرئيل بها ، فقال : يا محمد إنّ اللّه يقرئك السلام ويقول لك : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) وكان أوائل القوم قريبين من الجحفة ، فأمرُه أن يرد من تقدّم منهم ، ويحبس من تأخر عنهم في ذلك المكان ، وأن يقيم عليّاً عليه السلام علماً للناس ويبلغهم ما أنزل اللّه فيه وأخبره بأنّ اللّه عزّوجلّ قد عصمه من الناس.
ص: 116
وقد اتّفقت الشيعة الإمامية على نزول الآية في يوم غدير خم ، وافقهم على ذلك لفيف من المحدّثين والمؤرِّخين ، فقد ذكر الواقعة الطبري في تفسيره ، كما رواها السيوطي في الدر المنثور عن جماعة من الحفاظ ، منهم :
1. الحافظ ابن أبي حاتم أبو محمد الحنظلي الرازي ( المتوفّى 327 ه ).
2. الحافظ أبو عبد اللّه المحاملي ( المتوفّى 330 ه ).
3. الحافظ أبو بكر الفارسي الشيرازي ( المتوفّى 407 ه ).
4. الحافظ ابن مردويه ( المتوفّى 716 ه ).
وغيرهم من أعلام الحديث والتاريخ ، وقد جمع المحقّق الأميني أسماء من روى نزول هذه الآية في يوم غدير خم من أصحاب السنّة فبلغ 30 رجلاً. (1)
وعلى كلّ حال فقد قام النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بتحقيق البلاغ في يوم غدير خم ، فخطب خطبة ، وقال : « أيّها الناس ، إنّي أوشك أن أُدعى فأُجِبْتُ ، وإنّي مسؤول وأنتم مسؤولون ، فماذا أنتم قائلون ؟ »
قالوا : نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت ، وجهدت ، فجزاك اللّه خيراً.
قال : « ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله ، وأنّ جنته حق ، وناره حق ، وأنّ الموت حقّ ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها ، وأنّ اللّه يبعث من في القبور ؟ »
قالوا : بلى نشهد بذلك.
قال : « اللّهمّ اشهد » ، ثمّ قال : أيّها الناس ، ألا تسمعون ؟
قالوا : نعم.
ص: 117
قال : « فإنّي فرط على الحوض ، فانظروني كيف تخلّفوني في الثقلين ».
فنادى مناد : وما الثقلان يا رسول اللّه ؟
قال : « الثقل الأكبر ، كتاب اللّه ، والآخر الأصغر عترتي ، وإنّ اللطيف الخبير نبَّأني انَّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ».
ثمّ أخذ بيد علي فرفعها ، حتى رؤي بياض آباطهما ، وعرفه القوم أجمعون ، فقال : « أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم ؟ ».
قالوا : اللّه ورسوله أعلم.
قال : « إنّ اللّه مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم.فمن كنت مولاه ، فعليّ مولاه » - يقولها ثلاث مرات -
ثمّ قال : « اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وأحبّ من أحبّه ، وابغض من أبغضه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحقّ معه حيث دار ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب ».
ثمّ لم يتفرقوا حتى نزل أمين وحي اللّه بقوله :
( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) الآية ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « اللّه أكبر على إكمال الدين ، وإتمام النعمة ورضى الربّ برسالتي ، والولاية لعليّ من بعدي ».
ثمّ أخذ الناس يهنِّئون علياً ، وممن هنّأه في مقدم الصحابة الشيخان أبو بكر وعمر ، كلّ يقول : بخ بخ ، لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة.
وقال حسان : ائذن لي يا رسول اللّه أن أقول في عليٍّ أبياتاً ، فقال : قل على
ص: 118
بركة اللّه ، فقام حسان ، فقال :
يناديهم يوم الغدير نبيهم *** بخمٍّ واسمع بالرسول منادياً
فقال فمن مولاكم ونبيكم *** فقالوا ولم يُبدوا هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنت نبيّنا *** ولم تلق منا في الولاية عاصياً
فقال له قم يا عليُّ فإنّني *** رضيتك من بعدي إماماً وهادياً
فمن كنت مولاه فهذا وليُّه *** فكونوا له أتباع صدق مواليا
هناك دعا اللّهمّ وال وليّه *** وكن للذي عادى عليّاً معادياً
فلمّا سمع النبي أبياته ، قال : « لا تزال يا حسّان مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك ». (1)
إنّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وإن أشار إلى ولاية الإمام علي بن أبي طالب بعد رحيله ، فتارة في بدء الدعوة ، وأُخرى في غزوة تبوك (2) ، غير انّما ذكره متقدماً على حديث الغدير لم يكن بياناً رسمياً لعامة الأُمة بل كانت بلاغات مقطعية ، وأمّا في ذلك اليوم فقد قام بإبلاغ المحتشد العظيم على نحو أخذ منهم الإقرار والاعتراف بولاية علي عليه السلام .
وبذلك أكمل دعائم دينه وأتم نعمة اللّه عليهم كما سيوافيك.
وأمّا تواتر الحديث فحدّث عنه ولا حرج ، فقد رواه من الصحابة ما يربو على 120 صحابياً وأمّا من التابعين ما يقارب 84 تابعياً ، وأمّا العلماء الذين نقلوه عبر القرون فيزيد على 360 عالماً ، تجد نصوصهم وأسماءهم وأسماء كتبهم
ص: 119
بتفصيل في كتاب الغدير.(1)
ولا أظن انّ ذا مسكة ومن له إلمام بعلم الحديث وقراءة الصحاح والمسانيد ينكر صحة حديث الغدير أو تضافره بل تواتره ، ولو أنكره فإنّما أنكره بلسانه لا بجنانه وقلبه اللّهمّ إلاّ إذا كان غير ملم بعلم الحديث.
وإنّما المهم دلالة الحديث على ولاية الإمام وإمامته.
وقد استخدم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لفظة « مولى » وقال : « من كنت مولاه » فهي بمعنى أولى ، كما في قوله سبحانه : ( فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ المَصِيرُ ) .(2)
والمعنى أولى بكم النار كما فسره غير واحد من المفسرين ، وهناك قرائن تؤيد على أنّ المقصود من المولى هو الأولى. الوارد في قوله سبحانه : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) .(3)
وهناك قرائن لفظية محفوفة بالحديث وقرائن حالية تثبت انّ المراد من المولى هو الأولى الوارد في الآية المتقدمة ، وإليك تلك القرائن :
القرينة الأُولى : قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم في صدر الحديث : « أَلَسْتُ أولى بِكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ » وهو دليل على أنّ المراد من قوله : « فمن كنت مولاه » هو الأولى وذلك لأنّه رتب الثاني على الأوّل.
القرينة الثانية : دعاؤه في صدر الحديث : « اللّهم وال من والاه ، وعاد من عاداه » فلو أُريد منه غير الأولى بالتصرّف فما معنى هذا التطويل ؟ فانّه لا يلتئم
ص: 120
ذكر هذا الدعاء إلاّ بتنصيب علي عليه السلام مقاماً شامخاً يؤهله لهذا الدعاء.
القرينة الثالثة : أخذ الشهادة من الناس ، حيث قال صلى اللّه عليه وآله وسلم : « ألستم تشهدون أن لاإله إلاّ اللّه وأنّ محمّداً عبده ورسوله » فانّ وقوع « من كنت مولاه » في سياق الشهادة بالتوحيد والرسالة والمعاد ، يُحقق كون المراد الإمامة والخلافة الملازمة للأولوية على الناس.
القرينة الرابعة : التكبير على إكمال الدين حيث لم يتفرقوا بعد كلامه حتى نزل إليه الوحي ، بقوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : اللّه أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي والولاية لعلي من بعدي ، فبأي معنى يكمل به الدين وتتم به النعم ويرضى به الرب في عداد الرسالة ، غير الإمامة التي بها تمام الرسالة وكمال نشرها وتوطيد دعائمها.
القرينة الخامسة : نعى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نفسه إلى الناس حيث قال : « كأنِّي دعيت فأجبت » ، وفي نقل آخر انّه يوشك أن أُدعى فأُجيب ، وهو يعطي هذا الانطباع انّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قد بلّغ أمراً مهمّاً كان يحذر أن يدركه الأجل قبل الإشارة إليه ، وهو يعرب عن كون ما أشار إليه في هذا المحتشد هو تبليغ أمر مهم يخاف فوته وليس هو إلاّ الإمامة.
القرينة السادسة : الأمر بإبلاغ الغائبين حيث أمر في آخر خطبته بأن يبلغ الشاهد الغائب ، فلو لم يكن هذا الأمر الإمامة فما معنى هذا التأكيد ؟!
إلى غير ذلك من القرائن التي استقصاها شيخنا الأميني في غديره. (1)
وقد أفرغ أُدباء الإسلام حديث النبي في قالب الشعر ، فترى أنّهم يعبرون عن
ص: 121
حديث الغدير بقرائضهم وقصائدهم ، وفي ذلك دلالة باهرة على أنّ المراد من المولى هي الأولوية ، وها نحن نذكر شيئاً ممّا أنشد في عصر الرسالة أو بعده وراء مانقلناه عن حسان بن ثابت.
قال علي عليه السلام في أُرجوزته :
وأوجب لي ولايته عليكم *** رسول اللّه يوم غدير خم (1)
وقال قيس بن سعد بن عبادة ذلك الصحابي العظيم :
وعليٌّ إمامنا وإمامٌ *** لسوانا أتى به التنزيلُ
يوم قال النبيُّ من كنت مولا *** ه فهذا مولاه خطبٌ جليلٌٌ(2)
إنّ داهية العرب عمرو بن العاص أنشد قصيدة طويلة معروفة بالجلجلية معترضاً فيها على معاوية حيث لم يف بما وعده ، وجاء فيها ما يلي :
وكم قد سمعنا من المصطفى *** وصايا مخصّصة في علي
وفي يوم خم رقى منبراً *** يُبلّغ والركب لم يرحلِ
فأنحله إمرة المؤمنين *** من اللّه مُستخلف المنحلِِ(3)
إلى غير ذلك من القصائد والمنظومات والأراجيز لأُدباء العصر وشعراء الإسلام الَّذين يحتجّ بقولهم وكلماتهم ، فقد صَبُّوا حديث الغدير في قرائضهم ولم يفهم الجميع منها إلاّ الأولوية ، كأولوية الرسول التي هي مناط الإمامة والخلافة ، فلو لم يكن القائد أولى من المقود لما كان لكلامه نفوذ.
وفي الختام نذكر نزول آية إتمام النعمة في حقّ علي عليه السلام ليُعلم أنّ حديث
ص: 122
الغدير محفوف بآيتين : آية قبل النزول وهي آية التبليغ ، وآية بعده وهي آية الإكمال ، قال سبحانه : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) .
أصفقت الإمامية عن بكرة أبيهم على نزول هذه الآية الكريمة حول نص الغدير بعد أصحار النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بولاية مولانا أمير المؤمنين عليه السلام بألفاظ درّية صريحة ، فتضمَّن نصّاً جليّاً عرفته الصحابة وفهمته العرب فاحتج به من بلغه الخبر ، وصافق الإماميَّة على ذلك كثيرون من علماء التفسير وأئمة الحديث وحفظة الآثار من أهل السنة ، وهو الذي يساعده الاعتبار ويؤكّده النقل الثابت في تفسير الرازي ( 3 / 529 ) عن أصحاب الآثار : انّه لمّا نزلت هذه الآية على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يُعمّر بعد نزولها إلاّ أحداً وثمانين يوماً أو اثنين وثمانين ، وعيَّنه أبو السعود في تفسيره بهامش تفسير الرازي : (3 / 523 ) وذكر المؤرخون منهم : انّ وفاته صلى اللّه عليه وآله وسلم في الثاني عشر من ربيع الأوّل ، وكأنّ فيه تسامحاً بزيادة يوم واحد على الاثنين وثمانين يوماً بعد إخراج يومي الغدير والوفاة.
وعلى أي حال فهو أقرب إلى الحقيقة من كون نزولها يوم عرفة ، كما جاء في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما لزيادة الأيام حينئذ ، على أنّ ذلك معتضد بنصوص كثيرة لا محيص عن الخضوع لمفادها. (1)
وقد أُثيرت حول الاستدلال بالآية إشكالات من قبل الإمام الفخر الرازي ( 543 - 608 ه ) في تفسيره الكبير. (2)
ص: 123
تم البحث حول الإمامة والخلافة، وكما ذكرنا في المقدمة لمّا كان بين الإمامة والتعرف علی أهل البيت عليهم السلام صلة وثيقة عقدنا فصلاً حول أهل البيت في القرآن الكريم يتناول سماتهم و حقوقهم عليهم السلام.
ص: 124
لقد حاز أهل البيت عليهم السلام على أهمية بالغة في القرآن الكريم ، وأشار إليهم في غير واحد من آياته ببيان سماحتهم ، وحقوقهم ، وما يمت إليهم بصلة ، لا سيما آية التطهير المعرفة بين المسلمين ، أعني : قوله سبحانه : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) .
ولأجل أهمية الموضوع ألّف غير واحد من علماء الفريقين كتباً ورسائل حوله ، أفاضوا فيها الكلام حول هوية أهل البيت ومناقبهم وفضائلهم.
وقد استرعى انتباهي في الفترة الأخيرة كتابان حول أهل البيت : أحدهما : « حقوق أهل البيت عليهم السلام » لابن تيمية ( المتوفّى عام 728 ه ) ، والآخر : « الشيعة وأهل البيت » للكاتب المعاصر إحسان إلهي ظهير حيث بذلا الوسع لبيان نزول الآية في نساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم والكاتب الثاني أشدّ بخساً في هذا المجال. وقد أنصف الكتاب الأوّل بعض الإنصاف.
هذا وذاك ممّا دعاني إلى تبيين هوية أهل البيت من خلال القرائن الموجودة في الآية والروايات المتضافرة ، مضافاً إلى بيان سماتهم وحقوقهم عسى أن يجبر بعض ما هضم من حقوقهم في ذينك الكتابين خصوصاً الكتاب الأخير.
وأود أن أشير في الختام إلى نكتة وهي انّ آية التطهير لحنها الحن الثناء والتمجيد على أهل البيت عليهم السلام في حين انّ لحن الآيات الواردة في نساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم النصح والوعظ تارة ، والتنديد والتوبيخ أُخرى.
ص: 125
أمّا الأوّل في الآيات الواردة في سورة الأحزاب.
يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً ) .(1)
( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا ) .(2)
( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا ) .(3)
( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ ) .(4)
وأمّا الثاني أي التنديد والتوبيخ ففي الآيات الواردة في سورة التحريم :
( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) .(5)
( إِن تَتُوبَا إِلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المُؤْمِنِينَ وَالمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ) .(6)
( عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ) .(7)
فأُمّهات المؤمنين كسائر الصحابيات لهنّ من الفضل ما لغيرهنّ ، ولكن آية التطهير بلغت من الثناء على أهل البيت بمكان تأبى من الانطباق عليهن بما عرفت لهنّ من السمات في الآيات وستوافيك دلالة الآية على عصمة أهل البيت وتنزيههم من الزلل والخطأ.
ص: 126
لقد وردت لفظة « أهل البيت » مرّتين في القرآن الكريم.
قال سبحانه حاكياً عن لسان الرسل : ( قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ) . (1)
وقال تعالى : ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) . (2)
فالآية الأُولى تخاطب أهل بيت خليل اللّه عند ما جاءتهم الرسل فبشّروا امرأته بإسحاق ومن وراء إسحاق بيعقوب.
ولمّا كانت هذه البشارة على خلاف السنن الكونية حيث كان الخليل شيخاً وزوجته طاعنة في السن ، فلذلك تعجبت وقالت مخاطبة الرسل : ( يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ) (3) فوافاها الجواب من
ص: 127
جانب الرسل الذين كانوا ملائكة وتمثّلوا بصورة الإنسان ، قائلين : ( أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ) .
وأمّا الآية الثانية فقد وردت في ثنايا الآيات التي نزلت في شأن نساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بدعوتهنّ إلى التخلّي عن الدنيا والتحلّي بالتقوى إلى غير ذلك من الوصايا التي وردت ضمن آيات.(1)
والمهم في هذا المقام هو معرفة أهل البيت في الآية الثانية وما هي سماتهم وحقوقهم في الذكر الحكيم ؟
فهناك مباحث ثلاثة :
من هم أهل البيت عليه السلام ؟
وماهي سماتهم ؟
وماهي حقوقهم ؟
وها نحن نقوم بدراسة هذه المواضيع في فصول ثلاثة مستمدين من اللّه العون والتوفيق.
ص: 128
إنّ المعروف بين المفسرين والمحدّثين ، هو انّ المراد من أهل البيت في الآية المباركة ، العترة الطاهرة الذين عرّفهم الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم في حديث الثقلين ، وقال : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتي ».
غير انّ تحقيق مفاد الآية وتبيين المراد من أهل البيت فيها وانطباقها على حديث الثقلين يستدعي البحث في موردين :
أ. أهل البيت لغة وعرفاً.
ب. أهل البيت في الآية المباركة.
وإليك الكلام فيهما واحداً تلو الآخر.
* * *
ص: 129
هذا اللفظ مركب من كلمتين ولكل مفهوم ، ويمكن تحديد مفهوم « الأهل » من موارد استعماله فيقال :
1. أهل الأمر والنهي.
2. أهل الإنجيل.
3. أهل الكتاب.
4. أهل الإسلام.
5. أهل الرجل.
6. أهل الماء.
وهذه الموارد توقفنا على أنّ كلمة « أهل » تستعمل مضافاً فيمن كان له علاقة قوية بمن أُضيف إليه ، فأهل الأمر والنهي هم الذين يمارسون الحكم والبعث والزجر ، وأهل الإنجيل هم الذين لهم اعتقاد به كأهل الكتاب وأهل الإسلام.
وقد اتفقت كلمة أهل اللغة على أنّ الأهل والآل كلمتان بمعنى واحد ، قال ابن منظور : آل الرجل : أهله ، وآل اللّه وآل رسوله : أولياؤه ، أصلها أهل ثم أُبدلت الهاء همزة فصارت في التقدير أأل ، فلمّا توالت الهمزتان أبدلوا الثانية ألفاً ، كما قالوا : آدم وآخر ، وفي الفعل آمن وآزر.
وقد أنشأ عبد المطلب عند هجوم ابرهة على مكة المكرمة ، وقد أخذ حلقة باب الكعبة وقال :
وانصر على آل الصليب *** وعابديه اليوم آلك
وعلى ما ذكرنا ، فهذا اللفظ إذا أُضيف إلى شيء يقصد منه المضاف الذي له علاقة خاصة بالمضاف إليه ، فأهل الرجل مثلاً هم أخص الناس به ، وأهل المسجد ، المتردّدون كثيراً إليه ، وأهل الغابة القاطنون فيها ... فإذا لاحظنا موارد
ص: 130
استعمال هذه الكلمة لا نتردّد في شمولها للزوجة والأولاد ، بل وغيرهم ممّن تربطهم رابطة خاصة بالبيت من غير فرق بين الأولاد والأزواج ، ولأجل ذلك ترى أنّه سبحانه يطلقه على زوجة إبراهيم كما عرفت في الآية.
هذا هو حق الكلام في تحديد مفهوم هذه الكلمة ، ولنأت ببعض نصوص أئمّة اللغة.
قال ابن منظور : أهل البيت سكانه ، وأهل الرجل أخص الناس به ، وأهل بيت النبي : أزواجه وبناته وصهره ، أعني : علياً عليه السلام ، وقيل : نساء النبي والرجال الذين هم آله. (1)
فلقد أحسن الرجل في تحديد المفهوم أوّلاً ، وتوضيح معناه في القرآن الكريم ثانياً ، كما أشار بقوله : « قيل » إلى ضعف القول الآخر ، لأنّه نسبه إلى القيل.
وقال ابن فارس ناقلاً عن الخليل بن أحمد : أهل الرجل : زوجه ، والتأهّل ، التزوّج ، وأهل الرجل : أخص الناس به ، وأهل البيت : سكّانه ، وأهل الإسلام : من يدين به. (2)
وقال الراغب في « مفرداته » : أهل الرجل من يجمعه وإيّاهم نسب أو دين أو ما يجري مجراهما من صناعة وبيت وبلد ، فأهل الرجل في الأصل من يجمعه وإيّاهم مسكن واحد ، ثم تجوز به فقيل : أهل بيت الرجل لمن يجمعه وإيّاهم النسب وتعورف في أُسرة النبي عليه الصلاة والسلام مطلقاً إذا قيل أهل البيت. (3)
وقال الفيروز آبادي : أهل الأمر : ولاته ، وللبيت سكّانه ، وللمذهب من يدين به ، وللرجل زوجته كأهله ، وللنبي أزواجه وبناته وصهره علي - رضي اللّه تعالى
ص: 131
عنه - أو نساؤه والرجال الذين هم آله. (1)
هذه الكلمات ونظائرها بين أعلام أهل اللغة كلّها تعرب عن أنّ مفهوم أهل البيت في اللغة هم الذين لهم صلة وطيدة بالبيت ، وأهل الرجل من له صلة به بنسب أو سبب أو غيرهما.
هذا هو الحق الذي لامرية فيه والعجب من إحسان إلهي ظهير الذي ينقل هذه النصوص من أئمّة اللغة وغيرهما ثم يستظهر انّ أهل البيت يطلق أصلاً على الأزواج خاصة ، ثم يستعمل في الأولاد والأقارب تجوّزاً ، ثم يقول : هذا ما يثبت من القرآن الكريم كما وردت هذه اللفظة في قصة إبراهيم بالبشرى ، فقال اللّه عزّ وجلّ في سياق الكلام : ( وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ) (2) وقال : فاستعمل اللّه عزّ وجلّ هذه اللفظة على لسان ملائكته في زوجة إبراهيم عليه السلام لا غير ، وهكذا قال اللّه عزّ وجلّ في كلامه المحكم في قصة موسى عليه الصلاة والسلام : ( فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا ) (3) ، فالمراد من الأهل زوجة موسى عليه السلام ، وهي بنت شعيب. (4)
نحن نسأل الكاتب من أين استظهر من كلمات أهل اللغة انّ « الأهل »
ص: 132
تطلق أصلاً على الأزواج خاصة ، ثم تستعمل في الأولاد تجوّزاً ؟!
أليس قد تقدّم لنا كلام ابن منظور : أهل الرجل : أخص الناس به ؟! أليس الأولاد أخص الناس بالرجل ؟ ومن فسره بقوله : أهل الرجل زوجه لا يريد اختصاصه بالزوج ، بل يشير إلى أحد موارد استعماله ، ولأجل ذلك يستدركه ويصرح بقوله : أهل الرجل : أخص الناس به.
ثم نسأله عن دلالة الآيتين على اختصاص الأهل بالأزواج وهل في منطق اللغة والأدب جعل الاستعمال دليلاً على الانحصار ؟ فلا شك انّ الأهل في الآيتين أُطلق على الزوجة ، وليس الإطلاق دليلاً على الانحصار ، على أنه أُطلق في قصة الخليل وأُريد الزوجة والزوج معاً ، أي نفس الخليل بشهادة قوله تعالى : ( عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ) والإتيان بضمير الجمع المذكر ، وإرادة واحد منهما وحمل الخطاب العام على التعظيم ، لا وجه له في المقام.
وحصيلة الكلام : انّ مراجعة كتب اللغة ، وموارد استعمال الكلمة في الكتاب والسنّة تعرب عن أنّ مفهوم « الأهل » هو المعنى العام وهو يشمل كل من له صلة بالرجل والبيت صلة وطيدة مؤكدة من نسب أو سبب أو غير ذلك ، من غير فرق بين الزوجة والأولاد وغيرهم ، وانّ تخصيصها بالزوجة قسوة على الحق ، كما أنّ تخصيصها لغة بالأولاد وإخراج الأزواج يخالف نصوص القرآن واستعمالها كما عرفت في الآيات الماضية.
هذا هو الحق في تحديد المفهوم ، فهلّم معي نبحث عما هو المراد من هذا المفهوم في الآية الكريمة ، وهل أُريد منه كل من انتمى إلى البيت من أزواج وأولاد أو أنّ هناك قرائن خاصة على أنّ المقصود قسم من المنتمين إليه ؟ وليس هذا بشيء غريب ، لأنّ المفهوم العام قد يطلق ويراد منه جميع الأصناف والأقسام كما يطلق
ص: 133
ويراد منه حسب القرائن بعضهم ، وقد عرفت أنّ المراد من الأهل في قصة موسى زوجته وفي قصة إبراهيم زوجته ، وعلى هذا لا شك في شمول كلمة أهل البيت للزوجة والأولاد وغيرهما إلاّ أن تقوم قرائن على أنّ المراد صنف خاص ، والمدّعى انّه قد قامت القرائن على إرادة صنف خاص منهم ، وتتبيّن في البحث الآتي :
اختلف المفسرون في بيان ما هو المراد من « أهل البيت » في الآية المباركة على أقوال ، غير انّ العبرة بقولين ، والأقوال الأُخر شاذة لا يعبأ بها ، وانّما اختلقت لحل الإشكالات الواردة على القول الثاني كما سيوافيك بيانها في آخر البحث.
1. المراد بنت النبي وصهره وولداهما الحسن والحسين عليهم السلام.
2. نساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم . (1)
ولا بد من إمعان النظر في تعيين المراد بعد قابلية اللفظ لشمول كلتا الطائفتين ، فيقول : إنّ هناك قرائن تدل بوضوح على أنّ المراد من هذه الكلمة جماعة خاصة منتمين إلى البيت النبوي بوشائج خاصة لا كل المنتمين إليه ، وإليك تلك القرائن :
لا شك أنّ اللام قد تطلق ويراد منها الجنس المدخول كقوله سبحانه : ( إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ) . (2)
ص: 134
وقد يطلق ويراد منها استغراق أفراده كقوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) .(1)
وثالثة تستعمل في العهد باعتبار معهودية مدخولها بين المتكلّم والمخاطب.
ولا يمكن حمل اللام في « البيت » على الجنس أو الاستغراق ، لأنّ الأوّل انّما يناسب إذا أراد المتكلم بيان الحكم المتعلّق بالطبيعة كما يعلم من تمثيلهم لذلك بقوله تعالى : ( إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا )(2)، ومن المعلوم أنّ الآية الكريمة ليست بصدد بيان حكم طبيعة أهل البيت ، كما لا يصح أن يحمل على العموم ، أي : جميع البيوت في العالم ، أو بيوت النبي ، وإلاّ لناسب الإتيان بصيغة الجمع فيقول : أهل البيوت ، كما أتى به عندما كان في صدد إفادة ذلك ، وقال في صدر الآية : ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ) .
فتعين أن يكون المراد هو الثالث ، أي البيت المعهود ، فالآية تشير إلى إذهاب الرجس عن أهل بيت خاص ، معهود بين المتكلم والمخاطب ، وحينئذ يقع الكلام في تعيين هذا البيت المعهود ، فما هو هذا البيت ؟ هل هو بيت أزواجه ، أو بيت فاطمة وزوجها والحسن والحسين عليهم السلام ؟
لا سبيل إلى الأوّل ، لأنّه لم يكن لأزواجه بيت واحد حتى تشير اللام إليه ، بل تسكن كل واحدة في بيت خاص ، ولو أُريد واحداً من بيوتهن لاختصت الآية بواحدة منهم ، وهذا ما اتفقت الأُمّة على خلافه.
أضف إلى ذلك أنّه على هذا يخرج بيت فاطمة مع أنّ الروايات ناطقة بشمولها ، وانّما الكلام في شمولها لأزواج النبي كما سيوافيك بيانه.
ص: 135
هذا كلّه على تسليم انّ المراد من البيت هو البيت المبني من الأحجار والآجر والأخشاب ، فقد عرفت أنّ المتعيّن حمله على بيت خاص معهود ولا يصح إلاّ حمله على بيت فاطمة ، إذ ليس هناك بيت خاص صالح لحمل الآية عليه.
وأمّا لو قلنا بأنّ البيت قد يطلق ويراد منه تارة هذا النسق ، كما في قوله تعالى : ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ) ، وأُخرى غير هذا النمط من البيت ، مثل قول القائل : « بيت النبوة » و « بيت الوحي » تشبيهاً لهما على المحسوس ، فلا محيص أن يراد منه المنتمون إلى النبوة والوحي بوشائج معنوية خاصة على وجه يصح مع ملاحظتها ، عدّهم أهلاً لذلك البيت ، وتلك الوشائج عبارة عن النزاهة في الروح والفكر ، ولا يشمل كل من يرتبط ببيت النبوة عن طريق السبب أو النسب فحسب ، وفي الوقت نفسه يفتقد الأواصر المعنوية الخاصة ، ولقد تفطّن العلاّمة الزمخشري صاحب التفسير لهذه النكتة ، فهو يقول في تفسير قوله تعالى : ( قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ) (1) ، لأنّها كانت في بيت الآيات ومهبط المعجزات والأُمور الخارقة للعادات ، فكان عليها أن تتوقر ولا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء الناشئات في غير بيوت النبوة ، وان تسبح اللّه وتمجّده مكان التعجب ، وإلى ذلك أشارت الملائكة في قولها : ( رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ) أرادوا انّ هذه وأمثالها ممّا يكرمكم به رب العزة ، ويخصّكم بالأنعام به يا أهل بيت النبوة. (2)
وعلى ذلك لا يصح تفسير الآية بكل المنتسبين عن طريق الأواصر الجسمانية لبيت خاص حتى بيت فاطمة ، إلاّ أن تكون هناك الوشائج المشار
ص: 136
إليها ، ولقد ضل من ضل في تفسير الآية بغير تلك الجماعة عليها السلام ، فحمل البيت في الآية على البيت المبني من حجر ومدر مع أنّ المراد غيره.
ولقد جرى بين قتادة ذلك المفسر المعروف وبين أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام محادثة لطيفة أرشده الإمام فيها إلى هذا المعنى الذي أشرنا إليه ، قال - عندما جلس أمام الباقر عليه السلام - : لقد جلست بين يدي الفقهاء وقدّام ابن عباس فما اضطرب قلبي قدّام واحد منهم ما اضطرب قدّامك. قال له أبو جعفر عليه السلام : « ويحك ، أتدري أين أنت ؟ أنت بين يدي : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ )(1)فأنت ثم ونحن أُولئك » فقال له قتادة : صدقت واللّه جعلني اللّه فداك ، واللّه ما هي بيوت حجارة ولا طين.(2)
وهذه القرينة تحضّ المفسر على التحقيق عن الأفراد الذين يرتبطون بالبيت بأواصر معينة ، وبذلك يسقط القول بأنّ المراد منه أزواج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، لأنّه لم تكن تلك الوشائج الخاصة باتفاق المسلمين بينهم وأقصى ما عندهن انهن كن مسلمات مؤمنات.
نرى أنّه سبحانه عندما يخاطب أزواج النبي يخاطبهن حسب المعتاد بضمائر التأنيث ، ولكنّه عندما يصل إلى قوله : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ ... ) يغير الصيغة الخطابية في التأنيث ويأتي بصيغة التذكير ، فما هو السر في تبديل الضمائر لو كان المراد أزواج النبي ؟ وإليك نص الآيات :
ص: 137
( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا ) . (1)
( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) . (2)
( وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللّهِ وَالحِكْمَةِ إِنَّ اللّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ) . (3)
ترى أنّه سبحانه يخاطبهن في الآية الأُولى بهذه الخطابات :
1. لستن. 2. اتقيتن. 3. فلا تخضعن. 4. وقلن.
ويخاطبهن في الآية الثانية بهذه الخطابات :
1. قرن. 2. بيوتكن. 3. لا تبرجن. 4. أقمن. 5. آتين. 6. أطعن.
كما يخاطبهن في الآية الثالثة بقوله :
1. واذكرن. 2. بيوتكن.
وفي الوقت نفسه يتخذ في ثنايا الآية الثانية موقفاً خاصاً في الخطاب ويقول :
1. عنكم. 2. يطهركم.
فما وجه هذا العدول إذا كان المراد نساء النبي ؟!
أو ليس هذا يدل على أنّ المراد ليس نساءه صلى اللّه عليه وآله وسلم .
ص: 138
وقد حاول القرطبي التفصّي عن الإشكال فقال : إنّ تذكير الضمير يحتمل لأن يكون خرج مخرج « الأهل » كما يقول لصاحبه : كيف أهلك ، أي امرأتك ونساؤك ؟ فيقول : هم بخير ، قال اللّه تعالى : ( أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ) . (1)
ولكن المحاولة فاشلة فانّ ما ذكره من المثال على فرض سماعه من العرب ، إنّما إذا تقدّم « الأهل » وتأخّر الضمير ، دون العكس كما في الآية ، فإنّ أحد الضميرين مقدّم على لفظ « الأهل » في الآية كما يقول : ( عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) .
وأمّا الاستشهاد في الآية فغير صحيح ، لأنّ الخطاب فيها لإبراهيم وزوجته ، فيصح التغليب تغليب الأشرف على غيره في الخطاب والمفروض في المقام انّ الآية نزلت في زوجاته ونسائه خاصة فلا معنى للتغليب.
نعم انّما تصح فكرة التغليب لو قيل بأنّ المراد منه ، هو أولاده وصهره وزوجاته ، وهو قول ثالث سنبحث عنه في مختتم البحث ، وسيوافيك انّ بقية الأقوال كلها مختلقة لتصحيح الإشكالات الواردة على النظرية الثانية ، فلاحظ.
سيوافيك الكلام عند البحث في سمات أهل البيت ، انّ من سماتهم ، كونهم معصومين من الذنب وذلك بدليل كون الإرادة في قوله : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ ... ) هي الإرادة التكوينية ، التي لا ينفك المراد فيها عن الإرادة وبكون متحقّقاً وثابتاً في
ص: 139
الخارج ، وبما أنّ المراد هو إذهاب الرجس وإثبات التطهير وتجهيزهم بالأسباب والمعدّات المنتهية إلى العصمة ، فلا يصح أن يراد من أهل البيت أزواج النبي ، إذ لم يدّع أحد من المسلمين كونهن معصومات من الذنب ومطهرات من الزلل. فلا مناص عن تطبيقه على جماعة خاصة من المنتمين إلى البيت النبوي الذين تحقّق فيهم تعلّقهم بالأسباب والمقتضيات التي تنتهي بصاحبها إلى العصمة ولا ينطبق هذا إلاّ على الإمام علي وزوجته والحسنين عليهم السلام ، لأنّ غيرهم مجمع على عدم اتصافهم بهذه الأسباب.
القرينة الرابعة انّ الآيات المربوطة بأزواج النبي تبتدئ من الآية 28 وتنتهي بالآية 34 ، وهي تخاطبهن تارة بلفظ « الأزواج » ومرتين بلفظ « نساء النبي » الصريحين في زوجاته ، فما هو الوجه في العدول عنهما إلى لفظ « أهل البيت » فإنّ العدول قرينة على أنّ المخاطب به غير المخاطب بهما.
قد وقفت على المراد من أهل البيت في الآية المباركة من خلال دراسة مفردات الآية وجملها وهدفها.
وهناك طريق آخر للتعرّف عليهم ، وهو دراسة الأحاديث الواردة في كلام النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فإنّها تكشف عن وجه الحقيقة ، فنقول : إنّ للنبي الأكرم عناية وافرة بتعريف أهل البيت لم ير مثلها إلاّ في أقلِّ الموارد ، حيث قام بتعريفهم بطرق مختلفة سيوافيك بيانها ، كما أنّ للمحدّثين والمفسرين وأهل السير والتاريخ عناية كاملة بتعريف أهل بيت نبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم في مواضع مختلفة حسب المناسبات التي تقتضي طرح هذه المسألة ، كما أنّ للشعراء الإسلاميين المخلصين في طوال قرون ، عناية بارزة
ص: 140
ببيان فضائل أهل البيت والتعريف بهم ، والتصريح بأسمائهم على وجه يظهر من الجميع اتفاقهم على نزول الآية في حق العترة الطاهرة ، وسيوافيك نزر من شعرهم في مختتم البحث.
كل ذلك يعرب عن أنّ الرأي العام بين المسلمين في تفسير أهل البيت هو القول الأوّل ، وانّ القول بأنّ المقصود منهم زوجاته كان قولاً شاذاً متروكاً ينقل ولا يعتنى به ، ولم ينحرف عن ذلك الطريق المهيع إلا بعض من اتخذ لنفسه تجاه أهل البيت موقفاً يشبه موقف أهل العداء والنصب.
قام النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بتعريف أهل البيت بطرق ثلاثة نشير إليها :
1. صرّح بأسماء من نزلت الآية في حقّهم حتى يتعين المنزول فيه باسمه ورسمه.
2. قد أدخل جميع من نزلت الآية في حقّهم تحت الكساء ، ومنع من دخول غيرهم ، وأشار بيده إلى السماء وقال : « اللّهم إنّ لكل نبي أهل بيت وهؤلاء أهل بيتي » كما سيوافيك نصه.
3. كان يمر ببيت فاطمة عدة شهور ، كلّ ما خرج إلى الصلاة فيقول : الصلاة أهل البيت : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) .
وبهذه الطرق الثلاثة حدّد أفراد أهل البيت وعين مصاديقهم على وجه يكون جامعاً لهم ومانعاً عن غيرهم ، ونحن ننقل ما ورد حول الطرق الثلاثة في التفسيرين : الطبري والدر المنثور للسيوطي ، ثم نأتي بما ورد في الصحاح الستة حسب ما جمعه ابن الأثير الجزري في كتابه « جامع الأُصول » وأخيراً نشير إلى
ص: 141
الجوامع التي جمعت فيها أحاديث الفريقين حول نزول الآية في حق الخمسة الطيبة ، ونترك الباقي إلى القارئ الكريم ، فإنّ البحث قرآني لا حديثي والاستيعاب في الموضوع يحوجنا إلى تأليف مفرد.
1. روى الطبري : عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « نزلت هذه الآية في خمسة : فيّ ، وفي عليّ رضي اللّه عنه ، وحسن رضي اللّه عنه ، وحسين رضي اللّه عنه ، وفاطمة رضي اللّه عنها : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ».
2. عن أبي سعيد ، عن أُم سلمة زوج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم انّ هذه الآية نزلت في بيتها ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) قالت : وأنا جالسة على باب البيت ، فقلت : أنا يا رسول اللّه ألست من أهل البيت ؟ قال : « إنّك إلى خير ، أنت من أزواج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم » قالت : وفي البيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي اللّه عنهم.
وفي « الدر المنثور » ما يلي :
3. روى السيوطي عن ابن مردويه ، عن أُم سلمة قالت : نزلت هذه الآية في بيتي ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) وفي البيت سبعة : جبريل ، وميكائيل عليهما السلام ، وعلي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين رضي اللّه عنهم ؛ وأنا على باب البيت ، قلت : يا رسول اللّه ألست من أهل البيت ؟ قال : « إنّك إلى خير ، إنّك من أزواج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ».
4. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن أبي سعيد الخدري -
ص: 142
رضي اللّه عنه - ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « نزلت هذه الآية في خمسة : فيّ ، وفي علي ، وفاطمة ، وحسن ، وحسين ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) .
إدخالهم تحت الكساء أو « مرط أو ثوب » أو « عباءة أو قطيفة » : فقد وردت حوله هذه الروايات :
5. أخرج الطبري قال : قالت عائشة : خرج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ذات غداة وعليه مِرط مرجل من شعر أسود فجاء الحسن فأدخله معه ، ثم جاء علي فأدخله معه ، ثم قال : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) .
6. أخرج الطبري قال : عن أُمّ سلمة قالت : كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عندي وعلي وفاطمة والحسن والحسين فجعلت لهم خزيرة فأكلوا وناموا وغطّى عليهم عباءة أو قطيفة ثم قال : « اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ».
7. أخرج الطبري : عن أبي عمار قال : إنّي لجالس عند واثلة بن الأسقع إذ ذكروا عليّاً رضي اللّه عنه فشتموه ، فلمّا قاموا قال : اجلس حتى أخبرك عن هذا الذي شتموا ، انّي عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إذ جاءه علي وفاطمة وحسن وحسين فألقى عليهم كساء له ثم قال : اللّهم هؤلاء أهل بيتي ، اللّهم اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
8. أخرج الطبري : عن أبي عمار قال : سمعت واثلة بن الأسقع يحدث قال : سألت عن علي بن أبي طالب في منزله ، فقالت فاطمة : قد ذهب يأتي برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إذ جاء ، فدخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ودخلت ، فجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم على
ص: 143
الفراش وأجلس فاطمة عن يمينه وعليّاً عن يساره وحسناً وحسيناً بين يديه ، فلفع عليهم بثوبه ، وقال : « ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) اللّهم هؤلاء أهلي اللّهم أهلي ».
9. أخرج الطبري : عن أبي سعيد الخدري عن أُمّ سلمة قالت : لمّا نزلت هذه الآية ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً ، فجلّل عليهم كساءً خيبرياً ، فقال : « اللّهم هؤلاء أهل بيتي ، اللّهم اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً » ، قالت : أُمّ سلمة قلت : ألست منهم ؟ قال : « أنت إلى خير ».
10. أخرج الطبري : عن أبي هريرة ، عن أُم سلمة : قالت : جاءت فاطمة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ببرمة لها قد صنعت فيها عصيدة تحلها على طبق ، فوضعته بين يديه فقال : « أين ابن عمك وابناك ؟ » فقالت : « في البيت » فقال : « ادعيهم » ، فجاءت إلى علي فقالت : « أجب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنت وابناك » ، قالت أُمّ سلمة : فلما رآهم مقبلين مدَّ يده إلى كساء كان على المنامة فمدّه وبسطه وأجلسهم عليه ، ثم أخذ بأطراف الكساء الأربعة بشماله فضمه فوق رؤوسهم وأومأ بيده اليمنى إلى ربِّه ، فقال : « هؤلاء أهل البيت فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ».
11. أخرج الطبري : عن عمر بن أبي سلمة ، قال : نزلت هذه الآية على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في بيت أُمّ سلمة : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) فدعا حسناً وحسيناً وفاطمة فأجلسهم بين يديه ، ودعا علياً فأجلسه خلفه ، فتجلّل هو وهم بالكساء ، ثم قال : « هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً » ، قالت أُم سلمة : أنا معهم ، قال : « مكانك ، وأنت على خير ».
ص: 144
12. أخرج الطبري : قال عامر بن سعد ، قال : قال سعد : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حين نزل عليه الوحي فأخذ علياً وابنيه وفاطمة ، وأدخلهم تحت ثوبه ثم قال : « رب هؤلاء أهلي وأهل بيتي ».
13. أخرج الطبري : عن حكيم بن سعد قال : ذكرنا علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه عند أُم سلمة ، قالت : فيه نزلت ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) قالت أُم سلمة : جاء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى بيتي فقال : لا تأذني لأحد ، فجاءت فاطمة فلم استطع أن أحجبها عن أبيها ، ثم جاء الحسن فلم استطع أن أمنعه أن يدخل على جدّه وأُمّه ، وجاء الحسين فلم استطع أن أحجبه ، فاجتمعوا حول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم على بساط فجللهم نبي اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بكساء كان عليه ثم قال : « هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً » ، فنزلت هذه الآية حين اجتمعوا على البساط. قالت فقلت : يا رسول اللّه : وأنا ؟ قال : « إنّك إلى خير ».
14. روى السيوطي : وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أُم سلمة رضي اللّه عنهما زوج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان ببيتها على منامة له عليه كساء خيبري ، فجاءت فاطمة رضي اللّه عنها ببرمة فيها خزيرة ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « ادعي زوجك وابنيك حسناً وحسيناً » ، فدعتهم ، فبينما هم يأكلون إذ نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) فأخذ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بفضلة أزاره فغشاهم إياها ، ثم أخرج يده من الكساء وأومأ بها إلى السماء ثم قال : « اللّهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً » ، قالها ثلاث مرات ، قالت أُم سلمة ( رضي اللّه عنها ) : فأدخلت رأسي في الستر ، فقلت : يا رسول اللّه وأنا
ص: 145
معكم ؟ فقال : « إنّك إلى خير » مرّتين.
15. روى السيوطي : وأخرج الطبراني عن أُم سلمة - رضي اللّه عنها - انّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لفاطمة - رضي اللّه عنها - : « إئتني بزوجك وابنيه » ، فجاءت بهم ، فألقى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عليهم كساءً فدكياً ثم وضع يده عليهم ، ثم قال : اللّهم إنّ هؤلاء أهل محمد وفي لفظ : آل محمد فاجعل صلواتك وبركاتك على آل محمد كما جعلتها على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد ». قالت أُم سلمة - رضي اللّه عنها - : فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه من يدي وقال : « إنّك على خير ».
16. روى السيوطي : وأخرج الطبراني عن أُم سلمة - رضي اللّه عنها - قالت : جاءت فاطمة - رضي اللّه عنها - إلى أبيها بثريدة لها ، تحملها في طبق لها حتى وضعتها بين يديه ، فقال لها : « أين ابن عمك ؟ » قالت : « هو في البيت ». قال : « اذهبي فادعيه وابنيك » ، فجاءت تقود ابنيها كل واحد منهما في يد وعلي - رضي اللّه عنه - يمشي في أثرهما حتى دخلوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فأجلسهما في حجره وجلس علي - رضي اللّه عنه - عن يمينه وجلست فاطمة - رضي اللّه عنها - عن يساره ، قالت أُمّ سلمة - رضي اللّه عنها - : فأخذت من تحتي كساء كان بساطناً على المنامة في البيت. (1)
17. روى السيوطي : وأخرج ابن مردويه والخطيب عن أبي سعيد الخدري - رضي اللّه عنه - قال : كان يوم أُمّ سلمة أُم المؤمنين - رضي اللّه عنها - فنزل جبرئيل عليه السلام على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بهذه الآية ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) قال : فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بحسن وحسين وفاطمة وعلي فضمهم إليه ونشر عليهم الثوب ، والحجاب على أُم سلمة مضروب ، ثم قال :
ص: 146
« اللّهم هؤلاء أهل بيتي ، اللّهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً » ، قالت أُم سلمة - رضي اللّه عنها - : فأنا معهم يا نبي اللّه ؟ قال : « أنت على مكانك ، وأنّك على خير ».
18. روى السيوطي : وأخرج الترمذي وصحّحه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه والبيهقي في سننه ، من طرق ، عن أُمّ سلمة - رضي اللّه عنها - قالت : في بيتي نزلت : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) وفي البيت فاطمة وعلي والحسن والحسين فجلّلهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بكساء كان عليه ثم قال : « هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ».
19. روى السيوطي : وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، ومسلم ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم عن عائشة - رضي اللّه عنها - قالت : خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم غداة وعليه مرط مرجّل من شعر أسود ، فجاء الحسن والحسين - رضي اللّه عنهما - فأدخلها معه ، ثم جاء علي فأدخله معه ، ثم قال : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) .
20. روى السيوطي : وأخرج ابن جرير والحاكم وابن مردويه ، عن سعد قال : نزل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الوحي ، فأدخل علياً وفاطمة وابنيهما تحت ثوبه ثم قال : « اللّهم هؤلاء أهلي وأهل بيتي ».
21. روى السيوطي : وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه ، عن واثلة ابن الأسقع - رضي اللّه عنه - قال : جاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى فاطمة ومعه حسن وحسين وعلي ، حتى دخل فأدنى علياً وفاطمة فأجلسهما بين يديه وأجلس حسناً
ص: 147
وحسيناً كل واحد منهما على فخذه ثم لف عليهم ثوبه وأنا مستدبرهم ، ثم تلاهذه الآية : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) .
22. أخرج الطبري : عن أنس ، انّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر كلّ ما خرج إلى الصلاة ، فيقول : الصلاة أهل البيت : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ».
23. أخرج الطبري : أخبرني أبو داود ، عن أبي الحمراء ، قال : رابطت المدينة سبعة أشهر على عهد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال : رأيت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا طلع الفجر جاء إلى باب علي وفاطمة فقال : الصلاة الصلاة : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) .
24. أخرج الطبري : عن يونس بن أبي إسحاق باسناده ، عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم مثله.
25. روى السيوطي : أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وحسّنه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، عن أنس - رضي اللّه عنه - أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يمرّ بباب فاطمة - رضي اللّه عنها - إذا خرج إلى صلاة الفجر ويقول : « الصلاة يا أهل البيت : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ».
26. روى السيوطي : أخرج ابن مردويه ، عن أبي سعيد الخدري - رضي اللّه عنه - قال : لما دخل علي رضي اللّه عنه بفاطمة رضي اللّه عنها جاء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أربعين
ص: 148
صباحاً إلى بابها يقول : « السلام عليكم أهل البيت ورحمة اللّه وبركاته ، الصلاة رحمكم اللّه ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) أنا حرب لمن حاربتم ، أنا سلم لمن سالمتم ».
27. روى السيوطي : أخرج ابن جرير ، وابن مردويه ، عن أبي الحمراء رضي اللّه عنه قال : حفظت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ثمانية أشهر بالمدينة ليس من مرّة يخرج إلى صلاة الغداة إلاّ أتى إلى باب علي رضي اللّه عنه فوضع يده على جنبتي الباب ثم قال : « الصلاة الصلاة : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ».
28. روى السيوطي : وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عباس - رضي اللّه عنهما - قال : شهدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم تسعة أشهر يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه عند وقت كل صلاة ، فيقول : « السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته أهل البيت ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) الصلاة رحمكم اللّه » كل يوم خمس مرّات.
29. روى السيوطي : وأخرج الطبراني عن أبي الحمراء رضي اللّه عنه ، قال : رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يأتي باب علي وفاطمة ستة أشهر فيقول : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) . (1)
قد تعرفت على أكثر ما رواه الطبري والسيوطي في تفسيرهما ، وتركنا بعض ما
ص: 149
نقلاه في ذلك المجال عن أعلام التابعين ، وما رويناه ينتهي اسناده إلى أقطاب الحديث من الصحابة وعيون الأثر ، وهم :
1. أبو سعيد الخدري.
2. أنس بن مالك.
3. ابن عباس.
4. أبو هريرة الدوسي.
5. سعد بن أبي وقاص.
6. واثلة بن الأسقع.
7. أبو الحمراء ، أعني : هلال بن الحارث.
8. أُمّهات المؤمنين : عائشة وأُم سلمة.
أيصح بعد هذا لمناقش أن يشك في صحة نزولها في حق العترة الطاهرة ؟! وليس الطبري والسيوطي فريدين في نقل تلك المأثورة ، بل سبقهما ، أصحاب الصحاح والمسانيد فنقلوا نزول الآية في حقهم صريحاً أو كناية ، ولا بأس بنقل ما جاء في خصوص الصحاح حتى يعضد بعضه بعضاً فنقول :
30. أخرج الترمذي : عن سعد بن أبي وقاص - رضي اللّه عنه - ، قال : لمّا نزلت هذه الآية : ( فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ )(1)الآية ، دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال : « اللّهم هؤلاء أهلي ».
ص: 150
31. أخرج الترمذي : عن أُم سلمة رضي اللّه عنها : قالت إنّ هذه الآية نزلت في بيتي ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) قالت : وأنا جالسة عند الباب فقلت : يا رسول اللّه ألست من أهل البيت ؟ فقال : «إنّك إلى خير ، أنت من أزواج رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم » ، قالت : وفي البيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة وحسن وحسين ، فجلّلهم بكسائه وقال : « اللّهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ».
وفي رواية انّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم جلل على الحسن والحسين وعلي وفاطمة ثم قال : « اللّهم هؤلاء أهل بيتي وحامَّتي اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ». قالت أُم سلمة : وأنا معهم يا رسول اللّه ؟ قال : « إنّك إلى خير ».
32. أخرج الترمذي : عن عمر بن أبي سلمة قال : نزلت هذه الآية على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) في بيت أُم سلمة ، فدعا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فاطمة وحسناً وحسيناً ، فجلّلهم بكساء ، وعليٌّ خلف ظهره ، ثم قال : « اللّهم هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ». قالت أُم سلمة : وأنا معهم يا نبي اللّه ؟ قال : « أنت على مكانك وأنت على خير ».
33. أخرج الترمذي : عن أنس بن مالك : انّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يمرُّ بباب فاطمة إذا خرج إلى الصلاة حين نزلت هذه الآية قريباً من ستة أشهر يقول : الصلاة أهل البيت ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) .
34. أخرج مسلم : عن عائشة قالت : خرج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وعليه مِرط مُرَحَّل أسود ، فجاءه الحسن فأدخله ، ثم جاءه الحسين فأدخله ، ثم جاءت فاطمة
ص: 151
فأدخلها ، ثم جاء علي فأدخله ، ثم قال : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ ) الآية.
35. أخرج مسلم : عن زيد بن أرقم : قال يزيد بن حيان : انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم ، فلما جلسنا إليه قال له حصين : لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً ، رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وسمعت حديثه ، وغزوت معه ، وصلّيت خلفه ، لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً ، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، قال : يا ابن أخي ، واللّه لقد كبرت سني ، وقدم عهدي ، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فما حدثتكم فاقبلوا ومالا فلا تكلّفونيه ، ثم قال : قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يوماً فينا خطيباً بماء يدعى : خماً ، بين مكة والمدينة ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، ووعظ وذكر ، ثم قال : « أمّا بعد : ألا أيّها الناس ، إنّما أنا بشر ، يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأُجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين أوّلهما : كتاب اللّه فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب اللّه ، واستمسكوا به ، فحث على كتاب اللّه ورغّب فيه ، ثم قال : وأهل بيتي ، أذكركم اللّه في أهل بيتي ، أذكركم اللّه في أهل بيتي ، أذكركم اللّه في أهل بيتي ، فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال : نساؤه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده قال : ومن هم ؟ قال : آل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل عباس ، قال : كل هؤلاء حرم الصدقة ؟ قال : نعم ، زاد في رواية « كتاب اللّه فيه الهدى والنور من استمسك به وأخذ به كان على الهدى ومن أخطأه ضل ».
وفي أُخرى نحوه : غير أنّه قال : « وإنّي تارك فيكم ثقلين أحدهما : كتاب اللّه وهو حبل اللّه فمن اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة ، وفيها
ص: 152
فقلنا : من أهل بيته ؟ نساؤه قال : لا وأيم اللّه انّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ، ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها ، أهل بيته : أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده.(1)
هذا ما رواه أصحاب الصحاح حول نزول الآية في حق العترة الطاهرة وتركنا ما رواه الإمام أحمد في مسنده روماً للاختصار ، وفي هذا غنى وكفاية لمن رام الحق واتبعه وعرف الباطل فاجتنبه ، ومن أراد التوسع فعليه الرجوع إلى المصادر التالية :
1. العمدة للمحدث الحافظ يحيى بن سعيد المتوفّى عام 600 ه الطبعة الحديثة.(2)
2. بحار الأنوار : 35 / 206 - 226.
3. غاية المرام : 287 و 294 ، فقد أورد فيه واحداً وأربعين حديثاً من كتب أهل السنّة ، وأربعاً وثلاثين من كتب الشيعة.
4. تفسير البرهان : 3 / 309 - 325 ، فقد أورد فيه خمساً وستين حديثاً.
5. نور الثقلين : 4 / 270 - 277 ، أورد فيه خمسة وعشرين حديثاً.
6. إحقاق الحق : 2 / 502 - 544 ، فقد نقل نزول الآية في حق العترة الطاهرة عن كتب أهل السنة حديثاً وتفسيراً ، ثم استدرك ما فاته في الجزء التاسع والرابع عشر.
ص: 153
7. آية التطهير في حديث الفريقين فقد استقصى في جزء خاص الأحاديث الواردة حول الموضوع من طريق الفريقين شكر اللّه مساعي الجميع.
وبعد هذا ، حان حين البحث عن دلائل القول الآخر : وهو نزول الآية في نسائه.
قد تعرفت على دلائل القول وقرائنه ومؤيداته وأحاديثه المتواترة التي أطبق على نقلها تسع وأربعون (1) صحابياً وصحابية من أُمهات المؤمنين ، وقد تلقته الأُمّة بالقبول في القرون الماضية ، وأمّا القول الثاني أعني نزولها في نسائه وزوجاته صلى اللّه عليه وآله وسلم فقد نسب إلى أشخاص نقل عنهم ، منهم :
1. ابن عباس.
2. عكرمة.
3. عروة بن الزبير.
4. مقاتل بن سليمان.
أمّا الأوّل : فقد نقل عنه تارة ، عن طريق سعيد بن جبير ، وأُخرى عن طريق عكرمة ، قال السيوطي في الدر المنثور : وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن عساكر من طريق عكرمة عن ابن عباس عن قوله : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ ... ) قال : نزلت في نساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم .
وقال أيضاً : أخرج ابن مردويه عن طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس
ص: 154
قال : نزلت في نساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم .
وأمّا الثاني : أعني عكرمة ، فقد نقله عنه الطبري ، عن طريق « علقمة » وانّ عكرمة كان ينادي في السوق : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ ... ) نزلت في نساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم .
ونقل في الدر المنثور : أخرج ابن جرير وابن مردويه ، عن عكرمة في قوله : ( إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم ... ) إنّه قال ليس بالذي تذهبون إليه إنّما هو نساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم .
وأمّا الثالث : أعني : عروة بن الزبير ، فقال السيوطي : وأخرج ابن سعد عن عروة بن الزبير انّه قال : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) قال : أزواج النبي نزلت في بيت عائشة.
وأمّا الرابع : فقد نقل عنه في أسباب النزول. (1)
تحليل هذه النقول
أمّا نقله عن ابن عباس فليس بثابت ، بل نقل عنه خلاف ذلك ، فقد نقل السيوطي في « الدر المنثور » قال : وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عباس قال : شهدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم تسعة أشهر يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالب عند وقت كل صلاة فيقول : « السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته أهل البيت ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ».
وليس ابن مردويه فريداً في هذا النقل ، فقد نقله عنه الحاكم الحسكاني في
ص: 155
شواهد التنزيل (1) بسند ينتهي إلى أبي صالح ، عن ابن عباس : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) نزلت في رسول اللّه وعلي وفاطمة والحسن والحسين. والرجس : الشك.
كما نقله الحافظ الحسين بن الحكم الحبري في « تنزيل الآيات » عن أبي صالح بمثل ما سبق. (2)
وممن رواه عن ابن عباس صاحب أرجح المطالب ص 54 طبع لاهور ، والعلاّمة إسماعيل النقشبندي « في مناقب العترة ».
أضف إلى ذلك أنّ من البعيد أن يخفى على ابن عباس حبر الأُمّة ما اطّلع عليه عيون الصحابة وأُمّهات المؤمنين ، وقد أنهى بعض الفضلاء السادة (3) عدد رواة الحديث من الصحابة إلى تسعة وأربعين صحابياً. وجمعها من مصادر الفريقين في الفضائل والمناقب.
فقد ثبت تقوّله بذلك كما عرفت ، لكنّ في نفس كلامه دليلاً واضحاً على أنّ الرأي العام يوم ذاك في شأن نزول الأُمّة هو نزولها في حق فاطمة ، وانّما تفرّد هو بذلك ، ولأجله رفع عقيرته في السوق بقوله : ليس بالذي تذهبون إليه وإنّما هو نساء النبي. أضف إلى ذلك : انّ تخصيص هذه الآية بالنداء في السوق وانّها نزلت في نساء النبي يعرب عن موقفه الخاص بالنسبة إلى من اشتهر نزول الآية في حقهم ،
ص: 156
وإلاّ فالمتعارف بين الناس هو الجهر بالحقيقة بشكل معقول لا بهذه الصورة المعربة عن الانحراف عنهم.
هذا كله حول ما نقل عنه ، وأمّا تحليل شخصيته وموقفه من الأمانة والوثاقة ، وانحرافه عن علي وانحيازه إلى الخوارج وطمعه الشديد بما في أيدي الأُمراء فحدث عنه ولا حرج ، ولأجل إيقاف القارئ على قليل مما ذكره أئمّة الجرح والتعديل في حقه نأتي ببعض ما ذكره الإمام شمس الدين الذهبي نقّاد الفن في كتابيه : « تذكرة الحفاظ » ، و « سير أعلام النبلاء » ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتب الجرح والتعديل.
نقل الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي المتوفّى 748 ه في « سير أعلام النبلاء » هذه الكلمات في حق عكرمة :
1. قال أيوب : « قال عكرمة : إنّي لأخرج إلى السوق فأسمع الرجل يتكلّم بالكلمة فينفتح لي خمسون باباً من العلم ... » ما معنى هذه الكلمة ؟ وهل يقولها إنسان يملك شيئاً من العقل والوقار ؟!
2. قال ابن لهيعة : وكان يحدّث برأي نجدة الحروري (1) وأتاه ، فأقام عنده ستة أشهر ، ثم أتى ابن عباس فسلّم ، فقال ابن عباس : قد جاء الخبيث.
3. قال سعيد بن أبي مريم ، عن أبي لهيعة ، عن أبي الأسود قال : كنت أوّل من سبّب لعكرمة الخروج إلى المغرب وذلك أنّي قدمت من مصر إلى المدينة فلقيني عكرمة وسألني عن أهل المغرب ، فأخبرته بغفلتهم ، قال : فخرج إليهم وكان أوّل ما أحدث فيهم رأي الصفريّة. (2)
ص: 157
4. قال يحيى بن بكير : قدم عكرمة مصر ونزل هذه الدار وخرج إلى المغرب ، فالخوارج الذين بالمغرب عنه أخذوا.
5. قال علي بن المديني : كان عكرمة يرى رأي نجدة الحروري.
6. وقال أحمد بن زهير : سمعت يحيى بن معين يقول : إنّما لم يذكر مالك عكرمة - يعني في الموطأ - قال : لأنّ عكرمة كان ينتحل رأي الصفريّة.
7. وروى عمر بن قيس المكي ، عن عطاء قال : كان عكرمة أباضياً. (1)
8. وعن أبي مريم قال : كان عكرمة بيهسياً. (2)
9. وقال إبراهيم الجوزجاني : سألت أحمد بن حنبل عن عكرمة ، أكان يرى رأي الأباضية ؟ فقال : يقال : انّه كان صفرياً ، قلت : أتى البربر ؟ قال : نعم ، وأتى خراسان يطوف على الأُمراء يأخذ منهم.
10. وقال علي بن المديني : حكى عن يعقوب الحضرمي عن جده قال : وقف عكرمة على باب المسجد فقال : ما فيه إلاّ كافر. قال : وكان يرى رأي الاباضية. (3)
وقال في « ميزان الاعتدال » (4) : وقد وثقه جماعة ، واعتمده البخاري ، وأمّا مسلم فتجنّبه ، وروى له قليلاً مقروناً بغيره ، وأعرض عنه مالك ، وتحايده إلاّ في حديث أو حديثين.
عفان ، حدثنا وهيب قال : شهدت يحيى بن سعيد الأنصاري ، وأيوب ، فذكرا عكرمة فقال يحيى : كذاب ، وقال أيوب : لم يكن بكذاب.
ص: 158
عن عبد اللّه بن الحارث : دخلت على علي بن عبد اللّه بن عباس فإذا عكرمة في وثاق عند باب الحش فقلت : ألا تتقي اللّه ؟ قال : إنّ هذا الخبيث يكذب على أبي.
سئل محمد بن سيرين عن عكرمة ؟ فقال : ما يسؤني أن يكون من أهل الجنة ولكنّه كذّاب.
هشام بن عبد اللّه المخزومي : سمعت ابن أبي ذئب يقول : رأيت عكرمة وكان غير ثقة.
وعن بريد بن هارون قال : قدم عكرمة البصرة ، فأتاه أيوب ويونس وسليمان التيمي ، فسمع صوت غناء فقال : اسكتوا ، ثم قال : قاتله اللّه لقد أجاد.
وعن خالد بن أبي عمران قال : كنّا بالمغرب وعندنا عكرمة في وقت الموسم فقال : وددت أن بيدي حربة فاعترض بها من شهد الموسم يميناً وشمالاً.
وعن يعقوب الحضرمي عن جده قال : وقف عكرمة على باب المسجد فقال : ما فيه إلاّ كافر. قال : ويرى رأي الأباضية ، انّ عكرمة لم يدع موضعاً إلاّ خرج إليه : خراسان والشام واليمن ومصر وافريقية ، كان يأتي الأُمراء فيطلب جوائزهم.
وقال عبد العزيز الدراوردي : مات عكرمة وكثير عزة في يوم واحد فما شهدهما إلاّ سودان المدينة.
وعن ابن المسيب أنّه قال لمولاه « برد » : لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس.
أفبعد هذه الكلمات المتضافرة الحاكية عن انحراف الرجل عن جادة الحق ،
ص: 159
وتكفيره عامّة المسلمين ، وتمنّيه أن يقتل كل من شهد الموسم ، يصح الاعتماد عليه في تفسير الذكر الحكيم ؟ والأسف أنّ المفسرين نقلوا أقواله وأرسلوها ولم يلتفتوا إلى أنّ الرجل كذّاب على مولاه وعلى المسلمين ، فواجب على عشاق الكتاب العزيز وطلاب التفسير ، تهذيب الكتب عن أقوال وآراء ذلك الدجال ومن يحذو حذوه.
وأمّا عروة بن الزبير فيكفي في عدم حجية قوله ، عداؤه لعلي وانحرافه عنه ، ففي هذا الصدد يقول ابن أبي الحديد : روى جرير بن عبد الحميد ، عن محمد بن شيبة قال : شهدت مسجد المدينة ، فإذا الزهري وعروة بن الزبير جالسان يذكران عليّاً عليه السلام فنالا منه ، فبلغ ذلك علي بن الحسين عليه السلام ، فجاء حتى وقف عليهما ، فقال : أما أنت يا عروة فإنّ أبي حاكم أباك إلى اللّه فحكم لأبي على أبيك ، وأمّا أنت يا زهري فلو كنت بمكة لأريتك كير أبيك.
وقد روي من طرق كثيرة : أنّ عروة بن الزبير كان يقول : لم يكن أحد من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يزهو إلاّ علي بن أبي طالب ، وأُسامة بن زيد.
وروى عاصم بن أبي عامر البجلي ، عن يحيى بن عروة قال : كان أبي إذا ذكر عليّاً نال منه ، وقال لي مرّة : يا بني واللّه ما أحجم الناس عنه إلاّ طلباً للدنيا ، لقد بعث إليه أُسامة بن زيد أن أبعث إلي بعطائي فواللّه انّك لتعلم انّك لو كنت في فم أسد لدخلت معك. فكتب إليه : إنّ هذا المال لمن جاهد عليه ، ولكن لي مالاً بالمدينة ، فأصب منه ما شئت.
ص: 160
قال يحيى : فكنت أعجب من وصفه إياه بما وصفه به ومن عيبه له وانحرافه عنه. (1)
وهو رابع النقلة لنزول الآية في نسائه صلى اللّه عليه وآله وسلم ويكفي في عدم حجية قوله ما نقله الذهبي في حقه في « سير أعلام النبلاء » قال : قال ابن عيينة : قلت لمقاتل : زعموا أنّك لم تسمع من الضحاك ؟ قال : يغلق علي وعليه باب فقلت في نفسي : أجل باب المدينة.
وقيل : إنّه قال : سلوني عمّا دون العرش ، فقالوا : أين أمعاء النملة ؟ فسكت ، وسألوه لما حج آدم من حلق رأسه ؟ فقال : لا أدري. قال وكيع : كان كذّاباً.
وعن أبي حنيفة قال : أتانا من المشرق رأيان خبيثان : جهم معطل (2) ومقاتل مشبّه ، مات مقاتل سنة نيف وخمسين ومائة ، وقال البخاري : مقاتل لا شيء البتة. قلت : اجمعوا على تركه. (3)
تجد اتفاق المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة ومن قبلهم على أنّ القول بالتشبيه انّما تسرب إلى الأوساط الإسلامية من مقاتل ، فهو الزعيم الركن بالقول
ص: 161
بأنّ له سبحانه أعضاء مثل ما للإنسان من اليد والرجل والوجه وغير ذلك ، قاتل اللّه مقاتل ، كيف يفتري على اللّه سبحانه كذباً ويُفسر آياته بغير وجهها ؟!
وقال الذهبي أيضاً في « ميزان الاعتدال » (1) ، ما هذا تلخيصه : قال النسائي : كان مقاتل يكذب.
وعن يحيى : حديثه ليس بشيء. وقال الجوزجاني : كان دجّالاً جسوراً.
وقال ابن حبان : كان يأخذ من اليهود والنصارى من علم القرآن الذي يوافق كتبهم ، وكان يشبّه الرب بالمخلوقات ، وكان يكذب في الحديث.
وعن خارجة بن مصعب : لم استحل دم يهودي ، ولو وجدت مقاتل بن سليمان خلوة لشققت بطنه.
وقال ابن أبي حاتم : حديثه يدل على أنّه ليس بصدوق.
قد تعرفت على ما هو المراد من أهل البيت في الآية الشريفة من خلال الامعان فيها وفي ظل الروايات الواردة في كلام النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، غير انّ هناك مشكلة باسم مشكلة السياق وهي انّ الآية وردت في ثنايا الآيات المربوطة بنساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم على وجه يكون قبلها وبعدها راجعاً إليهنّ ومع ذلك كيف يمكن أن تكون هذه الآية راجعة إلى أهل البيت بالمعنى الذي عرفت ؟
وبعبارة أُخرى : إنّ آية التطهير جزء من الآية الثالثة الثلاثين ، التي يرجع صدرها وذيلها إلى نساء النبي ، فعندئذ كيف يصح القول بأنّها راجعة إلى
ص: 162
غيرهنّ ، فإنّ وحدة السياق قاضية على أنّ الكل راجع إلى موضوع واحد ، وإرجاعها إلى غير نسائه يستلزم التفكيك بين أجزاء آية واحدة ، نعم لو كانت آية التطهير آية مستقلة لكان الأمر سهلاً إذ كان الإشكال أضعف ، ولكنّها جزء من آية واحدة نزلت في نساء النبي.
والجواب : لا شك أنّ السياق من الأُمور التي يستدل بها على كشف المراد ويجعل صدر الكلام ووسطه وذيله قرينة على المراد ، ووسيلة لتعيين ما أُريد منه ، ولكنه حجة إذا لم يقم دليل أقوى على خلافه ، فلو قام ترفع اليد عن وحدة السياق وقرينيّته.
وبعبارة أُخرى : إنّ الاعتماد على السياق إنّما يتم لو لم يكن هناك نص على خلافه ، وقد عرفت النصوص الدالة على خلافه.
أضف إليه أنّ هناك دلائل قاطعة على أنّ آية التطهير آية مستقلة نزلت كذلك ووقعت في ثنايا الآية المربوطة بأزواج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لمصلحة كان صاحب الشريعة أعرف بها. (1) وإليك الدلائل الدالة على استقلالها :
أطبقت الروايات المنتهية إلى الأصحاب وأُمّهات المؤمنين والتابعين لهم بإحسان على نزولها مستقلة ، سواء أقلنا بنزولها في حق العترة الطاهرة أو زوجات النبي أو أصحابه ، فالكل - مع قطع النظر عن الاختلاف في المنزول فيه - اتفقوا
ص: 163
على نزولها مستقلة ، وقد مضت النصوص عن الطبري و « الدر المنثور » والصحاح ترى أنّ أُمَّ سلمة تقول : نزلت في بيتي ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) .
ويروي أبو سعيد الخدري ، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « نزلت هذه الآية في خمسة : فيَّ وفي علي وفاطمة وحسن وحسين ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ».
وروت عائشة : خرج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ذات غداة وعليه مرط مرجّل من شعر أسود ، فجاء الحسن فأدخله معه ، ثم جاء الحسين فأدخله معه ، ثم جاءت فاطمة فأدخلها معه ، ثم جاء علي فأدخله معه ، ثم قال : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) . إلى غير ذلك من النصوص.
حتى انّ ظاهر كلام عكرمة وعروة بن الزبير نزولها مستقلة بقول السيوطي : كان عكرمة ينادي في السوق ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) نزلت في نساء النبي.
وأخرج ابن سعد عن عروة بن الزبير أنّه قال : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) قال : أزواج النبي ، نزلت في بيت عائشة. (1)
فالموافق والمخالف اتفقا على كونها آية مستقلة إمّا نزلت في بيت أُمّ سلمة أو بيت عائشة ، وإمّا في حق العترة أو نسائه.
وعلى ذلك تسهل مخالفة السياق ، والقول بنزولها في حق العترة الطاهرة ، وانّ الصدر والذيل راجعان إلى نسائه صلى اللّه عليه وآله وسلم لا ما ورد في ثناياها ، فهو راجع إلى غيرهن.
ص: 164
ولا غرو في أن يكون الصدر والذيل راجعين إلى موضوع وما ورد في الأثناء راجعاً إلى غيره فإنّ ذلك من فنون البلاغة وأساليبها ، نرى نظيره في الذكر الحكيم وكلام البلغاء ، وعليه ديدن العرب في محاوراتهم ، فربما يرد في موضوع قبل أن يفرغ من الموضوع الذي كان يبحث عنه ثم يرجع إليه ثانياً.
يقول الطبرسي : من عادة الفصحاء في كلامهم انّهم يذهبون من خطاب إلى غيره ويعودون إليه ، والقرآن من ذلك مملوء ، وكذلك كلام العرب وأشعارهم. (1)
قال الشيخ محمد عبده : إنّ من عادة القرآن أن ينتقل بالإنسان من شأن إلى شأن ثم يعود إلى مباحث المقصد الواحد المرة بعد المرة. (2)
وروي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام : « إنّ الآية من القرآن يكون أوّلها في شيء وآخرها في شيء ». (3)
ولأجل أن يقف القارئ على صحة ما قاله هؤلاء الأكابر نأتي بشاهد ، فنقول : قال سبحانه ناقلاً عن « العزيز » مخاطباً زوجته : ( إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخَاطِئِينَ ) . (4) نرى أنّ العزيز يخاطب أوّلاً امرأته بقوله : ( إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ) وقبل أن يفرغ من كلامه معها ، يخاطب يوسف بقوله : ( يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ) ... ثم يرجع إلى الموضوع الأوّل ويخاطب زوجته بقوله : ( وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ ) ... فقوله ( يُوسُفُ
ص: 165
أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ) جملة معترضة وقعت بين الخطابين ، والمسوّغ لوقوعها بينهما كون المخاطب الثاني أحد المتخاصمين ، وكانت له صلة تامّة بالواقعة التي رفعت إلى العزيز.
والضابطة الكليّة لهذا النوع من الكلام هو وجود التناسب المقتضي للعدول من الأوّل إلى الثاني ، ثم منه إلى الأوّل ، وهي أيضاً موجودة في المقام ، فإنّه سبحانه يخاطب نساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بالخطابات التالية :
1. ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ) .
2. ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ... ) .
3. ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ) .
فعند ذلك صح أن ينتقل إلى الكلام عن أهل البيت الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً وذلك لوجهين :
1. تعريفهنّ على جماعة بلغوا في التورع والتقى ، الذروة العليا ، وفي الطهارة عن الرذائل والمساوئ ، القمة. وبذلك استحقوا أن يكونوا أُسوة في الحياة وقدوة في مجال العمل ، فيلزم عليهن أن يقتدين بهم ويستضيئنّ بضوئهم.
2. التنبيه على أنّ حياتهنّ مقرونة بحياة أُمّة طاهرة من الرجس ومطهرة من الدنس ، ولهن معهم لحمة القرابة ووصلة الحسب ، واللازم عليهن التحفّظ على شؤون هذه القرابة بالابتعاد عن المعاصي والمساوئ ، والتحلّي بما يرضيه سبحانه ولأجل ذلك يقول سبحانه : ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ) ، وما هذا إلاّ لقرابتهن منه صلى اللّه عليه وآله وسلم وصلتهن بأهل بيته. وهي لا تنفك عن المسؤولية الخاصة ، فالانتساب للنبي الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم ولبيته الرفيع ، سبب المسؤولية ومنشؤها ، وفي ضوء
ص: 166
هذين الوجهين صح أن يطرح طهارة أهل البيت في أثناء المحاورة مع نساء النبي والكلام حول شؤونهن.
ولقد قام محقّقو الإمامية ببيان مناسبة العدول في الآية ، نأتي ببعض تحقيقاتهم ، قال السيد القاضي التستري : « لا يبعد أن يكون اختلاف آية التطهير مع ما قبلها على طريق الالتفات من الأزواج إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام على معنى أنّ تأديب الأزواج وترغيبهن إلى الصلاح والسداد ، من توابع إذهاب الرجس والدنس عن أهل البيت عليهم السلام ، فالحاصل نظم الآية على هذا : انّ اللّه تعالى رغب أزواج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى العفة والصلاح بأنّه إنّما أراد في الأزل أن يجعلكم معصومين يا أهل البيت واللائق أن يكون المنسوب إلى المعصوم عفيفاً صالحاً كما قال : ( وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ ) (1). (2)
وقال العلاّمة المظفر : وإنّما جعل سبحانه هذه الآية في أثناء ذكر الأزواج وخطابهن للتنبيه على أنّه سبحانه أمرهن ونهاهن وأدّبهن إكراماً لأهل البيت وتنزيهاً لهم عن أن تنالهم بسببهن وصمة ، وصوناً لهم عن أن يلحقهم من أجلهن عيب ، ورفعاً لهم عن أن يتصل بهم أهل المعاصي ، ولذا استهل سبحانه الآيات بقوله : ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ) ضرورة أنّ هذا التميّز انّما هو للاتصال بالنبي وآله ، لا لذواتهن فهن في محل ، وأهل البيت في محل آخر ، فليست الآية الكريمة إلاّ كقول القائل : يا زوجة فلان لست كأزواج سائر الناس فتعفّفي ، وتستّري ، وأطيعي اللّه تعالى ، إنّما زوجك من بيت أطهار يريد اللّه حفظهم من الأدناس وصونهم عن النقائص. (3)
ص: 167
إنّ لسان الآيات الواردة حول نساء النبي لسان الإنذار والتهديد ، ولسان الآية المربوطة بأهل بيته لسان المدح والثناء ، فجعل الآيتين آية واحدة وإرجاع الجميع إليهن ممّا لا يقبله الذوق السليم ، فأين قوله سبحانه : ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ) من قوله : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ؟!
كما انّ لسان القرآن في أزواج النبي ، لسان المدح والانذار ويكفيك الإمعان في آيات سورة التحريم فلاحظ.
إنّ قوله سبحانه : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ ... ) في المصاحف جزء من الآية الثالثة والثلاثين فلو رفعناه منها لم يتطرق أيّ خلل في نظم الآية ومضمونها وتتحصل من ضم الآية الرابعة والثلاثين إلى ما بقيت ، آية تامة واضحة المضمون ، مبينة المرمى منسجمة الفاصلة ، مع فواصل الآيات المتقدمة عليها ، وإليك تفصيل الآية في ضمن مقاطع :
ألف. ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ ) .
ب. ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (1)
ص: 168
ج. ( وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللّهِ وَالحِكْمَةِ إِنَّ اللّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ) . (1)
فلو رفعنا قوله : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ ) وضممنا ما تقدم عليه بما تأخر ، جاءت الآية تامة من دون حدوث خلل في المعنى والنظم ، وهذا دليل على أنّ قوله تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ ) آية مستقلة وردت في ضمن الآية لمصلحة ربما نشير إليها.
إنّ الأحاديث على كثرتها صريحة في نزول الآية وحدها ، ولم يرد حتى في رواية واحدة نزولها في ضمن آيات نساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ولا ذكره أحد حتى القائل باختصاص الآية بأزواج النبي كما ينسب إلى عكرمة وعروة ، فالآية لم تكن حسب النزول جزءاً من آيات نساء النبي ولا متصلة بها ، وانّما وضعت إمّا بأمر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أو عند التأليف بعد الرحلة.
ويؤيده أنّ آية ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ) باقية على انسجامها واتصالها لو قدّر ارتفاع آية التطهير من بين جملها. (2)
وليس هذا أمراً بدعاً فله نظير في القرآن الكريم.
فقد تضافرت السنّة ، وروى الفريقان أن قوله سبحانه : ( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا (3) ) نزلت في غدير خم عندما نصّب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم علياً إماماً للأُمّة وولياً للمؤمنين ، مع أنّه في المصاحف جزء الآية الثالثة من « سورة المائدة » التي تبيّن أحكام اللّحوم ، وإليك نفس الآية في مقاطع
ص: 169
ثلاثة :
ألف. ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالمُنْخَنِقَةُ وَالمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ) . (1)
ب. ( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) .
ج. ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) . (2)
فإذا رفعنا الجزء الثاني يحصل من ضم الأوّل إلى الثالث آية تامة من دون طروء خلل في مضمونها ونظمها ، وذلك دليل على أنّ الجزء الثاني آية مستقلة وردت في ضمن آية أُخرى بتصويب صاحب الشريعة الغراء أو بتصويب من جامعي القرآن بعد رحلته صلى اللّه عليه وآله وسلم .
أضف إلى ذلك أنّ مضمون الآية - أعني : أحكام اللحوم - قد ورد في آيات أُخر من دون أن تشتمل على هذه الزيادة ، فهذه قرينة على أنّ ما ورد في الأثناء ليس من صميم الآية في سورة المائدة ، وإنّما وضع في أثنائها بأمر من النبي الأكرم لمصلحة عامة نشير إليها.
قد اتضح مما ذكرنا أن القرآن الكريم إنّما انتقل إلى موضوع أهل البيت
ص: 170
وخطابهم لأجل إعلام نساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بأنّهن في جوار هؤلاء المطهرين فيحب عليهن القيام بأداء حقوق هؤلاء العظماء ، الذين ميّزهم اللّه تعالى عن غيرهم من هذه الأُمّة بالتطهير والعصمة والاقتداء بهم في القول والسلوك.
ولكن يبقى هنا سؤال آخر ، وهو أنّه إذا كانت الآية ، آية مستقلة فلماذا جاءت في المصحف جزءاً من آية أُخرى ، ولم تكتب بصورة آية تامّة في جنب الآيات الأُخرى ؟
الجواب : التاريخ يطلعنا بصفحات طويلة على موقف قريش وغيرهم من أهل البيت عليهم السلام ، فإنّ مرجل الحسد ما زال يغلي والاتجاهات السلبية ضدهم كانت كالشمس في رابعة النهار ، فاقتضت الحكمة الإلهية أن تجعل الآية في ثنايا الآيات المتعلّقة بنساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من أجل تخفيف الحساسية ضد أهل البيت ، وان كانت الحقيقة لا تخفى على من نظر إليها بعين صحيحة ، وأنّ الآية تهدف إلى جماعة أُخرى غير نساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كما بيّناه قبل قليل.
وللسيد عبد الحسين شرف الدين هنا كلام ربّما يفصل ما أجملناه فإنّه - قدّس اللّه سرّه - بعد ما أثبت أنّ قوله سبحانه : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (1) منزل في حق الإمام أمير المؤمنين عليه السلام طرح سؤالاً ، وهو أنّه إذا كان أمير المؤمنين عليه السلام هو المراد من الآية فلماذا عبر عن المفرد بلفظ الجمع ؟
فقال : إنّ العرب قد تعبّر عن المفرد بلفظ الجمع لنكتة التعظيم حيث يستوجب ، ثم قال : وعندي في ذلك نكتة ألطف وأدق ، وهي أنّه إنّما أُتي بعبارة الجمع دون عبارة المفرد بُقياً منه تعالى على كثير من الناس ، فإنّ شانئي علي وأعداء
ص: 171
بني هاشم وسائر المنافقين وأهل الحسد والتنافس لا يطيقون أن يسمعوها بصيغة المفرد إذ لا يبقى لهم حينئذ مطمع في التمويه ولا ملتمس في التضليل فيكون منهم بسبب يأسهم حينئذ ما تخشى عواقبه على الإسلام فجاءت الآية بصيغة الجمع مع كونها للمفرد اتقاء من معرتهم ، ثم كانت النصوص بعدها تترى بعبارات مختلفة ومقامات متعددة وبث فيهم أمر الولاية تدريجاً حتى أكمل اللّه الدين وأتمَّ النعمة جرياً منه صلى اللّه عليه وآله وسلم على عادة الحكماء في تبليغ الناس ما يشق عليهم ، ولو كانت الآية بالعبارة المختصة بالمفرد لجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكباراً ، وهذه الحكمة مطردة في كل ما جاء في القرآن الحكيم من آيات فضل أمير المؤمنين وأهل بيته الطاهرين كما لا يخفى ، وقد أوضحنا هذه الجمل وأقمنا عليها الشواهد القاطعة والبراهين الساطعة في كتابينا « سبيل المؤمنين » و « تنزيل الآيات » والحمد لله على الهداية والتوفيق والسلام.(1).
ص: 172
قد عرفت القولين المعروفين حول الآية ، كما عرفت الحق الواضح منهما ، فهلم معي ندرس سائر الأقوال الشاذة التي لا تعتمد على ركن وثيق وإنّما هي آراء مختلقة لأجل الفرار من المشاكل المتوجهة إلى ثاني القولين ، ونحن نذكرها واحداً بعد آخر على نحو الإيجاز :
1. المراد من « البيت » هو بيت اللّه الحرام والمراد من أهله هم المقيمون حوله.
2. المراد من « البيت » هو مسجد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم والمراد من أهله هم القاطنون حوله ، وكان لبيوتهم باب إلى المسجد.
3. المراد من تحرم عليهم الصدقة وهم ولد أبي طالب : علي ، جعفر ، وعقيل ، وولد العباس.
4. المراد من البيت بيت النسب والحسب ، فيعم أبناء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ونساءه.(1)
وهذه الوجوه كلّها عليلة ، أمّا الأوّل والثاني ، فلأنّ إطلاق « أهل البيت » واستعماله في أهل مكة والمدينة استعمال بعيد لا يحمل عليه الكلام إلاّ بقرينة قطعية ، والمتبادر منه هو أهل بيت الرجل ، وعلى ذلك جرى الذكر الحكيم في موردين أحدهما في قصة إبراهيم قال سبحانه : ( قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ) .(2)وثانيهما في قصة موسى قال سبحانه : ( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ ) .(3)
أضف إليه أنّ الآية واقعة في سياق البحث عن نساء النبي ، فصرف الآية عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم وإرجاعها إلى من جاور بيت اللّه أو من بات حول مسجده لا يساعد عليه
ص: 173
ظاهر الآيات أبداً.
ويتلوهما الثالث : فإنّ تفسير « أهل بيت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم » بمن تحرم عليه الصدقة من صلب أبي طالب والعباس تفسير بلا شاهد ، وكأنّه حمل البيت على البيت النسبي ، أضف إليه أنّ الصدقة غير محرمة على خصوص أبنائهما ، بل هي محرمة على أبنائهما وكل من كان من نسل عبد المطلب.
قال الشيخ الطوسي في الخلاف : تحرم الصدقة المفروضة على بني هاشم من ولد أبي طالب العقيليين والجعافرة والعلويين ، وولد العباس بن عبد المطلب ، وولد أبي لهب ، وولد الحارث بن عبد المطلب ، ولا عقب لهاشم إلاّ من هؤلاء ، ولا يحرم على ولد المطلب ، ونوفل ، وعبد شمس بن عبد مناف ، قال الشافعي : تحرم الصدقة المفروضة على هؤلاء كلهم وهم جميع ولد عبد مناف.(1)
وقال بمثله أيضاً في كتاب قسمة الصدقات : 2 / 353 ، المسألة 26.
وعلى ذلك فليس لهذه النظرية دليل سوى ما رواه مسلم عن زيد بن أرقم ، وقد قدمنا نصّه عند ذكر الأحاديث الواردة حول الآية.(2)
وأمّا النظرية الرابعة : فقد ذهب إليها بعضهم ، جمعاً بين الأحاديث المتضافرة الحاكية عن نزول الآية في العترة الطاهرة ، وسياق الآيات الدالة على رجوعها إلى نسائه ، فحاول القائل الجمع بين الدليلين بتفسير الآية بأولاده وأزواجه ، وجعل عليّاً أيضاً منهم بسبب معاشرته وملازمته للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم .
قال الرازي : والأولى أن يقال هم : أولاده وأزواجه والحسن والحسين منهم وعلي معهم ، لأنّه كان من أهل بيته بسبب معاشرته بيت النبي وملازمته.(3)
وقال البيضاوي : والتخصيص بهم أولاده لا يناسب ما قبل الآية .
ص: 174
وما بعدها ، والحديث يقتضي أنّهم من أهل البيت لا أنّ غيرهم ليس منهم.(1)
وقال المراغي : أهل بيته من كان ملازماً له من الرجال والنساء والأزواج والإماء والأقارب.(2)
أوّلاً : انّ اللام في « أهل البيت » ليس للجنس ولا للاستغراق ، بل هي لام العهد وهي تشير إلى بيت معهود بين المتكلم والمخاطب ، وهو بيت واحد ، ولو صح ذلك القول لوجب أن يقول « أهل البيوت » حتى يعم الأزواج والأولاد وكل من يتعلّق بالنبي نسباً أو حسباً أو لعلاقة السكنيّة مثل الإماء.
والحاصل : انّه لو أُريد « بيت النبي » المادي الجسماني لا يصح ، إذ لم يكن له بيت واحد ، بل كان لكل واحدة من نسائه بيت مشخص ، فكان النبي صاحب البيوت لا البيت الواحد.
ولو أُريد منه بيت النسب ، كما يقال : بيت من بيوتات « حمير » أو « ربيعة » ، فلازمه التعميم إلى كل من ينتمي إلى هذا البيت بنسب أو سبب ، مع أنّه كان بعض المنتمين إليه يوم نزول الآية من عبدة الوثن وأعداء النبي ، فإنّ سورة الأحزاب نزلت سنة ست من الهجرة ، وقد ورد فيها زواج النبي من زينب بنت جحش ، وهو حسب ما ذكره صاحب « تاريخ الخميس » من حوادث سنة الخمس ، وعلى ذلك فلا تتجاوز الآيات النازلة في نساء النبي عن هذا الحد وكان عند ذاك ، بعض من ينتمي إلى النبي بالنسب مشركاً ، كأبي سفيان بن عبد المطلب ابن عم رسول اللّه ، وعبد اللّه بن أُمية بن المغيرة ابن عمته ، وقد أسلما في عام الفتح ، وأنشد الأوّل قوله في إسلامه واعتذر إلى النبي ممّا كان مضى منه فقال :
ص: 175
لعمرك إنّي يوم أحمِلُ رايةً *** لتَغْلِبَ خَيلَ اللات ، خيلُ محمدُ
لكا لمُدلج الحيرانِ أظلم ليلُهُ *** فهذا أواني حين أُهدي وأهْتدي(1)
ولو أُريد منه « بيت الوحي » فلازمه الاختصاص بمن بلغ من الورع والتقوى ذروتهما ، حتى يصح عدّه من أهل ذلك البيت الرفيع المعنون ، ومثله لا يعم كل من ينتمي بالوشائج النسبية أو الحسبية إلى هذا البيت ، وإن كان في جانب الإيمان والعمل في درجة نازلة تلحقه بالعاديين من المسلمين.
ثانياً : قد عرفت أنّ الإرادة الواردة في الآية تكوينية تعرب عن تعلّق إرادته الحكيمة على عصمة أهل ذلك البيت ، ومعه كيف يمكن القول بأنّ المراد كل من ينتمي إلى ذلك البيت بوشائج النسب والحسب ؟!
ثالثاً : انّ النظرية في جانب مخالف للأحاديث المتضافرة الدالة على نزول الآية في حق العترة الطاهرة ، وقد قام النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بتفسيرها بوجوه مختلفة أوعزنا إليها عند البحث عن القول الأوّل ، والنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم هو المبين الأوّل لمفاد كتابه الذي أرسل معه قال سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) .(2)
فليست وظيفة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم القراءة والتلاوة بل التبيين والتوضيح من وظائفه التي تنص الآية عليها.
هذا هو موجز القول في تفسير الآية ولا بأس بإكمال البحث بنقل بعض ما أنتجته قريحة الشعراء الإسلاميين حول أهل البيت وفضائلهم ، على وجه يعرب عن أنّ المتبادر من ذلك اللفظ في القرون الإسلامية لم يكن إلاّ العترة الطاهرة ، أعني : فاطمة وأباها وبعلها وابنيها سلام اللّه عليهم أجمعين ، وإليك نزراً يسيراً في هذا المجال.
ص: 176
ما حقَّقناه حول الآية كان أمراً واضحاً لا لبس فيه عند المسلمين في الصدر الأوّل فقد فهموا عن الآية الكريمة وبفضل الروايات من هم أهل البيت من دون تردّد أو تريّث ، وصاغوا ما فهموه في قوالب شعرية رائعة ، فنقتطف منها هذه الشذرات.
قال عمرو بن العاص في قصيدته الجلجلية المعروفة يمدح بها الإمام علي ابن أبي طالب ، وفيها هذا البيت في حق العترة الطاهرة :
فوال مواليه يا ذا الجلال *** وعاد معادي أخ المرسل
ولا تنقضوا العهد من عترتي *** فقاطعهم بي لم يوصل(1)
وقال الكميت بن زيد الأسدي في قصيدة له :
ص: 177
ألم ترني من حب آل محمد *** أروح وأغدو خائفاً أترقب
فإن هي لم تصلح لحي سواهم *** فإنّ ذوي القربى أحق وأوجب
يقولون لم يورث ولولا تراثه *** لقد شركت فيها بكيل وأرحب (1)
قال العبدي الكوفي ( المتوفّى 120 ه ) :
ولما رأيت الناس قد ذهبت بهم *** مذاهبهم في أبحر الغي والجهل
ركبت على اسم اللّه في سفن النجا *** وهم أهل بيت المصطفى خاتم الرسل
وأمسكت حبل اللّه وهو ولاؤهم *** كما قد أمرنا بالتمسّك بالحبل (2)
وقال الإمام الشافعي :
يا أهل بيت رسول اللّه حبكم *** فرض من اللّه في القرآن أنزله
ص: 178
كفاكم من عظيم القدر أنّكم *** من لم يصل عليكم لا صلاة له(1)
وذكر ابن الصباغ المالكي في « الفصول » لقائل :
هم العروة الوثقى لمعتصم بها *** مناقبهم جاءت بوحي وانزال
مناقب في شورى وسورة هل أتى *** وفي سورة الأحزاب يعرفها التالي
وهم آل بيت المصطفى فودادهم *** على الناس مفروض بحكم وإسجال(2)
وذكر الشبلنجي في « نور الأبصار » عن أبي الحسن بن جبير :
أحب النبيّ المصطفى وابنَ عمه *** علياً وسبطيه وفاطمة الزهرا
هم أهل بيت أذهب الرجس عنهم *** وأطلعهم أفق الهدى أنجماً زهرا
موالاتهم فرض على كل مسلم *** وحبهم أسنى الذخائر للأُخرى
ص: 179
وما أنا للصحب الكرام بمبغض *** فإنّي أرى البغضاء في حقهم كفرا (1)
وقال العبدي :
يا سادتي يا بني علي *** يا « آل طه » و « آل صاد »
من ذا يوازيكم وأنتم *** خلائف اللّه في البلاد
أنتم نجوم الهدى اللواتي *** يهدي بها اللّه كل هاد
لولا هداكم إذاً ضللنا *** والتبس الغي بالرشاد
لازلت في حبكم أوالي *** عمري وفي بغضكم أعادي
وما تزودت غير حبي *** إياكم وهو خير زاد
وذاك ذخري الذي عليه *** في عرصة الحشر اعتمادي
ص: 180
ولاكم والبراءة ممن *** يشنأكم اعتقادي (1)
وقال دعبل الخزاعي :
أتسكب دمع العين بالعبرات *** وبتَّ تقاسي شدّة الزفرات ؟!
وتبكي لآثار لال محمد *** فقد ضاق منك الصدر بالحسرات
ألا فابكهم حقّاً وبلَّ عليهم *** عيوناً لريب الدهر منسكبات
ولا تنس في يوم الطفوف مصابهم *** وداهية من أعظم النكبات
سقى اللّه أجداثاً على أرض كربلا *** مرابيع أمطار من المزنات
وصلّي على روح الحسين حبيبه *** قتيلاً لدى النهرين بالفلوات
قتيلاً بلا جرم فجعنا بفقده *** فريداً ينادي : أين أين حماتي
ص: 181
أنا الظامئ العطشان في أرض غربة *** قتيلاً ومظلوماً بغير ترات
وقد رفعوا رأس الحسين على القنا *** وساقوا نساءً ولّهاً خفرات
فقل لابن سعد عذب اللّه روحه *** ستلقى عذاب النار باللعنات
سأقنت طول الدهر ما هبت الصبا *** واقنت بالآصال والغدوات
على معشر ضلّوا جميعاً وضيّعوا *** مقال رسول اللّه بالشّبهات (1)
وقال أيضاً :
نطق القرآن بفضل آل محمد *** وولاية لعليّه لم تجحد
بولاية المختار من خير الذي *** بعد النبي الصادق المتودد (2)
ص: 182
وقال الحماني ( المتوفّى 301 ه ) :
يا آل حاميم الذين بحبهم *** حكم الكتاب منزَّلٌ تنزيلا
كان المديح حُلى الملوك وكنتم *** حلل المدايح غرّةً وحجولا
بيت إذا عَدَّ المآثر أهله *** عدّوا النبي وثانياً جبريلا
قوم إذا اعتدلوا الحمايل أصبحوا *** متقسِّمين خليفة ورسولا
نشأوا بآيات الكتاب فما انثنوا *** حتى صدرن كهولة وكهولا
ثقلان لن يتفرَّقا أو يطفيا *** بالحوض من ظما الصدور غليلا
وخليفتان على الأنام بقوله *** الحق اصدق من تكلم قيلا
فأتوا أكف الآيسين فأصبحوا *** ما يعدلون سوى الكتاب عديلا (1)
ص: 183
وقال العجلوني ( المتوفّى 1162 ه ) :
لقد حاز آل المصطفى أشرف الفخر *** بنسبتهم للطاهر الطيَّب الذكر
فحبهم فرض على كل مؤمن *** أشار إليه اللّه في محكم الذكر
ومن يدعي من غيرهم نسبة له *** فذلك ملعون أتى أقبح الوزر
وقد خص منهم نسل زهراء الأشرف *** بأطراف تيجان من السندس الخضر
ويُغنيهمُ عن لبس ما خصَّهم به *** وجوهٌ لهم أبهى من الشمس والبدر
ولم يمتنع من غيرهم لبس أخضر *** على رأي من يعزى لاسيوط ذي الخبر
وقد صححوا عن غيره حرمة الذي *** رآه مباحاً فاعلم الحكم بالسبر (1)
وقال جرير بن عبد اللّه البجلي :
فصلى الإله على أحمد *** رسول المليك تمام النعم
ص: 184
وصلى على الطهر من بعده *** خليفتنا القائم المدَّعْم
عليّاً عنيت وصي النبي *** يجالد عنه غواة الأُمم
له الفضل والسبق والمكرما *** ت وبيت النبوّة لا المهتضم(1)
وقال الزاهي ( المتوفّى 352 ه ) :
يا سادتي يا آل ياسين فقط *** عليكم الوحي من اللّه هبط
لولاكم لم يقبل الفرض ولا *** رحا لبحر العفو من أكرم شط
أنتم ولاة العهد في الذرِّ ومن *** هواهم اللّه علينا قد شرط
ما أحد قايسكم بغيركم *** ومازج السلسل بالشرب اللمط
إلاّ كمن ضاهى الجبال بالحصى *** أو قايس الأبحر جهلاً بالنقط(2).
ص: 185
وقال أيضاً ضمن أبيات :
هم آل أحمد والصيد الجحاجحة الز *** هر الغطارفة العلوية الغرر
وقال أيضاً :
يا آل أحمد ماذا كان جرمكم *** فكل أرواحكم بالسيف تنتزع (1)
قال الناشئ الصغير ( المتوفّى 365 ه ) :
بآل محمّد عرف الصواب *** وفي أبياتهم نزل الكتاب
هم الكلمات والأسماء لاحت *** لآدم حين عزّ له المتاب
وهم حجج الإله على البرايا *** بهم وبحكمهم لا يستراب
إلى آخر الابيات التي يقول فيها :
يقول لقد نجوت بأهل بيت *** بهم يصلى لظى وبهم يثاب
ص: 186
هم النبأ العظيم وفلك نوح *** وباب اللّه وانقطع الخطاب(1)
وقال البشنوي الكردي ( المتوفّى بعد 380 ه ) :
أليّة ربي بالهدى متمسكاً *** باثني عشر بعد النبي مراقباً
أبقي على البيت المطهر أهله *** بيوت قريش للديانة طالباً(2)
وقال أيضاً :
يا ناصبي بكل جهدك فاجهد *** إنّي علقت بحب آل محمد
الطيبين الطاهرين ذوي الهدى *** طابوا وطاب وليهم في المولد
واليتهم وبرئت من أعدائهم *** فاقلل ملامك لا أباً لك أوزد
فهم أمان كالنجوم وانّهم *** سفن النجاة من الحديث المسند(3).
ص: 187
وقال الصاحب بن عبّاد ( المتوفّى 385 ه ) :
أُواليكم يا آل بيت محمد *** فكلّكم للعلم والدين فرقد
وأترك من ناواكم وهو هتكه *** ينادى عليه مولد ليس يحمد(1)
وقال ابن الحجاج البغدادي ( المتوفّى 391 ه ) :
فما وجدت شفاء تستفيد به *** إلا ابتغاءك تهجو آل ياسين
كافاك ربُّك إذ أجرتك قدرته *** بسب أهل العلا الغرِّ الميامين
إلى أن يقول :
وانّ أجر ابن سعد في استباحة *** آل النبوّة أَجر غير ممنون(2)
وقال أبو الفتح كشاجم ( المتوفّى 360 ه ) من قصيدة :
له في البكاء على الطاهرين *** مندوحة عن بكاء الغزل
ص: 188
فكم فيهم من هلال هوى *** قبيل التمام وبدر أفل
هم حجج اللّه في خلقه *** ويوم المعاد على من خذل
ومن أنزل اللّه تفضيلهم *** فردَّ على اللّه ما قد نزل
فجدّهم خاتم الأنبياء *** ويعرف ذاك جميع الملل(1)
وقال أيضاً :
آل النبي فضّلتم *** فضل النجوم الزاهرة
وبهرتم أعداءكم *** بالمأثرات السائرة(2)
وقال أبو محمد الصوري الشاعر ( المتوفّى 419 ه ) :
فهل ترك البين من أرتجيه *** من الأوّلين والآخرينا
ص: 189
سوى حب آل نبي الهدى *** فحبهم أمل الآملينا
هم عدّتي لوفاتي هم *** نجاتي هم الفوز للفائزينا(1)
وقال من قصيدة في أهل البيت :
بماذا ترى تحتجُّ يا آل أحمد *** على أحمد فيكم إذا ما استعدت
وأشهر ما يروونه عنه قوله *** تركت كتاب اللّه فيكم وعترتي
ولكن دنياهم سعت فسعوا لها *** فتلك التي فلّت ضميراً عن التي(2)
وقال أيضاً من قصيدة :
فلهذا أبناء أحمد أبناء علي *** طرايد الآفاق
فقراء الحجاز بعد الغنى الأكبر *** أسرى الشام قتلى العراق
ص: 190
جانبتهم جوانب الأرض حتى *** خلت انّ السماء ذات انطباق
ان أقصر يا آل أحمد أو أغر *** ق كان التقصير كالإغراق(1)
وقال الشبراوي الشافعي في كتابه « الاتحاف بحب الأشراف » :
آل طه ومن يقل آل طه *** مستجيراً بجاهكم لا يرد
حبكم مذهبي وعقد يقيني *** ليس لي مذهب سواه وعقد(2)
وقال أيضاً في قصيدة أُخرى :
آل بيت النبي ما لي سواكم *** ملجأ أرتجيه للكرب في غد
لست أخشى ريب الزمان وأنتم *** عمدتي في الخطوب يا آل أحمد
من يضاهي فخاركم آل طه *** وعليكم سرادق العز ممتد
ص: 191
إلى أن يقول في قصيدته هذه :
يا إلهي ما لي سوى حب آل البيت *** آل النبي طه الممجد
أنا عبد مقصر لست أرجو *** عملاً غير حب آل محمد (1)
وقال أيضاً من قصيدة :
يا كرام الأنام يا آل طه *** حبكم مذهبي وعقد ولائي
ليس لي ملجأ سواكم وذخر *** أرتجيه في شدتي ورخائي
فاز من زار حيكم آل طه *** وجنا منكم ثمار العطاء(2)
وقال أيضاً في قصيدة :
أنا في عرض آل بيت نبي *** طهر اللّه بيتهم تطهيراً
سادة أتقياء أعطاهم اللّه *** مقاماً ضخماً وملكاً كبيراً
ص: 192
إلى أن يقول :
يا بحور الكمال يا آل طه *** كم مننتم وكم جبرتم كسيراً
هل على غير بيتهم نزل الو *** حي بجبريل خادماً مأموراً
هل سواكم قد أذهب اللّه عنه الرج *** س نصّاً في ذكره مسطوراً(1)
( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ )(2)
استدلت الشيعة عن بكرة أبيها بآية التطهير على عصمة العترة الطاهرة ، وأفاض المفسرون منهم القول حول الآية وأتوا ببيانات شافية في وجه دلالتها على عصمتهم.
وهناك جماعة من العلماء قاموا بتأليف رسائل مفردة حول دلالتها وشأن نزولها ، نشير إلى ما وقفنا عليه في ما يلي :
1. « السحاب المطير في تفسير آية التطهير » ، للسيد السعيد القاضي نور اللّه المرعشي الشهيد عام 1019 ه.
ص: 193
2. « تطهير التطهير » ، تأليف الفاضل الهندي ( المتوفّى عام 1035 ه ).
3. « شرح تطهير التطهير » ، تأليف السيد عبد الباقي الحسيني كتبه شرحاً لكتاب الفاضل الهندي.
4. « إذهاب الرجس عن حظيرة القدس » ، للعلاّمة الشيخ عبد الكريم بن محمد طاهر القمي.
5. « الصور المنطبعة » ، له أيضاً في هذا المجال.
6. « أقطاب الدوائر » ، للعلاّمة عبد الحسين بن مصطفى أحد علمائنا في القرن الثاني عشر فرغ منه عام 1138 ه ، وطبع عام 1403 ه.
7. « تفسير آية التطهير » ، تأليف الشيخ إسماعيل بن زين العابدين التبريزي الملقّب بمصباح ( المتوفّى عام 1300 ه ).
8. التنوير في ترجمة رسالة « آية التطهير » باللغة الأوردية ، تأليف السيد عباس الموسوي ، طبع في الهند عام 1341 ه ، وهو ترجمة لرسالة السيد القاضي نور اللّه.
9. « جلاء الضمير في حل مشكلات آية التطهير » ، للشيخ محمد البحراني ، طبع في بُمباي عام 1325 ه.
10. رسالة قيمة في تفسير آية التطهير ، للعلاّمة المحقق الشيخ لطف اللّه الصافي ، طبعت عام 1403 ه من منشورات دار القرآن الكريم في قم المقدسة ، وله رسالة أُخرى في العصمة طبعت معها ، حيّاه اللّه وبيّاه.
11. « آية التطهير » في جزءين ، للسيد الجليل علي الأبطحي ، وقد استقصى الكلام فيها حول المأثورات الواردة فيها في الجزء الأوّل ، ودلالتها على العصمة في الجزء الثاني.
ص: 194
12. « آية التطهير » ، للشيخ محمد مهدي الآصفي وهي دراسة حول مداليل الآية الكريمة ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ ... ) واختصاصها بأهل البيت عليهم السلام نشرتها مؤسسة دار القرآن الكريم في قم المقدسة سنة 1411 ه.
13. « آية التطهير ، رؤية مبتكرة » ، لآية اللّه الشيخ محمد الفاضل اللنكراني ، طبع في إيران 1970 م بالفارسية. و 1987 م بالعربيَّة.
14. « آية التطهير في الخمسة أهل الكساء » ، للسيد محيي الدين الموسوي الغريفي ، طبع في النجف الأشرف - 1377 ه / 1958 م.
15. أخيرها - لا آخرها - ما قدمناه لكم في هذه الصحائف لكاتب هذه السطور ، عفا اللّه عنه ، ورزقه شفاعة محمد وأهل بيته يوم لا ينفع مال ولا بنون.
ص: 195
ص: 196
قد تعرَّفت على من هم أهل البيت من خلال التعريف بالحدِّ التامّ الذي عرَّف به رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أهل بيته ، أهل بيت النبوّة والرّسالة ، وكأن َّالتعريف السابق كان بمنزلة التعريف بالحدّ أي التعريف بالذات.
ويمكن أن نتعرف عليهم من خلال التعريف على سماتهم وخصوصيّاتهم الّتي تشبه التعريف بالرّسم والتعريف بالعرضي.
وسماتهم وخصوصيّاتهم كثيرة مبثوثة في ثنايا الآيات والأحاديث النبويَّة ، ولكن نقتصر في المقام على ما ورد من السمات في الذكر الحكيم.
ص: 197
ص: 198
لقد تعرفت على ما هو المراد من أهل البيت في الآية المباركة على وجه لم يدع لقائل كلمة ، ولا لمجادل شبهة ، في أنّ المقصود منه هو العترة الطاهرة قرناء الكتاب في كلام النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم :
فحان البحث للتطرق إلى سماتهم وخصوصياتهم ، وهي على قسمين :
1. ما يستفاد من الآية الشريفة.
2. ما يستفاد من سائر الآيات.
أمّا الأوّل ، فالآية - بعد الإمعان فيها - تدلّ على عصمتهم وطهارتهم من الذنوب ، ويعلم ذلك من خلال دراسة أمرين :
2. هل الارادة في الآية المباركة إرادة تكوينية أو تشريعية ؟ 1. ما هو المراد من الرجس ؟
المراد من الرجس : هو القذارة الأعم من المادية والمعنوية ، وقد اتفق على ذلك أئمّة اللغة.
قال ابن فارس : الرجس : أصل يدل على اختلاط ، ومن هذا الباب :
ص: 199
الرجس : القذر لأنّه لطخ وخلط.(1)
وقال ابن منظور : الرجس : القذر ، وكل قذر رجس ، وفي الحديث : أعوذ بك من الرجس النجس. وقد يعبر به عن الحرام والفعل القبيح والعذاب واللعن والكفر. قال الزجّاج : الرجس في اللغة كل ما استقذر من عمل ... فبالغ اللّه في ذم أشياء وسمّاها رجساً ، وقال ابن الكلبي : رجس من عمل الشيطان أي مأثم.(2)
وقد استعملت هذه اللفظة في الذكر الحكيم ثمانية مرات : ووصف به الخمر والميسر والأنصاب والأزلام والكافر غير المؤمن باللّه والميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير والأوثان وقول الزور ... إلى غير ذلك من الموارد التي وصفت به في الذكر الحكيم.
ونكتفي بنقل بعض الآيات قال سبحانه : ( إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ) .(3)
وقال سبحانه : ( إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ) .(4)
وقال سبحانه : ( كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ(5)) ، إلى غير ذلك من الآيات.
والمتفحص في كلمات أئمّة أهل اللغة ، والآيات الواردة فيها تلك اللفظة ،
ص: 200
يصل إلى أنّها موضوعة بمعنى القذارة التي تستنفر منها النفوس ، سواءً أكانت مادية ، كما وردت في الآيات ، أم معنوية كما هو الحال في الكافر وعابد الوثن ووثنه.
فلو وصف به العمل القبيح عرفاً أو شرعاً ، فلأجل انّ العمل القبيح يوصف بالقذارة التي تستنفرها الطباع السليمة ، وعلى هذا فالمراد من الرجس في الآية هي الأعمال القبيحة عرفاً أو شرعاً ، ويدل عليه قوله سبحانه بعد تلك اللفظة : ( وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ، فليس المراد من هذا التطهير إلاّ تطهيرهم من الرجس المعنوي الذي لا تقبله النفوس السليمة.
وقد ورد نظير قوله : ( وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) في حق السيدة مريم عليها السلام ، قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ) .(1)
نعم : انّ لتطهير النفوس وطهارتها مراتب ودرجات ، ولا تكون جميعها مستلزمة للعصمة ، وانّما الملازم لها هو الدرجة العليا ، قال سبحانه : ( فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ) .(2)
قال العلاّمة الطباطبائي : الرجس - بالكسر والسكون - صفة من الرجاسة وهي القذارة ، والقذارة هيئة في النفس توجب التجنّب والتنفّر منها ، وهي تكون تارة بحسب ظاهر الشيء كرجاسة الخنزير ، قال تعالى : ( أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ) وبحسب باطنه ، أُخرى ، وهي الرجاسة والقذارة المعنوية كالشرك والكفر وأثر العمل السيّء ، قال تعالى : ( وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ )(3)، وقال : ( وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا
ص: 201
حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) .(1)
وأيّاً ما كان فهو إدراك نفساني وأثر شعوري يحدث من تعلّق القلب بالاعتقاد الباطل أو العمل السيّء وإذهاب الرجس عبارة عن إزالة كل هيئة خبيثة في النفس تضاد حق الاعتقاد والعمل ، وعند ذلك يكون إذهاب الرجس معادلاً للعصمة الإلهية التي هي صورة علمية نفسانية ، تحفظ الإنسان من رجس باطني الاعتقاد وسيّء العمل.(2)
إذا كان المراد من الرجس في الآية الكريمة هو الأفعال القبيحة عرفاً أو شرعاً والمعاصي صغيرها وكبيرها ، فيجب أن يقال : إنّ المنفي في الآية هو عموم الرجس ، وذلك لأنّ المنفي هو جنس الرجس لا نوعه ولا صنفه ، ونفي الجنس يلازم نفي الطبيعة بعامة مراتبها ، ولأجل ذلك لم يكتف سبحانه بقوله : ( لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ ) بل أكّده بقوله : ( وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ، فلو كان المراد نفي قسم خاص من الرجس - أعني : الشرك ، أو الأوسع منه كالمعاصي الكبيرة - لما كان لهذه العناية وجه.
والحاصل : انّ المفهوم من قول القائل لا خير في الحياة ، أو لا رجل في الدار ، هو المفهوم من قوله : ليذهب عنكم الرجس ، والتفكيك بين المقامين غير مقبول.هذا هو الأمر الأوّل وإليك الكلام في الأمر الثاني :
ص: 202
إنّ انقسام إرادته سبحانه إلى تكوينية وتشريعية من الانقسامات الواضحة التي لا تحتاج إلى بسط في القول ، ومجمل القول فيها هو انّه إذا تعلّقت إرادته سبحانه على إيجاد شيء وتكوينه في صحيفة الوجود ، فهي الإرادة التكوينية ولا تتخلّف تلك الإرادة عن مراده ، وربّما يعبّر عنها بالأمر التكويني قال سبحانه : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) . (1)
ففي هذا المجال يكون متعلّق الإرادة تكوّن الشيء وتحقّقه وتجسّده ، واللّه سبحانه لأجل سعة قدرته ونفوذ إرادته لا تنفك إرادته عن مراده ولا أمره التكويني عن متعلّقه.
وأمّا إذا تعلّقت إرادته سبحانه بتشريع الأحكام وتقنينها في المجتمع حتى يقوم المكلّف مختاراً بواجبه ، فهي إرادة تشريعية ، ففي هذا المجال يكون متعلّق الإرادة تحقيقاً هو التشريع والتقنين ، وأمّا قيام المكلّف فهو من غايات التكليف ، ولأجل ذلك ربّما تترتب عليه الغاية ، وربّما تنفك عنه ، ولا يوجب الانفكاك خللاً في إرادته سبحانه ، لأنّه ما أراد إلاّ التشريع وقد تحقق ، كما انّه ما أراد قيام المكلّف بواجبه إلاّ مختاراً ، فقيامه بواجبه أو عدم قيامه من شعب اختياره ، هذا هو إجمال القول في الإرادتين ، وللتفصيل محل آخر.
والقرائن التي ستمر عليك تدل على أنّ الإرادة في الآية تكوينية لا تشريعية بمعنى انّ إرادته التكوينية التي تعلّقت بتكوين الأشياء وإبداعها في عالم الوجود ، تعلّقت أيضاً بإذهاب الرجس عن أهل البيت ، وتطهيرهم من كل رجس وقذر ، ومن كل عمل يستنفر منه ، وإليك تلك القرائن :
ص: 203
1. انّ الظاهر من الآية هو تعلّق إرادة خاصة بإذهاب الرجس عن أهل البيت ، والخصوصية إنّما تتحقّق لو كانت الإرادة تكوينية ، إذ لو كانت تشريعية لما اختصت بطائفة دون طائفة ، لأنّ الهدف الأسمى من بعث الأنبياء هو إبلاغ تشريعاته ودساتيره إلى الناس عامة لا لأُناس معيّنين ، ولأجل ذلك ترى أنّه سبحانه عندما شرّع للمسلمين الوضوء والغسل بقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ... ) علّله بقوله : ( وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )(1)خاطب سبحانه المؤمنين عامة بالوضوء والغسل وعلّل تشريعه العام بتطهيرهم وإتمام نعمته عليهم وهذا بخلاف الآية التي نحن بصددها ، فإنّها خصّصت إرادة تطهيره بجمع خاص تجمعهم كلمة « أهل البيت » وخصّهم بالخطاب وقال : « عنكم أهل البيت » أي لا غيركم.
وبالجملة فتخصيص تعلّق الإرادة بجمع خاص على الوجه الوارد في الآية ، يمنع من تفسير الإرادة بالإرادة التشريعية التي عمّت الأُمّة جميعاً.
نعم لا يتوهم من ذلك انّ أهل البيت خارجون عن إطار التشريع ، بل التشريع في كل المجالات يعمّهم كما يعم غيرهم ، ولكن هنا إرادة تكوينية مختصة بهم.
2. انّ العناية البارزة في الآية المباركة أقوى شاهد على أنّ المقصود بالإرادة ، الإرادة التكوينية لا التشريعية ، لوضوح أنّ تعلّق الإرادة التشريعية بأهل البيت لا يحتاج إلى العناية في الآية ، وإليك بيان تلك العناية :
ص: 204
أ. ابتدأ سبحانه كلامه بلفظ الحصر ، ولا معنى له إذا كانت الإرادة تشريعية ، لأنّها غير محصورة بأُناس مخصوصين.
ب. عيّن تعالى متعلّق إرادته بصورة الاختصاص ، فقال : ( أَهْلَ الْبَيْتِ ) أي أخصّكم أهل البيت.
ج. قد بيّن متعلّق إرادته بالتأكيد ، وقال بعد قوله : ( لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ ... وَيُطَهِّرَكُمْ ) .
د. قد أكّده أيضاً بالإتيان بمصدره بعد الفعل ، وقال : ( وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ليكون أوفى في التأكيد.
ه. انّه سبحانه أتى بالمصدر نكرة ، ليدل على الإكبار والإعجاب ، أي تطهيراً عظيماً معجباً.
و. انّ الآية في مقام المدح والثناء ، فلو كانت الإرادة إرادة تشريعية لما ناسب الثناء والمدح.
وعلى الجملة : العناية البارزة في الآية تدل بوضوح على أنّ الإرادة هناك غير الإرادة العامة المتعلّقة لكل إنسان حاضر أو باد ، ولأجل ذلك فإنّ المحقّقين من المفسرين يفسرون الإرادة في المقام بالإرادة التكوينية ويجيبون عن كل سؤال يطرح عنها.
قال الشيخ الطبرسي : إنّ لفظة ( إِنَّمَا ) محقّقة لما أُثبت بعدها ، نافية لما لم يثبت ، فإنّ قول القائل : إنّما لك عندي درهم ، وإنّما في الدار زيد ، يقتضي انّه ليس عنده سوى الدرهم وليس في الدار سوى زيد ، وعلى هذا فلا تخلو الإرادة في الآية أن تكون هي الإرادة المحضة التشريعية ، أو الإرادة التي يتبعها التطهير وإذهاب الرجس ؛ ولا يجوز الوجه الأوّل ، لأنّ اللّه تعالى قد أراد من كل مكلّف هذه الإرادة المطلقة ، فلا اختصاص لها بأهل البيت دون سائر الخلق ، ولأنّ هذا القول يقتضي
ص: 205
المدح والتعظيم لهم بغير شك وشبهة ولا مدح في الإرادة المجرّدة ، فثبت الوجه الثاني ، وفي ثبوته ثبوت عصمة المعنيين بالآية من جميع القبائح. (1)
وقال السيد ابن معصوم المدني في تقريب دلالة الآية على عصمة المعنيّين بالآية : إنّ لفظة ( إِنَّمَا ) محقّقة لما أُثبت بعدها ، نافية لما لم يثبت ، فإنّ قول القائل إنّما لك عندي درهم ، وإنّما في الدار زيد ، يقتضي انّه ليس له عنده سوى درهم وليس في الدار سوى زيد ، إذا تقرر هذا فلا تخلو الإرادة في الآية أن تكون هي الإرادة المطلقة أو الإرادة التي يتبعها التطهير وإذهاب الرجس ، فلا يجوز الوجه الأوّل ، لأنّ اللّه تعالى قد أراد من كل مكلّف هذه الإرادة المطلقة ، فلا اختصاص لها بأهل البيت دون سائر الخلق. وهذا القول يقتضي المدح والتعظيم لهم بغير شك ولا شبهة ولا مدح في الإرادة المجرّدة ، فثبت الوجه الثاني ، وفي ثبوته ثبوت عصمة المعنيّين بالآية من جميع القبائح ، لأنّ اللام في الرجس للجنس ، ونفي الماهية نفي لكل جزئياتها ، وقد علمنا أنّ من عدا ما ذكرناه من أهل البيت حين نزول الآية غير مقطوع على عصمته ، فثبت أنّ الآية مختصة بهم ، لبطلان تعلّقها بغيرهم. وما اعتمدوا عليه من أنّ صدر الآية وما بعدها في الأزواج ، فجوابه انّ من عرف عادة العرب العرباء في كلامهم واسلوب البلغاء والفصحاء في خطابهم لا يذهب عليه انّ هذا من باب الاستطراد ، وهو خروج المتكلم من غرضه الأوّل إلى غرض آخر ثم عوده إلى غرضه الأوّل ، واتفقت كلمة أهل البيان على أنّ ذلك من محاسن البديع في الكلام نثراً ونظماً والقرآن المجيد وخطب البلغاء وأشعارهم مملوءة من ذلك. (2)
ص: 206
قد تعرفت على مفاد الآية : واتضح لديك انّ القرائن الداخلية في نفس الآية تدل بوضوح على أنّ الإرادة الواردة في الآية إرادة تكوينية تعلّقت بطهارة أهل البيت وإذهاب الرجس عنهم ، ويكون وزان الإرادة فيها وزان الإرادة الواردة في الآيات التالية ونظائرها :
1. ( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) .(1)
2. ( وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ) .(2)
3. ( وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) .(3)
وعند ذلك تطرح في المقام أسئلة لا بد من الإجابة عليها :
هل يصح تعريف الإرادة التشريعية بالإرادة المتعلّقة بفعل الغير ، كتكليفه سبحانه عباده بالصلاة والزكاة ، وتكليف الآمر البشري غيره بالسقي والرعي ؟ وإذا كانت الإرادة التشريعية عبارة عمّا ذكر ، فتكون الإرادة التكوينية عبارة عن تعلّقها بفعل نفس المريد كتعلّق إرادته سبحانه بخلق السماوات والأرض ، وإرادة غيره بالأكل والشرب ؟
الجواب : انّ تعريف الإرادة التكوينية بما ذكر وإن كان صحيحاً ، لكن
ص: 207
تعريف التشريعية منها بتعلّقها بفعل الغير غير صحيح قطعاً ، وذلك لأنّ الإرادة لا تتعلّق إلاّ بأمر اختياري وهو فعل المريد ، وأمّا فعل الشخص الآخر ، فهو بما انّه خارج عن اختيار المريد ، لا تتعلّق به إرادته ، وكيف يصح لشخص أن يريد صدور فعل من الغير مع أنّ صدوره منه تابع لإرادة ذلك الغير وليس تابعاً لإرادة المريد الآخر ؟
وإن شئت قلت : إنّ زمام فعل الفاعل المختار بيد الفاعل المباشر ، فلو أراده لقام به. ولو لم يرده لما قام به وليس زمامه بيد الآمر ، حتى يريده منه جداً ولا تصيّره إرادة الآمر مسلوب الاختيار ولا تجعله مضطراً مقهوراً مسخراً في مقابل إرادة الآمر ، لأنّ المفروض انّ الفاعل بعد ، فاعل مختار ، ومن هذا شأنه لا تتعلّق بفعله ، إرادة الغير الجدية ، لأنّ معنى تعلّقها بفعل الغير أنّه في اختيار المريد ومتناوله ، ويوجد بإرادته وينتفي بانتفائه ، مع أنّه ليس كذلك وإنّما يوجد بإرادة الفاعل المباشر وينتفي بانتفاء إرادته ، ولا ملازمة بين إرادة الآمر وإرادة المأمور ولأجل ذلك كثيراً ما يعصى ويخالف.
وفي الجملة : ليست ماهية الإرادة التشريعية أمراً يخالف ماهية الإرادة التكوينية ، بل الكل من واد واحد تختلفان في الاسم وتتحدان في الماهية ، والجميع يتعلّق بفعل نفس المريد ، غير انّ المراد فيهما مختلف حسب الاعتبار ، وهو في التكوينية ، عبارة عن الفعل الخارجي الصادر عنه مباشرة ، كالتكوين والتصنيع ، سواء كان المريد هو اللّه سبحانه أم أحد عباده القادرين على الأفعال الخارجية باقداره ، ولكنّه في التشريعية عبارة عن نفس الطلب والإنشاء بالإيماء والإشارة واللفظ والكتابة ، وهو أيضاً فعل المريد الواقع في اختياره ، وأمّا قيام الغير بالمطلوب فهو من غايات إرادة المريد ومقاصده وأغراضه ، وهي تترتب تارة ،
ص: 208
وتنفك أُخرى ، فلو تكونت في نفسه مبادئ الخوف والرجال لقام به وإلاّ فلا يقوم به ولا تتحقّق الغاية لكن تتم عليه الحجة.
وعلى ذلك فما اشتهر على الألسن من أنّ الإرادة التشريعية عبارة عن تعلّق إرادة الآمر بفعل الغير تسامح في التعبير ومن باب إقامة الغاية مكان ذيها.
والذي يوضح ذلك : انّ إرادته سبحانه لا تنفك عن مراده ، ومن المستحيل أن يخاطب شيئاً ب « كن » ولا يتحقّق ، ولسعة قدرته وعموميتها ، قال سبحانه : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ )(1)، فلو تعلّقت إرادته بفعل العباد كالصلاة والصوم لما انفك عنهم ولو تعلّقت على إيمانهم وهدايتهم ، لما وجد على أديم الأرض عاص ومتمرد ، قال سبحانه : ( وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ )(2)، وتكون نتيجة ذلك كونهم مجبورين في قبول الهداية ، ومضطرين إلى الطاعة ، فلا يقام لمثلها وزن ولا قيمة ، وهذا يعرب بوضوح عن أنّ متعلّق إرادته في مجال التشريع هو فعل نفس المشرع وهو التشريع ، وهو بعد غير منفك عن إرادته ، موجود معها.
لو كانت الإرادة في المقام إرادة تكوينية فبما انّ إرادته سبحانه لا تتخلّف عن المراد فلازمها هنا كون طهارتهم وابتعادهم عن الرجس أمراً جبرياً لا يتخلّف ، وهذا لا يعد فضيلة وثناء لأهل البيت مع أنّ الآية بصدد الثناء عليهم.
وقد أجاب عنه المحقّقون على وجه الإجمال وقالوا : إنّ القدرة والتمكّن من فعل المعصية ثابت للمعصوم ، والعصمة مانع شرعي ، ولا منافاة بين عدم القدرة الشرعية والقدرة الذاتية ، وهذا الجواب بإجماله كاف لأهل التحقيق ولكن يحتاج
ص: 209
إلى إيضاح ، فنقول :
إنّ مشكلة الجبر تنحل بالتعرّف على كيفية تعلّق إرادته سبحانه بأفعال العباد ، والإمعان في هذا الموضوع يكفي لحل بعض المشاكل المطروحة في مسألة الجبر والاختيار.
وبعبارة أُخرى : هل تعلّقت إرادته سبحانه بصدور أفعال العباد عنهم باختيارهم وإرادتهم ، أم تعلّقت بصدورها منهم مطلقاً وإن لم تكن مسبوقة باختيارهم وإرادتهم ، فالجبر لازم القول الثاني ، والاختيار نتيجة القول الأوّل ، والحق هو القول الأوّل فنقول في توضيحه :
إنَّ لازم التوحيد في الفاعلية والخالقية - كما هو منصوص الآيات ومقتضى البراهين - هو انّ كل ما يقع في صفحة الوجود سواء كان فعلاً للعباد أم لغيرهم لا يخرج عن إطار الإرادة التكوينية لله سبحانه ، ولا يقع شيء في الكون إلاّ بإرادته وإذنه سبحانه ، قال تعالى : ( مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللّهِ ) (1) ، وهذه الآية وغيرها تدلّ بصراحة على أنّ أفعال العباد حلالها وحرامها غير خارجة عن إطار الإرادة التكوينية لله وإلاّ لزم أن يكون الإنسان أو الفواعل الأُخر مستقلة في الفعل والتأثير ، وهو يستلزم الاستقلال في الذات ، وهو عين الشرك ونفي التوحيد في الأفعال والخالقية.
ومع ذلك فليس العباد مجبورين في أفعالهم وتصرفاتهم ، لأنّ إرادته سبحانه وإن تعلّقت بأفعالهم لكن إرادته سبحانه متعلّقة بأفعالهم بتوسط إرادتهم الخاصة وفي طول مشيئتهم ، وبذلك صح أن يقال لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين.
ص: 210
وعلى ذلك فاللّه سبحانه وإن أراد طهارتهم عن الذنوب بالإرادة التكوينية ولكن تلك الإرادة تعلّقت بها ، لما علم سبحانه انّهم بما زودوا من إمكانات ذاتية ومواهب مكتسبة نتيجة تربيتهم وفق مبادئ الإسلام ، لا يريدون إلاّ ما شرّع لهم سبحانه من أحكام ، فهم لا يشاءون إلاّ ما يشاء اللّه ، وعند ذلك صح له سبحانه أن يخبر بأنّه أراد تكويناً إذهاب الرجس عنهم ، لأنّهم عليهم السلام ما داموا لا يريدون لأنفسهم إلاّ الجري على وفق الشرع لا يفاض عليهم إلاّ هذا النوع من الوصف.
وحصيلة الكلام : انّ مبنى الإشكال هو الغفلة عن كيفية تعلّق إرادته سبحانه بأفعال العباد حيث توهّم المستشكل :
أوّلاً : انّ أفعال العباد خارجة عن إطار الإرادة التكوينية لله سبحانه ، وغفل عن أنّ هذا النوع من الاعتقاد يساوق الشرك ويصادم التوحيد.
وثانياً : انّ سبق الإرادة التكوينية على أفعال العباد يستلزم سلب الاختيار عنهم ، وغفل عن أنّ إرادته سبحانه انّما تتعلّق بتوسط إرادة العباد واختيارهم ، فهم إذا أرادوا لأنفسهم شيئاً ، فاللّه سبحانه يريد ذلك الشيء لهم تكويناً ، وليس في ذلك أيّة رائحة للجبر ، بل هو الأمر بين الأمرين.
وعندئذ يكون المراد من تطهيرهم - بعد تجهيزهم بإدراك الحق في الاعتقاد والعمل ، وإعطائهم البصيرة الكاملة لمعرفة الحق في مجال الاعتقاد والعمل - تعلّق إرادته التكوينية بطهارتهم من الذنوب ، لأجل تعلّق إرادتهم بذلك ، فقد تعلّقت إرادته سبحانه بتنزيههم عن طريق إرادتهم واختيارهم ، وأين هذا من الجبر ؟
ما ذكرناه في كيفية تعلّق إرادته سبحانه بأفعال العباد ، جواب عام سار في
ص: 211
جميع الموارد ورافع للإشكال في مجال الجبر ، وانّ من أعضل الموارد في الجبر والاختيار ، هي تحليل كيفية تعلّق إرادته بأفعال العباد وانّه : هل يوجب الجبر ويسلب الاختيار ، باعتبار انّ إرادته لا تنفك عن المراد ، أم لا ؟ لأنّ إرادته تعلّقت بصدور أفعالهم عن أنفسهم عن مبادئها المكونة فيهم وهي إرادتهم واختيارهم ، فلو صدرت عنهم بلا هذه الخصوصية لزم انفكاك إرادته عن مراده.
ولمّا استشكل هذا المطلب على بعضهم انصرفوا إلى إخراج أفعال العباد عن إطار إرادته سبحانه ، وانّما تتعلّق بالكائنات دون أفعالهم ، وهو كما ترى ، لأنّه يستلزم تحقّق شيء في صحيفة الوجود بغير إذنه وإرادته ، مع أنّ مقتضى التوحيد في الخالقية انتهاء كل ما في عالم الإمكان إلى وجوده وخالقيته ، وبالتالي إلى إرادته ، فإخراج أفعال العباد عن مجال إرادة اللّه ، يخالف الأُسس التوحيدية التي جاء بها القرآن ودعمها العقل.
إلاّ أنّ في مسألة العصمة وكيفية تعلّق إرادته تعالى بعصمة المعصوم تحليلاً آخر يختص بهذا المقام ولا يتعدّاه.
وحاصل هذا التحليل يتوقف على معرفة كيفية العصمة وحقيقتها ، فنقول :
إنّ حقيقة العصمة ترجع إلى الدرجة العليا من التقوى ، بمعنى انّ التقوى إذا بلغت قمتها تعصم الإنسان عن اقتراف الذنب وجميع القبائح.
وإن شئت قلت : العصمة نتيجة العلم القطعي الثابت والعرفان بعواقب المعصية علماً يصد الإنسان عن اجتراح المعاصي واقتراف المآثم ، كالإنسان الواقف أمام الأسلاك التي يجري فيها التيار الكهربائي ، فانّه لا يقدم بنفسه على إمساكها.
ص: 212
وبعبارة ثالثة : العصمة : الاستشعار بعظمة الرب وكماله وجلاله استشعاراً منقطع النظير حيث يحدث في المستشعر التفاني في الحق ، والعشق لجماله ، وكماله ، بحيث لا يستبدل برضاه شيئاً.
فإذا كانت حقيقة العصمة نفس هذه الحقائق أو قريباً منها ، فليس اتصاف الإنسان بهذه الحقائق موجباً للجبر وسالباً للاختيار ، بل المعصوم مع هذه المواهب الإلهية قادر على اقتراف المعاصي وارتكاب الخطايا غير انّه لأجل حصوله على الدرجة العليا من التقوى ، والعلم القطعي بآثار المعاصي والاستشعار المنقطع النظير بعظمة الخالق ، يختار الطاعة وترك المعصية مع القدرة على خلاف ذلك ، فحاله كالوالد العطوف لا يقدم على قتل ولده ولو أُعطيت له الكنوز الكثيرة.
إنّ هذه الحقائق الموهوبة للمعصوم أشبه بحبل يلقى إلى الغارق في البحر والساقط في البئر حتى يتمسك به وينجي نفسه ، فلا شك انّ العاقل يتمسّك به دائماً وينجي نفسه ، ولكن هذا العمل لا يخالف قدرته على ترك التمسك به وإلقاء نفسه في مهاوي الهلكة.
فهذه الحقائق النفسانية الموهوبة ليست إلاّ أسباباً لترك العصيان ومقتضيات للطاعات ، ومعدّات لقرب العبد من ربّه ، ومع ذلك تتوسط بينها وبين فعل العبد من طاعة أو عصيان ، إرادته واختياره ، فليست هذه المواهب عللاً تامة لتوجه العبد إلى جانب واحد وانحيازه عن جانب آخر ، بل هي أسباب مقربة ومعدات للإرادة ، ومع ذلك كله فاختيار المعصوم وإرادته باقيان على حالهما.
فمعنى تعلّق إرادته سبحانه بعصمتهم ليس تعلّقها بالطاعة وترك العصيان ، بل معناه تعلّق إرادته التكوينية بإفاضة هذه المواهب عليهم وجعلها في
ص: 213
مكامن نفوسهم وتحليتهم بهذه الحلية الإلهية ، ولكن هذا الجعل والتحلية لا يهدف إلى كونهم مكتوفي الأيدي أمام التكاليف ومسوقين إلى جانب واحد ، فالاشتباه في المقام حصل في تعيين ما هو المفاض من اللّه سبحانه على هذه الشخصيات فتخيل : « انّ المفاض هو العصمة المفسرة بترك المعصية ونفس الطاعة » غفلة عن أنّ المفاض هو هذه الكيفيات والصفات العليا النفسانية عليهم ، وهي توجد استعداداً في النفس بترك العصيان واختيار الطاعة مع القدرة على الخلاف.
نعم : لو كان هناك جبر ، فالجبر في تحليتهم بهذه المواهب والعطايا الإلهية ، ولكنّهم معها مختارون في التوجه ، لأي طرف أرادوا ، وإن كانوا لا يشاءون إلاّ الطاعة وترك المعصية.
ثمّ إنّ الجمهور لمّا ذهبوا إلى كون الإرادة تشريعية احتالوا في توجيهها يقول المفسر المعاصر سيد قطب في هذا الصدد : إنّه سبحانه يجعل تلك الأوامر - الأوامر الواقعة قبل الآية من قوله : ( وَقَرْنَ ... وَلا تَبَرَّجْنَ ) - وسيلة لإذهاب الرجس وتطهير البيت ، فالتطهير وإذهاب الرجس يتم بوسائل يأخذ الناس بها أنفسهم ويحقّقونها في واقع الحياة العملي ... ويختم هذه التوجيهات لنساء النبي بمثل ما بداها ، بتذكيرهنّ بعلو مكانتهنّ وامتيازهنّ على النساء بمكانتهنّ من رسول اللّه وبما أنعم اللّه عليهنّ فجعل بيوتهنّ مهبط القرآن ومنزل الحكمة وتشرف النور والهدى والإيمان ، وانّه لحظ عظيم يكفي التذكّر به لتحس النفس جلالة قدره ولطيف صنع اللّه فيه وجزالة النعمة التي لا يعد لها نعيم. (1)
ص: 214
وحاصل ما ذكره مبني على نزول القرآن في مورد نساء النبي ، وانّه سبحانه علّل خطاباته لهنّ بأنّه يريد من هذه التكاليف إذهاب الرجس عنهنّ ، ويكون المعنى انّ التشديد في التكاليف وتضعيف الثواب والعقاب ليس لانتفاع اللّه سبحانه به ، بل لإذهاب الرجس عنكنّ وتطهيركنّ.
ولا يخفى انّ ما ورد في الآيات من الأحكام ليست أحكاماً خاصة بنساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فهذا قوله سبحانه قبل آية التطهير : ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ ) . (1)
وهذا قوله سبحانه بعد الآية : ( وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللّهِ وَالحِكْمَةِ ... ) كلّها أحكام عامة لنساء المسلمين ، فاللّه سبحانه بهذه التكاليف يريد أن يطهر الكل وإذهاب الرجس عن عموم النساء ، لا عن زوجات النبي خاصة ، وعندئذ لا وجه لتخصيصهنّ بالخطاب بالعناية التي عرفت.
وإنّما ذهب بعض الجمهور إلى ما ذهب ، لأجل انّهم تصوّروا نزول الآية في حق نساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فاحتالوا لتفسير الإرادة بما ذكره سيد قطب ونظراؤه ، وانّما ذهبوا إلى ذلك بزعمهم اتصال الآية بما قبلها من الآيات ، مع أنّه سيوافيك انّ الآية آية التطهير آية مستقلة لا صلة لها بما قبلها ولا ما بعدها ، وانّما وضعت في هذا الموضع لمصلحة خاصة سنشير إليها ، والأحاديث بكثرتها البالغة ناصة على نزول الآية وحدها ، ولم يرد نزولها في ضمن آيات نساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، ولا ذكره أحد حتى أنّ القائل باختصاص الآية بأزواج النبي ينسب القول إلى عكرمة وعروة لا إلى الرواية.
فالآية لم تكن بحسب النزول من آيات النساء ، ولا متصلة بها ، وستوافيك
ص: 215
الروايات الكثيرة الواردة في هذا المضمار.
وهذا سؤال ثالث يتردد في المقام وفي غيره ، وقد طرحناه عند البحث عن العصمة على وجه الإطلاق ونطرحه هنا بشكل آخر ، وهو انّ عصمة أهل البيت لو كانت أمراً موهوباً من اللّه سبحانه كيف يمكن أن تعد مفخرة لأهله ؟
والإجابة عن هذا السؤال واضحة بعد الوقوف على معنى العصمة الموهوبة لهم ، وقد عرفت أنّ المراد من هبتها لهم هو إعطاء المقتضيات والمعدات لهم التي لا تسلب الاختيار عنهم وهم بعد قادرون على الطاعة والعصيان والنقض والإبرام ، والسائل تخيل انّ العصمة الموهوبة هي نفس ترك العصيان والمخالفة ، فزعم أنّ شيئاً مثلها لا يعد فخراً ولا يوجب ثناءً ، وقد أوضحنا هذا في السؤال السابق ، فراجع.
وربّما يقال : إنّ أقصى ما تدل عليه الآية هو إخباره سبحانه عن أنّه يريد إذهاب الرجس عن أهل البيت وتطهيرهم ، وليس في الآية ما يدل على تحقّق هذه الإرادة بالفعل ، وانّها صدرت منه سبحانه ، مع أنّ القائلين بعصمة أهل البيت يذهبون بدلالتها على اتصافهم بالعصمة ، وفي هذا الصدد ينقل الشيخ زين الدين البياضي العاملي إشكالاً عن المخالف ويقول : ( يُرِيدُ ) لفظ مستقبل ، فلا دليل على وقوعه. (1)
ص: 216
ولا يخفى أنّ هذا الإشكال نشأ من اتخاذ موقف خاص بالنسبة إلى أهل البيت بشهادة انّ هذه اللفظة وردت في كثير من الآيات مع أنّه ما خطر ببال أحد مثل هذا الإشكال قال سبحانه : ( يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ) (1) ، وقال : ( وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ) (2) ، وقال : ( يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ) (3) ، وقال : ( وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ) (4) ، أضف إلى ذلك انّ هناك قرينة واضحة على تحقّق الإرادة بشهادة انّ الآية في مقام المدح والثناء.
وأمّا الإتيان بصيغة المستقبل والعدول عن الماضي ، فهو لأجل ظهور فعل المستقبل في الدوام ، وهو سبحانه يريد إفادة دوام هذه الإرادة واستمرارها مدى الأيام والسنين.
خلاصة هذا السؤال ترجع إلى أنّ الإذهاب يتعلّق بشيء موجود ، فعلى ذلك يستلزم أن يكون هناك رجس موجود أذهبه اللّه وطهرهم منه ، وهذا يضاد مقالة أهل العصمة ، ولكن السائل أو المعترض غفل عن أنّ هذه التراكيب كما تستعمل في إذهاب الشيء الموجود ، كذلك تستعمل فيما إذا لم يكن موجوداً ، ولكن كانت هناك مقتضيات ومعدات له حسب الطبيعة الإنسانية وإن لم يكن موجوداً بالفعل كقول الإنسان لغيره : أذهبَ اللّه عنك كل مرض ، ولم يكن حاصلاً له ، ولكن كانت بعض المعدات للمرض موجودة.
ص: 217
وفي المقام نزيد توضيحاً : انّ الإنسان حسب الطبيعة الأوّلية مجهّز بالغرائز والميول العادية المتجاوزة عن الحدود ، ولم يشذ أهل البيت عنها ولم تكن لهم في العالم الجسماني خلقة خاصة بهم ، فكانت هناك أرضية صالحة للتعدي والطغيان ، فلمّا جهّزوا بهذه الغرائز أوّلاً ، ثم بالعصمة - بالمعنى الذي عرفت - ثانياً صح أن يقال : إنّه سبحانه أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً من العصيان.
وهذه الأسئلة وأشباهُها لا تحتاج إلى البسط في المقال ، ولأجل ذلك نطوي الكلام عنها.
ص: 218
من سمات أهل البيت عليهم السلام
إنّ الإيمان باللّه والعمل الصالح يُورث محبَّة في قلوب الناس ، إذ للإيمان أثر بالغ في القيام بحقوق اللّه أوّلاً ، وحقوق الناس ثانياً ، لا سيَّما إذا كان العمل الصالح نافعاً لهم ، ولذلك استقطب المؤمنون حُبَّ النّاس ، لدورهم الفعّال في إصلاح المجتمع الإنساني. وهذا أمر ملموس لكلّ النّاس ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ) . (1)
وبما أنّ الأنبياء بلغوا قمَّة الإيمان كما بلغوا في العمل الصالح ذروته ، نرى أنّ لهم منزلة كبيرة في قلوب الناس لا يضاهيها شيء ، لأنّهم صرفوا أعمارهم في سبيل إصلاح أُمور الناس وإرشادهم إلى مافيه الخير والرشاد. هذا حال الأنبياء ويعقبهم الأوصياء والأولياء والصلحاء.
أخرج أبو إسحاق السعدوي في تفسيره باسناده عن البراء بن عازب ، قال :
ص: 219
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لعلي : « اللّهمَّ اجعل لي عندك عهداً ، واجعل لي في صدور المؤمنين مودَّة » ، فأنزل اللّه تعالى الآية المذكورة آنفاً.
إنّ أهل البيت عليهم السلام لأجل انتسابهم إلى البيت النبوي الرفيع حازوا مودة الناس واحترامهم بكلّ وجودهم. وقد أُشير إلى ذلك في آثارهم وكلماتهم.
روى معاوية بن عمّار عن الإمام الصادق عليه السلام قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « إنّ حبّ علي عليه السلام قُذف في قلوب المؤمنين ، فلا يُحبّه إلاّ مؤمن ولا يبغضه إلا منافق ، وإنّ حبّ الحسن والحسين عليهما السلام قذف في قلوب المؤمنين والمنافقين والكافرين فلا ترى لهم ذامّاً ، ودعا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم الحسن والحسين عليهما السلام قرب موته فقبَّلهما وشمّهما وجعل يرشفهما وعيناه تهملان ». (1)
وقد تعلَّقت مشيئته سبحانه على إلقاء محبتهم في قلوب المؤمنين الصالحين ، حتى كانت الصحابة يميّزون المؤمن عن المنافق بحبّ علي أو بغضه.
روى أبو سعيد الخدري ، قال : إنّا كنّا لَنَعرف المنافقين نحن معشرَ الأنصار ببغضهم عليّ بن أبيطالب عليه السلام. (2)
وقد تضافر عن علي أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال : « والَّذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، انّه لعهد النبي اللأُمّي إليّ : انّه لا يحبني إلاّ مؤمن ولا يبغضني إلاّ منافق ». (3)
ويروى عنه عليه السلام أيضاً أنَّه قال : واللّه إنّه ممّا عهد إليَّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم انَّه لا
ص: 220
يبغضني إلاّ منافق ولا يُحبّني إلاّ مؤمن. (1)
وقد أعرب عن ذلك الإمام علي بن الحسين عليهما السلام في خطبته في جامع دمشق ، عند ما صعد المنبر وعرَّف نفسه فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثمّ خطب خطبة أبكى منها العيون ، وأوجل منها القلوب ، ثمّ قال :
« أيّها الناس أُعطينا ستّاً وفُضِّلنا بسبع ، أُعطينا : العلم ، والحلم ، والسماحة ، والفصاحة ، والشجاعة ، والمحبَّة في قلوب المؤمنين ». (2)
ولا عجب في أنّه تبارك وتعالى سمّاهم كوثراً أي الخير الكثير ، وقال : ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ... ) قال الرازي : الكوثر : أولاده ، لأنّ هذه السورة إنّما نزلت ردّاً على من عابه عليه السلام بعدم الأولاد ، فالمعنى أنّه يعطيه نسلاً يبقون على مرّ الزمان ، فانظر كم قتل من أهل البيت عليهم السلام ، ثم العالم ممتلئ منهم ولم يبق من بني أُمية في الدنيا أحد يُعبأ به ، ثمّ انظر كم كان فيها من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا عليهم السلام. (3)
إنّ محبة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم للحسين عليه السلام لم تكن محبة نابعة من حبه لنسَبه بل كان واقفاً على ما يبلغ إليه ولده الحسين عليه السلام في الفضل والكمال والشهادة في سبيله ، ونجاة الأُمّة من مخالب الظلم ، والثورة على الظلم والطغيان ، وهناك كلام للعلاّمة المجلسي يقول :
إنّ محبة المقربين لأولادهم وأقربائهم وأحبّائهم ليست من جهة الدواعي
ص: 221
النفسانية والشهوات البشرية ، بل تجرّدوا عن جميع ذلك وأخلصوا حُبَّهم ، و وُدَّهم لله. وحُبّهم لغير اللّه إنّما يرجع إلى حبهم له ، ولذا لم يحب يعقوب من سائر أولاده مثل ما أحب يوسف عليه السلام منهم ، ولجهلهم بسبب حبه له نسبوه إلى الضلال ، وقالوا : نحن عصبة ، ونحن أحقّ بأن نكون محبوبين له ، لأنّا أقوياء على تمشية ما يريده من أُمور الدنيا ، ففرط حبّه يوسف إنّما كان لحب اللّه تعالى له واصطفائه إيّاه فمحبوب المحبوب محبوب.(1).
ص: 222
من سمات أهل البيت :
الابتهال إلى اللّه وطلب الخير منه أو طلب دفع الشرِّ ومغفرة الذنوب ، أمر مرغوب ، يقوم به الإنسان تارة بنفسه ، وأُخرى يتوصل إليه بدعاء الغير.
واستجابة الدعاء رهن خرق الحجب والوصول إليه سبحانه ، حتى يكون الدعاء مصداقاً لقوله سبحانه : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ )(1)وليس كلّ دعاء مستجاباً وصاعداً إليه سبحانه ، فانّ لاستجابة الدعاء شروطاً مختلفة قلّما تجتمع في دعاء الإنسان العادي.
نعم هناك أُناس مطهرون من الذنوب يكون دعاؤهم صاعداً إلى اللّه سبحانه ومستجاباً قطعاً ، ولذلك حثَّ سبحانه المسلمين على التشرّف بحضرة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وطلب الاستغفار منه ، قال سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) .(2)
وقال سبحانه : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ
ص: 223
وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ) .(1)
ولذلك طلب أبناء يعقوب من أبيهم أن يستغفر لهم كما يحكيه قله سبحانه : ( قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ) .(2)
ويظهر ممّا جرى بين النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ووفد نجران من المحاجَّة والمباهلة انّ أهل البيت إذا أمَّنوا على دعاء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يُستجاب دعاءه ، فقد وفد نصارى نجران على الرسول وطلبوا منه المحاجَّة ، فحاجَّهم الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ببرهان عقلي تشير إليه الآية المباركة : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن ف َيَكُونُ ) .(3)
فقد قارعهم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بهذا البيان البليغ الذي لا يرتاب فيه ذو مرية ، حيث كان نصارى نجران يحتجون ببنوة المسيح بولادته بلا أب فوافاهم الجواب : « بأنّ مثل المسيح كمثل آدم ، إذ لم يكن للثاني أب ولا أُمّ مع أنّه لم يكن ابناً لله سبحانه » وأولى منه أن لا يكون المسيح ابناً له.
ولمّا أُفحموا في المحاجَّة التجأوا إلى المباهلة والملاعنة ، وهي وإن كانت دائرة بين الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ورجال النصارى ، لكن عمَّت الدعوة للأبناء والنساء ، للدلالة على اطمئنان الداعي بصدق دعوته وكونه على الحقّ ، وذلك لما أودع اللّه سبحانه في قلب الإنسان من محبة الأولاد والشفقة عليهم ، فتراه يقيهم بنفسه ويركب الأهوال والاخطار دونهم ، ولذلك قدَّم سبحانه في الآية المباركة الأبناء على النساء ، وقال : ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ
ص: 224
أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) .(1)
وإنَّ إتيانه سبحانه بلفظ الأبناء بصيغة الجمع يعرب عن أنّ طرف الدعوى لم يكن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وحده بل أبناؤه ونساؤه ، ولذلك عدَّتهم الآية نفس النبي ونساء النبي وأبناءه من بين رجال الأُمة ونسائهم وأبنائهم.
ثمّ إنّ المفسرين قد ساقوا قصة المباهلة بشكل مبسوط منهم صاحب الكشاف ، قال : لماّ دعاهم إلى المباهلة ، قالوا : حتى نرجع وننظر.
فلّما تخالوا قالوا للعاقب ، وكان ذا رأيهم : يا عبد المسيح ما ترى ؟ فقال : واللّه لقد عرفتم يامعشر النصارى أنّ محمّداً نبيّ مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم ، واللّه ما باهل قوم نبياً قط ، فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لتهلكنّ ، فإن أبيتم إلاّ إِلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه ، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.
فأتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وقد غدا محتضناً الحسين ، آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه ، وعليّ خلفها ، وهو يقول : « إذا أنا دعوت فأمِّنوا ».
فقال أُسقف نجران : يا معشر النصارى ! إنّي لأرى وجوهاً لو شاء اللّه أن يُزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتُهلكوا ، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة ، فقالوا : يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك ، وأن نقرّك على دينك ، ونثبت على ديننا. قال : « فإذا أبيتم المباهلة ، فأسلموا ، يكن لكم ما للمسلمين ، وعليكم ما عليهم ».
ص: 225
فأبوا. قال : « فإنّي أُناجزكم » ، فقالوا : ما لنا بحرب العرب طاقة ، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ، ولا تخيفنا ، ولا تردُّنا عن ديننا ، على أن نؤدّي إليك كلّ عام ألفي حلّة ، ألف في صفر ، وألف في رجب ، وثلاثين درعاً عادية من حديد ، فصالحهم على ذلك.
وقال : « والذي نفسي بيده انّ الهلاك قد تدلى على أهل نجران ، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي ناراً ، ولاستأصل اللّه نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر ، ولما حال الحول على النصارى كلّهم حتى يهلكوا ».
وعن عائشة انّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم خرج وعليه مرط مرجل من شعر أسود ، فجاء الحسن فأدخله ، ثمّ جاء الحسين فأدخله ، ثمّ فاطمة ، ثمّ علي ، ثمّ قال : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) . (1)
الشاهد على استجابة دعائهم أمران :
أ : قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا أنا دعوت فأمّنوا ، فكان دعاء النبي يصعد بتأمينهم ، وأيُّ مقام أعلى وأنبل من أن يكون دعاء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم صاعداً بفضل دعائهم.
ب : قول أُسقف نجران : « إنّي لأرى وجوهاً لو شاء اللّه أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها » والضمير يرجع إلى الوجوه ، أي لأزاله بدعائهم أو لأزاله بالقسم على اللّه بهم ، وقد أيَّد القول الثاني ابن البطريق في « العمدة » حيث قال : المباهلة بهم تصدق دعوى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فقد صار إبطال محاجَّة أهل نجران في القرآن الكريم بالقسم على اللّه بهم. (2)
ص: 226
وقد تركت مباهلة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وأهل بيته أثراً بالغاً في نفوس المسلمين ، يشهد عليها ما أخرجه مسلم في صحيحه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه ، قال : أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً ، فقال : ما يمنعك أن تسبَّ أباتراب ؟ فقال : أما ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فلن أسبَّه ، لأن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حمر النعم.
سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول له وقد خلفه في بعض مغازيه ، فقال له علي : يا رسول اللّه ، خلّفتني مع النساء والصبيان ؟ فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبوّة بعدي ؟
وسمعته يوم خيبر ، يقول : لأُُعطينّ الراية رجلاً يحب اللّه ورسوله ، ويحبّه اللّه ورسوله.
قال : فتطاولنا لها ، فقال : ادعوا لي عليّاً ، فأُتي به أرمد العين ، فبصق في عينيه ، ودفع الراية إليه ، ففتح اللّه على يديه.
ولما نزلت هذه الآية : ( فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ) دعا رسول اللّه عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً ، وقال : اللّهم هؤلاء أهل بيتي.(1).
ص: 227
من سمات أهل البيت عليهم السلام
الإنسان الكامل ، هو الذي لا يفعل شيئاً ولا يتركه إلاّ لابتغاء مرضاة اللّه تبارك وتعالى ، فيصل في سلوكه ورياضاته الدينيَّة إلى مكان تفنى فيه كلّ الدوافع والحوافز إلاّ داع واحد وهو طلب رضا اللّه تبارك وتعالى ، فإذا بلغ هذه الدرجة فقد بلغ الذروة من الكمال الإنساني ، وربَّما يبلغ الإنسان في ظل الرضا درجة لا يتمنّى وقوع ما لم يقع ، أو عدم ما وقع ، وإلى ذلك المقام يشير الحكيم السبزواري بما في منظومته :
وبهجة بما قضى اللّه رضا *** وذو الرضا بما قضى ما اعترضا
اعظم باب اللّه ، في الرضا وُعي(1) *** وخازن الجنة رضواناً دُعي
فقرا على الغنى صبورٌ ارتضى *** وذان سيّان لصاحب الرضا
عن عارف عُمّر سبعين سنة *** إن لم يقل رأساً لأشيا كائنة
يا ليت لم تقع ولا لما ارتفع *** مما هو المرغوب ليته وقع(2).
ص: 228
وممَّن يمثل ذلك المقام في الأُمّة الإسلامية هو إمام العارفين وسيد المتّقين علي أمير المؤمنين عليه السلام فهو في عامَّة مواقفه ، في جهاده ونضاله ، وعزلته وقعوده في بيته ، وفي تسنّمه منصَّة الخلافة بإصرار من الأُمّة ، فهو في كلّ هذه الأحوال والمواقف ، لا همّ له إلاّ طلب رضوانه تعالى.
وقد صرح الإمام بذلك عندما طلب منه تسلّم مقاليد الخلافة ، فقال : « أما والذي فلق الحبَّة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجّة بوجود الناصر ، وما أخذ اللّه على العلماء ألاّ يقارُّوا على كظّة ظالم ، ولا سغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز ». (1)
وقد تجلّت هذه الخصلة في علي عليه السلام حين مبيته في فراش النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم.
روى المحدّثون أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لمّا أراد الهجرة خلّف علي بن أبي طالب عليه السلام بمكة لقضاء ديونه وردّ الودائع التي كانت عنده ، وأمره ليلة خرج إلى الغار وقد أحاط المشركون بالدار أن ينام على فراشه فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم له : يا علي اتَّشح ببردي الحضرمي الأخضر ، ثمّ نم على فراشي ، فانّه لا يخلص إليك منهم مكروه ، إن شاء اللّه عزّ وجلّ ، ففعل ذلك عليه السلام فأوحى اللّه عزّ وجلّ إلى جبرئيل وميكائيل عليهما السلام إنّي قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر ، فأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة ؟ ، فاختار كلاهما الحياة ، فأوحى اللّه عزّ وجلّ إليهما : ألا كنتما مثل علي بن أبي طالب ، آخيت بينه وبين محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم فنام على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة ، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه ، فنزلا فكان جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه.
ص: 229
فقال جبرئيل : بَخٍّ بَخٍّ مَن مثلك يابن أبي طالب ؟ يباهي اللّه بك الملائكة ، فأنزل اللّه تعالى على رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو متوجِّه إلى المدينة في شأن علي بن أبي طالب عليه السلام : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ ) . (1)
وقد نقل غير واحد نزول الآية في حقّ علي عليه السلام .
وقال ابن عباس : أنشدني أمير المؤمنين شعراً قاله في تلك الليلة :
وقيت بنفسي من وطئ الحصا *** وأكرم خلق طاف بالبيت والحجر
وبتُّ أُراعي منهم ما يسوءني *** وقد صبَّرت نفسي على القتل والأسر
وبات رسول اللّه في الغار آمناً *** ومازال في حفظ الإله وفي الستر (2)
وإلى هذه الفضيلة الرابية وغيرها يشير حسان بن ثابت في شعره عند مدح علي عليه السلام :
من ذا بخاتمه تصدَّق راكعا *** وأسرّها في نفسه إسرارا
من كان بات على فراش محمّد *** ومحمد اسرى يؤم الغارا
من كان في القرآن سمّي *** في تسع آيات تلين غزارا (3)
إنّ عظمة هذه الفضيلة وأهمية هذا العمل التضحويّ العظيم ، دفعت بكبار علماء الإسلام إلى اعتبارها واحدة من أكبر فضائل الإمام علي عليه السلام ، وإلى أن
ص: 230
يَصِفُوا بها علياً بالفداء والبذل والإيثار ، وإلى أن يعتبروا نزول الآية المذكورة في شأنه من المسلّمات ، كلّ ما بلغ الحديث في التفسير والتاريخ إليها. (1)
إنّ هذه الحقيقة لا تنسي أبداً ، فإنّه من الممكن إخفاء وجه الواقع والتعتيم عليه بعض الوقت إلاّ أنّه سرعان ما تمزّق أشعةُ الحقيقة الساطعة حجبَ الأوهام ، وتخرج شمس الحقيقة من وراء الغيوم.
إنّ معاداة معاوية لأهل بيت النبوة وبخاصة للإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام ممّا لا يمكن النقاش فيه.
فقد أراد هذا الطاغية من خلال تطميع بعض صحابة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يلوّث صفحات التاريخ اللامعة ويخفي حقائقه بوضع الأكاذيب ، ولكنّه لم يحرز في هذا السبيل نجاحاً.
فقد عمد « سمرة بن جندب » الذي أدرك عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ثمّ انضمّ بعد وفاته صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى بلاط معاوية بالشام ، عمد إلى تحريف الحقائق مقابل أموال أخذها من الجهاز الأموي ، الحاقد على أهل البيت.
فقد طلب منه معاوية بإصرار أن يرقى المنبر ويكذّب نزول هذه الآية في شأن علي عليه السلام ، ويقول للناس أنّها نزلت في حقّ قاتل عليّ ( أي عبد الرحمن بن ملجم المرادي ) ، ويأخذ في مقابل هذه الأُُكذوبة الكبرى ، وهذا الاختلاق الفضيع - الذي أهلك به دينه - ، مائة ألف درهم.
فلم يقبل « سمرة » بهذا المقدار ولكن معاوية زاد له في المبلغ حتى بلغ أربعمائة ألف درهم ، فقبل الرجل بذلك ، فقام بتحريف الحقائق الثابتة ، مسوَّداً
ص: 231
بذلك صفحته السوداء أكثر من ذي قبل ، وذلك عندما رقى المنبر وفعل ما طلب منه معاوية.(1)
وقبل السامعون البسطاء قوله ، ولم يخطر ببال أحد منهم أبداً أنّ ( عبد الرحمن بن ملجم ) اليمنيّ لم يكن يوم نزول الآية في الحجاز بل لعلّه لم يكن قد وُلِد بعد آنذاك. فكيف يصحّ ؟!
ولكن الحقيقة لا يمكن أن تخفى بمثل هذه الحجب الواهية ، ولا يمكن أن تُنسى بمثل هذه المحاولات العنكبوتية الرخيصة.
فقد زالت حكومة معاوية وهلك أعوانها ، واندثرت آثار الاختلاق والافتعال الذي وقع في عهدها المشؤوم ، وطلعت شمس الحقيقة من وراء حُجبُ الجهل والافتراء مرة أُخرى ، واعترف أغلبُ المفسرين الأجلّة والمحدّثين الأفاضل - في العصور والأدوار المختلفة - بأنّ الآية المذكورة نزلت في « ليلة المبيت » في بذل علي عليه السلام ومفاداته النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بنفسه.
ص: 232
من سمات أهل البيت عليهم السلام
إنّه سبحانه تبارك وتعالى وصف الإيثار في كتابه الكريم ، وهو من صفات الكرام حيث يقدِّمون الغير على أنفسهم ، يقول سبحانه في وصف الأنصار : ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) .(1)
كما أنّه سبحانه أمر بالوفاء بالنذر ، قال سبحانه : ( مَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ )(2)، وقال سبحانه : ( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) .(3)
وفي الوقت نفسه ندب إلى الخوف من عذابه ، يقول سبحانه : ( يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ... )(4)وقال سبحانه : ( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ
ص: 233
أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ) . (1)
ما ذكرنا من الصفات الثلاث هي من أبرز الصفات التي يتحلّى بها أولياؤه سبحانه ، ونجد هذه الصفات مجتمعة في أهل البيت عليهم السلام في سورة واحدة ، يقول سبحانه :
( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ) . (2)
فقوله سبحانه : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ ) إشارة إلى إيثارهم الغير على أنفسهم ، والضمير في ( عَلَى حُبِّهِ ) يرجع إلى الطعام أي انّهم مع حبّهم للطعام قدَّموا المسكين على أنفسهم ، كما أنّ قوله : ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ... ) إشارة إلى صلابتهم في طريق إقامة الفرائض.
ثمّ قوله : ( وَيَخَافُونَ يَوْمًا ) إشارة إلى خوفهم من عذابه سبحانه يوم القيامة.
وقد نقل أكثر المفسرين لو لم نقل كلّهم ، انّ الآيات نزلت في حقّ أهل البيت عليهم السلام.
روي عن ابن عباس ( رض ) انّ الحسن والحسين عليهما السلام مرضا فعادهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في أُناس معه ، فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك ، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما ، إن شفاهما اللّه تعالى أن يصوموا ثلاثة أيام ، فشفيا وما
ص: 234
معهم شيء ، فاستقرض علي عليه السلام من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوع من شعير ، فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم ووضعوها بين أيديهم ليفطروا ، فوقف عليهم سائل ، فقال : السلام عليكم أهل بيت محمّد مسكين من مساكين المسلمين ، أطعموني أطعمكم اللّه من موائد الجنة ، فآثروه وباتوا ولم يذوقوا إلاّ الماء وأصبحوا صائمين.
فلمّا أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه ، وجاءهم أسير في الثالثة ، ففعلوا مثل ذلك فلما أصبحوا أخذ علي عليه السلام بيد الحسن والحسين عليهما السلام ودخلوا على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم فلمّا أبصرهم ، وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع ، قال : ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم ، وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق بطنها بظهرها وغارت عيناها فساءه ذلك.
فنزل جبرئيل عليه السلام وقال : خذها يا محمّد هنّأك اللّه في أهل بيتك ، فأقرأه السورة. (1)
روى السيوطي في الدر المنثور ، وقال : اخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ ) الآية ، قال : نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب وفاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم. (2)
ورواه الثعلبي في تفسيره ، وقال : نزلت في علي بن أبي طالب وفاطمة عليهما السلام وفي جاريتهما فضة ، ثمّ ذكر القصة على النحو الذي سردناه لكن بصورة مبسطة.
وقال : وذهب محمّد بن علي صاحب الغزالي على ما ذكره الثعلبي في كتابه
ص: 235
المعروف ب « البلغة » انّهم عليهم السلام نزلت عليهم السلام مائدة من السماء فأكلوا منها سبعة أيّام ، وحديث المائدة ونزولها عليهم في جواب ذلك مذكور في سائر الكتب.(1)
وقد سرد سبب نزول هذه الآية في حقّ أهل البيت عليهم السلام غير واحد من أئمّة الحديث.(2).
ص: 236
من سمات أهل البيت عليهم السلام
إنّ خير الناس في منطق القرآن الكريم من آمن باللّه ورسوله وعرف خالقه ومنعمه ، وقد قال سبحانه : ( لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ ) . (1)
وهذه الصفات المذكورة في الآية تجدها ، متمثلة في أهل البيت عليهم السلام شهد على ذلك سيرتهم ، ولذلك صاروا خير البرية.
أخرج الطبري في تفسير قوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) . (2) باسناده عن أبي الجارود ، عن محمد بن علي ، قال : قال
ص: 237
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : « أنت يا علي وشيعتك ».(1)
روى الخوارزمي عن جابر قال : كنّا عند النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فأقبل علي بن أبي طالب ، فقال رسول اللّه : « قد أتاكم أخي » ثمّ التفت إلى الكعبة فضربها بيده ، ثمّ قال : « والذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة » ، ثمّ قال : « إنّه أوّلكم إيماناً معي ، وأوفاكم بعهد اللّه ، وأقومكم بأمر اللّه ، وأعدلكم في الرعيّة ، وأقسمكم بالسويّة ، وأعظمكم عند اللّه مزيّة » ، قال : وفي ذلك الوقت نزلت فيه : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) ، وكان أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا أقبل عليّ ، قالوا : قد جاء خير البرية.(2)
وروى أيضاً من طريق الحافظ ابن مردويه ، عن يزيد بن شراحيل الأنصاري ، كاتب علي عليه السلام ، قال : سمعت عليّاً يقول : « حدَّثني رسول اللّه وأنا مُسْنده إلى صدري ، فقال أي عليّ ! ألم تسمع قول اللّه تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) ؟ أنت وشيعتك ، وموعدي وموعدكم الحوض إذا جاءت الأُمم للحساب تُدعون غرّاً محجّلين ».(3)
وأرسل ابن الصباغ المالكي في فصوله عن ابن عباس ، قال : لمّا نزلت هذه الآية ، قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام : « أنت وشيعتك تأتي يوم القيامة ، أنت وهم راضين مرضيين ، ويأتي أعداؤك غضاباً مقمحين ».(4).
ص: 238
من سمات أهل البيت عليهم السلام
اختلفت الأُمّة الإسلامية بعد رحيل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في أمر الخلافة - وإن كان اللائق بها عدم الاختلاف فيها ، للنصوص الصحيحة الصادرة عنه في مختلف الموارد - وقد استقصينا البحث فيها في مبحث الإمامة من هذا الجزء.
والذي نركِّز عليه في هذا البحث هو تبيين المرجع العلمي بعد رحيله - سواء أكانت الخلافة لمن نصَّ عليه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في يوم الغدير أو من اختاره بعض الصحابة في سقيفة بني ساعدة -.
والمراد من المرجع العلمي مَن ترجع إليه الأُمّة في أُصول الدين وفروعه ، ويصدر عنهم في تفسير القرآن وتبيين غوامضه ، ويستفهم منه أسئلة الحوادث المستجدَّة.
يقول سبحانه : ( وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ * ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ
ص: 239
الْكَبِيرُ ) . (1)
المراد من الكتاب في قوله : ( أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ ) هو القرآن بلا شكّ وكونه حقّاً لأجل براهين قطعية تُثبت أنّه منزل من ربّه فانّ قوانينه تنسجم مع الفطرة الإنسانية ، والقصص الواردة فيها مصونة من الأساطير ، والمجموع خالٍ من التناقض إلى غير ذلك من القرائن الدالة على أنّه حقّ. ومع ذلك هو مصدِّق لما بين يدي الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم من الكتاب السماوي.
هذا هو مفاد الآية الأُولى.
ثمّ إنّه سبحانه يقول : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ ) المراد من الكتاب هو القرآن : لأنَّ اللاّم للعهد الذكري أي الكتاب المذكور في الآية المتقدمة ، والوراثة عبارة عمّا يستحصله الإنسان بلا مشقة وجهد ، والوارث لهذا الكتاب هم الذين أُشير إليهم بقوله : ( الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) ، فلو قلنا بأنّ « من » للتبيين فيكون الوارث هو الأُمة الإسلامية جميعاً ، ولو قلنا : إنّ « مِن » للتبعيض فيكون الوارث جماعة خاصة ورثوا الكتاب.
والظاهر هو التبيين كما في قولنا : ( وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ) . (2)
ولكن الأُمة الإسلامية صاروا على أقسام ثلاثة :
أ : ظالم لنفسه : الَّذين قصَّروا في وظيفتهم في حفظ الكتاب والعمل بأحكامه ، وفي الحقيقة ظلموا أنفسهم ، فلذلك صاروا ظالمين لأنفسهم.
ب : مقتصد : الذين أدُّوا وظيفتهم في الحفظ والعمل لكن لا بنحو كامل
ص: 240
بل قصَّروا شيئاً فيهما.
ج : سابق بالخيرات بإذن اللّه : هم الجماعة المثلى أدّوا وظائفهم بالحفظ والعمل على النحو الأتم ، فلذلك سبقوا إلى الخيرات كما يقول سبحانه : ( سابِقٌ بالخَيرات بِإِذْنِ اللّه ) .
وعلى هذا فإنَّ ورثة الكتاب في الحقيقة هم الطائفة الثالثة أعني الذين سبقوا بالخيرات.
وأمّا ما هو المراد من الطائفة الثالثة ، فيتكفَّل الحديث لبيان ملامحها.
روى الكليني عن أبي جعفر الباقر عليه السلام في تفسير الآية انّه قال : « السابق بالخيرات الإمام ، والمقتصد العارف بالإمام ، والظالم لنفسه الذي لا يعرف الإمام ».
وروي نفس الحديث عن الإمام الرضا عليه السلام.
وهناك روايات أُخرى تؤيد المضمون فمن أراد فليراجع. (1)
ثمّ إنّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قد أوضح ورثة الكتاب في حديثه المعروف الذي اتّفق على نقله أصحاب الصحاح والمسانيد.
أخرج مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم رضي اللّه عنه ، قال : قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يوماً فينا خطيباً ، بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة ، فحمد اللّه تعالى ، وأثنى عليه ووعظ وذكّر ، ثمّ قال :
« أمّا بعد : ألا أيّها الناس فإنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأُجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أوّلهما كتاب اللّه فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب اللّه استمسكوا به » ، فحثّ على كتاب اللّه ورغَّب فيه ؛ ثمّ قال : « وأهل بيتي ، أُذكِّركم اللّه في أهل
ص: 241
بيتي ، أُذكِّركم اللّه في أهل بيتي ، أُذكِّركم اللّه في أهل بيتي ». (1)
هذا ما أخرجه مسلم ، ومن الواضح انّه لم ينقل على وجه دقيق ، وذلك لأنّ مقتضى قوله : « أوّلهما » ، أن يقول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : ثانيهما أهل بيتي ، مع أنّه لم يذكر كلمة « ثانيهما ».
وقد رواها الإمام أحمد بصورة أفضل ممّا سبق ، كما رواه النسائي في فضائل الصحابة كذلك.
أخرج أحمد في مسنده عن أبي الطفيل ، عن زيد بن الأرقم ، قال : لما رجع رسول اللّه من حَجّة الوداع ونزل غدير خم ، أمر بدوحات فقممن ، ثمّ قال : « كأنّي قد دعيت فأجبت : إنّي قد تركت فيكم الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما ، فإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ».
ثمّ قال : « إنّ اللّه مولاي ، وأنا ولي كلّ مؤمن » ، ثمّ أخذ بيد عليّ ، فقال : « من كنت وليّه فهذا وليّه ، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه ». (2)
هذه إلمامة سريعة بحديث الثقلين ، ومن أراد أن يقف على أسانيده ومتونه فعليه أن يرجع إلى الكتب المؤلفة حوله ، وأبسط كتاب في هذا الموضوع ما ألفه السيد المجاهد « مير حامد حسين » حيث خصّ أجزاءً من كتابه « العبقات » لبيان تفاصيل أسانيده ومضمونه ، وقد طبع ما يخصَّ بالحديث في ستَّة أجزاء.
كما بسط الكلام في أسانيده وأسانيد غيره سيد مشايخنا البروجردي ( 1292 - 1380 ه ) في كتابه « جامع أحاديث الشيعة » ، فقال بعد استيفاء
ص: 242
نصوص الحديث وأسانيده : وقد ظهر ممّا ذكرنا انّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أوجب على الأُمّة قاطبة التمسُّك بالعترة الطيبة في الأُمور الشرعية والتكاليف الإلهية ، وأكَّد وجوبه وشدَّده وأوثقه وكرَّره بكلمات عديدة وألفاظ مختلفة بحيث لا يمكن إنكاره ولا يجوز تأويله ، وقد اكتفينا بذلك وأنّ كثيراً من طرق الحديث قد ضمن مضافاً إلى المذكورات ، ما يدل على حجّية أقوالهم ووجوب اتّباعهم وحرمة مخالفتهم. (1)
والجدير بالمسلمين التركيز على مسألة تعيين المرجع العلمي بعد رحيل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، إذ لا يسوغ في منطق العقل أن يترك صاحب الرسالة ، الأُمّة المرحومة بلا راع ، وهو يعلم أنّه صلى اللّه عليه وآله وسلم برحيله سوف يواجه المسلمون حوادث مستجدة ووقائع جديدة تتطلب أحكاماً غير مبيّنة في الكتاب والسنَّة ، فلا محيص من وجود مرجع علمي يحُلُّ مشاكلها ويذلّل أمامها الصعاب ، وقد قام صلى اللّه عليه وآله وسلم ببيان من يتصدّى لهذا المنصب بحديث الثقلين.
ومن العجب أنّ كثيراً من المسلمين يطرقون كلّ باب إلاّ باب أئمّة أهل البيت عليهم السلام مع أنّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يذكر شيئاً ممّا يرجع إلى غير هؤلاء ، فلا أدري ما هو وجه الإقبال على غيرهم والإعراض عنهم ؟!
قال السيد شرف الدين العاملي : والصحاح الحاكمة بوجوب التمسك بالثقلين متواترة ، وطرقها عن بضع وعشرين صحابياً متضافرة. وقد صدع بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في مواقف له شتى.
تارة يوم غدير خم كما سمعت ، وتارة يوم عرفة في حجّة الوداع ، وتارة بعد انصرافه من الطائف ، ومرّة على منبره في المدينة ، وأُخرى في حجرته المباركة في
ص: 243
مرضه ، والحجرة غاصَّة بأصحابه ، إذ قال : « أيّها الناس يوشك أن أُقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي ، وقد قدمت إليكم القول معذرة إليكم ألا إنّي مخلّف فيكم كتاب اللّه عزّ وجلّ وعترتي أهل بيتي » ، ثمّ أخذ بيد علي فرفعها ، فقال : « هذا علي مع القرآن ، والقرآن مع علي ، لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض ».
وقد اعترف بذلك جماعة من أعلام الجمهور ، حتى قال ابن حجر : ثم اعلم أنّ لحديث التمسك بهما طرقاً كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابياً.
قال : ومرّ له طرق مبسوطة في حادي عشر الشبه ، وفي بعض تلك الطرق انّه قال : ذلك بحجّة الوداع بعرفة ، وفي أُخرى انّه قاله بالمدينة في مرضه ، وقد امتلأت الحجرة بأصحابه ، وفي أُخرى انّه قال : ذلك بغدير خم ، وفي أُخرى انّه قال : ذلك لمّا قام خطيباً بعد انصرافه من الطائف.
قال : ولا تنافي إذ لا مانع من أنّه كرّر عليهم ذلك في تلك المواطن وغيرها اهتماماً بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة.
وحسب أئمّة أهل العترة الطاهرة أن يكونوا عند اللّه ورسوله بمنزلة الكتاب ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وكفى بذلك حجة تأخذ بالأعناق إلى التعبُّد بمذهبهم ، فانّ المسلم لا يرتضي بكتاب اللّه بدلاً ، فكيف يبتغي عن أعداله حولاً.(1).
ص: 244
من سمات أهل البيت عليهم السلام
اتّفق الفقهاء على أنّه لا تحل الصدقة المفروضة على بني هاشم الواردة في الآية المباركة ، أعني : قوله سبحانه : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ) .(1)وذلك لأنّ التطهير والتزكية إنّما يتعلَّق بما فيه وسخ وأهل البيت أعلى من أن يعيشوا بأوساخ الناس.
قال ابن قدامة : « لا نعلم خلافاً في أنّ بني هاشم لا تحلُّ لهم الصدقة المفروضة ».(2)
وقد تضافرت الروايات على ذلك وجمعها ابن حجر العسقلاني في بلوغ المرام ، نقتبس منها ما يلي :
1. عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « إنّ الصدقة لا تنبغي لآل محمّد ، إنّما هي أوساخ النّاس ».(3)
وفي رواية : « وانَّها لا تحلُّ لمحمد ولا لآل محمد » رواه مسلم.(4).
ص: 245
2. روى أبو هريرة ، قال : أخذ الحسن بن علي عليهما السلام تمرة من تمر الصدقة ، فجعلها في فيه ، فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : « كخٍ ، كخٍ » ليطرحها ، ثمّ قال : « أما شعرت أنّا لا نأكل الصدقة » ، رواه الشيخان البخاري ومسلم.
ولمسلم : أما علمت أنّا لا تحل لنا الصدقة. (1)
3. عن أنس انّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم مرّ بتمرة في الطريق ، وقال : « لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها ».
رواه مسلم وأبو داود. (2)
4. عن عائشة ، قالت : أُتي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بلحم ، فقلت : هذا ما تصدّق به على بريرة ، فقال : « هو لها صدقة ، ولنا هديَّة ».
رواه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود. (3)
5. كان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا أُتي بطعام سأل عنه ، فإن قيل : هدية أكل منها ، وإن قيل : صدقة ، لم يأكل منها.
رواه الترمذي ومسلم. (4)
6. عن عبد اللّه بن حرث الهاشمي - وساق حديثاً حتى قال - : إنّ هذه الصدقات إنّما هي أوساخ الناس وانّها لا تحل لمحمّد ولا لآل محمّد.
رواه مسلم والنسائي. (5)
7. عن أبي رافع أنّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بعث رجلاً على الصدقة من بني مخزوم ، فقال لأبي رافع : اصحبني فإنّك تصيب منها ، قال : حتى آتي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فأسأله ، فأتاه فسأله ، فقال : مولى القوم من أنفسهم وإنّا لا تحلُّ لنا الصدقة.
أخرجه أبو داود والترمذي وصححه. (6)
ص: 246
قد عرفت من هم أهل البيت عليهم السلام في الآيات والروايات الواردة على لسان النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وما جادت به القرائح العربية حولهم من قصائد وأراجيز كما عرفت سماتهم وخصوصياتهم.
وحان البحث لبيان حقوقهم على المسلمين الَّتي نزل بها الوحي في الكتاب العزيز ، وها نحن نذكر بعض حقوقهم :
ص: 247
ص: 248
من حقوق أهل البيت عليهم السلام
قد دلّت الروايات المتضافرة على أنّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ارتحل وقد نصّب عليّاً عليه السلام للولاية والخلافة ، فأبان ولايته وولاية من بعده من الأئمّة في مواقف مختلفة ، نذكر منها موقفين :
الأوّل : انّ سائلاً أتى مسجد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وعليّ عليه السلام راكع ، فأشار بيده للسائل ، أي اخلع الخاتم من يدي ، فنزل قوله سبحانه : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) .(1)
وقد تضافرت الروايات على نزول الآية في حقّ علي عليه السلام ونقلها الحفّاظ ، منهم : ابن جرير الطبري(2)والحافظ أبو بكر الجصاص الرازي(3)والحاكم النيسابوري(4)والحافظ أبو الحسن الواحدي النيسابوري(5)وجار اللّه الزمخشري(6)، إلى غيرهم من أئمّة الحفاظ وكبار المفسِّرين ربَّما ناهز عددهم السبعين. وهم بين
ص: 249
محدِّث ومفسّر ومؤرِّخ.
والذي يجب التركيز عليه هو فهم معنى الولي الوارد في الآية المباركة والذي وقع وصفاً لله سبحانه ولرسوله ومن جاء بعده.
المراد من الولي في الآية هو الأولوية الواردة في قوله سبحانه : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) .(1)
فالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أولى من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم ، فهو بما انّه زعيم المسلمين ووليّهم ، يتصرّف فيهم حسب ما تقتضيه المصالح في طريق حفظ كيان الإسلام وصيانة هويَّتهم والدفاع عن أراضيهم لغاية نشر الإسلام.
وليست الغاية من هذه الولاية الموهوبة للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم هي حفظ مصالح النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم الشخصية ، بل الغاية كما عرفت صيانة مصالح الإسلام والمسلمين.
فالولاية بهذه المعنى هي المراد من قوله سبحانه : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ ) والقرائن الدالَّة على تعُّين هذا المعنى كثيرة ، نذكر منها ما يلي :
الأوّل : إذا كان المراد من الوليّ هو الزعامة ، يصحّ تخصيصها باللّه سبحانه ورسوله ومن أعقبه ، وأمّا لو كان المراد منه هو الناصر والمحب ، فهو ليس مختصاً بهؤلاء ، لأنّ كلّ مؤمن محب للآخرين أو ناصر لهم كما يقول سبحانه : ( وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) .(2)
الثاني : انّ ظاهر الآية انّ هناك أولياء وهناك مولّى عليهم ، ولا يتحقّق التمايز إلا بتفسير الولاية بمعنى الزعامة حتى يتميّز الزعيم عن غيره ، وهذا بخلاف ما لو فسرّناه بمعنى الحب والود أو النصر ، فتكون الطوائف الثلاث عندئذ على حد سواء.
ص: 250
الثالث : إذا كان المراد من الولي هو الزعيم ، يصحّ تخصيصه بالمؤمن المؤدّي للزكاة حال الصلاة ، وأمّا لو كان المراد بمعنى المحبّ والناصر وما أشبههما يكون القيد زائداً ، أعني : إعطاء الزكاة في حال الصلاة ، فانّ شرط الحب هو إقامة الصلاة وأداء الزكاة ، وأمّا تأديتها في حال الركوع فليس من شرائط الحب والنصرة ، وهذا دليل على أنّ المراد فرد أو جماعة خاصة يوصفون بهذا الوصف لا كلّ المؤمنين.
الرابع : انّ الآية التالية تفسر معنى الولاية ، يقول سبحانه : ( وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) .(1)
فانّ لفظة ( الَّذِينَ آمَنُوا ) في هذه الآية هو الوارد في الآية المتقدمة ، أعني : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ) ، وعلى هذا يكون المراد من الولي أخذهم زعيماً وولياً بشهادة انّ حزب اللّه لا ينفك من زعيم يدبِّر أُمورهم.
إلى هنا تبيّن انّ الإمعان في القرائن الحافَّة بالآية تفسّر معنى الولي وتعيَّن المعنى وتثبت انّ المقصود هو الزعيم ، لكن من نكات البلاغة في الآية انّه سبحانه صرح بولايته وولاية رسوله ومن جاء بعده وعلى ذلك صارت الولاية للثلاثة ، وكان اللازم عندئذٍ أن يقول إنّما أولياؤكم بصيغة الجمع لكنّه أتى بصيغة المفرد إشارة إلى نكتة ، وهي انّ الولاية بالأصالة لله سبحانه وأمّا ولاية غيره فبإيهاب من اللّه سبحانه لهم ، ولذلك فرّد الكلمة ولم يجمعها ، لكن هذه الولاية لا تنفك من آثار ، وقد أُشير إلى تلك الآثار في آيات مختلفة ، وإليك بيانها :
1. ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) .(2)
فانّ لزوم إطاعة اللّه والرسول وغيرهما من آثار ولايتهم وزعامتهم ، فالزعيم
ص: 251
يجب أن يكون مطاعاً.
2. ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) .(1)
فينفذ قضاؤه سبحانه والَّذي هو من آثار الزعامة ، ونظيره قوله سبحانه : ( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ ) .(2)
3. ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .(3)فحرمة مخالفة أمر اللّه ورسوله من توابع زعامتهم وولايتهم.
فهذه الحقوق ثابتة للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بنص القرآن الكريم ولمن بعده بحكم انّهم أولياء بعد النبي فانّ ثبوتها للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لأجل ولايته فإذا كانت الولاية مستمرة بعده فيتمتع كلّ وليٍّ بهذه الحقوق.
وبهذا تبيَّنت دلالة الآية على ولاية علي عليه السلام وانّها حقّ من حقوق أهل البيت عليهم السلام لصالح الإسلام والمسلمين.
نعم بعض من لا تروقهم ولاية أهل البيت عليهم السلام وزعامتهم حاولوا تضعيف دلالة الآية بشبهات واهية واضحة الرد ، وقد أجبنا عنها في بعض مسفوراتنا فلنكتف في المقام بهذا المقدار.
غير انّا نركز على نكتة وهي انّ الصحابة الحضور لم يفهموا من الآية سوى الولاية ولذلك صبَّ شاعر عهد الرسالة حسان بن ثابت ما فهمه من الآية بصفاء ذهنه في قالب الشعر ، وقال :
ص: 252
فأنت الذي أعطيت إذ أنت راكعٌ *** فدتك نفوس القوم يا خير راكع
بخاتمك الميمون يا خير سيد *** ويا خير شارٍ ثمّ يا خير بايعٌ
فأنزل فيك اللّه خيرَ ولاية *** وبيَّنها في محكمات الشرائع(1)
والظاهر ممّا رواه المحدّثون انّ الأُمّة الإسلامية سيُسألون يوم القيامة عن ولاية علي عليه السلام ، حيث ورد السؤال في تفسير قوله سبحانه : ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ ) .(2)
روى ابن شيرويه الديلمي في كتاب « الفردوس » في قافية الواو ، باسناده عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ ) عن ولاية علي بن أبي طالب.(3)
ونقله ابن حجر عن الديلمي ، وقال : ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ ) أي عن ولاية علي وأهل البيت ، لأنّ اللّه أمر نبيّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يعرف الخلق أنّه لا يسألهم على تبليغ الرسالة أجراً إلاّ المودة في القربى ، والمعنى انّهم يسألون هل والوهم حق الموالاة كما أوصاهم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أم أضاعوها وأهملوها فتكون عليهم المطالبة والتبعة.(4)
الثاني(5): من تلك المواقف هو يوم الغدير وهو أوضحها وآكدها وأعمّها وقد صدع بالولاية في اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة الحرام في منصرفه من حجّة الوداع ، وقد قام في محتشد كبير بعدما خطب خطبة مفصَّلة وأخذ من الناس الشهادة على التوحيد والمعاد ورسالته وأعلن انّه فرط على الحوض ، ثمّ ذكر الثقلين وعرَّفهما ، بقوله : « الثقل الأكبر : كتاب اللّه ، والآخر الأصغر : عترتي ؛ وانّ اللطيف .
ص: 253
الخبير نبَّأني انّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض » ، ثمّ قال : « أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم ؟ » قالوا : اللّه ورسوله أعلم ، قال : « إنّ اللّه مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فعلي مولاه » ، ثمّ قال : « اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه ، وأحب من أحبّه ، وأبغض من أبغضه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحقّ معه حيث دار ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب ».
ففي هذه الواقعة الفريدة من نوعها أعلن النبي ولاية علي عليه السلام للحاضرين وأمرهم بإبلاغها للغائبين ، ونزل أمين الوحي بآية الإكمال ، أعني : قوله سبحانه : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) . (1)
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « اللّه أكبر على إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضى الربّ برسالتي ، والولاية لعلي من بعدي ».
ثمّ طفق القوم يهنّئون أمير المؤمنين عليه السلام وممَّن هنَّأه في مقدّم الصحابة : الشيخان أبو بكر وعمر ، كلّ يقول :
بَخٍّ بَخٍّ لك يابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة.
وقد تلقّى الصحابة الحضور انّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أوجب ولايته على المؤمنين ، وقد أفرغ شاعر عهد الرسالة حسّان بن ثابت ما تلقّاه عن الرسول ، في قصيدته وقال :
فقال له قم يا عليّ فانّني *** رضيتك من بعدي إماماً وهادياً
فمن كنت مولاه فهذا وليّه *** فكونوا له أنصار صدق موالياً
قد ذكرنا مصادر الخطبة والأبيات عند البحث عن الإمامة فراجع.
ص: 254
من حقوق أهل البيت عليهم السلام
أمر سبحانه بإطاعة الرسول وأُولي الأمر ، وقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) . (1)
تأمر الآية بإطاعة اللّه كما تأمر بإطاعة الرسول وأُولي الأمر لكن بتكرار الفعل ، أعني : ( وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) وما هذا إلاّ لأنّ سنخ الإطاعتين مختلف ، فإطاعته سبحانه واجبة بالذات ، وإطاعة النبي وأُولي الأمر واجبة بإيجابه سبحانه.
والمهم في الآية هو التعرُّف على المراد من أُولي الأمر ، فقد اختلف فيه المفسرون على أقوال ثلاثة :
1. الأُمراء ، 2. العلماء ، 3. صنف خاص من الأُمّة ، وهم أئمّة
ص: 255
أهل البيت عليهم السلام.
وبما انّه سبحانه أمر بإطاعة أُولي الأمر إطاعة مطلقة ، غير مقيَّدة بما إذا لم يأمروا بالمعصية يمكن استظهار أنّ أُولي الأمر المشار إليهم في الآية والذين وجبت طاعتهم على الإطلاق ، معصومون من المعصية والزلل ، كالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى اقترنوا في لزوم الطاعة في الآية.
وبعبارة أُخرى : انّه سبحانه أوجب طاعتهم بالإطلاق ، كما أوجب طاعته ، وطاعة رسوله ، ولا يجوز أن يوجب اللّه طاعة أحد على الإطلاق إلاّ من ثبتت عصمته ، وعلم أنّ باطنه كظاهره ، وأمن منه الغلط والأمر بالقبيح ، وليس ذلك بحاصل في الأُُمراء ، ولا العلماء سواهم ، جلّ اللّه عن أن يأمر بطاعة من يعصيه ، أو بالانقياد للمختلفين في القول والفعل ، لأنّه محال أن يطاع المختلفون ، كما أنّه محال أن يجتمع ما اختلفوا فيه. (1)
وقد أوضحه الرازي في تفسيره ، وذهب إلى أنّ المقصود من أُولي الأمر هم المعصومون في الأُمّة ، وإن لم يخض في التفاصيل ، ولم يستعرض مصاديقهم ، لكنّه بيّن المراد منهم بصورة واضحة ، وقال :
والدليل على ذلك انّ اللّه تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ، ومن أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم والقطع ، لابدّ وأن يكون معصوماً عن الخطأ ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر اللّه بمتابعته ، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ ، والخطأ لكونه خطأً منهي عنه ، فهذا يُفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد وانّه
ص: 256
محال.
فثبت انّ اللّه تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم ، وثبت أنّ كلّ من أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم ، وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ ، فثبت قطعاً أنّ أُولي الأمر المذكور في هذه الآية لابدّ وأن يكون معصوماً. (1)
وقد أوضح السيد الطباطبائي دلالة الآية على عصمة أُولي الأمر ببيان رائق وإليك نصّه ، قال : الآية تدل على افتراض طاعة أُولي الأمر هؤلاء ، ولم تقيّده بقيد ولا شرط ، وليس في الآيات القرآنية ما يقيّد الآية في مدلولها حتى يعود معنى قوله : ( وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) إلى مثل قولنا : وأطيعوا أُولي الأمر منكم فيما لم يأمروا بمعصية أو لم تعلموا بخطئهم ، فإن أمروكم بمعصية فلا طاعة عليكم ، وإن علمتم خطأهم فقوِّموهم بالردّ إلى الكتاب والسنّة وليس هذا معنى قوله : ( وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) .
مع أنّ اللّه سبحانه أبان ما هو أوضح من هذا القيد فيما هو دون هذه الطاعة المفترضة ، كقوله في الوالدين : ( وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا ) . (2) فما باله لم يُظهر شيئاً من هذه القيود في آية تشتمل على أُس أساس الدين ، وإليها تنتهي عامة اعراق السعادة الإنسانية.
على أنّ الآية جمع فيها بين الرسول وأُولي الأمر ، وذكر لهما معاً طاعة واحدة ، فقال : ( وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) ، ولا يجوز على الرسول أن يأمر
ص: 257
بمعصية أو يغلط في حكم ، فلو جاز شيء من ذلك على أُولي الأمر ، لم يسع إلاّ أن يذكر القيد الوارد عليهم فلا مناص من أخذ الآية مطلقة من غير أن تقيّد ، ولازمه اعتبار العصمة في جانب أُولي الأمر ، كما اعتبر في جانب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من غير فرق. (1)
وبذلك تبيَّن أنّ تفسير أُولي الأمر بالخلفاء الراشدين أو أُمراء السرايا أو العلماء أمر غير صحيح ، لأنّ الآية دلَّت على عصمتهم ولا عصمة لهؤلاء ، فلابدّ في التعرُّف عليهم من الرجوع إلى السنَّة التي ذكرت سماتهم ولا سيما حديث الثقلين حيث قورنت فيه العترة بالكتاب ، فإذا كان الكتاب مصوناً من الخطأ ، فالعترة مثله أخذاً بالمقارنة.
ونظيره حديث السفينة : « مَثَل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق ». (2)
إلى غير ذلك من الأحاديث التي تنصُّ على عصمة العترة الطاهرة ، فإذاً هذه الأحاديث تشكّل قرينة منفصلة على أنّ المراد من أُولي الأمر هم العترة أحد الثقلين.
بل يمكن كشف الحقيقة من خلال الإمعان في آية التطهير ، وقد عرفت دلالتها على عصمة أهل البيت الذين عيَّنهم الرسول بطرق مختلفة.
وعلى ضوء ذلك فآية التطهير ، وحديث الثقلين ، وحديث السفينة إلى غيرها من الأحاديث الواردة في فضائل العترة الطاهرة كلّها تدل على عصمتهم.
هذا من جانب ومن جانب آخر دلَّت آية الإطاعة على عصمة أُولي الأمر ،
ص: 258
فبضم القرائن الآنفة الذكر إلى هذه الآية يتضح المراد من أُولي الأمر الذين أمر اللّه سبحانه بطاعتهم وقرن طاعتهم بطاعة الرسول.
وأمّا الرواية عن النبيّ : فقد روى ابن شهراشوب عن تفسير مجاهد انّ هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام حين خلّفه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في المدينة ، فقال : « يا رسول اللّه ، أتخلّفني بين النساء والصبيان ؟ » فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم : « يا علي ، أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي ، حين قال له : ( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ ) ، فقال : أبلى واللّه ؛ ( وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) قال : علي بن أبي طالب ولاّه اللّه أمر الأُمَّة بعد محمّد حين خلّفه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بالمدينة فأمر اللّه العباد بطاعته وترك خلافه ». (1)
وأمّا ما رُوي عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام حول الآية فحدث عنها ولا حرج ، فلنقتصر في المقام على رواية واحدة نقلها الصدوق باسناده عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري ، قال :
لمّا أنزل اللّه عزّ وجلّ على نبيّه محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) قلت : يا رسول اللّه ، عرفنا اللّه ورسوله ، فمن أولو الأمر الذين قرن اللّه طاعتهم بطاعتك ؟ فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم : « هم خلفائي يا جابر وأئمة المسلمين من بعدي ، أوّلهم علي بن أبي طالب ، ثمّ الحسن ، ثمّ الحسين ، ثمّ علي بن الحسين ، ثمّ محمد بن علي المعروف في التوراة بالباقر ستدركه ياجابر ، فإذا لقيته فاقرأه مني السلام ، ثمّ الصادق جعفر بن محمد ، ثمّ موسى بن جعفر ، ثمّ علي بن موسى ، ثمّ محمّد بن علي ، ثمّ علي بن محمّد ، ثمّ الحسن بن علي ، ثمّ سَمِيِّ محمّد و
ص: 259
كنيتي ، حجة اللّه في أرضه وبقيته في عباده ابن الحسن بن علي ، ذاك الذي يفتح اللّه تعالى على يديه مشارق الأرض ومغاربها ، ذاك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيه على القول بإمامته إلاّ من امتحن اللّه قلبه للإيمان ».
قال جابر : فقلت له : يا رسول اللّه فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته ؟ فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم : « اي والذي بعثني بالنبوة إنّهم يستضيئون بنوره ، وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن تجلاها سحاب.
يا جابر هذا من مكنون سر اللّه ومخزون علم اللّه ، فاكتمه إلاّ عن أهله ».(1).
ص: 260
من حقوق أهل البيت عليهم السلام
قام الرسل بابلاغ رسالات اللّه سبحانه إلى الناس ، دون أن يبغوا أجراً منهم ، بل كان عملهم خالصاً لوجهه سبحانه ، لأنّ إبلاغ رسالاته كانت فريضة إلهية على عواتقهم ، فكيف يطلبون الأجر للعمل العبادي الذي لا يبعثهم إليه إلاّ طاعة أمره وطلب رضاه ، ولذلك كان شعارهم دوماً ، قولهم ( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ) .(1)
فقد ذكر سبحانه على لسان الأنبياء تلك الآية في سورة الشعراء ، ونقلها عن عديد من أنبيائه ، نظراء :
نوح(2)، هود(3)صالح(4)لوط(5)شعيب (6).
وقد جاء هذا الشعار في سور أُخرى نقلها القرآن الكريم عن رسله وأنبيائه ، فقد كانوا يخاطبون أُمَمهم بقولهم :
ص: 261
( وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ ) .(1)
( يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي ) .(2)
فإذا كان هذا موقف الأنبياء من أُمَمهم ، فكيف يصح للنبي الخاتم صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يطلب الأجر ؟! بل هو أولى بأن يكون عمله خالصاً لله ، لأنّه خاتم الرسل وأفضلهم ، وقد كان يرفع ذلك الشعار أيام بعثته ، بأمر منه سبحانه ويتلو قوله تعالى : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ) .(3)
هذه هي حقيقة قرآنية لا يمكن إنكارها ، ومع ذلك نرى انّه سبحانه يأمره في آية أُخرى بأن يطلب منهم مودة القربى أجراً للرسالة.
ويقول : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) .(4)
فكيف يمكن الجمع بين هذه الآية ، وما تقدم من الآية الخاصَّة بالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم والآيات الراجعة إلى سائر الأنبياء ، فانّهم عليهم السلام كانوا على نهج واحد ؟
هذا هو السؤال المطروح في المقام.
والإجابة عليه تتوقَّف على نقل ما ورد حول الموضوع في القرآن الكريم ، فنقول :
الآيات التي وردت حول أجر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم على أصناف أربعة :
الأوّل : أمره سبحانه بأن يخاطبهم بأنّه لا يطلب منهم أجراً ، قال سبحانه : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ) .(5).
ص: 262
الثاني : ما يشعر بأنّه طلب منهم أجراً يرجع نفعه إليهم دون النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : فيقول سبحانه : ( قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) . (1)
الثالث : ما يُعرّف أجره ، بقوله : ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ) . (2) فكان اتخاذ السبيل إلى اللّه هو أجر الرسالة.
الرابع : ما يجعل مودة القربى أجراً للرسالة ، ويقول : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) .
فهذه العناوين الأربعة لابدّ أن ترجع إلى معنى واحد ، وهذا هو الذي نحاول أن نسلّط عليه الأضواء.
الجواب : انّ لفظة الأجر يطلق على الأجر الدنيوي والأُخروي غير انّ المنفي في تلك الآيات بقرينة نفي طلبه عن الناس هو الأجر الدنيوي على الإطلاق ، ولذلك لم ينقل التاريخ أبداً أن يطلب نبي لدعوته شيئاً بل نقل خلافه.
هذه هي قريش تقدَّمت إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وفي طليعتهم أبو الوليد ، فتقدم إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وقال : يابن أخي إن كنت إنّما تريد بما جئت به من هذا الأمر ، مالاًً ، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت تريد به شرفاً سوَّدناك علينا ، حتى لا نقطع أمراً دونك ، وإن كنت تريد به ملكاً ملّكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيّا تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك ، طلبنا لك الطبَّ ، وبذلنا فيه أموالنا حتي نُبرئك منه ، فانّه ربما غلب التابع علي الرجل حتى يداوى منه ، أو كما قال له
ص: 263
حتى إذا فرغ عتبة ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يستمع منه ، قال : أقد فرغت يا أبا الوليد ؟ قال : نعم ، قال : فاسمع مني قال : أفعل ، فقال : ( بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ) . (1)
ثمّ مضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فيها يقرؤها عليه. فلمّا سمعها منه عتبة ، أنصت لها ، وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليها يسمع منه ، ثمّ انتهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى السجدة منها ، فسجد ثمّ قال : قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ، فأنت وذاك. (2)
هذا النصّ وغيره يعرب عن أنّ مدار الإثبات والنفي هو الأجر الدنيوي بعامة صوره ، وهذا أمر منفي جداً لا يليق لنبي أن يطلبه من الناس.
قال الشيخ المفيد : إنّ أجر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في التقرُّب إلى اللّه تعالى هو الثواب الدائم ، وهو مستحق على اللّه تعالى في عدله وجوده وكرمه ، وليس المستحق على الأعمال يتعلَّق بالعباد ، لأنّ العمل يجب أن يكون لله تعالى خالصاً ، وما كان لله فالأجر فيه على اللّه تعالى دون غيره. (3)
إذا عرفت ذلك ، فنقول :
إنّ مودة ذي القربى وإن تجلّت بصورة الأجر حيث استثنيت من نفي الأجر ، لكنّه أجر صوري وليس أجراً واقعياً ، فالأجر الواقعي عبارة عمّا إذا عاد نفعه إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، ولكنّه في المقام يرجع إلى المحب قبل رجوعه إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وذلك لأنّ مودة ذي القربى تجرّ المحب إلى أن ينهج سبيلهم في الحياة ، ويجعلهم أُسوة في
ص: 264
دينه ودنياه ، ومن الواضح انّ الحبّ بهذا المعنى ينتهي لصالح المحب. قال الصادق عليه السلام : « ما أحب اللّه عزّ وجلّ من عصاه » ثمّ تمثَّل ، فقال :
تعصي الإله وأنت تظهر حبه *** هذا محال في الفعال بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته *** انّ المحبّ لمن يحب مطيع (1)
وسيوافيك انّ المراد من ذوي القربى ليس كلّ من ينتمي إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بنسب أو سبب ، بل طبقة خاصة من أهل بيته الذين عرفهم بأنّهم أحد الثقلين في قوله : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتي أهل بيتي ، وانّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ». (2)
فإذا كان المراد من ذوي القربى هؤلاء الذين أنيط بهم أمر الهداية والسعادة فحبُّهم ومودَّتهم يرفع الإنسان من حضيض العصيان والتمرد إلى عزّ الطاعة.
إنّ طلب المودة من الناس أشبه بقول طبيب لمريضه بعد ما فحصه وكتب وصفة : لا أُريد منك أجراً إلاّ العمل بهذه الوصفة ، فانّ عمل المريض بوصفة الطبيب وإن خرجت بهذه العبارة بصورة الأجر ، ولكنّه ليس أجراً واقعياً يعود نفعه إلى الطبيب بل يعود نفعه إلى نفس المريض الذي طلب منه الأجر.
وعلى ذلك فلابدّ من حمل الاستثناء على الاستثناء المنقطع ، كأن يقول : قل لا أسألكم عليه أجراً ، وإنّما أسألكم مودة ذي القربى ، وليس الاستثناء المنقطع
ص: 265
أمراً غريباً في القرآن بل له نظائر مثل قوله : ( لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سَلامًا ) .(1)
وعلى ذلك جرى شيخ الشيعة المفيد في تفسير الآية ، حيث طرح السؤال ، وقال :
فإن قال قائل : فما معنى قوله : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) أو ليس هذا يفيد انّه قد سألهم مودة القربى لأجره على الأداء ؟
قيل له : ليس الأمر على ما ظننت لما قدمنا من حجّة العقل والقرآن ، والاستثناء في هذا المكان ليس هو من الجملة لكنّه استثناء منقطع ، ومعناه قل لا أسألكم عليه أجراً لكنّي ألزمكم المودة في القربى واسألكموها ، فيكون قوله : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ) كلاماً تاماً ، قد استوفى معناه ، ويكون قوله : ( إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) كلاماً مبتدأً ، فائدته لكن المودة في القربى سألتكموها ، وهذا كقوله : ( فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ ) .(2)والمعنى فيه لكن إبليس ، وليس باستثناء من جملة.(3)
وعلى ضوء ذلك يظهر معنى قوله سبحانه : ( مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) .(4)
وقد تبَّين انّ حبّ الأولياء والصالحين لصالح المحب قبل أن يكون لصالحهم.
كما تبيَّن معنى قوله سبحانه في شأن ذلك الأجر : ( مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ) .(5).
ص: 266
فانّ اتخاذ السبيل لا يخلو من أحد احتمالين :
1. مودَّة القربى والتفاني في حبهم الذي سينتهي إلى العمل بالشريعة الموجب لنيل السعادة.
2. نفس العمل بالشريعة الذي يصل إليها الإنسان عن طريق حبهم ومودتهم.
وبذلك ترجع الآيات الثلاث إلى معنى واحد من دون أن يكون بينهما أي تناف واختلاف.
وقد جاء الجمع بين مفاد الآيات الثلاث في دعاء الندبة الذي يشهد علو مضامينه على صدقه ، حيث جاء فيه :
« ثمّ جعلت أجر محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم مودّتهم في كتابك ، فقلت ( لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) ، وقلت : ( مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) ، وقلت : ( مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ) ، فكانوا هم السبيل إليك ، والمسلك إلى رضوانك ».
وإلى ذلك يشير شاعر أهل البيت ويقول :
موالاتهم فرض ، وحبهم هدى *** وطاعتهم ودٌّ ، وودُّهم تقوا
* * *
وأمّا القربى فهو على وزن البشرى والزلفى بمعنى القرابة ، يقول الزمخشري : القربى مصدر كالزلفى والبشرى ، بمعنى القرابة والمراد في الآية « أهل القربى ». (1)
وقد استعمل القرآن الكريم لفظة القربى في عامة الموارد بالمضاف ، فتارة
ص: 267
بلفظة ذي ، قال سبحانه : ( وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى ) .(1)
وأُخرى بلفظة ذوي ، قال سبحانه : ( وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى ) .(2)
وثالثة : بلفظة « أُولي » ، قال سبحانه : ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى ) .(3)
وقد جاءت مرَّة واحدة دون إضافة وهي نفس الآية المباركة ، فلأجل ذلك يلزم تقدير شيء مثل لفظة « أهل » كما قدَّره الزمخشري أو لفظاً غير ذلك مثل كلمة « ذي » أو « ذوي » أو « ذوي قربى ».
إلى هنا تمَّت الإجابة عن السؤال الأوّل حول الآية.
السؤال الثاني(4)
دلَّت الآية الكريمة على أنّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فرض مودة ذي القربى ، على المسلمين ولكن يبقى هنا سؤال وهو انّ الآية تحتمل وجهين :
أ : أن يكون المراد مودَّة ذوي القربى من أقرباء النبي وأهل بيته.
ب : أن يكون المراد ودّ كلّ مسلم أقربائه وعشيرته ومن يمتُّ إليه بصلة ، وليس في الآية ما يدل على المعنى الأوّل.
أقول : إنّ ذي القربى كما علمت بمعنى صاحب القرابة والوشيجة النسبية ، ويتعيَّن مورده بتعيُّن المنسوب إليه ، وهو يختلف حسب اختلاف موارد الاستعمال ،
ص: 268
ويستعان في تعيينه بالقرائن الموجودة في الكلام ، وهي :
الأشخاص المذكورون في الآية أو ما دلَّ عليه سياق الكلام.
فتارة يراد منه الأقرباء دون شخص خاص ، مثل قوله سبحانه : ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى ) .(1)
وقوله سبحانه : ( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) .(2)
فانّ ذكر النبي والذين آمنوا معه آية على أنّ المراد قريب كلّ إنسان ، كما أنّ جملة ( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا ) آية أنّ المراد كل إنسان قريب إليه.
وأمّا قوله سبحانه : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) فالفعل المتقدّم عليه يعني ( لاَّ أَسْأَلُكُمْ ) آية انّ المراد أقرباء السائل ، مثل قوله سبحانه : ( مَّا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) .(3)
فانّ لفظة ( عَلَى رَسُولِهِ ) آية أنّ المراد أقرباء الرسول.
وعلى ذلك فلابدّ من الرجوع إلى القرائن الحافَّة بالآية وتعيين المراد منه ، وبذلك ظهر أنّ المراد هو أقرباء الرسول.
يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ناقداً انتخاب الخليفة الأوّل في السقيفة لأجل انتمائه إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بالقرابة :
وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم *** فغيرك أولى بالنبي وأقرب(4).
ص: 269
إنّ سورة الشورى سورة مكية ، فلو كان المراد من ذوي القربى هو عترته الطاهرة ، أعني : عليّاً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام فلم يكن يومذاك بعض هؤلاء كالحسن والحسين عليهما السلام ؟
والجواب : إنّ الميزان في تمييز المكي عن المدني ، أمران ، وكلاهما يدلاّن على أنّ الآية نزلت في المدينة المنورة.
فقد كانت مكافحة الوثنية والدعوة إلى التوحيد والمعاد هي مهمة النبي قبل الهجرة ، ولم يكن المجتمع المكّي مؤهلاً لبيان الأحكام والفروع أو مجادلة أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ولذلك تدور أغلب الآيات المكّية حول المعارف والعقائد والعبرة بقصص الماضين ، وما يقرب من ذلك.
ولمّا استتب له الأمر في المدينة المنورة واعتنق أغلب سكّانها الإسلام حينها سنحت الفرصة لنشر الإسلام وتعاليمه ولمناظرة اليهود والنصارى حيث كانوا يثيرون شبهاً ويجادلون النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فنزلت آيات حول اليهود والنصارى في السور الطوال.
فلو كان هذا هو الميزان بغية تميّز المكّي عن المدني ، فالآية مدنية قطعاً دون ريب لعدم وجود أيَّة مناسبة لسؤال الأجر أو طلب مودة القربى من أُناس لم يؤمنوا به بل حشَّدوا قواهم لقتله ، بخلاف البيئة الثانية فقد كانت تقتضي ذلك حيث التفَّ حوله رجال من الأوس والخزرج وطوائف كثيرة من الجزيرة العربية.
ص: 270
فلو كان هذا هو الميزان فقد صرح كثير منهم بأنّ أربعة آيات من سورة الشورى مكّية ، حتى أنّ المصاحف المطبوعة في الأزهر وغيره ، تصرح بذلك وتُقرأ فوق السورة هذه الجملة : سورة الشورى مكية الآيات إلا ثلاث وعشرين وأربع وعشرين وسبع وعشرين.
أضف إلى ذلك انّ كثيراً من المفسّرين والمحدِّثين صرحوا بذلك. (1)
وهذا هو البقاعيّ مؤلف « نظم الدرر وتناسب الآيات والسور » يصرح بأنّ الآيات مدنيّة ، كما نقله المحقّق الزنجاني في « تاريخ القرآن ». (2)
الإنسان مفطور على حب الجميل وكراهة القبيح فيكون الودّ أمراً خارجاً عن الاختيار ، فكيف يقع في دائرة السؤال ويطلبه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من المؤمنين مع أنّه كذلك ؟.
والجواب : أوّلاً : انّ الحبّ لو كان أمراً خارجاً عن الاختيار فلا يتعلَّق به الأمر ، كما لا يتعلَّق به النهي ، مع أنّه سبحانه ينهى عن ود من حادَّ اللّه ورسوله ، ويقول : ( لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ ) . (3)
ص: 271
كما أنّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يدعو إلى التراحم والتعاطف النابعين عن الود والحب ، ويقول :
« مثل المؤمنين في توادّهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى ». (1)
كلّ ذلك يدل على أنّ الودّ والبغض ليس على النسق الذي وصفه السائل ، ولذلك نرى الدعوة الكثيرة إلى الحب في اللّه والبغض في اللّه.
قال الإمام الصادق عليه السلام : « من أوثق عرى الإيمان أن تحب في اللّه وتبغض في اللّه ». (2)
وقد كتب الإمام علي عليه السلام إلى عامله في مصر مالك الأشتر رسالة قال فيها : « واشعر قلبك الرحمة للرعية ، والمحبة لهم ، واللطف بهم ». (3)
روى الخطيب في تاريخه عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : « عنوان صحيفة المؤمن حبّ علي بن أبي طالب عليه السلام ». (4)
وقال صلى اللّه عليه وآله وسلم : « من سرّه أن يحيا حياتي ، ويموت مماتي ، ويسكن جنة عدن غرسها ربي ، فليوال علياً بعدي ، وليوال وليّه ، وليقتد بالأئمّة من بعدي ، فانّهم عترتي خلقوا من طينتي ، رزقوا فهماً وعلماً ». (5)
روى أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : « من أحبني فليحب عليّاً ». (6)
ص: 272
وأخرج أحمد في مسنده عن الرسول : « من أحبني وأحب هذين وأباهما وأُمُّهما ، كان معي في درجتي يوم القيامة ». (1)
وثانياً : أنّ الإيصاء إنّما لا يفيد إذا لم يتوفر في الموصى له ملاك الحب والود كما إذا كان الرجل محطّاً للرذائل الأخلاقية ، وأمّا إذا كان الموصى له إنساناً مثالياً متحلياً بفضائل الأخلاق ومحاسنها ، فانّ الإيصاء به يعطف النظر إليه وبالتالي يجيش حبّه كلَّما تعمَّقت الصلة به.
وحاصل الكلام : أنّ دعوة الناس إلى الحبّ تقوم على إحدى دعامتين :
الأُولى : الإشادة بفضائل المحبوب وكمالاته التي توجد في نفس السامع حبّاً وولعاً إليه.
الثانية : الإيصاء بالحب والدعوة إلى الودّ ، فانّه يعطف نظر السامع إلى الموصى له ، فكلَّما توطَّدت الأواصر بينهما وانكشفت آفاق جديدة من شخصيته ازداد الحبّ والود له. وعلى كلّ تقدير فالنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم هو المحبوب التام لعامة المسلمين ، فحبُّه لا ينفك عن حبّ من أوصى بحبِّه وأمر بودّه.
وخير ما نختم به هذا البحث حديث مروي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نقله صاحب الكشاف حيث قال ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « من مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مغفوراً له ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات تائباً ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مؤمناً مستكمل الإيمان ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد بشَّره ملك الموت بالجنة ثمّ منكر ونكير ، ألا ومن مات على حبّ آل محمد يُزفُّ إلى الجنة كما تزفُّ العروس إلى بيت زوجها ،
ص: 273
ألا ومن مات على حبّ آل محمّد فتح اللّه له في قبره بابين إلى الجنّة ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد جعل اللّه قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات على السنّة والجماعة ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيساً من رحمة اللّه ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد مات كافراً ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد لم يشم رائحة الجنة ».(1)
وروى أيضاً : انّه لما نزلت هذه الآية ، قيل : يا رسول اللّه من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودَّتهم ؟
فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم : « علي وفاطمة وابناهما ».(2).
ص: 274
من حقوق أهل البيت عليهم السلام
إنّ من حقوق أهل البيت عليهم السلام هي الصلوات عليهم عند الصلاة على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) . (1)
ظاهر الآية هو تخصيص الصلاة على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لكن فهمت الصحابة انّ المراد هو الصلاة عليه وعلى أهل بيته ، وقد تضافرت الروايات على ضمّ الآل إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عند التسليم والصلاة عليه ، وقد جاء ذلك في الصحاح والمسانيد ، نقتصر منها على ما يلي :
1. أخرج البخاري عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : لقيني كعب بن عجرة ، قال : ألا أُهدي لك هدية سمعتها من النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فقلت : بلى ، فأهدها لي ، فقال : سألنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فقلنا : يا رسول اللّه ، كيف الصلاة عليكم أهل البيت ، فانّ اللّه قد علّمنا كيف نسلم ؟ قال :
« قولوا : اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، كما صلّيت على إبراهيم وعلى
ص: 275
آل إبراهيم إنّك حميد مجيد ، اللّهمّ بارك على محمّد وعلى آل محمّد ، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد ». (1)
وأخرجه أيضاً في كتاب التفسير عند تفسير سورة الأحزاب. (2)
كما أخرجه مسلم في باب الصلاة على النبي من كتاب الصلاة. (3)
2. أخرج البخاري أيضاً ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قلنا يا رسول اللّه ، هذا التسليم فكيف نصلّي عليك ؟ قال : « قولوا : اللّهمّ صلّ على محمّد عبدك ورسولك ، كما صلّيت على آل إبراهيم ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد ، كما باركت على إبراهيم ». (4)
3. أخرج البخاري ، عن ابن أبي حازم ، عن يزيد ، قال : « كما صليت على إبراهيم ، وبارك على محمّد وآل محمّد ، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم ». (5)
4. أخرج مسلم ، عن أبي مسعود الأنصاري ، قال : أتانا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة ، فقال له بشير بن سعد : أمرنا اللّه تعالى أن نصلِّي عليك ، يا رسول اللّه : فكيف نصلِّي عليك ؟
قال : فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى تمنّينا انّه لم يسأله.
ثمّ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « قولوا : اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، كما صليت على آل إبراهيم ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على آل إبراهيم
ص: 276
في العالمين انّك حميد مجيد ، والسلام كما قد علمتم ».(1)
إنّ ابن حجر ذكر الآية الشريفة ، وروى جملة من الأخبار الصحيحة الواردة فيها ، وانّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قرن الصلاة على آله بالصلاة عليه ، لمّا سئل عن كيفية الصلاة والسلام عليه ، قال : وهذا دليل ظاهر على أنّ الأمر بالصلاة على أهل بيته ، وبقية آله مراد من هذه الآية ، وإلاّ لم يسألوا عن الصلاة على أهل بيته وآله عُقب نزولها ولم يجابوا بما ذكر ، فلمّا أُجيبوا به دلّ على أنّ الصلاة عليهم من جملة المأمور به ، وانّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أقامهم في ذلك مقام نفسه ، لأنّ القصد من الصلاة عليه مزيد تعظيمه ، ومنه تعظيمهم ، ومن ثمّ لمّا أدخل من مرّ في الكساء ، قال : « اللّهمّ انَّهم منّي وأنا منهم ، فاجعل صلاتك ورحمتك ومغفرتك ورضوانك عليّ وعليهم » ، وقضية استجابة هذا الدعاء : انّ اللّه صلّى عليهم معه فحينئذٍ طلب من المؤمنين صلاتهم عليهم معه.
ويروى : لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء ، فقالوا : وما الصلاة البتراء ؟ قال : تقولون : اللّهمّ صلّ على محمّد وتمسكون ، بل قولوا : اللّهم صلّ على محمّد وعلى آل محمد. ثمّ نقل عن الإمام الشافعي قوله :
يا أهل بيت رسول اللّه حبكم *** فرض من اللّه في القرآن أنزله
كفاكم من عظيم القدر إنّكم *** من لم يصلِّ عليكم لا صلاة له
فقال : فيحتمل لا صلاة له صحيحة فيكون موافقاً لقوله بوجوب الصلاة على الآل ، ويحتمل لا صلاة كاملة فيوافق أظهر قوليه.(2).
ص: 277
هذا كلّه حول الصلاة على الآل عند الصلاة على الحبيب.
وأما حكم الصلاة على آل البيت في التشهد ، فقال أكثر أصحاب الشافعي : انّه سنّة.
وقال التربجي : من أصحابه هي واجبة ، ولكن الشعر المنقول عنه يدل على وجوبه عنده ، ويؤيده رواية جابر الجعفي - الذي كان من أصحاب الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام ، وفي طبقة الفقهاء - ، عن أبي جعفر عن أبي مسعود الأنصاري ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « من صلّى صلاة لم يصل فيها عليّ ولا أهل بيتي لم تقبل منه ».(1)
وجابر الجعفي ممَّن ترجمه ابن حجر في تهذيبه ، ونقل عن سفيان في حقّه :
ما رأيت أورع في الحديث منه ، وقال وكيع : مهما شككتم في شيء فلا تشكّوا في أنّ جابراً ثقة.
وقال سفيان أيضاً لشعبة : لأن تكلَّمت في جابر الجعفي لأتكلمنَّ فيك. إلى غير ذلك.(2)
قال ابن حجر : أخرج الدارقطني والبيهقي حديث من صلّى صلاة ولم يصل فيها عليّ وعلى أهل بيتي لم تقبل منه ، وكأنّ هذا الحديث هو مستند قول الشافعي انّ الصلاة على الآل من واجبات الصلاة ، كالصلاة عليه صلى اللّه عليه وآله وسلم لكنّه ضعيف ، فمستنده الأمر في الحديث المتفق عليه ، قولوا : اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، والأمر للوجوب حقيقة على الأصحّ.(3)
وقال الرازي : إنّ الدعاء للآل منصب عظيم ، ولذلك جعل هذا الدعاء
ص: 278
خاتمة التشهد في الصلاة ، وقوله : اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، وارحم محمّداً وآل محمّد.
وهذا التعظيم لم يوجد في حقّ غير الآل ، فكلّ ذلك يدل على أنّ حبّ آل محمّد واجب ، وقال الشافعي :
يا راكباً قف بالمحصَّب من منى *** واهتف بساكن خيفها والناهض
سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى *** فيضاً كما نظم الفرات الفائض
إن كان رفضاً حبُّ آل محمّد *** فليشهد الثقلان أنّي رافضي (1)
وقال النيسابوري في تفسيره عند قوله تعالى : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) كفى شرفاً لآل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وفخراً ختم التشهد بذكرهم والصلاة عليهم في كلّ صلاة. (2)
وروى محب الدين الطبري في الذخائر عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري رضي اللّه عنه انّه كان يقول : لو صلّيت صلاة لم أُصلِّ فيها على محمّد وعلى آل محمّد ما رأيت أنّها تقبل. (3)
وقال المحقّق الشيخ حسن بن عليّ السقاف : تجب الصلاة على آل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في التشهد الأخير على الصحيح المختار ، لأنّ أقصر صيغة وردت عن سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ثبت فيها ذكر الصلاة على الآل ، ولم ترد صيغة خالية منه في صيغ تعليم الصلاة ، فقد تقدّم حديث سيدنا زيد بن خارجة ، انّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال :
ص: 279
« صلّوا عليّ واجتهدوا في الدعاء ، وقولوا : اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد ». (1)
لقد تبين ممّا سبق كيفية الصلاة على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وانّه لا يصلّى عليه إلاّ بضم الآل إليه ، ومع ذلك نرى أنّه قد راجت الصلاة البتراء بين أهل السنَّة في كتبهم ورسائلهم ، مع أنّ هذه البلاغات من النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم نصب أعينهم ولكنَّهم رفضوها عملاً واكتفوا بالصلاة عليه خاصة ، حتى أنّ ابن حجر الهيتمي ( 899 - 974 ه ) نقل كيفية الصلاة على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ولكن كتابه المطبوع مليء بالصلاة البتراء. وإليك نصّ ما قال : ويروى لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء ، قالوا : وما الصلاة البتراء ؟ ، قال : تقولون : اللّهمّ صلّ على محمّد وتمسكون ، بل قولوا : اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ولا ينافي ما تقرر حذف الآل في الصحيحين ، قالوا : يا رسول اللّه : كيف نصلّي عليك ؟ قال : قولوا اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى أزواجه وذرِّيته ، كما صليت على إبراهيم إلى آخره.
لأنّ ذكر الآل ثبت في روايات أُخر ، وبه يعلم أنّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال ذلك كلّه فحفظ بعض الرواة ما لم يحفظه الآخر. (2)
وفي الختام نذكر ما ذكره الرازي ، انّه قال : أهل بيته ساووه في خمسة أشياء : في الصلاة عليه وعليهم في التشهد ، وفي السلام ، والطهارة ، وفي تحريم الصدقة ، وفي المحبّة. (3)
ص: 280
من حقوق أهل البيت عليهم السلام
الأصل في ضريبة الخمس ، قوله سبحانه : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ... ) . (1)
نزلت الآية يوم الفرقان ، يوم التقى الجمعان وهي غزوة بدر الكبرى ، واختلف المفسرون في تفسير الموصول في « ما غنمتم » هل هو عام لكلّ ما يفوز به الإنسان في حياته ، كما عليه الشيعة الإمامية ، أو خاص بما يظفر به في الحرب ، وهذا بحث مهم لا نحوم حوله ، لأنّه خارج عّما نحن بصدده ، وقد أشبعنا الكلام فيه في كتابنا « الاعتصام بالكتاب والسنة » وأثبتنا بفضل القرآن والأحاديث النبوية انّ الخمس يتعلَّق بكلّ ما يفوز به الإنسان في حياته ، وانّ نزول الآية في مورد الغنائم الحربية لا يُخصص الحكم الكلي. (2)
ص: 281
إنّما الكلام في تبيين مواضع الخمس ، وقد قسّم الخمس في الآية إلى ستة أسهم ، أعني : لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.
فالسهمان الأوَّلان واضحان ، إنّما الكلام في السهم الثالث وما بعده ، فالمراد من ذي القربى هم أقرباء النبي وذلك بقرينة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وقد سبق منّا القول في تفسير آية المودة : انّ تبيين المراد من القربى رهن القرائن الحافَّة بالآية فربما يراد منها أقرباء الناس ، مثل قوله : ( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) .(1)المراد أقرباء المخاطبين ، بقرينة قوله : ( قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا ) نظير قوله : ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى ) والمراد أقرباء الميت.
وعلى ضوء ذلك فإذا تقدَّم عليه لفظ « الرسول » يكون المراد منه أقرباء الرسول كما في الآية ( لِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) ، ومثله قوله : ( مَّا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) .(2)وقوله : ( فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) .(3)فالمراد من ذي القربى هم أقرباء الرسول بقرينة توجَّه الخطاب إليه أعني « فآت ».
ومنه يعلم المراد من المساكين في الآيتين وآية الخمس ، أي مساكين ذي القربى وأيتامهم وأبناء سبيلهم.
هذا هو المفهوم من الآية ، وعلى ما ذكرنا فكلّ ما يفوز به الإنسان في مكسبه ومغنمه أو ما يفوز به في محاربة المشركين والكافرين ، يُقسّم خمسه بين ستة سهام كما عرفت.
ص: 282
ويؤيده الروايات التالية :
1. روي عن ابن عباس : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقسّم الخمس على ستة : لله وللرسول سهمان وسهم لأقاربه ، حتى قبض. (1)
2. وروي عن أبي العالية الرياحي : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يؤتى بالغنيمة فيقسمها على خمسة فتكون أربعة أخماس لمن شهدها ، ثمّ يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه فيأخذ منه الذي قبض كفه ، فيجعله للكعبة وهو سهم اللّه ، ثم يقسَّم ما بقي ، على خمسة أسهم : فيكون سهم للرسول ، وسهم لذي القربى ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السبيل. قال : والذي جعله للكعبة فهو سهم اللّه. (2)
وأمّا تخصيص بعض سهام الخمس بذي القربى ومن جاء بعدهم من اليتامى والمساكين وابن السبيل ، فلأجل الروايات الدالة على أنّه لا تحل لهم الصدقة ، فجعل لهم خمس الخمس.
أخرج الطبري عن مجاهد ، انه قال : كان آل محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم لا تحل لهم الصدقة فجعل لهم الخمس. (3)
وأخرج أيضاً عنه : قد علم اللّه أنّ في بني هاشم الفقراء فجعل لهم الخمس مكان الصدقة (4).
كما تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام أنّ السهام الأربعة من الخمس ، لآل محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم . (5)
ص: 283
هذا ظاهر الآية ويا للأسف لعب الاجتهاد دوراً كبيراً في تحويل الخمس عن أصحابه وظهرت أقوال لا توافق النص القرآني ، وإليك مجملاً من آرائهم :
1. قالت الشافعية والحنابلة : تقسّم الغنيمة ، وهي الخمس إلى خمسة أسهم : واحد منها سهم الرسول ويصرف على مصالح المسلمين ، وواحد يعطى لذوي القربى وهم من انتسب إلى هاشم بالابوة من غير فرق بين الأغنياء والفقراء ، والثلاثة الباقية تنفق على اليتامى والمساكين وأبناء السبيل سواء أكانوا من بني هاشم أو من غيرهم.
2. وقالت الحنفية : إنّ سهم الرسول سقط بموته ، أمّا ذوو القربى فهم كغيرهم من الفقراء يعطون لفقرهم لا لقرابتهم من الرسول.
3. وقالت المالكية : يرجع أمر الخمس إلى الإمام يصرفه حسبما يراه من المصلحة.
4. وقالت الإمامية : إنّ سهم اللّه وسهم الرسول وسهم ذوي القربى يفوِّض أمرها إلى الإمام أو نائبه ، يضعها في مصالح المسلمين ، والأسهم الثلاثة الباقية تعطى لأيتام بني هاشم ومساكينهم وأبناء سبيلهم ولا يشاركهم فيها غيرهم. (1)
5. وقال ابن قدامة في المغني بعدما روى أنّ أبا بكر وعمر قسَّما الخمس على ثلاثة أسهم : وهو قول أصحاب الرأي أبي حنيفة وجماعته ، قالوا : يقسم الخمس على ثلاثة : اليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل ، وأسقطوا سهم رسول اللّه بموته وسهم قرابته أيضاً.
6. وقال مالك : الفيء والخمس واحد يجعلان في بيت المال.
7. وقال الثوري : والخمس يضعه الإمام حيث أراه اللّه عزّ وجلّ.
ص: 284
وما قاله أبو حنيفة مخالف لظاهر الآية فإنّ اللّه تعالى سمّى لرسوله وقرابته شيئاً وجعل لهما في الخمس حقاً ، كما سمّى الثلاثة أصناف الباقية ، فمن خالف ذلك فقد خالف نصّ الكتاب ، وأمّا جعل أبي بكر وعمر سهم ذي القربى ، في سبيل اللّه ، فقد ذُكر لأحمد فسكت وحرك رأسه ولم يذهب إليه ، ورأى أنّ قول ابن عباس ومن وافقه أولى ، لموافقته كتاب اللّه وسنة رسوله. (1)
وقد أجمع أهل القبلة كافة على أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يختص بسهم من الخمس ويخص أقاربه بسهم آخر منه ، وأنّه لم يعهد بتغيير ذلك إلى أحد حتى دعاه اللّه إليه ، واختار اللّه له الرفيق الأعلى.
فلمّا ولى أبوبكر تأوّل الآية فأسقط سهم النبي وسهم ذي القربى بموت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، ومنع بني هاشم من الخمس ، وجعلهم كغيرهم من يتامى المسلمين ومساكينهم وأبناء السبيل منهم.
قال الزمخشري عن ابن عباس : الخمس على ستة أسهم : لله ولرسوله سهمان ، وسهم لأقاربه ، حتى قبض فأجرى أبو بكر الخمس على ثلاثة ، وكذلك روي عن عمر ومن بعده من الخلفاء ، قال : وروي أنّ أبابكر منع بني هاشم الخمس. (2)
وروي البخاري في صحيحه عن عائشة أنَّ فاطمة عليها السلام أرسلت إلى أبي بكر ، تسأله ميراثها من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ممّا أفاء اللّه عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر ، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً ، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلّمه حتى توفيت ، وعاشت بعد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ستة أشهر ،
ص: 285
فلمّا توفيت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر وصلّى عليها.(1)
وفي صحيح مسلم عن بريد بن هرمز ، قال : كتب نجدة بن عامر ( الحروري الخارجي ) إلى ابن عباس ، قال ابن هرمز : فشهدت ابن عباس حين قرأ الكتاب وحين كتب جوابه ، وقال ابن عباس : واللّه لولا أن أرد عن نَتْن يقع فيه ، ما كتبت إليه ولا نُعْمةَ عينٍ ، قال : فكتب إليه إنّك سألت عن سهم ذي القربى الذي ذكرهم اللّه من هم ؟ وإنّا كنّا نرى أنّ قرابة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم هم نحن فأبى ذلك علينا قومنا.(2).
ص: 286
من حقوق أهل البيت عليهم السلام
6. الفيء لأهل البيت عليهم السلام
الفيء عبارة عن الغنائم التي يحصل عليها المسلمون بلا خيل ولا ركاب ، فإنّ هذه الأموال تقع تحت تصرّف الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم باعتباره رئيساً للدولة الإسلامية ، وكان الفيء في حياة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم أمراً هاماً في تنمية الثروة في المجتمع الإسلامي ولا سيَّما انتقال الثروة من يد الأغنياء إلى يد الفقراء.
والأساس فيه قوله سبحانه : ( وَمَا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .(1)
( مَّا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) .(2)
بيَّن سبحانه أحكام الفيء ، وقال : ( وَمَا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ )
ص: 287
الضمير يرجع إلى اليهود ، ولكن الحكم سار على جميع الكفّار.
( فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ ) أي الفيء عبارة عن الأموال التي استوليتم عليها بلا إيجاف خيل ولا إبل ولم تسيروا إليها على خيل ولا إبل.
هذا هو الفيء ، وأمّا المواضع التي يصرف بها هذا الفيء فقد بيَّنها سبحانه في الآية الثانية ، وقال : ( مَّا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ) ، أي ما ردَّ ما كان للمشركين على المسلمين بتمليك اللّه إيّاهم ذلك ، ( فَلِلَّهِ ) و ( لِلرَّسُولِ ) و ( لِذِي الْقُرْبَى ) ، فهو لله بالذات وللرسول ولذي القربى بتمليك اللّه إيّاهم.
والمراد من ذي القربى بقرينة الرسول أهل بيت رسول اللّه وقرابته ، وهم بنو هاشم.
( وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) أي منهم ، بقرينة الرسول ، فيكون المعنى ويتامى أهل بيته ومساكينهم وأهل السبيل منهم.
وعلى ذلك فالفيء يقسّم على ستة أسهم :
1. سهم لله المالك لكلّ شيء غير محتاج لشيء ، جعل نفسه قريناً لسائر الاسماء تكريماً لهم.
2. سهم الرسول وهو يؤمّن بذلك حاجاته وحاجة الدولة الإسلامية.
3. سهم ذوي القربى أي أقرباء الرسول ، فبما أنّ الصدقة تحرم عليهم حلّ ذلك محلّه.
4. سهم اليتامى.
5. سهم المساكين.
6. سهم أبناء السبيل.
ص: 288
« الغنيمة » - كلّ ما أُخذ من دار الحرب بالسيف عنوة مما يمكن نقله إلى دار الإسلام ، ومالا يمكن نقله إلى دار الإسلام - لجميع المسلمين ينظر فيه الإمام ، ويصرف انتفاعه إلى بيت المال لمصالح المسلمين.
« الفيء » - كلّ ما أُخذ من الكفّار بغير قتال أو انجلاء أهلها - للنبي ، يضعه في المذكورين في هذه الآية ، ولمن قام مقامه من الأئمّة وقد بيّنه سبحانه في ضمن الآيتين.(1).
ص: 289
من حقوق اهل البيت عليهم السلام
وردت لفظة « الأنفال » في القرآن مرتين في آية واحدة ، قال سبحانه : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) . (1)
أقول : إنَّ الضرائب الواردة في القرآن الكريم لا تتجاوز الأربع :
أ : الزكاة ومقسمها ثمانية.
ب : الخمس ومقسمه هو الستة.
ج : الفيء ومقسمه مقسم الخمس كما عرفت.
د : الأنفال ومقسمها اثنان ، وهما ما ذكر في الآية من قوله : ( للهِ وَالرَّسُولِ ) ، لكن الكلام في بيان المراد من الأنفال.
اختلف المفسّرون في تفسير الأنفال اختلافاً كثيراً ، والذي يمكن أن يقال انّ الأنفال من النفل وهو الزائد من الأموال ، فيشمل كلّ زائد عن حاجات
ص: 290
الحياة ، ولكن السنَّة المروية عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام فسرته بالنحو التالي :
1. روى حفص البختري عن الإمام الصادق عليه السلام قال : « الأنفال مالم يوجف عليه بخيل أو ركاب (1) أو قوم صالحوا ، أو قوم أعطوا بأيديهم ، وكلّ أرض خربة ، وبطون الأودية ، فهو لرسول اللّه ، وهو للإمام بعده يضعه حيث يشاء ». (2)
2. وروى حماد بن عيسى ، عن بعض أصحابنا ، عن الإمام الكاظم عليه السلام في حديث : « والأنفال كلّ أرض خربة باد أهلها ، وكلّ أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ولكن صالحوا صلحاً وأعطوا بأيديهم على غير قتال ، وله رؤوس الجبال ، وبطون الأودية والآجام ، وكلّ أرض ميتة لا ربّ لها ، وله صوافي الملوك ما كان في أيديهم من غير وجه الغصب ، لأنّ الغصب كلّه مردود ، وهو وارث من لا وارث له ، يعول من لا حيلة له ». (3)
3. موثقة إسحاق بن عمّار المروية في تفسير القمي قال : سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن الأنفال ، فقال عليه السلام : « هي القرى التي قد خربت وانجلى أهلها ، فهي لله وللرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وما كان للملوك فهو للإمام ، وما كان من الأرض الخربة لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، وكلّ أرض لا ربّ لها ، والمعادن منها ، من مات وليس له مولى فماله من الأنفال ». (4)
إلى غير ذلك من الروايات.
وعلى الرواية الأُولى يكون الفيء من أقسام الأنفال ، ولم نجد في تفاسير أهل السنَّة من يوافق الشيعة الإمامية في تفسير الأنفال إلا شيئاً قليلاً ، فقد عقد أبو
ص: 291
إسحاق الشيرازي باباً للأنفال وفسرها بقوله : يجوز لأمير الجيش أن ينفل لمن فعل فعلاً يفضي إلى الظفر بالعدو ، كالتجسيس ، والدلالة على طريق أو قلعة ، أو التقدم بالدخول إلى دار الحرب أو الرجوع إليها بعد خروج الجيش منها.(1).
ص: 292
من حقوق أهل البيت عليهم السلام
لقد أذن اللّه تعالى في ترفيع البيوت التي يذكر فيها اسمه ويسبِّح له بالغدوِّ والآصال في آية مباركة ، وقال : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ) .(1)
وتفسير الآية رهن دراسة أمرين :
الأوّل : ما هو المقصود من البيوت ؟
الثاني : ما هو المراد من الرفع ؟
أمّا الأوّل فربما قيل انّ المراد من البيوت هو المساجد.
قال صاحب الكشّاف : ( فِي بُيُوتٍ ) يتعلّق بما قبله ، مثل نوره كمشكاة في بعض بيوت اللّه ، وهي المساجد.(2)
ولكن الظاهر أنّ التفسير غير صحيح ، لأنّ البيت هو البناء الذي يتشكَّل
ص: 293
من جدران أربعة وعليها سقف قائم ، فالكعبة بيت اللّه لأجل كونها ذات قوائم أربعة وعليها سقف ، والقرآن يعبِّر عن البيت بالمكان المسقَّف ، ويقول : ( وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ) .(1)
فالمستفاد من الآية أنّ البيت لا ينفك عن السقف ، هذا من جانب. ومن جانب آخر : لا يشترط في المساجد وجود السقف ، هذا هو المسجد الحرام تراه مكشوفاً تحت السماء ودون سقف يظلّله.
وقد ورد لفظ البيوت في القرآن الكريم ( 36 مرّة ) بصور مختلفة ، واستعمل في غير المسجد ، يقول سبحانه : ( طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) .(2)( وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللّهِ وَالحِكْمَةِ ) .(3)
إلى غير ذلك من الآيات ، فكيف يمكن تفسيره بالمساجد ؟
وبما أنّ جميع المساجد ليس على هذا الوصف ، التجأ صاحب الكشاف بإقحام كلمة « بعض » ، وقال : في بعض بيوت اللّه وهي المساجد ، وهو كما ترى ، وهناك حوار دار بين قتادة فقيه البصرة وأبي جعفر الباقر عليه السلام يؤيد ما ذكرنا.
حضر قتادة في مجلس الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام فقال له الإمام : من أنت ؟
قال : أنا قتادة بن دعامة البصري.
فقال أبو جعفر : أنت فقيه أهل البصرة ؟
فقال : نعم. قال قتادة : أصلحك اللّه ، ولقد جلستُ بين يدي الفقهاء وقدّام ابن عباس فما اضطرب قلبي قدّام واحد منهم ، ما اضطرب قدّامك !
ص: 294
فقال أبو جعفر عليه السلام : ما تدري أين أنت ؟ أنت بين يدي ( بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ) ونحن أُولئك.
فقال له قتادة : صدقت ، واللّه جعلني فداك ، واللّه ماهي بيوت حجارة ولا طين.(1)
ويؤيّد ما رواه الصدوق في الخصال عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : ان اللّه اختار من البيوتات أربعة ثم قرأ هذه الآية : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَ آلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (2). (3)
وعلى هذا الحوار فالمراد من البيت ، بيت الوحي وبيت النبوَّة ، ومن يعيش في هذه البيوت من رجال لهم الأوصاف المذكورة في الآية الكريمة.
هذا كلّه حول الأمر الأوّل.
وأمّا الأمر الثاني ، أعني : ما هو المراد من الرفع ؟ فيحتمل وجهين :
الأوّل : أن يكون المراد الرفع المادي الظاهري الذي يتحقَّق بإرساء القواعد وإقامة الجدار والبناء ، كما قال سبحانه : ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ) .(4)وعلى هذا تدل الآية على جواز تشييد بيوت الأنبياء والأولياء وتعميرها في حياتهم بعد مماتهم.
الثاني : أن يكون المراد الرفع المعنوي والعظمة المعنوية ، وعلى هذا تدل الآية بتكريم تلك البيوت وتبجيلها وصيانتها وتطهيرها مما لا يليق بشأنها.
ص: 295
قال الرازي : المراد من رفعها ، بنائها لقوله تعالى : ( رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ) (1) وثانيها ( تُرْفَعَ ) اي تعظم. (2)
هذا كلّه حسب ما تدل عليه الآية ، وأمّا بالنظر إلى الروايات فنذكر منها ما يلي :
1. روى الحافظ السيوطي عن أنس بن مالك وبريدة ، انّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قرأ قوله تعالى : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ ) فقام إليه رجل وقال : أيّ بيوت هذه يا رسول اللّه ؟
فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم : « بيوت الأنبياء ».
فقام إليه أبو بكر وقال : يا رسول اللّه ، وهذا البيت منها ؟ وأشار إلى بيت علي وفاطمة عليهما السلام.
فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : « نعم من أفاضلها ». (3)
2. روى ابن شهراشوب عن تفسير مجاهد وأبي يوسف ، يعقوب بن سفين ، قال ابن عباس في قوله تعالى : ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ) (4) : إنّ دحية الكلبي جاء يوم الجمعة من الشام بالميرة ، فنزل عند أحجار الزيت ، ثمّ ضرب بالطبول ليؤذن الناس بقدومه ، فمضوا الناس إليه إلاّ علي والحسن والحسين وفاطمة عليهم السلام وسلمان وأبو ذر والمقداد وصهيب ، وتركوا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قائماً يخطب على المنبر ، فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : قد نظر اللّه يوم الجمعة إلى مسجدي فلولا
ص: 296
هؤلاء الثمانية الذين جلسوا في مسجدي لأضرمت المدينة على أهلها ناراً ، وحُصبوا بالحجارة كقوم لوط ، ونزل فيهم رجال لا تلهيهم تجارة.(1)
وقد وصف الإمام أمير المؤمنين عليه السلام هؤلاء الرجال الذين يسبِّحون في تلك البيوت ؛ عند تلاوته : ( رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ ) : وإنّ للذكر لأهلاً أخذوه من الدُّنيا بدلاًً ، فلم يشغلهم تجارة ولا بيع عنه ، يقطعون به أيام الحياة ، ويهتفون بالزواجر عن محارم اللّه في أسماع الغافلين ، ويأمرون بالقسط ويأتمرون به ، وينهون عن المنكر ويتناهون عنه فكأنَّما قطعوا الدنيا إلى الآخرة وهم فيها ، فشاهدوا ما وراء ذلك ، فكأنّما اطَّلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الإقامة فيه ، وحقَّقت القيامة عليهم عِداتُها ، فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا ، حتى كأنّهم يرون ما لا يرى الناس ويسمعون ما لا يسمعون.(2).
ص: 297
إلى هنا تمّ ما أردنا استعراضه من سماتهم وحقوقهم في القرآن الكريم ، ولو حاول الباحث أن يستعرض أوصافهم وخصوصيّاتهم الواردة في الأحاديث النبوية لاحتاج إلى تأليف مفرد ، وبما انّ محور بحوثنا هو القرآن الكريم اقتصرنا على ذلك ، وهذا لا يمنعنا أن نذكر ما روي عن علي عليه السلام في ذلك المجال :
1. يقول في حقّهم : « ... فَإنّهم عيش العلم ، وموت الجهل ، هم الذين يُخبركم حُكمُهم عن علمهم ، وصَمتُهم عن منطقهم ، وظاهرهُم عن باطنهم ، لا يخالفون الدين ، ولا يختلفون فيه ، فهو بينهم شاهدٌ صادق ، وصامت ناطق ».(1)
2. وفي خطبة أُخرى : « لا يقاس بآل محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم من هذه الأُمّة أحد ، ولا يُسوَّى بهم مَن جرت نعمتهم عليه أبداً ، هم أساسُ الدين ، وعمادُ اليقين ، إليهم يفيءُ الغالي ، وبهم يُلحق التالي ، ولهم خصائص حقِّ الولاية ، وفيهم الوصية والوراثة ، الآنَ إذ رجع الحقّ إلى أهله ، ونُقل إلى منتقله ».(2).
ص: 298
3. وقال عليه السلام : « نحنُ الشعار والأصحاب ، والخزنة والأبواب ، ولا تؤتى البيوتُ إلاّ من أبوابها ، فمن أتاها من غير أبوابها سُمّي سارقاً ».
منها : « فيهم كرائمُ القرآن ، وهم كنوز الرحمن ، إن نطقوا صدقوا ، وإن صمتوا لم يسبقوا ».(1)
4. وقال عليه السلام : « ألا إنّ مثل آل محمّدٍ صلى اللّه عليه وآله وسلم ، كَمَثَلِ نجوم السَّماء : إذا خوى نجم ، طَلَعَ نَجم ، فكأنّكم قد تكاملت من اللّه فيكم الصنائع ، وأراكم ما كنتم تأملون ».(2)
5. وقال عليه السلام : « ألا وإنّ لكلِّ دمٍ ثائراً ، ولكلِّ حقٍّ طالباً. وإنَّ الثّائِرَ في دمائِنا كالحاكِمِ في حقِّ نفسِهِ ، وهُوَ اللّه الذي لا يُعجِزُهُ من طَلَبَ ، ولا يفُوتُهُ من هرب ».(3)
6. وقال عليه السلام : « أيّها الناس ، خذوها عن خاتم النبيّين صلى اللّه عليه وآله وسلم : إنّه يموت من ماتَ منّا وليس بميِّت ، ويبلى من بَلي منَّا وليس ببال ، فلا تقولوا بما لا تعرِفُون ، فإنّ أكثرَ الحقِّ فيما تُنكِرون ، واعذِروا من لا حُجّة لكم عليه - وهو أنّا - ألم أعمل فيكم بالثَّقل الأكبر ، وأترُك فيكم الثَّقل الأصغر ، قد ركزْتُ فيكُمْ راية الإيمانِ ، ووقفتُكُم على حُدودِ الحلالِ والحرام ، وألبستُكُمُ العافيةَ من عدلي ، وفرشتكم المعروف من قولي وفعلي ، وأريتُكُم كرائمَ الأخلاقِ من نفسي ، فلا تستعملوا الرأيَ فيما لا يُدْرِكُ قعرَهُ البصرُ ، ولا تتغلغل إليهِ الفِكرُ ».(4).
ص: 299
إلى غير ذلك ، الكلمات الناصعة في خطبه ورسائله وقصار كلمه مما نقله الرضي في « نهج البلاغة » وغيره في الكتب الحديثية والتاريخية ، ولنقتصر على ذلك فانّ الإفاضة في القول في هذا المضمار يوجب الإطالة.
ص: 300
ص: 301
عرض موجز لتاريخ التفسير عند الشيعة
يتناول بيان القرآن بنفسه، و موقف النبيّ صلی اللّه عليه وآله وسلم و أهل بيته الطاهرين، في مجال تفسيره، و ما قام به أعلام الشيعة طيلة أربعة عشر قرناً، منذ وفاة النبيّ صلی اللّه عليه وآله وسلم إلی هذا اليوم من خدمات كبری في شتّی أصعده التفسير، تدويناً وتطويراً، و ذكر أسماء مشاهيرهم، و نقد الاتّهامات الموجّهة إلی تفاسير العترة و شيعتهم نقداً موضوعياً هادئاً.
ص: 302
إنّ التعرّف على عظمة القرآن الكريم وقيمته المثلى ، لا يتوقّف على الرجوع إلى كاتب شرقيّ وناطق غربيّ ... إلى هذا العالِم أو ذاك الباحث ، لغرض جمع الشواهد على عظمته ، وسموّ منزلته ، وإن كانت هذه الشواهد من مختلف الطبقات لها مكانتها الخاصّة. ومن حسن الحظّ أنّ هناك كمّية هائلة من الدلائل على علوّ شأنه ، وسموّ مقامه ، في اللفظ والمعنى ، وفي الشكل والمحتوى ، يعرفها كلّ من وقف على الدراسات القرآنية التي قام بها الباحثون ، من شرقيّهم وغربيّهم ، منذ نزول القرآن إلى عصرنا هذا.
غير أنّ هناك طريقاً متقناً للاطّلاع على شأن القرآن الكريم ، وعلوّ مقاصده ، وهو الرجوع إلى نفس ذلك الكتاب العزيز ، واستنطاقه في هذا المجال ، والجثوّ أمامه واستفساره ، وما ذاك إلاّ لأنّ الكلّ معترفون بأنّه لا يبالغ في إخباره وتقييمه ، وأنّ كلّ شيء منه ، حتى كلمه وحروفه جاءت في الآيات ووفق حسابات دقيقة ، بلا إفراط ولا تفريط. وعلى هذا الأساس نرجع إلى الذكر الحكيم ، ونسأله عن أهدافه وأبعاده ، وموقفه من الإنسان في الهداية والضلالة ، والسعادة والشقاء ، والسلم والحرب ، إلى غير ذلك من الأبعاد الكثيرة التي يجدها الباحث المتعمّق في ذلك
ص: 303
الكتاب. ولكنّ هذه الدراسة ليست دراسة مختصرة ، بل يمكن أن تقع موضوعاً لبحث خاصّ للدارسين له ، حسب التفسير الموضوعيّ.
وبما أنّ الهدف ليس هو التوسّع في ذلك ، فلنقتصر على نصوص الآيات المليئة بالنكات :
1. القرآن نور وضياء للقلوب والعقول. قال سبحانه : ( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) .(1)
2. القرآن كتاب هداية للمتّقين وذوي القلوب المستعدّة. قال سبحانه : ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) .(2)
3. القرآن كتاب نفيس مشحون بالمثل والقيم. قال سبحانه : ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ) .(3)
4. القرآن كتاب الظفر والانتصار بعيد عن وصمة الهزيمة والخذلان. قال سبحانه : ( إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ) .(4)
5. القرآن زاخر بالحكمة والموعظة والبرهنة. قال سبحانه : ( يس * وَالْقُرْآنِ الحَكِيمِ ) .(5)
6. القرآن فيه من العظمة والجلالة والمقدرة لو نزل على جبلٍ لتصدّع أمامه. قال سبحانه : ( لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللّهِ ) .(6)
7. القرآن يهدي إلى الطريق المستقيم ، الذي ليس فيه عوج ، ولا أمت. قال .
ص: 304
سبحانه : ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) .(1)
8. القرآن سليم من التناقض ، والاختلاف في التعبير والمضمون. قال سبحانه : ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) .(2)
9. القرآن كتاب يدور مع الحقّ حيث دار ، والحقّ يدور معه. قال سبحانه : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ ) .(3)
10. القرآن كتاب مبارك ، حافل بالمعارف والمواعظ التي توقظ العقول ، وتذكر القلوب. قال سبحانه : ( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ) .(4)
11. القرآن كتاب أنزله سبحانه على رسوله ، ليبلغه إلى الناس حتى يقوموا بالقسط. قال سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) .(5)
12. إنّ القرآن يتضمن أمثالاً بديعة ، تهدف إلى معان سامية في سبيل إيجاد نهضة فكرية بين البشر. قال سبحانه : ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ) .(6)
13. القرآن كتاب التزكية للأرواح ، والتصفية للقلوب. قال سبحانه : ( يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ ) .(7)
14. القرآن جاء بأحسن الحديث وأتقنه ، بحيث تتقبّله النفوس بسرعة ، وتعيه العقول بدون عناء. قال سبحانه : ( اللّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا
ص: 305
مُّتَشَابِهًا ... ) .(1)
15. القرآن يتلو علينا أحسن القصص وأجملها ، ممّا فيه العبر الغالية. قال سبحانه : ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ... ) .(2)
16. القرآن يبيّن كلّ دقيق وجليل ، ممّا له صلة بسعادة الإنسان وشقائه. قال سبحانه : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ... ) .(3)
17. القرآن أفضل فرقان لتمييز الحقّ من الباطل ، وخير محكّ لمعرفة السراب عن الماء. قال سبحانه : ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) .(4)
18. القرآن خير دليل على صدق النبيّ في نبوّته ورسالته ، لفصاحة ألفاظه ، وجمال عباراته ، وبلاغة معانيه وسموّها ، وروعة نظمه وتأليفه ، وبداعة أُسلوبه. قال سبحانه : ( أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ) .(5)
19. القرآن ذكر وتذكير لما يعرفه الإنسان بفطرته السليمة. قال سبحانه : ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ) .(6)
20. وفي الختام نقول : إنّ القرآن كتاب يربو عن الريب واعتراء الشكّ. قال سبحانه : ( تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) .(7)
لقد أنزل اللّه سبحانه القرآن الكريم على قلب سيّد المرسلين ، ليكون للعالمين نذيراً ، يهدي به اللّه من اتّبع رضوانه سبل السلام ، ويخرجهم من الظلمات
ص: 306
إلى النور بإذنه ، ويهديهم إلى صراط مستقيم ، ويكون مهيمناً لما بين يدي النبيّ من الكتاب. قال سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ )(1)وقاضياً بين بني إسرائيل فيما يختلفون. قال سبحانه : ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) .(2)
ولأجل تلك المكانة العليا التي حظي بها ، صار الحجّة القويمة للنبيّ الأكرم في عصره وحياته ، والمعجزة الخالدة بعد مماته ، على مرّ العصور والأحقاب. وما ذلك إلاّ لأنّ الدين الخالد ، والرسالة الأبديّة يحتاج في قضاء العقل إلى حجّة قويّة ، ومعجزة خالدة ، تشقّ الطريق ، وتنير المسير ( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ ) ، بل يكون لله الحجة البالغة ... نزل القرآن الكريم نجوماً منذ بعثة النبيّ إلى أُخريات أيّامه في بضع وعشرين سنة ، فقرع الآذان حتى وصل إلى الجنان ، وملك مجامع قلوب الناس ، وسيطر على أحاسيسهم ومشاعرهم ، فدخل الناس في طاعة القرآن زرافاتٍ ووحداناً ، فأقام النبيُّ الأكرم صرح الحقّ على أنقاض الباطل ، بفضل الكتاب الكريم وحجته الخالدة.
هذه لمحة خاطفة عن مكانة القرآن ، وتأثيره في النفوس ، أخذناها من الكتاب العزيز نفسه ، ولا نطيل الكلام فيها. كيف وقد أفاض المحقّقون الكلام في رسائلهم وكتبهم فيه ؟! وإنّما الهدف في المقام الإيعاز إلى ما قام به المسلمون من أروع الخدمات في سبيل كتابهم ، على وجه لا تجد له مثيلاً لدى أصحاب الشرائع والديانات ، حتى صارت تلك الخدمات حافزاً لتأسيس علوم خاصّة لفهم كتاب اللّه سبحانه ، فدوّنوا علم النحو والصرف ، وعلوم البلاغة والفصاحة ، والقراءة
ص: 307
والتجويد ، وقسماً من التاريخ والمغازي والفقه ، لفهم القرآن العزيز. وفي ظلّ تلك العلوم بقي القرآن مفهوماً للأجيال ، وصارت اللغة العربية لغة خالدة على جبين الدهر.
ولقد شارك المسلمون عامّة لتسهيل فهم القرآن في تأليف كتب ورسائل خاصة ، في مجالات مختلفة ، اختلفت بذكرها المعاجم والفهارس ، منذ رحلة النبيّ الأكرم إلى يومنا. فلا تجد ظرفاً من الظروف إلاّ فيه اهتمام كبير بفهم القرآن ، وتفسير مفاهيمه السامية بصور مختلفة ، كلّ ذلك بإخلاص ونيّة طاهرة ، من غير فرق بين السنّة والشيعة. فخدّام القرآن ومفسروه - شكر اللّه مساعيهم - أدّوا وظائفهم الكبرى في سبيل رسالتهم الإسلاميّة ، ولن تجد أُمّة خدمت كتابها الديني مثل الأُمّة الإسلامية طوال قرون ، فقد خدموه بشتّى ألوان الخدمة ، بحيث يعسر إحصاؤها وحصرها. ولو قمنا بجمع ما أُلّف حول القرآن في القرون الغابرة ، لجاء مكتبة ضخمة ، تأتي فهارسها في أجزاء كثيرة.
كما إنّك لا تجد كتاباً سماويّاً ، أوجد رجّة وتحوّلاً في الحياة البشريّة مثلما أوجده القرآن الكريم في حياة الأُمم. فهو كوّن الأُمّة الإسلامية وأرسى كيانها ، وأعطى لها دستوراً كاملاً في مجال الحياة العامّة. وهذا من خصائص الأُمّة الإسلامية في القرآن الكريم.
فها نحن نأتي بأسماء أعلام التفسير - بعد الرسول والأئمّة المعصومين - من الشيعة ، أفاض اللّه على الجميع شآبيب الرحمة والرضوان. ولكنّ ذلك بعد تبيين موقف الرسول الأعظم وأئمّة أهل البيت من الكتاب العزيز.
ص: 308
إنّ مهمّة الرسول لم تكن منحصرة في تلاوة القرآن الكريم ، وإقرائه للناس ، بل كان عليه وراء ذلك ، تبيين معالمه ، وتوضيح مقاصده. يقول سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) . (1)
نرى أنّه سبحانه يقول ( لِتُبَيِّنَ ) مكان لتقرأ فمهمّة الرسول الخطيرة هي توضيح مفاهيم الذكر الحكيم ، وسبر أغواره. ولأجل ذلك كان الرسول يفسّر الآيات واحدة بعد أُخرى أو مجموعة بعد مجموعة.
قال أبو عبد الرحمن السلميّ : حدّثنا الذين كانوا يقرأون القرآن كعثمان بن عفّان ، وعبد اللّه بن مسعود ، وغيرهما أنّهما كانوا إذا تعلّموا من النبيّ عشر آيات ، لم يتجاوزوها حتّى يعلموا ما فيها من العلم والعمل. قالوا : فتعلّمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً. ولهذا كانوا يبقون مدّة في حفظ السورة. (2)
فإذا كان الرسول مأموراً من جانبه سبحانه ببيان القرآن وتفسيره ، فأين هذه الأحاديث التي صدع بها الرسول ووعاها السلف الصالح ؟
نرى أنّ جميع ما ورد عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من التفاسير المصرّح برفعها إليه - غير ما ورد من أسباب النزول - لا يتجاوز المائتين وعشرين حديثاً تقريباً. وقد أتعب جلال الدين السيوطيّ نفسه ، فجمعها من مطاوي الكتب في آخر كتابه الإتقان ، فرتّبها على ترتيب السور من الفاتحة إلى سورة الناس. (3) ومن المعلوم أنّ هذا المقدار
ص: 309
لا يفي بتفسير القرآن الكريم ، ولا يمكن لنا التقوّل بأنّه صلى اللّه عليه وآله وسلم تقاعس عن مهمته ، أو أنّه لم يكن مأموراً بأزيد من ذلك.
نعم ؛ قام الرسول بمهمته الكبيرة مع ما له من الواجبات الوافرة تجاه رسالته ، ووعتها عنه أُذُن واعية ، وبلّغها إلى المستحفظين من أُمّة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ، غير أنّ أهل السنّة - إذ لم يهتمّوا بالأخذ والنقل من تلكم الآذان الواعية - قصرت أيديهم عن أحاديث الرسول الأعظم في مجال التفسير. فلو أنّهم رجعوا إلى باب علم النبيّ عليه الصلاة والسلام وأهل بيته المطهّرين من الرجس بنصّ الذكر الحكيم (1) لوقفوا على كميّة هائلة من أحاديث الرسول حول القرآن وتفسيره عن طرقهم ، منتهية إلى صاحب الرسالة ، وإنّ هذا واللّه لخسارة كبيرة ، وحرمان أصاب أهل السنّة والجماعة ، حيث أخذوا الحديث من نظراء كعب الأحبار ، ووهب بن منبه ، وتميم الداريّ ، وأمثالهم ومُسْلِمة أهل الكتاب ، أو أخذوا من أُناس كانوا يأخذون قصص الأنبياء ، وبدء الخليقة من أهل الكتاب (2) ، ولم يدقّوا باب أهل بيته حتى يسألوهم عمّا ورثوه عن رسول اللّه ، وقد قال سبحانه : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ... ) (3) . (4)
ولأجل ذلك قامت الشيعة بتدوين آثار الرسول عن طريق أهل بيته ، فألّفوا في هذا المضمار كتباً جليلة ، تفسّر القرآن الكريم بالأثر المرويّ عنه وعن أهل بيته ، كما ستوافيك أسماؤها وأسماء مصنّفيها ، عند البحث عن مفسّري الشيعة في القرون
ص: 310
الأُولى. ولنذكر نماذج ممّا أُثر عن النبيّ الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم في مجال التفسير تيمّناً وتبرّكاً :
1. لمّا نزل قوله سبحانه : ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) .(1)قال عديّ بن حاتم : إنّي وضعت خيطين من شعر أبيض وأسود ، فكنت أنظر فيهما ، فلا يتبين لي. فضحك رسول اللّه حتّى رؤيت نواجذه ثمّ قال : « ذلك بياض النهار ، وسواد الليل ».(2)
2. روى علي عليه السلام في تفسير قوله سبحانه : ( هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ ) .(3)قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول : « إنّ اللّه عزّ وجلّ قال : ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلاّ الجنّة ».(4)فالإيمان بتوحيد ذاته وصفاته وأفعاله عمل العبد ، قدّمه إلى بارئه ، فيجزيه بالجنّة. وفي الوقت نفسه كلاهما من جانبه سبحانه ، فهو الذي يوفق عبده للإيمان.
3. ولمّا نزل قول اللّه سبحانه : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ )(5)فقال أصحابه : وأيّنا لم يظلم نفسه ؟ ففسّر النبيّ الظلم بالشرك ، لقوله سبحانه : ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) (6). (7) وهذا من قبيل تفسير القرآن بالقرآن. كيف واللّه سبحانه يصفه بأنّه تبيان لكلّ شيء ويقول : ( نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ )(8)فهل يمكن أن يكون تبياناً لكلّ شيء ولا يكون تبياناً لنفسه ؟
ص: 311
من سبر كتب التفسير والحديث يجد أنّ الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام هو المفسر الأكبر بعد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فعنه أخذ كثير من الصحابة. قال السيوطيّ : أمّا الخلفاء فأكثر ما روي عنه منهم عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، والرواية من الثلاثة نزرة جداً ، فأمّا عليّ عليه السلام فروي عنه الكثير. وقد روى معمّر عن وهب بن عبد اللّه ، عن أبي الطفيل قال : شهدت عليّاً يخطب ، فيقول : « فواللّه لا تسألوني عن شيء إلاّ أخبرتكم ، وسلوني عن كتاب اللّه ، فواللّه ما من آية إلاّ وأنا أعلم أبليلٍ نزلت أم بنهار ، في سهل أم في جبل ».
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود ، قال : إنّ القرآن أُنزل على سبعة أحرف ، ما منها حرف إلاّ وله ظهر وبطن ، وإنّ عليّ بن أبي طالب عنده منه الظاهر والباطن.
وأخرج أيضاً من طريق أبي بكر بن عيّاش ، عن نصير بن سليمان الأحمسيّ ، عن أبيه ، عن عليّ ، قال : « واللّه ما نزلت آية إلاّ وقد علمت فيم أُنزلت ؟ وأين أُنزلت ؟ أنّ ربّي وهب لي قلباً عقولاً ، ولساناً سؤولاً ». (1)
يقول الذهبي في مكانة « عليّ » في التفسير : جمع علي رضي اللّه عنه إلى مهارته في القضاء والفتوى ، علمه بكتاب اللّه وفهمه لأسراره وخفيّ معانيه ، فكان أعلم الصحابة بمواقع التنزيل ، ومعرفة التأويل ، فقد روي عن ابن عبّاس أنّه قال : ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب عليه السلام. (2)
ص: 312
إنّ الدكتور محمد حسين الذهبيّ جعل علي بن أبي طالب - بحسب كثرة من روى عنه - في الدرجة الثالثة ، وجعل عبد اللّه بن عبّاس في الدرجة الأُولى ، ثمّ ابن مسعود في الدرجة الثانية (1) والرجل بخس حقّ عليّ بخساً بيّناً ، فلو سلّمنا أنّ ما روي عن ابن عبّاس أكثر مما روي عن أمير المؤمنين ، فهل يمكن لنا أن ننكر اعتراف حبر الأُمّة بأنّه تخرّج على يد عليّ بن أبي طالب وأنّ ما أخذ من تفسير القرآن فإنّما أخذه عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام ! كيف لا ، وقد لازم عليّاً قرابة ثلاثين سنة كما هو واضح لمن درس حياته ؟! قال ابن أبي الحديد : ومن العلم علم تفسير القرآن ، وعنه أُخذ ، ومنه فرِّع. وإذا رجعت إلى كتب التفسير علمت صحّة ذلك ، لأنّ أكثره عنه وعن عبد اللّه بن عبّاس. وقد علم الناس حال ابن عبّاس في ملازمته له ، وانقطاعه إليه ، وأنّه تلميذه وخرّيجه. وقيل له : أين علمك من علم ابن عمّك ؟ فقال : كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط. (2)
ومن أراد أن يقف على نموذج من علم الإمام بالتفسير وأقسامه المختلفة ، فعليه الرجوع إلى الخطبة المرويّة عنه حول القرآن وأقسام تفسيره ، وقد رواها القمّي في أوّل كتابه ، وأدرجها البحرانيّ في تفسيره ، عند البحث عن مقدّمات التفسير ، وإليك مستهلّ الخطبة : (3)
« ولقد علم المستحفظون من أُمّة محمّد أنّه قال : إنّي وأهل بيتي مطهّرون ، فلا
ص: 313
تسبقوهم فتضلّوا ، ولا تتخلَّفوا عنهم فتزلُّوا ، ولا تخالفوهم فتجهلوا ، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم. هم أعلم الناس كباراً ، وأحلم الناس صغاراً ، فاتّبعوا الحقّ وأهله حيث كان - إلى أن قال - فالقرآن منه ناسخ ومنسوخ ، ومنه محكم ومتشابه ، ومنه خاصّ وعامٌّ ... » إلى آخر ما ذكر من أقسام ، وأعطى لكلّ قسم مثالاً من القرآن. والخطبة جديرة بالمطالعة ، وهي من خطبه الجليلة ، وربما نسبها الغافل إلى غيره وقد طبعت مع مقدمة قصيرة منسوبة إلى السيّد المرتضى قدس سره باسم « المحكم والمتشابه » ، لكنّه من خطأ الناسخ والطابع.
هذا وإنّ للذهبيّ عثرات كثيرة ، وزلاّت وافرة ، خصوصاً فيما يرجع إلى قضائه في حقّ الشيعة وكتبهم التفسيريّة ، فقد قصّر في أداء الواجب ، وبخس حقّهم ، ولنا مع الرجل موقف آخر نؤدّي فيه حقّ المقال إن شاء اللّه تعالى.
ذكر الذهبيّ مشاهير المفسّرين من الصحابة ، وعدّ منهم - مضافاً إلى من عرفت أسماءهم - أُبيّ بن كعب كما ذكر من مشاهير التابعين : سعيد بن جبير ، مجاهد بن جبر ، عكرمة البربريّ ، عطاء بن رباح ، أبا العالية رفيع بن مهران ، محمّد بن كعب القرظيّ ، علقمة بن قيس ، مسروق بن الأجدع ، الأسود بن يزيد ، مرّة الهمدانيّ ، عامر الشعبيّ ، الحسن البصريّ ، وقتادة الدوسيّ.
ولكنّه تنكّب عن مهيع الطريق ، فلم يعدّ الحسن والحسين ممّن روي عنهما التفسير من الصحابة ، كما لم يعد الإمام زين العابدين ، ومحمّداً الباقر وجعفراً الصادق في التابعين الذين روي عنهم التفسير. وهب أنّه لم يستقص رواة التفسير من الصحابة حتّى يكون له عذر في ترك ذكر الإمامين الهُمامين السبطين الشريفين ، ولكنّه لماذا لم يذكر أئمّة المسلمين وسادة العارفين والصادقين عليهم السلام الذين روي
ص: 314
عنهم العلوم في مجالات شتّى ، وفي التفسير خاصّة ، حتى نقل الناس عن أحدهم ، وهو الإمام جعفر الصادق عليه السلام من العلوم ما سارت به الركبان ، وانتشر ذكره في البلدان.
هذا هو الرازيّ يقول في تفسيره سورة الكوثر : « ثمّ انظر كم كان فيهم ( أولاد الرسول ) من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق ، والكاظم والرضا عليهم السلام والنفس الزكيّة وأمثالهم ». (1)
هذا هو الحسن البصريّ الذي أثنى عليه الذهبيّ ثناءً جزيلاً يكتب إلى السبط الأكبر - الذي أهمل ذكره - قائلاً : « فإنّكم معشر بني هاشم ، الفلك الجاريّة في اللجج الغامرة ، والأعلام النيّرة الشاهرة ، أو كسفينة نوح التي نزلها المؤمنون ، ونجا فيها المسلمون ». (2)
أو ليس عدم الإشادة بذكره وذكر أخيه بخساً لحقّهم ؟! وإن كان الأئمّة الطاهرون الذين أسميناهم ، والذين من بعدهم أعرف من أن يُعرفوا ، وهم روّاد العلم وقادته ، إليهم تنسب كلّ فضيلة غالية ، سواء أتى على ذكرهم الذهبيّ أم لم يأتِ.
من تلقَ منهم تلقَ كهلاً أو فتىً *** علم الهدى ، بحر الندى المورودا
ولأجل ذلك نذكر في مقدم المقال أئمّة الشيعة ، وهم أئمّة المسلمين جميعاً ، وننقل عن كلّ واحد نزراً يسيراً في مجال التفسير ، ومن أراد الاستيعاب في المقام ، فعليه الرجوع إلى كتب التفسير ، بالأثر ، ليجد فيها بُغيته كما يقف بالرجوع إليها على
ص: 315
مدى تقصير القوم - الذهبيّ وأساتذته - في غابر القرون (1) عن الرجوع إليهم ، والإشادة بذكرهم والاستضاءة بأنوارهم.
على أنّنا نختار من المأثورات الكثيرة عنهم في مجال التفسير ما يدور على أحد المحاور الثلاثة : إمّا أن يكون تفسيراً للآية بأُختها ، أو تفسيراً لغويّاً وبيانيّاً ، أو استدلالاً بالآية على مبدأ اعتقاديّ ، وإن كانت ألوان التفسير في رواياتهم متشعّبة.
كان عليه السلام يستخرج محاسن المعاني عن الآيات ممّا يبهر العيون ويحيّر العقول قال صلوات اللّه عليه بعد رحلة الرسول :
1. « كان في الأرض أمانان من عذاب اللّه ، وقد رفع أحدهما فدونكم الآخر فتمسّكوا به ، أمّا الأمان الذي رفع فهو رسول اللّه ، وأمّا الأمان الباقي فهو الاستغفار ، قال اللّه تعالى : ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) ». (2)
2. ومن محاسن الاستخراج ولطائف الاستنباط قضاؤه في أقلّ الحملِ ، وفهمه من كتاب اللّه سبحانه ما يلي :
« أخرج الحافظان أبو حاتم والبيهقيّ عن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي : أنّ عمر بن الخطاب رفعت إليه امرأة ولدت لستّة أشهر فهمّ برجمها. فبلغ ذلك
ص: 316
عليّاً ، فقال : « ليس عليها رجم » فبلغ ذلك عمر فأرسل إليه ، فسأله ، فقال : قال اللّه تعالى : ( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ) وقال : ( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ) فستة أشهر حمله ، وفصاله في حولين ، وذلك ثلاثون شهراً فخلّى عنها ، فقال عمر : اللّهمّ لا تبقني لمعضلة ليس لها ابن أبي طالب. (1)
3. سأل يهوديّ عليّاً عليه السلام عن مدّة لبث أصحاب الكهف ، فقال : ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ) . فقال اليهودي : إنّا نجد في كتابنا : ثلاثمائة ، فقال عليه السلام : « ذاك بسنيّ الشمس ، وهذا بسنيّ القمر ». (2) وبذلك بيّن الإمام وجه عدول الآية عن التعبير الرائج في أمثال المقام إلى ما ورد فيها ، فإنّ التعبير الرائج فيها هو فلبثوا في كهفهم ثلاثمائة وتسع سنين ، ولكنّه عبّر عنه بقوله : ( وَازْدَادُوا تِسْعًا ) ، وما هذا إلاّ للإشارة إلى أنّ التعبيرين كليهما صحيحان ، واحد منهما بالسنوات الشمسيّة ، والآخر بالقمريّة.
وكم لعليّ عليه السلام من هذه المواقف في استخراج حكم الوقائع من كتاب اللّه وسنّة نبيّه ، وكم له من حلّ للمعضلات من الأُمور عن طريق تفسير الكتاب ، وبما أنّها مبثوثة في الكتب ، مشهورة بين المحدّثين والمفسّرين اكتفينا بهذه النماذج.
الحسن بن علي هو السبط الأكبر ، وريحانة رسول اللّه ، ووارث علم أبيه ، وحامل راية الإمامة بعده ، بتنصيص من الرسول والوالد ، وقد أُثر عنه في مجال
ص: 317
التفسير ما تعلو عليه القوّة والجدارة ، رغم ما منيت به آثاره من إعراض وإنكار. وإليك نماذج من آرائه في القرآن وتفسيره :
« إنّ هذا القرآن فيه مصابيح النور ، وشفاء الصدور ، فليجلُ جالٍ بضوئه ، وليلجم الصفة قلبه ، فإنّ التفكير حياة القلب البصير ، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور ».(1)
« ما بقي من الدنيا بقيّة غير هذا القرآن ، فاتخذوه إماماً يدلّكم على هُداكم ، وإنّ أحقّ الناس من عمل به ، وإن لم يحفظه ، وأبعدهم من لم يعمل به ، وإن كان يقرأه ».(2)
« إنّ هذا القرآن يجيء يوم القيامة قائداً وسائقاً : يقود قوماً إلى الجنّة ، أحلّوا حلاله ، وحرّموا حرامه ، وآمنوا بمتشابهه ؛ ويسوق قوماً إلى النار ، ضيّعوا حدوده وأحكامه ، واستحلّوا محارمه ».(3)
« من قال في القرآن برأيه ، فأصاب ، فقد أخطأ ».(4)
وإليك نماذج ممّا روي عنه في مجال التفسير :
1. سئل عليه السلام عن معنى الشاهد والمشهود ، في قوله سبحانه : ( وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ )(5)فقال : أمّا الشاهد فمحمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وأمّا المشهود فيوم القيامة ، أما سمعته يقول : ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ... ) (3). وقال تعالى : ( ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ) (4).(5)وهذا كما ترى تفسير للقرآن بالقرآن ، وكم له من نظائر في أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم السلام.
ص: 318
2. وسئل عن تفسير قوله تعالى : ( ... آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً ) قال : هي العلم والعبادة في الدنيا ، والجنّة في الآخرة ».(1)فقد نبّه الإمام في كلامه هذا إلى ما يغفل عنه أكثر العامة ، إذ أيّة حسنة أعلى من العلم والمعرفة ، وعبادته سبحانه في الدنيا ؟ وثمرة المعرفة هي الطاعة والعبادة.
3. كان الحسن بن عليّ إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه ، وقال : « إنّ اللّه جميل ، ويحبّ الجمال ، فأتجمّل لربّي ، وقرأ : ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) » (2). (3) فالصلاة وفود العبد إلى اللّه سبحانه ، فيليق بالوافد أن يحضر بأجمل الحالات ، وأحسن الأوضاع ، لأنّ الموفود إليه مالك الملك والملكوت.
الإمام السبط الشهيد ريحانة رسول اللّه ، وسبطه الأصغر ، وهو من أهل بيت النبوّة بنصّ من النبيّ الأكرم ، وقد استشهد عام 61 ه في أرض الطفّ بيد الجور والعدوان. وقد عاصر الإمام خلافة معاوية عشر سنين ، وكانت سياسة ذلك الداهية هي سياسة القمع والإرهاب فلم ينتشر من الإمام إلاّ بعض خطبه ورسائله ، وكلماته الحكيمة. ومع ذلك ففي هذا النزر اليسير الذي أفلت من يد الأيّام ، الحجة البالغة والبرهان اللائح على أنّه وارث علم النبيّ وعلم أبيه ، كيف وهو من الثقلين اللّذين أمر النبيّ بالتمسّك بهما ؟ وإليك نماذج ممّا أُثر عنه في مجال التفسير :
1. كتب أهل البصرة إليه يسألونه عن « الصمد » فكتب إليهم : « بسم اللّه
ص: 319
الرّحمن الرّحيم ، أمّا بعد ؛ فلا تخوضوا في القرآن ، ولا تجادلوا فيه بغير علم ، فقد سمعت جدّي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول : من قال في القرآن بغير علم ، فليتبوّأ مقعده من النار ، وإنّ اللّه سبحانه قد فسّر الصمد ، فقال : ( اللّهُ أَحَدٌ * اللّهُ الصَّمَدُ ) ثمّ فسره فقال : ( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) . لم يلد : لم يخرج منه شيء كثيف كالولد ، وسائر الأشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين ، ولا شيء لطيف كالنفس ، ولا يتشعّب منه البدوات كالسنة ، والنوم ، والخطرة ، والهمّ ، والحزن ، والبهجة ، والضحك ، والبكاء ، والخوف ، والرجاء ، والرغبة ، والسأمة ، والجوع ، والشبع ، تعالى أن يخرج منه شيء ، وأن يتولّد منه شيء كثيف أو لطيف ... بل هو اللّه الصمد الذي لا من شيء ، ولا في شيء ، ولا على شيء. مبدع الأشياء وخالقها ، ومنشئ الأشياء بقدرته ، يتلاشى ما خلق للفناء بمشيئته ، ويبقى ما خلق للبقاء بعلمه ، فذلكم اللّه الصمد الذي لم يلد ولم يولد ، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ».(1)
2. سأله رجل عن معنى قوله سبحانه : ( يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ )(2)فقال عليه السلام : « إمام دعا إلى اللّه فأجابوه إليه ، وإمام دعا إلى الضلالة فأجابوه إليها. هؤلاء في الجنة ، وهؤلاء في النار. وهو قول اللّه عزّ وجلّ : ( فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ )(3)(4)
3. سأله نضر بن مالك ، وقال : يا أبا عبد اللّه حدِّثني عن قول اللّه عزّ وجلّ : ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ )(5)فقال عليه السلام : « نحن وبنو أُمية اختصمنا
ص: 320
في اللّه عزّ وجلّ ، قلنا : صدق اللّه ، وقالوا : كذب اللّه. فنحن وإيّاهم الخصمان يوم القيامة ».(1)والإمام فسر الآية بالتنبيه على المصداق الواضح. وعلى هذا جروا في تفسيرهم للآيات القرآنية ، فهم يفسّرونها بمصاديق واضحة ، وجزئيّات خاصّة ، ولا يريدون انحصار مفهومها فيه.
4. سئل عن معنى قول اللّه : ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ )(2)فقال عليه السلام : « أمر النبيّ أن يحدّث بما أنعم اللّه به عليه في دينه ».(3)وقد لفت الإمام في هذا التفسير نظر السائل إلى أظهر مصاديق النعمة وأكملها ، بما ربما يغفل عنه الإنسان ، ويتصوّر أنّ النعم التي يجب التحدّث بها هي النعم الدنيويّة ، مع أنّها ضئيلة في مقابل النعم الأُخرويّة ، فقد قلنا : إنّ هذا النمط من التفسير في كلامهم كثير ، وهذا التفسير هو ما يسمّيه العلاّمة الطباطبائي بالجري والتطبيق. ولا يراد انحصار الآية في المصداق الخاصّ ، وربما يتصوّر الجاهل بأنّ هذا النوع من التفسير تفسير بالرأي أو تفسير بالباطن ، غافلاً عن أنّه تفسير بالمصداق والتطبيق ، لأنّ إعطاء الضابطة بالمثال أوقع في النفوس ، وأقرب إلى ترسيخها فيها ، خصوصاً إذا كان المصداق ممّا يغفل عنه المخاطب.
هذه نماذج ما روي عن الإمام السبط الشهيد ، حسين الإباء والعظمة أبي الشهداء ، سلام اللّه عليه سلاماً لا نهاية له.
الإمام زين العابدين ، إمام العارفين ، وقائد الزاهدين ، وسيّد الساجدين ،
ص: 321
رابع أئمّة العصمة والطهارة ، ولد بالمدينة المنورة سنة ستّ وثلاثين من الهجرة يوم فتح البصرة ونزول النصرة على أبي الأئمّة ، وتوفّي فيها سنة خمس وتسعين مسموماً ، ودفن بالبقيع ، وعاش مع جدّه عليّ أربع سنين ، ومع عمّه الحسن عشر سنين ، ومع أبيه كذلك ، إلى أن استلم الوصاية والولاية من أبيه.
ومن آثاره الباقية أدعيته المعروفة بالصحيفة السجاديّة ، وقد بلغت في جزالة اللفظ ، وبلاغة التعبير ، وجودة السبك ، ورقة المعاني ، ولطافة المفاهيم مبلغاً ، لا يدرك شأوه. كما روي عنه عليه السلام أحاديث وافرة في مجال التفسير ، ونأتي بنماذج قليلة منها ليكون مثالاً لما لم ننقله عنه :
1. كان التقشّف سائداً على زهاد عصره ، فيتخيّلون أنّ الزهد في ترك ملاذّ الحياة وملابسها ، ولبس الثوب الخشن ، وأكل الطعام الجشب ، مع أنه من مظاهر الزهد لا من مقوماته وحقيقة الزهد يرجع إلى أن لا يملك الإنسان شيء ، فجاء رجل ، فسأله عن الزهد ، فقال : إنّ الزهد كلّه في آية من كتاب اللّه : ( لِّكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ )(1).(2)
فكان يشتري كساء الخزّ بخمسين ديناراً ، ويقول : ( مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ )(3).(4)
وعلى هذا مشى الأئمّة فكان الحسن السبط - كما عرفت - إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه ، فقتل الحسين وعليه جبّة خزّ ، وكان للإمام الصادق عليه السلام جبّة خزّ وطيلسان خزّ ، فإذا سئل عن لبسه قرأ قوله سبحانه : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ
ص: 322
اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ) . (1)
فالجاهل ينظر إلى الصور والظواهر ، ويغترّ بها ، ويتخيّل أنّ كلّ متقّشّف خشن الثوب والطعام زاهد ، وإن ملأ قلبه حبُّ الدنيا والرئاسة. والمؤمن ينظر إلى النيّات والبواطن ، فمن كان قلبه فارغاً عن كلّ شيء إلاّ حبّه سبحانه ، فهو زاهد بتمام معنى الكلمة ، ولكن من علّق قلبه بثوب خلق ، وعصاًبالية ، فهو راغب غير زاهد.
2. سئل علي بن الحسين عن قوله سبحانه : ( وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ) فقال : « معناه بيّنه تبياناً ، ولا تنثره نثر البقل ، ولا تهذّه هذّا الشعر (2) فقفوا عند عجائبه ، لتحرّكوا به القلوب ، ولا يكون همّ أحدكم آخر السورة ». (3)
3. قال سعيد بن جبير : سألت عليّ بن الحسين عليهما السلام عن قول اللّه تعالى : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) ، قال : « هي قرابتنا أهل البيت ». (4) إنّ الآيات القرآنيّة تشهد على أنّ شعار الأنبياء في طريق دعوتهم كان دائماً هو رفض الأجر ، وعدم طلبه من الأُمّة ، وكلّهم يهتفون بهذا ( إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ) . (5)
وعند ذلك كيف يصحّ للنبيّ أن يبدّل هذا الشعار ، ويجعل مودّة أقربائه أجراً على رسالته ؟! والجواب عن هذا السؤال واضح. فإنّ المراد هي الأُجور
ص: 323
الدنيوية التي كان بإمكان البشر تقديمها إلى الرسل. وأمّا مودّة أهل بيتهم وولائهم فليس أجراً دنيويّاً ، بل الاتّصال بهم من خلال هذه المودّة ذريعة لتكامل الأُمّة في المراحل الفكريّة والعمليّة ، فعندئذٍ تنتفع بها الأُمّة الإسلاميّة قبل أن تنتفع بها العترة ، وفي هذه الصورة لا تكون المودّة في القربى أجراً ، وإن أُخرجت في الآية بصورة الأجر. ومن المعلوم أنّ الأُمّة الإسلاميّة إنّما تنتفع ببعض أقرباء النبيّ لا كلّهم ، وهم أهل بيته الذين طهّرهم اللّه عن الرجس.
4. روى ابن كثير في تفسيره ذكر ما جرى بين الإمام والرجل الشاميّ ، يوم جيء به أسيراً إلى الشام ، وقال له عن جهل بالإمام : الحمد لله الذي قتلكم ، فقرأ عليّ بن الحسين عليه آيات من القرآن ومنها هذه الآية ، وقال : « نحن قرابته ».(1)
الإمام محمّد الباقر عليه السلام من أعلام أئمّة أهل البيت عليهم السلام ، وأفذاذ العترة الطاهرة ، قام بالإمامة والقيادة الروحيّة بعد أبيه زين العابدين ، ولد عام ( 57 ه ) ولبّى دعوة ربّه عام ( 114 ه ) ، وقد وقف حياته كلّها لنشر العلم والحديث بين الناس ، ولم يعرف التاريخ له مثيلاً إلا ولده البارّ جعفر الصادق ، وقد غذّى رجال الفكر ، وروّاد العلم بعلمه ، وأرسى مدرسة كبيرة علميّة ، زخرت بكبار الفقهاء والمحدّثين والمفسّرين ، يقف عليها من درس رجال الحديث في الشيعة ، كما صرف قسماً كبيراً من عمره في تفسير القرآن ، وقد تخرّج عليه لفيف من المفسّرين.
فهذا أبو الجارود زياد بن المنذر فسّر القرآن من أوّله إلى آخره.
ص: 324
يقول النجاشي : له كتاب تفسير القرآن ، رواه عن أبي جعفر عليه السلام.(1)
وقال ابن النديم في « الفهرست » ، عند عرضه للكتب المؤلّفة في تفسير القرآن : « كتاب الباقر محمد بن علي بن الحسين رواه عنه أبوالجارود ، زياد بن المنذر »(2)قد روي قسم منه في تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي ، وسنوافيك بأسماء لفيف من تلامذته ، وخرّيجي مدرسته ، ممّن ألّفوا في مجال التفسير كتاباً ، فانتظر.
1. سئل الإمام عن معنى قوله سبحانه : ( وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى )(3)وما هو المراد من غضب اللّه ؟ فأجاب الإمام : « طرده وعقابه ».(4)وبذلك أعرب الإمام عن أنّ الصفات الخبريّة ، كالغضب والرضا ، واليد والعين ، وغير ذلك إنّما تجري على اللّه سبحانه ، مجرّدة عن لوازم المادّة والجسمانيّات ، فلا مناصَ من تفسيره بمظاهر الغضب ، وهو الطرد والعقاب.
2. سأل بريد العجليّ الإمام الباقر عليه السلام عن الملك العظيم في قوله تعالى : ( فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا )(5)فقال : « الملك العظيم أن جعل فيهم أئمّة من أطاعهم أطاع اللّه ، ومن عصاهم فقد عصى اللّه ، فهو الملك العظيم ».(6)فقد نوّه الإمام بتفسيره هذا أنّ الملك العظيم في لسان الشرع ليس هو السلطة الجبّارة التي تركب رقاب الناس ، من دون أن تكون لها أيّة مشروعيّة ، وإنّما الملك العظيم من استند في سلطته إلى اللّه سبحانه تكون طاعته
ص: 325
طاعته ، وعصيانه عصيانه.
3. روى جابر الجعفي أنّه سأل الإمام عليه السلام عن قوله سبحانه : ( لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) .(1)فقال الإمام : « ما يقول فقهاء العراق في هذه الآية ؟ » قال جابر : رأى يعقوب عاضاً على إبهامه ، فقال عليه السلام : « حدّثني أبي عن جدّي علي بن أبي طالب عليه السلام : أنّ البرهان الذي رآه أنّها حين همّت به وهمّ بها ، فقامت إلى صنم ، فسترته بثوب أبيض خشية أن يراها ، أو استحياءً منه. فقال لها يوسف : تستحين من صنم لا ينفع ولا يضر ولا يبصر ؟ أفلا أستحي أنا من إلهي الذي هو قائم على كلّ نفس بما كسبت ؟ ثمّ قال : واللّه لا تنالين منّي أبداً ! فهو البرهان ».(2)
4. جلس قتادة المفسّر المعروف بين يدي الإمام الباقر عليه السلام وقال له : لقد جلست بين يدي الفقهاء ، وقدّام ابن عبّاس فما اضطرب قلبي قدّام واحد منهم ما اضطرب قدّامك. قال له أبو جعفر الباقر عليه السلام : « ويحك أتدري أين أنت ؟ أنت بين يدي ( بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ )(3)فأنت ثمّ ونحن أُولئك » ، فقال له قتادة : صدقت واللّه - جعلني اللّه فداك - ما هي بيوت حجارة ولا طين.(4)
5. روى جابر بن يزيد الجعفيّ عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه سئل عن قوله سبحانه : ( وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ )(5)فقال : « المقصود دين اللّه ».(6)إنّ تفسير « خلق اللّه » ب « دين اللّه » ليس
ص: 326
بأمر غريب ، كيف لا ؟ وقد أسمى سبحانه دين اللّه فطرة اللّه ، وقال : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) . (1)
6. إنّ مذهب الإمام في صلاة المسافر هو لزوم التقصير ، لا التخيير بينه وبين الإتمام ، كما عليه أئمّة المذاهب الأُخرى. فسأله بطلان من تلامذته - زرارة ومحمد بن مسلم - عن معنى قوله سبحانه : ( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) (2) وقالا : كيف صار التقصير في السفر واجباً واللّه سبحانه يقول : ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ) . ولم يقل : افعَلُوا ؟ ( فالإمام فسر الآية بأُختها ) ، فقال : أو ليس قال اللّه : ( إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ) (3) ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض ، وأنّ اللّه عزّ وجلّ ذكره في كتابه ، وصنعه نبيّه ، وكذلك التقصير في السفر شيء صنعه النبيّ وذكره اللّه تعالى في كتابه. (4)
7. اختلفت كلمة الفقهاء في وجوب استيعاب الرأس عند المسح أو كفاية البعض ، فقد سأل زرارة الإمام الباقر عليه السلام عن ذلك ، قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام : ألا تخبرني من أين علمت ، وقلت ، إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين ؟ فضحك ، فقال : يا زرارة قاله رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، ونزل به الكتاب من اللّه عزّوجلّ ، لأنّ اللّه عزّوجلّ قال : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أن
ص: 327
يُغسل ، ثمّ قال : ( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ ) فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه ، فعرفنا أنّه ينبغي لهما ، أن يُغسلا إلى المرفقين ، ثمّ فصل بين الكلام فقال : ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ) فعرفنا حين قال : ( بِرُءُوسِكُمْ ) أنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء ، ثمّ وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه ، فقال : ( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح على بعضهما ، ثمّ فسّر ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم للناس فضيّعوه ... . (1)
الإمام أبو عبد اللّه جعفر الصادق عليه السلام من أبرز أئمّة المسلمين ، ولد في حجر الرسالة ، ونشأ في بيت النبوّة ، وترعرع في ربوع الوحي ، وتربّى بين جدّه زين العابدين ، وأبيه الإمام الباقر عليه السلام ولد عام ( 83 ه ) ، واستشهد في خلافة المنصور عام (148). نشأ في عصر تنازعت فيه الأهواء ، واضطربت فيه الأفكار ، وتلاطمت أمواج الظلم والإرهاب. فبينما كان القوم يتنازعون في الرئاسة ، والتسنّم على عرش الخلافة ، واشتعلت نيران الحرب بين الأمويّين والعباسيّين ، اغتنم عليه السلام الفرصة وأعطى للأُمّة دروساً خالدة ، وغذّى تلاميذه بروح العلم والتفكير ، وغرس في قلوبهم بذور المعارف الإلهية ، وشحذ أذهانهم ، وأرهف طباعهم ، فتخرّج من مدرسته أعلام يستضاء بأنوارهم.
وقد نقل المؤرّخون أنّه « نقل الناس عن الصادق عليه السلام من العلوم ما سارت به الركبان ، وانتشر ذكره في البلدان ، ولم ينقل عن أحد من أهل بيته صلى اللّه عليه وآله وسلم العلماء ما نقل عنه ، ولا لقي أحد منهم من أهل الآثار ونقلة الأخبار ، ولا نقلوا عنهم مثلما
ص: 328
نقلوا عن أبي عبد اللّه ، فإنّ أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات ، على اختلافهم في الآراء والمقالات ، فكانوا أربعة آلاف رجل »(1)وهم بين فقيه بارع ، يفتي الناس في مسجد المدينة ، كأبان بن تغلب(2)ومفسّر متضلّع ، ومحدّث واعٍ ، إلى غير ذلك ، حفظ التاريخ والرجال أسماءهم وللإمام خطوات واسعة في التفسير ، وآثار خالدة جمعها بعده تلامذته ، وسنشير إليها عند البحث عن مفسري الشيعة في القرون الإسلامية. وإليك نزراً يسيراً من تفسيره ، حتى يكون نموذجاً من الينبوع المتفجّر ، ونمير علمه الصافي :
1. لقد كانت الزنادقة في عصر الصادق عليه السلام بصدد التشكيك في العقائد ، وبذر الشُّبه في الأوساط. وممّا كان تلوكه أشداقهم هو ما سأله ابن أبي العوجاء ، هشام بن الحكم فقال له : فأخبرني عن قول اللّه عزّوجلّ : ( فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً )(3)أليس هذا فرض ؟ قال هشام : بلى. وقال : فأخبرني عن قوله عزّ وجلّ : ( وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالمُعَلَّقَةِ )(4)فقال ابن أبي العوجاء أيّ حكيم يتكلّم بهذا ؟
فرحل هشام إلى المدينة ، وقصد دار الإمام الصادق عليه السلام ، فقال : « يا هشام في غير وقت حجّ ولا عمرة ؟ » قال : نعم - جعلت فداك - لأمر أهمّني. إنّ ابن أبي العوجاء سألني عن مسألة ، لم يكن عندي فيها شيء قال : وما هي ؟ قال : فأخبره بالقصّة ، فقال الإمام : « فأمّا الآية الأُولى فهي في النفقة ، وأمّا الآية الثانية فإنّما
ص: 329
عنت المودّة ، فإنّه لا يقدر واحد أن يعدل بين امرأتين في المودّة ». فقدم هشام بالجواب وأخبره. قال ابن أبي العوجاء : واللّه ما هذا من عندك. وفي حديث آخر قال : هذا حملته من الحجاز.(1)
2. إنّ قوله سبحانه : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى )(2)ممّا اضطرب فيه كلمات المفسّرين في تبيينها ، وذهب كلّ إلى مذهب ورأي. ولكنّ الإمام الصادق عليه السلام فسّرها بوجه واضح ينطبق على ظاهر الآية ، فعندما سأل عبد اللّه بن سنان عن قول اللّه عزّوجلّ : ( فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا )(3)ما تلك الفطرة ؟ قال : « هي الإسلام ، فطرهم اللّه حين أخذ ميثاقهم على التوحيد ، قال : ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ) وفيه المؤمن والكافر ». وقد فسّر الإمام آية الذرّ بآية الفطرة ، وبيّن أنّه لم يكن هناك أيُّ كلام عن الاستشهاد والشهادة اللفظيّين.
وجاء في رواية أُخرى رواها أبو بصير قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام كيف أجابوا وهم ذرّ ؟ قال : « جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه ».(4)
وبذلك أعرب الإمام عن مفاد الآية ، وبيّن أنّ الآيتين تهدفان إلى معنى واحد ، وهو أنّ كلّ إنسان في بدء تكوّنه وظهوره ، ينطوي فطريّاً تكوينيّاً على السرّ الإلهي ، أعني : التوحيد ، منذ أن كان موجوداً ذرّياً صغيراً في رحم أُمّه ، وكأنّ أوّل خلية إنسانيّة تستقرّ في رحم الأُمّ تنطوي على هذه الوديعة الإلهيّة ، وهي الشعور الطبيعيّ باللّه ، والانجذاب إليه ، وكأنّ جينات الخليّة لدى كلّ إنسان تحمل بين
ص: 330
جوانحها هذه الخاصيّة الروحيّة ، وأنّ هذه الخاصيّة تنمو وتتكامل مع تكامل الخليّة ونموّها.
وبهذا البيان أغنى الإمام الأُمّة عن كثير من الوجوه المذكورة في الآية التي لا تنطبق على ظاهرها ، وأوضح أنّ المفاد هو كون الإنسان مفطوراً على التوحيد.
3. كانت المرجئة من أخطر الطوائف الإسلاميّة على شباب المسلمين ، حيث ذهبوا إلى أنّ الإيمان قول بلا عمل ، ونيّة بلا فصل ، وأنّه لا يزيد ولا ينقص ، وبذلك أعطوا للعصاة الضوء الأخضر حتى يقترفوا المعاصي الكبيرة ، والآثام الموبقة ، من دون أن يكون لذاك تأثير على إيمانهم. وقد حذّر الإمام في خطبه وكلمه الشيعة من هذه الطائفة ، وقال : « بادروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة ».
وعند ما سأل أبو عمرو الزبيريّ الإمام الصادق عن الإيمان قائلاً : هل هو عمل أو قول بلا عمل ؟ يجيب الإمام قائلاً : « الإيمان عمل كلّه ، والقول بعد ذلك العمل ». ثمّ عندما يسأله هل الإيمان يتمّ وينقص ويزيد ؟ يقول الإمام : « نعم ». فقال السائل : فما الدليل على أنّه يزيد ؟ فقال : « قول اللّه عزّوجلّ : ( وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ )(1)وقال سبحانه : ( نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى )(2)فلو كان الإيمان واحداً ، لا زيادة فيه ولا نقصان ، لم يكن لأحدٍ منهم فضل على الآخر ».(3).
ص: 331
4. روى مسعدة بن صدقة ، قال : قيل لأبي عبد اللّه عليه السلام : إنّ الناس يروون أنّ عليّاً عليه السلام قال على منبر الكوفة : أيّها الناس ؛ إنّكم ستُدعَون إلى سبّي ، ثمّ تُدعون إلى البراءة منّي ، فلا تبرّأوا منّي ، فقال الإمام الصادق عليه السلام : « ما أكثر ما يكذب الناس على عليّ عليه السلام ، ثمّ قال : إنّما قال : إنّكم ستدعون إلى سبّي ، فسبّوني ثمّ تدعون إلى البراءة منّي ، وإنّي لعلى دين محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم ولم يقل : ولا تبرّأوا منّي » فقال له السائل : أرأيت إن اختار القتل دون البراءة ؟ قال : « واللّه ما ذلك عليه ، وما له إلاّ ما مضى عمار بن ياسر ، حيث أكرهه أهل مكّة وقلبه مطمئن بالإيمان ، فأنزل اللّه عزّ وجلّ : ( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) ، فقال له النبيّ عندها : يا عمّار إن عادوا فعد ، فقد أنزل اللّه عزّوجلّ عذرك ( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) وآمرك أن تعود إن عادوا ». (1)
ترى أنّ الإمام يرجع الحديث إلى الآية ، ويقضي بها في حقّه ، وأنّه كيف لا يجوز البراءة مع أنّ عماراً ، حسب الرواية ، وظهور الآية ، تبرّأ من النبيّ ، ولم يكن عليه شيء قال سبحانه : ( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) ، وأئمّة الشيعة - مع شدّة تركيزهم على هذا الموقف ، من إرجاع الأحاديث المشكوكة إلى القرآن ، فما خالف منها القرآن ، يضرب عرض الجدار - قاموا بتطبيق هذا المبدأ عمليّاً في غير واحد من الأحاديث التي لا يسع المقام ذكرها.
5. وقد ورد « الفقراء والمساكين » في آية الصدقات ، وجعلا من الأصناف الثمانية الذين تقسّم الزكاة بينهم. وأمّا الفرق بين الصنفين ، فقد كثر البحث فيها بين الفقهاء تبعاً للمفسّرين ، ولكنّ الإمام الصادق عليه السلام يفسّر الفقراء في ضوء ما يمليه الذكر الحكيم ، ويقول في تفسير قوله سبحانه : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ
ص: 332
وَالمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .(1)
« أخرج اللّه من الصدقات جميع الناس ، إلاّ هذه الثمانية الأصناف الذي سمّاهم ، والفقراء هم الذين لا يسألون الناس ، وعليهم مؤونات من عيالهم ، والدليل على أنّهم لا يسألون قول اللّه : ( لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ... )(2)، والمساكين هم أهل الزمانة من العميان والعرجان والمجذومين ، وجميع أصناف الزمنى من الرجال والنساء والصبيان ... ».(3)
والإمام - كما ترى - يفسّر الآية بالآية ، والقرآن بالقرآن ، وكم له من نظير في أحاديثهم عليهم السلام ؟ وهذا من أحسن الطرق ، وأتقنها للتفسير ، ولو قام باحث بجمع ما أُثر عنهم في ذاك المجال لجاء بكتاب.
6. قال الصادق عليه السلام : « ما من شيء إلاّ وله حدّ ينتهي إليه ، إلاّ الذكر فليس له منتهى إليه. فرض اللّه عزّوجلّ الفرائض ، فمن أدّاهنّ فهو حدّهنّ ، وشهر رمضان ، فمن صامه فهو حدّه ، والحجّ فمن حجّ فهو حدّه ، إلاّ الذكر فإنّ اللّه عزّوجلّ لم يرضَ منه بالقليل ، ولم يجعل له حدّاً ينتهي إليه. قال اللّه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ) .(4)لم يجعل له حدّاً ينتهي إليه.(5).
ص: 333
والروايات المأثورة عن الإمام الصادق عليه السلام في مجال التفسير كثيرة ، لا يحيط بها إلاّ من صرف شطراً كبيراً من عمره في علم المأثور عنهم.
ثمّ إنّ هناك جماعة من غير الشيعة رموا الروايات المرويّة عن الباقر والصادق عليهما السلام في مجال التفسير بالطائفية ، وأنّها تخرج الكتاب العزيز عن كونه كتاباً عالمياً ، إلى كتاب طائفيّ ، لا يهمّه إلاّ أهل البيت ، وفي مقدّمتهم الإمام عليّ ابن أبي طالب عليه السلام ، وسيوافيك الجواب عن هذا الاعتراض ، وسنثبت هناك أنّ هؤلاء الناقدين لم يفرقوا بين « التفسير » و « التطبيق » وبين « التنزيل » و « التأويل » ، وأنّ لأئمّة أهل البيت عليهم السلام موقفين متغايرين في تبيين الذكر الحكيم. وسيوافيك توضيحه في خاتمة الفصل ، فانتظر.
إنّ الإمام الكاظم عليه السلام هو الإمام السابع عند الشيعة ، وقد قام بأمر الإمامة بإيصاء من أبيه الإمام جعفر الصادق عليه السلام وقد روى عنه لفيف من محدّثي الأُمّة وعلمائها ، وروت الشيعة عنه أحاديث كثيرة في المعارف العامّة ، والتفسير والفقه والأخلاق ، وقام الباحث عزيز اللّه العطاردي بجمع ما أُثر عنه في كتاب مستقلّ أسماه مسند الإمام الكاظم ، وقد طبع ونشر في ثلاثة أجزاء ، وخصّ باباً مفرداً في التفسير ، ذاكراً فيه كلّ ما روي عنه في هذا الصعيد على ترتيب السور ، ونقتطف منه - مع الإشارة إلى مصادره - قليلاً من كثير ليكون نماذج من تفسيره.
1. روى سليمان الفرّاء عنه عليه السلام في تفسير قوله تعالى : ( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) . قال : الصبر : الصوم ، إذا نزلت بالرجل الشدة أو النازلة فليصم.
ص: 334
قال : اللّه تعالى يقول : ( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) .(1)الصبر : الصوم ».(2)
وهذا تفسير للآية ببعض المصاديق الخفيّة ، وكم له من نظير في تفسير أئمّة أهل البيت.
2. روى محمد بن الفضل عنه عليه السلام في تفسير قوله سبحانه : ( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) .(3)قال : « من اجتنب ما وعد اللّه عليه النار ، إذا كان مؤمناً كفّر اللّه عنه سيّئاته ».(4)
3. روى عمر بن إبراهيم أخو العباسي قال : سألت الإمام الكاظم عليه السلام عن قول اللّه عزّوجلّ : ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) .(5)فقال : « تجدّد لهم النعم مع تجديد المعاصي ».(6)فما أخصر كلامه وأبلغ معناه ! في تبيين معنى الاستدراج.
4. روى أحمد بن عمير عن أبي الحسن الإمام الكاظم عليه السلام قال : سئل عن قول اللّه عزّ وجلّ : ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ ) .(7)قال : « إنّ أعمال العباد تعرض على رسول اللّه كلّ صباح أبرارها ، وفجّارها فاحذروا »(8)وعلى ذلك فالمراد من « المؤمنون » طبقة خاصّة منهم ، ولا يعم كلّ من يطلق عليه المؤمن ، كما ورد في تفسير الشهداء في رواية الإمام الصادق عليه السلام .(9).
ص: 335
هذه نماذج من تفسير الإمام ، فمن أراد التوسّع فليرجع إلى مسند الإمام الكاظم عليه السلام .
الإمام الرضا ، عالم الأُمّة وإمامها ، ولد عام ( 148 ه ) ، وقبض في صفر سنة ( 203 ه ) ، وقد انتشر عنه العلم ما لم ينتشر من غيره من الأئمّة سوى الصادق عليهما السلام ، وقد أُتيحت له الفرصة ، ولم تعارضه السلطة ، فناظر أحبار اليهود ، وبطارقة النصارى ، والمجسّمة ، والمشبّهة من أصحاب الحديث ، فظهر برهانه ، وعلا شأنه. يقول كمال الدين بن طلحة في حقّه : نما إيمانه ، وعلا شأنه ، وارتفع مكانه ، وظهر برهانه ... فمهما عدّ من مزاياه كان عليه السلام أعظم منه ، ومهما فصّل من مناقبه كان أعلى رتبة منه.(1)
كان عليه السلام يعيش في عصر تفتّحت فيه العقول ، وانتشرت بذور الشكّ والضلال بين المسلمين عن طريق احتكاك الثقافتين الإسلاميّة والأجنبيّة ، وانتشار تراجم الكتب اليونانيّة والهنديّة والفارسيّة ، وكان جبلاً صامداً في وجه الآراء الساقطة المضادة للكتاب والسنّة ، وسيوافيك بعضها :
1. روى صفوان بن يحيى قال : سألت الرضا عليه السلام عن قول اللّه عزّ وجلّ لإبراهيم : ( أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي )(2)أكان في قلبه شك ؟ قال : « لا ، كان على يقين ، ولكنّه أراد من اللّه الزيادة في يقينه ».(3)
2. روى ابن الفضيل عن الرضا عليه السلام قال : سألته عن قول اللّه : ( إِذَا حَضَرَ
ص: 336
أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) .(1)قال : « اللّذان منكم مسلمان ، واللّذان من غيركم من أهل الكتاب ، فإن لم تجدوا من أهل الكتاب فمن المجوس ، لأنّ رسول اللّه ، قال : سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب ، وذلك إذا مات الرجل المسلم بأرض غربة فطلب رجلين مسلمين يشهدهما على وصيّته ، فلم يجد مسلمين يشهدهما فرجلين من أهل الكتاب مرضيّين عند أصحابهما ».(2)
قد شاع الجبر والقدر في عصر الإمام الرضا عليه السلام ، فمن قائل بالجبر السالب للاختيار الجاعل الإنسان مكتوف الأيدي أمام الميول والاحاسيس ، ومن قائل بالتفويض يصوّر الإنسان خالقاً ثانياً لأعماله ، غير أنّ « شبهة الجبر » كانت أرسخ في النفوس من « شبهة التفويض » ، فهلمّ معي نرى كيف يفسر الآيات التي جعلت ذريعة إلى الجبر عند الحشوية.
3. روى إبراهيم بن أبي محمود قال : سألت أبا الحسن عليه السلام عن قول اللّه تعالى : ( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ )(3)فقال : « إنّ اللّه تعالى وتبارك لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه ، ولكنّه متى علم أنّهم لا يرجعون عن الكفر والضلال ، منعهم المعاونة واللطف وخلّى بينهم وبين اختيارهم ». قال وسألته عن قول اللّه عزّوجلّ : ( خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ )(4)قال : « الختم هو الطبع على قلوب الكفّار عقوبة على كفرهم ، كما قال عزّوجلّ : ( بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ) »(5).(6)ترى أنّه عليه السلام
ص: 337
يفسّر الآية بالآية ويجتث شبهة الجبر ببيان أنّ الطبع على القلوب كان عقوبة من اللّه في حقّهم لجرائم اقترفوها ، ولم يكن الطبع ابتدائياً بلا مبرر ، إذ كيف يطلب منهم الإيمان ثمّ يطبع على قلوبهم ابتداء ، أو ليس يصف نفسه بقوله : ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِّلْعَبِيدِ )(1).(2)
4. روى أبو ذكوان ، قال : سمعت إبراهيم بن العباس يقول : كنّا في مجلس الرضا عليه السلام فتذاكروا الكبائر وقول المعتزلة فيها : إنّها لا تغفر ( إذا مات صاحبها بلا توبة ) ، فقال الرضا عليه السلام : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : « قد نزل القرآن بخلاف قول المعتزلة ، قال اللّه عزّوجلّ : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ )(3).(4)
وجه الاستدلال أنّ قوله : ( عَلَى ظُلْمِهِمْ ) حال من قوله : ( لِّلنَّاسِ ) ، ومعنى الآية : أنّ غفران اللّه شامل لهم في حال كونهم ظالمين ، والآية نظير قول القائل : « أودّ فلاناً على غدره وأصله على هجره » ، فمن مات بلا توبة عن كبيرة فلا يحلّ لنا الحكم بأنّه لا يغفره ، لأنّ رحمة اللّه تشمل الناس في حال كونهم تائبين أو ظالمين. نعم ليس للمقترف الاعتماد على هذه الآية ، لأنّه وعدٌ مجمل كالشفاعة.
5. وروى الحسين بن بشار ، قال : سألت علي بن موسى الرضا عليه السلام أيعلم اللّه الشيء الذي لا يكون أن لو كان كيف كان ؟ قال : « إنّ اللّه هو العالم بالأشياء قبل كون الأشياء ، وقال لأهل النار : ( وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ) .(5)
وقال للملائكة لما قالت : ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ) ، قال : ( إِنِّي أَعْلَمُ
ص: 338
مَا لا تَعْلَمُونَ )(1)فلم يزل اللّه عزّوجلّ علمه سابقاً للأشياء قديماً قبل أن يخلقها ».(2)
6. روى الحسين بن خالد ، عن الرضا عليه السلام قلت له : أخبرنا عن قول اللّه : ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الحُبُكِ ) ، قال : « هي محبوكة إلى الأرض ، مشبكة بين أصابعه » ، فقلت : كيف تكون محبوكة إلى الأرض واللّه يقول : ( رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) ؟ فقال : « سبحان اللّه أليس يقول : ( بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) ؟ » قلت : بلى ، قال : « فثمّ عمد ، لكن لا ترونها ».(3)
والإمام يصرّح في كلامه هذا بوجود عمدٍ في السماء غير مرئية ، ولعلّه يريد قانون الجاذبيّة العامّة التي كشف عنها العلم ، والتفصيل موكول إلى محلّه.
7. قد شاع في عصر الإمام الاعتقاد بالرؤية التي دخلت في أوساط المسلمين من طريق الأحبار والرهبان ، واغترّ بها أكثر المحدّثين البسطاء ، وربّما كانوا يستدلّون عليها بما ورد في معراج النبيّ ، وأنّه وصل في معراجه إلى مكان لم يبق بينه وبين ربّه سوى قاب قوسين أو أدنى ، قائلاً : بأنّ المراد من قوله : ( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ) أي دنا من اللّه ومقامه الكائن فيه ، ولكنّ الرضا عليه السلام يواجه هذه الفكرة بالنقد الحاسم ، والردّ العنيف ، وإليك القصة : دخل أبو قرّة المحدّث على أبي الحسن الرضا فقال : إنّا روينا أنّ اللّه قسّم الرؤية والكلام بين نبيّين ، فقسم الكلام لموسى ولمحمّد الرؤية ؟! فقال أبو الحسن عليه السلام : « فمن المبلّغ عن اللّه إلى الثقلين من الجن والإنس ، ( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) و ( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) و ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) ثمّ أليس محمّد ؟ » قال : بلى. قال : « كيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنّه جاء من عند اللّه وانّه يدعوهم إلى اللّه بأمر اللّه فيقول : ( لاَّ
ص: 339
تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) و ( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) و ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) ثمّ يقول : انا رأيته بعيني ، وأحطت به علماً ، وهو على صورة البشر ؟! أما تستحيون ؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا ، أن يكون يأتي من عند اللّه بشيء ، ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر ». قال أبو قرّة : فانّه يقول : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ) فقال أبو الحسن عليه السلام : « إنّ بعد هذه الآية ما يدلّ على ما رأى حيث قال : ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) يقول : ما كذب فؤاده ما رأت عيناه ، ثمّ أخبر بما رأى ، فقال : لقد رأى من آيات ربّه الكبرى ، فآيات اللّه غير اللّه ، وقد قال : ( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) ، فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العلم ووقعت المعرفة » ، فقال أبو قرّة : فتكذب بالروايات ؟ فقال أبو الحسن : « إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها ، وما أجمع المسلمون عليه أنّه لا يحاط به علماً ، ولا تدركه الأبصار ، وليس كمثله شيء ». (1)
الإمام أبو جعفر محمد الجواد من أئمّة أهل البيت ، وهو تاسع الأئمّة عند الشيعة ، ولد عام ( 195 ه ) (2) ورث الشرف من آبائه وأجداده ، واستسقت عروقه من منبع النبوّة ، ورضعت شجرته ثدي الرسالة ، وتهدّلت أغصانه ثمر الإمامة. قام بأمر الولاية ، بعد شهادة والده الرضا عليه السلام عام ( 203 ه ) ، واستشهد هو مثل الوالد ببغداد عام ( 220 ه ) أدرك خلافة المأمون ، وأوائل خلافة المعتصم. روى عنه لفيف من المحدّثين والفقهاء ، يربو عددهم على (121) (3) ، وروى عنه في مجال
ص: 340
الفقه ، والدعاء ، والتفسير روايات وافرة نذكر نماذج ممّا روي عنه في مجال التفسير.
1. روي العياشي ، قال : رجع ابن أبي داود ذات يوم من عند المعتصم ، وهو يروي هذه القصّة :
إنّ سارقاً أقرّ على نفسه بالسرقة ، وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحدّ عليه ، فسأل الفقهاء عن موضع القطع ، فمن قائل : يجب قطعه من الكرسوع ، لأنّ اليد هي الأصابع والكف إلى الكرسوع لقوله تعالى : ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ )(1)إلى آخر يقول : يجب القطع من المرفق ، لأنّ اللّه قال : ( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ )(2)فدلّ على أنّ حدّ اليد هو المرفق ، ولمّا رأى المعتصم اختلافهم التفت إلى « محمد بن علي » فقال : ما تقول في هذا يا أبا جعفر ؟ فقال : « قد تكلّم القوم فيه ». قال : دعني ممّا تكلّموا به. أي شيء عندك ؟ قال : « أعفني عن هذا ، يا أمير المؤمنين ! » قال : أقسمت عليك باللّه لما أخبرت بما عندك فيه. فقال : « أمّا إذا أقسمت عليّ باللّه إنّي أقول : إنّهم أخطأوا فيه السنّة ، فانّ القطع يجب أن يكون من مفصل أُصول الأصابع ، فيترك الكفّ ». قال : وما الحجّة في ذلك ؟ قال : « قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : السجود على سبعة أعضاء : الوجه ، واليدين ، والركبتين ، والرجلين ، فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق ، لم يبق له يد يسجد عليها ، وقال تعالى : ( وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ ) يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها ( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَدًا )(3)وما كان لله لم يقطع ». فأعجب المعتصم ذلك ، وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف ، قال ابن أبي داود : قامت قيامتي وتمنّيت أنّي لم أك حياً.(4).
ص: 341
وقد نقل ما ذكره الإمام ، عن سعيد بن جبير ، والفرّاء ، والزجّاج ، وأنّ المراد من المساجد الأعضاء السبعة التي يسجد عليها في الصلاة ، وعلى هذا فالمراد أنّ مواقع السجود من الإنسان لله ، اختصاصاً تشريعيّاً ، والمراد من الدعاء السجدة لكونها أظهر مصاديق العبادة ، أو المراد الصلاة بما أنّها تتضمّن السجود لله.(1)
وروى حماد بن عيسى ، عن الإمام الصادق عليه السلام في حديث : وسجد الإمام على ثمانية أعظم : الكفين ، والركبتين ، وإبهامي الرجلين ، والجبهة والأنف ، وقال : « سبعة منها فرض يسجد عليها ، وهي التي ذكرها اللّه في كتابه فقال : ( وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَدًا ) ، وهي : الجبهة ، والكفّان ، والركبتان ، والإبهامان ، ووضع الأنف على الأرض سنّة ».(2)
2. عن محمد بن سعيد الأزدي صاحب موسي بن محمدالرضا عن موسى قال لأخيه كتب يحيى بن أكثم المروزي إليه يسأله عن مسائل ، وقال : أخبرني عن قول اللّه : ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ) أسجد يعقوب وولده ليوسف ؟ قال : « فسألت أخي عن ذلك ، فقال : أمّا سجود يعقوب وولده ليوسف فشكراً لله ، لاجتماع شملهم ، ألا ترى أنّه يقول في شكر ذلك الوقت : ( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ) ».(3)
3. سأل عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني محمد بن علي الرضا عليه السلام عن قول اللّه عزّوجلّ : ( أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى )(4)فقال : « يقول اللّه عزّوجلّ : بعداً لك من خير الدنيا بعداً ، وبعداً لك من خير الآخرة ».(5).
ص: 342
لا ريب أنّها كلمة تهديد كرّرت لتأكيد التهديد ، وقد جاء قبل الآية قوله : ( فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ) .(1)
فاللائق بهذا الإنسان الذي لم يصدق ولم يصل ، ولكن كذب وتولى ، ثمّ ذهب إلى أهله يتمطّى متبختراً مختالاً ، هو البعد عن غفران اللّه سبحانه ورحمته ، وخيره في الدنيا والآخرة ، ونظير الآية قوله سبحانه : ( رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ )(2)، أي هذه الحالة أولى لكم لتذوقوا وبال أمركم في الدنيا والآخرة ، وفي مورد الآية المعنى الابتدائي ، هو أنّ هذه الحالة أولى له ، لأنّه لا يستحق إلاّ إيّاها ليذوق وبال أمره وليبتعد من خير الدنيا والآخرة ، ففسّر الآية بما هو المقصود من كون هذه الحالة أولى له.
4. روى علي بن أسباط ، قال : قلت لأبي جعفر محمد الجواد : يا سيدي إنّ الناس ينكرون عليك حداثة سنّك ( ونيلك مقام الإمامة والقيادة الروحية ) ، قال : « وما ينكرون من ذلك. فو اللّه لقد قال اللّه لنبيّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ... )(3)وما أتبعه غير علي ، وكان ابن تسع سنين وأنا ابن تسع سنين ».
والآية مكّية تنطبق على ما يذكره الإمام حيث إنّ الأوّل من آمن بمحمّد من الرجال هو عليّ بن أبي طالب عليه السلام .
هذه نماذج ممّا روي عن الإمام التاسع محمد الجواد عليه السلام في مجال التفسير ، ومن أراد التوسّع فليرجع إلى مسنده وسائر الكتب الحديثيّة التي تضمّنت أخباره عليه السلام .
ص: 343
الإمام علي الهادي عليه السلام ، الإمام العاشر ، والنور الزاهر ، ولد عام ( 212 ه ) وتوفي بسامراء سنة ( 254 ه ) وهو من بيت الرسالة ، والإمامة ، ومقر الوصاية ، والخلافة ، وثمرة من شجرة الرسالة ، قام بأمر الإمامة بعد والده الإمام الجواد ، وكان في سني إمامته ، بقية ملك المعتصم ثمّ الواثق والمتوكّل والمنتصر والمستعين والمعتزّ ، وله مع هؤلاء قضايا ليس المقام يسع ذكر البعض ، وقد روت الشيعة عنه أحاديث في مجال الفقه والتفسير ، وإليك نماذج ممّا روي عنه في الأخير :
1. قُدِّم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة فأراد أن يقيم عليه الحدّ ، فأسلم فقال يحيى بن أكثم : الإيمان يمحو ما قبله ، وقال بعضهم : يضرب ثلاثة حدود ، فكتب المتوكّل إلى الإمام الهادي يسأله ، فلمّا قرأ الكتاب ، كتب : « يضرب حتى يموت » ، فأنكر الفقهاء ذلك ، فكتب إليه يسأله عن العلّة ، فكتب : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ) (1)فأمر به المتوكّل فضرب حتى مات. (2)
إنّ الإمام الهادي عليه السلام ببيانه هذا شقّ طريقاً خاصّاً لاستنباط الأحكام من الذكر الحكيم ، طريقاً لم يكن يحلم به فقهاء عصره ، وكانوا يزعمون أنّ مصادر الأحكام الشرعيّة هي الآيات الواضحة في مجال الفقه التي لا تتجاوز ثلاثمائة آية ، وبذلك أبان للقرآن وجهاً خاصاً لا يلتفت إليه إلاّ من نزل القرآن في بيته ، وليس
ص: 344
هذا الحديث غريباً في مورده ، بل له نظائر في كلمات الإمام وغيره من آبائه وأبنائه عليهم السلام.
2. لما سمّ المتوكّل نذر لله إن رزقه اللّه العافية أن يتصدّق بمال كثير ، أو بدراهم كثيرة ، فلمّا عوفي اختلف الفقهاء في مفهوم « المال الكثير » ، فلم يجد المتوكّل عندهم فرجاً ، فبعث إلى الإمام علي الهادي عليه السلام فسأله ، قال : « يتصدّق بثلاثة وثمانين ديناراً » ، فقال المتوكّل ، من أين لك هذا ؟ فقال : من قوله تعالى : ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ... )(1)والمواطن الكثيرة : هي هذه الجملة ، وذلك لأنّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم غزا سبعاً وعشرين غزاة ، وبعث خمساً وخمسين سرّية ، وآخر غزواته يوم حنين » ، وعجب المتوكّل والفقهاء من هذا الجواب.(2)وقد ورد عن طريق آخر أنّه قال : بثمانين مكان « ثلاثة وثمانين » ، وذلك لأنّ عدد المواطن التي نصر اللّه المسلمين فيها إلى يوم نزول هذه الآية كان أقلّ من ثلاثة وثمانين.(3)
3. إنّ للإمام الهادي عليه السلام رسالة في الردّ على الجبر والتفويض ، وإثبات المنزلة بين المنزلتين ، فقد استعان في إبطال المذهبين الذين كان يدين بهما أهل الحديث ، والمعتزلة بكثير من الآيات على شكل بديع ، ولأجل إيقاف القارئ على نماذج من إحاطته بالآيات ونضدها بشكل يوصل الجميع إلى الغاية المطلوبة ، نقتبس منها ما يلي :
فأمّا الجبر الذي يلزم من دان به الخطأ ، فهو قول من زعم أنّ اللّه - جلّ وعزّ - أجبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها ، ومن قال بهذا القول ، فقد ظلم اللّه في حكمه وكذّبه ورّد عليه قوله : ( ... وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا )(4)وقوله : ( إِنَّ اللّهَ لا
ص: 345
يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) .(1)
فمن دان بالجبر ، أو بما يدعو إلى الجبر فقد ظلم اللّه ونسبه إلى الجور والعدوان ، إذ أوجب على من أجبره العقوبة ، ومن زعم أنّ اللّه أجبر العباد ، فقد أوجب على قياس قوله : إنّ اللّه يدفع عنهم العقوبة ( أي لازم القول بالجبر أنّ اللّه لا يعذّب العصاة ، لأنّه دفعهم إلى المعاصي ) ، ومن زعم أنّ اللّه يدفع عن أهل المعاصي العذاب فقد كذب اللّه في وعيده ، حيث يقول : ( بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) .(2)
وقوله : ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا )(3)وقوله : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا )(4)، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في هذا الفن ممّن كذب وعيد اللّه ويلزمه في تكذيبه آية من كتاب اللّه ، الكفر ، وهو ممّن قال اللّه [ في حقّه ] : ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) .(5)
بل نقول إنّ اللّه عزّوجلّ يجازي العباد على أعمالهم ويعاقبهم على أفعالهم بالاستطاعة التي ملّكهم إيّاها ، فأمرهم ونهاهم بذلك ونطق كتابه : ( مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (6) وقال جلّ ذكره : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا
ص: 346
عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ )(1)وقال : ( الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ )(2)فهذه آيات محكمات تنفي الجبر ، ومثلها في القرآن كثير. ثمّ شرع في إبطال التفويض وأبان خطأ من دان به وتقلده.
ولنقتصر على هذا المقدار ، وفيه كفاية ، وما جاء في هذه الرواية من التفسير نمط بديع ، وهو ما نسمّيه اليوم بالتفسير الموضوعي ، وقد أتى الإمام عليه السلام في رسالته بأكثر الآيات التي ربّما تقع ذريعة للمجبّرة والمفوّضة ، وأبان تفسيرهما بإرجاع المتشابهات إلى المحكمات ، كما أثبت أنّ الحقيقة هو المنزلة بين الجبر والتفويض ، فمن أراد التوسّع فليرجع إلى نفس الرسالة التي نقلها الحسن بن شعبة الحرّاني في كتابه.(3)
أبو محمّد الحسن بن علي أحد أئمّة أهل البيت ، والإمام الحادي عشر عند الشيعة الملقّب بالعسكري ، ولد عام ( 232 ه ).(4)وقال الخطيب في تاريخه وابن الجوزي في كتابه : ولد أبو محمد في المدينة سنة ( 231 ه )(5)وأشخص بشخوص والده إلى العراق سنة (236) وله من العمر أربع سنين وعدّة شهور ، وقام بأمر الإمامة والقيادة الروحية بعد شهادة والده ، وقد اجتمعت فيه خصال الفضل ، وبرز
ص: 347
تقدّمه على كافة أهل العصر ، واشتهر بكمال العقل والعلم والزهد والشجاعة. روى عنه لفيف من الفقهاء والمحدثين ما يربو على (150) شخصاً ، وقد أدرج « العطاردي » أسماءهم في مسند الإمام العسكري وتوفّي عام ( 260 ه ) ، ودفن في داره التي دفن فيها أبوه بسامراء ، وللإمام روايات تلقّاها الرواة في مجال العقائد والفقه والتفسير ، نذكر نزراً يسيراً لتعلم مكانته في التفسير :
1. لقد شغلت الحروف المقطّعة بال المفسرين فضربوا يميناً ويساراً ، وقد أنهى الرازي أقوالهم فيها في أوائل تفسيره الكبير إلى قرابة عشرين قولاً ، ولكن الإمام عليه السلام يعالج تلك المعضلة بأحسن الوجوه وأقربها للطبع ، فقال : كذبت قريش واليهود بالقرآن ، وقالوا سحر مبين تقوّله.
فقال اللّه : ( الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ ) . [ فقل : ] يا محمّد ، هذا الكتاب الذي نزّلناه عليك هو الحروف المقطّعة التي منها « الف » ، « لام » ، « ميم » ، وهو بلغتكم وحروف هجائكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين ، واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم ، ثمّ بيّن انّهم لا يقدرون عليه بقوله : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) (1). (2) وقد روي هذا المعنى عن أبيه الإمام الهادي عليه السلام . (3)
2. كان أهل الشغب والجدل يلقون حبال الشكّ في طريق المسلمين فيقولون : إنّكم تقولون في صلواتكم : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ ) ، أو لستم فيه ؟ فما معنى هذه الدعوة ؟ أو أنّكم متنكّبون عنه فتدعون ليهديكم إليه؟ ففسّر الإمام
ص: 348
الآية قاطعاً لشغبهم فقال : « ادم لنا توفيقك الذي به أطعناك في ماضي أيّامنا حتى نطيعك كذلك في مستقبل أعمالنا ».
ثمّ فسّر الصراط بقوله : « الصراط المستقيم هو صراطان : صراط في الدنيا ، وصراط في الآخرة. أمّا الأوّل : فهو ما قصر عن الغلو وارتفع عن التقصير ، واستقام فلم يعدل إلى شيء من الباطل. وأمّا الطريق الآخر : فهو طريق المؤمنين إلى الجنّة الذي هو مستقيم ، لايعدلون عن الجنّة إلى النار ولا إلى غير النار سوى الجنة ».(1)
وقد استفحل أمر الغلاة في عصر الإمام العسكري ، ونسبوا إلى الأئمّة الهداة أُموراً هم عنها براء ، ولأجل ذلك يركز الإمام على أنّ الصراط المستقيم لكلّ مسلم هو التجنّب عن الغلوّ والتقصير.
3. ربّما يغترّ الغافل بظاهر قوله سبحانه : ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ... ) ويتصوّر أنّ المراد من النعمة هو المال والأولاد وصحّة البدن ، وإن كان كلّ هذا نعمة من اللّه ، ولكنّ المراد من الآية بقرينة قوله : ( غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ) هو نعمة التوفيق والهداية.
ولأجل ذلك نرى أنّ الإمام يفسّر الأنعام بقوله : « قولوا : إهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك وهم الذين قال اللّه عزّوجلّ : ( وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) ، ثمّ قال : ليس هؤلاء المنعم عليهم بالمال وصحّة البدن ، وإن كان كلّ هذا نعمة من اللّه ظاهرة ».(2)
4. لقد تفشت فكرة عدم علمه سبحانه بالأشياء قبل أن تُخلق استلهاماً من
ص: 349
بعض المدارس الفكرية الفلسفيّة الموروثة من اليونان ، فسأله محمّد بن صالح عن قول اللّه : ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ )(1)فقال : هل يمحو إلاّ ما كان ، وهل يثبت إلاّ ما لم يكن ؟ فقلت في نفسي : هذا خلاف ما يقوله هشام الفوطي. انّه لا يعلم الشيء حتى يكون ، فنظر إليّ شَزَراً ، وقال : « تعالى اللّه الجبّار العالم بالشيء قبل كونه ، الخالق إذ لا مخلوق ، والربّ إذ لا مربوب ، والقادر قبل المقدور عليه.(2)
هؤلاء هم أئمّة الشيعة وقادتهم ، بل أئمّة المسلمين جميعاً ، وكيف لا يكونون كذلك ، وقد ترك رسول اللّه بعد رحلته الثقلين وحثّ الأُمّة على التمسّك بهما ، وقال : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً ».(3)
ولكن المؤسف أنّ أهل السنّة والجماعة لم يعتمدوا في تفسير كتاب اللّه العزيز على أقوال أهل البيت ، وهم قرناء القرآن وأعداله والثقل الآخر من الثقلين ، وإنّما استعانوا في تفسيره بأُناس لا يبلغون شأوهم ولا يشقّون غبارهم ، نظراء : مجاهد بن جبر ( المتوفّى 104 ه ) وعكرمة البربري ( المتوفّى 104 ه ) وطاووس بن كيسان اليماني ( المتوفّى 106 ه ) وعطاء بن أبي رباح ( المتوفّى 114 ه ) ومحمد بن كعب القرظي ( المتوفّى 118 ه ) ، إلى غير ذلك من أُناس لا يبلغون في الوثاقة والمكانة
ص: 350
العلمية معشار ما عليه أئمّة أهل البيت صلوات اللّه عليهم ....
وقد بلغت إحاطة أئمّة أهل البيت بالكتاب العزيز إلى حدّ يقول الإمام الباقر عليه السلام : « إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأُمّة إلى يوم القيامة إلاّ أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله ، وجعل لكلّ شيء حداً وجعل عليه دليلاً يدلّ عليه ». (1) ويقول الإمام الصادق عليه السلام : « ما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب اللّه عزّوجلّ ولكنّ لا تبلغه عقول الرجال ». (2)
إنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام لا يروون في مجال الفقه والتفسير والأخلاق والدعاء ، إلاّ ما وصل إليهم عن النبيّ الأكرم عن طريق آبائهم وأجدادهم ، وليس مرويّاتهم آراءهم الشخصيّة التي تنبع من عقليّتهم ، فمن قال بذلك وتصوّرهم مجتهدين مستنبطين ، فقد قاسهم بالآخرين ممّن يعتمدون على آرائهم الشخصيّة ، وهو في قياسه خاطئ فهم منذ نعومة أظفارهم إلى أن لبّوا دعوة ربّهم لم يختلفوا إلى أندية الدروس ، ولم يحضروا مجلس أحد من العلماء ، ولا تعلّموا شيئاً من غير آبائهم ، فما يذكرونه علوم ورثوها من رسول اللّه وراثة غيبيّة لا يعلم كنهه إلاّ اللّه سبحانه والراسخون في العلم.
وهذا جابر الجعفي ، قال : قلت لأبي جعفر الباقر عليه السلام : إذا حدثتني بحديث فاسنده لي ، فقال : « حدّثني أبي عن جدّي ، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن جبرئيل عن اللّه تبارك وتعالى فكلّ ما أُحدثك بهذا الاسناد ، ثمّ قال : « لحديث واحد
ص: 351
تأخذه من صادق عن صادق خير لك من الدنيا وما فيها ». (1)
وروى حفص بن البختري. قال : قلت لأبي عبد اللّه الصادق عليه السلام أسمع الحديث منك فلا أدري منك سماعه أو من أبيك ؟ فقال : « ما سمعته منّي فاروه عن أبي ، وما سمعته منّي فاروه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ». (2)
فأئمّة المسلمين على حدّ قول القائل :
ووال أُناسا نقلهم وحديثهم *** روى جدّنا عن جبرئيل عن الباري
ولقد عاتب الإمام الباقر عليه السلام سلمة بن كهيل والحكم بن عيينة حيث كانا يتعاطيان الحديث من الناس ، ولا يهتمّان بأحاديث أهل البيت ، فقال لهما : « شرّقا وغرّبا ، فلا تجدان علماً صحيحاً إلاّ شيئاً خرج من عندنا أهل البيت ».
تلك - واللّه - خسارة فادحة ، حيث إنّ جماعة من المحدّثين والفقهاء والمفسّرين دقّوا كلّ باب ولم يدقّوا باب أهل البيت إلاّ شيئاً لا يذكر ففسّروا كتاب اللّه بآرائهم وأفتوا في المسائل الشرعية بالمقاييس الظنية التي ليس عليها مسحة من الحقّ ، ولا لمسة من الصدق حتى حشوا تفاسيرهم بإسرائيليّات ومسيحيّات بثّها مسلمة أهل الكتاب ككعب الأحبار ووهب بن منبه وتميم الداري وأضرابهم بين المسلمين ، وأخذها عنهم المحدّثون والرواة والمفسّرون في القرون الأُولى ، زاعمين أنّها علوم ناجعة وقضايا صادقة ، فيها شفاء العليل ، ورواء الغليل والحال أنّك إذ فتّشت التفاسير المؤلّفة في القرون الغابرة لا تجد تفسيراً علمياً أو روائياً من أهل السنّة إلاّ وهو طافح بآرائهم الشخصية وأقوالهم التي لا قيمة لها في سوق العلم ، وقد استفحل أمر هؤلاء الرواة حتى اغترّ بهم بعض المفسّرين من الشيعة ، فذكروا
ص: 352
جملة من الإسرائيليات في ثنايا تفاسيرهم ، وما ذلك إلاّ لأنّ تلك الأفكار كانت رائجة إلى حدّ كان يعدّ الجهل بها ، وعدم نقلها قصوراً في التفسير وقلّة اطلاع فيه ، ولأجل ذلك لم يجد شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي بداً من نقل آراء هؤلاء في تفسيره « التبيان » ، وتبعه أمين الإسلام في تفسير « مجمع البيان » ، ولكن لم يكن ذكرهم لآراء هؤلاء لأجل الاعتماد عليهم والركون إليهم ، وإنّما ألجأتهم إليه الضرورة الزمنيّة والسياسة العلمية السائدة على الأوساط آنذاك.
إذا وقفت على أئمّة التفسير وأساتذته ، فهلمّ معي ندرس حياة شيعتهم ممّن خدموا القرآن في عصرهم ، وبعدهم وهم الذين تربّوا في حجورهم ، وارتووا من نمير علمهم الصافي ، وتمسّكوا بأهداب معارفهم ، وقد خدموا القرآن بمختلف أشكال الخدمة ، نشير إليها على وجه الإجمال ، ونحيل التفصيل إلى آونة أُخرى.
ارتحل النبيّ الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فعكف المسلمون على دراسة القرآن ، ولكن أوّل ما فوجئوا به كان هو قصور باع لفيف منهم عن معرفة معاني بعض ألفاظه ، فما هذا إلاّ لأنّ في القرآن ما قد ورد بغير لغة أهل الحجاز. انّ القرآن وإن نزل بلغة أهل الحجاز بشكل عام ، لكن ربّما وردت فيه ألفاظ ذائعة بين القبائل الأُخرى ، وقد عقد السيوطي باباً فيما ورد في القرآن بغير لغة أهل الحجاز (1) ، وأظنّ أنّه قد أفرط في هذا الباب ، ولكنّه لا يمكن إنكار هذا الأصل في القرآن الكريم من أساسه ، وممّا يشهد بذلك ( مفاجأة المسلمين بغريب القرآن ) ما رواه القرطبي في تفسيره فقال :
ص: 353
عن عمر أنّه قال على المنبر : ما تقولون في قوله تعالى : ( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ )(1)فسكتوا ، فقام شيخ من هذيل فقال : هذه لغتنا. التخوّف : التنقص ، قال : فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها ؟ قال : نعم. قال : شاعرنا - زهير - أبو كبير الهذلي يصف ناقة تنقّص السير سنامها بعد تمكِه واكتنازه :
تَخَوَّفَ الرحلُ مِنها تامكاً قَرداً *** كَما تخوّفَ عُود النبعة السفن(2)
فقال عمر : أيّها الناس عليكم بديوانكم لا يضلّ ، قالوا : وما ديواننا ؟ قال : شعر الجاهلية ، فانّ فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم.
روى أبو الصلت الثقفي أنّ عمر بن الخطاب : قرأ قول اللّه : ( وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا )(3)بنصب الراء وقرأها بعض من عنده من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بخفض الراء ، فقال : أبغوني رجلاً من كنانة ، واجعلوه راعياً وليكن مدلجياً ، فأتوه به ، فقال له عمر : يا فتى ! ما الحرجة فيكم ؟ فقال : الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار الّتي لا تصل إليها راعية ولا وحشيّة ولا شيء ، فقال عمر : كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير.(4)
روى عبد اللّه بن عمر قال : قرأ عمر بن الخطاب هذه الآية : ( مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ، ثمّ قال : ادعوا لي رجلاً من بني مدلج ، قال عمر : ما الحرج فيكم ؟ قال : الضيق.(5)
وكم لهذه القصص من نظائر في التاريخ ، وهذا هو نافع بن الأزرق ، لمّا رأى
ص: 354
عبد اللّه بن عباس جالساً بفناء الكعبة ، وقد اكتنفه الناس ويسألونه عن تفسير القرآن ، فقال لنجدة بن عويمر(1)الحروري : قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به ، فقاما إليه فقالا : إنّا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب اللّه فتفسّرها لنا وتأتينا بمصادقة من كلام العرب ، فانّ اللّه تعالى أنزل القرآن بلسانٍ عربي مبين ، فقال ابن عباس : سلاني عمّا بدا لكم ، فقال نافع : أخبرني عن قول اللّه تعالى : ( عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ )(2)قال : العزون : الحلَق الرقاق ، فقال : هل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم. أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول :
فجاءُوا يُهْرَعُونَ إليه حتى *** يكونُوا حولَ منبِرْهَ عِزينا
ثمّ سألاه عن أشياء كثيرة عن لغات القرآن الغريبة ففسّرها مستشهداً بالشعر الجاهلي ، ربّما تبلغ الأسئلة والأجوبة إلى مائتين ، ولو صحّت تلك الرواية لدلّت قبل كلّ شيء على نبوغ ابن عباس في الأدب العربي ، وإلمامه بشعر العرب الجاهلي حيث استشهد على كلّ لغة فسّرها بشعر منهم ، وقد جاءت الأسئلة والأجوبة في الاتقان.(3)
وهذه الأحاديث والأخبار تعرب عن أنّ الخطوة الأُولى لتفسير القرآن الكريم كانت تفسير غريبه وتبيين ألفاظه التي ربّما تشكل على البعض ، ولعلّ ذلك كان الحافز القوي للفيف من جهابذة الأُمّة ، حيث استثمروا تلك الخطوة وبلغوا الغاية فيه من غير فرق بين السنّة والشيعة ، ونحن نذكر في هذا المجال ما ألّفه علماء الشيعة وأُدباؤهم بعد ابن عباس ، ونكتفي من الكثير بمشاهيرهم الذين كان لهم دوي في الأوساط اللغوية والأدبية ، ونترك من لم يكن له ذلك الشأن ، فليكن ذلك
ص: 355
عذراً لمن يقف على مؤلّفات لهم في غريب القرآن ، ولم نذكرها في تلك القائمة.
1. غريب القرآن ، لأبان بن تغلب بن رباح البكري ( المتوفّى 141 ه ) من أصحاب علي بن الحسين والباقر والصادق عليهم السلام ، وكانت له منزلة عندهم ، وقد نصّبه أبو جعفر الباقر عليه السلام للافتاء ، وقال : « اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس فانّي أحبّ أن يرى في شيعتي مثلك » ، وقال أبو عبد اللّه عليه السلام لمّا أتاه نعيه : « واللّه أوجع قلبي موت أبان ». وقال النجاشي : عظيم المنزلة في أصحابنا ، وكان قارئاً من وجوه القرّاء فقيهاً لغوياً ، سمع من العرب وحكى عنهم ، وكان أبان رحمه اللّه مقدّماً في كلّ فن من العلم ، في القرآن والفقه والحديث والأدب واللغة والنحو. وله كتب منها تفسير غريب القرآن وكتاب الفضائل ، ولأبان قراءة مفردة مشهورة عند القرّاء. مات أبان في حياة الإمام الصادق سنة ( 141 ه ). (1)
2. غريب القرآن : لمحمد بن السائب الكلبي ( المتوفّى 146 ه ) وهو من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام ووالد هشام بن محمد بن السائب الكلبي العالم المشهور والنسّابة المعروف. (2)
3. غريب القرآن : لأبي روق (3) عطيّة بن الحارث الهمداني الكوفي التابعي. قال ابن عقدة : كان ممّن يقول بولاية أهل البيت عليهم السلام. (4)
ص: 356
4. غريب القرآن : لعبد الرحمن بن محمد الأزدي الكوفي ، جمعه من كتاب أبان ومحمد بن السائب الكلبي ، وأبي روق عطية بن الحارث ، فجعله كتاباً واحداً فبيّن ما اختلفوا فيه وما اتّفقوا عليه ، فتارة يجيء كتاب أبان مفرداً ، وتارة يجيء مشتركاً. (1)
ويظهر من سند الشيخ الطوسي إليه في الفهرست أنّه ممّن صحب أبان بن تغلب ، وينقل عنه ابن عقدة المتوفّى عام ( 333 ه ) بواسطة حفيده ( أبو أحمد بن الحسين بن عبد الرحمن الأزدي ) ، فالرجل من علماء القرن الثاني.
5. غريب القرآن : للشيخ أبي جعفر أحمد بن محمد الطبري الآملي الوزير الشيعي المتوفّى عام ( 313 ه ). (2)
6. غريب القرآن : للشيخ أبي الحسن علي بن محمد العدوي الشمشاطي النحوي المعاصر لابن النديم الذي ألّف فهرسته عام ( 377 ه ). قال النجاشي : « كان شيخنا بالجزيرة ، وفاضل أهل زمانه وأديبهم ، له كتب كثيرة منها كتاب « الأنوار والثمار ». قال لي سلامة بن ذكاء : إنّ هذا الكتاب ألفان وخمسمائة ورقة يشتمل على ذكر ما قيل في الأنوار والثمار من الشعر ». ثمّ عدّ كتبه ، ومنها كتاب غريب القرآن إلى أن قال : قال سلامة : وكتاب مختصر الطبري ، حيث حذف الأسانيد والتكرار ، وزاد عليه من سنة ثلاث وثلاثمائة إلى وقته فجاء نحو ثلاثة آلاف ورقة ، وتمّم كتاب « الموصل » لأبي زكريا زيد بن محمد ، وكان فيه إلى سنة
ص: 357
( 321 ه ) ، فعمل فيه من أوّل سنة ( 322 ه ) إلى وقته ، وذكر النجاشي فهرس كتبه ، منها غريب القرآن. (1)
7. غريب القرآن : للشيخ فخر الدين الطريحي المتوفّى عام ( 1085 ه ) ، وقد طبع في النجف الأشرف في جزء واحد عام ( 1372 ه ) ، وأسماه المؤلّف ب « نزهة الخاطر وسرور الناظر وتحفة الحاضر ».
8. مجمع البحرين ومطلع النيرين : وهو في غريب القرآن والحديث ولغتهما للشيخ الطريحي أيضاً ، وهو كتاب كبير معجم للغاتهما ، طبع في ستة أجزاء.
9. البيان في شرح غريب القرآن : للشيخ قاسم بن حسن آل محيي الدين طبع بالنجف عام ( 1374 ه ) ، بإشراف وتصحيح مرتضى الحكمي.
10. غريب القرآن : للسيد محمد مهدي بن السيد الحسن الموسوي الخرسان يقع في جزءين. (2)
هذه عشرة كاملة نكتفي بها ، وهناك كتب أُلّفت في توضيح مفردات القرآن بغير اللغة العربية ، فمن أراد فليرجع إلى الفهارس.
فإذا كانت هذه الكتب تهدف إلى تفسير غريب القرآن وتبيين مفرداته ، فهناك كتب تهدف إلى تفسير غريب جمله التي جاءت في القرآن بصورة المجاز أو الكناية أو الاستعارة على الفرق الواضح بينها ، وإليك بعض ما أُلّف في ذلك المجال :
1. مجاز القرآن : لشيخ النحاة الفرّاء يحيى بن زياد بن عبد اللّه الديلمي
ص: 358
الكوفي الذي توفّى في طريق مكّة عام ( 207 ه ). (1)
2. المجاز من القرآن : لمحمّد بن جعفر أبو الفتح الهمداني ، المعروف ب « المراغي ». يقول النجاشي : كان وجيهاً في النحو واللغة ببغداد ، حسن الحفظ ، صحيح الرواية فيما نعلمه ، ثمّ ذكر كتبه وقال : كتاب ذكر المجاز من القرآن. (2)
3. مجازات القرآن : للشريف الرضي وهو أحسن ما أُلّف في هذا المجال ، وأسماه « تلخيص البيان في مجازات القرآن » ، وقد طبع مرّات أحسنها ما قام بطبعه مؤتمر الذكرى الألفيّة للسيد الشريف الرضي عام (1406) ، وهو من أنفس الكتب.
هؤلاء مشاهير المؤلّفين في غريب القرآن ولغته ومجازاته ، وهناك عدّة أُخرى جالوا في هذا الميدان ، لكن لا على وجه الاستقلال ، بل أدرجوه في التفسير. فهذا هو الشيخ الطوسي يبيّن مفردات القرآن واشتقاقاتها بوجه دقيق في تبيانه ، كما أنّ أمين الإسلام الطبرسي قام بهذه المهمّة في تفسيره « مجمع البيان » ، ولو قام الباحث باستخراج ما ذكره هذان العلمان في مجال مفردات الكتاب العزيز لجاء كتاباً حافلاً.
وفي الختام ننبّه على نكتة ، وهو أنّ التفسير اللغوي للقرآن صار أمراً رائجاً في عصرنا هذا واشتهر باسم التفسير البياني ، ومن المصرّين على هذا النمط من التفسير أمين الخولي المصري ، والكاتبة المصرية عائشة بنت الشاطئ ، وقد انتشرت منهما في ذلك المجال كتب ، وقاما بتفسير القرآن بالرجوع إلى نفس القرآن الكريم ، والتفتيش عن موارد استعمالها في جميع الآيات ، وهذا النمط من التفسير يعالج
ص: 359
جانباً واحداً من مهمّة التفسير ، وهناك جوانب أُخرى لا يستغني الباحث عنها إلاّ بالتمسّك بصحيح الأثر وغيره.
إنّ نزول القرآن نجوماً ، وتوزع الآيات الراجعة إلى أكثر الموضوعات في سور القرآن يقتضي نمطاً آخر من التفسير غير تفسير القرآن سورة فسورة وآية فآية ، وهذا النمط عبارة عن تفسيره حسب الموضوع بجمع آيات كلّ موضوع في محلّ واحد وتفسير مجموعتها مرّة واحدة ، مثلاً المفسّر الذي يحاول التعمق في الحديث عن السماء والأرض ، أو عن المعاد ، أو قصص الأنبياء ، أو في أفعال الإنسان من جهة الجبر والاختيار ، لابدّ أن يتبع هذا النمط الذي ذكرناه ليتمكّن من جمع أطراف الموضوع جمعاً كاملاً وشاملاً.
إنّ من جملة الأسباب التي دعت إلى ظهور عقائد مختلفة بين المسلمين ، وتشبّث صاحب كلّ مذهب بآيات القرآن ، هو أنّهم اهتمّوا بقسم خاص من آيات الموضوع دون الأخذ بكلّ ما يرجع إليه ، ولو أنّهم اهتموا في كلّ مسألة من المسائل الاعتقادية بمجموع الآيات لدرؤوا عن أنفسهم الوقوع في المهاوي السحيقة.
ومن باب المثال نذكر أصحاب عقيدة الجبر في أفعال الإنسان ، أو مذهب التفويض فيها ، فانّهم ابتلوا بما ذكرناه ، وخبطوا خبطة عشواء في فهم المقاصد الإلهيّة وتفسيرها. إنّ الرجوع إلى الفهارس ومعاجم الكتب خصوصاً فيما ألّف في أحوال رجال كانوا يعيشون في القرون الأُولى الإسلامية إلى رابعة القرون وخامستها يكشف عن أنّ هناك لفيفاً من علماء الشيعة وفطاحلهم اهتموا بهذا النمط من
ص: 360
التفسير في إطار خاصّ ، فترى أنّهم ألّفوا كتباً تفسيريّة في خصوص موضوعات محدودة ، فجمعوا آياتها في رسائلهم وكتبهم وأدّوا حقّ الكلام في الموضوع الذي لا يمكن في النمط الآخر من التفسير ، ونذكر في المقام بعض ما ألّف في ذلك المجال :
إنّ القرآن الكريم يصنّف الآيات القرآنية ويقسّمها إلى محكم ومتشابه ، فالمحكم هو أُمّ الكتاب ، والمتشابه ما يجب أن يرجع إليها في تبيين مفهومه ، فكأنّ المحكم أصل ، والمتشابه فرع ، ويجب أن نستعين في فهم المتشابه بالأُمّ ، قال سبحانه : ( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) .(1)
ثمّ إنّه وقع الاختلاف في تفسير المتشابه إلى أقوال كثيرة ذكرها الفخر الرازي في تفسيره ، وأنهاها إلى قرابة عشرين قولاً لا يسع المقام ذكرها ونقدها ، وإنّما الغرض هو الإشارة إلى ما قام به الشيعة الإمامية طوال القرون من تأليف رسائل خاصّة في ذلك الموضوع ، والبحث عن الآيات المتشابهة إلى جانب الآيات المحكمة ، ونذكر في هذه القائمة مشاهير المؤلّفين ونترك الباقي لأصحاب المعاجم :
1. متشابه القرآن : لإمام القرّاء أحد البدور السبعة ، أبي عمارة ، حمزة بن حبيب الزيّات الكوفي ، من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام ، والمتوفّى أيّام المنصور ، عام ( 158 ه ) ، ذكره ابن النديم.(2).
ص: 361
2. محكم القرآن ومتشابهه : لسعد بن عبد اللّه بن أبي خلف الأشعري القمي. قال النجاشي : شيخ هذه الطائفة وفقيهها ووجهها ، إلى أن قال : ولقي مولانا أبا محمد عليه السلام ، له كتاب ناسخ القرآن ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ، والظاهر أنّ كتابه في فصلين أحدهما : الناسخ والمنسوخ ، والثاني : في المحكم والمتشابه ، أو هما رسالتان جمعهما في جزء واحد ، توفّي سعد عام ( 301 ه ).(1)
3. متشابه القرآن : تأليف أبي محمد الحسن بن موسى النوبختي. قال النجاشي : شيخنا المتكلّم المبرز على نظرائه في زمانه قبل الثلاثمائة وبعدها ، ثمّ عدّ كتبه الكثيرة وقال : « ... متشابه القرآن ، وله مجالس مع الشيخ أبي القاسم البلخي المعتزلي ( المتوفّى 319 ه ).(2)
4. متشابه القرآن : للشيخ أبي عبد اللّه محمد بن هارون ، أُستاذ الشيخ محمد ابن المشهدي ، صاحب « المزار » ، ( المتوفّى عام530 ه ).(3)
5.متشابه القرآن ومختلفه : تأليف الشيخ رشيد الدين محمد بن علي بن شهر آشوب السروي المازندراني ، المولود عام ( 488 ه ) ، والمتوفّى عام ( 588 ه ) ، وهو كتاب نفيس ينبئ عن طول باعه ، وسيوافيك الكلام فيه في قائمة أعلام التفسير في القرن السادس.
6.متشابه القرآن : لصدر المتألّهين المولى محمد بن إبراهيم الشيرازي ، المولود عام ( 979 ه ) ، والمتوفّى عام ( 1050 ه ).(4).
ص: 362
7. متشابهات القرآن ومحكماته : تأليف العلاّمة محمد هادي معرفة ، وهو يشكّل جزءاً خاصّاً من موسوعته : « التمهيد في علوم القرآن » ، وقد درس الآيات المتشابهة حسب ترتيب السور ، وهو كتاب ممتع.
8. أضواء على متشابهات القرآن : تأليف الشيخ خليل ياسين المعاصر ، طبع في بيروت في جزءين عام ( 1388 ه ).
ونكتفي بما ذكر ، وقد قام المعاصرون بتأليف رسائل مستقلة حول متشابهات القرآن ، وفيما ذكرنا غنى وكفاية.
إنّ البحث عن الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم من الموضوعات التي لفتت نظر الباحثين والمحقّقين ، وقد ألّف في ذلك الموضوع كتب ورسائل ، وقد قام أبو بكر النحّاس بجمع الآيات التي ادّعى نسخها في كتاب أسماه « الناسخ والمنسوخ » فبلغت (138) آية.
إنّ النسخ في الاصطلاح عبارة عن « رفع أمر ثابت » في الشريعة المقدّسة بارتفاع أمده وزمانه ، والمعروف بين الإلهيين ، جواز النسخ أي رفع الحكم عن موضوعه في عالم التشريع والإنشاء ، وخالف في ذلك اليهود ، فادّعوا استحالة النسخ ، واستندوا في ذلك إلى شبه واهية. (1)
والمقصود في المقام هو نسخ الأحكام الواردة في القرآن الكريم ، لا مطلق نسخ الأحكام وإن لم يرد في القرآن الكريم ، فانّ القسم الثاني ممّا لا كلام فيه ، فقد
ص: 363
صرّح القرآن الكريم بنسخ لزوم التوجّه إلى القبلة الأُولى في الصلاة ، والكلام في أن يكون شيء من أحكام القرآن منسوخاً بالقرآن أو بالسنّة القطعية أو بالإجماع ، وقد قسّموا النسخ إلى ثلاثة أقسام :
1. نسخ التلاوة والحكم.
2. نسخ التلاوة دون الحكم.
3. نسخ الحكم دون التلاوة.
والأوّل : بيّن الفساد لا يقول به إلاّ القائل بالتحريف في الكتاب العزيز ، والمسلمون برآء منه إلاّ الحشوية من العامّة وبعض الأخباريّين من الخاصّة.
ومُثّل للثاني : بآية الرجم ، وانّه كان في القرآن الكريم ثمّ نسخ ، والقول به أيضاً يلازم القول بالتحريف المصون عنه كتاب اللّه العزيز.
والقسم الثالث : هو المشهور بين العلماء والمفسّرين ، فأنكر جماعة وجوده ، وخالفهم بعض آخر بعد الاتّفاق على الإمكان ، والعدد الذي ذكره النحّاس إفراط ، كما أنّ نفيه من رأس تفريط ، والتحقيق موكول إلى محلّه ، وها نحن نذكر في هذا المقام الرسائل المؤلّفة في هذا الموضوع من غير فرق بين أن يكون المؤلّف مثبتاً ، أو نافياً وإليك البيان :
1. الناسخ والمنسوخ : لعبد اللّه بن عبد الرحمن الأصم المسمعي ، المنسوب إلى طائفة من العرب باسم المسامعة ذكره النجاشي ، وقال : وله كتاب الناسخ والمنسوخ (1) يروي عنه محمد بن عيسى بن عبيد المتوفّى عام ( 262 ه ) ، ويروي هو عن مسمع بن كردين ، وهو من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام .
ص: 364
2. الناسخ والمنسوخ : تأليف حسن بن واقد الذي هو أخو عبد اللّه بن واقد المعدود من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام .(1)
3. الناسخ والمنسوخ : لدارم بن قبيصة التميمي الدارمي السائح ، وهو ممّن روى عن الإمام الرضا عليه السلام وله كتاب آخر باسم الوجوه والنظائر.(2)
4. الناسخ والمنسوخ : تأليف حسن بن علي بن فضّال الكوفي ، من أصحاب الإمام الرضا عليه السلام(3)المتوفّى عام ( 422 ه ).
5. الناسخ والمنسوخ : لأحمد بن محمد بن عيسى الأشعري. قال النجاشي : شيخ القميين ووجههم وفقيههم غير مدافع ، وكان أيضاً الرئيس الذي يلقى السلطان ، ولقي الرضا عليه السلام وله كتب ، ولقي أبا جعفر الثاني وأبا الحسن العسكري ، له كتاب الناسخ والمنسوخ(4)توفي بعد سنة (274) ، أو (280).
6. الناسخ والمنسوخ : لسعد بن عبد اللّه بن أبي خلف الأشعري القمي ، شيخ هذه الطائفة وفقيهها ووجهها ، ولقي مولانا أبا محمد العسكري ، ثمّ ذكر كتبه ، منها ناسخ القرآن ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ، توفّي عام ( 299 ه ) أو ( 301 ه ).(5)
7. الناسخ والمنسوخ : لشيخ القميين علي بن إبراهيم بن هاشم الذي كان حيّاً عام ( 307 ه ) ، وقد أكثر الكليني النقل عنه.(6).
ص: 365
8. الناسخ والمنسوخ : لعبد العزيز بن يحيى بن أحمد بن عيسى الجلودي الأزدي البصري ، شيخ البصرة وأخباريها ، وكان عيسى الجلّودي من أصحاب أبي جعفر عليه السلام ذكره النجاشي وذكر له كتباً كثيرة ، منها كتاب الناسخ والمنسوخ ، كما ذكر له كتاب التفسير وسيجيء في محلّه ، وهو من شيوخ محمد بن جعفر بن قولويه ، مؤلّف كامل الزيارات ( المتوفّى عام 367 ه ). (1)
9. الناسخ والمنسوخ : لمحمد بن العباس المعروف بابن الحجام يروي عنه التلعكبري سماعاً عنه سنة ( 328 ه ). (2)
10. الناسخ والمنسوخ : للشيخ الصدوق ، ( المتوفّى عام381 ه ) ، والنسخة موجودة بالنجف الأشرف مكتبة الشيخ علي كاشف الغطاء (3) واحتمل شيخنا المجيز الطهراني أن تكون النسخة للناسخ والمنسوخ تأليف الشيخ عبد الرحمن بن محمد العتائقي الحلي ، كما سيجيء.
11. الناسخ والمنسوخ من القرآن العظيم : لقطب الدين سعيد بن هبة اللّه ابن الحسن الراوندي ( المتوفي عام573 ه ) توجد منه نسخة في طهران ، وهو مؤلّف « الخرائج والجرائح » المعروف. (4)
12. الناسخ والمنسوخ : لعبد الرحمن بن محمد العتائقي الحلي ، المتوفى عام ( 760 ه ) ، والنسخة موجودة في النجف. (5)
ص: 366
13. الناسخ والمنسوخ : لجمال الدين أحمد بن عبد اللّه بن محمد بن علي بن الحسن بن المتوّج البحراني من أجلاّء تلاميذ فخر المحقّقين ( المتوفّى عام 771 ه ) ، والمعاصر للشهيد الأوّل ، ( المتوفّى عام 786 ه ) ، وقد بسط في الكتاب القول في بيان الآيات الناسخة والمنسوخة ، قال سليمان الماحوزي : « وقد قرأته على بعض مشايخي في حداثة سنّي ، سنة ( 1091 ه ) » والنسخة موجودة في النجف الأشرف (1).
14. الناسخ والمنسوخ : لعلي بن شهاب الدين الحسيني العلوي الهمداني ، ( المتوفّى عام 786 ه ) ، ومنه نسخة في مكتبة المرعشي بقم. (2)
15. الناسخ والمنسوخ من الآيات القرآنية : لفخر الدين أحمد بن عبد اللّه بن سعيد بن المتوّج البحراني ، شيخ ابن فهد الحلي ، ( المتوفّى عام 841 ه ) ، وتلميذ فخر المحقّقين ، ( المتوفي عام 771 ه ) وهو غير جمال الدين أحمد بن عبد اللّه الذي مضى برقم 13. (3)
16. الناسخ والمنسوخ : لشهاب الدين أحمد بن فهد الاحسائي مؤلّف خلاصة التنقيح ( المتوفّى 806 ه ) شرحه عبد الجليل الحسيني القاري ، شارح الجزرية في التجويد سنة ( 972 ه ) ، وقد شرح هذا الكتاب سنة ( 976 ه ) ، وطبع في طهران ( عام 1384 ه ). (4)
17. الناسخ والمنسوخ : للشيخ محمد مهدي بن جعفر الكاشاني الموسوي ،
ص: 367
ألّفه عام ( 1250 ه ) ، وهو حفيد الوحيد البهبهاني.(1)
18. الناسخ والمنسوخ : للشيخ محمد شريف الموسوي الاصفهاني المجاز من الفاضل الايرواني ، ( المتوفي عام 1206 ه ) ، والشيخ زين العابدين المازندراني الحائري ، طبع مع رسالته « نسيم السحر » في سنة ( 1323 ه ).(2)
هؤلاء مشاهير المؤلّفين في الناسخ والمنسوخ ، ومن أراد التوسّع فليرجع إلى المعاجم والفهارس ، غير أنّ هنا لفيفاً من أعلام الطائفة درس مسألة الناسخ والمنسوخ في الذكر الحكيم دراسة معمّقة في ثنايا تفسيرهم أو مقدّماته ، وأخصّ بالذكر مادبّجته يراعة المرجع الإسلامي الكبير السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي - دام ظلّه - ، فقد طرح القسم الثالث من الناسخ والمنسوخ في كتابه « البيان في تفسير القرآن » ، واقتصر في البحث على (36) آية ، وخرج بأنّها غير منسوخة.(3)
والجدير بالذكر أنّه لم يبحث عن آية العدّة ، أعني قوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ )(4)، فانّ هذه الآية ناظرة إلى الحول المعروف في الجاهلية الذي كان عدّة للنساء فيها ، وقد أقرّ القرآن هذا الحكم مؤقّتاً ونسخ حكماً بقوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا )(5)، فقد تضافرت النصوص على ذلك من أئمّة أهل البيت.(6).
ص: 368
الآيات التي تقع ذريعة لاستنباط الأحكام الشرعية المتعلّقة بعمل المكلّف في حياته الفردية والاجتماعية هي الآيات المعروفة بآيات الأحكام ، وهي على المشهور ثلاثمائة آية تقريباً ، وهناك أُناس يستنبطون من كثير من الآيات القرآنية أحكاماً عملية ، ولا تعدّ من آيات الأحكام وقد تعرّفت على بعضها في الأحاديث المرويّة عن الإمام الجواد والإمام الهادي عليهما السلام.
وقد أفردها لفيف من علماء الشيعة بالتأليف والتفسير بين رسائل صغيرة إلى كتب حافلة بالتحقيق ، وربّما حازوا قصب السبق في هذا المضمار كما سيتضح ، وإليك أسماء مشاهيرهم في هذا الفصل مقتصرين عليهم :
1. آيات الأحكام : لأبي نصر محمد بن السائب بن بشر الكلبي من أصحاب أبي جعفر الباقر وأبي عبد اللّه الصادق عليهما السلام ( المتوفّى عام 146 ه ) ، وهو والد هشام الكلبي النسابة الشهير ، وصاحب التفسير الكبير الذي هو أبسط التفاسير كما أذعن به السيوطي في الإتقان.
قال ابن النديم في الفهرست عند ذكره للكتب المؤلّفة في أحكام القرآن ما لفظه :
« كتاب أحكام القرآن للكلبي رواه عن ابن عباس ، وهو أوّل من صنّف في هذا الفن لا الإمام الشافعي محمّد بن إدريس المتوفّى سنة ( 204 ه ) كما زعم السيوطي ، وكيف لا يكون كذلك وقد توفّي الكلبي قبل ولادة الشافعي بأربع سنين حيث ولد الشافعي عام 150. (1)
ص: 369
2. آيات الأحكام ، الموسوم بمنهاج الهداية : للشيخ جمال الدين أحمد بن عبد اللّه بن محمد بن علي بن الحسن بن المتوّج البحراني ، تلميذ فخر المحقّقين. (1)
3. آيات الأحكام ، الموسوم بالنهاية في تفسير خمسمائة آية : للشيخ فخر الدين أحمد بن عبد اللّه بن سعيد بن المتوّج البحراني ، وهذا المؤلّف ، والمؤلِّف المتقدّم من أُسرة واحدة ، وكلاهما من تلامذة فخر المحقّقين. (2)
4. آيات الأحكام : للشيخ ناصر بن الشيخ أحمد بن الشيخ عبد اللّه بن المتوّج البحراني ، ووالده الشيخ أحمد من تلامذة فخر المحقّقين ابن العلاّمة الحلّي ( المتوفّى عام 771 ه ) ، حكى شيخنا المجيز في « الذريعة » عن أُستاذه المجيز السيد حسن الصدر أنّه رآه في مكتبات النجف. (3)
5. آيات الأحكام : للشيخ أبي عبد اللّه المقداد بن عبد اللّه بن محمد بن الحسين بن محمد السيوري الأسدي الحلي ( المتوفّى عام 826 ه ) ، وقد طبع باسم « كنز العرفان في فقه القرآن » ، وهو من أنفس الكتب في موضوعه ، وقد ترجم إلى الفارسيّة والاردية حسب ما حكاه السيّد شهاب الدين المرعشي قدس سره في تقديمه على مسالك الأفهام.
6. آيات الأحكام ، الموسوم بمعارج السؤول ومدارج المأمول : لكمال الدين حسن بن شمس الدين محمد الاسترآبادي النجفي ، ألّفه سنة ( 891 ه ). (4)
7. آيات الأحكام ، للمولى شرف الدين علي بن محمد الشيفنكي ( المتوفّى عام
ص: 370
907 ه ) حكاه شيخنا المجيز عن رياض العلماء ، وحكاه هو عن تاريخ حسن بيك روملو. (1)
8. آيات الأحكام ، للمحقّق أحمد بن محمد الأردبيلي ثمّ النجفي ، ( المتوفّى عام 993 ه ) ، وطبع باسم « زبدة البيان في براهين أحكام القرآن » مرّتين ، مرّة بطهران عام ( 1305 ه ) ، وأُخرى في سنة ( 1386 ه ) ، محقّقة منقّحة.
9. آيات الأحكام ، للعلاّمة الأمير أبو الفتح بن الأمير مخدوم بن الأمير شمس الدين محمد الحسيني ألّفه للسلطان محمد قطب شاه سنة ( 1021 ه ) ، وطبع في تبريز.
10. آيات الأحكام ، للسيد ميرزا محمد الحسيني الاسترآبادي ، صاحب الكتب الرجالية الشهيرة : « الكبير » و « الوسيط » و « الصغير » ، وقد توفّي عام ( 1026 ه ) ، ومنه نسخة في مكتبة المرعشي. (2)
11. آيات الأحكام : للشيخ أبي عبد اللّه محمد بن الجواد شمس الدين الكاظمي ، والمشتهر بالفاضل الجواد من تلاميذ شيخنا البهائي ( المتوفّى 1030 ه ) ، وقد شرح كتاب أُستاذه في الحساب ، أعني : خلاصة الحساب ، وطبع الشرح بطهران عام ( 1273 ه.ق ) ، وقد طبعت آيات الأحكام باسم « مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام » في جزءين كبيرين وعنيت بنشره وتحقيقه المكتبة المرتضوية.
12. آيات الأحكام : للشيخ أحمد بن إسماعيل بن العلاّمة الشيخ عبد النبيّ الجزائري النجفي ( المتوفّى سنة 1150 ه ) طبع باسم « قلائد الدرر » ، وقد
ص: 371
طبع مرّتين ، مرّة في طهران وأُخرى بالنجف الأشرف عام ( 1386 ه ) ، شكر اللّه مساعي الجميع.
هذه اثنا عشر تأليفاً حول آيات الأحكام اكتفينا بها ، ومن أراد التوسّع والوقوف على ما ألّفه أصحابنا حول آيات الأحكام من رسائل وكتب وموسوعات ، فعليه الرجوع إلى معاجم الكتب.(1)
وهذه الكمّيّة الهائلة تعرب عن عناية الشيعة بفهم القرآن الكريم ، وتبويب مفاهيمه.
لم ينحصر هذا النمط من التفسير ( أي التفسير الموضوعي ) فيما سبق من الموضوعات ( المحكم والمتشابه ، الناسخ والمنسوخ ، وآيات الأحكام ) ، بل توجّهت همم الأصحاب وعنايتهم إلى تأليف رسائل وكتب في موضوعات قرآنية ، نظير ما نزل من الآيات في حقّ أهل البيت ، وإليك نزراً يسيراً ممّا أُلّف في هذا المجال من الأقدمين ، وأمّا المتأخّرين فهو على عاتق المعاجم القرآنيّة.
إنّ أهل البيت عليهم السلام ممّن خصّهم اللّه سبحانه بالذكر في غير واحد من الآيات ، فقال : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا )(2)وقال سبحانه : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى )(3)، وقال سبحانه : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا )(4).
ص: 372
إلى غير ذلك من الآيات ، فلا عتب على المفسّر الواعي أن يخصّ أهل البيت بالتفسير الموضوعي ويفرد آياته بالتأليف ، وكيف لا يكون كذلك وقد روى عكرمة عن ابن عباس ، وقال : ما نزل من القرآن ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) إلاّ وعليٌّ رأسها وأميرها ، وقد عاتب اللّه أصحاب محمد في غير مكان ، وما ذكر عليّاً إلاّ بخير. (1)
وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : ما نزل في أحد من كتاب اللّه ما نزل في علي. (2)
وقال ابن عباس : نزلت في عليّ أكثر من ثلاثمائة آية في مدحه. (3)
ولأجل هذا وذاك قام لفيف من المفسّرين والمحدّثين من العامّة والخاصّة بتأليف رسائل مفردة في هذا المجال ، وفي الحقيقة كلّها تفاسير موضوعيّة نذكر منها ما يلي :
1. ما نزل من القرآن في علىّ عليه السلام : تأليف هارون بن عمر بن عبد العزيز ابن محمد ، أبو موسى المجاشعي ، صحب الإمام الرضا عليه السلام وله هذا الكتاب. (4)
2. ما نزل من القرآن في عليّ عليه السلام : تأليف عبد العزيز بن يحيى بن أحمد ابن عيسى الجلودي الأزدي البصري من أصحاب الإمام الجواد عليه السلام فله تآليف كثيرة ذكرها النجاشي ، وله كتاب التفسير كما سيوافيك في قائمة التفاسير الروائيّة. (5)
3. ذكرما نزل من القرآن في أهل البيت عليهم السلام : تأليف أحمد بن الحسن
ص: 373
الاسفرائيني ، المفسّر الضرير ، قال النجاشي : له كتاب المصابيح في ذكر ما نزل من القرآن في حقّ أهل البيت عليهم السلام ، وهو كتاب حسن كثير الفوائد ، سمعت أبا العباس أحمد بن علي بن نوح يمدحه ويصفه. (1)
4. ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين عليه السلام : تأليف إبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال بن عاصم بن سعد بن مسعود الثقفي ، أصله كوفي ، وسعد بن مسعود أخو أبي عبيد بن مسعود عم المختار ، وانتقل إلى إصفهان وأقام بها ، وقد وفد إليه أحمد بن خالد المتوفّى عام ( 274 ه ) وسألوه الانتقال إلى قم فأبى ، وله كتب ممتعة في التاريخ والسيرة ، وهو مؤلف « الغارات » المعروفة. (2)
5. كتاب ما نزل من القرآن في أهل البيت عليهم السلام : تأليف محمد بن العباس بن علي بن مروان الماهيار المعروف بابن الحجام ، قال النجاشي : ثقة ثقة ، من أصحابنا عين ، سديد ، كثير الحديث ، له كتاب ما نزل من القرآن في أهل البيت ، وقال جماعة من أصحابنا : إنّه كتاب لم يصنّف في معناه مثله ، قيل : إنّه ألف ورقة ، وذكره الشيخ في رجاله في باب من لم يرو عنهم عليهم السلام برقم (71) ، وقال : سمع منه التلعكبري سنة ( 328 ه ) ، وله منه إجازة ، وذكره في الفهرست برقم 649. (3)
6. كتاب ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين عليه السلام : تأليف محمد بن أحمد بن عبد اللّه بن إسماعيل الكاتب ، أبو بكر يعرف بابن أبي الثلج ، وأبو الثلج هو عبد اللّه بن إسماعيل ، ثقة ، عين ، كثير الحديث ، وذكر النجاشي فهرس كتبه ، ومنها
ص: 374
تاريخ الأئمّة عليهم السلام ، وقد طبع أخيراً ، وذكره الخطيب في تاريخه(1)وذكره الشيخ في رجاله في باب من لم يرو عنهم برقم (64) ، وقال : سمع منه التلعكبري سنة ( 322 ه ) ، وما بعدها إلى سنة ( 325 ه ) ، وفيها مات ، وله منه إجازة.(2)
7. ما نزل من القرآن في أهل البيت عليهم السلام : تأليف الحسين بن الحكم الجبري الكوفي ، وطبع عام ( 1375 ه ) ، وقدّم له : العلاّمة السيد أحمد الحسيني استقصى فيها ما ألّف من التفاسير في أهل البيت من القدماء فبلغ (44) كتاباً(3)حياه اللّه وبياه.
هذه نماذج ممّا أُلّف حول أهل البيت من الكتب والرسائل بشكل التفسير الموضوعي نقتصر على ذلك ، وانّ التوسّع يخرجنا عمّا هو الهدف ، وهو الإشادة بذكر المفسّرين من الشيعة في المجالات المختلفة ، ومن سبر المعاجم ، وكتب التراجم وقف على أنّ موضوع مناقب أهل البيت وفضائلهم - كتاباً وسنة - كان موضع اهتمام العلماء منذ الصدر الأوّل وفي القرون التالية إلى القرن الحاضر.
ولو جمعت تلك الكتب المطبوعة والمخطوطة الموجودة منها ، لشكّلت مكتبة كبرى ، والجدير بالذكر أنّ المحقّق السيد عبدالعزيز الطباطبائي - رحمه اللّه - قام مشكوراً بفهرسة كبيرة في خصوص مناقب آل البيت ، وأسماه ب « أهل البيت في المكتبة العربية » ، ولو ضمّ إليها ما أُلّف بسائر اللغات لضاق النطاق على المحصي والمؤلّف.
ص: 375
قد ورد في القرآن الكريم قرابة ستين مثلاً ، والمثل بطبعه يقرب البعيد ، ويصبّ المعقول في قالب المحسوس ، وقد أفرد غير واحد من علماء الشيعة أمثال القرآن بالبحث والتأليف. هذا ابن النديم يعرف أبا علي بن أحمد بن الجنيد ( المتوفّى 381 ه ) بأنّه قريب العهد ، من أكابر الشيعة ، ثمّ يذكر كتبه ويقول في موضع آخر منه عند تسمية الكتب المؤلّفة في معان شتّى من القرآن ما لفظه : « وكتاب الأمثال لابن الجنيد ». (1)
فلو قام ابن الجنيد وهو من قدماء علمائنا بهذا المجهود ، فقد قام الشيخ أحمد بن عبد اللّه التبريزي النجفي ( المتوفّى عام 1327 ه ) بجمع الأمثال القرآنية وتفاسيرها وما يتعلّق بها وأسماه « روضة الأمثال » وطبع عام ( 1325 ه ) (2) ، وقد تضافر التأليف حول أمثال القرآن في العصر الحاضر من أكابر الشيعة باللغتين العربية والفارسية ، وطبع الأكثر باسم أمثال القرآن. (3)
كما قد ورد في القرآن الكريم قرابة أربعين قسماً حلف فيه سبحانه بالشمس والقمر والليل والنهار إلى غير ذلك من عظائم الموجودات ، المليئة بالأسرار ، وما هذا إلاّ ليتدبّر الإنسان فيها ويقف على ما فيها من العجائب والغرائب ، حتى أنّه سبحانه حلف في سورة الشمس أحد عشر مرّة بأشياء كالشمس والقمر والليل والنهار والسماء والأرض والنفس ، ثمّ رتّب عليها جواباً ، وقال : ( قَدْ أَفْلَحَ مَن
ص: 376
زَكَّاهَا ) ، وقد بحث المفسرون عن هذه الأقسام وتركوا البحث عن أمر مهم ، وهو ما هو الصلة بين المقسم به وجوابه ، حتى أنّ ابن القيّم ( المتوفّى 751 ه ) أفرد كتاباً في أقسام القرآن ، طبع باسم أقسام القرآن ، ولكنّه بحث عن المقسم به في جميع الآيات ، وأهمل البحث عن الصلة بينه وبين جوابه في شتّى الآيات. نعم قام أخيراً ولدنا الفاضل الروحاني الشهيد أبو القاسم الرزاقي (1) بتأليف كتاب حول أقسام القرآن ، وسدّ هذا الفراغ الموجود في التفاسير ، وقد أغرق نزعاً في التحقيق ، وطبع حديثاً.
إنّ قصص القرآن من المواضيع الهامّة التي تحتاج إلى دراسات فنية ، وفيها من العبر ما لا يحصى ، وقد أفرد غير واحد من أصحابنا قصص القرآن قديماً وحديثاً (2) بالتأليف ، أخيرهم ما ألّفه الدكتور محمود البستاني ، فبحث عن القصص القرآنية حسب تسلسلها في السور الكريمة ، وطبع عام ( 1408 ه ) وقد خصّصنا الجزء التاسع من هذه الموسوعة بالأمثال والأقسام.
معارف القرآن تشكّل قسماً هامّاً من مفاهيمه ، خصوصاً فيما يرجع إلى المبدأ والمعاد ، وقد ورد أكثر ما يرجع إلى المعارف الغيبية في السور المكيّة حيث كان النبي يحتج على المشركين ، كما ورد فيما يرجع إلى الكتب والشرائع السماوية وديانات اليهود والنصارى في السور الطوال حيث نزلت أوائل الهجرة.
فقد أفرد غير واحد من أصحابنا كتباً ورسائل حول معارف القرآن أخيرها -
ص: 377
لا آخرها - معارف القرآن للشيخ محمد تقي المصباح ، طرح فيه الآيات المتعلّقة بمعرفة العالم والملائكة والجنّ والشيطان ، نقله إلى العربية عبد المنعم الخاقاني ، وطبع في بيروت.
كما أنّ الحوار والاحتجاج في القرآن له أساليبه ومعطياته ، فقد قام بالاحتجاج على الملحدين والمشركين وعلى أهل الكتاب ، فقد أفرد غير واحد من أصحابنا بالتأليف أخيرها - لا آخرها - الحوار في القرآن للسيد محمد حسين فضل اللّه العاملي ، طبع في بيروت.
إنّ التعرّف على أسباب النزول يسلّط الضوء على مفاد الآية ومفهومها وهو غير خفي على من له إلمام بالتفاسير ، فقد قام غير واحد من أصحابنا بالتأليف حوله ، نذكر نموذجين :
1. أسباب النزول ، للشيخ قطب الدين سعيد بن هبة اللّه الراوندي ، ( المتوفّى عام573 ه ) ، وهو من مصادر بحار الأنوار. (1)
2. الأسباب والنزول على مذهب آل الرسول ، للشيخ رشيد الدين محمد بن علي شهر آشوب السروي ( المتوفّى عام 588 ه ). (2)
هذه نماذج من التفسير الموضوعي أتينا بها إيقافاً للقارئ على جهود علماء الشيعة في العصور السابقة والعصر الحاضر ، وقد تركنا كثيراً من الموضوعات القرآنيّة التي أفردت بالتأليف كالأخلاق والسياسة والمسائل العائلية وغير ذلك
ص: 378
من الموضوعات الهامّة التي تداولتها أقلام المحقّقين في العصر الحاضر بالبحث والتحقيق ، ومن راجع المكتبات العربية ، أو استعرض فهارس مكتبات العالم يقف على مجموعة كبيرة من الكتب تبحث عن موضوعات قرآنيّة حسب التفسير الموضوعي ، وبما أنّ الهدف هنا الإيجاز تركنا التفصيل في ذلك.
لقد استقطب « التفسير الموضوعي » للقرآن الكريم في العصر الحاضر قسطاً كبيراً من اهتمام العلماء نظراً لأهميّة هذا النهج من التفسير ومساعدته على درك المفاهيم القرآنيّة ، والمعارف الإلهية الدقيقة العميقة ، فانّ القرآن كما أسلفنا ذكر هذه المعارف بصورة متفرّقة تبعاً للمناسبات ، ولو جمعت هذه المعارف في محل ، ثمّ درس المفهوم القرآني المعيّن في ضوء كلّ ما يرتبط به من آيات ، لأمكن الحصول على فكرة متكاملة وصورة شاملة لذلك المفهوم.
ولهذا اندفع العلماء المهتمون بالثقافة القرآنية في عصرنا هذا إلى خوض هذا الميدان الشريف الهام بمختلف الصور ، وأتوا بنتائج طيّبة ، وأثمرت جهودهم ثماراً يانعة ، ومن وقف على الدراسات القرآنيّة في جامعة « قم » يرى أنّ لهذا القسم من الدراسات قسطاً كبيراً.
وقد اتّبعنا هذا المنهج منذ عام ( 1389 ه ) وكانت حصيلة هذه السنوات عشرة أجزاء من التفسير الموضوعي تحت عنوان « مفاهيم القرآن » ، تناولت بالترتيب قضايا التوحيد والشرك ، والحكومة الإسلامية ، والأسماء والصفات ، والنبوة العامّة والخاصّة ، وما يرتبط بالسيرة النبوية في ضوء القرآن الكريم.
ولقد لقيت هذه الدراسات إقبالاً واسعاً ممّا يكشف عن أهمية هذا المنهج
ص: 379
من التفسير.
ومن الجدير بالذكر أنّ العلاّمة المجلسي هو أوّل من فتح هذا الباب على مصراعيه في جمع موضوعات القرآن والبحث عنها بحثاً قرآنياً. فانّ ما وصل إلينا من القدماء هو تخصيص موضوع خاصّ بالتفسير ، وأمّا غوّاص بحار درر الأحاديث الشيخ محمد باقر المجلسي ، ( المتوفّى عام 1111 ه ) ، اتّبع هذا المنهج في جميع أبواب كتابه وموسوعته النادرة ، فجمع الآيات المربوطة بكلّ موضوع في أوّل الأبواب وفسّرها تفسيراً سريعاً ، وهذه الخطوة وإن كانت قصيرة لكنّها جليلة في عالم التفسير ، وقد قام بذلك مع عدم توفّر المعاجم القرآنية الرائجة في هذه الأعصار.
وتجدر الإشارة إلى أنّ جهاز الكمبيوتر الذي ثبتت له قدرة كبرى في عملية فرز المعلومات وتجميعها وتحضيرها وبالتالي تقديم تسهيلات هامّة في مجال التحقيق العلمي في شتّى حقول المعرفة ... لو أنّ هذا الجهاز الفعّال استخدم في مجال التفسير الموضوعي لحصل الباحث على نتائج باهرة.
وكلّ أملنا أن تهتمّ الشخصيّات والمؤسسات المهتمة بالمسائل القرآنيّة بهذا الاقتراح ، أو توليه المزيد من العناية به لنستطيع مواكبة العصر الحديث في تقدّمه الصاعد وتلبية حاجاته الماسّة الملحّة.
قد تعرّفت على منهج التفسير الموضوعي فهلمّ معي ندرس المنهج الرائج بين المفسّرين وهو المنهج الترتيبي ، وأظنّ أنّ القارئ في غنى عن تعريفه لشيوعه. وقد قام المسلمون بهذا النمط من التفسير على اختلاف مشاربهم في تفسير القرآن ،
ص: 380
وقام فضلاء الشيعة من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام وسائر الأئمّة المعصومين بهذا النمط من التفسير ، وقد أخذوا علوم القرآن وتبيين مفاهيمها عن أئمّتهم ، فأوّل من دوّن أقواله في التفسير منهم هو عبد اللّه بن العباس ( المتوفّى سنة 68 ه ) ، وأوّل من كتب تفسيراً تلميذه سعيد بن جبير ( المتوفّى عام 95 ه ) (1) ، واستمرّ الأمر إلى عصرنا هذا ، بل لم يكتف كثير منهم بتأليف تفسير واحد حتى ضمّ إليه آخر ، بل كثير منهم عزّزهما بثالث ورابع ، وقد استخرج أسماء هؤلاء المعزّزين شيخ الباحثين « آغا بزرگ الطهراني » في معجمه. (2)
والغالب على التفاسير المدوّنة في القرون الأُولى هو تفسير القرآن بالأثر ، ومن نماذجه تفسير « فرات بن إبراهيم الكوفي » الراوي عن جعفر بن محمد بن مالك البزاز الفزاري الكوفي ( المتوفّى حوالي 300 ه ) ، والمعلّم لأبي غالب الزراي ( المولود 285 ه ) ، وتفسير « علي بن إبراهيم القمي » ( حياً عام 307 ه ) ، و« تفسير العياشي » محمد بن مسعود أُستاذ الشيخ الكليني ( المتوفّى عام 329 ه ) ، إلى غير ذلك من التفاسير المؤلّفة في العصور الأُولى ، فانّ الجلّ لولا الكلّ تفاسير روائية ، وكأنّهم كانوا يجتنبون تفسير القرآن تفسيراً فكرياً تحليليّاً علمياً تحرّزاً من وصمة التفسير بالرأي ، وقد كان هذا النمط سائداً إلى أواخر القرن الرابع بين الشيعة ، حتى أحسّ العلماء بالحاجة الشديدة إلى التفسير العلمي والتحليلي ، منضمّاً إلى ما روي عن النبيّ والأئمّة عليهم السلام ، وأوّل (3) من فتح هذا الباب الشريف الرضي ( المتوفّى 406 ه ) فألّف كتاب « حقائق التأويل » ، في عشرين جزءاً ، ثمّ أخوه الشريف المرتضى ( المتوفّى 436 ه ) في أماليه المسمّى ب « الغرر والدرر » ، ثمّ تلميذه
ص: 381
الأكبر الشيخ الطوسي مؤلف « التبيان » ( المتوفّى 460 ه ) إلى أن صار هذا المنهج هو المنهج المتّبع الشائع في جميع الأعصار إلى عصرنا هذا ، وقلّت العناية بالمنهج الروائي المحض إلاّ في بعض الأعصار ( القرنين الحادي عشر والثاني عشر ) ، كما سيوافيك تفصيله ، وبذلك حصل التطوّر الواضح في تفسير القرآن الكريم ، ولعلّ العناية بالأثر وصيانة تلك الكنوز عن الاندراس حملت المفسّرين في تلك الأعصار على تفسير القرآن بنمط واحد ولون فارد ، وهو التفسير بالأثر من غير فرق بين السنّة والشيعة حتى أنّ أبا جعفر الطبري ( المتوفّى 310 ه ) ، وضع تفسيره على ذلك المنهج ، وقلّما يتّفق أن يستكشف أسرار الآيات ويبسط الكلام فيها.
غير أنّ احتكاك الثقافات والضرورات الاجتماعية فرضت على المفسّرين المنهج العلمي من التفسير حتى يكون ملبّياً لحاجاتهم ، فانّ القرآن بحر لا ينزف. فأدخلوا في التفسير قراءة القرآن ، وإعرابه ، وغوامضه ، ومشكلاته ، ومعانيه ، وجهاته ، ونزوله ، وأخباره ، وقصصه ، وآثاره ، وحدوده ، وأحكامه ، وحلاله وحرامه ، والكلام على مطاعن المبطلين ، والاستدلال على ما يتفرّد به المفسّر في المذهب الفقهي أو الاعتقادي ، وقد ألّف في أواسط القرن الرابع علي بن عيسى الرماني تفسيره المعروف ، وهو بمنهجه العلمي تفوّق على التفاسير المتقدّمة عليه.
وها نحن نذكر أسماء أعلام المفسّرين بالأثر المروي عن النبيّ والآل ، ثمّ نبتعهم بسرد أسماء مشاهير المفسّرين بالتفسير العلمي ، فالمنهج الأوّل يمتد إلى نهاية القرن الرابع ، كما أنّ المنهج الثاني يبتدئ بطلوع القرن الخامس حسبما وصل إلينا من كتبهم ، وبما أنّ أكثر ما أُلّف في العصور الأُولى غير واصلة إلينا ، لا يمكن لأحد القضاء الباتّ في الموضوع ، وأنّ جميع ما في تلك القرون تفاسير روائيّة ، وإنّما نعتمد في ذلك على الحدس وما ذكره الشيخ في أوّل التبيان ، واللّه العالم.
ص: 382
إذا كان التفسير البياني أو اللغوي أمراً رائجاً بعد رحلة النبيّ الأكرم ، كان التفسير بالرواية والأثر أيضاً رائجاً ، ولا يمكن لنا أن نقضي قضاءً باتّاً بتقدّم إحدى المرحلتين على الأُخرى ، وليس من البعيد أن يكون كلا النمطين رائجين في عصر واحد ، وقد تعرّفت على مشاهير مفسّري الشيعة بالتفسير البياني فحان وقت ذكر مشاهير مفسّريهم بالحديث والأثر سواء أكان مرويّاً من النبيّ الأكرم ، أو من أئمّة أهل البيت ، وقد عرفت أنّ أسانيدهم في الرواية تنتهي إلى الرسول الأعظم ، ونحن نقتصر في القائمة التالية بالمشاهير دون كلّ من ألّف تفسيراً حديثيّاً ، وإلاّ فيحوجنا الاستقصاء إلى تأليف مفرد ، كما نذكر من روي منه التفسير بالأثر ، سواء أكان له تأليف أو لا ، وسيوافيك أنّ عصر التدوين متأخّر عن عصر بزوغ التفسير ، وتداوله بين الصحابة والتابعين ، وإليك أسماء الشخصيّات اللامعة في أربعة قرون خدموا القرآن عن طريق الأثر عن النبيّ والآل :
1. عبد اللّه بن عباس : هو ترجمان القرآن ، ابن عمّ النبيّ الأكرم ، ولد قبل
ص: 383
الهجرة بثلاث سنين ، وتوفّي بالطائف سنة ( 68 ه ) ، ذكره ابن النديم في تسمية الكتب المصنّفة في التفسير بعد ما ذكر كتاب التفسير للإمام الباقر عليه السلام وقال : كتاب ابن عباس ، رواه مجاهد وهو أبو الحجاج المقري ، المفسّر المكّي مجاهد بن جبر ، ( المتوفّى عام 102 ه ) ، ورواه عن مجاهد حميد بن قيس الذي توفّي في زمن السفّاح ... ، وسيوافيك أنّ عبد العزيز بن يحيى الجلودي ( المتوفّى عام 332 ه ) يروي تفسيراً عن ابن عباس. (1) وقد طبع تفسير موسوم ب « تنوير المقباس من تفسير عبد اللّه بن عباس » في أربعة أجزاء ، وطبع في بولاق مصر عام ( 1290 ه ) ، وأمّا من هو المؤلّف لهذا التفسير فقد نسبه الحافظ شمس الدين السخاوي في « الضوء اللامع » إلى محمد بن يعقوب الفيروزآبادي ، صاحب القاموس ( المتوفّى عام 818 ه ) ، والكلام في هذا الكتاب ذو شجون ، والتحقيق موكول إلى محله ، وعلى أي تقدير فالرجل في الرعيل الأوّل من المفسّرين بين الصحابة والتابعين ، وقد عرفت مأخذ تفسيره فلا نعيد ، ولم يثبت له كتاب.
2. ابن جبير : هو سعيد بن جبير ( الشهيد عام 95 ه ) بأمر الحجاج بن يوسف الثقفي ، ذكره ابن النديم في « الفهرست » ، وقد استشهد الرجل لولائه وتشيّعه ، وقصته معروفة. (2)
3. عطيّة العوفي : هو المعروف بالجدلي ، وهو غير عطيّة العوفي المعروف
ص: 384
بالبكالي ، فانّ الثاني من أصحاب أمير المؤمنين ، والأوّل من أصحاب الإمام الباقر الذي توفّي سنة ( 114 ه ) ، وقد أخذ عنه : أبان بن تغلب ، وخالد بن طهمان ، وزياد بن المنذر ، كما ذكره النجاشي في تراجم هؤلاء ، وقد جاءت ترجمته في كتب رجال العامّة كتهذيب الكمال وخلاصة التهذيب. (1)
4. السُدّي : أبو محمد إسماعيل بن عبد الرحمن القرشي التابعي الكوفي ( المتوفّى سنة 127 ه ) المعروف بالسدي الكبير ، نسبة إلى سدة مسجد الكوفة ، من أصحاب الأئمّة : علي بن الحسين ومحمد بن علي الباقر وجعفر الصادق عليهم السلام. قال السيوطي في « الإتقان » : إنّ تفسير إسماعيل السدّي من أمثل التفاسير ، ونرى المرويّات عنه في كتب التفسير كثيراً. (2)
5. جابر بن يزيد الجعفي : قال النجاشي : عربي قديم ، ثمّ سرد نسبه وقال : لقى أبا جعفر وأبا عبد اللّه عليهما السلام ، مات سنة ( 128 ه ) ، له كتب منها التفسير. عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب الإمام الباقر عليه السلام . (3)
6. زيد بن أسلم العدوي : عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب الإمام السجّاد والإمام الصادق عليهما السلام. (4) وذكر ابن النديم له كتاب التفسير ، وقال : كتاب التفسير عن زيد بن أسلم ، وهو بخط السكري ، وهو أبو سعيد الحسن بن حسين
ص: 385
ابن عبد اللّه السكري ، النحوي ، اللغوي ، ( المتوفّى عام 275 ه ).
7. أبان بن تغلب : وهو أبان بن تغلب بن رباح البكري الجريري ، ( المتوفّى عام 141 ه ) ، قال ابن النديم : كتاب التفسير لابن تغلب ، ثمّ ذكر في مكان آخر ما لفظه : كتاب معاني القرآن ، لطيف وكتاب القراءات ، والظاهر أنّ المراد من معاني القرآن هو تفسير غريبه ، وقد مرّ ذكره. (1)
8. محمّد بن السائب الكلبي : هو محمد بن السائب بن بشر الكلبي ، ( المتوفّى 146 ه ) ، من أصحاب الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام ، وهو والد أبي المنذر هشام الكلبي النسّابة ( المتوفّى 206 ه ) ، ترجمه ابن النديم وذكر تفسيره ، وقال : وهو تفسير كبير ، وقد عدّه الشيخ من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام. (2)
9. أبو حمزة الثمالي : هو ثابت ابن أبي صفيّة. قال النجاشي : كوفي ثقة ، وكان آل المهلب يدّعون ولاءه ، وليس من قبيلتهم ، لأنّهم من العتيك ( والعتيك : بطن من الأزد ) ، لقي علي بن الحسين وأبا جعفر وأبا عبد اللّه وأبا الحسن ( الكاظم ) عليهم السلام ، وروى عنهم ، وكان من خيار أصحابنا وثقاتهم ومعتمديهم في الرواية والحديث ، وروى عن أبي عبد اللّه أنّه قال : أبو حمزة في زمانه مثل سلمان في زمانه ، ومات سنة ( 150 ه ) ، وذكره ابن النديم في فهرسته ، والكاتب الجلبي في كشف الظنون ، ويروي عن هذا التفسير : الثعلبي ( المتوفّى 427 ه ) في الكشف والبيان ، كما يروي عن هذا التفسير ابن شهر آشوب في كتابيه « الأسباب والنزول » ، و « المناقب ». وقال ابن حجر في « التقريب » ( 1 / 116 ) : رافضي مات في خلافة أبي جعفر المنصور. (3)
ص: 386
10. أبوالجارود : زياد بن المنذر ، المعروف بأبي الجارود الهمداني. عرّفه النجاشي بقوله : كوفي من أصحاب أبي جعفر ، وروى عن أبي عبد اللّه ، له كتاب تفسير القرآن ، رواه عن أبي جعفر ، ومات في حياة الإمام الصادق عليه السلام ، وذكره الشيخ في أصحاب الإمام الباقر. وراجع ترجمته في تقريب التهذيب ، وتهذيب التهذيب. (1)
11. حسن بن واقد : هو أخو عبد العزيز ، عبد اللّه بن واقد الذي هو من أصحاب الإمام الصادق ، وذكر ابن النديم في فهرسته كتاب التفسير له كما ذكر له الناسخ والمنسوخ. (2)
12. أبو جنادة السلولي : هو الحصين بن المخارق بن عبد الرحمن السلولي ، بن ورقاء بن حبشي بن جنادة ويعدّ جدّه الحبشي من الصحابة ، وقد عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب الصادق والكاظم عليهما السلام ، وذكر له التفسير. قال النجاشي : الحبشي ( جدّه ) صاحب النبيّ ، روى عنه ثلاثة أحاديث ، أحدها : « عليّ منّي وأنا منه » ، ثمّ قال : له كتاب التفسير والقراءات. (3)
13. وهيب بن حفص : هو المعروف بأبي علي الحريري مولى بني أسد ، روى عن أبي عبد اللّه وأبي الحسن ( الكاظم ) ، وكان ثقة وصنّف كتباً ، منها : كتاب تفسير القرآن وكتاب في الشرائع. (4)
14. علي بن أبي حمزة البطائني : عرّفه النجاشي بقوله : كوفي ، روى عن أبي
ص: 387
الحسن موسى ( الكاظم ) ، وروى عن أبي عبد اللّه ، وصنّف كتباً ، منها : كتاب جامع في أبواب الفقه ، وكتاب التفسير وأكثره مروي عن أبي بصير ، وذكره الشيخ في أصحاب الصادق عليه السلام. (1)
15. الإمام الحافظ الكبير عبد الرزاق بن همام اليماني ، ( 126 - 211 ه ) ، ترجمه الذهبي في « تذكرة الحفاظ » وعدّه الشيخ في عداد أصحاب الإمام الصادق عليه السلام ، وذكر النجاشي اسمه في ترجمة أبي علي محمد بن همام بن سهيل الاسكافي البغدادي ، وتوجد نسخة من تفسيره في بعض مكتبات مصر ، سنة كتابته ( 724 ه ) ، وقد أكثر فيه الرواية عن أبي عروة : معمر بن راشد الصنعاني البصري من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام. (2)
16. ابن محبوب : هو الحسن بن محبوب ( 150 - 224 ه ) ، قال الشيخ : كوفي ثقة ، روى عن أبي الحسن الرضا عليه السلام ، وروى عن ستين رجلاً من أصحاب أبي عبد اللّه ، وكان جليل القدر ويعدّ من الأركان الأربعة في عصره ، ثمّ عدّ كتبه ، وقال : وزاد ابن النديم كتاب التفسير. (3)
17. ابن فضّال الكبير : وهو أبو محمد الحسن بن علي الفضّال الكوفي ، ( المتوفي عام 224 ه ) ، ذكر تفسيره ابن النديم ، وله أيضاً « الشواهد من كتاب اللّه »
ص: 388
وذكر النجاشي له خصوص الناسخ والمنسوخ ، وقال الشيخ : روى عن الرضا عليه السلام ، وكان خصيصاً به ، وكان جليل القدر عظيم المنزلة زاهداً ورعاً ثقة في الحديث وفي رواياته ، ثمّ ذكر كتبه ، وقال : وزاد ابن النديم كتاب التفسير. (1)
18. الحسن بن سعيد الأهوازي : قال النجاشي : شارك أخاه الحسين في الكتب الثلاثين المصنّفة. خاله جعفر بن يحيى بن سعد الأحول من رجال أبي جعفر الثاني ( الجواد ) ، وكُتبُ ابني سعيد كتب حسنة معوّل عليها وهي ثلاثون كتاباً ، ومنها : كتاب تفسير القرآن. وقد ذكرهما الشيخ من أصحاب الرضا عليه السلام وتوفّي الإمام الرضا عليه السلام عام ( 203 ه ). (2)
19. محمد بن خالد بن عبد الرحمان الكوفي البرقي : قال النجاشي : وكان أديباً حسن المعرفة بالأخبار وعلوم العرب ، له كتب منها : كتاب التفسير ، وعدّه الشيخ في رجاله من أصحاب الجواد عليه السلام ، كما عدّه أيضاً في موضع آخر من أصحاب الرضا عليه السلام . (3)
20. عبد العزيز بن يحيى بن أحمد بن عيسى الجلودي : من أصحاب الإمام الجواد ، وذكر النجاشي له كتباً كثيرة ، وقال : كتاب التفسير عن علي ، ثمّ قال : وكتاب تفسيره عن الصحابة ، وهو من المكثرين في التفسير ، وقد مرّ أنّ له كتب التفسير عن ابن عباس وغيره ، وقد ذكر له ما يقرب من مائتي كتاب ، وقال الشيخ : « عبد العزيز الجلودي من أهل البصرة ، امامي المذهب ، له كتب في السير والأخبار ... » ، وقد ذكر المعلّق على فهرست الشيخ أنّه توفّي سنة ( 232 ه ). (4)
ص: 389
21. محمد بن عباس بن عيسى : قال النجاشي : كان يسكن بني غاضرة ، روى عن أبيه والحسن بن علي بن أبي حمزة وعبد اللّه بن جبلة ، له كتب منها : كتاب التفسير. (1)
22. علي بن الحسن بن فضّال : قال النجاشي : « كان فقيه أصحابنا بالكوفة ووجههم وثقتهم وعارفهم بالحديث المسموع قوله فيه ، سمع منه شيء كثير ، ولم يعثر له على زلّة فيه ولا ما يشينه ، وقلّما روى عن ضعيف ، وصنّف كتباً كثيرة منها : كتاب التفسير ، ومنها : كتاب التنزيل من القرآن والتحريف » ، ولعلّ المراد أسباب النزول الصحيحة والمحرّفة. عدّه الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب الهادي والعسكري ، توفّي أبوه سنة ( 224 ه ). وقال الشيخ : ثقة كوفي كثير العلم ، واسع الرواية والأخبار ، جيد التصانيف ، وعدّ كتبه ومنها : كتاب التفسير. (2)
23. أحمد بن محمد بن خالد البرقي : مؤلّف كتاب « المحاسن » ، وهو مشتمل على عدّة كتب منها كتاب التفسير والتأويل ، وله كتاب فضل القرآن أيضاً ، توفي عام ( 274 ه ) ، وذكره الشيخ في رجاله في أصحاب الجواد والهادي عليهما السلام. (3)
24. فرات بن إبراهيم الكوفي : وقد أكثر فيه الرواية عن الحسن بن سعيد
ص: 390
الكوفي الأهوازي الذي أدرك الإمام الرضا والجواد والهادي عليهم السلام ، كما أكثر فيه من الرواية عن جعفر بن مالك البزاز الكوفي ( المتوفّى حدود 300 ه ) ، كما أكثر من الرواية عن عبيد بن كثير العامري الكوفي ( المتوفّى سنة 294 ه ) ، فالمؤلّف من أعيان الإمامية ، في أوائل القرن الرابع ، ويروي عنه والد الشيخ الصدوق علي بن الحسين ابن بابويه القمي ( المتوفّى سنة 329 ه ). طبع مرّتين ، المرّة الثانية طبعة محقّقة. (1)
25. محمد بن أوْرَمة : أبو جعفر القمي ، ترجمه النجاشي في رجاله ، وذكره الشيخ في باب من لم يرو عن الأئمّة عليهم السلام ، وذكر النجاشي له كتباً كثيرة منها : كتاب تفسير القرآن. (2)
26. علي بن إبراهيم بن هاشم الكوفي القمي : أُستاذ الكليني ، وكان في عصر أبي محمد العسكري وبقي حياً إلى سنة ( 307 ه ) ، وقد روى الصدوق في « عيون أخبار الرضا » ، عن حمزة بن محمد بن أحمد بن جعفر ، قال : أخبرنا علي بن إبراهيم بن هاشم سنة ( 307 ه ) ، وطبع تفسيره مرّات ، ولنا بحث ضاف حول تفسيره. قال النجاشي : ثقة في الحديث ، ثبت ، معتمد ، صحيح المذهب ، سمع فأكثر وصنّف كتباً ، وله كتاب التفسير. (3)
27. ابن بابويه : أبو الحسن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ، المتوفّى سنة تناثر النجوم ( 329 ه ) ، قال النجاشي : له كتب ، منها : كتاب التفسير ، ثمّ رواه عنه بواسطة أبي الحسن العباس ، بن عمر بن العباس وقال المجيز : أخذت أجازة علي بن الحسين بن بابويه لمّا قدم بغداد سنة (328) بجميع كتبه.
ص: 391
وقال الشيخ في « الفهرست » : كان فقيهاً جليلاً ثقة ، وله كتب كثيرة ، ثمّ عدّ كتبه ، منها : كتاب التفسير ، وذكره في الرجال في باب من لم يرو عن الأئمّة ، وقال : روى عنه التلعكبري ، قال : سمعت منه في السنة التي تهافتت فيها الكواكب ، دخل بغداد فيها وذكر أنّ له منه إجازة بجميع مرويّاته. وذكره ابن النديم في الفهرست وهو والد الصدوق مؤلّف أحد الكتب الأربعة الفقهية المطبوعة. (1)
28. العياشي : أبو النضر محمد بن مسعود السمرقندي ، المؤلّف لما يزيد على مائتي كتاب في عدة فنون : الحديث ، الرجال ، التفسير ، النجوم ، وهو في طبقة مشايخ الكليني ، وشيخ الكشي.
قال النجاشي : ثقة ، عين من عيون هذه الطائفة ، وسمع من شيوخ الكوفيين والبغداديين والقميين ، أنفق تركة أبيه على العلم والحديث ، وكانت ثلاثمائة ألف دينار ، وكانت داره كالمسجد بين ناسخ أو مقابل أو قارئ أو معلّق ، مملوءة من الناس.
وقال الشيخ : جليل القدر ، واسع الأخبار ، بصير بالروايات ، مطّلع عليها. له كتب كثيرة تزيد على مائتي مصنّف ، ذكر فهرس كتبه أبو إسحاق النديم ، منها : كتاب التفسير ، وقد طبع جزءان من هذا التفسير ينتهي إلى سورة الكهف ، وقد جنى الناسخ على الكتاب وأسقط أسانيد الحديث. (2)
النعماني : أبو عبد اللّه محمد بن إبراهيم بن جعفر الكاتب النعماني الراوي عن ثقة الإسلام الكليني ( المتوفّى سنة 329 ه ). قال الشيخ الحرّ العاملي : رأيت
ص: 392
قطعة من تفسيره (1) ولعلّ ما رآه هو رسالة المحكم والمتشابه المطبوع باسم السيد المرتضى ، وقد أدرجها القمي في أوّل تفسيره ، والسيد هاشم البحراني في تفسير البرهان ، ولأجل أنّه لم يتحقّق لنا أنّ له تفسيراً وراء هذا لم نذكر له رقماً خاصّاً.
29. ابن الوليد : محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد. قال النجاشي : شيخ القميين وفقيههم ومتقدّمهم ووجههم ثقة ثقة أي مسكون إليه ، له كتب منها : كتاب تفسير القرآن. وقال الشيخ : جليل القدر ، عارف بالرجال ، موثوق به ، له كتب منها : كتاب الجامع وكتاب التفسير ، وقال ابن النديم مثله. (2)
30. محمد بن أحمد بن إبراهيم الصابوني : مؤلّف تفسير « معاني القرآن » من قدماء أصحابنا ، وأعلام فقهائنا ممّن أدرك الغيبتين : الصغرى والكبرى. ذكر النجاشي فهرس كتبه وعدّ منها : التفسير ، كما عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب الإمام الهادي ، وهو أُستاذ جعفر بن محمد بن قولويه ( المتوفّى عام 369 ه ). (3)
31. أبو منصور الصرام : عرّفه الشيخ في فهرسته ، وقال : وكان رئيساً مقدّماً ، وله كتب كثيرة ، منها : كتاب في الأُصول سمّاه بيان الدين ، وقال : له كتاب تفسير القرآن كبير حسن ، ورأيت ابنه أبا القاسم ، وكان فقيهاً وسبطه أبا الحسن ، وكان من أهل العلم. (4)
32. الصدوق : محمد بن علي بن بابويه ، نزيل الري. قال النجاشي : شيخنا وفقيهنا ووجه الطائفة بخراسان ، وكان ورد بغداد سنة ( 355 ه ) ، وسمع منه
ص: 393
شيوخ الطائفة وهوحدث السن ، ثمّ ذكر فهرس كتبه الكثيرة منها : كتاب مختصر تفسير القرآن.
وقال الشيخ : جليل القدر ، يكنّى أبا جعفر ، كان جليلاً حافظاً للأحاديث ، بصيراً بالرجال ، ناقداً للأخبار ، لم ير في القميين مثله في حفظه وكثرة علمه ، له نحو ثلاثمائة مصنّف ، وفهرس كتبه معروف(1)وقد توفّي عام ( 381 ه ).
هؤلاء اثنان وثلاثون شخصاً ، وكلّ واحد منهم كوكب في سماء التفسير والحديث ، وقد حافظوا بكتبهم على حديث رسول اللّه وأهل بيته المطهّرين ، ضربوا آباط الإبل لتحصيل الحديث ، وهاجروا من بلد إلى بلد وتشهد بذلك تراجمهم ، ولو أردنا أن نستقصي أسماء من كتب تفسيراً للقرآن من الشيعة في هذه القرون الأربعة لضاق بنا المجال وتجاوز الرقم المائة ومن أراد التوسّع فعليه الرجوع إلى المعاجم.
وأنت ترى أنّ النمط السائد على كتب هؤلاء ، هو التفسير بالأثر والرواية ، ولكنّ الذين جاءوا من بعدهم أحسّوا أنّ هناك نمطاً آخر من التفسير أكمل من النمط السابق ، وهو تفسير القرآن تفسيراً علمياً جامعاً ، والبحث عمّا يتعلّق بلفظ القرآن ومعناه ، فأدخلوا فيها علم القراءات ، وإقامة الحجج عليها ، وأسباب النزول ، والمغازي ، والقصص ، والحكايات ، والأبحاث الكلامية التي يستدلّ عليها المفسّر بالقرآن الكريم ، وإليك أسماء من أتى بعدهم وهم بين مقتفين لأثر السابقين ، ومبدعين نمطاً جديداً باسم التفسير العلمي.
ص: 394
لقد حل القرن الخامس ، في حين استفحل أمر الفرق الإسلامية ، وتشتّت المذاهب الكلامية فيما يرجع إلى المبدأ والمعاد خصوصاً في أسمائه وصفاته ، وهم :
بين مشبّه لله سبحانه بمخلوقه « يثبت له يداً ورجلاً ووجهاً وحركةً » وانتقالاً كالإنسان ، ويكفر من ينكر ذلك ، ويباهي بعقيدته ، ويرفع عقيرته : بأنّا نثبت لله سبحانه ما أثبته لنفسه في الكتاب والسنّة ، وكأنّهم لم يسمعوا قوله سبحانه : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) أو قوله عزّ من قائل : ( مَا قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) .
وبين معطّل في فهم الأسماء والصفات فيفوض معانيها إلى اللّه سبحانه ، ويرتدع عن تفسيرها على ضوء الكتاب والسنّة والعقل ، وكأنّ القرآن لم ينزل إلاّ للقراءة والكتابة ، لا للفهم والدراية ، وكأنّ الوحي لم ينقر أسماعهم ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) .
وبين مؤوّل للآيات حسب عقيدته وفكرته يُخضعون كلام اللّه لآرائهم ، وكأنّ النبي الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يحذّرهم عن تفسير القرآن بالرأي ولم يقل : « من فسّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار ».
ففي هذه الظروف القاسية قام علماء الشيعة بتفسير القرآن تفسيراً علمياً غير مائلين لا إلى اليمين ولا إلى الشمال ، غير عاضدين لهذه الفرق ، مقتفين أثر الكتاب العزيز ، مستلهمين من أثر الرسول ، ومتدبّرين في الآيات ، فألّفوا في هذا المجال موسوعات تفسيريّة لم تزل تشعّ منذ تكوّنها إلى يومنا هذا ، وإليك أسماءهم :
33. أبو الحسن الشريف الرضي : نقيب العلويّين ، محمّد بن الحسين بن
ص: 395
موسى المعروف بالسيد الرضي ، ولد عام ( 359 ه ) وتوفّي عام ( 406 ه ) ، وهو صاحب الأثر الخالد : نهج البلاغة ، الذي قام فيه بجمع خطب الإمام ورسائله وكلمه من هنا وهناك ، وله « حقائق التأويل في متشابه التنزيل » وهو تفسيره الكبير التي يعبّر عنه تارة « بحقائق التأويل » ، وأُخرى بالكتاب الكبير في متشابه القرآن ، وعبّر عنه النجاشي بحقائق التنزيل ، وصاحب عمدة الطالب بكتاب المتشابه في القرآن. ذكره ابن شهر آشوب في معالم العلماء ، وقال : يتعذّر وجود مثله. وقال النسابة العمري في المجدي : شاهدت له جزءاً مجلداً من تفسير منسوب إليه في القرآن ، مليح حسن ، يكون بالقياس في كبر تفسير أبي جعفر الطبري أو أكبر.
وقال ابن خلّكان : « يتعذّر وجود مثله ، دلّ على توسّعه في علم النحو ، واللغة ، وصنّف كتاباً في مجازات القرآن فجاء نادراً في بابه » ، وقد طبع منه الجزء الخامس ، أوّله تفسير قوله : ( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ... ) .
ونقل الخطيب في تاريخ بغداد عن شيخه أحمد بن محمد ( المتوفّى 445 ه ) أنّ الرضي صنّف حول معاني القرآن ما يتعذّر وجود مثله ، فيذكر الآيات المشكلة أو المتشابهة ، فيزيل إشكالها وغموضها ، وكتابه هذا غير مجازات القرآن المنتشرة.(1)
34. محمد بن محمد بن النعمان المفيد ( 336 - 413 ه ).
يقول النجاشي : شيخنا وأُستاذنا - رضي اللّه عنه -. فضله أشهر من أن يوصف في الفقه والكلام والرواية والثقة والعلم.
ص: 396
يقول الشيخ الطوسي - تلميذه الآخر - : « يكنّى أبا عبد اللّه المعروف بابن المعلم ، من جملة متكلّمي الإماميّة انتهت إليه رئاسة الإماميّة في وقته ، وكان مقدّماً في العلم وصناعة الكلام ، وكان فقيهاً متقدّماً فيه ، حسن الخاطر ، دقيق الفطنة ، حاضر الجواب ، توفّي لليلتين خلتا من شهر رمضان ، سنة ( 413 ه ) ، وكان يوم وفاته يوماً عظيماً لم ير أعظم منه ، من كثرة الناس للصلاة عليه ، وكثرة البكاء من المخالف والموافق ».
وقال ابن كثير : « توفّي في سنة ( 413 ه ) ، عالم الشيعة ، وإمام الرافضة ، صاحب التصانيف الكثيرة المعروف بالمفيد ، وبابن المعلم أيضاً ، البارع في الكلام والجدل والفقه ، وكان يناظر أهل كلّ عقيدة بالجلالة والعظمة في الدولة البهية البويهيّة ، وكان كثير الصدقات ، عظيم الخشوع ، كثير الصلاة والصوم ، خشن اللباس ، وكان عضد الدولة ربّما زار الشيخ المفيد ، وكان شيخاً ربعاً نحيفاً أسمر ، عاش ( 76 سنة ) ، وله أكثر من مائتي مصنّف ، وكان يوم وفاته مشهوداً وشيّعه ثمانون ألفاً من الرافضة والمعتزلة » ، وقد سرد تلميذه النجاشي أسماء كتبه وفيها ما يمسّ بالموضوع 1. كلام في دلائل القرآن ، 2. البيان في تأليف القرآن ، 3. النصرة في فضل القرآن ، 4. الكلام في حدوث القرآن ، 5. البيان عن غلط قطرب في القرآن ، 6. الردّ على الجبائي في التفسير ، ولأجل هذه الكتب الكثيرة حول القرآن فهو من أكبر المهتمين بالقرآن ، وكيف لا يكون ذلك وقد تربّى في مدرسته العلمان الكبيران المفسران : المرتضى والطوسي بل والشريف الرضي. (1)
ص: 397
35. السيد المرتضى علم الهدى ، أبو القاسم علي بن الحسين بن موسى.
يصفه النجاشي بقوله : حاز من العلوم ما لم يحزه أحد في زمانه ، وسمع من الحديث فأكثر ، كان متكلّماً شاعراً أديباً عظيم المنزلة في العلم والدين والدنيا ، وهو من المكثرين في التأليف حول القرآن ، أهمّها « الدرر والغرر » ، المطبوع عدّة مرّات.
ووصفه الشيخ في فهرسته بقوله : المرتضى متوحّد في علوم كثيرة ، مجمع على فضله ، مقدّم في العلوم ، مثل علم الكلام والفقه وأُصول الفقه ، والأدب والنحو والشعر ومعاني الشعر ، واللغة ، وغير ذلك ، له من التصانيف ومسائل البلدان شيء كثير مشتمل على ذلك فهرسه المعروف.
وقال في رجاله : انّه أكثر أهل زمانه أدباً وفضلاً ، متكلّم ، فقيه ، جامع العلوم كلّها ، مدّ اللّه في عمره. إلى غير ذلك من كلمات الثناء من مشايخ العامة والخاصّة التي يضيق بنا المجال لنقل معشارها ، وقد ترجمه كثير من أصحاب المعاجم. راجع لفهرسها كتاب الغدير. يقول الذهبي : « كتاب غرر الفوائد ودرر القلائد » كتاب يشتمل على محاضرات أو أمالي أملاها الشريف المرتضى في ثمانين مجلساً ، تشتمل على بحوث في التفسير والحديث ، والأدب ، وهو كتاب ممتع ، يدل على فضل كثير ، وتوسّع في الاطّلاع على العلوم ، وهو لا يحيط بتفسير القرآن كلّه ، بل ببعض من آياته التي يدور أغلبها حول العقيدة.
إنّ من الجناية على العلم وأهله رمي السيد المرتضى بأنّه يسعى في كتابه هذا للتوفيق بين آرائه الاعتزالية وآيات القرآن التي تتصادم معها ». وهذا ما يقوله الذهبي ، وهو شنشنة أعرفها من كلّ من لم يفرق بين مبادئ التشيّع والاعتزال ، فزعم أنّ اشتراكهما في بعض المبادئ كامتناع رؤية اللّه سبحانه ، وحريّة الإنسان في حياته ، وسعادته وشقائه ، بمعنى اتحادهما في جميع الأُصول والمبادئ ، ولم يقف على
ص: 398
أنّ المعتزلة في بعض آرائهم وعقائدهم عيال على خطب الإمام أمير المؤمنين وكلماته ، هذا والكتاب قد طبع مرّات محقّقة. (1)
36. محمد بن الحسن الطوسي ، أبو جعفر ، جليل من أصحابنا.
قال النجاشي : ثقة ، عين من تلامذة شيخنا أبي عبد اللّه.
وقال العلاّمة في الخلاصة : شيخ الإمامية ورئيس الطائفة ، جليل القدر ، عظيم المنزلة ، ثقة ، عين ، صدوق ، عارف بالأخبار والرجال والفقه والأُصول والكلام والأدب ، وجميع الفضائل تنتسب إليه ، صنّف في كلّ فنون الإسلام ، وهو المهذِّب للعقائد في الأُصول والفروع ، والجامع لكمالات النفس في العلم والعمل ، وكان تلميذ الشيخ المفيد ، ولد - قدّس اللّه روحه - في شهر رمضان سنة ( 385 ه ) ، وقدم العراق في شهور سنة ( 408 ه ) ، وتوفّى - رضي اللّه عنه - ليلة الاثنين ، الثاني والعشرين من المحرّم سنة ( 460 ه ) بالمشهد المقدّس الغروي ، ودفن بداره.
وقد ترجمه أصحاب المعاجم من العامّة والخاصّة ، وكفانا عن مؤونة البحث ، ما ألّفه حول حياته شيخ الباحثين شيخنا المجيز الطهراني الذي طبع في مقدمة كتاب التبيان ، وأمّا كتاب « التبيان » ، فيكفي فيه قول الطبرسي :
« إنّه الكتاب الذي يقتبس منه ضياء الحقّ ، ويلوح عليه رواء الصدق ، قد تضمن من المعاني ، الأسرار البديعة ، واحتضن من الألفاظ اللغة الوسيعة ، ولم يقنع بتدوينها دون تبيينها ، ولا بتنميقها دون تحقيقها ، وهو القدوة أستضيء بأنواره وأطأ
ص: 399
مواقع آثاره ». (1)
وأمّا منهجه في التفسير فيظهر من قوله في مقدمته. يقول « سمعت جماعة من أصحابنا قديماً وحديثاً يرغبون في كتاب مقتصد ، يجتمع على جميع فنون علم القرآن من القراءة ... والجواب عن مطاعن الملحدين فيه ، وأنواع المبطلين كالمجبّرة والمشبّهة والمجسّمة وغيرهم ، وذكر ما يختصّ أصحابنا به من الاستدلال بمواضع كثيرة منه على صحّة مذاهبهم في أُصول الديانات وفروعها ».
ثمّ إنّ كتاب التبيان تداولته العلماء ، وأخذوا في تحقيقه ، فمنهم من اختصره كابن إدريس الحلي ( المتوفّى عام 598 ه ) ، وأبي عبد اللّه محمد بن هارون ( المتوفّى عام 597 ه ) ، كما أرّخه الجزري في طبقات القرّاء ، وسيوافيك أسماؤهما في القرن السادس فانتظر.
37. أبو سعيد ، إسماعيل بن علي بن الحسين السمان ، المعاصر للسيد المرتضى والشيخ الطوسي ، حيث يروي عنه من يروي عنهما كإسماعيل وإسحاق ابني محمد بن الحسن بن الحسين بن علي بن موسى بن بابويه القمي. وذكره الشيخ منتجب الدين في فهرسته ، وقال : ثقة وأيّ ثقة ، حافظ ، له « البستان في تفسير القرآن » في عشر مجلّدات. (2)
38. محمّد بن علي الفتّال ، قال الشيخ منتجب الدين : الشيخ محمد بن علي
ص: 400
الفتّال النيسابوري صاحب التفسير ، ثقة وأيّ ثقة. أخبرنا جماعة من الثقات عنه بتفسيره. ويظهر منه أنّه غير الفتّال المعروف مؤلّف روضة الواعظين ، حيث عنونه أيضاً وقال : ... الشيخ الشهيد محمد بن أحمد الفارسي مصنّف « روضة الواعظين » (1) ، ولم يذكر له التفسير ، واحتمل المصحّح وحدتهما وأشار في التعليقة أنّه تقدّم ، ولكنّه خلاف الظاهر ، إذ لا وجه لعنوان شخص واحد مرّتين.
39. محمد بن الحسن الفتّال النيسابوري : له كتاب « التنوير في معاني التفسير » ، « روضة الواعظين وبصيرة المتعظين » (2) ويأتي هناك ما ذكرناه سابقاً من احتمال الوحدة ، وانّ هناك فتّالاً واحداً باسم محمد بن الحسن بن علي بن أحمد ، وقد أضافه ابن شهر آشوب إلى أبيه ، وقال : محمد بن الحسن ، وأضافه منتجب الدين إلى جدّه ، وقال « محمد بن علي » ، كما يحتمل تعدّدهما ، وعلى كلّ حال فقد قتل شيخنا الفتّال عبد الرزاق رئيس نيسابور ابن أخي الخواجة نظام الملك الطوسي. (3)
40. فضل بن الحسن بن الفضل المعروف بالطبرسي والمقام يضيق عن نقل معشار ما ذكروا في حقّه ، وهو من أكابر علماء الإماميّة في القرن السادس ، وتفسيره المسمّى ب « مجمع البيان » يقع في عشرة أجزاء طبع في إيران وبيروت ومصر ، ولد عام ( 471 ه ) ، وتوفّي عام ( 548 ه ) ، وقد ترجمه أصحاب المعاجم بأبلغ الألفاظ ، يقول الدكتور محمد موسى في مقالة حول « مجمع اليبان » :
- بعد نقل كلام الطبرسي في وصف كتابه - القارئ لهذا الكتاب ، والباحث الذي يلجأ إليه فيما يعاني من تفسير كتاب اللّه العظيم ومعضلاته ، والمتتبع لتطوّر
ص: 401
علم التفسير وما كتب فيه على مرّ القرون. كلّ من أُولئك يتبيّن كيف وفِّق المؤلّف رضوان اللّه عليه للوفاء بكلّ ما قال في المقدّمة من علوم القرآن المتعدّدة ، وإلى أيّ مدى عال مرموق بلغ من ذلك كلّه ، وبأيّ أُسلوب بليغ عالي المنزلة عالج النواحي التي عالجها ، وبأيّ أمانة وصدر رحب نقل ما نقل من آراء مخالفيه في الرأي أو المذهب ، على ندرة هذه الخطة الأخيرة بين غير قليل من العلماء الذين يتصدون للتأليف في العلوم والفنون التي يكثر فيها الاختلاف ، ويشتدّ ، كما ترى بوضوح في كثير من المؤلّفات في علم الكلام ، وعلم الفقه.(1)
يقول الطبرسي في مقدمة مجمع البيان : ابتدأت بتأليف كتاب هو في غاية التلخيص والتهذيب وحسن النظم والترتيب ، يجمع أنواع هذا العلم وفنونه ، ويحوي فصوصه وعيونه ، من علم قراءاته وإعرابه ، ولغاته وغوامضه ومشكلاته ، ومعانيه وجهاته ، ونزوله وأخباره ، وقصصه وآثاره ، وحدوده وأحكامه ، وحلاله وحرامه ، والكلام على مطاعن المبطلين ، وذكر ما ينفرد به أصحابنا - رضي اللّه عنهم - من الاستدلالات بمواضع كثيرة منه على صحّة ما يعتقدونه من الأُصول والفروع والمعقول والمسموع على وجه الاعتدال والاختصار ، فوق الإيجاز ودون الإكثار - إلى أن يقول : - إنّي قد جمعت في عربيته كلّ غرّة لائحة ، وفي إعرابه كلّ حجّة واضحة ، وفي معانيه كلّ قول متين ، وفي مشكلاته كلّ برهان مبين ، وهو بحمد اللّه للأديب عمدة ، وللنحوي عدّة ، وللمقرئ بصيرة ، وللناسك ذخيرة ، وللمتكلّم حجّة ، وللمحدّث محجّة ، وللفقيه دلالة ، وللواعظ آلة ... .
ص: 402
والشيخ الذهبي مؤلّف « التفسير والمفسّرون » مع عناده ولجاجه لعلماء الشيعة لم يستطع أن ينكر ما للطبرسي في كتابه « مجمع البيان » من مقدرة كبيرة في مجال التفسير. يقول : « والحقّ أنّ تفسير الطبرسي - بصرف النظر عمّا فيه من نزعات تشيّعيّة ، وآراء اعتزالية - ، كتاب عظيم في بابه ، يدلّ على تبحّر صاحبه في فنون مختلفة من العلم والمعرفة ، والكتاب يجري على الطريقة التي أوضحها لنا صاحبه في تناسق تام وترتيب جميل ، وهو يجيد في كلّ ناحية من النواحي التي يتكلّم عنها ، فإذا تكلّم عن القراءات ووجوهها أجاد ، وإذا تكلّم عن المعاني اللغوية للمفردات أجاد ، وإذا تكلّم عن أسباب النزول وشرح القصص استوفى الأقوال وأفاض ، وإذا تكلّم عن الأحكام تعرّض لمذاهب الفقهاء وجهر بمذهبه ونصره إن كانت هناك مخالفة منه للفقهاء ، وإذا ربط بين الآيات آخى بين الجمل ، وأوضح لنا عن حسن السبك وجمال النظم ، وإذا عرض لمشكلات القرآن أذهب الإشكال وأراح البال ، وهو ينقل أقوال من تقدّمه من المفسّرين معزوّة لأصحابها ، ويرجّح ويوجّه ما يختار منها - إلى أن قال - : والحقّ أن يقال : إنّه ليس مغالياً في تشيّعه ولا متطرّفاً في عقيدته ». (1)
ثمّ إنّ الذهبي يقول :
« وإذا كان لنا بعض المآخذ عليه ، هو تشيّعه لمذهبه وانتصاره له ، وحمله لكتاب اللّه على ما يتّفق وعقيدته ، وتنزيله لآيات الأحكام على ما يتناسب مع الاجتهادات ... ».
يلاحظ عليه : أنّه لو صحّت تلك الموآخذه فلا تختصّ بالطبرسي ومجمعه ،
ص: 403
بل يعمّ كلّ من ورد في مجال التفسير وكتب تفسيراً علمياً ، فانّ كلّ مفسّر يتشيّع لمذهبه وينتصر له ، فالحنابلة والسلفيّون الذين يصرّون على إمكان رؤية اللّه سبحانه يوم القيامة ويسعون لأن يثبتوا له سبحانه أعضاء كأعضاء الإنسان ، متدرّعين بلفظ « بلا كيف » ، ينتصرون لمذهبهم ويتشيّعون له ، ولكنّهم في نظر الذهبي موضوعيون واقعيّون ! وأمّا من حاول تنزيه اللّه سبحانه عن الرؤية والأعضاء البشرية فهو عنده طائفي متعصّب لمذهبه ! وممّا جعله الذهبي دليلاً لتعصّبه ، أنّه يصرّ على عدم رؤية اللّه تبارك وتعالى ، ويستدلّ على مذهبه بما يدلّ عليه. ولو كان ذلك دليلاً على تعصّبه لمذهبه ، فليكن ذلك دليلاً على تعصّب مفسّري أهل السنّة من أهل الحديث والأشاعرة كالرازي والآلوسي ، حيث يصرّون على إمكان رؤيته ، ويستدلّون بما ظاهره إمكان رؤيته. فلماذا ، « باؤك » تجرّ و « بائي » لا تجرّ ؟!
ثمّ إنّ لشيخنا الطبرسي تفاسير أُخرى منها « جوامع الجامع » الذي لخّص فيه كتاب الكشّاف وضمّن فيه نكات كتابه « مجمع البيان » ، وهو تفسير بديع في بابه ، طبع عدّة مرّات.
إنّ الشيخ الطبرسي بعد أن ألّف « مجمع البيان » ، اطّلع على الكشاف ، فأراد أن يجمع بين فوائد الكتابين على وجه الاختصار ، فألّف ذلك الكتاب المعروف ب « جوامع الجامع » ، وقد ذكروا في ترجمته تفسيراً آخر له باسم الوسيط في أربعة مجلّدات ، والظاهر أنّه هو ذلك الكتاب ، وله تفسير آخر باسم الوجيز ، فكأنّه ألّف تفاسير بألوان ثلاثة على وجه التبسيط وهو مجمع البيان ، وعلى وجه الإيجاز والاختصار وهو « الوجيز » ، وعلى نمط بين التبسيط والإيجاز وهو « جوامع الجامع » ، وقد فرغ من الكتاب « مجمع البيان » عام ( 536 ه ) ، وفرغ من الجزء الأوّل من عشرة أجزاء عام ( 530 ه ) ، وكأنّه استغرق تأليف مجمع البيان سبع سنوات ، وقد
ص: 404
قام بهذا الجهد البليغ ، وقد ذرف على الستين.
41. ضياء الدين ، أبو الرضا فضل اللّه بن علي الراوندي الحسني ، وهو مؤلّف الكافي في التفسير ، صرّح به العلاّمة في إجازته لبني زهرة والمؤلّف شيخ منتجب الدين الرازي ، ( المتوفّى سنة 600 ه ) ، وشيخ ابن شهر آشوب ، ( المتوفّى عام 588 ه ) ، وكان المؤلّف ( حيّاً عام 548 ه ).
قال الرازي : « علاّمة زمانه ، جمع مع علو النسب كمال الفضل والحسب ، وكان أُستاذ أئمّة عصره » ، ثمّ ذكر تصانيفه ، منها التفسير ، قال : شاهدته وقرأت بعضها عليه. (1).
42. جمال الدين ، أبو الفتوح الحسين بن علي الخزاعي ، النيسابوري ، الرازي. شيخ منتجب الدين ، وابن شهر آشوب ، وقد تعرّفت على سنة وفاتهما ، والمدفون في جوار سيدنا عبد العظيم الحسني ، له تفسيران أحدهما : عربي أشار إليه في مفتتح تفسيره الفارسي ، والآخر : فارسي في عشرة أجزاء كبار ، وهو المتداول الموسوم ب « روض الجنان » ، طبع مرّتين مرّة عام ( 1323 ه ) ، وثانياً عام ( 1370 ه ) بتصحيح العارف الشيخ مهدي الإلهي القمشئي ، في عشرة أجزاء ، وقد طبعت ترجمة المؤلّف في الطبعة الأُولى بقلم الكاتب الأديب محمد القزويني ، والتفسير مشحون بالأبحاث الأدبية ، وما يرجع إلى القراءة وحجّتها ، وأسباب النزول ، والاحتجاج على المذهب المختار ، ولعلّ المؤلّف توفّي عام ( 550 ه ) (2) ، وربّما
ص: 405
يقال : إنّ الرازي وضع تفسيره على منوال هذا التفسير(1)والمؤلّفان رازيّان غير أنّ الفخر متأخّر عنه قليلاً.
43. رشيد الدين ، أبو علي محمد بن علي بن شهر آشوب السروي ، ( المتوفّى عام 588 ه ) عن مائة سنة إلاّ أربعة أشهر ، له كتاب في التفسير عبّر عنه في كتابه « معالم العلماء » ب « متشابه القرآن » ، وهو كتاب نفيس منبئ عن طول باعه. يقول في مقدمة الكتاب : سألتم - وفّقكم اللّه للخيرات - املأ كتاب في بيان المشكلات من الآيات المتشابهات ، وما اختلف العلماء فيه من حكم الآيات ، ولعمري أنّ لهذا التحقيق بحراً عميقاً فأسأل اللّه المعونة على إتمامه ، وأن يوفّقني لإتمام ما شرعت فيه من كتاب أسباب نزول القرآن ، فانّ بانضمامهما يحصل جلّ علوم التفسير.(2)
وقد طبع الكتاب في طهران سنة ( 1370 ه ) ، وأمّا الكتاب الآخر الذي أشار إليه ، فلم نقف على نسخته ، وقد ترجم المؤلّف لفيف من أعلام الطائفة وغيرهم من أهل السنّة.
44. قطب الدين ، سعيد بن هبة اللّه بن حسن الراوندي ، ( المتوفّى سنة 573 ) ، المدفون بقم ، في صحن السيدة معصومة سلام اللّه عليها ، له « فقه القرآن
ص: 406
في بيان آيات الأحكام » ، وربما يسمّى بأُمّ القرآن ، والكتاب مرتّب على ترتيب كتب الفقه ، ابتدأ فيه بكتاب الطهارة ، ثمّ الصلاة ، وهكذا إلى كتاب الديات ، فرغ منه سنة ( 563 ه ) ، وله أسباب النزول ، وهو من مصادر كتاب « بحار الأنوار » ، صرّح به العلاّمة المجلسي وينقل عنه فيه. (1)
45. أبو عبد اللّه محمد بن هارون ، المعروف والده بالكال أو الكيّال ، ولد عام ( 515 ه ) ، وتوفّي عام ( 597 ه ) ، ترجمه الجزري ( المتوفّى سنة 833 ه ) ، في طبقات القرّاء ، وترجمه ابن العماد في « شذرات الذهب » ، كما ترجمه الشيخ الحرّ العاملي في أمل الآمل. ومن تصانيفه « مختصر التبيان في تفسير القرآن » ، وكتاب « متشابه القرآن ». (2)
46. الشيخ أبو جعفر محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي : مؤلّف السرائر في الفقه ، الطائر الصيت ، ( المتوفّى عام 598 ه ) له مختصر التبيان ، طبع في جزءين ، وقد فرغ منه عام ( 582 ه ) ، ونسخه متوفرة. عسى أن يبعث اللّه بعض ذوي الهمم العالية لنشره.
47. برهان الدين محمد بن أبي الخير ، علي بن أبي سليمان ، ظفر الحمداني ، مؤلّف « مفتاح التفسير » و « دلائل القرآن » ، ترجمه منتجب الدين في فهرسته ، وقال : عالم مفسّر ، صالح واعظ ، كما ترجم ولده محمد بن برهان الدين أيضاً ، ولكن بقي ولده إلى المائة السابعة ، فانّه كتب بخطه نسخة فهرست الشيخ منتجب الدين في ( 613 ه ) ، كما ذكره الشيخ الشهيد الأوّل في آخر نسخته التي استنسخها عن تلك
ص: 407
النسخة. (1)
هذه عشرة كاملة من أعيان القرن السادس اكتفينا بهم وطوينا الكلام عن غيرهم ، وما هذا إلاّ لأنّ الغاية هي إراءة نماذج من مشاهير المفسّرين من الشيعة في كلّ قرن.
كانت نهاية القرن السادس ومجموع القرن السابع والثامن عصر البؤس والدمار وبالتالي شرّ القرون وأسوأها بالنسبة إلى المسلمين ، فقد حلّت فيها بالمسلمين فجائع ونكبات لم يسجّل التاريخ لواحد من الأُمم مثلها ، فبينما كانت الحروب الصليبية لا تزال طاحنة ومشتعلة في أواخر القرن السادس ينتصر فيها المسلمون على العدو الصليبي في فترة بعد فترة ، إذ بدأت الحملات الأُخرى من جانب الشرق على يد التتار والمغول ، فكان مختتم الحروب الصليبية مبدأ للحروب الوثنية على يد عبدة الشمس والكواكب ، وكان هذا يعكس اتّفاق الصليب والصنم وبالتالي الصليبين والوثنيين على تدمير الحضارة الإسلامية.
وفي سنة ( 616 ه ) قصد چنگيزخان البلاد الإسلامية ودمّرها هو وأولاده وأحفاده ، عصراً بعد عصر ، وقد هجم هولاكو على مركز الخلافة العباسي ، بغداد عام ( 656 ه ) ، ففتحوا البلد ، وقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والصبيان والمشايخ والكهول والشبّان ، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحوش وقنى الوسخ ، فبلغ عدد القتلى في نفس بغداد فضلاً عن ضواحيها 000 ، 800 قتيل.
ص: 408
وقد ارتكب مثل ذلك في خراسان والري وهمدان وبلد الجبل ثمّ آذربيجان إلى كثير من الأقطار والأصقاع ، ولم يتوقّف هجومهم على فتح بغداد حتى وصل جيش العدو إلى عين جالوت وغزة في فلسطين ، وكانت الأُمنية الكبرى للعدو هو الاستيلاء على الشامات ثمّ مصر ، والزحف وإن توقّف بتدبير الملك الظاهر بيبرس ، ولكنّ العدو بقى يهاجم الشام بين الحين والآخر ، وهذا هو اليافعي يقول في تاريخه في حوادث سنة ( 702 ه ) :
« طرق غازان بالشام ولكن انهزم عند سور دمشق وتفرّقت جيوشه ، ثمّ جهّز غازان جيوشه فساروا إلى مرج دمشق وتأخّر المسلمون وبات أهل دمشق في بكاء واستغاثة باللّه وخطب شديد وقدم السلطان وانضمت إليه جيوشه ». (1)
وقد امتدّ الدمار إلى أواخر القرن الثامن ، وقد أدّى ذلك إلى مجزرة للمسلمين عامّة والعلماء من بينهم خاصة ، فأُحرقت مكتباتهم ، ودمّرت آثارهم في ذينك القرنين ، حيث ابتدأت الحروب التترية عام ( 616 ه ) ، وانتهت عام ( 807 ه ) بموت تيمور لنگ الذي تظاهر هو بالإسلام وبعض من قبله ، ولكن لم تزل القلوب مضطربة باستيلاء هؤلاء على المناطق الإسلامية.
وعلى ضوء هذا التحليل الإجمالي للوضع المأساوي في ذينك القرنين لا عجب من قلّة العثور على أعلام التفسير فيهما أو قلّة العناية به جرّاء القلاقل ، حيث إنّ التأليف والتصنيف يتوقّف على توفّر الأمن والهدوء ، فلا عتب علينا إذا لم نقف إلاّ على فئة قليلة من أعلام التفسير في هذين القرنين ، ولعلّ الداثر أكثر من الباقي.
هذا من جهة ، ومن جهة أُخرى لما استقرت السلطة التترية في المناطق
ص: 409
المحتلّة وضربت بجرانها في البلاد الإسلامية أخذت تحرّك دفّة العلم باتجاه العلوم الطبيعية والرياضية وأخيراً العقلية ، فصار الغور في هذه الموضوعات ، الشغل الشاغل لأكثر العلماء المتواجدين في المناطق الشرقية من العالم الإسلامي ، ولأجل ذلك أنجبت المدارس العلمية في ذينك القرنين ( السابع والثامن ) ، بل والقرن الذي يليهما مئات الكتب حول النجوم والفلكيّات والرياضيات ، وصارت المسائل الكلاميّة مدار التفكير ، فمن مختصرات إلى مطوّلات ، ومن متون إلى شروح ، نرى أعيانها في المكتبات والمتاحف أو نقرأ أسماءها في مختلف المعاجم ، وصار ذلك هو السبب الثاني لقلّة التأليف حول التفسير إلى أواخر القرن العاشر ، ومع ذلك فنأتي بأسماء أعلام التفسير في هذه القرون :
48. رضي الدين علي بن موسى بن طاووس الحسني الحلّي ، المولود بالحلّة في (15) محرم من سنة ( 589 ه ). أقام ببغداد زمن العباسيين خمسة عشر سنة ، ثمّ رجع إلى الحلّة ، ثمّ جاور النجف ، ثمّ رجع إلى بغداد في أوّل عصر المغول ، وتولّى النقابة من قبل نصير الدين الطوسي عن هولاكو ثلاث سنين وأحد عشر شهراً. قال ابن الفوطي في « الحوادث الجامعة » أنَّه وليّ النقابة للطالبيين بالعراق سنة ( 661 ه ) وتوفّي سنة ( 664 ه ).
له مشايخ وتلاميذ كثيرون ، كما أنّ له تآليف قيّمة ، ومنها « سعد السعود في تاريخ القرآن ». (1)
49. السيد جمال الدين ، أحمد بن موسى بن طاووس الحسني الحلي ، من مشايخ العلاّمة الحلّي وتقي الدين الحسن بن داود صاحب الرجال ، له مؤلّفات كثيرة ، ذكرها تلميذه ابن داود في رجاله ، تبلغ إلى اثنين وثمانين مجلداً ، له خطوات
ص: 410
مشكورة في تحقيق الرجال والدراية والتفسير ، وله شواهد القرآن ، توفي عام ( 673 ه ) ، بعد أخيه رضي الدين بتسع سنين.(1)
50. بهاء الدين يوسف بن أبي الحسن بن أبي القاسم الديلمي الجيلاني ، المعاصر لمحمد بن صالح بن مرتضى التيهاني الذي توفّي عام ( 675 ه ) ، له تفسير ذكره القاضي أحمد بن صالح بن أبي الرجال اليمني ( المتوفّى بصنعاء عام 1092 ه ) في كتابه « مطلع البدور » ، وحكاه شيخنا المجيز في « الذريعة » ، وهو جد أبي الفضل الديلمي صاحب التفسير الذي هو من علماء القرن الثامن كما سيوافيك.(2)
51. مؤلّف نهج البيان عن كشف معاني القرآن ، والمؤلّف من أعيان القرن السابع ، ألّفه لخزانة المستنصر العباسي سنة ( 640 ه ) ، وذكر شيخنا المجيز مستهلّ الكتاب وهو الحمد لله ذي العزّة والجلال والقدرة والحكمة ... ، ثمّ ذكر الصلوات على خاتم الأنبياء وعلى ابن عمّه أمير المؤمنين وولديه السيدين الإمامين الحسن والحسين ، وينقل فيه عن الشيخ المفيد وعن « تبيان » الشيخ الطوسي ، ويوجد نسخ منه في العراق.(3)
52. عبد الرشيد بن الحسين بن محمد الاسترآبادي مؤلّف تأويل الآيات ، التي يتعلّق بها أهل الضلال ، ينقل عنه السيد رضي الدين علي بن طاووس ، المتوفّى سنة ( 664 ه ) ، في كتابه : « سعد السعود » في تفسير لفظ « يس » ولعلّ المؤلّف من أعيان أوائل القرن السابع.(4).
ص: 411
53. عبد الرزاق بن أحمد الكاشي ، العارف ، الحكيم ، المعاصر للعلاّمة الحلّي ، له « السراج الوهّاج في تفسير القرآن » و « تأويلات القرآن » ، وقد سرد تآليفه شيخنا في طبقات أعلام الشيعة. (1)
54. العلاّمة الحلّي ، جمال الدين حسن بن يوسف بن مطهر ، المولود عام ( 648 ه ) ، والمتوفّى عام ( 726 ه ) ، وهو آية من آيات اللّه الكبرى المشتهر بالعلاّمة على الإطلاق ، وهو أظهر من أن يعرف وأشهر من أن يذكر ، وله جهود كبرى وخطوات واضحة في العلوم الإسلامية ، وله في مجال التفسير تأليفات ثلاثة :
1. « السر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز » ، كما ذكره في فهرس كتبه في كتابه « خلاصة الأقوال في علم الرجال ».
2. « نهج الإيمان في تفسير القرآن » لخّص فيه « الكشّاف » و « التبيان » و « مجمع البيان ».
3. « تلخيص الكشاف » حكى شيخنا المجيز في الذريعة أنّه رآه بعض المطّلعين عند بعض علماء العامّة ببغداد ، ولكن يحتمل اتحاد الثالث مع الثاني. (2)
55. قطب الدين ، محمد بن محمد الرازي البويهي ، ( المتوفّى سنة 766 ه ) ، تلميذ العلاّمة الحلّي ، وأُستاذ الشهيد الأوّل ( المتوفّى عام 786 ) ، له تفسيران :
1. « تحفة الأشراف » ، وهو تفسير كبير أبسط من تفسيره الآخر ، يوجد مجلّدان منه في المكتبة الخديوية بمصر من أوّله إلى آخر سورة طه ، وهو كالحاشية على الكشّاف.
ص: 412
2. « بحر الأصداف » ، يوجد منه نسخة في العراق في مكتبة الجوادين بالكاظمية ، فرغ منه المؤلّف سنة ( 733 ه ).
56. ركن الدين حيدر بن علي بن حيدر الحسيني الآملي له المحيط الأعظم في تأويل كتاب اللّه العزيز المحكم ، فرغ من إتمامه سنة ( 777 ه ) ، وهي موجودة في الخزانة الغروية ، قد ذكر شيخنا المجيز الطهراني ثلاثة تفاسير أُخرى له وهي : « التأويلات » و « جامع الأسرار » و « منتخب التأويل ». (1)
57. جمال الدين أحمد بن متوّج البحراني ، مؤلّف « منهاج الهداية في تفسير آيات الأحكام الخمسمائة » يقول الشيخ سليمان بن عبد اللّه الماحوزي في رسالته في أحوال علماء البحرين : انّ الشيخ جمال الدين كان شيخ الإمامية في وقته ، وكان من أعظم تلاميذ فخر المحقّقين ، ( المتوفّى عام 771 ه ) ، واتّفق اجتماعه مع الشهيد الأوّل بمكّة ، فلمّا تناظرا غلب عليه الشهيد ، وقد توفّي الشهيد عام ( 786 ه ) ، فالرجل من أعيان القرن الثامن وإن أدرك قليلاً من أوائل القرن التاسع ، وينقل عنه الفاضل المقداد ، ( المتوفّى عام 828 ه ) في كنز العرفان ، والنسخة موجودة في العراق ، كما حكاه شيخنا المجيز في الذريعة. (2)
58. الشيخ فخر الدين أحمد بن متوّج ، مؤلّف « النهاية في تفسير الخمسمائة آية » ، وهو أيضاً تلميذ فخر المحقّقين الذي توفّي عام ( 771 ه ) ، وشيخ أبي العباس أحمد بن فهد الحلّي ، ( المتوفّى عام 841 ه ) ، وهو أيضاً من المكثرين ، له
ص: 413
تفسيران : كبير مطوّل وصغير مختصر ، وله أيضاً كتاب الناسخ والمنسوخ (1) وهو أيضاً من أعيان القرن الثامن وإن أدرك أوائل القرن التاسع ، ولأجل ذلك ذكرناه في مشاهير المفسرين في القرن الثامن.
59. أبو الفضل ، نجل الفقيه العالم بهاء الدين يوسف بن أبي الحسن الديلمي الجيلاني الذي مرّ عند ذكر مشاهير المفسّرين في القرن السابع ، وقد ذكره القاضي أحمد بن صالح اليمني ، المتوفّى بصنعاء عام (1092) في حرف الفاء من كتابه « مطلع البدور » بعنوان المشهورين بأبي الفضل من علماء العراق ، وذكر من تصانيفه تفسير القرآن ودلائل التوحيد في الكلام ، وذكر شيخنا المجيز أنّ تفسيره كبير في مجلدين ضخمين على كيفية خاصّة ، ثمّ ذكر كيفيته ، ونسخته موجودة في النجف الأشرف ، ويكثر النقل عن احتجاج الطبرسي وتفسير الشيخ الطبرسي والكشّاف وغيرها. (2)
60. فضل اللّه بن عماد الدولة ، أبو الخير ، هو الوزير العالم ، مربي العلماء رشيد الدين فضل اللّه الهمداني الشهيد في ربيع الأوّل عام ( 718 ه ). كان عالماً مهر في العلوم الطبيعية والفلسفة والرياضيات ، تلمّذ في العلوم على رضي الدين الطوسي مع زميله ابن الفوطي ، ترجم له ابن كثير في البداية والنهاية ، وتعصّب عليه كما هو ديدنه ضدّ الشيعة ، وقال : إنّه فسّر القرآن على طريقة الفلاسفة ، فنسب إلى الإلحاد ، ومن تآليفه مفتاح التفاسير ، وقيل : إنّه قرّظه مائة رجل من العلماء وله « جامع التواريخ » في ثلاثة أجزاء ، ومن آثاره « الربع الرشيدي » بتبريز. (3)
ص: 414
61. كمال الدين عبد الرحمن بن محمد بن إبراهيم المعروف بابن العتايقي الحلّيّ ، صاحب التصانيف ، الموجود بعضها بخطّه في الخزانة الغروية منها « صفوة الصفوة » ، الذي فرغ منه سنة ( 787 ه ). له « الناسخ والمنسوخ » ونسخه متوفّرة في النجف ويعبّر عن العلاّمة الحلّي في كتابه « الإيضاح » ب « شيخنا المصنّف » ، فالرجل من أعيان أواخر القرن الثامن ، بسط شيخنا المجيز الكلام في ترجمته. (1)
62. أبو عبد اللّه مقداد بن جلال الدين عبد اللّه السيوري الحلّي ، تلميذ الشهيد الأوّل وشارح الباب الحادي عشر ، ( المتوفّى عام 826 ه ) ، رتّبه على مقدمة وكتب بترتيب كتب الفقه ، وخاتمة ، وقد طبع عدّة مرّات ، منها ما طبع مستقلاً سنة ( 1313 ه ) ، وله تفسير « مغمضات القرآن » ، وقد رآه شيخنا المجيز في كربلاء المقدسة. (2)
63. طيفور بن سراج الدين جنيد ، المفسّر الجليل له تفسير القرآن بالحديث والرواية ، حكى شيخنا المجيز أنّه رآى تفسيره الكبير ، وقد فرغ منه يوم الغدير سنة ( 876 ه ). (3)
64. كمال الدين الحسن بن محمد بن الحسن الاسترآبادي النجفي ، شارح الفصول النصيريّة ، له آيات الأحكام المستخرج من كتاب عيون التفاسير الذي فرغ من مجلّده الأوّل ، سنة ( 891 ه ) ، وأسماه « معارج السؤول ومدارج المأمول » في
ص: 415
تفسير آيات الأحكام ، واشتهر بكتاب اللباب وهو أبسط من كنز العرفان للفاضل المقداد. يقول في أوّله : إنّه لمّا منّ اللّه عليه بتأليف عيون التفاسير ، استخرج منه تفسير آيات الأحكام على نهج ما ألّفه شيخه المقداد ، فهو ذو تأليفين في التفسير أحدهما : يعم جميع القرآن ، والآخر : يختصّ بآيات الأحكام ، وهو من تلاميذ الفاضل المقداد ، ومن الكتاب نسخة في المكتبة الرضوية وغيرها. (1)
65. حسين بن علي الواعظ الكاشفي مؤلّف « جواهر التفسير لتحفة الأمير » ألّفه باسم الوزير الأمير نظام الدين علي شير ، قدّم فيه أربعة أُصول فيها اثنان وعشرون عنواناً من الفنون المتعلّقة بتفسير القرآن وفضله وأنواعه ، ثمّ شرع التفسير من سورة الفاتحة ، وله تفسير آخر أسماه ب « المواهب العليّة » ، وقد توفّي عام ( 910 ه ). (2)
66. كمال الدين الحسين بن شرف الدين ، عبد الحقّ الأردبيلي ، المعروف بالإلهي ، توفّي عام ( 950 ه ) ، وعبّر في كشف الظنون عنه بتفسير الأردبيلي ، وفي رياض العلماء أنّ هذا التفسير كبير لتمام القرآن الشريف ، وهو في مجلدين. (3)
67. عبد العلي ابن نظام الدين محمد بن الحسين البيرجندي ، ( المتوفّى عام 922 ه ) ، له شرح تحرير المجسطي وجاء في خطبته : مسلماً على الأئمّة المنتجبين
ص: 416
المكرمين المتشرقين بتشريف ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ ) و ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ ) له « شرح الدر النظيم في خواص القرآن العظيم » ألّفه سنة ( 901 ه ) ، وقد أتمّ بعض كتبه سنة ( 932 ه ).(1)
68. علم النجفي ابن سيف بن منصور الحلّي ، صاحب كنز الفوائد المنتخب من كتاب « تأويل الآيات الباهرة » انتخبه منه سنة ( 937 ه ) في المشهد الغروي.(2)
69. محمّد خواجه كي ، شيخ ابن أحمد الشيرازي ، مؤلّف شرح باب حادي عشر ، ألّفه سنة ( 952 ه ) ، له مختصر مجمع البيان.(3)
70. أبو المحاسن ، الحسين بن الحسن ، يعرّفه عبد اللّه الأفندي بقوله : فاضل عالم متكلّم محدث مفسّر. كان من مشاهير الإمامية ، ومن مؤلّفاته كتاب « جلاء الأذهان في تفسير القرآن » وهو تفسير حسن كثير الفوائد.(4)
أقول : قد طبع الكتاب في عشرة أجزاء بتصحيح وتعليق المحقّق السيد جلال الدين الحسيني الارموي قدس سره ، والكتاب من حسنات الدهر ، والمؤلّف من علماء القرن العاشر ، كما حقّقه المصحح في المقدمة ، فمن أراد فليرجع إليه ، وفيه فوائد أُخرى لا غنى للباحث عنها.
71. عبد الجليل القارئ ، ابن أحمد الحسيني ، له شرح القصيدة الجزرية في التجويد ، سمّاه في آخره « الفوائد » ، وفرغ منه أوائل رجب عام ( 972 ه ) ، وله شرح الناسخ والمنسوخ تأليف ابن المتوج البحراني.(5).
ص: 417
72. المحقّق الأردبيلي ، أحمد بن محمّد ، المتوفّى في صفر ( 993 ه ) ، أُستاذ الفقهاء والمجتهدين ، صاحب التصانيف الكثيرة ، مثل « مجمع الفائدة » وهي دورة فقهية تشتمل على جميع أبواب الفقه إلاّ النكاح و « زبدة البيان في تفسير آيات أحكام القرآن » تفسير مشحون بالتحقيق.(1)
73. فتح اللّه بن شكر اللّه الكاشاني ، ( المتوفّى عام 988 ه ) وقيل : ( 997 ه ) ، له « منهج الصادقين في تفسير القرآن المبين » ، طبع مرّة في ثلاث مجلدات كبار ، وأُخرى في عشرة أجزاء ، وله « خلاصة المنهج » ، فرغ من بعض أجزائه أعني سورة الأنفال سنة ( 984 ه ). وله شرح « نهج البلاغة » مطبوع.
74. غياث الدين ، المفسّر الزواري ، المعاصر للمحقّق الكركي ، أُستاذ أبي الحسن علي بن الحسن الزواري ، المفسّر المشهور وينسب إليه « تفسير الگازر » المعروف.(2)
75. الأمير أبو الفتح بن الأمير مخدوم بن الأمير شمس الدين محمد بن الأمير السيد الشريف الحسيني الجرجاني ، ( المتوفّى سنة 986 ه ) ، مؤلّف « تفسير شاهي » تفسير لآيات الأحكام ، ألّفه باسم الملك طهماسب الصفوي ، توجد منه نسخة خطّية في الخزانة الرضويّة ، وقد طبع أخيراً في عدّة أجزاء في تبريز.(3)
إنّ السابر في التفاسير المؤلّفة في القرنين الحادي عشر والثاني عشر يرى -
ص: 418
بوضوح - أنّه قد سادت على الأوساط الشيعيّة في هذه الظروف نزعتان مختلفتا المنحى ومتضادتا المنهج لا تجد لهما مثيلاً في العصور السابقة ، وهاتان النزعتان هما :
1. النزعة العقليّة البحتة التي تدفع المفسّر إلى الاهتمام بالآيات الواردة في المبدأ والمعاد والأسماء والصفات وما يمت إليهما بصلة ، ويضرب - في ظلّها - عمّا سواها صفحاً ، ولا ينظر إليه إلا نظرة خاطفة كأنّ القرآن كتاب عقلي فلسفي لا يهتم إلاّ بالمسائل العقليّة ، ولا شأن له بمسائل المجتمع وما تدور عليه رحى الحياة.
2. النزعة الأخبارية التي لا تهتم إلاّ بنقل الروايات وجمعها من مختلف الكتب من دون تحقيق في اسنادها ومتونها حتى ألّف في هذه الظروف أكبر المجاميع الروائية حول التفسير التي لا يشذ منها من أحاديث التفسير إلاّ النزر اليسير.
وقد كان لهاتين النزعتين تأثير خاصّ في تطوّر التفسير في تلك العصور ، ولما قضى الأُستاذ الأكبر المحقّق البهبهاني ( المتوفّى 1206 ه ) على النزعة الاخبارية التي تتسم بالقشرية والسطحية في أواخر القرن الثاني عشر ومستهلّ القرن الثالث عشر عزت العناية بالتفسير الروائي وتوفرت الدوافع نحو التفسير العلمي الذي يهتم بأكثر المسائل التي يتوقّف عليها فهم الآيات ، فراج منهج الشيخ الطوسي في تبيانه ، والطبرسي في مجمعه ، خصوصاً في أواخر القرن الثالث عشر ومستهلّ الرابع عشر.
نعم حدثت رجّة عنيفة في أواسط القرن الرابع عشر ودفعت الضرورات الاجتماعية إلى تطوير المنهج التفسيري كما سيوافيك بيانه ، وإليك اعلام التفسير في القرن الحادي عشر :
ص: 419
76. محمد بن علي بن إبراهيم الاسترآبادي ، المجاور لبيت اللّه الحرام ، والمتوفّى فيه سنة ( 1026 ه ) ، صاحب الكتب الرجالية الثلاثة ، له شرح آيات الأحكام. (1)
77. بهاء الدين محمد بن الحسين العاملي ، الطائر الصيت ( المتوفّى 1030 ه ) له تفاسير ثلاثة : 1. العروة الوثقى طبع مع مشرق الشمسين في طهران ( 1321 ه ) ، وقد صرّح في أوائله بحاشيته على تفسير البيضاوي ، فيظهر أنّه كتبه بعده ، 2. عين الحياة ، وهو تفسير مزجيّ نظير تفسير الصافي ، 3. ما قد عرفت من حاشيته على تفسير البيضاوي ، وقد كثرت التحشية من أصحابنا على ذلك التفسير.
78. الشيخ جواد بن سعد اللّه الكاظمي ، تلميذ شيخنا البهائي له « مسالك الأفهام في آيات الأحكام » ، طبع في جزءين ، صنّفه عام ( 1043 ه ) ، وللشيخ عبد القاهر الحويزي المعاصر للشيخ المحدّث الحر العاملي تعلقيات على ذلك الكتاب.
79. صدر المتألهين محمد بن إبراهيم الشيرازي ( المتوفّى 1050 ه ) ، فله من التفاسير تفسير « الاستعاذة » والفاتحة وسورة البقرة إلى قوله : ( كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) ، ثمّ تفسير آية الكرسي ، ثمّ آية النور ، ثمّ سورة الم السجدة وياسين والواقعة والحديد والجمعة والطارق والأعلى والزلزال ، ثمّ آية ( وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً ) ، و ( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ) وهو مقدّمة لتفسيره ، طبع من تفاسيره عدّة أجزاء في قم المشرّفة. (2)
ص: 420
80. محمد الرضا بن عبد الحسين النصيري الطوسي ، مؤلّف كشف الآيات الذي فرغ منه في ( 1067 ه ) ، وله تفسير كبير أسماه ب « تفسير الأئمّة لهداية الأُمّة » ، حكى شيخنا المجيز عن بعض المطّلعين أنّه في ثلاثين مجلداً ، وقال : رأيت مجلّدين منها الأوّل : مجلد كبير ضخم بدأ فيه بمقدمات التفسير فيما يقرب من عشرين فصلاً فيما يتعلّق بالقرآن ، ثمّ شرع في تفسير الفاتحة الخ ، والمجلد الثاني : مجلد ضخم كبير من أوّل سورة التوبة إلى آخر سورة هود. ومن أراد التفصيل فليرجع إلى الذريعة. (1)
81. الحكيم العارف علي قلي ، المولود عام ( 1020 ه ) ، المعاصر للفيض الكاشاني ، له تفسير « خزائن جواهر القرآن » ، ذكر في أوّله أنّه تضرّع إلى اللّه في أن يوفّقه لجمع جميع ما في القرآن من آيات التوحيد والإيمان والأحكام والقصص والمواعظ والحكم وخلق السماوات والأرض وأحوال الرجعة والبرزخ والحشر والنشر والجنة والنار وايراد تفاسيرها المرويّة وتحقيق كلمات الروايات المفسّرة جملة جملة ، فوفّقه اللّه وشرع في التأليف في رمضان ( 1083 ه ) ، توجد نسخة خط المؤلّف في قم. (2)
82. عبد الوحيد بن نعمة اللّه الاسترآبادي ، العارف المتكلّم تلميذ شيخنا البهائي ، له أسرار القرآن في تفسير كلام اللّه العزيز ، ذكره صاحب الرياض مع سائر تصانيفه البالغة إلى ما يقرب من الستين. (3)
83. فخر الدين بن محمد الطريحي النجفي ، ( المتوفّى عام 1085 ه ) ، له
ص: 421
« كشف غوامض القرآن » ، وتقدّم له غريب القرآن. (1)
84. تاج الدين الحسن بن محمد الاصفهاني ، ( المتوفّى سنة 1085 ه ) ، والد الفاضل الهندي صاحب « كشف اللثام » ، المتوفّى سنة ( 1135 ه ) ، له « البحر المواج » في تفسير القرآن ، كثير الفوائد. (2)
85. المحدّث الفيض الكاشاني ، محمد بن مرتضى ( المتوفّى 1091 ه ) ، له تفاسير ثلاثة : الصافي ، الأصفى ، والمصفّى ، والثاني ملخّص الأوّل والثالث ملخّص الثاني ، وقد طبع الأوّل والثاني ولكنّ الثالث بعد مخطوط.
86. عبد علي الحويزي ، استاد المحدّث الجزائري ، الذي توفّي سنة ( 1112 ه ) ، له تفسير نورالثقلين ، فسّر القرآن على هدى الروايات عن أئمّة أهل البيت ، وهو من المجامع الكبيرة للتفسير بالأثر ، فرغ من الجزء الأوّل الذي ينتهي إلى آخر الأعراف في النجف سنة ( 1065 ه ) ، ومن الجزء الثاني في ( 1066 ه ) ، والثالث أيضاً في تلك السنة ، ومن الرابع في ( 1072 ه ) ، وتوفّي في حياة الشيخ الحرّ العاملي ، كما يظهر من « أمل الآمل » للشيخ الحرّ العاملي ، المؤلّف سنة ( 1091 ه ) ، وطبع الكتاب أخيراً في خمسة أجزاء ضخام.
ونكتفي من أعلام التفسير في هذا القرن بهذه العشر الكاملة.
87. السيد هاشم بن سليمان الحسيني البحراني ، ( المتوفّى سنة 1107 ه ) أو ( 1109 ه ) ، مؤلّف « البرهان في تفسير القرآن » ، طبع عام ( 1302 ه ) في جزءين
ص: 422
كبيرين ، وطبع أخيراً في أربعة أجزاء ، جمع فيه شطراً وافراً من الأحاديث المأثورة عن أئمّة أهل البيت في تفسير الآيات القرآنية ، وله تفسيران آخران تفسير الهادي ، وتفسير نور الأنوار والهداية القرآنية ، والكلّ على نمط واحد. قال صاحب الرياض : إنّ له ما يساوي خمساً وسبعين مؤلّفاً بين صغير وكبير ووسيط أكثرها في العلوم الدينيّة ، ويقال له : « العلاّمة البحريني ». (1)
88. محمد بن محمد رضا بن إسماعيل بن جمال الدين القمي المشهدي ، ( المتوفّى عام 1113 ه ) ، صاحب « التحفة الحسينية في عمل السنة » ، له « كنز الحقائق وبحر الدقائق » في تفسير القرآن ، وقد قرّظه جمال المحقّقين الخوانساري والعلاّمة المجلسي ، وإليك نصّ الأخير : « لله در المولى ، الأولى ، الفاضل ، الكامل ، المحقّق ، المدقّق ، البدل ، النحرير ، كشّاف دقائق المعاني بفكره الثاقب ، ومخرج جواهر الحقائق برأيه الصائب » ، وقد طبع الكتاب محقّقاً بتقديم زميلنا العلاّمة محمّد هادي معرفة يقول - في تقديمه في حقّ الكتاب - : إنّ تفسيره هذا مقتبس من تفسير البيضاوي والطبرسي والزمخشري وحواشي العلاّمة البهائي ، وقد جمع فيه من لباب البيان وعباب التعبير ما وجده في التآليف السابقة ، وقد قامت بنشر خمسة أجزاء منه مؤسّسة النشر الإسلامي شكر اللّه مساعيها الجميلة. (2)
89. السيد نعمة اللّه بن عبد اللّه التستري ( الجزائري ) ( المتوفّى 1112 ه ) ، له « العقود والمرجان في تفسير القرآن » في ثلاث مجلّدات. قال في رياض العلماء : إنّه يبلغ سبعين ألف بيت ، فرغ منه عام ( 1102 ه ). (3)
ص: 423
90. محمد إسماعيل بن الأمير محمد باقر الاصفهاني ، المولود (1031) ، والمتوفّى ( 1116 ه ) ، كان مدرّساً بالجامع العباسي باصفهان ، له التفسير الكبير في أربعة عشر مجلّداً ترجمه الجَزّي في « تذكرة القبور ». (1)
91. الشيخ علي بن حسين العاملي ، له « الوجيز في تفسير القرآن العزيز » وهو مختصر نافع كاف في معرفة ما يتوقّف عليه فهم المعنى من وجوه الإعراب واختلاف القراءات ، فرغ منه مؤلّفه في ( 1118 ه ) ، وفي بعض النسخ فرغ منه سنة ( 1120 ه ) توجد نسخ منه في النجف الأشرف. (2)
92. أحمد بن الحسن بن علي الحر العاملي ، أخو الشيخ الحرّ العاملي المعروف ، ذكر تفسيره أخوه في كتابه « أمل الآمل » ، وكان حيّاً إلى سنة ( 1120 ه ). (3)
93. أبو الحسن بن شيخ محمد طاهر الفتوني النباطي العاملي الغروي ، له كتاب « مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار » ، وقد طبع الجزء الأوّل منه وحده في إيران ونسخه متوفرة في العراق ، وقد طبع الجزء الأوّل باسم « عبداللطيف الكازروني » وهو من هفوات الناشر. (4)
94. بهاء الدين محمد بن تاج الدين الحسن بن محمد الاصفهاني ، المولود ( 1062 ه ) ، والمتوفّى بها ( 1135 ه ) ، وصفه في الروضات بأنّه كبير مبسوط. (5)
95. عبد اللّه الأفندي بن عيسى التبريزي ، ثمّ الاصفهاني ، له « الأمان من
ص: 424
النيران » في تفسير القرآن والمؤلّف حجة التاريخ وبحّاثة عصره ، له أثره الخالد « رياض العلماء » الذي بدأ بتأليفه سنة ( 1106 ه ) ، وتوفي حدود ( 1130 ه ) ويصف السيد عبد اللّه التستري في إجازته الكبيرة هذا التفسير بقوله : مشتمل على أكثر الأخبار المرويّة عن أهل البيت عليهم السلام في تفسير القرآن وآياته. (1)
96. محمد بن علي النجار التستري ، ( المتوفّى 1140 ه ) ، له « التفسير الكبير » وهو من تلاميذ المحدّث الجزائري ويسمّى ب « مجمع التفاسير ». (2)
تلك عشرة كاملة في هذا القرن نكتفي بها ونحيل تسجيل أسماء الباقين إلى عهدة المعاجم.
دخل القرن الثالث عشر وقد ارتج الغرب بنهضة علمية عظيمة بهرت العيون وأدهشت العقول واتسم بتسليط الضوء على عالم الطبيعة وطرح المسائل الحيوية في مجال العلوم الإنسانية ، ولكن - يا للأسف - كان السبات والذهول عمّا يجري في ذاك الجانب من العالم سائداً على الشرق وعلمائه ، ولأجل ذلك نرى أنّ ما أُلّف في هذا العصر من التفاسير كان استمراراً للخطوط السابقة ، فالتفسير في هذا القرن إمّا تفسيرٌ بالأثر المحض ، أو تفسير علمي مقتصرٌ على موضوعات خاصّة ، مع أنّهم كانوا أمام بحر موّاج بالحقائق العلمية ، لا يدرك غوره ولا يمكن الوصول إلى أعماقه ولا ينتهي ما فيه من الأسرار والعجائب ، وإليك أسماء أعلام التفسير في ذلك القرن على وجه الإيجاز.
ص: 425
97. الشيخ عبد النبي الطسوجي ، وطسوج من مضافات « خوي » ، وهو تلميذ المقدّس رفيع الدين الجيلاني المشهدي ، ( المتوفّى عام 1160 ه ) ، وأُستاذ علاّمة عصره الشيخ حسن الزنوزي ، له تفسير كبير وفيه نكات بديعة ، أكثر النقل عنه الشيخ الزنوزي في موسوعته « رياض الجنة » ، توفّي عام ( 1203 ه ).(1)
98. السيد عبد اللّه بن محمد رضا العلوي الحسيني الشهير بالشبّر ، المولود بالنجف سنة ( 1188 ه ) ، والمتوفّى عام ( 1242 ه ) ، كان فقيهاً محدّثاً مفسّراً ، آية في الأخلاق عكف مدّة حياته العلمية على التأليف والتصنيف ، له « صفوة التفاسير » و « الجوهر الثمين في تفسير القرآن المبين » و « التفسير الوجيز » ، وهذا الأخير هو المعروف الموجود في أيدي الناس ، وقد طبع مراراً.(2)
99. محمد جعفر الاسترآبادي ، المعروف ب « شريعتمدار » ، المتوفّى عام ( 1263 ه ). حكى شيخنا المجيز أنّه رآى بعض أجزائه وهو من أوّل سورة الكهف إلى آخر سورة الأحزاب ، وتاريخ كتابة النسخة ( 1261 ه ) ، وله تفسير آخر على وجه الاختصار أسماه « مظاهر الأسرار ».(3)
100. السيد محمد تقي بن مير مؤمن القزويني ، المتوفّى عام ( 1270 ه ) ، له خلاصة التفاسير وهو موجود في مدينة قزوين عند أحفاده.(4)
101. السيد محمد مهدي بن محمد جعفر الموسوي التنكابني ، له « خلاصة التفاسير » ، كما أنّ له خلاصة الأخبار ، وقد طبع الثاني ، عام ( 1275 ه ).(5).
ص: 426
102. الشيخ صالح بن محمد البرغاني القزويني ، المتوفّى بالحائر عام ( 1275 ه ) ، له تفاسير ثلاثة : الكبير وأسماه « بحر العرفان » في سبعة عشر مجلّداً ، و« الوسيط » في تسعة أجزاء و« الصغير » في مجلّد واحد(1) ، وقد طبع منه مجلّد واحد في النجف الأشرف.
103. السيد حسين بن السيد رضا الحسيني البروجردي ، صاحب « نخبة المقال » المشهور الذي شرحه المولى علي العلياري ، توفّي عام ( 1276 ه ) ، وله تفسير خرج منه مجلّد كبير في مقدّمات التفسير وتفسير سورة الفاتحة وقسم من سورة البقرة. (2)
حلّ القرن الرابع عشر وقد خطا الغرب خطوات واسعة في الصناعة والتكنولوجيا والعلوم الإنسانية وفي مجالات مختلفة لاتمتّ إلى الدين بصلة وأبدى فيه نظريات إلحادية ، ورفع كثير من الغربيّين عقيرتهم بنفي العوالم الغيبية والانتصار لأصالة المادّة.
ولقد وصلت أمواج هذه الهزاهز إلى الشرق الذي استيقظ بعد سبات طويل ، فواجه العلماء وفي مقدّمتهم المفسّرون آراء ونظريات في بدء الخليقة ، وتكوّن العالم بما لا يوافق ظواهر القرآن فضلاً عن نصوصه ، كما واجهوا أفكاراً جديدة ونظريات مادّية بحتة في تحليل النبوّة واتصال الإنسان المثالي بعالم الغيب والوحي النازل عليه والشريعة المأمور بتبليغها.
ص: 427
إنّ وفود هذا النوع من التفكير المزيج بسوء الظنّ بالغيب والمعارف الإلهية ، بعث المفسّرين الإسلاميين من سنّيهم وشيعيّهم إلى التطوير في المنهج التفسيري ، وإيداع مسائل جديدة في كتبهم باحثين عنها ومخضعين إياها للمشراط العلمي ، وهم في ذلك بين مُفرط ومفرّط ومقتصد ، فأفرط بعض في تأويل الآيات حسب الأُسس الطبيعية والنواميس الكونية المكتشفة ، غافلاً عن أنّ هذه الآراء والمكتشفات فرضيات متزلزلة ، سوف تتبدّل إلى آراء غيرها ، كما فرّط بعضهم فتمسّك بالأُصول الموروثة عن الأغارقة حول السماء والعالم ، وهناك طبقة وسطى مشوا بين الخطّين ، فلم يمنعهم التعبّد بالقرآن عن التنسيق بين الوحي القرآني والنظريات القطعية الحديثة التي ثبتت بوضوح ، وأيّده الحسّ والتجربة.
لقد أثّرت الحضارة الغربية على المناهج التفسيرية ، فأدخلت في التفسير جملة من المسائل الفلسفية والطبيعية والاجتماعية والنفسية والمسائل العائلية إلى غير ذلك ممّا تقوم عليه الحياة في هذه الأعصار ، فصار ذلك سبباً لبروز لون خاصّ من التفسير لم يكن معهوداً في القرون السابقة ، كما أنّ ذلك صار سبباً لرجوع المسلمين إلى القرآن من جديد كيما يتخلّصوا بفضله من التيّارات الالحاديّة ، فأُلّفت في ذلك القرن تفاسير لا يحيط بها الباحث إلاّ بشدّ الرحال إلى البلاد وتسجيل أسمائها في رسالة مفردة ، ولإيقاف القارئ على نزر يسير من الجهود العلميّة التي نهض بها علماء الشيعة في هذا القرن ، نأتي بأسماء أعلام التفسير فيه ونخصّ بالذكر المؤلّفين باللغة العربية. والّتي طبعت وانتشرت في البلاد ، ونترك المخطوط والمؤلّف بغير اللغة العربية لضيق المجال.
104. الشيخ محمد حسين بن الشيخ باقر البروجردي ، له « أسرار التنزيل » اختاره من تفسيره الكبير ، وتوفّي في نيف وثلاثمائة بعد الألف.
ص: 428
105. العلاّمة السيد نور الدين العراقي ( المتوفّى عام 1341 ه ) ، له « القرآن والعقل » ، طبع في ثلاثة أجزاء ، وهو تأليف منيف مبتكر في بابه.
106. المجاهد الكبير ، الشيخ محمد جواد البلاغي ، ( المتوفّى عام 1352 ه ) ، وقد أفنى عمره في الذبِّ عن المذهب ، وكافح الآراء المادية ، كما ناضل المسيحية بكتبه القيّمة ك « الرحلة المدرسية » ، و « الهدى إلى دين المصطفى » وله « آلاء الرحمن في تفسير القرآن ». خرج منه جزءان.
107. السيد علي بن الحسين الحائري ( 1270 - 1353 ه ) من تلاميذ المجدّد الشيرازي ، مؤلف « مقتنيات الدرر وملتقطات الثمر » ، طبع في اثني عشر مجلّداً في سنة 1377 - 1381 ه.
108. العلاّمة السيد محمد مولانا ، ( المتوفّى عام 1363 ه ) ، له « التفسير الوجيز » وهو على غرار تفسير الجلالين ، طبع وانتشر في تبريز.
109. العلاّمة الحجّة المفسّر الكبير ، السيد محمد حسين الطباطبائي ( المتوفّى عام 1402 ه ) له « الميزان في تفسير القرآن » وهو في عشرين جزءاً ، يرى القارئ فيه تطويراً في التفسير وآفاقاً مفتوحة أمامه ، وقد قرّظه مشايخ الأزهر وأعلام الأُمّة ، طبع بعض التقاريظ في أوائل الجزء الخامس من الميزان.
110. العلاّمة الحجّة ، الشيخ محمد جواد مغنيه ( المتوفّى محرم 1400 ه ) ، ذلك الكاتب الكبير ، في مجالات مختلفة ، له « الكاشف في تفسير القرآن » ، صدر في سبعة أجزاء وطبع في بيروت ، وله تفسير آخر وجيز كتبه للشباب ، وطبع في بيروت.
111. المحقّق الكبير السيد أبو القاسم الخوئي النجفي ( المتوفّى سنة 1413 ه ) ، المرجع الأعلى للشيعة ، له « البيان في تفسير القرآن » صدر منه جزء واحد.
ص: 429
112. العلاّمة الحجّة الشيخ محمد باقر الناصري ، أحد علماء العراق المجاهدين المناضلين للبدع والاضطهاد. له تلخيص مجمع البيان في ثلاثة أجزاء ، مطبوع.
113. العلاّمة الحجّة الشيخ حسن المصطفوي ، أحد الباحثين المعاصرين ، له « التحقيق في كلمات القرآن » خرجت منه تسعة أجزاء ، وهو كتاب لطيف يهتم بتبيين لغات القرآن على وجه بديع.
114. العلاّمة الحجّة الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ، له التفسير الأمثل في عشرين جزءاً ، طبع وانتشر في بيروت.
115. المحقّق الشيخ محمد هادي معرفة ، أحد المولعين بعلوم القرآن ، له « التمهيد في علوم القرآن » صدرت منه سبعة أجزاء.
116. العلاّمة الحجّة السيد عبد الأعلى السبزواري النجفي ، أحد المدرسين الكبار في حوزة النجف الأشرف ، له « مواهب الرحمن في تفسير القرآن » ، خرجت منه عدّة أجزاء.
117. العلاّمة الحجّة السيد محمد حسين فضل اللّه ، من أكابر علماء لبنان ، له « من وحي القرآن » خرج في عشرين جزءاً.
118. العلاّمة الحجّة السيد محمد باقر الأبطحي ، له « المدخل إلى التفسير الموضوعي » وقد صدر منه ثلاثة أجزاء.
119. العلاّمة المفضال الشيخ محمد السبزواري ، له « الجديد في تفسير القرآن المجيد » في سبعة أجزاء. وهو تفسير ، حديث في أُسلوبه ، جميل في عباراته.
120. كاتب هذه السطور جعفر السبحاني ، له « مفاهيم القرآن » ، خرجت
ص: 430
منه عشرة أجزاء وهو تفسير موضوعي.
هؤلاء أعلام التفسير في أربعة عشر قرناً وهم مائة وعشرون ، وقد اكتفينا بهم مع أنّ عدد أعلام التفسير فضلاً عن غيرهم يتجاوز عن ذلك ، غير أنَّ المجال لا يسع أكثر من ذلك.
إنّ هذا البحث الضافي حول تاريخ تفسير القرآن عند الشيعة الإمامية ، يوقفنا على تاريخ التدوين والتطوير في مجال التفسير لديهم ، فانّ الظاهر أنّ أوّل من ألّف تفسيراً للقرآن من الشيعة هو سعيد بن جبير - ذلك التابعي الشيعي - ( المستشهد عام 95 ه ) لتشيّعه وموالاته علياً ، هذا ولو صحّ ما نسب من الكتب إلى عبد اللّه بن عبّاس ( المتوفّى سنة 69 ه ) ، لكان هو متقدّماً على ابن جبير وهو تلميذ الوصي أمير المؤمنين ، ثمّ توالت بعدهما كتابة التفسير حسب ما عرفت في قائمة القرون ، ولا نطيل الكلام في تاريخ التدوين.
وأمّا تطوير التفسير فقد عرفت أنّ التفسير الرائج بعد رحلة النبيّ الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم كان بعد تفسير « غريب القرآن » ، هو التفسير بالأثر ، فكانت هذه هي السنّة المتبعة لدى الشيعة إلى نهاية القرن الرابع ، وإنّما حصل التطور في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس ، وأوّل تفسير ظهر في الأوساط العلمية بالطابع العلميّ الجديد ، هو تفسير الشريف الرضي قدّس اللّه سرّه.
ثمّ استمر هذا النمط في الأوساط العلميّة إلى أوائل القرن العاشر ، وفيه راج التفسير بالأثر من جديد ، فأُلّفت موسوعات كبار لتفسير القرآن بالأثر ولم نر لها
ص: 431
مثيلاً في القرون الأُولى ، وقد دام ذلك النمط حتى غلب على النمط العلمي ، وذلك عند تسرّب الاتجاه الاخباري إلى الأوساط العلميّة.
ولمّا حل القرن الرابع عشر ، وقف غير واحد من المفكّرين الإسلاميّين وقادتهم على الوضع المؤسف المحدق بالمسلمين بسبب تأخرهم عن موكب الحضارة ، ونشوب أظفار الاستعمار ببلاد المسلمين ، وعند ذلك شعروا بأنّ إحياء المجد الداثر وتجديد الحضارة الإسلامية في جميع أبعادها رهن العودة إلى القرآن الكريم من جديد وتطبيقه على الحياة بدل العناية الزائدة بقراءات القرآن وحججها أو المناقشة في الاعراب ودلائله ، فرجعوا إلى أحضان كتاب اللّه ، ونظروا إليه بمنظار خاصّ فاكتشفوا - حقّاً - آفاقاً جديدة ، غفل عنها الأقدمون ، آفاقاً ترتبط بالحياة عن قريب ، وتعدّ أُسساً لها ، فعطفوا اهتمامهم على تلك المباحث والآفاق المكتشفة ، وعكفوا على دراستها دراسة معمّقة ، فازدهرت المدارس ومحافل العلماء بالأبحاث القرآنية ، وانتشرت تفاسير بنمط حديث لم يكن لها مثيل في القرون السابقة ، فعند ذلك حصل تطوير جديد أعمق بكثير من التطوير العلمي الحاصل بيد أمثال الشريف الرضي وأخيه المرتضى ، وفي الحقيقة هذا المنهج الموجود في عصرنا الحاضر تطوير حديث ومنهج متكامل يتفوّق على المنهج العلمي ، ولم يكن بدّ للمفكرين من إبداع هذا التطوير وذلك لوجهين :
الأوّل : انّ الغزو الفكري الذي تعرّض له الإسلام والمسلمون بمختلف أشكاله من خلال تأسيس علوم اجتماعية ونفسيّة واقتصادية و ... ، وابداع نظريات حديثة حول النبوّة والوحي وغير ذلك ألجأ المفكّرين إلى دراسة هذه الآراء والبحث عنها بحثاً جذرياً حتى يصونوا بأبحاثهم القيّمة ، الإسلام والمسلمين عن تأثير هذه السموم التي بثّها ويبثها علماء الغرب في الشرق في صورة حقائق راهنة.
ص: 432
وقد نجح علماء التفسير في تحقيق أُمنيّتهم هذه نجاحاً باهراً وأدخلوا في التفسير مسائل هامّة أُلهموا بها من خلال الآيات القرآنية ، بيد أنّ بعضهم أفرط عند تطبيق الآيات الكونيّة على المكتشفات العصريّة ، وقد كان عليهم الأخذ بالحدّ الأوسط.
الثاني : انّ طبيعة الذكر الحكيم تقتضي ذلك التطوير ، بل ولن يقف الركب على هذا الحد وسيواجه المستقبل تطويراً ثالثاً ، ورابعاً في تفسير الذكر الحكيم ، كيف والنبي الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم يعرّف معجزته الكبرى بقوله : « ظاهره أنيق وباطنه عميق ، له تخوم وعلى تخومه تخوم ، لا تحصى عجائبه ، ولا تبلى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ». (1)
وهذا أمير المؤمنين عليه السلام يصف الذكر الحكيم بقوله : « أُنزل عليه ( النبي ) الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه ، وسراجاً لا يخبو توقّده ، وبحراً لا يدرك قعره ، ومنهاجاً لا يضلّ نهجه ، وشعاعاً لا يظلم ضؤوه ، وفرقاناً لا يخمد برهانه ، وتبياناً لا تهدم أركانه » - إلى أن قال - : و « بحر لا ينزفه المستنزفون ، وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يغيضها الواردون ». (2)
وهذا هو الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا عليهما السلام ، سأله سائل وقال : ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدرس إلاّ غضاضة ؟ فقال : « إنّ اللّه تعالى لم يجعله لزمان دون زمان ، ولا لناس دون ناس ، وهو في كلّ زمان جديد وعند كلّ قوم غض إلى يوم القيامة ». (3)
ص: 433
قد تعرّفت على خدمة الشيعة للذكر الحكيم منذ رحلة صاحب الرسالة إلى يومنا هذا ، ولعلّ ما مرّ عليك أقلّ من معشار ما حفظته يد التاريخ ومعاجم التفسير والرجال ، فحقيق على كلّ من يحب الحقّ والحقيقة تقدير تلكم الثلّة الجليلة من الأُمّة ، ومن حسن الحظ أنّه قام بذلك الواجب الضمائر الحرّة من أهل العلم والفضل شكر اللّه مساعيهم.
بيد أنّ بعض المتسرّعين في القضاء أرادوا اتّهام تفاسير الشيعة بأُمور :
1. تعصّبهم لأثبات معتقداتهم ومقالاتهم.
2. كون تفاسيرهم تفاسير طائفيّة.
3. قولهم بتحريف الذكر الحكيم.
وإليك شرح تلك الاتهامات ونقدها.
أمّا الأوّل : فقد أشار إليه الدكتور الذهبي في كتابه « التفسير والمفسّرون » ، واستدلّ بمواضع من تفاسير الشيعة كمسألة الرؤية ، والمسح على الرجلين ، وحلّيّة المتعة إلى غير ذلك ، حيث إنّ الشيخ الطبرسي يسعى في تلك الموارد لإثبات مذهب الشيعة.
يلاحظ عليه : أنّه لو كان ذلك أمراً خطأ فهو شامل لحال جميع التفاسير من غير فرق بين السنّة والشيعة ، فانّ الطبرسي ونظراءه لو أصرّوا على إثبات امتناع رؤية اللّه - تبارك وتعالى - عند الوصول إلى تفسير قوله سبحانه : ( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) (1) فالرازي وهو من أئمّة
ص: 434
الأشاعرة عندما وصل إلى تفسير قوله سبحانه : ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ... )(1)أخذ بتفسير الآية على مذاق الأشاعرة ، فلماذا كان سعي الطبرسي لإثبات معتقده خطأ ، ولكن كان سعي الرازي على ما يرويه من إثبات الرؤية(2)أمراً صحيحاً ؟! وليس الرازي بمنفرد في هذا العمل ، بل التفاسير عامّة مصبوغة بهذه الصبغة ، فانّ لكلّ مفسّر آراء ومعتقدات يراها عقائد صحيحة ، نزل بها الوحي أو دلّ عليه العقل ، ففي كلّ موضع يهتم بدعم عقائده واستعراض الآيات الدالّة عليه حسب معتقده ، وليس ذلك أمراً خطأ إذا كان البحث موضوعياً هادئاً ، وليس المترقّب من كلّ مؤلّف هادف إلاّ ذلك ، وإنّما البغيض التعصّب على الباطل مع العلم به.
يقول الأُستاذ الشيخ محمود شلتوت ، شيخ الأزهر في تقديمه لكتاب « مجمع البيان » :
فليس من الإنصاف أن نكلّف عالماً مؤلّفاً بحّاثة درّاكة ، أن يقف من مذهبه وفكرته التي آمن بها موقف الفتور ، كأنّه لا تهمّه ولا تسيطر على عقله وقلبه ، وكلّ ما نطلبه ممّن تجرد للبحث والتأليف ، وعرض آراء المذاهب وأصحاب الأفكار ، أن يكون منصفاً ، مهذب اللفظ ، أميناً على التراث الإسلامي ، حريصاً على أخوّة الإيمان والعلم ، فإذا جادل ففي ظل تلك القاعدة المذهبيّة التي تمثل روح الاجتهاد المنصف البصير : « مذهبي صواب يحتمل الخطأ ، ومذهب غيري خطأ يحتمل الصواب ».
وهذا هو تفسير « المنار » الذي طبق العالم صيته وصوته يستعرض آيات الأحكام ويستدلّ بها على ما يوافق مذهبه ، كما يستعرض آيات العقائد والمعارف
ص: 435
فيستشهد بها على مختاره ، ولو جمع ما أورده على الشيعة في مجال الأحكام والعقائد لجاء رسالة حتى أنّ سبّب ذلك قيام عالم بارع من علماء الشيعة(1)بنقد ما أورده على الشيعة في مناره ، ونقده نقداً علمياً موضوعياً انتشر في حياة صاحب المنار ، ولم يقدر السيد محمد رشيد رضا على الإجابة عنه ثانياً.
وأمّا الثاني : وهو اتهام تفاسير الشيعة بأنّها تفاسير طائفية يحاولون تطبيق الآيات القرآنية على أئمّتهم وقادتهم خصوصاً الإمام أمير المؤمنين عليه السلام فنقول :
إنّ اتّهام تفاسير الشيعة بكونها تفاسير طائفية(2)يعرب عن أنّ القائل لم يفرّق بين التفسير والتطبيق ، فحمل الروايات الواردة في حقّ الإمام أمير المؤمنين كلّها على التفسير ، ولم يقف على أنّ الروايات الواردة في ذلك المجال على قسمين :
1. ما يتضمّن أسباب النزول ويبيّن أنّ الآية حسب النصوص الروائية نزلت في حقّ شخص خاصّ كما هو الحال في غير واحد من الآيات الواردة في حقّ الإمام ك « آية الإكمال »(3) و« آية التبليغ »(4) و« آية الولاية »(5) ، إلى غير ذلك من الآيات التي اعترف المحدّثون والمفسّرون بنزولها في حقّ الإمام ، فنقل ما يدعم ذلك لا يكون دليلاً على الطائفية لو لم يكن دليلاً على البخوع بالحقيقة وخضوعاً أمام الحقّ.
2. ما يتضمّن الجري والتطبيق لا بمعنى أنّ الآية وردت في حقّ فرد خاصّ ، بل الآية على معناها العامّ ، ولكن الرواية تشير إلى مصداقها المثالي الذي
ص: 436
هو أكمل المصاديق ، وليس هذا بعيداً عن طبيعة القرآن ، بل بما أنّ القرآن كتاب الأجيال والقرون ، يقتضي صحّة ذلك الجري والتطبيق ، فانّ القرآن كما عرّفه الإمام أبو جعفر محمد الباقر عليه السلام : « ... حي لا يموت والآية حيّة لا تموت ، فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام وماتوا ؛ ماتت الآية ومات القرآن. فالآية جارية في الباقين كما جرت في الماضين ». (1)
ولأجل إيقاف القارئ على الفرق بين التفسير والتطبيق نأتي ببعض ما ورد في كتب أهل السنّة حول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام .
قال سبحانه : ( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) . (2)
قال جلال الدين السيوطي في الدر المنثور : أخرج ابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة والديلمي وابن عساكر وابن النجّار ، قال : لمّا نزلت ( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) وضع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يده على صدره فقال : أنا المنذر وأومأ بيده إلى منكب عليّ - رضي اللّه عنه - فقال : « أنت الهادي يا علي ، بك يهتدي المهتدون من بعدي ».
وقال : وأخرج ابن مردويه عن أبي برزة الأسلمي - رضي اللّه عنه - سمعت رسول اللّه يقول : ( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ ) ووضع يده على صدر نفسه ، ثمّ وضعها على صدر علي ويقول : ( وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) . (3)
ولا يشكّ أحد أنّ علياً من المصاديق الجليّة الكاملة لقوله : ( وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) ، وليس مصداقاً منحصراً فيه ، وكان تفسير النبي الآية بعلي من باب الجري
ص: 437
والتطبيق ، وبإراءة فرد مثالي يفوق جميع الأفراد ، فكلّ ما ورد في التفاسير الشيعية من هذا الباب أي الجري والتطبيق ، حتى يقف المسلمون على أمثل المصاديق وأوسطها.
إنّ النبيّ الأكرم هو الأُسوة والقدوة ، فقد طبّقت الآية الماضية على فرد مثالي تعليماً للأُمّة ، وقد اقتدت به الأئمّة في هذا المضمار ، وإليك بعض الأمثلة ، قال سبحانه : ( الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ )(1)انّ الآية الكريمة تندّد بالذين ينقضون العهد ويقطعون الصلة ويفسدون في الأرض ، ولا يشكّ ذو مسكة أنّ الآية تتضمّن حكماً كلّياً عامّاً حيّاً إلى يوم القيامة ، ولها عبر القرون آلاف المصاديق والجزئيات غير أنّ أئمّة الشيعة يفسّرون قوله : ( وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ) بقطع الصلة الواجبة في حقّ علي وعترته الطاهرة ، وليس ذلك تفسيراً بمعنى حصر الآية في هذا الفرد ، بل تطبيقاً للآية على الحقّ المهضوم عبر الأجيال ، وقد قال سبحانه : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (2).(3)
قال سبحانه : ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ... )(4)فقد فسّر بصراط الأنبياء كما فسّرت بالإمام أمير المؤمنين(5)ولا شكّ أنّ كلّ ذلك تطبيق على المصداق الأجلى ، وعلى ضوء ذلك يقدر القارئ الكريم الملمّ بالتفاسير الشيعيّة ، على تمييز التفسير عن الجري والتطبيق ، وعند ذلك يقف على قيمة النسبة المذكورة.
ص: 438
وأمّا الثالث : فمن رجع إلى كتب المحقّقين من الشيعة الذين يعبأ بقولهم ورأيهم ، ويعدّ كلامهم مثالاً لعقيدة الشيعة يقف على أنّ رمي الشيعة وتفاسيرها بالتحريف بهتان عظيم ، وانّ من نسب التحريف إلى الشيعة إنّما استند إلى وجود روايات في تفاسيرهم الروائية مشعرة بالتحريف أو دالّة عليها ، ولكنّ الرواية غير العقيدة ، وليس نقل الرواية دليلاً على صحّتها ، ولو كان ذلك دليلاً على التحريف فهناك رواياتٌ دالّة على التحريف مبثوثة في كتب التفسير والحديث والتاريخ والسنّة ، ولكنّا نجلّ المحقّقين منهم عن القول بذلك ، فروايات التحريف تديّن بها الحشوية من العامّة وبعض الغلاة من الخاصّة ، والشيعة وأئمّتهم وعلماؤهم برآء منهم ومن مقالتهم.
ولأجل إيقاف القارئ على صحّة هذا المقال نأتي بأسماء مجموعة من محقّقي الشيعة عبر القرون صرّحوا بصيانة القرآن الحكيم من التحريف :
1. أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين ، المعروف بالصدوق ( المتوفّى 381 ه ) ، يقول : اعتقادنا في القرآن أنّه كلام اللّه ووحيه وتنزيله وقوله ، وأنّه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم عليم ، وأنّه القصص الحقّ ، وأنّه لحق فصل وما هو بالهزل ، وانّ اللّه تبارك وتعالى محدثه ومنزله وربّه وحافظه والمتكلّم به ».(1)
2. السيد المرتضى علي بن الحسين الموسوي العلوي ( المتوفّى 436 ه ) قال : إنّ جماعة من الصحابة مثل عبد اللّه بن مسعود ، وأُبي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي عدّة ختمات وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمل على أنّه كان مجموعاً مرتّباً غير مبتور ولا مبثوت.(2).
ص: 439
3. أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي المعروف بشيخ الطائفة ( المتوفّى 460 ه ) قال : وأمّا الكلام في زيادة القرآن ونقصانه فممّا لا يليق به أيضاً ، لأنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانها ، وأمّا النقصان فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا ، وهو الذي نصره المرتضى و هو الظاهر في الرواية. قيل : إنّه رويت روايات كثيرة من جهة الشيعة وأهل السنّة بنقصان كثير من آي القرآن ونقل شيء منه من موضع إلى موضع ؟ لكنّ طريقها الآحاد التي لا توجب علماً ولا عملاً والأولى الإعراض عنها.(1)
4. أبو علي الطبرسي ، صاحب تفسير « مجمع البيان » يقول : الكلام في زيادة القرآن ونقصانه. أمّا الزيادة فيه فمجمع على بطلانها ، وأمّا النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامّة أنّ في القرآن تغييراً أو نقصاناً ، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه.(2)
5. السيد علي بن طاووس الحلي ( المتوفّى 664 ه ) قال : إنّ رأي الإمامية هو عدم التحريف.(3)
6. الشيخ زين الدين العاملي النباطي البياظي ( المتوفّى 877 ه ) يقول في تفسير قوله : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) أي إنّا لحافظون له من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان.(4)
7. القاضي السيد نور اللّه التستري صاحب كتاب « إحقاق الحق » ( المتوفّى 1019 ه ) يقول : ما نسب إلى الشيعة الإمامية من وقوع التغيير في القرآن ليس ممّا
ص: 440
يقول به جمهور الإمامية إنّما قال به شرذمة قليلة منهم ، لا اعتداد بهم فيما بينهم. (1)
8. الشيخ بهاءالدين نابغة عصره ونادرة دهره محمد بن حسين المشتهر ببهاء الدين العاملي ( المتوفّى 1030 ه ) قال : الصحيح انّ القرآن العظيم محفوظ من ذلك زيادة كان أو نقصاناً ، وما اشتهر بين العلماء من إسقاط اسم أمير المؤمنين عليه السلام في بعض المواضع فهو غير معتبر عند العلماء والمتتبّع للتاريخ والأخبار والآثار يعلم بأنّ القرآن ثابت بغاية التواتر وبنقل الآلاف من الصحابة ، وانّ القرآن الكريم كان مجموعاً في عهد الرسول. (2)
9. المحدّث الأكبر الفيض الكاشاني صاحب كتاب الوافي الذي يعدّ من الجوامع الحديثية المتأخّرة ( المتوفّى 1091 ه ) قال : وقال اللّه تعالى : ( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) وقال : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) عندئذٍ كيف يتطرّق إليه التحريف والتغيير ... ، مع أنّ خبر التحريف مخالف لكتاب اللّه ، مكذّب له فيجب ردّه والحكم بفساده وتأويله. (3)
10. الشيخ الحرّ العاملي ( المتوفّى 1104 ه ) يقول في كتابه : والمتتبّع للتاريخ والأخبار والآثار يعلم يقيناً بأنّ القرآن ثابت بغاية التواتر وبنقل الآلاف من الصحابة ، وانّ القرآن كان مجموعاً مؤلفاً في عهد الرسول.(4)
هذه هي الشخصيات الكبيرة من الإمامية الذين عرفت تنصيصهم على عدم طروء التحريف على الذكر الحكيم ، وقد جئنا بأسماء القائلين بعدم التحريف إلى نهاية القرن الحادي عشر ، وأمّا الذين نصّوا على عدم التحريف في
ص: 441
القرون الأخيرة فحدّث عنهم ولا حرج ، كيف وقد ألّفوا رسائل كبيرة وصغيرة حول الموضوع ، ونحن نسأل من يرمي الشيعة بالقول بالتحريف بأنَّه بأي دليل يقول : بأنّ تنصيص الشخصيات الأربع الأُول على عدم التحريف من باب التقية(1)، أهكذا أدب العلم وأدب الإسلام ؟ أليس اللّه تعالى يقول : ( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا )(2)والعجب أنّه يستشهد على هذا النظر بقول أعداء الشيعة ويترك قول علمائهم ، وبما أنّ الكاتب يستند في بعض أبحاثه إلى كلمات قائد الثورة الإسلامية الإمام الخميني قدس سره نأتي بنصّ كلامه في هذا الموضع ، وهذا ما جاء في محاضراته التي أُلقيت قبل خمسين سنة :
إنّ الواقف على عناية المسلمين بجمع الكتاب وحفظه وضبطه قراءة وكتابة ، يعترف ببطلان تلك المزعمة « التحريف » ، وأنّه لا ينبغي أن يركن إليها ذو مسكة ، وما وردت فيه من الأخبار ، بين ضعيف لا يستدلّ به ، إلى مجعول يلوح منه أمارات الجعل ، إلى غريب يقضي منه العجب ، إلى صحيح يدلّ على أنّ مضمونه تأويل الكتاب وتفسيره ، إلى غير ذلك من الأقسام التي يحتاج بيان المراد منها إلى تأليف كتاب حافل ، ولولا خوف الخروج عن طور البحث لأرخينا عنان البيان إلى تشريح تاريخ القرآن وما جرى عليه طيلة القرون ، وأوضحنا لك أنّ الكتاب هو عين ما بين الدفّتين ، والاختلاف الموجود بين القرّاء ليس إلاّ أمراً حديثاً لا ربط له بما نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين.(3).
ص: 442
إنّ علماء الشيعة الإمامية لم يقتصروا على هذه الجمل القصيرة حول صيانة الذكر الحكيم من التحريف ، بل ألّفوا حولها رسائل مفردة منذ أربعة قرون :
1. الشيخ الحر العاملي قد أفرد رسالة في هذا الموضوع أسماها « تواتر القرآن ». (1)
2. الشيخ عبد العالي الكركي ، فقد ألّف رسالة في نفي النقيصة عن القرآن ، ذكرها العلاّمة الشيخ محمد جواد البلاغي في « آلاء الرحمان » (2) وقد جاء في الرسالة كلام الصدوق ، ثمّ اعترض على نفسه بورود روايات تدلّ على التحريف فأجاب بأنّ الحديث إذا جاء على خلاف الدليل من الكتاب والسنّة المتواترة أو الإجماع ولم يمكن تأويله ولا حمله على بعض الوجوه ، وجب طرحه.
3. المتتبّع البارع الشيخ آغا بزرگ الطهراني مؤلّف « الذريعة إلى تصانيف الشيعة » ، فقد أفرد رسالة أسماها « النقد اللطيف في نفي التحريف ».
4. العلاّمة الحجّة الشيخ عبد الحسين الرشتي الحائري ، فقد ألّف رسالة حول الموضوع أسماها « كشف الاشتباه ».
5. خصّص العلاّمة المحقّق السيد الطباطبائي في ميزانه بحثاً مبسوطاً بصيانة الذكر الحكيم عند تفسير قوله : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) . (3)
6. إنّ العلاّمة المحقّق السيد الخوئي - دام ظلّه - قد أفرد بحثاً ضافياً حول
ص: 443
صيانة الذكر الحكيم في كتابه « البيان في تفسير القرآن » ، وقد أغرق نزعاً في التحقيق فلم يبق في القوس منزعاً.
7. وقد قام العلاّمة الشيخ رسول جعفريان بتأليف رسالة نافعة حول الموضوع أسماها « أُكذوبة تحريف القرآن » حياه اللّه وبياه.
8. زميلنا العلاّمة الحجّة الشيخ محمد هادي معرفة ، صدر منه كتاب باسم « صيانة القرآن من التحريف » وهو كتاب جليل.
9. العالم الجليل السيد علي الميلاني ، قام بنشر كتاب أسماه « التحقيق في نفي التحريف » حفظه اللّه.
وليست عقيدة الشيعة حول الذكر الحكيم أمراً خفياً على المحقّقين من السنّة ، فهذا علاّمة الهنود رحمة اللّه الهندي نقل عقيدة الشيعة في كتابه ، وقال : « إنّ القرآن المجيد عند جمهور علماء الشيعة الإمامية الاثني عشرية محفوظ عن التغيير والتبديل ، ومن قال منهم : بوقوع النقصان فيه ، فقوله مردود غير مقبول عندهم ». (1)
وأخيراً نلفت نظر القارئ إلى محقّق عصرنا السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي ، فقد قال في كتابه « أجوبة موسى جار اللّه » : نسب إلى الشيعة القول بتحريف القرآن بإسقاط كلمات وآيات ، ثمّ قال : نعوذ باللّه من هذا القول ونبرأ إلى اللّه تعالى من هذا الجهل ، وكلّ من نسب هذا الرأي إلينا جاهل بمذهبنا أو مفتر علينا ، فانّ القرآن العظيم والذكر الحكيم متواتر من طرقنا بجميع آياته وكلماته وسائر حروفه وحركاته وسكناته تواتراً قطعياً عن أئمّة الهدى من أهل البيت عليهم السلام ،
ص: 444
ولا يرتاب في ذلك إلاّ معتوه. (1)
ثمّ إنّ المتحاملين على الشيعة في مسألة تحريف القرآن يستندون إلى كتاب « فصل الخطاب » للمحدّث النوري الذي جمع فيه المسانيد والمراسيل التي استدلّ بها على النقيصة ، ولكن غفل المتحامل عن الرسائل الكثيرة التي أُلّفت ردّاً عليه وكفى بذلك ما ذكره العلاّمة البلاغي فقال : إنّ القسم الوافر من الروايات ترجع أسانيده إلى بضعة أنفار ، وقد وصف علماء الرجال كلاً منهم بأنّه :
1. إمّا ضعيف الحديث ، فاسد المذهب ، مجفوّ الرواية.
2. وإمّا أنّه مضطرب الحديث والمذهب يعرف حديثه وينكر ، ويروي عن الضعفاء.
3. وإمّا بأنّه كذّاب متّهم لا أستحلّ أن أروي من تفسيره حديثاً واحداً ، وأنّه معروف بالوقف وأشدّ الناس عداوة للرضا عليه السلام .
4. وإمّا بأنّه كان غالياً كذّاباً.
5. وإمّا بأنّه ضعيف لا يلتفت إليه ، ولا يعول عليه ومن الكذّابين.
6. وإمّا بأنّه فاسد الرواية يرمى بالغلوّ ، ومن الواضح أنّ أمثال هؤلاء لا تجدي كثرتهم شيئاً ، هذه حال المسانيد ، وأمّا أكثر المراسيل فمأخوذة من تلك المسانيد. (2)
هذا وصف إجمالي لهذه الروايات التي يستند إليها أعداء الشيعة في هذه النسبة ، ويكفي في ذلك أنّ ثلاثمائة حديث من هذه الأحاديث ، يرويها السيّاري ، ويكفي في ضعفه قول الرجالي المحقّق النجاشي في حقّه : إنّه ضعيف الحديث
ص: 445
فاسد المذهب ، مجفوّ الرواية ، كثير المراسيل ، متهم بالغلوّ.
كما أنّ كثيراً من هذه الروايات تنتهي إلى يونس بن ظبيان الذي وصفه النجاشي بقوله : « ضعيف جداً لا يلتفت إلى ما رواه ، كلّ كتبه تخليط ».
كما أنّ قسماً منه ينتهي إلى منخّل بن جميل الكوفي ، وقد نصّ النجاشي على كونه : « ضعيفاً فاسد الرواية ». (1)
ثمّ إنّ كلّ من يتهم الشيعة بالقول بالتحريف يستند إلى وجود روايات التحريف في الكافي ، ولكنّه غفل عن أنّ كتاب الكافي في نظر الإمامية ليس كالصحاح في نظر أهل السنّة الذين يقولون : إنّ كلّ ما في البخاري صحيح ، وإنّما هو كتاب فيه الصحيح والضعيف والمرسل وما يوافق الكتاب وما يخالفه ، فلا يمكن الاستدلال بوجود الرواية فيه على عقيدة الشيعة ، وما يلهج به علماء الحديث في حقّ صحيح البخاري ومسند الإمام أحمد ويقولون :
وما من صحيح كالبخاري جامعاً *** ولا مسند يلفي كمسند أحمد
أقول : إنّ ما يلهجون به في حقّ كتبهم مخصوص بهم ، فليس كلّ ما في الجوامع الحديثية عند الشيعة ، صحاحاً يستدلّ بكلّ حديث ورد فيها في كلّ موضوع ومورد ، بل الاستدلال يتوقّف على اجتماع شرائط الصحّة التي ذكرها علماء الدراية والحديث ، ونحن واللّه نعاني من عدم اطلاع هؤلاء على « أبجدية »
ص: 446
عقائد الشيعة ومداركها ومصادرها.
نحن نجلّ علماء السنّة ومحقّقيهم عن نسبة التحريف إليهم ، ولكن لو كان وجود الرواية في كتب التفسير والحديث دليلاً على العقيدة ؛ فقد رويت أحاديث التحريف في كتبهم ، أيضاً ، ولأجل إيقاف القارئ على نماذج من هذه الروايات نشير إلى بعضها.
1. أخرج أبو عبيد في الفضائل وابن مردويه وابن الأنباري ، عن عائشة قال : « كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمان النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم مائتي آية ، فلمّا كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلاّ على ما هو الآن ».(1)
2. عن عمر : « لولا أن يقول الناس : إنّ عمر زاد في كتاب اللّه لكتبت آية الرجم بيدي ».(2)
3. نقل عن ابن مسعود أنّه حذف المعوذتين من المصحف ، وقال : إنّهما ليستا من كتاب اللّه.(3)
وهناك روايات كثيرة مبثوثة في كتب التفاسير والحديث والتاريخ تحكي عن طروء التحريف على الذكر الحكيم ، ونحن نقتصر على الأقل القليل منها ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتاب « أُكذوبة تحريف القرآن بين الشيعة والسنّة ».(4).
ص: 447
ونحن نرى أنّ في الإصرار على نسبة التحريف إلى أيّة طائفة من الطوائف الإسلامية ضرراً واسعاً على الإسلام والمسلمين ولا يستفيد منه إلاّ المستعمرون وأذنابهم.
وعلى الرغم من كثرة هذه الروايات نحن لا نؤمن بصحّتها كما لا يؤمن علماء أهل السنّة المحقّقون بها ولا تبتني عقيدتهم عليها فهي بين ضعاف السند ، أو ضعاف الدلالة وقبل كلّ شيء تخالف الذكر الحكيم وإجماع الأُمّة.
ص: 448
نحمد اللّه سبحانه ونشكره على ما أولانا من تفسير كتابه الكريم على النهج الموضوعي في أجزاء عشرة ، وقد اقتصرنا في بحوثنا على المسائل العقائديّة ، وتركنا الخوض في غيرها من الموضوعات الّتي جاءت في الكتاب العزيز.
وقد نجز الجزء الأوّل من هذه الموسوعة عام 1393 ه ، وهذا هو الجزء العاشر والأخير نزفّه إلي الطبع ونحن في ثنايا عام 1420 ه.
والحمد لله الذي وفقنا لإنجاز ما كنّا نصبو إليه من نشر هذه الأجزاء العشرة ، أسأل اللّه سبحانه أن يعصمنا من الزلل ، في القول والعمل ، انّه بذلك جدير وبالإجابة قدير.
* * *
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
جعفر السبحاني
قم - مؤسسه الإمام الصادق عليه السلام
في صبيحة يوم الثلاثاء الموافق ل 12 من شهر رمضان المبارك
من شهور عام 1420 ه
ص: 449
ص: 450
مقدمة المؤلّف ... 5
العدل والإمامة
المقدّمة ... 7
العدل الإلهي
الفصل الأوّل : العدل الإلهي في الكتاب العزيز ... 13
التحسين والتقبيح العقليين ... 14
شمولية عدله سبحانه ... 17
أقسام العدل ... 19
الفصل الثاني : مظاهر العدل الإلهي في عالم الخلق ... 21
1. السماوات ورفعها بغير عمد ... 21
2. الجبال وحركاتها ... 24
ص: 451
3. الحياة وتوازنها الدقيق ... 24
الفصل الثالث : مظاهر العدل الإلهي في عالم التشريع ... 26
نماذج من عدله سبحانه في عالم التشريع ... 27
الأشاعرة والتكليف بما لا يطاق ... 32
مظاهر العدل الإلهي في تنفيذ العقوبات ... 36
الفصل الرابع : العدل الإلهي وفاعلية الإنسان ... 38
حرية الإرادة من منظار قرآني ... 41
لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين ... 43
الفصل الخامس : شبهات وحلول ... 45
الشبهة الأُولى : خلق الأعمال ... 45
الشبهة الثانية : علمه سبحانه وإرادته السابقة ... 50
إيضاح آيات ثلاث ... 55
الشبهة الثالثة : العدل الإلهي والقضاء والقدر ... 57
أصناف القضاء والقدر ... 59
الفصل السادس : العدل الإلهي والمصائب والبلايا ... 66
1. الآثار التربويّة للبلايا والمصائب ... 69
أ : تفجير الطاقات ... 69
ب : المصائب والبلايا جرس إنذار ... 69
ج : تقاعس الإنسان عن تحمل مسؤوليته ... 70
ص: 452
2. اختلاف الناس في المواهب العقلية والاستعدادت ... 71
3. الفواصل الطبقية بين الناس ... 71
الفصل السابع : العدل الإلهي والعقوبة الأُخروية ... 73
شبهة عدم التعادل بين الجريمة والعقوبة ... 75
الإمامة والخلافة
الإمامة والخلافة عند أهل السنة ... 80
الإمامة والخلافة عند الشيعة ... 83
الفصل الأوّل : المصالح العامة ومقتضيات نظام الحكم ... 89
مثلث الخطر ... 89
سيادة الروح القبلية على المجتمع الإسلامي الفتيّ ... 91
فذلكة وتحليل ... 94
الصحابة ومؤهلات القيادة ... 95
الفصل الثاني : أهل السنَّة ومعالم الحكومة الإسلامية ... 98
هل الشورى أساس الحكم الإسلامي ... 99
شواهد على خلاف تلك الفكرة ... 100
هل البيعة أساس الحكم الإسلامي ... 103
نقد فكرة أنّ البيعة أساس الحكم ... 104
ص: 453
الفصل الثالث : نظرية الحكم عند النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ... 106
بلاغات غير رسمية لإمامة الإمام عليّ عليه السلام ... 109
1. دعوة الأقربين وتنصيب علي عليه السلام للخلافة ... 109
2. آية الولاية وخلافة علي عليه السلام ... 112
بلاغ رسمي بخلافة الإمام علي عليه السلام في غدير خم ... 116
القرائن القطعية على المراد من لفظ المولى ... 120
أهل البيت :
سماتهم وحقوقهم
أهل البيت : في القرآن الكريم
الفصل الأوّل من هم أهل البيت ؟ ... 129
أ. أهل البيت لغة وعرفاً ... 130
ب. أهل البيت في الآية المباركة ... 134
القرائن المحدِّدة لمفهوم أهل البيت في الآية ... 134
أهل البيت في كلام النبي الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم ... 140
الطائفة الأُولى : التصريح بأسمائهم ... 142
الطائفة الثانية : إدخالهم تحت الكساء ... 143
الطائفة الثالثة : تعيينهم بتلاوة الآية على بابهم ... 148
مرور على ما رواه الطبري والسيوطي ... 149
ص: 454
نقد القول بنزول آية التطهير في نساء النبي ... 154
مشكلة السياق وحلّها ... 162
ما هو السر في جعلها جزءاً من آية أُخرى؟ ... 170
نظريات أُخرى في تفسير الآية ... 173
خاتمة المطاف : أهل البيت في الأدب العربي ... 177
الشيعة وآية التطهير ... 193
الفصل الثاني : سمات أهل البيت عليهم السلام ... 197
1. العصمة ... 199
1. ما هو المراد من الرجس ؟ ... 199
المنفي مطلق الرجس ... 202
2. هل الإرادة في الآية تكوينية أم تشريعية ؟ ... 203
أسئلة وأجوبة ... 207
تفسير آخر للإرادة التكوينية ... 211
ما هو الوجه لتفسير الإرادة بالتشريعية ؟ ... 214
2. المحبّة في قلوب المؤمنين ... 219
3. استجابة دعائهم عليهم السلام ... 223
4. ابتغاء مرضاة اللّه تعالى ... 228
محاولة طمس الحقيقة لولا ... ... 230
5. الإيثار ... 233
6. هم خير البريّة ... 237
7. أهل البيت عليهم السلام ورثة الكتاب ... 239
8. حرمة الصدقة عليهم ... 245
ص: 455
الفصل الثالث : حقوق أهل البيت عليهم السلام في القرآن الكريم ... 247
1. ولاية أهل البيت عليهم السلام ... 249
2. أهل البيت عليهم السلام وضرورة اطاعتهم ... 255
3. وجوب مودتهم وحبهم ... 261
4. وجوب الصلوات عليهم عند التشهد ... 275
5. دفع الخمس إليهم ... 281
6. الفيء لأهل البيت عليهم السلام ... 287
7. الأنفال لأهل البيت عليهم السلام ... 290
8. ترفيع بيوتهم ... 293
خاتمة المطاف : أهل البيت في كلام الإمام علي عليه السلام ... 298
عرض موجز لتاريخ التفسير عند الشيعة
الشيعة والتفسير تدويناً وتطويراً ... 303
الرسول الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلم هو المفسّر الأوّل ... 309
نماذج من تفسيره صلى اللّه عليه وآله وسلم ... 311
أميرالمؤمنين علي عليه السلام هو المفسر الثاني ... 312
عثرة لا تقال ... 313
نماذج ممّا روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في التفسير ... 316
الإمام الحسن عليه السلام والتفسير ... 317
نماذج ممّا روي عنه عليه السلام ... 318
الإمام الحسين عليه السلام والتفسير ... 319
ص: 456
نماذج مما روي عنه عليه السلام ... 322
الإمام زين العابدين عليه السلام والتفسير ... 321
نماذج ممّا روي عنه عليه السلام ... 322
الإمام محمّد الباقر عليه السلام والتفسير ... 324
نماذج من تفسير الإمام الباقر عليه السلام ... 325
الإمام جعفر الصادق عليه السلام والتفسير ... 328
نماذج مما روي عنه عليه السلام ... 329
الإمام موسى الكاظم عليه السلام والتفسير ... 334
نماذج ممّا أُثر عنه عليه السلام ... 334
الإمام علي بن موسى الرضا عليهما السلام والتفسير ... 336
نماذج ممّا روي عنه عليه السلام ... 336
الإمام محمد الجواد عليه السلام والتفسير ... 340
نماذج ممّا أُثر عنه عليه السلام ... 341
الإمام الهادي عليه السلام والتفسير ... 344
نماذج ممّا روي عنه عليه السلام ... 344
الإمام العسكري عليه السلام والتفسير ... 347
نماذج ممّا أُثر عنه عليه السلام ... 348
أسنادهم عليهم السلام موصولة إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ... 351
الشيعة وألوان التفسير ... 353
الشيعة وتفسير غريب القرآن ... 353
التفسير ومجازات القرآن ... 358
ص: 457
الشيعة والتفسير الموضوعي ... 360
المحكم والمتشابه ... 361
الناسخ والمنسوخ ... 363
تفسير آيات الأحكام ... 369
ما نزل من القرآن في حقّ النبي وعترته ... 372
التأليف حول أمثال القرآن وأقسامه وقصصه ... 376
معارف القرآن واحتجاج بها ... 377
أسباب النزول ... 378
التفسير الموضوعي في العصر الحاضر ... 379
الشيعة والتفسير الترتيبي ... 380
مشاهير المفسّرين من الشيعة
أعلام المفسرين الشيعة في القرن الأوّل ... 383
أعلام المفسرين الشيعة في القرن الثاني ... 385
أعلام المفسرين الشيعة في القرن الثالث ... 388
أعلام المفسرين الشيعة في القرن الرابع ... 390
أعلام المفسرين الشيعة في القرن الخامس ... 395
أعلام المفسرين الشيعة في القرن السادس ... 400
أعلام المفسرين الشيعة في القرن السابع والثامن ... 408
أعلام المفسرين الشيعة في القرن التاسع ... 415
أعلام المفسرين الشيعة في القرن العاشر ... 416
أعلام المفسرين الشيعة في القرن الحادي عشر ... 418
ص: 458
أعلام المفسرين الشيعة في القرن الثاني عشر ... 422
أعلام المفسرين الشيعة في القرن الثالث عشر ... 425
أعلام المفسرين الشيعة في القرن الرابع عشر و ... ... 427
تاريخ التدوين التفسير وتكامله ... 431
التفاسير الشيعة في قفص الاتّهام ... 434
تهمة التحريف ونقدها ... 439
الرسائل المفردة حول صيانة القرآن من التحريف ... 443
كتاب الكافي كتاب حديثي لا عقائدي ... 446
التحريف في كتب أهل السنّة ... 447
مضاعفات رمي فرق المسلمين بالتحريف ... 448
فهرس المواضيع ... 451
والخمد لله ربّ العالمين
ص: 459