مفاهيم القرآن المجلد 9

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ جعفر السبحاني

الناشر: مؤسسة الامام الصادق عليه السلام

المطبعة: الإعتماد

الطبعة: 3

الموضوع : القرآن وعلومه

تاريخ النشر : 1425 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-357-148-3

الكتب بساتین العلماء

مفاهيم القرآن

تأليف: العلامة جعفر السبحاني

الجزء التاسع

الأمثال والأقسام في القرآن الكريم

مؤسسة التاريخ العربي

بيروت - لبنان

ص: 1

اشارة

جميع الحقوق محفوظة للناشر

الطبعة الأولی

1431 ه - 2010 م

مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع

The Arabic History Publishing Distributing

العنوان الجديد

بيروت - طريق المطار - خلف غولدن بلازا - هاتف 01/540000 - 01/455559 - فاكس 850717 - ص. ب . 11/7957 Beyroth - Air port street - Golden plazza - Tel: 01/54000- 01455559 -7957/11 Fax: 850717 - p. o

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

( لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )

( الحشر : 21 )

ص: 3

ص: 4

الأمثال في القرآن

اشارة

وقبل الخوض في المقصود نقدم أُموراً :

الأوّل : المثل في اللغة

يظهر من غير واحد من المعاجم ، كلسان العرب والقاموس المحيط ، أنّ للفظ « المثل » معاني مختلفة ، كالنظير والصفة والعبرة وما يجعل مثالاً لغيره يُحذا عليه إلى غير ذلك من المعاني (1).

قال الفيروزآبادي : المِثْل - بالكسر والتحريك - الشبه ، والجمع أمثال ؛ والمَثَلُ - محرّكة - الحجة ، والصفة ؛ والمثال : المقدار والقصاص ، إلى غير ذلك من المعاني (2).

ولكن الظاهر انّ الجميع من قبيل المصاديق ، وما ذكروه من باب خلط المفهوم بها وليس للّفظ إلا معنى أو معنيين ، والباقي صور ومصاديق لذلك المفهوم ، وممن نبَّه على ذلك صاحب معجم المقاييس ، حيث قال :

المِثْل والمثَل يدلاّن على معنى واحد وهو كون شيء نظيراً للشيء ، قال ابن

ص: 5


1- لسان العرب : 13 / 22 ، مادة مثل.
2- القاموس المحيط : 4 / 49 ، مادة مثل.

فارس : « مثل » يدل على مناظرة الشيء للشيء ، وهذا مثل هذا ، أي نظيره ، والمثل والمثال بمعنى واحد. وربما قالوا : « مثيل كشبيه » ، تقول العرب : أمثل السلطان فلاناً ، قتله قوداً ، والمعنى انّه فعل به مثلما كان فعله.

والمِثْل : المثَل أيضاً ، كشِبْه وشبَه ، والمثل المضروب مأخوذ من هذا ، لأنّه يذكر مورّى به عن مثله في المعنى.

وقوله : مَثَّلَ به إذا نُكِّل ، هو من هذا أيضاً ، لأنّ المعنى فيه إذا نُكل به : جعل ذلك مثالاً لكل من صنع ذلك الصنيع أو أراد صنعه. والمثُلات أيضاً من هذا القبيل ، قال اللّه تعالى : ( وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المَثُلاتُ ) (1) أي العقوبات التي تزجر عن مثل ما وقعت لأجله ، وواحدها : مُثُل (2).

وعلى الرغم من ذلك فمن المحتمل أن يكون من معانيه الوصف والصفة ، فقد استعمل فيه امّا حقيقة أو مجازاً ، وقد نسب ابن منظور استعماله فيه إلى يونس ابن حبيب النحوي ( المتوفّى 182 ه ) ، ومحمد بن سلام الجمحي ( المتوفّى 232 ه ) ، وأبي منصور الثعالبي ( المتوفّى 429 ه ) (3).

ويقول الزركشي ( المتوفّى 794 ه ) : إنّ ظاهر كلام أهل اللغة ان المثل هو الصفة ، ولكن المنقول عن أبي علي الفارسي ( المتوفّى 377 ه ) انّ المثل بمعنى الصفة غير معروف في كلام العرب ، إنّما معناه التمثيل (4).

ويدل على مختار الأكثر ما أورده صاحب لسان العرب ، حيث قال : قال

ص: 6


1- الرعد : 6.
2- معجم مقاييس اللغة : 5 / 296.
3- لسان العرب : 13 / 22 ، مادة مثل.
4- البرهان في علوم القرآن : 1 / 490.

عمر بن أبي خليفة : سمعت مُقاتِلاً صاحب التفسير ، يسأل أبا عمرو بن العلاء ، عن قول اللّه عزّ وجلّ : ( مَّثَلُ الجَنَّةِ ) ، ما مَثَلُها ؟ فقال : ( فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ ) ، قال : ما مَثَلُها ؟ فسكت أبو عمرو.

قال : فسألت يونس عنها ، فقال : مَثَلها صفتها ، قال محمد بن سلام : ومثل ذلك قوله : ( ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل ) (1) أي صفتهم.

قال أبو منصور : ونحو ذلك روي عن ابن عباس ، وأمّا جواب أبي عمرو لمقاتل حين سأله ما مثَلُها ، فقال : فيها أنهار من ماءٍ غير آسنٍ ، ثمّ تكريره السؤال ما مَثَلُها وسكوت أبي عمرو عنه ، فانّ أبا عمرو أجابه جواباً مقنعاً ، ولما رأى نبوة فَهْمِ مقاتل ، سكت عنه لما وقف من غلظ فهمه. وذلك انّ قوله تعالى : ( مَّثَلُ الجَنَّةِ ) تفسير لقوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) (2) وصف تلك الجنات ، فقال : مَثَلُ الجنة التي وصفتها ، وذلك مثل قوله : ( ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل ) أي ذلك صفة محمّد صلی اللّه علیه و آله وأصحابه في التوراة ، ثم أعلمهم أنّ صفتهم في الإنجيل كزرعٍ (3).

ثمّ إنّ الفرق بين المماثلة والمساواة ، أن المساواة تكون بين المختلفين في الجنس والمتفقين ، لأنّ التساوي هو التكافؤ في المقدار لا يزيد ولا ينقص ، وأمّا المماثلة فلا تكون إلاّ في المتفقين (4).

ص: 7


1- الفتح : 29.
2- الحج : 14.
3- لسان العرب : مادة مثل.
4- لسان العرب : مادة مثل.

وأمّا الفرق بين المماثلة والمشابهة هو انّ الأُولى تستعمل في المتفقين في الماهية والواقعية ، بخلاف الثانية فإنّما تستعمل غالباً في مختلفي الحقيقة ، المتفقين في خصوصية من الخصوصيات.

وبهذا يعلم انّ التجربة تجري في المتماثلين والمتفقين في الحقيقة ، كانبساط الفلز حينما تمسُّه النار ، وهذا بخلاف الاستقراء ، فإنّ مجراه الأُمور المختلفة كاستقراء انّ كل حيوان يتحرك فكه الأسفل عند المضغ ، فيتعلّق الاستقراء بمختلفي الحقيقة كالشاة والبقرة والإبل.

وقد تكرر في كلام غير واحد من أصحاب المعاجم ان المَثَل والمثْل سيان ، كالشَبَه والشبْه ، ومع ذلك كلّه نرى أنّ القرآن ينفي المثْل لله ، ويقول : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (1) وفي الوقت نفسه يُثبت له المثَل ، ويقول : ( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) (2).

والجواب : انّه لا منافاة بين نفي المِثْل لله واثبات المَثَل له ؛ أمّا الأوّل ، فهو عبارة عن وجود فرد لواجب الوجود يشاركه في الماهية ، ويخالفه في الخصوصيات ، فهذا أمر محال ثبت امتناعه في محلِّه ، وأمّا المَثَلُ فهو نُعوت محمودة يُعرف بها اللّه سبحانه كأسمائه الحسنى وصفاته العليا ، وعلى هذا ، المَثَلْ في هذه الآية وما يشابهها بمعنى ما يوصف به الشيء ويعبَّر به عنه ، من صفات وحالات وخصوصيات.

فهذه الآية تصرّح بأنّ عدم الإيمان بالآخرة مبدأ لكثير من الصفات

ص: 8


1- الشورى : 11.
2- النحل : 60.

القبيحة ، ومصدر كل شر ، وفي المقابل انّ الإيمان بالآخرة هو منشأ كل حسنة ومنبع كلّ خير وبركة ، فكلّ وصف سوء وقبيح يلزم الإنسان ويلحقه ، فإنّما يأتيه من قبل عدم الإيمان بالآخرة ، كما أنّ كلّ وصف حسن يلزم الإنسان ينشأ من الإيمان بها ، وبذلك ظهر معنى قوله : ( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ ) الذي يدلّ بالملازمة للذين يؤمنون بالآخرة لهم مثل الحسن.

وأمّا قوله سبحانه : ( وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى ) فمعناه أنّه منزّه من أن يوصف بصفات مذمومة وقبيحة كالظلم ، قال سبحانه : ( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) (1). وفي الوقت نفسه فهو موصوف بصفات محمودة.

فكلّ وصف يستكرهه الطبع أو يردعه العقل فلا سبيل له إليه ، فهو قدرة لا عجز فيها ، وحياة لا موت معها إلى غير ذلك من الصفات الحميدة ، بخلاف ما يقبله الطبع فهو موصوف به.

وقد أشار إلى ذلك في غير واحد من الآيات أيضاً ، قال : ( وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) (2) وقال : ( لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) (3) ، فالأمثال منها دانية ومنها عالية فإنّما يثبت له العالي بل الأعلى (4).

ومنه يعلم أنّ الأمثال إذا كان جمع مثْل - بالسكون - فاللّه سبحانه منزّه من المثْل والأمثال ، وأمّا إذا كان جمع مثَل - بالفتح - بمعنى الوصف الذي يحمد به سبحانه ، فله الأمثال العليا ، والأسماء الحسنى كما مرّ.

ص: 9


1- الكهف : 49.
2- الروم : 27.
3- طه : 8.
4- لاحظ : الميزان : 12 / 249.

الثاني : المَثَلْ في الاصطلاح

المَثَلُ : قسم من الحكم ، يرد في واقعة لمناسبة اقتضت وروده فيها ، ثمّ يتداولها الناس في غير واحد من الوقائع التي تشابهها دون أدنى تغيير لما فيه من وجازة وغرابة ودقة في التصوير.

فالكلمة الحكيمة على قسمين : سائر منتشر بين الناس ودارج على الألسن فهو المثل ، وإلا فهي كلمة حكيمة لها قيمتها الخاصة وإن لم تكن سائرة. فما ربما يقال : « المثل السائر » فالوصف قيد توضيحي لا احترازي ، لأنّ الانتشار والتداول داخل في مفهوم المثل ، ويظهر ذلك من أبي هلال العسكري ( المتوفّى حوالي 400 ه ) ، حيث قال : جعل كل حكمة سائرة ، مَثَلاً ، وقد يأتى القائل بما يحسن من الكلام أن يتمثل به إلاّ انّه لا يتفق أن يسير فلا يكون مَثَلاً (1).

وكلامه هذا ينم « انّ الشيوع والانتشار وكثرة الدوران على الألسن هو الفارق بين الحكمة والمثل ، فالقول الصائب الصادر عن تجربة يسمّى حكمة إذا لم يتداول ، ومثلاً إذا كثر استعماله وشاع أداوَه في المناسبات المختلفة ».

ولأجل ذلك يقول الشاعر :

ما أنت إلا مثل سائر *** يعرفه الجاهل والخابر

وأمّا تسمية ذلك الشيء بالمثال ، فهو لأجل المناسبة والمشابهة بين الموردين على وجه يُصبح مثالاً لكل ما هو على غراره.

ص: 10


1- جمهرة أمثال العرب : 1 / 5.

قال ابن السكيت ( المتوفّى عام 244 ه ) : المثل لفظ يخالف لفظ المضروب له ، ويوافق معناه معنى ذلك اللفظ ، شبّهوه بالمثال الذي يعمل عليه غيره (1).

وبما انّ وجه الشبه والمناسبة التي صارت سبباً لإلقاء هذه الحكمة غير مختصة بمورد دون مورد ، وإن وردت في مورد خاص يكون المثل آية وعلامة أو علماً للمناسبة الجامعة بين مصاديق مختلفة.

يقول المبرّد : فحقيقة المثل ما جعل كالعلم للتشبيه بحال الأوّل ، كقول كعب بن زهير :

كانت مواعيد عرقوب لها مَثَلاً *** وما مواعيدها إلاّ الأباطيل

فمواعيد عرقوب علم لكل ما لا يصح من المواعيد (2).

وعلى ذلك فالمثل السائر كقوله : « في الصيف ضيعتِ اللبن » علم لكل من ضيَّع الفرصة وأهدرها ، كما أن قول الرسول صلی اللّه علیه و آله : « لا ينتطح فيها عنزان » علم لكلّ أمر ليس له شأن يعتد به (3).

كما أنّ قول أبى الشهداء الحسين بن على علیهماالسلام : « لو ترك القطا ليلاً لنام » الذي تمثل به الإمام علیه السلام في جواب أُخته زينب علیهاالسلام ، علم لكل من لا يُترك بحال أو من حُمل على مكروه من غير إرادة ، إلى غير ذلك من الأمثال الدارجة.

ص: 11


1- مجمع الأمثال : 1 / 6.
2- مجمع الأمثال : 1 / 6.
3- مجمع الأمثال : 2 / 225.

الثالث : فوائد الأمثال السائرة

اشارة

ذكر غير واحد من الاَُدباء فوائد جمة للمثل السائر :

1. قال ابن المقفّع ( المتوفّى عام 143 ه ) : إذا جعل الكلام مثلاً كان أوضح للمنطق ، وآنق للسمع ، وأوسع لشعوب الحديث.

2. وقال إبراهيم النظام ( المتوفّى عام 231 ه ) : يجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام : إيجاز اللفظ ، وإصابة المعنى ، وحسن التشبيه ، وجودة الكناية ، فهو نهاية البلاغة.

وقال غيرهما : سميت الحِكَم القائم صدقها في العقول أمثالاً ، لانتصاب صورها في العقول مشتقة من المثول الذي هو الانتصاب (1).

وقد نقل ابن قيم الجوزية ( المتوفّى عام 751 ه ) كلام النظام بشكل كامل ، وقال :

وقد ضرب اللّه ورسوله الأمثال للناس لتقريب المراد وتفهيم المعنى وإيصاله إلى ذهن السامع ، وإحضاره في نفسه بصورة المثال الذي مثّل به فقد يكون أقرب إلى تعقّله وفهمه وضبطه واستحضاره له باستحضار نظيره ، فإن النفس تأنس بالنظائر والأشباه وتنفر من الغربة والوحدة وعدم النظير.

ففي الأمثال من تأنس النفس وسرعة قبولها وانقيادها لما ضرب لها مثله من الحق أمر لا يجحده أحد ولا ينكره ، وكلّما ظهرت الأمثال ازداد المعنى ظهوراً ووضوحاً ، فالأمثال شواهد المعنى المراد ، وهي خاصية العقل ولبّه وثمرته (2).

ص: 12


1- مجمع الأمثال : 1 / 6.
2- أعلام الموقعين : 1 / 291. وما ذكره من الفائدة مشترك بين المثل السائر الذي هو موضوع كلامنا ، والتمثيل الذي شاع في القرآن ، وسيوافيك الفرق بين المثل السائر والتمثيل.

وقال عبد القاهر الجرجاني ( المتوفّى عام 471 ه ) : اعلم أنّ مما اتّفق العقلاء عليه انّ التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني ، أو أُبرزت هي باختصار في معرضه ، ونُقلت عن صورها الأصلية إلى صورته كساها أُبّهة ، وكسبها منقبة ، ورفع من أقدارها ، وشبّ من نارها ، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها ، ودعا القلوب إليها ، واستثار من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفاً ، وقسر الطّباع على أن تُعطيها محبة وشغفاً.

فإن كان ذمّاً : كان مسه أوجع ، وميسمه ألذع ، ووقعه أشدّ ، وحدّه أحد.

وإن كان حجاجاً : كان برهانه أنور ، وسلطانه أقهر ، وبيانه أبهر.

وإن كان افتخاراً : كان شأوه أمدّ ، وشرفه أجد (1) ، ولسانه ألد.

وإن كان اعتذاراً : كان إلى القبول أقرب ، وللقلوب أخلب ، وللسخائم أسلّ ، ولغَرْب الغضب أفلّ ، وفي عُقد العقود أنفث ، وحسن الرجوع أبعث.

وإن كان وعظاً : كان أشفى للصدر ، وأدعى إلى الفكر ، وأبلغ في التنبيه والزجر ، وأجدر أن يجلى الغياية (2) ويُبصّر الغاية ، ويبرئ العليل ، ويشفي الغليل (3).

4. وقال أبو السعود ( المتوفّى عام 982 ه ) : إنّ التمثيل ليس إلاّ إبراز المعنى المقصود في معرض الأمر المشهور ، وتحلية المعقول بحلية المحسوس ، وتصوير أوابد المعاني بهيئة المأنوس ، لاستمالة الوهم واستنزاله عن معارضته للعقل ، واستعصائه عليه في إدراك الحقائق الخفيّة ، وفهم الدّقائق الأبيّة ؛ كي يتابعه فيما يقتضيه ،

ص: 13


1- من الجد : الحظ ، يقال : هو أجدّ منك ، أي أحظ.
2- الغياية : كل ما أظلك من فوق رأسك.
3- أسرار البلاغة : 101 - 102.

ويشايعه إلى ما لا يرتضيه ، ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية والكلمات النبوية ، وذاعت في عبارات البلغاء ، وإشارات الحكماء.

إن التمثيل ألطف ذريعة إلى تسخير الوهم للعقل واستنزاله من مقام الاستعصاء عليه ، وأقوى وسيلة إلى تفهيم الجاهل الغبيّ ، وقمع سورة الجامح الابيّ ، كيف لا ، وهو رفع الحجاب عن وجوه المعقولات الخفية ، وإبرازها لها في معرض المحسوسات الجلية ، وإبداء للمنكر في صورة المعروف ، وإظهار للوحشي في هيئة المألوف (1).

ولعلّ في هذه الكلمات غنى وكفاية فلا نطيل الكلام ، غير انّه يجب التنبيه على نكتة ، وهي ان السيوطي نقل في « المزهر » عن أبي عبيد انّه قال :

الأمثال حكمة العرب في الجاهلية والإسلام وبها كانت تعارض كلامها فتبلغ بها ما حاولت من حاجاتها في المنطق بكناية (2).

ولا يخفى انّ الأمثال ليست من خصائص العرب فحسب ، بل لكلّ قوم أمثال وحكم يقرِّبون بها مقاصدهم إلى إفهام المخاطبين ويبلغون بها حاجاتهم ، وربما يشترك مَثَلٌ واحد بين أقوام مختلفة ، ويصبح من الأمثال العالمية ، وربما تبلغ روعة المثل بمكان يقف الشاعر أمامه مبهوراً فيصب مضمونه في قالب شعري.

روى الطبري عن مهلب بن أبي صفرة ، قال : دعا المهلَّب حبيباً ومن حضره من ولده ، ودعا بسهام فحزمت ، وقال : أترونكم كاسريها مجتمعة ؟ قالوا : لا ، قال : أفترونكم كاسريها متفرقة ؟ قالوا : نعم ، قال : فهكذا الجماعة (3).

وليس المهلب أوّل من ساق هذا المثل على لسانه ، فقد سبقه غيره إليه.

ص: 14


1- هامش تفسير الفخر الرازي : 1 / 156 ، المطبعة الخيرية ، ط الأولى ، مصر - 1308 ه.
2- المزهر : 1 / 288.
3- تاريخ الطبري : حوادث سنة 82 ه.

روى أبو هلال العسكري في جمهرته ، عن قيس بن عاصم التميمى ( المتوفّى عام 20 ه ) الأبيات التالية التي تعرب بأنّ المثل صبّ في قالب الشعر أيضاً :

بصلاح ذات البين طول بقائكم *** ان مُدّ في عمري وإن لم يُمدد

حتى تلين قلوبكم وجلودكم *** لمسوّد منكم وغير مسوّد

انّ القداح إذا جمعن فرامها *** بالكسر ذو حنق وبطش باليد

عزّت فلم تكسر وإن هي بددت *** فالوهن والتكسير للمتبدّد (1)

وقد نقل المسعودي في ترجمة عبد الملك بن مروان ، وقال :

كان الوليد متحنّناً على إخوته ، مراعياً سائر ما أوصاه به عبد الملك ، وكان كثير الإنشاد لأبيات قالها عبد الملك حين كتب وصيته ، منها :

انفوا الضغائن عنكم وعليكم *** عند المغيب وفي حضور المشهد

انّ القداح إذا اجتمعن فرامها *** بالكسر ذو حنق وبطش باليد

عزّت فلم تكسر وإن هي بُددت *** فالوهن والتكسير للمتبدّد (2)

ص: 15


1- جمهرة الأمثال : 1 / 48.
2- مروج الذهب : أخبار الوليد بن عبد الملك.

الكتب المؤلّفة في الأمثال العربية

وقد أُلّفت في الأمثال العربية قديمها وحديثها كتباً كثيرة ، وأجمع كتاب في هذا المضمار هو ما ألّفه أحمد بن محمد بن إبراهيم النيسابوري الميداني ( المتوفّى عام 518 ه ) وأسماه ب « مجمع الأمثال » لإحتوائه على عظيم ما ورد منها وهي ستة آلاف ونيف (1).

الرابع : الأمثال القرآنية

دلّت غير واحدة من الآيات القرآنية على أنّ القرآن مشتمل على الأمثال ، وانّه سبحانه ضرب بها مثلاً للناس للتفكير والعبرة ، قال سبحانه : ( لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (2).

إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على وجود الأمثال في القرآن ، وانّ الروح الأمين نزل بها ، وكان مَثَلاً حين النزول على قلب سيد المرسلين ، هذا هو المستفاد من الآيات.

ومن جانب آخر انّ المثل عبارة عن كلام أُلْقيَ في واقعة لمناسبة اقتضت إلقاء ذلك الكلام ، ثمّ تداولت عبر الزمان في الوقائع التي هي على غرارها ، كما هو الحال في عامة الأمثال العالمية.

ص: 16


1- مجمع الأمثال : 1 / 5.
2- الحشر : 21.

وعلى هذا فالمثل بهذا المعنى غير موجود في القرآن الكريم ، لما ذكرنا من أنّ قوام الأمثال هو تداولها على الألسن وسريانها بين الشعوب ، وهذه الميزة غير متوفرة في الآيات القرآنية.

كيف وقد أسماه سبحانه مثلاً عند النزول قبل أن يعيها النبي صلی اللّه علیه و آله ويقرأها للناس ويدور على الألسن ، فلا مناص من تفسير المثل في القرآن بمعنى آخر ، وهو التمثيل القياسي الذي تعرّض إليه علماء البلاغة في علم البيان وهو قائم بالتشبيه والاستعارة والكناية والمجاز ، وقد سمّاه القزويني « في تلخيص المفتاح » المجاز المركب وقال :

إنّه اللفظ المركب المستعمل فيما شُبِّه بمعناه الأصلي تشبيه التمثيل للمبالغة في التشبيه ، ثمّ مثل بما كتب يزيد بن وليد إلى مروان بن محمد حين تلكأ عن بيعته : أمّا بعد ، فإنّي أراك تقدّم رجلاً وتؤخّر أُخرى ، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيّهما شئت ، والسلام (1).

فلهذا التمثيل من المكانة ما ليس له لو قصد المعنى بلفظه الخاص ، حتى أنّه لو قال مثلاً : بلغنى تلكّؤك عن بيعتى ، فإذا أتاك كتابي هذا فبايع أو لا ، لم يكن لهذا اللفظ من المعنى بالتمثيل ، ما لهذا.

فعامة ما ورد في القرآن الكريم من الأمثال فهو من قبيل التمثيل لا المثال المصطلح.

ثمّ إنّ الفرق بين التشبيه والاستعارة والكناية والمجاز أمر واضح لا حاجة لإطناب الكلام فيه ، وقد بيّنه علماء البلاغة في علم البيان ، كما طرحه أخيراً علماء

ص: 17


1- الإيضاح : 304 ؛ التلخيص : 322.

الأصول في مباحث الألفاظ ، ولأجل ذلك نضرب الصفح عنه ونحيل القارئ الكريم إلى الكتب المدونة في هذا المضمار.

ويظهر من بعضهم انّ التمثيل من معاني المثل ، قال الآلوسي : المثل مأخوذ من المثول - وهو الانتصاب - ومنه الحديث « من أحبّ أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوّأ مقعده من النار » ثم أطلق على الكلام البليغ الشائع الحسن المشتمل إمّا على تشبيه بلا شبيه أو استعارة رائقة تمثيلية وغيرها ، أو حكمة وموعظة نافعة ، أو كناية بديعة أو نظم من جوامع الكلم الموجز (1).

ولولا قوله « الشائع » لانطبقت العبارة على التمثيل القياسي.

«وقد امتازت صيغة المثل القرآني بأنّها لم تنقل عن حادثة معينة ، أو واقعة متخيلة ، أُعيدت مكرورة تمثيلاً ، وضرب موردها تنظيراً ، وإنّما ابتدع المثل القرآني ابتداعاً دون حذو احتذاه ، وبلا مورد سبقه فهو تعبير فني جديد ابتكره القرآن حتى عاد صبغة متفردة في الأداء والتركيب والإشارة ».

« وعلى هذا فالمثل في القرآن الكريم ليس من قبيل المثل الاصطلاحي ، أو من سنخ ما يعادله لفظاً ومعنى ، الفقر بالأمثال بمضمونه ، بل هو نوع آخر أسماه القرآن مثلاً من قبل أن نعرف علوم الأدب « المثل » ، ومن قبل أن تسمّي به نوعاً من الكلام المنثور وتضعه مصطلحاً له. بل من قبل أن يعرف الأدباء « المثل » بتعريفهم » (2).

ص: 18


1- روح المعاني : 1 / 163.
2- الصورة الفنية في المثل القرآني : 72 ، نقلاً عن كتاب المثل لمنير القاضي.

الخامس : أقسام التمثيل

قد عرفت أنّ التمثيل عبارة عن إعطاء منزلة شيء لشيء عن طريق التشبيه أو الاستعارة أو المجاز أو غير ذلك ، فهو على أقسام :

1. التمثيل الرمزي : وهو ما ينقل عن لسان الطيور والنباتات والأحجار بصورة الرمز والتعمية ويكون كناية عن معاني دقيقة ، وهذا النوع من التمثيل يعج به كتاب « كليلة ودمنة » لابن المقفع ، وقد استخدم هذا الأسلوب الشاعر العارف العطار النيشابوري في كتابه « منطق الطير ».

ويظهر من الكتاب الأوّل انّه كان رائجاً في العهود الغابرة قبل الإسلام ، وقد ذكر المؤرّخون انّ طبيباً إيرانياً يدعى « برزويه » وقف على كتاب « كليلة ودمنة » في الهند مكتوباً باللغة السنسكريتية ونقلها إلى اللغة البهلوية ، وأهداه إلى بلاط أنوشيروان الساساني ، وقد كان الكتاب محفوظاً بلغته البهلوية إلى أن وقف عليه عبد اللّه بن المقفع ( 106 - 143 ه ) فنقله إلى اللغة العربية ، ثمّ نقله الكاتب المعروف نصر اللّه بن محمد بن عبد الحميد في القرن السادس إلى اللغة الفارسية وهو الدارج اليوم في الأوساط العلمية.

نعم نقله الكاتب حسين واعظ الكاشفي إلى الفارسية أيضاً في القرن التاسع ومن حسن الحظ توفر كلتا الترجمتين.

وقام الشاعر « رودكي » بنظم ، ما ترجمه ابن المقفع ، باللغة الفارسية.

ويظهر من غير واحد من معاجم التاريخ انّه تطرق بعض ما في هذا الكتاب من الأمثلة إلى الأوساط العربية في عصر الرسالة أوبعده ، وقد نقل انّ عليّاً علیه السلام قال : « إنّما أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض » وهو من أمثال ذلك الكتاب.

ص: 19

وهناك محاولة تروم إلى أنّ القصص القرآنية كلّها من هذا القبيل أي رمز لحقائق علوية دون أن يكون لها واقعية وراء الذهن ، وبذلك يفسرون قصة آدم مع الشيطان ، وغلبة الشيطان عليه ، أو قصة هابيل وقابيل وقتل قابيل أخاه ، أو تكلم النملة مع سليمان علیه السلام ، وغيرها من القصص ، وهذه المحاولة تضادّ صريح القرآن الكريم ، فانّه يصرّح بأنّها قصص تحكي عن حقائق غيبيّة لم يكن يعرفها النبي صلی اللّه علیه و آله ولا غيره ، قال سبحانه : ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (1).

فالآية صريحة في أنّ ما جاء في القصص ليس أمراً مفترىً ، إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على أنّ القرآن بأجمعه هو الحقّ الذي لا يدانيه الباطل.

2. التمثيل القصصي : وهو بيان أحوال الأُمم الماضية بغية أخذ العبر للتشابه الموجود. يقول سبحانه : ( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) . (2)

والقصص الواردة في أحوال الأمم الغابرة التي يعبر عنها بقصص القرآن ، هي تشبيه مصرّح ، وتشبيه كامن والغاية هي أخذ العبرة.

3. التمثيل الطبيعي : وهو عبارة عن تشبيه غير الملموس بالملموس ، والمتوهم بالمشاهد ، شريطة أن يكون المشبه به من الأمور التكوينية ، قال سبحانه : ( إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا

ص: 20


1- يوسف : 111.
2- التحريم : 10.

يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (1).

والأمثال القرآنية تدور بين كونها تمثيلاً قصصيّاً ، أو تمثيلاً طبيعيّاً كونيّاً. وأمّا التمثيل الرمزي فإنّما يقول به أهل التأويل.

السادس : الأمثال القرآنية في الأحاديث

إنّ الأمثال القرآنية بما أنّها مواعظ وعبر قد ورد الحث على التدبر فيها عن أئمّة أهل البيت علیهماالسلام ، ننقل منها ما يلي :

1. قال أمير المؤمنين علي علیه السلام : « قد جرّبتم الأمور وضرستموها ، ووُعظتم بمن كان قبلكم ، وضُربت الأمثال لكم ، ودعيتم إلى الأمر الواضح ، فلا يصمّ عن ذلك إلا أصمّ ، ولا يعمى عن ذلك إلا أعمى ، ومَن لم ينفعه اللّه بالبلاء والتجارب لم ينتفع بشيء من العظة » (2).

2. وقال علیه السلام : « كتاب ربّكم فيكم ، مبيّناً حلاله وحرامه ، وفرائضه وفضائله ، وناسخه ومنسوخه ، ورخصه وعزائمه ، وخاصّه وعامّه ، وعبره وأمثاله » (3).

3. قال أمير المؤمنين علیه السلام : « نزل القرآن أرباعاً : ربع فينا ، وربع في عدونا ، وربع سنن وأمثال ، وربع فرائض وأحكام » (4).

ص: 21


1- يونس : 24.
2- نهج البلاغة ، الخطبة 176.
3- نهج البلاغة : الخطبة 81.
4- بحار الأنوار : 24 / 305 ح 1 ، باب جوامع تأويل ما نزل فيهم علیهم السلام .

4. روى الإمام الصادق علیه السلام عن جده أمير المؤمنين علي علیه السلام أنّه قال لقاض « هل تعرف الناسخ من المنسوخ ؟ » ، قال : لا ، قال : « فهل أشرفت على مراد اللّه عزّ وجل في أمثال القرآن ؟ » ، قال : لا ، قال : « إذاً هلكت وأهلكت ». والمفتي يحتاج إلى معرفة معاني القرآن وحقائق السنن وبواطن الإشارات والآداب والإجماع والاختلاف والاطّلاع على أُصول ما أجمعوا عليه وما اختلفوا فيه ، ثم حسن الاختيار ، ثم العمل الصالح ، ثم الحكمة ، ثم التقوى ، ثم حينئذٍ إن قدر (1).

5. قال أمير المؤمنين علي علیه السلام : « سمّوهم بأحسن أمثال القرآن ، يعنى : عترة النبي صلی اللّه علیه و آله ، هذا عذب فرات فاشربوا ، وهذا ملح أُجاج فاجتنبوا » (2).

6. وقال علي بن الحسين علیهماالسلام في دعائه عند ختم القرآن :

« اللّهمّ انّك أعنتنى على ختم كتابك الذي أنزلته نوراً وجعلته مهيمناً على كل كتاب أنزلته - إلى أن قال : - اللّهم اجعل القرآن لنا في ظلم الليالي مؤنساً ، ومن نزعات الشيطان وخطرات الوساوس حارساً ، ولأقْدامِنا عن نقلها إلى المعاصي حابساً ، ولألسنتنا عن الخوض في الباطل من غير ما آفة مخرساً ، ولجوارحنا عن اقتراف الآثام زاجراً ، ولما طوت الغفلة عنّا من تصفح الاعتبار ناشراً ، حتى توصل إلى قلوبنا فهم عجائبه وزواجر أمثاله التي ضعفت الجبال الرواسي على صلابتها عن احتماله » (3).

7. وقال علي بن الحسين علیهماالسلام في مواعظه : « فاتّقوا اللّه عباد اللّه ، واعلموا أنّ اللّه عزّ وجلّ لم يحب زهرة الدنيا وعاجلها لأحد من أوليائه ولم يرغّبهم فيها وفي عاجل زهرتها وظاهر بهجتها ، وإنّما خلق الدُّنيا وخلق أهلها ليبلوهم فيها أيّهم

ص: 22


1- بحار الأنوار : 2 / 121 ح 34 ، باب النهى عن القول بغير علم من كتاب العلم.
2- بحار الأنوار : 92 / 116 ، الباب 12 من كتاب القرآن.
3- الصحيفة السجادية : من دعائه علیه السلام عند ختم القرآن.

أحسن عملاً لآخرته ، وأيم اللّه لقد ضرب لكم فيه الأمثال وصرّف الآيات لقوم يعقلون ولا قوّة إلاّ باللّه » (1).

8. وقال الإمام الباقر علیه السلام لأخيه زيد بن علي : « هل تعرف يا أخى من نفسك شيئاً مما نسبتها إليه فتجيئ عليه بشاهد من كتاب اللّه ، أو حجّة من رسول اللّه ، أو تضرب به مثلاً ، فانّ اللّه عز وجلّ أحلَّ حلالاً وحرّم حراماً ، فرض فرائض ، وضرب أمثالاً ، وسنَّ سنناً » (2).

9. روي الكليني عن إسحاق بن جرير ، قال : سألتني امرأة أن استأذن لها على أبي عبد اللّه علیه السلام فأذن لها ، فدخلت ومعها مولاة لها ، فقالت : يا أبا عبد اللّه قول اللّه عزّ وجلّ : ( زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ ) (3) ما عنى بهذا ؟ فقال : « أيّتها المرأة إنّ اللّه لم يضرب الأمثال للشجر إنّما ضرب الأمثال لبني آدم » (4).

10. روى داود بن كثير عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : « يا داود إنّ اللّه خلقنا فأكرم خلقنا وفضلنا وجعلنا أُمناءه وحفظته وخزّانه على ما في السماوات وما في الأرض ، وجعل لنا أضداداً وأعداءً ، فسمّانا في كتابه وكنّى عن أسمائنا بأحسن الأسماء وأحبها إليه ، وسمّى أضدادنا وأعداءنا في كتابه وكنّى عن أسمائهم وضرب لهم الأمثال في كتابه في أبغض الأسماء إليه ... » (5).

هذه عشرة كاملة من كلمات أئمّتنا المعصومين حول أمثال القرآن.

* * *

ص: 23


1- الكافي : 8 / 75.
2- بحار الأنوار : 46 / 204 ، الباب 11.
3- النور : 35.
4- الكافي : 5 / 551 ، الحديث 2 ، باب السحق من كتاب النكاح.
5- البحار : 24 / 303 ، الحديث 14.

وقد حازت الأمثال القرآنية على اهتمام المفكرين ، فذكروا حولها كلمات تعرب عن أهمية الأمثال ومكانتها في القرآن :

1. قال حمزة بن الحسن الاصبهاني ( المتوفّى عام 351 ه ) : لضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء النظائر ، شأن ليس بالخفي في إبراز خفيّات الدقائق ورفع الأستار عن الحقائق ، تريك المتخيَّل في صورة المتحقق ، والمتوهَّم في معرض المتيقن ، والغائب كأنّه مشاهد ، وفي ضرب الأمثال تبكيت للخصم الشديد الخصومة ، وقمع لسورة الجامح الابيّ ، فانّه يؤثر في القلوب ما لا يؤثِّر وصف الشيء في نفسه ولذلك أكثر اللّه تعالى في كتابه وفي سائر كتبه الأمثال ، ومن سور الإنجيل سورة تسمّى سورة الأمثال وفشت في كلام النبي صلی اللّه علیه و آله وكلام الأنبياء والحكماء (1).

2. قال الإمام أبو الحسن الماوردي ( المتوفّى عام 450 ه ) : من أعظم علم القرآن علم أمثاله ، والنّاس في غفلة عنه لاشتغالهم بالأمثال ، وإغفالهم الممثَّلات ، والمثل بلا ممثَّل كالفرس بلا لجام والناقة بلا زمام (2).

3.قال الزمخشري ( المتوفّى عام 538 ه ) في تفسير قوله سبحانه : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) (3) : وضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر ، إلى آخر ما نقلناه عن الاصبهاني (4).

4. وقال الرازي ( المتوفّى عام 606 ه ) : « إن المقصود من ضرب الأمثال انّها

ص: 24


1- الدرّة الفاخرة في الأمثال السائرة : 1 / 59 - 60 والعجب أن هذا النص برمّته موجود في الكشّاف في تفسير قوله سبحانه : ( فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ * مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) ( انظر الكشّاف : 1 / 149 ).
2- الإتقان في علوم القرآن : 2 / 1041.
3- البقرة : 17.
4- الكشّاف : 1 / 72.

تؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه ، وذلك لأنّ الغرض في المثل تشبيه الخفي بالجلي ، والغائب بالشاهد ، فيتأكد الوقوف على ماهيته ، ويصير الحس مطابقاً للعقل ، وذلك في نهاية الإيضاح ، ألا ترى أنّ الترغيب إذا وقع في الإيمان مجرّداً عن ضرب مثل له لم يتأكد وقوعه في القلب كما يتأكد وقوعه إذا مُثِّل بالنور ، وإذا زهد في الكفر بمجرّد الذكر لم يتأكد قبحه في العقول ، كما يتأكد إذا مثل بالظلمة ، وإذا أخبر بضعف أمر من الأمور وضرب مثله بنسج العنكبوت كان ذلك أبلغ في تقرير صورته من الإخبار بضعفه مجرّداً ، ولهذا أكثر اللّه تعالى في كتابه المبين ، وفي سائر كتبه أمثاله ، قال تعالى : ( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ) (1). (2)

5. وقال الشيخ عز الدين عبد السلام ( المتوفّى عام 660 ه ) : إنّما ضرب اللّه الأمثال في القرآن ، تذكيراً ووعظاً ، فما اشتمل منها على تفاوت في ثواب ، أو على إحباط عمل ، أو على مدح أو ذم أو نحوه ، فإنّه يدل على الاحكام (3).

6. وقال الزركشي ( المتوفّى عام 794 ه ) : وفي ضرب الأمثال من تقرير المقصود ما لا يخفى ، إذ الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي ، والشاهد بالغائب ، فالمرغب في الإيمان مثلاً ، إذا مثّل له بالنور تأكّد في قلبه المقصود ، والمزهَّد في الكفر إذا مثل له بالظلمة تأكد قبحه في نفسه وفيه أيضاً تبكيت الخصم ، وقد أكثر اللّه تعالى في القرآن ، وفي سائر كتبه من الأمثال (4).

لكن يرد على ما ذكره الزمخشري والرازي والزركشي أنّ ما ذكروه راجع إلى

ص: 25


1- العنكبوت : 43.
2- مفاتيح الغيب : 2 / 72 - 73.
3- الإتقان في علوم القرآن : 2 / 1041.
4- البرهان في علوم القرآن : 1 / 488.

نفس الأمثال لا إلى الضرب بها ، فانّ الأمثال شيء وضرب الأمثال شيء آخر ، لأنّ إبراز المتخيل بصورة المحقّق ، والمتوهم في معرض المتيقن ، ليس من مهمة ضرب الأمثال ، وإنّما هي مهمة نفس الأمثال ، « وذلك انّ المعاني الكلية تعرض للذهن مجملة مبهمة ، فيصعب عليه أن يحيط بها وينفذ فيها فيستخرج سرّها ، والمثل هو الذي يفصّل إجمالها ، ويوضّح إبهامها ، فهو ميزان البلاغة وقسطاسها ومشكاة الهداية ونبراسها » (1).

السابع : الكتب المؤلفة في الأمثال القرآنية

ولأجل هذه الأهمية التي حازتها الأمثال القرآنية ، قام غير واحد من علماء الإسلام القدامى منهم والجدد ، بتأليف رسائل وكتب حول الأمثال القرآنية نذكر منها ما وقفنا عليه :

1. « أمثال القرآن » للجنيد بن محمد القواريري ( المتوفّى سنة 298 ه ).

2. « أمثال القرآن » لإبراهيم بن محمد بن عرفة بن مغيرة المعروف بنفطويه ( المتوفّى سنة 323 ه ).

3. « الدرة الفاخرة في الأمثال السائرة » لحمزة بن الحسن الاصبهاني ( المتوفّى 351 ه ).

4. « أمثال القرآن » لأبي علي محمد بن أحمد بن الجنيد الاسكافي ( المتوفّى عام 381 ه ).

5. « أمثال القرآن » للشيخ أبي عبد الرحمن محمد بن حسين السلمي النيسابوري ( المتوفّى عام 412 ه ).

ص: 26


1- تفسير المنار : 1 / 237.

6. « الأمثال القرآنية » للإمام أبي الحسن على بن محمد بن حبيب الماوردي الشافعي ( المتوفّى سنة 450 ه ).

7. « أمثال القرآن » للشيخ شمس الدين محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية ( المتوفّى سنة 754 ه ). وقد طبعت مؤخّراً.

8. « الأمثال القرآنية » لعبد الرحمن حسن حنبكة الميداني.

9. « أمثال القرآن » للمولى أحمد بن عبد اللّه الكوزكناني التبريزي ( المتوفّى عام 1327 ه ). المطبوعة على الحجر في تبريز عام 1324 ه.

10. « أمثال القرآن » للدكتور محمود بن الشريف.

11. « الأمثال في القرآن الكريم » للدكتور محمد جابر الفياضي. وقد طبعت مؤخّراً.

12. « الصورة الفنية في المثل القرآني » للدكتور محمد حسين علي الصغير. وقد طبعت مؤخّراً.

13. « أمثال قرآن » ( بالفارسية ) لعلي أصغر حكمت. وقد طبعت مؤخّراً.

14. « تفسير أمثال القرآن » ( بالفارسية ) للدكتور إسماعيل إسماعيلي. وقد طبعت مؤخّراً.

الثامن : تقسيم الأمثال القرآنية إلى الصريح والكامن

اشارة

ذكر بدر الدين الزركشي ان الأمثال على قسمين : ظاهر وهو المصرّح به ، وكامن وهو الذي لا ذكر للمثل فيه وحكمه حكم الأمثال (1).

وقد نقل السيوطي ذلك النص بنفسه وحاول تفسير المثل الكامن ، وقال ما .

ص: 27


1- البرهان في علوم القرآن : 1 / 571.

هذا نصّه : فمن أمثلة الأوّل ، قوله تعالى : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ... ) (1) ضرب فيها للمنافقين مثلين : مثلاً بالنار ومثلاً بالمطر - ثمّ قال - : وأما الكامنة : فقال الماوردي : سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن مضارب بن إبراهيم ، يقول : سمعت أبي يقول : سألت الحسين بن فضل ، فقلت : إنّك تخرج أمثال العرب والعجم من القرآن ، فهل تجد في كتاب اللّه : « خير الأُمور أوسطها » ؟ قال : نعم في أربعة مواضع :

قوله تعالى : ( لاَّ فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ ) (2).

وقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) (3).

وقوله تعالى : ( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ) (4).

وقوله تعالى : ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ) (5).

قلت : فهل تجد في كتاب اللّه «من جهل شيئاً عاداه » ؟ قال : نعم ، في موضعين :

( بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ) (6).

ص: 28


1- البقرة : 17 - 20.
2- البقرة : 68.
3- الفرقان : 67.
4- الإسراء : 29.
5- الإسراء : 110.
6- يونس : 39.

( وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ) (1).

قلت : فهل تجد في كتاب اللّه « احذر شر من أحسنت إليه » ؟ قال : نعم.

( وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ) (2).

قلت : فهل تجد في كتاب اللّه « ليس الخبر كالعيان » ؟ قال : في قوله تعالى : ( قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (3).

قلت : فهل تجد « في الحركات البركات » ؟ قال : في قوله تعالى : ( وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ) (4).

قلت : فهل تجد « كما تدين تدان » ؟ قال : في قوله تعالى : ( مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) (5).

قلت : فهل تجد فيه قولهم « حين تَقْلي تدري » ؟ قال : ( وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً ) (6).

قلت : فهل تجد فيه : « لا يُلدغ المؤمن من جحر مرّتين » ؟ قال : ( هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ ) (7).

قلت : فهل تجد فيه « من أعان ظالماً سُلّط عليه » ؟ قال : ( كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن

ص: 29


1- الأحقاف : 11.
2- التوبة : 74.
3- البقرة : 260.
4- النساء : 100.
5- النساء : 123.
6- الفرقان : 42.
7- يوسف : 64.

تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ) (1).

قلت : فهل تجد فيه قولهم : « ولا تلد الحية إلا حيّة » ؟ قال : قوله تعالى : ( وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا ) (2).

قلت : فهل تجد فيه : « للحيطان آذان » ؟ قال : ( وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ) (3).

قلت : فهل تجد فيه : « الجاهل مرزوق والعالم محروم » ؟ قال : ( مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا ) (4).

قلت : فهل تجد فيه : « الحلال لا يأتيك إلا قوتاً ، والحرام لا يأتيك إلا جزافاً » ؟ قال : ( إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ ) (5). (6)

وقد أخذ عليه « بأنّه لو حققْتَ النظر فيما أورده الماوردي ، لما وجدت مثلاً قرآنياً واحداً بالمعنى الذي يراد التعبير عنه بأنّه مثل كامن ، على أنّ الماوردي لم ينقل عن الحسين بن الفضل بأنّ متخيّره هذا مثل كامن ، ولا سمَّى الماوردي ذلك به ، وإنّما أورد رواية للمقارنة بما يمكن أن يعد أمثالاً من كلام العرب والعجم ، ووضع قائمة مختارة ازاءه من كتاب اللّه بما يبذ كلامهم ويعلو على أمثالهم.

فالتسمية إذن اختارها السيوطي متابعاً فيها الزركشي. وطبّق عليها هذه

ص: 30


1- الحج : 4.
2- نوح : 27.
3- التوبة : 47.
4- مريم : 75.
5- الأعراف : 163.
6- الإتقان في علوم القرآن : 2 / 1045 - 1046.

الأمثلة. فهي فيما عنده أمثال كامنة ولكنّه من الواضح أن هذه العبارات القرآنية لا تدخل في باب الأمثال ، فإن اشتمال العبارة على معنى ورد في مثل من الأمثال ، لا يكفي لإطلاق لفظ المثل على تلك العبارة ، فالصيغة الموروثة ركن أساس في المثل ، لذلك نرى أنّ اصطلاح العلماء على تسمية هذه العبارات القرآنية ( أمثالاً كامنة ) محاولة لا تستند على دليل نصّي ولا تاريخي (1).

تفسير آخر للمثل الكامن :

ويمكن تفسير المثل الكامن بالتمثيلات التي وردت في الذكر الحكيم من دون أن يقترن بكلمة « مثل » أو « كاف » التشبيه ، ولكنّه في الواقع تمثيل رائع لحقيقة عقلية بعيدة عن الحسن المجسّد بما في التمثيل من الأمر المحسوس ، ومن هذا الباب قوله سبحانه :

1. ( أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (2).

انّه سبحانه شبَّه بنيانهم على نار جهنم بالبناء على جانب نهر هذا صفته ، فكما أنّ من بنى على جانب هذا النهر فانّه ينهار بناءه في الماء ولا يثبت ، فكذلك بناء هؤلاء ينهار ويسقط في نار جهنم ، فالآية تدلّ على أنّه لا يستوي عمل المتقي وعمل المنافق ، فإنّ عمل المؤمن المتقي ثابت مستقيم مبني على أصل صحيح ثابت ، وعمل المنافق ليس بثابت وهو واه ساقط (3).

ص: 31


1- الصورة الفنية في المثل القرآني : 118 ، نقلاً عن كتاب « الأمثال في النثر العربي القديم ».
2- التوبة : 109.
3- مجمع البيان : 3 / 73.

2. ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُجْرِمِينَ ) (1).

كانت العرب تمثّل للشيء البعيد المنال ، بقولهم : لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب ، وحتى يبيض القار ، إلى غير ذلك من الأمثال.

يقول الشاعر :

إذا شاب الغراب أتيت أهلي *** وصار القار كاللبن الحليب

ولكنّه سبحانه مثل لاستحالة دخول الكافر الجنة بأنّهم يدخلون لو دخل الجمل في ثقب الإبرة ، وقال : ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط ، معبراً عن كونهم لا يدخلون الجنة أبداً.

ففي الآية تمثيل وليس لها من لفظ المثل وحرف التشبيه أثر.

3. ( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ) (2).

إنّ هذا مثل ضربه اللّه تعالى للمؤمن والكافر فأخبر بأنّ الأرض كلّها جنس واحد ، إلا أنّ منها طيّبة تلين بالمطر ، ويحسن نباتها ويكثر ريعها ، ومنها سبخة لا تنبت شيئاً ، فإن أنبتت فممّا لا منفعة فيه ، وكذلك القلوب كلّها لحم ودم ثمّ منها لين يقبل الوعظ ومنها قاس جاف لا يقبل الوعظ ، فليشكر اللّه تعالى من لانَ قلبه بذكره (3).

ص: 32


1- الأعراف : 40.
2- الأعراف : 58.
3- مجمع البيان : 2 / 432.

وفي ذيل الآية ( كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ) إلمام إلى كونه تمثيلاً ، كما في الآية التالية.

4. قال سبحانه : ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ) (1).

أخرج البخاري عن ابن عباس ، قال : قال عمر بن الخطاب يوماً لأصحاب النبي صلی اللّه علیه و آله فيمن ترون هذه الآية نزلت ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ) ؟

قالوا : اللّه أعلم ، فغضب عمر ، وقال : قولوا : نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء ، فقال : يابن أخي : قل ولا تحقِّر نفسك ، قال ابن عباس : ضربت مثلاً لعملٍ ، قال عمر : أي عمل ؟ قال ابن عباس : لرجل غني عمل بطاعة اللّه ، ثم بعث اللّه له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله (2).

وحصيلة البحث : انّ التمثيل الوارد في القرآن الكريم ، تارة يقترن بكلمة المثل ، وأُخرى يقترن به مع لفظ الضرب حيث اختار سبحانه مادة الضرب لقسم كبير من أمثال القرآن ، وثالثة بحرف كاف التشبيه ، ورابعة بذكر مادة المثل بدون اقتران بواحد منهما مثل قوله : ( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا ) (3).

ص: 33


1- البقرة : 266.
2- صحيح البخاري : التفسير : تفسير سور ة البقرة ، باب قوله : ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ ) رقم 4264.
3- الأعراف : 58.

التاسع : ما هو المراد من ضرب المثل ؟

قد استعمل الذكر الحكيم كلاً من لفظي « المَثَل » و « المِثْل » في غير واحد من سوره وآياته حتى ناهز استعمالهما ثمانين مرة ، إلاّ أنّ الثاني يزيد على الأوّل بواحد. والأمثال جمع لكليهما ويميّزان بالقرائن قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ) (1) وهو في المقام ، جمع المِثْل لشهادة انّه يحكم على آلهتهم بأنّها مثلهم في الحاجة والإمكان.

وقال سبحانه : ( تِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (2).

فاقتران الأمثال بلفظ الضرب ، دليل على أنّه جمع مَثَل. إلاّ أنّ المهم هو دراسة معنى « الضرب » في هذا المورد ونظائره ، فكثيراً ما يقارن لفظ المثل لفظ الضرب ، يقول سبحانه : ( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً ) . (3) وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) (4).

وقد اختلفت كلمتهم في تفسير لفظ « الضرب » في هذا المقام ، بعد اتّفاقهم على أنّه في اللغة بمعنى إيقاع شيء على شيء ، ويتعدّى باليد أو بالعصى أو بغيرهما من آلات الضرب ، قال سبحانه : ( أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الحَجَرَ ) (5) وقد ذكروا وجوهاً :

الأوّل : انّ الضرب في هذه الموارد بمعنى المَثَل ، والمرا د هو التَمثيل ، وهو

ص: 34


1- الأعراف : 194.
2- الحشر : 21.
3- إبراهيم : 24.
4- الزمر : 27.
5- الأعراف : 160.

خيرة ابن منظور واستشهد بقوله : ( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا المُرْسَلُونَ ) (1) أي مثّل لهم مثلاً وهو حال أصحاب القرية ، وقال : ( يَضْرِبُ اللّهُ الحَقَّ وَالْبَاطِلَ ) (2) أي يمثل اللّه الحقّ والباطل. (3) وهذا خيرة صاحب القاموس أيضاً.

الثاني : إنّ الضرب بمعنى الوصف والبيان ، وقد حُكي عن مقاتل بن سليمان ، وفسر به قوله سبحانه : ( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ) (4).

واستشهد بقول الكميت :

وذلك ضرب أخماس اريدت *** لأسداس عسى أن لا تكونا (5)

الثالث : انّ الضرب بمعنى الاعتماد والتثبيت ، وهو خيرة الشيخ الطوسى (6) ( 385 - 460 ه ) ، والزمخشري ، (7) والآلوسى ، (8) ( المتوفّى عام 1270 ) فقد فسّروا به قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ) (9).

الرابع : ان الضرب في المقام من باب الضرب في الأرض وقطع المسير ،

ص: 35


1- يس : 13
2- الرعد : 17.
3- لسان العرب : 2 / 37 ، مادة ضرب.
4- النحل : 75.
5- تفسير الطبرى : 1 / 175.
6- التبيان في تفسير القرآن : 7 / 302.
7- الكشّاف : 2 / 553.
8- روح المعاني : 1 / 206.
9- الحج : 73.

وضرب المثل عبارة عن جعله سائراً في البلاد كقولك : ضرب في الأرض إذا صار فيها ، ومنه سمي الضارب مضارباً (1).

فإذا كان الضرب بمعنى قطع الأرض وطيّها ، فضرب المثل عبارة عن جعله شيئاً سائراً بين الأقوام والشعوب يمشي ويسير حتى يستوعب القلوب.

وفي المقام كلمة لابن قيم ، يوضّح فيها أكثر هذه الاحتمالات :

ضرب اللّه سبحانه لعباده ، الأمثال ، وضرب الرسول صلی اللّه علیه و آله لأُمّته الأمثال ، وضرب الحكماء والعلماء والمؤدِّبون الأمثال ، فما معنى ضرب المثل ؟

قد يكون مشتقّاً من قولك ( ضرب في الأرض ) أي سار فيها.

فمعنى ضرب المثل جعله ينتشر ويذيع ويسير في البلاد. وإلى هذا ذهب أبو هلال في مقدمة كتابه (2).

وقد يكون معنى « ضرب المثل » نصبه للناس بإشهاره لتستدل عليه خواطرهم كما تستدل عيونهم على الأشياء المنصوبة. واشتقاقه حينئذٍ من قولهم : ( ضربت الخباء ) إذا نصبته.

وقوله تعالى : ( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الحَقَّ وَالْبَاطِلَ ) (3) أي ينصب منارهما ويوضح أعلامهما ليعرف المكلّفون الحق بعلاماته فيقصدوه ، ويعرفون الباطل فيجتنبوه ، كما قال الشريف الرضيّ ( 359 - 406 ه ) في كتابه « تلخيص البيان في مجازات القرآن » :

ص: 36


1- الحكم والأمثال : 79.
2- انظر مقدمة كتاب جمهرة الأمثال.
3- الرعد : 17.

وقد يفهم من ضرب المثل صنعه وإنشاؤه ، فيكون مشتقاً من ضرب اللِّبْنِ وضرب الخاتم.

أو قد يكون من الضرب بمعنى : إبقاء شيء على شيء (1).

ومنه ضرب الدراهم : أي إيقاع النموذج الذي به الصّكُ على الدراهم لتنطبع به ، فكأنّ المثل مطابق للحالة ، أي للصفة التي جاء لإيضاحها ، وخلاصة القول : ضرب المثل مأخوذ : إمّا من :

1. ضرَب في الأرض بمعنى : سار.

2. ضربه : نصبه للناس وأشهره.

3. ضرب : صنع وأنشأ.

4. ضرب : إبقاء شيء على مثال شيء (2).

وبذلك يُعلم تفسير قوله سبحانه : ( ... وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) (3).

نرى أنّ المشركين وصفوا النبي صلی اللّه علیه و آله بكونه رجلاً مسحوراً ، فيردّ عليه سبحانه باستنكار ويقول : ( انظُرْ - أيّها النبي - كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ ) أي كيف وصفوك بأنّك مسحور مع أنّ سيرتك تشهد على خلاف ذلك ، وما تتلوا من الآيات كلامه سبحانه لا صلة له بالسحر وانّ ما يجدونه خلاَّباً للعقول وآخذاً بمجامع القلوب فإنّه هو لأجل عذوبته وجماله وإعجازه الخارق وأين هو من السحر ؟!

ص: 37


1- تلخيص البيان في مجازات القرآن : 107.
2- الأمثال في القرآن الكريم : 20 - 21.
3- الفرقان : 8 - 9.

وعلى ذلك فالمعنى المناسب لتفسير الآية ، هو تفسير الضرب بالوصف ، وقد تقدم انّ الوصف أحد معانيه ، وأقرّ به ابن منظور : ان انظر كيف وصفوك بكونك مسحوراً.

وأمّا تفسيره بالتمثيل بأن يقال : انظر كيف مثّلوا لك المثال أو التمثيل ، فغير تام ، لأنّ وصف النبي صلی اللّه علیه و آله بكونه « مسحوراً » ، لا مثَل سائر ، ولا تمثيل قياسي.

ونظيره تفسيره بقطع الأرض ، لأنّ المشركين ما وصفوه به ليشهّروه حتى يصير قولهم « سيراً في الأرض ».

العاشر : الأمثال القرآنية وانسجامها مع البيئة

لا شكّ انّ كلّ خطيب يتأثر بالظروف التي يعيش فيها ، وبسهولة يمكن فرز كلام المدني عن القروي ، وكلامهما عن كلام البدوي ، وما ذاك إلاّ لأنّ البيئة تُعدّ أحد الأضلاع الثلاثة التي تُكوِّن شخصية الإنسان ، ومن هذا الجانب أصبح بإمكان المحقّق الخبير بالتاريخ أن يميز الشعر الجاهلي عن الشعر في العصر الإسلامي ، والشعر في العصر الأموي عن الشعر في العصر العباسي ، وما هذا إلاّ نتيجة انعكاسات البيئة على التراث الأدبي ، ولكن القرآن بما انّه كلامه سبحانه قد تنزّه عن هذه الوصمة ، لأنّ اللّه سبحانه خالق كلّ شيء فهو منزَّه من أن يتأثر بشيء سواه.

ومع ذلك كلّه نزلت الأمثال القرآنية لهداية الناس ولذلك روعي فيها الغايات التي نزلت لأجلها ، فنجد ان الطابع المكي يعلو هامة الأمثال المكية ، والطابع المدني يعلو هامة الأمثال المدنية.

أمّا الأمثال المكية ، فكانت دائرة مدار معالجة الأدواء التي ابتلي بها المجتمع

ص: 38

المكى لا سيما وانّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان يجادل المشركين ويسفِّه أحلامهم ويدعوهم إلى الإيمان باللّه وحده ، وترك عبادة غيره ، والإيمان باليوم الآخر ، ففي خِضمِّ هذا الصراع يأتي القرآن بأروع مثل ويشبّه آلهتهم المزعومة التي تمسّكوا بأهدابها ببيت العنكبوت الذي لا يظهر أدنى مقاومة أمام النسيم الهادئ ، وقطرات المطر ، وهبوب الرياح.

يقول سبحانه : ( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) (1).

فقد شبّه آلهتهم التي اتخذوها حصوناً منيعة لأنفسهم بخيوط العنكبوت ، وبذلك صغّرهم وذلّلهم.

كما أنّه سبحانه في آية أُخرى شبّه آلهتهم بالذباب ، وقال : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ ) (2).

فقد كانت قريش تعبد 360 إلهاً يطلونهم بالزعفران فيجف ، فيأتي الذباب فيختلسه فلا يقدرون عن الدفاع عن أنفسهم ، ففي هذا الصدد ، قال سبحانه : ( ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ ) أي الذباب والمدعوّ.

فأي مثل أقرع من تشبيه آلهتهم بهذه الحشرة الحقيرة. ولقد مضى على الناس منذ ضرب لهم كتاب الإسلام هذا المثل أربعة عشر قرناً ، وما يزال المثل القرآني يتحدَّى كل جبروت الغزاة وعبقرية العلماء ، وما يزال على الذين غرّهم الغرور بما حقّق إنسان العصر الحديث من معجزات العلم ، أن ينسخوا ذلك ، بأن يجتمعوا

ص: 39


1- العنكبوت : 41.
2- الحج : 73.

فيخلقوا ذباباً ، أو يستنقذوا شيئاً سلبتهم إيّاه هذه الحشرة الضئيلة التي تقتلها ذرّة من هواء مشبع بمُبيد الحشرات ، وتستطيع مع ذلك أن تسلب مخترع المبيد حياته ، بلمسة هيّنة خاطفة تحمل إليه جرثومة داء مميت (1).

هذا في مجال الرد على عبادتهم للأوثان والأصنام ، أمّا في مجال ركونهم إلى الدنيا والإعراض عن الآخرة ، يستعرض مثلاً يشير فيه إلى أنّ الدنيا ظل زائل وليست خالدة ، قال سبحانه : ( إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (2).

هذا بعض ما يمكن أن يقال حول الأمثال التي نزلت في مكة.

وأمّا الأمثال التي نزلت في المدينة ، فقد نجد فيها الطابع المدني لأجل انّها بصدد علاج الأدواء التي ابتلي بها المجتمع يومذاك وهي الأدواء الخلقية مكان الشرك والوثنية ، أو مكان إنكار الحياة الأخروية ، فلذلك ركّز الوحي على معالجة هذا النوع من الأدواء بالتمثيلات التي سنشير إليها.

فقد كان النبي صلی اللّه علیه و آله في مهجره مبتلياً بالمنافقين الذين كانوا يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام بغية الإطاحة بالحكومة الإسلامية الفتيّة ، وفي هذا الصدد نرى أنّ الأمثال المدنية تطرّقت في آيات كثيرة إلى المنافقين وبيّنت خطورة موقفهم على الإسلام والمسلمين ، فتارة يضرب اللّه سبحانه لهم مثلاً بالنار وأُخرى بالمطر ، يقول سبحانه : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ

ص: 40


1- الصورة الفنية في المثل القرآني : 99 ، نقلاً عن كتاب « القرآن وقضايا الإنسان » لبنت الشاطئ.
2- يونس : 24.

بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ وَاللّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ) (1).

كان المجتمع المدني يضمُّ في طيّاته طوائف ثلاث من اليهود وهم : بنو قينُقاع ، وبنو النضير ، وبنو قريظة ؛ وقد جبلوا على المكر والحيلة والغدر ، وكانوا يقرأون سمات النبي صلی اللّه علیه و آله في توراتهم ، ويمرّون عليها مرار الأمي الذي لا يجيد القراءة والكتابة ، وهذه السمة أدت إلى أن يشبّههم سبحانه بالحمار الذي يحمل أسفاراً قيّمة دون أن يستفيدوا منها شيئاً ، يقول سبحانه : ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (2).

وأمّا المسلمون الذين عاصروا النبي صلی اللّه علیه و آله فكانوا بحاجة إلى هداية إلهية تصلح أخلاقهم ، فقد كان البعض منهم ينفقون أموالهم رئاءً دون ابتغاء مرضاة اللّه ، أو ينفقونها بالمنّ والأذى ، فنزل الوحي الإلهي بمثل خاص يبيّن موقف المنفق في سبيل اللّه ، والمنفق بالمنِّ والأذى أو رئاء الناس ، قال سبحانه : ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (3).

وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ

ص: 41


1- البقرة : 17 - 19.
2- الجمعة : 5.
3- البقرة : 261.

تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) (1).

هذه إلمامة خاطفة لملامح الأمثال القرآنية التي نزلت قبل الهجرة وبعدها ، وسيوافيك البحث في تلك الأمثال عند تفسير الآيات واحدة تلو الأخرى.

الحادي عشر : استنكار الأمثال القرآنية

يظهر من بعض الآيات انّ بعض المخاطبين بالأمثال كانوا يستنكرونها ويستغربون منها ، وما ذلك إلا لأنّ المثل كان يكشف عن نواياهم ويبيّن واقع عقيدتهم ، ويسفّه أحلامهم ، فيبعث فيهم القلق والاضطراب ، ذلك عندما يجمع سبحانه في أمثاله تارة بين الذباب والعنكبوت والبعوضة - كما مرّ - وأُخرى بين الكلب والحمار :

كقوله سبحانه :

( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ) (2).

( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) (3).

وقد نقل سبحانه استنكارهم ، وقال : ( إِنَّ اللّهَ لا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ

ص: 42


1- البقرة : 264.
2- الأعراف : 176.
3- الجمعة : 5.

الْفَاسِقِينَ ) (1).

قال الزمخشري : والتمثيل إنّما يصار إليه لكشف المعاني ، وإدناء المتوهّم من الشاهد ، فإن كان المتمثَّل له عظيماً كان المتمثّل به مثله ، وإن كان حقيراً كان المتمثل به كذلك (2).

وربما سرت تلك الشبهة إلى عصرنا الحاضر ، فقد استغرب بعضهم من ضرب المثل بالحشرات والأمور الحقيرة الضئيلة ، ولكنّه غفل عن أنّ العبرة في ضرب الأمثال ليس بأدواتها وآلاتها ، وإنّما بمكنوناتها وغاياتها ، وما يدرينا بسرّ الإعجاز في التركيب الجثماني للبعوضة ، مثلاً ، وما فيه من إبداع وتحدٍّ وإعداد ، ولعل فيه من الإنجاز الخلقي ما لا نشاهده بأكثر الأجسام ضخامة وكبراً ، على أن المبدع لها جميعاً هو اللّه وكفى ، « واللّه رب الصغير والكبير وخالق البعوضة والفيل ، والمعجزة في البعوضة هي ذاتها المعجزة في الفيل ، إنّها معجزة الحياة ، معجرة السر المغلق الذي لا يعلمه إلا اللّه على أنّ العبرة في المثل ليست في الحجم ، إنّما الأمثال أدوات للتنوير والتبصير ، وليس في ضرب الأمثال ما يعاب ، وما من شأنه الاستحياء من ذكره. واللّه - جلّت حكمته - يريد بها اختبار القلوب وامتحان النفوس » (3).

الثاني عشر : التمثيلات القرآنية

قد عرفت أنّ المثل السائر غير التمثيل الوارد في القرآن الكريم ، وانّه

ص: 43


1- البقرة : 26.
2- الإتقان في علوم القرآن : 2 / 1042.
3- في ظلال القرآن : 1 / 57.

سبحانه عند ما يقول : ( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (1) يريد التمثيل لا المثل السائر ، وهذه التمثيلات هي نمط آخر من علوم القرآن وباب عظيم من معارفه.

وقد ألّف غير واحد في توضيح رموزها كتباً ورسائل ، ذكرنا أسماءها في قائمة خاصة ، ولعلّ ما لم أقف عليه أكثر من ذلك.

ولأجل إيقاف القارئ الكريم على الآيات التي سنتناولها بالبحث في هذا الكتاب ، نذكر التمثيلات القرآنية حسب ترتيب السور التي وردت فيها ، وقد تحمّل عبأ جمعها الدكتور محمد حسين على الصغير في كتابه « الصورة الفنية في المثل القرآني » على الرغم من ذلك فقد فاته بعض الآيات كما عدّ منها ما ليس منها ويتضح ذلك في دراسة هذه الآيات :

1. ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) (2).

2. ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ وَاللّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (3).

3. ( إِنَّ اللّهَ لا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن

ص: 44


1- الحشر : 21.
2- البقرة : 17 - 18.
3- البقرة : 19 - 20.

بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ ) (1).

4. ( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) (2).

5. ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ) (3).

6. ( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (4).

7. ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (5).

8. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ

ص: 45


1- البقرة : 26 - 27.
2- البقرة : 171.
3- البقرة : 214.
4- البقرة : 259.
5- البقرة : 261.

وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) (1).

9. ( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (2).

10. ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ) (3).

11. ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) . (4)

12. ( مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (5).

13. ( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (6).

ص: 46


1- البقرة : 264.
2- البقرة : 265.
3- البقرة : 266.
4- آل عمران : 59.
5- آل عمران : 117.
6- الأنعام : 122.

14. ( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ) (1).

15. ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ) (2).

16. ( إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (3).

17. ( مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) (4).

18. ( لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ ) (5).

ص: 47


1- الأعراف : 58.
2- الأعراف : 175 - 177.
3- يونس : 24.
4- هود : 24.
5- الرعد : 14.

19. ( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ ) (1).

20. ( مَّثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ) (2).

21. ( مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ) . (3)

22. ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) (4).

23. ( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ ) (5).

24. ( وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ ) (6).

ص: 48


1- الرعد : 17.
2- الرعد : 35.
3- إبراهيم : 18.
4- إبراهيم : 24 - 25.
5- إبراهيم : 26.
6- إبراهيم : 45.

25. ( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) (1).

26. ( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (2).

27. ( وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (3).

28. ( وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) (4).

29. ( وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) (5).

30. ( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا

ص: 49


1- النحل : 60.
2- النحل : 75.
3- النحل : 76.
4- النحل : 92.
5- النحل : 112.

أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَّكِنَّا هُوَ اللّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا * هُنَالِكَ الْوَلايَةُ للهِ الحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ) (1).

31. ( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا ) (2).

32. ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ ) (3).

33. ( اللّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (4).

ص: 50


1- الكهف : 32 - 44.
2- الكهف : 45.
3- الحج : 73.
4- النور : 35.

34. ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ ) (1).

35. ( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ) (2).

36. ( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) (3).

37. ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) (4).

38. ( ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (5).

39. ( وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (6).

ص: 51


1- النور : 39.
2- النور : 40.
3- العنكبوت : 41.
4- الروم : 27.
5- الروم : 28.
6- فاطر : 12.

40. ( وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ ) (1).

41. ( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا المُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاغُ المُبِينُ * قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ * وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ * وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ * يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) (2).

42. ( أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) (3).

ص: 52


1- فاطر : 19 - 22.
2- يس : 13 - 30.
3- يس : 77 - 79.

43. ( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (1).

44. ( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) (2).

45. ( فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ ) . (3)

46. ( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ) . (4)

47. ( ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ) (5).

48. ( مَّثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ) (6).

ص: 53


1- الزمر : 29.
2- الزخرف : 17 - 18.
3- الزخرف : 55 - 56.
4- الزخرف : 57 - 59.
5- محمد : 3.
6- محمد : 15.

49. ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) (1).

50. ( اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ) (2).

51. ( كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (3).

52. ( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ للإنسان اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ) (4).

53. ( لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (5).

ص: 54


1- الفتح : 29.
2- الحديد : 20.
3- الحشر : 15.
4- الحشر : 16.
5- الحشر : 21.

54. ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (1).

55. ( ضَرَبَ اللّه مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (2).

56. ( وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) (3).

57. ( وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ) (4).

هذا ما ذكره الكاتب ، ولكنّه غير جامع إذ هناك آيات تتضمن تمثيلاً وإن لم

ص: 55


1- الجمعة : 5.
2- التحريم : 10.
3- التحريم : 11 - 12.
4- المدثر : 31.

يشتمل على لفظ المثل أو حرف التشبيه ولكن التمثيل برَّمة أركانه موجود فيها ، قال سبحانه : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ) (1) فشبّه آكل الربا بمن مسَّه الجن فصار مذعوراً لا يملك عقله ونفسه. إلى غير ذلك من الآيات.

قال بعض العلماء : ضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه أُمور كثيرة : التذكير ، والوعظ ، والحث والزجر ، والاعتبار ، والتقرير ، وتقريب المراد للعقل ، وتصويره بصورة المحسوس ، فانّ الأمثال تصوّر المعاني بصورة الأشخاص ، لأنّها أثبت في الذهن لاستعانة الذهن فيها بالحواس ، ومن ثمّ كان الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجليّ والغائب بالشاهد.

وتأتي أمثال القرآن مشتملة على بيان تفاوت الأجر ، وعلى المدح والذم ، وعلى الثواب والعقاب ، وعلى تفخيم الأمر وتحقيره ، وعلى تحقيق أمر أو إبطاله (2).

ثمّ إنّ الآيات التي جاء فيها التصريح بالمثل ، عبارة عن الآيات التالية :

1. ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ) (3).

2. ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ) (4).

3. ( وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) (5).

ص: 56


1- البقرة : 275.
2- رياض السالكين : 5 / 461.
3- الإسراء : 89.
4- الكهف : 54.
5- النحل : 60.

4. ( وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) (1).

5. ( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ) (2).

6. ( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) (3).

7. ( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ ) (4).

8. ( وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) (5).

9. ( وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ ) (6).

10. ( وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (7).

11. ( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ ) (8).

12. ( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (9).

13. ( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ) (10).

14. ( وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ) (11).

15. ( وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ) (12).

ولكن الأمثال أعم مما ورد فيه لفظ المثل أو كاف التشبيه كما مرّ.

ص: 57


1- الروم : 27.
2- الروم : 58.
3- الزمر : 27.
4- الرعد : 17.
5- إبراهيم : 25.
6- إبراهيم : 45.
7- النور : 35.
8- العنكبوت : 43.
9- الحشر : 21.
10- محمد : 3.
11- النور : 34.
12- الفرقان : 33.

الثالث عشر : الآيات التي تجري مجرى المثل

القرآن الكريم كلّه حكمة وعظة ، بلاغ وعبرة ، وقد قام غير واحد من المحقّقين باستخراج الحكم الواردة فيه التي صارت أمثالاً سائرة عبر القرون لتداولها على الألسن في حياتهم العملية. وقد سبق منّا القول إنّ هذه الآيات لم تنزل بوصف المثل ، لأنّ المثل عبارة عن كلام تداولته الألسن فصار به أمثالاً سائرة دارجة ، ومن الواضح أنّ الحكم الواردة في القرآن نزلت من دون سبق مثال لها ، فلم تكن يوم نزولها موصوفة بوصف المثل ، وانّما أُضفي عليها هذا الوصف عبر مرّ الزمان وتداول الألسن.

ثم إنّ جعفر بن شمس الخلافة (1) ( المتوفّى عام 226 ه ) عقد باباً في ألفاظ القرآن الجارية مجرى المثل ، ونقله السيوطي عنه في كتاب « الإتقان » ، وقال : وهذا هو النوع البديعي المسمّى بإرسال المثل.

وإليك ما أورده من هذا الباب :

1. ( وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ) (2).

2. ( كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً ) (3).

3. ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ) (4).

ص: 58


1- هو أبو الفضل جعفر بن محمد شمس الخلافة الأفضلي البصري المتولّد عام 543 ه ، ترجمه ابن خلكان في « وفيات الأعيان » مؤلف كتاب « الآداب » وهو كتاب وجيز في الحكم والأمثال من النثر والنظم طبع في مصر عام 1349 ه.
2- البقرة : 216.
3- البقره : 249.
4- البقرة : 286.

4. ( لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) (1).

5. ( مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ ) (2).

6. ( قُل لاَّ يَسْتَوِي الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ ) (3).

7. ( لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ ) (4).

8. ( وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ ) (5).

9. ( مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ) (6).

10. ( آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ) (7).

11. ( أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ) (8).

12. ( قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ) (9).

13. ( الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ ) (10).

14. ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ) (11).

15. ( ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ) (12).

16. ( ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ ) (13).

17. ( كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) (14).

ص: 59


1- آل عمران : 92.
2- المائدة : 99.
3- المائدة : 100.
4- الأنعام : 67.
5- الأنفال : 23.
6- التوبة : 91.
7- يونس : 91.
8- هود : 81.
9- يوسف : 41.
10- يوسف : 51.
11- الإسراء : 84.
12- الحج : 10.
13- الحج : 73.
14- الروم : 32.

18. ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) (1).

19. ( وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (2).

20. ( وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ) (3).

21. ( وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) (4).

22. ( وَلا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ ) (5).

23. ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ) (6).

24. ( لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ) (7).

25. ( وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ) (8).

26. ( لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ كَاشِفَةٌ ) (9).

27. ( هَلْ جَزَاءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان ) (10).

28. ( فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ ) (11).

29. ( تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ) (12).

30. ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) (13).

ص: 60


1- الروم : 41.
2- سبأ : 13.
3- سبأ : 54.
4- فاطر : 14.
5- فاطر : 43.
6- يس : 78.
7- الصافات : 61.
8- ص : 24.
9- النجم : 58.
10- الرحمن : 60.
11- الحشر : 2.
12- الحشر : 14.
13- المدثر : 38.

هذا ما نقله السيوطي في « الإتقان » عن كتاب « الآداب » لجعفر بن شمس الخلافة ، ولكن المذكور في كتاب « الآداب » ما يناهز 69 آية ، وقد صارت هذه الآيات في عصره أمثالاً سائرة (1).

ثمّ إنّ شهاب الدين محمد بن أحمد أبا الفتح الابشيهي المحلي ( 790 - 850 ه ) في كتابه « المستطرف في كل فن مستظرف » ذكر من حِكم القرآن التي تجري مجرى الأمثال أكثر مما نقله السيوطي في إتقانه عن كتاب الآداب.

قال صاحب المستطرف : إنَّ الأمثال من أشرف ما وصل به اللبيب خطابه ، وحلّى بجواهره كتابه ، وقد نطق كتاب اللّه تعالى وهو أشرف الكتب المنزلة بكثير منها ، ولم يخلُ كلام سيدنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عنها ، وهو أفصح العرب لساناً وأكملهم بياناً ، فكم في إيراده وإصداره من مثل يعجز عن مباراته في البلاغة كلّ بطل ، ... فمن أمثال كتاب اللّه ، قوله تعالى : ( لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) ، ( الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ ) ، و ( قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ) إلى آخر ما ذكره (2).

ثمّ إنّ بعض من ألّف في أمثال القرآن ، استدرك عليهما الحِكم التي صارت مثلاً بين الناس والتي يربو عددها على 245 آية (3).

كما أنّ الدكتور محمد حسين الصغير ذكر في خاتمة كتابه من هذه المقولة فبلغ 495 آية (4).

ولكن الذي فاتهم هو التركيز على أنَّ هذه الآيات لم تكن أمثالاً يوم نزولها ،

ص: 61


1- الإتقان : 2 / 1046 النوع السادس والستون.
2- المستطرف في كلّ فن مستظرف : 1 / 27.
3- مثال القرآن ، علي أصغر حكمت.
4- الصورة الفنّية في المثل القرآني : 387 - 402.

بل كانت حِكماً وإنّما جاءت مثلاً حسب مرّ الزمان.

وأخيراً نزيد أنّ هناك آيات أُخرى غير ما تقدَّم أكثر تداولاً على الألسن في أكثر البلاد الإسلامية نشير إلى قسم منها ، وربما يوجد بعض منها فيما ذكره مؤلف الآداب ، وهذه الآيات هي :

1. ( كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا ) (1).

2. ( هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ) (2).

3. ( نُّورٌ عَلَى نُورٍ ) (3).

4. ( وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ ) (4).

5. ( يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ ) (5).

6. ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (6).

7. ( يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (7).

8. ( هَلْ جَزَاءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان ) (8).

9. ( لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) (9).

10. ( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) (10).

هذه آيات عشر صارت مثلاً سائراً بين أكثر المسلمين.

ص: 62


1- الأعراف : 31.
2- الكهف : 78.
3- النور : 35.
4- النور : 54.
5- الروم : 19.
6- الزمر : 9.
7- الفتح : 10.
8- الرحمن : 60.
9- الصف : 2.
10- الكافرون : 6.

ثم إنّ المحقّق بهاء الدين العاملي ( 953 - 1030 ه ) عقد فصلاً تحت عنوان « فيما ورد من كتاب اللّه تعالى مناسباً لكلام العرب » ويريد بذلك انّ هناك معادلات في كلام العرب لما جاء في القرآن من الحكم ، وذكر الآيات والأمثال التالية :

أ : العرب تقول في وضوح الأمر : « قد وضح الصبح لذي عينين ».

وقال اللّه تعالى : ( الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ ) (1).

ب : وتقول العرب في فوات الأمر : « سبق السيف العدل ».

قال اللّه تعالى : ( قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ) (2).

ج : وتقول في تلافي الاِساءة « عاد غيث على ما أفسد ».

قال اللّه تعالى : ( مَكَانَ السَّيِّئَةِ الحَسَنَةَ ) (3).

د : وتقول في الإساءة لمن لا يقبل الإحسان : « اعط أخاك ثمرة فإن أبى فجمرة ».

وقال تعالى : ( وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ) (4).

ه : وتقول في فائدة المجازاة : « القتل أنفى للقتل ».

وقال تعالى : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ ) (5).

ص: 63


1- يوسف : 51.
2- يوسف : 41.
3- الأعراف : 95.
4- الزخرف : 36.
5- البقرة : 179.

و : وتقول في اختصاص الصلح : « لكّل مقام مقال ».

وقال تعالى : ( لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ ) (1). (2)

ثمّ إنّ بهاء الدين العاملي عاد إلى الموضوع في كتابه « المخلاة » ونقل شيئاً من أمثال العرب التي استفادها العرب من القرآن الكريم ، فأوضح أنّ القرآن هو المنبع المهم لهذه الأمثال ، قال :

أ : قولهم : ما تزرع تحصد : ( مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) (3).

ب : قولهم : للحيطان آذان : ( وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ) (4).

ج : قولهم : احذر شرَّ من أحسنت إليه : ( وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ) (5).

د : وقولهم : لا تلد الحيّة إلاّ حيّة : ( وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا ) (6). (7)

وما ذكره شيخنا العاملي هو الذي سبق ذكره في كلام الآخرين تحت عنوان « الأمثال الكامنة ».

ولعلّ ما ذكره ابن شمس الخلافة والسيوطي والبهائي ليس إلاّ جزءاً يسيراً من الحكم التي سارت بين الناس ، أو صارت نموذجاً لصبّ بقية الأمثال في قالبها ، وهذا من القرآن ليس ببعيد.

كيف وقد وصفه النبي صلی اللّه علیه و آله : « لا تُحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه » (8).

ص: 64


1- الأنعام : 67.
2- أسرار البلاغة : 616 - 617.
3- النساء : 123.
4- التوبة : 47.
5- التوبة : 74.
6- نوح : 27.
7- المخلاة : 307.
8- الكافي : 2 / 599 ، كتاب فضل القرآن ، الحديث 2.

الرابع عشر : الأمثال النبوية

إذا كان المثل إبراز المعنى المقصود في معرض الأمر المشهود ، وتحلية المعقول بحلية المحسوس ، واستنزال الحقائق المستعصية ، فهو من أدوات التبليغ والتعليم ، ولذلك ذاع التمثيل في القرآن الكريم والكلمات النبوية ، وكلمات أئمّة أهل البيت علیهماالسلام ، إلى عبارات البلغاء وإشارات الحكماء.

وقد قام غير واحد من المحدثين بجمع الأمثال النبوية.

وقد ذكر المحقّق المعاصر الشيخ محمد الغروي - حفظه اللّه - في مقدمة كتابه « الأمثال النبوية » حوالي عشرة كتب حول الأمثال النبويّة ، وهو بكتابه هذا أوصل العدد إلى أحد عشر كتاباً ، وقد نقل عن عبد المجيد محمود مؤلف كتاب « أمثال الحديث » العبارة التالية : أمّا أمثال الحديث فلم تحظ بالعناية التي نالتها أمثال القرآن أو الأمثال العربية العامة ، ولم أر أحداً من أصحاب الكتب الستة أفردها بالتأليف أو أفرد لها باباً في كتابه ، سوى الإمام الترمذي الذي خصص لأمثال الحديث مكاناً في جامعه تحت عنوان : « أبواب الأمثال عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله » لكنّه لم يذكر تحت هذا العنوان غير أربعة عشر حديثاً ، ولهذا يقول ابن العربي : ولم أر أحداً من أهل الحديث صنف فأفرد لها باباً غير أبي عيسى - يعني الترمذي - ولله درّه لقد فتح باباً أو بنى قصراً أو داراً ، ولكن اختط خطاً صغيراً ، فنحن نقتنع به ونشكره عليه (1).

ثمّ إنّ شيخنا الغروي قام بجمع شوارد الأمثال النبوية في جزءين كبيرين مع تفسيرها ، مرتباً إياها وفق حروف التهجّي ، وأسمى كتابه « الأمثال النبويّة » ،

ص: 65


1- أمثال الحديث : 88 ، ولكلامه صلة.

وطبع في بيروت.

وها نحن نذكر نماذج من الأمثال النبوية التي جمعها السيوطي في « الجامع الصغير » لتكون زينة للكتاب.

1. « مثل الإيمان مثل القميص تقمَّصه مرّة ، وتنزعه أُخرى ».

2. « مثل البخيل والمتصدّق كمثل رجلين عليهما جبّتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما ، فأمّا المنفق فلا ينفق إلاّ سبغت على جلده ، حتى تخفي بنانه ، وتعفو أثره ، وأمّا البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلاّ لزقت كل حلقة مكانها ، فهو يوسّعها فلا تتسع ».

3. « مثل البيت الذي يذكر اللّه فيه والبيت الذي لا يذكر اللّه فيه ، مثل الحيّ والميِّت ».

4. « مثل الجليس الصالح والجليس السوء ، كمثل صاحب المسك وكير الحدّاد ، لا يعدمك من صاحب المسك ، إمّا أن تشتريه أو تجد ريحه ، وكير الحداد يحرق بيتك أو ثوبك ، أو تجد منه ريحاً خبيثة ».

5.« مثل الجليس الصالح مثل العطّار ، إن لم يعطك من عطره أصابك من ريحه ».

6. « مثل الرّافلة في الزينة في غير أهلها ، كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها ».

7. « مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار عذب على باب أحدكم ، يغتسل فيه كلّ يوم خمس مرّات ، فما يبقي ذلك من الدَّنس ».

8. « مثل العالم الذي يعلِّم الناس الخير وينسى نفسه ، كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه ».

ص: 66

9. « مثل القلب مثل الريشة تقلّبها الرياح بفلاة ».

10. « مثل الذي يعتق عند الموت ، كمثل الذي يهدي إذا شبع ».

11. « مثل الذي يتعلّم العلم ، ثمّ لا يحدّث به ، كمثل الذي يكنز الكنز فلا ينفق منه ».

12. « مثل الذي يتعلّم العلم في صغره كالنقش على الحجر ، ومثل الذي يتعلّم العلم في كبره ، كالذي يكتب على الماء ».

13. « مثل الذي يجلس يسمع الحكمة ولا يحدِّث عن صاحبه إلاّ بشرّ ما يسمع ، كمثل رجل أتى راعياً ، فقال : يا راعي اجزرني شاة من غنمك ، قال : اذهب فخذ بأُذنِ خيرها شاةً ، فذهب فأخذ بأُذنِ كلب الغنم ».

14. « مثل الذي يتكلّم يوم الجمعة والإمام يخطب ، مثل الحمار يحمل أسفاراً ، والذي يقول له : « انصت » لا جمعة له ».

15. « مثل الذي يعلّم الناس الخير وينسى نفسه ، مثل الفتيلة ، تضيء للناس وتحرق نفسها ».

16. « مثل الذي يعين قومه على غير الحقّ ، مثل بعير تردّى وهو يجرّ بذنبه ».

17. « مثل الذين يغزون من أُمّتي ويأخذون الجعل يتقوّون به على عدوهم ، مثل أُمّ موسى ، ترضع ولدها وتأخذ أجرها ».

18. « مثل المؤمن كمثل العطار ، إن جالسته نفعك ، وإن ماشيته نفعك ، وإن شاركته نفعك ».

19. « مثل المؤمن مثل النخلة ما أخذت منها من شيء نفعك ».

20. « مثل المؤمن إذا لقي المؤمن فسلّم عليه ، كمثل البنيان يشدّ بعضه

ص: 67

بعضاً ».

21. « مثل المؤمن مثل النحلة ، لا تأكل إلاّ طيباً ، ولا تضع إلاّ طيباً ».

22. « مثل المؤمن مثل السنبلة ، تميل أحياناً ، وتقوم أحياناً ».

23. « مثل المؤمن مثل السنبلة ، تستقيم مرّة ، وتخرّ مرّة ، ومثل الكافر مثل الأرزة ، لا تزال مستقيمة حتى تخرّ ولا تشعر ».

24. « مثل المؤمن مثل الخامة ، تحمرُّ مرّة ، وتصفرُّ أُخرى ، والكافر كالأرزة ».

25. « مثل المؤمن كمثل خامة الزرع من حيث أتتها الريح كفتها ، فإذا سكنت اعتدلت ، وكذلك المؤمن ، يكفّأ بالبلاء ، ومثل الفاجر كالأرزة صماء معتدلة ، حتى يقصمها اللّه تعالى إذا شاء ».

26. « مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأُترجُّة ريحها طيّب وطعمها طيّب. ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها ، وطعمها حلوٌ. ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ، ريحها طيب ، وطعمها مرّ ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر ».

27. « مثل المؤمن مثل النحلة إن أكلت أكلت طيباً ، وإن وضعت وضعت طيباً ، وإن وقعت على عود نخر لم تكسره ، ومثل المؤمن مثل سبيكة الذهب إن نفخت عليها احمرّت ، وإن وزنت لم تنقص ».

28. « مثل المؤمن كالبيت الخرب في الظاهر ، فإذا دخلته وجدته مونفاً ، ومثل الفاجر كمثل القبر المشرف المجصص ، يعجب من رآه وجوفه ممتلئُ نتناً.

29. مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحمّى ».

ص: 68

30. مثل المجاهد في سبيل اللّه ، كمثل الصائم القائم الدائم الذي لا يفتر من صيام ولا صدقة ، حتى يرجع ، وتوكّل اللّه تعالى للمجاهد في سبيله إن توفّاه أن يدخله الجنّة أو يرجعه سالماً مع أجرٍ أو غنيمة ».

31. « مثل المرأة الصالحة في النساء ، كمثل الغراب الأعصم الذي إحدى رجليه بيضاء ».

32. « مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين ، تعير إلى هذه مرّة ، وإلى هذه مرّة ، لا تدري أيّهما تتبع ».

33. « مثل ابن آدم وإلى جنبه تسعة وتسعون منيّة ، إن أخطأته المنايا وقع في الهرم حتى يموت ».

34. « مثل أصحابي مثل الملح في الطعام ، لا يصلح الطعام إلاّ بالملح ».

35. « مثل أُمّتي مثل المطر ، لا يُدرى أوّله خير ، أم آخره ».

36. « مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق ».

37. « مثل بلال كمثل نحلة ، غدت تأكل من الحلو والمرّ ثم يمسي حلواً كلّه ».

38. « مثل بلعم بن باعوراء في بني إسرائيل ، كمثل أُمية بن أبي الصلت في هذه الأمّة ».

39. « مثل منىً كالرحم في ضيقه ، فإذا حملت وسعها اللّه ».

40. « مثل هذه الدنيا مثل ثوب شُقَّ من أوّله إلى آخره ، فبقي متعلّقاً بخيط في آخره ، فيوشك ذلك الخيط أن ينقطع ».

ص: 69

41. « مثلي ومثل الساعة كفرسي رهان ، مثلي ومثل الساعة كمثل رجل بعثه قوم طليعة ، فلمّا خشي أن يسبق ألاح بثويبه : أُتيتم أُتيتُم ، أنا ذاك ، أنا ذاك ».

42. « مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً ، فجعل الفراش والجنادب يقعن فيها وهو يذُبّهنّ عنها ، وأنا آخذ بحجزكم عن النار ، وأنتم تفلتون من يدي » (1).

الخامس عشر : الأمثال العلوية

كان أمير المؤمنين علیه السلام مشرّع الفصاحة وموردها ، ومنشأ البلاغة ومولّدها ، ومنه علیه السلام ظهر مكنونها ، وعنه أخذت قوانينها ، وعلى أمثلته حذا كلّ قائل خطيب ، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ ، وعلى كلامه مسحة من العلم الإلهي ، وفيه عبقة من الكلام النبوي.

فقد قام غير واحد من روّاد الفصاحة والبلاغة بجمع شوارد كلامه ، وكلمه القصار والطوال ، فنافت على اثنتي عشرة ألف كلمة ، وفيما جمعه عبد الواحد الآمدي ( المتوفّى حدود 550 ه ) في كتابه « غرر الحكم ودرر الكلم » غنىً وكفاية لطلاّب الحق ولذلك نطوي عنها كشحاً.

وأمّا التمثيل في كلمات سائر الأئمة الاثني عشر فحدّث عنه ولا حرج ، وقد شمّر المحقّق الغرويّ عن ساعد الجدّ فألّف موسوعات في هذا المضمار ، شكر اللّه مساعيه الجميلة.

ص: 70


1- الجامع الصغير : 2 / 527 - 534.

السادس عشر : أمثال لقمان الحكيم

اختلفت الأقوال في شخصية لقمان الحكيم ، روى ابن عمر ، قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : « لم يكن لقمان نبيّاً ، ولكن كان عبداً كثير التفكّر حسن اليقين ، أحبّ اللّه فأحبّه ومنّ عليه بالحكمة » (1).

وقد بلغ سمو كلامه إلى حد نقل سبحانه وتعالى شيئاً من حكمه في القرآن الكريم ، وأنزل سورة باسمه ، كما قام غير واحد من العلماء بجمع حكمه المبثوثة في الكتب.

وقد قام أمين الإسلام الطبرسي بنقل شيء من حكمه في تفسيره ، وقد وصفه الإمام الصادق علیه السلام بقوله : « واللّه ما أُوتي لقمان الحكمة لحسب ولا مال ولا بسط في جسم ولا جمال ، ولكنّه كان رجلاً قويّاً في أمر اللّه ، متورّعاً في اللّه ساكتاً سكيناً ، عميق النظر ، طويل التفكّر ، حديد البصر ، لم ينم نهاراً قطّ ، ولم يتكئ في مجلس قوم قطّ ، ولم يتفل في مجلس قوم قطّ ، ولم يعبث بشيء قطّ ، ولم يره أحد من الناس على بول ولا غائط قطّ ، ولا على اغتسال لشدّة تستره وتحفّظه في أمره ، ولم يضحك من شيء قطّ ، ولم يغضب قطّ مخافة الإثم في دينه ، ولم يمازح إنساناً قطّ ، ولم يفرح بما أوتيه من الدنيا ، ولا حزن منها على شيء قطّ ، ... ولم يمرّ بين رجلين يقتتلان أو يختصمان إلاّ أصلح بينهما ، ولم يمض عنهما حتى تحاجزا ، ولم يسمع قولاً استحسنه من أحد قطّ ، إلاّ سأله عن تفسيره وعمّن أخذه ، وكان يكثر مجالسة الفقهاء والعلماء ، وكان يغشى القضاة والملوك والسلاطين ، فيرثي للقضاة بما ابتلوا به ، ويرحم الملوك والسلاطين لعزتهم باللّه وطمأنينتهم في ذلك ، ويتعلّم ما يغلب به

ص: 71


1- مجمع البيان : 4 / 315.

نفسه ويجاهد به هواه ، ويحترز من السلطان ، وكان يداوي نفسه بالتفكّر والعبر ، وكان لا يظعن إلا فيما ينفعه ، ولا ينظر إلا فيما يعينه ، فبذلك أُوتي الحكمة ومنح القضية » (1).

ص: 72


1- مجمع البيان : 4 / 317 - 318.

سورة البقرة

1. التمثيل الأوّل

اشارة

قال سبحانه : ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ * مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ) (1).

تفسير الآيات

الوقود - بفتح الواو - الحطب ، استوقد ناراً ، أو أوقد ناراً ، كما يقال : استجاب بمعنى أجاب.

افتتح كلامه سبحانه في سورة البقرة بشرح حال طوائف ثلاث :

الأولى : المؤمنون ، واقتصر فيهم على آيتين.

الثانية : الكافرون ، واقتصر فيهم على آية واحدة.

الثالثة : المنافقون ، وذكر أحوالهم وسماتهم ضمن اثنتي عشرة آية.

ص: 73


1- البقرة : 14 - 18.

وهذا إن دل على شيء فإنّما يدل على أنّ النفاق بؤرة الخطر ، وانّهم يشكلون خطورة جسيمة على المجتمع الإسلامى. وقد مثل بمثلين يوقفنا على طبيعة نواياهم الخبيثة وما يبطنون من الكفر.

بدأ كلامه سبحانه في حقهم بأنّ المنافقين هم الذين يبطنون الكفر ويتظاهرون بالإيمان ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ) .

ثمّ إنّه سبحانه يردّ عليهم ، بقوله : ( اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) والمراد أنّه سبحانه يجازيهم على استهزائهم.

ثمّ وصفهم بقوله : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) ، أي أخذوا الضلالة وتركوا الهدى ، واستبدلوا الكفر بالإيمان ، فلم يكونوا رابحين في هذه التجارة والاستبدال ، ثمّ وصفهم بالتمثيل الآتي :

نفترض أنّ أحداً ، ضلّ في البيداء وسط ظلام دامس وأراد أن يقطع طريقه دون أن يتخبّط فيه ، ولا يمكن أن يهتدي - والحال هذه - إلاّ بإيقاد النار ليمشي على ضوئها ونورها ويتجنب المزالق الخطيرة ، وما أن أوقد النار حتى باغتته ريح عاصفة أطفأت ما أوقده ، فعاد إلى حيرته الاُولى.

فحال المنافقين كحال هذا الرجل حيث إنّهم آمنوا بادئ الأمر واستناروا بنور الإيمان ومشوا في ضوئه ، لكنّهم استبدلوا الإيمان بالكفر فعمَّهم ظلام الكفر لا يهتدون سبيلاً.

هذا على القول بأنّ المنافقين كانوا مؤمنين ثمّ عدلوا إلى الكفر ، وأمّا على

ص: 74

القول بعدم إيمانهم منذ البداية ، فالنار التي استوقدوها ترجع إلى نور الفطرة الذي كان يهديهم إلى طريق الحق ، ولكنّهم أخمدوا نورها بكفرهم بآيات اللّه تبارك وتعالى.

والحاصل : أنّ حال هؤلاء المنافقين لمّا أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر كحال من ضلَّ في طريقه وسط الظلام في مكان حافل بالأخطار فأوقد ناراً لانارة طريقه فإذا بريح عاصفة أطفأت النار وتركته في ظلمات لا يهتدي إلى سبيل.

وهذا التمثيل الذي برع القرآن الكريم في تصويره يعكس حال المنافقين في عصر الرسالة ، ومقتضى التمثيل أن يهتدي المنافقون بنور الهداية فترة من الزمن ثمّ ينطفئ نورها بإذن اللّه سبحانه ، وبالتالي يكونوا صمّاً بكماً عمياً لا يهتدون ، فالنار التي اهتدى بها المنافقون عبارة عن نور القرآن ، وسنّة الرسول ، حيث كانوا يتشرّفون بحضرة الرسول ويستمعون إلى كلامه وحججه في بيانه ودلائله في إرشاده وتلاوته لكتاب اللّه ، فهم بذلك كمن استوقد ناراً للهداية ، فلمّا أضاءت لهم مناهج الرشد ومعالم الحقّ تمرّدوا على اللّه بنفاقهم ، فخرجوا عن كونهم أهلاً للتوفيق والتسديد ، فأوكلهم اللّه سبحانه إلى أنفسهم الأمّارة وأهوائهم الخبيثة ، وعمّتهم ظلمات الضلال بسوء اختيارهم.

وعلى هذا ابتدأ سبحانه بذكر المثل بقوله : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ) وتمّ المثل إلى هنا.

ثمّ ابتدأ بذكر الممثل بقوله : ( ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ) .

فإن قلت : فعلى هذا فما هو جواب « لمّا » في قوله ( فَلَمَّا أَضَاءَتْ ) ؟

ص: 75

قلت : الجواب محذوف ، لأجل الوجازة ، وهو قوله « خمدت ».

فإن قلت : فعلى هذا فبم يتعلّق قوله : ( ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ ) ؟

قلت : هو كلام مستأنف راجع إلى بيان حال الممثل ، وتقدير الكلام هكذا : فلَمّا أَضاءَت ما حوله خمدت فبقوا خابطين في ظلام متحيرين متحسّرين على فوات الضوء ، خائبين بعد الكدح من إيقاد النار.

فحال المنافقين كحال هؤلاء ، أشعلوا ناراً ليستضيئوا بنورها لكن ( ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ) .

وبكلمة موجزة : ما ذكرنا من الجمل هو المفهوم من الآية ، والإيجاز بلا تعقيد من شؤون البلاغة (1).

فقوله سبحانه : ( ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ ) بمعنى أنّ ذلك كان نتيجة نفاقهم وتمرّدهم وبالتالي تبدّد قابليتهم للاهتداء بنور الحقّ ( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ) أي في أهوائهم وسوء اختيارهم يتخبّطون في ظلمات الضلال ، لا يبصرون طريق الحقّ والرشاد.

ترى أنّ التمثيل يحتوي على معانى عالية وكثيرة بعبارات موجزة ، ولو حاول القرآن أن يبيّن تلك المعاني عن غير طريق التمثيل يلزم عليه بسط الكلام كما بسطناه ، وهذا من فوائد المثل ، حيث يؤدي معاني كثيرة بعبارات موجزة.

ثمّ إنّه سبحانه يصفهم بأنّهم لما عطّلوا آذانهم فهم صمّ ، وعطّلوا ألسنتهم فهم بكم ، وعطّلوا عيونهم فهم عمى ، قال : ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) .

والمراد من التعطيل أنّهم لم يكونوا ينتفعون بهذه الأدوات التي بها تعرف

ص: 76


1- لاحظ الكشاف : 1 / 153.

الحقائق ، فما كانوا يسمعون آيات اللّه بجدٍّ ، ولا ينظرون إلى الدلائل الساطعة للنبوة إلاّ من خلال الشك (1).

إلى هنا تمّ استعراض حال المنافقين بحال من أوقد ناراً للاستضاءة ، ولكن باءت مساعيه بالفشل.

وممّا يدل على أنّ المنافقين آمنوا باللّه ورسوله في بدء الأمر ثمّ طغى عليهم وصف النفاق ، قوله سبحانه : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ) (2).

وممّا يدل على أنّ الإسلام نور ينوّر القلوب والأنفس قوله سبحانه : ( أَفَمَن شَرَحَ اللّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) (3).

وأمّا الظلمة التي تحيط بهم بعد النفاق وتجعلهم صمّاً بكماً عمياً ، فالمراد ظلمات الضلال التي لا يبصرون فيها طريق الهدى والرشاد ، يقول سبحانه : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (4).

وبذلك ظهر انّ تفسير الظلمة التي يستعقبها إطفاء النور بظلمة القبر وحياة البرزخ وما بعدها من مواقف الحساب والجزاء غير سديد ، وإن كان هناك ظلمة للمنافق لكنّها من نتائج الظلمة الدنيوية.

ص: 77


1- انظر مجمع البيان : 1 / 54 ؛ آلاء الرحمن : 1 / 73.
2- المنافقون : 3.
3- الزمر : 22.
4- البقرة : 257.

فاستشهاد صاحب المنار على كون المراد هو ظلمة القبر والبرزخ بقوله سبحانه : ( يَوْمَ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا ... ) (1) ليس بأمر صحيح ، والآية ناظرة إلى حياتهم الدنيوية التي يكتنفها الإيمان والنور ، ثمّ تحيط بهم الظلمة والضلالة ، ولا نظر للآية لما بعد الموت.

سؤال وإجابة

إنّ مقتضى البلاغة هو الإتيان بصيغة الجمع حفظاً للتطابق بين المشبّه والمشبّه به ، مع أنّه سبحانه أفرد المشبّه به ( كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) وجمع المشبّه أعني قوله : ( مَثَلُهُمْ ) ( ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ ) ، فما هو الوجه ؟

أجاب عنه صاحب المنار بقوله : إنّ العرب تستعمل لفظ « الذي » في الجمع كلفظي « ما » و « من » ومنه قوله تعالى : ( وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا ) (2) وإن شاع في « الذي » الافراد ، لأنّ له جمعاً ، وقد روعي في قوله ( اسْتَوْقَدَ ) لفظه ، وفي قوله ( ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ ) معناه. والفصيح فيه مراعاة التلفظ أوّلاً ، ومراعاة المعنى آخراً ، والتفنّن في إرجاع الضمائر ضرب من استعمال البلغاء (3).

ولنا مع هذا الكلام وقفة ، وهي أنّ ما ذكره مبني على أنّ قوله سبحانه : ( ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ) في تتمة المثل ، وأجزاء المشبه به ، ولكنّك قد عرفت خلافه ، وانّ المثل تمّ في قوله : ( فَلَمَّا أَضَاءَتْ

ص: 78


1- الحديد : 13.
2- التوبة : 69.
3- تفسير المنار : 1 / 169.

مَا حَوْلَهُ ) ، وذلك بحذف جواب « لمّا » ، لكونه معلوماً في الجملة التالية ، وهو عبارة عن إخماد ناره فبقى في الظلام خائفاً متحيّراً.

وإلاّ فلو كان قوله ( ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ ) من أجزاء المشبّه به ، وراجعاً إلى مَن استوقد ناراً ، يلزم أن تكون الجملة التالية أعني قوله : ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ) كذلك ، أي من أوصاف المستوقد ، مع أنّها من أوصاف المنافق دون أدنى ريب ، ولو أردنا أن نصيغ المشبه والمشبه به بعبارة مفصّلة ، فنقول :

المشبه به : الذي استوقد ناراً فلمّا أضاءت ما حوله أُطفأت ناره.

والمشبه : المنافقون الذين استضاءوا بنور الإسلام فترة ثمّ ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ، صمّ بكم عمي فهم لا يرجعون.

وأمّا وجه الافراد ، فهو أنّه إذا كان التشبيه بين الأعيان فيلزم المطابقة ، لأنّ عين كلّ واحد منهم غير أعيان الآخر. ولذلك إنّما يكون التشبيه بين الأعيان إذا روعي التطابق في الجمع والإفراد ، يقول سبحانه : ( كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ) (1) ، وقوله : ( كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ) (2).

وأمّا إذا كان التشبيه بين الأفعال فلا يشترطون التطابق لوحدة الفعل من حيث الماهية والخصوصيات ، يقال في المثل : ما أفعالكم كفعل الكلب. أي ما أفعالكم إلاّ كفعل الكلب.

وربما يقال : إنّ الموصول « الذي » بمعنى الجمع ، قال سبحانه : ( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ ) (3). (4)

ص: 79


1- المنافقون : 4.
2- الحاقة : 7.
3- الزمر : 33.
4- انظر التبيان في تفسير القرآن : 1 / 86.

سورة البقرة

2. التمثيل الثاني

اشارة

قال سبحانه : ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ وَاللّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (1).

تفسير الآيات

الصيّب : المطر ، وكلّ نازل من علوّ إلى أسفل ، يقال فيه : صاب يصوب ، وهو عطف على قوله ( كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) ، ولما كان المثل الثاني أيضاً مثلاً للمنافقين ، فمقتضى القاعدة أن يقول « وكصيّب » مكان ( أَوْ كَصَيِّبٍ ) ولكن ربّما يستعمل « أو » بمعنى « و » قال الشاعر :

نال الخلافة أو كانت له قدراً *** كما أتى ربّه موسى على قدر

ويحتمل أن يكون « أو » للتخيير ، بأن مُثل المنافقين بموقد النار ، أو بمن وقع في المطر.

ص: 80


1- البقرة : 19 - 20.

والرعد : هو الصوت الذي يُسمَع في السحاب أحياناً عند تجمعه.

والبرق : هو الضوء الذي يلمع في السحاب غالباً ، وربما لمع في الأُفق حيث لا سحاب ، وأسباب هذه الظواهر اتحاد شحنات السحاب الموجبة بالسالبة كما تقرر ذلك في علم الطبيعيات.

والصاعقة : نار عظيمة تنزل أحياناً أثناء المطر والبرق ، وسببها تفريغ الشحنات التي في السحاب بجاذب يجذبها إلى الأرض.

والإحاطة بالشيء : الإحداق به من جميع الجهات.

والخطف : السلب والأخذ بسرعة ، ومنه نهي عن الخطفة بمعنى النهبة.

قوله : ( وَإِذَا أَظْلَمَ ) بمعنى إذا خفت ضوء البرق.

إلى هنا تمّ تفسير مفردات الآيات ، فلنرجع إلى بيان حقيقة التمثيل الوارد في الآية ، ليتضح من خلالها حال المنافقين ، فانّ حال المشبه يعرف من حال المشبه به ، فالمهم هو التعرّف على المشبه به.

والإمعان في الآيات يثبت بأنّ التمثيل يبتدأ من قوله ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ ) وينتهي بقوله : ( وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ) .

وأمّا قوله : ( وَاللّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ) جملة معترضة جيء بها في أثناء التمثيل ، وقوله بعد انتهاء التمثيل : ( وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ) يرجع إلى المشبه.

هذا ما يرجع إلى مفردات الآيات وكيفية انسجامها ، والمهمّ هو ترسيم ذلك المشهد الرهيب.

فلنفترض أنّ قوماً كانوا يسيرون في الفلوات وسط أجواء سادها الظلام

ص: 81

الدامس ، فإذا بصيّب من السماء يتساقط عليهم بغزارة ، فيه رعود قاصفة وبروق لامعة تكاد تخطف الأبصار من شدتها وصواعق مخيفة ، فتولاّهم الرعب والفزع والهلع ممّا حدابهم إلى أن يجعلوا أصابعهم في آذانهم خشية الموت للحيلولة دون سماع ذلك الصوت المخيف ، فعندئذٍ وقفوا حيارى لا يدرون أين يولّون وجوهم ، فإذا ببصيص من البرق أضاء لهم الطريق فمشوا فيه هنيئة ، فلما استتر ضوء البرق أحاطت بهم الظلمة مرة أُخرى وسكنوا عن المشي.

ونستخلص من هذا المشهد أنّ الهول والرعب والفزع والحيرة قد استولى على هؤلاء القوم لا يدرون ماذا يفعلون ، وهذه الحالة برمَّتها تصدق على المنافقين ، ويمكن تقريب ذلك ببيانين :

البيان الأوّل : التطبيق المفرق لكلّ ما جاء من المفردات في المشبه به ، كالصيّب والظلمات والرعد والبرق ، على المشبَّه ، وقد ذكر المفسرون في ذلك وجوهاً أفضلها ما ذكره الطبرسي تحت عنوان الوجه الثالث.

وقال : إنّه مثل للإسلام ، لأنّ فيه الحياة كما في الغيث الحياة ، وشبه ما فيه من الظلمات بما في إسلامهم من إبطان الكفر ، وما فيه من الرعد بما في الإسلام من فرض الجهاد وخوف القتل ، وبما يخافونه من وعيد الآخرة لشكّهم في دينهم ، وما فيه من البرق بما في إظهار الإسلام من حقن دمائهم ومناكحتهم وموارثتهم ، وما فيه من الصواعق كما في الإسلام من الزواجر بالعقاب في العاجل والآجل. ويقوي ذلك ما روي عن الحسن علیه السلام انّه قال : « مثل إسلام المنافق كصيّب هذا وصفه » (1).

وربّما يقرّر هذا الوجه بشكل آخر ، وهو ما أفاده المحقّق محمد جواد

ص: 82


1- مجمع البيان : 1 / 57.

البلاغي ( المتوفّى 1352 ه ) فقال : الإسلام للناس ونظام اجتماعهم كالمطر الصيب فيه حياتهم وسعادتهم في الدارين وزهرة الأرض بالعدل والصلاح والأمن وحسن الاجتماع ، ولكن معاندة المعاندين للحق وأهله جعلت الإسلام كالمطر لا يخلو من ظلمات شدائد وحروب ومعاداة من المشركين ورعود قتل وقتال وتهديدات مزعجات لغير الصابرين من ذوي البصائر والذين ارخصوا نفوسهم في سبيل اللّه ونيل السعادة ، وفيه بروق من النصر وآمال الظفر واغتنام الغنائم وعزّ الانتصار والمنعة والهيبة. فهم إذا سمعوا صواعق الحرب أخذهم الهلع والحذر من القتل وشبهت حالهم في ذلك بأنّهم ( يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ ) أجل ( الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ ) وخوفاً من أن تخلع قلوبهم من هول أصواتها ، وسفهاً لعقولهم أين يفرون عن الموت وماذا يجديهم حذرهم واللّه محيط بالكافرين (1).

وهذان التقريران يرجعان إلى التطبيق المفرّق كما عرفت.

البيان الثاني : التطبيق المركّب ، وهو إنّ الغاية من وراء هذا التمثيل أُمور ثلاثة ترجع إلى بيان حالة المنافقين.

وقبل أن نستوعب البحث عنها نذكر نص كلام الزمخشري في هذا الصدد.

قال الزمخشري : والصحيح الذي عليه علماء البيان لا يتخطّونه أنّ التمثيلين جميعاً من جملة التمثيلات المركبة دون المفرقة لا يتكلف لواحد واحد شيء يقدر شبهه به وهو القول الفصل والمذهب الجزل (2).

إذا عرفت ذلك ، فإليك البحث في الأُمور الثلاثة :

ص: 83


1- آلاء الرحمن : 1 / 74.
2- الكشاف : 1 / 162 - 163.

الأوّل : إحاطة الرعب والهلع بالمنافقين إثر انتشار الإسلام في الجزيرة العربية ودخول القبائل فيه وتنامي شوكته ، مما أوجد رعباً في قلوبهم وفزعاً في نفوسهم المضطربة ، ويجدون ذلك بلاءً أحاط بهم كالقوم الذين يصيبهم الصيّب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق وإليه أشار قوله سبحانه : ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ) .

الثاني : انّ النبي صلی اللّه علیه و آله لمّا كان يخبرهم عن المستقبل المظلم للكافرين والمدبرين عن الإسلام والإيمان خصوصاً بعد الموت صار ذلك كالصاعقة النازلة على رؤوسهم فكانوا يهربون من سماع آيات اللّه ويحذرون من صواعق براهينه الساطعة ، مع أنّ هذا هو منتهى الحماقة ، لأنّ صمّ الآذان ليس من أسباب الوقاية من أخذ الصاعقة ونزول الموت وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ وَاللّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ) .

الثالث : كان النبي صلی اللّه علیه و آله يدعوهم إلى أصل الدين ويتلوا عليهم الآيات البيّنة ويقيم لهم الحجج القيّمة ، فعنئذٍ يظهر لهم الحق ، فربّما كانوا يعزمون على اتّباعه والسير وراء أفكاره ، ولكن هذه الحالة لم تدم طويلاً ، إذ سرعان ما يعودون إلى تقليد الآباء ، وظلمة الشهوات والشبهات ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ) .

إلى هنا تمّ التطبيق المركب لكن في مقاطع ثلاثة.

ثمّ إنّه سبحانه أعقب التمثيل بقوله : ( وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) أي انّه سبحانه قادر أن يجعلهم صمّاً وعمياً حتى لا ينجع فيهم وعظ واعظ ولا تجدي هداية هاد.

وذهاب سمعهم وأبصارهم نتيجة أعمالهم الطالحة التي توصد باب التوفيق

ص: 84

أمامهم فيصيرون صمّاً وبكماً وعمياً.

ثمّ إنّ الآيات القرآنية تفسر تلك الحالة النفسانية التي كانت تسود المنافقين في مهجر النبي صلی اللّه علیه و آله حيث كانوا في حيطة وحذر من أن تنزل عليهم سورة تكشف نواياهم ، كما يشير إليه قوله سبحانه : ( يَحْذَرُ المُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ) (1).

ومن جانب آخر يشاهدون تنامي قدرة الإسلام وتزايد شوكته على وجه يستطيع أن يقطع دابرهم من أديم الأرض ، يقول سبحانه : ( لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً * مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً ) (2).

هذا بعض ما يمكن أن يقال حول التمثيل الوارد في حق المنافقين ، ولكن المهمَّ تطبيق هذا التمثيل على منافقي عصرنا ، فدراسة حال المنافقين في عصرنا هذا من أهم وظيفة المفسِّر ، فانّ حقيقة النفاق واحدة ، ترجع إلى إظهار الإيمان وإبطان الكفر لغاية الإضرار بالإسلام والمسلمين ، وهم يقيمون في خوف ورعب ، وفي الوقت نفسه صم بكم عمي فهم لا يرجعون.

ص: 85


1- التوبة : 64.
2- الأحزاب : 60 - 61.

سورة البقرة

3. التمثيل الثالث

اشارة

قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ لا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ ) (1).

تفسير الآيات

الحياء تغيّر وانكسار يعتري الإنسان من تخوّف ما يعاب به ويُذمّ ، يقال : فلان يستحي أن يفعل كذا ، أي أنّ نفسه تنقبض عن فعله.

فعلى هذا فالحياء من مقولة الانفعال ، فكيف يمكن نسبته إلى اللّه سبحانه مع أنّه لا يجوز عليه التغيّر والخوف والذم ؟

الجواب : انّ اسناد الحياء كإسناد الغضب والرضا إلى اللّه سبحانه ، فانّها جميعاً تسند إلى اللّه سبحانه متجردة عن آثار المادة ، ويؤخذ بنتائجها ، وقد اشتهر قولهم : « خذوا الغايات واتركوا المبادئ » فالحياء يصدُّ الإنسان عن إبراز ما يضمره

ص: 86


1- البقرة : 26 - 27.

من الكلام ، واللّه سبحانه ينفي النتيجة ، أي لا يمنعه شيء عن إبراز ما هو حق ، قال سبحانه : ( فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ ) (1).

وأمّا ضرب المثل فقد مرّ الكلام فيه ، وقلنا : إنّ لاستخدام كلمة « ضرب المثل » في التمثيل بالأمثال وجوهاً :

منها : أنّ ضرب المثل في الكلام يذكر لحال ما يناسبها ، فيظهر من حسنها أو قبحها ما كان خفياً ، وهو مأخوذ من ضرب الدراهم ، وهو حدوث أثر خاص فيها ، كأن ضرب المثل يقرع به أذن السامع قرعاً ينفذ أثره في قلبه ، ولا يظهر التأثير في النفس بتحقير شيء وتقبيحه إلاّ بتشبيهه بما جرى العرف بتحقيره ونفور النفوس منه (2).

البعوضة : حيوان حقير يشبه خرطومه خرطوم الفيل ، أجوف وله قوّة ماصة تسحب الدم ، وقد منح اللّه سبحانه هذا الحيوان قوة هضم ودفع كما منحه أُذناً وأجنحة تتناسب تماماً مع وضع معيشته ، وتتمتع بحساسية فائقة ، فهي تفر بمهارة عجيبة حين شعورها بالخطر ، وهي مع صغرها وضعفها يعجز عن دفعها كبار الحيوانات. وقد اكتشف علماء الحيوان مؤخراً انّ البعوضة قادرة على تشخيص فريستها من مسافة تقرب عن 65 كيلومتراً.

قال أمير المؤمنين علي علیه السلام في حقّها : « كيف ولو اجتمع جميع حيوانها ، مناطيرها وبهائمها ، وما كان من مراحها وسائمها ، وأصناف أسناخها وأجناسها ، ومتبلدة أُممها وأكياسها ، على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها ، ولا عرفت

ص: 87


1- الأحزاب : 53.
2- تفسير المراغي : 1 / 70.

كيف السبيل إلى إيجادها ، ولتحيّرت عقولها في علم ذلك وتاهت وعجزت قواها وتناهت ، ورجعت خاسئة حسيرة ، عارفة بأنّها مقهورة ، مقرة بالعجز عن إنشائها ، مذعنة بالضعف عن إفنائها » (1).

يقول الإمام جعفر بن محمد الصادق علیهماالسلام بشأن خلقة هذا الحيوان الصغير :

« إنّما ضرب اللّه المثل بالبعوضة على صغر حجمها خلق اللّه فيها جميع ما خلق في الفيل مع كبره وزيادة عضوين آخرين ، فأراد اللّه سبحانه أن ينبّه بذلك المؤمنين على لطيف خلقه وعجيب صنعته » (2).

إلى هنا تمّ تفسير مفردات الآية ، وأمّا تفسير الآية برمّتها فقد نقل المفسرون في سبب نزولها وجهين :

الأوّل : أنّ اللّه تعالى لما ضرب المثلين قبل هذه الآية للمنافقين ، أعني قوله : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ) وقوله : ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ ) قال المنافقون : اللّه أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال ، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.

الثاني : انّه سبحانه لما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت تكلّم فيه قوم من المشركين وعابوا ذكره ، فأنزل اللّه هذه الآية (3).

ولا يخفى ضعف الوجه الأوّل ، فانّ المنافقين لم ينكروا ضرب المثل ، وإنّما أنكروا المثلين اللّذين مثّل بهما سبحانه حال المنافقين ، وعند ذلك لا يكون التمثيل بالبعوضة جواباً لردّ استنكارهم ، لأنّهم أنكروا المثلين اللّذين وردا في حقهما ، فلا

ص: 88


1- نهج البلاغة : الخطبة186.
2- مجمع البيان : 1 / 67.
3- مجمع البيان : 1 / 67.

يكون عدم استحيائه سبحانه من التمثيل بالبعوضة ردّاً على اعتراضهم.

وأمّا الثاني ، فقد ورد ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في مكة المكرمة ، لأنّ الأوّل ورد في سورة الحج ، وهي سورة مكية ، والآخر ورد في سورة العنكبوت ، وهي أيضاً كذلك. وهذه الآية نزلت في المدينة ، فكيف تكون الآية النازلة في مهجر النبي صلی اللّه علیه و آله جواباً على اعتراض المشركين في موطنه ؟

وعلى كلّ تقدير فالآية بصدد بيان أنّ الملاك في صحة التمثيل ليس ثقل ما مثّل به أو كبره ، فلا التمثيل بالبعوضة عيب ولا التمثيل بالإبل والفيل كمال ، وإنّما الكمال أن يكون المثل مبيناً لحقيقة وواقعة غفل عنها المخاطب من دون فرق بين كون الممثل صغيراً أو كبيراً.

وبعبارة أُخرى : إذا كان الغرض التأثير فالبلاغة تقضي بأن تضرب الأمثال لما يراد تحقيره بحقيرها ولما يراد التنفير بما اعتادت النفوس النفور منها ، فالملاك هو كون المثل مفيداً لما يريد المتكلم تحقيقه ، من غير فرق بين حقير الأشياء وكبيرها ، وهو سبحانه يشير إلى ذلك المعنى بقوله : ( إِنَّ اللّهَ لا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً ) ( بل ) فوقها في الصغر كالجراثيم التي لا ترى إلاّ بالمجهر ، كما تقول : فلان لا يبالي أن يبخل بنصف درهم فما فوقه أي مما فوقه في القلة.

ولو أُريد ما فوقه في الكثرة يقول مكانه « فضلاً عن الدرهم والدرهمين ».

فما في كلام بعض المستشرقين من أنّ الصحيح أن يقول « فما دونه » غير تام. للفرق بين قوله : « فما فوقه » وقوله « فضلاً » والأوّل بقرينة المقام بمعنى فما فوقه في الصغر والحقارة لا بمعنى « فضلاً ».

وربما تفسر الآية بأنّه لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها في

ص: 89

الكبر ، ولكن الأوّل هو الأوفق لمقصود المتكلم. كما يقال عند لوم المتجري : بأنّك تقترف جريمة لأجل دينار بل فوقه ، أي نصف دينار ، والمراد من الفوقية هو الفوقية في الحقارة.

وقد أورد الزمخشري على نفسه سؤالاً ، وهو : كيف يضرب اللّه المثل لما دون البعوضة وهي في النهاية في الصغر ؟ ثمّ أجاب :

إنّ جناح البعوضة أقل منها وأصغر بدرجات ، وقد ضربه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مثلاً للدنيا ، وفي خلق اللّه حيوان أصغر منها ومن جناحها ربما رأيت في تضاعيف الكتب العتيقة دويبة لا يكاد يجليها للبصر الحاد إلاّ تحركها فإذا سكنت ، فالسكون يواريها ، ثمّ إذا لوّحت لها بيدك حادت عنها وتجنبت مضرتها ، فسبحان من يدرك صورة تلك وأعضاءها الظاهرة والباطنة ، وتفاصيل خلقتها ، ويبصر بصرها ، ويطلع على ضميرها ، ولعل في خلقه ما هو أصغر منها وأصغر سبحان الذي خلق الأزواج كلّها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون (1).

وقال البيضاوي : لما كانت الآيات السابقة متضمنة لأنواع من التمثيل عقب ذلك ببيان حسنه ، وما هو الحق له والشرط فيه ، وهو أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي تعلق بها التمثيل في العظم والصغر ، والخسة والشرف ، دون الممثل ، فانّ التمثيل إنّما يصار إليه لكشف المعنى الممثل له ، ورفع الحجاب عنه وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس ، ليساعد فيه الوهم العقل ويصالحه عليه ، فانّ المعنى الصرف إنّما يدركه العقل مع منازعة من الوهم ، لأنّ من طبعه الميل إلى الحس وحب المحاكاة ، ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية وفشت في عبارات البلغاء ، وإشارات الحكماء ، فيمثل الحقير بالحقير كما يمثل العظيم

ص: 90


1- الكشاف : 1 / 205 - 206.

بالعظيم ، وإن كان المثل أعظم من كلّ عظيم ، كما مثل في الإنجيل على الصدور بالنخالة ، والقلوب القاسية ، بالحصاة ، ومخاطبة السفهاء ، بإثارة الزنابير ، وجاء في كلام العرب : أسمع من قراد ، وأطيش من فراشة ، وأعز من مخ البعوض (1).

وربّما يتصور أنّ التمثيل بالأشياء الحقيرة الخسيسة لا يليق بكلام الفصحاء ، وعلى هذا فالقرآن المشتمل على النمل والذباب والعنكبوت والنحل لا يكون فصيحاً فضلاً عن كونه معجزاً.

وأجاب عنه صدر المتألهين الشيرازي ( المتوفّى عام 1050 ه ) بقوله : إنّ الحقارة لا تنافي التمثيل بها ، إذا شرط في المثال أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي يستدعي التمثيل به كالعظم والحقارة ، والشرف والخساسة ، لا على وفق من يوقع التمثيل ويضرب المثال ، لأنّ الغرض الأصلي منه إيضاح المعنى المعقول ، وإزالة الخفاء عند إبرازه في صورة المشاهد المحسوس ، ليساعد فيه الوهم العقل ولا يزاحمه ، فانّ العقل الإنساني مادام تعلقه بهذه القوى الحسيّة لا يمكنه إدراك روح المعنى مجرّداً عن مزاحمة الوهم ومحاكاته ، لأنّ من طبعه كالشياطين الدعابة في التخييل وعدم الثبات على صورة.

ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية ، وفشت في عبارات الفصحاء من العرب وغيرهم ، وكثرت في إشارات الحكماء ومرموزاتهم ، وصحف الأوائل ومسفوراتهم ، تتميماً للتخيّل بالحس ، فهناك يضاعف في التمثيل ، حيث يمثل أوّلاً المعقول بالمتخيل ، ثمّ يمثل المتخيل بالمرسوم المحسوس المهندس المشكل (2).

ثمّ إنّه سبحانه يذكر أنّ الناس أمام الأمثال على قسمين :

ص: 91


1- تفسير البيضاوي : 1 / 43.
2- تفسير القرآن الكريم : 2 / 192 - 193.

أ : المؤمنون : وهم الذين قال سبحانه في حقّهم : ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ) .

ب : الكافرون : وهم الذين قال سبحانه في حقّهم : ( وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً ) . والظاهر أنّ قولهم ( أَرَادَ اللّهُ ) كان على سبيل الاستهزاء بادّعاء الرسول أنّ المثل وحي منزل من اللّه ، وإلاّ فانّ الكافرين والمنافقين كانوا ينكرون الوحي أصلاً.

ولا غرو في أن يكون شيء سبب الهداية لطائفة وسبب الضلال لطائفة أُخرى ، وما هذا إلاّ لأجل اختلاف القابليات ، فمن استعد لقبول الحقّ والحقيقة فتصبح الآيات الإلهية سبب الهداية ، وأمّا الطائفة الأُخرى المعاندون الذين صمّوا مسامعهم عن سماع كلمة الحق وآياته فينكرون الآيات ويكفرون بذلك.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ قوله سبحانه : ( يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ) من كلامه سبحانه ، ولا صلة له بكلام المنكرين ، بل تم كلامه بقوله : ( بِهَذَا مَثَلاً ) وهو انّ الأمثال تؤثر في قوم دون قوم.

ثمّ إنّه يعلّل إضلال غير المؤمنين بفسقهم ويقول : ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ) ، والفسق : عبارة عن خروج النواة من التمر ، وفي الاصطلاح : من خرج عن طاعة اللّه ، سواء أكان مسلما متجرياً أو كافراً فاسقاً.

وقد أطنب المفسرون الكلام في مفاد الجملة الأخيرة أعني : ( يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ) فربما يتوهم أنّ الآية بصدد الإشارة إلى الجبر ، فحاولوا تفسير الآية بشكل يتلاءم مع الاختيار ، وقد عرفت أنّ الحقّ هو أنّ الآية بصدد بيان أنّ المواعظ الشافية والكلمات الحِكَمية لها تأثير معاكس فيؤثر في القلوب المستعدة تأثيراً إيجابياً وفي العقول المنتكسة تأثيراً سلبياً.

ص: 92

هذا هو تفسير الآية.

وربّما يحتمل أنّ الآية ليست بصدد بيان ضرب المثل بالبعوضة كضربه بالعنكبوت والذباب ، بل الآية خارجة عن نطاق ضرب المثل بالمعنى المصطلح ، وإنّما الآية بصدد بيان قدرته وعظمته وصفاته الجمالية والجلالية ، والآية بصدد بيان أنّ اللّه سبحانه لا يستحيي أن يستدل على قدرته وكماله وجماله بخلق من مخلوقاته سواء أكان كبيراً وعظيماً كالسماوات والأرض ، أو صغيراً وحقيراً كالبعوضة والذباب ، فمعنى ضرب المثل هو وصفه سبحانه بصفات الجلال أو الكمال.

ويدل على ذلك أنّه سبحانه استدل على جلاله وكماله بخلق السماوات والأرض وقال : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلا تَجْعَلُوا للهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) (1).

يلاحظ على تلك النظرية بأمرين :

أوّلاً : لو كان المراد من ضرب المثل وصفه سبحانه بالقدرة العظيمة لكان اللازم أن يأتي بالآية بعد هاتين الآيتين مع أنّه فصل بينهما بآيات ثلاث تركّز على إعجاز القرآن والتحدّي به ، ثمّ التركيز على الجنة وثمارها كما هو معلوم لمن راجع المصحف الكريم.

وثانياً : انّ القرآن يفسر بعضه بعضاً ، فقد جاء قوله : ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ) في سورة الرعد بعد تشبيه الحق والباطل بمثل

ص: 93


1- البقرة : 21 - 22.

رائع يأتي البحث عنه إن شاء اللّه ، قال سبحانه : ( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ... ) إلى أن قال : ( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ ) ثمّ قال : ( أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلا يَنقُضُونَ المِيثَاقَ ) (1).

تجد انّ الآيات في سورتي البقرة والرعد كسبيكة واحدة يفسر بعضها البعض.

ففي سورة البقرة ذكر ضرب المثل بالبعوضة ، كما ضرب في سورة الرعد مثلاً للحق والباطل.

ففي سورة البقرة قال سبحانه : ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ) .

وفي سورة الرعد قال سبحانه : ( أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ ) .

وفي سورة البقرة قال : ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ) ، وفسَّره بقوله : ( الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ... ) الخ.

وفي سورة الرعد ، فسّر أُولي الألباب بقوله : ( الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلا يَنقُضُونَ المِيثَاقَ ) (2).

فبمقارنة هذه الآيات يعلم أنّ المراد من ضرب المثل هو المعنى المعروف أي التمثيل بالبعوضة لتحقير معبوداتهم أو ما يشبه ذلك.

نعم ما نقلناه عن الإمام الصادق علیه السلام ربّما يؤيد ذلك الوجه كما مرّ ، فتدبّر.

ص: 94


1- الرعد : 19 - 20.
2- الرعد : 20.

سورة البقرة

4. التمثيل الرابع

اشارة

( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) (1).

تفسير الآية

جاءت الآية بعد قصة البقرة التي ذبحها بنو إسرائيل ، وقد كانوا يجادلون موسى علیه السلام بغية التملص من ذبحها ، ولكن قاموا بذبحها وما كادوا يفعلون.

وكان ذبح البقرة لأجل تحديد هوية القاتل الذي قام بقتل ابن عمه غيلة واتهم بقتله شخصاً آخر من بني إسرائيل ، فصاروا يتدارؤون ويدفعون عن أنفسهم هذه التهمة ، فرجعوا في أمرهم إلى موسى علیه السلام ، وشاء اللّه أن يظهر حقيقة الأمر بنحو معجز ، فقال لهم موسى علیه السلام : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) ، فلمّا ذبحوها - بعد مجادلات طويلة - أمر سبحانه أن يضربوا المقتول ببعض البقرة حتى يحيى المقتول ويعين هوية القاتل.

قال سبحانه : ( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ المَوْتَى وَيُرِيكُمْ

ص: 95


1- البقرة : 74.

آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (1).

ومع رؤية هذه المعجزة الكبرى التي كان من المفروض أن تزيد في إيمانهم وانصياعهم لنبيهم موسى علیه السلام ، لكن - وللأسف - قست قلوبهم بنحو يحكي سبحانه شدة تلك القساوة ويقول :

( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) .

وبما أنّ الحجر هو المعروف بالصلابة والقساوة شبّه سبحانه قلوبهم بالحجارة وقال : إنَّ قُلوبهُمْ ( كَالحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) أي : بل أشدّ قسوة ، فكلمة « أو » موضوعة مكان بل.

ثمّ إنّ القلوب إمّا بمعنى النفوس الناطقة ، فعندئذ تكون نسبة القساوة إلى الروح نسبة حقيقية. أو انّ المراد منها هو العضو المودع في الجهة اليسرى من الصدر الذي ليس له دور سوى تصفية الدم وإرساله إلى سائر الأعضاء ، وعندئذٍ تكون النسبة مجازية ، وإنّما نسبت القساوة إلى ذلك العضو ، لأنّه مظهر من مظاهر الحياة الإنسانية ، وأوّل عضو يتأثر بالأمور النفسانية كالفرح والغضب والحزن والجزع ، فلا منافاة في أن يكون المدرك هو النفس الناطقة ، ومع ذلك يصحّ نسبة الإدراك إلى القلب.

ثمّ إنّه سبحانه وصف قلوبهم بأنّها أشدّ قسوة من الحجارة ، وعلّل ذلك بأُمور ثلاثة :

الأوّل : ( وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ ) .

الثاني : ( وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ ) .

ص: 96


1- البقرة : 73.

الثالث : ( وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ ) .

أمّا الأوّل : أي تفجّر الأنهار من الحجارة ، كالعيون الجارية من الجبال الصخرية.

وأمّا الثاني : كالعيون الحادثة عند الزلازل المستتبعة للانشقاق والانفجار المستعقب لجريان الأنهار.

وأمّا الثالث : كهبوط الحجارة من الجبال العالية إلى الأودية المنخفضة من خشية اللّه.

ولا مانع من أن يكون للهبوط علة طبيعية كالصواعق التي تهبط بها الصخور وعلة معنوية التي كشف عنها الوحي ، وهي الهبوط من خشية اللّه.

وعلى ضوء ذلك فالحجارة على الرغم من صلابتها تتأثر طبقاً للعوامل السالفة الذكر ، وأمّا قلوب بني إسرائيل فهي صلبة لا تنفعل أمام وحيه سبحانه وبيان رسوله ، فلا تفزع نفوسهم ولا تخشع لأمره ونهيه.

ومن عجيب الأمر أنّ بني إسرائيل رأوا بأُمّ أعينهم ليونة الحجارة حيث استسقى موسى لقومه ، فأمر بأن يضرب بعصاه الحجر ، فلمّا ضربه انفجرت منه اثنتا عشرة عيناً بعدد الأسباط.

ثمّ إنّ ظاهر الآية نسبة الشعور إلى الحجارة حيث إنّها تهبط من خشية اللّه ، وهذه حقيقة علمية كشف عنها الوحي وإن لم يصل إليها الإنسان بأدواته الحسية.

يقول صدر المتألهين : إنّ الكون بجميع أجزائه يسّبح لله ويحمده ويثني عليه تعالى عن شعور ، فلكلّ موجود من هذه الموجودات نصيب من الشعور والإدراك بقدر ما يملك من الوجود من نصيب.

ص: 97

وعلى هذا الشعور تسّبح الموجودات كلّها ، خالقها وبارئها وربّها سبحانه وتنزّهه عن كلّ نقص وعيب.

ثمّ يقول : إنّ العلم والشعور والإدراك كلّ ذلك متحقّق في جميع مراتب الوجود ، ابتداء من « واجب الوجود » إلى النباتات والجمادات ، وانّ لكلّ موجود يتحلّى بالوجود سهماً من الصفات العامة كالعلم والشعور والحياة. و ... و ... ولا يخلو موجود من ذلك أبداً ، غاية ما في الأمر أنّ هذه الصفات قد تخفى علينا - بعض الأحيان - لضعفها وضآلتها.

على أنّ موجودات الكون كلما ابتعدت عن المادة والمادية ، واقتربت إلى التجرد ، أو صارت مجردة بالفعل ازدادت فيها هذه الصفات قوة وشدة ووضوحاً ، وكلّما ازدادت اقتراباً من المادة والمادية ، وتعمّقت فيها ، ضعفت فيها هذه الصفات ، وضؤلت حتى تكاد تغيب فيها بالمرّة ، كأنّها تغدو خلوة من العلم والشعور والإدراك ، ولكنّها ليست كذلك - كما نتوهم - إنّما بلغ فيها ذلك من الضعف ، والضآلة بحيث لا يمكن إدراكها بسهولة وسرعة (1).

وليست هذه الآية هي الفريدة في بابها ، بل هناك آيات تؤكد على جريان الشعور في أجزاء العالم من الذرة إلى المجرّة.

يقول سبحانه : ( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ) (2).

وبما أنّنا بسطنا الكلام في سريان الشعور إلى أجزاء العالم برمّته في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة ، فلنقتصر على ذلك ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى محلّه.

ص: 98


1- الأسفار : 1 / 118 و 6 / 139 ، 140.
2- الإسراء : 44.

سورة البقرة

5. التمثيل الخامس

اشارة

( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) (1).

تفسير الآية

النعيق : صوت الراعي لغنمه زجراً ، يقال : نعق الراعي بالغنم ، ينعق نعيقاً ، إذا صاح بها زجراً.

والنداء : مصدر نادى ينادي مناداة ، وهو أخص من الدعاء ، ففيه الجهر بالصوت ونحوه ، بخلاف الدعاء.

وفي تفسير الآية وجوه :

الأوّل : انّ الآية بصدد تشبيه الكافرين بالناعق الذي ينعق بالغنم ، ولا يصح التشبيه عندئذٍ إلاّ إذا كان الناعق أصم ، ويكون معنى الآية : انّ الذين كفروا الذين لا يتفكرون في الدعوة الإلهية ، كمثل الأصم الذي ينعق بما لا يسمع نفسه ولا يميز من مداليل نعاقه معنى معقولاً إلاّ دعاءً ونداءً وصوتاً بلا معنى.

وجه التشبيه : انّ الناعق أصم كما أنّ هؤلاء الكافرين صم بكم عمي لا يعقلون.

ص: 99


1- البقرة : 171.

وفي هذا المعنى المشبه هو الكافرون الذين لا يفهمون من الدعوة النبوية إلاّ صوتاً ودعوة فارغة من المعنى.

والمشبه به : هو الناعق الأصم الذي ينعق بالغنم ، ولكن لا يسمع من نعاقه إلاّ دعاءً ونداءً.

وهذا الوجه وإن كان ينطبق على ظاهر الآية ، ولكنّه بعيد من حيث المعنى ، إذ لو كان الهدف هو التركيز على أنّ الكافرين صم بكم عمي لا يعقلون لكفى تشبيههم بالحيوان الذي هو أيضاً كذلك ، فما هو الوجه لتشبيههم بإنسان عاقل أخذ منه سمعه لا يسمع من نعاقه إلاّ صوتاً ونداءً ؟

الثاني : انّ المشبه هو النبي صلی اللّه علیه و آله ، والمشبه به هو الناعق للغنم ، والمراد ومثلك أيها النبي في دعاء الذين كفروا كمثل الذي ينعق في البهائم التي لا تسمع من نعيقه إلاّ دعاءً ونداءً ما ، فتنزجر بمجرد قرع الصوت سمعها من غير ان تعقل شيئاً ، فهم - الكافرون - صمّ لا يسمعون كلاماً يفيدهم ، وبكم لا يتكلمون بما ينفع ، وعمي لا يبصرون ، فهم لا يعقلون شيئاً ، لأنّ الطرق المؤدية إلى التعقل موصدة عليهم.

ومن ذلك ظهر أنّ في الكلام قلباً أو عناية أُخرى يعود إليه ، فانّ المثل بالذي ينعق بما لا يسمع إلاّ دعاءً ونداءً مثل الذي يدعوهم إلى الهدى لا مثل الكافرين المدعوين إلى الهدى ، إلاّ انّ الأوصاف الثلاثة التي استنتجت واستخرجت من المثل وذكرت بعده ، وهي قوله : ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) ، لما كانت أوصافاً للذين كفروا لا لمن يدعوهم إلى الحقّ استوجب ذلك أن ينسب المثل إلى الذين كفروا لا إلى رسول اللّه تعالى فأنتج ما أشبه القلب (1).

ص: 100


1- الميزان : 1 / 420.

ثمّ إنّ صاحب المنار فسّر الآية على الوجه الأوّل وقال : ( مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) أي صفتهم في تقليدهم لآبائهم ورؤسائهم كمثل الذي لا يسمع إلاّ دعاء ونداءً ، أي كصفة الراعي للبهائم السائمة ينعق ويصيح بها في سوقها إلى المرعى ودعوتها إلى الماء وجزها عن الحمى ، فتجيب دعوته وتنزجر بزجره بما ألفت من نعاقه بالتكرار. شبّه حالهم بحال الغنم مع الراعي يدعوها فتقبل ، ويزجرها فتنزجر ، وهي لا تعقل مما يقول شيئاً ، ولا تفهم له معنى وإنّما تسمع أصواتاً تقبل لبعضها وتدبر للآخر بالتعويد ، ولا تعقل سبباً للإقبال ولا للإدبار (1).

يلاحظ عليه : أنّ الآية بصدد ذمهم وانّهم لا يعتنقون الإيمان ولا يمتثلون الأوامر الإلهية ونواهيها ، وعلى ذلك تصبح الآية نوع مدح لهم ، لأنّهم لو كانوا كالبهائم السائمة يجيبون دعوة النبي كقبولها دعوة الراعي وينزجرون بزجره صلی اللّه علیه و آله كانتهائها عن نهي الراعي ، فيكون ذلك على خلاف المقصود ، فانّ المقصود بشهادة قوله ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ) انّهم لا يسمعون كلام النبي صلی اللّه علیه و آله ولا ينطقون بالحقّ ولا ينظرون إلى آيات اللّه وانّهم في واد والنبي صلی اللّه علیه و آله في واد آخر.

وأين هم من البهائم السائمة التي تقع تحت يد الراعي فتنتهي بنهيه ؟!

ص: 101


1- تفسير المنار : 2 / 93 - 94.

سورة البقرة

6. التمثيل السادس

اشارة

( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ) (1).

نزلت الآية عندما حوصر المسلمون واشتد الخوف والفزع بهم في غزوة الأحزاب فجاءت الآية لتثبّت قلوبهم وتعدهم بالنصر.

وقيل : إنّ عبد اللّه بن أُبي قال للمسلمين عند فشلهم في غزوة أحد : إلى متى تتعرضون للقتل ، ولو كان محمّد نبياً لما واجهتم الأسر والتقتيل ، فنزلت الآية.

تفسير الآية

وردت لفظة « أم » للإضراب عما سبق وتتضمن معنى الاستفهام ، والمعنى « بل أحسبتم أن تدخلوا الجنة ».

و ( الْبَأْسَاءُ ) : هي الشدة المتوجهة إلى الإنسان من خارج نفسه كالمال والجاه والأهل.

و « الضرّاء » : هي الشدة التي تصيب نفس الإنسان كالجرح والقتل ، وقيل :

ص: 102


1- البقرة : 214.

انّ « البأساء » نقيض « النعماء » ، « الضراء » نقيض « السراء » ، و « الزلزلة » شدة الحركة ، والزلزال البلية المزعجة لشدة الحركة والجمع زلازل ، وأصله من قولك زلّ الشيء عن مكانه ، ضوعف لفظه بمضاعف معناه ، نحو صرى وصرصر ، وصلى وصلصل ، فإذا قلت زلزلته ، فمعناه كررت تحريكه عن مكانه.

وقد جاء ما يقرب من مضمون الآية في آيات أُخرى ، منها قال سبحانه : ( وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ ) (1).

وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ) (2).

وقال سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ) (3).

تدلُّ مجموع هذه الآيات على دوام الابتلاء والامتحان في جميع الأُمم خصوصاً في الأمة الإسلامية.

ثمّ إنّ الهدف من امتحان أبناء البشر هو تحصيل العلم بكفاءة الممتحن ، لكنّه فيه سبحانه يستهدف إلى إخراج ما بالقوة من الكمال إلى الفعلية مثلاً : فانّ إبراهيم علیه السلام كان يتمتع بموهبة التفاني في اللّه وبذل ما يملك في سبيله غير انّه لم تكن لها ظهور وبروز ، فلما وقع في بوتقة الامتحان ظهرت تلك الموهبة إلى الوجود بعد ما كانت بالقوة.

ص: 103


1- البقرة : 177.
2- الأنعام : 42.
3- الأعراف : 94.

وما ذكرنا هو المستفاد من الآيات وقد صرح به الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في بعض خطبه : قال :

« لا يقولنّ أحدكم : اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة ، لأنّه ليس أحد إلاّ وهو مشتمل على فتنة ، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلاّت الفتن ، فانّ اللّه سبحانه يقول : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) ومعنى ذلك انّه يختبرهم بالأموال والأولاد ليتبيّن الساخط لرزقه والراضي بقسمه ، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يُستحق الثواب والعقاب » (1).

إلى هنا تبين معنى مفردات الآية وسبب نزولها والآيات التي وردت في هذا الصدد في حقّ سائر الأُمم.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى تفسير الآية.

يقول سبحانه : إنّ الابتلاء بالبأساء والضراء سنة إلهية جارية في الأمم كافة ولا تختص بالأُمة الإسلامية ، فالتمحيص وتمييز المؤمن الصابر عن غير الصابر رهن الابتلاء. فلا يتمحض إيمان المسلم إلاّ إذا غربل بغربلة الامتحان ليخرج نقياً. ولا يترسخ الإيمان في قلبه إلاّ من خلال الصمود والثبات أمام أعاصير الفتن الهوجاء.

وكأنّ الآية تسلية لنبيه وأصحابه مما نالهم من المشركين وأمثالهم ، لأنّ سماع أخبار الأُمم الماضية يسهّل الخطب عليهم ، وانّ البلية لا تختص بهم بل تعم غيرهم أيضاً ، ولذلك يقول : ( أَمْ حَسِبْتُمْ ) أي أظننتم وخلتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة ( وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ) ، أي أن تدخلوا الجنة ولما تبتلوا وتمتحنوا بمثل ما ابتليت به الأُمم السالفة وامتحنوا به. فعليكم بالصبر والثبات كما صبر هؤلاء وثبتوا.

ص: 104


1- نهج البلاغة : قسم الحكم : الحكمة 93.

وعلى ضوء هذا فالمثل بمعنى الوصف - وقد تقدم منّا القول - بأنّ من معانى المثل هو الوصف. فقوله : ( وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ ) ، أي « لما يأتكم وصف الذين خلوا من قبلكم » فلا يدخلون حظيرة الإيمان الكامل إلاّ أن يكون لهم وصف مثل وصف الذين واجهوا المصائب والفتن بصبر وثبات وعانوا الكثير من القلق والاضطراب ، كما قال تعالى في حقّ المؤمنين : ( وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا ) ففي خضّم هذه الفتنة التي تنفد فيها طاقات البشر ، فإذا بالرحمة تنزل عليهم من خلال دعاء الرسول صلی اللّه علیه و آله وصالح المؤمنين.

كما قال سبحانه : ( وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ ) والجملة ليست إلاّ طلب دعاء للنصر الذي وعد اللّه به رسله والمؤمنين بهم واستدعاءً له ، كما قال تعالى : ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ ) (1) ، وقال تعالى : ( كَتَبَ اللّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) (2).

يقول الزمخشري : ومعناه طلب الصبر وتمنّيه واستطالة زمان الشدة ، وفي هذه الغاية دليل على تناهي الأمر في الشدة ، وتماديه في العظم ... فإذا لم يبق للرسل صبر حتى ضجّوا ، كان ذلك الغاية في الشدة التي لا مطمح ورائها.

وعند ذلك يخاطبون بقوله سبحانه : ( أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ) أي يقال لهم ذلك إجابة لهم إلى طلبتهم من عاجل النصر (3).

ثمّ إنّ القراءة المعروفة هي الرفع في قوله : ( حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ ) ، وعند ذلك تكون الجملة لحكاية حال الأمم الماضية. وقرئ بنصب « يقول » وعلى هذا

ص: 105


1- الصافات : 171 - 172.
2- المجادلة : 21.
3- الكشاف : 1 / 270 في تفسير الآية.

تكون الجملة في محل الغاية لما سبقها وهو قوله ( مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ ) و ( زُلْزِلُوا ) ولعل القراءة الاَُولى أفضل لبعد كون الجملة غاية لمس البأساء والضراء والزلزال.

وقد تبين ممّا ذكرنا انّ المثل بمعنى التمثيل والتشبيه ، فتشبيه حال الأمة الإسلامية بالأمم السابقة في أنّهم يعمّهم البأساء والضراء والزلزال ، فإذا قرب نفاد طاقاتهم وصمودهم في المعارك يدعو الرسول ومن معه من المؤمنين لهم بالنصر والغلبة والنجاح.

ثمّ إنّ بعض الكتّاب ممن كتب في أمثال القرآن جعل الآيات الثلاث التالية من الأمثال القرآنية (1).

أ : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ المُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (2).

ب : ( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (3).

ص: 106


1- الدكتور محمد حسين علي الصغير : الصورة الفنية في المثل القرآني : 144؛ والدكتور إسماعيل إسماعيلي : تفسير أمثال القرآن : 191.
2- البقرة : 258.
3- البقرة : 259.

ج : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (1).

ولا يخفى ما فيها من الضعف.

أمّا الآية الأولى فلأنّ المراد من التمثيل هو التشبيه الذي يصور فيه غالباً غير المحسوس بالمحسوس ويقرِّب المعنى إلى ذهن المخاطب ، ولكن التشبيه في الآية الاَُولى الذي قام به مناظر إبراهيم كان تشبيهاً غير صحيح ، وذلك لأنّه لمّا وصف إبراهيم ربّه بأنّه يحيي ويميت أراد منه من يضفي الحياة على الجنين ويقبضه عندما يَطعن في السن ، ولكن المناظر فسّره بوجه أعم وقال : أنا أيضاً أُحيي وأُميت ، فكان إحياؤه بإطلاق سراح من كُتب عليه القتل ، وقتل من شاء من الأحياء ، مع الفرق الشاسع بين الإحياء والإماتة في كلام الخليل وكلام المناظر ، فلم يكن هناك أي تشبيه بل مغالطة واضحة فيه.

وأمّا الآية الثانية ، فلم يكن هناك أي تشبيه أيضاً ، لأنّه يشترط في التمثيل الاختلاف بين المشبه والمشبه به اختلافاً نوعياً ، كتشبيه الرجل الشجاع بالأسد ومُحمرَّ الشقيق بأعلام الياقوت ، وأمّا الآية المباركة فانّما هي من قبيل إيجاد مِثْل للمشبه ، فالرجل لما مرّ على القرية الخاوية على عروشها وقد شاهد بأنّه باد أهلها ورأى عظاماً في طريقها إلى البِلاء فقال : ( أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ) فأماته اللّه سبحانه مائة عام ثم أحياه كما هو ظاهر الآية ، وعلى ذلك فأوجد مِثْلاً للمشبه مع الوحدة النوعية وإنّما الاختلاف في الصنف ، وقد عرفت لزوم وجود التباين النوعي بين المشبّه والمشبّه به.

ص: 107


1- البقرة : 260.

وأمّا الآية الثالثة ، فمفادها هو أنّ إبراهيم كان مؤمناً بقدرته على إحياء الموتى ولكن طلب الإحياء ليراه بعينه ، لأنّ للعيان أثراً كبيراً في الاطمئنان ورسوخ العلم في القلب ، فطلب الرؤية ليطمئن قلبه ويزداد يقينه ، فخاطبه سبحانه بقوله : ( فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ) ، أي أملهنّ وأجمعهنّ وضمهنّ إليك. ( ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ) هذا دليل على أنّه سبق الأمر بقطعهنّ وذبحهنّ. ( ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ) ، ولم يذكر في الآية قيام إبراهيم بهذه الأعمال استغناء عنه بالقرائن.

هذا هو مفهوم الآية وأمّا انّها ليست مَثَلاً ، فلعدم توفر شرائط المثَل من المشبه والمشبه به ، وإنّما هو من قبيل إيجاد الفرد من الأمر الكلي أي إحياء الموتى سواء أكان إنساناً أم لا.

فالأولى عدّ هذه الآيات من القصص التي حكاها القرآن الكريم للعبرة والعظة لكن لا في ثوب المثل. فلننتقل إلى التمثيل السابع في سورة البقرة.

ص: 108

سورة البقرة

7. التمثيل السابع

اشارة

( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ) (1).

تفسير الآيات

وعد سبحانه في غير واحد من الآيات بالجزاء المضاعف ، قال سبحانه : ( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (2).

ولأجل تقريب هذا الأمر أتى بالتمثيل الآتي وهو :

انّ مثل الإنفاق في سبيل اللّه كمثل حبة أنبتت ساقاً انشعب سبعة شعب خرج من كلّ شعبة سنبلة فيها مائة حبة فصارت الحبة سبعمائة حبة ، بمضاعفة اللّه لها ، ولا يخفى انّ هذا التمثيل أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعة ، فانّ في

ص: 109


1- البقرة : 261 - 263.
2- البقرة : 245.

هذه إشارة إلى أنّ الأعمال الصالحة يمليها اللّه عزّ وجلّ لأصحابها كما يملي لمن بذر في الأرض الطيبة.

وظاهر الآية انّ المشبه هو المنفق ، والمشبه به هو الحبة المتبدلة إلى سبعمائة حبة ، ولكن التنزيل في الواقع بين أحد الأمرين :

أ : تشبيه المنفق بزارع الحبة.

ب : تشبيه الإنفاق بالحبة المزروعة.

ففي الآية أحد التقديرين.

ثمّ إنّ ما ذكره القرآن من التمثيل ليس أمراً وهمياً وفرضاً خيالياً بل هو أمر ممكن واقع ، بل ربما يتجاوز هذا العدد ، فقد حكى لى بعض الزُّرّاع انّه جنى من ساق واحد ذات سنابل متعددة تسعمائة حبة ، ولا غرو في ذلك فانّه سبحانه هو القابض والباسط.

ثمّ إنّه سبحانه فرض على المنفق في سبيل اللّه الطالب رضاه ومغفرته أن لا يتبع ما أنفقه بالمنِّ والأذى.

أمّا المن ، فهو أن يتطاول المعطي على من أعطاه بأن يقول : « ألم أعطك » « ألم أحسن إليك » كلّ ذلك استطالة عليه ، وأمّا الأذى فهو واضح.

فهؤلاء - أي المنفقون - غير المتبعين إنفاقهم بالمنّ والأذى ( لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) .

ثمّ إنّه سبحانه يرشد المعوزين بأن يردّوا الفقراء إذا سألوهم بأحد نحوين :

أ : ( قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ) كأن يتلطف بالكلام في ردّ السائلين والاعتذار منهم والدعاء لهم.

ص: 110

ب : ( وَمَغْفِرَةٌ ) لما يصدر منهم من إلحاف أو إزعاج في المسألة.

فالمواجهة بهاتين الصورتين ( خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ) .

وعلى كلّ حال فالمغني هو اللّه سبحانه ، كما يقول : ( وَاللّهُ غَنِيٌّ ) ، أي يغني السائل من سعته ، ولكنّه لأجل مصالحكم في الدنيا والآخرة استقرضكم في الصدقة وإعطاء السائل. ( حَلِيمٌ ) فعليكم يا عباد اللّه بالحلم والغفران لما يبدر من السائل.

ص: 111

سوره البقرة

8. التمثيل الثامن

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) (1).

الرئى من الرؤية ، وسمي المرائي مرائياً ، كأنّه يفعل ليرى غيره ذلك.

والصفوان واحدته صفوانة ، مثل سعدان وسعدانة ، ومرجان ومرجانة ، وهي الحجر الأملس.

و « الوابل » : المطر الشديد الوقع.

و « الصلد » : الحجر الأملس أي الصلب ، و « الصلد » من الأرض ما لا ينبت فيه شيئاً لصلابته.

قد مرّ في التمثيل السابق انّ التلطف بالكلام في رد السائل والاعتذار منه ، والعفو عما يصدر منه من إلحاف وإزعاج ، أفضل من أن ينفق الإنسان ويتبع عمله بالأذى.

وأمّا ما هو سببه ، فقد بيّنه سبحانه في هذا التمثيل ، وذلك بأنّ المن والأذى

ص: 112


1- البقرة : 264.

يبطل الإنفاق السابق ، لأنّ ترتب الأجر على الإنفاق مشروط بترك تعقبه بهما ، فإذا اتبع عمله بأحد الأمرين فقد افتقد العمل شرط استحقاق الأجر.

وبهذا يتبيّن انّ الآية لا تدلّ على حبط الحسنة بالسيئة ، لأنّ معنى الحبط هو إبطال العمل السيّء الثواب المكتوب المفروض ، والآية لا تدلّ عليه لما قلنا من احتمال أن يكون ترتب الثواب على الإنفاق مشروطاً من أول الأمر بعدم متابعته بالمن والأذى في المستقبل ، فإذا تابع عمله بأحدهما فلم يأت بالواجب أو المستحب على النحو المطلوب ، فلا يكون هناك ثواب مكتوب حتى يزيله المنّ والأذى.

وأمّا استخدام كلمة الإبطال ، فيكفي في ذلك وجود المقتضي للأجر وهو الإنفاق ، ولا يتوقف على تحقّق الأجر ومفروضيته على اللّه بالنسبة إلى العبد.

ثمّ إنّ الحبط باطل عقلاً وشرعاً.

أمّا الأوّل فلما قرر في محله من استلزامه الظلم ، لأنّ معنى الحبط انّ مطلق السيئة يذهب الحسنات وثوابها على وجه الإطلاق مع أنّه مستلزم للظلم ، لأنّ من أساء وأطاع وكانت إساءته أكثر - فعلى القول بالإحباط - يكون بمنزلة من لم يحسن.

وإن كان إحسانه أكثر يكون بمنزلة من لم يسئ ، وإن تساويا يكون مساوياً لمن يصدر عنهما (1).

وأمّا شرعاً فلقوله سبحانه : ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) (2).

ص: 113


1- كشف المراد : المقصد السادس ، المسألة السابعة.
2- الزلزلة : 7 - 8.

وإلى هذين الوجهين أشار المحقّق الطوسى بقوله :

والإحباط باطل ، لاستلزامه الظلم ولقوله تعالى : ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ) (1).

ثمّ إنّ العبد بما انّه لا يملك شيئاً إلاّ بما أغناه اللّه وأعطاه ، فهو ينفق من مال اللّه سبحانه ، لأنّه وما في يده ملك لمولاه فهو عبد لا يملك شيئاً إلاّ بتمليكه سبحانه ، فمقتضى تلك القاعدة أن ينفق لله وفي سبيل اللّه ولا يتبع عمله بالمنّ والأذى.

وبعبارة أُخرى : انّ حقيقة العبودية هي عبارة عن حركات العبد وسكناته لله سبحانه ، ومعه كيف يسوّغ له اتّباع عمله بالمن والأذى.

ولذلك يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالمَنِّ وَالأَذَى ) .

ثمّ إنّه سبحانه شبّه أصحاب المن والأذى بالمرائي الذي لا يبتغي بعمله مرضاة اللّه تعالى ، ولا يقصد به وجه اللّه غير انّ المانّ والمؤذي يقصد بعمله مرضاة اللّه ثمّ يتبعهما بما يبطله بالمعنى الذي عرفت ، والمرائي لا يقصد بأعماله وجه اللّه سبحانه فيقع عمله باطلاً من رأس ، ولذلك صحّ تشبيههما بالمرائي مثل تشبيه الضعيف بالقوي.

وأمّا حقيقة التمثيل فتوضيحها بالبيان التالي :

نفترض أرضاً صفواناً أملس عليها تراب ضئيل يخيل لأوّل وهلة أنّها أرض نافعة صالحة للنبات ، فأصابها مطر غزير جرف التراب عنها فتركها صلداً صلباً

ص: 114


1- المصدر نفسه.

أملس لا تصلح لشيء من الزرع ، كما قال سبحانه : ( كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا ) .

فعمل المرائي له ظاهر جميل وباطن رديء ، فالإنسان غير العارف بحقيقة نية العامل يتخيل انّ عمله منتج ، كما يتصور الإنسان الحجر الأملس الذي عليه تراب قليل فيتخيل انّه صالح للنبات ، فعند ما أصابه مطر غزير شديد الوقع ونفض التراب عن وجه الحجر تبين انّه حجر أملس لا يصلح للزراعة ، فهكذا عمل المرائي إذا انكشفت الوقائع ورفعت الأستار تبين انّه عمل رديء عقيم غير ناتج.

ثمّ إنّ المانّ والمؤذي بعد الإنفاق أشبه بعمل المرائي.

ص: 115

سورة البقرة

9. التمثيل التاسع

اشارة

( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (1).

تفسير الآية

« الربوة » : هي التل المرتفع.

و « الطلّ » : المطر الخفيف ، يقال : أطلّت السماء فهي مطلة. وروضة طلّة ندية.

شبّه سبحانه في التمثيل السابق عمل المان والمؤذي بعد الإنفاق والمرائي بعمله بالأرض الصلبة التي عليها تراب يصيبها مطر غزير يكتسح التراب فلا يظهر إلاّ سطح الحجر لخشونته وصلابته ، على عكس التمثيل في هذه الآية حيث إنّها تشبّه عمل المنفق لمرضاة اللّه تبارك وتعالى بجنة خضراء يانعة تقع على أرض مرتفعة خصبة تستقبل النسيم الطلق والمطر الكثير النافع ، وقيد المشبه به ببستان مرتفع عن الأرض ، لأنّ تأثير الشمس والهواء فيه أكمل فيكون أحسن منظراً وأذكى ثمراً ، أمّا الأماكن المنخفضة التي لا تصيبها الشمس في الغالب إلاّ قليلاً فلا تكون كذلك.

ص: 116


1- البقرة : 265.

قال الرازي : إنّ المراد بالربوة الأرض المستوية الجيدة التربة بحيث تربو بنزول المطر عليها وتنمو ، كما قال سبحانه : ( فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ ) .

ويؤيده انّ المثل مقابل الصفوان الذي لا يؤثر فيه المطر.

وعلى كلّ حال فهذا النوع من الأرض ان أصابها وابل أتت أُكلها ضعفين فكان ثمرها مثلي ما كانت تثمر في العادة ، وإن لم يصبها وابل بل أصابها الطل تعطي أُكلها حسب ما يترقّب منها.

فالذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه أشبه بتلك الجنة ذات الحاصل الوافر المفيد والثمين.

ثمّ إنّ قوله سبحانه : ( ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ ) بيان لدوافع الإنفاق وحواجزه وهو ابتغاء مرضاة اللّه أولاً ، وتقوية روح الإيمان في القلب ثانياً ، ولعلّ السرّ في دخول « من » على ( مِّنْ أَنفُسِهِمْ ) مع كونه مفعولاً لقوله ( تَثْبِيتًا ) لبيان انّ هذا المنفق ينفق من نفس قد روضها وثبتها في الجملة على الطاعة حتى سمحت لله بالمال الغزير فهو يجعل من مقاصده في الإنفاق ، تثبيتها على طاعة اللّه وابتغاء مرضاته في المستقبل.

ص: 117

سورة البقرة

10. التمثيل العاشر

اشارة

( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ) (1).

تفسير الآية

ودّ الشيء : أحبه. و « الجنة » هي الشجر الكثير الملتف كالبستان سميت بذلك ، لأنّها تجن الأرض وتسترها وتقيها من ضوء الشمس ونحوه.

و « النخيل » جمع نخل أو اسم جمع.

و « الأعناب » جمع عنب وهو ثمر الكرم ، والقرآن يذكر الكرم بثمره والنخل بشجره لا بثمره.

و « الإعصار » ريح عاصفة تستدير في الأرض ثمّ تنعكس عنها إلى السماء حاملة معها الغبار كهيئة العمود ، جمعه أعاصير ، وخصّ الأعاصير بما فيها نار ، وقال : ( إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ ) ، وفيه احتمالات :

أ : أن يكون المراد الرياح التي تكتسب الحرارة أثناء مرورها على الحرائق

ص: 118


1- البقرة : 266.

فتحمل معها النيران إلى مناطق نائية.

ب : العواصف التي تصاحبها الصواعق وتصيب الأرض وتحيلها إلى رماد.

ج : البرد الشديد الذي يطلق على كلّ ما يتلف الشيء ولو بتجفيف رطوبته.

والمتعين أحد الأوّلين دون الثالث ، وإلاّ لكان له سبحانه أن يقول كمثل ريح صرّ وهو البرد الشديد ، قال سبحانه في صدقات الكفار ونفقاتهم في الدنيا : ( مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (1).

نعم ربما يفسر الصرّ بالسموم الحارة القاتلة (2). وعندئذ تتحد الآيتان في المعنى.

وعلى كلّ حال فالمقصود هو نزول البلاء على هذه الجنة الذي يؤدي إلى إبادتها بسرعة.

ثمّ إنّه سبحانه بينما يقول : ( جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ) الظاهر في كون الجنّة محفوفة بهما ، يقول أيضاً : ( فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ) ، فكيف يمكن الجمع بين الأمرين ؟

والظاهر انّ النخيل والأعناب لمّا كانا أكرم الشجر وأكثرها نفعاً خصّهما بالذكر وجعل الجنة منهما ، وإن كانت محتوية على سائر الأشجار تغليباً لهما على غيرهما.

إلى هنا تم تفسير مفردات الآية.

ص: 119


1- آل عمران : 117.
2- مجمع البيان : 1 / 491.

وأمّا التمثيل فيتركب من مشبه ومشبه به.

أمّا المشبه فهو عبارة عمن يعمل عملاً صالحاً ثمّ يردفه بالسيئة ، كما هو المروي عن ابن عباس ، عندئذٍ يكون المراد من ينفق ويتبع عمله بالمنّ والأذى.

قال الزمخشري : ضربت الآية مثلاً لرجل غني يعمل الحسنات ، ثمّ بعث اللّه له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها (1).

وأمّا المشبه به فهو عبارة عن رجل طاعن في السن لحقته الشيخوخة وله أولاد صغار غير قادرين على العمل وله جنّة محفوفة بالنخيل والأعناب تجري من تحتها الأنهار وله من كلّ الثمرات ، وقد عقد على تلك الجنة آمالاً كبيرة ، وفجأة هبت عاصفة محرقة فأحرقتها وأبادتها عن بكرة أبيها فكيف يكون حال هذا الرجل في الحزن والحسرة والخيبة والحرمان بعد ما تلاشت آماله ، فالمنفق في سبيل اللّه الذي هيأ لنفسه أجراً وثواباً أُخروياً عقد به آماله ، فإذا به يتبع عمله بالمعاصي ، فقد سلط على أعماله الحسنة تلك أعاصير محرقة تبيد كلّ ما عقد عليه آماله.

ص: 120


1- الكشاف : 1 / 299.

سورة البقرة

11. التمثيل الحادي عشر

اشارة

( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (1).

تفسير الآية

« الربا » الزيادة كما في قولهم ربا الشيء يربو إذا زاد ، والربا هو الزيادة على رأس المال ، فلو أقرض أحد أحداً عشرة إلى سنة فأخذ منه في نهاية الأجل أكثر ممّا دفع فهو ربا إذا شرطه في العقد.

و « التخبّط » والخبط بمعنى واحد ، وهو المشي على غير استواء ، يقال : خبط البصير إذا اختلّت جهة مشيه ، ويقال للذى يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه : هو يخبط خبطة عشواء ، أي يضرب على غير اتساق.

وعلى هذا فالمراد من قوله : ( يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ ) أي يخبطه الشيطان ويضربه ، وبالتالي يصرعه.

ص: 121


1- البقرة : 275.

و « السلف » أي الماضي يقال سلف يسلف سلوفاً ، ومنه الأمم السالفة أي الماضية.

وأمّا قوله ( مِنَ المَسِّ ) فالظرف متعلق بيقوم ، أي لا يقومون إلاّ كما يقوم المصروع من المسّ.

وحاصل معنى الآية انّ آكل الربا لا يقوم إلاّ كقيام من يخبطه الشيطان فيصرعه ، فكما أنّ قيامه على غير استواء فهكذا آكل الربا.

فالتشبيه وقع بين قيام آكل الربا وقيام المصروع من خبط الشيطان ، فيطرح هنا سؤالان :

الأوّل : ما هو المراد من أنّ آكل الربا لا يقوم إلاّ كقيام المصروع ؟

الثاني : ما هو المراد من كون الصرع من مس الشيطان ؟

أمّا الأوّل : فقد اختلف فيه كلمة المفسرين على وجوه :

1. ذهب أكثرهم إلى أنّ المراد قيامهم يوم القيامة قيام المتخبطين ، فكأنّ آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً ، وذلك كالعلامة المخصوصة بآكل الربا ، فيعرفه أهل الموقف انّه آكل الربا في الدنيا.

وعلى ضوء هذا فيكون معنى الآية انّهم يقومون مجانين كمن أصابه الشيطان بمسٍّ.

2. انّهم إذا بعثوا من قبورهم خرجوا مسرعين لقوله : ( يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا ) إلاّ آكلة الربا فانّهم يقومون ويسقطون ، لأنّه سبحانه أرباه في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم فهم ينهضون ويسقطون ويريدون الإسراع ولا يقدرون.

ص: 122

ويوَيده ما روي عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : أُسري بي إلى السماء رأيت رجالاً بطونهم كالبيوت فيها الحيّات ترى من خارج بطونهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبرئيل ؟ قال : هؤلاء آكلة الربا.

3. انّ المراد من المسّ ليس هو الجنون ، وإن كان المسّ يستعمل فيه ، بل المراد من تبع الشيطان وأجاب دعوته ، كما هو الحال في قوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ) (1) ، وذلك لأنّ الشيطان يدعو إلى طلب اللّذات والشهوات والاشتغال بغير اللّه ، فهذا هو المراد من مسّ الشيطان ، ومن كان كذلك كان في أمر الدنيا متخبطاً ، فتارة يجرّه الشيطان إلى اتّباع النفس والهوى ، وتارة تجرّه الفطرة إلى الدين والتقوى فتضطرب حياته ويسودها القلق.

فلا شكّ انّ آكل الربا يكون مفرطاً في حب الدنيا متهالكاً عليها ، ولذلك تكون حياته الدنيوية حياة غير منظمة وعلى غير استواء.

وهناك وجه رابع ذكره السيد الطباطبائي وهو :

إنّ الإنسان الممسوس الذي اختلّت قوته المميزة لا يفرق بين الحسن والقبيح ، والنافع والضار ، والخير والشر ، فهكذا حال المرابي في أخذه للربا فانّ الذي تدعو إليه الفطرة أن يعامل بمعاوضة ما عنده من المال الذي يستغني عنه مما عند غيره من المال الذي يحتاج إليه. وأمّا إعطاء المال وأخذ ما يماثله بعينه مع زيادة ، فهذا شيء ينهدم به قضاء الفطرة وأساس المعيشة ، فانّ ذلك ينجر من جانب المرابى إلى اختلاس المال من يد المدين وتجمّعه وتراكمه عند المرابي ، فانّ هذا المال لا يزال ينمو ويزيد ، ولا ينمو إلاّ من مال الغير ، فهو بالانتقاص

ص: 123


1- الأعراف : 201.

والانفصال من جانب ، والزيادة والانضمام من جانب آخر.

وينجر من جانب المدين المؤدي للربا إلى تزايد المصرف بمرور الزمان تزايداً لا يتداركه شيء مع تزايد الحاجة ، وكلما زاد المصرف أي نما الربا بالتصاعد زادت الحاجة من غير أمر يجبر النقص ويتداركه وفي ذلك انهدام حياة المدين.

فالربا يضاد التوازن والتعادل الاجتماعي ويفسد الانتظام الحاكم على هذا الصراط المستقيم الإنساني الذي هدته إليه الفطرة الإلهية.

وهذا هو الخبط الذي يبتلى به المرابي كخبط الممسوس ، فانّ المراباة يضطره أن يختل عنده أصل المعاملة والمعاوضة فلا يفرّق بين البيع والربا ، فإذا دُعي إلى أن يترك الربا ويأخذ بالبيع ، أجاب : انّ البيع مثل الربا لا يزيد على الربا بمزية ، فلا موجب لترك الربا وأخذ البيع ، ولذلك استدل تعالى على خبط المرابين بما حكاه من قولهم : ( إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) (1).

وهناك سؤال : وهو انّه لماذا قيل البيع مثل الربا بل كان عليهم القول بأنّ الربا مثل البيع ، لأنّ الكلام في الربا لا في البيع فوجب عليهم أن يشبهوا الربا بالبيع ، لا على العكس.

والجواب انّهم شبهوا البيع بالربا لأجل المبالغة وهو انّهم جعلوا حلّية الربا أصلاً ، وحلية البيع فرعاً ، فقالوا : إنّ البيع مثل الربا.

هذا كلّه حول الأمر الأوّل.

وأمّا الأمر الثاني وهو كون الجنون معلولاً لوطأة الشيطان ومسّه ، فنقول :

انّ ظاهر الآية انّ الجنون نتيجة تصرف الجن في المجانين ، مع أنّ العلم

ص: 124


1- الميزان : 2 / 411.

الحديث كشف علّة الجنون وهو حدوث اختلالات في الأعصاب الإدراكية ، فكيف يجمع بين مفاد الآية وما عليه العلم الحديث ، وهذا من قبيل تعارض النقل والعقل ؟

وأجاب عنه بعض المفسرين بأنّ هذا التشبيه من قبيل المجاراة مع عامّة الناس في بعض اعتقاداتهم الفاسدة حيث كان اعتقادهم بتصرف الجن في المجانين ، ولا ضير في ذلك ، لأنّه مجرد تشبيه خال عن الحكم حتى يكون خطأً غير مطابق للواقع.

فحقيقة معنى الآية هو انّ هؤلاء الآكلين للربا حالهم حال المجنون الذي يتخبطه الشيطان من المس ، وأمّا كون الجنون مستنداً إلى مس الشيطان فأمر غير ممكن ، لأنّ اللّه سبحانه أعدل من أن يسلط الشيطان على عقل عبده ، أو على عبده المؤمن (1).

وأجاب عنه السيد الطباطبائي بأنّ اللّه تعالى أجلّ من أن يستند في كلامه إلى الباطل ، ولغو القول بأي نحو كان من الاستناد إلاّ مع بيان بطلانه ورده على قائله ، وقد قال تعالى في وصف كلامه : ( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) (2).

وقال تعالى : ( إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالهَزْلِ ) (3).

وأمّا انّ استناد الجنون إلى تصرف الشيطان وذهاب العقل ينافي عدله تعالى ، ففيه انّ الاشكال بعينه مقلوب عليهم في اسنادهم ذهاب العقل إلى الأسباب

ص: 125


1- نقله في الميزان : 2 / 413 ولم يذكر المصدر ؛ وفي تفسير المنار : 3 / 95 ما يقرب من ذلك نقله عن البيضاوي في تفسيره.
2- فصلت : 41 - 42.
3- الطارق : 13 - 14.

الطبيعية فانّها مستندة أخيراً إلى اللّه تعالى مع إذهابها العقل (1).

وهناك كلام آخر للسيد الطباطبائي ولعلّه يقلع الشبهة : انّ استناد الجنون إلى الشيطان ليس على نحو الاستقامة ومن غير واسطة بل الأسباب الطبيعية كاختلال الأعصاب والآفة الدماغية أسباب قريبة وراءها الشيطان ، كما أنّ أنواع الكرامات تستند إلى الملك مع تخلل الأسباب الطبيعية في البين ، وقد ورد نظير ذلك فيما حكاه اللّه عن أيوب علیه السلام إذ قال : ( أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ) (2) ، وإذ قال : ( أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) (3) والضرّ هو المرض وله أسباب طبيعية ظاهرة في البدن ، فنسب ما به من المرض المستند إلى أسبابه الطبيعية إلى الشيطان (4).

ص: 126


1- الميزان : 2 / 412.
2- ص : 41.
3- الأنبياء : 83.
4- الميزان : 2 / 413.

آل عمران

12. التمثيل الثاني عشر

اشارة

( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلا تَكُن مِّنَ المُمْتَرِينَ ) (1).

تفسير الآية

ذكر سبحانه كيفية ولادة المسيح من أُمّه « مريم العذراء » وابتدأ بيانه بقوله : ( إِذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ ... ) وانتهى بقوله : ( قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (2).

وبذلك أثبت انّ المسيح مخلوق لله سبحانه مولود من أُمّه العذراء دون أن يمسّها بشر وانّه علیه السلام آية من آيات اللّه سبحانه ، ولما كانت النصارى تتبنى إلوهية المسيح وانّه يؤلف أحد أضلاع مثلث الألوهية الرب والابن وروح القدس ، وكانت تؤمن انّه ابن الرب ، لأنّه ولد من مريم بلا أب.

ولما احتجوا بهذا الدليل أمام النبي صلی اللّه علیه و آله وافاه الوحي مجيباً على استدلالهم بأنّ

ص: 127


1- آل عمران : 59 - 60.
2- آل عمران : 45 - 47.

كيفية خلق المسيح يضاهي كيفية خلق آدم. حيث إنّ آدم خلق من تراب بلا أب وأُمّ ، فإذا كان هذا أمراً ممكناً ، فمثله المسيح حيث ولد من أُمّ بلا أب فهو أهون بالإمكان.

وبعبارة أُخرى : انّ المسيح مثل آدم في أحد الطرفين ، ويكفي في المماثلة المشاركة في بعض الأوصاف ، ففي الحقيقة هو من قبيل تشبيه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة الشبهة.

إنّ من الأسئلة المثارة حول قوله سبحانه : ( ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) هو انّ الأنسب أن يقول : « ثم قال له كن فكان » فلماذا قال : ( فَيَكُونُ ) لأنّ أمره سبحانه بالتحقّق أمر يلازم تحقّق الشيء دفعة ؟.

والجواب انّه وضع المضارع مكان الماضي وهو أمر جائز ، والنكتة فيه هي تصوير الحالة الماضية فأنّ تكوّن آدم كان أمراً تدريجياً لا أمراً دفعياً.

وبعبارة أُخرى : انّ قوله : ( كُن ) وإن كان دالاً على انتفاء التدريج ولكنّه بالنسبة إليه سبحانه ، وأمّا بالنسبة إلى المخلوق فهو على قسمين : قسم يكون فاقداً له كالنفوس والعقول الكلية ، وقسم يكون أمراً تدريجياً حاصلاً بالنسبة إلى أسبابها التدريجية ، فإذا لوحظ الشيء بالقياس إليه تعالى فلا تدريج هناك ولا مهلة - لانتفاء الزمان والحركة في المقام الربوبي ، ولذا قال سبحانه : ( وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) (1) وأمّا إذا لوحظ بالقياس إلى وجود الممكن وأسبابه فالتدريج أمر متحقق ، وبالجملة فقوله ( فَيَكُونُ ) ناظر إلى الحالة الماضية (2).

وهناك وجه آخر ذكره المحقّق البلاغي عند تفسير قوله سبحانه : ( بَدِيعُ

ص: 128


1- القمر : 50.
2- الميزان : 3 / 212 ؛ المنار : 3 / 319.

السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) .

إنّ قوله : ( فَيَكُونُ ) تفريع على قوله ( يَقُولُ ) وليس جزاءً لقوله تعالى ( كُن ) ، لأنّ الكون بعد الفاء ، هو نفس الكون المأمور به لا جزاءه المترتب عليه ، وتوهم انّه جزاء لذات الطلب أو ملكوت مع الطلب مدفوع ، بأنّه لو صحّ لوجب أن ينصب مع أنّه مرفوع (1).

وعلى كلّ تقدير فالقرآن الكريم يستدل على إبطال إلوهية المسيح بوجوه مختلفة ، منها هو تشبيه ولادة المسيح بآدم. والتمثيل المذكور يتكفّل بيان هذا الأمر أيضاً ، وفي الحقيقة الآية منحلّة إلى حجتين تفي كلّ واحدة منهما بنفي الألوهية عن المسيح.

إحداهما : انّ عيسى مخلوق لله - على ما يعلمه اللّه لا يضل في علمه - خلقة بشر وإن فقد الأب ومن كان كذلك كان عبداً لا رباً.

وثانيهما : انّ خلقته لا تزيد على خلقة آدم ، فلو اقتضى سنخ خلقه أن يقال بإلوهيته بوجه لاقتضى خلق آدم ذلك مع أنّهم لا يقولون بها فيه فوجب أن لا يقولوا بها في عيسى علیه السلام أيضاً لمكان المماثلة.

ويظهر من الآية انّ خلقة عيسى كخلقة آدم خلقة طبيعية كونية وإن كانت خارقة للسنّة الجارية في النسل وهي حاجة الولد في تكوّنه إلى والد (2).

ص: 129


1- آلاء الرحمن : 1 / 120.
2- الميزان : 3 / 212.

آل عمران

13. التمثيل الثالث عشر

اشارة

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (1).

تفسير الآيات

الصرّ : الريح الباردة نحو صرصر ، قال الشاعر :

لا تعدلنّ أتاويين (2) تضربهم

نكباء صرّ بأصحاب المحلات

ونقل الطبرسي عن الزجّاج أنّه قال : الصرّ صوت لهب النار التي كانت في تلك الريح ، وأضاف : ويجوز أن يكون الصرّ صوت الريح الباردة الشديدة.

وعلى كلّ تقدير فالمراد هو الريح السامة التي تهلك الحرث.

والمراد من ( حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ) الذين زرعوا في غير موضع الزراعة

ص: 130


1- آل عمران : 116 - 117.
2- الأتاوي : جمع الإتاوة : الخراج.

أو في غير وقتها ، فهبّت عليه العواصف فذهب أدراج الرياح ، إذ لا شكّ انّ للزمان والمكان تأثيراً بالغاً في نمو الزرع ، فالنسيم الهادئ الذي يهب على الزرع ويلامسه والأرض الخصبة كلها عوامل تزيد في طراوة الزرع ونضارته.

هذا هو المشبه به ، فالكافر إذا أنفق ماله في هذه الحياة الدنيا بغية الانتفاع به ، فهو كمن زرع في غير موضعه أو زمانه ، فلا ينتفع من إنفاقه شيئاً ، فانّ الكفر وما يتبعه من الهوى يبيد إنفاقه ، ولذلك قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا ) .

ص: 131

الأنعام

14. التمثيل الرابع عشر

اشارة

( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (1).

تفسير الآية

نزلت الآية في حمزة بن عبد المطلب وأبي جهل بن هشام ، وذلك انّ أبا جهل آذى رسول اللّه فأخبر بذلك حمزة ، وهو على دين قومه ، فغضب وجاء ومعه قوس فضرب بها رأس أبي جهل وآمن ، وهو المروي عن ابن عباس.

وقيل : انّها نزلت في عمار بن ياسر حين آمن وأبي جهل ، وهو المروي عن أبى جعفر ، ولكن الظاهر انّها عامة في كلّ مؤمن وكافر ، ومع ذلك لا يمنع هذا نزولها في شخصين خاصين.

ففي هذه الآية تمثيلات وتشبيهات جعلتها من قبيل التشبيه المركب نذكرها تباعاً :

1. يقول سبحانه : ( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ) وقد شبّه الكافر ب « الميت » الذي هو مخفف الميّت والمؤمن بالحي.

ص: 132


1- الأنعام : 122.

وليست الآية نسيج وحدها فقد شبّه المؤمن في غير واحد من الآيات بالحي ، والكافر بالميت ، قال سبحانه : ( فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتَى ) (1) ( لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا ) (2) و ( وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ ) (3).

2. يقول سبحانه : ( وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) فقد شبّه القرآن بالنور ، حيث إنّ المؤمن على ضوء القرآن يشق طريق السعادة ، قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ) . (4)

وقال سبحانه : ( مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا ) (5) ، فالقرآن ينوّر الدرب للمؤمن.

3. يقول سبحانه ( كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) ، فالمراد من الظلمة إمّا الكفر أو الجهل ، ويؤيد الأوّل قوله سبحانه : ( اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) (6).

ثمّ إنّه سبحانه شبه الكافر بالذي يمكث في الظلمات لا يهتدي إلى شيء بقوله : ( كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ) ولم يقل : كمن هو في الظلمات ، بل توسط لفظ المثل فيه ، ولعل الوجه هو تبيين انّه بلغ في الكفر والحيرة غاية يضرب به المثل.

هذا هو تفسير الآية على وجه التفصيل.

ص: 133


1- الروم : 52.
2- يس : 70.
3- فاطر : 22.
4- النساء : 174.
5- الشورى : 52.
6- البقرة : 257.

وحاصل الآية : انّ مثل من هداه اللّه بعد الضلالة ومنحه التوفيق لليقين الذي يميز به بين المحق والمبطل ، والمهتدي والضال ، - مثله - من كان ميتاً فأحياه اللّه وجعل له نوراً يمشي به في الناس مستضيئاً به ، فيميز بعضه من بعض.

هذا هو مثل المؤمن ، ولا يصح قياس المؤمن بالباقي على كفره غير الخارج عنه ، الخابط في الظلمات المتحير الذي لا يهتدي سبيل الرشاد.

وفي الحقيقة الآية تشتمل على تشبيهين :

الأوّل : تشبيه المؤمن بالميّت المحيا الذي معه نور.

الثاني : تشبيه الكافر بالميّت الفاقد للنور الباقي في الظلمات ، والغرض انّ المؤمن من قبيل التشبيه الأوّل ، دون الثاني.

ص: 134

الأعراف

15. التمثيل الخامس عشر

اشارة

( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ المَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ) (1).

تفسير الآية

« أقلّ » من الإقلال ، وهو حمل الشيء بأسره.

والنكد : العسر الممتنع من إعطاء الخير ، يقال نكد إذا سئل فبخل ، قال الشاعر :

وأعطي ما أعطيته طيّباً

لا خير في المنكود والناكد

« البلد الطيب » : عبارة عن الأرض الطيب ترابها ، ففي مثلها يخرج الزرع نامياً زاكياً من غير كدِّ ولا عناء ، كلّ ذلك بإذنه سبحانه.

والبلد الخبيث هي الأرض السبخة التي خبث ترابها لا يخرج ريعها إلاّ شيئاً

ص: 135


1- الأعراف : 57 - 58.

قليلاً ، وكأنّها لا تعطي إلاّ شيئاً قليلاً وهو بالعسر.

وتصريف الآيات عبارة عن تكررها.

ذكر سبحانه في الآية الاَُولى بأنّه يرسل الرياح مبشرةً برحمته ، فإذا حملت سحاباً ثقالاً بالماء ساقه سبحانه إلى بلد ميت فتحيا به الأرض وتؤتي ثمراتها.

وعاد سبحانه في الآية الثانية إلى القول بأنّ هطول المطر وسقي الأرض جزء مما يتوقف عليه خروج النبات ، وهناك شرط آخر وهو أن تكون الأرض خصبة صالحة للزراعة دونما إذا كانت خبيثة ، هذا هو حال المشبه به.

وأمّا المشبه فهو انّه سبحانه يُشبه المؤمن بأرض طيبة تلين بالمطر ويحسن نباتها ويكثر ريعها ، كما تشبه قلب الكافر بالأرض السبخة لا تنبت شيئاً ، فقلب المؤمن كالأرض الطيبة وقلب الكافر كالأرض السبخة.

ص: 136

الأعراف

16. التمثيل السادس عشر

اشارة

( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ) (1).

تفسير الآيات

النبأ : الخبر عن الأمر العظيم ومنه اشتقاق النبوة ، أخلد إلى الأرض أي سكن إليها.

السلخ : النزع ، وقوله : ( أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ ) لصق بها ، واللّهث أن يدلع الكلب لسانه من العطش ، واللّهاث حرّ العطش.

هذا هو تفسير مفردات الآية ، وأمّا المضمون فالآية تمثيل يتضمن مشبهاً ومشبهاً به ، أمّا الثاني فقد اختلفت كلمة المفسرين في المراد منه ، فالأكثر على أنّ المراد هو بلعم بن باعوراء الذي كان عالماً من علماء بني إسرائيل ، وقيل من

ص: 137


1- الأعراف : 175 - 177.

الكنعانيين أُوتي علم بعض كتاب اللّه ، ولكنّه كفر به ونبذه وراء ظهره ، فلحقه الشيطان وصار قريناً له وكان من الغاوين الضالين الكافرين.

والإمعان في الآية يعرب عن بلوغ الرجل مقاماً شامخاً في العلم والدراية ، وعلى الرغم من ذلك فقد سقط في الهاوية ، وإليك ما يدل على ذلك في الآية :

أ : لفظ ( نَبَأَ ) حاك عن أنّه كان خبراً عظيماً لا خبراً حقيراً.

ب : قوله : ( الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا ) حاك عن إحاطته بالحجج والبيّنات وعلم الكتب السماوية.

ج : قوله : ( فَانسَلَخَ مِنْهَا ) يدل على أنّ الآيات والعلوم الإلهية كانت تحيط به إحاطة الجلد بالبدن إلاّ انّه خرج منها.

ويؤيد ذلك انّه سبحانه يعبر عن التقوى باللباس ، ويقول : ( وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ) (1).

د : قوله : ( فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ) يدل على أنّ الشيطان كان آيساً من كفره وقد انقطعت صلته به ، لكنّه لما انسلخ من الآيات لحقه الشيطان واتبعه فأخذ يوسوس له كلّ يوم إلى أن جعله من الضالين.

إلى هنا تم تفسير الآية الاَُولى ، وأمّا الآية الثانية فهي تتضمن حقيقة قرآنية ، وهي انّه سبحانه تبارك وتعالى كان قادراً على رفعه وتنزيهه وتقريبه إليه ، ولكنّه لم يشأ ، لأنّ مشيئته سبحانه لا تتعلق بهداية من أعرض عنه وتبع هواه ، إذ كيف يمكن تعلق مشيئته بهداية من أعرض عن اللّه وكذب آياته ، ولذلك يقول :

( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ) أي لرفعناه بتلك الآيات « ولكن ما شئنا » وليس

ص: 138


1- الأعراف : 26.

ذلك للبخل منه سبحانه ، بل لفقدان الأرضية الصالحة ، لأنّه أخلد إلى الأرض ولصق بها ، وكأنّها كناية عن الميل والنزوع إلى التمتع بالملاذ الدنيوية ، ومعه كيف تشمله العناية الربانية.

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى وجه آخر لعدم تعلّق مشيئته بهدايته ، وهو انّ هذا الإنسان بلغ في الضلالة والغواية مرحلة صارت سجية وطبيعة له ، ومزج بها روحه ونفسه وفطرته ، فلا يصدر منه إلاّ التكذيب والإدبار عن آياته ، فلذلك لا يؤثر فيه نصيحة ناصح ولا وعظ واعظ ، ولتقريب هذا الأمر نأتي تمثيلاً في ضمن تمثيل ، ونقول :

( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ) ، وذلك لأنّ اللّهث أثر طبيعي لسجيته فلا يمكن أن يخلّص نفسه منها.

هذا هو المشبه به ، وهو يعرب عن أنّ الهداية والضلالة بيد اللّه تبارك وتعالى ، وقد تعلّقت مشيئته بهداية الناس بشرط أن تتوفر فيه أرضية خصبة تؤهله لتعلّق مشيئته تعالى به ، فمن أخلد إلى الأرض ولصق بها ، أي أخلد إلى المادة والماديات ، فلا تشمله الهداية الإلهية بل هو محكوم بالضلال لكن ضلالاً اختيارياً مكتسباً.

هذا هو حال المشبه به ، وقد عرفت أنّ التمثيل يتضمن تمثيلاً آخر.

وأمّا المشبه فقد اختلفت كلمة المفسرين فيه ، فربما يقال انّ المراد أُمية بن أبي الصلت الثقفي الشاعر ، وكانت قصته انّه قرأ الكتب وعلم أنّ اللّه سبحانه يرسل رسولاً في ذلك الوقت ، ورجا أن يكون هو ذلك الرسول ، فلمّا بعث سبحانه محمداً حسده ومرّ على قتلى بدر فسأل عنهم ، فقيل : قتلوا في حربهم مع النبي ، فقال : لو كان نبياً لما قتل أقرباءه ، وقد ذهب إلى الطائف ومات بها ، فأتت أُخته

ص: 139

الفارعة إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فسألها عن وفاته ، فذكرت له انّه أنشد عند موته :

كل عيش وإن تطاول دهراً *** صائر مرة إلى أن يزولا

ليتني كنت قبل ما قد بدالي *** في قلال الجبال أرعى الوعولا

انّ يوم الحساب يوم عظيم *** شاب فيه الصغير يوماً ثقيلاً

ثمّ قال صلی اللّه علیه و آله لها أنشديني من شعر أخيك فأنشدت :

لك الحمدُ والنعماءُ والفضلُ ربّنا *** ولا شيء أعلى منك جدّاً وأمجدُ

مليكٌ على عرش السّماءِ مهيمنٌ *** لعزّته تعنُو الوجوهُ وتسجدُ

ثمّ أنشدته قصيدته التي يقول فيها :

وقف الناس للحسابِ جميعاً *** فشقيٌّ معذّب وسعيد

والتي فيها :

عند ذي العرش تُعرضونَ عليه *** يعلمُ الجهرَ والسِراءَ الخفيّا

ص: 140

يوم يأتي الرحمنُ وهو رحيم *** إنّه كان وعدُهُ مأتيّا

ربِّ إن تعفُ فالمعافاةُ ظنّي *** وتُعاقِبْ فلم تعاقِب بريّا

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ أخاك آمن شعره ، وكفر قلبه » وأنزل اللّه تعالى الآية (1).

وقيل : انّه أبو عامر بن النعمان بن صيفى الراهب الذي سمّاه النبي الفاسق ، وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوخ ، فقدم المدينة ، فقال للنبي صلی اللّه علیه و آله : ما هذا الذي جئت به ، قال : « جئت بالحنيفية دين إبراهيم » ، قال : فأنا عليها ، فقال صلی اللّه علیه و آله : « لست عليها ولكنّك أدخلت فيها ما ليس منها ».

فقال أبو عامر : أمات اللّه الكاذب منّا طريداً وحيداً ، فخرج إلى أهل الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدّوا السلاح ، ثمّ أتى قيصر وأتى بجند ليخرج النبي صلی اللّه علیه و آله من المدينة ، فمات بالشام طريداً وحيداً.

والظاهر انّ المشبه ليس خصوص هذين الرجلين ، بل كما قال الإمام الباقر علیه السلام : « الأصل في ذلك بلعم ، ثم ضربه اللّه مثلاً لكل مؤثر هواه على هدى اللّه من أهل القبلة » (2).

وفي الآية دلالة واضحة على أنّ العبرة في معرفة عاقبة الإنسان هي أُخريات حياته ، فربما يكون مؤمناً في شبابه ويرتد عن الدين في شيخوخته وهرمه ، فليس

ص: 141


1- مجمع البيان : 2 / 499 - 500.
2- مجمع البيان : 2 / 500.

صلاح الإنسان وفلاحه في عنفوان شبابه دليلاً على صلاحه ونجاته في آخر عمره.

وبذلك يعلم أنّ ترضي القرآن عن المهاجرين والأنصار في قوله سبحانه : ( لَّقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) (1).

ويؤيد ما ذكرناه انّه سبحانه حدّد ظرف الرضا بقوله : ( إِذْ يُبَايِعُونَكَ ) ولا يكون دليلاً على رضاه طيلة حياتهم ، فلو دلّ دليل على زلّة واحد منهم ، فيؤخذ بالثاني جمعاً بين الدليلين.

وقد يظهر مفاد قوله سبحانه : ( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (2).

فانّ الآية دليل على شمول رضى اللّه لهم ، فيؤخذ بالآية مالم يدل دليل قطعي على خلافها ، فلو ثبت بدليل متواتر أو خبر محفوف بالقرينة ارتداد واحد منهم أو صدور معصية كبيرة أو صغيرة ، فيؤخذ بالثاني ، وليس بين الدليلين أي خلاف ، إذ ليس مقام صحابي أو تابعي أعلى من مقام ما جاء في هذه الآية ، أعني من آتاه اللّه سبحانه آياته وصار من العلماء الربانيين ولكن اتبع هواه فانسلخ عنها.

فما ربما يتراءى من إجماع غير واحد من المفسرين بهذه الآيات على عدالة كافة الصحابة فكأنّها غفلة عن مفادها وإغماض عما صدر عن غير واحد من الصحابة من الموبقات والمعاصي واللّه العالم.

ص: 142


1- الفتح : 18.
2- التوبة : 100.

سورة التوبة

17. التمثيل السابع عشر

اشارة

( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (1).

تفسير الآيات

« الضرار » : هو إيجاد الضرر عن عناد.

« الإرصاد » بمعنى الإعداد.

« البنيان » مصدر بنى.

و « التقوى » خصلة من الطاعة يحترز بها عن العقوبة ، والواو فيه مبدلة من الياء لأنّها من وقيت.

« شفا » : شفا البئر وغيره ، جُرفَه ، ويضرب به المثل في القرب من الهلاك.

ص: 143


1- التوبة : 107 - 109.

« الجرف » جرف الوادي جانبه الذي يتحفر أصله بالماء ، وتجرفه السيول فيبقى واهياً.

قال الراغب : يقال للمكان الذي يأكله السيل فيجرفه ، أي يذهب به ، جرف

هار البناء وتهوّر : إذا سقط ، نحو : إنهار.

ذكر المفسرون انّ بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قباء ، وبعثوا إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يأتيهم ، فأتاهم وصلى فيه ، فحسدهم جماعة من المنافقين من بني غنم بن عوف ، فقالوا : نبني مسجداً فنصلي فيه ولا نحضر جماعة محمد وكانوا اثني عشر رجلاً ، وقيل خمسة عشر رجلاً ، منهم : ثعلبة بن حاطب ، ومعتب بن قشير ، ونبتل بن الحرث ، فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قباء ، فلمّا فرغوا منه ، أتوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو يتجهّز إلى تبوك.

فقالوا : يا رسول اللّه إنّا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنّا نحبّ أن تأتينا فتصلّي فيه لنا وتدعو بالبركة.

فقال صلی اللّه علیه و آله : « إنّي على جناح سفر ، ولو قدمنا أتيناكم إن شاء اللّه فصلّينا لكم فيه » ، فلمّا انصرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى تبوك نزلت عليه الآية في شأن المسجد.

إنّ الآية تشير إلى الفرق الشاسع بين من بنى بنياناً على أساس محكم ، ومن بناه على شفا جرف ، فالأوّل يبقى عبر العصور ويحتفظ بكيانه في الحوادث المدمرة ، بخلاف الثاني فانّه سوف ينهار لا محالة بأدنى ضربة.

فالمؤمن هو الذي يعقد إيمانه على قاعدة محكمة وهو الحقّ الذي هو تقوى اللّه ورضوانه ، بخلاف المنافق فانّه يبني إيمانه على أضعف القواعد وأرخاها وأقلّها

ص: 144

بناءً وهو الباطل ، فإيمان المؤمن ودينه من مصاديق قوله : ( َفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ ) ولكن دين المنافق كمن ( أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ ) فلا محالة ينهار به في نار جهنم.

ص: 145

سورة يونس

18. التمثيل الثامن عشر

اشارة

( إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (1).

تفسير الآيات

قوله : ( فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ ) فلو قلنا بأنّ الباء للمصاحبة ، يكون معناه أي اختلط مع ذلك الماء نبات الأرض ، لأنّ المطر ينفد في خلل النبات ، وإن كانت الباء للسببية يكون المراد انّه اختلط بسبب الماء بعض النبات ببعض حيث إنّ الماء صار سبباً لرشده والتفاف بعضه ببعض.

قوله : ( ازَّيَّنَتْ ) أصله تزينت ، فادغمت التاء بالزاى وسكِّنت الزاي فاجلبت لها ألف الوصل.

فقوله : ( أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ ) تعبير رائع حيث جعلت الأرض

ص: 146


1- يونس : 24 - 25.

آخذة زخرفها على التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كلّ لون فاكتستها وتزينّت بغيرها من ألوان الزين.

قوله : ( قَادِرُونَ عَلَيْهَا ) ، أي متمكنون من استثمارها والانتفاع بثبوتها.

قوله : ( أَتَاهَا أَمْرُنَا ) كناية عن نزول بعض الآفات على الجنات والمزارع حيث يجعلها « حصيداً » شبيهاً بما يحصد من الزرع في استأصاله.

قوله : ( كَأَن لَّمْ تَغْنَ ) بمنزلة قوله : كأن لم ينبت زرعها.

قوله : ( دَارِ السَّلامِ ) فهو من أوصاف الجنة ، لأنّ أهلها سالمون من كل مكروه ، بخلاف المقام فانّها دار البلاء.

هذا ما يرجع إلى تفسير مفردات الآية.

وأمّا تفسيرها الجملي ، فنقول :

نفترض أرضاً خصبة رابية صالحة لغرس الأشجار وزرع النبات وقد قام صاحبها باستثمارها من خلال غرس كلّ ما ينبت فيها ، فلم يزل يتعاهدها بمياه الأمطار والسواقي ، فغدت روضة غنّاء مكتظة بأشجار ونباتات متنوعة ، وصارت الأرض كأنّها عروس تزيّنت وتبرجت ، وأهلها مزهوّون بها يظنّون انّها بجهدهم ازدهرت ، وبإرادتهم تزيّنت وانّهم أصحاب الأمر لا ينازعهم فيها منازع. فيعقدون عليها آمالاً طويلة ، ولكن في خضم هذه المراودات يباغتهم أمره سبحانه ليلاً أو نهاراً فيجعل الطري يابساً ، كأنّه لم يكن هناك أي جنة ولا روضة.

هذا هو المشبه به واللّه سبحانه يمثل الدنيا بهذا المثل ، وهو انّ الإنسان ربما يغتر بالدنيا ويعوّل الكثير من الآمال عليها مع سرعة زوالها وفنائها ، وعدم ثباتها واستقرارها.

ص: 147

يقول مؤيد الدين الاصفهاني المعروف بالطغرائي في لاميته المعروفة بلامية العجم :

ترجو البقاء بدار لا ثبات لها *** فهل سمعت بظل غير منتقل

وقد أسماها سبحانه متاع الحياة الدنيا في مقابل الآخرة التي أسماها بدار السلام في الآية التالية ، وقال : ( اللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ ) .

ثمّ إنّه يبدو من كلام الطبرسي انّ هذا التمثيل من قبيل التمثيل المفرد ، فذكر أقوالاً :

أحدها : انّه تعالى شبَّه الحياة الدنيا بالماء فيما يكون به من الانتفاع ثمّ الانقطاع.

وثانيها : انّه شبهها بالنبات على ما وصفه من الاغترار به ثمّ المصير إلى الزوال عن الجبائي وأبي مسلم.

وثالثها : انّه تعالى شبَّه الحياة الدنيا بحياة مقدَّرة على هذه الأوصاف (1).

والحقّ انّه من قبيل الاستعارة التمثيلية حيث يعبر عن عدم الاعتماد والاطمئنان بالدنيا بما جاء في المثل ، وإنّما اللائق بالاعتماد هو دار السلام الذي هو سلام على الإطلاق وليس فيها أي مكروه.

وقد قيّد سبحانه في الآية دار السلام ، بقوله : ( عِندَ رَبِّهِمْ ) للدلالة على قرب الحضور وعدم غفلتهم عنه سبحانه هناك.

ويأتي قريب من هذا المثل في سورة الكهف ، أعني : قوله :

ص: 148


1- مجمع البيان : 3 / 102.

( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا ) (1). وسيوافيك بيانها في محلها.

ويقرب من هذا ما في سورة الحديد ، قال سبحانه :

( اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ) (2).

ص: 149


1- الكهف : 45.
2- الحديد : 20.

سورة هود

19. التمثيل التاسع عشر

اشارة

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) (1).

تفسير الآيات

يصوّر سبحانه الكافر كالأعمى والأصم ، والمؤمن بالبصير والسميع ، ثمّ ينفي التسوية بينهما - كما هو معلوم - غير انّ هذا التمثيل يستقي مما وصف به سبحانه كلا الفريقين بأوصاف خاصة.

فقال في حقّ الكافر : ( مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ) (2).

والمراد كان لهم أسماعاً وأبصاراً ولكنّهم لم يكونوا يستخدمونها في سماع الآيات ورؤية الحقائق ، فنفي الاستطاعة كناية عن عدم استخدام الأسماع ، كما أنّ نفي الأبصار كناية عنه.

ثمّ إنّه سبحانه وصف المؤمن في الآية التالية بأوصاف ثلاثة :

ص: 150


1- هود : 23 - 24.
2- هود : 20.

أ : الإيمان باللّه.

ب : العمل الصالح.

ج : التسليم إلى اللّه حيث قال : ( وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ ) .

فالمؤمن الصالح ثمرة من شجرة الإيمان كما انّ التسليم والانقياد والخضوع والاطمئنان لما وعد اللّه من آثاره أيضاً.

فالمؤمن هو الذي يسمع آياته ويبصرها في سبيل ترسيخ الإيمان في قلبه واثماره.

ثمّ إنّه مثّل الكافر والمؤمن بالتمثيل التالي ، وقال : ( مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) .

أي مثل فريق المسلمين كالبصير والسميع. ومثل فريق الكافرين كالأعمى والأصم ، لأنّ المؤمن ينتفع بحواسه بأعمالها في معرفة المنعم وصفاته وأفعاله ، والكافر لا ينتفع بها فصارت بمنزلة المعدومة.

ثمّ إنّه وصف الوضع بين الأعمى والأصم كما وسطها بين البصير والسميع ، وذلك لإفادة تعدّد التشبيه بمعنى :

أنّ حال الكافر كحال الأعمى.

وحال الكافر أيضاً كحال الأصم.

كما أنّ حال المؤمن كالبصير.

وحاله أيضاً كالسميع.

وحاصل الكلام : انّه لا يستوى البصير والسميع مع الأعمى والأصم ، والمؤمن والكافر أيضاً لا يستويان.

ص: 151

سورة الرعد

20. التمثيل العشرون

اشارة

( لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ ) (1).

تفسير الآية

تقدم الظرف في قوله : ( لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ ) لأجل إفادة الحصر ، ويؤيّده ما بعده من نفي الدعوة عن غيره.

كما أنّ إضافة الدعوة إلى الحقّ من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة ، أي الدعوة الحقّة له ، لأنّ الدعوة عبارة عن توجيه نظر المدعو إلى الداعي ، والإجابة عبارة عن إقبال المدعو إليه ، وكلا الأمرين يختصان باللّه عزّ اسمه. وأمّا غيره فلا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً - وعند ذاك - كيف يمكن أن يجيب دعوة الداعي.

فالنتيجة انّ الدعوة الحقة التي تستعقبها الإجابة هي لله تبارك وتعالى ، فهو حي لا يموت ، ومريد غير مكره ، قادر على كلّ شيء ، غني عمّن سواه.

ص: 152


1- الرعد : 14.

وبذلك يعلم أنّ الدعوة على قسمين : دعوة حقّة ودعوة باطلة ، فالحقة لله ودعوة غيره دعوة باطلة ، أمّا لأنّه لا يسمع ولا يريد ، أو يسمع ولا يقدر. وأشار إلى القسم الباطل بقوله : ( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ ) ، وقد عرفت وجه عدم الاستجابة.

ثمّ إنّه سبحانه استثنى صورة واحدة من عدم الاستجابة ، لكنّه استثناء صوري وهو في الحقيقة تأكيد لعدم الاستجابة ، وقال : ( إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ) .

فدعوة الأصنام والأوثان وطلب الحاجة منهم ، أشبه بحال الظمآن البعيد من الماء كالجالس على حافة البئر والباسط كفه داخل البئر ليبلغ الماء فاه ، مع البون البعيد بينه وبين الماء.

قال الطبرسي : هذا مثل ضربه اللّه لكلّ من عبد غير اللّه ودعاه رجاء أن ينفعه ، فانّ مثله كمثل رجل بسط كفيه إلى الماء من مكان بعيد ليتناوله ويسكن به غلته ، وذلك الماء لا يبلغ فاه لبعد المسافة بينهما ، فكذلك ما كان يعبده المشركون من الأصنام لا يصل نفعها إليهم ولا يستجيب دعاءهم (1).

وربما تفسّر الآية بوجه آخر ، ويقال : لا يستجيبون إلاّ استجابة الماء لمن بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه ، وكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر على نفعهم (2).

والظاهر رجحان الوجه الأوّل ، لأنّ الآلهة بين جماد لا يشعر أو ملك أو جن

ص: 153


1- مجمع البيان : 3 / 284.
2- الكشاف : 2 / 162.

أو روح يشعر ولكن لا يملك شيئاً ، فهذا الوجه يختص بما إذا كان الإله جماداً لا غير.

ثمّ إنّه سبحانه يقول في ذيل الآية : ( وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ ) ، فانّ الضلال عبارة عن الخروج عن الطريق وسلوك ما لا يوصل إلى المطلوب ، ودعاء غيره خروج عن الطريق الموصل إلى المطلوب ، لأنّ الغاية من الدعاء هو إيجاد التوجّه ثمّ الإجابة ، فالآلهة الكاذبة إمّا فاقدة للتوجّه ، وإمّا غير قادرة على الاستجابة ، فأي ضلال أوضح من ذلك.

ص: 154

سورة الرعد

21. التمثيل الواحد والعشرون

اشارة

( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ ) (1).

تفسير الآية

« الوادي » : سفح الجبل العظيم ، المنخفض الذي يجتمع فيه ماء المطر ، ولعل منه اشتقاق الدية ، لأنّه جمع المال العظيم الذي يؤدى عن القتيل.

« القدر » : اقتران الشيء بغيره دون زيادة أو نقصان ، فإذا كانا متساويين فهو القدر ، والقدْر والقَدَرْ لغتان مثل الشبْر والشَبَر.

والاحتمال : رفع الشيء على الظهر بقوة الحامل.

و « الزبد » : هو خبث الغليان ومنه زبد القدر وزبد السيل.

و « الجفاء » ممدوداً يقال : أجفأت القدر بزبدها ، إذا ألقبت زبدها.

و « الإيقاد » : إلقاء الحطب في النار.

ص: 155


1- الرعد : 17.

« والمتاع » ما تمتّع به.

و « الحق » في اللغة هو الأمر الثابت ويقابله الباطل ، فالأوّل بمفهومه الواسع يشمل كلّ موجود أو ناموس ثابت لا يطرأ عليه التحول والتبدل حتى أنّ القوانين الرياضية والهندسية وكثير من المفاهيم الطبيعية إذا كانت على درجة كبيرة من الثبات فهي حقّ لا غبار عليها.

و « المكث » : الكون في المكان عبر الزمان.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الآية تمثل للحق والباطل مثلاً واحداً يستبطن تمثيلات متعددة :

الأوّل : انّ السيل المتدفق من أعالي الجبال الجاري في الوديان يحمل معه في سيره زبداً رابياً عليه ، فالحقّ كماء السيل والباطل الزبد الطافح عليه.

الثاني : انّ المعادن والفلزات المذابة في القدر إذا أوقدت عليها النار ، تذاب ويعلو عليها الخبث ، فالغاية من الإذابة هو فصل المعادن والفلزات النفيسة عن خبثها وزبدها.

وعندئذٍ فالحقّ كالذهب والفضة والمعادن النفيسة والباطل كخبثها وزبدها الطافح.

الثالث : انّ ما له دوام وبقاء ومكث وينتفع به الناس كالماء وما يتخذ للحلية أو المتاع يمثّل الحق ، وما ليس كذلك كزبد السيل وخبث القدر الذي يذهب جفاءً يمثّل الباطل.

وأمّا التفصيل فإليك توضيح الآية :

( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ ) الواقعة في محل الأمطار المختلفة في

ص: 156

السعة والضيق ، والكبر والصغر ( بِقَدَرِهَا ) أي كلّ يأخذ بقدره ، ففيضه سبحانه عام لا يحدد وإنّما التحديد في الآخذ ، فكلّ يأخذ بقدره وحده ، فقدر النبات يختلف عن قدر الحيوان ، وهو عن الإنسان ، فكلّ ما يفاض عليه الوجود إنّما هو بقدر قابليته ، كما أنّ السيل المنحدر من أعالي الجبال مطلق غير محدد ، ولكن يستوعب كل وادٍ من ماء السيل بقدر قابليته وظرفيته.

( فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ) أي طافياً عالياً فوق الماء.

إلى هنا تمّت الإشارة إلى التمثيل الأوّل.

ثمّ إنّ الزبد لا ينحصر بالسيل الجارف بل يوجد طافياً على سطح أنواع الفلزات والمعادن المذابة التي تصاغ منها الحلي للزينة والأمتعة ، كما قال سبحانه ( وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ) .

إلى هنا تمّت الإشارة إلى التمثيل الثاني ، كما قال : ( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الحَقَّ وَالْبَاطِلَ ) أي كذلك يوصف الحقّ والباطل ليأخذ طريقه بين الناس ، ثمّ أشار إلى التمثيل الثالث وهو انّ من سمات الحق بقاءه وانتفاع الناس به ( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ) حيث إنّ زبد السيل وزبد ما يوقدون عليه ينطفئ بعد مدة قصيرة كأن لم يكن شيئاً مذكوراً فيذهب جفاءً باطلاً متلاشياً.

( وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ) فانّ الماء الخالص أو المعادن الخالصة التي فيها انتفاع الناس يمكث في الأرض.

ثمّ إنّه سبحانه ختم الآية بقوله : ( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ ) وقد مرّ في المقدمات معنى ضرب المثل ، وقلنا انّ المراد هو وصف حال المشبه وبيانه.

هذا ما يرجع إلى تفسير ظاهر الآية ، لكن الآية من غرر الآيات القرآنية التي

ص: 157

تبحث عن طبيعة الحقّ والباطل وتكونهما وكيفية ظهورهما والآثار المترتبة عليهما ، ولا بأس بالإشارة إلى ما يمكن الاستفادة من الآية.

1. انّ الإيمان والكفر من أظهر مصاديق الحق والباطل ، ففي ظل الإيمان باللّه تبارك وتعالى حياة للمجتمع وإحياء للعدل ، والعواطف الإنسانية ، فالأمّة التي لم تنل حظها من الإيمان يسودها الظلم والأنانية وانفراط الأواصر الإنسانية التي تعصف بالمجتمع الإنساني إلى الهاوية.

2. انّ الزبد أشبه بالحجاب الذي يستر وجه الحقّ مدة قصيرة ، فسرعان ما يزول وينطفئ ويظهر وجه الحقيقة أي الماء والفلزات النافعة.

فهكذا الباطل ربما يستر وجه الحقيقة من خلال الدعايات المغرضة ، ولكنّه لا يمكث طويلاً فيزول كما يزول الزبد ، يقول سبحانه : ( وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) (1).

وقال تعالى : ( وَيَمْحُ اللّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ) (2).

3. انّ الماء والفلزات منبع البركات والخيرات له ، والزبد خبث لا ينتفع منه ، فهكذا الحق والباطل ، فما هو الحقّ كالإيمان والعدل ينتفع به الناس ، وأمّا الباطل كالكفر والظلم لا ينتفع منه الناس.

4. انّ الماء فيض مادي يفيضه اللّه سبحانه إلى السماء على الوديان والصحارى ، فكل يأخذ بمقدار سعته ، فالوادي الكبير يستوعب ماء كثيراً بخلاف الوادي الصغير فلا يستوعب سوى قليلاً من الماء وهكذا الحال في الأرواح والنفوس فكل نفس تنال حظها من المعارف الإلهية حسب قابليتها ، فهناك نفس

ص: 158


1- الإسراء : 81.
2- الشورى : 24.

كعرش الرحمن ونفس أُخرى من الضيق بمكان يقول سبحانه : ( وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ) .

وفي الحديث النبوي : « الناس معادن كمعادن الذهب والفضة » (1).

وقال أمير المؤمنين علیه السلام لكميل : « إنّ هذه القلوب أوعية وخيرها أوعاها » (2).

فالمعارف الإلهية كالسيل المتدفق والقلوب كالأودية المختلفة.

ويمكن أن يكون قوله ( بِقَدَرِهَا ) إشارة إلى نكتة أُخرى ، وهي انّ الماء المتدفق هو ماء الحياة الذي ينبت به الزرع والأشجار المثمرة في الأراضي الخصبة. دون الأراضي السبخة التي لا ينبت فيها إلاّ الأشواك.

5. انّ الماء يمكث في الأرض وينفذ في أعماقها ويبقى عبر القرون حتى ينتفع به الناس من خلال استخراجه ، فهكذا الحقّ فهو ثابت لا يزول ، ودائم لا يضمحل ، على طرف النقيض من الباطل ، فللحق دولة وللباطل جولة.

6. انّ الباطل ينجلي بأشكال مختلفة ، كما أنّ الزبد يطفو فوق الماء والمعدن المذاب بأنحاء مختلفة ، فالحقّ واحد وله وجه واحد ، أمّا الباطل فله وجوه مختلفة حسب بعده من الحقّ وتضاده معه.

7. انّ الباطل في وجوده رهن وجود الحقّ ، فلولا الماء لما كان هناك زبد ، فالآراء والعقائد الباطلة تستمد مقوماتها من العقائد الحقّة من خلال إيجاد تحريف في أركانها وتزييفها ، فلو لم يكن للحقّ دولة لما كان للباطل جولة ، وإليه يشير سبحانه : ( فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ) .

ص: 159


1- بحار الأنوار : 4 / 405.
2- نهج البلاغة : قسم الحكم ، برقم 127.

8. انّ في تشبيه الحقّ بالماء والباطل بالزبد إشارة لطيفة إلى أنّ الباطل كالزبد ، فكما أنّه ينعقد في الماء الذي له هيجان واضطراب والذي لا يجري على منوال هادئ ، فهكذا الباطل إنّما يظهر في الأوضاع المضطربة التي لا يسودها أي نظام أو قانون.

9. انّ حركة الباطل وإن كانت مؤقتة إنّما هي في ظل حركة الحقّ ونفوذه في القلوب ، فالباطل يركب أمواج الحق بغية الوصول إلى أهدافه ، كما أنّ الزبد يركب أمواج الماء ليحتفظ بوجوده.

10. انّ الباطل بما انّه ليس له حظ في الحقيقة ، فلو خلص من الحقيقة فليس بإمكانه أن يظهر نفسه ، ولو في فترة قصيرة ، ولكنّه يتوسم من خلال مزجه بالحقّ حتى يمكن له الظهور في المجتمع ، ولذلك فالزبد يتكون من أجزاء مائية ، فلو خلص منها لبطل ، فهكذا الباطل في الآراء والعقائد.

قال أمير المؤمنين علي علیه السلام :

« فلو انّ الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين ، ولو انّ الحقّ خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين ، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ، ومن هذا ضغث فيمزجان ، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه وينجو الذين سبقت لهم من اللّه الحسنى » (1).

***

ثمّ إنّ بعض من كتب في أمثال القرآن جعل قوله سبحانه : ( مَّثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ

ص: 160


1- نهج البلاغة ، الخطبة 49.

اتَّقَوا وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ) (1). من الأمثال.

ولكن الظاهر انّه ليس من باب التمثيل ، لأنّه فرع وجود مشبه ومشبه به مع أنّ الآية هي بصدد بيان جزاء المتقين والكافرين ، فقال : إنّ جزاء المتقين هو انّهم يسكنون الجنة التي تجري من تحتها الأنهار وأُكلها وظلها دائم.

وهذا بخلاف الكافرين فانّ عقباهم النار ، وليست هاهنا أُمور أربعة بل لا تتجاوز الاثنين ، وعلى ذلك فيكون المثل بمعنى الوصف ، أي حال الجنة ووصفها التي وعد المتقون هو هذا.

نعم ذكر الطبرسي وجهاً ربما يصح به عدّ الآية مثلاً ، فلاحظ (2).

ص: 161


1- الرعد : 35.
2- مجمع البيان : 3 / 296.

سورة إبراهيم

22. التمثيل الثاني والعشرون

اشارة

( مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ) (1).

تفسير الآية

« العصف » : شدة الريح ، يوم عاصف أي شديد الريح ، وإنّما جعل العصف صفة لليوم مع أنّه صفة للريح لأجل المبالغة ، وكأنّ عصف الريح صار بمنزلة جعل اليوم عاصفاً ، كما يقال : ليل غائم ويوم ماطر.

انّه سبحانه يشبّه عمل الكافرين في عدم الانتفاع به برماد في مهب الريح العاصف ، فكما لا يقدر أحد على جمع ذلك الرماد المتفرق ، فكذلك هؤلاء الكفار لا يقدرون مما كسبوا على شيء فلا ينتفعون بأعمالهم البتة.

وقال سبحانه في آية أُخرى : ( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ) (2).

والمراد من أعمالهم ما يعد صالحاً في نظر العرف كصلة الأرحام وعتق الرقاب

ص: 162


1- إبراهيم : 18.
2- الفرقان : 23.

وفداء الأسارى وإغاثة الملهوفين ، لأنّهم بنوا أعمالهم على غير معرفة اللّه والإيمان به فلا يستحقون شيئاً عليه.

وأمّا الأعمال التي تعد من المعاصي الموبقة ، فهي خارجة عن مصبّ الآية لوضوح حكمها. والآية دليل على أنّ الكافر لا يثاب بأعماله الصالحة يوم القيامة إذا أتى بها لغير وجه اللّه.

نعم لو أتى بها طلباً لرضاه ورضوانه فلا غرو في أن يثاب به ويكون سبباً لتخفيف العذاب.

ص: 163

سورة إبراهيم

23. التمثيل الثالث والعشرون

اشارة

( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) (1).

تفسير الآيات

انّه سبحانه تبارك وتعالى مثل للحق والباطل ، أو الكفر والإيمان بتمثيلات مختلفة ، وقد جاء التمثيل في هذه الآية بأنّ مثل الإيمان كشجرة لها الصفات التالية :

أ : انّها طيبة : أي طاهرة ونظيفة في مقابل الخبيثة ، فانّ الشجر على قسمين : منها ما هو طيب الثمار كالتين والنخل والزيتون وغيرها ، ومنها ما هو خبيث الثمار كالحنظل.

ب : أصلها ثابت ، أي لها جذور راسخة في أعماق الأرض لا تزعزعها العواصف الهوجاء ولا الأمواج العاتية.

ج : فرعها في السماء ، أي لها أغصان مرتفعة ، فهي بجذورها الراسخة تحتفظ بأصلها وبفروعها في السماء وتنتفع من نور الشمس والهواء والماء.

ص: 164


1- إبراهيم : 24 - 25.

وهذه الفروع والأغصان من الكثرة بحيث لا يزاحم أحدها الآخر ، كما أنّها لا تتلوث بما على سطح الأرض.

د : ( تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ ) أي في كلّ فصل وزمان ، لا بمعنى كلّ يوم وكل شهر حتى يقال بأنّه ليس على وجه البسيطة شجرة مثمرة من هذا النوع.

وبعبارة أُخرى : انّ مثل هذه الشجرة لا تبخس في عطائها ، بل هي دائمة الأثمار في كل وقت وقّته اللّه لاثمارها.

هذا حال المشبه به ، وأمّا حال المشبه ، فقد اختلفت كلمتهم إلى أقوال لا يدعمها الدليل ، والظاهر انّ المراد من المشبه هو الاعتقاد الحقّ الثابت ، أعني التوحيد والعدل وما يلازمهما من القول بالمعاد.

فهذه عقيدة ثابتة طيبة لا يشوبها شيء من الشرك والضلال ولها ثمارها في الحياتين.

والذي يدل على ذلك هو انّه سبحانه ذكر في الآية التالية ، قوله : ( يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) (1) ، وهذا القول الثابت عبارة عن العقيدة الصالحة التي تمثلها كلمة التوحيد والشهادة بالمعاد وغيرهما ، قال السيد الطباطبائي :

القول بالوحدانية والاستقامة عليه ، هو حقّ القول الذي له أصل ثابت محفوظ عن كلّ تغير وزوال وبطلان ، وهو اللّه عزّ اسمه أو أرض الحقائق ، وله فروع نشأت ونمت من غير عائق يعوقه عن ذلك من عقائد حقة فرعية وأخلاق زاكية وأعمال صالحة يحيا بها المؤمن حياته الطيبة ويعمر بها العالم الإنساني حق

ص: 165


1- إبراهيم : 27.

عمارته ، وهي التي تلائم سير النظام الكونى الذي أدى إلى ظهور الإنسان بوجوده المنظور على الاعتقاد الحق والعمل الصالح (1).

ثمّ إنّه سبحانه ختم الآية بقوله : ( وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ، أي ليرجعوا إلى فطرتهم فيتحقّقوا من أنّ السعادة رهن الاعتقاد الصحيح المثمر في الحياتين.

وبذلك يعلم انّ ما ذكره بعض المفسرين بأنّ المراد كلمة التوحيد لا يخالف ما ذكرنا ، لأنّ المراد هو التمثل بكلمة التوحيد لا التلفظ بها وحده حتى أنّ قوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (2) تلا يراد منه التحقّق بقوله ( رَبُّنَا اللّهُ ) لا التلفظ بها ، وقد أشار سبحانه إلى العقيدة الصحيحة ، بقوله : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (3).

فالكلم الطيّب هو العقيدة ، والعمل الصالح يرفع تلك العقيدة.

وبذلك يعلم أنّ كلّ عقيدة صحيحة لها جذور في القلوب ، ولها فروع وأغصان في حياة الإنسان ولهذه الفروع ثمار ، فالاعتقاد بالواجب العادل الحكيم المعيد للإنسان بعد الموت يورث التثبت في الحياة والاجتناب عن الظلم والعبث والفساد إلى غير ذلك من العقائد الصالحة التي لها فروع.

إلى هنا تمّ المثل الأوّل للمؤمن والكافر أو للإيمان والكفر.

ص: 166


1- الميزان : 12 / 52.
2- الأحقاف : 13.
3- فاطر : 10.

وربما يقال : الرجال العظام من المؤمنين هم كلمة اللّه الطيبة ، وحياتهم أصل البركة ، ودعوتهم توجب الحركة ، آثارهم وكلماتهم وأقوالهم وكتبهم وتلاميذهم وتاريخهم ... وحتى قبورهم جميعها ملهمة وحيّة ومربّية.

ولكن سياق الآيات لا يؤيده ، لأنّه سبحانه يفسر الكلمة الطيبة بما عرفت ، أعني قوله : ( يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) .

والمراد من القول الثابت هو الكلمة الطيبة ، وقلب المؤمن هو الأرض الطيبة التي ترسخ فيها جذور تلك الشجرة.

ص: 167

سورة إبراهيم

24. التمثيل الرابع والعشرون

اشارة

( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ ) (1).

تفسير الآية

مثّل سبحانه تبارك وتعالى للعقيدة الصالحة بالمثل السابق ومقتضى الحال أن يمثل للعقيدة الباطلة بضد المثل السابق ، فهي على طرف النقيض مما ذكر في الآية السابقة ، وإليك البيان :

فالكفر كشجرة لها هذه الأوصاف :

أ : انّها خبيثة مقابلة الطيبة ، أي لا يطيب ثمارها كشجرة الحنظل.

ب : ( اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ ) في مقابل قوله ( أَصْلُهَا ثَابِتٌ ) وحقيقة الاجتثاث هي اقتلاع الشيء من أصله ، أي اقتطعت واستؤصلت واقتلعت جذورها من الأرض.

ج : ( مَا لَهَا مِن قَرَارٍ ) أي ليس لتلك الشجرة من ثبات ، فالريح تنسفها وتذهب بها ، وبالتالي ليس لها فروع وأغصان أو ثمار.

ص: 168


1- إبراهيم : 26.

هذا هو المشبه به ، وأمّا المشبه فهو عبارة عن العقيدة الضالة الكافرة التي لا تعتمد على برهان ولا دليل ، يزعزعها أدنى شبهة وشك.

فينطبق صدر الآية التالية على التمثيل الأوّل ، وذيله على التمثيل التالي ، أعني : قوله : ( يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) هذا هو المنطبق على التمثيل الأوّل.

وأمّا المنطبق على التمثيل الثاني فهو قوله : ( وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ ) أي يضل أهل الكتاب بحرمانهم من الهداية ، وذلك لأجل قصورهم في الاستفادة عن الهداية العامة التي هي متوفرة لكل إنسان ، أعني : الفطرة ودعوة الأنبياء.

وقوله : ( يَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ ) بمعنى انّه تعلّقت مشيئته بتثبيت المؤمنين وتأييدهم وإضلال الظالمين وخذلانهم ، ولم تكن مشيئته عبثاً وإنّما نابعة من حكمة بالغة.

ص: 169

سورة إبراهيم

25. التمثيل الخامس والعشرون

اشارة

( وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ ) (1).

تفسير الآيات

إنّ الآية تمثل حال قوم شاهدوا نزول جزء من العذاب والبلاء فعادوا يظهرون الندم على أعمالهم البغيضة ويطلبون الإمهال حتى يتلافوا ما فاتهم من الإيمان والعمل الصالح ، كما يحكي عنه سبحانه ، ويقول : ( وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ ) أي مشاهدة نزول العذاب في الدنيا بشهادة استمهالهم ، كما في قوله تعالى : ( فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ) .

فيرد دعوتهم بأنّ هذا الطلب ليس طلباً صادقاً وإنّما ألجأهم إليه رؤية

ص: 170


1- إبراهيم : 44 - 46.

العذاب.

فيخاطبهم سبحانه بقوله : ( أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ ) .

وعلى ما ذكرنا يكون مفاد الآية : حلفتم قبل نزول العذاب بأنّه ليس لكم زوال من الراحة إلى العذاب ، وظننتم انّكم بما تمتلكون من القوة والسطوة أُمّة خالدة مالكة لزمام الأمور ، فلماذا تستمهلون ، ثمّ يخاطبهم بجواب آخر وهو قوله : ( وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ ) أي سكنتم ديار من كذب الرسل فأهلكهم اللّه وعرفتم ما نزل بهم من البلاء والهلاك والعذاب كقوم عاد وثمود ، وضربنا لكم الأمثال وأخبرناكم بأحوال الماضين لتعتبروا فلم تتعظوا.

وعلى ذلك فالمشبه به هو حال الأمم الهالكة بأفعالهم الظالمة.

والمشبه هو الأُمم اللاحقة لهم الذين رأوا العذاب فاستمهلوا الأجل وندموا ولات حين مناص.

ص: 171

النحل

26. التمثيل السادس والعشرون

اشارة

( وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ * وَيَجْعَلُونَ للهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) (1).

تفسير الآيات

إنّ اللّه سبحانه هو الواجب الغني عن كل من سواه ، قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيدُ ) (2) فلا يصحّ وصفه بما يستشمُّ منه الفقر والحاجة ، لكن المشركين غير العارفين باللّه كانوا يصفونه بصفات فيها وصمة الفقر والحاجة ، وقد حكاها سبحانه في غير واحد من الآيات ، فقال : ( وَجَعَلُوا للهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ للهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) (3).

ص: 172


1- النحل : 56 - 60.
2- فاطر : 15.
3- الأنعام : 136.

فقد أخطأوا في أمرين :

أ : فرز نصيب لله من الحرث والأنعام ، وكأنّه سبحانه فقير يجعلون له نصيباً ممّا يحرثون ويربّون من أنعامهم.

ب : الجور في التقسيم والقضاء ، فيعطون ما لله إلى الشركاء دون العكس ، وما هذا إلاّ لجهلهم بمنزلته سبحانه وأسمائه وصفاته.

وقد أشار إلى ما جاء تفصيله في سورة الأنعام على وجه موجز في المقام ، وقال : ( وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ ) .

ونظير ما سبق انّهم كانوا يبغضون البنات ويجعلونها لله ، ويحبون البنين ويجعلونهم لأنفسهم ، وإليه يشير سبحانه بقوله : ( وَيَجْعَلُونَ للهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ ) والمراد من الموصول في ( مَّا يَشْتَهُونَ ) هو البنون ، وبذلك تبيّن معنى قوله سبحانه : ( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ ) أي انّ المشركين المنكرين للآخرة يصفونه سبحانه بصفات السوء التي يستقبحها العقل ويذمّها ، وقد عرفت كيفية وصفهم له فوصفوه عند التحليل بالفقر والحاجة والنقص والإمكان ، واللّه سبحانه هو الغني المطلق ، فهو أعلى من أن يوصف بأمثال السوء ، ولكن الموحّد يصفه بالكمال كالحياة والعلم والقدرة والعزّة والعظمة والكبرياء ، واللّه سبحانه عند المؤمنين ( هُوَ المَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللّهُ الخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) (1) ويقول سبحانه : ( وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي

ص: 173


1- الحشر : 23 - 24.

السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) (1) وقال : ( لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) (2).

ومنه يظهر جواب سؤال طرحه الطبرسي في « مجمع البيان » ، وقال : كيف يمكن الجمع بين قوله سبحانه ( وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى ) وقوله : ( فَلا تَضْرِبُوا للهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (3).

والجواب انّ المراد من ضرب الأمثال هو وصفه بما يدل على فقره وحاجته أو تشبيهه بأُمور مادية ، وقد تقدم انّ المشركين جعلوا له نصيباً من الحرث والأنعام ، كما جعلوا الملائكة بناتاً له ، يقول سبحانه : ( وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا ) (4) ، ويقول سبحانه : ( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَبًا ) (5). إلى غير ذلك من الصفات التي يتنزه عنها سبحانه ، فهذا النوع من التمثيل أمر محظور ، وهو المراد من قوله ( فَلا تَضْرِبُوا للهِ الأَمْثَالَ ) .

وأمّا التمثيل لله سبحانه بما يناسبه كالعزّة والكبرياء والعلم والقدرة إلى غير ذلك ، فقد أجاب عليه القرآن ولم ير فيه منعاً وحظراً ، بشهادة انّه سبحانه بعد هذا الحظر أتى بتمثيلين لنفسه ، كما سيتضح في التمثيل الآتي.

وربما يذكر في الجواب بأنّ الأمثال في الآية جمع « المِثْل » بمعنى « الند » ، فوزان قوله ( لا تَضْرِبُوا للهِ الأَمْثَالَ ) كوزان قوله : ( فَلا تَجْعَلُوا للهِ أَندَادًا ) (6) ، ولكنّه معنى بعيد ، فانّ المثل بفتح العين يستعمل مع الضرب ، دون المثل بسكون

ص: 174


1- الروم : 27.
2- طه : 8.
3- النحل : 74.
4- الزخرف : 19.
5- الصافات : 158.
6- البقرة : 22.

العين بمعنى الند فلم يشاهد اقترانه بكلمة الضرب.

ويقرب ممّا ذكرنا كلام الشيخ الطبرسي حيث يقول :

إنّ المراد بالأمثال الأشباه ، أي لا تشبّهوا اللّه بشيء ، والمراد بالمثل الأعلى هنا الوصف الأعلى الذي هو كونه قديماً قادراً عالماً حياً ليس كمثله شيء.

وقيل إنّ المراد بقوله : ( المَثَلُ الأَعْلَى ) : المثل المضروب بالحق ، وبقوله : ( فَلا تَضْرِبُوا للهِ الأَمْثَالَ ) : الأمثال المضروبة بالباطل (1).

وفي الختام نود أن نشير إلى نكتة ، وهي انّ عدّ قوله سبحانه ( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) من قبيل الأمثال القرآنية لا يخلو من غموض ، لأنّ الآية بصدد بيان نفي وصفه بصفات قبيحة سيئة دون وصفه بصفات عليا فأين التمثيل ؟

إلاّ أن يقال : إنّ التشبيه ينتزع من مجموع ما وصف به المشركون ، حيث شبّهوه بإنسان له حاجة ماسّة إلى الزرع والأنعام وله بنات ونسبة مع الجن إلى غير ذلك من أمثال السوء ، فالآية بصدد ردّ هذا النوع من التمثيل ، وفي الحقيقة سلب التمثيل ، أو سوق المؤمن إلى وصفه سبحانه بالأسماء الحسنى والصفات العليا.

ص: 175


1- مجمع البيان : 3 / 367.

النحل

27. التمثيل السابع والعشرون

اشارة

( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ * فَلا تَضْرِبُوا للهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ * ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (1).

تفسير الآيات

ندّد سبحانه بعمل المشركين الذين يعبدون غير اللّه سبحانه ، بأنّ معبوداتهم لا تملك لهم رزقاً ولا نفعاً ولا ضراً ، فكيف يعبدونها مع أنّها أشبه بجماد لا يرجى منها الخير والشر ، وإنّما العبادة للإله الرازق المعطى المجيب للدعوة ؟

هذا هو المفهوم من الآية الأُولى.

ثمّ إنّه سبحانه يمثّل لمعبود المشركين والمعبود الحق بالتمثيل التالي :

افرض مملوكاً لا يقدر على شيء ولا يملك شيئاً حتى نفسه ، فهو بتمام معنى الكلمة مظهر الفقر والحاجة ، ومالكاً يملك الرزق ويقدر على التصرف فيه ، فيتصرف في ماله كيف شاء وينعم كيف شاء. فهل هذان متساويان ؟ كلاّ.

ص: 176


1- النحل : 73 - 75.

وعلى ضوء ذلك تمثّل معبوداتهم الكاذبة مثل العبد الرق المملوك غير المالك لشيء ، ومثله سبحانه كمثل المالك للنعمة الباذل لها المتصرف فيها كيف شاء.

وذلك لأنّ صفة الوجود الإمكاني - أي ما سوى اللّه - نفس الفقر والحاجة لا يملك شيئاً ولا يستطيع على شيء.

وأمّا اللّه سبحانه فهو المحمود بكلّ حمد والمنعم لكلّ شيء ، فهو المالك للخلق والرزق والرحمة والمغفرة والإحسان والإنعام ، فله كلّ ثناء جميل ، فهو الربّ ودونه هو المربوب ، فأيّهما يصلح للخضوع والعبادة ؟

ويدل على ما ذكرنا انّه سبحانه حصر الحمد لنفسه ، وقال : الحمد لله أي لا لغيره ، فالحمد والثناء ليس إلاّ لله سبحانه ، ومع ذلك نرى صحة حمد الآخرين بأفعالهم المحمودة الاختيارية ، فنحمد المعطي بعطائه والمعلم لتعليمه والوالد لما يقوم به في تربية أولاده.

وكيفية الجمع انّ حمد هؤلاء تحميد مجازي ، لأنّ ما بذله المنعم أو المعلم أو الوالد لم يكن مالكاً له ، وإنّما يملكه سبحانه فهو أقدرهم على هذه الأعمال ، فحمد هؤلاء يرجع إلى حمده وثنائه سبحانه ، ولذلك صح أن نقول : إنّ الحمد منحصر باللّه لا بغيره. ولذلك يقول سبحانه في تلك الآية : ( الحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) أي الشكر لله على نعمه ، يقول الطبرسي : وفيه إشارة إلى أنّ النعم كلّها منه (1).

ص: 177


1- مجمع البيان : 3 / 375.

النحل

28. التمثيل الثامن والعشرون

اشارة

( وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (1).

تفسير الآية

كان التمثيل السابق يبيّن موقف الآلهة الكاذبة بالنسبة إلى العبادة والخضوع وموقفه تبارك وتعالى حيالها ، ولكن هذا التمثيل جاء لبيان موقف عبدة الأصنام والمشركين وموقف المؤمنين والصادقين ، فيشبّه الأوّل بالعبد الأبكم الذي لا يقدر على شيء ، ويشبّه الآخر بإنسان حرّ يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم.

نفترض عبداً رقاً له هذه الصفات :

أ : أبكم لا ينطق وبالطبع لا يسمع لما في الملازمة بين البكم وعدم السماع ، بل الأوّل نتيجة الثاني ، فإذا عطل جهاز السمع يسري العطل إلى اللسان أيضاً ، لأنّه إذا فقد السمع فليس بمقدوره أن يتعلم اللغة.

ب : عاجز لا يقدر على شيء ، ولو قلنا بإطلاق هذا القيد فهو أيضاً لا

ص: 178


1- النحل : 76.

يبصر ، إذ لو أبصر لا يصح في حقّه انّه لا يقدر على شيء.

ج : ( كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ ) : أي ثقل ووبال على وليّه الذي يتولّى أمره.

د : ( أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ ) لعدم استطاعته أن يجلب الخير ، فلا ينفع مولاه ، فلو أرسل إلى أمر لا يرجع بخير.

فهذا الرق الفاقد لكلّ كمال لا يرجى نفعه ولا يرجع بخير.

وهناك إنسان حرٌّ له الوصفان التاليان :

أ : يأمر بالعدل.

ب : وهو على صراط مستقيم.

أمّا الأوّل ، فهو حاك عن كونه ذا لسان ناطق ، وإرادة قوية ، وشهامة عالية يريد إصلاح المجتمع ، فمثل هذا يكون مجمعاً لصفات عليا ، فليس هو أبكماً ولا جباناً ولا ضعيفاً ولا غير مدرك لما يصلح الأمة والمجتمع. فلو كان يأمر بالعدل فهو لعلمه به فيكون معتدلاً في حياته وعبادته ومعاشرته التي هي رمز الحياة.

وأمّا الثاني : أي كونه على صراط مستقيم ، أي يتمتع بسيرة صالحة ودين قويم.

فهذا المثل يبيّن موقف المؤمن والكافر من الهداية الإلهية ، وقد أشار سبحانه إلى مغزى هذا التمثيل في آية أُخرى ، وقال : ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (1).

هذا التفسير مبني على أنّ التمثيل بصدد بيان موقف الكافر والمؤمن غير انّ هناك احتمالاً آخر ، وهو انّ التمثيل تأكيد للتمثيل السابق وهو تبيين موقف الآلهة الكاذبة والإله الحق.

ص: 179


1- يونس : 35.

النحل

29. التمثيل التاسع والعشرون

اشارة

( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) (1).

تفسير الآيات

التوكيد : التشديد ، يقال أوكدها عقدك ، أي شدّك ، وهي لغة أهل الحجاز و « الأنكاث » : الانقاض ، وكلّ شيء نقض بعد الفتح ، فقد انكاث حبلاً كان أو غزلاً.

و « الدخل » ما أُدخل في الشيء على فساد ، وربما يطلق على الخديعة ، وإنّما استعمل لفظ الدخل في نقض العهد ، لأنّه داخل القلب على ترك البقاء ، وقد نقل عن أبي عبيدة ، انّه قال : كلّ أمر لم يكن صحيحاً فهو دخل ، وكلّ ما دخله عيب فهو مدخول.

هذا ما يرجع إلى تفسير لغات الآية وجملها.

ص: 180


1- النحل : 91 - 92.

وأمّا شأن نزولها فقد نقل عن الكلبي أنّها امرأة حمقاء من قريش كانت تغزل مع جواريها إلى انتصاف النهار ، ثمّ تأمرهنَّ أن ينقضن ما غزلن ولا يزال ذلك دأبها ، واسمها « ريطة » بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة ، وكانت تسمّى فرقاء مكة (1).

إنّ لزوم العمل بالميثاق من الأمور الفطرية التي جُبل عليها الإنسان ، ولذلك نرى أنّ الوالد إذا وعد ولده شيئاً ، ولم يف به فسوف يعترض عليه الولد ، وهذا كاشف انّ لزوم العمل بالمواثيق والعهود أمر فطر عليه الإنسان.

ولذلك صار العمل بالميثاق من المحاسن الأخلاقية التي اتّفق عليها كافة العقلاء.

وقد تضافرت الآيات على لزوم العمل به خصوصاً إذا كان العهد لله ، قال سبحانه : ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً ) (2).

وقال تعالى : ( وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ) (3) .

وفي آية ثالثة : ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) (4).

وفيما نحن فيه يأمر بشيء وينهى عن آخر.

أ : فيقول ( أَوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ ) فيأمر بالوفاء بعهد اللّه ، أي العهود التي يقطعها الناس مع اللّه تعالى. ومثله العهد الذي يعهده مع النبي صلی اللّه علیه و آله وأئمة المسلمين ، فكلّ ذلك عهود إلهية وبيعة في طريق طاعة اللّه سبحانه.

ص: 181


1- الميزان : 12 / 335.
2- الإسراء : 34.
3- المؤمنون : 8.
4- البقرة : 40.

ب : ( وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ) فالأيمان جمع يمين.

فيقع الكلام في الفرق بين الجملتين ، والظاهر اختصاص الأولى بالعهود التي يبرمها مع اللّه تعالى ، كما إذا قال : عاهدت اللّه لأفعلنّه ، أو عاهدت اللّه أن لا أفعله.

وأمّا الثانية فالظاهر انّ المراد هو ما يستعمله الإنسان من يمين عند تعامله مع عباد اللّه.

وبملاحظة الجملتين يعلم أنّه سبحانه يؤكد على العمل بكلّ عهد يبرم تحت اسم اللّه ، سواء أكان لله سبحانه أو لخلقه.

ثمّ إنّه قيد الأيمان بقوله : بعد توكيدها ، وذلك لأنّ الأيمان على قسمين : قسم يطلق عليه لقب اليمين ، بلا عزم في القلب وتأكيد له ، كقول الإنسان حسب العادة واللّه وباللّه.

والقسم الآخر هو اليمين المؤكد ، وهو عبارة عن تغليظه بالعزم والعقد على اليمين ، يقول سبحانه : ( لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ ) (1).

ثمّ إنّه سبحانه يعلّل تحريم نقض العهد ، بقوله : ( وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) أي جعلتم اللّه كفيلاً بالوفاء فمن حلف باللّه فكأنّه أكفل اللّه بالوفاء.

فالحالف إذا قال : واللّه لأفعلنّ كذا ، أو لأتركنّ كذا ، فقد علّق ما حلف عليه نوعاً من التعليق على اللّه سبحانه ، وجعله كفيلاً عنه في الوفاء لما عقد عليه

ص: 182


1- المائدة : 89.

اليمين ، فإن نكث ولم يف كان لكفيله أن يؤدبه ، ففي نكث اليمين ، إهانة وإزراء بساحة العزة.

ثمّ إنّه سبحانه يرسم عمل ناقض العهد بامرأة تنقض غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، قال : ( وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا ) مشيراً إلى المرأة التي مضى ذكرها وبيان عملها حيث كانت تغزل ما عندها من الصوف والشعر ، ثمّ تنقض ما غزلته ، وقد عرفت في قوله ب « الحمقاء » فكذلك حال من أبرم عهداً مع اللّه وباسمه ثمّ يقدم على نقضه ، فعمله هذا كعملها بل أسوأ منها حيث يدل على سقوط شخصيته وانحطاط منزلته.

ثمّ إنّه سبحانه يبين ما هو الحافز لنقض اليمين ، ويقول إنّ الناقض يتخذ اليمين واجهة لدخله وحيلته أوّلاً ، ويبغي من وراء نقض عهده ويمينه أن يكون أكثر نفعاً ممّا عهد له ولصالحه ثانياً ، يقول سبحانه : ( تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) فقوله « أربى » من الربا بمعنى الزيادة ، فالناقض يتخذ أيمانه للدخل والغش ، ينتفع عن طريق نقض العهد وعدم العمل بما تعهد ، ولكن الناقض غافل عن ابتلائه سبحانه ، كما يقول سبحانه : ( إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) .

أي انّ ذلك امتحان إلهي يمتحنكم به ، وأقسم ليبيّنن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون فتعلمون عند ذلك حقيقة ما أنتم عليه اليوم من التكالب على الدنيا وسلوك سبيل الباطل لإماطة الحق ، ودحضه ويتبين لكم يومئذ من هو الضال ومن هو المهتدي (1).

ص: 183


1- الميزان : 12 / 336.

النحل

30. التمثيل الثلاثون

اشارة

( وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ) (1).

تفسير الآيات

« رغد » عيش رغد ورغيد : طيِّب واسع ، قال تعالى : ( وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا ) .

يصف سبحانه قرية عامرة بصفات ثلاث :

أ : آمنة : أي ذات أمن يأمن فيها أهلها لا يغار عليهم ، ولا يشن عليهم بقتل النفوس وسبي الذراري ونهب الأموال ، وكانت آمنة من الحوادث الطبيعية كالزلازل والسيول.

ب : مطمئنة : أي قارّة ساكنة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بخوف أو ضيق ، فانّ ظاهرة الاغتراب إنّما هي نتيجة عدم الاستقرار ، فترك الأوطان وقطع الفيافي وركوب البحار وتحمّل المشاق رهن عدم الثقة بالعيش الرغيد فيه ، فالاطمئنان رهن الأمن.

ص: 184


1- النحل : 112 - 113.

ج : ( يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ ) ، الضمير في يأتيها يرجع إلى القرية ، والمراد منها حاضرة ما حولها من القرى ، والدليل على ذلك ، قوله سبحانه حاكياً عن ولد يعقوب : ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ) (1). والمراد من القرية هي مصر الحاضرة الكبيرة يومذاك.

وعلى ذلك فتلك القرية الواردة في الآية بما انّها كانت حاضرة لما حولها من الأصقاع فينقل ما يزرع ويحصد إليها بغية بيعه أو تصديره.

هذه الصفات الثلاث تعكس النعم المادية الوافرة التي حظيت بها تلك القرية.

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى نعمة أُخرى حظيت بها وهي نعمة معنوية ، أعني بعث الرسول إليها ، كما أشار إليه في الآية الثانية ، بقوله : ( وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ ) .

وهؤلاء أمام هذه النعم الظاهرة والباطنة بدل أن يشكروا اللّه عليها كفروا بها.

أمّا النعمة المعنوية ، أعني : الرسول فكذّبوه - كما هو صريح الآية الثانية - وأمّا النعمة المادية فالآية ساكتة عنها غير انّ الروايات تكشف لنا كيفية كفران تلك النعم.

روى العياشي ، عن حفص بن سالم ، عن الإمام الصادق علیه السلام ، انّه قال : « إنّ قوماً في بني إسرائيل تؤتى لهم من طعامهم حتى جعلوا منه تماثيل بمدن كانت في بلادهم يستنجون بها ، فلم يزل اللّه بهم حتى اضطروا إلى التماثيل يبيعونها

ص: 185


1- يوسف : 82.

ويأكلونها ، وهو قول اللّه : ( وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) » (1).

وفي رواية أُخرى عن زيد الشحّام ، عن الصادق علیه السلام قال : كان أبي يكره أن يمسح يده في المنديل وفيه شيء من الطعام تعظيماً له إلاّ أن يمصّها ، أو يكون إلى جانبه صبيّ فيمصّها ، قال : فانّي أجد اليسير يقع من الخوان فأتفقده فيضحك الخادم ، ثم قال : إنّ أهل قرية ممّن كان قبلكم كان اللّه قد وسع عليهم حتى طغوا ، فقال بعضهم لبعض : لو عمدنا إلى شيء من هذا النقي فجعلناه نستنجي به كان ألين علينا من الحجارة.

قال علیه السلام : فلمّا فعلوا ذلك بعث اللّه على أرضهم دواباً أصغر من الجراد ، فلم تدع لهم شيئاً خلقه اللّه إلاّ أكلته من شجر أو غيره ، فبلغ بهم الجهد إلى أن أقبلوا على الذي كانوا يستنجون به ، فأكلوه وهي القرية التي قال اللّه تعالى : ( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) (2).

وبذلك يعلم أنّ ما يقوم به الجيل الحاضر من رمي كثير من فتات الطعام في سلة المهملات أمر محظور وكفران بنعمة اللّه. حتى أنّ كثيراً من الدول وصلت بها حالة البطر بمكان انّها ترمي ما زاد من محاصيلها الزراعية في البحار حفظاً لقيمتها السوقية ، فكلّ ذلك كفران لنعم اللّه.

ثمّ إنّه سبحانه جزاهم في مقابل كفرهم بالنعم المادية والروحية ، وأشار إليها

ص: 186


1- تفسير نور الثقلين : 3 / 91 ، حديث 247.
2- تفسير نور الثقلين : 3 / 92 ، حديث 248.

بآيتين :

الأُولى : ( فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) .

الثانية : ( فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ) .

فلنرجع إلى الآية الأولى ، فقد جزاهم بالجوع والخوف نتيجة بطرهم.

وهناك سؤال مطروح منذ القدم وهو انّه سبحانه جمع في الآية الأولى بين الذوق واللباس ، فقال : ( فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الجُوعِ ) مع أنّ مقتضى استعمال الذوق هو لفظ طعم ، بأن يقول : « فأذاقها اللّه طعم الجوع ».

ومقتضى اللفظ الثاني أعني : اللباس ، أن يقول : « فكساهم اللّه لباس الجوع » فلماذا عدل عن تلك الجملتين إلى جملة ثالثة لا صلة لها - حسب الظاهر - بين اللفظين ؟

والجواب : انّ للإتيان بكلّ من اللفظين وجهاً واضحاً.

أمّا استخدام اللباس فلبيان شمول الجوع والخوف لكافة جوانب حياتهم ، فكأنّ الجوع والخوف أحاط بهم من كلّ الأطراف كإحاطة اللباس بالملبوس ، ولذلك قال : ( لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ ) ولم يقل « الجوع والخوف » لفوت ذلك المعنى عند التجريد عن لفظ اللباس.

وأمّا استخدام الذوق فلبيان شدة الجوع ، لأنّ الإنسان يذوق الطعام ، وأمّا ذوق الجوع فانّما يطلق إذا بلغ به الجوع والعطش والخوف مبلغاً يشعر به من صميم ذاته ، فقال : ( فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ ) .

هذا ما يرجع إلى تفسير الآية ، وأمّا ما هو المراد من تلك القرية بأوصافها الثلاثة ، فقد عرفت من الروايات خصوصياتها.

ص: 187

نعم ربما يقال بأنّ المراد أهل مكة ، لأنّهم كانوا في أمن وطمأنينة ورفاه ، ثمّ أنعم اللّه عليهم بنعمة عظيمة وهي محمد صلی اللّه علیه و آله فكفروا به وبالغوا في إيذائه ، فلا جرم أن سلط عليهم البلاء.

قال المفسرون : عذّبهم اللّه بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام.

وأمّا الخوف ، فهو انّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم.

ويؤيد ذلك الاحتمال ما جاء من وصف أرض مكة في قوله : ( أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ) (1).

ومع ذلك كلّه فتطبيق الآية على أهل مكة لا يخلو من بُعد.

أمّا أوّلاً : فلأنّ الآية استخدمت الأفعال الماضية مما يشير إلى وقوعها في الأزمنة الغابرة.

وثانياً : لم يثبت ابتلاء أهل مكة بالقحط والجوع على النحو الوارد في الآية الكريمة ، وان كان يذكره بعض المفسرين.

وثالثاً : انّ الآية بصدد تحذير المشركين من أهل مكة من مغبة تماديهم في كفرهم ، والسورة مكية إلاّ آيات قليلة ، ونزولها فيها يقتضي أن يكون للمثل واقعية خارجية وراء تلك الظروف ، لتكون أحوال تلك الأمم عبرة للمشركين من أهل مكة وما والاها.

ص: 188


1- القصص : 57.

الإسراء

31. التمثيل الواحد والثلاثون

اشارة

( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) (1).

تفسير الآيات

« الغل » : ما يقيد به ، فيجعل الأعضاء وسطه ، وجمعه أغلال ، ومعنى قوله : ( مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ) أي مقيدة به.

« الحسرة » : الغم على ما فاته والندم عليه ، وعلى ذلك يكون محسوراً ، عطف تفسير لقوله « ملوماً » ، ولكن الحسرة في اللغة كشف الملبس عما عليه ، وعلى هذا يكون بمعنى العريان.

أمّا الآية فهي تتضمن تمثيلاً لمنع الشحيح وإعطاء المسرف ، والأمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير ، فشبّه منع الشحيح بمن تكون يده مغلولة إلى عنقه لا يقدر على الإعطاء والبذل ، فيكون تشبيه لغاية المبالغة في النهي عن الشح والإمساك ، كما شبّه إعطاء المسرف بجميع ما عنده بمن بسط يده حتى لا يستقر فيها شيء ، وهذا كناية عن الإسراف ، فيبقى الثالث وهو المفهوم من الآية

ص: 189


1- الإسراء : 29 - 30.

وإن لم يكن منطوقاً ، وهو الاقتصاد في البذل والعطاء ، فقد تضمّنته آية أُخرى في سورة الفرقان ، وهي : ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) (1).

وقد ورد في سبب نزول الآية ما يوضح مفادها.

روى الطبرى أنّ امرأة بعثت ابنها إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقالت : قل له : إنّ أُمّي تستكسيك درعاً ، فإن قال : حتى يأتينا شيء. ، فقل له : انّها تستكسيك قميصك.

فأتاه ، فقال ما قالت له ، فنزع قميصه فدفعه إليه ، فنزلت الآية.

ويقال انّه علیه السلام بقي في البيت إذ لم يجد شيئاً يلبسه ولم يمكنه الخروج إلى الصلاة فلامه الكفّار ، وقالوا : إنّ محمداً اشتغل بالنوم واللّهو عن الصلاة ( إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ) أي يوسع مرة ويضيق مرة ، بحسب المصلحة مع سعة خزائنه (2).

روى الكليني عن عبد الملك بن عمرو الأحول ، قال : تلا أبو عبد اللّه هذه الآية : ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) .

قال : فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده ، فقال : هذا الإقتار الذي ذكره اللّه في كتابه ، ثمّ قبض قبضة أُخرى ، فأرخى كفه كلها ، ثمّ قال : هذا الإسراف ، ثمّ قبض قبضة أُخرى فأرخى بعضها ، وقال : هذا القوام (3).

ص: 190


1- الفرقان : 67.
2- مجمع البيان : 3 / 412.
3- البرهان في تفسير القرآن : 3 / 173.

هذا ما يرجع إلى تفسير الآية ، وهذا الدستور الإلهي تمخض عن سنّة إلهية في عالم الكون ، فقد جرت سنته سبحانه على وجود التقارن بين أجزاء العالم وانّ كلّ شيء يبذل ما يزيد على حاجته إلى من ينتفع به ، فالشمس ترسل 450 ألف مليون طن من جرمها بصورة أشعة حرارية إلى أطراف المنظومة الشمسية وتنال الأرض منها سهماً محدوداً فتتبدل حرارة تلك الأشعة إلى مواد غذائية كامنة في النبات والحيوان وغيرهما ، حتى أنّ الأشجار والأزهار ما كان لها أن تظهر إلى الوجود لولا تلك الأشعة.

إنّ النحل يمتصّ رحيق الأزهار فيستفيد منه بقدر حاجته ويبدل الباقي عسلاً ، كل ذلك يدل على أنّ التعاون بل بذل ما زاد عن الحاجة ، سنة إلهية وعليها قامت الحياة الإنسانية.

ولكن الإسلام حدّد الإنفاق ونبذ الإفراط والتفريط ، فمنع عن الشح ، كما منع عن الإسراف في البذل.

وكأنّ هذه السنّة تجلت في غير واحد من شؤون حياة الإنسان ، ينقل سبحانه عن لقمان الحكيم انّه نصح ابنه بقوله : ( وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ ) (1).

بل يتجلّى الاقتصاد في مجال العاطفة الإنسانية ، فمن جانب يصرح النبي صلی اللّه علیه و آله بأنّ عنوان صحيفة المؤمن حبّ على بن أبى طالب علیه السلام (2).

ومن جانب آخر يقول الإمام علي علیه السلام : « هلك فيَّ اثنان : محب غال ، ومبغض قال » (3).

ص: 191


1- لقمان : 19.
2- حلية الأولياء : 1 / 86.
3- بحار الأنوار : 34 / 307.

فالإمعان في مجموع ما ورد في الآيات والروايات يدل بوضوح على أنّ الاقتصاد في الحياة هو الأصل الأساس في الإسلام ، ولعله بذلك سميت الأُمة الإسلامية بالأُمة الوسط ، قال سبحانه : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) (1).

وهناك كلمة قيمة للإمام أمير المؤمنين علیه السلام حول الاعتدال نأتي بنصها :

دخل الإمام على العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه يعوده ، فلمّا رأي سعة داره ، قال :

« ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا ، وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج ؟

بلى إن شئت بلغت بها الآخرة ، تقري فيها الضيف ، وتصل فيها الرَّحم ، وتطلع منها الحقوق مطالعها ، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة ».

فقال له العلاء : يا أمير المؤمنين ، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد. قال : « وماله ؟ » قال : لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا. قال : « عليّ به ». فلمّا جاء قال :

« يا عديّ نفسك : لقد استهام بك الخبيث ! أما رحمت أهلك وولدك ! أترى اللّه أحلّ لك الطيبات ، وهو يكره أن تأخذها ؟! أنت أهون على اللّه من ذلك ».

قال : يا أمير المؤمنين ، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك !

قال : « ويحك ، إنّي لست كأنت ، إنّ اللّه تعالى فرض على أئمّة العدل ( الحق ) أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس ، كيلا يتبيّغ بالفقير فقره ! » (2).

ص: 192


1- البقرة : 143.
2- نهج البلاغة ، الخطبة 209.

الكهف

32. التمثيل الثاني والثلاثون

اشارة

( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَّكِنَّا هُوَ اللّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا ) (1).

تفسير الآيات

« الحفُّ » من حفَّ القوم بالشيء إذا أطافوا به ، وحفاف الشيء جانباه كأنّهما

ص: 193


1- الكهف : 32 - 43.

أطافا به ، فقوله في الآية ( وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ ) أي جعلنا النخل مطيفاً بهما ، وقوله : ( مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ ) فهو من باد الشيء ، يبيد بياداً إذا تفرق وتوزع في البيداء أي المفازة.

« حسباناً » : أصل الحسبان السهام التي ترمى ، الحسبان ما يحاسب عليه ، فيجازى بحسبه فيكون النار والريح من مصاديقه ، وفي الحديث انّه قال صلی اللّه علیه و آله في الريح : « اللّهم لا تجعلها عذاباً ولا حسباناً ».

« الصعيد » يقال لوجه الأرض « زلق » أي دحضاً لا نبات فيه ويرادفه الصلد ، كما في قوله سبحانه : ( فَتَرَكَهُ صَلْدًا ) (1).

هذا ما يرجع إلى مفردات الآية.

وأمّا تفسيرها ، فهو تمثيل للمؤمن والكافر باللّه والمنكر للحياة الأُخروية ، فالأوّل منهما يعتمد على رحمته الواسعة ، والثاني يركن إلى الدنيا ويطمئن بها ، ويتبين ذلك بالتمثيل التالى :

قد افتخر بعض الكافرين بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين ، فضرب اللّه سبحانه ذلك المثل يبين فيها بأنّه لا اعتبار بالغنى المؤقت وانّه سوف يذهب سدى ، أمّا الذي يجب المفاخرة به هو تسليم الإنسان لربه وإطاعته لمولاه.

وحقيقة ذلك التمثيل انّ رجلين أخوين مات أبوهما وترك مالاً وافراً فأخذ أحدهما حقه منه وهو المؤمن منهما فتقرب إلى اللّه بالإحسان والصدقة ، وأخذ الآخر حقه فتملك به ضياعاً بين الجنتين فافتخر الأخ الغني على الفقير ، وقال : ( أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا ) ، وما هذا إلاّ لأنّه كان يملك جنتين من أعناب ونخل مطيفاً

ص: 194


1- البقرة : 264.

بهما وبين الجنتين زرع وافر ، وقد تعلّقت مشيئته بأن تأتي الجنتان أُكلها ولم تنقص شيئاً وقد تخللها نهر غزير الماء وراح صاحب الجنتين المثمرتين يفتخر على صاحبه بكثرة المال والخدمة.

وكان كلما يدخل جنته يقول : ما أظن أن تفنى هذه الجنة وهذه الثمار - أي تبقى أبداً - وأخذ يكذب بالساعة ، ويقول : ما أحسب القيامة آتية ، ولو افترض صحة ما يقوله الموحدون من وجود القيامة ، فلئن بعثت يومذاك ، لآتاني ربي خيراً من هذه الجنة ، بشهادة أعطائي الجنة في هذه الدنيا دونكم ، وهذا دليل على كرامتي عليه.

هذا ما كان يتفوّه به وهو يمشي في جنته مختالاً ، وعند ذاك يواجهه أخوه بالحكمة والموعظة الحسنة.

ويقول : كيف كفرت باللّه سبحانه مع أنّك كنت تراباً فصرت نطفة ، ثمّ رجلاً سوياً ، فمن نقلك من حال إلى حال وجعلك سوياً معتدل الخلقة ؟

وبما انّه ليس في عبارته إنكار للصانع صراحة ، بل إنكار للمعاد ، فكأنّه يلازم إنكار الربّ.

فإن افتخرت أنت بالمال ، فأنا أفتخر بأنّي عبد من عباد اللّه لا أُشرك به أحداً.

ثمّ ذكّره بسوء العاقبة ، وانّك لماذا لم تقل حين دخولك البستان ما شاء اللّه ، فانّ الجنتين نعمة من نعم اللّه سبحانه ، فلو بذلت جهداً في عمارتها فإنّما هو بقدرة اللّه تبارك وتعالى.

ثمّ أشار إلى نفسه ، وقال : أنا وإن كنت أقل منك مالاً وولداً ، ولكن أرجو

ص: 195

أن يجزيني ربي في الآخرة خيراً من جنتك ، كما أترقب أن يرسل عذاباً من السماء على جنتك فتصبح أرضاً صلبة لا ينبت فيها شيء ، أو يجعل ماءها غائراً ذاهباً في باطن الأرض على وجه لا تستطيع أن تستحصله.

قالها أخوه وهو يندّد به ويحذّره من مغبّة تماديه في كفره وغيّه ويتكهن له بمستقبل مظلم.

فعندما جاء العذاب وأحاط بثمره ، ففي ذلك الوقت استيقظ الأخ الكافر من رقدته ، فأخذ يقلّب كفّيه تأسّفاً وتحسّراً على ما أنفق من الأموال في عمارة جنتيه ، وأخذ يندم على شركه ، ويقول : يا ليتني لم أكن مشركاً بربي ، ولكن لم ينفعه ندمه ولم يكن هناك من يدفع عنه عذاب اللّه ولم يكن منتصراً من جانب ناصر.

هذه حصيلة التمثيل ، وقد بيّنه سبحانه على وجه الإيجاز ، بقوله : ( المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً ) (1).

وقد روى المفسرون انّه سبحانه أشار إلى هذا التمثيل في سورة الصافات في آيات أُخرى ، وقال : ( قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ المُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الجَحِيمِ ) (2).

إلى هنا تبيّن مفهوم المثل ، وأمّا تفسير مفردات الآية وجملها ، فالإمعان فيما ذكرنا يغني الباحث عن تفسير الآية ثانياً ، ومع ذلك نفسرها على وجه الإيجاز.

ص: 196


1- الكهف : 46.
2- الصافات : 51 - 55.

( وَاضْرِبْ لَهُم ) أي للكفار مع المؤمنين ( مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا ) أي للكافر ( جَنَّتَيْنِ ) أي بستانين ( مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا ) أحدقناهما بنخل ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ) يقتات به ( كِلْتَا الجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا ) ثمرها ( لَمْ تَظْلِم ) تنقص ( مِّنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا ) يجري بينهما ( وَكَانَ لَهُ ) مع الجنتين ( ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ ) المؤمن ( وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ) يفاخره ( أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا ) عشيرة ( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ ) بصاحبه يطوف به فيها ويريه ثمارها. ( وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ) بالكفر ( قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ ) تنعدم ( هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي ) في الآخرة على زعمك ( لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا ) مرجعاً ( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ) يجادله ( أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ) لأنّ آدم خلق منه ( ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ ) عدلك وصيّرك ( رَجُلاً ) . أمّا أنا فأقول ( لَّكِنَّا هُوَ اللّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ) عند اعجابك بها ( مَا شَاءَ اللّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللّهِ ) . ( إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا ) وصواعق ( مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ) أي أرضا ً ملساء لا يثبت عليهاقدم ( أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا ) بمعنى غائراً ( فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ) حيلة تدركه بها ( وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ) مع ما جنته بالهلاك فهلكت ( فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ) ندماً وتحسراً ( عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا ) في عمارة جنته ( وَهِيَ خَاوِيَةٌ ) ساقطة ( عَلَى عُرُوشِهَا ) دعائمها للكرم بأن سقطت ثمّ سقط الكرم ( وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي ) كأنّه تذكّر موعظة أخيه ( لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ ) جماعة ( يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللّهِ ) عند هلاكها و ( مَا كَانَ مُنتَصِرًا ) عند هلاكها بنفسه ( هُنَالِكَ ) أي يوم القيامة ( الْوَلايَةُ ) الملك ( للهِ الحَقِّ ) (1).

ص: 197


1- السيوطي : تفسير الجلالين : تفسير سورة الكهف.

الكهف

33. التمثيل الثالث والثلاثون

اشارة

( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا ) (1).

تفسير الآيات

« الهشيم » : ما يكسر ويحطم في يبس النبات ، و « الذر » والتذرية : تطيير الريح الأشياء الخفيفة في كلّ جهة.

تحدّث التمثيل السابق عن عدم دوام نعم الدنيا التي ربما يعتمد عليها الكافر ، ولأجل التأكيد على تلك الغاية المنشودة أتى القرآن بتمثيل آخر يجسم فيها حال الحياة الدنيوية وعدم ثباتها بتمثيل رائع يتضمن نزول قطرات من السماء على الأراضي الخصبة المستعدة لنمو البذور الكامنة فيها ، فعندئذٍ تبتدأ الحركة فيها بشقها التراب وإنباتها وانتفاعها من الشمس إلى أن تعود البذور باقات من الأزهار الرائعة ، فربما يتخيل الإنسان بقاءها ودوامها ، فإذا بالأعاصير والعواصف المدمرة تهب عليها فتصيرها أعشاباً يابسة ، وتبيدها عن بكرة أبيها وكأنّها لم تكن موجودة قط. فتنثر الرياح رمادها إلى الأطراف ، فهذا النوع من الحياة والموت يتكرر

ص: 198


1- الكهف : 45.

على طول السنة ويشاهده الإنسان بأُمّ عينه ، دون أن يعتبر بها ، فهذا ما صيغ لأجله التمثيل.

يقول سبحانه : ( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ ) على وجه يلتف بعضه ببعض ، يروق الإنسان منظره ، فلم يزل على تلك الحال إلى أن ينتقل إلى حالة لا نجد فيها غضاضة ، وهذا ما يعبر عنه القرآن ، بقوله : ( فَأَصْبَحَ هَشِيمًا ) أي كثيراً مفتتاً تذوره الرياح فتنقله من موضعه إلى موضع ، فانقلاب الدنيا كانقلاب هذا النبات ( وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا ) .

ثمّ إنّه سبحانه يشبّه المال والبنين بالورود والأزهار التي تظهر على النباتات ووجه الشبه هو طروء الزوال بسرعة عليها ، فهكذا الأموال والبنون.

وإنّما هي زينة للحياة الدنيا ، فإذا كان الأصل مؤقتاً زائلاً ، فما ظنّك بزينته ، فلم يكتب الخلود لشيء مما يرجع إلى الدنيا ، فالاعتماد على الأمر الزائل ليس أمراً صحيحاً عقلائياً ، قال سبحانه : ( المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ) .

نعم ، الخلود للأعمال الصالحة بمالها من نتائج باهرة في الحياة الأخروية ، قال سبحانه : ( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا ) (1).

ثمّ إنّه سبحانه يؤكد على زوال الدنيا وعدم دوامها من خلال ضرب أمثلة ، فقد جاء روح هذا التمثيل في سورة يونس الماضية (2).

ص: 199


1- مريم : 76.
2- انظر التمثيل الرابع عشر وسورة يونس 25 ، كما يأتي مضمونها عند ذكر التمثيل الوارد في سورة الحديد ، الآية 20.

ايقاظ

ثمّ إنّه ربما يعد من أمثال القرآن قوله : ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ) (1).

والحق انّه ليس تمثيلاً مستقلاً وإنّما يؤكد على ذكر نماذج من الأمثال خصوصاً فيما يرجع إلى حياة الماضين التي فيها العبر.

ومعنى قوله : ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا ) أي بيّنا في هذا القرآن للناس من كلّ مثل وإنّما عبر عن التبيين بالتصريف لأجل الإشارة إلى تنوّعها ليتفكر فيها الإنسان من جهات مختلفة ومع ذلك ( وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ) أي أكثر شيء منازعة ومشاجرة من دون أن تكون الغاية الاهتداء إلى الحقيقة.

ص: 200


1- الكهف : 54.

الحج

34. التمثيل الرابع والثلاثون

اشارة

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (1).

تفسير الآيات

كان العرب في العصر الجاهلي موحدين في الخالقية ، ويعربون عن عقيدتهم ، بأنّه لا خالق في الكون سوى اللّه سبحانه ، وقد حكاه سبحانه عنهم في غير واحد من الآيات ، قال سبحانه : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ) (2).

ولكنّهم كانوا مشركين في التوحيد في الربوبية ، وكأنّه سبحانه - بزعمهم - خلق السماوات والأرض وفوّض تدبيرهما إلى الآلهة المزعومة ، ويكشف عن ذلك إطلاق المشركين لفظ الأرباب في جميع العهود على آلهتهم المزعومة ، يقول سبحانه : ( أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) (3) والآية وإن كانت تفصح عن

ص: 201


1- الحج : 73 - 74.
2- الزخرف : 9.
3- يوسف : 39.

عقيدة المشركين في عهد يوسف إلاّ أنّها تماثل إلى حد كبير عقيدة المشركين في مكة ، بشهادة انّ الآية نزلت للتنديد بهم والحطِّ من عقيدتهم الفاسدة.

وهناك آيات أُخرى تكشف عن شركهم في الربوبية :

يقول سبحانه : ( وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ ) (1) فقد كانوا يعبدون آلهتهم في سبيل نصرتهم في ساحات الوغى ، قال سبحانه : ( وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ) (2).

فكان الهدف من الخضوع لدى الآلهة هو طلب العزّ منهم في مختلف المجالات ، إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على أنّ مشركي عصر الرسول لم يكونوا موحدين في الربوبية ، وإن كانوا كذلك في مجال الخالقية.

وهناك آيات كثيرة تصف الأصنام والأوثان بأنّها لا تملك كشف الضرّ ، كما لا تملك النفع والضرّ ، ولا النصر في الحرب ، ولا العزة في الحياة ، كل ذلك يدل على أنّ المشركين كانوا يعتقدون أنّ في آلهتهم قوة وسلطاناً يكشف عنهم الضرّ ويجلب إليهم النفع ، وهذه عبارة أُخرى عن تدبيرهم للحياة الإنسانية ، يقول سبحانه : ( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلاً ) (3). وقال تعالى : ( وَلا تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لا يَنفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ ) (4).

وقال تعالى : ( إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ ) (5) إلى غير ذلك من الآيات التي تبطل تدبير الآلهة المزيفة.

ص: 202


1- يس : 74.
2- مريم : 81.
3- الإسراء : 56.
4- يونس : 106.
5- فاطر : 14.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّه سبحانه ضرب في المقام أمثالاً أبطل بها ربوبية الأصنام ، بالبيان التالى :

أمّا الذباب ، فهو عندهم أضعف الحيوانات وأوهنها ، ومع ذلك فآلهتهم عاجزون عن خلق الذباب ، وإن سلب الذباب منهم شيئاً لا يستطيعون استنقاذه منه.

فقد روي أنّ العرب كانوا يطلون الأصنام بالزعفران ورؤوسها بالعسل ويغلقون عليها الأبواب ، فيدخل الذباب من الكوى فيأكله ، يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ ) أي يعبدونه والدعاء هنا بمعنى العبادة ، كما في قوله سبحانه : ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) (1) فدعاؤه سبحانه عين عبادته كما أنّ دعاء الآلهة المزيّفة - بما انّها أرباب عند الداعي - عبادة لها.

( لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ) مع صغره وضعفه ( وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ ) كما عرفت من أنّ الذباب ربما يأكل العسل الموجود على رؤوس الأصنام.

( ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ ) وفيها احتمالات :

الأوّل : انّ المراد من الطالب والمطلوب هو العابد والمعبود ، فالإنسان ضعيف كما هو واضح ، وقال سبحانه : ( وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفًا ) والمطلوب ، أعني : الأصنام مثله لأنّه جماد لا يقدر على شيء.

ص: 203


1- غافر : 60.

الثاني : ويحتمل أن يكون المراد من الطالب هو الذباب الذي يطلب ما طليت به الأصنام ، والمطلوب هي الأصنام التي تريد استنقاذ ما سلب منها.

الثالث : المراد من الطالب الآلهة فانّهم يطلبون خلق الذباب فلا يقدرون على استنقاذ ما سلبهم ، والمطلوب الذباب حيث يطلب للاستنقاذ منه ، والغاية من التمثيل بيان ضعف الآلهة لتنزيلها منزلة أضعف الحيوانات في الشعور والقدرة.

ثمّ إنّه سبحانه يعود ليبين منشأ إعراضهم عن عبادة اللّه وانكبابهم على عبادة الآلهة ، بقوله : ( مَا قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) أي ما نزلوه المنزلة التي يستحقها ولم يعاملوه بما يليق به ، فلذلك أعرضوا عن عبادة الخالق وانصرفوا إلى عبادة المخلوق الذي لا ينفع ولا يضر ، فلو كان هؤلاء عارفين باللّه وأسمائه الحسنى وصفاته العليا ، لاعترفوا بأنّه لا خالق ولا رب سواه ، وعلى ضوء ذلك لا معبود سواه ، ولكن لم يقدروا اللّه بما يليق به ، فلذلك شاركوه أضعف المخلوقات وأذلّهم ، مع أنّه سبحانه ( وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ) بخلاف الآلهة فانّهم الضعفاء والأذلاّء.

ص: 204

النور

35. التمثيل الخامس والثلاثون

اشارة

( اللّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (1).

تفسير الآية

المشكاة : كوّة غير نافذة ، وتُتخذ في جدار البيت لوضع بعض الأثاث ومنها المصباح وغيره ، وربما تكون الكوّة مشرفة على ساحة الدار وتجعل بينها زجاجة ، لتحفظ المصباح من الرياح ، ولتضيء الساحة والغرفة معاً.

ومنه حافظة المصباح ، وهي ما تصنع على شكل مخروطي توضع على المصباح لتحفظه من الرياح ، وفي أعلاها ثقب يخرج منه الدخان.

« المصباح » : السراج ، وهو آلة يتألف من أُمور أربعة :

أ : وعاء للزيت ، ب : فتيل يشتعل بالزيت ، ج : زجاجة منصوبة عليه ، د : آلة التحكم بالفتيل.

ص: 205


1- النور : 35.

ثمّ إنّ أفخر أنواع الزيوت هو المأخوذ من شجرة الزيتون المغروسة في مكان تشرق عليه الشمس من كل الجوانب حيث تكون في غاية الصفاء وسريعة الاشتعال ، بخلاف المغروسة في جانب الشرق أو جانب الغرب ، فانّها لا تتعرض للشمس إلاّ في أوقات معينة.

قال العلاّمة الطباطبائي :

والمراد بكون الشجرة لا شرقية ولا غربية ، انّها ليست نابتة في الجانب الشرقي ، ولا في الجانب الغربي حتى تقع الشمس عليها في أحد طرفي النهار ، ويضيء الظل عليها في الطرف الآخر ، فلا تنضج ثمرتها ، فلا يصفو الدهن المأخوذ منها ، فلا تجود الإضاءة (1).

إلى هنا تم ما يرجع إلى مفردات الآية ، فعلى ذلك فالمشبه به عبارة عن مشكاة فيها مصباح وعليها زجاجة ، يوقد المصباح من زيت شجرة الزيتون المغروسة المتعرضة للشمس طول النهار على وجه يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ، لأنّ الزيت إذا كان خالصاً صافياً يرى من بعيد كأنّ له شعاعاً فإذا مسه النار ازداد ضوءاً على ضوء.

فالمشبه به هو النور المشرق من زجاجة مصباح ، موقد من زيت جيد صاف موضوع على مشكاة ، فانّ نور المصباح تجمعه المشكاة وتعكسه فيزداد إشراقاً.

وأمّا قوله في آخر الآية : ( نُّورٌ عَلَى نُورٍ ) بمعنى تضاعف النور وأنّ نور الزجاجة مستمد من نور المصباح في إنارتها.

قال العلاّمة الطباطبائي :

ص: 206


1- الميزان : 15 / 124.

فأخذ المشكاة ، لأجل الدلالة على اجتماع النور في بطن المشكاة وانعكاسه إلى جو البيت.

واعتبار كون الدهن من شجرة زيتونة لا شرقية ولا غربية للدلالة على صفاء الدهن وجودته المؤثر في صفاء النور المشرق عن اشتعاله.

وجودة الضياء على ما يدل عليه كون زيته يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار.

واعتبار كون النور على النور للدلالة على تضاعف النور أو كون نور الزجاجة مستمد من نور المصباح (1).

هذا هو حال المشبه به ، وإنّما الكلام في المشبه أو الممثل له ، فقد طبقت كلّ طائفة ذلك الممثل على ما ترومه ، وإليك الأقوال :

القول الأوّل : المشبه به هداية اللّه ، إذ قد بلغت في الظهور والجلاء إلى أقصى الغايات وصارت بمنزلة المشكاة التي تكون فيها زجاجة صافية وفي الزجاجة مصباح يتّقد بزيت بلغ النهاية في الصفاء.

وأمّا عدم تشبيهها بضوء الشمس مع أنّه أبلغ ، فلأجل انّ المراد وصف الضوء الكامل وسط الظلمة ، لأنّ الغالب على أوهام الخلق وخيالاتهم إنّما هي الشبهات التي هي كالظلمات ، وهداية اللّه تعالى فيما بينها كالضوء الكامل الذي يظهر فيما بين الظلمات.

القول الثاني : المراد من النور : القرآن ، ويدل عليه قوله تعالى : ( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) (2).

ص: 207


1- لميزان : 15 / 125.
2- المائدة : 15.

القول الثالث : المراد هو الرسول ، لأنّه المرشد ، ولأنّه تعالى قال في وصفه : ( وَسِرَاجًا مُّنِيرًا ) (1). ولعلّ مرجع القولين الأخيرين هو الأوّل ، لأنّ القرآن والرسول من شعب هداية اللّه سبحانه.

القول الرابع : إنّ المراد ما في قلب المؤمنين من معرفة الشرائع ، ويدل عليه انّه تعالى وصف الإيمان بأنّه نور والكفر بأنّه ظلمة ، فقال : ( أَفَمَن شَرَحَ اللّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ) (2).

وقال تعالى : ( لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) (3). وحاصله انّ إيمان المؤمن قد بلغ في الصفاء عن الشبهات والامتياز عن ظلمات الضلالات مبلغ السراج المذكور.

وعلى هذا فالتمثيل مفرداً وهو تشبيه الهداية وما يقرب منها بنور السراج ، ولا يجب أن يكون في مقابل كل ما للمشبه به من الأمور موجود في المشبه بخلاف الوجه التالى.

القول الخامس : إنّ المراد هو القوى المدركة ومراتبها الخمس ، وهي : القوة الحسّاسة ، القوة الخيالية ، القوة العقلية ، القوة الفكرية ، القوة القدسية.

وإليها أشارت الآية الكريمة : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ) (4).

فإذا عرفت هذه القوى فهي بجملتها أنوار ، إذ بها تظهر أصناف

ص: 208


1- الأحزاب : 46.
2- الزمر : 22.
3- إبراهيم : 1.
4- الشورى : 52.

الموجودات ، وهذه المراتب الخمس يمكن تشبيهها بالأمور الخمسة التي ذكرها اللّه تعالى ، وهي : المشكاة ، والزجاجة ، والمصباح ، والشجرة ، والزيت.

وعلى هذا فالتمثيل مركباً نظير القول الآتي :

القول السادس : إنّ النفس الإنسانية قابلة للمعارف والإدراكات المجردة ، ثمّ إنّه في أوّل الأمر تكون خالية عن جميع هذه المعارف ، فهناك تسمى عقلاً هيولانياً ، وهي المشكاة.

وفي المرتبة الثانية يحصل فيها العلوم البديهية التي يمكن التوصل بتركيباتها إلى اكتساب العلوم النظرية. ثم إن أمكنه الانتقال إن كانت ضعيفة فهي الشجرة ، وإن كانت أقوى من ذلك فهي الزيت ، وإن كانت شديدة القوة فهي الزجاجة التي كأنّها الكوكب الدرّي ، وإن كانت في النهاية القصوى وهي النفس القدسية التي للأنبياء فهي التي ( يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ) .

وفي المرتبة الثالثة يكتسب من العلوم الضرورية العلوم النظرية ، إلاّ أنّها لا تكون حاضرة بالفعل ، ولكنها تكون بحيث متى شاء صاحبها استحضارها قدر عليه ، وهذا يسمّى عقلاً بالفعل وهو المصباح.

وفي المرتبة الرابعة أن تكون تلك المعارف حاصلة بالفعل ، وهذا يسمّى عقلاً مستفاداً ، وهو نور على نور ، لأنّ الحكمة ملكة نور وحصول ما عليه الملكة نور آخر. ثم إنّ هذه العلوم التي تحصل في الأرواح البشرية ، إنّما تحصل من جوهر روحاني يسمى بالعقل الفعال وهو مدبر ما تحت كرة القمر وهو النار.

القول السابع : إنّه سبحانه شبّه الصدر بالمشكاة ، والقلب بالزجاجة ، والمعرفة بالمصباح ، وهذا المصباح إنّما يوقد من شجرة مباركة وهي إلهامات الملائكة. وإنّما شبّه الملائكة بالشجرة المباركة لكثرة منافعهم ، ولكنّه وصفها بأنّها

ص: 209

لا شرقية ولا غربية لأنّها روحانية ، ووصفهم بقوله : ( يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ) لكثرة علومهم وشدة اطّلاعهم على أسرار ملكوت اللّه تعالى.

القول الثامن : إنّ المراد من ( مَثَلُ نُورِهِ ) ، أي مثل نور الإيمان في قلب محمد صلی اللّه علیه و آله كمشكاة فيها مصباح ، فالمشكاة نظير صلب عبد اللّه ، والزجاجة نظير جسد محمد صلی اللّه علیه و آله ، والمصباح نظير الإيمان في قلب محمد أو نظير النبوة في قلبه.

القول التاسع : إن « المشكاة » نظير إبراهيم علیه السلام ، والزجاجة نظير إسماعيل علیه السلام ، والمصباح نظير جسد محمّد صلی اللّه علیه و آله ، والشجرة النبوة والرسالة.

القول العاشر : إنّ قوله : ( مَثَلُ نُورِهِ ) يرجع إلى المؤمن (1).

إنّ المشبه هو نور اللّه المشرق على قلوب المؤمنين ، والمشبه به النور المشرق من زجاجة ، وقوله سبحانه : ( يَهْدِي اللّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ) استئناف يعلّل به اختصاص المؤمنين بنور الإيمان والمعرفة وحرمان غيرهم ، ومن المعلوم من السياق انّ المراد بقوله : ( مَن يَشَاءُ ) هم الذين يذكرهم اللّه سبحانه بقوله بعد هذه الآية : ( رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ ) (2) فالمراد بمن يشاء المؤمنون بوصف كمال إيمانهم. والمعنى انّ اللّه إنّما هدى المتلبسين بكمال الإيمان إلى نوره دون المتلبسين بالكفر (3).

وقوله : ( يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) إشارة إلى أنّ المثل المضروب تحته طور من العلم ، وإنّما اختير المثل لكونه أسهل الطرق لتبين الحقائق والدقائق ، ويشترك فيه العالم والعامي فيأخذ منه كلّ ما قسم له ، قال تعالى : ( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ ) (4).

ص: 210


1- تفسير الفخر الرازى : 23 / 231 - 235.
2- النور : 37.
3- الميزان : 18 / 125 - 126.
4- العنكبوت : 43.

النور

36. التمثيل السادس والثلاثون

اشارة

( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ ) (1).

تفسير الآية

« السراب » : ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس وقت الظهيرة يسرب على وجه الأرض كأنّه ماء يجري ، و « القيعة » : بمعنى القاع أو جمع قاع ، وهو المنبسط المستوي من الأرض ، والظمآن هو العطشان.

يشبه سبحانه أعمال الكفار تارة بالسراب كما في هذه الآية ، وأُخرى بالظلمات كما في التمثيل الآتي ، ولعلّ المشبه في الأوّل هو حسناتهم ، وفي الثاني قبائح أعمالهم.

وإليك توضيح التمثيل الوارد في الآية :

قال سبحانه : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ ) أي ما يعملون من الطاعات ويقدمون من قرابين وأذكار يتقربون بها إلى آلهتهم ، مثلها ك ( سَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً ) .

ص: 211


1- النور : 39.

فقد وصف الظمآن بصفات عديدة :

الأولى : حسبان السراب ماءً ، كما قال سبحانه : ( كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً ) .

الثانية : إذا وصل إلى السراب لم يجده شيئاً نافعاً ، كما قال سبحانه ( حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ) وإنّما خصّ الظمآن به مع أنّ السراب يتراءى ماء لكلّ راءٍ ، لأن المقصود هو مجيء الرائي إلى السراب ، ولا يجيئه إلاّ الظمآن ليرتوي ويرفع عطشه.

الثالثة : عند ما يشرف على السراب لا يجد فيه ماءً ، ولكن يجد اللّه سبحانه عنده ، كما قال سبحانه : ( وَوَجَدَ اللّهَ عِندَهُ ) .

وهذا خبر عن الظمآن ، ولكن المقصود منه في هذه الجملة هو الكافر ، والمعنى وجد أمر اللّه ووجد جزاء اللّه ، وذلك عند حلول أجله واشرافه على الآخرة.

فالكافر يتصوّر أنّ ما يقدم من قرابين وأذكار سوف ينفعه عند موته وبعده ، وسوف تقوم الآلهة بالشفاعة له ، ولكن يتجلّى له خلاف ذلك وانّ الأمر أمر اللّه لا أمر غيره فلا يجدون أثراً من إلوهية آلهتهم.

فعند ذلك يجدون جزاء أعمالهم ، كما يقول سبحانه : ( فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ) .

ثمّ إنّه سبحانه يصف نفسه بقوله : ( وَاللّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ ) .

وبذلك تبين انّ الآية المباركة لبيان حال الظمآن الحقيقي إلى قوله : ( لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ) ، كما أنّها من قوله ( وَوَجَدَ ... ) يرجع إلى الظمآن لكن بالمعنى المجازي وهو الكافر.

ص: 212

وحاصل التمثيل هو انّ الطاعة والعبادة والقربات كلها لله تبارك وتعالى ، فمن قدمها إليه وقام بها لأجله فقد بذر بذرة في أرض خصبة سوف ينتفع بها في لقائه سبحانه.

وأمّا من عبد غيره وقدم إليه القربات راجياً الانتفاع به ، فهو كرجاء الظمآن الذي يتصوّر السراب ماءً فيجيئه لينتفع به ولكنّه سرعان ما يرجع خائباً.

إلى هنا تمَّ ما يشترك فيه الظمآن والكافر ، أي المشبه به والمشبه ، ولكن المشبه ، أعني : الكافر الذي شبه بالظمآن فهو يختص بأُمور أُخرى.

أولاً : انّه عند مجيئه إلى الانتفاع بأعماله يجد اللّه هو المجازي لا غير.

وثانياً : انّه سبحانه يجزيه بأعماله.

وثالثاً : فيوفيه حسابه.

وما ذلك إلاّ لأنّ اللّه سريع الحساب.

وعلى ضوء ما ذكرنا فقد أُريد من الظمآن الاسم الظاهر الظمآن الحقيقي ، وأُريد من الضمائر الثلاثة في « وجد » « وفّاه » « حسابه » الظمآن المجازي أعني الكافر الخائب.

ص: 213

النور

37. التمثيل السابع والثلاثون

اشارة

( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ) (1).

تفسير الآية

« اللجيّ » : منسوب إلى اللجّة ، وهي في اللغة البحر الواسع العميق ، ولكنّه استخدم في لازم معناه وهو تردد أمواجه ، فانّ البحر كلما كان عميقاً وواسعاً تزداد أمواجه ، وعلى ذلك فيكون المراد من قوله ( بَحْرٍ لُّجِّيٍّ ) أي بحر متلاطم.

و « السحاب » : عبارة عن الغيوم الممطرة ، بخلاف الغيم فهو أعم ، وانّما استخدم كلمة السحاب ليكون سبباً لازدياد الظلم.

هذا ما يرجع إلى تفسير مفردات الآية ، وأمّا المقصود فهو كالتالي.

انّه سبحانه شبه في الآية السابقة أعمال الكافرين ، لأجل عدم الانتفاع بها بالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء ، ولكنّه تعالى شبّه أعمالهم في هذه الآية بالظلمة وخلوّها من نور الحق ببحر لجيّ فوقه سحابة سوداء ممطرة ويعلو ماءه موج فوق

ص: 214


1- النور : 40.

موج ، فراكب هذا البحر تغمره ظلمة دامسة لا يرى أمامه شيئاً حتى لو أخرج يده فانّه لا يراها مع قربها منه.

هذا هو المشبه به ، وأمّا المشبه فالأعمال التي يقوم بها الكافر باطلة محضة ليس فيها من الحقّ شيء مثل هذا البحر اللجي المحيط به عتمة الظلام الذي ليس فيه نور.

ثمّ إنّ الآية تشير إلى ظلمات ثلاث.

الأولى : ظلمة البحر المحجوب من النور.

الثانية : ظلمة الأمواج المتلاطمة.

الثالثة : السحاب الأسود الممطر.

فتراكم هذه الظلمات يحجب كلّ نور من الوصول ، وهكذا الحال في الكافر ففي أعماله ظلمات ثلاث يمكن بيانها بأنحاء مختلفة :

النحو الأوّل : ظلمة الاعتقاد ، ظلمة القول ، ظلمة العمل.

النحو الثاني : ظلمة القلب ، ظلمة البصر ، ظلمة السمع.

النحو الثالث : ظلمة الجهل ، ظلمة الجهل بالجهل ، ظلمة تصوّر الجهل علماً (1).

ويمكن أن تكون هذه الظلمات المتراكمة إشارة إلى أمر آخر وهو إصرار الكافر المتزايد على كفره وقبائح أعماله.

ولذلك يصفه سبحانه بقوله : ( وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ) .

ص: 215


1- انظر تفسير الفخر الرازى : 24 / 8 - 9.

إيقاظ

ثمّ إنّ بعض المؤلفين في أمثال القرآن ذكروا الآية التالية واعتبروها من الأمثال ، قال سبحانه : ( وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثال فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) (1).

ولكن الآية رغم ما جاء فيها من لفظ الأمثال ليست من قبيل التمثيل ، وإنّما هي بصدد نقل ما وصف به النبي صلی اللّه علیه و آله في لسان الكفّار ، حيث وصفوه بأنّه يأكل الطعام ، ويمشي في الأسواق ، فلا يصلح للرسالة.

ثمّ نقموا منه بأنّا سلمنا انّه رسول ، ولكنّه لماذا لا ينزل إليه ملك فيكون معه نذيراً ليتصل إنذاره بالغيب بتوسط الملك ؟

ثمّ نقموا منه أيضاً بأنّه لماذا لم يلق إليه كنز من السماء حتى يصرفه في حوائجه المادية ، أو لماذا لا تكون له جنّة يأكل منها ، ثمّ في الختام وصفوه بأنّه مسحور.

فقال سبحانه اعتراضاً وتنديداً بوصفهم النبي صلی اللّه علیه و آله إيجاباً وسلباً بقوله ( انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثال ) أي انظر كيف وصفوك تارة بأنّك تأكل وتمشي في الأسواق ، وأُخرى بعدم اقترانك بملك ، وثالثة بالفقر ، ورابعة بكونك مسحوراً بتخيّل انّه رسول يأتيه ملك الوحي بالرسالة والكتاب.

وليس هاهنا مشبه ولا مشبه به ولا تمثيل ليبين موقف الرسول ، ولأجل ذلك صرّحنا في المقدمة انّه ليس من الأمثال القرآنية.

ص: 216


1- الفرقان : 7 - 9.

العنكبوت

38. التمثيل الثامن والثلاثون

اشارة

( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ * وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ ) (1).

تفسير الآيات

ضرب سبحانه لآلهة المشركين مثلاً بالذباب تارة ، وبيت العنكبوت أُخرى ، أمّا الأوّل فقد مضى البحث عنه ، وأمّا الثاني فهو ما تتضمنه الآية من تشبيه آلهة المشركين ومعبوداتهم المزيفة بأوهن البيوت وهو بيت العنكبوت.

وقد مرّ انّ التشبيه يترك تأثيراً بالغاً في النفوس مثل تأثير الدليل والبرهان ، فتارة ينهى عن الغيبة ويقول : لا تغتب فانّه يوجب العذاب ويورث العقاب ، وأُخرى يمثل عمله بالمثل التالي : وهو انّ مثل من يغتاب مثل من يأكل لحم الميت ، لأنّك نلت من هذا الرجل وهو غائب لا يفهم ما تقول ولا يسمع حتى يجيب ، فكان نيلك منه كعمل من يأكل لحم الميت وهو لا يعلم ما يفعل به ولا

ص: 217


1- العنكبوت : 41 - 43.

يقدر على الدفع.

ثمّ إنّ الغرض من تشبيه الآلهة المزيفة بهوام وحشرات الأرض كالبعوض والذباب والعنكبوت هو الحط من شأنها والاستهزاء بها.

إنّ العنكبوت حشرة معروفة ذكورها أصغر أجساداً من إناثها ، وهي تتغذى من الحشرات التي تصطادها بالشبكة التي تمدها على جدران البيوت ، فتصنع تلك الشبكة من مادة تفرزها لها غدد في باطنها محتوية على سائل لزج تخرجه من فتحة صغيرة ، فيتجدد بمجرد ملامسته للهواء ويصير خيطاً في غاية الدقة ، وما أن تقع الفريسة في تلك الشبكة حتى تنقض عليها وتنفث فيها سماً يوقف حركاتها ، فلا تستطيع الدفاع عن نفسها (1).

ومع ذلك فما نسجته بيتاً لنفسها من أوهن البيوت ، بل لا يليق أن يصدق عليه عنوان البيت ، الذي يتألف من حائط هائل ، وسقف مظلٍّ ، وباب ونوافذ ، وبيتها يفقد أبسط تلك المقومات هذا من جانب ، ومن جانب آخر فانّ بيتها يفتقد لأدنى مقاومة أمام الظواهر الجوية والطبيعية ، فلو هبّ عليه نسيم هادئ لمزق النسيج ، ولو سقطت عليه قطرة من ماء لتلاشى ، ولو وقع على مقربة من نار لاحترق ، ولو تراكم عليه الغبار لمزق.

هذا هو حال المشبه به ، والقرآن يمثل حال الآلهة المزيفة بهذا المثل الرائع. وهو انّها لا تنفع ولا تضرّ ، لا تخلق ولا ترزق ، ولا تقدر على استجابة أي طلب.

بل حال الآلهة المزيفة الكاذبة أسوأ حالاً من بيت العنكبوت ، وهو انّ العنكبوت تنسج بيتها لتصطاد به الحشرات ولولاه لماتت جوعاً ، ولكن الأصنام والأوثان لا توفر شيئاً للكافر.

ص: 218


1- انظر دائرة معارف القرن الرابع عشر : 6 / 772.

وبذلك تقف على عظمة التمثيل الوارد في قوله : ( وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) .

ثمّ إنّ قوله : ( لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) ليس قيداً لقوله : ( أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ) ، لأنّه من الواضح لكلّ أحد انّ بيت العنكبوت في غاية الوهن ، وانّما هو من متمّمات قوله : ( اتَّخَذُوا ) أي لو علموا انّ عبادة الآلهة كاتخاذ العنكبوت بيتاً سخيفاً ، ربما أعرضوا عنها.

ثمّ إنّه سبحانه أردف المثل بآية أُخرى ، وقال : ( إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) والظاهر انّ « ما » في قوله : ( مَا يَدْعُونَ ) موصولة ، أي انّه يعلم ما يعبد هؤلاء الكفار وما يتخذونه من دونه أرباباً. ولكن علمهم لا يضر إذ هو العزيز الذي لا يغالب فيما يريد والحكيم في جميع أفعاله.

ثمّ قال سبحانه : ( وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ ) أي نذكر تلك الأمثال ، وما يفهمها إلاّ العلماء العاقلون.

ص: 219

الروم

39. التمثيل التاسع والثلاثون

اشارة

( وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ * وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ * ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (1).

تفسير الآيات

« القانت » : هو الخاضع ، الطائع ، فقوله : ( كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) أي خاضعون وطائعون له في الحياة والبقاء والموت والبعث ، وبالجملة كلّ ما في الكون مقهور لله سبحانه.

ثمّ إنّ هذه الآيات تتضمن برهاناً على إمكان المعاد وتمثيلاً على بطلان الشرك في العبادة ، أمّا البرهان فقوله سبحانه : ( وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) واللام في قوله « وله » للملكية ، والمراد منه الملكية التكوينية ، كما أنّ قنوطهم وخضوعهم كذلك ، ومفاد الآية انّ زمام ما في الكون بيده سبحانه ، والكل مستسلمون لمشيئته سبحانه دون فرق بين الصالحين والطالحين ، وذلك لأنّه سبحانه

ص: 220


1- الروم : 26 - 28.

هو الخالق الذي يدبر العالم كيفما يشاء ، والمربوب مستسلم لربه.

ثمّ إنّه سبحانه رتَّب على ذلك مسألة إمكان المعاد ، بقوله : ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) .

وحاصل البرهان : انّه سبحانه قادر على الخلق من العدم - كما هو المفروض - فالقادر على ذلك قادر على الإعادة ، إذ ليس هو إعادة من العدم ، بل إعادة لصورة الأجزاء المتماسكة وتنظيم المتفرقة ، فالخالق من لا شيء أولى من أن يكون خالقاً من شيء.

ثمّ إنّ هذه الأولوية حسب تفكيرنا ورؤيتنا ، وإلاّ فالأمور الممكنة أمام مشيئته سواء ، قال على علیه السلام :

وما الجليل واللطيف ، والثقيل والخفيف ، والقوي والضعيف في خلقه إلاّ سواء (1).

ولأجل توضيح هذا المعنى ، قال سبحانه : ( وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) والمراد من المثل الوصف ، والمراد من المثل الأعلى هو الوصف الأتم والأكمل ، الذي له سبحانه ، فهو علم كله ، قدرة كله ، حياة كله ، ليس لأوصافه حد.

إلى هنا تمَّ ما ذكره القرآن من البرهان على إمكانية قيام المعاد بحشر الأجسام.

وإليك بيان الأمر الثاني وهو التنديد بالشرك في العبادة من خلال التمثيل الآتي.

ص: 221


1- نهج البلاغة : الخطبة 185.

ألقى سبحانه المثل بصورة الاستفهام الإنكاري ، وحاصله : هل ترضون لأنفسكم أن تكون عبيدكم وإماؤكم شركاء لكم في الأموال التي رزقناكم إيّاها على وجه تخشون التصرف فيها بغير إذن هؤلاء العبيد والإماء ورضاً منهم ، كما تخشون الشركاء الأحرار.

والجواب : لا ، أي لا يكون ذلك أبداً ولا يصير المملوك شريكاً لمولاه في ماله ، فعندئذٍ يقال لكم : كيف تجوزون ذلك على اللّه ، وأن يكون بعض عبيده المملوكين كالملائكة والجن شركاء له ، امّا في الخالقية أو في التدبير أو في العبادة.

والحاصل : انّ العبد المملوك وضعاً لا يصحّ أن يكون في رتبة مولاه على نحو يشاركه في الأموال ، فهكذا العبد المملوك تكويناً لا يمكن أن يكون في درجة الخالق المدبر فيشاركه في الفعل ، كأن يكون خالقاً أو مدبراً ، أو يشاركه في الصفة كأن يكون معبوداً.

فالشيء الذي لا ترضونه لأنفسكم ، كيف ترضونه لله سبحانه ، وهو ربّ العالمين ؟ وإلى ذلك المثل أشار ، بقوله :

( ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ ) أي ضرب لكم مثلاً متخذاً من أنفسكم منتزعاً من حالاتكم ( هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ ) فقوله : ( هَل لَّكُم ) شروع في المثل المضروب ، والاستفهام للإنكار ، وقوله « ما » في ( مِّن مَّا مَلَكَتْ ) إشارة إلى النوع أي من نوع ما ملكت أيمانكم من العبيد والإماء.

فقوله : ( مِّن شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ ) مبين للشركة ، فقوله شركاء مبتدأ والظرف بعده خبره ، أي شركاء فيما رزقناهم على وجه تكونون فيه سواء ، وعلى ذلك يكون من في شركاء ، زائدة.

ص: 222

فقوله : ( تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ ) بيان للشركة ، أي يكون العبيد كسائر الشركاء الأحرار ، فكما أنّ الشريك يخاف من شركائه الأحرار ، كذلك يخاف من عبده الذي يعرف أنّه شريك كسائر الشركاء.

ثمّ إنّه يتم الآية ، بقوله : ( كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) ، وعلى ذلك فالمشبه هو جعل المخلوق في درجة الخالق ، والمشبه به جعل المملوك وضعاً شريكاً للمالك.

ص: 223

فاطر

40. التمثيل الأربعون

اشارة

( وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (1).

تفسير الآية

« الفرات » : الماء العذب ، يقال للواحد والجمع ، قال سبحانه : ( وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتًا ) ، وعلى هذا يكون عذب قيداً توضيحياً.

« الأُجاج » : هو شديد الملوحة والحرارة من قولهم أجيج النار.

« مواخر » من مخر ، يقال مخرت السفينة مخراً ، إذا شقت الماء بجؤجئها مستقبلة له.

فالآية بصدد ضرب المثل في حقّ الكفر والإيمان ، أو الكافر والمؤمن.

وحاصل التمثيل : انّ الإيمان والكفر متمايزان لا يختلط أحدهما بالآخر ، كما أنّ الماء العذب الفرات لا يختلط بالملح الأجاج.

وفي الوقت نفسه لا يتساويان في الحسن والنفع ، قال سبحانه : ( وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ) بل انّ

ص: 224


1- فاطر : 12.

الكافر أسوأ حالاً من البحر الأجاج الذي يشاطر البحر الفرات في أمرين :

أ : يستخرج من كلّ منهما لحماً طرياً يأكله الإنسان ، كما قال سبحانه : ( وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا ) .

ب : يستخرج من كلّ منهما اللآلئ التي تخرج من البحر بالغوص وتلبسونها وتتزينون بها.

إلى هنا تمَّ التمثيل ، ثمّ إنّه سبحانه شرع لبيان نعمه التي نزلت لأجلها السورة ، وقال :

( وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ، والدليل على أنّه ليس جزء المثل تغير لحن الكلام ، حيث إنّ المثل ابتدأ بصيغة الماضي ، وقال : ( وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ ) ولكن ذيله جاء بصيغة المخاطب ( وَتَرَى الْفُلْكَ ) وهذا دليل على أنّه ليس جزء المثل.

مضافاً إلى أنّ مضمون الجملة جاء في سورة النحل ، وقال : ( وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (1).

وبذلك يظهر انّ وزان الآية ، وزان قوله سبحانه : ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) (2).

فكما أنّ الحجارة ألين من قلوبهم ، فهكذا الملح الأجاج أفضل من الكافر ، حيث إنّه يفيد.

ص: 225


1- النحل : 14.
2- البقرة : 74.

فاطر

41. التمثيل الواحد والأربعون

اشارة

( وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ ) (1).

تفسير الآيات

« الحرور » : شدة حرّ الشمس ، وقيل : هو السموم. وقال الراغب : الحرور : الريح الحارة.

هذا تمثيل للكافر والمؤمن ، أمّا الكافر فقد شبّهه بالصفات التالية :

1. الأعمى ، 2. الظلمات ، 3. الحرور ، 4. الأموات.

كما شبّه المؤمن بأضدادها التالية :

1. البصير ، 2. النور ، 3. الظل ، 4. الأحياء.

وما ذلك إلاّ لأنّ الكافر لأجل عدم إيمانه باللّه سبحانه وصفاته وأفعاله ، فهو أعمى البصر تغمره ظلمة دامسة لا يرى ما وراء الدنيا شيئاً ، وتحيط به نار ،

ص: 226


1- فاطر : 19 - 22.

قال سبحانه : ( إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) (1) وظاهر الآية انّ النار محيطة بهم في هذه الدنيا وإن لم يشعروا بها ، كما أنّه ميت لا يسمع نداء الأنبياء وإن كان حياً يمشي ، وهذا بخلاف المؤمن فانّه يبصر بنور اللّه يغمره نور زاهر. يرى دوام الحياة إلى ما بعد الموت ، فهو في ظلّ ظليل رحمته ، وانّه يسمع نداء الأنبياء ويؤمن به.

وبعبارة واضحة : الكافر مجالد مكابر ، والمؤمن واعٍ متدبر.

ص: 227


1- التوبة : 49.

يس

42. التمثيل الثاني والأربعون

اشارة

( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا المُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ البَلاغُ المُبِينُ * قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ * وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ * وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ * يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) (1).

ص: 228


1- يس : 13 - 30.

تفسير الآيات

« التعزيز » : النصرة مع التعظيم ، يقول سبحانه في وصف النبي صلی اللّه علیه و آله ( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ ) (1).

« طيّر » : تطير فلان وإطيّر ، أصله التفاؤل بالطير ، ثمّ يستعمل في كلّ ما يتفاءل به ويتشاءم ، فقوله ( إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ ) أي تشاءمنا بكم.

وبذلك يظهر معنى قوله : ( قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ ) أي انّ الذي ينبغي أن تتشاءموا به هو معكم ، أعني : حالة إعراضكم عن الحق الذي هو التوحيد وإقبالكم على الباطل.

« الرجم » : الرمي بالحجارة.

« الصيحة » : رفع الصوت.

هذا التمثيل تمثيل إخباري يشرح حال قوم بعث اللّه إليهم الرسل ، فكذبوهم وجادلوهم بوجوه واهية.

ثمّ أقبل إليهم رجل من أقصى المدينة يدعوهم إلى متابعة الرسل بحجة انّ رسالتهم رسالة حقّة ، ولكنّ القوم ما أمهلوه حتى قتلوه ، وفي هذه الساعة عمّت الكاذبين الصيحة فأهلكتهم عامة ، فإذا هم خامدون.

هذا إجمال القصة وأمّا تفصيلها :

فقد ذكر المفسرون انّ المسيح علیه السلام بعث إلى قرية انطاكية رسولين من الحواريّين باسم : شمعون ويوحنّا ، فدعيا إلى التوحيد وندّدا بالوثنية ، وكان القوم وملكهم غارقين في الوثنية.

ص: 229


1- الأعراف : 158.

وناديا أهل القرية بانّا إليكم مرسلون ، فواجها تكذيب القوم وضربهما ، فعززهما سبحانه برسول ثالث ، واختلف المفسرون في اسم هذا الثالث ، ولا يهمنا تعيين اسمه ، وربما يقال انّه « بولس ». فعند ذلك أخذ القوم بالمكابرة والمجادلة والعناد ، محتجين بوجوه واهية :

أ : انّكم بشر مثلنا ولا مزية لكم علينا ، وما تدعون من الرسالة من الرحمن ادّعاء كاذب ، فأجابهم الرسل بأنّه سبحانه يعلم انّا لمرسلون إليكم ، وليس لنا إلاّ البلاغ كما هو حق الرسل.

ب : انّا نتشاءم بكم ، وهذه حجة العاجز التي لا يستطيع أن يحتج بشيء ، فيلوذ إلى اتهامهم بالتشاؤم والتطيّر.

ج : التهديد بالرجم إذا أصرّوا على إبلاغ رسالتهم والدعوة إلى التوحيد والنهي عن عبادة الأوثان ، وقد أجاب الرسل بجوابين :

الأوّل : انّ التشاؤم والتطير معكم ، أي أعمالكم وأحوالكم ، وابتعادكم عن الحق ، وانكبابكم على الباطل هو الذي يجر إليكم الويل والويلات.

الثاني : انكم قوم مسرفون ، أي متجاوزون عن الحد.

كان الرسل يحتجون بدلائل ناصعة وهم يردون عليهم بما ذكر ، وفي خضم هذه الأجواء جاء رجل من أقصى المدينة نصر وعزّز قول الرسل ودعوتهم محتجاً بأنّ هؤلاء رسل الحقّ ، وذلك للأمور التالية :

أوّلاً : انّ دعوتهم غير مرفقة بشيء من طلب المال والجاه والمقام ، وهذا دليل على إخلاصهم في الدعوة ، وقد تحمّلوا عناء السفر وهم لا يسألون شيئاً.

ثانياً : انّ اللائق بالعبادة من يكون خالقاً أو مدبراً للعالم ، ومن بيده مصيره

ص: 230

في الدنيا والآخرة وليس هو إلاّ اللّه سبحانه الذي ينفعني ، فكيف أترك عبادة الخالق الذي بيده كلّ شيء ، وأتوجه إلى عبادة المخلوق ( الآلهة المزيفة ) التي لا تستطيع أن تدفع عني ضراً ولا تنفعني شفاعتهم ؟! فلو اتخذت إلهاً غيره سبحانه كنت في ضلال مبين ، فلمّا تم حجاجه مع القوم وعزز الرسل وبين برهان لزوم اتباعهم ، أعلن ، وقال : أيّها النّاس : ( إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ) .

ثمّ يظهر من القرائن انّ القوم هجموا عليه وقتلوه ، ولكنّه سبحانه جزاه ، فأدخله الجنة ، وهو فرح مستبشر يودّ لو علم قومه بمصيره عند اللّه.

فلمّا تبيّن عناد القوم وقتل من احتج عليهم بحجج قوية نزل عذابه سبحانه ، فعمَّتهم صيحةواحدة أخمدت حياتهم وصيّرتهم جماداً.

ففي هذه اللحظة الحاسمة التي يختار الإنسان الضلالة على الهداية ، والباطل على الحقّ ، يصح أن يخاطبهم سبحانه ، ويقول :

( يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) .

هذه حقيقة القصة استخرجناها بعد الإمعان في الآيات ، وقد أطنب المفسرون في سرد القصة ، نقلاً عن مستسلمة أهل الكتاب الذين نشروا الأساطير بين المسلمين ، نظراء وهب بن منبه ، فلا يمكن الاعتماد على كلّ ما جاء فيها (1).

ثمّ إنّ في الآيات نكات جديرة بالمطالعة :

الأُولى : يذكر المفسرون انّ الرسولين لم يكونا مبعوثين من اللّه مباشرة ، وانّما بعثا من قبل المسيح علیه السلام . مثل الرسول الثالث ، ولما كان بعث المسيح بأمر من اللّه سبحانه ، نسب فعل المسيح إليه سبحانه ، وقال : ( إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ ) .

ص: 231


1- لاحظ مجمع البيان : 4 / 418 - 420.

الثانية : لقد وقفت على أنّ القوم قاموا بالجدال والعناد ، فقالوا : ما أنتم إلاّ بشر مثلنا ، والجملة تحتمل وجهين :

الوجه الأوّل : أنتم أيّها الرسل بشر ، والبشر لا يكون رسولاً من اللّه ، وعلى هذا فالمانع من قبول رسالاتهم كون أصحابها بشراً.

الوجه الثاني : انّ المانع من قبول دعوة الرسالة هي عدم توفر أي مزية في الرسل ترجحهم ، ويشعر بذلك قوله : « مثلنا » وإلاّ فلو كان الرسل مزودين بشيء آخر ربما لم يصح لهم جعل المماثلة عذراً للربّ.

الثالثة : انّ القصة تنم عن أنّ منطق القوة كان منطق أهل اللجاج ، فالقوم لما عجزوا عن رد برهانهم التجأوا إلى منطق القوة ، بقتل دعاة الحق وصلحائه ، وقالوا : ( لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ ) .

الرابعة : انّ التطير كان سلاح أهل العناد والمكابرة ، ولم يزل هذا السلاح بيد العتاة الجاحدين للحق ، فيتطيرون بالعابد ، وغير ذلك.

الخامسة : يظهر من صدر الآيات انّ الرسل بعثوا إلى القرية ، وقد تطلق غالباً على المجتمعات الكبيرة والصغيرة ، ولكن قوله : ( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى المَدِينَةِ رَجُلٌ ) يعرب انّها كانت مدينة ومجتمعاً كبيراً لا صغيراً.

السادسة : انّه سبحانه يصف الرجل الرابع الذي قام بدعم موقف الرسل بأنّه كان من أقصى المدينة ، وما هذا إلاّ لأجل الإشارة إلى عدم الصلة والتواطئ بينه وبين الرسل ، ولذلك قدّم لفظ أقصى المدينة على الفاعل ، أعني : « رجل » ، وقال : ( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى المَدِينَةِ ) .

السابعة : انّ قوله : ( وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي ) دليل على أنّ العبادة هي

ص: 232

الخضوع النابع عن الاعتقاد بخالقية المعبود ومدبريته ، وماله من الأوصاف القريبة من ذلك ، ولذلك يرى أنّه يعلل إيمانه وتوحيده ، بقوله : ( مَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي ) .

كما أنّه يعلل حصر عبادته له وسلبها عن غيره ، بعجزهم عن رد ضرّ الرحمن بعدم الجدوى في شفاعتهم.

الثامنة : قلنا أنّ القرائن تشهد بأنّ من قام بالدعوة إلى طريق الرسل من القوم ، قتل عند دعوته وجازاه اللّه سبحانه بأن أدخله الجنة ، والمراد من الجنة هو عالم البرزخ لا جنة الخلد التي لا يدخلها الإنسان إلاّ بعد قيام الساعة.

التاسعة : كما أنّ في كلام الرجل المقتول ، بقوله : ( يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي ) دليلاً على وجود الصلة بين الحياة البرزخية والمادية ، حيث أبلغ بلاغاً إلى قومه ، وتمنى أن يقفوا على ما أنعم اللّه عليه بعد الموت ، حيث قال : ( قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ) .

ص: 233

يس

43. التمثيل الثالث والأربعون

اشارة

( أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) (1).

تفسير الآيات

روى المفسرون أنّ أُبي بن خلف ، أو العاص بن وائل جاء بعظم بال متفتت ، وقال : يا محمد أتزعم انّ اللّه يبعث هذا ، فقال : نعم ، فنزلت الآية ( أَوَلَمْ يَرَ الإنسان ) .

فضرب الكافر مثلاً ، وقال : كيف يحيي اللّه هذه العظام البالية ؟

وضرب سبحانه مثلاً آخر ، وهو انّه يحييها من أنشأها أوّلاً ، فمن قدر على إنشائها ابتداءً يقدر على الإعادة ، وهي أسهل من الإنشاء والابتداء ، وقد عرفت أنّ إطلاق لفظ الأسهلية إنّما هو من منظار الإنسان ، وأمّا الحقّ جلّ وعلا فكل الأشياء أمامه سواء.

قال سبحانه : ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً ) أي ضرب مثلاً في إنكار البعث بالعظام

ص: 234


1- يس : 77 - 79.

البالية ، واستغرب ممن يقول انّ اللّه يحيي هذه العظام ونسي خلقه ( قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) ومثل سبحانه بالرد عليه بمثال آخر ، وقال : ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) من الابتداء والاعادة ، وقد مرّ هذا المثل بعبارة أُخرى في قوله : ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) (1).

ص: 235


1- الروم : 27.

الزمر

44. التمثيل الرابع والأربعون

اشارة

( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (1).

تفسير الآيات

« الشكس » : السيء الخلق ، يقال : شركاء متشاكسون ، أي متشاجرون لشكاسة خلقهم.

« سلماً » : أي خالصاً لا يملكه إلاّ شخص واحد ولا يخدم إلاّ إياه.

هذه الآيات تمثل حالة الكافر والمؤمن ، فهناك مشبه ومشبه به.

أمّا المشبّه به ، فهو عبارة عن عبد مملوك له شركاء سيئي الخلق متنازعون فيه ، فواحد يأمره وآخر ينهاه ، وكلّ يريد أن يتفرّد بخدمته ، في مقابل عبد مملوك لرجل يطيعه ويخدمه ولا يشرك في خدمته شخصاً آخر.

فهذان المملوكان لا يستويان.

وأمّا المشبه فحال الكافر هو حال المملوك الذي فيه شركاء متشاكسون ،

ص: 236


1- الزمر : 27 - 29.

فهو يعبد آلهة مختلفة لكلّ أمره ونهيه وخدمته ، ولا يمكن الجمع بين الآراء والأهواء المختلفة ، بخلاف المؤمن فانّه يأتمر بأمر الخالق الحكيم القادر الكريم.

وهذا المثل وإن كان مثلاً واضحاً ساذجاً مفهوماً لعامة الناس ، ولكن له بطن لا يقف عليه إلاّ أهل التدبر في القرآن ، فهو سبحانه بصدد البرهنة على توحيده الذي أشار إليه في قوله : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) . (1)

وقال سبحانه : ( أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) (2).

ص: 237


1- الأنبياء : 22.
2- يوسف : 39.

الزخرف

45. التمثيل الخامس والأربعون

اشارة

( وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ ) (1).

تفسير الآيات

« البطش » : تناول الشيء بصولة ، وربما يراد منه القوة والمنعة ، يذكر سبحانه في هذه الآيات الأمم الماضية التي بعث اللّه سبحانه رسله إليهم ، فكفروا بأنبيائه وسخروا منهم لفرط جهالتهم وغباوتهم فأهلكهم اللّه سبحانه بأنواع العذاب مع مالهم من القوة والنجدة.

هذا هو حال المشبه به ، والمشبه عبارة عن مشركي عصر الرسالة الذين كانوا يستهزئون بالنبي صلی اللّه علیه و آله فيوعدهم سبحانه بما مضى على الأوّلين ، بأنّه سبحانه أهلك من هو أشد قوة ومنعة من قريش وأتباعهم فليعتبروا بحالهم ، يقول سبحانه : ( كَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ ) أي الأُمم الماضية ( وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) فكانت هذه سيرة الأمم الماضية ، ولكنه سبحانه لم يضرب عنهم صفحاً فأهلكهم ، كما قال : ( فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ ) . أي

ص: 238


1- الزخرف : 6 - 8.

مضى في القرآن - في غير موضع منه - ذكر قصتهم وحالهم العجيبة التي حقها أن تصير مسير المثل.

وبعبارة أُخرى : انّ كفار مكة سلكوا في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم فليحذروا أن ينزل بهم من الخزي مثلما نزل بالاَُمم الغابرة ، فقد ضربنا لهم مثَلَهم ، كما قال تعالى : ( وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ ) (1).

ايقاظ

ثمّ إنّه ربما عدّ من أمثال القرآن ، قوله سبحانه : ( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ) (2).

كان المشركون في العصر الجاهلي يعدّون الملائكة إناثاً وبناتاً لله تبارك وتعالى ، يقول سبحانه : ( وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا ) فردّ عليهم بقوله : ( أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ) .

وقال سبحانه : ( وَيَجْعَلُونَ للهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ ) (3).

فعلى ذلك فالملائكة عند المشركين بنات اللّه سبحانه.

ثمّ إنّ الآية تحكي عن خصيصة المشركين بأنّهم إذا رزقوا بناتاً ظلّت وجوههم مسودة يعلوها الغيظ والكظم ، قال سبحانه : ( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ) أي وصف اللّه به ، وقد عرفت انّهم وصفوه بأنّ الملائكة بنات اللّه.

ص: 239


1- الفرقان : 39.
2- الزخرف : 17.
3- النحل : 57.

( ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ) فليست الآية من قبيل المثل الاخباري ولا الانشائي ، وإنّما هي بمعنى الوصف ، أي وصفوه بأنّه صاحب بنات ، وهم كاذبون في هذا الوصف ، فلا يصح عدّ هذه الآية من آيات الأمثال.

ص: 240

الزخرف

46. التمثيل السادس والأربعون

اشارة

( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ ) (1).

تفسير الآيات

« آسفونا » : مأخوذ من أسف أسفاً إذا اشتد غضبه.

وقال الراغب : الآسف : الحزن والغضب معاً ، وقد يقال لكلّ واحد منهما على الانفراد ، والمراد في الآية هو الغضب.

السلف : المتقدم.

انّه سبحانه يخبر عن انتقامه من فرعون وقومه ، ويقول : فلمّا آسفونا ، أي أغضبونا ، وذلك بالإفراط في المعاصي والتجاوز عن الحد ، فاستوجبوا العذاب ، كما قال سبحانه : ( انتَقَمْنَا مِنْهُمْ ) ثمّ بين كيفية الانتقام ، وقال : ( فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ) فما نجا منهم أحد ( فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ ) ، أي جعلناهم عبرة وموعظة لمن يأتي من بعدهم حتى يتّعظوا بهم.

فالمشبه به هو قوم فرعون واستئصالهم ، والمشبه هو مشركو أهل مكة وكفّارهم ، فليأخذوا حال المتقدمين نموذجاً متقدماً لمصيرهم.

ص: 241


1- الزخرف : 54 - 56.

الزخرف

47. التمثيل السابع والأربعون

اشارة

( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ) (1).

تفسير الآيات

« الصدّ » : بمعنى الانصراف عن الشيء ، قال سبحانه : ( يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا ) ، ولكن المراد منه في الآية هو ضجة المجادل إذا أحس الانتصار.

« تمترن » : من المرية وهي التردد بالأمر.

ذكر المفسرون في سبب نزول الآيات انّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لما قرأ : ( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ ) (2).

ص: 242


1- الزخرف : 57 - 61.
2- الأنبياء : 98 - 100.

امتعضت قريش من ذلك امتعاضاً شديداً ، فقال عبد اللّه بن الزبعرى : يا محمد أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأُمم ؟ فقال صلی اللّه علیه و آله : « هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأُمم ».

فقال : خصمتك وربّ الكعبة ، ألست تزعم انّ عيسى بن مريم نبي وتثني عليه خيراً ، وعلى أُمّه ، وقد علمت أنّ النصارى يعبدونهما ، وعزير يعبد ، والملائكة يعبدون ، فإن كان هؤلاء في النار ، فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ، ففرحوا وضحكوا (1).

وإلى فرحهم وضجّتهم ، يشير سبحانه بقوله : ( إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) حيث زعموا انّهم وجدوا ذريعة للرد عليه وإبطال دعوته ، فنزلت الآية إجابة عن جدلهم الواهي ، قال سبحانه :

( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً ) أي لما وصف المشركون ابن مريم مثلاً وشبهاً لآلهتهم ( إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) أي أحس قومك في هذا التمثيل فرحاً وجذلاً وضحكاً لمّا حاولوا إسكات رسول اللّه بجدلهم ، حيث قالوا في مقام المجادلة : ( وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ) يعنون آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى ، فإذا كان عيسى من حصب النار كانت آلهتنا هيناً.

وبذلك يعلم انّ المشركين هم الذين ضربوا المثل حيث جعلوا المسيح شبهاً ومثلاً لآلهتهم ، ورضوا بأن تكون آلهتهم في النار إذا كان المسيح كذلك ازداد فرح المشركين وظنوا انّهم التجأوا إلى ركن ركين أمام منطق النبي صلی اللّه علیه و آله .

ثمّ إنّه سبحانه يشير في الآيات السابقة إلى القصة على وجه الإجمال ، ويجيب

ص: 243


1- الكشاف : 3 / 100. لاحظ سيرة ابن هشام : 1 / 1. وقد ذكرت القصة بتفصيل.

على استدلال ابن الزبعرى.

أوّلاً : انّهم ما أرادوا بهذا التمثيل إلاّ المجادلة والمغالبة لا لطلب الحق ، وذلك لأنّ طبعهم على اللجاج والعناد ، يقول سبحانه : ( مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ) .

وثانياً : انّهم ما تمسكوا بهذا المثل إلاّ جدلاً وهم يعلمون بطلان دليلهم ، إذ ليس كلّ معبود حصب جهنم ، بل المعبود الذي دعا الناس إلى عبادته كفرعون لا كالمسيح الذي كان عابداً لله رافضاً للشرك ، فاستدلالهم كان مبنياً على الجدل وإنكار الحقيقة ، وهذا هو المراد من قوله : ( مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ) .

ولذلك بدأ سبحانه يشرح موقف المسيح وعبادته وتقواه وانّه كان آية من آيات اللّه سبحانه ، وقال : ( إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ) ، أي آية من آيات اللّه لبني إسرائيل ، فولادته كانت معجزة ، وكلامه في المهد معجزة ثانية وإحياؤه الموتى معجزة ثالثة ، فلم يكن يدعو قطُّ إلى عبادة نفسه.

ثمّ إنّه سبحانه من أجل تحجيم شبهة حاجته إلى عبادة الناس ، يقول : ( وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ ) أي يطيعون اللّه ويعبدونه ، فليس الإصرار على عبادتكم وتوحيدكم إلاّ طلباً لسعادتكم لا لتلبية حاجة اللّه ، وإلاّ ففي وسعه سبحانه أن يخلقكم ملائكة خاضعين لأمره.

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى خصيصة من خصائص المسيح ، وهي انّ نزوله من السماء في آخر الزمان آية اقتراب الساعة.

ص: 244

إلى هنا تم تفسير الآية ، وأمّا التمثيل فقد تبين ممّا سبق حيث شبهوا آلهتهم بالمسيح ورضوا بأن تكون مع المسيح في مكان واحد وإن كان هو النار. فالذي يصلح لأن يكون مثلاً إنّما هو قوله : ( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً ) وقد عرفت انّ الضارب هو ابن الزبعرى ، وأمّا قوله : ( وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ) فالمثل فيه بمعنى الآية.

إيقاظ :

ربما عُدّت الآية التالية من الأمثال القرآنية : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ) (1) والظاهر انّ المثل في الآية بمعنى الوصف لا بمعنى التمثيل المصطلح ، أي تشبيه شيء بشيء ويعلم ذلك من خلال تفسير الآيات.

تفسير الآيات

« بال » البال : الحال التي يكترث بها ، ولذلك يقال : ما باليت بكذا بالةً أي ما اكترثت به ، قال : ( كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ) ، وقال : ( فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى ) أي حالهم وخبرهم ، ويعبَّر بالبال عن الحال الذي ينطوي عليه الإنسان ، فيقال خطر كذا ببالي (2).

ص: 245


1- محمد : 2 - 3.
2- مفردات الراغب : 67 مادة بال.

إنّ هذه الآيات بشهادة ما تليها تبين حال كفّار قريش ومشركي مكة الذين أشعلوا فتيل الحرب في بدر. فقال : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللّهِ ) أي منعوا الآخرين من الاهتداء بهدى الإسلام ، فهؤلاء أضلّ أعمالهم ، أي أحبط أعمالهم وجعلها هباءً منثوراً. فلا ينتفعون من صدقاتهم وعطياتهم إشارة إلى غير واحد من صناديد قريش الذين نحروا الإبل في يوم بدر وقبله.

فيقابلهم المؤمنون كما قال : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ) .

فلو انّه سبحانه أضلّ أعمال الكافرين وأحبط ما يقومون به من صدقات ، لكنّه سبحانه من جهةأُخرى جعل صالح أعمال المؤمنين كفارة لسيئاتهم وأصلح بالهم.

فشتان ما بين كافر وصاد عن سبيل اللّه ، يحبط عمله.

ومؤمن باللّه وبما نزّل على محمد ، يكفّر سيئاته بصالح أعماله.

ومن هذا التقابل علم مكانة الكافر والمؤمن ، كما علم نتائج أعمالهما.

ثمّ إنّه سبحانه يدلّل على ذلك بأنّ الكافرين يقتفون أثر الباطل ولذلك يضل أعمالهم ، وأمّا المؤمنون فيتبعون الحقّ فينتفعون بأعمالهم ، وقال : ( ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ ) .

وفي ختام الآية الثانية ، قال : ( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ) أي كذلك يبين حال المؤمن والكافر ونتائج أعمالهما وعاقبتهما.

وعلى ذلك فالآية ليست من قبيل التمثيل ، بل بمعنى الوصف ، أي كذلك يصف سبحانه للناس حال الكافر والمؤمن وعاقبتهما. فليس هناك أي تشبيه

ص: 246

وتنزيل ، وإنّما الآيات سيقت لبيان الحقيقة ، فالآية الاُولى تشير إلى الكافر ونتيجة عمله ، والآية الثانية تشير إلى المؤمن ومصير عمله ، والآية الثالثة تذكر علة الحكم ، وهو انّ الكافر يستقي من الماء العكر حيث يتبع الباطل والمؤمن ينهل من ماء عذب فيتبع الحقّ.

ص: 247

محمد

48. التمثيل الثامن والأربعون

اشارة

( مَّثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ) (1).

تفسير الآية

« آسن » يقال : أسن الماء ، يأسن : إذا تغير ريحه تغيراً منكراً ، وماء غير آسن : أي غير نتن.

« الحميم » : الماء الشديد الحرارة.

قوله : « مثل الجنة » أي وصفها وحالها ، وهو مبتدأ خبره محذوف ، أي جنة فيها أنهار. فلو أردنا أن نجعل الآية من آيات التمثيل فلابدّ من تصور مشبه وهو الجنة الموعودة ، ومشبه به وهو جنة الدنيا بما لها من الخصوصيات.

ولكن الظاهر انّ الآية صيغت لبيان حال الجنة ووصفها وسماتها ، وهي كالتالي :

ص: 248


1- محمد : 15.

1. فيها أنهار أربعة وهي عبارة عن :

أ : ( أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ ) أي الماء الذي لا يتغير طعمه ورائحته ولونه لطول البقاء.

ب : ( أَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ) ، ولا يعتريها الفساد بمرور الزمان.

ج : أنهار من خمر لذة للشاربين ، فتقييد الخمر بكونه لذة للشاربين احتراز عن خمر الدنيا ، وقد وصف القرآن الكريم خمر الجنة في آية أُخرى ، وقال : ( يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ * لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ) (1). فقوله : ( لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ ) أي ليس فيها ما يعتري خمر الدنيا من المرارة والكراهة ، فقوله : ( لا فِيهَا غَوْلٌ ) ، أي لا تغتال عقولهم فتذهب بها ، وقوله : ( وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ) أي يسكرون. وبذلك يمتاز خمر الآخرة على خمر الدنيا.

د : أنهار من عسل مصفّى وخالص من الشمع.

وهذه الأنهار الأربعة لكلّ غايته وغرضه : فالماء للارتواء ، والثاني للتغذّي ، والثالث لبعث النشاط والروح ، والرابع لإيجاد القوة في الإنسان.

2. وفيها وراء ذلك من كلّ الثمرات ، كما قال سبحانه : ( وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ) فالفواكه المتنوعة تحت متناول أيديهم لا عين رأتها ولا أُذن سمعتها ولا خطرت على قلب بشر.

3. وفيها وراء هذه النعم المادية ، نعمة معنوية يشير إليها بقوله : ( وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ ) .

ص: 249


1- الصافات : 45 - 47.

وبذلك تبيّن لنا وصف الجنة وحال المتقين فيها ، بقي الكلام في تبيين حال أهل الجحيم ومكانهم ، فأشار إليه بقوله :

( كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ ) هذا وصف أهل الجحيم ، وأمّا ما يرزقون فهو عبارة عن الماء الحميم لا يشربونه باختيارهم وإنّما يسقون ، ولذلك يقول سبحانه : ( وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا ) الذي يقطّع أمعاءهم كما قال : ( فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ) .

وعلى كلّ تقدير ، فلو قلنا : إنّ الآية تهدف إلى تشبيه جنة الآخرة بجنة الدنيا التي فيها كذا وكذا فهو من قبيل التمثيل ، وإلاّ فالآية صيغت لبيان وصف جنة الآخرة وانّ فيها أنهاراً وثماراً ومغفرة.

والظاهر هو الثاني ، فالأولى عدم عدّ هذه الآية من الأمثال القرآنية وإنّما ذكرناها تبعاً للآخرين.

ص: 250

الفتح

49. التمثيل التاسع والأربعون

اشارة

( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا * مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) (1).

تفسير الآيات

« السيماء » : العلامة ، فقوله : ( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم ) ، أي علامة إيمانهم في وجوههم.

شطأ الزرع : فروخ الزرع ، وهو ما خرج منه ، وتفرع في شاطئيه أي في جانبيه وجمعه إشطاء ، وهو ما يعبر عنه بالبراعم.

« الأزر » : القوة الشديدة ، آزره أي أعانه وقوّاه.

« الغلظة » : ضد الرقة.

ص: 251


1- الفتح : 28 - 29.

« السوق » : قيل هو جمع ساق.

القرآن يتكلم في هاتين الآيتين عن النبي تارة وأصحابه أُخرى :

أمّا الأوّل فيعرّفه بقوله : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا ) والضمير « ليظهره » يرجع إلى دين الحقّ لا الرسول ، لأنّ الغاية ظهور دين على دين لا ظهور شخص على الدين ، والمراد من الظهور هو الغلبة في مجال البرهنة والانتشار ، وقد تحقّق بفضله سبحانه وسوف تزداد رقعة انتشاره فيضرب الإسلام بجرانه في أرجاء المعمورة ، ولا سيما عند قيام الإمام المهدي المنتظر علیه السلام .

يقول سبحانه في هذا الصدد : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللّهِ ) أي الرسول الذي سوف يغلب دينه على الدين كله ، وقد صرح باسمه في هذه الآية ، إلاّ أنّه أجمل في الآية الأولى ، وقال : « أرسل رسوله ».

إلى هنا تمّ بيان صفات النبي صلی اللّه علیه و آله وسماته ، وأمّا صفات أصحابه فجاء ذكرهم في التوراة والإنجيل.

أمّا التوراة فقد جاء فيها وصفهم كالتالي :

1. ( وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ) ، الذين لا يفهمون إلاّ منطق القوة ، فلذلك يكونون أشداء عليهم.

2. ( رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) فهم رحماء يعطف بعضهم على بعض ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : مثل المؤمنين في توادّهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى (1).

ص: 252


1- مسند أحمد بن حنبل : 4 / 270 و 268 و 274.

3. ( تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا ) ، هذا الوصف يجسّد ظاهر حالهم وانّهم منهمكون في العبادة ، فلذلك يقول : ( تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا ) ، أي تراهم في عبادة ، التي هي آية التسليم لله سبحانه.

ومع ذلك لا يبتغون لعبادتهم أجراً وإنّما يأملون فضل اللّه ، كما يقول : ( يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللّهِ وَرِضْوَانًا ) ، ولعل القيد الأخير إشارة إلى أنّ الحافز لأعمالهم هو كسب رضاه سبحانه.

ومن علائمهم الأُخرى انّ أثر السجود في جباههم ، كما يقول : ( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) فسيماهم ووجوههم تلمح إلى كثرة عبادتهم وسجودهم وخضوعهم لله سبحانه ، وهذه الصفات مذكورة أيضاً في الإنجيل.

إنّ أصحاب محمد لم يزالوا يزيدون باطّراد في العدة والقوة وبذلك يغيظون الكفار ، فهم كزرع قوي وغلظ وقام على سوقه يعجب الزارعين بجودة رشده.

ولم يزالوا في حركة دائبة ونشيطة ، فمن جانب يعبدون اللّه مخلصين له الدين بلا رياء ولا سمعة ، ومن جانب آخر يجاهدون في سبيل اللّه بغية نشر الإسلام ورفع راية التوحيد في أقطار العالم.

فعملهم هذا يغيظ الكفار ويسرّ المؤمنين ، قال سبحانه : ( وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ) .

فالمجتمع الإسلامي بإيمانه وعمله وجهاده وحركته الدؤوبة نحو التكامل يثير إعجاب الأخلاّء وغيظ الألدّاء.

ثمّ إنّه سبحانه وعد طائفة خاصة من أصحاب محمّد صلی اللّه علیه و آله مغفرة وأجراً

ص: 253

عظيماً ، وذلك لأنّ المنافقين كانوا مندسّين في صفوف أصحابه ، فلا يصح وعد المغفرة لكلّ من صحب النبي صلی اللّه علیه و آله ورآه وعاش معه وقلبه خال من الإيمان ، ولذلك قال سبحانه : ( وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) فكلمة « منهم » تعرب عن أنّ المغفرة لا تعم جميع الأصحاب بل هي مختصة بطائفة دون أُخرى.

وما ربما يقال من أنّ « من » بيانية لا تبعيضية غير تام.

لأنّ « من » البيانية لا تدخل على الضمير ، ويؤيد ذلك قوله : ( وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) (1).

والحاصل : انّه لا يمكن القول بشمول أدلة المغفرة والأجر العظيم لقاطبة من صحب النبي صلی اللّه علیه و آله مع أنّهم على أصناف شتى.

فمن منافق معروف ، عرّفه الذكر الحكيم بقوله : ( إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ ) (2).

إلى آخر مختف لا يعرفه النبي صلی اللّه علیه و آله ، قال سبحانه : ( وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) .

إلى ثالث يصفهم الذكر الحكيم بمرضى القلوب ، ويقول : ( وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا ) (3).

إلى رابع سمّاعون لنعق كل ناعق فهم كالريشة في مهب الريح يميلون تارة

ص: 254


1- التوبة : 101.
2- المنافقون : 1.
3- الأحزاب : 12.

إلى المسلمين وأُخرى إلى الكافرين ، يصفهم سبحانه بقوله ( لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) (1).

إلى خامس خالط العمل الصالح بالسيّء يصفهم سبحانه بقوله : ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ) (2).

إلى سادس أشرفوا على الارتداد ، عرّفهم الحق سبحانه بقوله : ( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لا يُبْدُونَ لَكَ ) (3).

إلى سابع يصفه القرآن فاسقاً ، ويقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) (4).

والمراد هو الوليد بن عقبة صحابي سمي فاسقاً ، وقال تعالى : ( فَإِنَّ اللّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) (5).

إلى ثامن يصفهم الذكر الحكيم مسلماً غير مؤمن ويصرِّح بعدم دخول الإيمان في قلوبهم ، ويقول : ( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) (6).

إلى تاسع أظهروا الإسلام لأخذ الصدقة لا غير ، وهم الذين يعرفون بالمؤلّفة

ص: 255


1- التوبة : 47.
2- التوبة : 102.
3- آل عمران : 154.
4- الحجرات : 6.
5- التوبة : 96.
6- الحجرات : 14.

قلوبهم ، قال : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) (1).

إلى عاشر يفرّون من الزحف فرار الغنم من الذئب ، يقول سبحانه :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ ) (2).

وكم نطق التاريخ بفرار ثلة من الصحابة من ساحات الوغى ، يقول سبحانه عند ذكر غزوة أُحد : ( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ ) (3) ، ولم يكن الفرار مختصاً بغزوة أُحد بل عمّ غزوة حنين أيضاً ، يقول سبحانه : ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ) (4).

هذه إلمامة عابرة بأصناف الصحابة المذكورة في القرآن الكريم ، أفيمكن وعد جميع هذه الأصناف بالمغفرة ؟!

مضافاً إلى آيات أُخرى تصف أعمالهم.

نعم كان بين الصحابة رجال مخلصون يستدر بهم الغمام ، وقد وصفهم سبحانه في غير واحد من الآيات التي لا تنكر.

والكلام الحاسم : انّ وعد المغفرة لصنف منهم لا لجميع الأصناف ، كما أنّ عدالتهم كذلك.

ص: 256


1- التوبة : 60.
2- الأنفال : 15 - 16.
3- آل عمران : 153.
4- التوبة : 25.

الحديد

50. التمثيل الخمسون

اشارة

( اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ) (1).

تفسير الآية

« الكفّار » : جمع الكافر بمعنى الساتر ، والمراد الزارع ، ويطلق على الكافر باللّه لستره الحق ، والمراد في المقام الزارع ، لأنّه يستر حبّه تحت التراب ويغطّيها به ، يقول سبحانه : ( كَزَرْعٍ ... يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ) (2).

« هيج » : يقال : هاج البقل يهيج ، أي أصفرّ ، والمراد في قوله : ( ثُمَّ يَهِيجُ ) أي ييبس ( فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ) أي إذا قارب اليبس.

و « الحطام » بمعنى كسر الشيء ، قال سبحانه : ( لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ ) (3).

ص: 257


1- الحديد : 20.
2- الفتح : 29.
3- النمل : 18.

فالآية تتضمن أمرين :

الأمر الأوّل : ترسيم الحياة الدنيا والمراحل المختلفة التي تمر على الإنسان :

أ : اللعب ، ب : اللّهو ، ج : الزينة ، د : التفاخر ، ه : التكاثر في الأموال والأولاد.

والأمر الثاني : تشبيه الدنيا بداية ونهاية بالنبات الذي يعجب الزارع طراوته ونضارته ، ثمّ سرعان ما يتحول إلى عشب يابس تذروه الرياح.

ثمّ استنتج من هذا التمثيل : انّ الحياة الدنيا متاع الغرور ، أي وسيلة للغرور والمتعة ، يغتر بها المخلدون إلى الأرض يتصورونها غاية قصوى للحياة ، ولكنّها في نظر المؤمنين قنطرة للحياة الأخرى لا يغترّون بها ، بل يتزوّدون منها إلى حياتهم الأخروية.

هذا هو ترسيم إجمالي لمفهوم الآية ، والتمثيل إنّما هو في الشق الثاني منها ، فلنرجع إلى تفسير كلّ من الأمرين.

إنّ حياة الإنسان من لدن ولادته إلى نهاية حياته تتشكل من مراحل خمس :

المرحلة الأولى : اللعب

واللعب هو محل منظوم لغرض خيالي كلعب الأطفال ، وهي تقارن حياة الإنسان منذ نعومة أظفاره وطفولته ، ويتخذ ألواناً مختلفة حسب تقدم عمره ، وهو أمر محسوس عند الأطفال.

المرحلة الثانية : اللّهو

واللّهو ما يشغل الإنسان عمّا يهمه ، وهذه المرحلة تبتدئ حينما يبلغ ويشتد

ص: 258

عظمه ، فتجد في نفسه ميلاً ونزوعاً إلى الملاهي وغيرها.

المرحلة الثالثة : حب الزينة.

والزينة نظير ارتداء الملابس الفاخرة والمراكب البهية والمنازل العالية ، وجنوحه إلى كل جمال وحسن.

المرحلة الرابعة : التفاخر.

إذا تهيّأ للإنسان أسباب الزينة يأخذ حينها بالمفاخرة بالأحساب والأنساب ، وما تحت يديه من الزينة.

المرحلة الخامسة : التكاثر في الأموال والأولاد.

وهذه المرحلة هي المرحلة الخامسة التي يصل فيها الإنسان إلى مرحلة من العمر يفكر في تكثير الأموال والأولاد ، ويشيب على ذلك الإحساس.

ثمّ إنّ تقسيم المراحل التي تمر على الإنسان إلى خمس ، لا يعني انّ كلّ هذه المراحل تمر على الإنسان بلا استثناء ، بل يعني انّها تمر عليه على وجه الإجمال ، غير انّ بعض الناس تتوقف شخصيتهم عند المرحلتين الأوليين إلى آخر عمره ، فيكون اللعب واللّهو أهم مائز في سلوكهم ، كما أنّ بعضهم تمر عليه المرحلة الثالثة والرابعة فيحرص على ارتداء الملابس الفاخرة والتفاخر بما لديه من أسباب.

روي عن الشيخ البهائى انّ الخصال الخمس المذكورة في الآية مترتبة بحسب سني عمر الإنسان ومراحل حياته ، فيتولّع أوّلاً باللعب وهو طفل أو مراهق ، ثمّ إذا بلغ واشتد عظمه تعلّق باللّهو والملاهي ، ثمّ إذا بلغ أشده اشتغل بالزينة من الملابس الفاخرة والمراكب البهية والمنازل العالية وتوله للحسن

ص: 259

والجمال ، ثمّ إذا اكتهل أخذ بالمفاخرة بالأحساب والأنساب ، ثمّ إذا شاب سعى في تكثير المال والولد (1).

هذا ما يرجع إلى بيان حال الدنيا من حيث المراحل التي تمر بها.

الأمر الثاني : أي التمثيل الذي يجسد حال الدنيا ويشبهها بأرض خصبة يصيبها مطر غزير ، فتزدهر نباتها على وجه يعجب الزرّاع ، ولكن سرعان ما تذهب طراوتها وتفارقها فيصيبها الإصفرار واليبس وتذروها الرياح في كلّ الأطراف وتصبح كأنّها لم تكن شيئاً مذكوراً ، وعند ذلك تتجلّى الحقيقة أمام الإنسان وانّه اغتر بطراوة هذه الروضة.

وهكذا حال الدنيا فيغتر الإنسان بها ويخلد إليها ، ولكن سرعان ما تسفر له عن وجهها وتكشف عن لثامها ، وعلى أية حال فالآية تهدف إلى تحقير الدنيا وتعظيم الآخرة.

ص: 260


1- الميزان : 19 / 164.

الحشر

51. التمثيل الواحد والخمسون

اشارة

( لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (1).

تفسير الآيات

« الحصن » : جمعه حصون ، والقرى المحصنة التي تحيطها القلاع المنيعة التي تمنع من دخول الأعداء.

البأس والبأساء : الشدة.

الوبال : الأمر الذي يخاف ضرره.

الآية تصف حال بني النضير من اليهود الذين أجلاهم الرسول وقد تآمروا على قتله ، وكيفية المؤامرة مذكورة في كتب التاريخ ، فأمرهم النبي صلی اللّه علیه و آله بالجلاء وترك الأموال وقد كانوا امتنعوا من تنفيذ أمر الرسول ، وكان المنافقون يصرّون عليهم بعدم الجلاء وانّهم يناصرونهم عند نشوب حرب بينهم وبين المسلمين ، فبقي بنو النضير أياماً قلائل في قلاعهم لا يجلون عنها بغية وصول إمدادات تعزّز قواهم.

ص: 261


1- الحشر : 14 - 15.

فالآيات تشرح حالهم بإمعان وتخبر بأنّهم « لا يقاتلونكم » معاشر المؤمنين جميعاً إلاّ في قرى محصنة ، أي لا يبرزون لحربكم خوفاً منكم ، وإنّما يقاتلونكم متدرّعين بحصونهم ، أو « من وراء جدر » ، أي يرمونكم من وراء الجدر بالنبل والحجر.

( بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ) ، والمراد من البأس هو العداء ، أي عداوة بعضهم لبعض شديدة ، فليسوا متّفقي القلوب ، ولذلك يعقبه بقوله : ( وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ) ، ثمّ يعلل ذلك بقوله : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ) .

ثمّ يمثّل لهم مثلاً ، فيقول : إنّ مثلهم في اغترارهم بعددهم وعدّتهم وقوتهم ( كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ) ، والمراد مشركو قريش الذين قتلوا ببدر قبل جلاء بني النضير بستة أشهر ، ويحتمل أن يكون المراد قبيلة بني قينقاع حيث نقضوا العهد فأجلاهم رسول اللّه بعد رجوعه من بدر.

فهؤلاء ( ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ ) ، أي عقوبة كفرهم ولهم عذاب أليم.

ص: 262

الحشر

52. التمثيل الثاني والخمسون

اشارة

( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ) (1).

تفسير الآية

هذه الآية أيضاً ناظرة إلى قصة بني النضير ، فلمّا تآمروا على النبي صلی اللّه علیه و آله أمرهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالجلاء ، ولكنّ المنافقين وعدوهم بالنصر ، فقالوا لهم : ( لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ ) .

ولكن كان ذلك الوعد كاذباً ، ولذلك يقول سبحانه : ( وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) وآية كذبهم : ( لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ) (2).

ولقد صدق الخُبر الخبر ، فأجلاهم الرسول بقوة وشدة ، فما ظهر منهم أي نصر ومؤازرة ودعم ، فكان وعدهم كوعد الشيطان ، إذ قال للإنسان أكفر فلمّا كفر قال إنّي بريء منك إنّي أخاف اللّه ربّ العالمين ، بمعنى انّه أمره بالكفر ولكنّه تبرّأ منه في النهاية.

وهل المخاطب في قوله : « اكفر » مطلق الإنسان الذي ينخدع بأحابيل

ص: 263


1- الحشر : 16.
2- الحشر : 12.

الشيطان ووعوده الكاذبة ثمّ يتركه ويتبرّأ منه ، أو المراد شخص معين ؟ وجهان.

فلو قلنا بالثاني ، فقد وعد الشيطان قريشاً بالنصر في غزوة بدر ، كما يحكي عنه سبحانه ، ويقول ( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) (1).

وهناك قول ثالث ، وهو انّ الشيطان وعد عابداً من بني إسرائيل اسمه برصيصا حيث انخدع بالشيطان وكفر ، وفي اللحظات الحاسمة تبرّأ الشيطان منه. ذكر المفسرون انّ برصيصا عبد اللّه زماناً من الدهر حتى كان يؤتى بالمجانين يداويهم ويعوّذهم فيبرأون على يده ، وانّه أُتِي بامرأة في شرف قد جنّت وكان لها إخوة فأتوه بها ، فكانت عنده ، فلم يزل به الشيطان يزيّن له حتى وقع عليها ، فحملت ، فلمّا استبان حملها قتلها ودفنها ، فلمّا فعل ذلك ذهب الشيطان حتى لقي أحد إخوتها ، فأخبره بالذي فعل الراهب وانّه دفنها في مكان كذا ، ثمّ أتى بقية إخوتها رجلاً رجلاً فذكر ذلك له ، فجعل الرجل يلقى أخاه ، فيقول : واللّه لقد أتاني آت فذكر لي شيئاً يكبر عليّ ذكره ، فذكر بعضهم لبعض حتى بلغ ذلك ملكهم ، فسار الملك والناس فاستنزلوه فأقرّ لهم بالذي فعل ، فأمر به فصلب ، فلمّا رفع على خشبته تمثّل له الشيطان ، فقال : أنا الذي ألقيتك في هذا ، فهل أنت مطيعي فيما أقول لك ، أُخلصك مما أنت فيه ؟ قال : نعم ، قال : اسجد لي سجدة واحدة ، فقال : كيف أسجد لك وأنا على هذه الحالة ، فقال : اكتفي منك بالإيماء فأُوحى له بالسجود ، فكفر باللّه ، وقتل الرجل (2).

ص: 264


1- الأنفال : 48.
2- مجمع البيان : 5 / 265.

الحشر

53. التمثيل الثالث والخمسون

اشارة

( لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (1).

تفسير الآية

« الخشوع » : الضراعة ، وأكثر ما يستعمل الخشوع فيما يوجد على الجوارح على عكس الضراعة ، فانّ أكثر ما تستعمل فيما يوجد في القلب ، وقد روي إذا ضرع القلب خشعت الجوارح.

ويؤيد ما ذكره انّه سبحانه ينسب الخشوع إلى الأصوات والأبصار ، ويقول : ( وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ ) ، ( خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ ) ، ( أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ) .

ولو أردنا أن نُعرّفه ، فنقول : هو عبارة عن السكينة الحاكمة على الجوارح مستشعراً بعظمة الخالق.

و « التصدع » : التفرق بعد التلاؤم.

إنّ للمفسرين في تفسير الآية رأيين :

أحدهما : انّه لو أنزلنا هذا القرآن على جبل ، مع ما له من الغلظة والقسوة

ص: 265


1- الحشر : 21.

وكبر الجسم وقوة المقاومة قبال النوازل ، لتأثّر وتصدّع من خشية اللّه ، فإذا كان هذا حال الجبل ، فالإنسان أحقّ بأن يخشع لله إذا تلا آياته.

فما أقسى قلوب هؤلاء الكفّار وأغلظ طباعهم حيث لا يتأثرون بسماع القرآن واستماعه وتلاوته.

ثانيهما : انّ كلّ من له حظّ في الوجود فله حظ من العلم والشعور ، ومن جملتها الجبال فلها نوع من الإدراك والشعور ، كما قال سبحانه : ( وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ ) (1).

فعلى هذا ، فمعنى الآية انّ هذا القرآن لو نزل على جبل لتلاشى وتصدّع من خشية اللّه ، غير انّه لم ينزل عليه.

وعلى كلا المعنيين ، فليست الآية من قبيل التمثيل أي تشبيه شيء بشيء ، بل من قبيل وصف القرآن وبيان عظمته بما يحتوي من الحقائق والأُصول ، وإنّها على الوصف التالي : « لو أنزلناه على جبل لصار كذا وكذا ».

نعم يمكن أن يعد لازم معنى الآية من قبيل التشبيه ، وهو انّه سبحانه يشبّه قلوب الكفّار والعصاة الذين لا يتأثرون بالقرآن بالجبل والحجارة ، وانّ قلوبهم كالحجارة لو لم تكن أكثر صلابة ، بشهادة انّ الحجارة يتفجر منها الأنهار أو تهبط من خشية اللّه ، فلأجل ذلك جعلنا الآية من قبيل التمثيل وإن كان بلحاظ المعنى الالتزامي لها.

ص: 266


1- البقرة : 74.

الجمعة

54. التمثيل الرابع والخمسون

اشارة

( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (1).

تفسير الآية

« الأسفار » : السَّفر : كشف الغطاء ، ويختص ذلك بالأعيان نحو سَفَرَ العمامة عن الرأس ، والخمار عن الوجه ، إلى أن قال : والسِّفْر الكتاب الذي يسفر عن الحقائق وجمعه أسفار (2).

ذكر المفسرون انّه سبحانه لما قال : إنّه بعثه إلى الأُميّين أخذت اليهود الآية ذريعة لإنكار سعة رسالته ، وقالوا : إنّه صلی اللّه علیه و آله بعث إلى العرب خاصة ولم يبعث إليهم ، فعند ذلك نزلت الآية وشبّهتهم بالحمار الذي يحمل أسفاراً لا ينتفع منها ، إذ جاء في التوراة نعت الرسول والبشارة بمقدمه والدخول في دينه.

مضافاً إلى أنّه يمثل حال من يفهم معاني القرآن ولا يعمل به ويعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه ، والمراد من قوله ( حُمِّلُوا ) أي كلّفوا بالقيام بها ، وقيل :

ص: 267


1- الجمعة : 5.
2- مفردات الراغب : مادة « سفر ».

ليس هو من الحمل على الظهر ، وإنّما هو من الحمالة بمعنى الكفالة والضمان ، ولذا قيل للكفيل : الحميل ، والمراد والذين ضمنوا أحكام التوراة ، ثمّ لم يحملوها ، أي لم يأدّوا حقها ولم يحملوها حق حملها ، فهؤلاء أشبه بالحمار ، كما قال : ( كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) .

وانتخب الحمار من بين سائر الحيوانات لما فيه من الذل والحقارة ما ليس في غيره بل والجهل والبلادة ، مضافاً إلى المناسبة اللفظية الموجودة بين لفظ الأسفار والحمار.

فعلى كلّ تقدير فالآية تندّد باليهود ، وفي الوقت نفسه تحذر عامة المسلمين في أن لا يكون حالهم حال اليهود ، في عدم الانتفاع بالكتاب المنزل الذي فيه دواء كلّ داء وشفاء لما في الصدور.

وللأسف الشديد أصبح القرآن بين المسلمين مهجوراً ، إذ يتبرك به في العرائس ، أو يجعل تعاويذ للأطفال ، أو زينة الرفوف ، أو يقرأ في القبور إلى غير ذلك ممّا أبعد المسلمين عن النظر في القرآن بتدبّر.

ثمّ إنّه سبحانه يصف اليهود المكذبة للقرآن وآياته ، بقوله : ( بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) .

ص: 268

التحريم

55. التمثيل الخامس والخمسون

اشارة

( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (1).

تفسير الآية

إنّ إحدى الأساليب التربوية هي عرض نماذج واقعية لمن بلغ القمة في مكارم الأخلاق وجلائلها أو سقط في حضيض مساوئ الأخلاق ، والقرآن في هذه الآية يعرض زوجتين من زوجات الأنبياء ابتليتا بالنفاق والخيانة ولم ينفعهما قربهما من أنبياء اللّه.

ثمّ إنّ الحافز لهذا التمثيل هو التنديد بزوجتي الرسول صلی اللّه علیه و آله اللّتين اشتركتا في إفشاء سره ، والغرض هو إيقافهما على أنّهما لا تنجوان من العذاب لمجرد مكانتهما من الرسول كما لم ينفع زوجة نوح ولوط ، فواجهتا العذاب الأليم.

يذكر سبحانه في هذه الصورة قصة إفشاء سرّ النبي بواسطة بعض أزواجه يقول : ( وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللّهُ عَلَيْهِ

ص: 269


1- التحريم : 10.

عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الخَبِيرُ ) (1).

وهذه الآية على اختصارها تشتمل على مطالب :

1. انّ النبي صلی اللّه علیه و آله أسرّ إلى بعض أزواجه حديثاً ، كما يقول سبحانه : ( وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا ) ، وأمّا ما هو السر الذي أسرّه إليها فغير واضح ، ولا يمكن الاعتماد بما ورد في التفاسير من تحريم العسل على نفسه وغيره.

2. انّ هذه المرأة التي أسرّ إليها النبي لم تحتفظ بسره وأفشته ، فحدّثت به زوجة أُخرى ، كما يقول سبحانه : ( فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ ) ، والمفسرون اتفقوا على أنّ الأولى منهما هي حفصة والثانية هي عائشة.

وبذلك أساءت الصحبة وأفشت سر الرسول صلی اللّه علیه و آله ، مع أنّ واجبها كان كتم هذا السر.

3. انّه سبحانه أخبر النبي صلی اللّه علیه و آله به ، كما يقول سبحانه : ( وَأَظْهَرَهُ اللّهُ عَلَيْهِ ) أي أطلعه اللّه عليه.

4. انّ النبي صلی اللّه علیه و آله عرّف حفصة ببعض ما ذكرت وأعرض عن ذكر كلّ ما أفشت ، وكان صلی اللّه علیه و آله قد علم جميع ذلك ولكنّه أخذ بمكارم الأخلاق ، فلم يذكر لها جميع ما صدر منها ، والتغافل من خلق الكرام ، وقد ورد في المثل : « ما استقصى كريم قط ».

5. لما أخبر رسول اللّه حفصة بما أظهره اللّه عليه سألت ، وقالت : من أخبرك بهذا ؟ فأجاب الرسول : نبّأني العليم الخبير ، كما يقول سبحانه : ( فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ

ص: 270


1- التحريم : 3.

قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الخَبِيرُ ) .

وبما انّ مستمع السر كمفشيه عاص ، يعود سبحانه يندّد بهما ويأمرهما بالتوبة ، لأجل ما كسبت قلوبهما من الآثام ، وانّه لو لم تكُفَّا عن إيذاء النبي صلی اللّه علیه و آله ، فاعلما انّ اللّه يتولّى حفظه ونصرته ، وأمين الوحي معين له وناصر يحفظه ، وصالح المؤمنين وخيارهم يؤيدونه ، وبعدهم ملائكة اللّه من أعوانه. كما يقول سبحانه : ( إِن تَتُوبَا إِلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) أي مالت إلى الإثم ، وإن تظاهرا عليه أي تعاونا على إيذاء النبي ، فانّ اللّه مولاه وجبرئيل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير.

هاتان الآيتان توقفنا على مكانة الزوجتين من القيام بوظائف الزوجية ، حيث إنّ حفظ الأمانة من واجب الزوجة حيال زوجها ، كما أنّ الآية الثانية تعرب عن مكانتهما عند اللّه سبحانه حيث تجعلهما على مفترق الطرق : إمّا التوبة لأجل الإثم ، وإمّا التمادي في غيّهما وإحباط كلّ ما تهدفان إليه ، لأنّ له أعواناً مثل ربه والملائكة وصالح المؤمنين.

وبما انّ السورة تكفّلت بيان تلك القصة ناسب أن يمثل سبحانه حالهما بزوجتين لرسولين أذاعتا سرهما وخانتاهما. إذ لم تكن خيانتهما خيانة فجور لما ورد : ما بغت امرأة نبي قط ، وإنّما كانت خيانتهما في الدين.

قال ابن عباس : كانت امرأة نوح كافرة تقول للناس : إنّه مجنون ، وإذا آمن بنوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح ، كما أنّ امرأة لوط دلّت على أضيافه.

وعلى كلّ حال فقد شاركت هذه الزوجات الأربع في إذاعة أسرار أزواجهنّ ، وبذلك صرن نموذجاً بارزاً للخيانة.

وقد كنَّ يتصورنّ انّ صلتهن بالرسل تحول دون عذاب اللّه ، ولم يقفن على أنّ

ص: 271

مجرد الصلة لا تنفع مالم يكن هناك إيمان وعمل صالح ، قال سبحانه : ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ ) (1) وقال سبحانه مخاطباً بني آدم : ( يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (2).

ومن هنا تقف على أنّ صحبة الرسول لا تنفع ما لم يضم إليه إيمان خالص وعمل صالح ، فلا تكون مجالسة الرسول دليلاً على العدالة ولا على النجاة ، وأصحاب النبي صلی اللّه علیه و آله أمام اللّه سبحانه كالتابعين يحكم عليهم بما يحكم على التابعين ، فكما أنّ الصنف الثاني بين صالح وطالح ، فهكذا الصحابة بين صالح وطالح.

ص: 272


1- المؤمنون : 101.
2- الأعراف : 35.

التحريم

56. التمثيل السادس والخمسون

اشارة

( وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) (1).

تفسير الآيات

« الحصن » : جمعه حصون وهي القلاع ، ويطلق على المرأة العفيفة ، لأنّها تحصّن نفسها بالعفاف تارة وبالتزويج أُخرى.

القنوت : لزوم الطاعة مع الخضوع ، قوله : ( كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) أي خاضعون.

لما مثّل القرآن بنماذج بارزة للفجور من النساء أردفه بذكر نماذج أُخرى للتقوى والعفاف من النساء بلغن من التقوى والإيمان منزلة عظيمة حتى تركن الحياة الدنيوية ولذائذها وعزفن عن كل ذلك بغية الحفاظ على إيمانهنّ ، وقد مثل القرآن بآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، فقد بلغت من الإيمان والتقوى بمكان انّها طلبت من اللّه سبحانه أن يبني لها بيتاً في الجنة ، فقد آمنت بموسى لمّا رأت معاجزه

ص: 273


1- التحريم : 11 - 12.

الباهرة ودلائله الساطعة ، فأظهرت إيمانها غير خائفة من بطش فرعون وقد نقل انّه وتدها بأربعة أوتاد واستقبل بها الشمس.

هذه هي المرأة الكاملة التي ضحّت في سبيل عقيدتها واستقبلت الشهادة بصدر رحب ولم تعر للدنيا وزخارفها أيّة أهمية ، وكان هتافها حينما واجهت الموت قولها : ( رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

فقولها : « عندك » ، يهدف إلى القرب من رحمة اللّه ، وقولها : « في الجنة » يبين مكان القرب.

فقد اختارت جوار ربها والقرب منه وآثرت بيتاً يبنيه لها ربها على قصر فرعون الذي كان يبهر العقول ، ولكن زينة الحياة الدنيا عندها نعمة زائلة لا تقاس بالنعمة الدائمة.

ثمّ إنّه سبحانه يضرب مثلاً آخر للمؤمنات مريم ابنة عمران ، ويصفها بقوله : ( وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) .

ترى أنّه سبحانه يصفها بالصفات التالية :

1. ( أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ) فصارت عفيفة كريمة وهذا بإزاء ما افتعله اليهود من البهتان عليها ، كما يعرب عنه قوله سبحانه : ( وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ) (1) وفي سورة الأنبياء قوله : ( وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا ) (2).

ص: 274


1- النساء : 156.
2- الأنبياء : 91.

2. ( فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ) : أي كونها عفيفة محصّنة صارت مستحقة للثناء والجزاء ، فأجرى سبحانه روح المسيح فيها ، وإضافة الروح إليه إضافة تشريفية ، فهي امرأة لا زوج لها انجبت ولداً صار نبياً من أنبياء اللّه العظام.

وقد أُشير إلى هذين الوصفين في سورة الأنبياء ، قال سبحانه : ( وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ) .

وهناك اختلاف بين الآيتين ، فقد جاء الضمير في سورة الأنبياء مؤنثاً فقال : ( فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا ) وفي الوقت نفسه جاء في سورة التحريم مذكراً ( فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ) .

وقد ذكر هنا وجه وهو :

إنّ الضمير في سورة الأنبياء يرجع إلى مريم ، وأمّا المقام فإنّما يرجع إلى عيسى ، أي فنفخنا فيه حتى أنّ من قرأه « فيها » أرجع الضمير إلى نفس عيسى والنفس مؤنثة.

أقول : هذا لا يلائم ظاهر الآية ، لأنّه سبحانه بصدد بيان الجزاء لمريم لأجل صيانة فرجها ، فيجب أن يعود الجزاء إليها ، فالنفخ في عيسى يكون تكريماً لعيسى ولا يعد جزاءً لمريم.

3. ( صَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ ) : ولعل المراد من الكلمات الشرائع المتقدمة ، والكتب : الكتب النازلة ، كما يحتمل أن يكون المراد الوحي الذي لم يكن على شكل كتاب.

4. ( وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) : أي كانت مطيعة لله سبحانه ، ومن القوم المطيعين لله الخاضعين له الدائمين عليه ، وقد جيء بصيغة المذكر تغليباً ، يقول

ص: 275

سبحانه : ( يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ) (1).

ونختم البحث بذكر ثلاث روايات :

1. روى الطبري ، عن أبي موسى ، عن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : « كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلاّ أربع : آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد » صلی اللّه علیه و آله (2).

2. أخرج الحاكم ، عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أفضل نساء أهل الجنة : خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد صلی اللّه علیه و آله ، ومريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون مع ما قص اللّه علينا من خبرهما في القرآن ( قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الجَنَّةِ ) » (3).

3. أخرج الطبراني ، عن سعد بن جنادة ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ اللّه زوجني في الجنة : مريم بنت عمران ، وامرأة فرعون ، وأُخت موسى »(4).

ص: 276


1- آل عمران : 43.
2- مجمع البيان : 5 / 320.
3- الدر المنثور : 8 / 229.
4- الدر المنثور : 8 / 229.

الملك

57. التمثيل السابع والخمسون

اشارة

( أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ * أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (1).

تفسير الآيات

« لجّ » : من اللجاج : التمادي والعناد في تعاطي الفعل المزجور عنه.

« عُتُوّ » : التمرّد.

« النفور » : التباعد عن الحقّ.

« مكب » : من الكبو ، وهو إسقاط الشيء على وجهه ، قال سبحانه : ( فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ) . ومنه قوله : « إنّ الجواد قد يكبو » أي قد يسقط ، والمراد هنا بقرينة مقابله : ( يَمْشِي سَوِيًّا ) ، أي من يمشي ووجهه إلى الأرض لا الساقط. وقال الطبرسي : أي منكساً رأسه إلى الأرض ، فهو لا يبصر الطريق ولا من يستقبله.

وأمّا الآيات فقد جاءت بصيغة السؤال بين الضالين الذين لجّوا في عتو ونفور وظلّوا متمسّكين بالأوثان والأصنام ، وبين المهتدين الذين يمشون في جادة

ص: 277


1- الملك : 21 - 22.

التوحيد ولا يعبدون إلاّ اللّه القادر على كلّ شيء.

فمثل هؤلاء مثل من يمشي على أرض متعرجة غير مستوية يكثر فيها العثار ، وبالتالى يسقط الماشي مكباً على وجهه ، ومن يمشي على جادة مستوية مستقيمة ليس فيها عثرات ، فيصل إلى هدفه بسهولة.

فالاختلاف بين هاتين الطائفتين ليس في كيفية المشي ، وإنّما الاختلاف في طريقهم حيث إنّ طرق الكفّار ملتوية متعرجة فيها عقبات كثيرة ، وطريق المهتدين مستقيمة لا اعوجاج فيها ، فعاقبة المشي في الطريق الأوّل هو الانكباب على الأرض ، وعاقبة المشي في الطريق الثاني هو الوصول إلى الهدف ، فتأويل الآية : أفمن يمشي على طريق غير مستقيم بل متعرج ملتو مكبّاً على وجهه أهدى أم من يمشي على صراط مستقيم بقامة مستقيمة.

قال العلاّمة الطباطبائي : والمراد أنّهم بلجاجهم في عتوّ عجيب ونفور من الحقّ ، كمن يسلك سبيلاً وهو مكب على وجه لا يرى ما في الطريق من ارتفاع وانخفاض ومزالق ومعاثر ، فليس هذا السائر كمن يمشي سوياً على صراط مستقيم ، فيرى موضع قدمه وما يواجهه من الطريق على استقامة ، وما يقصده من الغاية ، وهؤلاء الكفّار سائرون سبيل الحياة وهم يعاندون الحقّ على علم به ، فيغمضون عن معرفة ما عليهم أن يعرفوه والعمل بما عليهم أن يعملوا به ، ولا يخضعون للحق حتى يكونوا على بصيرة من الأمر ويسلكوا سبيل الحياة وهم مستوون على صراط مستقيم فيأمنوا الهلاك (1).

ص: 278


1- الميزان : 19 / 360 - 361.

خاتمة المطاف

اشارة

ربما عدّ غير واحد ممّن كتب في أمثال القرآن ، الآية التالية منها :

( وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ) (1).

تفسير الآية

لمّا نزل قوله سبحانه ( سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ) (2).

قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أُمّهاتكم أتسمعون ابن أبي كبيشة يخبركم انّ خزنة النار تسعة عشر ، وأنتم الدهم (3) الشجعان ، أفيعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم.

ص: 279


1- المدثر : 31.
2- المدثر : 26 - 30.
3- الدهم : الجماعة الكثيرة.

فقال أبو أسد الجمحي : أنا أكفيكم سبعة عشر ، عشرة على ظهري ، وسبعة على بطني ، فأكفوني أنتم اثنين ، فنزلت هذه الآية : ( وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً ) ، أي جعلنا أصحاب النار ملائكة أقوياء مقتدرون وهم غلاظ شداد ، يقابلون المذنبين بقوة ، وهم أمامهم ضعفاء عاجزون ، ويكفي في قوتهم انّه سبحانه يصف واحداً منهم بقوله : ( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ) (1).

فالكفّار ما قدروا اللّه حقّ قدره وما قدروا جنود ربّهم ، وظنوا انّ كلّ جندي من جنوده سبحانه يعادل قوة فرد منهم.

ثمّ إنّه سبحانه يذكر الوجوه التالية سبباً لجعل عدتهم تسعة عشر :

1. ( فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا ) .

2. ( لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ) .

3. ( يَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا ) .

4. ( لا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالمُؤْمِنُونَ ) .

5. ( وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً ) .

وإليك تفسير هذه الفقرات :

أمّا الأُولى : فيريد انّه سبحانه لم يجعل عدتهم تسعة عشر إلاّ للإفتتان والاختبار ، قال سبحانه : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) أي يختبر بهم الإنسان ، فجعل عدتهم تسعة عشر يختبر بها الكافر والمؤمن ، فيزداد الكافر حيرة واستهزاءً ويزداد المؤمن إيماناً وتصديقاً ، كما هو حال كلّ ظاهرة تتعلق بعالم الغيب. يقول سبحانه : ( وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ

ص: 280


1- النجم : 5 - 6.

إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ) (1).

ولا تظن انّ عمله سبحانه هذا يوجب تعزيز داعية الكفر ، وهو أشبه بالجبر وإضلال الناس ووجه ذلك انّ الاستهزاء والابتعاد عن الحقّ أثر الكفر الذي اختاره على الإيمان ، فهذا هو السبب في أن تكون الآيات الإلهية موجبة لزيادة الكفر والابتعاد عن الحقّ ، والدليل على ذلك انّ هذه الآيات في جانب آخر نور وهدى وموجباً لزيادة الإيمان والتصديق.

وأمّا الثانية : أي استيقان أهل الكتاب من اليهود والنصارى انّه حقّ وانّ محمّداً رسول صادق حيث أخبر بما في كتبهم من غير قراءة ولا تعلم.

وأمّا الثالثة : وهي ازدياد إيمان المؤمنين ، وذلك بتصديق أهل الكتاب ، فإذا رأوا تسليم أهل الكتاب وتصديقهم يترسخ الإيمان في قلوبهم.

وأمّا الرابعة : أعني قوله : ( وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالمُؤْمِنُونَ ) ، فهو أشبه بالتأكيد للوجه الثاني والثالث.

وفسره الطبرسي بقوله : وليستيقن من لم يؤمن بمحمد صلی اللّه علیه و آله ومن آمن به صحة نبوته إذا تدبّروا وتفكّروا.

وأمّا الخامسة : وهي تقوّل الكافرين ومن في قلوبهم مرض بالاعتراض ، بقولهم : ماذا أراد اللّه بهذا الوصف والعدد ، وهذه الفقرة ليست من غايات جعل عدتهم تسعة عشر ، وإنّما هي نتيجة تعود إليهم قهراً ، ويسمّى ذلك لام العاقبة ، كما في قوله سبحانه : ( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ) (2) ومن المعلوم

ص: 281


1- التوبة : 124 - 125.
2- القصص : 8.

انّ فرعون لم يتخذه لتلك الغاية وإنّما اتخذه ليكون ولداً له ، كما في قول امرأته : ( لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) (1) ولكن ترتبت تلك النتيجة على عملهم شاءوا أم أبوا.

وهكذا المقام حيث أخذت الطائفتان أي الذين في قلوبهم مرض والكافرين بالاستهزاء ، وقالوا : ( مَاذَا أَرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً ) .

وقد فسر قوله : ( الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ) بالمنافقين ، كما فسروا الكافرين بالمتظاهرين بالكفر من المشركين ، غير انّ هنا سؤال ، وهو انّ السورة مكية ولم تكن هناك ظاهرة النفاق وإنّما بدأت بالمدينة.

ولكن لا دليل على عدم وجود النفاق بمكة ، إذ ليس الخوف سبباً منحصراً للنفاق ، فهناك علل أُخرى وهي الإيمان لأجل العصبية والحميّة أو غير ذلك. يقول العلاّمة الطباطبائي : لا دليل على انتفاء سبب النفاق في جميع من آمن بالنبي بمكة قبل الهجرة وقد نقل عن بعضهم انّه آمن ثمّ رجع أو آمن عن ريب ثمّ صلح.

على أنّه تعالى يقول : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ وَلَئِن جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ المُنَافِقِينَ ) (2). (3)

ثمّ إنّه سبحانه يختم الآية بقوله : ( كَذَلِكَ يُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ) ، أي الحقائق الناصعة والآيات الواضحة تتلقاها القلوب المختلفة تلقياً

ص: 282


1- القصص : 9.
2- العنكبوت : 10 - 11.
3- الميزان : 20 / 90.

مختلفاً يهتدي بها فريق ويضل بها آخر حسب ما يشاء سبحانه ، وليست مشيئته سبحانه خالية عن الملاك والسبب ، فهدايته وإضلاله رهن اهتداء الإنسان من هداياته العامة ، فمن استهدى بها تشمله هدايته الثانية ، وهي التي وردت في هذه الآية ، ومن أعرض عنها فيشمله إضلاله سبحانه بمعنى قطع فيضه عنه.

الآية ليست من الأمثال

ومع ما بذلنا من الجهد في تفسير الآيات ، فالظاهر انّها ليست من قبيل التمثيل لما عرفت من أنّه عبارة عن تشبيه شيء بشيء وإفراغ المعنى المعقول في قالب محسوس لغاية الإيضاح ، ولكن الآيات لا تمت إليه بصلة وإنّما هي بصدد بيان سبب جعل الزبانية تسعة عشر وانّ لها آثاراً خاصة.

وعلى ذلك فقوله سبحانه : ( مَاذَا أَرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً ) ، أي ماذا أراد اللّه به وصفاً ، فالمثل في هذه الآية نظير ما ورد في سورة فرقان حيث بعد ما ذكر انّ المشركين وصفوه بأنّه رجل مسحور ، قال : ( انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ ) (1) أي انظر كيف وصفوك ، فليس مطلق الوصف تمثيلاً.

تمَّ الكتاب - بحمد اللّه سبحانه - بيد مؤلّفه جعفر السبحاني وقد لاح بدر تمامه في شهر جمادى الآخرة من شهور عام 1420 من الهجرة النبوية على هاجرها آلاف الثناء والتحية وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

ص: 283

ص: 284

الأقسام في القرآن الكريم

اشارة

ص: 285

ص: 286

بسم اللّه الرحمن الرحيم

القرآن والآفاق اللامتناهية

اشارة

الحمد لله الذي علّم بالقلم ، علّم الإنسان ما لم يعلم ، والصلاة والسلام على سيدنا ونبيّنا محمّد خير من طاف الأرض وحكم ، وعلى آله الأئمّة السادة هداة الأُمّة إلى الطريق الأقوم.

نزل القرآن الكريم على قلب سيد المرسلين هادياً للإنسان ومنيراً له طريق السعادة ، وقد وضع علماء الإسلام علوماً جمة لفهم حقائقه وكشف أسراره ومعانيه ، وعلى الرغم من ذلك ، لم يزل المفسرون في كلّ عصر يستخرجون منه حقائق غفل عنها الأقدمون ، وكأنّ الإنسان أمام بحر موّاج بالحقائق العلمية لا يُدرك غوره ولا يتوصل إلى أعماقه ، ولا يمكن لأحد الإحاطة بأسراره وعجائبه.

وكأنّ القرآن هو النسخة الثانية لعالم الطبيعة الذي لم يزل يبحث عن أسراره الباحثون ، وهم بعد في الأشواط الأُولى من الوقوف على حقائقه الكامنة. ولا غروَ أن يكون الكتاب العزيز كذلك أيضاً ، لأنّه كتاب صدر من لدن حكيم عليم لا نهاية لوجوده وعلمه ، فيجب أن يكون كتابه المنزّل رشحة من رشحات وجوده.

وهذا هو متكلّم قريش وخطيبهم الوليد بن المغيرة المخزومي لمّا جلس إلى النبي صلی اللّه علیه و آله وسمع شيئاً من آيات سورة غافر ، ذهب إلى قومه ليبيّن موقفه من

ص: 287

الكتاب ، وقال : واللّه قد سمعت من محمّد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، وانّ له لحلاوة ، وانّ عليه لطلاوة ، وانّ أعلاه لمثمر ، وإنّ أسفله لمغدق ، وانّه ليعلو وما يعلى عليه (1).

فقد أدرك مُنطيق قريش بصفاء ذهنه ما يحتوي عليه القرآن من أسرار وكنوز.

نعم ، قد سبقه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في ذلك حيث عَرّف القرآن ، بقوله :

« له ظهر وبطن ، وظاهره حُكْم ، وباطنُه عِلْم ، وظاهره أنيق ، وباطنه عميق ، له نجوم وعلى نجومه نجوم ، لا تحصى عجائبه ، ولا تبلى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة » (2).

وقد أفاض الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في بيان أبعاد القرآن غير المتناهية ، وقال في خطبة يصف فيها القرآن بقوله : « أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه ، وسراجاً لا يخبو توقّده ، وبحراً لا يدرك قعره - إلى أن قال : - وينابيع العلم وبحوره ، ورياض العدل وغدرانه ، وأثافي الإسلام وبنيانه ، وأودية الحق وغيطانه ، وبحر لا ينزفه المنتزفون ، وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يغيضها الواردون » (3).

وقد أثبت توالي التأليف حول القرآن الكريم على مختلف الأصعدة ، انّه كتاب القرون والأعصار ، وحجّة خالدة للناس إلى يوم القيامة ، وقد استحوذ الكتاب العزيز على اهتمام بالغ لم يَحظ به أي كتاب آخر.

ص: 288


1- مجمع البيان : 10 / 387.
2- الكافي : 2 / 599 ، كتاب القرآن.
3- نهج البلاغة : 2 / 202 ، طبعة عبده.

إلماع إلى بعض آفاقه اللامتناهية

إنّ من آفاق القرآن ومعانيه السامية هو أقسامه ، فقد أقسم القرآن الكريم بأُمور مختلفة ربما يبلغ عدد أقسامه إلى أربعين حلفاً أو أكثر ، وتمتاز عن الأقسام الرائجة في العصر الجاهلي بأنّها انصبت على ذوات مقدسة أو ظواهر كونية ذات أسرار عميقة ، في حين امتاز القسم في العصر الجاهلي بالحلف بالمغاني والمدام (1) وجمال النساء ، إلى غير ذلك من الأُمور المادية الساقطة.

حلف سبحانه في كتابه مضافاً إلى ذاته ، بالقرآن ، الملائكة ، النفس ، الشمس ، القمر ، السماء ، الأرض ، اليوم ، الليل ، القلم ، وغير ذلك من الموضوعات التي تحتوي على أسرار مكنونة ، ويصحّ في حقّها ، قوله سبحانه : ( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ) (2).

ينقل السيوطي انّ أوّل من أفرد أقسام القرآن بالتأليف هو شمس الدين محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية ( المتوفّى 751 ه ) ولم يذكر كتاباً غيره ، ثمّ جمع السيوطي أقسام القرآن وجعله نوعاً من أنواع علومه ، فبحث عنها بحثاً موجزاً لا يتجاوز عن خمس صفحات (3).

وقال الكاتب الچلبي في « كشف الظنون » - بعد سرد ما قام به السيوطي - : وتبعه صاحب مفتاح الكرامة حيث أورده من فروع علم التفسير (4).

ولم نقف على كتاب مفرد حول أقسام القرآن في الأوساط الشيعية مع ما فيها

ص: 289


1- المدام والمدامة : الخمر.
2- الواقعة : 78.
3- الإتقان في علوم القرآن : 4 / 46 - 51.
4- كشف الظنون : 1 / 137 - 138.

من بحوث هامة سوى ما ألّفه ولدي العزيز الروحاني الحائز على مقام الشهادة الشيخ أبو القاسم الرزاقي (1) تحت عنوان « سوگندهاى قرآن » ، وهو كتاب قيّم حافل بنقل الآراء حول القسم في القرآن ، وقد طبع في حياته بتقديم منّا تغمده اللّه برحمته وأسكنه فسيح جناته.

ثمّ إنّ ابن قيم الجوزية وإن كان أوّل من ألّف - حسب ما نعلم - ولكن كتابه يعوزه المنهجية في البحث حيث لم يذكر الأقسام الواردة واحداً تلو الآخر حسب حروف التهجّي أو حسب سور القرآن ، وإنّما ذكر أقسام كلّ سورة في فصل واحد.

لكن ما ألّفه الشيخ الرزاقي خال من هذه النقيصة ، فانّه ألّف كتابه على نمط التفسير الموضوعي ، فجعل لكلّ حلف فصلاً خاصاً ، وذكر جميع الآيات الواردة في خصوص ذلك الحلف ، مثلاً ذكر الآيات التي أقسم اللّه فيها بنفسه في فصل خاص ، كما جمع ما أقسم اللّه فيه بالليل في سور وآيات مختلفة في مكان واحد.

ولما كان ما ألّفه ابن قيم غير خال عن النقيصة ، كما أنّما ألّفه ولدنا البار لا ينتفع به القارئ العربي لأنّه أُلّف باللغة الفارسية ، عزمت على تأليف مفرد في هذا الصدد بغية تعميم الفائدة.

وأردفه إن شاء اللّه بالبحث عن أمثال القرآن.

ص: 290


1- استشهد مع مجموعة من العلماء أثر إسقاط الطائرة التي كانت تقلّهم أثناء رحلة داخلية خلال الحرب العراقية الإيرانية من قبل النظام البعثي الغاشم عام 1408 ه / 1367 ه.ش.

بحوث تمهيدية في أقسام القرآن

اشارة

إنّ البحث عن الأقسام الواردة في القرآن الكريم رهن استعراض أُمور في معنى القسم وما يتبعه من المقسم به والمقسم عليه وأبحاث أُخرى ، فنقول :

1. تفسير القسم

إنّ لفظة القسم واضحة المعنى تعادل الحلف واليمين في لغة العرب ، ولها معادل في عامة اللغات وإنّما يؤتى به لأجل تأكيد الخبر والمضمون ، قال الطبرسي : القسم جملة من الكلام يؤكد بها الخبر بما يجعله في قسم الصواب (1).

قال السيوطي : القصد بالقسم تحقيق الخبر وتوكيده ، حتى جعلوا مثل : ( وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ) (2) قسماً ، وإن كان فيه إخبار بشهادة ، لأنّه لمّا جاء توكيداً للخبر سمّي قسماً (3).

ولذلك نقل عن بعض الأعراب ، انّه لما سمع قوله تعالى : ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ ) (4).

صرخ وقال : من ذا الذي أغضب الجليل حتى ألجأه إلى اليمين (5).

ص: 291


1- مجمع البيان : 5 / 225.
2- المنافقون : 1.
3- الإتقان : 4 / 46.
4- الذاريات : 22 - 23.
5- الإتقان : 4 / 46.

2. أركان القسم

إنّ القسم من الأُمور ذات الإضافة وهو فعل فاعل مختار له إضافة إلى أُمور أربعة :

أ. الحالف ، ب. ما يحلف به ، ج. ما يحلف عليه ، د. الغاية من القسم.

أمّا الأوّل : فالحلف عبارة عن فعل الفاعل المختار ، فلا يصدر إلاّ منه سواء أكان واجباً كاللّه سبحانه أم ممكناً كالإنسان وغيره.

والذي يتناوله بحثنا في هذا الكتاب هو القسم الذي صدر عن الواجب في كتابه العزيز دون سواه.

فلا نتعرض لما حلف به الشيطان في القرآن وقال : ( فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) (1).

ثمّ إنّ أدوات القسم عبارة عن الأُمور الأربعة ، أعني : الباء والتاء والواو واللام ، وأمثلة الكل واضحة ، وأمّا الأخير فكقول الشاعر :

للهِ لا يبقى على الأيام ذُو حيَدٍ

بمُشمَخر به الطيّانُ والآسُ (2)

وسيوافيك انّ حرف الباء يجتمع مع فعل القسم دون سائر الأدوات ، إذ يحذف فيها فعله ، أعني : أقسم.

وأمّا الثاني - أي ما يحلف به - : فانّ لكلّ قوم ، أُموراً مقدّسة يحلفون بها ، وأمّا

ص: 292


1- ص : 82.
2- والحيد كعنب جمع حيدة وهو القرن فيه عقد ، والمشمخر الجبل العالي ، والطيّان الياسمين الصحرائي والآس شجر معروف.

القرآن الكريم فقد حلَفَ سبحانه بأُمور تجاوزت عن الأربعين مقسماً به.

وأمّا الثالث - أي ما يحلف عليه - : والمراد هو جواب القسم الذي يراد منه التأكيد عليه وتثبيته وتحقيقه ، وهذا ما يقال القصد بالقسم تحقيق الخبر وتوكيده.

ففي الآية التالية تتجلّى الأركان الثلاثة ، وتقول : ( وَأَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ ) (1).

فقوله : ( وَأَقْسَمُوا ) فهو الركن الأوّل.

وقوله : ( بِاللّهِ ) هو المقسم به.

وقوله : ( لا يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ ) هو المقسم عليه

وكثيراً ما يحذف الفعل وذلك لكثرة تردّد القسم في كلامهم ويكتفى بالواو أو التاء في أسماء اللّه.

نعم ، يلازم الإقسام بالباء ذكر الفعل ، كما في الآية السابقة ، وقوله : ( يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ) (2).

وعلى ضوء ذلك فباء القسم يلازم مع ذكر فعله ، كما أنّ واو القسم وتاءه يلازم مع حذفه ، فيقال : أقسم باللّه ، ولا يقال : أقسم تاللّه أو أقسم واللّه بل يقتصر على قوله : تاللّه ، واللّه ، يقول سبحانه : ( وَتَاللّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ) (3) ، وقوله : ( ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) (4).

ص: 293


1- النحل : 38.
2- التوبة : 62.
3- الأنبياء : 57.
4- الأنعام : 23.

وثمة نكتة جديرة بالإشارة وهي أنّ أكثر المفسرين حينما تطرّقوا إلى الأقسام الواردة في القرآن الكريم ركّزوا جهودهم لبيان ما للمقسم به من أسرار ورموز كالشمس والقمر في قوله سبحانه : ( وَالشَّمْسِ وَضُحَاها * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا ) (1) أو قوله : ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ) (2) ، ولكنّهم غفلوا عن البحث في بيان الصلة والعلاقة بين المقسم به والمقسم عليه لاحظ مثلاً قوله سبحانه : ( وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ) (3) فالضحى والليل مقسم بهما وقوله : ( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ) هو جواب القسم الذي نعبّر عنه بالمقسم عليه ، فهناك صلة في الواقع بين المقسم به والمقسم عليه ، وهو أنّه لماذا لم يقسم بالشمس ولا بالقمر ولا بالتين ولا بالزيتون بل حلف بالضحى والليل لأجل المقسم عليه أعني قوله : ( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ) ؟

وصفوة القول : إنّ كلّ قسم جدير لتحقيق الخبر ، ولكن يقع الكلام في كلّقسم ورد في القرآن الكريم أنّه لماذا اختار المقسم به الخاص دون سائر الأُمور الكثيرة التي يقسم بها ؟ فمثلاً : لماذا حلف في تحقيق قوله : ( مَا وَدَّعَكَ ) بقوله : ( وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ ) ولم يقسم بالشمس والقمر ؟ وهذا هو المهم في بيان أقسام القرآن ، ولم يتعرّض له أكثر المفسرين ولا سيما ابن قيم الجوزية في كتابه « التبيان في أقسام القرآن » إلاّ نزراً يسيراً.

ثمّ إنّ الغالب هو ذكر جواب القسم ، وربما يحذف كما يحذف جواب لو كثيراً ، أمّا الثاني فكقوله سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ

ص: 294


1- الشمس : 1 - 2.
2- التين : 1.
3- الضحى : 1 - 3.

الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ المَوْتَى ) (1) فانّ الجواب محذوف ، وهو نظير قوله : « لما آمنوا ».

وأمّا الأوّل ، فكقوله سبحانه : ( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) (2) ، فانّ الحلف بالقرآن الكريم المعرب عن تعظيمه ووصفه بأنّه مذكِّر للعباد يدل على جوابه وهو انّه منزّل من عنده سبحانه غير مفترى ، وما أشبه ذلك.

وعلى كلّ حال ، فالغالب هو الأوّل أي الإتيان بالجواب.

إلى هنا تمّ بيان أركان القسم الثلاثة ، وثمة ركن رابع ، وهو الغاية المتوخّاة من القسم ، فنقول : إنّ الغاية إمّا هي تحقيق الخبر ودعوة المخاطب إلى الإيمان والإذعان به ، كما هو الغالب ، أو إلفات النظر إلى عظمة المقسم به ، وما يكمن فيه من أسرار ورموز ، أو لبيان قداسته وكرامته ، كما في قوله : ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) (3).

ومن خلال هذا البيان ، يتضح الجواب على ما ربما يقال من أنّ حلفه سبحانه إن كان لأجل المؤمن فهو يصدقه بلا حلف ، وإن كان لأجل الكافر فلا يفيده.

والجواب : انّ إيمان المؤمن بصدق إخباره سبحانه لا ينافي تأكيده بالحلف ، مضافاً إلى ما عرفت من أنّ حلفه سبحانه بشيء إشارة إلى كرامته وقداسته أو إلى عظمته وما يكمن فيه من أسرار ورموز.

ص: 295


1- الرعد : 31.
2- ص : 1.
3- الحجر : 72.

3. جواز الحلف بغير اللّه سبحانه

تضافر الحلف بغيره سبحانه في الكتاب العزيز والسنّة النبوية ، أمّا الكتاب فسيوافيك حلفه بأشياء كثيرة ، وأمّا السنّة فقد حلف النبي صلی اللّه علیه و آله في غير مورد بغير اسم اللّه.

1. فقد أخرج مسلم في صحيحه : أنّه جاء رجل إلى النبي ، فقال : يا رسول اللّه أي الصدقة أعظم أجراً ؟ فقال : « أما - وأبيك - لتنبئنَّه أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل البقاء » (1).

2. أخرج مسلم أيضاً : جاء رجل إلى رسول اللّه - من نجد - يسأل عن الإسلام ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « خمس صلوات في اليوم والليل ».

فقال : هل عليَّ غيرهنّ ؟

قال : « لا ... إلاّ أن تطوع » ، وصيام شهر رمضان.

فقال : هلّ عليَّ غيره ؟

قال : « لا ... إلاّ تطوّع » ، وذكر له رسول اللّه الزكاة.

فقال الرجل : هل عليّ غيره ؟

قال : « لا ... إلاّ أن تطوّع ».

فأدبر الرجل وهو يقول : واللّه لا أزيد على هذا ولا أنقص منه.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أفلح - وأبيه - إن صدق ».

أو قال : « دخل الجنة - وأبيه - إن صدق » (2).

ص: 296


1- صحيح مسلم : 3 / 94 ، باب أفضل الصدقة من كتاب الزكاة.
2- صحيح مسلم : 1 / 32 ، باب ما هو الإسلام.

وقد حلف غير واحد من الصحابة بغيره سبحانه ، فهذا أبو بكر بن أبي قحافة على ما يرويه مالك في موطّئه : أنّ رجلاً من أهل اليمن أقطع اليد والرجل قدم فنزل على أبي بكر فشكا إليه أنّ عامل اليمن قد ظلمه ، فكان يصلي من الليل ، فيقول أبو بكر : « وأبيك ما ليلك بليل سارق » (1).

وهذا علي بن أبي طالب علیه السلام قد حلف بغيره سبحانه في غير واحد من خطبه :

1. « ولعمري ما عليّ من قتال من خالف الحق وخابط الغي من إدهان ولا إيهان » (2).

2. « ولعمري ما تقادمت بكم ولا بهم العهود » (3).

إلى غير ذلك من الأقسام الواردة في كلامه علیه السلام وسائر أئمّة أهل البيت علیهم السلام .

نعم ثمة أحاديث استدل بها على المنع عن الحلف بغير اللّه ، غير أنّها ترمي إلى معنى آخر كما سيوافيك.

الحديث الأوّل

إنّ رسول اللّه سمع عمر ، وهو يقول : وأبي ، فقال : « إنّ اللّه ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، ومن كان حالفاً فليحلف باللّه أو يسكت » (4).

والجواب : انّ النهي عن الحلف بالآباء قد جاء لأنّهم كانوا - في الغالب - مشركين وعبدة للأوثان فلم يكن لهم حرمة ولا كرامة حتى يحلف أحد بهم ، ولأجل

ص: 297


1- شرح الزرقاني على موطأ مالك : 4 / 159 برقم 580.
2- نهج البلاغة : الخطبة 23 و 85.
3- نهج البلاغة : الخطبة 23 و 85.
4- سنن ابن ماجة : 1 / 277 سنن الترمذي : 4 / 109.

ذلك نرى أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله جعل آباءَهم قرناء مع الطواغيت مرّة ، وبالأنداد - أي الأصنام - ثانية ، وقال : « لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت » (1).

وقال أيضاً : « لا تحلفوا بآبائكم ولا بأُمهاتكم ولا بالأنداد » (2).

وهذان الحديثان يؤكدان على أنّ المنهي عنه هو الحلف بالآباء الكافرين الذين كانوا يعبدون الأنداد والطواغيت ، فأين هو من حلف المسلم بالكعبة والقرآن والأنبياء والأولياء في غير القضاء والخصومات ؟

الحديث الثاني

جاء ابنَ عمر رجل فقال : أحلف بالكعبة ؟ قال له : لا ، ولكن إحلف بربِّ الكعبة ، فانّ عمر كان يحلف بأبيه ، فقال رسول اللّه له : « لا تحلف بأبيك ، فانّ من حلف بغير اللّه فقد أشرك » (3).

إنّ الحديث يتألف من أمرين :

أ : قول النبي صلی اللّه علیه و آله : « من حلف بغير اللّه فقد أشرك ».

ب : اجتهاد عبد اللّه بن عمر ، حيث عدّ الحلف بالكعبة من مصاديق حديث النبي صلی اللّه علیه و آله .

أمّا الحديث فنحن نذعن بصحته ، والقدر المتيقن من كلامه ما إذا كان المحلوف به شيئاً يعد الحلف به شركاً كالحلف بالأنداد والطواغيت والآباء الكافرين. فهذا هو الذي قصده النبي صلی اللّه علیه و آله ولا يعم الحلف بالمقدسات كالقرآن

ص: 298


1- سنن النسائي : 7 / 7 سنن ابن ماجة : 1 / 278.
2- سنن النسائي : 7 / 9.
3- سنن النسائي : 7 / 8.

وغيره.

وأمّا اجتهاد ابن عمر حيث عدّ الحلف بالكعبة من مصاديق الحديث ، فهو اجتهاد منه وحجّة عليه دون غيره.

وأمّا انّ الرسول عدّحلف عمر بأبيه من أقسام الشرك فلأجل أنّ أباه كان مشركاً ، وقد قلنا إنّ الرواية ناظرة إلى هذا النوع من الحلف.

ومجمل القول : إنّ الكتاب العزيز هو الأُسوة للمسلمين عبر القرون ، فإذا ورد فيه الحلف من اللّه سبحانه بغير ذاته سبحانه من الجماد والنبات والإنسان فيستكشف منه أنّه أمر سائغ لا يمت إلى الشرك بصلة ، وتصوّر جوازه لله سبحانه دون غيره أمر غير معقول ، فانّه لو كان حقيقة الحلف بغير اللّه شركاً فالخالق والمخلوق أمامه سواء.

نعم الحلف بغير اللّه لا يصحّ في القضاء وفضّ الخصومات ، بل لابدّ من الحلف باللّه جلّ جلاله أو بإحدى صفاته التي هي رمز ذاته ، وقد ثبت هذا بالدليل ولا علاقة له بالبحث.

وأمّا المذاهب الفقهية فغير مجمعين على أمر واحد.

أمّا الحنفية ، فقالوا : بأنّ الحلف بالأب والحياة ، كقول الرجل : وأبيك ، أو : وحياتك وما شابه ، مكروه.

وأمّا الشافعية ، فقالوا : بأنّ الحلف بغير اللّه - لو لم يكن باعتقاد الشرك - فهو مكروه.

وأمّا المالكية ، فقالوا : إنّ في القسم بالعظماء والمقدسات - كالنبي والكعبة - فيه قولان : الحرمة والكراهة ، والمشهور بينهم : الحرمة.

ص: 299

وأمّا الحنابلة ، فقالوا : بأنّ الحلف بغير اللّه وبصفاته سبحانه حرام ، حتى لو كان حلفاً بالنبي أو بأحد أولياء اللّه تعالى.

هذه فتاوى أئمّة المذاهب الأربعة (1) ولسنا الآن بصدد مناقشتهم.

وكان الحري بفقهاء المذاهب الأربعة ولا سيما في العصر الراهن فتح باب الاجتهاد والرجوع إلى المسألة والنظر إليها بمنظار جديد إذ كم ترك السلف للخلف.

على أنّ نسبة الحرمة إلى الحنابلة غير ثابتة أيضاً ، لأنّ ابن قدامة يصرّح في كتاب « المغني » - الذي كتبه على غرار فقه الحنابلة - : أنّ أحمد بن حنبل أفتى بجواز الحلف بالنبي ، وأنّه ينعقد لأنّه أحد ركني الشهادة.

وقال أحمد : لو حلف بالنبي انعقد يمينه ، فإن حنث لزمته الكفارة (2).

إكمال

قد ذكر السيوطي في كتاب « الإتقان » ، وقال : كيف أقسم بالخلق وقد ورد النهي عن القسم بغير اللّه ؟

ثمّ ذكر أجوبة ثلاثة ، وهي :

الأوّل : انّه على حذف مضاف ، أي وربّ التين وربّ الشمس ، وكذا الباقي.

الثاني : انّ العرب كانت تعظم هذه الأشياء وتقسم بها فنزل القرآن على ما يعرفون.

ص: 300


1- انظر الفقه على المذاهب الأربعة : 2 / 75 ، كتاب اليمين ، مبحث الحلف بغير اللّه تعالى.
2- المغني : 11 / 209.

الثالث : انّ الإقسام إنّما تكون بما يعظمه المقسم أو يُجلُّه وهو فوقه واللّه تعالى ليس شيء فوقه ، فأقسم تارة بنفسه وتارة بمصنوعاته ، لأنّها تدل على بارئ وصانع.

وقال ابن أبي الاصبع في « اسرار الفواتح » : القسم بالمصنوعات يستلزم القسم بالصانع ، لأنّ ذكر المفعول يستلزم ذكر الفاعل ، إذ يستحيل وجود مفعول بغير فاعل.

وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن ، قال : إنّ اللّه يقسم بما شاء من خلقه ، وليس لأحد أن يقسم إلاّ باللّه (1).

ولا يخفى ضعف الأجوبة.

أمّا الأوّل : فانّ معنى ذلك إرجاع الأقسام المختلفة إلى قسم واحد وهو الرب ، مع أنّه سبحانه تارة يقسم بنفسه ، ويقول : ( فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ) (2) ، وأُخرى بالتين والزيتون والصافات والشمس ، فلو كان الهدف القسم بالرب فما فائدة هذا النوع من الأقسام حيث يضيف نفسه إلى واحد من مخلوقاته ؟ فانّ العظمة لله لا للمضاف إليه ، ولو كانت له عظمة فإنّما هي مقتبسة من الرب.

وأمّا الثاني : فمعنى ذلك أنّه سبحانه جرى على ما كان عليه العرب في العصر الجاهلي ، وقد هدم بعمله ما شرعه من النهي عن القسم بغير اللّه.

وأمّا الثالث : فيكتنفه كثير من الغموض ، ولا يعلم كيفية رفع الإشكال ، وأمّا ما نقله عن ابن أبي الاصبع فيرجع إلى المعنى الأوّل ، وهو أنّ القسم بالمخلوق قسم بالخالق.

ص: 301


1- الإتقان : 4 / 47.
2- مريم : 68.

وما نقله عن ابن أبي حاتم ، من أنّ اللّه يقسم بما شاء من خلقه وليس لأحد أن يقسم إلاّ باللّه ، أمر غير واضح ، لأنّ إقسام المخلوق بغير اللّه لو كان من مقولة الشرك فالقاعدة لا تقبل التخصيص ، فيكون قسمه سبحانه بغير اللّه أيضاً شركاً وعبادة.

وإن كان قسمه سبحانه لأجل بيان قداسته وعظمته أو الأسرار المكنونة فيه ، فهو أمر مشترك بين الخالق والمخلوق.

والجواب : انّ النهي عن الحلف بغير اللّه مختص بالطواغيت والأنداد والمشركين من الآباء ، وأمّا غيرهم فلم يرد فيهم نهي.

منهجنا في تفسير أقسام القرآن

إنّه سبحانه تبارك وتعالى حلف بذوات مقدسة بما يربو على الأربعين مرة ، فتفسيرها يمكن أن يتم باحدى الصور التالية :

أ : أن نتناول تلك الأقسام بالبحث طبق حروف التهجي ككتاب اللغة.

ب : أن نتناولها بالبحث حسب أفضلية المقسم به ، فنقدم الحلف باللّه أو الرب على الحلف بعمر النبي صلی اللّه علیه و آله وحياته ، وهو على الحلف بالملائكة ، وهكذا ، وعلى ذلك يجب عقد واحد وأربعين فصلاً على النحو التالي :

1. الحلف بلفظ الجلالة وفيه فصلان :

أ. الحلف بلفظ الجلالة.

ب. الحلف بالرب.

ص: 302

2. الحلف بالنبي صلی اللّه علیه و آله ، وفيه فصلان :

أ.بعمر النبي صلی اللّه علیه و آله

ب. شاهد

3. الحلف بالقرآن ، وفيه فصلان :

أ. بالقرآن

ب. بالكتاب

4. الحلف بالملائكة ، وفيه أربعة فصول :

أ. الصافات ، الزاجرات ، التاليات.

ب. الذاريات ، الحاملات ، الجاريات ، المقسمات.

ج. المرسلات ، العاصفات ، الناشرات ، الفارقات ، الملقيات.

د. النازعات ، الناشطات ، السابحات ، السابقات ، المدبرات.

5. الحلف بالقلم وفيه فصلان :

أ. القلم

ب. وما يسطرون

6. الحلف بالقيامة ، وفيه ثلاثة فصول :

أ. القيامة

ب. اليوم الموعود

ج. مشهود

ص: 303

7. الحلف بالنفس.

8. الحلف بالشفع والوتر.

9. الحلف بالولد والوالد.

10. الحلف بالأمكنة ، وفيه ثلاثة فصول :

أ. الحلف بالبلد الأمين

ب. الحلف بطور سينين

ج. الحلف بالبيت المعمور

11. الحلف بالأزمنة ، وفيه ثمانية فصول :

أ. الحلف بالصبح

ب. الحلف بالفجر

ج. الحلف باليوم

د. الحلف بالضحى

ه. الحلف بالنهار

و. الحلف بالشفق

ز. الحلف بالليل

ح. الحلف بالعصر

12. الحلف بالأرض والأجرام السماوية ، وفيه ثمانية فصول :

أ. الحلف بالشمس وضحاها

ص: 304

ب. الحلف بالكواكب

ج. الحلف بالنجم

د. الحلف بمواقع النجوم

ه. الحلف بالأرض

و. الحلف بالقمر

ز. الحلف بالخنس الجوار

ح. الحلف بالطارق

13. الحلف بالظواهر الجوية ، وفيه أربعة فصول :

أ. الحلف بالسماء

ب. الحلف بالذاريات

ج. الحلف بالحاملات

د. الحلف بالجاريات

ج : أن نتناولها حسب السور القرآنية ، فنفسر ما ورد من الأقسام في سورة الشمس مرة واحدة ، أو نفسر ما ورد في سورة الفجر أو البلد في مكان واحد ، وعلى ذلك يجب عقد عدة فصول حسب عدد السور التي ورد فيها الحلف.

وقد سلك ابن قيم الجوزية ( المتوفّى 751 ه ) هذا المنهج ، فراح يبحث عن أقسام القرآن حسب السور.

فابتدأ بتفسير الأقسام الواردة بالنحو التالي :

1. القيامة ، 2. الشمس ، 3. الفجر ، 4. البلد ، 5. التين ، 6. الليل ،

ص: 305

7. الضحى ، 8. العاديات ، 9. العصر ، 10. البروج ، 11. الطارق ، 12. الانشقاق ، 13. التكوير ، 14. النازعات ، 15. المرسلات ، 16. القيامة ، 17. المدثر ، 18. الحاقة ، 19. المعارج ، 20. القلم ، 21. الواقعة ، 22. النجم ، 23. الطور ، 24. الذاريات ، 25. ق ، 26. يس ، 27. الصافات ، 28. الحجر ، 29. النساء.

فقد عقد 29 فصلاً حسب عدد السور التي ورد فيها الأقسام ، وهذا المنهج لا يخلو من مناقشة ، لأنّه سبحانه ربما حلف بالرب في سور مختلفة ، فلو كان محور البحث هو السور يلزم عليه تكرار البحث حسب تعدد وروده في السور المختلفة ، وهذا بخلاف ما إذا جمع الآيات التي حلف فيها القرآن بربوبيته ، ويبحث فيها دفعة واحدة ، فهذا النوع من البحث يكون خالياً عن التكرار والتطويل.

مضافاً إلى أنّه لم يراع ترتيب السور حتى فيما اختاره من ذكر السور القصيرة متقدمة على السور الطويلة.

والعجب أنّه بحث عن الحلف الوارد في سورة القيامة مرّتين (1).

د : وهناك منهج رابع سلكه ولدنا الروحاني الشهيد الشيخ أبو القاسم الرزاقي ( قدس اللّه سره ) فقد أفرد لكلّ قَسَمٍ فصلاً خاصاً.

ويؤخذ على هذا المنهج أنّه سبحانه حلف في بعض السور بموضوعات مختلفة ، كسورة الشمس حيث حلف فيها بالشمس والقمر وفي الوقت نفسه بالنفس الإنسانية وجعل للجميع جواباً واحداً.

وبما انّ من البحوث المهمة في أقسام القرآن هو بيان الصلة بين المقسم به

ص: 306


1- تارة في ص 35 من كتابه المعروف « التبيان في أقسام القرآن » تحت عنوان فصل « القسم في سورة القيامة » ، وأُخرى بنفس العنوان في ص 147 ، فلاحظ.

والمقسم عليه ، فعلى ذلك المنهج يجب أن يتكرر البحث في أكثر الفصول بالنسبة إلى أُمور حلف بها سبحانه مرّة واحدة وذلك كالشمس والقمر والنفس الإنسانية ، وهذا مستلزم للإطناب.

ومن أجل أن نتلافى هذه المشكلة ، نقول :

إنّ أقسام القرآن على قسمين :

الأوّل : ما نطلق عليه الحلف المفرد ، والمراد منه ما إذا حلف سبحانه بشيء مفرد ولم يضم إليه حلفاً آخر ، سواء تكرر في سور أُخرى أو لا ، مثلاً : حلف بعمر النبي صلی اللّه علیه و آله وحياته مرة واحدة ولم يقرن به حلفاً آخر ، بخلاف لفظ الرب فقد حلف به مفرداً ولكنّه تكرر في بعض السور.

الثاني : ما نطلق عليه الحلف المتعدد ، والمراد منه ما إذا حلف سبحانه بأُمور مختلفة جمعها في آية واحدة أو آيتين ، وجعل للجميع جواباً واحداً ، كالحلف بالشمس والقمر إلى أن يصل إلى النفس الإنسانية.

فنعقد لكلّ حلف مفرد فصلاً على حدة ، سواء تكرر بهذا النحو في سور أُخرى أو لا ، مراعين في ذلك الأفضل فالأفضل فنقدم الحلف باللّه والرب على حياة النبي وعمره وهو على الملائكة.

وأمّا الحلف المتعدد فنعقد لكلّ سورة تضم ذلك الحلف فصلاً ، كما عقدنا لسورة الشمس فصلاً ، ولسورة الليل فصلاً آخر ، وإن تكرر فيه المحلوف فيه أعني الليل ، وبذلك يمتاز هذا المنهج عن سائر المناهج المذكورة ، ويجمع كافة محاسنها ، ويصان عن المؤاخذات التي ربما تطرح على المنهجين الأخيرين.

وأخذنا بتقسيم الكتاب إلى قسمين وخصصنا القسم الأوّل بالأحلاف المفردة ، والثاني بالأحلاف المتعددة ، وإليك إجمال فصول القسمين :

ص: 307

القسم الأوّل ، وفيه فصول :

الفصل الأوّل : القسم بلفظ الجلالة.

الفصل الثاني : القسم بالربِّ.

الفصل الثالث : القسم بعمر النبي.

الفصل الرابع : القسم بالقرآن الكريم.

الفصل الخامس : القسم بالعصر.

الفصل السادس : القسم بالنجم.

الفصل السابع : القسم بمواقع النجوم.

الفصل الثامن : القسم بالسماء ذات الحبك.

القسم الثاني ، وفيه فصول :

الفصل الأوّل : القسم في سورة الصافات.

الفصل الثاني : القسم في سورة الذاريات.

الفصل الثالث : القسم في سورة الطور.

الفصل الرابع : القسم في سورة القلم.

الفصل الخامس : القسم في سورة الحاقة.

الفصل السادس : القسم في سورة المدثر.

الفصل السابع : القسم في سورة القيامة.

الفصل الثامن : القسم في سورة المرسلات.

ص: 308

الفصل التاسع : القسم في سورة النازعات.

الفصل العاشر : القسم في سورة التكوير.

الفصل الحادي عشر : القسم في سورة الانشقاق.

الفصل الثاني عشر : القسم في سورة البروج.

الفصل الثالث عشر : القسم في سورة الطارق.

الفصل الرابع عشر : القسم في سورة الفجر.

الفصل الخامس عشر : القسم في سورة البلد.

الفصل السادس عشر : القسم في سورة الشمس.

الفصل السابع عشر : القسم في سورة الليل.

الفصل الثامن عشر : القسم في سورة الضحى.

الفصل التاسع عشر : القسم في سورة التين.

الفصل العشرون : القسم في سورة العاديات.

ص: 309

ص: 310

القسم الأوّل : القسم المفرد

اشارة

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : القسم بلفظ الجلالة

اشارة

حلف سبحانه تبارك وتعالى بلفظ الجلالة مرّتين ضمن آيتين من سورة النحل ، وهو أعظم قسم ورد في القرآن الكريم.

قال سبحانه :

أ : ( وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ ) (1).

ب : ( تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (2).

تفسير الآية الأُولى

دلّت الآية الأُولى على جهل المشركين ، حيث كانوا يجعلون نصيباً مما رزقوا للأصنام التي لا تضر ولا تنفع ويتقربون بذلك إليهم ، وقال سبحانه : ( وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ ) .

ص: 311


1- النحل : 56.
2- النحل : 63.

وقد حكى سبحانه عملهم هذا في سورة الأنعام ، وقال : ( وَجَعَلُوا للهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ للهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) (1).

فالكفار لأجل جهلهم بمبدأ الفيض كانوا يتقرّبون إلى الآلهة الكاذبة - أعني : الأصنام والأوثان - بتخصيص شيء مما رزقوا لها ، مع أنّه سبحانه هو الأولى بالتقرّب لا غير ، لأنّه مبدأ الفيض وما سواه ممكن محتاج في وجوده وفعله ، فكيف يتقربون إليه ؟!

والعجب أنّهم يجعلون نصيباً لله ونصيباً لشركائه ، فما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ، وما كان لشركائهم لا يصل إلى اللّه سبحانه ، وقد حكاه سبحانه في سورة الأنعام ، وقال : ( وَجَعَلُوا للهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ للهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) (2).

وحاصل الآية : أنّهم كانوا يجعلون من الزرع والمواشي حظاً لله وحظاً للأوثان ، وقد أسماها سبحانه ( شُرَكَائِهِمْ ) ، لأنّهم جعلوا الأوثان شركاءهم ، حيث جعلوا لها نصيباً من أموالهم ينفقونه عليها فشاركوها في نعمهم.

وقد ذكر المفسرون في تفسير قوله تعالى ( فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ للهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ ) وجوهاً (3) :

أوّلها : انّهم كانوا يزرعون لله زرعاً وللأصنام زرعاً ، فكان إذا زكا الزرع الذي

ص: 312


1- الأنعام : 136.
2- الأنعام : 136.
3- لاحظ مجمع البيان : 2 / 370.

زرعوه لله ولم يزك الزرع الذي زرعوه للأصنام جعلوا بعضه للأصنام وصرفوه إليها ، ويقولون إنّ اللّه غنيّ والأصنام أحوج ؛ وإن زكا الزرع الذي جعلوه للأصنام ولم يزك الزرع الذي زرعوه لله لم يجعلوا منه شيئاً لله ، وقالوا : هو غني وكانوا يقسمون النعم فيجعلون بعضه لله وبعضه للأصنام فما كان لله أطعموه الضيفان ، وما كان للصنم أنفقوه على الصنم ، وهذا هو المرويّ عن الزجاج وغيره.

ثانيها : انّه كان إذا اختلط ما جُعل للأصنام بما جُعل لله تعالى ردّوه ، وإذا اختلط ما جعل لله بما جُعل للأصنام تركوه ، وقالوا : اللّه أغنى ، وإذا تخرق الماء من الذي لله في الذي للأصنام لم يسدُّوه ، وإذا تخرق من الذي للأصنام في الذي لله سدّوه ، وقالوا : اللّه أغنى. عن ابن عباس وقتادة ، وهو المروي عن أئمتنا علیهم السلام .

وثالثها : انّه كان إذا هلك ما جعل للأصنام بدَّلوه مما جعل لله ، وإذا هلك ما جعل لله لم يبدّلوه مما جعل للأصنام. عن الحسن والسدي (1).

وفي الحقيقة انّ هذا النوع من العمل ، أي توزيع القربان بين اللّه والآلهة ، كان تزييناً من شركائهم وهم الشياطين أو سدنة الأصنام حيث زينوا لهم هذا العمل وغيره من الأعمال القبيحة ، قال تعالى : ( وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ ( أي ليهلكوهم بالإغواء ) وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ) (2).

تفسير الآية الثانية

يقول سبحانه : ( تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ

ص: 313


1- مجمع البيان : 2 / 370.
2- الأنعام : 137.

أَعْمَالَهُمْ ) فهؤلاء كفروا وضلّوا وكذّبوا الرسل وقد زيّن الشيطان أعمالهم ( فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ ) أي الشيطان الذي زين لهم أعمالهم فهو أيضاً يقوم بنفس هذا العمل فالولي واحد وإن كان المتولى عليه مختلفاً ، وبالتالي انّ الشيطان وليهم اليوم في الدنيا يتولونه ويتبعون إغواءه ( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .

إلى هنا انتهينا من تفسير الآيتين ، فلنذكر المقسم به ، وجواب القسم ، وما هي الصلة بينهما.

المقسم به

المقسم به في الآيتين هو لفظ الجلالة الذي جاء ذكره في القرآن الكريم حوالي 980 مرة.

وقد ذهب غير واحد من أصحاب المعاجم إلى أنّ أصله ، إله ، فحذفت همزته وأدخل عليه الألف واللام فخص بالباري تعالى ، قال تعالى : ( فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) (1).

ثمّ إنّ « إله » إما من أله يأله فهو الإله بمعنى المعبود ، أو من أله - بالكسر - أي تحير ، لتحير العقول في كنهه.

أقول : سيوافيك بأنّ الإله ليس بمعنى المعبود ، وأنّ من فسره به فقد فسره بلازم المعنى ، وعلى فرض ثبوته فلفظ الجلالة علم بالغلبة وليس فيه إشارة إلى هذه المعاني من العبادة والتحيّر ، وقد كان مستعملاً دائراً على الألسن قبل نزول القرآن تعرفه العرب في العصر الجاهلي ، يقول سبحانه : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ

ص: 314


1- مريم : 65.

اللّهُ ) (1). فقد أشار بلفظ الجلالة إلى خالق السماوات والأرض دون تبادر مفهوم العبادة أو التحير منه.

وممّا يدل على كونه علماً انّه يوصف بالأسماء الحسنى وسائر أفعاله المأخوذة من تلك الأسماء من دون عكس ، فيقال اللّه الرحمن الرحيم ، أو يقال علم اللّه ورزق اللّه ، ولا يقع لفظ الجلالة صفة لشيء منها ، ولا يؤخذ منه ما يوصف به شيء منها ، وهذا يدل على أنّه علم وليس بوصف ، فيكون اسماً للذات الواجبة الوجود المستجمعة لجميع صفات الكمال ، ولهذا اللفظ في جميع الألسنة معادل كلفظة ( خدا ) في لغة الفرس و ( حراً ) في لغة الافرنج و ( تاري ) في لغة الترك (2).

جواب القسم

أمّا جواب القسم في الآية الأُولى ، فهو عبارة عن قوله : ( لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ ) .

كما أنّ جوابه في الآية الثانية ، هو قوله : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ ) .

فقد أقسم سبحانه في هاتين الآيتين بلفظ الجلالة لغاية التأكيد على أمرين :

أ : انّهم مسؤولون يوم القيامة عن افترائهم الكذب.

ب : انّه سبحانه لم يترك الخلق سدى بل أرسل إليهم رسلاً ، لكن الشيطان حال بينهم وبين أُممهم ، وتشهد على ذلك سيرة عاد وثمود بل اليهود والنصارى والمجوس.

ص: 315


1- الزخرف : 87.
2- انظر الميزان : 1 / 18.

ما هي الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ؟ هذا هو المهم في أقسام القرآن ، وقد أُهمل في كثير من التفاسير ، ويمكن أن يقال :

أمّا الآية الأُولى ، فالقسم بلفظ الجلالة لأجل أنّ المشركين كانوا يجعلون لله نصيباً مما زرعوا من الحرث والأنعام ، وكانوا يقولون : هذا لله ، فناسب أن يقسم به لأجل أنّه افتراء عظيم.

وأمّا الآية الثانية ، فلأنّه جاء في ذيل جواب القسم ولاية الشيطان ، كما قال : ( فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ ) وبما انّ الولاية لله سبحانه كما قال تعالى : ( هُنَالِكَ الْوَلايَةُ للهِ الحَقِّ ) (1) ناسب الحلف باللّه الذي هو الوليّ دونَ الشيطان ، كما عليه المشركون.

ص: 316


1- الكهف : 44.

الفصل الثاني : القسم بالربِّ

اشارة

أقسم سبحانه بلفظ « رب » بصور مختلفة :

تارة حلف به بلفظ « فلا وربك »

وأُخرى حلف به مقروناً بلفظ ( لا ) وقال : « فلا أُقسم ».

وثالثة حلف به بلفظ « فوربّك ».

ورابعة بلفظ « بلى وربّي ».

وخامسة بلفظ « اي وربي ».

وسادسة بلفظ « فوربّ السماء والأرض ».

وعلى أية حال فالمقسم به هو الرب ، وإليك الآيات :

1. ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (1).

2. ( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ المَشَارِقِ وَالمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) (2).

3. ( فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ) (3).

ص: 317


1- النساء : 65.
2- المعارج : 40 - 41.
3- مريم : 68.

4. ( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (1).

5. ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ ) (2).

6. ( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ ) (3).

7. ( وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ) (4).

8. ( فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ) (5). تفسير الآيات

تشير الآية الأُولى إلى مقام من مقامات النبي صلی اللّه علیه و آله ، فانّ له - حسب ما دلّ عليه الكتاب والسنة في إدارة رحى المجتمع - مقامات ثلاثة :

أ : السياسية وتدبير الأُمور : يقول سبحانه : ( الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) (6). ويقول في حقّ النبي خاصة : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) (7) وليس الأولى بالمؤمنين من أنفسهم فضلاً عن أموالهم غير السائس الحاكم العام.

ص: 318


1- الحجر : 92 - 93.
2- سبأ : 3.
3- التغابن : 7.
4- يونس : 53.
5- الذاريات : 23.
6- الحج : 41.
7- الأحزاب : 6.

ب : القضاء وفضُّ الخصومات : يقول سبحانه في حقّ داود : ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ ) (1) وفي حقّ النبي صلی اللّه علیه و آله بقوله : ( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) (2).

ج : الإفتاء وبيان الأحكام : يقول سبحانه : ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ) (3) وقد كان الرسول - بنص هذه الآيات - جامعاً لهذه المقامات الثلاثة فكان سائساً وحاكماً ، وقاضياً وفاضّاً للخصومات ، ومفتياً ومبيّناً للأحكام.

ومن الواضح بمكان أنّ فضّ الخصومات لا يتحقق إلاّ بقضاء قاض مطاع رأيه ونافذ فصله ، وقد كان بعض المنتمين إلى الإسلام لم يعيروا أهمية لقضائه ، فنزلت الآية تأمر أوّلاً بإطاعته وانّ كلّ رسول واجب الطاعة. يقول سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) (4).

ثمّ تشير الآية التالية إلى أنّ الإيمان لا يكتمل إلاّ بالانصياع والتسليم القلبي لما يقضي به النبي صلی اللّه علیه و آله ، فمن شهد الشهادتين وأذعن بهما ، ومع ذلك يجد في نفسه حرجاً في قضاء النبي صلی اللّه علیه و آله وأمره فليس بمؤمن ، يقول سبحانه : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) . (5) فالآية تدل على أنّ الإيمان لا يكتمل بنفس الإذعان

ص: 319


1- ص : 26.
2- المائدة : 42.
3- النساء : 176.
4- النساء : 64.
5- النساء : 65.

واليقين بالتوحيد والرسالة ما لم ينضم إليه التسليم القلبي ، ولذلك ترى أنّ أمير المؤمنين علياً علیه السلام يصف الإسلام بالنحو التالي ، ويقول : « لأنسبنّ الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي : الإسلام هو التسليم » (1).

وتشير الآية الثانية إلى أنّه سبحانه قادر على أن يهلك المشركين ويأتي بقوم آخرين ( خَيْرًا مِّنْهُمْ ) ، من دون أن يكون مغلوباً ، قال : ( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ المَشَارِقِ وَالمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) .

فجواب القسم قوله ( إِنَّا لَقَادِرُونَ ) وقوله ( وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) عطف على جواب القسم ، والمراد بالسبق الغلبة ، أي وما نحن بمغلوبين ويمكن أن يكون السبق بمعناه والمراد : وما نحن بمسبوقين بفوت عقابنا إياهم فإنّهم لو سبقوا عقابنا لسبقونا.

والتعبير بالمشارق والمغارب لأجل أنّ للشمس في كل يوم من أيام السنة الشمسية مشرقاً ومغرباً لا تعود إليهما إلى مثل اليوم من السنة القابلة ، كما أنّه من المحتمل أن يكون المراد بها مشارق جميع النجوم ومغاربها.

ومن عجيب الأمر أنّ في الآية على قصرها وجوهاً من الالتفات.

ففي قوله : ( فَلا أُقْسِمُ ) التفات من التكلم مع الغير الوارد في قوله : ( إِنَّا خَلَقْنَاكُم ) إلى التكلم وحده ، والوجه فيه تأكيد القسم باسناده إلى اللّه نفسه.

وفي قوله : ( بِرَبِّ المَشَارِقِ وَالمَغَارِبِ ) التفات من التكلم وحده إلى الغيبة ، والوجه فيه الإشارة إلى صفة من صفاته تعالى هي المبدأ في خلق الناس جيلاً بعد جيل ، وهي ربوبيته للمشارق والمغارب ، فانّ الشروق بعد الشروق ، والغروب بعد الغروب ، يلازم مرور الزمان الذي له مدخلية تامّة في تكوّن الإنسان

ص: 320


1- نهج البلاغة : قسم الحكم ، الحكمة 125.

جيلاً بعد جيل وسائر الحوادث العرضية المقارنة له.

وفي قوله : ( إِنَّا لَقَادِرُونَ ) التفات (1) من الغيبة إلى التكلم مع الغير ، والوجه فيه الإشارة إلى العظمة المناسبة لذكر القدرة ، وفي ذكر ربوبيته للمشارق والمغارب إشارة إلى تعليل القدرة ، وهو أنّ الذي ينتهي إليه تدبير الحوادث في تكوّنها لا يعجزه شيء من الحوادث التي هي أفعاله ، عن شيء منها ، ولا يمنعه شيء من خلقه من أن يبدله بخير منه ، وإلاّ شاركه المانع في أمر التدبير ، واللّه سبحانه لا شريك له في أمر التدبير (2).

وأمّا الآية الثالثة : فلما ذكر سبحانه الوعد والوعيد والبعث والنشور أردفه بقول منكر البعث ورد عليهم بأوضح بيان وأجلى برهان ، وقال : ( أَوَلَا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ) (3) والمراد أو لا يذكر أنّ النشأة الأُولى دليل على إمكان النشأة الثانية ، ثمّ أكده بقوله : « فوربك » يا محمد « لنحشرنّهم والشياطين » أي لنجمعنهم ولنبعثنهم من قبورهم مقرنين بأوليائهم من الشياطين.

وأمّا الآية الرابعة : فسياق الآية يندد بالمقتسمين ، ويقول : ( كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ ) (4) ثمّ يصفهم بقوله : ( الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) (5) والعضين

ص: 321


1- الالتفات في علم البيان عبارة عن الانتقال من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى التكلم كما في قوله سبحانه : ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) وقوله سبحانه : ( حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم ) وقوله سبحانه : ( وَاللّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ ) ففي الآية الأُولى عدول من الغيبة إلى الخطاب ، وفي الثانية من الخطاب إلى الغيبة ، وفي الثالثة من الغيبة إلى التكلم.
2- الميزان : 20 / 22.
3- مريم : 67.
4- الحجر : 91.
5- الحجر : 90.

جمع عضّة والتعضية التفريق ، فهم الذين جزّأوا القرآن أجزاء فقالوا تارة : سحر ، وأُخرى : أساطير الأوّلين ، وثالثة : مفترى ، وبذلك صدّوا الناس عن الدخول في دين اللّه ، وعلى ذلك يكون المراد من المقتسمين هم كفار قريش.

ويحتمل أن يكون المراد هم اليهود والنصارى الذين فرّقوا القرآن أجزاء وأبعاضاً ، وقالوا : نؤمن ببعض ونكفر ببعض.

وعلى أيّة حال الذين كانوا بصدد إطفاء نور القرآن بتبعيضه أبعاض ليصدوا عن سبيل اللّه فهؤلاء هم المقصودون ، ثمّ حلف سبحانه وقال : ( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) من تبعيض القرآن وصد الناس عن الإيمان به.

وأمّا الآية الخامسة : فتذكر إنكار المشركين لإتيان الساعة ويوم القيامة ، وهم ينكرونه مع ظهور عموم ملكه سبحانه وعلمه بكلّ شيء.

وقد كان سبب إنكارهم هو زعمهم أنّ الإنسان يبلى جسده بعد الموت وتختلط أجزاؤه بأجزاء أبدان أُخرى على نحو لا تتميز ، فكيف يمكن إعادته ؟ فأجاب سبحانه في الآية مشيراً إلى علمه الواسع ، ويقول : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (1).

فقوله : ( لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ) حكاية لقول المشركين.

وقوله : ( قُلْ بَلَى وَرَبِّي ) أمر للنبي صلی اللّه علیه و آله بأن يجيبهم بأنّ إتيان الساعة أمر قطعي.

ص: 322


1- سبأ : 3.

وأمّا ما تشكّكون به من اختلاط أجزاء الأموات بعضها ببعض فهو أمر سهل أمام سعة علمه سبحانه بالغيب ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، فهو يعلم بذرات بدن كلّ إنسان ويميّزه عن غيره ، ومع علمه سبحانه فالأجزاء ثابتة في كتاب مبين لا تتغير ولا تتبدل.

وأمّا الآية السادسة : يقول سبحانه : ( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ ) (1).

تشير الآية إلى إنكار الوثنيين الذين كانوا ينكرون البعث ، فأمر النبي صلی اللّه علیه و آله بالإجابة على إنكارهم بإثبات ما نفوه من الكلام مقروناً بأصناف التأكيد بالقسم واللام والنون وقال : ( وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ ) .

وأشار في ذيل الآية إلى أنّ البعث أمر يسير عليه تعالى ، وانّ ما طرحوه من شبهات حول البعث فهي - في الواقع - شبهات لا تصمد أمام قدرة اللّه وعلمه الواسع.

وأمّا الآية السابعة : أعني قوله سبحانه : ( وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ) (2).

سياق الآية يوحي إلى أنّ المشركين كانوا يستخبرون النبي صلی اللّه علیه و آله عن نزول العذاب أو وقوع البعث ، فأمره سبحانه بأن يجيب مؤكداً ، فقال : ( قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ ) وقد أكد الكلام بالقسم والجملة الاسمية ، و « انّ » المشبهة و « اللام ، » ثم أشار إلى أنّ الكافرين لا يعجزونه سبحانه عمّا أراد ، وقال : ( وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ) ، وفي سورة المعارج قال مكانه : ( وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) .

ص: 323


1- التغابن : 7.
2- يونس : 53.

وأمّا الآية الثامنة : ( فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ) (1).

فالضمير في قوله : « إنّه » يعود إلى الرزق والوعد الواردين في الآية المتقدّمة ، قال سبحانه : ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) والمراد من الوعد هو الجنة.

ثمّ أشار ( إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ) وكما أنّ العلم بهذا الأمر - أي النطق - أمر ملموس لا شبهة فيه ، فهكذا الرزق والوعد من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس.

حكى الزمخشري عن الأصمعي قال : أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود له ، فقال : ممن الرجل ؟ قلت : من بني أصمع ، قال : من أين أقبلت ؟ قلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن ، فقال : اتل عليّ فتلوت « والذاريات » فلمّا بلغت قوله : ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ ) قال : « حسبك » ، فقام إلى ناقته ، فنحرها ووزّعها على من أقبل وأدبر وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولّى ، فلما حججت مع الرشيد ، طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق ، فالتفتّ فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفرّ فسلّم عليَّ واستقرأ السورة ، فلمّا بلغت الآية ، صاح وقال : قد وجدنا ما وعدنا ربُّنا حقّاً ، ثمّ قال : وهل غير هذا ؟ فقرأت : ( فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ ) فصاح ، وقال : يا سبحان اللّه من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف لم يصدقوه بقوله حتى ألجؤه إلى اليمين ، قالها ثلاثاً ، وخرجت معها نفسه (2).

إلى هنا تمّ تفسير الآيات التي أقسم فيها سبحانه بربوبيّته ، وإليك الكلام في المقسم به ، والمقسم عليه.

ص: 324


1- الذاريات : 23.
2- الكشاف : 3 / 169.
المقسم به

إنّ المقسم به في هذه الآيات الثمان هو الرب ، والربّ أصله من ربب ، يقول صاحب القاموس : ربّ كلّ شيء مالكه ومستحقه وصاحبه ، يقال : ربّ الأمر أصلحه.

يقول ابن فارس : الرب ، المالك ، الخالق ، الصاحب ، والرب المصلح للشيء ، يقال : ربّ فلان ضيعته ، إذا قام على إصلاحها.

والربّ المصلح للشيء ، واللّه جلّ ثناؤه ، الرب لأنّه مصلح أحوال خلقه ، والراب الذي يقوم على أمر الربيب.

هذه الكلمات ونظائرها مبثوثة في كتب القواميس واللغة ، وهي ظاهرة في أنّ للرب معاني مختلفة ، حتى أنّ الكاتب المودودي تصوّر أنّ لهذه اللفظة خمسة معان ، وذكر لكلّ معنى من المعاني الخمسة شواهد من القرآن ، ولكن الحقّ أنّه ليس لتلك اللفظة إلاّ معنى واحد والجميع مصاديق متعددة لهذا المعنى أو صور مبسطة للمعنى الواحد ، وإليك هذه الموارد والمصاديق :

1. التربية : مثل رب الولد ، رباه.

2. الإصلاح والرعاية : مثل رب الضيعة.

3. الحكومة والسياسة : مثل فلان قد ربّ قومه ، أي ساسهم وجعلهم ينقادون له.

4. المالك : كما جاء في الخبر ، عن النبي صلی اللّه علیه و آله أرب غنم أم رب إبل.

5. الصاحب : مثل قوله : رب الدار ، أو كما يقول القرآن الكريم : ( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ) (1).

ص: 325


1- قريش : 3.

لا ريب انّ هذه اللفظة قد استعملت في هذه الموارد ، ولكن جميعها ترجع إلى أصل واحد وهو من فوض إليه أمر الشيء المربوب ، فلو قيل لصاحب الدار ومالكها ربّ الدار ، فلأنّ أمرها مفوض إليه ، ولو أطلق على المصلح والسائس ، فلأنّ بيد هؤلاء أمر التدبير والإدارة والتصرف ، فلو قال يوسف في حقّ عزيز مصر : ( إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ) (1) ، فلأجل انّ يوسف نشأ في إحضانه وقام بشؤونه.

ولو وصف القرآن اليهود والنصارى بأنّهم اتخذوا أحبارهم أرباباً ، وقال : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ ) (2) ، فلأجل انّهم تسلّموا زمام سلطة التشريع وتصرّفوا في الأموال والأعراض كيفما شاءُوا.

إنّه سبحان وصف نفسه ، بقوله : ( رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) (3) وقال أيضاً : ( رَبُّ الشِّعْرَى ) (4) كلّ ذلك لانّه تعالى مدبرها ومديرها ومصلح شؤونها والقائم عليها.

وهذا البيان يكشف النقاب عن المعنى الحقيقي للرب ، وهو المعنى الجامع بين هذه الموارد. أعني : من فوِّض إليه أمر الشيء من حيث الخلق والتدبير والتربية ، وبذلك يعلم ما في كلام ابن فارس من تفسيره بالخالق ، فانّه خلط بين المعنى ولازمه فالخالق ليس من معاني الرب.

نعم خالق كلّ شيء يعدّ مربياً ومدبراً.

وثمة نكتة جديرة بالاهتمام ، وهي : أنّ الوهابيين قسَّموا التوحيد إلى التوحيد

ص: 326


1- يوسف : 23.
2- التوبة : 31.
3- الرعد : 16.
4- النجم : 49.

في الربوبية والتوحيد في الالوهية ، وفسَّروا الأوّل بالتوحيد في الخالقية ، بمعنى الاعتقاد بأنّ للكون خالقاً واحداً ؛ وفسروا الثاني بالتوحيد في العبادة ، بمعنى أنّه ليس في الكون إلاّ معبود واحد ولكنّهم اخطأوا في كلا الاصطلاحين.

أمّا الأوّل : فلأنّ التوحيد في الربوبية غير التوحيد في الخالقية ، فانّ الخالقية شيء والتدبير والإصلاح شيء آخر ، واللّه سبحانه وإن كان خالقاً ومدبراً لكنّه لا يكون دليلاً على وحدة المفهومين في الخارج.

فالعرب في عصر الجاهلية كانوا موحدين في الخالقية ، وكان منطق الجميع ، ما حكاه سبحانه بقوله : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ) (1).

وفي الوقت نفسه لم يكونوا موحدين في الربوبية ، يقول سبحانه : ( وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ) (2) فكانوا يعتقدون بأنّ العزّة والتدبير من شؤون المدبر ، قال سبحانه : ( وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ ) (3). فكانوا يرون أنّ النصر بيد الإلهة ، خلافاً للموحد في أمر التدبير ، فهو يرى أنّ العزّة والنصر بيد اللّه سبحانه : قال تعالى : ( فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ) (4) وقال تعالى : ( وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الحَكِيمِ ) (5) إلى غير ذلك من الآيات الحاكية عن توغّلهم في الشرك في أمر التدبير.

ص: 327


1- الزخرف : 9.
2- مريم : 81.
3- يس : 74.
4- فاطر : 10.
5- آل عمران : 126.

وأمّا الثاني : فلأنّ التوحيد في الالوهية غير العبادة ، فهو مبني على أنّ الإله بمعنى المعبود ، والعبادة من لوازم الإله.

ولكنّه بعيد عن الصواب ، لأنّ ما يتبادر من لفظ الجلالة هو المتبادر من لفظ الإله ، غير أنّ الأوّل جزئي موضوع لفرد واحد ، والثاني كلي وإن لم يوجد له مصداق آخر.

والذي يدل على أنّ الإله ليس بمعنى المعبود هو أنّه ربما يستعمل لفظ الجلالة مكان الإله على وجه الكلية والوصفيّة دون العلمية ، فيصحّ وضع أحدهما مكان الآخر ، كما في قوله سبحانه : ( وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ) (1).

فإنّ وزان هذه الآية وزان ، قوله سبحانه :

( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الحَكِيمُ الْعَلِيمُ ) (2).

( وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ) (3).

( هُوَ اللّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللّهُ الخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) (4).

ولا يخفى أنّ لفظ الجلالة في هذه الموارد وما يشابهها يراد منه ما يرادف الإله

ص: 328


1- الأنعام : 3.
2- الزخرف : 84.
3- النساء : 171.
4- الحشر : 23 - 24.

على وجه الكلية ( أي ما معناه أنّه هو الإله الذي يتصف بكذا وكذا ).

ويقرب من الآية الأُولى ، قوله سبحانه :

( قُلِ ادْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) (1).

فإنّ جعل لفظ الجلالة في عداد سائر الأسماء ، والأمر بدعوة أيٍّ منها ، ربما يشعر بخلوّه عن معنى العلمية ، وتضمنه معنى الوصفية الموجودة في لفظ : « الإله » وغيره ، ومثله قوله سبحانه :

( هُوَ اللّهُ الخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) (2).

فلا يبعد في هاتين الآيتين أن يكون لفظ الجلالة ملحوظاً على وجه الكلية لا العلمية الجزئية ، كما هو الظاهر لمن أمعن فيها.

المقسم عليه

إنّ المقسم عليه عبارة عن جواب القسم ، وهو في تلك الآيات كالتالي :

أ : الدعوة إلى تحكيم النبي صلی اللّه علیه و آله والتسليم أمام قضائه. ( لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ... ) .

ب : التأكيد على قدرته سبحانه على أن يأتي بخير منهم : ( إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا ... ) .

ج : التأكيد على حشرهم وحشر الشياطين : ( لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ) .

د : التأكيد على أنّهم مسؤولون يوم القيامة عن أعمالهم ( لَنَسْأَلَنَّهُمْ

ص: 329


1- الإسراء : 110.
2- الحشر : 24.

أَجْمَعِينَ ... ) .

ه : التأكيد على إتيان الساعة : ( لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ ... ) .

و : التأكيد على بعثهم وآبائهم : ( لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ ... ) .

ز : التأكيد على وقوع البعث : ( إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ... ) .

ح : التأكيد على أنّ أمر الرزق وما توعدون من الجزاء حقّ : ( إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ... ) .

الصلة بين المقسم به والمقسم عليه

الصلة بينهما واضحة ، فانّ المقسم عليه في هذه الآيات ، كان يدور حول أحد أمرين :

أ : الدعوة إلى التحكيم إلى النبي والتسليم أمام قضائه.

ب : كون البعث والحشر والسؤال عن الأعمال ، أمراً حقّاً.

ومن الواضح أنّ كلا الأمرين من شؤون الربوبية ، فإنّ الربّ إذا كان سائساً ومدبراً فهو أعلم بصلاح المدبر فيجب أن يكون مسلماً لأمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله ونهيه.

كما أنّ حياة المربوب من شؤون الرب دون فرق بين آجله وعاجله ، فناسب الحلف بالرب عند الدعوة إلى الحشر والنشر.

وبعبارة أُخرى : كان المشركون ينكرون التسليم أمام أمره ونهيه ، كما كانوا ينكرون البعث والنشر ، ولما كان الجميع من شؤون الربوبية حلف بالرب تأكيداً لربوبيته.

* * *

ص: 330

ثمّ إنّ المقسم به فيما مضى من الآيات هو لفظ الجلالة أو لفظ الرب ، المشيرين إلى الواجب الجامع لجميع صفات الكمال والجمال.

وثمة آيات ربما يستظهر منها أنّ المقسم به هو سبحانه تبارك وتعالى لكن بلفظ مبهم ك « ما » الموصولة ، وقد جاء في آيات أربع :

1. ( وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ) .

2. ( وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ) .

3. ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ) (1).

4. ( وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى ) (2).

وقد اختلفت كلمة المفسرين في تفسير لفظة « ما » ، فالأكثرون على أنّها « ما » موصولة كناية عن اللّه سبحانه ، وكأنّه سبحانه يقول : والسماء والذي بناها ، والأرض والذي طحاها ، ونفس والذي سواها ، والواو للقسم.

وهناك من يذهب إلى أنّها « ما » مصدرية ، وكأنّه يقول : أُقسم بالسماء وبنائها ، والأرض وطحائها ، والنفس وتسويتها.

ولكن الرأي الأوّل هو الأقرب لأنّ سياق الآية يؤيد ذلك ، لأنّه سبحانه يقول : ( فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) (3) فالفاعل هو الضمير المستتر الراجع إلى « ما » الموصولة الواردة في الآيات الثلاث المتقدمة. والذي يصلح للفاعلية هو الموصول من « ما » لا المصدر ، وسيوافيك تفصيل ذلك عند البحث عن الحلف بما ورد في هذه الآيات.

ص: 331


1- الشمس : 5 - 7.
2- الليل : 3.
3- الشمس : 8.

الفصل الثالث : القسم بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله

اشارة

حلف القرآن الكريم بالنبي صلی اللّه علیه و آله مرَّتين ، فتارة بعمره وحياته ، وأُخرى بوصفه وكونه شاهداً ، ويقع البحث في مقامين : المقام الأوّل : الحلف بعمر النبي صلی اللّه علیه و آله

حلف سبحانه بحياة النبي صلی اللّه علیه و آله مرّة واحدة ، وقال حينما عرض قصة لوط : ( قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ) (1).

تفسير الآيات

أخبر سبحانه في هذه السورة أنّ الملائكة لمّا خرجوا من عند إبراهيم أتوا لوطاً يبشرونه بهلاك قومه ، ولمّا حلّوا ضيوفاً عند لوط فرح الفجّار بورودهم ، فقال لهم لوط مشيراً إلى بناته ( هَؤُلاءِ بَنَاتِي ) « فتزوجوهنّ إن كنتم فاعلين وكانت لكم رغبة في التزويج ، ولكن قوم لوط أعرضوا عمّا اقترح عليهم نبيّهم لوط وكانوا مصرّين على الفجور بهم ، غافلين عن أنّ العذاب سيصيبهم واللّه سبحانه يحلف بحياة النبي صلی اللّه علیه و آله ، ويقول : ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) فلا يبصرون طريق

ص: 332


1- الحجر : 71 - 73.

الرشد ( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ ) أي الصوت الهائل ( مُشْرِقِينَ ) أي في حال شروق الشمس.

المقسم به

المقسم به هو عبارة عن العمر ، أعني في قوله : « لعمرك » يقول الراغب : العَمر والعُمر اسم لمدة عمارة البدن بالحياة ، فإذا قيل طال عمره فمعناه عمارة بدنه بروحه ، إلى أن قال : والعَمر والعُمر واحد لكن خصَّ القسم بالعَمر دون العُمر ، كقوله سبحانه : ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) .

وأما العُمُر فكما في قوله سبحانه : ( طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ) ، وفي آية أُخرى : ( لَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ) .

فاللفظان بمعنى واحد لكن يختص القسم بواحد منهما (1).

المقسم عليه

هو قوله : ( إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ، والمراد أقسم بحياتك وبقائك يا محمد ، انّهم لفي سكرتهم وانغمارهم في الفحشاء والمنكر متحيرين لا يبصرون طريق الرشد.

وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه.

قال ابن عباس : ما خلق اللّه عزّوجلّ وما ذرأ ولا برأ نفساً أكرم عليه من محمد ، وما سمعت اللّه أقسم بحياة أحد إلاّ بحياته فقال لعمرك (2).

ص: 333


1- المفردات : 347 ، مادة عمَر.
2- مجمع البيان : 3 / 342.

وجه الصلة أنّه سبحانه بعث الأنبياء عامة ، والنبي الخاتم خاصة لهداية الناس وإنقاذهم من الضلالة وإيقاظهم من السكرة التي تعمُّ الناس ، وبما أنّ القوم كانوا في سكرتهم يعمهون وفي ضلالتهم مستمرون ، حلف سبحانه تبارك وتعالى بعمر النبي الذي هو مصباح الهداية والدليل إلى الصراط المستقيم.

المقام الثاني : الحلف بوصف النبي وأنّه شاهد

حلف القرآن الكريم في سورة البروج بالشاهد والمشهود ، وقال : ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ المَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ ) (1).

أمّا المشهود فسيوافيك في فصل القسم في سورة القيامة انّ المراد منه يوم القيامة بشهادة ، قوله سبحانه : ( ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ) (2) إنّما الكلام في الشاهد ، فالمراد منه هو النبي الخاتم صلی اللّه علیه و آله بشهادة أنّه سبحانه وصفه بهذا الوصف ثلاث مرّات ، وقال :

( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) (3).

( إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ ) (4).

( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) (5).

والآيات صريحة في حقّ النبي صلی اللّه علیه و آله ، وفي بعض الآيات عرّفه بأنّه ( شَهِيدًا ) ، ويقول : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ

ص: 334


1- البروج : 1 - 4.
2- هود : 103.
3- الأحزاب : 45.
4- المزمل : 15.
5- الفتح : 8.

عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) (1).

( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ ) (2).

هذه الآيات تعرب عن أنّ المقسم به هو النبي صلی اللّه علیه و آله بما انّه شاهد على أعمال أُمّته وشهيداً عليها.

سئل الحسن بن علي علیهماالسلام عن معنى الشاهد والمشهود في قوله سبحانه : ( وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ) ؟ فقال : أمّا الشاهد فمحمد صلی اللّه علیه و آله ، وأمّا المشهود فيوم القيامة ، أما سمعته يقول : ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) ، وقال تعالى : ( ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ) (3).

معنى الشهادة وكيفية شهادة النبي صلی اللّه علیه و آله

أمّا الشهادة فقد فسرها الراغب وقال : الشهود والشهادة ، الحضور مع المشاهدة امّا بالبصر أو بالبصيرة ، وقد يقال للحضور مفرداً عالم « الغيب والشهادة » وقد نقل القرآن شهادة النبي صلی اللّه علیه و آله على قومه يوم القيامة ، فقال : ( يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ) (4).

هذه حقيقة قرآنية في حقّ النبي صلی اللّه علیه و آله وغيره ولا يمكن إنكارها للتصريح بها في غير واحد من الآيات ، قال تعالى : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ

ص: 335


1- البقرة : 143.
2- النحل : 89.
3- البحار : 1 / 13.
4- الفرقان : 30.

عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ) (1). وقال تعالى : ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) (2).

وقال عزّ اسمه : ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ ) (3).

والشهادة فيها مطلقة ، وظاهر الجميع - على إطلاقها - هو الشهادة على اعمال الأُمم ، وعلى تبليغ الرسل كما يومئ إليه ، قوله تعالى : ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المُرْسَلِينَ ) (4).

وظرف الشهادة وإن كان هو الآخرة لكن الشهداء يتحملوها في الدنيا. قال سبحانه : ( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (5).

وعلى ضوء ذلك يثار هذا السؤال في الذهن ، وهو :

إنّ الشهادة من الحضور ولم يكن النبي صلی اللّه علیه و آله ظاهراً مع جميع الأُمة بل كان بمعزل عنهم إلاّ شيئاً لا يذكر ، فكيف يشهد وهو لم يحضر الواقعة أي أفعال أُمّته قاطبة ؟

وهناك إشكال آخر أكثر غموضاً وهو : انّ الشهادة على ظاهر الأعمال ليست مفيدة يوم القيامة ، بل الشهادة على باطن الأعمال من كون الصلاة لله أو للرياء وللسمعة ، وانّ إيمانه هل كان إيماناً نابعاً من صميم ذاته ، أو نفاقاً لأجل

ص: 336


1- النساء : 41.
2- النحل : 84.
3- الزمر : 69.
4- الأعراف : 6.
5- المائدة : 117.

حطام الدنيا ، فهذا النوع من الأعمال لا يمكن الشهادة عليها حتى بنفس الحضور عند المشهود عليه ؟

وهذا يدفعنا إلى القول بأنّ لشهداء الأعمال عامة والنبي الخاتم خاصة قدرة غيبية خارقة يطّلع من خلالها على أعمال العباد ظاهرها وباطنها وذلك بقدرة من اللّه سبحانه ، وعلى ذلك فهذه الشهادة عبارة عن الاطلاع على أعمال الناس في الدنيا من سعادة أو شقاء ، وانقياد وتمرّد ، وإيمان وكفر ، وأداء ذلك في الآخرة يوم يستشهد اللّه من كلّ شيء حتى من أعضاء الإنسان ، وعند ذلك يقوم النبي صلی اللّه علیه و آله ويقول : ( يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ) .

فإذا كانت الشهادة بهذا المعنى فلا ينالها إلاّ الأمثل فالأمثل من الأُمّة ، لا الأُمة بأسرها ، وعلى ضوء ذلك فيكون المراد من قوله سبحانه : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) (1) هم الكاملين من الأُمّة لا المتوسطين وما دونهم.

وأمّا نسبة الشهادة إلى قاطبة أُمّة النبي ، في قوله تعالى : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ) فليس بشيء بديع ، إذ ربّما يكون الوصف لبعض الأُمّة وينسب الحكم إلى جميعهم ، كما في قوله سبحانه في حقّ بني إسرائيل : ( وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا ) على الرغم من أنّ الملوك فيهم لم يكن يتجاوز عددهم عدد الأصابع.

وثمة حديث منقول عن الإمام الصادق علیه السلام في تفسير قوله تعالى : ( لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) يؤيد هذا المعنى « الشهادة للأمثل » : « فإن ظننت أنّ اللّه عني بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحدين ، أفترى انّ من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب اللّه شهادته يوم القيامة ،

ص: 337


1- البقرة : 143.

ويقبلها منه بحضرة جميع الأُمم الماضية ؟ كلا : لم يعن اللّه مثل هذا من خلقه ، يعني الأُمّة التي وجبت لها دعوة إبراهيم ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) وهم الأُمّة الوسطى ، وهم خير أُمّة أُخرجت للنّاس » (1).

الحلف بالنبي كناية

ربّما يحلف القرآن الكريم بالنبي صلی اللّه علیه و آله كناية ، قال سبحانه : ( لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ) (2).

والحِلُّ بمعنى المقيم وكأنّه سبحانه يقول : وأنت يا محمد مقيم به ، وهو محلك وهذا تنبيه على شرف البلد بشرف من حلّ به وهو الرسول الداعي إلى توحيده ، وإخلاص عبادته ، وبيان أنّ تعظيمه له وقسمه به لأجله ولكونه حالاً فيه ، كما سميت المدينة طيبة لأنّها طابت به حيّاً وميتاً (3).

وكأنّ الآية تشير إلى المثل المعروف شرف المكان بالمكين ، وانّ قداسة مكة والداعي إلى الحلف بها هو احتضانها للنبي يقول العلاّمة الطباطبائي : والحل مصدر كالحلول بمعنى الإفاضة والاستقرار في مكان ، والمصدر بمعنى الفاعل ، والمعنى : أقسم بهذا البلد ، والحال انّك حال به مقيم فيه ، وفي ذلك تنبيه على تشرّف مكة بحلوله فيها وكونها مولده ومقامه (4).

ص: 338


1- الميزان : 1 / 332.
2- البلد : 1 - 4.
3- مجمع البيان : 10 / 492.
4- الميزان : 20 / 289.

الفصل الرابع : القسم بالقرآن الكريم

اشارة

القرآن الكريم هو الكتاب السماوي الذي أنزله سبحانه على رسوله ليكون للعالمين نذيراً ، وبما أنّ القرآن كتاب هداية للناس ، فقد نال من الكرامة بمكان حلف به سبحانه فتارة بلفظ « القرآن » وأُخرى بلفظ « الكتاب ».

فقد حلف بالقرآن في ثلاث آيات :

( يس * وَالْقُرْآنِ الحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (1).

( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوا وَّلاتَ حِينَ مَنَاصٍ * وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) (2).

( ق وَالْقُرْآنِ المَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ) (3).

ص: 339


1- يس 1 - 4.
2- ص : 1 - 5.
3- ق : 1 - 2.

كما حلف سبحانه بلفظ الكتاب مرّتين ، وقال :

( حم * وَالْكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) (1).

( حم * وَالْكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (2).

وقبل الخوض في تفسير الآيات نذكر أُموراً :

الأوّل : انّه سبحانه صدّر هذه الأقسام بالحروف المقطعة كما هو واضح ، وهذا يؤيد أنّ كلمة يس من الحروف المقطعة ، والحروف المقطعة عبارة عن الحروف التي صدّر بها قسم من السور يجمعها قولنا : « صراط علي حق نمسكه » وعند التحليل يرجع إلى :

ا ، ح ، ر ، س ، ص ، ط ، ع ، ق ، ك ، ل ، م ، ن ، ه ، ي.

والعجب أنّ هذه الحروف هي نصف الحروف الهجائية.

الثاني : ما هو المراد من الحروف المقطعة ؟

افتتح القرآن الكريم قسماً من السور بحروف مقطعة أعني السور التالية :

1. البقرة ، 2. آل عمران ، 3. الأعراف ، 4. يونس ، 5. هود ، 6. يوسف ، 7. الرعد ، 8. إبراهيم ، 9. الحجر ، 10. مريم ، 11. طه ، 12. الشعراء ، 13. النمل ، 14. القصص ، 15. العنكبوت ، 16. الروم ، 17.لقمان ،

ص: 340


1- الدخان : 1 - 5.
2- الزخرف : 1 - 4.

18. السجدة ، 19. يس ، 20. ص ، 21. غافر ، 22. فصلت ، 23. الشورى ، 24. الزخرف ، 25. الدخان ، 26. الجاثية ، 27. الأحقاف ، 28. ق ، 29. القلم.

فهذه السور التي يبلغ عددها 29 سورة افتتحت بالحروف المقطعة.

وقد تطرق المفسرون إلى بيان ما هو المقصود من هذه الحروف. وذكروا وجوهاً كثيرة نقلها فخرالدين الرازي في تفسيره الكبير تربو على عشرين وجهاً (1).

وها نحن نقدم المختار ثمّ نلمح إلى بعض الوجوه.

إلماع إلى مادة القرآن

إنّ القرآن الكريم تحدّى المشركين بفصاحته وبلاغته وعذوبة كلماته ورصانة تعبيره ، وادعى أنّ هذا الكتاب ليس من صنع البشر بل من صنع قدرة إلهية فائقة لا تبلغ إليها قدرة أيِّ إنسان ولو بلغ في مضمار البلاغة والفصاحة ما بلغ.

ثمّ إنّه أخذ يورد في أوائل السور قسماً من الحروف الهجائية للإلماع إلى أنّ هذا الكتاب مؤلف من هذه الحروف ، وهذه الحروف هي التي تلهجون بها صباحاً ومساءً فلو كنتم تزعمون أنّه من صُنْعي فاصنعوا مثله ، لأنّ المواد التي تركب منها القرآن كلّها تحت أيديكم واستعينوا بفصحائكم وبلغائكم ، فإن عجزتم ، فاعلموا أنّه كتاب منزل من قبل اللّه سبحانه على عبد من عباده بشيراً ونذيراً.

وهذا الوجه هو المروي عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام ، وهو خيرة جمع من المحقّقين ، وإليك ما ورد عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام في هذا المقام :

أ : روى الصدوق بسنده عن الإمام العسكري علیه السلام ، انّه قال : « كذبت قريش

ص: 341


1- تفسير الفخر الرازي : 2 / 5 - 8.

واليهود بالقرآن ، وقالوا : هذا سحر مبين ، تقوّله ، فقال اللّه : ( الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ ) أي يا محمّد هذا الكتاب الذي أنزلته إليك هو الحروف المقطعة التي منها ( الم ) وهو بلغتكم وحروف هجائكم ، فأتوا بمثله إن كنتم صادقين ، واستعينوا بذلك بسائر شهدائكم ، ثمّ بيّن أنّهم لا يقدرون عليه بقوله : ( لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) (1) » (2).

وبه قال أبو مسلم محمد بن بحر الاصفهاني ( 254 - 322 ه ) من كبار المفسرين ، حيث قال : إنّ الذي عندنا أنّه لما كانت حروف المعجم أصل كلام العرب وتحدَّاهم بالقرآن وبسورة من مثله ، أراد أنّ هذا القرآن من جنس هذه الحروف المقطعة تعرفونها وتقتدرون على أمثالها ، فكان عجزكم عن الإتيان بمثل القرآن وسورة من مثله دليلاً على أنّ المنع والتعجيز لكم من اللّه على أمثالها ، وانّه حجّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، قال : وممّا يدل على تأويله أنّ كلّ سورة افتتحت بالحروف التي أنتم تعرفونها ، بعدها إشارة إلى القرآن ، يعني أنّه مؤلف من هذه الحروف التي أنتم تعرفونها وتقدرون عليها ، ثمّ سأل نفسه ، وقال : إن قيل لو كان المراد هذا لكان قد اقتصر اللّه تعالى على ذكر الحروف في سورة واحدة ؟ فقال : عادة العرب التكرار عند إيثار إفهام الذي يخاطبونه (3).

واختاره الزمخشري ( 467 - 538 ه ) في تفسيره ، وقال : واعلم أنّك إذا تأملت ما أورده اللّه عزّ سلطانه في الفواتح من هذه الأسماء وجدتها نصف أسامي حروف المعجم : 14 سواه ، وهي : الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف والهاء والياء

ص: 342


1- الأسراء : 88.
2- تفسير البرهان : 1 / 54 ، تفسير الآية الثالثة من سورة البقرة برقم 9.
3- تاريخ القرآن للزنجاني : 106.

والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون ، في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم.

ثمّ إذا نظرت في هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف ، بيان ذلك أنّ فيها من المهموسة نصفها : الصاد والكاف والهاء والسين والحاء.

ومن المهجورة نصفها : الألف واللام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء والنون.

ومن الشديدة نصفها : الألف والكاف والطاء والقاف.

ومن الرخوة نصفها : اللام والراء والصاد والهاء والعين والسين والحاء والياء والنون.

ومن المطبقة نصفها : الصاد والطاء.

ومن المنفتحة نصفها : الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والعين والسين والحاء والقاف والياء والنون.

ومن المستعلية نصفها : القاف والصاد والطاء.

ومن المنخفضة نصفها : الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والياء والعين والسين والحاء والنون.

ومن حروف القلقلة نصفها : القاف والطاء.

ثمّ إذا استقريت الكلم وتراكيبها رأيت الحروف التي ألغى اللّه ذكرها من هذه الأجناس المعدودة مكثورة بالمذكورة منها ، فسبحان الذي دقت في كلّ شيء حكمته وقد علمت أنّ معظم الشيء وجلّه ينزل منزلة كله وهو المطابق للطائف

ص: 343

التنزيل.

فكأنّ اللّه عزّ اسمه عدّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم وإلزام الحجة إيّاهم (1).

ومن المتأخرين من بيّن هذا الوجه ببيان رائع ألا وهو المحقّق السيد هبة الدين الشهرستاني ( 1301 - 1386 ه ) قال ما هذا نصّه :

إنّ القرآن مجموعة جمل ليست سوى صبابة أحرف عربية من جنس كلمات العرب ومن يسير اعمال البشر وقد فاقت مع ذلك عبقرية ، وكلما كان العمل البشري أيسر صدوراً وأكثر وجوداً ، قلّ النبوغ فيه وصعب افتراض الإعجاز والإعجاب منه ، فإذا الجمل القرآنية ليست سوى الحروف المتداولة بين البشر ، فهي عبارة عن « الم » و « حم عسق » فلماذا صار تأليف جملة أو جمل منه مستحيل الصدور ؟ هذا ونجد القرآن يكرر تحدي العرب وغير العرب بإتيان شيء من مقولة هذا السهل الممتنع كالطاهي يفاخر المتطاهي بأنّه يصنع الحلوى اللذيذة من أشياء مبذولة لدى الجميع كالسمن واللوز ودقيق الرز ، بينما المتطاهي لا يتمكن من ذلك مع استحضاره الأدوات ، وكذلك الكيمياوي الماهر يستحضر المطلوب المستجمع لصفات الكمال ، وغيره يعجز عنه مع حضور جميع الأدوات والأجزاء ، وكذلك القرآن يقرع ويسمع قومه بأنّ أجزاء هذا المستحضر القرآني موفورة لديكم من ح و م و ل و ر و ط و ه وأنتم مع ذلك عاجزون (2).

ويؤيد هذا الرأي أنّ أكثر السور التي صدرت بالحروف المقطعة جاء بعدها ذكر القرآن الكريم بتعابير مختلفة ، ولم يشذَّ عنها إلاّ سور أربع ، هي : مريم

ص: 344


1- الكشاف : 1 / 17 ، ط دار المعرفة.
2- المعجزة الخالدة : 115 - 116.

والعنكبوت والروم والقلم ، ففي غير هذه السور أردف الحروف المقطعة بذكر الكتاب والقرآن ، وإليك نماذج من الآيات :

( الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) (1).

( الم ... نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ) (2).

( المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ ) (3).

( الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الحَكِيمِ ) (4).

إلى غير ذلك من السور ما عدا الأربع التي أشرنا إليها.

ثمّ إنّ هذا الوجه هو الوجه العاشر في كلام الرازي ونسبه إلى المبرد ، وإلى جمع عظيم من المحقّقين وقال : إنّ اللّه إنّما ذكرها احتجاجاً على الكفار ، وذلك أنّ الرسول صلی اللّه علیه و آله لما تحدّاهم أن يأتوا بمثل القرآن ، أو بعشر سور ، أو بسورة واحدة ، فعجزوا عنه ، أنزلت هذه الحروف تنبيهاً على أنّ القرآن ليس إلاّ من هذه الحروف وأنتم قادرون عليها ، وعارفون بقوانين الفصاحة ، فكان يجب أن تأتوا بمثل هذا القرآن ، فلما عجزتم عنه دلّ ذلك على أنّه من عند اللّه لا من عند البشر (5).

هذا هو الرأي المختار وقد عرفت برهانه.

وثمة رأي آخر أقل صحة من الأوّل ، وحاصله : انّ كلّ واحد منها دال على

ص: 345


1- البقرة : 1 - 2.
2- آل عمران : 1 - 3.
3- الأعراف : 1 - 2.
4- يونس : 1.
5- تفسير الفخر الرازي : 2 / 6.

اسم من أسماء اللّه تعالى وصفة من صفاته.

قال ابن عباس في ( الم ) : الألف إشارة إلى أنّه تعالى أحد ، أوّل ، آخر ، أزلي ، أبدي ، واللام إشارة إلى أنّه لطيف ، والميم إشارة إلى انّه ملك ، مجيد ، منّان.

وقال في ( كهيعص ) : إنّه ثناء من اللّه تعالى على نفسه ، والكاف يدل على كونه كافياً ، والهاء يدل على كونه هادياً ، والعين يدل على العالم ، والصاد يدل على الصادق.

وذكر ابن جرير عن ابن عباس انّه حمل الكاف على الكبير والكريم ، والياء على أنّه يجير ، والعين على العزيز والعدل (1).

ونقل الزنجاني في تأييد ذلك الوجه ما يلي :

وفي الحديث : « شعاركم حم لا ينصرون » ، قال الأزهري : سئل أبو العباس ، عن قوله صلی اللّه علیه و آله : حم لا ينصرون. فقال : معناه واللّه لا ينصرون.

وفي لسان العرب في حديث الجهاد : « إذا بُيّتم فقولوا حاميم لا ينصرون » قال ابن الأثير : معناه اللّهم لا ينصرون (2).

إذا عرفت هذه الأُمور ، فلنرجع إلى تفسير الآيات التي حلف فيها سبحانه بالقرآن والكتاب ، وإليك البيان :

1. ( يس * وَالْقُرْآنِ الحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ ) فالمقسم به هو القرآن ، والمقسم عليه قوله : ( إِنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ ) ، والصلة بين القرآن وبين كونه من المرسلين واضحة ، لأنّ القرآن أداة تبليغه ورسالته ومعجزته الخالدة.

ص: 346


1- تفسير الفخر الرازي : 2 / 6.
2- تاريخ القرآن : 105.

وأمّا وصف القرآن بالحكيم ، فلأنّه مستقرٌ فيه الحكمة ، وهي حقائق المعارف وما يتفرع عليها من الشرائع والعبر والمواعظ. (1)

2. ( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوا وَّلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ) .

وصف القرآن بكونه ( ذِي الذِّكْرِ ) كما وصفه في الآية السابقة بكونه ( حَكِيمًا ) ووصفه تارة ثالثة ب ( المَجِيدُ ) ، والمراد بالذكر هو ذكر ما جُبل عليه الإنسان من التوحيد والمعاد.

قال الطبرسي : فيه ذكر اللّه وتوحيده وأسماؤه الحسنى وصفاته العلى ، وذكر الأنبياء ، وأخبار الأُمم ، وذكر البعث والنشور ، وذكر الأحكام وما يحتاج إليه المكلّف من الأحكام ويؤيده قوله : ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) (2).

قال الطباطبائى في تفسيره : المراد بالذكر ذكر اللّه تعالى وتوحيده وما يتفرّع عليه من المعارف الحقّة من المعاد والنبوة وغيرهما.

ويؤيد ذلك إضافة الذكر في غير واحد من الآيات إلى لفظ الجلالة ، قال سبحانه : ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ ) (3) وقال : ( اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللّهِ ) (4) إلى غير ذلك.

وأمّا المقسم عليه : فمحذوف معلوم من القرينة ، هو أنّك لمن المنذرين ، ويدل على ذلك التنديد بالذين كفروا وانّهم في عزّة وشقاق ، أي في تكبّر عن قبول

ص: 347


1- تفسير الميزان : 17 / 62.
2- مجمع البيان : 8 / 465.
3- الحديد : 16.
4- المجادلة : 19.

الحق وحمية جاهلية ، وشقاق أي عداوة وعصيان ومخالفة ، لأنّهم يأنفون عن متابعة النبي ويصرّون على مخالفته ، ثمّ خوّفهم اللّه سبحانه ، فقال : كم أهلكنا من قبلهم من قرن بتكذيبهم الرسل فنادوا عند وقوع الهلاك بهم بالاستغاثة ولات حين مناص.

والصلة بين المقسم به ( الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) والمقسم عليه المقدّر « إِنَّكَ لَمِنَ المُنْذَرين » واضحة ، لأنّ القرآن من أسباب انذاره وأدوات تحذيره.

3. ( ق وَالْقُرْآنِ المَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ) . (1)

المقسم به هو القرآن ووصفه بالمجيد ، قال الراغب : المجد السعة في المقام والجلال ، وقد وصف به القرآن الكريم ، فلأجل كثرة ما يتضمن من المكارم الدنيوية والأُخروية ، فالمجيد مبالغة في المجد.

وقال الطبرسي : المجيد أي الكريم على اللّه ، العظيم في نفسه ، الكثير الخير والنفع (2).

والمقسم عليه : محذوف تدل عليه الجمل التالية ، والتقدير : والقرآن المجيد انّك لمن المنذرين ، أو أنّ البعث حق والإنذار حق.

وقد ركزت السورة على الدعوة إلى المعاد ووبّخت المشركين باستعجالهم على إنكاره ونقد زعمهم.

والصلة بين المقسم به وجواب القسم واضحة ، سواء أقلنا بأنّ المقسم عليه إِنّك مِنَ المنذرين أو انّ البعث والنشر حقّ ، أمّا على الأوّل فلأنّ القرآن أحد

ص: 348


1- ق : 1 - 2.
2- مجمع البيان : 9 / 141.

أدوات الإنذار ، وأمّا على الثاني فلأنَّ القرآن يتضمن شيئاً كثيراً عن الدعوة إلى المعاد.

ثمّ إنّ القرآن في الأصل مصدر نحو رجحان ، قال سبحانه : ( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ) (1) قال ابن عباس : إذا جمعناه وأثبتناه في صدرك فاعمل به.

وقد خص بالكتاب المنزل على نبينا محمد صلی اللّه علیه و آله فصار له كالعلم ، كما أنّ التوراة لما أُنزل على موسى علیه السلام ، والإنجيل لما أُنزل على عيسى علیه السلام ، قال بعض العلماء : تسمية هذا الكتاب قرآناً من بين كتب اللّه لكونه جامعاً لثمرة كتبه ، بل لجمعه ثمرة جميع العلوم ، كما أشار تعالى إليه بقوله : ( وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ ) (2) ، وعلى هذا فالقرآن من قرأ بمعنى جمع ، ولكن يحتمل أن يكون بمعنى القراءة ، كما في قوله سبحانه : ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) (3) أي قراءته.

الحلف بالكتاب

حلف سبحانه بالكتاب مرتين ، وقال :

1. ( حم * وَالْكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ) (4).

2. ( حم * وَالْكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (5).

ص: 349


1- القيامة : 17 - 18.
2- الأنعام : 154.
3- الإسراء : 78.
4- الدخان : 1 - 3.
5- الزخرف : 1 - 3.

فالمقسم به هو الكتاب ، والمقسم عليه في الآية الأُولى قوله : ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ) ، والصلة بينهما واضحة ، حيث يحلف بالكتاب على أنّه منزل من جانبه سبحانه في ليلة مباركة.

كما أنّ المقسم به في الآية الثانية هو الكتاب المبين ، والمقسم عليه هو الحلف على أنّه سبحانه جعله قرآناً عربياً للتعقل ، والصلة بينهما واضحة.

ووصف الكتاب بالمبين دون غيره ، لأنّ الغاية من نزول الكتاب هو إنذارهم وتعقّلهم كما جاء في الآيتين ، حيث قال : ( إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ) وقال : ( لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) ، وهذا النوع من الغاية أي الإنذار والتعقل يطلب لنفسه أن يكون الكتاب واضحاً مفهوماً لا مجهولاً ومعقداً.

والكتاب في الأصل مصدر ، ثمّ سمّي المكتوب فيه كتاباً.

إلى هنا تمّ الحلف بالقرآن والكتاب.

بقي هنا الكلام في عظمة المقسم به ويكفي في ذلك أنّه فعله سبحانه حيث أنزله لهداية الناس وإنقاذهم من الضلالة.

وقد تكلّم غير واحد من المفكرين الغربيين حول عظمة القرآن ، والأحرى بنا أن نرجع إلى نفس القرآن ونستنطقه حتى يبدي رأيه في حق نفسه.

أ : القرآن نور ينير الطريق لطلاب السعادة : قال سبحانه : ( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) (1).

ب : انّه هدى للمتَّقين : قال سبحانه : ( هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) (2).

ص: 350


1- المائدة : 15.
2- البقرة : 2.

فهو وإن كان هدى لعامة الناس ، إلاّ أنّه لا يستفيد منه إلاّ المتقون ، ولذلك خصّهم بالذكر.

ج : هو الهادي إلى الشريعة الأقوم : قال سبحانه : ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) (1).

د : الغاية من إنزاله قيام الناس بالقسط : قال سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) (2).

ه : لا يتطرق إليه الاختلاف في فصاحته وبلاغته ولا في مضامينه ولا محتواه : قال سبحانه : ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) (3).

و : يحث الناس إلى التدبر والتفكّر فيه ( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ) (4).

ز : تبيان لكلّ شيء : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) (5).

ح : نذير للعالمين : ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) (6).

ط : فيه أحسن القصص : ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ) (7).

ص: 351


1- الإسراء : 9.
2- الحديد : 25.
3- النساء : 82.
4- ص : 29.
5- النحل : 89.
6- الفرقان : 1.
7- يوسف : 3.

ي : ضُرب فيه للناس من كلّ مثل : ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ) (1).

هذه نماذج من الآيات التي تصف القرآن ببعض الأوصاف.

وللنبي والأئمة المعصومين كلمات قيّمة حول التعريف بالقرآن ننقل شذرات منها :

قام النبي صلی اللّه علیه و آله خطيباً ، فقال : « أيّها الناس انّكم في دار هدنة وأنتم على ظهر سفر ، والسير بكم سريع ، وقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يبليان ، كلّ جديد ، ويقرّبان كلّ بعيد ، ويأتيان بكلّ موعود ، فأعدوا الجهاز لبعد المجاز ».

فقام المقداد بن الأسود ، وقال : يا رسول اللّه وما دار الهدنة ؟ قال : « دار بلاغ وانقطاع.

فإذا التبست عليكم الفتن كقطع اللّيل المظلم فعليكم بالقرآن ، فإنّه شافع مشفّع وما حل مصدَّق ، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلفه ، ساقه إلى النار ، وهو الدليل يدل على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل ، وهو الفصل ليس بالهزل ، وله ظهر وبطن ، فظاهره حكم وباطنه علم ، ظاهره أنيق ، وباطنه عميق ، له نجوم وعلى نجومه نجوم ، لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة ، فليجل جال بصره ، وليبلغ الصفة نظره ، ينج من عطب ، ويتخلص من نشب ، فإنّ التفكّر حياة قلب البصير ، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور ، فعليكم بحسن التخلص وقلة التربص » (2).

ص: 352


1- الكهف : 54.
2- الكافي : 2 / 599 ، كتاب فضل القرآن.

وقال الإمام علي أمير المؤمنين علیه السلام في وصف القرآن :

« ثمّ أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه ، وسراجاً لا يخبو توقّده ، وبحراً لا يدرك قعره ، فهو ينابيع العلم وبحوره ، وبحر لا ينزفه المستنزفون ، وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يغيضها الواردون » (1).

إلى غير ذلك من الخطب والكلم حول التعريف بالقرآن الواردة عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام .

ص: 353


1- نهج البلاغة ، الخطبة 198.

الفصل الخامس : القسم بالعصر

اشارة

حلف سبحانه بالعصر مرّة واحدة دون أن يقرنه بمقسم به آخر ، وقال : ( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ) (1).

تفسير الآيات :

العصر يطلق ويراد منه تارة الدهر ، وجمعه عصور.

وأُخرى العشيّ مقابل الغداة ، يقال : العصران : الغداة والعشي ، والعصران الليل والنهار ، كالقمرين للشمس والقمر.

وثالثة بمعنى الضغط فيكون مصدر عصرت. والمعصور الشيء العصر ، والعُصارة نفاية ما يُعصر ، قال سبحانه : ( أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ) (2) ، وقال : ( وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ) (3) ، وقال : ( وَأَنزَلْنَا مِنَ المُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ) (4) أي السُّحُب التي تعتصر بالمطر.

ورابعة بمعنى ما يثير الغبار ، قال سبحانه : ( فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ ) (5). (6) والمراد من الآية أحد المعنيين الأوّليين.

ص: 354


1- العصر : 1 - 2.
2- يوسف : 36.
3- يوسف : 49.
4- النبأ : 14.
5- البقرة : 266.
6- مفردات القرآن ، مادة عصر ومجمع البيان : 5 / 535.

الأوّل : الدهر والزمان.

الثاني : العصر مقابل الغداة.

ولا يناسب المعنى الثالث ، أعني : الضغط ، ولا الرابع كما هو واضح.

وإليك بيان المعنيين الأوّلين.

1. العصر : الدهر ، وإنّما حلف به لأنّ فيه عبرة لذوي الأبصار من جهة مرور الليل والنهار ، وقد نسب ذلك القول إلى ابن عباس والكلبي والجبائي.

قال الزمخشري : وأقسم بالزمان لما في مروره من أصناف العجائب (1).

ولعلّ المراد من الدهر والزمان اللّذين يفسرون بهما العصر هو تاريخ البشرية ، وذلك لأنّه سبحانه جعل المقسم عليه كون الإنسان لفي خسر إلاّ طائفة خاصة ، ومن المعلوم أنّ خسران الإنسان انّه هو من تصرم عمره ومضي حياته من دون أن ينتفع بأغلى رأس مال وقع في يده ، وقد نقل الرازي هنا حكاية طريفة نأتي بنصها :

قال : وعن بعض السلف ، تعلمت معنى السورة من بائع الثلج كان يصيح ، ويقول : ارحموا من يذوب رأس ماله ، ارحموا من يذوب رأس ماله ، فقلت : هذا معنى أنّ الإنسان لفي خسر يمرّ به العصر فيمضي عمره ولا يكتسب فإذا هو خاسر (2).

2. العصر : أحد طرفي النهار ، وأقسم بالعصر كما أقسم بالضحى ، وقال : ( وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ) (3) كما أقسم بالصبح ، وقال : ( وَالصُّبْحِ إِذَا

ص: 355


1- الكشاف : 3 / 357.
2- تفسير الفخر الرازي : 32 / 85.
3- الضحى : 1 - 2.

أَسْفَرَ ) (1) ، وإنّما أقسم بالعصر لأهميته ، إذ هو في وقت من النهار يحدث فيه تغيير في نظام المعيشة وحياة البشر ، فالأعمال اليومية تنتهي ، والطيور تعود إلى أوكارها ، وتبدأ الشمس بالميل نحو الغروب ، ويستولي الظلام على السماء ، ويخلد الإنسان إلى الراحة.

وهناك قولان آخران :

أ : المراد عصر الرسول ، ذلك لما تضمنته الآيتان التاليتان من شمول الخسران للعالم الإنساني ، إلاّ لمن اتبع الحقّ وصبر عليه ، وهم المؤمنون الصالحون عملاً ، وهذا يؤكد على أن يكون المراد من العصر عصر النبي صلی اللّه علیه و آله ، وهو عصر بزوغ نجم الإسلام في المجتمع البشري وظهور الحقّ على الباطل.

ب : المراد به وقت العصر ، وهو المروي عن مقاتل ، وإنّما أقسم بها ، لفضلها بدليل ، قوله : ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى ) (2) كما قيل أنّ المراد من قوله تعالى : ( تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ ) (3) هو صلاة العصر.

أضف إلى ذلك انّ صلاة العصر يحصل بها ختم طاعات النهار ، فهي كالتوبة يختم بها الأعمال.

ولا يخفى انّ القول الأخير في غاية الضعف ، إذ لا صلة بين القسم بصلاة العصر والمقسم عليه ، أعني ( الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ) على أنّه لو كان المقسم به هو صلاة العصر ، لماذا اكتفى بالمضاف إليه ، وحذف المضاف مع عدم توفر قرينة عليه ، ومنه يظهر حال الوجه المتقدّم عليه.

ص: 356


1- المدثر : 34.
2- البقرة : 238.
3- المائدة : 106.

والظاهر أنّ الوجه الأوّل هو الأقوى ، حيث إنّ الحلف بالزمان وتاريخ البشرية يتناسب مع الجواب ، أي خسران الإنسان في الحياة ، كما سيوافيك بيانه.

وأمّا المقسم عليه ، فهو قوله سبحانه : ( إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ) والمراد من الخسران هو مضي أثمن شيء لديه وهو عمره ، فالإنسان في كلّ لحظة يفقد رأس ماله بنحو لا يُعوَّض بشيء أبداً ، وهذه هي سنة الحياة الدنيوية حيث ينصرم عمره ووجوده بالتدريج ، كما تنصرم طاقاته إلى أن يهرم ويموت ، فأي خسران أعظم من ذلك.

وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه فأوضح من أن يخفى ، لأنّ حقيقة الزمان حقيقة متصرّمة غير قارة ، فهي تنقضي شيئاً فشيئاً ، وهكذا الحال في عمر الإنسان فيخسر وينقص رأس ماله بالتدريج.

ثمّ إنّه سبحانه استثنى من الخسران من آمن وعمل صالحاً وتواصى بالحق وتواصى بالصبر.

ووجه الاستثناء واضح. لأنّه بدّل رأس ماله بشيء أغلى وأثمن ، يستطيع أن يقوم مقام عمره المنقضي فهو بإيمانه وعمله الصالح اشترى حياة دائمة ، حافلة برضوانه سبحانه ، ونعمه المادية والمعنوية.

يقول سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (1).

ص: 357


1- التوبة : 111.

الفصل السادس : القسم بالنجم

وردت كلمة النجم في القرآن الكريم أربع مرّات في أربع سور ، (1) وحلف به مرة واحدة ، وقال : ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) (2) هي من السور المكية. تفسير الآيات

النجم في اللغة : الكوكب الطالع ، وجمعه نجوم ، فالنجوم مرّة اسم كالقلوب والجيوب ، ومرّة مصدر كالطلوع والغروب.

وأمّا « هوى » في قوله : ( إِذَا هَوَى ) فيطلق تارة على ميل النفس إلى الشهوة ، وأُخرى على السقوط من علو إلى سفل.

ولكن تفسيره بسقوط النجم وغروبه ، لا يساعده اللفظ ، وإنّما المراد هو ميله ، وسيوافيك وجه الحلف بالنجم إذا هوى أي إذا مالَ.

ثمّ إنّ المراد من النجم أحد الأمرين :

أ : أمّا مطلق النجم ، فيشمل كافة النجوم التي هي من آيات عظمة اللّه سبحانه ولها أسرار ورموز يعجز الذهن البشري عن الإحاطة بها.

ص: 358


1- وهي : النحل : 16 ، النجم : 1 ، الرحمن : 6 ، الطارق : 3.
2- النجم : 1 - 4.

ب : المراد هو نجم الشعرى الذي جاء في نفس السورة ، قال سبحانه : ( وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى ) (1).

ونظيره القول بأنّ المراد هو الثريا ، وهي مجموعة من سبعة نجوم ، ستة منها واضحة وواحد خافت النور ، وبه يختبر قوة البصر.

وربما فسر بالقرآن الذي نزل على قلب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله طيلة 23 سنة لنزوله نجوماً (2). لكن لفظ الآية لا يساعد على هذا المعنى.

فاللّه سبحانه إمّا أن يحلف بعامة النجوم أو بنجم خاص يهتدي به السائر ، ويدل على ذلك أنّه قيد القسم بوقت هويه ، ولعل الوجه هو أنّ النجم إذا كان في وسط السماء يكون بعيداً عن الأرض لا يهتدي به الساري ، لأنّه لا يعلم به المشرق من المغرب ولا الجنوب من الشمال ، فإذا زال ، تبيّن بزواله جانب المغرب من المشرق (3).

وأمّا المقسم عليه : فهو قوله سبحانه : ( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) .

جمع سبحانه هناك بين الضلال والغي فنفاهما عن النبي صلی اللّه علیه و آله ، والقرآن يستعمل الضلالة في مقابل الهدى ، يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) (4).

كما يستعمل الغي في مقابل الرشد ، يقول سبحانه : ( وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ

ص: 359


1- النجم : 49.
2- انظر الميزان : 19 / 27 مجمع البيان : 5 / 172.
3- تفسير الفخر الرازي : 28 / 279.
4- المائدة : 105.

لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ) (1).

والمهم بيان الفرق بين الضلالة والغواية ، فنقول :

ذكر الرازي أنّ الضلال أن لا يجد السالك إلى مقصده طريقاً أصلاً ، والغواية أن لا يكون له طريق مستقيم إلى المقصد ، يدلّك على هذا انّك تقول للمؤمن الذي ليس على طريق السداد ، انّه سفيه غير رشيد ، ولا تقول إنّه ضال. والضال كالكافر والغاوي كالفاسق (2).

وإلى ذلك يرجع ما يقول الراغب : الغيّ جهل من اعتقاد فاسد ، وذلك أنّ الجهل قد يكون من كون الإنسان غير معتقد اعتقاداً لا صالحاً ولا فاسداً ، وقد يكون من اعتقاد شيء ، وهذا النحو الثاني ، يقال له : غيّ (3).

وعلى هذا فالآية بصدد بيان نفي الضلالة والغي عن النبي صلی اللّه علیه و آله وردّ كلّ نوع من أنواع الانحراف والجهل والضلال والخطأ عنه صلی اللّه علیه و آله ليردّ به التهم الموجهة إليه من جانب أعدائه.

وأمّا بيان الصلة بين المقسم به والمقسم عليه فواضح ، لما ذكرنا من أنّ النجم عند الهوي والميل يهتدي به الساري كما أنّ النبي يهتدي به الناس ، أي بقوله وفعله وتقريره.

فكما أنّه لا خطأ في هداية النجم لأنّها هداية تكوينية ، وهكذا لا خطأ في هداية الوحي الموحى إليه ، ولذلك قال : ( إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) .

ص: 360


1- الأعراف : 146.
2- تفسير الفخر الرازي : 28 / 280.
3- مفردات الراغب : 369.

الفصل السابع : القسم بمواقع النجوم

اشارة

حلف سبحانه وتعالى في سورة الواقعة بمواقع النجوم ، وقال : ( فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ ) (1).

تفسير الآيات

المراد من مواقع النجوم مساقطها حيث تغيب.

قال الراغب : الوقوع ثبوت الشيء وسقوطه ، يقال : وقع الطائر وقوعاً ، وعلى ذلك يراد منه مطالعها ومغاربها ، يقال : مواقع الغيث أي مساقطه (2).

ويدل على أنّ المراد هو مطالع النجوم ومغاربها أنّ اللّه سبحانه يقسم بالنجوم وطلوعها وجريها وغروبها ، إذ فيها وفي حالاتها الثلاث آية وعبرة ودلالة ، كما في قوله تعالى : ( فَلا أُقْسِمُ بِالخُنَّسِ * الجَوَارِ الْكُنَّسِ ) (3) وقال : ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ) وقال : ( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ المَشَارِقِ وَالمَغَارِبِ ) ويرجح هذا القول أيضاً ، انّ النجوم حيث وقعت في القرآن فالمراد منها الكواكب ، كقوله تعالى : ( وَإِدْبَارَ

ص: 361


1- الواقعة : 75 - 79.
2- مفردات الراغب : 530 ، مادة وقع.
3- التكوير : 15 - 16.

النُّجُومِ ) (1) ، وقوله : ( وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ (2) ) .

وأمّا المقسم عليه : فهو قوله سبحانه : ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ ) وصف القرآن بصفات أربع :

أ : ( لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ) ، والكريم هو البهي الكثير الخير ، العظيم النفع ، وهو من كلّ شيء أحسنه وأفضله ، فاللّه سبحانه كريم ، وفعله أعني القرآن مثله.

وقال الأزهري : الكريم اسم جامع لما يحمد ، فاللّه كريم يحمد فعاله ، والقرآن كريم يحمد لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة.

ب : ( فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ) ولعل المراد منه هو اللوح المحفوظ ، بشهادة قوله : ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) (3). ويحتمل أن يكون المراد الكتاب الذي بأيدي الملائكة ، قال سبحانه : ( فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ ) (4).

ج : ( لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ ) فلو رجع الضمير إلى قوله : ( لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ) ، كما هو المتبادر ، لأنّ الآيات بصدد وصفه وبيان منزلته فلا يمس المصحف إلاّ طاهر ، فيكون الإخبار بمعنى الإنشاء ، كما في قوله سبحانه : ( وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) (5).

ولو قيل برجوع الضمير إلى ( كتاب مكنون ) فيكون المعنى لا يمس

ص: 362


1- الطور : 49.
2- الحج : 18.
3- البروج : 21 - 22.
4- عبس : 13 - 16.
5- البقرة : 228.

الكتاب المكنون إلاّ المطهرون ، وربما يؤيد هذا الوجه بأنّ الآية سيقت تنزيهاً للقرآن من أن ينزل به الشياطين ، وانّ محله لا يصل إليه ، فلا يمسه إلاّ المطهرون ، فيستحيل على أخابث خلق اللّه وأنجسهم أن يصلوا إليه أو يمسّوه ، قال تعالى : ( وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ ) (1).

د : ( تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) وهذا هو الذي يركز عليه القرآن في مواقف مختلفة ، وانّه كتاب اللّه وليس من صنع البشر.

وأمّا الصلة بين القسم والمقسم به : فهو واضح ، فلأنّ النجوم بمواقعها أي طلوعها وغروبها يهتدي بها البشر في ظلمات البر والبحر ، والقرآن الكريم كذلك يهتدي به الإنسان في ظلمات الجهل والغي ، فالنجوم مصابيح حسّية في عالم المادة كما أنّ آيات القرآن مصابيح معنوية في عالم المجردات.

إكمال

إنّه سبحانه قال : ( فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ) فالمراد منه القسم بلا شك ، بشهادة انّه قال بعده : ( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ) فلو كان معنى الآية هو نفي القسم فلا يناسب ما بعده حيث يصفه بأنّه حلف عظيم ، وقد اختلف المفسرون في هذه الآيات ونظائرها ، إلى أقوال :

1. « لا » زائدة ، مثلها قوله سبحانه : ( لِّئَلاَّ يَعْلَمَ ) .

2. أصلها لأقسم بلام التأكيد ، فلمّا أشبعت فتحتها صارت « لا » كما في الوقف.

3. لا نافية بمعنى نفي المعنى الموجود في ذهن المخاطب ، ثمّ الابتداء .

ص: 363


1- الشعراء : 210 - 211.

بالقسم ، كما نقول : لا واللّه لا صحة لقول الكفار ، أقسم عليه.

ثمّ إنّه سبحانه يصف هذا القسم بكونه عظيماً ، كما في قوله ( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ) ، فقوله : ( عَظِيمٌ ) وصف ( القسم ) أُخر لحفظ فواصل الآيات.

وهذا القسم هو القسم الوحيد الذي وصفه سبحانه بأنّه عظيم ، فالحديث هنا هو حديث على الأبعاد ، أبعاد النجوم عنّا ، وعن بعضها البعض ، في مجرّتنا ، وفي كل المجرّات ، ولأنّها كلّها تتحرك ، فانّ الحديث عن مواقعها يصير أيضاً حديثاً على مداراتها ، وحركاتها الأُخرى العديدة ، وسرعاتها ، وعلى علاقاتها بالنجوم الأُخرى ، وعلى القوى العظيمة والحسابات المعقدة ، التي وضعت كلّ نجم في موقعه الخاص به وحفظته ، في علاقات متوازنة ، دقيقة ، محكمة ، فهي لا يعتريها الاضطراب ، ولا تتغير سننها وقوانينها ، وهي لا تسير خبط عشواء أو في مسارات متقاطعة أو متعارضة بل هي تسير كلّها بتساوق وتناغم وانسجام وانتظام تامّين دائمين ، آيات على قدرة القادر سبحانه (1).

يقول الفلكيون : إنّ من هذه النجوم والكواكب التي تزيد على عدة بلايين نجم ، ما يمكن رؤيته بالعين المجردة ، وما لا يرى إلاّ بالمجاهر والأجهزة ، وما يمكن أن تحس به الأجهزة دون أن تراه ، هذه كلّها تسبح في الفلك الغامض ، ولا يوجد أيّ احتمال أن يقترب مجال مغناطيسي لنجم من مجال نجم آخر ، أو يصطدم كوكب بآخر إلاّ كما يحتمل تصادم مركب في البحر الأبيض المتوسط بآخر في المحيط الهادي يسيران في اتجاه واحد وبسرعة واحدة ، وهو احتمال بعيد وبعيداً جداً ، إن لم يكن مستحيلاً (2).

ص: 364


1- أسرار الكون في القرآن : 192.
2- اللّه والعلم الحديث : 24.

الفصل الثامن : القسم بالسماء ذات الحبك

اشارة

حلف سبحانه في سورة الذاريات بأُمور خمسة ، وجعل للأربعة الأُوَل جواباً خاصّاً ، كما جعل للخامس من الأقسام جواباً آخر ، وبما انّ المقسم عليه متعدّد فصّلنا القسم الخامس عن الأقسام الأربعة ، وعقدنا له فصلاً في ضمن فصول القسم المفرد ، قال سبحانه :

( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ) (1).

ترى أنّه ذكر للأقسام الأربعة جواباً خاصاً ، أعني قوله : ( إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ) .

ثمّ شرع بحلف آخر ، وقال : ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الحُبُكِ * إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ) (2).

فهناك قسم خامس وهو ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الحُبُكِ ) وله جواب خاص لا يمت بجواب الأقسام الأربعة وهو قوله : ( إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ) .

ص: 365


1- الذاريات : 1 - 6.
2- الذاريات : 7 - 8.
تفسير الآيات

الحبك جمع الحباك ، كالكتب جمع كتاب ، تستعمل تارة في الطرائق ، كالطرائق التي ترى في السماء ، وأُخرى في الشعر المجعد ، وثالثة في حسن أثر الصنعة في الشيء واستوائه.

قال الراغب : ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الحُبُكِ ) أي ذات الطرائق ، فمن الناس من تصور منها الطرائق المحسوسة بالنجوم والمجرة.

ولعلّ المراد منه هو المعنى الأوّل أي السماء ذات الطرائق المختلفة ، ويؤيده جواب القسم ، وهو اختلاف الناس وتشتت طرائقهم ، كما في قوله : ( إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ) ، وربما يحتمل أنّ المراد هو المعنى الثالث أي أقسم بالسماء ذات الحسن والزينة ، نظير قوله تعالى : ( إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ) (1) ولكنه لا يناسبه الجواب ، إذ لا يصحّ أن يحلف حالف بالأمواج الجميلة التي ترتسم بالسحب أو بالمجرّات العظيمة التي تبدو كأنّها تجاعيد الشعر على صفحة السماء ، ثمّ يقول : ( إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ ) ، أي إنّكم متناقضون في الكلام.

وعلى كلّ حال فالمقسم عليه هو التركيز على أنّهم متناقضون في الكلام ، فتارة ينسبون عقائدهم إلى آبائهم وأسلافهم فينكرون المعاد ، وأُخرى يستبعدون إحياء الموتى بعد صيرورتها عظاماً رميمة ، وثالثة يرفضون القرآن والدعوة النبوية ويصفونه بأنّه قول شاعر ، أو ساحر ، أو مجنون ، أو مما علّمه بشر ، أو هي من أساطير الأوّلين.

وهذا الاختلاف دليل على بطلان ادّعائكم إذ لا تعتمدون على دليل خاص ،

ص: 366


1- الصافات : 6.

فانّ تناقض المدعي في كلامه أقوى دليل على بطلانه ونفاقه.

ثمّ إنّه سبحانه يقول : إنّ الإعراض عن الإيمان بالمعاد ليس أمراً مختصاً بشخص أو بطائفة ، بل هو شيمة كل مخالف للحق ، يقول : ( يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ) (1).

والافك : الصرف ، والضمير في « عنه » يرجع إلى الكتاب من حيث اشتماله على وعد البأس والجزاء أي يصرف عن القرآن من صرف وخالف الحق.

وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه : فقد ظهر مما ذكرنا ، لما عرفت من أنّ معنى الحبك هو الطرائق المختلفة المتنوعة ، فناسب أن يحلف به سبحانه على اختلافهم وتشتت آرائهم في إنكارهم نبوّة النبي ورسالته والكتاب الذي أنزل معه والمعاد الذي يدعو إليه.

ص: 367


1- الذاريات : 9.

القسم الثاني : القسم المتعدّد

اشارة

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : القسم في سورة الصافات

اشارة

حلف سبحانه بالملائكة في السور الأربع التالية :

1. الصافات ، 2. الذاريات ، 3. المرسلات ، 4. النازعات.

وليس المقسم به هو لفظ الملك أو الملائكة ، وإنّما هو الصفات البارزة للملائكة وأفعالها ، وإليك الآيات :

1. ( وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ) (1).

2. ( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ) (2).

3. ( وَالمُرْسَلاتِ عُرْفًا * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا * وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا * فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا * فَالمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ) (3).

ص: 368


1- الصافات : 1 - 4.
2- الذاريات : 1 - 6.
3- المرسلات : 1 - 7.

4. ( وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا * فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا * يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ) (1).

وها نحن نبحث عن أقسام سورة الصافات والذاريات في فصلين متتالين ونحيل بحث أقسام سورة المرسلات والنازعات إلى محلها حسب ترتيب السور.

وقبل الخوض في تفسير الآيات نقدم شيئاً من التوحيد في التدبير :

إنّ من مراتب التوحيد في الربوبية والتدبير ، بمعنى أنّه ليس للعالم مدبّر سواه ، يقول سبحانه : ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) (2).

فصدر الآية يركّز على حصر الخالق في اللّه ، كما يركز على أنّه هو المدبّر ، وانّه لو كان هناك سبب في العالم « شفيع » فإنّما هو يؤثر بإذنه سبحانه ، فاللّه هو الخالق وهو المدبّر ، قال سبحانه : ( اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) (3).

ويظهر من الآيات الكريمة أنّ العرب في العصر الجاهلي كانوا موحّدين في الخالقية ولكن مشركين في الربوبية والتدبير ، وكانوا ينسبون التدبير إلى الآلهة المكذوبة ، ولذلك قرر سبحانه في الآيتين كلتا المرتبتين من التوحيد ، وانّه خالق ، وانّه مدبر ، غير أنّ معنى التدبير في التوحيد ليس عزل العلل والأسباب المادية

ص: 369


1- النازعات : 1 - 7.
2- يونس : 3.
3- الرعد : 2.

والمجردة في تحقّق العالم وتدبيره ، بل المراد انّ للكون مدبراً قائماً بالذات متصرفاً كذلك لا يشاركه في التدبير شيء ، ولو كان هناك مدبر وحافظ فإنّما هو يدبر بأمره وإذنه ، فعندما يُحصر القرآن الكريم التدبير في اللّه يريد التدبير على وجه الاستقلال ، أي من يدبّر بنفسه غير معتمد على شيء ، وأمّا المثبت لتدبير غيره ، فالمراد منه أنّه يدبّر بأمره وإذنه وحوله وقوته على النحو التبعي ، فكلّ مدبِّر في الكون فهو مَظْهر أمره ومُنفِّذ إرادته ، وقد أوضحنا ذلك في الجزء الأوّل من مفاهيم القرآن.

ويظهر من غير واحد من الآيات أنّ الملائكة من جنوده سبحانه وانّها وسائط بين الخالق والعالم ، وانّهم يقومون ببعض الأعمال في الكون بأمر من اللّه سبحانه ، وستتضح لك أعمالهم في إدارة الكون في تفسير هذه الآية.

إنّ للعلاّمة الطباطبائي كلاماً في كون الملائكة وسائط بينه سبحانه وبين الأشياء ، حيث يقول : الملائكة وسائط بينه تعالى وبين الأشياء بدءاً وعوداً ، على ما يعطيه القرآن الكريم ، بمعنى انّهم أسباب للحوادث فوق المادية في العالم المشهود قبل حلول الموت والانتقال إلى نشأة الآخرة وبعده.

أمّا في العود ، أعني : حال ظهور آيات الموت ، وقبض الروح ، وإجراء السؤال ، وثواب القبر وعذابه ، وإماتة الكل بنفخ الصور وإحيائهم بذلك ، والحشر وإعطاء الكتاب ، ووضع الموازين ، والحساب ، والسوق إلى الجنة والنار ، فوساطتهم فيها غني عن البيان ، والآيات الدالة على ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها ، والأخبار المأثورة فيها عن النبي صلی اللّه علیه و آله وأئمّة أهل البيت علیهم السلام فوق حد الإحصاء.

وكذا وساطتهم في مرحلة التشريع من النزول بالوحي ودفع الشياطين عن

ص: 370

المداخلة فيه وتسديد النبي وتأييد المؤمنين وتطهيرهم بالاستغفار.

وأمّا وساطتهم في تدبير الأُمور في هذه النشأة فيدل عليها ما في مفتتح هذه السورة من إطلاق قوله : ( وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا * فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ) (1).

الصافات والقسم بالملائكة

لقد حلف سبحانه بوصف من أوصاف الملائكة ، وقال :

أ : ( وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ) .

ب : ( فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا ) .

ج : ( فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا * إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ) (2).

وكل هذه الثلاثة مقسم به ، والمقسم عليه هو قوله : ( إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ) وإليك تفسير المقسم به فيها.

فالصافات : جمع صافّة : وهي من الصف بمعنى جعل الشيء على خط مستو ، يقول سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا ) (3) والزاجرات من الزجر ، بمعنى الصرف عن الشيء بالتخفيف والنهي ، والتاليات من التلاوة ، وهي جمع تال أو تالية ، غير أنّ المهم بيان ما هو المقصود من هذه العناوين ، ولعل الرجوع إلى القرآن الكريم يزيح الغموض عن كثير منها.

يقول سبحانه : حاكياً عن الملائكة : ( وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ

ص: 371


1- الميزان : 20 / 182 - 183.
2- الصافات : 1 - 4.
3- الصف : 4.

الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ ) (1) فينطبق على الملائكة أنّهم الصافّون حول العرش ينتظرون الأمر والنهي من قبل اللّه تعالى.

نعم وصف سبحانه الطير بالصافات ، وقال : ( وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ) (2).

وقال : ( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ) (3) كما أمر سبحانه على أن ينحر البدن وهي صواف ، قال سبحانه : ( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ) (4).

والمعنى : ان تعقل إحدى يديها وتقوم على ثلاث فتنحر كذلك فيسوي بين أظلفتها لئلاّ يتقدم بعضها على بعض.

وعلى كلّ تقدير فمن المحتمل أن يكون المحلوف به هو الملائكة صافات ، ويمكن أن يكون المحلوف به كلّ ما أطلق عليه القرآن ذلك الاسم ، وإن كان الوجه الأوّل هو الأقرب.

وأمّا الثانية : أي الزاجرات : فليس في القرآن ما يدل على المقصود به ، فلا محيص من القول بأنّ المراد الجماعة الذين يزجرون عن معاصي اللّه ، ويحتمل أن ينطبق على الملائكة حيث يزجرون العباد عن المعاصي بالإلهام إلى قلوب الناس ، قال سبحانه : ( وَمَا أُنزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ) (5) كما أنّ الشياطين يوحون إلى أوليائهم

ص: 372


1- الصافات : 164 - 166.
2- النور : 41.
3- الملك : 19.
4- الحج : 36.
5- البقرة : 102.

بالدعوة إلى المعاصي ، قال سبحانه : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) (1).

والتاليات : هن اللواتي يتلون الوحي على النبي الموحى إليه.

فالمراد من الجميع الملائكة ، وثمة احتمال آخر وهو انّ المراد من الصفات الثلاث هم العلماء ، فانّهم هم الجماعة الصافة أقدامها بالتهجد وسائر الصلوات ، وهم الجماعة الزاجرة بالمواعظ والنصائح ، كما أنّهم الجماعة التالية لآيات اللّه والدارسة شرائعه.

كما أنّ ثمة احتمالاً ثالثاً وهو : انّ المراد هم الغزاة في سبيل اللّه الذين يصفّون أقدامهم ، ويزجرون الخيل إلى الجهاد ، ويتلون الذكر ، ومع ذلك لا يشغلهم تلك الشواغل عن الجهاد.

وأمّا المقسم عليه : فهو قوله سبحانه : ( إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ) .

والصلة بين المقسم به والمقسم عليه : هو أنّ الملائكة أو العلماء أو المجاهدين الذين وصفوا بصفات ثلاث هم دعاة التوحيد وروّاده وأبرز مصاديق من دعا إلى التوحيد على وجه الإطلاق وفي العبادة خاصة.

ص: 373


1- الأنعام : 112.

الفصل الثاني : القسم في سورة الذاريات

لقد حلف سبحانه بأُمور أربعة متتابعة وقال :

( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ) .

( فَالحَامِلاتِ وِقْرًا ) .

( فَالجَارِيَاتِ يُسْرًا ) .

( فَالمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ) (1).

ثمّ حلف بخامس فرداً أي قوله : ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الحُبُكِ ) .

أمّا الأوّل أعني : ( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ) فهي جمع ذارية ، ومعناها الريح التي تُنشر شيئاً في الفضاء ، يقول سبحانه : ( فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ) (2). ولعلّ هذه قرينة على أنّ المراد من الذاريات هي الرياح.

وأمّا الحاملات ، فهي ، من الحمل ، والوقر - على زنة الفكر - ذو الوزن الثقيل.

والمراد منه السحب ، يقول سبحانه : ( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ) (3) وقال سبحانه : ( حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ

ص: 374


1- الذاريات : 1 - 6.
2- الكهف : 45.
3- الرعد : 12.

لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ المَاءَ ) (1).

وأمّا الجاريات ، فهي جمع جارية ، والمراد بها السفن ، بشهادة قوله سبحانه : ( حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ) (2) وقال : ( وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ ) (3) وقال سبحانه : ( إِنَّا لَمَّا طَغَى المَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الجَارِيَةِ ) (4).

وأمّا المقسِّمات ، فالمراد الملائكة التي تقسم الأرزاق بواسطتها التي ينتهي إليه التقسيم.

يقول العلاّمة الطباطبائي : وإقسام بالملائكة الذين يعملون بأمره فيقسمونه باختلاف مقاماتهم ، فانّ أمر ذي العرش بالخلق والتدبير واحد ، فإذا حمله طائفة من الملائكة على اختلاف أعمالهم انشعب الأمر وتقسم بتقسمهم ، ثمّ إذا حمله طائفة هي دون الطائفة الأُولى تقسم ثانياً بتقسمهم وهكذا ، حتى ينتهي إلى الملائكة المباشرين للحوادث الكونية الجزئية فينقسم بانقسامها ويتكثر بتكثرها.

والآيات الأربع تشير إلى عامة التدبير حيث ذكرت انموذجاً ممّا يدبّر به الأمر في البر وهو الذاريات ذرواً ، وانموذجاً ممّا يدبّر به الأمر في البحر وهو الجاريات يسراً ، وانموذجاً ممّا يدبّر به الأمر في الجو وهو الحاملات وقراً ، وتمم الجميع بالملائكة الذين هم وسائط التدبير ، وهم المقسِّمات أمراً.

فالآيات في معنى أن يقال : أُقسم بعامة الأسباب التي يتمم بها أمر التدبير

ص: 375


1- الأعراف : 57.
2- يونس : 22.
3- البقرة : 164.
4- الحاقة : 11.

في العالم ان كذا كذا ، وقد ورد من طرق الخاصة والعامة عن علي علیه السلام تفسير الآيات الأربع (1).

وبذلك يعلم قيمة ما روي عن الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في تفسير الآية عندما سأله ابن الكوا عن هذه الأقسام الأربعة - وهو يخطب على المنبر - فقال :

قال : ما الذاريات ذرواً ؟ قال علیه السلام : الرياح.

قال : فالحاملات وقراً ؟ قال علیه السلام : السحاب.

قال : فالجاريات يسراً ؟ قال : السفن.

قال : فالمقسِّمات أمراً ؟ قال : الملائكة.

ثمّ إنّه سبحانه حلف بالذاريات بواو القسم ، وحلف بالثلاثة بعطفها على الذاريات بالفاء فيحمل المعطوف معنى القسم أيضاً.

هذا كلّه حول المقسم به.

وأمّا المقسم عليه : هو قوله : ( إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ) أي إنّما توعدون من الثواب والعقاب والجنة والنار لصادق ، أي صدق لابدّ من كونه فهو اسم الفاعل ، موضع المصدر ، وانّ الدين أي الجزاء لواقع والحساب لكائن يوم القيامة.

وعلى ذلك ( إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ) جواب القسم ، وقوله : ( وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ) معطوف عليه بمنزلة التفسير ، والمعنى أقسم بكذا وكذا ، انّ الذي توعدونه من يوم البعث وانّ اللّه سيجزيهم فيه بأعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر لصادق وانّ الجزاء لواقع (2).

ص: 376


1- الميزان : 18 / 365.
2- الميزان : 18 / 366.

وأمّا وجه الصلة بين المقسم به والمقسم عليه هو انّه سبحانه أقسم بعامة الأسباب التي يتم بها أمر التدبير في العالم ، لغاية أنّ هذا التدبير ليس سدى وبلا غاية ، والغاية هي يوم الدين والجزاء وعود الإنسان إلى المعاد ، إذ لولا الغاية لأصبح تدبير الأمر في البر والبحر والجو وتدبير الملائكة شيئاً عبثاً بلا غاية ، فهو سبحانه يحاول أن يبين أنّ ما يقوم به من أمر التدبير لغاية البعث وانتقال الإنسان من هذه الدار إلى دار أُخرى هو أكمل.

وفي ختام البحث نود أن ننقل شيئاً عن عظمة الرياح والسحاب والتي كشف عنها العلم الحديث.

فالرياح هي حركة الهواء الموجود في الطبقات السفلى من الجو ، إذا سارت متوازية مع سطح الأرض ، وتختلف سرعة الرياح حتى تصل إلى مائة كيلومتر في الساعة فتسمى زوبعة ، وإذا زادت على مائة سمّيت إعصاراً ، وقد تصل سرعة الأعصار إلى 240 كيلومتراً في الساعة ، والرياح هي العامل المهم في نقل بخار الماء وتوزيعه ، ومن تكاثف هذا البخار في الهواء بالتبريد ، بعد أن تصل حالته إلى ما فوق التشبع تتكون السحب. ويختلف ارتفاع السحب على حسب نوعها ، فمنها ما يكون على سطح الأرض كالضباب ، ومنها ما يكون ارتفاعه بعيداً إلى أكثر من 12 كيلومتراً. كسحاب السيرس الرقيق.

وعندما تكون سرعة الرياح الصاعدة أكثر من ثلاثين كيلومتراً في الساعة ، لا يمكن نزول قطرات المطر المتكون ، وذلك بالنسبة لمقاومة هذا الريح لها ، ورفعها معه إلى أعلى ، حيث ينمو حجمها ، ويزداد قطرها. ومتى بلغت أقطار النقط نصف سنتيمتر ، تتناثر إلى نقط صغيرة لا تلبث أن تكبر بدورها ، ثمّ تتجزأ بالطريقة السابقة وهكذا ... وكلما تناثرت هذه النقط ، تشحن بالكهرباء الموجبة وتنفصل

ص: 377

الكهرباء السالبة التي تحمل الرياح ... وبعد مدة تصير السحب مشحونة شحناً وافراً بالكهرباء. فعندما تقترب الشحنتان بعضهما من بعض بواسطة الرياح كذلك يتم التفريغ الكهربائي وذلك بمرور شرارة بينهما ، ويستغرق وميض البرق لحظة قصيرة وبعده يسمع الرعد ، وهو عبارة عن الموجات الصوتية التي يحدثها الهواء ، وما هي إلاّبرهة حتى تخيّم على السماء سحابة المطر القاتمة اللون ، ثمّ تظهر نقط كبيرة من الماء تسقط على الأرض ، وفجأة يشتد المطر ويستمر حتى تأخذ الأرض ما قدر اللّه لها من الماء (1).

ص: 378


1- اللّه والعلم الحديث : 135 - 136.

الفصل الثالث : القسم في سورة الطور

اشارة

حلف سبحانه في سورة الطور بأُمور ستة ، وقال :

( وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ * وَالْبَيْتِ المَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ المَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ المَسْجُورِ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ ) (1).

تفسير الآيات

الطور : اسم جبل خاص ، بل اسم لكلّ جبل ، ولو قلنا بصحّة الإطلاق الثاني ، فالمراد الجبل المخصوص بهذه التسمية لا كلّ جبل بشهادة كونه مقروناً بالألف واللام.

ومسطور : من السطر وهو الصف من الكتابة ، يقال : سطَّر فلان كذا ، أي كتب سطراً سطراً.

والظاهر انّ المراد من « مسطور » هنا هو المثبّت بالكتابة ، قال سبحانه ( كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ) ( أي مثبّتاً ومحفوظاً ).

ورقّ : ما يكتب فيه شبه الكاغذ.

ص: 379


1- الطور : 1 - 8.

ومنشور : من النشر ، وهو البسط والتفريق ، يقال : نشر الثوب والصحيفة وبسطهما ، يقال : ( وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ) وقال سبحانه : ( وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) .

والمسجور : من السجر وهي تهييج النار ، يقال : سجرت التنور ، ومنه البحر المسجور ، وقوله : ( وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ) وربما يفسر المسجور بالمملوء.

والمراد من الطور - كما تشهد به القرائن - : هو الجبل المعروف الذي كلّم اللّه فيه موسى علیه السلام ، ولعلّه هو جبل طور سينين ، قال سبحانه : ( وَطُورِ سِينِينَ ) (1).

وقال سبحانه : ( وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ ) (2) وقال في خطابه لموسى علیه السلام : ( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى ) (3).

وقال سبحانه : ( نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ ) (4). وهذه الآيات تثبت انّ المقسم به جبل معين ، ومع الوصف يحتمل أن يراد مطلق الجبل لما اودع فيه من أنواع نعمه ، قال تعالى : ( وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا ) (5).

والمراد من كتاب مسطور : هو القرآن الكريم الذي كان يكتب في الورق المأخوذ من الجلد.

وأمّا وصفه بكونه منشوراً مع أنّ عظمة الكتاب بلفظه ومعناه لا بخطه وورقه ، هو الإشارة إلى الوضوح ، لأنّ الكتاب المطوي لا يعلم ما فيه ، فقال هو في

ص: 380


1- التين : 2.
2- مريم : 52.
3- طه : 12.
4- القصص : 30.
5- فصلت : 10.

رق منشور وليس كالكتب المطوية ، ومع ذلك يحتمل أن يراد منه صحائف الأعمال ، وقد وصفه سبحانه بكونه منشوراً ، وقال : ( وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا ) (1) كما يحتمل أن يراد منه اللوح المحفوظ الذي كتب اللّه فيه ما كان وما يكون وما هو كائن تقرأه ملائكة السماء.

وهناك احتمال رابع ، وهو انّ المراد هو التوراة ، وكانت تكتب بالرق وتنشر للقراءة ، ويؤيده اقترانه بالحلف بالطور.

وامّا البيت المعمور : فيحتمل أن يراد منه الكعبة المشرفة ، فانّها أوّل بيت وضع للناس ، ولم يزل معموراً منذ أن وضع إلى يومنا هذا ، قال تعالى : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ) (2).

ولعل وصفه بالعمارة لكونه معموراً بالحجاج الطائفين به والعاكفين حوله.

وقد فسر في الروايات ببيت في السماء إزاء الكعبة تزوره الملائكة ، فوصفه بالعمارة لكثرة الطائفين به.

والسقف المرفوع : والمراد منه هو السماء ، قال سبحانه : ( وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ المِيزَانَ ) (3).

وقال : ( اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) (4).

قال سبحانه : ( وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ) (5) ، ولعلّ المراد هو البحر المحيط بالأرض الذي سيلتهب قبل يوم

ص: 381


1- الإسراء : 13.
2- آل عمران : 96.
3- الرحمن : 7.
4- الرعد : 2.
5- الأنبياء : 32.

القيامة ثمّ ينفجر ، قال سبحانه : ( وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ) (1) ، وقال تعالى : ( وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ) (2).

ثمّ إنّ هذه الأقسام الثلاثة الأُولى يجمعها شيء واحد وهو صلتها بالوحي وخصوصياته ، حيث إنّ الطور هو محل نزول الوحي ، والكتاب المسطور هو القرآن أو التوراة ، والبيت المعمور هو الكعبة أو البيت الذي يطوف به الملائكة الذين هم رسل اللّه.

وأمّا الاثنان الآخران ، أعني : السقف المرفوع والبحر المسجور ، فهما من الآيات الكونية ومن دلائل توحيده ووجوده وصفاته.

لكن الرازي ذهب إلى أنّ الأقسام الثلاثة التي بينها صلة خاصة ، هي الطور والبيت المعمور والبحر المسجور ، وإنّما جمعها في الحلف بها لأنّها أماكن لثلاثة أنبياء ينفردون بها للخلوة بربهم والخلاص من الخلق والخطاب مع اللّه. أمّا الطور فانتقل إليه موسى ، والبيت محمد صلی اللّه علیه و آله ، والبحر المسجور يونس علیه السلام ، وكل خاطب اللّه هناك ، فقال موسى : ( أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ ) (3) وقال أيضاً : ( أرني أنظر إليك ) ، واما نبيّنا محمّد صلی اللّه علیه و آله ، فقال : « السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين لا أحصي ثناء عليك كما أثنيت على نفسك » ، وأمّا يونس فقال : ( لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (4) فصارت الأماكن شريفة بهذه الأسباب وحلف اللّه تعالى بها.

ص: 382


1- التكوير : 6.
2- الانفطار : 3.
3- الأعراف : 155.
4- الأنبياء : 87.

وأمّا ذكر الكتاب ، فانّ الأنبياء كان لهم في هذه الأماكن مع اللّه تعالى كلام ، والكلام في الكتاب واقترانه بالطور أدلّ دليل على ذلك ، لأنّ موسى علیه السلام كان له مكتوب ينزل عليه وهو بطور.

وأمّا ذكر السقف المرفوع ومعه البيت المعمور ليعلم عظمة شأن محمد صلی اللّه علیه و آله (1).

وأمّا المقسم عليه فهو قوله : ( إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ ) (2).

وأمّا وجه الصلة بين المقسم به على تعدّده والمقسم عليه ، هو انّ المقسم عليه عبارة عن وقوع العذاب لا محالة وعدم القدرة على دفعه ، فإذاً ناسب أن يقسم بالكتاب أي القرآن والتوراة اللّذين جاء فيهما أخبار القيامة وحتميتها.

كما ناسب أن يحلف بمظاهر القدرة وآيات العظمة كالسقف المرفوع والبحر المسجور حتى يعلم أنّ صاحب هذه القدرة لقادر على تحقيق هذا الخبر ، وهو عبارة عن أنّ عذابه لواقع وليس له دافع.

ويكفيك في بيان عظمة البحار أنّها تشغل حيّزاً كبيراً من سطح الأرض يبلغ نحو ثلاثة أرباعه ، وتختلف صفات الماء عن الأرض ، بسهولة تدفقه من جهة إلى أُخرى ، حاملاً الدفء أو البرودة ، وله قوة انعكاس جيدة لشعاع الشمس ، ولذا فانّ درجة حرارة البحار لا ترتفع كثيراً أثناء النهار ، ولا تنخفض بسرعة أثناء الليل فلا تختلف درجة الحرارة أثناء الليل عن النهار بأكثر من درجتين فقط.

ويقول أحد العلماء : إنّ البحر يباري الزمان في دوامه ، ويطاول الخلود في

ص: 383


1- تفسير الفخر الرازي : 28 / 240.
2- الطور : 7 - 8.

بقائه ، تمر آلاف الأعوام بل وعشرات الأُلوف والملايين ، وهو في يومه هو أمسه وغده ، تنقلب الجبال أودية ، والأودية جبالاً ، ويتحول التراب شجراً ، والشجر تراباً ، والبحر بحر لا يتحول ولا يتغير ، وقد دلت الأبحاث العلمية انّ أقصى أعماق البحار تعادل أقصى علو الجبال (1).

كما ناسب أن يحلف بالطور ، لأنّ بعض المجرمين كانوا يتصورون انّ الجبال الشاهقة ستدفع عنهم عذاب اللّه ، كما قال ابن نوح علیه السلام ( سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المَاءِ ) قال : ( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ ) (2). فحلف بالطور إيذاناً إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ هذه الجبال أقلّ من أن تدفع العذاب أو تحول بين اللّه ووقوع المعاد.

كما يمكن أن يكون الحلف بالطور لأجل كونه آية من آيات اللّه الدالة على قدرته التي لا تحول بينه وبين عذابه شيء.

ص: 384


1- اللّه والعلم الحديث : 75.
2- هود : 43.

الفصل الرابع : القسم في سورة القلم

اشارة

حلف سبحانه بالقلم ومايسطرون معاً مرّة واحدة ، وقال : ( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (1).

وقبل تفسير الآيات نقدّم شيئاً وهو أنّ لفظة « ن » من الحروف المقطعة وقد تقدم تفسيرها.

وهناك وجوه أُخرى نذكرها تباعاً :

أ : « ن » هو السمكة التي جاء ذكرها في قصة يونس علیه السلام ( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا ) (2).

ب : انّ المراد به هو الدواة ، ومنه قول الشاعر :

إذا ما الشوق يرجع بي اليهم

ألقت النون بالدمع السجوم

ج : انّ « ن » هو المداد الذي تكتب به الملائكة.

ولكن هذه الوجوه ضعيفة ، لأنّ الظاهر منها أنّها مقسم به ، وعندئذٍ يجب أن يجرّ لا أن يسكّن.

ص: 385


1- القلم : 1 - 4.
2- الأنبياء : 87.

يقول الزمخشري : وأمّا قولهم هو الدواة ، فما أدري أهو وضع لغوي أم شرعي ؟ ولا يخلو إذا كان اسماً للدواة ، من أن يكون جنساً أو علماً ، فإن كان جنساً فأين الإعراب والتنوين ؟ وإن كان علماً فأين الاعراب ؟ وأيّهما كان فلابدّ له من موقع في تأليف الكلام (1).

وبذلك يعلم وجه تجريد « ن » عن اللاّم واقتران القلم بها.

تفسير الآيات

1. حلف سبحانه بالقلم ، وقال : ( وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) وهل المراد منه جنس القلم الذي يكتب به من في السماء ومن في الأرض ، قال تعالى : ( وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) (2). فمنّ سبحانه وتعالى بتيسير الكتابة بالقلم ، كما منَّ بالنطق ، وقال : ( خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ) (3).

فالقلم والبيان نعمتان كبيرتان ، فبالبيان يخاطب الحاضرين ، كما أنّه بالقلم يخاطب الغائبين فتمكن بهما تعريف القريب والبعيد بما في قرارة ذهنه.

وربما قيل : إنّ المراد هو القلم المعهود الذي جاء في الخبر : « إنّ أوّل ما خلق اللّه هو القلم » ولكنّه تفسير بعيد عن أذهان المخاطبين في صدر الإسلام الذين لم يكونوا عارفين بأوّل ما خلق اللّه ولا بآخره.

ثمّ إنّه سبحانه حلف ب ( مَا يَسْطُرُونَ ) ، فلو كانت « ما » مصدرية يكون المراد « وسطرهم » فيكون القسم بنفس الكتابة ، كما يحتمل أن يكون المراد المسطور

ص: 386


1- الكشاف : 4 / 126 ، تفسير سورة القلم.
2- العلق : 3 - 5.
3- الرحمن : 3 - 4.

والمكتوب ، وعلى ذلك حلف سبحانه بجنس القلم وبجنس الكتابة ، أو بجنس المكتوب ، كأنّه قيل : « أحلف بالقلم وسطرهم أو مسطوراتهم ».

ثمّ إنّ في الحلف بالقلم والكتابة والمكتوب إلماعاً إلى مكانة القلم والكتابة في الإسلام ، كما أنّ في قوله سبحانه : ( عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ) إشارة إلى ذلك ، والعجب أنّ القرآن الكريم نزل وسط مجتمع ساده التخلّف والجهل والأُميّة ، وكان من يجيد القراءة والكتابة في العصر الجاهلي لا يتجاوز عدد الأصابع ، وقد سرد البلاذري في كتابه « فتوح البلدان » أسماء سبعة عشر رجلاً في مكة ، وأحد عشر من يثرب (1).

وهذا ابن خلدون يحكي في مقدمته : أنّ عهد قريش بالكتابة لم يكن بعيداً ، بل كان حديثاً وقريباً بعهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (2). ومع ذلك يعود القرآن ليؤكد بالحلف بالقلم على مكانة القلم والكتابة في الحضارة الإسلامية ، وجعل في ظل هذا التعليم أمة متحضرة احتلّت مكانتها بين الحضارات. وليس هذه الآية وحيد نسجها في الدعوة إلى القلم والكتابة بل ثمة آية أُخرى هي أكبر آية في الكتاب العزيز ، يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ ... ) (3).

كما أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله حثّ على كتابة حديثه الذي هو المصدر الثاني بعد القرآن الكريم :

1. أخرج أبو داود في سننه ، عن عبد اللّه بن عمرو ، قال : كنت أكتب كلّ

ص: 387


1- فتوح البلدان : 457.
2- مقدمة ابن خلدون : 418.
3- البقرة : 282.

شيء أسمعه من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، أريد حفظه فنهتني قريش ، وقالوا : أتكتب كلّ شيء تسمعه ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بشر يتكلم في الغضب والرضا ؟ فأمسكت عن الكتابة ، فذكرت ذلك لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأومأ باصبعه إلى فيه ، وقال : « اكتب ، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلاّحقّاً » (1).

2. أخرج الترمذي في سننه عن أبي هريرة ، قال : كان رجل من الأنصار يجلس إلى النبي صلی اللّه علیه و آله فيسمع من النبي صلی اللّه علیه و آله الحديث فيعجبه ولا يحفظه ، فشكا ذلك إلى النبي صلی اللّه علیه و آله ، فقال : يا رسول اللّه إنّي أسمع منك الحديث فيعجبني ولا أحفظه ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « استعن بيمينك » وأومأ بيده للخط (2).

3. أخرج الخطيب البغدادي عن رافع بن خديج ، قال : مرّ علينا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوماً ، ونحن نتحدّث ، فقال : « ما تحدّثون ؟ ».

فقلنا : نتحدّث عنك يا رسول اللّه.

قال : « تحدّثوا ، وليتبوّأ من كذّب عليّ مقعداً من جهنم ».

ومضى صلی اللّه علیه و آله بحاجته ، ونكس القوم رؤوسهم ... فقال : « ما شأنكم ؟ ألا تحدّثون ؟ ».

قالوا : الذي سمعنا منك ، يا رسول اللّه.

قال : « إنّي لم أرد ذلك ، إنّما أردت من تعمّد ذلك » قال : فتحدثنا.

قال : قلت : يا رسول اللّه : إنّا نسمع منك أشياء ، فنكتبها.

ص: 388


1- سنن أبي داود : 3 / 318 ، برقم 3646 ، باب في كتابة العلم مسند أحمد : 2 / 162 سنن الدارمي : 1 / 125 ، باب من رخص في كتابة العلم.
2- سنن الترمذي : 5 / 39 ، برقم 2666.

قال : « اكتبوا ولا حرج » (1).

وبعد هذه الأهمية البالغة التي أولاها الكتاب العزيز والنبي للكتابة ، أفهل من المعقول أن ينسب إليه انّه منع من كتابة الحديث ؟! مع أنّها أحاديث آحاد تضاد الكتاب العزيز والسنّة والسيرة المتواترة ونجلُّ النبي صلی اللّه علیه و آله عن الحيلولة دون كتابة السنّة.

هذا والكلام ذو شجون وقد أسهبنا البحث حوله في كتاب « الحديث النبوي بين الرواية والدراية » (2).

هذا كلّه حول المقسم به.

وأمّا المقسم عليه : فقد جاء في قوله سبحانه : ( مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ) والمراد من النعمة النبوّة والإيمان ، والباء للسببية أي لست أنت بسبب هذه النعمة بمجنون ، رداً على من جعل نبوّته ونزول القرآن عليه دليلاً على جنونه ، قال سبحانه : ( وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ) (3).

ويحتمل أن يكون المراد من النعمة كلّما تفضل عليه سبحانه من النعم وراء الإيمان والنبوّة كفصاحته وبلاغته وعقله الكامل وخلقه الممتاز ، فانّ هذه الصفات تنافي حصول الجنون.

واحتمل الرازي أن يكون جملة ( بِنِعْمَةِ رَبِّكَ ) مقطوعة عمّا قبله وما بعده ، وانّ وزانها وزان بحمد اللّه في الجمل التالية :

ص: 389


1- تقييد العلم : 72 و 73.
2- انظر صفحة 12 - 32 من نفس الكتاب.
3- القلم : 51 - 52.

أنت - بحمد اللّه - عاقل.

أنت - بحمد اللّه - لست بمجنون.

أنت - بنعمة اللّه - فهيم.

أنت - بنعمة اللّه - لست بفقير.

وعلى هذا التقدير يكون معنى الآية « ما أنت - في ظل نعمة ربّك - بمجنون » (1).

وهناك احتمال ثالث وهو نفس هذا الاحتمال ، وجعل الباء حرف القسم ، وعلى ذلك يكون الحلف مقروناً بالدليل ، وهو : انّ من أنعم اللّه عليه بهذه النعم الإلهية كيف يتهمونه بالجنون ، مضافاً إلى أنّ لك في الآخرة لأجراً غير ممنون ، كما قال سبحانه : ( وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ) والممنون مشتق من مادة « منّ » بمعنى القطع أي الجزاء المتواصل إلى الأبد.

ثمّ إنّه سبحانه يستدل بدليل آخر على نزاهته من هذه التهمة ، وهي قوله سبحانه : ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) فمن كان على خلق يعترف به القريب والبعيد فكيف يكون مجنوناً ؟!

فقد تجسَّم في شخصية الرسول العطف والحنان إلى القريب والبعيد ، والصبر والاستقامة في طريق الهدف ، والعفو عن المتجاوز بعد التمكن والقدرة ، والتجافي عن الدنيا وغرورها ، إلى غير ذلك من محاسن الأخلاق ، وبذلك ظهر انّ الحلف صار مقروناً بالدليل.

وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ، فهو انّ القلم والكتابة آية العقل

ص: 390


1- تفسير الفخر الرازي : 29 / 79.

والدراية ، فحلف به لغاية نفي الجنون عن النبي صلی اللّه علیه و آله .

يقول المراغي : أقسم ربّنا بالقلم وما يسطر به من الكتب : انّ محمّداً الذي أنعم اللّه عليه بنعمة النبوّة ليس بمجنون كما تدّعون ، وكيف يكون مجنوناً والكتب والأقلام أعدت لكتابة ما ينزل عليه من الوحي (1) ؟!

ونختم البحث بحديث رواه الشيخ يحيى البحراني عن النبيفي كتابه « الشهاب في الحكم والآداب » : قال : قال النبي صلی اللّه علیه و آله : « ثلاثة تخرق الحجب وتنتهي إلى ما بين يدي اللّه :

1. صرير أقلام العلماء.

2. وطء أقدام المجاهدين.

3. صوت مغازل المحسنات » (2).

ص: 391


1- تفسير المراغي : 29 / 27.
2- الشهاب في الحكم والآداب : 22.

الفصل الخامس : القسم في سورة الحاقة

اشارة

حلف سبحانه بما يُبصر وبما لا يُبصر ، قال سبحانه : ( فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) (1).

تفسير الآيات

قوله : ( ِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ ) يعم ما سوى اللّه لأنّه لا يخرج عن قسمين مبصر وغير مبصر ، فيشمل الدنيا والآخرة والأجسام والأرواح والإنس والجن والنعم الظاهرة والباطنة ، كما يشمل الخالق والمخلوق ، فانّ الخالق داخل في قوله : وما لا تبصرون ، وعلى هذا الوجه فقد حلف سبحانه بعالم الوجود وصحيفته.

ولكن استبعده السيد الطباطبائي ، قائلاً : بأنّه من البعيد من أدب القرآن أن يجمع الخالق والمخلوق في صف واحد ويعظمه تعالى وما صنع تعظيماً مشتركاً في عرض واحد (2).

ولكن يلاحظ عليه : بأنّه سبحانه ربّما جمع بين نفسه والرسول ، وقال : ( وَمَا

ص: 392


1- الحاقة : 38 - 43.
2- الميزان : 19 / 403.

نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ) (1) وقوله سبحانه : ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ ) (2) ، إلى غير ذلك من الآيات فلاحظ.

وأمّا المراد من قوله : « لا » فقد سبق كلام المفسرين في توجيهه ، وقد اخترنا انّ قوله : « لا » رد لكلام مسبوق أو مقدر ، ثمّ يبتدأ بقوله أقسم.

لقد أقسم سبحانه بشيء يخص البصر دون سائر الحواس ، وقال : ( فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ ) هو أقسم بما نبصر وما أقله ، وأقسم بما لا نبصر وما أكثره وأعظم خطره. أقسم الحقُّ سبحانه هذا القسم العظيم بما له علاقة بالبصر ولم يُقسم بغيره مما هو محسوس ، ذلك لأنّه رغم كونه يعطينا أوسع إحساس وأبعده وأسرعه بما يحيط بنا فانّه رغم ذلك لا يصلنا منه إلاّ أقل القليل.

هذا كلّه حول المقسم به ، وأمّا المقسم عليه ، فهو قوله : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) ، فالمقسم عليه مركب من أُمور إيجابية أعني كونه : قول رسول كريم وانّه تنزيل من ربّ العالمين ، وسلبية وهو أنّ القرآن ليس بقول شاعر ولا كاهن.

إنّما الكلام في ما هو المراد من قوله : ( رَسُولٍ كَرِيمٍ ) ، وقد ذُكر هذا أيضاً في سورة التكوير ، قال سبحانه : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ) (3) ولا شكّ

ص: 393


1- التوبة : 74.
2- التوبة : 105.
3- التكوير : 19 - 25.

انّ المراد من رسول في سورة التكوير هو أمين الوحي جبرئيل ، بشهادة وصفه بقوله : ( ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ) .

مضافاً إلى قوله : ( وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ المُبِينِ ) فانّ الضمير يرجع إلى رسول كريم ، كما أنّ قوله : ( وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ) معناه إنّما هو قول الملك ، فانّ الشيطان يقابل الملك.

وأمّا المقام فيحتمل أن يراد منه النبي صلی اللّه علیه و آله ، وذلك لأنّه وصفه بقوله : لَيْسَ بِقَولِ شاعِرٍ وَلا كاهن والقوم كانوا يصفون محمداً بالشعر والكهانة ولا يصفون جبرئيل بهما.

والغرض المتوخّى من عزو القرآن إلى رسول كريم هو نفي كونه كلام شاعر أو كاهن ، ولا ينافي ذلك أن يكون القرآن كلامه سبحانه ، وفي الوقت نفسه كلام أمين الوحي وكلام النبي صلی اللّه علیه و آله ، لصحّة الإضافة إلى الجميع ، فالقرآن كلامه سبحانه لأنّه فعله ، وهو الذي أنشأه ، وكلام جبرئيل ، لأنّه هو الذي أنزله من جانبه سبحانه على قلب سيد المرسلين ، وفي الوقت نفسه كلام النبي صلی اللّه علیه و آله لأنّه أظهره وبيّنه للناس ، ويكفي في النسبة أدنى مناسبة.

وأمّا الصلة فقد بيّنها السيد الطباطبائي بالنحو التالي ، وقال :

وفي اختيار ما يبصرون وما لا يبصرون للأقسام به على حقّية القرآن ما لا يخفى من المناسبة ، فانّ النظام الواحد المتشابك أجزاؤه الجاري في مجموع العالم يقضي بتوحّده تعالى ، ومصير الكل إليه ، وما يترتب عليه من بعث الرسل وإنزال الكتب ، والقرآن خير كتاب سماوي يهدي إلى الحقّ في جميع ذلك وإلى طريق مستقيم (1).

ص: 394


1- الميزان : 19 / 403.

وبتعبير آخر : انّه سبحانه تبارك وتعالى حلف بعالم الغيب والشهادة - أي بمجموع الخليقة والنظام السائد على الوجود الإمكاني - على وجود هدف مشترك لهذا النظام ، وهو صيرورة الإنسان في هذا الكوكب إنساناً كاملاً مظهراً لأسمائه وصفاته ، ولا يتم تحقيق ذلك الهدف إلاّ من خلال بعث الرسل وإنزال الكتب ، والقرآن كتاب سماوي أُنزل إلى الإنسان.

ثمّ إنّه سبحانه دعم حلفه بالبرهان على المقسم عليه ، فانّ المقسم عليه عبارة عن كون القرآن كلام رسول كريم أخذه من أمين الوحي ، وهو من اللّه سبحانه وليس من مبدعاته ومتقوّلاته وإلاّ لعمّه العذاب فوراً ، قال سبحانه : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ) (1).

فإذا حالف الرسول النجاح في الدعوة إلى رسالته والتفت حوله طوائف كثيرة فهو أوضح دليل على أنّه غير كاذب في دعوته وصادق في عزوها إلى اللّه وإلاّ لما أمهله اللّه سبحانه هذا المقدار من الزمان.

وثمة سؤال يثار ، وهو انّ هذه الآيات توعد المتنبئ الكاذب على اللّه سبحانه بالهلاك ، فلو كان هذا مفاد الآية لزم تصديق كلّ من ادّعى النبوّة ولم يشمله العذاب والهلاك ، إذ لو كان كاذباً لأخذه سبحانه باليمين ، وقطع منه الوتين ، فإذا لم يفعل ، فهذا دليل على صدق كلامه وفعاله مع أنّه أمر لا يمكن الالتزام به ؟

والجواب : انّ القرآن الكريم ليس بصدد بيان أنّ كلّ من تقوَّل على اللّه سوف يعمّه العذاب والهلاك ، وإنّما هو بصدد بيان بعض الفئات المتقوّلة التي تدعي صلتها باللّه سبحانه خلال معجزة قاهرة خلابة للعقول ، فهذا النوع من التقوّل

ص: 395


1- الحاقة : 44 - 47.

يدخل تحت هذه القاعدة ، كما في ادّعاء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الرسالة التي أرفقها بمعجزة أبهرت العقول وأدهشت الألباب ، فخضع له العرب والعجم في ظل هذه المعجزة ، فلو تقوّل - والعياذ باللّه - يعمّه العذاب ، لأنّه من القبيح أن تقع المعجزة على يد الكاذب ، فسيرته صلی اللّه علیه و آله ومضيه قدماً في الدعوة إلى ربّه حتّى وافته المنية أوضح دليل على أنّه صادق في رسالته ، وانّ كلامه كلام ربّه ، وانّه ليس بكاهن ولا شاعر.

وأمّا قوله سبحانه : ( لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ) ففيه وجوه أربعة :

1. أخذنا بيمينه كما يؤخذ المجرم بيده.

2. أو سلبنا عنه القوة ، فانّ اليد اليمنى شارة القوة.

3. أو لقطعنا منه يده اليمنى.

4. أو لانتقمنا منه بقوة.

والآية بمنزلة قوله سبحانه : ( وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ) (1).

ص: 396


1- الإسراء : 74 - 75.

الفصل السادس : القسم في سورة المدثر

اشارة

حلف سبحانه في سورة المدثر بأُمور ثلاثة ، هي : القمر ، والليل عند إدباره ، والصبح عند ظهوره ، قال : ( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ * كَلاَّ وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لإحدى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ) (1).

تفسير الآيات

حلف سبحانه في هذه الآيات بأُمور ثلاثة ترتبط بعضها بالبعض ، ويأتي الثاني عقب الأوّل.

فأمّا القمر يتجلّى في اللّيل ، ولولا الليل لما كان لضوئه ظهور ، لأنّه يختفي نوره في النهار لتأثير الشمس فإذا تجلّى القمر في الليل شيئاً فشيئاً فيأتي نهاية الليل ، الذي عبّر عنه سبحانه : ( إِذْ أَدْبَرَ ) وتكون النتيجة طلوع الفجر الذي عبر عنه سبحانه ( وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ) ، فكأنّه يقول سبحانه : احلف بتجلّي القمر في وسط السماء الذي يسير مع الليل شيئاً فشيئاً ، إلى أن يدبر ويسفر الصبح ، هذا مفاد الآيات التي تضمّنت المقسم به.

ثمّ إنّ الكُبُر جمع الكبرى ، وهي العظمى أي إحدى العظائم ، وأمّا ما هو

ص: 397


1- المدثر : 31 - 37.

المراد من العظائم ، فسيوافيك بيانه عن قريب.

ثمّ إنّه سبحانه حلف في هذه الآيات بأُمور ثلاثة :

1. القمر على وجه الإطلاق.

2. الليل إذا أدبر ، أي الليل عند انتهائه.

3. الصبح حينما يسفر ويتجلّى.

وأمّا المقسم عليه فهو عبارة عن قوله : ( إِنَّهَا لإحدى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ) .

والكلام في مرجع الضمير في قوله « إنّها » ، ففيه وجهان :

الأوّل : أنّ الضمير يرجع إلى « سقر » الواردة في الآيات المتقدمة ، أعني قوله تعالى : ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ) (1).

أي انّ سقر هي إحدى الدواهي الكبرى ، فهي نذيرة للبشر ومخوّفة لمن شاء منكم أن يتقدّم في طاعة اللّه أو يتأخر عنها بالمعصية ، ولفظة « سقر » من المؤنثات السماعية ، وقد جاء ذكرها في قصيدة ابن الحاجب التي جمع فيها المؤنثات السماعية في أحد وعشرين بيتاً ، وقال :

وكذاك في كبد وفي كرش وفي *** سقر ومنها الحرب والنعلان (2)

الثاني : أنّ الضمير يرجع إلى الآيات في قوله سبحانه : ( كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا ) . وعلى هذا فالآيات القرآنية لإحدى الدواهي وهي النذيرة لمن تقدم في مجال الطاعة أو تأخر لكن المتقدم ينتفع دون المتأخر.

ص: 398


1- المدثر : 27 - 30.
2- روضات الجنات : 5 / 186.

هذا كلّه حول المقسم به ، وأمّا المقسم عليه فهو قوله : ( إِنَّهَا لإحدى الْكُبَرِ ) .

وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ، فعلى التفسير الثاني من الوضوح بمكان ، حيث إنّ القمر في الليل الدامس يهدي السائرين ، كما أنّ الصبح وطروء النهار يبدّد الظلام ويظهر النور ، فناسب أن يحلف سبحانه بأسباب الهداية ، ومعادن النور ومظاهره ، بُغية إثبات أنّ القرآن لإحدى المعاجز الكبرى التي تهدي البشر إلى سبيل الرشاد.

وأمّا على التفسير الأوّل ، ورجوع الضمير إلى سقر فالمناسبة خفية ، إلاّ أن يقال بأنّ المقسم به أي القمر في وسط السماء وانجلاء الليل وطلوع الفجر من آياته الكبرى كما أنّ سقراً أيضاً كذلك.

ولا يخفى انّ القسم بالقمر جاء للتأكيد على عظمته ، فهو أقرب الأجرام السماوية للأرض وأقل حجماً منها ، يدور حول الأرض مرّة كلّ شهر ، وجاذبية القمر مع جاذبية الشمس هي سبب المد والجزر.

وتبلغ درجة حرارة جانب القمر المواجه للشمس 120 درجة مئوية ، أي أعلى من درجة غليان الماء ، ودرجة حرارة الجانب المظلم أقل من درجة تجمّد الماء بقدر يبلغ 150 درجة.

كما أنّ سطحه صحاري وقفار تتناهض فيها البراكين الخامدة ، وجباله ضخمة عظيمة يبلغ ارتفاعها 42 ألف قدم بزيادة تقرب من 13 ألف قدم عن أعلى جبل على الأرض ، وفوهات البراكين هائلة العظمة يبلغ قطر أكبرها 100 ميل ، وجباله أقدم بكثير من سلاسل الجبال الأرضية بملايين السنين (1).

ص: 399


1- اللّه والعلم الحديث : 27.

الفصل السابع : القسم في سورة القيامة

اشارة

حلف سبحانه في سورة القيامة بأمرين : 1. يوم القيامة ، 2. النفس اللوامة ، وقال : ( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ) (1).

تفسير الآيات

اختلف المفسرون في كلمة « لا » على أقوال (2) :

الأوّل : انّ لا أقسم كلمة قسم وانّ العرب تزيد كلمة لا في القسم ، كما قال امرؤ القيس :

لا وأبيك ابنة العامري *** لا يدعي قوم انّي أفر

الثاني : انّ لا نافية ، رد لكلام قد تقدّم ، وجواب لهم ، وذلك هو المعروف في كلام الناس في محاوراتهم ، فإذا قال أحدهم : لا ، واللّه ما فعلت كذا ، قصد بقوله : « لا » ردّ الكلام السابق ، فهم لما أنكروا البعث ، قيل لهم ليس الأمر على ما ذكرتم ، ثمّ أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة إنّ البعث حقّ.

ص: 400


1- القيامة : 1 - 6.
2- مرّ الكلام فيه أيضاً لاحظ ص : 81.

الثالث : انّها للنفي ، على معنى انّي لا أعظمه بأقسامي به حقّ إعظامه ، فانّه حقيق بأكثر من هذا ، وهو يستحق فوق ذلك.

فعلى المعنى الأوّل « لا » زائدة ، ولكنّه بعيد في كلام ربّ العزة ، والمتعين أحد المعنيين الأخيرين.

أمّا المقسم به : فهو أمران :

أ : يوم القيامة.

ب : النفس اللوامة.

أمّا الأوّل : فهو يوم البعث الذي يجمع اللّه فيه الناس على صعيد واحد ، وإنّما سمّي يوم القيامة لأجل انّه يقوم به الحساب ، قال سبحانه حاكياً عن إبراهيم : ( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ ) (1) وانّه يوم يقوم به الاشهاد ، قال سبحانه : ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ) (2) وانّه يوم يقوم فيه الروح ، قال سبحانه : ( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالمَلائِكَةُ صَفًّا ) (3) ، وانّه يوم يقوم الناس لربّ العالمين ، كما قال سبحانه : ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) (4) ، إلى غير ذلك من الوجوه التي توضح وجه تسمية اليوم بالقيامة ، وقد جاء يوم القيامة في القرآن سبعين مرّة ، فلم تستعمل القيامة إلاّ مضافة إلى يوم.

وأمّا الثاني : أي النفس اللوامة صيغة مبالغة من اللوم ، وهي عدل الإنسان

ص: 401


1- إبراهيم : 41.
2- غافر : 51.
3- النبأ : 38.
4- المطففين : 6.

بنسبته إلى ما فيه لوم ، يقال لمته فهو ملوم ، قال سبحانه : ( فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ) (1) إلى غير ذلك من الآيات التي ورد فيها اللوم وما اشتق منه.

واختلف المفسرون في المراد من النفس اللوامة على أقوال :

الأوّل : هي نفس آدم التي لم تزل تتلوّم على فعلها الذي خرجت به من الجنة والظاهر أنّ هذا القول من قبيل تطبيق الكلي على مصداقه ، وليس هناك قرينة على أنّها ، المراد فقط.

الثاني : مطلق النفس ، إذ ليس من نفس برّة ولا فاجرة إلاّ وهي تلوم نفسها يوم القيامة إن كانت عملت خيراً قالت : هلا ازددت ، وإن كانت عملت سوءاً قالت : يا ليتني لم أفعل.

الثالث : وربما تختص بالنفس الكافرة الفاجرة.

الرابع : عكس ذلك ، والمراد نفس المؤمن التي تلومه في الدنيا على ارتكاب المعصية وتحفّزه على إصلاح ما بدا منه.

والظاهر أنّ القول الثاني هو المتعيّن ، أي مطلق النفس التي تلوم صاحبها سواء أكان لأجل فوت الخير أو ارتكاب الشر.

وعلى كلّ حال فالآية تحكي عن المنزلة العظيمة التي تتمتع بها النفس اللوامة إلى حدّ أقسم بها سبحانه وإلاّ لما حلف بها.

وأمّا المقسم عليه فمحذوف أي لتُبْعثُنَّ.

وأمّا الصلة بين المقسم عليه أعني قوله : « لتبعثن » والحلف « بالنفس اللوامة » فهي ظهور اللوم من هذه النفس يوم القيامة ، فانّ نفس الكافر لا تلومه في

ص: 402


1- إبراهيم : 22.

الدنيا إلاّ قليلاً ، في حين يتجلّى اللوم ويتجسّد يوم القيامة أكثر فأكثر.

وأمّا كرامة النفس اللوامة فواضحة جداً ، لأنّها تردع الإنسان عن اقتراف الذنوب ، ولا يمكن خداعها ، وهي يقظة تزجر الإنسان دائماً بالنسبة إلى ما عمله وقصده.

إنّ إبراهيم لما حطّم الأصنام وجعلها جذاذاً إلاّ كبيراً لهم لعل القوم يرجعون إليه ويرتدعون عن عقيدتهم بإلوهيتها ، فلمّا رجعوا ووقفوا على أنّه عمل إبراهيم أحضروه للاقتصاص منه ، وخاطبوه بقولهم : ( أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا ) ، فأجابهم إبراهيم : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ) ، ثمّ أمرهم بسؤاله عن الجريمة التي ارتكبها ، فبهُت الجمع من هذا السؤال وظلوا صامتين لعجزهم عن الإجابة ، فعندئذ تبين لهم أنّ مثل هذا الصنم أحط من أن يعبد ، فاستيقظ وجدانهم وأخذت نفوسهم تلومهم على النهج الذي اختطوه ، بل الآلهة التي عبدوها حيث وجدوا انّها غير خليقة بالعبادة والخضوع ، وهذا ما يحكي عنه القرآن بقوله : ( فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ ) أي خاطبوا أنفسهم بالظلم ، فكأنّه قال بعضهم لبعض أنتم الظالمون حيث تعبدون ما لا يقدر عن الدفع عن نفسه وما نرى الأمر إلاّ كما قال هذا الفتى.

هذه هي النفس اللوامة التي تظهر بين الحين والآخر وتزجر الإنسان عن ارتكاب الذنوب.

وهذا الذي يسمّيه علم النفس في يومنا هذا بالوجدان الأخلاقي ، ويصفون الوجدان محكمة لا تحتاج إلى قاض سوى النفس ، وهي التي تقوم بتأسيس المحكمة ، وتشخص المجرم ، وتصدر الحكم بلا هوادة ، ودون أي تهاون.

وفي الآيات القرآنية الأُخرى إشارة إلى تلك المرتبة من النفس ، يقول

ص: 403

سبحانه : ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) (1).

يقول الإمام الصادق في تفسير الآية : « بيّن لها ما تأتي وما تترك » (2).

إنّ اللوم والعزم فرع معرفة النفس بخير الأُمور وشرّها ، فلو لم تكن عالمة من ذي قبل لم تصلح للوعظ ولا للزجر ، ولأجل ذلك ، يقول سبحانه : ( أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) (3).

يقول الإمام الصادق علیه السلام : « هداه إلى نجد الخير والشر » (4).

ثمّ إنّ مراتب الزجر تختلف حسب صفاء النفس وكدورتها وابتعادها عن ممارسة الشر ، يقول الإمام الصادق علیه السلام : « إنّ اللّه إذا أراد بعبد خيراً طيّب روحه فلا يسمع معروفاً إلاّ عرفه ولا منكراً إلاّ أنكره » (5).

نعم ، ما حباه اللّه سبحانه لكلّ إنسان من النفس اللوامة ، كرامة ونعمة عظيمة ، حيث يعرف على ضوئها الحسن من القبيح والخير من الشر ، ولكنّه لو مارس الشرّ مدّة لا يستهان بها ربما تعوق النفس عن القضاء في الخير بالخير والشر بالشر ، بل ربما يرى الشر خيراً والخير شراً ، وذلك فيما إذا زاوله الإنسان كثيراً بنحو ترك بصماته على روحه ونفسه وقضائه وتفكيره ، وقد أشار سبحانه إلى أنّ قبح وأد البنات وقتل الأولاد - لأي غاية من الغايات كانت - أمر يدركه كلّ إنسان ، ولكن ترى أنّ بعض المشركين يستحسن عمله هذا ويعدّه من مفاخره وكراماته ، يقول

ص: 404


1- الشمس : 7 - 8.
2- الكافي : 1 / 163.
3- البلد : 8 - 10.
4- الكافي : 1 / 163.
5- اثبات الهداة : 1 / 87.

سبحانه : ( وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ ) (1).

فقد أثر الشركاء في عقول الوثنيين وتفكيرهم فصار القبيح حسناً والشر خيراً ، يقول سبحانه : ( أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ ) (2).

وعلى هذا فليست النفس اللوامة باقية على صفاتها وقضائها الحق في جميع الظروف والحالات بل ربما يكون قضاؤها على خلاف ما هو الحقّ ، لا سيما فيمن يزاول الجرم طيلة عمره ، فربما يعود في آخر عمره يتنكر لجميع المقدسات ويسيطر فعله القبيح على آفاق فكره وإيمانه ، يقول سبحانه : ( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللّهِ ) (3).

مراتب النفس في الذكر الحكيم
اشارة

إنّ القرآن الكريم جعل للنفس الإنسانية مراتب :

1. النفس الأمّارة ، 2. النفس اللوّامة ، 3. النفس المطمئنة ، 4. النفس الراضية المرضية ، وإليك وصف هذه المراتب بنحو موجز :

1. النفس الأمّارة

إنّ النفس بطبعها تدعو إلى مشتهياتها من السيئات ، فليس للإنسان أن يبرّئ نفسه من الميل إلى السوء ، وإنّما له أن يكف عن أمرها بالسوء ودعوتها إلى

ص: 405


1- الأنعام : 137.
2- فاطر : 8.
3- الروم : 10.

الشر وذلك برحمة من اللّه سبحانه ، يقول سبحانه نقلاً عن يوسف علیه السلام : ( وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (1).

فما أبرأ يوسف نفسه عن أمرها بالسوء ، وإنّما كفّها عن ارتكاب السوء ، لأنّ النفس طبعت على حب الشهوات التي تدور عليها رحى الحياة.

والأخلاق جاءت لتعديل ذلك الميل ، وجعلها في مسير السعادة وحفظها عن الإفراط والتفريط ، فالمادية نادت بالانصياع لرغبات اللّذات مهما أمكن ، والرهبانية نادت بكبح جماح اللذات والشهوات والعزوف عن الحياة واللوذ في الكهوف والأديرة ، ولكن الإسلام راح يدعو إلى منهج وسط بينهما ، ففي الوقت الذي يدعو إلى أكل الطيّبات ويندّد بمن يحرّمها ، ويقول : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ) (2). يأمر بكبح جماح النفس عن ارتكاب المعاصي والسيئات التي توجب الفوضى في المجتمع وتسوقه إلى الانحلال الأخلاقي.

2. النفس اللوّامة

النفس اللوامة وهي الضمير الذي يؤنّب الإنسان على ما اقترفه من السيئات والآثام خصوصاً بعد ما يفيق من سكراتها فيجد نفسه تنحدر في دوامة الندم على ما ارتكبه وإنابة إلى الحقّ ، وهذا يدل على أنّ النفس ممزوجة بالميل إلى الشهوات ، وفي الوقت نفسه فيها ميل إلى الحقّ والعدل ، ولكلّ تجلّي خاص ، فانّ غلبة الشهوات يحول دون ظهور نور العقل فيقترف المعاصي والآثام ، ولكنّه ما إن

ص: 406


1- يوسف : 53.
2- الأعراف : 32.

تخمد شهوته ، حينها يصفو أمامه جمال الحياة وتنكشف مضرات اللّذة فتستيقظ النفس اللوامة وتأخذ باللوم والعذل إلى حد ربما تدفع بصاحبها إلى الانتحار ، لعدم تحمله وطأة تلك الجريمة.

وهذه النفس حيّة يقظة لا تتصدع بكثرة الذنوب وإن كانت تضعف بممارستها.

3. النفس المطمئنّة

وهي النفس التي توصلها النفس اللوّامة إلى حد لا تعصف بها عواصف الشهوة ، وتطمئن برحمة الرب وتحس بالمسؤولية الموضوعة على عاتقها أمام اللّه وأمام المجتمع ، يقول سبحانه : ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ) (1) فصاحب هذه النفس يمتلئ بالسرور والفرح عند الطاعة وتجد في صميمها لذة للطاعة وحلاوة للعبادة لا يمكن وصفها بالقلم واللسان.

وبعبارة أُخرى : النفس المطمئنّة هي التي تسكن إلى ربها وترضى بما رضي به ، فترى نفسها عبداً لا يملك لنفسه شيئاً من خير أو شر أو نفع أو ضر ، ويرى الدنيا دار مجاز ، وما يستقبله فيها من غنى أو فقر أو أي نفع وضر ، ابتلاء وامتحاناً إلهياً ، فلا يدعوه تواتر النعم عليه إلى الطغيان ، وإكثار الفساد ، والعلو والاستكبار ، ولا يوقعه الفقر والفقدان في الكفر وترك الشكر ، بل هو في مستقر من العبودية لا ينحرف عن مستقيم صراطه بإفراط أو تفريط (2).

وهناك كلمة قيمة للحكيم محمد مهدي النراقي حول واقع النفوس الثلاث ،

ص: 407


1- الفجر : 27 - 28.
2- الميزان : 20 / 285.

يقول :

والحقّ انّها أوصاف ثلاثة للنفس بحسب اختلاف أحوالها ، فإذا غلبت قوتها العاقلة على الثلاثة الأُخر ، وصارت منقادة لها مقهورة منها ، وزال اضطرابها الحاصل من مدافعتها سمّيت « مطمئنة » ، لسكونها حينئذٍ تحت الأوامر والنواهي ، وميلها إلى ملائماتها التي تقتضي جبلتها ، وإذا لم تتم غلبتها وكان بينها تنازع وتدافع ، وكلما صارت مغلوبة عنها بارتكاب المعاصي حصلت للنفس لوم وندامة سمّيت « لوامة ». وإذا صارت مغلوبة منها مذعنة لها من دون دفاع سميت « أمّارة بالسوء » لأنّه لما اضمحلت قوتها العاقلة وأذعنت للقوى الشيطانية من دون مدافعة ، فكأنّما هي الآمرة بالسوء (1).

4. النفس الراضية المرضية

وهي النفس المتكاملة الراضية من ربّها رضى الرب منها ، واطمئنانها إلى ربّها يستلزم رضاها بما قدّر وقضى تكويناً أو حكم به تشريعاً ، فلا تسخطها سانحة ولا تزيغها معصية ، وإذا رضى العبد من ربّه ، رضى الرب منه ، إذ لا يسخطه تعالى إلاّ خروج العبد من زي العبودية ، فإذا لزم طريق العبودية استوجب ذلك رضى ربّه ولذا عقب قوله : « راضية » بقوله : « مرضية ».

قوله تعالى : ( فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ) تفريع على قوله : ( ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ ) وفيه دلالة على أنّ صاحب النفس المطمئنّة في زمرة عباد اللّه حائز مقام العبودية ، وذلك انّه لما اطمأنّ إلى ربّه انقطع عن دعوى الاستقلال ورضى بما هو الحقّ من ربّه فرأى ذاته وصفاته وأفعاله ملكاً طلقاً لربّه فلم يرد فيما

ص: 408


1- جامع السعادات : 1 / 63 - 64.

قدر وقضى ، ولا فيما أمر ونهى ، إلاّ ما أراده ربّه ، وهذا ظهور العبودية التامة في العبد ، ففي قوله : ( فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ) تقرير لمقام عبوديتها.

وفي قوله : ( وَادْخُلِي جَنَّتِي ) تعيين لمستقرها ، وفي إضافة الجنة إلى ضمير المتكلم تشريف خاص ، ولا يوجد في كلامه تعالى إضافة الجنة إلى نفسه تعالى وتقدس إلاّ في هذه الآية (1). هذا كلّه حول المقسم به.

وأمّا المقسم عليه : فهو محذوف معلوم بالقرينة أي « لتبعثنّ » وإنّما حذف للدلالة على تفخيم اليوم وعظمة أمره ، قال تعالى : ( ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً ) (2) وقال : ( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ) (3) ، وقال : ( عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ) (4). (5)

وأمّا وجه الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ، فواضح ، فانّ الإنسان إذا بعث يوم القيامة يلوم نفسه لأجل ما اقترف من المعاصي ، إذ في ذلك الموقف الحرج تنكشف الحجب ويقف الإنسان على ما اقترف من المعاصي والخطايا ، فيندم على ما صدر منه قال سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (6) ، وقال سبحانه : ( وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (7).

وبالجملة فيوم القيامة يوم الندم والملامة ، ولات حين مناص.

ص: 409


1- الميزان : 20 / 286.
2- الأعراف : 187.
3- طه : 15.
4- النبأ : 1 - 2.
5- الميزان : 20 / 104.
6- يونس : 54.
7- سبأ : 33.

الفصل الثامن : القسم في سورة المرسلات

لقد حلف سبحانه بأوصاف الملائكة ، وقال :

أ : ( وَالمُرْسَلاتِ عُرْفًا ) .

ب : ( فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ) .

ج : ( وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ) .

د : ( فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ) .

ه : ( فَالمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ) (1).

حلف سبحانه في هذه الآيات بأُمور يعبّر عنها ب : « المرسلات ، فالعاصفات ، والناشرات ، فالفارقات ، فالملقيات ذكراً عذراً أو نذراً.

وقد اختلفت كلمة المفسّرين في تفسير هذه الأقسام ، وقد غلب عليهم تفسيرها بالرياح المرسلة العاصفة الناشرة ، بيد أنّ وحدة السياق تبعثنا إلى تفسيرها بأمر واحد تنطبق عليه هذه الصفات ، فنقول :

1. ( المُرْسَلاتِ عُرْفًا ) أي أقسم بالجماعات المرسلات من ملائكة الوحي ، والعرف - بالضم فالسكون - الشعر الثابت على عنق الفرس ويشبه به الأُمور إذا تتابعت يقال جاءُوك كعرف الفرس ، يقول سبحانه : ( يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ

ص: 410


1- المرسلات : 1 - 7.

أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (1) ، ومع ذلك فقد فسر بالرياح المرسلة المتتابعة.

2. ( فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ) والعصف هو سرعة السير ، والريح العاصفة بمعنى سرعة هبوبها ، والمراد اقسم بالملائكة الذين يرسلون متتابعين فيسرعون في سيرهم كالرياح العاصفة.

ومع ذلك فسر بالرياح الشديدة الهبوب.

3. ( وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ) قسم آخر ، والمراد نشر الصحيفة والكتاب ، والمعنى أقسم بالملائكة الناشرين للصحف المكتوب عليها الوحي للنبي ليتلقاه ، ومع ذلك فقد فسّرت بالرياح التي تنشر السحاب نشراً للغيث كما تلقحه للمطر.

4. ( فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ) المراد به الملائكة الذين يفرقون بين الحقّ والباطل والحلال والحرام ، وذلك لأجل حمل الوحي المتكفّل ببيان الحقّ والباطل ومع ذلك فقد فسّر بالرياح التي تفرق بين السحاب فتبدّده.

5. ( فَالمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ) المراد به الملائكة ، تلقي الذكر على الأنبياء وتلقيه الأنبياء إلى الأُمم.

وعلى ذلك فالمراد بالذكر هو القرآن يقرأونه على النبي ، أو مطلق الوحي النازل على الأنبياء المتلو عليهم.

ثمّ يبيّن انّ الغاية من إلقاء الوحي أحد الأمرين إمّا الإعذار أو الإنذار ، والإعذار الإتيان بما يصير به معذوراً ، والمعنى انّه يلقون الذكر لتكون عذراً لعباده المؤمنين بالذكر وتخصيصاً لغيرهم.

وبعبارة أُخرى يلقون الذكر ليكون إتماماً للحجة على المكذبين وتخويفاً

ص: 411


1- النحل : 2.

لغيرهم ، هذا هو الظاهر من الآيات.

وأمّا المقسم عليه فهو قوله : ( إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ) وما موصولة والخطاب لعامة البشر ، والمراد إنّما توعدون يوم القيامة بما فيه من العقاب والثواب أمر قطعي وواقع وإنّما عبر بواقع دون كائن ، لأنّه أبلغ في التحقّق.

ثمّ إنّ الصلة بين المقسم به والمقسم عليه واضحة ، لأنّ أهم ما تحمله الملائكة وتلقيه هو الدعوة إلى الإيمان بالبعث والنشور ، ويؤيد ذلك قوله ( عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ) أي إتماماً للحجة على الكفار وتخويفاً للموَمنين كل ذلك يدل على معاد قطعي الوقوع يحتج به على الكافر ويجزي به المؤمن.

وهناك بيان للعلاّمة الطباطبائي ، حيث يقول : من لطيف صنعة البيان في هذه الآيات الست انّها مع ما تتضمن الإقسام لتأكيد الخبر الذي في الجواب تتضمن الحجة على مضمون الجواب وهو وقوع الجزاء الموعود ، فانّ التدبير الربوبي الذي يشير إليه القسم ، أعني : إرسال المرسلات العاصفات ونشرها الصحف وفرقها وإلقاءها الذكر للنبي صلی اللّه علیه و آله تدبير لا يتم إلاّ مع وجود التكليف الإلهي والتكليف لا يتم إلاّ مع تحتم وجود يوم معه للجزاء يجازي فيه العاصي والمطيع من المكلفين.

فالذي أقسم تعالى به من التدبير لتأكيد وقوع الجزاء الموعود هو بعينه حجّة على وقوعه كأنّه قيل : اقسم بهذه الحجّة انّ مدلولها واقع (1).

ص: 412


1- الميزان : 20 / 147.

الفصل التاسع : القسم في سورة النازعات

اشارة

حلف سبحانه بأوصاف الملائكة خمس مرات ، وقال :

( وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ) .

( وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ) .

( وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ) .

( فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ) .

( فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا * يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ) (1).

حلف سبحانه في هذه السورة بطوائف وصفها ب : النازعات ، الناشطات ، السابحات ، السابقات ، المدبرات.

النازعات من النزع ، يقال : نزع الشيء جذبه من مقره ، كنزع القوس عن كنانته.

والناشطات من النشط وهو النزع أيضاً ، ومنه حديث أُمّ سلمة فجاء عمار وكان أخاها من الرضاعة ونشط زينب من حجرها ، أي نزعها ونشط الوحش من بلد إلى بلد إذا خرج.

ص: 413


1- النازعات : 1 - 9.

والسابحات من السبح السريع في الماء وفي الهواء ، ويقال : سبح سبحاً وسباحة ، واستعير لمرّ النجوم في الفلك ولجري الفرس.

والسابقات من السبق والمدبرات من التدبير.

وأمّا الغرق اسم أُقيم مقام المصدر ، وهو الإغراق ، يقال : غرق في النزع إذا استوفى في حدّ القوس وبالغ فيه.

هذه هي معاني الألفاظ ، وأمّا مصاديقها فيحتمل أن تكون هي الملائكة ، فهي على طوائف بين نازع وناشط وسابح وسابق ومدبر ، قال الزمخشري : أقسم سبحانه بطوائف الملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد ، وبالطوائف التي تنشطها أي تخرجها ، وبالطوائف التي تسبح في مضيها ، أي تسرع فتسبق إلى ما أمروا به فتدبر أمراً من أُمور العباد مما يصلحهم في دينهم أو دنياهم (1).

والمقسم عليه محذوف وهو لتبعثنّ يدل عليه ما بعده من ذكر القيامة.

ولا يخفى انّ الطائفة الثانية على هذا التفسير نفس الطائفة الأُولى ، فالملائكة الذين ينزعون الأرواح من الأجساد هم الذين ينشطون الأرواح ويخرجونها ، ولكن يمكن التفريق بينهما ، بأنّ الطائفة الأُولى هم الموكّلون على نزع أرواح الكفار من أجسادهم بقسوة وشدة بقرينة قوله غرقاً ، وقد عرفت معناه ، وأمّا الناشطات هم الموكلون بنزع أرواح المؤمنين برفق وسهولة.

والسابحات هم الملائكة التي تقبض الأرواح فتسرع بروح المؤمن إلى الجنة ، وبروح الكافر إلى النار ، والسبح الإسراع في الحركة ، كما يقال : للفرس سابح إذا أسرع في جريه.

ص: 414


1- الكشاف : 3 / 308.

والسابقات وهم ملائكة الموت تسبق بروح المؤمن إلى الجنة وبروح الكافر إلى النار.

فالمدبرات أمراً المراد مطلق الملائكة المدبرين للأُمور ، ويمكن أن يكون قسم من الملائكة لكلّ وظيفة يقوم بها ، فعزرائيل موكل بقبض الأرواح وغيره موكل بشيء من التدبير.

ثمّ إنّ الأشد ، انطباقاً على الملائكة ، هو قوله : ( فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ) ، وهو قرينة على أنّ المراد من الأخيرين هم الملائكة ، وبذلك يعلم أنّ سائر الاحتمالات التي تعجّ بها التفاسير لا يلائم السياق ، فحفظ وحدة السياق يدفعنا إلى القول بأنّهم الملائكة.

وبذلك يتضح ضعف التفسير التالي :

المراد بالنازعات الملائكة القابضين لأرواح الكفّار ، وبالناشطات الوحش ، وبالسابحات السفن ، وبالسابقات المنايا تسبق الآمال ، وبالمدبرات الأفلاك ، ولا يخفى انّه لا صلة بين هذه المعاني وما وقع جواباً للقسم وما جاء بعده من الآيات التي تذكر يوم البعث وتحتج على وقوعه.

والآيات شديدة الشبه سياقاً بما مرّ في مفتتح سورة الصافات والمرسلات ، والظاهر انّ المراد بالجميع هم الملائكة.

يقول العلاّمة الطباطبائي : وإذ كان قوله : ( فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ) مفتتحاً بفاء التفريع الدالة على تفرع صفة التدبير على صفة السبق ، وكذا قوله : ( فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ) مقروناً بفاء التفريع الدالة على تفرع السبق على السبح ، دلّ ذلك على مجانسة المعاني المرادة بالآيات الثلاث : ( وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا *

ص: 415

فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ) فمدلولها أنّهم يدبرون الأمر بعدما سبقوا إليه ويسبقون إليه بعد ما سبحوا أي أسرعوا إليه عند النزول ، فالمراد بالسابحات والسابقات هم المدبرات من الملائكة باعتبار نزولهم إلى ما أمروا بتدبيره (1).

تدبير الملائكة

إنّ القرآن الكريم يعرّف اللّه سبحانه هو المدبر والتوحيد في التدبير من مراتبه فله الخلق والتدبير ، ولكن هذا لا ينافي أن يكون بينه سبحانه وبين عالم الخلق وسائط في التدبير يدبرون الأُمور بإرادته ومشيئته ، ويؤدّون علل الحوادث وأسبابها في عالم الشهود ، والآيات الواردة حول تدبير الملائكة كثيرة تدل على أنّهم يقومون بقبض الأرواح وإجراء السؤال ، وإماتة الكل بنفخ الصور وإحيائهم بذلك ووضع الموازين والحساب والسوق إلى الجنّة والنار.

كما أنّهم وسائط في عالم التشريع حيث ينزلون مع الوحي ويدفعون الشياطين عن المداخلة فيه وتسديد النبي وتأييد المؤمنين.

وبالجملة هم ( عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (2) فاللّه سبحانه يجري سننه ومشيئته بأيديهم ، فيقبض الأرواح بواسطتهم ، وينزل الوحي بتوسيطهم ، وليس لواحد منهم في عملهم أي استقلال واستبداد ، وفي الحقيقة جنوده سبحانه يقتفون أمره (3).

قال أمير المؤمنين علیه السلام في حقّ الملائكة : فمنهم سجود لا يركعون ، وركوع لا

ص: 416


1- الميزان : 20 / 181.
2- الأنبياء : 26 - 27.
3- الميزان : 20 / 188 ، نقل بتلخيص.

ينتصبون ، وصافُّون لا يتزايلون ، ومسبِّحون لا يسأمون ، لا يغشاهم نومُ العين ، ولا سهو العقول ، ولا فترة الأبدان ، ولا غفلة النِّسيان ، ومنهم أُمناءُ على وحيه ، وألسنة إلى رُسُله ، ومختلفون بقضائه وأمره ، ومنهم الحفظةُ لعباده والسَّدنَة لأبواب جنانه ، ومنهم الثابتة في الأرضين السُّفلى أقدامُهُم ، والمارقةُ من السماء العليا أعناقُهُم ، والخارجة من الأقطار أركانُهم ، والمناسبة لقوائم العرش اكتافهم. ناكسة دونه أبصارهم ، متلفِّعون تحته بأجنحتهم ، مضروبة بينهم وبين من دونهم حُجُب العزَّة وأستار القدرة ، لا يتوهَّمون ربَّهم بالتَّصوير ، ولا يجرون عليه صفات المصنوعين ، ولا يحدُّونه بالأماكن ، ولا يُشيرون إليه بالنَّظائر (1).

وقد عرفت أنّ المقسم عليه هو كتبعثن ، وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ، هو ما قدمناه في الفصل السابق وهي انّ الملائكة هم وسائط التدبير وخلق العالم وتدبيره لم يكن سدى ولا عبثاً بل لغاية خاصة وهو عبارة عن بعث الناس ومحاسبتهم وجزائهم بما عملوا.

ص: 417


1- نهج البلاغة : 19 - 20 ، الخطبة الأُولى.

الفصل العاشر : القسم في سورة التكوير

اشارة

قد حلف سبحانه في سورة التكوير بالكواكب بحالاتها الثلاث ، مضافاً إلى الليل المدبر ، والصبح المتنفس ، وقال : ( فَلا أُقْسِمُ بِالخُنَّسِ * الجَوَارِ الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) (1).

تفسير الآيات

أشار سبحانه إلى الحلف الأوّل ، أي الحلف بالكواكب بحالاتها الثلاث بقوله :

الخُنَّس ، الجوار ، الكنس.

كما أشار إلى الحلف بالليل إذا أدبر ، بقوله : ( وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ) .

وإلى الثالث أي الصبح المتنفس بقوله : ( وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ) .

وجاء جواب القسم في قوله : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) فوصف الرسول بصفات خمس : كريم ، ذي قوة ، عند ذي العرش مكين ، مطاع ، ثم أمين.

فلنرجع إلى إيضاح الأقسام الثلاثة ثمّ نعرج إلى بيان الرابطة بين المقسم به

ص: 418


1- التكوير : 15 - 21.

والمقسم عليه.

أمّا الحلف الأوّل فهو رهن تفسير الألفاظ الثلاثة.

فقد ذكر سبحانه أوصافاً ثلاثة :

الأوّل : الخنس : وهو جمع خانس كالطُلَّب جمع طالب ، فقد فسره الراغب في مفراداته بالمنقبض ، قال سبحانه : ( مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الخَنَّاسِ ) أي الشيطان الذي يخنس ، أي ينقبض إذا ذكر اللّه تعالى.

وقال تعالى : ( فَلا أُقْسِمُ بِالخُنَّسِ ) أي بالكواكب التي تخنس بالنهار.

وقيل : الخنس من زحل والمشتري والمريخ ، لأنّها تخنس في مجراها أي ترجع ، واخنست عنه حقه أي أخرته (1).

فاللفظ هنا بمعنى الانقباض أو التأخر ، ولعلهما يرجعان إلى معنى واحد ، فانّ لازم التأخر هو الانقباض.

الثاني : الجوار : جمع جارية ، والجري السير السريع مستعار من جري الماء.

قال الراغب : الجري ، المرّ السريع ، وأصله كمرِّ الماء.

قال سبحانه : ( وَمِنْ آيَاتِهِ الجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ ) (2) أي السفينة التي تجري في البحر.

الثالث : الكنس : جمع كانس والكنوس دخول الوحش كالظبي والطير كناسه أي بيته الذي اتخذه لنفسه واستقراره فيه ، وهو كناية عن الاختفاء.

فالمقسم به في الواقع هي الجواري بما لها من الوصفين : الخنوس والكنوس ،

ص: 419


1- مفردات الراغب : مادة خنس.
2- الشورى : 32.

وكأنّه قال : فلا أقسم بالجوار الخنس والكنس ، فقد ذهب أكثر المفسرين أنّ المراد من الجواري التي لها هذان الوصفان هي الكواكب الخمسة السيارة التي في منظومتنا الشمسية ، والتي يمكن رؤيتها بالعين المجردة ، وهي عطارد ، الزهرة ، المريخ ، المشتري ، زحل ويطلق عليها السيارات المتغيرة.

وتسمية هذه الخمسة بالسيارات والبواقي بالثابتات لا يعني نفي الجري والحركة عن غيرها ، إذ لا شك انّ الكواكب جميعها متحركات ، ولكن الفواصل والثوابت بين النجوم لو كانت ثابتة غير متغيرة فتطلق عليها الثابتات ، ولو كانت متغيرة فتطلق عليها السيارات ، فهذه السيارات الخمسة تتغير فواصلها عن سائر الكواكب.

إذا عرفت ذلك : فهذه الجواري الخمس لها خنوس وكنوس ، وقد فسرا بأحد وجهين :

الأوّل : أنّها تختفي بالنهار ، وهو المراد من الخنّس ، وتظهر بالليل وهو المراد من الكنّس.

يلاحظ عليه : أنّ تفسير خنس بالاختفاء لا يناسب معناها اللغوي ، أعني : الانقباض والتأخر إلاّ أن يكون كناية عن الاختفاء.

كما أنّ تفسير الكنس بالظهور خلاف ما عليه أهل اللغة في تفسيره بالاختفاء ، وما ربما يقال : من أنّها تظهر في أفلاكها كما تظهر الظباء في كنسها (1) ، لا يخلو من إشكال ، فأنّ الظباء لا تظهر في كنسها بل تختفي فيها.

ولو سلمنا ذلك فالأولى أن يفسر الجواري بمطلق الكواكب لا الخمسة المتغيرة.

ص: 420


1- تفسير المراغي : 30 / 57.

الثاني : أن يقال : انّ خنوسها وانقباضها كناية عن قرب فواصلها ثمّ هي تجري وتستمر في مجاريها ، وكنوسها عبارة عن قربها وتراجعها.

قال في اللسان : « وكنست النجوم كنساً ، كنوساً : استمرت من مجاريها ثم انصرفت راجعة (1).

وعلى ذلك فاللّه سبحانه يحلف بهذه الأنجم الخمسة بحالاتها الثلاث المترتبة في الليل ، وهي انّها على أحوال ثلاثة.

منقبضات حينما تقرب فواصلها ثمّ إنّها بالجري يبتعد بعضها عن بعض ، ثمّ ترجع بالتدريج إلى حالتها الأُولى فهي بين الانقباض والابتعاد بالجري ثمّ الرجوع إلى حالتها الأُولى.

( وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ) : وقد فسر عسعس بإدبار الليل وإقباله ، فإقبالها في أوّله وإدبارها في آخره.

والظاهر انّ المراد هو إقبالها.

قال الزجاج : عسعس الليل إذا أقبل وعسعس إذا أدبر ، ولعل المراد هو الثاني بقرينة الحلف الثالث أعني ( وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ) ، والمراد من تنفس الصبح هو انبساط ضوئه على الأُفق ودفعه الظلمة التي غشيته ، وكأنّ الصبح موجود حيوي يغشاه السواد عند قبض النفس ويعلوه الضوء والانبساط عند التنفس قال الشاعر :

حتى إذا الصبح لها تنفسا *** وانجاب عنها ليلها وعسعسا

هذا كلّه حول المقسم به ، وأمّا المقسم عليه فهو قوله : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ

ص: 421


1- لسان العرب : مادة كنس.

كَرِيمٍ ) .

الضمير في قوله : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) يرجع إلى القرآن بدليل قوله : ( لَقَوْلُ رَسُولٍ ) والمراد من « رسول هو جبرئيل وكون القرآن قوله لا ينافي كونه قول اللّه إذ يكفي في النسبة أدنى مناسبة وهي انّه أنزله على قلب سيد المرسلين. قال سبحانه : ( قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ ) (1) وقال : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ ) (2).

ثمّ إنّه سبحانه وصفه بصفات ست :

1. رسول : يدل على وساطته في نزول الوحي إلى النبي.

2. كريم : عزيز بإعزاز اللّه.

3. ذي قوة : « ذي قدرة وشدة بالغة ، كما قال سبحانه : ( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ) (3).

4. ( عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ) : أي صاحب مكانة ومنزلة عند اللّه ، وهي كونه مقرباً عند اللّه.

5. مطاع : عند الملائكة فله أعوان يأمرهم وينهاهم.

6. أمين : لا يخون بما أمر بتبليغه ما تحمّل من الوحي.

وعطف على جواب القسم قوله : ( وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ ) (4) والمراد هو

ص: 422


1- البقرة : 97.
2- الشعراء : 193 - 194.
3- النجم : 5 - 6.
4- التكوير : 22.

نبيّنا محمد صلی اللّه علیه و آله ، وكأنّ صاحبه حلف بما حلف ، للتأكيد على أمرين :

أ : القرآن نزل به جبرئيل.

ب : انّ محمّداً ليس بمجنون.

ثمّ إنّ الصلة بين المقسم به والمقسم عليه : هو انّ القرآن - المقسم عليه - حاله كحال هذه الكواكب الثوابت لديكم ، فكما أنّ لهذه الكواكب ، انقباض وجري ، وتراجع ، فهكذا حال الناس مع هذا القرآن فهم بين منقبض من سماع القرآن ، وجار وسار مع هداه ، ومدبر عن هديه إلى العصر الجاهلي.

ثمّ إنّ القرآن أمام المستعدّين للهداية كالصبح في إسفاره ، فهو لهم نور وهداية ، كما أنّ للمدبرين عنه ، كالليل المظلم ، وهو عليهم عمى ، واللّه العالم.

ثمّ إنّ في اتهام أمين الوحي بالخيانة ، والنبي الأعظم بالجنون ، دلالة واضحة على بلوغ القوم القسوة والشقاء حتى سوّغت لهم أنفسهم هذا العمل ، فزين لهم الشيطان أعمالهم.

وأخيراً نود الإشارة إلى كلمة قيمة لأحد علماء الفلك تكشف من خلالها عظمة تلك الكواكب والنجوم ، حيث يقول : لا يستطيع المرء أن يرفع بصره نحو السماوات العلى إلاّ ويغضي إجلالاً ووقاراً ، إذ يرى ملايين من النجوم الزاهرة الساطعة ، ويراقب سيرها في أفلاكها وتنقلها في أبراجها ، وكلّ نجم وأي كوكب ، وكل سديم وأي سيار ، إنّما هو دنياً قائمة بذاتها ، أكبر من الأرض وما فيها وما عليها وما حولها (1).

ص: 423


1- اللّه والعلم الحديث : 25.

الفصل الحادي عشر : القسم في سورة الانشقاق

اشارة

حلف سبحانه تبارك وتعالى بأُمور أربعة : الشفق ، والليل ، وما وسق ، والقمر ، فقال : ( فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ * فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ ) (1).

تفسير الآيات

الشفق : هو الحمرة بين المغرب والعشاء الآخرة ، والمراد منه في الآية الحمرة التي تبقى عند المغرب في الأُفق ، وقيل : البياض فيه.

والوسق : جمع المتفرق ، يقال : وسقت الشيء إذا جمعته ، ويسمي القدر المعلوم من الحمل كحمل البعير وسقاً ، فيكون المعنى والليل وما جمع وضمّ ممّا كان منتشراً بالنهار ، وذلك انّ الليل إذا أقبل آوى كلّ شيء إلى مأواه ، وربما يقال : بمعنى « ما ساق » لأنّ ظلمة الليل تسوق كلّ شيء إلى مسكنه.

واتسق : من الاتساق بمعنى الاجتماع والتكامل فيكون المراد امتلاء القمر.

والطبق : الحال ، والمراد لتركبنّ حالاً بعد حال ، ومنزلاً بعد منزل ، وأمراً بعد أمر.

ص: 424


1- الانشقاق : 16 - 21.

وحاصل معنى الآيات :

لا أُقسم بالشفق ، وقد ذكرنا حديث « لا » وانّ معنى الجملة هو الحلف ومعناه أقسم بالحمرة التي تظهر في الأُفق الغربي عند بداية الليل وما يظهر بعد الحمرة من بياض والمعروف في الشفق في لسان الأُدباء هو الحمرة ولذلك يشبهون دماء الشهداء بالشفق غير انّه ربما يستعمل في البياض الطارئ على الحمرة الذي هو آية ضعف الشفق ونهايته.

وأقسم بالليل لما فيه من آثار وأسرار عظيمة ، فلولا الليل لما كان هناك حياة كالضياء ، فكلّ من الليل والنهار دعامتا الحياة ، قال سبحانه : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) (1).

ثمّ إنّه سبحانه أشار إلى ما يترتب على الليل والنهار من البركات ، فقال : ( وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (2) ، فخلق النهار لطلب الرزق والمعاش ، كم البدن بالنوم فيه والسكن إليه وسيوافيك التفصيل في الفصول القادمة إن شاء اللّه.

وأقسم بما وسق ، أي بما جمع الليل ، ولعلّه إشارة إلى عودة الإنسان والحيوانات والطيور إلى أوكارها عند حلول الليل ، فيكون الليل سكناً عاماً للكائنات الحيّة.

ص: 425


1- القصص : 71 - 72.
2- القصص : 73.

حلف بالقمر عند اتساقه واكتماله في الليالي الأربع لما فيه من روعة وجمال ، ولذلك يُشبَّه الجميل بالقمر ، مضافاً إلى نوره الهادئ الرقيق الذي يغطّي سطح الأرض. وهو من الرقة واللطافة بمكان لا يكسر ظلمة الليل وفي الوقت نفسه ينير الطرق والصحاري.

فهذه أقسام أربعة بينها ترتب خاص ، فانّ الشفق أوّل الليل يطلع بعده القمر في حالة البدر ، فهذه الموضوعات الأربع أُمور كونية يقع كلّ بعد الآخر حاكية عن عظمة الخالق.

وأمّا المقسم عليه فهو قوله سبحانه : ( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ) وهي إشارة إلى المراحل التي يمرّ بها الإنسان في حياته وأوضحها هي الحياة الدنيوية ثمّ الموت ثمّ الحياة البرزخية ثمّ الانتقال إلى الآخرة ثمّ الحياة الأُخروية ثمّ الحساب والجزاء.

وفي هذه الآية إلماع إلى ما تقدّم في الآية السادسة من هذه السورة ، أعني قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ ) (1).

والكدح بمعنى السعي والعناء يتضمن معنى السير.

فالآية تشير إلى أنّ الحياة البشرية تتزامن مع التعب والعناء ، ولكن الغاية منها هو لقاء اللّه سبحانه ، وكأنّ هذا الكدح باق إلى حصول الغاية ، أي لقاء جزائه من ثواب وعقاب أو لقاء اللّه بالشهود.

وأمّا وجه الصلة وهو بيان انّ الأشواط التي يمرّ بها الإنسان أُمور مترتبة متعاقبة كما هو الحال في المقسم به أعني الشفق الذي يعقبه الليل الدامس ويليه ظهور القمر.

ص: 426


1- الانشقاق : 6.

توضيحه : انّ القرآن يحدّث عن أُمور متتابعة الوقوع وبذات تسلسل خاص فعندما تغيب الشمس يظهر الشفق معلناً عن بداية حلول الليل الذي تتجه الكائنات الحية إلى بيوتها وأوكارها ثمّ يخرج القمر بدراً تاماً ، فإذا كان المقسم به ذات أُمور متسلسلة يأتي كلّ بعد الآخر فالطبقات التي يركبها الإنسان مثل المقسم به مترتبة متتالية فيبدأ بالدنيا ثمّ إلى عالم البرزخ ومنه إلى يوم القيامة ومنه إلى يوم الحساب.

وبذلك يعلم وجه استعجابه سبحانه عن عدم إيمانهم ، حيث قال : ( فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) فانّ هذا النظام الرائع في الكون وحياة الإنسان من صباه إلى شبابه ومن ثمّ إلى هرمه لدليل واضح على أنّ عالم الخلقة يدبر تحت نظر خالق مدبر عارف بخصوصيات الكون.

يقول أحد علماء الطبيعة في هذا الصدد : إنّ جميع ما في الكون يشهد على وجود اللّه سبحانه ويدل على قدرته وعظمته ، وعندما نقوم - نحن العلماء - بتحليل ظواهر هذا الكون ودراستها ، حتى باستخدام الطريقة الاستدلالية ، فانّنا لا نفعل أكثر من ملاحظة آثار أيادي اللّه وعظمته. ذلك هو اللّه الذي لا نستطيع أن نصل إليه بالوسائل العلمية المادية وحدها ، ولكننا نرى آياته في أنفسنا وفي كلّ ذرة من ذرات هذا الوجود (1).

ص: 427


1- اللّه يتجلى في عصر العلم : 26.

الفصل الثاني عشر : القسم في سورة البروج

اشارة

حلف سبحانه في سورة البروج بأُمور أربعة :

أ : ( السَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ) : المنازل.

ب : ( الْيَوْمِ المَوْعُودِ ) : القيامة.

ج : شاهد.

د : مشهود.

قال سبحانه : ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ المَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللّهِ الْعَزِيزِ الحَمِيدِ ) (1).

فأقسم سبحانه بالعالم العلوي وهو السماء وما فيها من المنازل التي هي أعظم الأمكنة وأوسعها ثمّ أقسم بأعظم الأيّام وأجلّها الذي هو مظهر ملكه وأمره ونهيه وثوابه وعقابه ، ومجمع أوليائه وأعدائه والحكم بينهم بعلمه وعدل.

ثم أقسم بكلّ شاهد ومشهود - إذا كان اللام للجنس - فيكون المراد كلّ مدرِك ومدرَك وراع ومرعي ، والمصداق البارز له هو النبي الذي سمّي شاهداً كما سيوافيك ، كما أنّ المصداق البارز للمشهود هو يوم القيامة ، فلنرجع إلى تفسير الآيات.

ص: 428


1- البروج : 1 - 8.
تفسير الآيات

أمّا السماء : فكلّ شيء علاك فهو سماء ، قال الشاعر في وصف فرسه :

واحمر كالديباج أمّا سماؤه *** فريّاً وأمّا أرضه فمحول

وقال بعضهم كلّ سماء بالإضافة إلى ما دونها فسماء ، وبالإضافة إلى ما فوقها فأرض وسمي المطر سماءً لخروجه منها.

وأمّا البروج واحدها برج ويطلق على الأمر الظاهر وغلب استعماله في القصر العالي لظهوره على الناظرين ، ويسمّى البناء المعمول على سور البلد للدفاع برجاً ، والمراد هنا مواضع الكواكب من السماء.

وربما يفسر بالمنازل الاثنى عشر للقمر ، لأنّ القمر يصير في كلّ برج يومين وثلث يوم ، وذلك ثمانية وعشرون يوماً ، ثمّ يستتر ليلتين ثمّ يظهر.

وربما يفسر بمنازل الشمس في الشمال والجنوب ، ولكن الأولى ما ذكرناه منازل النجوم على وجه الإطلاق.

واليوم الموعود عطف على السماء وهو يوم القيامة الذي وعد اللّه سبحانه أن يجمع فيه الناس ويوم الفصل والجزاء الذي وعد اللّه به على ألسنة رسله وفيه يتفرد ربّنا بالملك والحكم.

وقد وعد اللّه سبحانه به في القرآن الكريم غير مرّة وقال :

( وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (1).

ص: 429


1- يونس : 48.

وقال : ( أَلا إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (1).

وقال تعالى : ( وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ ) (2).

إلى غير ذلك من الآيات التي سمّى اللّه سبحانه فيها ذلك اليوم بوعد اللّه.

وشاهد ومشهود ، اللفظان معطوفان على السماء والجميع قسم بعد قسم ، وأمّا ما هو المقصود ؟ فالظاهر انّ الشاهد هو من عاين الأشياء وحضرها ، وأوضحه مصداقاً هو النبي صلی اللّه علیه و آله لأنّه سبحانه وصفه بكونه شاهداً ، قال : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا ) (3).

نعم تفسيره بالنبي الخاتم صلی اللّه علیه و آله من باب الجري والتطبيق على أفضل المصاديق وإلاّ فله معنى أوسع ، يقول سبحانه : ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (4) فقد عدّ المؤمنين شهوداً على الأعمال ، فإنّ الغاية من الرؤية هو الشهود.

وتدل الآيات على أنّ نبي كلّ أُمّة شاهد على أُمّته ، قال سبحانه : ( وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ) (5).

وأمّا المشهود فالمراد منه يوم القيامة ، لأنّه من صفات يومها ، قال سبحانه :

ص: 430


1- يونس : 55.
2- الكهف : 21.
3- الأحزاب : 45.
4- التوبة : 105.
5- النساء : 159.

( ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ) (1) والمراد به ( ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ ) أي يجمع فيه الناس كلّهم الأوّلون والآخرون منهم للجزاء والحساب والهاء في له راجعة إلى اليوم ( وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ) أي يشهده الخلائق كلّهم من الجن والإنس وأهل السماء وأهل الأرض أي يحضره ولا يوصف بهذه الصفة يوم سواه وفي هذا دلالة على إثبات المعاد وحشر الخلق (2).

هذا كلّه حول المقسم به ، وأمّا المقسم عليه فيحتمل أن يكون أحد أمرين :

أ : ( قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ ) وفسره بقوله : ( النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ) أي أصحاب الأُخدود هم أصحاب النّار التي لها من الحطب الكثير ما يشتد به لهيبها ، ويكون حريقها عظيماً ، ولهيبها متطايراً.

ثمّ أشار إلى وصف آخر لهم ( إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ ) أي أحرقوا المؤمنين بالنار وهم قاعدون حولها يشرفون عليهم وهم يعذبون بها ويوضحه قوله في الآية اللاحقة : ( وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ) أي أُولئك الجبابرة الذين أحرقوا المؤمنين كانوا حضوراً عند تعذيبهم يشاهدون ما يُفعل بهم ، وفي هذا إيماء إلى قسوة قلوبهم ، كما فيه إيماء إلى قوة اصطبار المؤمنين وشدّة جلدهم ورباطة جأشهم.

وأمّا الصلة بين ما حلف به من السماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود وجواب القسم فهي انّه سبحانه حلف بالسماء ذات البروج والبروج آية الدفاع حيث كان أهل البلد يدافعون من البروج المبنية على سور البلد عن بلدهم ، قال سبحانه : ( وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِن

ص: 431


1- هود : 103.
2- مجمع البيان : 5 / 191.

كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ) (1).

فحلف سبحانه بالسماء ذات البروج في المقام مبيناً بأنّ اللّه الذي كما يدفع بالبروج عن السماء كيد الشياطين كذلك يدفع عن إيمان المؤمنين كيد الشياطين وأوليائهم من الكافرين.

ثمّ أقسم باليوم الموعود الذي يجزي فيها الناس بأعمالهم فهو يجزي أصحاب الأُخدود بأعمالهم ، وأقسم بالشاهد الذي يشاهد أعمال الآخرين ، وأقسم بمشهود أي كل ما يشهده الشاهد وهو انّه سبحانه تبارك وتعالى يعاين أعمالهم ويشاهدها.

ويمكن أن يكون جواب القسم ، قوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ) (2).

فاللّه سبحانه يوعد الكفّار ويعد المؤمنين.

وأمّا وجه الصلة فواضح أيضاً بالنسبة إلى ما ذكرنا في الوجه الأوّل ، ويحتمل أن يكون الجواب قوله : ( إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ) (3) ، والمناسبة تلك المناسبة فلا نطيل.

ويحتمل أن يكون الجواب محذوفاً يدل عليه الآيات المتقدمة ، والمحذوف كالتالي :

إيعاد الفاتنين ووعد المؤمنين وهكذا.

ص: 432


1- الحجر : 16 - 17.
2- البروج : 10 - 11.
3- البروج : 12 - 13.

الفصل الثالث عشر : القسم في سورة الطارق

حلف سبحانه بأمرين : بالسماء والطارق ، ثمّ فسر الطارق بالنجم الثاقب ، حلف بهما بغية دعوة الناس إلى الإذعان بأنّ لكلّ نفس حافظ.

قال سبحانه : ( وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ * إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ) (1).

أمّا السماء فقد مرّ البحث فيه ، والطارق من الطرق ويسمّى السبيل طريقاً ، لأنّه يطرق بالأرجل أي يضرب ، لكن خصّ في العرف بالآتي ليلاً ، فقيل انّه طرق أهله طروقاً ، وعبر عن النجم بالطارق لاختصاص ظهوره بالليل.

النجم الثاقب والثاقب الشيء الذي يثقب بنوره وإصابته مايقع عليه ، قال سبحانه : ( فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ) (2).

( إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ) فلفظة ( لما ) بمعنى إلاّ نظير قوله سبحانه : ( وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ ) (3) ونظيره قولك : « سألتك باللّه لما فعلت ».

والمراد من حافظ هم الموكلون على كتابة أعمال الإنسان حسنها وسيئها ،

ص: 433


1- الطارق : 1 - 4.
2- الصافات : 10.
3- هود : 111.

يحاسب عليها يوم القيامة ويجزى بها فالحافظ هو الملك والمحفوظ هو العمل ، قال تعالى : ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ) (1) ويحتمل أن يراد من حافظ هو القوة الحافظة للإنسان من الموت وفساد البدن ولعلّه إليه يرشد قوله سبحانه : ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ) (2).

والقوى الظاهرية والمادية والمعنوية التي هي من جنود ربنا والتي وكّلت لحفظ الإنسان من الشر إلى أن ينقضي عمره ، هم الحفظة ، ولكن المعنى الأوّل هو الأنسب.

بقي هنا أمران :

الأوّل : انّ المراد من النجم الثاقب هو كوكب زحل ، فانّه من أبعد النجوم في مجموعتنا الشمسية التي يمكن رؤيتها بالعين المجردة وقيل لزحل عشرة أقمار يمكن رؤية ثمانية منها بالناظور العادي.

ولا يمكن رؤية الآخرين إلاّ بالنواظير الكبيرة ، والظاهر انّ المراد مطلق النجم الذي يثقب ضوءه وإن كان زحل من أظهر مصاديقه.

وأمّا المقسم عليه فهو قوله : ( إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ) .

وأمّا الصلة بينهما بالنحو التالي :

هو انّ السماء العالية والنجوم التي تتحرك في مدارات منظمة دليل النظم والحساب الدقيق ، فليعلم الإنسان بأنّ أعماله أيضاً تخضع للحساب الدقيق ، فانّ هناك من يحفظ أعماله ويسجّلها إن خيراً فخير ، وإن شرّاً فشر ، وانّها لمسؤولية

ص: 434


1- الانفطار : 10 - 12.
2- الأنعام : 61.

عظيمة يحملها الإنسان ، إذ ما من أحد إلاّ وهو مراقب ، تكتب عليه كلّ أعماله من المهد إلى اللحد ، فليس من شيء يضيع في هذه الدنيا أبداً. هذا إذا قلنا بأنّ المراد من حافظ هو حافظ الأعمال ، وأمّا إذا فسرت من يحفظ الإنسان من الحوادث والمهالك ، فالصلة بالنحو التالي :

وهو انّ للنفوس رقيباً يحفظها ويدبر شؤونها في جميع أطوار وجودها حتى ينتهي أجلها ، كما أنّ للسماء مدبراً لشؤونها بما تحتويه من أنظمة رائعة ومعقدة ، فالفضاء الكوني فسيح جداً تتحرك فيه كواكب لا حصر لها ، بسرعة خارقة ، بعضها يواصل رحلته وحده ، ومنها أزواج تسير مثنى مثنى ، ومنها ما يتحرك في شكل مجموعات ، والكواكب على كثرتها يواصل كلّ واحد منها سفره على بُعد عظيم يفصله عن الكواكب الأُخرى.

إنّ هذا الكون يتألف من مجموعات كثيرة من الكواكب والنجوم تسمّى مجاميع النجوم ، وكلّها تتحرك دائماً وتدور في نظام رائع.

ومع هذا الدوران تجري حركة أُخرى وهي انّ هذا الكون يتسع من كلّ جوانبه ، كالبالون المتخذ من المطاط ، وجميع النجوم تبتعد في كلّ ثانية بسرعة فائقة عن مكانها ، هذه الحركة المدهشة تحدث طبقاً لنظام وقواعد محكمة بحيث لا يصطدم بعضها ببعض ولا يحدث اختلاف في سرعتها (1).

ص: 435


1- الإسلام يتحدى : 58.

الفصل الرابع عشر : القسم في سورة الفجر

اشارة

حلف سبحانه في سورة الفجر بأُمور خمسة :

1. الفجر ، 2. ليال عشر ، 3. الشفع ، 4. الوتر ، 5. الليل إذا يسر

وقال : ( وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ ) (1).

تفسير الآيات

اختلف المفسرون في تفسير هذه الأقسام إلى أقوال كثيرة ، غير انّ تفسير القرآن بالقرآن يدفعنا إلى أن نفسره بما ورد في سائر الآيات.

أمّا الفجر : فهو في اللغة ، كما قال الراغب : شق الشيء شقاً ، قال سبحانه : ( وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا ) وقال : ( وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا ) ومنه قيل للصبح ، الفجر لكونه يفجر الليل ، وقد استعمل الفجر بصورة المصدر في فجر الليل ، قال : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ) (2) ، وقال سبحانه : ( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (3) وقال سبحانه : ( سَلامٌ هِيَ حَتَّى

ص: 436


1- الفجر : 1 - 5.
2- الإسراء : 78.
3- البقرة : 187.

مَطْلَعِ الْفَجْرِ. (1)

وعلى ضوء هذا فلو كان اللام للجنس ، فهو محمول على مطلق الفجر ، أعني : انفجار الصبح الصادق ، وإن كان مشيراً إلى فجر ليل خاص فهو يتبع القرينة ، ولعلّ المراد فجر الليلة العاشرة من ذي الحجة الحرام.

( وَلَيَالٍ عَشْرٍ ) فقد اختلف المفسرون في تفسير الليالي العشر ، فذكروا احتمالات ليس لها دليل.

أ : الليالي العشر من أوّل ذي الحجة إلى عاشرها ، والتنكير للتفخيم.

ب : الليالي العشر من أوّل شهر محرم الحرام.

ج : العشر الأواخر من شهر رمضان وكلّ محتمل ، ولعل الأوّل أرجح.

وأمّا الشفع : فهو لغة ضمّ الشيء إلى مثله ، فلو قيل للزوج شفع ، لأجل انّه يضم إليه مثله ، والمراد منه هو الزوج بقرينة قوله والوتر ، وقد اختلفت كلمتهم فيما هو المراد من الشفع والوتر.

1. الشفع هو يوم النفر ، والوتر يوم عرفة وإنّما أقسم اللّه بهما لشرفهما.

2. الشفع يومان بعد النحر ، والوتر هو اليوم الثالث.

3. الوتر ما كان وتراً من الصلوات كالمغرب والشفع ما كان شفعاً منها.

إلى غير ذلك من الأقوال التي أنهاها الرازي إلى عشرين وجهاً ، ويحتمل أن يكون المراد من الوتر هو اللّه سبحانه ، والشفع سائر الموجودات.

( وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ) : أمّا الليل فمعلوم ، وأمّا قوله يسر ، فهو من سرى يسري

ص: 437


1- القدر : 5.

فحذف الياء لأجل توحيد فواصل الآيات ، ويستعمل الفعل في السير في الليل ، كما في قوله سبحانه : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى ) (1) ، فالليل ظرف والساري غيره ، ولكن الآية نسبت الفعل إلى نفس الليل فكأنّ الليل موجود حقيقي له سير نحو الأمام فهو يسير إلى جانب النور ، فاللّه سبحانه حلف بالظلام المتحرك الذي سينجلي إلى نور النهار.

مضافاً إلى ما في الليل من عظائم البركات التي لا تقوم الحياة إلاّ بها.

هذا ما يرجع إلى مجموع الآية ونعود إلى الآيات بشكل آخر ، فنقول : امّا الفجر فقد حلف به سبحانه بصورة أُخرى أيضاً ، وقال : ( وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ) (2) ، وقال تبارك وتعالى : ( وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ) (3) ، والمراد من الجميع واحد ، فإنّ إسفار الصبح في الآية الأُولى هو طلوع الفجر الصادق ، فكأنّ الصبح كان مستوراً بظلام الليل ، فهو رفع الستار وأظهر وجهه ، ولذلك استخدم كلمة أسفر يقال : أسفرت المرأة : إذا رفع حجابها.

ويعود سبب تعاقب الليل والنهار إلى دوران الأرض حول الشمس ، فبسبب كرويّتها لا تضيئ الشمس سائر جهاتها في آن واحد بل تضيئ نصفها فقط ويبقى النصف الآخر مظلماً حتى يحاذي الشمس بدوران الأرض فيأخذ حظه من الاستنارة ، وتتم الأرض هذه الدورة في أربعة وعشرين ساعة.

كما أنّ المراد من الآية الثانية أعني : ( وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ) هو انتشار نوره ، فعبّر عنه بالتنفّس ، فكأنّه موجود حي يبث ما في نفسه إلى الخارج ، أمّا عظمة

ص: 438


1- الإسراء : 1.
2- المدثر : 34.
3- التكوير : 18.

الفجر فواضحة ، لأنّ الحياة رهن النور ، وطلوع الفجر يثير بارقة الأمل في القلوب حيث تقوم كافة الكائنات الحية إلى العمل وطلب الرزق.

وأمّا الليالي العشر فهي عبارة عن الليالي التي تنزل فيها بركاته سبحانه إلى العباد ، سواء فسرت بالليالي العشر الأُولى من ذي الحجّة أو الليالي العشر من آخر شهر رمضان. فالليل من نعمه سبحانه حيث جعله سكناً ولباساً للإنسان وقال : ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ) (1) كما جعله سكناً للكائنات الحية حيث ينفضون عن أنفسهم التعب والوصب ، قال سبحانه : ( فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا ) (2).

وأمّا الشفع والوتر ، فقد جاء مبهماً وليس في القرآن ما يفسر به فينطبق على كلّ شفع ووتر ، وبمعنى آخر يمكن أن يراد منه صحيفة الوجود من وتره كاللّه سبحانه وشفعه كسائر الموجودات.

وأمّا قوله : ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ) أقسم بالليل إذا يمضي ظلامه ، فلو دام الليل دون أن ينجلي لزالت الحياة ، يقول سبحانه : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ ) (3).

فتبين مما سبق منزلة المقسم به في هذه الآيات وانّها تتمتع بالكرامة والعظمة. وأمّا المقسم عليه فيحتمل وجهين :

أحدهما : انّه عبارة عن قوله سبحانه : ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصَادِ ) (4).

ثانيهما : انّ المقسم عليه محذوف يعلم من الآيات التي أعقبت هذه الاقسام ،

ص: 439


1- النبأ : 10.
2- الأنعام : 96.
3- القصص : 71.
4- الفجر : 14.

قال سبحانه : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصَادِ ) (1).

فالمفهوم من هذه الآيات انّه سبحانه حلف بهذه الأقسام بغية الإيعاد بأنّه يعذب الكافرين والطاغين والعصاة كما عذب قوم عاد وثمود ، فالإنسان العاقل يعتبر بما جرى على الأُمم الغابرة من إهلاك وتدمير.

أمّا وجه الصلة بين المقسم به والمقسم عليه فهو : انّ من كان ذا لبٍّ ، علم أنّ ما أقسم اللّه به من هذه الأشياء فيه دلائل على قدرته وحكمته ، فهو قادر على أن يكون بالمرصاد لأعمال عباده فلا يعزب عنه أحد ولا يفوته شيء من أعمالهم لأنّه يسمع ويرى جميع أقوالهم وأفعالهم خصوصاً بالنظر إلى ما أدَّب به قوم عاد وثمود مع ما كان لهم من القوة والمنعة.

ص: 440


1- الفجر : 6 - 14.

الفصل الخامس عشر : القسم في سورة البلد

اشارة

حلف سبحانه في سورة البلد بأُمور أربعة : البلد ، ومن حلّ فيه ، ووالد ، وما ولد ، وقد حلف بالثاني كناية وبما سواه تصريحاً ، قال سبحانه : ( لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ) (1).

تفسير الآيات

حلف فيها سبحانه بمكة المكرمة كما حلف بالنبي صلی اللّه علیه و آله الحالِّ فيها ، ومقتضى التناسب بين الأقسام أن يكون المراد من الوالد والولد ، هو إبراهيم وإسماعيل اللذان بنيا البيت ، ودعا إبراهيم كلّ راكب وراحل إلى زيارته.

أمّا الحلف الأوّل فواضح ، لأنّ البيت مركز للتوحيد ولعبادة اللّه سبحانه ، وهو مطاف أنبياء اللّه العظام وأوليائه ، فقد بلغ من المكانة مرتبة صلح أن يحلف به سبحانه ، كيف وقد قال سبحانه في حق البيت : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ) (2).

قال سبحانه : ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا ) (3) وقال : ( جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ ) (4) فلو حلف بالبلد ، فإنّما لأجل احتضانه

ص: 441


1- البلد : 1 - 4.
2- آل عمران : 96.
3- البقرة : 125.
4- المائدة : 97.

أشرف بيوت اللّه ، ويزيد على شرفه انّ النبي الخاتم ، قطين هذا البلد ، ونزيله ، فزاده شرفاً على شرف ، والحل هو الساكن.

وبذلك يعلم أنّ ذكره صلی اللّه علیه و آله بهذا النحو هو في الواقع حلف ضمنيّ به.

وهذا التفسير مبني على أنّ المراد من الحلِّ هو نزول النبي صلی اللّه علیه و آله بهذا البلد ، ولكن ربما يفسر بالمستحلّ ، أي من استحلت حرمته وهتكت كرامته ، وعند ذلك ينقلب معنى الآية إلى شيء آخر ، ويكون معناها هو : لا أُقسم بهذا البلد المقدّس حال انّك مهتوك الحرمة والكرامة ، ويكون توبيخاً وتقريعاً لكفّار قريش حيث إنّهم يحترمون البلد ، ولا يحترمون من حلَّ فيه أشرف الخليقة.

وعلى ذلك فيكون « لا » في ( لا أُقْسِمُ ) بمعنى النفي لا الزيادة ، ولا بمعنى نفي شيء آخر على ما قدمناه في تفسير سورة الواقعة.

يقول الزمخشري : أقسم سبحانه بالبلد الحرام وما بعده على أنّ الإنسان خلق مغموراً في مكابدة المشاق والشدائد ، واعترض بين القسم والمقسم عليه بقوله : ( وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ) يعني : ومن المكابدة أنّ مثلك على عظم حرمتك يُستحل بهذا البلد الحرام ، كما يُستحلّ الصيد في غير الحرم ، عن شرحبيل يحرّمون أن يقتلوا بها صيداً ويعضدوا بها شجرة ويستحلون إخراجك وقتلك ، وفيه تثبيت من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة وتعجيب من حالهم في عداوته . (1)

وقال الطبرسي : معناه لا أقسم بهذا البلد وأنت حلّ فيه منتهك الحرمة مستباح العرض لا تحترم ، فلم يبق للبلد حرمة حيث هتكت حرمتك ، قال وهو

ص: 442


1- الكشاف : 3 / 338.

المروي عن أبي مسلم كما روي عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، قال : كانت قريش تعظم البلد وتستحل محمداً فيه ، فقال : لا أُقسم بهذا البلد وأنت حلّ بهذا البلد يريد انّهم استحلوك فكذبوك وشتموك ، وكان لا يأخذ الرجل منهم قاتل أبيه فيه ويتقلدون لحاء شجر الحرم فيأمنون بتقليده إيّاه فاستحلوا من رسول اللّه ما لم يستحلوا من غيره فعاب اللّه ذلك عليهم (1).

ثمّ حلف بوالد وما ولد وللمفسرين في تفسيره أقوال أوضحها بأنّ الوالد هو إبراهيم الخليل والولد إسماعيل الذبيح وهذا يتناسب مع القسم بمكة ، لأنّ الوالد والولد هما رفعا قواعد البيت.

وأمّا تفسيرها بآدم وذريته ، أو آدم والأنبياء ، أو آدم وكلّ من ولد عبر القرون تفسير بعيد.

هذا كلّه حول القسم ، وأمّا المقسم عليه ، فقوله سبحانه : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ) (2).

والكبد في اللغة شدّة الأمر ومنه تكبد البلد إذا غلظ واشتد ، ومنه الكبد للإنسان ، لأنّه دم يغلظ ويشتد ، وتكبّد البلد : إذا صار كالكبد ، ومعنى الآية واضح ، فانّ الإنسان منذ خلق إلى أن أدرج في أكفانه لم يزل يكابد أمراً فأمراً ، فمن حمله وولادته ورضاعه وفطامه وشبابه وكماله وهرمه كلّ ذلك محفوف بالتعب والوصب ، يقول الشاعر :

يا خاطب الدنيا الدَّني *** ة إنّها شَرَكُ الرَّدى

ص: 443


1- مجمع البيان : 5 / 493.
2- البلد : 4.

دارٌ متى ما أضحكت *** في يومها أبكت غدا

وإذا أظلَّ سحابها *** لم ينتقع منه صدى

غاراتُها ما تنقضى *** وأسيرها لا يُفتدى (1)

ويرثي التهامي ولده في قصيدة معروفة مبتدئاً بوصف الدنيا ، ويقول :

حكم المنية في البرية جار *** ما هذه الدنيا بدار قرار

بينا يُرى الإنسان فيها مخبراً *** حتى يرى خبراً من الاخبار

طُبعتْ على كدر وأنت تريدها *** صفوا من الاقدار والاكدار

ومكلِّف الأيام ضدَّ طباعها *** متطلب في الماء جذوةَ نار

وإذا رجوت المستحيل فإنّما *** تبني الرجاء على شفير هار

فالعيش نوم والمنية يقظة *** والمرء بينهما خيال سار (2)

ص: 444


1- مقامات الحريري : 225 ، المقامة الثالثة والعشرون الشعرية.
2- شهداء الفضيلة : 26.

رحم اللّه شيخنا الوالد آية اللّه الشيخ محمد حسين السبحاني ( 1299 - 1392 ه ) فقد كان في أواخر أيام عمره طريح الفراش فزارته ابنته « فاطمة » وكنت أرافقها فسألناه عن حاله فأنشدَ بيتاً من لامية العجم للطغرائي وقال :

ترجو البقاء بدار لا ثبات لها *** فهل سمعت بظل غير منتقل

أمّا الكلام حول الدنيا ومصاعبها وما احتضنت من التعب والوصب ، فيكفي في ذلك قراءة خطب الإمام أمير المؤمنين علیه السلام ، ننقل منها هذه الشذرات :

« أمّا بعد ، فإنّي أُحذركم الدنيا ، فإنّها حلوة خضرة ، حفّت بالشهوات ، وتحبّبت بالعاجلة. وراقت بالقليل ، وتحلّت بالآمال ، وتزيّنت بالغرور ، لا تدوم حبرتها ، ولا تؤمن فجعتها ، غرّارة ضرّارة ، حائلة زائلة ، نافدة بائدة ، أكّالة غوّالة ، لا تعدو - إذا تناهت إلى أُمنية أهل الرغبة فيها والرضاء ( الرضى ) بها - أن تكون كما قال اللّه تعالى سبحانه : ( كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا ) (1) لم يكن امرؤٌ ومنها في حبرة إلاّ أعقبته بعدها عبرة ، ولم يلق في سرّائها بطناً ، إلاّ منحته من ضرّائها ظهراً (2) .

وقال علیه السلام في خطبة أُخرى :

« ألا وإنّ الدنيا قد تصرَّمت ، وآذنت بانقضاء ، وتنكَّر معروفها ، وأدبرت حذّاء ، فهي تحفز بالفناء سكّانها ( ساكنيها ) ، وتحدو بالموت جيرانها ، وقد أمرّ فيها ما كان حلواً ، وكدر منها ما كان صفواً ، فلم يبق ( تبق ) منها إلاّ سملة كسملة الإداوة أو جرعة كجرعة المقلة ، لو تمزّزها الصّديان لم ينقع. فأزمعوا عباد اللّه الرحيل

ص: 445


1- الكهف : 45.
2- نهج البلاغة ، الخطبة : 111.

عن هذه الدار المقدور على أهلها الزّوال ، ولا يغلبنّكم فيها الأمل ، ولا يطولنّ عليكم فيها الأمد » (1).

يقول العلاّمة الطباطبائي : فليس يقصد نعمة من نعم الدنيا إلاّ خالصة في طيبها ، محضة في هنائها ، ولا ينال شيئاً منها إلاّ مشوبة بما ينغص العيش مقرونة بمقاساة ومكابدة ، مضافاً إلى ما يصيبه من نوائب الدهر ويفاجئه من طوارق الحدثان (2).

وربّما ينظر الإنسان إلى من هو فوقه لا سيما الذين يتمتعون بالغنى والرفاه ، فيخطر على باله أنّ حياة هؤلاء غير مشوبة بالكد والتعب ، ولكنّ هذا التصوّر غير صائب إذ أنّ تعبهم وكدَّهم أكثر بمراتب من الذين هم دونهم.

وأمّا الصلة بين المقسم به ( وَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ) والمقسم عليه ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ) ، واضحة ، إذ لم تزل حياة إبراهيم وولده مقرونة بالتعب والوصب ، إذ ولد وقد أمضى صباه في الغاب خوفاً من بطش الجهاز الحاكم ، وبعد ما خرج منها وله من العمر 13 سنة أخذ يكافح الوثنيين وعبّاد الأجرام السماوية ، إلى ان حكم عليه بالرمي في النار والإحراق ، فنجّاه اللّه سبحانه ، فلم يجد بداً من مغادرة الوطن والهجرة إلى فلسطين ولم يزل بها حتى أُمر بإيداع زوجه وابنه في بيداء قاحلة لا ماء فيها ولا زرع ، يحكي سبحانه تلك الحالة عن لسان إبراهيم علیه السلام ويقول : ( رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) (3).

ص: 446


1- نهج البلاغة ، الخطبة : 52.
2- الميزان : 20 / 291.
3- إبراهيم : 37.

الفصل السادس عشر : القسم في سورة الشمس

اشارة

حلف سبحانه تبارك وتعالى في سورة الشمس إحدى عشرة مرّة بتسعة أشياء (1).

1. الشمس ، 2. ضحى الشمس ، 3. القمر ، 4. النهار ، 5. الليل ، 6. السماء ، 7. وما بناها ، 8. الأرض ، 9. وما طحاها ، 10. ونفس ، 11. وما سوّاها.

وبما أنّ المراد من الموصول في الجمل الثلاث الأخيرة هو اللّه سبحانه فيكون المقسم به تسعة ، والأقسام إحدى عشرة ، قال سبحانه : ( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) (2).

تفسير الآيات

1 ، 2. ( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ) ، حلف بالنيّر الكبير الذي له دور هام في استقرار الحياة على الأرض وهو مصدر للنور والحرارة ، إلى غير ذلك من

ص: 447


1- وما في تفسير الرازي من أنّه تعالى قد أقسم بسبعة أشياء غير صحيح ولعلّه أسقط قوله : ( وَضُحَاهَا ) والموصول كلّه عن القسم. « انظر تفسير الفخر الرازي : 31 / 189 ».
2- الشمس : 1 - 10.

المعطيات ، وهو سلطان منظومتنا ، وله حركة انتقالية وحركة وضعية ، ويعجز البيان واللسان عن بيان ما له من الأهمية ، ويكفيك هذا الأثر انّه ينتج في كلّ دقيقة 240 ميليون وحدة طاقة ، ولم تزل ترفد بهذا العطاء على الرغم من أنّ عمرها يتجاوز الخمسة آلاف ميليون سنة.

هذه الشمس التي ما زالت أسرارها في الخفاء ، هي محور نظامنا السيّاري ومصدر حياتنا أيضاً ، هذه الشمس التي كلّ ما يكتشف عنها يزيدها غموضاً ، ولم تزح يد العلم بعد النقاب عن كلّ ما يجب أن نعلمه عن الشمس ، هذه الشمس التي تفقد أربعة ملايين طن من وزنها في الثانية من احتراقها ، ولم تزل تجدّد وزنها وحجمها ، والتي تبعث إلى العالم الخارجي طاقة تعادل خمسة آلاف بليون قنبلة ذرية في كلّ ثانية ، وهي آية من آيات الخالق ، وإن هي إلاّ آية صغيرة تزخر السماء بملايين من النجوم أضخم منها حجماً وأكبر سرعة وأكثر تألّقاً (1).

كما حلف بضحى الشمس ، وهو انبساط الشمس وامتداد النهار ، والأولى أن يقال الضحى هو انبساط نورها وضوئها ، فانّ لضوئها أثراً خاصاً في نشوء الحياة وبقائها والفتك بالأمراض وزوالها.

3. ( وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا ) حلف بالقمر إذا تلا الشمس في الليالي البيض من الليلة الثالثة عشرة من الشهر إلى السادسة عشرة منه ، وقت امتلائه أو قربه من الامتلاء حين يضيئ الليل كلّه من غروب الشمس إلى الفجر.

وفي الحقيقة هذا حلف بالقمر وضوئه فانّ ضوء القمر إنّما ينتشر ، إذا تلا الشمس وظهر بعد غروبها.

وربما يقال بأنّ المراد تبعية القمر للشمس في تمام الشهر ، لأنّ نوره مأخوذ من

ص: 448


1- اللّه والعلم الحديث : 30.

نور الشمس فهو يتبعها في جميع الأزمان ، ولكن المعنى الأوّل هو اللائح.

4. ( وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا ) التجلي من الجلو بمعنى الكشف الظاهر ، يقال : أجليت القوم عن منازلهم فجلوا عنها أي أبرزتهم عنها ، وعلى ذلك فحلف سبحانه بالنهار إذا جلا الأرض وأظهرها ، والضمير يعود إلى الأرض المفهوم من سياق الآية ، ويحتمل أن يرجع الضمير إلى الشمس ، فانّ النهار كلّما كان أجلى ظهوراً كانت الشمس أكمل وضوحاً ، أي احلف بالنهار إذا جلّى الشمس وأظهرها.

ولكن المعنى الأوّل هو الظاهر ، لأنّ الشمس هي المظهرة للنهار ، دون العكس.

5. ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ) حلف بالليل إذا غطّى الأرض وسترها في مقابل الشمس إذا جلا الأرض وأظهرها ، وربما يتصوّر أنّ الضمير يرجع إلى الشمس ، فحلف سبحانه بالليل إذا غطّى الشمس وهو بعيد ، فانّ الليل أدون من أن يغطي الشمس وإنّما يغطي الأرض ومن عليها.

والأفعال الواردة في الآيات السابقة كلها وردت بصيغة الماضي ، ( تلاها ، جلاّها ) وإلاّ في هذه الآية فقد وردت بصورة المضارع ( يغشاها ) فما هو الوجه ؟

ذكر السيد الطباطبائي وجهاً استحسانياً وقال : والتعبير عن غشيان الليل الأرض بالمضارع بخلاف تجلية النهار لها حيث قيل : ( وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ) للدلالة على الحال ، ليكون فيه إيماء إلى غشيان الفجور الأرضَ في الزمن الحاضر الذي هو أوائل ظهور الدعوة الإسلامية (1).

ص: 449


1- الميزان : 20 / 297.

6 ، 7. ( وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ) ، فحلف بالسماء وبانيها ، بناء على أنّ « ما » موصولة ، وليست مصدرية ، بقرينة الآية التالية حيث يحلف فيها بالنفس وخالقها ومسوِّيها ، وغلبة الاستعمال على « ما » الموصولة في غير العاقل لم يمنع من استعمالها في العاقل أيضاً ، قال سبحانه : ( فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ ) (1).

ولعلّ استعمال « ما » مكان « من » لأجل أنّ الخطاب كان موجهاً إلى قوم لا يعرفون اللّه بجليل صفاته ، وكان القصد منه أن ينزلوا في هذا الكون منزلة من يطلب للأثر مؤثراً فينتقل من ذلك إلى معرفة اللّه تعالى ، فعبّر عن نفسه بلفظة « ما » التي هي الغاية في الإبهام (2).

وفي ذكر السماء وبنيانها إلماع إلى أنّه يمتنع أن يكون رهن الصدفة ، بل لا يتحقق إلاّ بصانع حكيم قد أحكم وضعها وأجاد بناءها ، خصوصاً بناء الكواكب التي ترتبط أجزاؤها البعض بالبعض ، ولولا هذا الترابط لما كان لها تماسك.

8 ، 9. ( وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ) حلف بالأرض وطاحيها والطحو كالدحو ، وهو البسط ، وإبدال الطاء من الدال جائز ، والمعنى وسَّعها.

وقد أشار إلى وصف الأرض في آية أُخرى وقال : ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ) (3) فحلف سبحانه بالأرض وبما جعلها لنا فراشاً.

والأرض كوكب من الكواكب التي تدور حول الشمس وتتبعها في سيرها أينما سارت ، وهي الكوكب الخامس من حيث الحجم ، والثالث من حيث القرب من بين الكواكب التسعة التي تتكون منها المجموعة الشمسية.

ص: 450


1- النساء : 3.
2- تفسير المراغي : 30 / 167.
3- البقرة : 22.

والأرض تكاد تكون كرة ، إلاّ أنّها منبعجة قليلاً عند خط الاستواء ومفلطحة عند القطبين (1).

10 ، 11. ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ) ، فالمراد من النفس هي الروح ، قال سبحانه : ( أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ) (2) وقال : ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ) (3).

وقال : ( تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ) (4).

فاذاً المراد من تسويتها إعطاؤها القوى الكثيرة الظاهرة والباطنة ، فتسوية النفس هو تعديل قواها من الظاهرة والباطنة ، ولو أُريد من النفس الروح والجسم فتسوية الجسم هو إيجادها بصورة متكاملة.

وأمّا تنكير النفس ، فلأنّه أراد كلّ نفس من النفوس من دون أن يختص بنفس دون نفس ، وربما يحتمل أن يكون التنكير إشارة إلى نفس خاصة ، وهي نفس النبي صلی اللّه علیه و آله ، والمعنى الأوّل هو الأوضح بقرينة انّه أخذ يحلف بالكائنات الحيّة وغير الحيّة.

إلى هنا تمّ بيان الحلف بأحد عشر أمراً ، وهذه الآيات تشتمل على أكثر الأقسام الواردة في القرآن الكريم.

ثمّ إنّ بعض من ينكمش من الحلف بغير اللّه سبحانه يرى نفسه أمام هذه الآيات ، ويحس عجزاً في المنطق ، ويقول : المراد هو ربّ الشمس والقمر وهكذا ، ولكنّه غافل انّه لا يمكن تقديره في الآيتين الأخيرتين أي : ( وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا *

ص: 451


1- اللّه والعلم الحديث : 25.
2- الأنعام : 93.
3- البقرة : 235.
4- المائدة : 116.

وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ) إذ ينقلب معنى الآيتين أقسم بربّ السماء وربّ ما بناها أي ربّ بانيها ، وهكذا الحلف بربّ الأرض وما طحاها ، أي ربّ طاحيها.

إلى هنا تمّ الحلف بهذه الموجودات السماوية والأرضية والحية وغير الحية.

أخبر سبحانه بأنّه بعد ما خلق النفس وسوّاها واكتملت خلقتها ظاهراً وباطناً ، علّمها سبحانه التقوى والفجور ، وفهم من صحيح الذات ما هو الحسن والقبيح ، وقد تعلّم ذلك في منهج الفطرة ، وقد استعمل كلمة « ألهم » لأنّه بمعنى إلقاء الشيء في روع الإنسان من دون أن يعلم الملهم من أين أتى ، والإنسان يعلم من صميم ذاته الحسن والسيّء من دون أن يتعلّم عند أحد.

وقد أشار سبحانه إلى هذا النوع من الهداية الباطنية في آيات أُخرى ، وقال : ( وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) (1).

ولما حلف بالموجودات السماوية والأرضية غير الحيّة والحيّة ، وانّه قد ألهم النفس الإنسانية طرق الصلاح والفلاح ، أو طرق الشر والضلال ، أتى بجواب القسم ، وهو قوله : ( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) ، فجعل « زكاها » مقابل « دساها » فيعلم معنى الثاني من الأوّل ، فقال : ( وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) .

والتزكية هو التطهير من الآثام ، مقابل التدسيس ، وهي إخفاء الرذائل والذنوب.

انّ قوله : ( دَسَّاهَا ) مشتق من التدسيس ، وهو إخفاء الشيء من الشيء ، والتدسيس مصدر دسّس ، وهو من دسس يدسس تدسيساً ، ومعنى الآية

ص: 452


1- البلد : 10.

فالإنسان هو فاعل التزكية والتدسية ومتوليهما ، والتزكية هي الإتمام والإعلاء بالتقوى ، لأنّ لازم التطهير هو الإنماء كما أنّ التدسية النقص والإخفاء بالفجور.

والمقسم عليه : هو قوله : ( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) ، وربّما يتصوّر أنّ جواب القسم محذوف.

قال الزمخشري : إنّ جوابه محذوف تقديره ليدمدمنّ اللّه على أهل مكة لتكذيبهم رسول اللّه كما دمدم على ثمود لأنّهم قد كذبوا صالحاً.

وأمّا قوله : ( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ) فكلام تابع لقوله : ( فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ) على سبيل الاستطراد ، وليس من جواب القسم في شيء. (1)

يلاحظ عليه : أنّه لو كان جواب القسم هو ما قدّره ، يفقد الجواب الصلة اللازمة بينه وبين الأقسام الكثيرة الواردة في سورة الشمس ، ولا مانع من أن يكون قوله : ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها ) جواب القسم ، بأن يكون تابعاً لقوله : ( فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) .

وعلى ما ذكرنا فالصلة بين الأمرين واضحة ، وهي أنّه سبحانه يذكر نعمه الهائلة في هذه الآيات التي لو فقد البشر واحداً منها لتوقفت عجلة الحياة عن السير نحو الأمام ، فمقتضى إفاضة هذه النعم وإنارة الروح بإلهام الفجور والتقوى هو المشي على درب الطاعة ، وتزكية النفس دون الولوج في طريق الفجور وإخفاء الدسائس الشيطانية.

ص: 453


1- الكشاف : 3 / 342.

الفصل السابع عشر : القسم في سورة الليل

اشارة

حلف سبحانه في سورة الليل بأُمور ثلاثة : ( اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ) ، ( النَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ) و ( مَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى ) .

وقال سبحانه : ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ) (1).

تفسير الآيات

1. ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ) أقسم بالليل إذا يغشى النهار ، أو يغشى الأرض ، ويدل على الأوّل ، قوله : ( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ) (2) بمعنى يأتي بأحدهما بعد الآخر ، فيجعل ظلمة الليل بمنزلة الغشاوة للنهار ويحتمل المعنى الثاني ، كما في قوله في سورة الشمس : ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ) .

2. ( وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ) عطف على الليل ، والتجلّي ظهور الشيء بعد خفائه ، وقد جاء الفعل في الآية الأُولى بصيغة المضارع وفي الآية الثانية بصورة الماضي وفقاً لسورة الشمس كما مرّ.

3. ( وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى ) و « ما » موصولة كناية عن الخالق البارئ

ص: 454


1- الليل : 1 - 4.
2- الأعراف : 54.

للذكر والأُنثى ، سواء أكان من جنس الإنسان أو من جنس الحيوان ، وتطبيقه في بعض التفاسير على أبينا آدم وزوجه حوّاء من باب التمثيل لا التخصيص.

وأمّا جواب القسم : هو قوله : ( إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ) ، وشتى جمع شتيت ، كمرضى جمع مريض ، والمراد تشتت السعي ، فانّ سعي الإنسان لمختلف وليس منصبَّاً على اتجاه واحد ، فمن ساع للدنيا ومن ساع للعقبى ، ومن ساع للصلاح والفلاح ، ومن ساع للهلاك والفساد.

ثمّ إنّه سبحانه صنّف المساعي إلى قسمين ، وقال في الآيات التالية بأنّ الناس على صنفين : فصنف يصبُّ سعيه في طريق العطاء والتقى والتصديق بالحسنى ، فيُيسّر لليسري ، وصنف آخر يصبُّ سعيه على ضدّ ما ذكر فيبخل ويستغني بما لديه ، ويكذب بالحسنى ، فيُيسر للعسرى.

قال : ( فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ) (1).

والصلة بين المقسم به والمقسم عليه : واضحة ، وهي أنّه سبحانه أقسم بالمتفرقات خلقاً وأثراً على المساعي المتفرقة في أنفسها وآثارها ، فأين التقوى والتصديق من البخل والتكذيب ؟!

ص: 455


1- الليل : 5 - 10.

الفصل الثامن عشر : القسم في سورة الضحى

اشارة

حلف سبحانه في تلك السورة بأمرين ، أحدهما الضحى ، والآخر : ( اللَّيْلِ إِذَا سَجَى ) ، وقال : ( وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) (1).

تفسير الآيات

المراد من الضحى وقت الضحى ، وهو صدر النهار حتى ترتفع الشمس وتلقي شعاعها ، قال سبحانه : ( وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ) (2).

وقوله : ( وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ) أي والليل إذا سكن ، يقال : سجى البحر سجواً ، أي سكنت أمواجه ، ومنه استعير تسجية الميت ، أي تغطيته بالثوب ، والمراد إذا غطى الليلُ وجه الأرض وعمّت ظلمتُه جميع أنحاء البسيطة. هذا هو المقسم به.

وأمّا المقسم عليه : فهو ما جاء عقبه ، أي ما تركك يا محمد ربّك وما أبغضك منذ اصطفاك. ( وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى ) أي ثواب الآخرة والنعيم الدائم فيها خير لك من الدنيا الفانية. ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) أي

ص: 456


1- الضحى : 1 - 5.
2- طه : 59.

سوف يعطيك ربّك في الآخرة ما يرضيك من الشفاعة والحوض وسائر أنواع الكرامة.

وروي أنّ محمد بن علي بن الحنفية ، قال : يا أهل العراق ، تزعمون أنّ أرجى آية في كتاب اللّه عزّوجلّ هو قوله تعالى : ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللّهِ ) (1) إنّا أهل البيت نقول : أرجى آية في كتاب اللّه ، هو قوله : ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) وهي واللّه الشفاعة ، ليعطينّها في أهل لا إله إلاّ اللّه حتى يقول : ربّي رضيت (2).

وقد ذكر المفسرون في شأن نزول الآية : انّه احتبس الوحي عنه خمسة عشر يوماً ، فقال المشركون : إنّ محمداً قد ودّعه ربّه وقلاه ، ولو كان أمره من اللّه تعالى لتتابع عليه ، فنزلت هذه السورة.

هذا ما يذكره المفسرون ، ولكن الحقّ انّه لم يكن هناك أيُّ احتباس وتأخير في نزول الوحي ، وذلك لأنّه جرت سنّة اللّه تعالى على نزول الوحي تدريجاً لغايات معنوية واجتماعية ، وقد أشار الذكر الحكيم إلى حكمة نزوله نجوماً في غير واحدة من الآيات ، قال سبحانه : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ) (3).

فالآية تعكس فكرة المشركين حول نزول القرآن وكانوا يتصورون أنّ القرآن كالتوراة ، يجب أن ينزل جملة واحدة لا نجوماً وعلى سبيل التدريج ، فأجاب عنه الوحي ، بأنّ في نزوله التدريجي تثبيتاً لفؤاد النبي صلی اللّه علیه و آله ، لتداوم الصلة بين الموحي

ص: 457


1- الزمر : 53.
2- مجمع البيان : 5 / 505.
3- الفرقان : 32.

والموحى إليه بين الحين والحين.

وهذا بخلاف ما لو نزل جملة واحدة وأوصد فيها باب الوحي ، وانقطعت صلة النبي صلی اللّه علیه و آله بالسماء ، ففي صورة استدامة الوحي والصلة بينه وبين اللّه سبحانه يعيش النبي صلی اللّه علیه و آله تحت ظل إمدادات غيبية تعقبه إزالة الصدأ العالق على قلبه من خلال مجابهة المشركين والكافرين ، بخلاف الثاني ، ففيه إيماء إلى انقطاع الصلة حينها يجد النبي صلی اللّه علیه و آله نفسه وحيداً دون من يعضده ويسلّيه ويذهب عنه همّ القلب.

ففي الحقيقة لم يكن هناك طارئة باسم احتباس الوحي أو تأخيره ، وإن زعم المشركون نزول الوحي نجوماً احتباساً وتأخيراً له.

وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ، فلا تخلو من وضوح :

1. لأنّ نزول الوحي يناسب الضحى ، كما أنّ انقطاعه يناسب الليل.

2. لأنّ عماد الحياة هو مجيىَ الليل عقب النهار ، لا استدامة النهار ولا استدامة الليل ، فهكذا الحال في عماد الحياة النبوية الذي هو نزول الوحي نجوماً تثبيتاً لقلب النبي صلی اللّه علیه و آله .

3. ولأنّ الضحى والليل نعمة من نعم اللّه سبحانه منّ بها على عباده لما لهما من تأثير مباشر في استقرار الحياة وهكذا الحال في نزول الوحي نجوماً.

ص: 458

الفصل التاسع عشر : القسم في سورة التين

اشارة

حلف سبحانه في سورة التين ، بأُمور أربعة : التين ، الزيتون ، طور سينين ، البلد الأمين ، قال سبحانه : ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) (1).

تفسير الآيات

( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ) فاكهتان معروفتان ، حلف بهما سبحانه لما فيهما من فوائد جمّة وخواص نافعة ، فالتين فاكهة خالصة من شآئب التنغيص ، وفيه أعظم عبرة لأنّه عزّ اسمه جعلها على مقدار اللقمة ، وهيّأها على تلك الصورة إنعاماً على عِباده بها.

وقد روى أبو ذر الغفاري عن النبي صلی اللّه علیه و آله ، أنّه قال : « لو قلت انّ فاكهة نزلت من الجنة ، لقلت : هذه هي ، لأنّ فاكهة الجنة بلا عَجَمْ (2) فانّها تقطع البواسير ، وتنفع من النقرص » (3).

وأمّا الزيتون فانّه يعتصر منه الزيت الذي يدور في أكثر الأطعمة ، وهو إدام ، والتين فاكهة فيها منافع جمّة.

ص: 459


1- التين : 1 - 6.
2- العجم : نوى التمر ، أو كل ما كان في جوف مأكول كالزبيب.
3- مجمع البيان : 5 / 510.

ذكر علماء الأغذية أنّه يمكن الاستفادة من التين كسكر طبيعي للأطفال ، ويمكن للرياضيين ولمن يعانون ضعف كبر السنّ أن ينتفعوا منه للتغذية ، حتى ذكروا أنّ الشخص إن أراد توفير الصحة والسلامة لنفسه فلابد له أن يتناول هذه الفاكهة ، كما أنّ زيت الزيتون هو الآخر له تأثير بالغ في معالجة عوارض الكُلَى ، حتى وصفها سبحانه بأنّه مأخوذ من شجرة مباركة ، ولا نطيل الكلام في سرد فوائدهما (1).

هذا وربما يفسر التين بالجبل الذي عليه دمشق ، والزيتون بالجبل الذي عليه بيت المقدس.

وهذا التفسير وإن كان بعيداً عن ظاهر الآيات ، ولكن الذي يدعمه هو القسم الثالث والرابع - أعني : الحلف ب ( طُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ ) - إذ على ذلك يكون بين الأُمور الأربعة السالفة الذكر صلة واضحة ، ولعل إطلاق اسم الفاكهتين على الجبلين لكونهما منبتيهما ، والإقسام بهما ، لأنّهما مبعثي جمّ غفير من الأنبياء.

ثمّ إنّ المراد من طور سينين ، هو الجبل الذي كلّم اللّه فيه موسى علیه السلام ، وقال : ( إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى ) (2) وقال : ( إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى ) (3) وقال سبحانه مخاطباً موسى علیه السلام : ( وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا ) (4).

ص: 460


1- فمن أراد التفصيل فليرجع إلى كتب علماء الأغذية وما أُلّف في هذا المضمار.
2- طه : 12.
3- النازعات : 16.
4- الأعراف : 143.
البلد الأمين

وقد ذكر لفظ البلد في دعاء إبراهيم ، حيث قال : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) (1) وقال أيضاً : ( رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ ) (2).

وقد أمر سبحانه نبيّه الخاتم ، أن يقول : ( إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ ) (3).

وقد جاء ذكر البلد في بعض الآيات كناية ، قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) (4).

والمراد من قوله ( إِلَى مَعَادٍ ) هو موطنه الذي نشأ فيه.

وقد روى المفسرون في تفسير الآية انّه لما نزل النبي صلی اللّه علیه و آله بالجحفة في مسيره إلى المدينة لما هاجر إليها اشتاق إلى مكة فأتاه جبرئيل علیه السلام ، فقال : أتشتاق إلى بلدك ومولدك ، فقال : نعم. قال جبرئيل : فإنّ اللّه ، يقول : ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) يعني مكة ظاهراً عليها ، فنزلت الآية بالجحفة ، وليست بمكية ولا مدنية ، وسمّيت مكة معاداً لعوده إليها. عن ابن عباس (5).

كما ذكر أيضاً في آية أُخرى بوصفه وقال : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا

ص: 461


1- البقرة : 126.
2- إبراهيم : 35.
3- النمل : 91.
4- القصص : 85.
5- مجمع البيان : 7 / 268.

وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَكْفُرُونَ ) (1).

وقد وصف سبحانه البلد بالأمن وأصل الأمن طمأنينة النفس وزوال الخوف ، وقد جعله وصفاً في بعض الآيات للحرم ، قال سبحانه : ( أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (2).

وفي آية أُخرى يقول : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَكْفُرُونَ ) (3).

والمراد من هذا الأمن هو الأمن التشريعي ، بمعنى أنّه سبحانه حرم فيه القتل والحرب حتى قطع الأشجار والنباتات إلاّ بعض الأنواع مما تحتاج إليه الناس ، والذي يوضح أنّ المراد من الأمن هو الأمن التشريعي لا التكويني قوله سبحانه : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) (4).

فالآية الأُولى تحكي عن تشريع خاص ، وهو أنّ الكعبة أوّل بيت وضعت لعبادة الناس ، ويدل على ذلك أنّ فيه مقام إبراهيم ، كما أنّ الآية الثانية تبيّن تشريعاً آخر ، وهو وجوب حجّ البيت لمن استطاع إليه ، وبين هذين التشريعين جاء قوله : ( وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ) وهذا دليل على أنّ المراد من الأمن هو الأمن التشريعي لا التكويني ، ولذلك كان الطغاة يسلبون الأمن عن هذا البلد بين آونة وأُخرى.

ص: 462


1- العنكبوت : 67.
2- القصص : 57.
3- العنكبوت : 67.
4- آل عمران : 96 - 97.

ويشير إلى الأمن بقوله سبحانه : ( جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الحَرَامَ ) (1) وصف البيت بالحرام ، حيث حرّم في مكانه القتال ، وجعل الناس فيه في أمن من حيث دمائهم وأعراضهم وأموالهم.

فهذه الآيات تشير إلى مكانة البلد الذي احتضن البيت الحرام ، ذلك المكان المقدس الذي حاز على أهمية بالغة عند المسلمين على اختلاف نحلهم ، فإليه يوجِّه الناس وجوههم في صلواتهم وفي ذبائحهم وعند احتضار أمواتهم.

وفضلاً عن ذلك فانّه يعد ملتقىً عبادياً وسياسياً لحشود كبيرة من المسلمين ، وما يترتب عليه من نتائج بناءة على صعيد مدِّ جسور الثقة بين كافة النحل الإسلامية. وبتبعه حاز البلد على مكانة مقدسة جعلته صالحاً للقسم به.

المقسم عليه

المقسم عليه للأقسام الأربعة - أعني : التين ، الزيتون ، طور سينين ، البلد الأمين - هو قوله سبحانه : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ) فيقع الكلام في أمرين :

أ : ما هو المراد من خلق الإنسان في أحسن تقويم ثمّ ردّه إلى أسفل سافلين ؟

ب : ما هي الصلة بين الأقسام الأربعة وهاتين الآيتين اللتين هما المقسم عليه للأقسام الأربعة.

أمّا الأوّل فربّما يقال : انّ المراد من خلق الإنسان في أحسن تقويم هو جودة

ص: 463


1- المائدة : 97.

خلقه واستقامة وجوده من صباه إلى شبابه إلى كماله فيتمتع بكمال الصورة وجمال الهيئة وشدة القوة ، فلم يزل على تلك الحال حتى يواجه بالنزول أي رده إلى الهرم والشيخوخة والكهولة فتأخذ قواه الظاهرة والباطنة بالضعف ، وتنكس خلقته ، قال سبحانه : ( وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ ) (1) لكن هذا التفسير لا يناسبه الاستثناء الوارد بعده قال سبحانه : ( إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) أي غير مقطوع.

فلو كان المراد من الآية ما جرت عليه سنّة اللّه تعالى في خلق الإنسان فهي سنّة عامة تعم المؤمن والكافر والصالح والطالح ، مع أنّه يستثني المؤمن الصالح من تلك الضابطة.

فالأولى تفسير الآيتين بالتقويم المعنوي ، وردّه إلى أسفل سافلين هو انحطاطه إلى الشقاء والخسران بأن يقال : انّ التقويم جعل الشيء ذا قوام ، وقوام الشيء ما يقوم به ويثبت ، فالإنسان بما هو إنسان صالح حسب الخلقة للعروج إلى الرفيق الأعلى ، والفوز بحياة خالدة عند ربه سعيدة لا شقوة فيها ، قال سبحانه : ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) (2) فإذا آمن بما علم ومارس صالح الأعمال رفعه اللّه إليه ، كما قال : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (3) يس ، وقال عزّ اسمه : ( يَرْفَعِ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) (4) ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ارتفاع مقام الإنسان وارتقائه بالإيمان والعمل الصالح مقاماً عالياً ذا عطاء من اللّه غير مجذوذ ، وقد أشار في آخر

ص: 464


1- يس : 68.
2- الشمس : 7 - 8.
3- فاطر : 10.
4- المجادلة : 11.

هذه السورة إلى العطاء الدائم ، بقوله : ( فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) .

وعلى ذلك يكون المراد من أسفل سافلين هو تردّي الإنسان إلى الشقوة والخسران (1).

وأمّا وجه الصلة فلو قلنا بأنّ المراد من التين الجبل الذي عليه دمشق ، وبالزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس وهما مبعثا جمّ غفير من الأنبياء ، فالصلة واضحة ، لأنّ هذه الأراضي أراضي الوحي والنبوة فقد أوحى اللّه سبحانه إلى أنبيائه في هذه الأمكنة ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى أحسن تقويم ، ويصدهم عن التردي إلى أسفل سافلين.

وبعبارة أُخرى : إنّ هذه الأماكن مبعث الأنبياء ومهبط الوحي ، فهؤلاء بفضل الوحي يهدون المجتمع الإنساني إلى الرقي والسعادة التي يعبر عنها القرآن بأحسن تقويم ، ويحذرونه من الانحطاط والسقوط في الهاوية التي يعبر عنها سبحانه ب ( أَسْفَلَ سَافِلِينَ ) .

إنّما الكلام فيما إذا كان المراد من التين والزيتون ، الفاكهتان المعروفتان اللتين أقسم اللّه بهما لما فيهما من الفوائد الجمّة والخواص النافعة ، فعندئذٍ لا تخلو الصلة من غموض ، فليتدبر.

ولا يخفى انّ كلّ المخلوقات ، من حيوان ونبات توحي بالجلال والاحترام لها وبالجمال وكمال الخلق ، وهي تبدو مبرمجة أو مخلوقة هكذا لا تحيد عن ذلك ، فهل رأيت طيراً لا يبني عشه أو لا يُطعمُ فراخه ؟ أم رأيت حيواناً لم يهبه اللّه الذكاء والمقدرة على تحصيل رزقه ، أو الدفاع عن نفسه ؟ حقاً انّ هذه المخلوقات لا تعرف الهزل ، فهي جدّيّة ولكن في وداعة ، غريبة ولكن في جمال ، وبسيطة ولكن في جلال

ص: 465


1- الميزان : 20 / 319 - 320.

آسر. إن كلاً منها تسير على الطريق التي اختطها الخالق لها طائعة ملبّية ، وهي تسبّح بحمد ربّها كلّها. إنّها لا تعرف الكذب أو المصانعة ، بل هي متّسقة مع نفسها ومع ما حولها ، بل ومع الكون جميعاً. في تناغم عجيب وجمال بديع. فتعالى اللّه الظاهر بعجائب تدبيره للناظرين والباطن بجلال عزّته عن فكرة المتوهمين (1).

ص: 466


1- أسرار الكون في القرآن : 283.

الفصل العشرون : القسم في سورة العاديات

اشارة

حلف سبحانه في هذه السورة بأُمور ثلاثة : العاديات ، الموريات ، المغيرات. قال سبحانه : ( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا * إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) (1).

تفسير الآيات

( الْعَادِيَاتِ ) من العدو وهو الجري بسرعة. « الضبح » صوت أنفاس الخيل عند عدوها ، وهو المعهود المعروف من الخيل ، ومعنى الآية أُقسم بالخيل التي تعدو وتضبح ضبحاً.

( فَالمُورِيَاتِ قَدْحًا ) فالموريات من الايراء وهو إخراج النار ، و « القدح » الضرب ، يقال : قدح فأورى : إذا أخرج النار بالقدح ، والمراد بها الخيل التي تخرج النار بحوافرها حين ضربها الأحجار.

( فَالمُغِيرَاتِ صُبْحًا ) الإغارة : الهجوم على العدو بغتة بالخيل ، وهي صفة أصحاب الخيل ونسبتها إلى الخيل بالمجاز والمناسبة ، والمعنى : أُقسم بالخيل المغيرة على العدو بغتة في وقت الصبح.

( فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ) والنقع : الغبار ، والمراد إثارة الغبار حين العدو ، لما في

ص: 467


1- العاديات : 1 - 8.

الإغارة على العدو بالخيل من إثارة الغبار. والضمير في « به » يرجع إلى العدو المستفاد من قوله : والعاديات ، والباء للسببية.

( فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ) فلو قلنا بتشديد السين يكون المعنى حاصروا الأعداء ، ولكن القراءة المعروفة هي بلا تشديد الفعل فيكون معناه أي صاروا في وسط الأعداء بما انّ هجومها كان مباغتاً خاطفاً استطاعت في بضع من اللحظات أن تشق صفوف العدو وتشن حملتها في قلبه وتشتت جمعه.

ثمّ الضمير إمّا يرجع إلى العدو المستفاد من قوله : ( وَالْعَادِيَاتِ ) أو إلى النقع فيكون المعنى فوسطن صباحاً أو في خضمِّ النقع صفوف الأعداء.

ويحتمل أن يرجع الضمير إلى الصبح ، ويكون الباء بمعنى « في » أي وسطن في الصبح جمعاً.

وعلى كلّ حال فالآيات تحلف بالخيول التي تسرع إلى ميدان الجهاد بسرعة حتى تضبح ويتطاير الشررَ من تحت حوافرها باستدامة ضرب الحافر للأحجار ، وعند انجلاء الصبح تشنّ هجوماً شديداً يثير الغبار في كلّ جانب ثمّ تتوغل إلى قلب العدو وتشتت صفوفه. وهذا يعرب انّ الجهاد له منزلة عظيمة إلى حد استحق أن يقسم بخيوله والشرر التي تتطاير من حوافرها والغبار الذي تثيره في الهواء.

هذا كلّه حول الأقسام ، وأمّا جواب القسم ، فهو قوله : ( إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ) والكنود ، اسم للأرض التي لا تنبت ويطلق على الإنسان الكافر والبخيل ، فكأنّه جُبِّل على نكران الحق وجحوده وعدم الإقرار بما لزمه من شكر خالقه والخضوع له. يقول سبحانه : ( إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ ) (1) وهو اخبار عمّا في

ص: 468


1- الحج : 66.

طبع الإنسان من اتّباع الهوى والانكباب على الدنيا والانقطاع بها عن شكر ربّه ، وفيه تعريض للقوم المغار عليهم ، بأنّهم كانوا كافرين بنعمة الإسلام ، وهذا على وجه يشهد الإنسان على كفران نفسه ، كما يقول : ( وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ) .

ثمّ إنّه يدلّل شهادته على ذلك بقوله : ( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) والمراد من الخير المال.

ثمّ إنّ هذه الآيات لا تنافي ما دلت عليه آية الفطرة ، قال سبحانه : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (1).

وجه عدم التنافي انّ الإنسان كما جبل على الخير جبل على الشر أيضاً ، فكما ألهمها تقواها ألهمها فجورها ، وكما أنّه هداه إلى النجدين ، ولكن السعادة هو من يستخدم قوى الخير ويتجنب قوى الشر.

والحاصل انّ الآيات القرآنية على صنفين : فصنف يصف الإنسان بصفات سلبية مثل قوله : ( يَئُوسٌ ) (2) ( ظَلُومٌ كَفَّارٌ ) (3) ( عَجُولاً ) (4) ( كَفُورًا ) (5) ( أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ) (6) ، ( ظَلُومًا جَهُولاً ) (7) ( كَفُورٌ مُّبِينٌ ) (8) ( هَلُوعًا ) (9) إلى

ص: 469


1- الروم : 30.
2- هود : 9.
3- إبراهيم : 34.
4- الإسراء : 11.
5- الاسراء : 67
6- الكهف : 54.
7- الأحزاب : 72.
8- الزخرف : 15.
9- المعارج : 19.

غير ذلك من الصفات السلبية الواردة في القرآن الكريم.

وصنف آخر يصفه بصفات إيجابية تجعله في قمة الكرامة والعظمة.

فقد بلغت به الكرامة انّه صار « مسجوداً للملائكة » (1) ، مخلوقاً بفطرة اللّه (2) ، منشأ بأحسن تقويم (3) ، مفضلاً على كثير من المخلوقات (4) ، حاملاً لأمانة اللّه (5) ، سائراً في البر والبحر ومرزوقاً من الطيبات ومكرماً عند اللّه (6) ، إلى غير ذلك من الآيات التي تصف الإنسان بصفات إيجابية.

ولا منافاة بين الصنفين من الآيات ، وذلك لأنّ تلك الكرامة إنّما هي للإنسان الذي تمتع بكلا الوصفين ، فهو عندما يلبّي نداء العقل والشرع ينل كرامته العليا ، ويكون مظهراً لقوله : ( وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) (7) ولو خضع لدعوة النفس والهوى ، يكون مظهراً للصفات السلبية ، كفوراً يئوساً هلوعاً كنوداً إلى غير ذلك من الصفات الذميمة. فالكمال كلّ الكمال لإنسان تكمن فيه قوى الخير والشر فيقوي إحداهما على الأُخرى بإرادة واختيار دون أي وازع ، فلو جبل على إحدى القوتين دون الأُخرى لما استحق المدح ولا اللوم دون ما إذا كان فيه أرضية الخير والشر فيعالج أرضية الشر بتوجيهها نحو الخير والكمال ، ولذلك نرى انّه سبحانه يستثني بعد الحكم على الإنسان بقوله :

ص: 470


1- الأعراف : 11.
2- الروم : 30.
3- التين : 4.
4- الإسراء : 70.
5- الأحزاب : 72.
6- الإسراء : 70.
7- الإسراء : 70.

( ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ) الفئة المؤمنة العاملة بالصالحات ويقول : ( إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) (1).

إلى هنا تبين المقسم به والمقسم عليه.

بقي الكلام في الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ، فنقول :

إنّه سبحانه بعث الأنبياء لهداية الناس ، فمنهم من يهتدي بكتابه وسنّته ، فهذه الطائفة تكفيها قوة المنطق وثمة طائفة أُخرى لا تهتدي ، بل تثير العراقيل في سبيل دعوة الأنبياء ، فهداية هذه الطائفة رهن منطق القوة ، ولذلك يقول سبحانه : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ) (2).

فهذه الآية مؤلفة من فقرتين :

الفقرة الأُولى التي تتضمن البحث عن إرسال الرسل بالبيّنات وإنزال الكتب والميزان راجعة إلى من له أهلية للهداية فيكفيه قوة المنطق.

والفقرة الثانية ، أعني : ( وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ ) فهي راجعة إلى من لا يستلهم من نداء العقل والفطرة ولا يهتدي بل يثير الموانع فلا يجدي معهم سوى الحديد الذي هو رمز منطق القوة.

وبذلك يعلم وجه الصلة بين إنزال الحديد وإرسال الكتب ، وبهذا تبين أيضاً وجه الصلة بين الأقسام والمقسم عليه ، ففي الوقت الذي كان النبي صلی اللّه علیه و آله يعظ ويبعث رجال الدعوة لإرشاد الناس ، اجتمعت طائفة لمباغتة المسلمين

ص: 471


1- التين : 5 - 6.
2- الحديد : 25.

والهجوم على المدينة والإطاحة بالدولة الإسلامية الفتية ، فبعث النبي صلی اللّه علیه و آله علياً مع سريّة ، فأمر أن تسرج الخيل في ظلام الليل وتعدّ إعداداً كاملاً ، وحينما انفلق الفجر صلّى بالناس الصبح وشنَّ هجومه وباشر وما انتبه العدو حتى وجد نفسه تحت وطأة خيل جيش الإسلام ، فهذه الطائفة لا يصلحهم إلا العاديات والموريات والمغيرات التي تهاجمهم كالصاعقة.

نقل الفيض الكاشاني في تفسيره عن تفسير القمي عن الصادق علیه السلام : « إنّها [ سورة العاديات ] نزلت في أهل وادي اليابس ، اجتمعوا اثني عشر ألف فارس وتعاقدوا وتعاهدوا وتواثقوا أن لا يتخلّف رجل عن رجل ولا يخذل أحد أحداً ، ولا يفر رجل عن صاحبه حتى يموتوا كلّهم على حلف واحد ويقتلوا محمداً صلی اللّه علیه و آله وعلي بن أبي طالب علیه السلام ».

إلى أن قال :

« خرج علي علیه السلام ومعه المهاجرون والأنصار وسار بهم غير سير أبي بكر ، وذلك انّه أعنف بهم في السير حتى خافوا أن ينقطعوا من التعب وتحفى دوابهم ، فقال لهم : لا تخافوا فانّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد أمرني بأمر وأخبرني انّ اللّه سيفتح عليّ وعليكم ، فأبشروا فانّكم على خير وإلى خير ، فطابت نفوسهم وقلوبهم ، وساروا على ذلك السير التعب حتى إذا كانوا قريباً منهم حيث يرونه ويريهم ، أمر أصحابه أن ينزلوا ، وسمع أهل وادي اليابس بمقدم علي بن أبي طالب علیه السلام وأصحابه ، فأخرجوا إليهم منهم مائتا رجل شاكين بالسلاح ، فلمّا رآهم علي علیه السلام خرج إليهم في نفر من أصحابه.

فقالوا لهم : من أنتم ، ومن أين أنتم ، ومن أين أقبلتم ، وأين تريدون ؟ قال : أنا علي بن أبي طالب علیه السلام ابن عمّ رسول اللّه وأخوه ورسوله إليكم ادعوكم إلى

ص: 472

شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وانّ محمّداً عبده ورسوله ، ولكم ان آمنتم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين من خير وشر ، فقالوا له : إياك أردنا ، وأنت طلبتنا ، قد سمعنا مقالتك ، فخذ حذرك واستعد للحرب العوان ، واعلم انّا قاتلوك وقاتلوا أصحابك والموعود فيما بيننا وبينك غداً ضحوة ، وقد اعذرنا فيما بيننا وبينك.

فقال لهم علي علیه السلام : ويلكم تهدّدوني بكثرتكم وجمعكم ، فأنا أستعين باللّه وملائكته والمسلمين عليكم ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه العلي العظيم.

فانصرفوا إلى مراكزهم وانصرف علي إلى مركزه ، فلمّا جنّه الليل أمر أصحابه أن يحسنوا إلى دوّابهم ويقضموا ويسرجوا ، فلمّا انشق عمود الصبح صلى بالناس بغلس ، ثمّ غار عليهم بأصحابه فلم يعلموا حتى وطأهم الخيل ، فما أدرك آخر أصحابه حتى قتل مقاتليهم وسبى ذراريهم واستباح أموالهم وخرب ديارهم وأقبل بالأُسارى والأموال معه.

فنزل جبرئيل وأخبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بما فتح اللّه على عليّ علیه السلام وجماعة المسلمين.

فصعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه وأخبر الناس بما فتح اللّه على المسلمين ، وأعلمهم انّه لم يصب منهم إلاّ رجلين ، ونزل فخرج يستقبل عليّاً علیه السلام في جميع أهل المدينة من المسلمين حتى لقيه على ثلاثة أميال من المدينة ، فلمّا رآه علي علیه السلام مقبلاً نزل عن دابته ، ونزل النبي صلی اللّه علیه و آله حتى التزمه وقبّل ما بين عينيه ، فنزل جماعة المسلمين إلى علي علیه السلام حيث نزل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأقبل بالغنيمة والأُسارى وما رزقهم اللّه من أهل وادي اليابس ».

ثمّ قال جعفر بن محمد علیهماالسلام : « ما غنم المسلمون مثلها قط إلاّ أن يكون من خيبر ، فانّها مثل خيبر وأنزل اللّه تعالى في ذلك اليوم هذه السورة : ( وَالْعَادِيَاتِ

ص: 473

ضَبْحًا ) يعني بالعاديات : الخيل تعدو بالرجال ، والضبح ضبحها في أعنّتها ولجمها.

( فَالمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالمُغِيرَاتِ صُبْحًا ) فقد أخبرك انّها غارت عليهم صبحاً.

( فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ) قال : يعني الخيل يأثرن بالوادي نقعاً.

( فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا * إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) قال : يعنيهما قد شهدا جميعاً وادي اليابس وكانا لحب الحياة حريصين » (1).

بلغ الكلام إلى هنا في شهر جمادي الأُولى

من شهور عام 1420 ه من الهجرة النبوية

في قم المحميّة وحوزتها المصونة

وتم بيد مؤلّفه الآثم المحتاج إلى ربّه العاصم جعفر السبحاني

ابن الفقيه الشيخ محمد حسين الخياباني التبريزي تغمده اللّه برحمته الواسعة

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

ص: 474


1- تفسير الصافي : 5 / 361 - 365.

فهرس المحتويات

الأمثال

الأمثال في القرآن ... 5

المثل في اللغة ... 5

المثل في الاصطلاح ... 10

فوائد الأمثال السائرة ... 12

الكتب المؤلفة في الأمثال ... 16

الأمثال القرآنية ... 16

أقسام التمثيل ... 19

الأمثال القرآنية في الأحاديث ... 21

الكتب المؤلفة في الأمثال القرآنية ... 26

تقسيم الأمثال القرآنية إلى الصريح والكامن ... 27

ما هو المراد من ضرب المثل ؟ ... 34

الأمثال القرآنية وانسجامها مع البيئة ... 38

استنكار الأمثال القرآنية ... 42

ص: 475

التمثيلات القرآنية ... 43

الآيات التي تجري مجرى المثل ... 58

الأمثال النبوية ... 65

الأمثال العلوية ... 70

أمثال لقمان الحكيم ... 71

سورة البقرة

التمثيل الأوّل ... 73

التمثيل الثاني ... 80

التمثيل الثالث ... 86

التمثيل الرابع ... 95

التمثيل الخامس ... 99

التمثيل السادس ... 102

التمثيل السابع ... 109

التمثيل الثامن ... 112

التمثيل التاسع ... 116

التمثيل العاشر ... 118

التمثيل الحادي عشر ... 121

آل عمران

التمثيل الثاني عشر ... 127

ص: 476

التمثيل الثالث عشر ... 130

الأنعام

التمثيل الرابع عشر ... 132

الأعراف

التمثيل الخامس عشر ... 135

التمثيل السادس عشر ... 137

التوبة

التمثيل السابع عشر ... 143

يونس

التمثيل الثامن عشر ... 146

هود

التمثيل التاسع عشر ... 150

الرعد

التمثيل العشرون ... 152

التمثيل الواحد والعشرون ... 155

إبراهيم

التمثيل الثاني والعشرون ... 162

التمثيل الثالث والعشرون ... 164

ص: 477

التمثيل الرابع والعشرون ... 168

التمثيل الخامس والعشرون ... 170

النحل

التمثيل السادس والعشرون ... 172

التمثيل السابع والعشرون ... 176

التمثيل الثامن والعشرون ... 178

التمثيل التاسع والعشرون ... 180

التمثيل الثلاثون ... 184

الإسراء

التمثيل الواحد والثلاثون ... 189

الكهف

التمثيل الثاني والثلاثون ... 193

التمثيل الثالث والثلاثون ... 198

التمثيل الرابع والثلاثون ... 201

النور

التمثيل الخامس والثلاثون ... 205

التمثيل السادس والثلاثون ... 211

التمثيل السابع والثلاثون ... 214

ص: 478

العنكبوت

التمثيل الثامن والثلاثون ... 217

الروم

التمثيل التاسع والثلاثون ... 220

فاطر

التمثيل الأربعون ... 224

التمثيل الواحد والأربعون ... 226

يس

التمثيل الثاني والأربعون ... 228

التمثيل الثالث والأربعون ... 234

الزمر

التمثيل الرابع والأربعون ... 236

الزخرف

التمثيل الخامس والأربعون ... 238

التمثيل السادس والأربعون ... 241

التمثيل السابع والأربعون ... 242

محمّد

التمثيل الثامن والأربعون ... 248

ص: 479

الفتح

التمثيل التاسع والأربعون ... 251

الحديد

التمثيل الخمسون ... 257

الحشر

التمثيل الواحد والخمسون ... 261

التمثيل الثاني والخمسون ... 263

التمثيل الثالث والخمسون ... 265

الجمعة

التمثيل الرابع والخمسون ... 267

التحريم

التمثيل الخامس والخمسون ... 269

التمثيل السادس والخمسون ... 273

الملك

التمثيل السابع والخمسون ... 277

خاتمة المطاف ... 279

ص: 480

فهرس المحتويات

الأقسام

مقدّمة المؤلّف : القرآن والآفاق اللامتناهية ... 287

إلماع إلى بعض آفاقه اللامتناهية ... 289

بحوث تمهيدية في أقسام القرآن ... 291

1. تفسير القسم ... 291

2. أركان القسم ... 292

3. جواز الحلف بغير اللّه سبحانه ... 296

إكمال ... 300

منهجنا في تفسير أقسام القرآن ... 302

ص: 481

القسم الأوّل : القسم المفرد

وفيه وفصول

القسم الأوّل : القسم بلفظ الجلالة ... 311

المقسم به ... 314

جواب القسم ... 315

ما هي الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ... 316

الفصل الثاني : القسم بالرب ... 317

تفسير الآيات ... 318

المقسم به ... 325

المقسم عليه ... 329

الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ... 330

الفصل الثالث : القسم بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله ... 332

المقام الأوّل : الحلف بعمر النبي صلی اللّه علیه و آله ... 332

المقسم به ... 333

المقسم عليه ... 333

ص: 482

الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ... 333

المقام الثاني : الحلف بوصف النبي وأنّه شاهد ... 334

معنى الشهادة وكيفية شهادة النبي صلی اللّه علیه و آله ... 335

الحلف بالنبي كناية ... 338

الفصل الرابع : القسم بالقرآن الكريم ... 339

ما هو المراد من الحروف المقطعة ؟ ... 340

إلماع إلى مادة القرآن ... 341

الحلف بالكتاب ... 349

الفصل الخامس : القسم بالعصر ... 354

ما هو المراد بالعصر ؟ ... 354

الفصل السادس : القسم بالنجم ... 358

تفسير الآيات ... 358

الفصل السابع : القسم بمواقع النجوم ... 361

تفسير الآيات ... 361

الفصل الثامن القسم بالسماء ذات الحبك ... 365

تفسير الآيات ... 366

ص: 483

القسم الثاني : القسم المتعدّد

وفيه فصول

الفصل الأوّل : القسم في سورة الصافات ... 368

الصافات والقسم بالملائكة ... 371

الفصل الثاني : القسم في سورة الذاريات ... 374

تفسير الآيات ... 374

الفصل الثالث : القسم في سورة الطور ... 379

تفسير الآيات ... 379

الفصل الرابع : القسم في سورة القلم ... 385

تفسير الآيات ... 386

الفصل الخامس : القسم في سورة الحاقة ... 392

تفسير الآيات ... 392

الفصل السادس : القسم في سورة المدثر ... 397

تفسير الآيات ... 397

الفصل السابع : القسم في سورة القيامة ... 400

تفسير الآيات ... 400

ص: 484

مراتب النفس في الذكر الحكيم ... 405

1. النفس الأمّارة ... 405

2. النفس اللوّامة ... 406

3. النفس المطمئنّة ... 407

4. النفس الراضية المرضية ... 408

الفصل الثامن : القسم في سورة المرسلات ... 410

تفسير الآيات ... 410

الفصل التاسع : القسم في سورة النازعات ... 413

تفسير الآيات ... 413

تدبير الملائكة ... 416

الفصل العاشر : القسم في سورة التكوير ... 418

تفسير الآيات ... 418

الفصل الحادي عشر : القسم في سورة الانشقاق ... 424

تفسير الآيات ... 424

الفصل الثاني عشر : القسم في سورة البروج ... 428

تفسير الآيات ... 429

الفصل الثالث عشر : القسم في سورة الطارق ... 433

ص: 485

تفسير الآيات ... 433

الفصل الرابع عشر : القسم في سورة الفجر ... 436

تفسير الآيات ... 436

الفصل الخامس عشر : القسم في سورة البلد ... 441

تفسير الآيات ... 441

الفصل السادس عشر : القسم في سورة الشمس ... 447

تفسير الآيات ... 447

الفصل السابع عشر : القسم في سورة الليل ... 454

تفسير الآيات ... 454

الفصل الثامن عشر : القسم في سورة الضحى ... 456

تفسير الآيات ... 456

الفصل التاسع عشر : القسم في سورة التين ... 459

تفسير الآيات ... 459

البلد الأمين ... 461

الفصل العشرون : القسم في سورة العاديات ... 467

تفسير الآيات ... 467

فهرس المحتويات ... 475

ص: 486

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.