مفاهيم القرآن المجلد 7

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ جعفر السبحاني

الناشر: مؤسسة الامام الصادق عليه السلام

المطبعة: الإعتماد

الطبعة: 2

الموضوع : القرآن وعلومه

تاريخ النشر : 1426 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-357-223-4

الكتب بساتین العلماء

مفاهيم القرآن

تأليف: العلامة جعفر السبحاني

الجزء السابع

يبحث عن شخصية النبي الأكرم صلی اللّه عليه وآله وسلم وحياته في القرآن الكريم

مؤسسة التاريخ العربي

بيروت - لبنان

ص: 1

اشارة

جميع الحقوق محفوظة للناشر

الطبعة الأولی

1431 ه - 2010 م

مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع

The Arabic History Publishing Distributing

العنوان الجديد

بيروت - طريق المطار - خلف غولدن بلازا - هاتف 01/540000 - 01/455559 - فاكس 850717 - ص. ب . 11/7957 Beyroth - Air port street - Golden plazza - Tel: 01/54000- 01455559 -7957/11 Fax: 850717 - p. o

ص: 2

بسم اللّه الرحمن الرحيم

عواطف ساخنة ومشاعر تقدير

من أرض الذكريات الإسلاميّة : الحبشة ( أثيوبيا )

وصلنا كتاب من العالم الجليل الاُستاذ محمد كمال آدم المدرس في مدرسة أهل البيت يحمل في طيّاته عواطف ساخنة ، حول « سلسلة مفاهيم القرآن » وما فيها من بحوث في التوحيد والنبوّة ، وقد وجد فيها صاحب الرسالة ما يعالج مشاكل العصر التي تثيره الأقلّيّات الدينية في تلك الديار وإليك بعض ما ورد في الكتاب :

حضرة العالم العلاّمة والحجّة الفهّامة ، الاُستاذ جعفر سبحاني أطال اللّه بقاءه ذخراً للاسلام والمسلمين.

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

يسرّني غاية السرور ومزيد الفرحة أن تصل رسالتي هذه إليكم ، وأنتم في تمام الصحّة والعافية وأتمنّى لكم النجاح والتوفيق في كل أعمالكم.

سيدي العزيز أنا أخوكم المسلم الأثيوبي محمد كمال آدم المدرس في مدرسة أهل البيت وإنّي أحد المتولّعين بمطالعة مؤلّفاتكم الكثيرة المفيدة ، والرائعة ، التي قمتم بتأليفها لمعالجة المسائل الإسلامية معالجة جديدة والدفاع عن حوزة الدين الإسلامي ، في جميع جهات المعركة الفكرية مع الأعداء ، فأوّل ما ظفرت به من مؤلّفاتكم هو كتاب « معالم التوحيد في القرآن الكريم » فطالعته سطراً بعد سطر فأثلج صدري بالفرح والسرور ، والخطبة والحبور ، وألفيته قد انطبق على مسمّاه اسمه ، وتناسب تركيبه ورسمه.

ص: 3

حقّاً إنّ هذا الكتاب يُسحر الألباب ويجذب الأحباب ، يحقِّقُ ويبيِّن الصواب ، ويفحم المتقوّل الكذّاب ، حيث يقوم بتوضيح التوحيد الخالص ، ويفنِّد مزاعم من يشوّهون مفاهيم الدين الإسلامي ويقومون بتكفير اخوانهم المسلمين. فقد جمع بين دفّتيه دراسات كثيرة ومناقشات عديدة ، فيا بشراكم انّكم من الذين أدركوا حقيقة الدين الإسلامي ، وحملتهم غيرتهم على دينهم إلى أن يطلعوا الآخرين على ثمرات الحقائق فجزاكم اللّه خير الجزاء.

اُستاذي الحبيب نحن في أثيوبيا نفتخر بكم وبمؤلّفاتكم القيّمة وأستشعر شعوراً بأنّكم الحجّة والبرهان للدفاع عن الدين الإسلامي في هذا الزمان ، متّعنا اللّه بكم ووفّقنا لرؤيتكم.

وأخيراً نرجوا أن تزوّدنا بمعلومات يكشف عن عدد مؤلّفاتكم لنكون قادرين على متابعتها وجمعها ، ونحن واثقون بأنّكم تحققون مطلبنا هذا في أسرع وقت ممكن ، واللّه يجزيكم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء ودمتم في رعاية اللّه وحفظه وتقبّلوا فائق تحيّاتنا.

أديس أبابا - أثيوبيا

محمد كمال آدم

28 / 12 / 1411 ه

الموافق 10 / 7 / 1991 م

ص: 4

تقدير واكبار

تفضل به الاُستاذ المجاهد والكاتب القدير : الشيخ حسن الصفار

من علماء المنطقة الشرقية في الجزيرة العربية ( قطيف ) حيّاه اللّه وبيّاه

سماحة العلاّمة الحجة الشيخ جعفر السبحاني ... حفظه اللّه

السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ... ومما جاء فيه :

كما أنّ الجيش في ميدان القتال يحتاج إلى دعم وامداد بالمؤنة والعتاد « الوجستيك » كذلك الدعاة إلى اللّه وطلائع الحركة الإسلامية ، هم في أمسِّ الحاجة إلى من يرفدهم بالفكر العميق ، والدراسات العلمية والبحوث الهادفة عن قضايا العقيدة ومفاهيم الإسلام.

فالاُمّة الإسلامية تخوض اليوم صراعاً حضارياً ، فكريّاً ضارياً حيث يخشى الإستكبار العالمي من أن تعود للاُمّة ثقتها بدينها ، وتبني صرح الحضارة الإسلامية من جديد على أنقاض الحضارة الماديّة التي ذاق الإنسان ويلاتها ، واتّضح لدية فسادها وانحطاطها.

إنّ العدوان العسكري والحرب المفروضة التي شنّت على الجمهوريّة الإسلاميّة وحملات الإرهاب ، والقمع الشرسة التي يواجهها المؤمنون الرساليون في كل مكان ، واعاصير الإعلام المضلّل المناوئ للثورة والحركة الإسلامية ... هذه كلّها مظاهر ووسائل للمعركة الرئيسية والصراع الحقيقي بين الحضارة الإسلامية المرتقبة ، والحضارة المادية المنحرفة.

وإذا كانت القيادة الميدانيّة ، والإدارة اليومية لشؤون التحرّك والصراع مع الأعداء تأخذ كل وقت وجهد العلماء والمفكّرين الإسلاميين الواعين ، فإنّ ذلك سيترك فراغاً خطيراً في مجال الدراسات العلمية العقائدية والعطاء الفكري.

ص: 5

فلابدّ وأن تتوجّه ثلّة من العلماء والمفكّرين العارفين بأبعاد الصراع الحضاري ، والمدركين لتطلّعات الاُمّة ، ليقوموا بدور الإمداد والدعم الفكري والعلمي ، خلف جبهة الصراع العسكري والسياسي والإعلامي.

وسماحتكم هو في طليعة من يطمئن ويعتمد عليه لملء هذا الفراغ الكبير وسدّ هذه الحاجة الماسَّة.

إنّ اهتمامكم باصدار البحوث العقائدية والفكرية الرائعة ليشكّل سنداً ودعماً ضرورياً لكل الرساليين المجاهدين لإعلاء كلمة اللّه وانقاذ العالم من حضيض الإنحطاط المادّي.

لقد قرأت العديد من أجزاء موسوعتكم ( التفسير الموضوعي للقرآن ) وبحثكم القيّم حول ( التوحيد والشرك ) فوجدت فيها الضالّة المنشودة من حيث الفكر العميق ، والشموليّة الدقيقة والطرح الهادئ الموضوعي فشكر اللّه سعيكم وأدام توفيقكم ونفع المسلمين بفيض علمكم.

أرجو أن تتابعوا كتاباتكم وبحوثكم في مجال التفسير الموضوعي للقرآن كما أرى ضرورة الإسراع في ترجمة هذه البحوث إلى اللغات العالمية الحية ، وخاصّة اللغة الإنكليزية ، فهناك الكثيرون من المسلمين ممّن لا يجيدون اللغة العربية ، يتطلّعون بفارغ الشوق إلى مثل هذه الدراسات العلمية ، كما أنّ بعض مفكّري الغرب والشرق يهمّهم الإطّلاع على مفاهيم الإسلام من بعد ما لفتت الثورة الإسلامية المباركة أنظارهم نحو الإسلام.

أسأل اللّه لكم دوام الصحّة والنشاط ولكلّ العاملين المؤمنين التوفيق والنجاح.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

حسن موسى الصفار

القطيف

ص: 6

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

شخصية النبي محمد صلی اللّه علیه و آله وسيرته في القرآن الكريم

كانت حياة النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله منذ ولادته ونعومة أظفاره ، وحتى ساعة رحلته ، ولقائه ربّه ، طافحة بالحوادث ، زاخرة بالوقائع ، وقد لفتت تلك الحوادث والوقائع أنظار المفكّرين والباحثين ودفعتهم إلى ضبط كلّ جليل ودقيق منها ، وهم بين مؤمن بدينه ورسالته ، وشريعته وكتابه ، ومنكر لصلته باللّه سبحانه وبعثته من قبله ولكن مذعن بشخصيته الفذَّة ، وحياته المثالية ، فلا تجد شخصية في التاريخ وقعت محطّاً للبحث والدراسة ، ولفتت نظر الباحثين كشخصية رسول الإسلام صلی اللّه علیه و آله .

ولو اُتيح لإنسان أن يقوم باستقصاء ما أُلِّف حول حياته طيلة هذه القرون ، أو ما جادت به القرائح من القصائد والأراجيز ، لعثر على مكتبة ضخمة حافلة بآلاف الكتب والرسائل ، والدواوين ، ولاُذعن - عندئذٍ - كلّ قريب وبعيد ، وكل صديق ومناوئ بأنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نسيج وحده ، لم تسمع اُذنُ الدنيا بأحد مثله ولم تر عين الدهر نظيراً له.

وقد خدم المؤرخون الاُمّة الاسلاميّة بل البشريّة جمعاء بتآليفهم وتصانيفهم حول حياته وشخصيّته وجهوده ومساعيه في سبيل إنقاذ البشريّة من أغلال الوثنيّة

ص: 7

والجنوح إلى كلّ معبود سوى اللّه تعالى ، غير أنَّ نظر كلّ مؤلِّف كان إلى زاوية خاصّة من زوايا حياته ، والى بعد واحد من أبعاد سيرته.

فمن باحث عن أخلاقه المثاليّة ، ورأفته ، وعبادته وتهجّده ، وحسن سلوكه مع الناس ، وأمانته التي أقرَّ بها العدو والصديق.

إلى آخر يهتمَّ ببيان كيفيّة نزول الوحي عليه ، وقيامه - بمفرده - بنشر دعوته ، والإجهار برسالته ، والصمود في سبيل عقيدته ، وتحمّل المشقّة كالجبل الراسخ لا تحرّكه العواصف.

إلى ثالث يُلقي الضوء على الجانب السياسي من حياته ، فيجمع رسائله الموجّهة إلى الملوك والساسة ورؤساء القبائل ، كوثائق وكتب سياسية.

إلى رابع أعجبه ذكر مغازيه وبعثه للسرايا ، وجهاده ضدّ المشركين والمنافقين والخونة من أهل الكتاب.

إلى خامس ركّز اهتمامه على الجليل والدقيق من حياته من دون أن يجنح لجانب دون جانب لكنّه جمع وحشّد من دون تحقيق ولا تنقيب ، فكتب كلّ ما عثر عليه في هذه المجالات.

شكر اللّه مساعي الجميع حيث خدموا البشريّة ببحثهم عن هذه الفريدة وهذه الحلقة الأخيرة من سلسلة الأنبياء والمرسلين ، الّتي خصّها اللّه سبحانه بكتابه الخاتم ، ودينه الخالد ، وشريعته الأبديّة.

ولقد استند هؤلاء في تصوير حياة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ووصف ما جرى عليه قبل البعثة ، وبعدها ، أو ما واجهه من الأحداث والوقائع ، إلى الروايات المرويّة عن الصحابة والتابعين الذين شاهدوا نور الرسالة كما شاهدوا القضايا والحوادث باُمّ أعينهم.

ولكن هناك طريقاً آخر أمثل وأشرف من الطريق الأوّل لم يهتم به الباحثون اهتماماً كافياً ولازماً ، وان التفتوا إليه في بعض الأحيان ، وهو الإستضاءة - في

ص: 8

تدوين معالم حياته - بكتاب اللّه الكريم ، المنزّل على قلبه ، ففيه تصريحات بمعالم حياته ، وإشارات إلى خصوصيّاتها.

والقرآن الكريم وان لم يكن كتاب تاريخ ، بل هو كما وصف نفسه ( هُدًى لِّلنَّاسِ ) أي كتاب هدي لجميع الناس إلى أن تقوم الساعة ، ولكنّه ربّما يتعرّض في بعض المناسبات لخصوصيّات حياته وأفعاله ، وجهوده ومساعيه ، ومن خلال ذلك يستطيع الإنسان المتتبّع أن يستخرج صورة وضّاءة لحياته بالتدبّر في هذا القسم من الآيات ويقف على خلقه وسلوكه وسائر شؤونه ، وبالتالي تتجلّى لناحياته من أوثق المصادر وأمتنها ، فيرى القارئ صورته في مرآة القرآن كما ترى سيرته في ثنايا الكتب والسير ، مع الفارق الكبير بين الصورتين ، والمرآتين.

وهذا ما نقوم به في هذا الجزء من موسوعتنا القرآنية « مفاهيم القرآن » ونحن نعترف بأنّ هذا عبء لا يقوم به إلاّ لجنة تفسيريّة تتناول الموضوع بصورة شاملة وموسّعة ومعمّقة غير أنّ الميسور لا يسقط بالمعسور ، وما نقوم به عمل فردي ليس له من المزايا ما للعمل الجماعي ، ولكن « ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه ». وتوخّياً للتسهيل ، خصّصنا لكلّ موضوع وما يناسبه فصلاً.

وفي الختام نتقدّم بالشكر الجزيل ، إلى العالم الجليل والكاتب القدير ، الشيخ محسن آل عصور - حفظه اللّه - حيث ساعدنا في تأليف هذه الجزء وتحريره وترصيفه وتقريره حتى خرج بهذه الصورة البهيّة. شكر اللّه مساعيه الجميل.

نسأله سبحانه أن يوفّقنا في هذا السبيل ويصوننا عن الزلل والخطأ في فهم كتابه إنّه مجيب الدعاء. ويكتب التوفيق لكلّ مجاهد في سبيل القرآن ، ومخلص في خدمة الذكر الحكيم.

قم - مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام

جعفر السبحاني

ص: 9

ص: 10

(1) بشائره في الكتب السماويّة

اشارة

لقد تعلّقت مشيئة اللّه الحكيمة ببعث رجال صالحين لإنقاذ البشرية من الجهالة والضلالة ، وسوقهم إلى مرافئ السعادة ، وأنزل عليهم شرائع فيها أحكامه وتعاليمه ، وهذه الشرائع وإن كانت تختلف بعضها عن البعض الآخر ، لكنّها تتّحد جوهراً وحقيقة ، ولو أنّها تفترق صورة وشكلاً كما يشير إليه قوله سبحانه : ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلامُ ) ( آل عمران / 19 ). وقوله : ( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( آل عمران / 67 ) (1).

فالدين النازل من اللّه سبحانه إلى كافّة البشر في جميع الأجيال والقرون أمر واحد ، وهو الإسلام ، وقد اُمر بتبليغه جميع رسله وأنبيائه من غير فرق بين السالفين واللاّحقين.

هذا وقد يتفنّن القرآن الكريم في التعبير عن وحدة الشرائع من حيث الاُصول والمبادئ واختلافها شكليّاً بتصوير الدين نهراً كبيراً يجري فيه ماء الحياة المعنويّة ، والاُمم كلّها قاطنة على ضفَّة هذا النهر يردونه ويصدرون عنه ، وينهلون منه حسب حاجاتهم واقتضاء ظروفهم ، وكل ظرف يستدعي حكماً فرعيّاً خاصّاً.

قال سبحانه :

( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ) ( المائدة / 48 ).

فالحقيقة ماء عذب ، والاختلاف في المشرعة والمنهل ، والطريقة والمنهاج.

ص: 11


1- لاحظ سورة البقرة / 132 والزخرف / 28.

إنّ وحدة الشرائع جوهراً ، واختلافها شكلاً وعَرْضا ، لا تعني ما يلوكه بعض الملاحدة من جواز التديّن بكلّ شريعة نازلة من اللّه سبحانه إلى اُمّة من الاُمم في العصور السابقة حتى أنّه يسوّغ التديّن بشريعة إبراهيم في زمن بعثة الكليم ، أو التمسّك بشريعة اليهود في عهد المسيح ، أو التديّن بالشرائع السابقة في عهد بعثة النبي الخاتم صلی اللّه علیه و آله ، بل المفروض على كلّ اُمّة أن تتمسّك بالشريعة التي جاء بها نبيّها ، فلا يجوز لليهود سوى تطبيق التوراة ، ولا للنصارى سوى العمل بما جاء به المسيح ، ولا للاُمّة المتأخّرة عنهما إلاّ العمل بالقرآن والسنّة النبويّة ، وذلك لأنّ للشكل والعَرْض سهماً وافراً في إسعاد الاُمّة ورقيّها ، فلكلّ اُمّة قابليات ومواهب فلا تسعدها إلاّ الشريعة التي تناسبها وتتجاوب معها.

فربّ اُمّة متحضّرة تناسبها سنن وانظمة خاصّة لا تناسب اُمّة اُخرى لم تبلغ شأنها في التكامل والتحضّر.

وهذا هو السبب في إختلاف الشرائع السماويّة في برامجها العباديّة والإجتماعيّة والسياسيّة والإقتصاديّة ، فكانت كلّ شريعة كاملة بالنسبة إلى الأمّة التي نزلت لهدايتها وإسعادها ، ولكنّها لا تتجاوب مع حاجات الاُمم المتأخّرة ولا تكفي لإحياء قابلياتها وترشيد مواهبها ، فكأنَّ الاُمم التي خُصّت بالشرائع الالهيّة تلاميذ صفوف مدرسة واحدة ، وكلّ شريعة برنامج لصفّ خاصّ ، فما زالت البشريّة ترتقي من صفّ إلى صفّ ، وتتلقّى شريعة بعد شريعة ، حتّى تنتهي إلى الصفّ النهائي والشريعة الأخيرة التي لا شريعة بعدها ، وقد أوضحنا حقيقة ذلك الأمر عند البحث عن الخاتمية (1).

أخذ الميثاق من النبيين على الإيمان به ونصره

إنّ وحدة الشرائع في الجوهر والحقيقة أدَّت إلى أخذ الميثاق من النبيين بأنّه سبحانه مهما آتاهم الكتاب والحكمة ، وجاءهم رسول مصدّق لما معهم ، يجب

ص: 12


1- لاحظ مفاهيم القرآن ج 3 ص 119 - 123.

عليهم الإيمان به ونصره ، بل أخذ الإصر من اُممهم على ذلك ، فكان من وظائف كل رسول تصديق النبي اللاحق والإيمان به ، ونصره ، عن طريق التبشير به وأمر اُمّته بالتصديق به ومؤازرته - إذا أدركوه - فعلى ذلك أخذ سبحانه من إبراهيم الخليل ذلك العهد بالنسبة إلى الكليم ، ومن الكليم بالنسبة إلى المسيح ، ومنه على النبي الخاتم صلی اللّه علیه و آله ، ومن جهة اُخرى أخذ الميثاق من الجميع على الإيمان بنبوّة النبي الخاتم صلی اللّه علیه و آله ، ونصره ، والتبشير به ، ودعوة اُممهم إلى تصديق دعوته والإقرار بها.

والمعاصرون للأنبياء السابقين وان لم يدركوا عصر النبي الأكرم غير أنّ ذلك الهتاف العالمي وصل إلى أخلافهم وأولادهم فوجب عليهم تلبية النبي الخاتم بوصيّة من أنبيائهم ، وهذا هو المتبادر من قوله سبحانه :

( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ) ( آل عمران / 81 ).

ظهور الآية فيما ذكرناه من أخذ الميثاق من كلّ متقدّم للمتأخّر ، ومن الجميع للأخير يتوقّف على تفسير الآية وتحليلها جملة بعد جملة :

1 - قوله : ( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ ) .

إنّ المراد من النبيين هم المأخوذ منهم الميثاق ، ويدلّ على ذلك قوله : ( أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ) .

غير أنّ النبي الواقع في أوّل السلسلة يتمحّض في أنّهُ من أخذ منه الميثاق كنوح علیه السلام فإنّه من بُدء به نزول الشريعة ، وهداية الناس وتعريفهم بوظائفهم وتكاليفهم السماوية ، كما أنّ النبي الواقع في آخر السلسلة يتمحّض في أنّه ممّن اُخذ له الميثاق لأنّ المفروض أنّه لا نبيّ بعده.

ص: 13

وأمّا الأنبياء الواقعون في ثنايا السلسلة فهم من جهة أخذ منهم الميثاق ومأخوذ لهم الميثاق.

فالكليم مأخوذ منه الميثاق للمسيح ومأخوذ له الميثاق من الخليل وهكذا.

2 - قوله سبحانه : ( لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ) .

إنّ « ما » في هذه الجملة أشبه بالشرطيّة من الموصولة لوجود « اللام » في جزائها والمعنى : مهما آتيتكم من كتاب وحكمة ثُمَّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه.

والآية تهدف إلى أنّ اللّه سبحانه أخذ من الأنبياء الميثاق بأنّه لو جاء رسول إليهم مصدّق لدعوتهم إلى التوحيد ورفض الوثنيّة والإقرار بعبوديّة الكلّ لله تعالى ، يلزم عليهم أمران :

الأوّل : الإيمان بهذا الرسول المُقْبِل.

الثاني : نصره.

فكأنّ إيتاء الكتاب والحكمة يلازم - عند تطابق الدعوتين - الإيمان بالداعي اللاحق ونصرته ، وعلى ذلك فالضمير المجرور والمنصوب في قوله : ( لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ) عائدان إلى الرسول المُقبِل.

3 - قوله سبحانه : ( أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي ) .

يعرب هذا عن أنّه سبحانه لم يأخذ الميثاق من النبيّين وحدهم بل فرض عليهم أخذ الميثاق من اُممهم على ذلك ، ولأجل ذلك يخاطبهم بقوله : ( أَأَقْرَرْتُمْ ) أنتم يا معشر النبيين ، وهل أخذتم على ذلك عهدي ؟ فأجابوا بالإقرار.

وإنّما اقتصر في الجواب بإقرار الأنبياء فقط ، ولم يذكر أخذ الإصر من اُممهم للإكتفاء بقوله : ( فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ) لظهور الشهادة في أنّها على

ص: 14

الغير ، فإذا كان اللّه سبحانه مع أنبيائه شهوداً فيجب أن يكون هناك مشهوداً عليهم وهو اُممهم.

فظهر أنّ الآية تهدف إلى أخذ العهد والإصر من الأنبياء ، واُممهم على الإيمان والنصرة.

فإذا راجعنا القرآن الكريم نرى أنّ المسيح قام بمسؤوليته الكبيرة حيث بشّر بالنبيّ وقال - كما حكى عنه سبحانه : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) ( الصف / 6 ).

وليس المسيح نسيج وحده في هذا المجال بل الأنبياء السابقون قاموا بنفس هذه الوظيفة ، يقول سبحانه : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ( البقرة / 146 ).

والضمير في « يعرفونه » يرجع إلى النبيّ الأكرم وهو المفهوم من سياق الآية بشهادة تشبيه عرفانهم إيّاه بعرفان أبنائهم.

وما زعمه بعض المفسّرين من أنّ الضمير راجع إلى الكتاب الوارد في الآية لا يناسب هذا التشبيه ، والآية بصدد بيان أنّهم يعرفون النبيّ بما في كتبهم من البشارة به ، ومن نعوته وأوصافه وصفاته التي لا تنطبق على غيره ، وبما ظهر من آياته وآثار هدايته ، كما يعرفون أبناءهم الذين يتولّون تربيتهم وحياطتهم حتّى لا يفوتهم من أمرهم شيء ، قال عبد اللّه بن سلام - وكان من علماء اليهود وأحبارهم - : أنا أعلم به منّي بابني (1).

فالمراد من أهل الكتاب هم اليهود والنصارى ، وكانت الأغلبية في المدينة اليهود ، والآية تعرب من أنّ الكليم قام بنفس ما قام به المسيح من التعريف بالنبيّ الخاتم حتّى عرّفهم النبيّ الخاتم بعلائم واضحة عرفته به اُمّتهُ عرفانَها بأبنائها.

ص: 15


1- المنار ج 2 ص 20.

وعلى ضوء ذلك فالدّين السماوي دين موحّد ، والمبلِّغون له رجال صالحون ، متلاحقون ، موحّدون في الهدف والغاية ، مختلفون في الشريعة والمنهل ، والجميع يبشّرون بالحلقات التالية بأمانة وصدق وإخلاص.

وهذه الآية وان كانت تركّز على أخذ الميثاق من السابقين على اللاحقين ولكن الآية التالية تعرب بفحوى الكلام على أنّ المتأخّر أيضاً كان مأموراً بتصديق السابق ، ولأجل ذلك قال المسيح عند بعثته :

( مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ) ( الصف / 6 ).

وقد أمر النبيّ اُمتّه بالإيمان بما اُنزل على من سبقه من الأنبياء ، وقال سبحانه :

( قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) ( آل عمران / 84 ).

ثمّ إنّ القرآن الكريم يذكر ذلك الميثاق في آية اُخرى على وجه الاختصار ويقول : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ (1) وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ) ( الأحزاب / 7 ).

ص: 16


1- وقد ذكر سبحانه النبيين بلفظ عام يشمل الجميع ثمّ سمّى خمسة منهم بأسمائهم بالعطف عليهم ، ولم يخصّهم بالذكر إلاّ لعظمة شأنهم ورفعة مكانتهم ، فإنّهم أصحاب الشرائع ، وقد عدّهم على ترتيب زمانهم لكن قدّم النبي وهو آخرهم زماناً لفضله وشرفه ، وتقدّمه على الجميع ، وسمّى هذا الميثاق بالميثاق الغليظ ، إذ به تستقر كلمة التوحيد ورفض الوثنية في المجتمع البشري ، فلو لم يؤمن نبي سابق باللاحق ولم ينصره ، كما أنّه لم يصدّق نبي لاحق النبي السابق لفشلت الدعوة الإلهية من الإنتشار وسادت الفوضى في الدين. وفي الآية إحتمال آخر ، وهي إنّها ناظرة إلى ميثاق آخر مأخوذ من الأنبياء وهو أخذ الوحي من اللّه وأدائه إلى الناس من دون تصرّف ، ويشهد على ذلك قول الإمام عليّ علیه السلام في حقّهم : « واصطفى سبحانه من ولده أنبياء ، أخذ على الوحي ميثاقهم ، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم ».نهج البلاغة ، الخطبة / 1.

إنّ إضافة الميثاق إلى النبيّين ( ميثاقهم ) يعرب عن كون المراد الميثاق هو الميثاق الخاص بهم ، كما أنّ ذكرهم بوصف النبوّة مشعر بذلك فهناك ميثاقان :

ميثاق مأخوذ من عامّة البشر وهو الذي يشير إليه قوله : ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ) ( الأعراف / 172 ).

وميثاق مأخوذ من النبيّين خاصّة بما أنّهم أنبياء وهو الذي تدل عليه الآية وهي وإن كانت ساكتة عن متعلّق الميثاق لكن تبيّنه الآية السابقة ، وهو أخذ الميثاق من النبيّين عامّة على أنّه إذا جاءهم رسول مصدّق لما معهم ، يفرض عليهم الإيمان به والنصرة له.

هذا وإنّ الهدف الأسمى من فرض الإيمان والنصرة هو تأييد بعضهم ببعض حتّى تستقرّ في ظل وحدة الكلمة ، كلمة التوحيد في المجتمع البشري ويكون الدّين كلّه لله سبحانه كما قال : ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) ( الأنبياء / 92 ). وقال : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ... ) ( الشورى / 13 ).

ولأجل اتّفاق الأنبياء في الهدف والغرض يعدّ سبحانه قوم نوح مكذّبين للمرسلين ، وقال : ( كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ ) ( الشعراء / 105 و 106 ).

مع أنّهم لم يكذّبوا إلاّ واحد منهم وهو نوح علیه السلام ، وذلك لأجل أنّ دعوتهم واحدة وكلمتهم متّفقة على التوحيد ، فيكون المكذّب للواحد منهم ، مكذّباً للجميع ، ولذا عدّ اللّه سبحانه الإيمان ببعض رسله دون بعض ، كفراً بالجميع ، قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ

ص: 17

حَقًّا ) ( النساء / 150 - 151 ) (1).

وبما أنّ رسالة النبي الخاتم صلی اللّه علیه و آله رسالة عالميّة خاتمة لجميع الرسالات اُخذ من جميع الأنبياء الميثاق على الايمان به ، ونصرته ، والتبشير به ليسدَّ باب العذر على جميع الاُمم حتّى يتظلّل الكلّ تحت لواء رسالته ويسيّر البشر عامّة تحت قيادته إلى السعادة.

ويشهد على ما ذكرنا ما روي عن الإمام أمير المؤمنين علیه السلام قال : « إنّ اللّه أخَذَ الميثاق على الأنبياء قَبْلَ نبيّنا أن يخبروا اُممهم بمبعثه ورفعته ويبشّروهم به ويأمروهم بتصديقه » (2).

ورويا الطبري والسيوطي عن عليّ علیه السلام أنّه قال : « لم يبعث اللّه نبيّاً آدم فمن بعده إلاّ أخذ عليه العهد في محمّد ، لئن بعث وهو حيّ ليؤمننّ به ولينصرنّه ، وأمره بأن يأخذ العهد على قومه » ثمّ تلى هذه الآية : ( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ... ) (3).

ويظهر من بعض الروايات أنّه أخذ الميثاق منهم على وصيّ النبيّ الخاتم.

روى الحديث المحدّث البحراني عن الصادق علیه السلام أنّه قال :

لم يبعث اللّه نبيّاً ولا رسولاً إلاّ وأخذ عليه الميثاق لمحمّد صلی اللّه علیه و آله بالنبوّة ولعليّ علیه السلام بالإمامة (4).

وتخصيص الميثاق في هذه الروايات بالإيمان بالنبي الخاتم لا ينافي ما ذكرنا من عموميّة مفاد الآية ، وأنّها تعمّ جميع الأنبياء فالمتقدّم منهم كان مفروضاً عليه التبشير بالمتأخّر عن طريق الإيمان به ودعوة اُمّته إلى نصرته ، واقتفائه كائناً من كان ،

ص: 18


1- الميزان ج 19 ص 321.
2- مجمع البيان ج 2 ص 468 ( طبع صيدا ).
3- تفسير الطبري ج 3 ص 237 ، والدر المنثور ج 2 ص 27 ، ورواه الرازي في مفاتيح الغيب ج 2 ص 507 ( طبع مصر ) ، والطبرسي في مجمعه ج 2 ص 468.
4- تفسير البرهان ج 1 ص 294.

لكن وجه التخصيص في تلك الروايات بالنبي الخاتم ، لأجل وقوعه آخر السلسلة وبه ختم باب وحي السماء إلى الأرض ، فكأنَّ الكلّ بعثوا للتبشير به والدعوة إلى الإيمان به ونصرته.

بشائر النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله في الكتب السماويّة

لا تجد إنساناً سالماً في نفسه وفكره يقبل دعاوي الآخرين بلا دليل يثبتها ، وهذا أمر بديهي فطري جُبِل الإنسان عليه ، يقول الشيخ الرئيس : « من قبل دعوى المدّعي بلا بيّنة وبرهان فقد خرج عن الفطرة الإسلامية » (1).

على هذا فيجب أن تقترن دعوى النبوّة بدليل يثبت صحّتها وإلاّ كانت دعوى فارغة غير قابلة للإذعان والقبول ، لكن طرق التعرّف على صدق الدعوى ثلاث :

1 - التحدّي بالأمر الخارق للعادة على الشرائط المقرّرة في محلّه ( الإعجاز ).

2 - تصديق النبيّ السابق بنبوّة النبيّ اللاحق.

3 - جمع القرائن والشواهد من حالات المدّعي ، والمؤمنين به ومنهجه والأداة التي استعان بها في نشر رسالته ، إلى غير ذلك من القرائن التي تفيد العلم بكيفيّة دعوى المدّعي صدقاً وكذباً.

وقد استدلّ القرآن على صدق النبي الخاتم بتنصيص أنبياء الاُمم على نبوّته ، وقد عرفت تنصيص المسيح عليه بالاسم والتبشير به (2) كما عرفت انّ سماته الواردة في العهدين كانت في الكثرة والوفور إلى درجة كانت الاُمم تعرفه على وجه دقيق كما تعرف أبناءها (3).

وقد صرّح القرآن بأنّ أهل الكتاب يجدون اسم النبي الأكرم ( صلى اللّه عليه وآله

ص: 19


1- نقله سيدنا الاُستاذ الإمام القائد الراحل في درسه ولم يذكر مصدره.
2- الصف / 6.
3- البقرة / 46.

وسلم ) مكتوباً في التوراة والإنجيل ، قال عزّ من قائل :

( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ ) ( الأعراف / 157 ).

وقد آمن كثير من اليهود والنصارى بنبوّة النبيّ الخاتم صلی اللّه علیه و آله في حياته ومماته لصراحة البشائر الواردة في التوراة والإنجيل ، بل لم يقتصر سبحانه على ذكر اسمه وسماته في العهدين ، بل ذكر سمات أصحابه وقال :

( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) ( الفتح / 29 ).

كما لم يقتصر على أخذ العهد من النبيين ببيان البشائر به ، بل أخذ الميثاق من أهل الكتاب على تبيين بشائره للناس وعدم كتمانها ، قال سبحانه :

( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ) ( آل عمران / 187 ).

وهذه الآية تؤيّد ما استظهرناه من قوله سبحانه : ( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ... وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي ... ) وإنّ أخذ الميثاق لم يكن مختصّاً بالأنبياء ، بل أخذ سبحانه الميثاق من اُممهم بواسطتهم ، وممّا أخذ منهم الميثاق عليه هو تبيين سمات الرسول الخاتم صلی اللّه علیه و آله وعدم كتمانها.

وقد كان ظهور النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله بين الاُمّيين على وجه كان اليهود يستفتحون به على مشركي الأوس والخزرج ، وكانوا يقولون لمن ينابذهم : هذا نبيّ قد أطلّ زمانه ينصرنا عليكم ، قال سبحانه :

ص: 20

( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) ( البقرة / 89 ).

روى الطبرسي عن معاذ بن جبل ، وبشر بن البراء : إنّهما خاطبا معشر اليهود وقالا لهم : اتّقوا اللّه وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل الشرك ، وتصفونه وتذكرون أنّه مبعوث ، فقال سلام بن مسلم أخو بني النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه ، ما هو بالذي كنّا نذكر لكم ، فنزلت هذه الآية (1).

وعن الإمام جعفر الصادق علیه السلام أنّه لما كثر الحيّان ( الأوس والخزرج ) بالمدينة ، كانوا يتناولون أموال اليهود ، فكانت اليهود تقول لهم : أمّا لو بعث محمد لنخرجنّكم من ديارنا وأموالنا ، فلمّا بعث اللّه محمداً صلی اللّه علیه و آله آمنت به الأنصار ، وكفرت به اليهود ، وهو قوله تعالى :

( وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ) (2).

وبالرغم من أخذ الميثاق من الاُمم ، وبالرغم من تعرّف تلك الاُمم على النبي الخاتم ، عمد أصحاب الأهواء منهم إلى كتمان البشائر به ، واخفاء علائمه ، وسماته الواردة في كتبهم كما يقول سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ( البقرة / 174 ).

وقال سبحانه :

( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ) ( البقرة / 159 ).

والمعنيّ بالآية نظراء كعب بن الأشرف وكعب بن أسد وابن صوريا وغيرهم

ص: 21


1- مجمع البيان ج 1 ص 158.
2- تفسير العياشي ج 1 ص 50.

من علماء اليهود والنصارى الذين كتموا أمر محمد صلی اللّه علیه و آله ونبوّته وهم يجدونه مكتوباً في التوراة والإنجيل مثبّتاً فيهما.

قال (1) العلاّمة الطباطبائي : المراد بالكتمان وهو الإخفاء أعمّ من كتمان أصل الآية وعدم إظهارها للناس ، أو كتمان دلالتها بالتأويل ، أو صرف الدلالة بالتوجيه كما كانت اليهود تصنع ببشارات النبوّة ذلك فما يجهله الناس لا يظهرونه ، وما يعلم به الناس يؤوّلونه بصرفه عنه صلی اللّه علیه و آله (2).

وقال سبحانه :

( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ) .

والضمير في « لتبيّننّه » إمّا عائد إلى النبي الخاتم صلی اللّه علیه و آله المفهوم من سياق الآية ، أو إلى الكتاب المذكور قلبه ، وعلى كل تقدير يدخل في الآية ، بيان أمر النبي لأنّه في الكتاب ، والظاهر أنّ الآية مطلقة تعمّ كل ما يكتمونه من بيان الدين والأحكام والفتاوى والشهادات. النبي الأكرم ودعاء الخليل

أمر سبحانه إبراهيم الخليل بتعمير بيته ، وقد قام الخليل بما اُمر ، وبمساهمة فعليّة من ابنه « إسماعيل » وقد حكى سبحانه دعاءه عند قيامه بهذا العمل وقال :

( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ

ص: 22


1- مجمع البيان ج 1 ص 195.
2- الميزان ج 1 ص 394.

الحَكِيمُ ) ( البقرة / 127 - 129 ).

فقد دعا إبراهيم لذرّيته من نسل إسماعيل القاطنين في مكّة وحواليها ، ولم يبعث سبحانه من تتوفّر هذه الأوصاف الواردة في الآية من تلاوة الآيات وتعليم الكتاب والحكمة والتزكية سوى النبي الأكرم محمد صلی اللّه علیه و آله .

والآية تدلّ على أنّ إبراهيم واسماعيل دعيا لنبيّنا بجميع شرائط النبوّة لأنّ تحت التلاوة الأداء ، وتحت التعليم البيان ، وتحت الحكمة السنّة ، ودعوا لاُمّته باللطف الذي لأجله تمسّكوا بكتابه وشرعه فصاروا أزكياء ، وبما أنّ المرافق والمشارك في الدعاء مع إبراهيم هو ابنه ، فيجب أن يكون النبي من نسل إبراهيم من طريق ابنه ، ولم يكن في ولد إسماعيل نبيّ غير نبيّنا صلی اللّه علیه و آله سيّد الأنبياء.

وقد استجاب اللّه سبحانه دعاء الخليل وابنه إذ بعث في ذرّيته رسولاً وقال :

( لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ( آل عمران / 164 ).

وقال تعالى : ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ( الجمعة / 2 ).

ولقد نقَّب علماء الإسلام في العهدين ( التوراة والإنجيل ) وجمعوا البشارات الواردة فيهما على وجه التفصيل ، ومن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى الكتب المعدّة لذلك (1). ونحن نعرض عن نقل تلكم البشائر في هذه الصحائف لأنّ نقلها يوجب الاسهاب في الكلام والخروج عن وضع المقال.

ص: 23


1- مثل أنيس الأعلام في نصرة الإسلام لفخر الاسلام الشيخ محمد صادق ، في ستة أجزاء واظهار الحق تأليف الشيخ رحمة اللّه الهندي وهو كتاب ممتع ، والهدى إلى دين المصطفى تأليف الشيخ العلاّمة محمد جواد البلاغي ، وفي كتاب بشارات العهدين غنى وكفاية.

ص: 24

(2) ثقافة قومه وحضارة بيئته

اشارة

إنّ الإنسان مهما بلغ من الكمال لا يستطيع أن يجرّد نفسه وفكره ، ومنهجه الإصلاحي عن معطيات بيئته ، فهو يتأثّر عن لا شعور بثقافة قومه ، وحضارة موطنه ، ولكن إذا راجعنا تفكير إنسان وشخصيته فوجدناها منقطعة عن تأثيرات الظروف التي نشأ فيها ، ومباينة لمقتضياتها ، بل كانت على النقيض منها ، فتكشف أنّ لما جاء به من التشريع والتقنين ولما قدّمه إلى اُمّته من مبادئ الإصلاح خلفيّة سماويّة غير خاضعة لثقافة قومه ، وتقاليد قبيلته.

وهذا نجده في ما حمله رسول الإسلام إلى قومه والى البشرية جمعاء من عقائد واخلاق وتشريعات.

وللوقوف على هذه الحقيقة نقدّم عرضاً خاطفاً عن حياة العرب في عصره قبل ميلاده وبعده ، ومن المعلوم أنّ الإسهاب في ذلك يتوقّف على الغور في التاريخ والسيرة وهو خارج عن هدفنا ، بل نقدّم موجزاً ممّا يذكره القرآن عن حياتهم المنحطّة البعيدة عن الحضارة ، وستقف أيّها القارئ الكريم من خلال ذلك على أنّ الذي جاء به رسول الإسلام الكريم ، من عقائد وأخلاق وسنن ، تضاد مقتضيات ظروفه ، فهو بدل أن يؤكّد تفكير قومه وطقوس قبيلته وتقاليد وسطه الذي كان يعيش فيه ، بدأ يكافحها ويفنّدها بالإسلوب المنطقي.

لقد نشأ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بين قومه وقد كانوا منقطعين عن الأنبياء وبرامجهم حيث لم يبعث فيهم نبيّ ، قال سبحانه في هذا الصدد :

ص: 25

( وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ( القصص / 46 ).

يقول تعالى :

( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) ( السجدة / 3 ).

وقال سبحانه :

( لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ) ( يس / 6 ).

وهذه الآيات تعرب من أنّ اُمّ القرى وما حولها لم يبعث فيها أي بشير أو نذير ، والآيات تعني هذه المناطق والقاطنين فيها ، ولا تعني العرب البائدة التي بعث فيها أنبياء عظام كهود وصالح وشعيب ، ولا عامّة المناطق في الجزيرة العربيّة ولا عامّة القبائل من القحطانيين والعدنايين ، وقد كان فيهم بشير ونذير كخالدبن سنان العبسي وحنظلة على ما في بعض الروايات والأخبار.

ومن المعلوم أنّ الاُمّة البعيدة عن تعاليم السماء خصوصاً في العصور البعيدة التي كانت المواصلات فيها ضعيفة بين الاُمم ، وكانت عقلية البشر في غالب المناطق قاصرة عن تنظيم برنامج ناجح للحياة الإنسانية ، فحياتهم لا تتعدّى عن حياة الحيوانات بل الوحوش في الغابات ، ولا يكون لهم من الإنسانية شيء إلاّ صورتها ، ولا من الحضارة إلاّ رسمها.

وهذا هو القرآن يصفهم بأنّهم كانوا على شفا حفرة من النار ، ولم يكن بين سقوطهم واقتحافهم فيها إلاّ خطوات ودقائق بل لحظات لولا أنّ النبيّ الأكرم أنقذهم من النار ، قال تعالى :

( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ) ( آل عمران / 103 ).

ص: 26

وقد تضمّن قوله سبحانه : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ ) استعارة بليغة حيث صوّر قوم النبيّ كالساقطين في قعر هوَّةِ سحيقة لا يقدورن على الخروج ، وفي يد النبيّ حبل ألقاه في قعر تلك الهوّة يدعوهم إلى التمسّك به حتّى يستنقذهم من الهلكة.

هذا ما يصف به القرآن الكريم بيئة النبيّ وعقلية عشيرته ، على الوجه الكلّي ، ولكنّه يصفهم في الآيات الأُخر بالإنحطاط والإنهيار بشكل مفصّل.

وإليك بيان ذلك في ضوء الآيات القرآنية.

1 - الشرك أو الدين السائد

كان الدين السائد في العرب في الجزيرة العربية عامّة ، ومنطقة أُمُ القرى خاصّة ، هو الشرك باللّه سبحانه ، فهم وإن كانوا موحّدين في مسألة الخالقيّة ، وكان شعارهم هو أنّ اللّه هو الخالق للسماوات والأرض ، ولكنّهم كانوا مشركين في المراحل الاُخرى للتوحيد.

أمّا كونهم موحّدين في مجال الخالقيّة فلقوله سبحانه : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ ) ( لقمان / 25 ) (1).

وأمّا كونهم مشركين في المراتب الاُخرى للتوحيد فيكفي في ذلك كونهم مشركين في أمر الربوبية ( تدبير العالم ) هو أنّ الوثنية دخلت مكّة وضواحيها ، بهذا اللون من الشرك ( الشرك في الربوبية ).

روى ابن هشام عن بعض أهل العلم أنّه قال : « كان عمرو بن لُحَي أوّل من أدخل الوثنية إلى مكّة ونواحيها ، فقد رأى في سفره إلى البلقاء من أراضي الشام اُناساً يعبدون الأوثان وعندما سألهم عمّا يفعلون ، قالوا : هذه أصنام نعبدها فنستمطرها ، فتمطرنا ، ونستنصرها ، فتنصرنا ، فقال لهم : أفلا تعطونني منها فأسير بها إلى أرض

ص: 27


1- ولهذا المضمون آيات اُخر لاحظ العنكبوت / 61 ، الزمر / 38 ، والزخرف / 9 و 78.

العرب فيعبدوه ، فاستصحب معه إلى مكّة صنماً باسم « هبل » ووضعه على سطح الكعبة المشرّفة ودعى الناس إلى عبادتها » (1).

وأمّا الشرك في العبادة : فقد كان يعمّهم قاطبة إلاّ أُناساً لا يتجاوز عددهم عن عدد الأصابع ، فالأغلبيّة الساحقة كانوا يعبدون الأصنام مكان عبادته سبحانه زاعمين أنّ عبادتهم تقرّبهم إلى اللّه ، قال سبحانه :

( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّهِ زُلْفَى إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ( الزمر / 3 ).

والقرآن شدّد النكير على فكرة الشرك أكثر من كل شيء ، وفنّدها بأساليب علميّة وعقليّة ، ولقد صوّر واقع الشرك ووضع المشرك ببعض التشبيهات البليغة التي تقع في النفوس بأحسن الوجوه قال سبحانه :

( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) ( العنكبوت / 41 ).

وقال تعالى :

( وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ) ( الحجّ / 31 ).

فالمعتمد على الحجر ، والخشب الذي لا يبصر ، ولا يسمع ، ولا ينفع ، ولا يضرّ ، كالمعتمد على بيت العنكبوت الذي تخرقه قطرة ماء ، وتحرقه شعلة نار وتكسحه هبّة ريح.

2 - إنكار الحياة بعد الموت

الإعتقاد بالحياة بعد الموت هو الرصيد الكامل للتديّن ، وتطبيق العمل على الشريعة ، ولكن العرب كانت تنزعج من نداء الدعوة إلى الإيمان بها ، لأنّ الإيمان

ص: 28


1- السيرة النبويّة لابن هشام ج 1 ص 79.

بالحياة المستجدة ، يستدعي كبح جماح الشهوات ، ووضع السدود والعوائق دون المطامح والمطامع ، وأين هذا من نزعة الاُمّة المتطرّفة التي لا تهمّها إلاّ غرائزها الطاغية ورغباتها الجامحة.

وبما أنّ ذكر الموت والحياة بعده يلازمان الحساب والجزاء ، لهذا كان العرب يقابلون النبيّ بالسبّ والشتم واتّهامه بالجنون ، لأجل إنبائه عن أمر غير مقبول ، وحادث غير معقول ، قال سبحانه :

( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ ) ( سبأ / 7 - 8 )

3 - عقيدتهم في الملائكة والجنّ

ومن عقائدهم : إنّ الملائكة بنات اللّه سبحانه ، وفي الوقت نفسه كانوا يكرهون البنات لأنفسهم ، يقول سبحانه :

( أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا المَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) ( الصافّات / 149 - 154 ).

والآية ترد عليهم وتفنّد عقيدتهم بوجوه :

1 - إنّ تصوير الملائكة بناتاً لله سبحانه يستلزم تفضيلهم عليه سبحانه - حسب عيقدتهم - لأنّهم يفضلّون البنين على البنات ، ويشمئزون منهنّ ، ويئدونهنّ ، فكيف تجعلون البنات لله وإليه أشار بقوله سبحانه :

( أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ) ؟.

2 - إنّهم يقولون شيئاً لم يشاهدوه ، فمتى شاهدوا الأُنثويّة للملائكة ؟ وإليه

ص: 29

يشير بقوله : ( أَمْ خَلَقْنَا المَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ ) ؟.

3 - إنّ توصيف الملائكة بناتاً لله يستدعي أنّه سبحانه ولدهنّ وهو منزّه عن الإيلاد والاستيلاد ، وإليه يشير قوله : ( لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) .

ثمّ إنّهم كانوا يتخيّلون وجود نسب بين اللّه والجنّ ، والوحي يحكي ذلك على وجه الإجمال قوله سبحانه :

( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ) ( الصافات / 158 ).

وقد ذكر المفسّرون وجوهاً مختلفة لتبيين ذلك النسب أظهرها بالاعتبار أنّهم قالوا : صاهر اللّه الجنّ فوجدت الملائكة تعالى اللّه عن قولهم (1).

4 - سيادة الخرافات

إنّ الأمّة البعيدة عن تعاليم السماء ، وهداية الأنبياء يعيشون غالباً في خِضمِّ الخرافة ، ويستسلمون في مجال العقيدة إلى الأساطير والقصص الخرافية ، وكذلك كانت الأمّة العربية عصر نزول القرآن ، فقد كانت غارقة في الخرافات والأساطير ، وقد جمع « الآلوسي » تقاليدهم الإجتماعية ، وطقوسهم الدينيّة في كتابه « بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب » حيث يجد القارئ فيها تلاَّ من الأوهام والخرافات ، وقد ذكر القرآن الكريم نماذج من عقائدهم ، ونحن نشير إلى بعض ما وقفنا عليه في القرآن.

أ - كانت العرب في عصر حياة النبي قبل البعثة تحكم على بعض الأصناف من الأنعام بأحكام خاصّة تنشأ عن نيّة التكريم وقصد التحرير لها ، غير أنّ تلك الأحكام كانت تؤدِّي إلى الإضرار بالحيوان ، وتلفه وموته عن جوع وعطش ، وقد حكى سبحانه تلك الأحكام عنهم وقال : ( مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ

ص: 30


1- مجمع البيان ج 4 ص 46.

الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) ( المائدة / 103 ).

والآية تعرب من أنّهم كانوا ينسبون أحكامهم في هذه الحيوانات والأنعام الأربعة إلى اللّه سبحانه ، ولأجل ذلك وصف سبحانه تلك النسبة بالإفتراء عليه ، وثلاثة منها أعني « البحيرة » و « السائبة » و « الحامي » من الإبل ، والوصيلة من الشاة ، وقد اختلف المفسّرون في تفسير هذه الكلمات ، ولكن الجميع يشتركون في أنّ الأحكام المترتبة عليها كانت مبنية على تحريرها والعطف عليها ، ونحن نذكر تفسيراً واحداً لهذه الكلمات ، ومن أراد التبسّط والتوسّع فليرجع إلى كتب التفسير.

1 - البحيرة : هي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن ، وكان آخرها ذكراً ، شقُّوا اُذنها شقّاً واسعاً وامتنعوا من ركوبها ونحرها ، ولا تطرد عن ماء ، ولا تمنع عن مرعى ، فإذا لقيها المعيي لم يركبها.

2 - السائبة : وهي ما كانوا يسيبونه من الإبل ، فإذا نذر الرجل للقدوم من السفر أو للبرء من علّة أو ما أشبه ذلك ، قال : ناقتي سائبة ، فكانت كالبحيرة في أن لا ينتفع بها ، ولا تطرد عن ماء ولا تمنع عن مرعى.

3 - الحامي : وهو الذكر من الإبل كانت العرب إذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن ، قالوا : قد حمى ظهره ، فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى.

4 - الوصيلة : وهي في الغنم ، كانت الشاة إذا ولدت اُنثى فهي لهم ، وإذا ولدت ذكراً جعلوه لآلهتهم ، فإن ولدت ذكراً واُنثى ، قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم (1).

وقد أشار القرآن إلى أنّ الدافع لإتّباع هذه الأحكام حتّى بعد نزول الوحي هو تقليد الآباء ، وقد أشار إليه بقوله : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ

ص: 31


1- مجمع البيان ج 2 ص 352 ، ولم نذكر سائر التفاسير لاشتراك الجميع في أنّ الأحكام كانت مبتنية على تسريحها واظهار العطف لها.

قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ ) ( المائدة / 4 ).

ثمّ إنّ هذه الأحكام وإن كانت لغاية تسريحها وإظهار العطف عليها لكنّها كانت تؤدّي بالمآل إلى موتها وهلاكها عن جوع وعطش ، لأنّ تسريحها في البوادي والصحاري من دون حماية راع ولا رائد كان ينقلب إلى هلاكها.

ب - إنّ القرآن الكريم يحكي عن العرب المعاصرين لنزول الوحي خرافة أُخرى في مجال الأطعمة إذ قال سبحانه :

( وَجَعَلُوا للهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ للهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) ( الأنعام / 136 ).

والآية تحكي من أنّ المشركين كانوا يخرجون من الزرع والمواشي نصيباً لله ونصيباً للأوثان ، فما كان للأصنام لا يصل إلى اللّه ، وما كان لله فهو يصل إلى الأصنام.

وقد إختلف المفسّرون في كيفيّة هذا التقسيم الجائر فنذكر تفسيراً واحداً.

قالوا : إنّهم كانوا يزرعون لله زرعاً ، وللأصنام زرعاً ، وكان إذا زكى الزرع الذي زرعوه لله ، ولم يزك الزرع الذي زرعوه للأصنام ، جعلوا بعضه للأصنام وصرفوه إليها ، ويقولون : إنّ اللّه غني ، والأصنام أحوج ، وان زكى الزرع الذي جعلوه للأصنام ، ولم يزك الزرع الذي زرعوه لله ، لم يجعلوا منه شيئاً لله ، وقالوا : هو غنيّ ، وكانوا يقسّمون النعم فيجعلون بعضه لله ، وبعضه للأصنام ، فما كان لله أطعموه الضيفان ، وما كان للصنم أنفقوه على الصنم (1).

ج - ومن تقاليدهم : إنّه إذا ولدت الأنعام حيّاً يجعلونه للذكور ويحرمون النساء منه ، واذا ما ولد ميّتاً أشركوا النساء والرجال ، وإليه يشير قوله سبحانه :

ص: 32


1- مجمع البيان ج 2 ص 370.

( وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) ( الأنعام / 139 ).

وعلى ضوء الآية فأجنّة البحائر والسيب كانت مختصّة بالرجال إذا ولدت حيّة ، واذا ولدت ميّتةً أكله الرجال والنساء ، فما وجه هذا التقسيم غير التفكير الخرافي ؟

د - كانوا يقسّمون الأنعام إلى طوائف ، فطائفة يجعلونها لآلهتهم واوثانهم ، وطائفة يحرّمون الركوب عليها ، وهي السائبة والبحيرة والحامي ، وطائفة لا يذكرون اسم اللّه عليها.

كل ذلك تقاليد باطلة ردّها الوحي الإلهي بقوله : ( وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نَّشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) ( المائدة / 138 ).

والحجر بمعنى الحرام وهو ما خصّوه بآلهتهم ولا يطعمونه إلاّ من شاؤوا.

هذا بعض ما وقفنا عليه من تقاليد العرب الخرافية الباطلة قبل الإسلام وحين ظهوره ممّا جاء ذكره في القرآن الكريم.

* * *

5 - ثقافة قومه

يصف القرآن الكريم قوم النبي صلی اللّه علیه و آله بل القاطنين في اُمّ القرى ومن حولها بالاُمّية ويقول :

( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ ) ( الجمعة / 2 ).

وقال : ( ... لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا

ص: 33

فَقَدِ اهْتَدَوا ... ) ( آل عمران / 20 ).

وقد بلغت الاُمّيّة عند العرب إلى حد اشتهروا بذلك حتّى وصفهم أهل الكتاب بها كما يحكي عنه سبحانه بقوله :

( ... وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) ( آل عمران / 75 ).

والاُمّيّون جمع الاُمّي وهو المنسوب إلى الاُم ، قال الزجّاج : الاُمّي الذي هو على صفة اُمّة العرب ، قال عليه الصلاة والسلام : إنّا اُمّة اُمّيّة لا نكتب ولا نحسب (1).

فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرؤون والنبي صلی اللّه علیه و آله كان كذلك ، فلهذا السبب وصفه بكونه اُمّيّاً (2).

وقال البيضاوي : الاُمّي من لا يكتب ولا يقرأ.

قال ابن فارس : الاُمّي في اللّغة ، المنسوب إلى ما عليه جبلّة الناس لا يكتب فهو في أنّه لا يكتب على ما ولد عليه (3).

والزمخشري يفسّر قوله تعالى : ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ) ( البقرة / 78 ). بأنّهم لا يحسنون الكتاب فيطالعوا التوراة ويتحقّقوا ما فيها.

هذا هو معنى الاُمّي وقد أصفقت عليه أئمّة اللّغة في جميع الأعصار إلى أن جاء الدكتور عبد اللطيف الهندي فزعم للاُمّي معان اُخرى لا توافق ما اتّفقت عليه أئمّة اللّغة ، وسنذكر اراءه الساقطة في معنى « الأُمّي » عند البحث عن أوصاف النبي ، ومنها أنّه « اُمّي » فانتظر.

ص: 34


1- ايعاز إلى ما رواه البخاري في صحيحه ج 1 ص 327 عن النبي أنّه قال : إنّا اُمّة ...
2- مفاتيح الغيب ج 4 ص 309.
3- مقاييس اللغة ج 1 ص 218.

والعرب في اُمّ القرى وما حولها كانت اُمّيّة لا تقرأ ولا تكتب ، وقد نشأ النبيّ بينهم ، ويؤيّد ذلكَ ما ذكره الإمام البلاذري في « فتوح البلدان » حيث أتى بأسماء الذين كانوا عارفين بالقراءة والكتابة فما تجاوز عن سبعة عشر رجلاً في مكّة ، وعن أحد عشر نفراً في يثرب (1).

وعلى ضوء ذلك فالسائد على تلك المنطقة كانت هي الاُمّيّة المطلقة إلاّ من شذّ.

نعم ، ما ذكرنا من سيادة الاُمّيّة على العرب لا ينافي وجود الحضارة في عرب اليمن حيث كانوا على أحسن ما يكون من المدنيّة ، فقد بنوا القصور المشهورة ، وشيّدوا الحصون ، وكانت لهم مدن عظيمة ، قال في كتابه الكريم :

( لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ) ( سبأ / 15 ).

وكان لهم ملوك واقيال دوّخوا البلاد ، واستولوا على كثير من أقطار الأرض ، ولكن تلك الحضارة زالت وبادت بسيل العرم ، قال سبحانه :

( فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ ) ( سبأ / 16 و 17 ).

وأمّا بنو عدنان ومن جاورهم من عرب اليمن فقد اختلّ أمرهم وتغيّر حالهم بعد أن فرّقهم حادث سيل العرم ، فمن ذلك اليوم فشى الجهل بينهم ، وقلّ العلم فيهم ، واضاعوا صنائعهم وتشتّتوا في الأطراف والأكناف ، ووقع التنازع والتشاجر بين القبائل ، وتكاثرت البغضاء بينهم ، فلم يبق عندهم علم منزل ، ولا شريعة موروثة من نبي ، ولا العلوم كالحساب والطب ، وانحصر عملهم بما سمحت قرائحهم من الشعر والخطب ، أو ما حفظوه من أنسابهم وايامهم ، أو ما احتاجوا

ص: 35


1- فتوح البلدان ص 457.

إليه في دنياهم من الأنواء والنجوم وصنع آلات الحرب وغير ذلك (1).

فالمثقّف عندهم من جادت قريحته بالشعر ، أو قدر على إلقاء الخطب والوصايا ارتجالاً ، أو من عرف أنساب الناس ، أو عرف أخبار الاُمم وبالأخص أيام العرب.

نعم كان عند بعض العرب علم الفراسة والكهانة والعرافة ، ويراد من الأوّل من يستدل بهيئة الإنسان واشكاله والوانه واقواله على أخلاقه وسجاياه وفضائله ورذائله ، ولعلّه إليه يشير قوله سبحانه :

( تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ ) ( البقرة / 273 ).

( وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ) ( محمد / 30 ).

ويراد من الثاني من يتنبّأ بما سيقع من الحوادث في الأرض.

والعرّافة هو قسم من الكهانة ، لكنّها تختصّ بالاُمور الماضية وكأنّه يستدل ببعض الحوادث الغابرة على الحوادث القادمة.

هذا هو عرض خاطف عن ثقافة قوم النبي عصر نزول القرآن أتينا به ليكون دليلاً واضحاً على انقطاع شريعة النبي عن تعاليم بيئته وتقاليدها.

والقرآن الكريم يصف ذلك العصر في غير واحد من الآيات بالجاهليّة ، يقول سبحانه : ( أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ) ( المائدة / 50 ).

ويقول سبحانه : ( يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ ) ( آل عمران / 154 ).

ويقول سبحانه : ( وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ) ( الأحزاب / 33 ).

ويقول تعالى : ( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ ) ( الفتح / 26 ).

ص: 36


1- بلوغ الارب ج 3 ص 80 - 81 ، ومن أراد أن يقف على ثقافة العرب عامّة ، قحطانيهم وعدنانيهم ، فليرجع إلى ذلك الكتاب.

وأغلب المفسّرين يفسّرون الجاهليّة بفساد العقيدة في جانب الدين فقط ، ولكنّه تخصيص بلا جهة ، فكان القوم يفقدون العلم الناجع كما يفقدون الدين الصحيح.

6 - الإنهيار الخلقي

طبيعة العيش في الصحراء تفرض على الإنسان نزاهة خاصّة في الخلق ، تصون نفسه عن الإنهيار الخلقي ، ولأجل ذلك نرى أنّ الفساد في المناطق المتحضّرة أكثر منها في البدو وسكّان الصحاري.

وقد كان من المترقّب من سكنة أُمّ القرى وما حولها النزاهة عن المجون والفساد ، غير أنّ في الآيات القرآنية أخباراً عن شيوع الفساد الخلقي بينهم.

فهذا القرآن الكريم يركّز على النهي عن الفحشاء ظاهره وباطنه ، والفحشاء وإن فسّر بما عظم قبحه من الأفعال والأقوال الذميمة ولكنها منصرفة إلى الزنا وكناية عنها ، قال سبحانه :

( إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ) ( النساء / 19 ).

وقال سبحانه : ( وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ ) ( النساء / 15 ).

وقال سبحانه : ( وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ) ( الطلاق / 1 ).

وكل هذا يعرف عن شيوع هذا العمل الشنيع المنكر بينهم.

فإنّنا نرى أنّ اللّه سبحانه ينهي عن إتخاذ الخدن ويقول :

( وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ... ) ( النساء / 25 ).

ويقرب منها قوله في سورة المائدة ، الآية 5.

و « الأخدان » جمع « خدن » وهو يطلق على الصاحب والصاحبة بأن يكون

ص: 37

للمرأة صاحب أو خليل يزني بها سرّاً ، وهكذا في جانب الرجل ، فالخدن يطلق على الذكر والأُنثى ، وكان الزنا في الجاهلية على قسمين : سرّ وعلانية ، عامّ وخاصّ.

فالخاص السري هو أن يكون للمرأة خدن يزني بها سرّاً ، ولا تبذل نفسها لكلّ أحد.

والعام الجهري هو المراد بالسفاح كما قال ابن عبّاس وهو البغاء.

وكان البغاء من الإماء وكنّ ينصبن الرايات الحمر لتعرف منازلهن وبيوتهن.

روى ابن عبّاس : إنّ أهل الجاهلية كانوا يحرّمون ما ظهر من الزنا ، ويقولون : إنّه لوم ، ويستحلّون ما خفي ويقولون : لا بأس به ، ولتحريم القسمين يشير قوله سبحانه :

( وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) ( الأنعام / 151 ) (1).

وممّا يعرب عن رسوخ الإنحلال الخلقي فيهم ما نقله « تميم بن جراشة » وهو ثقفي ، قال قدمت على النبي صلی اللّه علیه و آله في وفد ثقيف ، فأسلمنا وسألناه أن يكتب لنا كتاباً فيه شروط ، فقال : اكتبوا ما بدا لكم ، ثمّ ائتوني به ، فسألناه في كتابه أن يحلّ لنا الربا والزنا ، فأبى عليّ رضی اللّه عنه أن يكتب لنا ، فسألناه خالد بن سعيد بن العاص ، فقال له عليّ : تدري ما تكتب ؟ قال : اكتب ما قالوا ورسول اللّه أولى بأمره ، فذهبنا بالكتاب إلى رسول اللّه ، فقال للقارئ إقرأ ، فلمّا انتهى إلى الربا ، فقال : ضع يدي عليها في الكتاب ، فوضع يده ، فقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا ... ) ( البقرة / 278 ). ثمّ محاها ، وألقيت عليها السكينة فما راجعناه ، فلمّا بلغ الزنا ، وضع يده عليها ، وقال :

ص: 38


1- المنار ج 5 ص 22 ، وزاد في المصدر قوله : وهذان النوعان معروفان الآن في بلاد الافرنج والبلاد التي تقلّد الافرنج في شرور مدنيّتهم كمصر ووالاستانة وبعض بلاد الهند ، ويسمّي المصريون الخدن الرفيق ، ومن هؤلاء الافرنج والمتفرنجون من هم كأهل الجاهلية يستحسنون الزنا السرّي ، ويستقبحون الجهري.

( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً ) ( الاسراء / 32 ).

ثمّ محاها وأمر بكتابنا أن ينسخ لنا (1).

وممّا يدل على الإنحلال الخلقي في أمر النساء قوله سبحانه :

( وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ... ) ( النور / 33 ).

فالآية تعرب عن الإنهيار الخلقي الذي كان يعاني منه بعضهم حتّى بعد هجرة النبي صلی اللّه علیه و آله إلى المدينة ، وقد رووا : إنّ عبد اللّه بن أُبي كان له ستّ جوارٍ كان يكرههنّ على الكسب عن طريق الزنا ، فلمّا نزل تحريم الزنا ، أتين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فشكين إليه ، فنزلت الآية (2).

7 - معاقرة الخمور وإرتياد نواديها

كان الاستهتار بمعاقرة الخمور رائجاً بين العرب منذ زمن بعيد ، وقد بلغ شغفهم بها حتّى أنّهم جعلوها أحد الأطيبين مع أنّ النبي الأكرم كان قد حرّم الخمر حتّى قبل هجرته إلى المدينة ، ولكنّه لم يتحقّق ما أمر به إلاّ بعد مضي سنوات من هجرته ، ونزول آيات مختلفة الاُسلوب متنوّعة البيان وإليك بيان هذا التدرّج :

1 - قال سبحانه : ( وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) ( النحل / 67 ) والآية مكّيّة نزلت في ظروف قاسية لا تتحمّل إنذاراً أكثر وأشد من هذا ، ولهذا اكتفى فيه بعد اتّخاذ السكر ضد الرزق الحسن.

ص: 39


1- اُسد الغابة ج 1 ص 216 ترجمة تميم بن جراشة.
2- مجمع البيان ج 4 ص 141.

2 - قال سبحانه : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ) ( البقرة / 219 ).

فالآية تشير إلى أنّه لو كان هناك لذّة وطرب لشارب الخمر ، أو مال للاعب الميسر حيث يفوز به من غير كدّ ولا مشقّة ، ولكن إثمهما أكبر من نفعهما.

فلأجل ذلك يجب ترك النفع القليل في مقابل الضرر الكبير ، والآية مدنيّة كافية في التحريم ، وذلك لأنّها تصرّح بوجود الإثم في الخمر والميسر ، وقد حرّم الوحي الإلهي الإثم على وجه القطع واليقين قبل هجرة النبي ، قال سبحانه :

( إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ ) ( الأعراف / 33 ).

وأي بيان أوضح لتحريم الخمر إذا قرنت الآيتان : الواحدة إلى الأُخرى ؟ فالآية الأُولى تحقّق الصغرى وهو أنّ الخمر إثم ، والآية الثانية تصرّح بالكبرى ، وهي أنّ اللّه سبحانه حرّم الإثم ، فيستنتج منهما أنّه سبحانه حرّم الخمر.

والعجب انّ القوم ( مع أَنَّ الآية الثانية التي تحرّم الإثم على وجه الحتم والبت نزلت بمكّة ) ، لم يتنزّهوا من هذا العمل المزيل للعقل ، والمضاد للكرامة الإنسانية ، فكانوا يشربون الخمر في نواديهم حتّى وافاهم الوحي الإلهي بتحريم الصلاة وهم في حال السكر ، إذ قال سبحانه :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) ( النساء / 43 ).

وهذه الآيات الثلاث التي تعرّفت عليها تلقّاها بعض الصحابة بأنّها ليست بياناً وافياً ، فظلّ يترصّد البيان الأوفى حتّى وافى الوحي الإلهي ، وقال سبحانه : ( إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) ؟ ( المائدة / 90 و 91 ).

ص: 40

ولمّا أخبر النبي عن نزول الوحي وتلا الآيتين إرتفعت أصواتهم بقولهم : اتنهينا ، اتنهينا.

وكلّ هذا يعرف عن رسوخ هذه العادة الشنيعة وهذا العمل القبيح في المجتمع العربي آنذاك إلى درجة انّ النبي صلی اللّه علیه و آله لم يستطع - تحت ضغط الظروف - أن يقطع مادة الفساد منذ هبوطه أرض المدينة دفعة واحدة ، بل تدرّج في تحقيق التحريم ، وترسيخه في أذهانهم ونفوسهم.

رووا أصحاب السنن والمسانيد أنّه لمّا نزل تحريم الخمر قال عمر : اللّهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً ، فنزلت الآية التي في البقرة : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ ) قال فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللّهمّ بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً ، فنزلت الآية التي في سورة النساء : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى ) فكان منادي الرسول صلی اللّه علیه و آله إذا اُقيمت الصلاة ينادي ألا يقربنّ الصلاة سكران ، فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللّهمّ بيّن لنا بياناً شافياً ، فنزلت : ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) .

قال عمر : اتنهينا ، اتنهينا (1).

ويظهر ممّا رواه ابن هشام عن بعض أهل العلم : انّ نهي الرسول عن الخمر كان مشهوراً عندما كان مقيماً بمكّة بين ظهراني قريش ، وخرج الأعشى إلى رسول اللّه يريد الإسلام ومعه قصيدته المعروفة في مدح النبي التي مستهلّها :

الم تغتمض عينك ليلة أرمدا *** وبتّ كما بات السليم مسهّدا

وما ذاك من عشق النساء وإنّما *** تناسيت قبل اليوم صحبة مهددا

ص: 41


1- سنن أبي داود ج 2 ص 128 ، مسند أحمد ج 1 ص 153 ، سنن النسائي ج 8 ص 187 ، مستدرك الحاكم ج 2 ص 278 ، إلى غير ذلك من المصادر.

إلى أن قال :

فإيّاك والميتات لاتقربنها *** لا تأخذن سهماً حديداً لتفصدا

و لاتقربنَّ حرّة كان سرها *** عليك حراماً فانكحن أو تأبّدا (1)

فلمّا كان بمكّة أو قريباً منها إعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره فأخبره أنّه يريد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله للسلم فقال له : يا أبا بصير إنّه حرّم الزنا ، فقال الأعشى : واللّه إنّ ذلك لأمر ما لي فيه من ارب ، فقال له يا أبا بصير :

فإنّه يحرّم الخمر ، فقال الأعشى :

أمّا هذه فو اللّه إنّ في النفس منها لعلالات ، ولكنّي منصرف فاتروى منها عامي هذا ، ثم آتيه فاُسلم ، فانصرف فمات في عامه هذا ، ولم يعد إلى رسول اللّه (2).

وببالي انّه جاء في بعض المصادر أنّه قيل له : إنّه يحرّم الأطيبين والمراد بهما الخمر والزنا ، وقد عرفت أنّه مع ما رأى من نور النبوّة ودخل عليه من بصيص الإيمان لم يتحمّل ترك الخمر ، فعاد ليتروّى منها ، ليعود بعد عام إلى المدينة ، ولكن وافاه الأجل قبل أن يسلم.

وهذا مَثل آخر يعرب عن ترسّخ هذه العادة القبيحة في ذلك المجتمع.

8 - وأد البنات

أوّل من لطّخ يده بدم البنات البريئات هم العرب الجاهليّون ، فقد كانوا يئدون بناتهم لأعذار مختلفة واهية ، فتارة يتذرّعون بخشية الإملاق ، والاُخرى يتجنّون بحجّة

ص: 42


1- الأرمد : الذي يشتكي عينيه من الرمد ، والسليم : الملدوغ ، والمسهّد : الذي منع من النوم ، والمهدد - على وزن معلل - : اسم امرأة ، وتأبّد : أي تعزّب وابتعد عن النساء.
2- السيرة النبوية ج 1 ص 386.

الاجتناب عن العار ، وقد حكى سبحانه عقيدة العرب في بناتهم ووأدهنّ في آيات نذكر ما يلي :

( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) ( النحل / 58 و 59 ).

والآية تصوّر احساس القوم وإنفعالهم عندما كان أحدهم يبشّر بولادة أُنثى له ، فكان يتجهّم وجهه ويتغيّر إلى السواد ، ويظهر فيه أثر الحزن والكراهة ، والقوم يكرهون الاُنثى مع أنّهم جعلوها لله سبحانه (1) ، ثمّ لم يزل الحزن يتزايد فيمتلئ الشخص غيظاً ، وعند ذلك يستخفي من القوم الذي يستخبرونه عمّا ولد له ، إستنكافاً منه ، وخجلاً ممّا بشّر به من الاُنثى ، ثمّ هو ينكر في أمر البنت المولودة له أيحفظها على ذل وهوان ، أم يخفيها في التراب ، ويدفنها حيّة وهذا هو الوأد ( أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) أي في قتل البنات البريئات المظلومات.

ثمّ إنّه سبحانه يحارب بشدّة هذا العمل الإجرامي في بعض الآيات ويقول :

( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ) ( الإسراء / 31 ).

فاللّه سبحانه هو المتكفّل برزقهم ورزق أولادهم وقتلهم خطأ عظيم عند اللّه.

وقال سبحانه : ( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) ( الأنعام / 151 )

ويؤكّد القرآن على تحريم قتل هذه البنات المظلومات بأنّ المؤودة سيسأل منها يوم القيامة ، قال سبحانه : ( وَإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ) ( التكوير / 8 ).

ص: 43


1- إشارة إلى قوله سبحانه : ( أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ) ( النجم / 21 و 22 ).

وقد ذكر أصحاب السير بعض الدوافع التي دفعت العرب إلى اتّخاذ مثل هذا الموقف الظالم بشأن تلك البريئات لا يسع المجال لنقلها ، ولكن يظهر ممّا نقله صعصعة بن ناجية - جد الفرزدق - : إنّ ذلك العمل الإجرامي كان شائعاً ورائجاً في غير واحدة من القبائل آنذاك ، وإليك البيان :

إنّ صعصعة بن ناجية بن عقال كان يفدّي المؤودة من القتل ، ولمّا أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : يا رسول اللّه إنّي كنت أعمل عملاً في الجاهلية ، أفينبغي ذلك اليوم ؟ قال : وما عملك ؟ فقال : إنّه حضر ولادة امرأة من العرب بنتاً ، فأراد أبوها أن يئدها ، قال فقلت له : أتبيعها ؟ قال : وهل تبيع العرب أولادها ؟ قال : قلت إنّما أشتري حياتها ولا أشتري رقّها ، فاشتريتها منه بناقتين عشراوين وجمل ، وقد صارت لي سُنَّة في العرب على أن أشتري ما يئدونه بذلك فعندي إلى هذه الغاية ثمانون ومائتا مؤودة وقد أنقذتها.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لك أجره إذ منّ اللّه عليك بالإسلام (1).

وقد ذكر الفرزدق احياء جدّه للمؤودات في كثير من شعره كما قال :

ومنّا الذي منع الوائدات *** وأحيى الوئيد فلم يؤدد (2)

ويعرب عن شيوع هذه العادة الوحشيّة والمروّعة قوله سبحانه :

( وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ) ( الأنعام / 137 ).

وكذا قوله : ( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) ( الأنعام / 140 ).

ص: 44


1- بلوغ الارب ج 3 ص 44.
2- المصدر نفسه.

9 - أكل الخبائث من الدماء والحشرات

كانت العرب تأكل لحوم الأنعام وغيرها من الحيوانات كالفأر والضب الوزغ ، وتأكل من الأنعام ما قتلته بذبح ونحوه ، وتأكل الميتة بجميع أقسامها أعني المنخنقة ، والموقوذة ، والمتردّية والنطيحة ، وما أكل السبع ، وكانوا يملؤون الأمعاء من الدم ويشوونه ويطعمونه الضيف ، وكانوا إذا أجدبوا جرحوا إبلهم بالنصال وشربوا ما يسيل منها من الدماء.

هذا ورغم أنّه مضى على ظهور التشريع الإسلامي إلى الآن أربعة عشر قرناً كثيراً من الاُمم غير المسلمة تأكل أصناف الحيوانات حتّى الكلب والهر ، بل والديدان والأصداف ، وقد إتّخذ الإسلام بين هذا وذاك طريقاً وسطاً ، فأباح من اللحوم ما تستطيبه الطباع المعتدلة من بني الإنسان ، فحلّل من البهائم الضأن والمعز والبقر والإبل ، وكرّه أكل لحوم الفرس والحمار ، وحلّل من الطيور غير ذات الجوارح ممّا له حوصلة ودفيف ولا مخلب له ، كما حلّل من لحوم البحر بعض أنواع السمك ، واشترط في كل واحد من هذه اللحوم نوعاً من التذكية.

والإمعان في الآية التالية يقودنا إلى أنّ العرب كانت تفقد نظام التغذية ، أو كانت تتغذّى من كلّ ما وقعت عليه يدها من اللحوم ، كما أنّها كانت تفقد الطريقة الصحيحة لذبح الحيوان ، فكانوا يقتلونه بالتعذيب بدل ذبحه ، وإليه يشير قوله سبحانه :

( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالمُنْخَنِقَةُ وَالمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ) ( المائدة / 3 ).

فقد كانوا ينتفعون من الميتة والدم ولحم الخنزير والمذبوح باسم الأصنام والأوثان.

كما كانوا يستفيدون من « المنخنقة » وهي التي تدخل رأسها بين شعبتين من

ص: 45

شجرة فتختنق فتموت أو تخنق بحبل الصائد ، « والموقوذة » وهي التي تضرب حتّى تموت ، « والمترديّة » وهي التي تقع من جبل أو مكان عال أو تقع في بئر ، « والنطيحة » وهي التي ينطحها غيرها فتموت.

10 - التقسيم بالأزلام

كان التقسيم بالأزلام ميسّراً رائجاً بينهم ، وكان لهذا العمل صبغة الدين ، وقد إختلفوا في تفسيره على قولين :

1 - قالوا : المراد طلب قسم الأرزاق بالقداح التي كانوا يتفائلون بها في أسفارهم ، وابتداء أُمورهم ، وهي سهام كانت في الجاهليّة مكتوب على بعضها : « أمرني ربّي » ، وعلى بعضها « نهاني ربّي » ، وبعضها غفل لم يكتب عليه شيء ، فإذا أرادوا سفراً أو أمراً يهتمّون به ، ضربوا على تلك القداح ، فإن خرج السهم الذي عليه « أمرني ربّي » ، مضى الرجل في حاجته ، وإن خرج الذي عليه « نهاني ربّي » لم يمض ، وإن خرج الذي ليس عليه شيء أعاد.

2 - روى علي بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين كيفيّة التقسيم بالأزلام بشكل آخر ، فقال :

إنّ الأزلام عشرة ، سبعة لها انصباء وثلاثة لا انصباء لها ، فالتي لها انصباء : الفذ ، التوأم ، المسبل ، النافس ، الحلس ، الرقيب ، المعلى. فالفذ له سهم ، والتوأم له سهمان ، والمسبل له ثلاثة أسهم ، والنافس له أربعة أسهم ، والحلس له خمسة أسهم ، والرقيب له ستّة أسهم ، والمعلى له سبعة أسهم.

والتي لا انصباء لها : السفيح والمنيح والوغد.

وكانوا يعمدون إلى الجزور فيجزّئونه أجزاء ، ثمّ يجتمعون عليه فيخرجون السهام ، ويدفعونه إلى رجل ، وثمن الجزور على من تخرج له « التي لا انصباء لها »

ص: 46

وهو القمار ، فحرّمه اللّه تعالى (1).

والتفسير الثاني أنسب لكون البحث في الآية عن اللحوم المحرّمة.

11 - النسيء في الأشهر الحرم

لقد شاع في الألسن انّ العرب لمّا كانوا أصحاب غارات وحروب وكان استمرار الحروب والغارات مانعاً عن إدارة شؤون المعاش ، عمدوا إلى تحريم القتال والحرب في الأشهر الأربعة المعروفة بالأشهر الحرم أعني : « رجب وذي القعدة وذي الحجة ومحرّم ».

والظاهر من بعض الآيات أنّ التحريم هذا كان مستنداً إلى تشريع سماوي ، كما هو المستفاد من قول اللّه تعالى :

( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ) ( التوبة / 36 ).

فإنّ قوله ( ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) إشارة إلى أنّه جزء من الدّين القيّم لا من طقوس العرب الجاهلي ، ولعلّه كان سنّة من سنن النبي إبراهيم ورثتها عنه العرب.

وعلى كلّ تقدير فقد كان العرب يتدخّلون في هذا التشريع الإلهي فيؤخّرون الحرمة من الشهر الحرام إلى بعض الأشهر غير المحرّمة.

وبعبارة اُخرى كانوا يؤخّرون الحرمة ، ولا يبطلونها برفعها من أساسها واصلها حفاظاً على السنّة الموروثة عن أسلافهم عن النبي إبراهيم علیه السلام .

فمثلاً كانوا يؤخّرون تحريم محرّم إلى صفر ، فيحرّمون الحرب في صفر

ص: 47


1- مجمع البيان ج 2 ص 158 وما أشبه التقسيم بالأزلام بالعمل المعروف في عصرنا ب « اليانصيب الوطني ».

ويستحلّونها في محرّم فيمكثون على ذلك زماناً ثمّ يزول التحريم عن صفر ويعود إلى محرّم ، وهذا هو المعنى بالنسيء ( أي التأخير ).

وكان الدافع وراء هذا النسيء هو انّهم أصحاب حروب وغارات ، فكان يشقّ عليهم أن يمتنعوا عن القتال ثلاثة أشهر متوالية وهي : ذو القعدة وذو الحجة ومحرّم ، ولا يغزون فيها ، ولهذا كانوا يؤخّرون تحريم الحرب في محرّم إلى شهر صفر ، قال سبحانه :

( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) ( التوبة / 37 ).

روى أهل السير أنّه صلی اللّه علیه و آله قال في خطبة حجّة الوداع :

« ألا وانّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ، ذو القعدة وذو الحجّة ومحرّم ورجب مضربين جمادى وشعبان » (1).

والحديث يعرب عن شكل آخر للنسيء غير ما ذكرناه فإنّ ما ذكرناه كان مختصاً بتأخير حكم الحرب من محرّم إلى صفر ، ولكن النسيء المستفاد من الحديث على وجه آخر وهو انّ المشركين كانوا يحجّون في كل شهر عامين فحجّوا في ذي الحجة عامين ، وحجّوا في محرّم عامين ، ثمّ حجوا في صفر عامين ، وكذا في بقيّة الشهور اللاحقة حتّى إذا وافقت الحجّ التي قبل حجّة الوداع في ذي القعدة ثمّ حجّ النبي صلی اللّه علیه و آله في العام القادم حجّة الوداع ، فوافقت في ذي الحجة ، فعند ذلك قال النبي صلی اللّه علیه و آله : « ألا انّ الزمان قد استدار كهيئته ».

ص: 48


1- مجمع البيان ج 3 ص 22.

12 - الربا ذلك الاستغلال الجائر

كان العرب الجاهليّون يرون البيع والربا متماثلين ، ويقولون : « إنّما البيع مثل الربا » فيضفون الشرعيّة على الربا كإضفائها على البيع ، ولكن شتّان ما بين البيع والربا ، فإنّ الثاني ينشر القسوة والخسارة ، ويورث البغض والعداوة ، ويفسد الأمن والاستقرار ، ويهيء النفوس للانتقام بأية وسيلة ممكنة ويدعو إلى الفرقة والاختلاف سواء كان الربا مأخوذاً من قبل الفرد أو مأخوذ من جانب الدولة.

وفي الثاني من المفاسد ما لا يخفى إذ أدنى ما يترتّب عليه تكديس الثروة العامّة ، وتراكمها في جانب ، وتفشّي الفقر والحرمان في الجانب الآخر ، وظهور الهوّة السحيقة بين المعسرين والموسيرين بما لا يسدّه شيء.

ولسنا هنا بصدد بيان هذه المفاسد والمساوئ ، لكن الهدف هو الإشارة إلى أنّ الربا كان من دعائم الاقتصاد الجاهلي ، والقرآن نزل يوبّخ العرب على ذلك بوجه لا مثيل له ، ويقول سبحانه :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) ( البقرة / 278 و 279 ).

ويقول سبحانه : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) ( البقرة / 275 ).

والآية تشبّه آكل الربا بالممسوس المجنون ، فكما أنّه لأجل اختلال قوّته المميّزة لا يفرّق بين الحسن والقبح ، والنافع والضار ، والخير والشر ، فهكذا حال المرابي عند أخذ الربا ، فلأجل ذلك عاد لا يفرّق بين الربا والبيع ، ويقول : ( إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) مع أنّ الذي تدعو إليه الفطرة وتقوم عليه الحياة الإجتماعية للإنسان ، هو أن يعامل بمعاوضة ما عنده من المال الذي يستغني عنه ، بما عند غيره من المال الذي يحتاج إليه.

ص: 49

وأمّا إعطاء المال وأخذ ما يماثله بعينه ، مع زيادة فهذا شيء يخالف قضاء الفطرة وأساس المعيشة ، فإنّ ذلك يؤدِّي من جانب المرابي إلى إختلاس مال المدين ، وتجمّعه عند المرابي وهذا المال لا يزال ينمو ويزيد ، ولا ينمو إلاّ من مال الغير ، فهو في الانتقاص والانفصال من جانب ، وفي الزيادة والانضمام من جانب آخر ، ونتيجة ذلك هو ظهور الاختلاف الطبقي الهائل الذي يؤول إلى انقسام المجتمع إلى طبقتين : طبقة ثريّة تملك كل شيء ، وطبقة فقيرة تفقد كل شيء ، والأُولى تعاني من البطنة ، والثانية تتضرر من السغب.

خاتمة المطاف

اشارة

ونختم البحث بما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره من أنّه قدم أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد قيس - وهما من الخزرج - وكان بين الأوس والخزرج حرب قد بغوا فيها دهوراً طويلة ، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار ، وكان آخر حرب بينهم يوم بعاث ، وكانت الأوس على الخزرج ، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكّة في عمرة رجب يسألون الحلف على الأوس ، وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعُتبة بن ربيعة ، فنزل عليه فقال له : إنّه كان بيننا وبين قومنا حرب وقد جئناكم نطلب الحلف عليهم. فقال عتبة : بعدت دارنا عن داركم ولنا شغل لا نتفرّغ لشيء.

قال : وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم ؟

قال له عتبة : خرج فينا رجل يدّعي أنّه « رسول اللّه » سفَّه أحلامَنا وسبَّ آلهتنا ، وأفسد شبابنا ، وفرّق جماعتنا.

فقال له أسعد : من هو منكم ؟

قال : ابن عبد اللّه بن عبد المطلب من أوسطنا شرفاً وأعظمنا بيتاً.

وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم : النضير وقريظة وقينقاع : انّ هذا أوان نبيّ يخرج بمكّة يكون مهجره المدينة لنقتلنّكم به يا معشر العرب.

ص: 50

فلمّا سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمعه من اليهود.

فقال : فأين هو ؟ قال : جالس في الحجر وإنّهم لا يخرجون من شعبهم إلاّ في الموسم فلا تسمع منه ولا تكلَّمه فإنّه ساحر يسحرك بكلامه ، وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب.

فقال له أسعد : فكيف أصنع وأنا معتمر ؟ لابدّ أن أطوف بالبيت ، فقال له : ضع في أُذنيك القطن.

فدخل أسعد المسجد وقد حشّى اُذنيه من القطن ، فطاف بالبيت ورسوله اللّه صلی اللّه علیه و آله جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم فنظر إليه فجأة.

فلمّا كان الشوط الثاني قال في نفسه : ما أجد أجهل منّي أيكون مثل هذا الحديث بمكّة فلا أعرفه حتّى أرجع إلى قومي فأخبرهم ، ثمّ أخذ القطن من اُذنيه ورمى به ، وقال لرسول اللّه : « أنعم صباحاً » فرفع رسول اللّه رأسه إليه وقال : قد أبدلنا اللّه به ما هو أحسن من هذا ، تحيّة أهل الجنّة : السلام عليكم.

فقال أسعد : إنّ عهدي بهذا لقريب ، إلى ما تدعو يا محمّد ؟

فقال صلی اللّه علیه و آله : إلى شهادة اَن لاَ إلَه إلاّ اللّه وإنّي رسولُ اللّه وأدعوكم :

1 - أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا.

2 - وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا.

3 - وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ.

4 - وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.

5 - وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.

6 - وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ.

7 - وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالمِيزَانَ بِالْقِسْطِ.

ص: 51

8 - لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا.

9 - وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى.

10 - وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( الأنعام / 151 و 152 ).

فلمّا سمع أسعد هذا قال : أشهد أنْ لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له وإنّك رسول اللّه ، يا رسول اللّه بأبي أنت وأُمّي ، أنا من أهل يثرب من الخزرج ، بيننا وبين إخواننا من الأوس حبال مقطوعة ، فإن وصلها اللّه بك ، فلا أحد أعزّ منك ، ومعي رجل من قومي فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن ينعم اللّه لنا أمرنا فيه ، واللّه يا رسول اللّه لقد كنّا نسمع من اليهود خبرك ، كانوا يبشّروننا بمخرجك ويخبروننا بصفتك وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك ، وعندنا مقامك ، فقد أعلمنا اليهود ذلك ، فالحمد لله الذي ساقني إليك ، واللّه ما جئت إلاّ لنطلب الحلف على قومنا ، وقد آتانا اللّه بأفضل ممّا أتيت له ... (1).

إنّ هذا النص التاريخي يدفعنا إلى القول بأنّ رئيس الخزرج كان قد وقف على داء قومه العيّاء ، ودوائه الناجع ، وإنّ قومه لن يسعدوا أبداً بالتحالف مع هذا وذاك وشن الغارات وإن انتصروا على الأوس ، وإنّما يسعدون إذا رجعوا إلى مكارم الأخلاق ، وتحلّوا بفضائلها التي جاءت أُصولها في هاتين الآيتين اللتين تلاهما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حجر إسماعيل.

عرف وافد الخزرج على أنّ مجتمع يثرب ومن والاه قد أشرفوا على الدمار والإنهيار ، لأجل أنّهم غارقين في غمرات الشرك ، ووأد البنات ، واقتراف الفواحش ، وقتل النفس المحترمة ، وأكل مال اليتيم ، وبخس الأموال عند الكيل والتوزين ، وترك العدل والقسط في القول والعمل ، ونقض عهود اللّه إلى غير ذلك من الأعمال السيئة فلا يصلحهم إلاّ إذا خرجوا عن شراك هذه المهالك والموبقات.

ص: 52


1- أعلام الورى بأعلام الهدى ، ص 57 ، وللقصة ذيل جدير بالمطالعة وقد أخذنا منها موضع الحاجة.

فخرج إلى يثرب ومعه مبعوث من قبل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أعني « مُصعبَ بن عُمير » فبشّر أهل يثرب بما عرف من الحقّ ، وصار ذلك تمهيداً لقدوم الرسول الأكرم إلى بلده ، بعد ما بعثوا وفوداً إلى مكّة ليتعرّفوا على رسول اللّه ويبايعوه على ما هو مذكور في السيرة والتاريخ.

فنقول : كان هذا هو موطن النبي ودار ولادته وهذه هي ثقافة قومه وحضارة بيئته ، وهذه صفاتهم وعاداتهم وتقاليدهم ، وهذه هي علومهم ومعارفهم ، حروبهم وغاراتهم ، عطفهم وحنانهم ، كل ذلك يعرب عن إنحطاط حضاري ، وإنحلال خلقي ، كاد أن يؤدي بهم إلى الهلاك والدمار لو لا أن شاء اللّه حياتهم الجديدة وميلادهم الحديث.

وأين هذا ممّا جاء به القرآن الكريم والسنّة النبويّة من الدعوة إلى التوحيد ، ورفض الأصنام والأوثان ، وحرمة النفوس ، والأعراض والأموال ، والدعوة إلى العلم ، والقراءة والكتابة ، والحث على العدل والقسط في القول والعمل ، والتجنّب عن الدعارة والفحشاء ، ومعاقرة الخمر والميسر ، فلو دلّ ذلك على شيء فإنّما يدل على أنّ ما جاء به من الأُصول لا يمتّ إلى بيئته بصلة.

هذا ما في الذكر الحكيم حول الوضع الإجتماعي والثقافي والعقائدي والعسكري للعرب في العصر الجاهلي وما كانوا عليه من حيرة وضلال ، وسقوط وانهيار ، فهلمّ معي ندرس وضع العرب الجاهلي عن طريق آخر وهو الإمعان في كلمات الإمام أمير المؤمنين عليّ علیه السلام الذي عاين الوضع الجاهلي بأُمّ عينيه ، فقد قام الإمام في خطبه ورسائله وقصار كلماته ببيان أحوال العرب قبل البعثة ، وما كان يسودهم من الوضع المؤسف ، وبما أنّ الإمام هو الصادق المصدّق ، نقتطف من كلامه في مجال الخطب والرسائل والكلم القصار ما يمتّ إلى الموضوع بصلة ، وفي ذلك غنى وكفاية لمن أراد الحقّ :

ص: 53

أ - الفوضويّة العقائديّة

1 - « وَأَهْلُ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقةٌ ، وَأهْواءٌ مُنتَشِرَةٌ ، وَطَرائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ ، بَيْنَ مُشَبِّهٍ للهِ بِخَلْقِهِ ، اَوْ مُلْحِدٍ فِي اسْمِهِ اَوْ مُشِيرٍ إلَى غَيْرِهِ ، فَهَدَاهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلاَلَةِ وَاَنْقَذَهُمْ بِمَكَانِهِ مِنَ الجَهَالَةِ » (1).

2 - « بَعَثَهُ والنَّاسُ ضُلاَّلٌ فِي حَيْرَةٍ ، وَحَاطِبُونَ فِي فِتْنَةٍ ، قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الأَهْوَاءُ ، واسْتَزَلَّتْهُمُ الكِبْرِيَاءُ ، واسْتَخَفَّتْهُمُ الجَاهِلِيَّةُ الجَهْلاَءُ ، حَيَارَى فِي زَلْزَالٍ مِنَ الأَمْرِ ، وَبَلاَء مِنَ الجَهْلِ فَبَالَغَ صلی اللّه علیه و آله فِي النَّصِيْحَةِ ومضَى عَلَى الطَّرِيقَةِ وَدَعَا اِلَى الحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ » (2).

3 - « والنَّاسُ فِي فِتَنٍ انْجَزَمَ فِيْهَا حَبْلُ الدِّينِ ، وتزَعْزَعَتْ سَوَارِي اليَقِينِ ، وَاخْتَلَفَ النَّجْرُ ، وتشَتَّتَ الأَمْرُ ، وَضَاقَ المَخْرَجُ ، وَعَمِيَ المَصْدَرُ ، فَالهُدَى خَامِلٌ ، وَالعَمَى شَامِلٌ ، عُصِيَ الرَّحْمنُ ، وَنُصِرَ الشَّيْطَانُ ، وَخُذِلَ الاِيمَانُ ، فَانْهَارَتْ دَعَائِمُهُ ، وتنَكَّرَتْ مَعَالِمُهُ ، وَدَرَسَتْ سُبُلُهُ ، وَعَفَتْ شُرُكُهُ. اَطَاعُوا الشَّيْطَانَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَهُ وَوَرَدُوا مَنَاهِلَهُ ، بِهِمْ سَارَتْ اَعْلاَمُهُ ، وقامَ لِوَاؤُهُ. فِي فِتَنٍ دَاسَتْهُمْ بِاَخْفَافِهَا ، وَوَطِئَتْهُمْ بِاَظْلاَفِهَا ، وقامَتْ عَلَى سَنَابِكِهَا ، فَهُمْ فِيْهَا تَائِهُونَ ، حَائِرُونَ ، جَاهِلُونَ ، مَفْتُونُونَ ، في خَيْرِ دَارٍ وَشَرِّ جِيْرَانٍ ، نَوْمُهُمْ سُهُودٌ ، وَكُحْلُهُمْ دُمُوعٌ ، بِاَرْض عَالِمِهَا مُلْجَمٌ ، وَجَاهِلُهَا مُكْرَمٌ » (3).

4 - « واشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورسُولُهُ ، ابْتَعَثَهُ والنَّاسُ يَضْرِبُونَ فِي غَمْرَةٍ ، وَيَمُوجُونَ فِي حَيْرَةٍ ، قَدْ قَادَتْهُمْ اَزِمَّةُ الحَيْنِ ، واسْتَغْلَقَتْ عَلَى اَفْئِدَتِهِمْ اَقْفَالُ الرَّيْنِ » (4).

ص: 54


1- نهج البلاغة ، الخطبة 1.
2- نهج البلاغة ، الخطبة 95.
3- نهج البلاغة ، الخطبة 2.
4- نهج البلاغة ، الخطبة 191.

5 - « ثُمَّ اِنَّ اللّه سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلی اللّه علیه و آله بِالحَقِّ حِيْنَ دَنَا مِنَ الدُّنْيَا الاِنْقِطَاعُ ، واقْبَلَ مِنَ الآخِرَةِ الإِطِّلاعُ ، واظْلَمَتْ بَهْجَتُهَا بَعْدَ اِشْرَاقٍ ، وقَامَتْ بِاَهْلِهَا عَلَى سَاقٍ ، وَخَشُنَ مِنْهَا مِهَادٌ ، وازِفَ مِنْهَا قِيادٌ ، فِي انْقِطَاعٍ مِنْ مُدَّتِهَا ، وَاقْتِرَاب مِنْ اَشْرَاطِهَا ، وتصَرُّم مِنْ اَهْلِهَا ، وانْفِصَامٍ مِنْ حَلْقَتِهَا ، وانْتِشَارٍ مِنْ سَبَبِهَا ، وَعَفَاءٍ مِنْ اَعْلاَمِهَا ، وتكَشُّفٍ مِنْ عَوْرَاتِهَا ، وقِصَرٍ مِنْ طُولِهَا ، جَعَلَهُ اللّهُ بَلاَغاً لِرِسَالَتِهِ ، وَكَرَامَةً لاُِمَّتِهِ ، وربِيعاً لاَِهْلِ زَمَانِهِ ، ورفْعَةً لاَِعْوَانِهِ ، وَشَرَفاً لاَِنْصَارِهِ » (1).

ب - الوضع الإجتماعي في العصر الجاهلي

6 - « اَرْسَلَهُ عَلَى حِيْنِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ، وَطُوْلِ هَجْعَةٍ مِنَ الاُمَمِ ، واعْتِزَام مِنَ الفِتَنَ وانْتِشَارٍ مِنَ الاُمُورِ ، وتلَظٍّ مِنَ الحُرُوبِ ، والدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ ، ظَاهِرَةُ الغُرُورِ ، عَلَى حِيْنِ اصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا ، وايَاسٍ مِنْ ثَمَرِهَا ، واغْوِرَاءٍ مِنْ مَائِهَا ، قَدْ دَرَسَتْ مَنَارُ الهُدَى ، وَظَهَرَتْ اَعْلاَمُ الرَّدَى ، فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لاَِهْلِهَا ، عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبِهِا ثَمَرُهَا الفِتْنَةُ ، وَطَعَامُهَا الجِيْفَةُ ، وَشِعَارُهَا الخَوْفُ ، وَدِثَارُهَا السَّيْفُ ، فَاعْتَبِرُوا عِبَادَ اللّهِ وَاذْكُرُوا تِيْكَ الَّتِي آبَاؤُكُمْ واخْوَانُكُمْ بِهَا مُرْتَهَنُونَ » (2).

ج - المستوى الثقافي لأهل الجاهلية

7 - « وَلاَتَكُونُوا كَجُفَاةِ الجَاهِلِيَّةِ ، لاَ فِي الدِّينِ يَتَفَقَّهُونَ ، وَلاَ عَنِ اللّه يَعْقِلُونَ ، كَقَيْضِ بَيْضٍ فِي اَدَاحٍ يَكُونُ كَسْرُهَا وِزْراً ويخْرِجُ حِضَانُهَا شَرّاً » (3).

ص: 55


1- نهج البلاغة ، الخطبة 198.
2- نهج البلاغة ، الخطبة 89.
3- نهج البلاغة ، الخطبة 166.

8 - « اَمَّا بَعْدُ فَاِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلی اللّه علیه و آله وَلَيْسَ اَحَدٌ مِنَ العَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً ، وَلاَيَدَّعِي نُبُوَّةً ، وَلاَ وَحْياً » (1).

د - سيادة الوثنية

9 - « فَبَعَثَ اللّه مُحَمَّداً صلی اللّه علیه و آله بِالحَقِّ لِيُخْرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ اِلَى عِبَادَتِهِ ، وَمِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ اِلَى طَاعَتِهِ بِقُرْآنٍ قَدْ بَيَّنَهُ وَاَحْكَمَهُ » (2).

10 - « بَعَثَهُ حِينَ لاَعَلَمٌ قَائِمٌ ، وَلاَ مَنَارٌ سَاطِعٌ ، وَلاَ مَنْهَجٌ وَاضِحٌ » (3).

ه - العصبية الجاهليّة

11 - « اَضَاءَتْ بِهِ البِلاَدُ بَعْدَ الضَّلاَلَةِ المُظْلِمَةِ ، والجَهَالَةِ الغَالِبَةِ ، وَالجَفْوَةِ الجَافِيَةِ ، وَالنَّاسُ يَسْتَحِلُّونَ الحَرِيمَ وَيسْتَدِلُّونَ الحَكِيمَ ، وَيحْيَونَ عَلَى فَتْرَةٍ ، وَيَمُوتُونَ عَلَى كَفْرَة » (4).

و - مأكلهم ومشربهم

12 - « اِنَّ اللّهَ بَعَثَ مُحَمَّداً صلی اللّه علیه و آله نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ ، وَاَمِيناً عَلَى التَّنْزِيلِ ، وَاَنْتُمْ مَعْشَرَ العَرَبِ عَلَى شَرِّ دِينٍ وَفِي شَرِّ دَارٍ ، مُنْيِخُونَ بَيْنَ حِجَارَةٍ خُشْنٍ ، وَحَيَّاتٍ صُمٍّ ، تَشْرَبُونَ الكَدِرَ ، وَتأْكُلُونَ الجَشِبَ وَتَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ ،

ص: 56


1- نهج البلاغة ، الخطبة 104 و 33.
2- نهج البلاغة ، الخطبة 147.
3- نهج البلاغة ، الخطبة 196.
4- نهج البلاغة ، الخطبة 151.

وَتَقْطَعُونَ اَرْحَامَكُمْ ، الاَصْنَامُ فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ ، والآثَامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ » (1).

ز - مكانة المرأة في الجاهلية

13 - كلامه في المرأة الجاهلية مخاطباً عسكره قبل لقاء العدوّ بصفّين : « وَلاَ تَهِيْجُوا النِّسَاءَ بِأَذىً وَاِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ ، وَسَبَبْنَ اُمَرَاءَكُمْ ، فَاِنَّهُنَ ضَعِيفَاتُ القُوَى والاَنْفُسِ والعُقُولِ ، اِنْ كُنَّا لَنُؤْمَرُ بِالكَفِّ عَنْهُنَّ وَإِنَّهُنَّ لَمُشْرِكَاتٌ وَاِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَتَنَاوَلُ المَرْأَةَ فِي الجَاهِلِيَّةِ بِالفَهْرِ ، أَوِ الهِرَاوَةِ فَيُعَيَّرُ بِهَا وَعَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ » (2).

( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ )

ص: 57


1- نهج البلاغة ، الخطبة 26.
2- نهج البلاغة ، الكتاب رقم 14 من وصيّته له علیه السلام .

ص: 58

(3) ميلاد النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله أو تبلّج النور في الظلام الحالك

اشارة

إنّ التعرّف على حياة النبي يتوقّف على دراسة مراحل ثلاث تشكّل فصول عمره المبارك وهي :

1 - من ولادته إلى بعثته.

2 - من بعثته إلى هجرته.

3 - من هجرته إلى رحلته.

إنّ أصحاب السير والتواريخ درسوا الفصول الثلاثة على ضوء الروايات والأحاديث التي تلقّوها عن الصحابة والتابعين ، ونحن ندرسها على ضوء القرآن الكريم ، فنقول :

اتّفق المؤرخون على أنّ النبي الأكرم ولد عام الفيل ، وهي السنة الّتي عمد أبرهة إلى تدمير الكعبة وهدمها ولكنّه باء بالفشل وهلك هو وجنوده بأبابيل ، كما يحكي عنه قوله سبحانه : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ ) ( الفيل / 1 - 5 ).

ومن أراد الوقوف على تفصيل القصّة فعليه المراجعة إلى كتب السيرة والتفسير والتاريخ.

ص: 59

ويظهر ممّا أخرجه مسلم أنّ هذا اليوم يوم مبارك ، قال : إنّ أعربياً قال : يا رسول اللّه ما تقول في صوم يوم الإثنين ؟ فقال : ذلك يوم ولدت فيه ، واُنزل عليّ فيه (1).

لم يذكر القرآن ما يرجع إلى المرحلة الاُولى من حياته إلاّ شيئاً قليلاً نشير إليها إجمالاً :

1 - عاش يتيماً فآواه سبحانه.

2 - كان ضالاًّ فهداه.

3 - كان عائلاً فأغناه.

4 - كما ذكر أسماءه في غير واحد من السور.

5 - جاءت البشارة باسمه « أحمد » في الإنجيل.

6 - كان أُمّياً لم يدرس ولم يقرأ ولم يكتب.

7 - كان قبل البعثة مؤمناً موحّداً عابداً لله فقط.

فإليك البحث عن هذه الاُمور واحد بعد آخر :

1 - الإيواء بعد اليُتمْ

ولد النبيّ الأكرم من والدين كريمين فوالده عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم.

واتّفقت الإماميّة والزيديّة وجملة من محقّقي السنّة على أنّه كان موحّداً مؤمناً.

ويستدل من صفاته المحمودة ، وفضائله المرموقة ، والأشعار المأثورة ، على

ص: 60


1- مسند أحمد ، ج 5 ص 297 - 299 ، والسنن الكبرى للبيهقي ج 4 ص 293 ، وصحيح مسلم - كتاب الصيام باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر ج 1 ص 97.

أنّه كان على خط التوحيد وعلى دين آبائه ، نقل المؤرّخون : إنّ عبد اللّه بن عبد المطلب أقبل من الشام في عِيرٍ لقريش فنزل بالمدينة وهو مريض ، فأقام بها حتّى توفّي ودفن في دار النابغة في الدار الصغرى إذا دخلت الدار عن يسارك ، وليس بين أصحابنا فيه اختلاف (1).

وقد مات رضی اللّه عنه والنبي جنين في بطن أُمّه.

وأمّا والدته فهي « آمنة بنت وهب » خرجت مع النبي وهو ابن خمس أو ستّ سنين ونزلت بالمدينة تزور أخوال جدّه ، وهم بنو عدي بن النجار ، ومعها أُمُّ أيمن فأقامت عندهم ، ولمّا خافت على ولدها من اليهود خرجت من المدينة ، فلمّا وصلت إلى الإبواء توفّيت ودفنت فيها (2).

وبذلك ولد النبي يتيماً وعاش يتيماً وإليه يشير قوله سبحانه ويقول :

( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ) ؟ ( الضحى / 6 ).

ولعلّ الحكمة في تولّده ونشوئه يتيماً أحد الأُمور التالية أو جميعها :

أ - إنّ هذا الطفل سيلقى عليه في مستقبل حياته قولاً ثقيلاً كما يقول سبحانه :

( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ) ( المزمّل / 5 ).

وأيّ قول أثقل من هداية الأُمّة الأُمّيّة إلى معالم السعادة ، ولا يقوم بهذا العبء الثقيل إلاّ الأمثل فالأمثل من الشخصيات التي ملأ روحها الصمود والثبات ، ولا تحصل تلك الحالة إلاّ بعد تذوّق مرارة الدهور ومآسي الأيّام حتّى يقع في بوتقة الأحداث ويخرج مؤهّلاً لحمل عبء الرسالة وهداية النّاس ، وقد صار كزبر الحديد ، عركته المحن ، وحنَّكته التجارب.

ب - ولد يتيماً ونشأ يتيماً حتّى يقف على الوضع المأساوي السائد على الأيتام

ص: 61


1- تاريخ الطبري ج 1 ص 8.
2- الاتحاف للبشراوي ص 144 ، سيرة زيني دحلان ، بهامش السيرة الحلبية ج 1 ص 57.

في عامّة الأجيال ، ولأجل ذلك يترتّب على قوله : ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ) قوله : ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ) .

ج - ما روي عن الإمام الصادق علیه السلام : « إنّ اللّه عزّ وجلّ أيْتَمَ نَبِيَّه لِئَلاّ يكون لأحدٍ عَلَيْهَ طَاعَة » (1).

وروي عن الإمام الرضا علیه السلام أنّه قال : « لئلاّ يجب عليه حق لمخلوق » (2).

2 - الهداية بعد الضلالة

نعم ربّما يفسّر اليتيم في الآية الكريمة بالوحيد كما يقال الدرّة اليتيمة ولكنّه لا يناسب قوله : ( فَآوَى ) كما أنّه لا يناسب مع ما رتّب عليه من عدم قهر اليتيم.

الضلالة ضد الهداية فماذا يراد من الضلالة في الآية ؟

هل يراد أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان في فترة من عمره مضطرب العقائد ، منحرف السلوك ، ولم يكن على طريق واضح مطمئن ثم هداه اللّه بالأمر الذي أوحى به إليه ؟ أو أنّ المراد من الضلالة ، وهو الضلالة الذاتية التي تعمّ كُلّ الموجودات الحيّة من النبات والحيوان والإنسان ، لولا هداية اللّه تبارك وتعالى التي اُشير إليها في قوله سبحانه :

( الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) ( طه / 50 ). وقال : ( وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ) ( الأعلى / 3 ).

والنبات بما هو موجود ممكن ، ضالّ لا يهدي إلى طريق إلاّ بهداية اللّه تبارك وتعالى ، وكذلك الحشرات والحيوانات ، فالنحل بوحي منه سبحانه يسلك سبيل الكمال ، كما أنّ الحيوان بهداية منه سبحانه يقف على طريق الحياة ، والإنسان بما

ص: 62


1- علل الشرايع ج 1 ص 131.
2- عيون أخبار الرضا ص 210.

أنّه ممكن ضالّ فاقد للهداية ، وإنّما يعرف طرق السعادة بهداية منه سبحانه ، وعلى ذلك فالآية تشير إلى الضلالة الذاتية التي هي من لوزام وجود الإنسان الممكن ولا يمكن تحديد ذلك بوقت دون وقت ، بل الإنسان منذ أن خرج من بطن أُمّه يُولَد ضالاًّ ، واللّه سبحانه في الآية المتقدّمة يشير إلى ذاك النوع من الضلالة.

ويؤيّده أنّ مدار البحث في الآيات ما يرجع إلى أيّام طفوليته وصباه فتفسيرها بالضلالة بمعنى الحيرة في العقيدة ، وضلال الشعاب التي تتبلور في أيام الشباب وما بعده بعيد عن سياق الآيات ويخالف ما هو المعلوم من حال النبي انّه كان موحّداً مؤمناً منذ طفولته إلى شبابه إلى أن أوحى اللّه إليه سبحانه.

إنّ الضلالة تطلق على معنيين يجمعهما فقد الهداية :

الأول : هيئة نفسانيّة تحيط بالقلب فيكفر باللّه سبحانه ، وآياته ، وبيّناته ، وأنبيائه ، ورسله ، أو ببعض منها ، فالضلالة في الكفّار والمنافقين من هذا القسم ، فهم منحرفون في التصوّرات والعقائد ، منحرفون في السلوك والأوضاع.

الثاني : فقد الهداية مع كونه لائقاً بها غير أنّه يكون باب الهداية مسدوداً في وجهه كما هو الحال في الأطفال والأحداث فهؤلاء في أوان حياتهم يفقدون الهداية لولا أنّ اللّه سبحانه يريهم الطريق من طرق الفطرة وهداية العقل ثمّ الشرع.

فالنبي كان ضالاًّ بهذا المعنى أي كان يفقد الهداية الذاتية وإنّما هداه اللّه سبحانه منذ أن تعلّقت مشيئته بهدايته ، وربّما يذكر مبدأها الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في بعض كلماته وقال : « ولقد قرن اللّه من لدن إن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ليلاً ونهاراً » (1).

فوزان قوله تعالى : ( وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى ) وزان قوله سبحانه : ( الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) وقوله : ( إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

ص: 63


1- نهج البلاغة الخطبة 117 ( طبع عبده ).

الصَّالِحَاتِ ) ( العصر / 2 و 3 ).

فليس الخسران في الآية أمراً وجوديّاً مثل الخسران الموجود في الكافر والمنافق فإنّ الخسران فيهما ينقلب إلى أمر وجودي وهيئة ظلمانيّة في النفس والروح ، بل المراد هو عدم الهداية الذاتية لغرض إنّ كلّ إنسان ممكن ، وكلّ ممكن غير واجد لشيء من صميم ذاته ، وإنّما يجد ما يجد من جانبه سبحانه.

نعم ، لو عاش وصار شابّاً وكهلاً وأنكر آيات اللّه ، ودلائل وجوده ، وأنبيائه ، ورسله ، فعند ذلك يتبدّل الخسران بمعنى فقد الهداية إلى هيئة ظلمانيّة تحدق بالقلب وتظلمه. فالضلالة بالمعنى الأوّل تقارن وجود الإنسان منذ أن يفتح عينه على الحياة ، وبالمعنى الثاني تكون مكتسبة.

فتحصل من هذا البحث : انّ الآية لاتمت بحيرة العقيدة ، وضلال الشعاب في فترة من العمر حتّى يستدل بها عليه كونه كافراً قبل البعثة أو في برهة من حياته ، ويحقّق هذا المعنى ويثبّته بوضوح انّ السورة بموضوعها وتعبيرها تعكس لمسة من حنان ، ونسمة من رحمة ، وطائف من ودّ ، وكلّها تسلية وترويج وتطمين للنبي ، وانّه سبحانه قام بأمر حياته وهدايته من أوان يتمه وفقده لأبيه ، وهذا يجر إلى القول بأنّه ناظر إلى الهداية أوان الحياة بعد طروء اليتم عليه ، وعندئذ فالضلالة تعتبر أمراً عدميّاً لا أمراً وجوديّاً.

3 - الإغناء بعد العيلولة

يذكر سبحانه من مننه الكبرى على النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله انّه كان فقيراً فأغناه اللّه تعالى بالكسب.

روى ابن هشام : كانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إيّاه بشيء تجعله لهم ، فكانت قريش قوماً تجّاراً فلمّا بلغها عن رسول اللّه ما بلغها من صدق حديثه ، وعظم أمانته ، وكرم أخلاقه بعثت

ص: 64

إليه فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجراً وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجّار مع غلام لها يقال له « ميسرة » ، فقبله رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله منها وخرج في مالها ذلك ، وخرج معها غلامها « ميسرة » حتّى قدم الشام ، ثمّ باع رسول اللّه سلعته التي خرج بها واشترى ما أراد أن يشتري (1).

ويظهر ممّا رواه أبو الحسن البكري في كتاب الأنوار ، انّ عمّه أبا طالب هو الذي أرشده إلى هذا الأمر وأنّه قال لابن أخيه : إنّ هذه خديجة بنت خويلد قد انتفع بمالها أكثر النّاس ، وهي تعطي مالها سائر من يسألها التجارة ويسافرون ، فهل لك يا ابن أخي أن تمضي معي إليها ، ونسألها أن تعطيك مالاً تتّجر فيه ؟ فقال : نعم (2).

وقد صرّح أبو طالب في خطبته خديجة لابن أخيه بأنّه عائل مُقلّ ، فقال : هذا محمّد بن عبد اللّه لا يوازن برجل من قريش إلاّ رجّح عليه ، ولا يقاس بأحد منهم إلاّ عظم عنه ، وإن كان في المال مقلاًّ ، فانّ المال ورق حائل ، وظلّ زائل (3) ، وهذا يعرب وقت الإغناء ، وانّه تحقّق بعد الاتّجار بمال خديجة.

فهذه الآيات الثلاث تعرب عن الودّ ، والحبّ ، والرحمة والإيناس التي عمّ النبي في أوان حياته والكل ظاهر من خلال الآيات الثلاث :

( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى )

4 - تسميته بمحمّد وأحمد

اشارة

إنّ القرآن الكريم يتفنّن في توصيف النبي وذكره بل في تسميته والإيماء إليه.

فتارة يشير إليه بإحدى الصفات العامّة الشاملة لكل إنسان كما في قوله

ص: 65


1- السيرة النبوية لابن هشام ج 1 ص 199.
2- بحار الأنوار ج 16 ص 22.
3- المصدر نفسه ص 6 نقلاً من مناقب ابن شهر آشوب ج 1 ص 26.

سبحانه : ( فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ) ( النجم / 10 ).

وفي إضافة العبد إلى نفسه إلماع إلى تكريمه وتقرّبه منه.

وأُخرى يخاطبه بالألقاب الخاصّة بأنبيائه ورسله فيقول : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ) أو ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ ) .

وثالثة يخصّه بإسميه اللّذين يدعى بهما في الإسلام أعني « محمداً » و « أحمد ».

أمّا الأول فقد جاء في مواضع أربعة من القرآن :

1 - ( مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) ( الأحزاب / 40 ).

2 - ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) ( آل عمران / 144 ).

3 - ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ) ( محمد / 2 ).

4 - ( مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) ( الفتح / 29 ).

وأمّا الثاني فقد جاء في موضع واحد حيث يقول سبحانه :

( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) ( الصف / 6 ).

وليس الرسول بدعاً من بين الرسل في كونه ذا اسمين ، فقد سبقه في ذلك ثلّة من الأنبياء كيوشع بن نون وهو ذو الكفل في القرآن ، ويعقوب بن إسحاق وهو إسرائيل ، ويونس وهو ذو النون في القرآن ، وعيسى وهو المسيح.

ويظهر من الروايات المتضافرة انّ اسمهُ في السماء أحمد ، فقد جاء نفر من اليهود إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ممّا سألوه انّه لم سمّيت محمداً

ص: 66

وأحمد و ... ، فقال النبي صلی اللّه علیه و آله : أمّا محمّد فإنّي محمود في الأرض ، وأمّا أحمد فإنّي محمود في السماء (1).

والمراد من السماء عالم الوحي ويؤيّده ما دلّت عليه آية الصف من تبشير المسيح بمعنى نبيّ اسمه أحمد.

« أحمد » من أسمائه صلی اللّه علیه و آله

لا ريب في أنّ أحمد أحد أسمائه المعروفة ولا يتردّد في تسميته به من له تتبّع في سيرته وتاريخ حياته ، وهذا أبو طالب شيخ الأباطح يذكره في أشعاره بهذا الإسم.

قال أبو طالب :

أَلا إنّ خير الناس نفساً ووالداً *** إذا عدّ سادات البريّة أحمد (2)

وقال ابن هشام : ولمّا خشى أبو طالب دهماء العرب أن يركبوه مع قومه ، قال قصيدته التي تعوّذ فيها بحرم مكّة وبمكانه منها ، وتودّد أشراف قومه ، وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في ذلك من أنّه غير مسلّم رسول اللّه ولا تاركه بشيء أبداً حتّى يهلك دونه ، ومن تلك القصيدة قوله :

لعمري لقد كلّفت وجداً بأحمد *** وأحببته حبّ الحبيب المواصل

فلا زال في الدّنيا جمالاً لأهلها *** وزيناً لمن والاه ربّ المشاكل

فأصبح فينا أحمد في أرومة *** تقصّر عنها سورة المتطاول

وقال « حسان بن ثابت » شاعر عهد الرسالة في رثاء النبي صلی اللّه علیه و آله :

ص: 67


1- علل الشرايع ص 53.
2- ديوان أبي طالب ص 13.

مفجعة قد سفّها فقد أحمد *** فظلّت لآلاء الرسول تعدد

أطالت وقوفاً تذرف العين جحده *** على طلل القبر الذي فيه أحمد (1)

إلى غير ذلك من القصائد التي طفحت باسمه صلی اللّه علیه و آله « أحمد » وقد أوعزنا إلى جملة منها في « مفاهيم القرآن » (2).

5 - تبشير المسيح بالنبي باسم « أحمد »

اشارة

أخبر القرآن الكريم بأنّ المسيح يوم بعث إلى بني إسرائيل بشّر بالنبي الخاتم باسمه أحمد وقال :

( وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ... )

ثمّ إنّ رجال الكنائس أمام هذه البشارة على قولين :

تارة يقولون : إنّ المسيح بشّر برسول يأتي من بعده اسمه أحمد وهذا لا ينطبق على نبي الإسلام ، فإنّ اسمه محمّد بنص القران واتّفاق المسلمين.

وأُخرى ينكرون أصل وجود البشارة في الأناجيل ، وإنّه لم يرد أيّ تبشير بهذا.

والوجه الأوّل من السقوط والردائة بمرحلة لا يستحقّ الجواب ، فقد عرفت أنّ القرآن كما أسماه محمّداً سمّاه أحمد ، وايضاً كما عرفت انّ الرسول صلی اللّه علیه و آله يدعى منذ نعومة أظفاره بكلا الاسمين وقد أطراه الشعراء وفي مقدّمتهم عمّه البارّ في قصائدهم واسموه بأحمد (3).

والمهم هو القول الثاني ، ولكن إنكاره لجاج وعناد ، وهنا نذكر مورداً واحداً :

ص: 68


1- السيرة النبويّة ج 1 ص 272.
2- السيرة النبوية ج 2 ص 667 و 669.
3- مفاهيم القرآن ج 3 ص 550 - 556.

قد وردت هذه البشارة في أبواب إنجيل يوحنّا ونحن ننقلها عن التراجم العربية المطبوعة عام 1821 م وسنة 1831 م وسنة 1844 م في مدينة « لندن » فالباب الرابع عشر من إنجيل يوحنّا يتضمّن العبارات التالية :

1 - « إنْ كُنْتُم تُحِبُّونِي فَاحفَظُوا وَصَايَاي » (15).

2 - « واَنَا اَطْلبُ مِنَ الأبِ فيعطيكم فارقليط آخر ليثبت معُكمْ إلى الأبد » (16).

3 - « روح الحَقّ الَّذي لَنْ يطيق العالم أن يقبله لأنّه ليس يراه ولا يعرفه وأنتم تعرفونه لأنّه مقيم عندكم وهو ثابت فيكم » (17).

4 - « والفارقليط ، روح القدس ، الذي يرسله الأب بإسمي هو يعلّمكم كل شيء وهو يذكّركم كلّما قلته لكم » (26).

5 - « والآن قد قلت لكم قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنون » (30).

وفي الباب الخامس عشر من إنجيل يوحنّا هكذا :

1 - « إذا جاء الفارقليط الذي أرسله أنا إليكم من الأب ، روح الحقّ الذي من الأب ينبثق هو يشهد لأجلي » (26).

2 - « وأنتم تشهدون لأنّكم معي من الإبتداء » (27).

وفي الباب السادس عشر من انجيل يوحنّا جاءت العبارات التالية :

1 - « لكنّي أقول لكم الحق انّه خير لكم أن أنطلق لأنّي إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط فأمّا إن انطلقت أرسلته إليكم » (7).

2 - « فاذا جاء ذلك فهو يوبّخ العالم على خطيّة وعلى برّ وعلى حكم » (8).

3 - « أمّا على الخطية فلأنّهم لم يؤمنوا بي » (9).

4 - « وامّا على البر فلانّي منطلق إلى الأب ولستم تروني بعد » (10).

ص: 69

5 - « وأمّا على الحكم فإنّ اركون (1) هذا العالم قددين » (11).

6 - « وانّ لي كلاماً كثيراً أقوله لكم ولكنّكم لستم تطيقون حمله الآن » (12).

7 - « واذا جاء روح الحق ذاك فهو يعلّمكم جميع الحق لأنّه ليس ينطق من عنده بل يتكلّم بكل ما يسمع ويخبركم بما سيأتي » (13).

8 - « وهو يمجّدني لأنّه يأخذ ممّا هو لي ويخبركم » (14).

9 - « جميع ما هو للأب فهو لي فمن أجل هذا قلت إنّ ممّا هو لي يأخذ ويخبركم » (15).

قبل تبيين الإستدلال على دلالة هذه الجمل على البشارة بأحمد ، نقدّم ذكر أمرين.

1 - أجمع المؤرّخون على أنّ الأناجيل الثلاثة غير « متّي » كتبت من أوّل يومها باللّغة اليونانيّة ، وأمّا إنجيل متّي فكان عبرياً من أوّل إنشائه ، وعلى هذا فالمسيح بشّر بما بشر - في إنجيل يوحنّا - باللّغة العبرية ، وإنّما نقله إلى اليونانيّة كاتب الإنجيل الرابع يوحنّا وكان عليه التحفّظ على اللفظ الذي تكلّم به المسيح في مورد المبشّر به ، لأنّ القاعدة الصحيحة عدم تغيير الاعلام والإتيان بنصّها الأصلي لاترجمة معناه ، ولكن « يوحنّا » لم يراجع هذا الأصل وترجمه إلى اليونانيّة ، فضاع لفظه الأصلي الذي تكلّم به المسيح وبقيت ترجمته ، فاللفظ العبراني الذي قاله عيسى علیه السلام مفقود ، واللفظ اليوناني الموجود ترجمة.

وفي غبّ ذلك حصل الإختلاف في المراد منه ، ثمّ مترجموا العربية عرّبوا اللّفظ اليوناني ب « فارقليط ».

وأمّا اللفظ اليوناني الذي وضعه الكاتب يوحنّا مكان اللفظ العبري ، فهو مردّد بين كونه « باراكلي طوس » الذي هو بمعنى المُعزّي والمسلِّي والمعين والوكيل ، أو « بيركلوطوس » الذي هو بمعنى المحمود الذي يرادف أحمد ، ولأجل تقارب

ص: 70


1- وفي الترجمة المطبوعة في بيروت « رئيس هذا العالم ».

الكلمتين في الكتابة ، والتلفّظ ، والسماع ، حصل التردّد في المبشّر به ، ومفسّروا إنجيل يوحنّا يصرّون على الأوّل ، وادعوا أنّ المراد منه هو روح القدس وانّه نزل على الحواريين في اليوم الخمسين بعد فقد المسيح كما ذكر في كتاب « أعمال الرسل » (1).

وإليك نصّه : « لمّا حضر يوم الخمسين ( بعد عروج المسيح أو صلبه على زعمهم ) كان الجميع معها بنفس واحدة ، وصار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة ملأ كل البيت ، حيث كانوا جالسين وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنّها من نار ، واستقرّت على كل واحد منهم ، وامتلأ الجميع من روح القدس وابتدؤا يتكلّمون بالسنة اُخرى ، كما أعطاهم الروح أن ينطقوا ».

ولكن القرائن المفيدة للقطع واليقين تفيد انّ المراد منه هو الأوّل ، وانّ المسيح بصدد التبشير عن ظهور نبي في مستقبل الأيّام واليك بيان هذه القرائن :

1 - إنّ المسيح قال : « إن كنتم تحبّوني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط آخر ».

إنّ هذا الخطاب يناسب أن يكون المبشّر به نبيّاً من الأنبياء ، إذ لو كان « فارقليط » عبارة عن الروح النازل يوم الدار لما كان هناك حاجة إلى هذا التأكيد ، لأنّ تأثيره في القلوب تأثير تكويني - كما عرفت من النّص - لا يمكن لأحد التخلّف عنه ولا يبقى في القلوب معه شك ، وهذا بخلاف تأثير النبي فإنّه يؤثّر ببيانه وكلامه في القلوب ، وهو يختلف حسب اختلاف طبائع المخالفين واستعدادهم ، ولأجل ذلك أصرّ على الإيمان به في بعض جمله وهو :

« والآن قد قلت لكم قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنون به ».

وقد عرفت ممّا نقلناه من كتاب أعمال الرسل انّ تأثير روح القدس كان تأثيراً تكوينيّاً غير خاضع لإرادة الإنسان.

ص: 71


1- أعمال الرسل ، الإصحاح الثاني : الجمل1 - 4.

2 - إنّه وصف المبشّر به بلفظ « آخر » وهذا لا يناسب كون المبشّر به روح القدس لعدم تعدّده واتّحاده بالأب والابن اتّحاداً حقيقيّاً ، فلا يقال في حقّه « فارقليط » آخر ، بخلاف الأنبياء فإنّهم يجيئون واحداً بعد الآخر في فترة بعد فترة.

3 - إنّ المسيح قال : « هو يذكّركم كلّما قلته لكم ».

إنّ من البعيد نسيان الحواريين تعاليم المسيح في مدة لا تزيد على خمسين يوماً حتى يذكّرهم روح القدس ، وهذا بخلاف ما إذا قلنا بأنّ المراد هو النبي الخاتم الذي ظهر بعد مضي قرون ستّة ، وقد لعبت الأهواء بتعاليم الأنبياء وحرّفت الكنائس والرهبان ما جاء به المسيح علیه السلام .

4 - إنّ المسيح قال : « هو يشهد لأجلي » فلو كان المراد هو نزول الروح يوم الدار بعد خمسين يوماً كانت هذه الشهادة لغواً لعدم حاجة التلاميذ إلى شهادته لأنّهم كانوا يعرفون المسيح حق المعرفة ، والمنكرون للمسيح لم تحضرهم تلك الروح ، وهذا بخلاف ما إذا اُريد منه النبي المبشّربه فإنّ نبيّنا شهد للمسيح وصدّقه ونزّهه عن ادعاء الالوهيّة كما أبرأ اُمّه من تهمة الزنا ، وهذا واضح لمن تدبّر آيات الذكر الحكيم.

5 - إنّ المسيح قال : « إن لم أنطلق ، لم يأتكم الفارقليط ، فأمّا إن انطلقت أرسلته إليكم ».

فعلّق مجيئه بذهاب نفسه مع أنّ مجيء الروح غير معلّق على ذهاب المسيح بشهادة أنّه ئنزل على الحواريين في حضور المسيح ، لمّا أرسلهم إلى الأطراف والأكناف فنزوله ليس مشروط بذهابه ، فلابد أن يكون المراد منه شخص يكون مجيئه موقوفاً على ذهاب المسيح كما هو الحال في النبي الخاتم لأنّه جاء بعد ذهاب المسيح ، وكان مجيئه موقوفاً على ذهابه لأنّ وجود رسولين ذوي شريعتين مستقلّتين في زمان واحد غير جائز ، بخلاف ما إذا كان الآخر متبعاً لشريعة الأوّل أو يكون كل من الرسل متبعاً لشريعة واحدة فيجوز في هذه الصورة وجود اثنين أو أكثر في زمان

ص: 72

واحد ومكان واحد كما ثبت وجودهم بين زمان « الكليم » و « المسيح ».

6 - قال المسيح : « إنّه يوبّخ العالم ».

وهذا لا ينطبق إلاّ على نبي الإسلام لأنّه وبّخ العالم من المشركين واليهود والنصارى توبيخاً لا يشك فيه إلاّ معاند متكبّر بخلاف الروح النازل يوم الدار ، إذ لم يكن هناك وجه للتوبيخ لأنّه لميكن هناك مخالفين للمنهج الصحيح.

7 - قال المسيح :

« إنّ لي كلاماً كثيراً أقوله لكم ولكنّكم لستم تطيقون حمله الآن ».

هذا يعرب من أنّ فارقليط يأتي بأحكام لم يكونوا يطيقونها زمان تكلّم المسيح ، هذا لا ينطبق على نزول الروح يوم الدار ، لأنّه ما زاد حكماً على أحكام المسيح وأي أمر حصل لهم أزيد من أقواله إلى زمان صعوده ؟

نعم بعد نزول هذا الروح أسقطوا جميع أحكام التوراة ما عدا بعض الأحكام العشرة المذكورة في الباب العشرين من سفر الخروج وأحلّوا جميع المحرّمات.

وهذا بخلاف ما إذا اُريد نبي يزيد في شريعته أحكاماً إلى أحكام موروثة من المسيح ويثقل حملها على المكلّفين ، ضعفاء الإيمان.

8 - إنّ المسيح قال : « لأنّه ليس ينطق من عنده بل يتكلّم بكل ما يسمع ويخبركم بما سيأتي ».

هذا يعرب من أنّ فارقليط سيواجه التكذيب فسوف يكذّبه بنو اسرائيل فأراد دعم دعوته وانّه صادق في كل ما يقول ولا مجال لمظنّة التكذيب في حق الروح النازل يوم الدار ، على أنّ الروح أحد الثلاثة وبوجه نفسه سبحانه ، فلا معنى لقوله بل يتكلّم بما يسمع ، وهذا بخلاف أن يراد منه نبي من الأنبياء الذين لا يتكلّمون إلاّ بوحي منه ، قال سبحانه :

( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) ( النجم / 3 و 4 ).

ص: 73

هذه القرائن وغيرها ممّا يظهر للقارئ بعد التدبّر فيما ورد في الإصحاحات الثلاث ( الرابع عشر ، الخامس عشر ، والسادس عشر ) ، تفيد القطع واليقين بأن المبشّر به هو نبي لا غير » (1).

وممّا يؤيد ذلك انّ المراد من « الفارقليط » هو النبي هو ما ذكره مؤرّخوا المسيحيين أنّ بعض الناس قبل ظهور النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله ادّعى أنّه هو الفارقليط الموعود قالوا : إنّ « منتنس » المسيحي الذي كان في القرن الثاني من الميلاد وكان مرتاضاً شديداً ادّعى في قرب سنة 177 من الميلاد أنّه هو الفارقليط الموعود الذي وعد بمجيئه عيسى علیه السلام وتبعه اُناس كثير وهذا يعرب عن أنّ المتبادر من الفارقليط في القرون الاُولى المسيحية هو النبي المبشّر به. وعن صاحب « لب التواريخ » : إنّ اليهود المسيحيين من معاصري محمّد صلی اللّه علیه و آله كانوا منتظرين لنبي وكان هذا سبباً لرجوع عدّة من المسيحيين إلى محمد صلی اللّه علیه و آله الذي ادّعى انّه هو ذاك المنتظر.

إنجيل « برنابا » والتبشير بالنبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله

إنّ الكتاب الذي جاء به المسيح علیه السلام كان كتاباً واحداً وهو عبارة عن هديه والأحكام التي جاء بها وبشارته بمن يجيء بعده ، وإنّما كثرت الأناجيل لأنّ كل من كتب سيرته سمّاه إنجيلاً لاشتماله على ما بشّر وهدى به الناس ، ومن تلك الأناجيل ، إنجيل برنابا ، و « برنابا » حواري من أنصار المسيح الذين يلقّبهم رجال الكنيسة بالرسل ، صحبه بولس زمناً بل هو الذي عرّف التلاميذ ببولس بعد ما اهتدى بولس ورجع إلى اُورشليم ولم يكن من هذا الإنجيل أثر في المجتمع المسيحي حتى عُثِرَ في اُروبا على نسخة منه منذ قرابة ثلاثة قرون وهذا هو الإنجيل الذي حرّم

ص: 74


1- لاحظ في الوقوف على تلك القرائن وغيرها اظهار الحق ج 2 ص 283 - 287 ، وانيس الاعلام في نصرة الإسلام ج 5 ص 179 - 239 ، ولمؤلّف الكتاب الأخير قصّة عجيبة حول الوقوف على مفاد « فارقليط » التي صارت سبباً لاستبصاره ، فراجعه.

قرائته « جلاسيوس الأوّل في أواخر القرن الخامس للميلاد » وهذا الإنجيل يباين الأناجيل الأربعة في النقاط التالية :

1 - ينكر الوهية المسيح وكونه ابن اللّه.

2 - يعرف الذبيح بأنّه إسماعيل لا إسحاق.

3 - وإنّ المسيح المنتظر هو محمّد صلی اللّه علیه و آله وقد ذكر محمداً باللفظ الصريح في فصول وافية الذيول.

4 - إنّ المسيح لم يصلب بل حمل إلى السماء وإنّ الذي صلب إنّما كان « يهوذا » الخائن فجاء مطابقاً للقرآن ، قد قام بترجمته من الإنجليزية إلى العربية الدكتور خليل سعادة وقدّم له مقدّمة نافعة وطبع في مطبعة المنار بتقديم السيد محمد رشيد رضا عام 1326 ه ق.

روى البيهقي : قال أبو زكريا : ولنبيّنا صلی اللّه علیه و آله خمسة أسماء في القرآن : محمد ، واحمد ، وعبد اللّه ، وطه ، ويس.

قال اللّه عزّ وجلّ في ذكر محمّد : ( مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللّهِ ... ) وقال : ( وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ... ) وقال اللّه عزّ وجلّ في ذكر عبد اللّه : ( وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عبد اللّه يَدْعُوهُ ) - يعني النبي صلی اللّه علیه و آله ليلة الجن - ( كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ) ( الجن / 19 ).

وإنّما كانوا يقعون بعضهم على بعض ، كما أنّ اللبد يتّخذ من الصوف ، فيوضع بعضه على بعض فيصير لبداً ، وقال عزّ وجلّ : ( طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) ( طه / 1 و 2 ) والقرآن إنّما نزل على رسول اللّه دون غيره ، وقال عزّ وجلّ : ( يس ) يعني يا إنسان والإنسان هنا العاقل وهو محمد ، إنّك لمن المرسلين.

ثمّ قال : قلت وزاد غيره من أهل العلم ، فقال : سمّاه اللّه تعالى في القرآن : رسولاً ، نبيّاً ، اُمّيّاً. وسمّاه : شاهداً ، ومبشّراً ، ونذيراً ، وداعياً إلى اللّه باذنه ،

ص: 75

وسراجاً منيراً. وسمّاه : رؤوفاً رحيماً. وسمّاه : نذيراً مبيناً. وسمّاه : مذكّراً ، وجعله رحمة ، ونعمة ، وهادياً. وسمّاه : عبداً صلی اللّه علیه و آله كثيراً (1).

أقول : والمراد من الإسم هنا أعم من الوصف ، فإنّ كثيراً منها صفاته - صلوات اللّه عليه - لا إسمه بمعنى العلم.

وروى أيضاً بسنده عن محمّد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : إنّ لي أسماء.

أنا محمد ، أنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد (2).

قال العلماء : « كثرة الأسماء دالّة على عظم المسمّى ورفعته وذلك للعناية به وبشأنه ولذلك ترى المسمّيات في كلام العرب أكثرها محاولة واعتناء ».

قال النواوي : وغالب هذه الأسماء التي ذكروها إنّما هي صفات كالعاقب والحاشر ، فإطلاق الإسم عليها مجاز ، ونقل الغزالي : « الإتّفاق على أنّه لا يجوز أن نسمّي رسول اللّه باسم لم يسمّه به أبوه ولا سمّا به نفسه الشريفة » أقرّه الحافظ ابن حجر في « الفتح » على ذلك (3).

قلت : ما ادعاه من الاتّفاق غير ثابت ، والمسألة غير معنونة في كلام الكثير فكيف يمكن ادّعاء الاتّفاق عليه ، وكلّ صفة تنبثق عن تكريمه وتوقيره وكان ( صلّى

ص: 76


1- دلائل النبوّة ج 1 ص 159 - 160.
2- دلائل النبوّة ج 1 ص 152. واخرجه البخاري كما في التعليقة في كتاب المناقب ، باب ما جاء في أسماء رسول اللّه.
3- دلائل النبوّة ج 1 ص 155 ، في التعليقة : إنّ جماعة أفردوا أسماء رسول اللّه بالتصنيف منهم بدر الدين البلقيني ، وكانت قصيدته الميميّة بديعة لم ينسج على منوالها ناسج ، ورتّب السيوطي أسماءه على حروف المعجم في كتابه « الرياض الأنيقة في شرح أسماء خير الخليقة ».

اللّه عليه وآله وسلّم ) واجداً لمبدئها فيصحّ توصيفه به.

روى البيهقي عن ابن عباس ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ اللّه عزّ وجلّ قسّم الخلق قسمين ، فجعلني في خيرهما قسماً ، وذلك قوله : ( وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ ) و ( أَصْحَابُ الشِّمَالِ ) فأنا من أصحاب اليمين وأنا خير أصحاب اليمين. ثم جعل القسمين ثلاثاً ، فجعلني في خيرها ثلثاً ، فذلك قوله تعالى : ( فَأَصْحَابُ المَيْمَنَةِ ) ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ) . فأنا من السابقين ، وأنا خير السابقين. ثمّ جعل الأثلاث : قبائل ، فجعلني في خيرها قبيلة ، وذلك قول اللّه تعالى : ( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) وأنا أتقى ولد آدم ، وأكرمهم على اللّه ولا فخر ، ثمّ جعل القبائل بيوتاً ، فجعلني في خيرها بيتاً ، وذلك قوله عزّ وجلّ : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) فأنا وأهل بيتي مطهّرون من الذنوب (1).

6 - اُمّيّة النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله

اشارة

القرآن الكريم يصف النبي في غير واحد من الآيات بالاُمّية ويقول : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ... ) ( الأعراف / 157 ).

فقد وصف سبحانه نبيّه في هذه الآية بخصال عشر وهي أنّه :

1 - رسول ، 2 - نبي ، 3 - اُمّي ، 4 - مكتوب اسمه في التوارة والإنجيل ، 5 - منعوت فيهما بأنّه يأمر بالمعروف ، 6 - وينهى عن المنكر ، 7 - ويحل لهم الطيبات ، 8 - ويحرّم عليهم الخبائث ، 9 - ويضع عنهم إصرهم ، 10 - ويضع عنهم الأغلال التي كانت عليهم.

ص: 77


1- دلائل النبوّة ج 1 ص 170 و 171.

ويقول سبحانه أيضاً : ( فَآمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) ( الأعراف / 158 ).

وقد عرفت أنّه سبحانه يصف قوم النبي بالأُمّيين بل العرب جميعاً بهذا الوصف ، كما تعرّفت على معنى الأُمّي عند البحث عن ثقافة قوم النبي وحضارتهم ، فلا حاجة إلى إعادة البحث عن معنى الاُمّي وذكر نصوص أئمّة اللّغة إنّما المهم في المقام نقد الآراء الشاذة في تفسير الاُمّي ، وإليك البحث عنها واحداً بعد آخر :

أ - الأُمّي منسوب إلى أُمّ القرى

ربّما يقال : إنّ الأُمّي هو المنسوب إلى « أُمّ القرى » وهي علم من أعلام مكّة كما يشير إليه قوله سبحانه :

( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ) ( الشورى / 7 ).

وعلى ذلك فلا يدل على أنّ النبي كان أُمّيّاً بمعنى أنّه لا يقرأ ولا يكتب.

يلاحظ عليه :

أوّلاً : انّ أُمّ القرى ليست من أعلام مكّة وإنّما هي كلّية لها مصاديق ، منها مكّة المكرّمة ، يقول سبحانه :

( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً ) ( القصص / 59 ). أي حتّى يبعث في أُمّ القرى وعاصمتها رسولاً.

قال ابن فارس في المقاييس : « كل مدينة هي أُمّ ما حولها من القرى ».

ثانياً : لو صحّ كونها من أعلام مكّة ، فالصحيح عند النسبة إليها « هو القروي » لا « الأُمّي » (1).

ص: 78


1- راجع شرح ابن عقيل ج 2 ص 391 عند البحث عن « ياء » النسب.

ثالثاً : لو كان المراد من الأُمّي هو المنسوب إلى أُمّ القرى لكان الإتيان به في ثنايا الخصال العشر إقحاماً بلا وجه واقتضاباً بلا جهة ، بخلاف ما إذا قلنا بأنّه إيعاز إلى أُمّيّته وعدم قراءته وكتابته ولكن في الوقت نفسه جاء بكتاب عجز كلُّ البلغاء عن معارضته ، واخرسّ الفصحاء عن مباراته.

وعلى الجملة انّ توصيف النبي بالأُمّي وقومه بالأُمّيين ، إيعاز إلى هذه النكتة ، وانّ هذا النبي خرج من قوم غير قارئين ولا كاتبين ولا متحضّرين كما هو أيضاً غير قارئ ولا كاتب ، ومع ذلك أتى بشريعة متقنة وسنن محكمة وكتاب بديع بلا بديل.

ب - الأُمّي غير المنتحل لملّة أو كتاب سماوي

وربّما يقال : إنّ الأُمّي هو غير المنتحل لملّة أو كتاب من الكتب السماوية ولو أطلق على العرب أنّهم أُمّيون فالمراد أنّهم غير منتحلين لكتاب من الكتب السماوية ويدل على ذلك أنّه سبحانه يجعل أهل الكتاب في مقابل الأُمّيين ويقول :

( وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) ( آل عمران / 20 ).

يلاحظ عليه : أنّ توصيف العرب بالاُميّيين لا لأجل عدم إنتحالهم لملّة أو كتاب سماوي بل لأجل عدم إقتدارهم على القراءة والكتابة ، فقد كانت الاُمّية بهذا المعنى سائدة عليهم كما كان التعرّف عليهما هو الغالب على أهل الكتاب ، فصحّ لأجل ذلك التقابل بين أهل الكتاب والأُمّيين ويعود معنى الآية : « قل » للطائفتين الأُمّيين غير القارئين والكاتبين وأهل الكتاب الذين لهم اقتدار بهما.

والذي يدل على أنّ هذا هو ملاك التقابل هو أنّه سبحانه يصف بعض أهل الكتاب بالاُميّة ويقول : ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ) ( البقرة / 78 ).

ص: 79

فالآية بحكم رجوع الضمير « ومنهم » إلى اليهود تقسّم اليهود إلى طائفتين :

طائفة يعلمون الكتاب لثقافتهم وتمكّنهم من القراءة والكتابة وبالتالي تمكّنهم من التطلّع على التوراة والإستفادة منها.

وطائفة فاقدة للثقافة وغير قادرة على القراءة والكتابة وبالتالي جاهلين بكتابهم الذي نزل بلسانهم والجهل بلغتهم قراءة وكتابة يلازم جهلهم بسائر اللغات غالباً خصوصاً في بيئة اليهود الذين يقدّمون تعليم لغتهم على سائر اللغات.

فلو كان الاُمّي بمعنى غير المنتحل لكتاب ولا ملّة فما معنى تقسيم أهل الكتاب إلى طائفيتن أُمّي وغير أُمّي ؟.

ج - الاُمّي من لا يعرف المتون السامية

الأُمّي عبارة عمّن لم يعرف المتون العتيقة السامية التي كتبت بها زبر الأوّلين من التوارة والإنجيل وإن كان عالماً بسائر اللغات قادراً بقرائتها وكتابتها يقول سبحانه :

( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ) .

فإنّ قوله : « لا يعلمون الكتاب » جملة تفسيريّة لقوله « أُمّيون » فالأُمّي من لا يحسن تلاوة الإنجيل والتوراة.

يلاحظ عليه : أنّ إرادة المعنى المذكور من « الأُمّيّين » في الآية لا يثبت أنّ الأُمّي عبارة عمّن لا يعرف اللّغة السامية بل الأُمّي من لا يعرف القراءة والكتابة وذلك يختلف حسب البيئة والظروف.

ففي العصور التي سادت فيها اللّغة السامية التي بها تكتب الدواوين والرسائل ، وعليها لغة دينهم وكتابهم ، يكون الاُمّي عبارة عمّن لا يعرف تلك اللغة ، - وبحسب الطبع - من كان جاهلاً في أمثال تلك الظروف بلغته الواجبة الضرورية ،

ص: 80

يكون جاهلاً لسائر اللغات أيضاً ، وعلى ذلك فليس للأُمّي إلاّ معنى واحد وله مصاديق وأفراد حسب الظروف التي تستعمل الكلمة فيها ، واطلاقه في الآية على من لم يعرف اللغات السامية لا يكون دليلاً على كونه موضوعاً لخصوص هذا المعنى ، كما أنّ إطلاق الإنسان وإرادة فرد منه بالقرينة لا يكون دليلاً على كونه موضوعاً لذلك الفرد.

هذا هو خلاصة المقال في وصف الاُمّي الذي جاء توصيف النبي به في الذكر الحكيم وهناك آيات أُخر تثبت ذلك المعنى ( اُمّية النبي ) قال سبحانه :

( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) ( العنكبوت / 48 ).

فالآية بحكم وقوع النكرة فيها في سياق النفي تفيد شمول السلب وعمومه لتلاوة أي كتاب وممارسة أية كتابة.

ثم إنّه سبحانه علّل هذا السلب بأنّه خير عون لنفي ريب المبطلين وشك المشكّكين إذ لو كان النبي صلی اللّه علیه و آله ممارساً للقراءة والكتابة قبل البعثة ، لاتّهمه اليهود والنصارى والمشركون بأنّ الشريعة التي جاء بها تلقّاها عن طريق قراءة الصحف وتلاوتها ، ولأجل صد هذا الريب وقلع جذور هذا الشك لم يُمكّن نبيّه عن تعلّم الكتابة والقراءة حتّى يكون ذا بيّنة قويّة على أنّ شريعته شريعة سماوية.

ومع أنّ النبي الأكرم عاش أربعين سنة بلا ممارسة للكتابة والقراءة فقد اتّهمه بعض المعاندين بأنّ قرآنه استنساخ منه لما تملى عليه ، قال سبحانه :

( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الفرقان / 4 و 5 ).

وكان المعاند يبثّ بذر هذا الشك حتّى وافاه الوحي الإلهي بالنقد والرد بقوله

ص: 81

سبحانه :

( قُل لَّوْ شَاءَ اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( يونس / 16 ).

ومعنى الآية إنّكم أيّها العرب تحيطون بتاريخ حياتي ، فقد لبثت فيكم عمراً يناهز الأربعين فهل رأيتموني أقرأ كتاباً أو أخطّ صحيفة ، فكيف ترمونني بالإفك الشائن بأنّه أساطير الأوّلين التي اكتتبتها وافتريتها على اللّه وأعانني على ذلك قوم آخرون ؟ فإذا كنتم واقفين على سيرتي وحياتي في الفترة الماضية فاعلموا أنّه منزّل من اللّه سبحانه كما أمر اللّه نبيّه أن يجبهم بقوله :

( قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( الفرقان / 6 )

نعم ربّما يقال بأنّ قوله : ( مَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ ) لا يدل على أنّ النبي كان أُمّياً بل فيها أنّه لم يكن يكتب الكتاب ، وقد لا يكتب الكتاب من يحسنه كما لا يكتب من لا يحسنه (1).

يلاحظ عليه : أنّ التعليل الوارد في الآية إنّما يصحّ وقوعه علّة لصدر الآية إذا كان النبي غير مستطيع لأن يقرأ ويكتب لا أن يكون عالماً بهما وإن لم يمارسهما ، وذلك لأنّ التعليل بصدد إزالة الشك والريب في أنّه كتاب سماوي وليس من صنع النبي ولا يمت إليه بصلة وذلك إنّما يتحقّق إذا كان النبي أُمّياً محضاً غير قادر عليهما لا ما إذا كان عارفاً بهما ولكن تركهما لمصلحة أو لعلّة أُخرى.

* * *

ص: 82


1- التبيان في تفسير القرآن ج 8 ص 216 ، طبع بيروت. ويظهر من الآلوسي في تفسيره أنّه إعتمد على هذا.

وضع النبي بعد البعثة

اتّفق المحقّقون من السنّة والشيعة على أنّه كان أُمّياً قبل البعثة لا يحسن الكتابة والقراءة ، وأمّا وضعه بعد البعثة وانّه هل بقي على ما كان عليه قبلها أو تغيّر وضعه وصار عارفاً بالكتابة والقراءة ، وعلى فرض ثبوت معرفته بهما فهل مارسهما في بعض الفترات من عمره أو لا ؟ فهذه بحوث خارجة عن موضوع بحثنا لأنّ البحث في حياته وسيرته قبل البعثة وما ذكر يرجع إلى سيرته بعدها ، ولعلّنا نرجع إلى تلك المسألة في المستقبل.

* * *

7 - إيمان النبي قبل البعثة

اشارة

لم يشك أحد من أهل التاريخ والسير في انّ النبي الأكرم كان على خط التوحيد قبل البعثة ويدل عليه مأثورات كثيرة والمسألة إتفاقية بين المسلمين ولا تحتاج إلى اطناب ، وقد دلّت الآثار على أنّه كان يكافح الوثنيّة منذ نعومة أظفاره ومن إبّان طفوليته وشبابه.

روى صاحب المنتقى : انّ النبي لمّا تمّ له ثلاث سنين ، قال يوماً لوالدته أي مرضعته « حليمة السعديّة » : ما لي لا أرى أخويّ بالنهار ؟ قالت له : يا بُنيّ إنّهما يرعيان غنيمات.

قال : فما لي لا أخرج معهما ؟

قالت له : أتحبّ ذلك ؟

قال : نعم.

قالت حليمة السعدية : فلمّا أصبح محمّد دهّنته وكحّلته وعلّقت في عنقه

ص: 83

خيطاً فيه جزع يماني فنزعه ثمّ قال لأُمّه : « مهلاً يا أُمّاه فإنّ معي من يحفظني » (1).

ونكتفي في المقام بهذا المقدار وقد بسطنا الكلام في المأثورات حول توحيده وإيمانه في محلّه (2).

إنّما المهم تعيين الشريعة التي كان يطبّقها في أعماله الفردية والإجتماعية العبادية وغيرها.

الشريعة التي كان يتعبّد بها قبل البعثة

أمّا الشريعة التي كان يطبقها في أعماله فقد إختلفت الأنظار فيه وانتهت إلى أقوال واحتمالات :

1 - إنّه لم يكن يتعبّد بشريعة من الشرائع وإنّما يكتفي في أعماله الفردية والإجتماعية بما يوحي إليه عقله.

وهذا القول لا يُعرَّج عليه ، إذ لم تكن أعماله منحصرة في المستقلاّت العقليّة كالاجتناب عن البغي والظلم والتحنّن على اليتيم ، والعطف على المسكين ، بل كانت له أعمال عبادية لا تصحّ بدون الركون إلى شريعة لأنّه كان يخرج في شهر رمضان إلى « حراء » فيعتكف فيه وهل يمكن الاعتكاف بدون الاعتماد على شريعة ، وقد رويت عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام إنّه حجّ عشرين حجّة مستتراً (3) ولم يكن البيع والربا ولا الخل والخمر ولا المذكّى والميتة ولا النكاح والسفاح عنده سواسية ، فطبيعة الحال تقتضي أن يكون عارفاً بأحكام عباداته وأفعاله.

ص: 84


1- المنتقى للكازروني ، الباب الثاني من القسم الثاني ، ونقله المجلسي في البحار ج 15 ، ص 392.
2- لاحظ « مفاهيم القرآن » ج 5 ص 351 - 352.
3- الوسائل ج 8 ، الباب45 ص 87 - 88.

2 - إنّه كان يعمل بشريعة إبراهيم وسننه وطقوسه المعروفة وهذا هو الذي كان السيّد العلاّمة الطباطبائي يستظهره كأحقّ الأقوال بشهادة أنّ أجداد النبي واُسرة البيت الهاشمي وجميع الأحناف في الجزيرة العربية كانوا على دين إبراهيم ولم ينقل أحد من أهل السير تهوّدهم أو تنصّرهم.

ويتوجّه على هذا القول : إنّ لازم ذلك كونه عاملاً بالشريعة المنسوخة فإنّ الشريعتين اللاحقتين كشريعة الكليم والمسيح نسختا تلك الشريعة ، إلاّ أن يقال : إنّ سنن إبراهيم علیه السلام وطقوسه كانت باقية على ما هي عليها في الشرائع اللاحقة لها ، وإنّما انقضت نبوّته ، ولكن شريعته كانت باقية في غضون الشرائع اللاحقة ، ولأجل ذلك صارت الشريعة الإبراهيمية هي الأساس للشرائع اللاحقة وإنّما زيد عليها في الفترات اللاحقة أحكام وأُصول أُخر جاء بها الكليم ، أو المسيح أو النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله .

نعم يبقى على هذا القول إشكال آخر وهو أنّه لازم هذا القول أن يكون النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله جزء من أُمّة إبراهيم علیه السلام تابعاً له ، واقتداء الفاضل بالمفضول غير صحيح عقلاً ولم يخصّ أحد تفضيله على سائر الأنبياء بوقت دون وقت ، فيجب أن يكون أفضل في جميع الأوقات فلاحظ وتأمّل.

3 - أن يكون تابعاً للشريعة الأخيرة وهي شريعة المسيح ، وإمّا شريعة الكليم فلا شك أنّها كانت منسوخة بالشريعة اللاحقة ، ولكن هذا الاحتمال مبني على أن يكون النبي واقفاً بشريعة المسيح ولم يكن له طريق إلاّ مخالطة أهل الكتاب وعلمائهم ، وحياته صلی اللّه علیه و آله لا تنسجم مع هذا الإحتمال ، إذ لم يتعلّم منهم شيئاً ولم يسألهم.

4 - إنّه كان يعمل حسب ما يُلهم ويوحى إليه سواء أكان مطابقاً لشرع من قبله أم مخالفاً ، وسواء أكان مطابقاً لما بعث عليه من الشريعة فيما بعد أم لا ؟ وهذا هو أظهر الأقوال ، ويؤيّد ذلك ما نقل عن الإمام أمير المؤمنين علیه السلام أنّه قال :

ص: 85

« لَقَدْ قَرَنَ اللّه بِهِ مِنْ لَدُنْ اَنْ كَانَ فَطيماً اَعْظَمَ مَلك مِنْ مَلائِكتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَريقَ المَكَارِم وَمحَاسِنَ اَخْلاَقِ العَالم لَيْلِهِ ونَهارِهِ وَلَقَدْ كنْتُ اَتَّبَعهُ اتِّباعَ الفَصِيلِ اثرَ أُمِّهِ ، يَرْفَعُ لِي في كُلِّ يوْمٍ منْ أخْلاَقِهِ علماً فاَراه وَلا يَرَاه غَيرِي » (1).

وعلى ذلك لا جدوى من البحث بعد ما كان العمل على ضوء ما يلهم ويؤيّد ذلك أنّه سبحانه أنعم على المسيح ويحيى بالنبوّة أيام صغرهما قال سبحانه حاكياً عن المسيح :

( قَالَ إِنِّي عبد اللّه آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ) ( مريم / 30 ).

وقال سبحانه مخاطباً يحيى :

( يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيًّا ) ( مريم / 12 ).

ولازم ذلك ، إنّ النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله كان يُلْهم منذ صباه إلى أن بعثه اللّه سبحانه نبيّاً وهادياً للبشر وليس ذلك أمراً غريباً ، وتؤيّد ذلك المأثورات المتضافرات في بدء نزول الوحي عليه فكان له الرؤية الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصبح ، ثمّ حبّب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنّث فيه - وهو التعبّد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوّد لذلك ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتى جاءه الحقّ وهو في غار حراء ، فجاءه الملك وقال : « اقرأ » (2).

خاتمة المطاف

نحن مهما جهلنا بشيء فلا يليق بنا الجهل بأنّ النبوّة منصب إلهي لا يتحمّله

ص: 86


1- نهج البلاغة الخطبة رقم 187 طبعة عبده.
2- صحيح البخاري ج 1 ص 3 ، باب بدء الوحي إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، والسيرة النبوية ج 1 ص 234.

إلاّ الأمثل فالأمثل من الناس ، ولا يفاض إلاّ لمن له مقدرة روحيّة عظيمة ولا يتهيّب عندما يتمثّل له رسول الرب وأمين الوحي ويميّز بين وحي الحقّ وكلامه ووسوسة الشياطين وإلقاءاتهم ، ومن المعلوم أنّه عبء فادح ومسؤولية عظمى ، لا يحملها إلاّ من وقع تحت رعاية اللّه وتربيته ، ولا تتحقّق تلك الغاية إلاّ باقتران ملك من ملائكته يرشده إلى معالم الهداية ، ويصونه من صباه إلى شبابه إلى كهولته عن كل سوء وخطأ حتّى تستعدّ نفسه لتمثّل أمين الوحي وتحمّل كلامه سبحانه. وهذا ما أشار إليه الإمام أمير المؤمنين في كلامه السابق فلاحظ.

ص: 87

ص: 88

(4) الوحي في القرآن الكريم

اشارة

لقد تعرّفت على حياة النبي صلی اللّه علیه و آله قبل البعثة وما ورد حولها من الآيات في القرآن الكريم ، وبذلك تمّ بيان ما يرجع إلى الشطر الأوّل من حياته ، وتسلسل البحث يدفعنا إلى البحث عن الشطر الثاني من حياته وهو ما يرجع إلى الحوادث التي مرّت عليه بعد البعثة ونزول الوحي عليه قبل هجرته إلى المدينة المنوّرة ، وقد أقام بعد أن حباه اللّه بالنبوّة والرسالة قرابة ثلاثة عشر سنة يقود فيها أُمّته إلى الصلاح والفلاح بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادلهم بالتي هي أحسن.

ولمّا ضاق عليه الأمر في موطنه الأوّل ودارت عليه الدوائر من قبل أعدائه وأعداء رسالته إضطرّ إلى مغادرة موطنه وألقى رحاله في مهجره أعني المدينة المنورة وبقي فيها زهاء عشر سنين إلى أن اختاره اللّه سبحانه إلى جواره ، وبذلك طويت صفحات عمره المشرقة ، وبقيت آثارها لامعة في سماء الإنسانيّة مشعلاً للهداية على مرّ العصور والتاريخ ، وقد إجتازت مراحل ثلاثة :

1 - حياته قبل البعثة.

2 - حياته بعد البعثة إلى الهجرة.

3 - حياته بعد الهجرة حتى الإرتحال إلى الرفيق الأعلى.

فها نحن في رحاب المرحلة الثانية من مراحل حياته الشريفة وجاءت الحوادث في هذه المرحلة تترى وتقارع شخصيّته الصامدة وقبل أن نخوض في تحليل هذه

ص: 89

الحوادث حسب التسلسل التاريخي على ضوء ما نستفيده من القرآن الكريم ونستوحيه من خلال آياته ; نذكر حادثة نزول الوحي عليه وتكليله بوسام النبوّة التي هي من هبات اللّه تعالى الجسيمة يمنحها لمن يشاء من عباده ( اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) .

الوحي لغة واصطلاحاً

اشارة

الوحي في اللّغة هو الإلقاء في خفاء.نصّ على ذلك ابن فارس في المقاييس ، ثم إنّ أئمّة اللّغة وإن ذكروا للوحي معان مختلفة لكن الجميع يرجع إلى أصل واحد وهو تعليم الغير بخفاء ، قال ابن منظور : الوحي : الإشارة ، والكتابة ، والرسالة ، والإلهام والكلام الخفي وكل ما ألقيته إلى غيرك يقال وحيت إليه الكلام ، والمستفاد من كلماتهم : انّ الوحي هو الإعلام بخفاء بطريق من الطرق والعنصر المقوّم لمعنى الوحي هو الخفاء ، وأمّا غيره كالسرعة على ما في مفردات الراغب فليس بمقوّم لمعنى الوحي ، كما أَنّ الإشارة والكتابة والإلهام إلى القلب كلّها من طرق الوحي ووسائله.

وقد أُستعمل الوحي في القرآن الكريم في موارد مختلفة كلّها مصاديق وموارد لهذا المعنى الجامع وان شئت قلت من قبيل تطبيق المعنى الكلّي على مصاديقه المختلفة المتنوّعة ، واليك البيان :

1 - تقدير الخلقة بالسنن والقوانين :

قال سبحانه : ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ

ص: 90

سَمَاءٍ أَمْرَهَا ) ( فصّلت / 11 و 12 ).

فقوله سبحانه : ( وَأَوْحَى فِي كُلِّ أَمْرَهَا ) يحتمل وجهين :

( الأوّل ) : أودع في كل سماء السنن والأنظمة الكونية وقدّر عليها دوامها إلى أجل معيّن. وبما أنّ السماوات تلقّت هذه السنن والنظم بالإشارة في خلقتها استعير في التعبير لفظ الوحي.

( الثاني ) : إنّ الشعور والإدراك ساريان في جميع مراتب الوجود من أعلاه كواجبه إلى أدناه كالهيولي في عالم التكوين ، ولكن كل حسب درجته ومرتبته ، فالسماوات تلقّت ما أوحى إليها سبحانه بخفاء فقامت بامتثاله ما أوحى إليها من الوظائف.

ومن هذا القبيل قوله سبحانه : ( إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ) ( الزلزلة / 1 - 5 ).

2 - الإدراك بالغريزة :

قال سبحانه : ( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً ) ( النحل / 68 و 69 ).

فالأعمال المدهشة الخلاّبة للعقول التي تقوم بها النحل في صنع بيوته والقيام بشؤون وظائفها ثم التجوّل بين البساتين ، ومص رحيق الأنهار ، ثمّ إيداعها في صفائح الشهد ، شيء تتعلّمه بإيحاء من اللّه سبحانه وذلك بإيداع الغرائز الكفيلة بذلك ، وبما أنّ تأثّر النحل بها بخفاء وبلا إلتفات من الشعور والإدراك اُطلق عليه لفظ الوحي.

ويحتمل أيضاً هناك معنى آخر ذكرناه في الوحي إلى السماء.

ص: 91

3 - الإلهام والإلقاء في القلب :

وقد استعمل الوحي في الإلقاء إلى القلب في موارد في الذكر الحكيم.

منها قوله سبحانه : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ) ( القصص / 7 ).

ومنها قوله : ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي ) ( المائدة / 111 ).

ومنها قوله تعالى في شأن يوسف علیه السلام عِندما جعلوه في غيابت الجبّ ، قال سبحانه :

( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) ( يوسف / 15 ).

إلى غير ذلك من الموارد.

4 - الإشارة :

قال سبحانه : ( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ المِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) ( مريم / 11 ).

وبما أنّه استخدم الإشارة في تفهيم مراده فأشبه فعله إلقاء الكلام بخفاء فصار ذلك مصحّحاً لاستعمال لفظ الوحي.

5 - الإلقاءات الشيطانيّة :

قال سبحانه : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) ( الأنعام / 112 ).

ويعلم وجه استعمال الوحي هنا ممّا ذكرنا فيما سبق.

ص: 92

6 - كلام اللّه المنزّل على نبي من أنبيائه :

قال سبحانه : ( كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللّهُ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( الشورى / 3 ).

وقد عرّف هذا النوع من الوحي بأنّه تعليمه تعالى من اصطفاه من عباده كلّما أراد اطّلاعه على ألوان الهداية واشكال العلم ولكن بطريقة خفيّة غير معتادة للبشر.

وحصيلة البحث : انّ للوحي معنى واحداً وله مصاديق متنوّعة وليست هي بمعان متكثّرة ، وإنّ حقيقة الوحي تعليم غيبي لمن اصطفاه سبحانه من عباده ، لا يشابه الطرق المألوفة بين العباد ، وإن أردت المزيد من الإطّلاع فإليك البيان التالي :

قنوان المعرفة الثلاثة :

اشارة

إنّ أمام الإنسان طرق ثلاثة للوصول إلى مقاصده :

الطريق الأوّل - يستفيد منه جموع الناس غالباً - بينما يستفيد طائفة خاصّة منهم من الطريق الثاني ، ولا يستفيد من الطريق الثالث إلاّ أفراد معدودين تكاملت عقولهم وتسامت أرواحهم وهي كالتالي :

1 - الطريق الحسّي والتجربي :

والمقصود منه الإدراكات والمعلومات الواردة إلى الذهن عن طريق الحواس الظاهريّة أو بفضل التجربة التي أسّست الحضارة المعاصرة عليها.

2 - الطريق التعقّلي النظري :

إنّ المفكّرين يتوصّلون إلى كشف الاُمور الخارجة عن إطار الحسّ والتجربة عن طريق الإستدلال واعمال النظر وانهاء المجهولات إلى البديهيات ، وقد توصّل

ص: 93

البشر بهذا الطريق إلى المسائل الفلسفيّة الكلّية وما يضاهيها.

3 - طريق الإلهام :

وهذا هو الطريق الثالث وهو فوق نطاق الحس والتعقّل. إنّه نوع جديد من المعرفة ، ونمط متميّز من إدراك الحقائق ليس محالاً من وجهة نظر العلم ، وإن كان يصعب على أصحاب الإتجاه المادي قبوله لكونه طريقاً خارجاً عن إطار الحسّ والتعقّل.

إنّ طريق التعرّف على حقائق الكون - في منهج المادّيين واصحاب النزعة المادّية - ينحصر في قناتين لا غير وهما اللّذان سبق ذكرهما ، في حين إنّ هناك حسب نظر الإلهيين قناة ثالثة أيضاً.

إنّ هذا الطريق الثالث أقوى اُسساً وأوسع آفاقاً عند من يدّعون الرسالة والنبوّة من جانب اللّه سبحانه ، وأنّ نفوس اُولئك الأشخاص لتبدو أكثر صفاءً وطراوة وزهواً.

كلّما حصل ارتباط بين اللّه سبحانه وفرد من أفراد النوع الإنساني على نحو تلقّي الحقائق من دون توسيط الحواس وأعمال الفكر يسمّى بالإلهام تارة والإشراق اُخرى ، وكلّما نتجت من هذا الإرتباط سلسلة تعاليم عامّة يطلق عليها اسم الوحي ويسمّى المتلقّي نبيّاً ، ومن هنا اعتبر العلماء « الوحي » الطريقة المطمئنّة الوحيدة إلى المعرفة العامّة.

أنواع الوحي وأقسامه :

اشارة

إنّ النبي تارة يتلقّى الوحي على نحو الإلهام في القلب ، واُخرى يسمع عبارات وكلمات من وراء حجاب كسماع موسى علیه السلام كلام اللّه سبحانه في الطور ، وثالثة تنكشف الحقائق له في عالم الرؤيا انكشاف النهار كرؤيا إبراهيم

ص: 94

الخليل علیه السلام ذبح ولده إسماعيل ، وقد ينزل عليه ملك من جانب اللّه تعالى معه كلامه سبحانه وهو الذي يسمّى بالروح الأمين.

وإلى الطرق الثلاثة : « سوى الرؤيا » اُشير بقوله سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ) والى نزول الملك بقوله : ( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ) وأمّا الرؤيا الصادقة فيكفي في ذلك قوله سبحانه حاكياً عن الخليل علیه السلام : ( يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) ( الصافّات / 102 ).

فلو لم تكن رؤيا الخليل إدراكاً قطعيّاً واتّضح بها وجه الحقيقة كفلق الصبح لما أخبر ولده بها ولما أجابه الولد بالإمتثال طائعاً. نعم اُشير إلى الملك الحامل لكلام اللّه سبحانه بقوله : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ ) ( الشعراء / 193 و 194 ).

إنّ هناك من يحاول أن يفسّر الوحي بالاُصول المادّية والطرق الحسّية ولهم في ذلك آراء ونظريات يشبه كثيرها بكلام بعض المشركين في تقييم الوحي والقرآن الكريم ، وإليك بيان هذه النظريات واحدة تلو الاُخرى.

1 - الوحي وليد النبوغ :

ويقولون : يتميّز بين أفراد الإنسان المتحضّر أشخاص يملكون فطرة سليمة ، وعقولاً مشرقة تهديهم إلى ما فيه صلاح المجتمع وسعادة الإنسان ، فيضعون قوانين فيها مصلحة المجتمع وعمارة الدنيا ، والإنسان المتصدّي لهذه الوظيفة هو النبي ، والفكر المترشّح من مكامن عقله وومضات نبوغه هو الوحي ، والقوانين التي يسنّها لصلاح المجتمع هي الدين ، والروح الأمين ( جبرئيل ) هو نفسه الطاهرة التي تفيض هذه السنن والقوانين إلى مراكز إدراكه ، والكتاب السماوي هو كتابه الذي يتضمّن تلك السنن والقوانين ، والملائكة التي تؤيّده في حلّه وترحاله هي القوى الطبيعية ،

ص: 95

والشيطان الذي ينابذه وينادده هي النفس الأمّارة بالسوء.

أقول : إنّ تفسير النبوّة بالنبوغ وإن صيغ في قالب علمي جديد ليس نظرية جديدة بحدّ ذاتها ، فإنّ جذوره تمتد إلى عصر المشركين المعاصرين للنبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله فإنّهم كانوا يحسّون بحالة الإنجذاب للقرآن وبلاغته الخلاّبة فينسبونه إلى الشعر ويصفون قائله بالشاعر ، قال سبحانه حاكياً عنهم : ( بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ ) ( الأنبياء / 5 ).

ويجيبهم القرآن بقوله : ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ) ( يس / 69 ).

إنّ هذه النظرية إبتنت على إنكار ماوراء الطبيعة فصار الوجود عندهم مساوقاً للمادّة فلم يجدوا منتدحاً عن تفسير الوحي بما جاء في هذه النظرية.

إنّا إذا سبرنا تاريخ المصلحين في العالم نجدهم على فئتين.

فئة تتكلّم باسم الدين الإلهي وتخبر عن اللّه سبحانه وينسب كل ما يأمر وينهي إلى عالم الغيب ولا يرى لنفسه شأناً سوى كونه مبلّغاً لرسالات اللّه ومؤدّيا لبلاغها وإنذارها.

وفئة تتكلّم باسم المصلح الإجتماعي وينسب كل ما يتفوّه به إلى بنات فكره وعقله ، فلو صحّت تلك النظرية لما كان لهذا التقسيم مفهوم صحيح وعندئذ يتساءل : لماذا نسبت الفئة الاُولى ما جاؤوا به من التعاليم إلى عالم الغيب مع أنّه من ومضات فكرتهم هذا ، ومن جانب آخر : انّ المصلحين بإسم الأنبياء كانوا رجالاً صادقين وصالحين لم يبدر منهم ما ينافي صدقهم وصلاحهم ، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّهم كانوا يحسّون من صميم ذاتهم بأنّهم مبعوثون من جانبه سبحانه.

إنّ هذه النظرية التي تفسّر الوحي بالنبوغ وتوسّم الأنبياء بالنوابغ لم تدرس أحوال النوابغ والعلل والمبادئ التي يرتكز عليها النبوغ حتّى تقف على أنّ أحوال

ص: 96

الأنبياء على طرف نقيض من أحوال النوابغ ، فإنّ أفكار النوابغ تتوقّد وتزدهر تحت لواء المجتمعات الراقية ، وتحت ظل الحضارات الإنسانية ، وأمّا المجتمعات المتخلّفة فلو كانت تمتلك نوابغاً بالذات لاُخمد فيها ذكاؤهم وبارت فيها فطنتهم.

وأمّا الظروف التي كان يعيش فيها الأنبياء خصوصاً النبي الخاتم صلی اللّه علیه و آله فقد كانت على نقيض هذا الجانب ، فقد بعث صلی اللّه علیه و آله بين قوم يغطّون في سبات التخلّف والإنحطاط ، فكيف يمكن تفسير النبوّة الخاتمة بالنبوغ مع هذا البون الشاسع بين ظروف النوابغ وظروف خاتم المرسلين صلی اللّه علیه و آله .

أضف إلى ذلك : انّ النوابغ تسودهم العزلة والانزواء مع أنّ النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله كان بين الناس يعيش معهم في حياتهم الإجتماعية وإن لم يكن على سيرتهم وسلوكهم ، فقد قضى عمره في الرعي والتجارة إلى أن بعثه اللّه سبحانه نبيّاً لهداية الاُمّة.

وأنّى للنوابغ الكتاب الذي حارت فيه العقول وخرست الألسن عن النطق بمثله ؟ وأين لهم هذه النظم والتشريعات الحيّة النابضة التي تتلائم وتنسجم مع جميع الحضارات الإنسانية ، فهي كما وصفها شبلي شمّيل اللبناني المتوفّى عام 1335 ه ق في رسالته إلى صاحب المنار :

إلى السيّد محمد رشيد رضا صاحب ( المنار ) :

أنت تنظر إلى محمّد كنبيّ وتجعله عظيماً ، وأنا أنظر إليه كرجل وأجعله أعظم ، ونحن وإن كنّا في الاعتقاد على طرفيّ نقيض ، فالجامع بيننا العقل الواسع والإخلاص في القول ، وذلك أوثق لنا لعرى المودّة ( الحق أولى أن يقال ) :

دع من محمّد في صدى قرآنه *** ما قد نحاء للحمة الغايات

إنّي وإن أك قد كفرت بدينه *** هل أكفرن بمحكم الآيات ؟

أو ما حوت في ناصع الألفاظ من *** حكم روادع للهوى وعظات

ص: 97

وشرايع لو أنّهم عقلوا بها *** ما قيّدوا العمران بالعادات ؟

نعم المدبّر والحكيم وإنّه *** ربّ الفصاحة مصطفى الكلمات

رجل الحجى رجل السياسة والدهاء *** بطل حليف النصر في الغارات

ببلاغة القرآن قد خلب النهى *** وبسيفه أنحى على الهامات

من دونه الأبطال في كل الورى *** من سابق أو غائب أو آت

2 - الوحي ثمرة الأحوال الروحيّة :

هذه النظرية هي التي يعتمد عليها المستشرقون في تحليل نبوّة النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله وفسّرها من بينهم « اميل درمنغام » ، وخلاصتها :

إنّ الوحي إلهام يفيض من نفس النبي الموحى إليه لا من الخارج ، وذلك إنّ سريرته الطاهرة ، وقوّة إيمانه باللّه ، والإعتقاد بوجوب عبادته ، وترك ما سواها من عبادة وثنيّة وتقاليد وراثيّة موبوءة ، يحدث في عقله الباطن ، الرؤى والأحوال الروحيّة فيتصوّر ما يعتقد وجوبه ، إرشاداً إليه ، نازلاً عليه من السماء بدون وساطة ، أو يتمثّل له رجل يلقّنه ذلك ، يعتقد أنّه ملك من عالم الغيب ، وقد يسمعه يقول ذلك ولكنّه إنّما يرى ويسمع ما يعتقده في اليقظة كما يرى ويسمع مثل ذلك في المنام الذي هو مظهر من مظاهر الوحي عند جميع الأنبياء ، فكلّما يخبر به النبي انّه كلام اُلقى في روعه ، أو ملك ألقاه على سمعه ، فهو خبر صادق عنده (1).

نبوّة أو أضغاث أحلام ؟!

وممّا يلاحظ على تلك النظرية إنّها ليست بشيء جديد وإن كانت ربّما تنطلي

ص: 98


1- الوحي المحمدي ص 66.

على السذج من الناس بأنّها نظرية جديدة ذات قيمة علمية.

إنّ الذكر الحكيم يحكي لنا مقالة المشركين في سالف عهدهم في حقّ النبي الأكرم وكتابه حيث كا نوا يحلّلون نبوّته والوحي المنزّل عليه ، بأنّها أضغاث أحلام ، قال تعالى حاكياً عنهم : ( أَضْغَاثُ أَحْلامٍ ) أي أنّ ما يحكيه عن اللّه تبارك وتعالى إنّما هو وحي الأحلام يجري على لسانه ، وعلى ذلك فليست تلك النظرية إلاّ تفسير للنبوّة بالجنون الذي هو في مرتبة عالية وشديدة من تجلّي النزعات الخيالية فاستغلّه المستشرقون ، واستعرضوه بثوب جديد يوهم السذّج أنّها تحليل علمي بني على أساس علمي رصين ، ولكن المساكين غير واقفين على أنّه نفس النظرية الجاهلية التي جوبه بها النبي حيث قالوا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) ( الحجر / 6 ).

وقد حكيت هذه التهمة عن لسان المشركين في غير سورة. سبحانك يا رب ما أعظم جناية الإنسان على الصالحين البالغين ، ذروة الكمال في العقل والدراية حتى وسمهم هؤلاء المفترون تارة بالخبطة وأُخرى بالمسّ والجنون.

ص: 99

ص: 100

(5) بعثته ونزول الوحي إليه

اشارة

« بَعَثَ اللّهُ سُبْحانَهُ نَبِيَّهُ الأَكْرَم عَلَى حِينِ فَتَرةٍ مِنَ الرُّسُلِ ، وَطُولِ هَجعَةٍ مِنَ الاُمَمِ ، وَاعْتِزَام مِنَ الفِتَنِ وَانتِشَارٍ مِنَ الأُمُورِ ، وَتَلَظٍّ مِنَ الحُروبِ ، والدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ ، ظَاهِرةُ الغُرورِ ، عَلى حِينِ اصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا ، وإياسٍ مِن ثَمرِهَا ، وَاغوِرَار مِنْ مَائِهَا ، قَدْ دَرَسَتْ مَنَار الهُدى ، وَظَهَرتْ اَعلامُ الرَّدى ، فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لأَهْلِهَا ، عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبَها ، ثَمَرُهَا الفِتْنَةُ ، وَطَعَامُهَا الجِيفَةُ ، وَشِعارُهَا الخَوْفُ ، وَدِثَارُهَا السَّيْفُ » (1).

بعث على رأس الأربعين من عمره ، وبُشّر بالنبوّة والرسالة ، وأمّا الشهر الذي بعث فيه ، ففيه أقوال وآراء ، فالشيعة الإمامية تبعاً لأئمّة أهل البيت علیهم السلام على أنّه صلی اللّه علیه و آله بعث في سبع وعشرين من رجب.

روى الكليني عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال : لا تدع صيام يوم سبع وعشرين من رجب فإنّه اليوم الذي نزلت فيه النبوّة على محمّد صلی اللّه علیه و آله (2).

وروى أيضاً عن الإمام الكاظم علیه السلام أنّه قال : بعث اللّه عزّ وجلّ محمّداً رحمة للعالمين في سبع وعشرين من رجب(3) .

روى المفيد عن الإمام الصادق علیه السلام قال : في اليوم السابع والعشرين من رحب نزلت النبوّة على رسول اللّه ، إلى غير ذلك من الروايات (4).

وأمّا غيرهم فمن قائل بأنّه بعث في سبعة عشر من شهر رمضان أو ثمانية عشر أو أربع وعشرين من هذا الشهر أو في الثاني عشر من ربيع الأوّل.

ص: 101


1- إقتباس من كلام الإمام أمير المؤمنين في نهج البلاغة الخطبة 85 ، طبعة عبده.
2- البحار ج 18 ص 189 - نقلاً عن الكافي وأمالي ابن الشيخ.
3- البحار ج 18 ص 189 - نقلاً عن الكافي وأمالي ابن الشيخ.
4- البحار ج 18 ص 189 - نقلاً عن الكافي وأمالي ابن الشيخ.

وبما أنّ أهل البيت أدرى بما في البيت ، كيف وهم نجوم الهدى ومصابيح الدجى وأحد الثقلين الذين تركهما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعده ، فيجب علينا الوقوف دون نظرهم ولا نجتازه ، نعم دلّ الذكر الحكيم على أنّ القرآن نزل في شهر رمضان قال سبحانه : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ... ) ( البقرة / 185 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ( القدر / 1 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ) ( الدخان / 3 ).

إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على نزوله في شهر رمضان.

والإستدلال بهذه الآيات على أنّه صلی اللّه علیه و آله بعث في شهر رمضان مبني على إقتران البشارة بالنبوّة ، بنزول القرآن وهو بعد غير ثابت ، فلو قلنا بالتفكيك وانّه بعث في شهر رجب ، وبشّر بالنبوّة فيه ، ونزل القرآن في شهر رمضان ، لما كان هناك منافاة بين بعثته في رجب ، ونزول القرآن في شهر رمضان.

ويؤيّد ذلك أي عدم اقتران النبوّة بنزول القرآن ما نقله غير واحد عن عائشة : إنّ أوّل ما بدء به رسول اللّه من النبوّة حين أراد اللّه كرامته ، الرؤيا الصادقة ، فكان لا يرى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله رؤيا في نومه إلاّ جاءت كفلق الصبح ، قالت : وحبّب اللّه تعالى إليه الخلوة ، فلم يكن شيء أحبّ إليه من أن يخلو وحده (1).

لكن الظاهر من ذيل ما روته عائشة أنّ النبوّة كانت مقترنة بنزول الوحي والقرآن الكريم ، ولنذكر نص الحديث بتمامه ثمّ نذيّله ببيان بعض الملاحظات حوله.روى البخاري : « كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يخلو بغار حراء ، فيتحنّث فيه وهو التعبّد في الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزوّد لذلك ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتى جاء الحقّ وهو في غار حراء ، فجاءه الملك ، فقال : اقرأ. قال : ما أنا بقارئ ، قال : فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد ثمّ أرسلني فقال : اقرأ ، قلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطّني الثانية حتى بلغ منّي الجهد ثمّ أرسلني

ص: 102


1- صحيح البخاري ج 1 ص 3 ، السيرة النبوية ج 1 ص 334.

فقال : إقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطّني الثالثة ثمّ أرسلني ، فقال : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) (1).

وفي هذه الرواية تأمّلات واضحة :

1 - ما هو المبرّر لجبرئيل أن يروّع النبي الأعظم ، وأن يؤذيه بالعصر إلى حدٍّ أنّه يظن انّه الموت ؟ يفعل به ذلك وهو يراه عاجزاً عن القيام بما يأمره به ، ولا يرحمه ولا يلين معه ؟

2 - لماذا يفعل ذلك ثلاث مرات لا أكثر ولا أقل ؟

3 - لماذا صدّقه في الثالثة ، لا في المرّة الاُولى ولا الثانية مع أنّه يعلم أنّ النبي لا يكذب ؟

4 - هل السند الذي روى به البخاري قابل للإحتجاج مع أنّ فيه الزهري وعروة.

أمّا الزهري فهو الذي عرف بعمالته للحكام ، وإرتزاقه من موائدهم ، وكان كاتباً لهشام بن عبد الملك ومعلّماً لأولاده ، وجلس هو وعروة في مسجد المدينة فنالا من علي ، فبلغ ذلك السجاد علیه السلام حتى وقف عليهما فقال : أمّا أنت يا عروة فإنّ أبي حاكم أباك ، فحُكِم لأبي على أبيك ، وأمّا أنت يا زهري فلو كنت أنا وأنت بمكّة لأريتك كن أبيك (2).

أمّا عروة بن الزبير الذي حكم عليه ابن عمر بالنفاق وعدّه الاسكافي من التابعيين الذين يضعون أخباراً قبيحة في عليّ علیه السلام (3).

نعم رواه ابن هشام والطبري في تفسيره وتاريخه (4) بسند آخر ينتهي إلى

ص: 103


1- صحيح البخاري ج 1 ص 3.
2- أي بيت أبيك.
3- الصحيح من سيرة النبي الأعظم ص 223.
4- السيرة النبوية ج 1 ص 235 ، تفسير الطبري ج 30 ص 162 ، وتاريخه ج 3 ص 353.

أشخاص يستبعد سماعهم الحديث عن نفس الرسول الأكرم ودونك أسماؤهم :

1 - عبيد بن عمير ، ترجمه ابن الاثير ، قال : ذكر البخاري أنّه رأى النبي وذكر مسلم أنّه ولد على عهد النبي وهو معدود من كبار التابعين يروي عن عمر وغيره (1).

2 - عبد اللّه بن شداد ، ترجمه ابن الأثير وقال : ولد على عهد النبي ، روى عن أبيه وعن عمر وعليّ (2).

3 - عائشة ، زوجة النبي ، حيث تفرّدت بنقل هذا الحديث ومن المستبعد جداً أن لا يحدّث النبي هذا الحديث غيرها مع تلهف غيرها إلى سماع أمثال هذا الحديث.

نعم ورد مضمون الحديث في تفسير الإمام العسكري علیه السلام ونقله من أعلام الطائفة ابن شهر آشوب في مناقبه (3) أو المجلسي في بحاره (4).

لكن الكلام في صحّة نسبة التفسير الموجود إلى الإمام العسكري علیه السلام وأمّا المناقب فإنّه يورد الأحاديث والتواريخ مرسلة لا مسندة ، والمجلسي اعتمد على هذه المصادر التي عرفت حالها.

وبذلك يظهر أنّه لا دليل على أنّ البشارة بالنبوّة كانت مقترنة بنزول القرآن ، وبذلك ينسجم نزول القرآن في شهر رمضان مع كون البعثة في شهر رجب ، نعم أورد العلاّمة الطباطبائي على هذه النظرية بقوله : إذا بعث النبي في اليوم الثاني والعشرين من شهر رجب وبينه وبين شهر رمضان أكثر من ثلاثين يوماً فكيف تخلو البعثة في هذه المدّة من نزول القرآن ؟ على أنّ سورة العلق أوّل سورة نزلت على رسول اللّه وأنّها

ص: 104


1- اُسد الغابة ج 3 ص 353.
2- نفس المصدر ج 4 ص 183.
3- مناقب آل أبي طالب ج 1 ص 40 - 44.
4- بحار الأنوار ج 18 ص 196.

نزلت بمصاحبة البعثة (1).

يلاحظ على ما ذكر :

1 - انّ الوجه الأوّل من كلامه مجرّد استبعاد ، فأي إشكال في أن يكون النبي قد بشّر بالنبوّة ونزِّل القرآن بعد شهر وبضعة أيام.

2 - وأمّا الوجه الثاني فلأنّ الروايات نطقت بأنّها أوّل سورة نزلت وليس فيها ما يدلّ على اقتران نزولها بأوّل عهد البعثة.

سؤال وإجابة :

إذا كان القرآن نازلاً في شهر رمضان فإنّ معناه أنّ مجموعه نزل في هذا الشهر مع أنّه نزل قرابة مدّة ثلاثة وعشرين سنة فكيف التوفيق بين هذين الأمرين ؟

وأمّا الإجابة فقد اُجيب عنه بأجوبة نذكرها واحداً تلو الآخر.

الأوّل : إنّ للقرآن نزولين : نزول دفعي وقد عبّر عنه بلفظ الإنزال الدال على الدفعة ، ونزول تدريجي وهو الذي يعبّر عنه بالتنزيل. قال سبحانه : ( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) ( هود / 1 ) فإنّ هذا الإحكام في مقابل التفصيل ، والتفصيل هو جعله فصلاً فصلاً ، وقطعة قطعة ، والإحكام كونه على وجه لا يتفصّل فيه جزء من جزء ولا يتميّز بعض من بعض ، لرجوعه إلى معنى واحد ، لا أجزاء ولا فصول فيه ، فعلى ذلك فالقرآن نزل دفعة واحدة على قلب النبي الأعظم ، ثم صار ينزل تدريجياً حسب المناسبات والوقائع والأحداث (2).

وعلى ذلك فلا مانع من نزول جميع القرآن في شهر رمضان نزولاً دفعياً ، ثمّ نزوله نحو ما في بضعة وعشرين سنة.

ص: 105


1- تفسير الميزان ج 2 ص 13.
2- الميزان ج 2 ص 14 - 16.

ويلاحظ عليه : أنّ ما ذكره مبني على الفرق بين « الإنزال » و « التنزيل » ، وإنّ الأوّل عبارة عن النزول الدفعي ، والثاني عن النزول التدريجي مع أنّه لا دليل عليه ، فإنّ الثاني أيضاً استعمل في النزول الدفعي. قال تعالى حاكياً عن المشركين : ( وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ) ( الاسراء / 93 ).

وقال تعالى : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ) ( الفرقان / 32 ) فلو كان التنزيل هو النزول التدريجي فلماذا وصفه بقوله : « جملة واحدة ... ».

الثاني : إنّ القرآن نزل دفعة واحدة إلى البيت المعمور حسب ما نطقت به الروايات الكثيرة ثمّ صار ينزل تدريجياً على الرسول الأعظم.

روى حفص بن غياث عن الإمام الصادق علیه السلام قال سألته عن قول اللّه عزّ وجلّ : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) وإنّما اُنزل في عشرين بين أوّله وآخره ، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام « نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور ثمّ نزل في طول عشرين سنة » (1).

ولو صحّت الرواية يجب التعبّد بها ، وإلاّ فما معنى نزول القرآن الذي هو هدى للناس إلى البيت المعمور ، وأي صلة بهذا النزول بهداية الناس الذي يتكلّم عنه القرآن ويقول : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) ؟

قال الشيخ المفيد :

« الذي ذهب إليه أبو جعفر (2) حديث واحد لا يوجب علماً ولا عملاً ونزول

ص: 106


1- البرهان في تفسير القرآن ج 1 ص 182 ، والدر المنثور ج 6 ص 370.
2- مراده الصدوق ، وقد ذهب إلى أنّ القرآن قد نزل في شهر رمضان في ليلة القدر جملة واحدة إلى البيت المعمور ، ثمّ انزل من البيت المعمور في مدة عشرين سنة.

القرآن على الأسباب الحادثة حالاً لا يدلّ على خلاف ما تضمّنه الحديث ، وذلك انّه قد تضمّن حكم ما حدث ، وذكر ما جرى على وجهه ، وذلك لا يكون على الحقيقة إلاّ لحدوثه عند السبب ، ... الخ.

ثمّ استعرض آيات كثيرة نزلت لحوادث متجددة (1).

الثالث : إنّ القرآن يطلق على الكلّ والجزء ، فمن الممكن أن يكون المراد بنزول القرآن في شهر رمضان هو شروع نزوله في ليلة مباركة وهي ليلة القدر ، فكما يصحّ نسبة النزول إليه في شهر رمضان إذا نزل جملة واحدة ، تصحّ نسبتة إليه إذا نزل أوّل جزء منه في شهر رمضان واستمرّ نزوله في الأشهر القادمة طيلة حياة النبي.

فيقال : نزل القرآن في شهر رمضان أي بدأ نزوله في هذا الشهر ، وله نظائر في العرف ، فلو بدأ فيضان الماء في المسيل يقال جرى السيل في يوم كذا وإن استمرّ جريانه وفيضانه عدّة أيام.

وهذا هو الظاهر من صاحب « المنار » حيث يقول : وأمّا معنى إنزال القرآن في رمضان مع أنّ المعروف باليقين أنّ القرآن نزل منجّماً في مدّة البعثة كلّها ، فهو أنّ إبتداء نزوله كان في رمضان ، ذلك في ليلة منه سمّيت ليلة القدر أي الشرف ، والليلة المباركة كما في آيات اُخرى. وهذا المعنى ظاهر لا إشكال فيه ، على أنّ لفظ القرآن يطلق على هذا الكتاب كلّه ويطلق على بعضه.

الرابع : إنّ جملة القرآن وإن لم تنزل في تلك الليلة ، لكن لمّا نزلت سورة الحمد بها وهي تشتمل على جلِّ معارف القرآن ، فكأنّ القرآن اُنزل فيه جميعاً فصحّ أن يقال : إنّا اَنزلناه في ليلة القدر.

يلاحظ عليه : أنّه لو كانت سورة الحمد أوّل سورة نزلت على رسول اللّه لكان حق الكلام أن يقال : قل بسم اللّه الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، أو يقال :

ص: 107


1- تصحيح الإعتقاد ص 58.

بسم اللّه الرحمن الرحيم ، قل : الحمد لله ربّ العالمين (1).

وهذا يعرب عن أنّ سورة الحمد ليست أوّل سورة نزلت على النبي.

هذه هي الوجوه التي ذكرها المفسّرون المحقّقون والثالث هو الأقوى.

أوّل ما نزل على رسول اللّه :

ذكر أكثر المفسّرين أنّ أوّل سورة نزلت على رسول اللّه هي سورة العلق ، وتدل عليه روايات أئمّة أهل البيت. روى الكليني عن الصادق علیه السلام قال : أوّل ما نزل على رسول اللّه ( بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ... ) وآخر سورة هو قوله : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ ... ) ومثله عن الإمام الرضا علیه السلام (2).

ولعلّ المراد نزول آيات خمس من أوّلها لا جميع السورة.

لأنّ قوله سبحانه في نفس تلك السورة : ( أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى ... ) لا يناسب أن تكون أوّل ما نزل ، بل هو حاك عن وجود تشريع للصلاة ، ووجود من يقيمها حتّى واجه نهي بعض المشركين ، وهذا لا يتّفق مع كونه أوّل ما نزل.

أساطير وخرافات

دلّت الأدلة العقلية والآيات القرآنية على أنّ الأنبياء مصونون عن الخطأ والإشتباه في تلقّي الوحي أوّلاً ، وضبطه ثانياً ، وإبلاغه ثالثاً وأنّهم لا يشكّون فيما يلقى في روعهم من أنّه ربّ العالمين وأنّ ما يعاينونه رسول إله العالمين ، والكلام كلامه ، لا يشكّون في ذلك طرفة عين ولا يتردّدون بل يتلقّونه بنفس مطمئنة.

ص: 108


1- الميزان ج 2 ص 21 - 22.
2- البرهان في تفسير القرآن ج 1 المقدّمة الباب الخامس عشر ص 29 ، وتاريخ القرآن للزنجاني ص 30.

هذا هو القرآن الكريم يذكر كيفيّة بدء نزول الوحي إلى موسى وإنّه تلقّاه بلا تردّد ولا تريّث. بذكره في سور مختلفة :

يقول : ( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * ... اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا ) ( طه / 11 - 35 ).

ترى أنّ الكليم عندما فُوجئ بنزول الوحي ، تلقّاه بصدر رحب ، ولم يتردّد في أنّه وحيه سبحانه وأمره ، ولذلك سأل سبحانه أن يشرح له صدره ، وييسر له أمره ، ويحلّ العقدة التي في لسانه ، ويجعل له وزيراً من أهله ، يشدّ به أزره ويشركه في أمره.

يقول سبحانه : ( فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللّهُ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( النحل / 8 - 9 ).

وجاءت هذه القصة في سورة القصص على وفق ما وردت في السورتين (1).

ومن لاحظ هذه الآيات يقف على أنّ موقف الأنبياء من الوحي هو موقف الإنسان المتيقّن المطمئنّ إليه ، وهذه خاصّة تعمّ جميع الأنبياء علیهم السلام .

نرى أنّه سبحانه يذكر رؤية النبي الأكرم ، ومواجهته لمعلّمه الذي وصفه القرآن ب « شديد القوى ».

يقول : ( إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ

ص: 109


1- القصص 29 - 35.

مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ) ( النجم / 4 - 12 ).

فأي كلمة أصرح في توصيف إيمان النبي واذعانه في مجال الوحي ومواجهة أمينه من قوله سبحانه : ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) أي صدق القلب عمل العين. ويحتمل أن يكون المراد ، ما رآه الفؤاد.

قال العلاّمة الطباطبائي :

فالمراد بالفؤاد ، فؤاد النبي صلی اللّه علیه و آله وضمير الفاعل في « ما رأى » راجع إلى الفؤاد ، والرؤيا رؤيته ولابدع في نسبة الرؤية وهي مشاهدة العيان إلى الفؤاد ، فإنّ للإنسان نوعاً من الإدراك الشهودي وراء الإدراك بإحدى الحواسّ الظاهرة ، والتخيّل والتفكّر بالقوى الباطنة كما أنّنا نشاهد من أنفسنا أنّنا نرى وليست هذه المشاهدة العيانية رؤية بالبصر ولا معلوماً بالفكر ، وكذا نرى من أنفسنا أنّنا نسمع ونشمّ ونذوق ونلمس ، ونشاهد أنّنا نتخيّل ونتفكّر ، وليست هذه الرؤية ببصر أو بشيء من الحواسّ الظاهرة أو الباطنة (1).

فاللّه سبحانه يؤيّد صدق النبي فيما يدّعيه من الوحي ورؤية آيات اللّه الكبرى ، سواء كانت بالعين أو بالفؤاد.

وعلى كل تقدير فهذه الآيات وغيرها تدلّ على أنّ الأنبياء وغيرهم لا يشكّون ولا يتردّدون فيما يواجهون من الاُمور الغيبيّة.

وعلى ضوء ذلك تقف على أنّ ما ملأ كتب السيرة وبعض التفاسير في مجال بدء الوحي وأنّه تردّد النبي وشكّ عندما بشّر بالنبوّة وشاهد ملك الوحي وامتلأ روعاً وخوفاً إلى حدّ حاول أن يلقي نفسه من شاهق ، وعاد إلى البيت فكلّم زوجته فيما واجهه ، وعادت زوجته تسلّيه وتقنعه بأنّه رسول ربّ العالمين ، وإنّ ما رآه ليس إلاّ أمراً حقّاً.

إذ كل ذلك أساطير وخرافات ، تناقض البراهين العقليّة وما يتلقّاه الإنسان

ص: 110


1- الميزان ج 19 ص 30.

من قصص الأنبياء الواردة في القرآن الكريم ، وقد دسّها الأحبار والرهبان وسماسرة الحديث والقصّاصون في كتب القصص والسير والحديث ، ونحن نكتفي في المقام بما ذكره البخاري في صحيحه وابن هشام في سيرته ، فإنّ استقصاء كل ما ورد حول هذا الموضوع من الروايات المدسوسة يدفع بنا إلى تأليف رسالة مفردة ، ولكن فيما ذكرنا غنىً وكفاية. قال البخاري :

( بعد ذكر نزول أمين الوحي عليه في جبل حراء ) « فرجع بها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة بنت خويلد ( رضي اللّه عنها ) فقال : زمّلوني زمّلوني ، فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة - واخبرها الخبر - لقد خشيت على نفسي ، فقالت خديجة : كلاّ واللّه ما يخزيك اللّه أبداً إنّك لتصل الرحم ، وتحمل الكل وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحقّ ، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى ابن عمّ خديجة ، وكان أمرئً تنصّر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبراني ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء اللّه أن يكتب ، وكان شيخاً كبيراً قد عمي ، فقالت له خديجة يا ابن عمّ اسمع من ابن أخيك ، فقال له ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خبر ما رأى ، فقال له ورقة : هذا الناموس الذي نزل اللّه على موسى يا ليتني فيها جذعاً ليتني أكون حيّاً إذ يخرجك قومك ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمخرجي هم ؟ قال : نعم ، لم يأتِ رجل قطّ بمثل ما جئت به إلاّ عودي ، وان يدركني يومك ، أنصرك نصراً مؤزّراً ثم لم ينشب (1) ورقة أن توفّي وفتر الوحي » (2).

هذا ما لدى البخاري ، وأمّا صاحب السيرة النبوية فبعدما ذكر مسألة الغتّ ينقل عن النبي أنّه قال :

« فخرجت حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول :

ص: 111


1- أي لم يلبث.
2- صحيح البخاري ج 1 ص 3.

يا محمد ، أنت رسول اللّه وأنا جبرئيل ، قال : فوقفت أنظر إليه ، فما أتقدّم وما أتأخّر ، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء ، قال : فلا أنظر في ناحية منها إلاّ رأيته كذلك ، فما زلت واقفاً ، ما أتقدّم أمامي ، وما أرجع ورائي ، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي فبلغوا على مكّة ورجعوا إليها ، وأنا واقف في مكاني ذلك ، ثم انصرف عنّي وانصرفت راجعاً إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفاً إليها ، فقالت : يا أبا القاسم ، أين كنت ؟ فو اللّه لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكّة ورجعوا إليّ ، ثمّ حدّثتها بالذي رأيت ، فقالت : أبشر يا ابن عمّ واثبت ، فو الذي نفس خديجة بيده إنّي لأرجو أن تكون نبيّ هذه الاُمّة ».

ثمّ يذكر انطلاق خديجة إلى ورقة بن نوفل ، وما أجابها به ورقة بنفس النص الذي ذكره البخاري ثمّ يذكر لقاء النبي ورقة بن نوفل ، وهو يطوف بالكعبة ، فسأله ورقة بما رأى وسمع ، فأخبره النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فقال له ورقة : والذي نفسي بيده إنّك لنبيّ هذه الاُمّة.

ثمّ عقبه بذكر ما قامت به خديجة من إمتحان صدق نبوّته فذكر أنّها قالت لرسول اللّه : أي ابن عمّ ، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا إذا جاءك ؟ قال : نعم. قالت : فإذا جاءك فاخبرني به ، فجاءه جبرئيل ، فقال رسول اللّه لخديجة : هذا جبرئيل قد جائني ، قالت : قم يا بن عمّ فاجلس على فخذي اليسرى ، قال : فقام رسول اللّه فجلس عليها ، قالت : هل ترى ؟ قال : نعم ، قالت : فتحوّل فاجلس على فخذي اليمنى ، فجلس على فخذها اليمنى ، فقالت : هل تراه ؟ قال : نعم ، قالت : فتحوّل واجلس في حجري ، فتحوّل فجلس في حجرها ، قالت هل تراه ، قال : نعم ، فتحسّرت وألقت خمارها ورسول اللّه جالس في حجرها ، ثم قالت له : هل تراه ؟ قال : لا.

قالت : يا ابن عم اثبت وابشر ، فو اللّه هذا ملك وما هذا بشيطان (1).

وقال الطبري - بعد ما ذكر نزول جبرئيل إليه وتعليم آيات من سورة العلق -

ص: 112


1- السيرة النبوية ج 1 ص 237 - 239 ، وتاريخ الطبري ج 2 ص 49 - 50.

ثمّ دخلت على خديجة وقلت : زمّلوني زمّلوني حتى ذهب عنّي الروع ، ثمّ أتاني وقال : يا محمد ، أنت رسول اللّه.

قال : لقد هممت أن أطرح نفسي من حالق من جبل فتبدّى لي حين هممت بذلك ، فقال : يا محمد ، أنا جبرئيل وأنت رسول اللّه ، ثمّ قال : إقرأ ، قلت : ما اقرأ ؟ قال : فأخذني فغتني ثلاث مرات حتّى بلغ منّي الجهد ثمّ قال : اقرأ باسم ربّك الذي خلق ، فقرأت فأتيت خديجة ، فقلت : لقد أشفقت على نفسي ، فأخبرتها خبري فقالت : ابشر فو اللّه لا يخزيك اللّه أبداً ، وواللّه إنّك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتؤدّي الأمانة ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحقّ ، ثمّ انطلقت بي إلى ورقة بن نوفل بن أسد ، فقالت : اسمع من ابن أخيك ، فسألني فأخبرته خبري ، فقال : هذا الناموس الذي اُنزل على موسى بن عمران ... .

نظرة تحليلية حول هذه النصوص :

إنّ هذه النصوص التاريخية التي نقلها المشايخ كالبخاري وابن هشام والطبري ، وتلقّاها الآخرون من بعدهم على أنّها حادثة متسالم عليها تضاد ما يستشفه الإنسان من التدبّر في حالات الأنبياء في القرآن الكريم وتناقض البديهة العقلية ، وإليك بيان ما فيها من نقاط الضعف وعلائم الجعل والتهافت :

1 - إنّ النبوّة كما عرفت منصب إلهي لا يفيضه اللّه إلاّ على من امتلك زخماً هائلاً من القدرات الروحية والقوى النفسية العالية حتّى يقوى على معاينة الوحي ، ومشاهدة الملائكة ، فعندئذٍ فلا معنى لما ذكره البخاري : « لقد خشيت على نفسي » أفيمكن أن ينزل الوحي الإلهي على من لا يفرّق بين لقاء الملك ، ولقاء الجنّ ومكالمتهما حتى يخشى على نفسه الجنون أو الموت ؟

2 - وأسوأ منه ما ذكره الطبري من أنّه صلی اللّه علیه و آله همّ أن يرمي بنفسه من شاهق من جبل ، فندم عليه ورجع عنه حين سمع كلام جبرئيل يا محمد أنا جبرئيل.

ص: 113

إنّ هذا الكلام يعرب من أنّ نفسه صلی اللّه علیه و آله لم تكن نفساً مستعدّة لتحمّل الوحي على حدٍّ ، همّ أن يقتل نفسه بالإلقاء من حالق ، وهل هذا هو إلاّ نفس الجنون الذي كان المشركون يصفونه به طيلة بعثته ، فوا عجباً نسمعه من أعوانه وانصاره ومن لسان زوجته.

3 - إنّ قول خديجة لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : كلاّ واللّه ما يخزيك اللّه أبداً ، تعرب من أنّها كانت أوثق إيماناً بنبوّته من نفس الرسول. فهل يمكن التفوّه بذلك ، وما حاجة النبي الأعظم الذي قال تعالى في حقّه : ( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) ( النساء / 113 ) إلى هذا التسلّي ؟

وهل يصحّ ويتعقّل للنبيّ أن يشكّ في رسالة نفسه حتى يستفتي زوجته فيزول شكّه بتصديقها ؟

4 - ذكر البخاري : انّ خديجة انطلقت مع رسول اللّه إلى ورقة ، فأخبره رسول اللّه بما وقع ، فأجاب ورقة بما ذكره ، وانّ ما نزل عليه هو الناموس الذي نزّله اللّه على موسى.

ومعنى هذا أن يكون ورقة أعلم بالسرّ المودع في قلب رسول اللّه من نفسه ، كما أنّ معنى ذلك انّ كلاًّ من الزوجين كانا شاكّين في صحّة الرسالة ، فانطلقا إلى متنصّر وقرأ وريقات من العهدين حتى يستفتياه ليزيل عنهما حجاب الشكّ وغشاوة الريب.

5 - إنّ معنى ما ذكره البخاري من أنّ ورقة أخبر النبي بأنّه : يسخر منك قومك ، وتعجّب الرسول من هذا الكلام وقال : أوَ مخرجي هم ؟ كون المرسل إليه أعلم من الرسول وأفضل منه.

6 - إنّ ما ذكره ابن هشام من « انّ الرسول كلّما رفع رأسه إلى السماء لينظر ما رأى إلاّ رجلاً صافّاً قدميه في اُفق السماء ، فلا ينظر في ناحية من السماء إلاّ رآه فيها » يشبه كلام المصابين في عقولهم وشعورهم ، والمختلّين في أفكارهم ، فلا يرون في

ص: 114

كل جهة إلاّ الصورة المتخيّلة ، لطغيانها على مخيّلتهم وشعورهم ، أعاذنا اللّه من إكالة الشنائع بمقام النبوّة ، بنحو لا يليق بساحة العاديين من الناس فضلاً عن النبي الأكرم خاتم النبّيين.

7 - انظر إلى امتحان خديجة لبرهان النبوّة فإنّ ظاهرها أنّها كانت شاكّة في نبوّة زوجها ، ولكنّها استحصلت اليقين على الوجه الذي سمعته في كلام ابن هشام والطبري ، ولكن أي صلة بين رفع الخمار والقائه وعدم رؤية جبرئيل ، وهل لرفع الخمار وتعرية شعر الرأس تأثير في غياب أمين الوحي عن البيت ؟

نرى أنّه سبحانه ينقل في غير سورة من سور القرآن الكريم مكالمة الملائكة زوجة الخليل وتبشيرها بالولد. فهل يمكن لنا أن نقول بعد ذلك : إنّ زوجة الخليل لو كانت مكشوفة الرأس لامتنعت الملائكة من دخول بيت الخليل علیه السلام (1).

8 - إنّ ورقة بن نوفل على حدّ تصريح نصّ الرواية كان بادي بدئه نصرانيّاً بعد ما كان مشركاً ، فمقتضى الحال أن يشبّه الرسول الأعظم بالمسيح الذي كان يعتقد بنبوّته ، لا بالكليم. أو ليس هذا يعرب عن لعب يد الأحبار في الخفاء في اصطناع هذه الأحاديث ودورهم في تشويش صفاء رسالة الرسول الأعظم بأمثال هذه الأساطير والمهاترات والخرافات ؟

9 - نحن على ثقة ويقين بأنّ النبوّة منصب إلهي لا يتحمّله إلاّ الأمثل والأكمل فالأكمل من الناس ، ولا يقوم بأعباء مهامّها إلاّ من امتلك قدرة روحيّة خاصّة تبعث في نفسه الإذعان والتسليم ، والإنقياد حينما يتمثّل له رسول ربّه وأمين وحيه ، فلا تأخذه المسكنة ولا يستولي عليه الخوف عند سماع كلامه ووحيه ، وقد درسنا وضع الكليم عندما فوجئ بالوحي فما حاق به الروع ولا أحاط به الخوف ، ولا همّ بإلقاء نفسه ... إلى غير ذلك ممّا ورد في هذه الروايات ، وبما أنّ القرآن هو المرجع الفصل في تمييز الصحيح من الزائف في جملة هذه الروايات ، يحتّم علينا إعراض

ص: 115


1- لاحظ هود / 71 - 73 ، الذاريات / 29.

الصفح عنها ، وضربها عرض الجدار ، مضافاً إلى ما فيها من التناقض والإختلاف في حكاية القصّة كما هو معلوم لمن تدبّر فيها وتأمّل نصّها.

فرية إنقطاع الوحي وفتوره

وقفت على ما في الروايات السابقة من الوضع والدسّ بهدف تشويه صفاء صورة رسالة النبي الأكرم فهلمّ معي نتناول فريّة اُخرى حيكت على المنوال السابق ، وللغاية نفسها ، وهي مسألة إنقطاع الوحي بعد نزول آيات من سورة العلق ، أو سورة المدّثّر ، أو سورة الحمد على إختلاف في أوّل سورة نزلت على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقد حازت هذه الفريّة على نصيب من الإهتمام والتقدير في كتب السيرة والتفسير حتى إنّ الدكتور محمد حسين هيكل ، أرسلها إرسال المسلّمات في كتابه بقوله : « انتظر هداية الوحي إيّاه في أمره ، وإنارة سبيله ، فإذا الوحي يفتر ، واذا جبرئيل لا ينزل عليه ، ... إلى أن قال : وقد روي أنّ خديجة قالت له : ما أرى ربّك إلاّ قد قلاك ، وتولاّه الخوف والوجل ، فهما يبعثانه من جديد ، يطوي الجبال وينقطع في حراء يرتفع بكل نفسه ابتغاء وجه ربّه ، يسأله : لم قلاه بعد أن اصطفاه ، ولم تكن خديجة بأقلّ منه إشفاقاً ووجلاً ويتمنّى الموت صادقاً لولا أنّه كان يشعر بما اُمر به ، فيرجع إلى نفسه ، ثمّ إلى ربّه ، ولقد قيل : إنّه فكّر في أن يلقي بنفسه من أعلى حراء أو أبي قبيس وأيّ خير في الحياة ، وهذا أكبر عمله فيها يدوي وينقضي ، وانّه لذلك تساور هذه المخاوف ، إذ جاءه الوحي بعد طول فتوره إذ نزل عليه بقوله تعالى : ( وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) ( سورة الضحى ) (1).

هذا ما يذكره رجل مثقّف في القرن العشرين في حقّ النبي الأكرم ، فما ظنّك

ص: 116


1- حياة محمد صلی اللّه علیه و آله ص 138.

بغيره ممّن سبقه من الذين يتعبّدون بالروايات ولا يحيدون عن شاذّها وسقيمها قيد أنملة وقدر شعرة ، واصل هذه الفرية يرجع إلى كتب السيرة والتفسير ، وإليك ما يذكره واحد من اُولئك من أمثال الطبري حيث يصرّح في تفسيره بما نصّه :

1 - عن ابن زيد : إنّ هذه السورة نزلت على رسول اللّه تكذيباً من اللّه قريشاً في قيلهم لرسول اللّه لمّا أبطأ عليه الوحي : « قد ودّع محمداً ربّه وقلاه ».

2 - عن ابن عبد اللّه : لمّا أبطأ جبرئيل على رسول اللّه ، فقالت امرأة من أهله أو من قومه : ودّع الشيطان محمداً ، فأنزل اللّه عليه : ( وَالضُّحَى ... - إلى قوله - مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ) .

3 - عن جندب البجلي : أبطأ جبرئيل على النبي حتّى قال المشركون ودّع محمداً ربّه ، فأنزل اللّه : ( وَالضُّحَى ... ) ، وعنه قالت امرأة لرسول اللّه : ما أرى صاحبك إلاّ قد أبطأ عنك ، فنزلت هذه الآية.

وفي رواية اُخرى عنه : ما أرى شيطانك إلاّ قد تركك.

4 - عن عبد اللّه بن شدّاد : إنّ خديجة قالت للنبي : ما أرى ربّك إلاّ قد قَلاك ، فأنزل اللّه ( وَالضُّحَى ) .

5 - وعن قتادة : إنّ جبرئيل أبطأ عليه بالوحي ، فقال ناس من الناس : ما نرى صاحبك إلاّ قد قلاك فودّعك ، فأنزل اللّه : ( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ) .

6 - عن ضحّاك : مكث جبرئيل عن محمّد ، فقال المشركون : قد ودّعه ربّه.

7 - عن ابن عروة ، عن أبيه قال : أبطأ جبرئيل على النبي ، فجزع جزعاً شديداً ، وقالت خديجة : أرى ربّك قد قلاك ، ممّا نرى من جزعك ، قالت : فنزلت ( وَالضُّحَى ) (1).

يلاحظ على هذه الروايات وعلى فرية فترة إنقطاع الوحي عدّة اُمور :

1 - إنّ هذه الروايات التي ملأت التفاسير وكتب السير ، رويت عن اُناس

ص: 117


1- تفسير الطبري ج 30 ص 148.

لا يركن إليهم كقتادة والضحّاك فإنّهما كانا يأخذان تفسير القرآن عن أهل الكتاب (1). وجلّها بل كلّها مرسلة غير مسندة إلى الرسول صلی اللّه علیه و آله .

2 - إنّها اختلفت في القائل الذي شَمِت برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بقوله : « ودّعك ربّك » فربّما يسند إلى امرأة من أهله أو قومه واخرى إلى المشركين ، وثالثة إلى طائفة من الناس ، ورابعة إلى زوجته خديجة.

إنّ نسبة هذا القول إلى زوجته الطاهرة التي آمنت به يوم بعثته ، وقد عرفت فضائله وملكاته النفسيّة عن كثب ، بعيداً جداً.

3 - إنّها إختلفت في مدة الفترة. قال ابن جريج : احتبس عنه الوحي اثنى عشر يوماً ، وقال ابن عباس : خمسة عشر يوماً ، وقيل : خمسة وعشرين يوماً ، وقال مقاتل : أربعين يوماً (2) ، وفي فتح الباري : انّه كان ثلاث سنين (3) كما في السيرة الحلبية وفيها أيضاً : إنّها كانت سنتين ونصفاً ، وعلى قول : سنتين ، إلى غير ذلك من الأقوال المختلفة التي تحكي عن اضطراب في الرواية والنقل.

4 - إختلفت الرواية في سبب الفترة وانقطاع الوحي.فتارة زعموا أنّ سببها هو أنّ اليهود سألوا رسول اللّه عن مسائل ثلاث : عن أصحاب الكهف وعن الروح وعن قصّة ذي القرنين ، فقال صلی اللّه علیه و آله : سأخبركم غداً ولم يستثنِ ، فاحتبس عنه الوحي ، فقال المشركون ما قالوا ، فنزلت (4).

واُخرى قالوا : إنّ عثمان أهدى إليه عنقود عنب ، وقيل : عذق تمر ، فجاء سائل فأعطاه ، ثمّ اشتراه عثمان بدرهم ، فقدّمه إليه صلی اللّه علیه و آله

ص: 118


1- لاحظ آلاء الرحمن في تفسير القرآن ، ج 1 ، ص 46 ، يقول : إنّ الضحّاك بن مزاحم فقد ضعّفه يحيى بن سعيد ، وكان يروي عن ابن عباس ، وانكر ملاقاته له حتى قيل : إنّه ما رآه قط ، وأمّا قتادة فقد ذكروا : انّه مدلّس.
2- تفسير القرطبي ج 20 ص 92.
3- السيرة الحلبية ج 1 ص 262.
4- روح المعاني ج 10 ص 157 ، نقله عن جمع من المفسرين.

ثانياً ، ثمّ عاد السائل فأعطى وهكذا ثلاث مرّات ، فقال صلی اللّه علیه و آله ملاطفاً لا غضبان : أسائل أنت يا فلان أم تاجر ؟ فتأخّر الوحي أيّاماً فاستوحش فنزلت.

وثالثة : رووا عن ابن أبي شيبة في مسنده والطبراني وابن مردويه من حديث خولة ، وكانت تخدم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن جرواً دخل تحت سرير رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فمات ولم تشعر به ، فمكث رسول اللّه أربعة أيّام لا ينزل عليه الوحي ، فقال : يا خولة ! ما حدث في بيت رسول اللّه ؟ جبرئيل لا يأتيني ! فقلت يا نبي اللّه ما أتى علينا يوم خير من هذا اليوم ، فأخذ برده فلبسها وخرج ، فقلت في نفسي لو هيّأت البيت وكنسته ، فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا بشيء ثقيل فلم أزل به حتى بدا لي الجرو ميّتاً ، فأخذته بيدي فألقيته خلف الدار ، فجاء النبي ترعد لحيته ، وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته الرعدة ، فقال يا خولة دثّريني ، فأنزل اللّه تعالى : ( وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ) (1).

ورابعة : انّ المسلمين قالوا : يا رسول اللّه مالك لا ينزل عليك الوحي ؟ فقال : وكيف ينزل عليّ وأنتم لا تنقّون رواجبكم ، وفي رواية : براجمكم ، ولا تقصّون أظفاركم ، ولا تأخذون من شواربكم ، فنزل جبرئيل بهذه السورة ، فقال النبي : ما جئت حتى اشتقت إليك ، فقال جبرئيل : وأنا كنت أشدّ إليك شوقاً ، ولكنّي عبد مأمور ، ثمّ أنزل عليه : ( وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ ) ( مريم / 64 ) (2).

إنّ الإضطراب في أسباب فتور الوحي يعرب عن عدم صحّة الرواية.

أمّا الأوّل : فلو صحّ فيلزم كون زمان إنقطاع الوحي في العام السابع من البعثة لأنّ قريشاً أرسلت النضر بن الحارث وابن أبي معيط إلى أحبار اليهود يسألانهم عن النبي الأكرم ، وقالا لهم : إنّكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا ، فقالت لهم أحبار اليهود : سلوهُ عن ثلاث نأمركم بهنّ ، فجاؤوا إلى رسول اللّه ، وقالوا : يا محمّد أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل ، قد كانت لهم قصّة عجب ،

ص: 119


1- روح المعاني ج 10 ص 157.
2- تفسير القرطبي ج 20 ص 93 ، ومجمع البيان ج 10 ص 55 ( طبع صيدا ).

وعن رجل كان طوّافاً قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، وأخبرنا عن الروح ما هي ؟ فقال لهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أخبركم بما سألتم عنه غداً ولم يستثن ، فانصرفوا عنه (1).

نحن ننزّه ساحة النبي الأكرم الذي نشأ نشأة الأنبياء في عالم مليء بالطهر والقداسة ، أن يخبرهم على وجه قاطع بأنّه سيجيبهم غداً على أسئلتهم تلك فمن أين علم أنّه سبحانه ينزل الوحي عليه غداً ؟ أو أنّه سبحانه يجيب عن أسئلتهم عن طريق الوحي ؟

وأمّا الثاني : فهو أشبه بالقصص الموضوعة ، فهل من المعتاد أن يباع عنقود عنب ثلاث مرّات في السوق ، ومثله عذق تمر ؟ ولعلّ الجاعل كان يهدف إلى إختلاق الفضائل لعثمان فحسب أنّ هذا الموضع مناسب له.

وأمّا الثالث : فبعيد جدّاً ، إذ كيف يمكن أن يموت الجرو تحت سرير النبي أو في زاوية من البيت ولا يلتفت إليه ؟ على أنّ ظاهر الرواية أنّ إنقطاع الوحي كان بعد تلقّي النبي لنزول الوحي مدّة مديدة حيث إنّ خولة قالت : « وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته الرعدة » فإنّ ذلك يعرب عن أنّ الحادثة كانت في أزمنة متأخّرة من بدء البعثة ، مع أنّ المشهور انّها كانت في بدء البعثة - أي بعد نزول سورة العلق أو آيات منها -.

وأمّا الرابع : فهو أشبه بحمل النبي وزر الغير ، فإنّ عدم قصّ المسلمين شواربهم ، أو عدم تنظيف رواجبهم لا يكون سبباً لإنقطاع الوحي ، قال سبحانه : ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) ( الأنعام / 164 ).

هذه الوجوه كلّها تدفع بنا إلى القول : بأنّ مسألة انقطاع الوحي فرية تاريخيّة صنعتها يد الجعل والوضع لغاية أو غايات خاصّة ، ولم يكن هناك أيّة فترة ، وإنّما المسألة كانت بصورة اُخرى :

ص: 120


1- السيرة النبويّة لإبن هشام ج 1 ، ص 301.

هي أنّه تعلّقت مشيئته سبحانه على نزول الوحي نجوماً - أي فترة بعد فترة - حسب المقتضيات والأسباب الموجبة لنزوله أوّلاً ، وتثبيت فؤاد النبي بذلك ثانياً ، قال سبحانه مشيراً إلى مشيئته الحكيمة :

( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ) ( الأسراء / 106 ). وقال سبحانه مشيراً إلى أنّ من بواعث نزول الوحي تدريجيّاً كونه سبباً لتثبيت فؤاده : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ) ( الفرقان / 32 ) فعلى ضوء ذلك لم يكن هناك إلاّ مسألة طبيعية على صعيد الوحي وهو نزوله تدريجيّاً لا دفعة واحدة ، غير أنّ المشركين الجاهلين بمشيئته سبحانه وأسرار نزول الوحي تدريجيّاً ، كانوا يترقّبون نزول الوحي عليه دوماً وفي كل يوم وساعة ، أو نزول مجموع الشريعة دفعة واحدة كما نزلت التوراة على موسى. قال سبحانه : ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ) ( الأعراف / 145 ). فلمّا شاهدوا خلاف ما كانوا يترقّبونه من مدّعي النبوّة إنصرفوا إلى اتّهام النبي بأنّه ودّعه ربّه الذي ينزّل عليه الوحي أو الشيطان الذي يلهمه على حدّ تعبيرهم.

فحصيلة البحث : انّه لم يكن هناك إنقطاع ولا فتور ولا سبب من الأسباب المذكورة في الروايات بل كان مجرّد توهّم توهّموه.

ثُمّ إنّ المعروف بين المفسّرين أنّ سورة الضحى حسب الترتيب النزولي ، السورة الحادية عشرة ، وكانت الاُولى هي العلق ، فالقلم ، فالمزّمّل ، فالمدّثّر ، فلهب ، فالتكوير ، فالأعلى ، فالإنشراح ، فالعصر ، فالفجر ، فالضحى (1).

والظاهر ممّن ينقل مسألة إنقطاع الوحي وفتوره أنّها نزلت في بدء الوحي بعد إنقطاعه أي نزل بعد العلق أو بعد المدثّر مع أنّها نزلت متأخّرة ، وكان الوحي ينزل على النبي تترى حسب مقتضيات الظروف والمناسبات والوقائع والأحداث.

ص: 121


1- تاريخ القرآن للزنجاني ص 36.

نعم ذكر اليعقوبي أنّ سورة « الضحى » هي السورة الثالثة ، ولعلّه متفرّد في ذلك القول (1).

مراحل الدعوة الثلاث

اشارة

نزل الأمين جبرئيل مبشّراً النبي الأكرم بالنبوّة والرسالة ، وألقى على عاتقه مقاليد مهامّها هداية الاُمّة ، التي يصوّرها قوله سبحانه : ( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ) ( المزّمّل / 5 ).

وقوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) ( المدّثّر / 1 - 3 ) وأيّ مسؤولية أثقل من مسؤولية هداية الاُمّة الغارقة في ظلمات الجهل وأوحال عبادة الأصنام والأوثان ، المنغمسة في الدنيا ، المعرضة عن الآخرة ، فقام الرسول مؤدّياً رسالته مستضيئاً بهدى الوحي قد قطعت رسالته مراحل ثلاث حتّى تكلّلت بالنجاح وبلغت الغاية المنشودة ، وإليك تبيين هذه المراحل التي أشار إليها القرآن الكريم في مواضع متفرّقة.

المرحلة الاُولى : السرّية في الدعوة

اشارة

إتّخذ الرسول الدعوة السرّية خطوة اُولى خطاها في سبيل تحقيق إنجاح الدعوة الإلهيّة ، ولم يكن الغرض من التركيز على السرّيّة في الدعوة الخوف على نفسه وصيانتها من كيد الأعداء ، بل هذه هي الخطّة الرائجة بين الدعاة المخلصين ، فلا يجهرون بالدعوة ، ولا يعلنونها بادئ بدء ، بل يبدأون بعرض الدعوة سرّاً على الأفراد الذين يطمئنّون لهم - ولأجل ذلك - بدأ الرسول صلی اللّه علیه و آله بالدعوة السرّية إلى الاسلام فدخل تحتها عدّة من الشباب ، فتعلّموا الفرائض والسنن سرّاً وكانوا يذهبون إلى شعاب مكّة فيقيمون الفرائض فيها.

ص: 122


1- تاريخ اليعقوبي ج 2 ، ص 33.

وهذه الثلّة القليلة الّتي تشرّفت باعتناق الإسلام ، هم الذين يعبّر عنهم القرآن الكريم بقوله : ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ ) ( الواقعة / 10 و 11 ).

فكان النبي الأكرم يعرض دعوته على من يتفرّس فيه علائم قبول الإسلام ولذلك لمّا هبط من غار حراء عرضه على زوجته خديجة وابن عمّه علي ، وقد تمكّن الإسلام بذلك في قلوب عدّة سجّلت أسماؤهم في التاريخ (1) مثل زيد بن حارثة وعثمان بن مظعون وقدامة بن مظعون وغيرهم. يقول ابن هشام في تفسير قوله : ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) أي بما جاءك من اللّه من نعمته وكرامته ، من النبوّة فحدّث أي اذكرها ، فادع إليها ، فجعل رسول اللّه يذكر ما أنعم اللّه به عليه وعلى العباد به من النبوّة سرّاً إلى من يطمئنّ إليه من أهله (2).

وليس في الذكر الحكيم آية تكشف عن أحداث هذه المرحلة غير ما ذكرنا من الآيتين ، فمن أراد التفصيل فيجب عليه أن يرجع إلى كتب السيرة النبويّة ، ولنكتف ببعض ما جاء في المقام.

1 - روى ابن هشام عن ابن إسحاق أنّه ذكر بعض أهل العلم : انّ رسول اللّه كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكّة وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفياً من أبيه ومن جميع أعمامه وسائر قومه فإذا أمسيا رجعا ومكثا كذلك ما شاء اللّه أن يمكثا ... ثم أسلم زيد بن حارثة وكان أوّل ذكر أسلم وصلّى بعد علي بن أبي طالب (3).

2 - روى الطبري عن جابر قال : بعث النبي يوم الاثنين وصلّى علي يوم الثلاثاء ، وروي عن زيد بن أرقم قال : أوّل من أسلم مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله علي بن أبي طالب ، ويقول علي : أنا عبد اللّه وأخو رسوله أنا الصّدّيق الأكبر

ص: 123


1- السيرة النبوية ج 1 ص 247 - 262.
2- السيرة النبويّة ج 1 ص 243.
3- السيرة النبويّة ج 1 ص 246.

لا يقولها بعدي إلاّ كاذب مفتر صلّيتُ مع رسول اللّه قبل الناس بسبع سنين (1).

ولعلّ بعض هذه السنين يرجع إلى ما قبل البعثة حيث إنّ الرسول كان يتعبّد لله سبحانه في غار حراء في كل سنة.

3 - يقول ابن إسحاق : وكان أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إذا صلّوا ذهبوا في الشعاب فاستخْفوا بصلاتهم من قومهم ، فبينا سعد بن أبي وقّاص في نفر من أصحاب رسول اللّه في شعب من شعاب مكّة إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلّون ، فناكروهم ، وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم ، فضرب سعد بن أبي وقّاص يومئذ رجلاً من المشركين بلَحى بعير ، فشجَّه ، فكان أوّل دم أهريق في الإسلام (2).

اتّخاذ النبي دار الأرقم مركزاً لنشر الدعوة.

كان النبي يؤدّي رسالته مستخفياً من قريش بمكّة ويعرض الإسلام لمن يطمئن إليه ، وقد ألجأته الظروف إلى اتّخاذ بيت لتبليغ تعاليمه ، وإقامة المؤمنين فيها فرائضهم ، وقد وقع الإختيار على دار الأرقم بمكّة على الصفا (3) مركزاً لهذه المهمّة فدخل صلی اللّه علیه و آله وأصحابه مستخفين فيها بعد وقوع الصدام بين سعد ابن أبي وقّاص وبعض المشركين ، فكان صلی اللّه علیه و آله وأصحابه يقيمون الصلاة بها ويعبدون اللّه فيها إلى أن أمره اللّه تعالى بالإعلان عنها ، فامتثل صادعاً بما اُمر ، وقد اختلفت كلمة أصحاب السيرة في مدّة هذه المرحلة بين ثلاث سنين إلى خمس سنين ، كما اختلفوا في مدّة اقامتهم في دار زيد بن الأرقم بين كونه

ص: 124


1- تاريخ الطبري ج 2 ص 56 ، وفيه نصوص اُخرى على أنّه علیه السلام أوّل من آمن برسول اللّه.
2- السيرة النبويّة ج 1 ، ص 262.
3- هي المعروفه الآن بدار الخيزران عند الصفا ، اشتراها الخليفة المنصور وأعطاها ولده المهدي ، ثمّ أعطاها المهدي للخيزران اُمّ ولديه : موسى الهادي وهارون الرشيد. لاحظ : السيرة الحلبيّة ج 3. ص 283.

شهراً أو أزيد ، كما اختلفت كلمتهم في عدد المؤمنين بالنبي في تلك المرحلة فقد أنهاه ابن هشام في سيرته معتمداً على سيرة ابن إسحاق بما يربو على خمسين بين رجل وامرأة وإن كان الأكثر هم الرجال ، ولأجل أن يقف القارئ على هؤلاء الأشخاص وأسمائهم نستعرض ذكرهم إجمالاً على النحو التالي.

1 - خديجة بنت خويلد ( زوجة النبي ). 2 - علي بن أبي طالب. 3 - زيد بن حارثة. 4 - أبو بكر. 5 - عثمان بن عفّان. 6 - عبد الرحمن بن عوف. 7 - الزبير بن العوّام. 8 - سعد بن أبي وقّاص. 9 - طلحة بن عبيد اللّه. 10 - أبو عبيدة. 11 - أبو سلمة. 12 - أرقم. 13 - قدامة بن مظعون. 14 - عبد اللّه بن مظعون. 15 - عبيدة بن الحارث. 16 - سعيد بن زيد. 17 - امرأته ( فاطمة بنت الخطاب ). 18 - أسماء بنت أبي بكر. 19 - خباب بن الأرت. 20 - عمير بن أبي وقاص. 21 - عبد اللّه بن مسعود. 22 - مسعود بن القارئ. 23 - سليط بن عمرو. 24 - حاطب بن عمرو. 25 - عيّاش بن أبي ربيعة. 26 - أسماء بنت سلامة. 27 - خنيس بن حذافة. 28 - عامر بن ربيعة. 29 - عبد اللّه بن جحش. 30 - أبو أحمد بن جحش. 31 - جعفر بن أبي طالب. 32 - أسماء بنت عميس. 33 - حاطب بن الحارث. 34 - حطّاب بن الحارث 35 - معمّر بن الحارث. 36 - سائب بن عثمان بن مظعون. 37 - مطلب بن أزهر. 38 - زوجته ( رملة بنت أبي عوف ). 39 - نعيم بن عبد اللّه. 40 - عامر بن فهيرة. 41 - خالد بن سعيد. 42 - اُميّة بنت خلف. 43 - أبو حذيفة. 44 - واقد بن عبد اللّه. 45 - خالد بن بكير. 46 - عامر بن بكير. 47 - عاقل بن بكير. 48 - اياس بن بكير. 49 - عمّار بن ياسر 50 - صهيب بن سنان (1).

هذا ما ذكره ابن هشام ، وقد ذكر في ثنايا كلامه ممّن آمن في تلك الفترة عائشة بنت أبي بكر ، وهو غير صحيح جدّاً لأنّها ولدت في السنة الرابعة من البعثة ، وقد عقد عليها النبي في شوال قبل الهجرة بثلاث سنين وهي بنت ست سنين ، وبنى بها رسول

ص: 125


1- السيرة النبويّة ، ج 1 ، ص 262.

اللّه وهي بنت تسع بالمدينة في شوال في السنة الاُولى من الهجرة ، فكيف تكون من المؤمنات في المرحلة السرّية ؟ (1).

أضف إلى ذلك انّ أبا ذر من السابقين إلى الإسلام وقد أخرج ابن سعد في الطبقات عن طريق أبي ذر ، قال : كنت في الإسلام خامساً ، وفي لفظ أبي عمرو وابن الاثير : « أسلم بعد أربعة » ، وفي لفظ آخر يقال : « أسلم بعد ثلاثة » ، ويقال : « بعد أربعة » ، وفي لفظ الحاكم : « كنت رابع الإسلام أسلم قبلي ثلاثة نفر وأنا الرابع » ، وفي لفظ أبي نعيم : « كنت رابع الإسلام ، أسلم قبلي ثلاثة وأنا الرابع » ، وفي لفظ المناوي : « أنا رابع الإسلام » ، وفي لفظ ابن سعد من طريق ابن أبي وضّاح البصري : « كان إسلام أبي ذر رابعاً أو خامساً » (2).

وقد ذكر الشيخان في الصحيحين وابن سعد في طبقاته كيفيّة إسلامه ومن أراد فليرجع إليهما.

المرحلة الثانية : دعوة الأقربين

إجتازت الدعوة المحمّدية المرحلة السرّية إلى مرحلة ثانية بعد ما آمن به جماعة من قريش وغيرهم ودخل الناس في الإسلام آحاداً من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكّة ، فتحدّث به القريب والنائي ، فعندئذٍ أمر سبحانه بدعوة الأقربين ، بقوله : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ) ( الشعراء / 214 - 216 ).

إنّ المعاجلة والمسارعة لدعوة العشيرة الأقربين قبل البدء بإعلان الدعوة العامّة يمكن أن يكون فيها سرّ إجتماعي وتوضيحه بما يلي :

ص: 126


1- لاحظ : أعلام النساء ج 3 ص 11 نقلاً عن طبقات ابن سعد وسنن النسائي وصحيح البخاري وشرح الزرقاني على المواهب والسمط الثمين.
2- الغدير ج 8 ص 308 - 309.

أوّلاً : إنّ النبي الأكرم كان مطّلعاً على أنّ قومه سوف يجابهونه بالعنف والشدّة ويتآمرون للقضاء عليه قبل تمكّنه من تحقيق اُمنيته ، فصيانة الدعوة من مكائد الأعداء مرهونة بوجود قوّة داخلية تحصّنها من غوائلهم ولا يمكن تصوّرها إلاّ في قومه وعشيرته من آل هاشم.

وثانياً : إنّ إنقياد قومه لدعوته وعشيرته لدعوته لدليل واضح على قداسته ونزاهته وصدق كلامه وانّهم ما رأوا منه إلا الصدق والصلاح طيلة أربعين سنة فأجابوا دعوته وصدّقوا كلامه. فإنّ الإنسان مهما كان فطناً مهتمّاً بستر عيوبه وزلاّته لا يتمكّن من سترها عن بطانته وخاصّته ، فإيمان البطانة وقبولهم دعوته دليل واضح على صفاء سريرته ، فلأجل ذلك بدأ بدعوة العشيرة قبل إعلان الدعوة العامّة ، وهذا بطبيعة الحال يكون مؤثّراً في إعداد الأرضية الصالحة لقبول المرحلة الاُخرى. وبعبارة ثانية : إنّ ضمان نجاح المصلحين في الدعوة العامّة يكمن في نجاحهم في دعوة اُسرتهم ، فلو افترضنا أنّ الداعي لم ينجح في دعوة اُسرته ، يكون حظّ نجاحه في الدعوة العامّة طفيفاً لأنّ رفض الاُسرة لدعوة المصلح وعدم إيمانها به ، سوف يتّخذ ذريعة إلى تقوّل الآخرين وسخريتهم بأنّه لو كان الصادع محقّاً في كلامه فاُسرته أولى بقبول دعوته.

وقد نقل المفسّرون وأهل السير في تفسير قوله سبحانه : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) كيفيّة دعوة الاُسرة ، وإليك نصّ ما ذكره الطبري في تاريخه عن عليّ علیه السلام : لمّا نزلت هذه الآية على رسول اللّه فقال لي : يا علي ! إنّ اللّه أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ، فضقت بذلك ذرعاً وعرفت أنّي متى أبدأهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره ، فصمّمت عليه حتى جاءني جبرئيل ، فقال : يا محمد إنّك إن لم تفعل ما تؤمر به يعذّبك ربّك ، فاصنع لنا صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة واملأ لنا عِسّاً من لبن ثم إجمع لي بني عبد المطلب (1) ، حتى اُكلّمهم واُبلّغهم ما اُمرت به ، ففعلت ما أمرني به ثمّ دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلاً ، يزيدون رجلاً أو ينقصونه ، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعبّاس وأبو لهب ، فلمّا إجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي

ص: 127


1- وفي البداية والنهاية ج 3 ص 40 « بني هاشم » وهو الأصح.

صنعت لهم ، فجئت به ، فلمّا وضعته تناول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حذية من اللحم فشقّها بأسنانه ثمّ ألقاها في نواحي الصفحة ثم قال : خذوا باسم اللّه ، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة وما منهم ليأكل ما قدّمت لجميعهم ، ثمّ قال : اسق القوم ، فجئتهم بذلك العس ، فشربوا منه حتى رووا منه جميعاً ، وأيم اللّه إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله ، فلمّا أراد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يكلّمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال : لقد سحركم صاحبكم ، فتفرّق القوم ولم يكلّمهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فقال في الغد : يا علي إنّ هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول فتفرّق القوم قبل أن اُكلّمهم ، فعد لنا بمثل ما صنعت ثمّ اجمعهم - إلى أن قال - : ففعلت ، ثمّ جمعتهم ثمّ دعاني بالطعام فقرّبته لهم ، ففعل كما فعل بالأمس ، فأكلوا حتى ما لهم بشيء حاجة ، ثمّ قال : اسقهم ، فجئتهم بذلك العس ، فشربوا حتى رووا منه جميعاً ، ثمّ تكلّم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : يا بني عبد المطلب إنّي واللّه ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به ، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني اللّه تعالى أن أدعوكم إليه فأيّكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم ؟ قال : فأحجم القوم عنها جميعاً ، وقلت - وإنّي لأحدثهم سنّاً وأرمضهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً - : أنا يا نبيّ اللّه أكون وزيرك عليه ؟ فأخذ برقبتي ثمّ قال : إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا ، قال : فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع (1).

هذا هو النصّ الذي رواه الطبري حول حادثة بدء الدعوة وقد ذكره غيره ، فمن أراد الوقوف على مصادر الحديث فليرجع إلى كتاب الغدير (2).

إنّ الحديث يستفاد منه اُمور عن تاريخ بدء الدعوة نشير إليها بالنقاط التالية :

1 - إنّ الخلافة تتمشّى مع النبوّة جنباً إلى جنب وإنّهما لا يفترقان أبداً لأنّ النبيّ يوم صدع بالرسالة أعلن خلافة عليّ علیه السلام وكانت الخلافة تعدّ إكمالاً

ص: 128


1- تاريخ الطبري ج 1 ص 63.
2- الغدير ج 2 ص 278 - 284.

لوظائف الرسالة وإنّ الخليفة يقوم بتكميل وظائف النبي حيث يبيّن ما أجمله ويفصّل ما أوجزه.

2 - إنّ عليّاً في ذاك اليوم وإن كان صغيراً لا يتجاوز عمره الحلم لكنّه كان في القوّة والمقدرة على حدّ قام بتضييف مجموعة كبيرة تربو على أربعين نفراً فقد صنع لهم طعاماً ودعاهم إلى الضيافة ، وهذا العمل كما يكشف عن مرحلة من النضوج البدني يكشف عن تفتّح عقله وشعوره حيث قام بأمر لا يقوم بأعبائه إلاّ الرجال الكبار.

3 - إنّ الطبري في تاريخه نقل القصّة كما مرّ ولكنّه جنى على الحقيقة في تفسيره ، فذكر القصة ولكنّه عندما وصل إلى قوله صلی اللّه علیه و آله : فأيّكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي حرّفه وجاء مكانه بقوله : « فأيّكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي وكذا وكذا » (1).

فما معنى هذا التحريف أهكذا تصان الأمانة التاريخية ويتحفّظ في نقل الحديث ؟!

وإن تعجب فعجب عمل ابن كثير فإنّه وضع تاريخه على غرار تاريخ الطبري حذو النعل بالنعل ، ولكنّه لمّا وصل إلى هذا المقام من تاريخه أعرض عن نقل نصّ الطبري في تاريخه واعتمد على النصّ الذي ذكره الطبري في تفسيره ، وما هذا إلاّ لأنّه رآه دليلاً قاطعاً على خلافة علي ووصايته ، وأعجب منه عمل محمد حسين هيكل في تاريخه فإنّه ارتكب جناية مفضوحة وأثبت الحديث في الطبعة الاُولى من كتابه واكتفى منه بسؤال النبي بقوله : « فأيّكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم » واغفل ذكر جواب النبي لعلي عندما قام ، ولم يذكر منه شيئاً ، لكنّه في الطبعة الثانية أسقط جميع ما يرجع إلى أمير المؤمنين من كلام

ص: 129


1- تفسير الطبري ج 19 ص 74 ، وقد رواه العلاّمة الأميني في غديره : 2 / 279 - 284. والعلامة السيد جعفر مرتضی في كتابه: الصحيح من سيرة النبي ج 2 ص 12 عن مصادر كثيرة تعرب عن تضافر الرواية وتواترها.

النبي (1).

4 - إنّ ابن تيميّة لمّا رأى دلالة الحديث على خلافة الإمام علي علیه السلام عكف على المناقشة في سند الحديث ، وانّه يشتمل في رواية الطبري على أبي مريم الكوفي ، وهو مجمع على تركه ، وقال أحمد : ليس بثقة ، واتّهمه ابن المديني بوضع الحديث (2).

ولكنّه ترك توثيق الآخرين لأبي مريم ، فقد قال ابن عدي : سمعت ابن عقدة يثني على أبي مريم ويطريه وتجاوز الحدّ في مدحه ، واثنى عليه شعبة ، وقال الذهبي : كان ذا اعتناء بالعلم وبالرجال (3).

وأظنّ إنّ تضعيف الرجل لغاية تشيّعه وحبّه للوصي ، فإنّ التشيّع بالمعنى العام ( من يحب عليّاً ويبغض أعدائه الذين خرجوا عليه في حروبه الثلاثة ) أحد المضعّفات عند القوم ، ومع ذلك فقد روى الشيخان في صحيحيهما عن الشيعة كثيراً ، وقد قام العلاّمة السيد عبد الحسين شرف الدين بوضع قائمة لأسماء ، من روى عنهم الشيخان وغيرهما في صحيحيهما من الشيعة (4).

على أنّ أحمد قد روى الحديث بسند آخر وجميع رجاله رجال صحاح بلا كلام ، وهم عفّان بن مسلم ، عن أبي عوانه ، عن عثمان بن المغيرة ، عن أبي صادق ( مسلم الكوفي ) ، عن ربيعة بن ناجذ (5) وبهذا السند والمتن أخرجه الطبري في تاريخه وغيره (6).

ص: 130


1- لاحظ حياة محمد صلی اللّه علیه و آله الطبعة الاُولى : ص 104 - والطبعات الاُخر : ص 142.
2- منهاج السنّة ج 4 ص 81.
3- الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج 2 ص 14.
4- المراجعات : ص 42 - 105 ، وما جاء فيها يشكّل رسالة أسماها شيخ الأزهر سليم البشري : « أسناد الشيعة في أسناد السنة ».
5- مسند أحمد ج 1 ص 159.
6- تاريخ الطبري ج 2 ص 63.

5 - وهناك مناقشات أو مشاغبات لابن تيميّة حول الحديث نبعت من موقفه تجاه فضائل الإمام أمير المؤمنين ، فإنّه يردّ كثيراً من فضائل علي علیه السلام ويضعّفه جزافاً وممّا قال في حق الحديث :

« إنّ مجرّد الإجابة للمعاونة على هذا الأمر لا يوجب أن يكون المجيب وصيّاً وخليفة بعده ، فإنّ جميع المؤمنين أجابوه إلى الإسلام وأعانوه على هذا الأمر ، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيله ، كما أنّه لو أجابه الأربعون أو جماعة منهم فهل يمكن أن يكون الكل خليفة له ؟ » (1).

إنّ هذا الإشكال يرجع إلى أمرين :

الأوّل : إنّ مجرّد الإجابة للمعاونة لا يلازم أن يكون المجيب وصيّاً ، ولكنّه غفلة عن التدبّر في الرواية ، فإنّه لم يجعل مطلق الإجابة دليلاً على كون المجيب وصيّاً حتى يقال : إنّ جميع المؤمنين أجابوا إلى الإسلام بل جعل الإجابة من العشيرة فقط علّة للوصاية ، فلا يشمل المؤمنين الخارجين عن دائرة إطارهم.

الثاني : لو افترضنا انّ الكل أجابوه ، فهل يكون الكل خليفة ؟

والجواب : انّ النبي الأكرم كان مطّلعاً على أنّه لا يجيبه غير علي ، لأنّهم لم يكونوا مطّلعين على مبادئ رسالته ، وخصوصيّات شريعته ، فلا يبادرون بالإجابة بخلاف عليّ علیه السلام فإنّه قد نشأ وتربّى في أحضان النبي وتغذّى بلبانه ، وقد صلّى مع النبي قبل الناس بسنين ، فكان سبقه أمراً طبيعيّاً بالنسبة له.

إنّ كتب السيرة تذكر أنّه صلی اللّه علیه و آله خاطبهم في هذا الإجتماع بقوله : « إنّ الرائد لا يكذب أهله ، واللّه لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم ، ولو غررت الناس جميعاً ما غررتكم ، واللّه الذي لا إله إلاّ هو ، إنّي لرسول اللّه إليكم خاصّة وإلى الناس عامّة ، واللّه لتموتنّ كما تنامون ، ولتبعثنّ كما تستيقظون ، ولتحاسبنّ بما تعملون ، ولتجزونّ بالإحسان إحساناً ، وبالسوء سوءاً ، فإنّها الجنّة أبداً

ص: 131


1- منهاج السنة : ص 83.

ولنار أبداً. يا بني عبد المطلب ما أعلم شابّاً جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به إنّي قدجئتكم بخير الدنيا والآخرة » ، فتكلّم القوم كلاماً ليّناً غير أبي لهب ، فإنّه قال : « يا بني عبد المطلب هذه واللّه لسوأة خذوا على يديه وامنعوه عن هذا الأمر بحبس أو غيره قبل أن يأخذ على يده غيركم ، فإن التمسوه حينئذ ذلّلتم وإن منعتموه قتلتم » ، فقالت اُخته صفيّة عمّة رسول اللّه اُمّ الزبير : « أي أخي ! أيحسن بك خذلان ابن أخيك ؟ فو اللّه ما زال العلماء يخبرون أنّه يخرج من ضئضئ ( الأصل ) عبد المطلب نبي فهو هو » قال أبولهب : « هذا واللّه الباطل والأماني ، وكلام النساء في الحجال ، فإذا قامت بطون قريش وقامت العرب معها بالكلاب فما قوّتنا بهم ؟ فو اللّه ما نحن عندهم إلاّ أكلة رأس » ، فقال أبوطالب : « واللّه لنمنعنّه ما بقينا » (1).

وهل النبي خطب بهذه الخطبة في الدعوة الاُولى أو الثانية ؟ فلو صحّت فهي بالدعوة الاُولى ألصق لما تضافر أنّ أبا لهب لم يكن مدعوّاً في الدعوة الثانية ، ويظهر من سيرة زيني دحلان أنّه خطب بها في الدعوة الاُولى فلمّا أصبح رسول اللّه بعث إلى بني عبد المطلب فحضروا وكان فيهم أبو لهب ، فلمّا أخبرهم بما أنزل اللّه عليه ، أسمعه أبو لهب ما يكره وقال : تبّاً لك ، ألهذا جمعتنا ؟ وأخذ حجراً ليرمي به ، وقال : ما رأيت أحداً جاء بني أبيه وقومه بأشرّ ممّا جئتهم به ، فسكت رسول اللّه ولم يتكلّم في ذلك المجلس.

الدعوة العامة وكسح العراقيل الماثلة أمامه

كان للدعوة السرية أوّلاً ودعوة الاُسرة ثانياً دور خاص في استقطاب لفيف من الناس واستمالة قلوب طائفة منهم إلى الإسلام ، وقد أوجد هذا الإقبال أرضيةً صالحةً لمرحلة ثالثة من الدعوة وهي التي يصحّ وصفها بالدعوة العامّة ، وكانت تهدف إلى توسيع نطاقها ، فقام النبي الأكرم بها إمتثالاً لقوله تعالى : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ ) ( الحجر / 94 ).

ص: 132


1- سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبيّة ج 1 ص 194.

إنّ هذه الآية تناسب الدعوة العامّة بقرينة قوله : ( إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ ) ( الحجر / 95 ).

نقل الطبري عن سعيد بن جبير أسماء المستهزئين برسول اللّه وهم خمسة : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، وابو زمعة ، والحرث بن عيطلة ، والأسود بن قيس ، وكلّهم هلكوا قبل بدر (1).

وقد حكى أصحاب السير خطبة النبي في بدء تلك المرحلة ، قالوا :

1 - دعا النبي جميع قريش وهو قائم على الصفا وقال : إن أخبرتكم انّ خيلاً تخرج من صفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم تكذّبوني ؟ قالوا : واللّه ما جرّبنا عليك كذباً ، فقال : « يا معشر قريش انقذوا أنفسكم من النار فإنّي لا أغني عنكم من اللّه شيئاً إنّي لكم نذير مبين بين يدي عذاب شديد ».

2 - وفي رواية : « إنّ مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله أن يسبقوه إلى أهله فجعل يهتف : يا صباحاه ! يا صباحاه ! أتيتم أتيتم أنا النذير العريان (2) الذي ظهر صدقه » (3).

3 - وفي رواية : دعا قريشاً فخصّ وعمّ وقال يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني مرّة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني زهرة أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار ، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار ، يا صفيّة عمّة محمد أنقذي

ص: 133


1- تفسير الطبري ج 14 ص 49.
2- العريان : الذي أقبل عرياناً ينذر بالعدو. إنّه لا يتّهم بخلاف الذي لم يجرّد فإنّه قد يتّهم والمعنى أنا النذير الذي لا أتّهم.
3- سيرة زيني دحلان ، على هامش السيرة الحلبيّة ج 1 ص 194 - 195 ، والبداية والنهاية ج 3 ص 38 ، وتاريخ الخميس ج 1 ص 288.

نفسك من النار ، فإنّي لا أملك لكم من اللّه شيئاً (1).

ولو كان المراد من فاطمة هي فاطمة بنت النبي فالرواية بأجمعها أو خصوص هذه الجملة موضوعة لأنّها ولدت في السنة الخامسة من الهجرة ، وقد جاء في تاريخ الخميس توصيفها ب - ( بنت محمد ) حيث قال : « يا صفيّة بنت عبد المطلب ، يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنكم من اللّه شيئاً ، سلاني من مالي ما شئتم ».

ولذلك احتمل زيني دحلان أنّ فاطمة من خلط الرواة وانّما ذكرت في حديث آخر وقع بالمدينة جاء فيه الزوجات والبنات وقال لهن : « لا أغني عنكنّ من اللّه شيئاً » حثّاً لهنّ على صالح الأعمال.

ص: 134


1- تاريخ الخميس ج 1 ص 288 ، وسيرة زيني دحلان على هامش السيرة الحلبية ج 1 ص 193.

(6) الإيجابيات والسلبيات تجاه الدعوة المحمّدية

اشارة

لم تكن الدعوة المحمّدية بدعاً من الرسالات السماويّة ، فقد واجهت ما واجهته سائر الرسالات فحظيت بالقبول من بعض ، بينما حاربتها الأكثرية الساحقة ، شأنها شأن ما سلفها من الدعوات الإصلاحية حذو القذة بالقذّة ، ومن سَبَر تاريخ الأنبياء وتاريخ الدعوات الإصلاحية بإمعان يقف على أنّ النجاح لم يكن حليفهم خصوصاً في الوهلة الاُولى من دعوتهم بل كان الناس على مفرق طريقين ، فهم بين مؤمن بالدعوة ومصدّق لها ومستنفد طاقته في سبيلها ومضحٍّ بنفسه ونفيسه ، ومكذّب عنود يضع في طريق دعوة المصلحين الموانع والعراقيل الكفيلة بصدّهم عمّا يطمحون إليه من الغايات المنشودة.

وكانت هذه المجابهة والمحاربة المستميتة مع المصلحين وليدة حالة من الجهل والإنحطاط الفكري والثقافي ، وكلّما كان القوم أبعد غوراً في تعصّبهم لآبائهم وأجدادهم وما كانوا يدينون به من العقائد الشنيعة والسخيفة كانت المكافحة أشدّ والمنابذة أقوى.

ولمّا كانت الدعوة الإصلاحية سواء كانت سماوية أم أرضية ، وضعية تؤدّي إلى تفويت مصالح بعض الطبقات الخاصّة كالإقطاعيين وذووا رؤوس الأموال الطائلة ، لم تحظ الدعوة في أغلب صورها وحالاتها بقبول الرأي العام ، وهذه هي الظاهرة المألوفة غالباً ، فترى أنّ المسيطرين على المجتمع في كافّة الأجيال والأحقاب كانوا على طرف نقيض من الدعوة الإصلاحية ، وكان التصويب بالإذعان والإيمان مختصّاً بالطبقة المحرومة المقهورة المستضعفة.

ص: 135

هذا هو جون. اف.كندي الذي تربّع على منصّة الحكم بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1960 م ، بعد أن انتخب رئيساً بالغالبية العظمى ، فلقد كان صاحب نظرة خاصّة في الملوّنين الأمريكيين ، وكان بصدد اصلاح حياتهم المليئة بالبؤس والشقاء عن طريق منحهم بعض الحقوق والحريات استلهاماً من الفطرة الإنسانية ، ولكن ما أن طلع نجمه إلاّ وقد اُغتيل من جانب المتعصّبين العنصريين بشكل لم يعهد التاريخ له مثيل إلاّ القليل النادر ، فعلى الرغم من عظمة جهاز الاستخبارات الأمريكية وسطوته لم يعرف قاتله ولم يعثر له على أثر أو خبر يذكر ، وكان التخطيط قد دبّر ليلاً.

وتصوّر لنا هذه الظاهرة في محكية عن قوم نوح بقوله تعالى : ( فَقَالَ المَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ) ( هود / 27 ).

هذه هي الظاهرة الملموسة في حياة الأنبياء وما لا قوّه في سبيل انجاح دعوتهم ، وعلى ضوء ذلك فلا ينتابك العجب عندما تلقي بنظرة خاطفة على حياة الرسول صلی اللّه علیه و آله في بدء دعوته حيث كان الإيمان والانطواء تحت راية الرسالة مختصّاً برجال أحرار الفطرة أصفياء الطوية لم يعم بريق زخارف الدنيا وزينتها بصائرهم فلبّوا دعوة الرسول بصدر رحب.

إذا عرفت ذلك فلنركز على أمرين :

1 - ما هي الدوافع الروحيّة الباعثة على مخالفة النّبي الأكرم ؟

2 - ماذا كان ردود فعل لهذه الدوافع ؟

ص: 136

الف : العراقيل والموانع تجاه دعوة الرسول صلی اللّه علیه و آله

ظلّ النبي الأكرم في موطنه قرابة ثلاثة عشر عاماً ولم يكن النصر حليفه وما كان ذلك إلاّ نتيجة الموانع والعراقيل التي حيكت ضدّه ، وإليك لمحة خاطفة عنها :

1 - إنّ الرسالة المحمدية كسائر الرسالات الإلهية كانت تهدف إلى انتشال المستضعفين من حضيض التخلّف المادي والمعنوي والرقي بهم إلى حالة الإزدهار الحضاري ، ومن المعلوم أنّ تلك الخطّة ما كانت تنسجم مع مطامع أصحاب السلطة والثروة الذين يسيطرون على المجتمع بسطوتهم وجبروتهم ويمتصّون دماء المحرومين بلا هوادة ، يقول سبحانه :

( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ) ( الأنعام / 52 ).

روى الثعلبي في تفسيره باسناده عن عبد اللّه بن مسعود ، قال : مرّ الملأ من قريش على رسول اللّه وعنده صهيب وخباب وبلال وعمّار وغيرهم من ضعفاء المسلمين وقالوا : يا محمد ! أرضيت بهؤلاء من قومك ، أفنحن نكون تبعاً لهم ، أهؤلاء الذين منّ اللّه عليهم ؟ اطردهم عنك ولعلّك إن طردتهم اتّبعناك (1).

2 - التعصّب المقيت لسيرة الآباء والأجداد أمر جبلي للبشر يتنامى في اطار حياتهم القبلية ، وكانت دعوة النبي على خلاف سيرتهم ولذلك اهتمّوا بمكافحته ومنازعته قائلين : بأنّ دعوتك تضاد سيرة آبائنا ، ولم يكتفوا بذلك حتى استدلّوا على صحّة سيرتهم بأنّه لولا مشيئة اللّه سبحانه لما عبد الآباء الأصنام والأوثان ، يقول سبحانه حاكياً عنهم : ( وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ

ص: 137


1- مجمع البيان ج 2 ص 305 ، طبع صيدا.

وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ المُبِينُ ) ( النحل / 35 ) ، وقال سبحانه : ( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ) ( الزخرف / 22 ) ويظهر من غير واحد من الآيات أنّ تلك الظاهرة الروحية لم تزل تعرقل خطى الدعوة في أكثر الرسالات السماوية ، قال سبحانه : ( وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ) ( الزخرف / 23 و 24 ).

3 - لقد كانت الاُمّية والإنحطاط الثقافي متفشّية في شبه الجزيرة العربية آنذاك خصوصاً في أُمّ القرى وما حولها ، فكانت العقلية الإنسانية التي تميّز الحق من الباطل والصالح من الفاسد متدهورة جدّاً. وهذا هو البلاذري يعكس لنا صورة هذا التدهور الثقافي بقوله في كتابه :

« دخل الإسلام وفي قريش سبعة عشر رجلاً كلّهم يكتب : عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ... » (1).

وقال ابن خلدون :

« إنّ عهد قريش بالكتابة والخط العربي لم يكن بعيداً بل كان حديثاً وقريباً بعهد الرسول وقد تعرّفوا عليها قبيل ظهور الإسلام » (2).

فإذا كان هذا مبلغ تعرّفهم على الكتابة والقراءة ، فليكن هذا مقياساً لثقافتهم ومدى ازدهار قواهم العقلية.

4 - ارتكزت الدعوة المحمّدية على دعامتين أصيلتين :

أ - اختصاص العبودية لله سبحانه ورفض عبادة غيره.

ص: 138


1- فتوح البلدان : ص 57.
2- مقدمة ابن خلدون : ص 348.

ب - الاعتقاد بيوم الحساب وأنّ وراء الحياة الدنيوية ، حياة اُخرى تجزى فيها كل نفس بما عملت من خير وشر ، وانّ الناس في ذلك اليوم على فئتين : فئة ضاحكة مستبشرة وفئة بائسة مكفهرّة ، وانّ الظالمين والمتجاوزين سوف يحاسبون فيها أشدّ الحساب ودقيقه.

يقول سبحانه : ( فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ) ( عبس / 33 - 42 ).

ويقول عزّ اسمه في سورة اُخرى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللّهِ شَدِيدٌ ) ( الحج / 1 و 2 ).

كانت هذه الندءات الربّانيّة تبعث الرعب والهلع في قلوب المشركين ، لأنّهم يجدون أنفسهم أمام عذاب أليم لا مناصّ منه ولا مفرّ عنه ، وبما أنّهم كانوا يعانون من تبنّي هذه الفكرة بل من سماعها واحتمال صدقها ، فجنحوا إلى إراحة أنفسهم من هذا العذاب الآجل بإنكار الدعوة وتكذيبها من الأساس.

إنّ هؤلاء الجناة كانوا معتادين أن ينحروا للأصنام طلباً لمحو سيئاتهم ثم تتركهم في القتل والنهب وارتكاب الفحشاء وغيرها في مستقبل حياتهم ، وأمّا الدعوة التي لا تقبل الرشوة والمهادنة وترفض القرابين والنحور فلا تحقّق أملهم ولا تلقي إليهم بالضوء الأخضر حتّى يقترفوا ما يشاؤوا.

5 - إنّ المترفين والملأ كانوا يكافحون دعوة الأنبياء وينابذونها والقرآن قد سجّل أعمالهم الإجرامية في غير واحد من الآيات ، قال سبحانه : ( قَالَ المَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ) ( الأعراف / 88 ).

ص: 139

ويقول سبحانه في حق المترفين : ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاِّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ) ( سبأ / 34 ).

إنّ طبيعة الترف وانبساط النعمة والعيش الرغيد تؤدّي إلى الجموح والطغيان والتغافل عن كل ما من شأنه أن يحول بينه وبين شهواته وميوله وغرائزه ، يقول سبحانه : ( إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ) ( العلق / 6 و 7 ).

أين هذه الفكرة من طبيعة الشريعة السماوية التي تفرض على الإنسان الاعتدال في الشهوات وسلوك الجادة القويمة ، فلا ينسفها من رأس ولا يرخي لها العنان.

فلأجل ذلك نرى أنّ الملأ في عصر النبي صلی اللّه علیه و آله وأصحاب المجون والترف عارضوا النبي صلی اللّه علیه و آله وخالفوا لمّا رأوا أنّه يريد أن يضع حدوداً في طريق ميولهم والحيلولة دون اشباع نهم غرائزهم المستعرة ، فلذلك قاموا بتكثيف الجهود في وجه الدعوة المحمّدية.

6 - إنّ الحسد والتنافس والتنازع من العوامل التي تصطنع حجباً أمام البصائر فلا تتمكّن من رؤية الحقائق على ما هي عليه ومثله الكبر والغرور فيصدّان الإنسان عن رؤية الحقيقة بل يبعثان إلى اختلاف أعذار واهية للتنكّب عن قبول الحقّ والإذعان به ، فنحن نرى ذلك العامل في وجه الدعوة النبويّة حيث انّ قريشاً كانت تشعر بأنّ النبوّة مقام شامخ إلهي يستعقب عزّة الصادع بها وقومها على القبائل الاُخر ، فكان ذلك رادعاً عن قبول عدّة من أكابر قريش الدعوة الإلهيّة قائلين : لماذا لم ينزل هذا القرآن على الوليد بن المغيرة وهو أحقّ به من النبي بزعمهم.

يقول سبحانه : ( وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ) ( الزخرف / 31 و 32 ).

هذه هي الموانع التي اصطنعتها قريش في وجه الرسول صلی اللّه علیه و آله

ص: 140

وسلم للحيلولة دون بلوغ أهدافه التي كان يطمح لإقرارها وتثبيت اُسسها في برهة زمنية قياسية ، فكانت لهم ردود فعل مثبّطة نشير إليها.

قد وقفت على الدوافع الروحية الباعثة على مخالفة النبي الأكرم غير أنّها تبلورت في الاُمور التالية :

1 - إكالة التهم للنبيّ صلی اللّه علیه و آله .

2 - الاستنكار والاحتجاج بالاُمور الواهية.

3 - الاقتراحات الباطلة كشروط لقبول الرسالة.

4 - ايقاع الأذى على النّبي صلی اللّه علیه و آله وأصحابه.

وإليك بيان هذه الاُمور واحداً تلو الآخر حسبما يستفاد من آيات القرآن الكريم :

ص: 141

الف - اكالة التهم للنبيّ صلی اللّه علیه و آله

كان اسلوب تحطيم الشخصيات عن طريق إكالة التّهم إليهم أقدم حربة بيد الجهّال يطعنون بها على المصلحين ، وقد إستعملها مشركوا عصر الرسالة في بدء الدعوة ولم تكن الفرص تسنح لهم بقتله واغتياله ، فحاولوا إغتيال شخصيّته ليسقطوه عن أعين الناس ، فإنّ نجاح المصلح في نشر دعوته يكمن في اتّسامه بالقداسة والطهارة والعقلية الرزينة ، فلو افتقد المصلح تلك - السمات عن طريق الاتّهام بما يضادها - ذهب سعيه أدراج الرياح وأصبحت جهوده سدى ، فلأجل ذلك إختارت قريش القيام بشن حرب نفسيّة ضروس لا هوادة فيها للحطّ من قيمته وكرامته والحيلولة دون نفوذ كلمته.

ولكنّهم مهما بذلوا من جهود لإنجاح مؤامراتهم لم تتجاوز تهمهم عن الكهانة والسحر والجنون وأشباهها لأنّ النّبي قد كان في الطهارة النفسيّة والأمانة المالية وسائر الصفات الكريمة على حدّ حال دون إلصاق تهم اُخرى به ككونه خائناً سارقاً قاتلاً غير عفيف ، وهذا أحد الدلائل البارزة المشرقة على أنّه كان فوق التهم المشينة المزرية ، وكانت حياته طيلة أربعين سنة مقرونة بالصلاح والفلاح والأمانة ، ولو كانت هناك أرضية صالحة لتوصيف النبيّ بها ، لما أمسكوا عنها.

نعم قام العدو باتّهامه باُمور يشكل اثباتها كما يشكل نفيها عن المتهم ، وهذه هي الطريقة المألوفة عند بني الشياطين لمس كرامة المصلحين حيث يشنّون عليهم بمثل هذه التّهم لغاية إسقاطهم عن أعين النّاس. يقول سبحانه : ( كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) ( الذاريات / 52 ).

ص: 142

هكذا كانت سيرة الأعداء في طرد المصلحين عن الساحة.

ثمّ إنّ التّهم الّتي حكاها القرآن عن لسان أعداء النبيّ تتلخّص في العناوين التالية :

1 - الكهانة : وهي في اللغة عبارة عن اتّصال الإنسان بالجن ليتلقّى منهم أنباء الماضين وأخبار اللاّحقين ومن خلالها يتمكّن من التنبّؤ بالمستقبل ، يقول سبحانه مشيراً إلى تلك التّهمة وردّها : ( وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ) ( الحاقة / 42 ).

2 - السحر : وهو قوّة نفسانيّة للساحر يقدر معها على إنجاز اُمور خارقة للعادة مموّهة ، ومن تلك الاُمور التفريق بين المرء وزوجته والوالد وولده بل بين أفراد العائلة كافّة. قال سبحانه : ( وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) ( ص / 4 ).

3 - المسحورية : والمراد منه تأثّره بسحر الآخرين ، وإنّ هناك ساحراً أو سحرة سحروا النبيّ وأثّروا فيه. يقول سبحانه حاكياً عن المشركين : ( إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا ) ( الفرقان / 8 ). ثمّ يردّه بقوله سبحانه : ( انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) ( الفرقان / 9 ) والمراد من قوله ( ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ ) أي وصفوك بالمسحورية ، وقد اتّهم بنفس تلك التهمة النبيّ صالح. قال سبحانه حاكياً عن أعدائه : ( قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المُسَحَّرِينَ ) ( الشعراء / 153 ) وممّا يجدر ذكره أنّ اتّهام النبيّ بالمسحورية ليست تهمة مستقلّة تغاير الجنون جوهراً بل هي نفس التهمة ولكنّها صيغت بلفظ أكثر أدباً ، وهذه شيمة الدهاة حيث يمزجون السم بالعسل.

4 - الجنون : ومفهومه غني عن البيان وقد مضى أنّها تهمة شائعة تُلصق بالمصلحين من جانب خصومهم من غير فرق بين النبيّ وغيره ، وبين نبيّنا وسائر الأنبياء كما عرفت (1). قال سبحانه نقلاً عن المشركين : ( وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) ( الحجر / 6 ) ، قال تعالى : ( وَمَا صَاحِبُكُم

ص: 143


1- الذاريات / 52.

بِمَجْنُونٍ ) ( التكوير / 22 ) ، وقال عزّ من قائل : ( فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ ) ( الطور / 29 ) والمبرّر لهم بوصفه بالجنون ومؤاخذتهم له ، وقوفه لوحده في وجه الرأي العام المتمثّل في الشرك. والسذّج من النّاس يصفون من يتبنّى الفكر الذي لا يوافقه عليه الرأي العام وهو يريد تطبيقه في المجتمع ، بأَنّه مجنون لا يعرف قدر نفسه ومنزلته وسوف يهدر دمه لا محالة.

ما أسخف هذه التهم إذ كيف يتّهمون من هو أرجحهم عقلاً وأبينهم قولاً منذ ترعرع إلى أن بلغ أشدّه بالجنون والكهانة مضافاً إلى ما في هذا من التناقض والإضطراب ، فإنّ الكهنة كانوا من الطبقة العليا بين الناس يرجع إليهم القوم في المشاكل والمعضلات وأين هو من الجنون ؟ فكيف جمعوا بين كونه كاهناً ومجنوناً ؟

ولقد لمسنا ذلك في حياتنا القصيرة في مجتمعنا ورأينا كيف رمي رجال الإصلاح بنظائر هذه التهم وما ذلك إلاّ لأنّهم قاموا في وجه المستعمرين والناهبين لثروة أقطار العالم الإسلامي ، فما كان نصيبهم جرّاء مقاومتهم تلك ، إلاّ اتّهامهم بالجنون والتدهور العقلي ، والغربة عن الواقع والحياة.

5 - التعلّم من الغير : إنّ أعداء النبيّ من قريش وغيرهم وقفوا على مدى عظمة تعاليمه وسموّها ، ولكن الحالة النفسية قد صدّتهم عن تصديق قوله والإذعان برسالته الإلهية وانتسابه إلى الوحي والسماء ، فقاموا بتزوير آخر وهو اأنّه مُعَلّم ، قد تلقّى تعاليمه من غيره. يقول سبحانه : ( وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ ) ( الدخان / 13 و 14 ).

وأمّا من هو المعلّم الذي كان قد علّم النبي وغذّاه بتلك المبادئ والقيم فلم يذكروه ، ولكن إقتران هذه التهمة بتهمة الجنون يدلّ على أنّ المعلّم المزعوم هو الجن فهو عن طريق صلته بهم تلقّى رسالته عنهم - وبالتالي - اُصيب في عقله فصار معلّماً مجنوناً بزعمهم.

وهناك إحتمال آخر وهو أنّه تلقّى مبادئه عن بشر آخر ، وقد اُشير إليه في قوله

ص: 144

سبحانه : ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) ( النحل / 103 ).

قال ابن عباس : قالت قريش : إنّما يعلّمه بلعام ( وكان قينا بمكّة روميّاً نصرانياً ) وقال الضحّاك : أرادوا به سلمان الفارسي (1) قالوا إنّه يتعلّم القصص منه ، وقال مجاهد وقتاده : أرادوا به عبداً لبني الحضرمي روميّاً يقال له يعيش أو عائش صاحب كتاب ، أسلم وحسن إسلامه ، وقال عبد اللّه بن مسلم : كان غلامان في الجاهلية نصرانيّان من أهل عين التمر ، اسم أحدهما يسار واسم الآخر خير ، كانا صيقلين يقرءان كتاباً لهما بلسانهم وكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ربّما مرّ بهما واستمع لقراءتهما ، فقالوا : إنّما يتعلّم منهما ، ثم ألزمهم اللّه تعالى الحجّة وأكذبهم بأن قال : لسان الذي يضيفون إليه التعليم ويميلون إليه القول ، أعجميّة لا يفصح ولا يتكلّم بالعربية ، فكيف يتعلّم منه من هو في أعلى طبقات البيان ؟ وهذا القرآن بلسان عربي مبين ، فإذا كانت العرب تعجز عن الإتيان بمثله وهو بلغتهم فكيف يأتي الأعجمي بمثله (2) ؟

قال ابن هشام : قالوا : إنّما يعلّمه رجل باليمامة يقال له الرحمان ولن نؤمن به أبداً ، فنزل قوله سبحانه : ( كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ) ( الرعد / 30 ) (3).

روى ابن هشام : إنّ النضر بن الحارث كان إذا جلس رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مجلساً ، فدعا فيه إلى اللّه تعالى وتلا فيه القرآن ، وحذّر فيه قريشاً ما أصاب الاُمم الخالية ، خلّفه في مجلسه إذا قام ، فحدّثهم عن رستم واسفنديار وملوك فارس ثم يقول : واللّه ما محمد بأحسن حديثاً منّي وما حديثه إلاّ أساطير

ص: 145


1- كيف يقول ذلك مع أنّ سلمان أدرك النبي في مهجره ، لا في موطنه.
2- مجمع البيان ج 3 ص 386.
3- السيرة النبوية لابن هشام ج 1 ص 331.

الأوّلين ، اكتتبها كما اكتتبتها ، فأنزل اللّه فيه : ( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( الفرقان / 5 و 6 ).

ونزل فيه : ( وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( الجاثية / 7 ) (1).

6 - كذّاب : وما وصفوه به إلاّ لأجل أنّه كان يكافح عقيدتهم ويقارع دينهم. قال سبحانه حاكياً عنهم تلك التهمة : ( وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) ( ص / 4 ).

فلماذا لا يكون عندهم كذّاباً وقد رفض الآلهة المتعدّدة وجعلها إلهاً واحداً. قال سبحانه حاكياً عنهم : ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) ( ص / 5 ).

7 - مفتر : وإنّما وصفوه به لأنّه ينسب تعاليمه إلى السماء. يقول سبحانه حاكياً عنهم : ( قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ( النحل / 101 ) ويقول أيضاً : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ) ( الفرقان / 4 ). وهذه الآية تعبّر عن أنّهم كانوا يتّهمونه بأنَّ القرآن ليس من صنعه وحده بل هناك قوم أعانوه عليه ، فربّما كانوا يفسّرونه بشكل آخر وهو انّ القرآن ليس شيئاً جديداً بل هي أساطير الأوّلين تملى عليه بكرة وأصيلاً ، كما قال سبحانه : ( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) .

وقد أدحض الوحي هذه التهمة وكشف عن زيفها بأمرين :

الأوّل : لو صحّ قولكم إنّ هذا الكتاب من صنع محمد فنسبه إلى الوحي فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ، فإنّه لبشر مثلكم وانتم بشر مثله. قال سبحانه :

ص: 146


1- السيرة النبويّة لابن هشام : 1 ص 357.

( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ) ( هود / 13 و 14 ).

الثاني : كيف تقولون بأنّه استنسخ هذه الأساطير بإملاء الغير مع أنّه ما تلى كتاباً ، ولا خطّ صحيفة ، فكيف تتّهمونه بالاستنساخ والاستكتاب ؟ قال سبحانه : ( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ ) ( العنكبوت / 48 و 49 ).

8 - مفتر أو مجنون : - على ترديد بينهما - ربّما كان القوم يتردّدون في توصيف النبي بين كونه عاقلاً مفترياً على اللّه سبحانه أو مجنوناً معدم العقل والشعور ، وهذه شيمة الدهاة في استنقاص فضل الأشخاص حيث يكيلون التهم على مخالفيهم الأقوياء بلسان التردّد وعدم الجزم ، لدفع نسبة شناعة التهمة عن أنفسهم كما يحكي عنهم سبحانه : ( أَفْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ ) ( سبأ / 8 ).

9 - شاعر : إنّ القوم كانوا اُسود الفصاحة وفرسان البلاغة وقد أدركوا بفطرتهم سموّ القرآن وعلوّ مرتبته في ذلك المجال ، ومن جانب كانوا في العداء والحسد على مرتبة صدّتهم عن الاعتراف بكونه كتاباً منزّلاً من السماء ، حاولوا أن يفسّروه بالشعر فوصفوه بالشاعر وقالوا : ( أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ ) ( الطور / 30 ) وحاصل هذه التهمة انّه شاعر و « أعذب الشعر أكذبه » ، فلنصبر عليه ولنتربّص به صروف الدهر واحداثه فسيكون حاله حال زهير والنابغة وأضرابهم ممّن انقرضوا وصاروا كأمس الدابر.

وقد ردّ سبحانه على تلك التهمة يأمر نبيّه بقوله : ( قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ) ( الطور / 31 - 34 ).

ص: 147

إنّ اللّه سبحانه أمر النبي أن يتهدّدهم ويتوعّدهم باُمور :

أ - ( قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُتَرَبِّصِينَ ) : انتظروا وتمهّلوا في ريب المنون فإنّي متربّص معكم منتظر قضاء اللّه فيّ وفيكم وستعلمون لمن تكون حسن العاقبة والظفر في الدّنيا والآخرة.

ب - ( أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُم بِهَذَا ) ؟ أي هل تأمرهم عقولهم بنشر هذه التّهمة ، فإنّ التهم الثلاث لا تجتمع بحسب مدّعاهم في آن واحد ، فإنّ المجنون من زال تعقّله وإدراكه ، فكيف يقوى على إنشاء الشعر الرصين ، وكيف يكون قوله حجّة في الإخبار عن المغيّبات ؟.

وقصارى القول : إنّ هؤلاء المتحاملين كانوا قد فقدوا رشدهم فأخذوا يتخبّطون في تهمهم وكلامهم من دون وعي.

ج - ( أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ) : بل الحقّ ، إنّ الذي حملهم على ما يقولون هو عنادهم وعتوّهم عن الحقّ وطغيانهم.

د - ( أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ ) أي أنّ عقولهم لم تأمرهم بهذا ولم تدعهم إليه بل حملهم الطغيان على تكذيبك ، ولأجل ذلك يقولون : افتعل القرآن من تلقاء نفسه.

ه - ( بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ ) أي قصارى القول : إنّهم لا يؤمنون ولا يصدّقون بذلك عناداً وحسداً واستكباراً ، وإنّما هذه تهم اتّخذوها ذريعة إلى التمويه وستروا بها عداءهم وعنادهم.

و - ( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ) أي إن كان شاعراً فلديكم الشعراء الفصحاء ، أو كاهناً فلديكم الكهّان الأذكياء ، وإن كان قد تقوّله فلديكم الخطباء الّذين يحضرون الخطب ويجيدون إنشاء القول في كلّ فنون الكلام ، فليأتوا بمثل هذا القرآن إن كانوا صادقين فيما يزعمون ، فإنّ أسباب التحدّي بالقول متوفّرة لديكم كما هي متوّفّرة لديه ، بل فيكم من طالت مزاولته للخطب والأشعار وكثرة الممارسة لأساليب النظم والنثر وحفظ أيّام العرب ووقائعها أكثر من محمّد ( صلى اللّه عليه وآله

ص: 148

وسلم ) (1).

وقال سبحانه ردّاً على هذه الفرية : ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ) ( يس / 69 ) فأين القرآن من الشعر وأين محمّد من الشعراء ؟.

10 - أضغاث أحلام : والمراد منه تخاليط أحلام رآها في المنام ، ويحكي عنهم سبحانه بقوله : ( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ * قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ ) ( الأنبياء / 3 - 5 ).

بيّن سبحانه في هاتين الآيتين اقتسامهم القول في النبيّ ، فقال بعضهم أخلاط أحلام قد رآها في النوم ، وقال آخرون : بل إختلقه من تلقاء نفسه ونسبه إلى اللّه ، وقال قوم : بل هو شاعر وما أتى به شعر ، يخيّل إلى السامع معاني لا حقيقة لها ، مضافاً إلى أنّهم استبعدوا أن يكون بشر مثلهم نبيّاً.

وهذا الإضطراب والتردّد في القول دأب المحجوج المغلوب على أمره ، لا يتردّد إلاّ بين باطل وأبطل ويتذبذب بين فاسد وأفسد منه.

فلو بنى على تحليل القرآن بواحد من هذه الوجوه ، فكونه سحراً - مع كونه فاسداً - أقرب من كونه أضغاث أحلام ، فأين هذا النظم البديع من تخاليط الكلام التي لا تضبط ؟ وادّعاء كونها مفتريات أبعد وأبعد ، لأنّه صلی اللّه علیه و آله قد اشتهر بالأمانة والصدق ، مضافاً إلى أنّهم أعرف النّاس بالفرق بين النظم والنثر ، فكيف يصفونه بالشعر ؟ كما أنّهم يفرّقون بين الغايات التي يصاغ له الشعر والغايات التي يشدها القرآن كيف يتّهمونه بالشعر مع أنّهم يعلمون أنّه لم ينشد شعراً وما اجتمع بالشعراء ولا حام حوله مدى أربعين سنة ؟ (2).

ص: 149


1- تفسير المراغي : ج 25 ص 32.
2- تفسير المراغي : ج 17 ص 7.

إنّ المتمعّن في أحوال النبيّ ينتهي من خلال هذه التهم إلى أنّه كان رجلاً صالحاً طاهراً ديّناً عفيفاً نقي الجيب مأموناً على المال والعرض والنفس ، لم يدنّس نفسه بفاحشة ولم يتجاوز حقّ أحد قط بل كانت حياته حياة إنسان مثالي ، فلأجل ذلك لم يجد الأعداء سبيلاً إلى رميه بهذه التهم ، فحاولوا أن يتّهموه باُمور نفسيّة يعسر إثباتها كما يعسر نفيها ، وأمّا انّهم كيف اتّهموه بالسحر ؟ فيقول ابن هشام :

« إنّ الوليد بن المغيرة إجتمع إليه نفر من قريش فقال : إنّه قد حضر الموسم ، وإنّ وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فاجمعوا فيه رأياً واحداً ، ولا تختلفوا فيكذّب بعضكم بعضاً ، ويرد قولكم بعضه بعضاً ، قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس ، فقل وأقم لنا رأياً نقول به ، قال : بل أنتم فقولوا وأسمع ، قالوا : نقول كاهن ، قال : لا واللّه ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهّان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه ، قالوا : فنقول مجنون ، قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته ، قالوا فنقول : شاعر ، قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كلّه رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر ، قالوا : فنقول ساحر ، قال : ما هو بساحر ، لقد رأينا السحّار وسحرهم ، فما هو بنفثهم ولا عقدهم ، قالوا : فما نقول يا أبا عبد شمس ؟ قال : واللّه إنّ لقوله لحلاوة ، وإنّ أصله لعذق ، وإنّ فرعه لجناة ، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلاّ عرف أنّه باطل ، وانّ أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر ، جاء بقول هو سحر يفرّق بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته. فتفرّقوا عنه بذلك ، فجعلوا يجلسون بسبل النّاس حين قدموا الموسم ، لا يمرّ بهم أحد إلاّ حذّروه إيّاه ، وذكروا لهم أمره. فأنزل اللّه تعالى في الوليد بن المغيرة في ذلك من قوله : ( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا ) أي خصيماً ( سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ ) ( المدّثّر / 11 - 25 ).

ص: 150

وأنزل اللّه في النفر الذين كانوا يصنّفون القول في رسول اللّه وفيما جاء به من اللّه تعالى : ( كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( الحجر / 90 - 93 ) (1).

* * *

ص: 151


1- السيرة النبويّة لابن هشام : ج 1 ص 270.

ب - الاستنكار والاحتجاج بالاُمور الواهية

اشارة

قد اطّلعت على الظنون والشبهات التي نسجها القوم على منوال التّهم وعرفت إجابة القرآن عنها ، فهلمّ معي ندرس إستنكارات القوم الباطلة التي جعلوها سدّاً في وجه الإذعان برسالته ، وهاتيك الإحتجاجات وإن كانت قد صدرت من أفواه رجال طعنوا في السن ولكنّها أشبه شيء بمنطق الّذين لا يعون ما يقولونه وإليك سردها واحدة واحدة :

1 - لماذا لم ينزل القرآن على رجل مُثْرٍ ؟!

إنّ الوليد بن المغيرة كان رجلاً مثرياً معروفاً في مكّة ومثله عروة بن مسعود الثقفي في الطائف ، فكان من حججهم الواهية على النّبي أنّه لماذا لم ينزل ما تدّعيه من القرآن عليهما ونزل عليك ؟ فهما مثريان وأنت معوز فقير ، فبما أنّ الرجلين كانا عظيمي قومهما ومن أصحاب الأموال الطائلة في البلدين ، فدخلت الشبهة عليهم حتّى اعتقدوا أنّ من كان كذلك فهو أولى بالنبوّة. قال سبحانه حاكياً عنهم : ( لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) ( الزخرف / 31 ) فهؤلاء وإن كانوا صادقين في أنّ شأن القرآن أن ينزل على من له مكانة مرموقة يمتاز بها عن الآخرين ، ولكنّهم أخطأوا في جعل السموّ والعظمة في الثروة والمال لأنّ نزول الوحي رهن كون المنزول عليه رجلاً تقيّاً طاهر النفس ، صامداً في تحمّل أعباء الرسالة الإلهيّة ، لا يخاف من مواجهة الملك ، ولا يخفى عليك أنّه لا صلة لهذه الشروط بالغنى والفقر ، أو الثروة وخلّو اليد ، والقرآن يردّ على تلك الفرية بقوله : ( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ

ص: 152

بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ) ( الزخرف / 32 ) والمعنى أنّهم لا يملكون النبوّة الّتي هي رحمة اللّه ولطفه الّذي يختصّ به من يشاء من عباده حتّى يمنعوك منها ، فيعطوها من شاؤوا ، فهم عاجزون عن قسمة ما هو دون النبوّة بمراحل وهو معيشتهم في الحياة الدّنيا فنحن قسّمناها بينهم ، فكيف يتدخّلون فيما هو أرفع منزلة منها بما لا يقدّر قدره ، ألا وهي النبوّة الّتي هي من شؤون الباري جلّ وعلا ؟

2 - الرسالة الإلهيّة فوق طاقة البشر

كان عرب الجاهليّة يزعمون : انّ الرسالة الإلهيّة فوق قدرة البشر وإنّما هي شؤون الملك ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ) ( الأنبياء / 3 ) وقال سبحانه : ( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الهُدَى إِلاَّ أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ) ( الاسراء / 94 ) ويظهر من غير واحد من الآيات إنّ تلك الظاهرة الفكرية كانت تدور في أذهان أقوام نوح وثمود وعاد من قبل ، حيث اعترضوا على رسلهم بأنّهم بشر مثلهم ، قال سبحانه حاكياً عنهم : ( قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) ( إبراهيم / 10 و 11 ) ويلوح من بعض الآيات إنّ بعض اليهود المعاصرين للنبيّ الأكرم كانوا يتذرّعون بهذه الحجّة الواهية كما يحكي عنهم بقوله : ( وَمَا قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ) يقولون ذلك بصلافة ووقاحة في الوقت الذي كانوا يعتقدون بنبوّة موسى وكتابه ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ) ( الأنعام / 91 ).

والقوم على جهل بسر لزوم كون الرسول بشراً لا ملكاً ، ولو كانوا على إحاطة به ومنصفين في الحكم لما احتجّوا بمثل تلك الحجّة الواهية ، إذ يترتّب على وجود المماثلة النوعية بين الرسول والمرسل إليه ما لا يترتّب على عدمها وذلك لاُمور :

ص: 153

أوّلاً : المسانخة والمماثلة أساس ترتكز عليه القيادة ، فلو عدمت لانتّفت الغاية المنشودة ، فإنّ القائد إذا كان مشاكلاً للمقود يكون واقفاً على حدود طاقات المرسل إليهم وغرائزهم وطبائعهم وميولهم ، فيبادر إلى معالجة ما يعانونه من تخلّف وجهل وانحطاط كما يقوم بتنمية طاقاتهم واستعداداتهم في مجالي المادة والمعنى ، إذ يحسّ منهم ما يحسّ من نفسه ، فأين طبيعة الملك من فطرة الإنسان ، فالملك مخلوق على نمط خاص لا يحيد عنه فلا يتمكّن من العصيان ، وأمّا البشر فقد خلق مخيّراً بين الطاعة والمخالفة إن شاء إمتثل وآمن ، وإن شاء إرتدّ وكفر.

وبعبارة ثانية : إنّ الإنسان جبل على غرائز متضادّة سائدة عليه ، ففيه الشهوة والغضب وهما من الميول السفلية في كيان ذاته ، كما فيه الميول العلوية التي تجرّه إلى الخير والإحسان والتجافي عن الطبيعة والتوجّه إلى ما وراءها ، فالإنسان المثالي هو من يقوم بتعديل تلك الفطريّات المتضادّة ، وامّا الملك فقد جبل على سلوك الخير والطاعة ، فلا يقدر على الخلاف والعصيان ، فهل يدرك هذا الموجود المفارق موقف الإنسان الذي خلق هلوعاً.

وثانياً : إنّ القائد كما يهدي بكلامه ومقاله ، يهدي بفعله وعمله ، فهو قدوة في مجالي القول والعمل ، والدعوة بالفعل أرسخ في القلوب من الدعوة بالقول ، وهذا يقتضي وجود السنخية بين الرسول والمرسل إليهم حتّى يكون الرسول في الغرائز الباعثة إلى الشرّ والعصيان ، مثل المرسل إليهم في ذلك المجال ، وبالتالي يكون سلوكه طريق الخير والصلاح حجّة على المرسل إليهم ، ولولا السنخيّة لما تمّت الحجّة وبقى مجال للإعتراض. (1)

وإلى بعض ما ذكرنا يمكن أن يشير قوله سبحانه : ( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الهُدَى إِلاَّ أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً * قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولاً ) ( الأسراء / 94 و 95 ) أي لو وجد

ص: 154


1- نهج البلاغة : الكتاب رقم 45.

في الأرض ملائكة يمشون كما يمشي البشر ، ويقيمون فيها كما يقيم ويسهل الإجتماع يهم ، وتلقّي الشرائع منهم ، لنزّلنا عليهم من السماء رسلاً من الملائكة للهداية والإرشاد وتعليم الناس ما يجب عليهم تعلّمه ، ولكن طبيعة الملك لا تصلح للإجتماع بالبشر ، فلا يسهل عليهم التخاطب والتفاهم معهم ، لبعد ما بين الملك وبينهم ، ومن ثمّ لم نبعث ملائكة ، بل بعثنا خواص البشر ، لأنّ اللّه قدوهبهم نفوساً زكيّة ، وأيّدهم بأرواح قدسية ، وجعل لهم ناحية ملكية بها يستطيعون أن يتلقّوا من الملائكة ، وناحية بشرية بها يبلّغون رسالات ربّهم إلى عباده (1).

وقد نبّه سبحانه إلى عظيم هذه الحكمة وجليل تلك النعمة بقوله : ( لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ ... ) ( آل عمران / 164 ) وقوله : ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( التوبة / 128 ). وقوله : ( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) ( البقرة / 151 ) إلى غير ذلك من الآيات التي وقع التنصيص فيها بكون الرسول من جنس البشر.

3 - نبذ سنّة الآباء :

التشبّث بسيرة الآباء من الاُمور الجبلية للبشر ، خصوصاً فيمن يعيش في واحات الصحراء بعيداً عن الحضارة واسبابها ، فقد كان العرب متعصّبين على مسلك آبائهم تعصّباً حال بينهم وبين الإيمان بالرسول بحجّة انّه يدعوا إلى خلاف سيرة آبائهم ، وفي ذلك يقول سبحانه : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ ) ( المائدة / 104 ) وقد عرفت الكلام في ذلك عند البحث عن الدوافع الروحيّة التي منعتهم عن الإيمان إجمالاً.

ص: 155


1- تفسير المراغي : ج 15 ص 97.

وعلى ضوء ذلك كانوا يتعجّبون من جعل الآلهة المتعدّدة إلهاً واحداً ، فقدكان للعرب أصنام منصوبة على سطح الكعبة ، كاللات والعزّى وهبل ، ويعكفون على عبادتها ، فقال لهم النبي : يا معشر العرب ، أدعوكم إلى عبادة اللّه ، وخلع الأنداد والأصنام ، وأدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه ، فقالوا : أنَدَع ثلاث مائة وستين إلهاً ونعبد إلهاً واحداً ، وإليه الإشارة في قوله سبحانه : ( وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) ( ص / 4 و 5 ) (1).

روى المفسّرون أنّ أشراف قريش وهم خمسة وعشرون منهم : الوليد بن المغيرة وهو أكبرهم ، وأبوجهل ، واُبي واُميّة ابنا خلف ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، والنضر بن الحارث ، أتوا أبا طالب ، وقالوا : أنت شيخنا وكبيرنا وقد أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك ، فإنّه سفّه أحلامنا وشتم آلهتنا ، فدعا أبو طالب رسول اللّه وقال : يا بن أخي هؤلاء قومك يسألونك ، فقال : ماذا يسألونني ؟ قالوا : دعنا وآلهتنا ، ندعك والهك ، فقال : أتعطوني كلمة تملكون بها العرب والعجم ؟ فقال أبو جهل : لله أبوك ، نعطيك ذلك عشر أمثالها ، فقال : قولوا لا إله إلاّ اللّه ، فقاموا وقالوا : أجعل الآلهة إلهاً واحداً ، وروي أنّ النبي استعبر ثمّ قال : يا عمّ واللّه لو وضعت الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا القول حتى أنفذه أو اُقتل دونه ، فقال له أبو طالب : امض لأمرك فواللّه لا أخذلُك أبداً (2).

4 - الدعوة إلى الحياة الاُخروية

كانت عرب الجاهلية خصوصاً المترفين منهم يخافون من سماع أخبار البعث والنشور ، وانّ الإنسان سيبعث بعد موته ويحاسب ويجزى حسب أعماله ، وكان

ص: 156


1- مناقب ابن شهر آشوب : ج 1 ص 49 ، بحار الأنوار : ج 18 ص 115 ، ولاحظ تاريخ الطبري : ج 2 ص 66.
2- مجمع البيان : ج 8 ص 465.

هذا أحد الدوافع للإعراض عن الدعوة ، وقد جاء في الذكر الحكيم ما ذكروه في هذا المجال من الحجج الواهية ، وسنوافيك به عند البحث عن المعاد في الذكر الحكيم ونكتفي في هذا المقام ببعض الآيات ، فقال سبحانه : ( وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) ( السجدة / 10 ) ، وقال سبحانه : ( وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ) ( الإسراء / 98 ) ، وقال سبحانه : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) ( سبأ / 7 ).

وتعرب الآية الاُولى عن أنّهم كانوا يظنّون إنّ الموت إفناء للإنسان واعدام واضمحلال له ، فكيف يمكن إحياؤه ثانياً ؟ والقرآن يجيب عنه بقوله سبحانه : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) ( السجدة / 11 ). إنّ الوفاء في الآية بمعنى الأخذ ، وحاصل الجواب : انّ ملك الموت الذي وكّل بكم يأخذكم فلا تضلّون في الأرض ثمّ إلى ربّكم ترجعون.

وبعبارة ثانية : إنّ الإنسان مركّب من جسم وروح فما يبقى في الأرض هو جسمه وليس حقيقته وواقعيّته ، وأمّا حقيقة الإنسان فهي روحه ونفسه وهي محفوظة عندنا يأخذها ملك الموت فما بقي فهو غير حقيقته ، وما هو واقعية الإنسان ( الروح ) ، والنفس فهي محفوظة عند اللّه غير ضالة في الأرض.

قال العلاّمة الطباطبائي : « أمر سبحانه رسوله أن يجيب عن حجّتهم المبنيّة على الاسبتعاد بأنّ حقيقة الموت ليس بطلاناً لكم وضلالاً منكم في الأرض ، بل ملك الموت الموكّل بكم يأخذكم تامّين كاملين من أجسادكم أي ينزع أرواحكم من أبدانكم بمعنى قطع علاقتها من الأبدان ، وأرواحكم تمام حقيقتكم ، فأنتم أي ما يعني لفطة « كم » محفوظون لا يضل منكم شيء من الأرض ، وإنّما تضلّ الأبدان وتتغيّر من حال إلى حال ، وقد كانت في معرض التغيّر من أوّل كينونتها ، ثمّ إنّكم محفوظون حتّى ترجعوا إلى ربّكم بالبعث ورجوع الأرواح إلى أجسادها » (1).

ص: 157


1- الميزان : ج 16 ص 252.

وتعرب الآية الثانية عن أنّ سبب الإنكار هو تخيّل قصور القدرة وعدم إمكان البعث ، فكيف يمكن إحياء العظام الرميمة ؟ فردّ عليه سبحانه بقوله : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) ( الإسراء / 99 ) فليس إحياء العظام الرميمة أكبر وأعظم من خلق السموات والأرض ، فالقادر على خلقهما قادر على إحيائهم من جديد (1).

5 - طلب المشاركة في امتيازات النبوّة

كان المشركون - لأجل قصور معارفهم عن درك مقام النبوّة السامي ، يطلبون المشاركة في أمر النبوّة ، فكان الوليد بن المغيرة يقول : لو كانت النبوّة حقّاً لكنت أولى بها منك ، لأنّي أكبر سنّا واكثر منك مالاً ! وقال أبوجهل : زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى صرنا كفرسي رهان. قالوا منّا نبيّ يوحى إليه ، واللّه لا نؤمن به ولا نتبعه أبداً إلاّ أن يأتينا وحي كما يأتيه (2).

وإلى هذه الحجّة الواهية يشير قوله سبحانه حاكياً عنهم : ( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ ) ( الأنعام / 124 ).

إنّ كلامهم هذا ينمّ عن حقد دفين وعناد مستبطن فردّ عليهم سبحانه بقوله : ( اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) ( الأنعام / 124 ). فهو سبحانه أعلم منهم ومن جميع الخلق بمن يصلح لتنفيذ رسالاته ، ويعلم من له الأهلية بتحمّل أعباء الرسالة.

6 - المطالبة بمثل ما اُوتي سائر الرسل

كان المشركون المتواجدون في عصر الرسالة بلغ مسامعهم بأنّ الكليم موسى

ص: 158


1- قد جمعنا مجموع شبهاتهم الواهية في إمكان المعاد وتحقّقه في الجزء المختص بالمعاد وقد إكتفينا بهذا المقدار هنا روماً للإختصار.
2- مجمع البيان : ج 2 ص 362 ( ط صيدا ).

بعث بمعاجز مثل العصا إذا رمى بها في مجال التحدّي تنقلب ثعباناً ، وبإدخال اليد في الجيب إذا أخرجها منه تكون بيضاء للناظرين ، فاعترضوا عليه صلی اللّه علیه و آله بأنّه يجب أن تكون حجّة رسالته كحجج الكليم موسى علیه السلام وقد حكى ذلك منهم سبحانه بقوله : ( فَلَمَّا جَاءَهُمُ الحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى ) ( القصص / 48 ).

وفي آية اُخرى : ( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ( الأنعام / 37 ). وربّما يحتجّ بهذا الإعتراض من في قلبه مرض من المستشرقين ، فيجب علينا تناوله بشيء من الدراسة والتحليل لرفع ما فيه من الإيهام والإبهام وذلك من خلال جوابين مستفادين من القرآن الكريم :

أ - إنّ هذا الإعتراض كان لمحض إختلاق المعاذير ، والشاهد على ذلك انّ هؤلاء المشركين وصفوا ما اُوتي الكليم بالسحر أيضاً ، فقد روى المفسّرون أنّ المشركين بعثوا رهطاً إلى رؤوس اليهود في عيد لهم فسألوهم عنه صلی اللّه علیه و آله فأخبروهم بنعته وصفته في كتابهم التوراة ، فرجع الرهط إلى قريش فأخبروهم بقول اليهود ، فقالوا عند ذلك : ( سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ) وإليه يشير قوله سبحانه : ( أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ) ( القصص / 48 ).

ويظهر من الآيات الواردة بعد هذه الآية أنّهم رجعوا إلى أهل الكتاب واستفتوهم في أمره وعرضوا عليهم بعض القرآن النازل عليه ، فأجابوا عنه بتصديقه والإيمان به ، فساء ذلك المشركين واُغلظ عليهم بالقول واعرض الكتابيّون عنهم وقالوا : سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين. قال سبحانه : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ... وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ ) ( القصص / 52 - 55 ) (1).

ص: 159


1- لاحظ التفاسير.

ب - إنّ هؤلاء جاهلون بالحكمة في إختلاف المعاجز والآيات التي تنزل على أنبياء اللّه تعالى ويزعمون أنّه يجب أن تكون معاجز الجميع على حد سواء مع أنّ المصالح تقتضي أن تختلف معاجز الأنبياء ذاتاً وسنخاً حتى تتم الحجّة على المرسل إليهم ، وتفصيل القول في ذلك إنّه يجب أن تكون معجزة كل نبي مجانسة للفن الرائج في عصره حتى إذا عرضت على مهرة ذلك الفن وخبرائه ، أذعنوا بتفوّقه على قدراتهم وطاقاتهم ، والذي جاء به مدّعي النبوّة فوق حدود العلم والفن الذي تمرّسوا فيه ، وهذا يقتضي كون المعجزة مسانخة لما برعوا فيه في ذلك العصر إذ لوكان مغايراً ومفارقاً لما تمّت الحجة ولما اُلزموا بها إذ بوسعهم أن يعترضوا ويقولون : لا خبرة بشأن ما اُتيت به ، فكيف لنا التحدّي والمناجزة أو التصديق بأنّ ما جئت به معجزة إلهية تفوق قدرة البشر ، فاقتضت المصلحة تسانخ المعاجز للفنون الرائجة في عصر كل نبي.

وقد بلغ فن السحر والشعبذة في عصر الكليم موسى الذروة والقمّة كما اكتسب الطب في عصر المسيح أهميّة بالغة ، فجاء الكليم موسى بالعصا واليد البيضاء فأبطل سحرهم وأثبت أنّ ما أتى به معجزة تفوق حد السحر وإن كان بينهما مشاكلة في الصورة ولكنّها تباينه بالذات ، كما أنّ المسيح بابراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى كان قد أثبت أنّ ما أتى به فوق علمهم وطاقتهم وبراعتهم ، وخارج عن الموازين الطبيعية التي كانوا يعتمدونها في الإبراء والمداواة.

فنفس تلك المصلحة تتطلّب أن تكون معجزة النبي الأكرم مشابهة لما برع فيه العرب في العصر الجاهلي لأنّه كان قدراج بينهم إنشاء الخطب البليغة الفصيحة ونظم الشعر والتحدّي بينهم في ذلك ، فجاء بكتاب متحدّياً بصريح نصّه : ( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) ( البقرة / 23 و 24 ).

وإلى هذا الجواب يشير قوله سبحانه في ذيل الآية التي نبحث عنها :

ص: 160

( قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا (1) أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) ( القصص / 49 ).

ويدلّ على هذه الحقيقة مضافاً إلى ذلك ما روي عن أبي السكيت أنّه قال لأبي الحسن الرضا علیه السلام :

« لماذا بعث اللّه موسى بن عمران علیه السلام بالعصا ، ويده البيضاء ، وآلة السحر ؟ وبعث عيسى بآلة الطب ؟ وبعث محمداً - صلى اللّه عليه وآله وسلّم وعلى جميع الأنبياء - بالكلام والخطب ؟.

فقال أبو الحسن علیه السلام : إنّ اللّه لمّا بعث موسى علیه السلام كان الغالب على أهل عصره السحر ، فأتاهم من عند اللّه بما لم يكن في وسعهم مثله ، وما أبطل به سحرهم ، وأثبت به الحجة عليهم. وانّ اللّه بعث عيسى علیه السلام في وقت قد ظهرت فيه الزمانات ، واحتاج النّاس إلى الطب ، فأتاهم من عند اللّه بما لم يكن عندهم مثله ، وبما أحيى لهم الموتى ، وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن اللّه ، وأثبت به الحجّة عليهم.

وانّ اللّه بعث محمد صلی اللّه علیه و آله في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام. وأظنّه قال : الشعر ، فأتاهم من عند اللّه من مواعظه وحكمه ما أبطل به قولهم ، وأثبت به الحجّة عليهم » (2).

أضف إلى ذلك انّ نبوّة الرسول الأكرم نبوّة خالدة ورسالته رسالة أبدية فهو خاتم الأنبياء والمرسلين كما أنّ كتابه خاتم الكتب ، ورسالته خاتمة الرسالات ، فيجب أن تقترن الرسالة الأبديّة بمعجزة خالدة حتّى تتمّ الحجّة على مرّ الأجيال والعصور ، ولا يختلق الجاهل عذراً يبرّر له رفضه لتلك الرسالة بعد رحيل الصادع بها ، وتباعد العهد وطول الشقّة الزمنيّة.

ص: 161


1- الضمير راجع إلى التوراة والقرآن.
2- الكافي : ج 1 « كتاب العقل والجهل » الرواية 20.

كلّ ذلك كان حافزاً لدعم دعوة النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالقرآن الكريم الّذي ما أفلت أنواره منذ أن بزغ نجمه في أوّل مرّة.

7 - لماذا لا ينزلّ عليه ملك ؟!

وهذا الإعتراض يحكيه عنهم قوله سبحانه : ( وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ) ( الأنعام / 8 ) وما كانوا يقصدون به أنّه لماذا لا ينزل الملك إليه صلی اللّه علیه و آله فإنّه كان يدّعي نزول الملك عليه والقرآن أيضاً يصدّقه في ذلك بقوله : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ ) ( الشعراء / 193 و 194 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) ( التكوير / 19 - 21 ) إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في أنّ الوحي ينزل على النّبيّ بتوسّط الملك ، ومع هذا التصريح فما معنى قوله : ( لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ) ؟.

أقول : إنّ الاقتراحات الّتي تقدّم بها المشركون في نزول الملك معه أو إليه كانت على أنحاء :

الأوّل : إنّهم كانوا يطلبون المشاركة في امتيازات مقام النبوّة ويقولون : إنّه لو صحّ نزول الملك على النبيّ فلماذا لا ينزل علينا مباشرة على جهة الاستقلال ؟ وقد ورد في ذلك آيات نحو قوله تعالى : ( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا ) ( الفرقان / 21 ) وقال سبحانه : ( إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ) ( فصّلت / 14 ).

إنّ هذا القسم من الآيات مبني على إعتقادهم بأنّه لا يصحّ لأحد من البشر ولو كان أرقاهم عقلاً وخلقاً وأدباً أن يكون رسولاً وواسطة بين اللّه وعباده ، لأنّهم يأكلون ويشربون وفي ذلك قال سبحانه حاكياً عنهم : ( مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا

ص: 162

لَّخَاسِرُونَ ) ( المؤمنون / 33 - 34 ).

الثاني : كانوا يطلبون أن ينزل مع النبيّ ملك يصدّقه ، وقد ورد هذا المعنى في عدّة آيات ، قال سبحانه : ( وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ) ( الفرقان / 7 ) فالغاية من نزول الملك إلى النبي كونه نذيراً معه ومصدّقاً له ، قال سبحانه : ( فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ المَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ) ( الزخرف / 53 ) وقال سبحانه : ( فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) ( هود / 12 ).

وعلى ذلك يحمل قوله سبحانه : ( وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ ) ( الأنعام / 8 ).

ويحتمل أن يكون المراد مشاهدة الملك معه فقط سواء أنذر معه أو لا ؟ فيدخل في القسم الثالث الآتي.

ثمّ إنّ إنزال الملك مع النبيّ ليصدّق دعوته وينذر معه يتصوّر على وجهين :

أ - أن ينزل الملك بصورته الواقعية - وسيوافيك في القسم الثالث - إنّ نتيجة ذلك هو موت المنذرين لأنّهم لا يحتملون رؤيته ومشاهدته بحسب طاقتهم البشريّة إلاّ بالانسلاخ عن الماديّة والإنتقال إلى مرحلة أعلى منها.

ب - أن ينزل الملك لا بصورته الواقعيّة بل يتمثّل بصورة إنسان وهذا لا يفيد شيئاً لأنّهم باستطاعتهم أن يتّهمونه بأنّه بشر مثل النبيّ وليس بملك.

وبعبارة اُخرى : لو جعله ملكاً في صورة بشر لجزموا ببشريّته لأنّهم لا يدركون منه إلاّ صورته الظاهرية وصفاته البشريّة التي تمثّل بها ، وحينئذ لا يصدّقونه ويرجع الأمر كما كان في بادئ ذي بدء ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ) ( الأنعام / 9 ) أي لكان يلحقهم فيه من اللبس مثل ما

ص: 163

لحق ، وهذا إحتجاج عليهم بأنّ الّذي طلبوه لا يزيدهم بياناً بل يكون الأمر عبثاً ولغواً لا طائل وراءه (1).

الثالث : كانوا يطلبون مشاهدة الملك عياناً على أن يكون الإتيان بالملك ، احدى معاجزه مثل قوله سبحانه : ( أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالمَلائِكَةِ قَبِيلاً ) ( الإسراء / 92 ) ، قال سبحانه : ( لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) ( الحجر / 7 ) ، قال سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) ( الأنعام / 111 ).

ويردّ القرآن على هذا الاحتجاج : ( وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ ) ( الأنعام / 8 ) أي يكون هلاكهم قطعيّاً على ما يوضّحه النص التالي :

إنّ نفوس المتوغّلين في عالم المادّة لا تطيق مشاهدة الملائكة لو نزلوا عليهم واختلطوا بهم لكون ظرفهم غير ظرف الملائكة فلو إرتفع الناس إلى المرتبة الوجودية للملائكة لم يكن ذلك إلاّ إنتقالاً منهم من حضيض المادة إلى ذروة ما وراءها وهو الموت كما قال تعالى : ( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا * يَوْمَ يَرَوْنَ المَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا ) ( الفرقان / 21 و 22 ) (2). قال ابن عباس : ولو أتاهم ملك في صورته لأهلكناهم ثمّ لا يؤخّرون (3).

8 - التفاؤل بغلبة فارس على الروم

قد نشبت حرب دامية بين الروم والفرس ، والنبيّ والمسلمون بمكّة حوالي سنة سبع من البعثة ، فغلبت الفرس على الروم فتفألت بذلك قريش بحجّة أنّ الفرس

ص: 164


1- مجمع البيان : ج 2 ص 76 و 77.
2- الميزان : ج 7 ص 16.
3- دلائل النبوّة للبيهقي : ج 2 ص 332.

وثنيّون والروم أهل كتاب فقالوا : الروم أهل كتاب وقد غلبتهم الفرس وأنتم تزعمون أنّكم ستغلبون بالكتاب الّذي اُنزل على نبيكم فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم ، فأنزل اللّه سبحانه : ( الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) ( الروم / 1 - 5 ).

والآية تتضمن خبراً غيبياً بل خبرين حيث يخبر عن غلبة الروم على الفرس أوّلاً في بضع سنين أي في مدة لا تتجاوز تسع سنين ، وانّه في ذلك اليوم ينزل النصر على المؤمنين أيضاً وقد تحقّق الخبران يوم ظهر المسلمون على مشركي قريش يوم بدر. قال عطية : وسألت أبا سعيد الخدري عن ذلك فقال : التقينا مع رسول اللّه ومشركي العرب ، والتقت الروم وفارس فنصرنا اللّه على مشركي العرب ونصر أهل الكتاب على المجوس ففرحنا بنصر اللّه إيّانا على مشركي العرب ونصر أهل الكتاب على المجوس ، وذلك قوله : ( يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللّهِ ) (1).

9 - طلب رفع العذاب

لمّا رأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من الناس إدباراً فقال : اللّهمّ سبع كسبع يوسف ، فأخذتهم سنة حتى أكلوا الميتة والجلود والعظام ، فجاءه أبوسفيان وناس من أهل مكّة فقالوا : يا محمّد ، إنّك تزعم أنّك بعثت رحمة وأنّ قومك قدهلكوا فادع اللّه لهم ، فدعا رسول اللّه فسقوا فأطبقت عليهم سبعاً ، فشكى الناس كثرة المطر ، فقال : اللّهمّ حوالينا ولا علينا ، فانحدرت السحابة عن رأسه فسقى الناس حولهم (2).

وروى السيوطي : انّ قريشاً لمّا استعصيت على رسول اللّه وأبطأؤا عن الإسلام قال : اللّهمّ أعنّي عليهم بسبع كسبع يوسف فأصابهم جهد وقحط حتّى أكلوا العظام

ص: 165


1- مجمع البيان : ج 4 ص 295.
2- دلائل النبوّة : ج 2 ص 326.

فجعل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجوع فأنزل اللّه : ( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ( الدخان / 10 و 11 ) فاُتي النبيّ فقيل : يا رسول اللّه استسق اللّه لمضر ، فاستسقى لهم فسقوا فأنزل اللّه : ( إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ) ( الدخان / 15 ) ، فلمّا أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم فأنزل اللّه : ( يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ ) ( الدخان / 16 ) فانتقم اللّه منهم يوم بدر (1).

10 - كيف يمكن إحياء العظام البالية ؟

مشى اُبيّ بن خلف إلى رسول اللّه بعظم بال قد اُرفت فقال : يا محمّد إنّك تزعم أنّ اللّه يبعث هذا بعدما أرم ؟ ثمّ فتّه بيده ، ثمّ نفخه في الريح ، فقال رسول اللّه : نعم أنا أقول ذلك ، يبعثه اللّه وإيّاك بعدما تكون هكذا ثمّ يدخلك اللّه النار ، فأنزل اللّه تعالى فيه : ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ ) ( يس / 78 - 80 ) (2).

11 - هل المسيح حصب جهنّم ؟!

جلس رسول اللّه مع الوليد بن المغيرة في المسجد فجاء النضر بن الحارث ، حتّى جلس معهم في المجلس وفي المجلس غير واحد من رجال قريش فتكلّم رسول اللّه ، فعرض له النضر بن الحارث ، فكلّمه رسول اللّه حتّى أفحمه ثمّ تلى عليه وعليهم : ( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ

ص: 166


1- الدر المنثور : ج 6 ص 28.
2- السيرة النبويّة لابن هشام : ج 1 ص 361 و 362. وسيوافيك جميع حججهم الواهية حول المعاد في الجزء المختص به بإذن اللّه ، ولذلك آثرنا في المقام الإختصار.

هَؤُلاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ ) ( الأنبياء / 98 - 100 ).

فأقبل عبد اللّه بن الزبعري السهمي حتّى جلس فقال الوليد بن مغيرة لعبد اللّه ابن الزبعري : واللّه قد زعم محمّد إنّا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنّم. فقال عبد اللّه بن الزبعري : أمّا واللّه لو وجدته لخصمته ، فسلوا محمداً أكلُّ ما يعبد من دون اللّه في جهنّم مع من عبده ؟ فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عزيراً ، والنّصارى تعبد عيسى بن مريم ، فعجب الوليد ومع من كان معه في المجلس من قول عبد اللّه بن الزبعري ورأوا أنّه قد احتجّ وخاصم فذكر ذلك لرسول اللّه من قول ابن الزبعري ... فأنزل اللّه تعالى عليه : ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ ) ( الأنبياء / 101 و 102 ) أي عيسى بن مريم وعزيراً ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة اللّه فاتّخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أرباباً من دون اللّه.

فنزل فيما يذكرون أنّهم يعبدون الملائكة ، وإنّهنَّ بنات اللّه : ( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ... - إلى قوله - وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) ( الأنبياء / 26 - 29 ).

ونزل في ما ذكر من أمر عيسى بن مريم أنّه يعبد من دون اللّه. وعجب الوليد ومن حضر من حجّته وخصومه ( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ... إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ) ( الزخرف / 57 و 59 - 61 ).

* * *

ص: 167

خاتمة المطاف : دعاء النّبيّ على سبعة من قريش

استقبل رسول اللّه البيت فدعا على نفر من قريش سبعة فيهم أبو جهل ، واُميّة ابن خلف ، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ، وعتبة بن أبي معيط ، قال عبد اللّه بن مسعود اُقسم باللّه لقد رأيتهم صرعى على بدر ، قد غيّرتهم الشمس وكان يوماً حارّاً (1).

وقد نزلت آيات في حقّهم وحقّ غيرهم تقدّم بعضها وإليك البقية الباقية منها :

1 - لمّا أرادت قريش البطش بالنبيّ أخذوا يتناولونه بالنبز واللمز والهمز وصور الاستهزاء المختلفة وجعل القرآن ينزل في قريش يخبر عن أعمالهم وعدائهم ، فمنهم من سمّي لنا ، ومنهم من لم يسمّ ، وممّن سمّي لنا من قريش عمّه أبو لهب بن عبد المطلب وامرأته اُم جميل بنت حرب بن اُميّة ، حمّالة الحطب ، وإنّما سمّاها اللّه تعالى حمّالة الحطب ، لأنّها كانت - تحمل الشوك فتطرحه على طريق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - حيث يمرّ ، فأنزل اللّه تعالى فيهما : ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ ) (2).

2 - إنّ اُميّة بن خلف كان إذا رأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وهمزه ولمزه ، فأنزل اللّه تعالى فيه : ( وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحُطَمَةُ * نَارُ اللّهِ المُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ ) ( الهمزة / 1 - 9 ) (3).

ص: 168


1- دلائل النبوة : ج 2 ص 335.
2- السيرة النبوية لابن هشام : ج 1 ص 355.
3- المصدر السابق : ج 1 ص 356.

3 - لقى أبو جهل بن هشام رسول اللّه فقال له : واللّه يا محمّد لتتركنّ سب آلهتنا أو لنسبنّ إلهك الذي تعبد ، فأنزل اللّه تعالى : ( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّوا اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ) ( الأنعام / 108 ) (1).

لمّا نزل قوله سبحانه : ( سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ) ( المدثر / 26 - 30 ) ، قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم اُمّهاتكم أتسمعون ابن أبي كبيشة يخبركم بأنّ خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم الشجعان ، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنّم ، فقال أبو الأسد الجمحي : أنا أكفيكم سبعة عشر ، عشرة على ظهري ، وسبعة على بطني ، فاكفوني أنتم اثنين ، فنزل قوله : ( وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا ) ( المدثر / 31 ) (2).

لمّا ذكر اللّه عزّ وجلّ شجرة الزقوم ترهيباً بها وقال : ( أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الجَحِيمِ ) ( الصافات / 62 - 68 ).

قال أبو جهل : يا معشر قريش ، هل تدرون ما شجرة الزّقوم الّتي يخوّفكم بها محمّد ؟ قالوا : لا ، قال : عجوة يثرب بالزبد ، واللّه لئن استمكنّا منها لنتزقمنّها تزقّماً. فأنزل اللّه تعالى فيه : ( إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الحَمِيمِ ) ( الدخان / 43 - 46 ).

ص: 169


1- المصد السابق : ج 1 ص 357.
2- لاحظ مجمع البيان : ج 5 ص 388. والميزان : ج 20 ص 2. والمقصود ما أخبرنا عن عدّتهم انّها تسعة عشر إلاّ ليكون فتنة للذين كفروا ، وفي الوقت نفسه يكون سبباً لاستيقان أهل الكتاب ، لأنّهم يجدونه موافقًا لما جاء في كتابهم كما يكون سبباً لزيادة إيمان المؤمنين بسبب ما يجدون من تصديق أهل الكتاب ذلك.

قال ابن هشام : المهل كلّ شيء أذبته من نحاس أو رصاص ، أو ما أشبه ذلك ، فيما أخبرني أبا عبيدة : قال : كان عبد اللّه بن مسعود والياً لعمر بن الخطاب على بيت مال الكوفة وأنّه أمر يوماً بفضة فاُذيبت فجعلت تلوّن ألواناً ، فقال : هل بالباب من أحد ؟ قالوا : نعم. قال : فاُدخلوهم ، فاُدخلوا ، فقال : إنّ أدنى ما أنتم راوون شبهاً بالمهل كهذا (1).

4 - إنّ اُبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط كانا متصافيين ، حسناً ما بينهما ، فكان عقبة قد جلس إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وسمع منه ، فبلغ ذلك اُبيّاً ، فأتى عقبة فقال ( له ) : ألم يبلغني إنّك جالست محمّداً وسمعت منه وجهي من وجهك حرام أن اُكلّمك - واستغلظ من اليمين - إن أنت جلست إليه أو سمعت منه ، أو لم تأته فتتفل في وجهه. ففعل ذلك عدو اللّه عقبة بن أبي معيط لعنه اللّه. فأنزل اللّه تعالى فيهما : ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ... ) إلى وقوله تعالى : ( لِلإِنسَانِ خَذُولاً ) ( الفرقان / 27 - 29 ).

5 - ابن أخنس بن شريف الذهبي حليف بني زهرة ، كان من أشراف القوم وممّن يستمع منه ، وكان يصيب من رسول اللّه ويرد عليه ، فأنزل اللّه تعالى فيه : ( وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ) ( القلم / 10 - 13 ).

قال ابن هشام : ولم يقل « زنيم » لعيب في نسبه وإنّ اللّه لا يعيب أحداً بنسب ولكنّه حقّق بذلك نعته ليعرف. والزنيم : العديد ( الدعيّ ) للقوم (2).

6 - إنّ العاص بن وائل كان من أعداء النبيّ وكان خبّاب بن الأرتّ ، صاحب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قيناً بمكّة يعمل السيوف ، وكان قد باع من العاص بن وائل سيوفاً عملها له حتى كان عليه مال ، فجاءه يتقاضى ، فقال له

ص: 170


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 362 و 363.
2- السيرة النبويّة لابن هشام : ج 1 ص 360.

يا خبّاب أليس يزعم محمد صاحبكم هذا الذي أنت على دينه أنّ في الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب ، أو فضّة ، أو ثياب ، أو خدم. قال خبّاب : بلى. قال : فانظرني إلى يوم القيامة يا خبّاب حتى أرجع إلى تلك الدار فاقضيك هنالك حقّك ، فواللّه لا تكون أنت وصاحبك يا خبّاب آثر عند اللّه منّي ، ولا أعظم حظّاً في ذلك. فأنزل اللّه تعالى فيه : ( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا ) ( مريم / 77 - 80 ).

7 - وقف الوليد بن المغيرة مع رسول اللّه ورسول اللّه يكلّمه وقد طمع في إسلامه ، فبينما هو في ذلك إذ مرّ به ابن اُم مكتوم الأعمى فكلّم الأعمى رسول اللّه وجعل يستقرئه القرآن ، فشقّ ذلك منه على رسول اللّه حتى اُضجره وذلك انّه شغله عمّا كان فيه من أمر الوليد وما طمع فيه من إسلامه ، فلمّا أكثر عليه انصرف عنه عابساً وتركه ، فأنزل اللّه تعالى فيه : ( عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ ) ( عبس / 1 - 12 ) (1).

وما ذكره ابن هشام وغيره وان كان ينطبق على ظاهر الآيات ولكنّه لا يتفق مع خلق النبي الذي وصفه سبحانه بقول : ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) .

وفي بعض الروايات إنّ العباس المتولّي ، رجل من بني اُميّة ، كان عند النبي فدخل على النبي ابن اُم مكتوم فعبس الرجل وقبض وجهه فنزلت الآيات.

قال العلاّمة الطباطبائي : وليست الآيات ظاهرة الدلالة على أنّ المراد بها هو النبي صلی اللّه علیه و آله بل خبر محض لم يصرّح بالمخبر عنه ، بل فيها ما يدل على أنّ المعني بها غيره ، لأنّ العبوس ليس من صفات النبي ( صلى اللّه عليه

ص: 171


1- السيرة النبويّة : ج 1 ص 363 ، وأكثر التفاسير نقلوا هذا المضمون.

وآله وسلم ) مع الأعداء فضلاً عن المؤمنين به والموالين له ، وعلى كلّ تقدير ، فإنّ توصيفه بأنّه يميل للأغنياء ويعرض عن الفقراء لا يتناسب مع أخلاقه الكريمة كما عن المرتضى رحمه اللّه .

وقد أوضحنا الحال في الجزء الخامس من هذه الموسوعة (1).

8 - كان العاص بن وائل السهمي - إذا ذكر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - قال : دعوه ، فإنّما هو رجل أبتر لا عقب له ، لو مات لانقطع ذكره واسترحتم منه ، فأنزل اللّه في ذلك : ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) ما هو خير لك من الدنيا وما فيها ، والكوثر : العظيم.

إنّ هذه الآية تتضمّن خبراً غيبيّاً وهو أنّه سيكثر نسل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وإنّ تعيير العدو يرجع إلى نفسه ، وعلى الرغم من أنّ أهل بيته لاقوا من الاُمّة ما لاقوا من القتل والتشريد والتنكيل ، ومع ذلك نجد نسل الرسول قد بلغ من التصّور ما بلغ. قال الرازي : « فانظر كم قتل من أهل البيت ثمّ العالم ممتلئ منهم ولم يبق من بين اُميّة في الدنيا أحد يعبأ به ، ثمّ انظر كم فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا علیهم السلام والنفس الزكية وأمثالهم » (2).

هذا ما يقوله الرازي في القرن السابع أو أواخر القرن السادس ، ونحن في أوائل القرن الخامس عشر ، وقد ملأ العالم نسل البتول ، وهذه بلاد المغرب وتونس والجزائر ومصر والشام وتركيا وايران والعراق زاخرة بالشرفاء من أبناء الرسول صلی اللّه علیه و آله فصدق قول اللّه العلي العظيم : ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) .

إنّ منصب نقابة الطالبين في عصر الرضا علیه السلام وبعده إلى عصر الشريف الرضي الذي تصدّر هذا المنصب عام 380 ه ، لأوضح دليل على كثرة

ص: 172


1- مفاهيم القرآن : ج 5 ص 130 عند البحث عن عصمة النبي.
2- مفاتيح الغيب : ج 8 ص 498 ( طبع مصر - 1308 ).

الطالبيين من نسل البتول إلى حد عيّن لهم نقيب كالإمام الرضا والشريف الرضي ، والمسؤولية الملقاة على عاتقه ، ضبط مواليدهم ووفياتهم وأنسابهم والقيام بمهام اُمورهم وهدايتهم وإرشادهم إلى ما فيه صلاح دنياهم وآخرتهم على حد ما ذكره الماوردي في كتاب الأحكام السلطانية (1).

ص: 173


1- الأحكام السلطانية : ص 82 - 86.

ج - الإقتراحات الباطلة لقبول الرسالة

اشارة

الدارج والمألوف بين الدبلوماسيين إذا كانوا بصدد رفع ما بينهم من خصومة ومرافعة ، هو الجلوس على طاولة المفاوضات وإبداء بعض التنازلات عن المصالح الجزئية لقاء الحفاظ على مصالح اُخرى أكثر أهميّة بالنسبة لهم مع سعيهم الحثيث للحفاظ على حرمة الاُصول المبدئية للطرفين.

ولكن القوم لتشبّثهم بما كانوا عليه ، وغربتهم عن العلم باُصول دعوة الأنبياء وأهدافها السامية ، كانوا يطلبون من النبي صلی اللّه علیه و آله اُموراً مختلفة : منها ما يضاد الاُصول التي بنيت عليها الشرائع السماوية ، ومنها ما يدخل في المحالات بالذات ، ومنها ما هو خارج عن نطاق وظائف الرسل والأنبياء ، ولا يمت بصدق دعوتهم ورسالتهم ، وإليك جملة من هذه الطلبات التي تقدّموا بها على ضوء الكتاب العزيز :

1 - التشريك في العبادة

روى المفسرون أنّ نفراً من قريش منهم الحارث بن قيس السهمي ، والعاص ابن أبي وائل ، والوليد بن المغيرة وغيرهم ، قالوا : اتبع ديننا نتبع دينك ، ونشركك في أمرنا كلّه ، تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة ، فإن كان الذي جئت به خيراً ممّا بأيدينا كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظّنا منه ، وإن كان الذي بأيدينا خيراً ممّا في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظّك منه ، فقال صلی اللّه علیه و آله : معاذ اللّه أن اُشرك به غيره. قالوا : فاستلم بعض آلهتنا نصدّقك ونعبد إلهك فقال : حتى انظر ما يأتي من عند ربي ، فنزل : ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) فعدل رسول اللّه

ص: 174

صلی اللّه علیه و آله إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش ، فقام على رؤوسهم ، ثمّ قرأ عليهم حتى فرغ من السورة فأيسوا عند ذلك ، فآذوه وآذوا أصحابه ، قال ابن عباس : وفيهم نزل قوله : ( قُلْ أَفَغَيْرَ اللّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الجَاهِلُونَ ) ( الزمر / 64 ) (1).

وروى أبو حفص الصائغ عن جعفر بن محمد علیهماالسلام قالوا : نعبد إلهك سنة وتعبد إلهنا سنة ، فأنزل اللّه عليه : ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ... ) (2).

نظراً لابتعاد هؤلاء عن النبوّة والأنبياء يخالون أنّ برامج الأنبياء في رسالاتهم برامج بشرية يسوغ لهم المساومة فيها وإبداء التنازلات عنها ، ولأجل ذلك نزل الوحي رادّاً على تلك الفكرة الخاطئة وقال : ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) .

إنّ الدعوة إلى التوحيد في العبادة ورفض عبادة الغير هو الحجر الأساس الذي تهدف إليه الدعوة الإلهية المتمثّلة في رسالات الأنبياء ، ولم يبعث نبي قط إلاّ وكان هذا هو المحور المهمّ في صلب دعوته ، فكيف يخوّل له التنازل عن هذا الأصل الأصيل. قال سبحانه : ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) ( النحل / 36 ).

ويعرب أيضاً عن وجود مثل هذا الاقتراح قوله سبحانه : ( وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ) ( الأسراء / 73 - 75 ).

هذه الآيات تفصح عن شدة مكر المشركين وتماديهم في إنكار التوحيد حيث

ص: 175


1- مجمع البيان : ج 5 ، ص 252.
2- السيرة النبويّة لابن هشام : ج 1 ص 362 ، بحار الأنوار : ج 7 ص 239.

أرادوا أن يفتنوا النبي صلی اللّه علیه و آله عن بعض ما اُوحي إليه أن يميل إلى الركون إليهم بعض الميل ، ولكنّهم لم يحظوا بما كانوا يصبون إليه ويرمون تحقيقه من ميل النبي إليهم وافتتانه عن بعض ما اُوحي إليه والشاهد على ذلك أمران :

1 - قوله سبحانه : ( وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ) وهو صريح في أنّه لم يتحقّق الإفتتان.

2 - قوله عزّ وجلّ : ( وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ) والمراد من التثبيت هو العصمة ولأجل ذلك قال : ( لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ ) ولم يقل : « كنت » والمراد القرب من الركون وإنّه لولا التثبيت لقرب ركونه إليهم ولكنّه لم يحصل القرب فضلاً عن الركون لأجل التثبّت.

2 - تبديل القرآن بغيره

وقد كان من جملة الإقتراحات التي قدّمت للنبي صلی اللّه علیه و آله أزاء قبول دعوته هو تبديل القرآن لأنّه يشتمل على تخطئة ما كانوا هم وآباؤهم عليه من الإعتقاد والعمل ، فاقترحوا عليه أن يأتي بقرآن خالي من ذلك ، قال سبحانه في محكية عنهم : ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ ) ( يونس / 15 ).

وهذا الإقتراح على غرار ما سبق ينبع عن جهل بمبادئ النبوّة والرسالة التي يتحمّلها الرسول من خلال دعوته وابلاغه وليس له حق في تحويره وابداله بل هو مأمور لا تتجاوز وظيفته حد الإبلاغ.قال سبحانه مشيراً إلى هذا الجواب : ( قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) ( يونس / 15 ).

فهذه الآية تفسّر حقيقة النبوّة وتبيّن حدود وظيفة النبي ، فإنّه خاضع للوحي وليس له إِلاّ إبلاغ ما يوحى إليه وإنّ تبديل الموحى إليه عمل إجرامي لا يغتفر

ص: 176

وعصيان للرب موجب للثبور والخسران.

ثمّ إنّه سبحانه يرشد النبي إلى أن يستدل عليهم بأنّ القرآن ليس كلامه وإنّما هو وحي يوحى إليه من خلال تسليط الضوء على سيرته بينهم حيث عاش فيهم عمراً ولم يسمعوا منه شيئاً ممّا يشبه القرآن ، فلو كان القرآن حصيلة فكره ونتاج عقله لبدر منه شيء طيلة أربعين سنة من عمره المنصرم إذ ( مَا أَضْمَرَ أحَدٌ شَيْئاً إِلاَّ ظَهَرَ في صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ ) (1).

فامساكه في هذه الحقب والأعوام عن التفوّه بما يماثل ذلك لأوضح دليل على أنّه وحي اُوحى إليه في حاضر دعوته فكيف تقترحون عليه أن يأتي بقرآن غيره هذا إذ ليس القرآن رهن إشارته وطوع اختياره وارادته حتى يأتي بطائفة منه ويعزف عن طائفة اُخرى واليه يشير قوله سبحانه :

( قُل لَّوْ شَاءَ اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( يونس / 16 ).

فهؤلاء القوم مرضى القلوب والضمائر وضعفاء العقول والبصائر ، يقترحون على الطبيب الإلهي أن يكتب لهم الوصفة العلاجية لدائهم المزمن حسبما تشتهي أنفسهم واهواؤهم.

3 - شروط تعجيزية

قد بلغ عناد القوم ولجاجهم في وجه الدعوة المحمديّة حدّاً كانوا يقترحون عليه اُموراً تارةً تدخل في حيّز المستحيلات ولا تتعلّق بها القدرة وإن بلغت ما بلغت ، واُخرى اُموراً ممكنة ولكنّها خارجة عن نطاق وظائف النبي في دعوته ورسالته وتضاد أهدافها ولا تمت بالاستدلال على صدقها بصلة ولا تعد دليلاً على

ص: 177


1- مقتبس من كلام لأمير المؤمنين علي علیه السلام في قصار حكمه ( رقم 26 ) من نهج البلاغة.

ربانيّة رسالته (1).

وقد تعرّض القرآن الكريم لهذه الشروط المستحيلة أو الصعبة بأشكالها المختلفة في ضمن الآيات التالية :

( وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ :

1 - حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا

2 - أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا

3 - أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا

4 - أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ

5 - وَالمَلائِكَةِ قَبِيلاً

6 - أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ

7 - أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ

8 - وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ) .

هذا تصوير لجملة شروط القوم ، وامّا الجواب عنها فقد أوجزه في كلمتين :

1 - ( قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي

2 - هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ) ( الأسراء / 90 - 93 )

هذه مطالبهم وإليك تفصيل القول فيها :

إنّ هذه المطالب بين محال لا تدخل في نطاق القدرة ، وبين ما هو خارج عن وظيفة الرسول ورسالته ، وبين ما هو يضادّ أهداف دعوته ، أو لا يمت بصلة إلى صدق دعوته ، كما سبق ذكره ، وإليك بيانها بمزيد من التفصيل :

ص: 178


1- لاحظ السيرة النبويّة : ج 1 ص 296 و 297 و 309.

أمّا الأول : أعني تفجير الينبوع من الأرض فهو يحتمل معنيين :

1 - أن يفجّر الينبوع من الأرض وفق رغبتهم لنفسه حتى يكون رجلاً ثريّاً.

2 - أن يفجّر الينبوع من الأرض لأجل هؤلاء حتى تصبح أراضيهم ومراتعهم مخضرّة مزهرة يانعة الثمار.

أمّا الإحتمال الأول : فلا يعد دليلاً على صدق الدعوة ، ولو اُريد الثاني فهو على خلاف السنّة الإلهية فقد تعلّقت مشيئته الحكيمة بتحصيل هذه المواهب المادّية عن طريق الكدح والجد في ظل أعمال الطاقات البشرية ، بالإضافة إلى أنّه خارج عن وظائف الرسالة ، فإنّ الأنبياء قد بعثوا لهداية الناس إلى ما فيه سعادتهم في الدارين باراءة الطريق الموصل إليها ، وأمّا القيام بتفجير الينبوع من الأرض فهو أمر خوّل إلى الناس أنفسهم.

وأمّا الثاني : فهو أن يكون للنبيّ جنّة من نخيل وعنب تجري الأنهار خلالها فلا صلة له بصدق الدعوة إذ أقصى ما يستدلّ به على أنّه رجل عاقل عارف بشؤون الفلاحة والتجارة أو رجل له مكانة مرموقة في المجتمع ولا تدلّ كثرة الأموال والإنتعاش الإقتصادي على صدق الدعوة ، وقد مرّ تحقيق ذلك في تفسير قوله : ( لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) .

وأمّا الثالث : أعني إسقاط السماء على رؤوسهم فهو يضادّ هدف الدعوة ، لأنّه صلی اللّه علیه و آله بعث لهداية الناس ورحمة بهم لا لإهلاكهم ، نعم يمكن تصوّر ذلك إذا تمّت الحجّة عليهم ولم يبق لهم عذر في عدم قبول الدعوة ، فربّما يشملهم العذاب وهو خارج عن موضوع البحث.

أمّا الرابع : أعني الإتيان باللّه فهو طلب أمر محال ، فهؤلاء كانوا يطلبون رؤية اللّه سبحانه قبيلاً ومواجهة. واللّه فوق الزمان والمكان لا يحيط به شيء ، ولا يمكن أن تراه العيون بمشاهدة الأبصار وإنّما تراه القلوب بحقائق الإيمان.

ص: 179

وأمّا الخامس : أعني الإتيان بالملائكة قبيلاً ومشاهدتهم بانقلاب الغيب شهوداً فهو من المعاجز التي لو تحقّقت ولم يترتب عليها منهم إيمان واذعان لعمّهم العذاب ولا ينظرون ، وقد مرّ ذلك في تفسير قوله : ( وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ ) ( الأنعام / 8 ).

وأمّا السادس : وهو أن يكون له بيت من ذهب فلا صلة له بصدق الدعوة.

وأمّا السابع : وهو الرقي في السماء فهو أشبه باقتراح الصبيان ولو فرض تحققه عن طريق الإعجاز لما آمنوا به بشهادة قولهم في الإقتراح الثامن : ( وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ) . حيث صرحوا بأنّ رقيه في السماء غير كاف في إيمانهم وإذعانهم بل يجب أن يقترح عليه أمراً ثامناً وهو أن ينزل عليهم كتاباً يقرؤونه ، ولعلّ مقصودهم أن ينزّل كتاباً فيه اسمه ورسالته.

إنّ هذه الإقتراحات التعجيزية أوضح شاهد على أنّ القوم لم يكونوا بصدد كشف الحقيقة وتحرّي الواقع والصدق ، ولو افترضنا النبي قد امتثل لبعض اقتراحاتهم الممكنة لوجدناهم يأتون بحجج واهية اُخرى بقصد التعجيز لا غير ، ولأجل ذلك يقول سبحانه في حق هؤلاء وأشباههم : ( وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ) ( الأنعام / 7 ).

ويقول سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ المَوْتَى بَل لِّلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا ) ( الرعد / 31 ). وهذه الآية ونظائرها تدلل بشواهد صادقة لا يشوبها الريب على أنّ القوم لم يكونوا بصدد الوقوف على الحقيقة واستكشافها ولأجل ذلك كانوا يقترحون على النبي اُموراً تنم عن روح العناد والمكابرة ، وأمّا الذكر الحكيم فقد أجاب عنه بوجهين :

1 - ( سُبْحَانَ رَبِّي ... ) ولعلّه جواب عن قولهم أو يأتي باللّه ، واللّه سبحانه منزّه عن المادّة وآثارها وليس للبشر تصحّ رؤيته بحاسة الأبصار. قال سبحانه : ( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) ( الأنعام / 103 ).

ص: 180

2 - ( هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ) ومعناه أنّه بشر مأمور لا يستطيع القيام بالممكن من هذه الاُمور إلاّ بإذنه سبحانه ، شأن كل رسول في إنجاز رسالته.

وبعبارة اُخرى إنّكم إن كنتم تطلبون هذه الاُمور منّي بما أنا بشر ، فالممكن منها خارج عن إطار قدرة البشر ، وإن كنتم تطلبون مني بما إنني رسول مبلغ فلا أستطيع التصرف بلا إذن ورخصة منه سبحانه ، وعلى كل تقدير فهؤلاء الجهلة المجادلون ما كانوا ليؤمنوا ولو جاءهم النبي بأضعاف ما لم يطلبوا به. قال تعالى : ( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) ( الأنعام / 111 ).

والمراد من قوله : ( إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ ) هو المشيئة القاهرة التي تجبر الناس على الإيمان بالرسالة ، وعندئذ لا يقام لمثل هذا الإيمان وزن ولا قيمة (1).

* * *

4 - طلب طرد الفقراء

روى الثعلبي باسناده عن عبد اللّه بن مسعود قال : مر الملأ من قريش على رسول اللّه وعنده صهيب وخباب وبلال وعمّار وغيرهم من ضعفاء المسلمين ، فقال : يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك أفنحن نكون تبعاً لهم ؟ أهؤلاء الذين منَّ اللّه عليهم ؟ أطردهم عنك فلعلّك إن طردتهم اتّبعناك ، فأنزل اللّه تعالى : ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ ... ) (2).

ص: 181


1- لقد بسطنا الكلام في الجزء الرابع من هذه الموسوعة في تحديد الشروط التي يجب للنبي دونها القيام بالمعجزة وبيّنّاه في مفاد الآيات النافية للإعجاز ، لاحظ : ص 95 - 154 من ذلك الجزء.
2- مجمع البيان : ج 4 ص 305.

قال ابن هشام : وكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إذا جلس في المسجد وجلس إليه المستضعفون من أصحابه : خباب وعمّار وابو فكيهة يسار مولى صفوان بن اُميّة بن محرث وصهيب وأشباههم من المسلمين ، هزأت بهم قريش وقال بعضهم لبعض : هؤلاء أصحابه كما ترون ، أهؤلاء منّ اللّه عليهم من بيننا بالهدى والحق ؟ لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقنا هؤلاء إليه ، وما خصّهم اللّه به دوننا ، فأنزل اللّه تعالى فيهم : ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ * وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الأنعام / 52 - 54 ) (1).

وقد ذكر في شأن نزول الآية وجه آخر يناسب كونها مدنيّة لا مكيّة ، علماً بأنّ جميع آيات السورة مكيّة وهذا يبعد أن تكون هذه الآية وحدها مدنيّة مع أنّ لحن الآية يناسب كونها مكّية.

ومثله قوله سبحانه : ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) ( الكهف / 28 ).

والسورة مكيّة ومفاد الآية يشبه مفاد الآيات المكيّة ، وقد ذكر في شأن نزولها أيضاً ما يعرب عن كونها مدنيّة ، وإليك النص الدال على ذلك :

روى السيوطي في الدر المنثور : جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصين الفزاري فوجدا النبي قاعداً مع بلال وصهيب وعمّار وخباب في اُناس ضعفاء من المؤمنين فلمّا رأوهم حقّروهم ، فأتوه فخلوا به فقالوا : إنّا نحب أن تجعل

ص: 182


1- السيرة النبويّة ، لابن هشام : ج 1 ص 392 و 393.

لنا منك مجلساً تعرف لنا العرب به فضلاً ، فإنّ وفود العرب ستأتيك فنستحيي أن ترانا العرب قعوداً مع هؤلاء الأعبد ، فإذا نحن جئناك فأقمه معنا فإذا نحن فرغنا فلتقعد معهم إن شئت ، قال نعم ، قالوا : فاُكتب لنا عليك بذلك كتاباً ، فدعا بالصحيفة ودعا عليّا ليكتب ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبرئيل بهذه الآية : ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ) إلى قوله ( فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) فألقى رسول اللّه الصحيفة من يده ، فأتيناه وهو يقول : ( سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) فكنّا نقعد معه ، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا ، فأنزل اللّه : ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) قال : فكان رسول اللّه يقعد معنا بعد فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم (1).

يقول العلاّمة الطباطبائي في هذا الصدد : « إستفاضت الروايات على نزول سورة الأنعام دفعةً ، هذا والتأمل في سياق الآيات لا يبقي ريباً أنّ هذه الروايات إنّما هي من قبيل ما نسمّيه تطبيقاً ، بمعنى أنّهم وجدوا مضامين بعض الآيات تقبل الإنطباق على بعض القصص الواقعة في زمن النبي صلی اللّه علیه و آله فعدّوا القصّة سبباً لنزول الآية لا بمعنى أنّ الآية انّما نزلت وحدها دفعة لحدوث تلك الواقعة ورفع الشبهة الطارئة من قبلها ، بل بمعنى أنّ الآية يرتفع بها ما يطرء من قبل تلك الواقعة من الشبهة كما ترفع بها الشبه الطارئة من قبل سائر الوقائع من أشباه الواقعة ونظائرها كما يشهد بذلك ما ترى في هذه الروايات الثلاث الواردة في سبب نزول قوله : ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ ... ) الآية ، فإنّ الغرض فيها واحد لكن القصص مختلفة في عين أنّها متشابهة فكأنهم جاءوا إلى النبي صلی اللّه علیه و آله واقترحوا عليه أن يطرد عنه الضعفاء كرّة بعد كرّة وعنده في كل مرّة عدّة من ضعفاء المؤمنين وفي مضمون الآية إنعطاف إلى هذه الإقتراحات أو بعضها (2).

ص: 183


1- الدر المنثور : ج 3 ص 13 ، ونقله في مجمع البيان عند تفسير الآيتين فلاحظ.
2- الميزان : ج 7 ص 110 بتصرّف يسير.

ويضيف قائلاً : « إنّ ما اقترح المشركون على النبي نظير ما اقترحه المستكبرون من سائر الأمم على رسلهم من أن يطردوا عن أنفسهم الضعفاء والفقراء من المؤمنين تعزّزاً وتكبّرا وقد حكى اللّه سبحانه عن قوم نوح فيما حكى من محاجّته علیه السلام حجاجاً يشبه ما في هذه الآيات من الحجاج قال تعالى : ( فَقَالَ المَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ) إلى أن قال : ( وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُم مُّلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) ( هود / 27 و 29 و 30 ) (1).

ص: 184


1- الميزان : ج 7 ص 110 بتصرّف يسير.

د - تعذيب النبيّ وأصحابه

اشارة

قد كان إيقاع الأذى على الدعاة المصلحين من سنن المجتمعات الجاهلية حيث قد كان أهلها يخالونهم أعداء لأنفسهم ومصالحهم فكانوا يقابلونهم بالإيذاء والشتم والضرب والقتل فلم يكن النبي فيما لاقاه من الأذى والسب والتنكيل به وبأصحابه بدعاً من الاُمور.

وقد أدار المشركون رحى الشر عليهم طيلة لبثهم في مكة فجاء الوحي يحثّهم على الصبر والثبات بتعابير وأساليب مختلفة وإليك توضيح ذلك :

1 - نزل الوحي مسلّياً بقوله : ( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ المُرْسَلِينَ ) ( الأنعام / 34 ) وقوله : ( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) ( النحل / 127 ).

2 - ومحفزاً تارة اُخرى بتذكيره صلی اللّه علیه و آله بجَلَد أولى العزم في إداء رسالاتهم بقوله : ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ) ( الأحقاف / 35 ).

3 - وثالثة داعياً له صلی اللّه علیه و آله تفويض الأمر إلى اللّه والتريّث حتى يأتي موعده بقوله : ( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ) ( يونس / 109 ).

4 - ورابعاً مروّضا له صلی اللّه علیه و آله في قبال ما يكال إليه من

ص: 185

صنوف الايذاء بقوله : ( وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً ) ( المزمل / 10 ).

5 - وخامساً منبّهاً له صلی اللّه علیه و آله بتجنب ما وقع فيه النبيّ يونس بقوله سبحانه : ( وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ) ( القلم / 48 ).

فهذه الآيات ونظائرها تعرب عن عظم درجة الايذاء والوصب الذي عاناه النبي في سبيل إرساء قواعد دعوته حيث قابلها برحابة صدر وسعة نفس ، وعلى الرغم من كل ذلك فلم تتحرك شفتاه بطلب إنزال العذاب عليهم. سواء عندما كان في مكة أم بعد مغادرتها إلى المدينة فكان يقابل تزمّت قومه وعنادهم بالحكمة والموعظة الحسنة ما وجد لذلك سبيلاً.

المضطهدون في صدر البعثة

وقد جاء في كتب السيرة أسماء الذين عذّبوا بيد قريش من صحابة النبي الأكرم وعلى رأسهم « ياسر » و « سميّة » أبوا عمّار ، و « صهيب » و « بلال » و « خباب » وقد اُستشهد أبو عمّار واُمّ عمّار بتعذيب المشركين وأمّا عمّار فقد أعطاهم بلسانه ما أرادوا منه وبقي قلبه مطمئن بالإيمان وعندما جاء خبر تعذيب قريش لنبي الإسلام صلی اللّه علیه و آله فلم يزل يلهج بهم ويدعو لهم ويقول : اصبروا آل ياسر موعدكم الجنّة ، ويقول : أبشروا آل ياسر موعدكم الجنّة ، ويقول : اللّهمّ اغفر لآل ياسر وقد فعل.

يقول ابن هشام : وكان بنو مخزوم يخرجون بعمّار وأبيه واُمّه وكانوا أوّل أهل بيت في الإسلام إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة فيمر بهم رسول اللّه فيقول : صبراً آل ياسر موعدكم الجنّة. صبراً آل ياسر فإنّ مصيركم إلى الجنّة (1).

ص: 186


1- سيرة ابن هشام : ج 1 ص 319 - 320.

يروي أبو نعيم عن عثمان بن عفان قال : لقيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالبطحاء فأخذ بيدي فانطلقت معه ، فمرّ بعمّار واُمّ عمار وهم يعذّبون ، فقال : صبراً آل ياسر فإنّ مصيركم إلى الجنّة.

وروى أيضاً عن مجاهد : أوّل من أظهر الإسلام سبعة ، فعدّ منهم عمّار وسميّة - اُمّ عمّار -.

وكانوا يلبسونهم أدراع الحديد ثمّ يسحبونهم في الشمس فبلغ منهم الجهد ما شاء اللّه أن يبلغ من حر الحديد والشمس ، فلمّا كان من العشيّ أتاهم أبوجهل - لعنه اللّه - ومعه حربة فجعل يشتمهم ويوبّخهم (1).

ثمّ إنّ المشركين أصابوا عمّار بن ياسر فعذّبوه ثمّ تركوه ( لأنّه أعطاهم ما يطلبون ) فرجع إلى رسول اللّه فحدّثه بالذي لقي من قريش.

وفي رواية : أخذ بنو المغيرة فغطّوه في بئر ميمون وقالوا : اكفر بمحمد ، فتابعهم على ذلك وقلبه كاره.

وفي رواية ثالثة : أخذ المشركون عمّار بن ياسر فعذّبوه حتى باراهم في بعض ما أرادوا ، فشكى ذلك إلى النبي ، فقال النبي : كيف تجد قلبك ؟ قال : مطمئناً بالإيمان ، فقال النبي صلی اللّه علیه و آله : فإن عادوا فعد ، فنزل قوله سبحانه : ( مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( النحل / 106 ).

فأخبر اللّه سبحانه أنّه من كفر بعد إيمانه فعليه غضب من اللّه وله عذاب أليم ، وأمّا من أكره وتكلّم بها لسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوّه فلا حرج عليه ، لأنّ اللّه سبحانه إنّما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم (2).

ص: 187


1- حلية الأولياء : ج 1 ص 140.
2- تفسير الطبري : الجزء 14 ، ص 122.

لقد تطرّق إلى بعض القلوب أنّ عمّاراً كفر ، فقال النبي : إنّ عمّاراً مِلئ إيماناً من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه ، وجاء عمّار إلى رسول اللّه وهو يبكي ، فقال : ما وراءك ؟ فقال : شر يا رسول اللّه ، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير ، فجعل رسول اللّه يمسح عينيه ويقول : إن عادوا لك فعد لهم بما قلت ، وأضاف الطبرسي أنّ ياسراً وسميّة أبوي عمّار أوّل شهيدين في الإسلام (1).

إنّ الأساليب التي أنتهجتها وتبنّتها قريش لشل حركة تقدم الدعوة النبويّة لمّا أضحت فاشلة ، أضطرّت إلى اللجوء إلى أسلوب آخر وهو اثارة الضوضاء والضجيج ، للحيلولة دون بلوغ القرآن إلى مسامع الناس.

إثارة الضوضاء عند تلاوة النبي للقرآن

كان القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى للنبي وكانت العرب تعرف بفطرتها أنّه كلام فوق كلام البشر ، وأنّ له لحلاوة وأن عليه لطلاوة وأنّ أعلاه لمثمر وأن أسفله لمغدق وأنّه يعلو وما يعلى عليه (2).

هكذا وصف القرآن بعض أعداء النبي ، وقد كانت الشباب من قريش وغيره يدركون حلاوة القرآن بذوقهم السليم فيندفعون إلى الإعتناق به حيث كان القرآن يأخذ بمجامع قلوبهم ويوردهم المنهل العذب من الإيمان ، فلم ير أعداء النبي بدّاً من نهي العرب عن الاستماع إليه وقد كان النبي يجهر بالقرآن في الأشهر الحرم في المسجد الحرام ، فاحتالوا بالمكاء والتصفير والتخليط في المنطق على رسول اللّه حتى لا يسمع صوته ولا يعلم كلامه ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) ( فصّلت / 26 ). حتى يصدّوا بذلك

ص: 188


1- مجمع البيان : ج 3 ص 388.
2- اقتباس من كلام الوليد بن المغيرة ، راجع مجمع البيان : ج 5 ص 387 ، والسيرة النبويّة : ج 5 ص 382.

من اَراد استماعه ، فإذا لم يسمع ولم يفهم لا يتبعه فيغلبون بذلك محمداً (1). فأوعدهم اللّه سبحانه بقوله : ( فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ولقد تحقّق وعده سبحانه في الدنيا يوم بدر فقتل منهم من قتل وأسر منهم من اُسر ، فنالوا جزاء أعمالهم ، وبقي عليهم العذاب الأكبر الذي يجزون به في يوم البعث. يقول سبحانه : ( ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ) ( فصّلت / 27 و 28 ).

العذر الأخير للإمتناع عن قبول الدعوة

وأقصى ما كان عند قريش من العذر لتبرير عملهم وعدم إعتناقهم لدين النبي ، هو أنّهم كانوا يخافون من مشركي الجزيرة العربيّة حيث إنّهم كانوا على خلاف التوحيد بل على عبادة الأصنام ، فقالوا : لو اعتنقنا دين محمد صلی اللّه علیه و آله ورفضنا الأصنام والأوثان ، لثار الجميع علينا ، وهذا ما يحكيه عنهم قوله سبحانه : ( وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ... ) ( القصص / 57 ) والآية تعطي أنّهم كانوا واقفين على أنّ دين النبي حق ولكن الذي منعهم عن اتباع الهدى مخافة أن تتخطّفهم العرب من أرضهم وليس لهم طاقة بهم (2).

فردّه الوحي بأنّ اللّه سبحانه جعل بهم مكّة دار أمن وأمان ودفع ضرّ الناس عنهم عندما كانوا مشركين فإذا آمنوا واعتنقوا دين اللّه يعمّهم الأمن والسلامة أيضاً لأنّهم في حالة الإيمان أقرب إلى اللّه سبحانه من حالة الكفر ، فالخالق الذي قطع أيدي الأشرار عن بلدهم قادر في كلتا الحالتين ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( ... أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ

ص: 189


1- تفسير الطبري الجزء 24 ص 72.
2- التخطّف : أخذ الشيء على وجه الإضطراب من كل وجه ، والمصطلح الدارج هو الإختطاف.

أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ( القصص / 57 ).

كان على هؤلاء أن يعتبروا بأقوام متمرّدين الذين أعطوا المعيشة الواسعة ، فلم يعرفوا حق النعمة وكفروا فعمّهم الهلاك وهذه ديار عاد وثمود وقوم لوط صارت خالية عن أهلها وهي قريبة منهم ، فإنّ ديار عاد إنّما كانت بالأحقاف وهو موضع بين اليمن والشمال وديار ثمود بوادي القرى ، وديار لوط بسدوم وكانت قريش تمر بهذه المواضع في تجارتها ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ (1) مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ) ( القصص / 58 ).

هذا آخر ما كان عندهم من المبرّرات لعدم الإيمان بالدّعوة.

خرافة الغرانيق

كان اللازم علينا ضرب الصفح عن تناول هذه الخرافة التاريخية بالبحث لأَنّا قد اعتمدنا في سرد حوادث السيرة النبوية وفق ما ورد في القرآن الكريم ، فما جاء في خلال آياته نذكره وما لم يرد نتركه إلى كتب السيرة والتاريخ ، غير أنّ هذه القصة لمّا الصقت بساحة القرآن الكريم القدسيّة بالإستناد إلى بعض الآيات الموهمة لذلك كذباً وزوراً ، فصارت ذريعة في الآونه الأخيرة بيد أعداء الدين من المستشرقين ك « بروكلمان » في كتاب تاريخ الشعوب الإسلامية ، ص 34 ، وكتاب « الإسلام » لفرويد هيوم ، لزم علينا التطرّق لتلك الخرافة وتحليلها تحليلاً علميّاً مؤيّداً بالبرهان الرصين والحجّة الدّامغة حتى لا يبقى لمشكك شكّ ولا لمريب ريب إلاّ من أخذته العصبية العمياء فأنّها داء لا علاج له ، خصوصاً ما نشاهده في المؤامرة الأخيرة التي حاكتها بريطانيا وغيرها من أذناب الكفر العالمي حيث زمّروا وطبّلوا لكتاب « الآيات الشيطانية » لمؤلّفه « سلمان رشدي » ومنحوا له جائزة أدبية في ذلك المجال ، والرجل

ص: 190


1- البطر : الطغيان عن النعمة.

هندي الأصل بريطاني الجنسيّة والدراسة وقد ترجم الكتاب بإيعاز من الدول المستعمرة إلى أكثر اللغات العالميّة مع أنّه ليس بكتاب أدبي ولا علمي ولا تاريخي ، بل أشبه بأضغاث أحلام نسجها الخيال وروّج لها الإستعمار ، وإليك القصّة على وجه الإجمال :

« جلس رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في ناد من أندية قريش كثير أهله فتمنّى يومئذ أن لا يأتيه من اللّه شيء فينفروا عن ، فأنزل اللّه عليه : ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ) فقرأه رسول اللّه حتى إذا بلغ ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى ) ألقى عليه الشيطان كلمتين :

« تِلْكَ الغَرَانِيقُ العُلَى وَإِنَّ لَشَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْجَى » فتكلّم بها ثمّ مضى فقرأ السورة كلّها فسجد في آخر السورة وسجد القوم جميعاً معه ، ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود ، فرضوا بما تكلّم به ، وقالوا : قد عرفنا أنّ اللّه يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق ولكنّ آلهتنا هذه تشفع لنا عنده ، إذ جعلت لها نصيباً ، فنحن معك. قالا ( محمد بن كعب القرظي ومحمد ابن قيس ) : فلمّا أمسى أتاه جبرئيل علیه السلام فعرض عليه السورة فلمّا بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه ، قال : ما جئتك بهاتين ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إفتريت على اللّه وقلت على اللّه ما لم يقل !! فأوحى اللّه عليه : ( كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ... ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ) . فما زال مغموماً مهموماً حتّى نزلت عليه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللّهُ آيَاتِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( الحج / 52 ) ، قال فسمع من كان من المهاجرين بأرض الحبشة : إنّ أهل مكّة قد أسلموا كلّهم ، فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا : هم أحبّ إلينا ، فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ اللّه ما يلقي الشيطان » (1).

ص: 191


1- تفسير الطبري الجزء 17 ، ص 131.

وتحقيق القوم في تلك القصّة يتوقّف على البحث عن سند الرواية التي أوردها الطبري في تفسيره والسيوطي في الدر المنثور أوّلاً ، ودراسة متنها وعرضه على العقل والقرآن ثانياً لكي يتجلّى الحق بأجلى مظاهره.

تحليل سند الرواية

اشارة

إنّ هذه الروايات لا يمكن الإحتجاج بها لوجهين :

الأوّل : إنّ أسانيدها تنتهي إلى التابعين الذين لم يدركوا النبي صلی اللّه علیه و آله .

من أمثال :

1 - محمد بن كعب القرظي 2 - محمد بن قيس 3 - أبو العالية 4 - سعيد بن جبير 5 - الضحّاك 6 - ابن شهاب.

ولم يدرك واحد منهم النبي قطّ وهم قد ساقوا القصّة من دون أن يذكروا الواسطة بينهم وبينه ، وإليك نصوص علماء الرجال في حقّهم :

الف - محمد بن كعب القرظي

قال ابن حجر : قال العجلي : مدني تابعي ... ، وقال البخاري : إنّ أباه كان ممّن لم يَثْبُت يوم قريظة فترك ، وما نقل من قتيبة من أنّه ولد في عهد النبي لا حقيقة له. إنّما الذي ولد في عهده ، هو أبوه ، وقد ذكروا انّه كان من سبي قريظة ممّن لم يحتلم ولم ينبت فخلّوا سبيله ، حكي ذلك البخاري في ترجمة محمد ، ويدلّ على ذلك إنّه مات سنة 108 ه ق وقيل : 117 ه ق وهو ابن ثمان وسبعين سنة ، وجاء عن النبي صلی اللّه علیه و آله من طرق أنّه قال : يخرج من أحد الكاهنين رجل يدرس القرآن دراسة لا يدرسها أحد يكون بعده. قال ربيعة : فكنّا نقول : هو محمد بن كعب ، والكاهنان قريظة والنضير - إلى أن يقول - :

ص: 192

... فكان يقص في المسجد فسقط عليه وعلى أصحابه سقف ، فمات هو وجماعة معه (1).

ب - محمد بن قيس

وهو محمد بن قيس المدني قاض عمر بن عبد العزيز ، روى عن أبي هريرة وجابر ، ويقال : مرسل ، توفّي أيام الوليد بن يزيد. روى عنه أبو معشر - قال ابن معين : ليس بشيء لا يروى عنه (2).

ج - ابن شهاب

وهو محمد بن مسلم الزهري - كان يدلّس في النادر - وهو أحد التابعين بالمدينة ، وقال ابن حجر محمد بن مسلم بن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن شهاب ابن عبد اللّه بن الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري وكنيته أبو بكر وهو من رؤوس الطبقة الرابعة مات سنة خمس وعشرين [ بعد المائة ] وقيل قبل ذلك بسنة أو سنتين (3).

د - أبو العالية

وهو رفيع بن مهران الرياحي أدرك الجاهلية وأسلم بعد وفاة النبي بسنتين ودخل على أبي بكر وصلّى خلف عمر ... حتى قيل : إنّه أدرك عليّاً ولم يسمع منه (4).

ص: 193


1- تهذيب التهذيب ج 9 ص 421.
2- تهذيب التهذيب ج 9 ص 414.
3- ميزان الإعتدال ج 4 ص 40 ، وتقريب التهذيب ج 2 ص 207 ، ووفيات الاعلام ج 4 برقم 563.
4- تهذيب التهذيب ج 3 ص 384.
ه - سعيد بن جبير

فهو سعيد بن جبير الكوفي روى عن ابن عباس وابن الزبير وغيره ، قتله الحجاج صبراً سنة 95 (1).

و - الضحّاك

وهو الضحّاك بن عثمان. قال أبو زرعة : ليس بقوي ، وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به. مات بالمدينة سنة ثلاث وخمسين (2).

هؤلاء الذين ينتهي إليهم السند كلّهم تابعون ، نعم رواه الطبري أيضاً عن ابن عباس فهو ولد قبل الهجرة بثلاث سنين - مات سنة ثمان وستين بالطائف وهو أحد المكثرين من الصحابة ، ولكنّه لم يكن حاضراً في زمن القصة بل لم يكن متولّداً فيه ( لأنّ تاريخها يرجع إلى السنة الخامسة من البعثة وهو ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ) فتكون روايته مقطوعة.

وعلى كل تقدير فكل ما رواه الطبري في هذا المجال مراسيل أو مقطوعات لا يمكن الإحتجاج بها.

الثاني : إنّ الأسانيد تشتمل على رجال ضعاف لا يمكن الإحتجاج بهم سوى طريق سعيد بن جبير وقد عرفت أنّه أيضاً مرسل.

هذا ما لدى الطبري في تفسيره وأمّا ما نقله السيوطي فلا يقصر عمّا نقله الطبري في الضعف والإرسال ، وقد رواه عن « أبي صالح » وأبي بكر بن عبد الرحمان ابن الحارث و « السدى » أيضاً.

ص: 194


1- تهذيب التهذيب ج 4 ص 11.
2- تهذيب التهذيب ج 4 ص 447.

أمّا الأوّل فهو مشترك بين 19 شخصاً لم يرو واحد منهم عن النبي فالجلّ لولا الكل تابعون (1).

وأمّا الثاني فهو أبو بكر بن عبد الرحمان بن الحارث ولد في خلافة عمر (2).

وأمّا الثالث فهو محمد بن مروان تابعي. قال ابن معين : ليس بثقه ، قال ابن غير : ليس بشيء وكان كذّاباً (3).

نعم رواه أيضاً عن سعيد بن جبير وابن عباس وقد عرفت حالهما ، ورواه عن السدي وهو أيضاً تابعي.

مضافاً إلى إشتمال الإسناد على رجال ضعاف ، وأمّا ذكره السيوطي من أنّه أخرج الطبراني والبزاز وابن مردويه والضياء في المختار بسند رجاله ثقات من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس فهو غير صحيح لما عرفت من أنّ المرسل والمقطوع لا يوصفان بالصحة على الإطلاق ولو وصفا بالصحّة فالمراد هو الصحّة النسبية ، فلا يحتج بها.

إنّ علماء الإسلام وأهل العلم والدراية من المسلمين ، قد أشبعوا هذه الرواية نقضاً وردّاً وإبراماً فوصفها السيد مرتضى : بأنّها خرافة وضعوها (4).

وقال النسفي عند القول بها : غير مرضي. وقال الخازن في تفسيره : إنّ العلماء وهّنوا أصل القصّة ولم يروها أحد من أهل الصحّة ، ولا أسندها ثقة بسند صحيح ، أو سليم متّصل ، وإنّما رواها المفسّرون والمؤرّخون المولعون بكل غريب ، الملفّقون من الصحف كل صحيح وسقيم ، والذي يدل على ضعف هذه القصّة اضطراب رواتها وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها (5).

ص: 195


1- راجع تهذيب التهذيب ، ج 12 ص 130 - 131.
2- تهذيب التهذيب ج 12 ص 130 - 133.
3- تهذيب التهذيب ج 9 ص 436 برقم 719.
4- تنزيه الأنبياء ص 109.
5- الهدى إلى دين المصطفى ج 1 ص 130.

وقال القاضي عياض : إنّ هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحّة ولا رواه ثقة بسنده سليم متصل ، وإنّما أولع به المفسّرون ، والمؤرّخون ، المولعون بكل غريب ، والمتلقّفون من الصحف كل صحيح وسقيم ، وصدق القاضي بكر بن العلا المالكي حيث قال : لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير ، وتعلّق بذلك الملحدون مع ضعف نقلته ، واضطراب رواياته ، وانقطاع أسناده واختلاف كلماته (1).

وقال أمين الإسلام الطبرسي : أمّا الأحاديث المروية في هذا الباب فهي مطعونة ومضعّفة عند أصحاب الحديث ، وقد تضمّنت ما ينزّه الرسل عنه ، فكيف يجوز ذلك على النبي وقد قال سبحانه : ( كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ) وقال : ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى ) .

وأقصى ما يمكن أن يقال : إنّ النبي صلی اللّه علیه و آله لما تلا سورة والنجم وبلغ إلى قوله : ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى ) علمت قريش من عادته أنّه كان يعيبها ، قال بعض الحاضرين من الكافرين : ( تِلْكَ الغَرَانِيقُ العُلَى ) فظنّ الجهال أن ذلك من قول النبي صلی اللّه علیه و آله (2).

وقال السيّد الطباطبائي : إنّ الأدلّة القطعية على عصمته تكذّب متنها ، وإن فرضت صحّة سندها ، فمن الواجب تنزيه ساحته المقدّسة عن مثل هذه الخطيئة ، مضافاً إلى أنّ الرواية تنسب إليه أشنع الجهل وأقبحه فقد تلا « تِلْكَ الغَرَانِيقُ العُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى » وجهل أنّه ليس من كلام اللّه ، ولانزل به جبرئيل ، وجهل أنّه كفر صريح يوجب الإرتداد ، ودام على جهله ، حتى سجد وسجدوا في آخر السورة ، ولم يتنبّه ثمّ دام على جهله حتى نزل عليه جبرئيل ، وأمره أن يعرض عليه السورة فقرأها عليه وأعاد الجملتين وهو مصرّ على جهله ، حتى أنكره عليه جبرئيل ، ثمّ أنزل عليه آية تثبت نظير هذا الجهل الشنيع والخطيئة الفاضحة لجميع الأنبياء

ص: 196


1- الشفاء ج 2 ص 126.
2- الطبرسي مجمع البيان ج 4 ص 61 و 62.

والمرسلين وهي قوله : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) .

لو جاز مثل هذا التصرّف من الشيطان في لسانه بالقائه جملة أو جملتين ، في ثنايا الوحي ، لارتفع الأمن عن الكلام الإلهي ، فكان من الجائز حينئذ أن تكون بعض الآيات القرآنية من إلقاء الشيطان فيلقي نفس هذه الآية ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ) فيضعه في لسان النبي وذكره ، فيحسبها من كلام اللّه الذي نزل به جبرئيل كما حسب حديث الغرانيق كذلك - إلى أن قال - وبذلك يرتفع الإعتماد والوثوق بكتاب اللّه من كل جهة ، وتلغى الرسالة والدعوة النبويّة بالكليّة جلّت ساحة الحق من ذلك (1).

هذا كلّه راجع إلى اسناد الرواية وكلمات العلماء بشأنه ، وأمّا ما يرجع إلى متنها فنشير إلى أمرين كل واحد كاف لإبطال الرواية :

تحليل متن الرواية

1 - إنّ هذه الروايات أجمعت على أنّ النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله قرأ سورة والنجم فلمّا بلغ إلى قوله ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى ) وسوس إليه الشيطان بهاتين الجملتين ثمّ مضى في التلاوة حتى إذا بلغ آية السجدة في آخر السورة ، سجد وسجد معه المشكرون.

فنقول : إنّ الذين كانوا في المسجد كانوا على قدر من الوعي والدراية فكيف يعقل منهم أنّهم سمعوا هاتين الجملتين ، اللتين تتضمّنان مدح أصنامهم وأوثانهم ، وغاب عن سمعهم ما يتضمّن التنديد والازراء بشأن آلهتهم ، فإنّه قد جاء بعد هاتين الجملتين المدّعيتين قوله سبحانه : ( إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن

ص: 197


1- الطباطبائي : الميزان ج 14 ص 435 و 436.

رَّبِّهِمُ الهُدَى ) ( النجم / 23 ).

فهل يتعقّل أن ينسب إلى أوتاد الفصاحة والبلاغة أنّهم أقنعوا بهاتين الجملتين ، وفاتهم ما تضمّنته الآيات الكثيرة التي أعقبتها.

فهذه حجة بالغة على أنّ واضع القصة كان غافلاً عن تلك الآيات التي ترد على هاتين الجملتين بصلابة.

2 - إنّ وجود التناقض في طيّات الرواية من جهات شتّى دليل واضح على كونها مختلقة حاكتها أيدي القصّاصين.

وأمّا بيان ذلك التناقض فمن وجوه :

أ - تروي الروايات أنّ النبي والمسلمين والمشركين سجدوا إلاّ الوليد ابن المغيرة فإنّه لم يتمكّن من السجود لشيخوخته ، وقيل : مكانه سعيد بن العاص ، وقيل : كلاهما ، وقيل : اُميّة بن خلف ، وقيل : أبو لهب ، وقيل : المطّلب.

ب - تضمّن بعضها أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله قرأها وهو قائم يصلّي ، وتضمّن البعض الآخر أنّه قرأها بينما هو جالس في نادي قومه.

ج - يقول بعضها : حدّث بها نفسه ، وآخر : جرت على لسانه.

د - يقول بعضها : انّ النبي صلی اللّه علیه و آله تنبّه لها حين تلاوتها ، والآخر : انّه لم يتنبّه إلى المساء حتى جاء إليه جبرئيل فعرضها عليه ثمّ تبيّن له الخطأ ، إلى غير ذلك من وجوه التناقض التي يقف عليها المتتبع عند التأمّل وامعان النظر في متون الروايات المختلفة التي جمعها ابن جرير والسيوطي في تفسيرهما.

فحصيلة الكلام : إنّ الرواية بشتّى طرقها وصورها لا تصحّ الإحتجاج بها لكون إسنادها مراسيل ومقاطيع من جانب ، وكونها متضاربة المضمون من جانب آخر ، والذي يسقط الرواية عن الحجّية أنّها تنتهي إلى قصّاصين نظير محمد بن كعب

ص: 198

القرظي ومحمد بن قيس ، وهما مولعان بذكر كل صحيح وسقيم في أنديتهم ومجالسهم ، لأنّ لكل غريب لذّة ، ليس في غيره ، خصوصاً أنّ محمد بن كعب ابن بيت يهودي أباد النبي قبيلته ، ولم يبق منه إلاّ نفراً قليلاً ، فمن المحتمل جداً أنّه حاكها على نول الوضع لينتقم من النبي الأكرم وليشوِّه عصمته ، والآفة كل الآفة من هؤلاء المستسلمين مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه.

ثمّ إنّ الآية التي زعمت الرواية أنّها نزلت في تلك الواقعة أعني قوله سبحانه :

( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللّهُ آيَاتِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( الحج / 52 ). وقد فرغنا من تفسيره في هذه الموسوعة عند البحث عن عصمة الأنبياء فلا نعيد (1).

ص: 199


1- مفاهيم القرآن ج 4 ص 348 - 450.

ص: 200

(7) إسراءه ومعراجه

اشارة

إنّ الأنبياء والرسل هم أوّل من سبروا أعماق الفضاء بأكنافه وآفاقه ، ولو صحّ لنا تسميتهم : « روّاد الفضاء » فهم أولى بإطلاق ذلك الإسم عليهم دون غيرهم ، فقد عرجوا قبل أن يكون هناك أثر لوجود روّاد الفضاء في روسيا أو الولايات المتحدة الأمريكية ، بل لم تكن هناك أية فكرة لتسخير الفضاء أو التجاسر على التفكير به ، وأخطاره في الأذهان ، فقد كانت العلوم الرائجة في تلك العصور تستحيله وتجعله في مصافّ المحالات ، لأنّهم كانوا على القول بإمتناع الخرق والإلتئام في طبقات السماء فهم علیهم السلام أوّل من كسروا حاجز هذه الخرافة وأثبتوا بتطبيقهم العملي عن طريق العروج والاسراء إنّه ليست هناك حجب تخرق ، أو تلتئم بعد الخرق ، بل السماء فضاء رحب ، والكواكب إنّما هي عبارة عن أجرام معلّقة في أرجائه ، تحكمها قوانين الطرد والجذب المركزية ، وإنّ الإنسان بفضل معونة القدرة الغيبية ، يستطيع الافلات من قوّة الجاذبية الأرضية ، كما أنّه يقدر على اختراق الغلاف الكثيف المحيط بالأرض كل ذلك بفضل المواهب السنيّة التي يجلّل بها الخالق جلّ جلاله عبده.

إنّ الاُمنية البعيدة غوراً في تاريخ الفكر الإنساني ، والتي أصبحت في متناول إنسان العصر الحديث بفضل إزدهار ورقي حضارته المادّية ، وتسخير قوى الطبيعة لصالحه ، تحقّقت بالأنبياء واُمناء الغيب بفضل ما حباهم الباري عزّ شأنه به من الوسائل الغيبية للصعود والإرتقاء في أعماق الفضاء الواسع.

وبذلك يفترق عمل الأنبياء في ذلك المجال عن عمل روّاد الفضاء وإن كان الكل مثيراً للإعجاب لأنّهم كانوا يعتمدون على أسباب غيبية لا تخضع للموازين

ص: 201

البشرية ، وهذا بخلاف عمل روّاد الفضاء فإنّهم يستمدّون في تحقيق اُمنيتهم ، بتوسّط الأسباب والعلل الطبيعية والأجهزة الصناعيّة التي عكف على صنعها وإعدادها مئات بل اُلوف من المفكّرين والعباقرة في مختلف العلوم البشرية وبإنفاق المليارات من العملة الصعبة.

هذا هو الذكر الحكيم يصوّر لنا كيفيّة إرتقاء النبي سليمان علیه السلام إلى السماء وسياحته في جوّ الأرض وذلك بتسخير الريح العاصفة له تسير به طواعية تحت أمره حيثما شاء في قوله : ( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ) ( الأنبياء / 81 ).

فهذه الآية تعرب عن أنّ الريح العاصفة تسير به إلى الأرض التي باركها سبحانه وهي أرض الأنبياء المشار إليها في آية اُخرى : ( إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) ( الأسراء / 1 ).

ومثلها قوله سبحانه : ( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ) ( ص / 36 ).

والرخاء هو اللين ، ولعلّ المراد بأنّ الريح العاصفة التي من طبيعتها الجموح والإهلاك كانت مطيعة لسليمان تجري بأمره طواعية ذلولاً كما أنّ قوله ( حَيْثُ أَصَابَ ) أي بمعنى حيث شاء سليمان وقصد ، سواء كان المقصد البقاع المباركة أو غيرها.

كما أنّ هناك آية اُخرى تحدّد لنا مقاطع حركتها الزمنية وكيف انّها كانت في يوم واحد تقوم بقطع مسافة كانت تقطعها وسائل النقل في تلك العصور مدّة شهرين في قوله :

( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ) ( سبأ / 12 ).

فلو افترضنا أنّ وسائل النقل تقطع في كلّ يوم أربعاً وأربعين كيلومتراً على وفق ما هو المتعارف عليه يومذاك ، يكون مجموع مقدار المسافة اليوميّة في امتداد شهر (1320) كيلومتراً ، فإذا كان غدوّها شهراً ورواحها شهراً يكون مجموع المسافة التي كان يقطعها سليمان في يوم واحد تبلغ (2640) كيلومتراً.

ص: 202

والحقّ إنّها كانت كرامة عظيمة كرّمه اللّه سبحانه بها ، وليس سليمان وحيداً في الاختصاص بتلك المكرمة بل تلاه المسيح عيسى بن مريم عند ما اجتمع أجلاف اليهود وجلاوزتهم على قتله حيث رفعه إليه ونجّاه من كيدهم. يقول سبحانه :

( وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) ( النساء / 157 و 158 ).

فالآية تتضمّن دعويين :

الاُولى : ما يقوله اليهود وهو قتل المسيح وصلبه.

الثاني : ما يصرّح به القرآن وهو نفي قتله وعدم صلبه بل رفعه.

وبما أنّ متعلّق القتل والصلب هو الوجود الخارجي أي جسم المسيح وروحه فيكون ذلك متعلّق الرفع أيضاً ، فهو رفع بجسمه وروحه ، وبعبارة أكثر وضوحاً إنّه رفع حيّاً لا أنّه قد اُميت ثمّ رفع على ما هو المصرّح به في الأناجيل المحرّفة من موت المسيح ثمّ رفعه بعد اسبوع من صلبه أو أيام قلائل ، فما ربّما يظهر من جنوح بعض المتأخّرين من المفسّرين إلى هذا التفسير ، فهو تفسير بمحض الرأي ومخالف لظاهر الآية فإنّ الاضراب الوارد في قوله تعالى ( بَل رَّفَعَهُ اللّهُ ) لا يكون إضراباً عن قول اليهود إلاّ برفعه حيّاً لا برفعه ميّتاً ، فإنّ هذا الرفع كان لغاية تخليص المسيح من سطوة اليهود سواء مات بعد ذلك أم بقي حيّاً بإبقاء اللّه تعالى له ، وعلى كل تقدير فلا يكون قوله ( بَل رَّفَعَهُ اللّهُ ) إبطالاً لقول اليهود إلاّ إذا رفع حيّاً.

وأمّا قوله سبحانه : ( إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) ( آل عمران / 55 ) ، فليس التوفّي هناك بمعنى الإماتة والإزهاق بل ليس للتوفّي إلاّ معنى واحد وهو القبض والأخذ ، يقال : توفّيت المال منه واستوفيته : إذا أخذته كلّه ، ويقال توفّيت عدد القوم : إذا عددتهم كلّهم ، كما يقال : توفّي فلان

ص: 203

وتوفّاه اللّه إذا قبض (1). وعلى ذلك فليس للتوفّي إلاّ معنى الأخذ وله مصاديق مختلفة ، فالإماتة من مصاديقه كما أنّ النوم بما أنّه نوع أخذ للإنسان مصداق آخر له قال سبحانه : ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ) ( الأنعام / 60 ) وعلى ضوء ذلك فمعنى ( إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ ) : قابضك من الأرض حيّاً إلى جواري ورافعك من بين أعدائك ، فالآيات متضافرة المضمون على أنّه رفع من الأرض حيّاً إليه سبحانه.

ورفعه من الأرض حيّاً يلازم رفعه إلى السماء ، وبذلك تقف على تفسير قوله سبحانه حيث يحكي عن المسيح قوله : ( مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( المائدة / 117 ).

معراج النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله

إنّ الوقوف على إسراء النبي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وعروجه منه إلى سدرة المنتهى من معاجزه وكراماته التي أثبتهما القرآن الكريم في سورتي الإسراء والنجم ، وتفصيل ما ظهر له فيهما من الآيات يتوقّف على نقل شأنهما في الذكر الحكيم. أمّا الإسراء فقال فيه :

( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) ( الإسراء / 1 ).

1 - إبتدأ سبحانه كلامه بالتسبيح وقال : ( سُبْحَانَ ) (2) وهي كلمة تنزيه لله عزّ

ص: 204


1- لسان العرب : ج 15 ص 400 مادّة « وفى ».
2- سبحان علم للتسبيح كعثمان للرجل ، وانتصابه بفعل مضمر لا يظهر تقديره يسبّح اللّه سبحان ، ثمّ نزل سبحان منزلة الفعل وسدّ مسدّه ودلّ على التنزيه البليغ من جميع القبائح التي يضيفها إليه أعداؤه.

اسمه عمّا لا يليق به من الصفات ، وقد يراد به التعجيب ، ولكن الظاهر هو الأوّل.

ولعلّ الوجه في إبتدائها بالتنزيه هو التصريح بتنزيهه سبحانه عن العجز لما سيذكر بعده من الإسراء بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في فترة زمنية قصيرة ، ويمكن أن يكون الوجه إرادة تنزيهه سبحانه عن التجسيم والجهة والرؤية وكل ما لا يليق بعزّ جلاله وصفات كماله ، حتّى لا يتوهّم متوهّم أنّ المقصود من المعراج هو رؤية اللّه تبارك وتعالى في ملكوت عرشه وجبروت سلطانه ، والأوّل أقرب.

2 - الإسراء لغة هو السير في الليل. يقال : سرى بالليل وأسرى بمعنىً ، وأمّا الإتيان بلفظة « ليلاً » مع الإستغناء عنه فيأتي وجهه.

3 - قوله « بعبده » يدل على أنّ الإسراء كان بمجموع الروح والجسد يقظة لا مناماً ولم يطلق العبد في القرآن إلاّ على المجموع منهما. قال سبحانه : ( الحُرُّ بِالحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ) ( البقرة / 178 ) ، وقال سبحانه : ( وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ ) ( البقرة / 221 ).

إلى غير ذلك من الآيات التي ورد فيها لفظ العبد والتي تناهز 28 آية ، ويؤيّد ذلك أنّه سبحانه ابتدأ السورة بالتنزيه فقال : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ... ) خصوصاً إذا قلنا بأنّه للتعجّب فإنّه يكون في الاُمور العظام الخارقة للعادة ، ولو كان الإسراء بمجرّد الروح ، مناماً لم يكن فيه كبير شأن ولم يكن مستعظماً ، وما ورد في المقام من الروايات المنتهية إلى أمثال معاوية ابن أبي سفيان بأنّه قال : كان رؤيا من اللّه صادقة ، مرفوض فإنّ معاوية يومئذٍ كان من المشركين لا يقبل خبره في مثل هذا ، ومثله ما روي عن عائشة زوجة النبي بأنّه قال : ما فقد جسد رسول اللّه ولكن اُسري بروحه ، فإنّ عائشة يومئذٍ كانت صغيرة ولم تكن زوجة رسول اللّه ، بل لم تولد بعد على إحتمال ، وهناك كلام لأبي جعفر الطبري في تفسيره نقتطف منه ما يلي :

« الصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إنّ اللّه أسرى بعبده محمد ( صلّى

ص: 205

اللّه عليه وآله وسلّم ) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما أخبر اللّه عباده وكما تضافرت به الأخبار عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّ اللّه حمله على البراق حتى أتى به فصلّى هناك بمن صلّى من الأنبياء والرسل فأراه ما أراه من الآيات ، ولا معنى لقول من قال : اُسري بروحه دون جسده ، لأنّ هذا الإسراء لا يشكّل دليلاً على نبوّته ولا حجّة له على رسالته ، ولا كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشرك. إذ لم يكن منكراً عندهم ولا عند أحد من ذوي الفطرة الصحيحة من بني آدم أن يرى الرائي منهم في المنام ما على مسيرة سنة ، فكيف ما هو مسيرة شهر أو أقل ؟ وبعد ، فإنّ اللّه إنّما أخبر في كتابه أنّه أسرى بعبده ولم يخبرنا أنّه أسرى بروح عبده ، فليس جائزاً لأحد أن يتعدّى ما قال اللّه إلى غيره - [ مضافاً ] إلى أنّ الأدلّة الواضحة والأخبار المتداولة عن رسول اللّه اُسري به على دابة يقال لها البراق ، فلو كان الإسراء بروحه لم تكن الروح محمولة على البراق ، إذ كانت الدواب لا تحمل إلاّ الأجساد (1).

4 - ( لَيْلاً ) وهو يدل على أنّ الإسراء في بعض الليل كما يفيده التنكير فلا يستفاد ذلك من لفظ الإسراء ، فإنّه يدل على صرف كونه في الليل.

قال الزمخشري : إنّ تنكير « ليلاً » للدلالة على أنّه اُسرى به بعض الليل من مكّة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة ، وذلك إنّ التنكير قد دلّ على معنى البعضيّة ويشهد لذلك قراءة عبد اللّه بن حذيفة : « من الليل » أي بعض الليل ، كقوله : ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ ) ( أي من بعضه ) (2). ثمّ إنّ الحركة بهذه السرعة ممكنة في نفسها ، فقد جاء في القرآن أنّ الرياح كانت تسير بسليمان إلى المواقع البعيدة ، في الأوقات الزمنية القليلة كما مرّ.

وحكى سبحانه عن الذي كان عنده علم من الكتاب أنّه أحضر عرش بلقيس من أقصى اليمن إلى أقصى الشام في مقدار لمح البصر ، حيث قال : ( قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ

ص: 206


1- تفسير الطبري : ج 15 ص 130.
2- الكشّاف : ج 2 ص 223 ( طبع مصر ).

هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي ) ( النمل / 40 ).

فإذا أجاز هذا لدى طائفة من الناس ، ممّن سبقه ، صحّ وقوعه منه (1).

وها نحن في كل يوم نشاهد من صنوف المخترعات في ميادين النقل والمواصلات ما يتمكّن بواسطتها من قطع المسافات الشاسعة كالطائرات التي تجتاز المحيطات في ساعات قلائل وينتقل من قارة إلى قارة ومن قطر إلى قطر بيسر وسهولة ، وهذا ليدفعنا إلى الإعتقاد الجازم بشهادة العيان بأنّ ما جاء في هذه الرحلة الخارقة لقوانين الطبيعة ليس أمراً عزيز الحصول أو مستحيلاً ، فإذا كان هذا بوسع الإنسان بحسب طاقاته المحدودة وهو الذي خلق ضعيفاً ، فاللّه سبحانه أقدر عليه وعلى غيره من كل أحد ( وَمَا قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) .

5 - ( مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى ) وهذه الجملة تعرب عن تحديد بدء السير ومنتهاه ، وأنّه ابتدأ من المسجد الحرام وانتهى إلى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس بقرينة قوله : ( الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) والقصى العبد ، وسمّي المسجد الأقصى به لكونه أبعد مسجد بالنسبة إلى مكان النبي ومن معه من المخاطبين وهو مكّة التي فيها « المسجد الحرام ».

وذهب أكثر المفسّرين إلى أنّه اُسري به من دار اُم هاني اُخت علي بن أبي طالب وزوجها هبيرة بن أبي لهب المخزومي ، وكان صلی اللّه علیه و آله نائماً تلك الليلة في بيتها ، وأنّ المراد بالمسجد الحرام هنا مكّة ، والحرم كلّها مسجد (2).

وقال بعضهم : إنّما اُسري به من شعب أبي طالب.

والوجه الأوّل هو الأوفق بظاهر الكتاب ومع ذلك يمكن تصحيح الوجهين الأخيرين بوجهين :

ص: 207


1- تفسير المراغي : ج 15 ، ص 6 ، بتصرّف يسير.
2- مجمع البيان : ج 6 ص 399.

الأوّل : إنّه لو كان في المكان الوسيع شيء معروف ومتبرّك يطلق اسمه على جميع المكان ، نظير ذلك مسجد الشجرة حيث يطلق ويراد منه ذو الحليفة ، ومشهد الإمام عليّ علیه السلام يطلق ويراد منه النجف برمّتها ، إلى غير ذلك ، ومن الممكن أن يكون المراد من المسجد الحرام ، الحرم كلّه بالملاك المذكور فيشمل مكّة والبيت الذي اُسري منه النبي أو الشعب الذي كان النبي لاجئاً إليه يومذاك.

الثاني : أن يكون الإسراء قد حدث مرّتين أحدهما من المسجد الحرام والآخر من بيت أم هاني أو من الشعب ، ويؤيّد ذلك ما رواه الكليني أنّه سأل أبو بصير أبا عبد اللّه علیه السلام فقال : جعلت فداك وكم عرج برسول اللّه ؟ فقال : مرّتين (1).

6 - ( الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) أي جعلنا البركة فيما حوله من الأشجار والثمار والنبات والأمن والخصب حتّى لا يحتاجون إلى أن يجلب إليهم من موضع آخر. أضف إلى ذلك انّه سبحانه جعله مقر الأنبياء ومهبط الملائكة ، فقد اجتمعت فيه بركات وخيرات الدين والدنيا.

7 - ( لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ) والجملة متكفّلة ببيان الهدف من الإسراء وهو إراءة عجائب الآيات وغرائب الصنع ، ومنها إسراءه في ليلة واحدة من مكّة إلى المسجد الأقصى ، وهي فترة قياسية خارقة للعادة.

فلو كان المسجد الأقصى منتهى سيره في ذلك الإسراء ، فيكون المراد من الآيات التي أراه اللّه سبحانه إيّاها مجرّد ما رأته عيناه في طريقة إلى المسجد الأقصى وما فيه من مقامات الأنبياء وقبورهم وآثارهم.

وأمّا إذا كان العروج إلى السماء متّصلاً بذلك الإسراء فيتّسع نطاق الآيات ، وفي السياق دلالة على عظمة هذه الآيات التي كشف له عنها اللّه سبحانه ، وحيث أراه بعضها لا كلّها ، وفيه تصريح بأنّ الهدف هو إراءة الآيات الكونية الباهرة ليرجع

ص: 208


1- نور الثقلين : ج 3 ص 98.

النبي من إسرائه بصدر منشرح وقلب متفتّح قد انعكست فيه آيات العظمة وسبحات الجلال والجمال ، وأمّا ما يتخيّل من أنّ الهدف رؤية اللّه سبحانه فهو ممّا حاكته يد الدسّ ونسجته أغراض التزوير.

وفي الأحاديث المرويّة عن أئمّة أهل البيت تنديد بهذا الفكر النابي. روى الصدوق في علل الشرائع : عن ثابت بن دينار ، قال سألت زين العابدين - علي بن الحسين - علیه السلام عن اللّه جلّ جلاله هل يوصف بمكان ؟ فقال : تعالى عن ذلك ، قلنا : فلم أسرى نبيّه إلى السماء ؟ قال : ليريه ملكوت السماوات وما فيها من عجائب صنعه وبدائع خلقه.

وفي حديث آخر عن يونس بن عبد الرحمان ، قال : قلت لأبي الحسن موسى ابن جعفر علیهماالسلام : لأيّ علّة عرج اللّه - عزّ وجلّ - نبيّه إلى السماء ومنها إلى سدرة المنتهى ، ومنها إلى حجب النور ، وخاطبه وناجاه هناك ، واللّه لا يوصف بمكان ؟ فقال علیه السلام : إنّ اللّه تبارك وتعالى لا يوصف بمكان ولا يجري عليه زمان ، ولكنّه عزّ وجلّ أراد أن يشرّف ملائكته وسكّان سماواته ويكرمهم بمشاهدته ويريه من عجائب عظمته ويخبر به بعد هبوطه ، وليس ذلك على ما يقوله المشبّهون. سبحان اللّه وتعالى عمّا يشركون.

8 - ( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) وهذا تعليل لإراءة آياته ، ومعناه أنّه سميع لأقوال عباده ، بصير بأفعالهم ، يسمع أقوال من صدّقه أو كذّبه ويبصر أفعالهم.

عروجه إلى السماء

هذا كلّه حول إسرائه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وقد جاء في القرآن في سورة واحدة وهي سورة الإسراء ، وأمّا عروجه إلى السماء فقد تكفّلت ببيانه سورة النجم ، وإليك نصّ ما ورد بشأن ذلك فيها :

ص: 209

قال سبحانه : ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى )

( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ) ( النجم / 1 - 18 ).

والطائفة الاُولى من الآيات راجعة إلى بدء الدعوة ولا تمتّ إلى حديث المعراج بصلة ، وأمّا الطائفة الثانية فهي مصرّحة بمعراجه صلی اللّه علیه و آله .

ولأجل الوقوف على ما تهدف إليه الآيات يحتّم علينا أن نفسّرها واحدة بعد الاُخرى ، فنقول :

1 - ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ) . وهو حلف من اللّه بمخلوقه ، والمراد من الهوى سقوطه للغروب.

2 - ( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ) أي لم يخرج عن الصراط المستقيم ، والمراد من الصاحب هو النبي ، كما أنّ المراد من الغيّ هو الإعتقاد الفاسد ، أي ما خرج النبي عن الطريق الموصل إلى الغاية المطلوبة ولم يخطئ في إعتقاده ورأيه.

3 - ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى ) المراد بالهوى هوى النفس ورأيها ، ومقتضى ورود النفي على النطق هو نفي الهوى في مطلق نطقه ، إلاّ أنّ ذيله قرينة على أنّ المراد نفي سلطة الهوى في ما يدعوهم إلى اللّه.

4 - ( إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) أي لا ينطق فيما يدعوكم إلى اللّه عن هوى نفسه ورأيه وليس ذلك إِلاَّ وحياً يوحى إليه من اللّه تعالى.

5 - ( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ) المراد من شديد القوى هو جبرئيل بقرينة قوله

ص: 210

سبحانه : ( ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ) ( التكوير / 20 ) وبذلك يضعف إحتمال كون المراد هو اللّه سبحانه ، والضمير في « علّمه » يرجع إلى الصاحب ، المراد منه النبي صلی اللّه علیه و آله واحتمال رجوعه إلى الوحي أو القرآن ضعيف لإستلزامه تقدير مفعول له مثل قولنا : « علّمه إيّاه » وهو خلاف الظاهر.

6 - ( ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ) المرّة - بكسر الميم - الشدّة وحصافة العقل والرأي ، أي ذو حصافة في عقله ورأيه أو ذو شدّة في جنب اللّه ، واحتمال كون المراد منه هو النبي يستلزم جعله صفة ل « صاحبكم » وهو بعيد ، بل هو صفة لشديد القوى الذي جاء بعده ، وهو أيضاً دليل على أنّ المراد من شديد القوى هو جبرئيل. كما أنّ المراد من قوله « فاستوى » إستقام على صورته الأصليّة التي خلق عليها ، لأنّ جبرئيل كان ينزل على النبي صلی اللّه علیه و آله في صور مختلفة ، ولكنه في بدء الدعوة ظهر له في صورته الأصليّة.

7 - ( وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ) والضمير يرجع إلى شديد القوى ، والمراد منه جبرئيل ، كما أنّ المراد بالاُفُق الأعلى ناحية المشرق من السماء ، لأنّ المشرق مطلّ على المغرب ويحتمل أن يكون المراد اُفق أعلى من السماء من غير اعتبار كونه شرقياً ، والجملة ، هي جملة حالية من ضمير فاستوى.

8 - ( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ) والضميران راجعان إلى جبرئيل ، والمراد من « الدنوّ » القرب كما أنّ المراد من التدلّي هو الإعتماد على جهة السفل مأخوذ من الدلو ، والمراد قرب جبرئيل متدلّياً من الاُفق الأعلى.

9 - ( فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ) ألقاب مقدار الشيء ، والقوس معروف وهي آلة الرمي ، والمعنى قرب جبرئيل على حدّ لم يبق بينه وبين النبي إلاّ قدر قوسين أو أقلّ.

10 - ( فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ) والضمير في كلا الفعلين يرجع إلى جبرئيل على نسق رجوع سائر الضمائر إليه. نعم الضمير في « عبده » يرجع إلى اللّه

ص: 211

سبحانه ، والمعنى فأوحى جبرئيل إلى عبد اللّه ما أوحى.

وربّما يحتمل رجوع الضمائر الثلاث إلى اللّه سبحانه ، والمراد فأوحى اللّه بتوسّط جبرئيل إلى عبده ، وهو وإن كان صحيحاً ولكنه على خلاف السياق.

11 - ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) والكذب كما يتّصف به الكلام كذلك يطلق على خطأ القوّة المدركة ، يقال : كذّبته عينه أي أخطأت في رؤيتها ، ونفي الكذب عن الفؤاد كناية عن تنزيهه عن الخطأ ، والمراد من الفؤاد فؤاد النبي ، وضمير الفاعل في « ما رأى » راجع إلى الفؤاد ، والرؤية رؤيته ، ولا إشكال في إسناد الرؤية إلى الفؤاد لأنّه يطلق على شهود النفس رؤيتها.

12 - ( أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ) وهو توبيخ لهم على مماراتهم إيّاه ، حيث إنّه صلی اللّه علیه و آله كان يدّعي رؤية جبرئيل وهم يجادلونه في ما رآه وشاهده ، ولا مجال للمجادلة فيما شوهد بالحسّ والعيان.

إلى هنا تمّت الطائفة الاُولى من الآيات والكلّ يهدف إلى إستعراض قصّة بدء الدعوة أنّ جبرئيل الذي هو شديد القوى كان قد علّمه القرآن ورآه النبي وهو بالاُفق الأعلى ، وقد قرب من النبي متدلّياً إليه فلم يبق بينه وبين النبي إلاّ مسافة قوسين أو أدنى ، وليس هناك بحث عن رؤية النبي لله سبحانه كما لا صلة لهذه الآيات بحديث المعراج وعروجه إلى السماء.

وبالإمعان فيما ذكرنا تظهر اُمور :

أ - إنّ الضمائر من قوله ( عَلَّمَهُ ) إلى قوله : ( إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ) كلّها يرجع إلى شديد القوى والمراد منه جبرائيل إلاّ الضمير في ( إِلَى عَبْدِهِ ) فإنّه يرجع إلى اللّه.

وعلى إحتمال ، يرجع الضميران في الفعلين ( فَأَوْحَى ... مَا أَوْحَى ) إلى اللّه سبحانه ، وبعد ذلك لا معنى للإستدلال بهذه الآيات على أنّ النبي رأى ربّه ، والإشتباه إنّما حصل من إرجاع الضمائر الثلاثة من قوله : ( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ) إلى النبي

ص: 212

الأكرم وأنّ المرادنا منه سبحانه وهو ممّا لا يساعد عليه سياق الآيات.

ب - إنّ الكاتب الإنگليزي « جان. ديون. بورت » فسّر قوله ( دَنَا فَتَدَلَّى ) بأنّ النبي استجاز ربّه للحضور عنده ، فقرب منه إلى حدّ لم يبق بينه وبين ربّه إلاّ قاب قوسين ، وهو غلط كما أوضحناه. أضف إلى ذلك : إنّ هذا القسم من الآيات لا يمتّ إلى حديث المعراج بصلة ، وإنّما هو بصدد بيان حادثة بدء الدعوة ولم يكن هناك يومئذ معراج من النبيّ حتى يستأذن للحضور عند ربّه ، ومنشأ الإشتباه مضافاً إلى ذلك هو إرجاع الضميرين في دنا فتدلّى إلى النبي صلی اللّه علیه و آله .

ج - إنّ بعض المستشرقين يذكر في تفسير الآيات : إنّ النبي قرب من اللّه سبحانه حتى سمع صرير قلمه ووقف على أنّه سبحانه مهتمّ بصيانة حساب عباده ، سمع صرير قلمه ولم ير شخصه ، كل ذلك خلط وخبط ، يفعلون ذلك على الرغم من أنّهم غير متضلّعين في اللغة العربيّة وأساليبها وقواعدها وأسرارها وفي القرآن الكريم وإشاراته ونكاته ، ثمّ يكتبون عن النبي والإسلام والقرآن كل شيء دعتهم إليه أغراضهم ولا علم لهم بشيء منها إلاّ ما لا يلتفت إليه.

إذا وقفت على مفاد الطائفة الاُولى من الآيات نعرج بك على تفسير الطائفة الثانية التي وردت في معراج النبي صلی اللّه علیه و آله وإنّما جاءت بعد الطائفة الاُولى لصلة تامّة بينهما وهو التركيز على أنّ النبي رأى جبرئيل على صورته الواقعيّة في كلتا المرحلتين ، اُولاهما بدء الدعوة حيث رآه بالاُفق الأعلى ، وثانيهما عند المعراج إذ رآه عند سدرة المنتهى التي عندها جنّة المأوى ، ويؤكّد على أنّ الرؤية كانت رؤية صادقة غير خاطئة ، فيركّز على صدق الرؤية في ضمن الطائفة الاُولى بقوله : ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) وفي ضمن الطائفة الثانية بقوله : ( مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ) وأنّ الرؤية رؤية واقعيّة غير مشوبة بالزيغ والخطأ ، ثمّ قال سبحانه :

13 - ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ) النزلة بناء مرة من النزول فمعناه نزول واحد ، فتدلّ الآية على أنّ هذه قصّة رؤية في نزول آخر ، والآيات السابقة تحكي نزولاً آخر ، ولأجل

ص: 213

ذلك قلنا إنّ الطائفتين تهدف كل منهما إلى قصّة خاصة ، وضمير الفاعل يرجع إلى النبي ، وضمير المفعول لجبرئيل والنزلة نزول جبرئيل إليه ليعرج به إلى السموات.

14 - ( عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى ) وهو ظرف للرؤية ، لا للنزلة والمراد برؤيته رؤيته وهو في صورته الأصليّة ، والمعنى أنّه نزل عليه نزلة اُخرى ، وعرج به إلى السماوات ، ورآه النبي عند سدرة المنتهى وهو في صورته الأصليّة ، والسدر شجر معروف والتاء للوحدة ، والمتنهى كأنّه إسم مكان ، ولعلّ المراد به منتهى السماوات بدليل أنّ جنّة المأوى عنده والجنّة في السماء ، فينتج إنّ سدرة المنتهى في السماء ، وأمّا كون الجنّة في السماء فبدليل قوله : ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) ( الذاريات / 22 ) وأمّا ما هو المراد من تلك الشجرة فليس في كلامه سبحانه ما يفسّره ، ويؤيّده قوله : ( إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ) وسيوافيك تفسيره.

15 - ( عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَى ) والمراد هي جنّة الآخرة التي يأوى إليها المؤمنون. قال تعالى : ( فَلَهُمْ جَنَّاتُ المَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( السجدة / 19 ). وهي أيضاً في السماء على ما دلّ عليه قوله : ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) .

16 - ( إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ) غشيان الشيء الإحاطة به ، وما موصولة والمعنى إذ يحيط بالسدرة ما يحيط بها ، وقد أبهم اللّه تعالى حقيقة تلك الشجرة كما أبهم ما يغشاها.

17 - ( مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ) زيغ البصر إدراكه المبصر على غير ما هو عليه ، وطغيانه إدراكه ما لاحقيقة له ، والمراد بالبصر بصر النبي ، والمعنى أنّه لم يبصر ما أبصره على غير صفته الحقيقة ، ولا أبصر ما لاحقيقة له بل أبصر إبصاراً لا يشوبه الخطأ.

وقال العلاّمة الطباطبائي : إنّ المراد بالإبصار رؤيته بقلبه لا بجارحة العين ، فإنّ المراد بهذا الإبصار ما يعنيه بقوله : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ) المشير إلى مماثلة هذه

ص: 214

الرؤية لرؤية النزلة الاُولى التي يقول فيها : ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ) (1) غير أنّه لا منافاة بين أن يراه بعينه ويراه بقلبه ، فإنّ الرؤية بالجارحة وسيلة والرؤية الحقيقية بالقلب.

18 - ( لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ) فهو رأى بعض آيات ربّه الكبرى ، ورؤية الآيات نوع رؤية لذيها ولا يمكن رؤية ذي الآية أعني ذاته المقدسة بلا توسيط آية. قال سبحانه : ( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) إلى غير ذلك من الآيات المنكرة لإمكان وقوع الرؤية على ذاته عزّ وجلّ ، والإمعان في مجموع الآيات الواردة حول إسرائه وعروجه ينتهي بنا إلى عدّة اُمور :

1 - إنّه قد اُسري بالنبي ليلاً على جهة القطع ، ولكن هل كان عروجه في الليل أيضاً ؟ ليس في الآيات شيء يدل على ذلك ، فلو كان عروجه إلى السماوات متّصلاً بإسرائه فيتّحد معه زماناً.

2 - إنّ النبي اُسري وعرج بروحه وجسده ولم يكن ذلك رؤياً.

3 - بدأ الإسراء من المسجد الحرام أو مكّة المكرمة على ما مرّ ذكره ، وأمّا مبدأ المعراج فلو كان متّصلاً بالإسراء فيكون مبدؤه من المسجد الأقصى.

4 - منتهى الإسراء هو المسجد الأقصى ، وأمّا منتهى المعراج فهو منتهى السماوات كما يفيده قوله : ( عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى ) أي رأى جبرئيل عند شجرة السدرة الواقعة في منتهى السماوات.

5 - كان الغرض من الإسراء والمعراج إراءة الآيات كما يتضمّنه قوله : ( لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ) وقوله : ( لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ) .

6 - إنّ النبي رآى جبرئيل بصورته الأصليّة مرّتين ، مرّة في بدء الدعوة ومرّة في المعراج.

ص: 215


1- الميزان : ج 19 ص 32.

7 - قد دنا جبرئيل من النبي على حد لم يبق بينهما مسافة إلاّ مقدار قاب قوسين أو أدنى.

8 - لم يكن هناك خطأ في تلك الرؤية ، فما أخطأ فؤاده وما زاغ بصره وما طغى.

كل ذلك ممّا تفيده الآيات وبقيت هنا عدّة اُمور لم يرد في كلامه سبحانه ما يوضحه :

الف - ما هو حقيقة شجرة السدرة ؟

ب - بماذا غشى السدرة ؟

ج - ماذا أوحى إلى النبي في بدء الدعوة ؟

فلابدّ في الوقوف على هذه الاُمور من الرجوع إلى الروايات.

ثمّ إنّ الروايات الواردة في الإسراء ومعراج النبي تنقسم جملتها عن أربعة أوجه :

أوّلاً : ما يقطع بصحّتها لتواتر الأخبار به ولإحاطة العلم بصحّته.

ثانياً : ما ورد في ذلك ممّا تجوّزه العقول ولا تأباه الاُصول ، ونحن نجوّزه ثمّ نقطع بأن ذلك كان في يقظته دون منامه.

ثالثاً : ما يكون ظاهره مخالفاً لبعض الاُصول إلاّ أنّه يمكن تأويلها على وجه يوافق المعقول ، فالأولى أن نؤوّله إلى ما يطابق الحق والدليل.

رابعاً : ما لا يصحّ ظاهره ولا يمكن تأويله إلاّ بالتعسّف البعيد ، فالأولى أن لا نقبله.

أمّا الأوّل المقطوع به ، فهو أنّه أسرى به.

وأمّا الثاني فمنه ما روي أنّه طاف في السماوات ورأى الأنبياء والعرش وسدرة المنتهى والجنّة والنار ونحو ذلك.

ص: 216

وأمّا الثالث فنحو ما روي أنّه رأى قوماً في الجنّة يتنعّمون فيها وقوماً في النار يعذّبون فيها ، فيحمل على أنّه رأى صفتهم أو أسماءهم.

وأمّا الرابع فنحو ما روي أنّه صلی اللّه علیه و آله كلّم اللّه سبحانه جهرة ورآه وقعد معه على سريره ونحو ذلك ممّا يوجب ظاهره التشبيه ، واللّه سبحانه يتقدّس عن ذلك.

وكذلك ما روي أنّه شقّ بطنه وغسله ، لأنّه صلی اللّه علیه و آله كان طاهراً مطهّراً من كل سوء وعيب ، وكيف يطهر القلب وما فيه من الاعتقاد بالماء (1) ؟

* * *

إستشارة قريش أحبار اليهود في أمر دعوة النبي :

كان النضر بن الحارث من شياطين قريش ، وكان ممّن يؤذي رسول اللّه وينصب له العداوة ، وكان قد قدم الحيرة ، وتعلّم بها أحاديث ملوك الفرس ، وأحاديث رستم وإسبنديار ، وكان يقول : أنا واللّه يا معشر قريش أحسن حديثاً منه فأنا اُحدّثكم أحسن من حديثه ، ثمّ يحدّثهم عن ملوك فارس ورستم وإسبنديار ، ثمّ يقول : بماذا محمد أحسن حديثاً منّي ؟

وهو الذي نزل في حقّه قوله : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللّهُ ... ) ( الأنعام / 93 ).

فلمّا قال ذلك النضر بن الحارث ، بعثته قريش مع عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود وقالوا لهما : سلاهم عن محمد ، وصفا لهم صفته ، وأخبراهم بقوله ،

ص: 217


1- مجمع البيان : ج 3 ص 395 ( طبع طهران ).

فإنّهم أهل الكتاب الأوّل وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء ، فخرجا حتى قدما المدينة ، فسألا أحبار يهود عن رسول اللّه ووصفاً لهم أمره ، وأخبراهم ببعض قوله ، وقالا لهم : إنّكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا ، فقال لهما أحبار يهود : سلوه عن ثلاث نأمركم بهن ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، وإن لم يفعل فالرّجل متقوّل ، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل ما كان أمرهم ؟ وأنّه قد كان لهم حديث عجب ، وسلوه عن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبأه ، وسلوه عن الروح ما هي ، فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنّه نبي ، وإن لم يفعل فهو رجل متقوّل فاصنعوا في أمره ما بدا لكم ، فأقبل النضر بن الحارث وعقبة ابن أبي معيط حتى قد ما مكة على قريش ، وقالا : يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد ، قد أخبرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء آمرونا بها فإن أخبركم عنها فهو نبي وإن لم يفعل فالرجل متقوّل ، فأروا فيه رأيكم.

فجاءوا رسول اللّه وذكروا الأسئلة حسبما تلقّوه من أحبار يهود ، فوافاه الوحي في الموارد الثلاثة.

أمّا الفتية التي ذهبوا في الدهر الأوّل ، فبيّنتها آيات من سورة الكهف مبتدئة من قوله : ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ... ) ومنتهية بقوله : ( قُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ) ( الكهف / 26 ).

وأمّا الرجل الطوَّاف الذي قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، فنزل في حقّه آيات من سورة الكهف ، مبتدئة بقوله : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا ) ( الكهف / 83 ) ومنتهية بقوله : ( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ) ( الكهف / 99 ).

وأمّا الروح فوافاهم الجواب بقوله : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) ( الإسراء / 85 ).

ص: 218

ثمّ إنّ النبي الأكرم لمّا قدم المدينة قالت أحبار اليهود : يا محمد أرأيت قولك ( وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) إيّانا تريد ، أم قومك ؟ قال : كلاّ ، قالوا : فإنّك تتلو فيما جاءك : « إنّا قد اُوتينا التوراة فيها بيان كل شيء فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّها في علم اللّه قليل ، وعندكم في ذلك ما يكفيكم لو أقمتموه ». قال : فأنزل اللّه تعالى عليه فيما سألوه عنه من ذلك : ( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) أي أنّ التوراة في هذا من علم اللّه قليل (1).

هذا ما رواه ابن هشام في سيرته ، ولكن المروي عن الإمام الصادق علیه السلام يختلف معه في جهات :

الاُولى : إنّ صريح ما ورد في السيرة هو أنّ قريشاً بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة والمروي عنه علیه السلام أنّ قريشاً بعثوا إلى نجران.

الثانية : إنّ المبعوث على ما في السيرة شخصان ، ولكن المرويّ عنه ثلاثة أشخاص ، والثالث العاص بن وائل.

الثالثة : إنّ المسألة الثالثة على ما في السيرة هو السؤال عن الروح والمروي عنه هو قصّة موسى حين أمره اللّه عزّ وجلّ أن يتبع العالم ويتعلّم منه ، فمن هو ذلك العالم وكيف تبعه وما كانت قصّته معه ؟

الرابعة : صريح السيرة أنّ السؤال كان عن ثلاث مسائل ، والمرويّ عنه أنّ السؤال كان عن أربع مسائل ، والمسألة الرابعة هو السؤال عن وقت الساعة ، فإن ادّعى علمها فهو كاذب ، فإنّ قيام الساعة لا يعلمها إلاَّ اللّه (2).

ويؤيّد كون السؤال عن أمر موسى باتباع العالم إنّ هذه المسائل الثلاث وردت

ص: 219


1- السيرة النبويّة : ج 1 ص 307 و 308.
2- تفسير القمي : ج 2 ص 31.

في سورة الكهف (1) وأمّا السؤال عن الروح فقد ورد في سورة الأسراء ، الآية 85. ولو كان السؤال عن الروح لكان الأنسب الإجابة عن الجميع في سورة واحدة.

وعلى فرض التسليم بذلك فما هو المراد من الروح ، فهل المراد هو روح الإنسان أو جبرئيل ( روح الأمين ) والأقرب هو الثاني ، وذلك بقرينة كون السؤال من هو اليهود ، فقد كان لهم عقيدة خاصة في جبرئيل وكانوا يسمّونه ملك العذاب ، ولأجل ذلك كانوا ينصبون له العداء ، وهم الذين يتهمونه بأنّه خان حيث نقل النبوّة من نسل إسرائيل إلى أولاد إسماعيل ، وقد إشتهر منهم قولهم « خان الأمين » ، وفي الوقت نفسه كانوا يظهرون المودّة لميكائيل ، ولأجل ذلك جاء الوحي مندّداً بهم بقوله : ( مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) ( البقرة / 97 ) وقال : ( مَن كَانَ عَدُوًّا للهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ) ( البقرة / 98 ) وقال سبحانه : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ ) ( الشعراء / 193 - 194 ).

ووصفه بالأمين لرد إتهام اليهود إياه بالخيانة ، وأنّه نقل النبوّة من نسل إسرائيل إلى أولاد إسماعيل ، وأنّ قولهم « خان الأمين » إفتراء على أمين الوحي.

كل ذلك يعرب عن أنّ اليهود كانوا يكنّون العداء لجبرئيل أو يظهرونه له ، وعند ذلك طرحوا هذا السؤال حتى يعلم لهم موقف النبي ( مدّعي النبوّة ) من عدوّهم ( جبرئيل ) فإن قام بذمّه ، كان من أنصارهم ، وإن مدحه ، قاموا في وجهه ، فنزل الوحي بأنّ الروح من أمر اللّه أي من مظاهر أمره سبحانه ، فهو لا يقوم بما يقوم إلاّ بأمر منه ، فلو قام بإنزال البشارة فبأمره ، ولو جاء بأمر العذاب والإبادة فهو أيضاً من أمره وبذلك يعلم أنّ تفسير الروح بروح الإنسان بعيد عن البيئة التي طرح فيها السؤال ، فإنّ البحث عن الروح وحقيقتها وحدوثها وقدمها يناسب البيئات الفلسفية لا غير.

ص: 220


1- أعني قوله سبحانه : ( إِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ... ) ( الكهف /1. 82 ).

وفد الحبشة إلى النبي صلی اللّه علیه و آله للإستطلاع على أمر الدعوة :

لمّا بلغ خبر رسول اللّه إلى الحبشة وهم نصارى ، فقدم منهم إلى مكّة عشرون رجلاً ليقفوا على حقيقة الأمر عن كثب ، فوجدوا النبي في المسجد ، فجلسوا إليه وكلّموه وسألوه ، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة ، فلمّا فرغوا من مسألة رسول اللّه عمّا أراد ، ودعاهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى اللّه عزّ وجلّ وتلا عليهم القرآن ، فلمّا سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع ، ثمّ استجابو لله وآمنوا بالنبيّ وصدّقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره ، فلمّا قاموا عنه إعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش فقالوا لهم : خيّبكم اللّه من ركب بعثكم من ورائكم من أهل دينكم ، ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل فلم تطمئنّ مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم ، وصدّقتموه بما قال ، ما نعلم ركباً أحمق منكم ، فقالوا لهم : سلام عليكم لا نجاهلكم ، لنا ما نحن عليه ، ولكم ما أنتم عليه ، لم نأل أنفسنا خيراً ، وفيهم نزل قوله سبحانه :

( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ ) ( القصص / 52 - 55 ) (1).

إلى هنا تمّ الفراغ من بيان الحوادث المهمّة في الفترة الواقعة بين بعثته وهجرته وبقيت هناك عدّة حوادث يقف عليها من سبر التفاسير ، فتركنا ذكرها روماً للإختصار.

ص: 221


1- السيرة النبويّة ، لابن هشام : ج 1 ص 392 ، مجمع البيان : ج 4 ص 358 ، مع اختلاف يسير بين المصدرين.

ص: 222

(8) في رحاب الهجرة إلى يثرب

اشارة

الهجرة في اللّغة هو الخروج من أرض إلى أرض (1) فلو ترك إنسان أرضاً وانتقل إلى أرضٍ اُخرى لغاية من الغايات ، يقال إنّه هاجر ، ولكنّها في مصطلح القرآن هو الإنتقال من أرض إلى أرض لغاية قدسية كحفظ الإيمان والتمكّن من إقامة الفرائض على وجه تكون قداسة الهدف مقوّماً لمفهوم المهاجرة إلى حدٍّ استعمله النبيّ في ترك المحرّمات ونبذ المعاصي وإن لم يكن هناك إنتقال من مكان إلى مكان ، بل كان هناك إنتقال الرّوح من العصيان إلى الطّاعة. قال : « المهاجر من هجر ما حرّم اللّه عليه » (2).

والهجرة في مصطلح أهل السيرة والتاريخ والتفسير من المسلمين هو هجرة الرسول من موطنه إلى يثرب للتخلّص من مؤامرة قريش على سجنه أو قتله أو نفيه ، وليس الرسول بدعاً في ذلك فقد ذكر القرآن مهاجرة لفيف من الأنبياء.

فهذا هو إبراهيم الخليل لمّا اُلقي في النار ، ونجّاه اللّه سبحانه غادر موطنه ، قال سبحانه حاكياً قصّته :

( قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ

ص: 223


1- لسان العرب : مادة « هجر ».
2- جامع الاُصول : ج 1 ص 154.

الصَّالِحِينَ ) ( الصافّات / 97 - 100 ) فنزل الخليل الأراضي المقدّسة ووهبه سبحانه إسحاق ويعقوب. قال تعالى :

( وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا ) ( مريم / 49 ).

وهذا لوط وقد تبع إبراهيم وغادر موطنه كما يحكي عنه قوله سبحانه : ( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( العنكبوت / 26 ).

وهذا موسى بن عمران فلمّا وقف على أنّ الملأ يأتمرون به ليقتلوه غادر أرض الفراعنة ونزل مدين. يقول سبحانه : ( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) ( القصص / 21 ).

وأمّا النبيّ الأكرم فقد خرج في موسم الحج ولقيه فيه نفر من الخزرج فقال لهم : من أنتم ؟ فقالوا : نفر من الخزرج ، قال : أمن موالي يهود ؟ قالوا : نعم. قال : أفلا تجلسون أكلّمكم ؟ قالوا : بلى. فجلسوا معه فدعاهم إلى اللّه عزّ وجلّ وعرض عليهم الإسلام ، وتلى عليهم القرآن. قال : وكان ممّا صنع اللّه بهم في الإسلام أنّ اليهود كانوا معهم في بلادهم ، وكانوا أهل كتاب وعلم ، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان ، وكانوا قد غزوهم ببلادهم ، وكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم : إنّ نبيّنا مبعوث الآن قد أظلّ زمانه نتبعهُ فنقتلكم معهُ قتل عاد وإرم ، فلمّا كلّم رسول اللّه اُولئك النفر ودعاهم إلى اللّه ، قال بعضهم لبعض : ياقوم ، تعلموا واللّه إنّه النبيّ الذي توعدكم به اليهود ، فلا تسبقنّكم إليه. فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدّقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام ، وقالوا : إنّا قد تركنا قومنا ، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم ، فعسى أن يجمعهم اللّه بك ، فستقدم عليهم ، فندعوهم إلى أمرك ، وتعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن يجمعهم اللّه عليه فلا رجل أعزّ منك.

ثمّ انصرفوا عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله راجعين إلى بلادهم ، وقد آمنوا وصدّقوا. فلمّا قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول اللّه ودعوهم إلى الإسلام ، حتّى فشا فيهم ، فلم يبق دار من دور الأنصار إلاّ وفيه ذكر لرسول اللّه.

ص: 224

حتّى إذا كان في العام المقبل وأتى الموسم من الخزرجيين اثنا عشر رجلاً بالعقبة ، فبايعوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على بيعة النساء (1) وذلك قبل أن تفرض عليهم الحرب ...

يقول عبادة بن الصامت : فبايعنا على أن لا نشرك باللّه شيئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا ، ولا نعصيه في معروف. وقال النبيّ : فإن وفّيتم فلكم الجنّة وإن خشيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى اللّه عزّ وجلّ إن شاء عذّب وإن شاء غفر ...

ثمّ إنّ النبي بعث إلى يثرب مصعب بن عمير ليعلّمهم القرآن ، وذلك باستدعاء أسعد بن زرارة - أحد رؤساء الخزرجيين - ، فصارت نتيجة ذلك أن وافى النبيّ في العام المقبل في العقبة الثانية وفود من الخزرجيين والأوسيين ، فبايعوا النبيّ في الشعب ...

فتكلّم رسول اللّه ، فتلا القرآن ، ودعا إلى اللّه ، ورغَّب في الإسلام. ثمّ قال اُبايعكم على أن تمنعوني ممّا تمنعون منه نساءكم وأبناءكم ...

فقام أبو الهيثم بن التيهان ، وقال يا رسول اللّه : إنّ بيننا وبين الرجال حبالاً وإنّا قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثمّ أظهرك اللّه أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟ قال : فتبسمّ رسول اللّه ثمّ قال : بل الدم بالدم ، والهدم بالهدم (2) أنا منكم وأنتم منّي ، أحارب من حاربتم ، واُسالم من سالمتم ...

ثمّ قال : أخرجوا إليّ منكم اثنيّ عشر نقيباً ليكونوا على قومهم بما فيهم ،

ص: 225


1- ذكر اللّه تعالى بيعة النساء في القرآن وقال : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الممتحنة / 12 ). ترى المماثلة بين بيعة الخزرجيّين وبيعة النساء في الموادّ والمضامين.
2- الهدم : الحرمة ، أي ذمتي وحرمتي حرمتكم.

فأخرجوا منهم اثنيّ عشر نقيباً تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس ...

فلمّا انتشرت مبايعة الأوس والخزرج لرسول اللّه ، خافت قريش على نفسها خصوصاً بعد ما وقفوا على أنّ المعذّبين في مكّة أخذوا يهاجرون إلى يثرب ، فأذعنوا أنّ النبيّ أيضاً سوف يخرج إليهم ويتّخذها مأوى لنفسهِ وأصحابه ، وليشنّ عليهم الحرب وينكّلهم ، فاجتمعوا ...

قال ابن إسحاق : « فلمّا رأت قريش أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم ، عرفوا أنّهم قد نزلوا داراً ، وأصابوا منهم منعة ، فحذروا خروج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إليهم ، وعرفوا أنّه قد أجمع لحربهم. فاجتمعوا له في دار الندوة وهي دار قصيّ بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمراً إلاّ فيها ، يتشاورون فيها ما يصنعون في أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حين خافوه ...

فتشاوروا فقال قائل منهم : إحبسوه في الحديد واغلقوا عليه باباً ، ثمّ تربّصوا به ما أصاب من الشعراء الذين كانوا قبله : زهيراً والنابغة حتّى يصيبهُ ما أصابهم ، وقال قائل منهم : نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا ، وقال أبوجهل بن هشام : أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتىً شابّاً جليداً نسيباً وسيطاً فينا ، ثمّ نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً ، ثمّ يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد ، فيقتلوه فنستريح منه ، فإنّهم إذا فعلوا ذلك تفرّق دمه في القبائل جميعاً ، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً ، فرضوا منّا بالعقل فعقلناه لهم ، فتفرّق القوم على ذلك وهم مجمعون له ، فأتى جبرئيل وقال : لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه. قال فلمّا كان عتمة من الليل إجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه ، فلمّا رآى رسول اللّه مكانهم قال لعلي بن أبي طالب : نم على فراشي وتسبّح ببردي هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه ، فخرج عليهم رسول اللّه ، وأخذ اللّه تعالى على أبصارهم عنه ، وجعل القوم يتطلّعون فيرون عليّاً على الفراش متسجّياً ببرد رسول اللّه ، فيقولون : واللّه إنّ هذا لمحمد نائماً عليه ، برده فلم يبرحوا كذلك ، وحتى أصبحوا ، فقام عليّ

ص: 226

رضی اللّه عنه عن الفراش » (1) ... فباؤوا بالفشل وانصرفوا عن إيذاء علي وقتله.

وإلى تلك المؤامرة يشير قوله سبحانه : ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ ) ( الأنفال / 30 ). وفيه تصريح بآرائهم الثلاثة التي أبدوا بها في الندوة ، وأجمعوا على القتل.

عزب عن قريش أنّه سبحانه تعهّد على نفسه نصر أنبيائه ورسله ، فقال سبحانه : ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ ) ( الصافّات / 171 - 172 ).

أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليّاً أن يتخلّف بعده بمكّة حتّى يؤدّي عن رسول اللّه الأمانة التي كانت عنده للناس ، وليس بمكّة أحد عنده شيء إلاّ وضعه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عند علي ، فخرج رسول اللّه عامداً إلى غار بثور (2) وبقى فيها ثلاثاً ، واستنفدت قريش طاقتها في الوقوف على محلّه ، وجعلت مائة ناقة لمن يردّه إليها ، فخرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مع دليله ( عبد اللّه بن أرقط ) ومعهما أبو بكر فسلك بهما أسفل مكّة ثمّ مضى على الساحل حتّى عارض الطريق أسفل من عسفان حتى قدم قباء باثنتى عشرة ليلة خلّت من شهر ربيع الأوّل يوم الإثنين ، حتّى اشتدّ الضحى وكانت الشمس تعتدل (3).

وإلى هجرته هذه واختفائه في الغار ونزول نصرته سبحانه عليه يشير قوله سبحانه :

( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة / 40 ).

ص: 227


1- السيرة النبوية ، لابن هشام : ج 1 ص 428 - 483.
2- جبل بأسفل مكّة.
3- السيرة النبويّة : ج 1 ص 485 - 492.

والضمير في قوله : ( أَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ) يرجع إلى النبيّ بشهادة قوله : ( وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا ) . فما هي النكتة في أفراد الضمير ؟

روى البيهقي عن ابن عباس كان رسول اللّه بمكّة فاُمر بالهجرة واُنزل عليه : ( وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا ) ( الإسراء / 80 ) (1).

وقد نقل غير واحد من المفسّرين : إنّ النبيّ لما بلغ في هجرته الجحفة تذكّر موطنه ، فنزل عليه الوحي مبشّراً بأنّه سوف يرد إلى موطنه ويزوره ، قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) ( القصص / 85 ).

روى السيوطي : « لما خرج النبي من مكّة فبلغ الجحفة إشتاق إلى مكّة فأنزل اللّه : ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) : إلى مكّة ، وعن علي بن الحسين علیه السلام قال : كل القرآن مكّي أو مدني غير قوله : ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) فإنّها اُنزلت على رسول اللّه بالجحفة حين خرج إلى المدينة فلا هي مكّية ولا مدنية ، وكل آية نزلت على رسول اللّه قبل الهجرة فهي مكيّة نزلت بمكة أو بغيرها من البلدان ، وكل آية نزلت بالمدينة بعد الهجرة فإنّها مدنيّة نزلت بالمدينة أو بغيرها من البلدان » (2).

وقد أشار الذكر الحكيم إلى موطنه صلی اللّه علیه و آله بقوله : ( وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ ) ( محمد / 13 ).

ص: 228


1- دلائل النبوّة : ج 2 ص 516 ، وأخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن ، باب تفسير سورة الإسراء الحديث 3139.
2- الدر المنثور في التفسير بالمأثور : ج 5 ص 139 و 140 ، ومجمع البيان : ج 7 ص 268 و 269.

قدومه صلی اللّه علیه و آله إلى قباء

قدم النبي حسب ما يذكره ابن هشام قباء لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأوّل يوم الإثنين حين اشتدّ الضحى وكانت الشمس تعتدل ، وأقام علي بن أبي طالب بمكة ثلاثة ليال وأيامها حتى أدّى عن رسول اللّه الودائع التي كانت لرسول اللّه عنده ، حتى إذا فرغ منها لحق برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فأقام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ب « قباء » في بني أمر بن عوف يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس ، وأسّس مسجده الذي اُشير إليه في قوله سبحانه : ( لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ ) ( التوبة / 108 ) (1).

إطلالة على نشأة التاريخ الهجري

المشهور إنّ أوّل من أرّخ بالتاريخ الهجري هو عمر بن الخطاب. يقول اليعقوبي : « وفيها ( سنة 16 ه ) أرّخ عمر الكتب وأراد أن يكتب التاريخ منذ مولد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ثمّ قال : من المبعث ، فأشار عليه علي بن أبي طالب علیه السلام أن يكتبه من الهجرة ، فكتبه من الهجرة (2).

وروى الحاكم عن سعيد بن المسيب أنّه قال : جمع عمر الناس فسألهم من أي يوم يكتب التاريخ ؟ فقال علي بن أبي طالب : من يوم هاجر رسول اللّه ، وترك أرض الشرك ، ففعله عمر رضی اللّه عنه ، هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه (3).

ص: 229


1- مجمع البيان : ج 3 ص 72.
2- تاريخ اليعقوبي : ج 2 ص 135 ( طبع النجف ).
3- مستدرك الصحيحين ، الحاكم : ج 3 ص 14.

ويظهر من ابن كثير الدمشقي أنّ اليعقوبي والحاكم لخّصا القصة وكانت هي أطول ممّا ذكراه. حيث نقل عن الواقدي أنّه قال :

« وفي الربيع الأوّل من هذه السنة - أعني سنة 16 - كتب عمر بن الخطاب التاريخ وهو أوّل من كتبه.

وأضاف ابن كثير قائلاً : قد ذكرنا سببه في سيرة عمر ، وذلك انّه رفع إلى عمر صكّ مكتوب لرجل على آخر بدين يحلّ عليه في شعبان ، فقال : أي شعبان ؟ أمن هذه السنة أم التي قبلها ، أم التي بعدها ؟ ثمّ جمع الناس فقال : ضعوا للناس شيئاً يعرفون فيه حلول ديونهم ، فيقال : إنّهم أراد بعضهم أن يؤرّخوا كما تؤرّخ الفرس بملوكهم كلّما هلك ملك أرّخوا من تاريخ ولاية الذي بعده فكرهوا ذلك ، ومنهم من قال : أرّخوا بتاريخ الروم من زمان إسكندر فكرهوا ذلك ، ولطوله أيضاً ، وقال قائلون : أرّخوا من مولد رسول اللّه ، وقال آخرون : من مبعثه صلی اللّه علیه و آله ، وأشار علي بن أبي طالب وآخرون أن يؤرّخ من هجرته من مكّة إلى المدينة لظهوره لكل أحد ، فإنّه أظهر من المولد والمبعث ، فاستحسن ذلك عمر والصحابة ، فأمر عمر أن يؤرّخ من هجرة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأرّخوا من أوّل تلك السنة من محرّمها ، وعند مالك رحمه اللّه فيما حكاه عن السهيلي (1) وغيره أنّ أوّل السنة من ربيع الأوّل لقدومه صلی اللّه علیه و آله على المدينة ، والجمهور على أنّ أوّل السنة من المحرّم لأنّه أضبط لئلاّ تختلف الشهور ، فإنّ المحرّم أوّل السنة الهلالية العربية (2).

ولكن الجزم والإذعان بصحّة هذه النقول مشكل ، والظاهر أنّ أوّل من أرّخ بالسنة الهجريّة ، هو النبيّ الأكرم حسب تضافر النصوص الموجودة في ثنايا الكتب وما ظفرنا عليه من النصوص تدلّ على كون التأريخ بالهجرة في زمن النبي وبعده.

ص: 230


1- كذا في المصدر والظاهر زيادة كلمة « عن ».
2- البداية والنهاية : ج 7 ص 75 و 76. طبع دار الكتب العلميّة.

1 - ما روي عن الزهري : إنّ رسول اللّه لمّا قدم المدينة مهاجراً أمر بالتاريخ فكتب في ربيع الأوّل (1).

2 - ما رواه الحاكم وصحّحه عن عبد اللّه بن العباس أنّه قال : كان التاريخ في السنة التي قدم فيها رسول اللّه المدينة ، وفيها ولد عبد اللّه بن الزبير (2).

ودلالته على المقصود واضحة ، لأنّه قال : « كان التاريخ في السنة » ولم يقل « من السنة ».

3 - إنّ بعض الصحابة كانوا يعدّون بالأشهر من مهاجرة النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى أواسط السنة الخامسة ، مثلاً أرّخوا تحويل القبلة على رأس سبعة عشر شهراً ، وفرض رمضان على رأس ثمانية عشر شهراً من هجرة الرسول (3).

4 - ما رواه أبو نعيم عن عهد النبي صلی اللّه علیه و آله لسلمان الفارسي وهو مؤرّخ بسنة تسع للهجرة ، وهو ينقل عن الحسين بن محمد بن عمرو الوثابي : إنّه رأى هذا السجل بشيراز بيد سبط لغسّان بن زاذان بن شاذويه بن ماهبنداز ، وهو أخو سلمان ، وهذا العهد بخط علي بن أبي طالب ، مختوم بخاتم النبي ، فنسخ منه ما صورته :

« بسم اللّه الرّحمن الرّحيم. هذا كتاب من محمد رسول اللّه - سأله سلمان وصيّة بأخيه ماهبنداز أهل بيته وعقبه ... » وفي آخر العهد : « وكتب علي بن أبي طالب بأمر رسول اللّه في رجب سنة تسع من الهجرة ، وحضره أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرّحمان ، وسعد ، وسعيد ، وسلمان ، وأبوذر ، وعمّار ، وعيينة ، وصهيب ، وبلال ، والمقداد ، وجماعة آخرون من المؤمنين ».

ص: 231


1- فتح الباري : ج 7 ص 208 ، وإرشاد الساري : ج 6 ص 233.
2- مستدرك الصحيحين ، للحاكم النيسابوري : ج 3 ص 13 و 14.
3- تاريخ الخميس : ج 1 ص 368 ، ومن راجع الكتب المؤلّفة حول السيرة يجد ذلك بوضوح ، فإنّ أكثر الحوادث في السنين الاُولى بعد الهجرة مؤّرخة بالشهور.

وذكره أيضاً أبو محمد بن حيّان عن بعض من عني بهذا الشأن : إنّ رهطاً من ولد أخي سلمان بشيراز زعيمهم رجل يقال له ( غسّان ) بن زاذان معهم هذا الكتاب بخط علي بن أبي طالب في يدغسان ، مكتوب في أديم أبيض مختوم بخاتم النبي وخاتم أبي بكر وعلي - رضي اللّه عنهما - على هذا العهد حرفاً بحرف إلاّ أنّه قال : وكتب علي بن أبي طالب ، ولم يذكر عيينة مع الجماعة (1).

ونقل أيضاً عن أبي كثير بن عبد الرحمان بن عبد اللّه بن سلمان الفارسي ، عن أبيه ، عن جدّه أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أملى هذا الكتاب على علي بن أبي طالب رضی اللّه عنه : هذا مافادى محمد بن عبد اللّه رسول اللّه فدى سلمان الفارسي من عثمان بن الأشهل اليهودي ، ثمّ القرظي بغرس ثلاثمائة نخلة وأربعين أوقية ذهب ، فقد برء محمد بن عبد اللّه رسول اللّه لثمن سلمان الفارسي ، وولاّه لمحمد بن عبد اللّه رسول اللّه وأهل بيته فليس لأحد على سلمان سبيل. شهد على ذلك : أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ... وكتب علي بن أبي طالب يوم الإثنين في جمادي الاُولى مهاجر محمد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله (2).

5 - كتب خالد بن وليد لأهل دمشق : إنّي قد أمنتهم على دمائهم وأموالهم وكنائسهم ... وفي آخره شهد أبو عبيدة بن الجرّاح وشرحبيل بن حسنة ، وكتب سنة 13 (3).

إلى غير ذلك من النصوص التي جاء بها الفاضل المتتبّع السيّد جعفر مرتضى

ص: 232


1- ذكر أخبار اصبهان : ج 1 ص 53.
2- المصدر السابق : ج 1 ص 52 ، والظاهر أنّ المراد من « المهاجر » هو عام الهجرة لامكانها ، ويؤيّد ذلك : إنّ سلمان عرف الرسول إبّان قدومه بالمدينة وآمن والتحق به ، والظاهر أنّ توصيف أبي بكر بما في الرواية من تلاعب الرواة ، حيث لم يكن يوم ذلك معروفاً به. لاحظ : السيرة النبويّة لابن هشام : ج 1 ص 218 و 219.
3- الأموال لأبي عبيد الثقفي القاسم بن سلام ، - ( المتوفّى 224 ) : ص 297.

العاملي في مقاله في مجلة الهادي (1) وهذا يعرب عن أنّ التاريخ بالهجرة كان قبل الخليفة ، وغاية ما يمكن تصحيح ما ورد بأنّ الخليفة أرّخ بالهجرة هو أنّ النبيّ أرّخ بالهجرة ولم يشتهر بين الناس لقلّة حاجاتهم إلى التاريخ ، فلمّا إنتشر الإسلام خارج الجزيرة مسّت الحاجة إلى تاريخ الكتب والرسائل الواردة من مختلف الأرجاء ، جمع الخليفة صحابة النبي وأشار الإمام بنفس مافعله رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

وممّا يؤسف له أنّ المسلمين نسوا أمجادهم التاريخية والحضارية التي كرّمهم الإسلام بها ، فعادوا يؤرّخون كتبهم ورسائلهم بالتاريخ المسيحي ، فكأنّهم ( نَسُوا اللّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ) وقد رأيت بعيني رسالة لشيخ الأزهر الشيخ محمود عبد الحليم وقد أرّخها بالتاريخ المسيحي الميلادي ولم يذكر - حتّى في جنبه - التاريخ الهجري ، فإذا كان هذا حال شيخ الأزهر فما ظنّك بغيره ؟

إذا كان ربّ البيت بالدفّ مولعاً *** فشيمة أهل البيت كلّهم رقص

ومن الواجب على المسلمين أن لا يتنازلوا عن أقل شيء ممّا يرجع إلى تاريخهم وحضارتهم ودينهم ، حتى انّ ذكر التاريخ الميلادي جنب التاريخ الهجري نوع ترويج له ومماشاة مع الكفر ، ولم يزل أعداء الدين يتآمرون على الإسلام والمسلمين بمسخ شخصيتهم الإسلاميّة واقتلاع جذور مبادئها ، وقد شهدنا في بلدنا العزيز إيران مثل ذلك عام 1396 ه - ق. فقد قام طاغوت إيران بتبديل التاريخ الإسلامي إلى التاريخ « الشاهنشاهي » المجعول الذي لا سند له ، وفرضه على الناس وعادت الرسائل والكتب الرسمية تؤرّخ به ، وكادت أن ترسّخ في القلوب لولا أن بدّد اللّه شمله وأزال ملكه وحاق به العذاب والبلاء بانتصار الثورة الإسلاميّة عام 1398 ه.ق ( قُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) .

ص: 233


1- العدد السادس من السنة الخامسة وهو مقال ممتع.

نزول النبيّ بالمدينة :

خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم الجمعة من ( قبا ) فأدرك الجمعة في بني سالم بن عوف فكانب أوّل جمعة أقامها بالمدينة ، وكان لا يمر على قبيلة إلاّ قالوا أقم عندنا ، فيقول النبيّ خلّوا سبيلها ( الناقة ) فإنّها مأمورة حتّى إذا أتت دار بني مالك بن النجّار ، بركت ناقته على باب مسجده وهو مريد (1) فنزل رسول اللّه فاحتمل أبو أيّوب رحله فوضعه في بيته ، وسأل عن المربد لمن هو ، فقال معاذ بن عفراء : هو لسهل وسهيل ابني عمرو وهما يتيمان لي وسارضيهما منه ، فاتّخذه مسجداً ، فأمر به رسول اللّه أن يبني مسجداً ، ونزل رسول اللّه حتى بنى مسجده ومسكنه ، فعمل فيه رسول اللّه ليرغّب المسلمين في العمل فيه ، فعمل فيه المهاجرون والأنصار ودأبوا ، فقال قائل من المسلمين :

لئن قعدنا والنبي يعمل *** لذاك منّا العمل المضلّل

وممّن ساهم في بناء المسجد عمّار بن ياسر وقد أثقلوه باللبن ، فقال يا رسول اللّه : قتلوني ، يحمّلون عليّ ما لا يحملون ، قالت اُمّ سلمة زوجة النبي صلی اللّه علیه و آله : فرأيت رسول اللّه ينفض وفرته بيده وكان رجلاً جعداً ، وهو يقول : ويح ابن سميّة ليسوا بالذين يقتلونك إنّما تقتلك الفئة الباغية.

وارتجز علي بن أبي طالب علیه السلام يومئذ :

لا يستوي من يعمّر المساجدا *** يدأب فيه قائماً وقاعداً

ومن يرى عن الغبار حائداً

وقد كان بين أصحاب رسول اللّه من يستنكف العمل ، فهذا الرجز من علي علیه السلام كان بقصد التعريض به ، وقد قال ابن إسحاق : إنّ المقصود به عثمان بن عفّان ، وفي المواهب ، للدنية : إنّ المقصود عثمان بن مظعون.

ص: 234


1- الموضع الذي يجفّف فيه التمر.

فأقام رسول اللّه بالمدينة إذ قدمها شهر ربيع الأوّل إلى صفر من السنة التالية حتّى بنى له فيها مسجده ومساكنه ، فلم يبق دار من دور الأنصار إلاّ أسلم أهلها إلاّ حيّ من الأوس ، فإنّهم أقاموا على شركهم.

ولأجل استتباب الأمن ، واضفاء طابع الوحدة السياسية على القبائل التي تستوطن يثرب وما جاورها كتب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كتاباً بين المهاجرين والأنصار ، وادع فيه اليهود وعاهدهم وأقرّهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم.

وقد نقل ابن هشام الكتاب برمّته وهو أوّل منشور سياسي أدلى به النبي إبّان نزوله بالمدينة.

ولم يكتف بذلك حتى آخى بين المهاجرين والأنصار ، فقال : تآخوا في اللّه أخوين أخوين ، ثمّ أخذ بيد علي بن أبي طالب ، فقال : هذا أخي ، فكان رسول اللّه سيّد المرسلين وإمام المتّقين ورسول رب العالمين الذي ليس له نظير من العباد وعلي بن أبي طالب علیه السلام أخوين ، وكان حمزة بن عبد المطلب أسد اللّه وأسد رسوله وعمّه وزيد بن حارثة مولى رسول اللّه أخوين ، وإليه أوصى حمزة يوم اُحد حين حضره القتال إن حدث به حادث الموت ، فهكذا تآخى المهاجرون والأنصار أخوين أخوين.

فلمّا إطمأنّ رسول اللّه بالمدينة والتفّ حوله إخوانه من المهاجرين واجتمع أمر الأنصار ، استحكم أمر الإسلام ، فقامت الصلاة وفرضت الزكاة والصيام وقامت الحدود وفرض الحلال والحرام ، وشرع الآذان (1).

ولمّا استحكمت شوكة المسلمين ظهرت من أحبار اليهود العداوة حسداً وضغناً والتحق بهم رجال من الأوس والخزرج فتظاهروا بالإسلام ، ونافقوا في السرّ وكان هواهم مع اليهود.

ص: 235


1- السيرة النبويّة : ج 1 ص 494 - 512.

وكان أحبار اليهود هم الذين يسألون رسول اللّه ويشاغبونه ليلبسوا الحقّ بالباطل ، فكان القرآن ينزل فيهم فيما يسألون عنه.

وكان المجتمع اليهودي عبارة عن مجموع قبائل ثلاث :

1 - بني قينقاع.

2 - بني النضير.

3 - بني قريظة.

وكانت تلك القبائل مليئة بالأحبار وهم الذين شنُّوا حرب الاستنزاف الخفيَّة على النبي ، واستمدّوا ممّن إجتمع إليهم من منافقي الأنصار ، وإليك استعراض ما بدر منهم من جدال على ضوء ما ورد في القرآن الكريم.

مجادلة أهل الكتاب

كانت بيئة مكّة قاعدة للشرك والمشركين ولم يكن هناك حبر ولا راهب ، بل ولا يهودي ولا نصراني إلاّ شرذمة قليلة لا تتجاوز عدد الأصابع من أمثال ورقة بن نوفل ، وعثمان بن حويرث اللّذين تنصّرا قبل الإسلام ، وكانت قريش تغط في الكفر والشرك إلاّ اُناس قليل المقتفين أثر الخليل المسمّين بالأحناف (1).

إنّ ما ورد من الآيات حول جدال أهل الكتاب مع النبي ، آيات مدنية تناثر ذكرها في السور الطوال كالبقرة وآل عمران وغيرهما.

كان الجدال محتدماً على قدم وساق في الفترة التي كانت القبائل الثلاث مقيمة في المدينة ، وبعد ما اُزيلوا عنها اُخمدت نار فتنتهم ، وكان أكثر ما جادلوا فيه ما يرجع إلى النبي وعلائمه في العهدين ، ولسنا في هذا المقام بصدد نقل كل حوار

ص: 236


1- السيرة النبويّة : ج 1 ص 222 - 224.

ورد في القرآن الكريم سواء أكانت راجعة إلى الأحبار والرهبان أم إلى غيرهم ، وإنّما الهدف تبيين ما دار بين النبي وبين أحبار اليهود في يثرب قبل إجلائهم وإبادتهم ، وكان الكل في السنين الخمس الاُولى إلى أوان حرب الخندق حيث استأصل نسل اليهود في المدينة ولم يبق منهم أحد إلاّ كعب القرظي (1).

تنبّؤ القرآن عن شدّة عداوة اليهود :

تنبّأ القرآن الكريم عن قسوة اليهود وشدّة عدائهم كالمشركين بينما كان المسيحيون على خلاف ذلك ، فكانوا أقرب الناس مودّة للّذين آمنوا ، قال سبحانه : ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) ( المائدة 82 - 83 ) ولأجل ذلك نرى أنّه لميسلم من اليهود ولا من أحبارهم إلاّ أقل القليل ، كعبد اللّه بن سلام وكعب الأحبار من الذين دسُّوا بإسلامهم كثيراً من البدع اليهودية بين المسلمين ، بينما نرى أنّه بعد ما إنتشر الإسلام في ربوع الأراضي المسيحية ، دخل المسيحيّون أفواجاً في الإسلام وما ذلك إلاّ لأنّه كان فيهم قسّيسون ورهبان ، مالوا إلى الحق واعتنقوه وصدّقوا به فتبعهم غيرهم.

وهناك سبب آخر لتصلّب اليهود وعدم رضوخهم لدعوة الإسلام ، يتمثّل في حرصهم على زينة الحياة وزبرجها وهو أكبر حجاب بين بصيرة الإنسان ، والحق الذي يجب أن يتّبع ، قال سبحانه :

ص: 237


1- هو والد محمد بن كعب القرظي ، القصّاص الذي ملأت كتب التاريخ والتفسير قصصه ، فتدبّر.

( وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) ( البقرة / 96 ).

الدعوة إلى أصل مشترك بين الشرائع السماوية :

إنّ التوحيد في العبادة هو الأصل المشترك الذي قام عليه صرح الشرائع السماوية ، ومن العجب إنّ أهل الكتاب الذي يضفون على أنفسهم أنّهم من أنصار لواء التوحيد ، قد إنحرفوا عن هذا الأصل الأصيل ، فعاد يتّخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون اللّه ، فجاء الوحي يدعوهم إلى العودة إلى هذا الأصل ، والإنضواء تحت رايته الخفّاقة ، قال سبحانه :

( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) ( آل عمران / 64 ).

ولأجل إيقاف القارئ على نماذج من إنحراف اليهود والنصارى عن هذا الأصل المشترك على أبعاده المختلفة ( التوحيد في العبادة - التوحيد في الربوبية ... ) نذكر بعض عقائدهم الخرافية حسبما ورد في القرآن الكريم.

الإعتقاد بمبدأ البنوّة للباري جلّ وعلا :

وقد تمخّض الانحراف عن أصل التوحيد ، وبلغ الذروة حيث اتّخذوا لله ابناً باسم عزير والمسيح وهم يضاهئون بذلك قول الكافرين ، وإليه الإشارة في قوله عزّ وجلّ : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) ( التوية / 30 ).

ص: 238

إنّ اليهود اليوم وإن كانت تنكر تلك النسبة ولا تدين بها ولكنّها كانت موجودة في عصر نزول القرآن ، ولأجل ذلك لم تعترض اليهود على النبيّ الأكرم.

والمستفاد من الآية انّ الإعتقاد بمبدأ البنوّة للباري جلّ وعلا ذات خلفية تاريخية ولعلّ الآية تشير إلى عقيدة التثليث التي كانت تدين بها الهندوكية كما هو الظاهر من آثار آلهتهم المجسّمة المثلّثة (1).

وبما أنّ للتثليث دعامة راسخة في الديانة النصرانية أفاض القرآن القول فيه ، يليق بنا الإسهاب في تناول أطراف هذا الموضوع.

ذاتية التوحيد وظاهرة التثليث :

اشارة

لقد تمثّلت ظاهرة التثليث في الديانة النصرانية عصر نزول القرآن في صور مختلفة تناولها القرآن الكريم بالذكر.

فتارة يقولون المسيح هو اللّه.

واُخرى يصرّحون بالثالوث المقدّس ، وإنّ هناك ثلاث آلهاتٍ بإسم إله الأب ، واله الإبن ، وروح القدس.

وثالثة إنّ المسيح ابن اللّه.

ولعلّ الجميع تعبيرات متنوّعة عن حقيقة واحدة أو أنّها عبارة عن نظريّات مختلفة يتبنّى كلّ واحد منها طائفة منهم وإليك التوضيح.

أ - المسيح هو اللّه :

يقول سبحانه حاكياً عنهم تلك العقيدة : ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ

ص: 239


1- لاحظ : الآثار الوثنية في الديانة النصرانية.

المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ المَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ) ( المائدة / 72 ).

فالآية تعرب عن أنّ المسيح عند طائفة منهم هو الربّ الخالق ، وبعبارة اُخرى : إنّ اللّه إتّحد بالمسيح إتّحاد الذات ، فصارا شيئاً واحداً وصار الناسوت لاهوتاً (1).

والذين يقولون من النصارى : إنّ اللّه هو المسيح ابن مريم هم اليعقوبية ، واللائق بهذا القول هو إنكار التثليث ، ولكنّ لا يخلوا مذهب من مذاهب النصارى منه ، وقد ردّ القرآن على ذلك الزعم بما نقله عن المسيح بأنّه قال : ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ... ) فهو يدّل على أنّه عبد مثلهم كما أنّ قوله : ( إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ ) يدلّ على أنّ من يجعل لله شريكاً في الوهيّته ، فهو مشرك كافر ، محرّم عليه الجنّة. وفي هذا القول مزيد عناية بإبطال ما ينسبونه إلى المسيح من حديث التفدية وأنّه علیه السلام باختياره الصلب فدى بنفسه عنهم ، فهم مغفور لهم ، مرفوع عنهم التكاليف الإلهية ، ومصيرهم إلى الجنة ولا يمسّون ناراً.

كيف يقولون ذلك مع أنّه علیه السلام كان يقول : ( مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ) (2).

ب - اللّه ثالث ثلاثة أو الثالوث المقدّس :

اشارة

وكان هناك قسم آخر من الإنحراف عن خط التوحيد يتجسّد في القول بأنّ اللّه ثالث ثلاثة كما يحكيه قوله سبحانه :

( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ( المائدة / 73 ) والقائل بهذه

ص: 240


1- مجمع البيان : ج 2 ص 228.
2- التبيان : ج 3 ص 587.

المقالة هم جمهور النصارى من الملكانية واليعقوبية ، والنسطورية والمقصود أنّه أحد الثلاثة : الأب والإبن وروح القدس أي أنّه ينطبق على كل واحد من الثلاثة وهذا لازم قولهم : إنّ الأب إله ، والإبن إله ، والروح إله ، وهو ثلاثة وهو واحد ، ويمثّلون لذلك بقولهم : إنّ زيد بن عمرو إنسان فهناك اُمور ثلاثة هي زيد ، وابن عمرو والإنسان ، وهناك أمر واحد وهو المنعوت بهذه النعوت.

ويلاحط عليه : أنّ هذه الكثرة إن كانت حقيقية غير اعتبارية أوجبت الكثرة في المنعوت حقيقة ، وإنّ المنعوت إن كان واحداً حقيقة أوجب ذلك أن تكون الكثرة إعتباريّة غير حقيقيّة ، فالجمع بين هذه الكثرة العددية والوحدة العددية كما في المثال بحسب الحقيقة ممّا يستنكف العقل عن تعقله.

ولأجل ذلك التجأ دعاة النصارى في الآونة الأخيرة إلى القول بأنّ مسألة التثليث من المسائل المأثورة من مذاهب الأسلاف وهي لا تخضع للموازين العلميّة (1).

وقد ردّ الذكر الحكيم على ذلك بقوله : ( وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ ... ) ببيان أنّ اللّه سبحانه لا يقبل بذاته المتعالية ، الكثرة بوجه من الوجوه ، فهو تعالى ذاته واحد وإذا اتّصف بصفاته الكريمة وأسمائه الحسنى لم يزد ذلك على ذاته الواحدة شيئاً ، ولا الصفة إذا اُضيفت إليها أورثت كثرة وتعدّداً ، فهو تعالى أحديّ الذات لا ينقسم لا في خارج ولا في وهم ولا في عقل.

ويستفاد من قوله : ( وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) بحكم الإتيان بلفظ ( منهم ) المشعرة بالتبعيض - ، إنّ هناك طائفة لا يعتقدون بالتثليث ولا يقولون في المسيح إلاّ إنّه عبد اللّه ورسوله كما عليه مسيحيّة الحبشة بعضهم أو جلّهم.

ص: 241


1- الميزان : ج 4 ص 70.
مشكلة الجمع بين التوحيد والتثليث :

إنّ المسيحيّين يعتبرون أنفسهم موّحدين وإنّهم من المقتفين أثر التوحيد الذي جاءت به جميع الشرائع السماوية ، ومن جانب آخر يعتقدون بالتثليث اعتقاداً جازماً ، وهذان لا يجتمعان إلاّ أن يكون أحد الوصفين حقيقيّاً والآخر مجازيّاً ولكنّهم ياللأسف يقولون بكونهما معاً حقيقيين ، ولأجل ذلك أصبحت عندهم : 1 = 3 وهو محال ببداهة العقل.

والقرآن الكريم ينسب التثليث إلى أقوام آخرين كانوا قبل المسيح والمسيحيّة وهؤلاء إنّما اتّبعوا اُولئك ، ولعلّ الثالوث الهندي هو الأصل حيث يعتقدون بأنّ الإله الواحد له مظاهر ثلاثة : « برهما » : « الموجد » ، و « فيشفو » : « الحافظ » ، و « سيفا » : « المميت » فقد دان بتلك العقيدة المسيحيّون بعد رفع المسيح آماداً متطاولة ، ولمّا جاء المتأخّرون منهم ورأوا أنّ الوحدة الحقيقية لا تخضع للكثرة كذلك حاولوا أن يصحّحوه بوجهين :

الأوّل : تفكيك المسائل الدينية عن المسائل العلميّة وأنّ الدين فوق العلم وأن مسألة 1 = 3 وإن كانت باطلة حسب القوانين الرياضية المسلّمة ولكن الدين قبلها ونحن نعتقد بها. ولكنّه عذر أقبح من ذنب فكيف نعتنق ديناً يتصادم مع أوضح الواضحات وأبده البديهيّات.

الثاني : إنّ المعادلة الرياضية السابقة ليست باطلة وذلك لوجود نظائرها في الخارج ، فإنّ الشمس بها جرم ولها نور ولها حرارة ومع ذلك فهي شيء واحد.

وهذا الإستدلال يكشف عن جهل مطبق بحقيقة الوحدة المعتبرة في حقه سبحانه فإنّ المقصود منها في حقّه هو الوحدة الحقيقية التي لا كثرة فيها لا خارجاً ولا ذهناً ولا وهماً وأين هو من وحدة الشمس التي هي وحدة إعتبارية لا حقيقية حيث تتركّب من جرم ونور وحرارة وكل منها ينقسم إلى انقسامات.

وعلى كلّ تقدير فماذا يريدون من قولهم ( إنّه إِله واحد ) وفي الوقت نفسه

ص: 242

ثلاثة ، فهل يريدون أنّ هناك أفراداً متميّزة ومتشخّصة من الإله الصادق هو عليهم صدق الكلي على الأفراد ؟

أو يريدون أنّ هناك فرداً واحداً ذا أجزاء وليس لكل واحد منها إستقلال ولا تشخّص وإنّما يتشكّل الإله من تلك الأجزاء ؟

فالفرض الأوّل يستلزم تعدّد الإله تعدّداً حقيقيّاً وهو لا يجتمع مع التوحيد بحال من الحالات.

والفرض الثاني لا يخلو إمّا أن يكون كل واحد من هذه الأجزاء واجبة الوجود أو ممكنة ، فعلى الأوّل يلزم منه كثرة الإله ( واجب الوجود ) وهم يدّعون الفرار منه.

وعلى الثاني يلزم أن يكون واجب الوجود محتاجاً في تحقّقه وتشخّصه إلى أجزاء ممكنة وهو كما ترى.

ولأجل ذلك نرى أنّ الذكر الحكيم ينادي ببطلان التثليث بأيّ نحو يمكن أنّ يتصوّر بقوله : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلاَّ الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً ) ( النساء / 171 ).

إنّ الآية تركّز على أنّ نسبة الإلوهيّة إلى المسيح من آثار الغلوّ في حقه فلو تنزّه القوم عن هذا التمادي الفكريّ المفرط لوقفوا على سمة المثالية فيه ونفوا عنه مقام الإلوهية.

والآية تصف المسيح بالصّفات الخمس :

1 - عيسى ابن مريم 2 - رسول اللّه 3 - كلمته 4 - ألقاها إلى مريم 5 - روح منه. إنّ بعض هذه الصفات المسلّمة في حق المسيح تشهد بعبوديّته وتنفي الوهيّته وإليك مزيد من التوضيح حولها :

ص: 243

1 - عيسى ابن مريم : وقد ورد في الذكر الحكيم ذكره عشر مرّات وبنوّته لمريم التي لا تنفك عن كونه جنيناً رضيعاً في المهد صبيّاً يافعاً و ... لدليل واضح على بشريّته.

2 - رسول اللّه : ومعناه مبعوثه ومرسله وليس نفسه.

3 - كلمة اللّه : وقد أطلق القرآن لفظ الكلمة على المسيح كما أطلقه على جميع الموجودات الإمكانية وقال : ( قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ) ( الكهف / 109 ).

وأمّا إطلاق الكلمة على الموجودات الإمكانية لأجل وجود التشابه بين الكلمة والموجود الإمكاني فإنّ الكلمة تكشف عمّا يقوم في ذهن المتكلّم من المعاني فهكذا الموجودات الإمكانية عامّة ، وخلقة المسيح على وجه الإعجاز خاصّة تكشف هي الاُخرى عن علم وقدرة وسيعين وكمال لا متناه يكمن في ذاته سبحانه ولأجل ذلك يعد القرآن المسيح وجميع العوالم الإمكانية كلمات اللّه سبحانه.

4 - ألقاها إلى مريم : إنّ الإلقاء إلى رحم الاُم آية كونه مخلوقاً وقد ذكر تفصيله في سورة مريم ، الآية 16 إلى 36 واختتمها بقوله : ( ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ) ( مريم / 34 ).

5 - وروح منه : إنّ هذا التعبير ربّما وقع دليلاً على تطرّف فكرة الاُلوهيّة في حق المسيح وهم يتخيّلون إنّ ( منه ) تبعيضية ولكنّها إبتدائية مثل قوله سبحانه : ( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ) ( الجاثية / 13 ) والمعنى انّ السموات وما في الأرض جميعاً ناشئ منه وحاصل من عنده ، ومبتدأ منه ، فذوات الأشياء تبتدئ منه بإيجاده لها من غير مثال سابق وكذلك خواصّها وآثارها. قال تعالى : ( اللّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) ( الروم / 11 ).

أضف إلى ذلك انّ ذلك التعبير لا يفوق في حق آدم حيث قال : ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) ( الحجر / 29 ).

ص: 244

فقد وصف آدم علیه السلام بلفظة « من روحي » ولم يقل أحد بأنّه جزء من الإله.

ثمّ إنّه سبحانه ختم تلك الصفات بقوله : ( فَآمِنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ) .

سمات العبودية في المسيح :

إنّ الذكر الحكيم يستدل على عبوديته بوجوه ثلاثة :

1 - كيفيّة خلق المسيح واُمّه.

2 - طبيعة عيشهما في المجتمع.

3 - تصريح المسيح بعبوديّته.

هذه هي الوجوه التي يستدلّ بها القرآن الكريم على عبوديّته ، أمّا الأوّل فقد بسط الذكر الحكيم في تناولها في سورة مريم كما مرّ وهذه الآيات تلقي الضوء على كيفيّة خلقه إلى أن توّج بالرسالة ، فيقول سبحانه :

( فَأَجَاءَهَا المَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا ) إلى أن يقول : ( ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ) .

ولو تمّسك الخصم على عدم بشريته بأنّه ولد من غير أب فهو محجوج بخلقة آدم فقد خلق من غير اُم ووالد ، قال سبحانه : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( آل عمران / 59 ).

وأمّا الثاني فيلمح إليه ما ورد بأنّ المسيح واُمّه كانا يعيشان شأنهما كشأن سائر بني آدم ولا يحيدان عنها قيد شعرة ، قال سبحانه : ( مَّا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ

ص: 245

الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) ( المائدة / 75 ) فمن الممتنع أن يكون آكل الطعام إله العالمين.

وأمّا الثالث فيشير إليه قوله سبحانه : ( لَّن يَسْتَنكِفَ المَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا للهِ وَلا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ) ( النساء / 172 ).

وليس بوسع إنسان أن ينكر عبادة المسيح وهي آية وجود المعبود له وهناك كلمة قيّمة للإمام الطاهر علي بن موسى الرضا في مناظرته مع الجاثليق ، قال الإمام : يا نصراني واللّه إنّا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمد وما ننقم على عيسى شيئاً إلاّ ضعفه وقلّة صيامه وصلاته.

قال الجاثليق : أفسدت واللّه علمك وضعفت أمرك وما كنت أظن إلاّ إنّك أعلم أهل الإسلام.

قال الرضا : وكيف ذلك ؟

قال الجاثليق : من قولك إنّ عيسى كان ضعيفاً قليل الصيام والصلاة وما أفطر عيسى يوم قط وما نام بليل قط وما زال صائم الدهر قائم الليل.

قال الرضا : فلمن كان يصوم ويصلّي ؟

فخرس الجاثليق وانقطع (1) الحديث.

إنّ الذكر الحكيم يصرّح بأنّ المسيح سوف يعترف يوم البعث بعبوديته على رؤوس الأشهاد وانّه لم يأمر قطّ الناس بعبادة نفسه :

( وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( المائدة / 116 ).

ص: 246


1- الاحتجاج : ج 2 ص 203 و 204.

وقال عزّ اسمه حاكياً عنه : ( مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( المائدة / 117 ).

ج - المسيح ابن اللّه :

قد طرأت أزمة حادّة على خط التوحيد من قبل المشركين واليهود والنّصارى بزعم وجود الابن أو البنت لله سبحانه ، فتارة جعلوا بينه وبين الجِنَّة نسباً ، واُخرى اتّهموه بأنّه اتّخذ من الملائكة اناثاً ، وثالثة نسبوا إليه الولد بصورة مطلقة ، وقد جاء الجميع في الذكر الحكيم مشفوعاً بالردّ والنقض :

1 - الجن : ( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَبًا ) ( الصافّات / 158 ).

وأمّا ما هذا النسب ، فيحتمل أن يكون المراد نسب البنوّة والاُبوّة ولأجل ذلك كان جماعة من العرب يعبدون الجن ، كما ورد في قوله سبحانه : ( قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ ... ) ( سبأ / 41 ).

2 - الملائكة : ( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ المَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا ) ( الإسراء / 40 ) ولأجل ذلك كان جماعة أيضاً من العرب تعبد الملائكة ، وبما أنّهم كانوا يتخيّلون الملائكة على أنّهم خلقوا بصور جذّابة جميلة خالوا إنّهم اُناثاً قال سبحانه : ( وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا ) ( الزخرف / 19 ).

3 - المسيح : وقد اشتهر النصارى بأنّهم جعلوا « المسيح » إبناً لله تعالى ، وهذه الفكرة الخاطئة وإن لم تكن منحصرة فيهم ، بل كان لليهود أيضاً مثل تلك الفكرة في حقّ « عزير » لكن النصارى أكثر ، اشتهاراً بهذه النسبة ، غير نافين عن أنفسهم هذا العار ، واليهود يؤوّلون الفكرة بأنّه ولد فخري لا حقيقي.

والقرآن الكريم يندّد بتلك الفكرة في غير واحد من الآيات مشيراً إلى براهين

ص: 247

عقلية محتاجة إلى التوضيح ، وإليك نقل الآيات مع توضيح مضامينها :

1 - البقرة / 116 - 117 :

( وَقَالُوا اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) .

تريك هذه الآية كيف أنّهم نسبوا إلى اللّه ولداً من غير فرق بين أن يكون الناسب يهوديّاً أو مسيحيّاً ، ولكنّ الآيتين تتضمّنان ردّاً لهذه النسبة ، يستفاد من الإمعان في الجمل التالية :

1 - سبحانه. 2 - بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون.

3 - بديع السموات والأرض. 4 - وإذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون.

وإليك شرح هذه الجمل التي يعد كل واحد منها بمثابة ردّ ونقض للفكرة الخاطئة المصرّحة بالبنوّة لله عزّ وجلّ.

أ - « سبحانه » : وهذه الكلمة تفيد تنزيه اللّه سبحانه من كل نقص وعيب وشائنة ، ولأجل ذلك يأتي هذا اللفظ في آية اُخرى بعد بيان تلك النسبة الخاطئة ، قال تعالى : ( قَالُوا اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) ( يونس / 68 ).

واللفظة تفيد انّ اتّخاذ الولد نقص وعيب على اللّه تعالى ، يجب تنزيهه عنه ، وذلك لأنّ اتّخاذ الولد إمّا لغاية إشباع الغريزة الجنسية أو لأجل الإستعانة من الولد أيّام الهرم والكهولة ، أو لأجل إبقاء النسل وإدامته التي تعد نوع بسط وجود للشخصية ، والكل غير لائق بساحته سبحانه.

ويمكن أن يكون اللفظ مشيراً إلى أمر آخر وهو أنّ اتّخاذ الابن فرع التوالد والتناسل وهو من شؤون الموجودات المادية حيث ينتقل جزءً من الأب إلى رحم الاُم فتتّحد نطفة الأب مع البويضة في رحم الاُمّ فتخصّبها فينتج عن ذلك نشأة الجنين واللّه سبحانه أعلى وأجل وأنبل عن أن يكون جسماً أو جسمانيّاً.

ص: 248

ب - ( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) :

إنّ هذه الجملة مشعرة ببرهان دامغ وهو أنّ كل ما في الكون قانت لله وخاضع لسلطته ومسخّر ومقهور له ومن هذا شأنه لا يتصوّر أن يكون له ولد وذلك لأنّ الولد يكون مماثلاً للوالد ، فكما هو واجب الوجود يكون الولد مشاطراً له في ذلك ، وما هو كذلك لا يمكن أن يكون مقهوراً ومسخّراً لموجود من الموجودات.

ج - ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) :

أي انّه سبحانه خالق مبدع لهما وما فيهما والمراد من الإبداع هو خلقهما بلا مثال سابق ولا مادّة متقدّمة ، فيكون المجموع مسبوقاً بالعدم ، وما هو كذلك كيف يمكن أن يكون ولداً لله سبحانه ؟ لما عرفت من أنّ الولد يماثل الوالد في الالوهيّة ووجوب الوجود ، وهو لا يجتمع مع كون السموات والأرض وما فيهما مخلوقاً حادثاً مسبوقاً بالعدم.

د - ( وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) :

وهذه الآية تفيد أنّ سنّة اللّه تبارك وتعالى في الإيجاد والإنشاء والخلق ، وأنّه لو أراد إيجاد شيء فإنّه يوجد بلا تريّث أو تلبّث ، ولكنّ الولد إنّما يتكوّن من إلتقاء النطفتين في رحم الاُم ثمّ يتكامل تدريجيّاً على إمتداد أمد بعيد وهذا لا يجتمع مع ما مرّ ذكره في السنّة الحكيمة.

ثمّ إنّ العلاّمة الطباطبائي جعل الجمل الثلاث مشيرة إلى برهانين ( لا إلى ثلاثة براهين كما أوضحناه ) فقال :

إنّ قوله : ( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ... ) يشتمل على برهانين ينفي كلّ منهما الولادة وتحقّق الولد منه سبحانه ، فإنّ اتّخاذ الولد هو أن يجزي موجود طبيعي ، بعض أجزاء وجوده ويفصله عن نفسه فيصيّره بتربية تدريجية فرداً من نوعه مماثلاً لنفسه ، وهو سبحانه منزّه عن المثل بل كل شيء ممّا في السموات والأرض مملوك له قائم الذات به قانت ذليل عنده ذلّة وجودية فكيف يكون شيء من الأشياء ولداً له

ص: 249

مماثلاً نوعيّاً بالنسبة إليه ؟ وهو سبحانه بديع السموات والأرض ، إنّما يخلق ما يخلق على غير مثال سابق فلا يشبه شيء من خلقه خلقاً سابقاً ولا يشبه فعله فعل غيره في التقليد والتشبيه ولا في التدريج والتوّصل بالأسباب إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون من غير مثال سابق ولا تدريج ، فكيف يمكن أن ينسب إليه اتّخاذ الولد ؟ وتحقّقه يحتاج إلى تربية وتدريج فقوله : ( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) برهان تام ، وقوله : ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) برهان آخر تام (1).

2 - الأنعام / 100 - 102 :

( وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الأنعام / 100 ).

( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( الأنعام / 101 ).

( ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلَّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) ( الأنعام / 102 ).

وفي هذه الآيات إشارات إلى بطلان النظرية القائلة بكون الجن شركاء لله سبحانه وخرق بنين وبنات له بغير علم ، وإليك بيانها :

أ - ( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ) : وقد مرّ توضيح تلك الجملة في القسم الأوّل من الآيات.

ب - ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) : وقد تقدّم معناه أيضاً.

ج - ( أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ ) : وهذه الجملة تشير إلى أنّ إتّخاذ الإبن يستلزم اتّخاذ الزوجة حتى يقع جزء من الزوج في رحم الزوجة واللّه

ص: 250


1- الميزان : ج 1 ص 261.

سبحانه منزّه ، عن أن تكون له زوجة.

د - ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) : فإذا كان هو خالق كل شيء ، والكل مخلوق له فلا يتصوّر كون المخلوق ولداً ، لأنّ الولد يشاطر الوالد في الطبيعة والنوعيّة فإذا كان سبحانه واجب الوجود لاستغنى عن العلّة والخالق ولترفّع عن حيز الإمكان ، والمفروض خلافه.

3 - يونس / 68 :

( قَالُوا اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) .

وهذه الآية تشتمل على مثل ما اشتملت عليه الآيات السابقة وإليك تفصيل جملها.

أ - ( سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) : وقد عرفت أنّ إتّخاذ الولد إمّا لغاية إشباع الغريزة الجنسية أو لاستعانة به في أيّام الكهولة أو لبسط نفوذ الشخصية ، واللّه غني عن الجميع.

ب - ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ) : وفيه إشارة إلى أنّ كل ما في الكون مقهور ومسخّر فكيف يكون شيء منه ولداً له مع لزوم المماثلة بين الولد والوالد.

ج - ( إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) : وهو إشارة اُخرى إلى أنّه إنّما تبنّوا هذه الفكرة تقليداً بلا علم وبرهان ، وقد تقدّم في الآيات السابقة ( بغير علم سبحانه ).

4 - الكهف / 4 و 5 :

( وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا * مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا ) .

ص: 251

وفي هذه الآية إكتفاء ببرهان واحد وهو أنّ القوم يتفوّهون بذلك بلا علم لهم ولا لآبائهم.

5 - مريم / 35 :

( مَا كَانَ للهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) وفي الآية إشارة إلى برهانين أحدهما قوله ( سُبْحَانَهُ ) والثاني ( إِذَا قَضَى ) ، وقد مرّ تفسيرهما فلا نعيد.

6 - مريم / 88 - 95 :

( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ) .

( لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ) .

( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدًّا ) .

( أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ) .

( وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا ) .

( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ) .

( لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ) .

( وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ) .

وقد ركّزت الآيات على برهانين :

أحدهما قولهُ : ( وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا ) وهذه الجملة واقعة مكان لفظة ( سُبْحَانَهُ ) في الآيات السابقة.

وثانيهما : قوله : ( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ) وهو يفيد نفس ما يفيده قوله : ( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) في الآيات السابقة والمعنى بعد التطبيق واضح ومحصّله أنّ من في الكون عبد

ص: 252

مسخّر لله سبحانه ، وهو لا يجتمع مع كون واحد منهم ولداً له ، لأنّه يقتضي المماثلة والمشاركة في الوجوب والإستغناء عن العلّة مع أنّ المفروض كونه ممكناً.

7 - الأنبياء / 26 و 27 :

( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ) .

( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) .

فلفظة ( سُبْحَانَهُ ) مشيرة إلى أنّ اتّخاذ الولد ملازم للنقص والعيب وهو سبحانه منزّه عنه.

وقوله : ( بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ) إشارة إلى ما مرّ من أنّ العبودية لا تجتمع مع البنوّة لأنّ مقتضى البنوّة ، المشاركة والمسانخة مع الوالد في الطبيعة ، والمفروض وجوب وجود الوالد فيكون الولد واجباً وهو محال.

8 - المؤمنون / 91 :

( مَا اتَّخَذَ اللّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ ) .

والآية تشير إلى أنّ اتّخاذ الولد ينافي التوحيد والوحدانية لأنّ الولد يجب أن يكون مماثلاً للوالد على نحو ما مرّ ذكره وعندئذ يكون إلهاً مثله ، والمفروض أنّه ليس معه إله.

9 - الزمر / 4 :

( لَّوْ أَرَادَ اللّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) .

وفي الآية إشارة إلى دحض تلك العقيدة المنحرفة باُمور ثلاثة :

أ - ( سُبْحَانَهُ ) .

ص: 253

ب - ( الْوَاحِدُ ) .

ج - ( الْقَهَّارُ ) .

أمّا الأوّل : فدلالته على نفي البنوّة مثل الآيات السابقة.

وأمّا الثاني : أعني كونه واحداً ، فهو يدلّ على نفي البنوّة لأنّ اتّخاذ الإبن يستلزم المماثلة بين الأب والولد ، فيلزم تعدّد الإله وواجب الوجود.

وأمّا الثالث : أعني كونه قهّاراً وغيره مقهوراً عليه فدلالته مثل دلالة قوله : ( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ) وقوله : ( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) وقوله : ( بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ) وذلك لأنّ اتّخاذ الإبن يستلزم أن يكون له مماثل من ذاته لأنّ الولد يماثل الوالد في النوعية والطبيعة فيلزم أن يكون الولد واجب الوجود ، والمفروض أنّه مقهور ومسخّر لله سبحانه.

وأنت إذا قارنت هذه الآيات بعضها ببعض لوقفت على أنّ الجميع في المادة والمعنى وكيفيّة الإستدلال مصبوب في قالب واحد بينها كمال الإئتلاف والتناسب ، والعبارات الواردة في المقام وإن كانت مختلفة المواضع ولكنّ المؤدّى والمعنى واحد ، وتلك الآيات نزلت على النبيّ في ظروف مختلفة وأجواء متباينة والنبيّ لم يزل بين كونه منهمكاً في الحرب وهادئ البال في الصلح والسلم ومع ذلك يتكلّم على نسق واحد مع كونه أمّيّاً لم يقرأ قطّ ولم يكتب. صدق اللّه العليّ العظيم حيث قال : ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) ( النساء / 82 ).

قسمة ضيزي :

ومن عجائب اُمورهم أنّهم اتّخذوا لأنفسهم البنين ونسبوا إلى اللّه عزّ وجلّ الإناث من الملائكة ، قال سبحانه : ( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ المَلائِكَةِ إِنَاثًا ) ( الإسراء / 40 ).

ص: 254

وقال تعالى : ( أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ ) ( الزخرف / 16 ).

وقال تعالى : ( أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ) ( النجم / 21 - 22 ).

ثمّ إنّه سبحانه أبطل ادّعاءهم بكون الملائكة إناثاً وقال : ( وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ) ( الزخرف / 19 ) فكيف يدّعون ما لم يشهدوه ؟!

إلى هنا تمّ حوار القرآن مع اليهود والنّصارى في اتّخاذه سبحانه ولداً من الإنس والجنّ والملائكة ، وقوّة البرهان القرآني وإتقانه وتعاضد بعضه بعضاً يدلّ على أنّه وحي إلهي نزل به الروح الأمين على قلبه ، وأنّى للإنسان الغارق في الحياة البدائيّة أن يأتي بمثل ذلك لولا كونه مسدّداً بالوحي ، مؤيّداً بالمدد الغيبي منه سبحانه.

وإليك بقية المناظرات الواردة في القرآن الكريم.

اليهود ونقض المواثيق والعهود

اشارة

حطّ النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله رحاله بالمدينة ، والتفّ حوله الأوس والخزرج ، ففشى أمر الإسلام وشاع خبره وذكره بين الناس والقبائل القاطنة بأطراف المدينة ، وكان ذلك بمثابة جرس إنذار لليهود ينبئ عن إقتراب اُفول شوكتهم في المدينة وما والاها بل في شبه الجزيرة العربية برمّتها.

وكانت اليهود في سابق عهدها تفتخر على سائر الاُمم بأنّها تقتفي أثر التوحيد وأنّ لهم كتاباً سماويّاً يجمع بين دفّتيه الأحكام الإلهية ، ولكنّ تلك المفخرة أو شكت أن تذهب أدراج الرياح بدعوة النبيّ الأكرم الناس كافّة إلى التوحيد الأصيل ونزول القرآن عليه ، فما كانت لهم بعد إذ ذاك ميزة يمتازون بها على العرب.

وكانت اليهود لفرط حبّهم للدنيّا وزبرجها تمكّنوا من السيطرة على مقاليد أزّمة

ص: 255

إدارة التجارة ، وكان وجود الشّقة السحيقة بين الأوس والخزرج ، والنزاعات القبلية بينهما ، خير معين للإنفراد بإدارة دفّة القوافل التجارية ، غير أنّ تلك الأرضية التي فسحت لهم المجال لتسلّم زمام التجارة فيما مضى كادت تنعدم بالاُخوّة الإسلامية التي جاء بها الإسلام ، فصار المتصارعان متصافيين متآخيين متآلفين في مقابل اليهود واطماعهم.

كلّ ذلك صار سبباً لتحفيز اليهود لإثارة الشبهات حول رسالة الرسول الأكرم وبثّ السموم وتشوية معالم الرسالة الجديدة ليضعضعوا أركان الإيمان الفتي في قلوب المؤمنين بالإسلام ، وقد غاب عن خلدهم أنّ سنّة اللّه الحكيمة تتكفّل بنصر رسله. قال سبحانه :

( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ) ( غافر / 51 ).

وإليك نماذج من أسئلتهم وشبهاتهم التي أثاروها حول الرسالة النبويّة :

1 - إفشاء علائم النبوّة :

إنّ أوّل خطوة خطوها لأجل إيقاف مدّ الصحوة الدينية والإيمان برسالة النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله هو إصدار مرسوم يقضي بكتمان علائم نبوّته التي وردت في التوراة حتى لا تقع للمسلمين ذريعة يتمسّكون بها ضدّهم في عزوفهم عن قبول الدعوة ، وهذا ما يحكي عنه الذكر الحكيم بقوله :

1 - ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( البقرة / 76 ).

وروي عن الإمام الباقر علیه السلام أنّه قال : كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتواطئين إذا لقوا المسلمين حدّثوهم بما في التوراة من صفة محمد صلی اللّه علیه و آله فنهاهم كبراؤهم عن ذلك وقالوا : لاتخبروهم بما

ص: 256

في التوراة من صفة محمد صلی اللّه علیه و آله فيحاجّوكم به عند ربّكم (1).

وردّ سبحانه عليهم بقوله : ( أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ) ( البقرة / 77 ) فاللّه سبحانه يحتجّ بكتابهم عليهم سواء تفوّهوا بسمات النبيّ الأكرم المذكورة في التوراة أم لم يتفوّهوا بها على الرّغم من أنّهم كانوا يستفتحون ويستنصرون على الأوس والخزرج برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قبل مبعثه فلمّا بعثه اللّه من بين العرب ولم يكن من بني إسرائيل ، كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه ، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء ابن معرور : يا معشر اليهود اتّقوا اللّه واسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل الشرك ، وتصفونه وتذكرون أنّه مبعوث ، فقال سلام بن مثكم أخو بني النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنّا نذكر لكم ، فأنزل اللّه تعالى قوله :

( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) ( البقرة / 89 ).

2 - السؤال عن الروح الأمين :

إنّ نفراً من أحبار اليهود جاءوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقالوا : يا محمداً أخبرنا عن أربع نسألك عنهنّ ، فإن فعلت ذلك اتّبعناك وصدّقناك وامنّا بك ، فقال لهم رسول اللّه : عليكم بذلك عهد اللّه وميثاقه لئن أنا أخبرتكم بذلك لتصدّقنّني ؟ قالوا : نعم ، قال : فسألوا عمّا بدا لكم ... وممّا سألوا عنه نوم النبيّ صلی اللّه علیه و آله فقالوا : كيف نومك ؟ فقال : تنام عيني وقلبي يقظان. قالوا : فأخبرنا عمّا حرّم إسرائيل على نفسه ؟ قال : حرّم على نفسه لحوم الإبل وألبانها ، فصدّقوه في الإجابة عن هذاين السؤالين ، ثمّ قالوا له : فأخبرنا عن الروح ،

ص: 257


1- مجمع البيان : ج 1 ص 286 ( طبع بيروت ).

قال : أنشدكم باللّه وبأيّامه عند بني إسرائيل هل تعلمونه جبرئيل وهو الذي يأتيني ؟ قالوا : اللّهم نعم ، ولكنّه يا محمد لنا عدوّ وهو ملك إنّما يأتي بالشدّة وسفك الدماء ولولا ذلك لاتّبعناك ، فأنزل اللّه عزّ وجلّ فيهم : ( قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَن كَانَ عَدُوًّا للهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ) ( البقرة / 97 و 98 ) (1).

وما ذكرنا من شأن النزول يؤيّد ما ذكرناه سابقاً من أنّ المقصود من الروح في قوله سبحانه : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ) ( الإسراء / 85 ) هو الروح الأمين لا الروح الإنسانية ، وأنّ ما اُثير حولها في التفاسير المختلفة مبني على تفسير الروح بالروح الإنسانية وهو غير صحيح.

وعلى أي تقدير فنصب العداء لجبرئيل نصب للعداء له سبحانه ، لأنّ جبرئيل مأمور من جانبه ومبلّغ عنه هو وجميع الملائكة : ( لاَّ يَعْصُونَ اللّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) ( التحريم / 6 ).

3 - إنكار نبوّة سليمان علیه السلام :

إنّ رسول اللّه لمّا ذكر سليمان بن داود في المرسلين ، قال بعض أحبارهم : ألا تعجبون من محمد صلی اللّه علیه و آله يزعم أنّ سليمان بن داود كان نبيّاً ، واللّه ما كان إلاّ ساحراً ، فأنزل اللّه تعالى في ذلك : ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) ( البقرة / 102 ) (2).

ص: 258


1- السيرة النبويّة : ج 1 ص 543. مجمع البيان : ج 2 ص 324 ( طبع بيروت ).
2- السيرة النبوية : ج 1 ص 540. مجمع البيان : ج 2 ص 336 ( طبع بيروت ).

4 - كتابه إلى يهود خيبر :

كتب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى يهود خيبر بكتاب جاء فيه :

بسم اللّه الرحمن الرحيم من محمد رسول اللّه صاحب موسى وأخيه والمصدّق لما جاء به موسى على أنّ اللّه قد قال لكم يا معشر أهل التوراة ، وأنّكم لتجدون ذلك في كتابكم : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) .

وإنّي انشدكم باللّه ، وانشدكم بما أنزل عليكم وانشدكم بالذي أطعم من كان قبلكم من أسباطكم المنّ والسلوى ، وانشدكم بالذي أيبس البحر لآبائكم حتى أنجاهم من فرعون وعمله إلاّ أخبرتموني : هل تجدون فيما أنزل اللّه عليكم أن تؤمنوا بمحمد ؟ فإن كنتم لا تجدوني ذلك في كتابكم فلا كره عليكم ( قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) فأدعوكم إلى اللّه والى نبيّه (1).

5 - إنكار أخذ الميثاق منهم :

إنّ أحد أحبار اليهود قال لرسول اللّه : يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل اللّه عليك من آية بيّنة فنتّبعك لها ، وقد كانوا ينكرون العهد الذي أخذه الأنبياء عليهم أن يؤمنوا بالنبيّ الاُمّي ، فأنزل اللّه سبحانه في ردّهم : ( وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ * أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ( البقرة / 99 و 100 ).

ص: 259


1- السيرة النبويّة : ج 1 ص 544 - 545.

ولفظة « كلّما » تفيد التكرّر فيقتضي تكرّر النقض منهم (1).

6 - الإقتراحات التعجيزيّة :

وقد كان اليهود قد تقدّموا بإقتراحات تعجيزيّة على غرار ما بدر من المشركين فقد سألت العرب محمداً صلی اللّه علیه و آله أن يأتيهم باللّه فيروه جهرة ، فنزل قوله سبحانه : ( أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ) ( البقرة / 108 ).

وقال رافع بن حريملة لرسول اللّه : يا محمد إن كنت رسولاً من اللّه كما تقول فقل لله فيكلّمنا حتى نسمع كلامه ، فنزل قوله سبحانه : ( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (2).

7 - تنازع اليهود والنصارى عند الرسول صلی اللّه علیه و آله

لمّا قدم أهل نجران من النصارى على رسول صلی اللّه علیه و آله أتتهم أحبار اليهود فتنازعوا عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فقال رافع بن حريملة : ما أنتم على شيء ، وكفر بعيسى وبالإنجيل ، فقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود : ما أنتم على شيء ، وجحد نبوّة موسى وكفر بالتوراة ، فأنزل اللّه في ذلك قولهم :

( وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ( البقرة / 113 ).

ص: 260


1- مجمع البيان : ج 1 ص 327.
2- السيرة النبوية : ج 1 ص 549.

فقوله سبحانه ( وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ) إشارة إلى أنّ كلاّ من الفريقين يتلو في كتابه تصديق ما كفر به ، أي كفر اليهود بعيسى بن مريم وعندهم التوراة فيما أخذ اللّه عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى ، وفي الإنجيل ما جاء به عيسى علیه السلام من تصديق موسى علیه السلام وما جاء به من التوراة من عند اللّه وكل يكفر بما في يد صاحبه.

وقوله سبحانه : ( كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ) إشارة إلى أنّ مشركي العرب الذّين هم جهّال وليس لهم كتاب ، هكذا قالوا لمحمد صلی اللّه علیه و آله وأصحابه : إنّهم ليسوا على شيء من الدين مثل ما قالت اليهود والنصارى بعضهم لبعض (1).

وربمّا بلغ تجاسرهم بساحة النبي صلی اللّه علیه و آله ، فطلبوا منه أن يقتدي بإحدى الشريعتين ، قال ابن عباس : إنّ جماعة من اليهود ونصارى نجران ذمّوا أهل الإسلام ، كل فرقة تزعم أنّها أحق بدين اللّه من غيرها ، فقالت اليهود : نبيّنا موسى أفضل الأنبياء وكتابنا التوراة أفضل الكتب ، وقالت النصارى : نبيّنا عيسى أفضل الأنبياء وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب وكل فريق منهما قالوا للمؤمنين كونوا على ديننا ، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية ، وقيل : إنّ ابن صوريا قال لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ما الهدى إلاّ ما نحن عليه فاتّبعنا تهتدِ ، وقالت النصارى مثل ذلك ، فأنزل اللّه هذه الآية. ( وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ) .

فرّد اللّه عليهم بقوله : ( بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( البقرة / 135 ).

8 - التشبّث بالكلمات المتشابهة :

كان اليهود لا يألون جهداً في إثارة القلاقل والفتن والإستهزاء بالنبيّ إلى حدّ

ص: 261


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 549 ، ومجمع البيان : ج 1 ص 359.

يصرّون على إستعمال الكلمات المشتركة بين المعنى الحسن والمعنى القبيح.

فعلى سبيل المثال عندما كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يتحدّث ، كان المسلمون يطلبون منه التأنّي في التحدّث فيقولون « راعنا » بمعنى أمهلنا مشتق من مادّة « رعى » ، فحرّفت اليهود هذه اللفظة ، فقالوا يا محمد راعنا ، وهم يلحدون إلى الرعونة يريدون به النقيصة والوقيعة ومعناه « حمّقنا » ، ولأجل ذلك وافى الوحي وأمر أن يتركوا هذه الكلمة ويستعملوا مكانه « انظرنا » قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ( البقرة / 104 ).

وقال العلاّمة الطباطبائي في الآية نهي شديد عن قول « راعنا » وهذه الكلمة ذكرتها آية اُخرى وبيّنت معناها في الجملة وهي قوله تعالى : ( مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ ) ( النساء / 46 ).

ومنه يعلم أنّ اليهود كانوا يريدون بقولهم للنبيّ صلی اللّه علیه و آله راعنا نحواً من معنى قوله : ( اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ) ، ولذلك ورد النهي عن خطاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بذلك وحينئذ ينطبق على ما نقل : إنّ المسلمين كانوا يخاطبون النبيّ صلی اللّه علیه و آله بذلك إذا ألقى إليهم كلاماً يقولون « رَاعِنَا يَا رَسُولَ اللّه » يريدون أمهلنا وانظرنا حتّى نفهم ما تقول ، وكانت اللفظة تفيد في لغة اليهود معنى الشتم ، فاغتنم اليهود ذلك فكانوا يخاطبون النبيّ صلی اللّه علیه و آله بذلك يظهرون التأدّب معه وهم يريدون الشتم ، ومعناه عندهم : اسمع لا أسمعت ، فنزل : ( مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا ... ) ونهى اللّه المؤمنين عن الكلمة وأمرهم أن يقولوا ما في معناه وهو : انظرنا ، فقال : ( لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا ) (1).

ص: 262


1- الميزان : ج 1 ص 248.

9 - كتمان الحقائق :

سأل معاذ بن جبل ، وسعد بن معاذ ، وخارجة بن زيد ، نفراً من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة ، فكتموهم وأبوا أن يخبروهم عنه ، فأنزل اللّه تعالى فيهم : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ) ( البقرة / 159 ) (1).

ولو أنّ أحبار اليهود مثل كعب بن الأشرف وكعب بن أسد وابن صوريا وغيرهم من علماء النصارى بيّنوا للناس ما ورد في التوراة والإنجيل من أوصافه صلی اللّه علیه و آله لعمّ الإسلام شرق العالم وغربه ويا للأسف رجّحوا الإحتفاظ بمناصبهم على ثواب الآخرة.

10 - النبيّ الأكرم وبيت المدارس :

دخل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بيت المدارس (2) على جماعة من اليهود فدعاهم إلى اللّه ، فقال لهم النعمان بن عمرو والحارث بن زيد : على أي دين أنت يا محمد ؟ قال على ملّة إبراهيم ودينه ، قال : فإنّ إبراهيم كان يهوديّاً. فقال لهما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : فهلمّا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم. فأبيا عليه ، فأنزل اللّه تعالى فيهما : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) ( آل عمران / 23 و 24 ).

وقد رووا أنّ أحبار اليهود ونصارى نجران إجتمعوا عند رسول اللّه ، فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلاّ يهوديّاً ، وقالت النصارى من أهل نجران : ما كان إبراهيم

ص: 263


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 551.
2- بيت المدارس : هو بيت اليهود يتدارسون فيه كتابهم.

إلاّ نصرانيّاً ، فأنزل اللّه عزّ وجلّ فيهم : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ * هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللّهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / 65 - 68 ) (1).

إنّ ادّعاءهم بأنّ إبراهيم علیه السلام كان يهوديّاً أو نصرانيّاً نابع عن جهلهم المطبق بحياة إبراهيم ، فكيف يكون إبراهيم يهوديّاً أو نصرانيّاً وهو والد إسحاق الّذي هو والد يعقوب المعروف بيهودا فما ظنّك بكونه نصرانيّاً ؟

11 - الإيمان غدوة والكفر عشيّة :

لمّا رأت اليهود أنّ الإسلام ينتشر شيئاً فشيئاً فحاولوا تشويه سمعته بالتظاهر بالإنتماء إلى الإسلام صباحاً والخروج عنه عشيّة حتّى يلبسوا على المسلمين دينهم ويصيروا مثلهم ، فقال جماعة منهم : تعالوا نؤمن بما اُنزل على محمد وأصحابه غدوة ونكفر به عشيّة حتّى نلبس عليهم دينهم لعلّهم يصنعون كما نصنع ويرجعون عن دينه ، فأنزل اللّه تعالى فيهم : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( آل عمران / 71 - 73 ).

12 - إتّهام النبيّ بأنّه يُؤَلِّهُ نفسه :

اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول اللّه ( صلى اللّه

ص: 264


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 553.

عليه وآله وسلم ) فدعاهم إلى الإسلام ، فقالوا : أتريد منّا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم ؟ وقال رجل من أهل نجران : أو ذاك تريد منّا يا محمد ؟ وإليه تدعونا ؟ فقال رسول اللّه : معاذ اللّه أن أعبد غير اللّه أو آمر بعبادة غيره فما بذلك بعثني اللّه ولا أمرني. فأنزل اللّه تعالى في ذلك من قولهما : ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ) ( آل عمران / 79 و 80 ).

ومحصّل ما يستفاد من الآية إنّ البشر الذي آتاه اللّه تعالى الكتاب والحكم والنبوّة كائناً من كان - عيسى كان اُم محمد - إنّما يدعوكم إلى التلبّس بالإيمان واليقين بما في الكتاب الذي تعلّمونه وتدرسونه من اُصول المعارف الإلهيّة والإتّصاف بالملكات والأخلاق الفاضلة التي يشتمل عليها والعمل بالصالحات حتى تنقطعوا بذلك إلى ربّكم وتكونوا به علماء ربّانيين.

ثمّ إنّ الربّاني منسوب إلى الرب ، زيد عليه الألف والنون للدلالة على التفخيم كما يقال « لحياني » لكثير اللحية ونحو ذلك ، فمعنى الربّاني شديد الإختصاص بالرب وكثير الإشتغال بعبوديّته وعبادته (1).

13 - سعيهم للوقيعة بين الأنصار :

نزل النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله مدينة يثرب فوجد الأوس والخزرج في شقاق ، فآخى بينهما وجعل الجميع صفّاً واحداً في وجه اليهود ، فشقّ ذلك على الكافرين فحاولوا جاهدين أن يشقّوا عرى وحدتهم بوسائل مختلفة ، فمرّ شاس بن قيس - وكان شيخاً عظيم الكفر ، شديد الضغن على المسلمين ، شديد

ص: 265


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 554 ، الميزان : ج 3 ص 276.

الحسد عليهم - على نفر من أصحاب رسول اللّه من الأوس والخزرج ، في مجلس قد جمعهم يتحدّثون فيه فغاظه ما رأى من ألفهم وجماعتهم ، وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية ، وقال : قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذا البلاد ، لا واللّه ما لنا معهم إذا إجتمع ملؤهم بها من قرار ، فأمر فتىً شابّاً من اليهود كان معهم ، فقال : أعمد إليهم ، فاجلس معهم ثمّ اذكر يوم بعاث وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقوّلوا فيه من الأشعار ، ففعل ذلك الشاب ، فتكلّم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيّين ... فبلغ ذلك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم فقال : يا معشر المسلمين ! اللّه اللّه ! أبدعوى الجاهلية ، وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم اللّه للإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، واستنقذكم به من الكفر ، وألّف به بين قلوبكم ، فعرف القوم أنّها نزعة من الشيطان وكيد من عدوّهم فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً ثمّ انصرفوا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سامعين مطيعين قد أطفأ اللّه عنهم كيد عدوّ اللّه شاس بن قيس ، فأنزل اللّه تعالى في شاس بن قيس وما صنع : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ( آل عمران / 98 و 99 ) (1).

14 - الحط من شأن مَنْ آمن من اليهود :

قد سبق وأن عرفت أنّ اليهود كانوا - وما زالوا - أكثر تعصّباً لقوميتهم ودينهم ولأجل ذلك لم يدخل منهم في الإسلام إلاّ الأقل القليل مثل عبد اللّه بن سلام ، وثعلبة بن سعية ، وأسيد بن سعية ، وأسد بن عبيد ومن أسلم من اليهود معهم ، فخاف الملأ من اليهود أن يدخل الإسلام في سائر البيوت ، فنشروا بينهم : ما آمن بمحمد ولا اتّبعه إلاّ شرارنا ولو كانوا من أخيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره ،

ص: 266


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 556.

فأنزل اللّه تعالى في ذلك : ( لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ) ( آل عمران / 113 ).

15 - دعوة المسلمين إلى البخل :

كان الإسلام ينتشر صيته في الربوع والآفاق بفضل ما كان يمتلكه من مبادئ سامية وقيم مثالية وإيثار معتنقيه النفس والنفيس ، فشق ذلك على اليهود فحاولوا خداع المسلمين حتّى يصدّوهم عن البذل في سبيل نصرة الدعوة المحمدية وخوّفوهم بحلول القحط.

قال ابن هشام : كان رجال من اليهود يأتون رجالاً من الأنصار يخالطونهم ينتصحون لهم من أصحاب رسول اللّه ، فيقولون لهم : لا تنفقوا أموالكم فإنّنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها ولا تسارعوا في النفقة فإنّكم لا تدرون على ما يكون ، فأنزل اللّه فيهم : ( الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ) ( النساء / 37 ).

16 - تفضيلهم الوثنية على الإسلام :

كانت فكرة تأليب العرب هي الفكرة التي إختمرت في نفوس يهود المدينة خصوصاً بعد غزوة بدر واحد ، فخرجوا من المدينة نازلين بمكة ، فقالت قريش لليهود : يا معشر اليهود إنّكم أهل الكتاب الأوّل وأهل العلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد أفَديننا خير أم دينه ؟ قالت اليهود : بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه ، فنزل القرآن ردّاً عليهم بقوله : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ) ( النساء / 51 و 52 ).

وفي موقف اليهود هذا من قريش وتفضيلهم وثنيّتهم على توحيد

ص: 267

محمد صلی اللّه علیه و آله يقول الدكتور إسرائيل ولفنسون في كتابه ( تاريخ اليهود في بلاد العرب ) :

« كان من واجب هؤلاء ألاّ يتورّطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش وألاّ يصرّحوا أمام زعماء قريش بأنّ عبادة الأصنام أفضل من التوحيد الإسلامي ولو أدّى بهم الأمر إلى عدم إجابة مطالبهم لأنّ بني إسرائيل الّذين كانوا مدّة قرون حاملي راية التوحيد في العالم بين الاُمم الوثنية بإسم الآباء الأقدمين والذين نكبوا بنكبات لا تحصى من تقتيل واضطهاد بسبب إيمانهم باله واحد في عصور شتّى من الأدوار التاريخية ، كان من واجبهم أن يضحّوا بحياتهم وكل عزيز لديهم في سبيل أن يخذلوا المشركين ، هذا فضلاً عن أنّهم بإلتجائهم إلى عبدة الأصنام إنّما كانوا يحاربون أنفسهم ويناقضون تعاليم التوراة التي توصيهم بالنفور من أصحاب الأصنام وبالوقوف منهم موقف الخصومة » (1).

17 - إدّعاؤهم أنّهم أحبّاء اللّه وأصفياؤه :

أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جماعة من اليهود فكلّموه وكلّمهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ودعاهم إلى اللّه وحذّرهم نقمته ، فأنزل اللّه تعالى فيهم : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ المَصِيرُ ) ( المائدة / 18 ).

18 - إنكارهم نزول كتاب بعد موسى :

دعا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اليهود إلى الإسلام ورغّبهم فيه ، وحذّرهم غِيرَ اللّه وعقوبته ، فأبوا عليه وكفروا بما جاءهم به ، فقال لهم معاذ بن

ص: 268


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 562 ، حياة محمد صلی اللّه علیه و آله لهيكل ، ص 328 - 329.

جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب : يا معشر اليهود إتّقو اللّه فواللّه إنّكم لتعلمون أنّه رسول اللّه ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته ، فقال بعضهم : ما قلنا لكم هذا قط وما أنزل اللّه من كتاب بعد موسى ولا أرسل بشيراً ولا نذيراً بعده ، فأنزل اللّه تعالى في ذلك من قولهما :

( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( المائدة / 19 ) (1).

19 - رجوعهم إلى النبيّ في حكم الرجم :

إنّ أحبار اليهود إجتمعوا في بيت المدارس ، حين قدم رسول اللّه المدينة وقد زنى رجل منهم بعد إحصانه بامرأة من اليهود قد أحصنت ، فقالوا : إبعثوا بهذا الرّجل وهذه المرأة إلى محمد فسلوه كيف الحكم فيهما ، وولّوه الحكم عليهما فإن عمل فيهما بعمل من التجْبية فاتّبعوه (2) فإنّما هو ملك وصدّقوه ، وإن هو حكم فيهما بالرجم فإنّه نبي فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكموه ، فأتوه فقالوا : يا محمد ! هذا رجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت فاحكم فيهما ، فقد ولّيناك الحكم فيهما ، فمشى رسول اللّه حتّى أتى أحبارهم في بيت المدارس ، فقال : يا معشر اليهود ! أخرجوا إليّ علماؤكم ، فاُخرج له عبد اللّه بن صوريا وغيره ، فقالوا : هؤلاء علماؤنا ، وقالوا : إنّ عبد اللّه ابن صوريا أعلم من بقى بالتوراة ، فخلي به رسول اللّه وكان غلاماً شابّاً من أحدثهم سنّاً ، فألحّ رسول اللّه عليه المسألة وقال له : أنشدك اللّه واُذكّرك بأيّامه عند بني إسرائيل ، هل تعلم أنّ اللّه حكم في من زنى بعد إحصانه بالرجم في التوراة ؟

ص: 269


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 563 - 564.
2- الجلد بحبل من ليف مطلي بقار ثمّ تسوّد وجوههما ، ثمّ يحملان على حمارين وتجعل وجوهها من قبل ادبار الحمارين.

قال : اللّهم نعم ! أما واللّه يا أبا القاسم إنّه ليعرفونك أنّك لنبيّ مرسل ولكنّهم يحسدونك ، فخرج رسول اللّه فأمر بهما فرجما في باب مسجده ، ثمّ كفر بعد ذلك ابن صوريا وجحد نبوّة رسول اللّه ، فأنزل اللّه سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( المائدة / 41 و 42 ).

ونقل ابن هشام عن ابن إسحاق : إنّه لما حكّموا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فيهما ، دعاهم بالتوراة وجلس حبر منهم يتلوها وقد وضع يده على آية الرجم ، فضرب عبد اللّه بن سلام يد الحبر ثمّ قال : هذه يا نبيّ اللّه آية الرجم يأبى أن يتلوها عليك ، فقال لهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ويحكم يا معشر يهود ! ما دعاكم إلى ترك حكم اللّه وهو بأيديكم ؟ قال : « فقالوا أما واللّه أنّه قد كان فينا يعمل به ، حتّى زنى رجل منّا بعد إحصانه من بيوت الملوك وأهل الشرف فمنعه الملك من الرّجم ثمّ زنى رجل بعده فأراد أن يرجمه فقالوا : لا واللّه حتّى ترجم فلاناً ! فلمّا قالوا له ذلك إجتمعوا فأصلحوا أمرهم على التجبية وأماتوا ذكر الرجم ، والعمل به ». قال : فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : فأنا أوّل من أحيا أمر اللّه وكتابه وعمل به ، ثمّ أمر بهما فرجما عند باب مسجده ، قال عبد اللّه بن عمر : فكنت فيمن رجمهما (1).

ص: 270


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 566.

20 - ظلمهم في الديّة :

كانت قبيلة بني النضير يؤدّون الديّة كاملة وبنو قريظة كانوا يؤدّون نصف الدية فتحاكموا في ذلك إلى رسول اللّه ، فنزل قوله سبحانه : ( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( المائدة / 42 ).

فحملهم رسول اللّه على الحق ذلك وجعل الديّة سواء.

21 - قصدهم الفتنة برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

قال جماعة من اليهود : اذهبوا بنا إلى محمد لعلّنا نفتنه عن دينه فإنّما هو بشر ، فأتوه فقالوا له : « يا محمد إنّك قد عرفت انّا أحبار اليهود وأشرافهم وسادتهم وإنّا إن إتّبعناك إتّبعتك اليهود ولم يخالفنا وإنّ بيننا وبين بعض قومنا خصومة أفنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونؤمن بك ونصدّقك ؟ » فأبى ذلك رسول اللّه ، فأنزل اللّه فيهم : ( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) ( المائدة / 49 و 50 ).

22 - إنكار نبوّة المسيح :

مناصبة اليهود العداء للمسيحيين لها جذور متأصّلة في التاريخ فمذ أعلن المسيح بنبوّته ورسالته قامت اليهود في وجهه وأنكروا رسالته ، يقول سبحانه : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) ( الصف / 6 ).

نعم نرى اليوم تحالف اليهود مع المسيحيين لضمان المصالح المشتركة التي

ص: 271

على رأسها وأهمّها القضاء على الإسلام وإبعاده عن المجتمع والحياة ، ولأجل ذلك نرى أنّ البابا قام مؤخّراً بزيارة الكنيست اليهودي في روما وأعلن خلال زيارته له براءة اليهود من دم المسيح من أجل توحيد الصف ودعم الجهود الكفيلة بالقضاء على المسلمين ودينهم ، ولكنّهم في الواقع والحقيقة لا زالوا يكنوّن نفس العداء التاريخي المتأصّل في نفوسهم.

روي أنّ نفراً من اليهود أتوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فسألوه عمّن يؤمن به من الرّسل ؟ فقال : اُؤمن باللّه ، فعند ذاك جحدوا نبوّة المسيح وقالوا واللّه ما نعلم أهل دين قطّ أخطأ في الدّنيا والآخرة منكم ولا ديناً شرّاً من دينكم ، فأنزل اللّه : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ) ( المائدة / 59 ) (1).

23 - إشراكهم باللّه عزّ وجلّ :

إنّ العصبية العمياء ربّما تبلغ بالإنسان حدّاً ينكر ما كان يدين به هو وقومه طيلة قرون إنصرمت ، فهؤلاء اليهود المعاصرون كانوا يفتخرون ويتمجّدون بدين التوحيد ، وأنّهم ضحّوا في سبيله نفسهم ونفيسهم ، ولكنّهم لمّا رأوا أنّ النبيّ الأكرم يدعو إلى هذا المبدأ ، ويتّخد منه الحجر الأساس لدعوته ، عادوا ينكرونه ويروّجون الشرك تشفّياً لغيظهم وحنقهم.

أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جماعة من اليهود فقالوا له : يا محمد أما تعلم مع اللّه إله غيره ؟ فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « اللّه لا إله إلاّ هو بذلك بعثت وإلى ذلك أدعوا » ، فأنزل اللّه فيهم وفي قولهم : ( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي

ص: 272


1- السيرة الحلبية : ج 1 ص 567 ، مجمع البيان : ج 3 ص 329 ( طبع بيروت ).

بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ) ( الأنعام / 19 ) (1).

24 - سؤالهم عن محين الساعة :

تعلّقت مشيئته الحكيمة بكتمان وقت الساعة ، قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) ( لقمان / 34 ) ، ومع ذلك جاء جماعة من اليهود قالوا : أخبرنا متى تقوم الساعة إن كنت نبيّاً ، فنزل قوله سبحانه : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ( الأعراف / 187 ).

ولم يكن هذا السؤال إلاّ تعنّتاً وعناداً لأنّهم هم الذين ذكروا لقريش : إسألوا محمداً عن وقت الساعة فإن خوّل علمها إلى اللّه سبحانه فاعلموا أنّه نبي ... (2).

هذه نماذج من مناظراتهم ومشاغباتهم التي تنم عن مبلغ لجاجهم وعنادهم وممّا يصوّر لك طبيعتهم.

25 - تهجّمهم على ذات اللّه عزّو جل :

أتى رهط من اليهود إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقالوا : يا محمّد هذا اللّه خلق الخلق ، فمن خلق اللّه ؟ فغضب رسول اللّه حتّى انتقع لونه ثمّ ساورهم (3) غضباً لربّه ، فجاءه جبرئيل علیه السلام فسكّنه فقال : خفّض عليك يا محمد وجاءه عن اللّه بجواب ما سألوه عنه : ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ * اللّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) .

ص: 273


1- السيرة النبويّة : ج 1 ص 568.
2- قد ذكرنا تفصيل القصّة في ص 199 - 201.
3- ساورهم : واثبهم وباطشهم.

فلمّا تلاها عليهم ، قالوا : فصف لنا يا محمد كيف خلقه ( اللّه ) ، كيف ذراعه ، كيف عضده ؟ فغضب رسول اللّه أشدّ من غضبه الأوّل وساورهم ، فأتى جبرئيل فقال له مثل ما قال له أوّل مرّة ، وجاءه من اللّه تعالى بجواب ما سألوه يقول اللّه تعالى : ( وَمَا قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( الزمر / 67 ).

26 - طلبهم كتاباً من السماء :

إنّ اليهود كانت جاهلة بحكمة نزول القرآن تدريجيّاً وقد ورد النص بها في غير واحد من الآيات ، قال سبحانه : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ) ( الفرقان / 32 ).

إنّ في نزول القرآن تدريجيّاً منجّماً حسب الوقائع والأحداث لدلالة واضحة على أنّه وحي إلهي ينزل شيئاً فشيئاً حسب الحاجات وليس شيئاً متعلّماً عن ذي قبل من إنس أو جن ، ولكن جهل اليهود بحكمته دعاهم إلى أن يطلبوا عن رسول اللّه نزول القرآن جملة واحدة من السماء حتّى يروا باُمّ أعينهم أنّه كتاب سماوي اُنزل من عند اللّه سبحانه وهم يضاهئون في هذا الإقتراح قول المشركين في مكّة (1).

أتى جماعة من اليهود رسول اللّه ، فقالوا : يا محمد ! إنّ هذا الذي جئت به لحقّ من عند اللّه فإنّا لا نراه متّسقاً كما تتّسق التوراة ؟ فقال لهم رسول اللّه : أما واللّه لأنّكم لتعرفون أنّه من عند اللّه تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة ولو إجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثله ما جاءوا به ، فقالوا : يا محمّد أما يعلّمك هذا إنس ولا جن ؟ فقال لهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أما واللّه إنّكم تعلمون أنّه من عند اللّه وإنّي لرسول اللّه تجدون ذلك مكتوباً عندكم في التوراة ، فقالوا : يا محمد فإنّ اللّه يصنع لرسول إذا بعثه ما يشاء ويقدر منه على ما أراد ، فأنزل علينا كتاباً من السماء

ص: 274


1- الإسراء / 93 ، وقد مضى تفسيرها.

نقرؤه ونعرفه وإلاّ جئناك بمثل ما تأتي به ، فأنزل اللّه تعالى فيهم وفيما قالوا : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) ( الإسراء / 88 ).

27 - تحويل القبلة إلى الكعبة :

كان النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله يصلّي إلى بيت المقدس في المدينة المنوّرة إلى سبعة عشر شهراً (1) من الهجرة ، وكانت اليهود تعيّر المسلمين على تبعيّة قبلتهم ويتفاخرون بذلك عليهم ، فحزن رسول اللّه ذلك فخرج في سواد الليل يقلّب وجهه في السماء ينتظر الوحي من اللّه سبحانه وكشف همّه ، فنزل الوحي بقبلة جديدة ، فقطع تعييرهم وتفاخرهم ، قال سبحانه : ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ) ( البقرة / 144 ).

وروى الصدوق أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله صلّى إلى بيت المقدس ثلاث عشرة سنة وتسعة عشر شهراً بالمدينة ثمّ عيّرته اليهود ، فقالوا : إنّك تابع قبلتنا فاغتمّ لذلك غمّا شديداً ، فلمّا كان في بعض الليل خرج يقلّب وجهه في آفاق السماء فلمّا أصبح صلّى الغداة فلمّا صلّى من الظهر ركعتين جاء جبرئيل فقال له : ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ ... ) ثمّ أخذ بيد النبي فحوّل وجهه إلى الكعبة وحوّل من خلفه وجوههم حتى قام الرجال مقام النساء والنساء مقام الرجال ، فكان أوّل صلاته إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة ، فبلغ الخبر مسجداً بالمدينة وقد صلّى أهله من العصر ركعتين فحوّلوا نحو القبلة ، فكان أوّل صلاتهم إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة فسمّي

ص: 275


1- وفي رواية الفقية كما سيوافيك تسعة عشر شهراً.

ذلك المسجد مسجد القبلتين (1).

وقد أثار هذا الأمر أسئلة واعتراضات من جانب اليهود بل المؤمنين أنفسهم وجاء الذكر الحكيم مجيباً عنها بما يلي :

1 - أتى جماعة من اليهود مثل رفاعة بن قيس وكعب بن الأشرف وغيرهما فقالوا : يا محمد ما ولاّك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنّك على ملّة إبراهيم ودينه أرجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتّبعك ونصدّقك. وإنّما يريدون بذلك فتنته عن دينه ، وهذا هو الإعتراض الذي يتناوله الوحي مشفوعاً بالجواب : ( سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ) وبعبارة اُخرى إنّ التحوّل كان بأمر من اللّه فكيف يأمر به مع انّه هو الذي جعل بيت المقدس قبلة فكيف ينقض حكمه وينسخ ما شرعه ( واليهود من القائلين بامتناع النسخ ) وإن كان بغير أمر اللّه فهو إنحراف عن الصراط المستقيم.

وأمّا الجواب فهو إنّ جعل بيت من البيوت أو بناء من الأبنية قبلة ليس لاقتضاء ذاتي فيه يستحيل التعدّي عنه ، بل جميع الأجسام والأبنية بل جميع الجهات من الشرق والغرب إليه سبحانه على السواء يحكم فيها ما يشاء وكيف يشاء ومتى شاء ، وانّ الإعتراض نابع من قلّة عقلهم أو عدم إستقامته في درك حقيقة التشريع.

وإلى هذا الجواب يشير قوله سبحانه : ( قُل للهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( البقرة / 142 ).

2 - لمّا كان المقدّر أن تكون الكعبة هي القبلة الأخيرة فما هو السبب في جعل بيت المقدس قبلة اُولى للمسلمين ؟

والجواب : إنّ المصالح كانت تقتضي أن يصلّي المسلمون إلى القبلة الاُولى في مكّة والمدينة في أوائل البعثة وأوائل الهجرة وذلك لأنّ النبي صلی اللّه علیه و آله في مكّة المكرمة وبعد الهجرة بقليل كان مبتلى بالمشركين الذين

ص: 276


1- من لا يحضره الفقيه ج 1 ص 178 ج 3.

لا يصلّون لله سبحانه ولا يعبدونه وإنّما يعبدون الأوثان والأصنام ، فعندئذٍ أمر النبي بالصلاة إلى بيت المقدس ( الذي كان الموحّدون من اليهود والنصارى يصلّون إليه ) حتّى يتميّز الموحّدون عن المشركين ويكون ذلك سمة التوحيد وعلامته ، فكانت الصلاة إلى بيت المقدس وسيلة لتميّز الموّحدين عن المشركين.

ولمّا كانت العرب شديدة الاُلفة بمكّة وقبلتها فأحبّ اللّه تعالى أن يمتحن القوم بغير ما ألفوا ليميّز من يتّبع الرسول عمّن ينقلب على عقبيه.

ولأجل هذين الوجهين ( تميّز الموحّدون عن المشركين وامتحان من يتّبع الرسول ممّن ينقلب على عقبيه من العرب الآلفة بمكّة وقبلتها ) أمر المسلمون بالصلاة إلى بيت المقدس مؤقّتاً وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ ) ( البقرة / 143 ).

ولعلّ قوله : ( لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ) إشارة إلى الوجه الأوّل.

كما أنّ قوله : ( وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ ) إشارة إلى الوجه الثاني وهو اختبار من يخالف العادة والاُلفة لأجل إمتثال أمر الرسول ، فإنّ مخالفة العادات والتقاليد كبيرة إلاّ على الذين هدى اللّه.

والحاصل إنّ جعل بيت المقدس قبلة لأجل تمحيص المؤمنين من غيرهم وتميّز المطيعين من العاصين والمنقادين من المتمرّدين.

وأمّا العدول عن بيت المقدس إلى الكعبة فقد عرفت أنّه ليس لمكان أو بيتٍ شرفٌ ذاتي بل الحكم يدور مدار المصلحة ، فصارت المصالح مقتضية بأن يتميّز المسلمون من اليهود بتفكيك قبلتهم التي كانوا يصلّون إليها عن قبلة اليهود ، ويميّز المنافق المتظاهر بالإسلام من اليهود عن المؤمن المنقاد الواقعي ، ولأجل ذلك حوّلت القبلة إلى الكعبة.

3 - ما حكم الصلوات التي كان المسلمون قد أدّوها إلى بيت المقدس ؟

ص: 277

والجواب : إنّ القبلة قبلة ما لم تنسخ وإنّ اللّه سبحانه إذا نسخ حكماً نسخه من حين النسخ لا من أصله لرأفته ورحمته بالمؤمنين ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة / 143 ).

وأمّا الإقتراح الذي تقدّمت به اليهود إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله من رجوعه إلى القبلة السابقة حتّى يتّبعوه ويصدّقوه فإنّما هو وعد مكذوب لا يتّبعون قبلته إلى آخر الدهر ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ) ( البقرة / 145 ).

والمراد من الإيمان في الآية في قوله : ( مَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ) هو العمل. قال ابن عباس : قالوا كيف بمن مات من إخواننا قبل ذلك ؟ وكان قد مات أسعد بن زرارة والبراء بن معرور وكانا من النقباء.

وبذلك يعلم أنّ ما ذكره سبحانه قبل هذه الآيات من قصّة إبراهيم وأنواع كرامته وكرامة ابنه إسماعيل ودعوتهما للكعبة ومكّة وللنبيّ والاُمّة المسلمة وبنائهما البيت والأمر بتطهيره للعبادة ، كل ذلك تمهيد لحادثة تغيير القبلة واتّخاذ الكعبة قبلة ، فإنّ تحويل القبلة من أعظم الحوادث الدينية وأهم التشريعات التي قوبل بها الناس بعد هجرة النبيّ إلى المدينة. فكانت محتاجة إلى ترويض النفوس لقبولها.

28 - مباهلة النبيّ نصارى نجران :

اشارة

28 - مباهلة النبيّ نصارى نجران : (1)

لمّا كتب رسول اللّه إلى ملوك العرب والعجم رسائلة التبليغية وبعث رسله إلى

ص: 278


1- نجران في مخاليف اليمن من ناحية مكة ، وبها كان خبر الأخدود واليها تنسب كعبة نجران ، وكانت بيعة ، بها أساقفة مقيمون منهم السيّد والعاقب اللّذان جاءا إلى النبي صلی اللّه علیه و آله في أصحابها ودعاهم إلى المباهلة وبقوا بها حتّى أجلاهم عمر. وقال زيني دحلان : نجران بلدة كبيرة واسعة علی سبع مراحل من مكة إلی جهة اليمن تستمل علی ثلاث وسبعين قرية. مراصد الإطلاع في معرفة الأمكنة والبقاع، مادة (نجران).

الأقوام والقبائل ، أرسل عتبة بن غزوان ، وعبد اللّه بن أبي اُميّة وصهيب بن سنان إلى نجران ونواحيه وكتب معهم (1) إلى أساقفة نجران يدعوهم إلى رفض الأقانيم والأنداد والتزام التوحيد وعبادة اللّه تعالى ، وها نحن نسوق إليك نصّ كتابه :

« بسم إله إبراهيم واسحاق ويعقوب ، من محمّد النبيّ رسول اللّه إلى أسقف نجران ، فإنّي أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، أمّا بعد فإنّي أدعوكم إلى عبادة اللّه من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية اللّه من ولاية العباد ، وإن أبيتم فالجزية ، فإن أبيتم آذنتكم بحرب » (2).

ولمّا قرأ الأسقف الكتاب فزع وارتاع وشاور أهل الحجى والرأي منهم ، فقال شرحبيل وكان ذالبّ ورأي بنجران : قد علمت ما وعد اللّه إبراهيم في ذريّة إسماعيل من النبوّة فما يؤمنك أن يكون هذا الرجل ؟ وليس لي في النبوّة رأي لو كان أمر من اُمور الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت لك.

فبعث الأسقف إلى واحد من بعد واحد من أهل نجران فتشاوروا فكثر اللغط وطال الحوار ، فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا وفداً يأتي رسول اللّه فيرجع بخبره.

فأوفدوا إليه ستّين راكباً وفيهم ثلاثة عشر رجلاً من أشرافهم وذوو الرأي والحجى منهم وثلاثة يتولّون أمرهم : العاقب إسمه عبد المسيح ، أمير الوفد الذي لا يصدرون إلاّ عن رأيه ، والسيّد وإسمه الأيهم وهو ثمالهم وصاحب رحلهم ، وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم الأوّل وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم وهو

ص: 279


1- وكان بخط الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام راجع : صبح الاعشى ج 1 ص 65 ( طبع بيروت ).
2- تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 65 ، دلائل النبوّة ج 5 ص 385 ، البداية والنهاية ج 5 ص 53.

الأسقف الأعظم (1).

فجاءوا إلى النبي حتّى دخلوا على رسول اللّه وقت العصر ، فدخلوا المسجد وعليهم ثياب الحبرات (2) وأردية الحرير مختمين بخواتيم الذهب وأظهروا الصليب وأتوا رسول اللّه فسلّموا عليه ، فلم يرد علیهم السلام ولم يكلّمهم ، فانطلقوا يبتغون عثمان بن عفّان وعبد الرحمن بن عوف وكان لهما معرفة بهم فوجدوهما في مجلس من المهاجرين ، فقالوا : إنّ نبيّكم كتب إلينا بكتاب فأقبلنا مجيبين له ، فأتيناه وسلّمنا عليه فلم يردّ سلامنا ولم يكلّمنا. فما الرأي ؟

فقالا لعلي بن أبي طالب : ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم ؟ قال : أرى أن يضعوا حللهم هذه ، وخواتيمهم ثمّ يعودون إليه ، ففعلوا ذلك ، فسلّموا فردّ عليهم سلامهم ، ثمّ قال : والذي بعثني بالحق لقد آتيتموني المرّة الاُولى وإنّ إبليس لمعكم (3).

وكانوا قد أتوا معهم بهديّة وهي بُسط إلى النبيّ فيها تماثيل ومسوح ، فصار الناس ينظرون للتماثيل ، فقال : أمّا هذه البسط فلا حاجة لي فيها ، وأمّا هذه المسوح فإن تعطونيها آخذها ، فقالوا : نعم نعطيكها ، ولمّا رأى فقراء المسلمين ما عليه هؤلاء من الزينة والزيّ الحسن ، تشوّقت نفوسهم ، فنزل قوله سبحانه :

( قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) ( آل عمران / 15 ).

ثمّ أرادوا أن يصلّوا بالمسجد بعد أن حانت وقت صلاتهم ، وذلك بعد العصر فأراد الناس معهم ، فقال النبي : دعوهم ، فاستقبلوا المشرق فصلّوا صلاتهم فلمّا قضوا صلاتهم ناظروه.

ص: 280


1- دلائل النبوّة ج 5 ص 386 ، الدر المنثور ج 2 ص 38 ، وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 66.
2- ثوب من ثياب اليمن.
3- السيرة الحلبية ج 3 ص 239.

فقالوا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إلى ما تدعو ؟ فقال إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وإنّي رسول اللّه وإنّ عيسى عبد مخلوق ، يأكل ويشرب ، ويُحدث ، فقالوا : فمن أبوه ؟ فنزل الوحي على رسول اللّه ، فقال : قل لهم : « ما تقولون في آدم أكان عبداً مخلوقاً يأكل ويشرب ويُحدث وينكح ؟ فسألهم النبيّ ، فقالوا : نعم ، فقل : فمن أبوه ؟ فبهتوا ، فأنزل اللّه :

( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلا تَكُن مِّنَ المُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) ( آل عمران / 59 - 61 ).

الدعوة إلى المباهلة

فلأجل ذلك قال لهم رسول اللّه فباهلوني فإن كنت صادقاً اُنزلت اللّعنة عليكم وإن كنت كاذباً اُنزلت عليّ ، فقالوا : « أنصفت » ، فتواعدوا للمباهلة ، فلمّا رجعوا إلى منازلهم ، قال لهم رؤساؤهم - السيّد والعاقب والأيهم - : إن باهلنا بقومه باهلناه فإنّه ليس نبيّاً ، وإن باهلنا بأهل بيته خاصّة لم نباهله فإنّه لا يقدّم أهل بيته إلاّ وهو صادق ، فلمّا أصبحوا جاءوا إلى رسول اللّه ومعه أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين ، فقال النصارى من هؤلاء ؟ فقيل لهم : هذا ابن عمه وصهره علي بن أبي طالب وهذه ابنته فاطمة وهذان ابناه الحسن والحسين ، ففزعوا ، فقالوا لرسول اللّه : نعطيك الرّضا فاعفنا من المباهلة ، فصالحهم رسول اللّه على الجزية وانصرف (1).

وروى الطبرسي : ولمّا كان الغد جاء النبي صلی اللّه علیه و آله آخذ بيد علي بن أبي طالب والحسن والحسين علیهم السلام بين يديه يمشيان وفاطمة علیهاالسلام تمشي خلفه ، وخرج النصارى يتقدّمهم أسقفهم فلمّا رأى

ص: 281


1- تفسير القمي ج 1 ص 104.

النبي صلی اللّه علیه و آله قد أقبل بمن معه ، سأل عنهم ، فقيل له : هذا ابن عمّه وزوج ابنته وأحبّ الخلق إليه وهذان ابنا بنته من علي علیه السلام وهذه الجارية بنته فاطمة ، أعزّ الناس عليه وأقربهم إلى قلبه ، وتقدّم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فجثا على ركبتيه.

قال أبو الحارثة الأسقف : جثا واللّه كما جثا الأنبياء للمباهلة ، فسكع ولم يقدم على المباهلة ، فقال السيّد : إدن يا أبا حارثة للمباهلة ، فقال : لا ، إنّي لأرى رجلاً جريئاً على المباهلة وأنا أخاف أن يكون صادقاً ولئن كان صادقاً لم يحل واللّه علينا الحول وفي الدنيا نصراني يطعم الماء ، فقال الأسقف : يا أبا القاسم إنّا لا نباهلك ولكن نصالحك فصالحنا على ما ينهض به ، فصالحهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على ألفي حلّة من حلل الأواقي قسمة كل حلّة أربعون درهماً فما زاد ونقص فعلى حساب ذلك ، وعلى عارية ثلاثين درعاً ، وثلاثين رمحاً ، وثلاثين فرساً إن كان باليمن كيد ، ورسول اللّه ضامن حتّى يؤديها وكتب لهم بذلك كتاباً.

وروي أنّ الأسقف قال لهم : إنّي لأرى وجوهاً لو سألوا اللّه أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله ، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة ، وقال النبيّ : والذي نفسي بيده لو لاعنوني لمسخوا قردة وخنازير ، ولاضطرم الوادي عليهم ناراً ، ولما حال الحول على النصارى حتى يهلكوا كلّهم ، قالوا : فلمّا رجع وفد نجران ، لم يلبث السيّد والعاقب إلاّ يسيراً ، حتّى رجعا إلى النبيّ ، وأهدى العاقب له حلّة وعصا وقدحاً ونعلين وأسلما (1).

وهناك كلمة قيّمة للزمخشري يقول فيها :

فإن قلت : ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلاّ لتبيّن الكاذب منه ومن خصمه وذلك أمر يختصّ به وبمن يكاذبه فما معنى ضم الأبناء والنساء ؟

قلت : ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه حيث تجرّأ على

ص: 282


1- مجمع البيان : ج 2 ص 762 و 763 ( طبع بيروت ).

تعريض أعزّته وأفلاذ كبده وأحبّ الناس إليه لذلك ، ولم يقتصر على تعريض نفسه له وعلى ثقته بكذب خصمه حتّى يهلك خصمه مع أحبّته وأعزّته هلاك الإستئصال إن تمّت المباهلة. وخصّ الأبناء والنساء لأنّهم أعزّ الأهل وألصقهم بالقلوب ، وربّما فداهم الرجل بنفسه ، وحارب دونهم حتّى يقتل ، ومن ثمّ كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب ، ويسمّون الذادة عنهم بأرواحهم : « حماة الحقائق » وقدّمهم في الذكر على الأنفس ( في الآية ) لينبّه على لطف مكانهم ، وقرب منزلتهم وليؤذن بأنّهم مقدّمون على الأنفس مفدون بها ، وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء علیهم السلام وفيه برهان واضح على صحّة نبوّة النبيّ لأنّه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنّهم أجابوا إلى ذلك (1).

ومن أمعن فيما ورد من سبب النزول وشرحه في كتب الحديث والتفسير يقف على مكرمة وفضيلة عظيمة لأهل البيت علیهم السلام في تلك الحادثة ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتاب « الكلمة الغرّاء في تفضيل الزهراء » للسيّد شرف الدين ( ص 197 - 203 ).

وهناك نكتة اُخرى نقلها الرازي عن بعض معاصريه من الشيعة ولم يناقش في كلامه مع غرامه بنقض المحكمات وهيامه في التشكيكات والشبهات ، قال :

كان في الري رجل يقال له محمود بن الحسن الحمصي وكان معلّم الإثنى عشرية وكان يزعم أنّ عليّاً رضی اللّه عنه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد صلی اللّه علیه و آله واستدلّ على ذلك بقوله تعالى : ( وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ) إذ ليس المراد بقوله ( وَأَنفُسَنَا ) نفس محمد صلی اللّه علیه و آله لأنّ الإنسان لا يدعو نفسه بل المراد غيرها ، وأجمعوا على أنّ ذلك الغير كان علي بن أبي طالب (رض) فدلّت الآية على أنّ « نفس علي » هي محمد ، ولا يمكن أن يكون المراد إنّ هذه النفس هي عين تلك ، فالمراد إنّ هذه النفس مثل تلك النفس ، وذلك

ص: 283


1- الكشاف : ج 1 ص 327.

يقتضي المساواة في جميع الوجوه ، ترك العمل بهذا العموم في حق النبوّة وفي حق الفضل لقيام الدلائل على أنّ محمداً عليه الصلاة والسلام كان نبيّاً وما كان علي كذلك ولإنعقاد الإجماع على أنّ محمداً صلی اللّه علیه و آله كان أفضل من علي (رض) فبقى فيما وراءه معمولاً به ثمّ الإجماع دلّ على أنّ محمداً صلی اللّه علیه و آله كان أفضل من سائر الأنبياء علیهم السلام فيلزم أن يكون علي أفضل من سائر الأنبياء (1).

29 - الخلفيّة التشريعيّة لحرمة الأشهر الحرم :

ربّما نقرأ في بعض الصحف والكتب أنّ عرب الجاهلية هم الذين حرّموا الحرب في الأشهر الحرم واضفوا عليها مسحة قدسية خاصة ، وذلك لأنّهم كانوا متوغّلين في الحروب والغارات وكان تمادي الظاهرة القبليّة الشاذّة موجباً لفكّ عرى الحياة ، ولأجل ذلك استثنوا هذه الأشهر لتقويم أودهم وضمان أمن طرق التجارة وتيسير أمر زيارة الكعبة.

ولكنّها فكرة خاطئة تخالف ما نستلهمه من القرآن الكريم ، فإنّ الظاهر منه أنّ حرمة الأشهر لها جذور دينية وأنّها جزء من صميم الدين القيّم الذي جاء به إبراهيم علیه السلام إلى اُمّته ، قال سبحانه : ( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ... ) ( التوبة / 36 ).

فإنّ قوله : ( ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) ربّما يشير إلى أنّ اتّصاف الأربعة بالحرم جزء من الدين القيّم وتشريعاته.

وعلى ذلك الأساس فالنبيّ الأكرم أولى بأن يحافظ على حرمتها ويراعي قدسيّتها ، وبذلك يسهل لك القضاء في الحادثة الدموية التي وقعت في مستهلّ

ص: 284


1- تفسير الرّازي ج 8 ص 81 ( طبع بيروت ).

شهر رجب بيد المسلمين وهي التي استغلّتها قريش للتعيير بالنبيّ والإزدراء به ، وأنّه هدم قدسيّة تلك الأشهر وإراقة الدم فيها ، وإليك نصّ القصة :

بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عبد اللّه بن جحش بن رئاب الأسدي في رجب مقفلة من بدر الاُولى وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد ، وكتب لهم كتاباً وأمره أن لا ينظر فيه حتّى يسير يومين ثمّ ينظر فيه ، فيمضي بما أمره به ولا يستكره من أصحابه أحداً.

فلمّا سار عبد اللّه بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فإذا فيه : إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتّى تنزل نخلة بين مكّة والطائف ، فترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم.

فلمّا نظر عبد اللّه بن جحش في الكتاب قال : سمعاً وطاعة ، ثمّ قال : لأصحابه قد أمرني رسول اللّه أن أمضي إلى نخلة أرصد بها قريشاً حتّى آتيه منهم بخبر ، وقد نهاني أن أستكره أحداً منكم فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ومن كره ذلك فليرجع ، فأمّا أنا فماض لأمر رسول اللّه ، فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلّف منهم أحد.

وسلك إلى الحجاز حتّى إذا كان بمعد فوق « الفرع » يقال له بحران أضلّ سعد بن أبي وقّاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما ، كانا يتعاقبانه ، فتخلّفا عليه في طلبه ومضى عبد اللّه بن جحش وبقيّة أصحابه حتّى نزل بنخلة ، فمرّت به عير لقريش تحمل زبيباً وادماً وتجارة من تجارة قريش ، فيها عمرو بن الحضرمي ، فلمّا رآهم القوم (1) هابوهم وقد نزلوا قريباً منهم ، فأشرف لهم عكاشة ابن محصن وكان قد حلق رأسه فلمّا رأوه أمنوا وقالوا : عمّار لا بأس عليكم منهم ، وتشاور القوم فيهم وذلك في آخر يوم من رجب ، فقال القوم : (2) واللّه لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلنّ الحرم

ص: 285


1- المقصود عير قريش.
2- المقصود المسلمون.

فليمتنعنّ منكم به (1) ولئن قتلتموهم لنقتلنّهم في الشهر الحرام ، فتردّد القوم (2) وهابوا الإقدام عليهم ثمّ شجّعوا أنفسهم عليهم وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم وأخذ ما معهم فرمى واقد بن عبد اللّه التيمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله ، واستأسر عثمان بن عبد اللّه والحكم بن كيسان وأفلت القوم (3) نوفل ابن عبد اللّه فأعجزهم وأقبل عبد اللّه بن جحش وأصحابه بالعير وبالأسيرين حتّى قدموا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فلمّا قدموا على رسول اللّه المدينة ، قال : ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام فوقّف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً ، فلمّا قال ذلك رسول اللّه ، سقط في أيدي القوم وظنّوا أنّهم قد هلكوا وعنّفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا ، وقالت قريش : قد إستحلّ محمّد وأصحابه الشهر الحرام فسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال وأسروا فيه الرجال.

وقد توقّع اليهود لأجل هذه الحادثة بالمسلمين الشر ، فلمّا أكثر الناس في ذلك أنزل اللّه على رسوله : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة / 217 و 218 ).

والآية الثانية تحكي عن نزول المغفرة لعبد اللّه بن جحش وأصحابه وذلك لأجل أنّهم كانوا ذوو سابقة حسنة وبلاء محمود كما يشير إليه قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا

ص: 286


1- أي يتحصّنون يالحرم.
2- المقصود هم المسلمون.
3- أي فر من بين أيديهم فلم يتمكنّوا من اللحاق به والقبض عليه.

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ ) .

قال ابن هشام : لمّا تجلّى عن عبد اللّه بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن ( الآية الاُولى ) طمعوا في الأجر ، فقالوا : يا رسول اللّه أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطي فيها أجر المجاهدين ؟ فأنزل اللّه عزّ وجلّ فيهم : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا ... ) .

فلمّا نزل القرآن بهذا وفرّج اللّه تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق قبض رسول اللّه العير والأسيرين. وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد اللّه والحكم بن كيسان ( الأسيرين ) ، فقال رسول اللّه : لا نفديكموهما حتّى يقدم صاحبانا - يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان - فإنّا نخشاكم عليهما فإن تقتلوهما ، نقتل صاحبيكم ، فقدم سعد وعتبة فأفداهما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله منهم.

فأمّا الحكم بن كيسان فأسلم فحسن إسلامه واقام عند رسول اللّه حتّى قتل يوم بئر معونة شهيداً ، وأمّا عثمان بن عبد اللّه فلحق بمكّة حتّى مات بها كافراً.

هذا كلّه راجع إلى حكاية القصّة بجزئيّاتها وأمّا تحليل الحادثة وتوضيح الجواب الذي جاءت به الآية الاُولى فهو بالشكل التالي.

لا شك أنّ عمل عبد اللّه بن جحش لم يكن خاضعاً للضوابط العسكرية ، فإنّ النبي صلی اللّه علیه و آله لم يأمره بالقتال بل أمر بإستطلاع أخبار القوم ونقل أخبارهم إليه ، فقتاله كان عصياناً لأوامر قائده أوّلاً وهتكاً لقداسة الشهر ثانياً ، ولأجل ذلك لمّا جاء إلى النبيّ لم يقبل منه العير والأسيرين وانتظر الوحي الإلهي حتّى وافاه ، وليس من الصحيح أن يؤاخذ الأمير ورئيس القوم بإجرام واحد من قادة عسكره.

وإليه يشير قوله سبحانه : ( قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ) أي إنّ القتال فيه وإن كان صغيراً في نفسه : أمر كبير مستنكر لعظيم حرمته ، ولكن الذي ينبغي إلفات النظر إليه هو أنّ الناقدين أعني قريشاً قد إرتكبوا جريمة أكبر ممّا إرتكبه ذلك القائد

ص: 287

العسكري وذلك :

1 - إنّهم صدّوا الناس عن سبيل اللّه ومنعوهم عن الطريق الموصل إلى اللّه تعالى وهو الإسلام ، حيث كان المشركون يضطهدون المسلمين ويقتلون من يسلم أو يؤذونه في نفسه وأهله وماله فيمنعونه من الهجرة إلى النبي صلی اللّه علیه و آله .

2 - إنّهم كفروا باللّه سبحانه.

3 - إنّهم صدّوا عن المسجد الحرام ومنعوا المؤمنين من الحج والإعتمار.

4 - إنّهم أخرجوا النبيّ صلی اللّه علیه و آله والمهاجرين.

وكلّ هذه أكبر عند اللّه من قتال المسلمين المشركين في الشهر الحرام.

5 - والفتنة أكبر من القتل أي فتنة المسلمين في دينهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم أو بتعذيبهم كما فعلوا بعمّار بن ياسر وبلال وخبّاب بن الأرت وغيرهم ، أكبر من قتل المشركين.

والقتال في الشهر الحرام أهون من الفتنة عن الإسلام لو لم يحفّ بها غيرها من الآثار ، كيف وقد قارنها الصدّ عن سبيل اللّه ، والكفر به ، والصد عن المسجد الحرام وإخراج أهله منه ، فمن وقف على فتنة المشركين لضعفاء المسلمين طيلة ثلاث عشرة سنة واستمرارها بعد هجرته في حقّ المستضعفين القاطنين في مكّة ، يقف على أنّ قتل مشرك وأسر نفرين منهم أهون بكثير ممّا إرتكبوه طوال هذه السنين.

وإلى هذا يشير قوله سبحانه :

( وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ) .

ص: 288

(9) الإشتباك المسلّح مع اليهود بالمدينة :

1 - إجلاء بني قينقاع من المدينة :

قد وقفت فيما سبق على المناظرات والإجتجاجات التي دارت رحاها بين النبيّ واليهود ، واتّضح لك إنّها لم تكن من اليهود بغرض كشف الحقيقة وإنّما كانت مماراة منهم حتّى يشوّهوا الحقيقة على طلاّبها ويضعوا العراقيل في وجه إنتشار الإسلام وتعاظم قدرة المسلمين ، وقد كان النبيّ الأكرم صابراً على إيذائهم ، ولكنّهم لمّا بلغت جرأتهم إلى حدّ هتكوا عرض امرأة مسلمة وقتلوا رجلاً من المسلمين في سوقهم ، قام النبيّ في وجههم فرفض الميثاق الذي عقدوه بينهم وبين النبيّ لأنّهم بأعمالهم الإجرامية نقضوا بنوده ومضامينه فلم يبقوا له حرمة ، ولكن النبيّ الأكرم أخذ كل طائفة من اليهود بجرمها ولم يأخذ جميع طوائف اليهود بجرم واحدة منها.

فأجلى بني قينقاع لأجل ذينك العملين ( هتك حرمة المرأة المسلمة وقتل مسلم ) وأبقى الطائفتين الاُخريين على حالهما ، فلمّا همّ بنو النضير بقتل النبيّ الأكرم ، أجلاهم بمؤامرتهم وأبقى بني قريظة على حالها في المدينة إلى أن إرتكبت الثالثة جريمة كبيرة ، فجازاهم بعملهم حسبما يوافيك بيانه.

وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ النبيّ الأكرم كان يحترم العهود والمواثيق المبرمة بينه وبين سائر الملل والنحل وأنّه لو لم تنقض اليهود عهودها ومواثيقها لما خطا النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله خطوة واحدة في طريق

ص: 289

الحرب ضدّهم ، ولأجل ذلك يجب علينا دراسة العوامل التي حفّزت النبي إلى إتّخاذ موقف حازم وصارم في وجه اليهود القاطنين في المدينة ، وقبل إيضاحها نذكر لك نص الميثاق الذي عقده النبيّ صلی اللّه علیه و آله معهم إبّان نزوله المدينة.

روى القمّي في تفسيره : وجاءته اليهود - قريظة والنضير وقينقاع - فقالوا : يا محمّد إلى ما تدعو ؟ قال : إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وأنّي رسول اللّه وأنّي الذي تجدونني مكتوباً في التوراة والذي أخبركم به علماؤكم أنّ مخرجي بمكة ومهاجري في هذه الحرّة ، وأخبركم عالم منكم جاءكم من الشام فقال : « تركت الخمر والخمير وجئت إلى البؤس والتمور لنبيّ يبعث في هذه الحرّة مخرجه بمكة ومهاجره هاهنا ، وهو آخر الأنبياء وأفضلهم ، يركب الحمار ويلبس الشملة ويجتزي بالكسرة ، في عينيه حمرة وبين كتفيه خاتم النبوّة ، ويضع سيفه على عاتقه لا يبالي من لاقى ، وهو الضحوك القتّال يبلغ سلطانه منقطع الخف والحافر » فقالوا له : قدسمعنا ما تقول وقد جئناك لنطلب منك الهدنة على أن لا نكون لك ولا عليك ولا نعين عليك أحداً ولا نتعرّض لأحد من أصحابك ولا تتعرّض لنا ولا لأحد من أصحابنا حتّى ننظر إلى ما يصير أمرك وأمر قومك ، فأجابهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى ذلك وكتب بينهم كتاباً : ألاّ يعينوا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولا على أحد من أصحابه بلسان ولايد ولا بسلاح ولا بكراع في السرّ والعلانية ، لا بليل ولا بنهار ، اللّه بذلك عليهم شهيد ، فإن فعلوا فرسول اللّه في حِلٍّ من سفك دمائهم ، وسبي ذراريهم ونسائهم ، وأخذ أموالهم. وكتب لكل قبيلة منهم كتاباً على حدّة ، وكان الذي تولّى أمر بني النضير حيّي بن أخطب ، فلمّا رجع إلى منزله قال له اُخوته ( جديّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب ) : ما عندك ؟ قال : هو الذي نجده في التوراة والذي يبشّرنا به علماؤنا ولا أزال له عدوّاً لأنّ النبوّة خرجت من ولد إسحاق ، وصارت في ولد إسماعيل ، ولا نكون تبعاً لولد إسماعيل أبداً.

وكان الذي ولي أمر قريضة كعب بن أسد ، والذي ولي أمر بني قينقاع مخيريق وكان أكثرهم مالاً وحدائق ، فقال لقومه : تعلمون أنّه النبيّ المبعوث ؟

ص: 290

فهلمّوا نؤمن به ونكون قد أدركنا الكتابين ، فلم تجبه قينقاع إلى ذلك (1).

هذا هو نص الميثاق ، وسنوافيك في هذا البحث وما يتلوه إنّهم كيف ضربوا به عرض الجدار خصوصاً بعد ما بلغهم إنتصار المسلمين على قريش في غزوة بدر فانتابهم الهلع والخوف ، وترقّبوا الخطر المحدق بهم ، وقد بلغ النبيَّ أخبار بني قينقاع ، وما أخذوا يتفوّهون به ضدّه ، فلأجل إتمام الحجة جمعهم رسول اللّه في سوق بني قينقاع بعد نزوله عن بدر ، فقال : يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم اللّه بمثل ما أصاب به قريشاً ، فقالوا له : يا محمّد لا يغرّنّك من نفسك أنّك قتلت نفراً من قريش ، كانوا أغماراً (2) لا يعرفون القتال ، إنّك واللّه لو قاتلتنا لعرفت انّا نحن الناس وإنّك لنتلقى مثلنا ، فأنزل اللّه تعالى في ذلك من قولهم : ( قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ ) ( آل عمران / 12 و 13 ) (3).

وبين ما هم عليه من إظهار العداوة ونقض العهد ، جاءت امرأة نزيعة (4) من العرب تحت رجل من الأنصار إلى سوق بني قينقاع ، وجلست عند صائغ في حُليّ لها ، فجاء رجل من يهود قينقاع فجلس من ورائها ولا تشعر ، فخلّى (5) درعها إلى ظهرها بشوكة ، فلمّا قامت المرأة بدت عورتها ، فضحكوا منها ، فقام إليه رجل من المسلمين فاتّبعه فقتله ، فاجتمعت بنو قينقاع فتحايشوا ، فقتلوا الرجل ونبذوا العهد إلى النبيّ وتحصّنوا في حصنهم (6).

ص: 291


1- البحار ج 19 ص 110 - 111 ( طبع بيروت ).
2- الأغمار جمع الغمر وهو الذي لم يجرّب الاُمور.
3- السيرة النبويّة ج 1 ص 552 ، مجمع البيان ج 2 ص 706 ، المغازي للواقدي ج 1 ص 176.
4- المرأة التي تزوّجت في غير عشيرتها.
5- أي جمع بين طرفي الشيء.
6- المغازي للواقدي ج 1 ص 176 و 177.

فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود ، فغضب المسلمون ، فحاصرهم رسول اللّه حتّى نزلوا على حكمه.

روى الواقدي : لمّا رجع ( رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ) من بدر حسدوه فأظهروا الغشّ ، فنزل عليه جبرئيل علیه السلام بهذه الآية : ( وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الخَائِنِينَ ) ( الأنفال / 58 ).

قال : فلمّا فرغ جبرئيل قال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : فأنا أخافهم. فسار رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بهذه الآية حتّى نزلوا على حكمه ولرسول اللّه أموالهم ، ولهم الذرّية والنساء (1).

فقام عبد اللّه بن اُبي بن سلول رئيس المنافقين في المدينة بالشفاعة لهم فقال : يا محمّد أحسن في موالي ، وكانوا حلفاء الخزرج ، فأبطأ عليه رسول اللّه ، فقال : يا محمّد ، أحسن في موالي ، فأعرض عنه ، فأدخل يده في جيب درع رسول اللّه ، فقال له رسول اللّه : أرسلني ، وغضب رسول اللّه حتّى رأوا لوجهه ظللاً ، ثمّ قال : ويحك أرسلني ، قال : لا واللّه لا أرسلك حتّى تحسن في موالي ، أربعمائة حاسر (2) وثلاثمائة دارع ، قد منعوني من الأحمر والأسود ، تحصدهم في غداة واحدة إنّي واللّه أمرؤٌ أخشى الدوائر ، فقال رسول اللّه : هم لك ، فاستعمل رسول اللّه على المدينة في محاصرته إيّاهم بشير بن عبد المنذر ، وكانت محاصرته إيّاهم خمس عشرة ليلة.

وكان لعبادة بن الصامت مثل الحلف الذي كان لهم من عبد اللّه بن اُبي ، فجاء عبادة بن الصامت وقال : يا رسول اللّه أتولّى اللّه ورسوله والمؤمنين ، وأبرأُ من حلف هؤلاء الكفّار وولايتهم ، وفي تلك القصّة نزلت الآيات التالية :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم

ص: 292


1- مغازي الواقدي ج 1 ص 180.
2- الحاسر الذي لا درع له ويقابله الدارع.

مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ) ( المائدة / 51 - 53 ).

فلمّا أصرّ ابن اُبي فيهم تركهم رسول اللّه وأمر بهم أن يجلوا من المدينة.

وروى الواقدي : كان ابن اُبيّ أمرهم أن يتحصّنوا وزعم أنّه سيدخل معهم ، فخذلهم ولم يدخل معهم ، ولزموا حصنهم فما رموا بسهم ، ولا قاتلوا حتّى نزلوا على صلح رسول اللّه وحكمه ، وأموالهم لرسول اللّه ، فلمّا نزلوا وفتحوا حصنهم ، كان محمّد بن مسلمة هو الذي أجلاهم وقبض أموالهم ، وأمر رسول عبادة بن الصامت أن يجليهم ، فقالت قينقاع ، يا أبا الوليد نحن مواليك فعلت هذا بنا ؟

قال لهم عبادة : لمّا حاربتم جئت إلى رسول اللّه فقلت : يا رسول اللّه إنّي أبراُ إليك منهم ومن حلفهم ، وكان ابن اُبي وعبادة بن الصامت منهم بمنزلة واحدة في الحلف ، فقال عبد اللّه بن اُبي : تبرّأت من حلف مواليك ، فقال عبادة : أبا الحبّاب تغيّرت القلوب ومحي الإسلام العهود ، فخرجوا إلى الشام ولحقوا بإذرعات (1) ثمّ هلكوا (2).

ص: 293


1- بلد في أطراف الشام يجاور أرض البلقاء وعمان « معجم البلدان ج 1 ص 162 ).
2- السيرة النبويّة ج 1 ص 47 - 49 ، المغازي للواقدي ج 1 ص 176 - 180.

2 - إجلاء بني النضير

قدم أبو براء ، عامر بن مالك على رسول اللّه المدينة فعرض عليه رسول اللّه الإسلام ودعاه إليه ، فلم يسلم ولم يبعد من الإسلام ، وقال : يا محمّد لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى نجد ، فادعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك ، فقال رسول اللّه : إنّي أخشى عليهم أهل نجد ، قال أبو براء : أنا لهم جار ، فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك ، فبعث رسول اللّه المنذر بن عمرو في أربعين رجلاً (1) من خيار المسلمين فساروا حتّى نزلوا بئر معونة وهي بين أرض بني عامر ، وحرة بني سليم ، كلا البلدين منها قريب وهي إلى حرّة بني سليم أقرب.

فلمّا نزلوها بعثوا ابن ملحام بكتاب رسول اللّه إلى عامر بن الطفيل ، فلمّا أتاه لم ينظر في كتابه حتّى عدى على الرجل فقتله ، ثمّ استصرخ عليهم بني عامر فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه ، وقالوا لن نحفر (2) أبا براء لقد عقد لهم عقداً وجواراً ، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم فأجابوه إلى ذلك ، فخرجوا حتّى غشوا القوم ، فأحاطوا بهم في رحالهم ، فلمّا رأوهم أخذوا سيوفهم ثمّ قاتلوهم حتّى قتلوا من عند آخرهم إلاّ كعب بن زيد فإنّهم تركوه وبه رمق ، فرفع من بين القتلى فقدم المدينة.

وكان في مسير القوم عمرو بن اُميّة الضمري ورجل من الأنصار فلمّا اطّلعا على قتل إخوانهم ، قال عمرو بن اُميّة : نخبر رسول اللّه ، فقال الأنصاري : ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو ، فقاتل القوم حتّى قتل واُسر عمرو ابن اُميّة ، وأطلقه عامر بن الطفيل وجزّ ناصيته ، فأقبل عمرو بن اُميّة إلى المدينة

ص: 294


1- أو سبعين رجلاً على ما في صحيح البخاري ومسلم.
2- أي لا ننقض عهده.

ولقى في مسيره رجلين من بني عامر وقد سألهما ممّن أنتما ؟ فقالا : من بني عامر فأمهلهما حتّى إذا ناما ، عدى عليهما فقتلهما وهو يرى أنّه أصاب بهما الثأر من بني عامر ، فيما أصابوا من أصحاب رسول اللّه ، فلمّا قدم عمرو بن اُميّة على رسول اللّه فأخبره الخبر ، قال رسول اللّه : لقد قتلت قتيلين لاُدِينهما (1).

خرج رسول اللّه إلى بني النضير يستعينهم في ديّة ذينك القتيلين من « بني عامر » اللذين قتلهما عمرو بن اُميّة الضمري ، فكان بين بني النضير وبين بني عامر عقد وحلف ، فلمّا أتاهم رسول اللّه يستعينهم في أداء الديّة ، قالوا : نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أجبت ممّا استعنت بنا عليه ، ثمّ خلا بعضهم ببعض فقالوا : إنّكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه ، ورسول اللّه إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد ، فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيرحنا منه ؟ فانتبذ لذلك عمرو بن جحاش بن كعب فصعد ليلقي عليه صخرة ورسول اللّه في نفر من أصحابه.

فأتى الخبر من السماء بما أراد القوم ، فقام وخرج إلى المدينة « وكأنّه يريد أن يقضي حاجة وترك أصحابه في مجلسهم » (2) فلمّا إستلبث النبيّ أصحابه قاموا في طلبه فلقوا رجلاً مقبلاً من المدينة فسألوه عنه ، فقال : رأيته داخلاً المدينة ، فأقبل أصحاب رسول اللّه حتّى انتهوا إليه فأخبرهم الخبر بما أراد اليهود من الغدر إليه ، وأمر رسول اللّه بالتهيّؤ لحربهم ، والسير إليهم ، واستعمل على المدينة ابن اُمّ مكتوم فتحصّنوا في الحصون.

وقد بعث عبد اللّه بن اُبي بعض أصحابه إلى بني النضير ، فقال لهم : إثبتوا وتمنّعوا فإنّا لن نسلّمكم ، إن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن اُخرجتم خرجنا معكم ،

ص: 295


1- أي لأدفع ديّتهما ، ووجهه : إنّ القتل وقع بقبيلة بني سليم لا ببني عامر ، فإنّهم وإن لم يدافعوا عن المسلمين وخذلوهم ، ولكنّهم لم يشتركوا في مقاتلتهم ، فكان قتل هذين الرجلين بلا ظلامة اقترفاها ، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ الرسول كان يقوم بالعدل ولا يأخذه في ذلك شيء من الأهواء.
2- ما بين القوسين ممّا رواه الواقدي.

فتربّصوا ذلك من نصرهم ، ولم يكن وعده إلاّ خداعاً ، وفي ذلك نزل الوحي :

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ * لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ * لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ( الحشر / 11 - 15 ) ففي هذه الآيات ملاحم وتنبّؤات غيبية كشف عنها الوحي. وإليك الإشارة إليها :

1 - إنّ اليهود لعلاقتهم الشديدة بالحياة لا يجرأون على مقاتلتكم خارج حصونهم ، وإنّما يقاتلونكم متمنّعين بحصونهم ، ويكتفون في ذلك برشقهم بالحجارة ونحوها ، كما أشار إليه قوله : ( لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ ) .

2 - يستأسدون عند الإجتماع ببعضهم البعض ولكنّهم عند لقاء المسلمين ينتابهم الخوف والرعب والهلع ، ويستفاد ذلك من ضم الآيتين أعني قوله : ( بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ) إلى قوله : ( لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللّهِ ) .

3 - إنّهم يتظاهرون بوحدة الكلمة ، ولكنّها وحدة شكلية صورية وقلوبهم شتّى ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ) .

ثمّ إنّ الذكر الحكيم يصفهم بأنّهم قوم لا يعقلون ولا يتّخذون العبرة ممّا لاقاه بنو قينقاع ، وإليه يشير قوله : ( كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ ) .

ثمّ إنّ الملاحم الواردة فيما سبق من الآيات لا تنحصر بذلك بل تنبّأت بأنّ وعد النصر من جانب المنافقين وعد خاوٍ ومكذوب لا يفون به ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ) .

ص: 296

وقد تنبّأ القرآن بكل ما ذكرنا قبل وقوع النصر وغلبة المسلمين عليهم.

روى البيهقي : إنّ النبيّ مضى لأمر اللّه تعالى فأمر أصحابه فأخذوا السلاح ، ثمّ مضى إليهم وتحصّنت اليهود في دورهم وحصونهم ، فلمّا إنتهى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى أزقّتهم وحصونهم فأمر بالأدنى فالأدنى من دورهم أن تهدم ، وبالنخل أن تحرق وتقطع ، وكفّ اللّه تعالى أيديهم وأيدي المنافقين فلم ينصرونهم ، وألقى اللّه عزّ وجلّ في قلوب الفريقين الرعب (1).

لم يكن عمل النبي صلی اللّه علیه و آله في هذا المجال إلاّ إيجاداً للرعب في قلوب الكافرين والتعجيل في إستسلامهم ، فإنّ اليهود ما زالوا ولن يزالوا عالقين بالمال والثروة ، ويحبّونهما كحب الأنفس والأولاد ، فلم يكن للنبيّ إلاّ الإضرار ببعض أموالهم وثرواتهم لتلك الغاية ، والشاهد على ذلك أنّ النبيّ لم يقطع إلاّ بعض النخيل ، قوله تعالى : ( مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ) ( الحشر / 5 ) ، وأمّا الدور التي هدمها النبي فكانت عبارة عن الدور الواقعة خارج الحصن بشهادة أنّهم هدموا دورهم بأيديهم عند مغادرة المدينة ، يقول سبحانه : ( يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ ) ( الحشر / 2 ).

فهذا العمل العسكري من النبي وأصحابه كان عملاً تكتيكيّاً لغاية قصوى ، وهو الإستيلاء عليهم بلا إراقة الدم من الجانبين ، ولولا ذلك ربّما طال الحصار وكان من المتوقّع تحقّق الإشتباك الدموي بين الطرفين. فلما رأوا أنّ النبيّ مصمّم على الإستيلاء عليهم ، سألوه أن يجليهم ويكف عن دماءهم على أنّ لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلاّ السلاح ، فقبل النبيّ ، فاحتملوا من أموالهم ما استقالت به الإبل ، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف (2) بابه ، فيضعه على ظهر بعيره

ص: 297


1- دلائل النبوّة ج 3 ص 181 ، والمغازي للواقدي ، ج 1 ص 374 ، والسيرة النبويّة لابن هشام ج 2 ص 191.
2- نجاف - على وزن كتاب - : العتبة التي على الباب.

فينطلق به ، فخرجوا من المدينة إلى خيبر وبعضهم صار إلى الشام.

ومن الذين صاروا إلى خيبر سلاَّم بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وحُيي بن الأخطب.

والعجب انّهم خرجوا بنساءهم وأبنائهم وأموالهم ومعهم الدفوف والمزامير والقيان يعزفن خلفهم ، وما هذا إلاّ لأجل إلقاء الستار على خذلانهم فكأنّهم أرادوا بالخروج بهذه الكيفية أنّهم ليسوا بمغلوبين ولا محزونين ، وإنّما يخرجون مع النشاط والسرور لأنّهم ينتقلون إلى أمكنة خصبة بالعطف والحنان (1).

وأمّا الأراضي التي تركوها فجعلها سبحانه نفلاً لرسول اللّه ولم يجعل فيها سهماً لأحد غيره ، قال سبحانه : ( وَمَا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ (2) عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَّا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) ( الحشر / 6 - 8 ).

فالآيات الكريمة تحدّد مواضع صرف الأموال التي أفاء اللّه على رسوله ، فذكر مصارفها المتعدّدة فيها ، ولكنّ النبيّ حسب ما ورد في السيرة قسّمها على المهاجرين الأوّلين دون الأنصار إلاّ سهل بن حنيف وأبا دجانة الأنصاري - سماك بن حرشة - ذَكرا فَقْراً فأعطاهما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ولم يسلم من بني النضير إلاّ رجلان. أسلما على أموالهما فأحرزاها.

ص: 298


1- قال الواقدي : ومرّوا يضربون بالدفوف ، ويزمّرون بالمزامير ... مظهرين ذلك تجلّداً المغازي للواقدي ج 1 ص 375.
2- فما أوجفتم : أي ما حرّكتم وأتعبتم في السير ، قال سبحانه : ( قُلُوب يَوْمَئِذ وَاجِفَة ) .

وقد نزلت سورة الحشر في هذه القصة واللّه سبحانه يمنّ على المؤمنين ، بأنّه سبحانه سلّطهم على الكافرين عن طريق إيجاد الرعب في قلوبهم ، كما يبيّن بأنّهم جوزوا بسوء أعمالهم ، قال سبحانه :

( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللّهِ فَأَتَاهُمُ اللّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ * وَلَوْلا أَن كَتَبَ اللّهُ عَلَيْهِمُ الجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللّهَ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( الحشر / 2 - 4 ).

وبإجلاءهم لم تبق في المدينة طائفة من اليهود ، إلاّ قبيلة بني قريظة ، وكان النبي يحترم عهودهم ما داموا حافظين عليها. ولمّا ظهرت منهم بادرة النقض ، أخذهم النبيّ أخذ عزيز مقتدر ، كما سيبيّن في الفصل القادم.

ص: 299

3 - إبادة بني قريظة

اشارة

لقد أجلى النبيّ الأكرم قبيلتي بني قينقاع ، وبني النضير ، وجزاهم بأعمالهم الإجرامية ، وكانت فكرة تأليب العرب على النبي والمسلمين فكرة اختمرت في نفوس رؤساء بني النضير ، وقبلهم بني قينقاع ، نظراء حيي بن أخطب وسلاّم بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي حقيق ، الذين نزلوا حصن خيبر ، فأرادوا درك ثأرهم من المسلمين بتأليب الأحزاب عليهم ، فقدموا إلى قريش ، ودعوهم إلى حرب رسول اللّه وقالوا : إنّا سنكون معكم عليه ، حتّى نستأصله ، وقد سألتهم قريش وقالوا يا معشر يهود : إنّكم أهل الكتاب الأوّل ، وأهل العلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد. أفديننا خير أم دينه ؟ قالوا : بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أولى بالحقّ منه (1).

ولم يكتف زعماء بني النضير بتأليب قريش على النبي الأكرم بل خرجوا إلى غطفان وكلّ من له عند المسلمين ثأر ، حرّضوهم على الأخذ بثأرهم ، ويذكرون لهم متابعة قريش إيّاهم على حرب محمد ، فاتّفقوا على الخروج والحضور في المدينة في يوم واحد ، وأحاطوا المدينة رجالاً وركباناً وقد بلغ عددهم عشرة آلاف ، وكان قد بلغ النبي مؤامرتهم فضرب الخندق على المدينة حتّى يكون كالحصن لها حائلاً بينه وبينهم ، وقد طال الحصار على المدينة قرابة شهر ، ووقع هناك إشتباك بينهم وبين العدوّ على وجه سنذكره في مغازي النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

وقد أدركت الأحزاب المؤلّفة من قريش وغطفان ويهود خيبر وعلى رأسهم حيي بن أخطب أنّ الإنتصار على محمد أمر غير ميسور ، مادام الخندق يحول بينه و

ص: 300


1- قد مرّ نقل هذا الخطأ الفاحش في مناظرات النبيّ مع اليهود ، فلاحظ.

بين العدوّ ، وقد وضع المسلمون الأحجار إلى جانب الخندق ، يرمون بها من أراد العبور ، فعند ذلك قام حيي بن أخطب بمؤامرة اُخرى وهو فتح الطريق لدخول يثرب من ناحية اُخرى ، وهو إقناع بني قريظة ( الطائفة الوحيدة المتبقّاة من اليهود في المدينة ) على رفض عهدها مع محمد ، وانضمامها إلى الأحزاب ، فاجتمع مع أكابر الأحزاب ، وقال : إنّه مقنع بني قريظة بنقض عهد موادعتهم محمداً والمسلمين ، حتّى يقطعوا بذلك المدد والمير عنه ، ويفتحوا الطريق لاجتياز الأحزاب من حصونهم إلى داخل المدينة ، ولمّا سمعت ذلك قريش وقبائل غطفان فرحوا بذلك وزعموا أنّ هذه الخطوة سوف تكون ناجحة ، وأنّها مفتاح الإنتصار ، فخرج حيي بن أخطب حتّى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم ، ولمّا سمع كعب بحيي بن أخطب ، أغلق دونه باب حصنه ، فاستأذن عليه ، فأبى أن يفتح له فناداه حينئذٍ : ويحك يا كعب ، إفتح لي. قال : ويحك يا حيي إنّك رجل مشؤوم ، وإنّي قد عاهدت محمداً ولست بناقض ما بيني وبينه ، ولم أر منه إلاّ وفاءً وصدقاً. قال : ويحك إفتح لي اُكلّمك. قال : ما أنا بفاعل. قال : واللّه إن أغلقت دوني إلاّ خوفاً عن جشيشتك أن آكل معك منها ، فعندئذ غضب كعب ففتح له فقال : ويحك يا كعب جئتك بعزّ الدهر وبحر طامّ (1) ، جئتك بقريش على قادتها وسادتها ، قد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتّى يستأصلوا محمداً ومن معه. قال : فقال له كعب : جئتني واللّه بذلّ الدهر ، ويحك يا حيي ! فدعني وما أنا عليه ، فإنّي لم أر من محمّد إلاّ صدقاً ووفاءً. فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب حتّى سمع له ، على أن أعطاه عهداً ( من اللّه ) وميثاقاً : لئن رجعت قريش وغطفان ، ولم يصيبوا محمّداً أن يدخل معه في حصنه حتّى يصيبه ما أصابه ، فنقض كعب بن أسد عهده ، وبرئ ممّا كان بينه وبين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

وقد بلغ المسلمين نبأ إنضمام قريظة إلى الأحزاب ، فاهتزّوا وخافوا مغبّته فبعث رسول اللّه سعد بن معاذ ، وهو سيد الأوس وسعد بن عبادة وهو سيد الخزرج ومعهما لفيف من المسلمين ، فقال : إنطلقوا حتّى تنظروا أحقٌ ما بلغنا عن هؤلاء

ص: 301


1- يشير إلى الأحزاب المؤلّفة.

القوم أم لا ؟ فإن كان حقّاً فألحنوا لي لحناً (1) أعرفه ، ولا تفتّوا في أعضاد الناس ، وإن كانوا غير ناقضين فأجهروا به للناس ، قال فخرجوا حتى أتوهم ، فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم فيما نالوا من رسول اللّه وقالوا : مَن رسول اللّه ؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد ، فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه ، وكان رجلاً فيه حدّه ، فقال له سعد بن عبادة : دع عنك مشاتمتهم فما بيننا وبينهم أعظم من المشاتمة ، فأقبلا إلى رسول اللّه فسلّموا عليه ، وقالوا : « عضل والقارة » أي غدروا كغدر عضل والقارة ، وأصحاب الرجيع ، فقال رسول اللّه : اللّه أكبر ! أبشروا يا معشر المسلمين. وعظم عند ذلك البلاء واشتدّ الخوف وذلك لأنّهم لو قطعوا المير والمدد وفتحوا الطريق للأحزاب ، لدخلوا المدينة واستأصلوا أهلها ، فما مضى وقت حتّى بدت بوادر النقض فقطعوا المدد والميرة عن المسلمين ، وخرجوا يطيفون في أزقّة المدينة ، يخوّفون النساء والصبيان. قالت صفيّة - وكانت في حصن « حسّان » - : مرّ بنا رجل من اليهود فجعل يطيف بالحصن ، فقلت : يا حسّان ! إنّ هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن وإنّي واللّه ما آمنه أن يدلّ على عورتنا مَنْ وراءنا من يهود ، وقد شغل عنّا رسول اللّه وأصحابهم ، فانزل إليه فاقتله. قال : يغفر اللّه لك يا ابنة عبد المطلب ! واللّه لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا ! قالت : فلمّا قال لي ذلك ، ولم أر عنده شيئاً احتجزت (2) ثمّ أخذت عموداً ثمّ نزلت من الحصن إليه ، فضربته بالعمود ، حتّى قتلته. قالت : فلمّا فرغت منه ، رجعت إلى الحصن (3).

ثمّ إنّه سبحانه سلّط على الأحزاب البرد والريح الشديدة ، وفرّق كلمتهم على وجه سيوافيك تفصيله ، وتفرّقوا وجلوا عن جوانب المدينة ورجعوا إلى أوطانهم من دون أن ينالوا من المسلمين شيئاً. ولم يكن عود الأحزاب بعد فصل الشتاء أمراً غير بعيد في نظر النبي صلی اللّه علیه و آله وبنو قريظة هم الأعداء الغدرة ، ومن الممكن أن يتكرّر التاريخ ويقع المسلمون في مغبّته ، وبينما كان النبيّ يفكر في

ص: 302


1- أي تكلّموا بالإشارة والتعريض ، ولا توهنوا عزائم المسلمين.
2- شددت معجري.
3- السيرة النبويّة لابن هشام ، ج 2 ص 228.

ذلك وقد صلّى الظهر ، جاء جبرئيل وقال : إنّ اللّه عزّ وجلّ يأمرك بالمسير إلى بني قريظة ، فأمر رسول اللّه مؤذناً فأذّن في الناس من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلّين إلاّ ببني قريظة (1) ولبس رسول اللّه السلاح والمغفر والدرع والبيضة وأخذ قناتاً بيده ، وتقلّد الترس ، وركب فرسه ، وحفّ به أصحابه ، وتلبّسوا السلاح وركبوا الخيل ، وكانت ستّة وثلاثين فرساً ، وكان رسول اللّه قد قاد فرسين وركب واحداً ، وانتهى رسول اللّه إلى بني قريظة ، فنزل على أسفل حرّة بني قريظة ، وكان عليّ علیه السلام قد سبق في نفر من المهاجرين والأنصار ، فيهم أبو قتادة ، وطلع رسول اللّه ، فلّما رأى رسول اللّه عليّاً أمره بأخذ اللواء وكره أن يسمع رسول اللّه أذاهم وشتمهم ، فتقدّمه أسيد بن حضير ، قال : فقال : يا أعداء اللّه لا نبرح حصنكم حتّى تموتوا جوعاً. قال : يا بن الحضير نحن مواليكم دون الخزرج. قال : لا عهد بيني وبينكم ودنا رسول اللّه ، فقال صلی اللّه علیه و آله : يا إخوة القردة والخنازير وعبدة الطواغيت أتشتموني ؟ قالوا : فجعلوا يحلفون بالتوراة التي أنزلت على موسى ما فعلنا وقالوا : نكلّمك ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : نعم. فأنزلوا نباش بن قيس ، وقالوا : يا محمّد ننزل على ما نزلت عليه بنو النضير. لك الأموال والحلقة وتحقن دمائنا ونخرج من بلادكم بالنساء والذراري ولنا ما حملت الإبل إلاّ الحلقة فأبى رسول اللّه وقال : لا إلاّ أن تنزلوا على حكمي. فرجع نباش إلى أصحابه بمقالة رسول اللّه ولمّا وقف القوم على عزم رسول اللّه بنزولهم على حكمه ، عقدوا مجلساً للمشاورة إشترك فيها أكابر القوم ، فاقترح كعب بن أسد عليهم عدّة إقتراحات ، يعرب بعضها عن ضآلة تفكيره ويدلّ البعض الآخر على قسوته ، وإليك تلك الإقتراحات :

1 - الإيمان بما جاء به محمّد صلی اللّه علیه و آله

يا معشر بني قريظة إنّكم لتعلمون أنّ محمداً نبي اللّه وما منعنا من الدخول معه إلاّ الحسد بالعرب ، ولقد كنت كارهاً لنقض العقد والعهد ، ولكنّ البلاء وشؤم

ص: 303


1- قال الواقدي : صار إليهم النبيّ لسبع بقين من ذي القعدة ، فحاصرهم خمسة عشر يوماً ، ثمّ انصرف يوم الخميس سبع خلون من ذي الحجة سنة خمس.

هذا الجالس (1) علينا وعلى قومه ... فتعالوا نصدّقه ونؤمن به ، فنأمن على دمائنا وأبنائنا ونساءنا وأموالنا فنكون بمنزلة من معه ، قالوا لا نكون تبعاً لغيرنا. نحن أهل الكتاب والنبوّة ، فجعل كعب يردّ عليهم الكلام بالنصيحة لهم. قالوا : لا نفارق التوراة ولا ندع ما كنّا عليه من أمر موسى.

2 - قتل النساء والأولاد

إذا كنتم كارهين للإيمان بمحمّد صلی اللّه علیه و آله فهلمّوا نقتل أبناءنا ونساءنا ثمّ نخرج وفي أيدينا السيوف إلى محمّد وأصحابه ، فإن قتلنا قتلنا ، وما وراءنا أمر نهتم به ، وان ظهرنا لنتّخذن النساء والأبناء.

فصاح حيّي بن أخطب وقال : ما ذنب هؤلاء المساكين ؟ وقالت رؤساء اليهود : ما في العيش خير بعد هؤلاء.

3 - الخروج على أصحاب محمّد ليلة السبت

إنّ محمّداً وأصحابه آمنين لنا فيها أن نقاتله ، فنخرج فلعلّنا أن نصيب منه غرّة قالوا نفسد سبتنا وقد عرفت ما أصابنا فيه. قال حيّي : قد دعوتك إلى هذا وقريش وغطفان حضور فأبيت أن تكسر السبت فإن أطاعتني اليهود فعلوا. فصاحت اليهود : لا نكسر السبت. قال نبّاش بن قيس : وكيف نصيب منهم غرّة وأنت ترى أنّ أمرهم كل يوم يشتدّ كانوا أوّل ما يحاصروننا إنّما يقاتلون بالنّهار ويرجعون بالليل ، فهم الآن يبيتون الليل ويظلّون النهار ، فأي غرّة نصيب منهم ؟ هي ملحمة وبلاء كتب علينا ، فاختلفوا وسقط في أيديهم وندموا على ما صنعوا ورقّوا على النساء والصبيان وكنّ يبكين.

وعندئذٍ قال ثعلبة وأسيد إبنا سعيد وأسد بن عبيد عمّهم : يا معشر بني قريظة !

واللّه إنّكم لتعلمون أنّه رسول اللّه ، وأنّ صفته عندنا. حدّثنا بها علماؤنا

ص: 304


1- يعني حيّي بن أخطب وقد وفى بعهده ، بعد تفرّق الأحزاب ، فدخل حصن بني قريظة ليشترك معهم في المصير.

وعلماء بني النضير . هذا أوّلهم يعني حيّي بن أخطب مع جبير بن الهيّبان. أصدق الناس عندنا وهو خبّرنا بصفته عند موته. قالوا : لا نفارق التورة ، فلمّا رآى هؤلاء النفر إباءهم ، نزلوا في الليلة التي في صبحها نزلت قريظة ، فأمنّوا على أنفسهم واهلهم وأموالهم.

اقتراح رابع

واقترح عمرو بن سعد وقال : يا معشر اليهود إنّكم حالفتم محمداً على ما حالفتموه عليه ، أن لا تنصروا عليه أحداً من عدوّه وأن تنصروه ممّن دهمه فنقضتم ذلك العهد الذي كان بينكم وبينه فلم أدخل فيه ولم أشرككم في عذركم ، فإن أبيتم أن تدخلوا معه ، فاثبتوا على اليهوديّة وأعطوا الجزية ، فو اللّه ما أدري يقبلها أم لا ؟ قالوا : نحن لا نقرّ للعرب بخرج في رقابنا يأخذوننا به ، القتل خير من ذلك.

ولمّا طال الحصار وأذعنت بنو قريظة أنّ النبيّ الأكرم لا يتركهم إلاّ أن ينزلوا على حكمه ، بعثوا إلى رسول اللّه حتّى يبعث إليهم أبا لبابة بن عبد المنذر ، وكان حليف الأوس ليستشيروه في أمرهم ، فأرسله رسول اللّه فلّما رأوه قام إليه الرجال ، وبكت النساء والصبيان ، فرقّ لهم ، وقالوا : يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمّد ؟ فأشار بيده إلى حلقه ، يعني أنّه الذبح.

ثمّ ندم أبو لبابة من إذاعة سرّ رسول اللّه ، قال : فو اللّه ما زالت قدماي من مكانهما حتّى عرفت أنّي قد خنت اللّه ورسوله ، ثمّ انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول اللّه حتّى إرتبط في المسجد إلى عمود من عمده وقال : لا أبرح مكاني هذا حتّى يتوب اللّه عليّ ممّا صنعت ، وعاهد اللّه : أن لا أطأ بني قريظة أبداً ولا اُرى في بلد خنت اللّه ورسوله فيه أبداً ، وفي ذلك نزل قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ( الأنفال / 27 ).

فمكث سبعة أيّام لا يذوق فيها طعاماً ولا شراباً حتّى خرّ مغشياً عليه ، ثمّ تاب اللّه عليه ، فقيل له يا أبا لبابة قد تيب عليك ، فقال : لا واللّه لا أحلّ نفسي حتّى يكون رسول اللّه هو الذي يحلّني ، فجاءه فحلّه بيده ، ثمّ قال أبو لبابة : إنّ من تمام توبتي أن

ص: 305

أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي ، فقال النبيّ : يجزيك السدس أن تصدّق به.

وقد نزل أيضاً في توبته قوله سبحانه : ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( التوبة / 102 ) (1).

فلمّا أصبحوا ، نزلوا على حكم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فتواثبت الأوس ، فقالوا : يا رسول اللّه وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت ( يريدون بني قينقاع - وكانوا حلفاء الخزرج - فسأله إيّاهم عبد اللّه بن أبي ، فوهبهم له ) قال رسول اللّه : ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ قالوا : نعم. قال رسول اللّه : فذلك إلى سعد بن معاذ ، فلمّا حكّمه رسول اللّه أتاه قومه إلى رسول اللّه ، فلمّا إنتهى سعد إلى رسول اللّه قال - يخاطب الأوسيين - : قوموا إلى سيّدكم ، قالت الأوس - الذين بقوا عند رسول اللّه - : يا أبا عمرو ! إنّ رسول اللّه قد ولاّك الحكم ، فأحسن فيهم واذكر بلاءهم عندك ، فقال سعد بن معاذ : أترضون بحكمي لبني قريظة ؟ قالوا : نعم ، قد رضينا بحكمك وأنت غائب عنّا ، قال سعد : عليكم عهد اللّه وميثاقه أنّ أحكم فيكم ما حكمت. قالوا : نعم ، قال سعد : فإنّي أحكم فيهم أن يقتل من جرت عليه الموسى ، وتسبى النساء والذريّة وتقسّم الأموال ، وفي نقل آخر : أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسّم الأموال وتسبى الذراري والنساء ، ورضي رسول اللّه بحكم سعد (2).

وقال ابن هشام : إنّ بني قريظة طلبوا من النبيّ أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ ، قال : إنّ علي بن أبي طالب صاح وهم محاصرو بني قريظة : يا كتيبة الإيمان ! وتقدّم هو والزبير بن العوّام ، فقال : واللّه لأذوقنّ ما ذاق حمزة أو لأفتحن حصنهم ، فقالوا : يا محمّد ننزل على حكم سعد بن معاذ ، واُجري الحكم حسبما رأى سعد.

ص: 306


1- السيرة النويّة ، لابن هشام ، ج 2 ص 237 ، والمغازي للواقدي ج 2 ص 505 ومجمع البيان ج 4 ص 824.
2- المغازي للواقدي ج 2 ص 512.

إنّ المستشرقين قد استغلّوا هذه الواقعة ، فحاولوا أن يتّهموا قضاء سعد بن معاذ بالقسوة والخروج عن العدل ، ولكنّهم نظروا إلى الواقعة بعين واحدة ، فنظروا إلى ما حاق ببني قريظة من الذلّ والخزي ، وقد أحاطت بهم نساؤهم وأطفالهم بالبكاء عليهم ، فزعموا أنّ مقتضى العدل والرحمة هو الإغماض عنهم ، وعن جريمتهم ، ولأجل دعم أنّ العدل والحق كانا يقضيان بما قضى به سعد بن معاذ نشير للاُمور التالية.

لا شك أنّ عواطف سعد وأحاسيسه ومشاعره ومناظر الصبيان ونساء بني قريظة ، وأوضاع رجالهم وملاحظة الرأي العام ( الأوسيين ) ، كان يثير الإشفاق لهم والإغماض عن جريمتهم. كلّ هذه الإعتبارات كانت تقتضي أن تجعل القاضي فريسة العاطفة ، ويبرّئ بني قريظة الجناة الخونة وأن يخفّف من عقوبتهم أكبر قدر ممكن ، لكنّ منطق العقل وحرّية القاضي واستقلاله ، وقبل كلّ شيء مراعاة المصالح العامّة ، قاده إلى الحكم بقتل رجالهم الخونة وسبي نسائهم وأطفالهم ، ولقد استند الحاكم في حكمه إلى الاُمور التالية :

1 - إنّ يهود بني قريظة كانوا قد تعهّدوا للنّبي - عند نزوله بالمدينة - بأنّهم لو تآمروا ضدّ الإسلام والمسلمين وناصروا أعداء التوحيد وألّبوهم على المسلمين ، كان للنبيّ أن يقوم بقتلهم وسبي نسائهم ، وإليك نقل هذه الإتفاقيّة : ... ألاّ يعينوا على رسول اللّه ، ولا على أحد من أصحابه بلسان ولا يد ولا بسلاح ولا بكراع في السرّ والعلانية لا بليل ولا بنهار. اللّه عليهم بذلك شهيد ، فإن فعلوا فرسول اللّه في حلّ من سفك دماءهم ، وسبي ذراريهم ونسائهم ، وأخذ أموالهم (1).

إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كتب لكل قبيلة منهم كتاباً على حدة وكان الذي تولّى أمر بني النضير : حيي بن أخطب وهو الذي رغّب رئيس بني قريظة على نقض العهد ورفضه ، كما أنّ الذي تولّى أمر بني قريظة هو كعب بن أسد ،

ص: 307


1- بحار الأنوار ج 19 ص 111 ، ونقله الصدوق في كمال الدين ، وأخرجه علي بن إبراهيم القمي في تفسيره.

الذي نقض عهد النبي وسبّه بمحضر من أصحابه من سعدين وغيرهما.

فلو حكم سعد بن معاذ على قتل رجالهم وسبي نسائهم فإنّما استند إلى هذه الاتفاقية التي تولّى أمرها رؤساؤهم وأكابرهم ، فلو كان سعد حاكماً بغير ما ورد فيها ، فقد بخس حق المسلمين وظلمهم ، فالعدل في القضاء كان يقتضي عدم الخضوع لحكم العاطفة.

2 - ارتكبت بنو قريظة جريمة عظيمة في ظروف حرجة عندما لم يبق بين المسلمين ، وإبادتهم واستئصالهم واستيلاء الأحزاب عليهم ونسفهم من رأس إلاّ خطوة أو خطوتان لولا أنّ اللّه بدّد شمل الكفّار ، وسخّر عليهم الرياح والبرد ، وفرّق كلمتهم ، ونشر فيهم سوء الظن بحلفائهم.

هذا ما قد كان ، ولكنّ التاريخ يمكن أن يعيد نفسه ويرجع الأحزاب في العام القابل أو بعد برهة من الزمن مستمدّين في إستيلائهم من هذا الطابور الخامس المتواجد بين المسلمين ، ولم يكن ذلك الاحتمال أمراً بعيداً في نظر القاضي بل أمراً قريباً جدّاً ، فلو كان حكم عليهم بالعفو لخان بمصالح المسلمين العامّة وجعلهم في دائرة الخطر.

إنّ بني قريظة قد جسّدوا العداوة بين اليهود والمسلمين وأثبتوا أنّ بني إسرائيل لا تطيب نفوسهم إلاّ باستئصال المسلمين ، فلو عادت الأحزاب إلى المدينة من جديد لعادوا إلى مشاركة العرب وقريش في حربهم ضدّ النبي صلی اللّه علیه و آله ، أفهل يمكن للقاضي العادل أن ينظر إلى هذا الاحتمال بعين التساهل ؟!

3 - من المحتمل جداً أنّ سعد ابن معاذ رئيس قبيلة الأوس الموالين ليهود بني قريظة كان واقفاً على قانون العقوبات لدى اليهود. فإنّ التوراة تنصّ على ما يلي :

« حين تقرب من مدينة لكي تحاربها إستدعها إلى الصلح. فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها ، يكون لك للتسخير ويستعبد لك ،

ص: 308

وإن لم تسالمك بل عملت معك حرباً فحاصرها ، وإذا دفعها الربّ إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحدّ السيف ، وأمّا النساء والأطفال والبهائم وكلّ ما في المدينة كلّ غنيمتها فتغتنمها لنفسك » (1).

4 - والّذي نتصوّره أنّ أكبر أسباب هذا الحكم هو أنّ سعد بن معاذ رأى باُمّ عينيه أنّ رسول اللّه عفا عن بني قينقاع ونزل على طلب الخزرجيين منه العفو منهم ، واكتفى من عقابهم بإخراجهم من المدينة ، ولكنّ تلك الزمرة ما غادرت أراضي الإسلام حتّى بدأت بالمشاغبة والمؤامرة الدنيئة ضد الإسلام ، فذهب كعب بن الأشرف إلى مكّة وأخذ يتباكى دجلاً وخداعاً على قتلى بدر ولم يفتأ عن تأليب قريش ضد الرسول ، وكانت نتيجة تلك المؤامرة وقعة اُحد الّتي استشهد فيها أزيد من سبعين صحابيّاً من خيرة أبناء الإسلام.

هكذا عفا الرسول عن بني النضير المتآمرين واكتفى من عقابهم بمجرّد الإجلاء ، ولكنّهم قابلوا هذا الموقف الإنساني بتأليب القبائل العربية ضد الإسلام ، حتّى أنّهم عقدوا إتّحاداً عسكريّاً فيما بينهم ، وكانت من أخطر المعارك على الإسلام لولا منّه سبحانه وحنكة رسوله وتضحيات أصحابه.

وقد أعطت هاتان الواقعتان للقاضي دروساً كافية ، فوقف على أنّ الإفراج عن بني قريظة - هذه الشرذمة الباغية والطغمة الظالمة - سوف يثير على المسلمين ما كانوا يجتنبون عنه ، فسوف يقومون باتّحاد عسكري أوسع ويؤلّبون العرب على الإسلام.

والّذي يكشف عن إخلاص ونواياه الحسنة أنّ قومه الأوسيين كانوا مصرّين على العفو عن بني قريظة والحنان لهم ، وكان الرئيس أحوج ما يكون إلى تأييد قومه ، وكانت مخالفتهم توجّه إليه أكبر ضربة ، ولكنّ القاضي الحر أدرك أنّ جميع هذه الشفاعات تخالف مصالح الآلاف من المسلمين ، فانطلق من منطق العقل ورفض رضا قومه فأخذ برضا اللّه.

ص: 309


1- التوراة ، سفر التثنية الفصل العشرون / 10 - 14.

4 - غزوة خيبر أو بؤرة الخطر :

اشارة

كانت منطقة خيبر منطقة واسعة خصبة تقع على بعد 176 كيلومتراً من المدينة وكانت تسكنها قبائل من اليهود مشتغلين فيها بالزراعة وجمع الثروة ، وكانوا متسلّحين بأقوى الوسائل الدفاعيّة ، حيث كان عدد نفوسهم يقارب عشرين ألف نسمة بينهم عدد كبير من الأبطال الشجعان (1).

إنّ النبي الأكرم قد أجلى بني قينقاع وبني النضير من المدينة ، وأباد بني قريظة ، وظلّ السلام يخيّم على المدينة وأطرافها ، غير أنّه كان بقرب المسلمين حصن حصين ليهود خيبر ، وهم الذين شجّعوا جميع القبائل العربية على محاربة الحكومة الإسلامية والقضاء عليها ، فلم يكن النبي صلی اللّه علیه و آله أن يضرب الصفح عنهم ولا يفكّر فيهم ، وهم الذين موّنوا جيش العرب بأموالهم ، وثرواتهم ، ووعدوهم بثمار المدينة.

وبما أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله قد عقد الصلح مع قريش في السنة السادسة من الهجرة واطمئنّ من جانبهم ، وبما أنّه راسل الملوك والسلاطين ودعاهم جميعاً إلى الإسلام ، فلم يكن من المستبعد أن يستغلّ كسرى وقيصر يهود خيبر فيتعاونوا على القضاء على الإسلام.

ومن هنا رأى النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله أن لا يضيّع هذه الفرصة حيث انّ قريش صالحت رسول اللّه على أن لا تتعاون عليه ، فقد فرغ باله من جانبهم ، فلو دخل هو في محاربة اليهود ، لما ساعدتهم قريش ، ولكن كان من الممكن أن تقوم قبائل النجد بمساعدتهم ، فخطّط رسول اللّه للإستتار ، وفاجأهم على وجه لم يعلموا به حتّى وجدوا جيش المسلمين أمام حصونهم.

ص: 310


1- تاريخ الطبري ، ج 2 ص 46 ، السيرة الحلبية ج 3 ص 36.

غادر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المدينة وأمر أن ينادى فيها بأنّه لا يخرج معي إلاّ راغب في الجهاد ، أمّا الغنيمة فلا ، واستخلف فيها نميلة بن عبد اللّه الليثي ، فأخذ يسير إلى شمال المدينة ، وكان المسلمون يظنّون أنّه يريد غزو قبائل غطفان وقزارة الذين تعاونوا مع قريش في معركة الأحزاب ، ولكنّه عندما وصل أرض الرجيع ، عرّج بجيشه صوب خيبر ، وبهذا قطع الطريق على أيّة إمدادات عسكرية من ناحية الشمال إلى خيبر ، وحال بين قبائل غطفان وقزارة ويهود خيبر ، فعلى الرّغم من أنّ الحصار إمتدّ على اليهود قرابة شهر لم تستطع القبائل المذكورة أن تمدّ حلفاءهم اليهود بأيّ شيء (1).

فلمّا نزل النبيّ صلی اللّه علیه و آله قرب خيبر مع 1600 مقاتل والخيبريّون بين عشرين ألف نسمة ، دعا بهذا الدعاء :

« اللّهم ربّ السموات وما أظللن ، وربّ الأرضين وما أقللن ... نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها ، ونعوذ بك من شرّها وشرّ أهلها وشرّ ما فيها » (2).

وهذا الدعاء يكشف عن نوايا النبي وهو يدعو به أمام 1600 من جنوده الشجعان الذين كان كل واحد منهم شعلة وهّاجة من الشوق إلى القتال في سبيل اللّه ، ولكنّ هذا الدعاء أنار الهدف من هذا الغزو وأنّه يطلب خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها ، ثمّ أمر بإحتلال المواقع والمواضع الحسّاسة ليلاً بحيث لم يقف واحد من الخيبريين ، ولا القاطنين في أبراج حصونهم السبعة على قدوم المسلمين ، واحتلالهم القلاع السبع ، وصدّ الطريق على سائر القبائل ، ولمّا طلع الشمس خرج الفلاّحون من الحصن مغادرين بيوتهم إلى مزارعهم وبساتينهم ، ففوجئوا بجيش التوحيد ، فرجعوا إلى حصونهم وهم يقولون : محمد والجيش معه. فبادروا إلى إغلاق أبواب الحصون. ثمّ عقدوا إجتماعاً عسكرياً داخل حصنهم المركزي ، فلمّا رأى رسول اللّه مساحي اليهود ، إستغلّ تلك المنظرة فقال :

ص: 311


1- السيرة النبويّة ج 2 ص 303.
2- الكامل لابن الأثير ج 2 ص 147.

« اللّه أكبر خربت خيبر. إنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ».

وقد إتّخذت اللجنة العسكرية قراراً خاصاً ، وهو أن يجعل الأطفال والنساء في واحد من الحصون ، ويجعل الطعام والذخيرة في حصن آخر ، ويستقرّ المقاتلون على الأبراج ويدافعوا عن كل حصن بالأحجار ، ثمّ يخرج الأبطال الصناديد من كلّ حصن ويقاتلون المسلمين خارجه.

كانت هذه خطّة اليهود الدفاعيّة لمواجهة جنود الإسلام ، وقد أصرّوا على تنفيذها حتّى آخر لحظة ، وبهذا التخطيط استطاعوا أن يقاوموا الجيش الإسلامي قرابة شهر كامل ، إلى أن وفّق اللّه تبارك وتعالى المسلمين بفتح هذه القلاع واحدة بعد اُخرى.

فكان أوّل حصن إفتتح حصن ناعم ، ثمّ القموص ( حصن بني أبي الحقيق ) وهكذا سائر الحصون افتتحت واحد بعد الآخر.

ثمّ إنّ الآيات الواردة في هذه الواقعة على قسمين :

قسم نزل في صلح الحديبيّة ، حيث إنّ النبي الأكرم صالح قريشاً ، وكانت تلك المصالحة مرّة في مذاق بعض الأصحاب ، فنزل الوحي بأنّهم سوف يصيبهم مغانم كثيرة يريد بها غنائم خيبر. قال سبحانه :

( وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللّهُ بِهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ) ( الفتح / 19 - 21 ).

وهذه الآيات نزلت في قصّة الحديبيّة ، وبذلك كسب النبي رضا بعض الصحابة الذين كان تهمّهم الغنيمة والفوز بالمال.

فإذا كان المراد من الآية : ( وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا ) هو غنائم خيبر يكون المراد من قوله : ( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ) هو قصّة الحديبيّة ، فقد كان للمسلمين في

ص: 312

صلحها فوز عظيم ، وإن لم يقف عليها السطحيون منهم ، كما أنّ المراد من الناس في قوله : ( وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ ) هو قريش ، وبذلك يعلم أنّ تفسير هاتين الجملتين بغزوة خيبر تفسير على وجه بعيد وإن اختاره أمين الإسلام في مجمعه.

ومن أمعن النظر في سورة الفتح يرى أنّ الجميع على سبيكة واحدة فركّز على قصّة الحديبيّة ويعد الفوز بمغانم كثيرة وليس هو إلاّ غزوة غنائم خيبر.

وقسم آخر نزل عند مغادرة النبي المدينة قاصداً إلى خيبر وهو قوله سبحانه :

( سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ) ( الفتح / 15 ).

قال الطبرسي :

« لمّا انصرف المسلمون عام الحديبيّة بالصلح وعدهم اللّه تعالى فتح خيبر وخصّ بغنائمها من شهد الحديبية دون من تخلّف عنها فلمّا انطلقوا إليها ، قال هؤلاء المخلّفون « ذرونا نتبعكم » يريدون بذلك تبديل كلام اللّه ومواعيده لأهل الحديبيّة بغنيمة خيبر خاصّة ، فأرادوا بالمشاركة ابطال هذا النبأ ، ثمّ قال سبحانه :

( قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللّهُ مِن قَبْلُ ... ) (1).

قصّة فدك والتصالح مع أهالي وادي القرى

لمّا فرغ رسول اللّه من خيبر قذف اللّه الرعب في قلوب أهل « فدك » حين بلغهم ما أوقع اللّه تعالى بأهل خيبر ، فبعثوا إلى رسول اللّه يصالحونه على النصف من فدك فقدمت عليه رسلهم بخيبر ، فقبل ذلك منهم رسول اللّه ، فكانت فدك لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خالصة لأنّه لم يوجف عليها من خيل ولا ركاب (2).

ص: 313


1- مجمع البيان ج 5 ص 114.
2- السيرة النبويّة لابن هشام ، ج 2 ص 353.

قال سبحانه : ( وَمَا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( الحشر / 6 ).

كانت فدك منطقة خصبة كثيرة الخير قرب خيبر وهي تبعد عن المدينة ما يقارب من خمس كيلومترات ، فقد شاء اللّه تبارك وتعالى أن تكون ملكاً مطلقاً للرسول الأكرم يصرفه في مصالح الإسلام والمسلمين حسبما يشاء ، ومن ثمّ وهب رسول اللّه فدكاً لابنته الطاهرة وذلك بعد ما نزل قوله سبحانه :

( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ) ( الإسراء / 26 ).

وأكّد المفسّرون من الشيعة والسنّة على أنّها نزلت في أقرباء رسول اللّه وبالأخص ابنته الزهراء علیهاالسلام فإنّها كانت أقوى مصاديق « ذى القربى » وكان المسلمون يعرفونها بأنّها هي المراد من الآية.

يقول السيوطي :

« كان علي بن الحسين السجّاد علیه السلام في الشام بعد واقعة كربلاء فسأله بعض الشاميين عن نسبه ، فتلى علي بن الحسين علیه السلام تلك الآية للتعريف عن نفسه ، فقال الشامي متعجّباً : وإنّكم القرابة التي أمر اللّه أن يعطى حقّها » ؟! (1).

نعم اختلفوا في أنّ النبي وهب ساعة نزول الآية فدكاً لابنته فاطمة أو لا ؟ فالشيعة على الأوّل ووافقهم جمع من السنّة ، وإن خالف بعضهم الآخر.

ولمّا أراد المأمون العباسي إعادة فدك إلى بني الزهراء كتب إلى المحدّث المعروف عبد اللّه بن موسى وطلب منه أن يرشده في هذا الأمر ، فوافاه الجواب بالإيجاب ، فأعاد المأمون فدكاً إلى أبناء الزهراء وذرّيتها (2).

ص: 314


1- الدر المنثور ج 4 ص 176 ، مجمع البيان : ج 3 ص 411.
2- مجمع البيان ج 3 ص 411 ، وفتوح البلدان ص 46.

وقد جلس المأمون ذات يوم على كرسي خاصّ للإستماع إلى مظالم الناس وشكاياتهم ، فكانت أوّل ما اُعطي له رسالة وصف صاحبها نفسه فيها بأنّه يدافع عن الزهراء ، فقرأ المأمون الرسالة وبكى مدّة ، ثم قال : من هذا المحامي عن الزهراء ، فقام شيخ كبير وقال : أنا هو ذا ، فانقلب مجلس المأمون من مجلس القضاء إلى مجلس الحوار بينه وبين ذلك الشيخ ووجد نفسه محجوجاً لأدلّة الشيخ ، فأمر رئيس ديوانه بالكتابة إلى عامله أن يردّ فدك إلى أبناء الزهراء ، ثمّ وشّحه المأمون بتوقيعه ، وفي ذلك يقول دعبل الخزاعي :

أصبح وجه الزمان قد ضحكا *** بردّ مأمونٍ هاشمَ فدكاً (1)

و ليست الشيعة بحاجة في ذلك المقام إلى إقامة الدلائل بأنّ فدكاً كانت ملكاً موهوباً لبنت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويكفي في ذلك ما قاله الإمام علي علیه السلام في رسالته إلى عثمان بن حنيف عامله بالبصرة :

« بلى كانت في أيدينا فدك من كلّ ما أظلّته السماء ، فشحّت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس قوم آخرين ، ونعم الحكم اللّه ! » (2).

لقد بدأ منع بني الزهراء من فدك في عهد الخليفة الأوّل ، وكان الحال على ذلك حتّى تسنّم معاوية سدّة الحكم ، فوّزع فدكاً بين ثلاثة هم مروان ابن الحكم وعمرو بن العثمان وابنه يزيد ، ولمّا ولّى الأمر مروان ابن الحكم ، سيطر على فدك بصورة كاملة ووهبها لابنه عبد العزيز وهو وهبها لولده عمر بن عبد العزيز (3).

وهو أوّل من ردّ فدك إلى بني فاطمة ، ثمّ انتزعها الخلفاء الذين توالوا بعده من أبناء الزهراء ، وكانت بأيديهم حتّى انقرض حكم الأمويين.

ص: 315


1- شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ، ج 16 ص 217.
2- نهج البلاغة ، الكتاب رقم 45.
3- شرح نهج البلاغة : ج 16 ص 216.

وقد اضطرب أمر فدك اضطراباً عجيباً أيام الخلافة العباسية ، فلمّا ولّي أبو العباس السفّاح ردّها على عبد اللّه بن الحسن بن الحسن ، ثمّ قبضها أبو جعفر من بني الحسن ، ثمّ ردّها محمد المهدي ابنه على ولد فاطمة علیهاالسلام ، ثمّ قبضها موسى الهادي بن المهدي وهارون أخوه ، لأسباب سياسيّة خاصّة ، حتّى وصل الدور إلى المأمون فردّها على الفاطميين أصحابها الشرعيّين ضمن تشريفات خاصة وبصورة رسمية ، ثمّ اضطرب أمر فدك من بعده أيضاً ، فربّما سلبت من أصحابها وربّما ردّت إليهم ، وهكذا تراوحت بين السلب والردّ.

ولقد اُستغلّت فدك في عهد الأمويين والعباسيين في أغراض سياسّية بحتة قبل أن تستغل في أغراض إقتصاديّة.

فلقد كان الخلفاء في صدر الإسلام يحتاجون إلى عائدات فدك المالية مضافاً إلى أنّهم إنتزعوها من يد الإمام علي علیه السلام لغرض سياسي ، ولكن في العصور المتأخّرة عن ذلك كثرت ثروة الخلفاء وزادت زيادة هائلة بحيث لم يكونوا بحاجة إلى عائدات فدك ، ولهذا فإنّ عمر بن عبد العزيز لمّا أعاد فدكاً إلى بني فاطمة إحتجّ عليه بنو اُميّة واعترضوا قائلين : « هجنت فعل الشيخين ، وإن أبيت إلاّ هذا فامسك الأصل واقسم الغلّة » (1).

إنّ دراسة قصّة فدك وما ورد حولها من الأقوال والآراء يحتاج إلى بسط في الكلام وهو خارج عن مقاصد هذه الموسوعة ، وقد أشبعنا الكلام فيها في بعض كتبنا الخاصّة ببيان سيرة الأئمّة الطاهرين وفي مقدّمتهم أمير المؤمنين علي علیه السلام فمن شاء فليرجع إليه.

ص: 316


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 16 ص 278.

(10) غزوات النّبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله

1 - غزوة بدر

اشارة

ليس الهدف في المقام تبيين غزوات النّبي وسراياه طيلة حياته ، فإنّ ذلك يقع على عاتق كتب السير الوافرة ، وإنمّا الهدف الإشارة إلى الغزوات الّتي قادها بعد هجرته ، ولها جذور في القرآن الكريم ، ولأجل ذلك نقتصر في عرض جهاده في سبيل اللّه على القليل منه الذي جاء ذكره في القرآن الكريم.

ومن أسمى مغازيه وأعظمها أثراً وأكبرها دويّاً غزوة بدر الكبرى التّي وقعت في « وادي بدر » المنسوب إلى « بدر بن يخلد بن نضر بن كنانة » ووادي بدر معروف ، وبينه وبين المدينة قرابة (150) كيلومترا.

بلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّ أباسفيان بن حرب ، مقبل من الشام في عير عظيمة لقريش ، فيها أموال لهم وتجارة من تجاراتهم ، فيها ثلاثون رجلاً من قريش أو أربعون ، منهم مخرمة بن نوفل وعمرو بن العاص ، فندب المسلمين إليهم وقال : هذه عير قريش فيها أموالهم ، فاخرجوا إليها ، لعلّ اللّه ينفلكموها (1) هذا ما يذكره أصحاب السير ، وهو بظاهره يكشف عن جانب من جوانب القضيّة ، ولكن كان هناك حافز آخر دفع النبي للتعرّض إلى عير قريش ، وهو أنّ المسلمين في اُمّ القرى ، كانوا يعانون من ضغط المشركين وظلمهم ، فقد كانوا يستبيحون دماءهم ويصادرون أموالهم ويخرجونهم من مساكنهم وديارهم ظلماً وبغياً ، فأراد النبي أن

ص: 317


1- السيرة النبوية لابن هشام ج 1 ص 606 - 607 ، ومغازي الواقدي ج 1 ص 20.

يوقف قريشاً على خطورة ما يفعلون ، وأنهّم إذا تمادوا في أعمالهم الإجراميّة في مكّة ، فسوف يقوم المسلمون بقيادة نبيّهم ، بسد منافذ تجارتهم ومصادرة قوافلهم.

فخرج رسول اللّه في ثمان ليال خلون من شهر رمضان واستعمل عمرو بن اُم مكتوم على الصلاة بالناس ، وردّ أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة ، فسلك طريقه من المدينة - وبعد ما قطع منازل - نزل على واد يقال له « ذفران ». وكان أبوسفيان حين دنا من الحجاز يتحسّس الأخبار ويسأل من لقى من الركبان حتّى أصاب خبراً من بعضهم أنّ النّبي قد استنفر أصحابه قاصداً إيّاه وعيره ، فحذر عند ذلك ، فاستأجر « ضمضم بن عمرو الغفاري » فبعثه إلى مكّة وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم إلى أموالهم ، ويخبرهم أنّ محمّداً قد عرض لها في أصحابه ، فخرج « ضمضم بن عمرو » سريعاً إلى مكّة ، ودخل وهو يصرخ ببطن الوادي واقفاً على بعيره ، وقد جدع بعيره ، وحوّل رحله ، وشقّ قميصه ، وهو يقول :

« يا معشر قريش ، اللطيمة ، اللطيمة ، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه ، لا أرى أن تدركوها ، الغوث ، الغوث ».

فتجهّز الناس سراعاً وقالوا : أيظن محمد واصحابه أن تكون ( عيرنا ) كعير ابن الحضري ، كلاّ واللّه ، ليعلمنّ غير ذلك ، فكانوا بين رجلين أمّا خارج وأمّا باعث مكانه رجلاً. وأوعبت قريش ، فخرجوا كلّهم إلى الغزو ، فلم يتخلّف من أشرافها إلاّ أبا لهب فبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة.

أقبل أبوسفيان بن حرب ، وتقدّم العير حذراً ، حتّى ورد الماء ، فقال ل « مجدي بن عمرو » : هل أحسست أحداً. فقال : ما رأيت أحداً أنكره ، إلاّ إنّي قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل ، ثم استقيا في شن (1) لهما ، ثم انطلقا ، فأتى أبوسفيان مناخهما ، فأخذ من أبعار بعيريهما ، ففتَّه فإذا فيه النوى ، فقال : هذه واللّه علائف يثرب ، فرجع إلى أصحابه سريعاً ، فضرب وجه عيره عن الطريق وأخذ بها جهة

ص: 318


1- أي قربة ، وهي آلة حمل الماء.

الساحل وترك بدراً يساراً ، وانطلق حتّى أسر ع.

ولمّا رأى أبوسفيان أنّه قد أحرز عيره ، أرسل إلى قريش : إنّكم إنّما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم ، فقد نجّاها اللّه ، فارجعوا.

فقال أبو جهل بن هشام : واللّه لا نرجع حتى نرد بدراً - وكان بدر موسماً من مواسم العرب ، يجتمع به سوق كل عام - فنقيم عليه ثلاثاً ، فننحر الجزر ، ونطعم الطعام ، ونسقي الخمر ، وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا ، فلا يزالون يهابوننا أبداً بعدها.

فمضت قريش حتّى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي يتوسّط بينها وبين وادي البدر كثيب.

ثمّ إنّ النّبي صلی اللّه علیه و آله أتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم ، فاستشار الناس وأخبرهم عن قريش ، فأظهر كل رأيه. فقال عمر بن الخطاب - مهوِّلاً خطورة الموقف - : إنّها واللّه قريش وعزّها ، واللّه ما ذلّت منذ عزّت ، واللّه ما آمنت منذ كفرت ، واللّه لا تسلم عزّها أبداً ، ولتقاتلنّك ، فاتّهب لذلك اُهبته ، وأعد لذلك عدّته (1).

ثمّ قام المقداد بن عمرر ، فقال : « يا رسول اللّه ، أمض لما أراك اللّه ، فنحن معك ، واللّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : ( اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) . ولكن إذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون ، فوالّذي بعثك بالحق ، لو سرت بنا إلى بَرْك الغِماد (2) ، لجادلنا معك من دونه حتّى تبلغه ». فقال له رسول اللّه خيراً ودعا له بخير.

ثمّ قال رسول اللّه : « أشِيروا عليّ أيّها الناس » وإنّما يريد ( رسول اللّه ) الأنصار ، وكان يظن أنّ الأنصار لا تنصره إلاّ في الدار ، وذلك انّهم شرطوا له أن يمنعوه ممّا

ص: 319


1- المغازي ، للواقدي ج 1 ص 48.
2- موضع بناحية اليمن ، وقيل هو أقصى حجر ، وقيل إنّها مدينة في الحبشة.

يمنعون منه أنفسهم وأولادهم ، وعند ذلك قام سعد بن معاذ ، فقال : « أنا اُجيب عن الأنصار ، وكأنّك تريدنا يا رسول اللّه ؟ » قال : « أجل » ; قال :

« فقد آمنّا بك وصدّقناك ، وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحق ، وآتيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطّاعة ، فامض يا رسول اللّه لما أردت ، فنحن معك ، فو الّذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلّف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بناعدونا غداً ، وإنّا لصبُرٌ في الحرب ، صُدُق في اللقاء ، لعلّ اللّه يريك منّا ما تقرّ به عينك ، فسر بنا على بركة اللّه ».

فسرّ رسول اللّه بقول سعد ، ونشّطه ذلك ، ثم قال : « سيروا وابشروا ، فإنّ اللّه تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين ، واللّه كإنّي الآن أنظر إلى مصارع القوم ».

ثم إنّه سبحانه يشير إلى خروج قريش من مكّة وإصرارهم على إدامة السير إلى وادي بدر ليقيموا هناك أيّاماً يسقون الخمر وتعزف عليهم القيان بقوله سبحانه : ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ) ( الأنفال / 47 ).

روى ابن عباس في تفسيرالآية : « لمّا رأى أبوسفيان أنّه أحرز عيره ، أرسل إلى قريش أن ارجعوا ، فقال أبو جهل : واللّه لا نرجع حتّى نرد بدراً ... » (1) وقد تقدّم ذكره.

إنّّ غزوة بدر ، كانت أوّل غزوة قام بها المسلمون ، ولم يكن لهم تدريب في الحرب ، ولأجل ذلك كره فريق من المؤمنين الحرب ، قال سبحانه : ( كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ المُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى المَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ ) ( الأنفا ل / 5 - 6 ).

والآية ظاهرة في كراهة لفيف من المؤمنين للخروج من المدينة عند مغادرتها ، ويحتمل أن تكون إشارة إلى كراهة بعضهم للخروج في مجلس المشورة في منطقة « ذفران » ، وقد تعرّفت على بعض نصوص الكارهين.

ص: 320


1- مجمع البيان ج 2 ص 548.

وكان أكثر المؤمنين يريدون مواجهة العير دون النفير ، مواجهة غير ذات الشوكة ، حتّى يكسبوا الأموال ويجمعوا الغنائم. وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ ) ( الأنفال / 7 - 8 ).

وقد عرفت أنّ النّبي قال لهم : « إنّ اللّه تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين » ولكنّ إرادة اللّه سبحانه غلبت على إرادتهم فالتقوا بالنفير دون العير ، لما في ذلك من إظهار للحق ، واعزاز للإسلام ، واستئصال للكافرين ، وإبطال للباطل.

إنتقال الرّسول إلى مكان قريب من بدر

ولمّا وقف الرّسول على أنّ الأنصار مستعدّون للحرب والقتال ، وأنّ حربهم وقتالهم عن رغبة ورضى ، ارتحل الرّسول من « ذفران » وقطع منازل حتّى نزل قريباً من « وادي بدر » ، فركب هو صلی اللّه علیه و آله ورجل من أصحابه يتعرّفان أخبار قريش ، فوقف صلی اللّه علیه و آله على شيخ في المنطقة ، فسأله عن قريش وعن محمّد وأصحابه.

قال الشيخ : إنّه بلغني أنّ محمّداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن كان الذّي أخبرني صدق ، فهم اليوم بمكان كذا وكذا ( فسمّى المكان الّذي به رسول اللّه ) ، وبلغني أنّ قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن كان الّذي أخبرني صدق ، فهم اليوم في مكان كذا وكذا ( فسمّى المكان الّذي فيه قريش ) ; ثم انصرف. فلمّا أمسى بعث علي بن أبي طالب مع غيره يلتمسون الخبر له ، فأصابوا راوية (1) لقريش ، وعليها غلامان لهم ، فأتوا بهما فسألوهما ، فقالا : نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء وهؤلاء وراء هذا الكثيب ; فقال لهما رسول اللّه : كم القوم ؟ قالا : كثير ، قال : ما

ص: 321


1- الإبل التي يستقي عليها الماء.

عدّتهم ؟ قالا : لا ندري ، قال : كم ينحرون كل اليوم ؟ قالا : يوماً تسعاً ويوماً عشراً ، فقال رسول اللّه القوم بين التسعمائة والألف. ثم قال لهما : فمن فيهم من أشراف قريش ؟ فسمّوا أسماء عدّة منهم ، فأقبل رسول اللّه على النّاس ، فقال : هذه مكّة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها.

ولم يكتف النّبي بما وصل اليه من الأخبار ، فأرسل بعض أصحابه حتّى نزل بدراً ، فأناخ إلى تل قريب من الماء ، ثمّ أخذ زقّاً يستقي فيه ، فسمع جاريتين تتنازعان في دين عند « مجدي بن عمرو الجهني » شيخ القبيلة ، فقالت إحداهما للاُخرى : عند ما تأتي العير غداً أو بعد غد ، فأعمل لهم ، ثمّ أقضي الّذي لك ، فقال مجدي : صدقت : ثّم خلص بينهما. فرجع إلى النّبي ، فأخبره بما سمع ، فأذعن النّبي بأنّ موضع العدو قريب وهم وراء الكثيب.

نزول النّبي في وادي بدر

لمّا كانت قلب المياه في بدر ، أسرع النبي بالسير حتّى ينزل ببدر في العدوة الدنيا ، فمضى وكان الوادي ليّناً ولكن قليل الرمل ، وجاءت الأمطار فلبّدت الأرض للنّبي وأصحابه ولم يمنعهم عن السير ، ولكن أصاب قريشاً من المطر ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه ، فخرج رسول اللّه يبادرهم إلى الماء ، حتّى إذا جاء أدنى ماء من بدر ، نزل به.

ثمّ قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله به : أشيروا عليّ في المنزل. فقال الحبّاب بن المنذر : يا رسول اللّه أرأيت هذا المنزل ، أمنزل أنزلكه اللّه ، فليس لنا أن نتقدّمه ولا نتأخّر عنه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال : بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال : فإن هذا ليس بمنزل انطلق بنا إلى أدنى ماء القوم ، فإنّي عالم بها وبقلبها ، بها قليب قد عرفت عذوبة مائه ، وماء كثير لا ينزح ، ثم نبني عليها حوضاً ونقذف فيه الآنية فنشرب ونقاتل ، ونغور ما سواها من القلب.

ص: 322

فقال رسول اللّه : يا حبّاب أشرت بالرأي ، وبادر القوم إلى الماء حتّى إذا وصلوا إلى ما يريدون نزلوا فيه. ثم أمر بالقلب فغورت ، وبنى حوضاً على القليب الّذي نزل عليه. فملي ماء ثمّ قذفوا فيه الآنية (1).

بناء العريش

فلمّا استقرّ لهم المكان إقترح سعد بن معاذ على النّبي ، فقال : يا نبي اللّه ألا نبني لك عريشاً تكون فيه ونعدّ عندك ركائبك ثم نلقى عدوّنا ، فإن أعزّنا اللّه وأظهرنا على عدوّنا ، كان ذلك ما أحببنا ، وإن كانت الاُخرى ، جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا ، فقد تخلّف عنك أقوام ، يا نبي اللّه ، ما نحن بأشدّ لك حبّاً منهم ، ولو ظنّوا انّك تلقى حرباً ما تخلّفوا عنك ، يمنعك اللّه بهم ، يناصحونك ويجاهدون معك. فأثنى عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خيراً ، ودعا له بخير ، ثم بنى لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عريش ، فكان فيه (2).

تعليق على تغوير القلب وبناء العريش

هذا ما تذكره كتب السيرة ، ولكن للنظر في كلا الأمرين المذكورين مجالاً ، أمّا تغوير القلب وطمّها ، فهو لا يناسب شأن النبي الأكرم ، فقد كان صلی اللّه علیه و آله يوصي قادة سراياه عندما كان يبعثها باُمور ، ويقول : سيروا باسم اللّه وباللّه ، وفي سبيل اللّه ، وعلى ملّة رسول اللّه ، لا تغلو ، ولا تمثّلوا ، ولا تغدروا ، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ، ولا صبيّاً ، ولا امرأة ، ولا تقطعوا شجراً إلاّ أن تضطرّوا إليها.

وفي رواية اُخرى : ولا تحرقوا النخل ، ولا تغرقوه بالماء ، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ، ولا تحرقوا زرعاً ، لأنّكم لا تدرون لعلّكم تحتاجون إليه (3).

ص: 323


1- السيرة النبويّة ج 1 ص 620 ، مغازي الواقدي ج 1 ص 53.
2- السيرة النبويّة لابن هشام ج 1 ص 620 - 621.
3- الوسائل ج 11 الباب 5 من أبواب جهاد العدو ، الحديث 2 و 3.

فإنّ من يمنع من قطع الشجرة أولى بأن يمنع من طمّ القلب الّتي حفرها رجال الخير لأجل سقاية القوافل الّتي كانت تمرّ من هذا الطريق.

وقد أشار بعض أصحابه في غزوة خيبر أن يمنع جريان الماء إلى قلاع خيبر ، فأبى (1). وقد كانت هذه سيرة وصيّة أمير المومنين فإنّه - صلوات اللّه عليه - ورد صفّين وقد سيطر أصحاب معاوية على الشريعة ، فمنعوا أصحاب علي من الإستقاء ، حتّى أصابهم العطش وضاق الأمر عليهم ، فلم يكن بد من فتح طريق الماء على أصحابه ، فحمل حملة خاطفة مع لفيف من أصحابه على الشريعة فأزال جيش معاوية عنها ، فلمّا إستولى عليها إقترح عليه بعض أصحابه أن يعتدي عليهم بالمثل ، فأبى ، وقال - مخاطباً لعسكره - : خذوا من الماء حاجتكم وارجعوا الى عسكركم وخلّوا بينهم وبين الماء ، فإنّ اللّه قد نصركم ببغيهم وظلمهم (2).

وأمّا بناء العريش للنّبي الأكرم ، فهو بمعزل من الصّحة ، فإنّ قبوله أمام أصحابه الّذين يضحّون بنفسهم ونفيسهم يثبّط من عزائمهم ، ويخفّف من مثابرتهم ، فإنّهم إذا رأوا باُمّ أعينهم أنّ سيّدهم على حالة إذا رأى بوادر الهزيمة فسيجلس على الركائب وينجي نفسه ويترك أصحابه تحت رحمة عدوّهم ، فلربّما يشكّون في صحّة دعوته ونبوّته ، فلا يصدر مثل ذلك الاقتراح من سيد مثل سعد بن معاذ المعروف بالعقل والحنكة ، ولو صدر منه - على وجه بعيد - فلن يقبله النّبي الأكرم الّذي يصفه علي علیه السلام بقوله : « كان أقرب الناس إلى العدوّ ، وكنّا إذا احمر البأس إتّقينا برسول اللّه » (3).

ص: 324


1- ناسخ التواريخ ج 2 ص 400.
2- وقعة صفّين ص 180.
3- نهج البلاغة : قسم غريب كلامه برقم 9.

إرتحال قريش من مقامهم ونزولهم وادي بدر

قد تعرّفت على أنّ النّبي الأكرم قد أسرع في الإرتحال واستقرّ في وادي بدر قبل أن ينزل العدو من وراء الكثيب ، فارتحلت قريش حين أصبحت فأقبلت ، فلمّا رأى رسول اللّه نزولهم إلى الوادي قال : « اللّهمّ هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذّب رسولك ، اللّهم فنصرك الّذي وعدتني ، اللّهم أحنهم (1) الغداة » (2).

وقال الواقدي : وكان أوّل من طلع زمعة بن الأسود على فرس له ، يتبعه ابنه ، فاستجال بفرسه يريد أن يتبوّأ للقوم منزلاً ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : اللّهم إنّك أنزلت عليّ الكتاب وأمرتني بالقتال ، ووعدتني إحدى الطائفتين ، وأنت لا تخلف الميعاد ، اللّهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها ... (3).

فلمّا اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحي ، فقالوا : أحرز لنا محمداً وأصحابه ، فاستجال بفرسه حول المعسكر ، فصوّب في الوادي وصعد ، يقول : عسى أن يكون لهم مدد أو كمين ، ثمّ رجع فقال : لا مدد ولا كمين ، والقوم ثلاثمائة إن زادوا قليلاً ، ومعهم سبعون بعيراً ، ومعهم فرسان ، ثم قال : يا معشر قريش ، البلايا (4) تحمل المنايا ، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع ، قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلاّ سيوفهم ، ألا ترونهم خُرّسا لا يتكلّمون ، يتلمّظون تلمّظ الأفاعي ، واللّه ما أرى أن يقتل منهم رجل حتّى يقتل منّا رجلاً ، فإذا أصابوا منكم مثل عددهم فما خير في العيش بعد ذلك ، فارتأوا رأيكم (5).

ص: 325


1- أي أهلكهم.
2- السيرة النبويّة ، ج 1 ص 621.
3- مغازي الواقدي ، ج 1 ص 29.
4- البلايا : جمع بليه وهي الناقة.
5- السيرة النبويّة ج 1 ص 622 ، والمغازي للواقدي ، ج 1 ص 62.

ولمّا قال الجمحي هذه المقالة أرسلوا أبا اُسامة الجشمي وكان فارساً ، فأطاف بالنّبي وأصحابه ، قال : واللّه ما رأيت جلداً ، ولا عدداً ، ولا حلقة (1) ، ولا كراعاً ، ولكنّي واللّه رأيت قوماً لا يريدون أن يعودوا إلى أهليهم ، قوماً مستميتين ليست لهم منعة ولا ملجأ إلاّ سيوفهم (2).

فلمّا سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في النّاس ، فأتى عتبة بن ربيعة ، فاستدعى منه أن يرجع بالنّاس فلبّى دعوته برحابة ، وأمره بالإنطلاق إلى أبي جهل ، ويستدعي منه نفس ذلك ، فرجع إليه وقال يا أبا الحكم : إنّ عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا ( أي أن ترجع بالنّاس وتترك الحرب ) ، فقال : « واللّه لا نرجع حتّى يحكم اللّه بيننا وبين محمّد. وما بعتبة ما قال ، ولكنّه قد رأى أنّ محمداً وأصحابه أكلة جزور ، وبين أصحابه ابنه ، فقد تخوّفكم عليه ». وبالتّالي أفسد أبو جهل على النّاس الرأي الّذي دعاهم إليه عتبة ، وجرّهم إلى التهلكة والدمار.

الشرارة الّتي أشعلت الحرب

كان القوم يتحاورون حول الحرب ، فبين داع إلى ترك الوادي واللحوق بمكّة ، وترك أمر محمّد إلى ذؤبان العرب (3) ، وبين متردّد يقدّم رجلاً ويؤخّر اُخرى ، ومحرّض يدعو إلى الإقدام والقتال ، فبينما كان القوم على هذه الحالة ، خرج الأسود بن عبد الأسد المخزوفي ، وكان رجلاً سيّئ الخلق ، فقال : أعاهد اللّه لأشربن من حوضهم ، أو لاُهدِّمنّه أو لأموتنّ دونه ، فلمّا خرج ، خرج إليه حمزة بن عبد المطلب ، فلمّا التقيا ، ضربه حمزة فأطار قدمه بنصف ساقه ، وهو دون الحوض ، فوقع على ظهره تشخب رجله دماً ، ثم حبا إلى الحوض ، حتّى وقع فيه ، يريد أن يبرّ يمينه ، فتبعه حمزة وضربه حتى قتله في الحوض.

ص: 326


1- أي سلاحاً.
2- المغازي ج 1 ص 62.
3- صعاليكهم.

وهذه الحادثة فرضت الحرب على قريش وأبطلت فكرة الرجوع ، فخرج عتبة ابن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن ربيعة ، حتى إذا فصل من الصف دعا إلى المبارزة ، فخرج إليه فتية من الأنصار. فقالوا : من أنتم ؟ فقالوا : رهط من الأنصار ، قالوا : ما لنا بكم من حاجة ، ثم نادى مناديهم : يا محمّد ، أخرج إلينا أكفّاءنا من قومنا ، فقال رسول اللّه : قم يا عبيدة بن الحارث ، وقم يا حمزة ، وقم يا علي ، فلمّا قاموا ودنوا منهم. قالوا : من أنتم ؟ قال عبيدة : عبيدة ، وقال حمزة : حمزة ، وقال علي : علي. قالوا : نعم أكفّاء كرام ، فبارز عبيدة ، وكان أسن القوم عتبة بن ربيعة ، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة ، وبارز عليّ الوليد بن عتبة ، فأمّا حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله ، وأمّا علي فلم يمهل الوليد أن قتله ، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه (1) ، وكرّ حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة ، فأسرعا قتله ، واحتملا صاحبهما.

ثّم تزاحف النّاس ودنا بعضهم من بعض ، وقد أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أصحابه أن لا يحملوا حتّى يأمرهم ، فقال : إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنّبل. ثم عدّل رسول اللّه الصفوف ، وناشد ربّه وقال : « اللّهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لن تعبد » ثم خرج رسول اللّه إلى النّاس فحرّضهم وقال : والّذي نفس محمّد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلاّ أدخله اللّه الجنّة.

ثّم إنّ رسول اللّه أخذ حفنةً من الحصباء فاستقبل قريشاً بها ، ثم قال : شاهت الوجوه ، ثم نفحهم بها. وأمر أصحابه فقال : شدّوا ، فكانت الهزيمة ، فقتل اللّه تعالى من قتل من صناديد قريش ، واُسِر من اُسر من أشرافهم وفرّ من فرّ إلى مكّة.

وكان شعار أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم بدر : أحد ، أحد. فكانت الهزيمة لقريش والنّصر للمسلمين.

* * *

ص: 327


1- جرحه جراحة لم يقم معها.

الإعانات الغيبيّة

اشارة

إنّ غزوة بدر من أعظم غزوات النّبي صلی اللّه علیه و آله ، وكان انتصاره فيها معجزة غيبيّة تفضّل بها سبحانه على اُمّة محمّد صلی اللّه علیه و آله حيث التقى في وادي بدر فئتان غير متكافئتين عدداً وعدّة ، ولقد كان عدد المشركين ثلاثة أضعاف عدد المسلمين ، كان المشكون بين تسعمائة وألف (1) وعدد المسلمين ثلاثمائة وبضع وعلى قول ثلاثمائة وثلاثة عشر لم يكن لدى المسلمين إلاّ فرسان ، وقد تعرّفت على كلمة أبي اُسامة الجشمي رائد القوم ( قريش ) « ... واللّه ما رأيت جلداً ولا عدداً ولا حلقة ولا كراعاً » (2).

ومع ذلك كلّه ، غلبت هذه الفئة القليلة تلك الفئة الكثيرة ، لقوّة إيمانها وتفانيها دون رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ودينهم ، وفي ظل إعانات غيبيّة يذكرها القرآن الكريم ، سيوافيك بيانها.

قال سبحانه : ( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( آل عمران / 123 ).

نعم ، كانوا أذلاّء ، فصاروا أعزّاء أقوياء بفضله وكرمه. قال سبحانه : ( وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) ( المنافقون / 8 ) فصاروا أعزّاء بعنايات ربّانية ، وإعانات غيبيّة تكفّل الذكر الحكيم ببيانها ونحن نذكرها إستلهاماً منه ، وتصل أنواعها إلى ثمانية ، وكان لها الدور الهام في إنتصار المسلمين.

ص: 328


1- قال الواقدي : « وخرجت قريش بالجيش يتقاذفون بالحراب ، وخرجوا بتسعمائة وخمسين مقاتلاً ، وقادوا مائة فرس ، وكانت الإبل سبعمائة بعير ، وكان أهل الخيل كلّهم دارع وكانوا مائة ، وكان في الرجالة دروع سوى ذلك » المغازي ، ج 1 ص 39.
2- المغازي ج 1 ص 62.
1 - إراءة العدو قليلاً في المنام

قد رأى النّبي في المنام وقعة بدر ، وأراه سبحانه عدد العدو قليلاً فيه ليصون المسلمين بذلك عن الفشل والتنازع ، قال سبحانه : ( إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) ( الأنفال / 43 ).

إنّ الآية تصرّح بأنّه سبحانه أراهم للنّبي في منامه قليلاً ، وبيّن أنّ سبب ذلك هو منع طروء أمرين بين المسلمين ، أشار إليهما بقوله :

أ - ( لَّفَشِلْتُمْ )

ب - ( وَلَتَنَازَعْتُمْ )

والّذي يلزم الفات النظر إليه هو أنّ اللّه سبحانه ينسب الأمرين إلى المسلمين لا إلى النّبي الأكرم ، وهذا يعرب أنّ إراءة العدو قليلين كان مؤثّراً في عزائم المسلمين لا في عزيمة النّبي الأكرم ، فإنّه ( صلوات اللّه عليه وآله ) كان ثابتاً ، قليلين كانوا أم كثيرين ، وإنّما أراهم النّبي قليلاً حتّى ينقل رؤياه إلى المسلمين حسب ما رآه ، فتشتدّ عزيمتهم وترتفع معنويّاتهم بظنّ انّ أعدائهم أقلاّء.

2 - إراءة كلّ من الفريقين الآخر قليلاً في بدء الحرب

ومن إعاناته تعالى الغيبيّة أنّه سبحانه أرى كل فريق للفريق الآخر - عند إبتداء الحرب - قليلاً ، وقد كانت تكمن في ذلك فلسفة انتصار الحق على الباطل وزهوقه ، فأرى المشركين المؤمنين قليلين ، كما أرى المؤمنين للفريق الآخر كذلك ، حتّى انّ أبا جهل قال : خذوا أصحاب محمّد بالأيدي (1).

ص: 329


1- مجمع البيان ج 2 ص 547.

إنّما أرى المشركين المؤمنين قليلين ، حتّى لا يورث ذلك رُعبا ووحشة في قلوبهم ، وقد مرّ في الإعانة الاُولى أنّه سبحانه فعل ذلك دفعاً للفشل والتّنازع.

وإنّما أرى المؤمنين للمشركين قليلين لئلاّ يتأهّبوا ويستشرسوا في القتال ، ويتخيّلوا أنّهم لا يحتاجون في دفع عدوّهم إلى بذل جهد كبير.

قال سبحانه مشيراً إلى ذلك بقوله : ( وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ) ( الأنفال / 44 ) وحاصل الآية أنّه سبحانه قلّل الفريقين في عين الآخر ، ولولا ذلك لانتهى الأمر إلى فشل المسلمين أو إلى فرار العدوّ من المعركة ، بحفظ أنفسهم. وقد تعلّقت مشيئته بإبادتهم.

3 - إراءة المشركين كثرة المؤمنين أثناء القتال

وهناك إعانة غيبيّة ثالثة وهي أنّه سبحانه أرى المؤمنين للمشركين في أثناء القتال كثيرين ، على خلاف ما أراهم إيّاه عند إبتداء القتال.

إنّ المصلحة قد اقتضت أن يُري سبحانه المؤمنين للعدو كثيرين على خلاف ما أراهم عند أوّل الحرب وذلك حتّى يتخيّل العدو أنّه وصل إلى المسلمين مددٌ كانوا بعيدين عن المعركة حتّى تتزعزع بذلك معنويّاتهم ويتقهقروا عن ميدان المعركة بعدما فتك بهم المسلمون بقتل كثيرين منهم وأسر آخرين.

قال سبحانه : ( قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ ) ( آل عمران / 13 ).

اُنظر إلى قوله سبحانه : ( يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ) فإنّ هذه الجملة ناظرة إلى أثناء الحرب ، وما ورد في الإعانة الغيبيّة الثانية ناظر إلى أوّل الحرب.

ص: 330

4 - إستغاثة المسلمين ونزول الملائكة

إنّ النّبي لمّا نظر إلى كثرة عدد المشركين وقلّة عدد المسلمين استقبل القبلة ، وقال : اللّهم أنجز لي ما وعدتني ، اللّهم إن تهلك هذه العصابة ، لا تعبد في الأرض. فما زال يهتف ربّه مادّاً ييديه حتّى سقط رداؤه من منكبيه ، فأنزل اللّه تعالى : ( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( الأنفال / 9 و 10 ).

لعلّ معنى قوله : ( وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى ) إنّه سبحانه جعل الإمداد بالملائكة بشرى للمسلمين بالنّصر ولتسكن به قلوبهم وتزول الوسوسة عنها ، وإلاّ فملك واحد كاف للتدمير.

أو لعلّ معناها : انّ الإمداد بالملائكة إمداد بالسبب والنصر الحقيقي من جانب المسبّب وهو اللّه العزيز الحكيم ، وليس للسبب أصالة ولا استقلال (1).

ثمّ إنّه سبحانه جعل عدد الملائكة في هذه الآية ألفاً ، مع أنّه سبحانه أمدّ المسلمين - حسب آية اُخرى - بثلاثة آلاف كما في قوله : ( إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُنزَلِينَ * بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الحَكِيمِ ) ( آل عمران / 124 - 126 ).

ولكنّ الاختلاف يرتفع بالإمعان بما في ذيل الآية التّاسعة من سورة الأنفال حيث قال : ( بِأَلْفٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ) أي مردفين بملائكة اُخرى ، كما يقال أردفت زيداً خلفي ، فيكون المفعول الثاني محذوفاً ، فلو كان عدد الملائكة الاُخرى ألفين ، يصير المجموع ثلاثة ألاف.

ص: 331


1- وقد تكرّر مضمون الآية في سورة آل عمران ، الآية 126.

وهناك وجه آخر لرفع الإختلاف وهو أنّ هذا العدد ( ثلاثة آلاف ) جاء في كلام النّبي عند مخاطبة المسلمين حيث قال : ( إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ ) وأمّا عدد الألف فقد جاء في كلامه سبحانه ووعده حيث قال : ( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ المَلائِكَةِ ) .

والجمع بين الآيتين بأنّه كان في ضمير النّبي أنّه سبحانه ينزّل ثلاثة آلاف ، ولكنّه سبحانه نزّل ألفاً منهم ، وما ذلك إلاّ لأنّ الملائكة لم يقتحموا المعركة اِلاَّ بشكل جزئي كما سيوافيك ، وكان الوعد والعمل به لأجل تثبيتهم وإزالة الوسوسة عنهم.

وأمّا عدد الخمسة آلاف فلم يكن إلاّ وعداً مشروطاً بأنّ المؤمنين لو صبروا على الجهاد واتّقوا معاصي اللّه ومخالفة الرسول ورجع المشركون إليهم فوراً ، فاللّه سبحانه يمددهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين أي معلَّمين.

5 - الإمداد بالنعاس

إنّ الإنسان لا يأخده النوم في حال الخوف ، وقد قيل : الخوف مسهر والأمن منوّم ، فاللّه سبحانه أمدّهم بالنّعاس وهو أوّل النوم قبل أن يثقل ، فقوّاهم - بالإستراحة - على قتال العدو.

6 - الإمداد بنزول المطر

وقد أصابهم المطر - وكانوا أحوج شيء إليه فطهّروا به أبدانهم واغتسلوا من الجنابة ، وزادهم قوّة قلب وسكون نفس وثقة بالنّصر ، وثبّت أقدامهم في الحرب بتلبّد الرّمل.

وإلى الإمدادين : الخامس والسادس يشير قوله سبحانه : ( إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ (1)

ص: 332


1- وهو الجنابة.

وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ ) ( الأنفال / 11 ).

فإلى فائدة الإمداد بالنّعاس أشار بقوله : ( أَمَنَةً مِّنْهُ ) .

وإلى فوائد نزول المطر المختلفة أشار بقوله :

1 - ( يُطَهِّرَكُم ) 2 - ( يُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ ) 3 - ( يُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ ) 4 - ( وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ ) .

7 - الإمداد بتثبيت أقدام المؤمنين

وقد كان لنزول الملائكة فائدة اُخرى ، وهي تثبيت أقدام المؤمنين في ميدان الحرب لئلاّ تزلّ أقدامهم عند هجوم العدو ، وكانت ساحة القتال رملاً.

8 - الإمداد بإلقاء الرّعب في قلوب المشركين

وقد أمدّهم سبحانه بإلقاء الرّعب في قلوب الكافرين.

يقول سبحان مشيراً إلى الإمدادين : ( إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى المَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) ( الأنفال / 12 ).

والمراد من « فَوقَ الأعناق » هي الرؤوس ، لأنّها فوق الأعناق ، كما أنّ المراد من قوله : « كُلَّ بَنَان » ، أطراف الأصابع ، ولعلّه سبحانه اكتفى به عن جملة اليد والرّجل.

وأمّا الخطاب ، فيحتمل أن يكون للملائكة ، كما استظهره أكثر المفسّرين ، أو للمؤمنين كما هو الظّاهر ، لما عرفت من أنّ الملائكة لم يقتحموا المعركة ، وإنّما كان نزولهم لأجل تثبيت القلوب.

وأمّا وجه إذلاله سبحانه قريشاً ، وأعزازه المؤمنين ، فقد بيّنه في قوله : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ

ص: 333

وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ ) ( الأنفال / 13 و 14 ).

هذه مجموعة الإعانات الغيبيّة التّي شملت المسلمين ، وقد تعلّقت مشيئته سبحانه بإختصاص الإعانات الربّانيّة بالمؤمنين ، والوساوس الشيطانيّة بالمشركين ، فقد ظهر الشيطان ، وتجسّم للكافرين يوم بدر ، وزيّن لهم أعمالهم وخروجهم بطراً ورئاء النّاس ، ثمّ قال لهم بأنّه لا يغلبكم أحد من الناس لكثرة عددكم ، وقوّتكم ، وأنا ناصر لكم ، ودافع عنكم السوء ، ولمّا التقت الفرقتان ، رجع العدو القهقرى منهزماً ، لأنه رأى عناية اللّه سبحانه بالمسلمين.

وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( الأنفال / 48 ).

وقد علّل الشيطان تقهقره بأمرين :

الأوّل : إنّه يرى ما لا تراه قريش أعني الملائكة الّذين جاءوا لنصرة المؤمنين.

الثّاني : إنّه يخاف اللّه.

إختلافهم في الفيء

إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمر بما في العسكر ، ممّا جمع النّاس ، فجُمع ، فاختلف المسلمون فيه فقال من جمعه : هو لنا ، وقال الّذين كانوا يقاتلون العدو ويطلبونه : واللّه لولا نحن ما أصبتموه لنحن شغلنا عنكم القوم حتّى أصبتم ما أصبتم ، وقال الّذين يحرسون رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : واللّه ما أنتم بأحق به منّا ، واللّه لقد رأينا أن نقتل العدو إذ منحنا اللّه أكتافهم ، وقد رأينا أن نأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه ، فخفنا على رسول اللّه كرّة العدو ، فقمنا دونه ، فما أنتم بأحقّ به منّا.

كان الأولى بالمسلمين أن يفوّضوا أمر الفيء إلى الرّسول أخذاً بالتسليم الّذي

ص: 334

أمر به المسلمون.

سُئل عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال : فينا أصحابَ بدر نزلت ، حين اختلفنا في النفل ، وساءت أخلاقنا ، فنزعه اللّه من أيدينا ، فجعله إلى رسوله ، وقال : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ( الأنفال / 1 ) (1).

وروي عن ابن عباس أنّ سبب سؤالهم هو أنّ النّبي قال يوم بدر : من جاء بكذا ، فله كذا ، ومن جاء بأسير ، فله كذا ، فتسارع الشبّان ، وبقي الشيوخ تحت الراية ، فلمّا انقضت الحرب طلب الشبّان ما كان قد نفلهم النّبي به ، فقال الشيوخ : كنّا ردءاً لكم ولو وقعت عليكم الهزيمة لرجعتم إلينا وجرى بين أبي اليسر وبين سعد بن معاذ كلام ، فنزع اللّه تعالى الغنائم منهم (2).

ما معنى الأنفال في الآية ؟

الأنفال جمع نفل ، وهو بمعنى الزيادة ، ولو أطلقت على الرواتب من الصلوات وغيرها فلأجل أنّها زيادة على الفريضة ، وربّما تستعمل في العطيّة ، ولعلّ المعنيين متقاربان.

وقد اُطلق هذا اللّفظ في الآية واُريد منه غنائم الحرب ، فيكون مساوياً لقوله سبحانه : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( الأنفال / 41 ) والآيتان نزلتا في غزوة بدر ، وسيوافيك الجمع بين مضمونيهما ، حيث جعلت الاُولى الأنفال لله. والثّانية خصّت الخمس منها لله وللرّسول ولذي القربى ، والطوائف الثلاث الاُخرى ، فانتظر.

ص: 335


1- السيرة النبويّة لابن هشام ج 1 ص 641 - 642.
2- مجمع البيان ، ج 2 ص 518.

وأمّا الغنائم التّي يحصل عليها النّبي عن غير طريق الحرب ، أي بلا إيجاف عليه بخيل ، ولا ركاب ، فيطلق عليها الفيء ، قال سبحانه : ( وَمَا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَّا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( الحشر / 6 و 7 ).

وقد نزلت الآيتان في أموال كفّار أهل القرى ، وهم بنو النضير وبنو قريظة قرب المدينة ، وفدك. وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم بني النضير للأنصار : إن شئتم قسّمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم ، وتشاركونهم في هذه الغنيمة ، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسّم لكم شيء من الغنيمة ، فقال الأنصار : بل نقسّم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ، ولا نشاركهم فيها ، وفيهم نزل قوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) ( الحشر / 9 ).

نعم ربّما تطلق الأنفال ويراد منها غير غنائم الحرب بل معنى يرادف الفيء ، أو شيئاً أوسع منه ، قال الإمام الصادق : « الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ( الفيء ) ، أو قوم صالحوا ، أو قوم أعطوا بأيديهم ، وكلّ أرض خربة ، وبطون الأودية ، فهو لرسول اللّه ، وللإمام من بعده يضعه حيث يشاء ».

وبذلك يعلم أنّ الأنفال بما أنّ له معنى وسيعاً ، يطلق على غنائم الحرب تارة ، وعلى ما يحصل عليه النّبي من غير إيجاف بخيل ولا ركاب ، وثالثاً على معنى أوسع يشمل على بطون الأودية ، ورؤوس الجبال ممّا ورد في الروايات.

ص: 336

الجمع بين مفاد الآيتين

إنّ الآيتين : ( قُلِ الأَنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ - وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَ ... ) .

نزلتا في غزوة بدر ، فعلى ضوء ذلك يكون المراد من الأنفال هو غنائم الحرب ، وقد جعله في الآية الاُولى لله وللرّسول ، وفي الآية الثانية للمسلمين إلاّ الخمس ، فخصّه لله والرسول وذي القربى والطوائف الثلاث الباقية ، فكيف التوفيق بينهما ؟ فهل الآية الثانية ناسخة للاُولى أو لا ؟

والجواب انّه لا تنافي بين الآيتين حتّى تكون الثانية ناسخة للاُولى لا تفيد إلاّ كون أصل ملكها لله وللرّسول من دون أن تتعرّض لكيفيّة التصرّف وجواز الأكل والتمتّع ، وأمّا الآية الثانية فهو يبيّن كيفيّة التصرّف والأكل والتمتع ، وتكون الثانية مبيّنة للاُولى. فأصل الملك في الغنيمة لله والرّسول ، ثمّ ترجع أربعة أخماسها إلى المجاهدين به يمتلكونها ، ويرجع خمس منها إلى اللّه والرّسول وذي القربى وغيرهم (1).

وبعبارة اُخرى : انّ أمرها مفوّض إلى اللّه ورسوله ، ثمّ بيّن سبحانه مصارفها ، وكيفيّة قسمتها في آية الخمس ، ثمّ إنّ التعبير عن الغنائم بالأنفال التّى هي بمعنى الزيادات ، لأجل الإشارة إلى تعليل الحكم بموضوعه ، كأنّه قيل يسألونك عن الغنائم ، وهي زيادات لا مالك لها بين النّاس ، وإذا كان كذلك ، فأجبهم بحكم الزيادات والأنفال ، وقل الأنفال لله والرّسول ، ومنها الغنيمة ، فهي لله والرّسول بالذات ، وإنّما يتمتّع بها المسلمون ، حسب ما ورد في الآية الثانية.

ثمّ إنّ اللام في قوله : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ ) وإن كانت للعهد ، تشير إلى غنائم الحرب ، لكنّها في قوله : ( قُلِ الأَنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ ) للجنس ، وعليه فكل ما يعدّ زيادة ، فهو لهما بالذات من غير فرق بين غنائم الحرب ، أو ما حصل عليه

ص: 337


1- الوسائل ج 6 كتاب الخمس الباب الأوّل من أبواب الأنفال ، الحديث 1 ص 364.

بغير خيل ولا ركاب ، أو ليس له مالك خاص ، فالأموال الزائدة في المجتمع نظير الديار الخالية ، والقرى البائدة ، ورؤوس الجبال ، وبطون الأودية ، وقطائع الملوك ، وتركة من لا وارث له.

نعم يقسّم قسم خاص من الأنفال بين المقاتلين ، وهو ما أوجفوا عليه بخيل وركاب ، دون الباقي ، وتفصيل الكلام في الفقه.

أخذ الأسرى قبل الدعم والإستقرار

أمر رسول اللّه بقتل أسيرين أعني النضربن حارث وعقبة بن أبي معيط لأعمالهما الإجرامية في مكّة قبل الهجرة وبعدها ، فخافت الأنصار أن يقتل الأسرى ، فقالوا يا رسول اللّه : قتلنا سبعين وهم قومك واُسرتك أتجذّ أصلهم ؟ فخذ يا رسول اللّه منهم الفداء. وقد كانوا أخذوا ما وجدوه من الغنائم في عسكر قريش ، ولمّا طلبوه وسألوه ، نزل قوله سبحانه : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَّوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الأنفال / 67 - 69 ).

إنّ الاثخان في الأرض عبارة عن التغليظ. يقال : ثخن الشيء فهو ثخيبن إذا غلظ فلم يسل ، فكنّي به عن استقرار دينه بين النّاس كاستقرار الشيء الغليظ المنجمد الثّابت بعدما كان رقيقاً سائلاً مخشيّ الزوال بالسيلان ، فالآية تحرّم أخذ الأسرى قبل أن يستقر للمسلمين أمرهم ، ويعرب عن أنّ الهدف من الأمر بقتل الأسرى ، وعدم أخذ الفداء ، لأجل انّ في اطلاق سراحهم قبل الاستقرار مظنّة إجتماعهم ، وتكاثفهم ، ووثوبهم على النّبي ، والمسلمين من جديد ، فيجب إبادتهم واستئصالهم إلى حد الإثخان الذّي لا يخاف معه عن توثّبهم وتكاثفهم مرّة اُخرى.

إنّ اتخاذ الأسرى إنّما يكون خيراً ورحمة ومصلحة للبشر إذا كان الظهور والغلب لأهل الحق والعدل ، ولولاه لانقلب شرّاً ، والّذين يقترحون أخذ الأسرى ،

ص: 338

يريدون عرض الدّنيا ، أعني المال الّذي يأخذونه من الأسرى فداء لهم ، واللّه يريد ثواب الآخرة الباقي.

والعتاب خاص بالصحابة والمسلمون الأوائل دون النّبي ، بشهادة تغيّر لحن الكلام حيث إبتدأه بقوله : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ) وانتهى بالخطاب للمسلمين ( تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا ) ، والخطاب خاص بهم لا يشمل النّبي ، وحاشا نبيّ العظمة أن يريد عرض الدّنيا.

ومن رديء الكلام ، ما مرّ في تفسير المراغْي وغيره ، من أنّه سبحانه عاتبهم على ما فعلوا بعد بيان سنّة النبيين كما عاتب رسوله (1).

والآية تعرب أنّ السنّة الجارية في الأنبياء الماضيبن هي أنّهم كانوا إذا حاربوا أعداءهم ، وظفروا بهم ينكّلونهم بالقتل لكي يضعفوا أوّلاً ، ويعتبر بهم مَنْ وراءهم ، فيكفّوا عن محادّة اللّه ورسوله ، فكانوا لا يأخذون أسرى حتّى يثخنوا في الأرض ، ويستقرّ دينهم بين النّاس ، وأمّا مسألة المنّ أو الفداء ، فإنّما هو بعدما علا أمر الإسلام ، واستقرّ في الحجاز واليمن : ( فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ) ( محمد / 4 ) ، فحكم الأسرى قبل الإثخان هو القتل ، وأمّا بعده ، فالحكم هو شدّهم في الحبال ، وسوقهم على الأقدام حتّى يتعامل معهم بأحد الأمرين : المنّ واطلاق السراح ، أو أخذ الفدية.

وبذلك يعلم أنّ الأمر بقتل الأسرى إنّما كان حكماً مؤقّتاً زمنياً مختصّاً بزمن لم يستقر أمر النّبي ولا دينه ، فكان في أخذ الأسرى مظنّة الخوف على بيضة الإسلام ، وأمّا إذا ارتفع ذلك الخوف ، وضرب الإسلام بجرانه (2) في الأرض ، فالحكم السائد هو ما جاء في سورة محمد صلی اللّه علیه و آله من المنّ ، أو أخذ الفداء ، فلربّما يستدلّ بالآية على أنّ الإسلام يسرف في إراقة الدماء ، وقتل النفوس ، لا أصل له ، لأنّ الأمر بالقتل ، وعدم أخذ الأسرى ، كان راجعاً إلى حالة خاصّة ، وهي حالة

ص: 339


1- تفسير المراغي ج 4 ص 36.
2- ضرب الإسلام بجرانه : أي ثبت واستقرّ.

عدم استقرار الإسلام في المنطقة كما كان الحال كذلك في السنوات الاُولى قبل غزوة الأحزاب ، وأمّا بعدها فقد علا أمر النّبي واستقرّ ، فلم تكن حاجة إلى قتل الأسرى ، بل كان السائد هو ما ورد في سورة محمد صلی اللّه علیه و آله من إطلاق سراحهم منّاً عليهم ، أو أخذ الفدية منهم.

بل الظروف في غزوة واحدة كانت مختلفة ، فربّما تسود في السّاعات الاُولى من الحرب حالة عدم الاستقرار والتزلزل ، ومظنّة رجوع العدو ثانياً بعد إطلاق سراحه ، فلا يؤخذ الأسرى ، والحال إنّ الحالات الأخيرة من الحرب كانت على عكس ذلك ، فلم يكن أيّة مظنّة للكرّة ، فيختصّ قتل الأسرى في غزوة واحدة بالسّاعات الاُولى أي ساعات عدم الإستقرار ، ومظنّة الكرة لا الساعات الأخيرة.

ثُمَّ إنّ الآية الثانية أعني قوله : ( لَّوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) يعرب عن عظم المعصية ، أعني أخذ الأسرى قبل الاثخان في الأرض لما فيه من مظنّة زوال الإسلام وكيانه.

كيف ولولا كتاب سابق لمسّ المسلمين ، أو المصرّين على الأخذ عذاب عظيم. وأمّا ما هو هذا الكتاب الّذي سبق ، فقد اُبهم غاية الابهام ، لأنّه أنسب في مقام المعاتبة ليذهب ذهن السامع كل مذهب ممكن ، ولا يتعيّن عنده ، فيهون عنده الأمر. ومن رديء الكلام ما مرّ في غير واحد من التفاسير : قال رسول اللّه : « إن كاد ليمسّنا في خلاف ابن الخطّاب ( حيث كان يقترح القتل خلاف الباقين حيث كانوا يقترحون الأخذ ) عذاب عظيم ، ولو نزل العذاب ما أفلت إلاّ عمر ».

ومعناه شمول العذاب ، للرّسول الأعظم ، وقد سبق من المراغي وغيره : إنّ العتاب عام يعمّ المسلمين والنّبي الأكرم ، مع أنّه سبحانه يقول : ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ) ( الأنفال / 33 ).

فالّذي يدفع بوجوده العذاب ، صار يُدفع عنه العذاب بوجود غيره. ( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ) ( الكهف / 5 ).

ص: 340

ثُمَّ إنّه سبحانه يبيح لهم - رحمة منه - ما تسلّط عليه المسلمون من أموال المشركين ، وما أخذوا من الأسرى للفداء ، ويقول : ( فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) وحاصل مضمون الآيات الثلاث عبارة عن :

1 - إنّ أخذ الأسرى قبل الاثخان غير مشروع في الشرائع السماويّة.

2 - لولا كتابٌ من اللّه سبق ، لمسّ المسلمين في أخذ الأسرى قبل الاثخان عذاب عظيم.

3 - لقد أباح اللّه سبحانه الجميع من الأموال والأسرى رحمة منه.

الوعد الجميل للأسرى

إنّ فداء كل رجل من المشركين يوم بدر كان أربعين أوقية والأوقية أربعون مثقالاً ، إلاّ العبّاس فإنّ فداءه كان مائة مثقال ، وكان اُخذ منه حين اُسر عشرون أوقية ذهباً ، فقال النّبي صلی اللّه علیه و آله : ذلك غنيمة ففاد نفسك ، وابني أخيك نوفلاً وعقيلاً. فقال : ليس معي شيء. فقال : أين الذّهب الّذي سلّمته إلى أم الفضل وقلت : إن حدث بي حدث فهو لك وللفضل وعبد اللّه وقثم ؟ فقال : من أخبرك بهذا ؟ قال : اللّه تعالى. فقال : أشهد أنّك رسول اللّه ، واللّه ما اطّلع على هذا إلاّ اللّه.

ثمّ إنّه سبحانه - رحمة منه - يعد الأسرى بأنّهم إن آمنوا ، واتبّعوا الحق ، يؤتهم خيراً ممّا اُخذ منهم ، ويغفر لهم ، ولكنّهم إن أرادوا خيانتك بعد اطلاق سراحهم بالفداء ، والعود إلى ما كانوا عليه من العناد والفساد ، فقد خانوا اللّه من قبل ، فأمكنك منهم ، وأقدرك عليهم ، وهو قادر على أن يفعل بهم ذلك ثانياً ، كما يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( الأنفال / 70 - 71 ).

ص: 341

وروي أنّه قدم مال من البحرين يقدر ب « ثمانين » ألفاً ، وقد توضّأ النّبي صلی اللّه علیه و آله لصلاة الظهر ، فما صلّى يومئذ حتّى فرّقه ، وأمر العباس أن يأخذ منه ، ويحثي ، فأخذ ، فكان العبّاس يقول : هذا خير ممّا اُخذ منّا ، وأرجو المغفرة (1).

ص: 342


1- لاحظ مجمع البيان ج 2 ص 557 - 560 ، والميزان ج 9 ص 136 - 140.

2 - غزوة أحد

اشارة

2 - غزوة أحد (1)

لقد كانت لغزوة « بدر » أصداء في عهد النّبي صلی اللّه علیه و آله وما بعده ، وقد أوجد انتصار النّبي صلی اللّه علیه و آله فيها خوفاً ووجلاً في قلوب المشركين ، خصوصاً بعد ما شاع خبر أنّ النّبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله طرح أجساد قتلى المشركين في القليب ، ووقف عليهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فخاطبهم بقوله : يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّاً ، فإنّي قد وجدّت ما وعدني ربّي حقّاً. فلمّا قيل لرسول اللّه : أتكلّم قوماً موتى ، أو أتنادي قوماً قد جيفوا ؟ فقال : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكنّهم لا يستطيعون أن يجيبوني.

فلمّا بلغ خبر انتصار النّبي صلی اللّه علیه و آله وهزيمة المشركين إلى مكّة ، ناحت قريش على قتلاها ، ثم منعت النياحة بتاتاً في مكّة ونواحيها حذراً من شماتة المسلمين أوّلاً ، واستنهاضاً لعزائمهم لأخذ الثأر ثانياً ، فإنّ النياحة والبكاء وسكب الدّموع تهبّط العزائم ، وتثبّط الهمم.

وكان الأسود بن عبد المطلب قد اُصيب له ثلاثة من ولده ، وكان يحب أن يبكي على بنيه ، ولكنّه كان يكبح جماح مشاعره حذراً من نقمة قريش ، فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة في الليل ، فقال لغلام له وقد ذهب بصره : انظر هل اُحلّ النحب لعلّي أبكي على أولادي ، فإنّ جوفي قد احترق ، فرجع الغلام وقال : إنّما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلّته.

ص: 343


1- وقعت غزوة اُحد يوم السبت لسبع خلون من شوّال في السنة الثالثة من الهجرة.

فعند ذلك أنشأ يقول :

أتبكي أن يضل لها بعير *** ويمنعها من النوم السهود

فلا تبكي على بكر ولكن *** على بدر تقاصرت الجدود (1)

باتت قريش على تلك الحالة وصدورهم مليئة بالغيظ والحقد ، وهم بصدر العزم على أخذ الثأر ، وتحيّن الفرصة المناسبة لذلك.

ولأجل ذلك مشى عبد اللّه بن أبي ربيعة ، وعكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن اُميّة ، في رجال من قريش ممّن اُصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر ، فكلّموا أباسفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة ، فقالوا : يا معشر قريش ، إنّ محمّداً قد وتركم ، وقتل خياركم ، فأعينونا بهذا المال ( اشارة إلى العير الّتي أقبل بها أبوسفيان من الشام إلى مكّة ) على حربه ، فلعلّنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منّا ، ففعلوا ، وفي ذلك نزل قوله سبحانه :

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) ( الأنفال / 36 ) (2).

فاجتمعت قريش لحرب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ومن أطاعهم من قبائل كنانة ، وأهل تهامة. وكان أبو عزّة عمرو بن عبد اللّه الجمحي قد منّ عليه رسول اللّه يوم بدر ، وكان فقيراً ، ذا عيال وحاجة ، وكان في الأسارى ، فقال : إنّي ذو عيال وحاجة ، فامنن عليّ صلّى اللّه عليك ؛ فمنّ عليه رسول اللّه. فقال له صفوان ابن اُميّة : يا أبا عزّة إنّك إمرؤٌ شاعر ، فأعنّا بلسانك ، فاخرج معنا ؛ فقال : إنّ محمداً قد منّ عليّ ، فلا اُريد أن اظاهر عليه. قال : بلى ، فاعنا بنفسك ، فلك اللّه عليّ إن رجعت أنْ أغنيك ، وإن أصبتَ أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر. فخرج أبو عزّة في تهامة.

ص: 344


1- السيرة النبويّة ج 1 ص 648.
2- السيرة النبويّة ج 2 ص 60 ، ومجمع البيان ج 2 ص 832 ، نقلاً عن أبي إسحاق.

خرجت قريش بحدّها وجدّها ، وحديدها وأحابيشها (1) ومن تابعها من بني كنانة ، وأهل تهامة ، وخرجت معهم النساء في الهوادج التماس الحفيظة وألاّ يفرّوا. فخرج أبوسفيان بهند بنت عتبة ، وخرج عكرمة بأمّ حكيم ، وهكذا.

فخرجوا حتّى نزلوا على شفير الوادي مقابل المدينة ، وهم ثلاثة آلاف بمن انضم إليهم ، وكان فيهم من ثقيف مائة رجل ، وخرجوا بعدّة وسلاح كثير ، وقادوا مائتي فرس ، وكان فيهم سبعمائة دارع ، وثلاثة آلاف بعير.

ثم إنّ العباس بن عبد المطلب أخبر النبي صلی اللّه علیه و آله بنيّة القوم ، ومسيرهم نحو المدينة وعددهم وعُدتهم ، فكتب كتاباً وختمه ، واستأجر رجلاً من بني غفار ، واشترط عليه أن يسير ثلاثاً ، فوجد رسول اللّه بقباء ، فدفع إليه الكتاب ، فقرأه عليهم اُبيّ بن كعب ، واستكتم اُبيّاً ما فيه. فدخل منزل سعد بن الربيع ، فأخبره بكتاب العباس ، وجعل سعد يقول : يا رسول اللّه إنّي لأرجو أن يكون في ذلك خير.

فلمّا سمع رسول اللّه نزولهم على شفير الوادي ، شاور قومه في الخروج عن المدينة ، أو البقاء فيها ، فاختلفت آراء أصحابه ، فكان عبد اللّه بن اُبيّ وأصحابه يكرهون الخروج ، فقالوا : يا رسول اللّه أقم بالمدينة لاتخرج إليهم ، فو اللّه ما خرجنا منها إلى عدوّ لنا قطّ إلاّ أصاب منا ، ولا دخلها علينا إلاّ أصبنا منه.

وكان الشّباب من أصحاب الرّسول يصرّون على الخروج ، ويقولون : « أخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون إنّا جبنا عنهم وضعفنا ».

فلمّا رآى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اصرار هم على الخروج. وهم يقولون : ( هي احدى الحسنيين أمّا الشهادة وأمّا الغنيمة ) ، صلّى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الجمعة بالنّاس ، ثم وعظهم ، وأمرهم بالجد والجهاد ، ثم صلّى العصر ، وصفّ النّاس له ما بين منبره وحجرته ، فجاء هم سعد بن معاذ ، وأسيد بن

ص: 345


1- الأحابيش من إجتمع إلى العرب وانضمّ إليهم من غيرهم.

حضير ، فقالا للنّاس : قلتم لرسول اللّه ما قلتم ، واستكرهتموه على الخروج ، فردّوا الأمر إليه ، فما أمركم فافعلوه ، فبينا القوم على ذلك ، إذ خرج رسول اللّه قد لبس لامّته ودرعه ، وحزم وسطها بمنطقة من حمائل سيف من أدم ، فقالوا يا رسول اللّه : استكرهناك ، ولم يكن ذلك لنا ، فإن شئت فاقعد صلّى اللّه عليك ، فقال رسول اللّه : ما ينبغى لنبيّ إذا لبس لامّته أن يضعها حتّى يقاتل ، فخرج في ألف من أصحابه (1).

عودة المنافقين القهقرى إلى المدينة :

كان عبد اللّه بن اُبيّ ممّن أبدى الإصرار على الإقامة في المدينة والتحصّن بها فلمّا رأى أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ترك رأيه وأخذ برأي الآخرين ، فقال : أطاعهم وعصاني ، ما ندري علام نقتل أنفسنا ها هنا ، فرجع بمن اتّبعه من قومه من أهل النفاق والريب ، وهم ثلث النّاس ، واتّبعهم عبد اللّه بن عمرو ، فقال : ياقوم اُذكّركم اللّه ألاّ تخذلوا قومكم ونبيّكم عندما حضر من عدوّهم ؛ قال عبد اللّه بن اُبىّ : لو نعلم أنّكم تقاتلون لما أسلمناكم ، ولكنّا لا نرى أنّه يكون قتال.

فلمّا استعصوا عليه وأبوا إلاّ الإنصراف عنهم ، قال : أبعدكم اللّه أعداء اللّه ، فسيغني اللّه عنكم نبيّه.

وفي ذلك نزل قوله سبحانه : ( وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ) ( آل عمران / 167 ).

وقد أوجد رجوع رئيس النفاق في أثناء الطريق شقاقاً وخلافاً بين أصحاب النّبي صلی اللّه علیه و آله على نحوين :

1 - فقال قوم من المسلمين : نقاتل قريشاً ، وقال آخرون : لا نقاتلهم ، وفي ذلك نزل قوله سبحانه ( فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ

ص: 346


1- المغازي للواقدي ، ج 1 ص 213 ، والسيرة النبويّة ج 2 ص 63.

أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ) ( النساء / 88 ).

فالآية تشير إلى أنّ المسلمين صاروا في أمر ما صار إليه المنافقون فرقتين مختلفتين ، فمنهم من مال إلى مقالتهم ومنهم من يخالفهم في الرأي.

2 - همّت طائفتان من المسلمين أن تأخذ برأي رئيس النفاق ، ويرجعا في أثناء الطريق ، وهما بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار ، وإليه يشير قوله سبحانه :

( وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ ) ( آل عمران / 121 و 122 ).

نزول رسول اللّه أرض أحد :

لمّا انتهى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى أحد ، جعل جبل اُحد خلف ظهره ، واستقبل المدينة ، وجعل عينين عن يساره ، وجعل الرماة وهم خمسون رجلاً على عينين (1) عليهم عبد اللّه بن جبير ، فقال لرئيسهم : انضح الخيل عنّا بالنّبل لا يأتونا من خلفنا ، إن كانت لنا أو علينا ، فأثبت مكانك لا نؤتين من قبلك.

ثم قام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وخطب النّاس وقال : إنّ جهاد العدو شديد ، شديد كربه ، قليل من يصبر عليه ، إلاّ من عزم اللّه رشده ، فإنّ اللّه مع من أطاعه ، وانّ الشيطان مع من عصاه ، فافتتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد ، والتمسوا بذلك ما وعدكم اللّه (2).

وكان للمشركين كتيبتان ميمنة عليها خالد بن الوليد ، وميسرة عليها عكرمة بن أبي جهل. وجعل رسول اللّه ميمنة ، وميسرة ، ودفع لواءه الأعظم إلى مصعب بن

ص: 347


1- جبل باُحد له هضبتان بينهما معبر ينتهي إلى ساحة القتال.
2- راجع المغازي للواقدي ج 1 ص 222 ، وللخطبة صلة.

عمير ، ودفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير ، ولواء الخزرج إلى سعد أو حباب بن المنذر ، والرماة يحمون ظهور هم يرشقون خيل المشركين بالنّبل.

وعند ذلك دنا القوم بعضهم من بعض فقدّمت قريش صاحب لوائهم طلحة بن أبي طلحة ، وصفّوا صفوفهم ، وأقاموا النساء خلف الرجال بالأكبار والدفوف ، وهند وصواحبها يحرّضن ويَذْمُرن (1) الرجال ويذكرن من اُصيب ببدر.

وصاح طلحة بن أبي طلحة : مَن لبني عبد الدار ؟ وكانت راية قريش يوم ذلك بأيدي هؤلاء ، فقال علي علیه السلام : هل لك في البراز ؟ قال طلحة : نعم ، فبرزا بين الصفين ، ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جالس تحت الراية عليه درعان ومغفر وبيضة ، فالتقيا ، فبدره عليّ ، فضربه على رأسه ، فمضى السيف حتّى فلق هامته حتّى انتهى إلى لحيته ، فوقع طلحة ، وانصرف علي (2).

ثمّ أخذ الراية أبو سعيد بن أبي طلحة ، فقتله علي وسقطت الراية ، فأخذها مسافع بن أبي طلحة ، فقتله علي. حتّى قتل تسعة نفر من بني عبد الدار ، حتّى صار لواؤهم إلى عبد لهم أسود يقال له : صوأب ، فانتهى إليه علي ، فقطع يده اليمنى ، فأخذ اللواء باليسرى ، فضرب يسراه فقطعها ، فاعتنقها باليدين المقطوعتين ، فضربه على رأسه فقتله ، فسقط اللواء ، فأخذته عمرة بنت علقمة الكنانية ، فرفعتها (3).

وقد كان لعليّ علیه السلام مواقف مشهودة كما كان لأبي دجانة ، والزبير بن العوّام ، وفي ظل بطولة هؤلاء ، ولفيف من غيرهم انهزمت قريش هزيمة نكراء لايلوون ، ونساؤهم يدعون بالويل بعد ضرب الدفاف ، فلمّا انهزم المشركون تبعهم المسلمون يضعون السلاح فيهم حتّى أخرجوهم عن الساحة ثمّ اشتغلوا بعد وضع سيوفهم على الأرض بنهب ما استولوا عليه في معسكرهم.

ص: 348


1- أي يحضضن الرجال باللوم على الفرار.
2- المغازي للواقدي ، ج 1 ص 226.
3- مجمع البيان ج 1 ص 825.

وعند ذلك قال بعض الرماة لبعض : لِمَ تقيمون ههنا في غير شيء ؟ قد هزم اللّه العدو ، وهؤلاء إخوانكم ينهبون معسكرهم ، فادخلوا معسكر المشركين ، فاغنموا مع إخوانكم. فقال بعض الرماة لبعض : ألم تعلموا أنّ رسول اللّه قال لكم : « احموا ظهورنا ، فلا تبرحوا مكانكم ، وإن رأيتمونا نقتل ، فلا تنصرونا ، وإن رأيتمونا غنمنا ، فلا تشركونا » فقال الآخر : لم يرد رسول اللّه هذا ، وقد أذلّ اللّه المشركين وهزمهم ، فادخلوا المعسكر ، فانتهبوا مع إخوانكم ، فلمّا اختلفوا خطبهم أميرهم عبد اللّه بن الجبير ، وأمرهم بأن لايخالفوا لرسول اللّه أمراً ، فعصوا ، فانطلقوا فلم يبق من الرماة مع أميرهم عبد اللّه بن الجبير إلاّ نفراً ما يبلغون العشرة ، واشترك المنطلقون في النهب ، واشتغلوا بما إشتغل به سائر المسلمين.

الهزيمة بعد الإنتصار :

قد كان الإنتصار حليف المسلمين في الغزوة ، ولكن لمّا خالف الرماة أمر رسول اللّه ، وأخلوا مكانهم ، رأى العدو أنّ جبل العينين قد أضحى خالياً من الرماة والمدافعين ، وكان جبل العينين يقع على ضفّتين يتخللهما معبر ، وينتهي مداه إلى المعسكر ، وقد أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بوقوف الرماة على الضفّتين حتّى يمنعوا من دخول العدو من هذا المعبر على ساحة القتال ، والحيلولة دون هجومه عليهم من خلفهم ، ولمّا خالف الرماة باخلائهما ، رأى العدو أنّ الفرصة مساعدة لمباغتة المسلمين ، فأدار خالد بن الوليد ومن معه من وراء المسلمين (1) فورد المعسكر من هذا المعبر على حين غفلة من المسلمين بعد ما قتل من بقي من الرماة فوق الهضبة ، وعند ذلك أثخنوا المسلمين ضرباً وقتلاً ، فألقى كل مسلم ما كان بيده مما انتهب ، وعاد إلى سيفه يسلّه ليقاتل به ولكنّ هيهات هيهات لقد تفرّقت الصفوف ، وتمزّقت الوحدة ، بعد أن كانت تقاتل تحت لواء قيادة قويّة حازمة حكيمة ، وهي الآن أصبحت تقاتل ولا قيادة لها ، فلم يكن عجباً أن ترى مسلماً يضرب مسلماً بسيفه ، وهو لا يكاد يعرفه.

ص: 349


1- ولعلّه نجح لذلك بإدارتهم على ظهر جبل اُحد حتّى دخل المعسكر من هذا المعبر.

النداء بنعي النّبي :

اشارة

والذي زاد في الطّين بلّة وأعان على تمّزق الصفوف ، وتفرّق المسلمين عن ساحة الحرب ، ولجوئهم إلى مخابئ الجبل وثناياه ، سماعهم خبراً مكذوباً يهتف بموت النّبي ، إذ نادى أحد المشركين أنّ محمّداً قد قتل ، فعند ذلك سقط ما في أيدي المسلمين ، وتفرّقوا في كل وجه ، وصعدوا الجبل ، والتجاؤا إلى المخابئ ، فلم يبق إلاّ الأقل القليل من أصحابه.

هذه هي الحالة التّي صار إليها المسلمون. وأمّا المشركون ، فقد امتلأوا فرحاً وطرباً ، واستنهضت هممهم كل يريد أن يشفي غليله بالمساعدة على الإجهاز على النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

وفي هذه المرحلة الرهيبة كيف يتصوّر حال النبيّ ؟ فهو بين تجرّع مرارة جلاء أصحابه من ساحة القتال ، وبين مضض هجوم عدوّه بشراسة وحماسة تجاه موقعه وموضعه الّذي ربض فيه.

فلم يصمد معه في ساحة المعركة إلاّ شرذمة قليلة ، وعلى رأسهم ابن عمّه علي بن أبي طالب ، وأبو دجانة سمّاك بن خرشة ، وكلّما حملت طائفة على رسول اللّه استقبلهم علي علیه السلام ، فدفعهم عنه حتّى تقطّع سيفه ، فدفع إليه رسول اللّه سيفه ذا الفقار ، وانحاز رسول اللّه إلى ناحية جبل اُحد ، فصار القتال من وجه واحد ، فلم يزل علي يقاتلهم حتّى أصابه في رأسه ووجهه ويديه سبعون جراحاً. كان علي يدافع عن ساحة النّبي ، والنّبي يريد اللجوء إلى جانب الجبل ، كان النّبي على هذه الحالة إذ عرفه أحد أصحابه وهو كعب بن مالك ، عرفه من عينيه وهما تزهران من تحت المغفر ، فنادى بأعلى صوته : يا معشر المسلمين ، أبشروا ، هذا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله . فأشار إليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أن أنصت (1) وإذا أردت أن تقف عن كثب على حقيقة الحال ، وعلى ما حاق

ص: 350


1- السيرة النبويّة ج 2 ص 83 ، والمغازي للواقدي ج 1 ص 236.

بالمسلمين من محنة وبلاء ، وتقرّق وتشتّت ، وهبوط معنويّاتهم ، وخوار عزائمهم ، فاستمع إلى هذا النص الّذي يرويه لنا ابن هشام حيث يقول :

انتهى أنس بن النضر ، عم أنس بن مالك ، إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيداللّه ، في رجال من المهاجرين والأنصار ، وقد ألقوا بأيديهم ، فقال : مايجلسكم ؟ قالوا : قتل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله . قال : فماذا تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ثم استقبل القوم ، فقاتل حتّى قتل ، وبه سمّي أنس بن مالك (1).

قد كان يوم أحد يوم بلاء ومحنة وتمحيص. أكرم اللّه تعالى فيه من أكرم بالشّهادة ، ومحص فيه من لم يكن له ثبات عزم ، وقوّة شكيمة في الدّفاع عن حريم الإسلام.

ولأجل فرار المسلمين ، وجلائهم ساحة المعركة رشق العدو بالحجارة وجه النّبي صلی اللّه علیه و آله فاثقلوه جراحاً ، فشجوا وجهه ، وكسروا رباعيته ، ولولا أنّ هنالك رجلاً مخلصين لنجدته ، لقضي الأمر ، ولكنّه سبحانه كتب على نفسه نصر المؤمنين ، وإعزاز الرّسول ، وتمكين دعوته.

إنّ النّبي صلی اللّه علیه و آله مشى وحوله لفيف من أصحابه إلى فم الشعب ، فلمّا استقرّ به الحال جاء علي بماء غسل عن وجه النبيّ الدّم ، وصب على رأسه وكان النبيّ يقول : اشتدّ غضب اللّه على من أدمى وجه نبيّه ، ونزع أبو عبيدة بن الجراح حلقتي المغفر من وجه الرّسول ، فسقطت ثنيّتاه. ولمّا وقف المسلمون على أمر النبيّ ، وعلموا موضعه تقاطروا عليه تترى من كل جانب ، والتفّوا حوله.

وأمّا قريش فطارت بنصرها سروراً ، وحسبت نفسها أنّها انتقمت لبدر أشدّ الإنتقام ، حتّى بعد ما وقفوا على أنّ النبيّ حي لم يقتل ، وحينما أراد أبوسفيان الإنصراف أشرف على الجبل ثم صرخ بأعلى صوته فقال : إنّ الحرب سجال يوم بيوم

ص: 351


1- السيرة النبويّة لابن هشام ج 1 ص 83.

أعل هبل - أي أظهر دينك - فأمر رسول اللّه أصحابه أن يقولواً : اللّه أعلى وأجلّ لا سواه ، قتلانا في الجنّة ، وقتلاكم في النار.

وقال أبوسفيان : « إنّ لنا العزّى ولا عزّى لكم ».

فأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يجيب أصحابه ويقولوا : « اللّه مولانا ولا مولى لكم ».

ثُمَّ رجعت قريش إلى أثقالهم ، وركّبوا الأثقال ، فتركوا ساحة المعركة. فخرج المسلمون يتبّعون قتلاهم ، فلم يجدوا قتيلاً إلاّ مثلوا به ، إلاّ حنظلة كان أبوه مع المشركين فترك له ، ووجدوا حمزة بن عبد المطلب عم النبيّ قد بقر بطنه ، وحملت كبده ، احتملها وحشي ، وهو قتله ، يذهب بكبده إلى هند بنت عتبة في نذر نذرته حين قتل أباها يوم بدر. وأقبل المسلمون على قتلاهم يدفنونهم ثُمَّ رجعوا إلى المدينة. فلمّا دخل النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى أزقّتها إذا النوح والبكاء في الدور. فقال : ما هذا ؟ قالوا : هذه نساء الأنصار يبكين على قتلاهنّ. وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حين سمع البكاء : لكنّ حمزة لا بواكي له ، واستغفر له. فسمع ذلك سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة ، ومعاذ بن جبل ، وعبد اللّه بن رواحة ، فمشوا في دورهم ، فجمعوا كل نائحة وباكية كانت بالمدينة للبكاء على حمزة.

وعند ذلك بدت شماتة اليهود وقالوا : لو كان نبيّاً ما ظهروا عليه ، ولا اُصيب منه ما اُصيب. وقال المنافقون للمسلمين : لو كنتم أطعتمونا ما أصاب الذي أصابوا منكم.

ثُمَّ قدم رجل من أهل مكّة على رسول اللّه ، فاستخبرهم عن أبي سفيان وأصحابه ، فقال : نازلتهم ، فسمعتهم يتلاومون يقول بعضهم لبعض : لم تصنعوا شيئاً أصبتم شوكة القوم وحدّهم ، ثمّ تركتموهم ولم تبروهم ، فقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم ، فلمّا كان الغد من يوم اُحد أذّن مؤذّن النبيّ صلی اللّه علیه و آله في المسلمين بطلب العدو ، واستنفرهم لمطاردته على أن لايخرج إلاّ من حضر الغزوة ، وخرج المسلمون ، فوقع في روع أبي سفيان أنّ أعداءه جاءوا من المدينة بمدد

ص: 352

جديد ، فخاف لقاءهم ، وبلغ النبيّ صلی اللّه علیه و آله حمراء الأسد (1) فأقام بها ثلاثة أيّام. فكان أبوسفيان وأصحابه بالروحاء ، فمرّ به معبد الخزاعي ، وكان قد مرّ بالنبيّ ومن معه ، فسأل عن شأنهم ، فقال : إنّ محمداً قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرّقون عليكم تحرّقاً ، قد اجتمع معه من كان تخلّف عنه في يومكم ، وندموا على ما صنعوا ، فيهم من الحنق شيء لم أر مثله.فلمّا سمع أبو سفيان مقالة معبد ، خاف على نفسه وأصحابه ، فشدّ عزيمته على الرجوع قول صفوان بن اُميّة حيث قال : إنّ محمداً واصحابه قد غضبوا ، وقد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذي كان ، فارجعوا ، فرجعوا إلى مكّة.

وقد قتل من المسلمين في ساحة اُحد تسعة وأربعون رجلاً ، وقتل من المشركين ستّة عشر رجلاً (2).

هذه إطلالة سريعة على غزوة اُحد تعرّضنا لذكرها ليكون معيناً على فهم ما ورد حول هذه الغزوة من آيات الذكر الحكيم ، فانّ ما ورد في المغازي والسّيرة بمثابة القرائن التي يستعان بها على رفع إجمال الآيات وما اُبهم معناه منها. وإليك إستعراض ما ورد في الذكر الحكيم مع الاشارة إلى ما يستفاد منها من عبر وعظات :

1 - حنكة النبيّ العسكريّة :

قد أوضحت الخاتمة التي آل إليها مصير المسلمين قيمة ما ألزم به النبيّ الرماة حيث قال : « احموا لنا ظهورنا فإنّا نخاف أن نؤتى من ورائنا ، والزموا مكانكم لا تبرحوا منه وإن رأيتمونا نهزمهم ، وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا ، ولا تدفعوا عنّا ، اللّهم إنّي اُشهدك عليهم ، واُرشقوا خيلهم بالنّبل ».

ص: 353


1- موضع على ثمانية أميال من المدينة.
2- لاحظ السيرة النبويّة لابن هشام ج 1 ص 85 - 105 ، ومغازي الواقدي ج 1 ، 239 - 249 ، ودلائل النبوة ص 212 - 219 وغيرها.

ولكنّ ياللأسف إنّ الرماة خالفوا الرّسول وعصوه ، فبقيت ثلّة منهم في موقفهم ، ونزل كثير منهم من الجبل للنّهب وجمع الثروة ، حتّى جاء خالد بن الوليد ، فقتل من بقي منهم ، ثّم دخل ساحة المعركة من دون مقاومة تذكر ، فأعمل السيف فيهم.

وهذا إن دَلّ على شيء فإنّما يدلّ على حنكة النبيّ العسكريّة أوّلاً ، وعلى وجود حالة عدم الرضوخ التامّ بين أصحابه لأوامره ثانياً ، حيث أوّلوا أمره صلی اللّه علیه و آله بتأويلات لغاية إشباع نهم شهواتهم بجمع المال ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه :

( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / 152 ).

وإليك تحليل ما تضمّنته هذه الآية :

أقوله سبحانه : ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ ) يدل على أنّه سبحانه وعدهم بالنصر ، ولعلّ النصر هو ما ورد في قوله سبحانه :

( بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ) ( آل عمران / 125 ).

نعم وعد سبحانه بالإنتصار بشر طين لا مطلقاً ، وقد ألمحت الآية إليهما في قوله :

1 - ( إِن تَصْبِرُوا ) .

2 - ( وَتَتَّقُوا ) .

ولكنّ الرماة المستقرّين على الهضبة لم يصبروا ، ولم يتّقوا مغبّة مخالفة الرّسول ، فآثروا حطام الدّنيا على الآخرة.

ص: 354

ب - قوله سبحانه : ( حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا ... ) يدلّ على أنّه طرأ الفشل عليهم ، وتنازعوا في أمر البقاء والمغادرة ، وعصوا أمر الرّسول ، وكان منهم من يطمح في نيل حطام الدّنيا ، ومنهم من آثر الآخرة وطاعة الرّسول على نيل شهوات الدّنيا.

ج - ولكنّ رحمته الواسعة شملتكم ، فكفّكم عن المشركين بعد ظهور الفشل والتّنازع والمعصية ، وعفى عن عصيانكم كما يدلّ عليه قوله :

( ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ) .

د - ليبتليكم : أي كان هذا الخلاف مَحَكّاً قَويّاً لتمييز الطالب للدّنيا عن طالب الآخرة ، بل لتمييز المؤمن عن المنافق ، والمؤمن الراسخ في إيمانه الثّابت على عزيمته ، من المتلوّن السريع الزوال ، ومع ذلك فإنّ اللّه سبحانه عفا عنهم بفضله كما قال :

( وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ ) .

2 - تصدّع جيش المسلمين وإنحلال زمامه :

لقد مَرَّ بك أنّ خالد بن الوليد باغت المسلمين من ورائهم ، وقد وضعوا سيوفهم على الأرض ، والتهوا بجمع الغنائم ، فعند ما رأوا سيوف العدو على رؤوسهم ، وبريق أسنّة رماحهم أصابهم الذهول ، وتفرّقوا في كلّ حدب وصوب ، فتركوا ما كان بأيديهم ، وصعدوا الجبل من دون أن يلتفتوا ورائهم إلى النبيّ والمؤمنين ، وأنّهم تركوه أثناء المعركة الطاحنة ، مع أنّ النبيّ كان يدعوهم بقوله : إليّ عباد اللّه ، إليّ عباد اللّه ، إليّ عباد اللّه ، وهم لا يلتفتون ، فعند ذلك ملأت قلوبهم الهموم بعضها أشّد من بعض ، همّ الإنتكاسة غير المرتقبة ، ثمّ همّ فقد الأحبّة والأعزّة ، ثم تعالى صوت الناعي بقتل النبيّ الأكرم ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه :

( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا

ص: 355

بِغَمٍّ لِّكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( آل عمران / 153 ) وإليك تحليل ما تضمّنته الآية :

في قوله سبحانه : ( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ ) تلويح بفرارهم عن ساحة الحرب كما أنّ قوله : ( وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ ) إشارَة إلى النداءات الّتي تعالت من فم النبيّ في تلك الأثناء ، تدعوهم للصمود والثّبات في المعركة :

وقوله : ( فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ ) إشارة إلى تراكم الغموم والهموم والآلام على قلوب المسلمين ، وقوله : ( لِّكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ ) إشعار بأنّ الغموم بلغت حدّاً نسوا معه ما فاتهم من الغنائم.

3 - على أعتاب الردّة

لم تكن زلّة القوم منحصرة بالفرار وإخلاء ساحة المعركة ، وترك النبيّ صلی اللّه علیه و آله بين يدي المشركين ، ومخالفة الرماة أوامره ، بل بلغ أمرهم إلى أبعد من ذلك غوراً ، حيث طرأ على قلوبهم ظنون أهل الجاهليّة ، فظنّوا من الظنون الّتي لا يليق بتصوّرها إلاّ أهل الجاهلية ، حيث انتابتهم حالة من الشكّ ، وإلى ذلك ونحوه يشير قوله سبحانه : ( ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) ( آل عمران / 154 ).

ولأجل الوقوف على المزيد ممّا تضمّنته الآية الشريفة السابقة نتناول التعرّض لها جملة بعد جملة.

1 - ( ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ ) .

ص: 356

النّعاس ما يسبق النوم من فتور واسترخاء ، وربّما يسمّى بالنّوم الخفيف ، وقد نزل النّعاس ، وغشى طائفة من القوم ولم يعمّ الجميع بقرينة قوله : ( يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ ) ، وكان هذا النّعاس بمثابة الرحمة بعد الغمّ الذي اعتراهم ، فأزال عنهم الخوف بغلبة النوم ليستردّوا ما فقدوا من القوّة ، وما عرض لهم من إلا رهاق والتّعب والضعف.

وكلمة ( نُّعَاسًا ) يدلّ من قوله ( أَمَنَةً ) للملازمة بين الأمنة والنوم ، وقد قيل : الأمن منوّم والخوف مسهّر ، وأمّا من هؤلاء الّذين غشيهم النّعاس دون غيرهم ؟ فيحتمل أن يكونوا هم الّذين رجعوا إلى رسول اللّه بعد الإنهزام والانكسار لمّا ندموا وتحسّروا ، فهؤلاء بعض القوم ، وهم النادمون على ما فعلوا ، الراجعون إلى النبيّ ، المحتفّون به ، وكان ذلك حينما وصل النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى فم الشعب ، ووقفت تلك الطائفة على أنّ النبيّ لا زال على قيد الحياة لم يقتل ، فرجعوا إليه يتقاطرون تترى.

2 - ( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ ) وهذه طائفة اُخرى من المؤمنين لا من المنافقين ، فإنّهم فارقوا النبيّ صلی اللّه علیه و آله ومن معه في أثناء الطريق وانخذلوا ، ولهم شأن آخر سينبّئ اللّه سبحانه بهم بعد ذلك ، وهذه الطائفة الثانية الموصوفة ب- ( أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ ) لم يكرمهم اللّه بما أكرم به الطائفة الاُولى من العفو ، وإثابة الغمّ ثمّ الأمنه والنّعاس ، بل وكّلهم إلى أنفسهم ، ونسوا كلّ شيء ، ولم يهتمّوا إلاّ بأنفسهم.

وهذه الطائفة قد استولى عليهم الخوف ، وذهلوا عن كلّ شيء سواهم ، ولمّا لم يكن الوثوق باللّه ووعده رسوله وصل إلى قرارة أنفسهم ، لأنّهم كانوا مكذّبين للرّسول في قلوبهم لا جرم عظّم الخوف لديهم ، وحقّ عليهم ما وصفهم اللّه به :

أ - ( يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ ) فكانوا يبطنون في قرارة أنفسهم : « لو كان محمد نبيّاً حقّاً ما سلّط اللّه عليه الكفّار » وهذه مقالة لا يتفوّه بها إلاّ من دان بالكفر.

ص: 357

ب - ( يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ ) والظّاهر أنّ المراد من الأمر هو الظّفر والنّصر في كلا الموردين ، والمقصود من الضمير في ( لَنَا ) هؤلاء بما أنّهم يشكّلون جزءاً من المسلمين وإن لم يكونوا منهم حقيقة ، والمعنى :

يقول بعضهم لبعض على سبيل الإنكار والإستهجان : « هَلْ لَنَا مِنَ النَّصْرِ وَالفَتْحِ والظّفر نصيب » ؟! يعنون أنّه ليس للمسلمين ( لنا ) من ذلك شيء ، وإنّ اللّه سبحانه لا ينصر محمّداً صلی اللّه علیه و آله وبما أنّ النّصر وكون الدّين حقّاً كانا متلازمين عندهم ، فاستنتجوا أنّ الدعوة المحمّديّة ليست حقّاً.

ثمّ إنّه سبحانه أجابهم في معرض تناول ذكرهم بقوله :

( إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ ) أي كلّ الاُمور بيده سبحانه حتّى النّصر والهزيمة ، وإليه دعى محمّد صلی اللّه علیه و آله ، وهو معتقد المسلمين ، ولكن بمقتضى حكمته وسننه الّتي وضعها لتسيير شؤون الخلق ، وربط فيها الأسباب بالمسبّبات ، فهو وإن وعد رسله بقوله :

( كَتَبَ اللّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) ( المجادلة / 21 ).

وقال : ( وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) ( الصافّات / 173 ).

ولكنّ تحقّق هذا الوعد مرهون بتوفّر الأسباب الكفيلة بالنصر ، فإنّه سبحانه هو الذي وضع سنّة الأسباب والمسبّبات ، فما كان سببه أقوى كان وقوعه أرجح سواء في ذلك الحقّ والباطل والخير والشر والهداية والضلالة والعدل والظلم ، ولا فرق فيه بين المؤمن والكافر ، والمحبوب والمبغوض ، ومحمد وأبي سفيان ، ولأجل ذلك كلّما توافقت الأسباب العاديّة على تقدّم هذا الدين وظهور المؤمنين كان النصر حليفهم ، وحيث لم تتوافق الأسباب كتحقّق نفاق أو معصية لأمر النبيّ أو فشل أو جزع كانت الغلبة والظهور للمشركين على المؤمنين ، وكذلك الحال في أمر سائر الأنبياء مع النّاس.

وإنّكم أيّها المنضوون تحت لواء المسلمين قد عصيتم أمر الرسول ،

ص: 358

ولم تأتمروا بأمره ، فأخليتم مواقعكم عاصين لأمره وآثرتم حطام الدّنيا والأدنى الخسيس ، ومع ذلك تترقّبون النصر لكم والهزيمة للعدو ! فكيف يقتطف الثمرة من لم يغرس شجرتها أو غرسها ولم يقم بأمرها ؟

ثم إنّه سبحانه بعد هذه الإجابة يأخذ بتبيين ما كان يخامرهم من الأفكار الفاسدة.

ج - ( يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ) .

الظّاهر أنّ قولهم : ( يَقُولُونَ لَوْ كَانَ ... ) تفسير للموصول في ( مَّا لا يُبْدُونَ ) والفرق بين ما كانوا يظهرونه وما يضمرونه واضح ، فقد كانوا يتظاهرون بالاستفسار في قولهم : « هل لنا من الأمر شيء » لغاية التشكيك ، وهي وإن كانت فكرة خاطئة ولكن لمّا غلّفت بطابع الإستفسار لم تكن ذات بأس شديد.

ولكنّهم كانوا يخفون قولهم : ( لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ) يريدون بذلك الاستدلال على بطلان الدعوة المحمّدية بحجّة الانكسار لأنّ النبيّ الأكرم كان يقول : الأمر بيد اللّه وأنا رسوله ، فلو كان ما يدّعيه حقّاً بأنّ الأمر كان بيد اللّه لا بيد الآلهة والأرباب المعبودة بين الناس وكان محمّد من جانبه لعمّنا النصر ، ولكنّه النهاية كانت على العكس من ذلك ، فكيف يمكن أن يكون الأمر بيد اللّه غير مقسّم على الآلهة والأرباب المدبّرة للاُمور بزعمهم.

ولأجل انّ تلك الفكرة كانت فكرة أهل الشرك والوثنيّة سمّاها سبحانه ( ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ ) .

ولكنّهم تناسوا ما جرت عليه سنّته الحكيمة ، فإنّ الأمر بيد اللّه ولكنّها تجري وفق الأسباب والمسبّبات ، فمن لم يأخذ بأسباب النصر لم يكن حليفه.

ثم إنّه سبحانه أجاب عن تلك الفكرة بوجوه ثلاثة :

ص: 359

الأوّل : ( قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ) فالآجال محدودة والأعمار مؤقتّة بوقت لا تتعدّاه ، فإن قتل من قتل منكم في المعركة ليس دليلاً على عدم كون الأمر بيد اللّه أو أنّ الدعوة المحمّديّة ليست على حق ، بل لأجل القضاء الإلهي الّذي لا مناص من الوقوع في نفوذه وامضائه ، فقد كان في قضائه اضطجاع هؤلاء في هذه المضاجع ، فلو لم تكونوا خرجتم إلى القتال لبرز الّذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ، فلا مفرّ من الأجل المسمّى الّذي إذا حان لا يتقدّم ساعة ولا يتأخّر.

الثاني والثالث : ( وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ) أي وقع ما وقع في غزوة اُحد لظهور ما انطوت عليه سريرة كلّ نفس حتّى يتميّز المؤمن من المنافق والمجاهد من المتقاعد ، وقد جرت سنّة اللّه على عموم الابتلاء والتمحيص وهي حاكمة على جميع الاُمم لغاية التمحيص.

نعم ليست الغاية من ابتلائه سبحانه لعباده هو التعرّف لما يكمن في ضمائرهم فإنّه سبحانه عليم بالسرائر مطّلع على الضمائر لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء ، بل الغاية هي الإبتلاء والتمحيص ووصول كلّ ما بالقوّة إلى الفعل من الكفر والإيمان ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) .

وحصيلة البحث : انّ هذه الآية تشير إلى فريقين من المسلمين والمؤمنين الملتفّين حول الرسول المتنكّبين عَن المنافقين.

( أحدهما ) : طائفة وهبهم اللّه عزّ وجلّ بعد الغمّ نعاساً أمنة منه لإزالة ما انتابهم من الروع والخوف والتفّوا حول الرسول بعد الندم.

( ثانيهما ) : طائفة شغلتهم أنفسهم لا يتجاوز تفكيرهم نطاق ذاتهم من دون أن يتوجّهوا قيد طرفة صوبَ قائدهم ونبيّهم ، وقد اعترتهم هواجس الجاهليّة الاُولى ، فتارة يتفوّهون بها علانية بنحو من الشك والترديد والاستفسار بقولهم : ( هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْء ) واُخرى بصورة الجزم والقطع واليقين بنحو الاخفاء والاسرار

ص: 360

بقولهم : ( لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ) .

واللّه سبحانه يجيب عليها :

1 - بأنّ أمر النصر بيد اللّه كما أخبر به النبيّ صلی اللّه علیه و آله ولكنّه مرهون بعوامل وأسباب غيبيّة واُخرى اكتسابيّة خاصّة ، وأنتم أيّها المعترضون قد فوّتم تحصيل تلك الأسباب والعوامل ، فلا يحق لكم الاعتراض بعد تقصيركم.

2 - بأنّ لكل نفس أجلاً محدّداً لا يتقدّم عليه ولا يتأخّر.

3 - إنّ في هذه النكسة الفادحة تمحيص لما في الصدور والقلوب فقد تميّز به المؤمن المثابر من المتظاهر بالإيمان ، وبذلك يعلم أنّ القول بأنّ الصحبة كافية في تحقيق إتّصاف الرجل بالعدالة والنزاهة والإستقامة شيء لا حقيقة له ولا أساس وقد تحقّق لديك بفضل هذه الآيات أنّ أصحاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله إنقسموا إلى طوائف : فمن منافق نكص على عقبيه في أثناء الطريق ولم يشترك في القتال وتذرّع بقولهم : ( لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ ) ( آل عمران / 167 ).

ومن مؤمن كابر أمر الرسول وخرج عن طاعته وأخلى ساحة القتال ولكنّه لم تنتابه وتعتريه شبهات وظنون أهل الجاهليّة ، فتاب ورجع إلى النبيّ بعد جلاء المعركة وهم من مصاديق قوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ) ( الأعراف / 201 ).

ومن متظاهر بالإيمان لم يتمكّن الإيمان من قلبه حقّ التمكّن ، فلمّا حاق به البلاء ورأى الانتكاسة المروّعة الرهيبة ، ارتدّ القهقري وصار يتفوّه بمقولات أهل الشرك والجاهلية.

أضف إلى ذلك ، الطائفة الثالثة الذين رجعوا أثناء الطريق ولم يساهموا النبيّ والمسلمين ، وهؤلاء هم أتباع عبد اللّه بن اُبيّ المنافقون.

ص: 361

أفبعد هذا يصحّ لنا القول بأنّ كلّ صحابي عادل ؟!! وانّ العدل والصحبة متلازمان كلا ومن يذهب إليه فإنّما يجترئ عظيماً.

والذي يعرب عن أنّ بعضهم قد بلغ به الحال إلى المشارفة على أعتاب الرّدة قوله سبحانه : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا ) ( آل عمران / 144 ).

قال أنس بن النضر : في السّاعة التي زاغت فيها الأبصار والبصائر وبلغت القلوب فيها الحناجر ، وحين فشا في النّاس أنّ رسول اللّه قد قتل ، وقال بعض ضعفاء المؤمنين ليت لنا رسولاً إلى عبد اللّه بن اُبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان (1) وقال ناس من أهل النّفاق : إن كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأوّل. قال أنس : إن كان محمد قد قتل فإنّ ربّ محمّد لم يقتل ، وما تصنعون بالحياة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه ، ثمّ قال : اللّهم إنّي أعتذر إليك ممّا قال هؤلاء ، وأبرأُ إليك ممّا جاء به هؤلاء ، ثمَّ شدّ بسيفه فقاتل حتّى قتل رضی اللّه عنه ، كما مرّ (2).

فمحصّل معنى الآية على ما فيها من سياق العتاب والتوبيخ : إنّ محمّداً صلی اللّه علیه و آله ليس إلاّ رسولاً من اللّه مثل سائر الرّسل ليس شأنه إلاّ تبليغ رسالة ربّه لا يملك من الأمر شيئاً ، وإنّما الأمر لله والدين دينه باق ببقائه ، فما معنى اتّكاء إيمانكم على حياته ، حيث يظهر منكم أنّ لو مات أو قتل تركتم القيام بالدين ورجعتم إلى أعقابكم القهقري واتّخذتم الغواية بعد الهداية ؟

وهذا السياق أقوى شاهد على أنّهم ظنّوا يوم أُحد بعد أن حمى الوطيس انّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قد قتل فانسلّوا عند ذلك وتولّوا عن القتال.

ص: 362


1- مجمع البيان : ج 1 ص 513.
2- لاحظ ص 332.

القصاص بالقسط :

إنّ المشركين لمّا مثّلوا بقتلى المسلمين في اُحد وبحمزة بن عبد المطلب فشقّوا بطنه ، وأخذت هند بنت عتبة كبده فجعلت تلوكه ، وجدعوا أنفه واُذنه ... قال المسلمون : لئن أمكننا اللّه منهم لنمثّلنّ بالأحياء منهم فضلاً عن الأموات ، وفي ذلك نزل قوله سبحانه : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ) (1).

وروى السيوطي في الدر المنثور عن ابن عبّاس قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم قتل حمزة ومثّل به : لئن ظفرت بقريش لاُمثلنّ بسبعين رجلاً منهم ، فأنزل اللّه : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ ) الآية ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « بل نصبر يا ربّ. فصبر ونهى عن المثلة » والظّاهر أنّ الحكاية الاُولى أوثق وذلك لأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أجلّ وأعلى شأناً من أن يتمنّى قصاصاً فيه اجحاف وانتقاص بالآخرين.

وروى البيهقي عن محمّد بن كعب القرظي قال : لمّا رأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حمزة بالحال التي هو بها حين مثّل به ، قال : لئن ظفرت بقريش لاُمثلنّ بثلاثين منهم ، فلمّا رأى أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما به من الجزع قالوا : لئن ظفرنا بهم لنمثلنّ بهم مثلة لم يمثّلها أحد من العرب بأحد ، فأنزل اللّه عزّ وجلّ : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ) إلى آخر السورة فعفا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (2).

والإختلاف بين الحكايتين واضح لكنّ محمّد بن كعب القرظي من بني قريظة الذين تمّت إبادتهم أيام رسول اللّه في المدينة ولم يبق منهم إلاّ قلّة قليلة ، ولا يعبأ بنقله ، ولعلّ غرضه الازدراء بالنبيّ وادّعاء عدم قيامه بمقتضى العدل.

ص: 363


1- مجمع البيان : ج 3 ص 605.
2- دلائل النبوّة ، ج 3 ص 286 ، والسيرة النبويّة لابن هشام ج 2 ص 95.

مطاردة العدو :

ثمّ إنّه لمّا بلغ رسول اللّه أنّ العدو بصدد معاودة الكرّة إلى المدينة حتّى يستأصل بقية المسلمين ، فأمر رسول اللّه المؤذّن أن يؤذّن بالخروج إلى مطاردة العدو وأن لا يخرج إلاّ من حضر الأمس في المعركة ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / 172 - 175 ).

ويستفاد من جملتها :

( أوّلاً ) : إنّ المؤمن إذا انتابته الهزيمة واعتراه الإنكسار الظاهري لا يصل به الأمر إلى فقد الثقة باللّه سبحانه وتعالى ، فلو تمكّن من معاودة الكرّة لتحقيق الإنتصار لهبّ مسرعاً ولم يقعد به القرح ولا يكون جليس البيت لأجل ملمّة ألمّت به ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ ... ) .

( وثانياً ) : لو بلغهم تأهّب العدوّ لكرّ عليهم ثانياً وجاءت النذر يخوفونهم من بأس العدو ومازادهم إلاّ إيماناً وثقة وانقطاعاً إلى اللّه وقالوا : ( حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) .

( وثالثاً ) : إنّ ما جاءت به النذر من الأنباء إنّما كانت من الشياطين الّذين يخوّفون أولياءهم ، وأمّا المؤمنون فإنّهم قد خرجوا عن نطاق تأثير تلك الإرهاصات النفسيّة.

غزوة اُحد بين السلبيات والإيجابيّات :

اشارة

إنّ غزوة اُحد كسائر الغزوات التي تمخّض عنها ما هو سلبي وما هو إيجابي ، وقد ورد في الذّكر الحكيم آيات تشير إلى جملتها ، وإليك نصوصها مشفوعة بما

ص: 364

يليق بها من التحليل :

قال عزّ وجلّ : ( وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) .

( وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ) .

( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) .

( وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ) ( آل عمران / 140 - 143 ).

( مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) ( آل عمران / 179 ).

ويستفاد من هذه الآيات ما يلي :

1 - الانتصار والانكسار من سنن اللّه :

إنّ من سنن اللّه تعالى الطبيعية في الاُمم انّه لم يكتب على جبين اُمّة السيادة والإنتصار في جميع الأزمنة والأمكنة ، وكذلك شأن الهزيمة. فهي تعيش بين هذين مقبلة ومدبرة تارة اُخرى كما يشير إليه قوله سبحانه :

( وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ... ) .

2 - التمحيص بالمحنة والبلاء :

إذا كتب النصر على جبين اُمّة على ممرّ الأعصار والدهور لم يتميّز المؤمن عن المنافق والصابر المجاهد عن المتهاون المتقاعد ، وقد كان المسلمون قبل لقاء العدوّ

ص: 365

يتمنّون الموت ولكنّهم فشلوا في الإمتحان عند اللّقاء كما يشير إليه قوله : ( وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ ... ) وقد طبّقت غزوة اُحد ذلك المقياس وقد عرفت ما آل إليه جيش المسلمين حيث إنقسموا إلى ثلاث طوائف أو أكثر ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ... ) وقوله سبحانه : ( وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ) وقال أيضاً : ( مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ... ) .

3 - خُلّص الغزاة شهداء على الأعمال :

وقد بلغ إخلاص بعض الغزاة إلى حدّ جعلهم يتسنّمون درجة الشهادة على الأعمال وهي درجة رفيعة تحتاج إلى بصيرة مثاليّة وكماليّة في القلب حتّى يشهد على سائر إخوانه بخير أو شرّ كما يشير إليه قوله سبحانه : ( وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ) ومع ذلك فربّما يحتمل أن يراد من الشهداء في الآية هو الشهيد في المعركة والمضحّي بنفسه في سبيل إعلاء كلمة الحق.

4 - الجنّة رهن الجهاد والصمود :

إنّ إستحقاق دخول الجنّة لا يكتسب بمجرّد التفوّه بمحض عبارات اللّسان بل يحتاج إلى عظيم جهاد بالنفس والنفيس.

وإليه يشير قوله سبحانه : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) .

هذا ما يستفاد من جملة هذه الآيات ، وهناك طائفة اُخرى من الآيات وردت في شأن تلك الغزوة فيها من العظات والحكم البليغة.

ص: 366

5 - استنهاض الهمم والعزائم :

لا شكّ إنّ الهزيمة والانكسار في الحرب من أعظم عوامل تثبيط العزائم كما أنّ الإنتصار من أقوى عوامل النهوض بها وتتويجها بتاج الإستبسال والبطولة.

وبما أنّ الهزيمة كانت قد لحقت بالمسلمين في خاتمة المعركة فقد كان لها بطبيعة الحال آثار سيّئة مروّعة خصوصاً عند ظهور الأعداء عليهم فهم قد انبروا يحيكون حولها من الأراجيف ، قال علي علیه السلام : « إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره ، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه » (1) فعاد الذكر الحكيم يعالج هذا الداء المزمن الّذي استشرى في نفوس المسلمين وتمكّن في قلوبهم وذلك بإعلامهم بأنّ الموت من سنن اللّه سبحانه الحتميّة وأنّ لكلّ نفس كتاباً مؤجّلاً لا يتخلّف ولا يحيد عنه أبداً ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ) ( آل عمران / 145 ).

6 - الاعتبار بالاُمم الماضية :

إنّه سبحانه من أجل رفع معنويّات المسلمين واستنهاض هممهم يذكرّهم بالاُمم الماضية وكيف انّ فئتهم القليلة كانت تغلب الفئات الكثيرة وتجعل الصبر على البلاء دثارها وذلك لأخذ هم بأسباب النّصر من الصمود والمفاداة في سبيل إظهار الحق واعلاء كلمته ، قال سبحانه : ( وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ) ( آل عمران / 146 ).

( وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) ( آل عمران / 147 ).

ص: 367


1- نهج البلاغة قسم الحكم رقم 2.
7 - إخماد ثائرة الفتنة :

ولمّا رجع المسلمون إلى المدينة بعد أن أصابهم ما أصابهم فوجئوا بشماتة المتقاعدين والمنافقين حيث خاطبوهم بقولهم : لو كنتم معنا لما قتلتم ، وذلك ما يحكيه عنهم سبحانه بقوله : ( الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) ( آل عمران / 168 ).

وقد ورد ذلك المضمون في موضع آخر من السورة في قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) ( آل عمران / 156 ).

فهو سبحانه يجيب عن هذه الشبهة باُمور :

أ - ما أشار إليه في قوله : ( قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) وحاصله أنّ قولكم « لو أطاعونا ما قتلوا » يعرب عن أنّ القائل يعتقد بأنّ الموت والحياة بيد الانسان ولو صحّ ذلك فليدفع الموت عن نفسه ، مع أنّه سنّة اللّه الحتميّة في جميع الكائنات.

ب - بأنّ موت الإنسان في ساحة القتال مع الشرك ليس موتاً حقيقياً وإنّما هو في حقيقة الأمر ارتحال من دار إلى دار ومن حياة مادّية إلى حياة مثالية وأبدية سرمدية في خاتمة المطاف في جنات النعيم وانّ الشهداء أحياء عند ربّهم يرزقون ويستبشرون بالّذين لم يلحقوا بهم بما هم فيه من حياة بلا كآبة ووجل ، قال سبحانه :

( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / 169 - 171 ).

ثمّ إنّ المستفاد منها أنّ حياة الشهداء حياة حقيقية لها آثار جسمية ولها آثار

ص: 368

روحية ، ومن آثارها الجسميّة هو الرزق ، ومن آثارها النفسية الاستبشار ، فمن زعم أنّ المراد من حياة الشهداء هو خلودهم في صفحة تاريخ أمجاد الشعوب فقد فسّر القرآن تفسيراً مادّياً أعاذنا اللّه تعالى منه ولذلك قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله في جوابه لأبي سفيان - عندما قال : « إنّ الحرب سجال يوم بيوم » - :

« قتلانا في الجنّة وقتلاكم في النار ».

وقال الإمام الحسين حينما أمر أصحابه بالصبر :

« صبراً بني الكرام فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر وما هو لأعدائكم إلاّ كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب ، وإنّ أبي حدّثني عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر ، والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم ما كذبت ولا كذّبت » (1).

فما جاء في كلامه علیه السلام صريح في كون الحياة حياة حقيقية.

وهذه الآيات بجملتها قد تناولت غزوة اُحد بجوانبها المختلفة وهناك آيات أخرى أيضاً وردت بالتنديد بالمتقاعدين وباستنهاض هممهم مثل قوله سبحانه : ( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) ( آل عمران / 139 و 140 ).

ص: 369


1- بلاغة الحسين ص 47.

3 - غزوة الخندق

اشارة

أجلى النبي الأكرم قبيلتي « بني قينقاع » و « بني النضير » من المدينة المنوّرة إلى شمال شبه الجزيرة العربيّة فنزلت عدّة منهم قلاع خيبر ورحلت عدّة اُخرى منهم إلى الشام ولبثتا تتحيّنان الفرص لإدراك ثأرهما من النبيّ وأصحابه والإنقضاض عليهم في عقر دارهم ، وقد كان اليهود أبصر خصوم المسلمين وأشدّهم حنكة وسياسة ، فهم كانوا دعاة التوحيد في شبه الجزيرة العربية ، وكانوا ينافسون المسيحيين في سلطانهم حيث كانوا دعاة التثليث ، وفي خضمّ هذه الظروف فوجئوا ببزوغ نجم شخصيّة محمد صلی اللّه علیه و آله وكتابه الجديد حيث يدعوا إلى التوحيد بعبارات قويّة جذّابة وبمبادئ خلاّبَة تأخذ بمجامع القلوب وتستقطب الأفكار.

ولأجل ذلك اجتمعت كلمتهم على تأليب العرب وإثارة حفائظهم ضدّ محمد صلی اللّه علیه و آله فأرسلوا رسلهم إلى قريش منهم سلاّم بن أبي الحقيق ، وحيي بن أخطب ، وكنانة بن أبي الحقيق من بني النضير ، ونفراً من بني وائل حتى قدموا قريشاً فدعوهم إلى حرب رسول اللّه وقالوا : إنّا سنكون معكم حتى نستأصله ، فقالت لهم قريش : يا معشر اليهود إنّكم أهل الكتاب الاُوّل والعلم وتعلمون اختلافنا ومحمّد ، أفديننا خير أم دينه ؟

قالوا : بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق.

اللّه أكبر ما هذه الشراسة والصلافة والوقاحة ! وهم يزعمون أنّهم دعاة التوحيد وهاهم يفضّلون ويرجّحون الوثنيّة على التوحيد بملء فيهم لغاية التشفّي والإنتقام ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ

ص: 370

وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ... ) ( النساء / 51 - 52 ) (1).

فلمّا قالوا ذلك لقريش طاروا فرحاً وامتلأوا سروراً ونشطوا لإنجاح وتلبية ما دعوهم إليه من حرب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ولمّا تمكّنوا من أخذ الميثاق منهم على الحركة صوب المدينة في وقت مُخصّص ارتحلوا من مكّة إلى شمال الجزيرة فجاءوا إلى غطفان من قيس بن غيلان ومن بني مرّة ، ومن بني فزارة ، ومن أشجع ، ومن سليم ، ومن بني سعد ، ومن أسد التي هي بمجموعها تشكّل بطون غطفان ، وما زالوا بهم يحرّضونهم ويستحثّونهم ويذكرون لهم متابعة قريش إيّاهم على حرب محمد صلی اللّه علیه و آله فاجتمع أمرهم على نصرتهم ووعدهم يهود خيبر على أن يدفعوا إليهم محاصيل نخيلهم طيلة عام واحد ازاء نصرتهم لهم ومعاضدتهم إيّاهم (2).

حفر الخندق واحداثه حول المدينة :

حفر الخندق واحداثه حول المدينة (3) :

ولمّا بلغ رسول اللّه اتّفاق كلمتهم على حربه واجتماع قبائلهم على غزوه ، أخذ يخطّط لكيفيّة الدفاع وصدّ هجوم القبائل عليه في عقر داره. إذ فرق كبير بين غزوتي بدر واُحد وغزوة الخندق ، فإنّ المحاربين في هذه الغزوة المترقبة أشد شراسة وعدداً وعدّة من سلفهم ، ومن أجل ذلك فإنّ الصمود في وجهم يحتاج إلى حنكة عسكرية فائقة وتخطيط حربي متقن فاستشار أصحابه في أمرهم فقال سلمان : يا رسول اللّه إنّ القليل لا يقاوم الكثير في المطاولة ، قال : فما نصنع ؟ قال : نحفر خندقاً يكون بيننا

ص: 371


1- وقد أشبعنا الكلام في توضيح الآية في الفصل المخصّص بأهل الكتاب فراجع.
2- المغازي للواقدي ج 2 ص 446.
3- عسكر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم الثلاثاء لثمان مضت من ذي القعدة فحاصروه خمس عشرة وانصرف يوم الأربعاء لسبع بقين سنة خمس ، وقد استعمل على المدينة ابن اُمّ مكتوم.

وبينهم حجاباً فيمكنك منعهم في المطاولة ، ولا يمكنهم أن يأتوا من كل وجه ، فإنّا كنا معاشر العجم في بلاد فارس إذا باغتنا العدو نحفر خندقاً فتكون الحرب من مواضع معروفة ، فأمر رسول اللّه بالحفر من ناحية « اُحد » إلى « راتج » وجعل على كل عشرين خطوة وثلاثين خطوة (1) قوماً من المهاجرين يحفرونه ، فحملت المساحي والمعاول وبدأ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأخذ معولاً فحفر في موضع المهاجرين بنفسه وأميرالمؤمنين علیه السلام ينقل التراب من الحفرة حتى عرق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعيّ وقال : « لا عيش إلاّ عيش الآخرة اللّهمّ اغفر للأنصار والمهاجرة » فلمّا نظر الناس إلى رسول اللّه يحفر اجتهدوا في الحفر ونقل التراب فلمّا كان في اليوم الثاني بكّروا إلى الحفر ... (2).

ومع ذلك أبطأ عن رسول اللّه وعن المسلمين رجال من المنافقين يستترون بالضعيف من العمل ويتسلّلون إلى أهليهم بغير علم من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولا إذن ، وأمّا غيرهم من المسلمين فإذا نابته النائبة من الحاجة التي لابدّ له منها يذكر ذلك لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويستأذنه في اللحوق بحاجته ، فيأذن له ، فاذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله رغبة في الخير واحتساباً له (3).

فخرجت قريش ومن لحق بها من أحابيشها أربعة آلاف فارس وعقدوا اللواء في دار الندوة وقادوا معهم ثمانمائة فرس ، وكان معهم من الظهر ألف وخمسمائة بعير لحمل أمتعتهم ومؤونتهم.

وأمّا من غير قريش فقد خرجت جموح من القبائل ، فبلغ القوم الذين وافوا

ص: 372


1- ولعلّ في النصّ سقط ، ويحتمل أن يكون الصواب بهذا النحو : وجعل على كل عشرين خطوة قوماً من المهاجرين وعلى كل ثلاثين خطوة قوماً من الأنصار ، والوجه في ذلك كثرة عدد الأنصار وقلّة عدد المهاجرين فتأمّل.
2- البحار ج 20 ص 218.
3- السيرة النبويّة لابن هشام ج 2 ص 216.

الخندق من قريش وسواهم عشرة آلاف بين راكب وراجل ، فنزلت قريش برومة ووادي العقيق في أحابيشها ومن انضوى إليها من العرب ، وأقبلت غطفان حتى نزلوا بالزغابة بجانب اُحد (1).

وخرج رسول اللّه والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين ، فضرب هنالك عسكره والخندق بينه وبين القوم (2).

بينما كانت قريش وحلفاؤها ترجو أن تلقى المسلمين باُحد ، فلم تجد عنده أحداً فجاوزته إلى المدينة حتى فاجأها الخندق ، ولم تكن عارفة بهذا الاُسلوب من الدفاع ، فرابطوا حول الخندق وعلموا أنّهم لا يستطيعون اقتحامه واجتيازه بعد جهد جهيد ، فاكتفوا بتراشق النبل والسهام عدّة أيّام متوالية وكلّما أراد بطل من أبطال الحلفاء أن يجتاز الخندق ، رُمي بالحجارة والنبل من خلف كثبان الرمل التي نصبت على أطرافه في مواقع المسلمين ، وقد استمرّت الحال على هذا المنوال قرابة خمسة عشر يوماً أو أزيد.

قال المقريزي : كان المشركون يتناوبون بينهم فيغدو أبوسفيان بن حرب في أصحابه يوماً وخالد بن الوليد يوماً ويغدو عمرو بن العاص يوماً وهبيرة بن أبي وهب يوماً وعكرمة بن أبي جهل يوماً وضرار بن الخطاب الفهري يوماً ، فلا يزالون يجيلون خيلهم ويتفرّقون مرّة ويجتمعون مرّة اُخرى ويناوشون المسلمين ويقدّمون رماتهم فيرمون ، وإذا أبوسفيان في خيل يطيفون يمضيق من الخندق فرماهم المسلمون.

حتى رجعوا وكان عبّاد بن بشر ألزم الناس لقبّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يحرسها وكان « أسيد بن حضير » يحرس في جماعة ، فاذا عمرو بن العاص في نحو المائة يريدون العبور من الخندق فرماهم حتى ولّوا ، وكان المسلمون يتناوبون الحراسة وكانوا في فقر وجوع وكان عمرو بن العاص وخالد بن الوليد كثيراً ما يطلبان

ص: 373


1- المغازي للواقدي ج 2 ص 444.
2- السيرة النبويّة ج 2 ص 220.

غرّة ومضيقاً من الخندق يقتحمانه فكانت للمسلمين معها وقائع في تلك الليالي (1).

فأقام رسول اللّه والمشركون بضعاً وعشرين ليلة ، فبينما الناس على ذلك من الخوف والبلاء ولم يكن قتال إلاّ الحصار والرمي بالنبل إلاّ أنّ فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ودّ ، وعكرمة ابن أبي جهل ، وضرار بن الخطاب ، وهبيرة بن أبي وهب ، تلبّسوا للقتال وخرجوا على خيولهم حتى مرّوا على منازل بني كنانة ووقفوا فقالوا : تهيئوا للحرب يا بني كنانة فستعلمون من الفرسان اليوم ، ثم أقبلوا تسرع بهم خيولهم حتى وقفوا على الخندق فقالوا : واللّه إنّ هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها.

ثم يمّموا شطرهم مكاناً من الخندق ضيّقاً ، فضربوا خيولهم فجالت بهم حتى عبرت الخندق فطلب عمرو بن عبد ودّ البراز مرّة بعد اُخرى إلى أن ارتجز بقوله :

ولقد بححت من النداء *** بجمعكم هل من مبارز

ووقفت إذ جبن المشجع *** موقف القرن المناجز

ولذاك إنّي لم أزل *** متسرّعاً قبل الهزائز

إنّ الشجاعة في الفتى *** والجود من خير الغرائز (2)

ثمّ قال النبي لأصحابه ثلاث مرّات : أيّكم يبرز لعمرو وأضمن له على اللّه الجنّة ، في كلّ مرّة كان يقوم عليّ فاستدانه وعمّمه بيده ، فلمّا برز قال : « برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه » وقال : « اللّهمّ إنّك أخذت منّي عبيدة بن الحارث يوم بدر وحمزة بن عبد المطلب يوم اُحد وهذا أخي عليّ بن أبي طالب ، ربّ لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين » (3).

وقال الواقدي : إنّ المسلمين كأنّ على رؤوسهم الطير لمكان عمرو وشجاعته ، فلمّا استقبله عليّ ارتجز بقوله :

ص: 374


1- امتاع الأسماع ص 241.
2- دلائل النبوّة ج 3 ص 438.
3- بحار الأنوار ج 20 ص 215 نقلاً عن كنز الفوائد للعلامة الكراجكي ص 136.

لا تعجلنّ فقد أتاك *** مجيب صوتك غير عاجز

ذو نيّة وبصيرة *** والصدق منجى كلّ فائز

إنّي لأرجو أن اُقيم *** عليك نائحة الجنائز

من ضربة نجلاء *** يبقى ذكرها عند الهزائز

فقال له عمرو : ومن أنت ؟ قال : أنا عليّ. قال : ابن عبد مناف ؟ فقال : علي ابن أبي طالب. فقال : غيرك يا ابن أخي ومن أعمامك من هو أسنّ منك فأنا أكره أن اهريق دمك.

وقال الواقدي : أقبل عمرو يومئذٍ وهو فارس وعليّ راجل فقال له عليّ علیه السلام : إنّك كنت تقول في الجاهلية : لا يدعوني أحد إلى واحدة من ثلاث إلاّ قبلتها ! قال : أجل ! قال علي : فإنّي أدعوك أن تشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمداً رسول اللّه واسلم لله رب العالمين ، قال : يا ابن أخي أخّر هذا عني. قال : فاُخرى ترجع إلى بلادك فإن يكن محمد صادقاً كنت أسعد الناس به ، وإن كان غير ذلك كان الذي تريد ، قال : هذا ما لا تتحدّث به نساء قريش أبداً ، وقد نذرت ما نذرت وحرّمت الدهن ، قال : فالثالثة ؟ قال : البراز ، قال : فضحك عمرو ، ثمّ قال : إنّ هذه الخصلة ما كنت أظن انّ أحداً من العرب يرومني عليها إنّي لأكره أن أقتل مثلك وكان أبوك لي نديماً ، فارجع فأنت غلام حدث وإنّما أردت شيخي قريش أبا بكر وعمر قال ، فقال عليّ علیه السلام : فإنّي أدعوك إلى المبارزة فأنا أحبّ أن أقتلك ، فأسفّ عمرو ونزل وعقل فرسه (1) وسلّ سيفه كأنة شعلة نار ثمّ أقبل نحو عليّ مغضباً ، فأنحى بسيفه على هامّة علي ، فصدّها علي بمجنّه فانقدّ المجن واثبت فيها السيف واصاب رأسه فشجّه ، فعاجله عليّ فضربه على حبل العاتق فسقط وثار العجاج ، وسمع رسول اللّه التكبير فعرف أنّ عليّاً قد قتله ، وعند ذلك خرجت خيلهم منهزمة حتى جاوزت الخندق هاربة ، ثمّ أقبل عليّ نحو رسول اللّه ووجهه يتهلّل ، فقال عمر بن الخطاب هلا استلبته درعه ؟ فإنّه ليس للعرب درع خير منها

ص: 375


1- المغازي للواقدي ج 2 ص 417.

فقال : ضربته فاتقاني بسواده (1) فاستحييت ابن عمي أن استلبه ثمّ أنشد يقول :

نصر الحجارة من سفاهة رأيه *** ونصرت ربّ محمد بصواب

فصددتّ حين تركته متجدّلاً *** كالجذع بين دكادك (2) ورواب

لا تحسبنّ اللّه خاذل دينه *** ونبيّه يا معشر الأحزاب (3)

استبشار المؤمنين وكآبة المشركين :

قد كان الخوف والوجل مستولياً على نفوس المسلمين منذ جاء الأحزاب وحاصروا المدينة ولمّا قتل علي بطل الأحزاب وفارسها وانهزم من كان معه من أبطالهم وذؤبانهم ، حتى انّ عكرمة بن أبي جهل ألقى رمحه يومئذٍ وفرّ ، انقلبت الاُمور رأساً على عقب ، فصار الخوف والهلع نصيب المشركين ومخيّماً عليهم. هذا من جانب ، ومن جانب آخر ، كان الوقت إذ ذاك شتاءً قارساً برده ، عاصفة رياحه ، يخشى في كل وقت مطره ، فالخيام التي ضربوها أمام يثرب لا تحميهم منها فتيلاً.

ومن ناحية ثالثة وقف أبو سفيان وحلفاؤه على أنّ الخندق مادام حائلاً بينهم وبين المسلمين والأبطال منهم يذودون عنه بالنبال والحجارة ، وما دامت بنو قريظة تمدّ المسلمين بالمؤونه امداداً ، فإنّه من الصعب العسير إحراز النصر عليهم بل بإمكانهم الصمود أمامهم على تلك الحال مدّة مديدة تطول مع الشهور ، والحل الوحيد الذي أصبح أمامهم هو أن ترجع الأحزاب إلى أدراجهم.

ولكن إجتماع هؤلاء الأحزاب على حرب المسلمين مرّة اُخرى ليس بالأمر

ص: 376


1- هكذا في المصدر ولعلّ الصحيح : بسوأته.
2- جمع « دكداك » وهو الرمل اللّين ، و « الروابي » : جمع « رابية » وهي الكدية المرتفعة.
3- السيرة النبويّة لابن هشام ج 2 ص 265.

الميسور فإن افلتت الفرصة ربّما لم يسنح لهم الزمان بمثلها في المستقبل.

هذه النهاية التي آل إليها أمر الأحزاب وكانوا في حيرة من أمرهم وغمّة شديدة.

وعند ذلك تفطّن حيي بن أخطب فتيل الفتنة بأنّ في إمكانه أن يتّصل ببني قريظة القاطنين في داخل المدينة ويحرّضهم على نقض عهدهم مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله والمسلمين ، فعند ذلك تنقطع الميرة والمؤونة والمدد أوّلاً ، وينفتح الطريق لدخول يثرب من قلاع بني قريظة ثانياً.

وخال حيي بن أخطب بأنّه جاء بمكيدة محكمة ، فعرضت فكرته على قريش وغطفان فحبّذاها وسارعا إلى انجازها فذهب بنفسه يريد كعب بن أسد صاحب عقد بني قريظة وقد أغلق كعب دونه باب حصنه إذ عرف أنّه حيى بن أخطب ، ولكنّه آخر الأمر فتح باب قلعته واعتنق نظريّته ونقض عهده مع الرسول ، وأوجد ذلك قلقاً شديداً بين المسلمين ، وقد ذكرنا تفصيله عند البحث عن أهل الكتاب ، ولكنّه سبحانه دفع شرّهم بحدوث الاختلاف بين المشركين وبني قريظة فآل الأمر إلى انجلاء الأحزاب من ساحة القتال من دون نتيجة وإليك بيانه :

انقسام المشركين على أنفسهم :

إنّ نعيم بن مسعود أتى رسول اللّه فقال : يا رسول اللّه إنّي قد أسلمت وإنّ قومي لم يعلموا بإسلامي ، فمرني بما شئت. فقال رسول اللّه : إنّما أنت فينا رجل واحد فادخل بين القوم خذلانا إن استطعت فإنّ الحرب خدعة ، فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة وكان لهم نديماً في الجاهلية فقال : يا بني قريظة قد عرفتم ودّي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم قالوا : صدقت لست عندنا بمتّهم ، فقال لهم : إنّ قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم. البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تحوّلوا منه إلى غيره ، وإن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه

ص: 377

وقد ظاهرتموهم عليه وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره فليسوا كأنتم ، فإن رأوا نهزة أصابوها ، وإن كان ذلك لحقوا ببلادهم ، وخلّوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمداً حتى تناجزوه ، فقالوا له : أشرت بالرأي.

ثمّ خرج حتى أتى قريشاً فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش : قد عرفتم ودّى لكم وفراقي محمداً وانّه بلغني أمر قد رأيت عليّ حقّاً أن اُبلغكموه نصحاً لكم فاكتموا عنّي ، فقالوا : نفعل. قال : تعلَّموا أنّ معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمّد وقد أرسلوا إليه : إنّا قد ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثمّ نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم ؟ فأرسل إليهم نعم ، فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً.

ثمّ خرج حتّى أتى غطفان فقال : يا معشر غطفان إنّكم أصلي وعشيرتي وأحبّ الناس إليّ ولا أراكم تتّهموني ، قالوا : صدقت ما أنت عندنا بمنّهم ، قال : فاكتموا عني ، قالوا : نفعل ، فما أمرك ؟

ثمّ قال لهم مثل ما قال لقريش وحذّرهم ما حذّرهم.

فلمّا كانت ليلة السبت من شوّال سنة خمس أرسل أبو سفيان بن حرب ووجهاء غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل ، فقالوا لهم لسنا بدار مقام ، قد هلك الخف والحافر ، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمّداً ، فأجابوا أنّ اليوم يوم السبت لا نعمل فيه شيئاً ومع ذلك لسنا بالذين نقاتل معكم محمداً حتى تعطونا رهناً من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمّداً ، فإنّنا نخشى إن اشتدّ عليكم القتال تتركوننا في بلادنا ولا طاقة لنا بذلك منه ، فلمّا رجعت إليهم الرسل بما قالته بنو قريظة ، قالت قريش وغطفان : واللّه إنّ الذي حدّثكم به نعيم بن مسعود لحق ، فارسلوا إلى بني قريظة : إنّا لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا ، فإن كنتم تريدون

ص: 378

القتال فاخرجوا فقاتلوا ، فقالت بني قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا : إنّ الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق ما يريد القوم إلاّ أن يقاتلوا ، فإن رأوا فرصة انتهزوها وإن كان غير ذلك تفرّقوا إلى بلادهم وخلّوا بينكم وبين محمّد في بلدكم ، فارسلوا إلى قريش وغطفان : إنّا واللّه لا نقاتل معكم محمداً حتى تعطونا رهناً فأبوا عليهم.

فلمّا كان ليلة السبت بعث اللّه عليهم الريح في ليلة شاتية باردة شديدة البرد فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم ، ولمّا انتهى إلى رسول اللّه ما فرّق اللّه من جماعتهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلاً.

فذهب حذيفه ورجع بقوله : دخلت في القوم والريح وجنود اللّه تفعل بهم ما تفعل لا تقرّ لهم قدراً ولا ناراً ولا بناءاً ، فقال أبوسفيان : يا معشر قريش إنّكم واللّه ما أصبحتم بدار مقام ، لقد هلك الكراع والخف واخلفنا بنو قريظة ولقينا من شدّة الريح ما ترون ما تطمئن لنا قدر ولا تقوم لنا نار فارتحلوا فإنّي مرتحل.

وبذلك اختلفت الأحزاب ولم يبق منهم أحد وأصبح الصبح ولم ير منهم شيء ، فرجع المسلمون إلى منازلهم شاكرين.

هذا خلاصة ما أفادته كتب السير والتواريخ (1) وإليك تحليل ما ورد حول تلك الواقعة من الآيات ولا محيص لمفسّر عن الوقوف بما جاء في كتب السيرة فإنّها كالقرائن المنفصلة لفهم معنى ما تضمّنته الآيات الشريفة ونحن نذكر الآيات الواردة حول هذه الغزوة كاملة ثمّ نعقبّها ، بما تسنح به الفرصة من التحليل والتوضيح.

ص: 379


1- راجع السيرة النبويّة ج 2 ، ومغازي الواقدي ج 2 ، وبحار الأنوار ج 20 ، ومجمع البيان ج 4.

غزوة الأحزاب في الذكر الحكيم :

اشارة

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا * وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللّهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللّهِ مَسْئُولاً * قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ المَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً * قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ المُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا * يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً * لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللّهَ كَثِيرًا * وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِّنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِّيَجْزِيَ اللّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَرَدَّ اللّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللّهُ المُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ) ( الأحزاب / 9 - 27 ).

ص: 380

1 - إستحواذ القلق عند مرابطة الأحزاب :

إنّ الآية الاُولى ترسم لنا كيفيّة نزول الأحزاب على المدينة وإنّهم جاءوها من أعاليها وأسافلها ، فقد جاءت قبيلة غطفان وبني النضير من الجانب الشرقي للمدينة وهي الجهة العليا وجاءت قريش ومن انضم إليهم من الأحابيش وكنانة من الجانب الغربي وهي الجهة السفلى ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ) .

كما أنّها تعكس الحالة النفسية التي عايشها المسلمون أثناء تطويق المدينة وهم على طوائف :

1 - من مالت أبصارهم عن كل شيء فلم تنظر إلاّ إلى عدوّهم مقبلين من كل جانب.

2 - من شخّصت قلوبهم من مكانها ولولا أنّه ضاق الحلقوم عنها إن تخرج لخرجت.

3 - من ظنّ باللّه ظنّ الجاهلية متقوّلين بأنّ الكفّار سيغلبون وسيستولون على المدينة وبالتالي ينمحق الدين وتعود الجاهلية أدراجها الاُولى.

وإلى هذه الحالات الثلاث أشارت الآية بجملها الثلاث :

أ - ( وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ ) .

ب - ( وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ ) .

ج - ( وَتَظُنُّونَ بِاللّهِ الظُّنُونَا ) .

والجملتان الأوّليتان كناية عن مبلغ استحواذ الخوف والهلع عليهم حتى انتقل بهم إلى حالة شبيهة بالإحتضار التي يزيغ فيها البصر وتبلغ القلوب الحناجر.

وأمّا الجملة الثالثة : فلم تكن تشير إلى عموم المسلمين بل تستعرض حال المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، فهؤلاء ظنّوا باللّه ظنّ الجاهلية ، كما يدل عليه

ص: 381

صريح لفظها حيث تضمّنت ما لفظه :

( وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا ) .

والمراد من قوله : ( وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ) ضعفاء الإيمان من المسلمين وهم غير طائفة المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر والشرك وإنّما يسمّون محمّداً رسولاً لمكان اظهارهم الإسلام.

وأمّا الوعد الذي وعدهم اللّه ورسوله به هو انه كان يكرّر قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) ( التوبة / 33 ).

ولو افترضنا نزول الآية بعد غزوة الخندق فقد كان النبي يعد هم أنّه يفتح مدائن كسرى وقيصر خصوصاً عند حفر الخندق على ما في كتب السير والتواريخ (1).

قال ابن هشام :

وعظم عند ذلك البلاء ، واشتدّ الخوف وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتّى ظنّ المسلمون كلّ ظنّ ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال بعضهم : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب للتخلّي.

وايم اللّه كانت هذه الغزوة كاُختها أي غزوة اُحد تمحيصاً وغربلة وتمييزاً للمؤمن الواقعي عن المنافق المتظاهر بالإيمان كما تشير إليه الآية الثانية.

( هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا ) وإنّما استعمل كلمة هنا لك مع أنّها يشارُ بها إلى البعيد لأنّ الآية نزلت بعد جلاء المعركة وأشار بها إلى زمان مجيء الجنود المتأخّر عن نزولها.

ص: 382


1- السيرة النبويّة لإبن هشام ج 2 ص 219 ، لاحظ محادثة النبي لسلمان عند حفر الخندق.
2 - حياكة الدسائس لفتح الثغرات :

لم يكن عمل المنافقين منحصراً بإثارة القلاقل والارهاصات النفسية على ما مرّ بيانه في كلماتهم بل كان دورهم أوسع من ذلك ، فقد كانوا يقومون بشن حرب نفسيّة تهدف إلى تفريق المسلمين عن الدفاع عن الخندق وكانوا يقولون للمسلمين لا وجه لإقامتكم ها هنا قبال جنود المشركين فالغلبة لهم لا محالة ولا مناص من الفرار.

وكان لفيف منهم يتذرّعون بقولهم ( إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ) أي لا يؤمن عليها من السارق وزحف العدو عليها ، حتّى يتملّصون ويتخلّصون من الخطر الذي يحدق بهم في ساحة المعركة. وكان هذا الكلام واجهة للفرار ، وإليه يشير قوله سبحانه :

( وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا ) .

3 - المشارفة على أعتاب الردّة :

ولقد بلغ الحال بالمنافقين والذين في قلوبهم مرض في تهاونهم بأمر التمسّك بالدين انّه لو رجع إليهم العدو مرّة ثانية ودخل المدينة من أقطارها وأطرافها ونواحيها ثم سألوهم الرجوع إلى الشرك لأجابوا مسرعين ولم يتوانوا ولم يلبثوا في الاجابة إلاّ زماناً يسيراً بمقدار الطلب والسؤال منهم ، فالمنافقون ومن تبعهم من مرضى القلوب يتظاهرون بالإسلام مادام الرخاء سائداً والأمن حالاًّ فإذا خيّمت الشدّة وحاق بهم البأس لم يلبثوا إلاّ قليلاً دون الرجوع والردّة.

وهذا يعطي لنا درساً إضافيّاً بأنّ النظام الإسلامي يجب أن يرتكز في دعوته وكافّة اُُموره السياسية والإجتماعية والروحية على المؤمنين الصادقين ، والمعتنقين لمبادئه وأحكامه بصدق ويقين وتفان وإخلاص ، يتحاشى عن الركون والإعتماد على المنافقين بل يحذر منهم دائماً ، ويطلب نبذهم من الحياة فإنّهم يَعِدون ولا يوفون ، يبايعون وينقضون ، ويحالفون ويغدرون ، وهذه سجيّتهم وديدنهم ، وإليه يشير

ص: 383

قوله سبحانه :

( وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللّهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللّهِ مَسْئُولاً ) .

وأمّا أنّهم في أي مكان وزمان بايعوا النبى فغير معلوم ، ولعلّ إيمانهم باللّه ورسوله وبما جاء به من الجهاد وحرمة الفرار منه ، نوع عهد لله ورسوله أن لا يولّوا الأدبار ، وعلى كل تقدير فهؤلاء لا يتحمّلون المسؤولية وإن تحمّلوها بادئ بدء ، رفضوها في خاتمة المطاف.

4 - عدم جدوى الفرار :

هؤلاء يتركون ساحة القتال وأطراف الخندق ، لأجل الفرار من خطر الموت والقتل ، غير أنّهم قد جهلوا سنّة اللّه الحكيمة القاضية بأنّه : ( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) ( الأعراف / 34 ).

وقد ردّت هذه النظرية ( الفرار سبيل النجاة ) في غير واحد من الآيات ، قال سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ) ( آل عمران / 145 ).

وقال سبحانه : ( قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ) ( آل عمران / 154 ).

ويقول في شأن أولئك الذين نكصوا على أعقابهم في معركة الخندق من المسلمين : ( قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ المَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ) وما ذلك إلاّ لأنّ لكل نفس أجلاً ، مقضيّاً ومحتوماً لا يتأخّر عنه ساعة ولا يتقدّم عنه ، فالفرار على فرض التأثير لا يؤثّر إلاّ قليلاً ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ) .

كيف وإنّ الخير والشر تابعان لإرادته سبحانه ، ولا يحول دون نفوذ إرادته شيء ، فإذاً الأولى إيكال الأمر إلى إرادته والتوكّل عليه ، قال سبحانه : ( قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ

ص: 384

وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ) .

5 - سعة علمه :

إنّ المنافقين ومن في قلبه مرض من المسلمين ، ما عرفوا اللّه حقّ قدره ، وما عرفوا أسماءه وصفاته ، وإنّه عالم بكل شيء ، ما تكنّه صدورهم وتضمره قلوبهم وتوحيه نفوسهم ، فكيف كلامهم وأعمالهم العلنية ، فقد كانوا يعيقون غيرهم من جنود المسلمين عن الجهاد مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويثبّطونهم ويشغلونهم ليعرضوا عن نصرته وينصرفوا عن القتال ، وكانت اليهود تساندهم في هذا الأمر ويقولون مع نظرائهم من المنافقين : لا تحاربوا وخلّوا محمداً فإنّا نخاف عليكم الهلاك ، ولأجل ذلك ما كانوا يحضرون القتال إلاّ رياءً أو سمعة قدر ما يوهمون أنّهم مع المسلمين ولكنّهم كانوا كارهين لكون قلوبهم مع المشركين ، وإليه يشير قوله سبحانه :

( قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ المُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً ) ( الأحزاب / 18 ).

6 - جبناء حين البأس ، شجعان حين الأمن

عجيب أمر هؤلاء ومن حذى حذوهم :

فهم حين البأس جبناء ، تدور أعينهم في رؤوسهم وجلاً وخوفاً ، كدوران عين الذي قرب من الموت وغشيته أسبابه ، فعند ذاك يعذّب لبّه ويشخص بصره فلا يتحرّك طرفه.

وحين اقتسام الغنيمة أشحّاء إذا ظفر بها المؤمنون لا يريدون أن يفوتهم شيء ممّا وصل إلى أيديهم ، وكان الشاعر يشير إليهم :

وفي السلم أعيار جفاءً وغلظة *** وفي الحرب أمثال النساء العواتك

ص: 385

ولهم مع ذلك كذب في القول ومراء في الكلام ، فإذا كان الأمن والرخاء مخيِّما فخروا بمقاماتهم المصطنعة من النجدة والشجاعة والبأس ، وإلى هذه الحالات الثلاثه يشير قوله تعالى :

( أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا ) .

إلى الحالة الأولى - أي جبنهم في الحرب - يشير قوله : ( أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ) أي بخلاء عليكم بالنفقة والنصرة ، فهم لا يودّون مساعدتكم ولا نصرتكم لا بنفس ولا نفيس.

وإلى الحاله الثانية يشير قوله : ( أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ ) أي الغنائم.

وإلى الحالة الثالثة يشير قوله : ( فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ) .

وفي النهاية كتب على أعمالهم الضئيلة بالإحباط كما في قوله : ( أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ ) .

وفي نهاية المطاف يتناول سبحانه هؤلاء ما هو مفاده : إنّ مقدار الجبن والهلع الذي لحق بهم ، وعظيم الدهشة والحيرة التي أحاطت بهم ، بلغ إلى حدٍ أنّهم يظنّون انّ الأحزاب ما زالت مرابطة في ثكنات معسكرهم في الوقت الذي رحلوا فيه.

والذي يعرب عن عظم ما انتابهم من الوجل ، أنّه لو رجعت الأحزاب تمنّوا أن لو كانوا مقيمين في البادية بعيدين عن المدينة حتّى لا ينالهم أذى أو مكروه ويكتفون بالسؤال عن أخبار من قاوم من جانب المدينة ، وإليه يشير قوله سبحانه :

( يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً ) .

إنّه سبحانه بعد أن فصّل أحوالهم ، وكشف عّما كنّته صدورهم وما أضمروه ،

ص: 386

أبان لهم طريق الهداية مرّة اُخرى وانّهم لو راموا النجاة والسعادة فليقتدوا برسول اللّه وليجعلوه اُسوة لهم ، قال سبحانه :

( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللّهَ كَثِيرًا ) .

* * *

حال المؤمنين الصادقين في غزوة الأحزاب

ثمّ إنّه سبحانه لما بيّن حال المنافقين ومن في قلبه مرض ، ذكر حال المؤمنين الواقعيين الذين كانوا في الرعيل الأوّل في سوح الجهاد ، وكيف انّهم كانوا على طرفي نقيض من المنافقين ، حيث قال سبحانه : ( وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِّنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِّيَجْزِيَ اللّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( الأحزاب / 22 - 24 ).

إنّ قوله سبحانه ( هَذَا مَا وَعَدَنَا اللّهُ ) إشارة إلى ما وعدهم النبي بأنّ الأحزاب ستجتمع شوكتهم عليهم ، فلمّا شاهدوهم تبيّن لهم أنّ ذلك هو الذي وعدهم ، وربّما يقال بأنّ المراد ما وعده اللّه ورسوله من الابتلاء والإمتحان في الآيات التي نزلت في غزوة اُحد في قوله سبحانه ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ) ( البقرة / 214 ).

فتحقّقوا من ذلك انّه سيصيبهم ما أصاب الأنبياء والمؤمنين بهم من الشدّة والمحنة التي تزلزل القلوب ، وتدهش النفوس ، فلمّا رأوا الأحزاب أيقنوا أنّه من الوعد الموعود وانّ اللّه سينصرهم على عدوّهم.

ثمّ إنّه سبحانه وصف الكاملين من المؤمنين الذين ثبتوا عند اللقاء ، واحتملوا

ص: 387

البأساء والضرّاء في هذه الغزوة وما قبلها من الغزوات ، بأنّ بعضهم استشهد يوم بدر ويوم اُحد ، وبعض منهم يترقّب أجله ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( مِّنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) .

والنحب : النذر المحكوم بوجوبه ، يقال قضى فلان نحبه ، أي وفى بنذره ، ويعبّر به عمّا انقضى أجله ، ثم إنّه سبحانه يقول : إنّ كلاًّ من المؤمن والمنافق مجزى بأعماله ، قال سبحانه : ( لِّيَجْزِيَ اللّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) .

وهو سبحانه استعرض جزاء عمل الصادقين بنحو القطع والجزم بقوله : ( لِّيَجْزِيَ اللّهُ الصَّادِقِينَ ) في الوقت الذي نجد فيه أنّه تناول جزاء المنافقين بقوله : ( وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَاءَ ) بالتعليق على المشيئة ، وما ذلك إلاّ لبيان سعة رحمته وفضله ، وأنّه فسح المجال لتوبة من عصاه ، وعلى ذلك يكون معنى الآية يعذّب المنافقين لو شاء تعذيبهم ، فيما لم يتوبوا أو يتوب اللّه عليهم إن تابوا.

خاتمه المطاف :

وفى ختام الآيات يقول أنّه سبحانه : قد صدق وعده ، ونصر عبده ، وأعزّ جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، وردّ المشركين على أدبارهم ، خائبين مخذولين تختنقهم الغصّة وتؤلمهم الحسرة ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَرَدَّ اللّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللّهُ المُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ) .

النتائج التي تمخّض عنها هذا البحث فهي :

أ - إنّّ في هذه الغزوة تحالفت الوثنية مع اليهود على أن يكون تحمّل أعباء نفقات الحرب على عاتق اليهود وكاهلهم ، ويكون القتال والاصطكاك في ساحة المعركة من نصيب المشركين ، وليس هذا التآمر المشترك هو الأوّل من نوعه بل له

ص: 388

نظائر متعدّدة على امتداد التاريخ الإسلامي ، فقد تحالفت الوثنية مع النصرانية في القرن السادس والسابع الهجريين ، فشنّوا الغارات الشرسة على العالم الإسلامي ، ومزّقوه شر ممزّق ، فقد جاء التتار وهم الوثنية من الجهة الشرقية ، بينما جاءت النصرانية من جانب الغرب فهجموا على البلاد ، وفتكوا بأهلها فتكاً ذريعاً لم يذكر التاريخ له مثيلاً.

ب - إنّ الإنتصار رهن عاملين قويين : أحدها بشري والآخر غيبي.

فأمّا الأوّل وهو القيام بالتخطيط العسكري ، وحفر الخندق ، وحشد القوى بتمام طاقاتها ، وبذل كل ما كانوا يملكونه لصدّ هجوم العدو ولم يكن التخطيط العسكري الذي انتخبه الرسول صلی اللّه علیه و آله منحصراً بحفر الخندق ، بل الرسول صلی اللّه علیه و آله في كسر جبهة الأعداء استعان بالجواسيس وبث العيون وقد كان لنعيم بن مسعود في الفتك بوحدتهم دور هام ، على ما مر بيانه وربّما يوازي عمله عمل أدهى أجهزة الإستخبارات العالمية.

وأمّا الثاني وهو الغيبي فقد سلط اللّه عليهم الريح والبرد القارس ، حتى سلبت عنهم الراحة والاستقرار والقدرة على البقاء ، فهذا حذيفة بن اليمان الذى أرسله الرسول جاسوساً إلى القوم حيث قال له : اذهب فادخل في القوم ، فانظر ماذا يصنعون ولا تحدثن شيئاً ، حتى تأتينا ، قال فذهبت فد خلت في القوم ، والريح وجنود اللّه تفعل بهم ما تفعل ، لا تقرّ لهم قدراً ولا ناراً ولا بناءً ، فقام أبو سفيان فقال : احذروا الجواسيس والعيون ولينظر كل رجل جليسه ، قال حذيفه فالتفتّ إلى عمرو بن العاص فقلت : من أنت ، وهو عن يمينى فقال : عمرو بن العاص ، والتفتّ إلى معاوية بن ابى سفيان فقلت : من أنت فقال : معاوية بن أبى سفيان ، ثم قال أبو سفيان : إنّكم واللّه لستم بدار مقام ، لقد هلك الخف والكراع ( إلى أن قال حذيفه ) فقام أبو سفيان وجلس على بعيره ، وهو معقول ثم ضربه فوثب على ثلاث قوائمه فما اطلق عقاله إلاّ بعد ما قام (1).

ص: 389


1- المغازي ج 2 ص 489 و 490 ، والسيرة النبويّة لابن هشام ج 2 ص 232.

4 - غزوة بني المصطلق

اشارة

بلغ رسول اللّه أنّ بني المصطلق يجمعون له ، وقائدهم « الحارث بن أبي ضرار ». فلمّا سمع بهم خرج إليهم ، حتّى لقيهم على ماء لهم ، يقال له : ( المُرَيسيع ) فتزاحف الناس ، واقتتلوا ، فهزم اللّه بني المصطلق ، وقتل من قتل منهم ، وسبي من سبي ، وقد قتل من أصحاب رسول اللّه رجل اسمه « هشام بن صبابة » قتله رجل من الأنصار خطأً.

فبينا رسول اللّه على ذلك الماء ، وردت واردة الناس ، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار ، يقال له جَهْجاه بن مسعود يقود فرسه ، فازدحم جَهْجاه مع رجل من الأنصار على الماء ، فاقتتلا ، فصرخ الأنصاري : يا معشر الأنصار ، وصرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين. فلمّا سمع رسول اللّه صرختهما قال : دعوها فإنّها منتنة - يعني إنّها كلمة خبيثة - لأنّها من دعوى الجاهلية ، فإنّ اللّه جعل المؤمنين اُخوة وحزباً واحداً ، فمن دعا في الإسلام بدعوة الجاهليّة يعزّر.

ثمّ لمّا بلغ الأمر إلى عبد اللّه بن اُبيّ بن سلول ، وعنده رهط من قومه ، فيهم : زيد بن أرقم ، وهو غلام حدث ، فقال ابن اُبيّ : أوَ قد فعلوها ، وقد نافرونا وكاثرونا في بلادنا ، واللّه ما أعدّنا وجلابيب قريش إلاّ كما قال الأوّل : سَمِّن كلبك يأكلك ! أما واللّه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل. ثمّ أقبل على من حضره من قومه فقال لهم : هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ، أما واللّه لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير داركم. فسمع ذلك

ص: 390

زيد بن أرقم ، فمشى به إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وذلك عند فراغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من عدوّه ، فأخبره الخبر ، وعنده عمر بن الخطاب فقال : مُرْ به عبّاد بن بشر فليقتله. فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه !

وقد مشى عبد اللّه بن اُبيّ بن سلول إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حين بلغه انّ زيد بن أرقم قد بلّغه ما سمع منه ، فحلف باللّه : ما قلت ما قال ولا تكلمّت به - وكان في قومه شريفاً عظيماً - فقال من حضر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من الأنصار من أصحابه : يا رسول اللّه عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه ، ولم يحفظ ما قال الرجل ، حَدَباً على ابن اُبيّ بن سلول ودفعاً عنه.

ولكنّه صلی اللّه علیه و آله وقف على أنّه إن لم يتّخذ خطة حازمة فقد يستفحل الأمر ، لذلك أمر أن يؤذّن بين الناس بالرحيل في ساعة لم يكن يرتحل المسلمون فيها ، وعند ذلك جاء أسيد بن حضير وقال : يا نبي اللّه لقد رحلت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها. فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أو ما بلغك ما قال صاحبكم ؟ قال : وأي صاحب يا رسول اللّه ؟ قال : عبد اللّه بن اُبيّ قال : وما قال ؟ قال : زعم أنّه إن رجع إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل ، قال : فأنت يا رسول اللّه واللّه تخرجه منها إن شئت ، هو واللّه الذليل وأنت العزيز. ثمّ قال : يا رسول اللّه ، ارفق به ، فواللّه فقد جاءنا اللّه بك ، وإنّ قومه لينظمون له الخَرز ليتوّجوه ، فإنّه ليرى أنّك قد أستلبته مُلكاً.

ثمّ مشى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالناس يومهم ذلك حتّى أمسى ، وليلتهم حتى أصبح ، وصدر يومهم ذلك حتّى آذتهم الشمس ، ثمّ نزل بالناس ، فلم يلبثوا أن وجدوا مسّ الأرض فوقعوا نياماً ، وإنّما فعل ذلك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد اللّه بن اُبيّ.

حطّ المسلمون رحالهم بالمدينة ، وفي تلك الأثناء نزلت آيات تصدّق زيداً ،

ص: 391

وتكذّب عبد اللّه بن اُبي ، حيث قال سبحانه :

( هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَللهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) ( المنافقون / 7 و 8 ).

فلمّا نزلت هذه الآيات حسب قوم أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله آمر بقتله لا محالة ، فعند ذلك ذهب ابنه عبد اللّه - وكان مسلماً حسن الإسلام - فقال : يا رسول اللّه إنّه بلغني أنّك تريد قتل أبي فيما بلغك عنه ، فإن كنت لا بد فاعلاً فمرْني به ، فأنا اَحمِلُ إليك راَسه ، فواللّهِ لقد علمتْ الخزرجُ ما كان لها من رجل أبرّ بوالده منّي ، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله ، فلا تدعني نفسي اَنْظُر إلى قاتل عبد اللّه بن أبي يمشي في الناس فأقتله ، فأقتل رجلاً مؤمناً بكافر ، فأدخل النار. فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : بل نترفّق به ونحسن صحبته ما بقي معنا.

تولّي قوم ابنُ اُبيّ مجازاته :

اشارة

وبعد ذلك كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنِّفونه. فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم : كيف ترى يا عمر ، أما واللّه لو قتلته يوم قُلتَ لي اقتله ، لاُرعِدت له آنف ، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. قال : قال عمر : قد واللّه علمت لأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أعظم بركة من أمري (1).

وقال الطبرسي : وكان عبد اللّه بن اُبيّ بقرب المدينة ، فلمّا أراد أن يدخلها جاء ابنه عبد اللّه بن عبد اللّه حتّى أناخ على مجامع طرق المدينة. فقال : مالك ويلك ؟ قال : واللّه لا تدخلها إلاّ بإذن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولتعلمنّ اليوم

ص: 392


1- السيرة النبويّة لإبن هشام ج 2 ص 289 - 293.

مَنْ الأعزّ ومن الأذلّ ، فشكا عبد اللّه ابنه إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأرسل إليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن خلّ عنه يدخل ، فقال : أمّا إذا جاء أمرَ رسول اللّه فنعم (1).

ولمّا نزلت الآيات المتقدّمة وبان كذب عبد اللّه قيل له : إنّه نزل فيك آي شداد ، فاذهب إلى رسول اللّه يستغفر لك ، فلوى رأسه ثمّ قال : آمرتموني أن اُؤمن فقد آمنت ، وآمرتموني أن اُعطي زكاة مالي فقد أعطيت ، فما بقي إلاّ أن أسجد لمحمد ، فعند ذلك نزلت الآيتان التالية :

( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ * سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) ( المنافقون / 5 و 6 ).

هذه قصة غزوة بني المصطلق ، وقد رواها أهل السير والمغازي والمفسّرون (2).

والذي يهمّنا من استعراض تلك الغزوة هو الدروس والعظات التي يمكننا أن نستخلصها ، ونستفيدها منها من خلال سيرة النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله ، وإليك عرض تلك النتائج :

1 - التخطيط للإجلاء والمقاطعة الاقتصادية :

لم يكن التخطيط لإجلاء المسلمين عن أوطانهم واماكنهم والمقاطعة الاقتصادية شيئاً حديث النشأة في القرن العشرين ، وإنّما له جذور تمتد على مرّ التاريخ ، فهذا عبد اللّه بن اُبيّ رئيس المنافقين يعد العدّة للتآمر على المسلمين ، ويسعى جاهداً لإجلائهم ، وفرض مقاطعة إقتصادية عليهم ، فلو شاهدنا ما يفعل بنا

ص: 393


1- مجمع البيان ج 10 ص 444 ( طبع بيروت ).
2- لاحظ تفسير الطبري ج 28 ص 70 - 75 ، والدر المنثور ج 5 ص 222 - 226 ، إلى غير ذلك من المصادر.

نحن معاشر المسلمين على أيدى المستعمرين في بيت المقدس ، وسائر بقاع المسلمين الاُخرى في أيّامنا هذه ، فليس هناك محلاًّ للإستغراب والدهشة والتعجّب ، ولكنّ اللّه سبحانه وتعالى أدحض تآمرهم وأبطل أحدوثتهم وردّ كيدهم إلى نحورهم فانقلبوا خاسئين.

قال سبحانه : ( وَللهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ( المنافقون / 7 ) وقال سبحانه : ( وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) ( المنافقون / 8 ).

ولكنّ ذلك مشروط بالتمسّك بعرى الإيمان ، والإنقطاع الكامل لله عزّ وجل ، والإنقياد المطلق لأوامره ونواهيه.

قال سبحانه : ( وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / 139 ) وقال عزّ اسمه : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) ( فصّلت / 30 ).

2 - تشتيت الشمل وبثّ التفرقة بين المسلمين :

إنّ عبد اللّه بن اُبيّ ذلك العدو اللدود للمسلمين ، أراد تشتيت شمل المسلمين ، بإثارة ظغائن طائفة من المسلمين على طائفة اُخرى ، حتّى يشتعل فتيل الفتنة ، ويحرق المسلمون بعضهم دمَ بعض بأيديهم ، وتكون الخاتمة لصالح أعدائهم ، حيث قال : هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ... .

غير أنّ هذا النهج التآمري لا زال معمولاً به إلى يومنا هذا ، وما انفكّ عنه أعداء الإسلام طرفة عين أبداً ، ومن الصور الجليّة الواضحة لهذا النهج العدائي في يومنا هذا ، بثّ السموم الفكرية في أذهان أبناء الشعوب الإسلامية ، وتأليب بعضهم على بعض ، تحت شعارات قومية ووطنية وعرقية ، فيحفّزون الجذور القومية للترك في قبال الجذور القومية العرقية العربية ، وهكذا بالنسبة لسائر القوميات المتعدّدة التي تدين

ص: 394

بالإسلام على امتداد رقعته الشاسعة.

وبذلك تمكّنوا من الفتك والإجهاز على الإمبراطورية العثمانية المترامية الأطراف ، والتي تمكّنت من الظهور بالمسلمين كدولة عظمى في العالم لها سيادتها ، وثقلها في تقرير الأوضاع السياسية في العالم.

3 - حنكة النبي صلی اللّه علیه و آله في اجتياز الأزمة :

في خضمّ ذلك الموقف الحرِج ، أمر النبي صلی اللّه علیه و آله أن يؤذّن في الناس بالرحيل في ساعة لم يألفوا الرحيل فيها ، مع أنّ ابن اُبيّ أسرع بالمثول أمام يديه ، والتنكّر ممّا بدر منه ونسب إليه ، ولكن ذلك لم يؤثّر على قرار النبي صلی اللّه علیه و آله بالرحيل شيئاً ، بل انطلق بالناس يجوب الفيافي والقفار ، طيلة يومهم حتّى أمسوا ، وطيلة ليلتهم حتّى أصبحوا ، وصدر يومهم الثاني حتّى آذتهم الشمس ، فلمّا نزل الناس لم يلبثوا حتّى غلبهم النعاس ، ونسوا حديث ابن اُبيّ ، وهذا يعطي لكل قائد محنّك درساً من لزوم امتصاص ما انتاب نفوسهم من أفكار خاطئة ، واجتثاث جذورها بصرفها إلى اُمور اُخرى ، تستولي على منافذ فكرهم ، فتشذَّ أذهانهم عنهم إلى التشاغل باُمور اُخرى ، ولو لم يقم بذلك لبقيت آثار تلك الرواسب الفكرية في أذهانهم ، ولأثرّت على مستقبل الدعوة ، ووحدة صف المسلمين.

4 - سعة صدر النبي وتريّثه وتلبّثه :

لمّا أطلع زيد بن أرقم النبي صلی اللّه علیه و آله ما قاله عبد اللّه بن اُبيّ ، صدّقه في نقله ، ولمّا مثل ابن اُبيّ بين يديه ، وأنكر ما أبلغه زيد بن أرقم ، فلم يكذّبه ، وربّما كانت هذا الظاهرة التي تمثّل بها النبي في ذلك الموقف ، أمراً مثيراً للتساؤل ، ولأجل ذلك انتهز المنافقون الفرصة لانتقاد النبي ، واتهامه بالتساهل والتواني في القضاء على خصومه ، ولكنّ المنافقين قد غفلوا عن أصل رصين ، واُسّ مكين تبتني عليه الحنكة القياديّة ، وقد قال امير المؤمنين علیه السلام بهذا

ص: 395

الصدد : « آلة الرئاسة سعة الصدر » (1).

وإنّ التسرّع في الحكم والقضاء ، وإن أصاب الواقع لا يخلو من نتائج غير محمودة ، خصوصاً إذا لم يتّضح الأمر بعد لعموم المسلمين ، فقد اختار النبي صلی اللّه علیه و آله التريّث حتّى تنكشف حقيقة المسألة للجميع ، فيكون النبي معذوراً ومحقّاً إذا أخذ في حق ابن اُبيّ حكماً حاسماً.

5 - مقابلة الإساءة بالإحسان :

لمّا أخبر زيد بن أرقم النبي صلی اللّه علیه و آله بما تقوَّل به عبد اللّه ابن اُبيّ ، اقترح عمر بن الخطاب على النبي صلی اللّه علیه و آله أن يقتله ولكنّ النبي صلی اللّه علیه و آله أجابه بقوله : « فكيف يا عمر ، إذا تحدّث الناس انّ محمداً يقتل أصحابه » ، فقد أبدى النبي صلی اللّه علیه و آله في جوابه هذا حنكة وسياسة رصينة أدحض بذلك المقولة التي تنص على « انّ كل ثورة ستجتث جذور أبطالها ». وعدوّ اللّه عبد اللّه بن اُبيّ وإن لم يكن في واقع أمره مسلماً واقعيّاً ، ولكنّه كان معدوداً منهم ، ومن أشرافهم ، فلو قتله النبي لتسرّب الريب إلى سائر نفوس المسلمين.

وقد جازى النبي صلی اللّه علیه و آله الإساءة بالإحسان ، عند ما جاء ابنه إلى النبي ، وقال : « إنّه بلغني انّك تريد قتل عبد اللّه بن اُبيّ ، فإن كنت لا بدّ فاعلاً فامرني به ... ».

ولكنّ النبي صلی اللّه علیه و آله أجابه بقوله : بل نترفّق به ، ونحسن صحبته ما بقي معنا.

اُنظر إلى هذه السماحة النبويّة ، وروعة عفوها وجلالها ، فهو يترفّق بمن ناصبه العداء ، واَلّب قلوب أهل المدينة عليه ، فيكون رفقه وعفوه أبعد أثراً عن عقوبته ، لو أنه

ص: 396


1- نهج البلاغة قسم الحكم برقم 176.

عاقبها به ، وعند ذلك توجّه النبي إلى عمر بن الخطاب : كيف ترى يا عمر ، أما واللّه لو قتلته يوم قلت لي : اقتله ، لاُرعِدت له آنف ، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته.

قال عمر : واللّه علمت لأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أعظم بركة من أمري.

وفي الختام انظر إلى كلام ابن عبد اللّه ، فهو على ايجازه يعبّر عن حالة نفسية اصطدمت فيها روح الإنشداد إلى الدين ، والذوبان في كيانه العظيم ، مع وشائج الارتباط العاطفي بوالده ، فلا يمكن له الجمع بينهما ، ولكنّه يعلم أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله لا يصدر إلاّ عن الوحي ، ولا يأمر إلاّ بالحق ، وعند ذلك طلب من النبي أن يقوم بنفسه بقتله لو استحقّ القتل ، ولا يفوّض القيام به إلى الغير ، خوفاً من أن تحمله العواطف ، والوشائج إلى قتل قاتل أبيه ، وفي قتل المسلم دخول النار والعذاب المقيم.

6 - العزّة لله ولرسوله :

إنّ عبد اللّه بن اُبيّ أوهم الناس بأنّ العزّة للمشركين والمنافقين ، والذل والهوان للمسلمين والمؤمنين ، ولكنّ الوحي أبطل أوهامه تلك ، بقوله :

( وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) .

فصدق الخبر المخبر ، حتّى وقف ابن عبد اللّه بن اُبيّ على باب المدينة ، فقال لأبيه : واللّه لا تدخلها إلاّ بإذن رسول اللّه ولتعلمنّ اليوم من الأعزّ ، ومن الأذلّ ، فشكى عبد اللّه ابنه إلى رسول اللّه ، فأرسل إليه رسول اللّه : أن خلّي عنه يدخل فقال : أمّا إذا جاء أمر رسول اللّه فنعم.

هذه هي الدروس التي نتلقّاها من وحي سيرة الرسول على ضوء ما ورد في القرآن الكريم.

ص: 397

خاتمة المطاف :

ثمّ إنّ بني المصطلق أسلموا ، فبعث إليهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعد إسلامهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، حتّى يأخذ الصدقات منهم ، فلمّا سمعوا به ركبوا إليه ، فلمّا سمع بهم هابهم ، فرجع إلى رسول اللّه ، فأخبره : انّ القوم قد همّوا بقتله ، ومنعوه ما قبلهم من صدقتهم. فأكثر المسلمون في ذكر غزوهم حتّى همَّ رسول اللّه بأن يغزوهم ، فبينماهم على ذلك قدم وفدهم على رسول اللّه ، فقالوا : يا رسول اللّه سمعنا برسولك حين بعثته إلينا ، فخرجنا إليه لنكرمه ، ونؤدّي إليه ما قبلنا من الصدقة ، فانشمر راجعاً ، فبلغنا انّه زعم لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله انّا خرجنا إليه لنقتله ، وواللّه ما جئنا لذلك ، فأنزل اللّه تعالى فيه وفيهم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ * وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ... ) ( الحجرات / 6 و 7 ) (1).

ص: 398


1- السيرة النبويّة لابن هشام ج 2 ص 296 ، وتفسير الطبري : ج 26 ص 79 ، والدر المنثور : ج 7 ص 556 - 558.

5 - صلح الحديبيّة

اشارة

إنّ اللّه تعالى أرى نبيّه في المنام بالمدينة أنّ المسلمين دخلوا المسجد الحرام ، فأخبر بذلك أصحابه ، ففرحوا وحسبوا أنّهم داخلوا مكّة عامهم ذلك ، وهي السنة السادسة من الهجرة. ثمّ استنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي ليخرجوا معهم لإداء فريضة العمرة ، لزيارة بيت اللّه ، وتعظيماً له ، لا لقتال أو جهاد ، فساق معه الهدي وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه ، وكانت الهدي سبعين بدنة ، وكان الناس سبعمائة رجل ، فكانت كل بدنة عن عشرة نفرات.

خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتّى إذا كان بعسفان (1) لقيه « بشر بن سفيان الكعبي » فقال : يا رسول اللّه هذه قريش قد سمعت بمسيرك ، ولقد لبسوا جلود النمور ، ونزلوا بذي طوى (2) يعاهدون اللّه لا تدخلها عليهم أبداً ، وهذا « خالد بن الوليد » في خيلهم قد قدّموها إلى كراع الغميم (3) ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : يا ويح قريش ! لقد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب ، فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا ، وإن اظهر نبي اللّه عليهم دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوّة ، فما تظن قريش ؟ فو اللّه لا أزال اُجاهد على الذي بعثني اللّه به ، حتّى يظهره اللّه ، أو تنفرد هذه السالفة (4).

ثمّ قال : مَنْ رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها ؟

ص: 399


1- عسفان ، منهلة من مناهل الطريق بين الجحفة ومكّة ، وهي من مكّة على مرحلتين.
2- موضع قرب مكّة.
3- واد أمام عسفان بثمانية أميال.
4- صفحة العنق ، وكنى بإنفرادها عن الموت.

فعندئذ قال رجل من « أسلم » : أنا يا رسول اللّه. فسلك بهم طريقاً وعراً كثير الحجارة بين شعاب ، فلمّا خرجوا منه ، وقد شقّ ذلك على المسلمين ، وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي. أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : اسلكوا ذات اليمين في طريق ، وقد أدّى بهم ذلك الطريق إلى مهبط الحديبيّة. فلما رأت خيل قريش غبار جيش الإسلام ، قد خالفوا عن طريقهم ، رجعوا راكضين إلى قريش. وخرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وسلك حتّى بركت ناقته ، فقالت الناس : خلأت الناقة. قال صلی اللّه علیه و آله : ما خلأت وما هو لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكّة ، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلاّ أعطيتهم إيّاها ، ثمّ أمر الناس بالإنزال. قيل : يا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما بالوادي ماء ننزل عليه. فأخرج سهماً من كنانته ، فأعطاه رجلاً من أصحابه ، فنزل به في قليب من تلك القلب ، فغرزه في جوفه حتّى ارتفع بالرواء.

1 - رجال خزاعة بين الرسول صلی اللّه علیه و آله وقريش

نزل رسول اللّه أرض الحديبيّة ، وبينما هو فيها إذ أتاه « بديل بن ورقاء الخزاعي » في رجال من خزاعة ، فكلّموا النبي وسألوه. فقال : إنّه لم يأت يريد حرباً ، وإنّما جاء زائراً للبيت ، ومعظّماً لحرمته ، ثمّ قال لهم نحواً ممّا قال لبشر بن سفيان ، فرجعوا إلى قريش فقالوا : يا معشر قريش ، إنّكم تعجلون على محمد ، إنّ محمداً لم يأت لقتال ، وإنّما جاء زائراً لهذا البيت ، فاتهموهم وأهانوهم. وقالوا : وإن كان جاء ولا يريد قتالاً ، فو اللّه لا يدخلها علينا عنوة أبداً ، ولا تحدّث بذلك عنّا العرب.

2 - مكرز رسول قريش إلى الرسول صلی اللّه علیه و آله

ثمّ بعثت قريش إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مكرز بن حفص ، فلمّا رآه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : هذا رجل غادر ، فلمّا انتهى إلى

ص: 400

رسول اللّه وكلّمه. قال له رسول اللّه مثل ما قاله لرجال خزاعة ، فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال.

3 - الحليس رسول ثالث لقريش

ثمّ بعثت قريش رسولاً ثالثاً ، وهو الحليس ، وكان يومئذ سيد الأحابيش ، فلما رآه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : إنّ هذا من قوم يتألّهون (1) ، فابعثوا الهدي في وجهه حتّى يراه ، فلما رأى الهدي ، وقد أكل أوباره من طول الحبس ، رجع إلى قريش ، ولم يصل إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إعظاماً لما رآى ، فقال لهم ذلك. فقالوا له : إجلس فإنّما أنت أعرابي لا علم لك.

فقال الحليس مغضباً : يا معشر قريش ، واللّه ما على هذا حالفناكم ، ولا على هذا عاقدناكم ، أيصد عن بيت اللّه من جاء معظّماً له ؟ والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له ، أو لاُنفرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد. فقالوا له : مه ، كف عنّا يا حليس حتّى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.

4 - عروة بن مسعود رسول قريش

وفي المرة الرابعة بعثت قريش عروة بن مسعود الثقفي ، فخرج حتّى أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فجلس بين يديه ثمّ قال : يا محمد ، أجمعت أوباش الناس ، ثمّ جئت بهم إلى بيضتك لتفضّها بهم ، إنّها قريش قد لبسوا جلود النمور ، يعاهدون اللّه لا تدخلها عليهم عنوة أبداً.

وكلّمه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بنحو ممّا كلّم به الآخرين ، وأخبره انّه لم يأت يريد حرباً. فقام من عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله

ص: 401


1- يتعبّدون ويعظّمون أمر الإله.

وقد رأى ما يصنع به أصحابه ، لا يتوضّأ إلاّ ابتدروا وضوءه ، ولا يسقط من شعره شيء إلاّ أخذوه. فرجع إلى قريش فقال : يا معشر قريش إنّي قد رأيت كسرى في ملكه ، وقيصر في ملكه ، والنجاشي في ملكه ، وإنّي واللّه ما رأيت ملكاً في قومه قط مثل محمد في أصحابه ، ولقد رأيت قوماً لا يسلّمونه بشيء أبداً ، فَروا رأيكم.

5 - رسول النبي إلى قريش

إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله دعا خراش بن اُميّة الخزاعي ، فبعثه إلى قريش ، وحمله على بعير له ليبلّغ أشرافهم عنه ما جاء له ، فعقروا به جمل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأرادوا قتله ، فمنعتهم الأحابيش ، فخلّوا سبيله حتّى أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ثمّ إنّ قريشاً بعثوا أربعين أو خمسين رجلاً ، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ليصيبوا لهم من أصحابه أحداً ، فبينماهم بهذا الصدد ، اُخذوا أخذاً ، فأتى بهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فعفى عنهم ، وخلّى سبيلهم ، وقد كانوا رموا في عسكر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالحجارة والنبل.

6 - عثمان رسول النبي صلی اللّه علیه و آله إلى قريش

إنّ النبي دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى قريش حتّى يبلّغ عنه أشرافها ما جاء له ، فامتنع من قبوله خوفاً على نفسه ، واقترح على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عثمان بن عفان ، وهو رجل أعزّ بين قريش. فبعثه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى أبي سفيان ، وأشراف قريش يخبرهم انّه لم يأت لحرب ، وإنّما جاء زائراً لهذا البيت ومعظّماً لحرمته ، فانطلق عثمان حتّى أتاهم ، فبلّغهم عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما أرسله به. فقالوا لعثمان حين فرغ من الرسالة : إن

ص: 402

شئت أن تطوف بالبيت فطف. فقال : ما كنت لأفعل حتّى يطوف به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله واحتبسته قريش عندها ، فبلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والمسلمين أنّ عثمان قد قتل.

بيعة الرضوان

لمّا بلغه خبر قتل عثمان ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لا نبرح حتّى نناجز القوم ، فدعى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة ، ولقد اختلفوا فمن قائل : بأنّهم بايعوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على الموت ، وآخر : على أن لا يفرّوا.

سهيل بن عمرو رسول قريش إلى الرسول صلی اللّه علیه و آله

بعثت قريش سهيل بن عمرو إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وقالوا له : ائت محمداً فصالحه ، ولا يكن في صلحه إلاّ أن يرجع عنّا عامه هذا ، فواللّه لا تحدّث العرب عنّا أنّه دخلها ( مكة ) علينا عنوة أبداً. فأتاه سهيل بن عمرو ، فلمّا رآه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مقبلاً ، قال : قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل ، فلمّا انتهى سهيل بن عمرو إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تكلّم ، فأطال الكلام ، وتراجع ثمّ جرى بينهما الصلح.

عمر ينكر على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الصلح

فلمّا التأم الأمر ، ولم يبق إلاّ الكتاب ، وثب عمر بن الخطاب ، فأتى أبا بكر ، فقال : يا أبا بكر ، أليس برسول اللّه ؟ قال : بلى. قال : أولسنا بالمسلمين ؟ قال : بلى. قال : أوليسوا بالمشركين ؟ قال : بلى. قال : فعلام نعطي الدنيّة في ديننا ؟ فلمّا بلغ

ص: 403

كلامه رسول اللّه قال صلی اللّه علیه و آله : أنا عبد اللّه ورسوله لن اُخالف أمره ، ولن يضيّعني ! قال : فكان عمر يقول : ما زلت أتصدّق وأصوم واُصلّي وأعتق ، من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلّمت به حتّى رجوت أن يكون خيراً.

بنود الصلح

دعى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله علي بن أبي طالب (رض) فقال : اُكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم. فقال سهيل : لا أعرف هذا ، ولكن اُكتب « باسمك اللّهم ». فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : اُكتب « باسمك اللّهم » ، فكتبها.

ثمّ قال : هذا ما صالح عليه محمد رسول اللّه سهيل بن عمرو.

فقال سهيل : لو شهدت انّك رسول اللّه لم اُقاتلك ، ولكن اُكتب اسمك واسم أبيك. فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعلي : اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد اللّه سهيل بن عمرو.

فقال علي : ما اَمحُو إسمك من النبوة أبداً. فمحاه رسول اللّه بيده.

ثمّ كتب علي بنود الصلح ، وتمّ الإتفاق على اُمور :

1 - وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيها الناس ، ويكف بعضهم عن بعض.

2 - من أتى محمداً من قريش ولجأ إليه بغير إذن ردّه عليهم ، ومن جاء قريشاً ممن كان مع محمد لم يردّوه عليه.

3 - تخيير الناس كافة ، فمن أحبّ أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل ، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.

4 - أن يكون الإسلام ظاهراً في مكه ، لا يكره أحد على دينه ، ولا يؤذى ولا يعيّر.

ص: 404

5 - إنّ محمداً وأصحابه يرجع عنهم عامه هذا ، ثمّ يدخل عليهم في العام القابل مكة ، فيقيم فيها ثلاثة أيام ، ولا يدخل عليهم بسلاح إلاّ سلاح المسافر ، السيوف في القرب.

التاريخ يعيد نفسه :

إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال لعلي علیه السلام - بعد ما كتب الكتاب وشهد عليه المهاجرون والأنصار - : « يا علي إنّك أبيت أن تمحو النبوّة من اسمي ، فو الذي بعثني بالحق نبيّاً ، لتجيبنّ أبناءهم إلى مثلها ، وأنت مضيض مضطهد » فلمّا كان يوم صفين ، ورضوا بالحكمين كُتِبَ : « هذا ما اصطلح عليه امير المؤمنين علي بن أبي طالب ومعاوية ابن أبي سفيان » فقال عمرو بن العاص : لو علمنا أنّك امير المؤمنين ما حاربناك ، ولكن أكتب هذا ما اصطلح عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. فقال امير المؤمنين علیه السلام : « صدق اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله ، أخبرني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بذلك » ثمّ كتب الكتاب (1).

قال ابن الأثير في وقعة صفين :

حضر عمرو بن العاص عند علي ليكتب الكتاب ، فكتبوا بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا ما تقاضى عليه امير المؤمنين ، فقال عمرو : اُكتب اسمه واسم أبيه هو أميركم ، وأمّا أميرنا فلا ، فقال الأحنف : لا تمح إسم امير المؤمنين ، فإنّي أخاف إن محوتها أن لا ترجع إليك أبداً لا تمحها وإن قتل الناس بعضهم بعضاً ، فأبى ذلك علي مليّاً من النهار.

ثم إنّ الأشعث قال : امح هذا الإسم ، فمحاه. فقال علي : اللّه أكبر سنّة بسنّة ، واللّه إنّي لكاتب رسول اللّه يوم الحديبيّة ، فكتبت رسول اللّه ، فقالوا : لست

ص: 405


1- تفسير القمي ج 2 ص 313 و 314.

برسول اللّه ، ولكن اُكتب اسمَك واسم أبيك ، فأمرني رسول اللّه بمحوه. فقلت : لا أستطيع.

فقال : أرنيه ، فأريته ، فمحاه بيده ، وقال : إنّك ستدعى إلى مثلها فتجيب. فقال عمرو : سبحان اللّه أنشبّه بالكفّار ونحن مؤمنون.

فقال علي : يا ابن النابغة ، ومتى لم تكن للفاسقين وليّاً ، وللمؤمنين عدوّاً ؟ فقال عمرو : واللّه لا يجمع بيني وبينك مجلس بعد هذا اليوم أبداً. فقال علي : إنّي لأرجو أن يطهّر اللّه مجلسي منك ، ومن أشباهك. فكتب هذا ما تقاظى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان (1).

* * *

فبينما رسول اللّه يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو ، جاء « أبو جندل » ابن سهيل بن عمرو ، يرسف في الحديد ، قد انفلت إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقد كان أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خرجوا وهم لا يشكّون في الفتح لرؤيا رآها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فلمّا رأوْا مارأوْا من الصلح والرجوع ، وما تحمل عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في نفسه ، دخل على الناس من ذلك أمر عظيم ، حتّى كادوا يهلكون ، فلمّا رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه ، وأخذ بتلبيبه ثمّ قال : يا محمد قد لجّت القضية بينى وببينك قبل أن يأتيك هذا. قال : صدقت. فجعل ينتره بتلبيبه ، ويجرّه ليرده إلى قريش ، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته : يا معشر المسلمين أاُرد إلى المشركين ، يفتنوني في ديني ؟ فزاد ذلك الناس إلى ما بهم ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : يا أبا جندل اصبر واحتسب ، فإنّ اللّه جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً ، إنّا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً ، وأعطيناهم على

ص: 406


1- الكامل لابن الأثير ج 3 ص 162.

ذلك ، وأعطونا عهد اللّه ، وإنّا لا نغدر بهم (1).

فلمّا فرغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من الكتاب أشهد على الصلح رجالاً من المسلمين ، ورجالاً من المشركين وهم : أبو بكر ، وعمر بن الخطاب ، وعبد الرحمان بن عوف ، وعبد اللّه بن سهيل بن عمرو ، وسعد بن أبي وقاص ، ومحمود بن مسلمة ، ومكرز بن حفص وهو يومئد مشرك ، وعلي بن أبي طالب وكتب ، وكان هو كاتب الصحيفة.

نحر الرسول وحلقه :

فلمّا فرغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من الصلح قدم إلى هَدْيِه فنحره ، ثمّ جلس فحلق رأسه ، فلمّا رأى الناس أنّ رسول اللّه قد نحر وحلق ، تواثبوا ينحرون ويحلقون ، غير أنّ بعض الصحابة ، تخلّف عن الحلق والتقصير ، ولأجل الإيعاز إلى أنّ عملهم إنّما هو بمثابة تجاسر على مقام النبوّة ، قال رسول اللّه : رحم اللّه المحلقين. مومياً بذلك على نحو الازدراء بالمتخلفين.

ثم إنّ رسول اللّه رجع إلى المدينة فقال الناس : ألم تقل أنّك تدخل مكّة آمناً ؟ قال : بلى ، أفقلت من عامي هذا ؟ قالوا : لا. قال : فهو كما قال لي جبرئيل علیه السلام (2).

دروس وعبر :

1 - كانت سفرة النبي سفرة سياسيّة هادفة تطمح بالدرجة الاُولى إلى قلب الرأي العام المتأجج ناراً ضد النبي صلی اللّه علیه و آله واتباعه ، ودعوته في نفوس مشركي قريش ، ومن ناحية اُخرى كانت تهدف لإزاحة الستار الذي وضعه رؤوس

ص: 407


1- وسنوافيك الخاتمة التي آل إليها أمر أبي جندل في آخر الفصل فترقب.
2- السيرة النبويّة ج 2 ص 318 - 319.

المشركين على بصائر الناس ، والذي صوّر النبي ، وأتباعه مَردَة على شريعة إبراهيم الحنيفّية ، وأعداء القبلة التي بناها للعبادة.

2 - إنّ النبي أثبت في عقد الصلح مع قريش براعته السياسيّة ، وحنكته القياديّة الفذّة ، حيث أظهر مرونةً لا نظير لها ، حتّى أنّه قبل أن يكتب « باسمك اللّهم » مكان « بسم اللّه الرحمن الرحيم » ، وأن يحذف مقام الرسالة والنبوّة عن اسمه ، وذلك يُنبئ عن أنّه كان مهتمّاً على حفظ الدماء والأنفس ، وإقرار مبادئ الصلح والسلام على ربوع المنطقة ، وإشاعة الأمن في السبل والقفار ، حتّى يتمكّن في ظل تلك الاُمور من بث الدعوة الإسلامية ، فإنّه في ظل تحكيم مبادئ السلام يكون أكثر قدرة وفاعلية لنشر المبادئ السامية.

3 - إعطاء صورة بديعة رائعة لمبدأ الحرية في الإسلام للبرهنة على أنّه لم يقم على أساس الجبر والإلزام ، بشهادة أنّه قبل بالبند الذي ينص على أنّ من فرّ من المسلمين إلى جانب مكّة ، وارتدّ عن الإسلام أن لا يستردّه.

4 - إنّ المستقبل أثبت أنّ المرونة التي أظهرها في القبول بأحد البنود الناصّة على لزوم ردّ من فرّ من مكّة إلى المدينة ، ولو اعتنق الإسلام كانت صائبة ، وإن أثارت حفائظ بعض الصحابة ، ودفعهم إلى القول بأنّه من قبيل تقبّل الدنيّة في طريق الدين (1) ، ولكن المستقبل أثبت خلاف ما خطر في أذهانهم من تصوّرات ، وإليك نص ما صرّح به أهل السير والتاريخ في ذلك :

« لمّا قدم رسول اللّه المدينة فرّ أبو بصيرمن مكة إلى المدينة. فقال رسول اللّه : يا أبا بصير ، إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر ، وانّ اللّه جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً ، فانطلق إلى قومك. قال : يا رسول اللّه أتردّني إلى المشركين يفتنوني في ديني ؟ قال : يا أبا بصير انطلق ، فإنّ اللّه تعالى سيجعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً.

ص: 408


1- تعرفت على قائله.

وقد بعثت قريش أزهر بن عبد عوف ، والأخنس إلى رسول اللّه ، وبعث رجلاً من بني عامر ، ومعه مولى لهم ليردّا أبا بصير إلى مكّة.

فانطلق أبو بصير معهما حتّى إذا كان بذي الحليفة (1) جلس إلى جدار ، وجلس معه صاحباه ، فقال أبو بصير : أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر ؟ فقال : نعم. قال : أنظر إليه ؟ قال : أنظر إن شئت. قال : فاستلّه أبو بصير ثم علاه به حتّى قتله ، وخرج المولى سريعاً حتّى أتى رسول اللّه قال : ويحك ما لك ؟ قال : قتل صاحبكم صاحبي ، فو اللّه ما برح حتّى طلع أبو بصير متوشّحاً بالسيف ، حتّى وقف على رسول اللّه. فقال : يا رسول اللّه وفت ذمتك وأدّى اللّه عنك ، أسلمتني بيد القوم ، وقد امتنعت بديني أن أفتن فيّ ، أو يُعبث بي ، ثمّ خرج أبو بصير حتّى نزل العيس على ساحل البحر بطريق قريش ، التي كانوا يسلكونها إلى الشام ، فبلغ المسلمين الذين كانوا أحتبسوا بمكّة عمل أبي بصير وموقفه ، فخرجوا إلى أبي بصير ، فاجتمعوا إليه منهم قريب من سبعين رجلاً ، وكانوا قد ضيّقوا على قريش لا يظفرون بأحد منهم إلاّ قتلوه ، ولا تمر بهم عير إلاّ أقتطعوها ، حتّى كتبت قريش إلى رسول اللّه تسأل بأرحامها إلاّ آواهم ، فلا حاجة لهم بهم ، فآواهم رسول اللّه ، فقدموا على المدينة ، فاُلغي ذلك البند.

5 - كشف مخالفة بعض الصحابة أمر الرسول في الحلق والتقصير ، عن أنّ اُناساً منهم كانوا يتوانون عن امتثال أمر النبي ويقدّمون آراءهم على التشريع الإلهي الذي كان ينطق به النبي الأكرم.

6 - إنّ عقد الصلح بين النبي وقريش ، أتاح لهم فرصة ثمينة لنشر الإسلام في الجزيرة العربية ، وإرسال الرسل إلى الملوك ، والسلاطين في أطراف العالم ، كدولة الروم والفرس وغيرهما من رؤساء القبائل والبلدان ، حتّى بلغت رسائلهم التبليغيّة إلى تسع وعشرين رسالة أثبتها التاريخ.

ص: 409


1- ذو الحليفة قرية ، بينها وبين المدينة أميال قليلة ، ومنها ميقات أهل المدينة وفيها مسجد الشجرة.

7 - لمّا عقد الرسول الصلح ، اطمأنّ من جانب المشركين في الجهة الجنوبيّة ، وبذلك تمكّن من التفرّغ للجبهة الشماليّة ، فأمر بمحاصرة خيبر ، فاجتث اليهود القاطنين فيها عن بكرة أبيهم.

كل تلك الثمرات التي اجتناها النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله كانت نتيجة عقد الصلح مع المشركين ، وقد أشار الإمام الصادق إلى ذلك بقوله :

« ما كان قضية أعظم بركة منها ».

هذه بعض الدروس والعبر التي نستفيدها من سيرة النبي الأكرم ، وإليك نص ما يتحفنا به كتاب اللّه عزّ وجل بشأن تلك الحادثة التاريخيّة المهمّة حيث صرّح بما نصّه في سورة الفتح (1) ولأجل سهولة التفسير نأتي بالآيات نجوما.

وقعة الحديبيّة في الذكر الحكيم

( سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا * وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا * وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا * سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً * قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ

ص: 410


1- أكثر المفسرين على أنّ سورة الفتح نزلت حين منصرفه من الحديبية ، ونحن نفسّر ما يمت بهذه الوقعة على وجه الصراحة ، ولأجل ذلك شرعنا بالتفسير من الآية 11 فلاحظ.

تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ) ( الفتح / 11 - 17 ).

نزلت هذه السورة الكريمة حين منصرفه صلی اللّه علیه و آله من الحديبيّة في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة ، لمّا صدّه المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام ، وحالوا بينه وبين قضاء عمرته ، ثمّ مالوا إلى المصالحة والمهادنة ، وأن يرجع عامه هذا ثمّ يأتي من قابل ، فأجابهم إلى ذلك على كراهة جماعة من الصحابة ، فلمّا نحر هَدْيه حيث احصر ورجع ، أنزل اللّه تعالى هذه السورة فيما كان من أمره وأمرهم ، وجعل هذا الصلح فتحاً لما فيه من المصلحة ، كما سيجي التصريح في قوله سبحانه : ( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ) .

وقد تخلّف عن هذه الغزوة ، المنافقون ، ولمّا عاد المسلمون إلى المدينة ، أخذوا يعتذرون وإليك تحليل معذرتهم.

إعتذار المنافقين عن عدم الحضور

إنّ هذه الآيات تتعرّض لحال الأعراب الذين قعدوا عن المشاركة ولم ينفروا إذ استنفرهم الرسول ، وهم أعراب نواحي المدينة ، وما قعدوا عن المشاركة إلاّ لأنّهم كان يخالون أنّ محمداً وأصحابه لا يرجعون أدراجهم في هذه السفرة ، لأنّهم يذهبون لغزو قريش الذين قتلوا المسلمين قتلاً ذريعاً ، ونكّلوا بهم في عقر دارهم « غزوة اُحد » ولمّا رجع رسول اللّه وأصحابه سالمين ، أخذوا باختلاق المعاذير بقولهم :

( شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) .

إنّه سبحانه يردّ عليهم ، بأنّ الضر والنفع بيد اللّه سبحانه ، حيث ظنّوا انّ التخلّف عن النبي يدفع عنهم الضر أو يعجّل لهم النفع ، والسلامة في الأنفس والأموال ، فقال سبحانه : ( قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) .

ص: 411

ثم إنّه سبحانه صرّح بالسبب الواقعي لتخلّفهم فقال : ( بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا ) ولأجل أنّهم قوم غير مؤمنين ، فسوف يعذّبون في السعير لقاء ما يرتكبونه في دنياهم ، فقال سبحانه ( وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا * وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) .

إنّ النبي لمّا عقد الصلح مع قريش ، وعد المؤمنين بالغنائم الكثيرة في المستقبل ( غنائم خيبر ) ولمّا وصل خبر ذلك إلى المنافقين ، طلبوا من المؤمنين المشاركة لهم في هذه السفرة كما ينص عليه قوله سبحانه : ( سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ) .

والباعث لهم إلى الإصرار من المشاركة ، هو أنّ النبي الأكرم عندما وعد المؤمنين بالغنائم الكثيرة أخبر بعدم مشاركة غيرهم فيها ، فهؤلاء حاولوا بإصرارهم إبطال كلام اللّه ونبيّه كما يقول سبحانه : ( يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللّهُ مِن قَبْلُ ) .

ثم إنّهم لمّا سمعوا ذلك الجواب اتّهموا المؤمنين بأنهم يحسدونهم كما يحكي ذلك قوله سبحانه : ( فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا ) ولكنّ الحق انّ اتّهام المؤمنين والنبي بهذه التهمة كلام من لا يعي ما يقول ، والرسول أجلّ من أن يستشعر حسداً تجاه أحد ، كما يقول سبحانه : ( بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ) .

إنّه سبحانه وإن حرمهم من غنائم خيبر ولكنّه لسعة رحمته ، وعَدَهُم بأنّ المسلمين سيواجهون قوماً اُولي بأس شديد ، فإن شارك القاعدون منهم ، فإنّه سيكون لهم ما للمسلمين كما يقول :

( قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ( أى يقرّون بالإسلام ) فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) .

ص: 412

وهذا أيضاً من عظيم فضل اللّه سبحانه وجزيل كرمه ، فما صدّ عليهم باباً حتّى فتح لهم باباً لأخذ الغنائم وكسب رضاه سبحانه.

وهو أنّهم لو رجعوا عن تخلّفهم ، فإنه سبحانه سيغفر لهم.

وهذه الآيات تشتمل على تنبّؤات غيبيّة نشير إليها :

1 - سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ ...

2 - يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللّهِ

3 - قُل لَّن تَتَّبِعُونَا ...

4 - فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا

5 - سَتُدْعَوْنَ إِلَى ...

وستجي تنبّوآت غيبيّة اُخرى نشير إليها في محلها.

بيعة الرضوان

إنّه سبحانه يشير إلى حادثة بيعة الرضوان التي عرفت تفصيلها في أثناء ذكر قصة صلح الحديبيّة ويقول سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللّهَ يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ) ( الفتح / 10 ).

ويقول سبحانه : ( لَّقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) ( الفتح / 18 ).

نعم رضى اللّه عن المؤمنين عند المبايعة ، ولكن الرضى إنّما ينتج ويثمر إذا لم يحيدوا عن نهج الصراط السوي ، فثواب كل ما يقوم به المسلم من أعمال حسنة

ص: 413

مشروط بحسن العاقبة ، فلو ارتدّ أو اقترف ما يوجب سخط اللّه عزّ وجل فلا ينفعه عمله.

الوعد بفتحين

إنّه سبحانه وعد المؤمنين بفتحين : فتح قريب ، وفتح مبين.

أمّا الأوّل : فهو ما ذكره في الآية المتقدّمة أعني قوله : ( فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) ( الفتح / 18 ). وقال : ( فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) ( الفتح / 27 ).

وأمّا الثاني : فقد أشار إليه في صدر الآية بقوله : ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ) .

والظاهر أنّ المراد من الأوّل هو فتح خيبر لأنّه كان أقرب الفتوحات بعد الحديبيّة.

وأمّا الثاني فالمراد منه هو فتح مكّة ، والظاهر من سياق الآيات ، وكلمات المفسّرين أنّ ما يرجع إلى الفتح القريب من الآيات نزل بعد صلح الحديبيّة.

الوعد بمغانم ثلاث :

إنّه سبحانه قد وعد المؤمنين بمغانم ثلاث وإليك الآيات الواردة في هذا الشأن :

1 - ( وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) ( الفتح / 19 ).

( وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً ) .

2 - ( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ) ( الفتح / 20 ).

3 - ( وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللّهُ بِهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ) ( الفتح / 21 ).

ص: 414

أمّا المغانم الاُولى : فالمراد منها فتح خيبر بقرينة إتّصاله بقوله : ( وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) .

وأمّا قوله : ( وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً ) فأيضاً انّه تأكيد لما تقدّم أعني قوله سبحانه : ( وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً ) وإنّما ذكره مقدّمة لقوله : ( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ) .

وأمّا الثانية : أعني ما أشار إليه بقوله سبحانه : ( فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ) ، فالمراد منه نفس صلح الحديبيّة ، فعدّها سبحانه غنيمة للمسلمين لما ترتّب عليه من الفوائد.

وهذا ظاهر على القول بأنّ الآية نزلت في أثناء عودة النبي صلی اللّه علیه و آله من الحديبيّة إلى المدينة ، والمسلمون وإن لم يستولوا فيها على غنائم مادّية ، لكنّ اكتسبوا غنائم معنويّة أشرنا إليها ولأجله جعل صلح الحديبيّة في عداد الغنائم.

وأمّا قوله : ( وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ ) فالمراد الجماعة التي بعثوا ليطيفوا بعسكر رسول اللّه ليصيبوا لقريش من أصحابه أحداً ، فاُخذوا فاُوتي بهم رسول اللّه ، فعفى عنهم ، وخلّى سبيلهم ، وقد كانو رموا في عسكر رسول اللّه الحجارة والنبل (1).

وأمّا الثالثة : فهي ما أشار إليه بقوله : ( وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللّهُ بِهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ) ( الفتح / 21 ).

فالظاهر أنّ : ( اُخْرَى ) صفة لموصوف محذوف وهو ( مَغَانِمَ ) والجملة منصوبة على المحل لكونها مفعولة للفعل المتقدّم ( وعدكم اللّه ) ، والتقدير « وَعَدَكُمُ اللّه مَغَانِمَ اُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا بَعْدَ وَلَكِن اللّه اَحَاطَ بِهَا » فما هو المراد من هذه الغنائم ، فلعلّ المراد غنائم قبيلة هوازن ، أو كل الغنائم التي يغنمها المسلمون طيلة جهاد هم في حياة النبي أو بعدها.

ص: 415


1- السيرة النبويّة لابن هشام : ج 2 ص 314 ، وستجيء الإشارة إليه في الآية 24 أعني قوله : ( وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ ... ) .

نبوءة غيبيّة :

( وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً * وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ) ( الفتح / 22 - 24 ).

إنّ سورة الفتح اشتملت على أنباء غيبيّة مضى ذكر أكثرها ، والآية الاُولى تتضمن الإشارة إلى واقعة غيبيّة ، فاللّه سبحانه يبشّر عباده المؤمنين بأنّه لو ناجزهم المشركون لولّوا فراراً مهزومين على أعقابهم لا يجدون وليّاً يأخذ بأيديهم ، ويذود عنهم.

ثمّ الآية الثانية تشير إلى سنّة اللّه سبحانه في حق أنبيائه وأوليائه ، وهي أنّ نصرتهم هي سنّة اللّه تبارك وتعالى في أنبيائه والمؤمنين بهم إذا صدقوا وأخلصوا نيّاتهم ، فيظهرهم على أعدائهم ، قال سبحانه : ( كَتَبَ اللّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) ( المجادلة / 21 ).

ولأجل أنّ سنّة اللّه سبحانه تقتضي اظهار الأنبياء بمظهر القوّة والغلبة ، فقد كفّ أيدي المشركين عن المؤمنين في معسكر الحديبيّة قبل انعقاد الصلح ، كما كفّ أيدي المؤمنين عنهم بعد أن أظفرهم بهم ، ولعلّ الآية الثالثة تتضمّن الإشارة إلى أنّ قريشاً كانوا بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين رجلاً ، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليصيبوا لهم من أصحابه أحداً ، فاُخذوا أخذاً ، فأتي بهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فعفا عنهم ، وخلّى سبيلهم ، وقد كانوا رموا في عسكر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالحجارة والنبل » (1).

ص: 416


1- السيرة النبويّة لابن هشام : ج 2 ص 314 ، مضت هذه الرواية في تفسير الآية : ( وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ ) والفرق بين الآيتين ، انّه يذكر هناك كف أيدي الكفار عن المؤمنين ، وفي المقام يذكر كف كلاً من الطائفتين عن الاُخرى.

الأخذ بالحائطة للحفاظ على دماء المؤمنين :

( هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَالهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) ( الفتح / 25 - 26 ).

الآية الاُولى تشير إلى أمرين :

1 - شدّة قساوة قلوب الكافرين على المؤمنين ، حيث منعوا النبي وأصحابه من المؤمنين عن الدخول إلى المسجد الحرام ، والطواف بالبيت ، ومنع الهَدْيَ أن يبلغ محلّه ، وقد عرفت أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله ساق بدنه وكذا المؤمنون حتى بلغ هديهم سبعين بدناً ، ولمّا بلغوا « ذا الحليفة » ، قلّدوا البدنة التي ساقوها واشعروها ، وأحرموا بالعمرة حتى نزلوا بالحديبية ، ومنعهم المشركون ، فلمّا تمّ الصلح نحروا البدن فيها ، مكان نحره في مكّة لأنّ هَدْيَ العمرة لا يذبح إلاّ بمكة كما أنّ هَدْيَ الحج لا يذبح إلاّ بمنى ، وإلى هذا المعنى أشار قوله سبحانه بقوله : ( هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَالهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ) .

والمراد من قوله ( مَعْكُوفًا ) كونه محبوساً من أن يبلغ مَنحره بالقرب من مكّة.

2 - الإشارة إلى أحد أسباب الصلح مضافاً إلى ما عرفت ، وهو أنّه كان بين الكفّار رجال مؤمنون ونساء مؤمنات كانوا يخفون أمرهم ، وما كان جيش المؤمنين يعرفونهم ، فلو اشتبكت الأسنّة لقتلوا بأيدي المسلمين لمحلّ الجهالة بحالهم ،

ص: 417

وبذلك تصيب المسلمين معرّة ومكروه ، وهو قتل المسلم بيد المسلم ، وبالتالي يعيب المشركون المسلمين بأنّهم قتلوا أهل دينهم ، مضافاً إلى أنّه كان يجب عليهم الكفّارة والديّة ، ولأجل هذه الاُمور مجتمعة ، كفّ أيدي المؤمنين عن المشركين ، وانتهى الأمر بالصلح ، لولا ذلك لأمركم بالجهاد ، وإليه الإشارة في قوله تعالى : ( وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) .

نعم قضت حكمته بذلك ليدخل في رحمته أُولئك المؤمنين غير المتميّزين ، وينجوبهم من القتل ، ويحفظ جيش المسلمين من لحوق المعرّة والندامة بهم.

ولو كان المؤمنون مميّزين عن الكفّار ، لعذّب الذين كفروا من أهل مكة ، ولكن لم يعذّبهم ( بأيديكم ) رعاية لحرمة من اختلط بهم من المؤمنين وإليه يشير قوله : ( لِّيُدْخِلَ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) ( الفتح / 25 ). ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى جهة استحقاقهم العذاب ، وهي رسوخ حمّية الجاهلية ، واَنَفَتِها وعاداتها في قلوبهم ، والمراد منها التشبّث ، والتمسّك بما كان عليه آباؤهم ، فقد كانت عادة آبائهم في الجاهلية أن لا يذعنوا لأحد ولا ينقادوا له ، وعلى ذلك أصبحوا بعد ظهور الإسلام ، فكانوا يقولون :

« قد قتل محمد وأصحابه آبائنا وإخواننا ، فلو دخل علينا في منازلنا لتحدّثت العرب إنّهم دخلوا علينا على رغم أنفنا » ، وهذا هو الذي سمّاه تعالى الحميّة الجاهلية ، أي أنفتهم من الإقرار لمحمد بالرسالة ، وحتى الاستفتاح ببسم اللّه الرحمن الرحيم ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ ) .

ولكنّه سبحانه لا يترك المؤمنين وأنفسهم ( فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ ... ) .

ص: 418

استفسارهم عن علّة عدم تحقّق الرؤيا :

قد حدّث رسول اللّه قومه عندما عزم الرحيل لأداء فرض العمرة بأنّه رأى رؤيا انّهم دخلوا المسجد الحرام وحلقوا روؤسهم ، ولكنّهم لمّا رجعوا من الحديبية بعد أن منعوا من زيارة البيت والإطافة به ، قال بعض أصحابه : ألم تقل يا رسول اللّه انّك تدخل مكّة آمنا ؟ قال : بلى ، اَفَقلت لكم من عامي هذا ؟ قالوا : لا. قال : فهو كما قال لي جبرئيل ، وإليه أشار سبحانه بقوله :

( لَّقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) ( الفتح / 27 ).

والآية تشير إلى عمرة القضاء التي أتى بها رسول اللّه في السنة التالية للحديبية ، وهي سنة سبع من الهجرة في ذي القعدة الحرام ، وهو الشهر الذي صدّه فيه المشركون عن المسجد الحرام ، فخرج النبي ، ودخل مكّة مع أصحابه معتمرين ، فأقاموا بمكّة ثلاثة أيام ، ثم رجعوا إلى المدينة ، فلمّا قدم رسول اللّه مكة أمر أصحابه ، فقال : اكشفوا عن المناكب واسعوا في الطواف ، ليرى المشركون جلدهم وقوّتهم ، وكان أهل مكّة من النساء والصبيان ينظرون إليهم ، وهم يطوفون بالبيت ، وكان عبد اللّه بن رواحة يرتجز بين يدي رسول اللّه متوشّحاً سيفه ، ويقول :

خلوا بني الكفّار عن سبيله *** قد أنزل الرحمن في تنزيله

في صحف تتلى على رسوله *** اليوم نضربكم على تأويله

كما ضربناكم على تنزيله *** ضرباً يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله *** يا رب إنّي مؤمن لقيله

إنّي رأيت الحق في قبوله (1)

ص: 419


1- السيرة النبويّة لابن هشام : ج 2 ص 370 - 372 ، ومجمع البيان : ج 9 ص 191 ( طبع بيروت ).

والمراد من قوله : ( فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) هو فتح خيبر ، وتقدمت الإشارة إليه في قوله : ( فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) .

التنبّوء بظهور الإسلام على الدين كلّه :

ثم إنّه سبحانه توطيداً لقلوب المسلمين وطمأنتهم ، تنبّألهم بأنّ رسالة الرسول صلی اللّه علیه و آله ستنتشر في أرجاء العالم وستظهر على الدين كلّه قال سبحانه : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا ) ( الفتح / 28 ).

وقد جاء هذا التنبّوء في غير موضع من القرآن (1) وهل المراد من ظهوره ، هو ظهوره بالحجّة والبرهان ، وسطوع الدليل ، أو المراد ظهوره بالقهر والغلبة والقوّة ، أو الأعم منهما ، ولعلّ الثالث أوفق ، وذلك كلّما ازدادت المدنيّة ، وتطورت وسائل الإرتباط العالمي بين الشعوب بعضها ببعض ، تجلّت تلك الحقيقة بنحو أكثر وضوحاً ، وهذا يؤيّد دعوى ظهوره بالحجّة والبرهان.

وأمّا ظهوره بالقوّة والقهر مضافاً إلى ذلك ، فهو مرهون بظهور طلائع وتباشير الدولة الحقّة العالمية ، التي وعدت بها رسالة السماء الخاتمة ، وأسمتها بالدولة المهدية ، وقال الإمام الصادق علیه السلام في تفسير الآية : « واللّه ما نزل تأويلها بعد ولا ينزل تأويلها حتى يخرج القائم فإذا خرج القائم لم يبق كافر باللّه العظيم » (2).

ص: 420


1- لاحظ سورة التوبة الآية - 33 ، والصف الآية - 9.
2- نور الثقلين : ج 2 ص 212.

6 - غزوة ذات السلاسل

اشارة

إنّ غزوة ذات السلاسل بالنحو الذي سيمر عليك ذكره في هذا الفصل انفردت بنقله جملة من أعلام الإمامية ومفاده :

إنّ أعرابياً جاء إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله فجثا بين يديه ، وقال له : جئتك لأنصح لك. قال : وما نصيحتك ؟ قال : قوم من العرب قد اجتمعوا بوادي الرمل ، وعملوا على أن يبيتوك بالمدينة. ووصفهم له ، فأمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله أن ينادي بالصلاة جامعة ، فاجتمع المسلمون ، وصعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثمّ قال : أيّها الناس إنّ هذا عدوّ اللّه وعدوّكم قد عمل على أن يبيتكم فمن لهم ، فقام جماعة من أهل الصفة ، فقالوا : نحن نخرج إليهم يا رسول اللّه فولّ علينا من شئت ، فأقرع بينهم ، فخرجت القرعة على ثمانين رجلاً منهم ومن غيرهم ، فاستدعى أبا بكر ، فقال له : خذ اللواء وامض إلى بني سليم ، فانّهم قريب من الحرة ، فمضى ومعه القوم حتى قارب أرضهم ، وكانت كثيرة الحجارة والشجر ، وهم ببطن الوادي والمنحدر إليه صعب ، فلمّا صار أبو بكر إلى الوادي ، وأراد الانحدار ، خرجوا إليه فهزموه وقتلوا من المسلمين جمعاً كثيراً ، وانهزم أبو بكر من القوم ، فلمّا قدموا على النبي صلی اللّه علیه و آله عقده لعمر بن الخطاب وبعثه إليهم ، فكمنوا له تحت الحجارة والشجر ، فلمّا ذهب ليهبط خرجوا إليه فهزموه ، فساء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ذلك ، فقال له عمرو بن العاص : ابعثني يا رسول اللّه إليهم ، فإنّ الحرب خدعة ، فلعلّي أخدعهم ، فانفذه مع جماعة ووصّاه ، فلمّا صار إلى الوادي خرجوا إليه فهزموه وقتلوا من أصحابه جماعة.

ص: 421

ومكث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أيّاماً يدعو عليهم ثمّ دعى أمير المؤمنين علیه السلام فعقد له ثمّ قال : أرسلته كرّاراً غير فرار ، ثمّ رفع يديه إلى السماء وقال : « اللّهمّ إن كنت تعلم أنّي رسولك فاحفظني فيه وافعل به وافعل ... » فدعا له ما شاء وخرج علي بن أبي طالب علیه السلام وخرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لتشييعه ، وبلغ معه إلى مسجد الأحزاب ، وعلي علیه السلام على فرس أشقر ، مهلوب عليه بردان يمانيّان ، وفي يده قناة خطّية ، فشيّعه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ودعا له ، وأنفذ معه فيمن أنفذ أبا بكر وعمر وعمرو بن العاص ، فسار بهم نحو العراق متنكّباً للطريق ، حتى ظنّوا أنّه يريد بهم غير ذلك الوجه ، ثمّ أخذ بهم على محجّة غامضة ، فسار بهم حتى استقبل الوادي من فمه ، وكان يسير الليل ويكمن النهار ، فلمّا قرب من الوادي أمر أصحابه أن يعلموا الخيل (1) ووقفهم مكاناً ، وقال : لا تبرحوا وانتبذ أمامهم ، فأقام ناحية منهم.

فلمّا رأى عمرو بن العاص ما صنع لم يشك أنّ الفتح يكون له ، فقال لأبي بكر : أنا أعلم بهذه البلاد من علي علیه السلام ، وفيها ما هو أشد علينا من بني سليم ، وهي الضباع والذئاب ، فإن خرجت علينا خفت أن تقطّعنا ، فكلّمه يخل عنّا نعلوا الوادي ، قال : فانطلق أبو بكر فكلّمه فأطال ، فلم يجبه أمير المؤمنين علیه السلام حرفاً واحداً ، فرجع إليهم فقال : لا واللّه ما أجابني حرفاً واحداً ، فقال عمرو بن العاص لعمر بن الخطاب : أنت أقوى عليه ، فانطلق عمر فخاطبه ، فصنع به مثل ما صنع بأبي بكر ، فرجع إليهم فأخبرهم انّه لم يجبه ، فقال عمرو بن العاص : إنّه لا ينبغي أن نضيع أنفسنا انطلقوا بنا نعلوا الوادي. فقال له المسلمون : لا واللّه ما نفعل ، أمرنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن نسمع لعلي علیه السلام ونطيع فنترك أمره ونطيع لك ونسمع ، فلم يزالوا كذلك حتى أحسّ أمير المؤمنين علیه السلام بالفجر ، فكبس القوم وهم غارون ، فأمكنه اللّه تعالى منهم ، ونزلت على النبي صلی اللّه علیه و آله ( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ... إلى

ص: 422


1- يعلموا الخيل : يعلّقون عليها صوفاً ملوناً في الحرب.

آخرها ) فبشّر النبيّ صلی اللّه علیه و آله أصحابه بالفتح ، وأمرهم أن يستقبلوا أمير المؤمنين علیه السلام ، فاستقبلوه والنبي صلی اللّه علیه و آله يتقدّمهم فقاموا له صفين ، فلمّا أبصر بالنبي صلی اللّه علیه و آله ترجّل له عن فرسه ، فقال له النبيّ صلی اللّه علیه و آله : اركب فإنّ اللّه ورسوله عنك راضيان ، فبكى أمير المؤمنين علیه السلام فرحاً ، فقال له النبيّ صلی اللّه علیه و آله : يا عليّ لولا أنّني اشفق أن تقول فيك طوائف من اُمّتي ما قالت النصارى في المسيح عيسى بن مريم ، لقلت فيك اليوم مقالاً لا تمر بملأ من الناس إلاّ أخذوا التراب من تحت قدميك (1).

وقال أمين الإسلام الطبرسي :

قيل نزلت السورة لمّا بعث النبيّ صلی اللّه علیه و آله علياً علیه السلام إلى ذات السلاسل فأوقع بهم ، وذلك بعد أن بعث عليهم مراراً غيره من الصحابة ، فرجع كل منهم إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وهو المروي عن أبي عبد اللّه علیه السلام في حديث طويل قال : وسمّيت هذه الغزوة ذات السلاسل لأنّه أسر منهم وقتل وسبى وشدّ أسراهم في الحبال ، مكتّفين كأنّهم في السلاسل ، ولما نزلت السورة خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى الناس ، فصلّى بهم الغداة وقرأ فيها والعاديات ، فلمّا فرغ من صلاته. قال أصحابه : هذه سورة لم نعرفها. فقال رسول اللّه : نعم إنّ علياًّ ظفر بأعداء اللّه ، وبشّرني بذلك جبرئيل علیه السلام في هذه الليلة ، فقدم عليّ علیه السلام بعد أيام بالغنائم والأسارى (2).

* * *

ص: 423


1- الإرشاد للشيخ المفيد : ص 86 - 88 وتفسير فرات : ص 222 إلى 226 ، وتفسير القمي : ج 2 ص 434 - 439 مع زيادات في الأخير ، وقد نقل ما جاء فيه من الفضائل في الشرح الحديدي : ج 9 ص 168 ومناقب المغازي : ص 237 و 238 وغيرهما.
2- مجمع البيان : ج 10 ص 802 - 803 ط بيروت.

هذا ما رواه جمع من أعلام الشيعة الإماميّة إلاّ أنّ ما يذكره أصحاب السير والمغازي (1) من أهل السنّة يغاير ما حكيناه لك ، وهؤلاء لا يتعرّضون بالذكر بتاتاً إلى دور شخصية الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام كما لا يذكرون نزول الآيات في تلك المناسبة ، ومع ذلك يختلفون في تحديد موضع الغزوة والقبيلة المحاربة فيه ، فيسمّيه ابن هشام بأرض بني عذرة ، بينما نجد الواقدي في مغازية يشير إليهم بقوله : إنّ جمعاً من بَلِيّ وقضاعة قد تجمّعوا يريدون أن يدنوا إلى أطراف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ومن أراد الوقوف على مضانّها ، فليرجع إلى محالها.

السر في انتصار عليّ علیه السلام دون من عداه :

إنّ الحنكة والبراعة الحربيّة التي انتهجها أمير المؤمنين علیه السلام هي التي كفلت له الانتصار حيث تكمن في الأساليب الحربية التي نستعرضها لك فيما يلي :

1 - تغيير مسير الجيش لإيهام العدو بعدم القصد للمباغتة والمهاجمة ، وحتى لا يصل خبرهم إليهم عن طريق أعراب البادية والقبائل المجاورة.

2 - اتّخاذ الليل ستراً وحجاباً عن أعين الجواسيس ، وطلائع المقاتلين ، فقد سار ليلاً واختبأ نهاراً.

3 - المهاجمة ليلاً والمباغتة لهم في عقر دارهم ، وهم غاطّون في سبات الغفلة والنوم.

4 - البأس والحميّة والشجاعة التي أبداها عند الهجوم على مواقعهم حيث لم يترك لهم أي فرصة للمقابلة والدفاع عن أنفسهم ، فلم يكد ينادي المنادي منهم بالاستنفار ، إلاّ وقد كبس القوم برمّتهم ، وسقطوا في أيدي المسلمين.

ص: 424


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 623 - 625 ، والمغازي للواقدي : ج 2 ص 769 - 774.

وأمّا الآيات النازلة في هذه الواقعة ، فعلى حسب ما نقلناه هي سورة العاديات بأكملها بمناسبة تلك الواقعة وإليك تفسير ما تضمنته.

( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا * إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ * أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ ) .

إنّ السياق العام الذي تضمّنته الآيات الشريفة يوحي بأنّ السورة مكّية لكون فواصلها متقاربة ، ولكن المضمون يدل على أنها من السور المدينة ، حيث تتناول الحكاية عن خيل الغزاة ، وقد شرع الجهاد في المدينة.

( وَالْعَادِيَاتِ ) : من العدو وهو الجري بسرعة.

( ضَبْحًا ) : والضبح صوت أنفاس الخيل عند عدوها ، والمعنى لاُقسم بالخيل التي تعدو وهي تضبح.

( فَالمُورِيَاتِ قَدْحًا ) « الايراء » : إخراج ، « القدح » : الضرب. يقال : قَدَحَ فَأورى : إذا أخرج النار بالقدح ، والمراد الشرر المتطاير الذي ينتج من اصطكاك حوافر الخيل إذا عدت فوق الحجارة والأرض المحصبة.

( فَالمُغِيرَاتِ صُبْحًا ) الإغارة : الهجوم على العدو بغتة بالخيل ، فأقسم بالخيل الهاجمة على العدو بغتة في وقت الصبح.

( فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ) الإثارة : هو تهييج الغبار ونحوه ، والنقع : الغبار ، والمعنى إطارة الغبار من على وجة الأرض.

( فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ) الوسط والتوسّط : بمعنى واحد ، والضمير المجرور يرجع إلى الصبح ، أو إلى النقع ، والمعنى فصرن في وقت الصبح في وسط الجمع ، والمراد منه كتيبة العدو.

( إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ) الكنود : الكفور ، والآية كقوله : ( إِنَّ الإِنسَانَ

ص: 425

لَكَفُورٌ ) ( الحج / 66 ) وهو إخبار عمّا في طبع الإنسان من اتبّاع الهوى والإنكباب على عرض الدنيا ، وفيه تعريض للقوم المغار عليهم.

( وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ) : أي انّ الإنسان على كفرانه بأنعم ربّه شاهد فانّ « الإنسان على نفسه بصيرة ».

( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) : أي إنّ الإنسان لأجل حبّ المال لبخيل شحيح.

( أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ ) : أي أفلا يعلم الإنسان أنَّ لكفرانه بنعمة ربّه ، تبعة ستلحقه وسيجازى بها إذا اُخرج ما في القبور من الأبدان ، وحصل ما في الصدور من سرائرها ، وانّ ربهم خبير بسرائرهم ، فيجازيهم بما فيها.

بقي في تقسير الآيات بيان نكتتين :

1 - ما هو سر الحلف بالعاديات ، فالموريات ، فالمغيرات.

2 - ما هي الصلة بين الحلف بها والجواب عن القسم بقوله :

( إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) .

إنّ كثيراً من التفاسير تتضمّن سرّ الحلف بها ، ولم يذكر سرّ الصلة بينهما بل أهمله في جميع الأقسام الواردة في القرآن ، وهو أمر عجيب.

أمّا علّة القسم بالاُمور المذكورة ، فلأنّ الخيل أقوى وسيلة للمقاتل المجاهد في سبيل اللّه ، فتضفي له طابع القداسة ، لقداسة غايته ، فإنّ كرامة الوسيلة بكرامة ذيها ، وأمّا القسم بضبحها ، والموريات التي تتطاير من حوافر أرجلها ، فلأنّ هذه الحالات المجتمعة في الخيل عند العدو تبعث الرعب والهلع والخوف في نفوس الأعداء ، فتكون بمجموعها من مقوّمات النصر والغلبة ، والظهور على الكفر ، وهنا يكمن السر في تشريفها وتعظيمها ، واستحقاقها لتكون محلاًّ للقسم.

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « الخير كلّه في السيف ، وتحت

ص: 426

ظلّ السيف ، ولا يقيم الناس إلاّ السيف ، والسيوف مقاليد الجنّة والنار » (1).

وعنه صلی اللّه علیه و آله أيضاً قال : « إنّ أفضل عمل المؤمنين الجهاد في سبيل اللّه » (2).

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في شرف الجهاد مضافاً إلى قوله سبحانه : ( وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ ) ( الأنفال / 60 ).

هذا برمّته حول سر الحلف بهذه الأشياء ، بقي الحديث عن بيان المناسبة بين القسم بهذه الأشياء والجواب عنها بجملة ( إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ) فنقول : إنّ قوله سبحانه : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) ( التين / 4 - 6 ).

يشهد بأنّ للإنسان قدرة على السمو إلى أعلى درجات الكمال ، وكذلك له قابلية على الإنحطاط إلى أدنى المستويات كما يشهد بهذين الأمرين قوله : ( ثُمَّ رَدَدْنَاهُ ... ) وقوله : ( إِلاَّ الَّذِينَ ... ) ، وعلى ضوء ذلك ، فالإنسان ربّما يصل عند اتصافه بجملة تلك الملكات السامية إلى درجة يستحق أن يحلف لا به فقط ، بل بخيله وما يطرأ عليه من العوارض المذكورة.

وربّما ينحط عن تلك الرتبة إلى حد يكون فيه جاحداً بكل أنعم ربّه وفضله عليه كما قال سبحانه : ( إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ) وفي آية اُخرى : ( إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ ) ( الحج / 66 ) وفي آية ثالثة : ( إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) ( إبراهيم / 34 ) وفي آية رابعة : ( إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً ) ( الأحزاب / 72 ) وفي نقس تلك السورة : ( وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ) (3).

ص: 427


1- وسائل الشيعة : ج 6 ص 45.
2- نهج الفصاحة : ص 120.
3- أنّ دراسة الأقسام الواردة في القرآن البالغ عددها قرابة أربعين حلفاً ، من الأبحاث والدراسات الجديرة بالإهتمام ، وقد كتب ابن القيم كتاباً حولها وأسماه « الأقسام في القرآن » ولكنّه أهمل الجانب المهم منها وهو بيان الصلة بين المقسم به وجوابه. نعم قام ولدي الفاضل المجاهد الشهيد الشيخ أبو القاسم الرزاقي قدس سره بهذه المهمة وأقرده بالتأليف باللغة الفارسية وإنّي أرجو أن يقوم أحد البارعين في اللغتين ، بنقله إلى اللغة العربية ، فإنّه خير كتاب في هذا الموضوع وقد طبع بتقديم منّا أيام حياته ، ولقد لقي ربّه مضرّجاً بدمه أثناء الحرب المفروضة على الشعب المسلم في إيران ، وقد اُسقطت طائرته ، فاستشهد هو وقرابة أربعين شخصاً ، بين عالم وكاتب وسياسي محنّك ، حشرهم اللّه مع النبي صلی اللّه علیه و آله والأئمة المعصومين علیهم السلام وقد أحرق الحادث قلبي واراق دموعي.

7 - فتح مكّة أو الفتح المبين

اشارة

إنّ أوّل بيت وضع لعبادة اللّه وتوحيده وتقديسه ، هو الكعبة بيت اللّه الحرام ، وقد اندرست آثاره وعفيت رسومه في حادثة الطوفان في زمن نبي اللّه نوح علیه السلام ، ثم بقي على تلك الحال إلى زمن إبراهيم علیه السلام ، فأمره عزّ وجلّ بإقامة قواعده وتشييد أركانه ليكون مثابة للناس وأمناً ، قال سبحانه : ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) ( البقره / 125 ).

وقد ظلّ البيت الحرام على تلك الوتيرة مدة مديدة من الزمن حتّى تمكّن الشرك من النفوذ إلى نفوس القاطنين في ضواحيه ، وذلك في زمن قصي بن كلاب (1) وعندما بعث النبي الأكرم كانت الأصنام منصوبة وتحيط بالبيت الحرام ، وتعلوها أعلام الكفر والشرك.

ص: 428


1- لاحظ السيرة النبويّة : ج 1 ص 130 ط بيروت.

ولما وقع إبرام الصلح بين النبي الأكرم ، وقريش عبدة الأوثان وسدنة الكعبة ، واتّفقوا على أن يتجنّبوا كل ما من شأنه إثارة الحرب بينهما طيلة عشرة أعوام ، لم يكن يتبادر في خلد أحد انّ النبي الأكرم سوف تسنح له الفرصة لفتح ذلك الحصن المنيع للشرك ، ويوقعه في شراك الأسر والذلة والمسكنة.

لكنّه سبحانه عندما رجع رسوله صلی اللّه علیه و آله من صلح الحديبية عازماً الدخول إلى المدينة وعده بفتحين :

1 - الفتح القريب.

2 - الفتح المبين.

أمّا الأوّل فقد أشار إليه بقوله : ( وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) ( الفتح / 18 ) وقال : ( فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ) ( الفتح / 27 ).

وأمّا الثاني فهو الذي ورد في صدر هذه السورة وقال : ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ) .

أمّا الفتح القريب فقد سلف أن ذكرنا انّه فتح خيبر.

أمّا الفتح المبين فهو فتح مكّة ، ولم يكن يعلم أحد من الصحابة المراد من ذلك الفتح المبين ، الذي تنبّأ به الوحي قبل مجيئه ، غير أنّه لم تشارف السنتان على الانقضاء بعد نزول تلك الآية إلاّ وقد ظهرت الخيانة من قريش لبنود ذلك الصلح ، وعندها سنحت الفرصة للنبي صلی اللّه علیه و آله بعد أنْ تمكّن من بناء جيش قوي له ، أن ينقض أركان الشرك ويهاجمهم في عقر دارهم.

بيانه

قد كان من بنود الصلح : إنّ من أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه. فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم ، ودخلت خزاعة في عقد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعهده.

ص: 429

فلمّا كانت الهدنة اغتنمها طائفة من بني بكر ، فخرج نوفل بن معاوية في جمع حتى باغت خزاعة وهم على الوتير ، ماء لهم ، فأصابوا منهم رجلاً واقتتلوا وأعانت قريش بني بكر بالسلاح ، وقاتل معهم من قريش مَنْ قاتل ، بالليل مستخفياً حتى ساقوا خزاعة إلى الحرام. فلمّا دخلت خزاعة مكّة لجأوا إلى دار « بديل بن ورقاء » ، ودار مولى لهم يقال له « رافع » ، فلمّا تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة ، وأصابوا منهم ما أصابوا ، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول اللّه من العهد والميثاق ، وما استحلّوا من خزاعة ، خرج « عمرو بن سالم » الخزاعي حتى قدم على رسول اللّه المدينة ، فدخل المسجد فانتصب قائماً وقال :

يا رب إنّي ناشد محمدا *** حلف أبينا وأبيه الأتلدا

كنت لنا أباً وكنا ولْدا *** ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا

فانصر هداك اللّه نصراً أبدا *** وادع عباد اللّه يأتوا مددا

هم بيتونا بالوتير هجّدا *** وقتلونا ركّعاً وسجّدا

ولما سمع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله شعره ، ووقف على صدق مقاله ، قال : نَصَرْتَ يا عمرو بن سالم.

ثم خرج « بديل بن ورقاء » في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول اللّه المدينة ، فأخبروه بما اُصيب منهم وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم ، ومضى « بديل ابن ورقاء » ، وأصحابه حتى لقوا أبا سفيان بن حرب بعسفان قد بعثته قريش إلى رسول اللّه ليشد العقد ، ويزيد في المدّة ، فدخل أبو سفيان المدينة ، فدخل على ابنته اُمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، فلمّا ذهب ليجلس على فراش رسول اللّه طوته عنه ، فقال : يا بنيّة ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش ، أم رغبت به عني ؟ فقالت : بل هو فراش رسول اللّه ، وأنت رجل مشرك نجس ، ولم أحب أن تجلس على فراش رسول اللّه ، ثم خرج حتى أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فكلّمه ، فلم يرد عليه شيئاً ، فتوسّل بجمع من الصحابة أن يشفعوا له عند النبي صلی اللّه علیه و آله ، فلم يجيبوه فآيس منهم ، فركب بعيره وأقفل راجعاً ، فلمّا قدم على قريش قالوا له :

ص: 430

ما وراءك ؟ قال : جئت محمداً ، فكلّمته فو اللّه ما ردّ عليّ شيئاً.

ثم إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أعلم الناس بعزمه على المسير لفتح مكة ، ودعاهم لإعداد العدّة لذلك وقال : « اللّهمّ خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها ».

كتاب صحابي الى قريش :

لمّا أجمع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على المسير إلى مكة ، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى قريش ، يخبرهم بالذي أجمع عليه أمر رسول اللّه ، من السير إليهم ، ثم أعطاه امرأة تدعى سارة (1) وجعل لها أجراً على أن تبلّغه قريشاً ، فجعلته في رأسها ، ثم فتلت عليها قرونها ، ثم خرجت به ، وأتى رسول اللّه الخبر من السماء بما صنع حاطب ، فبعث علي بن أبي طالب ، والزبير بن العوّام - رضي اللّه عنهما - فقال : أدركا امرأة ، قد حملت رسالة حاطب إلى قريش يبلغهم ما أجمعنا عليه ، فخرجا حتى أدركاها بذي الحليفة ، فاستنزلاها ، ففتّشا رحلها ، فلم يجدا شيئاً ، فقال لها علي بن أبي طالب : إنّي أحلف باللّه ، ما كذب رسول اللّه ، وما كذبنا ولتخرجنّ هذا الكتاب أو لنكشفنّك (2).

ص: 431


1- وسارة مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هشام أتت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من مكة إلى المدينة بعد بدر بسنتين فقال لها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أمسلمة جئت ؟ قالت : لا. قال : أمهاجرة جئت ؟ قالت : لا. قال : فما جاء بك ؟ قالت : كنتم الأصل والعشيرة والموالي وقد ذهب موالي واحتجت حاجة شديدة ، فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني. قال : فأين أنت من شبان مكّة ، وكانت مغنيّة نائحة قالت : ما طلب مني بعد وقعة بدر ، فحث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليها بني عبد المطلب ، فكسوها وحملوها وأعطوها نفقة. لاحظ مجمع البيان : ج 5 ص 269.
2- وفي مجمع البيان : قال لها : اخرجي الكتاب وإلاّ واللّه لاضربنّ عنقك. ( مجمع البيان : ج 5 ص 269 ) وهذا هو الأوفق بمقام العصمة.

فلمّا رأت الجد منه قالت : اعرض ، فأعرض ، فحلّت قرون رأسها ، فاستخرجت الكتاب منها ، فدفعته إليه ، فأتى به رسول اللّه ، فدعى رسول اللّه حاطباً فقال : يا حاطب ما حملك على هذا ؟ فقال : يا رسول اللّه : إنّي لمؤمن باللّه ورسوله ما غيّرت ولا بدّلت ، ولكنّي كنت امرءاً ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة ، وكان لي بين أظهر هم ولد وأهل ، فصانعتهم عليهم.

فأنزل اللّه تعالى في حاطب :

1 - ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ) .

2 - ( إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ) .

3 - ( لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) .

4 - ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ ) .

5 - ( رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) .

6 - ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيدُ ) .

7 - ( عَسَى اللّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللّهُ قَدِيرٌ وَاللّهُ

ص: 432

غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الممتحنة / 1 - 7 ).

المستفاد من الآيات :

إِنّ الآية الاُولى تمنع المسلمين عن اتّخاذ الكافرين أولياءً لهم ، وتشدّد النكير على التقرب إليهم بالمودّة والمحبّة والإخاء ، إلاّ انّها لم تعن بذلك أن لا تكون هناك صلة على الإطلاق بأي نحو كان مع الكافرين ، بل لا تمنع من عقد علاقات تجارية أو سياسية بشرط أن لا تصل إلى حد المودّة الممنوعة.

نعم لو أصبحت تلك العقود والاتفاقات السياسية والتجارية بشقّيها ، سبباً للاضرار بالمصلحة الخاصة أو العامة للمسلمين ، فلا شك في حرمتهما ، وقضية الأندلس خير شاهد لنا في المقام ، وما ترتب ونجم عن أخطاء حكّامها من مصائب وويلات ، قضت على الدولة الإسلامية برّمتها هناك.

ثم إنّ الآية الثانية تلقي بمزيد من الضوء على ذلك الأمر ، فتوضح لنا انّ الكافرين لو سنحت الفرصة لهم للظفر بالمسلمين ، لأصبحوا لكم أعداءً ، ولامتدت سطوتهم إليكم ولأوقعوا فيكم الإيذاء ، وساموكم سوء العذاب ، ولنتاولوكم بألسنتهم بالشتم والسب ، ولودّوا لكم الرجوع عن دينكم.

والآية الثالثة تفيد انّ الوشائج العرقية إنّما تنفعكم يوم القيامة إذا كان صاحبها موحّد العقيدة والمبدأ كما يشير إليه قوله سبحانه : ( لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ ... ) .

ولمّا كان هناك احتياج وافتقار إلى اُسوة تكون مثالاً يقتدي به المسلمون في مجالي التولّي والتبرّي ممّن كانوا يعيشون معه ، تناول الوحي هذا الأمر بذكر قضية نبي اللّه إبراهيم علیه السلام ومن معه فقد تبرّؤا من الكافرين ، على الرغم من الصلات العرقية والقبلية التي كانت تربطهم بهم ، قال سبحانه : ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَحْدَهُ ) .

ص: 433

ثم إنّه سبحانه يستثني في هذه الآية شيئاً وهو : ( إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ ) .

وعندئذٍ يجري الكلام في التنبيه على ما هو المراد بالمستثنى منه فنقول : قد ورد قبل الاستثناء جملتان والاستثناء يرجع الى واحد منهما وهما عبارة عن.

1 - ( أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ ) .

2 - ( إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ ) .

وارجاع الاستثناء إلى الجملة الاُولى بعيد عن السياق لأنّ معناه حينئذ : إنّ إبراهيم اُسوة في كل شيء إلاّ في هذا المورد ، وهذا لا يتناسب مع مقام نبوّته ، ومع قوله سبحانه في حقّه : ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللّهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / 68 ).

فإذا كان إبراهيم أولى بأن يتبعه النبي الأكرم ، فكيف لا يكون اُسوة على الاطلاق.

على أنّ الآيات الكريمة الواردة في استغفار إبراهيم تعرب عن أنّ عدته بالاستغفار لأبيه كان عملاً حسناً وواقعاً في محلّه ، وذلك لأنّه وعده عندما يحتمل انّه سيعود إلى فطرته السليمة ، ويقطع أواصره بالوثنية قال سبحانه :

( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ) ( التوبة / 114 ).

وهذا يعرب عن أنّ الوعد إنّما كان في زمن كان يؤمل فيه منه الصلاح والرشد ، ولذلك لما استولى اليأس ، وفقد الأمل بتحقّق ذلك الأمر ، تبرّأ منه ، وعلى ذلك يتعيّن القول برجوع الاستثناء إلى الجملة التالية لأنّ مفادها انّ إبراهيم ومن كان معه تبرّأوا من جميع من كان يمت إليهم بصلة في قومهم ، مع انّ إبراهيم لم يتبرّأ من أبيه ، ولأجل ذلك جاء بالاستثناء ومعناه : إنّ إبراهيم وأتباعه قالوا لقومهم : إنّا برءآؤا منكم ، إلاّ إبراهيم ، فلم يتبرّأ من أبيه وهذا هو المستفاد من الآيات.

ص: 434

ثم إنّه سبحانه أعاد حديث الاُسوة لأهمّيته ، وانّه إنّما ينتفع بها المؤمنون أي الذين يرجون ثواب الإيمان باللّه سبحانه ، وما وعد اللّه به المؤمنين في الآخرة ، غير أنّ من رفض حديث الاُسوة ، وتولّى أعداء اللّه ، فإنّما يضر نفسه واللّه سبحانه هو الغني ، وقال : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيدُ ) .

ولمّا نهاهم عن موالاة الكفّار وإلقاء المودّة ، وكان ذلك عزيزاً على نفوسهم لوجود الوشائج القومية بينهم ، وكانوا يتمنّون أن يجدوا المخلص منه ، أردف ذلك سبحانه انّه عسى أن يجعل بينهم ، وبين الذين عادوهم مودّة ، وقد أنجز سبحانه ذلك بفتح مكّة ، فأسلم كثير منهم ، وتم لهم ما كانوا يريدون من التحابّ والتواد.

وإليه يشير قوله سبحانه : ( عَسَى اللّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللّهُ قَدِيرٌ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) .

* * *

المعيار في إبرام المعاهدات مع الكفّار :

لما كان المستفاد من قوله سبحانه في صدر السورة : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ) هو قطع جميع العلائق والأواصر بالكفار ، أعقبها بما يخصص مضمون الآية بالقسم المحارب دون مطلق الكافر بقوله عزّ من قائل :

( لاَّ يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( الممتحنة / 8 ).

( إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ( الممتحنة - 9 ).

وهاتان الآيتان تتضمّنان الإلفات إلى ما هو الأصل الرصين ، والمحور الرئيسي

ص: 435

في حدود مشروعية العلاقة مع الدول الخارجية عن إطار دائرة الدولة الإسلامية ، وحصيلة ما يستفاد منهما : إنّ في الكافر أرضية تمهّد السبيل دائماً إليه ، للغدر والخداع والخيانة لعدم وجود رادع نفسي يحول بينه وبين اقتراف ذلك ، والآية الاُولى انطلاقاً من ذلك تحضّ على تجنّب اتّخاذ الكافر وليّاً وحليفاً.

ولكن ربّما يتّصف بعض الكفار بخصائص ، وفضائل إنسانية محدودة تتخلّف معها تلك الظاهرة الغالبة عليهم ، والمتأصّلة في نفوسهم ، وانطلاقاً من ذلك سوّغ الإسلام في حدود معينة عقد روابط وأواصر شكلية معهم سواءً كانت سياسية أم اقتصادية ، ولكن كل ذلك مرهون بتوفّر شرطين :

1 - عدم دخولهم أو مشاركتهم في قتال المسلمين.

2 - عدم إخراجهم المسلمين من ديارهم.

وعند ذلك تتوفّر الأرضية الكفيلة بعقد وشائج البر وأواصر القسط وحفظ الحقوق.

وأمّا إذا أظهروا العداء للمسلمين عن طريق مقاتلتهم ، ومحاربتهم وإخراجهم من أوطانهم ، مصرّين على ذلك ، فعندئذ تحرم موالاتهم ، وإسداء البرّ إليهم بأي نحو من الأنحاء.

قال سيد قطب :

نهى سبحانه أشد النهي عن الولاء لمن قاتلوهم في الدين ، وأخرجوهم من ديارهم ، وساعدوهم على إخراجهم ، وحكم على الذين يتولّونهم بأنّهم هم الظالمون ، وهو تهديد يجزع منه المؤمن ، ويتّقى أن يدخل في مدلوله المخيف ، وتلك القاعدة في معاملة غير المسلمين هي أعدل القواعد التي تتّفق مع طبيعة هذا الدين ووجهته ونظرته إلى الحياة الإنسانية ، وهي أساس شريعته الدولية التي تجعل حالة السلم بينه وبين الناس جميعاً هي الحالة الثانية لا بغيرها ، إلاّ وقوع الإعتداء الحربي

ص: 436

وضرورة ردّه ، أو خوف الخيانة بعد المعاهدة ، وهي تهديد بالاعتداء والوقوف بالقوّة في وجه حرية الدعوة وحرية الاعتقاد ، وهو كذلك اعتداء ، وفيما عدا هذا ، فهي السلم والمودة والبر والعدل للناس (1).

وعلى ضوء ذلك يستفاد اُمور :

1 - إنّ الآيتين الثامنة والتاسعة مقيدتان لإطلاق الآية الاُولى الواردة في صدر السورة حيث تلفت إلى وجود قسمين من الكفّار بين محارب ومهادن موادع ، فالاُولى تحرم موالاته مطلقاً ، والثانية تجوّز بشروط حدّدت ذلك في إطار البرّ وإبداء القسط وبعبارة اُخرى يجب أن ينحصر التولّي في الملامح الظاهرية والوشائج الشكلية ، كالتجارة والروابط السياسية ، ولا يسوغ موآخاتهم في السرّاء والضرّاء ، وعدّهم إخواناً وأحلافاً ، ولا يباح إليهم بالأسرار ، ولا يكاشفونهم بما يضمرونه ، فإنّ ذلك ممّا لا يليق إلاّ بإبدائه للمؤمنين خاصة.

2 - إنّ بعض المفسّرين زعم أنّ قوله سبحانه : ( فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ ) ( التوبة / 5 ) ناسخ لمضمون الآية الثامنة المتقدّم ذكرها لأنّه يحكم بقتل المشركين بلاهوادة لا يمكن التوفيق بينه وبين ما دلّ على جواز إبرام العقود معهم :

ولكنّه زعم لا محصّل وراءه لأنّ ما ورد في سورة التوبة يختصّ بالمشرك المحارب بشهادة قوله سبحانه : ( أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ( التوبة / 13 ).

وعلى ذلك فلا تنافي بين الآيتين في المضمون لاختلاف موضوعهما.

3 - إنّ لسان قوله سبحانه : ( لاَّ يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ ) .

ص: 437


1- في ظلال القرآن ج 28 ص 66.

وإن كان لسان رفع الحظر ، ولكنّه لا يدل على أنّ البر والقسط بهم بعقد الأواصر معهم مباح بالمعنى المصطلح أي ما يقابل الواجب والمستحب وغيرهما ، بل المراد هو كون ذلك جائزاً بالمعنى الأعم ، ولا ينافي كونه واجباً في ظروف خاصة ، ومستحبّاً في ظروف اُخرى وهكذا ، وعلى الحاكم الإسلامي أن يتناول أوضاع المسلمين بالدراسة المتفحّصة ، وينتخب ما هو الأوفق بمصلحة الاُمّة الإسلامية حتى لا يفوت عليهم ما هو الأصلح لحالهم ، والأنسب بوضعهم.

وفي خاتمة المطاف نسترعي التفات القارئ الكريم إلى أنّ عمل بعض الدول الإسلامية التي قامت بعقد اتفاقية صلح مع الكيان الصهيوني الغاصب للقدس ، يضاد ما صرّح القرآن الكريم به في الآيتين المتقدّمتين ، والذي يهوّن الخطب انّ هذه الدول إنّما ترفع شعار الإسلام بالاسم فقط دون امتلاك أي رصيد مضموني منه.

* * *

عود على بدء :

ذكرنا أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان قد أعدّ العدّة لغزو قريش في عقر دارها ، والانتقام منها بوازع القصاص منها ، لخيانتها ونقضها لبنود الميثاق الذي أبرمته مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فخرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، واستخلف على المدينة وذلك لعشر مضين من شهر رمضان ، فصام رسول اللّه وصام الناس معه ، ولمّا بلغ حد الترخّص أفطر ، وأفطر أغلب من كان معه (1).

ص: 438


1- وقد روى سماعة عن الإمام الصادق انّه سأله عن الصيام في السفر ، قال : لا صيام في السفر قد صام ناس على عهد رسول اللّه فسمّاهم العصاة فلا صيام في السفر إلاّ الثلاثة أيام التي قال اللّه عز وجلّ في الحج. و في حديث آخر: إنّ رسول اللّه خرج من المدينة إلی مكّة في شهر رمضان، ومعه الناس وفيهم المشاة ، فلمّا انتهى إلى كراع الغميم دعا بقدح من ماء فيما بين الظهر والعصر فشربه وأفطر ، ثمّ أفطر الناس معه وتمّ ناس على صومهم فسمّاهم العصاة ، وإنّما يؤخذ بآخر أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله . لاحظ الوسائل : ج7، الباب 1 و 11 من أبواب من يصح فيه الصوم الحديث 1 و 7.

ثم مضى حتى نزل ( مَرّ الظهران ) في عشرة آلاف من المسلمين وقد عميت الأخبار عن قريش ، فلم يأتهم خبر عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولا يدرون ما هو فاعل ، وخرج في تلك الليالي أبو سفيان بن حرب ، وحكيم بن حزام ، وبديل بن ورقاء يتحسّسون الأخبار ، وينظرون هل يجدون خبراً أو يسمعون به ، وقد كان العباس بن عبد المطلب قد غادر مكة متوجّهاً إلى المدينة ولقى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ببعض الطريق ( الجحفة ) فاصطحبه.

فلمّا نزل رسول اللّه ( مرّ الظهران ) ، قال العباس بن عبد المطلب فقلت : واصباحَ قريش ، واللّه لئن دخل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه ، انّه لهلاك قريش إلى آخر الدهر. قال : فركبت بغلة رسول اللّه البيضاء حتى جئت الأراك فقلت لعلّي : أجد من يخبر قريش بمكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليخرجوا إليه ، فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة ، وآنذاك طرق سمعي كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان ، وأبو سفيان يقول : ما رأيت كالليلة نيراناً قط ، ولا عسكراً ، قال : يقول « بديل » : هذه واللّه خزاعة حمشها (1) الحرب ، قال : يقول أبو سفيان : خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها ، قال : فعرفت صوته ، فقلت : يا أبا حنظلة ، فعرف صوتي ، فقال : أبو الفضل ؟! قال : قلت نعم. قال : ما لك ؟ فداك أبي واُمّي قال : ويحك يا أباسفيان هذا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الناس واصباح قريش.

قال : فما الحيلة ؟ قال قلت : لئن ظفر بك ليضربنّ عنقك ، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول اللّه فأستامنه لك.

ص: 439


1- حمشها أي أحرقتها.

قال : فدخلت على رسول اللّه ، وقلت : يا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إنّي قد آجرته. فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : اذهب به إلى رحلك ، فاذا أصبحت ائتني به ، فلمّا جاء به إلى رسول اللّه مصبحاً ، قال له رسول اللّه : ويحك أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنّه لا إله إلاّ اللّه. قال : بأبي أنت واُمّي يا رسول اللّه ما أحلمك وأكرمك وأوصلك.

ثم قال العباس بعد كلام دار بين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبين أبي سفيان : يا رسول اللّه إنّ أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً ، قال : نعم ، من دخل دار أبي سفيان كان آمناً ، ومن أغلق بابه كان آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، فلمّا أراد أن ينصرف أبو سفيان ، قال رسول اللّه : أجلسه بمضيق الوادي حتى تمرّ به جنود اللّه ويراها.

ثم إنّ أصحاب السيرة ذكروا استعراض جيش رسول اللّه أمام أبي سفيان (1).

قال الواقدي : وعبّأ رسول اللّه أصحابه ومرّت قبائل على قادتها ، والكتائب على راياتها ، فكان أوّل من قدم رسول اللّه خالد بن الوليد في بني سليم وهم ألف ، ثم مرّ على إثره الزبير ابن العوام في خمسمائة ، ومرّ بنو غفار في ثلاثمائة يحمل رايتهم أبوذر الغفاري ، ثم مضت أسلم في أربعمائة ، ثم مرّت بنو عمرو بن كعب في خمسمائة ، ثم مرّت مزينة في ألف ، ثم مرّت جهينة في ثمانمائة ، ثمّ مرّت بنو ليث وهم مائتان وخمسون ، ثم مرّت أشجع وهم آخر من مرّ في ثلاثمائه.

وكلّما مرّت قبيلة كبروا ثلاثاً عندما حاذوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فلمّا مرّ سعد براية النبي صلی اللّه علیه و آله نادى : يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل الحرمة ، اليوم أذل اللّه قريشاً.

ص: 440


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 400 - 404.

فأقبل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتى إذا حاذى رسول اللّه ناداه : يا رسول اللّه اُمرت بقتل قومك ؟ زعم سعد ومن معه حين مرّ بنا قال : يا أبا سفيان : « اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل الحرمة ، اليوم أذلّ اللّه قريشاً » وإنّي انشدك اللّه في قومك فأنت أبّر الناس ، وأرحم الناس ، وأوصل الناس. قال عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان : يا رسول اللّه ما نأمن سعداً إن يكون منه في قريش صولة. فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : اليوم يوم المرحمة ، اليوم أعزّ اللّه فيه قريشاً ، ثمّ أمر بدفع الراية إلى علي بن أبي طالب فأخذ عليّ اللواء وذهب بها حتى دخل بها مكة فغرزها عند الركن. وقال أبو سفيان : ما رأيت مثل هذه الكتيبة ، ثم قال : لقد أصبح يا أبالفضل ملك ابن أخيك عظيماً. فقال العباس : ليس بملك ولكنّها نبوّة (1).

ثم إنّ رسول اللّه لما نزل مكّة واطمأن الناس خرج حتى جاء البيت ، فطاف ربّه سبعاً على راحلته. قال الواقدي : « طاف رسول اللّه بالبيت على راحلته ، آخذ بزمامها ، محمد بن مسلمة ، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً مرصّصة بالرّصاص ، وكان هبل أعظمها ، وهو وُجاه الكعبة على بابها ، وإيساف ونائلة حيث ينحرون ويذبحون الذبائح ، فجعل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كلّما مر بصنم منها ، يشير بقضيب في يده ويقول :

« جاء الحق وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا » فيقع الصنم لوجهه (2).

فلمّا قضى طوافه وقف على باب الكعبة ، وقد اجتمع له الناس في المسجد فقال : « لا اله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب

ص: 441


1- المغازي للواقدي : ج 2 ص 819 - 822 ، يعرب ذلك أنّه ما أسلم وانّما تفوّه بما تفوّه خوفاً على نفسه وحربه وبقى على هذه الحالة إلى أن لفظت نفسه وهو ابن ثمانية وثمانين وله كلام عند ما أخذ عثمان بيده زمام الحكم. يعرب عن كفره المستتر. لاحظ تاريخ الخلفاء للسيوطي ، وشرح النهج لابن ابي الحديد.
2- المغازي : ج 2 ص 832.

وحده ، ألا كلّ مأثرة ، أو دم ، أو مال يدعى ، فهو تحت قدميّ هاتين إلاّ سدانة البيت وسقاية الحاج ، ألا وفي قتيل الخطأ شبه العمد ، بالسوط والعصا ، ففيه الديّة مغلّظة ، مائة من الإبل ، أربعون منها في بطونها أولادها. يا معشر قريش إنّ اللّه قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية. وتعظّمها بالآباء ، الناس من آدم ، وآدم من تراب ، ثم تلا هذه الآية : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ ... ) ( الحجرات / 13 ) ، ثم قال : يا معشر قريش ما ترون إنّي فاعل فيكم ؟ قالوا : خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم. قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء.

ثمّ جلس رسول اللّه في المسجد فقال : أين عثمان بن طلحة ، فدعى له ، فقال : هاك مفتاحك يا عثمان اليوم يوم برّ ووفاء ، ثمّ دخل البيت فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم فرأى إبراهيم علیه السلام مصوّراً في يده الأزلام يستقسم بها ، فقال : قاتلهم اللّه جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام ، ما شأن إبراهيم والأزلام : ( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( آل عمران / 67 ) ، ثمّ أمر بتلك السور كلّها فطمست (1).

مبايعة النساء للنبي صلی اللّه علیه و آله :

صالح رسول اللّه بالحديبية مشركي مكّة على أنّ من أتاه من أهل مكّة ردّه عليهم ، فجاءت ( سبيعة ) بنت الحرث ، مسلمة بعد الفراغ من الكتاب ، والنبي بالحديبية.

فأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم ، وكان كافراً : يا محمد اُردد عليّ امرأتي ، فإنّك قد شرطت أن ترد علينا من أتاك ، وهذه طينة الكتاب لم تجف ، فنزل قوله سبحانه :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللّهُ أَعْلَمُ

ص: 442


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 413 ، والمغازي : ج 2 ص 835. وفي الأخير أورد صلة للخطبة.

بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( الممتحنة / 10 ).

ويستفاد من الآية عدّة أحكام :

1 - حرمة إرجاع المؤمنات إلى أزواجهنّ الكافرين كما هو صريح الآية.

2 - لزوم إعطاء مهورهنّ لأزواجهنّ كما هو مفاد قوله : ( وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا ) أي ما أنفقوا عليهنّ من المهر.

3 - حرمة العقد على الكافرة كما هو مفاد قوله : ( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ) والقدر المتيقّن كما هو مورد الآية كونها عابدة الوثن.

4 - جواز طلب المهور من الكفار إذا ارتدّت امرأة ورجعت إلى الكفّار ، كما هو مفاده من قوله : ( وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ ) أي إذا لحقت امرأة منكم بأهل العهد من الكفّار مرتدّة ، فاسألوهم ما أنفقتم من المهر كما يسألونكم مهور نسائهم إذا هاجرن إليكم.

ثمّ إنّ النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله لمّا فرغ من بيعة الرجال وهو على الصفا جاءته النساء يبايعنه ، فنزلت عليه الآية ، فشرط اللّه تعالى في مبايعتهنّ أن يأخذ عليهنّ الشروط الستة المذكورة في الآية ، قال سبحانه :

( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ :

1 - عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللّهِ شَيْئًا.

2 - وَلا يَسْرِقْنَ.

3 - وَلا يَزْنِينَ.

4 - وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ.

ص: 443

5 - وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ.

6 - وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ.

7 - فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الممتحنة / 12 ).

روى المفسّرون : إنّ النبي صلی اللّه علیه و آله بايعهنّ وكان على الصفا ، وكان عمر أسفل منه ، وهند بنت عتبة متنقّبة متنكّرة مع النساء خوفاً أن يعرفها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فقال : اُبايعكنّ على أن لا تشركن باللّه شيئاً. فقالت هند : إنّك لتأخذ علينا أمراً ما رأيناك أخذته على الرجال ، وذلك انّه بايع الرجال يومئذٍ على الإسلام والجهاد فقط ، فقال صلی اللّه علیه و آله : ولا تسرقن. فقالت هند : إنّ أبا سفيان رجل ممسك وإنّي أصبت من ماله هنات فلا أدري أيحلّ لي أم لا ؟ فقال أبو سفيان : ما أصبت من مالي فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال ، فضحك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعرفها فقال لها : وإنّك لهند بنت عتبة. قالت : نعم فاعف عمّا سلف يا نبي اللّه عفا اللّه عنك. فقال صلی اللّه علیه و آله : ولا تزنين. فقالت هند : أوتزني الحرّة ؟. فتبسّم عمر لما جرى بينه وبينها في الجاهلية ، فقال صلی اللّه علیه و آله : ولا تقتلن أولادكنّ. فقالت هند : ربيّناهم صغاراً ، وقتلتموهم كباراً ، وأنتم وهم أعلم ، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتله علي بن أبي طالب علیه السلام يوم بدر ، فضحك عمر حتى استلقى وتبسّم النبي صلی اللّه علیه و آله ولمّا قال : ولا تأتين ببهتان. فقالت هند : واللّه إنّ البهتان قبيح ، وما تأمرنا إلاّ بالرشد ومكارم الأخلاق ، ولمّا قال : ولا يعصينك في معروف. فقالت هند : ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء (1).

ص: 444


1- مجمع البيان : ج 5 ص 276.

8 - غزوة حنين

اشارة

لمّا فتح رسول اللّه مكّة سارت أشراف هوازن بعضها إلى بعض ، وثقيف بعضها إلى بعض ، وقالوا : واللّه ما لاقى محمد قوماً يحسنون القتال ، فاجمعوا أمركم ، فسيروا إليه قبل أن يسير إليكم ، فأجمعت هوازن أمرها وتولّى قيادة حشودها « مالك ابن عوف النصري » وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة ، فلمّا أجمع « مالك » المسير بالناس إلى رسول اللّه ، أمر الناس أن يجيئوا بأموالهم ونسائهم وأبنائهم حتى نزلوا باوطاس ، واجتمع الناس به ، فعسكروا وأقاموا بها ، والإمداد تأتيهم من كل ناحية.

فلمّا سمع بهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعث إليهم « عبد اللّه الأسلمي » ، وأمره أن يدخل في الناس ، فيقيم فيهم حتى يأتيه بخبرهم ، فجاء الرجل بخبر اجتماعهم على حرب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فأجمع رسول اللّه السير إلى هوازن ليلقاهم ، وذكر له أنّ عند صفوان ابن اُميّة أدراعاً له وسلاحاً ، فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك ، فاستعار منه مائة درع ليتقوّى بها على حرب الكفّار ، فأجابه إلى ذلك.

ثمّ خرج رسول اللّه معه ألفان من أهل مكّة مع عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه ، وفتح اللّه بهم مكّة فكانوا اثنى عشر ألفاً ، واستعمل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عتّاب بن اسيد على مكّة أميراً على من تخلّف عنه من الناس ، ثمّ مضى رسول اللّه يريد لقاء هوازن ، وصادف في الطريق شجرة عظيمة خضراء ذات أنواط يأتيها الناس كل سنة فيعلّقون أسلحتهم عليها ، ويذبحون ويعكفون عندها ، قال الرواي : فتنادينا من جنبات الطريق يا رسول اللّه اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : اللّه أكبر قلتم والذي نفس

ص: 445

محمد بيده كما قال قوم موسى لموسى : ( اجْعَلْ لَنَا إِلَهَاً كَمَا لَهُمْ إلَهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) إنّها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم.

يقول الواقدي : « خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في اثني عشر ألفاً من المسلمين عشرة آلاف من أهل المدينة ، وألفين من أهل مكّة ، فلمّا ابتعد عن مكّة ، قال رجل من أصحابه : « لو لقينا بني شيبان ما بالينا ولا يغلبنا اليوم أحد من قلّة » ولكن لم تغن هذه الكثرة شيئاً ، وهزم المسلمون وفرّوا عن ساحة المعركة ، كما يوافيك ذكره عمّا قريب.

بعث مالك بن عوف عيوناً من هوازن إلى معسكر رسول اللّه ، فأتوا بخبر كثرة جيش رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فأراد اصطناع خديعة تمكّنه منهم ، فعبّأ أصحابه في وادي حنين ، وهو واد أجوف ذو شعب ومضائق ، وفرّق الناس فيه وأوعز إليهم أن يحملوا على محمد صلی اللّه علیه و آله وأصحابه حملة واحدة عند ما ينحدرون من مضيق الوادي.

يقول جابر بن عبد اللّه لمّا استقبلنا وادي حنين ، انحدرنا في واد من أودية تهامة في عماية الصبح ، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي ، فكمنوا لنا في شعابه ومضائقه ، وقد أجمعوا وتهيّئوا فما عدوا فو اللّه ما راعنا ونحن إلاّ الكتائب قد شدّوا علينا شدّة رجل واحد وانهزم الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد ، وانطلق الناس وقد بقي مع النبيّ نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته.

بقى رسول اللّه على دابّته لم ينزل ، إلاّ أنّه جرّد سيفه ، وقد ذكر التاريخ أسماء الذين صمدوا مع رسول اللّه ، أمثال علي والعباس والفضل بن العباس وأبي سفيان ابن الحارث ، وربيعة بن الحارث وأيمن بن عبيد الخزرجي ، واُسامة بن زيد.

قال البرّاء بن عازب : واللّه الذي لا إله إلاّ هو ما ولّى رسول اللّه ولكنّه وقف واستنصر ثمّ نزل وهو يقول :

أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب

ص: 446

وكان رجل من هوازن على جمل أحمر بيده راية سوداء فيها رأس رمح له طويل أمام الناس إذا أدرك طعن ، قد أكثر في المسلمين القتل ، فشدّ عليه عليّ وأبو دجانة فقطع عليّ يده اليمنى ، وأبو دجانة يده الاُخرى ، واقبلا يضربانه بسيفيهما فسقط صريعاً.

وزاد الهول مصيبة شماتة أبي سفيان وغيره بالمسلمين ، فقد تكلّم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغائن ، فقال أبوسفيان بن حرب : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر ، وانّ الأزلام لمعه في كنانته.

وصرخ في تلك الاثناء جبلة بن حنبل : ألا بطل السحر اليوم.

الانتصار بعد الهزيمة :

أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في تلك الآونة عمَّه العباس أن يصرخ ويقول : يا معشر الانصار يا معشر أصحاب السمرة (1) فصار ذلك سبباً لرجوع الفارين من أصحاب الرسول إليه والقتال بين يديه ، فاجتمع جمع غفير حوله ، حاموا رسول اللّه وقاتلوا العدو بضراوة ، فنظر رسول اللّه إلى ساحة المعركة ، وأصحابه يقاتلون ، فقال : الآن حمى الوطيس ، وصارت الحرب طاحنة حتى رأى العدو جمعاً غفيراً من الأسرى مكتّفين عند رسول اللّه ، فعند ذلك انقلبت كفّة النصر لصالح المسلمين.

ومن لطيف ما قيل في تلك الفترة ما أنشدته امرأة مسلمة بقولها :

غلبت خيل اللّه خيل اللات *** وخيله أحق بالثبات

ثمّ إنّه صلی اللّه علیه و آله طلب من العباس ، ليناوله حفنة من الحصى ، فألقى بها في وجوه العدو قائلاً : شاهت الوجوه ، وقد استنهض بذلك

ص: 447


1- السمرة : شجرة الرضوان.

عزائم أصحابه إلى حد ما لبث هوازن ولا ثقيف حتى فرّوا منهزمين لا يلوون على شيء تاركين ورائهم نساءهم وأبناءهم غنيمة للمسلمين ، وقد ذكر أصحاب السير احصاء الغنائم وعدّتها التي استولى عليها المسلمون ، فمن الإبل اثنان وعشرون ألف بعير ، ومن الشياء أربعون الفاً ، ومن الفضة أربعة آلاف اُوقية ، وقد بلغ عدد الأسرى ستة آلاف ، وقد أمر رسول اللّه أن تنقل إلى وادي الجعرانة حتى يأمن المسلمون من مطاردة العدو لهم (1).

نظرة تحليلية على انهزام المسلمين بادئ بدء :

إنّ انهزام المسلمين في بادئ الأمر كان ناجماً عن غرور المسلمين بكثرتهم أوّلاً ، واسطحاب ألفين من المسلمين الجدد الذين أسلموا توّاً في فتح مكّة ولم يرسخ إيمانهم بعد ، فانّ فرارهم عن ساحة الحرب ثبّط عزائم المسلمين القدامى.

أضف إلى ذلك انّهم لم يتّبعوا الخطط العسكرية من إرسال الطلائع والعيون مقدمة الزحف لاستطلاع أحوال العدو ومواقعه ، كيف وهم دخلوا في مضيق حنين في غلس الصباح ، والعدو ترصّد في ثكنات خاصة ، ففاجأوهم بالهجوم عليهم من مكامنهم ، وهم على غفلة من أمرهم ، فلو كانوا قد استعانوا بالعيون والجواسيس لما وقعوا فيما وقعوا فيه ، وكان ذلك ناتجاً عن تقصير من اُمراء السرايا ، وحمَلَة اللواء ، وقصور منهم في أداء وظائفهم التي أوكلها النبي صلی اللّه علیه و آله إليهم الذي كان يرقب الاُمور عن كثب في مؤخّرة الجند ، وإلى ما أشرنا لك يشير قوله سبحانه : ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللّهُ غَفُورٌ

ص: 448


1- المغازي : ج 3 ص 889 - 899 ، البداية والنهاية : ج 4 ص 352.

رَّحِيمٌ ) ( التوبة / 25 - 27 ).

محاصرة الطائف :

لمّا انهزم العدو بعد انتصار مؤقّت ، التجأ البقية الباقية من جماعة مالك بن عوف إلى حصن لبني ثقيف بالطائف ، وكان حصناً منيعاً يصعب اختراقه ، فتعقّبهم النبي صلی اللّه علیه و آله حتى ذلك الحصن ، وأحاط بهم غير أنّ رجال ثقيف المتحصّنين كانوا من مهرة الرماة ، فتمكّنوا من إصابة جمع من المسلمين بلغ عددهم ثمانية عشر رجلاً ، فأمر النبي قوّاته بالتراجع عن مرمى النبل ، فحاصرهم بضعاً وعشرين ليلة ، وقد أجهد النبي نفسه في خلال تلك المدة في اعمال فنون الحرب المختلفة لاختراق الحصن بالنحو التالي :

1 - أمر أصحابه نقب جدار الطائف بالاحتماء بالدبابات المصنوعةً من جلود البقر ، لكن تلك المحاولة لم تتكلّل بالنجاح ، لأنّ ثقيف ألقت بحمم من الحديد على تلك الدبابات فأحرقتها ، ففرّ من كان تحتها من المسلمين ، فرشقتهم ثقيف بالنبل ، فقتلوا منهم رجالاً.

2 - نصب النبي صلی اللّه علیه و آله المنجنيق بإشارة من سلمان الفارسي بقوله : يا رسول اللّه أرى أن تنصب المنجنيق على حصنهم ، وقد عمل المنجنيق بيده ، فنصبه النبي تجاه حصن الطائف ، أو قدّم المنجنيق يزيد بن زمعة إلى النبي بعد مضي أربعة أيام من قبيلة بني دوس ، إحدى القبائل المقيمة بأسفل مكّة ، فرماهم من دون جدوى لأنّهم قد أعدّوا حصونهم إعداداً يقاوم كل أمثال تلك الأسلحة.

3 - أمر رسول اللّه بقطع شجر الكروم ( العنب ) ، وقد كانت قبيلة ثقيف تفتخر بكروم أرضها على جميع العرب ، فانّها جعلت الطائف واحة كأنّها الجنة وسط هذه الصحارى ، كل ذلك رجاء أن يستسلموا ويتركوا التحصّن في حصونهم ، فلمّا رأى ذلك رجال ثقيف نادوا : يا محمد لِمَ تقطع أموالنا ، فأمّا أن تأخذها إن ظهرت علينا ،

ص: 449

وأمّا أن تدعها لله وللرحم ، فتركها صلی اللّه علیه و آله .

4 - نادى منادى رسول اللّه أيّما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حرّ ، فخرج من الحصن بضعة عشر رجلاً ، وعلم منهم انّ بالحصون من الذخيرة والمؤنة ما يكفل أمداً طويلاً ، فاستشار النبي صلی اللّه علیه و آله نوفل بن معاوية الديلي في المقام عليهم فقال : يا رسول اللّه : ثعلب في حجر ، إنْ أقمت عليه أخذته ، وإن تركته لم يضرّك ، فأذن الرسول بالرحيل ، وقيل : إنّ الرسول صلی اللّه علیه و آله رأى أنّ الحصار سيطول أمده وانّ الجيوش تودّ الرجوع لاقتسام الفيء الذي كسبوه والذي تركوه في الجعرانة ، والأشهر الحرم قد أذنت ولا يجوز فيها قتال ، لذلك آثر أن يرفع الحصار بعد شهر من وقعه ، وكان ذو القعدة قد هلّ ، فرجع بجيشه معتمِراً وذكر انّه متجهّز إلى الطائف إذا انتهت الأشهر الحرم.

وفد هوازن في الجَعرِّانة

وأقفل راجعاً إلى مكة حتى نزل هو والمسلمون الجَعرّانة لاقتسام الغنائم ، وفي تلك الأثناء أتتهم وفد من هوازن وقد أسلموا فقالوا : إنّا أصل وعشيرة وقد أصابنا ما لم يخف عليك ، فامنن علينا منّ اللّه عليك ، وقال زهير : يا رسول اللّه إنّ بين الاُسارى عمّاتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كنّ يكفلنك ، ولو إنّا أرضعنا الحرث بن أبي شمر الغساني ، أو النعمان بن المنذر ليرجونا عطفه وأنت خير المكفولين ، فخيّرهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بين نسائهم وأبنائهم ، وبين أموالهم ، فاختاروا نساءهم وأبناءهم.

فقال : أمّا ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم ، فإذا أنا صلّيت بالناس ، فقولوا : إنّا نستشفع برسول اللّه إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول اللّه ، في أبنائنا ونسائنا ، فسأعطيكم وأسأل فيكم ، فلمّا صلّى الظهر فعلوا ما أمرهم به ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم ، وقال المهاجرون والأنصار : ما كان لنا فهو لرسول اللّه ، وقال الأقرع بن حابس : ما كان لي

ص: 450

ولنبي تميم فلا. وقال عيينة بن حصن : ما كان لي ولفزارة فلا ، وقال عباس بن مرداس : ما كان لي ولسليم فلا ، فقالت بنو سليم : ما كان لنا فهو لرسول اللّه فقال : وهّنتموني.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : من تمسّك بحقّه من السبي فله بكل إنسان ستّ فرائض من أوّل شيء نصيبه ، فردّوا على الناس أبناءهم ونساءهم.

وسأل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن مالك بن عوف فقيل : إنّه بالطائف. فقال : أخبِروه إن أتاني مسلماً رددت عليه أهله وما له وأعطيته مائة بعير ، فاُخبر مالك بذلك ، فخرج من الطائف سرّاً ولحق برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فأسلم وحسن إسلامه واستعمله رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على قومه وعلى من أسلم من تلك القبائل التي حول الطائف ، فأعطاه أهله وماله ومائة بعير ، وكان يقاتل بمن أسلم معه من « ثمالة » و « فهم » و « سلمة » ، فكان يقابل بهم ثقيفاً لا يخرج لهم سرح إلاّ أغار عليه حتى ضيّق عليهم (1).

لمّا فرغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من رد سبايا حنين إلى أهلها ، ركب جواده واتّبعه الناس يقولون : يا رسول اللّه قسّم علينا فيأنا من الإبل والغنم ، فقام رسول اللّه إلى جنب بعير ، فاجتزّ وبرة من سنامه ، فجعلها بين اصبعيه ثم رفعها قائلاً : واللّه ما لي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم ، فأدّوا الخياط والمخيط ، فانّ الغلول يكون على أهله عاراً وناراً وشناراً يوم القيامة.

ثم إنّه أعطى المؤلّفة قلوبهم شيئاً كثيراً من الخمس المتعلّق به ، فأعطى أبا سفيان ابن حرب وابنه معاوية لكلّ مائة بعير ، وأعطى حكيم بن حزام مائة بعير ، وهكذا وعندما فرغ من القسمة بينهم ، جاء رجل من بني تميم يقال له ذو الخويصرة ، فوقف عليه ، فقال : يا محمد قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم. فقال رسول اللّه :

ص: 451


1- السيرة النبويّة : ج 2 ص 489 و 490.

أجل فكيف رأيت ؟ فقال : لم أرك عدلت. فغضب النبي صلی اللّه علیه و آله ثم قال : ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون ؟ فقال عمر بن الخطاب : يا رسول اللّه ألا أقتله ؟ فقال : لا ، دعه فانّه سيكون له شيعة يتعمّقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية (1).

وقد نزل بهذا الصدد عدة آيات منها :

( وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ * إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ وَالعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ * وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة / 58 - 60 ).

وقد اختلف المفسّرون في سبب نزولها فمن قائل بأنّها نزلت في حقّ ذي الخويصره وأمثاله ، إلى قائل من أنّها نزلت في حقّ المؤلّفة قلوبهم.

مشادة الأنصار مع النبي

ولمّا أعطى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما أعطى من تلك العطايا لقريش ولقبائل العرب ولم يحظ الأنصار بمثل عطيّتهم وجد جمع من الأنصار في أنفسهم شيئاً ، فأرسلوا منهم سعد بن عبادة إلى النبي صلی اللّه علیه و آله يستطلع صدق الأمر ، فقال : قسّمت في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء. قال : فأين أنت من ذلك يا سعد ؟

ص: 452


1- السيرة النبويّة : ج 2 ص 496 ، البداية والنهاية : ج 4 ص 336 وفيه : دعه فإنّ له أصحاباً يحقّر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية.

قال : يا رسول اللّه ما أنا إلاّ من قومي ، قال : فأجمع لي قومك في هذه الحظيرة ، قال : فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة ، قال : فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا ، وجاء آخرون فردّهم فلمّا اجتمعوا له أتاه سعد فقال : قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار ، فأتاهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فحمد اللّه وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : يا معشر الأنصار مقالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها عليّ في أنفسكم ؟ ألم آتكم ضلاّلاً فهداكم اللّه ؟ وعالة فأغناكم اللّه ؟ وأعداء فألّف اللّه بين قلوبكم ؟

قالوا : بلى ، اللّه ورسوله أمنّ وأفضل ، ثمّ قال : ألا تجيبونني يا معشر الأنصار ؟ قالوا : بماذا نجيبك يا رسول اللّه ؟ لله ولرسوله المنّ والفضل.

قال صلی اللّه علیه و آله : أما واللّه لو شئتم لقلتم فلصَدَقتم ولصدّقتم : أتيتنا مكذّباً فصدّقناك ومخذولاً فنصرناك وطريداً فآويناك وعائلاً فآسيناك ، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم لعاعة من الدنيا تألّفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول اللّه إلى رحالكم ؟ فو الذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار ، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار. اللّهمّ إرحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار.

قال : فبكى القوم حتّى أخضلوا لحاهم وقالوا : رضينا برسول اللّه قسماً وحظّاً ثم انصرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وتفرّقوا (1).

إلى هنا تمّ الحديث عن فتح مكّة وما أعقبه من الأحداث وقد وصفه سبحانه هكذا :

( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِّيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَيَنصُرَكَ اللّهُ نَصْرًا عَزِيزًا * هُوَ الَّذِي أَنزَلَ

ص: 453


1- السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 500 ، البداية والنهاية ج 4 ص 358.

السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) ( الفتح / 1 - 4 ).

وفي الآيات سؤال يستحثّ الجواب عنه وهو أنّه سبحانه جعل فتح مكّة علّة لغفران ما تقدّم من ذنوب النبي وما تأخّر منها ، فيقال :

1 - ما هي المناسبة بين العلّة والمعلول فتح مكّة وغفران الذنوب ، مع أنّه يجب أن يكون بينهما مناسبة ذاتية أو اعتبارية ؟

2 - إنّ النبي الأكرم معصوم من اجتراح الذنوب فما المراد من هذا الذنب ؟

ويجاب عنه : بأنّ النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله كان متّهماً عند رجال قريش وحلفائها منذ سابق عهدهم به بالكهانة والسحر والجنون والألقاب المزرية المشينة الاُخرى ، وقد سبق أن قلنا بأنّ هذه التهم كانت بمثابة الحرب النفسية لإظهار العداء المقيت بالرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله وكان يصعب على النبي صلی اللّه علیه و آله مجابهتها والقضاء عليها وكفّ ألسنة الناس عن التفوّه بها بأي نحو من أنحاء الإعلام المضادّ إلاّ لمن عايشه عن قرب واختبره عن كثب.

ولكنّه صلی اللّه علیه و آله قد منحه اللّه سبحانه ببركة هذا الفتح المبين حيث تمكّن بعد هدم حصون الشرك والوثنية وتطهير الكعبة من آلهة المشركين والاستيلاء على مراكز قوّتهم من الظهور بمظهر العظمة إلى أن تلاشت معه جميع قلاع الشرك وخضعت له الرقاب التي تنصب غروراً وكبرياءً في وجهه.

فأثبت بذلك أنّه منزّه عن الكهانة والسحر والجنون لأنّ المنتسب إلى أحد تلك الأصناف أعجز من أن يقوى على تدبير اُمور نفسه الخاصّة. فكيف يقوم بقيادة جيش جرّار عرمرم يخترق الفيافي والصحارى والقفار على الرغم من كثرة العيون والجواسيس المترصّدة في أنحاء الطرق والمعابر ، ثمّ يباغت العدو في عقر داره وهو في غفلة من أمره فما يلبثوا إلاّ يسيراً حتّى يسلّموا له وتذلّل له أعناق رؤسائهم ، ويبلغ به الأمر إلى

ص: 454

أكثر من ذلك فيواصل زحفه إلى ما وراء مكّة على ثبات من أمره وقوّة وشكيمة.

فالمتصدّي لقيادة تلك الجيوش والتسلّط على ما تمكّن منه بالنحو المتقدّم لابدّ وأن يعد من الرعيل الأوّل من قوّاد الجيوش في العالم وأشدّهم حنكة وحكمة ، فكيف يتبادر إلى الأذهان أمثال تلك الأراجيف إذا كان حاله على ما شاهده الناس به من العظمة والبسالة والحكمة ؟

وتمكّن من خلال هذا الفتح من إزالة كل فرية وتهمة مشينة ألصقها كفّار قريش به أو يمكن أن توصف شخصيته بها في المستقبل ، ولذلك وردت الإشارة إلى ذلك بقوله : ( لِّيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) .

وبذلك يندفع ما تمّ إيراده في السؤالين ، وفي ذلك غنى عن المزيد من الإطالة حيث تبيّن وجود الصلة بين الفتح ومغفرة الذنوب ، كما تبيّن عدم منافاة المغفرة مع العصمة ، فلاحظ.

وفي الختام نقول : إنّه سبحانه قد بشّر النبي الأكرم بالنصر والفتح قبل وقوع الأمر بإنزال سورة النصر. قال سبحانه : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ) ( النصر / 1 - 3 ).

لمّا فتح رسول اللّه مكّة قالت العرب : إنّما أظفر محمد بأهل الحرم وقد أجارهم اللّه من أصحاب الفيل فليس لكم به طاقة ، فكان يدخلون في دين اللّه أفواجاً واحداً واحداً ، اثنين اثنين وربّما تدخل القبيلة بأسرها في الإسلام (1).

ص: 455


1- مجمع البيان ، ج 5 ص 553 - 554.

9 - غزوة تبوك

اشارة

كانت بلاد الشام في عصر الرسالة من المناطق التي تخضع لنفوذ إمبراطورية الروم ، وكان شيوخ القبائل تدين بالمذهب المسيحي ، وكانوا أداة طيّعة في أيديها ، ولمّا بلغ أسماع أباطرة الروم خبر استيلاء المسلمين على مكّة ودخول المشركين في الدين الإسلامي أفواجاً ، استشاطوا غضباً وعزموا على حربهم واطفاء نائرتهم ، فأرسلوا إلى رؤساء قبائل « لخم » و « عامله » و « غسّان » و « جذام » يحثّونهم على تكثيف حشودهم وإعداد العدّة لحرب محمد صلی اللّه علیه و آله ومباغتته في عقر داره ليسهل عليهم إخماد أنفاس تلك الدولة الفتيّة ، ولمّا وصل الخبر إلى النبي الأكرم عن طريق القوافل التجارية عزم على حربهم قبل أن يهاجموه ، وكانت تلك الفترة فترة شاع فيها الفقر والشدّة والفاقة.

وقد أمر النبي صلی اللّه علیه و آله بالرحيل في الفصل الذي كانت الثمار فيه على وشك الإيناع.

قال ابن هشام : إنّ رسول اللّه أمر أصحابه بالتهيّؤ وغزو الروم وذلك في زمان من عسرة الناس وشدّة من الحر وجدب من البلاد ، وحين طابت الثمار والناس يحبّون المقام في ثمارهم وظلالهم ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم عليه وكان رسول اللّه قلّما يخرج لغزوة إلاّ كنّى عنها وأخبر أنّه يريد غير الوجه الذي يقصده إلاّ ما كان من غزوة تبوك ، فإنّه بيّنها للناس لبعد الشقّة وشدّة الزمان ، وكثرة العدو الذي يقصده ليتأهّب الناس لذلك اُهبتهم ، فأمر الناس بالجهاز ، وأخبرهم أنّه يريد الروم.

ولمّا تفرّدت به تلك الغزوة عن سائر الغزوات ببعد الطريق ، والاعتياز إلى مؤن

ص: 456

تكفل حاجة الجند ذهاباً وإيّاباً ، فقد صدرت الأوامر من النبي الأكرم بحشد جميع الإمكانات المتوفّرة لديهم بلا فرق بين الغني والفقير ، ولأجل ذلك ساهم في تدعيم ذلك المجهود الحربي جميع الطبقات والفئات من الرجال والنساء وأصحاب الثروة والعمّال.

وممّن ساهم في تدعيم أمر الجيش عبد الرحمان بن عوف حيث جاء بصرّة من دراهم تملأ الكف ، وفي قبال ذلك أتى من الضعفاء عتبة بن زيد الحارثي بصاع من تمر وقال يا رسول اللّه : عملت في النخل بصاعين فصاعاً تركته لأهلي وصاعاً أقرضته ربّي ، وجاء زيد به أسلم بصدقة ، فقال بعض الناس : إنّ عبد الرحمان رجل يحبّ الرياء ، ويبتغي الذكر بذلك وإنّ اللّه غني عن الصاع من التمر ، فعابوا كلتا الطائفتن : المكثر بالرياء والمقل بالإقلال ، فنزل قوله سبحانه :

( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) ( التوبة / 79 - 80 ).

والحقّ إنّه يوجد في جميع المجتمعات رجال ، لا يحبّون الخير ولا يساهمون فيه ، بل لا يحبّون أن يساهم فيه أحد ويعيبونهم في المساهمة بأي شكل تحقّقت ، فإن ساهم إنسان بالمال الكثير ، يتّهمونه بأنّه يحب الرياء والذكر ، وإن ساهم بمال قليل حقّروه وأهانوه ، هذه شأن تلك الطبقة التي لا يريدون الخير ولا يطلبونه بتاتاً.

تخاذل بعض المؤمنين عن المناصرة

- ومع أنّ الظروف لم تكن مساعدة لحشد الناس بما يقتدر به على حرب العدو الشرس - فقد تمكّن النبي من حشد ثلاثين ألف مقاتل ، ولم يكن لهذا النجاح ( في استنهاض عزائم العرب وجمع قواهم بهذه المثابة ) مثيل في تاريخ العرب ، على

ص: 457

الرغم من الجهود المكثّفة التي كانت يبذلها المنافقون في تثبيط العزائم وإخماد روح الشهادة والفداء في نفوس المسلمين.

وقد ألمح الذكر الحكيم إلى تثاقل جمع من الصحابة ( المؤمنين ) عن الإسهام والمشاركة. قال سبحانه :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( التوبة / 38 - 39 ).

وما هو المراد من قوله سبحانه : ( وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ) وقد جاءت تلك الجملة في آيات اُخرى أيضاً ؟

قال سبحانه : ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ ... ) ( المائدة / 54 ) وقال تعالى : ( وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم ) ( محمد / 38 ).

وقد فسّرت الآية بأبناء فارس تارة وبأهل اليمن اُخرى وبالذين أسلموا ثالثة ، والحق إنّ الآية تتمتّع عن سعة وعموم تعمّ الطوائف الذين جاءوا بعد نزول الآية ، واتّسموا بما فيها من الصفات ( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ... ) .

نكوص المنافقين عن القتال

كانت وقعة تبوك محكّاً لتمحيص المسلمين ، وثباتهم على الحق ومفاداتهم الرسول بأنفسهم وأموالهم. كيف وقد كانت المسافة بين المدينة وتبوك تقرب من ستمائة كيلومتراً ، وكانت الركائب المعدّة للمسير تغطّي معشارهم ، وكان زادهم الشعير المسوّس ، والإهالة السخنة والتمر الزهيد ، ففي خضمّ تلك الظروف

ص: 458

العصيبة ، سعى المنافقون لإخماد همم المسلمين ، وكسر شوكتهم ، فكشف اللّه عنهم لقاء تآمرهم على الإسلام ، ما كانوا يبطنونه ويخفونه من ضغائن وأحقاد ، وقد كرّست سورة التوبة ثقلها الأكبر على بيان تآمر اُولئك ، وقد كانوا يتذرّعون بأعذار وترّهات خاوية ، ويستأذنون من النبي للبقاء في المدينة وعدم المساهمة في الجهاد. نعم ما كانوا يعتذرون به لم يكن سبباً حقيقيّاً لتثاقلهم ، وإنّما السبب فيه هو :

1 - علمهم بأنّ النبي لا يصيب غنيمة.

2 - بعد الطريق.

3 - شدّة الحر وحمّارة القيظ.

وقد كشف الوحي عن سرّ تثبّطهم وتثاقلهم وألمع إلى الوجهين الأوّلين بقوله :

( لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) ( التوبة / 42 ).

وفي هذه الآية إلماع إلى السببين الأوّلين اللّذين عاقاهم عن المساهمة :

1 - يريد أنّه لو كان في ما دعوتهم إليه منفعة قريبة المنال لم يكن في الوصول إليها عناء كبير لاتّبعوك كما يقول : ( لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا ) .

2 - لو كان السفر سفراً هيّناً لا تعب فيه لأسرعوا بالنفر إليه إذ حبّ المال أمر طبيعي خصوصاً إذا كانت سهلة المأخذ قريبة المنال كما يقول : ( سَفَرًا قَاصِدًا ) .

ولمّا بعدت عليهم الشقّة أوّلاً ولم يكونوا مطمئنّين بالوصول إلى المال ثانياً انصرفوا عن المساهمة ، ولكنّهم لحفظ مكانتهم بين المسلمين كانوا يحلفون للرسول بعدم استطاعتهم للخروج ، وهم كاذبون في حلفهم كما يقول سبحانه : ( وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) .

ص: 459

وقد ألمع إلى السبب الثالث بقوله : ( فَرِحَ المُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ) ( التوبة / 81 ).

كان المنافقون يقولون لإخوانهم لا تنفروا في حرّ الصيف واللّه سبحانه فنّد آراءهم وسفّه أحلامهم بأنّ نار جهنّم المعدّة للعصاة أشدّ حرّاً من تلك الأيّام ، لأنّ ذلك الحرّ تحتمله الأجسام وأمّا نار جهنّم فتلفح الوجوه وتنضج الجلود ، وعلى ذلك ينبغي عليهم أن يضحكوا قليلاً وبيكوا كثيراً.

هذه سيرة المنافقين وضعفاء الإيمان في كل عصر يعتذرون في الصيف بشدّة الحرّ ، وفي الشتاء بشدّة البرد ، ولكنّها أعذار ظاهريّة اتّخذوها واجهة لستر ما هو السبب الحقيقي لترك المساهمة.

والتاريخ يعيد نفسه. كان علي علیه السلام يأمر أصحابه بالجهاد ضد العدو وهم يتثاقلون إلى الأرض ، يعتذرون بمثل تلك الأعذار ، يقول الإمام : « فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيّام الصيف ، قلتم : هذه حمارة القيظ أمهلنا يُسَبَّخَ عنّا الحرّ ، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء ، قلتم : هذه صبارّة القرّ أمهلنا ينسلخ عنّا البرد ، أكلّ هذا فراراً من الحرّ والقرّ ، فإذا كنتم من الحرّ والقرّ تفرّون فأنتم واللّه من السيف أفر ، يا أشباه الرجال ولا رجال ! ... » (1).

إلى هنا وقفنا على الأسباب الواقعيّة التي ثبّطت عزائم المنافقين عن المساهمة في الجهاد ، ثمّ إنّهم كانوا ينتحلون الأعذار الواهية ، ليستأذنوا النبي في القعود والتخلّف ، وكان النبي يأذن لهم ، فتزل الوحي وقال : ( عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ) ( التوبة / 43 ).

وهل الآية تدلّ على أنّ إذنه صلی اللّه علیه و آله كان على خلاف

ص: 460


1- نهج البلاغة : الخطبة 27.

المصلحة وناجماً عن سوء تدبيره ، وبالتالي كان ذنباً ومعصية ، أو أنّ الآية خرجت لبيان أمر آخر ؟ والصحيح هو الثاني وإليك البيان :

إنّ دراسة الموضوع توقفنا على أنّ إذن رسول اللّه كان مقروناً بالمصلحة إذ لولاه فلا يخلوا حالهم بين أن يكونوا مطيعين أو عاصين ، فلو أطاعوه وساهموا المسلمين لكان ضررهم أكثر من نفعهم لقوله سبحانه : ( لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) ( التوبة / 47 ).

ولأجل أنّ ضررهم كان أكثر من نفعهم ، أمر النبي صلی اللّه علیه و آله أن لا يشاركهم في الجهاد ولو طلبوا منه ، قال سبحانه : ( فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الخَالِفِينَ ) ( التوبة / 83 ).

ولو خالفوا واثّاقلوا إلى الأرض لكان الفساد أعظم ، لأنّ المخالفة الواضحة توجب تهبيط عظمة النبي صلی اللّه علیه و آله عن الأعين وربّما تتّخذ خطة عادية للمنافقين في مجالات اُخر.

ولأجل هذا لمّا استأذنوا أذن لهم وما هذا إلاّ دفعاً للفاسد أو الأفسد.

وبعبارة اُخرى : أنّهم كانوا عازمين على عدم الخروج مع المؤمنين لغزو الروم ، بل كان لهم في غياب النبي صلی اللّه علیه و آله تخطيط ومؤآمرة أبطله النبي صلی اللّه علیه و آله بتخليف عليّ علیه السلام مكانه كما هو مذكور في السيرة ، قال سبحانه : ( وَلَوْ أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ) ( التوبة / 46 ).

والآية صريحة في أنّهم كانوا عازمين على ترك الخروج وكان الإستئذان نوع تغطية لقبح عملهم فما كانوا يخرجون إلى الجهاد سواء أذن النبي ( صلى اللّه عليه وآله

ص: 461

وسلم ) أم لم يأذن ، لكن صلی اللّه علیه و آله بإذنه حفظ مكانته ومنزلته بين المسلمين.

نعم ، إنّه صلی اللّه علیه و آله بإذنه فوّت مصلحة اُخرى وهو التعرّف على المؤمن وتمييزه عن المنافق ، وتمحيص المطيع عن المتمرّد ولولاه لم يعرف الصديق من العدو عاجلاً.

وليس لحن الآية في مجال تفويت هذه المصلحة لحن العتاب والإعتراض ، بل اُسلوبه اُسلوب عطف وحنان ، وأشبه بإعتراض الولي الحميم على الصديق الوفي ، إذا عامل عدوّه الغاشم بمرونة ولينة ، فيقول بلسان الإعتراض : « لماذا أذنت له ولم تقابله بخشونة حتّى تعرف عدوّك من صديقك ومن وفي لك ممّن خانك. على أنّه وإن فات النبي صلی اللّه علیه و آله معرفة المنافق من هذا الطريق لكنّه لم يفته معرفته من طريق آخر ، صرّح به القرآن في غير هذا المورد ، فإن النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله كان يعرف المنافق وغيره من المؤمن من طريقين آخرين.

1 - كيفيّة الكلام ، ويعبّر عنه القرآن بلحن القول وذلك إنّ الخائن مهما أصرّ على كتمان خيانته ، تظهر بوادرها في ثنايا كلامه ، قال أمير المؤمنين علیه السلام : « ما أضمر أحد شيئاً إلاّ ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه » وفي ذلك يقول سبحانه : ( وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ) ( محمد / 30 ).

2 - التعرّف عليهم بتعليم منه سبحانه ، قال : ( مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ ) ( آل عمران / 179 ) والدقّة في الآية تفيد بأنّ اللّه سبحانه يجتبي من رسله من يشاء ويطلعه على الغيب ، ويعرف من هذا الطريق الخبيث ويميّزه عن الطيّب.

وعلى ذلك فلم يفت النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله شيء وإن فاتته

ص: 462

معرفة المنافق من هذا الطريق ولكنّه وقف عليها من الطريقين الآخرين.

وعلى كل تقدير فاستئذان اُولوا الطول منهم لترك الخروج آية النفاق ، كما أنّ مساهمتهم آية الإيمان ، يقول سبحانه : ( وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ * لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ( التوبة / 86 - 89 ).

نعم استثنى سبحانه ذوي الأعذار وهم الضعفاء ، والمرضى والفقراء ، فإنّ هذه الأصناف الثلاثة لا حرج عليهم ولا إثم في قعودهم عن الجهاد الواجب ، قال سبحانه : ( لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى المَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ( التوبة / 91 - 93 ).

الاعتذار بالخوف من نساء الروم

ثمّ إنّ بعضهم اعتذر بأنّه يخشى من نساء بني الأصفر فقال : يا رسول اللّه : « إئذن لي ولا تفتني فو اللّه لقد عرف قومي أنّه ما من رجل بأشدّ عجباً بالنساء منّي وإنّي أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر » فأعرض عنه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال : لقد أذنت لك ، فنزلت في حقّه هذه الآية : ( وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) ( التوبة / 49 ).

ص: 463

والمراد أنّه انّما خشي الفتنة من نسائهم ولكن ما سقط فيه من الفتنة أكبر لتخلّفه عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وجزاؤه جهنّم (1).

ثمّ خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن المدينة وضرب عسكره على ثنية الوداع وخلّف علي بن أبي طالب ( رضوان اللّه عليه ) على أهله وأمره بالإقامة فيهم فأرجف به المنافقون وقالوا : ما خلّفه إلاّ إستثقالاً له وتخفّفاً منه ، فلمّا قال ذلك المنافقون أخذ علي بن أبي طالب ( رضوان اللّه عليه ) سلاحه ثمّ خرج حتّى أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو نازل بالجرف ، فقال : يا نبي اللّه ، زعم المنافقون أنّك إنّما خلّفتني لأنّك استثقلتني وتخفّفت منّي ، فقال : كذّبوا ، ولكنّي خلّفتك لما تركت ورائي ، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك ، أفلا ترضى يا علي أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى؟ إلاّ انّه لا نبي بعدي ، فرجع علي إلى المدينة ، ومضى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على سفره (2).

حديث تخلّف الثلاثة

ثمّ إنّه تخلّف بعضهم لا عن نفاق بل عن توان وهم : كعب بن مالك ومرارة بن ربيع وهلال بن اُميّة. فلمّا قدم النبي صلی اللّه علیه و آله المدينة جاءوا إليه واعتذروا فلم يكلّمهم النبي صلی اللّه علیه و آله وتقدّم إلى المسلمين بأن لا يكلّمهم أحد منهم ، فهجرهم الناس حتى الصبيان ، وجاءت نساؤهم إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقلن له : يا رسول اللّه نعتزلهم ؟ فقال : لا ولكن لا يقربوكنّ ، فضاقت عليهم المدينة فخرجوا إلى رؤوس الجبال ، وكان أهاليهم يجيئون لهم بالطعام ولا يكلّمونهم ، فقال بعضهم لبعض : قد هجرنا الناس ولا يكلّمنا أحد منهم فهلاّ نتهاجر نحن أيضاً ، فتفرّقوا ولم يجتمع منهم اثنان وبقوا على ذلك خمسين

ص: 464


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 516.
2- السيرة النبويّة ج 2 ص 520.

يوماً يتضرّعون إلى اللّه تعالى ، فقبل اللّه توبتهم وأنزل فيهم هذه الآية (1) :

( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( التوبه / 118 ).

والذي يستفاد من هذا القرار الحاسم الذي أصدره النبي صلی اللّه علیه و آله في شأن اُولئك ، إنّ الدواء الناجع لعلاج كل تصدّع يطرأ على الجبهة الإسلامية يتمثّل في فرض الحصار وتضييق الخناق على العدوّ ليستأصل كلّياً قبل استفحال أواره ، ، واشتداد شوكته.

وبعبارة اُخرى : نستخلص درساً هامّاً لحياتنا في مستقبلها المصيري من موقف النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله هذا وهو أنّه كلّما شعرت القيادة الإسلامية بخطر يترقّب من أقلّية تسكن داخل البلاد الإسلامية ، فإنّه يجب عليها أن تفرض عليها الحصار الإقتصادي وتستنهض عزائم المسلمين للمجابهة الصارمة مع اُولئك ليرتدعوا عن بكرة أبيهم عمّا كانوا عليه من شطط وإيذاء للمسلمين.

نرى في البلاد الإسلامية أقلّيات مذهبية من غير المسلمين وقد بلغوا الذروة في الثروة وجمع المال وامتصّوا دماء المسلمين في عقر دارهم ، واستنفدوا قواهم وسخّروهم لصالح منافعهم الخاصّة على غفلة من أمرهم ، وما هذه الظاهرة إلاّ لأنّ الأكثرية صارت دمية بيد اُولئك لتشتّت المسلمين وإنقسامهم على أمرهم ، فلو قام المسلمون بأعمال السياسة التي قام بها النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله في العام التاسع من الهجرة وضربوا الحصار على تلك الأقلّية بأن يقطعوا الأواصر الإقتصادية مع هؤلاء ، لدحضت مخطّطاتهم ولردّ كيدهم إلى نحورهم.

ص: 465


1- ونقله القمّي في تفسيره بصورة مفصّلة ، ومن أراد فليرجع إلى ج 2 ص 278 - 280 ، لاحظ مجمع البيان ج 3 ص 79.

هذا ما يرجع إلى الأقلّيات المذهبية في داخل البلاد الإسلامية وأمّا القوى الكافرة الخارجة عنها فيجب كبح جماحهم بشكل آخر وهو :

إنّ المسلمين اليوم يملكون زمام الطاقة الحياتية المتمثّلة في النفط والتي تمثّل عصب الحضارة الحديثة ، فلو أنّهم امتنعوا عن إعطاء ثروتهم النفطية للقوى الكبرى ، لتوقّفت واُصيبت الحياة الصناعية والإقتصادية بشكل رهيب. واضطرّت على أثرها للرضوخ للواقع والإعتراف بحقوق المسلمين المشروعة.

( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ) والتفصيل موكول إلى محل آخر.

مسجد ضرار

كان النبي صلی اللّه علیه و آله على جناح السفر إلى تبوك إذ وفد جماعة من بني غنم ابن عوف وطلبوا منه أن يأتيهم ويصلّي في مسجدهم الذي بنوه في حيّهم وقالوا : إنّا بنينا مسجداً لذي العلّة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنّا نحب أن تأتينا فتصلّي فيه لنا وتدعوا بالبركة ، فقال لهم : إنّي على جناح سفر ولو قدمنا أتيناكم إن شاء اللّه.

فلمّا انصرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من تبوك وأراد الصلاة فيه نزلت عليه آية في شأن المسجد وهي :

( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ

ص: 466

الظَّالِمِينَ * لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة / 107 - 109 ).

وفي حقيقة الأمر كان إنشاء هذا البناء لأجل غاية خبيثة وأهداف مستبطنة منها بثّ الفرقة والشقاق بين صفوف المسلمين ، ومنها جعل هذا المكان ملجأً لأبي عامر الراهب وهو من أشد محاربي اللّه ورسوله وكان من قصّته أنّه قد ترهّب في الجاهلية ولبس المسوح ، فلمّا قدم النبي صلی اللّه علیه و آله المدينة حسده وحزّب عليه الأحزاب ثم هرب بعد فتح مكّة إلى الطائف فلمّا أسلم أهل الطائف لحق بالشام وخرج إلى الروم وتنصّر وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة الذي قتل مع النبي صلی اللّه علیه و آله في واقعة اُحد وكان جنباً فغسّلته الملائكة.

وسمّى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أبا عامر : « الفاسق » ، وقد كان أرسل إلى المنافقين أن استعدّوا وابنوا مسجداً فإنّي أذهب إلى قيصر وآتي من عنده بجنود واخرج محمداً صلی اللّه علیه و آله من المدينة ، فكان المنافقون يتوقّعون أن يجيئهم أبو عامر ، فبنوا هذا المسجد لتلك الغاية.

فلمّا نزلت الآية أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عاصم بن عوف العجلاني ومالك بن الأخشم بهدم المسجد وتحريقه ، وروي أنّه بعث عمّار بن ياسر ووحشي أن يحرقاه وأمر بأن يتّخذ كناسة يلقى فيها الجيف.

وهذه المؤامرة لم تكن الاُولى في تاريخ النبي صلی اللّه علیه و آله فإنّ القوى الكافرة ما برحت تبذل جهودها في البلاد الإسلامية من خلال إنشاء المشاريع الخيرية كالكنائس والمستشفيات وملاجئ الأيتام ومعاهد التربية والتعليم لتأصيل بذور عوامل الإختلاف بين المسلمين ، وتضعيف عقائدهم وافسادهم إلى حد تبلغ بهم فيه إلى مسخ شخصيتهم الإسلامية.

وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يدل على أنّ المشاريع الخيرية أفضل وسيلة للنفوذ إلى أوساط المسلمين وتنفيذ مآربهم العدائية المحاكة ضدّهم.

ص: 467

وفي الواقع أنّ الخطّة التي تنتهجها القوى الكافرة غالباً للقضاء على الإسلام والمسلمين تكمن في إستغلال الصبغة الدينية التي تدين بها الشعوب الإسلامية لضرب الإسلام والإنسانية باسم الإسلام نفسه وتحت شعارات دينية تنبع من أهدافه في ظاهر أمرها.

وقعة تبوك :

فلمّا انتهى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى تبوك أتاه صاحب أيله (1) وأهل جرباء وأذرح فأعطوه الجزية ، فكتب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لهم كتاباً ، فأقام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في تبوك بضعة عشر ليلة ولم يجد من العدو فيها أثراً فرجع إلى المدينة قافلاً.

تآمر المنافقين على النبي صلی اللّه علیه و آله :

روى المفسّرون أنّ اثني عشر رجلاً من المنافقين وقفوا على العقبة ليفتكوا برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عند رجوعه من تبوك فأخبر جبرئيل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بذلك وأمره أن يرسل إليهم ويضرب وجوه رواحلهم ، وعمّار كان يقود دابّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وحذيفة يسوقها ، فقال حذيفة اضرب وجوه رواحلهم فضربها حتى نحّاهم ، فلمّا نزل قال لحذيفة من عرفت من القوم ؟ قال : لم أعرف منهم أحداً ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّه فلان وفلان حتى عدّهم كلّهم ، فقال حذيفة : ألا تبعث إليهم فتقتلهم ؟ فقال : أكره أن تقول العرب لمّا ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم (2).

روى الواقدي : لمّا كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في بعض

ص: 468


1- مدينة في فلسطين.
2- مجمع البيان ج 3 ص 46.

الطريق مكر به اُناس من المنافقين وائتمروا أن يطرحوه من عقبة في الطريق ، فلمّا بلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تلك العقبة أرادوا أن يسلكوها معه ، فأخبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خبرهم.

فقال للناس : اسلكوا بطن الوادي فإنّه أسهل لكم وأوسع ، فسلك الناس بطن الوادي وسلك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله العقبة وأمر عمّار بن ياسر أن يأخذ بزمام الناقة يقودها وأمر حذيفة بن اليمان يسوق من خلفه ، فبينا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يسير في العقبة إذ سمع حسيس القوم قد غشّوه ، فغضب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأمر حذيفة أن يردّهم ، فرجع حذيفة إليهم وقد رأوا غضب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فجعل يضرب وجوه رواحلهم بمحجن في يده ، وظنّ القوم انّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد اطّلع على مكرهم فانحطّوا من العقبة مسرعين حتّى خالطوا الناس.

وأقبل حذيفة حتّى أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فساق به ، فلمّا خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من العقبة نزل الناس فقال النبي صلی اللّه علیه و آله : يا حذيفة هل عرفت أحداً من الركب الذين رددتهم ؟ قال : يا رسول اللّه عرفت راحلة فلان وفلان وكان القوم متلثّمين فلم أبصرهم من أجل ظلمة الليل ، فنزلت في حقّهم هذه الآية :

( يَحْذَرُ المُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ * وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ) ( التوبة / 64 - 65 ) (1).

ص: 469


1- المغازي للواقدي ج 3 ص 1042 - 1043.

ص: 470

(11) البراءة من المشركين

اشارة

كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لمّا فتح مكّة لم يمنع المشركين الحج في تلك السنة ، وكانت سنّة العرب في الحج أنّه من دخل مكّة وطاف البيت في ثيابه لم يحلّ له امساكها ، وكانوا يتصدّقون بها ولا يلبسونها بعد الطواف ، فكان من وافى مكّة يستعير ثوباً ويطوف فيه ثم يردّه ، ومن لم يجد عارية ولا كراءً ولم يكن له إلاّ ثوب واحد طاف بالبيت عرياناً.

فجاءت امرأة من العرب حسناء جميلة فطلبت ثوباً عارية أو كراءً فلم تجده ، فقالوا لها : إن طفت في ثيابك احتجت أن تتصدّقي بها ، فقالت : كيف أتصدّق وليس لي غيرها ؟ فطافت بالبيت عريانة ، وأشرف لها الناس ، فوضعت احدى يديها على قبلها والاُخرى على دبرها ، وقالت شعراً :

اليوم يبدو بعضه أو كلّه *** فما بدا منه فلا أحلّه

فلما فرغت من الطواف ، خطبها جماعة ، فقالت : إنّ لي زوجاً. وكانت سيرة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قبل نزول سورة البراءة أن لا يقاتل إلاّ من قاتله ، ولا يحارب إلاّ من حاربه وأراده ، فكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لا يقاتل أحداً قد تنحّى عنه واعتزله حتى نزلت عليه سورة البراءة ، وأمره بقتل المشركين من اعتزله ومن لم يعتزله إلاّ الذين قد عاهدهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم فتح مكّة إلى مدة ، منهم : صفوان بن اُميّة وسهيل بن عمرو ، فقال اللّه عزّ وجلّ : ( بَرَاءَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ) ثمّ يقتلون حيثما وجدوا بعد.

ص: 471

هذه أشهر السياحة : عشرين من ذي الحجة ومحرّم وصفر وشهر ربيع الأوّل وعشراً من ربيع الآخر.

فلمّا نزلت الآيات من سورة البراءة دفعها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى أبي بكر وأمره أن يخرج إلى مكّة ويقرأها على الناس بمنى يوم النحر ، فلمّا خرج أبو بكر نزل جبرئيل على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : يا محمّد لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجل منك.

فبعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمير المؤمنين علیه السلام في طلب أبي بكر ، فلحقه بالروحاء وأخذ منه الآيات فرجع أبو بكر إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : يا رسول اللّه أنزل اللّه فيّ شيئاً ؟ فقال : لا إنّ اللّه أمرني أن لا يؤدّي عني إلاّ أنا أو رجل منّي (1).

هذا مجمل ما روته الشيعة حول حادثة نزول السورة وهو بنفسه جاء في كتب أهل السنّة في مصادر جمّة من حديث وتفسير ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى تفسير الطبري والسيوطي في تفسير الآية ، ولكن لإلقاء المزيد من الضوء على تلك الحادثة نبحث عن اُمور :

1 - لماذا لم يحجّ النبي صلی اللّه علیه و آله بنفسه في هذا العام ؟

روى المفسّرون أنّه أقبل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من تبوك فأراد الحج ، فقيل له : إنّه يحضر المشركون فيطوفون عراة ، فقال : لا أحبّ أن أحجّ حتّى لا يكون ذلك (2).

ويؤيّد ذلك قصة المرأة التي طافت بالبيت الحرام عريانة كما عرفت.

ص: 472


1- تفسير القمي : ج 1 ص 281 - 282.
2- تفسير الطبري ، ج 11 ص 44.

2 - اختلفت الرواية في عدد الآيات التي بعث النبي صلی اللّه علیه و آله عليّاً علیه السلام بها ليقرأها يوم الحجّ الأكبر على المشركين ويرفع الأمان عنهم.

فقد روى الطبري عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا :

بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أبا بكر أميراً على الموسم سنة تسع وبعث علي بن أبي طالب رضی اللّه عنه بثلاثين أو أربعين آية من سورة براءة فقرأها على الناس يؤجّل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض ، فقرأ عليهم براءة يوم عرفة أجّل المشركين عشرين من ذى الحجة والمحرّم وصفر وشهر ربيع الأوّل وعشراً من ربيع الآخر (1).

وروى السيوطي في الدر المنثور قال : أخرج عبد اللّه بن أحمد بن حنبل في زوائد السند وأبو الشيخ وابن مردويه عن علي رضی اللّه عنه قال : لمّا نزلت عشر آيات من براءة على النبي صلی اللّه علیه و آله دعا أبا بكر ليقرأها على أهل مكّة ثمّ دعاني فقال لي : أدرك أبا بكر فحيث ما لقيته فخذ الكتاب منه (2).

روى البحراني في تفسيره عن مصادر وثيقة ، روايات تنتهي إلى أبي هريرة وأنس وأبي رافع وزيد بن نفيع وابن عمر وابن عباس - واللّفظ للأخير : إنّه لمّا نزل ( بَرَاءَةٌ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ ) إلى تسع آيات أنفذ النبي أبا بكر إلى مكّة لأدائها ، فنزل جبرئيل وقال : إنّه لا يؤدّيها إلاّ أنت أو رجل منك ، فقال النبي لعلي : إركب ناقتي العضباء وإلحق أبا بكر وخذ براءة منه (3).

والرواية الثانية والثالثة أوفق بمضمون الآيات وما يمس بالقضية لا يتجاوز الآية العاشرة وربّما تزيد قليلاً ، مضافاً إلى أنّ الرواية الاُولى فيها من الشذوذ ما لا يخفى ، وسيوافيك أنّ عليّاً علیه السلام قد قرأ يوم النحر لا يوم عرفة وأنّه رفع الأمان عن

ص: 473


1- نفس المصدر السابق.
2- الدر المنثور : ج 10 ص 122.
3- تفسير البرهان ج 2 ص 105.

المشركين منذ يوم التلاوة وكان يوم العاشر من ذي الحجة لا العشرين منه.

وإليك الآيات العشر الواردة في شأن تلك القصة نسوقها إليك لتقف عن كثب على مضمونها وما ورد فيها حول تلك الحادثة :

قال عزّ من قائل : ( بَرَاءَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ * فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ * كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ * كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاَّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ * اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ ) ( براءة / 1 - 10 ).

3 - لماذا عزل النبي صلی اللّه علیه و آله أبا بكر عن مهمّة التبليغ :

قد تضافرت النصوص على أنّه لمّا نزلت عشر آيات من أوّل سورة براءة دعا النبي صلی اللّه علیه و آله أبا بكر ليقرأها على أهل مكّة ثّم دعا عليّاً علیه السلام فقال له : أدرك أبا بكر فحيثما لقيته فخذ الكتاب منه فاذهب به إلى أهل مكّة فاقرأه عليهم ، فخرج علي علیه السلام من المدينة فلحق أبا بكر في الجحفة وأخذ

ص: 474

الكتاب منه ، ورجع أبو بكر إلى المدينة مستاءً فقال للنبي صلی اللّه علیه و آله : أنزل فيّ شيء ؟ قال : لا ، ولكن جبرئيل جاءني فقال : لن يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجل منك (1).

وهناك صور اُخرى للحديث يقرب بعضها من بعض ويتّحد الكل في إفادة معنى واحد لمضمون القصّة.

قال البغوي في تفسيره : لمّا كانت سنة تسع وأراد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يحج قيل له : إنّه يحضر المشركون فيطوفون عراة ، فبعث أبا بكر تلك السنة أميراً على الموسم ليقيم للناس الحج وبعث معه أربعين آية من صدر براءة ليقرأها على أهل الموسم ، ثم بعث بعده عليّاً ( كرم اللّه وجهه ) على ناقته العضباء ليقرأ على الناس صدر براءة وأمره أن يؤذّن بمكّة ومنى وعرفة : أن قد برئت ذمة اللّه وذمّة رسوله من كلّ مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان. فرجع أبو بكر فقال : يا رسول اللّه بأبي أنت واُمّي أنزل في شأني شيء ؟ قال : لا ، ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلّغ هذا إلاّ رجل من أهلي (2).

وعند الرجوع إلى طرق وأسانيد هذه القصة في المجامع الحديثية والتفسيرية المهمّة يظهر بجلاء وجود تواتر معنوي أو إجمالي لوقوع القصة أعني استرداد الآيات من أبي بكر وتشريف أمير المؤمنين بتبليغها ونزول الوحي المبيّن بأنه لا يبلّغ عنه إلاّ هو أو رجل من أهل بيته وإن اشتملت القصة على بعض الخصوصيّات التي تفرّد بها بعض الطرق والمتون (3).

ص: 475


1- الدر المنثور ج 3 ، ص 209 ، كنز العمال ج 1 ص 247 ، تاريخ ابن كثير ج 5 ص 38.
2- تفسير البغوي : ج 2 ص 267.
3- وقد جمع العلاّمة الأميني كافة صور الحديث بطرقه المختلفة المسندة منها والمرسلة في موسوعته الثمينة الغدير ونقله عن ثلاثة وسبعين محدّثاً ومفسّراً ومؤرّخاً لاحظ ج 6 ص 338 - 350.

وإلى تلك الفضيلة يشير شمس الدين المالكي ( ت 780 ه ) في قصيدته :

وإنّ عليّاً كان سيف رسوله *** وصاحبه السامي لمجد مشيّد

إلى أن قال :

وأرسله عنه الرسول مبلّغاً *** وخصّ بهذا الأمر تخصيص مفرد

وقال هل التبليغ عنّي ينبغي *** لمن ليس عن بيتي من القوم فاقتد (1)

وحينئذ يأتي الكلام على الوازع الذي دفع الوحي الإلهي إلى عزل أبي بكر وتنصيب عليّ علیه السلام مكانه فقد ذكرت في المقام وجوه نشير إليها :

1 - ما ذكره الآلوسي في روح المعاني بقوله : ليس في شيء من الروايات ما يدلّ على أنّ عليّاً علیه السلام هو الخليفة بعد رسول اللّه دون أبي بكر ، وقوله : « لا يبلّغ عنّي غيري أو رجل منّي » سواء كان بوحي أو جار على عادة العرب أن لا يتولّى تقرير العهد ونقضه إلاّ رجل من الأقارب لتنقطع الحجّة بالكلّية (2).

ويؤاخذ عليه :

أوّلاً : بأنّ النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله برّر عزل أبي بكر بأنّه نزل جبرئيل على « أنّه لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجل منك » ولو كانت لما ذكره القائل مسحة من الحق لكان على النبي صلی اللّه علیه و آله أن يقول السنّة الجارية عند العرب هي أن لا ينقض العهد إلاّ عاقده أو رجل من أهل بيته ، مع إنّا نرى أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله لم يذكره أبداً.

وثانياً : إنّ ابن كثير لم يذكر لتلك السنّة العربية مصدراً ولا خبراً عنها في أيّامهم ومغازيهم ، ولو صحّت السنّة لكانت سنّة عربيّة جاهليّة فما وزنها في الإسلام ؟ وما

ص: 476


1- نفح الطيب ج 4 ص 603.
2- روح المعاني : ج 10 ص 45 ، وقد أخذه عن تفسير ابن كثير ، ج 2 ، ص 331.

هي قيمتها عند النبي ؟ وهو صلی اللّه علیه و آله كان ينسخ كل يوم سنّة جاهليّة وينقض كل حين عادة قوميّة ، وقد قال يوم فتح مكّة : « ألا إنّ كلّ مأثرة أو دم أو مال يدّعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج » (1).

وثالثاً : لو افترضنا أنّ هذه السنّة كانت سنّة عربيّة محمودة فهل كان رسول اللّه ذاهلاً عنها وناسياً لها حين سلّم الآيات بيد أبي بكر وأرسله وخرج إلى طريق مكّة ؟ فعندما كان في بعض الطريق ذكر النبي صلی اللّه علیه و آله ما نسيه أو ذكّره بعض من كان عنده بما أهمله وذهل عنه من أمر كان الواجب مراعاته ، مع أنّ هذه السنّة لو كانت رائجة لما كان للنبي ولمن حوله أن يغفلوا عنها ثم يتذكّروها ، فهل الذهول عنها إلاّ كذهول المقاتل عن سلاحه والحارس عن حربته ؟

ورابعاً : إنّ عليّاً علیه السلام لم يبعث لمجرّد نقض العهد وحده ، وإنّما بلّغ أحكاماً لم تكن داخلة في ضمن العهد ، فقال : « يا أيّها الناس لا يحجّ بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان له عند رسول اللّه عهد فهو له إلى مدّته ... الخ » (2).

وبالجملة فلم تكن رسالة الإمام علي علیه السلام مقصورة على مجرّد تلاوة طائفة من سورة براءة بل تعدّت إلى تبليغ أحكام قرآنية اُخرى نزل بها جبرئيل عن اللّه سبحانه على رسوله حيث اخبر فيها بأنّه « لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجل منك ».

هذا هو التبرير الذي إرتآه ابن كثير وجنح إليه الآلوسي في تفسيره.

وهناك زمزمة اُخرى تفوّه بها صاحب المنار واستحسنها شلتوت في تفسيره حيث قال الأوّل : « إنّ الصدّيق كان مظهراً لصفة الرحمة والجمال وكان عليّ أسد اللّه ومظهر جلاله ، ولأجل ذلك فوّض إليه نقض عهد الكافرين الذي هو من آثار الجلال وصفات القهر ، فكان هناك عينين فوّارتين يفور من أحدهما صفة الجمال ومن

ص: 477


1- السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 412.
2- السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 546.

الاُخرى صفة الجلال في ذلك المجمع العظيم الذي كان انموذجاً للحشر ومورداً للمسلم والكافر » (1).

وصاحب المنار عندما ينقله عن بعض أهل السنّة يعود فينتقده بقوله : « ولا يخفى حسنه لو لم يكن في البين تعليل النبي فإنّه علّل تبليغ علي نبذ العهود عنه بكونه من أهل بيته وهو ينافي أن تكون النكتة المذكورة علّة ، فهو لا يأبى أن تكون حكمة ».

وصاحب المنار وإن أتى ببعض الحق ولكن غفل عن البعض الآخر وهو إنّ أهل بيت النبي صلی اللّه علیه و آله لم يكونوا منحصرين في عليّ وحده ، بل كانوا عدّة كثيرة كعمّه العباس وأبناء أبي طالب كطالب وعقيل وغيرهم ، فلماذا - يا تري - اختار عليّاً وحده من دونهم ؟

والحق أن يقال : إنّ عزل أبا بكر ونصب عليّ مكانه لم يكن إلاّ لأمر سياسى ودينى يتلخّص في الأمر التالي :

وهو إنّ نقض وإبرام المواثيق والعهود من الاُمور الحكومية التي يمارسها الحاكم المدني أو الشرعي ولا يحق لغيره التدخّل فيها ، فالنبي الأكرم نوّه بعمله هذا إلى أنّ الإنسان اللائق بهذه المهام في حياته - وبطريق أولى بعد وفاته - هو علي بلا منازع ، الذي هو منه (2) فهو اللائق والمسؤول بحكم النيابة عن النبي صلی اللّه علیه و آله للتصدّي لشؤون الخلافة والحكومة ولا يختصّ شأن علي بالاُمور السياسية وحده بل هو المبلّغ لأحكام شرعيّة لم يبلّغه النبي صلی اللّه علیه و آله لأجل ظروف قاسية فهو الزعيم للاُمة في الاُمور السياسية والشرعية.

ومن العجب العجاب ما يرى من تساهل الرواة والمؤرّخون في نقل هذه الفضيلة ، ونسوق إليك بعض الصور المختلفة لهذه القصّة في كتب الحديث :

ص: 478


1- تفسير المنار ج 10 ص 193 ، تفسير القرآن المجيد للشيخ محمود شلتوت ص 615.
2- نظير ذلك ما ورد في آية المباهلة حيث قال سبحانه : ( تَعَالَوا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وابْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وانْفُسَنَا وانْفُسَكُمْ ... ) ( آل عمران / 61 ).

1 - ما يحكى انّ عليّاً اختصّ بتأدية براءة واُخرى تدلّ على أنّ أبا بكر شاركه فيه ، واُخرى تدلّ على أنّ أبا هريرة شاركه في التأدية ، ورجال آخرون لم يسمّوا في الروايات.

2 - ما يدل على أنّ الآيات كانت تسع آيات ، واُخرى عشراً ، واُخرى ستّة عشر ، واُخرى ثلاثين ، واُخرى ثلاثاً وثلاثين ، واُخرى سبعاً وثلاثين ، واُخرى أربعين ، واُخرى سورة براءة.

3 - ما يدلّ على أنّ أبا بكر ذهب لوجهه أميراً على الحاج ، واُخرى على أنّه رجع وأوّله بعضهم كابن كثير إنّه رجع بعد إتمام الحج ، وآخرون انّه رجع ليسأل النبي صلی اللّه علیه و آله عن سبب عزله ، وفي رواية أنس انّه صلی اللّه علیه و آله بعث أبا بكر ببراءة ثمّ دعاه فأخذها منه.

4 - ما يدل على أنّ الحجّة وقعت في ذي الحجّة وإنّ يوم الحجّ الأكبر تمام أيّام تلك الحجّة أو يوم عرفة أو يوم النحر أو اليوم التالي ليوم النحر أو غير ذلك ، واُخرى إنّ أبا بكر حجّ في تلك السنة في ذي القعدة.

5 - ما يدل على أنّ أشهر السياحة تأخذ من شوال ، واُخرى من ذي القعدة واُخرى من عاشر ذي الحجّة ، واُخرى من الحادي عشر من ذي الحجّة وغير ذلك.

6 - ما يدل على أنّ الأشهر الحرم هي ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم من تلك السنة ، واُخرى على أنّها أشهر السياحة تبتدئ من يوم التبليغ أو يوم النزول (1).

4 - مبدأ أمد الهدنة :

إنّ اللّه سبحانه ورسوله صلی اللّه علیه و آله قد رفعا الأمان عن المشركين الناقضين للعهود إلاّ إنّه تمّ إمهالهم مدّة أربعة أشهر وحيث قال سبحانه :

ص: 479


1- الميزان : ج 9 ص 175 ، ولاحظ تفسير الطبري ج 9 ص 42.

( فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( براءة / 2 و 3 ).

وأمّا مبدأ هذه الهدنة هو يوم الحجّ الأكبر الذي هو يوم الإبلاغ والإنذار.

والأوفق بسماحة الإسلام أن يبتدأ أمدها من حين الإعلان والإنذار لا من حين إنشاء الحكم الذي ربّما يتقدّم على إعلامه.

فإذا فرضنا أنّ يوم الحجّ الأكبر هو يوم النحر العاشر من ذى الحجّة كان آخر الأمد هو العاشر من ربيع الآخر.

وأمّا من جعل مبدأ الإنذار يوم العشرين من ذى القعدة فعليه تنتهي الهدنة بمرور عشرين يوماً من ربيع الأول يتوقف.

وعند ذلك يتوجّه سؤال وهو : أنّه إذا كان نهاية الأمد هو العاشر أو العشرين من ربيع الآخر فكان يجب على المسلمين الصبر حتّى ينتهي ذلك الأمر مع أنّه سبحانه يأمر بقتلهم عند انسلاخ الأشهر الحرم أي في نهاية محرّم الحرام وإطلالة شهر صفر ، قال سبحانه :

( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( التوبة / 5 ).

والجواب عن ذلك : إنّ المراد من الأشهر الحرم هي الأشهر الأربعة الواردة في الآية المتقدّمة التي حرّم اللّه سبحانه قتال المشركين فيها وتبتدئ من يوم النحر وتنتهي في يوم العاشر من ربيع الآخر ، واللام في الأشهر الحرم للعهد الذكري إشارة إلى الأربعة المذكورة في الآية المتقدّمة ، وليس المراد منه الأشهر الحرم المعروفة التي حرّم فيها الحرب في الإسلام وما قبله بل تمتد جذوره إلى عهد الأنبياء السالفين لأنّه

ص: 480

سبحانه يعد التمسّك بحرمة الحرب فيها جزءاً من الدين القيّم ويقول :

( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ المُتَّقِينَ ) ( التوبة / 36 ).

وبذلك يظهر ضعف سائر الأجوبة التي ذكرت في المقام فلا نطيل بذكرها.

5 - ما هي الوثيقة التي بلّغها أمير المؤمنين علیه السلام بعد تلاوة الآيات

لقد اختلفت الروايات في بيان صورة النصّ الذي تضمّن الإنذار السماوي في هذه الحادثة وإليك صوره المختلفة :

أ - أن لا يدخل مكّة مشرك بعد عامه هذا ، ولا يطوف بالكعبة عريان ولا تدخل الجنّة إلاّ نفس مسلمة ، ومن كان بينه وبين رسول اللّه عهد فعهده إلى مدّته ، وفي بعض النصوص مكان مكّة لا يقرب المسجد الحرام مشرك.

ب - لا تدخل الجنّة إلاّ نفس مسلمة ، ولا يحجّ بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه ... الخ.

ج - لا يقرب البيت بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا تدخل الجنّة إلاّ نفس مسلمة ، وأن يتم كل ذي عهد عهده (1) ولكن بيان حصر استحقاق الجنّة في المسلم لم يكن شيئاً جديداً لم يعهد في صدر الرسالة ، فعدّ ذلك في سياق الوثيقة لا يخلو من غرابة وغموض.

6 - لماذا دفع اللّه سبحانه الأمان عن المشركين ؟

هذا هو السؤال الأكثر أهمّية في تفسير آيات هذه السورة وذلك إنّ الدعوة

ص: 481


1- لاحظ تفسير الطبري ج 49 ص 46 - 47.

المحمدية كانت مبنية على أساس البراهين العقليّة والعلميّة كما كانت مبنيّة على رفع الإكراه في الدين.

قال سبحانه : ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) ( البقرة / 256 ).

مع إنّا نجد في هذه الآيات ما يعلن صريحاً مجابهة المشركين بلاهوادة ويخيّرهم بين طريقين لا ثالث لهما إمّا العزوف عن الشرك والدخول تحت لواء التوحيد وإمّا ترقّب الحرب بعد انقضاء أربعة أشهر من تاريخ بدء إعلان البراءة في قوله سبحانه : ( بَرَاءَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ ) .

وهذا هو الذي أثار تساؤل الكثير من المحقّقين والباحثين في العصور المتأخّرة ويمكن الجواب عنه بأحد وجهين :

1 - إنّ البراءة كانت مختصّة بالمشركين الذين كان لهم مع رسول اللّه عهد ، ولكنّهم غدروا وخانوا ونقضوه. فلأجل ذلك لم يكن بد من رفض العهد المنقوض من جانبهم ، وكانوا في كل زمن على أهبة الهجوم على المسلمين فلا يصحّ لقائد الإسلام السكوت وتركهم حتى يتآمروا على الإسلام والمسلمين وإليك تفصيل ذلك :

إنّ هذه الآيات ترفع الأمان عن الذين عاهدوهم من المشركين لأجل أنّهم لا وثوق بعهدهم بشهادة أنّهم لم يراعوا حرمة العهد ونقضوا ميثاقهم وقد أباح سبحانه في تلك الفتره إبطال العهد بالمقابل نقضاً بنقض قال سبحانه :

( وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الخَائِنِينَ ) ( الأنفال / 58 ).

فأباح إبطال العهد عند مخافة الخيانة ولم يرض مع ذلك إلاّ إبلاغ النقض إليهم لئلاّ يؤخذوا عن غفلة من أمرهم فيكون ذلك من الخيانة.

والدليل على أنّ ذلك الرفع لم يكن جزافاً هو أنّ الآيات استثنت المتثبين على العهد وقالت : ( إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ ) ( التوبة / 4 ).

ص: 482

وقال أيضاً : ( كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ ) ( التوبة / 7 ).

والآيات تصرّح بأنّ استسلامهم أمام قدرة المسلمين إنّما كان لما يعانونه من ضعف وذلّة ، فلو سنحت لهم الأقدار وامتلكوا العدد والعدّة لعاودوا الهجوم على المسلمين وأبادوهم عن بكرة أبيهم وفي ذلك يقول سبحانه : ( كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ) ( التوبة / 8 ).

وقال سبحانه في موضع آخر : ( أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ( التوبة / 13 ).

فكل هذه الآيات التي تلوناها عليك وما لم نتلوه صريح في أنّ رفع الأمان كان مختصّاً بلفيف من المشركين الذين كان بينهم وبين الرسول عهد وميثاق ولكنّهم قد نقضوا تلك العهود والمواثيق فحقّت عليهم كلمة العذاب وباؤوا بغضب من اللّه تعالى على غضب.

وأمّا الذين التزموا بمواثيقهم أو لم يكن بينهم وبين الرسول أي ميثاق وعهد وما كان يخشى منهم الخيانة والغدر والقتال للمسلمين فهؤلاء لا تشملهم هذه الآيات.

وأمّا ما هو واجب القائد الإسلامي أمام الطائفة الاُولى بعد انتهاء عهدهم أو ما هي وظيفته أمام الطائفة الثانية منهما - أعني من ليس له عهد بينه وبين القيادة الإسلامية ولا يتوقّع منه أيّة خيانة - فتفصيله وبيانه موكول إلى القسم السياسي من الفقه الإسلامي. وسنبيّن حكمه في البحث الآتي.

ثمّ إنّ في هذه الآيات دلالة صريحة على أنّ الإسلام كان يكن للمشركين بما فيهم الناقضون للعهود ، الشفقة والرحمة بأبعادهما المختلفة ، نسوق إليك نموذجين منها :

ص: 483

أ - إنّه إذا استجار المشرك لينظر فيما تندب إليه الدعوة الحقّة ويتبعها أن اتضحت له ، كان من الواجب إجارته حتّى يسمع كلام اللّه ويرفع عن بصيرته غشاوة الجهل ، وفي ذلك يقول سبحانه : ( وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ) ( براءة / 6 ).

وما ذلك إلاّ لأنّ صرح الدعوة الإسلامية يعتمد على ركيزة تهدف إلى انتشال الناس عن الغي والضلال والانحراف والفساد ، ولازم ذلك بذل العناية المكثّفة في سبيل الوصول إلى هذه الغاية المنشودة وإن ضعف احتمال التأثير وقلّة نسبته.

ب - إنّ المشرك المتحرّف عن العهود والمواثيق لو أظهر التوبة والندامة وشهد على توبته قيامه بالفرائض الدينية كالصلاة والزكاة تقبل توبته ويعد في عداد المسلمين فيشمله من الحقوق ما للمسلمين ، قال سبحانه : ( فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) ( التوبة / 11 ).

هذا ما يرجع إلى توضيح هذه الآيات وبيان الأسرار التي تضمّنتها.

2 - نحن نفترض انّ البراءة كانت عامّة لجميع المشركين الذين يعيشون في ظل الحكومة الإسلامية وانّها لا تعترف بعد نزول هذه الآيات بدين الشرك أبداً ، وإنّما تعترف بالشرائع الإلهية الإبراهيمية. وتصوّر أنّ ذلك لا يجتمع مع حريّة الإنسان في عقيدته وفكره ، فكر خاطئ يظهر من البحث الآتي الذي عقدناه لبيان الجهاد الإبتدائي ، جهاد دفاعي في الحقيقة وهو مع صلته بالموضوع بحث قرآني مستقل.

الجهاد الإبتدائي ، جهاد دفاعي في الحقيقة

إنّ البحث عن آيات الجهاد وإن كان يحتاج إلى تأليف رسالة مفصّلة تبحث عن هذه الآيات ، وتبيّن خصوصيّاتها ونكاتها غير اننّا إستكمالاً لما ذكرناه نقف عندها وقفة قصيرة حتّى يتّضح هدف الآيات ، فنقول :

إنّ الآيات الواردة حول الجهاد وما يرتبط بها من قريب أو بعيد تنقسم إلى

ص: 484

طوائف خمس لابدّ لكل مفسّر أن يلاحظ مجموعها قبل إتّخاذ الموقف ، وتفسيرها ، وإظهار الرأي فيها.

وإليك هذه الطوائف :

الاُولى : الآيات المطلقة التي تدعو إلى مطلق النضال والقتال ، دون أن تقيّد ذلك بقيد ، كقوله سبحانه :

( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ) ( التوبة / 29 ).

وقوله سبحانه :

( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ ) ( التوبة / 73 ).

فالآية الاُولى تدعو إلى مطلق النضال مع أهل الكتاب ، والثانية تدعو إلى مطلق النضال مع الكفّار والمنافقين دون أن تقيّد مقاتلة هذه الطوائف والجماعات بقيد ، وتعلّق الأمر بشيء مطلق يوجب مقاتلتهم كذلك. سواء أكانوا مقاتلين للمسلمين أم لا ، وسواءً عارضوا الإسلام أم لا.

الثانية : الآيات التي تقيّد مقاتلة المشركين بقيد وهو قتال المسلمين والعدوان عليهم ، كقوله سبحانه :

( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ ) ( البقرة / 190 ).

فالقتال - حسب هذه الآية - يجب إذا تعرّض المسلمون لعدوان الكفّار والمشركين ، ولا يجب قتالهم إذا لم يكونوا مقاتلين.

وربّما قيّد القتال بقيد آخر وهو تهيّؤ العدو لنقض العهد ، وهو بمعنى التعرّض لقتال المسلمين وبمثابة العدوان ، فلأجل ذلك يجب على المسلمين مقاتلتهم ومحاربتهم. يقول سبحانه - بعد أمره بقتال المشركين في مطلع سورة التوبة - :

ص: 485

( كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً ) ( التوبة / 8 ).

ويقول سبحانه :

( لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ ) ( التوبة / 10 ).

ويقول سبحانه :

( وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ ) ( التوبة / 12 ).

إلى غير ذلك من الآيات التي توجب مقاتلة المشركين لنقضهم العهود المعقودة بينهم وبين المسلمين لأنّ نقض العهد بمثابة إعلان الحرب ، وإرادة العدوان.

إنّ ملاحظة هذه الآيات تفيد أنّ القتال لم يشرع على الإطلاق بل لأجل سبب ، وهو إرادة قتال المسلمين والعدوان عليهم ، أمّا بصورة مباشرة وأمّا عن طريق نقض عهود المسالمة ، والصلح الذي لا يعني إلاّ إرادة القتال فيكون القتال هنا من باب الدفاع عن النفس.

ومن هنا تكون هذه الآيات مقيّدة لإطلاق الطائفة الاُولى.

ومن المعلوم أنّ المطلق يحمل على المقيّد ويؤخذ بكليهما حسب ما هو المقرّر في علم « اُصول الفقه ».

الثالثة : الآيات التي تدعو إلى إنقاذ المستضعفين ونجدة المظلومين وإخراجهم من ظلم الحكّام الجائرين ، ودفع الضيم عنهم.

وهذا هو أيضاً نوع آخر من الدفاع ... إذ هو دفاع عن الغير ...

والمعتدى عليه ليس الإنسان نفسه ، أو شعبه ، بل هو شعب آخر مضطهد ولا يلزم أن يكون الاعتداء متوجّهاً إلى الإنسان : شخصه أو شخصيّته ، أو قومه بل يكفي أن يكون الإعتداء على الإنسان بما هو إنسان ، فعندئذٍ يجب في منطق العقل الدفاع عن حقوق الإنسان ، لا عن حقوق الشخص وما يرتبط به فقط ، بل يكون

ص: 486

الدفاع عن حقوق الإنسان غير المرتبط بالمقاتل من أفضل أنواع الجهاد والدفاع ، فإنّ ذلك إيثار وبذل للدم في سبيل حياة الآخرين ، وأيّ عمل أقدس من هذا. ولأجل ذلك نرى أنّ اللّه سبحانه يفرض على المسلمين إغاثة المضطهدين ويقول :

( وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ) ( النساء / 75 ).

الرابعة : الآيات التي تدلّ على عدم الإكراه في الدين ، لأنّ الدين عقيدة والعقيدة لا توجد بالإكراه كقوله سبحانه :

( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) ( البقرة / 256 ).

قيل إنّها نزلت في رجل من الأنصار يدعى أبا الحصين كان له ابنان فقدم تجّار الشام إلى المدينة يحملون الزيت ، فلمّا أرادوا الرجوع من المدينة أتاهم ابنا أبي الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصّرا ومضيا إلى الشام ، فأخبر أبو الحصين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأنزل اللّه تعالى : ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أبعدهما اللّه هما أوّل من كفر ، فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي صلی اللّه علیه و آله حين لم يبعث في طلبهما ، فأنزل اللّه : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ... ) ( النساء / 65 ).

وقيل : كانت امرأة من الأنصار تكون مقلاتاً (1) فترضع أولاد اليهود ، فجاء الإسلام وفيهم جماعة منهم فلمّا اُجليت بنو النضير إذا فيهم اُناس من الأنصار فقالوا : يا رسول اللّه ، أبنائنا واخواننا فنزلت : ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) فقال :

« خيّروا أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم وان اختاروهم فأجّلوهم » (2).

ص: 487


1- المقلات : التي لا يعيش لها ولد.
2- مجمع البيان ج 2 ص 363 - 364.

وكقوله سبحانه :

( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ( النحل / 125 ).

وقوله سبحانه :

( وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) ( الكهف / 29 ).

وقوله سبحانه :

( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) ( يونس / 99 ).

وقوله سبحانه :

( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ) ( الشعراء / 3 و 4 ).

إلى غير ذلك من الآيات الكاشفة عن حرّية الإعتقاد.

الخامسة : الآيات الداعية إلى الصلح والتعايش السلمي كقوله سبحانه :

( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) ( النساء / 128 ).

وقوله سبحانه :

( وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ) ( الأنفال / 61 ).

وقوله سبحانه :

( فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ) ( النساء / 90 ).

ومن المعلوم أنّ الصلح المذكور في الآية الاُولى هو التعايش السلمي وليس الإستسلام والتسليم للظلم والعدوان.

إنّ للملاحظ والمتتبّع لهذه الآيات التي تدور حول الجهاد والقتال من قريب

ص: 488

أو بعيد أن يتساءل :

إذا كان الإسلام ينشد الصلح والتعايش السلمي مع الطوائف وأهل الملل الاُخرى ، كما تشهد بذلك الطائفة الخامسة ، وإذا كان الإسلام يحترم العقيدة الاُخرى ، ويمنع من إكراه أحد على تقبّل الإسلام واعتناقه كما تشهد على ذلك الطائفة الرابعة ... فكيف يمكن تفسير الآيات الحاثّة على القتال والمحاربة ؟

إنّ ملاحظة مجموع الآيات من الطوائف الخمسة تهدينا إلى الجواب الصحيح.

فإنّ القتال - بملاحظة الطائفة الثانية والثالثة - إنّما شرع لأجل الدفاع ، وهذا الدفاع ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

1 - الدفاع عن النفس فرداً أو شعباً.

2 - الدفاع عن الغير ( أي المستضعفين والمضطهدين ) فرداً أو شعباً أيضاً.

3 - الدفاع عن القيم الإنسانيّة ، وهو يتحقّق بالجهاد ضد الحاكم المستبد المانع عن نفوذ الدعوة الإسلامية.

توضيحه : إذا كان الحاكم مستبدّاً مانعاً عن نفوذ دعوة الأنبياء والأولياء وملهيّاً لشعبه عن التوجّه إلى القيم الرفيعة التي جاء بها الأنبياء ، ودافعاً لهم نحو العقائد الخرافية التي تعتبر سدّاً أمام السعادة الإنسانية ، فعند ذلك يجب النضال ضد هذا الحاكم ونظامه لأمرين :

1 - إنّ الحاكم المستبد ظالم في نظامه ، ومعتد على حقوق الشعب حيث سلب عنهم الحقوق الطبيعية وهي الحرّية في الدعوة والاستماع إليها ، فعند ذلك يكون القتال معه قتالاً مع الظالم المعتدي.

2 - إنّ الدفاع عن النفس والمال والشعب وما يرتبط به يعدّ جميلاً عند شعوب العالم. غير أنّ الملاك في كونه جميلاً إنّما هو لأجل كونه دفاعاً عن الحق والحقيقة ، والدفاع عن الحريّة دفاع عن الحق ، فالحاكم المستبد السالب للحريّة

ص: 489

عن الأنبياء والشعوب يضاد عمله الحق والحقيقة فيحسن قتاله ، ومحاربته لأجل تحكيم الحق ونصرته.

ومن هنا يكون الجهاد التحريري في حقيقته جهاداً دفاعياً. لأنّ ذلك الجهاد إنّما هو لأجل إنقاذ المستضعفين الذين تعرّضوا لعدوان وظلم الظالمين أو لأجل إنقاذ القيم والحقوق والمثل الإنسانية التي وقعت عرضة لمزاحمة المستكبرين والحكام المستبدّين ، فأقاموا العراقيل في وجه الدعوة الإسلامية وسلبوا الناس حريتهم في اختيار العقيدة التي يريدونها.

وبهذا تبيّن أنّ الجهاد بأقسامه المختلفة جهاد دفاعي جوهراً ، وإن كان ينقسم حسب الإصطلاح الفقهي إلى الدفاعي والإبتدائي.

وهاهنا نكتة نلفت إليها نظر القارئ الكريم وهي أنّ الآيات الاُولى التي نزلت في تشريع الجهاد تدلّ بأوضح الوجوه إلى أنّ الدافع إلى تشريع الجهاد هو الدفاع عن المسلمين وحقوقهم ولم يشرّع لأجل التجاوز والاعتداء على حقوق الآخرين ، وإليك الآيات :

( إِنَّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ * أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) ( الحج / 38 - 41 ).

وإليك هذه الدلالات :

1 - قوله سبحانه : ( لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ) يدلّ بوضوح إلى أنّ الكافر المقاتل خائن ، وكل خائن معتد يجب محاربته.

ص: 490

2 - قوله سبحانه : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ ) يدلّ على أنّ المأذون في القتال مقاتَل ( بالفتح ) لا مقاتِل ( بالكسر ) فليس المسلم هو البادئ بالقتال بل الكافر هو البادئ ، فعند ذلك يعدّ قتال المسلم دفاعاً.

3 - قوله سبحانه : ( بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ) يدلّ بوضوح على أنّ القتال لأجل رفع الظلم.

4 - قوله سبحانه : ( أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ ) يدلّ على كونهم مشرّدين من ديارهم بغير سبب وأي ظلم أعظم من إبعاد الإنسان عن موطنه ؟!

5 - قوله سبحانه : ( وَلَوْلا دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ ... ) يدلّ على أنّ الكافر لو ترك بحاله لهدّم البيوت المقدّسة وأماكن العبادة التي بنيت لعبادة اللّه سبحانه وتربية الناس وتزكيتهم ، فيجب قتاله حتى لا يرتكب تلك الجريمة الأثيمة.

6 - قوله سبحانه : ( الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ ... ) يشير إلى أنّ الغاية من تمكين المسلمين في الأرض هو إحياء المثل الإنسانية وهي عبارة عن إقامة الصلاة التي هي رمز لصلة الإنسان باللّه سبحانه ، وإيتاء الزكاة التي هي رمز للتعاون الإنساني ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهما كناية عن إقامة النظام الصحيح والنضال ضد كل نظام فاسد.

* * *

وقد تجلّت في ضوء هذا البحث حقيقة ناصعة هي من احدى الحقائق القرآنية وهي أنّ تشريع الجهاد الإبتدائي أو التحريري لم يكن لأجل الاعتداء على حقوق الإنسان ، بل كان لأجل الدفاع عن حقوق المستضعفين ، وغيرهم.

ولمّا بلغ الكلام إلى هنا ، نرى أن نخوض في فلسفة الجهاد الإسلامي بصورتيه : الدفاعي والإبتدائي والدوافع إلى تشريعه وما يجب على المجاهد من رعاية اُصول وقيم في الجهاد. وهذا بحث مستقل أتينا به لمناسبة خاصّة.

ص: 491

(12) الجهاد في الإسلام دفاعيّاً أو تحريريّاً

اشارة

يعتبر الجهاد في منطق الدين الإسلامي وسيلة إلى بقاء الدين ، وإستمرار وجوده ، بل وبقاء الاُمّة الإسلاميّة وصيانة كيانها من السقوط والانهيار ولابد للوقوف على هذه الحقيقة من تقديم مقدمة ضرورية ، فنقول :

الجهاد ضرورة حياتية

عندما نطالع حياة الموجودات الحيّة نجد أنّها تقوم بثلاثة نشاطات تضمن بقاءها وحياتها.

وهذه النشاطات هي :

أوّلاً : التنفّس وجذب الغذاء المناسب.

ثانياً : التوالد والتكاثر ، وهي صفة كلّ خليّة من خلايا الكائنات الحيّة.

ثالثاً : دفع الموانع ، ودفع المزاحم وطرد المواد الزائدة ، والمضرّة.

إنّ حياة كل كائن حي ملازمة لهذه النشاطات الثلاثة ، بل ومدينة لها ، فلا تخلو عنها ولا تفارقها.

ولمّا كان الإسلام ظاهرة حياتية - وإن لم تكن ظاهرة ماديّة بل ظاهرة إلهية - فإنّه لا يخلو بدوره عن هذه النشاطات والفعاليّات الثلاث ولا يستغني عنها.

ص: 492

فالدين الإسلامي بحاجة - في بقائه ، واستمرار حياته ووجوده - إلى هذه الاُمور الثلاثة ، وأخصّ بالذكر الأمر الثالث.

فإنّ الإسلام ، لكونه رسالة إلهية منزلة لهداية البشريّة ، يسعى إلى تغيير العادات والتقاليد البالية ، والأوضاع الفاسدة والنظم الباطلة ... ولذلك من الطبيعي أن يواجه معارضة من يخالف هذا التغيير مصالحهم ، ويتعارض مع أهدافهم ومطامعهم ... وعندئذٍ يجب على هذا الدين أن يقوم بدفع هذه الموانع ويكتسح تلكم الحواجز ، ليمضي قدماً في اداء رسالته ، وتحقيق أهدافه.

إنّ هناك فرقاً واضحاً بين ( المذهب الفلسفي ) و ( الدين الإلهي ).

فالفيلسوف ، يكتفي ببحث الاُمور الفلسفية لمجرّد التوضيح ، أو النقد وينشر أفكاره وتحليلاته بين الناس ليقفوا عليها ويعرفوها دون أن يرى إلزامهم بشيء منها.

فهو لا يهمّه سوى طرح أفكاره والدفاع عنها بقاطع البرهان ، وواضح الدليل.

وأمّا ( الدين الإلهي ) فليس مذهباً فلسفيّاً ليكتفي بمجرّد البيان والتوضيح ويحصر همّته في النقد والإشكال إنّما هو ثورة إصلاحية ، وعملية تغييريّة تهدف إلى إقامة نظام صالح عادل فوق رُكام الأنظمة الفاسدة ، والأوضاع المنحطّة.

وبديهي أنّه لا يتحقّق ذلك دون مواجهة الموانع ، وقيام الصراعات والحروب ، مع الجهات والقوى المعارضة لهذا التغيير.

فهل في العالم حركة تغييريّة إستطاعت تحقيق أهدافها دون خوض الصراعات الحامية ، ودون نشوب الحروب وسقوط الضحايا ، أو إراقة محجمة دم ؟

فهل إستطاعت ( الثورة الفرنسية ) أن تتجنّب إراقة الدماء ؟

وهل نجحت ( الثورة الروسية ) إلاّ بعد سقوط الملايين من القتلى ؟

وهل حقّقت ( الثوره الهندية ) أهدافها إلاّ عبر المئات من القرابين البشرية ؟

نعم إنّ ما يفترق به ( الجهاد الإسلامي ) عن الحروب الاُخرى التي تفرضها

ص: 493

الحركات التغييريّة الاُخرى هو : تجنّب الإسلام عن الحروب ، وإراقه الدماء قدر الإمكان ، والقيام بذلك من باب الضرورة وفي حدود الإنسانية والرحمة.

هذا مضافاً إلى بقيّة الفوارق التي تتجسّد في أحكام ( الجهاد الإسلامي ) كما سيأتي تفصيلها.

وصفوة القول : إنّ أيّة ثورة إصلاحية وحركة تغييريّة تتطلّب - بحكم الضرورة - هذه المواجهات الساخنة ، دفعاً للمزاحم ودفعاً للموانع والحواجز ، وإلاّ ماتت هذه الثورة في المهد ، كما تموت الخليّة الحيّة إذا تركت ذلك.

ولهذا وصفه القرآن بأنّه وسيلة للحياة والبقاء والإستمرار إذ قال :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) ( الأنفال / 24 ).

وبعبارة واضحة ، إنّ الإسلام نظام إجتماعي ثوري ، لم ير العالم نظيره قط ، فهو بما أنّه رسالة إلهية ، تضمن سعادة البشر ، يرى لنفسه حق التوسعة والتعميم.

ولأجل ذلك يسعى لرفع الموانع والحوجز بأسهل الطرق وأعدلها.

فيبتدئ بالتبلييغ والتعليم والبحث والمجادلة والتوجيه والإرشاد ، فإذا رأى أنّ المانع لا يرتفع إلاّ بقوّة قاهرة يسعى لرفع الموانع بتلك القوّة ، وإليه يشير قوله سبحانه :

( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ ) ( البقرة / 190 ).

وليس هذا يختصّ بالدين الإسلامي بل كان هذا هو طريق الأنبياء ومنهاجهم في الدعوة إلى طريق الحق. وفي ذلك يقول سبحانه :

( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ) ( الحديد / 25 ).

ص: 494

والكتاب والميزان إشارة إلى أنّهم كانوا يتوسّلون في بدء الأمر بأسهل الطرق ، وهو تنوير الأفكار وإقناعها بمنطق العقل.

وأمّا إذا رأوا أنّ ذلك المنطق لا يجدي في رفع الموانع يتوسّلون بمنطق القوّة ، فالحديد في الآية كناية عن ذلك المنطق ، وحياة الأنبياء وتاريخهم خير شاهد على ذلك.

وها هنا نقطة اُخرى نلفت نظر القارئ الكريم إليها ، وهي : إنّ الإسلام يريد أن يعمّم العدالة الإجتماعية في جميع مناحي الحياة.

ومن الطبيعي أنّ كل ثورة - من هذا القبيل - لا تضمن منافع جميع الطبقات بل ربّما تكون مضرّة بمصالح البعض كالطغاة والمستثمرين والمترفين ، ولأجل ذلك كان المترفون يعارضون كل حركة إصلاحية إلهية ويصدّون عن وجه الحق. كما قال القرآن :

( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ) ( سبأ / 34 ).

ولأجل ذلك يجب على صاحب الرسالة التوسّل بمنطق القوّة ( حين لا تجدي قوّة المنطق ) في رفع الحواجز والموانع ، والتخلّص ممّن يسد طريق الحق والعدالة.

هذا وأشباهه تمثّل فلسفة الجهاد الإسلامي وتشريعه لنوعين من الجهاد ( الدفاعي والتحريري ) ، وخصائصهما ، وأحكامهما : على نحو الإيجاز والإجمال.

الجهاد الدفاعي

والمراد من هذا الجهاد هو مقاتلة الأعداء المعتدين ، دفاعاً عن النفس ، والمال ، وذبّاً عن الوطن والحرية ، وذوداً عن الشرف والإستقلال.

إنّ الدفاع المذكور على قسمين :

ص: 495

أوّلاً : الدفاع عن حوزة الإسلام.

ثانياً : الدفاع عن النفس والمال وما شابههما وأمّا البحث عن القسم الثاني فموكول إلى الكتب الفقهية المعدّة لتفصيل ذلك. ( راجع شرائع الإسلام الباب السادس في حدود المحارب من كتاب الحدود والتعزيرات ، تجد فيه فروع وتفاصيل هذا المبحث ).

وأمّا القسم الأوّل فمنه ما إذا غشى بلاد المسلمين أو ثغورها عدوّ يخشى منه على بيضة الإسلام ومجتمع المسلمين ، فيجب عليهم الدفاع بأيّة وسيلة ممكنة من بذل الأموال والنفوس.

ولو خيف من زيادة الإستيلاء على بلاد المسلمين وتوسعة ذلك ، وأخذ بلادهم ، أو أسرهم ، وجب الدفاع بأيّة وسيلة ممكنة ، كما لو خيف على حوزة الإسلام من الإستيلاء السياسي ، والإقتصادي المنجرّ إلى أسرهم السياسي والإقتصادي ، ووهن الإسلام والمسلمين وضعفهم يجب الدفاع بالوسائل المشابهة والمقاومة السلبية المتنوّعة ، فرض الحصار الإقتصادي على أمتعتهم وبضائعهم وترك استعمالها وترك المعاملة والمراودة معهم مطلقاً ، إلى غير ذلك من أنواع المقاومة التي تختلف مع إختلاف نوع الإستيلاء ، وإختلاف الظروف والمقتضيات.

هذا وقد وردت حول الدفاع عن النفس روايات وأحاديث منها :

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من قتل دون ماله فهو شهيد ».

وقال صلی اللّه علیه و آله : « يبغض اللّه تعالى رجلاً يدخل عليه في بيته فلا يقاتل ».

وقال صلی اللّه علیه و آله : « من قتل دون مظلمته فهو شهيد » (1).

وعلى كل تقدير فالجهاد الدفاعي جهاد شرّعه الإسلام عندما تتعرّض الاُمّة

ص: 496


1- راجع وسائل الشيعة ج 11 ص 91 - 92 ، وقد وردت روايات مماثلة في المقام عن أهل البيت تركناها اختصاراً.

الإسلامية لمهاجمة الأعداء ، وعدوانهم وتصبح غرضاً لأطماعهم ومؤامراتهم.

وهذا ممّا تقتضيه طبيعة الحياة ، وتحكم به الفطرة ، ويحكم بحسنه وضرورته العقل السليم ، كما تؤيّده كافّة المدارس والمذاهب الحقوقية والسياسية والإجتماعية.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الجهة الموجبة للجهاد والقتال بقوله :

( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ) ( البقرة / 190 ).

وقوله سبحانه :

( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) ( الحج / 39 - 40 ).

وعلى هذا الأساس كانت أغلب الحروب والغزوات التي قام بها النبي صلی اللّه علیه و آله ووقعت في حياته.

فهي كانت حروباً دفاعية قام بها المسلمون بقيادة النبي صلی اللّه علیه و آله وأمره ، دفاعاً عن حوزة الدين ، وحياة المسلمين.

فإنّ غزوات بدر واُحد والأحزاب ، إلى آخر الغزوات والحروب كانت لدفع الحملات التي كان يقوم بها الأعداء ضد المسلمين.

كما أنّ ( السرايا ) التي بعثها النبي صلی اللّه علیه و آله كانت لأجل إطفاء نيران الفتن وإحباط المؤامرات التي كان يشعلها ويحيكها أعداء الإسلام في أنحاء الجزيرة العربية للقضاء على الدين الجديد ، واستئصال جذوره وهدم بنيانه.

* * *

ص: 497

خصائص الجهاد الدفاعي

اشارة

إنّ للجهاد الدفاعي في الإسلام حدوداً وأحكاماً تميّزه عن الحروب التي يقوم بها الآخرون في عالمنا المعاصر.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الخصائص - في آية واحدة - إذ قال سبحانه :

( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ ) ( البقرة / 190 ).

والخصائص التي ذكرتها هذه الآية هي باختصار :

أ - كون الجهاد في سبيل اللّه ( الهدف )

إنّ الجهاد والقتال يجب أن يكون لله تعالى ، ولكسب رضاه سبحانه ، لا لتوسيع السيطرة ، ونشر النفوذ ، وضم بلد إلى بلد.

وهذا هو أهم خصائص الجهاد الإسلامي.

نظراً لأهميّتها القصوى أكّد عليها القرآن الكريم في آيات متعدّدة ، واعتبره الفرق الجوهري بين الحرب الإسلامية والحرب غير الإسلامية ، وبين الجهاد الذي يقوم به المسلمون ، والقتال الذي تمارسه دول العالم ، والجماعات غير المسلمة المؤمنة ، إذ يقول :

( الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ ) ( النساء / 76 ).

ولأجل ذلك يذمّ اللّه سبحانه كل قتال أو قيام يراد به التسلّط على حطام الدنيا ومتاعها ويقول سبحانه :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ) ( النساء / 94 ).

ص: 498

ويقول سبحانه :

( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( الأنفال / 67 ).

ويقول سبحانه :

( لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) ( التوبة / 42 ).

ب - القتال ضدّ المعتدي

إنّ القتال لا يجوز إلاّ ضدّ الذين يقاتلون المسلمين ، ويبدأونهم بعدوان.

وهو شرط في هذا النوع من الجهاد دون الجهاد التحريري ، الذي سيوافيك تفصيله.

فالقتال أساساً شرع لصد العدوان ورد المعتدي ، وإيقاف المتجاوز عند حدّه ، ولهذا يأمر الإسلام أتباعه أن يكفّوا عن القتال إذا فعل العدو ذلك :

قال سبحانه :

( ... فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ) ( النساء / 90 ).

ويقول في آية لاحقة :

( ... فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ) ( النساء / 91 ).

على أنّ الجهاد الدفاعي ربّما يشرع أيضاً عندما يقوم العدو بنكث المواثيق ، ونقض المعاهدات ، وتعريض السلام المتّفق عليه للخطر ، أو يقوم بطرد الشخصيات الإسلامية من مواطنهم ، وتشريدهم ظلماً وعدواناً.

ص: 499

فمن الأوّل يقول سبحانه :

( وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ) ( التوبة / 12 ).

وفي آية لاحقة يشير سبحانه إلى الأمر الثاني إذ يقول :

( أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ( التوبة / 13 ).

كما ويندرج تحت هذا مكافحة الإستعمار بكلّ أشكاله وألوانه ... التي سيوافيك تفصيل الكلام منها عند بيان السياسة الخارجية للحكومة الإسلامية.

ج - حد الجهاد وإطاره

إنّ القتال يجب أن يكون في إطار الحق والعدل ولا يتجاوز حدودهما. وهو شرط مشترك بين الدفاعي والتحريري ولمّا كان الإسلام دين الحق والعدل فإنّه أكّد على هذا الشرط أشد وأبلغ تأكيد ، وصرّح - مثلاً - بأنّ القتال والعدوان يجب أن يماثل العدوان الواقع على المسلمين ولا يتجاوز مقداره ، وإلاّ عاد انتقاماً وخروجاً عن سنّة العدل فقال - في نفس الآية - :

( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ المُتَّقِينَ ) ( البقرة / 194 ).

والجدير بالذكر أنّ إرداف الأمر بالجهاد بالحثّ على التقوى يوحي بضرورة وجود صفة التقوى ، وتقارنه مع الجهاد منعاً من تجاوز الحق والعدل.

فإنّ المقاتل غالباً تدفعه سورة الغضب إلى ارتكاب الجرائم والتعدّي عن الحق إلاّ من خاف اللّه تعالى.

وقد أشار القرآن إلى ضرورة رعاية العدل والتقوى في جميع الأحوال بصورة

ص: 500

عامّة فقال سبحانه :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( المائدة / 8 ).

هذا وقد دلّت - على تشريع هذا الجهاد - مضافاً إلى ما ذكر من الآيات ، أحاديث وروايات متضافرة نأتي ببعضها :

قال الإمام علي علیه السلام :

« الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه اللّه لخاصّة أوليائه ...

هو لباس التقوى ودرع اللّه الحصينة ، وجنّته الوثيقة » (1).

وقال الإمام أبو جعفر الباقر علیه السلام :

« الجهاد الذي فضّله اللّه على الأعمال وفضّل عامله على العمال تفضيلاً في الدرجات والمغفرة لأنّه ظهر به الدين ، وبه يدفع عن الدين » (2).

إلى غير ذلك من الأحاديث المذكورة في المصادر المعتبرة.

ثمّ إنّ من يجب جهادهم على نحو الدفاع ثلاث طوائف :

1 - البغاة على الإمام من المسلمين ، كالخوارج الذين خرجوا على الإمام علي علیه السلام مثلاً.

2 - أهل الذمّة ، وهم اليهود والنصارى والمجوس إذا أخلّوا بشرائط الذمّة.

3 - من ليس لهم كتاب إذا قاموا بمؤامرة ضد المسلمين.

ص: 501


1- نهج البلاغة الخطبة 27.
2- في هذا الحديث إشارة إلى كلا النوعين من الجهاد ( الدفاعي والتحريري ) فقوله علیه السلام : لأنّه ظهر به الدين ، إشارة إلى الثاني ، وقوله علیه السلام : وبه يدفع عن الدين ، إشارة إلى الأوّل.

هذه هي لمحة خاطفة عن حقيقة الجهاد الدفاعي ودوافعه وخصائصه ، وأمّا معرفة مسائله وفروعه وأحكامه التفصيليّة فمتروكة إلى الكتب الفقهية المفصّلة (1).

* * *

الجهاد التحريري ( الإبتدائي )

اشارة

لقد شرع الإسلام - إلى جانب الجهاد الدفاعي - نوعاً آخر من الجهاد ، هو الجهاد الإبتدائي الذي يجدر أن يسمّى بالجهاد التحريري.

وتتلخّص دوافع هذا النوع من الجهاد في اُمور عديدة نشير إلى ثلاثة منها ، تاركين للقارئ الكريم مراجعة الكتب الفقهية المطوّلة المفصّلة لمعرفة بقيّة هذه الدوافع ، والأسباب.

1 - تحرير البشريه من الشرك

اشارة

إنّ أهم دوافع الجهاد التحريري هو محاربة الوثنيّة والشرك ، وتحرير البشريّة من إتّخاذ أي معبود سوى اللّه.

فالإسلام يأمر بعبادة اللّه وحده ، وينهي عن اتّخاذ أي معبود سواه.

يقول اللّه سبحانه :

( وَلا تَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ) ( القصص / 88 ).

وهي حقيقة تدركها الفطرة البشرية السليمة ولكن هذه الفطرة قد تنحرف وتحيد عن مسيرها الصحيح بفعل المؤثّرات والدعايات وتضليل المضلّلين.

وهنا يفرض الدين على أتباعه أن يجاهدوا لتحرير العقول من قيودها ، وتخليص الفطرة الإنسانية المنحرفة من براثن الوثنيّة بكل وسيلة ممكنة.

ص: 502


1- شرائع الإسلام ، كتاب الجهاد ، الركن الثاني - مع شروح ه.

وليس هذا ممّا يخالف حرية الإنسان في اتّخاذ المعتقد الذي يريد ، لأنّ الحرية ليست مطلوبة على إطلاقها.

ثمّ إنّ تخليص البشرية من براثن الوثنية إنّما هو خدمة للبشرية وإحياء لها ، وإنقاذاً لشخصيّتها من ذلّ الخضوع تجاه الموجودات الحقيرة.

وهذا أمر ضروري حتّى إذا لم يدرك البشر أهمّيته ، أو امتنع من قبوله تمشّياً مع هواه.

فلو أنّ وزارة الصحّة - مثلاً - أرادت تلقيح الناس باللقاح الصحّي ضد مرض داهم ، أو وباء قادم ، لزم على الجميع قبول هذا الأمر ، ولم يكن لأحد الامتناع عن ذلك بحجّة أنّه حرّ لا يجوز إكراهه على شيء.

فلا تسمع منه هذه الحجّة ، ولا يقبل منه هذا الرفض ، حفاظاً على الصحّة العامّة وصيانة للمجتمع من العدوى.

ويعتبر هذا الإكراه والإلزام بهذا الأمر العقلائي رحمة له ، ولطفاً به لا ظلماً وعدواناً.

إنّ عبادة الوثن تجعل عابد الوثن أذل من الصنم الذي نحته بيديه ... وإلى ذلك يشير سبحانه - مستنكراً - : ( أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ) ؟ ( الصافّات / 95 ).

ثمّ إنّ الخضوع للوثن يوجب إنحطاط الفكر الإنساني ووقوعه في الخرافات التي هي بمثابة القيود والأغلال للفكر البشري ، تمنعه عن الانطلاق في مدارج الرقي والتكامل ، وتحجز النفس الإنسانية من نموّ الفضائل والسجايا الخلقية الكريمة.

هذا مضافاً إلى أنّ عبادة الأوثان والأصنام توجد اختلافاً وتحزّباً بين البشر ، وتفرّق وحدته ، وتمزّق صفّه إذ كل جماعة تتّخذ وثناً خاصّاً تعبده وتتمسّك به ، وتنفي سواه ، وفي ذلك ضرر عظيم على حياة البشرية لا يقل عن خطر الطاعون والوباء ، وفي ذلك يقول اللّه حاكياً عن لسان يوسف :

( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( يوسف / 39 ).

ص: 503

ولهذا يرى الإسلام محاربة هذا الوباء الفكري ، واقتلاعه من الجذور.

ومن هنا أقدم الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله عند فتحه « مكّة » على كسر الأصنام الموضوعة في البيت الحرام ، وأمر كل صاحب وثن أن يحطّم وثنه ، وكان صلی اللّه علیه و آله يفعل ذلك كلّما فتح منطقة من مناطق الجزيرة (1).

نعم صحيح انّ للتبليغ والدعوة أثراً لا ينكر في إيقاظ الأفكار ، وفكّها من أسارها ، بيد أنّه أثر محدود لا يعرفه إلاّ الزمر الواعية ، المثقّفة ، القادرة على إستيعاب التوجيهات والمواعظ.

ولأجل ذلك يجب على إمام المسلمين قبل نشوب الحرب بين المسلمين وأعدائهم أن يدعو الكفّار والأعداء إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة ، ويبالغ في إيقاظهم وتوعيتهم ودعوتهم وإتمام الحجّة عليهم.

قال صاحب شرائع الإسلام :

« ولا يبدأون إلاّ بعد الدعاء إلى محاسن الإسلام ويكون الداعي الإمام أو من نصّبه » (2).

وقد دلّت على ذلك من السنّة روايات متضافرة منها ما ورد عن السكوني عن أبي عبد اللّه الصادق علیه السلام : قال : قال أمير المؤمنين علیه السلام :

بعثني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى اليمن فقال : يا علي لا تقاتلنّ أحداً حتّى تدعوه إلى الإسلام ، واللّه لئن يهدينّ اللّه على يديك رجلاً خير لك ممّا طلعت عليه الشمس وغربت ، ولك ولاؤه يا علي » (3).

وعن علي علیه السلام أنّه قال :

ص: 504


1- سيرة ابن هشام ج 2 ص 143.
2- شرائع الإسلام ، كتاب الجهاد ، الركن الثاني.
3- مستدرك الوسائل ج 11 الباب 9 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.

« لا يغزَ قوم حتّى يدعوا » (1).

وعن النبي صلی اللّه علیه و آله أيضاً أنّه قال :

« لا تقاتل الكفّار إلاّ بعد الدعاء » (2).

وقد سئل الإمام زين العابدين علي بن الحسين علیهماالسلام عن كيفيّة الدعوة إلى الدين :

فقال : تقول : « بسم اللّه الرحمن الرحيم - أدعوك إلى اللّه عزّ وجلّ وإلى دينه وجماعه أمران : أحدهما : معرفة اللّه عزّ وجلّ والآخر : العمل برضوانه ، وإنّ معرفة اللّه عزّ وجلّ أن يعرف بالوحدانية والرأفة والرحمة والعزّة ، والعلم والقدرة والعلوّ على كل شيء ، وانّه النافع الضار القاهر لكل شيء الذي لا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ، وانّ محمداً عبده ورسوله ، وإنّ ما جاء به هو الحق من عند اللّه عزّ وجلّ وما سواه هو الباطل ».

فإذا أجابوا إلى ذلك فلهم ما للمسلمين ، وعليهم ما على المسلمين (3).

وعن الإمام الباقر علیه السلام أنّه قال :

« أوّل حدود الجهاد الدعاء إلى طاعة اللّه من طاعة العباد ، وإلى عبادة اللّه من عبادة العباد وإلى ولاية اللّه من ولاية العباد » (4).

بل ولو أنّ أحداً من المشركين إستأمن واراد أن يسمع كلام اللّه اُعطي الأمان ، ثمّ اُعيد إلى مأمنه ، سواء كان قبل نشوب الحرب أو في أثنائه.

قال اللّه سبحانه :

( وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ

ص: 505


1- مستدرك الوسائل ج 11 الباب 9 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 ، 3.
2- مستدرك الوسائل ج 11 الباب 9 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 ، 3.
3- وسائل الشيعة ج 11 ص 31 ، باب كيفية الدعاء إلى الإسلام من أبواب الجهاد.
4- وسائل الشيعة ج 11 ص 7.

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ) ( التوبة / 6 ).

غير أنّ الدعوة والتبليغ ربّما تؤثّر في بعض الأشخاص ولا تؤثّر في آخرين ، خصوصاً إذا كان الدين يهدّد مصالحهم ومطامعهم ولذلك وجبت محاربتهم ... إذ لا يكون الخير والإصلاح حينئذٍ إلاّ بالسيف ، ومنطق القوّة :

وإلى هذا أشار النبي صلی اللّه علیه و آله بقوله :

« الخير كلّه في السيف ، وتحت ظلال السيف ، ولا يقيم الناس إلاّ السيف » (1).

فرض العقيدة ممنوع

قد يتوهّم الجاهل بمعالم الدين الإسلامي وأحكامه انّ الهدف من الجهاد التحريري إنّما هو فرض العقيدة الإسلامية على الناس فرضاً.

ولكن هذا ظنّ واضح البطلان معلوم الضعف لمن له معرفة بطبيعة الدعوة الإسلامية.

فإنّ الإسلام الذي يشجب ويستنكر على بعض الناس اتّباعهم لعقائد آبائهم وأجدادهم الباطلة ، كيف يجوّز لأتباعه أن يحملوا الناس على العقيدة الإسلامية دون أن يسمحوا لهم بأن يفكّروا ويحقّقوا ويفتّشوا عن المعتقد الحق ، ليعتنقوه بالبرهان والدليل ؟

إنّ اعتناق العقيدة أي عقيدة يجب أن يكون حسب نظر الإسلام قائماً على أساس البحث والفحص والتحقيق ومرتكزاً على البرهان والدليل ، ولذلك فهو يقبح اتّباع السلف دون مراجعة لعقائدهم ، وتحقيق في صحّتها أو بطلانها إذ قال سبحانه :

( وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا

ص: 506


1- وسائل الشيعة ج 11 ص 5.

عَلَى أُمَّةٍ ( أي طريقة ) وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ ) ( الزخرف / 23 - 25 ).

وقال سبحانه :

( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ ) ( البقرة / 170 ).

وبتعبير آخر : إنّ الإسلام ذمّ التقليد في الاُصول والعقائد والجري على سنن الآباء والأجداد بلا تأمّل ولا تدبّر ، وطالب بالتفكّر والتعقّل فكيف يأمر أتباعه بأن يفرضوا العقيدة الإسلامية على الآخرين بقوّة النار والحديد.

كيف وقد صرّح بحرية الإعتقاد بقوله سبحانه :

( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) ( البقرة / 256 ).

إنّ القرآن الكريم يصرّح بأنّ الإختلاف الفكري ، والتنافس الأيديولوجي أمر غريزي طبيعي ، ولذلك فهو باق إلى يوم القيامة ولا يمكن إزالته من رأس ، ولا يصحّ إلغاؤه بالمرّة.

قال سبحانه :

( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) ( هود / 118 ).

إنّ القرآن الكريم ينهي الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله عن فرض العقيدة الإسلامية على الناس لأنّ اللّه شاء لهم أن يكونوا أحراراً في ذلك وهو في الوقت نفسه يعطينا درساً في مجال التبليغ والدعوة يجب أن نسير على ضوئه ، فيقول :

( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) ( يونس / 99 ).

ص: 507

إذن فلم يكن الجهاد التحريري في مجال ( تحرير البشرية من الشرك ) بفرض العقيدة على الناس أو حملهم على الخضوع لمنهج الدين دون اختيار منهم أو إرادة حرّة ، بل هناك دواع وعلل للجهاد التحريري وهي التي نتلوها عليك.

2 - كسر الموانع المفروضة على الشعوب

إنّ هناك داعياً آخر لتشريع عنوان الجهاد التحريري وهو وضع الاغلاق المفروضة على الشعوب ، وإسقاط الحكومات التي تمنع من وصول الإسلام إلى الناس وتقيم سدوداً بينهم وبين العقيدة الحقّة وتسلب حريّاتهم ، وتكرههم على اتّخاذ عقيدة خاصّة ، والمشي على حسب منهج خاص وإن كانوا لا يرتضونه.

وبهذا يكون الجهاد التحريري لرفع الموانع والحواجز المانعة عن وصول العقيدة الحقّة إلى الناس ، وتحرير هم من تلك القيود حتى يمكنهم اختيار الدين الإسلامي بعد الاطّلاع على محاسنه ، وتبليغ معالمه إليهم.

3 - تخليص المستضعفين من الظالمين :

إنّ الهدف الثالث من أهداف الجهاد التحريري هو إنقاذ الشعوب من اضطهاد الحكّام الجائرين ، واستبدادهم وظلمهم.

فهو إذن شُرّع لتحرير المستضعفين وتخليصهم من عسف الحكّام ، وكبتهم ، وحيث إنّ هذا الهدف لا يتحقّق إلاّ باستخدام القوّة وحمل السلاح والمقاتلة والغزو إتّخذ الإسلام طريق الجهاد ، فقال القرآن الكريم :

( وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ) ( النساء / 75 ).

ص: 508

وقد وردت الإشارة إلى هذا الهدف في تصريحات بعض المسلمين الذين خرجوا لفتح البلاد وإنقاذ المستضعفين من حكّامهم الجائرين قال : إنّ سعد بن أبي وقاص أرسل ربعي بن عامر ليكلّم قائد القوات الفارسية فلمّا دنا من « رستم » جلس على الارض وركّز رمحه على البسط فقال له : ما حملك على هذا ؟ قال : إنّا لا نستحب القعود على زينتكم ، فقال له ترجمان رستم واسمه « عبود » من أهل الحيرة : ما جاء بكم ؟ قال : اللّه جاء بنا وهو بعثنا لنخرج من يشاء من عباده من ضيق الدنيا الى سعتها ، ومن جور الأديان الى عدل الاسلام فأرسلنا بدينه الى خلقه ، فمن قبله قبلنا منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه دوننا ، ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنّة أو الظفر (1).

إذن لم يكن تشريع هذا الجهاد لفرض الاستيلاء على الأ راضي ، أو بهدف السيطرة على منابع الثروة ، أو استعمار الشعوب كما هو هدف الحروب غير الإسلامية في الماضي والحاضر.

كما أنّ الإسلام ينهي عن العدوان لبعض الأسباب التي تعود إلى المسائل الشخصية ، والقضايا الفردية ، التي لا تنطوي على مصلحة الإسلام والمسلمين الكلّية ... ، وفي هذا الصدد يقول القرآن الكريم :

( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ) ( المائدة / 2 ).

وبما أنّ الجهاد التحريري ينطوي على أحكام دقيقة ، وظرفية ، لا يعرفها إلاّ الإمام العادل العارف بالدين ، والعالم بالظروف لم يجز أن يقوم المسلمون بهذا الجهاد إلاّ بقيادة ( إمام معصوم ) أو من ينوب منابه في السلطة الدينية والزمنية ، نعم في مشروعية الجهاد التحريري في غياب الإمام المعصوم بحث مفصّل ، فلاحظ الكتب الفقهية.

ص: 509


1- الكامل لابن الأثير ج 2 ص 320 حوادث عام 14 من الهجرة النبوية.

وإلى هذا أشار الإمام الصادق علیه السلام بقوله :

« والجهاد واجب مع إمام عادل » (1).

نعم هناك كلمة أخيرة على هامش كلا الجهادين وهي :

إنّه يجب على الدولة الإسلامية - قبل نشوب أيّة حرب - إعداد المسلمين وتجهيزهم بكل ما تستطيع من أنواع القوّة الحربية في كل زمان بحسبه ، على أن يكون القصد الأوّل من ذلك هو إرهاب العدو ، وإخافته من عاقبة التعدّي على بلاد الاُمَّة الإسلامية أو مصالحها ، أو على أفراد منها ، أو متاع لها حتى في غير بلادها ، لأجل أن تكون آمنة في عقر دارها مطمئنّة على أهلها ومصالحها وأموالها ، ولكي تحظى بالإحترام اللائق بها في الساحة الدولية ، إذ يقول القرآن الكريم :

( وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ ) ( الأنفال / 60 ).

ويبقى أن نقول : إنّ القتال والنضال بما هو هو ليس أمراً قبيحاً وإنّما يصطبغ بالحسن أو القبح بالغايات المحدّدة للقتال والنضال.

فلو كان القتال والنضال بهدف الاعتداء والتجاوز على النفوس والأعراض والأموال والحرمات فيكون القتال أمراً منكراً ، ويعد وحشيّة همجيّة ، ويكون المباشر له حيواناً ضارياً تلبّس بالإنسانية.

وإذا كان القتال لحفظ الشرف والإنسانية ومنع المعتدين عن الإعتداء ، وغير ذلك من الأهداف المشروعة المذكورة سلفاً ، فلا يكون قبيحاً بل يعتبر وظيفة إنسانية.

هذه دراسة عابرة عن الجهاد التحريري حقيقة وأهدافاً وفلسفة ، والتفصيل موكول إلى محلّه في الكتب الفقهية المفصّلة. وأمّا الأدب فإليك البيان.

ص: 510


1- وسائل الشيعة ج 11 ص 35.

رعاية الأخلاق في الحرب

اشارة

إنّ وقائع الحروب تشهد بأنّ الجبابرة والطواغيت ينسون - عند نشوب الحروب - كل القيم الإنسانية ، والاُصول الأخلاقية ، فيرتكبون كل جريمة ، ويقترفون كل جناية دون أن يردعهم عن ذلك رادع ، أو يتقيّدوا في القتال بقانون.

وليس هذا أمر يتّصل بالماضي ، فساحات المعارك اليوم ، وما تشهده من فظائع ، خير دليل على ما ذكرناه.

صحيح أنّ هناك أعرافاً دولية ، وقوانين عالمية للحروب ، ولكن من الصحيح أيضاً انّ رعاية هذه القوانين والأعراف ضئيلة ، أو كادت أن تكون مفقودة أصلاً.

هذا مضافاً إلى أنّ هذه القوانين والأعراف لا تكون - في الأغلب - شاملة ، أو كافية.

غير أنّ الإسلام سنّ للحرب والقتال حدوداً دقيقة من شأنها أن تجعل الحرب في إطار الأخلاق والقواعد الإنسانية ولم يكتف بمجرّد تشريعها ووضعها ، بل عمل بها في كافة حروبه ووقائعه.

من هنا يجب علينا أن نقف على هذه الحدود ، لنتعرّف على مدى رحمة الإسلام وإنسانيّته ، وعدالته ، حتى في الحروب حيث يفقد المقاتلون توازنهم عادة ، فلا يتورّعون عن ارتكاب كل كبيرة وصغيرة ، وتشهد على ذلك الحروب العالمية وخاصّة ( الاُولى والثانية ) ، وكذا الحروب التي شنها الغرب على الشرق في مختلف المناطق في القرن الحاضر ، ونخصّ بالذكر المعارك الدامية بين الإستعمار الفرنسي ، والشعب الجزائري البطل ، والإستعمار الأمريكي والشعب الفيتنامي ، والإستعمار الإسرائيلي والشعب الفلسطيني ، وما جرى في هذه الحروب من الممارسات الوحشية المروّعة على يد هذه القوى الإستعمارية.

ص: 511

1 - الآمنون في الحرب

لمّا كانت العدالة الإجتماعية هي المطلب الأقصى للإسلام ، ولم تكن للحرب أصالة في منطقة ، ولم تكن بنفسها هدفاً بل شرعت لدفع المعتدين وإزالتهم عن طريق الدعوة الحقّة ، اقتضى ذلك كلّه أن لا يهاجم إلاّ على الظالمين ولذا قال القرآن الكريم :

( فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ) ( البقرة / 193 ).

ولأجل ذلك نهى الإسلام عن قتل طائفة من الناس إذا لم يكونوا يساندون الأعداء الظالمين ولا يقاتلون ، وهؤلاء هم :

1 - النساء.

2 - الولدان.

3 - المجانين.

4 - الأعمى.

5 - الشيخ الفاني.

6 - المقعد.

وقد دلّت على ذلك أحاديث متضافرة منها ما عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال :

« نهى رسول اللّه عن قتل المقعد والأعمى والشيخ الفاني والمرأة والولدان في دار الحرب » (1).

2 - تمالك النفس

لا ريب أنّ الحرب سبب قوي لغليان المشاعر وارتفاع سورة الغضب إلى

ص: 512


1- فروع الكافي ج 5 ص 28 ح 6.

أقصاه ولهذا ربّما يؤدّي إلى ارتكاب أقسى ألوان الجريمة في حقّ الخصم.

ومن هنا يجب أن يعطى زمام الحرب للعقل لا للمشاعر الملتهبة ، والأحاسيس المشتعلة.

ولقد أعطى النبي صلی اللّه علیه و آله تعاليم كلّية في الحرب ، كان يوصي بها كل جيش يبعثه ، وكل سرية يرسلها.

وإليك فيما يأتي نموذجاً من الأحاديث التي أدّب فيها النبي صلی اللّه علیه و آله أو الإمام المجاهدين والمقاتلين بآداب ، وتعاليم خاصة ، تكفل إنسانية الحروب وعدالتها.

عن الإمام أبي عبد اللّه الصادق علیه السلام أنّه قال :

« كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه ، ثم يقول :

سيروا بسم اللّه وباللّه وفي سبيل اللّه وعلى ملّة رسول اللّه ، لا تغلوا ، ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبيّاً ولا امرأة ، ولا تقطعوا شجراً إلاّ أن تضطرّوا إليها.

وأيّما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى أحد من المشركين فهو جار ، حتّى يسمع كلام اللّه فإن تبعكم ، فأخوكم في الدين ، وإن أبى فابلغوه مأمنه ، واستعينوا باللّه » (1).

وعنه علیه السلام أيضاً أنّه قال :

إنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان إذا بعث أميراً له على سرية أمره بتقوى اللّه عزّ وجل في خاصّة نفسه ، ثمّ في أصحابه عامّة ، ثم يقول :

اُغز باسم اللّه ، وفي سبيل اللّه ، قاتلوا من كفر باللّه ، لا تغدروا ، ولا تغلوا ، ولا تمثّلوا ، ولا تقتلوا وليداً ، ولا متبتّلاً في شاهق ، ولا تحرقوا النخل ولا تغرقوه بالماء ،

ص: 513


1- وسائل الشيعة ج 11 ص 43.

ولا تقطعوا شجرة مثمرة ، ولا تحرقوا زرعاً لأنّكم لا تدرون لعلّكم تحتاجون إليه. ولا تعقروا من البهائم ما يؤكل لحمه إلاّ ما لابدّ لكم من أكله ، وإذا لقيتم عدوّاً للمسلمين فادعوهم ... الخ الحديث » (1).

بل ونص بعض الفقهاء على أنّ المرأة لا تقتل حتّى لو كانت تعاون الأعداء ، لأنّ النساء مستضعفات غالباً ، وهنّ يرغمن على القيام بمثل هذا التعاون إرغاماً.

قال المحقّق الحلّي في المختصر النافع :

« ولا تقتل نساؤهم ولو عاون إلاّ مع الإضطرار » (2).

وهذا يجسّد منتهى الرحمة والإنسانية التي يتحلّى بها الدين الإسلامي.

وقد جاء في غزوة بدر انّ عمر بن الخطاب قال لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

يا رسول اللّه دعني أنزع ( أقلع ) ثنيّتي سهيل بن عمرو ، ويدلع لسانه ( وكان سهيل خطيباً يهرّج ضد النبي ) فلا يقوم عليك خطيباً في موطن أبداً.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« لا اُمثّل به فيمثّل اللّه بي وإن كنت نبيّاً » (3).

إنّ المقارنة بين هذه التعاليم والمواقف الإسلامية والجنايات والجرائم الوحشية التي ارتكبتها الدول الكبرى في مستعمراتها كالجزائر وفيتنام وغيرهما ، توقفنا على إنسانيّة الدين الإسلامي ورحمته في الحرب.

ص: 514


1- وسائل الشيعة ج 11 ص 44.
2- المختصر النافع ، كتاب الجهاد ص 112 طبع القاهرة.
3- سيرة ابن هشام ج 2 ص 642.

3 - منع ممارسة الأساليب الوحشية

إنّ الإسلام يحرّم إهلاك العدو بالطرق غير الإنسانية مثل إلقاء السم في الماء أو قطعه عنهم ، أو إرساله على مُخيّمهم لغرقهم ، أو حرقهم بالنار.

وفي ذلك يقول المحقّق الحلّي في المختصر النافع :

« ويجوز المحاربة بكل ما يرجى به الفتح ... » (1).

ثمّ قال :

« ويكره يإلقاء النار ، ويحرم بإلقاء السم » (2).

وقال العلاّمة الحلّي في تبصرة المتعلّمين :

« ويجوز المحاربة بسائر أنواع الحرب ، إلاّ إلقاء السم في بلادهم » (3).

ثمّ ها هو الإمام علي علیه السلام في صفّين بعد الإستيلاء على الشريعة لا يمنع جيش معاوية عن الماء ، وإن كان معاوية قد فعل ذلك من قبل (4).

إلى هذه الدرجة الرفيعة من الرحمة والشفقة تبلغ رحمة الإسلام ، بينما لا تتورّع الدول الكبرى عن قصف الشعوب المقهورة بقنابل النابالم ، وغيرها من الوسائل والأدوات الحربية الفتّاكة المروّعة.

ومن الذي لا يمكن أن ينسى ما فعلته الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية حينما قصفت هيروشيما ، وناكازاكي بالقنابل الذرية ، فأبادت ما يقارب نصف مليون ، وحذف ذينك البلدين من الخريطة الجغرافية بحجّة التعجيل في إنهاء الحرب ، كما قال ترومن رئيس الجمهورية الأمريكي الأسبق عام 1945 م ؟

ص: 515


1- المختصر النافع ، كتاب الجهاد : ص 112.
2- المختصر النافع ، كتاب الجهاد : ص 112.
3- تبصرة المتعلّمين : كتاب الجهاد ص 81.
4- راجع وقعة صفين لابن مزاحم : ص 166 - 167 ( طبعة مصر ).

4 - أمان الكفّار :

إنّ الإسلام - بحكم كونه رسالة إلهية ودعوة سماويّة لهداية الإنسان - يحرص على دخول الأفراد في صفوف أتباعه ، والإنضواء تحت لوائه عن رغبة وإرادة.

ولتحقيق هذا الهدف الأسمى نجد الإسلام يسمح بإعطاء الأمان لكلّ من يطلب ذلك من الكفّار لكي يسمع منطق الإسلام ، ويتعرّف على تعاليمه ، سواء كان ذلك عند نشوب الحرب ، أو في غير الحرب.

بل إنّ الإسلام يعطي الحق لكلّ مسلم أن يمنح الأمان لمن شاء ، ولو كان لغير الهدف المذكور.

قال المحقّق الحلّي في الشرائع :

« ويجوز أن يذم الواحد من المسلمين لآحاد من أهل الحرب » (1).

وقال في المختصر النافع :

« ويذم الواحد من المسلمين للواحد ، ويمضي ذمامه على الجماعة ولو كان أدونهم » (2).

ثمّ إنّ ما يدلّ على مدى عناية الإسلام وحرصه على الدماء أنّه يجير حتّى من دخل في حوزة المسلمين بشبهة الأمان وظنّه فهو مأمون حتّى يرد إلى مأمنه دون أن يصيبه أذى.

قال المحقّق في الشرائع :

« وكذا كلّ حربي دخل في دار الإسلام بشبهة الأمان كان يسمع لفظاً فيعتقده أماناً ، أو يصحب رفقة فيتوهّمها أماناً » (3).

ص: 516


1- شرائع الإسلام ، كتاب الجهاد في الذمام ، وراجع الجواهر ج 21 ص 96.
2- المختصر النافع ، كتاب الجهاد : ص 112.
3- الشرائع ، كتاب الجهاد ج 1 ص 313 - 314.

وقال في المختصر النافع :

« ومن دخل بشبهة الأمان فهو آمن حتّى يردّ إلى مأمنه » (1).

وتدلّ على هذا أحاديث منها عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال :

« لو أنّ قوماً حاصروا مدينة فسألوهم الأمان ، فقالوا : لا ، فظنّوا انّهم قالوا : نعم ، فنزلوا إليهم كانوا آمنين » (2).

ومن مظاهر العدل والمساواة انّ الإسلام يجيز أمان العبد المسلم كما يجيز أمان الحر المسلم سواء بسواء.

ويدلّ على هذا الحكم الإسلامي العظيم روايات عديدة منها ما روي عن الإمام الصادق علیه السلام لمّا سأله السكوني عن معنى قول النبي صلی اللّه علیه و آله : « يسعى بذمّتهم أدناهم » قال علیه السلام :

« لو أنّ جيشاً من المسلمين حاصروا قوماً من المشركين فأشرف رجل ، فقال : اعطوني الأمان حتّى ألقى صاحبكم واُناظره فأعطاه أدناهم الأمان وجب على أفضلهم الوفاء به » (3).

وعن الصادق علیه السلام أيضاً أنّه قال :

إنّ عليّاً علیه السلام أجاز أمان عبد مملوك لأهل حصن من الحصون وقال :

« هو من المؤمنين » (4).

ولقد روى الجزري في تاريخه الكامل : « إنّ المسلمين نزلوا بجنديسابور فأقاموا عليها يقاتلونهم ، فرمي إلى من بها من عسكر المسلمين بالأمان. فلم يفجأ المسلمين إلاّ وقد فتحت أبوابها ، وأخرجوا أسواقهم ، وخرج أهلها ، فسألهم المسلمون ، فقالوا : رميتم بالأمان ، فقبلناه ، وأقررنا بالجزية على أن تمنعونا.

ص: 517


1- المختصر النافع ، كتاب الجهاد : ص 112.
2- وسائل الشيعة ج 15 ص 50.
3- وسائل الشيعة ج 15 ص 49 و 50.
4- وسائل الشيعة ج 15 ص 49 و 50.

فقال المسلمون : ما فعلنا ... .

وسأل المسلمون فيما بينهم ، فإذا عبد يدعى « مكثفاً » كان أصله منها ، فعل هذا.

فقالوا : هو عبد.

فقال أهلها : لا نعرف العبد من الحر ، وقد قبلنا الجزية ، وما بدّلنا ، فان شئتم فاغدروا. فكتبوا لعمر فأجاز أمانهم ، فأمّنوهم وانصرفوا عنهم » (1).

وهذا هو نموذج واحد من سلوك المسلمين في هذا المجال يجد نظائره كل من راجع التاريخ الإسلامي.

ص: 518


1- الكامل في التاريخ لابن الأثير الجزري ج 2 ص 387 - 388.

(13) واقعة الغدير

اشارة

لا شك في انّ الدين الإسلامي دين عالمي ، وشريعة خاتمة ، وقد كانت قيادة الاُمّة الإسلامية من شؤون النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله مادام على قيد الحياة ، وكان عليه أن يوكل مقام القيادة من بعده إلى أفضل أفراد الاُمّة وأكملهم.

إنّ في هذه المسألة وهي أنّ منصب القيادة بعد النبي صلی اللّه علیه و آله هل هو منصب تنصيصي تعييني أو أنّه منصب انتخابي ؟ هناك اتّجاهين :

فالشيعة ترى أنّ مقام القيادة منصب تنصيصي ، ولابد أن ينصّ على خليفة النبي من السماء ، بينما يرى أهل السنّة أنّ هذا المنصب انتخابي جمهوري ، أي أنّ على الأمّة أن تقوم بعد النبي باختيار فرد من أفرادها لإدارة البلاد.

إنّ لكل من الاتّجاهين المذكورين دلائل ، ذكرها أصحابهما في الكتب العقائدية ، إلاّ أنّ ما يمكن طرحه هنا هو تقييم ودراسة المسألة في ضوء دراسة وتقييم الظروف السائدة في عصر الرسالة ، فانّ هذه الدراسة كفيلة باثبات صحّة أحد الاتّجاهين.

إنّ تقييم الأوضاع السياسية داخل المنطقة الاسلامية وخارجها في عصر الرسالة يقضي بأنّ خليفة النبي لابد أن يعيَّن من جانب اللّه تعالى ، ولا يصحّ أن يوكل هذا إلى الأمّة ، فانّ المجتمع الإسلامي كان مهدّداً على الدوام بالخطر الثلاثي ( الروم - الفرس - المنافقين ) بشنّ الهجوم الكاسح ، وإلقاء بذور الفساد والاختلاف بين المسلمين.

كما أنّ مصالح الأمّة كانت توجب أن يوحّد صفوف المسلمين في مواجهة الخطر الخارجي ، وذلك بتعيين قائد سياسي من بعده ، وبذلك يسد الطريق على

ص: 519

نفوذ العدو في جسم الاُمّة الإسلامية والسيطرة عليها ، وعلى مصيرها.

وإليك بيان وتوضيح هذا المطلب :

لقد كانت الامبراطورية الرومانية أحد أضلاع الخطر المثلث الذى يحيط بالكيان الإسلامي ، ويهدّده من الخارج والداخل.

وكانت هذه القوة الرهيبة تتمركز في شمال الجزيرة العربية ، وكانت تشغل بال النبي القائد على الدوام ، حتى أنّ التفكير في أمر الروم لم يغادر ذهنه وفكره حتى لحظة الوفاة ، والالتحاق بالرفيق الأعلى.

وكانت أول مواجهة عسكرية بين المسلمين ، والجيش المسيحي الرومي وقعت في السنة الثامنة من الهجرة في أرض فلسطين ، وقد أدّت هذه المواجهة إلى مقتل القادة العسكريين البارزين الثلاثة وهم « جعفر الطيار » و « زيد بن حارثة » و « عبد اللّه بن حارثة ».

ولقد تسبّب انسحاب الجيش الإسلامى بعد مقتل القادة المذكورين إلى تزايد جرأة الجيش القيصري المسيحي ، فكان يخشى بصورة متزايدة أن تتعرّض عاصمة الإسلام للهجوم الكاسح من قبل هذا الجيش.

من هنا خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في السنة التاسعة للهجرة على رأس جيش كبير جداً إلى حدود الشام ليقود بنفسه أيّة مواجهة عسكرية ، وقد استطاع الجيش في هذه الرحلة الصعبة المضنية أن يستعيد هيبته الغابرة ، ويجدد حياته السياسية.

غير انّ هذا الانتصار المحدود لم يقنع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فأعدّ قُبيل مرضه جيشاً كبيراً من المسلمين ، وأمّر عليهم « اُسامة بن زيد » ، وكلّفهم بالتوجّه إلى حدود الشام ، والحضور في تلك الجبهة.

أمّا الضلع الثاني من المثلث الخطير الذي كان يهدد الكيان الإسلامي ، فكان

ص: 520

الامبراطورية الايرانية ( الفارسية ) وقد بلغ من غضب هذه الامبراطورية على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومعاداتها لدعوته ، أن أقدم امبراطور ايران « خسرو برويز » على تمزيق رسالة النبي ، وتوجيه الإهانة إلى سفيره باخراجه من بلاطه ، والكتابة إلى واليه وعميله باليمن بأن يوجّه إلى المدينة من يقبض على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، أو يقتله إن امتنع.

و « خسرو » هذا وإن قتل في زمن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلاّ أنّ استقلال اليمن - التي رزحت تحت استعمار الامبراطورية الايرانية ردحاً طويلاً من الزمان - لم يغب عن نظر ملوك ايران آنذاك ، وكان غرور اُولئك الملوك وتجبّرهم وكبرياءهم لا يسمح بتحمّل منافسة القوة الجديدة ( القوة الاسلامية ) لهم.

والخطر الثالث كان هو خطر حزب النفاق الذي كان يعمل بين صفوف المسلمين كالطابور الخامس وعلى تقويض دعائم الكيان الاسلامي من الداخل إلى درجة أنّهم قصدوا اغتيال رسول اللّه ، في طريق العودة من تبوك الى المدينة.

فقد كان بعض عناصر هذا الحزب الخطر يقول في نفسه : إنّ الحركة الاسلامية سينتهي أمرها بموت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ورحيله ، وبذلك يستريح الجميع (1).

ولقد قام أبو سفيان بن حرب بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بمكيدة مشؤومة لتوجيه ضربة إلى الاُمّة الاسلامية من الداخل ، وذلك عندما أتى علياً علیه السلام وعرض عليه أن يبايعه ضدّ من عيّنه رجال السقيفة ، ليستطيع بذلك تشطير الاُمّة الاسلامية الواحدة إلى شطرين متحاربين متقاتلين ، فيتمكّن من التصيّد في الماء العكر.

ولكنّ الإمام علياً علیه السلام أدرك بذكائه البالغ نوايا أبي سفيان الخبيثة ، فرفض مطلبه وقال له كاشفاً عن دوافعه ونواياه الشريرة :

ص: 521


1- الطور / 30.

« واللّه ما أردت بهذا إلاّ الفتنة ، وإنّك واللّه طالما بغيت للإسلام شراً. لا حاجة لنا في نصيحتك » (1).

ولقد بلغ دور المنافقين التخريبي من الشدّة بحيث تعرّض القرآن لذكرهم في سور عديدة هي : سورة آل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنفال ، والتوبة ، والعنكبوت ، والأحزاب ، ومحمد ، والفتح ، والمجادلة ، والحديد ، والمنافقين ، والحشر.

فهل مع وجود مثل هؤلاء الأعداء الخطرين والأقوياء الذين كانوا يتربّصون بالاسلام الدوائر ، ويتحيّنون الفرص للقضاء عليه ، يصح أن يترك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اُمّته الحديثة العهد بالإسلام ، الجديدة التأسيس من دون أن يعيّن لهم قائداً دينياً سياسيا ؟

إنّ المحاسبات الاجتماعية تقول : إنّه كان من الواجب أن يمنع رسول الاسلام بتعيين قائد للاُمّة ، .. من ظهور أيّ اختلاف وانشقاق فيها من بعده ، وأن يضمن استمرار وبقاء الوحدة الاسلامية بايجاد حصن قوي وسياج دفاعي متين حول تلك الاُمّة.

إنّ تحصين الاُمّة ، وصيانتها من الحوادث المشؤومة ، والحيلولة دون مطالبة كل فريق « الزعامة » لنفسه دون غيره ، وبالتالي التنازع على مسألة الخلافة والزعامة ، لم يكن ليتحقق ، إلاّ بتعيين قائد للاُمّة ، وعدم ترك الاُمور للاقدار.

إنّ هذه المحاسبة الاجتماعية تهدينا إلى صحة نظرية « التنصيص على القائد بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله » ولعلّ لهذه الجهة ، ولجهات اُخرى طرح رسول الإسلام مسألة الخلافة في الأيام الاُولى من ميلاد الرسالة الأسلامية ، وظلّ يواصل طرحها والتذكير بها طوال حياته حتى الساعات الأخيرة منها ، حيث عيّن خليفته ونصّ عليه بالنصّ القاطع الواضح الصريح في بدء دعوته ، وفي نهايتها أيضاً.

وإليك بيان كلا هذين المقامين :

ص: 522


1- الكامل في التاريخ ج 2 ص 222 ، العقد الفريد ج 2 ص 249.

1 - النبوّة والامامة توأمان

بغضّ النظر عن الأدلّة العقلية والفلسفية التي تثبت صحّة الرأي الأول بصورة قطعية ، هناك أخبار وروايات وردت في المصادر المعتبرة تثبت صحة الموقف والرأي الذي ذهب إليه علماء الشيعة وتصدّقه ، فقد نصّ النبي صلی اللّه علیه و آله على خليفته من بعده في الفترة النبوية من حياته مراراً وتكراراً ، وأخرج موضوع الإمامة من مجال الانتخاب الشعبي والرأي العام.

فهو لم يعيّن ( ولم ينص على ) خليفته ووصيه من بعده في اُخريات حياته فحسب ، بل بادر إلى التعريف بخليفته ووصيه في بدء الدعوة يوم لم ينضو تحت راية رسالته بعد ، سوى بضع عشرة من الأشخاص ، وذلك يوم اُمر من جانب اللّه العلي القدير أن ينذر عشيرته الأقربين من العذاب الإلهي الأليم. وأن يدعوهم إلى عقيدة التوحيد قبل أن يصدع رسالته للجميع ويبدأ دعوته العامة للناس كافة.

فجمع أربعين رجلاً من زعماء بني هاشم وبني المطلب ، ثم وقف فيهم خطيباً ، فقال :

« أيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ؟ »

فأحجم القوم ، وقام عليّ علیه السلام وأعلن مؤازرته وتأييده له ، فأخذ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله برقبته ، والتفت الى الحاضرين ، وقال :

« إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم » (1).

وقد عرف هذا الحديث عند المفسرين والمحدثين : ب « حديث يوم الدار » و « حديث بدء الدعوة ».

على أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يكتف بالنص على خليفته في بدء رسالته ، بل صرّح في مناسبات شتّى في السفر والحضر ، بخلافة

ص: 523


1- تاريخ الطبري ج 2 ص 216 ، الكامل في التاريخ ج 2 ص 62 و 63 ، وقد مرّ مفصّلاً في هذه الدراسة فراجع.

علي علیه السلام من بعده ، ولكن لا يبلغ شيء من ذلك في الأهمية والظهور والصراحة والحسم ما بلغه حديث الغدير.

2 - قصة الغدير

لمّا انتهت مراسيم الحج ، وتعلّم المسلمون مناسبك الحجّ من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قرر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الرحيل عن مكة ، والعودة إلى المدينة ، فأصدر أمراً بذلك ، ولمّا بلغ موكب الحجيج العظيم إلى منطقة « رابغ » (1) التي تبعد عن « الجحفة » (2) بثلاثة أميال ، نزل أمين الوحي جبرئيل على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بمنطقة تدعى « غدير خم » ، وخاطبه بالآية التالية :

( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) ( المائدة / 67 ).

إنّ لسان الآية وظاهرها يكشف عن أنّ اللّه تعالى ألقى على عاتق النبي صلی اللّه علیه و آله مسؤولية القيام بمهمة خطيرة ، وأي أمر اكثر خطورة من أن ينصّب علياً علیه السلام لمقام الخلافة من بعده على مرأى ومسمع من مائة ألف شاهد ؟!

من هنا أصدر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمره بالتوقف ، فتوقفت طلائع ذلك الموكب العظيم ، والتحق بهم من تأخر.

لقد كان الوقت وقت الظهيرة ، وكان المناخ حارّاً إلى درجة كبيرة جداً ، وكان الشخص يضع قسماً من عباءته فوق رأسه والقسم الآخر منها تحت قدميه ، وصنع للنبي صلی اللّه علیه و آله مظلّة وكانت عبارة عن عباءة اُلقيت على أغصان

ص: 524


1- رابغ تقع الآن على الطريق بين مكّة والمدينة.
2- من مواقيت الاحرام وتنشعب منها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين.

شجرة ( سمرة ) ، وصلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالحاضرين الظهر جماعة ، وفيما كان الناس قد أحاطوا به صعد صلی اللّه علیه و آله على منبر اُعدّ من أحداج الإبل وأقتابها ، وخطب في الناس رافعاً صوته ، وهو يقول :

« الحمدلله ونستعينه ونؤمن به ونتوكل عليه ، ونعوذ به من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا الذي لا هادي لمن أضلّ ، ولا مضلّ لمن هدى ، وأشهد أنّ لا إله إلاّ هو ، وأنّ محمداً عبده ورسوله.

أما بعد : أيّها الناس إنّي اُوشك أن اُدعى فاُجيب ، وأنّي مسؤول وأنتم مسؤولون ، فماذا أنتم قائلون ؟ »

قالوا : « نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجهدت ، فجزاك اللّه خيراً ».

قال صلی اللّه علیه و آله : « ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمداً عبده ورسوله ، وأنّ جنّته حق ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها ، وأنّ اللّه يبعث من في القبور ؟ »

قالوا : بلى نشهد بذلك.

قال صلی اللّه علیه و آله : « اللّهم اشهد ».

ثم قال صلی اللّه علیه و آله : « وإنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبدا ».

فنادى مناد : « بأبي أنت واُمي يا رسول اللّه وما الثقلان ؟ »

قال صلی اللّه علیه و آله : « كتاب اللّه سبب طرف بيد اللّه ، وطرف بأيديكم ، فتمسّكوا به ، والآخر عترتي ، وانّ اللطيف الخبير نبّأني انّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ».

وهنا أخذ بيد « عليّ » علیه السلام ورفعها ، حتى رؤي بياض اباطهما ، وعرفه الناس أجمعون ثم قال :

« أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم ؟ »

ص: 525

قالوا : « اللّه ورسوله أعلم ».

فقال صلی اللّه علیه و آله :

« إنّ اللّه مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فعليّ مولاه (1).

اللّهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأحب من أحبّه ، وابغض من أبغضه ، وأدر الحق معه حيث دار » (2).

فلمّا نزل من المنبر ، استجاز حسان بن ثابت شاعر عهد الرسالة في أن يفرغ ما نزل به الوحي في قالب الشعر ، فأجازه الرسول ، فقام وأنشد :

يناديهم يوم الغدير نبيهم *** بخمّ وأكرم بالنبي مناديا

يقول فمن مولاكمُ ووليّكم *** فقالوا ولم يبدو هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت وليّنا *** ولم تَرَ منّا في الولاية عاصيا

فقال له قم يا عليّ فانّني *** رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه *** فكونوا له أنصار صدقٍ مواليا

هناك دعا : اللّهمّ ! وال وليّه *** وكن للذي عادا علياً معاديا

مصادر الواقعة

هذه هي واقعة الغدير استعرضناها لك على وجه الإجمال ، وهي بحق واقعة لا يسوغ لأحد انكارها بأدنى مراتب التشكيك والقدح ، فقد تناولها بالذكر أئمّة المؤرّخين أمثال : البلاذري ، وابن قتيبة ، والطبري ، والخطيب البغدادي ، وابن عبد البر ، وابن عساكر ، وياقوت الحموي ، وابن الأثير ، وابن أبي الحديد ، وابن خلكان ، واليافعي ، وابن كثير ، وابن خلدون ، والذهبي ، وابن حجر العسقلاني ، وابن صباغ المالكي ،

ص: 526


1- لقد كرّر النبي صلی اللّه علیه و آله هذه العبارة ثلاث مرات دفعاً لأيّ إلتباس أو اشتباه.
2- راجع للوقوف على مصادر هذا الحديث المتواتر موسوعة الغدير للعلاّمة الأميني ( ره ).

والمقريزي ، وجلال الدين السيوطي ، ونور الدين الحلبي الى غير ذلك من المؤرخين الذين جادت بهم القرون والأجيال.

كما ذكره أيضاً أئمة الحديث أمثال : الإمام الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وابن ماجة ، والترمذي ، والنسائي ، وأبو يعلى الموصلي ، والبغوي ، والطحاوي ، والحاكم النيسابوري ، وابن المغازلي ، والخطيب الخوارزمي ، والكنجي ، ومحب الدين الطبري ، والحمويني ، والهيثمي ، والجزري ، والقسطلاني ، والمتقي الهندي ، وتاج الدين المناوي ، وأبو عبد اللّه الزرقاني ، وابن حمزة الدمشقي الى غير ذلك من أعلام المحدثين الذين يقصر المقال عن عدّهم وحصرهم.

كما تعرض له كبار المفسرين ، فقد ذكره : الطبري ، والثعلبي ، والواحدي في أسباب النزول. والقرطبي ، وأبو السعود ، والفخر الرازي ، وابن كثير الشامي ، والنيسابوري ، وجلال الدين السيوطي ، والآلوسي ، والبغدادي.

وذكره من المتكلمين طائفة جمّة في خاتمة مباحث الإمامة وإن ناقشوا نقضاً وابراماً في دلالته كالقاضي أبي بكر الباقلاني في تمهيده ، والقاضي عبد الرحمن الايجي في مواقفه ، والسيد الشريف الجرجاني في شرحه ، وشمس الدين الاصفهاني في مطالع الأنوار ، والتفتازاني في شرح المقاصد ، والقوشجي في شرح التجريد إلى غير ذلك من المتكلمين الذين تعرضوا لحديث الغدير وبحثوا حول دلالته ووجه الحجّة فيه.

واقعة الغدير ورمز الخلود :

أراد المولى عزّ وجلّ أن يبقى حديث الغدير غضّاً طرياً على مر الأجيال لم يُكدّر صفاء حقيقته الناصعة تطاول الأحقاب ، وكرّ الأزمان ، وانصرام الأعوام ، ويرجع ذلك إلى اُمور ثلاثة :

1 - إنّ النبي صلی اللّه علیه و آله قد هتف به في مزدحم غفير يربو على

ص: 527

عشرات الآلاف عند منصرفه من الحج الأكبر ، فنهض بالدعوة والاعلان ، وحوله جموع من وجوه الصحابه وأعيان الاُمة ، وأمر بتبليغ الشاهد الغائب ليكونوا كافّة على علم وخبر بما تم ابلاغه.

2 - إنّ اللّه سبحانه قد أنزل في تلك المناسبة آيات تلفت نظر القارئ إلى الواقعة عندما يتلوها وإليك الآيات :

أ - ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) ( المائدة / 67 ).

وقد ذكر نزولها في واقعة الغدير لفيف من المفسرين يربو عددهم على الثلاثين ، وقد ذكر العلاّمة البحّاثة المحقق الأميني في كتاب الغدير نصوص عبارات هؤلاء ، فمن أراد الاطّلاع عليها ، فليرجع إليه.

ب - ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) ( المائدة / 3 ).

وقد نقل نزول الآية جماعة منهم يزيدون على ستة عشر.

ج - ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِّنَ اللّهِ ذِي المَعَارِجِ ) ( المعارج / 1 - 3 ).

وقد ذكر أيضاً نزول هذه الآية جماعة من المفسرين ينوف على الثلاثين أضف إلى ذلك انّ الشيعة عن بكرة أبيهم متفقون على نزول هذه الآيات الثلاث في شأن هذه الواقعة (1).

3 - إنّ الحديث منذ صدوره من منبع الوحي تسابقت الشعراء والاُدباء على نظمه ، وانشاده في أبيات وقصائد امتدّت وقعتها منذ عصر انبثاق ذلك النص في تلك المناسبة إلى عصرنا هذا ، وبمختلف اللغات والثقافات ، وقد تمكّن البحّاثة المتضلع العلاّمة الأميني من استقصاء وجمع كل ما نظم باللغة العربية حول تلك

ص: 528


1- راجع كتاب الغدير في شأن نزول هذه الآيات ج 1 ص 214 و 217.

الحادثة ، والمؤمّل والمنتظر من كافة المحققين على اختلاف ألسنتهم ولغاتهم استنهاض هممهم لجمع ما نظم واُنشد في أدبهم الخاص.

وحصيلة الكلام : قلّما نجد حادثة تاريخية حظيت في العالم البشري عامّة ، وفي التاريخ الإسلامي والاُمة الإسلامية خاصة بمثل ما حظيت به واقعة الغدير ، وقلّما استقطبت اهتمام الفئات المختلفة من المحدثين والمفسرين والكلاميين والفلاسفة والاُدباء والكتّاب والخطباء وأرباب السير والمؤرخين كما استقطبت هذه الحادثة ، وقلّما اعتنوا بشيء مثلما اعتنوا به.

هذا ويستفاد من مراجعة التاريخ انّ يوم الثامن عشر من شهر ذى الحجة الحرام كان معروفاً بين المسلمين بيوم عيد الغدير ، وكانت هذه التسمية تحظى بشهرة كبيرة إلى درجة انّ ابن خلكان يقول حول « المستعلى بن المستنصر » :

« فبويع في يوم غدير خم ، وهو الثامن عشر من شهر ذي الحجة سنة 487 ه » (1).

وقال في ترجمة المستنصر باللّه العبيدي : « وتوفي ليلة الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة سبع وثمانين واربعمائة ، قلت : وهذه هي ليلة عيد الغدير أعني ليلة الثامن عشر من شهر ذي الحجة ، وهو غدير خم » (2).

وقد عدّه أبو ريحان البيروني في كتابه الآثار الباقية « ممّا استعمله أهل الإسلام من الأعياد » (3).

وليس ابن خلكان ، وأبو ريحان البيروني ، هما الوحيدان اللذان صرّحا بكون هذا اليوم هو عيد من الأعياد ، بل هذا الثعالبي قد اعتبر هو الآخر ليلة الغدير من الليالي المعروفة بين المسلمين (4).

ص: 529


1- وفيات الأعيان ج 1 ص 60.
2- وفيات الأعيان ج 1 ص 60.
3- ترجمة الآثار الباقية : ص 395 ، الغدير ج 1 ص 267.
4- ثمار القلوب : ص 511.

إنّ عهد هذا العيد الإسلامي ، وجذوره ترجع إلى نفس يوم « الغدير » لأنّ النبي صلی اللّه علیه و آله أمر المهاجرين والأنصار ، بل أمر زوجاته ونساءه في ذلك اليوم بالدخول على « عليّ » علیه السلام ، وتهنئته بهذه الفضيلة الكبرى.

يقول زيد بن أرقم : كان أوّل من صافح النبي صلی اللّه علیه و آله وعليّاً : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وباقي المهاجرين والأنصار ، وباقي الناس (1).

الحمد للّه الذي جعلنا من المتمسّكين بولاية علي بن أبي طالب علیه السلام .

خاتمة المطاف

ما قدّمناه إليك في الفصول السابقة حول حياة النبي وشخصيته كان مقتبساً من الذكر الحكيم ومدعماً بالتاريخ والأحاديث الصحيحة ، وكان الجدير بنا أن نجعجع بالقلم عن الإفاضة ونترك ما بقى من خصوصيات حياته وشخصيته إلى كتب السيرة لمن أراد التوسّع.

غير انّا نحب أن نركّز في الخاتمة على أساليب دعوته في عصر الرسالة ليكون قدوة لنا في هذا السبيل ، ونكتفي من الكثير بالقليل.

ص: 530


1- راجع مصدره في الغدير ج 1 ص 270.

(14) الإعلام وأساليبه في عصر الرسالة

اشارة

إنّ انتشار أي دين أو أيديولوجية ورسوخها في العقول والنفوس يتوقّف مضافاً إلى اتقان ذلك الدين في محتواه ومضامينه على الدعوة الصحيحة إليه ، وعرضه عرضاً واسعاً وشاملاً.

وقد توفّر في الإسلام هذان الجانبان :

أمّا الأوّل : فإنّ الإسلام ذو اُصول ، ومفاهيم تنطبق على الفطرة الإنسانية ، فهو يدعو إلى العدل والإحسان ، واجتناب البغي والعدوان ، وإلى النظر في ملكوت السماوات والأرض ، وإلى العلم والقراءة والكتابة ، وإلى التعاون والتعاضد ، وغير ذلك من الاُصول الاجتماعية والأخلاقية التي توافق فطرة البشر وتعضدها العقول بلا استثناء.

كما أنّ الإسلام لا يشتمل على أيّة عقيدة رمزية أو اُصول معقدة لا تقدر على حلّها الأفكار ، ولا تستطيع على دركها العقول ، كما هو الحال في « تثليث » البراهمة والمسيحيين.

وأمّا الثاني : فإنّ القرآن الكريم يسعى بكل قوّة ووسيلة ممكنة إلى نشر الاسلام ، فيخاطب النبي صلی اللّه علیه و آله ويأمره بالإنذار والتبشير ، والدعوة والتبليغ ، والصدع والموعظة ، والتذكير ، والبيان ، والتعليم ، والانباء ، إلى غير ذلك من الأساليب التي تعرب عن لزوم قيام النبي بتبليغ الرسالة الاسلامية إلى الناس ، بكل صورة ممكنة ، وإليك نماذج من تلك الخطابات.

ص: 531

ففي مجال الانذار يقول تعالى : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) ( الشعراء / 214 ).

وفي مجال التبشير يقول تعالى : ( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ) ( البقرة / 25 ).

ويقول تعالى : ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) ( الفتح / 8 ).

وفي مجال الدعوة يقول سبحانه : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ ) ( النحل / 125 ).

وفي مجال الابلاغ يقول سبحانه : ( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ ) ( الشورى / 48 ).

وفي مجال الصدع يقول سبحانه : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ) ( الحجر / 94 ).

وفي مجال الموعظة يقول تعالى : ( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ ) ( النساء / 63 ).

وفي مجال التذكير يقول تعالى : ( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ) ( ق / 45 ).

وفي مجال البيان يقول سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) ( النحل / 44 ).

وفي مجال التعليم يقول سبحانه : ( يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ ) ( البقرة / 151 ).

وفي مجال التنبّؤ قال سبحانه : ( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ( الحجر / 49 ).

وقد قام النبي صلی اللّه علیه و آله بهذا الأمر ، وعرض الاسلام عرضاً كاملاً قويّاً ، فدعا أهله وأقرباءه أوّلاً ، ثم دعا قومه وأبناء جلدته ثانياً ، ولمّا استتبّ له الأمر ، واستقرّ به المقام في المدينة المنوّرة ، وجّه دعاته إلى شتّى أقطار الأرض وكلّفهم بابلاغ دينه ومنهاجه إلى الملوك والاُمراء والشعوب والقبائل ، وتحقّق هذا العمل بشكل واسع حتى لم يلبث أن بلغ نداء الاسلام إلى مسامع جميع المجتمعات البشرية ، دانيها وقاصيها في مدة لا تتجاوز قرناً واحداً من الزمان.

ص: 532

نماذج من الإعلام في العهد النبوي

اشارة

وقد تمثّل الإعلام الإسلامي في العهد النبوي ، في اُمور قام بها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في مجال تبليغ الإسلام ، وإيصال نداءه إلى مسامع البشرية في مختلف الأقطار والأصقاع وهذه الاُمور هي :

1 - البعثات الإعلامية

قد قام النبي الأكرم بارسال مبعوثين ومندوبين للدعوة والتبليغ ، ونذكر على سبيل المثال مصعب بن عمير ، الذي بعثه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى المدينة ليعلّم الناس القرآن ، ويفقّههم في الدين ، وكان شابّاً ذكياً أسلم عن رغبة وتفهّم وتعلّم من القرآن كثيراً ، فأمره رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالخروج إلى المدينة مع بعض من آمن من أهلها برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ليدعو أهل المدينة من الأوس والخزرج إلى الإسلام ، فاستطاع بحسن تدبيره ، وفضل حكمته في التبليغ والإرشاد أن يستقطب عدداً كبيراً من أهل المدينة شيباً وشباباً ورجالاً ونساءً إلى الإسلام حتى لم يلبث أن جعل من يثرب مدينة إسلامية تهيّأت لاستقبال رسول اللّه أكبر استقبال ، وهو لم يملك إلاّ إيماناً صادقاً وإخلاصاً في العمل (1).

وبعدما هاجر إلى المدينة بعث مجموعات تبليغية لنشر الإسلام ودعوة الناس إليه ، وأخصّ بالذكر مجموعتين تبليغيتين أرسلهما رسول الإسلام إلى بعض القبائل لتعليمها القرآن الكريم وأحكام الاسلام ، وهاتان المجموعتان هما :

المجموعة الاُولى : التي بعثها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى قبيلتي عضل وقارة.

فقد طلبت القبيلتان من النبي صلی اللّه علیه و آله أن يبعث إليهم من

ص: 533


1- أعلام الورى ص 27.

يعلّمهم القرآن ، ويفقّههم في الاسلام.

فاستجاب النبي لهذا الطلب ، وأرسل ستة أشخاص ، وأمر عليهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي ، ولكن القوم غدروا باُولئك المبلغين الأبرياء ، فقتلوا من قتلوا منهم ، وأسروا رجلين منهم باعوهما لقريش ، فصلبوهما انتقاماً لقتلى بدر من المشركين والقصة مفصلة (1).

المجموعة الثانية : وهي المجموعة التبليغية التي أرسلها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى قبيلة « بني عامر » لطلب أحد زعمائها الكبار ، وذلك قبل أن يبلغه غدر عضل وقارة بالمجموعة الاُولى ، وقد أرسلهم بعد أخذ مواثيق وضمانات من الطالب ، ولكن هذه المجموعة التي كانت تتألّف من أربعين شخصاً من خيرة القرّاء قد واجهت نفس ما واجهت المجموعة التبليغية الاُولى ، ولكن لا على أيدي القبيلة المبعوثين إليها ، بل على يد آخرين من القبائل المشركة المعادية للإسلام ، وقد وقع الغدر والفتك بهم في منطقة تدعى بئر معونة (2).

وقد أحزنت هاتان الفاجعتان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلاّ أنّهما لم يثنيا عزمه الشريف عن مواصلة التبليغ ، بل واصل ارسال المبلّغين والرسل إلى مناطق اُخرى كما أرسل طائفة كبيرة إلى الملوك والاُمراء والقبائل وزعماء الجماعات داخل الجزيرة العربية وخارجها.

2 - الرسائل الإعلامية

اشارة

وإليك فيما يلي طائفة من الرسائل التي بعثها النبي صلی اللّه علیه و آله يدعو فيها رؤساء القبائل إلى الاسلام ، ونخص بالذكر كتبه الاعلامية فقط :

ص: 534


1- المغازي ج 1 ص 354 - 362 ، والسيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 169.
2- السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 183 - 187.

1 - كتابه إلى سمعان بن عمرو الكلابي.

2 - كتابه إلى ورد بن مرداس أحد بني سعد هذيم.

3 - كتابه إلى الاقيال من حضرموت.

4 و 5 - كتابان إلى أهل قريتين.

6 - كتابه إلى بني حارثة بن عمرو بن قريط.

7 - كتابه إلى عبد العزيز بن سيف بن ذي يزن.

8 - كتابه إلى عمرو بن مالك بن عمير الأرحبي.

9 - كتابه إلى عريب والحارث ابني عبد كلال.

10 - 16 - سبعة كتب إلى فهد وزرعة وبس وغيرهم من ملوك حمير.

17 - كتابه إلى جفينة النهدي.

18 - كتابه إلى ملك الروم.

19 - كتابه إلى عبد اللّه بن الحارث الأعرج الأزدي الغامدي.

20 - كتابه إلى خراش بن جحش العبسي.

21 - كتابه إلى سرباتك ملك الهند.

22 - كتابه إلى قيس بن عمر الهمداني.

23 - كتابه إلى جبلّة بن الأيهم الغساني.

24 - كتابه إلى بني معاوية من كندة.

25 - كتابه إلى نفاثة بن فروة ملك السماوة.

26 - كتابه إلى عذرة.

27 - كتابه إلى ذي عمرو.

28 - كتابه إلى ذي الكلاع.

ص: 535

29 - كتابه إلى اسيخب.

30 - كتابه إلى حوشب ذي ظليم.

31 - كتابه إلى رعية السحيمي.

32 - كتابه إلى قيس بن مالك (1).

هذه كتاباته التبليغية التي وردت أسماؤها في الكتب ، وإن ذهبت ألفاظها وعبارتها فلم يبق منها إلاّ الإسم.

وهناك كتب تبليغية له صلی اللّه علیه و آله موجودة بأعيانها وخصوصيّاتها في كتب السير والتاريخ والحديث ، والكلّ يدلّ على أنّ الإسلام انتشر في العالم بفضل الدعوة الصحيحة وبعث الدعاة والرسل ، ولو كان هناك سل السيف وسفك الدم ، فإنّما كان لرفع الحواجز بين الرسول وتبليغه.

وإليك أسماء كتبه الموجودة التبليغيّة التي أرسلها إلى الملوك والاُمراء والشيوخ والقبائل على نحو الإيجاز والإيعاز والتفصيل يطلب من مظانّه (2).

مراسلة الملوك والاُمراء ورؤساء القبائل

إنّ أبرز كتبه في الدعوة إلى الاسلام هي :

1 - كتابه إلى كسرى ملك الفرس.

2 - كتابه إلى قيصر عظيم الروم.

3 - كتابه إلى النجاشي ملك الحبشة.

4 - كتابه إلى المقوقس ملك مصر.

ص: 536


1- لاحظ مكاتيب الرسول للعلاّمة الأحمدي ص 35 - 40.
2- راجع الوثائق السياسية ومكاتيب الرسول.

5 - كتابه إلى ملوك الشام واليمامة.

6 - كتابه إلى الحارث بن أبي شمر.

7 - كتابه إلى هوذة بن علي الحنفي ملك اليمامة.

8 - كتابه إلى المنذر بن ساوي.

9 - كتابه لرفاعة بن زيد الجزامي.

10 - كتابه إلى جيفر وعبد ابني الجلندي.

11 - كتابه إلى فروة بن عمرو الجذابي.

12 - كتابه إلى أكثم بن صيفي.

13 - كتابه إلى اسيخب بن عبد اللّه.

14 - كتابه إلى يحنه بن رؤبة وسروات أهل أيلة.

15 - كتابه إلى زياد بن جهور.

16 - كتابه إلى بكر بن وائل.

17 - كتابه إلى مسيلمة الكذّاب.

18 - كتابه إلى ضغاطر الأسقف.

19 - كتابه إلى اليهود.

20 - كتابه إلى يهود خيبر.

21 - كتابه إلى أسقف نجران.

22 - كتابه إلى هرمزان عامل كسرى.

وقد دعا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في هذه الكتب التي سجّلها التاريخ وأثبت نصوصها كاملة ، الملوك والاُمراء إلى الدين الإسلامي وشرح أهدافه وغاياته السامية.

ص: 537

وقد حمل هذه الكتب رجالاً من أصحابه اتّسموا بالنباهة والذكاء ، والشجاعة والحكمة.

ويذكر التاريخ انّ بعضهم كان يعرف لغة القوم الذين اُرسل إليهم مع كتاب النبي صلی اللّه علیه و آله .

وكان هؤلاء الرسل يتمتّعون بإيمان قوي ، وينطلقون من عقيدة راسخة بالدين وشجاعة ، وهي الصفات التي يجب أن يتحلّى بها المبلّغ ، ولهذا كانوا في الأغلب يؤثرون في نفوس المرسل إليهم حتّى انّهم كانوا يقبلون دعوة النبي ولو آل إلى التضحية بحياتهم كما حدث لضغاطر الأسقف فإنّه لمّا جاءه كتاب النبي صلی اللّه علیه و آله فقرأه أخذ بمجامع قلبه واهتدى إلى الحق واعتنق الإسلام راغباً وقال لقومه من الروم :

« يا معشر الروم ... إنّي أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وانّ أحمد عبده ورسوله » ، فوثبوا عليه وثبة رجل واحد وقتلوه » (1).

3 - التبليغ عن طريق الأدب والنظم

ولم يكتف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في تبليغ رسالته بالرسائل والكتب بل استعان بالشعر أيضاً ولهذا كان حسّان يخلّد الحوادث ، بأبيات من الشعر ، ويشجّعه النبي صلی اللّه علیه و آله وربّما دافع حسّان وغيره عن حوزة الإسلام ونبيّه بهجاء من يعادونه أو يتعرّضون له أو يهجونه ، وإليك نماذج من هذا الأمر.

1 - عندما هجا ابن الزبعريّ المسلمين يوم اُحد ، قائلاً :

يا غراب البين اسمعت فقل *** إنّما تنطق شيئاً قد فعل

ص: 538


1- الطبري ج 2 ص 392 و 693.

إلى أن قال :

ليت أشياخي ببدر شهدوا *** جزع الخزرج من وقع الأسل

فقتلنا الضِّعف من أشرافهم *** وعدلنا ميل بدر فاعتدل

قال حسّان في الرد عليه :

ذهبت يا بن الزبعري وقعة *** كان منّا الفضل فيها لو عدل

ولقد نلتم ونلنا منكم *** وكذاك الحرب أحياناً دول

الى آخره ... .

2 - لما قال عمرو بن العاص في هجاء المسلمين يوم اُحد :

خرجنا من الفيفا عليهم كأنّنا *** مع الصبح من رضوى الحبيك المُنَطّق

أرادوا لكيما يستبيحوا قبابنا *** ودون القباب اليوم ضرب محَرّق

قال كعب بن مالك في الردّ عليه :

ألا أبلغا فهراً على نأي دارها *** وعندهم من علمنا اليوم مصدق

إلى أن قال :

لنا حومة لا تستطاع يقودها *** نبيّ أتى بالحقّ عف مصدّق

3 - ما قاله هبيرة يوم اُحد أيضاً في هجاء المسلمين إذ قال فيما قال من الشعر :

كان هامهم عند الوغى فلق *** من قيض رُبْدٍ نفته عن أداحيها

فأجاب حسّان بقوله :

ألا اعتبرتم بخيل اللّه إذ قتلت *** أهل القليب ومن ألقينه فيها

ص: 539

كم من أسير فككناه بلا ثمن *** وجزّ ناصية كنّا مواليها (1)

وغير ذلك من الموارد التي قابل فيها حسّان وغيره من شعراء الإسلام الاول هجاء بهجاء ، قارع قاصع.

4 - إعلان البراءة من المشركين

وكان من أبرز مصاديق التبليغ والإعلام ما كلّف به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأمر من اللّه تعالى ، أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب بتلاوة آيات من صدر سورة التوبة على مسامع المشركين وغير هم في يوم الحج الأكبر والتي أعلن اللّه فيها براءته وبراءة نبيّه من الشرك والمشركين ، وضرب لهم أجلاً ليبيّنوا موقف من الاسلام وأعلن انّ المشركين لا يجوز لهم دخول مكّة بعد ذلك الوقت والأجل.

وقد كان لهذا الإعلان العام القوي أثر كبير في إسلام مجموعات كبيرة من القبائل المشركة ، وتوافدها على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في العام المسمّى بعام الوفود.

5 - شعار المسلمين في الهجمات العسكرية

ومن جملة أساليب التبليغ التي كان يتبعها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إطلاق الشعارات المناسبة في المعارك فمثلاً لمّا صاح أبو سفيان بعد إلحاق الهزيمة بالمسلمين : اعل هبل اعل هبل. أمر النبي صلی اللّه علیه و آله بأن يقابلوه بشعار :

اللّه أعلى وأجل.

ص: 540


1- السيرة النبوية ج 2 ص 2 و 131 - 132.

ولمّا صاح : نحن لنا العزّى ولا عزّى لكم.

قال النبي صلی اللّه علیه و آله قولوا :

اللّه مولانا ولا مولى لكم.

كما أنّ المسلمين كانوا عند الهجوم على الأعداء ينادون بشعار خاص مثل : امت ... امت (1).

كانت هذه لمحة سريعة عن أساليب رسول الإسلام صلی اللّه علیه و آله في التبليغ والدعوة إلى الإسلام ، وهي تكفي لمعرفة إهتمام الإسلام بهذا الأمر.

وفي هذا العصر حيث اُتيحت للبشرية أجهزة ووسائل أوسع للتبليغ يتعيّن على المسلمين الإستفادة منها بشكل أفضل وبمنتهى الشجاعة والعزم ليصدق في شأنهم قوله تعالى : ( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللّهَ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا ) ( الأحزاب / 39 ).

ما هي وظائفنا اليوم في مجال التبليغ والدعوة ؟

هذا بعض ما كان يقوم به رسول الإسلام صلی اللّه علیه و آله في مجال التبليغ والدعوة إلى الإسلام ، وقد كان عملاً عظيماً جبّاراً بالقياس إلى وسائل ذلك العصر ، فما هو واجب المسلمين في هذا الزمن وهم يملكون أعظم الأجهزة للتبليغ والدعوة.

فماذا يجب أن يفعله المسلمون اليوم ؟

هذا هو ما يجب أن نشير إليه في هذا المقام.

والذي نراه هي الاُمور التالية :

1 - رصد التبشير المسيحي والدعايات الماركسية : إنّ العالم الإسلامي يحاصره

ص: 541


1- السيرة النبويّة ج 2 ص 68.

اليوم معسكران قويّان مزوّدان بكلّ القوى والإمكانات ، وهما المعسكر الغربي الذي يروّج المسيحية ، والمعسكر الشرقي الذي يروّج الماركسية والإلحاد.

ويعمل هذان المعسكران ليل نهار على بثّ سمومهما في أقطار العالم الإسلامي بمختلف الأساليب والسبل.

ومن أساليبهم النيل من كرامة النبي العظيم صلی اللّه علیه و آله ، فهذا هو كتاب يصدر في لندن باسم « الآيات الشيطانية » يشكّك في نبوّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وتتحدّث عنه إذاعة لندن لإلقاء الضوء عليه ، وحثّ الناس على قراءته تحت غطاء نقل الأخبار.

وهو مع الأسف يستند إلى بعض المصادر الإسلامية التي تحتاج إلى نظارة التنقيب جدّاً مثل تاريخ الطبري والسيرة الحلبية ، فكم فيهما من موضوعات ومنحولات واسرائيليّات ومسيحيّات بثّها أبناء الديانتين من كعب الأحبار ووهب ابن منبه وتميم الداري ، وأخذها السذّج من المسلمين ، وزعموا أنّها حقائق راهنة.

فلابدّ أن تنهض جماعة من العلماء والمفكّرين والخطباء للتصدّي لهذه الهجمة الظالمة على الإسلام بالوسائل المتاحة والمفيدة.

2 - رصد الدعايات المفرّقة لصفوف المسلمين وتبديد وحدتهم التي هي أقوى قلعة في وجه العدوّين المذكورين آنفاً ، فلابدّ أن تجدّد فكرة دار التقريب بين المذاهب الإسلامية ، ولابدّ أن يتصدّى مركز إسلامي قوي للكتب المفرّقة التي لا يقصد من كتابتها وبثّها إلاّ إيجاد الفرقة بين الطوائف الإسلامية في عصر هي أحوج ما فيه إلى التعاضد والتعاون والتعاطف ، خاصّة أنّ هذه الكتب تحتوي على سفاسف وترّهات وقضايا لا قيمة لها ولا أساس. ضع يدك على كثير ممّا ينتشر في أشهر الحج ضد الشيعة الإمامية.

نعم لا يعني من هذا أن لا يعرض أحد عقيدته بصورة موضوعية علميّة أو أن يتجرّد أحد من عقائده من دون دليل ، بل المطلوب هو تجنّب التهجّم على الآخرين ،

ص: 542

وبثّ بذور الفرقة والتشتّت ، وإلاّ فعرض المذاهب مستنداً إلى أوثق المصادر لغاية التعرّف من وسائل التقريب وأدواته.

3 - تأسيس وحدة إعلامية واحدة للمسلمين : إنّ الأعداء على اختلاف مشاربهم ومطامعهم يؤلّفون وحدة إعلامية واحدة ، فلابد أن يقوم المسلمون بتأسيس وحدة إعلامية واحدة ، ويستفيدون من جميع وسائل الإعلام والتبليغ والدعوة من إذاعة وتلفزيون وسينما ومسرح ، لعرض الحقائق الدينية للناس بعيداً عن أجواء السياسات الداخلية والظروف الخاصة.

4 - اصلاح الكتب الدراسية : ينبغي أن يقوم علماء الإسلام باصلاح الكتب الدارسية التي تدرّس في المدارس والجامعات ويجرّدوها عمّا يشوّش أفكار الناشئة ويدفعه عن اساءة الظن بتاريخه ودينه.

هذا هو بعض ما يجب أن يقوم به المسلمون في مجال التبليغ والدعوة إلى الإسلام وهو فرض عليهم وواجب من واجباتهم كيف لا ، ومهمة الإعلام والإبلاغ لم تنحصر برسول الإسلام فقط ، بل اعتبرها القرآن من وظيفة الاُمّة الإسلامية أيضاً. وسمّاها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وجعل هذا العمل من وظائف المسلمين على اختلاف مستوياتهم ومؤهّلاتهم فقال :

( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) ( آل عمران / 104 ).

وقال سبحانه :

( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ) ( آل عمران / 110 ).

وليس الأمر بالمعروف مقصوراً على تنبيه العصاة من المسلمين ، بل هو أصل عام يعم كل دعوة فيها وصلاح للمجتمع الإنساني من ابلاغ دينه سبحانه ، ونشر اُصوله وفروعه أوّلاً والحث على الطاعة والانذار على المخالفة ثانياً.

ص: 543

واعتبر الإسلام القيام بهذاه الوظيفة سبباً لازدهار الحياة ، في شتّى مجالاتها إذ قال الإمام الباقر علیه السلام :

« إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء ، بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب ، وتحل المكاسب ، وترد المظالم ، وتعمّر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر » (1).

إنّ القرآن الكريم عدّ ترك هاتين الوظيفتين سبباً لهلاك الناس إذ قال :

( وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) ( الأعراف / 163 - 165 ).

فقد أهلك اللّه الذين كانوا يتقاعسون عن أداء وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بل يعترضون على من يقوم بهذه الوظيفة ، أهلكهم كما أهلك الفاسقين الذين كانوا يتجاوزون حدود اللّه وحرمة الصيد يوم السبت.

وقد ورد عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في هذا الصدد أنّه قال :

« لايزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، وتعارفوا على البرّ ، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات وسلّط بعضهم على بعض ، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء » (2).

إنّ النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله حذّر من مغبّة ترك هاتين الفريضتين ، وانّ ذلك يؤدي إلى أن تنقلب القيم لدى الاُمّة الإسلامية عند ترك الأمر

ص: 544


1- الوسائل : ج 11 ص 395.
2- البحار : ج 94 ص 97.

بالمعروف والنهي عن المنكر ، فيصير المنكر معروفاً والمعروف منكراً ، إذ قال صلی اللّه علیه و آله : كيف بكم إذ افسدت نساؤكم وفسق شبابكم ، ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر ؟

فقيل له : ويكون ذلك يا رسول اللّه ؟

قال : نعم ، وشرّ من ذلك ، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف ؟

قالوا : يا رسول اللّه ويكون ذلك ؟

قال : نعم ، وشرّ من ذلك ، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً ، والمنكر معروفاً (1).

النظر إلى الإنسانية برحابة صدر

ومن أساليب دعوته أنّه كان ينظر إلى الإنسانية برحابة صدر ولا يرى ميزاً لانسان أو تفوّقاً له على انسان إلاّ بالتقوى ، وكانت القومية عنده أبغض شيء ، والدعوة إليها عنده دعوة خبيثة مفرّقة للاُمّة ومشتّتة لها ، وبما أنّ القومية بمفهومها الواسع صارت شعاراً لأكثر المسلمين المعاصرين على اختلاف ألسنتهم ولغاتهم ، فالعربي يدعو إلى القومية العربية ، والتركي الى القومية التركية وهكذا ، فوجب علينا البحث عن القومية من منظار الكتاب والسنّة وبذلك نختم البحث حتى يكون ختامه مسكاً فنقول :

ص: 545


1- البحار : ج 97 ص 74.

(15) القوميّة في الكتاب والسنّة

اشارة

وقبل أن ندخل في صلب الموضوع نأتي بعناوين البحث فنقول : إنّ البحث يدور على نقاط عشر وهي :

1 - ما هي القومية في مصطلح السياسيين وأصحاب هذه الفكرة ؟

2 - تعيين تاريخ تكوّن هذه الفكرة في هذه العصور الأخيرة.

3 - هزيمة هذه الفكرة في مولدها وموطنها.

4 - اشتعال هذه الفكرة ونموّها في البلاد الاسلامية مؤخّراً.

5 - دعاة هذه الفكرة في الشرق الاسلامي جماعة ينتسبون إلى البيوت المسيحية وهل يمكن عدّ هذا الامر أمراً اتّفاقياً وصدفيا ؟.

6 - ما هي الغاية من زرع هذه الفكرة وترويجها في الأوساط الاسلاميه ؟

7 - رسالة الاسلام رسالة عامة عالمية لا تختص بقوم دون قوم.

8 - تفسير قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى ... ) وبيان النكات الست فيه.

9 - كلمات مضيئة للرسول الأعظم في تحطيم القومية.

10 - الخسارة التي تفرضها القومية على البشرية أولاً والاسلام والمسلمين ثانياً. فهذه جهات البحث ونقاطها الحساسة التي نبحث عن الكل موجزاً فنقول :

1 - ما هي القومية ؟

القومية حسب ما يستفاد من المعاجم السياسية : هي الاعتقاد بارتقاء شعب

ص: 546

خاص على سائر الشعوب من حيث الخِلقة والخلق والعقيدة والمثل ويراد فيها باللغة الاوريية ( ناسيوناليزم ) ، وبعبارة اُخرى هي الاعتقاد بتفوّق شعب خاص والنظر إلى سائر الشعوب بالحقد والضغينة وكأنّ حامل تلك الفكرة يحب نفسه ويبغض غيره ويخاصمه.

وهذا المورد من الموارد التي تنتزع الايديولوجية من النظرة العامة إلى الكون بمعنى انّ مدّعي القومية ينظر إلى الكون والحياة ، فيرى لنفسه حسب خياله تفوّقاً وعلوّاً ، فيرتب على تلك النظرة فكرته القومية ويبني الايديولوجية على ما استنتجه من النظر إلى الكون ، ويقول : إذا كنت أنا وقومي متفوّقين في الخلق والخلقة يجب أن نكون متصدّرين في السياسة والسلطة ويكون الغير خادماً ومتعبّداً لنا وتكون لنا السلطة عليه.

وبذلك يعلم أنّ القومية لا تفترق عن العنصرية ، فلو لم تكن هناك فكرة التفوّق في الحياة لما كان للقومية تفسير منهجي صحيح ، فالقومية قائمة على العنصرية وتكون الثانية أساساً للاُولى ، ونشير هنا إلى نكتة وهي انّ دعاة القومية يذمّون العنصرية مع أنّ القومية مبنيّة على أساس العنصرية كما أشرنا فلو لم يكن هناك تفوق عنصري لم يكن لصرح القوميه أساس ولا تفسير صحيح.

2 - تعيين تاريخ زرع هذه الفكرة في العصور الأخيرة :

إنّ الباحثين عن القومية يتّفقون على أنّ تلك الفكرة ظاهرة غربية يعود أصلها إلى الفرنسيين في القرن السادس عشر ، وذلك لأنّ التفرقة الهدّامة كانت سائدة على ذلك الشعب من حيث المذهب والعقيدة ، وكانت كل فرقة متمسكة بعقيدتها غير عادلة إلى غيرها ، ففي تلك الآونة ، قام عدة من رجال السياسة الذين يهمّهم كل شيء إلاّ المذهب ، بجمع شتات تلك الاُمة في ظل عامل واحد وهو القومية الفرنسية عسى أن يتوفّقوا في ظلّ هذا العامل بجمع شتاتهم ولمِّ شعثهم ، وقد نجحوا في ذلك المجال بعض النجاح.

ص: 547

ولم تكن تلك الكلمة يوم ذلك مفيدة غير هذا المعنى ، إلاّ أنّها عبر القرون والعصور أخذت لنفسها معنى خاصاً ، وتضمّنت تضمير الحقد والتحقير لسائر الأقوام.

نعم هذه جذور القومية النامية في القرون الاخيرة ، ولكن للشعوبية بمعنى القومية جذوراً تاريخية اُخرى ، وهي انّ التعصب للعربية ، من جانب الخلفاء الامويين والعباسيين ، كوّن تلك الفكرة في الشعوب الاسلامية غير العربية ، ولهذا اجتمعت الاُمم على التعلّق بالقومية في مقابل التعصبات العربية التي كانت تثيرها الخلافة الاموية والعباسية ، والبحث عن ذلك يحتاج إلى افراد رسالة مستقلة.

3 - هزيمة تلك الفكرة في مولدها :

بينما يسعى بعض المفكرين السياسيين في ترويج تلك الفكرة في الشرق الاسلامي نرى تقهقر تلك الفكرة في الغرب وانهزامها أمام المشاكل العظيمة ، وهذا لأنّ الغرب جرّب بعد الحربين العالميتين أنّه لا يقدر على العيش والحياة إلاّ بتوحيد الشعوب والأقوام ، بل الدخول في أحد المعسكرين الشرقي والغربي ، فرفض القومية وطفق يستظل بظل الاتحاديات الاقتصادية والسياسية والثقافية وأحسّ أنّه لا ينجح في معترك الحياة إلاّ برفض القومية ونسيانها.

ويدلّ على تقهقر هذه الفكرة في القرن العشرين ظهور جامعة الدول قبل الحرب العالمية الاُولى ، وتكوّن الاُمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية فيها ، والتجاء الدول النامية والمستضعفة إلى عقد مواثيق وتحالفات مع القوى الكبرى.

كل ذلك يسفر عن حقيقة واضحة ، وهي انّه قد مضى زمن تلك الفكرة وانّ بناء الدولة والمملكة على ذاك الأساس بناء على شفا جرف هار.

إنّ إنجراف بعض الدول الشرقية في تيار الإشتراكية والتحالف مع الماركسية ، كتعلّق الدول الغربية بمعسكر الرأسمالية ، يكشف عن عدم كفاءة هذه الظاهرة المادّية في حل مشاكل الأقوام ، ورفع العراقيل النامية في حياتهم.

ص: 548

4 - اشتعال هذه الفكرة ونموها في البلاد الإسلامية مؤخّراً :

إنّ هذه الفكرة أخذت تنهزم في الغرب وتنسحب عن تلك الجوامع ، ولكنّنا نرى في الشرق دعاة إليها ، بجدّ وحماس فنرى هناك دعوة إلى القومية بأشكالها وألوانها المختلفة ، المتناسبة للظروف والملابسات المحيطة بالمناطق ، فالقومية في مصر عبارة عن الدعوة إلى الفرعونية ، وفي العراق إلى البابلية ، وفي سوريا إلى الآشورية ، وفي الاُردن إلى الرومانية ، وفي إيران إلى الجمشيدية وفي ماوراء النهر إلى جنكيزخان وزملائه العصاة الطغاة.

ما هذه الدمدمة والهمهمة في الأوساط الإسلامية ، وما هو الحافز والمحرك والدافع إلى إحياء تلك الفكرة فيها ، بعدما تقهقرت في موطنها وقُبرت في مولدها ؟ فياليتهم يدعون إلى القومية البسيطة التي دعا إليها الساسة الفرنسيون في القرن السادس عشر ، ولكنّهم أخذوا يدعون إلى القومية البغيضة الإلحادية حتى تصبح هذه الفكرة ذات مكانة خاصّة ، تغني حاملها عن الإيمان باللّه ، والاعتناق بالإسلام ، وها نحن ننقل إليكم - يا أصحاب الفضيلة - كلمات من دعاة القومية في خصوص البلاد العربية ، فها هو ناصر الدين علي يقول في كتابه « قضية العرب » ص 28 : إنّ العربية هو الدين الواقعي لكل عربي سليم مسلماً كان أو مسيحيّاً ، لأنّ القومية العربية كانت سائدة على تلك الاُمّة قبل أن تولد المسيحية والإسلام ، وقد أتت بأمثل الخلق وأعلاها في مجال الحياة.

نرى أنّ وسائل الاعلام العامّة تروّج هذه الفكرة ، فها هي مجلّة العالم العربي تكتب في عدد 1959 : - يجب أن تحل الوحدة العربية المكان الذي حلّ فية الإيمان باللّه الواحد.

ونقل أبو الحسن الندوي عن الكاتب القومي عمرو فاخوري : إنّ العرب لا يكونون قادرين على الثورة والتقدّم ، إلاّ إذا عدّوا العربية ديناً ، ويتمسّكوا بها كتمسّك المسلم بالقرآن ، والمسيحي بالإنجيل إلى غير ذلك.

ص: 549

5 - دعاة هذه الفكرة في الشرق الإسلامي جماعة ينتسبون إلى المسيحية وهل يمكن عد هذا الأمر أمراً اتفاقيّاً وصدفياً :

والعجب أنّ منتحلي هذه الفكرة في مركز الخلافة الإسلامية « بغداد ودمشق » لا يمتّون إلى الإسلام بصلة نظراء : ميشل عفلق وانطوان سعادة وجورج حبش ، هؤلاء لا يمتّون بالإسلام كما لا تمتّ بيوتهم التي نشأوا فيها بهذا الدين ، ومع ذلك فهم يدّعون أنّهم يريدون إعادة المجد إلى البلاد الإسلامية وأبناء القرآن الكريم عن طريق تحكيم القومية فيهم ، فهل يمكن تفسير ذلك بالإتفاق والصدفة ؟ وكيف تريد أبناء النصارى إعادة المجد إلى البلاد الإسلامية والمسلمين وهم ليسوا منهم ؟

إذا ما فصلت عليّا قريش *** فلا في العير أنت ولا النفير

6 - ما هي الغاية من زرع هذه الفكرة وترويجها في الأوساط الإسلامية ؟

كانت الغاية من زرع بذور القومية في الأوساط الإسلامية ، تبديد الحكومة الإسلامية الموحّدة الحاكمة باسم الإسلام ، وكانت البلاد الإسلامية إلاّ ماشذ تعيش في ظل حكومة إسلامية لها طابع الإسلام ، وأراد المستعمرون بزرع تلك البذرة وتنميتها بيد عملائهم ، تقسيم الحكومة الواحدة إلى حكومات ، والبلد الواحد إلى بلاد ، والحاكم الواحد إلى حكّام ، حتى يسهل السيطرة عليهم ، والعجب أنّ جماعة كثيرة من الشباب والمثقّفين اغترّوا بهذه الفكرة وحسبوا أنّ الدعوة إلى القومية دعوة ناجحة مطبّقة بالإسلام والقرآن ، وكأنّهم نسوا قول الباري عزّ وجلّ : ( وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ) ( المؤمنون / 52 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) ( الأنبياء / 92 ).

فصاروا يتخاصمون مكان أن يتحابّوا ، يشتم بعضهم بعضاً ويبغض بعضهم

ص: 550

بعضاً ، فكأنّهم لم يسمعوا قول اللّه عز وجل : ( فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ) ( آل عمران / 103 ) أو قوله عزّ وجلّ : ( إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) ( الحجرات / 10 ) أو قول نبيّهم الأعظم : « إنّما المؤمنون في تراحمهم وتوادّهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى » (1).

ترى أنّ كل قطر من الأقطار الإسلامية أصبح لقمة صغيرة قابلة للأكل والبلع لحماة الإستعمار أوّلاً والمستعمرين ثانياً ، فحاق بالمسلمين ألوان العذاب وأصناف العقاب.

7 - رسالة الإسلام رسالة عامة عالمية لا تختص بقوم دون قوم وبيان دلائله من القرآن الكريم :

إنّ رسالة النبي الأكرم رسالة عالمية غير مختصّة بشعب دون شعب ، وإن أصرّ الدعاة المسيحيون بتخصيص رسالتها بالاُمّة القاطنة في الجزيرة العربية ، غير أنّ تلك الفكرة فكرة خاطئة يكذّبها القرآن بخطاباته العامّة وهتافاته المطلقة ، فالقرآن يخاطب جميع العالم بلفظ : « يا أَيّها الناس » ويقول : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) ( الأعراف / 158 ).

كما أنّه يعرّف النبيّ رحمة للعالمين بقوله سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) ( الأنبياء / 107 ).

وبعد القرآن النبي الأكرم نذيراً للعالمين ، ويقول ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) ( الفرقان / 1 ).

كما أنّه يأمر النبي أن ينذر بالقرآن كل بشر يصل إليه ذلك الكتاب ، ويقول : ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) ( الأنعام / 19 ).

ص: 551


1- مسند أحمد ج 4 ص 270.

نعم هناك آية اُخرى ربّما تفع ذريعة لمن يريد الخدعة وتحريف الفكرة الصحيحة ، وهي قوله سبحانه : ( لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ) ولكن الآية واضحة ببركة الآية المتقدّمة عليها ، وذلك لأنّ المراد باُمّ القرى هي مكّة كما أنّ المراد ب « من حولها » العالم كلّه فمكّة اُمّ القرى وقلب العالم التوحيدي فإذا أنذر مكّة وأنذر ما حولها فقد أنذر جميع العالم.

فهذه الآيات ونظائرها أوضح دليل على عالميّة رسالته وانّها تشمل جميع أبناء البشر ، كيف والنبي الأكرم حسب قوله سبحانه : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) ( البقرة / 185 ). يهدي كل الناس ببركة القرآن ، أفبعد هذه التصاريح القاطعة يمكن احتمال إختصاص رسالة النبي الأكرم بقوم دون قوم ؟

وهذه الآيات ونظائرها الكثيرة الواردة في القرآن تصرّح بعموميّة رسالته وإطلاق نبوّته.

8 - تفسير قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ ) ( الحجرات / 13 ).

والآية تشتمل على نكات ستّ نشير إليها بإيجاز.

1 - إنّ الآية تقسّم الإنسان إلى قسمين الذكر والاُنثى ويستند في التفسير باُمور ذاتية داخلة في جوهر ذاته وحقيقة وجوده وهي الذكورية والاُنوثية ولا يعتني بالاُمور الطارئة عليه حسب ظروفه وشرائط حياته.

2 - تعترف بالشعوب والقبائل وتصرّح بأنّ هناك قوميّات ولا تنفيها أبداً.

3 - تصرّح بأنّ اختلاف البشر من جهة الشعوب والقبائل كاختلافهم من حيث الذكورة والاُنوثة وإنّ كلا الاختلافين داخلان في جوهر وجوده وواقع شخصيّته.

4 - يسند تكوّن الاختلاف في كلتا الجهتين إلى نفسه ( إِنَّا خَلَقْنَاكُم ... وَجَعَلْنَاكُمْ ) .

ص: 552

5 - إنّ الغاية من تكوين ذلك الاختلاف وجعل البشر شعوباً وقبائل ليست هي التفاخر والتناكر بل التعارف والتحابب.

6 - إنّ الاعتراف بالقوميّات ليست بمعنى انّها الملاك في التفوّق والاعتلاء بل ملاك التعالي والكرامة في التقوى والتجنّب عن اقتراف المعاصي.

هذه نكات ست جئنا بها على وجه الإيجاز والكل يحتاج إلى توضيج أكثر من هذا نتركه لآونة اُخرى.

9 - كلمات مضيئة للرسول الأعظم في تحطيم القومية :

إنّ الرسول الأعظم جاء يحطّم القومية المبدّدة لكيان الإسلام ووحدة المسلمين وألقى جوامع الكلم في هذا المجال نأتي ببعضها.

أ - قال صلی اللّه علیه و آله في خطبة حجّة الوداع : « يا أيّها الناس إنّ اللّه تعالى أذهب عنكم نخوة الجاهلية وفخرها بالآباء ، كلّكم من آدم وآدم من تراب ، ليس لعربي على أعجمي فضل إلاّ بالتقوى » (1).

ب - وقال صلی اللّه علیه و آله : « الناس كلّهم سواء كأسنان المشط » (2).

ج - وقال صلی اللّه علیه و آله : « الناس كلّهم أحرار إلاّ من أقرّ على نفسه بالعبودية » (3).

د - وقال صلی اللّه علیه و آله : « ليس منّا من دعا إلى عصبية ».

ص: 553


1- سيرة ابن هشام ج 2 ص 417.
2- كنوز الحقائق في حديث خير الخلائق : ص 122.
3- وسائل الشيعة ج 3 ص 242.

ه - روى المحدّثون أنّه جلس سلمان إلى جنب سائر الصحابة من قريش فانتهى الكلام إلى الأنساب والأحساب ، فعرّف كل واحد أصله ونسبه ، ولمّا وصل الكلام إلى سلمان فقال : هو أنا سلمان ابن عبد اللّه كنت ضالاًّ فهداني اللّه بمحمد ، وكنت عائلاً فأغناني اللّه بمحمد ، وكنت مملوكاً فأعتقني اللّه بمحمد ، فلمّا وقف النبي على محاضرتهم أقبل إليهم وقال : « يا معشر قريش إنّ حسب الرجل دينه ، ومروءته خلقه ، وأصله عقله. قال اللّه عز وجلّ : ( إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ) قال النبي لسلمان : ليس لأحد من هؤلاء عليك فضل إلاّ بتقوى اللّه عزّ وجلّ ، وإن كانت تقوى لك فأنت أفضل (1).

و - قال صلی اللّه علیه و آله : « ليدعن رجالاً فخرهم بأقوام إنّما هم فحم من فحم جهنّم أو ليكوننّ أهون على اللّه من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن » (2).

وقد نقل انّه اشترك في بعض المغازي شابّ إيراني ، فلمّا وجّه إلى العدو فقال : خذ هذه الضربة من شاب إيراني ، فاعترض عليه النبي صلی اللّه علیه و آله وقال : لماذا لم تقل من رجل أنصاري (3).

ز - كان النبي واقفاً على أنّ العرب تفتخر بلسانها العربي وقال في هذا الصدد : « ألا انّ العربية ليست باب والد ولكنّها لسان ناطق فمن قصر عمله لم يبلغ به حسبه » (4).

ح - إنّ النبي أسّس مجتمع إسلامي عظيم من قوميّات مختلفة فضمّ عليّاً العربي إلى صهيب الرومي وضمّ بلال الحبشي إلى سلمان الفارسي وضمّ إليهم خبّاب النبطي من دون أن يزعج واحد منهم الآخر وهم من قوميّات متشتّتة ، ولأجل

ص: 554


1- روضة الكافي ص 181 ، بحار الأنوار ج 22 ص 282.
2- سنن أبي داود ج 2 ص 624.
3- سنن أبي داود ج 2 ص 625.
4- الكافي ج 8 ص 246.

ذلك قام علي علیه السلام يقول : « السباق خمسة فأنا سابق العرب وسلمان سابق فارس وصهيب سابق الروم وبلال سابق الحبشة وخبّاب سابق النبط » (1).

ط - روي انّ عبد الرحمن بن عوف قال لعبده : يا ابن الأسود ، فوقف عليه النبي وقال : « ليس لابن الأبيض على ابن الأسود فضل إلاّ بالتقوى واقتفاء الحق » (2).

ي - روى المحدّثون أنّ عقيلاً أخا علي اعترض على أمير المؤمنين بأنّه ساوى بينه وبين رقّ أسود ، وقال : واللّه لتجعلني وأسود بالمدينة سواء ، فقال علي : وما فضلك عليه إلاّ بسابقة أو بتقوى (3).

ك - روي انّ سلمان كان جالساً في مجلس كانت فيه شخصيات قريش الذين هاجروا إلى المدينة وآمنوا بالنبي ، فاعترض واحد منهم وقال : من هذا العجمي المتصدّر فيما بين العرب ، فلمّا سمع النبي ذلك الكلام اللائح منه القوميّة البغيضة صعد المنبر وقال : إنّ الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط لا فضل للعربي على العجمي ولا للأحمر على الأسود إلاّ بالتقوى » (4).

هذه كلمات مضيئة من النبي حول القومية وكل واحدة منها تكفي في تحطيم القومية وتضادّها مع مبادئ الإسلام.

10 - الخسارة التي تفرضها القومية على البشرية أوّلاً والإسلام والمسلمين ثانياً.

القومية تنمّي روح التوسّعية والسيطرة على أقوام اُخر باعتقاد أنّ حاملها أفضل

ص: 555


1- الخصال للشيخ الصدوق : ص 212.
2- الحديث منقول بالمعنى ، رواه باقر شريف القرشي في كتابه « الحكمة والحكومة » : ص 152.
3- روضة الكافي ج 8 ص 262.
4- الإختصاص للشيخ المفيد : ص 227.

الأقوام وأمثلها ، ولأجل ذلك نرى أنّ رئيس ألمانيا ( هتلر ) في وقته دعى إلى القومية وانّ شعبه من أفضل الشعوب عقلاً وأطهرها دماً ، فأوجد في قومه نخوة كبيرة وحقداً وبغضاً لسائر الشعوب ، فنمت فيهم روح الطغيان والتوسّعية فأشعل فتيلة الحرب العالمية الثانية ، ودامت الحرب حوالي خمس سنين وتكبّد العالم البشري خسائر فادحة ، وأعطت لاطفاء نيرانها النفس والنفيس قرابة مائة مليون بين قتيل وجريح ومفقود.

وأمّا الخسائر التي تفرضها القومية على الإسلام فهي تحطّم الوحدة الإسلامية وتبدّد المجتمع الواحد إلى مجتمعات ، وتبدّل الاُخوّة إلى البغضاء فيصير المجتمع الإسلامي اُمماً متفرّقة وأشلاء مبعثرة تقع فريسة للقوى الكبرى.

ولو كان شعار القومية : نحن العرب ، نحن الفرس ، نحن الترك ، فشعار المسلم نحن حزب اللّه ودعاته تجمعنا عقيدة واحدة ، وهي الإعتقاد بربّ واحد ورسول خاتم وكتاب نازل وأحكام واُصول وفروع خالدة.

نحن كما يقول شاعر الاهرام حسن عبد الغني حسن :

إنّا لتجمعنا العقيدة اُمّة *** ويضمّنا دين الهدى أتباعاً

ويُؤلِّف الإسلام بين قلوبنا *** مهما ذهبنا بالهوى أشياعاً

وفي الختام نلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ الدعوة إلى القومية تختلف عن العلاقة بالأوطان التي نشأ الإنسان فيها كما تختلف عن العلاقة بالثقافات القومية والآداب والرسوم المورثة إذا لم تتعارض مع اُصول الإسلام وتعاليمه ، وهذا هو رمز تقدّم الإسلام بين الشعوب والأقوام المختلفة ، فالإسلام في مفهومه يتحمّل جميع القوميات والثقافات المحلّية ولا يفنّدها بل يعترف بالجميع شريطة أن لا تخالف المبادئ الإسلامية ، ولو كان نبيّ الإسلام صلی اللّه علیه و آله معارضاً لهذه الثقافات والرسوم والآداب لما نجح في نشر الإسلام وتربية الناس ، نعم الإعتراف بهذه الآداب والرسوم يختلف من جعلها محوراً للتفوّق وملاكاً للتصاغر.

ص: 556

وقد روي أنّ النبي عندما وصل في هجرته من مكّة إلى المدينة إلى أرض الجحفة اشتاقت نفسه إلى موطنه فنزلت الآية : ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) ( القصص / 85 ) والمعاد هو الوطن.

تمّ الجزء السابع من هذه الموسوعة القرآنية الموضوعية التي استعرضت الجوانب المتعدّدة للشخصيّة المحمدية ، ويسعدنا أنّا استعرضنا تلك الشخصيّة الكبرى في ضوء أتقن وأصحّ مصادر الإسلام وهو القرآن الكريم ، فهي صورة معبّرة لأبعاد الشخصيّة المحمديّة وما يدور حولها من منظار الوحي الإلهي.

وهذه الصورة وإن لم تكن الصورة الكاملة الشاملة لتلك الشخصية الطاهرة السامية إلاّ أنّها تمثّل أبرز ملامحها المباركة.

وليس لنا هنا إلاّ أن نعتذر إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعجزنا عن أداء هذه المهمّة الجسيمة رغم السعي الكبير ..

ونرجو من اللّه سبحانه التوفيق لإتمام بقية هذه الموسوعة إنّه سميع الدعاء.

تمّ عشية ليلة الأحد الخامس من شهر جمادي الآخرة من شهور عام 1411 ه.

والحمد لله ربّ العالمين

قم مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام

جعفر السبحاني

غفر اللّه له ولوالديه

ص: 557

ص: 558

فهرس أمّهات المصادر

ص: 559

ص: 560

فهرس اُمّهات المصادر

حرف الألف

1 - الاتحاف بحب الأشراف : الشبراوي : عبد اللّه بن محمد ، المطبعة الأدبية - مصر.

2 - الطبرسي : أحمد بن علي بن أبي طالب ( من علماء القرن السادس ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت - 1403 ه.

3 - الأحكام السلطانية : الماوردي : أبو الحسن علي بن محمد ( ت 450 ه ) دار الكتب العلمية - بيروت.

4 - الإختصاص : المفيد : أبو عبد اللّه محمد بن محمد بن النعمان ( 336 - 413 ه ) منشورات جماعة المدرسين - قم.

5 - الإرشاد : له أيضاً قدس سره منشورات مكتبة بصيرتي - قم.

6 - إرشاد الساري : القسطلاني : أبو العباس شهاب الدين أحمد بن محمد ( 851 - 923 ه ) دار إحياء التراث العربي - بيروت.

7 - اُسد الغابة : ابن الأثير : أبو الحسن علي بن أبي الكرم ( ت 630 ه ) دار إحياء التراث العربي - بيروت.

8 - إظهار الحقّ : رحمة اللّه بن خليل الرحمان الهندي ( من علماء القرن الثالث عشر ) مطبعة الرسالة - مراكش.

9 - إعلام النساء : خير الدين الزركلي ( ت 1396 ه ) دار العلم للملابين ، بيروت 1404 ه الطبعة السادسة.

10 - إعلام الورى : الطبرسي : امين الإسلام الفضل بن حسن ( 471 - 548 ه ) ط ايران.

11 - أعمال الرسل : من الكتب المقدّسة.

12 - آلاء الرحمن في تفسير القرآن : البلاغي النجفي : محمد جواد ( ت 1352 ه ) مكتبة الوجداني - قم.

ص: 561

13 - امتاع الأسماع : المقريزي : نقي الدين أحمد بن علي ( ت 845 ه ) طبع مصر.

14 - أنيس الأعلام في نصرة الإسلام : الطبعة الحديثة - المكتبة المرتضوية - طهران.

حرف الباء

15 - بحار الأنوار : المجلسي : محمد باقر بن محمد تقي ( 1037 - 1110 ه ) مؤسسة الوفاء ، بيروت 1403 ه.

16 - البداية والنهاية : ابن كثير : الحافظ أبو الفداء ( ت 774 ه ) دار الفكر ، بيروت 1402 ه.

17 - بلاغة الحسين : الموسوي الحائري : مصطفى محسن ، طبع طهران - 1369 ه.

18 - بلوغ الارب : الآلوسي : محمود شكري البغدادي ( ت 1270 ه ) مطبعة دار الكتاب العربي - مصر.

حرف التاء

19 - تاريخ الخميس : الدياربكري : الشيخ حسين بن محمد - مؤسسة شعبان - بيروت.

20 - تاريخ الطبري : الطبري : أبو جعفر محمد بن جرير ( ت 310 ه ) مؤسسة عز الدين ، بيروت - 1407 ه.

21 - تاريخ القرآن : أبو عبد اللّه الزنجاني ( 1309 - 1360 ه ) مكتبة الصدر ، طهران 1387 ه.

22 - تاريخ اليعقوبي : اليعقوبي : أحمد بن أبي يعقوب ( من علماء القرن الثالث ) دار صادر - بيروت.

23 - تبصرة المتعلّمين : العلاّمة الحلي : الحسن بن يوسف بن المطهر ( 648 - 726 ه ) ط ايران.

24 - التبيان في تفسير القرآن : الطوسي : أبو جعفر محمد بن الحسن ( 385 - 460 ه ) دار إحياء التراث العربي - بيروت.

25 - تصحيح الإعتقاد : الشيخ المفيد ( 336 - 413 ه ) ط تبريز.

26 - تفسير البرهان : البحراني : السيد هاشم التوبلي ( ت 1107 ه ) قم - 1375 ه.

ص: 562

27 - تفسير البغوي : البغوي : أبي محمد الحسين بن مسعود الغراء الشافعي ( ت 516 ه ) ، دار المعرفة - بيروت - 1407 ه.

28 - تفسير الرازي ( مفاتيح الغيب ) : الفخر الرازي : أبو عبد اللّه محمد بن عمر بن حسين الطبرستاني ( 543 - 606 ه ) دار إحياء التراث العربي - بيروت.

29 - تفسير الطبري : الطبري : أبو جعفر محمد بن جرير ( ت 310 ه ) ، دار المعرفة - بيروت اُفسيت - 1400 ه.

30 - تفسير فرات : الكوفي : أبو القاسم فرات بن إبراهيم بن فرات ( من أعلام الغيبة الصغرى ) طهران - إيران - 1410 ه.

31 - تفسير القرآن المجيد : الشيخ محمود شلتوت ( ت 1383 ه ).

32 - تفسير القرطبي : القرطبي : أبو عبد اللّه محمد بن أحمد الأنصاري ( ت 671 ه ) ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت - 1405 ه.

33 - تفسير القمي : القمي : علي بن إبراهيم ( من أعلام القرن الثالث والرابع الهجري ) ، مطبعة النجف - 1387 ه.

34 - تفسير المراغي : المراغي : أحمد مصطفى دار إحياء التراث العربي ، بيروت - 1406 ه الطبعة الثانية.

35 - تفسير المنار : محمد رشيد رضا ( ت 1354 ) ، دار المنار ، مصر - 1373 ه.

36 - تقريب التهذيب : العسقلاني : أحمد بن علي بن حجر ( 773 - 852 ه ) دار المعرفة ، بيروت - 1395 ه.

37 - تنزيه الأنبياء : الشريف المرتضى ( 355 - 436 ه ) طبع ايران.

38 - تهذيب التهذيب : العسقلاني : شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر ( ت 582 ه ) دار الفكر ، بيروت - 1404 ه.

حرف الجيم

39 - جامع الاُصول : ابن الاثير الجزري : مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد ( 544 - 606 ه ) دار الفكر ، بيروت - 1403 ه.

ص: 563

40 - الجواهر : النجفي : محمد حسن ( ت 1266 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت - 1981 م.

حرف الحاء

41 - حلية الأولياء : أبو نعيم : أحمد بن عبد اللّه الأصبهاني ( ت 430 ه ) دار الكتاب العربي ، بيروت - 1387 ه.

42 - حياة محمد صلی اللّه علیه و آله : محمد حسين هيكل ، مكتبة النهضة المصرية - القاهرة.

حرف الخاء

43 - الخصال : الصدوق : أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي ( ت 381 ه ) منشورات جماعة المدرسين ، قم - 1403 ه.

حرف الدال

44 - الدر المنثور : السيوطي : جلال الدين ( 849 - 911 ه ) بيروت - اُفسيت من طبعة مصر.

45 - دلائل النبوة : البيهقي : أحمد بن حسين ( ت 458 ه ) ط مصر.

46 - ديوان أبي طالب : الجامع علي بن حمزة البصري التميمي المكنى بأبي نعيم ( ت 375 ه ).

حرف الذال

47 - ذكر أخبار اصبهان : أبو نعيم : أحمد بن عبد اللّه ( 334 - 402 ه ) طبع ليدن - 1931 م.

حرف الراء

48 - روح المعاني : الآلوسي : أبو الفضل شهاب الدين السيد محمود البغدادي ( ت 1270 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت - لبنان.

حرف السين

49 - سنن أبي داود : أبو داود الحافظ سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي ( 202 - 275 ه ) مكتبة مصطفى البابي الحلبي ، مصر - 1371 ه.

ص: 564

50 - السنن الكبرى : البيهقي : أبو بكر أحمد بن الحسين ( ت 458 ه ) ، دار المعرفة بيروت - 1406 ه.

51 - سنن النسائي : النسائي : أبو عبد الرحمن بن شعيب ( 214 - 303 ه ) دار إحياء التراث العربي - بيروت.

52 - السيرة الحلبية : الحلبي : برهان الدين علي بن إبراهيم ( ت 1044 ) المكتبة الإسلامية - بيروت.

53 - السيرة النبويّة : ابن هشام : أبو محمد عبد الملك بن أيوب الحميري ( ت 213 أو 218 ه ) دار التراث العربي ، بيروت - لبنان.

حرف الشين

54 - شرائع الإسلام : المحقق الحلي : أبو القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن ( 602 - 676 ه ) دار الأضواء ، بيروت - 1403 ه.

55 - شرح ابن عقيل : قاضي القضاة بهاء الدين عبد اللّه بن عقيل الهمداني ( 698 - 769 ه ) مطبعة السعادة ، القاهرة - 1375 ه.

56 - شرح نهج البلاغة : ابن أبي الحديد - عز الدين عبد الحميد البغدادي المدائني ( ت 655 ه ) دار احياء الكتب العربية ، القاهرة - 1378 ه.

حرف الصاد

57 - صحيح البخاري : البخاري : أبو عبد اللّه محمد بن إسماعيل ( ت 256 ه ) مكتبة عبد الحميد أحمد حنفي - مصر - 1314 ه.

58 - صحيح مسلم : أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري ( ت 261 ه ) دار إحياء التراث العربي - بيروت.

59 - الصحيح من سيرة النبي : جعفر مرتضى العاملي ، قم - 1403 ه.

حرف العين

60 - علل الشرائع : الصدوق : أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي ( ت 381 ه ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت - 1408 ه.

ص: 565

61 - عيون أخبار الرضا : له أيضاً قدس سره مؤسسة الأعلمي ، بيروت - 1404 ه.

حرف الغين

62 - الغدير : الأميني : عبد الحسين أحمد النجفي ( 1320 - 1390 ه ) دار الكتاب العربي ، بيروت - 1387 ه.

حرف الفاء

63 - فتح الباري : ابن حجر : أحمد بن علي العسقلاني ( 773 - 852 ه ) دار المعرفة - بيروت.

64 - فتوح البلدان : البلاذري : أبو الحسن ( ت 279 ه ) المكتبة التجارية ، مصر - 959 ام.

65 - في ظلال القرآن : سيد قطب - دار احياء التراث العربي ، بيروت - 1386 ه الطبعة الخامسة.

حرف الكاف

66 - الكافي : الكليني : أبو جعفر محمد بن يعقوب الرازي ( ت 329 ه ) دار الكتب الإسلامية ، طهران - 1388 ه.

67 - الكامل في التاريخ : ابن الأثير : محمد بن محمد الجزري ( ت 630 ه ) دار الكتاب العربي - بيروت.

68 - الكشاف : الزمخشري : محمود بن عمر بن محمود ( ت 538 ه ) ط القاهرة 1367 ه 1948 م.

69 - كنز الفوائد : الكراجكي : محمد بن علي بن عثمان ( ت 449 ).

70 - كنوز الحقائق في حديث خير الخلائق المناوي : عبد الرؤوف ( ت 1031 ه ) طبع مصر.

حرف اللام

71 - لسان العرب : ابن منظور : محمد بن مكرّم ( 630 - 711 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت - 1408 ه.

ص: 566

حرف الميم

72 - مجمع البيان : الطبرسي : أبو علي الفضل بن الحسن ( 471 - 548 ه ) مطبعة العرفاني ، صيدا - 1354 ه.

73 - المختصر النافع : أبو القاسم المحقق جعفر بن الحسن ( 602 - 676 ه ) ط مصر.

74 - المراجعات : السيد عبد الحسين شرف الدين ( 1290 - 1377 ه ) طبع مصر.

75 - مستدرك الحاكم : الحاكم النيسابوري : أبو عبد اللّه محمد بن عبد اللّه ( ت 405 ه ) - دار الفكر ، بيروت - 1398 ه.

76 - مستدرك الوسائل : النوري الطبرسي : الحسين بن محمد تقي بن محمد ( 1254 - 1320 ه ) ، مؤسسة آل البيت ، قم - 1407 ه.

77 - مسند أحمد : أحمد بن حنبل ( ت 241 ه ) دار الفكر - بيروت.

78 - المغازي : الواقدي : محمد بن عمر بن واقد ( 130 - 207 ه ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت - لبنان.

79 - مفاهيم القرآن : السبحاني : جعفر بن محمد حسين ( 1347 ه ) مؤلف هذا الكتاب ، قم - 1404 ه.

80 - مقاييس اللغة : ابن فارس : أبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا ( ت 395 ه ) ، دار احياء الكتب العربية ، القاهرة - 1366 ه.

81 - مكاتيب الرسول : علي بن حسين علي الأحمدي ( المعاصر ) المطبعة العلمية ، قم - 1379 ه.

82 - مناقب علي بن أبي طالب : ابن المغازلي : أبو الحسن علي بن محمد الشافعي ( ت 483 ه ) المكتبة الإسلامية ، طهران - 1403 ه.

83 - مناقب آل أبي طالب : ابن شهر آشوب : أبو جعفر رشيد الدين محمد بن علي السروي المازندراني ( 488 - 588 ه ) المطبعة العلمية ، قم - إيران.

84 - من لا يحضره الفقيه : الصدوق : أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي ( ت 381 ه ) ، دار الكتب الإسلامية ، طهران - 1390 ه.

ص: 567

85 - منهاج السنّة : ابن تيمية : أحمد بن تيمية ( ت 661 - 728 ه ) طبع مصر.

86 - ميزان الإعتدال : محمد بن أحمد الذهبي ( ت 748 ه ) نشر دار المعرفة - بيروت.

87 - الميزان في تفسير القرآن : الطباطبائي : السيد محمد حسين ( 1321 - 1402 ه ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت - 1393 ه.

حرف النون

88 - ناسخ التواريخ : لسان الملك : محمد تقي بن محمد علي ( ت 1297 ه ) ط طهران.

89 - نفح الطيب : شمس الدين المالكي ( ت 780 ه ).

90 - نهج البلاغة : جمع الشريف الرضي : أبو الحسن محمد بن الحسن ( 359 - 404 ه ) بيروت - 1387 ه.

91 - نهج الفصاحة : أبو القاسم پاينده ، المطبعة الإسلامية ، طهران - 1389 ه.

92 - نور الثقلين : العروسي الحويزي : عبد علي بن جمعة ( ت 1112 ه ) مطبعة الحكمة ، قم - إيران.

حرف الهاء

93 - الهدى إلى دين المصطفى : شيخ جواد البلاغي ( 1282 - 1352 ه ) ط صيدا لبنان.

حرف الواو

94 - الوحي المحمدي : السيد محمد رشيد منشئ المنار ( ت 1354 ه ) ط مصر.

95 - وسائل الشيعة : الحر العاملي : محمد بن الحسن ( ت 1404 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت - 1403 ه.

96 - وفيات الأعيان : ابن خلّكان : أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد ( 608 - 681 ه ) منشورات الرضي ، قم - إيران - 1364 ه.

ص: 568

فهرس المواضيع المهمّة

ص: 569

ص: 570

فهرس المواضيع المهمّة

عواطف ساخنة ومشاعر تقدير ... 3

تقدير وإكبار ... 5

شخصية النبي محمد صلی اللّه علیه و آله وسيرته في القرآن الكريم ... 7

(1)

بشائره في الكتب السماويّة

أخذ الميثاق من النبيين على الإيمان به ونصره ... 12

بشائر النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله في الكتب السماويّة ... 19

النبي الأكرم ودعاء الخليل ... 22

(2)

ثقافة قومه وحضارة بيئته

الشرك أو الدين السائد ... 27

إنكار الحياة بعد الموت ... 28

عقيدتهم في الملائكة والجنّ ... 29

سيادة الخرافات ... 30

ثقافة قومه ... 33

الانهيار الخلقي ... 37

معاقرة الخمور وارتياد نواديها ... 39

وأد البنات ... 42

ص: 571

أكل الخبائث من الدماء والحشرات ... 45

التقسيم بالأزلام ... 46

النسي في الأشهر الحرم ... 47

الربا ذلك الاستغلال الجائر ... 49

خاتمة المطاف ... 50

(3)

ميلاد النبي الأكرم أو تبلّج النور في الظلام الحالك

الإيواء بعد اليتم ... 60

الهداية بعد الضلالة ... 62

الإغناء بعد العيلولة ... 64

تسميته بمحمد وأحمد ... 65

أحمد من أسمائه صلی اللّه علیه و آله ... 67

تبشير المسيح بالنبي باسم « أحمد » ... 68

إنجيل « برنابا » والتبشير بالنبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله ... 74

اُمّية النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله ... 77

وضع النبي بعد البعثة ، إيمان النبي قبل البعثة ... 83

الشريعة التي كان يتعبّد بها قبل البعثة ... 84

خاتمة المطاف ... 86

ص: 572

(4)

الوحي في القرآن الكريم

الوحي لغة واصطلاحاً ، تقدير الخلقة بالسنن والقوانين ... 90

الإدراك والغريزة ... 91

الإلهام والإلقاء في القلب ، الإشارة ، الإلقاءات الشيطانية ... 92

كلام اللّه المنزّل على نبي من أنبيائه ، قنوان المعرفة الثلاثة : الطريق الحسّي التجربي ، الطريق التعقّلي النظري 93

طريق الإلهام ، أنواع الوحي وأقسامه ... 94

الوحي وليد النبوغ ؟ ... 95

الوحي ثمرة الأحوال الروحيّة ، نبوّة أو أضغاث أحلام ... 98

(5)

بعثته ونزول الوحي إليه

أوّل ما نزل على رسول اللّه ، أساطير وخرافات ... 108

نظرة تحليلية حول هذه النصوص ... 113

فرية انقطاع الوحي وفتوره ... 116

مراحل الدعوة الثلاث ، المرحلة الاُولى : السريّة في الدعوة ... 122

اتّخاذ النبي دار الأرقم مركزاً لنشر الدعوة ... 124

المرحلة الثانية : دعوة الأقربين ... 126

الدعوة العامة وكسح العراقيل الماثلة أمامه ... 132

ص: 573

(6)

الإيجابيات والسلبيات تجاه الدعوة المحمّدية

العراقيل والموانع تجاه دعوة الرسول صلی اللّه علیه و آله ... 137

اكالة التهم للنبيّ صلی اللّه علیه و آله ... 142

الكهانة ، السحر ، المسحورية ، الجنون ... 143

التعلّم من الغير ... 144

كذّاب ، مفتر ... 146

مفتر أو مجنون ، شاعر ... 147

أضغاث أحلام ... 149

الاستنكار والاحتجاج بالاُمور الواهية ، لماذا لم ينزل القرآن على رجلٍ مثرِ ... 152

الرسالة الإلهيّة فوق طاقة البشر ... 153

نبذ سنّة الآباء ... 155

الدعوة إلى الحياة الاُخروية ... 156

طلب المشاركة في امتيازات النبوّة ، المطالبة بمثل ما اُوتي سائر الرسل ... 158

لماذا لا ينزلّ عليه ملك ؟! ... 162

التفاؤل بغلبة فارس على الروم ... 164

طلب رفع العذاب ... 165

كيف يمكن احياء العظام البالية ، ما هو المراد من كون الآلهة حصب جهنّم ... 166

خاتمة المطاف ، دعاء النبي على سبعة من قريش ... 168

الاقتراحات الباطلة لقبول الرسالة ، التشريك في العبادة ... 174

ص: 574

تبديل القرآن بغيره ... 176

شروط تعجيزية ... 177

طلب طرد الفقراء ... 181

تعذيب النبيّ وأصحابه ... 185

المضطهدون في صدر البعثة ... 186

إثارة الضوضاء عند تلاوة النبي للقرآن ... 188

العذر الأخير للإمتناع عن قبول الدعوة ... 189

خرافة الغرانيق ... 190

تحليل سند الرواية ... 192

تحليل متن الرواية ... 197

(7)

إسراؤه ومعراجه

معراج النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله ... 204

عروجه إلى السماء ... 209

استشارة قريش أحبار اليهود في أمر دعوة النبي ... 217

وفد الحبشة إلى النبي صلی اللّه علیه و آله للاستطلاع على أمر الدعوة ... 221

(8)

في رحاب الهجرة إلى يثرب

قدومه صلی اللّه علیه و آله إلى قباء ، إطلالة على نشأة التاريخ الهجري ... 229

نزول النبي بالمدينة ... 234

ص: 575

مجادلة أهل الكتاب ... 236

تنبئ القرآن عن شدّة عداوة اليهود ... 237

الدعوة إلى أصل مشترك بين الشرائع السماوية ، الاعتقاد بمبدأ البنوّة للباري جلّ وعلا 238

ذاتية التوحيد وظاهرة التثليث ... 239

مشكلة الجمع بين التوحيد والتثليث ... 242

سمات العبودية في المسيح ... 245

قسمة ضيزي ... 254

اليهود ونقض المواثيق والعهود ... 255

افشاء علائم النبوّة ... 256

السؤال عن الروح الأمين ... 257

إنكار نبوّة سليمان علیه السلام ... 258

كتابه إلى يهود خيبر ، انكار أخذ الميثاق منهم ... 259

الاقتراحات التعجيزيّة ، تنازع اليهود والنصارى عند الرسول صلی اللّه علیه و آله ... 260

التشبّث بالكلمات المتشابهة ... 261

كتمان الحقائق ، النبي الأكرم وبيت المدارس ... 263

الإيمان غدوة والكفر عشيّة ، اتّهام النبي بأنّه يؤلّه نفسه ... 264

سعيهم للوقيعة بين الأنصار ... 265

الحط من شأن مَنْ آمن من اليهود ... 266

دعوة المسلمين إلى البخل ، تفضيلهم الوثنية على الإسلام ... 267

ص: 576

إدّعاؤهم أنّهم أحبّاء اللّه وأصفياؤه ، إنكارهم نزول كتاب بعد موسى ... 268

رجوعهم إلى النبي في حكم الرجم ... 269

سؤالهم عن محين الساعة ، تهجّمهم على ذات اللّه عزّ وجل ... 273

طلبهم كتاباً من السماء ... 274

تحويل القبلة إلى الكعبة ... 275

مباهلة النبي نصارى نجران ... 278

الدعوة إلى المباهلة ... 281

الخلفية التشريعية لحرمة الأشهر الحرم ... 284

9

الاشتباك المسلح مع اليهود بالمدينة

إجلاء بني قينقاع من المدينة ... 289

إجلاء بني النضير ... 294

إبادة بني قريظة ... 300

غزوة خيبر أو بؤرة الخطر ... 310

قصّة فدك والتصالح مع أهالي وادي القرى ... 313

(10)

غزوات النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله

1 - غزوة بدر ... 317

انتقال الرسول إلى مكان قريب من بدر ... 321

ص: 577

نزول النبي في وادي بدر ... 322

بناء العريش ، تعليق على تغوير القلب وبناء العريش ... 323

ارتحال قريش من مقامهم ونزولهم وادي بدر ... 325

الشرارة التي أشعلت الحرب ... 326

الإعانات الغيبية ... 328

إراءة العدو قليلاً في المنام ، إراءة كل من الفريقين الآخر قليلاً في بدء الحرب ... 329

إراءة المشركين كثرة المؤمنين أثناء القتال ... 330

استغاثة المسلمين ونزول الملائكة ... 331

الامداد بالنعاس ، الامداد بنزول المطر ... 332

الامداد بتثبيت أقدام المؤمنين ، الامداد بإلقاء الرعب في قلوب المشركين ... 333

اختلافهم في الفيء ... 334

ما معنى الأنفال في الآية ... 335

أخذ الأسرى قبل الدعم والإستقرار ... 338

الوعد الجميل للأسرى ... 341

2 - غزوة اُحد

عودة المنافقين القهقرى إلى المدينة ... 346

نزول رسول اللّه أرض اُحد ... 347

الهزيمة بعد الإنتصار ... 349

النداء بنعي النبي ... 350

ص: 578

حنكة النبي العسكرية ... 353

تصدّع جيش المسلمين وانحلال زمامه ... 355

على أعتاب الردّة ... 356

القصاص بالقسط ... 363

مطاردة العدو ، غزوة اُحد بين السلبيات والايجابيات ... 364

3 - غزوة الخندق

حفر الخندق واحداثه حول المدينة ... 371

استبشار المؤمنين وكآبة المشركين ... 376

انقسام المشركين على أنفسهم ... 377

غزوة الأحزاب في الذكر الحكيم ... 380

استحواذ القلق عند مرابطة الأحزاب ... 381

حياكة الدسائس لفتح الثغرات ، المشارقة على أعتاب الردّة ... 383

عدم جدوى الفرار ... 384

سعة علمه ، جبناء حين البأس شجعان حين الأمن ... 385

حال المؤمنين الصادقين في غزوة الأحزاب ... 387

خاتمه المطاف ... 388

4 - غزوة بني المصطلق

تولّي قوم ابنُ اُبيّ مجازاته ... 392

التخطيط للإجلاء والمقاطعة الاقتصادية ... 393

ص: 579

تشتيت الشمل وبث التفرقة بين المسلمين ... 394

حنكة النبي صلی اللّه علیه و آله في اجتياز الأزمة ، سعة صدر النبي وتريّثه وتلبّثه ... 395

مقابلة الإساءة بالإحسان ... 396

العزّة لله ولرسوله ... 397

خاتمة المطاف ... 398

5 - صلح الحديبية

رجال خزاعة بين الرسول صلی اللّه علیه و آله وقريش إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ... 400

الحليس رسول ثالث لقريش ، عروة بن مسعود رسول قريش ... 401

رسول النبي إلى قريش ، عثمان رسول النبي صلی اللّه علیه و آله إلى قريش ... 402

بيعة الرضوان ، سهيل بن عمرو رسول قريش إلى الرسول صلی اللّه علیه و آله ، عمر ينكر على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الصلح 403

بنود الصلح ... 404

التاريخ يعيد نفسه ... 405

نحر الرسول وحلقه ، دروس وعبر ... 407

وقعة الحديبية في الذكر الحكيم ... 410

اعتذار المنافقين عن عدم الحضور ... 411

بيعة الرضوان ... 413

الوعد بفتحين ... 414

نبوءة غيبية ... 416

ص: 580

الأخذ بالحائطة للحفاظ على دماء المؤمنين ، الآية الاُولى تشير إلى أمرين ... 417

استفسارهم عن علّة عدم تحقّق الرؤيا ... 419

التنبّوء بظهور الإسلام على الدين كلّه ... 420

6 - غزوة ذات السلاسل

السر في انتصار علي علیه السلام دون من عداه ... 424

7 - فتح مكّة أو الفتح المبين

كتاب صحابي إلى قريش ... 431

المعيار في ابرام المعاهدات مع الكفّار ... 435

عود على بدء ... 438

مبايعة النساء للنبي صلی اللّه علیه و آله ... 442

8 - غزوة حنين

الانتصار بعد الهزيمة ... 447

نظرة تحليلية على انهزام المسلمين بادئ بدء ... 448

محاصرة الطائف ... 449

وفد هوازن في الجعرانة ... 450

مشادة الأنصار مع النبي ... 452

9 - غزوة تبوك

تخاذل بعض المؤمنين عن المناصرة ... 457

ص: 581

نكوص المنافقين عن القتال ... 458

الاعتذار بالخوف من نساء الروم ... 463

حديث تخلّف الثلاثة ... 464

مسجد ضرار ... 466

وقعة تبوك ، تآمر المنافقين على النبي صلی اللّه علیه و آله ... 468

(11)

البراءة من المشركين

لماذا لم يحجّ النبي صلی اللّه علیه و آله بنفسه في هذا العام ؟ ... 472

لماذاعزل النبي صلی اللّه علیه و آله أبا بكر عن مهمّة التبليغ ... 474

مبدأ أمد الهدنة ... 479

ما هي الوثيقة التي بلّغها أمير المؤمنين علیه السلام بعد تلاوة الآيات ؟ لماذا دفع اللّه سبحانه الأمان عن المشركين ؟ 481

الجهاد الإبتدائي ، جهاد دفاعي في الحقيقة ... 484

(12)

الجهاد في الإسلام دفاعياً أو تحريرياً

الجهاد ضرورة حياتية ... 492

الجهاد الدفاعي ... 495

خصائص الجهاد الدفاعي ، كون الجهاد في سبيل اللّه ( الهدف ) ... 498

القتال ضد المعتدي ... 499

ص: 582

حد الجهاد وإطاره ... 500

الجهاد التحريري ( الإبتدائي ) ، تحرير البشريه من الشرك ... 502

فرض العقيدة ممنوع ... 506

كسر الموانع المفروضة على الشعوب ، تخليص المستضعفين من الظالمين ... 508

رعاية الأخلاق في الحرب ... 511

الآمنون في الحرب ، تمالك النفس ... 512

منع ممارسة الأساليب الوحشية ... 515

أمان الكفّار ... 516

(13)

واقعة الغدير

النبوّة والإمامة توأمان ... 523

قصة الغدير ... 524

مصادر الواقعة ... 526

واقعة الغدير ورمز الخلود ... 527

خاتمة المطاف ... 530

(14)

الإعلام وأساليبه في عصر الرسالة

نماذج من الإعلام في العهد النبوي ، البعثات الإعلامية ... 533

الرسائل الإعلامية ... 534

مراسلة الملوك والاُمراء ورؤساء القبائل ... 536

ص: 583

التبليغ عن طريق الأدب والنظم ... 538

إعلان البراءة من المشركين ، شعار المسلمين في الهجمات العسكرية ... 540

ما هي وظائفنا اليوم في مجال التبليغ والدعوة ... 541

رصد الدعايات المفرّقة لصفوف المسلمين ... 542

تأسيس وحدة اعلامية واحدة للمسلمين ، إصلاح الكتب الدراسية ... 543

النظر إلى الإنسانية برحابة صدر ... 545

(15)

القوميّة في الإسلام

تعيين تاريخ زرع هذه الفكرة في العصور الأخيرة ... 547

هزيمة تلك الفكرة في مولدها ، اشتعال هذه الفكرة ونموّها في البلاد الإسلامية مؤخراً 548

دعاة هذه الفكرة في الشرق الإسلامي جماعة ينتسبون إلى المسيحية ، ما هي الغاية من زرع هذه الفكرة وترويجها في الأوساط الإسلامية 550

رسالة الإسلام رسالة عامّة عالمية لا تختص بقوم دون قوم وبيان دلائله من القرآن الكريم 551

تفسير قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى ... ) ... 552

كلمات مضيئة للرسول الأعظم في تحطيم القومية ... 553

الخسارة التي تفرضها القومية ... 555

فهرس امّهات المصادر ... 559

ص: 584

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.