مفاهيم القرآن المجلد 6

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ جعفر السبحاني

الناشر: مؤسسة الامام الصادق عليه السلام

المطبعة: الإعتماد

الطبعة: 2

الموضوع : القرآن وعلومه

تاريخ النشر : 1426 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-357-222-6

الكتب بساتین العلماء

مفاهيم القرآن

تأليف: العلامة جعفر السبحاني

الجزء السادس

يبحث عن أسمائه وصفاته سبحانه في القرآن الكريم

مؤسسة التاريخ العربي

بيروت - لبنان

ص: 1

اشارة

جميع الحقوق محفوظة للناشر

الطبعة الأولی

1431 ه - 2010 م

مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع

The Arabic History Publishing Distributing

العنوان الجديد

بيروت - طريق المطار - خلف غولدن بلازا - هاتف 01/540000 - 01/455559 - فاكس 850717 - ص. ب . 11/7957 Beyroth - Air port street - Golden plazza - Tel: 01/54000- 01455559 -7957/11 Fax: 850717 - p. o

ص: 2

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي بطن خفيّات الاُمور ، ودلّت عليه أعلام الظهور ، وامتنع على عين البصير ، فلا عين من لم يره تُنكره ، ولا قلبُ من أَثْبَتَهُ يُبصره ، سبق في العلوّ فلا شيء أعلى منه ، وقرب في الدنوّ فلا شيء أقرب منه ، فلا استعلاؤه باعده عن شيء من خلقه ، ولا قربه ساواهم في المكان به ، لم يطلع العقول على تحديد صفته ، ولم يحجبها عن واجب معرفته ، وهو الذي تشهد له أعلام الوجود ، على إقرار قلب ذي الجحود ، تعالى اللّه عمّا يقول المشبّهون به والجاحدون له علوّاً كبيراً (1).

نفتتح هذا الجزء ( السادس ) من أجزاء موسوعتنا « مفاهيم القرآن الكريم » بهذه الخطبة المباركة ، المنقولة عن أمير البيان والبلاغة ، وسيد الموحّدين وقدوة العارفين ، وفيها براعة استهلال لما نرومه في هذا الجزء ، وهو البحث عن أسمائه وصفاته وإثباتها له سبحانه في عين التنزيه ، وتنزيهه سبحانه عن شوائب الإمكان مع التوصيف.

ص: 3


1- اقتباس من خطبة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام ( نهج البلاغة ، الخطبة 49 ).

إنّ البحث عن أسمائه وصفاته سبحانه من أجلّ المعارف القرآنية التي لم تبلغها عقول ذوي الأفكار ولم تحم حولها أعين ذوي الإعتبار نقدّمه إلى القرّاء الكرام ، تفسيراً لأسمائه وصفاته في ضوء القرآن الكريم وفي إطار التفسير الموضوعي ، ونشكره سبحانه على توفيقه للغور في هذه المباحث الدقيقة ، والإغتراف من هذه البحار العذبة إنّه حميد مجيد.

قم - مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام

جعفر السبحاني

18 صفر المظفّر 1412

ص: 4

التفكر العقلي والاستدلال المنطقي في الذكر الحكيم

اشارة

إنّ النظرة الفاحصة إلى المجتمع البشري تكشف من أنّ الإلهيين يشكّلون الأكثرية الساحقة من الاُمم والشعوب ، وهم الذين يعتقدون بوجود مبدأ أعلى للعالم وراء المادة وتخالفهم شرذمة قليلة تنكر ذلك بل تنكر كلّ ماوراء الطبيعة ، وإنّما وصفناهم - بالقلّة - مع انّهم يشكلّون جماعة كبيرة في العالم ، ويسمّونها معسكر الشرق بفئاته المختلفة ، لأنّ ذلك المعسكر قد فرض على تلك الشعوب الالحاد والماديّة ، بحيث لو ارتفع الضغط لترى كيف خالط الإيمان ضميرهم ، وأنّهم ما برحوا على صلة وثيقة بالدين بفطرتهم ، ولو تظاهروا بالماديّة ، فإنما يتظاهرون تحت ضغط القوى المسيطرة عليهم التي ألجأتهم إلى ذلك (1).

وقد كان المتوقع من الإلهيين أن يشكلّوا صفاً واحداً وأن لايختلفوا في ما يتعلّق بالمبدأ إلاّ أنّهم - مع الأسف - إختلفوا في أبسط المسائل فضلاً عن العميقة منها ، وتفرقوا إلى مذاهب وشيع ، والسبب الأساسي - لهذا الإختلاف هو تنازعهم في أسمائه سبحانه وصفاته وأفعاله ، وهذا هو المنشأ الحقيقي لإفتراق الالهيين وظهور الديانات والمذاهب في المجتمع الإلهي.

ص: 5


1- ترى أنّ غوربا تشوف لمّا منح الحرّية النسبية لشعب الاتّحاد السوفيتي ارتفعت من جديد أصوات المآذن في أجواء ذلك البلد ، وأقبل الناس حتّى الشباب منهم على القضايا الدينية ، حتّى انّ وكالات الأنباء نقلت أخباراً عن بناء مساجد جديدة ، وقيام اجتماعات دينية واسعة ، والمطالبة بمنح المزيد من الحرّيات الدينية والاعتقادية.

الاختلاف في الأسماء والصفات سبب تعدد الديانات

الثنوية بعد تسليمها بوجوده سبحانه تميّزت عن سائرالإلهيين بإنكار صفة من صفاته سبحانه أعني التوحيد فهم بين ثنوي في الذات وثنوي في الفعل ، فتارة يصور للعالم مبدأً غير واحد وهذا هو الثنوي في الذات ، واُخرى يوحّد المبدأ ويقول بإله واحد ولكنه يفترض استقلالاً للمخلوقات فى البقاء دون الحدوث ، وثالثة تفترض الاستقلال في الفعل والايجاد كمن زعم أنّ وجود الممكنات قائم باللّه لكنّها مستقلاّت في أفعالها ، غير محتاجات إلى الإله في الإيجاد والإبداع ، وعلى كلّ تقدير فهم يمتازون عن سائر الفرق في وصفه سبحانه وهو كونه واحداً في الذات لا شريك له فيها كما هو واحد في الفعل لا موجد غيره ، ولو كان هناك إيجاد منسوب إلى غيره فإنّما هو بارادته ومشيئته وحوله وقوّته.

والثنوية بالمعنى الأوّل هي السائدة في الديار الهنديّة والصينيّة وشائعة بين البراهمة والبوذيين والهندوس ، كما أنّ الثنوية بالمعنى الثاني ذائعة بين القائلين بالتفويض ، وانّه سبحانه فوّض أمر الخليقة إلى جماعة مخصوصة أو فوّض أمر الإنسان إلى نفسه فهو يقوم بالفعل بلا استعانة ، فالإنسان محتاج في ذاته دون فعله ، ولو أنّ الطائفتين درسوا التوحيد على ما هو عليه وميّزوا بين الممكن والواجب لاتّحدت الصفوف وتراصّت.

والمسيحية وإن افترقت إلى يعقوبيّة وإلى نسطورية وإلى ملكانيّة لكن الكلّ متمسّكون بالتثليث أي تصوير اله العالم الواحد بصور ثلاث « الإله الأب » و « الإله الإبن » و « روح القدس » وبذلك نزّلوا الإله القدّوس إلى عالم المادة حتى جسّدوه في المسيح الذي صلب ليخلّص الناس من « عقدة الإثم » الذي ورثوه من أبيهم آدم ولو أنّ القوم فقهوا توحيده سبحانه ، لتقاربت الخطى وقلّ التباعد ، يقول سبحانه - ويأمر نبيّه أن يتلو عليهم قوله - : ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ * اللّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) .

ص: 6

والمسلمون تفرّقوا إلى طوائف وشعوب وجلّ اختلافهم يرجع إلى أسمائه سبحانه وصفاته وأفعاله.

فالعدليه منهم يصرّون على تنزيهه وتوحيده وهم « المعتزلة » و « الإمامية » و « الزيدية » بفرقهم المختلفة ، فاللّه سبحانه عندهم ليس بجسم ولا جسماني لا تحيطه جهة ولا مكان ليس بجوهر ولا عرض إلى غير ذلك من الصفات الجلاليّة كما أنّه سبحانه عندهم حكيم لا يصدر عنه قبيح ، لا يظلم ولا يجوز عليه الظلم وإن كان قادراً عليه.

ولكن « أهل الحديث » و « والحنابلة » لابتعادهم عن البحوث العقلية ، وقعوا في مهالك التجسيم والتشبيه ، وتجويز نسبة القبيح إليه سبحانه بحجّة أنّه ليس للعبد فرض شيء على اللّه سبحانه ، فله الحكم وله المشية ، وقد أصبحت الدعوة السلفيّة شعاراً لمن يريد التخلّص من مخالب الإختلاف ، والإبتعاد عن التفكّر والتدبّر في المعارف.

وصفوة القول : إنّك إذا لاحظت الكتب الكلامية تقف على أنّ اُصول الاختلاف في الديانات والمذاهب ترجع إلى اختلافهم في أسمائه وصفاته وأفعاله وشئونه فهذا هو الذي أوجد مدارس كلاميّة شتّى واتجاهات متغايرة بين الالهيين فلازم علينا ان ندرس هذا الجانب دراسة موضوعيّة دون تحيّز إلى فئة دون فئة.

الإنسان يأنس المحاكاة والتشبيه

اشارة

الإنسان محبوس في إطار المادّة والماديات ، ولابث بين جدران الزمان والمكان ، يأنس بالتعرف على الأشياء عن طريق التشبيه والمحاكاة ، فيصعب عليه تصوّر موجود ليس له جسم ، وليس له جهة ولا مكان ، ولا يحوطه زمان ولا يوصف بالكيف والكم ، فلأجل ذلك نرى كثيراً من الالهيين لا ينفكّون عن تشبيه ماوراء الطبيعة بما فيها ، وكأنّ تفكيرهم أصبح أسير المادة والجسمانية وقلّ من نجى من مخاطر التشبيه ، ومخالب التجسيم.

ص: 7

يقول العلاّمة الطباطبائي :

« إنّ مزاولة الإنسان للحسّ والمحسوس مدى حياته وانكبابه على المادة ، عوّده أن يمثّل كلّ ما يتعقّله ويتصوّره تمثيلاً حسّياً ، وإن كان المتصوّرةُ المعقول لا طريق للحسّ والخيال إليه البتة ، كالكلّيات والحقائق المنزّهة عن المادّة. على أنّ الإنسان إنّما ينتقل إلى المعقولات من طريق الإحساس والتخيل فهو أنيس الحسّ وأليف الخيال ، فقد قضت العادة اللازمة على الإنسان أن يصوّر لربه صوراً خياليّة على حسب ما يألفه من الأمور المادية الحسّية وقلَّ أن يتفق لإنسان أن يتوجه إلى ساحة العزة والكبرياء ونفسه خالية عن هذه المحاكاة (1).

هذا هو الأصل الذي توحي إليه ظروف الحياة وملابسات الإدراك والناس أمام هذا الأصل على طوائف نشير إلى الأركان منها :

1 - « المشبّهة »

إنّ البسطاء من المجتمع الإنساني الذين سادت عليهم ظروف الحياة وليست لهم قدرة عقليّة كافية للتخلّص عمّا تفرض عليهم تلك الملابسات ، بنوا عقائدهم الدينيّة على هذا الأساس فلاينفكّون عن وصفه سبحانه تشبيهاً وتجسيماً فيقولون إنّ له جسماً وإنّه على صورة إنسان ، وله لحم ودم وشعر وعظم ، وله جوارح وأعضاء من يد ورجل ورأس وعينين ، وانّ له وفرة سوداء وله شعر قطط ، غير أنّ بعضهم أراد التظاهر بالتنزيه بأقلّ ما يمكن فقال : « اعفوني عن الفرج واللحية ، واسئلوني عما وراء ذلك » (2).

فهذه هي المجسّمة والمشبّهة لا يتورّعون عن وصفه بكلّ ما توحي إليهم القوّة الخيالية الأسيرة لعالم الحسّ والمادّة.

ص: 8


1- الميزان ج 10 ص 273.
2- الملل والنحل ج 1 ص 100 - 104.

2 - المعطّلة

2 - المعطّلة (1) وهناك طائفة اُخرى عطلوا العقول عن الوصول إلى المعارف نتيجة كون الإنسان يعيش في عالم الطبيعة وقد تطبّع تفكيره على الماديّات والمحسوسات فلا يمكنه إدراك ماوراء ذلك فلابد من التوقف وتعطيل العقول ، وهم الذين يقولون : إنّ كلّ ما وصف اللّه به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه (2).

وقد بنيت الدعوة السلفية في العصور السابقة واللاحقة على هذا الأساس وكأنّ القرآن نزل للتلاوة والقراءة دون التفكّر والامعان والتدبّر.

مع أنّه سبحانه يقول : ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) ( محمد / 24 ).

ويقول : ( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ ) ( ص / 29 ).

والعجب انّ بعض هؤلاء يتفلسف قائلاً إنّما اُعطينا العقل لإقامة العبودية لا لإدراك الربوبية فمن شغل ما اعطى لإقامة العبودية بإدراك الربوبيّة ، فاتته العبودية ولم يدرك الربوبية (3).

والقائل بهذا الكلام يفسّر العبوديّة بالقيام والقعود والامساك والصيام التي هي من واجبات الأعضاء ولكنّنا نقول لهم : إنّ العبوديّة تقوم على ركنين ركن منه يرجع إلى فرائض الأعضاء وواجباتها ، وركن آخر يرجع إلى العقل واللبّ ، فتعطيل العقول عن معرفة المعبود بالمقدار الذى يستطيع الإنسان الوصول إليه ، تعطيل لاقامة العبودية أو لجزئها.

ص: 9


1- « المعطّلة » لقب المعتزلة في كتب الأشاعرة لتعطيلهم الذات عن التوصيف بالصفات غير أنّها لا تتناسب مع عقيدتهم ، والحق إنّ المعطّلة هم الذين وصفناهم هنا.
2- الرسائل الكبرى : لابن تيمية ج 1 ص 32 - نقله عن سفيان بن عيينة.
3- علاقة الاثبات والتفويض نقلا عن الحجّة في بيان المحجّة ص 33.

ولو اقتصر الإنسان في إقامة العبوديّة بالقيام والقعود من دون ادراك للمعبود بصفات الجمال والجلال ولما هناك من أسماء وصفات ; لكانت عبوديّته كعبوديّة الحيوان والنبات والجماد ، فهؤلاء أيضا يقومون بواجبهم الجسماني بل ربّما تكون عبوديته أنزل من عبوديتهم كيف وقد قال سبحانه :

( وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ( البقرة / 74 ).

فالحجر يستشعر بعظمته سبحانه حسب مقدرته ، ولكن الإنسان تفرض عليه تلاوة كتابه سبحانه والسكوت ثم السكوت عليه ؟

إنّ الدعوة السلفية التي عادت إلى الساحة الاسلامية من جديد مبنية على هذا الأساس ، وهؤلاء وإن كانوا لا يقرّون بالتشبيه والتجسيم بملئ أفواههم وألسنتهم ، ولكنّهم لا يفترقون عن المشبهة إلاّ في التصريح والتلميح.

قال ابن خزيمة : إنما نثبت لله ما اثبته لنفسه نقر بذلك بألسنتنا ونصدّق بذلك في قلوبنا من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين (1).

قال ابن قدامة المقدسي : « وعلى هذا درج السلف والخلف فهم متّفقون على الإقرار والإمرار والإثبات لما ورد من الصفات في كتاب اللّه وسنّة رسوله من غير تعرّض لتأويله (2).

قال ابن تيمية - مثيرالدعوة السفلية بعد اندراسها - : إنّ لله يدين مختصّتين به ، ذاتيتين له كما يليق بجماله ، وإنّه سبحانه خلق آدم بيده دون الملائكة وإبليس وإنّه سبحانه يقبض الأرض ويطوي السماء بيده اليمنى (3).

يقول الخطّابي : « وليس اليد عندنا الجارحة وإنّما هي صفة جاء بها التوقيف

ص: 10


1- علاقة الاثبات والتفويض ص 58.
2- نفس المصدر ص 59.
3- نفس المصدر ص 59.

ونحن نطلقها على ما جاء ولا نكيّفها » (1).

هذه العبارات ونظائرها التي ملأ بها مؤلّف « علاقة الاثبات والتفويض » كتابه المنشور في مهد الدعوة السلفية ، ترمي إلى أحد الأمرين : إمّا التجسيم والتشبيه وإمّا تعطيل العقول عن معرفة الكتاب العزيز ، فانّ اليد والوجه والرجل موضوعات في اللّغة العربية للأعضاء الخاصّة ، فإن اُريد منها المعنى الحقيقي وهو الذي يطلق عليه المعنى الكيفي ، فيلزم التشبيه ، وإن اطلق عليه بلا هذا القيد ، فيلزم التأويل ، وهم يفرّون منه فرار المزكوم من المسك ، فإنّ القول بأنّ له سبحانه وجهاً بلا كيف مهزلة وشعار خادع ، إذ ليس هما معنى ثالث تلتجئ إليه السلفية فالأمر يدور بين اثنين ، وثالثهما غير متصوّر.

1 - اليد بما له من الكيفيّة الخاصّة فيلزم منه التشبيه.

2 - تأويله بالمعنى المجازي فيكون كناية عن القوّة والقدرة.

وأمّا الثالث أعني الوجه بلا كيف ، فهو أشبه بأسد لا ذنب له ولا رأس ولا ...

فإنّ واقعية اليد قائمة بكيفيّتها ، فسلب الكيفية سلب لحقيقتها ، فلا يمكن حفظ أصله ورفض كيفيّته ، فحذف الكيفيّة يلازم حذف أصل المعنى فقوامه بكيفيتها وعماده وسناده نفس هوّيتها الخارجية.

وأظن - وظن الألمعي صواب - : إنّ هؤلاء هم المشبّهة والمجسّمة ولكنّهم يخجلون من التفوّه بالتجسيم فيأتون به في قوالب خدّاعة ، وعبارات معقّدة ، أو أنّهم هم المعطّلة فإنّ امرار الصفات واثباتها على حسب ما جاء في الكتاب بلا توضيح لما يراد منه ، نفس التعطيل أي تعطيل العقول عن المعارف ، فهم بين مجسّمة تخفي عقيدتها ، أو معطّلة لا تريد الرقي من سلّم المعارف درجة ، فتكتفي بالألفاظ ولقلقة اللسان.

ص: 11


1- فتح الباري ج 13 ص 417.

وبذلك تقف على قيمة ما روي عن الامام مالك عند ما سئل عن معنى قوله سبحانه ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) فقال الاستواء معروف ، والكيفيّة مجهولة ، والسؤال بدعة ، والإيمان به واجب (1).

ولا أدري كيف جمع بين قوله « الاستواء معلوم » و « الكيفيّة مجهولة » إذ ليس للاستواء إلاّ معنى واحد وكيفيته هو حقيقته ، فلو جُهلت الكيفية ، جُهل الأصل فلا معنى للاستواء ( وهم يفسّرونه بالجلوس والاستقرار لا بالاستيلاء والاستعلاء ) مع القول بجهالة الكيفية فإنّ الكيفيّة والحقيقة متساويتان.

أضف إلى ذلك أنّه لم يعلم وجه قوله : « وإنّ السؤال عنه بدعة » مع أنّ السائل يريد تفسير الآية والتدبّر فيها ؟ وهل السؤال عن مفهوم الآية بقصد التعلم بدعة ؟

وبهذا عطّلوا العقول عن التدبّر في الكتاب العزيز وتفسير أسمائه وصفاته وأفعاله مع قدرتها على التعرف على ما هناك من الكمال والبهاء والجمال والجلال.

3 - المعطّلة بثوبها الجديد

اشارة

وقد ظهر التعطيل أى تعطيل العقول عن المعارف والالهيات بثوبها الجديد في العصر الأخير ، وقد حمل رايتها المغترّون بالعلوم الطبيعية ، وقد صبغوا نظريتهم بصبغة مادية خدعوا بها عقول البسطاء.

قال « فريد وجدي » :

« بما أنّ خصومنا يعتمدون على الفلسفة الحسّية والعلم الطبيعي في الدعوة إلى مذهبهم ، فنجلعهما عمدتنا في هذه المباحث بل لا مناص لنا من الاعتماد عليهما لأنّهما اللذان أوصلا الإنسان إلى هذه المنصّة من العهد الروحاني » (2).

ص: 12


1- الملل والنحل للشهرستاني ج 1 ص 65 ، والرسائل الكبرى لإبن تيمية ص 32 - 33.
2- على أطلال المذهب المادي ج 1 ص 16.

وقال « الندوي » :

« وقد كان الأنبياء علیهم السلام أخبروا الناس عن ذات اللّه وصفاته وأفعاله وعن بداية هذا العالم ومصيره وما يهجم على الناس بعدموتهم ، وآتاهم اللّه علم ذلك كلّه بواسطتهم عفواً بلا تعب ، وكفوهم مؤونة البحث والفحص في علوم ليس عندهم مبادئها ولا مقدّماتها الّتي يبنون عليها بحثهم ليتوصّلوا إلى مجهول لأنّ هذه العلوم وراء الحسّ والطبيعة لا تعمل فيها حواسهم ، ولا يؤدّي إليها نظرهم ، وليست عندهم معلوماتها الأوّلية ... الذين خاضوا في الالهيات من غير بصيرة وعلى غير هدى جاؤوا في هذا العلم بآراء فجّة ، ومعلومات ناقصة ، وخواطر سانحة ، ونظريات مستعجلة فضلّوا واضلّوا (1).

ويلاحظ على كلا التقريرين :

أوّلا : إنّ الاعتماد على الفلسفة الحسّية والتركيز على الحسّ من بين أدوات المعرفة ، مقتبس من الفلسفة المادية التي ترفض الاعتماد على العقل وأدواته ولا يعترف إلاّ بالحسّ وتحسبه أداة منحصرة للمعرفة ، والعجب أن يلهج بهذا الأصل من يدّعي الصلة بالإسلام ويعد من المناضلين ضد الفلسفة الماديّة ، ففي القول بهذا ابطال للشرائع السماوية ، فانّها مبنية على النبوّة والوحي ونزول الملك وسائر الاُمور الخارجة عن إطار الحسّ التي لا تدرك إلاّ بالعقل والبرهنة ، فمن العجيب أن يلعب فريد وجدي ومقلد الدعوة السلفية « ابوالحسن الندوي » بحبال المادية من غير شعور ولا استشعار.

وثانياً : إنّه لو صحّ قول « الندوي » إنّ هذه العلوم وراء الحسّ والتجربة لا تعمل فيها حواسّهم ، ولا يؤدّي إليها نظرهم ، وليست عندهم معلوماتها الأوّليه ، فلما ذا يطرح الذكر الحكيم لفيفاً من المعارف ، ويحرّض على التدبّر فيها وهي ممّا

ص: 13


1- ماذا خسر العالم ص 97.

يقع وراء الحسّ والطبيعة ، وليست الغاية من طرحها هو التلاوة والسكوت حتى تصبح الآيات لقلقة لسان لا تخرج عن تراقي القارئ بدل أن تتسلّل إلى صميم الذهن وأعماق الروح.

وإن كنت في ريب من وجود هذه المعارف العليا في الكتاب العزيز فلاحظ الآيات التاليه :

( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) ( الشورى / 11 ).

( وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى ) ( النحل / 60 ).

( لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) ( طه / 8 ).

( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ) ( البقرة / 115 ).

( هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( الحديد / 3 ).

( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) ( الحديد / 4 ).

( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ ) ( الطور / 35 ).

( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ ) ( الأنعام / 75 ).

( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الانبياء / 22 ).

( مَا اتَّخَذَ اللّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( المؤمنون / 91 ).

إلى غير ذلك من الآيات التي وردت فيها اُصول المعارف الإلهية التي تقع وراء الحسّ والطبيعة وليس عندنا حسب فرض الندوي معلوماتها الأوّلية.

هذا وإنّ القرآن يحثّ المجتمع البشري على تحصيل البرهان في كلّ ما يعتقدونه في المبدئ والمعاد ويقول :

ص: 14

( أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ ) ( الأنبياء / 24 ).

كلّ ذلك يعرب عن عناية القرآن بتفهيم الإنسان المعارف والاصول التي هي خارجة عن اطار الحسّ والمادّة بقناعة كاملة لا بلقلقة اللسان.

إنّ هناك اُصولاً يعتقدبها الالهيّون وفي مقدّمتهم المسلمون البارعون ، عن طريق العقل والبرهنة ، ولا يمكن للعلوم الطبيعيّة أن تساعدهم في فهمها ولا أن تهدي إليها البشر. كالبحث من انّ المصدر لهذا العالم والمبدئ له ، أزلي أو حادث ، واحد أو كثير ، بسيط أو مركّب ، جامع لجميع صفات الجمال والكمال أم لا ؟ هل لعلمه حدّ ينتهى إليه أم لا ؟ هل لقدرته نهاية أم لا ؟ هل هو أوّل الأشياء وآخرها أم لا ؟ هل هو ظاهر الأشياء وباطنها أم لا ؟

فالاعتقاد بهذه المعارف عن طريق العلوم الطبيعية والحسّية غير ممكن والاعتماد على الوحي للتعرف عليها غير مقدور لكلّ إنسان ، مضافاً إلى أنّه يجب معرفتها قبل معرفة النبي فكيف يتعرّف عليها عن طريق النبي والوحي المنزل.

وثالثا : نرى أنّه سبحانه يذكر الفؤاد إلى جانب السمع والبصر.

ويقول :

( وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( النحل / 78 ).

والمراد من الشكر في ذيل الآية صرف النعمة في مواضعها فشكر السمع والبصر هو ادراك المسموعات والمبصرات بهما ، وشكر الفؤاد هو درك المعقولات وغير المشهودات به ، فالآية تحّرض على استعمال الفؤاد والقلب والعقل في ما هو خارج عن اطار الحسّ وغير واقع في متناول أدواته ، ولأجل ذلك يتّخذ القرآن في بعض المجالات موقف المعلّم فيعلّم المجتمع البشري كيفية البرهنة العقليّة على

ص: 15

توحيد الخالقيّة والتدبير فيقول :

( نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ * أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ ... أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المُنشِئُونَ ) ( الواقعة / 57 و 72 ).

إنّ تعطيل العقول عن المعارف الإلهية يجر الإنسان إلى التشبيه والتجسيم ، وإن تبرأ منهما وإنبرى إلى نفي هذه الوصمة عن نفسه وأهل ملّته ، هذا هو ابن تيمية محيي الدعوة السلفيّة في القرن الثامن يقول :

« أهل السنّة والجماعة يؤمنون بما أخبر اللّه به في كتابه من غير تحريف ( تأويل ) ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل ( تشبيه ) ، بل هم الوسط في فرق الاُمّة كما أنّ الاُمّة هي الوسط في الاُمم ، فهم وسط كما في باب صفات اللّه سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل ( الجهميّة ) وأهل التمثيل ( المشبّهة ) (1).

والقارئ الكريم يتصوّر أنّه مشي على هذا الأصل إلى آخر كتابه ولكنّه يقف على أنّه سرعان ما انقلب على وجهه وارتدّ على أدباره وغرق في التشبيه والتجسيم ونادى به وقال :

( وممّا وصف الرسول به ربّه في الأحاديث الصحاح التي تلقّاها أهل المعرفة بالقبول ووجب الايمان بها قوله (ص) : « ينزل ربّنا إلى سماء الدنيا كلّ ليلة حين يبقى ثلث اللّيل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ ومن يستغفرني فأغفر له ؟ وقوله يضحك اللّه إلى رجلين : أحدهما يقتل الآخر كلاهما

ص: 16


1- مجموعة الرسائل ص 400.

يدخل الجنة ، وقوله « لا تزال جهنّم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزّة فيها قدمه ينزوي بعضها إلى بعض ، وتقول : « قط قط » وهذه الأحاديث متّفق عليها ؟ ) (1).

نحن نسأل « ابن تيميّة » ومن لفّ لفّه : فهل يأخذ بظواهر هذه الأحاديث التي لو وردت في حقّ غيره سبحانه لقطعنا بكونه جسماً ، كالإنسان له أعضاؤه ، أو يحملها على غيرها ، فعلى الأوّل يقع في مغبّة التشبيه ، وعلى الثاني يقع في عداد المؤوّلين وهو يتبرّأ منهم.

والأخذ بظواهرها لكن بقيد « بلاتكييف » و « لا تشبيه » - مضافاً إلى أنّه لم يرد في النصوص - ما يوجب صيرورة الصفات مجملة غير مفهومة ، فإنّ واقعيّة النزول والضحك ووضع القدم ، إنّما هي بكيفيتها الخارجيّة ، فحذفها يعادل عدمها. فما معنى الإعتقاد بشيء يصير في نهاية المطاف أمراً مجملاً ولغزاً غير مفهوم ؟ فهل يجتمع هذا مع بساطة العقيدة وسهولة التكليف التي تتبنّاها السلفيّة في كتبهم ؟

فلو صحّ تصحيح هذه الأحاديث والصفات الجسمانية بإضافة قولهم « بلا تمثيل » فليصحّ حمل كلّ وصف جسماني عليه باضافة هذا القيد بأن يقال : اللّه سبحانه جسم لا كهذه الأجسام ، له صدر وقلب لا كمثل هذه الصدور والقلوب ، إلى غير ذلك مما ينتهي الإعتقاد به إلى نفي الإله الواجب الجامع لصفات الجمال والجلال.

إنّ إقصاء العقل عن ساحة العقائد وتفسير القرآن والحديث ، لا ينتج إلاّ إجلاسه سبحانه على عرشه فوق السماوات ، يقول « ابن قتيبة » - المدافع عن الحشوية وأهل الحديث - في تفسير قوله : ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ) يستوحشون أن يجعلوا لله كرسيّاً أو سريراً ويجعلون العرش شيئاً آخر ، والعرب لا تعرف العرش إلاّ السرير ، وما عرش من السقوف والابار. يقول اللّه ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ) أي على السرير.

ص: 17


1- نفس المصدر 398 - 399.

واُميّة بن أبي الصلت يقول :

مجّدوا اللّه وهو للمجد أهل *** ربّنا في السماء أمسى كبيرا

بالبناء الأعلى الذي سبق النا *** س وسوّى فوق السماء سريرا

شرجعا (1) ما يناله بصر ال *** عين ترى دونه الملائك صورا (2) (3)

ترى أنّه يصور اللّه سبحانه ملكاً جبّاراً جالساً على عرشه ، والخدم دونه ينظرون إليه بأعناق مائلة ، وهو يتبجّح بذلك تبجّح المتكبّر باستصغار الناس وذلتهم.

ويقول أيضا :

« كيف يسوغ لاحد أن يقول : إنّه بكلّ مكان على الحلول مع قوله :

( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) أي استقر ، كما قال : ( فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ ) أي استقرت.

ومع قوله تعالى : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) .

كيف يصعد إليه شيء هو معه أو يرفع إليه عمل وهو عنده (4).

ثم إنّه يستشهد بكونه سبحانه في السماء بما ورد في الحديث :

« إنّ رجلاً أتى رسول اللّه بأمة أعجميّة ، للعتق فقال لها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أين اللّه تعالى ؟

فقالت : في السماء قال : فمن أنا ؟ قالت : أنت رسول اللّه فقال علیه السلام : هي مؤمنة وأمر بعتقها (5).

ص: 18


1- أي طويلا.
2- جمع « أصور » وهو المائل العنق.
3- تأويل مختلف الحديث : ص 67.
4- نفس المصدر : ص 271.
5- المصدر نفسه : ص 272.

فقد غاب عن « ابن قتيبة » إنّ المراد من كونه سبحانه بكلّ مكان ليس هو حلوله فيه ، بل المراد أنّ العالم بكلّ أجزائه وذرّاته قائم به قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي وانّ وجوده سبحانه وجود فوق الزمان والزمانيّات والمكان والمكانيّات ، غني عنهما ، لا يحتاج إليهما ، بل هو الخالق لهما ، وأمّا الحديث الذي استدل به فليس فيه دلالة على تصديق رسول اللّه بكلّ ما تعتقده الاُمّة بل انّه صلی اللّه علیه و آله اكتفى بما أظهرت من الاعتقاد الساذج بوجوده سبحانه ونبوّة نبيّه وان اخطأت في الحكم بأنّه في السماء ولم يكن الظروف - إذ ذاك - تساعد ، أو لم تكن الاُمّة مستعدّه لتفهيمها إنّه سبحانه منزّه عن المكان والزمان والجهة ، وإنّه ليس جسما ولا جسمانياً حتى يحلّ في السماء.

4 - بين التشبيه والتعطيل

اشارة

وهناك طائفة اُخرى يسلكون طريقاً وسطاً لا يوافقون أهل التشبيه - بصبّ المعارف العليا في قوالب جسميّة وصفات ماديّة - ولا أهل التعطيل فلا يسدّون نوافذ عقولهم وأفهامهم من التطلّع إلى ماوراء الطبيعة والوقوف على ما هناك من أسماء وصفات وحقائق رفيعه لا ينالها إلاّ الأمثل فالأمثل من الإنسان ، وهؤلاء يقولون : إنّه يمكن للإنسان التعرّف على ماوراء الطبيعة بما فيها من الجمال والكمال والعالم الفسيح ، عن طريق التدبّر وامعان النظر ، إمّا بترتيب الأقيسة المنطقية وتنظيم الحجج العقلية ، أو بالنظر إلى ما يحتوي عالم الطبيعة من آثار ذلك الجمال وآياته ، فعنذ ذلك يخرج الإنسان عن مهلكة التشبيه ومغبّة التعطيل ، وإفراط المجسّمة وتفريط المعطّلة وهذا هو الذي يحصل به الجمع بين آيات القرآن والأحاديث الصحيحة وقد عرفت بعض الآيات الداعية إلى التدبّر والامعان في كلّ ما ورد في الكتاب من الحكم والمعارف (1).

ص: 19


1- ويكفيك انّ الذكر الحكيم يستعمل مادّة التعقّل في مشتقّاته المختلفة 47 مرّة والتفكّر 18 مرّة واللب 16 مرّة والتدبر 4 مرّات والنهي مرّتين.

أمّا السنّة فقد قال علي علیه السلام : لم يطّلع العقول على تحديد صفته ، ولم يحجبها عن واجب معرفته (1).

يريد علیه السلام انّ العقول وان كانت غير مأذونة في تحديد صفاته ، ولكنّها غير محجوبة عن التعرّف عليها إجمالا كيف وقال سبحانه ( وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) ( الذاريات / 56 ).

والعبادة الصحيحة الكاملة لا تتيسّر إلاّ بعد تحقّق المعرفة الكاملة الممكنة للعابد ، وقال الامام علي بن الحسين علیهماالسلام : لما سئل عن التوحيد : إنّ اللّه عزّ وجلّ علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون ، فأنزل اللّه تعالى سورة قل هو اللّه أحد والآيات الستّ من سورة الحديد (2).

وكتب الامام الصادق علیه السلام في جواب سؤال « عبد الرحيم بن عتيك القصير » - عند ما سأله عن قوم بالعراق يصفون اللّه بالصورة وبالتخطيط - « سألت رحمك اللّه عن التوحيد وما ذهب إليه من قبلك فتعالى اللّه الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، تعالى عمّا يصفه الواصفون المشبّهون اللّه بخلقه المفترون على اللّه. فاعلم رحمك اللّه أنّ المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات اللّه عزّ وجلّ ، فانف عن اللّه تعالى البطلان والتشبيه ، فلا نفى ولا تشبيه هو اللّه الثابت الموجود ، تعالى اللّه عمّا يصفه الواصفون ، ولا تعدوا القرآن فتضلّوا بعد البيان » (3).

وسئل الإمام أبوجعفر الثاني علیه السلام : يجوز أن يقال : إنه شيء ؟ قال : نعم ، يخرجه من الحدّين : حد التعطيل وحد التشبيه (4).

ص: 20


1- نهج البلاغة : الخطبه 29.
2- الكافي ج 1 باب النسبة ص 91 الحديث 3 ، ونور الثقلين ج 5 ص 231.
3- الكافي ج 1 باب « النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه » الحديث 1.
4- الكافي ج 1 باب « اطلاق القول بأنّه شيء » الحديث 2 ، 5.

وقال الإمام الصادق - في جواب السائل عن الكيفية له - : لا لأنّ الكيفيّة جهة والاحاطة ، ولكن من الخروج من جهة التعطيل والتشبيه (1).

وهذه الأحاديث تحدّد موقف المعرفة وأنّها بين التعطيل والتشبيه.

فاتضح انّ رائدنا في مجال المعارف الإلهية أمران :

1 - الأقيسة العقليّة.

2 - التأمّل في آثار الرب في العوالم المختلفة.

ولأجل ايضاح الحال وانّه يمكن الحصول على المعارف وصفات الواجب عزّ وجلّ عن طريق ترتيب الأقيسة المنطقيّة أوّلاً ، والتدبّر في صنعه وخلقه ثانياً ، نأتي بالبيان التالي :

1 - الاستدلال بالأقيسة العقليّة المنطقيّة

وله صور نشير إليها :

إذا ثبت كونه سبحانه غنيّاً غير محتاج إلى شيء بل الكلّ محتاج إليه فالعقل يتّخذه مبدأً لكثير من أحكامه على الواجب عزّ اسمه ، فيصفه بما يناسب غناه وينزّهه عمّا لا يجتمع معه ، وقد سلك الفيلسوف الإسلامي الكبير نصير الدين الطوسي هذا السبيل للبرهنة على جملة من الصفات الجلالية قال :

« ووجوب الوجود ( الغني ) يدل على سرمديته ، ونفي الزائد ، والشريك والمثل ، والتركيب بمعانيه ، والضد ، والتحيّز والحلول ، والاتحاد ، والجهة ، وحلول الحوادث فيه ، والألم واللذّة والمعاني والأحوال والصفات الزائدة عيناً والرؤية ».

ص: 21


1- الكافي ج 1 باب « اطلاق القول بأنّه شيء » الحديث 2 ، 5.

بل انطلق المحقّق من نفس هذه القاعدة لاثبات سلسلة من الصفات الثبوتيّة حيث قال : « ووجوب الوجود يدل على ثبوت الوجود ، والملك والتمام والحقّية والخيرية والحكمة والتجّبر والقهر والقيوميّة » (1).

فقد سبقه إلى ذلك صاحب كتاب « الياقوت » في علم الكلام إذ قال وهو بصدد تنزيهه سبحانه عن الصفات غير اللائقة بساحة قدسه : « وليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا حالاًّ في شيء ولا تقوم الحوادث به وإلاّ لكان عرضاً » (2).

وإن شئت قلت : إنّ ذاته سبحانه نفس الكمال ، وفوق ما يتصوّر من الكمال ، وليس للنقص إليه سبيل ، فإذا كان كذلك فيجب أن يوصف بكلّ ما يُعدّ كمالاً فينزّه عمّا يعدّ نقصاً ، فالصفات الذاتية صفات كمال لا محيص عن الاتّصاف بها ، كما أنّ الصفات السلبيّة صفات تنزيهيّة طاردة للنقص عن ساحة ذاته فيجب التنزيه عنها ، فإذا كان العلم والقدرة والحياة أوصاف كمال وكانت الجسميّة والتركّب والحالّيّه والمحلّيّة صفات نقص فيجب التوصيف بالاُولى والتنزيه عن الثانية ولأجل ذلك قلنا : إنّ الصفات الثبوتية والسلبية ترجع إلى اثبات أمر واحد وهو الكمال ، وسلب أمر واحد وهو النقص.

وبتعبير آخر لاثبات صفاته وهو أنّ الوجودات الامكانية وجودات متدلّية قائمة بوجود الواجب وما لها من صفات كمال كالعلم والقدرة والحياة ، فالمالك الحقيقيّ لها هو اللّه سبحانه ، والمعطي لها هو اللّه سبحانه. قال تعالى : ( للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ) فالعلم والقدرة والحياة كلّّها تجلّيات لعلمه وقدرته وحياته ، فإذا كان كذلك فالعلم الأصيل والقدرة الأصيلة والحياة الحقيقيّة لله سبحانه.

ص: 22


1- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ص 178 - 185 ( ط صيدا ).
2- أنوار الملكوت في شرح الياقوت : ص 76 - 80 - 81 - 92.

يقول العلاّمة الطباطبائي : نحن أوّل ما نفتح أعيننا ، يقع ادراكنا على أنفسنا ، وعلى أقرب الاُمور منا ، وهي صلتنا بالكون الخارج ، لكنّا لا نرى أنفسنا إلاّ مرتبطة بغيرها ولا قوانا ولا أفعالنا إلاّ كذلك ، فالحاجة من أقدم ما يشاهده الإنسان ، يشاهدها من نفسه ومن كلّ ما يرتبط به من قواه وأعماله والدنيا الخارجة. وعند ذلك يقضي بذات ما يقوم بحاجته ويصد خلّته ، وإليه ينتهي كلّ شيء وهو اللّه سبحانه ويصدقنا في هذا النظر والقضاء قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيدُ ) ( فاطر / 15 ).

ثمّ إنّ أقدم ما نواجهه في البحث عن المعارف الالهيّه إنّا نذعن بانتهاء كلّ شيء إليه ، وكينونته ووجوده منه ، فهو يملك كلّ شيء لعلمنا أنّه لو لم يملكها لم يمكن أن يفيضها ويفيدها لغيره ، على أنّ بعض هذه الأشياء مما ليست حقيقته إلاّ مبنيّة على الحاجة وهو تعالى منزّه عن كلّ حاجة ونقيصة لأنّه الذي يرجع إليه كلّ شيء في رفع حاجته ونقيصته.

فله الملك - بكسر الميم وضمها - على الاطلاق فهو سبحانه يملك ما وجدنا في الوجود من صفة كمال كالحياة والقدرة والعلم والسمع والبصر والرزق والرحمة والعزّة.

فهو سبحانه حيّ ، قادر ، بصير ، حليم ، لأنّ في نفيها اثبات النقص ولا سبيل للنقص إليه ، ورازق ورحيم وعزيز ومحيي ومميت ومبدع ومعيد وباعث إلى غير ذلك لأنّ الرزق والرحمة والعزّة والاحياء والاماتة والابداع والاعادة والبعث له سبحانه وهو السبّوح ، القدّوس ، العلي ، الكبير ، المتعال ، إلى غير ذلك ، فنعني بها نفي كلّ نعت عدمي ، ونفي كلّ صفة نقص عنه (1).

ترى أنّه - قدس اللّه سره - استدل على الصفات الثبوتية بمبدأ واحد وهو أنّ

ص: 23


1- الميزان ج 8 ص 366 - 367.

الملك له لا لغيره ، فكلّ ما يملكه الإنسان فهو يملكه ، فصار هذا منشأً لاثبات كثير من الصفات الثبوتية.

2 - مطالعة الكون وآيات وجوده

الطريق الثاني التي يمكن التعرّف بها على ما في ذاته سبحانه من الجمال والكمال طريق التدبّر في النفس والكون أي في آياته الأنفسية والافاقية امتثالاً لقوله سبحانه :

( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( فصّلت / 53 ) (1).

فمطالعة الكون المحيط بنا وما فيه من بديع النظام وغريب الموجودات يكشف لنا عن علمه الوسيع وقدرته المطلقة فمن خِلال هذه القاعدة وعبر هذا الطريق ، يمكن للإنسان أن يهتدي إلى قسم كبير من الصفات الإلهية الجماليّة ( الثبوتية ) والجلالية ( السلبية ) وقد سلك هذا الطريق المحقّق نصير الدين وقال : « والأحكام والتجرّد واستناد كلّ شيء إليه دلائل علمه » (2).

وقول شيخنا المحقّق الطوسي ليس فريداً في ذلك الباب بل سبقه شيخنا أبو جعفر الطوسي في بعض كتبه وقال عند البحث عن علمه سبحانه :

« وأمّا الذي يدل على أنّه عالم هو أنّ الإحكام ظاهر في أفعاله كخلق الإنسان وغيره من الحيوان لأنّ فيه من بديع الصنعة ومنافع الأعضاء وتعديل الامزجة وتركيبها على وجه يصحّ معه أن يكون حيّاً لا يقدر عليه إلاّ من هو عالم بما يريد فعله ،

ص: 24


1- والاستدلال مبني على عود الضمير المنصوب في « انّه الحق » الى اللّه سبحانه.
2- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ص 174 ( ط صيدا ) والاستدلال بالتجرّد ، استدلال عقلي والاستدلال بالأحكام واستناد كل شيء اليه ، استدلال بآيات وجوده على كماله.

لأنّه لو لم يكن عالماً لما وقع على هذا الوجه من الإحكام والنظام ، والاختلاف في بعض الأحوال ولمّا كان ذلك واقعاً على حد واحد ، ونظام واحد ، واتساق واحد دل على أنّ صانعه عالم » (1).

وهناك - وراء الإستدلال العقلي والنظر في آثار الرب - طريقان آخران نشير إليهما.

3 - المعرفة عن طريق الوحي

إنّ الوحي ادراك مصون عن الخطأ والزلل كما أنّ السنّة الصحيحة فرع من فروعه فكلّ ما ورد في الكتاب والسنّة من الإلهيات والمعارف ، يصلح الاستدلال به غير أنّ الآيات القرآنية في ذلك المجال على قسمين : فتارة تتخد لنفسها موقف المعلم والمفكّر الذي يريد تعليم اتباعه فيكون موقف المخاطَب عندئذ موقف الاستلهام والاستعلام كما هو الحال في البراهين التي أقامها القرآن في مجال اثبات الصانع ونفي الشريك عنه وكثير من صفاته الثبوتية ، فتكون تلك الآيات حجّة عقليّة من دون استلزام الدور ، واُخرى يتخذ لنفسه موقف الرسول المتكلّم باسم الوحي المنبئ عن اللّه سبحانه فعندئذ يكون قوله حجّة تعبديّة ولا يمكن الاعتماد على مثله إلاّ بعد ثبوت وجود الصانع وبعض صفاته وثبوت النبوّة العامّة والخاصة ، ولكن الغالب على الآيات القرآنيه والسنّة الصحيحة المرويّة عن أئمّة أهل البيت هو الأوّل. يقف على ذلك من خالط القرآن روحه وقلبه وقرأ القرآن متدبّراً متعمّقاً.

4 - المعرفة عن طريق الكشف والشهود

هناك طريق رابع وهو التعرّف على الحقائق من خلال الكشف والشهود ، والقائلون به يرون أنّ سبيل الحصول على حقائق المعارف هو السعي إلى صفاء القلب

ص: 25


1- الاقتصاد ، الهادي الى سبيل الرشاد ص 28 ، ولاحظ إرشاد الطالبين للفاضل المقداد ص 194.

حتى ينعكس ما في ذلك العالم على قلب العارف وضميره ، ويدرك ما في ماوراء الطبيعة من الجمال والكمال ادراكاً يقينيّاً لا يخالطه الشك ، ولا يمازجه الريب ، ولكنه طريق ( قلّ سالكيه ) يختصّ بطائفة خاصّة ولايكون حجّة إلاّ لصاحب الكشف.

وعلى كلّ تقدير فليس المدّعى لمن يسلك هذه الطرق الأربعة هو معرفة كنه الذات الإلهية وكنه صفاته وأسمائه ، بل المراد التعرّف على ما هناك من الجمال والكمال ونفي النقص والعجز حسب المقدرة الإنسانية.

إلى هنا تبيّن إنّ التفكير الصحيح ممّا دعى إليه الكتاب العزيز والفطرة السليمة ، وهناك كلام للعلاّمة الطباطبائي حول التفكّر الذي يدعو إليه القرآن وهو بحث مسهب نقتبس منه ما يلي ، قال :

« إنّك لو تتبّعت الكلام الإلهي ثم تدبّرت آياته ، وجدت ما لعلّه يزيد على ثلاثمائة آية تتضمّن دعوة الناس إلى التفكّر أو التذكّر أو التعقّل أو تلقّن النبي الحجّة لاثبات حقّ أو ابطال باطل كقوله : ( قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ) ( المائدة / 17 ).

أو ينقل الحجّة الجارية على لسان أنبيائه وأوليائه كنوح وإبراهيم وموسى وغيرهم من الأنبياء العظام ولقمان ومؤمن آل فرعون كقوله :

( قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ( إبراهيم / 10 ).

وقوله : ( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) ( لقمان / 13 ).

وقوله : ( وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ) ( غافر / 28 ).

وقوله حكاية عن سحرة فرعون ( قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ

ص: 26

وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا ) ( طه / 72 ). إلى آخر ما احتجّوا به.

ولم يأمر تعالى عباده في كتابه ولا في آية واحدة أن يؤمنوا به أو بشيء ممّا هو عنده أو يسلكوا سبيلاً على العمياء وهم لا يشعرون حتّى أنّه علّل الشرائع والأحكام التي جعلها لهم ممّا لا سبيل للعقل إلى تفاصيل ملاكاته ، - علّل - باُمور تجري مجرى الاحتجاجات كقوله : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللّهِ أَكْبَرُ ) ( العنكبوت / 45 ).

وقوله : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة / 183 ).

وقوله ( في آية الوضوء ) : ( مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( المائدة / 6 ).

الى غير ذلك من الايات الواردة حول تحريم الخمر والميسر.

وهذا الادراك العقلي الذي يدعو إليه القرآن ويبني على تصديقه ، ما يدعو إليه من حقّ أو خير أو نفع ، ويزجر عنه من باطل أو شرّ أو ضرّ ، هو الذي نعرّفه بالخلقة والفطرة ممّا لا يتغيّر ولا يتبّدل ولا يتنازع فيه إنسان وإنسان ، والعجب انّ المخالفين للتفكّر المنطقي يعتمدون في اثبات دعاويهم ومقاصدهم على الاُسس المنطقيّة بحيث لو حلّلت مقالهم ودليلهم لعاد على صورة أقيسة منطقية يستدل بها المخالف على بطلان الاستدلال المنطقي (1).

ونذكر من باب المثال قولهم : « لو كان المنطق طريقاً موصلاً لم يقع الاختلاف بين أهل المنطق ، لكنّا نجدهم مختلفين في آرائهم » ترى أنّه استعمل القياس الاستثنائي من حيث لا يشعر وأمّا الجواب : فإنّ المنطق آلة تصون الفكر عن

ص: 27


1- الميزان : ج 5 ص 274 - 275.

الخطأ في كيفية الاستدلال ولكن صحّة الاستدلال مبنيّة على دعامتين :

1 - صحّة المادّة.

2 - صحّة الهيئة.

والمنطق يصون الإنسان عن الخطأ في الجانب الثاني دون الأوّل وأجاب عنه العلاّمة الطباطبائي بوجه آخر وقال :

« إنّ معنى كون المنطق آلة الاعتصام انّ استعماله كما هو حقّه يعصم الإنسان عن الخطأ وأمّا انّ كلّ مستعمل له فإنّما يستعمله صحيحاً فلا يدعيه أحد وهذا كما انّ السيف آلة القطع لكن لايقطع إلاّ عن استعمال صحيح » (1).

القرآن الكريم يهدي العقول إلى استعمال ما فطروا على استعماله بحسب طبعهم وهو ترتيب المعلومات لاستنتاج المجهولات والذي فطرت عليه العقول هو ترتيب مقدمات حقيقيّة يقينيّة لاستنتاج المعلومات التصديقيّة الواقعيّة ، وهو البرهان أو استعمال المقدّمات المشهورة أو المسلّمة وهو الجدل ، أو استعمال مقدّمات ظنيّة لغاية الارشاد والهداية إلى خير مظنون وشر مثله وهو العظة ، قال تعالى : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ( النحل / 125 ).

والظاهر أنّ المراد بالحكمة هو البرهان كما ترشد إلى ذلك مقابلته بالعظة والجدل.

ثمّ إنّ آخر ما في كنانة القوم هو ادّعاء انّ جميع ما تحتاج إليه النفوس الإنسانيّة مخزونة في الكتاب العزيز ، مودعة في الأحاديث فما الحاجة إلى أساليب الكفّار والملاحدة ؟

يلاحظ عليه : إنّ اشتمال الكتاب والسنّة على جميع ما يحتاج إليه لا يلازم

ص: 28


1- الميزان ج 5 ص 288.

استغناء البشر عن التفكّر الصحيح الموصل إلى ما في الكتاب والسنّة ، فليس فهم الكتاب والسنّة غنيَّا عن التدبّر والامعان ، وليس أصحاب الفلسفة والمنطق من الكفّار والملاحدة ، والواجب على المسلم الواعي هو استماع القول - من أيّ ابن اُنثى صدر - ثم اتّباع أحسنه.

وعلى كلّ تقدير فابطال الاستدلال العقلي عن طريق الاستدلال العقلي غريب وعجيب جداً ومن قابَلَ التفكّر والتعقّل واقامة البرهنة فقد عارض إنسانيّته وفطرته التي تدعوه إلى الاعتناء بالتفكر الصحيح والتعقّل الرصين عن طريق اعمال الأقيسة الصحيحة من حيث المادة والهيئة.

وبذلك تقف على قيمة عمل أهل الحديث واسلوب دعوتهم إلى المعارف والحقايق حتى إنّ الأشعري لما تاب عن الإعتزال ولحق بأصحاب أحمد بن حنبل ، واستدل على عقيدة أهل الحديث مثل الرؤية وكون أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه ، رفضته الحنابلة قائلة : بأنّ الاستدلال ليس طريقاً دينياً ، وإنّما الطريق البرهنة بالآية والحديث مكان التعقل.

قال ابن أبي يعلي في طبقات الحنابلة عن طريق الأهوازي قال : قرأت على عليّ القومسي ، عن الحسن الاهوازي قال سمعت أبا عبد اللّه الحمراني يقول :

لما دخل الأشعري بغداد جاء إلى « البربهاري » فجعل يقول رددت على الجبائي وعلى أبي هاشم ونقضت عليهم وعلى اليهود والنصارى والمجوس وقلت وقالوا وأكثر الكلام فلمّا سكت قال البربهاري : وما أدري ممّا قلت لا قليلاً ولا كثيراً ، ولا نعرف إلاّ ما قاله أبو عبد اللّه أحمد بن حنبل ، فخرج من عنده وصنف كتاب « الابانة » فلم يقبله منه (1).

هذا وإذا بان لك انّ الاستدلال المنطقي على المعارف العقليّة هو طريق

ص: 29


1- تعليقة « تبيين كذب المفتري » ص 391.

الفطرة التي دعا إليها القرآن ، ولا يشذ عنها إلاّ من احتجبت عنده الفطرة الإنسانيّة.

فيلزم علينا البحث عن أسمائه وصفاته الواردة في الذكر الحكيم وسنّة نبيه وأحاديث عترته صلوات اللّه عليهم أجمعين على ضوء البرهان والقياس العقلي.

ص: 30

أسماؤه وصفاته في القرآن الكريم

اشارة

قد احتلّ البحث عن أسمائه وصفاته سبحانه في كتب الكلام والتفسير المكانة العليا ، فالقدماء شرحوا معاني أسمائه وصفاته وأفعاله والمتأخّرون اكتفوا من مباحثهابالبحث عن أمرين :

1 - مغايرة الاسم للمسمّى.

2 - كون أسمائه توقيفية.

ونحن في هذه الفصول نجمع بين الطريقين فنأتي بما يتعلّق بها من المباحث المفيدة ونعرض عمّا لا يهمّنا جدّاً ثم نفسّر أسماءه وصفاته الواردة في الذكر الحكيم ، وبناء عليه سيقع البحث في اُمور :

1 - الفرق بين الاسم والصفة

اشارة

دلّت الآيات الكريمة على أنّ له سبحانه الأسماء الحسنى كما ورد ذلك في الأحاديث أيضاً.

قال سبحانه : ( وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ) ( الأعراف / 180 ).

وقال : ( أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) ( الاسراء / 110 ).

وقال : ( اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) ( طه / 8 ).

ص: 31

وقال : ( هُوَ اللّهُ الخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) ( الحشر / 24 ).

وقال : ( وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ) ( الأعراف / 180 ).

والاسم مشتق إمّا من « السمو » على ما ذهب إليه البصريون ، أو من « السمة » على ما اختاره الكوفيون ، وعلى كلّ تقدير فلو كان الملاك في تسميه اللفظ اسما هو سموّه على المعنى ، وتقدمه عليه أو كونه علامة له ، فالكلمه بأقسامها الثلاثه اسم لوجود كلا الملاكين فيها (1).

ومع ذلك كلّه فالاسم في مصطلح النحويين يطلق على قسم واحد من أقسام الكلمة ، وعرّفوه بأنّه ما دلّ على معنى في نفسه غير مقترن بالزمان ، فالاسم بهذا المعنى يقابل الفعل والحرف ، فالفعل يدل على معنى مستقل مقترن بالزمان ، والحرف يدل على معنى في غيره.

وهناك اصطلاح ثالث للاسم وهو كلّ ماهيّة تعتبر من حيث هي هي فهو أسم أو من حيث انّها موصوفة بصفه معينة فهو وصف ، فالأوّل كالسماء والأرض والرجل والجدار ، والثاني كالخالق والرازق والطويل والقصير. ذكره الرازي وقال : هذا هو الفرق بين الاسم والصفة على قول المتكلّمين (2).

يلاحظ عليه : إنّ حاصل كلامه يرجع إلى أنّ الجوامد أسماء ، وأسماء الفاعلين ونظائرها صفات مع أنّه لاينطبق على مصطلح المتكلّمين فإنّ الخالق والرازق من أسمائه سبحانه لا من صفاته ، فكيف يعده من صفاته ومقابل أسمائه والحق أن يقال :

ص: 32


1- اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ اطلاق الاسم على خصوص قسم من الكلمة لأجل كون معناه سامياً ومرتفعاً بين معاني سائر الكلمات أعني الفعل والحرف فعندئذ يختص بالقسم المعروف عند النحويين.
2- لوامع البينات للرازي ص 27 ( طبع القاهره ).

ما هو المختار في الفرق بين أسماءه وصفاته ؟

« الاسم هو اللفظ المأخوذ إما من الذات بما هي هي ، أو بكونها موصوفاً بوصف أو مبدأ الفعل ، فالأوّل كلفظ الجلالة له سبحانه والرجل والإنسان لغيره ، والثاني كالعالم والقادر ، والثالث كالرازق والخالق ، وأمّا الصفة فهو الدال على المبدء مجرّداً عن الذات كالعلم والقدرة والرزق والخلقة ولأجل ذلك يصحّ أن يقال الاسم ما يصحّ حمله كما يقال اللّه عالم وخالق ورحمان ورحيم ، والصفة لا يصحّ حملها كالعلم والخلق والرحمة ، وهذا هو المشهور بين المتكلّمين بل الحكماء والعرفاء ، فالصفات مندكة في الأسماء من غير عكس.

يقول العلاّمة الطباطبائى : لا فرق بين الصفة والاسم ، غير أنّ الصفة تدلّ على معنى من المعاني تتلبّس به الذات ، أعم من العينيّة والغيريّة والاسم هو الدال على الذات مأخوذة بوصف ، فالحياة والعلم صفتان ، والحي والعالم اسمان (1).

هذا كلّه على ما هو المشهور ويوافقه ظاهر الكتاب العزيز من انّ أسماءه سبحانه من قبيل الألفاظ والمعاني فيكون لفظ الجلالة وسائر الأسماء كالرحمان والرحيم ، والعالم والقادر أسماء اللّه الحسنى الحقيقية ، ولها معان ومفاهيم فينتقل إليها الذهن عند السماع.

الأسماء والصفات عند أهل المعرفة

إنّ لأهل المعرفة اصطلاحاً خاصّاً فالأسماء والصفات عندهم ليست من قبيل الألفاظ والمفاهيم بل حقيقة الصفه ترجع إلى كمال وجودي قائم بالذات ، والاسم عبارة عن تعيّن الذات بنفس ذلك الكمال والأسماء والصفات الملفوظة ، أسماء وصفات لتلك الأسماء والصفات الحقيقية التي سنخها سنخ الوجود والكمال ،

ص: 33


1- الميزان 8 / 369.

والتحقّق والتعيّن ، فلفظ الجلالة ليس اسماً بل اسماً للاسم ، ومثله العلم والقدرة والحياة فليست صفات بالحقيقة ، بل مرايا لأوصافه الحقيقيّة.

فالقولان متّفقان على أنّ الذات مع التعيّن هو الاسم ، والتعيّن بما هو هو ، هو الوصف ، ويختلفان من كونها من قبيل الألفاظ والمفاهيم أو من قبيل الحقايق والواقعيات. يقول أهل المعرفه : إنّ الذات الأحدية ، بما أنّه وجود غير متناه ، عار عن المجالي والمظاهر ، يسمّى « غيب الغيب » وإذا لوحظ في رتبة متأخّرة ، بتعيّن من التعيّنات الكماليّة كالعلم والقدرة ، فهو مع هذا التعيّن اسم ، ونفس التعيّن بلا ملاحظة الذات ، وصف.

يقول الحكيم السبزواري : « فالذات الموجودة مع كلّ منها ( التعيّنات ) يقال لها الاسم في عرفهم ، ونفس ذلك المحمول العقلي هي الصفه عندهم » (1). ويقول في موضع آخر : « والوجود بشرط التعيّن هو الاسم ، ونفس التعيّن هو الصفة » (2).

ويقول أيضاً : « الاسم عند العرفاء هو حقيقة الوجود مأخوذة بتعيّن من التعيّنات الصفاتية من كمالاته تعالى ، أو باعتبار تجلّ خاص من التجليّات الإلهية » فالوجود الحقيقي مأخوذاً بتعين « الظاهرية بالذات » و « المظهرية للغير » اسم « النور » وبتعيّن كونه « ما به الانكشاف لذاته ولغيره » اسم « العليم » وبتعيّن « كونه خيراً محضاً » و « عشقا صرفاً » اسم « المريد » وبتعيّن « الفياضية الذاتية » للنورية عن علم ومشيئة ، اسم « القدير » وبتعيّن « الدراكيّة » و « الفعاليّة » اسم « الحي » وبتعيّن « الاعراب عمّا في الضمير » المخفي والمكنون العيني اسم « المتكلّم » وهكذا » (3).

ص: 34


1- شرح الاسماء الحسنى 19.
2- شرح الاسماء الحسنى 215.
3- شرح الاسماء الحسنى 214.

2 - هل الاسم نفس المسمّى أو غيره

اشارة

من المباحث التي شغلت بال القدماء والمتأخّرين ، هو مسألة اتحاد الاسم والمسمّى وهو بحث لا يحتاج إلى التفصيل ، يقول الرازي : إنّ هذا البحث ممّا لا يمكن النزاع فيه بين العقلاء ، فإن كان المراد من الاسم هو اللفظ الدال على الشيء بالوضع ، وكان المسمّى عبارة عن نفس ذلك الشيء ، فالعلم الضروري حاصل بأنّ الاسم غير المسمّى وإن كان الاسم عبارة عن ذات الشيء ( المدلول ) والمسمّى ايضاً ذات الشيء كان معنى قولنا الاسم نفس المسمّى هو أن ذات الشيء نفس ذات الشيء فثبت أن الخلاف الواقع في هذه المسألة إنّما كان بسبب أنّ التصديق ما كان مسبوقاً بالتصوّر وكان اللائق بالعقلاء أن لا يجعلوا هذا الموضع مسألة خلافية (1).

هذا وان شيخ مذهبه « أبا الحسن الأشعري » قد زاد في الطين بلّة فعاد يفصّل فيها ويقول : إنّ الاسم ( يريد مدلوله ) عين المسمّى أي ذاته من حيث هي هي نحو اللّه فإنّه اسم للذات من غير اعتبار معنى فيه ، وقد يكون غيره نحو الخالق والرازق ممّا يدل على نسبته إلى غيره ، ولا شك انّ تلك النسبة غيره وقد يكون لا هو ولا غيره كالعليم والقدير مما يدل على صفة حقيقية قائمة بذاته (2).

ولا يخفى إنّ صحّة كلامه يتوقف على تسليم اصطلاح خاص له.

ففي الشق الأوّل الذي يدعى فيه انّ الاسم عين المسمّى يريد من الاسم المدلول لا اللفظ المتكلّم به وهو اصطلاح جديد لم نسمعه إلاّ منه ومن أمثاله.

كما أنّ حكمه بأنّ الخالق والرازق غيره ، مبني على كون المشتق بمعنى المبدء أي الخلق والرزق ، وانّ معنى المشتق هو نسبة المبدء إلى الذات على نحو خروج الذات عن مدلول المشتق.

ص: 35


1- لوامع البينات للرازي ص 18.
2- شرح المواقف ج 8 ص 207.

وأمّا الثالث فهو نظرية أخرى بين القول بإتحاد صفاته الذاتية مع الذات ومغايرته ، فالمعتزله على الأوّل وأهل الحديث على الثاني ، ولمّا لم ينجح الشيخ في القضاء الحاسم بين النظريتين إختار قولاً ثالثاً وهو أنّه لا هو ولا غيره ، وهو بحسب ظاهره أشبه بارتفاع النقيضين إلاّ أن يفسّر بوجه يرفع ذلك الاشكال.

والشيخ الأشعري يصّر في كتاب « الابانة » على أنّ الاسم نفس المسمّى ولا يذكر وجهه (1).

وما ذكرنا من المبني ( مراده من الاسم المدلول ) لتوجيه كلامه فإنّما ذكره اتباع مذهبه ك « الايجي » في المواقف و « التفتازاني » في المقاصد وشرحه ، والسيد الشريف في شرحه على المواقف.

يؤاخذ على الشيخ بأنّه أي حاجة في جعل هذا الاصطلاح أي اطلاق الاسم وارادة المدلول منه حتى نحتاج إلى هذه التوجيهات.

ثم إنّ القائلين بالاتحاد استدلّوا بوجوه :

اشارة

1 - قالوا : إنّ اللّه تعالى أمر بتسبيح اسمه وقال : ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ) ( الاعلى / 1 ). ودلّ العقل على أنّ المسبّح هو اللّه تعالى لا غيره وهذا يقتضي انّ اسم اللّه تعالى هو هو لا غيره.

2 - وقالو : إنّه سبحانه أخبر انّ المشركين عبدوا الأسماء وقال : ( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم ) ( يوسف / 40 ).

والقوم ما عبدوا إلاّ تلك الذوات فهذا يدل على أنّ الاسم هو المسمّى.

ص: 36


1- وراجع مقالات الاسلاميين ، ص 290 - الطبعة الثالثة الفصل الخاص لبيان عقيدة أهل الحديث والسنّة.

3 - قالوا : اسم الشيء لو كان عبارة عن اللفظ الدال عليه لوجب ان لا يكون لله تعالى في الأزل شيء من الأسماء إذ لم يكن هناك لفظ ولا لافظ وذلك باطل.

4 - قالوا : إذا قال القائل : محمد رسول اللّه فلو كان اسم محمد غير محمد لكان الموصوف بالرسالة غير محمد.

5 - قالوا : إنّ لبيد يقول : « اسم السلام » ويريد نفس السلام حيث قال :

« إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبكِ عاماً كاملاً فقد اعتذر » (1).

وهذه الحجج التي نقلها الرازي تعرب من أنّ للمستدل كالشيخ الأشعري إصطلاح خاص في الاسم ، فهو كلّما يطلق الاسم إنّما يريد المدلول لا اللفظ الدال.

وعلى ضوء ذلك فنقول :

أمّا الدليل الأوّل : فلأنّ الظاهر أنّ الآية تحثّ على تسبيح الإسم وتقديسه وتنزيهه لا على تنزيه المسمّى وذلك لأنّه كما يجب تنزيه المدلول يجب تنزيه الدال ، وذلك بأن لا يسمّى به غيره ، فيكون ذلك نهياً عن دعاء غير اللّه تعالى باسم من أسماء اللّه فإنّ المشركين كانوا يسمّون الصنم باللات وكانوا يسمّون أوثانهم آلهة.

ويمكن أن يكون المراد تفسيره بما لا يليق بساحته ولا يصحّ ثبوته في حقه سبحانه.

وهناك وجه ثالث وهو أن تصان أسماء اللّه عن الإبتذال والذكر لا على وجه التعظيم.

ووجه رابع وهو أنّه يمكن أن يكون تسبيح الاسم كناية عن تسبيح الذات كما في قولهم سلام على المجلس الشريف والجناب المنيف إلى غير ذلك من الوجوه التي يمكن أن تكون باعثة لتسبيح الاسم نفسه.

ص: 37


1- لوامع البينات للرازي ص 21 - 22.

أمّا الدليل الثاني : فلأنّ المراد من قوله سبحانه : ( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا ) إنّه ليس لها من الاُلوهية إلاّ التسمية وهي أسماء بلامسميات ، وهذا كما يقال لمن سمّى نفسه باسم السلطان انّه ليس له من السلطنة إلاّ الاسم وكذا هنا وعلى ذلك فالمراد من قوله : ( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا ) اي إلاّ أشخاصاً أنتم سمّيتموها آلهة وليسوا بآلهة.

وأمّا الدليل الثالث : فلا محذور أن لا يكون له اسم ملفوظ في الأزل غير أنّ فقدان هذه الأسماء لا يلازم فقدان المدلولات ، فاللّه سبحانه كان جامعاً لكمالات هذه الأسماء ومداليلها ، وإن لم يكن هناك اسم على النحو اللفظي.

وأمّا الدليل الرابع : فساقط جداً لأنّ المبتدأ أعني قولنا : محمد يمثّل طريقاً إلى المدلول ، والحكم على ذي الطريق لا على نفس الطريق ، وهذا حكم كلّ لفظ موضوع اسما كان أو فعلاً أو حرفاً.

وأمّا الدليل الخامس : فهو تمسّك بشعر شاعر علم بطلانه ببديهة العقل ومن المحتمل جدا انّ اقحام لفظة اسم في البيت لأجل الضرورة وإلاّ فلا وجه للعدول من « السلام عليكما » إلى « اسم السلام عليكما » (1).

والرازي مع أنّه جعل المسألة بديهية ، أخذ في الاستدلال على أنّ الاسم غير المسمّى لاقناع غيره الذي وقع في الشبهة مقابل البديهية ، فقال : الذي يدل على أنّ الاسم غير المسمّى وجوه :

منها : إنّ أسماء اللّه كثيرة والمسمّى ليس بكثير.

منها قوله تعالى : ( وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ) حيث أمرنا أن ندعو اللّه تعالى بأسمائه ، والشيء الذي يدعي مغاير للشيء الذي يدعى به ذلك المدعو.

إلى غير ذلك من الوجوه التي لا تحتاج إلى الذكر والبيان.

ص: 38


1- لاحظ لوامع البينات للرازي ص 21 - 22 ، وشرح المواقف ج 8 ص 207 - 208 ، وشرح المقاصد للتفتازاني ج 2 ص 69 - 70.
بيان آخر لوحدة الاسم والمسمّى

نعم هناك بيان آخر لتوحيد الاسم مع المسمّى غير معتمد على اصطلاح الأشعري من تفسير الاسم بالمدلول الذي هو متّحد مع المسمّى ، وهذا الوجه هو ما أشار إليه علماء العرفان من انّ كلاًّ من العالم والقادر والخالق ليس اسماً للذات المقدسة بل اسم للاسم ، والاسم للذات المقدسة هو الذات المنكشفة بحقيقة العلم أو القدرة.

توضيح ذلك : إنّه قد يطلق الأسم على اللفظ الدال على الذات المتّصفة بوصف الكمال ، دلالة بالجعل والمواضعة وعندئذ يكون الاسم من قبيل الألفاظ والمسمّى من قبيل الأمر الخارجي ، وعلى ذلك فلا مسوّغ للبحث عن الاتحاد.

وقد يطلق على الذات المنكشفة ، بوصف من صفاته الكمالية وذلك لأنّ ذاته سبحانه مبهمة في غاية الإبهام غير معروفة لأحد من خلقه ، وإنّما تعرف عن طريق صفاته الجمالية ، ولولا الصفات لما عرف سبحانه بوجه ، وعلى ذلك يكون المراد من الاسم هو الحقيقية الخارجية المبهمة غاية الابهام ، المنكشفة لنا بواحد من صفاته وعلى هذا يكون المراد من الاسم الذات المنكشفة ، والمراد من الوصف نفس الكمال الواقعي ، والاسم والوصف بهذا المعنى ليسا من الأمور الملفوظة أو الذهنية بل من الاُمور الواقعيّة الحقيقيّة العينيّة وعندئذ يكون ألفاظ الحي ، والقادر ، والعالم أسماء للاسم ، كما يكون الحياة ، والقدرة ، والعلم أوصافاً للوصف لا أسماء وصفاتاً لذاته سبحانه ، فالاسم نفس المسمّى لكن اسم الاسم غيره ، وهذا المعنى الدقيق العرفاني لا يقف عليه إلاّ من له قدم راسخ في الأبحاث العرفانية وأين هو من تفسير الشيخ ، الاسم بالمدلول والحكم بأنّ المدلول نفس المسمّى ؟

وعلى أيّ تقدير فالظاهر من الروايات أنّ القول بالاتحاد كان ذائعاً في عصر أئمّة أهل البيت وما ذكره الشيخ الأشعري كان توجيهاً لتلك العقيدة الباطلة وإن كان أصحابها غافلين عن ذلك التوجيه ، وإليك ما روي عنهم علیهم السلام في

ص: 39

ذلك الباب :

1 - روى الكليني عن عبد الاعلى ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « اسم اللّه غيره ، وكلّ شيء وقع عليه اسم شيء » (1) فهو مخلوق ما خلا اللّه ، فأمّا ما عبّرته الألسن أو ما عملت الأيدي فهو مخلوق - إلى أن قال - : واللّه خالق الأشياء لا من شيء كان ، واللّه يسمى بأسمائه وهو غير أسمائه والأسماء غيره (2).

2 - روي الكليني عن علي بن رئاب ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال :

« من عبد اللّه بالتوهّم فقد كفر.

ومن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر.

ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك.

ومن عبد المعنى بايقاع الأسماء عليه بصفاته التي وصف بها نفسه فعقد عليه قلبه ، ونطق به لسانه في سرائره وعلانيته ، فأولئك أصحاب أمير المؤمنين حقّاً » (3).

ترى أنّه علیه السلام يقسّم العابد حسب اختلاف المعبود إلى أقسام :

الف - فمن عابد لله سبحانه لكن بالتوهّم والشك فهو كافر باللّه لأنّ الشك كفرٌ به.

ب - ومن عابد للاسم أي الحروف أو المفهوم الوضعي معرضاً عن المعنى المعبّر عنه فقد كفر أيضا لأنّه لم يعبد المعبّر عنه بالاسم لأنّ الحروف والمفهوم غير الواجب الخالق للكلّ فإنّما الاسم بلفظه ومفهومه تعبير عن المعنى المقصود.

ص: 40


1- أي لفظ « الشيء ».
2- الكافي ج 1 باب حدوث الأسماء ص 112 الحديث 4 ، وتوحيد الصدوق باب أسماء اللّه ص 192 الحديث 5.
3- الكافي ج 1 باب المعبود ص 87 الحديث 1.

ج - ومن عابد للاسم والمعنى أي كلّّ واحد منهما أو مجموعهما فقد أشرك.

والتعبير بالشرك والكفر في القسمين الأوّلين لا يخفى لطفه.

د - ومن عابد للمعنى المقصود من هذه الأسماء بأن اعتقد الهاً خارجاً عن اطار الألفاظ والمفاهيم الذهنية وعقد عليه قلبه وجعل اللفظ معبراً عنه ، فهو موحّد يقتفي أثر سيّد الموحّدين علي علیه السلام .

3 - وروي عن هشام بن الحكم انّه سأل أبا عبد اللّه علیه السلام عن أسماء اللّه واشتقاقها : اللّه ممّا هو مشتق ؟ قال فقال : يا هشام ، اللّه مشتق من اِله ، والاله يقتضي مألوهاً ، والاسم غير المسمّى ، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ، ولم يعبد شيئاً ، ومن عبد الاسم والمعنى فقد كفر وعبد اثنين ، ومن عبد المعنى دون الاسم فذلك التوحيد. أفهمت يا هشام ؟

قال : فقلت : زدني ، قال : « إنّ لله تسعة وتسعين اسماً فلو كان الاسم هو المسمّى ، لكان كلّ اسم منها إلهاً ، ولكن اللّه معنى يُدَلُّ عليه بهذه الأسماء وكلّها غيره - إلى أن قال - يا هشام ، الخبز اسم للمأكول ، والماء اسم للمشروب ، والثوب اسم للملبوس ، والنار اسم للمحرق ، أفهمت يا هشام فهماً تدفع به وتناضل به أعداءنا والمتخذين مع اللّه جلّ وعزّ غيره ؟ » (1).

ورواه أيضاً عن عبدالرحمن بن أبي نجران لكن باختلاف يسير ، قال : كتبت إلى أبي جعفر أو قلت له : جعلني اللّه فداك نعبد الرحمن الرحيم الواحد الأحد الصمد ؟ قال : فقال : إنّ من عبد الاسم دون المسمّى بالأسماء أشرك وكفر وجحد ، ولم يعبد شيئاً بل اعبدوا اللّه الواحد الأحد الصمد المسمّى بهذه الأسماء ، دون الأسماء ، إنّ الأسماء صفاته وصف بها نفسه (2).

ص: 41


1- الكافي ج 1 باب المعبود ص 87 الحديث 2.
2- المصدر نفسه ، الحديث 3.

ترى أنّه علیه السلام يستدل على المغايرة بوجهين :

الأوّل : إنّ لله أسماء متعدّدة فلو كان الاسم عين المسمّى لزم تعدد الالهة لبداهة مغايرة تلك الأسماء بعضها لبعض.

الثاني : إنّ الخبز اسم لشيء يحكم عليه بأنّه مأكول ، ومعلوم أنّ هذا اللفظ غير مأكول.

3 - هل اسماؤه توقيفية أو لا ؟

اشارة

المراد من توقيفية أسمائه توقف اطلاقها على الاذن فيه ، وليس الكلام في الأسماء الموضوعة له بين شعوب العالم حسب اختلاف ألسنتهم حيث أنّ العرب يسمّيه سبحانه « اللّه » والعجم « خدا » والترك « تارى » وقسم من الافرنج « God » كلّ اُمّة من الامم تسميه سبحانه باسم يشيرون به إلى ما يؤمنون به بالفطرة.

إنّما النزاع في غير هذا القسم كالذي يشعر بوصف من صفاته أو أفعاله كالعالم والقادر.

فذهبت المعتزلة والكرّامية إلى أنّه إذا دلّ العقل على اتّصافه تعالى بصفة وجودية أو سلبية : جاز أن يطلق عليه اسم يدل على اتصافه بها سواء ورد بذلك أذن شرعي أو لم يرد وكذا الحال في الأفعال.

وقال القاضي الباقلاني من الأشاعرة : كلّ لفظ دلّ على معنى ثابت لله تعالى جاز إطلاقه عليه بلا توقيف إذا لم يكن إطلاقه موهماً لما لا يليق بكبريائه ، فمن ثمّ لم يجز أن يطلق عليه لفظ العارف لأنّ المعرفة قد يراد بها علم يسبقه غفلة ، ولا لفظ الفقيه لأنّ الفقه فهم غرض المتكلّم من كلامه ، وذلك مشعر بسابقة الجهل ، ولا لفظ العاقل لأنّ العقل علم مانع عن الاقدام على ما لا ينبغي ، مأخوذ من العقال ، وإنّما يتصوّر هذا المعنى في من يدعوه الداعي إلى ما لا ينبغي ولا لفظ الطبيب لأنّ الطب يراد به علم مأخوذ من التجارب إلى غير ذلك من الأسماء التي فيها نوع ايهام

ص: 42

بما لا يصحّ في حقّه تعالى.

وذهب بعض آخر إلى أنّه يشترط وراء ذلك الإشعار بالتعظيم حتّى يصحّ الاطلاق بلا توقيف.

وذهب الشيخ الأشعري ومتابعوه إلى أنّه لابد من التوقيف وذلك للاحتياط احترازاً عمّا يوهم باطلاً لعظم الخطر في ذلك ، فلا يجوز الإكتفاء في عدم ايهام الباطل ، بمبلغ ادراكنا بل لابد من الاستناد إلى إذن الشارع (1).

وقال الغزالي : « إنّ الأسماء موقوفة على الاذن وأمّا الصفات فغير موقوفة عليه وهو خيرة الرازي في كتابه » (2).

وحجّة من ذهب إلى التوقيف على الاطلاق هو أنّه لو لم يتوقّف ذلك على الاذن لجاز تسميته عارفاً وفقيهاً وعاقلاً وفطناً وطبيباً ، ولكنّه مدفوع بما ذكره الباقلاني من أنّ الجواز فيما إذا لم يكن هناك نوع ايهام لما لا يصحّ في حقّه تعالى وما ذكر من الأمثلة من هذا القبيل ، ولأجل ذلك لا يمكن تسميته سبحانه بالخادع والماكر والمستهزئ ، وإن نسب سبحانه الأفعال إلى نفسه وقال :

( يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ) ( النساء / 142 ).

( إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ) ( الطارق / 15 - 17 ).

( اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ( البقرة / 15 ).

فلا يصحّ في مقام الدعاء أن يقول : يا أيّها الخادع والكائد والمستهزئ اقض حاجتي ، فإنّ الجري والنسبة غير التسمية والأوّل خال عن الإيهام لأنّ اللفظ ورد من باب المشاكلة في الكلام ، كما هو واضح لمن لاحظ الآيات بخلاف التسمية ، فإنّه

ص: 43


1- شرح المواقف ج 8 ص 210 ، وشرح المقاصد ج 2 ص 171.
2- لوامع البينات للرازي ص 36.

خال عن تلك القرينة.

وأمّا التفصيل الذي ذكره الغزالي واختاره الرازي فحجّته انّا أجمعنا على أنّه لا يجوز لنا أن نسمّي الرسول باسم ما سماه اللّه به ، ولا باسمٍ ما سمّى هو نفسه به فإذا لم يجز ذلك في حقّ الرسول بل في حقّ أحد من آحاد الناس فهو في حقّ اللّه تعالى أولى (1).

يلاحظ عليه : إنّ ما لا يجوز في حقّ الرسول هو التسمية على وجه العلميّة كأن يقول : مكان يا محمداً ويا أحمد يا شيث فإنّه يعد نوع تصرف في سلطان الغير ، ولكن المراد بالتسمية هنا هو توصيفه بما صدر منه من الأفعال أو اتّصف به من الصفات فمنعه موضع تأمّل ، فلو قال رجل للنبي الأكرم أيها الصابر أمام العدو ، والصافح عنه فلا وجه لمنعه ، فالغزالي والرازي خلطا التسمية على وجه العلمية بالتسمية بمعنى توصيفه بمحامد صفاته وجلائل أفعاله.

ثمّ إنّه أورد على نفسه وقال : أليس انّ العجم يسمّون اللّه تعالى بقولهم : « خداى » والترك بقولهم « تنكرى » والاُمّة لا يمنعون من هذه الألفاظ ؟ أجاب : إنّ ذلك من باب الاجماع فيبقى ما عداه على الأصل (2).

يلاحظ عليه : إنّ جواز ذلك ليس من باب الاجماع فإنّ ذلك كان ذائعاً قبل بعثة النبي صلی اللّه علیه و آله فإنّ كلّ أمّة حسب وحي الفطرة تشير إلى القوّة الكبرى السائدة على العالم بلفظ من الألفاظ ولم ينقل عن أحد منع الشعوب عن التكلّم بلسانها عمّا تجده في فطرتها والزامهم على التعبير عنه باللفظ العربي أو غيره.

والذي أظن أنّ تسميته بما ليس فيه ايهام لما لا يصحّ وصفه به جائز لا مانع منه ، وأمّا توصيفه به ، فلا وجه لمنعه لأنّ مدلول اللفظ لمّا كان ثابتاً في حقّه تعالى كان وصف اللّه تعالى به كلاماً صادقاً.

ص: 44


1- لوامع البينات للرازي ص 39.
2- لوامع البينات للرازي ص 39.

ثم إنّه ربما يستدل على التوقيفية بقوله سبحانه : ( وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( الأعراف / 180 ).

والاستدلال مبني على أمرين :

1 - إنّ اللام في الأسماء الحسنى للعهد تشير إلى الأسماء الواردة في الكتاب والسنّة.

2 - إنّ الالحاد هو التعدي إلى غير ما ورد فيهما.

وكلا الأمرين غير ثابت ، أمّا الأوّل فالظاهر ان اللام في الأسماء للاستغراق قدّم عليها لفظ الجلالة لأجل إفادة الحصر ومعنى الاية انّ كلّّ اسم أحسن في عالم الوجود فهو لله سبحانه لا يشاركه فيه أحد ، فإذا كان اللّه سبحانه ينسب بعض هذه الأسماء إلى غيره كالعالم والحيّ فأحسنها لله أعني الحقائق الموجودة بنفسها ، الغنيّة عن غيرها والثابتة أيضاً لغيره من العلم والحياة والقدرة المفاضة من جانبه سبحانه من تجلّيات صفاته وفروعها وشؤونها ، والآية بمنزلة قوله سبحانه : ( أَنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَمِيعًا ) ( البقرة / 165 ) وقوله : ( فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعًا ) ( النساء / 139 ) وعلى ذلك فمعنى الاية : إنّ لله سبحانه حقيقة كلّ اسم أحسن لا يشاركه غيره إلاّ بما ملّكهم منه كيفما أراد وحيث شاء.

وأمّا الثاني فلأن الالحاد هو الميل عن الوسط إلى أحد الجانبين وهو يتصوّر في أسمائه بوجوه :

1 - اطلاق أسمائه على الأصنام بتغيير ما كاطلاق « اللات » المأخوذ من الاله بتغيير على « الصنم » المعروف ، واطلاق « العزّى » المأخوذ من العزيز ، فكان المشركين يلحدون ويميلون عن الحقّ بسبب هذه الإطلاقات لإرادتهم التشريك والحطّ من مرتبة اللّه.

ص: 45

2 - تسميته بما لا يجوز وصفه به لما فيه من النقص كوصفه سبحانه بأبيض الوجه وجعد الشعر ، ومثله تسميتة بالخادع والماكر والكائد.

3 - تسميته ببعض أسمائه دون بعض حيث كان العرب يقولون : « يا اللّه ويا رحيم » ولا يقولون « يا رحمان » ولدفع ذلك قال سبحانه : ( قُلِ ادْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) ( الاسراء / 10 ). وقال سبحانه : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ) ( الفرقان / 60 ).

إلى غير ذلك من أقسام الإلحاد والعدول عن الحقّ في أسمائه.

وبذلك يظهر أنّه لا مانع من توصيفه سبحانه بالواجب أو واجب الوجود أو الصانع أو الأزلي أو الابدي وان لم ترد فيها النصوص مع أنّه سبحانه يقول : ( صُنْعَ اللّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) ( النمل / 88 ).

وأضعف من القول بالتوقيف ، القول بأنّ الذي ورد به التوقيف تسعة وتسعون اسماً ، حيث رووا عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « إنّ لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة » وقد أخرج الترمذي وابن المنذر وابن حبّان وابن مندة والطبراني والحاكم والمردويه والبيهقي فهرس هذه الأسماء باسنادهم عن أبي هريرة (1).

مع انّه ورد في الكتاب والسنّة أسماء خارجة عن التسعة والتسعين كالبارئ ، والكافي ، والدائم ، والبصير ، والنور ، والمبين ، والصادق ، والمحيط ، والقديم ، والقريب ، والوتر ، والفاطر ، والعلاّم ، والمليك ، والأكرم ، والمدبّر ، والرفيع ، وذي الطول ، وذي المعارج ، وذي الفضل ، والخلاّق ، والمولى ، والنصير ، والغالب ، والرب ، والناصر ، وشديد العقاب ، وقابل التوب ، وغافر الذنب ، ومولج الليل في النهار ، ومولج النهار في الليل ، ومخرج الحي من

ص: 46


1- سيوافيك نقله من صحيح الترمذي ، ونقله السيوطي عنه في الدرّ المنثور.

الميت ، ومخرج الميت من الحي ، والسيّد ، والحنّان ، والمنّان.

وقد شاع في عبارات العلماء المريد ، والمتكلّم ، والشيء ، والموجود ، والذات ، والأزلي ، والصانع ، والواجب (1). أضف إلى ذلك : إنّ اثبات الشيء لا يدل على نفي ما عداه ، فعدم ورود بعض الأسماء في هذه الرواية لا يدل على تحريم تسميته به.

الروايات وتوقيفية الأسماء

وربّما يستدل على توقيفية الأسماء ببعض الروايات المرويّة عن أئمة أهل البيت علیهم السلام .

1 - فعن محمد بن حكيم قال : كتب أبو الحسن موسى بن جعفر علیهماالسلام إلى أبي : « إنّ اللّه أعلى وأجل وأعظم من أن يبلغ كنه صفته ، فصفوه بما وصف به نفسه وكُفّوا عمّا سوى ذلك » (2).

والشاهد في قوله : « كفّوا عمّا سوى ذلك ».

2 - ما رواه حفص أخو مرازم عن المفضّل. قال سألت أبا الحسن علیه السلام عن شيء من الصفة فقال : لا تجاوزوا ما في القرآن (3).

والروايتان لا تخلوان من الضعف سنداً ودلالة ، فقد ورد في سندهما سهل بن زياد وهو ضعيف ، كما اشتمل الثاني على ضعيف كسندي بن ربيع ، ومجهول كحفص « أخو مرازم » ، وامّا ضعف الدلالة فمن المحتمل جداً إنّ الهدف منع تسميته بما يسمّى به عوام الناس من غير اكثرات ، فربما يسمّونه باُمور يشتمل على

ص: 47


1- شرح المقاصد للتفتازاني ج 2 ص 172.
2- الكافي ج 1 باب النهي عن الصفة بغير ما وصف اللّه به نفسه الحديث 6.
3- المصدر نفسه.

جهات من النقص والتشبيه ، فلأجل ذلك يقول الامام : « كفّوا عمّا سوى ذلك » أو « لا تتجاوزوا ما في القرآن » ، وأمّا إذا كانت التسمية بريئة عن النقص والعيب ، مناسبة لساحته سبحانه من العزّ والتنزيه كتوصيفه بواجب الوجود فالروايات منصرفة عنه.

والذي يقوّي ذلك الاحتمال انّه ورد في الأوساط الاسلامية صفات خبرية تعد من بدع اليهود والنصارى فقد أدخلها أحبار اليهود ورهبان النصارى حتى يشوّهوا بذلك عقائد المسلمين كما حقّفناه في موسوعتنا حول الملل والنحل (1).

وأمّا إذا كانت التسمية والتوصيف مطابقة للضوابط التي يستقل به العقل في توصيفه وتحميده وتكريمه فالروايتان منصرفتان عنه ، وبذلك يتّضح أنّه يصحّ تسميته بواجب الوجود ، وتوصيفه بالضرورة الأزلية ، وغير هما مما ورد في كتب الفلسفة والعرفان.

4 - بساطة الذات وكثرة الأسماء

اشارة

إنّ الكتاب والسنّة يثبتان لله سبحانه أسماءً وصفات متكثّرة ومختلفة هذا من جانب ، ومن جانب آخر تدل البراهين العقلية على أنّه سبحانه بسيط غير متكثّر فعندئذ كيف تجتمع البساطة مع كثرة الصفات ؟ فهما متغايران في بدء النظر.

وإن شئت قلت : إنّ الوحدة كمال والكثرة نقصان ، وهذا يقتضي وحدة الذات من دون طروء كثرة هناك. هذا من جانب.

ومن جانب آخر : إنّ الموجود الذي هو قادر على جميع المقدورات ، وعالم بجميع المعلومات ، حيّ ، حكيم ، سميع ، بصير ، أكمل من الموجود الذي ليس كذلك فلا مناص من اثبات الصفات المختلفة عليه وعندئذ يقع العقل في حيرة

ص: 48


1- لاحظ : الجزء الأوّل من تلك الموسوعة التي انتشرت باسم « بحوث في الملل والنحل ».

ودهشة بسبب تعارض هذين الأمرين وكلّ منهما يهدف إلى اثبات الكمال لله سبحانه ولأجل ذلك ذهبت فرقة إلى نفي الصفات خوفاً من انكار الوحدانية ، كما انّ طائفة اُخرى وقعوا في مغبّة الكثرة رغبة في توصيفه بالصفات الكمالية ، وهناك ثلّة جليلة جمعوا بين الوحدة والبساطة ، وكونه متّصفاً بصفات كمالية مختلفة.

ثمّ ان الإشكال إنّما هو في الصفات الجمالية التي يعبّر عنها بالصفات الثبوتية لكونها راجعة إلى صفات وجودية تختلف كلّ منها عن الاُخرى ، فيُشكل الجمع بينها وبين القول بالوحدة والبساطة ، وأمّا الصفات الجلاليّة أعني الصفات السلبية مثل قولنا ليس بجسم ولا عرض فلا توجب كثرة السلوب ، كثرة في الذات بشهادة انّه يصحّ سلب كثير من الاُمور عن الجزء الذي لا يتجزئ.

ومثلها كثرة النسب والاضافات التي تنسب إلى الذات في مرحلة متأخّرة فهي لا توجب كثرة في الذات ، وذلك نظير الوحدة فإنّها أبسط الأشياء مع أنّه يلحقها اُمور إضافية ونسبيّة. فيقال : الواحد نصف الاثنين ، وثلث الثلاثة ، وربع الأربعة وهكذا إلى غير النهاية من النسب والاضافات العارضة للواحد ، فالكلام كلّه في الصفات الثبوتية كالعلم والقدرة والحياة التي لها حقائق خارجية.

ثمّ ان بعض المتكلّمين لمّا لم يتوفّق للجمع بين وحدة الذات وكثرة الصفات لجأ إلى أحد الأمرين :

الأوّل : إرجاع الصفات الثبوتية إلى السلبية وقد عرفت انّ كثرة السلوب لا تنثلم به وحدة الشيء فمعنى كونه عالماً أنّه ليس بجاهل ، ومعنى كونه قادرا أنّه ليس بعاجز وهكذا وهذه النظرية منسوبة إلى أبي إسحاق النظام ، ولكنّها غير تامّة لأنّه سبحانه واجد لواقعيّة هذه الكمالات حسب الأقيسة العقلية ، وحسب ما يرشد إليه الكتاب والسنّة فهو متصف بالعلم والقدرة ، وبالتالي يطرد عن ذاته الجهل والعجز في الدرجة الثانية لا أنّه ليس له هذه الكمالات وإنّما يسلب عنه النقائص.

ص: 49

الثاني : القول بالنيابة وحاصله أنّه ليس هناك علم ولا قدرة ولا حياة ولكن يترتب على الذات ما يترتب على وجود هذه الصفات ، فالذات لأجل كمالها تقوم مقامها وهذا القول منقول عن بعض المعتزلة (1). وهو أيضاً مخالف للبرهان وظاهر الكتاب والسنّة.

إنّ هناك طائفة جليلة وفي مقدّمتهم الراسخون في الحكمة الإلهية جمعوا بين بساطة الذات واتّصافه بحقائق هذه الأوصاف بمعنى : إنّ وجوداً واحدا كلّه علم ، وكلّه قدرة ، وكلّه حياة ، لا أنّ بعضه علم ، وبعضه الآخر قدرة ، وبعضها الثالث حياة ولا يقف عليه إلاّ من له قدم راسخ في الأبحاث الفلسفية ولأجل ذلك نرى أنّ الفخر الرازي يردّ هذه النظرية بسهولة ، فيقول « وهذا أيضاً ضعيف لأنّ المفهوم من كونه « قادراً » غير المفهوم من كونه « عالماً » وحقيقة الذات الواحدة ، حقيقة واحدة والحقيقة الواحدة لا تكون عين الحقيقتين ، لأنّ الواحد لا يكون نفس الاثنين » (2).

ثمّ اختار أنّ صفاته سبحانه زائدة على الذات ولم يبال بوجود الكثرة في ساحة الذات وتعدد القدماء ، والحقّ إنّ المسألة تعدّ من الأسرار الإلهية التي يستصعب ادراكها إلاّ على من آتاه اللّه من لدنه علماً وحكمة كما أشار إليه صدرالمتألّهين (3).

فنقول : إنّ ما ذكره الرازي مردود بوجهين :

أوّلاً : فبالنقض بأنّ موجوداً امكانياً كزيد كلّه معلوم لله سبحانه ، وكلّه مقدور له وحيثيّة المعلومية في الخارج ، نفس حيثية المقدورية وليست حيثية المعلومية في الخارج مغايراً لحيثية المقدورية ، وإلاّ يلزم أن تكون الحيثيّة الثانية غير معلومة لله سبحانه ، وهو خلف ، لفرض كونه عالماً بكلّ شيء ولأجل ذلك نقول : ثبت في

ص: 50


1- هو رأي « عبّاد بن سليمان المعتزلي » والجبائيين خلافاً لأبي الهذيل العلاّف عنهم ، لاحظ « بحوث في الملل والنحل ج 2 ص 80 - 81 ».
2- لوامع البينات للرازي ص 24.
3- الأسفار الأربعة : ج 6 ص 10.

محله أنّ الكثير قابل للانتزاع من الواحد من حيث أنّه واحد وإن كان الواحد من حيث أنّه واحد لا يمكن انتزاعه من الكثير بما هو كثير.

وثانياً : فبالحل : فإنّ ما ذكره من أنّ المفهوم من كونه قادراً غير المفهوم من كونه عالماً وان كان صحيحاً لكن ما رتّب عليه من قوله « والحقيقه الواحدة لا تكون عين الحقيقتين ، لأنّ الواحد لا يكون نفس الاثنين » غير صحيح ومنشأ الاشتباه هو الخلط بين التغاير المفهومي والتغاير الخارجي فكلّ مفهوم يستحيل أن يكون في عالم المفهومية نفس المفهوم الآخر ، فلو قال قائل زيد موجود وأراد إنّ نفس مفهوم المسند إليه نفس مفهوم المسند فقد أخطأ خطأً عظيماً ، وليس مفاد الحمل الشائع الحكاية عن الوحدة في عالم المفهوم ولو أراد الرازي هذا لصحّ قوله : « الواحد لا يكون نفس الأثنين ».

وأمّا لو أراد الحقيقة الخارجية فهو غير صحيح إذ لا مانع من أن يكون شيء واحد بما هو واحد مصداقاً لمفهومين مختلفين ، وقد عرفت أنّ كلّ موجود امكاني كلّه معلوم لله سبحانه ، كما أنّ كلّه مقدور ، وليست حيثيّة المعلوميّة مغايرة للحيثيّة المقدوريّة وإلاّ يلزم ان يكون جهة المعلوميّة خارجة عن اِطار قدرته ، أو العكس.

قال الحكيم السبزواري : « اختلط عليهم المفهوم والمصداق فيرون اختلاف المفاهيم ويتوهّمون اختلاف وجودها ومصداقها بحسبها ، وكأنّهم لم يقرع أسماعهم جواز انتزاع مفاهيم مختلفة من مصداق واحد وهذا نظير أنّه يصدق عليك إنّك مقدور لله ومعلوم ، ومراد ومعلول له ، وأنّك مشخص واحد ، ولا يمكنك أن تقول : أنا مقدور من جهة ، ومعلوم من جهة اُخرى مثلاً ، إذ يلزم أن تكون حيثيّة مقدوريتك غير معلومة له مع أنّه لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة وحيثيّة معلوميتك غير مقدورة له مع ثبوت عموم قدرته ، فظهر أنّ اتّحاد مفاهيم كثيرة في الوجود والمصداق واقع » (1).

ص: 51


1- شرح المنظومة للحكيم السبزواري ص 154 - 155.

قال صدر المتألهين : « واجب الوجود وإن وصف بالعلم والقدرة والإرادة لكن ليس وجود هذه الصفات فيه إلاّ وجود ذاته بذاته ، فهي وإن تغايرت مفهوماتها لكنّها في حقّه تعالى موجودة بوجود واحد » قال الشيخ في التعليقات : « الأوّل : إنّه تعالى لا يتكثر لأجل تكثّر صفاته لأنّ كلّ واحدة من صفاته إذا حقّقت تكون صفة اُخرى بالقياس إليه ، فيكون قدرته حياته ، وحياته قدرته ، وتكونان واحدة ، فهو حيّ من حيث هو قادر ، وقادر من حيث هو حيّ ، وكذا في سائر صفاته » (1).

وإن شئت قلت : إنّ الوجود ربّما يبلغ في الكمال مرتبة كاملة لا يتصور فوقه فيكون بوحدته وبساطته نفس هذه الكمالات من العلم والقدرة والحياة من غير أن تتكثّر الذات وتتعدّد حقيقة أو اعتباراً وحيثيةً ، وذلك لأنّ حيثيّة الذات بعينها حيثية هذه الصفات.قال أبو نصر الفارابي :

« وجود كلّه ، وجوب كلّه ، علم كلّه ، قدرة كلّه ، حياة كلّه لا أنّ شيئاً منه علم وشيئاً آخر منه قدرة ليلزم التركيب في ذاته ، ولا أنّ شيئاً فيه علم وشيئاً آخر فيه قدرة ليلزم التكثّر في صفاته الحقيقية » (2).

بيان آخر لوحدة الصفات

ثمّ إنّ الراسخين في الحكمة الإلهية أرجعو الصفات الثبوتية إلى وصف واحد والصفات السلبية إلى سلب واحد ، كما ارجعوا الصفات الاضافية إلى اضافة واحدة وليس هذا الارجاع أمراً اعتبارياً ذهنيّاً بل التعليل العقلي يشهد بذلك مثلاً إنّ سلب الامكان عنه تعالى مبدأ لسائر السلوب فأنّ الجوهرية والعرضية والحدوث والحلول كلّها من لوازم الامكان فسلبه يلازم سلب كلّ هذه الصفات السلبية ، كما أنّ جميع

ص: 52


1- الأسفار : ج 6 ص 120.
2- الأسفار : ج 6 ص 121 ، والفرق بين القسمين هو : إنّ العلم في الشقّ الأوّل موجود في مرتبة الذات بخلافه في الشقّ الثاني فهو فيه زائد عليها.

الصفات الثبوتية من العلم والقدرة والحياة يرجع إلى أصل واحد وهو وجوب الوجود والوجود المتأكّد وقد عرفت أنّ المحقّق الطوسي استنتج من توصيفه سبحانه بالغني ، والوجود ، جميع الصفات الكمالية ، كما أنّ جميع الصفات الإضافية كالخالقية والرازقية والعلية ترجع إلى إضافة واحدة وهي اضافة القيّوميّة ، فانّ كونه بحيث يقوم به غيره من وجود أو حيثية وجودية عبارة اُخرى عن قيّوميّته ، فالخلق والرزق والحياة والعزّة والهداية حيثيّات وجوديّة وهي قائمة به مفاضة من عنده.

فاتّضح أنّه يمكن الجمع بين الكمالين : كمال البساطة وكمال اتّصاف الذات بواقع الصفات الكماليّة بشرط أن تقف على موضع الوحدة ، وانّ المدّعى ليس اتحادها مع الذات في اطار المفهوم بل المدّعى اتّحاد واقعية الذات مع واقعيّة هذه الصفات في الخارج ، وكم له من نظير في عالم الأعيان (1) .

5 - تقسيم صفاته إلى الجماليّة والجلاليّة

إنّ صفات اللّه تعالى على نوعين : جماليّة وجلاليّة.

فالجماليّة عبارة عن الألفاظ الدالّة على معان قائمة بذات اللّه تعالى كقولنا : عالم ، قادر ، حيّ.

والجلاليّة عبارة عن سلب معان عن اللّه سبحانه كقولنا : « اللّه ليس بجسم ولا جسمانيّ ولا جوهر ولا عرض » ولعلّه إلى القسمين يشير قوله سبحانه : ( تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلالِ وَالإِكْرَامِ ) ( الرحمن / 78 ).

فصفة الجلال ما جلّت ذاته عن مشابهة الغير ، وصفة الاكرام ما تكرّمت

ص: 53


1- وسنرجع الى هذا البحث عند دراسة كون صفاته عين ذاته ، وما ذكر هنا - كثرة أسمائه وبساطة ذاته - وما سيأتي : صفاته عين ذاته ، وجهان لعملة واحدة غير أنّ حيثيّة البحث في المقامين مختلفة.

ذاته بها وتجمّلت (1).

وبعبارة اُخرى : الصفة إمّا ايجابيّة ثبوتيّة ، وإمّا سلبيّة تقديسيّة ، وقد حصروا الاولى في ثمانية وهي : العلم ، والقدرة ، والحياة ، والسمع ، والبصر ، والتكلّم ، والغنى ، والصدق ، كما حصروا الثانية في سبعة وهي انّه تعالى ليس بجسم ، ولا جوهر ، ولا عرض ، ولا يُرى ، وليس بمتحيّز ، ولا حالّ في غيره ، ولا يتّحد بشيء.

وبعبارة ثالثة لو كانت الصفة تثبت وجود كمال في الموصوف وواقعية في ذاته ، تعدّ كمالاً لها وسميّت ثبوتية أو جماليّة أو كماليّة أو معنويّة على اختلاف مصطلحاتهم ، ولو كانت الصفة تهدف إلى نفي نقيصة وحاجة عنه سبحانه سمّيت سلبية أو جلاليّة ، فالعلم والقدرة والحياة من الصفات الثبوتيّة لأنّها تعرب عن وجود كمال في الذات الإلهية كما انّ نفي الجسمانيّة والحلول والتحيّز من الصفات السلبيه لأنّها تهدف إلى سلب هذه النقائص عن ساحته وذاته.

وعلى وجه الإجمال كلّ اسم يدل على تنزّهه تعالى وخروجه عن الحدّين : حد الإبطال وحد التشبيه فهو جلاليّ ، مثل : عزيز ، وسبّوح ، وجليل ، وسرمد ، وغيرها مما تدلّ على غناه عمّا سواه وعدم مشابهته بشيء من خلقه ، وكلّ اسم يدل على شيء من كمالاته تعالى فهو جماليّ مثل : عليم ، وقدير ، وسميع ، وبصير ، مما يدلّ على استحقاقه لشيء من الكمالات فجلاله عين جماله ، وجماله عين جلاله ، وكلاهما عين ذاته ، ولكن التعدّد في عالم الأسماء فالأسماء الجلاليّة مظاهر عالم العزّة ، والأسماء الجمالية مظاهر عالم العظمة.

ولأجل ذلك ذهب المحقّقون إلى أنّ الصفات الثبوتيّة والسلبيّة لا تنحصر في الثمانية والسبعة فإذا كان الملاك فيهما اثبات كمال أو رفع نقص فكلّ كمال وجمال

ص: 54


1- الأسفار ج 6 ص 118 ، والعجب إنّ الرازي جعل قوله « والاكرام » إشارة الى الصفات الإضافيّة. لاحظ لوامع البينات : ص 33.

ثابت لله سبحانه وهو واجد له ، وكلّ نقص وحاجة منفيّ عنه سبحانه ومسلوب عنه.

ومن هناك يمكن أن يقال : إنّه ليس لنا من الصفات الثبوتيّة إلاّ وصف واحد ، وهو ثبوت الكمال المطلق له سبحانه ، ومن الصفات السلبيّة إلاّ سلب واحد وهو سلب النقص على وجه الاطلاق ، فذاته سبحانه لا تخلو عن كلّ كمال وجمال ، فلو وصفناها بالعلم والقدرة والحياة وغيرها ، فلأجل انّ كلّ ذلك كمال وعدمها نقص ، كما انّ سلب الجهل والعجز والموت والجسميّة والتركيب والانفعال ليس إلاّ لأجل إنّها علامة النقص والافتقار. على ضوء ذلك يمكن ارجاع جميع الصفات الثبوتية إلى وصف واحد ، وارجاع الصفات السلبيّة إلى سلب واحد من دون أن يكون هناك عناية بالثمانية أو السبعة ، ويؤيّد ذلك انّ الصفات والأسماء التي وردت في القرآن الكريم تفوق بأضعاف المرّات هذا العدد الذي ذكره المتكلّّمون والحكماء من الصفات لله.

وقد عرفت كلام صدر المتألّهين في هذا المضمار فلا نعيد.

6 - تقسيم صفاته إلى الذاتيّة والفعليّة

اشارة

إنّ لصفاته سبحانه وراء التقسيم الماضي تقسيماً آخر وهو كون الصفة صفة ذات ، أو كونه صفة فعل ، فيعدّون العلم والقدرة والحياة من صفات الذات ، كما يعدّون صفة الخلق والرزق والمغفرة من صفات الفعل ، وهذا تقسيم متين جداً غير أنّ المهم تعريفهما بنحو جامع ومانع وإليك تعريفهما :

إذا كان فرض الذات وحدها كافياً في حمل الوصف عليه ، فالوصف ذاتي.

وأمّا إذا لم يكن فرضها كافياً في توصيف الذات بها ، بل توقّف على فرض غيرها « ولا غير في دار الوجود إلاّ فعله » فالصفة صفة فعل ، وهذا كالخالق فإنّ الذات غير كافية لانتزاع الخلق والرزق ، بل يتوقّف على فرض الغير وهو فعله

ص: 55

سبحانه ، فالذات إذا لوحظت مع الفعل ووصفت بأوصاف تسمّى تلك الأوصاف صفات الفعل (1).

وإن شئت قلت : إنّ ما يحتاج في تحقّقه إلى فرض تحقّق الذات قبلاً ، كالخلق والرزق فهي الصفات الفعلية وهي زائدة على الذات ، منتزعة عن مقام الفعل ، ومعنى انتزاعها عن مقام الفعل إنّا مثلاً نجد هذه النعم « التي نتنعّم بها ونتقلّب فيها » نسبتها إلى اللّه سبحانه نسبة الرزق المقرّر للجيش من قبل السطان فنسمّيها رزقاً وإن كان منتهياً إليه تعالى نسميه رزّاقاً ومثله الخلق والرحمة والمغفرة وسائر الصفات الفعليّة ، فهي تطلق عليه تعالى ويسمّى هو بها من غير أن يتلبّس بمعانيها كتلبّسه بالحياة والقدرة وغيرها من الصفات ، ولو تلبّس بها حقيقة لكانت صفات ذاتيه غير خارجه من الذات (2).

وعلى ضوء ذلك فالصفات على قسمين :

1 - ما لا يحتاج في تحقّقه إلى فرض تحقّق الذات قبل الوصف وذلك مثل العلم والقدرة والحياة من غير فرق بين كونها متّحدة مع الذات في مقام الوجود كما عليه العدلية ، وبين كونها زائدة عليها كما عليه أهل الحديث والأشاعرة ، فإنّ القول بالزيادة ليس بمعنى تحقّق الذات قبلاً ثم عروض هذه الصفات ، وإنّما يكفي في ذلك تحقّق الذات والصفة معاً ، فهذه هي الصفات الذاتيه.

2 - ما يحتاج في تحقّقها في الخارج إلى فرض تحقّق الذات قبلاً كالخلق والرزق فهي الصفات الفعلية ، وهي زائدة على الذات بحكم انتزاعها باعتبار صدور شيء منها.

ص: 56


1- الميزان ج 8 ص 368.
2- نهاية الحكمة : ص 284.

تعريف آخر للذاتية والفعلية

وهناك تعريف آخر لتمييز الذاتية عن الفعلية وهو إنّ كلّ ما يجري على الذات على نسق واحد فهو صفة الذات مثل قولنا « يعلم » و « يقدر » وإنّه « حي » ولا يصح أن يقال « لا يعلم » و « لا يقدر » وانّه « ليس بحي » أيضاً ، وأمّا ما يجري عليه سبحانه على وجهين أي بالايجاب تارة وبالسلب اُخرى ، فهذا صفة الفعل فيصح أن يقال يخلق ولا يخلق ، ويرزق ولا يرزق ، ويرحم ولا يرحم.

قال الشيخ المفيد : « لا يصحّ وصفه تعالى بأنّه يموت أو بأنّه يعجز أو بأنّه يجهل ، ولا يصحّ وصفه بالخروج عن كونه حيّاً وعالماً وقادراً ، ولكن يصحّ الوصف بأنّه غير خالق اليوم ، ولا رازق لزيد ، ولا محيي لميت ، ولا مبدئ لشيء في هذا الحال ولا معيد له ، ويصح الوصف له بأنّه يرزق ، ويمنع ، ويحيي ، ويميت ، ويبدئ ، ويعيد ، ويوجد ، ويعدم ، فثبت إنّ العبرة في أوصاف الذات وأوصاف الأفعال بما ذكرنا » (1).

وقد اختار هذا الملاك الشيخ الكليني في كافيه فانّه بعد ما نقل جملة من الروايات حول صفات الذات وصفات الفعل له تعالى قال :

« إنّ كلّ شيئين وصفت اللّه بهما وكانا جميعاً في الوجود أي ايجاباً وسلباً ، اثباتا ونفياً فذلك صفة الفعل (2).

ولعلّ في بعض الروايات ما يؤيّد هذا التعريف (3).

7 - تقسيم صفاته إلى نفسيّة واضافيّة

ثمّ إنّه لصفاته الثبوتية تقسيماً آخر وهو تقسيمه إلى النفسيّة والإضافيّة.

ص: 57


1- تصحيح الاعتقاد : ص 185 - 186.
2- الكافي ج 1 ص 111.
3- التوحيد للصدوق - باب صفات الذات وصفات الأفعال : الحديث 1 ص 139.

قال صدر المتألّهين :

« والثبوتيّة تنقسم إلى حقيقية كالعلم والحياة ، واضافية كالخالقية والرازقيّة والعليّة وجميع الحقيقيّات ترجع إلى وجوب الوجود أعني الوجود المتأكّد وجميع الاضافات ترجع إلى إضافة واحدة وهي اضافة القيّوميّة » (1).

وبعبارة اُخرى : فما لا إضافة في معناه إلى الخارج عن مقام الذات كالحياة ، فهو نفسيّ ، وماله اضافة إلى الخارج سواء كان معنى نفسيّاً ذا اضافة كالصنع والخلق فهي النفسيّة ذات الاضافة ، أو معنى إضافيّاً محضاً كالخالقيّة والرازقيّة فهي الإضافة المحضة (2).

8 - تقسيم آخر منسوب إلى أهل المعرفه

وهناك تقسيم آخر ينسب إلى أهل المعرفة ذكره الحكيم السبزواري في « أسرار الحكم » وحاصله : تقسيم صفاته إلى تنزيهيّة وتشبيهيّة ، والمقصود من الأوّل ما لا يوجد إلاّ في الواجب جلّ اسمه ، كقولنا : القديم الأزلي ، والذاتي ، والبسيط المحض ، والقدّوس المفسّر عندهم بما لا ماهية له ، فإنّها صفات خاصّة ، لا يوجد نظيرها في الموجودات الامكانية حتّى بالمعنى المناسب لها.

والمراد من الثاني ما يوجد نظيره في الممكنات كالسميع والبصير ، فإنّه وإن كان فرق واضح بين كونه سميعاً وبصيراً وكون الإنسان كذلك ، لكن النتيجة مشتركة بينهما (3).

وهذا التقسيم أمر لا طائل تحته : لأنّ صفاته تحمل عليه ، بقيد التجريد عن وصمة الامكان وسمة المادية ، وعندئذ يكون الجميع أوصاف كمال وصفات جمال تنزّه بها ربّنا عن النقائص.

ص: 58


1- الاسفار ج 6 ص 118 - 119.
2- الميزان ج 8 ص 369.
3- أسرار الحكم ص 49.

9 - تقسيم صفاته إلى الذاتيّة والخبريّة

قسّم بعض المتكلّمين صفاته سبحانه إلى ذاتية وخبرية ، والمراد من الاُولى أوصافه المعروفة من العلم والقدرة والحياة ، والمراد من الثانية ما أثبتته ظواهر الآيات والأحاديث له سبحانه وأخبرت عنها كالقدم والوجه واليدين والقدوم والنزول إلى غير ذلك ، وهذه الصفات قد أوجدت ضجّة كبرى بين المتكلّمين ، فقسّمتهم إلى طوائف مختلفة ، وسنبحث عن هذه الصفات في فصل خاص.

10 - تقسيمها إلى صفات اللطف والقهر

إنّ صفاته سبحانه تنقسم - حسب الظاهر - إلى صفات لطف وصفات قهر. فالمتبادر من الرحمن والرحيم والغفور والحليم ، يضاد المتبادر من القاهر والجبّار والمنتقم ، وقد ورد في الأدعية توصيفه ب « قاصم الجبارين » و « مبير الظالمين » ولكلّ مجال ومظاهر ، ولذلك عند ما يأمر بقطع يد السارق يصف نفسه بأنّه عزيز حكيم ، يقول سبحانه : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( المائدة / 38 ). والمقام يناسب لأن يتجلّى سبحانه بأوصافه القهاريّة ، ولو قال مكانهما غفور رحيم لكان مخلاً بالبلاغة.

ولكنه سبحانه في المواضع التي تطلب بلاغة المقال يتجلى بوصف الرحمة والمغفرة و ... ولكن هذا التقسيم ، تقسيم ظاهري ، والكلّ مظاهر رحمته ومجالي رأفته ، ولأجل ذلك قال أهل المعرفة : « تحت كلّ لطف قهر وتحت كلّ قهر لطف ».

يقول سيد الموحّدين :

وكم لله من لطف خفى *** يدقّ خفاه عن فهم الذكي

كيف وهو سبحانه يصف نفسه بقوله : ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) ( الأعراف / 155 ) وفي الدعاء المأثور عن أمير المؤمنين « يا من سبقت رحمته

ص: 59

غضبه » ولأجله نؤمن انّ في قهره رحمة للمقهور عليه ، وانّ في عذابه لطفاً خفيّاً للمعذّب.

11 - الأسماء العامّة والخاصّة

إنّ بين نفس الأسماء سعة وضيقاً ، وعموماً وخصوصاً ، فمنها خاصة ، ومنها عامة ، فالعالم اسم خاص بالنسبة إلى الحيّ ، وعام بالنسبة إلى السميع والبصير والشهيد واللطيف والخبير.

والرزّاق خاص بالنسبة إلى الرحمان ، وعام بالنسبة إلى الشافي والناصر ، والهادي ، وعلى هذا القياس.

فللأسماء الحسنى عرض عريض تأخذ في السعة والعموم ، ففوق كلّ اسم ما هو أوسع منه وأعم ، حتّى ينتهي إلى اسم اللّه الأكبر الذي يسع وحده ، جميع حقائق الأسماء ، وتدخل تحته شتات الحقائق برمّتها ، وهو الذي نسمّيه غالباً بالاسم الأعظم.

ومن المعلوم انّه كلّّما كان الاسم أعم ، كانت آثاره في العالم أوسع ، والبركات النازلة منه أكبر وأتم لما انّ الآثار للأسماء كما عرفت ، فما في الاسم من حال العموم والخصوص يحاذيه بعينه أثره ، فالاسم الأعظم ينتهي إليه كلّ أثر ويخضع له كلّ أمر (1).

12 - هل الاسم الاعظم من قبيل الألفاظ ؟

قد اشتهر بين الناس انّ لله سبحانه بين أسماءه اسم أعظم مَن دعاه به استجيب دعوته ، وهل هو من قبيل الألفاظ أو أنّ له حقيقة وراءها ؟ فقد حقّق حاله سيدنا

ص: 60


1- الميزان ج 8 ص 370 - 371.

الاُستاذ « قدس اللّه سره » في تفسيره نأتي برمّته.

شاع بين الناس انّه اسم لفظي من أسماء اللّه سبحانه إذا دعي به استجيب ، ولا يشذ من أثره شيء ، غير أنّهم لمّا لم يجدوا هذه الخاصّة في شيء من الأسماء الحسنى المعروفة ولا في لفظ الجلالة ، اعتقدوا انّه مؤلّف من حروف مجهولة تأليفاً مجهولاً لنا ، لو عثرنا عليه أخضعنا به لإرادتنا كلّ شيء.

وفي مزعمة أصحاب العزائم والدعوات ، إنّ له لفظاً يدل عليه بطبعه لا بالوضع اللغوي ، غير ان حروفه وتأليفها تختلف باختلاف الحوائج والمطالب ، ولهم في الحصول عليه طرق خاصّة يستخرجون بها حروفه أوّلاً ، ثم يؤلّفونها ويدعون بها على ما يعرفه من راجع فنَّهم.

وفي بعض الروايات الواردة اشعار ما بذلك ، كما ورد انّ ( بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) أقرب إلى اسم اللّه الأعظم من بياض العين إلى سوادها ، وما ورد أنّه في آية الكرسي وأوّل سورة آل عمران ، وما ورد انّ حروفه متفرّقه في سورة الحمد يعرفها الإمام وإذا شاء ألّفها ودعا بها فاستجيب له.

وما ورد إنّ آصف بن برخيا وزير سليمان دعا بما عنده من حروف « اسم اللّه الاعظم » فاحضر عرش ملكة سبأ عند سليمان في أقل من طرفة عين ، وما ورد إنّ الاسم الأعظم على ثلاث وسبعين حرفاً قسّم اللّه بين أنبيائه اثنتين وسبعين منها ، واستأثر بواحدة منها عنده في علم الغيب ، إلى غير ذلك من الروايات المشعرة بأنّ له تأليفاً لفظيّاً.

والبحث الحقيقي عن العلّة والمعلول وخواصّها يدفع ذلك كلّه ، فإنّ التأثير الحقيقي يدور مدار وجود الأشياء في قوّته وضعفه ، والمسانخة بين المؤثّر ، والاسم اللفظي إذا اعتبر من جهة خصوص لفظه ، كان مجموعة أصوات مسموعة هي من الكيفيّات العرضيّة ، وإذا اعتبر من جهة معناه المتصوّر كان صورة ذهنيّة لا أثر لها من حيث نفسها في شيء البتة ، ومن المستحيل أن يكون صوت « أوجدناه من طريق

ص: 61

الحنجرة أو صورة خياليّة نصورها في ذهننا » يقهر بوجوده وجود كلّ شيء ، ويتصرّف فيما نريده على ما نريده فيقلب السماء أرضاً ، والأرض سماء ، ويحوّل الدنيا إلى الآخرة وبالعكس وهكذا ، وهو في نفسه معلول لارادتنا.

والأسماء الإلهية واسعة ، واسمه الأعظم خاصّة وان كانت مؤثّرة في الكون بوسائطه وأسبابه لنزول الفيض من الذات المتعاليّة في هذا العالم المشهود ، لكنّها إنّما تؤثر بحقائقها لا بالألفاظ الدالّة عليها ، ولا بمعانيها المفهومة من ألفاظها المتصوّرة في الأذهان ، ومعنى ذلك إنّ اللّه سبحانه هو الفاعل الموجد لكلّ شيء بماله من الصفة الكريمة المناسبة له التي يحويها الاسم المناسب لا تأثير اللفظ أو الصورة المفهومة في الذهن أو حقيقة اُخرى غير الذات المتعالية.

إلاّ انّ اللّه سبحانه وعد اجابة دعوة من دعاه كما في قوله : ( أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) ( البقرة / 186 ) ، وهذا يتوقّف على دعاء وطلب حقيقي ، وأن يكون الدعاء والطلب منه تعالى لا من غيره - كما تقدّم في تفسير الاية - فمن انقطع عن كلّ سبب واتّصل بربّه لحاجة من حوائجه فقد اتّصل بحقيقة الاسم المناسب لحاجته فيؤثر الاسم بحقيقته ويستجاب له ، وذلك حقيقة الدعاء بالاسم ، فعلى حسب حال الاسم الذي انقطع إليه الداعي يكون حال التأثير خصوصاً وعموماً ، ولو كان هذا الاسم هو الاسم الأعظم لإنقاد لحقيقته كلّ شيء ، واستجيب للداعي به دعاؤه على الاطلاق. وعلى هذا يجب أن يحمل ما ورد من الروايات والأدعية في هذا الباب دون الاسم اللفظي أو مفهومه.

ومعنى تعليمه تعالى نبيّاً من أنبيائه أو عبداً من عباده اسماً من أسمائه أو شيئاً من الاسم الأعظم ، هو أن يفتح له طريق الانقطاع إليه تعالى باسمه ذلك في دعائه ومسألته ، فان كان هناك اسم لفظي وله معنى مفهوم فإنّما ذلك لأجل انّ الالفاظ ومعانيها وسائل وأسباب تحفظ بها الحقائق نوعاً من الحفظ فافهم ذلك.

واعلم أنّ الاسم الخاص ربّما يطلق على ما لا يسمّى به غير اللّه سبحانه كما

ص: 62

قيل به في الاسمين : اللّه ، والرحمان.

أمّا لفظ الجلالة فهو علم له تعالى خاص به ليس اسماً بالمعنى الذي نبحث عنه.

وأمّا الرحمان فقد عرفت أنّ معناه مشترك بينه وبين غيره تعالى لما انّه من الأسماء الحسنى ، هذا من جهة البحث التفسيري ، وأمّا من حيث النظر الفقهي فهو خارج عن مبحثنا.

13 - صفاته عين ذاته لا زائدة عليه

اشارة

قد عرفت عند البحث عن كثرة صفاته مع بساطة ذاته انّه يمكن انتزاع مفاهيم كثيرة عن البسيط غاية البساطة وانّ من منع ذلك فقد خلط بين التغاير المفهومي والمصداقي (1).

وليس المراد وحدة الصفات مفهوماً بل المراد وحدتها تحقّقاً ومصداقاً ، ولقد كان لهذا البحث صدى كبيراً في الأدوار السالفة وقد افترق فيه المسلمون إلى فرقتين فالقائلون بالاتّحاد سمّوا بنفاة الصفات ، كما انّ القائلين بالزيادة نوقشوا بالقول بالقدماء الثمانية ، فيجب علينا تحقيق الحق في ذلك المجال مضافاً إلى ما ذكرناه في البحث السابق.

إنّ كيفية اجراء صفاته سبحانه على ذاته أوجد هوّة سحيقة بين متكلّمي المعتزلة والأشاعرة ، فمشايخ الاعتزال لأجل حفظ التوحيد ، ورفض تعدد القديم ، وتنزية الخالق عن التشبيه ، ذهبوا إلى أنّ ملاك اجراء هذه الصفات هو الذات ، وليست هنا أية واقعيّة للصفات غير ذاته إلاّ ان عقيدتهم في ذلك المجال تقرّر بوجهين :

ص: 63


1- سبق الكلام عن المقام عند البحث عن « بساطة ذاته وكثرة أسمائه » وقد عرفت انّ البحثين وجهان لعملة واحدة وهما متّحدان جوهراً ومختلفان حيثيّة.

الأوّل : ما نسبه إليه خصمهم أبو الحسن الأشعري من انّ اللّه عالم ، قادر ، حي بنفسه ، لا بعلم وقدرة وحياة (1).

ومعنى هذا انّه ليس هناك حقيقة العلم والقدرة والحياة ، غير أنّ الآثار المترقّبة من الصفات مترتبة على الذات ، مثلاً خاصية العلم اتقان الفعل وهي تترتب على نفس ذاته بلا وجود وصف العلم فيه وقد اشتهر بينهم : « خذ الغايات واترك المبادئ » ، وهذا النظر ينسب إلى أبي علي وأبي هاشم الجبائيين ، وهؤلاء هم المعروفون بنفاة الصفات ، ولا يخفى إنّ هذه النظرية لا يناسب ما تضافر عليه الكتاب من اثبات هذه الصفات عليه سبحانه بوضوح ، كما تصادمه البراهين الفلسفية من انّه لا يشذ عن حيطة وجوده أي كمال وانّه بسيط الحقيقة مع كونه جامعاً لكلّ الكمالات وأصحاب تلك النظرية وإن صاروا إليها لأجل حفظ التوحيد والتحرّز عن تعدد القدماء ، لكن عملهم هذا أشبه بعمل الهارب من المطر إلى الميزاب. أو من الرمضاء إلى النار ، أفيصح في منطق العقل إنكار هذه الكمالات لله سبحانه بحجّة انّ اثباتها يستلزم التركيب ؟ فلو كان أصحاب تلك النظرية غير قادرين على الجمع بين بساطة الذات واثبات الصفات كان اللازم عليهم الأخذ بالواضح المعلوم وهو كونه سبحانه عالماً قادراً حيّاً والسكوت عن كيفيّة اثباتها وإمرارها عليه ، واحالة العلم بكيفيتهما إلى اللّه سبحانه والراسخين في العلم.

الثاني : ما نقل عن أبي الهذيل العلاّف المعتزلي ، فقد ذهب إلى ما ذهبت إليه الاماميّة تبعاً لإمامهم سيد الموحّدين علي بن أبي طالب علیه السلام فأثبت إنّ لله علماً وقدرة وحياة حقيقية ولكنّها في مقام التحقق والعينيّة نفس ذاته ، وإليك نص عبارته :

« هو عالم بعلم هو هو ، هو قادر بقدرة هي هو ، هو حي بحياة هي هو ، - إلى أن قال - إذا قلت : إنّ اللّه عالم ، أثبتّ له علماً هو اللّه ونفيت عن اللّه جهلاً ، ودللت على معلوم كان أو يكون ، وإذا قلت : قادر نفيت عن اللّه عجزاً ، وأثبتّ له

ص: 64


1- مقالات الاسلاميين ج 1 ص 224.

قدرة هي اللّه سبحانه ودللت على مقدور ، فإذا قلت : « اللّه حي أثبتّ له حياةً وهي اللّه ونفيت عن اللّه موتاً » (1).

والفرق بين الرأيين جوهري ، فالرأي الأوّل يركز على أنّ اللّه عالم قادر حي بنفسه لا بعلم ولا قدرة ولا حياة ، وأمّا الثاني وهو يركز على كونه سبحانه موصوفاً بهذه الصفات وإنّه عالم بعلم ، وقادر بقدرة ، ولكنها تتّحد مع الذات في مقام الوجود والعينيّة.

هذا هو الذي فهمنا من عبارة أبي الهذيل العلاّف وإن أصرّ القاضي عبد الجبار على ارجاع مقالته إلى ما يفهم من عبارة أبي علي وابنه أبي هاشم ، وقال : إنّه لم تتلخص له العبارة ، وهذه النظرية هي المروية عن علي علیه السلام في خطبه وكلماته ، ونأتي منها بما يرتبط بالمقام :

1 - « كمال توحيده الاخلاص له ، وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كلّ صفة انّها غير الموصوف وشهادة كلّ موصوف انّه غير الصفة » (2).

2 - « ولا تناله التجزئة والتبعيض » (3). وقد مضى بعض الاحاديث التي تتعلق بهذا الشأن عند البحث عن بساطة الذات وكثرة الصفات.

وبذلك يعلم أنّ ما ردّ به أبو الحسن الأشعري نظرية وحدة الصفات مع ذات ، إنّما ينسجم مع نظرية النيابة لا مع نظرية أبي الهذيل : « قال إنّ الزنادقة قالوا : إنّ اللّه ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير ، وقول من قال من المعتزله : إنّه لا علم لله ولا قدرة له ، معناه : إنّه ليس بعالم ولا قادر والتفاوت في الصراحة والكناية » (4).

ص: 65


1- شرح الاصول الخمسة : للقاضي عبد الجبار المعتزلي ص 183 ، ومقالات الاسلاميين ص 225.
2- نهج البلاغة الخطبة 1 - طبع عبده -.
3- نهج البلاغة الخطبة81 - طبع عبده -.
4- الابانة : ص 108.

و هذا النقد - لو سلم - فإنّما يتوجّه إلى النظرية الاُولى لا الثانية ، ومع ذلك يمكن لأصحاب النظرية الاُولى الدفاع عن أنفسهم أيضاً قائلين بالفرق بين قول الزنادقة وهذه النظرية ، فالزنادقة ينفون المبادئ على الاطلاق ، والمعتزله ينفون المبادئ لكن يقيمون الذات مقام الصفات في الأثر والغاية.

نعم ما أجاب به الأشعري عن النظرية الثانية ساقط جداً حيث قال لو كان علم اللّه هو اللّه يلزم ان يصح أن نقول يا علم اللّه اغفر لي وارحمني (1).

وهذا النقد يعرب عن عدم تفريق الشيخ بين الوحدة المفهوميّة والوحدة المصداقيّة والمعتزلة أعني أبا الهذيل ومن تبعه أو من سبقه لا يدّعون الوحدة المفهومية حتى يصحّ أن نقول : يا علم اللّه اغفر لي ، وإنّما يقولون بالوحدة المصداقية واتّحاد العلم مع الذات لا يسوّغ استعمال العلم في الذات.

أدلّة القائلين بعينيّة صفاته مع ذاته

القائلون بوحدة صفاته مع ذاته يستدلّون بدليلين واضحين :

أحدهما : إنّ القول بالزيادة يستلزم تركيب الذات مع الصفات ، والتركيب آية حاجة المركّب إلى كلّ واحد من الجزئين ، والحاجة حليف الامكان ، والممكن لا يكون واجباً.

ثانيهما : إنّ القول بالزيادة يستلزم تعدّد القدماء ، لأنّ المغايرة حقيقية واقعيّة لا مفهوميّة ، وأدلّة وحدة الواجب تضادها ، فلا محيص من القول بالتوحيد ، وفي ذلك يقول الإمام أمير المؤمنين علیه السلام :

« وكمال الاخلاص له نفي الصفات ( الزائدة ) عنه لشهادة كلّ صفة انّها غير

ص: 66


1- نفس المصدر ص 108.

الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف انّه غير الصفة فمن وصف اللّه ( أي بوصف زائد على ذاته ) فقد قرنه ( أي قرن ذاته بشيء غيرها ) ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ومن جزّأه فقد جهله » (1).

وأي برهان أوضح من هذا البيان فإنّ القول بالاتّحاد يوجب تنزيهه عن التجزئة ونفي الحاجة عن ساحته ، ولكن إذا قلنا بالتعدّد والغيريّة ، فذلك يستلزم التركيب ويتولّد منه التثنيه ، والتركيب آية الحاجة واللّه الغني المطلق لا يحتاج إلى ما سواه.

قال الصادق علیه السلام : « لم يزل اللّه جلّ وعزّ ربّنا ، والعلم ذاته ولا معلوم ، والسمع ذاته ولا مسموع ، والبصر ذاته ولا مبصر ، والقدرة ذاته ولا مقدور » (2).

هذا ويمكن الاستدلال على الوحدة بالذكر الحكيم ، نرى أنّه سبحانه يقول في سورة التوحيد : ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ) ويقول في آخرها : ( وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) .

فلو قلنا بأنّ الصدر ناظر إلى نفي المثليّة يلزم التكرار ، وأمّا لو قلنا بأنّه ناظر إلى بساطة الذات وعدم تركبه فعندئذ يكون الصدر دليلاً على نفي التركيب ، والذيل دليلاً على نفي المثليّة.

وهناك كلمة قيّمة لأميرالمؤمنين في جواب أعرابي يوم الجمل : فقال يا أمير المؤمنين أتقول انّ اللّه واحد ؟ قال ( الراوي ) ، فحمل الناس عليه قالوا : يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب ، فقال أمير المؤمنين علیه السلام : دعوه ، فإنَّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم ، ثم قال : يا أعرابي ، اِنَّ القول في انَّ اللّه واحد على أربعة أقسام فوجهان منها لا يجوزان على اللّه عزّ وجلّ ، ووجهان يثبتان فيه - إلى أن قال - : « وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل : هو

ص: 67


1- نهج البلاغة : الخطبة 1.
2- التوحيد للصدوق ص 139.

واحد ليس له في الأشياء شبه كذلك ربّنا. وقول القائل : إنّه عزّ وجلّ أحديّ المعنى يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم. كذلك ربّنا » (1).

وهذا الحديث العلوي يركّز على البساطة ونفي توهّم الجزئية على الاطلاق سواء كان مبدأ التركيب هو زيادة الصفات على الذات أو غيرها كما هو الحال في تثليث المسيحيّين.

وأمّا أدلة القائلين بالزيادة فتبتني على أنّ واقعيّة الصفة هي البينونة ، فيجب أن يكون هناك ذات وعرض ينتزع من إتصاف الاُولى بالثاني ، عنوان العالم والقادر. فالعالم من له العلم ، والقادر من له القدرة ، لا من ذات نفسهما فيجب أن يفترض ذات غير الوصف (2).

يلاحظ عليه : إنّ الشيخ الأشعري يريد اقتناص الحقائق الفلسفيّة عن طريق اللّغة فإنّه لا شك إنّ لفظ العالم والقادر ظاهر فيما ذكر إلاّ انّه يجب رفع اليد عن هذا الظاهر بالبرهان العقلي ، وعدم وقوف العرف على هذا المصداق من العالم والقادر لا يمنع من صحّة اطلاقهما عليه.

أضف إلى ذلك إنّ الفرق بين القول بالعينيّة والقول بالزيادة ، كالفرق بين قولنا زيد عدل وزيد عادل ، فالاُولى من القضيتين آكد في اثبات المبدأ من الآخر ولأجل ذلك كان القول بالعينية آكد في اثبات العلم له سبحانه من القول بالزيادة ، فلو بلغ وجود امكاني إلى مبلغ من الكمال ، بأن صار ذاته علماً وقدرة فهو اُولى بالاتّصاف بهما ممّن يغاير ذاتُه صفتَه ، وعدم وقوف العرف على هذا النوع من الصفات لا يضرّ بالاتّصاف.

ص: 68


1- التوحيد للصدوق ص 83 - 84.
2- اللمع للشيخ الاشعري ص 30 بتقرير منّا.

مضاعفات القول بالزيادة

إذا كان في القول بعينيّة الصفات مع الذات ، نوع مخالفة لظاهر صيفة الفاعل اُعني العالم والقادر ، كان في القول بالزيادة مضاعفات ، لا يقبلها العقل السليم ، ونشير إلى بعضها :

1 - تعدّد القدماء بعدد الأوصاف الذاتيّة ، فلو كانت النصرانية قائلة بالتثليث ، فالقائلون بالزيادة يقولون بقدماء كثيرة.

نعم القائلون بالزيادة يتمحّلون في رفع الاشكال بأنّ « المراد من الزيادة هو أنّها ليست ذاته ولا غيرها » ولكنّك ترى أنّه كلام صوري ينتهي عند الدّقة إلى ارتفاع النقيضين.

إنّ القول بأنّ له سبحانه صفات زائدة على الذات ، قديمة مثله ، ممّا لا يجترئ عليه مسلم واع ، ولم يكن أحدٌ متفوّهاً بهذا الشرك من المسلمين غير الكلابية ، وعنهم أخذ الأشعري.

قال القاضي عبد الجبار : « وعند الكلاّبيّة أنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات لمعان أزليّة وأراد بالأزليّ : القديم ، إلاّ أنّه لمّا رأى المسلمين متّفقين على أنّه لا قديم مع اللّه لم يتجاسر على اطلاق القول بذلك ، ثمّ نبغ الأشعري وأطلق القول : بأنّه تعالى يستحقّ هذه الصفات لمعان قديمة ، لوقاحته وقلّة مبالاته بالإسلام والمسلمين » (1).

ص: 69


1- الاصول الخمسة : ص 183 ، ط مصر.

2 - إنّ القول باتّحاد صفاته مع ذاته ، يستلزم غناه في العلم بماوراء ذاته ، من غيره فيعلم بذاته كلّ الأشياء من دون حاجة إلى وراء الذات. وهذا بخلاف القول بالزيادة إذ عليه يعلم سبحانه بعلم سوى ذاته ، ويخلق بقدرة خارجة عن ذاته ، وكون هذه الصفات أزليّة ، لا يدفع الفقر والحاجة عن ساحته سبحانه ، مع أنّ وجوب الوجود يلازم الغنا عن كل شيء.

إنّ « الصفاتيّة » في علم الكلام وتاريخ العقائد هم الأشاعرة ومن لفّ لفّهم في القول بالاُوصاف الزائدة ، كما أنّ المعطّلة هم نفاة الصفات وهم المعتزلة ( حسب زعم الأشاعرة ) حيث عطّلوا الذات عن التوصيف بالأوصاف الكمالية ، وقالوا بالنيابة.

وقد عرفت أنّه ليس في القول بوحدة الصفات مع الذات « لا القول بالنيابة » أيّ تعطيل لتوصيف الذات بالصفات الكمالية.

إلى هنا انتهى البحث عن صفاته الثبوتية ووحدتها مع الذات ، بقي هنا بحثان :

الأوّل : البحث عن صفاته الفعلية وإنّ الإرادة والتكلّم هل هما من صفات الفعل أو من صفات الذات ؟

الثاني : عن كيفيّة حمل الصفات الخبرية عليه سبحانه ، وقد كان لهذا البحث دويّ في القرون الاولى الاسلامية ، وإليك بيان الأوّل ، ونؤخّر بيان الثاني إلى أن نفرغ عن تفسير أسمائه في القرآن.

ص: 70

14 - الإرادة صفة الذات أو صفة الفعل ؟

اشارة

قد تعرّفت على أنّ صفاته سبحانه تنقسم إلى ذاتية وفعلية ، وعرفت الملاك فيهما غير أنّه وقع البحث في بعض الصفات وأنّها هل هي من صفات الذات أو من صفات الفعل ؟ ونخص بالذكر صفتي الإرادة والتكلّم فنقول :

الإرادة والكراهة كيفيّتان نفسانيّتان كسائر الكيفيّات النفسانيّة حاضرتان لدى النفس بلا توسيط شيء مثل اللّذة والألم فتكونان معلومتين للنفس بعلم حضوري لا حصولي كما هو الحال في كلّ الاُمور الوجدانية ، والمهم تبيين ماهية الإرادة في الإنسان ثم البحث عن إرادته سبحانه.

فنقول : إنّ في إرادة الإنسان آراء مختلفة نشير إليها (1).

أ - رأي المعتزلة في الإرادة

الإرادة عبارة عن اعتقاد النفع ، والكراهة عبارة عن اعتقاد الضرر ، ونسبة القدرة إلى طرفي الفعل والترك متساوية ، فإذا حصل في النفس الاعتقاد بالنفع في أحد الطرفين ، يرجّح بسببه ذلك الطرف ويصير الفاعل مؤثّراً فيه.

يلاحظ عليه : انّه تفسير للإرادة والكراهة ببعض مبادئهما فإنّ الإرادة تنبثق عن الاعتقاد بالنفع كما ان الكراهة تنبثق عن الاعتقاد بالضرر ، ولكن الاعتقاد غير الإرادة بشهادة انّ الاعتقاد بالنفع لا يستتبع إرادة في جميع المجالات.

ب - الإرادة : الشوق النفساني

يظهر من بعض المشايخ « إنّ الإرادة هو الشوق النفساني الحاصل في النفس من الاعتقاد بالنفع ».

ص: 71


1- لاحظ : الوقوف على آراء المتكلمين في حقيقة الإرادة : شرح المواقف ج 8 ص 81 - 82.

يلاحظ عليه : أنّ تفسير الإرادة بالشوق تفسير ناقص إذ ربّما تتحقّق الإرادة ولا تكون هناك أيّة شوق كما في تناول الأدوية المرّة لأجل العلاج ، وربّما يتحقّق الشوق المؤكّد ولا تكون هناك إرادة كما في مورد المحرمات للرجل المتّقي فالنسبة بين الشوق والإرادة عموم وخصوص من وجه.

ج - الإرادة هي العزم والجزم

الإرادة لدى البعض عبارة عن كيفيّة نفسانيّة متخلّلة بين العلم الجازم والفعل ويعبر عنه بالقصد والعزم تارة ، وبالإجماع والتصميم اُخرى ، وليس القصد من مقولة الشوق كما انّه ليس من مقولة العلم - رغم حضوره لدى النفس كسائر الكيفيّات النفسانيّة - وبإختصار : الإرادة هي القصد وإجماع النفس على الفعل والعزم القاطع هذا هو حقيقة الإرادة في الإنسان.

الإرادة الامكانية تلازم الحدوث

وعلى كلّ تقدير الإرادة في الإنسان بأيّ معنى فسّرت ظاهرة تظهر في لوح النفس تدريجيّة فيتقدّمها اُمور من تصوّر الشيء والتصديق بما فيه من الفائدة ثمّ حصول الاشتياق إليه في موارد خاصّة ، ثمّ رفع الموانع عن طريق ايجاد الشيء وأخيراً حالة التصميم والقصد القطعي المحرّك للعضلات نحو المقصود.

وهذا أمر واضح يقف عليه الإنسان إذا تدبّر في حالات نفسه ، ومن المعلوم انّ الإرادة بهذا المعنى لا يمكن توصيفه سبحانه به لأنّه يستلزم كونه موجوداً مادياً يطرأ عليه التغير والتبدل ، والتكامل من النقص إلى الكمال ، ومن الفقدان إلى الوجدان وما هذا شأنه لا يليق بساحة البارئ.

الإرادة ملاك الاختيار

إنّ الإرادة ملاك الإختيار ، فالفعل إنّما يوصف بالاختيار إذا صدر عن مشيئة

ص: 72

الفاعل وإرادته سواء أقلنا إنّ نفس الإرادة أيضاً أمر اختياري أو خارج عنه ، وهذا لا يهمنا في هذا البحث ، وإنّما المهم إناطة اختياريّة الفعل بسبق الإرادة عليها والفاعل المريد المختار أكمل من الفاعل غير المريد المختار ، وعلى ضوء ذلك لا يمكن سلب الإرادة والاختيار عنه سبحانه لأنّ فقدان الإرادة يستلزم أمرين :

1 - كونه فاعلاً غير مريد وبالتالي غير مختار.

2 - كونه فاعلاً غير كامل لأنّ المريد أكمل من غيره وبالتالي المختار أفضل من غيره.

وإن شئت قلت : إنّه سبحانه أمّا ان يكون فاعلاً فاقداً للعلم.

أو يكون عالماً فاقداً للإرادة.

أو يكون عالماً ومريداً لكن عن كراهة لفعله لأجل جبر خارجي عليه يقهره على الإرادة.

أو يكون عالماً ومريداً وراضياً بفعله غير مكره.

والثلاثة الأوّل غير لائقة بساحته ، فيتعيّن كونه فاعلاً مريداً مالكاً لزمام فعله وعمله ، ولا يكون مقهوراً في الإيجاد والخلق ، لأجل وجود جبر قاهر عليه.

إذا وقفت على ذلك فالباحث عن إرادته سبحانه وكونها صفة الذات أو صفة الفعل واقع بين أمرين متخالفين :

فمن جهة إنّ حقيقة الإرادة لا تنفكّ عن الحدوث والتدريج يستحيل أن يكون ذاته سبحانه محلاً للحوادث ، لاستلزامه طروء الفعل والانفعال على ذاته سبحانه وهو محال ، ولأجل ذلك ذهب كثير من المتكلّمين إلى انّ الإرادة من صفات فعله ، فارادته هو إيجاده كما انّ خالقيته عبارة عن فعله وإيجاده ، ورازقيّته عبارة عن انعام الخلق بنعمه.

ومن جهة اُخرى انّ سلب الإرادة عن ذاته وحصر إرادته في الفعل والايجاد

ص: 73

يستلزم كونه فاعلا غير مختار وتصور فاعل أكمل منه وهو لا يليق بساحته وإليك البيان.

هل الإرادة صفة الذات أو صفة الفعل ؟

إنّ الإرادة بما أنّها آية الاختيار تستلزم أن تعدّ من صفات الذات فإنّ سلبها عن مقام الذات يستلزم سلب كمال منها غير أن أمام هذا موانع تمنع عن عدّها من صفاتها وإليك بيانه :

1 - إنّ الإرادة لا تنفك عن الحدوث والتدريج ، فيستحيل أن تكون ذاته سبحانه محلاً للحوادث لاستلزامه طروء الفعل والانفعال على ذاته وهو محال.

2 - إنّ الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام تفسّر الإرادة بنفس الفعل والايجاد ، وهذا يكشف عن كونها صفة الفعل. وسيوافيك بيان هذه الأحاديث.

3 - إنّ الملاك الذي ذكره الكليني لتمييز صفة الذات عن صفة الفعل ، يستلزم عدّها من صفات الفعل لا من صفات الذات ، فإنّ صفات الفعل تقع تحت النفي والاثبات ويقال : « يَخلق ولا يُخلق » « يَغفر ولا يُغفر » بخلاف صفة الذات فإنّها تقع تحت الاثبات دون النفي ، يقال : « يعلم ويقدر » ولا يقال : « لا يعلم ولا يقدر » ، وعلى ضوء هذا فبما أنّه سبحانه يريد الحق ولا يريد الباطل ، يريد إيجاد شيء مطابق للحكمة ولا يريد إيجاد ما يخالفها ، فهي من صفات الفعل لا من صفات الذات (1).

4 - لو كانت الإرادة نفس ذاته ; لزم قدم العالم لأنّها متّحدة مع الذات والذات موصوفة بها وهي لا تنفك عن المراد ، فيلزم أن لا ينفكّ العالم عن الذات.

فهذه هي الموانع الأربعة أمام عدّ الإرادة من صفات الذات فالقائل بكونها من

ص: 74


1- الكافي ج 1 ص 109.

صفاتها يجب عليه حلّ عقدها ورفع مشاكلها ، ولأجل ذلك نطرحها على بساط البحث فنقول :

الاشكال الأوّل : الإرادة أمر تدريجي حادث

اشارة

لو كانت الإرادة صفة الذات ، يلزم كون الذات محلاًّ للحوادث فنقول : قد اُجيب عن هذا الاشكال بامور نشير إليها :

أ - إرادته سبحانه ، علمه بالذات
اشارة

إنّ إرادته سبحانه عبارة عن علمه بالنظام الأصلح والأتم والأكمل ، قال صدر المتألهين : « معنى كونه مريداً : إنّه سبحانه يعقل ذاته ، ويعقل نظام الخير الموجود في الكلّ من ذاته ، وإنّه كيف يكون ؟ وذلك النظام يكون لا محالة كائناً ومستفيضاً وهو غير مناف لذات المبدأ الأوّل » (1).

وقال أيضاً :

« إنّ إرادته سبحانه هي العلم بنظام الكلّ على الوجه الأتمّ وإذا كانت القدرة والعلم شيئاً واحداً مقتضياً لوجود الممكنات على النظام الأتمّ ، كانت القدرة والعلم والإرادة شيئاً واحداً في ذاته ، مختلفاً بالاعتبارات العقليّة (2).

وقال الحكيم السبزواري : « الواجب جلّ مجده حيث يتعالى من أن يفعل بآلة ، ومن أن يكون له شوق إلى ما سواه ، إذ هو موجود غير فقيد ، لكونه تامّاً وفوق التمام ، ومن أن يكون علمه انفعاليّاً ، فإنّ علمه تعالى فعلي غير معلّل بالأغراض الزائدة فالداعي ، والإرادة ، والقدرة ، عين علمه العنائي وهو عين ذاته (3).

ص: 75


1- الأسفار الأربعة ج 6 ص 316.
2- نفس المصدر ص 331.
3- شرح الأسماء الحسنى ص 42.
مناقشة هذه النظرية

لا شك انّه سبحانه عالم بذاته ، وعالم بالنظام الأكمل والأتم والأصلح ، ولكن تفسير الإرادة بالعلم ، يرجع إلى انكار حقيقة الإرادة فيه سبحانه ، فانكارها في مرتبة الذات ، مساوق لانكار كمال فيه ، إذ لا ريب أنّ الفاعل المريد أكمل من الفاعل غير المريد ، فلو فسّرنا إرادته سبحانه بعلمه بالنظام ، فقد نفينا ذلك الكمال عنه ، وعرّفناه فاعلاً يشبه الفاعل المضطر في فعله ، وبذلك يظهر النظر فيما أفاده صدر المتألّهين والسبزواري. حيث تصوّرا انّ الإرادة والعلم شيء واحد بذاته ، مختلف بالاعتبار ، ولأجل عدم صحّة هذا التفسير نرى أنّ أئمة أهل البيت علیهم السلام ينكرون تفسيرها بالعلم. قال بكير بن أعين : قلت لأبي عبد اللّه الصادق علیه السلام : « علمه ومشيئته مختلفان أو متّفقان » ؟

فقال علیه السلام : « العلم ليس هو المشيئة ، ألا ترى أنّك تقول سأفعل كذا إن شاء اللّه ، ولا تقول سأفعل كذا إن علم اللّه » (1).

وإن شئت قلت : « إنّ الإرادة صفة مخصّصة لأحد المقدورين ، أي الفعل والترك ، وهي مغايرة للعلم والقدرة ، لأنّ خاصيّة القدرة صحّة الإيجاد واللا إيجاد ، وذلك بالنسبة إلى جميع الأوقات وإلى طرفي الفعل والترك على السواء ، فلا تكون نفس الإرادة التي من شأنها تخصيص أحد الطرفين ، واخراج القدرة عن كونها متساوية بالنسبة إليهما.

وأمّا العلم فهو من المبادئ البعيدة للإرادة ، والإرادة من المبادئ القريبة إلى الفعل ، فلا معنى لعدّهما شيئاً واحداً.

نعم ، كون علمه بالمصالح والمفاسد مخصّصاً لأحد الطرفين ، وإن كان أمراً معقولاً ، لكن لا تصحّ تسميته إرادةً وإن اشترك مع الإرادة في النتيجة وهي تخصيص

ص: 76


1- الكافي ج 1 ص 109 باب الارادة.

الفاعل قدرته بأحد الطرفين ، إذ الاشتراك في النتيجة لا يوجب أن يقوم العلم مقام الإرادة ويكون كافياً لتوصيفه بذلك الكمال أي الإرادة.

ب - إرادته سبحانه ابتهاجه بفعله

إنّ إرادته سبحانه ابتهاج ذاته المقدّسة بفعلها ورضاها به ، وذلك لأنّه لمّا كانت ذاته سبحانه صرف الخير وتمامه ، فهو مبتهج بذاته أتمّ الابتهاج ، وينبعث من الابتهاج الذاتي ابتهاج في مرحلة الفعل ، فإنّ من أحبّ شيئاً أحبّ آثاره ولوازمه ، وهذه المحبّة الفعلية هي الإرادة في مرحلة الفعل ، وهي التي وردت في الأخبار التي جعلت الإرادة من صفات فعله ، فللإرادة مرحلتان : إرادة في مقام الذات ، وإرادة في مقام الفعل ، فابتهاجه الذتي إرادة ذاتيّه ، ورضاه بفعله إرادة في مقام الفعل.

يلاحظ عليه : إنّ هذه النظرية كسابقتها لا ترجع إلى محصّل ، فإنّ حقيقة الإرادة غير حقيقة الرضا وغير حقيقة الابتهاج ، وتفسير أحدهما بالآخر إنكار لهذا الكمال في ذاته سبحانه ، وقد مرّ أنّ كون الفاعل مريداً - في مقابل كونه فاعلاً مضطراً موجباً - ، أفضل وأكمل فلا يمكن نفي هذا الكمال عن ذاته على الاطلاق.

ج - الإرادة : إعمال القدرة

وربّما تفسر إرادته سبحانه بإعمال القدرة كما عن بعضهم. قال قائل :

« إنّا لا نتصوّر لإرادته تعالى معنى غير إعمال القدرة والسلطنة ، ولمّا كانت سلطنته تعالى تامّة من جميع الجهات ، ولا يتصوّر فيه النقص أبداً فبطبيعة الحال يتحقّق الفعل في الخارج ، ويوجد بصرف إعمال القدرة من دون توقّفه على أيّة مقدّمة اُخرى كما هو مقتضي قوله سبحانه : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( يس / 82 ) (1).

ص: 77


1- المحاضرات ج 2 ص 38.

يلاحظ عليه : إنّ إعمال القدرة والسلطنة إمّا فعل اختياري له سبحانه أو اضطراري ، ولا سبيل إلى الثاني لأنّه يستلزم أن يكون تعالى فاعلاً مضطراً ولا يصح توصيفه بالقدرة ولا تسميته بالقادر ، وعلى الأوّل فما هو ملاك كونه فاعلاً مختاراً ؟ لأنّه لابد أن يكون هناك قبل إعمال السلطنة وتنفيذ القدرة ، شيء يدور عليه كونه فاعلاً مختاراً ، فلا يصحّ الاكتفاء في مقام تفسير الإرادة ، بإعمال القدرة.

وباختصار : إنّ الاكتفاء باعمال القدرة من دون إثبات وصف الاختيار له في المقام بنحو من الأنحاء غير مفيد ، والمعروف انّ ملاك الاختيار هو الإرادة ، نعم لعلّ ما ذكره ( دام ظله ) يرجع إلى ما سنذكره. د - إرادته ، كونه مختاراً بالذات

الحق إنّ الإرادة من الصفات الذاتية وتجري عليه سبحانه على التطوير الذي ذكره المحقّقون في توصيفه بالحياة ، ولأجل توضيح المطلب نأتي بكلمة جارية في جميع صفاته سبحانه وهي :

يجب على كلّ إلهي - في إجراء صفاته سبحانه عليه - تجريدها من شوائب النقص وسمات الإمكان ، وحملها عليه بالمعنى الذي يليق بساحته مع حفظ حقيقتها وواقعيّتها حتّى بعد التجريد.

مثلاً ، انّا نصفه سبحانه بالعلم ، ونجريه عليه مجرّداً عن الخصوصيّات والحدود الإمكانية ، ولكن مع حفظ واقعيّته ، وهو حضور المعلوم لدى العالم ، وأمّا كون علمه كيفاً نفسانيّاً أو إضافة بين العالم والمعلوم ، فهو منزّه عن هذه الخصوصيّات ، ومثل ذلك الإرادة ، فلا شك انّها وصف كمال له سبحانه وتجري عليه مجرّدة عن سمات الحدوث والطروء والتدرّج والانقضاء بعد حصول المراد ، فإنّ ذلك كلّه من خصائص الإرادة الامكانية وإنّما يراد من توصيفه بالإرادة كونه فاعلاً مختاراً في مقابل كونه فاعلاً مضطراً ، وهذا هو الأصل المتبع في إجراء صفاته سبحانه.

ص: 78

إنّ الإرادة صفة كمال لا لأجل كونها حادثة طارئة منقضية بعد حدوث المراد ، وإنّما هي صفة كمال لكونها رمز الإختيار وسمة القاهريّة حتى أنّ الفاعل المريد المكره له قسط من الاختيار ، حيث يختار أحد طرفي الفعل على الآخر تلو محاسبات عقليّة فيرجّح الفعل على الضرر المتوعّد به ، فإذا كان الهدف والغاية من توصيف الفاعل بالإرادة هو اثبات الاختيار وعدم المقهوريّة فتوصيفه سبحانه بكونه مختاراً غير مقهور في سلطانه ، غير مجبور في إعمال قدرته ، كاف في جري الإرادة عليه ، لأنّ المختار واجد لكمال الإرادة على النحو الأتمّ والأكمل ، وقد مرّ أنّه يلزم في اجراء الصفات ترك المبادئ والأخذ بجهة الكمال ، فكمال الإرادة ليس في كونها طارئة زائلة عند حدوث المراد ، أو كون الفاعل خارجاً بها عن القوّة إلى الفعل ، أو من النقص إلى الكمال ، بل كمالها في كون صاحبها مختاراً ، مالكاً لفعله آخذاً بزمام عمله فلو كان هذا هو كمال الإرادة ، فاللّه سبحانه واجد له على النحو الاكمل إذ هو الفاعل المختار غير المقهور في سلطانه ، ( وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ) ( يوسف / 21 ) ، وليس هذا بمعنى انّها وصف سلبي وهو كونه تعالى غير مغلوب ولا مستكره ، كما نقل عن النجّار (1) بل هي وصف وجودي هو نفس ذاته والتعبير عنه بوصف سلبي لا يجعله أمراً سلبياً كتفسير العلم بعدم الجهل ، والقدرة بعدم العجز.

إجابة عن سؤال :

ويمكن أن يقال : إنّ تفسير الإرادة بالاختيار يستلزم نفس ما يستلزمه تفسير الإرادة بالعلم فعلى كلا التفسيرين الإرادة بمفهومها الحقيقي منفيّة عن الذات الإلهية.

والإجابة عن هذا السؤال واضح بملاحظة ما قدّمناه من التحليل في تفسير صفاته سبحانه فإنّ الصفات الكماليّة تحمل على اللّه سبحانه بحذف نقائصها وزوائدها لا بالمفهوم الحرفي الابتدائي الذي يتبادر إلى الأذهان مثلاً إنّا نصفه سبحانه بالحياة وإنّه حي ، ومن المعلوم أنّ ما يتبادر من الحياة هو ما نعرفه في النبات بالدفع

ص: 79


1- كشف المراد ص 177.

والجذب وانتاج المثل ، وفي الحيوان بإضافه الحس والحركة ، وفي الإنسان بزيادة التعقل والتفكر ، ومن المعلوم انّ الحياة بهذا المعنى غير قابل للحمل على اللّه سبحانه لكونها نقصاً.

فكما أنّ تفسير الحياة في العلوم الطبيعية بما ذكرنا لا ينافي توصيفه سبحانه بالحياة لأنّه يؤخذ منه اللبّ ويحذف القشر ، فكونه سبحانه عالما قادراً أي درّاكاً ، فعّالاً ، يكفي في توصيفه بالحياة فهكذا توصيف الإرادة بالعزم والجزم الطارئين على النفس بعد مقدمات ، لا ينافي توصيفه سبحانه بالإرادة لكن على التحليل الذي بيّنّاه وهو طرد القشر والأخذ باللب ، فبما أنّ الإرادة آية الإختيار ، والإختيار جوهر الإرادة وروحها ، فيكفي في توصيفه بالإرادة ، تفسيره بالإختيار وأين هذا من تفسير الإرادة بالعلم الذي لا صلة بينهما إلاّ على وجه بعيد ؟

فكما أنّ ما ذكر من الخصائص للحياة من الحسّ والحركة وغيرهما ليس عنصراً مقوّماً للحياة ، وإنّما هي تجلّيات لوجود عنصر الحياة في الإنسان ، فهكذا الإرادة تجلّ لوجود عنصر الاختيار في الذات ، فإذا كان ما يتجلّى به غير لائق لتوصيفه سبحانه به ، ينحصر التوصيف باللب والتجلّي بالمفهوم وهو الاختيار.

إلى هنا تمّ البحث حول المانع الأوّل وبقي الكلام في الموانع الاُخرى.

الإشكال الثاني : الروايات تعدّ الإرادة من صفات الفعل

اشارة

كيف تعدّ الإرادة من صفات الذات ، مع أنّ الروايات المتضافرة عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام تفسّره بالإيجاد مشيرة إلى أنّها من صفات الفعل كالخالقيّة والرازقيّة.

قال المفيد : إنّ إرادة اللّه تعالى لأفعاله هي نفس أفعاله ، وإرادته لأفعال خلقه ، أمره بالأفعال ، وبهذا جاءت الآثار عن أئمّة الهدى من آل محمد علیهم السلام وهو مذهب سائر الإماميّة إلاّ من شذّ منها عن قرب ، وفارق

ص: 80

ما كان عليه الأسلاف (1).

وإليك ما ورد في ذلك المجال :

1 - روى الكليني بسند صحيح عن صفوان بن يحيى قال : قلت لأبي الحسن علیه السلام : أخبرني عن الإرادة من اللّه ومن الخلق. قال : فقال : الإرادة من الخلق ، الضمير يبدو لهم بعد ذلك من الفعل ، وأمّا من اللّه تعالى فإرادته إحداثه ، لا غير ذلك لأنّه لا يروّي ولا يهمّ ولا يتفكّر ، وهذه الصفات منفيّة عنه ، وهي صفات الخلق ، فإرادة اللّه الفعل لا غير ذلك ، يقول له كن فيكون بلا لفظ ، ولا نطق بلسان ، ولا همّة ولا تفكّر ولا كيف لذلك ، كما أنّه لا كيف له (2).

2 - وروي الشيخ الطوسي عن صفوان بن يحيى قال قلت لأبي الحسن : اخبرني عن الإرادة من اللّه تعالى قال : « إرادته احداثه الفعل لا غير ذلك لأنّه جلّ اسمه لا يهم ولا يتفكّر » (3).

3 - روي الكليني عن الحسن بن عبد الرحمان الحماني ، عن الامام الكاظم علیه السلام في رواية قال : « إنّما تكون الأشياء بإرادته ومشيئته من غير كلام ولا تردد في نفس ولا نطق » (4).

روى الطبرسي في الاحتجاج عن الإمام الكاظم علیه السلام قال : « فيكون بمشيئته من غير تردّد في نفس » (5).

4 - روى الكليني عن يعقوب بن جعفر ، عن الإمام الكاظم علیه السلام في حديث : « ولكن كما قال اللّه تعالى كن فيكون بمشيئته من غير تردّد في نفس » (6).

ص: 81


1- أوائل المقالات ص 19.
2- الكافي ج 1 باب الاراده الحديث 3 ، ورواه البرقي في المحاسن ص 244.
3- أمالي الطوسي ص 214.
4- الكافي ج 1 باب النهي عن الجسم والصورة الحديث 6 ص 106.
5- الاحتجاج ج 2 ص 156.
6- الكافي ج 1 باب الحركة والانتقال ص 125 الحديث 1.

والجواب : إنّ هذه الروايات وإن كانت صريحة في كون إرادته سبحانه فعله ، لكنّها ليست بصدد سلب كون الإرادة صفة الذات حتّى بالمعنى المناسب لذاته عنه على الاطلاق ، وانما هي بصدد أنّ الإرادة الإمكانية الموجودة في الإنسان لا تصلح لذاته سبحانه لأنّها تقترن بالتردّد والتروّي والتفكّر والهمّ والكلّ من سمات الامكان والحدوث وهو سبحانه منزّه عن ذلك.

وفرق بين نفي أصل الإرادة عن ذاته سبحانه ، ولو بمعنى غير مستلزم لكون ذاته معرضاً للحوادث ، والإرادة الموجودة في الإنسان والحيوان وبما أنّه كلّما أطلقت الإرادة لا يراد منها سوى المعنى المتعارف من التفكّر والهم ّوالقصد ، وصرّح الإمام بنفي الإرادة بذلك المعنى عن ذاته وارجاعها فيه سبحانه إلى صفة الفعل ، حتّى يصدر السائل عن حضوره بشيء مقنع وبما أنّ عقليّة بعض الرواة في ذلك العصر لا تتحمّل كثيراً من المعارف الدقيقة اقتنع الامام بتفهيم ما تتحمله عقليته ، وبما أنّ قسماً من الإرادة صفة للفعل ، وقسم منها صفة للذات كعلمه سبحانه ، فإنّ قسماً منه صفة للفعل ، وقسم منه صفة للذات ، اكتفى الامام ببيان أحد القسمين دون الآخر.

وهذا أصل مطرّد في باب المعارف ، فهم صلوات اللّه عليهم يكلّّمون الناس على قدر عقولهم ولا يكلّّفونهم بما هو خارج عن طاقة شعورهم.

هذا هو سيد الموحّدين علي علیه السلام ينهي عن الغور في القدر ويقول :

« طريق مظلم فلا تسلكوه ، وبحر عميق فلا تلجوه ، وسر اللّه فلا تتكلّفوه » (1).

ومع ذلك فهو صلوات اللّه عليه بحث عن القضاء والقدر ويشهد لذلك ما رواه الرضي في نفس نهج البلاغه (2).

ص: 82


1- نهج البلاغة قسم الحكم الرقم 287.
2- نهج البلاغة قسم الحكم الرقم 78.

والحاصل لمّا كان المتبادر في ذهن الراوي وأمثاله من الإرادة ، هو المعنى المعروف من الهم ّو التفكّر والعزم وكان جعل الإرادة من صفات الذات - في ذهن الراوي - مستلزماً لكون إرادته سبحانه مثل الإرادات الامكانية ، رأى الإمام أن يعلّمه أحد القسمين من إرادته وهو الإرادة الفعلية كالعلم الفعلي ، وأضرب عن القسم الآخر ، ويعرب عن ذلك قوله في الروايات الثلاث الأخيرة ، حيث قال :

« إنّما تكون الأشياء بإرادته ومشيئته ، من غير كلام ولا تردّد في نفس ».

وهذا يعرب من انّ الإمام بصدد صيانة الراوي عن الوقوع في الخطأ في تفسير الرواية ، ولم يكن بصدد تفسير الإرادة بجميع مراتبها وأقسامها ، فلو كان هناك للإرادة قسما آخر يناسب ذاته سبحانه كما أوضحناه لما كانت هذه الروايات نافية لها.

هناك وجه آخر لجعل الإرادة من صفات الفعل وهو انّ الإرادة في الإنسان لا ينفك عن المراد ، فلو جعلت الإرادة فيه سبحانه من صفات الذات ربّما يستنتج الراوي منه قدم العالم ، فلأجل صيانة ذهن الراوي عن الخطأ فسّرت الإرادة بالأحداث والايجاد ، ويشهد على ذلك الوجه بعض الروايات :

1 - روى الصدوق في توحيده عن محمد بن مسلم ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « المشيئة محدثة » (1).

2 - روى الصدوق عن عاصم بن حميد ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « قلت له لم يزل اللّه مريداً » ؟! فقال : « إنّ المريد لا يكون إلاّ المراد معه بل لم يزل عالماً قادراً ثم أراد » (2).

3 - روى الصدوق عن سليمان بن جعفر الجعفري قال : قال الرضا علیه السلام : « المشيئة والإرادة من صفات الأفعال فمن زعم أنّ اللّه تعالى لم يزل مريداً شائياً فليس بموحّد » (3).

ص: 83


1- التوحيد للصدوق ص 338 - 146 - 336.
2- التوحيد للصدوق ص 338 - 146 - 336.
3- التوحيد للصدوق ص 338 - 146 - 336.

وهذه الأحاديث تعرب من انّ جعل الإرادة صفة الفعل إنّما هو لأجل صيانة ذهن الراوي عن توهّم قدم العالم وانّه لم يزل كان مع اللّه سبحانه ، وإن شئت قلت : إنّ الإرادة التي سأل عنها الراوي كان يراد منها العزم على الفعل الذي لا ينفك عن المراد ، فاراد الإمام هدايته إلى أنّ الإرادة بهذا المعنى لا يوصف بها سبحانه لأنها تستلزم قدم المراد أو حدوث المريد ، ولأجل أن يتلقّى الراوي معنى صحيحاً للإرادة يناسب مستوى تفكيره ، فسّرها الامام بالمعنى الذي يجري عليه سبحانه في مقام الفعل ، وقال في جواب سؤال السائل :

« لم يزل اللّه مريداً ؟ : إنّ المريد لا يكون إلاّ المراد معه ، لم يزل اللّه عالماً قادراً ثمّ أراد » (1).

عصر الإمام الكاظم علیه السلام والمذاهب الكلاميّة

كان عصر الإمام الكاظم علیه السلام ( ت 128 - م 183 ) عصر ازدهار المذاهب الكلامية وكانت الأمصار وحواضرها الكبرى ميداناً لمطارحات الفرق المختلفة.

فمن سلفيّ يقتصر في توصيفه سبحانه على الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة ويأخذ بمعانيها الحرفية من دون امعان وتدبّر ، ويرفع عقيرته بأنّ لله يداً ووجها وأنّه مستو ومستقرّ على عرشه وأنّ له رجلاً و ...

إلى معتزلي يجعل للعقل قسطاً أوفر في مجال العقائد والمعارف ويتجاوز حدّه فيؤوّل الكتاب والسنّة فيما لا يوافق معتقده وعقليّته.

إلى مرجئيّ يكتفي في الإيمان بالقول ويقدّمه ويؤخّر العمل ، ولا يحكم على

ص: 84


1- الكافي ج 1 ص 109 ، باب الارادة.

مرتكب الكبيرة بعقوبة.

إلى مُحكِّم يكفّر كلّ الطوائف الاسلامية غير أهل نحلته الذين يبغضون الخليفتين عثمان وعليّاً ويكفّرون الصدّيق الاعظم عليّاً علیه السلام .

إلى غير ذلك من المذاهب الإسلاميّة التي ظهرت في القرن الثاني.

ويعرب عن تشتت الفرق وتكثّرها ما رواه الكشّي عن محمد بن عيسى العبيدي ، عن يونس ، عن هشام ، إنّه لما كان أيّام المهدي ، شدّد على أصحاب الهوى ، وكتب له ابن المفضل صنوف الفرق صنفاً صنفاً ، ثمّ قرأ الكتاب على الناس ، فقال يونس :

قد سمعت الكتاب يقرأ على الناس على باب الذهب بالمدينة واُخرى بمدينة الوضّاح (1).

ولم يكن الخلاف مقتصراً على معتقدات الطوائف الماضية بل كان عصر الإمام يتّسم بموجات رهيبة من النزعات الشعوبية والاتجاهات التي لاتمت إلى الاسلام بصلة ، ولأجل ذلك يجب امعان النظر في الروايات الواردة عن الكاظم علیه السلام وغيره مع ملاحظة الظروف السائدة عليه ، فإذا كان هذا عصر الإمام والأئمّة بعده فلابدّ أن تكون رواياتهم متضمّنة ردّ أصحاب الأهواء ودعاة الضلال ، وأكثر ما ورد في المقام عن الإمامين الكاظم والرضا علیهماالسلام حول الإرادة وأنّها صفة فعله سبحانه لا ذاته إنّما ورد في تلك الظروف المحرجة.

الإشكال الثالث : الإرادة يتوارد عليها النفي والاثبات

كيف نعد الإرادة من صفات الذات ؟ مع أنّ الملاك الذي ذكره الكليني لا ينطبق

ص: 85


1- رجال الكشي : ترجمة هشام بن الحكم رقم 131 ص 227 ، ولعلّ هذا الكتاب أوّل ما اُلّف في المذاهب الاسلامية.

عليه بل ينطبق على كونها من صفات الفعل وحاصله :

إنّ كلّ وصف يقع في اطار النفي والاثبات فهو من صفات الفعل مثل قولنا : يعطي ولا يعطى ، وما لا يقع في إطارهما ، بل يكون اُحادية التعلّق من صفات الذات فيقال « يعلم » ولا يقال « لا يعلم ».

وعلى ضوء هذا تكون الإرادة من صفات الفعل لأنّها ممّا يتوارد عليه النفي والاثبات. يقول سبحانه : ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) ( البقرة / 185 ).

والجواب على هذا السؤال بوجهين :

أحدهما : إنّ الإرادة التي يتوارد عليها النفي والاثبات هي الإرادة في مقام الفعل ، وأمّا الإرادة في مقام الذات التي فسّرناها بكمال الإرادة وهو الاختيار ، فلا تقع في إطار النفي والاثبات.

وثانيهما : ما أجاب به صدر المتألّهين قائلاً بأنّ لله سبحانه إرادة بسيطة مجهولة الكنه وإنّ الذي يتوارد عليه النفي والإثبات ، الإرادة العددية الجزئية المتحقّقة في مقام الفعل ، وأمّا أصل الإرادة البسيطة ، وكونه سبحانه فاعلاً عن إرادة لا عن اضطرار وايجاب ، فلا يجوز سلبه عن اللّه سبحانه ، وإنّ منشأ الاشتباه هو الخلط بين الإرادة البسيطة في مقام الذات التي لا تتعدّد ولا تتثنّى ، وبين الإرادة العددية المتحقّقة في مقام الفعل التي تتعدّد وتتثنّى ويرد عليها النفي والاثبات.

قال : « الفرق بين الإرادة التفصيلية العددية التي يقع تعلّقها بجزئي من اعداد طبيعية واحدة أو بكلّ واحد من طرفي المقدور ، كما في القادرين من الحيوانات ، وبين الإرادة ، البسيطة الحقّة الإلهية التي يكلّّ عن ادراكها عقول أكثر الحكماء فضلاً عن غيرهم » (1).

ص: 86


1- الاسفار ج 6 ص 324.

الإشكال الرابع : لو كانت الإرادة صفة للذات ، لزم قدم العالم

اشارة

هذا هو الإشكال الرابع في طريق جعل الإرادة من صفات الذات وحاصله : إنّ صفات الذات متّحدة معها ، فلو كانت الإرادة صفة للذات ، يلزم قدم العالم لأنّ الإرادة لا تنفك عن مرادها فقدم الذات يلازم قدم الإرادة وهو يلازم قدم المعلول وهو العالم.

يلاحظ عليه أوّلاً : انّ الإشكال لا يختصّ بمن جعل الإرادة بمعناها الحقيقي وصفاً لذاته سبحانه ، بل الإشكال يتوجه أيضاً على من فسّر إرادته بالعلم بالأصلح ، لاستناد وجود الأشياء إلى العلم بالنظام الأتم الذي هو عين ذاته ، واستحالة انفكاك المعلوم عن العلّة أمر بيّن من غير فرق بين تسمية هذا العلم إرادة أو غيرها ، فلو كان النظام الأصلح معلولاً لعلمه ، والمفروض انّ علمه قديم ، لزم قدم النظام لقدم علّته.

وثانياً : إذا قلنا بأنّ إرادته سبحانه عبارة عن كونه مختاراً غير ملزم بواحد من الطرفين ، لا يلزم عندئذ قدم العالم إذا اختار ايجاد العالم متأخّراً عن ذاته.

وثالثاً : إنّ لصدر المتألّهين ومن حذا حذوه في الاعتقاد بالإرادة الذاتية البسيطة المجهولة الكنه ، أن يجيب بأنّ جهلنا بحقيقة هذه الإرادة وكيفيّة إعمالها ، يصدّنا عن البحث عن كيفيّة صدور فعله عنه ، وأنّه لماذا خلق العالم حادثاً ولم يخلقه قديماً ؟

وها هنا نكتة نعلّقها على هذا البحث بعد التنبيه على أمر وهو : انّ الزمان كمّ متّصل ينتزع من حركة الشيء وتغيّره من حال إلى حال ، ومن مكان إلى مكان ، ومن صورة نوعية إلى اُخرى ، فمقدار الحركة عبارة عن الزمان ، فلولا المادة وحركتها لما كان للزمان مفهوم حقيقي ، بل كان له مفهوم وهمي. هذا ما أثبتته الأبحاث العميقة في الزمان والحركة ، وقد كان القدماء يزعمون : إنّ الزمان يتولد من حركة

ص: 87

الافلاك والنيّرين وغيرهما من الكواكب السيارة ، ولكن الحقيقة أن كلّ حركة حليفة الزمان وراسِمته ومولدته ، وإنّ التبدّلات عنصريّة كانت أو أثيرية ، مشتملة على أمرين :

الأوّل : حالة الانتقال من المبدأ إلى المنتهى ، سواء كان الانتقال في الوصف ، أو في الذات.

الثاني : كون ذلك الإنتقال على وجه التدريج والسيلان لا على نحو دفعي.

فباعتبار الأمر الأوّل توصف بالحركة ، وباعتبار الأمر الثاني توصف بالزمان ، فكأن شيئاً واحداً باسم التغير والتبدل والانتقال ، يكون مبدأ لانتزاع مفهومين منه ، لكن كلّ واحد منهما باعتبار خاص ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر انّ المادّة تتحقق على نحو النتدريج والتجزئة ولا يصحّ وقوعها بنحو جمعي ، لأنّ حقيقتها حقيقة سيّالة متدرّجة أشبه بسيلان الماء ، فكلّّ ظاهرة مادية تتحقق تلو سبب خاص ، وما هذا حاله يستحيل عليه التحقق الجمعي أو تقدّم جزء منه أو تأخّره بل لا مناص عن تحقّق كلّ جزء في ظرفه وموطنه ، وبهذا الاعتبار تشبه الأرقام والأعداد ، فالعدد مثل « الخمسة » ليس له موطن إلاّ الوقوع بين « الأربعة » و « الستة » وتقدّمه على موطنه كتأخّره عنه مستحيل ، وعلى ذلك فالأسباب والمسبّبات المترتبة بنظام خاص ، يستحيل عليها خروج أي جزء من أجزائها عن موطنه ومحله.

إذا عرفت هذا الأمر ، نرجع إلى بيان النكتة وهي ماذا يريد القائل من قوله « لو كانت الإرادة صفة ذاتية لله سبحانه ، يلزم قدم العالم ؟ » فان أراد أنّه يلزم تحقّق العالم في زمان قبله وفي فترة ماضية فهذا ساقط بحكم المطلب الأوّل ، لأنّ المفروض انّه لا زمان قبل عالم المادة لما عرفت من أنّ حركة المادة ترسم الزمان وتولّده.

وإن أراد لزوم تقديم بعض أجزائه على البعض الآخر أو على مجموع العالم

ص: 88

فقد عرفت استحالته فإنّ اخراج كلّ جزء عن إطاره أمر مستحيل مستلزم لانعدامه.

ما هو المراد من الحدوث الزماني للعالم ؟

اتّفق الالهيّون على أنّ العالم حادث ذاتاً بمعنى أنّه مسبوق بعدم حقيقي وانّه لم يكن فكان والفاعل المتخلّل في قولنا : « لم يكن فكان » هو الفاصل بين الواجب والممكن نظير الفصل بين حركة اليد وحركة المفتاح ، فالحركتان واقعتان في زمان واحد غير أنّ الثانية متأخّرة عن الاُولى رتبة لأنّها ناشئة من الاُولى ، وحركة اليد نابعة من ذاتها ، وحركة المفتاح ناشئة من حركتها ، فهي في طول الحركة الاُولى.

نعم هنا فرق بين المثال والممثّل له ، فالعلّة والمعلول في المثال زمانيان دون الممثّل له فالعلّة هنا منزّهة عن الزمان والزماني وهذا مما لا شبهة فيه ، إنّما الكلام في اثبات حدوث آخر للعالم وهو الحدوث الزماني.

إنّ المتشرّعة تثبت للعالم وراء الحدوث الذاتي حدوثاً زمانياً بمعنى كونه مسبوقاً بعدم زماني واقعي مثلا كما أنّ حوادث اليوم مسبوقة بالعدم الزماني حيث إنها لم تكن قبل ذلك اليوم ثم حدث ، فهكذا العالم لم يكن في وقت ثم حدث. وهذه المسألة ممّا تصرّ عليها المتشرّعة حتى انّ الشيخ الأعظم الأنصاري في الفرائد عند البحث عن حجّية القطع الحاصل من غير الكتاب والسنّة يقول : « أجمعت الشرايع السماويّة على انّ العالم حادث زماناً (1).

ولكن تصوير الحدوث الزماني لكلّ جزء من أجزاء العالم بالنسبة إلى الزمان المتقدّم عليه أمر سهل يصدّقه البرهان والحسّ ف « زيد » المتولّد في هذا اليوم ، مسبوق بعدم زماني يوم أمس.

ص: 89


1- الفرائد ، رسالة حجّية القطع.

إنّما الكلام في اثبات الحدوث الزماني لمجموع العالم إذا أخذ صفقة واحدة ولوحظ شيئاً واحداً ، فإنّ اثبات الحدوث الزماني أمر لا يخلو من خفاء وذلك ببيانين :

1 - إنّ الزمان مقدار الحركة ، وكلّ حركه تعانق زماناً ما يعدّ مقداراً لها ، وليس في العالم زمان واحد يتولّد من حركة الفلك أو الشمس والقمر بل كلّ حركة مولد زماناً فيكون ذلك الزمان مقداراً لها كما حقّق في محلّه ، فإذا كان الزمان وليد الحركة ونتيجة سيلان المادّة إلى الغاية فكيف يمكن أن نقول بأنّه كان وقت حقيقي لم يكن العالم فيه ثمّ حدث ووجد ؟ لأنّ المفروض انّ هذا الوقت نتيجة حركة المادة التي لم تخلق بعد ، فلا يتصوّر شيء بمعنى الوقت والزمان قبل إيجاد العالم حتّى يتضمّن عدمه.

2 - إنّه ينقل الكلام إلى نفس الزمان فهل هو حادث ذاتي وقديم زماناً أو لا ؟

فعلى الأوّل يجب الاعتراف بممكن حادث ذاتاً وقديم زماناً ، فلو كان القول بالقدم الزماني مقبولاً فيه فليكن مقبولاً في مجموع العالم إذا لوحظ شيئاً واحداً أو في الجزء الأوّل منه. وعلى الثاني يلزم أن يكون للزمان زمان حتّى يتضمّن الزمان الثاني عدم الزمان الأوّل في حاقّه ، وعندئذ إمّا يتوقّف تسلسل الزمان فيلزم كون الزمان الثاني قديماً زمانيّاً وإن لم يتوّقف يلزم التسلسل.

فلأجل هذين الوجهين يعسر التصديق بالحدوث الزماني لمجموع العالم ويكتفى بالحدوث الذاتي ، ثم إنّ الداعي إلى ذهابهم إلى الحدوث الزماني للعالم كلّه أمران :

أ : التركيز على التوحيد ، وإنّه لا قديم سواه وإنّ كلّ ما في الكون فهو حادث زماني مسبوق بعدم زماني حقيقي ، فحصر القديم في اللّه سبحانه يصدّهم عن الاعتراف بقدم العالم زماناً والاكتفاء بالحدوث الذاتي.

ص: 90

يلاحظ عليه : أنّ تنزيه الحق عن الشرك والنّد لا يتوقف على اثبات الحدوث الزماني للعالم ، بل يكفي هنا القول بأنّه سبحانه قديم بالذات وإنّ غيره حادث كذلك سواء أكان له حدوث زماني أو لا ، وبعبارة اُخرى التنزيه ونفي الشرك يحصل بحصر ضرورة الوجود في اللّه سبحانه وإنّ وجوده نابع من صميم ذاته بخلاف غيره فإنّ وجوده مستعار ومكتسب من جانبه سبحانه.

ب : ما ورد في الروايات من أنّه كان اللّه ولم يكن معه شيء مستظهراً بأنّ المراد من الكينونة لله سبحانه ، وعدم غيره ، هو كونه في وقت مقروناً بعدم كون شيء فيه.

يلاحظ عليه : انّ الروايات المرويّة عن أئمّة أهل البيت خصوصاً ما روي عن الإمام الكاظم علیه السلام وأبي جعفر علیه السلام يعرب من انّ المراد غير ذلك وأنّ ما يتبادر من هذه الجملة في الأذهان البسيطة غير مراد ، ويعلم ذلك بسرد الروايات عنهم صلوات اللّه عليهم :

1 - روى الصدوق عن يعقوب بن جعفر الجعفري ، عن أبي إبراهيم موسى بن جعفر علیهماالسلام أنّه قال : إنّ اللّه تبارك وتعالى كان لم يزل ، بلا زمان ولا مكان وهو الآن كما كان (1).

2 - ما روي عن أبي جعفر علیه السلام أنّه قال : إنّ اللّه تبارك وتعالى كان ولا شيء غيره ، نوراً لا ظلام فيه ، وصادقاً لا كذب فيه ، وعالماً لا جهل فيه ، وحيّاً لا موت فيه ، وكذلك هو اليوم ، وكذلك لا يزال أبداً (2).

3 - ما ذكره الإمام الرضا علیه السلام في جواب عمران الصابئي حيث سأله الصابئي بقوله : أخبرني عن الكائن الأوّل وعمّا خلق. قال الرضا علیه السلام سألت فافهم : « أمّا الواحد فلم يزل واحداً كائناً لا شيء معه ، بلا حدود ، ولا اعراض ، و

ص: 91


1- مسند الامام الكاظم علیه السلام ج 1 ص 270 - نقلاً عن توحيد الصدوق ص 178.
2- التوحيد للصدوق - باب صفات الذات وصفات الفعل - الحديث 5 ص 141.

لا يزال كذلك (1).

والذي يجب إمعان النظر فيه هو هذه الجمل التالية في حديث الإمام الكاظم علیه السلام وغيره.

أ : قوله في الحديث الاول : « وهو الآن كما كان ».

ب : قوله في رواية أبي جعفر علیه السلام : « وكذلك هو اليوم فكذلك لا يزال أبداً ».

ج : قوله في كلام الرضا علیه السلام : « ولا يزال كذلك ».

فهذه الأحاديث تعرب من أنّ توصيفه سبحانه بالجملة التالية : « كان اللّه ولم يكن معه شيء » لا يختص بالآزال قبل خلق العالم بل هذا الوصف مستمر له إلى الآن حتى بعد ما خلق العالم ، ومن المعلوم أنّه لو كان المراد من قوله : « كان اللّه ولم يكن معه شيء » إنّه كان وقت ، ولم يكن في ذلك الوقت شيء من الممكنات ، يجب ان يخصّص هذا الوصف بظرف خاص وهو قبل خلق العالم ، وأمّا بعده فلا يمكن أن يقال : إنّه مستمر إلى زماننا هذا لفرض تكوّن أشياء وتحقّقها مع تحقّق اللّه سبحانه.

وهذا يعرب : انّ المراد من أنّه سبحانه قد كان ولم يكن معه شيء مستمراً إلى زماننا هذا ، هو كونه سبحانه في درجة رفيعة من الوجود ورتبة متقدّمة على معلوله فهو في كلّ ظرف وزمان ، كائنٌ ، وليس معه في هذه الرتبة شيء من الممكنات من غير فرق بين مرحلة خلق العالم وقبله ، لأنّ العلّة لعلوّ مقامه وشموخ درجته على وجه لا يتجافى المعلول عن رتبته ، حتى يكون معه ، ولا شيء معه في هذا المقام مطلقاً سواء قبل خلق العالم أم بعده.

ص: 92


1- التوحيد : باب ذكر مجلس الرضا (ع) ص 430.

والحاصل : انّ هذه الروايات تركّز على نكتة فلسفيّة تغيب عن أذهان المتوسّطين وهو انّه سبحانه واحد ليس معه شيء ، وانّ هذا التوحيد مستمر في جميع الأوقات والأزمان ومن المعلوم أنّ الاعتراف بهذا النوع من التوحيد والتنزيه ، ونفي أن يكون شيء معه لا يتم إلاّ بالاعتراف بالحدوث الذاتي للعالم ، وإنّ وجوده نابع من وجوده سبحانه ، فليس في ذلك المقام أثر من الإمكان من غير فرق بين قبل التجلّي وبعده ، فالمعلوم أقصر من أن يصل إلى مقام العلّة ويجتمع معها.

هذا ما وصلنا إليه بعد التدبّر في الروايات.

نعم ، إنّ صدر المتألّهين وتلامذة منهجه حاولوا في المقام أن يثبتوا للعالم حدوثاً زمانيّاً وراء الحدوث الذاتي ، فمن أراد التبسّط فعليه المراجعة إلى كلامهم (1) ولكنّهم وإن بذلوا جهوداً كبيرة في تصوير الحدوث الزماني لكنّه لا يثبت ما ترومه المتشرّعة إذ أقصى ما يثبت بيانهم إنّ كلّ جزء من العالم مسبوق بعدم زماني بالنسبة إلى الجزء المتقدّم ، وهو ليس موضع بحث ونقاش وإنّما البحث في اثبات الحدوث لجملة العالم.

ثمّ إنّ لبعض المحقّقين ممّن عاصرناه كلاماً في المقام لا يخلو من فائدة ، فنأتي به برمته ، قال :

« اعلم انّ الذي يظهر لي في هذا المقام العويص ، هو أن يقال : إنّ المراد من العالم ( بمعنى ما سوى اللّه ) إمّا يكون هو هذا العالم المشهود لنا من السماء والسماويّات والعنصر والعنصريّات ، وإمّا يكون مطلق ما سوى اللّه ممّا يتصوّر من عالم مادي أو مجرّد ، فالأوّل أعني هذا العالم المحسوس ، فالحق انّه ليس على قدمه دليل ، ولا في القول بحدوثه محذور بل هو حادث زماني أعني مسبوقاً بالعدم

ص: 93


1- الاسفار ج 6 ص 368.

الزماني العرضي ، ويكون وعاء عدمه زماناً منتزعاً من عالم قبله وهو أي العالم الذي قبله أيضاً حادث زماني مسبوق بعدمه ، الواقع في عالم ثالث قبل ذاك العالم الثاني ، وليس هذا شيء يخالفه العقل ، بل الهيئة الجديدة ناطقة بأنّ الامر كذلك ، إذ شمسنا التي تدور حولها أرضنا مع بقية الكواكب عندهم عالم من العوالم ، حادث ، مسبوق بعدم واقعي ، قد انقضى الأكثر من عمره وما بقي منه إلاّ صبابة كصبابة الاناء ، وهو مع جميع توابعه مسبوق بعدم واقعي متأخّر عن عالم متألّف من شمس اُخرى مع ما حولها من كواكبها ، وهكذا كلّ كوكب من الثوابت شمس وكم انقضى منها وكم لم يوجد بعد ، وكم من موجود منها لم نشاهده ذلك تقدير العزيز الحكيم.

هذا بالقياس إلى حكم العقل ولم يثبت في الشرع ما يدل على خلافه بل لعل فيه ما يدل على وفاقه من انّ قبل هذا الخلق خلق ، وقبل هذا العالم عوالم إلى ثلاثين ألف ، الكاشف عن كثرتها (1) وقول الحكماء بانحصار العالم المحسوس في هذا العالم من فلك الأفلاك إلى الأرض وقدم أفلاكه مادّة وصورة وأعراضاً حتى بالنسبة إلى أصل الحركة وأصل الوضع إلاّ في جزئيات الحركة والوضع ، قول محض لا شاهد عليه إلاّ حدسيات أبطلتها الهيئة الجديدة.

والثاني أعني مطلق العوالم وجملة ما سواه ، فالحق انّ حدوثه بهذا المعنى شيء لم يتّفق عليه الملّيون ولم يثبت له الحدوث بهذا المعنى في شرعنا المقدّس كيف وقد عرفت ورود ما يدل على وجود العوالم قبل عالمنا وكذا بعد خرابه ، وهو الموافق مع الحكمة ويطابقه العقل الصريح ويلائم مع كونه تعالى دائم الفضل على البريّة وباسط اليدين بالعطية ولا امساك له عن الفيض ، وعلى هذا فيمكن أن يكون

ص: 94


1- قال أبو جعفر الباقر علیه السلام : ولعلّك ترى أنّ اللّه تعالى إنّما خلق هذا العالم الواحد ، وترى أنّ اللّه تعالى لم يخلق بشراً غيركم بلى واللّه لقدخلق اللّه تعالى الف الف عالم ، وألف ألف آدم ، أنت في آخر تلك العوالم واُولئك الاُمّيين. قال الحكيم السبزواري بعد نقل الحديث : والمراد من العدد الكثرة. « شرح الأسماء الحسنى ص 240 ».

النزاع في حدوث العالم وقدمه لفظيّاً الاّ على قول الحكماء بقدم هذا العالم من أفلاكه وفلكياته وعناصره البسيطه حيث إنّ النزاع في قدمه وحدوثه معنوي كما لا يخفى.

وأمّا بالنسبة إلى ما سوى هذا العالم فالحكماء ينكرون أصل وجوده ، ويزعمون انحصار العالم في عالمنا ، ولو كان له وجود قبل عالمنا فلا محالة يكون عالمنا حادثاً بالحدوث الزماني المسبوق بالعدم الواقعي ، كما أنّ الاعتراف بوجود العقول وعالم الجبروت يساوق الاعتراف بوجود الممكن القديم بالزمان كما لا يخفى (1).

15 - تكلّمه وكلامه سبحانه

قد تعرّفت على أنّ صفة التكلّم ممّا وقع فيه الكلام وأنّه هل هو صفة فعل أو صفة ذات ، وقد أثارت هذه المسألة في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث ضجّة كبيرة بين المسلمين ، وأوجدت محنة في التاريخ سمّيت بمحنة أحمد ، وقد بالغت شيعة أحمد كإبن الجوزي في مناقبه في تحرير هذه المحنة وتحليلها فجاء بقصص وروايات لم يروها غيره وجعل منه بطلاً دينيّاً ، مجاهداً من أجل عقيدته وآرائه. وعلى كلّ تقدير فنحن نبحث عنها على ضوء البرهان وهدى الكتاب والسنّة.

أجمع المسلون تبعاً للكتاب والسنّة على كونه سبحانه متكلّّماً وقد شغلت هذه المسألة بال العلماء والمفكّرين في العصور المتقدّمة ووقع الجدال في موضعين :

الأوّل : ما هو المراد من هذا الوصف ؟

الثاني : هل كلامه ( القرآن ) حادث أو قديم ؟

ص: 95


1- درر الفوائد : للمحقق الشيخ محمد تقي الآملي قدس سره ج 1 ص 272 - 274.

وقبل البحث في كلا الأمرين نقدّم النصوص القرآنية التي تضافرت الآيات على توصيفه به ، قال تعالى : ( مِنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ ) ( البقرة / 253 ).

وقال تعالى : ( وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ) ( النساء / 164 ).

وقال سبحانه : ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ) ( الأعراف / 143 ).

وقال تعالى : ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) ( الشورى / 51 ).

وقد بيّن تعالى انّ تكليمه الأنبياء لا يعدو عن الأقسام التالية :

1 - وحياً.

2 - من وراء حجاب.

3 - يرسل رسولاً.

فقد أشار بقوله : « إلاّ وحياً » إلى الكلام الملقى في روع الأنبياء بسرعة وخفاء كما أشار بقوله : « أو من وراء حجاب » إلى الكلام المسموع لموسى علیه السلام في البقعة المباركة قال تعالى : ( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) ( القصص / 30 ).

وأشار بقوله سبحانه : ( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ) إلى الإلقاء الذي يتوسّط فيه ملك الوحي.

قال سبحانه : ( وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ ) ( الشعراء / 192 - 194 ).

ففي الحقيقة « الموحي » هو اللّه سبحانه وهو تارة يوحي بلا واسطة عن طريق الالقاء في الروع ، أو عن طريق التكلّم من وراء حجاب بحيث يسمع الصوت ولا يرى

ص: 96

الموحي واُخرى بواسطة الرسول ، فهذه الأقسام الثلاثة هي الواردة في الآية المباركة.

إذا عرفت ذلك فاعلم انّه اختلفت كلمة المتكلّمين والحكماء في حقيقة كلامه إلى نظريات : 1 - نظرية المعتزلة

قالت المعتزلة كلامه تعالى أصوات وحروف ليست قائمة بذاته تعالى بل يخلقها في غيره كاللوح المحفوظ أو جبرئيل أو النبي. قال القاضي عبد الجبار :

« حقيقة الكلام : الحروف المنظومة والأصوات المقطعة وهذا كما يكون منعماً بنعمة توجد في غيره ، ورازقاً برزق يوجد في غيره ، فهكذا يكون متكلّما بايجاد الكلام في غيره وليس من شرط الفاعل أن يحلّ عليه فعلاً (1).

والظاهر أنّ كونه سبحانه متكلّما بهذا المعنى لا خلاف فيه إنّما الكلام في حصر التكلّم في هذا المعنى. قال السيد الشريف :

« هذا الذي قالته المعتزلة لا ننكره بل نحن نقوله ونسمّيه كلاماً لفظياً ونعترف بحدوثه وعدم قيامه بذاته تعالى ولكن نثبت أمرا وراء ذلك » (2).

ونزيد في الملاحظة : انّ تفسير كلامه سبحانه بايجاد الحروف والأصوات في الأشياء أو الالقاء في الروع إنّما يصحّ في ما إذا كان لكلامه سبحانه مخاطباً معيّناً كما في تكليمه الأنبياء وغيرهم كاُمّ موسى قال سبحانه :

( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ ) ( القصص / 7 ).

ص: 97


1- شرح الاُصول الخمسة ص 528 ، وشرح المواقف ج 8 ، ص 495.
2- شرح المواقف ج 8 ص 93.

وقال سبحانه : ( فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ) ( مريم / 24 و 25 ).

وأمّا إذا لم يكن هناك مخاطب خاص لجهة الخطاب فلابد أن يكون كلامه سبحانه على وجه الاطلاق معنى آخر سنذكره فيما بعد. 2 - نظريّة الحكماء

لا شك انّ الكلام في انظار عامّة الناس هو الحروف والأصوات الصادرة من المتكلّم القائمة به ، وهو يحصل من تموّج الهواء واهتزازه بحيث إذا زالت الأمواج غاب الكلام عنه ، ولكن الإنسان الاجتماعي يتوسّع في اطلاقه فيطلقه على الخطبة المنقولة أو الشعر المروي عن شخص ، ويقول هذا كلام النبي صلی اللّه علیه و آله أو شعر اُمرئ القيس مع أنّ كلامهما قد زالا بزوال الموجات والاهتزازات ، وما هذا إلاّ من باب التوسّع في الاطلاق ومشاهدة ترتّب الأثر على المرويّ والمنقول وعلى هذا يتوسّع بأزيد من هذا ، فكلّ فعل من المتكلّم أفاد نفس الأثر الذي يفيده كلامه اللفظي يسمّيه كلاماً لاشتراكهما في ابراز ما يضمره المتكلّم في قرارة ذهنه من المعاني والحقائق ، وبذلك تكون اللوحة الفنيّة كلاماً لرسّامها حتى انّ البناء الشامخ كلام يعرب عن نبوغ البنّاء والمعمار والمهندس ، فلأجل ذلك نرى انّه سبحانه يصف عيسى بن مريم بأنّه كلمة اللّه ألقاها إلى مريم العذراء فيقول : ( يَا أهل الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلاَّ الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ) ( النساء / 171 ).

وكيف لا يكون سيّدنا المسيح كلمة اللّه مع أنّه كاشف عن قدرته العظيمة على خلق الإنسان في الرحم من دون لقاح بين اُنثى وذكر ، ولأجل ذلك عدّ وجوده آية ومعجزة.

وفي ضوء هذا البيان يظهر وجه عدّ جميع ما في الكون كلمات اللّه سبحانه ،

ص: 98

قال :

( قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ) ( الكهف / 109 ).

ويقول سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( لقمان / 27 ).

فكلّ ما في صحيفة الكون من الموجودات الإمكانية كلامه وتخبر عمّا في المبدأ من كمال وجمال وعلم وقدرة ، وبذلك يكون العالم بموجوداته الكتاب التكويني.

وقال علي علیه السلام :

« يخبر لا بلسان ولهوات ، ويسمع لا بخروق وأدوات ، يقول ولا يلفظ ، ويحفظ ولا يتحفّظ ، ويريد ولا يضمر ، يحب ويرضى من غير رقّة ، ويبغض ويغضب من غير مشقّة يقول لمن أراد كونه ، « كن » فيكون ، لا بصوت يقرع ولا بنداء يسمع ، وإنّما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثّله ، لم يكن من قبل ذلك كائناً ، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً » (1).

وعلى هذين المعنيين فالتكلّم من صفات فعله سبحانه لا من صفات الذات نعم ، حاولت الأشاعرة أن تجعل كلامه سبحانه صفة ذاته وجاءت بنظرية معقدة غير واضحة سمّتها بالكلام النفسي ، وإليك بيانها : 3 - نظرية الأشاعرة

ذهبت الأشاعرة إلى كون التكلّم من صفات الذات بالقول بالكلام النفسي

ص: 99


1- نهج البلاغة : الخطبة 184.

القائم بذات المتكلّّم ، وهذه النظرية مع اشتهارها من الشيخ أبي الحسن الأشعري لم نجدها في « الإبانة » و « اللمع » وإنّما ركّز فيهما على البحث عن المسألة الثانية ، وهو كون كلامه حادثاً أو قديماً ، ولكن أتباعه المتأخّرين نقلوها عنه. قال « الشهرستاني » :

« وصار أبو الحسن الأشعري إلى أنّ للكلام معنى قائماً بالنفس الإنسانية وبذات المتكلّم وليس بحروف ولا أصوات وإنّما هو القول الذي يجده القائل في نفسه ويجيله في خلده » (1).

وقال الآمدي :

« ذهب أهل الحق من الإسلاميين إلى كون الباري تعالى متكلّما بكلام قديم أزلي نفساني أحدي الذات ، ليس بحروف ولا أصوات ، وهو مع ذلك مغاير للعلم والقدرة والإرادة وغير ذلك من الصفات » (2).

وقال « الايجي » بعد نقل نظرية المعتزلة :

« وهذا لا ننكره لكنّا نثبت أمراً وراء ذلك ، وهو المعنى القائم بالنفس ونزعم انّه غير العبارات إذ قد تختلف العبارات بالأزمنة والأمكنة والأقوام بل قد يدلّ عليه بالإشارة والكتابة ... إلى أن قال : « .... وهو غير العلم » (3).

وقد حارت العقول في فهم المقصود من الكلام النفسي ، ولأجل ذلك قام رجال من الأشاعرة بتبيينه. فأوضحه « الشهرستاني » بقوله :

« العاقل إذا راجع نفسه وطالع ذهنه وجد من نفسه كلاماً وقولاً يجول في قلبه تارة اخباراً عن اُمور رآها على هيئة وجودها أو سمعها من مبتدئها إلى منتهاها على وفق ثبوتها ، وتارة حديثاً مع نفسه بأمر ونهي ووعد ووعيد لأشخاص على تقدير

ص: 100


1- نهاية الاقدام : ص 320.
2- غاية المرام : ص 88.
3- المواقف : ص 294.

وجودهم ومشاهدتهم ، ثمّ يعبّر عن تلك الأحاديث وقت المشاهدة ، وتارة نطقاً عقليّاً إمّا بجزم القول : إنّ الحق والصدق كذا ، وإمّا بترديد الفكر انّه هل يجوز أن يكون الشيء كذا أو يستحيل أو يجب إلى غير ذلك من الأفكار حتى انّ كلّ صانع ، يُحدِّث نفسه أوّلاً بالغرض الذي توجهت إليه صنعته ، ثم تنطق نفسه في حالة الفعل محادثةً مع الآلات والأدوات والمواد والعناصر ، ومن أنكر أمثال هذه المعاني فقد جحد الضرورة » (1).

وقال الفاضل القوشجي :

« إنّ من يورد صيغة أمر أو نهي أو نداء أو اخبار أو استخبار أو غير ذلك يجد في نفسه معاني يعبّر عنها يسمّيها بالكلام الحسّي ، والمعنى الذي يجده في نفسه ويدور في خلده ، ولا يختلف باختلاف العبارات بحسب الأوضاع والاصطلاحات ، ويقصد المتكلّم حصوله في نفس السامع على موجبه هو الذي نسميه الكلام النفسي » (2).

يلاحظ عليه : أنّه لو كان المراد من المعنى النفسي هو المعاني المنتظمة في خلد المتكلّم ، التي لا تختلف حسب اختلاف الألفاظ والتعبيرات فهو إمّا معاني مفردة أو معاني مركبة.

وعلى كلا التقديرين فهما من أقسام العلم التصوّري أو التصديقي وليستا خارجتين عنه مع أنّ المدّعى كون التكلّم وصفاً مغايراً للعلم كما أنّ المعنى الموجود في الذهن في الانشائيات هو الإرادة والكراهة المبرزتين بالأمر والنهي وليست شيئاً ورائهما مع أنّ المدّعي انّ الكلام النفسي غير الإرادة والانشاء.

ولقد أنصف القاضي الايجي حيث أوعز إلى انّ هذا البيان لا يتم إلاّ إذا ثبت أنّ

ص: 101


1- نهاية الاقدام : ص 231 ، ولكلامه ذيل فراجع.
2- شرح التجريد للقوشجي : ص 420.

تلك المعاني التي تدور في النفس غير العلم والإرادة (1).

ثمّ إنّ للأشاعرة دلائل خاصّة في اثبات الكلام النفسي ، وإنّ هناك معاني في النفس وهو غير العلم والإرادة والكراهة كلّّها فاسدة ، وقد أوضحنا حالها في بعض موسوعاتنا الكلاميّة (2). هذا كلّه حول حقيقة كلامه. بقي البحث عن حدوثه وقدمه فنحن في غنى عن هذا البحث بعد ثبوت كونه من صفاته الفعلية ومن المعلوم أنّ فعله سبحانه غيره ، وكلّ ما هو غيره مخلوق ، حادث غير قديم. نعم يجب علينا أن نجتنب عن توصيف القرآن بكونه مخلوقاً ونقول مكان كونه مخلوقاً « محدثاً » وذلك لئلاّ يفسّر بكونه « مختلقاً » ومصنوعاً للبشر قال سبحانه حاكياً عن المشركين : ( إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ ) ( المدثّر / 25 ).

ولأجل ذلك قال الإمام الرضا علیه السلام عند السؤال عن القرآن :

« كلام اللّه لا تتجاوزوه ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضلّوه » (3).

ونقل سليمان بن جعفر الجعفري انّه سأل موسى بن جعفر علیه السلام عن القرآن وانّه مخلوق أو غير مخلوق ؟ فقال : « إنّي لا أقول في ذلك ما يقولون ، ولكنّي أقول : إنّه كلام اللّه » (4).

ترى أنّ الإمام علیه السلام يبتعد عن الخوض في تلك المسألة لما رأى أنّ الخوض فيها ليس لصالح الإسلام ، وأنّ الإكتفاء بأنّه كلام اللّه أحسم لمادّة الخلاف ، ولكنّهم علیهم السلام عند ما أحسّوا بسلامة الموقف ، وهدوء الأجواء أدلوا برأيهم في الموضوع ، وصرّحوا بأنّ الخالق هو اللّه وغيره مخلوق والقرآن ليس

ص: 102


1- المواقف : ص 294.
2- لاحظ « بحوث في الملل والنحل » ص 271 - 278 ، والالهيات ص 197 - 204.
3- التوحيد للصدوق باب « القرآن ما هو ؟ » ص 223 الحديث 2.
4- نفس المصدر : ص 224 الحديث 5.

نفسه سبحانه ، وإلاّ يلزم اتّحاد المُنزِل والمُنزَل ، فهو غيره ، فيكون لا محالة مخلوقاً.

فقد روى محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني ، قال : كتب علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا علیهم السلام إلى بعض شيعته ببغداد :

« بسم اللّه الرحمن الرحيم ، عصمنا اللّه وإيّاك من الفتنة ، فإن يفعل فقد أعظم بها نعمة ، وإن لا يفعل فهي الهلكة ، نحن نرى أنّ الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب ، فيتعاطى السائل ما ليس له ، ويتكلّف المجيب ما ليس عليه ، وليس الخالق إلاّ اللّه عزّ وجلّ وما سواه مخلوق ، والقرآن كلام اللّه ، لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالّين ، جعلنا اللّه وإيّاك من الذين يخشون ربّهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون » (1).

وفي الروايات المرويّة اشارة إلى المحنة التي نقلها المؤرّخون فقد كان أحمد بن أبي دؤاد كتب في عصر المأمون إلى الولاة في العواصم الإسلامية أي يختبروا الفقهاء والمحدّثين في مسألة خلق القرآن وفرض عليهم أن يعاقبوا كلّ من لا يرى رأي المعتزلة في هذه المسألة ، وجاء المعتصم والواثق فطبّقا سيرة المأمون وسياسته مع خصوم المعتزلة وبلغت المحنة أشدّها على المحدّثين ، ولمّا جاء المتوكّل نصر مذهب الحنابلة وأقصى المعتزلة وأحاطت المحنة باُولئك الذين كانوا بالأمس القريب يفرضون آراءهم بالقهر والقوّة.

باللّه عليك هل يمكن عدّ مثل هذا الجدال إسلاميّاً ، وقرآنيّاً وبذلك تقف على أنّه لماذا كتب الإمام الهادي إلى بعض شيعته ببغداد : « عصمنا اللّه وإيّاك من الفتنة ... ».

قال المفيد : « إنّ كلام اللّه محدث وبذلك جاءت الآثار عن آل محمد علیهم السلام وعليه اجماع الإماميّة والمعتزلة بأسرها والمرجئة إلاّ من شذّ عنها وجماعة من أهل الحديث وأكثر الزيدية والخوارج. وأقول : إنّ القرآن كلام

ص: 103


1- توحيد الصدوق ، باب القرآن ما هو ، الأحاديث : 2 و 3 و 4 و 5.

اللّه ووحيه ، وانّه محدث كما وصفه تعالى واَمْنعُ من إطلاقِ القول عليه بأنّه مخلوق ، وبهذا جاءت الآثار عن الصادقين وعليه كافة الإمامية إلاّ من شذّ منهم ، وهو قول جمهور البغداديين من المعتزلة وكثير من المرجئة وأصحاب الحديث » (1).

* * *

إلى هنا تمّ الكلام حول الصفتين : الإرادة والتكلّم وتعرّفت على أنّ الاُولى من الذات على معنى ومن صفات الفعل على معنى آخر ، كما أنّ الثاني من صفات فعله على الاطلاق.

ص: 104


1- أوائل المقالات : ص 18 - 19.

16 - اسماؤه في القرآن والسنّة

اشارة

قد ورد في القرآن الكريم مائة واثنان وثلاثون اسماً لله سبحانه بين بسيط ومركّب ، وروى الفريقان عن النبي أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : إن لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسماً ( مائة إلاّ واحدة ) من أحصاها دخل الجنّة (1). والمراد من احصائها هو الوقوف على معانيها أو التمثّل والتشبّه بها مهما أمكن.

ويحتمل أن يكون المراد الاجتهاد في التقاطها من الكتاب والسنّة ، وجمعها وحفظها ، كما يحتمل أن يكون المراد عدّها والتلفّظ بها وفي القاموس : « أحصاه : عدّه أو حفظه أو عقله ».

فلنقدّم أسماءه سبحانه في الكتاب العزيز ثمّ نردفه بما ورد عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام حول تسعة وتسعين اسماً ، ثمّ نذكر ما رواه أهل السنّة ونعتمد في ذلك على رواية الترمذي التي هي السند لكثير من الحفّاظ في هذا المقام.

أسماؤه في القرآن

ورد في القرآن الكريم مائة واثنان وثلاثون اسما لله تعالى وإليك بيانها على الترتيب :

« الإله ، الأحد ، الأوّل ، الآخر ، الأعلى ، الأكرم ، الأعلم ، أرحم الراحمين ، أحكم الحاكمين ، أحسن الخالقين ، أسرع الحاسبين ، أهل التقوى ، أهل المغفرة ، الأقرب ، الأبقى ، الباري ، الباطن ، البديع ، البرّ ، البصير ، التوّاب ، الجبّار ، الجامع ، الحكيم ، الحليم ، الحي ، الحق ، الحميد ، الحسيب ، الحفيظ ، الحفيّ ، الخبير ، الخالق ، الخلاّق ، الخير ، خير الماكرين ، خيرالرازقين ، خير الفاصلين ، خير الحاكمين ، خير الفاتحين ، خير الغافرين ، خير الوارثين ، خير الراحمين ،

ص: 105


1- سيوافيك مصدر الرواية.

خير المنزلين ، خير الناصرين ، ذو العرش ، ذو الطول ، ذو انتقام ، ذو الفضل العظيم ، ذو الرحمة ، ذو القوّة ، ذوالجلال والإكرام ، ذو المعارج ، الرحمن ، الرحيم ، الرؤوف ، الرب ، رب العرش ، رفيع الدرجات ، الرازق ، الرقيب ، السميع ، السلام ، سريع الحساب ، سريع العقاب ، الشهيد ، الشاكر ، الشكور ، شديد العذاب ، شديد العقاب ، شديد المحال ، الصمد ، الظاهر ، العليم ، العزيز ، العفو ، العلي ، العظيم ، علاّم الغيوب ، عالم الغيب والشهادة ، الغني ، الغفور ، الغالب ، غافر الذنب ، الغفّار ، فالق الاصباح ، فالق الحبّ والنوى ، الفاطر ، الفتّاح ، القوي ، القدّوس ، القهّار ، القاهر ، القيّوم ، القريب ، القادر ، القدير ، قابل التوب ، القائم على كلّّ نفس بما كسبت ، الكبير ، الكريم ، الكافي ، اللطيف ، الملك ، المؤمن ، المهيمن ، المتكبّر ، المصوّر ، المجيد ، المجيب ، المبين ، المولى ، المحيط ، المقيت ، المتعال ، المحيي ، المتين ، المقتدر ، المستعان ، المبدئ ، المعيد ، مالك الملك ، النصير ، النور ، الوهّاب ، الواحد ، الولي ، الوالي ، الواسع ، الوكيل ، الودود ، الهادي.

أسماؤه في احاديث أئمّة أهل البيت علیهم السلام

روى الصدوق باسناده عن الصادق علیه السلام عن آبائه ، عن علي علیه السلام قال :

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنّه وهي : « اللّه ، الإله ، الواحد ، الأحد ، الصمد ، الأوّل ، الآخر ، السميع ، البصير ، القدير ، القاهر ، العلي ، الأعلى ، الباقي ، البديع ، البارئ ، الأكرم ، الظاهر ، الباطن ، الحيّ ، الحكيم ، العليم ، الحليم ، الحفيظ ، الحق ، الحسيب ، الحميد ، الحفي ، الرب ، الرحمن ، الرحيم ، الذاري ، الرازق ، الرقيب ، الرؤوف ، الرائي ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبّار ، المتكبّر ، السيّد ، السبّوح ، الشهيد ، الصادق ، الصانع ، الطاهر ، العدل ، العفو ، الغفور ،

ص: 106

الغني ، الغياث ، الفاطر ، الفرد ، الفتّاح ، الفالق ، القديم ، الملك ، القدّوس ، القوي ، القريب ، القيّوم ، القابض ، الباسط ، قاضي الحاجات ، المجيد ، المولى ، المنّان ، المحيط ، المبين ، المقيت ، المصوّر ، الكريم ، الكبير ، الكافي ، كاشف الضر ، الوتر ، النور ، الوهّاب ، الناصر ، الواسع ، الودود ، الهادي ، الوفي ، الوكيل ، الوارث ، البر ، الباعث ، التوّاب ، الجليل ، الجواد ، الخبير ، الخالق ، خير الناصرين ، الديّان ، الشكور ، العظيم ، اللطيف ، الشافي » (1).

والمذكور في الحديث مائة اسم ، لكن الظاهر أنّ لفظة الجلالة ليست من الأسماء الحسنى ، وقد ذكر بعنوان المسمّى الجاري عليه الأسماء ، وبذلك يستقيم العدد.

أسماؤه سبحانه في أحاديث أهل السنّة

أخرج الترمذي ، وابن المنذر ، وابن حبان ، وابن مندة ، والطبراني ، والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي ، عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ لله تسعة وتسعين اسما مائة إلاّ واحد ، من أحصاها دخل الجّنة ، إنّه وتريحب الوتر : هو اللّه الذي لا إله إلاّ هو الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدّوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبّار ، المتكبّر ، الخالق ، البارئ ، المصوّر ، الغفّار ، القهّار ، الوهّاب ، الرازق ، الفتّاح ، العليم ، القابض ، الباسط ، الخافض ، الرافع ، المعز ، المذل ، السميع ، البصير ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ، الغفور ، الشكور ، العلي ، الكبير ، الحفيظ ، المقيت ، الحسيب ، الجليل ، الكريم ، الرقيب ، المجيب ، الواسع ، الحكيم ، الودود ، المجيد ، الباعث ، الشهيد ، الحق ، الوكيل ، القوي ، المتين ، الولي ، الحميد ، المحصي ، المبدئ ، المعيد ، المحيي ، المميت ، الحي ، القيوم ، الواجد ،

ص: 107


1- التوحيد للصدوق : ص 194 ج 8.

الماجد ، الواحد ، الصمد ، القادر ، المقتدر ، المقدّم ، المؤخّر ، الأوّل ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، الوالي ، المتعالي ، البر ، التوّاب ، المنتقم ، العفو ، الرؤوف ، مالكالملك ، ذوالجلال والاكرام ، المقسط ، الجامع ، الغني ، المغني ، المانع ، الضار ، النافع ، النور ، الهادي ، البديع ، الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور » (1).

ونحن امتثالاً لأمر النبي الأكرم ، نرجع إلى احصاء الأسماء التي وردت في القرآن الكريم ، ولو سمح الوقت نرجع إلى احصاء ما ورد في حديث أئمّة أهل البيت علیه السلام لعلّ اللّه يرزقنا الجنّة حسب وعد نبيّه الأعظم صلی اللّه علیه و آله .

تمّ البحث عن الاُمور التي كان طبع البحث يقتضي ايرادها وهي خمسة عشر أمراً. ومن هنا ندخل في صلب البحث وهو تفسير أسماءه الواردة في الذكر الحكيم على حسب الحروف الهجائيّه إلاّ ما شذّ.

ص: 108


1- صحيح الترمذي ج 5 باب الدعوات ، ص 530 الحديث 507.

تفسير أسمائه الواردة في القرآن الكريم

اشارة

قد عرفت أنّه ورد في الذكر الحكيم مائة وخمسة وثلاثون اسماً له سبحانه فعلينا البحث عن معانيها ، وما تهدف إليها تلك الأسماء ، نذكرها مع تفسيرها على ترتيب الحروف الهجائيّة إلاّ إذا اقتضى المقام الجمع بين الاسمين فنفسّرهما معاً من غير مراعاة الترتيب.

والتفسير الصحيح يعتمد على أمرين :

1 - تحديد معناه اللغويّ تحديداً معتمداً على المعاجم الموثوق بها.

2 - عرض الاسماء بعضها على بعض ، والامعان في القرائن الواردة في الآيات .

وإليك البحث واحداً بعد آخر.

حرف الالف

الأوّل : الإله

اشارة

قد جاء لفظ الجلالة ( اللّه ) في الذكر الحكيم 980 مرّة كما جاء لفظ الإله بصوره المختلفة ( إله ، إلها ، الهك ، إلهكم ، وإلهنا ) 147 مرّة والاسهاب في البحث يقتضي الكلام في المواضع التالية :

1 - لفظ الجلالة عربي أو عبري ؟

قد نقل عن أبي زيد البلخي : إنّ لفظ الجلالة ليس بعربي بل عبري أخذه العرب عن اليهود ، واستدل عليه بأنّ اليهود يقولون : « إلاها » والعرب حذفت المدة

ص: 109

التي كانت موجودة في آخرها في العبرية ككثير من نظائرها العبرية فتقول « أب » بدل « أباه » و « روح » بدل « روحا » و « نور » بدل « نورا » إلى غير ذلك.

وذهب الباقون إلى أنّها عربية صحيحة وقد كانت العرب تستعمل تلك اللفظة قبل بعثة النبي بقرون ، ولا تشذّ عن سائر الاُمم ، فإنّ لكلّّ اُمّة على أديم الأرض لفظاً خاصّاً لخالق العالم وبارئه ومدبّره ، فالفرس عندهم « خدا » و « ايزد » كما أنّ للترك « تاري » ومن البعيد أن لا يكون عند العرب المعروفين بالبيان والخطابة لفظ يعبّرون به عمّا تهديهم فطرتهم إليه وتدلّهم عليه قال سبحانه : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ ) ( لقمان / 25 - الزمر / 38 ).

واشتراك الشعبين في التعبير عن مبدأ العالم لا يدل على أنّ العرب أخذت من اليهود خصوصاً إذا قلنا بأنّ اللسانين يرجعان إلى اُصول ومواد واحدة ، وإنّما طرأ عليهما الاختلاف لعلل وظروف إجتماعية وغيرها والكلّّ من العنصر « السامي ».

2 - لفظ الجلالة مشتقّ أو لا ؟

اختلفوا في انّ لفظ الجلالة مشتق من اسم آخر أو لا ؟ بعد ما اتّفقوا على انّ ما سوى هذه اللفظة من أسمائه سبحانه من باب الصفات المشتقة ، أمّا هذه اللفظة فقد نقل عن « الخليل » و « سيبويه » و « المبرّد » أنّها غير مشتقة وجمهور المعتزلة وكثير من الاُدباء على أنّها من الأسماء المشتقة.

ثمّ القائلين بالاشتقاق اختلفوا في المعنى المشتق منه إلى أقوال كثيرة يطول المقام بذكرها وذكر حججها وإنّما نشير إليها إجمالا :

أ - إنّ لفظ الجلالة مشتق من الاُلوهية بمعنى العبادة ، والتألّه : التعبّد ، وهذا هو المعروف بين كثير من المحدّثين والمفسّرين ، ويظهر من روايات بعض أئمّة أهل البيت علیهم السلام .

ص: 110

روى الكليني عن هشام بن الحكم أنّه سأل أبا عبد اللّه علیه السلام عن أسماء اللّه واشتقاقها :

اللّه ممّا هو مشتق ؟ قال : فقال لي : « يا هشام ، اللّه مشتق من إله ، والاله يقتضي مألوهاً والاسم غير المسمّى فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا » (1).

وقال الصدوق : اللّه والإله هو المستحق للعبادة ولا يحق العبادة إلاّ له ، وتقول لم يزل إلهاً بمعنى أنّه يحق له العبادة ولهذا ضلّ المشركون فقدّروا أنّ العبادة تجب للأصنام سمّوها الالهة وأصله « الإلاهة » وهي العبادة (2).

ب - إنّه مشتق من « الوله » وهو التحيّر.

ج - إنّه مشتق من قولهم ألهت إلى أي فزعت إليه لأنّ الخلق يألهون إليه أي يفزعون إليه في حوائجهم.

د - إنّه مشتق من ألهت إليه سكنت إليه لأنّ الخلق يسكنون إلى ذكره.

ه - إنّه من « لاه » أي احتجب فمعناه انّه المحتجب بالكيفيّة عن الأوهام (3).

و - إنّه مشتق من الوله : المحبة الشديدة ، فاُبدلت الواو همزة فقالوا : أله يأله.

ز - إنّه مشتق من لاه يلوه إذا ارتفع ، والحق سبحانه مرتفع بالمكان أو بالمقام.

ح - إنّه مشتق من قولك ألهت بالمكان إذا أقمت فيه ، فإنّه تعالى استحق هذا الاسم لدوام وجوده (4).

ص: 111


1- الكافي - كتاب التوحيد - : باب المعبود ، ص 87 ، ورواه الصدوق في كتاب التوحيد باب أسماء اللّه الحديث 13.
2- التوحيد للصدوق باب أسماء اللّه تعالى في ذيل الحديث رقم 9 ، ثم ترك سائر الوجوه الاتية.
3- مجمع البيان ج 1 ص 16 طبع صيدا.
4- لوامع البينات للرازي : ص 106 - 120 ، فقد أسهب الكلام في ذكر الأقوال وحججها ونقدها.

وعلى كلّ تقدير فاللّه أصله « إله » فحذفت همزته وادخل عليه الألف واللام وادغمت اللامان فصار « اللّه » وخص بالباري تعالى ، قال تعالى ( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) ( مريم / 65 ) (1).

والظاهر انّ القائلين بالاشتقاق والمنكرين له لا يختلفون في أنّه علم لذاته سبحانه وإنّما يختلفون في أنّ التسمية هل كانت ارتجالية وانّه لم تلاحظ في مقام التسمية أية مناسبة بين المعنيين أو كانت غير ارتجالية ، وقد نقل عن المعنى اللغوي إلى المعنى العلمي لمناسبة موجودة بينهما ، فالقائلون بالاشتقاق على الأوّل والمنكرون له على الثاني.

هذا هو لبّ النزاع في المقام.

والعجب انّ الرازي توهّم انّ النزاع في اشتقاقه وعدمه راجع إلى أنّ لفظ الجلالة علم أو لا ؟ فحسب أنّ القول بالاشتقاق ينافي العلمية ثمّ استدل على نفيه بأنّه لو كان مشتقاً لما كان قولنا « لا اله إلاّ اللّه » تصريحاً بالتوحيد لأنّه حينئذ مفهوم كلّّي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه فلو كان مشتقاً لكان كلّّياً ، ولو كان كذلك لم يكن قولنا « لا إله إلاّ اللّه » مانعاً من وقوع الشركه (2).

يلاحظ عليه : أنّه لا مانع من كون لفظ الجلالة مشتقاً من « أله » بأيّ معنى تصوّر ثم يكون علماً للذات بالمناسبة الموجودة بين المنقول منه والمنقول إليه شأن كلّ الأعلام المشتقة وسيأتي تمام الكلام في البحث الرابع.

3 - « اللّهمّ » مكان « اللّه »

وقد يعبر عن لفظ الجلالة ب « اللّهمّ » قال سبحانه : ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ

ص: 112


1- مفردات الراغب : مادّة « إله ».
2- لوامع البينات : ص 108 ، وقس على ذلك سائر ما استدلّ به.

تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ ) ( آل عمران / 26 ) ، وحكى سبحانه عن بعض الكافرين قولهم : ( وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ ) ( الأنفال / 32 ) وقد اختلفوا في تفسيره عن « الخليل » وتلميذه « سيبويه » : معناه يا اللّه والميم المشدّده عوض من ياء النداء وعن « الفرّاء » إنّه كان « يا اللّه آمنّا بخير » فلمّا كثر في الكلام حذفوا حرف النداء وحذفوا الهمزة من أمّ فصار « اللّهمّ » بل حذفوا ضمير المتكلّّم مع الغير أيضاً في « آمنّا ».

4 - ما هو المقصود من « الإله » في الذكر الحكيم

قد عرفت وجود الاختلاف في اشتقاق لفظ الجلالة من لفظة « إله » وعدمه كما عرفت اختلاف القائلين بالاشتقاق في المعنى الذي اشتق منه ذلك اللفظ وجعله علماً للذات. هذا وعلى كلّّّ تقدير فلا يتبادر من لفظ الجلالة إلاّ الذات المستجمع لصفات الجمال والجلال ، فهو علم بلا اشكال يعادله ما في سائر لغات العالم ممّا يستعمل في ذلك المجال.

غير أنّه يجب أن يعلم انّ لفظ الجلالة ولفظ « الإله » كانا لا يفهم منهما في عصر نزول القران إلاّ الخالق البارئ للعالم ، وأمّا ما ذكر من المعاني للاله والوجوه المختلفة لاشتقاق لفظ الجلالة منه ، فكلّّها يرجع - على فرض الصحّة - إلى ما قبل عصر نزول القرآن ، فلعلّه كان يفهم من لفظ « إله » العبادة ، والتحيّر ، والعلو ، والسكون ، والفزع ، أو كان يفهم من لفظ الجلالة الذات الواجدة لاحدى هذه المعاني ، وأمّا في عصر نزول القرآن فلم تكن هذه المعاني مطروحة لأهل اللّغة أبداً لا في لفظ الجلالة ولا في لفظ « الإله » وإنّما المفهوم منهما ما تهدي إليه فطرتهم وتدل عليه عقولهم من البارئ الخالق المدبّر للعالم الذي بيده ناصية كلّ شيء أو ناصية الإنسان على الأقل.سواء كان إلها واقعيّاً أو إلهاً مختلقاً لا يملك من الاُلوهية سوى الاسم كالأصنام المعبودة للعرب وغيرهم.

ص: 113

فالكلمتان : « اللّه وإله » لفظان متّحدان معنى غير أنّ أحدهما علم يدل على فرد خاص والآخر كلّّي يشمل ذلك الفرد وغيره ، وبما أنّ اللغة العربيّة تتمتع بالسعة والعموم وضعوا لفظين يشيرون بواحد منه إلى الفرد وبالآخر إلى الكلّّي الجامع له ولغيره ، فالاسم العام هو الإله والاسم الخاص هو اللّه.

وأمّا سائر اللغات فالغالب عليها هو اتحاد اللفظ الموضوع للمعنى الكلّّي والمعنى العلمي فيتوسّلون لتعيين المراد منه بالعلامة والقرينة. مثلاً يكتبون في اللغة الانكليزية لفظة « گاد » بصورة « god » عند ما يراد منه المعنى الكلّّي وبصورة « God » عند ما يراد منه المعنى العلمي ، وبهذا يشيرون إلى المعنى المقصود وأمّا اللغات الفارسية والتركية والارديّة فالمكتوب والملفوظ في المقامين واحد ، وإنّما يعلم المراد بالقرائن الحافّة بالكلام.

والحاصل : انّ المعاني المذكورة للفظ « إله » أو المناسبات المتصورة لاشتقاق لفظ الجلالة من مادة « اله » لو صحّ فإنّما يصحّ في الأدوار السابقة على نزول القرآن ، وأمّا بقاء تلك المناسبات إلى زمان نزول القرآن وادعاء ان القرآن استعملها بملاحظة احدى هذه المعاني والمناسبات فأمر لا دليل عليه.

على أنّ لقائل أن يقول : إنّ هذه المعاني من لوازم معنى الإله وآثاره وليست من الموضوع له بشيء فإنّ من اتّخذ أحداً « إلهاً » لنفسه فهو يعبده قهراً ويفزع إليه عند الشدائد ، ويسكن قلبه عنده إلى غير ذلك من لوازم صفة الاُلوهيّة وآثارها.

هذا هو المدّعى والذي يثبت ذلك وجود لفيف من الآيات ورد فيها لفظ الاله ولا يصحّ تفسيره إلاّ بما ذكرنا أي كون المقصود منه هو الخالق البارئ لكن بشرط العموم والكلّّية ، لا بسائر المعاني المذكورة ، أو بمعنى المتصرف المدبّر ، أو من بيده أزمّة الاُمور أو ما يقرب من ذلك ممّا يعد فعلاً له تعالى وإليك الآيات :

1 - ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتَا ) ( الأنبياء / 22 ) فإنّ البرهان على نفي تعدد الآلهة لا يتم إلاّ إذا جعلنا « الإله » في الآية بمعنى المتصرّف المدبّر أو من بيده

ص: 114

أزمّة الاُمور أو ما يقرب من هذين. ولو جعلنا الإله بمعنى المعبود لانتقض البرهان ، لبداهة تعدد المعبودين في هذا العالم ، مع عدم الفساد في النظام الكوني ، وقدكانت الحجاز يوم نزول هذه الآية مزدحم بالآلهة ، ومركزها مع كون العالم منتظماً غير فاسد.

وعندئذ يجب على من يجعل « الاله » بمعنى المعبود أن يقيّده بلفظ « بالحق » أي لو كان فيهما معبودات - بالحق - لفسدتا ولما كان المعبود بالحق مدبّراً ومتصرفاً لزم من تعدّده فساد النظام ، وهذا كلّّه تكلّّف لا مبرر له.

2 - ( مَا اتَّخَذَ اللّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) ( المؤمنون / 91 ).

ويتم هذا البرهان أيضاً لو فسّرنا الإله بما ذكرنا من انّه كلّّيّ ما يُطلق عليه لفظ الجلالة. وإن شئت قلت : إنّه كناية عن الخالق أو المدبّر المتصرّف أو من يقوم بأفعاله وشؤونه ، والمناسب في هذا المقام هو الخالق ، ويلزم من تعدّده ما رتب عليه في الآية من ذهاب كلّّّ إله بما خلق واعتلاء بعضهم على بعض.

ولو جعلناه بمعنى المعبود لانتقض البرهان ، ولا يلزم من تعدّده أي اختلال في الكون. وأدل دليل على ذلك هو المشاهدة. فإنّ في العالم آلهة متعدّدة ، وقد كان في أطراف الكعبة المشرفة ثلاثمائة وستون إلهاً ولم يقع أي فساد واختلال في الكون.

فيلزم على من يفسّر « إله » بالمعبود ارتكاب التكلّّف بما ذكرناه في الآية المتقدمة.

3 - ( قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً ) ( الاسراء / 42 ) فانّ ابتغاء السبيل إلى ذي العرش من لوازم تعدّد الخالق أو المدبّر المتصرّف أو من بيده أزمّة اُمور الكون أو غير ذلك ممّا يرسمه في ذهننا معنى الالوهيّة ، وأمّا تعدد المعبود فلا يلازم ذلك إلاّ بالتكليف الذي أشرنا إليه فيما سبق.

ص: 115

4 - ( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا ) ( الأنبياء / 98 و 99 ) والاية تستدل بورود الأصنام والأوثان في النار على كونها غير آلهة إذ لو كانت آلهة ما وردت النار.

والاستدلال إنّما يتم لو فسّرنا الآلهة بما أشرنا إليه فانّ خالق العالم أو مدبّره والمتصرّف فيه أو من فوّض إليه أفعال اللّه أجلّ من أن يحكم عليه بالنار وأن يكون حصب جهنّم.

وهذا بخلاف ما إذا جعلناه بمعنى المعبود فلا يتم البرهان لأنّ المفروض انّها كانت معبودات وقد جعلت حصب جهنم. ولو أمعنت في الآيات التي ورد فيها لفظ الإله والآلهة لقدرت على استظهار ما اخترناه وإليك مورداً منها :

( فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ ) ( الحج / 34 ).

فلو فسر الإله في الآية بالمعبود لزم الكذب ، إذ المفروض تعدّد المعبود في المجتمع البشري ، ولأجل هذا ربّما يقيّد الإله هنا بلفظ « الحق » أي المعبود الحق إله واحد. ولو فسّرناه بالمعنى البسيط الذي له آثار في الكون من التدبير والتصرّف وايصال النفع ، ودفع الضر على نحو الاستقلال لصحّ حصر الإله - بهذا المعنى - في واحد بلا حاجة إلى تقدير كلمة بيانية محذوفة إذ من المعلوم أنّه لا إله في الحياة البشرية والمجتمع البشري يتصف بهذه الصفات التي ذكرناها.

ولا نريد أن نقول : إنّ لفظ الاله بمعنى الخالق المدبّر المحيي المميت الشفيع الغافر ، إذ لا يتبادر من لفظ الإله إلاّ المعنى البسيط ، بل هذه الصفات عناوين تشير إلى المعنى الموضوع له لفظ الإله ، ومعلوم أنّ كون هذه الصفات عناوين مشيرة إلى ذلك المعنى البسيط ، غير كونها معنى موضوعاً للفظ المذكور كما أنّ كونه تعالى ذات سلطة على العالم كلّه أو بعضه سلطة مستقلة غير معتمدة على غيره ، وصف مشير إلى المعنى البسيط الذي نتلقاه من لفظ الإله ، لا أنّه نفس معناه (1).

ص: 116


1- لاحظ الجزء الأول من مفاهيم القرآن ص 440 - 442.

5 - إنّ الذكر الحكيم ربّما يستعمل لفظ الجلالة مكان الاله ، بمعنى أنّه يريد منه المعنى الكلّي والوصفي دون العلمي ، وهذا يعرب عن أنّ اللفظين متّحدان أو متقاربان في المعنى.

قال سبحانه : ( وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ) ( الأنعام / 3 ).

وقال سبحانه : ( هُوَ اللّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( الحشر / 23 ).

وقال سبحانه : ( هُوَ اللّهُ الخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( الحشر / 24 ).

وقال سبحانه : ( وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ) ( النساء / 171 ).

فانّ وزان « اللّه » في هذه الآيات وزان « الإله » في قوله سبحانه :

( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الحَكِيمُ الْعَلِيمُ ) ( الزخرف / 84 ).

فقد اُريد من لفظ الجلالة في الآيات الأربع المتقدمة نفس ما أريد من لفظ الإله من المعنى الكلّي في الآية الأخيرة ومعناه انّه « الاله » الذي يتّصف بكذا وكذا وليس كذا وكذا فكأنّه اطلق لفظ الجلالة واُريد منه إله العالم وخالقه وبارئه ولم يرد منه الفرد الخارجي ولأجل ذلك عاد إلى التنبيه على أنّه واحد لا كثير وذلك ببيان صفاته الجمالية والكمالية.

6 - إنّ الذكر الحكيم يستعمل لفظ الإله في الخالق البارئ المدبّر ولا يمكن لأي مفسّر تفسيره باحدى المعاني المتقدمة ويقول : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ

ص: 117

اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ ) ( القصص / 71 ).

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) ( القصص / 72 ).

فلفظ « الإله » في هاتين الآيتين معادل للفظ الجلالة لكن بشرط العمومية والكلّية أو إلغاء الجزئيّة والخصوصيّة ولا يستقيم البرهان الوارد فيهما إلاّ بتفسير الإله بما يعادل الخالق المدبّر لا بتفسيره بالمعبود والمحبوب إلاّ بتكلّّف والاية بصدد البرهنة على أنّه ليس في الكون مدبّر سواه ولذلك لو جعل اللّه عليكم الليل سرمداً من إله ( مدبّر ) غير اللّه يأتيكم بضياء ، ولو جعل عليكم النهار سرمداً من إله غيره سبحانه يأتيكم بليل ، فإذاً الالوهيّه ( المعادلة للخالقيّة والمدبريّة ) منحصرة فيه ، لا يشاركه فيها غيره فهو إله واحد ليس غيره.

أضف إلى ذلك انّ مقتضي كون الاستثناء متّصلاً ، دخول المستثنى منه في المستثنى دخولاً واقعياً ، وبما أنّ المراد من المستثنى هو الخالق الذي بيده مصير الإنسان والأشياء فليكن هو المراد من المستثنى منه لكن بتفاوت انّ احدهما كلّي والآخر جزئي.

وقد عرفت انّ القول بإنّ لفظ الجلالة علم للذات المستجمع لجميع صفات الجمال والكمال أو الخالق والبارئ للأشياء أو لمن بيده مصير العالم والإنسان فلايراد دخول هذه المفاهيم بالصورة التفصيليّة في معناه وإنّما هي موضوع لما تهدي إليه الفطرة أو تدل عليه العقول من سيطرة قدرةٍ على العالم لها تلك الخصوصيّات فهي من الخصوصيّات الفرديّة التي يمتاز بها عمّن سواه من الأفراد لا أنّها أجزاء للمعنى والجامع بين أفراد الإله المفروضة ، لا المحققة أمر بسيط يشار إليه بأمر من الاُمور.

ص: 118

7 - والذي يعرب بوضوح إنّ الإله ليس بمعنى المعبود هو كلمة الاخلاص « لا إله إلاّ اللّه » إذ لو كان المقصود من الإله المعبود لكان هذه الجملة كذباً ، لأنّ من البديهي وجود آلاف المعبودات في هذه الدنيا غير اللّه ومع ذلك كيف يمكن نفي معبود سوى اللّه ولأجل ذلك اضطرّ القائل أن يقول « الإله » بمعنى المعبود وأن يقدّر لفظ « بحق » لتكون الجملة هكذا : « لا إله بحق إلاّ اللّه » ، مع أنّ تقدير لفظ « بحق » خلاف الظاهر فإنّ كلمة الإخلاص تهدف إلى نفي أي إله في الكون سوى « اللّه » وإنّه ليس لهذا المفهوم مصداق بتاتاً سواه ، وهذا لا ينسجم إلاّ أن يكون « الاله » مع لفظ الجلالة متّحدين في المعنى وأمّا جعل لفظ الجلالة علماً للذات وجعل الإله بمعنى المعبود أو ما يشابهه فلا يحصل منه المعنى المقصود بسهولة.

وأمّا جمعه على لفظ الآلهة مع أنّ مصداقه منحصر في فرد فلا يدلّ على أنّه بمعنى المعبود بل لأجل أنّ العرب كانت معتقدة بتعدّد مصداقه قال سبحانه : ( أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا ) ( الأنبياء / 43 )

إلى هنا تبيّن أنّ المفهوم من لفظ الجلالة ولفظ الإله واحد ، وأمّا ما ذكر من المعاني من الخلق والتدبير والإحياء والإماتة وكون مصير الإنسان بيده فإنّما هو من لوازم الالوهية واقعاً أو عند المتصور.

وربما يستدل على أنّ الإله في الذكر الحكيم بمعنى المعبود وانّ أَلَهَ بمعنى عَبَدَ ، تمسكاً بقوله : ( وَقَالَ المَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) ( الاعراف / 127 ) حيث قرء « وإلاهتك » اي يذرك وعبادتك ولكن الإجابة عنه واضحة.

أمّا أوّلاً فلأنّ القراءة المتواترة هي « وآلهتك » أي ليذرك وآلهتك التي أنت تعبدها حيث كان فرعون يستعبد الناس ويعبد الأصنام بنفسه (1).

ص: 119


1- مجمع البيان ج 2 ص 464.

وثانياً : على فرض صحّة القراءة فالمراد منها هو الالوهية بالمعنى المتبادر في سائر الايات أي يتركوا قولاً وعملاً أنك إله وأنت ربّهم الأعلى إلى غير ذلك من العناوين المشيرة إلى معنى الإله أي ينكروا إنّك إلههم وإله العالمين.

نعم قال الراغب : و « إله » جعلوه اسماً لكلّ معبود لهم ، وكذا الذات (1) وسمّوا الشمس إلاهة لاتّخاذهم ايّاها معبوداً وأله فلان يأله عبد وقيل تألّه فالإله على هذا هو المعبود (2) وكلامه هذا قابل للتوجيه وعلى فرض ظهوره في كون الإله بمعنى المعبود فقد عرفت عدم استقامته في كثير من الايات.

إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة : إنّ لفظ الجلالة علم للذات الذي نشير إليه بصفات الجمال والكمال وانّ لفظ الإله موضوع لذلك المعنى لكن بصورة الكليّة والسعة ، وأنّه يجب أن يفسّر « الإله » في جميع الآيات بهذا النحو وانّ تفسيره بالمعبود وغيره تفسير بالمعنى اللازم لا بالمعنى الموضوع له.

وهاهنا نكتة نشير إليها وهو انّ كتب الوهابيّة مليئة بتقسيم التوحيد إلى قسمين : توحيد في الربوبيّة ، وتوحيد في الالوهيّة ، ويريدون من الأوّل التوحيد في الخالقيّة ومن الثاني التوحيد في العبادة وكلا التفسيرين غير صحيح أمّا الربوبيّة فليست مرادفة للخالقيّة بل هو أمر آخر وراء الخلقة ولو أردنا أن نفسّره فليفسّر بالتوحيد في التدبير وإدارة العالم ، وأمّا الالوهية فقد عرفت أنّ الإله والالوهية ليس بمعنى العبادة وإنّما العبادة من لوازم الاعتقاد بكون الموجود إلها ، فلو أردنا أن نعبّر عن التوحيد في ذلك المجال فيجب أن نقول التوحيد في العبادة (3).

ص: 120


1- كذا في النسخة المطبوعة ويحتمل أن يكون لفظ « الذات » مصحّف « اللات ».
2- المفردات : ص 21.
3- وقد مرّ في الجزء الأوّل من كتابنا ما يفيدك في المقام ، لاحظ : ص 348.
خاتمة المطاف

وممّا يقضي منه العجب أنّ جلّ من ينسبون أنفسهم إلى مذهب السلفيّة ينكرون ذكر اللّه تعالى بالاسم المفرد ( اللّه ) دون ذكره في جملة ذات معنى تامّ ، وينسبون من يذكر اللّه باسمه المفرد وحده إلى الضلال ويستدلّون على ذلك بأنّ جميع ما ورد من صيغ الأذكار في القرآن والسنّة جمل أو كلمات ذات دلالة على معنى يتضمّن حكماً كاملاً مثل لا إله إلا اللّه ، استغفر اللّه وليس فيها لفظ الجلالة المفرد ، فذكر اللّه بهذا اللفظ المفرد باطل ، ويضيف ابن تيميّة بأنّ الاستمرار على ذكر اللّه بهذا اللفظ المفرد من شأنه أن يزجّ الذاكر شيئاً فشيئاً في أوهام الحلول ووحدة الوجود (1).

لقد عزب عنه ومضافاً إلى أنّ اطلاقات الأدلّة (2) كاف في ذلك أنّه سبحانه يأمر نبيّه أن يذكر اللّه باسمه المفرد ويقول : ( قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ) ( الانعام / 91 ).

وإمّا ما ذكره به في آخر كلامه من أنّ الاستمرار على ذكر اللّه عسى أن يزجّ الرجل في أوهام الحلول شيئاً فشيئاً لا قيمة له فانّه اجتهاد تجاه النص أولاً ، وهو بنفسه موجود في سائر الأسماء ثانياً.

الثاني : الأحد

قد ورد لفظ « الأحد » بصوره المختلفة في الذكر الحكيم 74 مرّة وقد وقع وصفاً له سبحانه في موردين فقط.

ص: 121


1- مجموع الفتاوى ج 10 ص 556.
2- مثل قوله سبحانه : ( وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الدهر / 25 ) ، وقوله سبحانه : ( وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ ) ( الأعراف / 205 ).

قال سبحانه : ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ * اللّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) .

قال ابن فارس : أحد والأصل « وحد » ، وعن الزجّاج : إنّه مأخوذ من « الواحد » وقال الأزهري : أنّه يقال : وحد يوحد فهو وَحَد ، كما يقال : حسن يحسن فهو حسن ثم انقلبت الواو همزة فقالوا « أحد » ، والواو المفتوحة قد تقلب همزة كما تقلب المكسورة والمضمومة ومنها امرأة اسماء بمعنى وسماء من الوسامة.

وقد ذكروا فروقاً بين الواحد والأحد وإليك البيان :

1 - إنّ الواحد اسم لمفتتح العدد فيقال : واحد ، اثنان ، ثلاثة ، ولا يقال أحد ، اثنان ، ثلاثة ، قال الصدوق : الأحد ممتنع من الدخول في الضرب والعدد والقسمة وفي شيء من الحساب ، والواحد منقاد للعدد والقسمة وغيرهما داخل في الحساب فتقول : واحد في اثنين أو ثلاثة ، و « الأحد » ممتنع عليه هذا ، فلا يقال : أحد بين اثنين (1).

2 - إنّ لفظه « أحداً » إذ وضعت في حيّز النفي تفيد عموم النفي بخلاف لفظة « الواحد » فهو منصرف إلى نفي العدد لا إلى نفي الجنس ، فلو قيل ما في الدار واحد يصحّ أن يقال بل فيها اثنان ، وامّا لو قيل ما في الدار أحد بل اثنان كان خطأ.

3 - إنّ لفظ الواحد يمكن جعله وصفاً لكلّ شيء يقال رجل واحد ، ثوب واحد بخلاف الأحد فلا يصحّ وصف شيء في جانب الاثبات بالأحد إلاّ اللّه الأحد فلا يقال رجل أحد ولا ثوب أحد فكأنّه تعالى استأثر بهذا النعت.

وأمّا في جانب النفي فقد يذكر هذا في غير اللّه تعالى أيضاً فيقال : ما رأيت أحداً وعلى هذا فالأحد والواحد كالرحمان والرحيم.

ص: 122


1- التوحيد للصدوق : ص 197 بتلخيص.

فالأوّل مختص دون الثاني ، فكذلك الأحد فهو مختص به في مقام التوصيف دون الواحد ، وقال الراغب ( من أقسام استعمالاته ) أن يستعمل مطلقاً وصفاً وليس ذلك إلاّ في وصف اللّه ( قل هو اللّه أحد ) (1).

وقد احتمل الرازي أنّ تنكير أحد في قوله « قل هو اللّه أحد » لأجل أنّه صار نعتاً لله عزّ وجلّ على الخصوص فصار معرفة فاستغنى عن التعريف.

ويحتمل أن يكون التنكير لأجل التنبيه على كمال الوحدانية كقوله سبحانه : ( وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ) ( البقرة / 96 ). أي على حياة كاملة مضافاً إلى استعمال الأحد في الأدعية معرفة.

قال الأزهري سئل أحمد بن يحيى عن الآحاد هل هو جمع الأحد ؟ فقال : معاذ اللّه ليس للأحد جمع ولا يبعد أن يقال الآحاد جمع واحد كما أنّ الاشهاد جمع شاهد (2).

ثمّ إنّه اجتمع في قوله سبحانه : ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ) ألفاظ ثلاثة من أسماء اللّه وكلّّ واحد منها إشارة إلى مقام من مقامات السائرين إلى اللّه.

أمّا الأوّل أعني لفظة « هو » فقد جاء به من دون ذكر مرجع وقد زعم النحويّون غير البارعين في المعارف الإلهية انّه للشأن ولكن يمكن أن يقال : إنّه ليس للشأن وإنّما يرجع إليه سبحانه والتعبير به من دون ذكر المرجع يناسب البارعين الذين نظروا إلى صفحة الوجود فلم يروا موجوداً مستحقاً لاطلاق اسم الوجود أو الموجود إلاّ ايّاه فكأنّه ليس في الدار غيره ديّار فكان قوله « هو » كافياً في حق هذه الطائفة لأنّه إذ لم يكن في صفحة الوجود إلاّ هو كانت الإشارة المطلقة لا تتوجه إلاّ إليه وغيره يحتاج إلى مرجع.

ص: 123


1- المفردات : ص 12.
2- لوامع البينات : ص 331.

ثمّ انّه سبحانه أوضحه بقوله « اللّه » ولعلّه لتفهيم طبقة اُخرى تليهم في المعرفة وهم الذين يرون الكثرة في الوجود وانّ هناك واجباً وممكناً فاحتاج ضمير الإشارة إلى مميز وذلك هو قوله اللّه ، وعلى هذا فالمجموع « هو اللّه » راجع إلى الطبقتين.

وأمّا الطبقة الثالثة الذين يجوّزون الكثرة لا في الوجود بل في الإله ، فردّ سبحانه وهمهم بقوله « هو اللّه أحد » لهدايتهم (1).

ثم انّه سبحانه كرر لفظة « أحد » في سورة الإخلاص ووصف نفسه به مرّتين وقال : قل هو اللّه أحد ثم قال : ولم يكن له كفواً أحد ، فهل اُريد من اللفظة في كلا الموردين معنى واحد أو اُريد معنيان ؟ وبعبارة واضحة هل اللفظتان تشيران إلى قسم واحد من التوحيد أو إلى قسمين ، فالظاهر أنّ الاية الثانية ناظرة إلى التوحيد الذاتي بمعنى انّه واحد لا مثيل له ولا نظير بل لا يتصور له التعدد والاثنينية ، وأمّا الاية الاُولى فهي ناظرة إلى التوحيد الذاتي لكن بمعنى البساطة ونفي التجزئة عن الذات.

وقد فسّره الصدوق بذلك في توحيده فقال : الأحد معناه أنّه واحد في ذاته أي ليس بذي أبعاض ولا أجزاء ولا أعضاء (2).

قال الطبرسي : الأحد هو الذي لا يتجزأ ولا ينقسم في ذاته ولا في صفاته (3).

ويقول الجزائري في « فروق اللغات » في الفرق بين الواحد والأحد :

إنّ الواحد ، الفرد الذي لم يزل وحده ولم يكن معه آخر ، والأحد الفرد الذي لا يتجزّأ ولا ينقسم.

يقول العلامة الطباطبائي (رحمه اللّه) :

« والأحد وصف مأخود من الوحدة كالواحد غير أنّ الأحد إنّما يطلق على ما

ص: 124


1- لوامع البينات : ص 311 ، وتوحيد الصدوق : ص 196.
2- توحيد الصدوق : ص 196.
3- مجمع البيان : ج 5 ص 564.

لا يقبل الكثرة لا خارجاً ولا ذهناً » (1).

وفي ضوء هذا يمكن أن يقال : إنّ قوله سبحانه ولم يكن له كفواً أحد بشهادة لفظ « كفوا » ناظر إلى نفي المثيل والنظير له سبحانه ، فهو واحد في الذات فلا ذات كذاته كما هو واحد في الفعل فلا خالق ولا مدبّر سواه وانّ قوله : « قل هو اللّه أحد » ناظر إلى نفي أي نوع من التركيب والتجزئة في ذاته سبحانه ، وبذلك يعلم أنّ هذه السورة نزلت ردّاً لمزعمة النصارى بل اليهود أيضاً فالنصارى بحجّة أنّهم قالوا بالتثليث واليهود بحجة أنّهم يقولون : إنّ العزير ابن اللّه محجوجون بما ورد في هذه السورة فاللّه سبحانه واحد لا مثيل له ، بسيط لا جزء له. فلو كان مرجع التثليث عند المسيحية إلى أنّ كلّّ واحد من « الأب » و « الابن » و « روح القدس » إله مستقل متفرّد في الالوهية فله كفو بل كفوان مع أنّه سبحانه « لم يكن له كفوا أحد » أي لم يكن له مثيل ولا نظير فلا يتكرر ولا يتعدد ، وإن لم يكن كلّّ واحدٍ إلهاً مستقلاً بل كلّّ واحد يشكّل جزء من الالوهية فاللّه سبحانه هو المركب من هذه الثلاثة فهو سبحانه عندهم مركّب لا بسيط متجزئ منقسم. فردّ عليهم سبحانه بقوله : ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ) .

وقد ورد في ما روي عن بعض أئمّة أهل البيت علیهم السلام ما يؤيّد هذا الاستظهار. قال الامام أمير المؤمنين علیه السلام في جواب أعرابي سأله يوم الجمل عن تفسير قوله : « إنّ اللّه واحد » فقال علیه السلام في كلام مبسوط :

« وإمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل هو واحد ليس له في الأشياء شبه ، كذلك ربّنا وقول القائل انّه عزّ وجلّ أحدي المعنى يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم كذلك ربنا » (2).

وبذلك تقف على أنّ التوحيد الذاتي ينقسم إلى التوحيد في الواحديّة و

ص: 125


1- الميزان ج 20 ص 543.
2- توحيد الصدوق : ص 83 - 84.

التوحيد في الأحديّة فيفسر الأوّل بنفي المثل والثاني بنفي التركيب والتجزئة والتقسيم.

وبذلك يمكن اصطياد البرهان على كون صفاته سبحانه الثبوتيّة الكماليّة عين ذاته كما عليه الاماميّة من العدليّة وبعض المعتزلة ، لا زائد عليه كما عليه الشيخ الأشعري ومن تبعه لوضوح انّ حديث الزيادة يستلزم التركيب والتجزئة ، وهما آيتا الامكان ، والامكان ينافي الوجوب ، وإلى ذلك يشير الامام أمير المؤمنين علیه السلام بقوله : « وكمال الإخلاص له نفي الصفات ( الزائدة ) عنه بشهادة كلّّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلّّ موصوف أنّه غير الصفة. فمن وصف اللّه ( أي بوصف زائد على ذاته ) فقد قرنه أي قرن ذاته بشيء غيره ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله » (1).

وهذا بعض الكلام حول « الاحد » ، وسيوافيك ما يفيدك عند البحث عن اسم « الواحد ».

الثالث والرابع : الأوّل والآخِر

لقد ورد لفظ « الأوّل » بصوره المختلفة في الذكر الحكيم 62 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في آية واحدة ، قال : ( هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( الحديد / 3 ).

قال ابن فارس : الأوّل : ابتداء الأمر والاخر نقيض المتقدّم (2) وقال الراغب : « فالأوّل هو الذي يترتّب عليه غيره » (3).

وقد وصف سبحانه في الآية بصفات متضادّة غير مجتمعة حيث تصفه بأنّه

ص: 126


1- نهج البلاغة الخطبة 1.
2- المقاييس ج 1 ص 158 و 70.
3- المفردات : ص 31.

الأوّل وفي الوقت نفسه الاخِر ، كما تصفه بأنّه الظاهر وفي الوقت نفسه بأنّه الباطن فلو كان أوّلاً كيف يكون آخراً ، ولو كان ظاهراً فكيف يكون باطناً ؟ فأوّل الناس في العمل لا يكون آخرهم فيه وهكذا الظاهر والباطن ، ومع ذلك كلّه فاللّه سبحانه جمع بين هذه الصفات جمعاً حقيقياً واقعياً لا مجازياً وذلك بإحاطته على الموجودات الامكانية وقيامهم به قيام المعنى الحرفي بالاسمي ، فكما لا يمكن خلو المعنى الحرفي عن الاسمي فهكذا لا يمكن خلو الوجود الإمكاني عن الوجود الواجبي ، وليس حديث نفي الخلو حديث الممازجة بل المقصود الاحاطة القيومية التي له سبحانه بالنسبة إلى العالم كلّه ، فالعالم بما فيه من الكبير إلى الصغير ومن المجرّة إلى الذرّة ، ومن المادّي إلى المجرّد ، قائم به سبحانه قيام المعلول بعلّته ، نظير قيام الصور الذهنيّة بالنفس فهو مع الأشياء كلّها ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) ( الحديد / 4 ) فإذا كان محيطاً بوجوده على كلّّ شيء فكلّ ما فرض أوّلاً فهو قبله بحكم كونه محيطاً والشيء محاطاً ، فهو الأوّل دون الشيء المفروض أوّلاً ، وكلّّ ما فرض آخراً فهو بعده لحديث إحاطة وجوده به من كلّّ جهة ، فهو الآخر دون الشيء المفروض وليست أوليّته تعالى ولا آخريته زمانيّة ولامكانيّة بل بمعنى كونه محيطاً بالأشياء على أيّ نحو فرض وكيفما تصوّرت.

وعلى ذلك فالأوّل والآخر من فروع اسمه « المحيط » فبما أنّ وجوده محيط بكلّ شيء فهو الأوّل قبل الاشياء والاخر بعد الأشياء.

ولأجل ذلك روي عن الإمام علي علیه السلام أنّه قال : « ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت اللّه قبله ومعه وبعده ». وهذا هو العرفان الكامل.

والظاهر أنّ توصيفه بالأوليّة والآخريّة مبني على إحاطة وجوده بالأشياء ويؤيّده قوله في الاية التالية ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) ( الحديد / 4 ) وإمّا تفسير الاية باحاطة قدرته كما عن بعض المفسّرين فلا ينافي ما ذكرناه بل هو يرجع إلى ما ذكرنا لكون قدرته نفس ذاته فإحاطة قدرته لا تنفك عن إحاطة ذاته ، وعلى ذلك فمعنى الاية

ص: 127

هو أوّل الأشياء وآخرها ، وانّه لو فرض شيء فهو أوّله كما أنّه آخره بحكم المحيطيّة والمحاطيّة.

ويمكن أن يقال : إنّ الوصفين تعبيران عن أزليّته وأبديّته فبما أنّه واجب الوجود وانّ وجوده نابع من صميم ذاته غير مكتسب من مقام آخر ، يكون أزليّاً فلا يكون لوجوده ابتداء كما لا يكون لوجوده انتهاء ، وبعبارة اخرى فرض كون وجوده واجباً بالذات يستلزم أن لا يتطرّق إليه العدم أبداً لا في السابق ولا في اللاحق وهو يساوق أزليّته وأبديّته وهو يستلزم أن لا يكون له ابتداء ولا انتهاء ولا أوّل وآخر ، ولو وصف بالأوليّة والآخرية يكون المراد منهما أنّه الأول بلا ابتداء والآخر بلا انتهاء ، وهذا معنى آخر غير ما ذكرنا.

والفرق بين المعنيين واضح فإنّ توصيفه بهما في المعنى الأوّل ينبع من كونه محيطاً بالأشياء كما أنّ توصيفه بهما في المعنى الثاني ينبع من كونه واجب الوجود ممتنع العدم ، وهو خيرة الصدوق في توحيده حيث قال : « إنّه الأوّل بغير ابتداء والاخر بغير انتهاء » (1).

ثمّ إنّ هذه الآية قد وقعت مجالاً لأرباب الاشارات فذكروا في تفسيرها وجوهاً كثيرة تناهز 24 وجهاً (2) كلّها من قبيل التفسير الإشاري ، وقد ذكرنا في محله أنّ قسماً منه تفسير جائز وقسماً آخر تفسير ممنوع.

الخامس : « الأعلى »

وقد ورد لفظ « الأعلى » في الذكر الحكيم 9 مرّات ووصف به سبحانه في

ص: 128


1- توحيد الصدوق : ص 197 ، وذكر ابن فارس في المقاييس : « إنّ العرب تقول : أوّل ذي أول. وأول أول ويريد قبل كل شيء » ج 1 ص 158.
2- لوامع البينات : ص 323 - 326.

آيتين قال : ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ) ( الاعلى / 1 ).

وقال سبحانه : ( وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى ) ( الليل / 19 - 20 ).

وربّما وصف به مثله ( بالفتح ) سبحانه قال : ( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( النحل / 60 ).

وقال سبحانه : ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( الروم / 27 ).

والأعلى في الآيتين الأوليّتين - كما هو الظاهر - وصف للرّبّ ، وفي الأخيرتين وصف للمثل ( بالفتح ) ، والمراد من « المثل » هو الوصف والتوصيف (1).

و « الأعلى » من العلو وهو الرفعة قال ابن فارس : « العلوّ : أصل واحد يدل على السموّ والإرتفاع ، لا يشذ عنه شيء ، من ذلك العلى والعلوّ ، ويقولون : تعالى النهار : ارتفع ».

أقول : المراد من العلوّ ، هو العلوّ من حيث الرتبة والدرجة لأنّه المبدأ لكلّّ شيء ، والمفيض له والمحيط به ، فذاته سبحانه أرفع من كلّّ موجود محدود ، يعلو كلّ عال ويقهر كلّ شيء فبما أنّه عال وله العلوّ المطلق ، فله الوجود الكامل ، وهذا يلازم كونه ذا أسماء حسنى ومعه يجب تسبيح اسمه وتنزيهه عمّا لا يليق من الأسماء.

وكما انّه عليّ في ذاته ، عال من حيث الصفات والأوصاف ، ولله سبحانه

ص: 129


1- قال سبحانه : ( انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) ( الفرقان / 9 ) ، والمراد من ضرب المثل للرسول هو توصيفه بصفات لا تليق به ، مثل توصيفه بأنّه « رجل مسحور » كما جاء في الآية المتقدمة عليها حيث قال سبحانه : ( وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا ) ( الفرقان / 8 ).

الصفات العليا فله العلم الذي لا يطرأ عليه الجهل ، والقدرة التي لا تعرضه عجز ، والحياة التي لا يحدّدها موت ، فهو سبحانه أعلى من أمثال السوء التي يتصف بها غيره.

فاللّه سبحانه أعلى ذاتاً ووجوداً ، وأعلى صفة وسمة. أمّا علوّ ذاته فلأجل كونه واجب الوجود ومبدع الممكنات وموجدها ، وأمّا علوّ صفاته فلأنّ كلّّ وصف كمالي يوصف به شيء في السماوات والأرض كالحياة والقدرة والعلم والملك والجود والكرم والعظمة والكبرياء ، فله السهم الأعلى ولغيره الأدنى وذلك لعدم محدوديّة صفاته بخلاف غيره.

ثم انّه ربّما يفسّر « الأعلى » بالقاهر. قال الصدوق : وأمّا الأعلى فمعناه العليّ والقاهر ويؤيّد ذلك قوله عزّ وجلّ لموسى علیه السلام : ( لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى ) ( طه / 68 ) اي القاهر وقوله عزّ وجلّ في تحريض المؤمنين على القتال : ( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / 139 ) وقوله عزّ وجلّ : ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ ) ( القصص / 4 ). أي غلبهم واستولى عليهم ، وقال الشاعر في هذا المعنى :

فلمّا علونا واستوينا عليهم *** تركنا هم صرعى لنسر وكاسر

ثم قال ، وهناك معنى ثان وهو إنّه متعال عن الأشباه والأنداد أي متنزّه كما قال : ( وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( يونس / 18 ).

والظاهر تعيّن المعنى الثاني وهو الذي عبّرنا عنه بالرفعة وجوداً وصفة ثم الرفعة كما تتحقق بالصفات الكمالية على ما أوضحنا ، تتحقق بالتنزّه عن الأشباه والأنداد وهو الذي ذكره الصدوق ، وأمّا المعنى الأوّل فالظاهر أنّه لازم المعنى الثاني فانّ العلو رتبة بل ومكاناً يستلزم القهر والغلبة ، فالقهر والغلبة ، من لوازم المعنى وليست نفس المعنى.

ص: 130

السادس : « الأعلم »

وقد ورد في الذكر الحكيم لفظ « الأعلم » 49 مرّة ولم يوصف به غيره سبحانه.

قال سبحانه : ( يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ) ( آل عمران / 167 ).

وقال سبحانه : ( اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) ( الأنعام / 124 ) إلى غير ذلك من الموارد.

وصيغة « أعلم » صيغة المفاضلة ومعناه انّه يثبّت العلم لنفسه وغيره ولكنّه يفضّل علمه على غيره غير أنّه يعدل عنه في موارد بقرائن خاصّة مثل قوله سبحانه : ( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) ( الانعام / 124 ) فعلّقوا إيمانهم وتصديقهم على أن يؤتوا مثل ما أوتي رسل اللّه بأن ينزّل عليهم الملك والوحي ، فاجيبوا بقوله سبحانه ( اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) والمناسب لمقام الرد هو انسلاخ صيغة التفضيل من المفاضلة أي إنّه العالم دونهم بحجّة انّهم علّقوا ايمانهم على صدق النبي على أن يكونوا أنبياء مثله وهذا دليل على جهلهم المطبق ، فهم جهلاء واللّه سبحانه هو العالم ، ونظير ذلك قوله سبحانه نقلاً عن « لوط » في حق بناته : ( يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) ( هود / 78 ) وقوله سبحانه حاكياً عن يوسف ( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) ( يوسف / 33 ) والمناسب لمقام العصمة كون السجن محبوباً إليه دون غيره أعني الفحشاء ، والحبّ بمعنى كونه موافقاً للغريزة الجنسية خارج عن مجال البحث قال سبحانه : ( قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ ) ( الفرقان / 15 ) والمراد انّها خير دون الجحيم بل هي شر ، وعلى ذلك فالأصل في الصيغة هو الحمل على المفاضلة إلاّ إذا دلّ الدليل على خلافه ، نعم أدب العرفان والعبوديّة يقتضي توصيفه سبحانه فقط بالعلم.

ص: 131

السابع : « الأكرم »

وقد وردت هذه اللفظة في الذكر الحكيم مرتين الاُولى قوله سبحانه : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ ) ( الحجرات / 13 ) والثانية قوله سبحانه : ( اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) ( العلق / 3 ).

قال الراغب في مفرداته : « الكرم إذا وصف اللّه تعالى به فهو اسم لإحسانه وإنعامه المتظاهر نحو قوله : ( فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) ( النمل / 40 ) وإذا وصف به الإنسان فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة التي تظهر منه ولا يقال هو كريم حتى يظهر ذلك منه.

وعلى ذلك فمعنى قوله ( وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) اي الأكثر كرماً الذي يفوق عطاؤه ما سواه ، فهو يعطي لا عن استحقاق وما من نعمة إلا وتنتهي إليه سبحانه.

قال الطبرسي : أي الأعظم كرماً فلا يبلغه كرم كريم لأنّه يعطي من الكرم ما لا يقدر على مثله غيره ، فكلّ نعمة توجد فمن جهته تعالى أمّا بأن اخترعها وأمّا بأن سبّبها وسهّل الطريق إليها.

هذا ويمكن أن يقال :

إنّه من الكرم بمعنى الشرف سواء كان في الشيء نفسه أو في خُلق من الأخلاق. يقال : رجل كريم وفرس كريم ، وأمّا السخاء والعطاء والصفح عن ذنب المذنب فهو من آثاره ، قال في المقاييس نقلاً عن ابن قتيبة : الكريم : الصفوح واللّه تعالى هو الكريم الصفوح عن ذنوب عباده المؤمنين (1) وعلى ذلك فمعنى قوله ( وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) هو الأكمل في الشرف ذاتاً وفعلاً.

ص: 132


1- معجم مقاييس اللغة ج 5 ص 171 - 172.

الثامن : « أرحم الراحمين »

وقد جاء « أرحم الراحمين » في الذكر الحكيم أربع مرّات وصفاً له سبحانه. قال سبحانه : ( وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ( الاعراف / 151 ). وقال سبحانه : ( فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ( يوسف / 64 ) ، وقال سبحانه : ( قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ( يوسف / 92 ). وقال سبحانه : ( وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ( الأنبياء / 83 ).

وجاء فيه « خير الراحمين » وصفاً له سبحانه مرّتين. قال : ( رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) ( المؤمنون / 109 ). وقال : ( وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) ( المؤمنون / 118 ).

قال ابن فارس : « الرحم أصل واحد يدل على الرقّة والعطف والرأفة يقال من ذلك : رحمه يرحمه إذا رقّ له وتعطّف عليه ، والرحم ، والمرحمة والرحمة بمعنى ، والرحم علاقة القرابة ثم سمّيت رحم الأنثى رحماً من هذا لأنّ منها ما يكون ما يرحم ويرقّ له من ولد ».

قال الراغب : « والرحمة رقّة تقتضي الإحسان إلى المرحوم وقد تستعمل في الرقة المجرّدة وتارة في الاحسان المجرّد عن الرقّة نحو « رحم اللّه فلانا » وإذا وصف به الباري فليس يراد به إلاّ الإحسان المجرّد دون الرقّة ، وعلى هذا روي : « إنّ الرحمة من اللّه إنعام وإفضال ، ومن الآدميّين رقّة وتعطّف ... ».

وظاهر هذا أنّ الرقّة والتعطّف داخل في معنى الرحمة غير أنّ البرهان العقلي يجرّنا عند توصيفه سبحانه به إلى تجريده عن الرقّة لاستلزامها الإنفعال وهو محال على اللّه سبحانه.

قال العلاّمة الطباطبائي : « الرحمن الرحيم من الرحمة وهي وصف انفعالي و

ص: 133

تأثر يلمّ بالقلب عند مشاهدة من يفقد أو يحتاج إلى ما يتم به أمره ، فيبعث الإنسان إلى تتميم نقصه ورفع حاجته إلاّ أنّ هذا المعنى يرجع بحسب التحليل إلى الإعطاء والافاضة لرفع الحاجة وبهذا المعنى يتّصف سبحانه بالرحمة » (1).

التاسع : « أحكم الحاكمين »

وقد ورد « احكم الحاكمين » في القرآن وصفاً لله سبحانه مرّتين.

قال : ( وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ ) ( هود / 45 ).

وقال سبحانه : ( أَلَيْسَ اللّهُ بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ ) ( التين / 8 ).

والحكم في اللغة بمعنى المنع لإصلاح ، وسمّيت اللجام حَكَمة الدابّة لأنّها تمنعها ومنه قول الشاعر :

أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم *** إنّي أخاف عليكم ان اغضبا

ثمّ استعير في الحكم الفاصل والقضاء الباتّ بأنه كذا وكذا أو ليس بكذا وكذا لأنّه يمنع الخصمين عن التعدّي ، وسمّيت الحكمة حكمة لأنّها تمنع الرجل من فعل ما لا ينبغي.

قال سبحانه : ( وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) ( النساء / 58 ) وقال : ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ ) ( المائدة / 95 ) فكما وصفه القرآن بأنّه « أحكم الحاكمين » كذلك خصّ له الحكم وقال : ( أَلا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ ) ( الأنعام / 62 ) وقال : ( وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ( القصص / 70 ) وقال : ( أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ ) ( الزمر / 46 ) إلى غير ذلك من الايات. بقي الكلام في المراد من قوله « أحكم الحاكمين ».

ص: 134


1- الميزان ج 1 ص 16.

وأمّا قوله « أحكم » فهل المراد أنّه سبحانه أقضى القاضين ؟ كما نقله الطبرسي وجهاً ، فقال : فيحكم بينك يا محمد وبين أهل التكذيب.

الظاهر أنّ صيغة التفضيل في المقام بعد تسليم كونه بمعنى القضاء متضمّنة لمعنى الاحكام والاتقان خصوصاً في الاية الاُولى حيث أنّها وردت بعد قول نوح : ( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ ) فلا يناسب تفسيره بأنّك أقضى القاضين إلاّ بتضمين « أحكم » معنى الإتقان ومعناه إنّك فوق كلّّ حاكم في إتقان الحكم وحقّيّته ونفوذه من غير اضطراب ووهن فما جرى على ابني من الغرق في الماء عين حكمك الحكيم وقضاؤك الرصين.

العاشر : « أحسن الخالقين »

وقد ورد « أحسن الخالقين » وصفاً لله سبحانه في الذكر الحكيم مرتين. قال سبحانه : ( ... ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ) ( المؤمنون / 14 ). وقال سبحانه ناقلاً عن إلياس : ( أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخَالِقِينَ * اللّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ ) ( الصّافات / 125 - 126 ) فهو سبحانه يصف نفسه في هاتين الايتين بأنّه « أحسن الخالقين » كما أنّه يصف فعله حسناً على الاطلاق في الايات الاُخر قال :

( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ ) ( السجدة / 7 ).

وقال : ( وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ) ( غافر / 64 ).

أمّا الخلق لغة فقد فسّر بمعنى تقدير الشيء ، يقال خلقت الأديم للسقاء إذا قدّرته. قال زهير :

ولانت تفري ما خلقت و *** بعض القوم يخلق ما يفري

ص: 135

ومن ذلك الخُلق : وهي السجيّة لأنّ صاحبه قد قدر عليه ، والخلاق : النصيب لأنّه قد قدّر لكلّ أحد نصيبه.

ويؤيّد كونه متضمّناً معنى الإيجاد قوله سبحانه : ( صُنْعَ اللّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ) ( النمل / 88 ) فانّ الصنع في الاية مكان الخلق وليس الصنع صرف التقدير بل العمل عن تقدير. قال سبحانه : ( أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا ) ( المؤمنون / 27 ).

قال الراغب : ثم إنّ الخلق تارة يستعمل في إبداع الشيء من غير مادّة ولا احتذاء قال سبحانه : ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ) ( الأنعام / 1 ) أي أبدعهما بدلالة قوله ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ( الأنعام / 101 ) وأخرى في ايجاد الشيء من الشيء نحو : ( خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ) ( الأعراف / 189 ). وقال : ( خَلَقَ الجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ ) ( الرحمن / 15 ) ثم قال : والخلق الذي هو الابداع لله تعالى ولهذا قال في الفصل بينه تعالى وبين غيره : ( أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) ( النحل / 17 ) وأمّا الذي يكون بالإستحالة فقد جعله اللّه تعالى لغيره في بعض الأحوال كعيسى حيث قال : ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي ) ( المائدة / 110 ) (1).

والظاهر أنّ الراغب بصدد الجمع بين مفاد الاية المثبت لكون الخلق صفة مشتركة بين اللّه وبين غيره ، وبين الآيات الحاصرة لها في اللّه سبحانه حيث يقول : ( ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ) ( الأنعام / 102 ) فحصر الخلق في ابداع الشيء من غير أصل ولا احتذاء في اللّه سبحانه ، وأمّا الخلق بمعنى الإستحالة فأثبته للمسيح ، وبذلك ارتفع الخلاف بين الآيتين ، وإليه ذهب الطبرسي حيث قال : وفي الاية دليل على أنّ اسم الخلق قد يطلق على فعل غير اللّه إلاّ أنّ الحقيقة في الخلق لله سبحانه فقط ، فإنّ المراد من الخلق ايجاد الشيء مقدّراً

ص: 136


1- المفردات للراغب : ص 157 - ماده خلق.

تقديراً لا تفاوت فيه ، وهذا إنّما يكون من اللّه سبحانه وتعالى دليله قوله : ( أَلا لَهُ الخَلْقُ ) (1).

يلاحظ عليهما : أنّ الخلق من غير أصل يوصف به سبحانه وغيره فانّ النفوس المجرّدة تخلق الصور في صقع النفس من غير مادة ، وإنّما يرتفع الإختلاف بين القسمين من الايات بأنّه لا مانع من تخصيص الخلق باللّه سبحانه وتشريك الغير معه أيضاً وذلك لأنّ الخلق بمعنى فعل الفاعل ، المستقل في فعله ، غير المعتمد في خلقه على شيء ، غير المستعين في عمله من أحد يختصّ باللّه سبحانه ، وأمّا الخلق بمعنى فعل الفاعل ، غير المستقل في فعله ، المعتمد في وجوده وفعله على الواجب ، المستعين في كلّّ آن من الفياض المطلق ، فهو للإنسان خاصّة ، ويجمعهما لفظ الخلق وهو على وجه وصف مشترك ، وعلى وجه مختصّ باللّه سبحانه.

الحادي عشر : « أسرع الحاسبين »

وقد ورد في الذكر الحكيم في مورد واحد. قال سبحانه : ( أَلا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ ) ( الأنعام / 62 ). كما وصفه في آية بأنّه أسرع مكراً.

قال سبحانه : ( قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ) ( يونس / 21 ).

وسيأتي البحث عنه عند الكلام في وصفه : « سريع الحساب ». كما يأتي البحث عن الاخر في البحث عن « خير الماكرين ».

الثاني عشر والثالث عشر : « أهل التقوى وأهل المغفرة »

وقد ورد في الذكر الحكيم هذان الاسمان في مورد واحد ووقعا اسمين له

ص: 137


1- مجمع البيان ج 4 ص 101 ، طبع صيدا.

سبحانه. قال سبحانه : ( وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ المَغْفِرَةِ ) ( المدثر / 56 ).

قال الطبرسي : أي هو أهل أن تتّقى محارمه وأهل أن يغفر الذنوب. روي مرفوعاً عن أنس قال : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تلا هذه الآية وقال : قال اللّه سبحانه : أنا أهل أن اُتّقى فلا يجعل معي إله ، فمن اتّقى أن يجعل معي الهاً فأنا أهل أن أغفر له (1).

والظاهر أنّ الأهل في الاية بمعنى الجدير. قال الراغب : « يقال فلان أهل لكذا أي خليق به » (2) ومنه اشتقّ المؤهّل أي الجدير ، والمؤهّلات : القابليات.

قال العلاّمة الطباطبائي : إنّ قوله : ( هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ المَغْفِرَةِ ) تعليل لقوله ( وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَن يَشَاءَ اللّهُ ) فإنّ كونه تعالى أهل التقوى وأهل المغفرة لا يتمّ إلاّ بكونه ذا إرادة نافذة فيهم سارية في أعمالهم (3).

الرابع عشر : « الأبقى »

قد ورد لفظ « الأبقى » في الذكر الحكيم سبع مرّات ، وقد وصف به عذابه ورزقه وما عنده والاخرة ، وورد في آية واحدة وصفاً له سبحانه فقال : ( إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) ( طه / 73 ).

ومضمون الآية إجابة على ما هدّد به فرعون السحرة وقال : ( وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ) ( طه / 71 ) والآيتان ( أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ) ( وَاللّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) على وتيرة واحدة والضمير في صيغة التفضيل يرجع إلى

ص: 138


1- مجمع البيان ج 5 ص 362.
2- المفردات : ص 30.
3- الميزان ج 2 ص 185.

اللّه سبحانه. إنّما الكلام في تعيين المتعلّق ، فربما يقال : إنّه الثواب أي واللّه خير لنا منك وثوابه أبقى لنا من ثوابك ، وربما يقال : إنّ المتعلّق هو العقاب والمراد : واللّه خير ثواباً للمؤمنين وأبقى عقاباً للعاصين وهذا جواب لقوله : ولتعلمنّ أيّنا أشدّ عذاباً وأبقى ولكن الظاهر أنّ المراد أوسع من ذلك وكأنّه قيل : إنّما آثرنا غفرانه على احسانك ، لأنّه خير وأبقى أي خير من كلّّ خير وأبقى من كلّّ باق - لمكان الاطلاق - فلا يؤثر عليه شيء ، وبذلك يعرف معنى المقابلة بين كلام فرعون والسحرة فإنّه يصف نفسه في الاية الاُولى بالأبقى والسحرة تقابله بأنّه سبحانه أبقى.

الخامس عشر : « الأقرب »

اشارة

وقد وردت اللفظة في القرآن 11 مرّة ووردت توصيفاً له سبحانه مرتين قال : ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) ( ق / 16 ) وقال سبحانه : ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ ) ( الواقعة / 85 ) وفسرت الأقربيّة بالعلم : أي نحن أقرب إليه بالعلم من حبل الوريد ويكون معنى الآية : نحن أعلم به. وتحقيق الكلام في مفاد الاية يتوقف على بيان معنى الأقربيّة الواردة فيها فنقول :

إنّ الأقربيّة ليست أقربيّة مكانيّة كما أنّ قربه سبحانه من العبد ليس منحصراً بالافضال عليه بل لقربة سبحانه من العبد ، وأقربيته إليه من حبل الوريد معنى آخر لا يقف عليه إلاّ المرتاض في المعارف الإلهية والخارج عن أسر التعطيل وحبال التشبيه.

انّه سبحانه يصرّح بأنّه مع عباده أينما كانوا ويقول : ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) ( الحديد / 4 ).

ويعد نفسه رابع الثلاثة وسادس الخمسة ويقول : ( مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( المجادلة / 7 )

ص: 139

كما أنّه يصف نفسه الهاً في السماوات والأرض ويقول : ( وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ ) ( الأنعام / 3 ) إلى غير ذلك من الايات التي تدل على إحاطة وجوده سبحانه بكلّ شيء وكونه مع كلّّ شيء.

ثمّ إنّ المسلمين في مقابل هذه الايات على طائفتين :

الاُولى : أهل الحديث والحنابلة والمتقشّفون المغترّون بالظواهر التصوّريّة البدئيّة غير المتعمّقين في الايات والأحاديث ، فهؤلاء أخذوا بظاهر قوله سبحانه : ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) ( طه / 5 ) ففسّروا الإستواء بالإستقرار لا بالإستيلاء والسلطة ، فجعلوه مستقرّا على عرشه وسريره فوق السماوات وأقصى ما عند المتظاهرين بالتنزيه إضافة قولهم : بلا كيف أي لا نعلم كيفية سريره واستقراره ، قال الشيخ الأشعري : « نقول : إنّ اللّه عزّ وجلّ يستوي على عرشه كما قال يليق به من غير طول الاستقرار » (1).

وهؤلاء - الذين حبسوا القاهر المحيط في نقطة خاصّة من العالم - تحيّروا أمام هذه الايات التي دلّت على احاطة وجوده لكلّ شيء وصحيفة الكون ، فلجأوا إلى التأويل المبغوض عندهم فقالوا في تفسير الآية في سورة المجادلة : المراد انّه سبحانه هو بعلمه رابعهم ، وبعلمه سادسهم ، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم ، نعني بعلمه فيهم ، كما أوّلوا قوله سبحانه : ( وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ ) بأنّ المراد هو إله من في السموات ، وإله من في الارض وهو على العرش ، وقد أحاط علمه بما دون العرش ، ولا يخلو من علم اللّه مكان ، ولا يكون علم اللّه في مكان دون مكان (2).

إنّ اتّخاذ الرأي المسبق في إحاطته سبحانه على الأشياء وتحديد وجوده بالاستقرار على السرير الموضوع على العرش ، لا ينتج سوى هذا أي التلاعب بآيات

ص: 140


1- الإبانة للأشعري : ص 18 و 85.
2- السنّة لابن حنبل : ص 34 و 36 طبع القاهره.

المعارف التي هي إحدى المعاجز القرآنية.

ولمّا حسب القائل باستقراره سبحانه على عرشه انّ مراد القائلين باحاطة وجوده لكلّ شيء ، وكونه في كلّّ مكان وزمان ، هو الإحاطة المكانية وانّه موجود في كلّّ شيء كوجود الجسم في مكانه بدأ بالاعتراض ، وقال : عرف المسلمون أماكن كثيرة ليس فيها من عظم الربّ شيء فان قالوا : أي مكان ؟ قلنا أجسامكم وأجوافكم وأجواف الخنازير والحشوش والأماكن القذرة ليس فيها من عظم الرب شيء (1).

والعجب انّ الشيخ الأشعري الذي تربّى في حضن الاعتزال قرابة أربعين سنة ووقف على مقالهم عن كثب بل وعلى مقال كلّّ من يقول باحاطة وجوده على كلّّ شيء ، وقيام كلّّ شيء بوجوده ، ومع ذلك أخذ يكرّر كلام إمام مذهبه الثاني قريباً عن عبارته ويتكلّم مثل من ليس له إلمام بالمعارف العقليّة ويقول : « إنّ من المعتزلة والجهميّة والحروريّة قالوا : إنّ قول اللّه عزّ وجلّ : ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) ( طه / 5 ) انّه استولى وملك وقهر ، وإنّ اللّه عزّ وجلّ في كلّّ مكان ، وجحدوا أن يكون اللّه عزّ وجلّ على عرشه كما قال أهل الحق وذهبوا في الاستواء إلى القدرة.

ولو كان هذا كما ذكره فلا فرق بين العرش والأرض السابعة فاللّه سبحانه قادر عليها وعلى الحشوش وعلى كلّّ ما في العالم ، فلو كان اللّه مستوياً على العرش بمعنى الإستيلاء وهو عزّ وجلّ مستوٍ على الأشياء كلّها لكان مستوياً على العرش ، وعلى الأرض ، وعلى السماء ، وعلى الحشوش ، والأقذار ، لأنّه قادر على الأشياء مستول عليها وإذا كان قادراً على الأشياء كلّها ولمّا لم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول : إنّ اللّه عزّ وجلّ مستو على الحشوش والأخلية لم يجز أن يكون الاستواء على العرش ، الإستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلّها ، ووجب أن يكون معناه استواء يختصّ بالعرش دون الأشياء كلّها.

ص: 141


1- السنّة لابن حنبل : ص 33.

وزعمت المعتزلة والحروريّة والجهميّة أنّ اللّه عزّ وجلّ في كلّّ مكان فلزمهم انّه في بطن مريم وفي الحشوش والاخلية وهذا خلاف الذين تعالى اللّه عن قولهم « علوّا كبيرا » (1).

عزب عن امام الحنابلة ومن تبع مذهبه انّ الاستدلال متفرّع على تفسير العرش بأنّه مخلوق كهيئة السرير له قوائم وهو موضوع على السماء السابعة مستوٍ عليه كاستواء الملوك على عروشهم ، فعند ذلك يتوجّه إليهم السؤال بأنّه لو كان المراد من « استوى » هو الاستيلاء - لا الإستقرار - فلماذا خصّ الاستيلاء به مع أنّه مستو على الأشياء كلّّها ؟ وأمّا إذا قلنا بأنّ العرش كناية عن صفحة الوجود وعالم الكون فاستيلائه عليه كناية عن استيلائه على عالم الخلق ، فيسقط السؤال بأنّه لماذا خصّ الاستيلاء بعرشه دون غيره إذ ليس هنا شيء وراء صفحة الوجود ، واللغة العربيّة مليئة بالمجاز والكناية ، ولا يلزم في صدق الكناية وجود المعنى المكنىّ به : من سرير واستقرار المستوى عليه ، بل يطلق وإن لم تكن هناك تلك المظاهر ، قال الشاعر :

قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق

والذي يعرب عن ذلك أي انّ المراد استيلائه على عرش التدبير ، إنّ الذكر الحكيم لا يذكر استوائه على العرش إلاّ ويذكر فعلاً من أفعاله أو وصفاً من أوصافه ، أمّا قبله أو بعده مثل قوله :

( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ) ( الأعراف / 54 ).

وقوله : ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ ) ( يونس / 3 ).

وقوله : ( اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَ

ص: 142


1- الإبانة للأشعري : ص 86 - 87.

سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ) ( الرعد / 2 ).

وقوله : ( تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) ( طه / 4 و 5 ).

وقوله : ( الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ) ( الفرقان / 59 ).

وقوله : ( اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) ( السجدة / 4 ).

وقوله : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) ( الحديد / 4 ).

إنّ قوله سبحانه ثمّ استوى على العرش يحتمل في بادئ النظر معنيين ولا يتعيّن أحدهما إلاّ بالتدبّر فيما حُفّ به من المطالب وإليك المحتملين :

1 - إنّه سبحانه مستقر على العرش كاستقرار الملوك على عروشهم ، غاية ما في الباب إنّ الكيفية مجهولة وهذا خيرة الحنابلة والأشاعرة.

2 - إنّه سبحانه مستول على عالم الخلقة وصفحة الكون وقاهر عليه وبالتالي يدبّر العالم كلّّه بلا استعانة من أحد ومن دون أن يمسّه في هذا تعب ولا لغوب ، وهذا خيرة العدليّة كالاماميّة والمعتزلة وليس هذا تأويلاً له بل سياق جمل الاية يؤيّد ذلك ، فهو ظاهر في هذا المعنى والعدول عن الظاهر تأويل ، لا الأخذ بالظاهر. والميزان في تشخيص الظاهر ، هو الظهور التصديقي الجملي ، لا الظهور الحرفي والتصوّري.

هلمّ معي نستظهر أحد المعنيين من خلال التدبّر في الايات التي تلوناها عليك.

ص: 143

نقول : إنّه سبحانه كلّّما ذكر استوائه سبحانه على العرش ضمّ إليه إمّا بيان فعل من عظائم أفعاله أو وصفاً من أوصافه العليا وإليك بيان ذلك.

1 - ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) ( الأعراف / 54 - يونس / 3 - الفرقان / 59 - السجدة / 3 - الحديد / 4 ).

2 - ( خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى ) ( طه / 4 ).

3 - ( رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) ( الرعد / 2 ).

4 - ( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ) ( الأعراف / 54 )

5 - ( سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ) ( الرعد / 2 ).

6 - ( يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ) ( الحديد / 4 )

فعند ذلك فأيّ المعنيين يناسب مع ذكر هذه الامور ؟

هل استقراره على السرير وإن كانت الكيفيّة مجهولة ؟

أو استيلاؤه على العالم وصفحة الكون وكونه قاهراً على الخلق وبالتالي مدبّراً للعالم وانّ الخلق لم يضعفه عن القيام بالتدبير.

حَكِّم وجدانَك ثم اختر أحد المعنيين المناسب لما حفّ به من القرائن اللفظيّة.

لا شك انّ البحث عن عظائم الامور والأفعال يناسب الأخبار عن فعل عظيم له صلة بما جاء فيه من سائر الأفعال والأوصاف وهو استيلاؤه على العالم كلّّه ، ولذلك ربّما يرتّب عليه تدبير الامر ( يونس / 3 ) واُخرى غشيان الليل النهار وطلبه لها حثيثاً ( الأعراف / 54 ) وثالثة تسخير الشمس والقمر ( الرعد / 2 ) ورابعة علمه الوسيع بما يلج في الارض وما يخرج منها ( الحديد / 4 ) فالجملة ظاهرة في الاستيلاء لا ظاهرة في الاستقرار حتى يسمّى تفسيرها بالاستيلاء تأويلاً لأنّ التأويل هو العدول عن

ص: 144

ظاهر الكلام ، فإذا أيّدت القرائن كون المراد هو الاستيلاء فالتفسير بالاستقرار تأويل بلا دليل لا العكس كما هو المعروف في كتب أهل الحديث والحنابلة.

أظنّ أن ّهذا البيان يقنع القارئ في أنّ المراد هو الإستيلاء لا الإستقرار ولو فرضنا أنّه في ريب وتردّد في اختيار أحد المعنيين فنأتي بمثال يقرّب إليه المطلوب وهو :

إذا بلغ طبيب في فنّ الجراحة مقاماً عظيماً فأخذ يصف أعماله العجيبة في ذلك المجال ويقول : إنّي قمت بعمل كذا وكذا فيذكر إبداعاته واعجازاته العلميّة أفيصح أن يرتجل في اثناء هذه المذاكرة ويقول : إنّي مستقرّ على عرشي في بيتي ، ولو تكلّّم بذلك يعدّ كلامه غير منسجم ، فيقول المخاطب في نفسه : أيّ صلة بين ما قام به من الأعمال العجبية في مجال الجراحة وبين استقراره على السرير في بناء رفيع.

وهذا بخلاف ما إذا كان جميع الجمل مربوطة إلى عمله وفعله في الموضوع الذي أخذ بتفسيره وبيانه ، وبهذا المثال تقدر على تقييم المعنى الذي لم يزل يسيطر على ذهن القشريين من الحنابلة وأهل الحديث ، إذ أيّ مناسبة بين هذه الأفعال العجيبة واستقراره على العرش وجلوسه على السرير وان كانت الكيفية مجهولة ، وأمّا إذا قلنا : بأنّ المراد استيلاؤه على صحيفه الكون وانّ الخلق ما أوقعه في التعب واللغوب (1) ولم يضعفه عن القيام بأمر التدبير بشهادة استيلائه عليه ، تكون الجمل مترابطة متناسبة.

ص: 145


1- اشارة الى قوله سبحانه : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ) ( ق / 38 ) اقرأ هذه الآية وراجع التوراة. ترى أنّه يقول في سفر التكوين : الإصحاح الثاني : وفرغ في اليوم السابع من عمله الذي عمل ، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل. وبارك اللّه اليوم السابع وقدّسه لأنّه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل اللّه خالقا.

ثمّ إنّ إمام الحنابلة لأجل إتخاذ رأي مسبق في معنى الاية ، التبس الأمر عليه في كلامه السابق من جهات ثلاث :

1 - لمّا رأى ظهور الايات في إحاطة وجوده سبحانه بالعالم ، عمد إلى تأويلها بالإحاطة العلميّة مع أنّ حصرها فيها خلاف ظاهرها ، لأنّها ظاهرة في الإحاطة الوجوديّة المستلزمة للإحاطة العلمية.

2 - زعم أنّ العرش في الاية عند القائلين بالإحاطة الوجوديّة بمعنى السرير ، فردّ عليهم بأنّه « إذا كان مستولياً على العالم كلّّه ، فلماذا خصّ في هذه الايات استيلائه بالعرش » ولم يقف على أنّ القائلين بالإحاطة الوجوديّة يرون الاستيلاء على العرش بأجمعه كناية عن استيلائه على صفحة الوجود كاستيلاء الملوك على بلدانهم ، غير أنّهم يدبّرون البلد بالجلوس على سررهم ، واللّه سبحانه يدبّر العالم من دون أن يكون له سرير.

3 - زعم أنّ القائلين بالاحاطة الوجوديّة يفسّرونه بالاحاطه الحلوليّة المكانيّة فأورد « بأنّ المسلمين يعرفون أمكنة ليس فيها من عِظم الربّ شيء » وغفل أنّ الاحاطة هنا إحاطة قيوميّة لا إحاطة مكانيّة ، ولأجل إيضاح الحال نبحث عن هذا النوع من الإحاطة القيوميّة.

« الإحاطة القيوميّة لا الإحاطة المكانيّة »

إنّ نسبة الوجود الإمكاني إلى الواجب جلّ اسمه كنسبة المعنى الحرفي إلى المعنى الاسمي ، فكما أنّ المعنى الحرفي قائم بالثاني ، ومتقوّم به ، ولا يتصوّر له الانعزال عنه والاّ لصار باطلاً معدوماً فهكذا الوجود الإمكاني الصادر عنه سبحانه ، فالممكن بذاته قائم بالغير ، متدل به ، لا يتصور له البينونة عن الواجب والعزلة عنه وإلاّ بطل وجوده.

ص: 146

هذا هو المدّعى وأمّا الدليل عليه فهو انّ الامكان قد يقع وصفاً للماهيّة ، وقد يقع وصفاً للوجود فعندما يقع وصفاً للماهيّة يكون معناه مساواة نسبة الوجود والعدم إليها ، فلو وجد فمن جانب وجود علّته ، وإن اتّصف بالعدم فمن جانب عدم علّته وعندما يقع وصفاً للوجود ، فليس هو بمعنى مساواة الوجود والعدم إلى الوجود ، ضرورة إنّه إذا كان الموضوع هو الوجود ، لا معنى لمساواة الوجود والعدم إليه ، بل المراد من اتّصاف الوجود بالإمكان هو تعلّقه بعلّته وقيامه وتدلّيه بها تعلّقاً وتدلّيا وقياماً داخلاً في حقيقة وجوده بحيث لا حقيقة له إلاّ هذا.

وبعبارة اُخرى إنّ الوجود الإمكاني أمّا أن يكون مستقلاً في ذاته أو يكون متعلّقاً بالغير كذلك ، لا سبيل إلى الأوّل ، لأنّ الاستقلال مناط الغنى عن العلّة ومثله يمتنع أن يكون معلولاً بل ويمتنع أن يتّصف بالإمكان ، فتعيّن الثاني أي ما يكون متعلّقا بالغير بذاته ، وما هو كذلك يمتنع عليه العزلة عمّا يتعلّق به ، لانّ المفروض إنّه لا حقيقة له إلاّ التعلّق بالغير فيجب أن يكون معه ، معيّة المتدلّي بالمتدلّى به ، ومعيّة المعنى الحرفي مع المعنى الاسمي ، فالعوالم الامكانيّة بعامّة مراتبها من جبروتها إلى ملكوتها إلى ملكها حاضرة عنده سبحانه ، غير غائبة عنه ، لا كحضور المبصرات الخارجية لدى الإنسان ، بل كحضور الصور الذهنية لدى النفس المبدعة الخالقة لها ، بل أشدّ من ذلك.

ولعلّه إلى ما ذكرنا يشير قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيدُ ) ( فاطر / 15 ).

ومثل هذا كيف يتصوّر له العزلة والبينونة فان فرضهما فرض بطلانه.

هذا البرهان الذي أجملنا الكلام في بيانه يكشف الستر عن حقيقة المعيّة أي معيّة الممكن مع الواجب ، ويفسر الاحاطة الوجوديّة له ، وإنّه ليس المراد حلول الواجب في جوف الممكن ونفوذه في ذرّاته ، كنفوذ الماء بين ذرّات الطين ، بل المراد أنّ مقتضي قيوميّته المطلقة قيام العوالم الممكنة به وحضورها لديه ، وبما أنّ

ص: 147

التعلّق والقيام في الممكنات نفس حقيقتها وواقعها ، فلا يمكن لها الغيبة عن اللّه سبحانه ولا العزلة عنه ، وإن أردت تقريب هذا في ضمن مثال فنقول :

إنّ النفس فاعل إلهي وفعله مثال لفعله سبحانه ، فالنفس هي مصدر الصور الذهنيّة ومبدعها وليست الصور منعزلة عن النفس مباينة عنها ، بل لها مع الصور معيّة قيوميّة تحيط بها ، ولا تحلّ فيها ولا يربط النفس بأفعالها إلاّ بإحاطتها عليها مع أنّ لها مقاماً آخر ليس للصور فيها شأن ودخل.

قال الإمام الطاهر موسى بن جعفر : « إنّ اللّه تبارك وتعالى ، لم يزل بلا زمان ولا مكان وهو الآن كما كان ، لا يخلو منه مكان ، ولا يشغل به مكان ، ولا يخل في مكان ، ما يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم ، ولا خمسة إلاّ هو سادسهم ، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلاّ هو معهم أينما كانوا ، ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه ، احتجب بغير حجاب محجوب ، واستتر بغير ستر مستور ، لا إله إلاّ هو الكبير المتعال » (1).

ولعلّه إليه ينظر قول ابن العربي في خصوصه :

فإن قلت بالتنزيه كنت مقيّداً *** وإن قلت بالتشبيه كنت محدّداً

وإن قلت بالأمرين كنت مسدداً *** وكنت إماماً في المعارف سيّداً

فإيّاك والتشبيه إن كنت ثابتاً *** وإيّاك والتنزيه إن كنت مفرداً

والمراد من التنزيه هو تصوّر العزلة والبينونة الكاملة الّتي تستلزم استقلال الممكن ، وغناء عن الواجب كما عرفت.

ص: 148


1- التوحيد للصدوق : ص 179.
ما هو المقصود من الأقربيّة ؟

وعلى ضوء هذا إنّ قوله سبحانه : ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) ( ق / 16 ) تقريب للمقصود بجملة ساذجة تفهمه العامّة « والوريد » هو مطلق العرْق أو عبارة عن العرق الموجود في العنق حيث انّ حياة الإنسان قائمة به فلو قطعنا النظر عن ظاهر الاية فأمر قربه سبحانه إلى الإنسان أعظم من ذلك ولكن الاية اكتفت بما تفهمه العامّة ، وأحال سبحانه المعنى الدقيق منه إلى الايات الاُخر. كيف والاية جعلت للإنسان نفساً وجعلت لها آثاراً ، قال سبحانه : ( وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ) ( ق / 16 ) وجعلت سبحانه هو المتوسط بين الإنسان ونفسه ، وبين نفسه وآثارها ، مع أنّه سبحانه أقرب إلى الإنسان من كلّّ أمر مفروض حتى نفسه ، كلّّ ذلك يعرب عن أنّ الاية بصدد تفهيم قرب يقع في متناول فهم العامّة ونظيره قوله سبحانه : ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ ) ( الأنفال / 24 ).

وفي روايات أئمّة أهل البيت تصريحات بالقرب القيومي والاحاطة الوجوديّة نكتفي منها بما يلي :

1 - روى الكليني عن الامام موسى بن جعفر علیه السلام أنّه ذكر عنده قوم يزعمون أنّه اللّه تعالى ينزل إلى السماء الدنيا فقال : « إنّ اللّه لا ينزل ولا يحتاج إلى أن ينزل ، وإنّما منظره في القرب والبعد سواء ، لم يبعد منه قريب ولم يقرب منه بعيد » (1).

2 - روى الكليني عن محمد بن عيسى قال : كتبت إلى أبي الحسن علي بن محمد الهادي علیه السلام : « جعلني اللّه فداك يا سيّدي قد روي لنا أنّ اللّه في موضع دون موضع على العرش استوى ... » فوقّع علیه السلام : « واعلم أنّه إذا كان في السماء الدنيا فهو كما هو على العرش والأشياء كلّّها له سواء علماً وقدرة وملكاً وإحاطة » (2).

ص: 149


1- الكافي ج 1 ، باب الحركة ، ص 125 الحديث 1.
2- المصدر نفسه : الحديث 4 ، ص 126.

3 - روى الكليني عن أبي عبد اللّه علیه السلام : إنّ أمير المؤمنين استنهض الناس في حرب معاوية في المرّة الثانية ، فلمّا حشر الناس قام خطيباً فقال : « سبحان الذي ليس أوّل مبتدأ ولا غاية منتهى ولا آخر يفنى سبحانه هو كما وصف نفسه ، والواصفون لا يبلغون نعته ، وحدّ الأشياء كلّّها عند خلقه - إلى أن قال - : لم يحلل فيها فيقال هو فيها كائن ، ولم ينأ عنها فيقال هو منها بائن ، ولم يخل منها فيقال له أين ؟ لكنّه سبحانه ... » (1).

4 - روى ابن عساكر « في تاريخ دمشق » :

« إنّ نافع بن الأزرق قائد الأزارقة من الخوارج قال للحسين علیه السلام : صف ربّك الذي تعبده ، قال الحسين علیه السلام : « يابن الأزرق أصف إلهي بما وصف به نفسه : لا يدرك بالحواس ، ولا يقاس بالناس ، قريب غير ملتصق ، وبعيد غير مستقصي ، يوحّد ولا يبعّض ، معروف بالآيات ، موصوف بالعلامات ، لا إله إلا هو الكبير المتعال » (2).

وما أليق بالمقام قول القائل :

لا تقل دارها بشرقيّ نجد *** كلّ نجد لعامرية دار

ولها منزل على كلّ ماء *** وعلى كلّ دمنة آثار

ص: 150


1- المصدر نفسه : باب جوامع التوحيد ، ص 135 الحديث 1.
2- تاريخ دمشق : ج 4 ، ص 323.

حرف الباء

السادس عشر : البارئ

قد ورد لفظ البارئ في القرآن ثلاث مرّات ولم يستعمل في غيره.

قال سبحانه : ( هُوَ اللّهُ الخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) ( الحشر / 24 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ ) ( البقرة / 54 ).

وقال سبحانه : ( فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( البقرة / 54 ).

قال ابن فارس : البرأ له أصلان إليهما ترجع فروع الباب ، أحدهما : الخلق يقال برأ اللّه الخلق يبروهم برأً. والبارئ : اللّه جلّ ثناؤه ، والأصل الاخر : التباعد من الشيء ومزايلته من ذلك البُرء وهو السلامة من السقم. وفي المفردات : البارئ خصّ بوصف اللّه نحو قوله : البارئ المصوّر ، والبريّة : الخلق.

ص: 151

وقال الطبرسي هو الخالق الصانع.

قال اُميّة بن الصلت :

الخالق البارئ المصوّر في ال *** ارحام ماءً حتى يصير دماً

والفرق بين البارئ والخالق ، أنّ البارئ هو المبدئ ، المحدث ، والخالق هو المقدر الناقل من حال إلى حال (1).

وقال ابن منظور : « البارئ هو الذي خلق الخلق لا عن مثال وقال هذه اللفظة في الاختصاص بخلق الحيوان ما ليس لها بغيره من المخلوقات ، وقلّما تستعمل في غير الحيوان فيقال : برء اللّه النسمة وخلق السماوات والأرض » (2).

وعلى ضوء هذين النصّين يتلخّص الفرق بين البارئ والخالق في أمرين :

1 - البارئ هو الخالق لا عن مثال ، والخالق هو الأعم ، ولا يختصّ بالناقل من حال إلى حال كما هو الحال في فعل المسيح ، قال سبحانه ناقلاً عنه : ( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) ( آل عمران / 49 ). بل هو أعمّ من ذلك بقرينة قوله سبحانه : ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) ( يونس / 3 ).

2 - إنّ البارئ يستعمل في الحيوان كثيراً دون الخالق ، ولأجل ذلك صحّ الجمع بين الخالق والبارئ في بعض الايات كما مرّ.

السابع عشر والثامن عشر : الباطن والظاهر

ورد لفظ « الباطن » في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له ، قال سبحانه : ( هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( الحديد / 3 ).

ص: 152


1- مجمع البيان ج 1 ص 112 طبع صيدا.
2- لسان العرب ج 1 ص 30.

وورد لفظ « الظاهر » بصوره المختلفة عشر مرّات ووقع اسماً له في مورد واحد ، كما عرفت في الاية السابقة.

قال « ابن فارس » : الظهر له أصل صحيح واحد يدلّ على قوّة وبروز ، من ذلك ظهرَ الشيء يظهر ظهوراً ، ولذلك سمّي وقت الظهر والظهيرة ، وهو أظهر أوقات النهار وأضوؤها ، ومنه يعلم معنى البطن وهو خلاف الظهور أعني الخفاء ، ولعلّه لذلك سمّي أعلى الحيوان ظهراً وأسفله بطناً لظهور الأوّل وخفاء الثاني.

قال الراغب : والبطن خلاف الظهر في كلّّ شيء ، ويقال للجهة السفلى بطن وللجهة العليا ظهر ، وبه شبّه بطن الامر وبطن البوادي ، يقال لكلّ غامض بطن ، ولكلّ ظاهر ظهر ، ومنه بطنان القِدر وظهرانها.

وقد استعمل في الذكر الحكيم كلا اللفظين على هذا المنوال ، قال تعالى : ( وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ) ( الأنعام / 120 ) ، وقال تعالى : ( وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ) ( لقمان / 20 ) ، ومن هذا الباب قولهم لدخلاء الرجل الذين يبطنون أمره : هم بطانته ، قال اللّه تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ ) ( آل عمران / 118 ).

وعلى هذا فالمراد من توصيفه بالظاهر والباطن هو ظهوره وخفائه وأنّه سبحانه جامع بين الوصفين الضدّين.

ولأرباب الإشارات في تفسير هذين الاسمين وجوه أنهاها الرازي إلى أربعة وعشرين وجها (1) وسنذكر الأقلّ منها :

1 - الظاهر بآياته التي أظهرها من شواهد قدرته وآثار حكمته وبيّنات حجّته الذي عجز الخلق جميعاً عن إبداع أصغرها ، وانشاء أيسرها وأحقرها عندهم ،

ص: 153


1- لاحظ لوامع البينات : ص 323.

والباطن كنهه ، والخفي حقيقته ، فلا تكتنهه الأوهام ولا تدركه الأبصار ، فهو باطن كلّّ باطن ومحتجب كلّّ محتجب.

2 - العالم بما ظهر والعالم بما بطن.

3 - الظاهر : الغالب العالي على كلّّ شيء ، فكلّّ شيء دونه ، والباطن : العالم بكلّّ شيء فلا أحد أعلم منه.

4 - إنّ اتّصافه بهذين الوصفين من شؤون احاطته بكلّّ شيء فإنّه تعالى لمّا كان قديراً على كلّّ شيء مفروض ، كان محيطاً بقدرته على كلّّ شيء من كلّّ جهة فكلّ ما فرض أوّلاً فهو قبله ، وكلّ شيء فرض ظاهراً فهو أظهر منه لإحاطة قدرته به ، فهو الظاهر دون المفروض ظاهراً وكلّ شيء فرض أنّه باطن فهو تعالى أبطن منه لإحاطته به من ورائه فهو الباطن دون المفروض باطناً (1).

التاسع عشر : البديع

قد ورد لفظ « البديع » في القرآن مرّتين ووقع وصفاً له في آيتين قال سبحانه :

( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( البقره / 117 ).

( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( الانعام / 101 ).

قال ابن فارس : « الإبداع إبتداء الشيء وصنعه لا عن مثال كقولهم أبدعت الشيء قولاً أو فعلاً إذا ابتدعته لا عن سابق مثال.

ص: 154


1- الميزان ج 19 ص 165 ولاحظ توحيد الصدوق : ص 200 - 201 ، ومجمع البيان ج 5 ، ص 230 ، ومفاتيح الغيب للرازي ج 8 ، ص 85.

قال الراغب : « الإبداع إنشاءُ صنعة بلا احتذاء واقتداء ، ومنه قيل رَكِيّة بديعة أي جديدة الحضر وإذا استعمل في اللّه تعالى فهو بمعنى إيجاد الشيء من غير آلة ولا مادّة ولا زمان ولا مكان وليس ذلك إلاّ لله ».

ويؤيّد ذلك قوله سبحانه ( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ ) ( الاحقاف / 9 ) : أي مبدعاً لم يتقدّمني رسول ، أو مبدعاً في ما أقوله ومنه اشتق البدعة للمذهب وهو إيراد قول لم يستَنّ قائلها وفاعلها فيه بصاحب الشريعة ومثله قوله سبحانه : ( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ) ( الحديد / 27 ) (1).

ومنه يظهر أنّ قوله سبحانه « بديع السموات » برهان عقلي على أنّه ليس له ولد ولا صاحبة ، فإنّ مبدع السموات والأرض ومنشئهما هو من أوجدهما لا من شيء ولا على مثال سبق ، وهو لا يجتمع مع اتّخاذ الولد لأنّه فرع اتّخاذ الزوجة أوّلا ، وفرع اللقاح ثانياً ، وفرع الولادة ثالثاً ، والكلّّ ينافي كونه سبحانه بديعاً في فعله ، منشئاً في الإيجاد بلا مادّة ولا مثال سبق.

قال الرازي : « البديع عبارة عن من يوجد الشيء بلا آلة ولا مادّة ولا زمان ولا يخلوا اتّخاذ الولد من واحد منها ، وعلى ذلك فالبديع من صفات الفعل لا من صفات الذات. نعم لو فسّر بأنّه الذي لا مثل له ولا شبيه ، كما يقال هذا شيء بديع إذا كان عديم المثل كان من صفات الذات ، وهو تعالى أولى الموجودات بهذا الاسم والوصف لأنّه يمتنع أن يكون له مثل أزلاً وأبداً » (2).

العشرون : البر

قد ورد لفظ « البرّ » 15 مرّة في القرآن وقد وقع وصفاً له في آية واحدة. قال

ص: 155


1- المفردات : ص 45.
2- لوامع البينات : ص 350.

سبحانه : ( إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ) ( الطور / 28 ).

قد ذكر ابن فارس « للبَر » مثلثاً اُصولاً أربعة : الصدق ، وحكاية صوت ، وخلاف البحر ، ونبت.

أمّا الصدق مثل قوله : صدق فلان وبرّ ، وبرّت يمينه أي صدقت ، وأبّرها أمضاها على الصدق.

وأمّا حكاية الصوت فالعرب تقول : لا يعرف هِراً من برّ ، فالهر دعاء الغنم ، والبرّ الصوت بها إذا سقيت.

وأمّا خلاف البحر مثل قوله سبحانه : ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) ( الروم / 41 ).

وأمّا النبت فمنه البُرّ وهِيَ الحِنْطَةُ ، الواحدة : بُرّة.

ثمَّ إنّه رتّب على المعنى الأوّل قولهم : يبرّ ذا قرابته ، وقال : وأصله الصدق يقال : رجل برّ وبارّ وبررت والديّ.

وعلى هذا فالبرّ هو الصادق واُطلق على المحسن لأنّه صادق في حبّه ، وقد وصف به سبحانه في القرآن كما وصف به يحيى والمسيح قال سبحانه واصفاً ليحيى : ( وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا ) ( مريم / 13 و 14 ) وحكى عن المسيح وقال : ( وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ) ( مريم / 31 و 32 ).

هذا ما يستفاد من كلام الخبير ابن فارس غير أنّ الراغب في مفرداته جعل الأصل هو خلاف البحر فاشتقّ منه سائر المعاني فقال : البرّ خلاف البحر وتصوّر منه التوسّع فاشتقّ منه البرّ أي التوسع في فعل الخير (1) وينسب ذلك إلى اللّه تعالى

ص: 156


1- ولعلّه لأجل انّ البَرّ مركز الخير عند العرب ، والبحر محل الشرّ.

نحو ( إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ) ( الطور / 28 ) وإلى العبد تارة فيقال : برّ العبد ربّه ، أي توسّع في طاعته ، فمن اللّه تعالى الثواب ومن العبد الطاعة إلى آخر ما ذكره.

وعلى ذلك فيحتمل أن يكون المراد ، الصادق في ما وعده ، والرحيم بعباده ، واختارها الصدوق ونقله الطبرسي وجهاً ، كما يحتمل أن يكون المراد المحسن ، وإليه يرجع ما يقال أي اللطيف وأصله اللطف مع عظم الشأن (1).

الواحد والعشرون والثاني والعشرون : « البصير والسميع »

اشارة

الواحد والعشرون والثاني والعشرون : « البصير والسميع » (2)

قد ورد لفظ « البصير » في القرآن 51 مرّة ووقع اسماً له سبحانه في 43آية كما أنّ « السميع » ورد في الذكر الحكيم 47 مرّة ، ووقع وصفاً له سبحانه في جميع الموارد إلاّ آية واحدة أعني ما ورد في وصف خلق الإنسان. قال سبحانه : ( فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ) ( الإنسان / 2 ). ولنرجع إلى تحقيق المعنى الأصيل للفظ « البصير » والظاهر من ابن فارس أنّ له أصلا واحداً وهو وضوح الشيء ثم اشتقّ منه سائر المعاني ومنها إطلاق اسم « البصر » على العين (3).

ولكن الظاهر من « الراغب » إنّ المعنى الجذري له هو الجارحة الناظرة ومنه اشتقّ سائر المعاني.

قال : « البصر » يقال للجارحة الناظرة نحو قوله تعالى : ( كَلَمْحِ الْبَصَرِ ) ( النحل / 77 ) و ( القمر / 50 ) و ( إِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ ) ( الأحزاب / 10 ) ويقال للقوّة التي فيها ، ويقال لقوّة القلب المدركة « بصيرة » و « بصر » نحو قوله تعالى : ( فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ( ق / 22 ) وقال : ( مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَ

ص: 157


1- التوحيد للصدوق : ص 215 ، مجمع البيان ج 5 ، ص 116.
2- لوجود الصلة بين هذين الاسمين ، بحثنا عنهما في حرف الباء.
3- مقاييس اللغة ج 1 ، ص 253 - 254.

مَا طَغَى ) ( النجم / 17 ) ، وجمع « البصر » : « أبصار » وجمع « البصيرة » : « بصائر » (1).

وعلى كلّّ تقدير إنّ البصر والسمع من أعظم أدوات المعرفة وأنفعها وأكثر ما يرتبط به الإنسان مع الخارج بهذين الحسّين ، فهما من أشرف الحواسّ الظاهرة ولعلّه - لأجل ذلك - اُطلق عليه سبحانه « السميع البصير » دون غيرهما من أسماء الحواسّ ، فلا يطلق عليه « الشامّ » و « الذائق » و « اللامس » وإن فسّرت بما يفسّر به « السميع » و « البصير » بمعنى حضور المبصرات والمسموعات ، وهذا يعرب عن كرامة هذين الحسّين وأعظمها نفعاً وأوسعها في ايجاد الصلة للإنسان بالخارج. ونقدّم الكلام في « البصير » على « السميع » حفظاً للترتيب الأبجدي.

والتتبّع في الايات يعطي أنّ البصير قد يطلق ويراد منه حضور المبصرات عنده كما سيأتي بيانه وذلك عند ما استعمل مع « السميع » ، قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ) ( النساء / 58 ) وقس عليه ما جاء بهذا المنوال وقد يراد منه العلم بالجزئيات والاشراف عليها عن كثب وأنه لا يعزب عنه شيء من الأشياء وذلك عند ما يستعمل متعدّياً بالباء.

قال سبحانه : ( إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) ( الاسراء / 30 ) وقال سبحانه : ( وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) ( الاسراء / 17 ) وقال سبحانه : ( وَكَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ) ( الفتح / 24 ) وقال سبحانه : ( مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ ) ( الملك / 19 ).

والمتعلّق في هذه الايات يختلف سعة وضيقاً فقد تعلّق ب « كلّ شيء » مّرة ، وب « العباد » ثانيا ، وب « أعمالهم » ثالثة ، وب « ذنوبهم » رابعة ، فعندئذٍ لا يصحّ تفسير البصير فيها بحضور المبصرات فإنّ كثيراً من الذنوب وكثيراً من الأشياء ليس أمراً مبصراً مرئيّا بالعيون ، ومع ذلك هو بصير بكلّ شيء ، فالبصير هناك يرادف العلم

ص: 158


1- المفردات للراغب : ص 49.

بالجزئيّات بدقّة وامعان ولعلّ « الخبير » تأكيد لمعناه أو هو تأكيد له ، والايات بصدد بيان أنّ علمه سبحانه بما يجري في الكون ليس علماً اجماليّاً بل هو علم تفصيلي يشمل كلّّ ما جلّ ودق ، وكلّّ شيء خَفِي أو ظهر ، وبذلك يبطل قول من ينكر علمه سبحانه بالجزئيات بحجّة أنّها في مظان التغيّر والتبدّل ، فيوجب الحدوث والتبدّل في ذات البارئ ذاهلاً عن أنّ التغيّر في المعلوم لا في جانب العلم ، ولعلّنا نرجع إلى نقد هذه الشبهة عند البحث عن اسم « العالم ».

ولأجل اشتمال هذه الكلمة على الدقّة والامعان يقول سبحانه : ( بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ) ( القيامة / 14 و 15 ). ويقول سبحانه حاكياً عن السامري : ( بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ ... ) ( طه / 96 ).

هذا كلّّه حول البصير وأمّا « السميع » فقد استعمل في معنيين : أحدهما سماع المسموعات الذي يرجع معناه فيه سبحانه إلى حضورها لديه ، وعدم غيبتها عن ذاته ، وهذا المعنى هو الأكثر ، وآخر بمعنى « المجيب » مثل قوله : ( سَمِيعُ الدُّعَاءِ ) ( آل عمران / 38 ) و ( إبراهيم / 39 ) والحقّ أن يقال : إنّ السميع في هاتين الايتين كالسميع في غيرهما ، وإنّه استعمل في معنى واحد وهو سماع الدعاء غير أنّ السماع إذا لم يكن مقترناً بالاجابة لا يكون نافعاً للعبد ، فلأجل ذلك فسّر بمجيب الدعاء لا أنّه استعمل اللفظ في المجيب بل الاجابة من لوازم المقصود ، ومثله مايقال : اسمع ما أقول ، أو يقال : لِمَ لا تسمع ما قلت.

وقال سبحانه : ( سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) ( البقرة / 285 ). و « الراغب » فسّر بعض الايات وقول القائل : « اسمع ما أقول » بالطاعة ، والحقّ أنّ السماع استعمل في نفس المعنى اللغوي ولكن لمّا كانت الغاية من السماع هو الفهم ثم العمل دلّ الكلام عليه بما أنّه من لوازم المعنى اللغوي في المقام.

ص: 159

تفسير كونه « سميعاً بصيراً »

إنّ السماع في الإنسان يتحقّق بأجهزة وأدوات طبيعيّة ، ويتحقّق السماع في الإنسان بوصول الأمواج الصوتية إلى الصماخ ومنها إلى المخ ثمّ إلى النفس.

كما أنّ حقيقة الإبصار في الإنسان تتحقّق بأجهزة وآلات طبيعية حيث تنقل الأضواء الحاملة لصورة الشيء المرئي إلى عدسة العين ومنها - بعد أعمال فيزياويّة - إلى النقطة الصفراء إلى أن يتحقّق الإبصار ، ولكن إطلاقهما على اللّه سبحانه ليس بتحقّق هذه المقدّمات فيه أيضاً وذلك لأنّ هذه الأدوات والتفاعلات من لوازم تحقّق الإبصار والسماع في الحيوان والإنسان وليست داخلة في حقيقتهما بصورة عامّة ، وبعبارة اُخرى : انّ هذه الآلات والأدوات والأعمال الفيزياوية التي اثبتها العلم إنّما هي من لوازم الابصار والسماع في الإنسان والحيوان اللذين لا يمكنهما القيام بعملية السماع والابصار إلاّ في ظلّ هذه الاُمور ، فلو تمكن موجود من الوصول إلى ما يصل إليه الإنسان من دون أداة وفعل وانفعال فهو أولى بأن يكون سميعاً وبصيراً ، لأنّ الغاية الحاصلة بعد عمل الحسّ هو حضور الأمواج والصور عند النفس فلو أمكن حضورهما لديه بلا أداة أو بلا عمل فيزياوي أو كيمياوي فهو سميع وبصير قطعاً لتحقق الغاية المتوخّاة.

وبما أنّ جميع العوالم الامكانيّة حاضرة لديه ، واللّه سبحانه محيط بالموجودات إحاطة قيوميّة والعالم الإمكاني قائم به من الذرّة إلى المجرّة ، فتكون المسموعات والمبصرات حاضرة لديه حضور سائر الأشياء ولأجل ذلك إنّ كثيراً من المحقّقين جعلوا كونه « سميعاً » و « بصيراً » من شعب علمه ولكن علمه بالجزئيات (1).

والمراد من كونه من شُعب علمه بالجزئيات حضور المسموعات والمبصرات

ص: 160


1- الأسفار الأربعة ج 6 ص 421.

لديه حضوراً واقعيّاً ، وليس للعلم حقيقة وراء حضور المعلوم لدى العالم ولعلّ هذا هو مراد من قال من المتكلّمين : سمعه تعالى يؤول إلى علمه بالمسموعات إذ لا جارحة له ، وإلاّ فالتعليل المذكور لا يكون دليلاً على عدم كونه سميعاً حقيقة.

قال الحكيم السبزواري : اللّه سبحانه يسمع جميع الأصوات التي كانت وستكون بسمع واحد حضوري اشراقي ، ومن أسماءه الحسنى : « من لا يشغله سمع عن سمع » فمناط السمع حضور الأصوات ، حتى لو فرضت حضور الأصوات لك ، بلا قرع صماخ لكنت سميعاً فما ظنّك بمن حضور إله ، أشد من حضورها لانفسها ، فلا قيمة دفت من يقول من المتكلّمين : سمعه تعالى يؤول إلى علمه بالمسموعات إذ لا جارحة له بل الأمر كما قال شيخ الاشراق : إنّ علمه تعالى يرجع إلى بصره وسمعه لا أنّ بصره وسمعه يرجعان إلى علمه (1).

أقول كما أنّ ارجاع سمعه إلى علمه بحجّة أنّه لا جارحة له غير صحيح ، كذلك ارجاع علمه في جميع الموارد إليهما غير تامّ إلاّ إذا كان المراد ارجاع خصوص علمه بهما لا مطلق علمه كما هو واضح.

وربّما يقال : « من أنّه إذا كان ملاك توصيفه سبحانه بالسميع والبصير هو حضور المسموعات والمبصرات فليكن هذا مبرّراً لتوصيفه بأنّه ذائق شامّ لامس لحضور المذوقات والمشمومات والملموسات عنده » وهذا غير تام لما عرفت أنّ شرافة الحسّين وكرامتهما وعظم نفعهما صار سبباً لتسميته سبحانه بهما دون غيرهما من أسماء الحواس الظاهرة ، مضافاً لما عرفت في باب توقيفيّة الأسماء وإنّ كلّّ اسم يكون موهماً لكونه جسماً أو جسمانياً فتكون التسمية به ممنوعة. نعم أهل الحديث والحنابلة والسلفية يصفونه سبحانه بهما على وجه يوهم كونه سبحانه سميعاً وبصيراً بنفس المعنى الموجود في الإنسان والحيوان ، وآخر ما يوجد عند المتظاهرين بالتنزيه منهم أنّهم يقولون : إنّه سميع وبصير بلا كيف.

ص: 161


1- شرح الأسماء الحسنى : ص 36 ، للحكيم السبزواري.

قال الأشعري : « ونثبت لله السمع والبصر ولا ننفي ذلك كما نفته المعتزلة والجهميّة والخوارج » (1).

وقال في موضع آخر : « وزعمت المعتزلة أنّ قول اللّه عزّ وجلّ ( وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) ( الحج / 61 ). معناه عليم. ثم أجاب بأنّه إذا قال عزّ وجلّ : ( إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ) ( طه / 46 ) وقال : ( قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ) ( المجادلة / 1 ) فهل معنى ذلك عندكم « علم » فإن قالوا نعم ، قيل لهم : فقد وجب عليكم أن تقولوا معنى قوله أسمع وأرى : أعلم وأعلم إذ كان معنى ذلك العلم. ثم قال : إذا كان معنى سميع وبصير هو أنّه عالم فيلزم أن يكون معنى قادر هو عالم - إلى آخر ما ذكره - (2).

يلاحظ عليه :

أوّلا : انّه لو قيل بأنّ كونه « سميعاً » و « بصيراً » من شعب علمه بالكلّيّات فلا شك أنّه خاطئ في رأيه لأنّ السمع والبصر من أدوات المعرفة الجزئيّة والسميع والبصير من يعرف المسموعات والمبصرات عرفاناً شخصياً جزئياً ، وأمّا لو قيل بأنّه من شعب علمه بالجزئيات الذي يعبّر عنه بالعرفان والمعرفة فلا يرد عليه ما ذكره الشيخ أبو الحسن من إنكار كونه سميعاً وبصيراً وما نسب إلى المعتزلة من أنّهم ينفون أن يكون لله السمع والبصر غير صحيح فانّهم يثبتان لله سبحانه هذين الأمرين لكن بالتطور الذي قد عرفته ، وسيجيء نظيره في الحياة ، فاللّه سبحانه « سميع » بالحقيقة « بصير » واقعا والمسموعات والمبصرات مشهودة له لكن بلا حاجة إلى الحسّ وإعماله.

قال الصدوق : « وليس وصفنا له تبارك وتعالى بأنّه سميع بصير ، وصفاً بأنّه

ص: 162


1- الابانة : ص 19.
2- الابانة : ص 117 و 118.

عالم بل معناه ما قدّمناه من كونه مدركاً وهذه الصفة صفة كلّّ حيّ لا آفة به » (1).

وبذلك يعلم أنّ قوله « أسمع وأرى » يفيد معنيين متغايرين فقوله « أسمع » إشارة إلى حضور المسموعات وقوله « أرى » إشارة إلى حضور المبصرات عنده.

وثانيا : إنّ تفسير « السميع » و « العليم » بالعالم لا يستلزم تفسير القادر به لما عرفت من أنّ حضور المبصرات والمسموعات لدى العالم نوع معرفة له لكن معرفة جزئيّة مشخّصة لا معرفة كلّّية ، وأمّا القدرة فلا صلة له بالعلم ، فالسمع والبصر من أدوات المعرفة والعلم دون القدرة.

وثالثا : إنّ الوحدة المصداقية ، لا تلازم الوحدة المفهوميّة فكم فرق بين القول بأنّ واقع كونه بصيراً وسميعاً ، هو علمه بالمبصرات والمسموعات ، لا بشيء آخر ، والقول بأنّ مفهومهما هو نفس مفهوم العلم وانّ الموضوع في الكلّ واحد والمدّعى هو الأوّل ، وما ذكر من الاشكال إنّما يترتّب على الثاني ، وعلى ذلك فلا يلزم من القول بأنّهما من شعب علمه تفسير قوله سبحانه : ( إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ) : « اعلم واعلم ».

وكم للشيخ الاشعري من هذه التخليطات.

نعم الأشعري وإمام الحنابلة ومن لفّ لفّهما غير الراسخين في تنزيهه سبحانه عن الجسم والجسمانيات ربّما يروق لهم اثبات أجهزة كالعين والسمع له سبحانه ولكن لا يتظاهرون بذلك بل يتظاهرون بالتنزيه باضافة « بلا كيف » ، وقد عرفت أنّ هذه اللفظة لا تفيد شيئاً في مقام التنزيه.

ص: 163


1- التوحيد للصدوق : ص 197.
روايات أئمّة أهل البيت علیهم السلام في هذا المجال

قال الامام أمير المؤمنين علیه السلام : « والبصير لا بتفريق آلة والشاهد لا بمماسّة » (1).

وقال علیه السلام : « ويسمع لا بخروق وأدوات » (2).

وقال علیه السلام : « بصير لا يوصف بالحاسّة » (3).

وقال الامام الصادق علیه السلام : « سميع بصير ، أي سميع بغير جارحة ، وبصير بغير آلة ، بل يسمع بنفسه ويبصر بنفسه » (4).

وقال الامام الباقر علیه السلام : « إنّه سميع بصير : يسمع بما يبصر ، ويبصر بما يسمع » (5).

وفي هذا الحديث إشارة إلى اتّحاد صفاته بعضها مع بعض والمجموع مع الذات لكن اتّحاداً في الخارج والمصداق لا في المفهوم.

ص: 164


1- نهج البلاغة : الخطبة 155.
2- نهج البلاغة : الحكمة 186.
3- نهج البلاغة : الخطبة 182.
4- التوحيد للصدوق : ص 144.
5- التوحيد للصدوق : ص 144.

حرف التّاء

الثالث والعشرون : « التوّاب »

قد ورد لفظ التوّاب في الذكر الحكيم 11 مرّة ووقع في الجميع اسماً له سبحانه قال : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( البقرة / 37 ).

قال ابن فارس : التوب كلمة واحدة يدلّ على الرجوع. يقال : تاب من ذنبه أي رجع عنه ، يتوب إلى اللّه توبة ومتاباً فهو تائب ، والتوب : التوبة ، قال اللّه : ( وَقَابِلِ التَّوْبِ ) (1).

أصل التوبة الرجوع عمّا سلف ، والندم على ما فرّط ، فالعبد إذا تاب يقال له تائب إلى اللّه بندمه على معصيته ، وإذا قبل توبته يقال اللّه تعالى تائب على العبد بقبول توبته.

والحاصل أنّه إذا تعدّى بكلمة « إلى » يكون بمعنى التوبة وإذا تعدّى به « على » يكون بمعنى قبول التوبة ، أمّا الأوّل فقال سبحانه : ( فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ) ( البقرة / 54 ) وقال سبحانه : ( وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا ) ( هود / 3 ) وقال سبحانه : ( وَتُوبُوا إِلَى اللّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( النور / 31 ) إلى غير ذلك من الايات.

ص: 165


1- مقاييس اللغة ج 1 ص 357.

وأمّا الثاني فكما قال سبحانه : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( البقرة / 37 ) وقال : ( ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( البقرة / 54 ) وقال : ( لَقَد تَّابَ اللّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ) ( التوبة / 117 ) (3).

وبذلك يعلم أنّ معنى التوّاب هو قابل التوبة عن العباد وذلك لأجل وروده بعد قوله « فتاب عليه » أو « فتاب عليكم » وهو بمنزلة العلّة للجملة المتقدّمة.

ص: 166

حرف الجيم

الرابع والعشرون : « الجبّار »

اشارة

قد ورد هذا اللفظ في موارد عشرة في القرآن الكريم ووقع وصفاً له في مورد واحد قال سبحانه : ( المَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( الحشر / 23 ) وهو من الصفات التي إذا وقع وصفاً له سبحانه يتبادر منه المدح وإذا وصف به غيره يتبادر منه الذم. قال سبحانه : ( كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ) ( غافر / 35 ) وقال سبحانه : ( وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) ( هود / 59 ) ويمكن توضيح ذلك بوجوه :

1 - قال ابن فارس : الجبر هو جنس من العظمة والعلوّ والاستقامة. فالجبّارُ الذي طال وفات اليد. يقال فرس جبّار ونخلة جبارة (1).

وقال الرازي : الجبّار : العالي الذي لا ينال ، ومنه نخلة جبّارة : إذا طالت وعلت وقصرت الأيدي عن أن تنال أعلاها ، ومنه قوله تعالى : ( إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ ) ( المائدة / 22 ) أي عظماء ، فيقال : رجل جبّار إذا كان متعظّماً متجبّراً لا يتواضع ولا ينقاد لأحد وهذا الاسم في حقّ اللّه سبحانه يفيد أنّه سبحانه وتعالى بحيث لا تناله الأفكار ولا تحيط به الأبصار ، ولا يصل إلى كنه عزّه عقول العقلاء ، ولا ترقي إلى مبادي اشراق جلاله علوم العلماء ، وهو بهذا المعنى من صفات التنزيه (2).

ص: 167


1- مقاييس اللغة ج 1 ص 501.
2- لوامع البينات : ص 197.
يلاحظ عليه :
اشارة

الظاهر أنّ الجبّار بمعنى واحد صفة مدح في حقّه سبحانه ووصف ذمّ في غيره ، وعلى ضوء ذلك فيجب أن يفسّر على وجه يكون نفس المعنى في مورد مدحاً وفي مورد آخر ذمّاً من دون أن يكون هناك معنيان ، وما ذكر من المعاني للجبّار لا يحقّق ذلك المطلوب وإليك البيان :

1 - الجبّار : العالي الذي لا ينال

هذا المعنى هو المتبادر ممّا ذكره « ابن فارس » و « الرازي » ولو صحّ لا يحقّق ما هو المطلوب بأن يكون معنى واحد مدحاً في حقّ الواجب وذمّاً في حقّ الممكن ، فإنّ كون الشيء عالياً لا ينال مدح على كلّ حال ، وتعليل كونه ذمّاً في حقّ الممكن بعدم كونه كذلك ، لا يستلزم كونه وصف ذمّ في ذلك المورد وإلاّ يلزم أن يكون وصف العالم في حقّ الجاهل وصف ذمّ إذا ادّعى لنفسه.

2 - الجبّار : العظيم الشأن في الملك

وهذا هو المستفاد من كلام الطبرسي حيث قال : الجبّار ب « العظيم الشأن في الملك » ولا يستحق أن يوصف به على الاطلاق إلاّ اللّه تعالى ، فإن وصف به غيره فإنّما يوضع اللفظ في غير موضعه فيكون ذمّاً » (1).

يلاحظ عليه : بنفس ما لوحظ به على كلام الرازي ، فإنّ ما ذكره من المعنى صحيح في حقّ البارئ سبحانه ، إنّما الكلام في وجه كونه وصف ذم في حقّ غيره فالظاهر من الآيات أنّه كذلك بنفس معناه وصف ذم لا لكون المبدء غير موجود فيهم. فكم فرق بين كون الشيء وصف ذمّ ، وبين كونه في حدّ ذاته مدحاً ، ولكنه لأجل كونه مدعياً لما ليس فيه وصف ذمّ.

ص: 168


1- مجمع البيان ج 2 ص 179 ، وج 5 ص 267.
3 - « الجبّار » : من يصلح الشيء بضرب من القهر

هذا المعنى يظهر من « الراغب » في مفرداته. قال الجبر : إصلاح الشيء بضرب من القهر ، وقد يقال في الاصطلاح المجرد مثل قوله علي علیه السلام : « يا جابر كل كسير » (1) ويطلق على الإنسان بمعنى من يجبر نقيصته بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقّها. وهذا لا يقال إلاّ على طريق الذم (2).

أقول : ما ذكره محتمل في حقّه سبحانه ويمكن تقريره بوجه واضح وهو أنّه سبحانه وتعالى باعتبار جمع شتيت اُمور خلقه ، ولمّ شعثهم وشعب ما تفرّق عنهم ، واستصلاح ما فسد منهم ، ورتق ما فتق منهم ، فهو جبّار من في السموات ومن في الارض دائماً (3).

ولكن عدّه وصف ذم بهذا المعنى أيضا في حقّ الغير أمر مشكل ، فإنّ من يجبر النقيصة بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقها ليس مذموماً إلاّ من جهة عدم وجود المبدأ فيه ، وهو غير كونه بذاته ذمّاً وقدحاً والظاهر أنّ قوله « بادّعاء منزلة من التعالي لا يستحقّها » ليس داخلا في معنى الجبّار وذلك لأنّه على هذا الاحتمال يصدق على اللّه سبحانه وعلى الناس بمعنى واحد وإلاّ يلزم أن يكون مشتركا لفظياً فاذا اطلق على اللّه سبحانه يكون القيد هو الايجاب أعني يستحقّها مكان لا يستحقّها.

والذي يمكن أن يقال : إنّ المراد منه قهر الناس على ما يريده من دون أن يكون له ذلك الحق ويؤيّده توصيفه بالشقيّ في آية ، والعنود في آية اُخرى ، وهما يناسبان مع كونه بمعنى القهر والجبر ضد الاختيار. قال سبحانه واصفاً ليحيى : ( وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا ) ( مريم / 14 ) وقال عن لسان المسيح ( وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ) ( مريم / 32 ) وقال سبحانه : ( وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَ

ص: 169


1- وفي المصباح المنير : جبرت العظم الكسير : اصلحته.
2- المفردات : ص 86.
3- شرح الأسماء الحسنى للسيد حسين الهمداني : ص 39.

اتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) ( هود / 59 ) فبحكم المقابلة أي مقابلة جبّار مع البرّ ، وتوصيفه بالشقاء والعناد ، يعلم معنى الجبّار الموصوف به الانسان ، كما أنّ المراد من قوله سبحانه : ( قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ) ( المائدة / 22 ) هو كونهم شديدي البطش والبأس وهو يلازم قهر الناس على الحرب والمقابلة.

الخامس والعشرون : « الجامع »

وقد ورد اللفظ في القرآن الكريم ثلاث مرّات ووقع وصفاً له سبحانه في آيتين قال : ( رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لا يُخْلِفُ المِيعَادَ ) ( آل عمران / 9 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ) ( النساء / 140 ) ونظير الاية الاُولى قوله سبحانه : ( يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ) ( التغابن / 9 ) وقوله سبحانه : ( ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ) ( هود / 103 ).

والظاهر أنّ المراد من كونه جامعاً هو جمع الخلق في موقف القيامة بشهادة قوله سبحانه : ( هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ ) ( المرسلات / 38 ) وقوله سبحانه : ( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ اللّهُ ) ( الدخان / 40 - 42 ) ، والذي يوضح ذلك أنّ قوله ( رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ ) بمنزلة التعليل لسؤال الرحمة الوارد في الاية المتقدمة : أعني ( رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ) ( آل عمران / 8 ). فعلّل سؤاله الرحمة بأنّه سبحانه يجمع الناس في يوم القيامة الذي لا يغني فيه أحد عن أحد ، وعلى ضوء ذلك فما ذكره الرازي من الوجوه كلّها ساقطة فلاحظ (1).

ص: 170


1- الايات البينات : ص 243.

حرف الحاء

اشارة

السادس والعشرون : « الحسيب »

وقد ورد اللفظ في الذكر الحكيم أربع مرّات ووقع وصفاً له في موارد ثلاث قال سبحانه : ( وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا ) ( النساء / 6 ).

( إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ) ( النساء / 86 ).

( وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللّهَ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا ) ( الاحزاب / 39 ).

وقال ابن فارس : إنّ ل « حسب » اُصولا أربعة :

1 - العدّ. تقول : حسبت الشيء أحسبه حسباً وحسباناً ...

2 - الكفاية. تقول : شيء حساب أي كاف ...

3 - الحسبان. وهي جمع حسبانة وهي الوسادة الصغيرة ...

4 - الأحسب الذي ابيضّت جلدته ...

والمتناسب في المقام هو المعنيان الأوّلان. أمّا الاية الاُولى فالمناسب فيها هو المعنى الأوّل بقرينة ما قبله. فالاية واردة في الارتزاق من أموال اليتامى.

قال سبحانه : ( وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا ) ( النساء / 6 ).

وعلى هذا « الحسيب » بمعنى المحاسب كالنديم بمعنى المنادم ، والجليس بمعنى المجالس قال تعالى : ( كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ) ( الاسراء / 14 ) و

ص: 171

معنى الاية كفى باللّه محاسباً فاحذروا محاسبته في الآخرة كما تحذرون محاسبة اليتيم بعد البلوغ ، وإلى ذلك يرجع تفسيره بأنّه بمعنى « رقيبا » يحاسبهم عليه. فإنّ الحساب لغاية الرقابة والحفظ ، ومثله من فسّره بالحفيظ فانّ الكلّ من الغايات المترتبة على العدّ والحساب. وربّما يحتمل أن يكون من الأصل الأوّل بمعنى « وكفى باللّه حسيبا » أي شاهداً على دفع المال إليهم وكفى بعلمه وثيقة.

وأمّا الاية الثانية أعني قوله تعالى : ( وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ) ( النساء / 86 ) فالظاهر أنّه أيضاً من الأصل الأول وإليه يرجع تفسيره ب « حفيظا » فانّ الحفظ نتيجة العدّو الحساب.

وأمّا الاية الثالثة : ( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللّهَ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا ) ( الاحزاب / 39 ) فالظاهر أنّه من الأصل الثاني أي كفى كفاية بقرينة قوله : ( وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللّهَ ) ويحتمل أن يكون من الأصل الأوّل أي حافظاً على أعمال خلقه ، ومحاسباً ومجازياً عليها.

السابع والعشرون : « الحفيظ »

وقد ورد « الحفيظ » في القرآن الكريم احدى عشرة مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في آيتين :

قال سبحانه : ( فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) ( هود / 57 ).

وقال سبحانه : ( وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) ( سبأ / 21 ).

وفي آية ثالثة جاء وصفاً للكتاب قال سبحانه : ( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ) ( ق / 4 ).

وأمّا معناه فقد قال ابن فارس : له أصل واحد يدلّ على مراعاة الشيء ... و

ص: 172

التحفّظ وقلّة الغفلة والحفاظ : المحافظة على الامور.

وقال الراغب : الحفيظ : الحافظ.

ولكن المناسب للآيتين الأوّليتين تفسيره « بعليم » ، نعم هو في الاية الثالثة بمعنى الحافظ ، يظهر ذلك بالامعان في معنى الايات.

الثامن والعشرون : « الحفيّ »

قد ورد « الحفي » في الذكر الحكيم مرّتين ووقع وصفاً له في آية واحدة. قال حاكياً عن ابراهيم عند ما هجر آزر : ( قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ) ( مريم / 47 ).

وقال في غيره سبحانه : ( يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ ) ( الأعراف / 187 ).

قال ابن فارس : « إنّ للحفي اُصولاً ثلاثة : المنع ، واستقصاء السؤال ، والحفاء خلاف الانتعال ... » (1).

ومن الأصل الثاني قوله سبحانه : ( إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا ... ) ( محمد / 37 ) أي أن يجهدكم بمسألة جميع أموالكم ويبالغ في المسألة تبخلوا.

وأمّا الحفيّ عند ما وقع وصفاً له فهو بمعنى البرّ اللطيف ولا يرجع معناه إلى الاصول التي طرحها ابن فارس ولأجل ذلك فسّره الراغب بما ذكرناه وقال : الحفيّ : البرّ اللطيف وأضاف : يقال أحفيت بفلان وتحفّيت به : إذا عنيت بإكرامه ، والمناسب لسياق الاية هو هذا لأنّ الاية تذكر وعد ابراهيم لأبيه آزر انّه سيستغفر له وكأنّه يريد : ويقبل سبحانه دعائي لأنّه حفيّ بي.

ص: 173


1- مقاييس اللغة ج 2 ص 83.

التاسع والعشرون : « الحكيم »

اشارة

قد ورد لفظ « الحكيم » في القرآن الحكيم 97 مرّة ووقع اسماً له سبحانه في 92 مورداً.

وأمّا الموارد الاُخر ، فقد وقع وصفاً للاُمور التالية : 1 - الذكر ، 2 - الكتاب ، 3 - القرآن ، 4 - الأمر ، قال سبحانه : ( ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ ) ( آل عمران / 58 ) ، وقال تعالى : ( آيَاتُ الْكِتَابِ الحَكِيمِ ) ( يونس / 1 ولقمان / 2 ) وقال : ( يس * وَالْقُرْآنِ الحَكِيمِ ) ( يس / 1 - 2 ) وقال : ( كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) ( الدخان / 1 ).

وأمّا معناه في اللغة فقد مضى البحث عنه في تفسير أحد أسمائه : « أحكم الحاكمين » فقلنا : إنّ له أصلاً واحداً وهو المنع ، وسمّيت حكمة الدابّة بها ، لأنّها تمنعها ، يقال : حكّمت الدابّة وأحكمتها ، والحكمة هذا قياسها ، لأنّها تمنع من الجهل.

وممّا يجدر بالذكر أنّه لم يقع الحكيم اسماً له سبحانه إلاّ معه اسم آخر من علمه وعزّته وغيرهما ، وإليك الايات التي ورد فيها اسم الحكيم مع سائر الأسماء ونذكر من كل قسم آية واحدة.

1 - العليم : قال سبحانه : ( قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الحَكِيمُ ) ( البقره / 32 ).

2 - العزيز : قال سبحانه : ( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( البقرة / 129 ).

3 - الخبير : قال سبحانه : ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ) ( الأنعام / 18 ).

4 - التوّاب : قال سبحانه : ( وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ) ( النور / 10 ).

ص: 174

5 - عليّ : قال سبحانه : ( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) ( الشورى / 51 ).

6 - واسع : قال سبحانه : ( وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ) ( النساء / 130 ).

7 - حميد : قال سبحانه : ( تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) ( فصلت / 42 ).

وأمّا معناه فقد اختلفوا فيه على أقوال :

1 - ذهب « الأزهري » إلى أنّه من صفات اللّه كالحكم والحاكم ومعاني هذه الأسماء متقاربة واللّه أعلم بما أراد بها وعلينا الايمان بأنّها من أسمائه.

يلاحظ عليه : أنّ القرآن نزل للتدبّر والتعقّل لا للتلاوة فقط وارجاع معاني ألفاظها إلى اللّه سبحانه ، وإنّما يرجع إليه كنه حقائقها.

2 - قال ابن الاثير : الحكم والحكيم بمعنى الحاكم وهو القاضي فهو فعيل لمعنى فاعل.

يلاحظ عليه : أنّه لا ينطبق على جميع الايات. مثلا يصحّ في قوله سبحانه : ( فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( المائدة / 38 ) ولا يصحّ في قوله : ( وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( الانفال / 10 ) أو قوله : ( وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( الأنفال / 71 ) أضف إلى ذلك أنّ القاضي ليس من معاني الحاكم وإنّما يستعمل فيه بمناسبة خاصّة.

3 - هو الذي يحكم الأشياء ويتقنها فهو فعيل بمعنى مفعل.

4 - الحكيم : ذوالحكمة والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم وبه فسّر العلاّمة الطباطبائي قوله : ( وَالْقُرْآنِ الحَكِيمِ ) ( يس / 2 ) قال : وقد وصف القرآن بالحكيم لكون الحكمة مستقرّة فيه وكذلك حقايق المعارف وما يتفرّع

ص: 175

عليها من الشرائع والعبر والمواعظ (1).

5 - الحكيم بمعنى العالم. ذهب إليه الجوهري ، قال الحكم والحكمة من العلم ، والحكيم : العالم ، والحكم : العلم والفقه. قال اللّه تعالى : ( وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيًّا ) أي علما وفقهاً ، وفي الحديث : إنّ من الشعر لحكمة أي أنّ في الشعر كلاماً نافعاً يمنع من الجهل والسفه وينهى عنه (2).

يلاحظ عليه : أنّه لو صحّ تفسير الحكيم بالعليم فإنّما هو في ما إذا كان مجرّداً عن العليم مع أنّه استعمل في الذكر الحكيم منضمّاً إليه. قال سبحانه : ( قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الحَكِيمُ ) .

وقال الصدوق : معناه انّه عالم والحكمة في اللغة العلم ، ومنه قوله عزّ وجلّ ( يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ) ومعنى ثان أنّه محكم وأفعاله محكمة متقنة من الفساد ، وقد حكمته وأحكمته لغتان ، وحكمة اللجام سمّيت بذلك لأنّها تمنعه من الجهل الشديد وهي ما أحاطت بحنكِه (3).

والظاهر أنّ الحكيم أخذ من الحكم بمعنى المنع فلو اُطلق على العلم فلأنّه يمنع الجهل ، ولكنّه إذا وصفت به الأفعال يكون المراد منه كونها محكمة متقنة مصونة محفوظة عن الفساد وبما أنّه وقع في كثير من الايات تعليلاً للحكم يستظهر أنّ المراد هو المتقن فعله ، مثلاً إنّ الملائكة تعتذر عن عدم علمهم بالأسماء بقولهم : ( لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ) . ثمّ تعلّل قصورها عن علمها بها بقوله : ( إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الحَكِيمُ ) أي ما قمت به من تعليم آدم وعدم تعليمنا فهو ناشئ عن علمك بالواقع أو فعلك المتقن ، ومثله قوله سبحانه الذي حكم فيه بقطع يد السارق وأتمّ كلامه بقوله ( وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) وهذا الحكم صدر عن اللّه الغالب المتقن

ص: 176


1- الميزان في تفسير القرآن : ج 17 ص 62.
2- لسان العرب : ج 12 ، مادة « حكم » ص 140.
3- التوحيد للصدوق : ص 201.

حكمه وفعله وقس على ذلك سائر الايات ، وإلى ذلك يرجع تفسير الحكيم بذي الحكمة ، فهو سبحانه حكيم في تشريعه ، حكيم في تكوينه ، متقن في كل ما يشرع ويكون ، المراد من الاتقان اتقان التدبير وحسن التقدير الذي يدلّ عليه قوله سبحانه : ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ) ( الفرقان / 2 ).

ومنه يعلم أنّ تفسيره بالمنزّه عن فعل ما لا ينبغي من فروع هذا المعنى ، فإنّ التحرّز من العبث من فروع الاتقان ، قال سبحانه : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ) ( ص / 27 ).

والحاصل انّ الحكم بمعنى المنع ، والحكيم يراد به المتقن بصلة بين الاتقان والمنع ، فمن أتقن فعله تشريعاً وتكويناً فقد منع من طروء الزوال والفساد ، ومن تحرّز عن العبث في فعله فقد صان فعله عن الفساد والزوال.

وعلى ضوء ذلك يستفاد من الحكيم أمران : أحدهما كون الفعل في غاية الإحكام والإتقان.

ثانيهما : كون الفاعل لا يفعل قبيحاً ولا يخلّ بواجب.

والثاني من لوازم الأوّل.

وعلى ذلك فهو من صفات الذات بوجه ومن صفات الفعل بوجه آخر فبما أنّ القيام باتقان الفعل والتجنّب عن العبث سيتوقّف على العلم الوسيع فهو من صفات الذات ، وبما أنّ الفعل يوصف بالحكمة والاتقان وبالحقّ والتنزّه عن الباطل فهو من صفات فعله ، وإليك البحث في كلا المقامين على وجه الاجمال.

الحكيم : المتقن فعله

أمّا اتقان الفعل فيكفي في ذلك معطيات العلوم الطبيعيّة فقد كشفت عن الإتقان الهائل في الفلكيّات والطبيعيّات ويكفي في ذلك ملاحظة كل عضو من أعضاء الانسان فقد حفّ بقوانين وسنن تُدهش النفوس وتبهر العقول.

ص: 177

قال سبحانه :

( وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ) ( النمل / 88 ) وقال الإمام علي علیه السلام : « قدّر ما خلق فَأحكم تقديره » (1).

وقال علیه السلام : « مبتدأ الخلائق بعلمه ، ومنشئهم بحكمه ، بلا إقتذاء وتعليم ولا احتذاء لمثال صانع حكيم » (2).

ثم إنّ بعض المغرورين أثاروا شكوكاً حول حكمته تعالى وسألوا عن فوائد الاُمور التالية :

1 - الزائدة الدوديّة.

2 - اللوزتان.

3 - ثدي الرجل

4 - صيون الاذن

5 - الفضاء الوسيع

ولكن الاعتراض بهذه الأعضاء نتيجة الجهل المطبق وذلك لضآلة علوم الانسان وقلّة اطّلاعه على سنن الكون ورموزه فوضع عدم العلم بالفائدة مكان عدمها مع أنّ العلم كشف عن فوائدها وقد أوضحنا حالها في أبحاثنا الكلامية (3).

الحكيم : المنزّه عن فعل ما لاينبغي
اشارة

هذا هو المعنى الثاني للحكمة غير المعنى الذي سبق توضيحه وإن كان من

ص: 178


1- نهج البلاغة : الخطبة 91.
2- نهج البلاغة : الخطبة 191.
3- لاحظ : اللّه خالق الكون ص 370 - 378.

لوازمه عند الدقّة ، وأساس ذلك هو توصيف الأفعال بالحسن والقبح الذاتيّين ، وتمكّن العقل من دركهما وعلى ضوئه توصيفه سبحانه بالحكيم أي من لا يفعل القبيح ولا يخلّ بالواجب ، وقد اختلفت كلمة المتكلّمين في حسن الأفعال وقبحها هل هما عقليان وإنّ للعقل درك حسن الفعل بذاته وقبحه كذلك أو لا ؟ فالعدليّة على الأوّل ، وأهل الحديث والحنابلة وبعدهم الأشاعرة على الثاني حيث ذهبوا إلى أنّه لا حكم للعقل في حسن الأفعال وقبحها ، فلا حسن ولا قبح لها قبل الشرع ، فكل ما أمر به الشرع فهو حسن ، وكل ما نهى عنه فهو قبيح ، فلو عكس الشارع القضية فنهى عمّا أمر وأمر بما نهى تنقلب القضيّة من حيث الحسن والقبح. هذا والخوض في هذه المسأله بمبادئها ومقدماتها يحوجنا إلى القيام بتأليف كتاب مفرد ولأجل ذلك نأتي هنا بملخّص القول الذي فصّلناه في منشوراتنا الكلامية (1).

1 - ما هو المراد من الحسن والقبح العقليين

أ - المراد من الحسن والقبح العقليّين الذاتيّين ، ثبوتهما للأفعال بما هي من غير حاجة إلى ضمّ حيثيّة تعليلية أو تقيّدية بل وزان الحسن والقبح في الأفعال وزان الزوجيّة بالنسبة إلى الأربعة ، فكما أنّه لا يحتاج الزوجية في ثبوتها له إلى شيء وراء فرض كون الشيء أربعة فهكذا الحسن والقبح لا يفتقر توصيف الأفعال بأحدهما سوى فرض وجودها. هذا هو الذي ذهب اليه المحقّقون وهو المختار عندنا وعلى هذا فالحسن حسن على كل حال ، والقبيح قبيح على كل حال غير أنّ الانسان ربّما يضطر إلى ارتكاب القبيح لترك الأقبح فيكون الفعل موصوفاً بالقبح لكن رخّص لأجل دفع المحذور الأهم ، وفي مقابل هذا القول أقوال اُخر نسبت إلى العدليّة نشير إلى رؤوسها.

ب - إنّهما ثابتان لذوات الأفعال لكن لا على وجه العليّة التامّة بل على وجه الاقتضاء فمن الممكن أن تعارض ذلك الاقتضاء جهة خارجية تمنعها عن مقتضاها و

ص: 179


1- لاحظ : بحوث في الملل والنحل ج 2 ، ص 276 - 295 ، والالهيات ج 1 ، ص 249 - 254.

القائلون بهذا القول يتمسّكون بالصدق والكذب ، فيتبدّل حسن الصدق إلى القبح إذا كان ضارّاً ، وقبح الكذب إلى الحسن إذا كان نافعاً.

ج - إنّ الأفعال انّما تتّصف بالحسن والقبح إذا قيست إلى الجهات الخارجية فالعدل بما أنّه سبب لبقاء النظام ، والظلم بما أنّه هادم له يوصفان بالحسن والقبح فليست الأفعال في حدّ ذاتها حسنة ولا قبيحة وإنّما توصف بهما بالنظر إلى الجهات الخارجية ، وإلى ذلك القول يرجع كل من قال بأنّ حسن العدل وقبح الظلم من القضايا المشهورة التي اتّفق العقلاء على حسن الأوّل وقبح الثاني.

د - التفصيل بين الحسن والقبح فالأوّل يكفي فيه نفس الذات دون الثاني ، ونسب هذا القول إلى أبي الحسين البصري وكأنّه يريد أن الحسن يستند إلى نفس الذات والقبح يرجع إلى أمر خارج عنها.

ه - إنّهما يتبعان للفعل بالوجوه والاعتبارات ، فليس شيء منها مستنداً إلى نفس الذات ولا يعد من الصفات اللازمة للأفعال وذلك كضرب اليتيم فإنّه حسن لو كان بنيّة التأديب ، وقبيح لو كان بنيّة الايذاء.

ولك أن ترجع مجموع أقوال القائلين بالحسن والقبح العقليين إلى اُصول ثلاثه :

أ : إنّ الحسن والقبح من الامور الذاتيّة ، فلو قلنا بأنّ نفس الفعل علّة تامّة فهو القول المختار ، وإن قلت إنّه من قبيل المقتضي فهو القول الثاني.

ب : إنّ الحسن والقبح ليسا من الامور الذاتيّة بل من الامور الاجتماعيّة والعقلائيّة ، فكل فعل وقع في اطار مصلحة الفرد والمجتمع فهو حسن ، وما وقع في خلافه فهو قبيح ، وإلى هذا القول يرجع كل من أراد اثبات الحسن والقبح للأفعال بتعليلها بالمصالح الفردية والإجتماعية.

ج - إنّ الحسن والقبح يتبعان نيّة الفاعل وهدفه ، فربّ فعل يصير حسناً إذا

ص: 180

صدر عن نيّة صالحة وقبيحاً إذا صدر عن نيّة فاسدة (1).

هذه الأقوال من فروع القول بالحسن والقبح العقليّين والجميع في مقابل المنكرين أعني أهل الحديث والأشاعرة.

ولكنّ الحقّ هو القول المختار حيث أنّ هناك أفعالاً يقوم العقل بدرك حسنها أو قبحها بنفسها من أيّ فاعل صدر ، وفي أيّ موّرد وقع ، بلا ملاحظة جهة خارجية وحيثيّة تعليلية أو تقييديّة ومن دون ملاحظة نيّة الفاعل وقصده فضلاً عن ملاحظة كونه ملائماً للطبع وغيره ، نعم وإنّما يفتقر إلى ملاحظة النيّة في توصيف الفاعل بأنّه محسن أو مسيئ وأمّا نفس الفعل فلا يحتاج في الحكم عليه بشيء منهما وراء فرض الموضوع.

هذا هو المدّعى وإليك الدليل في البحث الثاني.

2 - العقل النظري والعقل العملي

ينقسم العقل عند الحكماء إلى عقل نظري وعقل عملي. فالأول هو الذي به يحوز الانسان علم ما ليس من شأنه ذلك العلم أن يعمله. والثاني هو الذي يعرف به ما من شأنه أن يعمله الانسان بإرادته (2).

وظاهر هذه العبارة أنّ هنا عقلين أحدهما نظري والاخر عملي ولكنّه خلاف التحقيق ، بل الظاهر أنّ تفاوت العقل النظري مع العقل العملي بتفاوت المدرَكات من حيث أنّ المدرك من قبيل أن يُعلَم ، أو من قبيل ما ينبغي أن يؤتى به أو لا يؤتى به ،

ص: 181


1- هذا القول أي كون الحسن والقبح يدوران مدار النوايا والأهداف غير القول بكون الحسن والقبح أمراً يعتبره العقل من ادراك الملائمة للطبع ، الذي حقّقه العلاّمة الطباطبائي ، وهو خيرة بعض فلاسفة العرب ، فقد طوينا الكلام عن ذلك القول في هذا البحث لما اسهبنا عنه في أبحاثنا الكلامية. لاحظ : « مناهج الجبر والاختيار ».
2- شرح المنظومة : ص 305 ، نقلا عن المعلّم الثاني.

فالأوّل هو العقل النظري والثاني هو العقل العملي (1).

وعلى ضوء ذلك فالنظري والعملي وجهان لعملة واحدة لا يختلفان جوهراً وذاتاً ، فإن كان المدرك ممّا ينبغي أن يعلم فيسمّى المدرك عقلاً نظرياً ، وإن كان المدرك ممّا ينبغي أن يفعل أو لا يفعل فالمدرك هو العقل العملي.

3 - الحكمة العملية وقضاياها الواضحة

إنّ الحكمة العملية تتمشّى مع الحكمة النظريّة في كيفيّة البرهنة والاستدلال فكما أنّ في الحكمة النظرية قضايا بديهية بأصولها الستة تنتهي إليها القضايا النظريّة فهكذا في الحكمة العملية قضايا واضحة تنتهي إليها القضايا غير الواضحة.

نعم إنّ تقسيم القضايا إلى نظريّة وبديهيّة وإن كان دارجاً في الحكمة النظريّة دون العملية ، غير أنّ الحقّ عدم اختصاص التقسيم بها بل قضايا الحكمتين تنقسم إلى قسمين : واضحة وغير واضحة ، وتنتهي الثانية إلى الواضحة في كلتا الحكمتين ، والعقل كما يدرك القضايا البديهية في الحكمة النظريّة من صميم ذاته أو من تصوّر الطرفين مع النسبة فهكذا يدرك القضايا الواضحة في الحكمة العملية إذا لوحظت بذاتها.

هذا هو المهم في باب الحكم بالحسن والقبح العقليين ، وبالوقوف على هذه الحقيقة تعلم قيمة سائر الأقوال فيهما وبما أنّ الحكم في المقيس عليه « الفعل النظري » واضح لا حاجة فيه إلى البيان ، فلنرجع إلى بيانه في الفعل العملي فنقول : إنّ القضايا عند العقل العملي ليس على وزان واحد بل هو على قسمين : منها ما هي مغمورة مجهولة لا يحكم العقل فيها بواحد من الطرفين « الايجاب والنفي » ومنها ما هو مبيّنة واضحة لدى العقل مع غضّ النظر عن كل شيء والاقتصار على لحاظ نفس القضية فيجب أن تكون تلك القضايا مقدّمة

ص: 182


1- نهاية الدراية : ج 2 ، ص 124.

لحلّ القضايا الاُولى وبأنّها ترجع إليها ، ومن تلك القضايا البديهية مسألة التحسين والتقبيح في جملة من الأفعال أو جميعها مثلاً جزاء الاحسان بالاحسان حسن ، وجزاء الاحسان بالإساءة قبيح ، أو العمل بالميثاق حسن ، ونقضه قبيح ، أو العدل حسن ، والظلم قبيح ، فهذه القضايا قضايا بديهية في الحكمة العملية والعقل يدركها من صميم ذاته ويقف عليها من ملاحظة القضية مع نسبتها ، وعلى هذه القضايا البديهية يبتني كل ما يَردُ على العقل في مجال الأخلاق وتدبير المنزل وسياسة المدن.

وبذلك يعلم أنّ تحليل حسن العدل والاحسان ، وقبح الظلم والعدوان وغيرهما ممّا عددناه بأنّ القضية الأولى حافظة للنظام والثانية هادمة له ، ولأجل تلك التوالي عمّ الاعتراف بها من قبل الجميع - إنّ ذلك التحليل - إنكار للحسن والقبح العقليين الذاتيين فإنّ مدار البحث كما عرفت مركّز على نفس العقل مع غضّ النظر عن تواليه وتوابعه ، وإنّ العقل هل يقوم بنفسه بمدح إحسان المحسن بالاحسان ، وبذمّ جزاء المحسن بالإساءة أو لا ، وهل العقل يحسن الملتزم بالميثاق أو لا ؟ لا بالنظر إلى الأعراض والمصالح المترتّبة سواء كانت المصالح فردية أم اجتماعية.

والعجب انّ أكثر المحقّقين الباحثين في هذا الموضوع فسّروا حكم العقل بما يترتّب عليه من المصالح والمفاسد ، مع أنّ الهدف من طرح هذا البحث إنّما هو التوصّل إلى معرفة أفعال اللّه واكتشاف ما هو الحسن والقبيح عنده ، فكيف يمكن تفسير حسن العدل وقبح ضدّه بكونه حافظاً للنظام أو هادماً له ؟

لا شك انّ العدل والظلم يترتّب عليهما صيانة النظام وهدمه ويوصف الأوّل بالحسن والثاني بالقبيح لهذه الجهه أيضا ، لكنّ المطروح في هذا الباب ما هو أوسع من ذلك وهو درك العقل العملي حسن الفعل وقبحه بما هو هو سواء كان هناك نظام أو لا ؟ وسواء أكان هناك خلق أو لا ؟

وبذلك يعلم بطلان سائر الأقوال من القائلين للحسن والقبح حيث جعلوا ملاك الحسن والقبح الملائمة للطبع والمنافرة له سواء كان المراد الطبع الفردي أو

ص: 183

الطبع النوعي ، لأنّ ذلك على فرض صحّته إطلاق الحسن والقبح خارج عن محل البحث.

كما يعلم بطلان القول بأنّ الحسن ما يوافق الغرض والقبيح ما يخالفه ، فإنّ ذلك أيضاً كالسابق خارج عن محلّ البحث. كما يعلم فساد تفسير الحسن بما فيه المصلحة ، والقبيح بما فيه المفسدة وإنّ ما خلا منهما ليس بحسن ولا قبيح (1).

وعلى الجملة فالمحور في حكم العقل بالحسن والقبح هو ملاحظة نفس القضية مع غضّ النظر عن كل شيء لا كونه حافظاً للنظام أو هادماً ، ولا كونه موافقاً للطبع الفرديّ ، أو النوعيّ ، ولا كونه محصّلاً للغرض وعدمه ، أو كونه متضمناً للمصلحة أو المفسدة ، فالكل انحراف عن مسير البحث وكلام زائد ملأ كتب المتكلّمين بل الاصوليين من الشيعة إلاّ القليل منهم ، ولأجل ذلك ضربنا البحث عن تحليل هذه الأقوال من شعب القول بالتحسين والتقبيح العقليين ، وأظنّ أنّ هذه الأقاويل وإن نسبت إلى القائلين بالتحسين والتقبيح العقليّين لكنّها أشبه بقول المنكرين ، فإنّه لما اتسع على الأشاعرة سبيل الانتقاد وضاق عليهم طريق الاعتذار أرادوا الدفاع عن منهجهم فعمدوا إلى تكثير معاني الحسن والقبح إلى معان ، أو تكثير ملاكاتهما والأولى للقائل بالحسن والقبح العقليين الذي يريد استكشاف حال افعال الواجب الاعراض عن هذه التفاصيل.

والحاصل أنّ هناك أفعالاً إذا تصوّرها العقل حكم بحسنها أو قبحها بمجرد الوقوف على القضيّة وحكم بمدح فاعلها أو ذمّه كائناً من كان الفاعل.

وإن شئت قلت : إنّ كل عاقل مميّز يجد من صميم ذاته حسن بعض الأفعال وقبح بعضها ، سواء كان الشخص مؤمناً أو كافراً ، معتقداً بالشرايع الإلهية أو لا ، وسواء صدر الفعل من الممكن أم من الواجب وسواء تصوّر كونه حافظاً للنظام أو لا ، وسواء تصوّر كونه ذات مصلحة أو مفسدة ، أو كونه موافقاً للطبع الفردي أو

ص: 184


1- شرح التجريد للقوشجي : ص 337.

النوعي ، بل هو مع الغفلة عن كل هذا يدرك حسن بعض وقبح بعض آخر ، ولو نرى اتّفاق جميع العقلاء من جميع المذاهب والطوائف على هذا الحكم فلأنّه نابع من صميم القوّة العاقلة وهو أمر مشترك بين الناس.

وأقول رعاية للحقّ : إنّ أوّل من هذّب محلّ النزاع بوجه رائع هو المحقّق اللاهيجي في تأليفيه النفيسين (1).

ونزيد تأكيداً على أنّ هذا هو المدار ، وهو أنّ الغرض من طرح هذه المسألة هو التوصل إلى التعرف على أفعاله تعالى وهو لا يتمّ إلاّ إذا لوحظت المسألة على النحو الذي بيّنّاه.

نعم يمكن توجيه القول بالطبع من هذه الأقوال وإرجاعه إلى ما ذكرنا وهو أنّ صدق القضايا العقليّة في الحكمتين ، وتوصيفهما بالحقّ والصدق يتوقّف على وجود ملاك له. وهو في قضايا الحكمة النظريّة ، نفس الواقع والخارج بعرضها العريض.

فقولنا الإنسان متعجّب أو ممكن أو نوع من القضايا الصحيحة في الحكمة النظرية وملاك صدقها هو مطابقتها للخارج العريض ولا تشذّ عنها قضايا الحكمة العمليّة فإنّ توصيفها بالصدق والحقّ يتوقف على الملاك ، فقولنا : « العدل حسن » و « الظلم قبيح » قضيّتان صحيحتان ونقيضاهما باطلان وكاذبان. فما هو الملاك في الحكم بالأوّليتين بالحقّ والصدق وبالثانيتين بالكذب والبطلان ؟

أقول : الملاك في هذا الباب هو مطابقة حكم القضية للطبع الإنساني ولا يراد منه الطبع الحيواني الذي يجنح إلى العبث والفساد بل الجانب الأعلى والمثل الأعلى للانسان والوجه المثالي منه ، فلو اُريد من الطبع هذا المعنى لاتّفق القولان.

فالانسان بما هو ذو فطرة مثاليّة يتميّز بها عن الحيوانات يجد بعض القضايا

ص: 185


1- گوهر مراد : ص 122 - 123 ، وسرماية ايمان : ص 33 - 35. وما حقّقناه توضيح وتحقيق لكلامه.

ملائمة لذلك والبعض الآخر منافياً له. فيصف الملائم بالحسن ولزوم العمل ، والمنافي بالقبح ولزوم الاجتناب ، وبما أنّ هذا الموضوع يحتاج إلى بسط في الكلام حتى يعلم اتّفاق القولين في الهدف والمرمى نقوم بالاسهاب فيه.

4 - الانسان وقوى الخير والشر

إنّ واقع الانسان يتألّف من قوى الشر والخير ، الحيوانية والإنسانية ، ولكلّ دوره في حياة الانسان ، غير أنّ واقع الانسان يتمثّل ويتجلّى في الجانب الثاني ، ففي الجانب الأوّل تتجلّى الشهوة والغضب والأنانيّة والقسوة وغيرها من رذائل الأخلاق كما أنّ الجانب الثاني تتجلّى فيه القيم الأخلاقية والمثل الإنسانية وغير ذلك من خصال الخير ، وهذا الجانب هو الأصيل في الانسان دون الجانب الأوّل.

والشاهد على ذلك انّه عند ما يقع الانسان في صراع بين جانبيه : الحيواني والانساني « الملكوتي » فإذا غلب الجانب الثاني على الجانب الأوّل ، يحسّ من صميم ذاته بالسرور والرضا ، فلو كان واقع الانسان يتمثّل في الجانب الحيواني لما صحّ السرور والرضا لأنّ المفروض مغلوبيّة القوى الحيوانية والمغلوب يكون محزوناً لا مسروراً ، وهذا يفيد بجلاء إنّ واقع الإنسان هو الجانب الثاني أي كونه موجوداً ملكوتياً ، إلهيَّ النزعة ، طالبا للخير والكمال والسموّ والارتقاء.

فلو أراد القائل من كون ملاك حكم العقل هو موافقة الحكم للطبع هو ما ذكرنا فنعم الوفاق ، وإلاّ فهو غير تام كسائر الأقوال.

وإن شئت قلت : لا حقيقة للحسن والقبح إلاّ كون الشيء ملائماً لطبع الانسان أو غير ملائم ، لكنّ المراد منه ليس هو الطبع السافل بل الطبع العالي ، والطبع العالي ينزع إلى الخير ويميل إلى الكمال ، والطبع السافل ينزع إلى الشرّ ، فكل فعل أحبّه الإنسان بروحه المتعالية وعقله المتكامل فهو حسن ، وكل ما وقع في خلاف ذلك يعدّ قبيحاً ، وعلى ضوء ذلك تقدر على تحليل جميع الأمثلة.

ص: 186

5 - الاُصول الأخلاقية الثابتة

إذا كان الميزان في الحكم بالحسن والقبح وفي الحكم بالقيم الأخلاقية هو درك العقل مع غضّ النظر عن كل شيء على ما ذكرنا ، أو كون القضية المدركة مطابقة للجانب المثالي الأعلى للإنسان ، تقف على أنّ هناك اُصولاً أخلاقيّة ثابتة لا تتغير مع مرور الدهور والعصور ، وتبدّل الحضارات ، لأنّ الشخصيّة المثالية العليا في الكيان الإنساني ثابتة لا تتغير ولا تتبدل.

فإذا كان الملاك هو الملائمة والمنافرة بالقياس إليه تصبح الاُصول ثابته دائمة بثبات الحيثية العليا من الإنسان ودوامها.

ولأجل ذلك إنّ الاُصول الأخلاقيّة لا تختلف عند الأمم والشعوب لأنّهم متشابهون ومتشاركون في الجانب الأعلى للانسان ، نعم يختلفون في العادات والأخلاق التابعة للمحيط والعائلة وليس لها جذور في الفطرة الإنسانية.

نعم يختلفون في الأشكال والصور والتجلّيات والمظاهر ويتّحدون في اللبّ والجوهر ، فالكل يحكم باحترام المعلّم والاستاذ لأنّ عقله يحكم بلزوم إحسان المحسن وقبح إساءته غير أنّهم يختلفون في كيفيّة الاحترام ، وهذا الاختلاف نابع من التقاليد والعادات ، فربما يحترمون بالقيام عند الورود واُخرى برفع القلنسوة عن الرأس وثالثة ...

6 - الاُصول الثابتة في الشرائع السماوية

لا شكّ انّ هناك اُصولا ثابتة في جميع الشرائع السماوية من حرمة الشرك باللّه تعالى في العبادة وحرمة الظلم ولزوم تكريم الوالدين وغير ذلك ، وما ذلك إلاّ لأنّ الاُصول الثابتة توافق الجانب الأعلى من الإنسان وهو ثابت عبر القرون والعصور ، وبذلك يتجلّى سرّ خاتميّة الاسلام ودوام اُصوله الخلقية ، وتشريعاته المطابقة للشخصية الانسانية العالية ، فبما أنّ الشخصيّة المثاليّة لا تمسّها يد التغيّر والتبدل

ص: 187

في جميع العصور والحضارات ، وتكون الأحكام والتشريعات المطابقة لتلك الجوهرة المتعالية ثابتة لا تمسّها يد التغيير.

7 - القرآن وكونه سبحانه حكيماً

إذا كانت الحكمة بمعنى التحرّز عمّا يجب الاجتناب عنه مما يحكم العقل بقبحه ، فقد تضافر توصيفه سبحانه ب « الحكيم » في القرآن الكريم.

ترى أنّ القرآن الكريم يذكّر بلطيف بيانه انه سبحانه بريء من القبيح وفعل ما يجب التنزّه عنه. قال سبحانه : ( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ) ( الأعراف / 28 ).

وقال سبحانه : ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ ) ( الاعراف / 33 ).

وقال سبحانه : ( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) ( ص / 28 ) وقال سبحانه : ( هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ ) ( الرحمن / 60 ).

فهذه الآيات تعرب بوضوح أنّ هناك اُموراً توصف بالاحسان والفحشاء والمنكر والبغي والمعروف قبل تعلّق أمر الشارع بها أو نهيه عنها ، وانّ الانسان يجد اتّصاف الأفعال بواحد من هذه العناوين من صميم ذاته ، وليست معرفة الانسان بهذا الاتّصاف موقوفاً على تعلّق حكم الشرع وإنّما دور الشرع هو إرشاد حكم العقل الذي يأمر بالحسن وينهي عن القبيح.

قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ( النحل / 90 ).

وبذلك تقف على قيمة كلام الأشعري في جواز تعذيب أطفال الكفّار في الاخرة.

ص: 188

قال في « الابانة » : يجوز أن يؤلم أطفال الكافرين في الاخرة ليغيظ بذلك آباءهم ويكون ذلك منه عدلا ؟! (1).

وقال في اللمع : فإن قال قائل : هل لله تعالى أن يؤلم الأطفال في الاخرة إذا قيل لله تعالى ذلك ، وهو عادل إن فعله ؟ - إلى أن قال - : ولا يقبح منه أن يعذّب المؤمنين ، ويدخل الكافرين الجنان ، وإنّما نقول : إنّه لا يفعل ذلك لأنّه أخبرنا أنّه يعاقب الكافرين وهو لا يجوز عليه الكذب في خبره (2).

الثلاثون : « الحق »

اشارة

قد ورد الحق معرّفاً ومنكراً في الذكر الحكيم 239 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في سبعة موارد :

قال سبحانه : ( ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللّهِ مَوْلاهُمُ الحَقِّ أَلا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ ) ( الانعام / 62 ).

وقال سبحانه : ( فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) ( يونس / 32 ).

وقال سبحانه : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي المَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( الحج / 6 ).

وقال سبحانه : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) ( الحج / 62 ).

وقال سبحانه : ( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللّهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ ) ( النور / 25 ).

ص: 189


1- الابانة : ص 133.
2- اللمع : ص 116 - 117.

وقال سبحانه : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) ( لقمان / 30 ).

وقال سبحانه : ( فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ * قَالَ فَالحَقُّ وَالحَقَّ أَقُولُ ) ( ص / 82 - 84 ).

وقد استعمل الحق في (1) مقابل الباطل في غير واحد من الايات فهل هما من قبيل المتضادّين أو من قبيل المتضائفين أو من قبيل العدم والملكة أو السلب والايجاب ، لا سبيل إلى الأوّل لما سيوافيك أنّ البطلان أمر عدمي لا وجودي ، وبذلك يعلم عدم كونهما من قبيل المتضايفين لاشتراط كونهما أمرين وجوديين حيث يلزم من تصوّر أحدهما تصوّر الاخر ، فانحصر الاحتمال بين الثالث والرابع ، ولعلّ الثالث أقرب ، وعلى كل تقدير فلو كان أحد المفهومين واضحاً يمكن استظهار معنى الاخر من خلاله.

قال ابن فارس : الحق أصل واحد وهو يدلّ على إحكام الشيء وصحّته فالحق نقيض الباطل ثم يرجع كل فرع إليه بجودة الاستخراج وحسن التلفيق. يقال حقّ الشيء أي وجب ، ويقال ثوب محقّق إذا كان محكم النسج ، والحقّة من أولاد الابل : ما استحقّ أن يحمل عليه كأنَّه اُحكمت عظامه واشتدّت فاستحق الحمل ، والحاقة : القيامة لأنّها تحقّ بكل شيء (2).

وقال الراغب في مادة « بطل » : الباطل نقيض الحق وهو ما لا ثبات له عند الفحص عنه ، قال تعالى : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ ) .

اقول : إنّ الحقّ والباطل قد يوصف بهما الاعتقاد واُخرى نفس الواقع الخارجي مع قطع النظر عن الاعتقاد به ، فاذا قدّر للشيء نوع من الوجود أو نوع من

ص: 190


1- بناء على انّ المراد من الحق الأوّل هو اللّه سبحانه على انّ التقدير فالحق اقسم به ، وفيه أقوال.
2- مقاييس اللغة : ج 2 ، ص 15 - 17.

الوصف ثم قيس إلى الخارج وكان الخارج على وفق ما قدّر ووصف كان الاعتقاد حقّاً والقضيّة الذهنيّة حقّة ، وأمّا إذا لم يكن كذلك يكون الاعتقاد باطلاً والقضية باطلة.

قال سبحانه : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ... فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( البقرة / 213 ). اي هداهم إلى العقائد الحقّة المطابقة لنفس الأمر.

هذا إذا وقع الحق والباطل وصفين للإعتقاد والقضيّة الذهنيّة ، وأمّا إذا وقعا وصفين لنفس الأمر والواقع الخارجي فتوصيفه بهما يدور مدار ثبوته وعدمه.

فإذا كان الواقع واجب الوجود أي ماله ثبوت لا يشوب ثبوته بطلان ، ويكون ثابتاً من جميع الجهات وموجوداً على أيّ تقدير ، وموصوفاً بالوجود مطلقا غير مقيّد بقيد ولا مشروطاً بشرط فهو الحقّ المطلق الذي لا يتطرّق اليه البطلان بوجه ما ، والحقّ بهذا المعنى ينحصر فيه سبحانه لا غير ولأجل ذلك قال سبحانه : ( أَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ ) فأتى بضمير الفصل وعرّف الخبر باللام لغاية القصر أي حصر المبتدأ في الخبر ، فاللّه سبحانه حقّ بذاته على الاطلاق بلا شرط وقيد.

أمّا إذا كان الواقع ممكن الوجود فهو حقّ بمقدار ماله من الثبوت وباطل بمقدار ما لا ثبوت له ، فبما أنّ الممكن يتّصف بالوجود من جانب علّته ، فيكون له الثبوت بفضلها فهو حقّ ، وبما أنّه ليس له الوجود من صميم ذاته ، وانّه إذا لم يكن له الموجد لبقي على العدم فهو باطل وهالك.

وهناك آيتان ناظرتان إلى ما ذكرنا أعني قوله سبحانه :

1 - ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) ( القصص / 88 ).

2 - ( وَيُحِقُّ اللّهُ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ ) ( يونس / 82 ).

فالاية الأولى ناظرة إلى بطلان الممكن من حيث هو هو ، ولأجل ذلك يحكم

ص: 191

بهلاكه فعلاً ومستقبلاً فغيره سبحانه محكوم بالهلاك في جميع الأزمان ، والاية الثانية - لو قلنا بأنّ المراد بكلماته هو أفعاله - ناظرة إلى أنّ كل ممكن حقّ لكن بإحقاقه سبحانه ، إذ هو الذي يعطي الوجود والثبوت.

وللحكيم الفارابي كلام لا بأس بنقله : يقال : حقّ : للقول المطابق للمخبر عنه ، إذا طابق القول ، ويقال : حقّ للموجود الحاصل بالفعل ، ويقال : حقّ للموجود الذي لا سبيل للبطلان إليه ، والأوّل تعالى حقّ من جهة المخبر عنه ، حقّ من جهة الوجود ، وحقّ من جهة أنّه لا سبيل للبطلان إليه. لكنّا إذا قلنا : إنّه حقّ فلأنّه الواجب الذي لا يخالطه بطلان ، وبه يجب وجود كل باطل.

ألا كل شيء خلا اللّه باطل *** وكل نعيم لا محالة زائل (1)

وبذلك خرجنا إلى هذه النتيجه أنّه سبحانه حقّ على الاطلاق ، وأمّا الممكن فبما أنّه يفقد الوجود من صميم الذات فهو باطل ، وبما أنّه متصف بالوجود الظلّي والثبوت التبعي فهو حقّ ، ولعلّ إلى بعض ما ذكرنا يشير قول لبيد الذي تقدّم آنفاً.

هذا حال الواجب والممكن وقد عرفت أنّ الأوّل حقّ مطلق ، والثاني حقّ من جهة وباطل من جهة اُخرى ، وأمّا الممتنع فهو الباطل المحض ، ليس له منه حظ.

قال بعض المحقّقين : كل ما يخبر عنه فأمّا باطل مطلقاً ، وأمّا حقّ مطلقا ، وأمّا حقّ من وجه وباطل من وجه ، فالممتنع بذاته هو الباطل مطلقاً ، ولا حقيقة له أصلاً ، فإنّ الحقيقة هي التي بها ذو حقيقة ، حقّ وثابت ، لا يمكن انكاره وهي خصوصيّة وجوده الذي يثبت له ، والواجب بذاته هو الحق مطلقاً ، والممكن بذاته الواجب بغيره فهو حقّ من وجه وباطل من وجه آخر ، فهو من حيث ذاته لا وجود له ، ومن حيث استفادة الوجود من غيره موجود ، فهو من هذا الوجه حقّ وثابت له حقيقة ينتهي إليها وأصل ينبعث منه ويجب وجوده به ويظهر بنوره الظاهر المظهر له

ص: 192


1- شرح الأسماء الحسنى : ص 271.

فلا يكون له وجود وظهور في نفسه بل يكون وجوده وظهوره من أصله المظهر بايجاب وجوده المحقّق لحقيّته وثباته ، والممكن من جهة نفسه باطل ولذلك قال : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) (1).

وبذلك يعلم أنّ قوله سبحانه : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) ( لقمان / 30 ). من غرر الايات القرآنية ، تشتمل على معارف إلهيّة نشير إلى إجمالها :

1 - إنّ الحقّ المطلق ثابت لله سبحانه وإنّه لا يوصف به إلاّ هو.

2 - إنّ الأصنام والأوثان التي كانت العرب عابدة لها ليس لها من الألوهية شيء ، فهي من هذا الجانب باطل محض لا تملك منها شيئاً إلاّ الإسم وهذا لا ينافي أن يوصف بالحقّ من حيث أنّ لها درجة من الوجود ككونها جماداً أو نباتاًً أو حيوانا غير أنّ محور البحث كونها آلهة فهي في هذا النظر لا توصف إلاّ بالبطلان.

3 - إنّ توصيفه سبحانه بالعليّ في الاية يشير إلى صفاته السلبية ويفيد تنزّهه عمّا لا يليق بساحته فاللّه سبحانه حقّ منزّه عن كل نقص من الجهل والعجز والزمان والمكان والجسم ، فما يدعون من الآلهة ليس لهم من الحقيقة شيء ولا إليهم من الخلق والتدبير شيء ، ولا إليهم شيء ممّا يعدّ فعلاً للربّ ككونهم مالكين للمغفرة والشفاعة.

4 - إنّ توصيفه سبحانه بالكبير إشارة إلى صفاته الثبوتية ويفيد سعة وجوده واشتماله على كل كمال وجودي وهو مجمع الصفات الكمالية والجمالية ، فهي الذات المستجمعة لجميع صفات الكمال فهو اللّه عزّ اسمه.

وعلى ذلك فلحق في الاية وفي كل ما وقع وصفاً له سبحانه يعادل واجب الوجود و « العليّ » يقوم مقام الصفات السلبية و « الكبير » يقوم مقام الصفات الثبوتية.

ص: 193


1- كتاب كاشف الأسماء في شرح الأسماء الحسنى في اسم الحق.
توصيف الفعل بالحق

إنّ الحقّ كما يوصف به نفس الواجب وذاته فكذلك يوصف به فعله سبحانه لكن بلحاظ آخر قال سبحانه : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) ( يونس / 5 ).

أفعاله سبحانه معلّلة بالاغراض

إنّ الذكر الحكيم يصف كثيراً من أفعاله سبحانه بقوله : « بالحق » وبذلك يشير إلى أنّ أفعاله أفعال حكيمة مصونة عن العبث واللغو ، ولأجل ذلك ذهبت العدلية إلى أنّ افعاله معلّلة بالاغراض خلافاً للاشاعرة ، فإذا كان الهادي في مجال العقائد هو الكتاب فآياته صريحة في ذلك ، يقول سبحانه :

( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ) ( المؤمنون / 115 ).

وقال عزّ من قائل : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ) ( الدخان / 38 ).

ويقول سبحانه : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) ( ص / 27 ).

وقال سبحانه : ( وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) ( الذاريات / 56 ).

والمراد في المقام هو إيجاده بحسب مقتضى الحكمة وبالتالي نزاهة فعله من العبث واللغو ، وبذلك يعلم معنى ما يقال : انّ فعله سبحانه كلّه حقّ كما يعلم سرّ اقتران لفظة « بالحق » بكثير من أفعاله التي جاءت في الذكر الحكيم ، قال سبحانه : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ

ص: 194

جَدِيدٍ ) ( إبراهيم / 19 ). وتعرب الاية عن أنّ هنا صلة بين خلق السموات والأرض ووجود الإنسان في هذا الكوكب فقال سبحانه : ( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) ( النحل / 102 ). أفيمكن توصيف الفعل العاري عن الغرض والهدف حتى ما يُرجع إلى المخلوق بأنّه نزّل بالحقّ ؟

والعجب انّ الأشاعرة وعامّة أهل الحديث الذين يلتزمون التعبّد بظاهر النصوص تعبداً حرفياً قد خرجوا في هذا المقام عن هذا الأصل وقالوا بعدم كون أفعاله معلّلة بالأغراض فماذا جوابهم تجاه هذه الآيات وتكرّر « بالحق » وصفاً لفعله ؟ لا أدري ولا المنجّم يدري.

هلمّ معي ندرس ما ذكره العقليون من الأشاعرة :

1 - قالوا : « لو كان فعله تعالى تابعاً لغرض لكان ناقصاً لذاته مستكملاً بتحصيل ذلك الغرض لأنّه لا يصلح غرضاً للفاعل إلاّ ما هو أصلح له من عدمه وهو معنى الكمال » (1).

إنّ المستدلّ خلط بين الغرض الراجع إلى الفاعل والغرض الراجع إلى الفعل فالاستكمال موجود في الأوّل دون الثاني ، والقائل بكون أفعاله تابعة للأغراض والغايات والدواعي والمصالح إنّما يعني به الثاني دون الأوّل ، والغرض بالمعنى الأوّل ينافي كونه غنيّاً بالذات وغنيّاً في الصفات وغنيّاً في الأفعال ، والغرض بالمعنى الثاني يوجب خروج فعله عن كونه عبثاً ولغواً وكونه سبحانه عابثاً ولاهياً ، فالجمع بين كونه غنيّاً غير محتاج إلى شيء ، وكونه حكيماً منزّهاً عن العبث واللغو يتحقق بالقول باشتمال أفعاله على مصالح وحكم ترجع إلى العباد والنظام لا إلى وجوده وذاته.

2 - قالوا : إنّ العلّة الغائيّة هي احدى أجزاء العلّة التامّة ويراد منها في مصطلح

ص: 195


1- المواقف « للقاضي عضد الدين » : ص 231.

الحكماء ما يخرج بها الفاعل من القوّة إلى الفعل ومن الامكان إلى الوجوب ، فهي السبب لخروج الفاعل عن كونه فاعلاً بالقوّة إلى كونه فاعلاً بالفعل ، مثلا النجّار لا يقوم بصنع الكرسي إلاّ لغاية مطلوبة ولولا تصوّرها لبقى على كونه فاعلاً بالقوّة ، فلو كان لأفعاله سبحانه غاية لزم كونه ناقص الفاعليّة في ذاته ، وتامّ الفاعليّة بغاية الفعل فيحتاج في فاعليّته إلى شيء وراء ذاته.

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكروه في تفسير العلّة الغائية حقّ لا غبار عليه وقد أخذته مفكّروا الأشاعرة من الفلاسفة واستغلوه في غير موضعه ، وخرجوا بهذه النتيجة : إنّ فعله سبحانه عار عن أية غاية وغرض وجعلوا فعله كفعل العابثين واللاعبين يفعل بلا غاية ويعمل بلا غرض ، والعلّة الغائيّة بهذا المعنى تنطبق على وجود الغرض للفاعل ، ولا تنطبق على وجود الغرض للفعل ، وقد عرفت أنّ القائلين بتبعيّة أفعاله للأغراض إنّما يعنون القسم الثاني دون الأوّل ، فلا شكّ انّه سبحانه تامّ الفاعلية بالنسبة إلى كلا الفعلين : ما يترتب عليه الغرض وما لا يترتب عليه الغرض لعموم قدرته ، لكن كونه حكيماً يصدَّه عن اختيار القسم الثاني ، فلا يختار من الأفعال الممكنة إلاّ ما يناسب ذلك المبدأ.

وهذا كعموم قدرته للفعل المقترن بالعدل والجور كسوق المطيع إلى الجنة والنار لكن اتّصافه بالعدل يصدّه عن سوقهم إلى النار ، ولا يختار إلاّ الأوّل وهذا لا يعني انّه في مقام الذات والفاعلية يستكمل بهذا الغرض بل هو في مقام الفاعلية تامّ لكلا العملين ، لكن عدله وحكمته وما يناسبهما تقتضي أن يختار هذا دون ذاك ، فلو أنّ النافين للأغراض يفرّقون بين الغرضين لما تطرفوا في نفي اقتران فعله بالغرض.

وبذلك يعلم المراد من انتخاب الأصلح وانّه لا يخلق إلاّ الأصلح ويترك اللغو والعبث ، وليس المراد من ذلك تحديد قدرته ومشيئته من جانب العبد بل العبد يستكشف من خلال صفاته وكمالاته ، إنّه لا يختار إلاّ الأصلح والأولى مع عموم قدرته على كلا الطرفين ، وأظنّ أنّ المسائل الكلامية لو طرحت في جو هادئ

ص: 196

فربّما ينتظم الكلّ في أكثر المسائل في صف واحد ويذوب الاختلاف في كثير من المسائل.

الواحد والثلاثون « الحليم »

قد ورد لفظ « الحليم » مرفوعاً ومنصوباً 15 مرّة ووصف به سبحانه كما وصف به بعض أنبيائه كإبراهيم الخليل وشعيب النبيّ ، وقد جاء وصفاً له سبحانه في (11) مورداً وجاء مقترناً بلفظ « غفور » تارة و « عليم » ثانياً و « غني » ثالثاً قال سبحانه : ( وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) ( آل عمران / 155 ).

وقال سبحانه : ( وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ) ( الأحزاب / 51 ).

وقال سبحانه : ( قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ) ( البقرة / 263 ).

قال ابن فارس : « الحلم » له اُصول ثلاثة : الأوّل : ترك العجلة ، والثاني : تثقّب الشيء ، والثالث : رؤية الشيء في المنام ، وهي متباينة جدّاً تدلّ على أنّ بعض اللغة ليس قياساً وإن كان أكثره منقاساً.

فالأوّل « الحلم » خلاف الطيش ، والثاني قولهم : حلم الأديم إذا تثقّب وفسد ، والثالث قد حلم في نومه حلماً.

قال الراغب : « الحلم » ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب ، وجمعه أحلام قال تعالى : ( أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ) ( الطور / 32 ).

وقيل : معناه عقولهم وليس الحلم في الحقيقة هو العقل لكن فسّروه بذلك لكونه من مسببّات العقل.

الظاهر أنّ المراد من توصيفه سبحانه بالحليم في المقام هو الذي لا يعجل

ص: 197

بالانتقام ، يقول سبحانه : ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ) ( فاطر / 45 ).

وقال سبحانه : ( وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً ) ( الكهف / 58 ).

وهو يجري على اللّه سبحانه بهذا المعنى وأمّا ما ذكره « الراغب » بأنّه ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب ، فإنّما هو من خصائص الإنسان الحليم ، وليس من صميم معناه حتى يتوقّف توصيفه سبحانه به على تجريده من معناه اللغوي.

قال الصدوق : معناه حليم عمّن عصاه لا يعجل عليهم بعقوبته (1).

وقال الكفعمي : الحليم ذوالحلم والصفح الذي يشاهد معصية العصاة ثمّ لا يسارع إلى الانتقام مع غاية قدرته ، ولا يستحقّ الصافح مع العجز اسم « الحليم » إنّما الحليم هو الصفوح مع القدرة.

ثمّ إنّ الرازي ذكر هنا كلاماً فقال من لا يعجل الانتقام إن كان على عزم أن ينتقم بعد ذلك فهذا يسمّى حقوداً ، وإن كان على عزم أن لا ينتقم البتّة فهذا هو العفو والغفران ، وأمّا إذا كان على عزم أن لا ينتقم لكن بشرط أن لا يظهر ذلك فهو حليم فإن أظهره كان ذلك عفوّاً » (2).

قال بعض المحقّقين : إنّ موقف العلم وعدم الانتصاف والانتقام فيما إذا صدر الظلم منه بالنسبة إلى حقوق اللّه فله ترك الانتقام مع القدرة عليه على سبيل العجلة والاسراع كي يندم ويستغفر فيُغفر فإنّه جلّ شأنه لا تضرّه المعصية ولا تنقصه المغفرة (3).

ص: 198


1- التوحيد : ص 202.
2- لوامع البينات : ص 242.
3- كاشف الأسماء في شرح الأسماء الحسنى للسيد عماد الدين المتوفّي عام 1110.

وأمّا حظّ العبد من هذا الاسم فهو انّه يمكن أن يكون الإنسان من مظاهر أسمائه فلا يعجل في الانتقام ، ولأجل ذلك عدّ الحلم من محاسن الأخلاق ، ولمّا دعا الخليل ربّه وقال : ( وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ ) ( الشعراء / 84 ).

فاُجيبت دعوته بقوله : ( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ) ( الصافّات / 101 ).

وقد وصف به « إبراهيم » الخليل و « شعيب » النبيّ في بعض الآيات كما عرفت.

الثاني والثلاثون « الحميد »

وقد ورد ذلك اللفظ في الذكر الحكيم بالرفع والنصب (17) مرّة وقد وصف به سبحانه في جميعها ، وقد انضمّ اليه « غنيّ » تارة و « مجيد » ثانياً و « العزيز » ثالثاً و « حكيم » رابعاً و « الولي » خامساً قال سبحانه : ( وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) ( البقرة / 267 ).

وقال سبحانه : ( رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ) ( هود / 73 ).

وقال سبحانه : ( لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الحَمِيدِ ) ( إبراهيم / 1 ).

وقال سبحانه : ( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) ( فصّلت / 42 ).

وقال سبحانه : ( وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الحَمِيدُ ) ( الشورى / 28 ).

قال ابن فارس : « الحمد له أصل واحد يدلّ على خلاف الذم يقال : حمدت

ص: 199

فلاناً أحمده ، ورجل محمود ومحمداً إذا كثرت خصاله المحمودة غير المذمومة » (1).

وقال الراغب : قوله عزّ وجلّ ( إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ) يصح أن يكون في معنى المحمود وأن يكون في معنى الحامد.

أقول : الحمد على ما هو المعروف : الثناء على الشخص بالفضيلة في ما يصدر منه من الأفعال الاختياريّة.

قال الصدوق : الحميد معناه المحمود وهو فعيل في معنى المفعول والحمد نقيض الذمّ ويقال : « حمدت فلاناً إذا رضيت فعله ونشرته في الناس » (2). وهو أخص من المدح فإنّه في مقابل كلّ جميل سواء كان اختياريّا أو تسخيرياً كما إذا مدحت اللؤلؤ بصفاته ، وعلى ذلك فالحميد أمّا فعيل بمعنى الفاعل ، وعندئذ يكون المراد اللّه الحامد فإنّه لم يزل يثني على نفسه كما في قوله : ( الحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) وأمّا فعيل بمعنى المفعول كالقتيل بمعنى المقتول أي هو محمود بحمده لنفسه وحمد عباده له ، ومنه قوله : ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ) ( البقرة / 30 ). ويحتمل أن يكون المراد المستحقّ للحمد والثناء.

وأمّا حظ العبد من هذا الاسم فيقع مظهراً له إذا كان محمود العقيدة والفعل فيستحقّ أن يثنى عليه.

وأمّا الفرق بين الحمد والشكر فسيوافيك عند البحث عن اسم الشاكر والشكور.

الثالث والثلاثون « الحي »

اشارة

وقد جاءت اللفظة في الذكر الحكيم 14 مرّة ووقع وصفاً له في موارد أربعة قال سبحانه :

ص: 200


1- مقاييس اللغة : ص 110.
2- التوحيد : ص 202.

( اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ الْقَيُّومُ ) ( آل عمران / 2 ).

وقال سبحانه : ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ) ( طه / 111 ).

وقال سبحانه : ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ) ( الفرقان / 58 ).

وقال سبحانه : ( هُوَ الحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) ( غافر / 65 ).

وأمّا معناه فقد قال ابن فارس : لِ « الحي » أصلان أحدهما خلاف الموت والاخر الاستحياء الذي هو ضدّ الوقاحة ، فأمّا الأوّل فالحياة والحيوان وهو ضدّ الموت والموتان ويسمّى المطر حيّاً لأنّ به حياة الأرض ، والأصل الآخر قولهم استحييت منه استحياء (1).

وقد ذكر الراغب انّ الحياة تستعمل على أوجه :

1 - القوّة النامية الموجودة في النبات والحيوان.

2 - القوّة الحسّاسة وبه سمّي الحيوان حيواناً.

3 - القوّة العاملة العاقلة.

4 - ارتفاع الغمّ ، واستشهد لذلك بقول الشاعر :

ليس من مات واستراح بميّت *** إنّما الميّت ، ميّت الأحياء

5 - الحياة الاخروية الأبدية.

6 - الحياة التي يوصف بها البارئ فإذا قيل فيه تعالى « هو حيّ » فمعناه لا يصحّ عليه الموت وليس ذلك إلاّ لله عزّ وجلّ (2).

ص: 201


1- المقاييس : ج 2 ، ص 122.
2- المفردات : ص 138 - 139.

والظاهر أنّ للحيّ معنى واحداً والخصوصيّات تعلم من الخارج وإليك توضيحه.

الحياة ومراتبها

لا شك انّ كلّ واحد منّا يميّز بين مادة حيّة ومادة غير حيّة ، وبين جسم حيّ ، وجسم ميّت إلاّ انّه رغم ذلك لا يستطيع أحد إدراك مفهوم الحياة في الموجودات الحيّة ، فالحياة أشدّ الحالات ظهوراً ولكنّها أصعبها مراساً على الفهم ، وأشدها استعصاء على التحديد.

وبعبارة اُخرى : الحياة ضدّ الموت ، وهي وإن كانت أظهر الأشياء مفهوماً لكنّها من أخفاها حقيقة ، ولهذا اختلف في تفسير وتبيين حقيقتها ، وذهب العلماء فيه مذاهب شتّى.

إلاّ أنّها حسب نظر علماء الطبيعة هو ما يلازم آثاراً أربعة في المتّصف بها وهي :

1 - الجذب والدفع.

2 - النمو والرشد.

3 - التوالد والتكاثر.

4 - الحركة وردّة الفعل.

بينما ذهب آخرون مذهباً آخر في تعريف الحياة فقالوا :

هي قدرة الوحدة العضوية على مباشرة الوظائف الضروريّة لحفظ الذات ، ووظيفة التكاثر ، وعلى كلّ حال فإنّ هذه التعاريف تعاريف بخصائص الحياة ، وآثارها ولوازمها وليست لبيان ما تقوم به حقيقة الحياة لما نرى من البعد الشاسع بين الحياة النباتية والحياة البشرية.

ص: 202

وإلاّ فإنّ خصائص الحياة والأحياء لا تنحصر في ما ذكر ، فإنّ للحياة مراتب ودرجات تتفاوت حسب شدّتها وضعفها.

فالنبات الحيّ ما تجتمع فيه الخصائص الأربع المذكورة.

ولكنّ الحياة في الحيوان تزيد على ذلك بالحسّ والشعور ، فالحيوان كائن حيّ بمعنى أنّه يملك مضافاً إلى الخصائص الأربع خصيصة اضافية وهي خصيصة الشعور والحس بشكل واضح وملموس (1).

وهذا الكمال الزائد المتمثّل في الحسّ والشعور لا يجعله مصداقاً مغايراً للحياة بل يعدّ مصداقاً أكمل لها.

غير أنّ خصائص الحياة لا تقتصر على هذا بل هناك حياة أعلى وأشرف وهو أن يتملّك الكائن الحيّ مضافاً إلى الخصائص الخمس خصيصة الادراك العلمي والعقلي والمنطقي ، فهو حيّ على الوجه الأتمّ والأبسط.

وبعبارة اُخرى : انّ ما ذكروه من الخصائص إنّما حاولوا بها ادخال جميع الكائنات الحيّة حتى النباتات تحت عنوان واحد ، وليس شيء من هذه الخصائص بمقوّم لواقع الحياة ومكوّن لحقيقتها.

أضف إلى ذلك انّ هذه التعاريف صدرت من علماء الطبيعة الذين لا هدف لهم إلاّ التعريف بالحياة في الموجودات الحيّة الطبيعية في عالمي النبات والحيوان ، ولأجل ذلك نجدهم يعرّفون الحياة والأحياء بتلك التعاريف ، ولا عتب عليهم في ذلك لأنّ مهمّتهم ليس هو التعريف الفلسفي للحياة حتى يعمّ جميع مراحلها.

فهذه التعاريف مع أنّها تعريف بالخصائص دون المقوّمات تعريف لقسم خاص من الحياة الموجودة في عالم الطبيعة.

ص: 203


1- وإن أثبت العلم الحسّ والشعور في النباتات لكن لا بشكل عام بل في بعض الأنواع.

وعلى كلّ تقدير فهذه التعاريف تنفعنا في فهم حقيقة الحياة على وجه الاجمال.

أمّا التعريف الجامع للحياة الذي يشمل جميع مراتبها من النبات إلى الإنسان فهو أن يقال : إنّ الحياة حقيقة واقعيّة أثرها هو وجود ما يشبه بالحسّ والحركة في الموجود الحيّ.

فالحركة في النبات عبارة عن أعمال الجذب والدفع والرشد والنمو ، والتوالد والتكاثر وما شابهها.

وأمّا الحسّ والشعور فهو أثر محسوس في الحيوان وثابت في بعض أصناف الأشجار حسب التجربة وهاتان الخصيصتان توجدان في الإنسان بنحو أقوى وآكد وأكمل ، فالحركة فيه تتجلّى مضافاً إلى ما في النبات والحيوان في أنّه مبدأ الأفعال وصنائع عجيبة وغريبة تحيّر العقول ، وتدهش الألباب.

كما أنّه مضافاً إلى أنّه حاسّ ذوشعور - يمتلك قدرة عقليّة - وفكراً رفيعاً يقدر به على درك رموز الخلق ، وقوانين الكون وعلى حلّ المعادلات وغير ذلك.

فعند ذلك يقف الإنسان على أنّ ما هو ملاك الحياة مع الغضّ عن أنّ لها مفهوماً خاصاً في كلّ مرتبة - هو كون الموجود درّاكا (1). وفعّالاً ، وهي موجودة في عامّة المراتب ، غير أنّ تلك الحقيقة تتجلّى في كلّه مرتّبة بشكل.

ففي النبات بالجذب والدفع والنمو والرشد والتوالد والتكاثر مع الحسّ النباتي الذي أثبته العلم والتجربة.

وفي الحيوان يتجلّى في الأفعال المذكورة مع الشعور الخاصّ الذي ربّما يكون في البعض أكمل من البعض.

ص: 204


1- ليس المراد منه هو الادراك الموجود في الانسان وما فوقه بل المراد حقيقة الدرك والوقوف على الحقائق أو ما شئت فعبّر.

وفي الإنسان مضافاً إلى الخصائص الموجودة في الدرجات السابقة يتجلّى في أفعاله العجيبة والغريبة وصنائعه البديعة مع ادراكه المسائل العقلية والفلسفية.

فالناظر إلى حقيقة الحياة في جميع الدرجات إذا غضّ النظر عن خصائص كلّ مرتبة وعن التعريف بالمرتبة ينتقل إلى أنّ الحيّ هو الموجود المدرك الفعال ، فاذا كانت هذه هي حقيقة الحياة فاللّه تبارك وتعالى حيّ بأكمل حياة.

وإن شئت قلت : إذا أردنا تعريف الحياة الموجودة في كلّ مرتبة من المراتب فلا يمكن إطلاقها على اللّه سبحانه.

وأمّا إذا نظرنا إلى « حقيقة الحياة » الموجودة في جميع هذه المراتب ، المجرّدة من خصائص تلك المراتب وخصوصيّاتها ، انتزع العقل مفهوماً كلّيّاً ينطبق على جميع المراتب ، وهو كون الشيء فاعلاً ومدركاً أو فعّالاً ودرّاكاً ، وإن كان تجلّي ذلك يختلف من مرتبة إلى اُخرى حسب ضعف المرتبة وقوتها.

وهذه المسألة حقيقة ثابتة في كثير من الأسماء ، فإنّ لفظة « المصباح » يوم وضعت كانت تطلق على الضوء الحاصل من اشتعال غصن شجر ، غير أنّ هذه الحقيقة تكاملت حسب تكامل الحضارة والتمدّن فصارت تطلق على المصباح الزيتي والنفطي والغازي والكهربائي بمفهوم واحد وسيع.

وما ذلك إلاّ لأنّ الحقيقة المقوّمة لصحة إطلاق تلك الكلمة هي كون الشيء منوّراً لما حوله ، فهذه الحقيقة مع اختلاف مراتبها موجودة في جميعها ، وفي المصباح الكهربائي على نحو أتمّ.

إنّ من الوهم أن يتوقّع إنسان مفكّر تحديد حياته سبحانه من خلال ما نلمسه من الحياة الموجودة في النبات أو الحيوان أو الإنسان.

كما أنّ من الوهم أن يتوقع أن تكون حياته تعالى رهن فعل وانفعال كيمياوي أو فيزياوي.

ص: 205

فإنّ كلّ ذلك ليس دخيلاً في حقيقة الحياة وإن كان دخيلاً في تحقّق الحياة في درجة خاصّة إذ لولا هذه الأفعال في النبات والحيوان والإنسان لامتنعت الحياة ، لكن دخلها في مرتبة خاصّة لا يعدّ دليلاً على كونه دخيلاً في حقيقة الحياة ، كما أنّ اشتعال المصباح بالفتيلة لا يعدّ كون الفتيلة مقوّما للمصباح ، وإنّما هو مقوّم لدرجة خاصّة ، وعندئذ نخرج بالنتيجة التاليه وهي :

إنّ ما هو المقوّم للحياة هو كون الموجود مدركاً وفاعلا أو ما يضاهي هذه الكلمات.

وإن شئت قلت : فعّالاً ودرّاكاً حسب درجته ومرتبته فالفعل والدرك في الحيوان والنبات يتنزّل إلى حد الحس والحركة ، ويتجلّى بهما ، ولكنّه في الإنسان وما فوقه إلى أن يصل إلى مبدأ الوجود والحياة بشكل آخر الذي ربّما يعبّر عنه بالفعل والدرك والخلق والعلم وما يقوم مقامهما.

وقال الامام الباقر علیه السلام :

« إنّ اللّه تبارك وتعالى كان ولا شيء غيره نوراً لا ظلام فيه ، وصادقاً لا كذب فيه وعالماً لا جهل فيه وحيّاً لاموت فيه وكذلك هو اليوم وكذلك لا يزال أبداً (1).

وقال الامام موسى بن جعفر علیه السلام :

« إنّ اللّه لا إله إلاّ هو كان حيّاً بلا كيف ولا أين ولا كان في شيء ولا كان على شيء ... كان عزّ وجلّ إلهاً حيّاً بلا حياة حادثة وبلا كون وصوت ولا كيف محدود ولا أين موقوف ولا مكان ساكن بل حيّ لنفسه » (2).

وفي الختام نقول : إنّ حياته تعالى كسائر صفاته الكمالية صفات واجبة

ص: 206


1- توحيد الصدوق : ص 141.
2- المصدر نفسه : ص 141.

لا يتطرّق اليها العدم ولا يعرض لها النفاد والانقطاع ، لأنّ تطرّق ذلك اليها يضادّ وجوب الوجود وضرورته فهو حيّ لا يموت كما يقول سبحانه عن نفسه :

( وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ) ( القرفان / 58 ).

ص: 207

ص: 208

حرف الخاء

الرابع والثلاثون : « الخالق »

قد ورد لفظ الخالق في الذكر الحكيم ثماني مرّات ووقع اسماً له في آيات سبع كما أنّه ورد لفظ « الخلاّق » مرّتين وسمّي سبحانه به في كلا الموردين.

قال سبحانه : ( ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ) ( الأنعام / 102 ).

وقال سبحانه : ( هُوَ اللّهُ الخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) ( الحشر / 24 ).

إلى غير ذلك من الايات.

وقال سبحانه : ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ) ( الحجر / 86 ).

وقال سبحانه : ( بَلَى وَهُوَ الخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ) ( يس / 81 ).

وقد مرّ معنى الخلق في الاسم الحادي عشر أعني « أحسن الخالقين » فلاحظ ، غير انّا نركّز هنا على نكتة وهو انّ هناك آيات صريحة في حصر الخالقيّة فيه سبحانه وإنّه لا خالق سواه.

ويقول سبحانه : ( قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( الرعد / 16 ).

وقال سبحانه : ( هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) ( الفاطر / 3 ). وفي الوقت نفسه يصف نفسه

ص: 209

( أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ) ( المؤمنون / 14 ) وينسب الخلق إلى غيره ويقول :

( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ ) ( آل عمران / 49 ).

ويقول سبحانه : ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي ) ( المائدة / 110 )

ثمّ إنّ الأشاعرة والعدلية اختلفوا في تفسير هاتين الطائفتين من الايات فالطائفة الاُولى حصروا الخالقية فيه سبحانه وأنكروا السببية للأسباب الطبيعية كما أنكروا تأثير الإنسان في أفعاله ، وقالوا : إنّه سبحانه يخلق الجواهر والأعراض وأفعال الإنسان والحيوان والنبات بنفسه مباشرة ، فإذا أراد الإنسان فعلاً يسبقه سبحانه إلى إيجاد الفعل المطلوب له من دون أن يكون للإنسان وإرادته واختياره فيه تأثير حتى أنّهم أنكروا تأثير العلل الطبيعية على وجه الاطلاق وذهبوا إلى أنّ الاحراق فعل اللّه عند تكوّن النار ولا صلة له بها ، كما أنّ التبريد يوجد به سبحانه مباشرة عند تحقّق الماء من دون ارتباط بينهما وقس على ذلك الكائنات الجوية والظواهر الأرضية فأنكروا النظم الطبيعية كلّ ذلك حرصاً على حفظ ظواهر الايات.

قال الدكتور البوطي (1) :

إنّ من أسماء اللّه عزّ وجلّ « القيّوم » ومعناه القائم باُمّ المخلوقات على الدوام والاستمرار ، وقد فصل هذا المعنى في مثل قول اللّه عزّ وجلّ في مثل : ( إِنَّ اللّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا ) ( الفاطر / 41 ).

ص: 210


1- إنّ الدكتور « محمد سعيد رمضان البوطي السوري » في كتابه « السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب اسلامي » أدى حقّ الموضوع وأثبت انّ اتباع السلف ليس بمعنى الانحباس في حرفية الكلمات التي نطقوا بها أو المواقف الجزئيّة التي اتّخذوها. ( السلفية مرحلة زمنية مباركة : ص 12 ). لكنّه مع الأسف قد حبس نفسه وفكره في اطار الفكر الاشعري وقبله الحنبلي ، ولم يخلص نفسه عنه ونظر إليها نظر تقديس وتنزيه وكأنّ منهجهم قد افرغ من رصاص أو نحاس لا يقبل الخداش ، ومن الموارد التي تبع الدكتور ذلك المنهج بحرفيته مسألة سلب التأثير للفواعل الطبيعية والعلل المادّيّة.

وقوله عزّ وجلّ : ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ) ( الروم / 25 ).

وقد علمنا أنّ امساك اللّه السموات والارض ورعايته لها وهدايته إيّاها للقيام بما توجّه إليها من الأوامر التكوينيّة وكلّ ذلك مستمر دائم يتجدد لحظة فلحظة.

فهل يتّفق هذا البيان الالهي لاسم اللّه « القيّوم » مع ما يقرره الفلاسفة من أنّ اللّه أودع في كلّ شيء طبيعة وقوّة فهو بها يحقّق آثاره ، وينتج معلولاته ، وذلك لأنّه إذا تصوّرنا الأمر على هذا النحو فقد بطلت صفة القيوميّة في ذات اللّه عزّ وجلّ وبطل معنى قوله : « يمسك السموات والارض أن تزولا » لأنّ الأشياء بعد أن أُودعت فيها قواها أصبحت تؤدّي مهمّاتها استقلالا ودونهما حاجة إلى أي عون مستمر فتصبح كالجهاز العقلي الآلي المعروف اليوم حيث لا يحتاج إلى أكثر من أن يملأ بالمعلومات التوجيهيّة إذ هو بعد ذلك يؤدّي عمله دون أي معونة مستمرة أو حتى رقابة من صاحب هذا الجهاز أو صانع (1).

يلاحظ عليه أوّلا :

انّه إذا كان الوحي الالهي هو المصدر الوحيد في ذاك المجال فاللّه سبحانه كما ينسب الآثار والأفعال إلى نفسه ينسب إلى جنوده وملائكته وعباده نسبة حقيقيّة سبحانه مع أنّه القيّوم ، ومعناه حسب قول الكاتب القائم بأمر المخلوقات على الدوام والاستمرار ينسب التوفّي إلى نفسه مرّة ويقول : ( اللّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) ( الزمر / 42 ). وإلى رسله ثانياً ويقول : ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ) ( الأنعام / 61 ). وإلى الملائكة ثالثاً ويقول : ( فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ) ( محمد / 27 ).

ولا نشكّ في أنّ القرآن خال عن الاختلاف والتناقض ، فإذا كان معنى كونه قيوماً قائماً بأمر المخلوقات على الدوام والاستمرار ، وكان القول بأنّ هناك سبباً وعلّة اُخرى تقوم ببعض الاُمور في مجال الكون والطبيعة مخالفاً لذلك ، فما معنى نسبة

ص: 211


1- المصدر نفسه : ص 176 - 177.

التوفّي إلى الملائكة والرسل ، وهل يمكن أن يقال : إنّ النسبة الثانية والثالثة نسبتان مجازيّتان ؟ أو أنّ هناك وجهاً آخر به تنحلّ عويصة هذا النوع من الايات وهو انّ الممكن بذاته وفعله قائم به سبحانه ، قيام المعنى الحرفي بالاسمي ، لو قام بفعل أو تأثير فإنّما هو بقدرة مفاضة إليه في كلّ آن وآن ( إن صحّ التعبير بالآن من حيث هي أصغر وحدة زمنية نعرفها ).

وثانياً : إنّه ليس نسبة الممكن إلى الواجب كنسبة البناء إلى البنّاء حيث يستغني البناء عن الباني في بقائه ودوامه لأجل القوى الطبيعيّة المودوعة فيه التي توجب تماسكه والتصاقه وبقائه ، فإنّ ذلك التصوير تصوير خاطئ ، فانّ الباني ليس موجداً للبناء حدوثاً ولا بقاء ، وإنّما هو علّة الحركة ، أي تحريك أدوات البناء من حجر وطين وجصّ وتركيبها ونضدها بشكل خاص ، وفي مثل ذلك يصحّ استغناء البناء عن الباني ولو غاب أو مات ، لبقى كما هو محسوس.

وأمّا نسبة العلل الطبيعية إلى اللّه سبحانه فليس من تلك المقولة فإنّها في حدوثها وبقائها ، ذاتها وفعلها محتاجة إليه سبحانه قائمة به والوجود ذاتاً وفعلاً ، يفيض من المبدئ دوماً آناً فآناً ، بحيث لو انقطعت الصلة بين رب العزّة والعلل الطبيعية لما كان منها عين ولا أثر ، فلا ترى الشمس ولا ضياءه ولا القمر ولا نوره ، وفي مثل ذلك لا يتصور استقلال الممكن في ذاته وفعاله ، وما ذكره الكاتب مبنيّ على حاجة العالم في حدوثه إلى البارئ لا في بقائه ، وهو تصوّر باطل لا ينسجم مع كونه ممكناً ولو أورد بالتشبيه والتنزيل فلنا أن نقول :

« إنّ نسبة العلل الطبيعية إلى اللّه سبحانه نظير نسبة المعنى الحرفي إلى الاسمي فإنّها لا تستغني عن المعنى الاسمي لا في عالم التصوّر ولا في مقام التحقّق عنه أو كنسبة الصور الذهنيّة إلى النفس ، وفي مثل ذلك التحدّث عن الاستغناء والاستقلال تحدّث خاطئ ».

وبذلك تعلم قيمة قوله « بعد أن اودعت فيها قواها المزعومة أصبحت تؤدّي

ص: 212

مهمّاتها استقلالاً فتصبح كجهاز العقل الآلي المعروف اليوم » وهذا يعرب عن أنّه تصور أنّ نسبة العوالم الامكانية إلى الواجب كنسبة البناء إلى الباني ، فإنّ القول بوجود القوى في الأسباب الطبيعية ليس بمعنى استقلالها في الوجود والايجاد بل بمعنى أنّ وجودها وايجادها وجوهرها وآثارها قائمة به ومؤثّرة بحوله وقوّته وأمره وإذنه ، فهو الذي أعطى قوّة الاحراق للنار وقوة التبريد للماء : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا ) ( يونس / 5 ).

وينزل منه فيض الوجود إلى الممكنات دوماً وفي كلّ لحظة فلحظة وآن وآن.

وثالثاً : نتنزّل عن كلّ ما ذكرنا ونقول : إنّ نسبة العلل الطبيعية إلى اللّه سبحانه لا تقلّ عن نسبة الوكيل إلى الموكل والعبد إلى مولاه ، ومدير الشركة إلى أصحابها.

فالعبد يعمل لمولاه ، والوكيل يشتري ويبيع في متجر الموكّل ، والمدير يخطّط اُمور التجارة ويمهّد لها ، والكلّ مبادئ أفعال وآثار وفي الوقت نفسه ينسب أفعالهم إلى السيّد والموكّل وأصحاب الشركة ، وما ذلك إلاّ لأجل انّهم قاموا بهذه الاُمور ونالوا هذا المنصب بإذنهم وأمرهم وإرادتهم ، وإذا لم يريدوا حالوا بينهم وبين أفعالهم ، ولأجل ذلك فلو باع الوكيل دار الموكّل ينسب الفعل إليهما جميعاً لكن الوكيل غير مستقل والموكّل مستقل ، وفعل الوكيل فعله بالتسبيب.

هذا هو الخط الذي يجب أن يمشي عليه المفسّر في تنسيق هذه الايات وتفسيرها ، والمراد الايات التي ينسب الفعل الواحد إلى اللّه سبحانه وفي الوقت نفسه إلى الإنسان وإلى غيره وإليك نماذج من هذا النوع من الايات :

1 - يقول سبحانه : ( قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الهُدَى ) ( البقرة / 120 ). فترى أنّه يحصر الهداية في اللّه سبحانه وفي الوقت نفسه يسمّي النبي هادياً ويقول : ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( الشورى / 52 ). فما معنى الحصر المتقدّم ونسبة الهداية إلى النبي الأكرم ؟

والجمع أنّ الهداية الأصيلة القائمة باللّه مختصّة به ، وأمّا الهداية المفاضة

ص: 213

المكتسبة المأذونة فإنّما هو للعبد ، فهناك هداية واحدة تنسب إلى اللّه أوّلاً وإلى الثاني استقلالاً وتبعاً ، واللّه سبحانه هاد بلا شكّ والنبي الأعظم هاد حقيقة بلا شائبة مجاز ، لكن بتمكين وإقدار وإذن منه ، ومثل ذلك لا يوجب كون النبي مستقلاً في فعله ويكون كجهاز العقل الآلي.

2 - يأمر القرآن - في سورة الحمد - بالاستعانة باللّه وحده ، إذ يقول :

( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) .

في حين نجده في آية اُخرى يأمر بالاستعانة بالصبر والصلاة ، إذ يقول :

( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) ( البقرة / 45 ).

3 - يعتبر القرآن الكريم الشفاعة حقاً مختصّاً باللّه وحده ، إذ يقول :

( قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ) ( الزمر / 44 ).

بينما يخبرنا - في آية اُخرى - عن وجود شفعاء غير اللّه كالملائكة :

( وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللّهُ ) ( النجم / 26 ).

4 - يعتبر القرآن الإطلاع على الغيب والعلم به منحصراً في اللّه ، حيث يقول :

( قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللّهُ ) ( النمل / 65 ).

فيما يخبر الكتاب العزيز في آية اُخرى عن أنّ اللّه يختار بعض عباده لاطلاعهم على الغيب ، إذ يقول :

( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ ) ( آل عمران / 179 ).

5 - ينقل القرآن عن إبراهيم علیه السلام قوله بأنّ اللّه يشفيه إذا مرض حيث يقول : ( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) ( الشعراء / 80 ).

ص: 214

وظاهر هذه الاية هو حصر الشفاء من الأسقام في اللّه سبحانه ، في حين أنّ اللّه يصف القرآن والعسل بأنّ فيهما الشفاء أيضاً ، حيث يقول :

( فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ ) . ( النحل / 69 )

( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ ) ( الاسراء / 82 ).

6 - إنّ اللّه تعالى - في نظر القرآن - هو الرزّاق الوحيد ، حيث يقول :

( إِنَّ اللّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ ) ( الذاريات / 58 ).

بينما نجد القرآن يأمر المتمكّنين وذوي الطول بأن يرزقوا من يلوذ بهم من الضعفاء ، إذ يقول :

( وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ ) ( النساء / 5 ).

7 - الزارع الحقيقي - حسب نظر القرآن - هو اللّه كما يقول :

( أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ) ( الواقعة / 63 و 64 ).

في حين انّ القرآن الكريم - في آية اُخرى - يطلق صفة الزارع على الحارثين ، إذ يقول :

( يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ) ( الفتح / 29 ).

8 - إنّ اللّه هو الكاتب لأعمال عباده ، إذ يقول :

( وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ) ( النساء / 81 ).

في حين يعتبر القرآن الملائكة - في آية اُخرى - بأنّهم المأمورون بكتابة أعمال العباد ، إذ يقول :

( بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) ( الزخرف 80 ).

9 - وفي آية ينسب تزين عمل الكافرين إلى نفسه سبحانه يقول :

( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ ) ( النمل / 4 ).

ص: 215

وفي الوقت نفسه ينسبها إلى الشيطان :

( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ ) ( الأنفال / 48 ).

وفي آية اُخرى نسبها إلى آخرين وقال :

( وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ) ( فصّلت / 25 ).

10 - مرّ في هذا البحث حصر التدبير في اللّه حتى إذا سئل من بعض المشركين عن المدبّر لقالوا : هو اللّه ، إذ يقول في الاية 31 من سورة يونس :

( وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ ) .

بينما اعترف القرآن بصراحة في آيات اُخرى بمدبّريّة غير اللّه حيث يقول :

( فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ) ( النازعات / 5 ).

فمن لم يكن له إلمام بمعارف القرآن يتخيّل لأوّل وهلة أنّ بين تلك الايات تعارضاً غير أنّ الملمّين بمعارف الكتاب العزيز يدركون أنّ حقيقة هذه الاُمور ( أعني الرازقيّة والشفاء و ... ) قائمة باللّه على نحو لا يكون لله فيها أيّ شريك فهو تعالى يقوم بها بالاصالة وعلى وجه « الاستقلال » في حين أنّ غيره محتاج إليه سبحانه في أصل وجوده وفعله ، فما سواه تعالى يقوم بهذه الأفعال والشؤون على نحو « التبعيّة » وفي ظل القدرة الالهية.

وبما أنّ هذا العالم هو عالم الأسباب والمسببات ، وأنّ كل ظاهرة لابدّ أن تصدر وتتحقّق من مجراها الخاص بها المقرر لها في عالم الوجود ، ينسب القرآن هذه الآثار إلى أسبابها الطبيعية دون أن تمنع خالقية اللّه من ذلك ، ولأجل ذلك يكون ما تقوم به هذه الموجودات فعلاً لله في حين كونها فعلاً لنفس الموجودات ، غاية ما في الأمر انّ نسبة هذه الامور إلى الموجود الطبيعي نفسه إشارة إلى الجانب « المباشري » فيما يكون نسبتها إلى « اللّه » إشارة إلى الجانب « التسبيبي ».

ص: 216

ويشير القرآن إلى كلا هاتين النسبتين في قوله سبحانه :

( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى ) ( الأنفال / 17 ).

ففي حين يصف النبي الأعظم بالرمي ، إذ يقول بصراحة « إذ رميت » نجده يصف اللّه بأنّه هو الرامي الحقيقي ، وذلك لأنّ النبي إنّما قام بما قام بالقدرة التي منحها اللّه له ، فيكون فعله فعلا لله أيضاً ، بل يمكن أن يقال : إنّ انتساب الفعل إلى اللّه ( الذي منه وجود العبد وقوّته وقدرته ) أقوى بكثير من انتسابه إلى العبد بحيث ينبغي أن يعتبر الفعل فعلاً لله لا غير ، ولكن شدّة الانتساب هذه لا تكون سبباً لأن يكون اللّه مسؤولاً عن أفعال عباده ، إذ صحيح انّ المقدّمات الأوّلية للظاهرة مرتبطة باللّه وناشئة منه إلاّ أنّه لما كان الجزء الأخير من العلّة التامّة هو إرادة الإنسان ومشيئته بحيث لولاها لما تحققت الظاهرة ، يعدّ هو مسؤولاً عن الفعل.

الخامس والثلاثون : « الخلاّق »

وقد تبيّن حاله ممّا ذكرناه في الاسم السابق.

السادس والثلاثون : « الخبير »

وقد ورد لفظ الخبير في الذكر الحكيم 45 مرّة وجاء اسماً له سبحانه في جميع الموارد ، واستعمل تارة مع « الحكيم » واُخرى مع « البصير » وثالثة مع « العليم » ورابعة مع « اللطيف ».

قال سبحانه : ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ) ( الأنعام / 18 ).

وقال سبحانه : ( وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ) ( الشورى / 27 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) ( الحجرات / 13 ).

ص: 217

وقال سبحانه : ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) ( الأنعام / 103 ).

ويستظهر معناه ممّا قورن به من كونه حكيماً وبصيراً وعليماً ولطيفاً.

قال ابن فارس : « خبر » له أصلان : الأوّل العلم ، والثاني يدل على لين ورخاوة وغزر ، فالأوّل الخبر : العلم بالشيء ، تقول لي بفلان خبره وخبر ، واللّه تعالى الخبير أي العالم بكلّ شيء ، وقال اللّه تعالى : ( وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) ، والثاني الخبراء وهي الأرض الليّنة والخبير الأكّار وهو من هذا ، لأنّه يصلح الأرض ويدمّثها ويلينها » (1).

وقال الراغب : « العلم بالأشياء المعلومة من جهة الخبر ، وخبرته خبراً وخبرة وأخبرت وأعلمت بما حصل لي من الخبر ، وقيل الخبرة : المعرفة ببواطن الأمر ».

وفسّره الصدوق بمطلق العلم وقال : « الخبير معناه العالم ، والخبر والخبير في اللّغة واحد ، والخبر علمك بالشيء ، يقال لي به خبر أي علم » (2) والظاهر انّ المراد هو الثاني وهو العلم بكنه الشيء والخبير هو المطّلع على حقيقته وإليه يشير قوله : ( فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ) ( الفرقان / 59 ).

وقوله : ( وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) ( فاطر / 14 ). نعم الخبير صفة المخلوقين إنّما يستعمل في العلم الذي يتوصل به في الاختبار والامتحان واللّه منزّه منه (3).

وأمّا حظ العبد فيمكن أن يكون مظهراً لهذا الاسم بالبحث والفحص عن أسرار الكون ودقائقه ، ومحاسن الأخلاق وقبائحه.

ص: 218


1- مقاييس اللغة ج 2 ص 231.
2- كتاب التوحيد : ص 216.
3- لوامع البينات للرازي : ص 248.

السابع والثلاثون : « الخير »

اشارة

وقد ورد لفظ « الخير » مرفوعاً في الذكر الحكيم 176 مرّة ووقع اسماً ووصفاً له سبحانه مرّتين.

قال سبحانه : ( وَاللّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) ( طه / 73 ) ، وقال ( قُلِ الحَمْدُ للهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( النمل / 59 ).

هذا في ما وقع له وصفاً مفرداً ، وأمّا إذا اُضيف إلى اسم من أسمائه سبحانه فقد جاء في الذكر الحكيم الأسماء التالية :

1 - خير الحاكمين. 2 - خير الراحمين. 3 - خير الرازقين. 4 - خير الغافرين. 5 - خير الفاتحين. 6 - خير الفاصلين. 7 - خير الماكرين. 8 - خير المنزلين. 9 - خير الناصرين.10 - خير الوارثين. 11 - خير حافظا.

وهذا الأخير شبه المضاف ولذلك أتينا به في عداد المضاف ، ونقدّم البحث عن « الخير » غير المضاف ثمّ نأتي بالمضاف من « الخير ».

« الخير » كما قال ابن فارس خلاف الشرّ والضرّ.

قال سبحانه : ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ ) ( آل عمران / 180 ).

وقال سبحانه : ( وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( الأنعام / 17 ). وفي جميع الأحوال ، وخير مقيّد ونسبيّ وهو أن يكون خيراً لواحد ، وشراً لآخر كالمال فقد أسماه سبحانه في مورد خيراً وقال : ( إِن تَرَكَ خَيْرًا ) ( البقرة / 180 ) وفي مورد آخر بخلافه وقال : ( أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ ) ( المؤمنون / 55 و 56 ).

فالمال في يد الرجل التقيّ خير يقري به الضيف ويقضي حاجة المستنجد ، و

ص: 219

في يد الرجل الفاسق شرّ ، لأنّه يصرفه في العصيان والطغيان ، واللّه سبحانه خير مطلق لا شرّ فيه ولا يصدر منه الشرّ وليس للشرّ إليه سبيل.

هذا وربّما يطرح هناك سؤال وهو انّه سبحانه لو كان خيراً محضاً فما هو المبدئ للمصائب والآلام التي ملأت العالم كالزلازل الهدّامة والسيول الجارفة والسباع الضارية ، إلى غير ذلك ممّا يسمّى شرّاً.

أقول : هذا ممّا شغل بال الباحثين طيلة سنين وأجابوا عنه بوجوه :

1 - النظرة الأنانيّة إلى الظواهر :

إنّ ما يظن من الحوادث الشاذّة متّسمة بالشرّ إنّما ينبع من نظر الإنسان إلى هذه الاُمور من خلال مصالحه الشخصيّة ويجعلها محوراً وملاكاً لتقييم هذه الاُمور فعندما يراها نافعة لشخصه وذويه ، يصفها بالخير وإلاّ فيصفها بالشرّ ، فهو في هذا الحكم لا ينطلق إلاّ من نفسه ومصالحه الشخصيّة ومن يقرّبه بأواصر القومية ، ولأجل ذلك يصف الطوفان الجارف الذي يكتسح مزرعته ، والسيل العارم الذي يهدّم منزله ، والزلزلة التي تضعضع أركان بيته بالشرّ والبلاء ، ولكنّه يتجاهل غيره من البشر الذين يقطنون في مناطق اُخرى من العالم ، أو الذين عاشوا في غابر الزمان أو يعيشون في مستقبله أن تكون هذه الحوادث مفيدة لأحوالهم وحياتهم ، وما أشبه هذا الإنسان ورؤيته برؤية عابر سبيل ، يرى جرّافة تحفر الأرض أو تهدم أبنية فيقضي من فوره أنّه عمل ضارّ ومسيئ ، وهو لا يدري أنّ ذلك التخريب والتهديم مقدّمة لبناء مستشفى كبير يستقبل المرضى ويعالج المصابين ويهيّئ لمئات الآلاف من المحتاجين إلى العلاج ، ولو وقف على تلك الغاية لما وصف التهديم بالشرّ بل تتلقّاه خطوة نافعة.

إنّ مثل هذا الإنسان المحدود النظرة الأناني في تقييمه مثل الخفّاش الذي يؤذيه النور لأنّه يقبض بصره ، بينما يبسط هذا النور ملايين العيون ، ويساعدها على

ص: 220

الأبصار والرؤية ، ويوفّر لها إمكانيّة الحياة ، فهل يكون قضاء الخفّاش على النور بأنّه شرّ ملاكاً لتقييم هذه الظاهرة ؟

إنّ الحوادث حلقات مترابطة في سلسلة ممتدّة من أوّل الحياة إلى أقصاها ، فما يقع الآن يرتبط بما وقع في أعماق الماضي ، وبما سيقع في المستقبل في سلسلة من العلل والمعاليل والأسباب والمسبّبات ، ومن هنا لا يكون القضاء على ظاهرة من الظواهر بغض النظر عمّا سبقها وما يلحقها ، وتقييمها جملة واحدة ، قضاء صحيحاً وموضوعيّاً ، ولا النظر إليها دون هذا الشكل نظراً صائباً ، وإليك بعضالأمثلة :

إذا وقعت عاصفة على السواحل فإنّها تقطع الأشجار وتهدّم الأكواخ وتقلّب الاثاث ، ويوصف بالشرّ عند القياس إلى النفس ، ولكنّها في الوقت نفسه توجب حركة السفن الشراعيّة المتوقّفة في عرض البحر بسبب سكون الريح ، وبهذا تنقذ حياة المئات من ركابها اليائسين من نجاتهم وتوصلهم إلى شواطئ النجاة.

صحيح انّ العاصفة تهدّم بعض الجدران وتقلع بعض الأشجار ولكنّها تعتبر وسيلة فعّالة في عملية التلقيح بين الأشجار والأزهار ، كما يعتبر وسيلة فعّالة لتحريك السحب الحاملة للمطر ، وتبدّد الأدخنة المتصاعدة من فوهات المصانع والمعامل ، إلى غير ذلك من الآثار الطيّبة لهبوب الرياح التي تتضاءل عندها بعض الآثار السيّئة أو تكاد تنعدم بالمرّة.

وهناك ندرك سرّ قوله سبحانه في الكتاب العزيز عن علم الإنسان وعجزه حيث قال : ( وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) ( الاسراء / 85 ). وقال : ( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ) ( الروم / 7 ).

كلّ ذلك يصدّنا من التسرّع في القضاء والحكم على الحوادث بالشرّ لضآلة علمنا بما جرى في السابق وما يجري حالياً وما سيجري في المستقبل ، وليست هذه الحادثة منفصلة عن الحوادث في الظروف الثلاثة ، فلعلّها بالنسبة إليها تحمل

ص: 221

مصالح كبيرة يحقر عنده ما يصاب الإنسان من الشرّ والبلاء.

إنّ هنا كلمة قيّمة للفيلسوف الإلهي صدر الدين الشيرازي يقول :

« واعلم أنّه قد تحيّرت العقول في كون بعض الحيوانات آكلة لبعض ، وفيما جعل اللّه تعالى ذلك في طباعها وهيّأ لها الآلات والأدوات التي يتمكّن بها على ذلك كالأنياب والمخالب والأظافير الحداد التي بها يقدر على القبض والضبط والخرط والنهش والأكل والشهوة واللذّة والجوع وما شاكل ذلك مع ما يلحق المأكولات منها من الآلام والأوجاع والفزع عند الذبح والقتل ، فلمّا تفكّروا في ذلك ولم تسنح لهم العلّة ولا الغاية والحكمة ، فاختلفت عند ذلك بهم الآراء وتفنّنت بهم المذاهب ، حتى قال بعضهم : إنّ تسلّط الحيوانات بعضها على بعض وأكل بعض لبعض ليس في فعل حكيم بل فعل شرير قليل الرحمة ظلاّم للعبيد ، فلهذا قالوا : إنّ للعالم فاعلين خيّراً وشريراً.

وإنّما لم يقفوا عليها لأنّ نظرهم كان جزئيّاً ، وبحثهم عن علل الأشياء مخصوصاً ، ويمتنع أن يعلم أسباب الأشياء الكلّيّة بالأنظار الجزئيّة ، لأنّ أفعال البارئ تعالى إنّما الغرض منها هو النفع الكلّي والصلاح على العموم وإن كان يعرض من ذلك ضرر جزئي ومكاره مخصوصة أحياناً ، وهكذا خلق اللّه الشمس والقمر والامطار لأجل النفع والمصلحة العامّة ، وإن كان قد يعرض لبعض الناس والحيوان والنبات من ذلك ضرر ، ولمّا كان الأمر يؤول إلى الصلاح الكلّي كانت تلك الشدائد من جهته صغيرةً جزئيّةً (1).

وبوجه إجمالي القضاء على بعض الظواهر بأنّه شرٌّ ناشئ من انطلاق الإنسان في قضائه على هذه الظواهر من منطلق نفعيّ أناني ، وأمّا إذا نظر إلى تلك الظواهر من زاوية النظام العام فلا يراها إلاّ خيرات ضرورية لتعادل النظام ولازمة لاتّساقه واستمرار الحياة وبقائها.

ص: 222


1- الاسفار ج 7 ص 98 - 99.

وفي ذلك يقول الحكيم السبزواري :

ما ليس موزونا لبعض من نغم *** ففي نظام الكلّ ، كلّ منتظم

2 - الشرّ أمر انتزاعي قياسيّ نسبيّ
اشارة

ما ذكرنا من الجواب يعمّ كافّة الناس بشرط أن يتنازلوا عمّا يتصوّرون من الاحاطة على أسرار الكون وحقائقه ، وهناك جواب آخر يهمّ المحقّقين في العلوم العقلية وحاصل هذا الجواب : إنّ الشر أمر عدمي ليس له واقعيّة في صفحة الكون ، بل هو أمر انتزاعي تنتزعه النفس عند مقايسة أمر بأمر ، والاشكال إنّما يرد لو كان له واقع خارجي في حدّ ذاته ، وأمّا إذا كان كلّّ ما في الكون متّسما بسمة الخير وكانت الشرور مخلوقة ذهن الإنسان عند مقايسة ظاهرة بظاهرة ومشاهدة التنافر والتضاد بينهما فلا ، إذاً ليس لها واقع خارجي يحتاج إلى الايجاد والخلق ، وإنّما هي اُمور وهميّة يخلقها الذهن عند المقايسة ومشاهدة التضاد بين الحادثين ، بحيث لولا حديث المقايسة لما كان للشرّ في صفحة الكون واقعيّة وحقيقة ، فنقول في توضيح ذلك :

إنّ الصفات على قسمين :

1 - ما يكون له واقعيّة كموصوفه مثل قولنا : الإنسان موجوداً أو انّ المتر = 100 سنتمتر وهذه صفة حقيقيّة لها واقعيّة خارجيّة توجّه إليها الذهن أم لا ؟

2 - ما لا يكون له واقعية مثل موصوفه بل ينتزعه الذهن عند المقايسة كالكبر والصغر ، فإنّ الكبر ليس شيئاً ذات واقعيّة خارجيّة ، وانّما هي صفة ينتزعها الذهن بالقياس إلى ما هو أصغر منه.

مثلاً الأرض له حجم واقعي ومساحة خاصّة كما أنّ الشمس كذلك ، فالحجم والمساحة في كلّ منهما ذات واقعيّة خارجيّة ، إلاّ أنّ هناك أمراً ثالثاً وهو انّ الأرض أصغر من الشمس والشمس أكبر منه ، أو أنّ القمر أصغر من الأرض والأرض أكبر

ص: 223

من القمر ، فليس الكبر والصغر من الاُمور الواقعيّة ، بل إنّما هي مفاهيم ذهنيّة تنتزع عند القياس.

ولأجل ذلك تتّصف الأرض تارة بالصغر واُخرى بالكبر ، فليس هنا واقعيّة وراء الحجم والمساحة حتى يكون محقّقاً للصغر والكبر.

وفي ضوء هذا تقدر على حلّ الشرور فإنّها اُمور قياسيّة نسبيّة ، فسمّ الحيّة والعقرب وغزارة المطر ليست من الشرور بتاتاً إذا لوحظ كلّ واحد بنفسه ، بل هي سبب لكمال أصحابها وموجب لبقائها ، وإنّما يتّسم بالشر إذا قيس إلى الإنسان ولوحظ المنافرة بينهما.

وعند ذلك فالشرّ ليس ممّا يتعلّق به الخلق والايجاد لأنّ المفروض أنّها اعدام لا موجودات ، واتّصافه بالشرّ إنّما هو وليد الذهن وبانتزاعه ، فسمّ العقرب والحيّة بما هي هي مخلوق لله سبحانه وتعالى ، وأمّا كونه ضارّاً بالنسبه للإنسان فليس شيئاً واقعيّا وراء السمّ حتى يحتاج إلى الخالق ، وإنّما ينطلق إليها الذهن عند المقايسة.

إلى هنا خرجنا بجوابين عن الاشكال :

1 - إنّ وصف الإنسان لبعض الظواهر بكونها شرّاً لأجل النظر إليها من زاوية ضيّقة ، وأمّا إذا لوحظت من زاوية النظام العام فهي موصوفة بالخير.

2 - إنّ بعض الحشرات والضواري والسباع التي يصفها الإنسان بالشرّ لا يكون الموجود منها سوى ذواتها وأجهزتها ، وأمّا الاتصاف بالشريّة فليس إلاّ أمراً ذهنيّا لا خارجيّاً فلذلك لا يقع في صفحة الخلق.

وإلى ما ذكرنا يشير الحكيم السبزواري :

والشرّ اعدام فكم قد ضلّ من *** يقول باليزدان ثم الأهرمن

ما ذكرنا من الجوابين كان تحليلاً فلسفيّاً ولكن هناك تحليلات اُخرى للشرور وهي تحليلها من جانب الآثار التربويّة وحاصلها : إنّ لهذه الحوادث الأليمة و

ص: 224

المصائب المحزنة آثار تربويّة مهمّة في حياة البشر ، ولأجل ذلك وقعت في حيّز الخلق وذلك من باب تقديم الخير الكثير على الشرّ الكثير ، وإليك بيان تلك الآثارالتربويّة.

1 - المصائب وسيلة لتفجير القابليات

1 - المصائب وسيلة لتفجير القابليات (1)

يحطّ الإنسان قدمه على هذه الأرض وهو يحمل في كيانه جملة كبيرة من القابليات والمواهب التي تبقى في مرحلة القوى وفي صورة الطاقات المعطّلة المخزونة ، إلاّ أن تتوجّه إليها صدمة قويّة تحرك القابليات ، وتفجّر المواهب ، وتظهر المعادن ، وتصقل الجواهر.

وبعبارة واضحة : إذا لم يتعرّض الإنسان للمشاكل في حياته فإنّ قابليّاته ومواهبه المكنونة بين جوانحه ستبقى جامدة هامدة لا تنمو ولا تنفتح ، بل تبقى في مرحلة القوّة والذخيرة المهملة ، فإذا تعرّض الإنسان للمشاكل والمحن تفتّقت فيه تلك القابليات ، ونمت تلك المواهب ، وانتقلت الطاقات الكامنة من مرحلة القوّة إلى مرحلة الفعلية ، وتفتّح فكره ، وتكامل عقله.

ولا يعني هذا أن يعمد الإنسان بنفسه إلى خلق المشاكل ، وإثارة الشدائد والمصائب وجرّها إلى نفسه ابتداءً ، بل يعني أن يستقبلها الإنسان - إذا جاءت - برحابة صدر ، ويستفيد منها في تفجير قابلياته ، وتنمية مواهبه ، وإذكاء عقله ، وتقوية روحه ، لا أن يستسلم أمام عواصفها ، أو ينهزم أو ينهار ، فلا يحصد إلاّ الخسران ، ولا يقطف إلاّ ثمرة السقوط المرّة.

إنّ البلايا والمصائب والمحن خير وسيلة - لو أحسن المرء استغلالها واستخدامها - لتفجير الطاقات ، بل تقدّم العلوم ، ورقيّ الحياة البشريّة.

فهاهم علماء الحضارة يصرّحون بأنّ أكثر الحضارات لم تتفتّق ولم تزدهر إلاّ

ص: 225


1- لاحظ : اللّه خالق الكون ص 270 - 277 ، فقد نقلناه منه.

في أجواء الحروب والصراعات والمنافسات ، حيث كان الناس يلجأون فيها إلى استحداث وسائل الدفاع وفي مواجهة الأعداءِ المهاجمين ، أو اصلاح ما خلّفته الحروب من دمار ونقص وتخلّف ، أو تهيئة ما يستطيعون به على مقاومة الحصار مثلاً.

فقد كانت - في مثل هذه الظروف - تتفتّق المواهب وتتحرّك القابليّات لملافاة مافات ، وتكميل ما نقص وتهيئة ما يلزم. ومن هنا قالوا : إنّ الحاجة اُمّ الاختراع.

قال العلامة الطباطبائي في هذا الصدد :

« إنّ البحث الدقيق في العوامل المولّدة للسجايا النفسانيّة بحسب الأحوال الطارئة على الإنسان في المجتمعات يهدي إلى ذلك ، فإنّ المجتمعات العائلية والأحزاب المنعقدة في سبيل غرض من الأغراض الحيوية دنيويّة أو دينيّة في أوّل تكوّنها ونشأتها تحسّ بالموانع المضادّة والمحن الهادمة لبنيانها من كلّ جانب فتتنبّه قواها الدافعة للجهاد في سبيل هدفها المشروع عندها ، ويستيقظ ما نامت من نفسيّاتها للتحذّر من المكاره ، والتفدية في طريق مطلوبها بالمال والنفس ، ولا تزال تجاهد وتفدي ليلها ونهارها ، وتتقوّى وتتقدّم حتى تمهّد لنفسها فيها بعض الاستقلال ويصفو لها الجوّ بعض الصفاء ، وتأخذ بالاستفادة من فوائد جهدها » (1).

ثم إنّنا لا ندّعي بأنّ هذه النتائج والثمار توجد دائماً في جميع الحوادث والكوارث ، وإنّما في أغلبها.

فإنّ أغلبيّة هذه المصائب والبلايا تعطي دفعة قويّة لقابليات الأفراد ، وتطرد الكسل عن نفوسهم والجمود عن أفكارهم.

أليس الحديد يزداد قوة وصلابة كلّما تعرّض للنار ، وأليس السيف يزداد حدة وقاطعية كلّما تعرّض للمبرد.

ص: 226


1- الميزان ج 9 ص 124.

ومن هنا فإنّ الوالدين اللذين يعمدان إلى تربية ولدهما تربية ناعمة مرفّهة بعيدة عن الصعوبات والشدائد ، لا يقدّمان إلى المجتمع إلاّ إنساناً هزيلاً ضعيف الإرادة فاقد الطموح ، أشبه ما يكون بالنبتة الغضّة في مهبّ الريح ، بل والتبنة الخفيفة الوزن أمام هبوب العاصفة تأخذها يميناً وشمالاً.

وأمّا الذي ينشأ نشأة خشنة محفوفة بالمشاكل والمصائب ، والمصاعب والمتاعب ، فإنّه يكون أشبه بالصخرة الصلبة التي تتكسر عليها كلّ السهام ، وتتحطّم عندها كلّ العواصف أو كما وصف الامام علي علیه السلام إذ قال :

« ألا انّ الشجرة البرّية أصلب عوداً والروائع الخضرة أرقّ جلوداً ، والنباتات البدوية أقوى وقوداً ، وأبطأ خموداً » (1).

وإلى هذه الحقيقة ذاتها يشير قوله سبحانه :

( فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ) ( النساء / 19 ).

وقوله تعالى :

( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ) ( الشرح / 5 و 6 ).

وقوله سبحانه :

( فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب ) ( الشرح / 7 و 8 ).

أي تعرّض للنصب والتعب بالاقدام على العمل والسعي والجهد كلّما فرغت من العبادة ، وكأنّ النصر والمحنة حليفان لا ينفصلان ، واخوان لا يفترقان.

وخلاصة القول : إنّ القدرة على المقاومة والظفر بالنجاح يتوقّف على صلابة الإنسان الحاصلة من المرور بالصعوبات والمشاق ، ليزداد قوّة إلى قوّة ، وتماسكاً إلى تماسك كما يزداد الحديد صلابة إذا تعرّض لمطرقة الحدّاد ، ولكي يخلص عقله وروحه من علائق الكسل والجمود كما يخلص الذهب من الشوائب إذا تعرّض لألسنة اللّهب.

ص: 227


1- نهج البلاغة - الرسالة رقم 45.
2 - المصائب والبلايا جرس انذار :

إنّ التمتع بالمواهب المادية ، والاستغراق في اللذائذ والشهوات يوجب غفلة كبرى عن القيم الأخلاقيّة.

فكلّما ازداد الإنسان تعمّقاً في اللذائذ والنعم ، ازداد ابتعاداً عن الجوانب المعنوية ، وربّما انتهى به الحال إلى أن ينسى نفسه بالمرّة.

وهذه حقيقة يلمسها كلّ فرد في حياته وحياة غيره ، كما يقرأها في صفحات التاريخ.

فلابد - حينئذ - من وخزة للضمير ، وهزّة للعقل ... لابد من جرس للانذار يذكّر الإنسان بنفسه ويفيقه من غفوته ، وينبّهه من غفلته ، وليس هناك ما هو أنفع - في هذا المجال - من بعض الحوادث التي تغيّر رتابة الحياة ، وتقطع على الإنسان شروده وغفلته ، ولهوه ولذّته ، فإذا انقطع نظام الحياة الناعمة بشيء من المزعجات ، واعترضت لذّته بعض المنغّصات ، استيقظ من نومه ، وأدرك عجزه ، وتخلّى عن غروره ، وخفّف من طغيانه.

إنّ الذي يعيش حياة ناعمة رتيبة يشبه إلى كبير من يركب في سيارة يقودها سائق ، تسير على طريق مبلّط فيغطّ في نوم عميق ، لا يستيقظ منه إلاّ إذا كبس السائق على فرامل السيارة فجأة ، وتوقّفت دون سابق اخبار ، أو مرّ على قطعة غير مبلّطة ، فأحدثت رجفة قويّة.

ولهذا تعمد الأجهزة المسؤولة عن الطرق والمواصلات إلى غرس بعض القطع الناتئة على متن الطرق حتى يوجب ذلك تنبيه السائقين بسبب ما تحدثه من هزّات للسيارة كيلا يستسلموا للنوم والنعاس.

ولأجل ذلك يتّضح وجه ربط الطغيان باحساس الغنى والاستغناء في الكتاب العزيز إذ يقول سبحانه :

( إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ) ( العلق / 6 و 7 ).

ص: 228

كما ولأجل هذا يعلّل القرآن الكريم بعض النوازل والمصائب بأنّها لفائدة الذكرى ، فالرجوع إلى اللّه ، والتضرّع إليه.

يقول سبحانه في هذا الصدد :

( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ) ( الاعراف / 94 ).

ويقول أيضاً :

( وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) ( الاعراف / 130 ).

فالآيتان تصرّحان بأنّ المصائب والبلايا سبب لتضرّع الإنسان إلى اللّه ، وتذكّره ، فهو إذا نسي اللّه في غمار الشهوة والماديّة ، أيقظته المحنة وذكّرته باللّه ، إذ بها يدرك أنّه فقير عاجز لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً ، وإنّ اللذة الدنيوية لذّة عابرة ، وشهوة متصرّمة ، وإنّه لا ملجأ له ولا معين إلاّ اللّه.

وهكذا تكون البلايا والمصائب سبباً ليقظة الإنسان ، وتذكّره ، وتنبّهه وتضرّعه إلى اللّه ، فهي بمثابة صفعة الطبيب على وجه المريض المبنّج الّتي لولاها لانقطعت حياة المريض وتعرّضت لخطر الموت.

وهكذا توجب المحن والمصائب التكامل الاخلاقي كما توجب التفتّح العقلي على ما عرفت في النقطة الأُولى ، وقد يتّخذ الإنسان من النوازل والمحن وسيلة لتذكّره ويقظته والتخلي عن غروره ، وعندئذ تكون البلايا نعماً إلهية في حقّ الإنسان.

وقد لا يتخذ منها أيّ موقف أبداً فتكون في هذه الحالة - بالذات - مصيبة عليه ، وكارثة في حياته.

ص: 229

3 - البلايا سبب للعودة إلى الحق :

إنّ للكون هدفاً ، كما أنّ لخلق الإنسان هدفاً كذلك ، وليس الهدف من خلق الإنسان إلاّ أن يتكامل في جميع أبعاده ، وما بعث الأنبياء وانزال الكتب والشرائع إلاّ لتحقيق هذا الهدف العظيم ، والغاية السامية.

ولمّا كانت المعاصي والذنوب من أكبر الأسباب التي توجب بعد الإنسان عن الهدف الذي خلق الإنسان من أجله ، وتعرقل مسيرة تكامله ، لأنّ الذي يعيش طيلة حياته في الكذب والنفاق وغيرها من المعاصي لا يمكن أن يتوصّل إلى هدف الخلقة بل يبقى كالحيوان غائب الرشد سادر الفكر ، كان لابدّ من صدمة تعيده إلى رشده ، وتردّه إلى صوابه ، وكذلك تفعل البلايا والمصائب فإنّها بقطعها نظام الحياة وايقافها للإنسان العاصي على نتائج أعماله توجب رجوعه إلى الحقّ وعودته إلى العدالة ، أو تدفعه إلى أن يعيد النظر في سلوكه ومنهجه في الحياة على الأقل.

إنّ القرآن الكريم يشير إلى هذه الحقيقة - بوضوح لا ابهام فيه - إذ يقول :

( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) ( الروم / 41 ).

ويقول سبحانه في آية اُخرى :

( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ( الأعراف / 96 ).

نقطتان هامّتان :

ويجدر بنا في ختام هذا البحث أن نشير إلى نقطتين هامّتين :

الاُولى : إنّ بقاء الحياة على نمط واحد ووتيرة واحدة يوجب ملل النفس وكلل الروح وتعب العقل ، فلا تكون الحياة محبّبة لذيذة إلاّ إذا تراوحت بين المرّ والحلو ، والجميل والقبيح ، والمحبوب والمكروه ، إذ لا يمكن معرفة السلامة إلاّ عند

ص: 230

العيب ، ولا الصحّة إلاّ عند المرض ، ولا العافية إلاّ عند الاصابة بالحمّى ، ولا تدرك لذة الحلاوة إلاّ عند تذوّق المرارة.

وبالجملة لولا المرض لما علمت قيمة الصحّة ، ولولا الشتاء لما عرفت قيمة الصيف ، وهكذا.

ومن هنا نجد البنّائين والمهندسين إذا بنوا داراً تفنّنوا في بناء الجدران والسقوف ، فبنوها متموّجة متعرّجة لا مسطّحة خالية من أية تعرجات وتموّجات ، لأنّ النفس الميّالة بطبعها إلى التنوّع لا ترتاح إلاّ برؤيتها للجدار المتنوّع الأشكال والسطوح.

ولعلّ لهذا السبب كانت الوديان إلى جانب الجبال ، والأشواك إلى جانب الورود ، والثمار المرة إلى جانب الثمار الحلوة ، والماء الاُجاج إلى جانب الماء العذب الفرات ، وعبور الأنهر والمياه عبر الجداول المتعرجة الملتوية في بطون السهول والأودية.

إنّ المصائب وإن كانت مرّة غير مستساغة ، ولا مأنوسة المذاق ، إلاّ أنّها تبرز من جانب حلاوة الحياة وقيمة النعم ، وأهمّية المواهب.

فجمال الحياة وقيمة الطبيعة ينشآن من هذا التنوّع والانتقال من حال إلى حال ، والتبدّل من وضع إلى آخر.

الثانية : إنّ هناك من المحن ما ينسبها الإنسان الجاهل إلى خالق الكون والحال أنّ أكثرها من كسب نفسه ونتيحة منهجه.

فإنّ الأنظمة الطاغوتية هي التي سبّبت تلك المحن وأوجدت تلك الكوارث ، ولو كانت هناك أنظمة قائمة على قيم إلهية لما تعرّض البشر لتلك المحن ولما أصابته أكثر تلك النوائب.

فالتقسيم الظالم للثروات - مثلاً - هو الذي سبّب في تجمّع الثروة عند قلّة قليلة ، وانحسارها عن جماعات كثيرة ، وتمتّع الطائفة الاُولى بكلّ وسائل الوقاية و

ص: 231

الحماية ضد الأمراض والحوادث ، وحرمان غيرهم منها ، وهذا هو الذي جعل الطائفة الفقيرة المحرومة من المال والامكانيات أكثر عرضة للكوارث بسبب فقدانهم لوسائل الوقاية من الأمراض ، والحماية من النوازل.

ولهذا يكثر الدمار والخراب والخسائر المالية والروحية بسبب الزلازل والسيول في القرى والأرياف ، ويقلّ ذلك في المدن التي تتمتع بأعلى مستويات الوقاية والحماية والحصانة.

ولو أنّ الناس سلكوا السبيل الإلهي المرسوم لهم ، وراعوا العدالة في تقسيم الثروة والامكانيات لما تضرّر أحد بهذه النوازل والحوادث ، ولكان الجميع في أمن من تبعاتها على السواء.

فالأنظمة المجحفة ، وخروج الناس عن السبيل الإلهي القويم الذي يكفل توفير وسائل العيش والسلامة للجميع على السواء هو من الأسباب الرئيسية التي توجب تعرّض الناس للمحن والكوارث (1).

هذا كلّه في الخير المطلق ، وأمّا الخير المضاف ( كخير الحاكمين و ... ) فإليك تفسير ما ورد في الذكر الحكيم في ذلك المجال.

الثامن والثلاثون : « خير الحاكمين »

وقد ورد ذلك اللفظ في الذكر الحكيم في موارد ثلاثة ووقع وصفاً لله سبحانه قال :

( وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ) ( الأعراف / 87 ).

ص: 232


1- اقتبسنا ما مرّ من كتاب « الإلهيات » من محاضراتنا الكلامية فراجع الجزء الأوّل ص 271 - 277.

وقال سبحانه : ( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ) ( يونس / 109 ).

وقال سبحانه ناقلاً عن الولد الأكبر ليعقوب بعد ما سجن أخ له من أبيه مخاطباً أخوته : ( فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ) ( يوسف / 80 ).

وقد تبيّن معنى هذا الاسم بما ذكرناه في « أحكم الحاكمين » والمفاضلة لأجل وجود حكّام غيره سبحانه وهم بين عادل في حكمه وجائر ، بين مأذون من اللّه وغيره والكلّ غير مصون بالذات عن الخطأ والزلّة إلاّ من عصمه اللّه كالأنبياء والأولياء فيكون سبحانه « أحكم الحاكمين » لكونه معصوماً من الخطأ والجهل بالذات.

التاسع والثلاثون « خير الراحمين »

وقد ورد في الذكر الحكيم مرّتين ووقع وصفاً له سبحانه في كلا الموردين.

قال تعالى : ( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) ( المؤمنون / 109 ).

وقال عزّ شأنه : ( وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) ( المؤمنون / 118 ).

ويظهر معناه ممّا سيجيئ في تفسير اسم « الرحيم ».

الأربعون : « خير الرازقين »

وقد ورد في القرآن الكريم في موارد ، ووقع وصفاً له سبحانه في جميعها ، قال سبحانه حاكياً عن عيسى بن مريم : ( اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( المائدة / 114 ).

ص: 233

وقال تعالى : ( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( الحج / 58 ) (1).

وسيوافيك معناه عند البحث عن اسم « الرازق ».

الواحد والأربعون : « خير الغافرين »

وقد ورد في القرآن مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه.

قال : ( وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ) ( الأعراف / 155 )

ويجيئ تفسيره عند البحث عن اسم « غافر الذنب ».

الثاني والأربعون : « خير الفاتحين »

وقد ورد في القرآن المجيد مرّة واحدة ووقع وصفاً له.

قال سبحانه : ( قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ) ( الأعراف / 89 ).

وسيظهر معناه عند البحث عن اسم « الفتّاح ».

الثالث والأربعون : « خير الفاصلين »

وقد ورد في الذكر الحكيم مرّة واحدة.

قال سبحانه : ( قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ

ص: 234


1- لاحظ : المؤمنون / 72 ، سبأ / 39 ، الجمعة / 11.

إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) ( الأنعام / 57 ).

قال ابن فارس : « الفصل » يدل على تميّز الشيء عن الشيء وابانته عنه ، يقال : فصل الشيء فصلاً ، والفيصل : الحاكم ، والفصيل : ولد الناقة إذا افتصل عن اُمّه ، والمفصل : اللسان ، لأنّ به تفصل الاُمور وتميّز.

وقال الراغب : ابانة أحد الشيئين عن الآخر حتى يكون بينهما فرجة وسمّي يوم القيامة يوم الفصل ، لأنّه يبيّن الحق من الباطل ، ويفصل بين الناس بالحكم ، وفصل الخطاب ما فيه قطع الحكم.

وعلى ذلك فمعنى قوله سبحانه « خير الفاصلين » أي خير الحاكمين ، لأنّه لا يظلم في قضاياه ولا يجور عن الحقّ ، وإنّه يقضي بالحق ولا يعدل عنه ، والناس يحكمون بالايمان والبيّنات والقرائن والشواهد وهي قد تصيب وقد تخطئ ، وهو سبحانه يقضي بعلمه الوسيع الذي لا يشوبه جهل ، وبعرفانه الذي لا يخالطه خطأ فهو خير الفاصلين.

وحظ العبد من هذا الاسم هو اتّصافه بالقضاء العدل ، والحكم الفصل.

قال سبحانه : ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ) ( ص / 26 ).

وروي عن الصادق علیه السلام أنّه قال : « القضاة أربعة : ثلاثة في النار وواحد في الجنّة : رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة » (1).

ص: 235


1- وسائل الشيعة ج 18 الباب 3 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 6.

الرابع والأربعون : « خير الماكرين »

وقد ورد هذا اللفظ في القرآن مرّتين ووقع وصفاً له سبحانه في كلا الموردين.

قال تعالى : ( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ... وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ ) ( آل عمران / 52 و 54 ).

وقال تعالى : ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ ) ( الأنفال / 30 ).

وقد اتّفق المفسّرون على أنّ المراد من مكره سبحانه هو المجازاة على مكرهم وقد سمّى المجازاة على المكر مكراً في غير هذا المورد أيضاً.

قال سبحانه : ( وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ( البقرة / 14 و 15 ).

ومن المعلوم امتناع الاستهزاء على أنبيائه سبحانه فضلاً عن اللّه لأنّها من فعل الجهلة ، واللّه الحكيم وأنبياؤه هم الحكماء ، قال سبحانه حاكياً عن بني اسرائيل :

( قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ) ( البقرة / 67 ).

واللّه سبحانه وصف نفسه به عند ابطال مكر الناس على رسله وأنبيائه ففي الاية الاُولى يذكر همّ بني اسرائيل بالمسيح حيث أرادوا قتله ، فأبطل سبحانه مكرهم برفع عيسى إليه وقتلوا مكانه يهوذا وهو الذي دلّهم على المسيح.

رووا أهل السير والتاريخ انّ المسيح جمع الحواريين تلك الليلة وأوصاهم ثمّ قال : ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ويبيعني بدراهم يسيرة ، فخرجوا وتفرقوا ، وجاءت اليهود إليه فقال ما تجعلون لي أن أدلّكم عليه ، فجعلوا له ثلاثين

ص: 236

درهماً فأخذهم ودلّهم عليه ، فألقى اللّه عليه شبه عيسى ، فخرج إلى أصحابه وظنّوا أنّه عيسى (1).

وفي الاية الثانية تذكّرهم قصة همّهم بأسر النبي أو قتله أو اخراجه من البلد حتى استقرّ رأيهم على اجتماع أربعين رجلاً من أقويائهم للهجوم على البيت بعد تمام الليل لاجراء أحد الاُمور الثلاثة عليه ، واللّه سبحانه جازاهم بالمثل وأخبر رسوله فترك البيت قبل أن يتواثبوا عليه ، فلو مكروا يجازوا بمكر مثله واللّه خير الماكرين أي المجازين للماكرين ، وبذلك يعلم كونه سبحانه أسرع مكراً ، قال سبحانه :

( قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ) ( يونس / 21 ).

فإذا كان المكر منه سبحانه هو الجزاء وابطال أثر مكر العدو ، فتوصيفه بالسرعة امّا خاص بموارد معيّنة كابطال مؤامرة الأعداء في قتل الأنبياء ، أو في ما بلغ الطغيان أعلى درجاته فيأخذ الطغاة في الدنيا لعذابه ، وإمّا عام لجميع موارد العقوبة والتعبير بالسرعة امّا لأنّ ظرف المجازاة قريب منه قال سبحانه : ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا ) ( المعارج / 6 و 7 ). وامّا لكون عملهم نفس المجازاة التي يجازي بها العصاة يوم القيامة ، فعملهم ومكرهم عذاب لهم وهم لا يشعرون بناء على تجسّم الأعمال وتمثّلها.

الخامس والأربعون « خير المنزلين »

وقد ورد « خير المنزلين » في الذكر الحكيم مرّتين ووقع وصفاً له سبحانه في مورد واحد.

قال سبحانه حاكياً عن يوسف : ( أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ المُنزِلِينَ ) ( يوسف / 59 ).

ص: 237


1- مجمع البيان ج 1 ص 448.

وقال سبحانه حاكياً عن نوح عند وقوف سفينته على الجودي : ( رَبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ المُنزِلِينَ ) ( المؤمنون / 29 ).

والمنزل في الآية الثانية امّا مصدر ميمي بمعنى الانزال أو اسم مكان بمعنى المنزل ، فهو يطلب من اللّه تعالى أن يتفضّل عليه بانزال مبارك أو منزل مبارك بأن يكون ذات ماء وشجر أو غير ذلك ممّا يمهّد الحياة.

وأمّا معناه فقد قال ابن فارس : « النزل » يدلّ على هبوط شيء ووقوعه ، يقال : نزل عن دابّته نزولاً ، ونزل المطر من السماء نزولاً ، والنازلة : الشديدة من شدائد الدهر تنزل ، والنزل ما يهيّئ للنزيل ، وطعام ذو نزل أي ذو فضل ، ويعبّرون عن الحجّ بالنزول ، ونزل : إذا حج ، وقال الراغب : « النزول » في الأصل هو انحطاط من علوٍ يقال نزل عن دابّته ونزل في مكان كذا : حطّ رحله فيه ، وأنزله غيره قال : « أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين ».

والظاهر أنّ له معنى واحد وهو الانحطاط من علو ، فلو اطلق على المضيف حتى فسّر قوله سبحانه : ( وَأَنَا خَيْرُ المُنزِلِينَ ) في سورة يوسف به لأجل أنّ المضيف ينزل الضيف عن دابّته ، وهو في جميع الموارد بمعنى واحد ، فاللّه منزل القرآن نفسه إلى قلب رسوله ، قال : ( اللّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ ) ( الشورى / 17 ) ومنزل الحديد.

قال سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ ) ( الحديد / 25 ) ومنزل « الأنعام » و « الماء » و « اللباس » إلى غير ذلك ممّا تعلّق به الانزال في الذكر الحكيم ، ففي الكلّ نوع هبوط من علو ، ونوح شيخ الانبياء يطلب من اللّه سبحانه أن ينزله من السفينة إلى منزل مبارك فإنّه « خير المنزلين » ، فليس توصيفه سبحانه به بخصوص هذا الملاك بل هو خير المنزلين على الاطلاق سواء أنزل الإنسان إلى الأرض أو القرآن أو غيره.

ص: 238

السادس والأربعون : « خير الناصرين »

وقد ورد هذا اللفظ في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه قال : ( بَلِ اللّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ) ( آل عمران / 150 ).

وسيجيئ تفسيره عند تفسير اسم النصير.

السابع والأربعون : « خير الوارثين »

وقد ورد « خير الوارثين » في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً لله سبحانه قال :

( وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) ( الأنبياء / 89 و 90 ).

قال ابن فارس : « الورث » أن يكون الشيء لقوم ثمّ يصير إلى آخرين بنسب أو سبب واطلاقه على اللّه سبحانه بملاك الانتقال من الإنسان إليه فقط من دون علقة النسب والسبب.

وإنّما وصفه سبحانه ب « خير الوارثين » لأنّه اسم عامّ يطلق عليه وعلى غيره.

قال سبحانه : ( وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ ) ( البقرة / 233 ). وقال سبحانه : ( وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ) ( المؤمنون / 9 و 10 ). وقال : ( وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) ( القصص / 5 ).

غير أنّ وراثته سبحانه أتم وأكمل من وراثتهم ، ولأجل ذلك لمّا طلب زكريا وارثاً وقال : ( رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا ) الملازم لوجود ولد يرثه ذكَّر بتنزيهه سبحانه لأنه هو الذي يرث كلّ شيء وهو المنزّه عن مشاركة غيره له في كلّ شيء حتى في الوراثة فرفعه عن مساواة غيره وقال : ( وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ) يعني : أين هذا الوارث الذي

ص: 239

يرث مالي مدة ثمّ يموت من وراثتك الباقية والثابتة قال : ( وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) ( آل عمران / 180 ). وقال : ( وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ) ( الحجر / 23 ).

الثامن والأربعون : « خير حافظا »

وقد ورد في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه : ( فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ( يوسف / 63 و 64 ).

والحافظ اسم عام توصف به الملائكه تارة قال سبحانه : ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ ) ( الانفطار / 10 و 11 ).

والناس اُخرى. قال سبحانه : ( مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ( يوسف / 63 ).

قال ابن فارس : والحفظ له معنى واحد يدل على مراعاة الشيء ، والتحفّظ : قلّة الغفلة ، والحفاظ : المحافظة على الاُمور.

وأمّا الذكر الحكيم فقد استعمله تارة في مورد رعاية حدود اللّه وقال : ( وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ ) ( التوبة / 112 ). واُخرى في تسجيل الشيء وضبطه كما في قوله سبحانه : ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ ) . وثالثة في صيانته عن الافراط والتفريط قال سبحانه : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ) ( المؤمنون / 5 ) ورابعة في دفع الكيد والشر والبلاء ووقايته من كلّ سوء وهذا هو المراد من قول اخوة يوسف ( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) كما هو المراد في قوله : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ( الحجر / 9 ). أي نصونه من التحريف والتبدّل والزيادة والنقص والفقدان ، والموارد ترجع إلى أصل واحد.

ص: 240

غير أن كون الاخوة حافظين غير كونه سبحانه حافظاً ، ولأجل دفع وصمة الشركة قال يعقوب في جواب قول ابنائه : ( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) قال : ( فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) فلولا عناية الواجب بالممكن واستمداده منه لما يكون لحفظهم وزن ولا قيمة ولا حول ولا قوّة.

ص: 241

ص: 242

حرف الذال

التاسع والأربعون : « ذو انتقام »

وقد جاء « ذو انتقام » في الذكر الحكيم أربع مرّات ووقع الكلّ وصفاً له سبحانه قال : ( وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ) ( المائدة / 95 ) ، وقال سبحانه : ( لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ) ( آل عمران / 4 ). وقال سبحانه : ( فَلا تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ) ( ابراهيم / 47 ). وقال سبحانه : ( وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ ) ( الزمر / 37 ).

وأمّا معناه فقد ذكر له أصل واحد وهو انكار الشيء وعيبه ويقال : نقمت عليه انقم ، أنكرت عليه فعله ، والنقمة من العذاب والانتقام كأنّه أنكر عليه فعاقب (1).

وقال الراغب : نقمت الشيء إذا أنكرته أمّا باللسان وأمّا بالعقوبة وقد استعمل في معنى الانكار في عدّة من الآيات ، قال سبحانه : ( وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ) ( التوبه / 74 ).

وقال سبحانه : ( وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللّهِ الْعَزِيزِ الحَمِيدِ ) ( البروج / 8 ).

وقال سبحانه : ( وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا ) ( الأعراف / 126 ).

ص: 243


1- مقاييس اللغة ج 5 ص 464.

وقال سبحانه : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ ) ( المائدة / 59 ). فإذا كان هو الأصل فكيف استعمل في معنى آخر وهو أخذ الثأر من الخصم والمعاقبة بالمثل ؟ فقد استظهره صاحب المقاييس بقوله : كأنّه أنكر عليه فعاقبه ، يريد أنّ المعاقبة لمّا كانت مسببة عن الانكار فاطلق اسم السبب على المسبب.

ثمّ إنّ الانتقام يستعمل في مورد التشفّي فيما أنّ اساءة المسيئ تدخل ضرراً في الجانب الاخر فيتدارك ذلك بالمجازاة الشديدة التي تورث التشفّي لقلبه ، ولكن ذلك من لوازم المعنى في مورد الإنسان وليس جزء لمعناه ، فالانتقام هو مجازاة المسيئ على اساءته فلاموجب لتجريده عن التشفّي عند ما يطلق على اللّه سبحانه ، وعلى فرض كونه جزء لمعناه فبما أنّه سبحانه أعزّ من أن ينتفع أو يتضرّر بشيء من أعمال عباده ، فيطلق عليه مجرداً عنه كما هو سائر الأسماء التي تلازم شيئاً لايصح توصيفه سبحانه به ، كيف وما يصدر منه من المجازاة هو الوعد الحق وقدوعد عباده بأنّه يجزيهم إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرٌ ، قال سبحانه : ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالحُسْنَى ) ( النجم / 31 ).

وممّا يؤيّد ذلك بأنّه سبحانه ضم إليه أنّه العزيز فقال : ( عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ) وهو يشير إلى أنّه منيع الجانب من أن تنتهك محارمه أو يصيب به ضرر.

قال الرازي : ولا يسمّى التعذيب بالانتقام إلاّ بشرائط ثلاثة :

الأوّل : أن تبلغ الكراهة (1) إلى حد السخط الشديد.

الثاني : أن تحصل تلك العقوبة بعد مدّة.

الثالث : أن يقتضي ذلك التعذيب نوعاً من التشفّي ، وهذا القيد لا يحصل إلاّ في حقّ الخلق ، وأمّا في حقّ الخالق فهو محال.

ويدل على القيد الأوّل قوله سبحانه في حقّ فرعون : ( فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا

ص: 244


1- وفي النسخة « الكرامة » وهو تصحيف.

مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ) ( الزخرف / 55 ). فرتّب الانتقام على الاسف معرباً عن وجود صلة بينه وبين الانتقام.

ويدل على القيد الثاني قوله سبحانه : ( وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ ) ( المائدة / 95 ). حيث سمّى اللّه تعالى تكرار إيجاب الكفّارة ( إذا عاد المحرم إلى الصيد ثانياً ) ، انتقاماً.

وعلى كلّ تقدير فالانتقام في مقابل المعاجلة بالعقوبة ، والأوّل أشدّ من الثاني لأنّ المذنب إذا عوجل بالعقوبة لم يتمكن في المعصية فلم يستوجب غاية النكال بخلاف ما إذا أمهل فيتمكن في التجرّي والتمرّد فيستحقّ الأخذ بالعقاب الأشد.

وأمّا حظ العبد من هذا الوصف فله أن يقع مظهراً لهذا الاسم عند الانتقام من الأعداء فأعدى عدوّه هي النفس التي بين جنبيه ، وأمّا العدوّ الخارجي فيتبع قوله سبحانه : ( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) ( الفتح / 29 ).

وللعلاّمة الطباطبائي (رحمه اللّه) كلام حول نسبة الانتقام إليه تعالى قال : « الانتقام هو العقوبة لكن لا كل عقوبة بل عقوبة خاصّة وهي أن تذيق غيرك من الشرّ ما يعادل ما أذاقك منه أو تزيد عليه.

قال تعالى : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ ) ( البقرة / 194 ). وهو أصل حيوي معمول به ، وربّما يشاهد من بعض الحيوانات أيضاً أعمال تشبه أن تكون منها. وعلى أي حال كان يختلف الغرض الذي يبعث الإنسان إليه ، فالداعي إليه في الانتقام الفردي هو التشفّي غالباً ، فإذا سلب الواحد من الإنسان غيره شيئاً من الخير ، أو أذاقه شيئاً من الشر ، وجد الإنسان في نفسه من الأسى والأسف ما لا تخمد ناره ، إلاّ بأن يذيقه من الشر ما يعادل ما ذاق منه أو يزيد عليه ، فالعامل الذي يدعو إليه هو الإحساس الباطني ، وأمّا العقل فربّما أجازه وربّما استنكف.

وأمّا الانتقام الاجتماعي ونعني به القصاصات وأنواع المؤاخذات التي نعثر

ص: 245

عليها في السنن والقوانين الرائجة في المجتمعات ، فالغرض الداعي إليه هو حفظ النظام عن الهرج والمرج وهذا النوع من الانتقام يعدّ حقّا من حقوق المجتمع ، وإن كان ربّما استصحب حقاً فردياً ، كمن ظلم غيره بما فيه مؤاخذة قانونية.

وما ينسب إليه تعالى في الكتاب والسنّة من الانتقام هو ما كان حقاً من حقوق الدين الالهي والشريعة السماوية ، وإن شئت قلت من حقوق المجتمع الاسلامي وإن كان ربّما استصحب الحق الفردي في ما إذا انتصف سبحانه للمظلوم من ظالمه فهو الولي الحميد.

وأمّا الانتقام الفردي لغاية التشفّي فساحته أعزّ من أن يتضرّر باجرام المجرمين ومعصية المسيئين أو ينتفع بطاعة المحسنين.

وبذلك يظهر سقوط ما ربّما يقال : إذا كان الانتقام لغاية التشفّي فلا وجه لنسبة الانتقام إليه « وجه السقوط » ، إنّ الساقط هو الانتقام الفردي لا الاجتماعي (1).

يلاحظ عليه : إنّ ما ذكره يصحّ في مورد القصاص والحدود والكفّارات التي يحكم بها على المجرم في الدنيا لغاية حفظ النظام عن الاختلال ، ولولاها اختلّ الأمن العام ، وأمّا العقوبات الاُخروية فلا يمكن تفسيرها من تلك الجهة إذ لا مجتمع فيها حتى يكون له حقّ كما أنّه ليست هناك مظنّة كون الاُمور فوضى حتّى تستتبع ذلك فالاُولى ما ذكرنا من أنّ نسبة هذه الصفات إلى اللّه سبحانه من باب المشابهة والمشاكلة ، ولا يتّصف به المولى سبحانه إلاّ بتجريده عن الملابسات الماديّة.

وأمّا القول بأنّ رحمته الواسعة تأبى عن تعذيب المجرم بعذاب خالد غير متناه فقد اجبنا عنه عند البحث عن المعاد في القرآن الكريم.

ص: 246


1- الميزان ج 12 ص 87 - 88.

الخمسون : « ذو الجلال والإكرام »

وقد جاء هذا الاسم في القرآن الكريم مرّتين قال : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ وَالإِكْرَامِ ) ( الرحمن / 27 ).

وقال سبحانه : ( تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلالِ وَالإِكْرَامِ ) ( الرحمن / 78 ).

هذا ، وأمّا معنى الجلال فهو من جلّ الشيء إذا عظم وجلال اللّه عظمته ، والجلل : الأمر العظيم (1) ، وأمّا الاكرام فقد مرّ تحقيق معناه عند البحث عن اسمه « الاكرام » فلاحظ ، وقد قلنا إنّ معناه هو الشرف في الشيء لا في خلق من الأخلاق.

وعلى ضوء ذلك فقوله : « ذو الجلال » يناسب الصفات السلبيّة لأنّه سبحانه أجلّ وأعظم من أن يكون جسماً أو جسمانيّاً أو حالاًّ في محلّ ، كما أنّ قوله ذي الاكرام يناسب الصفات الثبوتيّة لأنّ العلم والقدرة والحياة شرف للموجود بما هو هو.

نعم هنا نكتة لابد من بيانها وهو انّ اسم الاشارة في الآية الاُولى جاء مرفوعاً وفي الآية الثانية جاء مجروراً ، فهي في الآية الاُولى وصف لقوله « وجه ربك » وفي الآية الثانية وصف لنفس الرب ، وهذا يعرب عن أنّ الوجه في الآية الاُولى بمعنى الذات لا الوجه بمعنى العضو المعروف ، وإلاّ فلو كان المراد من الوجه هو العضو فلا معنى لتوصيفه بصاحب الجلال والإكرام لأنّه من صفات ذاته سبحانه لا من صفات وجهه ، ولأجل ذلك جيئ به مجرورًا في الآية الثانية لأنّه هناك وصف للرب لا للاسم ، وباختصار انّ الآية الثانية ترفع الإبهام عن الآية الاُولى ويثبت أنّ الوجه فيها بمعنى الذات.

ص: 247


1- مقاييس اللغة ج 1 ص 417.

الواحد والخمسون : « ذو الرحمة »

وقد ورد في الذكر الحكيم اسماً له سبحانه مرّتين وقال : ( وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ) ( الكهف / 58 ).

وقال : ( وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ) ( الأنعام / 133 ). وقال سبحانه : ( فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ) ( الأنعام / 147 ). وقد مضى معنى الرحمة عند البحث عن اسمه « أرحم الراحمين ».

الثاني والخمسون : « ذو الطول »

لقد جاء الطول - بضم الفاء وفتحها - في الذكر الحكيم ثلاث مرّات ووقع وصفاً لله سبحانه باضافة « ذي » إليه ، قال سبحانه : ( غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ المَصِيرُ ) ( غافر / 3 ).

وقال سبحانه : ( وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ ) ( التوبة / 86 ).

وقال سبحانه : ( وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم ) ( النساء / 25 ).

« الطول » - بضم الفاء - ضد القصر يستعمل في الأعيان والأعراض والزمان قال سبحانه :

( فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ) ( الحديد / 16 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً ) ( المزمّل / 7 ).

وأمّا « الطول » - بفتح الفاء - : فقد فسّر بالفضل والمنّ ، قال ابن فارس :

ص: 248

الطول له أصل صحيح يدل على فضل وامتداد في الشيء (1) وهو بصدد ارجاع المعنيين إلى معنى واحد مع أنّ الجامع بينهما بعيد.

قال الراغب : والطول خص به الفضل والمنّ قال : « شديد العقاب ذي الطول » ، وقال الطبرسي في تفسير ذي الطول : « أي ذي النعم ، وقيل : ذي الغنى والسعة ، وقيل : ذي التفضّل على المؤمنين ، وقيل : ذي القدرة والسعة » ، ثمّ هو ذكر في شرح لغات الآية : « إنّ المراد من الطول : الأنعام التي تطول مدّته على صاحبه كما أنّ التفضل النفع الذي فيه افضال على صاحبه » (2) ، والكلّ محتمل.

ولكن الظاهر أنّ المراد من الطول : الفضل والأنعام بشهادة قوله : ( وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المُحْصَنَاتِ ) فبما أنّ لعدم الاستطاعة أسباباً وعللاً أتى بكلمة طولاً تمييزاً لعدم الاستطاعة معلناً بأنّ المراد عدم الاستطاعة من حيث القدرة المالية التي تصرف في المهر والنفقة ومثله قوله سبحانه : ( اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ ) أي أصحاب الثروة والمكنة ، فالاية مشتملة على أسماء أربعة :

1 - غافر الذنب. 2 - قابل التوب. 3 - شديد العقاب. 4 - ذو الطول.

وسيوافيك توضيح كلّ واحد في محله.

الثالث والخمسون : « ذو العرش »

وقد جاء لفظ « العرش » في الذكر الحكيم 22 مرّة وورد اسماً له سبحانه في مورد واحد بإضافة لفظ « ذي » قال : ( وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ المَجِيدُ ) ( البروج / 14 و 15 ).

وسيوافيك تفسيره عند البحث عن « الصفات الخبرية » لله عزّ وجلّ (3).

ص: 249


1- مقاييس اللغة ج 3 ص 633.
2- مجمع البيان ج 4 ص 513.
3- عند تفسير قوله سبحانه : ( رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) .

الرابع والخمسون : « ذو عقاب »

وقد ورد في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له كما في قوله سبحانه : ( إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ) ( فصّلت / 43 ).

قال ابن فارس : العقب له أصلان أحدهما يدل على تأخير شيء وإتيانه بعد غيره ، والأصل الآخر يدلّ على ارتفاع وشدّة وصعوبة ... وإنّما سمّيت العقوبة عقوبة لأنّها تكون آخراً وثاني الذنب.

وقال الراغب : العقب مؤخّر الرجل واستعير العقب للولد وولد الولد ، والعقوبة المعاقبة والعقاب يختص بالعذاب ، قال : ( فَحَقَّ عِقَابِ ) ، ( شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ، ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ) .

أقول : وإنّما سمّي العقاب عقاباً لأنّه يتأخّر عن الجرم وهو يستلزمه.

الخامس والخمسون : « ذو الفضل »

وقد ورد « ذو الفضل » معرّفاً ومنكراً في الذكر الحكيم 11 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه.

قال : ( إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ) ( البقرة / 243 ).

وقال سبحانه : ( وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) ( البقرة / 251 ).

وقال سبحانه : ( يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) ( آل عمران / 74 ).

وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / 152 ).

ص: 250

وقال سبحانه : ( وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) ( الأنفال / 29 ) (1).

ترى أنّه سبحانه يعرّف نفسه بكونه ذا الفضل العظيم على المؤمنين وفي الوقت نفسه على الناس أجمعين بل على العالمين كلّهم.

قال ابن فارس : الفضل له أصل صحيح يدلّ على زيادة في شيء من ذلك الفضل الزيادة والخير ، والإفضال : الاحسان.

قال الراغب : كلّ عطيّة لا تلزم من يعطي يقال لها فضل نحو قوله : ( وَاسْأَلُوا اللّهَ مِن فَضْلِهِ ) - ( ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ ) - ( ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) .

وعلى ذلك فالعطايا والمواهب السنيّة وكلّ ما يسمّى كرماً فهو فضل ، فاللّه سبحانه يتفضّل - وراء ما أسماه أجراً - بعظائم الفضل.

وأمّا حظّ العبد من هذا الوصف فيمكن أن يقع مظهراً لهذا الاسم في عطاياه النافلة بأن يقوم بعون المستنجد بنحل فضل ما له وإن لم يكن واجباً كما إذا أدّى الفرائض الماليّة.

السادس والخمسون : « ذو القوّة »

وقد ورد في الذكر الحكيم في مورد واحد قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ ) ( الذاريات / 58 ). ويظهر معناه عند البحث عن اسمه سبحانه : « القوي ».

ص: 251


1- راجع سورة يونس / 60 ، النمل / 73 ، غافر / 61.

السابع والخمسون : « ذو المعارج »

وقد ورد في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع اسماً له.

قال سبحانه : ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِّنَ اللّهِ ذِي المَعَارِجِ * تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) ( المعارج / 1 - 4 ).

أمّا عرج فقد ذكر ابن فارس له اُصولاً ثلاثة وهي : الميل ، والعدد ، والسموّ والارتقاء.

ثم قال : العروج : الارتقاء ، يقال عرج يعرج عروجا ومعرجا ، والمعرج : المصعد ، قال اللّه تعالى : ( تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ) .

وعلى ذلك فالمعارج مواضع العروج وهو الصعود مرتبة ، بعد مرتبة ومنه الأعرج لارتفاع إحدى رجليه عن الاُخرى ، وأمّا المراد من هذه الدرجات فهي عبارة عن المقامات المترتبة علوّاً وشرفاً التي تعرج فيها الملائكة والروح بحسب قربهم من اللّه وهو من الاُمور الغيبيّة التي يجب الايمان بها وربّما يفسّر بأنّ المراد مقامات القرب التي يعرج إليها المؤمنون بالايمان والعمل الصالح ، قال تعالى : ( هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) ( آل عمران / 163 ). وقال : ( لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) ( الانفال / 4 ).

وقال : ( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ ) ( المؤمن / 15 ).

والوجهان متقاربان غير أنّ الأوّل يخصّ الدرجات بالملائكة والثاني بالمؤمنين ، وقوله سبحانه تعرج الملائكة والروح إليه يؤيّد الوجه الأوّل.

ص: 252

الثامن والخمسون : « ذو مغفرة »

وقد ورد في الذكر الحكيم مرّتين ووقع وصفاً له سبحانه ، قال سبحانه : ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( الرعد / 6 ).

وقال سبحانه : ( مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ) ( فصّلت / 43 ).

و « الغفر » في اللغة بمعنى الستر ، قال ابن فارس : عظم بابه الستر ، فالغفر والغفران والغفر بمعنى يقال غفر اللّه ذنبه ويقال للمغفر لأنّه يستر الرأس وستر الذنوب كناية عن الغضّ عنه وعدم المعاقبة عليه والمعاملة مع المجرم كالبريء ، وسيوافيك مزيد من التوضيح في تفسير اسم « غافر الذنب ».

ص: 253

ص: 254

حرف الراء

التاسع والخمسون : « ربّ العرش »

وقد ورد لفظ العرش في الذكر الحكيم 22 مّرة واُضيف إليه الرب 6 مرّات قال سبحانه :

( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) ( التوبة / 129 ). وقال تعالى : ( فَسُبْحَانَ اللّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الأنبياء / 22 ). وقال سبحانه : ( قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) ( المؤمنون / 86 ). وقال عزّ من قائل : ( فَتَعَالَى اللّهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) ( المؤمنون / 116 ).

وقال تعالى : ( اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) ( النمل / 26 ). وقال تعالى : ( سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الزخرف / 82 ).

ثم إنّ الذكر الحكيم يبيّن خصوصيات عرش الرب بتوصيفه بالعظيم تارة وبأنّه له حملة ثمانية اُخرى ، يقول تعالى : ( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ) ( الحاقّة / 17 ).

وبأنّه تحُفُّه الملائكة ثالثة ، يقول تعالى ( وَتَرَى المَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) ( الزمر / 75 ).

وقد بلغ العرش في العظمة مكاناً بحيث إنّ اللّه تعالى يعرّف نفسه به ويقول تعالى : ( وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ المَجِيدُ ) ( البروج / 14 و 15 ) ، ويقول تعالى : ( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ ) ( غافر / 15 ).

ص: 255

هذا هو العرش وهذه هي خصوصياته في القرآن المجيد ، إنّما الكلام فيما يراد منه في هذه الآيات.

أقول : إنّ « العرش » لغة هو سرير الملك ولا تحتاج إلى ذكر نصوص أهل اللّغة.

قال سبحانه : ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ) ( يوسف / 100 ).

وقال سبحانه في ملكة سبأ : ( وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ) ( النمل / 23 ).

وقال سبحانه : ( أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) ( النمل / 38 ).

( ... قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ ) ( النمل / 41 ).

وبما أنّ الأصل في العرش هو الارتفاع.

قال سبحانه : ( وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ ) ( الانعام / 141 ).

وربّما يطلق على البناء المرتفع.

قال ابن فارس : العريش : بناء من قضبان يرفع ويؤلّف حتى يظلل ، وقيل للنبي صلی اللّه علیه و آله يوم بدر : ألا نبني لك عريشاً. وكل بناء يستظل به عرش وعريش ، ويقال لسقف البيت عرش.

قال تعالى : ( فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ) ( الحج / 45 ) والمعنى أنّ السقف يسقط ثمّ يتهافت على الجدران ساقطة ، ومن هذا الباب العريش وهو شبه الهودج يتخذ للمرأة تقعد فيه على بعيرها.

ص: 256

هذا ما يرجع إلى معناه اللغوي وما يستعمل فيه ، لكن الكلام فيما هو المقصود من هذا اللفظ فنقول : ها هنا أقوال نأتي بها :

1 - إنّ لله سبحانه عرشاً كعروش الملوك يستقر عليه ويدبّر العالم منه ، وهذا هو الذي تصرّ عليه المجسّمة والمشبّهة من الحنابلة ، وأمّا الأشاعرة الذين يتظاهرون بالتنزيه لفظاً لا معنى يقولون بهذا المعنى ولكنّهم يضيفون إليه « بلا تكييف » أي أن له سريراً واستقراراً لا كسرير الملوك واستقرارهم والكيفية مجهولة.

وهناك قصّة تاريخية نقلها السيّاح المعروف ب « ابن بطوطة » لمّا زار الشام وشاهد أنّ « ابن تيميّة » صعد المنبر وهو يعظ الناس ويقول :

وكان بدمشق من كبار الفقهاء « تقي بن تيميّة كبير الشام يتكلّم إلاّ أنّ في عقله شيئاً ... فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكّرهم ، فكان من جملة كلامه : إنّ اللّه ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا ، ونزل درجة من درج المنبر ، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء ، وأنكر ما تكلّم به فقامت العامّة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضرباً كثيراً حتى سقطت عمامته ... (1).

وهذا المعنى مردود مرفوض عند أهل التنزيه لأنّه تفسير للعرش تفسيراً حرفياً وغير جائز بداهة في تفسير الكلام العادي فضلاً عن كلام البلغاء ، فإنّ المتّبع في تفسير الكلام هو المعنى الجملي التصديقي لا المعنى الافرادي التصوّري ، فإذا قال الرجل : إن فلاناً مبسوط اليد أو كثير الرماد ، فليس لنا تفسيره ببسط العضو المعروف بحجّة أنّ اليد لفظ موضوع للجارحة ، أو حمل كثرة الرماد على معناه الحرفي الملازم لكون بيته غير نظيف بحيث يشمئزّ الإنسان من الدخول إليه ، بل يجب تفسير الأوّل بالسخاء ، والثاني بكثرة الطبخ الملازم لكثرة الضيافة التي هي رمز للكرم والسخاء.

وعلى ضوء هذا يجب إمعان النظر في مجموع الايات الواردة حول العرش

ص: 257


1- رحلة ابن بطوطة : ص 95 طبع بيروت.

حتّى يتبيّن أنّ المراد هل هو المعنى التصوّري ( السرير ) ، أو هو المعنى التصديقي المختلف حسب المقامات.

فإنّ العرش يطلق ويراد غالباً الملك أعني السلطة والحكم على الناس.

قال الشاعر :

تداركتم الأحلاف قد ثلّ عرشها *** وذبيان إذ ذلّت باقدامها النعل (1)

إنّ المراد من العرش هو نظام الحياة والمراد من ثلّه إزالته ، ولأجل ذلك يقال ثلّ عرشه فيما إذا انقلب الدهر عليه وسائت أحواله ، هذا وسيوافيك مزيد توضيح لهذا المعنى عند البحث عن المحتمل الثالث.

2 - العرش : هو الفلك التاسع أو فلك الافلاك في الهيئة البطلميوسيّة فقد كان بطلميوس يفسّر العالم في الكرات الأربعة ( الماء والتراب والنار والهواء ) ثمّ الأفلاك التسعة وكل فلك يحمل سيارة إلى الفلك السابع ، والثوابت في الفلك الثامن ثمّ الفلك التاسع وهو أطلس لا نجم فيه ، ويوصف بمحدّد الجهات وليس بعده خلأ ولا ملأ وهو العرش عند بعضهم ، ونقل العلاّمة المجلسي عن المحقّق الداماد في بعض تعليقاته أنّه قال : العرش : هو فلك الأفلاك (2).

وهذا القول لا يحتاج إلى النقد بعد وضوح بطلان أصل النظريّة حيث هدّم العلم الحديث أركان هذه النظرية وأصبحت من مخلّفات الدهر.

3 - إنّ العرش والاستيلاء عليه كناية عن إحاطته بعالم الوجود وصحيفة الكون تشبيهاً للمعقول بالمحسوس ، فإنّ الملوك إذا جلسوا على عروشهم واستقرّوا عليها وحولهم وزراءهم وعمّالهم ، أخذوا بتدبير اُمور البلد بإصدار الأوامر والنواهي وبالإرشادات والتوجيهات المناسبة ، فشبّه استيلاءه سبحانه على عالم الكون

ص: 258


1- الشعر لزهير ، ولاحظ : مقاييس اللغة ج 4 ص 265.
2- بحار الانوار ج 58 ، ص 5.

وصحيفة الوجود وتدبيره من دون أن يطرأ عليه نصب ولاتعب بإستيلاء الملوك على عروشهم على النحو الذي وصفناه.

وعلى هذا المعنى ليس للعرش واقعيّة سوى المعنى الكنائي وهو السلطة على العالم والإستيلاء على الوجود كلّه ، فتكون النتيجة إنّ للاستيلاء حقيقة تكوينيّة دون العرش.

ويمكن تأييد ذلك بأنّ العرش ربّما يطلق على الملك والسلطة وإن لم يكن هناك سرير كسرير الملوك. قال الشاعر :

إذا ما بنو مروان ثلّت عروشهم *** وأودت عمّا أودت أياد وحمير

قال الجوهري : ثلّ اللّه عرشهم أي هدم ملكهم ، ويقال للقوم إذا ذهب عزّهم قد ثلّ عرشهم.

وقال آخر :

أظننت عرشك لا يزول ولا يغيّر

وقال آخر :

قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق

وهذا المعنى متحقق بمجرد تحقّق السلطة وإن لم يكن هناك سرير وراءه.

وعلى الجملة : فهذه النظرية تبتني على كون العرش أمراً اعتبارياً والاستيلاء أمراً حقيقياً.

يلاحظ عليه : إنّ هذا المعنى وإن كان أقرب من سابقيه إلى الفهم القرآني ولكنّه يجب أن يكون للعرش حقيقة كالاستيلاء وذلك لاُمور :

أ - لو كان العرش أمراً اعتبارياً فلماذا وصفه بكونه عظيماً وقال سبحانه : ( وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) ( المؤمنون / 86 ).

ص: 259

بناءً على أنّ العظيم وصفاً للعرش دون الربّ والظاهر أنّ توصيفه بالعظيم توصيف أمر واقعي بأمر واقعي لا توصيف أمر اعتباري بمثله.

ب - إنّه سبحانه يذكر للعرش حملة ويقول : ( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) ( غافر / 7 ).

ج - إنّه سبحانه يذكر حملة العرش يوم القيامة وإنّهم ثمانية ويقول سبحانه : ( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ) ( الحاقة / 17 ).

والظاهر أنّ مرجع ذلك القول إلى الرابع الذي نذكره ، أو هما قول واحد.

4 - إنّ للعرش حقيقة تكوينية كما أنّ للاستيلاء حقيقة كذلك ، غير أنه ليس شيئاً خاصاً سوى مجموع الكون وصحيفة الوجود فهو عرشه سبحانه ، فالعالم بمجرّده وماديّه وظاهره وباطنه عرشه ، وعليها تدبيره ، ويكون عطف « ربّ العرش العظيم » على قوله « ربّ السموات السبع » من باب عطف العام على الخاص ، فاللّه سبحانه مستول على ما خلق استيلاءً حقيقيّاً ولا يحتاج في إدارة الكون وتدبيره إلى غيره ، فلو كان هناك نظام الأسباب والمسبّبات والعلل والمعلولات فهو من جنوده في عالم الكون ، وقال سبحانه : ( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ ) ( المدثر / 31 ). وقال سبحانه :

( وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) ( الفتح / 4 ) ، وكذلك الاية 7 من نفس السورة مع اختلاف يسير في آخرها حيث قام « عزيزاً » مقام « عليماً ».

وقد اختار هذا المعنى شيخنا الصدوق في عقائده حيث قال : « اعتقادنا في العرش أنّه جملة جميع الخلق - إلى أن قال - العرش الذي هو جملة جميع الخلق حملته ثمانية من الملائكة » (1).

ص: 260


1- عقائد الصدوق : ص 74 ، الطبعة الحجرية.

ويظهر هذا المعنى من الشيخ المفيد غير أنّه فرّق بين العرش المطلق والعرش المحمول ، ففسّر الأوّل بالملك وقال : العرش الأوّل هو ملكه ، وإستواءه على العرش هو إستيلاءه على الملك ، وأمّا العرش الذي تحمله الملائكة هو بعض الملك وهو عرشٌ خلقه اللّه تعالى في السماء السابعة ، وتعبّد الملائكة بحمله وتعظيمه ، كما خلق سبحانه بيتاً في الأرض وأمر البشر بقصده وزيارته والحجّ إليه وتعظيمه كما جاء في الحديث : « إنّ اللّه تعالى خلق بيتاً تحت العرش سمّاه « البيت المعمور » تحجّه الملائكة في كل عام ، وخلق في السماء الرابعة بيتاً سمّاه « الزراح » وتعبّد الملائكة بحجّه والطواف حوله ، وخلق البيت الحرام في الأرض وجعله تحت الزراح - إلى أن قال - : « ولم يخلق اللّه عرشاً لنفسه ليستوطنه تعالى اللّه عن ذلك ، ولكنّه خلق عرشاً أضافه إلى نفسه تكرمة له وإعظاماً ، وتعبّد ملائكة بحمله ، كما خلق بيتاً في الأرض ولم يخلقه لنفسه ولا ليسكنه تعالى اللّه عن ذلك ، لكنه خلقه لخلقه واضافة لنفسه إكراماً له وإعظاماً ، وتعبّد الخلق بزيارته والحجّ إليه (1).

وقال العلاّمة المجلسي :

اعلم انّ ملوك الدنيا لمّا كان ظهورهم واجراء أحكامهم على رعيتهم إنّما يكون عند صعودهم على كرسيّ الملك وعروجهم على عرش السلطنة ، ومنهما تظهر آثارهم وتتبيّن أسرارهم ، واللّه سبحانه لتقدّسه عن المكان لا يوصف بمحلّ ولا مقرّ وليس له عرش ولا كرسي يستقرّ عليهما بل يطلقان على أشياء من مخلوقاته » (2).

وهذا هو الظاهر من بعض الروايات ، روى الصدوق بسنده عن المفضّل بن عمر ، قال : سألت أبا عبد اللّه عن العرش والكرسي ما هما ؟ فقال : العرش في وجه هو جملة الخلق (3).

ص: 261


1- تصحيح الاعتقاد : ص 29 - 31.
2- بحار الانوار ج 58 ، ص 27.
3- بحار الانوار ج 58 ، ص 29.

وها هنا كلام للعلاّمة الطباطبائي (رحمه اللّه) يحقّق ما ذكرنا بشكل بديع ويقول : « إنّ السلطة والاستيلاء والملك والرئاسة والولاية والسيادة وجميع ما يجري هذا المجري فينا اُمور وضعيّة اعتبارية ليس في الخارج منها إلاَّ آثارهما ، مثلاً الرئيس لا يسمّى رئيساً إلاّ لأن يتبعه الذين نسمّيهم مرؤوسين في إرادته وعزائمه ، وليس هنا للرئاسة واقعيّة إلاَّ التخيّل والتشبيه بمعنى تنزيل الرئيس مكان الرأس ، والمرؤوسين مكان البدن ، فكما أنّ البدن يتبع الرأس ، فالمرؤوسون يتبعون الرئيس وقس عليها.

وهذا خلاف ما يوصف به سبحانه من الملك والاحاطة والولاية وغيرها ، فإنّها معاني حقيقية واقعيّة على ما يليق بساحة قدسه ، وعلى ذلك يجب أن يكون للاستيلاء حقيقة تكوينيّة ولعرشه المتعلّق به واقعيّة مثله.

فالايات كما ترى تدلّ بظاهرها على أنّ العرش حقيقة من الحقائق العينيّة وأمر من الاُمور الخارجية » (1).

5 - إنّ العرش حقيقة من الحقائق العينيّة وهو المقام الذي يجتمع فيه جميع أزمّة الاُمور (2) وبعبارة اُخرى هو المقام الذي يبتدأ منه وتنتهي إليه أزمّة الأوامر والأحكام الصادرة من الملك ، وهو في ذلك وإن كان موجوداً مادّيّاً إلاَّ أنّ المحكمات من الايات مثل قوله : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) ( الشورى / 11 ). وقوله : ( سُبْحَانَ اللّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الصافّات / 159 ) تدلّ على انتفاء الجسم وانّه ليس من خواصّه تعالى فينفي من العرش الذي وصفه لنفسه كونه سريراً مؤلّفاً من مادّة معيّنة ، ويبقى أصل المعنى وهو أنّه المقام الذي يصدر عنه الأحكام الجارية في نظام الكون هو من مراتب العلم الخارج عن الذات ، والمقياس في معرفة ما عبّرنا عنه بأصل المعنى أنّه المعنى الذي يبقى ببقائه الاسم ، وبعبارة اُخرى يدور مداره صدق الاسم وإن تغيّرت المصاديق واختلفت الخصوصيّات.

ص: 262


1- الميزان ج 2 : ص 159 - 160 بتلخيص منّا.
2- الميزان ج 8 ، ص 160.

وعلى ضوء هذا ينفى عن العرش ما يلازم المادّيّة من كونها من خشب أو معدن أو على صورة خاصّة ، ويبقى ما لا يلازم ذلك كوجود مقام تنتهي إليه أزمّة الاُمور ومنه تصدر الأحكام (1).

ولو صحّت تلك النظرية لكان العرش بعض الخلق لا كلّه ويكون وجوداً مجرّداً لا مادّيّاً حتى يناسب كونه مركزاً لصدور الأحكام ومرجعاً لانتهاء الاُمور إليه.

ومثل ذلك يعدّ من مراتب علمه الفعلي لا الذاتي ، فإنّ لعلمه الفعلي مراتب ودرجات ، ويؤيد هذا التفسير بعض الروايات التي تفسّر العرش بالعلم.

روى عبد اللّه بن سنان عن الصادق علیه السلام في تفسير قول اللّه عز وجل : ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ) . قال علیه السلام : السموات والأرض وما بينهما في الكرسي ، والعرش : هو العلم الذي لا يقدر أحد به قدره (2).

روى الكليني بسند صحيح عن صفوان بن يحيى ، قال : سألني أبو قرّة المحدّث أن أدخله على أبي الحسن علي بن موسى الرضا علیهماالسلام ، فاستأذنته فأذن بي ، فدخل فسأله عن الحلال والحرام ، ثمّ قال له : أفتقرّ أنّ اللّه محمول ؟ ، فقال أبو الحسن : كل محمول مضاف إلى غيره محتاج ، والمحمول اسم نقص في اللفظ ، والحامل فاعل وهو في اللفظ ، مدح ... ولم يسمع أحد آمن باللّه وعظمته قطّ قال في دعائه يا محمول. قال أبو قرّة : ( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ) وقال : ( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ ) فقال أبو الحسن علیه السلام : العرش ليس هو اللّه والعرش اسم علم وقدرة ، والعرش كل شيء ، وعرش فيه كل شيء ، ثمّ أضاف الحمل إلى غيره ، خلق من خلقه لأنّه استعبد خلقه بحمل عرشه وهم حملة علمه ، وخلقاً يسبّحون حول عرشه وهم يعملون بعلمه ، وملائكة يكتبون

ص: 263


1- الميزان ج 14 ص 139 - 140 بتغيير طفيف.
2- التوحيد : باب 52 الحديث 20.

أعم العباده (1).

ويؤيّد ذلك ما ذكره أمير المؤمنين علیه السلام في جواب الجاثليق : فكل شيء محمول واللّه تبارك وتعالى الممسك لهما أن تزولا والمحيط بهما من شيء وهو حياة كل شيء ، ونور كل شيء سبحانه وتعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً (2).

وروى سنان بن سدير عن الصادق علیه السلام : إنّ الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع ومنها الأشياء كلّها ، والعرش هو الباب الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف والكون والقدر والحدّ والعلم والمشيئة ... فهما في العلم بابان مقرونان ... (3).

الستون ، والواحد والستون : « الرحمن والرحيم »

وقد ورد لفظ الرحمن في الذكر الحكيم 57 مّرة واسم الرحيم 95 مرّة ، ووقع الجميع وصفاً له سبحانه.

أمّا الرحمن فقد قورن باسمين :

1 - « الرحيم » وهو الأكثر ، قال سبحانه : ( بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) .

2 - « المستعان » ، قال سبحانه : ( رَبِّ احْكُم بِالحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) ( الأنبياء / 112 ).

ص: 264


1- البحار : ج 58 ، ص 14.
2- البحار : ج 58 ، ص 10 الحديث 8.
3- التوحيد : الباب 50 ، ص 321 الحديث 1.

وأمّا الرحيم فقد قورن بأسماء كثيرة لله سبحانه نشير إليها :

1 - « الرحمن » كما عرفت.

2 - « التواب » قال سبحانه : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( البقرة / 37 ).

3 - « الرؤوف » قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة / 143 ).

4 - « الغفور » قال سبحانه : ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة / 173 ).

5 - « الودود » قال سبحانه حاكياً عن شعيب : ( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) ( هود / 90 ).

6 - « العزيز » قال سبحانه : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) ( الشعراء / 9 ).

7 - « الرب » قال سبحانه : ( سَلامٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ ) ( يس / 58 ).

8 - « البرّ » قال سبحانه : ( إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ) ( الطور / 28 ).

والاسمان مشتقان من « الرحم » وقد مضى معناه في تفسير اسمه « أرحم الراحمين » فلا نعيد. إنّما الكلام في الفرق بينهما ، وسيوافيك بيانه.

الظاهر من الآيات إنّ العرب في العصر الجاهلي ما كانت تعرف « الرحمن ». قال الزجّاج : « الرحمن » اسم من أسماء اللّه مذكور في الكتب الاولى ولم يكونوا يعرفونه من أسماء اللّه فقيل لهم إنّه من أسماء اللّه ومعناه عند أهل اللّغة ذو الرحمة التي لا غاية بعدها في الرحمة ، لأنّ « فعلان » من أبنية المبالغة تقول رجل « ريّان » و « عطشان » في النهاية من الري والعطش ، وفرحان وجذلان إذا كان في النهاية من الفرح والجذل.

ص: 265

قال سبحانه : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ) ( الفرقان / 60 ). أي زادهم ذكر الرحمن بعداً عن الايمان أو قبول الحقّ وقول النبي.

روى ابن هشام في أمر الحديبيّة الذي صالح فيه رسول اللّه مع قريش ثم دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عليّ بن أبي طالب - رضوان اللّه عليه - فقال : اكتب « بسم اللّه الرحمن الرحيم » قال : فقال سهيل : لا أعرف هذا ولكن اكتب « باسمك اللّهمّ » ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : اكتب « باسمك اللّهمّ ». فكتبها ... (1).

وأمّا الفرق بينهما فهناك وجوه :

1 - الرحمن بمنزلة اسم العلم من حيث لا يوصف به إلاّ اللّه بخلاف الرحيم لأنّه يطلق عليه وعلى غيره.

2 - الرحمن : رحمان الدنيا ، والرحيم : رحيم الآخرة.

3 - الرحمن بجميع الخلق ، والرحيم بالمؤمنين خاصّة.

4 - الرحمن برحمة واحدة والرحيم بمائة رحمة (2).

والظاهر هو الثاني وهو المروي عن الامام الصادق علیه السلام حيث قال : « الرحمن » اسم خاص بصفة عامّة ، والرحيم اسم عامّ بصفة خاصّة ، وهو الظاهر من الصدوق حيث قال : « الرحمن » معناه الواسع الرحمة على عباده يعمّهم بالرزق والانعام عليهم وهو لجميع العالم ، والرحيم إنّه رحيم بالمؤمنين يخصّهم برحمته في عاقبة أمرهم كما قال اللّه عزّ وجلّ : ( وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ) والرحمان والرحيم اسمان مشتقّان من الرحمة على وزن ندمان ونديم (3).

ص: 266


1- السيرة النبوية : ج 2 ، ص 317.
2- مجمع البيان : ج 1 ، ص 21.
3- التوحيد للصدوق : ص 203.

وأوضحه الرازي بقوله : « وقال جعفر الصادق علیه السلام : اسم الرحمان خاصّ بالحق ، عامّ في الأثر ، لأنّ رحمته تصل إلى البرّ والفاجر ، واسم الرحيم عامّ في الاسم خاص في الأثر لأنّ اسم الرحيم قد يقع على غير اللّه تعالى ، فهو من هذا الوجه عامّ إلاّ انّه خاص في الأثر لأنّ هذه الرحمة مختصّة بالمؤمنين ».

ثم استدلّ على ذلك بأنّ بناء وضع « الرحمان » للمبالغة يقال رجل غضبان وشبعان ، ورجل عريان هو الذي لا ثوب له أصلاً ، فإن كان له ثوب خلق ، فقد يقال له إنّه عار ولا يقال إنّه عريان ، وأمّا الرحيم فهو رحيم والفعيل قد يكون بمعنى الفاعل كالسميع بمعنى السامع ، وبمعنى المفعول كالقتيل بمعنى المقتول وليس في واحد منهما كبير مبالغة.

أضف إلى ذلك انّ كثرة المباني تدلّ على كثرة المعاني ، وحروف الرحمان أكثر من حروف الرحيم (1).

ثمّ إنّه يمكن استظهاره من بعض الآيات ، نرى أنّه سبحانه إنّما يخاطب الكلّ أو خصوص الكافر يقول ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) ( طه / 5 ). ويقول : ( قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا ) ( مريم / 75 ). والأوّل خطاب للعامّ والثاني يخص مفاده بالكافر ، وفي الوقت نفسه يخصّ المؤمنين بالرحيم يقول : ( وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ) ( الأحزاب / 43 ) ويقول : ( إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( التوبه / 117 ).

وعلى ضوء هذا فالرحمان وإن كان يفيد الرحمة العامّة للكلّ إلاّ أنّ الرحيم يفيد الرحمة الخاصّة بالمؤمنين ، فكان الرحمان كالأصل والرحيم كالزيادة في التشريف ، والأصل يجب تقديمه على الزيادة كقوله : ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ) ( يونس / 26 ).

ص: 267


1- لوامع البينات : ص 152 - 172.

و أمّا حظ العبد من اسميه تعالى فحظ العبد من اسم « الرحمان » أن يكون كثير الرحمة على الناس وحظه من اسم الرحيم أن يكون عطوفاً بالمؤمنين ، فلو صحّ ما روي عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « تخلّقوا بأخلاق اللّه » فمعناه التشبّه بالاله بقدر الطاقة البشرية وصيرورة الإنسان مظهراً لاسمائه إلاّ فيما خرج كقوله : « المصوّر » (1).

الثاني والستون : « الرؤوف »

وقد جاء « الرؤوف » في الذكر الحكيم 11 مرّة ووقع الجميع اسماً له سبحانه واقترن ب « العباد » تارة ، وبالرحيم اُخرى ، قال سبحانه : ( وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ المَصِيرُ ) ( آل عمران / 30 ).

وقال : ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة / 143 ).

وأمّا معناه فقال ابن فارس : « الرؤوف كلمة واحدة تدل على رقّة ورحمة ».

قال اللّه تعالى : ( وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ ) ( النور / 2 ).

وقال سبحانه : ( وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ) ( الحديد / 27 ).

وقال جرير :

يرى للمسلمين عليه حقّا *** كفعل الوالد الرؤوف الرحيم

واطلاقه على اللّه سبحانه بالتجريد عمّا يلازم الوجود الامكاني من الرقة في القلب ، والتأثّر عن الشيء والأخذ بالنتيجة كما هو الضابطة في كثير من أسمائه سبحانه.

ص: 268


1- لوامع البينات : ص 167 بتلخيص منّا.

ثمّ انّ الرؤوف قدّم على الرحيم في جميع الايات فما هو وجهه ؟

يمكن أن يقال : إنّ الرحمة كمال حال في الرؤوف يدعوه إلى ايصال الاحسان إلى الغير ، والحال انّ الرحيم معنى يحصل من مشاهدة المرحوم في فاقة وضعف وحاجة ، ومن المعلوم كون الأوّل أكمل في مجال الفضيلة ، ولعلّه لذلك قدّم الرؤوف على الرحيم.

قال الصدوق : « الرؤوف معناه الرحيم والرأفة الرحمة » (1).

الثالث والستون : « الرزّاق »

جاء في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع إسماً له.

قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ ) ( الذاريات / 58 ).

كما انّه سبحانه وصف ب « خير الرازقين » 5 مرّات.

قال سبحانه : ( وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( المائدة / 114 ).

قال سبحانه : ( لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( الحج / 58 ).

وقال سبحانه : ( أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( المؤمنون / 72 ).

وقال سبحانه : ( وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( سبأ / 39 ).

وقال سبحانه : ( قُلْ مَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( الجمعة / 11 ).

ص: 269


1- التوحيد للصدوق : ص 204.

وقد دل غير واحد من الآيات على أنّ رزق العباد والدوابّ على اللّه سبحانه.

قال عزّ وجلّ : ( وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا ) ( هود / 6 ). ودلّت بعض الايات على أنّ منبع الرزق ومصدره هو السماء.

قال سبحانه : ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) ( الذاريات / 22 ).

فلو كان المراد من السماء هو السماء المحسوس ، فالمراد من الرزق إمّا هو المطر كما عليه قوله سبحانه :

( وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) ( الجاثية / 5 ). أو الأعم منه ومن الأنوار والأشعّة الحيوية إلى غير ذلك من الاُمور النازلة من السماء إلى الأرض.

وأمّا الرزق فقد فسّره ابن فارس بعطاء اللّه جلّ ثناؤه.

وقال الراغب : الرزق يقال للعطاء الجاري تارة دنيويّاً كان أم اُخرويّا ، وللنصيب تارة ولما يصل به إلى الجوف ويتغذى به تارة.

فالأوّل مثل قول القائل : « أعطى السلطان رزق الجند » ، والثاني : ( وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ) ( الواقعة / 82 ) أي تجعلون نصيبكم من النعمة تحرّى الكذب ، وأمّا الثالث فقوله : ( فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ ) ( الكهف / 19 ) أي بطعام يتغذى به ، وقد يطلق على الرزق الاُخروي.

قال سبحانه في حقّ الشهداء في سبيل اللّه : ( بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) ( آل عمران / 169 ).

والظاهر أنّ المراد من الرزق هو كل ما يحتاج إليه الإنسان في مأكله وملبسه ومسكنه ولا يختصّ بما يصل إلى الجوف وإن كان هو الرزق البارز.

قال الحكيم السبزواري : إنّ رزق كل مخلوق ما به قوام وجوده ، وكماله

ص: 270

اللائق به ، فرزق البدن ما به نشوؤه وكماله ، ورزق الحسّ ، ادراك المحسوسات ، ورزق الخيال ، ادراك الخياليات من الصور والأشباح المجرّدة عن المادة دون المقدار ، ورزق الوهم ، المعاني الجزئيّة ، ورزق العقل ، المعاني الكلّية والعلوم الحقّة من المعارف المبدئيّة والمعاديّة ، فالرزق في كل بحسبه (1).

قال الصدوق : « معناه انّه عزّ وجلّ يرزق عباده برّهم وفاجرهم » (2).

وعلى كلّ تقدير فالرزّاق اسم خاص لله سبحانه ، يقال لخالق الرزق ومعطيه ومسببه ، وكونه سبحانه رازقاً بالتسبيب يجتمع مع كون العباد يرزق بعضهم بعضاً أيضاً.

قال سبحانه : ( وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ ) ( النساء / 5 ) لأنّ كل ما في يد العبد فهو لله سبحانه فهو ينفق ممّا آتاه اللّه ، وبذلك يعلم أنّ المفاضلة في قوله سبحانه : ( خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) على هذا الأساس.

وقال الرازي : إنّ رزق الأبدان بالأطعمة ، ورزق الأرواح بالمعارف وهذا أشرف الرازقين ، فإنّ ثمرتها حياة الأبد وثمرة الرزق الظاهر قوّة الجسد إلى مدّة قرببة الأمد ، ومن أسباب سعة الرزق الصلاة. قال تعالى : ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ) ( طه / 132 ).

وأمّا حظ العبد من هذا الاسم فهو أن يجعل يده خزانة لربّه فكل ما وجده أنفقه على عباده على غرار قوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) ( الفرقان / 67 ).

ص: 271


1- شرح الأسماء الحسنى الواردة في الدعاء المعروف بالجوشن الكبير : ص 6.
2- التوحيد : ص 204.

الرابع والستون : « رفيع الدرجات » وقد ورد في الذكر الحكيم مرّة ووقع وصفاً له.

قال سبحانه : ( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ) ( غافر / 15 ).

وقد وصف سبحانه في هذه الاية بصفات ثلاث :

1 - رفيع الدرجات.

2 - ذو العرش.

3 - يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق.

وفي الأوّل احتمالات :

منها : إنّ الرفيع بمعنى الرافع أي رافع درجات الأنبياء والأولياء في الجنّة (1).

ومنها : رافع السماوات السبع التي منها تصعد الملائكة.

ومنها : إنّه كناية عن رفعة شأنه وسلطانه.

أمّا الثاني : أعني « ذو العرش » فقد مرّ في تفسير اسم « رب العرش ».

وأمّا الثالث : فالظاهر أنّ المراد من الروح هو الوحي بقرينة قوله : ( عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) والمراد منهم رسله سبحانه المصطفون بالرسالة ، والمراد من الإلقاء هو إلقاء الوحي في القلب.

واحتمال كون المراد من « الروح » جبرئيل أو غيره ، لا يناسب مع قوله : « يلقي » فهو بإلقاء المعاني أنسب وبذلك فسّرنا قوله سبحانه : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا

ص: 272


1- بل رافع درجة كل موجود نازل الى درجة رفيعة ، كرفعة درجة التراب والنبات الى أعلى منهما ، فالانسان كان تراباً والحيوان كان بناتاً فرفع درجتهما.

مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( الشورى / 52 ). الخامس والستون « الرقيب »

جاء « الرقيب » في الذكر الحكيم 5 مرّات ووقع وصفاً له سبحانه في موارد ثلاث.

قال سبحانه حاكياً عن المسيح : ( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) ( المائدة / 117 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) ( النساء / 1 ).

وقال سبحانه : ( وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا ) ( الأحزاب / 52 ).

أمّا معناه فقد قال ابن فارس : له أصل واحد مطّرد يدلّ على انتصاب لمراعاة شيء ومن ذلك الرقيب وهو الحافظ ، والمرقب : المكان العالي يقف عليه الناظر (1).

وأمّا « الراغب » : فجعل الأصل له الرقبة وأنّه اشتق منها سائر المعاني ، قال الرقبة : اسم للعضو المعروف ، والرقيب : الحافظ وذلك امّا لمراعاته رقبة المحفوظ وامّا لرفعة رقبته ، قال : ( وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ) .

وعلى أي تقدير فالرقيب والشهيد بمعنى واحد أو متقاربي المعنى.

قال سبحانه : ( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( المائدة / 117 ).

ص: 273


1- مقاييس اللغة ج 2 ص 427.

و المراد شهادته سبحانه أعمال الاُمّة وحفظه لها.

قال سبحانه : ( وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ ) ( يونس / 61 ).

وقال سبحانه : ( يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) ( الحديد / 4 ).

قال الصدوق : « الرقيب معناه الحافظ بمعنى فاعل ، ورقيب القوم حارسهم » (1).

ص: 274


1- التوحيد : ص 204.

حرف السين

السادس والستون : « سريع الحساب »

وقد ورد « سريع الحساب » في الذكر الحكيم في ثمانية موارد ووقع الكل وصفاً له سبحانه.

قال سبحانه : ( أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ ) ( البقرة / 202 ).

وقال : ( وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ ) ( آل عمران / 19 ).

وقال : ( أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ ) ( آل عمران / 199 ).

قال سبحانه : ( لِيَجْزِيَ اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ ) ( إبراهيم / 51 ) (1).

وقد جاء هذا الاسم في ثنايا البحث عن جزاء أعمال العباد سواء أكان خيراً أو شراً ، ولا يختصّ بالثاني لما في قوله سبحانه : ( أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ ) والحساب في اللّغة بمعنى العد ، تقول حسبت الشيء أحسبه حَسْباً وحُسباناً.

قال تعالى : ( الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ) .

ص: 275


1- لاحظ : المائدة / 4 ، والرعد / 41 ، والنور / 39 ، وغافر / 17.

و من هذا الباب الحَسَب الذي يعدّ من الإنسان ، قال أهل اللّغة معناه أن يعدّ آباءً أشرافاً (1).

وقال الراغب : « الحساب إستعمال العدد ، قال تعالى : ( لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ ) هذا ما يرجع إلى الحساب ، وامّا ما يرجع إلى المضاف أعني سريع فالسرعة ضد البطء.

قال تعالى : ( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ) . ( وَيُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ ) (2).

ثمّ إنّ توصيفه بسريع الحساب امّا لأجل نفوذ إرادته وتحقّق كلّ شيء بعد مشيئته بلا بطء وسكون.

قال سبحانه : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( يس / 82 ).

أو كونه مجرداً بل فوقه ، وجميع الأمكنة والمكانيات سواء ، وكل حاضر لديه ، وليس هناك ماض ولا استقبال ، « لا يشغله شأن عن شأن » فيسرع في وصول الجزاء لكيلا يمنع الحقّ عمّن له الحقّ.

وسئل أمير المؤمنين عن محاسبة اللّه فقال : « يحاسب الخلائق كلهم دفعة واحدة كما يرزقهم دفعة » (3).

فسريع الحساب اسم من أسماء اللّه الحسنى وهو عامّ شامل للدنيا والآخرة معاً ، وقد عرفت أنّ ملاك السرعة هو تحقّق كل ما أراد بلا فصل. وحضور الكل لديه دفعة واحدة.

قال سبحانه : ( وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) ( الكهف / 49 ).

ص: 276


1- مقاييس اللغة ج 2 ، ص 60.
2- المفردات : ص 230.
3- شرح الأسماء الحسنى : ص 47.

وقال سبحانه : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ ) ( آل عمران / 30 ).

فكأنّهم يرون أنفسهم مشتغلين بالصلاة وغيرها من الحسنات أو مكتسبين للسيئات فيرون ما كانوا يرتكبونها من السيئات ، فلا يمكن لهم إنكار شيء من صغير وكبير فيحاسب كل نفس بسرعة.

أضف إلى ذلك الشهود وأخصّ بالذكر صحيفة الأعمال التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة.

قال سبحانه : ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ) ( الاسراء / 13 و 14 ).

ويقول سبحانه : ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا ) ( الكهف / 49 ).

ومع هذه الشهود لا يبقى للعبد أي ريب في حسابه وجزائه فهو حقّاً « أسرع الحاسبين ».

نعم شهوده سبحانه على العباد أزيد ممّا ذكرنا ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى الفصل الذي خصّصناه به عند البحث عن المعاد.

وبذلك علم معنى اسمه الاخر « أسرع الحاسبين » وقد مرّ في محلّه. نعم ليس المراد من الحساب الجزاء ولا العقاب وإن كان الحساب لغاية الجزاء ، وبذلك يعلم الفرق بين « سريع الحساب » و « سريع العقاب » فالفرق بينهما كالفرق بين الغاية وذيها.

ص: 277

السابع والستون : « سريع العقاب »

وقد جاء في الذكر الحكيم في موردين ووقعا إسماً له سبحانه.

قال سبحانه : ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الأنعام / 165 ).

وقال سبحانه : ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الأعراف / 167 ).

أمّا السرعة فقد مضى معناه وأمّا العقاب فعن الخليل أنّه قال : كلّ شيء يعقب شيئاً فهو عقيبه ، ولأجل ذلك يطلق على الليل والنهار العقيبان ، وإنّما سمّيت العقوبة عقوبة لأنّها تكون آخراً وثاني الذنب (1) وكأنّ الذنب يخلف العقاب ويعقبه ، قال الراغب : العقب مؤخّر الرجل ، والعقوبة والمعاقبة تختصّ بالعذاب.

قال سبحانه : ( فَحَقَّ عقاب - شديد العقاب - وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ ) والتعقيب أن يأتي بشيء بعد آخر.

وكونه سبحانه « شديد العقاب » ليس بمعنى كونه كذلك دائماً وإنّما يختصّ ذلك بموارد يستوجب سرعة العقاب ، كطغيان العبد وعتوّه فيسرع إليه العقاب ويأخذه بأشدّه.

ولأجل عدم كونه فعلاً له سبحانه على الدوام ; ضمّ إليه في الآيتين الاسمين الآخرين وقال « إنّه لغفور رحيم » ولو كان فعلاً له سبحانه على نحو الاستمرار لما صحّ الجمع بين الاسمين ، يقول سبحانه : ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) ( العنكبوت / 53 و 54 ).

ص: 278


1- معجم مقاييس اللغة ج 4 ص 77 - 78 بتلخيص.

وبذلك يتّضح كون العقاب على قسمين : قسم يعمّ الظالم في العاجل وقسم يشمله في الآجل كل ذلك لحكمة خاصّة هو واقف عليها ، غير أنّ رحمته وغفرانه سبقا غضبه وعقابه.

قال سبحانه : ( وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ( يونس / 11 ).

الثامن والستون : « السلام »

قد ورد لفظ « السلام » في الذكر الحكيم معرّفاً سبع مرّات ومنكراً خمس وثلاثون مرّة ووقع في مورد واحد اسماً له سبحانه ، وقال :

( هُوَ اللّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( الحشر / 23 ).

أمّا السلام لغة ، فقد قال ابن فارس : معظم بابه من الصحّة والعافية ، فالسلامة أن يسلم الإنسان من العاهة والأذى ، قال أهل العلم : اللّه جلّ ثناؤه هو السلام ، لسلامته ممّا يلحق المخلوقين من العيب والنقص والفناء. قال اللّه جلّ جلاله : ( وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ ) .

وقال الراغب : السلامة : التعرّي من الآفات الظاهرة والباطنة قال : « بقلب سليم » أي متعرٍّ من الدغل وهذا في الباطن ، وقال تعالى : ( مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا ) وهذا في الظاهر ، وقال تعالى : ( لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْ ) أي السلامة ، والسلامة الحقيقيّة ليست إلاّ في الجنّة إذ فيها بقاء بلا فناء ، وغنى بلا فقر ، وعزّ بلا ذلّ ، وصحّة بلا سقم ، وقيل « السلام » اسم من أسماء اللّه تعالى وصف بذلك حيث لا تلحقه العيوب والآفات التي تلحق الخلق (1).

ص: 279


1- المفردات : ص 239.

ولمّا كان السلام من السلامة دعا سبحانه في حقّ يحيى بقوله : ( وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) ( مريم / 15 ) ، وإنّما خصّ المواطن الثلاثة بالدعاء لأنّ أوحش ما يكون الخلق فيه هو يوم ولد ، ويوم يموت ، ويوم يبعث.

ففي الأوّل يرى نفسه خارجاً عمّا كان فيه ، وفي الثاني يرى قوماً لم يكن عاينهم ، وفي الثالث يرى نفسه في محشر عظيم ، فأكرم اللّه يحيى في هذه المواضع الثلاثة وخصّه بالسلامة من آفاتها ، والمراد أنّه سلّمه من شرّ هذه المواطن وآمنه من خوفها (1).

أقول : لا شكّ انّ السلام من أسماء اللّه سبحانه كما هو صريح آية سورة الحشر كما عرفت ، وترديد الراغب فيه لا وجه له ، إنّما الكلام في معناه فهناك احتمالان :

1 - أن يكون المراد من السلام انّه ذوالسلام ووصف به مبالغة في وصف كونه سليماً من النقائص والآفات كما يقال رجل عدل.

2 - أن يكون المراد من السلام كونه معطياً للسلامة وهو تعالى خلق الخلق سويّاً وقال : ( مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ ) ( الملك / 3 ) ، وقال : ( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) ( طه / 50 ).

إنّما الكلام في الفرق بينه وبين « القدّوس » الوارد في الآية أيضاً.

قال سبحانه : ( هُوَ اللّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ ) فما هو الفرق بين الاسمين ويحتمل كون القدّوس من صفات الذات ، والسلام من صفات الفعل فهو منزّه ذاتاً وفعلاً عن النقص.

ويحتمل أن يكون القُدُّوس أكثر مبالغة في التنزيه من السلام فهو يشير إلى براءته سبحانه عن جميع العيوب في الماضي والحاضر والمستقبل ، وعن العيب الظاهر والباطن ، ولكن السلام أضيق دلالة من هذا ، فلعلّه مختص بالبراءة عن

ص: 280


1- لوامع البينات للرازي : ص 187 ، نقلاً عن سفيان بن عيينة.

العيوب في الزمن المستقبل.

هذا إذا فسّر السلام بمعنى ذي السلامة ، وأمّا لو فسّر بكونه معطي السلامة كما هو أحد الاحتمالين فالفرق بينه وبين القدّوس واضح ، فالقدّوس صفة ذات ، والسلام صفة فعل ، ولا يبعد هذا المعنى بملاحظة ما ورد من الايات حول « السلام » وهو سبحانه « يدعو إلى دار السلام » و « لهم دار السلام » فاللّه سبحانه هو معطي السلامة.

وأمّا حظّ العباد من هذا الاسم فله أن يطلب سلامة الدين والدنيا ويتجنّب عن العيوب.

قال سبحانه : ( وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ) ( الأنعام / 120 ). ويكون ذا قلب سليم.

قال سبحانه : ( إِلاَّ مَنْ أَتَى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) ( الشعراء / 89 ).

ص: 281

ص: 282

حرف الشين

التاسع والستون : « الشاكر »

قد ورد لفظ « الشاكر » في الذكر الحكيم مفرداً أربع مرات ووقع اسماً له سبحانه في موردين قال : ( وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ) ( البقرة / 158 ) وقال : ( مَا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ) ( النساء / 147 ).

وأمّا « الشكور » فقد جاء في الذكر الحكيم 12 مرّة ووقع اسماً له سبحانه في موارد.

قال سبحانه : ( لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ) ( فاطر / 30 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ) ( فاطر / 34 ).

وقال سبحانه : ( وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ) ( الشورى / 23 ).

وقال سبحانه : ( إِن تُقْرِضُوا اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ) ( التغابن / 17 ).

ترى أنّه استعمل تارة مع اسم « غفور » واُخرى مع « حليم » وهذا يعرب عن صلة بينهما وبين « الشكور » ، وأمّا معناه فقد ذكر ابن فارس له اُصولاً أربعة نكتفي بذكر المعنى الأوّل فإنّه المناسب لهذا الاسم.

قال : الشكر الثناء على الإنسان بمعروف يوليكه ، ويقال إنّ حقيقة الشكر

ص: 283

الرضا باليسير ، يقولون : فرس « شكور » إذا كفاه لسمنه العلف القليل. وقال الراغب : الشكر تصوّر النعمة واظهارها ، قيل وهو مقلوب الكشر أي الكشف ويضادّه الكفر وهو نسيان النعمة وسترها ، ودابّة شكور : مظهرة بسمنها اسداء صاحبها إليها ، فالشكر على هذا هو الامتلاء من ذكر المنعم ، وإذا وصف اللّه بالشكر فإنّما يعني به انعامه على عباده وجزاءه بما أقاموه من العبادة ، يقال ناقة شكرة : ممتلئة الضرع من اللبن.

أقول : إذا كان الشكر بمعنى عرفان الاحسان فما معنى توصيفه بأنّه « شاكر » أو « شكور » وهو المحسن إلى عباده المنعم عليهم ؟

وبعبارة اُخرى : إذا كان الشكر هو الثناء على المحسن فما معنى ثناؤه سبحانه على المحسن ولا محسن سواه ؟

وبعبارة اُخرى : إذا كان الشكر هو مقابلة من أحسن اليه بالاحسان ، فكيف يصدق هذا في حقّه سبحانه فمن الذي يحسن اليه ؟ ولو اُحسن اليه بشيء ، فهو ملكه لا ملك المُحسِن ، ولأجل ذلك ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ تسميته بكونه شاكراً أو شكوراً من باب المجاز ، والمراد مجازاة الشاكر بالثواب فهو سبحانه يقبل شكر الشاكر بالجزاء عليه.

قال الصدوق : إنّه سبحانه لمّا كان مجازياً للمطيعين على طاعتهم جعل مجازاتهم شكراً لهم على المجاز كما سمّيت مكافأة المنعم شكراً (1).

ويمكن أن يقال : إنّ الاستعمال من باب الحقيقة استلهاماً من قوله سبحانه : ( إِن تُقْرِضُوا اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ) .

فكما أنّ نسبة الإستقراض عليه بنوع من التوسع فهكذا توصيفه سبحانه بكونه شاكراً أو شكوراً به أيضاً.

ص: 284


1- توحيد الصدوق : ص 216.

قال العلاّمة الطباطبائي : واللّه سبحانه وإن كان محسناً قديم الإحسان ومنه كل الاحسان لا يد لأحد عنده ، حتى يستوجبه الشكر ، إلاّ أنّه جلّ ثناؤه عدّ الأعمال الصالحة التي هي في الحقيقة احسانه إلى عباده ، احساناً من العبد إليه ، فجازاه بالشكر والاحسان وهو احسان على احسان.

قال تعالى : ( هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ ) ( الرحمن / 60 ).

وقال تعالى : ( إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا ) ( الإنسان / 22 ).

فاطلاق الشاكر عليه تعالى على حقيقة معنى الكلمة من غير مجاز (1). السبعون : الشكور

قد تبيّن معناه ممّا قدّمناه في تفسير اسم « الشاكر ».

الواحد والسبعون : « شديد العقاب »

وقد ورد ذلك الاسم المركّب في الذكر الحكيم 14 مرّة ووقع في الجميع وصفاً له سبحانه ، ويستعمل تارة مجرداً عن سائر الأسماء مثل قوله : ( وَاتَّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( البقرة / 196 ) ، واُخرى مقترناً باسم القوي ، قال سبحانه : ( فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( الأنفال / 52 ) ولولا كونه قوياً لما قدر على العذاب الشديد. وثالثة مقترناً باسمي « غفور » و « رحيم » مثل قوله : ( اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( المائدة / 98 ). فله سبحانه تجلّيات كل في موضعه ، وفي دعاء الافتتاح :

وأشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة.

ص: 285


1- الميزان : ج 1 ، ص 392 ، وكونه على الحقيقة انّما هو بعد التنزيل كما في الاستقراض.

ورابعة مع عدّة من الصفات مثل قوله سبحانه : ( غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ ) ( غافر / 3 ). وعلى كلّ تقدير فكونه شديد العقاب ، من قبيل الوصف بحال المتعلّق ، فالشديد هو عذابه ، كما ورد في عدّة من الآيات ، قال سبحانه : ( سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ ) ( الأنعام / 124 ).

الثاني والسبعون : « شديد العذاب »

وقد ورد في القرآن مرّة واحدة وقع وصفاً له سبحانه قال : ( أَنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ) ( البقرة / 165 ). وهو متّحد مع الاسم السابق معنى ، ومختلف لفظاً.

الثالث والسبعون : « شديد المحال »

وقد ورد في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له ، قال سبحانه : ( وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ المِحَالِ ) ( الرعد / 13 ).

وهل المحال ، من « محل » (1) يقال : محل به محلاً ومحالاً : إذا أراد بسوء ، والميم ليست زائدة أو من « حول » (2) أو « حيل » والميم زائدة ، ومعناه : الكيد. على الأوّل معناه : شديد الأخذ ، وعلى الثاني : شديد المكر ، واستعماله في حقه سبحانه من قبيل المشاكلة كما هو واضح. وحيلته سبحانه هو ما جاء في قوله : ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ) ( الأعراف / 182 ) وقال : ( فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ) ( القلم / 44 ).

ص: 286


1- كما عليه البيضاوي في تفسيره للآية.
2- نقل الطبرسي عن ابن جني ، ونسبه الراغب الى القيل مشعراً بضعفه.

الرابع والسبعون : « الشهيد »

قد ورد لفظ « الشهيد » في الذكر الحكيم معرّفاً ومنكراً 35 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في 20 مورداً.

قال سبحانه : ( لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ) ( آل عمران / 98 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( الحج / 17 ) (1).

وأمّا معناه فقد قال ابن فارس : إنّه أصل يدلّ على حضور وعلم واعلام من ذلك : الشهادة ، والمشهد محضر الناس.

وقال الراغب : الشهود والشهادة : الحضور مع المشاهدة أمّا بالبصر أو بالبصيرة وقد يقال للحضور مفرداً ، قال : « عالم الغيب والشهادة » ، ويقال للمحضر مشهد ، وللمرأة التي يحضرها زوجها مشهد ، وجمع مشهد مشاهد ومنه مشاهد الحج وهي مواطنه الشريفة التي يحضرها الملائكة والأبرار من الناس.

أقول : الظاهر انّ الشهادة موضوعة للحضور وافادتها العلم ، لأنّها تلازمه ويدلّ على ذلك قوله سبحانه : ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ) ( الحجّ / 28 ). و ( وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا ) ( النور / 2 ). ( وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) ( الفرقان / 72 ).

فمعنى كونه سبحانه « شهيداً » على كل شيء أنّه لا يخفى على اللّه منه شيء كما صرّح وقال : ( فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ) ( طه / 7 ) ومع ذلك لأنّه ليس بينه وبين

ص: 287


1- لاحظ النساء / 33 و 79 و 166 ، المائدة / 113 و 117 ، الأنعام / 19 ، يونس / 29 و 46 ، الرعد / 43 ، الإسراء / 96 ، العنكبوت / 52 ، الأحزاب / 55 ، سبأ / 47 ، فصّلت / 53 ، الاحقاف / 8 ، الفتح / 28 ، المجادلة / 6 ، البروج / 9.

خلقه حجاب ، فحقيقة الشهادة عبارة عن فقدان الحجاب بين الشاهد والمشهود واحاطته به.

وبذلك يظهر : انّ تقسيم الأشياء إلى الغيب والشهادة ، تقسيم نسبي بالنسبة إلينا ، وأمّا بالنسبة إليه فالأشياء كلّها مشهودات فلأجل ذلك يقول : ( أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) والشهادة أمر اضافي له نسبة إلى الشاهد ، ونسبة إلى المشهود ، فلو كان شهيداً على كل شيء لكان الكل مشهوداً لا غائباً.

وبذلك يظهر أنّ ما نقل عن الكفعمي أحسن من غيره حيث يقول : « هو الذي لا يغيب عنه شيء أي كأنّه الحاضر الشاهد الذي لا يعزب عنه شيء ، وكونه شاهداً لكل شيء ، فوق كونه عالماً به ، فإنّ العلم يتحقّق بحضور صورة الشيء عند العالم دون حضور نفسه ، ولكن الشهادة أقوى وأوثق من العلم ، بل المتبادر منها حضور الأشياء بوجودها الخارجي لدى الباري ، وكيف والعالم فعله سبحانه وليس فعله غائباً عن ذاته ».

وهذا أولى ممّا نقل عن الغزالي وقال : يرجع معنى الشهادة إلى العلم مع خصوص اضافة فإنّه عالم الغيب والشهادة ، والغيب عبارة عمّا يطلب ، والشهادة عمّا ظهر وهو شاهد كليهما ، فإذا اعتبر العلم مطلقاً فهو العليم ، وإذا اُضيف إلى الغير والامُور الباطنة فهو الخبير ، وإذا اُضيف إلى الاُمور الظاهرة فهو شهيد ، وقد يعتبر مع هذا أن يشهد على الخلق يوم القيامة بما علم وشاهد منه.

هذا والأولى ما ذكرنا من أنّ توصيفه سبحانه بكونه عالماً للغيب والشهادة بملاك كونه شهيداً على كل شيء وعدم غيبوبة شيء عن ذاته بملاك آخر.

وإلى ما ذكرنا صرّح بعض المحقّقين وقال : « إنّ الشاهد المدرك يرى ما لا يرى الغائب ، والحاضر المعاين المطّلع ، يعلم ما لا يعلمه الغائب ، وليس ذلك إلاّ لأن معلوماته كلّها حاضرة عنده ، مشاهدة معاينة مدركة له غير غائبة عنه ، ففي

ص: 288

اطلاق هذا الاسم عليه تعالى اشارة إلى أنّ علمه عزّ وجلّ بما سواه بالمشاهدة والحضور والادراك وليس شيء مما سواه من الأزل إلى الأبد غائباً عنه بل الكل حاضر عنده.

مع أنّ شيئاً ممّا سواه ليس معه مطلقاً من الأوّل إلى الأبد ، وهذا ستر مستور. لا يعلمه إلاَّ هو ومن هو ملهم بإلهام اللّه تعالى شأنه ، والغيب والشهادة إنّما يكونان بالنسبة إلى المخلوقات وعليه يحمل قوله عزّ وجلّ : ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) وإلاّ فلا غيب ولا غائب عنده جلّ شأنه (1).

ص: 289


1- كاشف الاسماء في شرح الاسماء الحسنى ، وقداشبعنا الكلام في الجزء الثالث عند البحث عن علم الغيب فلاحظ : ص 377 - 381.

ص: 290

حرف الصاد

الخامس والسبعون : « الصمد »

قد ورد لفظ « الصمد » في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له فيها قال سبحانه :

( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ * اللّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) .

قال ابن فارس : الصمد له أصلان : أحدهما القصد والآخر الصلابة في الشيء.

فالأوّل يقال صمدته صمداً ، وفلان صمد ، إذا كان سيّداً يقصد إليه في الاُمور. واللّه جلّ ثناؤه الصمد لأنّه يصمد إليه عباده بالدعاء والطلب.

قال الشاعر :

علوته بحسام ثمّ قلت له *** خذها حذيف فأنت السيّد الصمد

وقال طرفة في المصمّد :

وإن يلتقى الحي الجميع تلاقيني *** إلى ذروة البيت الرفيع المصمّد (1)

وقال الراغب : الصمد : السيّد الذي يصمد إليه في الأمر ، وقيل : الصمد : الذي ليس بأجوف.

ص: 291


1- الشعر من معلقة طرفة المشهورة.

وقال الصدوق : الصمد معناه السيد ، وللصمد معنى ثان وهو المصمود إليه في الحوائج (1).

والظاهر انّ المعنى الثاني من فروع الأوّل ومن لوازمه ، لأنّ من لوازم كون الرجل سيّداً مطاعاً ، كونه مقصوداً ومصموداً إليه في النوائب والحوائج.

ورواه في موضع آخر عن الامام الباقر علیه السلام : الصمد : السيّد المطاع الذي ليس فوقه آمر وناه (2).

روى الكليني عن جابر بن يزيد الجعفي قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن شيء من التوحيد فقال : ... صمد قدّوس يعبده كلّ شيء ، ويصمد إليه كلّ شيء ، ووسع كلّ شيء علماً.

قال الكليني وهذا المعنى الذي قال علیه السلام : إنّ الصمد هو السيّد المصمود إليه هو معنى صحيح.

قال أبو طالب في بعض ما كان يمدح به النبي صلی اللّه علیه و آله :

وبالجمرة القصوى إذا صمدوا لها *** يؤمّون رضحا رأسها بالجنادل

وقال بعض شعراء الجاهلية :

ما كنت احبّ انّ نبيّنا ظاهراً *** لله في أكناف مكّة يصمد

يعني يقصد.

وقال ابن الزبير :

ما كان عمران ذاغشّ ولا حسد *** ولا رهيبة إلاّ سيّد صمد

ص: 292


1- التوحيد : ص 197.
2- التوحيد : ص 90.

واللّه عزّ وجلّ هو السيّد الصمد الذي جميع الخلق من الجن والانس إليه يصمدون في الحوائج ، وإليه يلجأون عند الشدائد ، ومنه يرجون الرخاء ودوام النعماء ، ليدفع عنهم الشدائد (1).

وإذا كان اللّه تعالى هو الموجد لكلّ ذي جود ممّا سواه فيقصده كلّ ما صدق عليه أنّه شيء غيره ، ويحتاج إليه في ذاته وصفاته وآثاره ، قال تعالى : ( أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ ) ( الأعراف / 54 ). وقال : ( وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ المُنتَهَى ) ( النجم / 42 ). فهو الصمد في كلّ حاجة في الوجود ، لا يقصد شيء شيئاً إلاّ وهو الذي ينتهي إليه قصده ، وتنجح به طلبته ، وتقضى به حاجته.

وإنّما دخلت اللام على الصمد لإفادة الحصر ، فهو تعالى وحده الصمد على الاطلاق لما عرفت من أنّه ينتهي إليه قصد كلّ قاصد ، وهو المقصود بالاصالة وغيره مقصود بالتبع.

وإنّما كرّر لفظ الجلالة وقال : ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ * اللّهُ الصَّمَدُ ) ولم يقل هو الصمد ، أو لم يقل اللّه أحد صمد ، فلعلّه للإشارة إلى أنّ كلا من الجملتين كاف في تعريفه تعالى فالمعرفة حاصلة بكلّ واحد.

وإنّما لم يدخل اللام على « أحد » فلعلّه لأجل ادعاء أنّه لا يطلق على غيره سبحانه فليس غيره أحد فلا يحتاج إلى عهد وحصر.

والآيتان تصفانه سبحانه بصفتي الذات والفعل ، فالأحدية من صفات الذات وهي عينها ، والصمدية من صفات الفعل حيث يصفه بانتهاء كلّ شيء إليه وهو من صفات الفعل.

هذا وقد نقل العلاّمة المجلسي للفظ الصمد معاني كثيرة تناهز العشرين غير أنّ أكثرها ليست معناني متعدّدة بل يرجع إلى أنّه السيد المصمود ، وقد ذكر الصدوق

ص: 293


1- الكافي : ج 1 ، ص 124.

أيضاً في تفسير ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ) معاني مختلفة بحسب الظاهر غير أنّ أكثرها يرجع إلى ما ذكرنا ، فروى عن عليّ علیه السلام أنّه قال : « الصمد » الذي قد انتهى سؤدده ، والصمد : الذي لا يأكل ولا يشرب ، والصمد : الدائم الذي لم يزل ولا يزال.

وروى عن محمد بن الحنفية رضی اللّه عنه أنّه كان يقول : الصمد : القائم بنفسه ، الغني عن غيره ، وقال غيره : الصمد : المتعالي عن الكون والفساد.

وروى عن علي بن الحسين زين العابدين علیه السلام أنّه قال : الصمد : الذي لا شريك له ولا يؤده حفظ شيء ولا يعزب عنه شيء.

وروي أيضاً عنه علیه السلام أنّه قال : الصمد : الذي أبدع الأشياء فخلقها أضداداً وأشكالاً ، وأزواجاً وتفرّد بالوحدة بلا ضد ولا شكل ولا مثل ولا ندّ.

ولا يخفى إنّ هذه المعاني ليست معاني لغوية للفظ الصمد ولا نرى منها أثراً في المعاجم ، وإنّما هو من لوازم كون الشخص سيداً مصموداً لكلّ شيء ، فلازم ذلك أن ينتهي سؤدده وأن لا يكون له شريك ولا يؤده حفظ شيء إلى غير ذلك مما ورد في هذه التفاسير.

نعم ربّما يفسّر بالمصمّت الذي ليس بأجوف فلا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يلد ولا يولد وقد ورد تفسيره به في بعض الروايات وعلى ذلك فيكون قوله : ( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ) تفسيراً للصمد ، وهناك حديث رواه الصدوق بسنده عن الحسين بن علي علیهماالسلام فمن أراد فليرجع إليه (1).

ص: 294


1- كتاب التوحيد : باب معنى قل هو اللّه أحد ، الحديث 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8.

حرف الظاء

السادس والسبعون : « الظاهر »

وقد مرّ تفسيره عند تفسير اسم « الباطن » فراجع.

حرف العين

السابع والسبعون : « عالم الغيب والشهادة »

لم يقع لفظ « عالم » وصفاً له سبحانه في الذكر الحكيم إلاّ مضافاً تارة إلى الغيب والشهادة ، واُخرى إلى الغيب وحده ، وثالثة إلى غيب السموات والأرض ، فقد جاء « عالم الغيب والشهادة » عشر مرّات ، و « عالم الغيب » مرّتين ، و « عالم غيب السموات والأرض » مرّة واحدة ، والكلّ يشير إلى علمه الوسيع لكل شيء سواء أكان مشهوداً للناس بالأدوات الحسّيّة أو كان غائباً عنهم إمّا لامتناع وقوعه في اطار الحسّ أو لضعف الحسّ.

توضيحه : انّ الغيب يقابل الشهود فما غاب عن حواسنا وخرج عن حدودها فهو غيب سواء أكان قابلاً للإدراك بالحواسّ كالحوادث الواقعة في غابر الزمان ، والمتكوّنة حاليّاً ، الغائبة عن حواسّ المخبر ، أم كان ممّا يمتنع ادراكه بالحسّ لعدم

ص: 295

وقوعه في اُفقه كذاته سبحانه وصفاته إلى غير ذلك من عوالم الغيب كالوحي والنبوّة فاللّه سبحانه عالم بالجميع من غير فرق بين المشهود وغيره (1).

قال سبحانه : ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ المُتَعَالِ ) ( الرعد / 9 ).

وقال سبحانه : ( قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( سبأ / 3 ). وقال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) ( فاطر / 38 ).

لا شك إنّ هذه الآيات بصدد حصر العلم بالغيب والشهادة له ، وهناك سؤال يطرح نفسه بل سؤالان :

1 - كيف يصحّ حصر « العلم » بالغيب والشهادة مع أنّ العلم بالشهادة متاح لكلّ من اُعطي واحداً من أدوات الحسّ.

2 - دلّ قسم من الآيات على أنّ الأنبياء والأولياء كانوا يعلمون الغيب ويخبرون عنه ، فهذا العلم بالغيب كيف يجتمع مع حصره في اللّه سبحانه ؟

والجواب : إنّ ما يجري على اللّه سبحانه من صفات ونعوت يختلف عمّا يجري على غيره لا بمعنى انّ للعلم - مثلاً - معنيين مختلفين يجري على الواجب بمعنى وعلى الممكن بمعنى آخر فإنّ ذلك باطل بالضرورة ، ومثله الحياة والقدرة بل المراد اختلاف المحمول عند الجري على الواجب والممكن اختلافاً في كيفيّة الجري والإتّصاف ، فإنّ العلم منه واجب ، ومنه ممكن ، ومنه ذاتي ، ومنه اكتسابي ، منه مطلق ومرسل عن القيود ، ومنه مقيّد محدود ، منه ما هو عين الذات بلا تعدّد بين الوصف والموصوف ، ومنه ما هو زائد على الذات ، ومن المعلوم أنّ

ص: 296


1- وقد أشبعنا الكلام في حقيقة الغيب والشهود في الجزء الثالث من هذه الموسوعة لاحظ : الفصل السادس ص 375 - 382.

ما يجري على الواجب ، هو القسم الأشرف وما يجري على الممكن هو القسم الأخسّ فعند ذلك يظهر صحّة اختصاص العلم بالغيب والشهادة باللّه سبحانه ، فإنّ العلم الواجب ، المطلق ، الذي هو عين الذات ، يختصّ به سبحانه ، سواء أتعلّق بالغيب أم بالشهادة وأمّا علم الغير بالشهادة فانّما هو علم ممكن لا واجب ، محدود لا مطلق ، زائد على الذات لا عينه فلا يضر ثبوته لغيره مع حصر مطلق العلم ، سواء أتعلّق بالغيب أم بالشهادة عليه سبحانه.

وقد تقدّم في الجزء الثالث عند البحث عن اختصاص العلم بالغيب باللّه سبحانه ما يفيدك في هذا المقام (1).

وعلى ذلك فالعلم المختصّ باللّه سبحانه إنّما هذا النوع من العلم لا غيره.

وبذلك يعلم جواب السؤال الثاني فإنّ اطّلاع الأنبياء على الغيب بإذن منه سبحانه لا يضرّ بحصر علم الغيب على اللّه فإنّ المحصور من العلم ، غير المشترك. الثامن والسبعون : « عالم غيب السموات والأرض »

قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) ( فاطر / 38 ). وقد تقدّم تفسيره في الاسم السابق.

التاسع والسبعون : « علاّم الغيوب »

وقد ورد في الذكر الحكيم أربع مرّات.

قال سبحانه : حاكياً عن المسيح : ( تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( المائدة / 116 ).

ص: 297


1- المصدر نفسه.

وقال سبحانه : ( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( التوبة / 78 ).

وقال سبحانه حاكياً عن الرسل : ( قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( المائدة / 109 ).

وقال : ( إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( سبأ / 48 ).

وحصر هذا الاسم على اللّه سبحانه حصر حقيقي مضافاً إلى أنّ علم الواجب غير محدود كوجوده ، وعلم الممكن محدود ، وإنّ علم غيره سبحانه بالغيب بما أنّه يتوقّف على اذنه سبحانه وتعلّق مصلحة عليه قليل في ذاته فضلاً عن إذا قيس إلى علم الواجب بالغيب.

الثمانون : « العليم »

اشارة

قد ورد لفظ « العليم » في القرآن 162 مرّة ، ووقع وصفاً له في الجميع إلاّ في الموارد التالية : ( إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ) ( الأعراف / 109 ) ، ( يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ) ( الأعراف / 112 ) ، ( قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) ( يوسف / 55 ) ، ( وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) ( يوسف / 76 ) ، ( قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ) ( الحجر / 53 ) ، ( إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ) ( الشعراء / 34 ).

وأمّا في غير هذه الموارد ، فقد جاء وصفاً له سبحانه ، وقورن بالصفات التالية : الحليم ، الواسع ، السميع ، الشاكر ، القدير ، العزيز ، الخبير ، الفتّاح ، الخلاّق.

وقد وقفت على معنى العلم في البحث السابق ، وبما أنّ العلم والقدرة من أبرز الصفات الثبوتيّة وجب علينا البحث عن اُمور يرجع إلى علمه سبحانه أو إلى قدرته ، فلأجل ذلك قد أسهبنا البحث في هذين الوصفين ، وآثرنا الاختصار في غيرهما ، فنقدّم فهرس البحوث الواردة فيه مستقلاًّ.

ص: 298

العلم

ما هو حقيقة العلم ؟

التعريف المعروف للعلم.

نقد هذا التعريف من وجوه :

أوّلاً : عدم شموله لبعض أنواع العلم.

تقسيم العلم إلى الحضوري والحصولي.

نماذج من العلم الحضوري.

أ - نفس الصورة العلمية.

ب - علم الإنسان بذاته.

ج - علم الإنسان بالمشاعر النفسية.

د - علم العلّة بمعلولها.

ثانياً : عدم شموله للمعقولات المنطقية.

نماذج من المعقولات المنطقية.

أ - مفهوم الإنسان الكلّي.

ب - مفهوم الجنس والفصل.

ثالثاً : عدم شموله للمحالات والمعدومات.

رابعاً : عدم شموله للأرقام الرياضية.

نكتة هامة ليس كلّ انعكاس علماً.

اجابة عن سؤال.

تعريف العلم بوجه آخر ( التعريف المختار ).

ص: 299

علمه سبحانه بذاته.

الدليل الأوّل : معطي الكمال ليس فاقداً له.

الدليل الثاني : عوامل الغيبة منتفية عن ساحته سبحانه.

دليل النافين لعلمه سبحانه.

علمه سبحانه بالأشياء قبل إيجادها.

أدلّة ذلك العلم.

الدليل الأوّل : العلم بالحيثيّة الموجبة للمعلول علم به.

الدليل الثاني : بسيط الحقيقة كلّ الأشياء.

علمه سبحانه بالأشياء بعد ايجادها.

الدليل الأوّل : قيام بالاشياء بذاته لا ينفك عن علمه بها.

الدليل الثاني : سعة وجوده دليل على علمه بالأشياء.

الدليل الثالث : اتقان المصنوع آية على علم الصانع.

مراتب علمه سبحانه.

شمول علمه سبحانه للجزئيات.

أهم الأقوال في هذا المجال.

القول المختار ودلائله.

التعبير القرآني الرفيع عن سعة علمه سبحانه.

دلائل النافين لعلمه سبحانه بالجزئيات ونقدها.

ص: 300

ما هي حقيقة العلم ؟
اشارة

لقد عُرِّف العلم بأنّه صورة حاصلة من الشيء على صفحة الذهن.

وبعبارة أُخرى : هو انعكاس الخارج إلى الذهن ، عند اتصال الإنسان بالخارج.

وهذا التعريف انتزعه الحكماء من كيفيّة حصول العلم للإنسان عند اتّصاله بالخارج ، إذ لا شكّ أنّ الخارج لا يمكن أن يقع في اُفق الذهن بنفس واقعيّته وحقيقته وعينيّته ، وإلاّ لزم أن ينتقل كلّ ما للوجود الخارجي من الأثر إلى عالم الذهن ، وإنّما ينتقل إليه بصورته المنتزعة منه عن طريق أدوات المعرفة من الحواس الخمس.

وبالتالي : إنّ العلم هو الصورة الحاصلة من الشيء عند العقل.

غير أنّ هذا التعريف ناقص من جهات شتّى نشير إلى بعضها :

أوّلاً : عدم شموله لبعض أنواع العلم
اشارة

إنّ العلم ينقسم إلى قسمين : حصولي وحضوري ، وإليك بيانهما :

لو كان الشيء حاضراً عند « العالم » بصورته وماهيّته لا بوجوده الخارجي ، فالعلم « حصولي ».

ولو كان المعلوم حاضراً لدى « العالم » بواقعيّته الخارجيّة من دون توسيط صورة بين الواقعيّة والعالم ، فالعلم « حضوري » (1).

ص: 301


1- وستقف على مراتب العلم الحضوري.

ولمزيد من التوضيح نقول : إنّ الإنسان عند ما يطلّ بنظره إلى الخارج ويلاحظ ما يحيط به في هذا الكون ، يشاهد شجراً وحجراً ، وناراً وثلجاً ، وبحراً وجبلاً ، وشمساً وقمراً ، فهناك :

مدرِك - بالكسر - هو الإنسان وشيء في الخارج وهو المدرَك - بالفتح - وصورة متوسطة منتزعة من الشيء الخارجي تنتقل إلى مركز الإدراك ، عبر أدوات الاحساس والمعرفة.

وبما أنّ الحاضر - عندنا - ليس هو ذات القمر والشمس أو النار والثلج بوجودهما الخارجيين ، وإنّما الحاضر - عندنا - وفي ذهننا هو « الصورة » المنتزعة الحاصلة من الخارج يسمى الشيء الخارجي « معلوماً بالعرض » والصورة الذهنية الحاكية للخارج « معلوماً بالذات » لأنّ الخارج معلوم بوساطة هذه الصورة ، ولولاها لانقطعت صلة الإنسان بالخارج ، والواقع الخارجي.

وأمّا قولنا : بأنّ الخارج ليس حاضراً عندنا بواقعيّته الخارجيّة فهو أمر واضح لأنّ الذهن غير قادر على تقبّل الشيء بواقعيته الخارجية الحارة ، الباردة الخشنة ، الثقيلة إلى غير ذلك من الآثار المحمولة على الخارج.

وهذا هو العلم الحصولي ، وعلى ذلك ينطبق التعريف المذكور مطلع هذا البحث.

وهناك نوع آخر من العلم يسمّى بالعلم الحضوري وهو عبارة عن حضور نفس المعلوم بواقعيّته الخارجيّة عند الذهن لا بصورته ومفهومه.

وعند ذلك ينقلب التثليث (1) المذكور في تعريف « العلم الحصولي » إلى تقسيم ثنائي فلا يكون ثمّة مدرِك - بالكسر - ومدرَك - بالفتح - بواقعيته الخارجية وصورة ومفهوم منها بل يكون مدرِك - بالكسر - ومدرك ، وربّما يكون اُحاديّاً كما

ص: 302


1- الانسان المدرك والشيء الخارجي وصورته الذهنية.

سيوافيك بيانه.

نماذج من العلم الحضوري

أ. نفس الصورة الحاصلة في الذهن ، الحاكية للواقع الخارجي ، فإنّ علم الإنسان بالخارج يتحقّق بتوسط هذه الصورة.

أمّا نفس الصورة فهي معلومة بالذات من دون توسّط شيء بين الذهن وتلك الصورة المدركة.

فالخارج وإن كان معلوماً عبر هذه الصورة وبواسطتها ، إلاّ أنّ نفس الصورة معلومة بذاتها لدى النفس حاضرة في حورتها.

ب. علم الإنسان بذاته : فإنّ ذات الإنسان حاضرة بذاتها لديه ، وليست ذاته غائبة عن نفسه ، فهو يشاهد ذاته مشاهدة عقليّة ويحس بها احساساً وجدانيّاً ، ويراها حاضرة لديه من دون توسّط شيء بين الإنسان وذاته من قبيل الصورة المنتزعة عن الخارج.

وفي هذه الحالة ينقلب التقسيم الثنائي المذكور في القسم الأوّل من « العلم الحضوري » إلى حالة احادية ، وهي وحدة العاقل والمعقول ، والعالم والمعلوم.

فالإنسان - في هذه الحالة - هو العالم وهو المعلوم في وقت واحد وبهذا يتّحد المدرِك والمدرَك وهذا يفيد : إنّ ذات الإنسان علم وانكشاف وليس بين الذات ونفسه أيّ إبهام وحجاب.

قال الحكيم السبزواري في منظومته :

وحصولي كذا حضوري *** في الذات ما الحضور بالمحصور

فأوّل صورة شيء حاصله *** للشيء والثاني حضورالشيء له (1)

ص: 303


1- المنظومة قسم الفلسفة : ص 143.

إذا وقفت على هذا عرفت بأنّ علم الإنسان بذاته علم حضوري ، إذ لا تغيب ذات الإنسان ونفسه عن نفسه.

وبهذا تقف على ضعف ما نقل عن الفيلسوف الفرنسي « ديكارت » حيث أراد الاستدلال على وجود نفسه بكونه مفكراً إذ قال : « أنا اُفكر فإذن أنا موجود » حيث استدلّ بوجود التفكّر على وجود المفكّر وهو نفسه.

فإنّ هذا الإستدلال خال عن الإتقان لوجهين :

أوّلاً : إنّ علم الإنسان بوجود نفسه علم حضوري وضروري لا يحتاج إلى البرهنة عليه والاستدلال بشيء ، فليس علم الإنسان بتفكّره أقوى وأوضح عنده من علمه بذاته ونفسه.

وثانياً : إنّ « ديكارت » اعترف بالنتيجة التي سعى إليها في مقدمة كلامه وجملته ، إذ قال : أنا اُفكر فإذن أنا موجود.

فقد أخذ وجود نفسه ( التي عبر عنها ب « أنا » ) أمراً مفروضاً واقعاً مسلّماً بينما هو يريد الاستدلال على وجود « أنا » وهذا من باب قبول النتيجة قبل الاستدلال عليها.

فالحقّ هو انّ « علم الإنسان بذاته » وانّه أمر موجود وحقيقة كائنة بنحو من الانحاء لا يحتاج إلى البرهنة والاستدلال أصلاً.

ج. علم الإنسان بالمشاعر النفسية : إنّ الآلام والأفراح التي تحيط بالإنسان جميعها معلومة للإنسان بالعلم الحضوري الذاتي ، فإنّ هذه الأحاسيس والمشاعر حاضرة بوجودها الخارجي لدى الإنسان من دون حاجة إلى أخذ صورة عنها.

د. علم العلة بمعلولها : إنّ علم العلّة بمعلولاتها ليس علماً حصولياً بل علم حضوري لما سيوافيك من أنّ نسبة وجود المعلول إلى العلّة كنسبة المعنى الحرفي إلى المعنى الاسمي ، وإنّ المعلول بوجوده وهويته الخارجية قائم بعلّته. والمراد من

ص: 304

العلّة ، هو الفاعل الالهي أي معطي الوجود.

وما هو هذا حاله لا يمكن غيابه عن العلّة ، ولا يمكن عدم حضوره في ساحته ، وهو عبارة اُخرى عن علم العلّة بمعلوله. وسيوافيك توضيحه في محله.

هذه هي بعض أقسام العلم الحضوري ونماذجه وقد أتينا بهذا القدر على سبيل المثال لا الحصر.

فاتّضح - بما ذكرناه - إنّ التعريف الذي مرّ عليك في مطلع هذا البحث تعريف غير شامل لأفضل أنواع العلوم وأسناها.

ثانياً : عدم شموله للمعقولات الثانية المنطقية
اشارة

إنّ نقص التعريف الماضي لا يختصّ بما ذكر بل هناك نقص آخر وهو عدم شموله للمعقولات الثانية المنطقيّة.

وتوضيح ذلك : انّ ما يرد إلى الذهن ينقسم إلى معقولات أوّليّة ، ومعقولات ثانية (1). فكلّ مفهوم له فرد واقعي في خارج منه تؤخذ الصورة وتنتزع حتى ترد إلى حوزة النفس ، ومجال الذهن فهو معقول أوّل ، وذلك كالألوان وما شاكل ذلك.

وكلّ مفهوم لا نجد له فرداً خارجيا غير أنّه يقع في اُفق النفس بتعاملات ذهنيّة وذلك مثل المفهوم الكلّي والنوع والجنس والمعرّف والحجّة ، وغير ذلك من المفاهيم التي تعد موضوعات للمسائل المنطقية (2).

فإنّ كلّ واحد من هذه المفاهيم ، مفاهيم ذهنية ليس لها مصاديق في الخارج

ص: 305


1- والمعقولات الثانية تنقسم الى معقولات ثانية منطقية ومعقولات ثانية فلسفية والكل خاص.
2- قال الحكيم السبزواري : إن كان الاتصاف كالعروض في *** عقلك فالمعقول بالثاني صفي

بحيث ينتزع هذا المفهوم من ذلك الشيء الخارج ، وإنّما يصفه الذهن بتعامل فكري قد أوضحه المحققون في محلّه.

لا أقول : إنّ هذه المفاهيم من مصنوعات الذهن ، ومفتعلاته التي لا صلة لها بالخارج أبداً ، لأنّ كلّ ما في الذهن لابدّ وأن يرجع بنحو من الأنحاء إلى الخارج ولكن كون الخارج مبدأً لوقوع هذه المفاهيم في الذهن ، غير وجود مصداق خارجي له.

ونأتي هنا بأمثلة :

أ - مفهوم الإنسان الكلّي :

فإنّ هذا المفهوم المقيّد بالكلّية ليس له وجود إلاّ في محيط الذهن ، فإنّ الإنسان وإن كان موجوداً في الخارج لكنه جزئي متشخّص ، بخلاف مفهوم الإنسان الذي له سعة أن يشمل كلّ فرد من أفراده ، والمفهوم بهذه السعة غير موجود إلاّ في الذهن ، فإنّ كلّ ما في الخارج أمر جزئي متشخّص ومتعيّن ، والمفهوم الكلّي الوسيع خال عن التشخّص والتعيّن ، بدليل صدقه على هذا المتشخّص ، وذاك المتعيّن ومع ذلك فهذا المفهوم الكلّي يصنعه الذهن بمقايسة بعض الأفراد ببعض ، وانتزاع المشتركات منها.

وعلى الجملة فهذا المفهوم ( أي مفهوم الإنسان الكلّي ) معلوم لنا ، والنفس واقفة عليه ، غير أنّه ليس من قبيل « الصورة الحاصلة من الشيء في الذهن » وإنّما هو من مخلوقات الذهن ومصنوعاته بعد اتّصاله بالواقع الخارجي ، ومشاهدة أفراده ومصاديقه.

ص: 306

ب - مفهوم الجنس والنوع :

إنّ المنطق يبحث عن مفاهيم ، مثل النوع والجنس ، والمعرّف ، والحجّة ، وغير ذلك من المفاهيم التي تعد موضوعات لذلك العلم.

فالنوع عبارة عن مفهوم يحكي عن القدر المشترك بين أفراد متّحدة الحقيقة كالإنسان والجنس عبارة عن تمام الحقيقة المشتركة بين الجزئيات المتكثّرة بالحقيقة في جواب ما هو كالحيوان.

ومن المعلوم أنّ القدر المشترك ، سواء أكان قدراً مشتركاً لمتّفقة الحقيقة أو لمختلفتها لا يمكن أن يكون له مصداق في الخارج ، لأنّ الخارج طرف للتعيّن والتشخّص ، فما لزيد من الإنسانيّة فهو يختصّ به ، وما لعمرو منها فهو له خاصّة أيضاً ، ولا يعد كلّ ما يختصّ قدراً مشتركاً ، وإنّما القدر المشترك هو المفهوم الذهني الذي لا يتشخّص ، ولا يتقرّر بعنوان فرد من الأفراد ، ولأجله يقدر أن يحكي عن كلا الفردين ، بسعة مفهومه وعموميّة معناه.

فلأجل ذلك لا يوجد لهذه المفاهيم موطن إلاّ الذهن ، وليس له مصداق إلاّ فيه ، ومع ذلك فهو يحكي بنحو من الأنحاء عن الخارج ، ويؤخذ منه بشكل من الاشكال ، لكن الحكاية عن الخارج ، غير كون الخارج مصداقاً له ، كما أنّ أخذه من الخارج بمقايسة الأفراد بعضهم ببعض غير كونه مأخوذاً من الخارج مباشرة ...

وبذلك يعلم أنّ المعرِّف بما هو أمر كلّي يعرف أمراً كلّياً ليس له موطن إلاّ في الذهن كالحيوان الناطق المعرّف للإنسان ، وهكذا الحجّة بما هو قضايا كلّيّة يستدلّ بها على قضية كلّية اُخرى لا موطن لها إلاّ الذهن.

فإنّ الاستدلال عبارة عن الانتقال عن العلّة إلى معلوله أو منه إلى علّته أو من اللازم إلى اللازم فكلّ هذه الاُمور قضايا كلّية تهدينا إلى قضية كلّية اُخرى.

ص: 307

فقولنا : العالم متغيّر وكلّ متغيّر حادث ، حجّة على قولنا : العالم حادث. فتحصل إنّ هناك علوماً ذهنيّة ليست صوراً متّخذة من الخارج ، ولا حاصلة منه.

وعلى هذا يجب أن يعرّف « العلم » بنحو يشمل هذا النوع أيضاً ، وإلاّ كان ناقصاً كما عرفت.

ثالثاً : عدم شموله للمحالات والمعدومات

لا شكّ إنّ النفس كثيراً ما تتصوّر مفاهيم ممتنعة ، وتقضي بأنّها لا يمكن أن تتحقّق في الخارج أبداً ، وذلك مثل الدور ، والتسلسل ، واجتماع النقيضين ، والضدّين.

فهذه معلومات نفسانيّة يقف عليها الإنسان ، مع أنّها ليست صوراً متّخذة من الخارج ولا منتزعة من شيء في الواقع الخارجي ، وإلاّ يلزم عدم امتناعها.

رابعاً : عدم شموله للأرقام الرياضية
اشارة

إنّ الإنسان يتصوّر أرقاماً بعد الواحد إلى المئات والاُلوف ، وهذه مفاهيم علميّة للنفس تستخدمها في العلوم الرياضيّة والهندسيّة مع أنّها ليست منتزعة من الخارج كما تؤخذ صورة زيد عن وجوده الخارجي.

فإنّ الموجود في الخارج هو الآحاد ، وأمّا العشرة أو المائة أو الألف بهذه المفاهيم المتكثّرة فهي ممّا تصنعه النفس.

فإنّ النفس تصنع هذا المركّب بعد مشاهدة الأفراد من دون أن يكون للمركّب مصداق وراء الآحاد فلو حضر في البيت عشرة رجال ، فالموجود - في الحقيقة - هو الآحاد ، وليس وراء ذلك ، أيّ موجود باسم المركّب ، وإلاّ كانت العشرة أحد عشر.

ص: 308

نكتة يجب التنبيه إليها

إنّ مجرد انعكاس الصورة من الخارج في الذهن ، سواء قلنا بمادّيتها أو بتجرّدها عن الماديّة ، لا يعادل العلم ، ولا يساوقه ، وإلاّ لكانت الصورة المنعكسة في المرايا علماً ، والمرآة عالمة ، بل يجب أن يكون هناك أمر آخر وهو لزوم نوع وحدة بين الصورة وحاملها وعينيّة بين العلم بالذات والعالم ، بحيث تعد الصورة من مراتب وجود العالم ، ومظهراً من مظاهر وجوده.

وهذه الحقيقة هي الّتي حقّقها الفلاسفة في البحث عن اتّحاد العاقل والمعقول ، والمراد من العاقل هو الإنسان العالم بالشيء ، ومن المعقول هو الصورة الذهنيّة.

فيجب أن يكون وجود الصورة بوجه يتّحد مع النفس ، اتّحاد العرض مع جوهره في الوجود ، وإلاّ فلو عدّت النفس ظرفاً للصورة ، والصورة شيئاً موجوداً فيه ، كانت أشبه شيء بالصورة المنعكسة في المرايا.

اجابة عن سؤال :

لقد اتّضح ممّا ذكرنا : إنّ الصور الذهنية على نوعين :

1. صور منتزعة من الخارج ، ومأخوذة عنها مباشرة.

2. صور غير منتزعة من الخارج ، وإنّما تعدّ من صنائع النفس ومخلوقاته ، وعلى هذا فينطرح السؤال التالي :

إنّ اللّه سبحانه يقول : ( وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( النحل / 78 ).

والآية صريحة في أنّ مفاتيح العلم ، وصيرورة الإنسان غير العالم عالماً هو « الحواس » ومع ذلك فكيف يمكن أن يقال إنّ هناك مفاهيم وصور معلومة للإنسان

ص: 309

غير واردة إلى الذهن من الخارج عند اتّصاله به.

الجواب :

لا شك انّ كلّ ما يقف عليه الإنسان وليد صلته بالخارج وارتباطه به ، فلو ولد الإنسان فاقداً لحواسّ تربطه بالخارج ، لما انقدح ولا ظهر في ذهنه شيء ، ولأجل ذلك يقول الفيلسوف الإسلامي « أبو علي » : « من فقد حسّاً فقد علماً » (1).

ويقول « جون لاك » : « ليس في العقل شيء إلاّ وقبله في الحسّ شيء آخر ».

ومع هذا فإنّ المفاهيم على قسمين :

1. ما تؤخذ مباشرة من الخارج ، ويكفي في هذا القسم مجرّد الارتباط ، كالصورة الواردة إلى الذهن ، من الحجر والشجر ، والقلم ، والمنضدة وما شاكل ذلك.

2. ما لا يؤخذ من الخارج بهذا النحو ، غير أنّ ارتباط الإنسان بالخارج واتّصاله به يهيئه ويعطيه استعداداً لأن يصنع هذه المفاهيم الكلّية ، بحيث لولا تلك الصلة لما استطاعت النفس البشرية أن تصنع تلكم المفاهيم.

وهذا مثل تصوّر « الإنسان الكلّي » ، فهذا المفهوم وإن لم يكن منتزعاً من الخارج كانتزاع صورة القلم عنه ، غير أنّ صلة الإنسان بهذا الفرد من البشر ، وذاك الفرد يعطيه قدرة لأن يصنع في محيط الذهن « مفهوماً كلّياً » قابلاً لأن يحكي عن كلّ ما يمكن أن يعدّ قدراً مشتركاً.

وبهذا الشكل يستطيع الإنسان أن يأخذ كثيراً من المفاهيم الّتي ليس لها

ص: 310


1- قد استفيض نقل هذا الكلام عن الشيخ الرئيس.

مصاديق واقعيّة في الخارج ، غير أنّ صلة الإنسان بالخارج توفّر له مقدرة على صنعها ، وذلك مثل كثير من المفاهيم كالمحالات والممتنعات والأرقام الرياضية بل المفاهيم الاعتبارية - على ما هو محقّق في محله -.

تعريف العلم بوجه آخر

إنّ أصحّ التعاريف واتقنها هو أن يقال : إنّ العلم عبارة عن « حضور المعلوم لدى العالم ».

ليس الهدف من التعريف ، التعريف الحقيقي حتّى يؤخذ عليه بأنّه مستلزم للدور لأخذ المعرِّف ، جزءاً للمعرَّف وإنّما الهدف الاشارة إلى واقعيّة العلم بوجه من الوجوه وإنّ ماهيّته حضور ما وقف عليه الإنسان عند النفس فحقيقة العلم ، حضور شيء لدى شيء.

وهذا التعريف يشمل العلم بقسميه الحصولي والحضوري.

غير أنّ الحاضر في الأوّل هو الصورة ، ونفس المعلوم بالذات دون المعلوم بالعرض ، أي الواقعيّة الخارجيّة.

وفي الثاني نفس الواقعيّة ( الخارجية أو الذهنية » من دون توسّط صورة بين العالم والمعلوم ، فلا ترد الاشكالات الّتي وردت على التعريف الأوّل.

وهذا يشمل علم الإنسان بذاته ، فإنّ ذات كلّ إنسان حاضرة لديه ، غير غائبة عنه كما هو مقرّر في أدلّة تجرّد النفس.

فالذات بما هي واقفة على نفسها تعدّ « عالماً » ، وبما أنّها مكشوفة لنفسها غير غائبة عنها تعد « معلوماً » وبما أنّ هناك حضوراً لا غيبوبة تتحقق ثمّة واقعيّة للعلم.

وهذا التعريف تعريف جامع يشمل كلّ أنواع العلوم الحاصلة في الممكن والواجب ، ويدخل تحته علم النفس ، بنفس الصورة الذهنية ، فإنّها بواقعيّتها الذهنيّة

ص: 311

حاضرة لديها بلا توسيط صورة بينها وبين الصورة.

إذا وقفت على هذه المقدمات فاعلم أنّ البحث في علمه سبحانه تارة يقع في علمه بذاته ، وثانياً في علمه بالأشياء.

فلنقدّم البحث الأوّل على الثاني.

علمه سبحانه بذاته :

فنقول : المراد من علمه سبحانه بذاته ، ليس علمه بها على نحو العلم الحصولي ، بمعنى أخذ صورة عن الذات ومشاهدتها عن طريق الصورة ، لأنّ العلم بها عن هذا الطريق محال في حقّه سبحانه ، لأنّ انتزاع الصورة فرع التعرّف على المنتزع ، فلو كان التعرّف عليها عن طريق انتزاع الصورة لزم الدور.

وإن قيل تقدّم الصورة الحاكية عن الذات ، يلزم تركّبه من صورة وذيها.

بل المراد حضور ذاته لدى ذاته ويمكن اثباته بوجهين :

الدليل الأوّل : لا شك إنّه سبحانه مبدئ لموجودات عالمة بذواتها ، أي حاضرة لديها بنفسها كالإنسان فلابدّ أن يكون سبحانه المعطي لذلك الكمال واجداً له بأتمّ وجه وأفضله ، إذ لا يمكن أن يكون معطي الكمال فاقداً له ، فهو واجد لهذه الصفة ، وذاته حاضرة لديه بأحسن ما يكون من معنى للحضور.

ونحن وإن كنّا لا نحيط بكيفيّة علمه وخصوصيّة حضور ذاته لديه سبحانه ، غير انّا نشير إلى هذا العلم ب « حضور ذاته لديه وعلمه بها من دون وساطة شيء في البين أبداً ».

وخلاصة القول بأنّه كيف يسوغ عند ذي فطرة إنسانيّة أن يكون واهب كمال ما ، ومفيضه ، قاصراً عن ذلك الكمال ؟ فيكون المستوهب أشرف من الواهب ، والمستفيد أكرم من المفيد ، وحيث ثبت استناد جميع الممكنات إلى ذاته ( تعالى ) التي هي وجوب صرف وفعليّة محضة ومن جملة ما يستند إليه هي الذوات العالمة ،

ص: 312

والمفيض لكلّ شيء أوفى بكلّ كمال ، لئلا يقصر معطي الكمال عنه ، فكان الواجب عالماً ، وعلمه غير زائد على ذاته (1).

الدليل الثاني : لا شكّ انّ الموجود المادي - بما له من وجود مادي - تغيب بعض أجزائه عن بعضه.

فالمادة بما أنّها متكمّمة ( أي لهاكم ) ذات أبعاض وأجزاء ولا يكون لها وجود جمعي لا يجتمع مجموع أجزائها في مقام واحد.

وبعبارة اُخرى : إنّ الكائن المادي بملاحظة كونه متكمِّماً متفرّق الأجزاء ولهذا تغيب بعض أجزائها عن البعض الآخر.

كما أنّه بحكم كونه موجوداً زمانياً تدريجياً وذا وجود سيّال ، متدرّج في عمود الزمان يقع بعضه في ما مضى من الزمان وبعضه الآخر في الحال ، وبعضه في المستقبل ولهذا لا يمكن أن يحصل ذاته بجميع أبعادها وخصوصيّاتها لديه جملة واحدة.

وبذلك تكون غيبة المادة زماناً وأبعاضاً أمراً مضاداً مع حضور الذات ، وما ذلك إلاّ لكون المادة - كما أسلفنا - شيئاً متكمّماً ذات كمّية وذات أجزاء وأبعاض ، أو زمانيّاً واقعاً بعضه في زمان ، وبعضه الآخر في زمان آخر.

وهذا يعني : إنّ التبعّض ، والتدرّج موانع وحواجب تحجب الشيء عن نفسه ، وتمنع من علم الشيء بكلّ ذاته.

وأمّا اذا كان الموجود منزّها عن عوامل الغيبة هذه ، كما لو كان مجرّداً منزّهاً عن المادة والماديّة وعن التبعّض العنصري المكاني ، أو التدرّج الزماني بل كان وجوداً بسيطاً من غير أن يكون له أجزاء وأبعاض وأطراف ، كانت ذاته حاضرة لديه

ص: 313


1- الاسفار : ج 6 ، ص 176.

حضوراً كاملاً ، مطلقاً.

وذلك مثل حضور النفس عند ذاتها وعلمها بذاتها وبقواها ، فإنّ حضور ذاتنا عند ذاتنا لايراد منه حضور أبعاض جسمنا ، بعضها عند بعض ، بل المراد حضور الإنسان المعبّر عنه بلفظة ( أنا ) المجرّد عن الزمان والمكان ، المنزّه عن التكمّم والتدرّج.

فلو فرضنا موجوداً في صعيد أعلى من التجرّد والبساطة وأتم تجرداً من النفس وعارياً عن عوامل غيبة الذات عن نفسها ، التي هي من خصائص الكائن المادي ، كانت ذاته حاضرة لديه ، وهذا يعني علم اللّه سبحانه بذاته ، فإنّه بمعنى حضور ذاته لدى ذاته بأتمّ وجه وأكمل.

وأنت أيّها القارئ الكريم إذا أمعنت النظر في ما تلوناه عليك يسهل لك نقد ما استدل به على عدم علمه بالذات ، وإليك بيانه :

العلم بالذات يستلزم التغاير بين العلم والمعلوم

استدل النافون لعلمه سبحانه بذاته بأنّ العلم نسبة ، والنسبة تتحقّق بين شيئين متغايرين وهما طرفان بالضرورة ، ونسبة الشيء إلى نفسه محال إذ لا تغاير هناك.

وقد أجاب عنه المحقّق الطوسي في التجريد بقوله :

« والتغاير اعتباري »

توضيحه : « إنّ المغايرة قد تكون بالذات وقد تكون بنوع من الاعتبار ، وهاهنا ذاته تعالى من حيث انّها عالمة مغايرة لها من حيث انّها معلومة ، وذلك كاف في تعلق العلم » (1).

ص: 314


1- كشف المراد : ص 175.

وإن شئت قلت : « إنّ ذات الباري تعالى باعتبار صلاحيتها للمعلوميّة في الجملة مغايرة لها باعتبار صلاحيتها للعالميّة في الجملة وهذا القدر من التغاير يكفي لتحقّق النسبة » (1).

وبعبارة ثالثة : إنّ الذات من حيث انّها عالمة مغايرة لها من حيث هي معلومة فصحّت.

وإلى ما ذكرنا يشير الفاضل المقداد من أنّ الصورة إنّما تعتبر في غير العلم بالذات كالعلم بالأشياء لا في العلم بالذات (2).

والحاصل : انّ التعدد والتغاير إنّما هو في العلم الحصولي ففيها الصور المعلومة غير الهوية الخارجيّة.

وأمّا إذا كان الذات بالذات نوراً وانكشافاً وعلماً وحضوراً فلا يشترط فيه التعدّد والتغاير بل يصحّ اطلاق العالم والمعلوم عليه بالحيثيتين.

فلأجل انكشاف ذاته لذاته يسمّى « علماً » وبحسب كون الذات مكشوفة تسمّى « معلوماً ».

وإن شئت قلت : باعتبار أنّه يدرك ذاته فلا تغيب ذاته عن ذاته فهو عالم.

وباعتبار أنّ الذات حاضرة لديه فهو معلوم.

وإلى ذلك يشير كلام أمير المؤمنين علي علیه السلام : « يا من دلّ على ذاته بذاته ».

إلى هنا تمّ الكلام في علمه سبحانه بذاته وحال حين البحث عن علمه بالأشياء وإليك البيان.

ص: 315


1- شرح القوشجي : ص 313.
2- ارشاد الطالبين : ص 201.
2 - علمه سبحانه بالأشياء قبل الايجاد
اشارة

إنّ علمه سبحانه بالأشياء يتصوّر على وجهين :

الأوّل : علمه بها قبل الإيجاد.

الثاني : علمه بها بعد الإيجاد.

وقد اتّفق الحكماء على علمه بها بعده ، وإنّما اختلفوا في علمه بها قبله ، فهم بين مثبت وناف ، والمثبت بين كون علمه إجمالياً لا تفصيلياً ، وكونه كشفاً تفصيليّاً في عين البساطة والاجمال وإليك براهين المثبتين :

الدليل الأوّل : العلم بالسبب بما هو سبب ، علم بالمسبب

العلم بالعلّة بما هي علّة ، والحيثيّة التي هي سبب لوجود المعلول ، لا ينفك عن العلم بالمعلول ولتقريب الدليل نمثل بأمثلة :

أ : المنجّم العارف بالقوانين الفلكية والمحاسبات الجوية يقف على أنّ الخسوف أو الكسوف أو ما شاكل ذلك ، يتحقّق عند الوقت أو الوضع الفلاني ، وليس علمه بهذه المعلومات ناشئاً إلاّ من العلم بالعلّة من حيث هي سبب لكذا وكذا.

ب : إنّ الطبيب العارف بحالات النبض وأنواعه ، وأحوال القلب وأوضاعه ، يقدر على التنبّؤ بما سيحدث لهذا المريض مستقبلاً إذا عرف بحالة قلبه أو وضع نبضه ، وليس هذا العلم بالمعلول إلاّ من طريق العلم بالعلّة من حيث هي علّة لكذا وكذا.

ج : والصيدلي العارف بخصوصيّة مائع خاص وكونه سمّاً قاتلاً لا يطيق الإنسان تحمّله سوى دقائق ، يقف من العلم بهذه الخصوصيّة على أنّ شاربه سيقضي على حياته ، بشربه ذلك المائع.

ص: 316

واللّه سبحانه لمّا كان علّة للعالم إذ لا يستمدّ العالم بأجمعه وجوده من غير ذاته تعالى ، فالعلم بالذات علم بالحيثيّة الّتي هي سبب لتحقّق العالم وتكوّنه.

فالعلم بالذات ( كما عرفت ) علم بنفس النظام لأنّ النظام معلول له وصادر منه وهذا هو معنى قولهم الشائع : « العلم بالنظام الربّاني ، نفس العلم بالنظام الكياني ».

ويمكن توضيح البرهان ببيان مقدّمات.

الأُولى : إنّه تعالى علّة وفاعل لما عداه بحيث تكون الممكنات بجملتها مستندة إليه من وجوداتها وماهيّاتها ، غاية الأمر استناد جميع الوجودات الممكنات إليه تعالى يكون بالذات ، واستناد الماهيّات (1) إليه بالعرض.

الثانية : علّية شيء لشيء هي عبارة عن كونه على جهة وخصوصيّة يأبى أن لا يترتب عليه المعلول.

وإن شئت قلت : إنّ معنى علّية شيء لشيء اشتمال الشيء الأوّل على حيثيّة وخصوصيّة توجب - ايجاباً قطعياً - وجود المعلول في الخارج ، بحيث لولا هذه الحيثيّة لما يتحقّق المعلول.

ومن هذا يعلم انّ بين تلك الحيثيّة القائمة بالعلّة ووجود المعلول رابطة وصلة خاصة بحيث تقتضي نفس الحيثيّة ، ذلك المعلول ولولا تلك الصلة لكان نسبة المعلول إلى تلك الحيثيّة وغيرها سواسية مع أنّها ضرورية البطلان.

وبكلمة واضحة إذا كانت النار مبدأً للحرارة بحيث لا تنفك الثانية من الاُولى نستكشف عن رابطة بين الشيئين ، وإلاّ يلزم أن تكون نسبة الحرارة إلى النار وسائر

ص: 317


1- المراد بالماهيات هي خصوصيات الوجود وحدوده من المعدنية والنباتية والحيوانية فالخصوصيات التي تبيّن حد الوجود وتشخّصه خصوصيات خاصة تسمّى بالماهية المتحققة في الخارج بالوجود.

الأجسام سواسية وهذا بديهي البطلان.

نعم تلك الحيثيّة الّتي تعدّ مبدأً للعلّية ، تكون في العلل الماديّة زائدة على الذات وفي العلل العلوية وبالأخص الحق سبحانه نفس ذاته.

الثالثة : إنّ فاعليته تعالى لما عداه ، يكون بنفس ذاته ، لا بخصوصيّة طارئة عليه وجهة زائدة عليه فهو تعالى بنفس ذاته ، المحيط بكلّ شيء وقيّوم له ، فاعل لكلّ شيء كيف ، وإلاّ يلزم أن يكون في فاعليته مفتقراً إلى غيره (1) فيلزم أن يكون في وجوده أيضاً كذلك وهو خلف ، فالواجب فاعل في ذاته بذاته ، لا بحيثيّة متضمّة إلى ذاته تقييدية كانت أو تعليلية.

الرابعة : إنّه تعالى عالم بذاته وإنّ علمه بذاته عين ذاته - كما عرفت -.

إذا عرفت ذلك تقف على أنّ علمه بذاته مستلزم للعلم بمعاليله ومخلوقاته وإنّ أحد العلمين لا ينفك عن الآخر وذلك لأنّه إذا كان العلم بالحيثيّة مستلزماً للعلم بالمعلول وكانت تلك الحيثية حسب المقدمة الثالثة نفس ذاته ينتج إنّ العلم بالذات ، نفس العلم بالمعاليل والمعلومات.

وبعبارة اُخرى :

العلم بالجهة المقتضية للشيء الّتي هي العلّة حقيقة ( وهي في الواجب تعالى نفس ذاته ) مستلزم للعلم بما يترتّب عليها من المعلول.

ففرض تلك الذات في العين ، يلازم لازمها في العين ، وإذا حصلت في الذهن ، يترتّب عليها في الذهن قضاء لحكم اللزوم ، فالعلم بالسبب من حيث هو سبب ، مستلزم للعلم بالمسبب المترتّب عليه وهذا الاستلزام يتصوّر على أنحاء أكملها : أن يكون العلم بالمسبّب عين العلم بالسبب فيكون العلم بالسبب عين

ص: 318


1- قد ثبت في محله انّ الافتقار في الفعل لا ينفك عن الافتقار في الذات ، ولأجل ذلك قالوا واجب الوجود بالذات واجب من جميع الجهات.

العلم بالمسبب ، وذلك بناء على أن يكون المسبب بعينه موجوداً بعين وجود السبب على ما هو مقتضى بساطته (1).

وقد أشار إلى هذا البرهان طائفة من المتكلّمين والحكماء نذكر بعض كلماتهم :

1 - قال العلاّمة الحلّي في كشف المراد : إنّ كلّ موجود سواه ممكن ، وكلّ ممكن فإنّه مستند إلى الواجب إمّا ابتداءً أو بوسائط ، وقد سلف : إنّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول ، واللّه تعالى عالم بذاته على ما تقدّم فهو عالم بغيره.

وقد أوضح العلامة الحلّي في المسألة السابعة من الفصل الخامس ( بحث الأعراض ) كيفيّة استلزام العلم بالعلّة العلم بالمعلول إذ قال ما هذا توضيحه : إنّ العلم بالعلّة يقع على ثلاثة أنواع :

أ - العلم بذات العلّة لا بالحيثيّة التي تستند إليه الأشياء ، فمثل هذا لا يستلزم العلم بالمعلول.

ب - العلم بها بما أنّها مستلزم لشيء آخر ومثل هذا العلم يلازم العلم بالمعلول لكن علماً غير تام بعامّة خصوصيّات المعلول.

ج - العلم بالعلّة بتمام خصوصيّاتها وذاتها ولوازمها وملزوماتها ، وعوارضها ومعروضاتها ، وما لها في ذاتها ومالها بالقياس إلى الغير.

وهذا هو العلم التام بالعلّة ، وهو يستلزم العلم التام بالمعلول فإنّ المعلول وحقيقته ، لازم للعلّة بهذه الحيثيّة.

فلو تعلّق العلم بالعلّة بهذه الحيثية يستلزم العلم بالمعلول (2).

ص: 319


1- درر الفوائد : ج 1 ، ص 485 - 467.
2- كشف المراد راجع المقصد الاول الفصل الخامس المسألة السابعة عشرة والمقصد الثالث المسألة الثانية.

واللّه سبحانه بما أنّه بسيط من كلّ الجهات فالعلم بالذات البحث البسيط ، هو عين العلم بالحيثيّة التي تصدر بها عنه الأشياء ، فمثل هذا العلم يلازم العلم بعامّة معلولاته على الترتيب الذي يصدر عنه.

2 - وقال صدر المتألّهين : إنّ ذاته سبحانه لمّا كان علّة للأشياء - بحسب وجودها - والعلم بالعلّة يستلزم العلم بمعلولها على الوجه الذي هو معلولها ، فتعلّقها من هذه الجهة لابد أن يكون على ترتيب صدورها واحداً بعد واحد (1).

وهذه العبارة تفيد : انّ علمه سبحانه بالأشياء قبل الخلقة محقّق حتى على الترتيب الذي توجد به الأشياء في نظام الأسباب والمسبّبات.

3 - وقال الحكيم الالهي السبزواري نظماً :

وعالم بغيره إذا استند *** إليه وهو ذاته لقد شهد

بالسبب العلم بما هو السبب *** علم بما هو مسبّب به وجب

ثمّ قال شارحاً ذلك :

وحاصله : انّ الأشياء في ذواتها مستندة إليه تعالى وهو تعالى علم بذاته ، والعلم بالعلّة بما هي علّة يقتضي العلم بالمعلول ، فهو تعالى ينال الكلّ من ذاته.

ثمّ التقييد بقولنا : « بما هو السبب » إشارة إلى أنّ المراد من العلم بالسبب : العلم بالجهة المقتضية للمسبب سواء كانت عين ذاته أو زائدة.

ولا شك انّها عين حيثيّة ترتب المسبب على السبب إذ التخلف عن السبب التام محال ، كما أشرنا إليه بقولنا : « به وجب ».

فكلّما حصلت « الحيثية » في ذهن أو خارج حصل ذلك المسبّب فيه ، إذ

ص: 320


1- الاسفار : ج 6 ، ص 275 وغيره مفصلاً ومختصراً.

اللازم ممتنع الانفكاك عن الملزوم ، وحكم المنجّم بما سيقع ، والطبيب الحاذق حيث يقول : الشيء الفلاني ينذر بكذا وكذا من هذا الباب (1).

الدليل الثاني : بسيط الحقيقة كلّ الأشياء

ربّما يستدل على علمه سبحانه بالأشياء قبل الايجاد بالقاعدة الشريفة التي تفطّن إليها الفيلسوف الكبير صدر الدين الشيرازي وهي : « بسيط الحقيقة كلّ الأشياء على النحو الأتم الأكمل الأبسط » وهذه القاعدة تثبت علمه سبحانه بالأشياء قبل الايجاد في مرتبة الذات بالتوضيح التالي :

إذا لاحظنا الوجودات الخاصة كالسماء والأرض ونحوهما نرى ثمّة وجوداً كوجود السماء - مثلاً - ولهذا الوجود حداً ، وينتزع من حدّه ماهيّة ، وهي ماهيّة السماء ، فيلاحظ حينئذ أشياء ثلاثة : ذات الوجود ، وحدّه ، والماهية المنتزعة من حد ، فينحلّ الملحوظ إلى ثلاثة :

1 - حقيقة الوجود.

2 - حد ذلك الوجود ، والمراد من الحد : فقدان تلك المرتبة من حقيقة الوجود الثابت لمرتبة اُخرى.

3 - الماهيّة المنتزعة من ذلك الحد التي تكون قالباً للوجود الخاص به.

فيكون الموجود - بعد الانحلال - مركباً من أشياء ثلاثة لا يكون المتحقّق منها إلاّ نفس الوجود.

وأمّا الحدّ فهو راجع إلى الفقدان ، كما أنّ الماهيّة أمر عدمي أيضاً ولكنّه صار موجوداً بالوجود ، ولولاه لما كان لها وجود.

فكلّ موجود كان مركّباً من هذه الاُمور الثلاثة أي من ( وجود وعدم وعدمي )

ص: 321


1- المنظومة قسم الفلسفة : ص 164.

فهو مركّب بأسوء أنواع التركيب الذي لا ينفك عنها الامكان.

إذا عرفت هذا ، فاللّه سبحانه بما أنّه لا كثرة في ذاته أبداً ، يجب أن يجمع في مقام ذاته كلّ وجود ، بحيث لا يشذّ عن وجوده وجود ، إذ لو صدق أنّه شيء ، وذلك الوجود شيء آخر مسلوب عنه سبحانه لصار محدوداً ، والمحدود يلازم الإمكان ، وكلّ محدود مركّب ، وكلّ مركّب ممكن ، فينتج أنّه لا شيء من الواجب ممكناً.

فعلى ذلك فوجوده سبحانه يجب أن يكون مع صرافته وبساطته جامعاً لكلّ وجود يتصوّر ، بحيث لا يمكن سلب وجود عن مرتبة ذاته ، وإلاّ يلزم تركيبه من : أمر وجودي ( وهو ذاته ) ، وأمر عدمي ( وهو سلب ذلك الوجود عن ساحة ذاته ) ، وكان استجماعه لكلّ شيء لا بنحو الكثرة والتعدّد حتى يلزم التركيب بصورة أسوء وأبشع ، بل ذلك الاستجماع يكون بنحو أتم وأعلى ، أي بشكل جمعي رتقي بحيث يكون في وحدته كلّ الوجودات ، ولا يكون اشتماله على هذه الكثرات والوجودات موجباً لإنثلام وحدته وانتقاض بساطته.

فوجوده سبحانه مشتمل وجامع لكلّ وجود ، لكن كلّ وجود ملغى عنه حده ، الذي تنتزع عنه ماهيّته وإن كان كماله موجوداً فيه.

وإن شئت توضيح هذا المطلب أكثر من ذلك فلاحظ حال الملكات بالنسبة إلى الأفعال الصادرة عنها.

فإنّ الملكة حالة بسيطة جامعة - على نحو الأتم والأبسط - فكان كلّ فعل يصدر منها وكلّ ظهور ينشأ منها ، فالإنسان الواجد لملكة النحو قادر على الإجابة عن كلّ سؤال يرد عليه ، وهذه الأجوبة الكثيرة الصادرة عنه بفضل تلك الملكة ، كانت موجودة في نفس الملكة ، لكن لا بتفاصيلها وخصوصيّاتها وحدودها وقيودها ، بل بكمالها ووجودها الأتم والأبسط ، إذ لولاها لكان معطي الكمال فاقداً له.

فكما أنّ الملكة - مع بساطتها - واجدة لكمال كلّ الأجوبة ، وكمال وجودها

ص: 322

لكن لا على نحو التمايز والخصوصيّات ، وإلاّ تلزم الكثرة ويلزم التركيب بشرّ صورها في « الملكة ».

فكذلك كلّ علّة واجدة لكمال معلولها ولبّ كمالها على النحو الأتم والأبسط.

إذا عرفت هذا ، فاستوضح للوقوف على استجماع ذاته تعالى لكلّ كمال صدر منه ولكلّ وجود ظهر منه ، من حديث الملكة.

فإنّ ما سوى اللّه من أرض وسماء ومن إنسان وحيوان ، ومن شجر وحجر ، كلّها موجودات تفصيليّة ، وتحقّقات امكانيّة ، لا يعقل أن تكون موجودة في ذاته سبحانه بهذه الكثرات والتفصيلات ، وإلاّ يلزم انقلاب البسيط إلى المركّب ، وانقلاب الواجب إلى الممكن ، وهو أمر لا يصح لأي حكيم أن يتفوّه به.

ومع ذلك كلّه فذاته سبحانه ذات كاملة مشتملة لكلّ كمال موجود في هذه الموجودات ، بل جامعة كذلك لجميع الوجودات لكن لا بخصوصيّاتها بل هي - بما أنّها وجود أتم وتحقّق أكمل - جامعة لتلك الكمالات بأشدّها وأكملها وأحسنها.

فكما أنّ « المائة » بوحدتها مشتملة على التسعين والثمانين مع شيء زائد ، لا بمعنى أنّ التسعين والثمانين موجودتان في المائة بنحو التفصيل بل بمعنى أنّ وجود المائة ببساطته تشتمل على كمال كلّ من الرقمين بنحو أتم وأكمل.

فاللّه سبحانه بحكم البرهان المذكور من أنّه لا يمكن سلب مرتبة من مراتب الوجود عنه ، وإلاّ لزم التركّب في ذاته ، وبفضل برهان آخر هو أنّ معطي الكمال لا يكون فاقداً له ، وجوده أكمل الموجودات ، وأتمّها ، فإذا فرض العلم بذاته وحضور ذاته لديه ، كان ذلك عبارة اُخرى عن علمه بالوجودات الامكانيّة لكن لا بوجه التفصيل ، بل بنحو البساطة والوحدة.

ص: 323

وهذا هو ما يقال من : « انّ وجوده سبحانه كشف إجمالي عن الأشياء بلا طروء تركيب وحدوث امكان ».

وعلى الجملة فاللّه سبحانه - بفضل هذين البرهانين - لا يمكن أن يشذّ عنه اي كمال وأي وجود وإليك اعادة البرهانين :

1 - لو صحّ سلب وجود عنه ، أو سلب كمال للزم تركيب ذاته سبحانه من « أمر وجودي وأمر عدمي » وهذا ممّا ينافي بساطته ، ويستلزم التركيب في ذاته تعالى ، وهو ملازم للامكان الموجب للاحتياج إلى العلّة.

2 - إنّ معطي الكمال لا يمكن أن يكون فاقداً له فاللّه الصادر منه كلّ الأشياء ، لا يصحّ أن يكون فاقداً لكمالات تلك الأشياء.

فعلى ذلك لا يمكن أن يكون وجوده سبحانه مثل سائر المراتب من الوجود بأن يكون وجدان ذاته عين فقدانه لوجود آخر ، ومع ذلك كلّه لا يمكن أن تكون تلك الكثرات الامكانية موجودة فيها بحدودها وخصوصيّاتها ، وإلاّ يلزم تركيب أسوأ من التركيب السابق.

فلا محيص من أن يكون ذلك الوجود البسيط مشتملاً على وجود أقوى ، وآكد من الوجودات الخاصّة ، المتشتتة ، المحدودة ، التي من حدودها يحصل التركيب من « الوجدان والفقدان » والعلم بهذا الوجود الآكد الأقوى ، نفس العلم بكلّ الكمالات ، وكلّ الوجودات التالية الصادرة منه.

فهو بوجوده الجمعي الواحد واقف على ذاته ، وواقف على كلّ ما يصدر منه.

وإن شئت فقل : إنّ صرف الوجود يجمع كلّ وجود ، ولا يشذّ عنه شيء ، ولكن المشتمل عليه هو ذات الوجود من كلّ شيء لا بخصوصيّته الخاصّة الناشئة عن حدّه. فالوجودات الخاصّة بخصوصيّاتها والماهيّات الموجودة بها غير متحقّقة في الأزل ، وإذ لم يكن المعلوم بخصوصيّته في الأزل لا يتصور العلم به كذلك ، ولكن

ص: 324

هناك وجوداً أكمل ومعلوماً أتمّ يكون العلم به أتمّ أنواع العلم بهذه الوجودات الصادرة منه.

إن قلت : كيف يصحّ أن يقال إنّ النحو الأدنى من كلّ وجود ، معلوم له سبحانه في الأزل حسب الفرض إذ كيف يصير النحو الأعلى من كلّ وجود ، والنحو الأظهر من كلّ تحقّق ، علماً بالنحو الأدنى ، مع أنّ النحو الأدنى من كلّ وجود لا يكون موجوداً في الأزل.

غير أنّ الاجابة عن هذا السؤال ، بعد التوجّه إلى ما مثّلنا من حديث « الملكة » واضح فإنّ العلم بتمام الشيء وكماله ، علم بمراتبه النازلة مثل كون العلم بالإنسان الذي هو عبارة عن الحيوان الناطق نفس العلم بالمراتب التالية من النبات والجماد.

وحينئذ يكون الوجود بالنحو الأعلى نفس التحقق للوجود الأدنى مع كمال آخر ، وجمال زائد.

وعلى ذلك فالمعلوم الامكاني ، وان لم يكن في الأزل بخصوصيّاته وتفاصيله لكنّه كمال وجوده وتمام تحقّقه موجود في الأزل بوجوده سبحانه فهو سبحانه - ببساطته - جميع الكمالات والجمالات ، والعلم بالذات لا ينفك عن العلم بتلك الكمالات التي لا تنفك عن العلم بما صدر عنه من الكمالات.

قال صدر المتألّهين :

لمّا كان وجوده تعالى وجود كلّ الأشياء - لما حققنا سابقاً من أنّ البسيط الحقيقي من الوجود يجب أن يكون كلّ الأشياء - فمن عقل ذلك الوجود عقل جميع الأشياء ، وذلك الوجود هو بعينه عقل لذاته ، وعاقل ، فواجب الوجود عاقل لذاته بذاته ، فعقله لذاته عقل لجميع ما سواه ، وعقله لذاته مقدّم على وجود جميع ما سواه ، فعقله لجميع ما سواه سابق على جميع ما سواه ، فثبت أنّ علمه تعالى بجميع الأشياء حاصلة في مرتبة ذاته بذاته قبل وجود ما عداه فهذا هو العلم الكمالي التفصيلي بوجه والاجمالي بوجه ، وذلك لأنّ المعلومات على كثرتها وتفصيلها

ص: 325

بحسب المعنى موجودة بوجودة واحد بسيط ، ففي هذا المشهد الالهي والمجلي الأزلي ينكشف وينجلي الكلّ من حيث لا كثرة فيها ، فهو الكلّ في وحده (1).

قال العلامة الطباطبائي : « إنّ ذاته المتعالية حقيقة الوجود الصرف البسيط الواحد بالوحدة الحقّة الذي لا يداخله نقص ولا عدم ، فلا كمال وجوديّاً في تفاصيل الخلقة بنظامها الوجودي إلاّ وهي واجدة له بنحو أعلى وأشرف ، غير متميّز بعضها من بعض لمكان الصرافة والبساطة فما سواه من شيء فهو معلوم له تعالى في مرتبة ذاته المتعاليّة علماً تفصيليّاً في عين الإجمال وإجماليّاً في عين التفصيل (2).

إلى هنا تمّ الكلام في علمه بأفعاله أي الأشياء قبل وجودها. بقي البحث عن علمه بها بعد الايجاد. وإليك الكلام فيه.

علمه سبحانه بالأشياء بعد الايجاد
اشارة

يستدل على علمه بالأشياء بعد ايجادها بوجوه :

الأوّل : قيام الأشياء به يستلزم علمه بها

إنّ الأشياء أعمّ من المجرّدات والماديّات - معلولة لله سبحانه على سبيل ترقّب الأسباب والمسبّبات ، وكلّ معلول حاضر بوجوده العيني عند علّته غير غائب ولا محجوب عنه ، فالأشياء في عين معلوليّتها نفس علمه العقلي بعد الإيجاد (3).

وتوضيحاً لهذا الدليل نقول :

إنّ كلّ موجود سواه فهو ممكن في وجوده ، معلول في تحقّقه - له سبحانه - و

ص: 326


1- الاسفار : ج 6 ، ص 270 - 271.
2- نهاية الحكمة : ص 289.
3- نهاية الحكمة : ص 290 ، الطبعة الجديدة.

ليس معنى المعلوليّة إلاّ تعلّقه وجوداً بالعلّة ، وقيامه بها قياماً حقيقيّاً ، كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي.

فكما أنّ المعنى الحرفي قائم - حدوثاً وبقاءً - بالمعنى الاسمي ، بحيث لو قطع النظر عن المعنى الاسمي لما كان للمعنى الحرفي تحقّق في وعاء الوجود ، فهكذا المعلول ، فصلته بالعلّة أشدّ من صلة المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي.

فإذا قلنا « سرت من البصرة » فهناك معنىً اسميا من : السير ، والبصرة ، وهناك معنىً حرفيّاً وهو ابتداء السير من ذلك البلد.

فحقيقة الابتداء الحرفي ليس شيئاً مستقلاًّ ، بل هو أمر مندكّ قائم بالطرفين ، وهكذا مثل المعلول الصادر من العلّة ، بمعنى مفيض الوجود ، فليس للمعلول واقعيّة سوى قيامه بالعلّة ، واندكاكه فيها وتعلّقه وتدلّيه بها.

وما هذا هو شأنه لا يخرج عن حيطة وجود العلّة ، ومجال ثبوتها ، إذ الخروج عن ذلك المجال مساوٍ للانعدام ومساوق للبطلان.

وعلى الجملة : فالمعلول بالنسبة إلى العلّة كالوجود الرابط بالنسبة إلى « الوجود المستقل » فكما أنّ الوجود الرابط لا يستغني عن « الوجود المستقل » آناً واحداً من الآنات ، بل يستمد منه وجوده - كلّ وقت وحين - فهكذا المعلول يستمد وجوده - حدوثاً وبقاءً - من العلّة ، وما هذا شأنه لا يمكن أن يخرج عن حيطة وجود العلّة ، ومجال تحقّقه. ومعنى ذلك حضوره لدى العلّة وما نعني من العلم سوى الحضور.

ويتّضح من ذلك القاعدة أنّ الموجودات الامكانية بما أنّها فعله ، هي علمه أيضاً فهي بوجوداتها الامكانية علم لله علماً فعلياً.

وإن أردت مزيد توضيح فلاحظ الصور الذهنية ، فإنّ الصورة الذهنيّة أفعال للنفس مع أنّها في نفس الوقت علوم فعليّة لها ، فالعلم والفعل مجتمعان.

وهذا البرهان هو المنقول عن شيخ الاشراق وقد أوضحه المحقّقون.

ص: 327

قال العلاّمة الحلّي رحمه اللّه :

« إنّ كلّ موجود سواه ، ممكن ، وكلّ ممكن فإنّه مستند إليه ، فيكون عالماً به سواء أكان جزئياً أم كلّياً ، كان موجوداً قائماً بذاته أو عرضاً قائماً بغيره ، وسواء أكان موجوداً في الأعيان أو متعقّلاً في الأذهان ، لأنّ وجود الصورة في الذهن من الممكنات أيضاً فسيتند إليه ، وسواء كانت الصورة الذهنية صورة أمر وجودي أو عدمي ممكن ، أو ممتنع ، فلا يعزب عن علمه شيء من الممكنات ولا من الممتنعات.

ثمّ انّ العلاّمة رحمه اللّه وصف هذا الدليل بأنّه برهان شريف قاطع (1).

والحاصل : انّ وزان الممكن بالنسبة إلى الواجب وزان المعنى الحرفي بالنسبة إلى المعنى الاسمي ، ووزان الوجود الرابط بالنسبة إلى الوجود التام المستقل ، فليس للمعلول واقعيّة سوى القيام والارتباط والتدلّي بالعلّة.

فما سوى اللّه - ماديّاً ومجرّداً ، جوهراً وعرضاً - مخلوق له ، فهو في عين الوجود قائم به قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ومرتبط به ، وما هذا هو حاله لا يمكن أن يكون غائباً عن اللّه مستوراً عليه ، لأنّه وجوده قائم بوجود العلّة ، كما يكون المعنى الحرفي قائماً بالمعنى الاسمي.

وإن شئت قلت : إنّ وزان الممكن بالنسبة إلى الواجب وزان الفقير المطلق بالنسبة إلى الغني ، فالعالم بحكم فقره المطلق محتاج إليه في وجوده وتحقّقه ، في حدوثه وبقائه ، وما هذا شأنه لا يمكن غيابه ، لأنّ غيابه عن العلّة مساوق للإنعدام.

الثاني : سعة وجوده دليل على علمه بالاشياء

لقد أثبتت البراهين القاطعة على أنّ وجوده سبحانه مجرّد عن المادة والمدّة ،

ص: 328


1- كشف المراد : ص 175.

مجرّد عن الزمان والمكان ، فوجوده فوق كلّ قيد زماني أو مكاني ، وكلّ من كان كذلك فوجوده غير محدود وغير متناه لأنّ المحدوديّة والتقييد فرع كون الشيء سجيناً في الزمان والمكان ، فهذا هو الذي لا يتجاوز إطار محيطه ، وزمانه ، وأمّا الموجود المجرَّد عن ذينك القيدين ، المتجرّد من إطار الزمان والمكان بل الخالق لهما ، وللمادّة ، فهو فوق الزمان والمكان ، والمادّة ، والمدّة ، لا يحدّه شيء من ذلك العوارض ولا يحصر حاضر منها ، ولهذا لا يمنعه المكان من الإحاطة والسيطرة على ما قبله ، وما بعده.

ولتوضيح هذه الحقيقة نأتي بالأمثلة التالية :

1 - إنّ النملة الصغيرة الماشية على سجّادة منسوجة بألوان مختلفة لا يمكنها بحكم صغر جسمها ومحدوديّة حواسّها أن تشاهد إلاّ اللّون الذي تسير عليه دون بقية الألوان.

أمّا الإنسان الواقف على طاولة ، المشرف على تلك السجّادة فإنّه يرى جميع ألوانها ويحيط بكلّ نقوشها دون إستثناء ، لأنّه لا ينظر إليها من زاوية دون زاوية كما هي في تلك النملة.

2 - إنّ الإنسان الجالس في غرفة ، الناظر إلى خارجها من كوة صغيرة ، لا يمكنه مشاهدة إلاّ ناقة واحدة من قافلة النوق والابل التي تمرّ أمام الغرفه بعكس من يقف على سطح تلك الغرفة المشرف على الطريق من شاهق ، فإنّه يرى كلّ ما في تلك القافلة من الإبل والنوق جملة واحدة ، ومن دون أن يمنعه عن ذلك قيد المكان.

3 - إنّ الإنسان الجالس على حافة نهر جار لا يرى إلاّ بعض الأمواج المائيّة التي تمرّ أمام عينيه دون بقيّة الأمواج الكائنة في منبع النهر أو مصبّه بخلاف من يراقب ذلك النهر من طائرة هليكوبتر أو من فوق مكان شاهق ، فإنّه يرى جميع التعرّجات والتموّجات في ذلك النهر جملة واحدة وفي وقت واحد.

ص: 329

وإنّما يرى هؤلاء الأشياء جميعها بخلاف غيره لأنّه لا ينظر إليها من خلال المكان المحدود.

هذه الأمثلة وإن كانت أقلّ بكثير عمّا يناسب ساحته سبحانه غير أنّها تكفي لإلقاء بعض الضوء على الحقيقة ، وتقريب سعة علمه إلى الذهن.

وعلى الجملة فاللّه المجرّد عن الزمان والمكان ، المجرّد عن كلّ حدّ وقيد ، بما أنّه لا يحيط به شيء ، بل هو المحيط بالأشياء جميعاً ، لا يصحّ في مجال علمه تقديم وتأخير ، وماض وحاضر ، أو حاضر ومستقبل ، بل العالم بأجمعه حاضر لديه وهو يحيط بجميع ما خلق دونما استثناء.

وقد عرفت أنّه لا معنى لحقيقة العلم إلاّ حضور المعلوم لدى العالم ، فبما أنّ وجوده سبحانه وجود غير متناه ، لا يحدّه حدّ ولا يقيّده قيد ، فهو في كلّ الأزمنة والأمكنة ، وحاضر مع كلّ الأشياء والموجودات ، والاّ يلزم أن يكون وجوده محدوداً متناهياً ، وعند ذلك يتحقّق علمه بكلّ حاضر لديه ، وبكلّ ماثل فلا يغيب عن وجوده شيء ولا ذرّة.

وقد أشار الإمام علي علیه السلام إلى هذه الحقيقة إذ قال :

« إنّ اللّه عزّ وجلّ أيّنَ الأين فلا أين له ، وجلّ أن يحويه مكان ، وهو في كلّ مكان ، بغير مماسة ولا مجاورة ، يحيط علماً بما فيها ولا يخلو شيء منها من تدبيره » (1).

الثالث : إتقان المصنوع دليل علمه

إنّ الكون - من حيث سعته ، واشتماله على أسرار ورموز - أشبه ما يكون بمحيط لا تعرف سواحله التي قد غمرته الظلمة ، وغابت شواطيه في جنح المجهول ،

ص: 330


1- الارشاد للمفيد : ص 108 ، قضايا أمير المؤمنين علیه السلام .

ولم يوفّق الإنسان إلاّ إلى كشف بعض سطوحه بما سلّطه من أضواء كاشفة له ، فيما لا تزال أعماقه غير مكشوفة له بل لا يزال القسم الأعظم من سطوحه مجهولة.

إنّ عالم الخلقة أشبه ما يكون بهذا المحيط فإنّ الإنسان رغم ما قام به من جهود جبّارة للتعرّف على حقائقه ، ورموزه ، لم يقف إلاّ على قدر قليل من أسراره بينما لا تزال أكثرها غير معلومة له.

يقول أحد الاختصاصيين في الطبيعة الحيوية والأبحاث النووية :

« لقدكنت عند بدء دراستي للعلوم شديد الاعجاب بالتفكير الإنساني ، وبقوّة الأساليب العلميّة إلى درجة جعلتني اَثِقُ كلّ الثقة بقدرة العلوم على حلّ أية مشكلة في هذا الكون بل على معرفة منشأ الحياة ، والعقل وادراك معنى كلّ شيء ، وعندما تزايد علمي ومعرفتي بالأشياء من الذرة إلى الأجرام السماوية ، ومن الميكروب الدقيق إلى الإنسان ، تبيّن لي أنّ هناك كثيراً من الأشياء التي لم تستطع العلوم حتّى اليوم اَنْ تجدَ لها تفسيراً أو تكشف عن أسرارها النقاب ، وتستطيع العلوم أن تمضي في طريقها ملايين السنين ومع ذلك فسوف تبقى كثير من المشكلات حول تفاصيل الذرّة والكون والعقل كما هي لا يصل الإنسان إلى حلّ لها أو الاحاطة بأسرارها » (1).

وقال أنيشتاين - عند ما كان واقفاً على درج مكتبته - : « إنّ نسبة ما أعلم إلى ما لا أعلم كنسبة هذا الدرج إلى السماء » (2).

ويقصد بذلك : انّه لم يتسلّق من درجات العلم والمعرفة سوى درجات معدودة جداً ، وإنّ المسافة بين معلوماته إلى مجهولاته كالمسافة بين الأرض والسماء.

حقاً إنّ الإنسان عند ما يقيس حجمه بأحجام الأجسام والأجرام السماوية ، و

ص: 331


1- اللّه يتجلى في عصر العلم : ص 35 - 36 ، بول كلارنس ابرسولد.
2- رسالة الاسلام ، السنة الرابع العدد الاول 24.

ما بينها من فواصل وأبعاد ، يدرك مدى صغر حجمه وضآلة معلوماته وضحالة معارفه.

إنّ أضخم مكتبة توصلّت البشرية إلى تأسيسها في الوقت الحاضر هي الآن في أمريكان حيث تضم عشرة ملايين كتاباً ، وما يقوم في « لينينغراد » ، وما يوجد في متاحف بريطانيا ومع ذلك فإنّ كلّ هذه الكتب لا تتجاوز معلومات البشر حول الأرض وقليل جداً من الفضاء الخارجي.

إنّ ملاحظة كلّ جهاز بسيط أو معقد - كقلم أو كومپيوتر - يدلّنا على أنّ صانعه عالم بما يسود ذلك الجهاز من القوانين والعلاقات ، كما تدل دائرة معارف ضخمة على علم مؤلّفها وجامعها بما فيها.

إنّ المصنوع بما فيه من اتقان ودقّة ، وتركيب عجيب ونظام بديع ، ومقادير معيّنة يحكي عن أنّ صانعه مطّلع على هذه القوانين والرموز ، عارف بما يتطلبه ذلك المصنون منمقادير وأنظمة.

ومن هنا يشهد الكون ابتداءً من الذرّة الدقيقة إلى المجرّة الهائلة ، ومن الخليّة الصغيرة إلى أكبر نجم ، بما يسوده من أنظمة وقوانين ، وتخطيط بالغ الدقّة ، وتركيب بالغ الاتقان ، على أنّ خالق الكون عالم بكلّ ما تنطوي عليه هذه الأشياء وما يسودها من أسرار وقوانين ، وانّ من المستحيل الممتنع أن يكون جاهلاً.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الدليل بقوله :

( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) ( الملك / 14 ).

وقال تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ) ( سورة ق / 16 ).

ومن وقف على علم التشريح ظهر له ذلك ظهوراً تامّاً.

ص: 332

كلام للمحقق الطوسي

ثمّ إنّ المحقّق الطوسي استدلّ على علمه سبحانه بوجوه ثلاثة نذكر منها اثنين :

1 - الإحكام.

2 - استناد كلّ شيء إليه.

حيث قال : والإحكام واستناد كل شيء إليه من دلائل العلم.

وقال العلاّمة في شرح الدليل الأوّل : إنّه تعالى فعل الأفعال المحكمة ، كلّ من هو كذلك فهو عالم.

أمّا المقدّمة الأُولى فحسّية ، لأنّ العالم إمّا فلكي أو عنصري ، وآثار الحكمة والإتقان فيهما ظاهر مشاهد.

وأمّا الثانية فضروريّة لأنّ الضرورة قاضية بأنّ غير العالم يستحيل منه وقوع الفعل المحكم المتقن مرّة بعد اُخرى.

وقال في شرح الدليل الثاني : إنّ كلّ موجود سواه ممكن ، وكلّ ممكن فإنّه مستند إلى الواجب إمّا ابتداءً أو بوسائط ، وقد سلف أنّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول ، واللّه تعالى عالم بذاته ، فهو عالم بغيره (1).

جمل درّية لأئمة أهل البيت علیهم السلام

إنّ لأئمّة أهل البيت جملاً وكلماً درّية حول علمه سبحانه نقتبس منها ما يلي :

ص: 333


1- كشف المراد : ص 174 - 175 - طبعة صيدا 1353 ه.ق ، ولاحظ : كشف الفوائد له أيضاً : ص 1. طبعة طهران 1311 ه.ق.

1 - قال الإمام علي علیه السلام :

« علم ما يمضى وما مضى. مبتدع الخلائق بعلمه ومنشئها بحكمته (1).

2 - سأل منصور بن حازم الصادق علیه السلام : أرأيت ما كان وما هوكائن إلى يوم القيامة ، أليس فيعلم اللّه ؟ فقال : بلى قبل أن يخلق السماوات والأرض (2).

3 - سأل الحسين بن بشار أبا الحسن علي بن موسى الرضا علیه السلام : أيعلم اللّه الشيء الّذي لم يكن ، أن لو كان كيف يكون ؟ ولا يعلم إلاّ ما يكون ؟

فقال : إنّ اللّه تعالى هو العالم بالأشياء قبل كون الأشياء. قال اللّه عزّ وجلّ : ( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (3).

وقال لأهل النار : ( وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) (4).

فقد علم اللّه عزّ وجلّ أنّه لو ردّهم لعادوا لما نهوا عنه.

وقال للملائكة لمّا قالوا : ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) . قال : ( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) (5). فلم يزل اللّه عزّ وجلّ علمه سابقاً للأشياء قديماً قبل أن يخلقها فتبارك ربّنا تعالى علوّاً كبيراً. خلق الأشياء وعلمه بها سابق لها كما شاء كذلك لم يزل ربّنا عليماً سميعاً بصيراً (6).

ص: 334


1- نهج البلاغة الخطبة 191.
2- التوحيد للصدوق : ص 135 باب العلم الحديث 5.
3- الجاثية : 29.
4- الأنعام : 28.
5- البقرة : 30.
6- التوحيد : ص 136 الحديث 8.
مراتب علمه سبحانه

قد تبيّن ممّا ذكرنا انّ علمه سبحانه بالأشياء ذا مراتب هي :

الأُولى : علمه سبحانه بالأشياء بنفس علمه بالذات ، وما عرفت من أنّ العلم بالذات علم بالحيثيّة الّتي تصدر بها المعاليل منه سبحانه ، والعلم بنفس الحيثيّة علم بنفس الأشياء.

وقد عرفت انّ هناك بياناً آخر لعلم اللّه سبحانه بالأشياء في مرتبة الذات قبل الإيجاد والخلق ، ويرجع أصلها إلى القاعدة الفلسفيّة : « بسيط الحقيقة كل الأشياء » والّذي معناه أنّه جامع كل كمال وجمال ولا يشذّ عن حيطته شيء.

الثانية : إنّ الأشياء بنفسها فعله وعلمه وانّه لا مانع من أن يكون فعل الفاعل نفس علمه ، كما أنّ الصور المرتسمة في الذهن فعل الذهن وعلمه ، وانّ القائم بوجوده الخارجي مرتبة من مراتب فعله.

هذا كلّه حسب البراهين الفلسفيّة الكلامية غير أنّ الذكر الحكيم دلّ على أنّ لعلمه سبحانه مظاهر خاصّة ، عبّر عنه :

تارة باللوح المحفوظ.

وثانية بالكتاب المسطور.

وثالثة بالكتاب المبين.

ورابعة بالكتاب المكنون.

وخامسة بالكتاب الحفيظ.

وسادسة بالكتاب المؤجّل.

وسابعة بالكتاب المطلق.

وثامنة بالإمام المبين.

ص: 335

وتاسعة باُمّ الكتاب.

وعاشرة بلوح المحو والأسباب ...

وعن اللوح المحفوظ قال سبحانه :

( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) ( البروج / 21 و 22 ).

وعن الكتاب المسطور قال سبحانه :

( وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ ) ( الطور / 2 و 3 ).

وقال سبحانه :

( إِلاَّ أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ) ( الأحزاب / 6 ).

وقال عزّ اسمه : ( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ * وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ ) ( القمر / 51 - 53 ).

وعن الكتاب المبين قال سبحانه :

( وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( الأنعام / 59 ).

وقال سبحانه :

( وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( يونس / 61 ).

وقال سبحانه :

( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( النمل / 75 ).

وعن الكتاب المكنون قال سبحانه :

( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ) ( الواقعة / 77 و 78 ).

ص: 336

وعن الكتاب الحفيظ قال سبحانه :

( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ) ( ق / 4 ).

وعن الكتاب المؤجّل قال سبحانه :

( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلاً ) ( آل عمران / 145 ).

وعن الكتاب المطلق قال سبحانه :

( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ) ( الاسراء / 4 ).

وقال سبحانه :

( لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( الأنفال / 68 ).

وقال سبحانه :

( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ ) ( الحج / 70 ).

وقال سبحانه :

( قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى ) ( طه / 52 ).

وقال سبحانه :

( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ ) ( الحديد / 22 ).

وعن الإمام المبين قال تعالى :

( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ ) ( يس / 12 ).

ص: 337

وعن لوح « اُمّ الكتاب » قال تعالى :

( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) ( الرعد / 39 ).

( وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) ( الزخرف / 4 ).

وعن لوح المحو والاثبات ، يقول سبحانه : ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) ( الرعد / 39 ).

ثم إنّ المفسّرين ومثلهم الحكماء اختلفوا في حقيقة هذه الكتب وخصوصيّاتها ، فذهب الحكماء إلى أنّها موجودات مجرّدة كالعقول والنفوس المستتر فيها كل صغيرة وكبيرة.

وذهب آخرون إلى أنّها ألواح ماديّة سطّرت فيها الأشياء بكيفيّاتها وأسبابها الموجبة لها وأوقاتها المضروبة لها.

وقد استشكل عليه بأنّ ذلك يقتضي عدم تناهي الأبعاد ، وقد قامت البراهين العقليّة والنقليّة على خلاف ذلك ، فلابدّ من تخصيص ذلك بموجودات بعض النشآت.

فأجاب آخرون إلى أنّ الأشياء سطرّت فيها على نحو الرمز لا بالتفصيل.

غير أنّ كل هذه المذاهب والأقوال ممّا لا يصحّ الركون إليه فالمسألة من المعارف العليا التي يجب الايمان بها ولا يمكن التعرّف عليها.

القضاء من مراتب علمه

ثم إنّه ربّما يعد من مراتب علمه سبحانه « القضاء ».

والقضاء عندهم عبارة عن الوجود الإجمالي لجميع الأشياء ، كما أنّ القدر عبارة عن الوجود التفصيلي لها.

ص: 338

فبما أنّ الصادر الأوّل حاوٍ لكلّ كمال موجود في الكائنات والموجودات التالية ، هو قضاء اللّه سبحانه عندهم ومن مراتب علمه تعالى ، فالعلم به ، بجميع ما دونه من المراتب ، كما أنّ القدر عبارة عن الوجود التفصيلي للأشياء سواء كانت بصورها العلميّة القائمة الموجودات المجرّدة ، أم بوجودها الخارجي الشخصي.

فهذه مراتب علمه سبحانه ، غير أنّ الغور والتعمّق في بيان حقائقها من الاُمور العويصة التي لا يتمكن الإنسان من الوقوف عليها والتطلّع إليها من خلال هذه العلم.

نعم ، القضاء والقدر من المعارف العليا التي نطق بها القرآن الكريم ، وسنبحث عنها لدى الحديث عن عدله سبحانه سواء أصحّ تفسيرهما بالوجود الاجمالي للأشياء ، أو بالوجود التفصيلي لها أم لا.

وأخيراً نقول : إنّ هذه التعابير العشرة الواردة في القرآن الكريم ، يمكن ارجاع بعضها إلى البعض الآخر ، كما يمكن عدّ كل منها مرتبة مستقلة من مراتب علمه ، ويظهر ذلك بالغور في الآيات الواردة في هذا المجال.

شمول علمه تعالى للجزئيات
اشارة

إنّ للباحثين في علمه سبحانه بالأشياء مذاهب شتّى حتّى إنّ بعضهم أنكره من أصله.

كما أنّ للمثبتين آراء مختلفة أنهاها المحقق السبزواري إلى أحد عشر رأياً نشير إلى بعضها هنا :

الأوّل : إنّ له تعالى علماً بذاته دون معلولاتها لأنّ الذات المتعالية أزليّة ، وكل معلول حادث ، فلا يمكن أن يكون الحادث معلوماً في الأزل.

وقد عرفت بطلان هذا الرأي من وجوه مختلفة ، منها :

ص: 339

1 - إنّ العلم بالذات من الجهة الّتي تنشأ عنها المعلولات علم بنفس المعلول ، وقد أوضحنا هذا البرهان في ما سبق.

2 - إنّ بسيط الحقيقة كل الأشياء وإنّ العلم بالذات علم إجمالي بنفس المعاليل قبل الايجاد ، وقد أوضحنا هذا الدليل أيضاً.

الثاني : ما ينسب إلى شيخ الاشراق وتبعه فيه جمع من المحقّقين بعده ، هو إنّ الأشياء أعمّ من المجرّدات ، والماديات حاضرة بوجودها العيني لديه سبحانه وغير غائبة عنه تعالى ولا محجوبة ، وهو علمه التفصيلي بالأشياء بعد الإيجاد.

وقد عرفت اتقان هذا القول ، غير أنّ علمه سبحانه بالأشياء لا يختصّ بهذا القسم إذ هو علم بالأشياء بعد الايجاد بالعلم الحضوري.

الثالث : إنّ ذاته المتعالية علم تفصيلي بالمعلول الأوّل ، واجمالي بما دونه ، وذات المعلول الأوّل علم تفصيلي بالمعلول الثاني ، وإجمالي بما دونه وعلى هذا القياس.

وقد عرفت إنّ خلو الذات الإلهية المقدّسة عن كمال العلم بما دون المعلول الأوّل غير تامّ ، كيف وهو وجود صرف لا يسلب عنه كمال.

الرابع : ما ينسب إلى المشائيين من أنّ له علماً حضورياً بذاته المتعالية ، وعلماً تفصيلياً حصولياً بالأشياء قبل ايجادها ، بحضور ماهيّاتها ( الصورة المرتسمة ) على النظام الموجود في الخارج لذاته تعالى ، وهذه الماهيّات قائمة به سبحانه نحو قيامها بأذهاننا فهوعلم عنائي له.

وفيه أنّ لازم ذلك خلو الذات عن العلم بالأشياء في مرتبة الذات. وقد عرفت ثبوته بالبرهانين المتقدّمين.

الخامس : إنّ علمه سبحانه بالمعلول الأوّل حضوري لحضور هويته الخارجية

ص: 340

لدى الذات وأمّا علمه سبحانه بسائر الأشياء فهو بارتسام صورها في ذلك المعلول الأوّل. واختاره المحقّق الطوسي.

غير أنّه يرد عليه ما أوردناه على ما تقدّم من استلزامه خلو الذات عن العلم بالأشياء ما سوى المعلول الأوّل.

السادس : وهو آخر الأقوال - حسب نقلنا - هو قول أكثر الفلاسفة ، وهو كون علمه سبحانه قبل الإيجاد بالأشياء علماً كليّاً ، وليس له علم بالجزئيات وانّه على حاله قبل وجود الأشياء وبعد وجودها من دون تغيّر.

هذه هي خلاصة الأقوال وعصارتها ، وهناك تفصيلات اُخر لا يهمّنا ذكرها ، وإنّما المهم اثبات علمه بالجزئيات ممّا وقع أو سيقع أو هو واقع ، واشباع البحث يتوقّف على البحث في مقامين :

الأوّل : اثبات علمه سبحانه بالجزئيات.

الثاني : نقد براهين النافين لذلك.

أمّا الأوّل فيمكن تقريره بوجهين :

1 - حضور الممكن لدى الواجب في كل حين

إنّ الكون - كما عرفت - موجود ممكن ونسبة الوجود والعدم إليه على السواء ، وإنّما تخرج من حد الاستواء بالعلّة الموجبة غير أنّ خروجه عن حد الاستواء لا يخرجه عن حد الامكان ، فهو قبل الخروج ومع الخروج وبعده ممكن بالذات ، مفتقر إلى الواجب مطلقاً وفي كل حين ولحظة ، فلا ينقطع افتقاره إلى الممكن ، بالايجاد أوّلاً ، بل هو في كل لحظة حدوثاً وبقاء قائم بالواجب مفتقر إليه مستفيض منه.

فإذا كان هذا هو حال الممكن فلا ينفك عنه حضور لدى العلّة ، وما هذا شأنه

ص: 341

فهو غير غائب عن العلّة في كل لحظة وآن ، وقائم به قيام الرابط بالمعنى الاسمي ، وليس لعلمه حقيقة وراء حضوره لدى العالم.

وعلى الجملة : فاذا كان الممكن قائماً بوجوده مع الواجب ومفتقر إليه في تحقّقه - حدوثاً وبقاء - وكان قيامه معه كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ، فهذا النحو من الوجود لا يقبل الغيبوبة وعدم الحضور ، فإنّ الغيبوبة مناط انعدامه وفنائه.

وكل من شك وتردّد في علمه سبحانه بالأشياء والجزئيات فقد غفل عن حقيقة نسبة المعلول إلى علّته ، فإنّ النسبة القائمة بينهما نسبة الفقير إلى الغني ، والمتدلّي إلى المتدلّى به ، والمعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ، والرابط بالطرفين.

وهذه الكيفية نفس حقيقة الوجودات الامكانية الصادرة عنه سبحانه ، بحيث لو أخذت منه تلك النسبة لانعدمت ، وخرجت عن حيز الوجود ، أو انقلب اللامستقل إلى المستقل والممكن إلى الواجب.

فاذا كانت الوجودات الامكانية بعامّة أجزائها في عمود الزمان بهذه الكيفيّة والحالة فكيف يصحّ أن يتصوّر لها الغيبة من جانب العلّة وما هي إلاّ فرض انعدامها وفنائها.

لقد كشفت نظرية الحركة الجوهرية عن أنّ ذات المادة بعمقها وجوهرها في حال السيلان ، وإنّ الحركة ليست مختصّة بظواهر المادة وسطوحها ( أي بأعراضها ) بل السيلان والتدرّج والزوال والحدوث ، يعمّ جوهرها وصلبها وجودها وهويّتها أيضاً.

وبعبارة اُخرى : انّ التغيّر والحدوث المتجدّد ، لا يختصّ بصفات المادة وعوارضها ، بل يتطرّق هذا التغيّر إلى ذات المادة بمعنى أنّ الكون بجميع ذراته في تحوّل وتغيّر مستمرّين ، وإنّما يترآى للناظر من الثبات والاستقرار والجمود في مادة الكائنات الطبيعية ليس إلاّ من خطأ الحواس إذ الحقيقة هي غير ذلك ، فكل ذرّة من ذرات المادة خاضعة للتغيّر والتبدّل والسيلان.

ص: 342

قال الحكيم صدر الدين الشيرازي :

لقد تبيّن إنّ الأجسام كلّها متجددة الوجود في ذاتها ، وإنّ صورتها صورة التغيّر ، وكل منها حادث الوجود ، مسبوق بالعدم الزماني ، كائن فاسد ، لا استمرار لهويّاتها الوجودية ، ولا لطبائعها المرسلة ، والطبيعة المرسلة وجودها عين شخصياتها وهي متكثّرة ، وكل منها حادث.

وقال :

إنّ الطبائع الماديّة كلّها متحركة في ذاتها وجوهرها ، مسبوقة بالعدم الزماني فلها بحسب كل وجود معيّن مسبوقيّة بعدم زماني غير منقطع في الأزل (1).

وصفوة القول :

إنّ الحركة ليست إلاّ تعبيراً آخر عن كيفيّة وجود الشيء ، أي أنّ لوجود الشيء كيفيّتين : إمّا وجود قارّ ، أو وجود متدرّج ، وكانت المادة متحركة في جوهرها فإنّ معنى ذلك انّ لها وجوداً سيّالاً متدرجاً ينقضي بعضه بوجود البعض الآخر.

فإذا كان عالم المادة - بما أنّ وجوده متدرّج سيّال فلم يزل من حدوث إلى حدوث - لا ينفك عن محدث له ، وإذا كانت واقعيّة المادة هي نفس الحركة ، ولم يكن في امكان الحركة أن تقوم بنفسها ، فواقعيّتها نفس التعلّق والتدلّي مثل المصباح الكهربائي المتّصل بالمولّد الكهربائي فإنّه قائم بذلك المولد آناً فآناً ، وهذا هو معنى قولهم : إنّ الموجودات الامكانية متدلّيات بنفسها ومتعلّقات بغيرها.

فإذا كان مجموع العالم هذا هو حاله ، لم يزل يحتاج لامكانه المستمر وحدوثه الداعي إلى علّة تعطي الوجود في كل حين ، فهو لم يزل كعين نابعة ينبع من جانب ويصب في جانب آخر ، وليس للمادة - جوهراً وعرضاً - أي بقاء وثبات وصمود واستقرار ، بل الخلقة نفس التجدّد والتغيّر.

ص: 343


1- الاسفار : ج 7 ، ص 297 و 280 و 292 و 293.

إذا عرفت ذلك يظهر أنّه ليس للعالم حقيقة وراء الوجود التدريجي ، فهو سبحانه في كل حين ولحظة يفيض الوجود على الكون بجواهره وأعراضه من ذرّاته إلى مجرّاته ، وإن تصوّر الإنسان أنّ العالم خلق مرة واحدة وهو مستمر على الخلقة الاُولى ، لكنّه تصوّر مردود بالبرهان بل هناك ايجاد مستمر ، وابداع غير منقطع يحسب الجاهل له ثباتاً وصموداً.

وإذا كان الكون - بكل ما فيه - من الذرّة إلى المجرّة تجددات وحدوثات متلاحقة وأنّه سبحانه - في كل آن - ذو شأن أي ذو خلق وإيجاد وفعل وإبداع هذا من جانب.

ومن جانب آخر لا يمكن أن يكون المعلول غائباً عن حيطة العلّة لأنّ الغيبة تضاد وقيام المعلول بعلّته كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ، ينتج أنّه سبحانه محيط بالأشياء إحاطة علميّة ، وقيوميّة.

فالعالم بذرّاته وكثراته ، فعله وخلقه وعلمه ومعرفته.

وبذلك يعلم : انّ انكار علمه سبحانه بالجزئيات ناشئ من الغفلة عن حقيقة الافاضة والخلقة في العالم أو عن حقيقة ارتباط المعلول بالعلّة.

وبهذا نقف على عظمة الجملة القائلة « إنّ اللّه بكل شيء عليم » فهي تعني : إنّه عالم بما مضى وما يأتي وما هو كائن ، وهي تحكي عن سعة علمه سبحانه وإحاطته سبحانه بكل ما في هذا الكون ، وبجميع رموزه ، وأسراره وجلائله ودقائقه.

وهذا هو ما تقصده النصوص الإسلامية في الكتاب والسنّة.

فهو سبحانه يصف علمه بقوله : ( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( الأنعام / 59 ).

وقال تعالى :

( قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ

ص: 344

مَا فِي الأَرْضِ ) ( آل عمران / 29 ).

وقال تعالى : ( اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ) ( الرعد / 8 ).

وقال تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) ( ق / 16 ).

وقال تعالى : ( يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ) ( سبأ / 2 ).

وقال تعالى : ( عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( سبأ / 3 ).

وقال تعالى : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( النمل / 74 - 75 ).

وقال تعالى : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( المجادلة / 7 ).

وقال الإمام عليّ علیه السلام في هذا المجال :

« ولا يعزب عنه عود قطر الماء ، ولا نجوم السماء ، ولا سوافي الريح في الهواء ، ولا دبيب النمل على الصفا ، ولا مقيل الذرّ في الليلة الظلماء. يعلم مساقط الأوراق ، وخفِيّ طرف الأحداق » (1).

ص: 345


1- نهج البلاغة خطبة 178.

وقال علیه السلام : « يعلم عجيج الوحوش في الفلوات ، ومعاصي العباد في الخلوات ، واختلاف النينان في البحار الغامرات ، وتلاطم الماء بالرياح العاصفات » (1).

وقال علیه السلام : « قد علم السرائر ، وخبر الضمائر ، له الاحاطة بكل شيء » (2).

التعبير الرفيع القرآني عن سعة علمه

إنّ من المفاهيم المعقّدة هو تصوّر مفهوم « اللامتناهي » بحقيقته وواقعيّته.

فإنّ الإنسان لم يزل يتعامل في حياته مع الاُمور المحدودة ولذلك أصبح تصوّر « اللامتناهي » أمراً مشكلاً في غاية الصعوبة عليه.

فهذه المنظومة مع ما فيها من السيّارات والكواكب رغم أنّها تعد جزءاً من مجرّتنا الواسعة الهائلة - ومع ذلك - فإنّ هذه المجرّة متناهية من حيث العدد والأجزاء ، ومن حيث الذرّات والألكترونات ، والبروتونات ، ومع السعة والحجم.

إنّ أكبر عدد تعارف الإنسان العادي على استخدامه في حياته هو رقم « المليارد » الذي يتألّف من رقم واحد أمامه تسعة أصفار ( 000/000/000/1 ).

ثمّ إنّ البشريّة بسبب تكاملها في العلوم الرياضية توصّلت إلى ما يسمّى بالأرقام النجومية ، ومع ذلك فإنّ كل ما توصّل إليه الإنسان من الأرقام - حتّى النجوميّة منها - لا يتجاوز كونه عدداً متناهياً.

إنّ القرآن الكريم يصوّر علمه سبحانه اللامتناهي بنحو خاص ، يختصّ

ص: 346


1- نهج البلاغة : خطبة 198.
2- نهج البلاغة : خطبة 86.

بالوحي ، فإنّه لا يستخدم الأرقام والأعداد الرياضية وحتّى النجوميّة منها ، لانتهائها إلى حد ، بل يأتي بمثل رائع يبيّن سعة علمه ، إذ يقول عزّ وجلّ : ( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( لقمان / 27 ).

إنّك لا تجد أي رقم رياضي مهما كان عظيماً وهائلاً ونجوميّاً قادر على تصوير سعة علمه سبحانه مثلما يصفها قوله : ( مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللّهِ ) .

فلو قال أحد : إنّ مقدار علمه - بلغة الحساب - هو العدد الواحد أمامه عشرات الأصفار لما أفاد هذا الرقم ما أفاده قوله : ( مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللّهِ ) .

وبذلك تقف على حقيقة قوله سبحانه : ( وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) فإنّه يعبّر عن محدوديّة المقاييس والمقادير والمعايير البشرية ، كما يعبّر عن ضآلة علمه وضحالة معارفه.

دلائل النافين لعلمه سبحانه بالجزئيات
اشارة

قد عرفت البرهان الواضح على علمه سبحانه بالجزئيات وتبيّن لك أنّ الكون - بحكم كونه محتاجاً إلى المحدث حدوثاً وبقاء - وبحكم أنّ اللّه سبحانه موجد ومبدع في كل آن ولحظة ، فلا يمكن للكون أن يغيب عن ساحة العلّة ، وما هذا شأنه فهو ملازم للحضور ، وليس للعلم حقيقة وراء ذلك.

إذا وقفت على ذلك فهلمّ إلى دراسة ما يقوله النافون ، وما يقيمونه من دليل ، وهو لا يتعدّى دليلاً واحداً وقد عبّر عنه بتعابير مختلفة.

الأوّل : العلم بالجزئيات يلازم التغيّر في علمه

لو علم سبحانه بالجزئي على وجه يتغيّر لزم تغيّر علمه تعالى عند تغيّر المعلوم وهو محال.

ص: 347

وقد أوضحه العلاّمة بقوله : احتجّ الحكماء لنفي علمه بالجزئيات الزمانيّة بأنّ العلم يجب تغيّره عند تغيّر المعلوم وإلاّ لانتفّت المطابقة ، لكن الجزئيات الزمانيّة متغيّرة فلو كانت معلومة لله تعالى لزم تغيير علمه تعالى ، والتغيّر في علم اللّه تعالى محال.

وقال العلاّمة ابن ميثم البحراني في هذا الصدد :

ومنهم من أنكر كونه عالماً بالجزئيات على الوجه الجزئي المتغيّر ، وإنّما يعلمها من حيث هي ماهيّات معقولة ، وحجّتهم أنّه لو علم كون زيد جالساً في هذه الدار فبعد خروجه منها إن بقي علمه الأوّل كان جهلاً وإن زال لزم التغيّر ، لأنّ واجب الوجود ليس بزماني ولا بمكاني ، وليس ادراكه بالآلة وكل مدرك بجزئي زماني من حيث هو متغيّر ، يجب أن يكون كذلك ، فواجب الوجود لا يدرك الجزئي من حيث هو متغيّر (1).

وأجاب عنه المحقّق الطوسي بعبارة وجيزة بقوله : « وتغيّر الاضافات ممكن ».

وأوضحه العلاّمة الحلّي بقوله : « إنّ التغيّر هذا إنّما هو في الاضافات لا في الذات ولا في الصفات الحقيقيّة كالقدرة التي تتغيّر نسبتها ، واضافتها إلى المقدور عند عدمه ، وإن لم تتغيّر في نفسها ، وتغيّر الاضافات جائز لأنّها اُمور اعتبارية لا تحقّق لها في الخارج (2).

وحاصله أنّ العلم كالقدرة فلو استلزم تعلّق العلم بالجزئيات تغيّره عند تغيّر المعلوم يلزم أن يستلزم التغيّر في قدرته أيضا ، عند تعلّقها بالجزئيات لأنّ الجزئيات التي تتعلّق بها المقدرة هي في مسير التغيّر والتبدّل والتحوّل والتطوّر ، والقدرة من صفات الذات فما هو الجواب في جانب القدرة هو بعينه جار في جانب العلم.

ص: 348


1- قواعد المرام : ص 98.
2- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ص 176.

ويمكن توضيحه بوجه آخر أشار إليه المحقّق القوشجي في شرحه لتجريد الاعتقاد إذ قال : « إنّ علمه تعالى ليس زمانيّاً أي واقعاً في زمان كعلم أحدنا بالحوادث المختصّة بأزمنة معيّنة فإنّه واقع في زمان مخصوص ، فما حدث منها في ذلك الزمان كان واقعاً في الحال ، وما حدث قبله أو بعده كان واقعاً في الماضي أو المستقبل ، وأمّا علمه تعالى فلا اختصاص له بزمان أصلاً فلا يكون ثمّة حال وماض ومستقبل ، فإنّ هذه صفات عارضة للزمان بالقياس إلى ما يختص بجزء منه إذ الحال معناه زمان حكمي هذا ، والماضي زمان قبل زمان حكمي ، والمستقبل زمان هو بعد زمان حكمي هذا فمن كان علمه أزليّاً محيطاً بالزمان وغير محتاج في وجوده إليه ، وغير مختص بجزء معين من أجزائه ، لا يتصور في حقّه حال ولا ماض ولا مستقبل فاللّه سبحانه عالم عندهم بجميع الحوادث الجزئيّة وأزمنتها الواقعة التي هي فيها لا من حيث إنّ بعضها واقع في الآن ، وبعضها في الماضي وبعضها في المستقبل ، بل يعلمها علماً شاملاً متعالياً عن الدخول تحت الأزمنة ثابتاً أبد الدهر ، وبعبارة اُخرى إنّه تعالى لمّا لم يكن مكانياً كان نسبته إلى جميع الأمكنة على السواء فليس فيها بالقياس إليه قريب وبعيد ومتوسط كذلك لما لم يكن هو تعالى وصفاته الحقيقيّة زمانيّة لم يتصف الزمان مقيساً إليه بالمعنى ، والاستقبال والحضور بل كان نسبته إلى جميع الأزمنة على السواء ، فالموجودات من الأزل إلى الأبد معلومة له كل في وقته ، وليس في علمه كان وكائن وسيكون ، بل هي حاضرة عنده في أوقاتها ، فهو عالم بخصوصيّات الجزئيات وأحكامها لكن لا من حيث دخول الزمان فيها بحسب أوصافها الثلاثة إذ لا تحقّق لها بالنسبة إليه تعالى ، ومثل هذا العلم يكون ثابتاً مستمرّاً لا يتغيّر أصلاً كالعلم بالكلّيّات (1).

هذا ما ردّ به القوم على الإشكال من الجواب.

ويمكن توضيحه بوجه آخر من دون تمسّك بأنّ التغيّر في الاضافات بأن نقول إنّ الإشكال إنّما يتوجّه إذا كان علمه تعالى حصولياً وإنّه سبحانه يصل إلى الجزئيات

ص: 349


1- شرح التجريد للقوشجي : ص 314.

بالصور العلميّة المرتسمة القائمة بذاته سبحانه ، وقد عرفت أنّ علمه بالجزئيات علمه حضوري ، وأنّ الأشياء بهوياتها الخارجيّة ، وحقائقها العينيّة « فعله » سبحانه وفي الوقت نفسه « علمه » فلا مانع من القول بطروء التغيّر في علمه سبحانه أثر طروء التغيّر في الموجودات العينيّة.

فإنّ التغيّر الممتنع على علمه إنّما هو على علمه الذاتي لا على علمه الفعلي ، لأنّ طروء التغيّر في العلم الذاتي يستلزم طروء الحدوث في ذاته سبحانه وهو لا يجتمع في وجوب وجوده بخلاف العلم الفعلي فإنّ العلم في مقام الفعل عبارة عن كون نفس الفعل « علمه » كما أنّ الصور الذهنيّة مع كونها فعلاً للنفس ، علم لها.

وبذلك يظهر ضعف اشكال آخر هو : إنّ ادراك الجزئيات إنّما يحتاج إلى آلة جسمانيّة وهو سبحانه منزّه عن ذلك لكونه منزّهاً عن الجسمانيّة.

فقد ظهر من البيان الحاضر أنّ هذا الاشكال ناشئ من الاعتقاد بأنّ علمه تعالى علم حصولي ، حاصل له تعالى عن طريق أعمال الآلات والأدوات الجسمانيّة للأبصار والإدراك مع أنّ علمه تعالى نفس فعله لا الصور المنتزعة عن فعله.

وربّما يستفاد هذا الجواب ممّا ذكره المحقّق القوشجي في شرحه المذكور إذ قال :

إنّ ادراك المتشكلات إنّما يحتاج إلى آلة جسمانيّة إذا كان العلم حصول الصورة ، وأمّا إذا كان اضافة محضة أو صفة حقيقيّة ذات اضافة بدون الصورة فلا حاجة إليها (1).

ص: 350


1- شرح تجريد الاعتقاد للقوشجي : ص 314.
الثاني : العلم بالجزئيات يستلزم الكثرة في الذات

إنّ العلم صورة مساوية للمعلوم مرتسم في العالم ولاخفاء في أنّ صور الأشياء المختلفة ، مختلفة ، فيستلزم كثرة المعلومات وكثرة الصور في الذات الأحدية من كل وجه.

ولكن الاشكال مبني على كون علمه بالأشياء علماً حصولياً مرتسماً في ذاته سبحانه كارتسام الأشياء في النفس الإنسانية ، فيلزم حدوث الكثرات في الذات الأحدية ، ولكنّه غير تام لأنّ علمه بالأشياء نفس هويّاتها الخارجيّة الحاضرة عنده.

وهذا العلم أقوى من ارتسام صور الأشياء.

الثالث : انقلاب الممكن واجباً

إنّ العلم لو تعلّق بالمتجدّد ، قبل تجدّده ، لزم وجوبه ، وإلاّ لجاز أن لا يوجد فينقلب علمه تعالى جهلاً ، وهو محال.

وبعبارة اُخرى : إنّ علمه لا يتعلّق بالحوادث قبل وقوعها ، وإلاّ يلزم أن تكون تلك الحوادث ممكنة وواجبة معاً ، والتالي باطل للتنافي بين الوجوب والامكان.

وبيان الملازمة أنّها ممكنة لكونها حادثة ، وواجبة أيضاً ، وإلاّ أمكن أن لا يوجد فينقلب علمه جهلاً.

وقد أجاب عنه المحقّق الطوسي بقوله :

« ويمكن اجتماع الوجوب والامكان باعتبارين ».

وأوضحه العلاّمة الحلّي بقوله : إن أردتم وجوب علمه تعالى أنّه واجب الصدور عن العالم فهو باطل لأنّه تعالى يعلم ذاته ، ويعلم المعدومات ( فليس العلم هنا مصدر للمعلوم أي المعدوم ).

وإن أردتم وجوب المطابقة لعلمه فهو صحيح لكن ذلك وجوب لاحق

ص: 351

لا سابق ، فلا ينافي في الامكان الذاتي (1).

وإن شئت قلت : إنّ العلم إنّما هو تابع للمعلوم فلا يكون مفيداً لوجوبه ، فالعلم تعلّق بوقوعه بوصف أنّه ممكن بالذات فهي ممكنة لذواتها ، واجبة لغيرها ، وهو تعلّق علم الباري تعالى بوجوبها ، ولا تنافي بين الامكان بالذات والوجوب بالغير.

وبعبارة اُخرى : إنّ الممتنع هو اجتماع « الممكن بالذات » مع « الواجب بالذات ».

وأمّا اجتماع « الممكن بالذات » مع « الواجب بالغير » فهو أمر ممكن وجائز ، والمعاليل عند وجود العلّة التامة ممكنات بالذات ، واجبات بالغير.

وعلى ذلك فلو تعلّق علمه سبحانه بوجود حادث في وقت كذا ، فعلمه سبحانه لا يخرجه عن الامكان بالذات ، سواء قلنا بأنّ علمه سبب ، أو غير سبب ، إذ غاية ما يقتضي كون علمه سبباً ، هو وجوب وجوده بالغير ، وهو يجتمع مع الممكن بالذات.

فلو تعلّق علمه سبحانه بوقوع حادث في ظرف خاص الحادث وإن كان يقع قطعاً ولا يتخلّف ، غير أنّ ذلك الوقوع القطعي ، لا يخرجه عن الامكان الذاتي.

لأنّ معنى الامكان الذاتي مساواة الشيء إلى الوجود والعدم في حد الذات وهو محفوظ بعد لحوق العلّة واتّصافه بالوجوب الناشئ عن جانب العلّة ، فهو إذن ممكن ذاتي وإن كان واجباً بالغير.

وبذلك تقف على أنّه لا حاجة إلى القول بأنّ علمه ليس سبباً ومصدراً للمعلوم (2).

ص: 352


1- كشف المراد : ص 176.
2- كما عليه الفاضل القوشجي في شرحه على التجريد : ص 414.

فإنّ التحاشي عن ذلك في غير محلّه بل يجب أن يقال إنّ الحادث الذي يقع في ظرف خاص لا يخرج عن حد الامكان بعد تعلّق علمه ، وحصول العلّة التامّة لوجوده ، فالعالم كلّه ممكن لكن بالذات ، واجب بالغير.

الواحد والثمانون : « العظيم »

قد ورد لفظ العظيم مرفوعاً ومنصوباً في القرآن 107 مرّة ووقع وصفاً له في خمسة موارد :

1 - قال سبحانه : ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) ( الشورى / 4 ).

2 و 3 - وقال سبحانه : ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) ( الواقعة / 74 و 96 ).

4 - وقال سبحانه : ( إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللّهِ الْعَظِيمِ ) ( الحاقّة / 33 ).

5 - وقال سبحانه : ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) ( الحاقّة / 52 ).

بناءاً على أنّ العظيم في الآيات الثلاث صفة للرب لا للمضاف ، أمّا معناه فقال ابن فارس : العِظَم يدل على كبر وقوة ، وعظمة الذراع : مستغلظها ، ومن هذا الباب العظم المعروف سُمي بذلك لقوّته وشدّته ، قال الراغب : وعظم الشيء أصله كبر عظمه ، ثم استعير لكل كبير فاُجري مجراه محسوساً كان أو معقولاً ، عيناً كان أو معنى.

وما ذكره الراغب على طرف النقيض ممّا ذكره ابن فارس فإنّه جعل الأصل هو الكبر والقوّة ، وانّ اطلاقه على العظام لمناسبة موجودة بينهما ، والظاهر من مفردات الراغب عكس ذلك.

ص: 353

وقد جاء العظيم وصفاً لعدة اُمور في القرآن المجيد :

العذاب ، البلاء ، الأجر ، الفوز ، الفضل ، اليوم ، السحر ، الخزي ، العرش ، الكيد ، القرآن ، الكرب ، البهتان ، الطود ، الحظ ، الظلم ، الذبح ، الحنث ، النبأ ، القسم ، الخلق ، إلى غير ذلك ممّا يوصف به.

وأمّا عظمته سبحانه فهو عظيم ذاتاً ووصفاً وفعلاً وكلّ ما لغيره سبحانه من العظمة فهو يرجع إليه.

الثاني والثمانون : « العزيز »

ورد لفظة « العزيز » في الكتاب العزيز 148 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه 89 مرّة واقترن بصفات اُخر : الحكيم ، ذو انتقام ، القوي ، الحميد ، الرحيم ، العليم ، الغفور ، الوهّاب ، الغفّار ، الكريم ، المقتدر ، الجبّار.

قال ابن فارس : له معنى واحد يدلّ على شدّة وقوّة وما شاكلهما من غلبة وقهر.

وقال « الخليل » ربّما يستعمل فيما يكاد لا يوجد ، قال الخليل : عزّ الشيء حتى يكاد لا يوجد ، ولكن قال التعبير بلفظ آخر أحسن : هذا الذي لا يكاد يقدر عليه ، أي صعب المنال ، يقال عزّ الرجل بعد ضعف ، وأعززته إن جعلته عزيزاً.

وقال الراغب العزّة حالة مانعة للإنسان من أن يُغلب من قولهم : أرض عزاز أي صلبة.

قال تعالى : ( أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعًا ) والعزيز الذي يقهِر ولا يقهر.

وما ذكره العلماء هو الظاهر من موارد استعماله في القرآن الكريم ، ولكن يحتاج إلى دقّة ولطف. مثلاً قوله سبحانه : ( عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ) ( التوبة / 128 ) ،

ص: 354

المراد صعب وهو راجع إلى المعنى الأصلي للكلمة ، وهو القوي لكون كل صعب مقاوماً.

قال سبحانه : ( وَعَزَّنِي فِي الخِطَابِ ) ( ص / 23 ) أي غلبني في الخطاب.

وقول قوم شعيب له : ( وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ) ( هود / 91 ) أي قويّ وغالب.

وعلى أي تقدير فقد جاء وصفاً له سبحانه في موارد كثيرة كما عرفت.

قال سبحانه : ( وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( آل عمران / 62 ).

وقال سبحانه : ( وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الحَكِيمِ ) ( آل عمران / 126 ).

وبما أنّه أُستعمل مع اسم « الحكيم » تارة ومع « ذي انتقام » ثانية ومع « القوي » ثالثة ، يعرب عن أنّه بمعنى الغالب القاهر الذي لا يغلب وهو « قوي » في الوقت نفسه « حكيم » يقهر عن حكمة وينتقم عن عزّ وقدرة ولو اجتمع مع « الرحيم » و « الغفور » يعرب عن أنّه غالب وفي الوقت نفسه سبقت رحمته كلّ شيء فلا يكون عزّه سبباً لعدم رحمتة وتجاوزه.

وبذلك يعلم أنّ ما احتمله الغزالي في تفسير « العزيز » تفسير غير تام ، قال : العزيز هو الذي يقل وجود مثله ، وتشتد الحاجة إليه ، ويصعب الوصول إليه فما لم تجتمع هذه المعاني الثلاثة فيه لا يطلق عليه اسم « العزيز » ، فكم من شيء يقل وجوده ولكن لا يحتاج إليه فلا يسمّى عزيزاً ، وقد يكون بحيث لا مثل له والانتفاع به عظيم جداً ولكن يسهل الوصول إليه فلا يسمّى عزيزاً كالشمس فإنّها لا مثل لها والانتفاع بها عظيم جداً ، ولكنّها لا توصف بالعزّة فإنّه لا يصعب الوصول إليها ، وأمّا إذا اجتمعت المعاني في شيء فهو « العزيز » (1).

ص: 355


1- لوامع البينات : ص 195 نقلا عن الغزالي.

يلاحظ عليه : أنّ تفسير « العزيز » بمعنى ما يقل وجود مثله مع ما عرفت من كلام ابن فارس في حقّه غير تام في تفسير هذا الاسم في كثير من الايات ، فإنّ تفسير قوله سبحانه : ( وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الحَكِيمِ ) بأنّه ما النصر إلاّ من عند اللّه الذي لا مثل له ولا نظير غير منسجم لما تبيّن في محلّه ، إنّ كل اسم يقع في آخر الآية يجب أن يكون متناسبا مع ما ورد في الاية من المعنى ، وأي صلة بين النصر وبين كونه سبحانه لا نظير له ولا مثيل.

وروي عن الأصمعي أنّه قال : كنت في البادية وأقرأ القرآن بصوت عالٍ فقرأت الآية التالية بهذا النحو :

( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( المائدة / 38 ).

وكانت هناك أعرابيّة تسمع صوتي ، فقالت لي : لو كان غفوراً رحيماً لما أمر بقطع أيديهما ، فراجعت القرآن فرأيت أنّني أخطأت في التلاوة والآية ( وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .

هذا ما فهمته الاعرابية بصفاء فطرتها ، وعلى ذلك فلا محيص عن تفسير العزيز في جميع الموارد على النحو الذي ذكره « ابن فارس » من القهر والقوّة والشدّة.

قال الصدوق معناه : انّه لا يعجزه شيء ولا يمتنع عليه شيء أراده ، فهو قاهر للأشياء غالب غير مغلوب فقد يقال في المثل « من عزّ بذّ » أي من غلب سلب ، وقوله حكاية عن الخصمين ( وعزّني في الخطاب ) أي غلبني في مجاذبة الكلام ، وقد يقال للملك عزيز كما قال اُخوة يوسف له « يا أيّها العزيز » والمراد به يا أيّها الملك (1).

والظاهر أنّ استعماله في الملك لمناسبة بينه وبين معناه فإنّ الملك يلازم

ص: 356


1- التوحيد للصدوق : ص 206.

القدرة والقهر والغلبة.

نعم يمكن تصحيح ما ذكره الغزالي بالبيان التالي وهو : إنّ من ليس له مثيل ولا نظير هو الغالب على الاطلاق دون ما إذا كان له مثيل فإنّه قد يغلب كما أنّ لازم كونه عزيزاً قاهراً عدم كونه محدوداً فانّ الحدّ آية المقهورية ولعلّه إلى ذلك يشير سبحانه :

( سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الصافّات / 180 ).

وعلى أي تقدير فتفسير العزيز وما يشترك معه في الاشتقاق من قوله : « عزّزنا » « عزّاً » « عزّتك » « أعزّ » إلى غير ذلك حَسَب ما ذكرنا من المعنى الأصلي يحتاج إلى دقّة وأعمال قريحة.

الثالث والثمانون : « العفو »

لقد جاء العفو في الذكر الحكيم 5 مرّات ووقع وصفاً له سبحانه في جميع مواردها واقترن باسم الغفور تارة والقدير اُخرى.

قال سبحانه : ( لَيَنصُرَنَّهُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ) ( الحج / 60 ).

وقال تعالى : ( وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ) ( المجادلة / 2 ).

وقال تعالى : ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ) ( النساء / 43 ).

وقال تبارك وتعالى : ( فَأُولَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ) ( النساء / 99 ).

وقال تعالى : ( إِن تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ) ( النساء / 149 ).

ص: 357

وأمّا معناه فقد قال ابن فارس : له أصلان يدل أحدهما على ترك الشيء ، والآخر على طلبه ثمّ ترجع إليه فروع كثيرة لا تتفاوت في المعنى.

فالأوّل : العفو ، عفو اللّه تعالى عن خلقه وذلك تركه إيّاهم فلا يعاقبهم فضلاً منه.

قال الخليل كل من استحقّ عقوبة ; فتركته فقد عفوت عنه (1).

والظاهر أنّ العفو غير الترك بل هو المحو والازالة يقال عفت الديار إذا درست وذهبت ، قال لبيد في معلّقته :

عفت الديار محلّها فمقامها *** بمنى تأبّد غولها فَرِجامها

فعلى هذا العفو في حقّ اللّه تعالى عبارة عن إزالة آثار الذنوب بالكلّية فيمحوها من ديوان الكرام الكاتبين ولا يطالبه بها يوم القيامة ، وينسيها قلوبهم كي لا يخجلوا عند تذكرها - وأحياناً - يثبّت مكان كل سيّئة حسنة.

قال تعالى : ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) ( الرعد / 39 ).

وقال تعالى : ( فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) ( الفرقان / 70 ) (2).

وعلى هذا فالعفو أبلغ من المغفرة لأنّ الغفران يشعر بالستر ، والعفو يشعر بالمحو ، والمحو أبلغ من الستر.

قال الصدوق : العَفوّ اسم مشتق من العفو على وزن فعول ، والعفو : المحو يقال عفا الشيء إذا امتحى وذهب ودرس ، وعفوته أنا إذا محوته ، ومنه قوله عزّ وجلّ : ( عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ) ( التوبة / 43 ) أي محى اللّه عنك إذنك لهم.

ص: 358


1- والأصل الثاني ذكره في آخر كلامه قال : والأصل الآخر الذي معناه : الطلب ، يقال : اعتفيت فلانا : اذا طلبت معروفه. وهذا الاستعمال قليل.
2- لوامع البينات : ص 338.

وجعل « الراغب » الأصل لمعنى العفو هو القصد (1) وقال العفو : القصد لتناول الشيء يقال عفاه واعتفاه أي قصده متناولاً ما عنده ، وعفت الريح الدار : قصدتها متناولة آثارها ، وعفوت عنه قصدت إزالة ذنبه صارفاً عنه.

ولا يخفى أنّ ما ذكره ابن فارس أقرب بموارد استعمال العفو في الذكر الحكيم.

قال سبحانه : ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ) ( آل عمران / 134 ) فلو كان العفو متضمّناً معنى القصد لقال والعافين للناس.

وقال سبحانه : ( يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) ( المائدة / 15 ).

وما ذكره الراغب هو الأصل الثاني في كلام « ابن فارس » حيث جعل له أصلين أحدهما ترك الشيء والآخر طلبه ولكلّ موارد ، والمعنى الثاني يناسب قوله سبحانه : ( وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) ( البقرة / 219 ).

وأمّا حظ العبد من هذا الاسم فهو أن يعفو عمّن ظلمه ولا يقطع برّه عنه بسب تلك الاساءة ولا يذكر ما تقدّم من أنواع الجفاء شيئاً من الشخص الذي يريد أن يعفو عنه ، قال تعالى : ( وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ) ( النور / 22 ).

فإنّه متى فعل ذلك فاللّه سبحانه أولى أن يفعل به ذلك.

روى الرازي عن عليّ علیه السلام انّه دعا غلاماً له فلم يجبه ، فدعاه ثانياً فلم يجبه وهكذا ثالثا فقام إليه فرآه مضطجعاً ، فقال : يا غلام أما سمعت الصوت ؟ فقال : بلى سمعت ، قال : فما منعك من الاجابة ؟ قال : ثقتي بحلمك واتكالي على عفوك ، فقال عليّ علیه السلام : أنت حرّ لوجه اللّه تعالى بهذا الإعتقاد (2).

ص: 359


1- ولعلّه الأصل الثاني في كلام ابن فارس.
2- لوامع البينات : ص 338.

الرابع والثمانون : « العليّ »

وقد ورد في الذكر الحكيم أحد عشر مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في ثمانية موارد ، واستعمل مع الكبير تارة والعظيم اُخرى والحكيم ثالثة.

قال سبحانه : ( وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) ( البقرة / 255 ).

وقال سبحانه : ( وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) ( لقمان / 30 ).

وقال سبحانه : ( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) ( الشورى / 51 ).

وقال سبحانه : ( فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ) ( النساء / 34 ).

أمّا معناه فقد قال « ابن فارس » : للعلوّ أصل واحد يدلّ على السمو والارتفاع لا يشذّ عنه شيء من ذلك ، العلاء والعلو ، ويقولون : « تعالى النهار » أي ارتفع.

قال الخليل : أصل هذا البناء ، العلوّ ، فأمّا العلاء فالرفعة ، وأمّا العلو فالعظمة والتجبّر ، يقولون علا الملك في الأرض علواً كبيراً.

وعلى ذلك فالمراد من توصيفه سبحانه بعليّ هو علوّه من أن يحيط به أفكار المفكّرين ، ووصف الواصفين ، وعلم العارفين ، فهو تعالى لعلوّه لا تناله أيدي الخلوقات ولعظمته لا يعهده كثرة الخلق ، فهو العليّ المطلق لا غيره ، فإنّ العلو من الكمال وحقيقةُ كل كمال قائم به.

قال الصدوق في تفسير اسم العلي : إنّه تعالى عن الأشباه والأنداد وعمّا خاضت فيه وساوس الجهّال ، وترامت إليه فكر الضلاّل فهو عليّ متعال عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً.

ص: 360

قال علي علیه السلام : « الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون ، ولا يحصي نعمائه العادّون ، ولا يؤدّي حقّه المجتهدون ، الذي لا يدركه بعد الهمم ، ولا يناله غوص الفطن ، الذي ليس لصفته حدّ محدود ، ولا وقت معدود ، ولا أجل ممدود » (1).

ص: 361


1- نهج البلاغة : الخطبة 1.

ص: 362

حرف الغين

الخامس والثمانون : « غافر الذنب »

وقد جاء « غافر الذنب » في الذكر الحكيم مرّة واحدة ، ووقع وصفاً له مع الصفات الاُخرى.

قال سبحانه : ( تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ المَصِيرُ ) ( غافر / 2 - 3 )

فقد وصف سبحانه في الآيتين بصفات ستّ ، واستعمل « غافر » بصيغة الجمع مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه باضافة لفظ الخير إليه.

قال سبحانه : ( فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ) ( الأعراف / 155 ).

وجاء لفظ « الغفور » مرفوعاً ومنصوباً 91 مرّة ووقع وصفاً له في جميع الموارد ، واستعمل مع « الرحيم » تارة و « الحليم » اُخرى و « ذي الرحمة » ثالثاً و « الشكور » رابعاً ، و « العفو » خامساً ، و « العزيز » سادساً ، و « الودود » سابعاً.

كما أنّ « الغفّار » جاء 4 مرّات ووقع وصفاً له سبحانه واقترن بالعزيز.

فله أسماء ثلاثة كلّها مشتق من « الغفر ».

1 - الغافر. قال تعالى : ( غَافِرِ الذَّنبِ ) ( غافر / 3 ).

2 - الغفور. قال سبحانه : ( وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ) ( الكهف / 58 ).

3 - الغفّار. قال تعالى : ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ ) ( طه / 82 ).

ص: 363

والعبد له أسماء ثلاثة مشتقة من الظلم بالمعصية أو ما يعادله :

1 - الظالم. قال تعالى : ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ) ( فاطر / 32 ).

2 - الظلوم.قال تعالى : ( إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً ) ( الأحزاب / 72 ).

3 - الظلاّم. قال تعالى : ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ ) ( الزمر / 53 ).

والاسراف على الأنفس يعادل الظلاّم وكأنّه قال : عبدي لك أسماء ثلاثة في الظلم بالمعصية ولي أسماء ثلاثة في الرحمة والمغفرة ، فإن كنت ظالماً فأنا غافر وإن كنت ظلوماً فأنا غفور وإن كنت ظلاّماً فأنا غفّار (1).

أمّا معناه فقد قال ابن فارس : عُظم بابِه السترُ ، فالغفر : الستر ، والغفران والغفر بمعنىً ، يقال غفر اللّه ذنبه غفراً ومغفرة وغفراناً. قال في الغفر :

في ظلّ من عنت الوجوه له *** ملك الملوك ومالك الغفر

و « المغفر » معروف والغفارة خرقة يضعها المدهن على هامته ، وذكر عن امرأة من العرب أنّها قالت لابنتها : اغفري غفيرك تريد غطّيه. السادس والثمانون : « الغالب »

لقد جاء الغالب مفرداً في الذكر الحكيم ثلاث مرّات ووقع في موضع اسماً له سبحانه ، قال عزّ وجلّ :

( وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ( يوسف / 21 ).

وقال سبحانه : ( إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ ) ( آل عمران / 160 ).

وقال تعالى : ( وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي

ص: 364


1- لوامع البيّنات للرازي : ص 212.

جَارٌ لَّكُمْ ) ( الأنفال / 48 ).

وأمّا معناه فقد قال ابن فارس يدلّ على قوّة وقهر وشدّة.

قال اللّه تعالى : ( وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ) ( الروم / 3 ) وذكر مثله « الراغب » في مفرداته : قال سبحانه : ( كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً ) ( البقرة / 249 ).

وأمّا المراد من قوله سبحانه : ( وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ) فإن كان الضمير راجعاً إلى يوسف ، فيكون المراد إنّ اللّه غالب على أمر يوسف ، يحفظه ويرزقه حتى يبلغه ما قدّر له من الملك ولا يكله إلى غيره ، وعلى تسليم هذا الفرض فرعاية يوسف مصداق من مصاديق القاعدة الكليّة وهو غلبته سبحانه على كلّ شيء.

وأمّا إذا قلنا أنّ الضمير يرجع إلى اللّه سبحانه فيكون المراد من الأمر هو نظام التدبير. قال تعالى : ( يُدَبِّرُ الأَمْرَ ) ( يونس / 3 ). فيكون المعنى أنّ كلّ شيء من شؤون الصنع والايجاد ، من أمره تعالى وهو تعالى غالب عليه وهو مغلوب له يطيعه فيما شاء ينقاد له فيما أراد ليس له أن يستكبر أو يتمرّد فيخرج من سلطانه كما ليس له أن يسبقه أو يفوته.

قال تعالى : ( إِنَّ اللّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ) ( الطلاق / 3 ).

وبالجملة أنّ اللّه تعالى هو قاهر كلّ شيء إذ لا شيء إلاّ بأمره حدوثاً وبقاء وعند ذلك فلا يتصوّر وجود شيء خارج عن إرادة اللّه وقدرته.

السابع والثمانون : « الغفّار »

وقد جاء اسم « الغفّار » في الذكر الحكيم معرّفاً ومنكراً خمس مرّات.

قال سبحانه : ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) ( طه / 82 ).

ص: 365

وقال سبحانه : ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ) ( نوح / 10 ). واستعمل مع العزيز في الموارد الثلاثة الآتية.

قال سبحانه : ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) ( سورة ص / 66 ). وقال عزّ من قائل : ( كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) ( الزمر / 5 ). وقال تعالى : ( وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ) ( غافر / 42 ).

واللّفظ صيغة المبالغة من الغفر وقد تبيّن معناه عند البحث عن اسم « غافر الذنب ».

الثامن والثمانون : « الغنيّ »

وقد جاء لفظ « الغنيّ » في الذكر الحكيم مرفوعاً ومنصوباً 20 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في ثمانية عشر مورداً واستعمل تارة مع إسم « الحميد » واُخرى مع « الحليم » وثالثاً مع « الكريم ».

قال سبحانه : ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) ( البقرة / 267 ). وقال تعالى : ( قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ) ( البقرة / 263 ).

وقال سبحانه : ( مَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) ( النمل / 40 ).

وأمّا معناه فقد قال « ابن فارس » : له أصلان أحدهما يدلّ على الغاية والآخر صوت ، فالأوّل الغنى في المال.

وقال « الراغب » : الغناء يقال على ضروب أحدها عدم الحاجات وليس ذلك إلاّ لله تعالى وهو المذكور في قوله : ( إِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الحَمِيدُ ) والثاني قلّة الحاجات ، وهو مشار إليه بقوله : ( وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ) .

والظاهر أنّه ليس له إلاّ معناً واحداً وإنّما الاختلاف في المصاديق والجري ، فالغني المطلق هو اللّه سبحانه ، وأمّا غنى الغير هو أمر نسبي.

ص: 366

وأمّا كونه سبحانه غنيّاً غير محتاج إلى شيء فهو لازم كونه سبحانه واجب الوجود لذاته وواجب الوجود في صفاته وأفعاله فكان غنيّاً عن كل ما سواه. أمّا كل ما سواه فممكن لذاته فوجوده بايجاده. فكان هو الغني لا غيره.

فله العزّ والجمال ، وله البهاء والكمال ، وما للغير من الجمال ، من رشح بحر جماله ، أو له من الكمال ، فهو ظل كماله. وما أليق بالمقام قول القائل :

أرأيت حسن الروض في آصاله *** أرأيت بدر التم عند كماله

أرأيت كأساً شيب صفو شمولها *** أرأيت روضاً ريض خيل شماله

أرأيت رائحة الخزامي (1) سحرة *** فغمت خياشيم العليل الواله

هذا وذاك وكلّ شيء رائق *** أخذ التجمّل من فروع جماله

هلك القلوب بأسرها في أسره *** شغفا وشدّ عقولنا بعقاله (2)

التاسع والثمانون : « الغفور »

وقد ورد ذلك اللفظ مرفوعاً ومنصوباً 91 مرّة واُستعمل مع صفات اُخر مثل « رحيم » ، « عفوّ » ، « عزيز » ، « شكور » ، « الودود » و « الحليم ».

قال سبحانه : ( ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( التوبة / 27 ).

وقال سبحانه : ( وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ) ( الحج / 60 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ) ( فاطر / 28 ).

ص: 367


1- الخزامي : نبت ، زهرة من أطيب الأزهار.
2- شرح الاسماء الحسنى : ص 40.

وقال سبحانه : ( لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ) ( فاطر / 30 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ) ( البروج / 13 - 14 ).

وقال سبحانه : ( وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ) ( فاطر / 41 ).

واللفظ من الصفات المشبّهة بالفعل وصيغته للمبالغة وقد تبيّن معناه من ما ذكرناه في اسم « غافر الذنب ».

ص: 368

حرف الفاء

التسعون : « الفاطر »

قد ورد اسم الفاطر في الذكر الحكيم 6 مرّات ووقع في الجميع اسماً له سبحانه.

قال سبحانه : ( أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ( الأنعام / 14 ).

وقال سبحانه : ( فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) ( يوسف / 101 ).

وقال عزّ من قائل : ( قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ( إبراهيم / 10 ).

وقال سبحانه : ( الحَمْدُ للهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلاً ) ( فاطر / 1 ) (1).

وقد استعمل ذلك الاسم في جميع الموارد مضافاً إلى السموات والأرض نعم استعمل « فطر » متعدّياً إلى الناس.

قال سبحانه : ( فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ) ( الروم / 30 ).

ص: 369


1- لاحظ الزمر / 46 - الشورى / 11.

و أمّا معناه فقد قال « ابن فارس » : يدلّ على فتح شيء وابرازه ومن ذلك « الفطر » بالكسر من الصوم ومنه « الفطر » بفتح الفاء وهو مصدر فطرت الشاة فطراً إذا حلبتها ، ثمّ قال والفطرة الخلقة ، وقال الراغب : أصل الفطر : الشق طولاً ، قال : ( هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ) ( المُلك / 3 ) أي اختلال ، وقال تعالى : ( السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً ) ( المزّمل / 18 ) ، وفطرت الشاة : حلبتها باصبعين ، وفطرت العجين إذا عجنته وخبزته من وقته ، ومنه الفطرة ، وفطر اللّه الخلق وهو إيجاده وابداعه على هيئة مترشّحة لفعل من الأفعال.

والمحصّل من كلامهما : إنّ الفطر بمعنى الفتح والشق حتى إنّ نسبة الفطر إلى العجين لأجل أنّه يحتاج إلى البسيط والقبض حتى يكون قابلاً للطبخ.

إنّما الكلام في استعماله في الايجاد والابداع والظاهر أنّ وجه استعماله فيهما هو انّ الخلقة يشبهها بشق العدم وفتحه وإخراج الشيء إلى ساحة الوجود.

يقول العلاّمة الطباطبائي (رحمه اللّه) في تفسير قوله : ( فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) : أخرجها من ظلمة العدم إلى نور الوجود (1).

وقال في موضع آخر : « إنّ اطلاق الفاطر عليه تعالى بعناية استعارية كأنّه شق العدم فأخرج من بطنه السموات والأرض. فمحصّل معناه إنّه موجد السموات والأرض ايجاداً ابتدائيّاً من غير مثال سابق ، فيقرب معناه من معنى « البديع » و « المبدع » ، والفرق بين الابداع والفطر ، إنّ العناية في الابداع متعلّقة بنفي المثال السابق ، وفي الفطر بطرد العدم وإيجاد الشيء من رأس لا كالصانع الذي يؤلّف موادّاً مختلفة فيظهر به صورة جديدة فقوله : ( فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) من أسمائه تعالى أجرى صفة لله ، والمراد بالوصف الاستمرار دون الماضي فقط ، لأنّ الإيجاد مستمر وفيض الوجود غير منقطع ولو انقطع لانعدمت الأشياء » (2).

ص: 370


1- الميزان : ج 7 ، ص 29.
2- المصدر السابق : ج 17 ، ص 6.

الواحد والتسعون : « فالق الإصباح »

قد ورد في الذكر الحكيم مرّة واحدة وجرى وصفاً له سبحانه قال : ( فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) ( الأنعام / 96 ).

وأمّا معناه فقد قال « ابن فارس » : يدلّ على فرجة وبينونة في الشيء وعلى تعظيم شيء. فمن الأوّل فلقت الشيء أفلقه فلقاً ، والفلق الصبح لأنّ الكلام ينفلق عنه ، ومن الثاني الفليقة وهي الداهيّة العظيمة ، وقال الراغب : « الفلق » : شق الشيء وإبانة بعضه عن بعض ، قال تعالى : « فالق الاصباح » و « إن اللّه خالق الحب والنوى » ، « فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم » وقوله : ( أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ) أي الصبح.

فتوصيفه سبحانه بفالق الاصباح ، لأجل انّه يشق الظلمة ويتجلّى من صميمها النور.

فقد تضمّنت الآية ثلاث آيات سماوية :

1 - فالق الإصباح.

2 - وجعل الليل سكناً.

3 - والشمس والقمر حسباناً.

والمراد من الاصباح هو الصبح. قال امرؤ القيس :

ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلي *** بصبح وما الإصباح منك بأمثل

فالمراد من فلق الإصباح هو اخراج النور من الظلمة الهائلة المنبسطة في السماء كل ذلك عن طريق ربط الأسباب بالمسبّبات ، وطروء الوضع الخاص للأرض بالنسبة إلى الشمس كما أنّ المراد من الآية الثانية هو ما جاء في قوله : ( وَمِن رَّحْمَتِهِ

ص: 371

جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( القصص / 73 ).

والمراد من السكون أعم من سكون البدن والروح ، فالبدن يستريح من تعب العمل بالنهار والنفس تسكن بهدوء الخواطر والأفكار ، والمراد من جعل الشمس والقمر حسباناً هو كونهما مظاهر للحساب لأنّ طلوعهما وغروبهما وما يظهر منهما من الفصول كل ذلك بحساب.

قال سبحانه : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ ) ( يونس / 5 ).

الثاني والتسعون : « فالق الحبّ والنّوى »

وقد ورد مرّة واحدة وجرى وصفاً له سبحانه.

قال تعالى : ( إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَمُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) ( الأنعام / 95 ).

قال الراغب : فالحبّ والحبّة يقال في الحنطة والشعير ونحوهما من المطعومات.

قال تعالى : ( كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ) ( البقرة / 261 ).

وأمّا النّوى فالمراد منه نوى التمر.

قال في المقاييس : فاللّه سبحانه يشق الحبّ والنّوى فينبت منهما النبات والشجر اللذين يرتزق الناس من حبّه وثمره فالآية بصدد بيان قدرته ولأجل ذلك يذكر قوله : ( يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَمُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ ) .

ص: 372

وقد تضمّنت الآية ، ثلاث آيات أرضية أعني :

1 - فالق الحبّ والنّوى.

2 - يخرج الحىّ من الميّت.

3 - ومخرج الميّت من الحىّ.

والكل آيات أرضية والمعنى أنّه سبحانه فالق ما يزرعه البشر من حب الحصيد ، ونوى الثمرات ، وشاقّه بقدرته ، وبذلك يبيّن قدرته على ربط علل الإنبات والنمو بمسبّباته وذلك بتقديره.

وإنّما خصّ بالذكر خصوص حالة فلق الحب والنّوى من بين سائر الحالات مع أنّه ستمر على الحبّ والنّوى حالات وتطرء عليهما مراحل مختلفة من النمو حتى يصير زرعاً أو شجراً وإنّما خصّ ذلك لأنّ لتلك الحالة من بين سائر الحالات أهمّية خاصّة تشبه بحالة خروج الطفل من بطن اُمّه بعد ما كان محبوساً فيها بين ظلمات ثلاث ، والحبّ والنّوى يمثّلان قلاعاً مستحكمة تحتفظ فيها المادة الحيوية للنباتات فاذا صارت الظروف مستعدّة لخروجها ونموّها وانتشارها ; تتحرك الحبّة بالتشقّق والتفتّح فتأخذ البذرة والنّوى مسيرها نحو التكامل.

وأمّا البحث حول الاية الثانية والثالثة الواردتين في هذه الآية المباركة أعني اخراج الحي من الميّت واخراج الميّت من الحي فقد ركّز القرآن على هذين العملين في غير مورد من الآيات.

يقول سبحانه : ( تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَتُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) ( آل عمران / 27 ).

وهاتان الآيتان من السنن العامّة الإلهية التي يركّز عليهما القرآن الكريم. والذي يناسب المقام هو أن يقال : إنّ المراد من خروج الحيّ من الميت هو اخراج البذر من نبات وشجر وهو حيّ متغذ نام ، من الميت أعني التراب وهو ما لا يتغذّى

ص: 373

ولا ينمو وبعبارة اُخرى خلق الأحياء من النبات والحيوان من الأرض العادمة الشعور والحياة.

كما أنّ المراد من قوله : ( وَمُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ ) هو عود الخلايا الحيوية إلى الموت بعد مدّة.

ويمكن أن يقال : إنّ المراد هو إخراج الحبّ والنوى من النبات ، فإنّ الحبّ والنوى حسب اللغة والعرف ليسا من الموجودات الحيّة وإن كانا حسب موازين العلوم الطبيعية حاويتين لموجودات صغيرة حيّة.

هذا إذا قمنا بتفسير الآية حسب السياق ويمكن أن يقال : المراد من اخراج الحي من الميّت ومقابله هو اخراج المؤمن من صلب الكافر ، وإخراج الكافر من صلب المؤمن فإنّه سبحانه سمّى الايمان حياة ونوراً ، والكفر موتاً وظلمة كما قال تعالى : ( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) ( الأنعام / 132 ).

الثالث والتسعون : « الفتّاح »

قد ورد « الفتّاح » في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه.

قال تعالى : ( قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ) ( سبأ / 26 ).

وأمّا معناه فقد قال ابن فارس : إنّه أصل يدلّ على خلاف الاغلاق ، يقال فتحت الباب وغيره فتحاً ثمّ يحمل على هذا سائر ما في هذا البناء فالفتح والفتاحة : الحكم ، واللّه تعالى الفاتح أي الحاكم ، قال الشاعر في الفتاحة :

ألا أبلغ بني عوف رسولاً *** بأنّي عن فتاحتكم غنيّ

ص: 374

والفتح : النصر والاظفار وقريب من ذلك في « المفردات » غير أنّه قسّم الفتح على قسمين : يدرك بالبصر كفتح الباب وقسم يدرك بالبصيرة كفتح الهمّ ، قال : « ويقال فتح القضية فتاحاً : فصل الأمر فيها وأزال الاغلاق ». قال تعالى : ( رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ) ( الأعراف / 89 ).

وعلى هذا ف « الفتّاح » من أسماء اللّه الحسنى وهو بمعنى الحاكم في الآية ، ويؤيّده ذكر العليم بعده ، ولا يراد منه الفاتح بمعنى المنتصر ، وإلاّ لكان المناسب أن يذكر بعده « العزيز » ، ويؤيّده صدر الآية : ( قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالحَقِّ ) فالآية تثبت البعث لتميز المحسن من المسيئ أوّلاً ثم القضاء بينهم بالحق وهو الحاكم العليم ، وبذلك يعلم أنّه « خير الفاتحين » أي خير الحاكمين ، لأنّ حكمه هو العدل والقسط ، وعلمه هو النافذ غير الخاطئ أبداً بخلاف حكم الآخرين فهم بين حاكم عادل أو جائر ، ومصيب أو مخطىء.

ص: 375

ص: 376

حرف القاف

الرابع والتسعون : « القائم على كل نفس بما كسبت »

وقد ورد هذا الاسم المركّب في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه.

قال تعالى : ( أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) ( الرعد / 33 ).

وأمّا معناه فقد ذكر ابن فارس ل « قوم » معنيين أحدهما : الجماعة والناس ، مثل « لا يَسخر قوم من قوم » والآخر الانتصاب قال : وقد يكون قام بمعنى العزيمة كما يقال قام بهذا الأمر إذا اعتنقه فهم يقولون في الأوّل قيام حتم ، وفي الآخر قيام عزم ، والظاهر أنّ المراد منه في الآية هو المهيمن المتسلّط على كل نفس ، المحيط بها ، والحافظ لأعمالها ، وبما أنّّّ الهيمنة على الشيء والمراقبة له يستلزم كون المراقِب قائماً منتصباً كي يسهل تسلّطه ومراقبته ، استعير القائم بمعنى المنتصب للهيمنة والتسلّط والإحاطة.

قال سبحانه في حقّ أهل الكتاب : ( وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ) ( آل عمران / 75 ).

وقال : ( وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ) ( المعارج / 33 ) أي الحافظون.

واللّه سبحانه في هذه الآية يندّد بالمشركين كيف يجعلون له ندّاً وشريكاً مع

ص: 377

أنّه سبحانه له الاحاطة على الأشياء والقهر عليها والشهود لها ، وهذا يقتضي أن لا يشاركه في الاُلوهيّة شيء.

وتقدير الآية : « أفمن هو قائم بالتدبير على كل نفس وحافظ على كل نفس أعمالها ليجازيها ، كمن هو ليس بهذه الصفات من الأصنام والأوثان ويؤيّد كون المعنى ذلك قوله : ( وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ ) .

الخامس والتسعون : « قابل التوب »

قد ورد في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه.

قال سبحانه : ( غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ المَصِيرُ ) ( غافر / 3 ).

وقد تبيّن معناه ممّا ذكرناه في تفسير « التوّاب ».

السادس والتسعون : « القادر »

قد ورد في الذكر الحكيم مفرداً سبع مرّات ووقع في جميع المواضع وصفاً له سبحانه.

قال تعالى : ( قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ( الأنعام / 37 ).

وقال تعالى : ( إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ) ( الطارق / 8 ).

وقال سبحانه : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) ( الاسراء / 99 ) (1) ، إلى غير ذلك من الآيات.

ص: 378


1- لاحظ يس / 81 ، الاحقاف / 33 ، القيامة / 40.

السابع والتسعون : « القدير »

اشارة

قد ورد لفظ القدير في الذكر الحكيم 45 مرّة ووقع في جميع المواضع وصفاً له سبحانه.

قال سبحانه : ( فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( البقرة / 284 ).

والعناية التامّة ظاهرة من القرآن على كون قدرته عامّة لكل شيء فقد ورد قوله سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) في 32 آية ، كما استعمل لفظ القدير مجرّداً تارة ومع « عليم » أخرى ، قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ) ( النحل / 70 ). و « عفوّ » ثالثاً قال سبحانه : ( فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ) ( النساء / 149 ).

والحق إنّ القدرة والعلم من أسمى صفاته سبحانه كما أنّ العالم والقادر من أظهر أسمائه سبحانه ، فلاعتب علينا لو بسطنا الكلام هنا كما بسطناه في اسم « العالم » و « العليم ».

وأمّا معناه فقد جعل « ابن فارس » : الأصل في معناه مبلغ الشيء وكنهه ونهايته ، فالقدر مبلغ كلّ شيء وقدّرت الشيء واُقدّره من التقدير ، ثمّ قال : وقدرة اللّه تعالى على خليقته : إيتاؤهم بالمبلغ الذي يشاؤه ويريده. ثمّ قال : « رجل ذو قدرة وذو مقدرة أي يسار ومعناه أنّه يبلغ بيساره وغنائه من الاُمور المبلغ الذي يوافق إرادته ، ولا يخفى أنّ جعل الأصل في القدرة هو مبلغ الشيء وكنهه ونهايته ، يعسِّر اشتقاق القدرة منه بمعنى الاستطاعة ، ولأجل ذلك أعرض الراغب عنه وفسّره بقوله : « القدرة إذا وصف به الإنسان فإسم لهيئة له بها يتمكن من فعل شيء ما ، وإذا وصف اللّه تعالى بها فهي نفي العجز عنه » ، وقال : محال أن يوصف غير اللّه بالقدرة المطلقة معنىً وإن اُطلق عليه لفظاً ، وقال : القدير هو الفاعل لما يشاء على قدر ما تقتضي الحكمة لا زائداً عليه ولا ناقصاً عنه ، ولذلك لا يصحّ أن يوصف به إلاّ اللّه تعالى.

ص: 379

ويمكن أن يقال : إنّ القدرة من التقدير وهو التحديد وتبيين كمّيّة الشيء ، وإشتقاق القدرة بمعنى الاستطاعة لأجل أنّ القدرة تلازم تحديد الشيء وتقدير كميّته ، ولعلّ هذا مراد ابن فارس من قوله : « مبلغ الشيء وكنهه ونهايته ».

ثمّ إنّ الراغب فسّر القدرة في حقّه سبحانه بنفي العجز ، وهذا مبنيّ على ارجاع الصفات الثبوتية إلى السلبيّة وهو منظور فيه ، وعلى كل تقدير فالمفهوم من القادر والقدير شيء واحد إلاّ انّ القدير أبلغ وآكد في الدلالة على القدرة.

تعريف القدرة

فسّر المتكلّمون القدرة بتعريفين :

1 - صحّة الفعل والترك ، فالقادر هو الذي يصحّ أن يفعل ويصح أن يترك.

2 - الفعل عند المشيئة والترك عند عدمها ، فالقادر من إن شاء فعل ، وإن شاء لم يفعل ، أو إن لم يشاء لم يفعل (1).

ولا يخفى انّ التعريفين يصدقان في حقّ الإنسان ، أمّا التعريف الأوّل فلأنّ صحّة الفعل والترك عبارة عن أمكانهما ، والامكان إمّا امكان ما هوى وهو عبارة عن كون الفاعل ذا ماهيّة يكون نسبة الفعل والترك إليها متساوية ، وإمّا امكان استعدادي وهو كون الفاعل ذا قّوة استعداديّة تخرج الشي من القوّة إلى الفعل كالاستعداد الموجود في البذر والنواة الذي يعطي صلاحيّة لهما بأن يكونا ذرعاً أو شجراً والامكان الاستعدادي من مظاهر المادة ، واللّه سبحانه منزّه عنها وعن شأبتها.

وأمّا التعريف الثاني فلأنّ قول القائل بأنّ القادر إن شاء فعل وإن شاء لم

ص: 380


1- اوائل المقالات : ص 12 ، كشف الفوائد للعلامة الحلي : ص 32 ، الاسفار : ج 6 ، ص 307 و 308 ، وقال ابن ميثم في « قواعد المرام في علم الكلام » : ص 82 عرّفها المعتزلة بأنها عبارة عن كون الفاعل بحيث إذا شاء فعل وإذا شاء لم يفعل.

يفعل ، يعرب عن عدم كفاية الذات في مقام الفاعليّة بل تحتاج إلى ضم ضميمة باسم المشيئة واللّه سبحانه تام في الوجود كما هو تام في الفاعليّة ، لا يحتاج في وجوده وفعله إلى شيء سواه ، فيجب في توصيفه سبحانه بالقدرة والاستطاعة ، تجريده عن شوب النقص والعيب.

ولعلّنا لا نقدر على تعريف قدرته بشكل جامع ومانع مناسب لذاته إلاّ أنّه يمكن القاء الضوء عليه بالتقسيم التالي.

إنّ نسبة الفعل إلى الفاعل لا تخلو عن أقسام ثلاثة :

1 - أن يكون ملازماً للفعل غير منفك عنه كالنار بالنسبة إلى الاحراق.

2 - أن يكون ملازماً لتركه فيكون ممتنعاً عليه كالنار بالنسبة إلى البرودة.

3 - أن يكون الفاعل غير مقيّد بواحد من النسبتين فلا يكون الفعل ممتنعاً عليه حتى يتقيّد المبدء بالترك ولا الترك ممتنعاً عليه حتى يتقيّد بالفعل ، فيعود الأمر في تعريف القادر إلى كونه مطلقاً غير مقيّد بشيء من الفعل والترك ، ولعلّ هذا التعريف أسهل وأتقن ما في الباب.

وقد قلنا غير مرّة : إنّ الهدف من توصيفه سبحانه بهذه الصفات الكماليّة هو اثبات الكمال على ذاته وتنزيهه عن النقص والعيب فلو كان في اجراء بعض الصفات بما لها من المفاهيم العرفيّة شيء ملازم لشوب النقص ، وجب تجريدها عنه ، وتمحيضها في الكمال المحض ، وقد تعرّفت في تفسير الحياة بأنّ ما ندركه من معناه من الموجودات الطبيعيّة يمتنع توصيفه سبحانه بها لاستلزامه كون الواجب موجوداً مادّياً قابلاً للفعل والانفعال ، بل يجب في اجراء الحياة عليه تجريده عن كل ما يلازم شوب النقص ووصمة الامكان.

ص: 381

دلائل قدرته سبحانه :
اشارة

استدلّ على قدرته سبحانه باُمور :

الأوّل : الفطرة

فكلّ إنسان يجد في قرارة نفسه وصميم ذاته ووجدانه ميلاً وانجذاباً إلى قدرة فائقة يستمدّ منها العون عند الشدائد ونزول المحن ، ويعتقد كونه قادراً على تخليصه ومساعدته وإمداده. إن وجود تلك الفطرة وذلك الانجذاب حاك عن وجود تلك القدرة المطلقة ، وإلاّ يلزم لغويّة وجودها في الإنسان ، وليس المراد منها التصوّر والتفكّر حتّى يقال إنّ الوهم لا يدلّ على وجود المتوهّم بل المراد هو الميل الباطن والانجذاب الذاتي من دون محرّك وحافز ، فكل إنسان عند ما يواجه المشاكل والشدائد يجد من أعماق نفسه أنّ هناك موجوداً قادراً عالماً بمشاكله وهو قادر على دفعها عنه.

نعم بعد ما ارتفعت الشدّة ، وهدأت الأوضاع ربّما يغفل عنها ، وهذا من خصائص الاُمور الفطرية حيث تتجلّى في ظروف خاصّة وتتضاءل في ظروف اُخرى.

قال سبحانه : ( قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ) ( الأنعام / 40 و 41 ).

فالفطرة كما تهدي إلى أصل وجود الصانع ، كذلك تهدي إلى صفاته.

الثاني : مطالعة النظام الكوني

إنّ مطالعة النظام الكوني بما فيه من دقيق وجليل ، وما فيه من دقة وروعة ، وجمال وبهاء واتقان واحكام ، تهدي أنّ فاعله وموجده قادر ، قام بفضل قدرته على ايجاد عالم بديع. وقد خدم العلم الحديث بتوضيح هذا الوصف خدمة عظيمة ، وكلّما تكاملت العلوم الطبيعية ازداد علم الإنسان بسعة قدرته سبحانه و

ص: 382

يقف على ما في هذا النظام من السنن والقوانين التي تحيّر العقول.

ويكفي في ذلك إذا لاحظنا النظام السائد على الكون بدءاً من السماء وما فيها من نجوم وكواكب وما فيها من منظومات ومجرّات ومروراً بالأرض ، وما فيها من عوالم كعالم الحيوان وعالم البحار وعالم النبات وعالم الحشرات ، وما فيها من بدائع الصنع ورائع الخلق. - فإذا لاحظنا - تتمثّل قدرته تعالى أمام أعيننا قدرة لا يمكن تحديدها ، وعلى ذلك فكما أنّ وجود كل ممكن يدلّ على وجود صانع له فكذا صفات المصنوع كاشفة عن صفات الصانع ، فالملحمة الشعرية كما تحكي عن وجود الشاعر ، تعرب عن مدى مقدرته الخياليّة وذوقه الخلاّق ، حيث استطاع بذوقه المتفوّق على التحليق في آفاق الخيال ، وسبك المعاني في قوالب الألفاظ الجميلة. فكتاب « القانون » لابن سينا في الطب و « الشفاء » له في الفلسفة ، و « الملحمة البطولية » للفردوسي تعكس قدرة المؤلّفين وإحاطتهم على الطبّ والفلسفة وخلق المفاهيم والمعاني في عالم الخيال.

يقول الإمام أمير المؤمنين في بعض خطبه :

« وأرانا من ملكوت قدرته وعجائب ما نطقت به آثار حكمته ... » (1).

الثالث : معطي الكمال لا يكون فاقداً له

ومن دلائل قدرته أن خلق الإنسان وخلق غيره من الأشياء وأعطى لكلّ موجود حرّ مختار قدرة يقتدر بها على ايجاد البدائع والغرائب من الأشياء ، ومعطي هذا الكمال ومفيضه لا يكون فاقداً له ، والذي أظن إنّ المقام غني عن إقامة البرهان ، إنّما الكلام في فروع هذا الوصف التي مهمّها عبارة عن سعة قدرته لكل شيء.

ص: 383


1- نهج البلاغة : الخطبة87 المعروف بخطبة الاشباح.
سعة قدرته لكلّ شيء

الكمال المطلق الذي ينجذب إليه الإنسان في بعض الحالات والأحايين ، يجب أن يكون قادراً على كل شيء ممكن ولا يتبادر إلى الأذهان أبداً - لولا تشكيك المشكّكين - انّ لقدرته حدوداً وانّه بالتالي قادر على شيء دون شيء ولكن الأبحاث الكلاميّة طرحت أسئلة في المقام وهي :

1 - هل هو سبحانه قادر على القبيح أو لا ؟

2 - هل هو قادر على خلاف معلومه أو لا ؟

3 - هل هو قادر على مثل مقدور العبد أو لا ؟

4 - هل هو قادر على عين مقدور العبد أو لا ؟

ولا تنحصر الأسئلة المطروحة في المقام فيما ذكر بل هناك أسئلة اُخرى ، فإليك بيانها :

5 - هل هو سبحانه قادر على خلق نظيره ؟

6 - هل هو سبحانه قادر على جعل الشيء الكبير في جوف الشيء الصغير ؟

7 - هل هو سبحانه قادر على خلق شيء لا يقدر على إفنائه أو تحريكه من جانب إلى جانب ؟

وهذه الأسئلة الثلاثة الأخيرة لا يختلف فيها أحد من المتكلّمين ولأجل ذلك لا يعدّ البحث فيها ملاكاً لوجود الخلاف ، وإليك البحث عن تاريخ المسألة وفاقاً وخلافاً فنقول :

لم يكن أحد من المسلمين مخالفاً في سعة قدرته أخذاً بالنصوص الواردة في الكتاب الحكيم ، إلى أن حدث الخلاف في عموم قدرته على اُمور أربعة :

الأمر الأول : قدرته على القبيح من جانب المتكلّم المعتزلي الشهير

ص: 384

« إبراهيم ابن سيّار » ( النظام ) (1) المتوفّى عام 231 فقد خالف فيها وقال بعدم قدرته على القبيح وإلاّ لصدر منه فيكون فاعله جاهلاً أو محتاجاً وهو محال ، فيكون الفعل محالاً فلا يقدر عليه (2).

الأمر الثاني : من جانب « عبّاد بن سليمان السيمري » حيث قال :

إنّ اللّه لا يقدر على خلاف معلومه. أي ما علم اللّه وقوعه ، وجب وقوعه وما علم عدمه ، يمتنع وقوعه ، إذ لو لم يقع ما علم وقوعه ، أو وقع ما علم عدمه ، لزم انقلاب علمه تعالى جهلاً ، وانقلاب علمه تعالى جهلاً محال (3).

الأمر الثالث : من جانب البلخي المتوفّى عام 319 حيث قال : لا يقدر على مثل مقدور عبده لأنّه طاعة أو سفه أو عبث ، والكل عليه محال (4).

الأمر الرابع : من جانب الجبّائيين : أبي علي وولده أبي هاشم (5).

فقال : لا يقدر على عين مقدور العبد وإلاّ لاجتمع قادران على مقدور واحد وهو محال ، وإلاّ لزم وقوعه نظراً إلى إرادة أحدهما ، وعدمه نظراً إلى كراهة الآخر ، فيكون واقعاً وغير واقع ، وهذا خلف (6).

ص: 385


1- راجع في ترجمة النظام : الملل والنحل للشهرستاني : ج 1 ، ص 53 - 54 ، والتبصير في الدين للاسفرايني : ص 70 ، والجزء الثالث من موسوعتنا « بحوث في الملل والنحل ».
2- نقله الفاضل السيوري في « ارشاد الطالبين » في شرح نهج المسترشدين : ص 187 ، و « العلامة » في كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ص 174.
3- اللوامع الإلهية : ص 119 ، ارشاد الطالبين الى نهج المسترشدين : ص 189 - 190.
4- اللوامع الإلهية : ص 119 ، ونهج المسترشدين : ص 191.
5- توفّي أبو علي الجبائي عام 303 كما توفّى ابنه أبو هاشم عام 321 ، وكانا من أقطاب المعتزلة.
6- اللوامع الإلهية : ص 119 ، وقواعد المرام في علم الكلام لابن ميثم البحراني : ص 96.

وربّما نسب إلى الحكماء القول بأنّه سبحانه لا يقدر على أكثر من الواحد وحكموا بأنّه لا يصدر عنه إلاّ شيء واحد (1).

هذه صورة تاريخيّة عن نشأة هذا الرأي أي تحديد قدرة اللّه ، ويبدو أنّ أكثر هؤلاء إمّا تأثّروا ببعض المناهج الفلسفيّة المترجمة ، كما أن بعضهم لم يدرك حقيقة القول بسعة قدرته ، وإذا شرحنا حقيقة المقال تقف على سقوط الآراء الثلاثة الأخيرة المنسوبة إلى السيمري والبلخي والجبائيين.

تحليل القول بعموم القدرة الإلهية

إنّ المقصود من عموم قدرته سبحانه هو سعتها لكل شيء ممكن ، بمعنى أنّه تعالى يقدر على خلق كل ما يكون ممكناً بذاته غير ممتنع كذلك ، وهذا الوصف العنواني رهن اُمور :

أوّلاً : أن لا يكون الشيء ممتنعاً بالذات مثل أن يكون من قبيل جعل الشيء الواحد متحرّكاً وساكناً في آن واحد وهو أمر ممتنع.

فإنّه لا شك في أنّ هذا الامتناع مانع من شمول القدرة لهذا المورد ونظائره.

ثانياً : أن لا يكون هناك مانع من نفوذ قدرته ، وشمولها وهذا لا يكون إلاّ بوجود قدرة مضاهيّة ، معارضة ، مانعة ، من نفوذها.

ثالثاً : أن لا تكون قدرة القادر محدودة ، مضيّقة في ذاتها.

وهذه الشرائط كلّها موجودة في حقّ الواجب.

أمّا الأول : فلأنّ المقصود من عموميّة قدرته تعالى هو شمولها لكل أمر ممكن ، دون الممتنع بالذات ، فلا تتعلّق القدرة الالهية بالممتنع ذاتياً ، وهو بالتالي

ص: 386


1- النسبة في غير محلّها ، وسيوافيك مرامهم.

خارج عن محيط البحث ، تخصّصاً لا تخصيصاً ، أي لا لقصور في الفاعل بل لقصور في المورد ونعني به الممتنع ذاتيا. والأمر القبيح ليس أمراً ممتنعاً بالذات ، بل ممتنع بالغير وحسب الحكمة.

وأمّا الثاني : فليس هناك شيء مانع من نفوذ القدرة الإلهية كي يزاحم تلك القدرة إلاّ إذا كان موجوداً ، وهذا الموجود إن كان واجب الوجوب مثله سبحانه فهو مرفوض بما ثبت من وحدة واجب الوجود ، وانتفاء نظير له وأنّه بالتالي ليس في صفحة الوجود واجب سواه ، وإن كان ممكناً مخلوقاً له سبحانه فهو مقهور له تعالى فكيف يزاحم قدرته ، وكيف يمنع من نفوذها ؟

وأمّا الثالث : وهو ضيق نطاق قدرته ، فهو مدفوع لما سيوافيك - أيضاً - من أنّ وجود اللّه تعالى غير محدود ، ولا متناه ، فهو وجود مطلق لا يحدّه شيء من الحدود العقليّة والخارحيّة وما هو غير متناه في وجوده ، غير متناه في قدرته (1) لما ثبت من عينيّة صفاته وجوداً وتحقّقاً مع ذاته.

والحاصل : انّ هذا البيان يعتمد على أمرين كل منهما ثابت ومحقق :

أوّلاً : ما سيوافيك من أنّ وجوده سبحانه غير محدود ولا متناه ، بمعنى أنّه لاتحدّه حدود عقليّة ولا خارجيّة.

ثانياً : سيوافيك أيضاً من أنّ صفاته تعالى عين ذاته ، لا أمر زائد على الذات.

ص: 387


1- وقد استدلّ بعض المحققين من علماء الكلام على عموميّة قدرته من طريق آخر فقال « العلاّمة الحلّي » في كشف الفوائد : ص 43 والدليل عليه ( أي على عموم قدرته ) انّه تعالى واجب الوجود دون غيره ، وكل ما عداه ممكن وكل ممكن محتاج إلى المؤثر ولابد أن ينتهي إلى الواجب. فعلّة الحاجة وهي الامكان ثابتة في الجميع، فتساوت نسبتها إليه سبحانه بالاحتياج لاستحالة الترجيح من غير مرجّح ، فيكون قادراً على الجميع ، وراجع كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ص 174 ، و « قواعد المرام » : ص 96 ، وارشاد الطالبين : ص 187.

وهذان الأمران ينتجان عدم تضيّق القدرة الإلهية ، فهو إذا كان - من حيث الوجود - مطلقاً غير متناه وكان الوصف عين الذات ونفسها ; كانت صفة القدرة هي الاُخرى مطلقة لا تعرف حدّاً ، ولا تقف عند نهاية.

وبهذه الصورة تثبت سعة قدرته تعالى وشمولها لكل شيء.

ولقد صرّحت النصوص الدينيّة - من كتاب وسنّة - بهذه الخصوصيّة في القدرة الالهية ، وأكدت بالتالي على عموميّتها ، وسعة دائرتها ، واطلاقها على غرار الذات ، وذلك كقوله سبحانه : ( وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ) ( الأحزاب / 27 ).

وقوله تعالى : ( وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا ) ( الكهف / 45 ).

وقوله تعالى : ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ) ( فاطر / 44 ).

وقوله تعالى : ( لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( التغابن / 1 ).

وقوله تعالى : ( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( الملك / 1 ).

وقال الإمام موسى بن جعفر علیهماالسلام : « والقادر الذي لا يعجز » (1).

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « الأشياء له سواء علماً وقدرة وسلطاناً وملكاً وإحاطة » (2).

ص: 388


1- توحيد الصدوق : ص 76.
2- توحيد الصدوق : ص 133.
حول الأقوال السابقة
اشارة

بعد أن عرفت أدلّة القائلين (1) بعموميّة القدرة الإلهيّة. حان الأوان لتقييم ما قاله بعض أئمّة المعتزلة وأقاموه لتحديد قدرته فنقول :

لقد عرفت في مفتتح البحث أنّ الذي جرّ النافين لعموميّة القدرة إلى مثل هذا الموقف الذي يضادّ الفطرة مضافاً إلى مضادّته للبراهين العقليّة القاطعة ، وما دلّ عليه الكتاب والسنّة من النصوص الصريحة هو الشبهات التي ألقاها البعض في هذا المجال.

1 - عدم قدرته على فعل القبيح

فلقد استدلّ « النظام » لعدم عموميّة قدرته تعالى بأنّه لا يقدر على القبيح وإلاّ لصدر عنه فيكون فاعلاً جاهلاً أو محتاجاً وهو محال فلا يكون قادراً على القبيح.

ونظنّ انّ « النظام » خلط موضع البحث بشيء آخر فإنّ البحث إنّما هو في عموم القدرة والاقتدار وانّه سبحانه قادر على كل شيء قبيحاً كان أو غيره ، أي أنّ القبيح وغيره عنه قدرته سواء أي كما أنّه سبحانه قادر على ارسال المطيع إلى الجنّة قادر على إدخاله في النار ، وليس هنا ما يعجزه عن ذلك.

إلاّ أنّه لمّا كان هذا العمل قبيحاً مخالفاً لعدله وقسطه لا يفعله سبحانه ، ولا يرتكبه لأنّ الدافع إلى ارتكاب القبيح امّا الجهل بالقبح ، أو الحاجة إلى العمل القبيح ، وكلاهما منفيّان عن ساحته المقدّسة ، فلا يصدر منه الفعل اختياراً لأنّ هذه الموجبات والدواعي منتفية لديه سبحانه لا أنّه غير قادر عليه أو عاجز عن فعله.

فكم فرق بين عدم القيام بشيء لعدم توفّر الداعي إليه ، وبين عدم القدرة عليها أصلا.

ص: 389


1- وهم كل علماء الامامية.

فالوالد المشفق قادر على ذبح ولده في مرأى ومسمع من الناس لكن الدواعي إلى هذا الفعل منتفية عنه ( لأنّه لا يصدر هذا العمل القبيح إلاّ من جاهل بالقبح أو محتاج إلى العمل القبيح ).

وبالجملة فهو خلط بين عدم فعله لذلك القبيح ، وعدم قدرته عليه من الأساس.

2 - عدم قدرته تعالى على خلاف معلومه

لقد ذهب « عبّاد بن سليمان السيمري » إلى عدم سعة قدرته قائلاً : إنّ ما علم اللّه تعالى بوقوعه يقع قطعاً ، فهو واجب الوقوع ، وما علم بعدم وقوعه لا يقع قطعاً فهو ممتنع الوقوع ، وما هو واجب أو ممتنع لا تتعلّق به القدرة ، إذ القدرة إنّما تتعلّق بشيء يصحّ وقوعه ولا وقوعه ، ويمكن فعله ولا فعله ، وما صار أحديّ التعلّق ( ذي حالة واحدة حتميّة ) لا يقع في إطار القدرة.

والجواب عن هذه الشبهة بوجهين :

أمّا أوّلاً : فلأنّه لو صحّ ما ذكر لزم أن لا تتعلّق قدرته بأي شيء مطلقاً ، لأنّ كلّ شيء إمّا أن يكون معلوم التحّقق في علمه سبحانه أو معلوم العدم.

فالأوّل : واجب التحقّق ، والثاني ممتنع التحقّق ، فيكون كل شيء متصوّر ، داخلاً في إطار أحد هذين الأمرين ، فيجب أن يمتنع توصيفه بالقدرة على شيء ما ، حتّى ما خلق فضلاً عمّا لم يخلق.

وثانياً : فإنّ القدرة تتعلّق بكل شيء ممكن في ذاته ، ولا تتعلّق بشيء واجب الوجود بذاته أو ممتنع الوجود كذلك ، ويكفي في تعلّق القدرة كون الشيء في حدّ الذات ممكناً متساوي الطرفين ، وكونه واجباً بالنسبة إلى علّته ، لا يخرجه عن حد الامكان كما أنّ كونه ممتنعاً بالنسبة إلى عدم علّته ، لا يخرجه عن ذلك الحدّ أيضاً.

ص: 390

يقول الحكيم السبزواري في هذه الحقيقة الأخيرة :

« الامكان عارض للماهيّة بتحليل من العقل حيث يلاحظها من حيث هي مقطوعة النظر عن اعتبار الوجود وعلّته والعدم وعلّته ، فيصفها بسلب الضرورتين وأمّا عند اعتبارهما فمحفوف بالضرورة والامتناع ، ولا منافاة بين لا اقتضاء من قبل ذات الممكن للوجود والعدم ، واقتضاء من قبل الغير للوجود أو العدم ». قال في منظومته :

عروض الامكان بتحليل وقع *** وهو مع الغيريّ من ذين اجتمع (1)

وعلى ذلك فمعلومه سبحانه وإن كان بين محقّق الوقوع ومحقّق العدم ، أي بين ضرورة الوجود بالنسبة إلى علّته وضرورة العدم بالنسبة إلى عدم علّته ، لكن هذه الضرورة الناشئة من ناحية علّته ، أو من ناحية عدم علّته ، لا يجعل الشيء واجباً بالذات أو ممتنعاً كذلك ، فهو حتى بعد لحوق الضرورة به من جانب علّته ، أو الامتناع من جانب عدم علّته موصوف بالامكان غير خارج عن حدّ الاستواء حسب الذات.

فابن عبّاد لم يفرق بين الواجب بالذات ، والواجب بالغير ، كما لم يفرّق بين الممتنع بالذات والممتنع بالغير ، فما هو المانع من تعلّق القدرة ، هو الوجوب والامتناع الذاتيان ، لا الوجوب والامتناع الغيريّان اللاحقان بالشيء من جانب وجود علّته ومن جانب عدم علّته.

ولو صحّ ما ذكره من الكلام وجب أن لا يوجد في العالم أي موجود موصوف بالقادريّة.

فإنّ كل متصوّر إمّا أن يكون في نفس الأمر محقّق الوجود لوجود علّته التامّة ، أو محقّق العدم لعدم تحقّق علّته التامّة.

ص: 391


1- المنظومة : قسم الفلسفة ، ص 69.

وإن شئت قلت : إنّ الممكن وإن كان مستوراً علينا وقوعه ولا وقوعه ، غير أنّه في نفس الأمر محقّق الوقوع لوجود علّته أو محقّق العدم لعدم وجود علّته ، وعدم علمنا بأحد الطرفين لا يضرّ بوجوب وجوده أو امتناعه وجوباً وامتناعاً عارضيّاً بالغير.

وكل شيء في صفحة الوجود لا يخلو عن أحد هذين الوصفين ، فيلزم أن لا يجوز توصيف شيء من الأشياء حتّى الإنسان بالقدرة لأنّه إذا قيس بفعل من الأفعال فهو في نفس الأمر امّا محقق الوقوع لوجود علّته التامّة ، أو ممتنع الوجود لعدم وجود علّته التامّة.

3 - عدم قدرته تعالى على مثل مقدور العبد

وممّن اختار عدم سعة قدرته ، المتكلّم المعروف بالكعبي إذ قال : « إنّ اللّه تعالى لا يقدر على مثل مقدور العبد لأنّه امّا طاعة أو معصية أو عبث وكلّها مستحيلة عليه تعالى ».

توضيحه : إنّ فعل الإنسان امّا طاعة أو معصية أو عبث ، لأنّه إمّا أن يقع لغرض أو لا ، والثاني عبث ، والأوّل امّا أن يقع موافقاً للأوامر الشرعيّة أو لا ، والأوّل طاعة والثاني معصية ، ففعل الإنسان لا يخلو عن أحد هذه الأوصاف الثلاثة ، فلو قدر اللّه على مثله لوصف فعله بالطاعة أو المعصية أو العبث ، والأوّلان يستلزمان أن يكون لله تعالى آمر ، وهو محال.

والأخير يدخل تحت عنوان القبيح المستحيل عليه فلا يقدر على مثل مقدور الإنسان ، وهو المطلوب.

ونقول في الجواب : لقد عزب عن « الكعبي » أنّ عدم قيامه بالقبيح ( العبث ) ليس لعدم قدرته عليه ، بل لأجل حكمته العالية الصارفة عن القيام به ، فعدم القيام بالشيء لأجل مخالفته لمشيئته الحكميّة ، لا يعد دليلاً على عدم قدرته ، وقد أوضحنا حاله.

ص: 392

وأمّا المثالان الأوّلان ( الطاعة والمعصية ) ، فالطاعة والمعصية ليستا من الاُمور الحقيقية القائمة بالشيء ، بل هما أمران ينتزعهما العقل من كون الفعل مطابقاً للمأمور به ، أو كونه مخالفاً له ومن نسبة الفعل إلى الأمر الصادر من المولى الواجب طاعته والمحرّم عصيانه.

وإن شئت قلت : ينتزع وصف الطاعة من مطابقة الفعل لأمر الآمر به ، والعصيان من مخالفة الفعل مخالفاً لذلك الأمر وليس هذان المفهومان من الاُمور الذاتية ، ولا من الأعراض الحقيقيّة.

فلا إشكال في قدرته سبحانه على مثل ما قام به العبد بما هو مثل ، أي أن يكون فاعلاً لمثل الفعل الذي يقوم به الإنسان من حيث الذات والهيئة.

وأمّا عدم اتّصاف فعله سبحانه حينئذ بوصف الطاعة والعصيان فلا يوجب عدم قدرته تعالى على مثل ما يأتي به الإنسان لأنّ الملاك في المثليّة هو واقعيّة الفعل وحقيقته الخارجيّة لا عنوانه الاعتباري ، ولا ما ينتزع من نسبة الشيء إلى الشيء ، فإنّ هذه الاُمور الانتزاعيّة أو الشيء المنتزع من النسبة غير داخلة في حقيقة الشيء.

وإلى ما ذكرنا ينظر كلام العلاّمة في شرح التجريد :

« إن الطاعة والعبث وصفان لا يقتضيان الاختلاف الذاتي » (1).

وإليك نقطة مهمّة يجب التنبيه عليها وهي :

إنّ هاهنا أفعالاً مباشريّة للإنسان كالصيام والقيام والأكل والشرب ، فإنّها

ص: 393


1- كشف المراد شرح التجريد للعلاّمة الحلّي : ص 174 طبعة صيدا ، والمراد لا يقتضيان الاختلاف الذاتي أي لا يوجب اختلافا في ماهيّة العمل لأنّهما خارجان عن حقيقتة وماهيّته ، لكونهما منتزعان من نسبة حاصلة من موافقة فعل العبد لأمر المولى في الطاعة ومخالفته في جانب المعصية.

أفعال تقوم بالفاعل المادي ، واللّه سبحانه مجرّد ومنزّه عن المادّيّة والجسمانيّة فعدم صدورها منه إنّما هو لأجل تنزّهه سبحانه من أن يقع محلاً للفعل والانفعال والحركة والحدوث.

ومع ذلك كلّه فالإنسان وما يأتي به من الأفعال المباشريّة إنّما هي باقتداره سبحانه وحوله وقوّته بحيث لو انقطع ما بين العبد وربّه من صلة ، وانقطع الفيض لصار الإنسان مع فعله خبراً بعد أثر.

وسيوافيك تفصيل ذلك في الشبهة التالية.

4 - عدم قدرته تعالى على عين مقدور العبد

ذهب الجبّائيّان إلى عدم سعة قدرته تعالى قائلين :

« إنّ اللّه تعالى لا يقدر على عين مقدور العبد ، وإلاّ لزم إجتماع النقيضين ، إذا أراده اللّه وكرهه العبد ، أو بالعكس.

بيان الملازمة أنّ المقدور من شأنه الوقوع عند داعي القادر عليه ، والبقاء على العدم عند وجود صارفه ، فلو كان مقدور واحد واقعاً من قادرين ، وفرضنا وجود داع لأحدهما ، ووجود صارف للآخر في وقت واحد ، لزم أن يوجد بالنظر إلى الداعي ، وأن يبقى معدوماً بالنظر إلى الصارف ، فيكون موجوداً غير موجود ، وهما متناقضان.

والجواب أوّلاً : إنّ الجبائيين لم يستوفيا كافة الشقوق الممتنعة في المقام ، فقد بقي هناك شق ثالث وهو أنّه : إذا تعلّقت إرادة كل واحد منهما على نفس ما تعلّقت به إرادة الآخر ، فإنّ ذلك يعني أن تجتمع العلّتان التامّتان على معلول واحد وهو محال.

والجواب عن الجميع : هو ما عرفت من أنّ القدرة إنّما تتعلّق بالممكن بما هو ممكن ، فإذا عرض له الامتناع فلا تتعلّق به القدرة ، وعدم تعلّق قدرته بالممتنع

ص: 394

لا يدلّ على عدم سعتها.

وما فرض في المقام من الصور - بغضّ النظر عمّا سنذكره - لا يثبت أكثر من أنّ صدور الفعل منه سبحانه في هذه الشرائط محال لاستلزامه اجتماع النقيضين ، أو إجتماع العلّتين التامّتين على معلول واحد ، وما هو محال خارج عن اطار القدرة ولا يطلق عليه عدم القدرة.

هذا كلّه نذكره مماشاةً مع علامتي المعتزلة وإلاّ فثمّة مناقشة في كلامهما ، إذ نقول : ماذا يريدان من قولهما : « عين مقدور العبد » ؟

هل يريدان منه الشيء قبل وجوده ، أو بعده ؟

فإن أرادا الشيء قبل وجوده فليس في هذا المقام عينيّة ولا تشخّص ، حتّى يقال : إنّه سبحانه قادر عليه أو لا ؟ إذ الشيء في هذه المرحلة لا يتجازو عن كونه مفهوما كليّاً ، يصلح أن يكون له مصاديق كثيرة.

وإن ارادا من « عين المقدور » الشيء بعد وقوعه فمن المعلوم أنّه لا تتعلّق به القدرة - في هذه الحالة - لأنّه من قبيل تحصيل الحاصل المحال ، وقد ذكرنا أنّ المحال خارج عن إطار القدرة.

وإن أرادا عدم تعلّق قدرته سبحانه مقارناً لتعلّق قدرة العبد فحكم هذا القسم هو نفس حكم الصورة الاُولى فإنّ المقدور بعد لم يتحقّق ، ولم يتشخّص حتى يقال بأنّه غير قادر على نفس مقدور العبد.

ثمّ إنّ ما ذكره العلاّمتان المعتزليّان ينبع عن القول بالثنويّة في باب تأثير المؤثّرات وفعل الفواعل حيث إنّ المعتزلة تصوّرت أنّ فعل العبد مخلوق لنفس العبد ، وليس مخلوقاً لله ، لا تسبيباً ولا مباشرة ، وانّ هناك فاعلين مستقلّين لكل مجاله الخاص فلفعله سبحانه وقدرته مجال ، ولفعل العبد مجال آخر ، وعند ذلك لا يمتّ مقدور العبد باللّه سبحانه بصلة.

ص: 395

غير أنّنا بيَّنا وهنَ هذه النظرية وأنّ الثنوية باطلة في عامّة المجالات وأنّه لا فاعل مستقلّ ولا مؤثّر في صفحة الوجود إلاّ « اللّه ».

فكل فاعل سواه سبحانه ، سواءً كان مختاراً أو غيره إنّما يؤثّر ويقوم بأفعاله بقدرته وحوله.

فعند ذلك يكون نفس مقدور العبد وفعله ، مقدوراً لله سبحانه ، وفعلاً له لكن لا فعلاً بالمباشرة ، بل فعلاً بالتسبيب.

وقد أوضحنا حال هذه المسألة في أبحاث التوحيد الخالقي.

سعة القدرة بمعنيين

ثمّ إنّ الكلام في سعة القدرة يطرح على وجهين :

الأوّل : ما عرفت مفهومه وأدلّته وأنّه قادر على كل شيء ممكن سواء صدر منه أو لم يصدر إذ من الممكن أن يكون الشيء ممكنا ولا يصدر عنه لحكمة خاصّة كصدور القبيح وغيره.

الثاني : وهو ما طرحه الحكماء في كتبهم ، ويغاير ما سبق ، وحاصله : إنّ الظواهر الكونية ، مجرّدها ومادّيها ، ذاتها وفعلها ، كلّها تنتهي إلى قدرته سبحانه ، فكما أنّه لا شريك له سبحانه في ذاته كذلك لا شريك له في الفاعليّة.

وكل ما هو موجود سواء كان جوهراً أو عرضاً ، مادّيّاً أو مجرّداً ، ذاتاً أو فعلاً فالجميع صادر عنه سبحانه على نحو الأسباب والمسبّبات ، فليس هناك موجود ممكن جوهراً كان أو عرضاً ، ذاتاً كان أو فعلاً لا يستند في تحقّقه ووجوده إليه سبحانه.

وهذا هو التوحيد الأفعالي الذي قدّمنا الكلام عنه عند البحث عن التوحيد ، وهذا المعنى هو الذي طرحه الحكماء في كتبهم الفلسفية.

ص: 396

وهذه المسألة في مقابل كلمات المعتزلة ومن حذى حذوهم من القائلين بأنّ اللّه تعالى أوجد العباد وأقدرهم على تلك الأفعال ، وفوّض إليهم الاُمور وهم مستقلّون بإيجاد تلك الأفعال على وفق مشيئتهم بحيث لا يمتّ فعل إنسان إليه سبحانه بصلة بنحو من الأنحاء.

ولا يخفى أنّ هذا الكلام وإن كان وجيهاً عند القائلين بالاختيار ولكنّه يستلزم الشرك في الفاعليّة وهو مستلزم لاثبات الشريك لله في الحقيقة.

ومن جعل أبناء البشر كلّهم خالقين لأفعالهم مستقلّين في ايجادها ، أتى بما هو أشنع ممّن ذهب إلى جعل الأصنام والأوثان والكواكب شفعاء عند اللّه لأنّه جعل لله شركاء بعدد الفاعلين.

هذا وبما أنّنا قد استوفينا الكلام في هذه المسألة في مسفوراتنا الكلامية (1) ، فإنّنا نقتصر على ما ذكرناه هنا.

فتلخص : إنّ لسعة القدرة اصطلاحين :

الأوّل يناسب الأبحاث الكلامية ، والثاني يناسب الأبحاث الفلسفية ، والمخالف في القسم الثاني هم المعتزلة ، والخلاف ينبع من الاعتقاد بالعدل في اللّه سبحانه ، ومن التصوّر بأنّ نسبة أفعال العباد إلى اللّه سبحانه تخالف عدله.

بينما لا تنبع المسألة الاُولى من موقف كلامي معيّن وإن كان المخالف فيها بعض المعتزلة لكن الخلاف لا ينبع عن اُصول الاعتزال بخلاف الثانية ، وإن كان بين المسألة صلة وارتباط.

ص: 397


1- الالهيات : ج 1 ، ص 139 - 150.
أسئلة وأجوبتها

ثمّ إنّ القائلين بعموميّة القدرة الإلهية واجهوا أسئلة واشكالات اُخرى طرحها المنكرون لعموميّة القدرة ، واعتمدوا عليها في نفي ذلك وقد تعرّفت على اصولها في صدر البحث :

وهذه الأسئلة هي :

1 - هل يقدر سبحانه على خلق نظيره ؟

فلو اُجيب عن السؤال بالإيجاب لزم ذلك صحّة إفتراض الشريك لله سبحانه وامكان وجوده.

ولو اُجيب بالنفي والإنكار لزم ضيق قدرته وعدم عموميّتها وشمولها لكل شيء كما هو المدعى.

2 - هل هو قادر على أن يجعل الشيء الكبير في داخل الشيء الصغير كأن يجعل العالم الفسيح في البيضة من دون أن يصغر حجم العالم ، أو تكبر البيضة ؟

فلو اُجيب بنعم ، دفعه العقل ورفضه إذ لا يتصوّر أن يكون المظروف أكبر من الظرف.

ولو أجيب بلا ، ثبت عدم عموميّة قدرته سبحانه.

3 - هل يمكنه سبحانه أن يوجد شيئاً لا يقدر على إفنائه ؟

فإن قلنا : نعم ، لزم من ذلك نفي قدرته ، لأنّنا أثبتنا قدرته سبحانه على خلق ما لا يقدر على إفنائه.

وإن قلنا : لا ، استلزم ذلك نفي عموميّة قدرته.

وبهذا استلزم الجواب على كلا النحوين انتفاء عموميّة قدرته وتحديدها.

إنّ الاجابة عن هذه الأسئلة على وجهين : إجمالي وتفصيلي.

أمّا الجواب الإجمالي فهو أنّ القدرة مهما بلغت من السعة فإنّها لا تتعلّق إلاّ

ص: 398

بما كان ممكناً بالذات ، أي كان قابلاً للوجود والتحقّق ، وأمّا الخارج عن اطار الإمكان أي الذي يكون بذاته غير ممكن لا يقبل الوجود ، فهو خارج عن نطاق القدرة.

وبعبارة أخرى : إذا لاحظنا الأشياء وجدناها على نوعين :

الأوّل : ما يقبل أن يتلبّس بلباس الوجود ويتحقّق في الواقع الخارجي بسبب قدرة الفاعل.

الثاني : ما إذا لاحظناه في عقلنا ، نجد أنّه لا يتحقّق ولا يقبل الوجود مهما بلغت القدرة من السعة والعظمة ، ومهما بلغ الفاعل من القوّة والقدرة.

ولتوضيح ذلك نأتي بالمثال التالي فنقول :

إذا طلبنا من الخيّاط أو الرسّام أن يخيط الأوّل لنا ثوباً من الآجر ، أو أن يرسم الثاني لنا صورة جميلة لطاووس على صفحة الماء الجاري ، رفضا ذلك لاستحالة خياطة ثوب من الآجر ، ورسم صورة شيء على صفحة الماء الجاري.

فرفض الخيّاط والرسام لهذا الاقتراح ليس لأجل قصورهما وعجزهما ، بل لاستحالة تحقّق خياطة الثوب من الآجر ، والنقش على صفحة الماء الجاري ، فهو بالتالي قصور في جانب القابل ، لا عجز في ناحية الفاعل.

إنّ الآجر لا يمتلك قابلية صيرورته لباساً ، كما أنّ الماء الجاري لا يمتلك هو الآخر قابلية أن يصبح محلاًّ للرسم والنقش.

هكذا كل ما لا يقبل الوجود بذاته ، فإنّ عدم تعلّق القدرة بها ليس من جهة عجز القادر عن إيجادها ، بل من جهة أنّه غير قابل للايجاد ، وغير ممكن التحقّق بذاته.

وهذا نظير ما إذا طلبنا من رئيس مصنع لتوليد الكهرباء أن يجعل مصباحاً واحداً مشتعلاً ومنطفئاً في آن واحد ، فيرفض ذلك الشخص تحقيق هذا المطلب

ص: 399

لا لقصور في مصنعه أو في هندسته ، بل لأنّ المقترح لا يمكن - بذاته - أن يتحقّق.

كما أنّ ذلك نظير ما إذا طلبنا من عالم رياضيّ ماهر أن يجعل نتيجة 2×2 أربعة وخمسة في آن واحد ، فيرفض تحقيق ذلك المطلب لا لقصور في مقدرته الرياضية والحسابية ، بل لاستحالة تحقّق هذا المطلب المقترح في حدّ ذاته.

وبهذا يظهر أنّ سعة القدرة وعموميّتها تشمل جميع الممكنات ، والاُمور القابلة بذاتها للايجاد ، وبالتالي فإنّ كل ما هو ممكن التحقّق والوجود بذاته ، يقع في نطاق القدرة الإلهية دون ما لا يمكن تحقّقه ووجوده بذاته ، وهذا بخلاف غيره تعالى فإنّ قدرته قاصرة حتّى بالنسبة إلى كثير من الاُمور والموارد الممكنة.

بينما هو سبحانه قادر على ايجاد المجرّات العظيمة ، وعلى خلق السموات العلى ، ولكن غيره لا يقدر على أقلّ من ذلك مع كونه أمراً ممكناً بالذات.

فيستنتج من ذلك أنّ كلّ ما هو محال ذاتي لا يقع في نطاق القدرة لا لعدم سعتها بل لعدم قابلية هذا النوع من الأشياء للايجاد.

وعلى هذا الأساس لا ينحصر ما قلناه في ما ورد ذكره في هذه الأسئلة ، بل يعم كل ما كان من هذا القبيل ، أي كان من المحال الذاتي.

وبهذا يستطيع القارئ أن يقف على حل جميع الأسئلة المطروحة هنا.

فإنّ الجواب في الجميع هو النفي لا لعدم سعة قدرته سبحانه بل لعدم امكانها أساساً فإنّ جميع هذه الموارد مستلزمة للمحال أو هو بنفسه أمر محال ، ومع ذلك نوقف القارئ على الجواب لكل واحد من الأسئلة المطروحة.

الجواب التفصيلي عن الأسئلة الثلاثة :

أمّا الأوّل أعني قدرته على خلق مثله فالجواب عنه : إنّ خلق المثل لا يقع في اطار القدرة لا لقصور فيها بل لكون وجود المثل لله محالاً بذاته كما أوضحناه في

ص: 400

بحث التوحيد الذاتي.

وبعبارة اُخرى : إنّ مطالبة اللّه سبحانه بأن يخلق مثله مطالبة للجمع بين حالات وصفات متضادّة ومتناقضة غير ممكنة الإجتماع في شيء واحد.

فبما أنّنا نفترض إمكان تعلّق القدرة به يجب أن يكون ممكناً لا واجباً ، حادثاً لا قديماً ، وعلى فرض الوجود متناهياً لا غيره.

وبما أنّ المطلوب هو خلق مثله يجب أن يكون - على فرض الوجود - واجباً لا ممكناً ، قديماً لا حادثاً ، غير متناه لا متناه.

وهذا جمع بين الامكان والوجوب والحدوث والقدم ، والمخلوقيّة والخالقيّة ، والتناهي واللاتناهي في شيء واحد ، وهو أمر محال قطعاً.

وبذلك تتبيّن الإجابة عن السؤال الثاني فإنّ عدم تعلّق القدرة بجعل العالم الفسيح العظيم الحجم في بطن البيضة الصغيرة ليس لقصور القدرة ، وعدم سعتها ، بل لأنّ المقترح أمر غير ممكن في حدّ ذاته ، ومستلزم للمحال ، إذ من جانب أنّ العقل يحكم بالبداهة بأنّ الظرف يجب أن يكون أكبر من مظروفه ، والمظروف أصغر من ظرفه ، ومن جانب آخر نطلب منه سبحانه شيئاً يكون الظرف فيه أصغر من مظروفه.

فعلى فرض التحقّق يلزم أن يكون شيء واحد في آن واحد بالنسبة إلى شيء واحد أصغر وأكبر وهو الجمع بين النقيضين ، الممتنع بالبداهة.

أمّا السؤال الثالث : فهو أيضاً محال أو مستلزم للمحال ، ففرض خلقه سبحانه شيئا لا يقدر على إفنائه فرض يستلزم المحال.

فبما أنّ الشيء المذكور أمر ممكن فهو قابل للافناء ولكنّه حيث قيّد بعدم الفناء يجب أن يكون واجباً غير قابل للفناء ، وهذا يعني أن يجتمع في ذلك الشيء حالتان متناقضتان هما : الإمكان والوجوب ، وإن شئت قلت : القابلية للفناء وعدم

ص: 401

القابلية له ، وهو محال.

وبعبارة اُخرى : بما أنّ الشيء المذكور في السؤال المفروض فيه أنّه مخلوق لله سبحانه يجب أن يكون قادراً على إفنائه مع انّا قيّدناه بعدم القابلية للفناء ، فيلزم أن نفترض كونه قابلاً للافناء وغير قابل له في آن واحد.

وممّا ذكرناه هنا يتبيّن حال كل مورد من هذا القبيل مثل أن يخلق اللّه جسماً لا يقدر على تحريكه ، فإنّ هذا من باب « الجمع بين المتناقضين » إذ بما أنّ ذلك الجسم مخلوق متناه يجب أن يكون قابلاً للتحريك ، وفي الوقت نفسه نفترض أنّه غير قادر على تحريكه.

فيكون السائل في هذا السؤال قد افترض إمكان تحريكه وعدمه ، وافترض كذلك قدرته وعدم قدرته على ذلك.

وعلى الجملة فهذه الفروض وأمثالها ممّا تدور على الألسن لا تضرّ بعموم القدرة ، ولا توجب تحديداً فيها بل المفروض في كل من هذه الأسئلة أمر محال ذاتاً وهو خارج عن محل البحث.

الثامن والتسعون : « القاهر »

وقد جاء القاهر في الذكر الحكيم مرّتين ووقع وصفاً له سبحانه في كلا الموردين.

قال سبحانه : ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ) ( الأنعام / 18 ).

وقال سبحانه : ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ) ( الأنعام / 61 ).

ص: 402

التاسع والتسعون : « القهّار »

وقد ورد في القرآن في موارد ستّة ووقع اسماً له سبحانه فيها وقورن مع اسم « الواحد ».

وقال سبحانه : ( أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( يوسف / 39 ).

وقال سبحانه : ( قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( الرعد / 16 ).

وقال سبحانه : ( وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) ( إبراهيم / 48 ).

وقال سبحانه : ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( سورة ص / 65 ).

وقال سبحانه : ( هُوَ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( الزمر / 4 ).

وقال سبحانه : ( لِمَنِ المُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) ( غافر / 16 ).

وبما أنّ الاسمين مشتقّان من مادة واحدة نبحث عنهما في مقام واحد فنقول : « القاهر » و « القهّار » من القهر.

قال ابن فارس : « القهر » يدل على غلبة وعلوّ ، والقاهر : الغالب ، وقُهر ( بصيغة المجهول ) إذا غُلب ، وقال الراغب : القهر : الغلبة والتذليل معاً ويستعمل في كل واحد منهما.

قال عزّ وجلّ : ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ) أي لا تذلّل ، والظاهر أنّ الذلّة تلازم الغلبة فهي مفهوم إضافي قائم بالغالب والمغلوب والقاهر والمقهور.

قال الصدوق : « القدير » و « القاهر » معناهما أنّ الأشياء لا تطبيق الامتناع منه وممّا يريد الانفاذ فيها (1).

ص: 403


1- التوحيد للصدوق : ص 198.

قال العلاّمة الطباطبائي : « القهر نوع من الغلبة وهو أن يظهر شيء على شيء فيضطرّه إلى مطاوعة أثر من الغالب يخالف ما للمغلوب من الأثر كغلبة الماء على النار فيقهرها على الخمود.

فالقاهر من الأسماء التي تصدق عليه تعالى كما تصدق على غيره ، غير أنّ بين قهره تعالى وقهر غيره فرقاً وهو أنّ غيره تعالى من الأشياء انّما يقهر بعضه بعضاً وهما مجتمعان في مرتبة وجودها ، والماء والنار مثلاً موجودان طبيعيان يظهر أثر الأوّل في الثاني ، واللّه سبحانه قاهر لا كقهر الماء على النار بل هو قاهر بالتفوّق والإحاطة على الاطلاق ، فهو تعالى قاهر على عباده لكنّه فوقهم لا كقهر شيء شيئاً وهما متزاملان ، وقد جاء ذلك الاسم في كلا الموضعين في ( سورة الانعام / 16 - 61 ) مقترناً بقوله « فوق عباده » والغالب في موارد استعمال القهر هو أن يكون المغلوب من اُولي العقل بخلاف الغلبة » (1).

لأجل ذلك صدَّر الآية الاُولى بقوله سبحانه : ( وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( الأنعام / 17 ).

كما أنّه سبحانه يقول : في ذيل الآية الاُخرى : ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ) ( الأنعام / 61 ).

وإنّ استسلام الإنسان للخير والضرّ والموت آية كونه قاهراً على العباد.

ثمّ إنّه قال سبحانه : ( الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ) ولم يقل « القاهر عباده » وسيوافيك وجهه. ومن عجيب القول استدلال الحنابلة بهذه الآيات على أنّ لله جهة وهي الفوقيّة الذاتية ، مع أنّ الملاك في كون الشيء قاهراً والشيء الآخر مقهوراً وذليلاً هو قهّاريّته وقدرته الواسعة ، لا كونه واقعاً في أفق عال من حيث الحسّ والجهة ،

ص: 404


1- الميزان : ج 7 ، ص 33 - 34 بتلخيص منّا.

والفوقيّة في الآية نظير ما في سائر الآيات مثل قوله : ( وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) ( آل عمران / 55 ).

قال : ( سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) ( الأعراف / 127 ). غير أنّ الفوقيّة فيهما معنوية اعتبارية ، والفوقية في المقام تكوينيّة نابعة من كون أحدهما علّة والآخر معلولاً.

ولعلّ استعمال القاهر مع فوق في كلتا الآيتين لأجل الاشارة إلى أنّ القاهر والمقهور ليسا في درجة من الوجود ، بل القاهر فوق المقهور في الوجود والكينونة ، وهو المالك للمقهور ، لما للقاهر من وجود وخصوصيّة ، فالقهر ينبع من كون أحدهما مالكاً والآخر مملوكاً ، ملكية ناشئة من الخلق والإيجاد ، لا الوضع والاعتبار.

والظاهر أنّ « القهّار » صيغة مبالغة من « القاهر » والفرق بينهما هو الفارق بين اسم الفاعل وصيغة المبالغة وربّما يقال : إنّ القهّار اسم له تعالى باعتبار ذاتيّة غلبته على خلقه واستيلائه على جميع الموجودات ، والقاهر اسم له تعالى باعتبار إعمال تلك الصفة في عالم الفعل (1).

ولم يعلم وجه هذا الفرق. قال أمير المؤمنين علیه السلام : « يا من توحّد بالعزّ والبقاء وقهر عباده بالموت والفناء » (2).

وأمّا حظ العبد من هذا الاسم فالقهَّار من العباد من قهر أعدائه ، وأعدى عدوّه نفسه التي بين جنبيه فإذا قهر شهوته وغضبه فقد قهر أعدائه ، وفي ذلك إحياء لروحه (3).

ص: 405


1- شرح الأسماء الحسنى للسيد حسين الهمداني : ص 86.
2- دعاء الصباح.
3- لوامع البينات للرازي : ص 223.

المائة : « القدّوس »

وقد جاء القدُّوس في الذكر الحكيم مرّتين ووقع وصفاً له سبحانه في كلا الموردين.

قال سبحانه : ( سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) ( الحشر / 23 ).

وقال سبحانه : ( يُسَبِّحُ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ المَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الحَكِيمِ ) ( الجمعة / 1 ).

كما أنّه جاء المقدَّس مذكّراً ومؤنّثاً في موارد ثلاثة ووقع وصفاً للوادي والأرض.

قال سبحانه : ( إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى ) ( النازعات / 16 ).

وقال سبحانه : ( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى ) ( طه / 12 ).

وقال سبحانه : ( يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ ) ( المائدة / 21 ). ومن ملاحظة مجموع الآيات ، يعرف معناه.

وهو كما قال ابن فارس : شيء يدلّ على الطهر ، والأرض المقدّسة المطهّرة ، وتسمّى الجنّة حظيرة القدس ، وجبرئيل « روح القدس » ووصف اللّه تعالى ذاته بالقدّوس بذلك المعنى لأنّه منزّه عن الأضداد والأنداد والصاحبة والولد. تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً.

فالظاهر ممّا ورد من هذه المادة في القرآن الكريم هو الطهارة من القذارة المعنويّة والنزاهة عمّا لا يناسب ساحة الشيء. قال حكاية عن الملائكة : ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) ( البقرة / 30 ). والظاهر أنّ التسبيح والتقديس في الآية بمعنى واحد ، وهو تنزيهه عن الشرك والمثل ، وكل ما يعدّ نقصاً.

وهناك نكتة لافتة للنظر وهو أنّ اسم القُدُّوس ورد بعد إسم الملك في الآيتين

ص: 406

ولعلّه لبيان أنّ كونه تعالى ملكاً يفارق كون غيره ملكاً ، فالملوكيّة جُبِلت على الظلم والتعدّي والإفساد.

قال سبحانه : ( إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ) ( النمل / 34 ).

وقال سبحانه : ( وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ) ( الكهف / 79 ).

فذكره مع اسم « القدُّوس » لتبيين نزاهته من كل ما ينسب إلى الملوك من الأفعال والصفات ، ثمّ إنّ اسم القدُّوس يدلّ على تعاليه عن كل ما لا يناسب ساحته فيندرج تحته الصفات السلبية التي ذكرها المتكلّمون في كتبهم وهي :

1 - واحد ليس له نظير ولا مثيل.

2 - ليس بجسم ولا في جهة ولا في محلّ ولا حالّ ومتحد.

3 - ليس محلاً للحوادث.

4 - لا تقوم اللَّذة والألم بذاته.

5 - لا تتعلّق به الرؤية.

6 - ليست حقيقته معلومة لغيره بكنهه وبالتالي ليس جوهراً ولا عرضاً.

وقد برهن المتكلّمون على نفي هذه الصفات عن ساحته ببراهين رصينة من أراد فليرجع إليها (1).

ص: 407


1- لاحظ « الالهيات » : ص 453 - 487 محاضراتنا بقلم الفاضل الشيخ حسن مكي العاملي.

المائة والواحد : « القريب »

وقد استعمل القريب مرفوعاً ومنصوباً في الذكر الحكيم 26 مّرة ووقع وصفاً له سبحانه في موارد ثلاثة.

قال سبحانه : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) ( البقرة / 186 ).

وقال سبحانه : ( فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ ) ( هود / 61 ).

وقال سبحانه : ( وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ) ( سبأ / 50 ).

ولأجل المناسبة بين قربه سبحانه وسماع دعاء العبد ضمّ إليه وصف المجيب تارة والسميع اُخرى وقد مرّ تفسير ذلك الاسم عند البحث عن اسم « الأقرب » فلاحظ.

المائة والثاني : « القويّ »

وقد جاء لفظ « القويّ » في الذكر الحكيم معرّفاً ومنكراً 11 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في 8 موارد.

قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( الأنفال / 52 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ) ( هود / 66 ).

وقال سبحانه : ( وَلَيَنصُرَنَّ اللّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) ( الحج / 40 ).

إلى غير ذلك من الآيات (1).

وقد استعمل تارة مع اسم « العزيز » واُخرى مع « شديد العقاب ».

ص: 408


1- لاحظ ( غافر / 22 ) ، ( الشورى / 19 ) ، ( الحديد / 25 ) ، ( المجادلة / 21 ) ، ( الاحزاب / 25 ).

وأمّا معناه فقد ذكر ابن فارس له معنيان فقال : « يدل أحدهما على شدّة وخلاف ضعف ، والآخر على خلاف هذا وعلى قلّة خير ، فالأوّل القوّة والقوي خلاف الضعيف » (1).

وقال الراغب : القوّة تستعمل تارة في معنى القدرة نحو قوله : ( خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ ) وتارة للتهيّؤ الموجود في الشيء نحو أن يقال : النوى بالقوّة نخل أي متهيّئ ومترشح أن يكون منه ذلك.

الظاهر أنّ القوّة لا ترادف القدرة المطلقة بل المراد هو المرتبة الشديدة ، سواء أريد منه القوّة البدنيّة نحو قوله : ( وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ) أو القدرة القلبية مثل قوله ( يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ) أي بقوّة قلب ، أو القوّة الخارجيّة ، مثل قوله ( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً ) .

والمراد المال والجند وقال : ( نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ ) ، وعلى هذا يعود معنى القوّة إلى القدرة التامّة التي لا يعارضها شيء ، ولأجل ذلك قورن مع « شديد » تارة و « العزيز » اُخرى ، فمعنى قوله : ( قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) : انّه سبحانه قويّ لا يضعف عن أخذهم ، شديد العقاب إذا أخذ.

قال الصدوق : « القويّ معناه معروف وهو القويّ بلا معاناة ولا استعانة » (2).

قال الرازي : « اتّفق الخائضون في تفسير أسماء اللّه على أنّ القوّة هنا عبارة عن كمال القوّة ، كما أنّ المتانة عبارة عن كمال القوّة فعلى هذا ، « القوّة المتينة » اسم للقدرة البالغة في الكمال إلى أقصى الغايات ».

ثمّ قال : « وعندي أنّ كمال حال الشيء في أن يؤثّر ، فيسمّى قوّة وكمال حال

ص: 409


1- الأصل نادر الاستعمال.
2- التوحيد : ص 210.

الشيء أن لا يقبل الأثر من الغير فيسمّى أيضاً قوّة ، وذلك لأنّ الإنسان الذي يقوى على أن يصرع الناس يسمّى قويّاً شديداً والإنسان الذي لا ينصرع من أحد يسمّى أيضاً قوياً ، وبهذا التفسير يسمّى الحجر والحديد قويّاً » (1).

أقول : الظاهر أنّ ما ذكره من التفصيل للقوّة تحليل فلسفي ، والمتبادر من القوّة هو القدرة التامّة. نعم لازم كونه كذلك أن يكون مؤثّراً في الممكنات ، وأن لا يؤثّر فيه شيء ، لأنّ التأثّر من الغير آية الضعف ، فهو المؤثّر في كل شيء ، ولا يتأثّر من كل شيء ، والظاهر أنّ اطلاق القويّ على اللّه في الآيات بالاعتبار الأوّل.

يقول سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ ) ( الذاريات / 58 ).

ويقول سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( الأنفال / 52 ).

فإنّ شدّة العقاب آية التأثير في الغير وقال : ( وَكَفَى اللّهُ المُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ) ( الأحزاب / 25 ). فالغلبة في القتال آية القوّة. المائة والثالث : « القيُّوم »

قدورد لفظ « القيّوم » في الكتاب العزيز 3 مرّات ووقع وصفاً له سبحانه في جميع الموارد.

قال سبحانه : ( اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ) ( البقرة / 255 ).

وقال : ( اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ ) ( آل عمران / 2 و 3 ).

ص: 410


1- لوامع البينات : ص 294.

وقال سبحانه : ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ) ( طه / 111 ).

وأمّا معناه فقد قال الراغب : « القيّوم » القائم الحافظ لكل شيء والمعطي له ما به قوامه ، وذلك هو المعنى المذكور في قوله : ( الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) ( طه / 50 ).

ففي قوله : ( أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ) ( الرعد / 33 ).

قال الصدوق : « القيّوم » و « القيّام » هما فيعول وفيعال من قمت بالشيء ، إذا ولّيته بنفسك وتولّيت حفظه وإصلاحه وتقديره.

وفسّر الرازي كونه قيّوماً ب « قيام الممكنات بأسرها به ، فهو قائم بالذات وغيره قائم بالغير ».

قال العلاّمة الطباطبائي : « القيّوم من القيام ، وصف يدل على المبالغة ، والقيام هو حفظ الشيء ، وفعله ، وتدبيره ، وتربيته ، والمراقبة عليه ، والقدرة عليه ، كلّ ذلك مأخوذ من القيام بمعنى الانتصاب ، للملازمة العاديّة بين الامتثال وهذه الاُمور ، وقد أثبت اللّه تعالى أصل القيام - باُمور خلقه - لنفسه ».

قال سبحانه : ( أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ) .

وقال سبحانه : ( شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( آل عمران / 18 ).

فأفاد أنّه قائم على الموجودات بالعدل ، فلا يعطي ولا يمنع شيئاً إلاّ بالعدل باعطاء كل شيء ما يستحقّه ، وإنّ القيام بالعدل مقتضى اسميه الكريمين ، فبعزّته يقوم على كل شيء ، وبحكمته يعدل.

وبعبارة اُخرى لمّا كان تعالى هو المبدئ الذي يبتدئ منه وجود كل شيء

ص: 411

وأوصافه وآثاره ، ولا مبدئ سواه ، إلاّ وهو ينتهي إليه ، فهو القائم على كل شيء من كل جهة ، القيام الذي لا يشوبه فتور وخلل ، وليس ذلك لغيره قط إلاّ بإذنه ومشيئته (1).

ثمّ إنّ كونه سبحانه قيّوماً وقائماً بكل شيء لا ينافي كون الموجودات الامكانية ذا آثار وخصائص وأفعال وأعمال تنسب إليها على وجه الاضطرار كالحرارة إلى النار أو على وجه الاختيار كالافعال الاختيارية للإنسان ، فإنّ قيام هذه الاُمور بآثارها وأفعالها ليس بنفسها وإنّما هي آثار لها باذنه سبحانه ومشيئته ، وقد ذكرنا غير مرّة أنّ نسبة الوجودات الإمكانية إلى الواجب ، نسبة المعاني الحرفيّة إلى الاسميّة ، فلو غضّ النظر عن المعنى الاسمي فلا يبقى لها أثر في الذهن والخارج.

وبذلك يظهر أنّ اسم « القيّوم » اُمّ الأسماء الإضافية الثابتة له تعالى جميعاً والمراد منها الأسماء التي تدلّ على معان خارجة عن الذات كالخالق والرازق والمبدئ والمعيد والمحيي والمميت والغفور والرحيم والودود وغيرها.

وبعبارة اُخرى : إنّما هو اُمّ لصفاته الفعلية جميعاً.

ويقول الرازي : إنّ قوله الحي القيّوم كالينبوع لجميع مباحث العلم الالهي ولعلّه يشير بذلك إلى أنّ قيام الممكنات به يستلزم حضورها عنده ، وحضورها لديه يستلزم علمه به كما يستلزم تدبيره و ...

ص: 412


1- الميزان : ج 2 ، ص 330.

حرف الكاف

المائة والرابع : « الكافي »

قد ورد في الذكر الحكيم مرّة ووقع وصفاً له سبحانه.

قال تعالى : ( أَلَيْسَ اللّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) ( الزمر / 36 ).

أمّا معناه ، فقال ابن فارس : يدل على « الحسب » الذي لامستزاد فيه وهذا هو المتبادر من سائر مشتقّاته في القرآن وغيره ، وقال : ( وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ) ( الفرقان / 31 ).

قال الراغب : الكفاية ما فيه سد الخلّة وبلوغ المراد من الأمر وهو سبحانه الكافي في اُمور العبد ، وهو يقوم بكلّ ما يحتاج إليه العبد ، ولو يخوّفونك أيّها النبي ، فاللّه هو الكافي ، قال سبحانه : ( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) ( البقرة / 137 ).

المائة والخامس : « الكبير »

قد ورد لفظ « الكبير » مرفوعاً ومنصوباً 36 مرّة ، وقع وصفاً له سبحانه في موارد ستّة ، وإقترن باسم « المتعال » تارة و « العلي » اُخرى.

قال سبحانه : ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ المُتَعَالِ ) ( الرعد / 9 ).

ص: 413

وقال سبحانه : ( وَأَنَّ اللّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) ( الحج / 62 ) (1).

وأمّا معناه : فقد قال ابن فارس : يدل على خلاف الصغر ، والكِبْر - بكسر الكاف وسكون الباء - معظم الأمر ، قوله عزّ وجلّ : ( وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ ) ( النور / 11 ) أي معظم أمره ، وأمّا الكبر - بضم الكاف - فهو القعيد ، يقال : الولاء للكبر يراد به أقعد القوم في النسب وهو الأقرب إلى الأب الأكبر.

قال الراغب : « الكبير والصغير من الأسماء المتضايفة التي تقال عند اعتبار بعضها ببعض ويستعملان في الكمّية المتّصلة كالأجسام وذلك كالكثير والقليل ، وفي الكميّة المنفصلة كالعدد ، وثمّ استعير للمتعالي فيطلق على ما اعتبر فيه المنزلة والرفعة نحو « قل أي شيء أكبر شهادة ؟ قل اللّه شهيد بيني وبينكم » ونحو الكبير المتعال ، ومنه قوله : « كذلك جعلنا في كلّ قرية أكابر مجرميها » أي رؤسهائها.

أقول : « إنّ اقتران اسم « المتعال » و « العلي » بالكبير ، يعرب عن كون الملاك في توصيفه سبحانه هو الرفعة والمنزلة ، وكل كمال يتصوّر.

والصدوق فسّره بالسيّد قائلاً : بأنّ سيد القوم كبيرهم ، ولكن مراده ما ذكرناه ، وقال : « الكبرياء » اسم التكبّر والتعظّم ، وقال العلامة الطباطبائي : « والذي يناسب ساحة قدسه تعالى من معنى الكبرياء أنّه تعالى يملك كل كمال لشيء ويحيط به ، فهو تعالى كبير أي له كمال كل ذي كمال وزيادة » (2).

ولأجل علو منزلته ورفعتها ، وقع علّة لكون الحكم له دون غيره قال : ( وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالحُكْمُ للهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ) ( غافر / 12 ).

ص: 414


1- لاحظ أيضا ( النساء / 34 ) ، ( لقمان / 30 ) ، ( سبأ / 32 ) ، ( غافر / 12 ).
2- الميزان : ج 11 ، ص 338.

المائة والسادس : « الكريم »

قد ورد في الذكر الحكيم مرفوعاً ومنصوباً 26 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في موارد ثلاثة :

قال سبحانه : ( فَتَعَالَى اللّهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) ( المؤمنون / 116 ) ، وقال سبحانه : ( وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) ( النمل / 40 ) ، وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) ( الانفطار / 6 ).

وأمّا معناه فقال ابن فارس : فهو شرف الشيء في نفسه أو شرف في خلق من الأخلاق يقال رجل كريم وفرس كريم. الكرم في الخُلق يقال هو الصفح عن ذنب المذنب. قال عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة : الكريم الصفوح واللّه تعالى هو الكريم الصفوح عن ذنوب عباده المؤمنين.

قال الراغب : إذا وصف اللّه تعالى به فهو اسم لإحسانه وانفاقه المتظاهر نحو قوله : ( إِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) وإذا وصف به الإنسان فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة التي تظهر منه.

وما ذكره هو الظاهر في قوله : « غنيّ كريم » دون سائر الآيات ، وكيف وقد وصف اُمور كثيرة بمعنى واحد.

وذلك كالرزق نحو : ( وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) ( الأنفال / 4 ) والملك نحو : ( إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ) ( يوسف / 31 ) ، والمقام نحو : ( وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ) ( الشعراء / 58 ) ، والرسول نحو : ( رَسُولٌ كَرِيمٌ ) ( الدخان / 17 ) ، والكتاب نحو : ( أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ) ( النمل / 29 ). والتوصيف في الجميع بمعنى واحد.

ولذلك لجأ الصدوق إلى ذكر معنيين له ففسّره تارة بالعزيز ، يقال : فلان أكرم عليّ من فلان أي أعز منه ، ومنه قوله عزّ وجلّ : ( لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ) واُخرى بالجواد

ص: 415

المتفضّل يقال رجل كريم أي جواد.

والظاهر أنّ الكريم له معنى واحد وهو ما نبّه إليه ابن فارس أعني الشرف في الذات أو في الخلق ، والأنعام والجود من مظاهره ، كما أنّ الصفح عن العدو بعد المقدرة عليه من آثاره ، وإلى ذلك يرجع ما ذكره بعضهم في تفسيره بأنّه كون الشيء تامّاً بحسب مرتبته واللّه سبحانه كريم باعتبار تماميّته في الوهيّته ذاتاً وصفة وفعلاً.

وأمّا توصيف الكافر بالكريم في قوله سبحانه : ( ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ) ( الدخان / 49 ). فإنّما هو للاستهزاء تشديداً لعذابه ، فقد كان يرى في الدنيا لنفسه عزّة وكرامة لا تفارقانه كما يظهر ممّا حكى اللّه سبحانه من قوله : ( وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى ) ( فصّلت / 50 ).

ص: 416

حرف اللام

المائة والسابع : « اللطيف »

اشارة

وقد ورد في الذكر الحكيم ستّ مرّات ووقع في الجميع وصفاً له سبحانه وقورن ب « الخبير » تارة و « العليم الحكيم » تارة اُخرى.

قال سبحانه : ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) ( الانعام / 103 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الحَكِيمُ ) ( يوسف / 100 ).

وقال سبحانه : ( فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) ( الحج / 63 ).

وقال سبحانه : ( فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) ( لقمان / 16 ).

وقال سبحانه : ( اللّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ) ( الشورى / 19 ).

وقال سبحانه : ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) ( الملك / 14 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ) ( الأحزاب / 34 ).

أمّا معناه فالظاهر من ابن فارس أنّ له معنيين أحدهما « الرفق » والثاني « صغر

ص: 417

في الشيء » (1).

فمن الأوّل قوله : ( اللّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ ... ) .

وأمّا الثاني فالظاهر أنّ المراد من الصغر في الشيء هو كونه دقيقاً فوق الحسّ. ولأجل ذلك علّل سبحانه قوله : ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) بكونه لطيفاً كما تقدّم وربّما يتطوّر ويستعمل في النافذ في الأشياء لأنَّ الشيء الصغير ينفذ في المجاري والثقوب الصغار. ويؤيّد ذلك أنّه سبحانه علّل علمه بما خلق بكونه لطيفاً ، وقال سبحانه : ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) ( الملك / 14 ) وعليه فيصحّ تفسيره بكونه مجرّداً أو ما هو قريب منه ويكون كناية عن حضوره وإحاطته بباطن الأشياء وظاهرها ، وربّما يكنّى به عن تعاطي الاُمور الدقيقة كما في قوله سبحانه : ( فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) ( الحج / 63 ) ، وعليه يحمل قوله سبحانه : ( فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ) ( الكهف / 19 ) أي يعمل بلطف ودقّة.

هذا على القول بأنّ لمصدر « اللطيف » معنيين : الرفق والدّقة ، ويمكن ارجاع المعنى الأوّل إلى الثاني أيضاً لأنّ الرأفة والمحبّة رهن تعاطي الاُمور الدقيقة حتى تستهوي القلوب.

وعلى كل حال فاللّه سبحانه « لطيف » أي دقيق لا يدرك ، ويتعاطى الاُمور الدقيقة فيخلق أشياء فوق الحواس ، لطيف أي رؤوف بأعمال الاُمور الدقيقة وهكذا ، فتوصف به الذات كما يوصف به الفعل.

قال الرازي : « إنّ اللطيف له تفاسير أربعة :

1 - إنّ الشيء الصغير الذي لا يحسّ به لغاية صغره يسمّى لطيفاً ، واللّه

ص: 418


1- يظهر من القاموس أنه إذا أخذ « لطف » من باب « نصر » يكون بمعنى البرّ والاحسان ، وإذا اخذ من باب « كرم » يكون بمعنى صغر ودقة.

سبحانه لمّا كان منزّها عن الجسميّة والجهة لم يحسّ به ، فأطلقوا اسم الملزوم على اللازم ، فوصفوه تعالى بأنّه لطيف أي غير محسوس ، وكونه لطيفاً بهذا الاعتبار يكون من صفات التنزيه.

2 - اللطيف هو العالم بدقائق الاُمور وغوامضها ، وعلى هذا التفسير يكون اللطف عبارة عن سعة علمه فيكون من الصفات الذاتية.

3 - اللطيف هو البر بعباده الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون ويهيء مصالحهم من حيث لا يحتسبون ، ومنه قوله سبحانه : ( اللّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ ) .

4 - اللطيف من يعلم حقائق المصالح وغوامضها ثم يسلك في إيصالها إلى مستحقها سبيل الرفق دون العنف.

فإذا اجتمع هذا العلم وهذا العمل تم معنى اللطف » (1).

ولا يخفى أنّ ما ذكره من المعاني الأربعة من لوازم معنى اللطيف وهو الدقيق أو من يتعاطى الأعمال الدقيقة واللّغة العربية خصيصتها التطوّر واشتقاق معنى من معنى بمناسبة فطرية أو ذوقيّة ، فمعنى اللطيف وإن لم يمكن تحديده بوجه كامل ، ولكن المراد منه واضح في الآيات.

وأمّا حظ العبد من هذا الاسم فلو فسّر اللطيف بالرفق فحظّه الرفق بعباد اللّه كاللطف بهم في الدعوة إلى اللّه كما قال سبحانه : ( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا ) ( طه / 44 ).

فإن فسّر بتعاطي الأعمال الدقيقة فحظّه هو الدقة في الأعمال والأقوال وترك التساهل والمسامحة.

ص: 419


1- لوامع البينات : ص 246.
كلام في رؤيته سبحانه

قد وقفت على أنّه سبحانه علّل قوله : ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ) بكونه لطيفاً خبيراً ، فاللطيف تعليل للحكم السلبي ، والخبير تعليل للحكم الإيجابي ، وعلى ذلك فاللّه سبحانه فوق أن يكون مرئيّاً للأبصار ، محاطاً بالجهة والمكان ، فمن كان هذا خصيصته ، لا يرى في الدنيا والآخرة.

ولكن الأسف إنّ هذا الأصل العقلي قد وقع مورد نقاش بين المسلمين فذهبت طائفة إلى امكان رؤيته في الدنيا والآخرة كما ذهبت طائفة اُخرى إلى التفصيل وهو أنّه سبحانه لا يرى في الدنيا ويرى في الآخرة تبعاً للحديث النبوي : « إنّكم سترون ربّكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر » (1) وإليك التفصيل.

اتّفقت العدلية على أنه سبحانه ليس جسماً ولا له جهة ، وبالتالي لا يمكن رؤيته لا في الدنيا ولا في الاخرة ، وأمّا غيرهم فالمجسّمة الذين يصفون اللّه سبحانه بالجسم ويثبتون له الجهة جوّزوا رؤيته في الدارين.

وأمّا الأشاعرة فهم يعدّون أنفسهم من أهل التنزيه ولكنّهم يقولون بالرؤية يوم القيامة فقط (2).

وقد ذكر الإمام أبو الحسن الأشعري أقوالاً في الرؤية تربو على تسعة عشر قولاً ، غير أنّ أكثرها سخافات ومن عجيب ما جاء في خلال تلك الأقوال : إنّ « ضراراً » و « حفصا الفرد » يقولان : إنّ اللّه لا يرى بالأبصار ، ولكن يخلق لنا يوم القيامة حاسّة سادسة غير حواسّنا فندركه بها.

قال الحسين النجّار : إنّه يجوز أن يحوّل العين إلى القلب ويجعل لها قوّة

ص: 420


1- مسند أحمد : 3 / 16.
2- المواقف : ج 2 ، ص 368.

العلم فيعلم بها ويكون ذلك العلم رؤية له ( أي علماً له ) (1).

وفي القولين الأخيرين محاولة لتصحيح الرؤية مع التحفّظ على التنزيه ، ولكنّها غير ناجعة لأنّ الحسّ السادس إذا كان حسّا ، لا يتعلّق إلا بالمادّة والمادّيّات ، واللّه سبحانه فوقها ، وأمّا تحوّل العين إلى القلب وتصحيح الرؤية بالعلم فهو خارج عن البحث ، فإنّ البحث إنّما هو رؤية اللّه بالعيون والأبصار المتعارفة لا بالقلب. فالمعتزلة والخوارج وطوائف من المرجئة والإمامية والزيديّة ينكرونها وأهل الحديث والأشاعرة يثبتونها ولولا ظواهر بعض الآيات والأحاديث الواردة في المقام ، لالتحقت الأشاعرة بالعدليّة في نفي الرؤية ، ولكنّها صدّتهم عن التنزية في المقام.

ما هي حقيقة الرؤية ؟

إنّ في الرؤية قولين معروفين :

1 - انعكاس صورة المرئيّ بواسطة الهواء الشفّاف الذي لا لون له فلا يستر ما ورائه إلى الرطوبة الجليدية التي في العين وانطباعها في جزء منها ، وذلك الجزء الذي تنطبع فيه الصورة ، زاوية رأس مخروط متوّهم ، لا وجود له أصلاً ، قاعدته سطح المرئيّ ، ورأسه عند الباصرة (2).

2 - يخرج من العين جسم شعاعيّ على هيئة المخروط المتحقّق ، رأسه على العين وقاعدته تلي المبصر ، والإدراك التام إنّما يحصل من الموضع الذي هو موضع سهم المخروط.

هذان القولان يتعلّقان بالقدماء من الطبيعيين.

والأوّل لمدرسة أرسطو ، والثاني لغيره ، وقد كشف العلم الحديث عن حقيقة

ص: 421


1- مقالات الإسلاميين : ص 261 - 265 و 314.
2- مقالات الإسلاميين : ص 321.

الرؤية بعد دراسة تركيب العين وأجهزتها ، وحداهم البحث إلى دعم القول الأوّل لكن بصورة أدق ، وعلى ذلك فالرؤية بالأبصار والعيون المتعارفة لا تتحقّق إلاّ أن يكون المرئيّ في جهة ومكان ومسافة خاصّة بينه وبين الرائي ، ولا محيص في تحقّق الرؤية عن المقابلة ، وفي ضوء ذلك نحكم بامتناع وقوع الرؤية على اللّه سبحانه لاستلزامه كونه ذا جهة ومكان خاص حتى تتحقّق الرؤية ، وما ذكرناه وإن كان كافياً في إبطال الرؤية ولكن تكميلاً للبحث نأتي بأدلّة المنكرين وهو دليل واحد يقرّر بوجوه.

تقرير أدلة المنكرين بوجوه أربعة :

« إنّ اللّه تعالى ليس في جهة ولا في مكان بدليل أنّ ما كان في الجهة والمكان مفتقر إليهما وهو محال عليه. واللّه تعالى ليس بمرئيّ بدليل أنّ كل مرئي لابد أن يكون في جهة (1).

وكل من نفى الرؤية يعتمد على ذلك البرهان وحاصله أنّ الرؤية إنّما تصحّ لمن كان مقابلاً أو في حكم المقابل والمقابلة إنّما تكون في حقّ الأجسام ذوات الجهة واللّه تعالى ليس في جهة فلا يكون مرئياً.

ويمكن تقرير البرهان بصورة اُخرى وهو أنّ الرؤية إمّا أن تقع على الذات كلّها أو على بعضها ، فعلى الأوّل يلزم أن يكون محدوداً متناهياً محصوراً شاغلاً لناحية من النواحي وخلوّ النواحي الاخرى منه تعالى وذلك مستحيل ، وإمّا أن تقع على بعض الذات فيلزم أيضا أن يكون مركبّاً متحيّزاً ذا جهة إلى غير ذلك من التوالي الفاسدة الباطلة المرفوضة في حقّه تعالى.

هذا ويمكن تقريره بوجه ثالث هو أنّ الرؤية بأجهزة العين نوع إشارة بالحدقة وهو سبحانه منزّه عن الإشارة.

ص: 422


1- مجموعة الرسائل العشر ، المسئلة 16 - 17.

وبتقرير رابع : إنّ الرؤية لا تتحقّق إلاّ بانبعاث أشعّة من المرئيّ إلى أجهزة العين وهو يستلزم أن يكون سبحانه جسماً ذات أبعاد ومعرضاً لعوارض وأحكام جسمانيّة وهو المنزّه عن كلّ ذلك (1).

وهذه التقارير الأربعة تعتمد لبّاً على أمر واحد : وهو انّ تجويز الرؤية يستلزم كونه جسماً أو جسمانيّاً غير أنّ الطرق مختلفة ، والأوّل يعتمد على أنّ الرؤية تستلزم أن تكون ذا جهة وحيّز ، والثاني يعتمد على كونه سبحانه متناهية إذا وقعت الرؤية على تمام الذات أو مركّبة إذا وقعت على بعضها ، والثالث يعتمد على أنّها تستلزم الإشارة ، وهو فوق أن يقع في إطارها ، والرابع يعتمد على أنّها تستلزم أن يكون جسماً وذا عوارض جسمانيّة.

والحاصل انّ إثبات الرؤية والأبصار بغير مقابلة وجهة مع كون الرؤية بالعيون والأبصار كالجمع بين وجود الشيء وعدمه نظير تصوّر كون المربّع فاقداً لبعض أضلاعه وهو في الوقت نفسه مربّع تام.

وما ربّما يظهر من بعض محقّقي الأشاعرة من الجمع بين الرؤية وعدم الجهة وما يشابهها محاولة باطلة (2) لا تليق أن تسطّر.

وربّما يتصوّر أنّ كون ما في الآخرة يغاير ما في الدنيا ، فلعلّ الرؤية هناك متحقّقة بلا جهة واشارة ، وهذا أشبه بالسفسطة ، فإنّ المراد من المغايرة هو كون ما في الآخرة أكمل ممّا في الدنيا ، لا المغايرة من حيث الماهيّة والواقعيّة ، والقواعد العقليّة لا تخصّص بل هي سائدة في الدارين.

ص: 423


1- لاحظ أنوار الملكوت في شرح الياقوت : ص 82 - 83 ، واللوامع الالهية : ص 81 - 82 وقواعد المرام في علم الكلام - للشيخ ميثم بن على البحراني المتوفّى عام 689 - وكشف المراد : ص 182.
2- لاحظ شرح التجريد للفاضل القوشجي.

القرآن يتلقى الرؤية أمراً منكراً إنّ الدقّة في الآيات الواردة حول الرؤية وسؤال بني اسرائيل إيّاها من نبيّهم يقف على أنّ القرآن يقابلها بالاستنكار الشديد فيتلقّاها أمراً منكراً.

1 - قال سبحانه : ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ) ( البقرة / 55 ).

2 - قال سبحانه : ( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ... ) ( النساء / 153 ).

3 - وقال سبحانه : ( وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ) ( الأعراف / 155 ).

4 - وقال سبحانه : ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ ) ( الأعراف / 143 ).

ومن أمعن في هذه الآيات من دون رأي مسبق يقف على أنّ القرآن يستنكر رؤية اللّه ويقابل من يطلبها ، بالصاعقة والرجفة واللّوم ، فمع هذه النصوص كيف يمكن لنا القول بجواز رؤيتها في الدنيا والآخرة ، أو في خصوص الآخرة ؟ فإنّ الأحكام العقليّة لا تقبل التخصيص ، فالجمع بين الضدين أو النقيضين محال في الدارين ، وهكذا القواعد الرياضيّة صادقة فيهما ، فهي لا تتخلّف في ظرف من الظروف وإلاّ صارت قضايا مشكوكة غير منتجة.

ص: 424

سبحانك أنت القائل : ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) .

سبحانك أنت القائل : ( لَن تَرَانِي - يا موسى - ) مقروناً بلن للتأبيد في النفي.

سبحانك أنت القائل : ( وَمَا قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) .

إنّ الذين يتمنّون رؤيته في الدنيا والآخرة إنّما يتمنّون أمراً محالاً غافلين أنّ العيون لا تدركه بمشاهدة العيان ، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان ، فهو قريب من الأشياء ، غير ملابس ، بعيد عنها غير مبائن (1).

إنّ المصرّين على جواز الرؤية يتخيّلون أنّها عقيدة إسلامية وردت في الكتاب والسنّة ولكنهم غفلوا عن أنّها طرحت من قبل الأحبار والرهبان بتدليس خاص ، فهم الأساس لهذه المسائل التي لا تجتمع مع قداسته وتنزيهه سبحانه ، فهذا هو العهد العتيق مليء بالأخبار عن رؤيته تعالى وإليك مقتطفات منه :

1 - « رأيت السيّد جالساً على كرسي عال ... فقلت : ويل لي لأنّ عينيّ قد رأتا الملك ربّ الجنود » ( أشعياء / 6 : 1 - 6 ). والمقصود من السيّد هو اللّه جلّ ذكره.

2 - « قد رأيت الربّ جالساً على كرسيّه وكل جند البحار وقوف لديه » ( الملوك : الأوّل / 22 ).

ومن أراد التبسّط في ذلك فليرجع إلى سفر التكوين قصة آدم وحواء وقصة يعقوب وإبراهيم ترى فيها أشياء واُموراً ممّا يندى له الجبين ويخجل القلم عن الإشارة إليه.

غير أنّ المغفلين من أهل الحديث أخذوا بالأحاديث الموضوعة على وفق ما جاء في العهدين حقائق راهنة ، فاتخذوا الرؤية عقيدة إسلامية شوّهوا بها المذهب.

ص: 425


1- نهج البلاغة : الخطبة 174.
أدلة القائلين بالرؤية
اشارة

إنّ القائلين بالرؤية استدلّوا بآيتين :

1 - قوله سبحانه : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ) ( القيامة / 22 - 25 ). وقد شغلت هذه الآية بال الأشاعرة والمعتزلة.

المثبّتون يصرّون على أنّ النظر في « الناظرة » بمعنى الرؤية ، والنافون يصرّون بأنّه بمعنى الانتظار ، والفريقان يتصارعان في تفسير الآية مستشهدين ببعض الأشعار والجمل.

غير انّا نضرب على الكلّ صفحاً لأنّ البحث فيهما يستدعي تفصيلاً ، ولكن نلفت نظر المستدلّين بها إلى أمرين ولو تدبّروا فيهما تدبر إنسان حر غير متأثّر بآراء قومه ونحلته ، لعرفوا أنّ الآية لا تدل على مقصودهم بتاتاً.

1 - ترى أنّه سبحانه يقول : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) فينسب النظر إلى الوجوه لا العيون ، فلو كان المراد أنّ أهل الجنة ينظرون إليه سبحانه ويرونه فلماذا نسب الرؤية إلى الوجوه مع أنّه قائم بالعيون وهذا يدلّ على أنّ « ناظرة » في الآية وإن كانت بمعنى الرؤية لكنها تهدف إلى معنى آخر غير الرؤية الحسّيّة ، وإنّ النظر في المقام كنظر الفقير إلى الغني ، والخادم إلى مخدومه ، والمرؤوس إلى رئيسه فالكل ينظرون إلى أسيادهم لكن نظراً معنوياً لا حسّياً.

2 - إنّ الآيات تشتمل على جمل متقابلة ، فلو كان هناك إجمال في احدى الجمل يصح تفسيره بمقابله ومقارنه الواضح ، وإليك مقارنة هذه الجمل.

أ - « وجوه يومئذ ناضرة »

يقابلها قوله : « وجوه يومئذ باسرة »

ب - « إلى ربّها ناظرة »

يقابلها قوله : « تظن أن يفعل بها فاقرة ».

فلو كان هناك إبهام في أحد المتقابلين ، يرفع بالمقابل إبهام المقابل الآخر ،

ص: 426

فهلم معي نستوضح معنى « إلى ربّها ناظرة ».

فهل المقصود الجدّي هو النظر والرؤية ؟

أو هو التوقّع والانتظار ؟

فيمكن رفع الابهام وامعان النظر في مقابله أعني : « تظن أن يفعل بها فاقرة » فإنّ مفاده أنّ الطائفة العاصية تتوقّع نزول عذاب يكسر فقارها ويقصم ظهرها ، فيكون ذلك قرينة على أنّ المراد من مقابله خلاف ذلك ، وأنّ هؤلاء المطيعين يتوقّعون خلاف ما تتوقّعه الطائفة الاُخرى يتوقعون فضله وكرمه ورحمته وأين هذا من الرؤية ؟

بذلك يظهر أنّ التركيز على الوجوه دون العيون لأجل إفادة هذا المعنى ، أي أنّ وجوها تنتظر العذاب ، وأن وجوهاً متوجهةً إلى الباري تنتظر الرحمة.

وهذا نظير قول القائل :

إنّي إليك لما وعدت لناظر *** نظر الفقير إلى الغني الموسر

ويقال : أنظر إلى اللّه ثمّ إليك.

فإنّ النظر في هذه الموارد وإن كان بمعنى الرؤية ، ولكنّها كناية عن انتظار الرحمة ، فقول التلميذ لاُستاذه ، والولد لوالده ، والخادم لسيده : « أنا أنظر إليك » بهذا المعنى.

وقال آخر :

وجوه ناظرات يوم بدر *** إلى الرحمان يأتي بالفلاح

أي منتظرات لإتيانه تعالى بالنصرة والفلاح.

وقال أيضاً :

كل الخلائق ينظرون سجاله *** نظر الحجيج الى طلوع هلال

أي ينتظرون عطاياه انتظار الحجّاج لظهور الهلال وطلوعه.

ص: 427

حتى لو كان النظر في الآية بمعنى الانتظار ، أو بمعنى الرؤية ، لا تدلّ على رؤيته سبحانه يوم القيامة ، بل ليست بصدد هذا الأمر أصلاً ، ولا فرق بين تفسير الكلمة بالنظر ، أو الانتظار.

وما ربّما يتصوّره البعض من أنّ « ناظرة » لو كانت بمعنى الرؤية تمّت دلالة الآية ، ولو كانت بمعنى الانتظار لم تتم ولم تدل ، كلام سطحي ينمّ عن عدم تعمّق في السياق الذي جاءت به الآية كما ستعرف.

وخلاصة القول : إنّ الآية - سواء من النظر فيها بمعنى الانتظار أو الرؤية - تهدف أمراً آخر ، لا ارتباط له بمسألة الرؤية أصلاً ، ولا يعرف هذا إلاّ بمقارنة الآية المذكورة بالآيات المقابلة لها.

فإنّ الآية الثانية أي ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) يبيّن ما هو المتوقّع عند المؤمنين كما أنّ الآية الرابعة أي ( تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ) يبين ما هو المتوقع عند العاصين ، فحيث كان المقصود في الآية الرابعة هو توقّع العصاة للعذاب الإلهي كان المقصود في الآية الثانية ( بحكم التقابل ) هو توقّع المطيعين المتّقين الرحمة الإلهية ، وهذا هو هدف الآية الثانية ، فتفسير النظر برؤية جماله وذاته غريب عن مرمى الآية وهدفها.

إذا عرفت هذا فلا يتفاوت بأن يفسر « ناظرة » بمعنى الانتظار ، فيكون معناه المطابقي هو انتظار رحمته بدل انتظار عذابه ، أو يفسّر بالرؤية فيكون المراد منه - بالمآل - انتظار الرحمة ، لأنّ الرؤية في هذه الموارد تكون كناية عن انتظار الرحمة ، وتوقع اللطف من الجانب الآخر.

يقال : فلان ينظر إلى يد فلان ، ويراد منه أنّه معدم محتاج ، ليس عنده شيء ، وإنّما يتوقع أن يعطيه ذلك الشخص ، فما أعطاه ملكه ، وما منعه حرم منه.

وهذا ممّا درج عليه الناس في محاوراتهم العرفية اليوميّة إذ يقول أحدنا لصديقه الذي يتوقّع منه المعونة والمدد :

ص: 428

« إنّما ننظر إلى اللّه ثم إليك ».

وهذا مؤلّف « أقرب الموارد » عند ما يذكر هذا المثال يفسّره بقوله : « إنّما أتوقع فضل اللّه ثم فضلك ».

فالكلام هو عن توقّع الرحمة ووصولها وشمولها وعدم توقّعها ووصولها وشمولها.

ولنا في الكتاب العزيز نظير لهذا ، إذ يقول سبحانه :

( وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ ) ، فكل هذا كناية عن طردهم عن ساحته ، ويشعر بذلك قوله في الآية المتقدمة عليها ( بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ ) .

فالآيتان بهذا الشكل من حيث الموضوع والحكم.

من أوفى بعهده واتقى ; يحبّه اللّه.

ومن اشترى بعهد اللّه وإيمانه ; لا يكلّمهم اللّه ولا ينظر إليهم.

فبقرينة المقابلة بين الجزئين يعلم أنّ المرا د هو حبّه سبحانه المستلزم للجزاء الحسن ، وعدم حبّه المستلزم للجزاء السيء.

فالمراد ب « لا ينظر إليهم » ليس هو عدم رؤية اللّه لهم ومشاهدتهم ، فالرؤية وعدم الرؤية ليست أمراً مجدياً أو ضارّاً إنّما ايصال الرحمة وعدم ايصالها للشخص هو النافع أو المضرّ بحاله ، فيكون جملة « لا ينظر إليهم » كناية عن عدم اللطف والرحمة.

وهذه الآية شغلت - مع الأسف - بال المعتزلة والأشاعرة قروناً عديدة فركّزوا البحث في تحديد معنى « ناظرة » وانّها بمعنى الانتظار أو الرؤية ، فكلّ استظهر مايطابق مختاره ، وقد غفلوا عن مفتاح حل المشكلة ، وأنّه يجب ملاحظة الآية من حيث السياق والهدف والقرائن الحافة بها.

ص: 429

هذا ويؤيّد ما ذكرناه من أنّ النظر ولو كان بمعنى الرؤية ليس المقصود منه الرؤية البصريّة الحسّيّة بل المراد هو الكناية عن انتظار الرحمة الإلهية ، وتقديم المفعول وهو « إلى ربّها » على العامل وهو « ناظرة » نظير قوله تعالى : ( إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المُسْتَقَرُّ ) ونظائرها ، فإنّ تقديم المفعول يدل على معنى الاختصاص لأنّ الإنسان لا يتوقّع هنا إلاّ رحمة اللّه وعنايته ولطفه ، وأمّا النظر بمعنى الرؤية ، فلا ينحصر باللّه لأنّ الناس ينظرون إلى غير اللّه أيضاً كما تدلّ عليه آيات وروايات.

قال الزمخشري : « معلوم أنّهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر ، ولا تدخل تحت العدد في محشر يجتمع فيه الخلائق كلّهم ، فإنّ المؤمنين نظّارة ذلك اليوم لأنّهم الآمنون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، فاختصاصه بنظرهم إليه - لو كان منظوراً - محالٌ فوجب حمله على معنى يصحّ معه الاختصاص ، والذي يصحّ معه أن يكون من قول الناس : أنا إلى فلان ناظر ، ما يصنع بي تريد معنى التوقّع والرجاء ومنه قول القائل :

وإذا نظرت إليك من ملك *** والبحر دونك زدتني نعما (1)

نعم أورد عليه صاحب « الإنتصاف » بقوله :

« إنّ المتمتّع برؤية جمال وجه اللّه تعالى لا يصرف عنه طرفه ، ولا يؤثّر عليه غيره ولا يعدل به - عزّ وعلى - منظوراً سواه ، وحقيق له أن يحصر رؤيته إلى من ليس كمثله شيء ، ونحن نشاهد العاشق في الدنيا إذا أظفرته برؤية محبوبه لم يصرف عنه لحظة ، ولم يؤثر عليه ، فكيف بالمحبّ منه عزّ وجلّ إذا أحظاه للنظر إلى وجهه الكريم » (2).

أقول : لو صحّ ما ذكره صاحب « الإنتصاف » وإنّ النظر إنّما هو بمعنى الرؤية البصرية الحسّيّة ، وإنّ المؤمن ينظر إلى اللّه سبحانه ، وإنّ جمال اللّه تعالى يجذبه ،

ص: 430


1- الكشاف : ج 4 ، ص 165.
2- نفس المصدر.

لزم قصر النظر يوم القيامة عليه سبحانه لأنّه لا يعدل به غيره ، ولزم أن لا ينظر إلى سواه لأنّ غيره في مقابله ليس بديعاً ولا جميلاً جاذباً مع انّا نرى أنّ الآيات والروايات تتحدّث عن نظر الإنسان في ذلك اليوم إلى أشياء غيره تعالى كما هو واضح لمن أمعن النظر في الآيات الواردة حول الجنّة وأهلها وقصورها وحورها وفواكهها و ... فعلى قول صاحب « الانتصاف » يترك كل ذلك سدى ولا ينصرف المؤمن من رؤية اللّه إلى غيرها وهو كما ترى.

2 - الآية الثانية :

قال تعالى : ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي ... ) .

وجه الاستدلال انّه لو كانت الرؤية ممتنعة لكان موسى واقفاً عليه وعندئذ لما أقدم على السؤال والسؤال دليل على الامكان (1).

والجواب يتوقّف على بيان اُمور :

1 - هل كان هناك ميقات واحد أو ميقاتان ؟

جاءت قصّة ميقات موسى في آيتين :

الأولى : قوله سبحانه : ( وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ) ( الأعراف / 155 ).

الثانية : ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ

ص: 431


1- شرح التجريد للقوشجي : ص 329.

جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ ) ( الأعراف / 143 ).

فعندئذ يجب امعان النظر في أنّه هل كان هناك ميقاتان أو ميقات واحد ذو شأن خاص. قال سبحانه : ( وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ ) ( الأعراف / 142 ).

وقال سبحانه : ( وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( البقرة / 51 - 52 ).

فهاتان الآيتان تعرضان عن ميقات واحد وأنّه كان في بدء الأمر ثلاثين ليلة ثم تمّم بعشر ، ولو كان هناك ميقات آخر مثله أو أزيد أو أقل كان المناسب ذكره والتنويه به.

2 - هل مات القوم بالصاعقة أو الرجفة ؟

إذا كان هناك ميقات واحد وقد هلك فيها قوم موسى بعذاب اللّه ، فما كان السبب في موتهم هل كان هو الرجفة أو الصاعقة ؟ نرى أنّه سبحانه نسب موتهم في بعض الآيات إلى الصاعقة ( البقرة / 55 والنساء / 153 ) وفي البعض الآخر إلى الرجفة ( الأعراف / 155 ).

والجواب : إنّ المراد بالرجفة رجفة الصاعقة ، لا الرجفة في أبدانهم وله نظير في القرآن الكريم ، مثلاً يقول في قوم صالح : ( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ) ( الأعراف / 78 ).

وقال فيهم أيضاً : ( فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ( فصّلت / 17 ).

ص: 432

والصواعق السماوية لا تخلو من صيحة هائلة تقارنها ولا ينفك ذلك غالباً عن رجفة الأرض وهي نتيجة الاهتزاز الجوي الشديد ، فالظاهر أنّ عذابهم كان بصاعقة سماوية اقترنت بصيحة هائلة ورجفة في الأرض فأصبحوا في دارهم أي في بلدهم جاثمين ساقطين على وجوههم وركبهم.

3 - هل كان هناك سؤالان أو سؤال واحد ؟

إنّ الكليم لمّا أخبر قومه بأنّ اللّه كلّمه وقرّبه وناجاه ، قالوا : لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعت ، فاختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربّه فخرج بهم إلى طور سيناء ، وسأل ربّه أن يكلّمه فلمّا سمعوا كلامه قالوا : لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة ، وعند ذلك أخذتهم الصاعقة بظلمهم وعتوّهم واستكبارهم.

وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً ) ( البقرة / 55 ).

وقوله : ( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً ) ( النساء / 153 ).

وقوله : ( وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ ... ) .

كل هذه الآيات راجعة إلى هذه الحادثة أي سؤال قوم موسى منه أن يريهم ربّهم ثمّ إنّ الكليم طلب منه سبحانه أن يحييهم حتى يدفع اعتراض قومه عن نفسه إذا رجع إليهم ، فلربّما قالوا : إنَّك لم تك صادقاً في قولك : إنّ اللّه يكلّمك ، ذهبت بهم فقتلتهم ، فعند ذلك أحياهم اللّه وبعثهم معه ، وإلى هذا الطلب يشير قول الكليم في الآية الثالثة :

( رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ ... ) .

ثمّ إنّ قومه بعد الإحياء وقفوا على أنّه لا يمكنهم رؤيته سبحانه ، فطلبوا منه أن

ص: 433

يسأل موسى الرؤية لنفسه لا لهم حتى تحل رؤيته لله مكان رؤيتهم فيؤمنوا به بعد إخباره بالرؤية أو يسمعوا كلامه بأنّه لا يرى ، وعندئذ أقدم الكليم على السؤال تكبيتاً لهؤلاء واسكاتاً لهم ، وبما أنّه لم يقدم إلاّ إثر الإصرار من جانبهم لم يوجّه إلى الكليم من جانبه سبحانه أي لوم وعتاب أو مؤاخذة وعذاب بل اكتفى بقوله : ( لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الجَبَلِ ... ) .

وبعبارة اُخرى إنّ موسى كان من أعلم الناس باللّه وصفاته وما يجوز عليه وما لا يجوز ، ولكن ما كان طلب الرؤية إلاّ لتكبيت هؤلاء الذين وصفهم بأنّهم سفهاء وتبرّأ من فعلهم ، فبما أنّهم لجّوا وتمادوا وقالوا بأنّهم لا يؤمنون به حتى يراه موسى ويخبرهم به أو يسمعوا النص من عند اللّه باستحالة ذلك وهو قوله « لن تراني » فطلب موسى الرؤية ليسمعوا كلامه ويزول ما دخلهم من الشبهة ، ولأجل ذلك قال : ( رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ) ولم يقل ( ربّ أَرهم ينظروا إليك ).

ويؤيّد تعدّد السؤال مع كون الميقات واحد ، أمران :

1 - إنّ الرجفة عمّت جميع الحاضرين في الميقات إلاّ موسى نفسه فانّه لم يصبه شيء بل شاهد باُمّ عينيه أنّهم ماتوا إثر نزول العذاب.

قال سبحانه : ( فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ ... ) فإنّ الظاهر من ترتّب « قال » على قوله « فلمّا أخذتهم » إنّ موسى لم يصبه شيء حتى الاغماء والغشيان بل قال ما قال بعد موتهم بلا فصل.

وأمّا عند ما تصدّى موسى نفسه للسؤال وقال أرني أنظر إليك ، كانت نتيجة ذلك سقوطه صعقاً ثمَّ إفاقته وتوبته وإنابته ، فأصابه شيء لم يصبه عند السؤال الأوّل.

وحاصل هذا الوجه أنّه يمكن استكشاف تعدّد الواقعة باختلاف الأثر وهو كونه علیه السلام سالماً غير مصاب بشيء في الواقعة الاُولى وكونه صعقاً في الواقعة الثانية ، وهذا يكشف عن تعدّد السؤال.

ص: 434

2 - نرى أنّه سبحانه يذكر سؤال القوم مع نزول الصاعقة والرجفة ، ويذكر السؤال الثاني بتجلّي الرب على الجبل وصيرورته دكّاً وسقوط موسى صعقاً ، ثمّ إفاقته وإنابته من دون ذكر لطروء شيء على قوم موسى ، فالقول بوحدة الواقعتين لا ينسجم مع ظواهر هذه الآيات.

ما وجه تقديم سؤال موسى على سؤال قومه ؟

إنّ هذا التقرير يعرب عن أنّ قوم موسى تقدّموا بالسؤال أوّلاً فأخذتهم الصاعقة فبعدما أحياهم سبحانه تقدّم موسى إلى السؤال ثانياً بإلحاح قومه حتى يرى موسى ربّه أو يُسمِع لهم كلام الرب بأنّه لا يمكن رؤيته ، وعلى هذا كان الأليق تقديم سؤال القوم على سؤال موسى مع أنّ المصحف الكريم حكى سؤال موسى أوّلاً بقوله : ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ) ( الأعراف / 143 ).

ثمّ حكى سؤال قومه في الآية رقم 155 من تلك السورة أعني قوله : ( وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا ... أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ... ) فما هو السر في تقديم ما حقّه التأخير ؟

والجواب : إنّ تقطيع القصة الواحدة إلى قصص متعدّدة والانتقال من حديث إلى آخر لحكمة في ذلك غير عزيز ولا غريب في القرآن الكريم ، وليس القرآن كتاب قصّة حتى يعاب بالانتقال قبل تمامه ، وإنّما هو كتاب هداية ودلالة وحكمة ، يأخذ من القصص ما يهمّه (1).

وبعبارة اُخرى : إنّ العود إلى ذلك الجزء في آخر القصة بتفصيل وتبيين لأجل إظهار العناية به من جميع أجزاء القصة ، واللّه سبحانه ذكره في الأثناء بما أنّه جزء من القصة ، ولأجل حفظ التسلسل والترابط بين أجزائها ثمّ عاد إليه بعد الانتهاء من بيان

ص: 435


1- الميزان : ج 8 ، ص 285.

القصة لاستعراضه بنحو مشروح ، وذلك لأجل إبراز العناية بهذا الجانب من القصة فانّها كانت مسألة هامّة وكبيرة في حياة أكابر بني اسرائيل حيث جرت عليهم ما جرت ، وأنّه لولا دعاء موسى لما عادت الحياة إليهم.

وعلى هذا فلا دلالة في سؤال موسى على امكان الرؤية بعد كونه بسبب إصرار القوم وإلحاحهم ، وكان إقدامه لأجل تكبيتهم واسكاتهم.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من تعدد السؤال هو الظاهر من الحديث المروي عن علي بن موسى الرضا علیه السلام قال : إنّ كليم اللّه رجع إلى قومه ، فأخبرهم أنّ اللّه عزّ وجلّ كلّمه وقرّبه وناجاه ، فقالوا : لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعت ، فلمّا جاء بهم إلى الميقات وسمعوا كلامه ، قالوا : لن نؤمن لك بأنّ هذا الذي سمعناه كلام اللّه حتى نرى اللّه جهرة ، فلمّا قالوا هذا القول العظيم بعث اللّه عزّ وجلّ عليهم صاعقة فأخذتهم بظلمهم فماتوا ، ثم أحياهم سبحانه بطلب من موسى ، فقالوا : إنّك لو سألت اللّه أن يريك أن تنظر إليه لأجابك ، وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حق معرفته فقال موسى : يا قوم إنّ اللّه لا يرى بالأبصار ولا كيفيّة له ، وإنّما يعرف بآياته ، فقالوا : لن نؤمن لك حتى تسأله ، فقال موسى يا ربّ إنّك قد سمعت مقالة بني إسرائيل ، فأوحى اللّه إليه يا موسى إسألني ما سألوك ولن اُوآخذك بجهلهم ، فعند ذلك قال موسى : ربّ أرني أنظر إليك (1).

كلام لصاحب « الكشّاف »

وهناك كلام ذكره علاّمة المعتزلة « الشيخ محمود الزمخشري » صاحب الكشّاف ، والجواب عن الاستدلال بالآية مبني على وحدة السؤال هذا نصّه :

« ما كان طلب الرؤية إلاّ لتكبيت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضلاّلاً وتبرّأ من فعلهم وليلقمهم الحجر ، وذلك انّهم حينما طلبوا الرؤية أنكر عليهم ، وأعلمهم

ص: 436


1- التوحيد للصدوق ، باب ما جاء في الرؤية ، الحديث 23 ، نقلناه ملخّصاً.

الخطأ ونبّههم على الحق ، فلجّوا وتمادوا في لجاجهم وقالوا : « لابد ولن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة ». فأراد أن يسمعوا النص من عند اللّه باستحالة ذلك وهو قوله : « لن تراني » ليتيقّنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة ، فلذلك قال : ( رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ) .

فان قلت : فهلاّ قال « أَرهم ينظروا إليك » ، قلت لأنّ اللّه إنّما كلّم موسى علیه السلام وهم يسمعون ، فلمّا سمعوا كلام ربّ العزّة أرادوا أن يرَ موسى ذاته فيبصرونه معه كما أسمعه كلامه فسمعوا منه ، إرادة مبنيّة على قياس فاسد (1). فلذلك قال موسى : ( أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ) .

ولأنّه إذا ضُجِر عمّا طلب ، وأنكر عليه مع كونه نبيّاً ، وقيل له « لن يكون » ذلك « كان غيره أولى بالإنكار ، ولأنّ الرسول إمام اُمّته فكان ما يخاطب به راجعاً إليهم أيضاً.

ثمّ إنّ قوله ( أَنظُرْ إِلَيْكَ ) صريح في التشبيه والتجسيم وجلّ موسى أن يكون مجسّماً أو مشبّهاً وهذا دليل على أنّه ذكر ذلك ترجمة من مقترحهم وحكايةً لقولهم وجَلّ صاحبُ الجمل من أن يجعل اللّه منظوراً إليه ، مقابلاً بحاسّة البصر ، فكيف بمن هو أعرف في معرفة اللّه من المتكلّمين والفلاسفة ؟

فان قلت : ما معنى « لن » ؟ قلت : « تأكيد النفي الذي تعطيه « لا » ، وذلك لأنّ « لا » تنفي المستقبل تقول : لا أفعل غداً ، وإذا أكدت نفيها قلت : لن أفعل غداً ، والمعنى أنّ فعله ينافي حالي كقوله : « لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له » فقوله : ( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) نفي للرؤية فيما يستقبل « ولن ترانى » تأكيد وبيان لأنّ الرؤية منافية لصفاته » (2).

ص: 437


1- وهذا القياس عبارة عن أنّهم كما سمعوا صوته عن طريق موسى ، يمكن لهم رؤية ذاته عن طريق رؤية موسى أيضاً قياساً فاسداً.
2- الكشّاف - تفسير سورة الاعراف - : ج 1 ، ص 573 - 574.

وهذا الجواب مبنيّ على وحدة السؤال بشهادة قوله : « فان قلت فهلاّ قال أرهم ينظروا إليك ... » فهذا يعرب عن أنّه لم يتقدّم سؤال من بني اسرائيل حول رؤية اللّه ، إذ لو تقدّم السؤال وترتب عليه نزول الصاعقة والرجفة ; لما كان هناك مورد للسؤال بقوله : « أَرهم ينظروا إليك » لمّا رأى أنّ طلب الرؤية لهم استعقب نزول العذاب ، ولم يبق إلاّ السؤال لنفسه نيابة عنهم حتى يترتب عليه أحد الأمرين أمّا الرؤية أو الردّ ويتمّ الحجة على القوم ، وإن كان القوم لا يأملون إلاّ الشقّ الأوّل.

وعلى كل تقدير سواء كان هناك سؤالان أم كان سؤال واحد فليس في سؤال موسى دلالة على امكان الرؤية بعد كون سؤاله لأجل قومه وإثر إصرارهم والحاحهم.

ثمّ إنّ الأشاعرة استدلّت بقوله سبحانه : ( رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ) من جهة اُخرى قالوا : « إنّه تعالى علّق الرؤية على استقرار الجبل وهو أمر ممكن في نفسه ، والمعلّق على الممكن ممكن ، لأنّ معنى التعليق أنّ المعلّق يقع على تقدير وقوع المعلّق عليه ، والمحال في نفسه لا يقع على شيء من التقادير.

والجواب : إنّ الاستدلال مبني على أن يكون المراد من قوله : ( فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ ) هو امكان الاستقرار ولا شك انّه أمر ممكن ، والمعلّق على الأمر الممكن أيضاً ممكن.

ولكن الظاهر أنّ المراد هو استقراره بعد التجلّي والمفروض انّه لم يستقر بعد ذلك بدليل قوله سبحانه : ( جَعَلَهُ دَكًّا ) وهذا نظير قولك : « أنا أعطيك هذا الكتاب إن صلّيت » فالمراد هو قيام المخاطب بها بالفعل ، لا امكان قيامه.

وهذا الاستدلال من الأشاعرة من غرائب الاستدلال.

ص: 438

الرؤية القلبيّة

ثم إنّ للعلاّمة الطباطبائي نظرية في معنى الرؤية نذكرها هنا ملخّصة :

يقول العلاّمة : « والذي يعطيه التدبّر انّ حديث الرؤية والنظر الذي وقع في الآية إذا عرضناه على الفهم العامّي المتعارف حمله على رؤية العين ونظر الأبصار الذي يهيّئ للباصر صورة مماثلة لصورة الجسم المبصر في شكله ولونه.

وبالجملة ، هذا الذي نسمّيه الابصار الطبيعي يحتاج إلى مادة جسمية في المبصر والباصر جميعاً وهذا لا شك فيه.

والتعليم القرآني يعطي اعطاءً ضرورياً إنّ اللّه تعالى لا يماثله شيء بوجه من الوجوه في خارج ولا ذهن البتة.

وما هذا شأنه لا يتعلّق به الابصار بالمعنى الذي نجده من أنفسنا البتة ، ولا تنطبق عليه صورة ذهنية لا في الدنيا ولا في الآخرة ضرورة.

وقد أطلق اللّه الرؤية وما يقرب منها في موارد كثيرة من كلامه فتارة أثبتها ، وتارة نفاها.

فربّما تفسّر الرؤية بحصول العلم الضروري لمبالغة في الظهور ونحوها كما قيل.

وفيه انّا لا نسمّي كل علم ضروري رؤية. مثلاً إنّا نعلم علماً ضروريّاً بوجود « لندن » ولم نرها ولا نسمّيه رؤية.

وأوضح من هذا علمنا الضروري بالبديهيات الأوّلية التي هي بكلتيها غير مادّيّة ولا محسوسة ، مثل قولنا « الواحد نصف الاثنين » فإنّها علوم ضرورية يصحّ اطلاق العلم عليها ، ولا يصحّ اطلاق الرؤية عليها البتة.

نعم بين معلوماتنا ما لا نتوقّف في إطلاق الرؤية عليه واستعمالها فيه ، نقول : وأراني اُريد كذا وأكره كذا واُحبّ كذا.

ص: 439

وتسمية هذا القسم من العلم الذي يجد فيه الإنسان نفس المعلوم بواقعيته الخارجية رؤية مطرّدة.

واللّه سبحانه في ما أثبت من الرؤية يذكر معها خصوصيّات ويضم إليها ضمائم يدلّنا على أنّ المراد بالرؤية هذا القسم من العلم الذي نسمّيه في ما عندنا أيضاً رؤية كما في قوله : ( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ ) ( فصّلت / 53 و 54 ).

حيث أثبت أوّلاً : انّه على كل شيء حاضر ومشهود له ، لا يختصّ بجهة دون جهة ، وبمكان دون مكان ، وبشيء دون شيء بل شهيد على كل شيء ، محيط بكل شيء ، لو وجده شيء لوجده على ظاهر كل شيء وباطنه ومع نفس وجدانه وعلى نفسه.

وثانياً يثبت على هذه السمة لقاؤه ، لو كان هناك لقاء لا على نحو اللقاء الحسّي الذي لا يتأتّى البتة إلاّ بمواجهة جسمانية وتعيّن جهة ومكان وزمان.

وبهذا يشعر ما في قوله : ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) ( النجم / 11 ) من نسبة الرؤية إلى الفؤاد الذي لا شبهة في كون المراد به هو النفس الإنسانية الشاعرة دون اللحم الصنوبري المعلّق على يسار الصدر داخلاً.

ونظير ذلك قوله تعالى : ( كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ) ( المطفّفين / 14 و 15 ).

دلّ على أنّ الذي يحجبهم عنه تعالى رين المعاصي والذنوب التي اكتسبوها فحال بين قلوبهم أي أنفسهم وبين ربّهم فحجبهم عن تشريف المشاهدة ، لولا المعاصي لرأوه بقلوبهم أي أنفسهم لا بأبصارهم وأحداقهم.

فبهذه الوجوه يظهر أنّه تعالى يثبت في كلامه قسماً من الرؤية والمشاهدة وراء الرؤية البصرية الحسيّة وهي نوع شعور في الإنسان يشعر بالشيء بنفسه من غير استعمال آلة حسيّة أو فكرية ، وانّ للإنسان شعوراً بربّه غير ما يعتقد بوجوده من

ص: 440

طريق الفكر واستخدام الدليل ، بل يجده وجداناً من غير أن يحجبه عنه حاجب ، ولا يجرّه إلى الغفلة عنه إلاّ اشتغاله بنفسه وبمعاصيه التي اكتسبها ، وهي مع ذلك غفلة عن أمر موجود مشهود لا زوال علم بالكلّية ومن أصله ، فليس في كلامه تعالى ما يشعر بذلك البتة ، بل عبّر عن هذا الجهل بالغفلة وهي زوال « العلم بالعلم » لا زوال أصل « العلم ».

فهذا ما يبيّنه كلامه سبحانه ويؤيّده العقل بساطع براهينه والذي ينجلي من كلامه تعالى أنّ هذا العلم المسمّى بالرؤية واللقاء يتم للصالحين من عباد اللّه يوم القيامة.

فهناك موطن التشرّف بهذا التشريف ، وأمّا في هذه الدنيا والإنسان مشتغل ببدنه ، ومنغمر في غمرات حوائجه الطبيعية فهو سالك لطريق اللقاء والعلم الضروري بآيات ربّه كادح إلى ربه كدحاً ليلاقيه ، فهو ما زال في طريق هذا العلم لن يتم له حتى يلاقي ربّه.

فهذا هو العلم الضروري الخاص الذي أثبته اللّه تعالى لنفسه وسمّاه رؤية ولقاء ، ولا يهمّنا البحث من أنّها على نحو الحقيقة أو المجاز ، فإنّ القرائن كما عرفت قائمة على إرادة ذلك فان كانت حقيقة كانت قرائن معيّنة ، وإن كانت مجازاً كانت صارفة ، والقرآن الكريم أوّل كاشف عن هذه الحقيقة على هذا الوجه البديع ، فالكتب السماوية السابقة على ما بأيدينا ساكتة عن إثبات هذا النوع من العلم باللّه وتخلو عنه الأبحاث المأثورة عن الفلاسفة الباحثين عن هذه المسائل ، فإنّ العلم الحضوري عندهم كان منحصراً في علم الشيء بنفسه حتى كشف عنه في الإسلام فللقرآن المنّة في تنقيح المعارف الإلهية (1) انتهى.

وما ذكره ( قدس اللّه سره ) متين وقد سبقه إليه العرفاء الشامخون في تفسير

ص: 441


1- الميزان : ج 8 ، ص 249 - 253 ، طبعة طهران. وأذكر كلام سيّد الموحدين أمير المؤمنين حيث قال : تدركه القلوب بحقائق الإيمان نهج البلاغة : الخطبة 174.

« لقاء اللّه » ، وحاصل هذا الجواب هو تعميم « العلم الحضوري » إلى علم الإنسان بنفسه وعلمه بعلّته التي هو قائم بها.

فالإنسان في ذلك المشهد الاُخروي يجد حضوره عند خالقه وبارئه ، وذلك لأنّه لا حقيقة للمعلول إلاّ قوامه بعلّته ، وتعلّقه به كتعلّق المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ، فالإنسان في ذلك المشهد لأجل كما له يجد ذلك التعلّق ، ويجد نفسه حاضراً عند بارئه حضوراً حقيقياً لا حصولياً ، فكم فرق بين أن يتصوّر الإنسان تعلّقه بعلّته ، أو ينتزع صورة من علّته فيصل إليه ببركة الصورة ، وبين أن يجد تلك الواقعية بوجودها الخارجي ، فذلك الحضور والشهود شهود بعين القلب ، وحضور بتمام الوجود لا يصل إليه إلاّ الأوحديّ في الدنيا ، وكما يصل أكثر المؤمنين في العالم الآخر وثبوت الرؤية بهذا المعنى لا تضر بالعدلية ولا تنافي مسلكهم ، وإنّما الكلام في الرؤية بالمعنى العرفي.

ونختم المقال بالمروي عن سيّد الموحّدين في مناجاته المعروفة بالمناجاة الشعبانية يقول : « إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك ، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة ... . ».

ص: 442

حرف الميم

المائة والثامن : « المؤمن »

وقد ورد لفظ « المؤمن » في القرآن 22 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في مورد واحد.

قال : ( اللّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ ) ( الحشر / 23 ).

ذكر ابن فارس : إنّ لمادته معنيين متقاربين ، أحدهما الأمانة التي هي ضد الخيانة ومعناها سكون القلب ، والآخر التصديق ، ويظهر من « الراغب » إرجاع المعنيين إلى معنى واحد قال : أصل الأمن طمأنينة النفس وزوال الخوف. و « الأمن » و « الأمانة » و « الأمان » في الأصل مصادر.

وكأنّه يريد إرجاع المعنى الثاني أي التصديق إلى المعنى الأوّل وهو طمأنينة النفس وزوال الخوف ، وعلى كل تقدير فقد استعمل القرآن هذه المادة في المعنيين المذكورين قال حاكياً عن ولد يعقوب : ( وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ) أي بمصدّق لنا ، وكما قال : ( وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ) أي أعطاهم الأمان الذي هو ضد الاخافة ، وربّما يقال في إرجاع التصديق إلى المعنى الأوّل أي الأمان هو انّ المتكلم يخاف أن يكذّبه السامع فإذا صدّقه وآمن له ، فقد أزال ذلك الخوف عنه فسمّي التصديق إيماناً.

والظاهر أنّ المراد من المؤمن في الآية الذي وقع وصفاً له سبحانه هو « معطي الأمان » لعباده حيث يؤمّنهم عن العذاب في الدنيا والآخرة ، قال : ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ

ص: 443

لَهُم مِّنَّا الحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ المَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) ( الأنبياء / 101 - 103 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) ( فصّلت / 30 ).

ويمكن أن يقال : إنّ المؤمن بمعنى المصدّق فهو سبحانه يصدّق أوليائه بالمعاجز والكرامات.

وأمّا حظ العبد من هذا الإسم فهو أن يؤمّن الخلق كلّهم من جانبه خصوصاً من كان له صلة به ، قال النبي : « المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه » وقد روي أنّه قال : « من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر ، فليؤمّن جاره بوائقه » (1).

هذا إذا كان مأخوذاً من الأمان بمعنى معطيه ، وأمّا إذا كان من الايمان بمعنى التصديق فحظّه هو الإيمان باللّه ورسله وكتبه وكل ما اُنزل من اللّه سبحانه.

المائة والتاسع : « مالك الملك »

وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه.

قال سبحانه : ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( آل عمران / 26 ).

أمّا معناه فقد قال ابن فارس : « يدلّ على قوّة في الشيء وصحّة ، يقال : أملك عجينه أي قوّى عجنه وشدّه ، ثم اشتق منه ما يقال ملك الإنسان الشيء يملكه ملكاً

ص: 444


1- نقله الرازي في لوامع البيّنات : ص 91.

والاسم الملك - بكسر الميم - لأنّ يده فيه قويّة صحيحة ، فالملك - بكسر الميم - ما ملك من مال.

أقول : قد اشتق من هذه المادة الألفاظ التالية :

1 - المُلك - بضم الميم -.

2 - المِلك - بكسرها -.

3 - الملِك - بكسر اللام -.

4 - المالك.

5 - المليك.

6 - المَلك - بفتح الميم وسكون اللام -.

7 - الملكوت.

وقد ورد الكل في الذكر الحكيم غير الملك - بكسر الميم - ولا بأس بتوضيح مفاد الكل من خلال الدقّة في الآيات المشتملة عليها.

قد عرفت أنّ المعنى الأصلي الجذري لمادة هذه الكلمات هو القوّة والقدرة فاشتقاق هذه الكلمات من ذلك المبدأ بهذا المعنى باعتبار معان طارئة عليها ونسب مضافة إليها.

أمّا الملك - بضم الميم - فهي عبارة عن السلطة سواء كان على الناس أم على الأشياء ، لكن السلطة على الناس مبدأ للسياسة والتدبير في ُامورهم وشؤونهم ، والسلطة على الشيء مبدأ للتصرف فيه بالبيع والهبة ، فالجامع بينهما هو السلطة ، ولها في كل مورد أثر خاص ، والمتبادر من الملك - بالضم - الوارد في القرآن الكريم 42 مرّة هو ذاك وإليك بعض الآيات :

( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ) ( البقرة / 102 ).

ص: 445

( قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا ) ( البقرة / 247 ).

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ المُلْكَ ) ( البقرة / 258 ).

( قَوْلُهُ الحَقُّ وَلَهُ المُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ) ( الأنعام / 73 ).

( لِمَنِ المُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) ( غافر / 16 ).

والآيات تعرب عن معنى الكلمة وهو وجود السلطة والقدرة على التصرّف.

وأمّا الملك - بكسر الميم - فيراد منه الشيء المملوك نظير قول القائل : « السكة ضرب الأمير » أي مضروبه ، ولا يتّصف الشيء بالمملوكية إلاّ إذا كانت هناك رابطة تكوينيّة أو وضعية بينه وبين الشخص ، أمّا الرابطة التكوينية ككون الإنسان مالكاً لجوارحه وفيء ظلّه له السلطة على القبض والبسط والاستعمال والترك ، وإذا كانت الرابطة تكوينيّة واقعيّة حقيقية ، فلا تتغير ولا تنعدم عبر الزمان إلاّ بموت الإنسان وانعدامه ، وأمّا الرابطة الوضعيّة الاعتباريّة ، فكما إذا استولى على شيء من باب الحيازة فيرى نفسه أولى به من غيره ، ولأجله يقوم بهبته وبيعه وتبديله ، وبما أنّ الرابطة وضعيّة اعتباريّة تكون خاضعة للتبدّل والتحوّل ، ولعلّ مبدأ الانتقال إلى الرابطة الوضعية ، هي الرابطة التكوينية الموجودة بين الإنسان وأعضائه ، فاعتبرت بين الإنسان وما استولى عليه محاكاة للتكوينية من الرابطة.

أمّا المَلِك - بفتح الميم وكسر اللام - فهو وصف من المُلك - بضم الميم - أي القادر الواسع القدرة الذي له السياسة والتدبير ، فبما أنّ له السلطة على شؤون الناس والسياسة يطلق عليه المَلِك فهو المتصرّف بالأمر والنهي في المجتمع ، وهذا هو المتبادر من لفظ الملك في الآيات التي ورد فيها ، قال سبحانه : ( وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ) ( الكهف / 79 ).

وقال سبحانه : ( إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ) ( البقرة / 246 ).

ص: 446

ولمّا كان أصحاب السلطة عبر القرون غالباً غير ملتزمين بالعدل والإنصاف ، قال سبحانه حاكياً عن ملكة سبأ : ( إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ) ( النمل / 34 ).

وأمّا المالك فهو صيغة الفاعل فهو من بيده « الملك » - بالضم - أو الملك - بالكسر - فاللّه سبحانه مالك المُلك - بضم الميم - كما أنّه مالك الملك - بالكسر - ومالكيّته للأشياء لا ينافي ملكية الناس لها لإختلاف الرابطتين جوهراً وحقيقة ، فاللّه سبحانه مالك للسماء والأرض وما فيهما مالكية تكوينية بإيجادها وابداعها لكن مالكية الإنسان لما يحوزه أو يكسبه مالكية اعتبارية اعتبرت مضاهية للرابطة الموجودة بين الإنسان وأعضائه.

وأمّا المليك فهي صيغة مبالغة من المَلِك - بكسر اللام -.

قال تعالى : ( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ) ( القمر / 55 ).

وأمّا « الملكوت » فهو المُلك - بضم الميم - أضيف إليه الواو والتاء للمبالغة كالطاغوت والجبروت بالنسبة إلى الطغيان والجبر ، والمتدبّر في الآيات الواردة حول هذا اللفظ يقف على أنّ المراد هو وجود الأشياء من حيث انتسابها إلى اللّه سبحانه وقيامها به وهذا أمر لا يقبل الشركة ويختصّ به سبحانه وحده.

قال سبحانه : ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ ) ( الأنعام / 75 ).

وقال سبحانه : ( أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ ) ( الأعراف / 185 ).

والمراد منه حسب ما يعطيه التدبّر في الآيات الواردة في قصّة الخليل هو مشاهدة العالم من جهة استنادها إلى اللّه سبحانه استناداً لا يقبل الشركة ، ولأجل ذلك افترض الخليل لأجل الإحتجاج على الخصم ، أرباباً نسب إليهم في الظاهر تدبير العالم من كوكب زاهر وقمر بازغ وشمس مضيئة لأجل إفحام المخاطب ، ثم عدل

ص: 447

عنها لأجل اُفولها وغيبوبتها عن الإنسان المربوب وتوجّه إلى الرب الحقيقي وقال : ( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( الانعام / 79 ).

وأمّا الملك - بفتح الميم وسكون اللام - فقد جاء في قوله سبحانه : ( مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا ) ( طه / 87 ) فهو مصدر ملك يملك ، والمراد ما أخلفنا الوعد حسب ما كنا نملك من أمرنا.

هذا ما يرجع إلى تفسير هذه الأسماء السبعة على وجه الإجمال ، فلنرجع إلى تفسير « مالك الملك » الذي عقدنا البحث لأجل ذلك الاسم وإن اتّضح معناه بالبحث السابق.

قد عرفت أنّ المُلك - بضم الميم - هو السلطة والقدرة سواء تعلّق بالناس أو تعلّق بالشيء ، فاللّه سبحانه بما أنّه مبدع للعالم ، موجد للسماء والأرض وما بينهما يكون الكل ملكاً له سبحانه ملكية تكوينية ، وكونه مالكاً لما خلق يستلزم كونه ذا سلطة وقدرة عليه ، فينتج انّه سبحانه مالك الملك - بالضم - وله الايتاء لمن شاء والنزع ممّن شاء.

قال سبحانه : ( أَنْ آتَاهُ اللّهُ المُلْكَ ) ( البقرة / 258 ).

وقال سبحانه : ( وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ) ( النساء / 54 ).

وقال سبحانه : ( كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ... وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ ) ( الدخان / 25 - 28 ).

فالملك بمعنى السلطة بالذات موهبة إلهية للمجتمع الإنساني ، فلو كان المتقلّد للرئاسة دائناً بدين الحق ، حابساً نفسه على ذات اللّه ، قائماً بالقسط بين الاُمّة تكون راية العدل خفّاقة ، وأبواب العلم منفتحة ، فتعيش الاُمّة في ظلّها في صلاح وفلاح.

ص: 448

وأمّا إذا كان ذلك السلاح بيد إنسان سيئ السيرة خبيث النيّة فينزوي الحق وينتشر الباطل وتصبح الحياة رهينة للمصاعب والمآسي ، فاللّه سبحانه يمدح نفسه بأنّه « مالك الملك » فهو بهذا المعنى أي أنّه مالك تلك النعمة الثمينة كسائر النعم التي تقع على وجهين.

وأمّا قوله سبحانه : ( تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( آل عمران / 26 ) فلا يهدف إلى إنّ كلاًّ من الايتاء والنزع جزافيّ كيف وهو سبحانه حكيم منزّه عن العبث والجزاف.

قال سبحانه : ( لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ ) ( الأنبياء / 17 ).

وقال سبحانه : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) ( ص / 27 ).

بل المراد أنّه سبحانه غير مجبور على أي من الإيتاء والنزع ، فلا ينافي أن يكون كل منهما لمصلحة خاصّة عائدة على الاُمّة ...

المائة والعاشر : « مالك يوم الدين »

قد ورد هذا الاسم في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه.

قال سبحانه : ( الحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ( الفاتحة / 2 - 4 ).

قرأ عاصم والكسائي وخلف ويعقوب الحضرمي بالالف والباقون « ملك » بغير ألف.

ثمّ اختلفوا في أنّ أي القرائتين أمدح ، فذكر كل من الطائفتين وجوهاً لترجيح

ص: 449

قرائته على الآخر نذكر بعضها ، فمن قرأ بالألف قال :

1 - إنّ هذه الصفة أمدح لأنّه لا يكون مالكاً للشيء إلاّ وهو يملكه ، وهذا بخلاف ما إذا كان ملكاً للشيء فربّما لا يملكه كما يقال « ملك العرب والروم » وإن كان لا يملكهم.

2 - قد يدخل في المالك ما لا يصحّ دخوله في الملك - بكسر اللام - يقال فلان مالك الدراهم ولا يقال ملك الدراهم ، فالوصف بالمالك أعمّ من الوصف بالملك.

3 - واللّه مالك كل شيء وقد وصف نفسه بأنّه مالك الملك يؤتي الملك من يشاء ، فوصفه بالمالك أبلغ في الثناء والمدح من وصفه بالملك.

احتجّ من قرأ بغير الألف بوجوه :

1 - إنّ هذه الصفة أمدح لأنّه لا يكون إلاّ مع التعظيم والاحتواء على الجمع الكثير.

2 - إنّ الملك الذي يملك الكثير من الأشياء ويشاركه غيره من الناس في ملكه بالحكم عليه ، وعليه كل ملك مالك وليس كل مالك ملكاً ، وإنّما قال تعالى مالك الملك لأنّه تعالى يملك ملوك الدنيا وما ملكوا ، ومعناه أنّه يملك ملك الدنيا فيعطي الملك فيها من يشاء.

ولا يخفى أنّ هذه الوجوه قابلة للنقاش ولكل من القراءتين دليل قرآني.

أمّا الأوّل فقد قال سبحانه : ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ ) ( الإنفطار / 17 - 19 ) لأنّ قولك « الأمر له » عبارة اُخرى عن كونه مالك الأمر وبعبارة اُخرى إنّ مقتضى كونه بمنزلة الاستثناء من الآية المتقدّمة أعني ( لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ ) إنّه سبحانه مالك الأمر في ذلك اليوم.

كما أنّه يؤيّد القراءة الثانية قوله سبحانه : ( لِمَنِ المُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) ( غافر / 16 ).

ص: 450

وقال سبحانه : ( فَتَعَالَى اللّهُ المَلِكُ الحَقُّ ) ( طه / 114 ).

وقال سبحانه : ( المَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ ... ) ( الحشر / 23 ).

وقال سبحانه : ( مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ ) ( الناس / 2 و 3 ).

فلا يصحّ ترجيح واحد على الآخر بهذه الوجوه لأنّ لكل من القراءتين شاهداً قرآنياً ، فلابدّ من الترجيح بالتتبع في القراءة المرويّة عن النبي (ص) بطريق أصحّ. المائة والحادي عشر : « المبين »

قد ورد لفظ « المبين » في الذكر الحكيم 106 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في آية واحدة ، قال تعالى : ( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللّهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ ) ( النور / 25 ).

قال ابن فارس : « بان الشيء وأبان إذا اتّضح وانكشف ، وفلان أبين من فلان أي أوضح كلاماً منه ، وبهذا المعنى وقع وصفاً في القرآن لاُمور مثل : العدوّ ، والكتاب ، والضلال ، والبلاغ ، والسحر ، والفوز ، والثعبان ، والساحر ، والسلطان ، والقرآن ، والشهاب ، والإمام ، والنظير ، والخصيم ، واللسان ، والخسران ، والافك ، والشيء ، والنذير ، والبلاء ، والظالم ، والرسول ، والدخان ، والاُفق ، والاثم ، والنور ، والفتح.

وأمّا توضيح الآية فالمراد بالدين الجزاء كما في قوله : ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ( الحمد / 4 ).

وتوفية الشيء بذله تامّاً كاملاً والمعنى أنّ اللّه يعطيهم يوم القيامة جزاءهم الحق إعطاءً تامّاً كاملاً ، وأمّا قوله : ( وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ ) فهو من غرر الآيات القرآنية التي تفسّر معرفة اللّه وتنبئ عن أنّه تعالى هو الحق الواضح الذي يسهل الوصول إليه والتعرف عليه الذي لا سترة عليه بوجه من الوجوه ، وعلى أي تقدير من التقادير فهو أبده البديهيات التي لا يتعلّق بها جهل ، لكن البديهي ربّما

ص: 451

يغفل عنه فالعلم به تعالى يرجع إلى ارتفاع الغفلة عنه الذي ربّما يعبر عنه ب « العلم بالعلم » وهذا هو الذي يبدو لهم يوم الحق ( القيامة ) فيعلمون أنّ اللّه هو الحقّ المبين (1).

فاللّه سبحانه حق لا يشوبه باطل ، وجوده بيّن بالفطرة التي فطر الناس عليها ، مبين بآثاره وأفعاله ، مبين بوجوده ، وفي كلمات أئمّة أهل البيت درر مضيئة في هذا المجال نأتي ببعضها.

قال أمير المؤمنين علیه السلام : « يا من دلّ على ذاته بذاته وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته » (2).

وقال الإمام السبط الحسين بن علي علیه السلام :

« كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك ، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك ، متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك ، ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك ، عميت عين لا تر لك عليها رقيباً » (3).

وربّما يفسّر « المبين » بأنّه من الإبانة باعتبار إبانة خلقه كلاًّ من الآخر فصاروا أنواعاً وأصنافاً وأشخاصاً بحيث لم يكن ولا يكون فردان من كل صنف متّحدين من جميع الجهات حتى يشتبه أحدهما بالآخر (4).

والتفسير مبني على أخذه من « البين » بمعنى البينونة ، وهو لا يلائم مفاد الآية وسياقها.

ص: 452


1- الميزان : ج 15 ، ص 103.
2- من دعائه علیه السلام بعد طلوع الفجر المعروف بدعاء الصباح.
3- من دعاء الإمام الحسين علیه السلام يوم عرفة.
4- شرح الأسماء الحسنى للسيد حسين الهمداني : ص 36.

المائة والثاني عشر : « المُتَعال »

وقد ورد « المتعال » في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه.

قال : ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ المُتَعَالِ ) ( الرعد / 9 ).

وأمّا معناه فهو من العلو بمعنى السمو والارتفاع ، يقال تعالى النهار أي ارتفع.

والمتعال صفة من التعالي وهو المبالغة في العلوّ كما يدل عليه قوله : ( تَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ) ( الاسراء / 43 ).

فإنّ قوله علوّاً كبيراً مفعول مطلق لقوله سبحانه موضوع في محل قولنا تعالياً وهو سبحانه عليّ ومتعال ، أمّا أنّه عليّ فلأن العلوّ هو التسلط واللّه متسلّط على كل شيء ، وأمّا أنّه متعال فلأنّ له غاية العلو ، فهو العال غاية العلوّ.

ثمّ إنّ الهدف من توصيفه سبحانه بالأسماء الثلاثة في الآية هو التركيز على أنّه سبحانه محيط بكل شيء ( عالم الغيب والشهادة ) يملك كل كمال ( الكبير ) المتسلّط على كل شيء ولا يتسلّط عليه شيء ، فهو يعلم الغيب كما يعلم الشهادة ، ولا يغلبه غيب حتى يعزب عن علمه شيء ، لأنّه جامع لكل كمال ، ومتسلّط على كل شيء (1).

ثمّ إنّ هناك احتمالاً آخر وهو أنّ المقصود من المتعال هو تعاليه عن كل عيب ونقص وعن كل شريك وند ، عمّا يجول في فكر المشركين والكافرين ، ويؤيّد ذلك انّ فعل هذا الوصف جاء في القرآن الكريم 14 مرّة واُريد منه ذلك ، قال سبحانه :

( وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الأنعام / 100 ) (2).

ص: 453


1- الميزان : ج 1 ، ص 337 - 338.
2- وفي آيات : (فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(الأعراف/190، یونس/18، النحل/1و3، المؤمنون/92، النمل / 63، القصص / 68 ، الروم / 40 ، الزمر / 67 ). وهذا المعنی يعد فرعاً للمعنی الكلّي الذي فسّر به في تفسير «المیزان»

المائة والثالث عشر : « المتكبّر »

وقد ورد ذلك اللفظ في القرآن 3 مرّات ووقع في مورد واحد وصفاً له سبحانه.

قال سبحانه : ( السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( الحشر / 23 ). وهو مأخوذ من الكبر - بسكون الباء - (1) بمعنى العظمة ، ومثله الكبرياء ، ومعنى المتكبّر هو من تلبّس بالكبرياء وظهر بها ، وإذا كان الكبر هو الحالة التي يوجب إعجاب المرء بنفسه ورؤية ذاته أكبر من غيره ، لا ترى لذلك الوصف حقيقة إلاّ في ذاته سبحانه.

قال الغزالي : « المتكبّر هو الذي يرى الكل حقيراً بالاضافة إلى ذاته ، فلا يرى العظمة والكبرياء إلاّ لنفسه ، وينظر إلى غيره نظر الملوك إلى العبيد ، فان كانت هذه الرؤية صادقة كان التكبّر حقّاً وكان صاحبها محقّاً في ذلك التكبّر ، ولا يتصوّر ذلك على الاطلاق إلاّ في حق اللّه سبحانه وتعالى ، ولئن كانت تلك الرؤية باطلة ولم يكن ما يراه من التفرد بالعظمة كما يراه ; كان التكبّر باطلاً مذموماً ، وقد نقل عن النبي صلی اللّه علیه و آله حاكياً عن ربّ العزّة جلّ جلاله : « الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ، من نازعني واحداً منهما قذفته في النار » (2) وعلى ذلك فالتكبّر صفة مدح وكمال في حقّه سبحانه وفي حقّ غيره صفة نقص واختلال.

ثمّ إنّ بعض أهل العربية زعم أنّ باب التفعّل بمعنى التكلف دائماً ، فوقع في تفسير ذلك الاسم في حيص وبيص ، والحق انّه ليس أصلاً دائميّاً بل ربّما يجيء بمعنى اظهار المبدأ كما هو الحال في باب التفاعل.

ص: 454


1- لا من الكبر - بفتح الباء - وهو الهرم والطعن في السن.
2- معنى الحديث أنّ العظمة له سبحانه والكبرياء عبارة عن إراءتها كما هو الحال في المتكبّر.

وأمّا حظ العبد من ذلك الاسم فهو أن يتكبّر عمّا سوى الحق تعالى فلا يطلب في عمله سواه حتى يكون هو الغاية دون غيره.

ثمّ إنّ رأس المعاصي ومبدأها هو التكبّر على الحق سواء كان هو اللّه سبحانه أم كان أنبيائه ورسله أم كتبه وزبره ، فلا يعصي العاصي إلاّ عن طغيان وتكبّر وإن لم يحس به في نفسه وهو أوّل ما عصي به الرحمان.

قال سبحانه : ( إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) ( البقرة / 34 ).

وقال سبحانه : ( وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ ) ( القصص / 39 ).

وللإمام أمير المؤمنين علیه السلام كلمة في الكبر نأتي بها ، قال علیه السلام :

« الحمد لله الذي لبس العزّ والكبرياء واختارهما لنفسه دون خلقه وجعلهما حمى وحرماً على غيره ، واصطفاهما لجلاله ، وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عبادة ، ثم اختبر بذلك ملائكته المقرّبين ليميّز المتواضعين منهم من المستكبرين ... ( إلى أن ذكر إبليس فقال ) ... اعترضته الحمية فافتخر على آدم بخلقه وتعصّب عليه لأصله ، فعدو اللّه إمام المتعصبين وسلف المستكبرين الذي وضع أساس العصبية ، ونازع اللّه رداء الجبرية ، وادّرع لباس التعزّز ، وخلع قناع التذلّل ، ألا ترون كيف صغّره اللّه بتكبّره ، ووضعه بترفّعه ، فجعله في الدنيا مدحوراً وأعدّ له في الآخرة سعيراً » (1).

ص: 455


1- نهج البلاغة : خطبة 192.

المائة والرابع عشر : « المتين »

وقد ورد المتين في الذكر الحكيم 3 مرّات ووقع في مورد واحد وصفاً له سبحانه.

قال سبحانه : ( مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ ) ( الذاريات / 57 و 58 ).

و « المتين » من المتن قال ابن فارس : وهو في الأصل بمعنى الصلابة في الشيء مع امتداد وطول ، والمتنان من الإنسان مكتنفاً الصلب من عصب ولحم.

والظاهر أنّ الامتداد والطول ليس جزء لمعناه وإنّما هو من لوازم الجري حيث يطلق على الأرض الصلبة أو على ما يكتنف الصلب من عصب ولحم ، فلو اطلق على الحبل المستحكم « المتين » فهو من هذا الباب.

وجعل الرازي الأصل للمتن هو الظهر ، قال : أمّا المتين فهو الشديد واشتقاقه من المتانة وهي الصلابة لغة ، مأخوذاً من المتن وهو الظهر لأنّ استمساك أكثر الحيوان أن يكون بالظهر ، ولهذا سمّيت القوّة باسم الظهر وباسم المتين.

قال تعالى : ( وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) ( الإسراء / 88 ) ويقال كلام متين إذا كان قوّياً (1).

وعلى كل تقدير فسواء كان الأصل هو الصلابة كما عليه ابن فارس أو الظهر كما عليه الرازي ، فلا يصحّ توصيفه سبحانه بواحد من المعنيين ، فوجب حمله على لازمه وهو الموجود الذي لا يتأثّر بالغير.

وقد عرفت أنّ القوّة لا ترادف القدرة المطلقة بل المراد المرتبة الشديدة منها فعلى ذلك يكون القويّ في الآية مرادفاً لقوله : ( ذُو الْقُوَّةِ ) كما يكون المتين تأكيداً له بمعنى أنّه لا يغلب ولا يتأثّر من غيره فيكون مرادفاً لقولنا واجب الوجود لذاته.

ص: 456


1- لوامع البينات : ص 295.

المائة والخامس عشر : « المجيب »

وقد ورد كل من المجيب والمجيبين مرّة واحدة ووقعا وصفين له سبحانه.

قال سبحانه : ( فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ ) ( هود / 61 ).

وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ المُجِيبُونَ ) ( الصافّات / 75 ).

وهو من « الجوب » وهو في الأصل بمعنى خرق الشيء ، ولعلّ استعماله في الجواب والإجابة بما انّه خرق للسكوت ، ولكن « ابن فارس » قال : له أصل ( معنى ) آخر وهو مراجعة الكلام ، يقال كلّمه فأجابه جواباً.

وعلى كل تقدير فهو وصف فعل لله سبحانه فهو يجيب سؤال عبيده ليس إجابته بالكلام وإنّما هو باعطاء سؤلهم ، فهو اسم له تعالى باعتبار إعطائه طلب السائلين :

قال سبحانه : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) ( البقرة / 186 ).

نعم للإجابة شروط مقرّرة في أبحاث الدعاء فليس الإجابة محرّرة من كل شرط.

المائة والسادس عشر : « المجيد »

قد ورد « المجيد » في الذكر الحكيم 4 مرّات ووقع في موردين اسماً له سبحانه كما أنّه وقع في موردين آخرين وصفاً للقرآن الكريم.

قال سبحانه : ( رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ) ( هود / 73 ).

وقال : ( وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ المَجِيدُ ) ( البروج / 14 و 15 ).

وقال في وصف القرآن : ( ق * وَالْقُرْآنِ المَجِيدِ ) ( ق / 1 ).

وقال : ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) ( البروج / 21 و 22 ).

ص: 457

وأمّا معناه فقد قال ابن فارس : فهو في الأصل يدل على بلوغ النهاية ولا يكون إلاّ في محمود منه « المجد » : بلوغ النهاية في الكرم ، واللّه « الماجد » و « المجيد » لا كرمَ فوق كرمه ، وتقول العرب : « ماجد فلان فلاناً : فاخره ».

وقال الراغب : « المجد » السعة في الكرم والجلال ولو وصف به القرآن الكريم فلأجل كثرة ما يتضمّن من المكارم الدنيويّة والاُخروية ، وبما أنّ كثرة المباني تدلّ على كثرة المعاني فيكون المجيد مبالغة في المجد ، فالمجيد اسم له تعالى باعتبار رفعة ذاته وصفاته أو سعة كرمه وإحسانه حيث لا يتمكّن أحد من بلوغ تلك الرفعة.

المائة والسابع عشر : « المحيط »

وقد جاء المحيط في القرآن الكريم 9 مرّات ووقع وصفاً له في موارد ثمانية.

قال سبحانه : ( وَاللّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ) ( البقرة / 19 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ) ( آل عمران / 120 ).

وقال سبحانه : ( بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ ) ( البروج / 19 و 20 ).

والكلمة من الحوط وهو الإطافة بالشيء ، ويطلق الحائط على الجدار الذي يحوط بالمكان ، والمراد من هذا الوصف سعة وجوده سبحانه حيث لا يحدّه شيء بل كل شيء محاط له وقد أحاط بكل شيء علماً.

ثمّ إنّ الظاهر من الايات أنّه سبحانه بذاته ووجوده محيط بالأشياء ، كما أنّه محيط بعلمه أيضاً ، غير أنّ من يثبت لله سبحانه جهة فوق العرش يؤوّل هذه الآيات بالاحاطة العلمية ، وقد ذكرنا كلمة « أحمد بن حنبل » عند البحث عن اسم « القريب ».

قال سبحانه : ( وَاللّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ) ( البقرة / 19 ).

ص: 458

وقال سبحانه : ( أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ ) ( فصّلت / 54 ).

والعجب أنّ الرازي يفسّر الآية الثانية بقوله أنّه أحاط بكل شيء علماً (1).

المائة والثامن عشر : « المحيي »

وقد ورد في الذكر الحكيم مرتين ووقع وصفاً له فيهما.

قال سبحانه : ( فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( الروم / 50 ).

وقال سبحانه : ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي المَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( فصّلت / 39 ).

وعلى ذلك فالمحيي من صفات الفعل ، فهو يحيي الأرض بعد موتها كما يحيي الإنسان يوم القيامة كذلك.

وقد عطفت الإحياء على الإماتة في غير واحد من الآيات.

وقال سبحانه حاكياً عن إبراهيم : ( وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ) ( الشعراء / 81 ).

وقال سبحانه : ( وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) ( البقرة / 28 ).

ثمّ إنّ الإحياء والإماتة منصرفان إلى الجسمانية منهما ، وربّما يطلق على غيرها.

قال سبحانه : ( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ) ( الأنعام / 122 ).

وقال سبحانه : ( وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ ) ( فاطر / 22 ).

وعلى ذلك فالإحياء والإماتة باقسامهما من اللّه سبحانه يفاضان منه إلى عباده

ص: 459


1- لوامع البيّنات : ص 358.

ومخلوقاته عن طريق الأسباب والعلل ، فالاعتراف بأنّه هو المحيي والمميت ليس انكاراً لقاعدة السببية والعلّية ، فاللّه سبحانه كما هو المميت ، فملك الموت أيضاً مميتٌ وكذلك الملائكة.

قال سبحانه : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) ( السجدة / 11 ). كما أنّ هناك رسلاً غيبيّة يقومون بهذا العمل.

قال سبحانه : ( حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ) ( الأعراف / 37 ).

وقد ذكرنا ذلك غير مرّة.

وأمّا حظ العبد من هذا الاسم فهو أن يحيي قلبه بذكره وعبادته وإماتة الغزائز العادية بكبح جماحها.

المائة والتاسع عشر : « المستعان »

وقد ورد « المستعان » في الذكر الحكيم ووقع وصفاً له سبحانه مرّتين.

قال تعالى : ( وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) ( يوسف / 18 ).

وقال سبحانه : ( قَالَ رَبِّ احْكُم بِالحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) ( الأنبياء / 112 ).

و « المستعان » صيغة مفعول من « استعان » بمعنى طَلَبَ العون.

قال الراغب : وهو بمعنى المعاونة والمظاهرة.

قال سبحانه : ( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ) ( الكهف / 95 ) و ( أَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ) ( الفرقان / 4 ) والاستعانة : طلب العون.

قال سبحانه : ( اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) .

ص: 460

وتقديم اسم الجلالة على ذاك الاسم أو تقديم « ربّنا » عليه لإفادة الحصر التي يفيده قولنا : ( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ( الحمد / 4 ). ومعناه أنّه لا يستعين أحد غيره إلاّ خاب عن مراده فهو المستعان لا غير.

نعم هذا الحصر لا ينافي الاستعانة بالغير بما أنّ أعانته منتهية إلى اللّه سبحانه فالاستعانة من الأسباب والعلل الظاهرية ، أو الإستعانة بالأرواح المقدّسة بمعنى أنّه هو الذي جعلها أسباباً وفاض عليها وصف السببية كيف وقد أمر به سبحانه إيماءً واشارةً ووضوحاً وتصريحاً.

قال سبحانه حاكياً عن ذي القرنين : ( قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ) ( الكهف / 95 ). وقال سبحانه : ( اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) ( البقرة / 153 ).

وهذا أصل مطّرد في كل اسم مختص باللّه سبحانه ، فهو الواجد لكمال حقيقته ولو وصف به الغير فإنّما يوصف بتسبيب وإفاضة منه ، فهو المستعان حقيقة واستقلالاً وغيره يستعان منه إلاّ بتسبيب منه ، وهو غير مستقل في الإعانة والنصر.

وأمّا حظّ العبد من ذلك الاسم ، هو التعاون في التقوى والتجنّب عنه في الإثم والعدوان ، قال سبحانه : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) ( المائدة / 2 ).

المائة والعشرون : « المصوّر »

اشارة

وقد ورد هذا اللفظ في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه.

قال : ( هُوَ اللّهُ الخَالِقُ الْبَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( الحشر / 24 ).

ص: 461

و « المصوّر » من الصورة وهي صورة كل مخلوق وهيئته التي خلق عليها (1).

قال الراغب : « الصورة » ما ينتقش بها الأعيان ويتميّز بها عن غيرها ، وهي بين محسوس ومعقول ، والمحسوس كصورة الإنسان والفرس والحمار بالمعاينة ، والمعقول الصورة التي اختص الإنسان بها من العقل والرؤية والمعاني التي خصّ بها شيء بشيء.

يلاحظ عليه : انّ تقسيم الصورة إلى القسمين تقسيم فلسفي خارج عن اطار المعنى اللغوي للفظ ، وقد جرّه إلى هذا التقسيم تصحيح ما روي عن النبي أنّه قال : « إنّ اللّه خلق آدم على صورته » بناءً على أنّ الضمير المجرور يرجع إلى اللّه ، وسيوافيك تفسير الحديث بوجهين.

والظاهر أنّ المراد من المبدأ في المصوّر هو الصورة الحسّية التي اُشير إليها في كثير من الآيات.

قال سبحانه : ( هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ) ( آل عمران / 6 ).

وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ ) ( الأعراف / 11 ).

وقال سبحانه : ( وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ) ( غافر / 64 ).

نعم كان تصوير آدم على وجه الكمال ملازما لكونه ذا صورة عقليّة مدركة

ص: 462


1- الظاهر من صاحب المقاييس انّ الصورة مأخوذة من صور ، ويؤيّده كون الواو ظاهرة في مشتقاته ك ( المصوّر ، المصور ، التصوير ، الصور ) غير أنّ الرازي قال : الصورة مأخوذة من صار يصير ، ومنه قولهم « إلى ماذا صار أمرك » ... وصورة الشيء هو الجزء الذي باعتباره يكون الشيء حاصلاً كائناً لا محالة فلا جرم كانت الصورة منتهي الأمر ومصيره ( لوامع البيّنات : ص 209 ) ولا يخفى بعده وليس من الممتنع أن يكون لمادة « صور » معان مختلفة منها الامالة ومنه قوله تعالى ( فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ) ومنه « أصور » بمعنى مائل العين ، ومنها « الصورة » الهيئة التي يخلق الشيء عليها ).

بالبصيرة ، وهو غير كون الصورة موضوعة للأعمّ من الحسّيّة والعقليّة.

وكونه سبحانه هو المصوّر دون غيره لا ينافي تدخّل الأسباب المادّيّة والصفات الموروثة في التصوير ، فإنّها من جنوده سبحانه تعمل بإرادته ومشيئته وتأثير الكل ينتهي إليه فهو المصوّر حقيقة ، وغيره من العلل الطوليّة والعرضيّة مصوّرة بإذنه ومشيئته.

تفسير الحديث النبوي

روى الفريقان عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « إنّ اللّه خلق آدم على صورته » فأخذ بظاهره المشبّهة ، فتخيّلوا أنّ لله سبحانه صورة غير أنّ الروايات المرويّة عن أئمّة أهل البيت تفسّر الحديث بوجهين مختلفين وإليك بيانهما :

1 - قال « محمد بن مسلم » : سألت أبا جعفر علیه السلام عمّا يروون أنّ اللّه عزّ وجلّ خلق آدم على صورته ، فقال : هي صورة محدثة مخلوقة اصطفاها اللّه واختارها على سائر الصور المختلفة فأضافها إلى نفسه كما أضاف الكعبة إلى نفسه والروح إلى نفسه ، فقال سبحانه : ( بَيْتِيَ ) ( البقرة / 125 ). وقال سبحانه : ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ) ( الحجر / 29 ) (1).

وعلى هذا يرجع الضمير إلى اللّه تعالى وتكون الإضافة تشريفية.

2 - قال « الحسين بن خالد » قلت للرضا علیه السلام : يابن رسول اللّه إنّ الناس يروون أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « إنّ اللّه خلق آدم على صورته » فقال : قاتهلم اللّه لقد حذفوا أوّل الحديث : إنّ رسول اللّه مرّ برجلين يتسابّان فسمع أحدهما يقول لصاحبه : « قبّح اللّه وجهك ووجه من يشبهك » فقال صلی اللّه علیه و آله : « يا عبد اللّه لا تقل هذا لأخيك ، فإنّ اللّه عزّ وجلّ خلق آدم على

ص: 463


1- التوحيد للصدوق : باب أنّه عزّ وجلّ ليس بجسم ولا صورة ، الحديث 18 ، ص 103.

صورته » (1).

وعلى هذا فالضمير المجرور يرجع إلى الذي وجّه إليه السب المحذوف عن صدر الحديث ، وهناك وجوه اُخر لتفسير الحديث لاحظ « التوحيد » للصدوق وغيره من الكتب. المائة والواحد والعشرون : « المقتدر »

وقد ورد لفظ « المقتدر » في القرآن 3 مرّات ووقع وصفاً له سبحانه.

قال تعالى : ( كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ ) ( القمر / 42 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ) ( القمر / 54 و 55 ).

وقال سبحانه : ( وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا ) ( الكهف / 45 ).

وجاء بصيغة الجمع وصفاً له سبحانه.

قال سبحانه : ( أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ ) ( الزخرف / 42 ). وهو يعادل « القادر » و « القدير » في المعنى غير أنّه أبلغ في ثبوت المبدأ كما أنّه يدل على الاختيار ، وكلا الأمرين من مقتضيات باب الافتعال.

قال سبحانه : ( لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) ( البقرة / 286 ).

المائة والثاني والعشرون : « المقيت »

وقد ورد في الذكر الحكيم لفظ « المقيت » مرّة واحدة وجرى وصفاً له سبحانه.

قال سبحانه : ( مَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً

ص: 464


1- التوحيد باب تفسير قوله ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) الحديث 711 ص 153.

سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا ) ( النساء / 85 ).

والكلمة مشتقة من « القوت » قال ابن فارس : « يدل على امساك وحفظ وقدرة على الشيء ، ومن ذلك قوله تعالى : ( وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا ) أي حافظاً له شاهداً عليه وقادراً على ما أراد. قال الشاعر :

وذي ضعن كففت النفس عنه

وكنت على إسائته مقيتا

ومن الباب « القوت » ما يمسك الرمق ، وإنّما سمّي قوتاً لأنّه مساك البدن وقوّته (1).

فإذا كان أصله هو الامساك والحفظ فيصحّ تفسيره بالحفيظ والشهيد لملازمة الإمساك له ، فيكون متّحداً مع بعض أسمائه في المعنى كالحفيظ والشهيد.

قال الصدوق : « المقيت » معناه الحافظ الرقيب ، ويقال : بل هو القدير (2).

المائة والثالث والعشرون : « الملك »

وقد ورد لفظ « الملك » في الذكر الحكيم 11 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في 5 موارد.

قال سبحانه : ( فَتَعَالَى اللّهُ المَلِكُ الحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ) ( طه / 114 ).

وقال سبحانه : ( فَتَعَالَى اللّهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) ( المؤمنون / 116 ).

وقال سبحانه : ( هُوَ اللّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ

ص: 465


1- مقائيس اللغة : ج 5 ، ص 36.
2- التوحيد : ص 213.

المُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ ) ( الحشر / 23 ) (1).

وقد تقدّم الكلام في معنى الملك عند البحث عن اسم « مالك الملك » فلاحظ.

وقال نقلاً عن ملكة سبأ : ( قَالَتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا ) ( النمل / 34 ).

نعم هذه الملازمة غالبية ، وهناك ملوك يعرّفهم القرآن بالقدس والنزاهة قال سبحانه : ( اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا ) ( المائدة / 20 ).

والمراد من الملوك في الآية ، الأنبياء الذين ملكوا الأمر وتسلّموه بأمر من اللّه وتسنّدوا على منصّة الحكم كداود وسليمان (ع) ولا بأس بتوصيف اُمّة بني اسرائيل بهذا الوصف باعتبار انّ بعضهم كانوا ملوكاً تسرية لحكم البعض إلى الكل.

المائة والرابع والعشرون : « المولى »

وقد جاء لفظ المولى في الذكر الحكيم 18 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في 12 مورداً.

قال سبحانه : ( وَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) ( الأنفال / 40 ).

وقال سبحانه : ( وَاعْتَصِمُوا بِاللّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) ( الحج / 78 ).

وقال سبحانه : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ ) ( محمّد / 11 ).

ص: 466


1- لاحظ : الجمعة / 1 ، الناس / 2.

وقال سبحانه : ( بَلِ اللّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ) ( آل عمران / 150 ) (1).

وأمّا معناه فقد ذكر « ابن فارس » إنّ معنى ( الولي ) هو القرب ، يقال : « تباعد بعد ولي » أي قرب ، ويطلق « المولى » على المعتق - بالكسر - والمعتق والصاحب والحليف وابن العم والناصر والجار كل هؤلاء من الولي وهو القرب ... وفلان أولى بكذا أي أحرى به وأجدر.

والظاهر أنّ قرب أحد من أحد يكون سبباً لأولوّية أحدهما بالآخر ، وعلى ذلك فليس للمولى إلاّ معنى واحد وهو الأحرى والأجدر وله مصاديق مختلفة.

ثمّ إنّ بعض من تكلّم في مفاد « حديث الغدير » المشتمل على لفظ « المولى » أراد التشكيك في دلالته قائلاً بأنّ المولى يستعمل مضافاً إلى معنى « الأولى » و « الولي » في معان اُخرى ، كالرب والعم ، وابن العم والمعتِق ، والمعتَق والعبدُ ، والمالُ والحليفُ ، والجار والتابع و ...

وعند ذلك يكون الحديث غير صريح الدلالة ، وقد خفي عن المشكّك أنّه ليس للمولى إلاّ معنى واحد وهو الأولى الذي هو الولي بمعنى واحد ، وأمّا غيره فإنّما هو من مصاديقه وموارده ، وأوّل من نبّه بذلك « ابن البطريق » في عمدته (2).

وتبعه شيخنا « الأميني » في غديره وبذلك خرج لفظ « المولى » عن كونه مشتركاً بين سبعة وعشرين معنى إلى كونه ذا معنى واحد ، قال « الأميني » : الذي نرتأيه بعد الخوض في غمار اللغة ومجاميع الأدب وجوامع العربية ، إنّ المعنى الحقيقي من معاني المولى ليس إلاّ الأولى بالشيء ، وهو الجامع لهاتيك المعاني جمعاء ومأخوذ في كل منها بنوع من العناية ، ولم يطلق لفظ المولى على شيء منها إلاّ

ص: 467


1- لاحظ : البقرة / 286 ، الأنفال / 40 ، الأنعام / 62 ، التوبة / 51 ، الحج / 78 ، التحريم / 2 و 4.
2- راجع العمدة : 112 - 113.

بمناسبة هذا المعنى :

1 - فالربّ سبحانه هو أولى بخلقه من أي قاهر عليهم.

2 - والعمّ أولى الناس بكلاءة ابن أخيه والحنان عليه وهو القائم مقام والده.

3 - وابن العمّ أولى بمعاضدة ابن عمه لأنّهما غصنا شجرة واحدة.

4 - والمعتق - بالكسر - أولى بالتفضّل على من أعتقه من غيره.

5 - والمعتق - بالفتح - أولى بأن يعرف جميل من أعتقه ويشكره بالخضوع والطاعة.

6 - والعبد أولى أيضاً بالانقياد لمولاه من غيره وهو واجبه الذي نيطت سعادته به.

7 - والمالك أولى بكلاءة مملوكه والتصرّف فيه.

8 - والتابع أولى بمناصرة متبوعه ممّن لا يتبعه.

9 - والجار أولى بالقيام بحفظ حقوق الجوار من البعداء.

10 - والحليف أولى بالنهوض بما حالفه ودفعه عادية الجور عنه ... (1).

فإذا كان الأمر كذلك فالأولويّة لا تتحقّق إلاّ بوجود ملاك يصحّ معه توصيفه بها حسب اختلاف الموارد ، فاللّه سبحانه أولى بالمؤمنين وجميع عباده لأجل كونه خالقاً لهم ، مخرجاً لهم من العدم إلى الوجود ، فله الولاية الحقيقية ، كما أنّ النبي والولي أولى بالمؤمنين من أنفسهم لكونهما منصوبين من جانب من له الولاية الحقيقية حيث نصبا لصيانة العباد عمّا يخالف ولايته سبحانه على العباد.

فقال سبحانه : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ( المائدة / 55 ).

ص: 468


1- الغدير : ج 1 ، ص 369.

فالرسول ومن جاء بعده خلفاءه تعالى في الولاية لاشركاءه ، سبحانه أن يكون له ولي من الذلّ تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً.

وبذلك يظهر وضع سائر المِلاكات والمناطات من اللحمة والجوار ، والخدمة والإحسان والوحدة في الدين.

قال سبحانه : ( وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) ولأجل عدم وجود هذا الملاك بين المؤمن والكافر نفى الولاية بينهم وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ) ( المائدة / 51 ).

وعلى ذلك فالولاية الحقيقية التكوينية القائمة بالخلق والإيجاد لله سبحانه وغيرها ولاية تشريعية إلهية أو عقلائية ، ولكن ليس ثبوت الولاية فوضى بل يتبع ملاكاً تكوينياً أو إعتبارياً نابعاً من التكوين.

المائة والخامس والعشرون : « المهيمن »

وقد ورد لفظ « المهيمن » في الذكر الحكيم مرّتين ووقع وصفاً له سبحانه في آية وللقرآن في آية اُخرى.

قال سبحانه : ( المَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ ) ( الحشر / 23 ).

وقال سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ... ) ( المائدة / 48 ).

ويتخيّل في بادي النظر أنّ اللفظ مشتق من « همن » مع أنّه ليس كذلك إذ لم يرد في اللغة العربية « همن » وإنّما هو مشتق من أمن فبدّل الهمزة هاء.

قال الطبرسي : « أصل مهيمن : مؤيمن فقلبت الهمزة هاء كما قيل : في أرقت

ص: 469

الماء « هرقت » ، وقد صرف وقيل هيمن الرجل إذا ارتقب وحفظ وشهد ، ويهيمن هيمنة ، وعلى هذا يكون وزنه مفعيل مثل « مسيطر » و « مبيطر » ، وعلى هذا فيكون معنى « المهيمن » موجد الأمن والأمان ، فيكون ملازماً للرقابة والحفظ والشهادة فلو فسّر بالشاهد والحفيظ والرقيب كان تفسيراً باللازم.

وعلى ذلك فاللّه سبحانه هو الفائق المسيطر على العباد كما أنّ القرآن مسيطر على الكتب السماوية عامّة إذ به يعرف صدق ما في الكتب السماوية الاُخرى.

قال سبحانه : ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ( النمل / 76 ).

ص: 470

حرف النون

المائة والسادس والعشرون : « النصير »

وقد جاء النصير في الذكر الحكيم 24 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في موارد أربعة.

قال سبحانه : ( وَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) ( الأنفال / 40 ).

وقال سبحانه : ( وَاعْتَصِمُوا بِاللّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) ( الحج / 78 ).

وقال سبحانه : ( وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ) ( الفرقان / 31 ).

وقال سبحانه : ( وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرًا ) ( النساء / 45 ).

والنصير مبالغة في النصر بمعنى العون ، قال الصدوق : « الناصر والنصير بمعنى واحد ، والنصرة حسن المعونة » (1).

فهو سبحانه ينصر أنبيائه وأوليائه :

قال تعالى : ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ) ( غافر / 51 ).

وقال تعالى : ( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّ ) ( آل عمران / 123 ).

وقال تعالى : ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ

ص: 471


1- التوحيد : ص 214.

حُنَيْنٍ ... ) ( التوبة / 25 ). بل ينصر عباده في سبل الحياة نصراً مادّيّاً ونصراً معنوياً غير أنّ العباد بين شاكر وكافر ، وقليل من عباده الشكور.

المائة والسابع والعشرون : « النور »

وقد جاء النور في الذكر الحكيم معرفاً ومنكراً ، مضافاً وغير مضاف 41 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في آية واحدة وهي آية النور.

قال سبحانه : ( اللّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( النور / 35 ).

وأمّا معناه فهو حسب ما صرّح به « ابن فارس » يدلّ على الإضاءة ويطلق على الضوء المنتشر الذي يعين على الأبصار والمتبادر منه ما انتشر من الأجسام النيّرة كالقمرين والنجوم والمصابيح ، غير أنّه يستعار لكل ما يضيء طريق السعادة ، ولأجل ذلك اطلق النور على النبي الأكرم.

قال سبحانه : ( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) ( المائدة / 15 ).

وعلى التوارة قال سبحانه : ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ) ( المائدة / 44 ).

وعلى الإيمان قال سبحانه : ( اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) ( البقرة / 257 ).

وعلى القرآن قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ) ( النساء / 174 ).

ص: 472

إلى غير ذلك ممّا استعمل فيه النور ، واستعير لغير النور الحسّي لاشتراكهما في الأثر ، وهذا هو الأصل في الاستعارة والتوسّع في الاستعمال.

ولا شك انّ المراد من كون سبحانه نوراً ليس هو النور الحسّي بضرورة العقل والكتاب قال سبحانه : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) ( الشورى / 11 ). وإنّما المراد هو النور غير الحسّي.

بيان : إنّ الوجود سواء كان واجباً أو ممكناً نور لكون الوجود في كلتا المرتبتين ظاهراً بنفسه ومظهراً لغيره.

أمّا الوجود الامكاني فيظهر به الماهيات فتحقّق به الإنسانية والحيوانية والنباتية والجمادية ، كما أنّ الوجود الواجب - مع كونه ظاهراً بنفسه لأجل كونه وجوداً - مظهر لغيره ، فانّ العوالم الامكانية متحقّقة به.

وعلى ضوء ذلك فينطبق حد النور الحسّي ( الظاهر بنفسه ، المظهر لغيره ) على الوجود في جميع مراتبه ودرجاته ، غير أنّه كما أنّ للنور الحسّي مراتب ودرجات فهكذا للنور المعنوي أي الوجود مراتب ودراجات ، فإنّ نسبة العوالم الامكانية إلى وجود الواجب كنسبة المعاني الحرفية إلى المعنى الاسمي ، فلو كان للمعنى الحرفي مفهوم في الذهن وتحقّق في الخارج ودلالة في عالم الوضع فإنّما هو ببركة المعنى الاسمي في المراحل الثلاث ، ومثله الوجود الامكاني فلو كان له ظهور بنفسه واظهار لغيره أعني الماهيات ، فإنّما هو بفضل صلته وقوامه بالواجب ، ولولا تلك الصلة لكانت العوالم الامكانية والمعدومات سواسية ، فعليه فاللّه سبحانه نور السموات والأرض بالحق والحقيقة لا بالمجاز ، ومن فسّره بمنوّر السموات فقد سلب عنه البلاغة العليا وأدرجه في العاديات من الكلام.

قال « العلاّمة الطباطبائي » : « وإذا كان وجود الشيء هو الذي يظهر به ( نفسه ) لغيره من الأشياء كان مصداقاً تامّاً للنور ، ثم لمّا كانت الأشياء الممكنة الوجود إنّما

ص: 473

هي موجودة بايجاد اللّه تعالى كان هو المصداق الأتمّ للنور ، فهناك وجود ونور يتّصف به الأشياء وهو وجودها ونورها المستعار المأخوذ منه تعالى ، ووجود ونور قائم بذاته يوجد وتستنير به الأشياء ، فهو سبحانه نور تظهر به السموات والأرض وهذا هو المراد بقوله : ( اللّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) حيث اُضيف النور إلى السموات والأرض ثمّ حمل على اسم الجلالة ، ومن ذلك يستفاد أنّه تعالى غير مجهول لشيء من الأشياء إذ ظهور كل شيء لنفسه أو لغيره إنّما هو بإظهاره تعالى ، فهو الظاهر بذاته له قبله ، وإلى هذه الحقيقة يشير قوله تعالى بعد آيتين : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ) ( النور / 41 ) إذ لا معنى للعلم بالتسبيح والصلاة مع الجهل بمن يصلّون له ويسبّحون ، فهو نظير قوله : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) ( الاسراء / 44 ) (1).

وقال الإمام الطاهر أبو الشهداء الحسين بن علي علیهماالسلام : « أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك ... ».

ص: 474


1- الميزان : ج 15 ، ص 122.

حرف الواو

المائة والثامن والعشرون : « الواحد »

اشارة

قد ورد لفظ الواحد في الذكر الحكيم 30 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في 21 مورداً.

قال سبحانه : ( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) ( البقرة / 163 ).

وقال سبحانه : ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) ( المائدة / 73 ).

وقال سبحانه : ( أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( يوسف / 39 ).

وقال تعالى : ( لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) ( النحل / 51 ).

وأمّا معناه فقد قال « ابن فارس » : يدل على الإنفراد من تلك الوحدة وهو واحد قبيلته إذا لم يكن فيهم مثله ، قال :

يا واحد العرب الذي *** ما في الأنام له نظير

ويستفاد من الإمعان في الآيات المذكورة أنّ الواحد يهدف إلى نفي النظير والمثل والكثرة العددية بشهادة قوله سبحانه : ( لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) ومثله قوله : ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) وبذلك يعلم صحّة التفريق بين « الواحد » و « الأحد » وانّ « الواحد » بمعنى نفي الكثرة العددية و « الأحد » بمعنى نفي التركيب.

ص: 475

ثمّ إنّ للتوحيد مراتب تربو على تسع.

1 - التوحيد في الذات بمعنى أنّه واحد ليس له نظير ومثيل.

2 - التوحيد في الذات بمعنى أنّه بسيط لا جزء له خارجاً ولا ذهناً.

3 - التوحيد في الصفات بمعنى أنّه صفاته عين ذاته لا زائدة عليه.

4 - التوحيد في الخالقية بمعنى أنّه لا خالق سوى اللّه.

5 - التوحيد في الربوبيّة بمعنى أنّه المدبّر للكون والإنسان.

6 - التوحيد في الحاكمية بمعنى أنّه لا ولاية لأحد على أحد إلاّ لله سبحانه.

7 - التوحيد في الطاعة بمعنى أنّ حق الطاعة منحصر في اللّه سبحانه ولا مطاع غيره.

8 - التوحيد في التشريع بمعنى انحصار حق التقنين والتشريع في اللّه سبحانه.

9 - التوحيد في العبادة بمعنى أنّه لا معبود سوى اللّه سبحانه (1).

وهل توصيفه بالواحدية في هذه الآيات تهدف إلى الجميع أو أنّها تهدف إلى المرتبة الاُولى وهي كونه بحيث لا نظير له ، والإذعان بواحد من الأمرين يتوقّف على إمعان النظر في جميع الآيات التي ورد فيها توصيفه بهذا الوصف حتى تنصرف حسب القرائن إلى واحد منها أو إلى جميعها.

إنّ لجميع مراتب التوحيد أدلّة عقلية وآيات قرآنية تثبتها بوضوح ، ويمكن أن يقال : إنّ توصيفه سبحانه بالواحد في الآيات الواردة لرد مزعمة النصارى تهدف إلى التوحيد بمعنى نفي المثيل والنظير وما ورد في مجال التفدية والأصنام والأوثان ، أو نفي التدبير عن غيره سبحانه يهدف إلى التوحيد في العبادة أو الربوبية والتدبير ،

ص: 476


1- قد بسطنا الكلام حول هذه المراتب في الجزء الاول من هذه الموسوعة فلاحظ.

غير انّا نبحث في المقام عن معنى كونه واحداً لا نظير له على وجه الإجمال.

معنى كونه واحداً

الوحدة على قسمين :

1 - الوحدة العددية : وهي عبارة عن كون الشيء واقعاً تحت مفهوم عام وجد منه مصداق واحد ، وذلك مثل مفهوم الشمس الذي هو مفهوم وسيع قابل للإنطباق على كثير ، غير أنّه لم يوجد في عالم الحسّ منه إلاّ مصداق واحد مع إمكان وجود مصاديق كثيرة له ، وهذا هو المصطلح عليه ب « الواحد العددي ».

2 - الوحدة الحقيقة : وهي عبارة عن كون الموجود لا ثاني له ، بمعنى أنّه لا يقبل الاثنينيّة ولا التكرّر والتكثّر وذلك كصرف الشيء المجرد عن كل خليط ، مثلاً الوجود المطلق عن كل قيد ، واحد بالوحدة الحقّة ، لأنّه لا ثاني له لأنّ المفروض ثانياً بما أنّه لا يتميّز عن الأوّل لا يمكن أن يعد شيئاً آخر بل يرجع إلى الوجود الأوّل.

وعلى ضوء ذلك ، فالمراد من كون الشمس واحدة هو أنّها واحدة لا اثنتان ولا ثلاثة و ... ولكن المراد ، من كون الوجود المطلق ، منزّهاً عن كل قيد واحد ، أنّه لا ثاني له ولا مثيل ولا شبيه ولا نظير ، أي لا تتعقّل له الاثنينيّة والكثرة لأنّ ما فرضته ثانياً ، بحكم أنّه منزّه عن كل قيد وخليط يكون مثل الأوّل ، فلا يتميّز ولا يتشخّص.

والمراد من كونه سبحانه واحداً ، هو الواحد بالمعنى الثاني ، أي ليس له ثان ، ولا تتصوّر له الاثنينيّة والتعدّد.

ولأجل ذلك يقول سبحانه في تبيين هذه الوحدة ( وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) أي واحد لا نظير له.

والعجب انّ الإمام أمير المؤمنين علياً علیه السلام قام بتفسير كونه تعالى

ص: 477

واحداً ، عندما كان بريق السيوف يشد إليه العيون ، وضربات الطرفين تنتزع النفوس والأرواح في معركة ( الجمل ) ، فأحسّ علیه السلام بأنّ تحكيم العقيدة وصرف الوقت في تبيينها ليس بأقل أهميّة عن خوض المعارك ضد أهل الباطل :

روى الصدوق أنّ أعرابياً قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين علیه السلام فقال : يا أمير المؤمنين أتقول : إنَّ اللّه واحد ، قال فحمل الناس عليه ، وقالوا : يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب ، فقال أمير المؤمنين : « دعوه ، فإنَّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم » ... ثمّ قال شارحاً ما سأل عنه الأعرابي : « وقول القائل واحد ، يقصد به باب الأعداد ، فهذا ما لا يجوز ، لأنَّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ، أما ترى أنَّه كفر من قال « ثالث ثلاثة ».

ثم قال : « معنى هو واحد : أنّه ليس له في الأشياء شَبَه ، كذلك ربّنا. وقول القائل : إنّه عزّ وجلّ أحَدِيُّ المعنى يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم ، كذلك ربّنا عزّ وجلّ » (1).

فالإمام علیه السلام لم يكتف ببيان المقصود من توصيفه سبحانه بأنّه واحد ، بل أشار إلى معنى آخر من معاني توحيده وهو كونه أحَدِيّ الذات ، الذي يهدف إلى كونه بسيطاً لا جزء له في الخارج والذهن. وهذا المعنى هو الذي نطرحه على بساط البحث في القسم الثاني من التوحيد الذاتي.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى بيان البراهين العقليّة على توحيده سبحانه بمعنى كونه واحداً لا ثاني له.

ص: 478


1- توحيد الصدوق : ص 83 - 84.
أدلّة الوحدانية
1 - التعدّد يستلزم التركيب

لو كان هناك واجب وجود آخر لتشارك الواجبان في كونهما واجبي الوجود ، ولابدّ من تميّز أحدهما عن الآخر بشيء وراء ذلك الأمر المشترك ، كما هو الحال في كل مِثْلين ، وذلك يستلزم تركّب كل منهما من شيئين : أحدهما يرجع إلى ما به الإشتراك ، والآخر إلى ما به الإمتياز ، والمركّب بما أنّه محتاج إلى أجزائه لا يكون متّصفاً بوجوب الوجود ، بل يكون - لأجل الحاجة - ممكناً ، وهو خلاف الفرض.

وباختصار ، لو كان في الوجود واجبان للزم إمكانهما وذلك أنّهما يشتركان في وجوب الوجود فإن لم يتميّزا لم تحصل الإثنينيّة ، وإن تميّزا لزم تركّب كل واحد منهما ممّا به المشاركة وما به الممايزة ، وكل مركّب ممكن فيكونان ممكنين ، وهذا خلاف الفرض.

وهناك شبهة لابن كمّونة أحد المتفلسفة يقول : والعقل لا يأبى بأوّل نظرة أن يكون هناك هويّتان بسيطتان مجهولتا الكنهه ، مختلفتان بتمام الذات البسيطة ويكون حمل وجوب الوجود عليهما قولاً عرضيّاً (1).

وقد اُجيب عنه بأجوبة كثيرة أحدها ما ذكره صدر المتألّهين في المبدأ والمعاد وغيرهما : إنّ مصداق حمل مفهوم واحد ومطابق بالذات ، وبالجملة ما منه الحكاية ، وبذلك المعنى مع قطع النظر عن أيّة حيثيّة كانت ، لا يمكن أن تكون حقائق متخالفة بما هي متخالفة.

وبالجملة : الاُمور المتخالفة من حيث كونها متخالفة بلا حيثيّة جامعة فيها لا تكون مصداقاً لحكم واحد ، ومحكياً عنها به. نعم يجوز ذلك إذا كانت الاُمور متماثلة من جهة كونها متماثلة كالحكم على زيد وعمرو بالإنسانيّة من جهة

ص: 479


1- يريد العرض بمعنى الخارج المحمول ، لا المحول بالضميمة.

اشتراكهما في تمام الماهية لا من حيث عوارضها المختلفة (1). فما فرضه ابن كمّونة ، فرض محال.

2 - الوجود اللامتناهي لا يقبل التعدّد

هذا البرهان مؤلّف من صغرى وكبرى ، والنتيجة هي وحدة الواجب وعدم إمكان تعدّده. وإليك صورة القياس حتى نبرهن على كل من صغراه وكبراه.

وجود الواجب غير متناه.

وكل غير متناه واحد لا يقبل التعدّد.

فالنتيجة : وجود الواجب واحدٌ لا يقبل التعدّد.

وإليك البرهنة على كل من المقدّمتين.

أمّا الصغرى : فإنَّ محدودية الموجود ملازمة لتلبُّسه بالعدم. ولأجل تقريب هذا المعنى لاحظ الكتاب الموضوع بحجم خاص ، فإنّك إذا نظرت إلى أي طرف من أطرافه ترى أنّه ينتهي إليه وينعدم بعده ، ولا فرق في ذلك بين صغير الموجودات وكبيرها ، حتى إنَّ جبال الهملايا مع عظمتها محدودة لا نرى أي أثر للجبل بعد حدّه. وهذه خصيصية كل موجود متناه زماناً أو مكاناً أو غير ذلك ، فالمحدوديّة والتلبّس بالعدم متلازمان.

وعلى هذا الأساس لا يمكن اعتبار ذاته سبحانه محدودة ، لأنّ لازم المحدوديّة الإنعدام بعد الحد كما عرفت ، وما هو كذلك لا يكون حقّاً مطلقاً مئة بالمئة بل يلابسه الباطل والإنعدام ، مع أنَّ اللّه تعالى هو الحق المطلق الذي لا يدخله باطل ، والقرآن الكريم يصف وجوده سبحانه بالحق المطلق وغيره بالباطل ، وما هذا إلاّ لأنّ وجود غيره وجود متلبّس بالعدم والفناء وأمّا وجود اللّه

ص: 480


1- شرح الأسماء الحسنى : ص 128.

تعالى فطارد لكل عدم وبطلان. قال عزّ من قائل : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) ( الحج / 62 ).

وبتقرير آخر : إنَّ عوامل المحدودية تتمحور في الاُمور التالية :

1 - كون الشيء محدوداً بالماهيّة ومزدوجاً بها ، فإنّها حد وجود الشيء والوجود المطلق بلا ماهية غير محدَّد ولا مقيّد وإنّما يتحدّد بالماهية.

2 - كون الشيء واقعاً في إطار الزمان ، فهذا الكم المتّصل ( الزمان ) يحدّد وجود الشيء في زمان دون آخر.

3 - كون الشيء في حيز المكان ، وهو أيضاً يحدّد وجود الشيء ويخصّه بمكان دون آخر.

وغير ذلك من أسباب التحديد والتضييق. واللّه سبحانه وجود مطلق غير محدّد بالماهيّة إذ لا ماهيّة له كما سيوافيك البحث عنه ، كما لا يحويه زمان ولا مكان ، فتكون عوامل التناهي معدودمة فيه ، فلا يتصوّر لوجوده حدّ ولا قيد ولا يصحّ أن يوصف بكونه موجوداً في زمان دون آخر أو مكان دون آخر ، بل وجوده أعلى وأنبَل من أن يتحدّد بشيء من عوامل التناهي.

وأمّا الكبرى : فهي واضحة بأدنى تأمّل ، وذلك لأنّ فرض تعدّد اللامتناهي يستلزم أن نعتبر كل واحد منهما متناهياً من بعض الجهات حتى يصح لنا أن نقول هذا غير ذاك. ولا يقال هذا إلاّ إذا كان كل واحد متميّزاً عن الآخر ، والتَّمَيّز يستلزم أن لا يوجد الأوّل حيث يوجد الثاني ، وكذا العكس. وهذه هي « المحدوديّة » وعين « التناهي » ، والمفروض أنّه سبحانه غير محدود ولا متناه.

واللّه سبحانه لأجل كونه موجوداً غير محدود ، يصف نفسه في الذكر الحكيم ب ( الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( الرعد / 16 ) ، وما ذلك إلاّ لأن المحدود المتناهي مقهور للحدود والقيود الحاكمة عليه ، فإذا كان قاهراً من كل الجهات لم تتحكّم فيه

ص: 481

الحدود ، فكأنّ اللامحدوديّة تلازم وصف القاهرية ، وقد عرفت أنَّ ما لا حدّ له يكون واحداً لا يقبل التعدّد ، فقوله سبحانه وهو الواحد القهار ، من قبيل ذكر الشيء مع البيّنة والبرهان.

قال العلاّمة ( الطباطبائي ) : « القرآن ينفي في تعاليمه الوحدة العددية عن الإله جلّ ذكره ، فإنّ هذه الوحدة لا تتم إلاّ بتميّز هذا الواحد ، من ذلك الواحد بالمحدودية التي تقهره. مثال ذلك ماء الحوض إذا فرّغناه في أوان كثيرة يصير ماءُ كلّ إناء ماءً واحداً غير الماء الواحد الذي في الإناء الآخر ، وإنّما صار ماءً واحداً يتميّز عمّا في الآخر لكون ما في الآخر مسلوباً عنه غير مجتمع معه ، وكذلك هذا الإنسان إنّما صار إنساناً واحداً لأنّه مسلوب عنه ما للإنسان الآخر ، وهذا إنْ دلّ فإنّما يدلّ على أنَّ الوحدة العددية إنّما تتحقّق بالمقهورية والمسلوبية أي قاهرية الحدود ، فإذا كان سبحانه قاهراً غير مقهور وغالباً لا يغلبه شيء لم تتصوّر في حقّه وحدة عددية ، ولأجل ذلك نرى أنَّهُ سبحانه عند ما يصف نفسه بالواحدية يتبعها بصفة القاهرية حتى تكون الثانية دليلاً على الاُولى ، قال سبحانه :

( أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( يوسف / 39 ) ، وقال : ( وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ، وقال سبحانه : ( لَوْ أَرَادَ اللّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( الزمر / 4 ).

وباختصار : انَّ كلاً من الوحدة العددية كالفرد الواحد من النوع ، أو الوحدة النوعية كالإنسان الذي هو نوع واحد في مقابل الأنواع الكثيرة ، مقهور بالحد الذي يميّز الفرد عن الآخر والنوع عن مثله ، فإذا كان تعالى لا يقهره شيء وهو القاهر فوق كل شيء ، فليس بمحدود في شيء ، فهو موجود لا يشوبه عدم ، وحق لا يعرضه بطلان ، وحي لا يخالطه موت ، وعليم لا يدبّ إليه جهل ، وقادر لا يغلبه عجز ، وعزيز لا يتطرّق إليه ظلم ، فله تعالى من كل كمال محضة » (1).

ص: 482


1- الميزان : ج 6 ، ص 88 و 89 بتلخيص.

ومن عجيب البيان ما نقل عن الإمام الثامن علي بن موسى الرضا علیهماالسلام في هذا المجال في خطبة ألقاها على جماعة من العلماء ، وقال في ضمن تحميده سبحانه :

« لَيْسَ لَهُ حَدٌّ يَنْتَهِي إِلى حَدِّه ، ولا له مِثْلٌ فيُعرَفُ مثله » (1).

ترى أنَّ الإمام علیه السلام بعد ما نفى الحد عن اللّه ، أتى بنفي المِثْل له سبحانه ، لارتباط وملازمة بين اللامحدودية ونفي المثيل ، والتقرير ما قد عرفت.

3 - صِرف الوجود لا يتثنّى ولا يتكرّر

إنَّ هذا البرهان مركّب من صغرى وكبرى على الشكل التالي :

اللّه سبحانه وجود صِرْف.

وكل وجود صرف واحد لا يتثنّى ولا يتكرّر.

فالنتيجة : اللّه سبحانه واحدٌ لا يتثنَّى ولا يتكرَّر.

أمّا الصغرى فإليك بيانها :

أثبتت البراهين الفلسفية أنَّهُ سبحانه منزَّه عن الماهية التي تحد وجوده ، وتحليله يحتاج إلى بيان دور الماهية في وجود الشيء فنقول : كل ما يقع في اُفق النظر من الموجودات الإمكانية فهو مؤلّف من وجود هو رمز عينيّته في الخارج ، وماهيّة تحد الوجود وتبيّن مرتبته في عالم الشهود والخارج. مثلاً : الزَّهرة الماثلة أمام أعيننا لها وجود به تتمثّل أمام نظرنا ، ولها ماهية تحدّدها بحد النباتية ، وتميزّها عن الجماد والحيوان ، ولأجل ذلك الحد نحكم عليها أنّها قد ارتقت من عالم الجماد ولم تصل بعد إلى عالم الحيوان. وبذلك تعرف أنّ واقعيّة الماهيّة هي واقعيّة التحديد. هذا من جانب.

ص: 483


1- توحيد الصدوق ، ص 33.

ومن جانب آخر ، الماهيّة إذا لوحظت من حيث هي هي ، فهي غير الوجود كما هي غير العدم ، بشهادة أنّها توصف بالأوّل تارة وبالثاني اُخرى ، ويقال : النبات موجود ، كما يقال : غير موجود. وهذا يوضح أن مقام الحد والماهيّة مقام التخلية عن الوجود والعدم ، بمعنى أنّ الإنسان عند النظر إلى ذات الشيء يراه عارياً عن كل من الوجود والعدم ، ثم يصفه في الدرجة الثانية بأحدهما. وأمّا وجه كون الشيء في مقام الذات غير موجود ولا معدوم ، فلأجل أنّه لو كان في مقام الذات والماهية موجوداً ، سواء كان الوجود جزْءَه أو عَيْنه يكون الوجود نابعاً من ذاته ، وما هذا شأنه يكون واجب الوجود ، يمتنع عروض العدم عليه ، كما أنّه لو كان في ذلك المقام معدوماً ، سواء كان العدم جزءه أو عينه يكون العدم نفس ذاته ، وما هذا شأنه يمتنع عليه عروض الوجود. فلأجل تصحيح عروض كل من الوجود والعدم لا مناص عن كون الشيء في مقام الذات خالياً عن كلا الأمرين حتى يصحّ كونه معروضاً لأحدهما. وإلى هذا يهدف قول الفلاسفة : « الماهيّة من حيث هي هي لا موجودة ولا معدومة ». ومع هذا كلِّه فهي في الخارج لا تخلو إما أنْ تكون موجودة أو معدومة. فالنبات والحيوان والإنسان في الخارج لا يفارق أحد الوصفين. وبهذا تبيّن أنَّ اتّصاف الماهية بأحد الأمرين يتوقّف على علّة ، لكن اتّصافها بالوجود يتوقّف على علّة موجودة ، ويكفي في اتّصافها بالعدم ، عدم العلّة الموجدة. فاتّصاف الماهيات بالأعدام الأزلية خفيف المؤونة ، بخلاف اتّصافها بالوجود فإنّه رهن وجود علّة حقيقية خارجية.

وعلى ضوء هذا البيان يتّضح أنّه سبحانه منزَّه عن التحديد والماهيّة وإلاّ لزم أنْ يحتاج في اتّصاف ماهيته بالوجود إلى علّة (1). وما هذا شأنه لا يكون واجباً بل يكون ممكناً. وهذا يجرّنا إلى القول بأنّه سبحانه صرف الوجود المنزّه عن كل حد.

ص: 484


1- وهنا يبحث عن العلّة ما هي ؟ أهي نفس الوجود العارض على الماهية أو وجود آخر. فإن كان الأوّل لزم الدور ، وإن كان الثاني لزم التسلسل. والتفصيل يؤخذ من محلّه. لاحظ الأسفار : ج 1. فصل في أنّه سبحانه صِرْف الوجود.
وأمّا الكبرى فإليك بيانها :

إنّ كل حقيقة من الحقائق إذا تجرّدت عن أي خليط وصارت صرف الشيء لا يمكن أن تتثنّى وتتعدّد ، من غير فرق بين أن يكون صرف الوجود أو يكون وجوداً مقروناً بالماهيّة كالماء والتراب وغيرهما ، فإنَّ كل واحد منها إذا لوحظ بما هو هو عارياً عن كل شيء سواه لا يتكرّر ولا يتعدّد ، فالماء بما هو ماء لا يتصور له التعدّد إلاّ إذا تعدّد ظرفه أو زمانه أو غير ذلك من عوامل التعدّد والتميّز.

فالماء الصرف والبياض الصرف والسواد الصرف ، وكل شيء صرف ، في هذا الأمر سواسيه ، فالتعدّد والاثْنَيْنيّة رهن اختلاط الشيء مع غيره.

وعلى هذا ، فإذا كان سبحانه - بحكم أنّه لا ماهيّة له - وجوداً صرفاً ، لا يتطرّق إليه التعدّد ، لأنّه فرع التميّز ، والتميّز فرع وجود غَيْريّة فيه ، والمفروض خُلُوّه عن كل مغاير سواه ، فالوجود المطلق والتحقّق بلا لون ولا تحديد ، والعاري عن كل خصوصيّة ومغايرة ، كلّما فرضتَ له ثانياً يكون نفس الأوّل ، لا شيئاً غيره ، فاللّه سبحانه بحكم الصغرى صرف الوجود ، والصرف لا يتعدّد ولا يتثنّى. فينتج : أنَّ اللّه سبحانه واحدٌ لا يتثنّى ولا يتعدّد.

خرافة التثليث : الأب والابن وروح القدس

قلّما نجد عقيدة في العالم تعاني من الإبهام والغموض كما تعاني منها عقيدة التثليث في المسيحية.

إنّ كلمات المسيحين في كتبهم الكلامية تحكي عن أنَّ الإعتقاد بالتثليث من المسائل الأساسية التي تبنى عليها عقيدتهم ، ولا مناص لأي مسيحي من الإعتقاد به ، وفي الوقت نفسه يعتقدون بأنّه من المسائل التعبّديّة التي لا تدخل في نطاق التحليل العقلي ، لأنّ التصوّرات البشرية لا تستطيع أن تصل إلى فهمه ، كما أنّ المقاييس التي تنبع من العالم المادي تمنع من إدراك حقيقة التثليث ، لأنّ حقيقته

ص: 485

حسب زعمهم فوق المقاييس الماديّة.

هذا ومع تكريزهم على التثليث في جميع أدوارهم وعصورهم يعتبرون أنفسهم موحّدين غير مشركين ، وأنَّ الإله في عين كونه واحداً ثلاثة ، ومع كونه ثلاثة واحدٌ أيضاً. وقد عجزوا عن تفسير الجمع بين هذين النقيضين ، الذي تشهد بداهة العقل على بطلانه وأقصى ما عندهم ما يلي :

إنَّ تجارب البشر مقصورة على المحدود ، فإذا قال اللّه بأنَّ طبيعته غير محدودة تتألّف من ثلاثة أشخاص لزم قبول ذلك ، إذ لا مجال للمناقشة في ذلك وإن لم يكن هناك أي مقياس لمعرفة معناه ، بل يكفي في ذلك ورود الوحي به ، وإنَّ هؤلاء الثلاثة يشكّلون بصورة جماعية « الطبيعة الإلهية اللامحدودة » وكل واحد منهم في عين تشخّصه وتميزّه عن الآخرين ، ليس بمنفصل ولا متميّز عنهم ، رغم أنّه ليست بينهم أية شركة في الاُلوهية ، بل كل واحد منهم إله مستقل بذاته ومالك بانفراده لكامل الاُلوهية ، فالأب مالك بانفراده لتمام الاُلوهيّة وكاملها من دون نقصان ، والإبن كذلك مالك بانفراده لتمام الاُلوهيّة ، وروح القدس هو أيضاً مالك بانفراده لكمال الألوهيّة ، وانّ الألوهيّة في كل واحد متحقّقة بتمامها دون نقصان.

هذه العبارات وما يشابهها توحي بأنّهم يعتبرون مسألة التثليث فوق الإستدلال والبرهنة العقلية ، وأنّها بالتالي « منطقة محرّمة على العقل » ، فلا يصل إليها العقل بجناح الاستدلال ، بل المستند في ذلك هو الوحي والنقل.

ويلاحظ عليه أوّلاً : وجود التناقض الواضح في هذا التوجيه الذي تلوكه أشداق البطارقة ومن فوقهم أو دونهم من القسّيسين ، إذ من جانب يعرّفون كل واحد من الآلهة الثلاثة بأنّه متشخّص ومتميّز عن البقية ، وفي الوقت نفسه يعتبرون الجميع واحداً حقيقة لا مجازاً. أفيمكن الاعتقاد بشيء يضاد بداهة العقل ، فإنَّ التَمَيّز والتشخص آية التعدّد ، والوحدة الحقيقية آية رفعهما ، فكيف يجتمعان ؟

ص: 486

وباختصار ، انّ « البابا » وأنصاره وأعوانه لا مناص أمامهم إلاّ الإنسلاك في أحد الصفّين التاليين : صف التوحيد وأنّه لا إله إلاّ إله واحد ، فيجب رفض التثليث ، أو صفّ الشرك والأخذ بالتثليث ورفض التوحيد. ولا يمكن الجمع بينهما.

ثانياً : إنّ عالم ما وراء الطبيعة وإن كان لا يقاس بالاُمور المادّية المألوفة ، لكن ليس معناه أنَّ ذلك العالم فوضوي ، وغير خاضع للمعايير العقليّة البحتة ، وذلك لأنّ هناك سلسلة من القضايا العقلية التي لا تقبل النقاش والجدل ، وعالم المادة وما وراؤه بالنسبة إليها سيّان ، ومسألة امتناع اجتماع النقيضين وامتناع ارتفاعهما واستحالة الدور والتسلسل وحاجة الممكن إلى العلّة ، من تلك القواعد العامّة السائدة على عالمي المادة والمعنى.

فإذا بطلت مسألة التثليث في ضوء العقل فلا مجال للإعتقاد بها. وأمّا الاستدلال عليها من طريق الأناجيل الرائجة فمردود بأنّها ليست كتباً سماوية ، بل تدلّ طريقة كتابتها على أنّها اُلّفت بعد رفع المسيح إلى اللّه سبحانه أو بعد صلبه على زعم المسيحيين ، والشاهد أنّه وردت في آخر الأناجيل الأربعة كيفيّة صلبه ودفنه ثم عروجه إلى السماء. واحتمال إلحاق القسم الأخير له يوجب سقوطه عن الاعتبار ، لاحتمال تطرّق التحريف إلى غير الأخير أيضاً.

ثالثاً : إنّهم يعرّفون الثالوث المقدس بقولهم : « الطبيعة الإلهية تتألّف من ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر ، أي الأب والابن وروح القدس ، والأبّ هو خالق جميع الكائنات بواسطة الابن ، والابن هو الفادي ، وروح القدس هو المطهر. وهذه الأقانيم الثلاثة مع ذلك ذات رتبة واحدة وعمل واحد ».

فنسأل : ما هو مقصودكم من الآلهة الثلاثة فإنّ لها صورتين لا تناسب أيّة واحدة منهما ساحته سبحانه :

1 - أن يكون لكل واحد من هذه الآلهة الثلاثة وجوداً مستقلاً عن الآخر بحيث

ص: 487

يظهر كل واحد منها في تشخّص ووجود خاص ، ويكون لكل واحد من هذه الأقانيم أصل مستقل وشخصيّة خاصّة متميّزة عمّا سواها.

لكن هذا شبيه الشرك الجاهلي الذي كان سائداً في عصر الجاهلية وقد تجلّى في النصرانية بصورة التثليث. وقد وافتك أدلّة وحدانية اللّه سبحانه.

2 - أن تكون الأقانيم الثلاثة موجودة بوجود واحد ، فيكون الإله هو المركّب من هذه الاُمور الثلاثة ، وهذا هو القول بالتركيب ، وسيوافيك أنّه سبحانه بسيط غير مركّب ، لأنّ المركّب يحتاج في تحقّقه إلى أجزائه ، والمحتاج ممكن غير واجب.

هذا هي الإشكالات الأساسية المتوجّهة إلى القول بالتثليث.

تسرّب خرافة التثليث إلى النصرانية

إنَّ التاريخ البشري يرينا أنّه طالما عمد بعض أتباع الأنبياء - بعد وفاة الأنبياء أو خلال غيابهم - إلى الشرك والوثنيّة ، تحت تأثير المضلّين ، وبذلك كانوا ينحرفون عن جادّة التوحيد الذي كان الهدف الأساسي والغاية القصوى لبعثهم ، إنَّ عبادة بني إسرائيل للعجل في غياب موسى علیه السلام ، أفضل نموذج لما ذكرناه ، وهو ممّا أثبته القرآن والتاريخ. وعلى هذا فلا داعي إلى العجب إذا رأينا تسرّب خرافة التثليث إلى العقيدة النصرانية بعد ذهاب السيد المسيح علیه السلام وغيابه عن أتباعه.

إنّ مرور الزمن رسّخ موضوع التثليث وعمّق في قلوب النصارى وعقولهم ، بحيث لم يستطع أكبر مصلح مسيحي - أعني لوثر - الذي هذّب العقائد المسيحية من كثير من الأساطير والخرافات ، وأسّس المذهب البروتستاني ، أن يبعد مذهبه عن هذه الخرافة.

إنَّ القرآن الكريم يصرّح بأن التثليث دخل النصرانية بعد رفع المسيح من المذاهب السابقة عليها ، حيث يقول تعالى : ( وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللّهِ

ص: 488

ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) ( التوبة / 30 ).

لقد أثبتت الأبحاث التاريخية أنَّ هذا التثليث كان في الديانة البَرَهْمانية قبل ميلاد السيد المسيح بمئات السنين. فقد تجلّى الرب الأزلي الأبدي لديهم في ثلاثة مظاهر وآلهة :

1 - بَرَاهما ( الخالق ).

2 - فيشنو ( الواقي ).

3 - سيفا ( الهادم ).

وقد تسرّبت من هذه الديانة البراهمانيّة إلى الديانة الهندوكيّة ، ويوضّح الهندوس هذه الاُمور الثلاثة في كتبهم الدينية على النحو التالي :

« براهما » هو المبتدئ بإيجاد الخلق ، وهو دائماً الخالق اللاهوتي ، ويسمّى بالأب.

« فيشنو » هو الواقي الذي يسمّى عند الهندوكيين بالابن الذي جاء من قبل أبيه.

« سيفا » هو المُفْنِي الهادم المعيد للكون إلى سيرته الاُولى.

وبذلك يظهر قوّة ما ذكره الفيلسوف الفرنسي « غستاف لوبون » قال : « لقد واصلت المسيحيّة تطورها في القرون الخمسة الاُولى من حياتها ، مع أخذ ما تيسّر من المفاهيم الفلسفية والدينية اليونانية والشرقية ، وهكذا أصبحت خليطاً من المعتقدات المصرية والإيرانية التي انتشرت في المناطق الاُوروبية حوالي القرن الأوّل الميلادي ، فاعتنق الناس تثليثاً جديداً مكوّناً من الأب والإبن وروح القدس ، مكان التثليث القديم المكوّن من « نروبي تر » و « وزنون » و « نرو » (1).

ص: 489


1- قصة الحضارة.
القرآن ونفي التثليث

إنَّ القرآن الكريم يذكر التثليث ويبطله بأوضح البراهين وأجلاها ، يقول : ( مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ ) ( المائدة / 75 ). وهذه الآية تبطل اُلوهيّة المسيح واُمّه ، التي كانت معرضاً لهذه الفكرة الباطلة ، بحجّة أنّ شأن المسيح شأنُ بقية الأنبياء وشأن الاُمّ شأن بقية الناس ، يأكلان الطعام ، فليس بين المسيح واُمّه وبين غيرهما من الأنبياء والرسل وسائر الناس أي فرق وتفاوت ، فالكل كانوا يأكلون عندما يجوعون ويتناولون الطعام كلّما أحسّوا بالحاجة إليه. وهذا العمل منضمّاً إلى الحاجة إلى الطعام آية المخلوقيّة.

ولا يقتصر القرآن على هذا البرهان ، بل يستدل على نفي اُلوهيّة المسيح بطريق آخر ، وهو قدرته سبحانه على إهلاك المسيح واُمّه ومن في الأرض جميعاً ، والقابل للهلاك لا يكون إلهاً واجب الوجود.

يقول سبحانه : ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ) ( المائدة / 17 ). وهذه الآية ناقشت اُلوهيّة المسيح وأبطلتها عن طريق قدرته سبحانه على إهلاكه. ويظهر من سائر الآيات أنَّ اُلوهيّته كانت مطروحة بصورة التثليث ، قال سبحانه : ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) ( المائدة / 73 ).

وعلى كل تقدير ، فقدرته سبحانه على إهلاك المسيح علیه السلام أدل دليل على كونه بشراً ضعيفاً ، وعدم كونه إلهاً ، سواء طرح بصورة التثليث أو غيره.

ثم إنَّ القرآن الكريم كما يُفَنّد مزعمة كون عيسى بن مريم إلهاً ابناً لله في الآيات المتقدّمة ، يرد استحالة الابن عليه تعالى أيضاً على وجه الإطلاق سواء كان عيسى هو الابن أو غيره ، بالبيانات التالية :

ص: 490

1 - إنَّ حقيقة البنوّة هو أن يجزّئ واحد من الموجودات الحيّة شيئاً من نفسه ثم يجعله بالتربية التدريجية فرداً آخر من نوعة مماثلاً لنفسه يترتّب عليه من الخواص والآثار ما كان يترتّب على الأصل ، كالحيوان يفصل من نفسه النطفة ، ثم يأخذ في تربيتها حتى تصير حيواناً. ومن المعلوم أنّه محال في حقّه سبحانه ، لاستلزامه كونه سبحانه جسماً مادّياً له الحركة والزمان والمكان والتركّب (1).

2 - إنّ لإطلاق اُلوهيّته وخالقيته وربوبيته على ما سواه لازم أن يكون هو القائم بالنفس وغيره قائماً به ، فكيف يمكن فرض شيء غيره يكون له من الذات والأوصاف والأحكام ما له سبحانه من غير افتقار إليه ؟

3 - إنّ تجويز الاستيلاد عليه سبحانه يستلزم جواز الفعل التدريجي عليه ، وهو يستلزم دخوله تحت ناموس المادّة والحركة وهو خلف ، بل يقع ما شاء دفعة واحدة من غير مهلة ولا تدريج.

والدقّة في الآيتين التاليتين يفيد كل ما ذكرنا ، قال سبحانه :

( وَقَالُوا اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( البقرة / 116 و 117 ).

فقوله سبحانه ( اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا ) إشارة إلى الأمر الأوّل.

وقوله سبحانه : ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) ، إشارة إلى الأمر الثاني.

وقوله سبحانه : ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى ... ) ، إشارة إلى الأمر الثالث (2).

ص: 491


1- ستوافيك أدلة استحالة كونه جسماً أو جسمانياً وما يستتبعانه من الزمان والمكان والحركة.
2- لاحظ الميزان : ج 3 ، ص 287.

إنَّ القرآن الكريم يفنّد مزعمة « التثليث » ببراهين عقليّة اُخرى ، فمن أراد الوقوف على الآيات الواردة في هذا المجال وتفسيرها ، فليرجع إلى الموسوعات القرآنية.

المائة والتاسع والعشرون : « الواسع »

قد ورد لفظ الواسع في الذكر الحكيم 9 مرّات ووقع وصفاً له سبحانه في موارد ثمانية.

قال سبحانه : ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( البقرة / 115 ).

وقال سبحانه : ( وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( البقرة / 247 ).

وقال سبحانه : ( ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( المائدة / 54 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ ) ( النجم / 32 ).

أمّا معناه فقد قال ابن فارس : هو كلمة تدل على خلاف الضيق والعسر ، والوسع : الغنى ، واللّه الواسع أي الغني ، والوسع : الجدة ( الطاقة ).

أقول : لا شكّ إنّ الوسع خلاف الضيق ويختلف متعلّقه حسب المقامات.

ففي ما يقول سبحانه : ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ) ثمّ يعلّله انّ اللّه واسع عليم يتبادر منه سعة وجوده وحضوره في جميع الأمكنة ، فأينما يولّي الإنسان وجهه فقد توجّه إلى اللّه سبحانه ، كما أنّه يتبادر منه في الموارد التالية سعة وصفه وفعله :

قال سبحانه : ( وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ) ( طه / 98 ) و ( أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ) ( الطلاق / 12 ) و ( رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) ( الأعراف / 156 ) فَاللّهُ سُبْحانَهُ

ص: 492

واسع الوجود والذات ، واسع الفعل ، فلا يحدّ ذاته شيء ، كما لا يحدّ وصفه شيء ، ولا يحد فعله شيء.

المائة والثلاثون : « الوالي »

قد ورد لفظ « وال » في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه.

قال سبحانه : ( وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ) ( الرعد / 11 ).

وهو مأخوذ من الولي بمعنى القرب وقد تقدّم تفسيره عند البحث عن اسم المولى.

وذكرنا كيفيّة اشتقاق سائر المعاني منه ، وقلنا : إنّ قرب إنسان من إنسان يحدث أولويّة أحدهما بالنسبة إلى الآخر ، وإنَّ المولى والولي والوالي بمعنى واحد أي القائم بالأمر ، وعلى هذا فالمراد من الوالي هو متولّي الأمر ، وإذا أراد اللّه بقوم سوء فلا مردّ له وما لهم من دونه من وال أي من ولي يباشر أمرهم ، ويدفع عنهم البلاء ، وبعبارة أُخرى فإذا لم يكن لهم من وال يلي أمرهم إلاّ اللّه سبحانه لم يكن هناك أحد يردّ ما أراد اللّه بهم من سوء.

المائة والواحد والثلاثون : « الودود »

قد ورد لفظ « الودود » في الذكر الحكيم مرّتين ووقعا وصفاً له سبحانه.

وقال سبحانه : ( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) ( هود / 90 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ) ( البروج / 13 و 14 ).

وأمّا معناه فقدذكر ابن فارس : إنّه يدلّ على المحبّة.

ص: 493

« والودود » على وزن فعول ، أمّا بمعنى المفعول فيرجع معناه أنّه سبحانه محبوب للأولياء والمؤمنين ، أو بمعنى الفاعل ك « غفور » بمعنى « غافر » ويرجع معناه إلى أنّه سبحانه يودّ عباده الصالحين ويحبّهم ، والمناسب لإسم الرحيم كونه بمعنى الفاعل كما هو المناسب أيضاً لإسم الغفور وقد عرفت اقترانه في الآيتين بالإسمين.

وأمّا حظّ العبد من ذلك الاسم فله أن يتّسم باسمه فيكتسب ودّاً بين الناس بالأعمال الصالحة.

قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ) ( مريم / 96 ). المائة والثاني والثلاثون : « الوكيل »

قد ورد لفظ الوكيل في الذكر الحكيم 24 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه في 14 مورد.

قال سبحانه : ( وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) ( آل عمران / 173 ).

وقال سبحانه : ( خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) ( الأنعام / 102 ).

وقال سبحانه : ( وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً ) ( النساء / 132 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ) ( الأسراء / 65 ).

إلى غير ذلك من الآيات الوارد فيها هذا الإسم.

وأمّا معناه فقد قال « ابن فارس » : فهو في الأصل يدل على إعتماد غيرك في أمرك ، وسمّي الوكيل وكيلاً لأنه يوكل إليه الأمر ، وقال « الراغب » : التوكيل أن تعتمد

ص: 494

على غيرك وتجعله نائباً عنك ، والوكيل فعيل بمعنى مفعول.

قال تعالى وكفى باللّه وكيلاً أي اكتف به أن يتولّى أمرك ويتوكّل لك.

ثُمَّ إنّ كونه سبحانه وكيلاً ليس بمعنى كونه نائباً عن العباد في الأفعال ولا بمعنى الاعتماد عليه ، بل هو معنى أقوى وأشدّ من ذلك وهو إيكال الأمر إليه لكونه سبحانه وحده كافياً في إنجاز الأمر.

قال سبحانه ناقلاً عن لسان الأولياء : ( وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) ( آل عمران / 173 ).

ثُمَّ إنّه ربّما يستعمل ببعض المناسبات في معنى الحفيظ.

قال سبحانه : ( اللّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ) ( الشورى / 6 ) ، كما أنّه ربّما يستعمل في المسيطر.

قال سبحانه : ( وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ) ( الزمر / 41 ).

قال العلاّمة الطباطبائي في تفسير قوله : ( وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ) ( الاسراء / 65 ).

أي قائماً على نفوسهم وأعمالهم ، حافظاً لمنافعهم ، ومتولّياً لاُمورهم ، فإنّ الوكيل هو الكافل لاُمور الغير ، القائم مقامه في تدبيرها وإدارة رحاها (1).

ثُمَّ إنّ وكالة إنسان لإنسان تقوم بأمرين :

الأوّل : إنصراف الموكّل عن المباشرة إمّا لعجزه وإمّا لصارف آخر.

الثاني : كون الموكول إليه موصوفاً بكمال العلم والقدرة والبراعة والنزاهة عن الخيانة.

ص: 495


1- الميزان : ج 13 ، ص 156.

وأمّا ايكال الإنسان الاُمور إلى اللّه سبحانه فهو مبني على اعترافه بالعجز بالقيام أوّلاً وكونه عالماً وقادراً ورحيماً ثانياً وهذه الصفات وهذا النحو غير حاصل إلاّ لله سبحانه الحي ، فلا جرم أن يكون وكيلاً بمعنى أنّ العباد العارفين يفوّضون اُمورهم إليه.

قال سبحانه : ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ) ( الفرقان / 58 ).

وقال سبحانه : ( وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) ( الطلاق / 3 ).

ثُمَّ إنّ إيكال الأمر إليه ليس بمعنى عدم القيام بفعل ، بل معناه أنّه يجب على العبد بذل ما في مقدرته من الأفعال والأعمال ثُمَّ إيكال الأمر إليه حتى تصل إلى النتيجة ، ولأجل ذلك ورد الأمر بالتوكّل في الحروب والمغازي التي يجب للإنسان بذل ما يملك من النفس والنفيس فيها.

قال سبحانه : ( وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ ) ( آل عمران / 121 و 122 ).

المائة والثالث والثلاثون : « الولي »

قد ورد هذا اللفظ في الذكر الحكيم مضافاً وغير مضاف 44 مرّة ووقع وصفاً له سبحانه 35 مرّة منطوقاً ومفهوماً.

قال سبحانه : ( وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرًا ) ( النساء / 45 ). هذا على وجه المنطوق.

وأمّا على وجه المفهوم فقد قال سبحانه : ( مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ ) ( السجدة / 4 ).

وقد مضى معنى « الولي » عند البحث عن اسم « المولى » فلاحظ.

ص: 496

المائة والرابع والثلاثون : « الوهّاب »

قد ورد لفظ « الوهّاب » في الذكر الحكيم 3 مرّات.

قال سبحانه : ( وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ) ( آل عمران / 8 ).

وقال سبحانه : ( أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ) ( ص / 9 ).

وقال سبحانه : ( وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ) ( ص / 35 ).

قال الراغب : واللفظ من الهبة وهي أن تجعل ملكك لغيرك بغير عوض.

قال تعالى : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ ) ( الأنعام / 84 ) و ( الأنبياء / 72 ) ، ( الحَمْدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ) ( إبراهيم / 39 ) ويوصف اللّه بالواهب والوهّاب بمعنى أنّه يعطي كلاًّ على استحقاقه.

إنّ الهبة لها ركنان : الأوّل التمليك ، والآخر كونه بغير عوض وهو فعل لله سبحانه على الحقيقة لأنّه مالك الملك والملكوت بإيجاده ، وأمّا غيره فإنّما يملك بتمليك منه وملكيته في طول ملكيته سبحانه. هذا حال الركن الأوّل.

وأمّا الركن الثاني فكل ما يتّفق أن يهب الإنسان ولا يطلب عوضاً وعلى الأقل المدح في العاجل والثواب في الآجل ، أو لإرضاء العواطف الإنسانية.

نعم هو صادق في حقّه سبحانه الغني عن كلّ شيء.

قال سبحانه : ( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ) ( الفرقان / 77 ).

وأمّا حظ العبد من هذا الاسم فهو أن لا يعتمد على الدنيا وما فيها ، ويهب ما يملك على النحو الذي أمر به الذكر الحكيم وقال سبحانه : ( الَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) ( الفرقان / 67 ).

ص: 497

ص: 498

حرف الهاء

المائة والخامس والثلاثون : « الهادي »

اشارة

وقد ورد لفظ الهادي في القرآن الكريم 10 مرّات ووقع وصفاً له سبحانه في موردين :

قال سبحانه : ( وَإِنَّ اللّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( الحج / 54 ).

وقال سبحانه : ( وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ) ( الفرقان / 31 ).

وربّما يستفاد من بعض الآيات عن طريق المفهوم مثل قوله سبحانه : ( وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) ( الرعد / 33 ) وغيره.

إنّ الهداية الإلهية من المسائل الهامّة التي اهتمّ بها القرآن اهتماماً بالغاً.

وربّما يتبادر في بادئ النظر منها التعارض والتخالف ، ومبدأ هذا هو الاكتفاء بآية واحدة والغض عن سائر الآيات الواردة في الكتاب العزيز ، فلا تحل عقدة هذه المسألة وأمثالها إلاّ بجمع الآيات في مورد واحد واستنطاقها حتى يشهد بعضها على بعض ، ولأجل أهمّيّة هذه المسألة نفيض الكلام فيها على وجه الاختصار حتى يظهر معنى قوله سبحانه : ( وَإِنَّ اللّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) .

ص: 499

ما معنى كون الهداية والضلالة بيده سبحانه ؟

دلّت الآيات القرآنية على أنَّ الهداية والضلالة بيده سبحانه ، فهو يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء. وقد وقع بعض الناس في شبهة الجبر وقالوا : إذا كان أمر الهداية مرتبطاً بمشيئته ، فلا يكون للعبد دور لا في الهداية ولا في الضلالة ، فالضال يعصي بلا اختيار ، والمهتدي يطيع كذلك وهذا بالجبر ، أشبه منه بالإختيار.

قال سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( إبراهيم / 4 ).

وقال سبحانه : ( وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( النحل / 93 ).

وقال سبحانه : ( أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) ( فاطر / 8 ).

ولنا نقاش وجواب ، فنقول : إنّ تحليل أمر الهداية والضلالة الذي ورد في القرآن الكريم من المسائل الدقيقة المتشعّبة الأبحاث ولا يقف على المحصّل من الآيات إلاّ من فسّرها عن طريق التفسير الموضوعي ، بمعنى جمع كل ما ورد في هذين المجالين في مقام واحد ، ثم تفسير المجموع باتّخاذ البعض قرينة على البعض الآخر. وبما أنَّ هذا المنهج من البحث لا يناسب وضع الكتاب ، نكتفي بما تمسّك به الجبريّون في المقام من الآيات لإثبات الجبر ، وبتفسيرها وتحليلها يسقط أهم ما تسلّحوا به من العصور الاُولى.

حقيقة الجواب تتّضح في التفريق بين الهداية العامّة التي عليها تبتنى مسألة الجبر والإختيار ، والهداية الخاصّة التي لاتمت إلى هذه المسألة بصلة.

ص: 500

الهداية العامّة

الهداية العامّة من اللّه سبحانه تعمّ كل الموجودات عاقلها وغير عاقلها ، وهي على قسمين :

أ - الهداية العامة التكوينيّة : والمراد منها خلق كل شيء وتجهيزه بما يهديه إلى الغاية التي خلق لها ، قال سبحانه حاكياً كلام النبي موسى علیه السلام : ( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) ( طه / 50 ).

ومنح كلّ موجود إمكانية توصله إلى الكمال ، فالنبات مجهّز بأدقّ الأجهزة التي توصله في ظروف خاصة إلى تفتّح طاقاته ; فالحبّة المستورة تحت الأرض ترعاها أجهزة داخلية وعوامل خارجية كالماء والنور إلى أن تصير شجرة مثمرة معطاءة. ومثله الحيوان والإنسان ، فهذه الهداية عامّة لجميع الأشياء ليس فيها تبعيض وتمييز.

قال سبحانه : ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ) ( الأعلى / 1 - 3 ).

وقال سبحانه : ( أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) ( البلد / 8 - 10 ).

وقال سبحانه : ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) ( الشمس / 7 و 8 ).

إلى غير ذلك من الآيات الواردة حول الهداية التكوينية التي ترجع حقيقتها إلى الهداية النابعة من حاق ذات الشيء بما أودع اللّه فيه من الأجهزة والإلهامات التي توصله إلى الغاية المنشودة والطريق المَهْيع ، من غير فرق بين المؤمن والكافر. قال سبحانه : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) ( الروم / 30 ).

ص: 501

فهذا الفيض الإلهي الذي يأخذ بيد كل ممكن في النظام ، عام لا يختص بموجود دون موجود ، غير أنّ كيفية الهداية والأجهزة الهادية لكل موجود تختلف حسب اختلاف درجات وجوده. وقد أسماه سبحانه في بعض الموجودات « الوحي » وقال سبحانه : ( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) ( النحل / 68 و 69 ).

ومن الهداية التكوينية في الإنسان العقل الموهوب له ، الذي يرشده إلى معالم الخير والصلاح ، وما ورد في الذكر الحكيم من الآيات الحادثة على التعقّل والتفكّر والتدبّر خير دليل على وجود هذه الهداية العامّة في أفراد الإنسان وإن كان قسم منه لا يستضيء بنور العقل ولا يهتدي بالتفكّر والتدبّر.

ب - الهداية العامّة التشريعية : إذا كانت الهداية التكوينية العامّة أمراً نابعاً من ذات الشيء بما أودع اللّه فيه من أجهزة تسوقه إلى الخير والكمال ، فالهداية التشريعية العامّة عبارة عن الهداية الشاملة للموجود العاقل المدرك ، المفاضة عليه بتوسّط عوامل خارجة عن ذاته ، وذلك كالأنبياء والرسل والكتب السماوية وأوصياء الرسل وخلفائهم والعلماء والمصلحين وغير ذلك من أدوات الهداية التشريعية العامّة التي تعمّ جميع المكلّفين. قال سبحانه : ( وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ) ( فاطر / 24 ).

وقال سبحانه : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) ( الحديد / 25 ).

وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) ( النساء / 59 ).

ص: 502

وقال سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) ( الأنبياء / 7 ). وأهل الذكر في المجتمع اليهودي هم الأحبار ، والمجتمع المسيحي هم الرُهْبان.

إلى غير ذلك من الآيات الواردة في القرآن الكريم التي تشير إلى أنَّه سبحانه هدى الإنسان ببعث الرسل ، وإنزال الكتب ، ودعوته إلى إطاعة أُولي الأمر والرجوع إلى أهل الذكر.

قال سبحانه مصرّحاً بأنَّ النبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله هو الهادي لجميع أُمّته : ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( الشورى / 52 ).

وقال سبحانه في هداية القرآن إلى الطريق الأقوم : ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) ( الأسراء / 9 ).

هذا ، وإنّ مقتضى الحِكْمَة الإلهية أن يعمّ هذا القسم من الهداية العامّة جميع البشر ، ولا يختصّ بجيل دون جيل ولا طائفة دون طائفة.

والهداية العامّة بكلا قسميها في مورد الإنسان ، ملاك الجبر والإختيار ، فلو عمّت هدايته التكوينية والتشريعية في خصوص الإنسان كل فرد منه لارتفع الجبر ، وساد الإختيار ، لأنَّ لكل إنسان أن يهتدي بعقله وما حَفَّهُ سبحانه به من عوامل الهداية من الأنبياء والرسل والمزامير والكتب وغير ذلك.

ولو كانت الهداية المذكورة خاصّة بأُناس دون آخرين ، وأنَّه سبحانه هدى أُمّة ولم يهدِ أُخرى ، لكان لتوهّم الجبر مجال وهو وَهْم واه ، كيف وقد قال سبحانه : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) ( الأسراء / 15 ). وقال سبحانه : ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً ) ( القصص / 59 ). وغير ذلك من الآيات التي تدلّ على أنَّ نزول العذاب كان بعد بعث الرسول وشمول الهداية العامّة للمُعَذّبين والهالكين ، وبالتالي يدلّ على أنَّ من لم تبلغه تلك الهداية لا يكون مسؤولاً إلاّ بمقدار ما يدلّ عليه عقله ويرشده إليه لبّه.

ص: 503

الهداية الخاصّة

وهناك هداية خاصّة تختصّ بجملة من الأفراد الذين استضاؤا بنور الهداية العامّة تكوينها وتشريعها ، فتشملهم العناية الخاصّة منه سبحانه.

ومعنى هذه الهداية هو تسديدهم في مزالق الحياة إلى سبل النجاة ، وتوفيقهم للتزوّد بصالح الأعمال ، ويكون معنى الإضلال في هذه المرحلة هو منعهم من هذه المواهب ، وخذلانهم في الحياة ، ويدلّ على ذلك ( إنَّ هذه الهداية خاصة لمن استفاد من الهداية الاُولى ) ، قوله سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ) ( الرعد / 27 ). فعلّق الهداية على من اتّصف بالإنابة والتوجّه إلى اللّه سبحانه.

وقال سبحانه : ( اللّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ) ( الشورى / 13 ).

وقال سبحانه : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ ) ( العنكبوت / 29 ). فمن أراد وجه اللّه سبحانه يمدّه بالهداية إلى سبله.

وقال سبحانه : ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى ) ( محمد / 17 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ) ( الكهف / 13 و 14 ).

وكما أنَّه علّق الهداية هنا على من جعل نفسه في مهب العناية الخاصّة ، علّق الضلالة في كثير من الآيات على صفات تشعر باستحقاقه الضلال والحرمان من الهداية الخاصّة.

قال سبحانه : ( وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) ( الجمعة / 5 ).

وقال سبحانه : ( وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ ) ( إبراهيم / 27 ).

ص: 504

وقال سبحانه : ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ) ( البقرة / 26 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ ) ( النساء / 168 و 169 ).

وقال سبحانه : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) ( الصف / 5 ).

فالمراد من الإضلال هو عدم الهداية لأجل عدم استحقاق العناية والتوفيق الخاص ، لأنّهم كانوا ظالمين وفاسقين ، كافرين ومنحرفين عن الحق. وبالمراجعة إلى الآيات الواردة حول الهداية والضلالة يظهر أنَّه سبحانه لم ينسب في كلامه إلى نفسه إضلالاً إلاّ ما كان مسبوقاً بظلم من العبد أو فسق أو كفر أو تكذيب ونظائرها التي استوجبت قطع العناية الخاصّة وحِرمانه منها.

إذا عرفت ما ذكرنا ، تقف على أنَّ الهداية العامّة التي بها تناط مسألة الجبر والإختيار عامّة شاملة لجميع الأفراد ، ففي وسع كل إنسان أن يهتدي بهداها. وأمّا الهداية الخاصة والعِناية الزائدة فتختصّ بطائفة المنيبين والمستفيدين من الهداية الاُولى. فما جاء في كلام المستدل من الآيات من تعليق الهداية والضلالة على مشيئته سبحانه ناظرٌ إلى القسم الثاني لا الأوّل.

أمّا القسم الأوّل فلأنّ المشيئة الإلهية تعلّقت على عمومها بكل مكلّف بل بكل إنسان ، وأمّا الهداية فقد تعلّقت مشيئته بشمولها لصنف دون صنف ، ولم تكن مشيئته مشيئة جزافية ، بل المِلاك في شمولها لصنف خاص هو قابليته لشمول تلك الهداية ، لأنَّه قد استفاد من الهدايتين التكوينية والتشريعية العامّتين ، فاستحقّ بذلك اللطف الزائد.

كما أنَّ عدم شمولها لصنف خاص ما هو إلاّ لأجل اتّصافهم بصفات رديئة لا يستحقّون معها تلك العِناية الزائدة.

ص: 505

ولأجل ذلك نرى أنَّه سبحانه بعد ما يقول : ( فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ) ، يذيّله بقوله : ( وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( إبراهيم / 4 ) ، مشعراً بأنَّ الإضلال والهداية كانا على وفاق الحكمة ، فهذا استحقّ الإضلال وذاك استحقّ الهداية.

بقي هنا سؤال ، وهو إنَّ هناك جملة من الآيات تعرب عن عدم تعلّق مشيئته سبحانه بهداية الكل ، قال سبحانه : ( وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ ) ( الأنعام / 35 ).

وقال سبحانه : ( وَلَوْ شَاءَ اللّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ) ( الأنعام / 107 ).

وقال سبحانه : ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ) ( يونس / 99 ).

وقال سبحانه : ( وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) ( النحل / 9 ).

وقال سبحانه : ( وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ) ( السجدة / 13 ).

والجواب : إنَّ هذه الآيات ناظرة إلى الهداية الجبرية بحيث تسلب عن الإنسان الإختيار والحرية فلا يقدر على الطرف المقابل ، ولمّا كان مثل هذه الهداية الخارجة عن الإختيار منافياً لحكمته سبحانه ، ولا يوجب رفع منزلة الإنسان ، نفى تَعَلُّق مشيئته بها ، وإِنَّما يُقَدَّرُ الإيمان الذي يستند إلى اختيار المرء ، لا إلى الجبر.

* * *

بلغ الكلام هنا صبيحة يوم الثلاثاء ثاني ربيع الأوّل عام 1410 ه ق بيد مؤلّفه « جعفر السبحاني » ابن الفقيه الشيخ « محمد حسين السبحاني » عاملهما اللّه بلطفه الخفي.

ص: 506

الفهارس

اشارة

1- فهرس الموضوعات

2- فهرس المصادر

ص: 507

فهرس الكتاب

الموضوع / رقم الصحفة

مقدّمة ... 3

التفكّر العقلي والاستدلال المنطقي في الذكر الحكيم ... 5

الاختلاف في الأسماء والصفات سبب تعدّد الديانات ... 6

الإنسان يأنس المحاكاة والتشبيه ... 7

المشبّهة ... 8

المعطّلة ... 9

المعطّلة بثوبها الجديد ... 12

بين التشبيه والتعطيل ... 19

الإستدلال بالأقيسة العقليّة المنطقيّة ... 21

مطالعة الكون وآيات وجوده ... 24

المعرفة عن طريق الوحي ... 25

المعرفة عن طريق الكشف والشهود ... 25

أسماؤه وصفاته في القرآن الكريم ، الفرق بين الإسم والصفة ... 31

ما هو المختار في الفرق بين أسماءه وصفاته ... 33

الأسماء والصفات عند أهل المعرفة ... 33

هل الإسم نفس المسمّى أو غيره ... 35

بيان آخر لوحدة الاسم والمسمّى ... 39

هل اسماؤه توقيفية أو لا ؟ ... 42

الروايات وتوقيفية الأسماء ... 47

بساطة الذات وكثرة الأسماء ... 48

بيان آخر لوحدة الصفات ... 52

ص: 508

الموضوع / رقم الصحفة

تقسيم صفاته إلى الجماليّة والجلاليّة ... 53

تقسيم صفاته إلى الذاتيّة والفعليّة ... 55

تعريف آخر للذاتية والفعلية ... 57

تقسيم صفاته إلى نفسية وإضافية ... 57

تقسيم آخر منسوب إلى أهل المعرفه ... 58

تقسيم صفاته إلى الذاتية والخبرية ، تقسيمها إلى صفات اللطف والقهر ... 59

الأسماء العامّة والخاصّة ... 60

هل الإسم الأعظم من قبيل الألفاظ ؟ ... 60

صفاته عين ذاته لا زائدة عليه ... 63

أدلّة القائلين بعينية صفاته مع ذاته ... 66

الإرادة صفة الذات أو صفة الفعل ؟ رأي المعتزلة في الإرادة ، الإرادة : الشوق النفسائي ... 71

الإرادة هي العزم والجزم ، الإرادة الإمكانية تلازم الحدوث ... 72

الإرادة ملاك الإختيار ... 72

هل الإرادة صفة الذات أو صفة الفعل ؟ ... 74

الإشكال الأوّل : الإرادة أمر تدريجي حادث ... 75

إرادته سبحانه ، علمه بالذات ... 75

إرادته سبحانه ابتهاجه بفعله ... 77

الإرادة : إعمال القدرة ... 77

إرادته ، كونه مختاراً بالذات ... 78

ص: 509

الموضوع / رقم الصحفة

الإشكال الثاني : الروايات تعدّ الإرادة من صفات الفعل ... 80

عصر الإمام الكاظم علیه السلام والمذاهب الكلامية ... 84

الإشكال الثالث : الإرادة يرد عليها النفي والإثبات ... 85

الإشكال الرابع : لو كانت الإرادة صفة للذات لزم قدم العالم ... 87

ما هو المراد من الحدوث الزماني للعالم ؟ ... 89

تكلّمه وكلامه سبحانه ... 95

نظرية المعتزلة ... 97

نظرية الحكماء ... 98

نظرية الأشاعرة ... 99

أسماؤه في القرآن والسنّة ... 105

أسماؤه في أحاديث أهل البيت علیهم السلام ... 106

أسماؤه سبحانه في أحاديث أهل السنّة ... 107

تفسير أسمائه الواردة في القرآن الكريم ... 109

حرف الالف ، الإله ، لفظ الجلالة عربي أو عبري ... 109

لفظ الجلالة مشتق أو لا ؟ ... 110

« اللّهمّ » مكان « اللّه » ... 112

ما هو المقصود من « الإله » في الذكر الحكيم ... 113

خاتمة المطاف ... 121

الأحد ... 121

الأوّل والآخر ... 126

الأعلى ... 128

ص: 510

الموضوع / رقم الصحفة

الأعلم ... 131

الأكرم ... 132

أرحم الراحمين ... 133

أحكم الحاكمين ... 134

أحسن الخالقين ... 135

أسرع الحاسبين ، أهل التقوى وأهل المغفرة ... 137

الأبقى ... 138

الأقرب ... 139

الإحاطة القيوميّة لا الإحاطة المكانيّة ... 146

ما هو المقصود من الأقربية ؟ ... 149

حرف الباء ، البارئ ... 151

الباطن والظاهر ... 152

البديع ... 154

البر ... 155

البصير والسميع ... 157

تفسير كونه سميعاً وبصيراً ... 160

حرف التاء ، التوّاب ... 165

حرف الجيم ، الجبّار ... 167

الجبّار : العالي الذي لا ينال ، الجبار : العظيم الشأن في الملك ... 168

الجبّار : من يصلح الشيء بضرب من القهر ... 169

ص: 511

الموضوع / رقم الصحفة

الجامع ... 170

حرف الحاء ... 171

الحسيب ... 171

الحفيظ ... 172

الحفيّ... 173

الحكيم ... 174

الحكيم : المتقن فعله ... 177

الحكيم : المنزّه عن فعل ما لا ينبغي ... 178

ما هو المراد من الحسن والقبح العقليين ... 179

العقل النظري والعقل العملي ... 181

الحكمة العمليّة وقضاياها الواضحة ... 182

الانسان وقوى الخير والشر ... 186

الاُصول الأخلاقية الثابتة ، الاُصول الثابتة في الشرائع السماوية ... 187

القرآن وكونه سبحانه حكيماً ... 188

الحق ... 189

توصيف الفعل بالحق ، أفعاله سبحانه معلّلة بالأغراض ... 194

الحليم ... 197

الحميد ... 199

الحيّ ... 200

الحياة ومراتبها ... 202

حرف الخاء ، الخالق ... 209

الخلاّق ، الخبير ... 217

ص: 512

الموضوع / رقم الصحفة

الخير ... 219

النظرة الأنانية إلى الظواهر ... 220

الشر أمر انتزاعي قياسي نسبي ... 223

المصائب وسيلة لتفجير القابليات ... 225

المصائب والبلايا جرس إنذار ... 228

البلايا سبب للعودة إلى الحق ... 230

خير الحاكمين ... 232

خير الراحمين ، خير الرازقين ... 233

خير الغافرين ، خير الفاتحين ، خير الفاصلين ... 234

خير الماكرين ... 236

خير المنزلين ... 237

خير الناصرين ، خير الوارثين ... 239

خير حافظاً ... 240

حرف الذال ، ذوانتقام ... 243

ذو الجلال والإكرام ... 247

ذو الرحمة ... 248

ذو العرش ... 249

ذو عقاب ... 250

ذو القوّة ... 251

ذو المعارج ... 252

ذو مغفرة ... 253

ص: 513

الموضوع / رقم الصحفة

حرف الراء ، ربّ العرش ... 255

الرحمن والرحيم ... 264

الرؤوف ... 268

الرزّاق ... 269

رفيع الدرجات ... 272

الرقيب ... 273

حرف السين ، سريع الحساب ... 275

سريع العقاب ... 278

السلام ... 279

حرف الشين ، الشاكر ... 283

الشكور ، شديد العقاب ... 285

شديد العذاب ، شديد المحال ... 286

الشهيد ... 287

حرف الصاد ، الصمد ... 291

حرف الظاء ، الظاهر ... 295

حرف العين ، عالم الغيب والشهادة ... 295

عالم غيب السموات والأرض ، علاّم الغيوب ... 297

ص: 514

الموضوع / رقم الصحفة

العليم ... 298

العلم ... 299

ما هي حقيقة العلم ... 301

نماذج من العلم الحضوري ... 303

مفهوم الإنسان الكلّي ... 306

مفهوم الجنس والنوع ... 307

تعريف العلم بوجه آخر ... 311

علمه سبحانه بذاته ... 312

العلم بالذات يستلزم التغاير بين العلم والمعلوم ... 314

علمه سبحانه بالأشياء قبل الإيجاد ... 316

بسيط الحقيقة كلّ الأشياء ... 321

علمه سبحانه بالأشياء بعد الإيجاد ، قيام الأشياء به يستلزم علمه بها ... 326

سعة وجوده دليل على علمه بالأشياء ... 328

إتقان المصنوع دليل علمه ... 330

مراتب علمه سبحانه ... 335

القضاء من مراتب علمه ... 338

شمول علمه تعالى للجزئيات ... 339

إثبات علمه سبحانه بالجزئيات ... 341

حضور الممكن لدى الواجب في كل حين ... 341

التعبير القرآني الرفيع عن سعة علمه ... 346

دلائل النافين لعلمه سبحانه بالجزئيات ... 347

العلم بالجزئيات يلازم التغيّر في علمه ... 347

العلم بالجزئيات يستلزم الكثرة في الذات ... 351

انقلاب الممكن واجباً ... 351

ص: 515

الموضوع / رقم الصحفة

العظيم ... 353

العزيز ... 354

العفو ... 357

العليّ ... 360

حرف الغين ، غافر الذنب ... 363

الغالب ... 364

الغفّار ... 365

الغنيّ ... 366

الغفور ... 367

حرف الفاء ، الفاطر ... 369

فالق الإصباح ... 371

فالق الحبّ والنّوى ... 372

الفتّاح ... 374

حرف القاف ، القائم على كل نفس بما كسب ... 377

قابل التوب ، القادر ... 378

القدير ... 379

تعريف القدرة ... 380

دلائل قدرته سبحانه ، الفطرة ... 382

ص: 516

الموضوع / رقم الصحفة

مطالعة النظام الكوني ... 382

معطي الكمال لا يكون فاقداً له ... 383

سعة قدرته لكلّ شيء ... 384

تحليل القول بعموم القدرة الإلهية ... 386

عدم قدرته على فعل القبيح ... 389

عدم قدرته تعالى على خلاف معلومه ... 390

عدم قدرته تعالى على مثل مقدور العبد ... 392

عدم قدرته تعالى على عين مقدور العبد ... 394

سعة القدرة بمعنيين ... 396

القاهر ... 402

القهّار ... 403

القدّوس ... 406

القريب ، القويّ... 408

القيّوم ... 410

حرف الكاف ، الكافي ، الكبير ... 413

الكريم ... 415

حرف اللام ، اللطيف ... 417

كلام في رؤيته سبحانه ... 420

ما هي حقيقة الرؤية ؟ ... 421

تقرير أدلة المنكرين بوجوه أربعة ... 422

ص: 517

الموضوع / رقم الصحفة

القرآن يتلقّى الرؤية أمراً منكراً ... 424

أدلة القائلين بالرؤية ... 426

كلام لصاحب الكشّاف ... 436

الرؤية القلبية ... 439

حرف الميم ، المؤمن ... 443

مالك الملك ... 444

مالك يوم الدين ... 449

المبين ... 451

المتَعال ... 453

المتكبّر ... 454

المتين ... 456

المجيب ، المجيد ... 457

المحيط ... 458

المحيي ... 459

المستعان ... 460

المصوّر ... 461

المقتدر ... 464

المقيت ... 464

الملك ... 465

المولى ... 466

المهيمن ... 469

ص: 518

الموضوع / رقم الصحفة

حرف النون ، النصير ... 471

النور ... 472

حرف الواو ، الواحد ... 475

معنى كونه واحداً ... 477

أدلّة الوحدانية ، التعدد يستلزم التركيب ... 479

الوجود اللامتناهي لا يقبل التعدّد ... 480

صرف الوجود لا يتثنّى ولا يتكرّر ... 483

خرافة التثليث : الأب والابن وروح القدس ... 485

تسرّب خرافة التثليث إلى النصرانية ... 488

القرآن ونفي التثليث ... 490

الواسع ... 492

الوالي ، الودود ... 493

الوكيل ... 494

الولي ... 496

الوهّاب ... 497

حرف الهاء ، الهادي ... 499

ما معنى كون الهداية والضلالة بيده سبحانه ... 500

الهداية العامّة ... 501

الهداية الخاصّة ... 504

ص: 519

ص: 520

فهرس المصادر والمراجع

بعد القرآن الكريم

1 - الإبانة : الأشعري : أبو الحسن ( 260 - 324 ه ) طبع الجامعة الإسلامية ، المدينة المنورة - 1970 م.

2 - الإحتجاج : الطبرسي : أبو منصور أحمد بن علي - من أعلام القرن السادس - طبع الأعلمي ، بيروت - 1403 ه.

3 - الإرشاد : الشيخ المفيد : محمد بن محمد بن لقمان ( 336 - 413 ه ) طبع قم - 1402 ه.

4 - إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين : جمال الدين الفاضل المقداد ( ت 826 ه ) طبع مكتبة المرعشي - 1405 ه.

5 - أسرار الحكم : الحكيم السبزواري ( 1214 - 1289 ه ) الطبع الحجري.

6 - الأسفار : صدر المتألّهين : صدر الدين محمد الشيرازي ( 970 - 1050 ه ) طبع مكتبة المصطفوي - قم.

7 - الإقتصاد الهادي إلى سبيل الرشاد : الشيخ الطوسي ( 385 - 460 ه ) طبع طهران.

8 - اللّه خالق الكون : جعفر الهادي ، دار الأضواء ، بيروت - 1406 ه.

ص: 521

9 - اللّه يتجلّى في عصر العلم : بول كلارنس ابرسوله ، طبع بيروت.

10 - الإلهيات : الشيخ حسن محمد مكي العاملي من محاضرات الاُستاذ الشيخ جعفر السبحاني ، الدار الإسلاميّة ، بيروت - 1410 ه.

11 - الأمالي : الطوسي : محمد بن الحسن ( 385 - 460 ه ) مؤسسة الوفاء ، بيروت - 1401 ه.

12 - أنوار الملكوت في شرح الياقوت : العلاّمة الحلي ( 648 - 726 ه ) طبع إيران.

13 - أوائل المقالات : الشيخ المفيد : محمد بن محمد بن لقمان ( 336 - 413 ه ) تبريز - مكتبة حقيقت.

14 - بحار الأنوار : المجلسي : محمد باقر ( 1037 - 1110 ه ) ، مؤسسة الوفاء بيروت - 1403 ه.

15 - بحوث في الملل والنحل : السبحاني : جعفر بن محمد حسين ( 1347 ه مؤلف هذا الكتاب ) مطبعة الخيام ، قم - 1408 ه.

16 - تاريخ دمشق : ابن عساكر : أبو القاسم علي بن الحسن الدمشقي ( 500 - 571 ه ) طبع دار التعارف ، بيروت.

17 - تأويل مختلف الحديث : أبو محمد عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة ( 213 - 276 ه ) ، دار الجيل ، بيروت - 1393 ه.

18 - التبصير في الدين : الإسفرايني : أبو المظفر ( ت 471 ه ) بيروت 1403 ه.

19 - تبيين كذب المفترى : ابن عساكر : أبو القاسم علي بن الحسن الدمشقي ( 500 - 571 ه ) دار الكتاب العربي ، بيروت - 1404 ه.

ص: 522

20 - تصحيح الإعتقاد : الشيخ المفيد : محمد بن محمد بن لقمان ( 336 - 413 ه ) تبريز ، مكتبة حقيقت.

21 - التوحيد : الصدوق : محمد بن بابويه ( 306 - 381 ه ) طهران - طبع مكتبة الصدوق.

22 - درر الفوائد : الشيخ محمد تقي الآملي ( 1304 - 1389 ه ) قم - طبع مؤسسة إسماعيليان.

23 - الرجال : الكشي : أبو عمرو - من علماء القرن الرابع - كربلاء ، العراق ، مؤسسة الأعلمي.

24 - رحلة ابن بطوطة : ابن بطوطة ، دار الكتب العلمية ، بيروت - لبنان - 1407 ه.

25 - سرمايه ايمان : عبد الرزاق اللاهيجي طبع حجر - 1310 ه ، إيران.

26 - السلفية مرحلة زمينة مباركة لامذهب اسلامي : الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي السوري.

27 - السنة : أحمد بن حنبل ( ت 242 ه ) دار الكتب العلمية ، بيروت - لبنان 1405 ه.

28 - السيرة النبوية : ابن هشام ( ت 213 ه أو 218 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

29 - شرح الأسماء الحسنى : السيد حسين الهمداني المعاصر.

30 - شرح الأسماء الحسنى : الحكيم السبزواري ( 1214 - 1289 ه ).

31 - شرح الاُصول الخمسة : عبد الجبار القاضي المعتزلي ( ت 415 ه ) طبع مصر.

ص: 523

32 - شرح التجريد : علاء الدين القوشچي ، الطبع الحجري ، تبريز - 1307 ه.

33 - شرح المقاصد : سعد الدين التفتازاني ( ت 792 ه ) طبع مصر.

34 - شرح المنظومة : الحكيم السبزواري ، طبع حجر ، طهران.

35 - شرح المواقف : السيد الشريف : علي بن محمد الجرجاني ( ت 816 ه ) مطبعة السعادة مصر - 1325 ه.

36 - الصحيح : الترمذي : أبو عيسى محمد بن عيسى بن سوره ( 209 - 279 ه ) طبع دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

37 - العقائد : الصدوق : محمد بن علي بن بابويه ( 306 - 381 ه ) إيران مطبعة آفتاب - 1371 ه.

38 - على اطلال المذهب المادي : فريد وجدي في أربعة أجزاء - طبع مصر.

39 - علاقة الإثبات والتفويض : الدكتور رضا بن نعسان معطي ، مكة المكرمة - 1401 ه.

40 - العمدة : ابن البطريق : يحيى بن الحسن الأسدي الحلي ( 533 - 600 ه ) مؤسسة النشر الإسلامي ، قم - 1407 ه.

41 - غاية المرام : السيد هاشم بن سليمان بن إسماعيل البحراني ( ت 1107 ه ) طبعة حجر - 1272 ه.

42 - الغدير : الأميني : عبد الحسين ( 1320 - 1390 ه ) ، 11 جزء ، بيروت 1387 ه.

43 - فتح الباري : ابن حجر : شهاب الدين أحمد العسقلاني ( ت 852 ه ) ، إحياء التراث العربي - بيروت.

ص: 524

44 - الفرائد : الشيخ الأنصاري ( 1212 - 1281 ه ) ، الطبع الحجري - ايران.

45 - قصة الحضارة : ول وايريل ديورانت ، دار الجيل ، بيروت - 1408 ه.

46 - قواعد المرام في علم الكلام : الشيخ ميثم بن علي البحراني ( 636 - 699 ه ) تحقيق الأشكوري ، طبع مكتبة المرعشي - 1406 ه.

47 - كاشف الأسماء في شرح الأسماء الحسنى : السيد عماد الدين ( ت 1110 ه ) الطبع الحجري.

48 - الكافي : الكليني : محمد بن يعقوب ( ت 329 ه ) طهران ، 8 أجزاء 1388 ه.

49 - الكشّاف : الزمخشري : أبو القاسم جار اللّه محمود بن عمر ( 467 - 538 ه ) دار المعرفة ، بيروت - لبنان.

50 - كشف الفوائد : العلامة الحلّي : الحسن بن يوسف بن مطهر ( 648 - 726 ه ) الطبع الحجري.

51 - كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد : العلامة الحلي : الحسن بن يوسف بن علي بن مطهر ، مطبعة العرفان ، صيدا - 1353 ه.

52 - گوهر مراد : عبد الرزاق اللاهيجي ( ت 1075 ه ) طهران - 1377 ه طبع حجر.

53 - لسان العرب : العلاّمة ابن منظور : جمال الدين محمد بن مكرم ( 630 - 711 ه ) قم - ايران - 1405 ه.

54 - اللمع : الشيخ الأشعري : أبو الحسن ( 260 - 324 ه ) ، مطبعة مضر 1955 م.

55 - لوامع البينات : الرازي : فخر الدين محمد بن عمر

ص: 525

الخطيب ( 544 - 606 ه ) القاهرة - 1396 ه.

56 - اللوامع الإلهية في المباحث الكلامية : جمال الدين مقداد بن عبد اللّه الأسدي السيوري الحلي ( ت 826 ه ) مطبعة شفق ، تبريز ايران - 1397 ه.

57 - ماذا خسر العالم : الندوي السيد أبو الحسن علي الحسيني ، دار الكتاب العربي ، بيروت - 1385 ه.

58 - مجمع البيان في تفسير القرآن : الشيخ الطبرسي : أبو علي الفضل بن الحسن ( 471 - 548 ه ) دار المعرفة - بيروت لبنان - 1408 ه.

59 - مجموعة الرسائل الكبرى : ابن تيمية : أحمد بن عبد الحليم ( 661 - 728 ه ) مصر - 1385 ه.

60 - المحاسن : البرقي : أحمد بن محمد بن خالد ( م 274 ه ) طهران.

61 - مسند الإمام الكاظم علیه السلام : الشيخ عزيز اللّه العطاردي ، مشهد 1409 ه.

62 - معجم مقاييس اللغة : أبي الحسين : أحمد بن فارس بن زكريا ( ت 395 ه ) القاهرة - 1366 ه.

63 - مفاتيح الغيب : الرازي : فخر الدين محمد بن عمر الخطيب ( 544 - 606 ه ) طبع مصر في ثمانية أجزاء.

64 - المفردات : أبو القاسم : الحسين بن محمد بن المفضل المعروف بالراغب الإصفهاني ( ت 502 ه ) مطبعة الميمنية ، القاهرة - 1324 ه.

65 - مقالات الإسلاميين : الأشعري : أبو الحسن ( 260 - 324 ه ) المانيا 1400 ه.

66 - الملل والنحل : الشهرستاني : محمد بن عبد الكريم ( 479 - 548 ه )

ص: 526

دار المعرفة ، بيروت.

67 - المواقف : القاضي عضد الدين عبد الرحمان الايجي ( ت 756 ه ) مطبعة السعادة ، مصر - 1325 ه.

68 - الميزان : العلاّمة الطباطبائي : محمد حسين ( 1321 - 1402 ه ) مؤسسة الاعلمي ، بيروت لبنان - 1403 ه.

69 - نهاية الاقدام : الشهرستاني : محمد بن عبد الكريم ( ت 548 ه ) طبع مصر.

70 - نهاية الحكمة : الطباطبائي : محمد حسين ( 1321 - 1402 ه ) قم 1404 ه.

71 - نهاية الدراية : الصدر : السيد حسن ( 1272 - 1354 ه ) الهند ، لكهنو 1324 ه.

72 - نهج البلاغة : الجامع الرضي : محمد بن الحسين ( 359 - 406 ه ) طبع مصر ، مطبعة الإستقامة ، مع شرح الشيخ محمد عبده.

73 - نور الثقلين : العلاّمة عبد علي بن جمعه العروسي الحويزي ( ت 112 ه ) مطبعة الحكمة ، قم - 1383 ه.

74 - وسائل الشيعة : الحر العاملي : محمد بن الحسن ( 1033 - 1104 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت - 1403 ه.

إلى غير ذلك من الرسائل والكتب التي رجعنا إليها عند التأليف.

والحمد لله رب العالمين

ص: 527

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.