مفاهيم القرآن المجلد 2

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ جعفر السبحاني

الناشر: مؤسسة الامام الصادق عليه السلام

المطبعة: الإعتماد

الطبعة: 4

الموضوع : القرآن وعلومه

تاريخ النشر : 1413 ه.ق

الصفحات: 616

نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الكتب بساتین العلماء

مفاهيم القرآن

تأليف: العلامة جعفر السبحاني

الجزء الثاني

دراسة موسعة عن صيغة الحکومة الإسلامية وأرکانها وخصائصها وبرامجها

مؤسسة التاريخ العربي

بيروت - لبنان

ص: 1

اشارة

جميع الحقوق محفوظة للناشر

الطبعة الأولی

1431 ه - 2010 م

مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع

The Arabic History Publishing Distributing

العنوان الجديد

بيروت - طريق المطار - خلف غولدن بلازا - هاتف 01/540000 - 01/455559 - فاكس 850717 - ص. ب . 11/7957 Beyroth - Air port street - Golden plazza - Tel: 01/54000- 01455559 -7957/11 Fax: 850717 - p. o

ص: 2

يشهد العالم الإسلاميّ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

يشهد العالم الإسلاميّ - منذ سنوات قريبة - تعطُّشاً كبيراً من أبناء الأُمّة الإسلاميّة للتعرُّف على كنوز المعرفة في كتابهم الإلهيّ العظيم « القرآن الكريم ».

وقد ازداد هذا التعطّش والشوق مع بزوغ القرن الخامس عشر الهجري ، وما حقّقته تعاليم القرآن الكريم وتوجيهاته الربانيّة من انتصارات ساحقة على قوى الطغيان والشرِّ والظلام.

من هنا نجد الأيدي والقلوب تتلقّف كلَّ ما يصدر حول هذا الكتاب الإلهيّ الخالد من دراسات ، لأنّهم وجدوا فيه مصدر عزَّتهم الغابرة ، ورمز مجدهم التليد ، ودستور حضارتهم الكبرى.

ومن هنا أيضاً ، شهدت الموسوعة القرآنيّة « مفاهيم القرآن » - وهي من محاضرات الأُستاذ العلاّمة الشيخ جعفر السُّبحانيّ منذ الأيّام الأُولى من انتشار أوّل حلقة منها عام ( 1393 ه ) - استقبالاً شديداً من القرّاء الكرام ، وتشجيعاً وترحيباً كبيرين من أقطاب الفكر الإسلاميّ ، وكبار أعلام التفسير والعلم ، الذين عبّروا عن ذلك برسائلهم وكتبهم القيّمة ، أو بالتشجيع الشفهيّ ، وحثُّوا على مواصلة هذا المشروع القرآنيّ المفيد.

وقد جاءت الحلقة - هذه المرّة - لتُلبّي حاجةً شديدةً طالما أحسَّ بها المسلمون في أعماقهم ، ألا وهي الحاجة إلى معرفة « الحكومة الإسلاميّة » والتعرّف على طبيعتها وتركيبتها ومناهجها على ضوء القرآن الكريم.

ص: 3

وليس بخافٍ على أحدٍ أنّ إيقاف القرّاء الأعزّاء على الملامح الحقيقيّة للحكومة الإسلاميّة لم يكن بالأمر السهل بعد أن مضى على المسلمين زمن طويلٌ غاب عنهم فيه الوجه القرآنيّ الأصيل لهذه الحكومة في خِضمِّ الممارسات البعيدة عن روح القرآن.

ولهذا ، سيقف القارئ الكريم بنفسه على مدى الجهود الضخمة ، والمساعي المُضنية التي بُذلت لإخراج هذه الدراسة ، واستجلاء صيغة الحكومة الإسلاميّة على ضوء القرآن الكريم ، وما ورد في ذلك من السنَّة المطهّرة.

ولهذا نعتقد بأنّ القارئ الكريم سيولي هذا الكتاب اهتماماً خاصّاً ، وسيجده - ربّما - أولى وأوسع دراسة في هذا الصعيد.

ونحن إذ نقدِّم هذا المجهود الذي هو حصيلة تلكُم الجهود الطويلة من البحث والتنسيق إلى كلِّ القوى الإسلاميّة المخلصة ، التي تعمل وتجاهد الآن للإطاحة بالنُّظم الطاغوتيّة في البلاد الإسلاميّة ، لإقامة نظام الحكومة الإسلاميّة فوق أنقاضها إظهاراً لدولة الحق ، وإعلاءً لكلمة اللّه العليا.

وإذ نرى أنفسنا مَدينين لترحيب كبار رجال الفكر والعلم وتشجيعهم ، فننشر هنا بعض رسائلهم وفاءً لجميلهم ، وإحياءً لذكراهم ، نرجو العليّ القدير أن يتقبَّل منّا هذا العمل ، ويجعله خالصاً لوجهه إنّه سميعٌ مجيب.

الجامعة العلميّة الإسلاميّة في مدينة قم المقدّسة

جعفر الهادي

30 / شعبان / 1401

ص: 4

تقييمٌ وتقدير

من فقيد الإسلام المفكّر الكبير آية اللّه العظمى الشهيد السيد محمّد باقر الصّدر قدس سره (1)

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

سماحة حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ جعفر سبحاني متّعنا اللّه تعالى بوجوده الشريف.

السلام عليكم زِنَة شوقي إليكم وتقديري لكم ورحمة اللّه وبركاته.

وبعد ، فقد تسلّمت بالأمس بواسطة السيّد الفاضل أحمد العلوي البحريني قَبَسكم الهادي المشعّ بمفاهيم القرآن الكريم ، وهو كما ذكرتم بحقّ منهجٌ جديدٌ في تفسير القرآن الكريم على الصعيد الإسلاميّ ، وفي حدود ما اتّسعت له النظرة الأُولى خلال هذا اليوم وجدت علماً غزيراً واطّلاعاً واسعاً وعمقاً في البحث والاستنتاج ، وعشت فترةً سعيدةً مع الكتاب الجليل ذكّرتني باللقاء السابق مع سماحتكم وما خلّفه ذلك اللقاء من أعمق الانطباعات وأرسخ المشاعر ، ولئن كنت أشعر باستمرار باعتزاز كبير بشخصيّتكم العلميّة المجاهدة ، فإنَّ هذه النفحة القرآنية الجديدة ، أكّدت هذا الاعتزاز وجسّدت بعض الآمال المعقودة عليكم ، وسوف أُحاول في فرصة أوسع أن أستوعب قدراً معتدّاً به من بحوث الكتاب الجليلة وأُسجّل لكم ما قد يحصل من انطباعات.

حفظكم اللّه تعالى مناراً للعلم وسنداً للدّين الحنيف والسّلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.

محمّد باقر الصّدر

غرّة شعبان 1395

ص: 5


1- استشهد قدس سره في رجب عام ( 1400 ه ).

كتابٌ كريم

من فقيد الإسلام سماحة العلاّمة الحجّة الشيخ مرتضى آل ياسين المتوفّى في ذي القعدة الحرام عام ( 1398 ه ) رحمه اللّه .

بسم اللّه وله الحمد وبه نستعين وصلّى اللّه على محمد وآله الطاهرين.

وبعد لا يخفى عليك أيّها القارئ الكريم أنّ هذا السِّفر الجليل الذي بين يديك مجموعة من بحوث قيّمة في القرآن الكريم قلّما تناولتها أقلام الباحثين من قبل إلاّت بنحو من الإجمال لا يكاد يروي من غلّة ، أو يشفي من علّة ، وفيه من الفوائد الرائعة ما يُشبع طرفاً كبيراً من نهمك العلمي ، وذلك بما يعرض إليه من الشكوك والشبهات الدائرة حول العقائد الحقّة فينسفها نسفاً ببيان رصين لا يشذّ عنه الدليل والبرهان ، هذا إلى استئثاره بمنهج من التفسير له طابعه الخاص الّذي يميّزه عن سائر التفاسير كما يبدو ذلك جلياً لكلّ من سرّح نظره فيه.

وليس من شك عندي أنّ الموهبة الإلهيّة الّتي مُنح بها مؤلف هذا الكتاب فضيلة العلاّمة العبقري الشيخ السُّبحاني - أيّده اللّه - هي الّتي آثرته بالتوفيق لإنجاز مثل هذا النتاج القيّم الّذي طالما تطلّعت إليه المكتبة الإسلاميّة لكي تسدّ به فراغاً لا يزال ماثلاً بين صفوفها منذ أمد بعيد. فإليه دام تأييده أُزجي تحيّتي ، وتهنئتي تقديراً لجهوده ، وتثميناً لمجهوده راجياً من المولى عزَّ شأنه أن يجعله ذخراً له في آخرته كما جعله فخراً له في دنياه والسّلام عليه ورحمة اللّه وبركاته.

مرتضى آل ياسين

7 / 3 / 1394 ه

ص: 6

إكبارٌ وتشجيع

من رائد الفكر الإسلامي فقيد الأُمّة العلاّمة الشيخ محمّد جواد مغنيّة رحمه اللّه .

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

فضيلة الأخ العلاّمة الكبير الشيخ جعفر سبحاني - دام ظلّه - بعد السلام والاحترام ، أشكر هديّتكم السنيّة الغنيّة : التفسير الموضوعي للقرآن الكريم هذا السِّفر المَعلَم القيّم في سموّ مطالبه وعلوّ صاحبه ، الجديد في بابه أو موضوعه ، لقد جمع الآيات المتشابكة المتعاضدة على إرساء فكرة واحدةٍ ، وأرانا بأُسلوبه السهل : كيف ينطق بعضها ببعض توضيحاً وتحديداً حتّى عالج الكثير من الصعاب التي تخطّاها السابق واللاحق عن قصد أو غير قصد ... ولا بِدْعَ أن يتصدّى لها شيخنا الأجلّ فقد توفّرت فيه كلُّ الشروط ، وتكاملت كلُّ الصفات الّتي يتطلّبها هذا الميدان الصعب المستصعب.

محمّد جواد مَغنيَّة

ج 2 / 1396 ه

شكر واعتذار

لقد وردت إلينا رسائل أُخرى من الشخصيّات العلميّة البارزة تشجّعنا على هذا المشروع ، فنحن إذ نشكرهم شكراً جميلاً وجزيلاً ، نرفع إليهم الاعتذار لعدم نشر ما كتبوه بأقلامهم الشريفة في هذا الجزء ، ونرجو نشرها في الجزء الثالث من هذه الموسوعة الّذي هو جاهزٌ للطبع أيضاً.

ص: 7

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 8

مقدّمة

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

بدأ القرن الرابع عشر الهجريّ بيقظة المسلمين وقد بذل علماء الإسلام ومفكّروه جهوداً عظيمةً وجبارةً بالقلم تارةً ، وباللسان اُخرى ، وبتحمُّل المَشاقّ الجسيمة ، والصعوبات المُضنية لإيقاظ الأُمّة الإسلاميّة من رقْدتها العميقة ، وذكروا - بالإجماع - بأنّ استعادة مجد الإسلام لا تُمكن إلاّ بالعودة إلى القرآن ، والوقوف على حقائق الدّين النّابضة بالحياة ، والعمل بالكتاب العزيز.

ومن هذا المنطلق ، ظهرت - في عصورنا - جهودٌ قيّمة في مختلف نقاط البلاد الإسلاميّة لمعرفة القرآن الكريم والتعريف بمفاهيمه ، وهي جهودٌ تستطيع أن تفتح الطريق أمام المتعطّشين لمعرفة هذا الكتاب الإلهيّ الخالد في القرن الحاضر.

والآن بعد أن بدأت الأُمّة الإسلامية تتحرَّر في مطلع القرن الخامس عشر الهجريّ وراحت تخرج من رِبْقة الإستعمار البغيض ، وتتخلّص من قيود الإستكبار العالمي ازداد تعطّش الشباب خاصّةً ، إلى « القرآن » ، وهي ظاهرة ملموسة ومحسوسة في أكثر البلاد الإسلاميّة.

نعم لمّا كانت بعض البلاد الإسلاميّة لا تزال ترزح تحت نير الاستعمار

ص: 9

وتُعاني من قيوده ؛ فإنَّ طرح الكثير من الجوانب الثوريّة والحيويّة من الإسلام بات ممنوعاً أو مستحيلاً ، فيكتفى في تلك البلاد بقراءة القرآن وتجويده دون أنْ يصلَ الناس إلى نتيجةٍ مطلوبةٍ من هذا السِّفر الإلهيّ العظيم.

ففي بعض هذه البلاد التي لا تزال تعيش في قيود الاستعمار - باطناً - تُقام المؤتمرات السنويّة الضّخمة لمعرفة ( اجود مقرئ للقرآن ) ويشترك فيها قرّاء من مختلف البلاد الإسلاميّة ، ثمّ يتمُّ اختيار أجود قارئ حسب معايير خاصة ليست بغريبة عن السياسات الحاضرة غالباً ، ولكن دون أن تقوم أيّة مؤتمرات بصدد التعريف بمفاهيم القرآن ، أو جدوَلة موضوعاته أو الحصول على طرق جديدة للتفسير أكثر عطاءً ، للوقوف على حقائق هذا الكتاب السماويّ وبيّناته وبصائره ، حتّى أنّني عندما اشتركت على رأس هيئة في أحد هذه المؤتمرات المعقودة لاختيار أفضل قارئ طرحت هذا الموضوع على وزير الأوقاف في البلد المضيِّف وقدّمت له اقتراحاً مكتوباً بهذا الصدد ولكن دون أن أجد منه ترحيباً بالاقتراح ، والعلّة واضحةٌ والسبب معلوم.

إنّنا بحكم واجبنا الدّينيّ الذي يقضي بأنّ تكون الجهود العلميّة موافقةً للاحتياجات الحاضرة ، ركّزنا قسماً كبيراً من نشاطاتنا العلميّة والفكريّة - طوال عشرين عاماً منصرمات - على دراسة القرآن الكريم واستجلاء حقائقه واستقصاء معارفه ومسائله ، وقد حقّقنا - في هذا السبيل - نجاحاً كبيراً والحمد لله.

وقد كان نتيجة ما حققناه - طوال هذه السنين - هو عرض نمط جديد للتفسير لم يكن له مثيلٌ فيما كتبه المفسّرون في هذا المضمار وهو تفسير القرآن حسب الموضوعات ، مستعينين في تفسير الآيات بنفس الآيات ، وكشف معضلاتها بمشابهاتها.

ص: 10

وقد طُبع - إلى الآن - سبعة أجزاء من هذا التفسير لقيت ترحيباً كبيراً من قبل العلماء والمفكّرين المهتمّين بهذا النوع من البحوث القرآنيّة.

هذه الدّراسة

وما يراه القارئ في هذه الدراسة هو نتيجة ما ألقيناه على فضلاء الجامعة الدينيّة في قم المشرّفة من ذلك النَّمط التفسيريّ الجديد.

ولمّا انتهى البحث في الجزء الأوّل إلى التوحيد في الحاكميّة ، وقلنا : إنّ الحاكميّة مختصّةٌ باللّه سبحانه ، وذكرنا أنّ اختصاص الحكومة باللّه لاتعني اختصاص الإمرة به سبحانه ، فلأجل ذلك ، جعلنا محور البحث في هذا الجزء رفع الستار عن صيغة الحكومة الإسلاميّة نزولاً عند رغبة أكثر القرّاء من الشباب حيث ازداد تعطّشهم إلى معرفة الحكومة الإسلاميّة ، تلك الناحية الحسّاسة من النظام الإسلاميّ التي أُهملت في القرون الغابرة ، بياناً ، وتأليفاً.

شكر وتقدير

وقد تمّ تنسيق وتأليف محتويات هذا الجزء بواسطة الكاتب الإسلاميّ الفاضل الشيخ جعفر الهادي الذي بذل جهداً كبيراً في تحرير هذه البحوث وتنظيمها وصبّها في ثوب قشيبٍ من التعبير ، وكأنّه بذلك أفاض عليها حياةً جديدة.

وإنّني إذ أشكر - بإخلاص - جهوده المضنية في هذا الصعيد ، أسأل اللّه تعالى أن يوفقه لتحقيق الأهداف الإسلاميّة العليا ويأخذ بيده لخدمة الفكر الإسلاميّ العظيم.

ص: 11

على أنّنا نُذكِّر القرّاء الكرام بأنّنا لا ندّعي أبداً بأنّ عملنا - هذا - عمل متكاملُ الأركان ، عارٍ عن النقصان ، وأنّنا في غنىً عن النقد البنّاء والاعتراض الهادف السليم ... ولهذا ، فإنّنا نرحّب بكلّ نقد في هذا المجال ، ونتلقّاه برحابة صدرٍ آملين أنْ يُتحفنا الإخوة بما يرونه مفيداً وضرورياً لنزيد من كمال هذا المجهود فيتحقّق الهدف ، ويحصل المطلوب ، واللّه من وراء القصد.

جعفر السبحاني

5 / شعبان / 1403 ه.

ص: 12

الفصل الأوّل

اشارة

1

الحكومة حاجة طبيعيّة وضروريّة

اشارة

الحديث عن الحكومة الإسلاميّة من المسائل التي تطرح نفسها اليوم بشدّة على أذهان الناس في المجتمع الإسلامي ، وتستقطب اهتمامهم في كلّ مكان.

ولقد استوفينا الكلام حول لزوم وجود الحكومة ، وضرورة استقرارها وقيامها في الحياة البشريّة عامّةً ، وفي المجتمع الإسلامي خاصّةً ، وذلك عند دراسة « التوحيد في الحاكميّة » الذي كان آخر فصل لكتابنا : « معالم التوحيد في القرآن الكريم ».

ونرى هنا - لدى البحث عن معالم الحكومة الإسلاميّة - أن نعيد الكرّة على ما ذكرناه هناك باختصار فنقول :

إنّ ضرورة قيام الحكومة ووجود الدولة في الحياة البشريّة ليست أمراً تقتضيه وتؤكّده الحياة المعاصرة التي اشتدّت فيها الحاجة إلى الحكومة فحسب ، بل كانت موضع تأكيد كبار الفلاسفة والمفكّرين في التاريخ القديم أيضا.

ص: 13

فها هو « أرسطو » كبير الفلاسفة القدامى وزعيمهم يقول :

« إنّ الدولة من عمل الطبع ، وإنّ الإنسان بالطبع كائن اجتماعيّ ، وإنّ الذي يبقى متوحّشاً - بحكم النظام لا بحكم المصادفة - هو على التحقيق إنسان ساقط أو إنسان أسمى من النوع الإنسانيّ » (1).

فإذن ، تعتبر الدولة - حسب رأي أرسطو - حاجة طبيعيّة تقتضيها الفطرة الإنسانيّة بحيث يعدُّ الخارج على الدولة ونظامها وتدبيرها إمّا متوحّشاً ساقطاً ، أو موجوداً يفوق النوع الإنساني ، ويخلو عن الطبيعة البشريّة.

وها هو « أفلاطون » يرى : « أنّ أفضل حياة للفرد لا يمكن الحصول عليها إلاّ بوجود الدولة ، لأنّ طبيعة الإنسان م آلها إلى الحياة السياسيّة ، فهي من الاُمور الطبيعيّة التي لا غنى للناس عنها » (2).

وهذا هو ابن خلدون يستدلُّ على ضرورة وجود الدولة والحكومة بضرورة الاجتماع الإنساني التي يعبّر عنها في اصطلاح الحكماء بعبارة : « أنّ الإنسان مدنيّ بالطبع ».

ثمّ يستدلُّ على ذلك حتى ينتهي إلى إثبات ضرورة إيجاد الحكومة والدولة (3).

وأمّا من المفكّرين المعاصرين ، فيكتب ثروت بدوي : « إنّ أوّل مقوّمات النظام السياسيّ هو وجود الدولة ، بل إنّ كلّ تنظيم سياسيّ للجماعة يفترض وجود الدولة ، حتّى أنّ البعض يربط بين مدلول السياسة وفكرة الدولة ، ولا يعترف بصفة الجماعة السياسيّة بغير الدولة » (4).

هذا وما جاء في الإسلام وورد من نصوص وسيرة أكثر دلالةً ، وأقوى برهنةً على لزوم إيجاد الدولة في الحياة البشريّة ، من أي دليل آخر.

ص: 14


1- السياسة : 96 ترجمة أحمد لطفي.
2- الجمهوريّة بتلخيص.
3- مقدّمة ابن خلدون : 41 - 42.
4- النُّظم السياسيّة : 1 - 7.

أمّا السيرة فيكفي النظر إلى حياة الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله وسيرته الشريفة للوقوف على هذه الحقيقة.

المؤسّس الأوّل للحكومة الإسلاميّة :

فمن تتبّع تلك السيرة الشريفة وجد كيف أنّ الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله أقدم بمجرّد نزوله في المدينة المنوّرة على تأسيس الدولة بكلّ ما لهذه الكلمة من معنى ، وكيف مارس كلّ ما هو من شأن الحاكم السياسي من تشكيل جيش منظّم ، وعقد معاهدات ومواثيق مع الطوائف الاخرى ، وتنظيم الشؤون الإقتصاديّة والعلاقات الإجتماعيّة ممّا يتطلّبه أي مجتمع منظّم ذو طابع قانونيّ ، وصفة رسميّة وصيغة سياسيّة ، واتخاذ مركز للقضاء والإدارة - وهو المسجد - ووضع رواتب وتعيين مسؤوليات إداريّة ، وتوجيه رسائل إلى الملوك والامراء في الجزيرة العربيّة وخارجها ، وتسيير الجيوش والسرايا وبذلك يكون الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله أوّل مؤسّس للدولة الإسلاميّة التي استمرّت من بعده ، واتّسعت ، وتطوّرت وتبلورت ، واتّخذت صوراً أكثر تكاملاً في التشكيلات والمؤسّسات وإن كانت الاسس متكاملةً في زمن المؤسّس الأوّل صلی اللّه علیه و آله .

إنّ من يراجع التاريخ النبويّ يلاحظ - بجلاء - أنّ النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله كان منذ بداية بعثته الشريفة وحياته الرساليّة بصدد تأسيس الحكومة ، وإقامة الدولة.

وقد تمّ ذلك في مرحلتين كانت المرحلة الاولى في مكة ، والاخرى في المدينة.

ففي مكة - يوم لم يكن مأموراً بالظهور والإعلان عن دعوته - قام بتأسيس الحزب السريّ - إن صحّ هذا التعبير - حيث أخذ في إعداد وبناء الأفراد الصالحين ، وتوفير الكوادر المؤمنة عن طريق الاتّصالات الخاصّة واللقاءات السّريّة.

ثمّ بعد أن امر باعلان رسالته لقوله سبحانه : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ ) ( الحجر : 94 و 95 ) ، راح الرسول الأكرم يلتقي بقادة القبائل ورؤساء الوفود الآتية إلى مكّة يدعوهم الى دينه ، والانضمام

ص: 15

إلى جماعته ؛ وكان من أبرز ما فعله على صعيد التهيئة العامّة لإقامة حكومته المرتقبة ، عقد البيعة مع بعض الوفود القادمة من أنحاء الجزيرة إلى مكة ، وأخذ العهد منهم على نصرته ودعم ما ينشد إقامته في ظرفه المناسب كما تمّ ذلك في بيعتي العقبة الاولى والثانية (1).

وعندما هاجر إلى المدينة ، وسنح له الظرف المناسب باشر بتأسيس أوّل حكومة إسلاميّة وبذل في ذلك أكبر مجهود بعد أن مهّد لها بعقد ميثاق الاخوّة بين أصحابه من الأنصار والمهاجرين ، وإقامة مسجد جعله مركزاً لتجمّع المسلمين وموضعاً لعملياته ونشاطاته الاجتماعيّة والسياسيّة.

وقد تجلىّ العمل السياسيّ الذي قام به النبيُّ صلی اللّه علیه و آله والذي يدلُّ على أنّه كان أوّل من أقام حكومة إسلاميّة وبنى قواعدها ، أنّه كان يباشر اُموراً هي من صميم العمل السياسي والنشاط الاداري الحكومي ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر :

1. أنّه صلی اللّه علیه و آله عقد بين أصحابه وبين الطوائف والقبائل الاخرى المتواجدة في المدينة كاليهود وغيرهم اتفاقيةً وميثاقاً يعتبر في الحقيقة أوّل دستور للحكومة الإسلاميّة ، وقد ذكرنا بنودها في هذا الفصل من كتابنا هذا.

2. أنّه صلی اللّه علیه و آله جهّز الجيوش وبعث البعوث العسكريّة والسرايا إلى مختلف المناطق في الجزيرة ، وقاتل المشركين وغزاهم ، وقاتل الروم وقام بمناورات عسكريّة لإرهاب الخصوم ... وقد ذكر المؤرّخون أنّه صلی اللّه علیه و آله خاض أو قاد خلال 10 أعوام من حياته المدنيّة 85 حرباً.

3. بعد أن استتبّ له الأمر في المدينة وما حولها وأمن جانب مكّة وطرد اليهود من المدينة وماحولها وقلع جذورهم وقضى على مؤامراتهم ، توجّه باهتمامه إلى خارج الجزيرة ، وإلى المناطق التي لم تصل إليها دعوته ودولته من مناطق الجزيرة ، فراح يراسل الملوك والامراء يدعوهم إلى الانضواء تحت راية الإسلام والدخول تحت ظلّ دولته والقبول

ص: 16


1- راجع السيرة النبويّة 1 : 431 و 467 ، وإعلام الورى.

بحكومته الإلهيّة.

فراسل قيصر ملك الروم.

وكسرى ملك إيران وامبراطورها.

والمقوقس عظيم القبط في مصر.

والنجاشيّ ملك الحبشة.

وكبار قادة الشام واليمن وغيرهم من الامراء والملوك ورؤساء القبائل الكبيرة.

وربّما وقّع مع بعضهم المعاهدات ، وأقام بعض التحالفات العسكريّة والسياسيّة والمعاهدات الإقتصاديّة (1) كما ستعرف ذلك.

وقد جمعت أكثر هذه الرسائل والمواثيق في كتب خاصّة أمثال ( الوثائق السياسيّة ) تأليف البروفسور محمد حميد اللّه الاستاذ بجامعة باريس و ( مكاتيب الرسول ) وإليك نماذج من هذه الرسائل والمكاتيب السياسيّة :

كتابه إلى ملك عمان والأزد ، جيفر وعبد ابني الجلندي :

« بسم اللّه الرّحمن الرّحيم من محمّد بن عبد اللّه إلى ..

سلام على من اتّبع الهدى ، أمّا بعد ، فإنّي أدعوكم بدعاية الإسلام ، أسلما تسلما. إنّي رسول اللّه إلى الناس كافّةً لأنذر من كان حيّاً ويحقّ القول على الكافرين. إنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما ، وإن أبيتما أن تقرّا بالإسلام فإنّ ملككما زائل عنكما ، وخيلي تحلُّ بساحتكما ، وتظهر نبوّتي على ملككما » (2).

وكتابه لرفاعة بن زيد الجذاميّ أحد امراء الجزيرة :

« بسم اللّه الرّحمن الرّحيم هذا كتاب من محمّد رسول اللّه لرفاعة بن زيد : إنّي قد بعثته إلى قومه عامّة ومن دخل فيهم يدعوهم إلى اللّه ورسوله ، فمن أقبل منهم ففي

ص: 17


1- على نحو ما فعل مع أهل اليمن ( راجع تاريخ اليعقوبي 2 : 64 ).
2- المواهب اللدنيّة 3 : 440 ، السيرة الحلبيّة 3 : 284 ، أعيان الشيعة 2 : 14 ومكاتيب الرسول : 147.

حزب اللّه وحزب رسوله ومن أدبر فله أمان شهرين » (1).

ومن رسالته إلى اسقف نجران :

« بسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، من محمّد النبيّ رسول اللّه إلى أسقف نجران : أسلم أنتم ( أي أنتم سالمون إذا أسلمتم ) فإنّي أحمد اللّه إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب.

أمّا بعد فإنّي أدعوكم إلى عبادة اللّه من عبادة العباد ، وأدعوكم إلى ولاية اللّه من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية وإن أبيتم آذنتكم بحرب والسلام » (2).

4. أنّه صلی اللّه علیه و آله بعث السفراء والمندوبين السياسيين إلى الملوك والزعماء.

قال الاستاذ عبد اللّه عنّان عن هذه السفارات النبويّة : « كانت هذه السفارات والكتب النبويّة عملاً بديعاً من أعمال الدبلوماسيّة ، بل كانت أوّل عمل قام به الإسلام في هذا الميدان.

إنّ هذه الدبلوماسيّة الفطنة التي لجأ إليها النبيُّ في مخاطبة الملوك في عصره لم تذهب كلُّها عبثاً كما رأينا » (3).

5. أنّه صلی اللّه علیه و آله نصب القضاة وعيّن الولاة ، وأعطاهم برامج للإدارة والسياسة فأوصاهم فيما أوصاهم بتعليم أحكام الإسلام ، ونشر الأخلاق والآداب التي جاء بها الإسلام ، وتعليم القرآن الكريم ، وجباية الضرائب الإسلاميّة كالزكاة وإنفاقها على الفقراء والمعوزّين وما شابه ذلك من المصالح العامّة ، وفصل الخصومات بين الناس وحلّ مشاكلهم والقضاء على الظلم والطغيان ... وغير ذلك من المهام والصلاحيّات والمسؤوليّات الإداريّة والاجتماعيّة.

وبالتالي لقد كان النبيُّ صلی اللّه علیه و آله يعمل كلّ ما يعمله الساسة وأصحاب السلطات

ص: 18


1- السيرة الدحلانيّة على هامش السيرة الحلبية 3 : 131.
2- البداية والنهاية 5 : 53 والدرّ المنثور 2 : 38 وبحار الأنوار 6 : 9 الطبعة القديمة.
3- مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام : 208.

اليوم ، ولكن يفعل كلّ ذلك وفق منهج السّماء ، فكان يقوم بالعزل والنّصب ، والمراسلة وعقد الأحلاف ، وتوقيع الوثائق السياسيّة والعسكريّة والإقتصاديّة حسبما تقتضيها المصلحة الإسلاميّة والاجتماعيّة في عصره وضمن تشكيلات بسيطة ..

هذا مضافاً إلى أنّ من طالع سورة الأنفال والتوبة ومحمّد صلی اللّه علیه و آله يلاحظ كيف يرسم القرآن فيها الخطوط العريضة لسياسة الحكومة الإسلاميّة وبرامجها ووظائفها ... فهي تشير إلى مقوّمات الحكومة الإسلاميّة الماليّة ، واسس التعامل مع الجماعات غير الإسلاميّة ، ومبادئ الجهاد والدفاع وبرامجها ، وتعاليم في الوحدة الإسلاميّة التي تعتبر أقوى دعامة للحكومة الإسلاميّة ... وكذا غيرها من السور والآيات القرآنيّة ، فهي مشحونة بالتعاليم والبرامج اللازمة للحكومة والدولة.

وهذا يكشف عن أنّ النبيّ ( محمّداً ) صلی اللّه علیه و آله كان أوّل مؤسّس للحكومة الإسلاميّة وأنّ أوّل حكومة إسلاميّة هي التي أقامها وأوجدها النبيُّ صلی اللّه علیه و آله في المدينة المنورة بعد أن مهّد لها في مكّة.

على أنّ هذه الحكومة - كما قلنا - وإن لم تكن من حيث التشكيلات والتنظيمات الإداريّة على النحو المتعارف الآن ، إلاّ أنّها كانت على كلّ حال تمثّل حكومةً كاملة الأركان ، ودولةً كاملة السّمات والملامح.

وهذا يعني أنّه لابدّ أن تكون للحكومة الإسلاميّة أركان ومؤسّسات وتشكيلات للقيام بمثل ما كان يقوم به النبيُّ صلی اللّه علیه و آله حسب ما تقتضيه طبيعة عصرنا الحاضر ..

وكلُّ هذا يتّضح من مطالعة ما دوّن حول السيرة النبويّة من كتب تأريخيّة على أيدي مؤرّخين من القدماء ، مثل سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري وتاريخ الكامل للجزريّ والإرشاد للمفيد وكشف الغمّة للأربلّي ، ومن المتأخّرين ، مثل كتاب تاريخ الإسلام السياسيّ (1) ، وغير ذلك من المؤلّفات التاريخيّة المختصرة والمفصّلة.

ص: 19


1- تأليف الكاتب المعاصر الدكتور حسن إبراهيم حسن استاذ التاريخ الإسلاميّ بجامعة القاهرة.

ثمّ إنّ نظرةً اخرى إلى الدين الإسلاميّ نفسه تشهد بأنّ الأحكام والمناهج الإسلاميّة تقتضي - بنفسها - قيام مثل هذه الدولة وذلك من جهتين :

الاُولى : أنّ الإسلام يدعو - في أكثر من نصّ - إلى الوحدة بين أبنائه وأتباعه ، وينهى عن التشتُّت والفرقة والاختلاف حتّى عرف الإسلام بأنّه بني على كلمتين : « كلمة التوحيد ، وتوحيد الكلمة » قال القرآن الكريم : ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ) ( الأنعام : 153 ).

وقال تعالى : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ) ( آل عمران : 103 ).

وقال تعالى : ( إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) ( الحجرات : 10 ).

وقال تعالى : ( وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( الأنفال : 63 ).

فإنّ اللّه يمنُّ على النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه وحّد بهداه قومه ، وهو يعني أنّ التوحيد ورصّ الصفوف هو غاية الإسلام الأكيدة.

إلى غير ذلك من الآيات التي تكشف عن أنّ القرآن يريد وحدة الاُمّة الإسلاميّة.

ولذلك قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « من أتاكم وأمركم جميع ( مجتمع ) على رجل واحد ، يريد ان يشقّ عصاكم أو يفرّق جماعتكم فاقتلوه » (1).

وقال صلی اللّه علیه و آله أيضاً : « مثل المؤمن من المؤمن كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضه بعضاً » (2).

وقال الإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام في هذا الصّدد : « والزموا السّواد الأعظم ،

ص: 20


1- أخرجه مسلم في صحيحه كما في جامع الاُصول في أحاديث الرسول 3 : 48.
2- مسند أحمد 4 : 404 ورواه غيره من أصحاب الصّحاح والسُّنن.

فإنّ يد اللّه على الجماعة وإيّاكم والفرقة ، فإنّ الشاذّ من النّاس للشّيطان ، كما أنّ الشاذّ من الغنم للذئب ألا من دعا إلى هذا الشّعار فاقتلوه ، ولو كان تحت عمامتي هذه » (1).

وقال علیه السلام في حديث آخر : « من فارق جماعة المسلمين ونكث صفقة الإمام جاء إلى اللّه عزّ وجلّ أجذم » (2).

وقال الإمام الصادق جعفر بن محمّد علیه السلام : « من فارق جماعة المسلمين قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه » (3).

إلى غير ذلك من النصوص الإسلاميّة الداعية إلى رصّ الصفوف ، وتعميق الوحدة ، وجمع الكلمة ، ومن المعلوم أنّ ذلك لا يمكن ان يتحقّق إلاّ بوجود دولة وجهاز يؤلّف بين الآراء ويجمع الكلمة ، ويوفّق بين المصالح ، ويحافظ على العلاقات ، ويعيد الشاذّ إلى رشده والخارج إلى صفّه ، إذ لولا ذلك الجهاز( الدولة ) لذهب كلُّ فريق مذهباً ، واتّخذت كلُّ جماعة طريقاً ، وتمزّق المجتمع أشتاتاً ، وعادت الوحدة اختلافاً وتفرقة.

وصفوة القول : أنّ الدولة عامل الوحدة ورمز التآلف ، بقدر ما هي طاردة للفرقة ، وما نعة عن التخالف.

الثانية : أنّ ملاحظة ذات القوانين الإسلاميّة في مختلف المجالات الحقوقيّة والاجتماعيّة والماليّة تفيد أنّ طبيعتها تقتضي وجود الدولة.

فالإسلام الذي دعا إلى الجهاد والدفاع ، ودعا إلى إجراء الحدود والعقوبات على العصاة والمجرمين ودعا إلى انصاف المظلوم ، وردع الظالم ، وسنّ نظاماً خاصاً وواسعاً للمال.

إنّ الدعوة إلى كلّ هذه الأحكام تدلُّ - بدلالة التزاميّة - على أنّ اللّه قد فرض وجود دولةً قويةً تقوم بإجرائها في المجتمع.

إنّ الإسلام ليس مجرد أدعية خاوية أو طقوس ومراسيم فرديّة يقوم بها كلُّ فرد في

ص: 21


1- نهج البلاغة الخطبة 123 طبعة عبده.
2- الكافي 1 : 405 كتاب الحجة.
3- الكافي 1 : 405 كتاب الحجة.

بيته ومعبده ، بل هو نظام سياسيّ وماليّ وحقوقيّ واجتماعيّ واقتصاديّ واسع وشامل ، وما ورد في هذه المجالات من قوانين وأحكام تدلُّ بصميم ذاتها على أنّ مشرّعها افترض وجود حاكم يقوم بتنفيذها ورعايتها. لأنّه ليس من المعقول سنُّ مثل هذه القوانين دون وجود قوة مجرية وسلطة تنفيذيّة تتعهد إجراءها وتتولّى تطبيقها ، مع العلم بأنّ سنّ القوانين وحده لا يكفي في تنظيم المجتمعات.

ولقد استدلّ السيد المرتضى على لزوم الحكومة ببيان لطيف هذا حاصله : « إنّ بقاء الخلق يتوقّف على اُمور منها الأمر والنهي. قال اللّه تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) ( الأنفال : 24 ) ، وفسّر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولقوله سبحانه : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ ) ( البقرة : 179 ) ، فصار الأمر بالمعروف هنا المتمثّل في الاقتصاص من القاتل مبدءاً للحياة.

فإذا كان الأمر والنهي كما توحي هذه الآيات مبدءاً للحياة ، وجب أن يكون للناس إمام يقوم بأمرهم ونهيهم ، ويقيم فيهم الحدود ، ويجاهد فيهم العدو ، ويقسّم الغنائم ، ويفرض الفرائض - أبواب ما فيه صلاحهم - ويحذّرهم عمّا فيه مضارّهم ... ولهذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب بقاء الخلق ... فوجبا وإلاّ سقطت الرغبة والرهبة ولم يرتدع أحد ، ولفسد التدبير ، وكان ذلك سبباً لهلاك العباد » (1).

هذا هو ما تفيده النظرة إلى الأحكام والتشريعات الإسلاميّة التي لم تنزّل إلاّ للتنفيذ ، ولم تشرّع إلاّ للتطبيق.

أمّا النصوص الإسلاميّة المصرّحة بضرورة قيام الدولة ووجودها فهي أكثر من أن تحصى ، وقد مرّ في الجزء الأوّل قسم منها ونشير هنا إلى ما لم نشر إليه هناك :

قال الإمام عليّ بن موسى الرضا علیه السلام في حديث طويل حول ضرورة وجود

ص: 22


1- المحكم والمتشابه للسيد المرتضى : 50.

الحكومة في الحياة البشريّة : « إنّا لا نجد فرقةً من الفرق ولا ملّةً من الملل بقوا وعاشوا إلاّ بقيّم ورئيس لما لا بدّ لهم منه في أمر الدّين والدُّنيا ، فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق لما يعلم أنّه لابدّ لهم منه ، ولاقوام لهم إلاّ به فيقاتلون به عدوّهم ويقسّمون به فيئهم ، ويقيمون به جمعتهم وجماعتهم ، ويمنع ظالمهم من مظلومهم » (1).

وقد بلغت أهمية الدولة والحكومة في نظر الإسلام حداً جعلت هي السبب الأساسيُّ في صلاح أو فساد الاُمّة ، حيث قال النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « صنفان من أمّتي إذا صلحا صلحت أمّتي ، وإذا فسدا فسدت امّتي ... ».

قيل : يا رسول اللّه ومن هم ؟

قال : « الفقهاء والامراء » (2).

إنّ ضرورة وجود الدولة والحكومة في الحياة البشريّة الاجتماعيّة بديهيّة جداً عقلاً وشرعاً وتاريخيّاً بحيث لا تحتاج إلى سرد المزيد من الأدلة والاستشهادات ولذلك نكتفي بهذا القدر.

* * *

ولأجل هذه الأهمية التي تحظى بها الحكومة الإسلاميّة يتعيّن على علماء الإسلام أن يبذلوا غاية الجهد في توضيح معالمها ومناهجها وخطوطها وخصائصها في جميع العصور والعهود.

وسوف نذكر أنّ هذه الناحية الحسّاسة من حياتنا الاجتماعيّة قد أهملت في أكثر القرون كتابةً وتحقيقاً ودراسةً.

نماذج من الوظائف الحكوميّة في الأحاديث

لم يكن وجود( الحكومة ) ووظائفها في النظام الإسلاميّ بدعاً يمكن أن يدّعيه

ص: 23


1- علل الشرائع : 253 ، الحديث مفصّل وجدير بالمطالعة.
2- تحف العقول : 42.

أحد بدون دليل في القرآن أو السُّنّة.

فمن يطالع الأحاديث والأخبار الواردة عن النبيّ والأئمّة الطاهرين يجد سلسلةً من الوظائف المخوّلة إلى ( الإمام ) وهو يدلُّ بالدلالة الإلتزاميّة على وجود الحكومة في النظام الإسلاميّ ، وأنّ الأئمّة كانوا يعتبرون وجود الإمام والحاكم أمراً مفروضاً ولذلك كانوا يعتبرون هذه الاُمور من وظائف الحاكم.

وبالتالي ، أنّ ما يمكن أن يستظهر من خلال الروايات الكثيرة لزوم وجود ( دولة ) تقوم بالأعمال الاجتماعيّة الكثيرة التي لم يكلّف بها في الإسلام مسؤول خاص من عامّة الناس ، بل جعل أمر إجرائها والقيام بها على عاتق الإمام ( أو الحاكم ).

وذلك يدل على لزوم وجود جهاز تنفيذيّ يقوم بهذه المسؤوليات والأعمال الاجتماعيّة الحيويّة ، ويدلُّ على أنّ الحكومة قد كانت مفروضة الوجود في نظرهم.

واليك نماذج من الأحاديث التي توكل بعض الأعمال إلى ( الإمام ) والحاكم اللّذين يعدّان رمزاً للحكومة. وما ذكرناه في هذه الصحائف قليل من كثير ، ولم نأت بالجميع ابتغاءً للإختصار ، ويمكن للقارئ الكريم أن يجد أكثر ما ذكرناه إذا تصفّح المجاميع الحديثيّة لا سيّما الأجزاء العشرة الأخيرة من وسائل الشيعة :

* * *

1. يقول الإمام الصادق في الأنفال : « وما أخذ بالسّيف فذلك إلى الإمام يقبله بالذّي يرى كما صنع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بخيبر » (1).

2. وفي الزكاة لمّا سئل الإمام الصادق علیه السلام عمّا يعطى المصّدّق ( أي الذي يجبي الصّدقات ) قال : « ما يرى الإمام ولا يقدّر له شيء » (2).

3. وفي تقسيم الزكاة قال الإمام الصادق علیه السلام : « والغارمين ... يجب على الإمام أن يقضي عنهم ويفكّهم من مال الصدّقات ».

ص: 24


1- وسائل الشيعة 6 : 129.
2- وسائل الشيعة 6 : 144.

« وفي سبيل اللّه قوم يخرجون في الجّهاد ليس عندهم ما يتقوُّون به ، أو قوم من المؤمنين ليس عندهم ما يحجُّون به أو في جميع سبل الخير فعلى الإمام أن يعطيهم من مال الصّدقات حتّى يقووا على الحجّ والجهاد ، وابن السبيل أبناء الطريق يكونون في الأسفار في طاعة اللّه فيقطع عليهم ويذهب مالهم فعلى الإمام أن يردّهم إلى أوطانهم من مال الصّدقات » (1).

4. وفي احياء الأراضي الميّتة قال الإمام أمير المؤمنين : « من أحيا أرضاً من المؤمنين فهي له وعليه طسقها يؤدّيه إلى الإمام في حال الهدنة فإذا ظهر القائم فليوطّن نفسه على أن تؤخذ منه » (2).

5. سئل الباقر علیه السلام عن المفطر في رمضان بلا عذر مستحلاًّ ، فقال علیه السلام : « يسأل هل عليك من افطارك إثم ؟ فإن قال : لا ، فإنّ على الإمام أن يقتله ، وإن قال : نعم فإنّ على الإمام أن ينهكه ضرباً » (3).

6. وفي رؤية الهلال قال الإمام الباقر علیه السلام : « إذا شهد عند الإمام شاهدان أنّهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوماً أمر الإمام بإفطار ذلك اليوم إذا كانا شهدا قبل زوال الشّمس ، وإن شهدا بعد زوال الشّمس ، أمر الإمام بافطار ذلك اليوم وأخّر الصلاة ( أي صلاة العيد ) إلى الغد فصلّى بهم » (4).

7. وفي أمر إقامة الحجّ قال الإمام الصادق علیه السلام : « لو عطّل النّاس الحجّ لوجب على الإمام أن يجبرهم على الحجّ إن شاؤوا وإن أبوا ... فإنّ هذا البيت إنّما وضع للحجّ » (5).

8. وفي ادارة اُمور الحجّ روي أنّه لمّا حجّ إسماعيل بن عليّ بالنّاس سنة أربعين ومائة ( أي كان أمير الحجّ ) فسقط أبو عبد اللّه الصادق علیه السلام عن بغلته فوقف عليه إسماعيل ( أي توقّف ) فقال له الصادق علیه السلام : « سر فإنّ الإمام لا يقف » (6).

ص: 25


1- وسائل الشيعة 6 :1. 382.
2- وسائل الشيعة 6 :1. 382.
3- وسائل الشيعة 7 :2. 199.
4- وسائل الشيعة 7 :2. 199.
5- وسائل الشيعة 8 :3. 290.
6- وسائل الشيعة 8 :3. 290.

9. ومثله ما روي عن علي بن يقطين قال : رأيت أبا عبد اللّه ( الصادق ) علیه السلام وقد حجّ فوقف الموقف فلمّا دفع الناس منصرفين سقط أبو عبد اللّه علیه السلام عن بغلة كان عليها فعرفه الوالي الذي وقف بالناس تلك السّنة وهي سنة أربعين ومائة فوقف على أبي عبد اللّه علیه السلام [ أي توقّف لأجله ] فقال له أبو عبد اللّه علیه السلام : « لا تقف فإنّ الإمام إذا دفع بالنّاس لم يكن له أن يقف » (1).

وكان الذي وقف بالناس في تلك السنة اسماعيل بن عليّ بن عبد اللّه بن عبّاس.

10. قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله في أداء دين الغريم : « ما من غريم ذهب إلى وال من ولاة المسلمين واستبان للوالي عسرته إلاّ برء هذا المعسر من دينه وصار دينه على والي المسلمين فيما يديه من أموال المسلمين » (2).

11. قال الإمام الصادق علیه السلام في ذلك أيضاً : « إنّ الإمام يقضي عن المؤمنين الدّيون ما خلا مهور النّساء » (3).

12. قال الإمام الكاظم علیه السلام في ذلك أيضاً : « من طلب هذا الرّزق من حلّه ليعود به على نفسه وعياله كان كالمجاهد في سبيل اللّه ، فإن غلب عليه فليستدن على اللّه ورسوله ما يقوت به عياله ، فإن مات ولم يقض كان على الإمام قضاؤه ، فإن لم يقض كان عليه وزره. إنّ اللّه تبارك وتعالى يقول : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا - إلى قوله - وَالْغَارِمِينَ ) ( التوبة : 60 ) فهو فقير مسكين مغرم » (4).

13. قال الإمام الرضا علیه السلام في ذلك أيضا : « المغرم إذا تديّن أو استدان في حقّ أجّل سنةً فإن اتّسع ، وإلاّ قضى عنه الإمام من بيت المال » (5).

14. قال الإمام عليّ علیه السلام في مسؤولية الحاكم اتجاه ثقافة الاُمّة : « على الإمام

ص: 26


1- وسائل الشيعة 8 : 290.
2- مستدرك الوسائل 2 : 491.
3- وسائل الشيعة 15 : 22.
4- قرب الإسناد : 179.
5- الكافي 1 : 407 ونقله العيّاشي في تفسيره 1 : 155.

أن يعلّم أهل ولايته حدود الإسلام والإيمان » (1).

15. قال الإمام عليّ علیه السلام من كتاب له إلى قثم بن العبّاس وهو عامله على مكّة : « واجلس لهم العصرين فافت المستفتي ، وعلّم الجاهل وذاكر العالم » (2).

16. قال الإمام علّي علیه السلام في مسؤوليّة الحاكم اتجاه أصحاب الفكر والمهن : « يجب على الإمام أن يحبس الفسّاق من العلماء والجهّال من الأطبّاء والمفاليس من الأكرياء » (3).

17. قال الإمام الباقر علیه السلام في مسؤولية الحاكم اتّجاه الاسر والعوائل : « من كانت عنده امرأة فلم يكسها ما يواري عورتها ، ويطعمها ما يقيم صلبها كان حقاً على الإمام أن يفرّق بينهما » (4).

18. قال الإمام الصادق علیه السلام في مسؤوليّة الحاكم في أمر المساجين : « على الإمام أن يخرج المحبسين في الدين يوم الجمعة إلى الجمعة ويوم العيد إلى العيد فيرسل معهم ، فإذا قضوا الصلاة والعيد ردّهم إلى السّجن » (5).

19. قال الإمام الصادق علیه السلام أيضاً في مسؤوليات الحكام اتّجاه الفسّاق والمنحرفين خلقيّاً : « الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب الخمر أن يقيم عليه الحدّ ولا يحتاج إلى بيّنة مع نظره ، لأنّه أمين اللّه في خلقه وإذا نظر إلى رجل يسرق أن يزبره وينهاه ، ويمضي ويدعه ».

قلت : وكيف ذلك ؟

قال : « لأنّ الحقّ إذا كان لله ، فالواجب على الإمام إقامته ، وإذا كان للنّاس فهو للنّاس » (6).

20. في موقف الإمام اتجاه المحارب ، قال الإمام الصادق علیه السلام : « إذا كانت

ص: 27


1- غرر الحكم : 215.
2- نهج البلاغة قسم الكتب الرقم 67.
3- وسائل الشيعة 18 : 221.
4- وسائل الشيعة 15 : 223.
5- وسائل الشيعة 18 : 221 - 244.
6- وسائل الشيعة 18 : 221 - 244.

الحرب قائمةً ولم تضع أوزارها ولم يثخن أهلها فكلُّ أسير أخذ في تلك الحال فإنّ الإمام فيه بالخيار إن شاء ... وإن ... » (1).

21. وفي أمر القصاص قال الإمام الصادق علیه السلام : « إذا اجتمعت العدّة على قتل رجل واحد حكم الوالي أن يقتل أيُّهم شاؤوا » (2).

22. وقال الإمام الباقر علیه السلام : « من قتله القصاص بأمر الإمام فلا ديّة له في قتل ولا جراحة » (3).

23. وقال الإمام الباقر علیه السلام في رجل قتل مجنوناً كان يقصد قتل الرجل : « أرى أن لا يقتل به ولا يغرّم ديّته وتكون ديّته على الإمام ولا يبطل دمه » (4).

24. وقال الإمام الباقر علیه السلام حول أعمى فقأ عين صحيح : « إنّ عمد الأعمى مثل الخطأ ، هذا فيه الديّة في ماله ، فإن لم يكن له مال فالدّية على الإمام ولا يبطل حقُّ امرئ مسلم » (5).

25. وقال الإمام الباقر علیه السلام في رجل جرح رجلاً في أوّل النهار وجرح آخر في آخر النّهار : « هو بينهما ما لم يحكم الوالي في المجروح الأوّل ... الخ » (6).

26. وقال في حكم من قتل وعليه دين وليس له مال : « إن قتل عمداً قتل قاتله وأدّى عنه الإمام الدّين من سهم الغارمين » (7).

27. وقال الإمام الصادق علیه السلام في الرجل يقتل وليس له وليّ إلاّ الإمام : « إنّه ليس للإمام أن يعفو ، له أن يقتل أو يأخذ الديّة » (8).

28. وقال أمير المؤمنين علیه السلام في قتيل في زحام ونحوه لا يدرى من قتله : « إن كان عرف له أولياء يطلبون ديّته أعطوا ديّته من بيت مال المسلمين ولا يبطل دم امرئ مسلم لأنّ ميراثه للإمام فكذلك تكون ديته على الإمام » (9).

ص: 28


1- وسائل الشيعة 11 : 53.
2- وسائل الشيعة 19 : 31 - 47 - 52 - 65 - 77 - 92 - 93 - 109.
3- وسائل الشيعة 19 : 31 - 47 - 52 - 65 - 77 - 92 - 93 - 109.
4- وسائل الشيعة 19 : 31 - 47 - 52 - 65 - 77 - 92 - 93 - 109.
5- وسائل الشيعة 19 : 31 - 47 - 52 - 65 - 77 - 92 - 93 - 109.
6- وسائل الشيعة 19 : 31 - 47 - 52 - 65 - 77 - 92 - 93 - 109.
7- وسائل الشيعة 19 : 31 - 47 - 52 - 65 - 77 - 92 - 93 - 109.
8- وسائل الشيعة 19 : 31 - 47 - 52 - 65 - 77 - 92 - 93 - 109.
9- وسائل الشيعة 19 : 31 - 47 - 52 - 65 - 77 - 92 - 93 - 109.

29. وقال الإمام علي علیه السلام فيمن لم يكن له من يحلف معه ولم يوثق به على ما ذهب من بصره وأبى أن يحلف : « الوالي يستعين في ذلك بالسّؤال والنّظر والتثبُّت في القصاص والحدود والقود » (1).

30. وقال الإمام الصادق علیه السلام في ميّت قطع رأسه قال : « عليه الديّة » ، فقيل فمن يأخذ ديّته ؟ قال : « الإمام ... هذا لله » (2).

31. وقال علیه السلام في القاتل عمداً إذا هرب : « إن كان له مال أخذت الديّة من ماله وإلاّ فمن الأقرب فالأقرب ، وإن لم يكن له قرابة أدّاه الإمام ، فإنّه لا يبطل دم امرئ مسلم ».

وفي رواية اخرى : « ثمّ للوالي بعد أدبه وحبسه » (3).

32. وقال الصادق علیه السلام في من قتل خطأً إذا مات قبل دفع الديّة وليس له عاقلة : « إن لم يكن له عاقلة ؛ فعلى الوالي من بيت المال » (4).

هذا والملحوظ ؛ أنّ بعض الروايات وإن كان ظاهراً في الإمام المعصوم إلاّ أنّ كثيراً من هذه الروايات ظاهر في مطلق القائم بالإعمال المذكورة سواء أكان معصوماً أم غير معصوم ، وهو يعني مطلق الحاكم الإسلاميّ.

ويدلُّ على ذلك رواية 8 و 9 حيث يسمّي فيهما الإمام الصادق علیه السلام أمير الحاجّ والوالي بالإمام ممّا يدلّ على أنّ لفظ الإمام الموجود في هذه الرواية وأشباهها يراد به مطلق الحاكم الإسلاميّ ووليّ أمر المسلمين وليس الإمام المعصوم المصطلح في علم الكلام.

ويؤيّد هذا الاتّجاه ما قاله صاحب وسائل الشيعة في تعليقه على إحدى الروايات المشتملة على لفظ الإمام كالروايات المذكورة هنا : « الإمام العدل أعمُّ من المعصوم » (5).

وصفوة القول ، أنّ الناظر في هذه الروايات يجد أنّ هناك أحكاماً اجتماعيّةً

ص: 29


1- وسائل الشيعة 19 : 220 - 248 - 303 - 304 - 402.
2- وسائل الشيعة 19 : 220 - 248 - 303 - 304 - 402.
3- وسائل الشيعة 19 : 220 - 248 - 303 - 304 - 402.
4- وسائل الشيعة 19 : 220 - 248 - 303 - 304 - 402.
5- وسائل الشيعة 19 : 220 - 248 - 303 - 304 - 402.

اقتصاديّةً أخلاقيّةً وغيرها ، جعلها الإسلام على عاتق الإمام أو الوالي أو من شابههما وذلك يفيد أنّ ماهيّة هذه الأحكام ماهيّة خاصّة يتوقّف تحقيقها في الخارج على وجود سلطة وجهاز يجريها في المجتمع ، وقد عبّر في هذه الروايات - عن تلك السلطة والجهاز - بالإمام والوالي أو السلطان أي صاحب السلطة ، وذلك يدلُّ - بالدلالة الإلتزاميّة - على أنّ هذه أحكام سلطانيّة ، وواجبات حكوميّة لا تنفكُّ عن وجود السلطة والدولة وقد فرضها الأئمّة علیهم السلام مسلّمة الوجود في الواقع الخارجي.

وإنمّا أدرجنا لك نموذجاً من هذه الأحاديث لإثبات أمر واحد هو ، أنّ الحكومة الإسلاميّة أمر مسلّم الوجود وإيجادها فريضة يتوقّف عليها الكثير من الأحكام الدينيّة ، ومع ذلك كيف يسمح البعض لأنفسهم أن يقولوا : إنّ الإسلام يمكن أن يطبّق في المجتمع دون حاجة إلى حكومة قويّة ، وسلطة سياسيّة قادرة.

قال الإمام الخميني قائد الثورة الإسلاميّة في محاضراته عن الحكومة الإسلاميّة : « والحقُّ أنّ القوانين والأنظمة الاجتماعيّة بحاجة إلى منفّذ. في كلّ دول العالم لا ينفع التشريع وحده ، ولا يضمن سعادة البشر ، بل ينبغي أن تعقب سلطة التشريع سلطة التنفيذ فهي وحدها التي تنيل الناس ثمرات التشريع العادل.

لهذا قرّر الإسلام إيجاد سلطة التنفيذ إلى جانب سلطة التشريع فجعل للأمر وليّاً للتنفيذ إلى جانب تصدّيه للتعليم والنشر والبيان » (1).

وصفوة القول ، أنّ ضرورة وجود الحكومة في الحياة الاجتماعيّة ممّا دلّ عليه العقل والكتاب والسُّنّة وسيرة النبيّ صلی اللّه علیه و آله والأئمّة بما لا يقبل جدلاً ، ولذلك نكتفي بما سردناه لك وفيه كفاية.

ص: 30


1- الحكومة الإسلاميّة للإمام الخمينيّ : 24.

2

لماذا يرفض البعض وجود الحكومة ؟

اشارة

« إنّ المنكرين لضرورة وجود الدولة في الحياة الاجتماعيّة على طائفتين :

الاولى : من يقول بعدمها ، ويعلّل ذلك بفلسفة ونظرية معتبرة عنده وهم ماركس وأتباعه.

الثانية : من ينكر ذلك لمجرّد عوامل نفسيّة وهم على فرق ثلاث ».

رغم أنّ ضرورة قيام الدولة وايجادها لم تكن موضع ترديد وشكّ - كما أثبتت البحوث المتقدّمة - لما فيها من ضمان لسعادة الحياة الانسانيّة وتقدم الحضارة وديمومتها واستقامتها ، فإنّ هناك شرذمةً قليلةً من الناس تستوحش من قيام الدولة وتتوجّس خيفةً من وجودها وتنفي ضرورتها ... وربّما يصبُّ بعضهم هذا المذهب الباطل في قالب منطقيّ فيقول : إنّ وجود الحكومة ضرورة ملحّة للبشر لفترة خاصة من الزمان فقط ، وليس دائماً.

وينقسم أصحاب هذا الرأي إلى طوائف أربع :

الطائفة الاُولى : هم ماركس ومؤيّدوه ، فهم يعتقدون بضرورة وجود الدولة مادام المجتمع البشريّ يعاني من « الصراع الطبقي » ولكنّه بعد استقرار الشيوعيّة وزوال جميع

ص: 31

الفوارق والمشكلات الاقتصاديّة تنتفي الحاجة إلى الدولة.

وقد مضت الإجابة الكاملة على هذه النظرية الخاطئة في الجزء الأوّل من كتابنا.

فهناك قلنا : بأنّ الدوافع الحقيقية إلى وجود الدولة لا تنحصر في المسائل الماديّة ، والمشاكل الاقتصاديّة ، ليزول الاختلاف والتصارع بمجرّد محو الفوارق الطبقيّة ، وزوال الصراع الطبقي وتنتفي الحاجة إلى الدولة. بل هناك دوافع أخلاقيّة وغرائزيّة إلى جانب المسائل الاقتصاديّة - سبق شرحها - (1) ولأجلها لامناص للمجتمع - كيفما كان - من تأسيس الدولة وإقامتها.

الطائفة الثانية : هم أصحاب السوابق السوداء الذين تضمن الأوضاع الفوضويّة وغياب السلطة الحكومية مصالحهم الخاصّة ، ويخشون طائلة الحساب والعقاب والملاحقة والمؤاخذة ، ولذلك نجدهم يعارضون وجود الدولة ليتسنّى لهم المضيُّ في ما يريدون دون محاسب أو رقيب ، ودون شيء يعرّض مصالحهم للخطر ، ويسدّ عليهم طريق النهب والسلب !!

الطائفة الثالثة : وهم الذين لم يعهدوا من الحكومات إلاّ العنف والجور والاستبداد وخدمة الأقوياء ، وسحق المستضعفين وهضم حقوقهم ، وامتصاص دمائهم ، ونهب خيراتهم وهدر كرامتهم. فهم بمجرد سماع لاسم الدولة يتذكرون فوراً تلك الحكومات الجائرة وسجونها المخيفة ، وتعذيبها الوحشيّ الذي كان ينتظر أي معارض أو معترض ... ولذلك فهم ينفرون من سماعهم اسم الدولة ، ويخشون من قيامها أشدّ خشيةً لما يلازمها من صور الاستبداد والعنف والظلم !!

غير أنّ هذا الفريق لو تسنّى له أن يقف على صيغة ( الحكومة الإسلاميّة ) بخصائصها المطلوبة منها ، وما تتّسم به من إنسانيّة ورحمة وعدل ، لما اتخذ هذا الموقف السلبيّ من الحكومة التي يدعو الإسلام إلى انشائها وايجادها. بل لاستقبلها برحابة صدر ، ولسعى إلى إيجادها وإقامتها سعياً.

ص: 32


1- راجع الجزء الاول من كتابنا : 572.

الطائفة الرابعة : هم الذين يبتغون الحرّيات الفرديّة مطلقةً لا تحدُّها حدود ، أو يتصورون أنّ قيام الدولة والحريّة الفرديّة أمران متناقضان لا يجتمعان ... فالدولة تزاحم هذه الحريات وتحدّها على الإطلاق.

والحقُّ أنّ هذا الفريق لم يفرّق بين الحرية اللائقة بالإنسان ، اللازمة له ، والحريّة السائدة في عالم الغاب.

فالحريّة السائدة في الغاب ، تعني عدم التقيّد بأيّة سنّة معقولة ، وأي قانون يحفظ الحقوق وأيّ حدود تحفظ الكرامات ... فهناك تفعل الحيوانات والوحوش ما تشاء ، بمجرّد أن تكون ذات قوّة غالبة ، وشهوة عارمة ومخالب أشدّ فتكاً وبأساً.

وأمّا الحرية اللائقة بالانسان الجديرة بشأنه ومكانته ، فهي التي تكون ضمن قوانين وسنن وحدود وموازين معقولة تضمن نموّ القوى البشريّة ، وتكامل المواهب الإنسانيّة وسيرها في الاتجاه الصحيح ، وبلوغها إلى كمالها الممكن ، ولا يتأتّى ذلك إلا في إطار حريّة معقولة محسوبة.

وبعبارة اخرى : أنّ الحريّة الصحيحة اللائقة بالإنسان إنّما هي توفير الفرص المناسبة لنموّ الاستعدادات والقابليّات الانسانيّة في الفرد والمجتمع ، لانتقالها من مرحلة القوّة إلى مرحلة الفعليّة ، وبالتالي رشدها وبلوغها إلى درجة الكمال الممكن.

وحيث إنّ هذا النمو والبلوغ لا يمكن أن يتمّ في جو من الفوضى ، بل لابدّ من شروط وحدود ، تكون القوانين والسنن الصالحة هي تلك الشروط التي تضمن ذلك البلوغ ، لا أن تقيّده وتمنع من تحقُّقه كما يتوهّم.

وحول الحريّة المعقولة الصحيحة يقول الإمام الصادق علیه السلام لإسماعيل البصريّ : « تقعدون في المكان فتحدّثون وتقولون ما شئتم ، وتتبرّؤون ممّن شئتم ، وتولّون من شئتم ؟ ».

قال إسماعيل : نعم.

ص: 33

قال الإمام علیه السلام : « وهل العيش إلا هكذا » (1).

إنّ الحريّة الصحيحة في نظر الإمام علیه السلام هو أن يستطيع الإنسان أن يختار عقيدته وولاءه بنفسه بعد أن يتبيّن له الرشد من الغيّ ، ليستطيع في ظلّ الاختيار الإراديّ الصحيح ، أن يسير في طريق التكامل الإنسانيّ المطلوب.

إنّ الحكومة النابعة من إرادة الشعب فضلاً عن الحكومة التي يدعو إليها الإسلام ، لا تهدف إلاّ حراسة مثل هذه « الحريّة المعقولة » التي تساعد المواهب والقابليات على التفتُّح والنموّ والتكامل ، فلا مخالفة ولا منع ولا تحديد.

هذا مضافاً إلى أنّ الحاكم في نظام الحكم الإسلاميّ بما أنّه من جانب اللّه سبحانه ، لا يأمر ولا ينهى إلا بما أمر اللّه به أو نهى عنه ، وهو تعالى لا ينهي عن شيء ولا يأمر إلاّ بما فيه كمال الإنسان وارتقاؤه وتفتُّح مواهبه ونموّها ، ودفع قابلياته واستعداداته إلى مرحلة الفعليّة والتحقّق ، والنضج.

وإليك شطراً من النصوص الإسلاميّة التي ترسم لنا بعض ملامح الحكومة التي ينشد الإسلام إيجادها وإقامتها ، آخذين هذه النصوص من القرآن الكريم والأحاديث الإسلاميّة الصحيحة.

ملامح الحكومة الإسلاميّة حسب النصوص :

إنّ الحاكم الإسلاميّ - في منطق القرآن وحسب تشريعه - ليس مجرّد من يأخذ بزمام الجماعة كيفما كان ، ويأمر وينهى بما تشتهيه نفسه ، ويحكم على الناس لمجرّد السلطة وشهوة الحكم ، بل هو ذو مسؤوليّة كبيرة وثقيلة أشار إليها القرآن الكريم بقوله :

( الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) ( الحج : 41 ).

ص: 34


1- الكافي 8 : 229.

فالمسؤوليّات الملقاة على عاتق الحاكم في الإسلام عبارة عن :

1. إقامة الصلاة ، وتوثيق عرى المجتمع الإسلاميّ بربّه الذي فيه كلّ الخير.

2. إيتاء الزكاة الذي فيه تنظيم اقتصاده ومعاشه.

3. الأمر بالمعروف ، وإشاعة الخير والصلاح في المجتمع.

4. النهي عن المنكر ، ومكافحة كلّ ألوان الفساد والانحراف ، والظلم والزور.

ومن المعلوم ، أنّ حكومةً كهذه ، توفّر للاّئقين والصالحين وذوي القابليات والمواهب فرصاً مناسبةً لإبراز مواهبهم ، وتهيّئ الظروف المساعدة لتنمية استعداداتهم العلميّة والفكريّة ، في جميع المجالات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة وتدفعها في طريق التقدُّم والازدهار.

فإذا كانت هذه الحكومة التي ينشدها الإسلام ويدعو النّاس كافّة إلى إقامتها فأيُّ شيء يبرّر الخوف والاستيحاش منها ؟ ولماذا يخشى البعض من إقامتها وهي أجدر الحكومات بإسعاد الشعوب ، وإصلاح أمرها ، وضمان مصالحها ، وحماية حقوقها وكرامتها على أحسن وجه ؟

وسيوافيك بعض الآيات الاخرى في المباحث الآتية.

وأمّا ما يصور لنا ملامح الحكومة الإسلاميّة من الأخبار والأحاديث ، فقول الرسول الأكرم محمّد صلی اللّه علیه و آله : « لا تصلح الإمامة إلا لرجل فيه ثلاث خصال :

ورع يحجزه عن معاصي اللّه.

وحلم يملك به غضبه

وحسن الولاية على من يلي حتّى يكون لهم كالوالد الرّحيم » (1).

وقوله صلی اللّه علیه و آله في ردّ من قال : بئس الشّيء الإمارة ، فقال النبي صلی اللّه علیه و آله : « نعم الشّيء الإمارة لمن أخذها بحلّها وحقّها ، وبئس الشّيء الامارة لمن أخذها بغير حقّها وحلّها تكون عليه

ص: 35


1- الكافي 1 : 407.

يوم القيامة حسرةً وندامةً » (1).

وقوله صلی اللّه علیه و آله في جواب من سأله عن الإمارة ، فقال : « إنّها أمانة وإنّها يوم القيامة حسرةً وندامةً ، إلاّ من أخذها بحقّها وأدّى الذي عليه فيها » (2).

وقوله صلی اللّه علیه و آله : « لعمل الإمام العادل في رعيّته يوماً واحداً أفضل من عبادة العابد في أهله مائة عام » (3).

ولمّا دخل « سعد » على « سلمان » عندما كان حاكماً في المدائن ، يعوده في مرضه ، قال له سعد : « اعهد علينا أبا عبد اللّه عهداً نأخد به ».

فقال : « اذكر اللّه عند همّك إذا هممت ، وعند يدك إذا قسمت ، وعند حكمك إذا حكمت » (4).

وهذه صورة عن التربية الإسلامية التي ربّى بها الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله أصحابه وأتباعه. فهو ربّاهم على ، أن يذكروا اللّه عند العزم على كلّ شيء ، وعند القسمة ، والحكم.

ثمّ هاهو رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يتحدّث عن مسؤولية الحاكم ، اتّجاه الاُمّة الإسلاميّة التي يأخذ بزمام حكمها فيقول : « كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته.

فالأمير الذي على النّاس ، راع عليهم وهو مسؤول عنهم.

والرّجل ، راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم.

وامرأة الرّجل ، راعية على بيت زوجها ، وولدها وهي مسؤولة عنهم

ألا فكلّكم راع ، وكلّكم مسؤول عن رعيّته » (5).

كما يمكن أن تستجلى ملامح الحكومة الإسلاميّة وصفات الحاكم الإسلاميّ من قول الإمام عليّ علیه السلام الذي يرسم لنا ما على الحاكم الإسلاميّ ، اتّجاه الشعب ، وما

ص: 36


1- كتاب الأموال للحافظ أبي عبيد سلام بن القاسم المتوفّى عام 225 ه : 10.
2- الأموال :2. 13 - 13 - 1.
3- الأموال :2. 13 - 13 - 1.
4- الأموال :2. 13 - 13 - 1.
5- الأموال :2. 13 - 13 - 1.

على الشعب ، اتّجاه الحاكم إذ يقول - في وضوح كامل - :

« وأعظم ما افترض اللّه من تلك الحقوق ، حقُّ الوالي على الرّعيّة وحقُّ الرّعيّة على الوالي ، فريضةً فرض اللّه سبحانه ، لكلّ على كلّ ، فجعلها نظاماً لالفتهم ، وعزاً لدينهم ، فليست تصلح الرّعيّة إلا بصلاح الولاة ، ولا يصلح الولاة إلا باستقامة الرّعيّة.

فإذا أدّت الرّعيّة إلى الوالي حقّه وأدّى الوالي إليها حقّها عزّ الحقُّ بينهم ، وقامت مناهج الدّين ، واعتدلت معالم العدل وجرت على أذلالها السُّنن ، فصلح بذلك الزّمان ، وطمع في بقاء الدّولة ويئست مطامع الأعداء ، وإذا غلبت الرّعيّة واليها أو أجحف الوالي برعيّته اختلفت هنالك الكلمة ، وظهرت معالم الجور ، وكثر الإدغال في الدّين ، وتركت محاجُّ السُّنن ، فعمل بالهوى ، وعطّلت الأحكام وكثرت علل النفوس ، فلا يستوحش لعظيم حقّ عطّل ، ولا لعظيم باطل فعل ، فهنالك تذلُّ الأبرار ، وتعزُّ الأشرار ، وتعظّم تبعات اللّه عند العباد » (1).

ثمّ إنّ الإمام عليّاً علیه السلام يصرّح في هذه الخطبة ذاتها بالحقوق المشتركة والمسؤوليات المتقابلة إذ يقول : « أمّا بعد ، فقد جعل اللّه لي عليكم حقّاً بولاية أمركم ، ولكم عليّ من الحقّ مثل الذي لي عليكم ».

ثم يشير الإمام علیه السلام في هذه الخطبة إلى واحدة من أنصع القوانين الإسلاميّة ، وهو قانون التسوية بين جميع أفراد الاُمّة الإسلاميّة حكّاماً ومحكومين ، رؤوساء ومرؤوسين ، وزراء ومستوزرين ، وبذلك ينسف فكرة : أنا القانون ، أو أنا فوق القانون ، فيقول علیه السلام : « ... الحقُّ لا يجري لأحد إلاّ جرى عليه ، ولا يجري عليه إلاّ جرى له ».

وعلى هذا ، فلا تمييز ولا تفرقة بين الحاكم والمحكوم بل الجميع أمام القوانين الإسلاميّة المدنيّة والجزائيّة وغيرها سواء ، وعلى الحاكم والرئيس أن يؤدّي حقوق الناس كأيّ فرد من أفراد الاُمّة العاديين ، وبذلك يدعم الإمام ما روي عن الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله إذ يقول : « النّاس أمام الحقّ سواء ».

ص: 37


1- نهج البلاغة : الخطبة 211 ، طبعة عبده.

وهو علیه السلام في موضع آخر يلخّص هدف الحكم الإسلاميّ في كلمتين لا أكثر ، يقول ابن عبّاس : دخلت خيمة عليّ علیه السلام بذي قار ، فوجدته يخصف نعله ، فقال لي : « ما قيمة هذه النعل » ؟

فقلت : لا قيمة لها.

فقال : « واللّه لهي أحبُّ إليّ من إمرتكم إلاّ أن أقيم حقّاً أو أدفع باطلاً » (1).

ثمّ ها هو علیه السلام يوصي أحد ولاته بقوله : « ... وأشعر قلبك الرّحمة للرّعيّة والمحبّة لهم ، واللطف بهم ، ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنّهم صنفان : إمّا أخ لك في الدّين أو نظير لك في الخلق » (2).

فإذن ليست الحكومة في ظلّ الإسلام إلاّ الرحمة والمحبّة واللطف التي يجب أن تعمّ كلّ المواطنين ، لا السبعيّة والغلظة التي تتّصف بها الحكومات غير الإسلاميّة.

كما يمكن أن نعرف طبيعة الدولة الإسلاميّة من كلام الإمام الشهيد الحسين بن عليّ علیه السلام إذ يقول : « اللّهمّ ، إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان ، ولا التماساً من فضول الحطام ولكن لنري المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك ويأمن المظلومون من عبادك ، ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك » (3).

إنّ المتخوّفين من قيام الدولة مطلقاً أو من قيام الحكومة الإسلاميّة خاصّةً ، إمّا أنّهم يجهلون أهداف الحكومة الإسلاميّة ، وإمّا أنّهم من ذوي السوابق السوداء والمطامع الرخيصة ، فيرعبهم قيام الحكومة الإسلاميّة العادلة خيفةً من الفضيحة ، أو خشيةً من العقاب.

إنّ الدولة الإسلامية لا تشمل المواطنين المسلمين فقط ، بعدلها ورحمتها ولطفها ، بل تشمل من سواهم من أهل الملل الاخرى كاليهود والنصارى وغيرهم ، بذلك حتّى

ص: 38


1- نهج البلاغة : الخطبة 32.
2- نهج البلاغة : الرسالة 53 لمالك الأشتر واليه على مصر.
3- تحف العقول : 172 ، طبعة بيروت.

أنّهم يجدون في ظلّها من كرامة العيش ، وشرف الحياة ما لا يجدون نظيره في ظّل الدول المتديّنة بدينهم ، والمنتحلة لعقائدهم ، والتاريخ الإسلاميّ المدوّن أفضل دليل على ذلك.

ففي التاريخ الإسلاميّ نرى ، كيف كان يرجّح النصارى واليهود الحياة في ظلّ الدولة الإسلاميّة ورعايتها على الحياة في ظلّ السلطات والدول التي كانوا يعيشون فيها ، وكيف أنّهم كانوا يفتحون صدورهم للفتوحات الإسلاميّة ، ويقبلون بسيادة المسلمين لأنّهم كانوا يجدون في كنفهم دفء الرحمة وحرارة الإيمان وبرد الإحسان.

ولأجل ذلك ، فإنّ أوّل خطوة خطاها رسول الإسلام صلی اللّه علیه و آله بعد استقراره في يثرب - المدينة - وبعد تشكيل أوّل حكومة إسلاميّة هو عقد وثيقة تعايش بين المسلمين وغيرهم وقّعها النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله والمسلمون وأهل المدينة من اليهود وغيرهم ، تحدّد العلاقات الإنسانيّة ، والحقوق المتقابلة بين المسلمين وغيرهم ، وهي بذلك تعتبر قانوناً أساسياً للدولة الإسلاميّة ، بل تمثّل وثيقةً عالميّةً خالدةً لحقوق الإنسان.

وإليك مقتطفات مهمّة من هذه الوثيقة : « بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ... هذا كتاب من محمّد النبيّ [ رسول اللّه ] بين المؤمنين والمسلمين من قريش و [ أهل ] يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم ، إنّهم امّة واحدة من دون النّاس ».

ثمّ بعد أن ذكر النبيّ القبائل الإسلاميّة وما يقع عليها من مسؤوليّة حفظ الأمن ومساعدة الضعيف وإجراء العدل والقسط ، ذكر اُموراً ترتبط بعامة المسلمين فكتب صلی اللّه علیه و آله يقول : « وأن لايخالف مؤمن مولى مؤمن دونه [ أي لا ينقض عهداً عهده مع غيره ] وإنّ المؤمنين المتّقين أيديهم على كلّ من بغى منهم ، أو ابتغى دسيعة ظلم ، أو إثماً ، أو عدواناً أو فساداً بين المؤمنين ، وإنّ أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم ..

وإنّه من تبعنا من يهود فإنّ له النّصر والاسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم.

وإنّ يهود بني عوف امّة مع المؤمنين ، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم

ص: 39

وأنفسهم ، إلاّ من ظلم وأثم فإنّه لا يوتغ إلاّ نفسه وأهل بيته.

وإنّ على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم ، وإنّ بينهم النّصر على من حارب أهل هذه الصّحيفة وإنّ بينهم النُّصح والنّصيحة والبرّ دون الإثم » (1).

وخلاصة هذا الكتاب - الميثاق - هي :

1. جعل المسلمين امّةً واحدةً على اختلاف شعوبهم وقبائلهم.

2. إقرار المهاجرين من قريش على عاداتهم وسننهم في أحكام الديات والدماء ، وقد نسخ ذلك فيما بعد بفرض الحدود والديات على أسلوب خاص.

3. مسؤولية المهاجرين عن فداء أسيرهم وتخليصه من أيدي المشركين.

4. المسؤوليّة الشاملة لجميع الطوائف والقبائل بأن تفدي أسيرها بالقسط والمعروف.

5. إقرار القبائل التي وردت أسماؤها في الصحيفة على عاداتهم ، وإنّ كلّ طائفة منهم مسؤولة عن فداء عانيها.

6. قيام المؤمنين بإعانة المثقل منهم بالديون من أجل الفداء.

7. إنكار البغي والظلم وشجبه في جميع المجالات ومناهضة القائم به وإن كان ولداً لأحدهم فإنّهم مسؤولون عنه جميعاً لو أخلّوا به.

8. عدم قود المؤمن بالكافر لو قتله ، فتؤخذ منه الديّة لا غير.

9. منح أدنى المسلمين أن يجير أي شخص شاء.

10. عدم السماح للمشركين بأن يجيروا مالاً أو دماً للمشركين من قريش.

11. إنّ القاتل للمؤمن من غير سبب يقاد به إلاّ أن يرضي أولياء المقتول بالديّة فتؤخذ منه.

ص: 40


1- سيرة ابن هشام 1 : 501 ، الأموال : 517 طبعة مصر ، البداية والنهاية 3 : 224 - 226.

12. عدم السماح للمسلمين بنصرة المحدثين والمبتدعين في الإسلام ولزوم مقاومتهم.

13. قيام النبيّ صلی اللّه علیه و آله بحلّ مشاكلهم والخصومات التي تحدث بين المسلمين أو بينهم وبين اليهود.

14. منح اليهود الحقوق العامّة من الأمن والحريّة وغير ذلك بشرط أن يسايروا المسلمين ولا يعيثوا فساداً في الأرض.

15. إعتبار الجار كالنفس غير مضار ولا إثم.

وهذه هي بعض بنود تلك المعاهدة التاريخية (1).

ولم تكن هذه سيرة الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله فحسب مع غير المسلمين من مواطني الدولة الإسلاميّة ، بل كانت سيرة الدولة الإسلاميّة حتّى بعد الرسول الكريم.

فها نحن نرى كيف يساوي الدين الإسلامي بين الحاكم والمحكوم في جميع المجالات ... ومنها القضاء. وإليك مثلاً على ذلك.

وجد الإمام عليّ علیه السلام - أيام خلافته - درعه عند يهوديّ من عامّة الناس ، فأقبل به إلى أحد القضاة ، وهو شريح ، ليخاصمه ويقاضيه ، ولمّا كان الرجلان أمام القاضي قال الإمام عليّ : « إنّها درعي ولم أبع ولم أهب ».

فسأل القاضي الرجل اليهوديّ : ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين ؟ فقال اليهوديّ : ما الدرع إلاّ درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب.

وهنا التفت القاضي شريح إلى عليّ يسأله : هل من بيّنة تشهد أنّ هذه الدرع لك ؟ فضحك عليّ ، وقال : « أصاب شريح ، مالي بيّنة ».

فقضى شريح بالدرع للرجل اليهودىّ ، فأخذها ومشى وأمير المؤمنين ينظر إليه ! إلاّ أنّ الرجل لم يخط خطوات قلائل حتّى عاد يقول : أمّا أنا فأشهد أنّ هذه أحكام

ص: 41


1- النظام السياسيّ في الإسلام : 155 - 156.

أنبياء ، أمير المؤمنين يدينني إلى قاض يقضي عليه ...

ثمّ قال : الدرع واللّه درعك ياأمير المؤمنين وقد كنت كاذباً فيما ادّعيت.

وبعد زمن شهد الناس هذا الرجل وهو من أصدق الجنود ، وأشدّ الأبطال بأساً وبلاءً في قتال الخوارج يوم النهروان إلى جانب الإمام عليّ (1).

وفي رواية مماثلة : أنّ يهودياً خاصم عليّاً علیه السلام في أيام الخليفة الثاني عمر بن الخطاب فقال له عمر : قم يا أبا الحسن وقف مع خصمك.

فتغيّر وجه الإمام علیه السلام وبعد الانتهاء من المرافعة قال له عمر : يا أبا الحسن لعلّه ساءك أمري ؛ أن تقف مع خصمك اليهوديّ ؟

قال علیه السلام : « كلاّ ، وإنّما ساءني أنكّ كنّيتني ولم تساو بيني وبين خصمي ، والمسلم واليهوديّ أمام الحقّ سواء » (2).

كما مرّ شيخ أعمى كبير السنّ يستجدي ويسأل الناس فقال عليّ علیه السلام - وهو آنئذ في أيّام خلافته - : « ما هذا » ؟

فقالوا : يا أمير المؤمنين نصرانيّ !

فقال أمير المؤمنين : « استعملتموه حتّى إذا كبر وعجز منعتموه ؟ أنفقوا عليه من بيت المال » (3).

وقبل كلّ ذلك يشير القرآن الكريم إلى قانون التسامح الدينيّ هذا ، فهو يسمح للمسلمين بأن يعاملوا غيرهم من الطوائف والجماعات غير المسلمة بالعدل والرفق ، والشفقة ما داموا لا يتآمرون على المسلمين ولا يسيئون إلى أمنهم ، ولا يؤذونهم بالقتال أو

ص: 42


1- الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانيّة : 87 - 88 ، بحار الأنوار 9 : 598 طبعة تبريز مع اختلاف يسير.
2- الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانيّة : 49.
3- الوسائل 11 : 49 ( الطبعة الجديدة ).

الإخراج من البلد. فيقول : ( لا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ( الممتحنة : 8 - 9 ).

فالإسلام لا يمنع عن البرّ والقسط إليهم ، وإنّما منع عن الذين ظاهروا على المسلمين وتآمروا ضدّهم.

إنّ هذه الآية تعطي ميزاناً كلّيّاً لكيفية تعامل المسلمين مع غيرهم ، والميزان هو مسالمة كلّ من سالم ومعاداة كلّ من عادى.

وممّا يؤيّد هذا الأمر قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ) ( آل عمران : 118 ).

إذن ، فالقرآن يمنع من التسامح مع الآخرين إذا كانوا يعادون المسلمين ويتعاونون مع المشركين لإيذاء المسلمين.

إنّ نظرةً واحدةً إلى التاريخ الإسلاميّ تكشف لنا ، أنّ عدل الحكومات الإسلاميّة وعفوها ولطفها كان سبباً لأن يرجّح الكثير من المسيحيين وغيرهم ، العيش في ظل النظام الإسلاميّ رغبةً وطواعية لما رأوا وسمعوا ولمسوا من مسامحة المسلمين وحسن معاملتهم ، ولما لمسوه من حكّامهم المتديّنين بدينهم من الظلم والجور على خلاف المسلمين وحكّامهم.

وإليك ما ذكره البلاذري في هذا المجال : ( لمّا جمع هرقل للمسلمين الجموع ، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ، ردّوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج ، وقالوا : قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم ، فقال أهل حمص [ وكانوا مسيحيّين ] : لولايتكم وعدلكم أحبُّ إلينا ممّا كنّا فيه من الظلم ، والغشم ، ولندفعنّ جند هرقل عن المدينة مع عاملكم ، ونهض اليهود فقالوا :

ص: 43

والتوراة ، (1) لا يدخل هرقل مدينة حمص إلاّ أن نغلب ونجهد ، فأغلقوا الأبواب وحرسوها ، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود ، وقالوا : إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنّا عليه [ من الظلم والحرمان ] وإلاّ فإنّا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد.

فلمّا هزم اللّه الكفرة وأظهر المسلمين ، فتحوا مدنهم ، وأخرجوا المقلسين فلعبوا وأدّوا الخراج ) (2).

هذا ، والشواهد والأمثلة التاريخية على هذا الموضوع أكثر من أن تحصى.

وقد بلغ تسامح الدول الإسلاميّة في التاريخ حداً عجيباً ، إذ أشرك المسيحيون وغيرهم في الأجهزة الحكوميّة ، وهو يدل على العناية القصوى بغير المسلمين.

وستوافيك هذه النصوص وغيرها عند البحث عن السلطة القضائية وحقوق الأقلّيات في الإسلام ، وما ذكرناه هنا سوى لمحة عابرة اقتضاها المقام.

الحكومات الجائرة

ليس من الغريب أن تتبادر إلى أذهان البعض من شعوب الشرق - عند سماع اسم الحكومة - صورة مخيفة عن الحكومات الجائرة والحكام الجائرين ، فإنّ شعوب هذه المنطقة عانت طوال قرون متمادية أسوأ أنواع الظلم والاضطهاد على أيدي الحكومات المستبدّة.

ولذلك ، سرعان ما يتبادر إلى أذهانهم صورة الحاكم القاهر ، والأمير المتسلّط الذي يمتصُّ دماء الناس ، وينهب أموالهم ، ويتحالف مع أضرابه من الظالمين ومع القوى الأجنبيّة لترسيخ دعائم عرشه. ولكنّ الغاية التي يتوخاها الإسلام ، ليست هي

ص: 44


1- أي قسماً بالتوراة.
2- فتوح البلدان للبلاذري ( المتوفّى سنة 279 ه ) : 143 ، وراجع أيضاً ( الدعوة إلى الإسلام ) للسير توماس ارنولد.

إيجاد مثل هذه الحكومات الجائرة المستبدّة ، إنّما هي : الحكومة الصالحة العادلة الحائزة لرضا الاُمّة ، الملتزمة بإجراء القوانين الإلهيّة العادلة.

ومن المعلوم ، أنّ مثل هذه الحكومة لن تهدف إلاّ خدمة الامة ، وحماية حقوقها وحرمتها وصيانة كرامتها ، وتحقيق سعادتها ، ولذلك فهي تعيش في ضمير الاُمّة وترتبط بوجدانها.

إنّ ما ينشد الإسلام إقامته وإيجاده هو : الدولة العادلة التي رسم الإمام عليّ علیه السلام أهمّ خطوطها في عهده المشهور لمالك الأشتر الذي ولاّه على مصر ، حيث يقول في موضع منه : « واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرّغ لهم فيه شخصك ، وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه لله الذي خلقك ، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتّى يكلّمك متكلّمهم غير متتعتع » (1).

إنّ الحاكم العادل - في نظر الإسلام - هو من يشارك شعبه في أفراحه وأتراحه ، وفي آلامه وآماله ، لا أن يعيش في البروج العاجيّة ، متنعّماً في أحضان اللّذة ، رافلاً في أنواع الخير ، غير عارف بأحوال من يسوسهم ، كما قال الإمام عليّ علیه السلام وهو يرسم بذلك ملامح الحكومة الإسلاميّة الصالحة : « ءأقنع من نفسي بأن يقال : أمير المؤمنين ، ولا أشاركهم في مكاره الدّهر ، أو أكون أسوةً لهم في جشوبة العيش ، فما خلقت ليشغلني أكل الطيّبات كالبهيمة المربوطة همُّها علفها ، أو المرسلة شغلها تقمُّمها » (2).

ولو كان المفكّرون المعاصرون يعرفون ما اشترطه الإسلام للحاكم من شروط وعيّن له من وظائف وواجبات ، وفرض عليه من قيود ، وكيف يجب عليه أن يكون في جميع أفعاله منسجماً مع القوانين الإسلاميّة العادلة ، ولو عرفوا الأهداف التي يبتغيها الإسلام من وراء إقامة الدولة الإسلاميّة ، لما اعتبروا قيام مثل هذه الحكومة معارضاً للحرّيّات الفرديّة أبداً.

ص: 45


1- نهج البلاغة : الرسالة رقم ( 53 ).
2- نهج البلاغة : الرسالة رقم ( 45 ).

وظيفة الاُمّة اتّجاه الحكومة

إذا كانت الحكومة الإسلاميّة تضمن تلك المصالح الكبيرة للاُمّة ، وتوصل الإنسانية إلى قمّة الكمال ، فيجب على الاُمّة الإسلاميّة القيام بتأسيسها وتشكيلها إذا لميكن هناك حكومة إسلاميّة ، وتأييدها ونصرها والتحرُّز عن خيانتها عند قيامها ووجودها.

وإليك بعض النصوص التي تشرح وظيفة الاُمّة الإسلاميّة وواجبها اتّجاه الحكومة الإسلاميّة.

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « الدّين النّصيحة ».

قيل : لمن يا رسول اللّه ؟

قال : « لله ، ولرسوله ، ولكتابه ، وللأئمّة ولجماعة المسلمين » (1).

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « يحقُّ على الإمام أن يحكم بما أنزل اللّه ، وأن يؤدّي الأمانة فإذا فعل ذلك فحقّ على النّاس أن يسمعوا له. ويطيعوه ، ويجيبوه إذا دعا » (2).

وقال الإمام الصادق جعفر بن محمّد علیه السلام : « إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خطب الناس في مسجد الخيف فقال : نضّر اللّه عبداً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلّغها من لم يسمعها فربّ حامل فقه إلى غير فقيه ، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه.

ثلاث لا يغلُّ عليهنّ قلب امرئ مسلم :

إخلاص العمل لله.

والنّصيحة لأئمّة المسلمين.

واللّزوم لجماعتهم. فإنّ دعوتهم محيطة من ورائهم.

المسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمّتهم أدناهم » (3).

ص: 46


1- الأموال :1. 12.
2- الأموال :1. 12.
3- الكافي 1 : كتاب الحجة : 402.

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « قال أمير المؤمنين عليّ علیه السلام : لا تختانوا ولاتكم ، ولا تغشّوا هداتكم. ولا تجهلوا أئمّتكم ، ولا تصدّعوا عن حبلكم فتفشلوا وتذهب ريحكم ، وعلى هذا فليكن تأسيس أموركم ، والزموا هذه الطّريقة » (1).

وقال الإمام محمّد الباقر علیه السلام : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ما نظر اللّه عزّ وجلّ إلى وليّ له يجهد نفسه بالطّاعة لإمامه والنّصيحة إلاّ كان معنا في الرّفيق الأعلى » (2).

وسأل أبو حمزة من الإمام محمّد الباقر علیه السلام : ما حقُّ الإمام على الناس ؟ قال : « حقُّه عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا ».

قلت : فما حقُّهم عليه ؟ قال علیه السلام : « يقسم بينهم بالسّويّة ويعدل في الرّعيّة » (3).

هذه لمحة عن واجبات الاُمّة ووظائفها اتّجاه الحكومة الإسلاميّة.

ومن المعلوم ، أنّ الحكومة لو قامت بوظائفها التي قرّرها الإسلام ، وقامت الاُمّة الإسلاميّة بواجباتها اتّجاه الحكومة كما عيّنها الدين لاستقرّت العدالة ، واستتبّ الأمن ، وانتشر السلام ، وازدهر الخير ، وعّمت السعادة كلّ أرجاء البلاد.

ص: 47


1- الكافي 1 : كتاب الحجة : 405.
2- الكافي 1 : كتاب الحجة : 404.
3- الكافي 1 : كتاب الحجة : 405.

3

أنواع الحكومات في العالم

اشارة

إنّ لنظم الحكم في العالم ألواناً وأنواعاً نذكر المعروفة منها باختصار :

1. الملوكيّة

اشارة

ويتحقّق النظام الملكيّ باستيلاء شخص على زمام الحكم والسلطة بانقلاب عسكريّ وبقوّة النار والحديد ، يعلن على أثره نفسه حاكماً على البلاد ، وملكاً للناس ، ويعاقب معارضيه وينكّل بهم ، ولا يكتفي باعلان نفسه ملكاً على الناس ، بل ينصّب خلفه ملكاً من بعده ، وهكذا تتناوب ذرّيّته عرشه وسلطانه جيلاً بعد جيل ، ونسلاً بعد نسل.

وربما تبلغ به شهوة السلطة وداعية الملك إلى أن يسمّي نفسه ظلاّ ًللّه إن لم يبلغ به الاستعلاء والتفرعن إلى أن يجعل نفسه في مصافّ اللّه تعالى ، فإذا به يرفع شعار : ( اللّه ، الملك ، الوطن ).

وهذا هو ما نلحظه في أكثر الملوكيّات الراهنة.

إنّ النظام الملكيّ ضرب من الحكومة الفرديّة التي يكون فيها( فرد واحد ) مبدأً

ص: 48

للسلطة ، ومصدراً لكلّ القرارات ، ومنشأً للقوانين. ولا يكون وحده كذلك بل يكون أبناؤه وأحفاده حكّاماً وملوكاً بالتوارث ، فإذن ، هو نظام فرديّ وراثيّ استبداديّ.

وقد كان هذا النمط من النظام - ولا يزال - ملازماً للاستعلاء والاستكبار ومنشأً للإرهاب والكبت ، وهو - لا شكّ - أمر مرفوض في منطق القرآن الكريم إذ يقول :

( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) ( القصص : 83 ).

القرآن الكريم والملوكيّة
اشارة

إنّ القرآن الكريم يعتبر طبيعة الملوكيّة بحكم كونها ناشئةً من الفرد ، طبيعيةً ميّالةً إلى الفساد والتفرعن ، وحمل الإرادة الفرديّة على الشعوب بالقهر والإرغام وإذلال أبنائها وأعزّتها ، إلى غير ذلك من المنكرات والمفاسد والتبعات التي عانت منها البشريّة ، طوال قرون ، إذ يقول : ( قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ) ( النمل : 34 ).

هذه الكلمة التي نقلها اللّه سبحانه في هذه الآية عن بلقيس ملكة سبأ ، تمثّل إحدى سنن التاريخ الحاكمة في الحياة البشريّة ، ولولا أنّها كذلك ، لردّ عليها اللّه سبحانه ولم يمر عليها بسلام كما هو شأنه في هذه الحالات.

يقول السيد قطب - في ظلاله - حول تفسير هذه الآية : ( ... فهي تعرف أنّ من طبيعة الملوك أنّهم إذا دخلوا قرية أشاعوا فيها الفساد وأباحوا ذمارها ، وانتهكوا حرماتها ، وحطّموا القوّة المدافعة عنها ، وعلى رأسها رؤساؤها ، وجعلوهم أذلّةً لأنّهم عنصر المقاومة ، وأنّ هذا هو دأبهم الذي يفعلون ) (1).

إنّ القرآن عندما يتعرّض لأحوال الملوك الذين حكموا الأرض ، يذكر جشعهم

ص: 49


1- في ظلال القرآن 19 : 146.

وطمعهم الذي لم يقف عند حدّ ويصوّر لنا كيف أنّهم لم يتركوا حتّى أموال الضعفاء والمساكين طمعاً وجشعاً.

فها هو القرآن يذكر لنا عن ملك بلغ به الجشع والحرص إلى درجة انتزاع سفينة بعض المساكين التي كانوا يرتزقون من ورائها ، ويحصلون بها على لقمة عيشهم ، فيقول : ( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ) ( الكهف : 79 ).

وها هو فرعون أحد ملوك مصر الذين حملوا أنفسهم على رقاب الناس وأكتافهم ، يبلغ به الطمع والحرص إلى أن يعدّ نفسه مالكاً لأرض مصر وأنهارها وما فيها من خيرات من دون مبرر ولا سبب ، إلاّ الطمع وحب الاستئثار بكلّ شيء لوحده ، فإذا به يتباهى بما في يده من ملك ، ويتبجّح بما له من سلطان كما يقول القرآن عنه : ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ ) ( الزخرف : 51 ).

إنّ الملوكيّة بما أنهّا لا تنطلق من مقاييس وضوابط إلهيّة دينيّة ، بل تنطلق من المقاييس الشخصيّة والتسلُّط الفرديّ ، لا يمكن أن تلازم غير صفة الاستئثار والطمع في اموال الآخرين.

فإذا كانت هذه هي طبيعة الملوك ، وهذه هي سجيّتهم ، فهل يسمح العقل - فضلاً عن الشرع - بأن يفوّض إليهم مقدّرات الناس وأعراضهم وأموالهم ونفوسهم وما يملكون من حول وقوّة ؟! وهل يسمح العقل بأن يترك الأمر لتلك النفوس الجشعة والطبائع المنحرفة أن تتصرّف في شؤون الناس كيفما شاءت وارتأت ؟ وأن تتسلّط على رقاب الناس لتفعل ما تريد ؟.

أجل ، إنّ الملوكيّة بما أنّها نظام فرديّ يقوم على تغليب إرادة الفرد على الجماعة ، وبما أنّها تحظى بالسيادة والحاكميّة دون أن تمتلك كفاءة الإدارة والحكم حسب الضوابط الإنسانيّة والأخلاقيّة بل تمارس ذلك بالقوّة والقهر والإرهاب ، فمن الطبيعيّ أن تؤول إلى

ص: 50

الجشع والتفرعن والطغيان والاستكبار ... وهذا هو ما تثبته أحوال الملوك في الماضي والحاضر وفي كلّ مكان من العالم.

يقول العلامة الطباطبائيّ - في تفسير الميزان - في وصفه لطبيعة النظام الملكيّ والسلطة الملوكيّة تحت عنوان ( من الذي يتقلّد ولاية المجتمع في الإسلام وما سيرته ) :

( إنّ هذه الطريقة - أي طريقة نظام الحكم الإسلاميّ - غير طريقة الملوكيّة التي تجعل مال اللّه فيئاً لصاحب العرش ، وعباد اللّه أرقّاء له ، يفعل بهم ما يشاء ، ويحكم فيهم ما يريد ، كما هي ليست من الطرق الاجتماعيّة التي وضعت على أساس التمتُّع الماديّ من الديمقراطيّة وغيرها ، فإنّ بينها وبين الإسلام فروقاً بيّنةً تمنع من التشابه والتماثل.

ومن أعظم هذه الفروق أنّ هذه المجتمعات لمّا بنيت على أساس التمتُّع الماديّ نفخت في قالبها روح الاستثمار والاستعباد ، والاستكبار البشريّ الذي يجعل كلّ شيء تحت إرادة الإنسان وعمله ، حتّى الإنسان بالنسبة إلى الإنسان ، ويبيح له طريق الوصول إليه والتسلُّط على ما يهواه ويأمله منه لنفسه ، وهذا بعينه هو ( الاستبداد الملوكي ) في الأعصار السالفة ، وقد ظهرت في زيّ الاجتماع المدنيّ على ما هو نصب أعيننا اليوم من مظالم الملل القويّة وإجحافاتهم وتحكُّماتهم بالنسبة إلى الامم الضعيفة ، وعلى ما هو في ذكرنا من أعمالهم المضبوطة في التاريخ.

فقد كان الواحد من الفراعنة والقياصرة والأكاسرة يجري في ضعفاء عهده بتحكُّمه ولعبه ، كلّ ما يريده ويهواه ، ويعتذر - لو اعتذر - أنّ ذلك من شؤون السلطنة ولصلاح المملكة ، وتحكيم أساس الدولة ويستدلُّ عليه بسيفه !!! ) (1).

إنّ الإمام عليّاً علیه السلام يتحدّث عن وضع الناس المأساويّ في ظلّ النظام الملكيّ ، الكسرويّ والقيصريّ ، اللّذين كانا يمثّلان أسوء مظاهر الملوكيّة التاريخيّة ، وهو علیه السلام يخبرنا : كيف أنّ الاكاسرة والقياصرة كانوا يعتدون على حقوق الناس الطبيعيّة

ص: 51


1- تفسير الميزان 4 : 131.

ويهجّرونهم عن أوطانهم ومساكنهم ومزارعهم إلى أراض لا عشب فيها ولا ماء ولا عيش فيها ولا حياة ، طمعاً في أراضيهم ، واستئثاراً لممتلكاتهم ومزارعهم. ويعبّر الإمام عليّ علیه السلام عن تلك العهود والأيام بالليالي السود إذ يقول : « واعتبروا بحال ولد إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل علیهم السلام فما أشدّ اعتدال الأحوال وأقرب اشتباه الأمثال !

تأمّلوا أمرهم في حال تشتُّتهم وتفرُّقهم ليالي كانت الأكاسرة والقياصرة أرباباً لهم يحتازونهم ( أي يمنعونهم ويدفعونهم ويهجرونهم ) عن ريف الآفاق وبحر العراق وخضرة الدُّنيا ، إلى منابت الشّيح ومهافي الرّيح ونكد المعاش فتركوهم عالةً مساكين ، أذلّ الامم داراً وأجدبهم قراراً ... فالأحوال مضطربة والكثرة متفرّقة في بلاء أزل ، وأطباق جهل !!! » (1).

إنّ الحكم الملكيّ حكم استبداديّ ، وإنّ مفاسد الحكم الاستبداديّ أوضح وأكثر من أن تبيّن.

غير أنّنا للوقوف على ما يذكره القرآن الكريم من مفاسد تترتب على الحكم الاستبداديّ لا بدّ من ملاحظة ما ورد في هذا الصدد من آيات.

إنّ القرآن الكريم يأتي بفرعون نموذجاً حيّاً وكاملاً للحاكم المستبدّ ، والحكومة الاستبداديّة ، ثم يستعرض ما كان يفكّر فرعون به ، ويقوم به انطلاقاً من هذه الخصّيصة ، وبمقتضى هذه الصفة ، وبذلك يوقفنا القرآن على مفاسد الحكم الفرديّ الاستبداديّ :

1. مفاسد الحكم الاستبداديّ

فالقرآن الكريم يصف ( فرعون ) بأنّه كان مستكبراً عالياً مسرفاً متجاوزاً الحدّ ، فهو يرى نفسه فوق الآخرين ، وإرادته فوق إرادتهم إذ يقول : ( ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم

ص: 52


1- نهج البلاغة : الخطبة رقم (187).

مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ ) ( يونس : 75 ). ( فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ المُسْرِفِينَ ) ( يونس : 83 ). ( ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ ) ( المؤمنون : 45 - 46 ). ( وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ المُهِينِ * مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ المُسْرِفِينَ ) ( الدخان : 30 - 31 ).

ومن البديهي لمن يعتبر نفسه أعلى من الآخرين ، أن يطغى على اللّه تعالى ويعصيه ويفسد في الأرض ، وكذلك كان فرعون المستبدّ كما يصفه القرآن إذ يقول : ( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المُفْسِدِينَ ) ( يونس : 90 - 91 ).

ترى وأيّ فساد أعظم وأيّ استكبار أكبر من أن يستعبد الناس ، ويسلبهم حرياتهم ويتخذ عباد اللّه خولاً.

فها هو القرآن ، ينقل عن فرعون قوله مخاطباً قومه وهو يشير إلى قوم موسى وهارون : ( ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ) ؟ ( المؤمنون : 45 - 47 ).

كما أنّ القرآن الكريم ينقل اعتراض النبيّ موسى علیه السلام على فرعون ، استعباده للناس إذ يقول له بعد أن ذكر تربيته وحضانته وعنايته بموسى في طفولته بقوله : ( أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ) ؟ ( الشعراء : 18 ). ( وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الشعراء : 22 ).

وما أوقح فرعون وأشد كفره واستكباره إذ يقول : ( قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ) !!! ( الشعراء : 23 ).

ص: 53

إنّ الاستبداد حالة طغيان تجعل الحاكم المستبدّ أن لا يقبل نصيحةً أو انتقاداً فيصير سيّء فعله حسناً في نظره كما يخبر بذلك القرآن عن فرعون إذ يقول : ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ ) ( المؤمن : 36 - 37 ).

إنّ الحاكم المستبد في الرأي والحكم ، يعتقد أنّه يجب على الجميع أن يروا رأيه ويتبعوا فكرته ، سواء وافق الدليل أم لا ، وسواء طابق المصلحة أم لا ، بل يكفي في صحّته ولزوم طاعته أنّه رأي الملك ومشيئته.

ولهذا يقول القرآن حاكياً عن لسان فرعون كلامه بعد ما قال موسى : ( يَا قَوْمِ لَكُمُ المُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللّهِ إِن جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى ) ( غافر : 29 ).

ويبلغ الاستبداد بالحاكم المتفرّد ، إلى أن يستهين بالمجتمع ولا يعتني بأرائه ، ويستخفّه ، كما فعل فرعون الملك المستبد في مصر آنذاك إذ يقول اللّه عنه : ( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ ) .

ومن الطبيعي أن يفقد مثل هذا المجتمع ثقته بنفسه وبفكره وبعقله فيطيع الحاكم المستبدّ طاعةً عمياء كما يقول القرآن الكريم معقّباً على هذه الكلمة : ( فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ) ( الزخرف : 54 ).

كما قد يبلغ الاستبداد بالحاكم المستبد إلى أن يرى نفسه أعلى من كلّ الموجودات ويطلب من الناس عبادته كما يعبدون اللّه ويحظر عليهم عبادة غيره ، حظراً شديداً ومنعاً باتاً ، بحيث لو سوّلت لأحد نفسه أن يعبد غير ذلك الحاكم الطاغي والملك المستبد ، أخذه بأشدّ العذاب وأقسى أنواع العقاب بدءاً من السجن وانتهاءً بما هو أشدّ.

وهذا هو ما يخبر به القرآن عن فرعون إذ يقول : ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا المَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي ) ( القصص : 38 ). ( فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ ( أي فرعون ) أَنَا

ص: 54

رَبُّكُمُ الأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى ) ( النازعات : 23 - 25 ). ( قَالَ ( أي فرعون لموسى علیه السلام ) لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسْجُونِينَ ) ( الشعراء : 29 ).

وقد بلغ به الاستبداد إلى أن يوجد الكبت في المجتمع ويقف دون يقظتهم ووعيهم ، بحيث لو لمس فيهم ذلك نكّل بهم وعذّبهم أشدّ العذاب : ( قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ) ( الشعراء : 49 ). ( قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ) ( طه : 71 ).

إن الحاكم الاستبدادي ، لا يتحمل حركات التوعية والإصلاح ، ولذلك يتهم اصحابها بكلّ تهمة كما فعل فرعون بالنسبة لموسى علیه السلام ودعوته الإلهية المباركة حيث اتّهمه فرعون وأخاه بأنّه يطلب الزعامة : ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ) ( يونس : 78 ).

بل ينفر الناس عن اولئك المصلحين ، وأصحاب الرسالات بأنّهم يريدون إشقاء الناس وخداعهم وتضليلهم : ( وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى * قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ) ( طه : 56 - 57 ). ( قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا ) ( طه : 63 ).

وربّما يصوّر للناس وضعهم الأسود البائس تصويراً جميلاً ويلقّنهم بأنّ ما هم فيه من طريقة ، هي الطريقة المثلى كما يقول ذلك عن لسان فرعون وملائه : ( إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ ... وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المُثْلَى ) ( طه : 63 ).

وقد يبلغ الاستبداد بالحاكم المستبدّ حداً يجعله يتوسّل بكلّ وسيلة للحفاظ على عرشه حتّى ادّعاء التديُّن ، والتستُّر به ، ونصب نفسه حامياً لحياض الدين مع أنّه يريد - في قرارة نفسه - ، هدم الدين والقضاء عليه من جذوره ، وربّما يتّهم من يريد إرشاد

ص: 55

الناس إلى الحقيقة ، وإلى الدين الحقيقيّ ، بأنّه يريد الفساد والعبث بأمن البلاد ، كما فعل فرعون لما جاءه موسى علیه السلام يدعوه ويدعو قومه إلى اللّه : ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ ) ( غافر : 26 ).

بل أنّ الحاكم المستبدّ لا يمتنع من أن يخادع الجماهير ويضلّلهم ، ويصوّر نفسه مرشداً وهادياً إلى الحقّ إذ يقول القرآن عنه : ( قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ ) ( غافر : 29 ).

وقد يتوسّل لتثبيت سلطانه ، بتقسيم المجتمع إلى مستكبر بالغ درجة كبيرة في استكباره ومستضعف محروم من أقلّ حقوقه الإنسانيّة ، فيستعين بالمستكبرين على المستضعفين كما فعل فرعون إذ يصفه اللّه تعالى : ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا ) ( القصص : 4 ).

إنّ الاستبداد قد يبلغ بالحاكم المستبد إلى أن يدّعي ملكيّة البلاد كلّها وملكية انهارها وعيونها ، كما ادعى فرعون إذ قال : ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ ) ( الزخرف : 51 ).

وإذ لم يكن للحاكم المستبد أي رادع من خلق وأي وازع من دين ، فإن استبداده قد ينتهي به إلى حدّ يجعل نفسه مشرّعاً ، ويعطي لنفسه حق التشريع والتقنين ، ويحمل بذلك اهواءه على الناس في قالب الدين - كما هو الرائج - وهذا هو ما ينهى القرآن عنه إذ يقول : ( وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ ) ( النحل : 116 ).

كما أنّ الاستبداد قد يدفع بصاحبه إلى مساواة نفسه العاجزة باللّه في القدرة على بعض الأفعال التي هي من شؤون اللّه خاصّةً كالإماتة والإحياء ... كما يحدّثنا القرآن الكريم عن نمرود وهو ملك آخر من الملوك المستبدّين ، إذ يقول عنه : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ المُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا

ص: 56

أُحْيِي وَأُمِيتُ ) ( البقرة : 258 ).

إنّ التاريخ مليء بالم آسي التي سببّتها الديكتاتوريّة والاستبداد للناس وحوّلت حياتهم إلى جحيم لا يطاق ، فمن يمكن أن ينسى ما لحق ببعض الناس الأبرياء على أيدي أصحاب الاخدود ، الذين يذكرهم القرآن ، وكانوا ملوكاً جبابرة ... أرادوا أن يحملوا الناس على عقيدتهم ومسلكهم فلمّا رفض الناس ذلك خدُّوا لهم أخدوداً وخندقاً ، وأوقدوا فيه النار ، ورموا اولئك الناس فيها أحياء مع أولادهم وأطفالهم ... وكان ذلك من أشدّ ما عاناه الناس على أيدي الملوك المستبدّين ، إذ يقول القرآن وهو يصبُّ لعناته عليهم : ( قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللّهِ الْعَزِيزِ الحَمِيدِ ) ( البروج : 4 - 8 ).

ففي تفسير القمّي في قوله تعالى : ( قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ ) ( كان سببه ، أنّ آخر ملك من ملوك حمير تهوّد ، واجتمعت معه حمير على اليهودية ، وسمّى نفسه يوسف وأقام على ذلك حين من الدهر.

ثمّ أخبر أنّ بنجران بقايا قوم على دين النصرانية ، وكانوا على دين عيسى وحكم الانجيل ، فحمله أهل دينه على أن يسير إليهم ويحملهم على اليهودية ، ويدخلهم فيها فسار حتى قدم نجران ، فجمع من كان بها على دين النصرانية ، ثمّ عرض عليهم دين اليهوديّة والدخول فيها ، فأبوا عليه ، فجادلهم وعرض عليهم وحرص كل الحرص أن يدخلوا في اليهوديّة ، فأبوا عليه وامتنعوا من اليهودية والدخول فيها ، واختاروا القتل.

فاتّخذ لهم أخدوداً [ أي خندقاً ] وجمع فيه الحطب ، وأشعل فيه النار ، فمنهم من أحرق بالنار ، ومنهم من قتل بالسيف ، ومثّل بهم كلّ مثلة فبلغ عدد من قتل وأحرق بالنار : عشرين ألفاً ) (1).

وفي حديث آخر حول هذه الآية عن عليّ بن أبي طالب علیه السلام : « أنّ ملكاً

ص: 57


1- تفسير القمّي كما في نور الثقلين 5 : 544.

سكر فوقع على ابنته [ أو قال على اخته ] فلمّا أفاق قال لها كيف المخرج ممّا وقعت فيه. . قالت : تجمع أهل مملكتك وتخبرهم أنّك ترى [ أي تجوّز ] نكاح البنات وتأمرهم أن يحلّوه فأخبرهم ، فأبوا أن يتابعوه ، فخدّ لهم اخدوداً في الأرض وأوقد فيه النيران وعرضهم عليها ، فمن أبى قبول ذلك قذفه في النار ، ومن أجاب خلى سبيله » (1).

وهكذا يبلغ الاستبداد بالحاكم والملك المستبد إلى أن يرتكب ما يريد ، ويستبيح كلّ حرام ، ويأتي بكل منكر ، ويدعو قومه مع ذلك إلى متابعته ، وإلاّ قتلهم ونكّل بهم وعذّبهم وأخذهم بأشدّ عقاب.

إنّ ما يذكره القرآن الكريم عن فرعون أو بعض الملوك من الاستبداد وما يترتب عليه من مفاسد خطيرة ، لا يختصُّ بفرعون ومن ذكرهم القرآن خاصة ، بل هي خصّيصة تلازم النظام الملكيّ باعتباره حكماً فردياً لا ينطلق من مقاييس إلهيّة وإنسانيّة وأخلاقيّة ، بل ينطلق من التسلط والقهر ، وحمل الفرد نفسه على رقاب الشعوب ... وإنّما ذكر القرآن فرعون وخصّه بالذكر ، لكونه مثلاً حيّاً ونموذجاً معروفاً للملك المستبدّ.

على أنّ آثار الاستبداد ومفاسده على درجات ومراتب في الكمّية والكيفيّة حسب توفُّر هذه الخصلة [ الاستبداد ] في الحاكم والملك.

فمن مستبد يسلب بعض الحريات ويترك بعضها ، إلى آخر يسلب جميعها جملةً واحدةً ويتجاوز الحدود ويستأثر بفيء العباد ، إلى آخر يتصوّر نفسه مالكاً للبلد الذي يحكم فيه ، ومالكاً لأهله وما فيه قاطبةً ، إلى آخر يشتدُّ فيه الاستبداد حتّى يدعي الالوهيّة ، أو يصف نفسه بأنّه الإله الأعلى وعلى الناس أن يعبدوه إلى ... وإلى ..

فأين هذا النظام من الحكومة التي ينشدها الإسلام ويريد اقامتها ، حيث يخاطب اللّه تعالى نبيّه داود - بصددها - بقوله : ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ) ( ص : 26 ).

أو يخاطب نبيّه محمّداً صلی اللّه علیه و آله قائلاً : ( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلا تَتَّبِعْ

ص: 58


1- مجمع البيان 10 : 465 والدرّ المنثور للسيوطيّ 6 : 333.

أَهْوَاءَهُمْ ) ( المائدة : 49 ).

أجل ، تلك هي طبيعة الملكية ... جشع بالغ وطمع يتجاوز الحدود ، وتفرعن واستعلاء وفساد وإفساد ، وبالتالي تاريخ مشحون بالمآسي والدموع ، وإخراج الآمنين من أوطانهم ظلماً وعدواناً.

وأمّا الملكيّة التي منّ اللّه بها على بني اسرائيل ، فهي تختلف عن هذه الملكية لأنّها مقرونةً بالنبوّة ، موهوبةً من جانب اللّه سبحانه ، فلا تفرعن فيها ولا استكبار ولا عدوان فيها ولا إفساد.

وفي هذا الصدد يقول القرآن الكريم : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا ) ( المائدة : 20 ).

والمقصود من الملوك في الآية ، هم الأنبياء أمثال يوسف وداود وسليمان علیهم السلام إذ يقول القرآن عن ذلك : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ) ( النساء : 54 ) (1).

ومن المعلوم ، أنّ يوسف وداود وسليمان علیهم السلام كانوا من آل إبراهيم علیه السلام وكانوا في القمّة من أنبياء بني اسرائيل.

وأمّا الشخص الذي اختاره اللّه ملكاً لبني اسرائيل كما في قوله سبحانه : ( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( البقرة : 247 ).

فهو وإن لم يكن نبيّاً ، ولكنّه مع ذلك لم يكن فرداً عادياً ، بل كان ممّن تربّى

ص: 59


1- والمراد بالملك - في المورد هو السلطة على الاُمور الماديّة والمعنويّة ، فيشمل ملك النبوّة والولاية والهداية والثروة وغيرها ، وذلك هو الظاهر من سياق الجمل السابقة واللاحقة ، فإنّ الآية السابقة ( أي الآية 53 ) تؤمى إلى دعواهم أنّهم يملكون القضاء والحكم على المؤمنين ، راجع الميزان للعلاّمة الطباطبائيّ 4 : 375.

بالتربية الإلهية ، وحظي بمؤهلات الحكم والملك ، ولذلك اختاره اللّه سبحانه ، وإلى هذه المؤهلات أشار القرآن الكريم بقوله : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالجِسْمِ ) .

فلا يمكن الاستدلال بهذه الموارد التي اقترنت فيها الملوكيّة بالنبوّة ، والصفات الإنسانيّة العليا الموهوبة من اللّه سبحانه لهم ، على حسن الملوكيّة وقدرتها على إقامة العدل بين الاُمّة.

وهذا أشبه شيء بالاستدلال بموارد نادرة على طبيعة الحكم الكلّي.

أضف الى ذلك ، أنّ من المحتمل جداً أن يكون المراد من الملوكيّة هو مطلق الحاكميّة على الناس ، وامتلاك هؤلاء الأنبياء إدارة اُمور الناس ، الذي اعطي لهم من جانب اللّه سبحانه وتعالى.

غير أنّ التعبير عن هذه الحاكميّة والامتلاك بلفظ الملوكيّة ، إنّما هو لأجل المحافظة على الاصطلاح الرائج بين الناس في موضوع الحاكميّة ، حيث إنّه لم يكن يوجد بينهم أي لون من الحاكميّة إلاّ الملوكيّة ، فاستعار سبحانه هذه اللفظة للتعبير عن حاكميتهم المعطاة لهم ، مع الفارق الكبير والبون الشاسع بين الحاكميتين والامتلاكين.

وبالتالي ، فانّ هذه الملوكية التي وصف اللّه بها ثلّةً من الأنبياء ، تختلف جداً عن الملكية التي هي محطُّ بحثنا هنا ، فإنّ الملكيّة التي في هذه الآيات ، هي ممّا جعلها اللّه سبحانه لرجل صالح من الأنبياء ، وليست ممّا حصّلت بالقهر ، والتغلُّب بالقوّة على رقاب الناس ، ممّا تتصف بها جميع ملوكيات الأرض.

وباختصار : إنّ الملوكية التي كانت للأنبياء ، تفترق عن الملوكيات الدارجة المتعارفة - التي يذمُّها اللّه سبحانه في ما مضى من الآيات في مطلع هذا البحث - في أمرين :

الأوّل : اقتران العصمة والصفات الكريمة العليا مع صفة الملوكية في الأنبياء دون غيرهم من ملوك الأرض.

ص: 60

الثاني : إنّ الملوكية التي اتّصف بها الأنبياء ، كانت معطاة من اللّه سبحانه ، لا أنّهم اكتسبوها بالقوّة والقهر كما هو شأن ملوك الأرض.

ولو كانت الملوكية مجردةً عن ذينك الأمرين ، لأدّى إلى الفساد ، والتفرعن كما يشهد به التأريخ.

وأقصى ما يمكن أن يقال حول توصيف اللّه سبحانه لبعض الأنبياء الصالحين بالملوكيّة : أنّ التأريخ وإن كان يشهد على أنّ الملوكيّة وإن كانت مقرونة بالاستكبار والتفرعن والفساد ، غير أنّه لم يكن يتبادر من تلك الكلمة - في عصر نزول القرآن - ما يتبادر في العصور المتأخّرة عن نزوله وبالأخصّ في هذه الأعصار الأخيرة.

ولأجل ذالك وصف اللّه سبحانه طالوت بالملوكيّة ( بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ) ومنّ على بني اسرائيل بأن جعل فيهم أنبياء وجعلهم ملوكاً ، قال سبحانه : ( اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا ) ( المائدة : 20 ).

كما وصف آل ابراهيم بقوله : ( فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ) ( النساء : 54 ).

إلى أن عاد سبحانه ينقل عن داود بأنّه طلب من اللّه سبحانه أن يهب له ملكاً ، قال تعالى : ( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ) ( ص : 35 ).

إنّ الملكيّة بكلّ أنواعها ، مرفوضة في نظر الإسلام وخاصّة الوراثيّة منها ، لما في ذلك من الفساد وضياع الحق والعدل ... كما أثبتته التجارب التأريخيّة في حياة البشريّة.

يقول المؤرّخ المعروف ابن خلدون في مقدّمته في الفصل الحادي والعشرين تحت عنوان ( فيما يعرض في الدول من حجر السلطان والاستبداد عليه ) :

( إذا استقر الملك في نصاب معيّن ومنبت واحد من القبيل القائمين بالدولة وانفردوا به ، ودفعوا سائر القبيل عنه ، وتداوله بنوهم واحداً بعد واحد ، بحسب الترشيح ، فربّما حدث التغلّب على المنصب من وزرائهم وحاشيتهم ، وسببه في الأكثر ولاية صبيّ

ص: 61

صغير ، أو مضعف من أهل المنبت يترشّح للولاية بعهد أبيه ، أو بترشيح ذويه وخوله ، ويؤنس منه العجز عن القيام بالملك ، فيقوم به كافله من وزراء أبيه وحاشيته ومواليه أو قبيله ، ويورّي بحفظ أمره عليه حتّى يؤنس منه الاستبداد ويجعل ذلك ذريعةً للملك ، فيحجب الصبيّ عن الناس ، ويعوده اليها ترف أحواله ، ويسيمه في مراعيها متى أمكنه ، وينسيه النظر في الاُمور السلطانيّة حتّى يستبدّ عليه ، وهو بما عوّده يعتقد أنّ حظّ السلطان من الملك ، إنّما هو الجلوس على السرير ، وإعطاء الصّفقة ، وخطاب التهويل ، والقعود مع النساء خلف الحجاب ، وأنّ الحلّ والربط والأمر والنهي ومباشرة الأحوال الملوكيّة ، وتفقُّدها من النظر في الجيش والمال والثغور ، إنّما هو للوزير ، ويسلّم له في ذلك إلى أن تستحكم له صبغة الرئاسة والاستبداد ، ويتحوّل الملك إليه ويؤثر به عشيرته وأبناءه من بعده كما وقع لبعض البلاد.

وقد يتفطّن ذلك المحجور المغلّب لشأنه ، فيحاول على الخروج من ربقة الحجر والاستبداد ، ويرجع الملك إلى نصابه ، ويضرب على أيدي المتغلّبين عليه ، إمّا بقتل أو برفع عن الرتبة فقط ، إلاّ أنّ ذلك في النادر ... وإنّما يحدث لأبناء الملوك ذلك ، لأنّهم ينشأون منغمسين في نعيمه وقد نسوا عهد الرجولة ) (1).

وصفوة القول ، أنّ النظام الملكيّ المطلق منه والدستوري والوراثيّ ، أمر ملازم للاستعلاء والطغيان.

* * *

2. الحكومة الأشرافيّة

إنّ المقصود من هذا النوع ، هو أن يتسلّم فريق من أعيان المجتمع ووجوهه زمام الحكم والسلطة بحجّة تفوّقهم الروحيّ والفكريّ أو النسبيّ على الآخرين ، وهذا هو ما يصطلح عليه الآن بالحكومة ( الارستقراطيّة ) أو حكومة طبقة ( الأعيان ).

ولا يخفى ، أنّ مجرّد التفوّق الروحيّ أو الفكريّ أو النسبيّ ما لم يقترن بسائر

ص: 62


1- مقدمة ابن خلدون : 185 - 186.

الصلاحيّات والمؤهلات ، لا يمكن أن يكون مسوّغاً للقيادة والحاكميّة ، ولأجل ذلك لا تكون الأشرافية بهذا المعنى ملاكاً لها.

أضف إلى ذلك ، أنّه ربّما تتصدّر شرذمة من الطغاة الحريصين على الحكم والسلطة مسند الحاكميّة بادعاء تفوّقهم الروحيّ أو الفكريّ أو النّسبيّ على الآخرين من دون أن يكون فيهم شيء من ذلك.

* * *

3. حكومة الأغنياء

3. حكومة الأغنياء (1)

وهي تتحقّق باستيلاء جماعة من ذوي الثراء الكبير على زمام الحكم لثرائهم ، وهذا النمط هو ما يسمّى بحكومة الخاصّة أيضاً.

ويبرّر هذا الفريق حقّهم في الأخذ بزمام الحكم دون غيرهم ، بقدرتهم الاقتصادية وتفوّقهم الإداريّ.

ولكن هذا النوع وما تقدمه من الحكومات ، لا يلتقي ولا ينسجم مع النظام الإسلاميّ مالم يرتضيه الشعب ، ولم يكن موافقاً للاسس والضوابط الإسلاميّة في مجال الحكم والحاكم ، لأنّ هذه الحكومات تؤول - لا محالة - إلى الديكتاتورية والاستغلال ، وإن كانت تغطّي نفسها - أحياناً - برداء الديمقراطيّة ، وتدّعي خدمة الشعوب.

4. النمطُ الديمقراطيّ

ويعني هذا النوع من الحكومة : « حكومة الشعب على الشعب » ، وهو في ظاهره يختلف عن الأنواع السابقة بأنّه يستند إلى إرادة الشعب ، ورأيه ، ويتحقّق بأن يكون الحاكم أو الرئيس منتخباً من جانبهم ، أو يكون موضع قبولهم على الأقلّ.

وهذا النمط ، وهو الذي تدّعيه أكثر الحكومات الحاضرة وخاصّةً في الغرب بل ،

ص: 63


1- وتسمّى حكومة الاستئثار.

ويتبجّح به العالم الغربيّ ويفتخر به ويدّعي أنه السبيل الوحيد لضمان الحريات التي يتطلبها الإنسان ، طيلة حياته ، ويشتريها بأغلى ثمن ولكنّه ادعاء خال عن الحقيقة ، مجرد عن الواقع.

فإنّ الديمقراطيّة الدارجة في الغرب ديمقراطيّة ظاهريّة ، وحريّة صوريّة غير حقيقّية ، فالناخبون هناك ينتخبون نوّابهم وحكاّمهم مجبورين ومضطّرين في الواقع وإن كانوا مختارين في الظاهر.

فهم ينتخبون تحت تأثير الوسائل الإعلاميّة الفعّالة ، والمؤثرات الخفيّة والجليّة التي تدفع بالناخب الغربيّ إلى أن ينتخب - بصورة لا إرادية - ما تروّج له أجهزة الإعلام ، أو تسوّله دعايات اصحاب الشركات والمعامل الكبرى ، أو تدعو له الراقصات والمغنّيات والمغنون.

إنّ المرء يتصوّر - في بادئ الأمر - ، أنّ الغرب يمارس ديمقراطيّةً حقيقيّةً ، غير أنّ من يطالع الأوضاع وخلفياتها الخفيّة ، يرى صورةً عن الديمقراطيّة لا روح فيها ، وشكلاً من حرية الانتخاب لا واقع لها ، فالإنسان في تلك الديار مسيّر بفعل العوامل الدعائية التي تملكها شرذمة من أصحاب الثروة والنفوذ والمصالح ، فالإنسان الغربي يمارس ديمقراطيّةً كاذبةً ، لأنّه لا يختار إلاّ - تحت التأثير الإعلاميّ - من تريده تلك الشرذمة من أصحاب المصالح والنفوذ لا ما يريده هو في قرارة وجدانه ، أو يحكم به عقله ، وتقتضيه مصالحه.

وهل يستطيع أحد أن ينكر تأثير الأجهزة الإعلاميّة والدعائية في بذر فكرة خاصّة وإلقائها في أذهان الناس ، وتوجيههم الوجهة التي تريد ، ودفعهم إلى اختيار من تشاء ؟.

أم هل يمكن إنكار الدور المؤثر لوسائل الطّرب ، وللفنّ ، والحفلات الغنائيّة والموسيقيّة ؟ فكيف لا يؤثر في الأذهان ، جعل صورة المرشّح للرئاسة أو للنيابة على صدور الفتيات الشبه عاريات والراقصات أمام الجماهير ، أو ترديد اسم المرشّح في أناشيد

ص: 64

المطربين والمطربات وفي أغاني المغنّين والمغنّيات ؟.

أم هل يمكن أن ينسى تأثير الوعود البرّاقة الكاذبة ، أو شراء الأصوات بالأموال الطائلة أو التحالفات العشائريّة ، وغير ذلك من الوسائل المتّبعة في الغرب وفي النظم الديمقراطية السائدة في عالمنا الحاضر ؟.

وليس من شكّ في أنّ انتخاب الإنسان المسيّر في اختياره ، المدفوع تلقائياً إلى انتخاب مرشّح شرذمة معينة ، لا قيمة له في ميزان العدل والحق ، ولا يمكن أن يسمى انتخاباً حرّاً واختياراً صحيحاً ، ولا يكون مثل هذا في الغرب إلاّ لأنّهم لا يشترطون في الانتخاب شرطاً من الاُمور المعنويّة عدا كونه منتخباً لأكثريّة الشعب فحسب. ولكن الإسلام يشترط في الناخب والمنتخب شروطاً كثيرةً عدا كونه مقبولاً للشعب ومرضيّاً عندهم ، ولا يأذن لأحد أن يتجاوز هذه الشروط أو يتغافلها ، بلغ الأمر ما بلغ.

إنّ النمط الديمقراطيّ للحكم - على ما يراه الغرب ومن تبعهم في الشرق - لا يهتمُّ إلاّ بكثرة الأصوات والتفوق في عدد الآراء لا غير.!!

يكتب ( فرانك كنت ) الكاتب السياسيّ في هذا الصدد قائلاً : ( انّ مسألة « ضرورة تحصيل أغلبيّة الأصوات » موضوع مهم جداً ، وفي سبيل تحصيلها لا يمكن أن يسمح أبداً بأن تتدخّل فيها مواضيع تافهة مثل قضية الأخلاق ، ومراعاة الحقّ ، والباطل ).

ويكتب هذا الكاتب نفسه أيضاً : ( إنّ أهمّ نقد وجّهه النائب « آشورست » إلى أحد زملائه الذي كان يخوض حملةً انتخابيةً في انتخابات ( 1920 م ) هو : أنّك لاتريد أن تتحايل على الناس ، يعني أنّك لا تريد في سبيل الوصول إلى المركز النيابيّ أن تسحق وجدانك ، إنّك يجب أن تتعلّم بأنّ على الرجل السياسيّ - في بعض الموارد - أن يتجاهل ضميره ، ويتناسى وجدانه ) (1).

ص: 65


1- اقتبس من مقال لجون اف كندي الرئيس الأسبق للولايات المتّحدة.

ثمّ إنّ هذا النوع من نظام الحكم وإن لم يكن من مصاديق الاستعلاء المذموم في القرآن الكريم ، غير أنّ مجرد كونه شعبياً لا يكفي في شرعيّته وصحته ، بل لابدّ أن يكون ناشئاً من حاكميّة اللّه سبحانه ، إمّا بالنصّ ، أو موضع تأييده برعاية الضوابط والسنن التي نصّ عليها في الشريعة الإسلاميّة في مجال الحكم والحاكم. وبذلك تختلف صيغة الحكومة الإسلاميّة - التي سيأتي ذكرها - عن سائر الصيغ والأنماط الرائجة لنظام الحكم ، وإن كانت بعض هذه الصيغ موضع قبول الشعوب ورضاها.

إنّ الحاكميّة - حسب منطق العقل والدين - مخصوصة باللّه سبحانه ومحض حقّ له دون سواه ، ولذلك ، لابدّ أن تكون حاكميّة غيره ناشئةً منه ، أو موضع تأييده سبحانه.

وبعد استجلاء هذه الحقيقة ، ينطرح هذا السؤال : ما هي إذن صيغة الحكومة الإسلاميّة ؟.

ص: 66

الفصل الثاني

اشارة

1

صيغة الحكومة الإسلاميّة كيف ؟

تلخيصٌ لما سبق :

لقد أثبتت الأبحاث السابقة اُموراً ، هي :

1. أنّ العقل - فضلاً عن الآيات القرآنيّة ، والأحاديث الشريفة - يقضي بلزوم وجود( دولة ) تدير دفّة البلاد ، وتتولّى ادارة شؤون المجتمع ، إذ بدون الدولة لن يكون أمر الاُمّة إلاّ فوضى واختلاف.

2. أنّ طبيعة القوانين الإسلاميّة في مختلف المجالات المدنية والاقتصاديّة والدفاعيّة تقتضي وجود مثل هذه الدولة ، وإلاّ كان تشريعها لغواً وعبثاً.

3. أنّ على المسلمين إذن ، أن يقوموا بتشكيل مثل هذه الدولة لتطبيق الإسلام في جميع الأصعدة السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة.

ص: 67

4. أنّ الحكومة الإسلاميّة ليست على نمط النظام الملكيّ ، أو حكومة الأشراف أو حكومة الخاصّة ، أو النظام الديمقراطي الرائج في الغرب ، أو المتّبع في بلدان العالم الثالث.

بعد أن ثبت كلّ ذلك في الأبحاث السابقة ينطرح السؤال التالي :

ما هي صيغة الحكومة الإسلاميّة إِذنْ ؟

إنّ البحث عن شكل وصيغة « الحكومة الإسلاميّة » رغم أنّه من أهمّ المباحث في هذا المجال ، لكننا لا نجد دراسةً وافيةً شاملةً عنها.

إنّ علماء الشيعة لمّا كانوا يمثّلون - طوال العصور - ، جبهة الرّفض والمعارضة للحكومات الجائرة ، فإنّهم كانوا بسبب ذلك يعانون من أشدّ أنواع الملاحقة والمضايقة ، فلم تسمح لهم تلك الظروف العصيبة أن يتحدثوا عن صيغة الحكومة الإسلاميّة ، أو يتفرّغوا للكتابة عنها ، وتوضيح ملامحها ، ورسم خطوطها ، ويؤلّفوا فيها كما ألّفوا عن بقيّة المجالات الإسلاميّة.

نعم ، لقد قام بعض علماء السّنّة بتأليف بعض الكتب في هذا المجال ، ولكن هذه الكتب لم تشرح إلاّ الوضع الذي كانت عليه الحكومات السائدة حينذاك في المجتمعات الإسلاميّة ، من دون أن ترفع النّقاب عن وجه الحكومة الإسلاميّة الواقعيّة كما تحدّث عنها القرآن الكريم والسّنّة المطهّرة ودلّ عنها العقل السليم.

ولأجل ذلك ، لا يرى القارئ في ( الأحكام السلطانيّة ) للماورديّ وما يماثله من الكتب والمصنّفات إلاّ هذا الأمر ... وأما تصوير الحكومة الإسلاميّة كما ينبغي أن تكون فلا يكاد أن يجده كما ستعرف.

ويمكن أن نعزي غياب الصورة الحقيقيّة للحكومة الإسلاميّة إلى عدّة اُمور أخرى :

1. توالي الحكومات المنحرفة على دفّة الحكم في الاُمّة الإسلاميّة ، الأمر الذي حال

ص: 68

دون قيام الحكومة الإسلاميّة الواقعيّة ، وكان ذلك من أسباب غياب النمط الواقعيّ لنظام الحكم الإسلاميّ ، وعدم معرفتنا به.

أضف إلى ذلك ، أنّ تأريخ المسلمين في العصور الماضية كان له صبغة الإسلام وصبغة القيادة الإسلاميّة ، لا أنّه كانت تتوفّر فيه جميع عناصر الدولة الإسلاميّة وشرائط المجتمع الإسلاميّ ومواصفاته ، ولأجل ذلك لم تكن تلك الحكومات المنصبغة بصبغة الإسلام ممثّلةً لواقع القيادة الإسلاميّة.

2. بعدنا الزمني عن العهد النبويّ وتطوّر اللغة ، ممّا جعلنا لا نفهم الكثير من مقاصد المصطلحات القرآنيّة التي تدلّ على ملامح الحكومة الإسلاميّة كما كان يفهم العربي المعاصر لذلك العهد.

وتتعيّن على الكتّاب المعاصرين ، لاستجلاء الملامح الغائبة للحكومة الإسلاميّة ، اُمور :

أوّلاً : العودة إلى المصادر الأساسيّة للإسلام ، ونعني بها الكتاب والسّنّة المطهّرة والسيرة الشريفة التي سار عليها الأئمّة الواقعيّون.

ثانياً : أن لا يخلطوا بين ما وقع وجرى على الساحة الإسلاميّة في مجال الحكم ، وبين ما هو مرسوم لنظام الحكم في أصل الشريعة المقدّسة.

ثالثاً : أن لا يخلطوا بين تأريخ المسلمين ونظام الدين ، لأنّ ذلك التأريخ لا يكون ممثلاً واقعيّاً لكلّ تعاليم الدين ، ولا مبرزاً لجميع حقائقه.

فإذا تجاوزنا جميع هذه الحواجز المانعة عن رؤية الحقيقة ، استطعنا أن نقف على الصورة الحقيقيّة لنظام الحكم الإسلاميّ وأبعاده ، وجميع خصوصياته وامتيازاته.

إنّا مع تقديرنا لكلّ ما قام به علماؤنا الأقدمون من خدمات عظيمة في تدوين الفكر الإسلاميّ وحمايته وصيانته وتعميقه وتوضيحه ، نعذرهم في عدم توضيحهم لصورة الحكومة الإسلاميّة ، نظراً للظروف الصعبة وغير العاديّة التي عاشوها وقاسوا منها الأمرّين كما ستعرف ، ولكنّنا نعتبر القيام بهذا الأمر واجباً حتميّاً بالنسبة إلى كتّابنا

ص: 69

ومفكّرينا المعاصرين ، وخاصّةً أنّ الحاجة إلى ذلك - بعد قيام أوّل حكومة إسلاميّة من نوعها في بلد إسلاميّ هو إيران - قد أصبحت شديدةً وماسةً في الوقت الذي يتطلّع فيه الكثير من المسلمين إلى إقامة الحكومة الإسلاميّة الواقعيّة في بلادهم أيضاً.

إنّ غموض موضوع ( الحكومة الإسلاميّة ) جعل أكثر المسلمين في هذا العصر لا يعرفون عنها سوى ، أنّها كبقية الحكومات القائمة في بعض البلاد الإسلاميّة التي تنتحل لنفسها صفة الإسلام واسمه ، وهي أبعد ما تكون عن الإسلام جوهراً وشكلاً ، أسلوباً وسياسة.

إنّ الحكومة الإسلاميّة تمتاز بخصوصيّات وخصائص عديدة تميّزها عن جميع الحكومات الحاضرة - والغابرة - التي تتقمّص رداء الإسلام كذباً وزوراً.

إنّ التتبّع في الكتاب والسّنّة يقضي ، بأنّ الحكومة في الإسلام تقوم بأحد أمرين ، لكلّ واحد ظرفه الخاصّ :

1. التنصيص الإلهيّ على الحاكم الأعلى باسمه وشخصه. وهذا فيما لو كان هناك نصّ أو نصوص على حاكميّة شخص معيّن على الاُمّة كما في النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله باتّفاق المسلمين ، أو الأئمة المعصومين حسب ما يذهب إليه الشيعة.

ومن المعلوم ، أنّه لو كان هناك نصّ لما جاز العدول عنه إلى الطريق الآخر الذي سنشير إليه.

2. التنصيص الإلهيّ على صفات الحاكم الأعلى ، وشروطه ، ومواصفاته الكليّة فيما إذا لم يكن هناك تنصيص على الشخص ، أو كان ولكن الظروف تحول دون الوصول إليه ، والانتفاع بقيادته.

ومن المعلوم ، أنّ الطريق الثاني يؤخذ به في ظرف عدم الطريق الأوّل.

وعلى كلّ تقدير ، فالحاكميّة تنصيصيّة منه سبحانه مطلقاً ، فهي إمّا بالتنصيص على الشخص المعيّن ، أو التنصيص على المواصفات الكليّة ، وإلى هذا القسم الثاني يرجع انتخاب الاُمّة حسب الشرائط والضوابط.

ص: 70

التنصيص الإلهيّ على الحاكم الأعلى باسمه وشخصه

اشارة

إن الحاكميّة كما أسلفنا (1) ، حقّ مختصّ باللّه سبحانه ، ولا حاكمية لسواه إلاّ بإذنه ، وله الحقّ وحده في تعيين من يقود البشرية ، ويسوس اُمورهم ويحكمهم ..

وهذا هو ما يؤكّده القرآن الكريم في كثير من آياته صراحة وتلويحاً ، إذ يقول :

( إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) ( الأنعام : 57 ).

( أَلا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ ) ( الانعام 62 ).

( إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ) ( يوسف : 40 ).

يقول العلاّمة الطباطبائيّ : ( إنّ نظرية التوحيد التي يبني عليها القرآن الشريف بنيان معارفه ، لمّا كانت تثبت حقيقة ( التأثير في الوجود ) لله سبحانه وحده لا شريك له ، وإن كان الإنتساب مختلفاً باختلاف الأشياء ، غير جار على وتيرة واحدة ، كما ترى أنّه تعالى ينسب الخلق إلى نفسه ، ثمّ ينسبه في موارد مختلفة إلى أشياء مختلفة بنسب مختلفة ، وكذلك العلم والقدرة والحياة والمشيئة والرزق والحسن ، إلى غير ذلك. وبالجملة ، لمّا كان التأثير له تعالى ، كان (2) الحكم الذي هو نوع من التأثير والجعل له تعالى ، سواءً في

ص: 71


1- راجع الجزء الأول من كتابنا : 578.
2- جواب لمّا الشرطيّة.

ذلك الحكم في الحقائق التكوينيّة أو في الشرائع الوضعيّة (1) الاعتباريّة ، وقد أيّد كلامه تعالى هذا المعنى ، كقوله : ( إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ ) ( الأنعام : 57 يوسف : 67 ) وقوله تعالى : ( أَلا لَهُ الحُكْمُ ) ( الأنعام : 62 ) وقوله تعالى : ( لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ ) ( القصص : 70 ) وقوله تعالى : ( وَاللّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ) ( الرعد : 41 ) ولو كان لغيره تعالى حكم لكان له أن يعقّب حكمه ويعارض مشيئته ، وقوله تعالى : ( فَالْحُكْمُ للهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ) ( غافر : 12 ) إلى غير ذلك.

ويدل على اختصاص خصوص الحكم التشريعي به تعالى ، قوله : ( إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) ( يوسف : 40 ) فالحكم لله سبحانه لا يشاركه فيه غيره ، على ظاهر ما يدلّ عليه ما مرّ من الآيات ، غير أنّه تعالى ربّما ينسب الحكم مطلقاً وخاصةً التشريعيّة منه إلى غيره ، كقوله تعالى : ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ ) ( المائدة : 95 ) وقوله لداوود علیه السلام : ( إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ ) ( ص : 26 ) وقوله للنبيّ صلی اللّه علیه و آله : ( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ ) ( المائدة : 49 ) وقوله ( يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ) ( المائدة : 44 ) إلى غير ذلك من الآيات وضمّها إلى القبيل الأوّل يفيد ، أنّ الحكم الحقّ لله سبحانه ب ( الأصالة ) وأوّلاً ، لا يستقلّ به أحد غيره ، ويوجد لغيره بإذنه وثانياً. ولذلك عدّ تعالى نفسه أحكم الحاكمين وخيرهم ، لما أنّه لازم الأصالة والاستقلال والأوّليّة ، فقال : ( أَلَيْسَ اللّهُ بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ ) ( التين : 8 ) وقال : ( وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ) ( الأعراف : 87 ) (2) ».

وكتب حول قوله تعالى : ( أَلا لَهُ الحُكْمُ ... ) ( الأنعام : 62 ) أيضاً يقول : ( قوله

ص: 72


1- المصطلح لدى الاُصولييّن في الوضعيّة هو الأحكام والقوانين المجعولة كالسببيّة والشرطيّة والرئيسيّة والمرؤوسيّة والحاكميّة والمحكوميّة ويقابله الأحكام التكليفيّة الخمسة المعروفة كالوجوب والحرمة والكراهة والاستحباب والإباحة. غير أنّ الأستاذ (قدس سره) أراد منها هنا مطلق الأحكام التشريعية سواء أكانت بلسان الوجوب والحرمة، أم غيرها، مما تسمی - اصطلاحاً بالأحكام الوضعية.
2- تفسير الميزان 7 : 117 - 118.

تعالى : ( أَلا لَهُ الحُكْمُ ) إلخ ... لمّا بيّن تعالى اختصاصه بمفتاح الغيب وعلمه بالكتاب المبين الذي فيه كل شيء ، وتدبيره لأمر خلقه من لدن وجدوا ، إلى أن يرجعوا إليه ، تبيّن أنّ الحكم إليه لا إلى غيره ، وهو الذي ذكره فيما مرّ من قوله : ( إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ ) أعلن نتيجة بيانه فقال : ( أَلا لَهُ الحُكْمُ ) ليكون منبّهاً لهم ممّا غفلوا عنه ) (1). فإذا لم تكن الحاكميّة إلاّ لله تعالى ، كان إليه وحده أمر التنصيص والتعيين للحاكم الأعلى ، أمّا على الاسم والشخص ، كما إذا اقتضت المصالح أن يكون لون الحكومة على هذا النمط ، أو على الصفات والشروط اللازمة فيه ، كما إذا اقتضت المصلحة أن يكون لون الحكومة على هذا الطراز.

بيد انّ المسلمين قد اتفقوا على أنّ النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله كان حاكماً منصوباً من جانبه سبحانه على الاُمّة.

ومن المعلوم ، أنّه لو كان هناك تنصيب للشخص لما كان للاُمّة رفض النصّ والتعيين والركون إلى الطريق الآخر ... يقول سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِينًا ) ( الأحزاب : 36 ).

وقد نصّ اللّه تعالى على حاكمية النبيّ ، وحاكميّة ولاة الأمر من بعده إذ قال في كتابه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) ( النساء : 59 ).

ومن الواضح أنّ وجوب إطاعة النبيّ واولي الأمر (2) في كلّ ما يأمر وينهى دليل

ص: 73


1- تفسير الميزان 7 : 136.
2- المشهور بين الإماميّة تبعاً للأخبار أنّ المراد من اولي الأمر ، أشخاص معيّنون بأسمائهم وشخصيّاتهم ، وقد نصّ النبيّ عليهم في متواتر الأحاديث والروايات ، التي رواها أعلام الحديث من الفريقين ، فهي قضيّة خارجيّة - حسب المصطلح المنطقيّ - مقصورة على أولئك الأشخاص ، وليست قضيّةً كليّةً قانونيّةً مضروبةً على إطاعة كلّ من ولي الأمر من المؤمنين ، حتّى تصير قضيّةً حقيقيّةً حسب اصطلاح المنطق. وإن كان - ربّما - يجب إطاعة ولي الأمر من المؤمنين ، لكنّه بسبب دليل آخر لا لأجل هذه الآية ، وهناك وجه آخر في مفاد الآية قرّر في محلّه.

على حاكميّته وولايته المفوّضة إليه من جانب اللّه بتنصيصه سبحانه على ذلك.

كيف لا وقد صرح القرآن بولاية النبيّ ، وحكومته على الأنفس فضلاً عن الأموال بقوله سبحانه : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) ( الأحزاب : 6 ).

فهذه الآية ، تدلّ - بوضوح - على أنّه تعالى نصب النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله حاكماً ، وأولاه سلطةً على نفوس المؤمنين وأموالهم ، سلطةً شرعيةً في إطار الحقّ والعدل والصلاح.

خاصّةً أنّه ورد عن الإمام الباقر علیه السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال : « إنّها نزلت في الإمرة يعني الإمارة » (1).

هذا والأدلة على أنّ النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله كان حاكماً منصوباً من جانبه سبحانه ، أكثر ممّا ذكرناه من الآيات ، وبما أنّه لم يختلف فيه أحد من المسلمين نكتفي بما أوردناه.

إنّما البحث في صيغة الحكومة بعد النبيّ الأكرم ، فهل هي كانت على غرار حكومة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأنّ اللّه سبحانه نصب أشخاصاً معيّنين للحكومة بلسان نبيّه ، أو أنّ الحكومة بعده صلی اللّه علیه و آله على غرار الطريق الثاني ، أعني التنصيص على الصفات والشروط الكلية اللازمة للحاكم ، وحثّ الاُمّة على تعيين الحاكم من عند أنفسهم حسب تلك الصفات والشروط وعلى ضوء تلكم المواصفات.

فهناك قولان ، ذهبت إلى كلّ واحد طائفة من المسلمين.

ما هي صيغة الحكومة بعد النبيّ ؟

إنّ تحليل صيغة الحكومة بعد النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله من المسائل الهامّة التي فرقت المسلمين إلى طائفتين كبيرتين ، تمثّل كلّ واحدة منهما شطراً كبيراً من الاُمّة الإسلاميّة.

ورفع النقاب عن وجه الحقيقة في هذا المجال ، يحتاج إلى تجرد عن الأهواء والميول

ص: 74


1- مجمع البحرين : 457 ، الطبعة الجديدة.

الطائفية ، ولأجل ذلك نسأل اللّه سبحانه أن يوفّقنا لإراءة ما نلمسه بالدليل فنقول :

إنّ طائفةً كبيرةً من المسلمين ذهبت إلى أنّ صيغة الحكومة بعد الرسول ، وإلى مدّة خاصّة من الزمن ، كانت حكومةً تنصيصيةً إلهيّةً على غرار حكومة النبيّ الأكرم نفسه ، فاللّه تعالى نصّ على أسماء من يجب أن يخلفوا النبيّ ، على لسانه ، وأوجب طاعتهم وحرّم مخالفتهم.

ويمكن استجلاء الحقيقة ، وصدق هذا المدّعى ، بالطرق الثلاث التالية :

1. محاسبة المصالح العامّة ، وما كانت تقتضيه في تلك الفترة ، فنرى ، ماذا كانت تقتضي مصالح الاُمّة الإسلاميّة آنذاك ، وأيّ لون من ألوان الحكومة كانت تتطلّب ، هل كانت تقتضي الحكومة التنصيصيّة على الاسم والشخص ؟ أو التنصيص على الصفات والشروط ؟

وبتعبير آخر : هل كانت المصالح في تلك الفترة تقتضي التنصيص على أشخاص معيّنين ؟ أو ترك الأمر إلى انتخاب الاُمّة حسب الضوابط المقرّرة شرعاً ؟.

2. لا شك أنّ وفاة الرسول الأكرم وغيابه عن الساحة كان من شأنه أن يحدث فراغاً بعده ، فكان لابد من سد هذا الفراغ بمن يكون كالنبيّ علماً وسياسةً وخلقاً وقيادةً ، فهل كان يمكن سدّ هذا الفراغ بانتخاب الاُمّة ، أو لا يمكن إلاّ بالتنصيص على فرد معيّن ؟.

3. لمّا كانت مسألة القيادة موضع اهتمام المسلمين في حياة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وبعده ، فحينئذ لا بدّ أن يكون للنبيّ وأصحابه في ذلك المجال رأي ونظر ، فماذا يستفاد من النصوص الواردة حول هذه المسألة ؟.

ولنبدأ بعون اللّه بذكر هذه الطرق على وجه التفصيل :

ص: 75

الطريق الأوّل: المصالح العامّة في الصدر الأوّل وشكل الحكومة

اشارة

1. عدم بلوغ الذروة في أمر القيادة.

2. الاُمّة الإسلاميّة وآلخطر الثلاثيّ.

3. العشائريات تمنع من الاتفاق على قائد.

ماذا كانت تقتضيه المصالح ؟

اشارة

ماذا كانت تقتضي مصالح الاُمّة الإسلاميّة آنذاك ؟ هل كانت تقتضي أن يترك النبيّ صلی اللّه علیه و آله اُمّته لتختار هي من تريد لقيادتها ؟ وهل كانت الظروف آنذاك تساعد على مثل هذا الأمر ؟ أو كان يجب النص على أشخاص معيّنين لذلك المقام الخطير ؟ وبعبارة واضحة : هل كانت المصلحة تقتضي تنصيب الإمام من جانب اللّه سبحانه بلسان نبيّه ؟ أو كانت المصلحة تقتضي أن يترك مسألة الخلافة بعده إلى رأي الاُمّة ؟

إنّ اُموراً كثيرةً تدلّ على أنّ مصالح الاُمّة كانت آنذاك تتطلّب تنصيب الإمام والقائد الذي يخلّف النبيّ صلی اللّه علیه و آله وتعيينه بلسانه في حياته ، بل كان في عدم التعيين والتنصيب ، وترك الأمر إلى اختيار الاُمّة وانتخابها ، من الاختلاف والتفرّق وعدم الاتّفاق

ص: 76

ما يشكل أكبر الخطر على تلك الجماعة ويعرّضها للتقهقر.

وإليك بيان هذه الاُمور :

أ - عدم بلوغ الذروة في أمر القيادة
اشارة

إنّ الاُمّة الإسلاميّة - كما يدلّنا عليه التأريخ - لم تبلغ في القدرة على تدبير اُمورها ، وإدارة شؤونها ، وقيادة سفينتها حدّ الاكتفاء الذاتيّ ، الذي لا يحتاج معه إلى نصب قائد لها من جانب اللّه تعالى.

وقد كان عدم بلوغ الاُمّة هذا طبيعياً ، لأنّه من غير الممكن إعداد امّة كاملة الصفات ، قادرة على إدارة نفسها ، وبالغة في الرّشد القياديّ والإداريّ حدّاً يجعلها مستغنيةً عن نصب قائد محنّك رشيد لها.

إنّه من غير الممكن إعداد مثل هذه الاُمّة وتربيتها في فترة ثلاث وعشرين سنة مليئة بالأحداث والوقائع الجسيمة ، ومشحونة بالحروب الطاحنة والهزات العنيفة.

وليس هذا مختصاً بالاُمّة الإسلاميّة ، بل التجارب تدلّ على أنّه من غير الممكن تربية امّة كانت متوغّلةً في العادات الوحشيّة والعلاقات الجاهليّة ، والنهوض بها إلى حدّ تصير امّةً كاملةً تدفع عن نفسها تلك الرواسب والعادات والخصائص الجاهليّة المتخلّفة ، وتتقدّم بنفسها إلى ذرى الكمال ، بحيث تستغني عن نصب قائد محنّك ورئيس مدبر ، بل هي تقدر على تشخيص مصالحها في تعيين القائد.

إنّ إعداد مثل هذه الجماعة ومثل هذه الاُمّة لا يمكن - في العادة - إلاّ بعد انقضاء جيل أو جيلين ، وبعد مرور زمن طويل يكفي لتغلغل التربية الإسلاميّة إلى أعماق تلك الاُمّة ، بحيث تخلط مفاهيم الدين بدمها وعروقها ، وتتمكّن منها العقيدة درجةً يحفظها من التذبذب ، والتشرذم والتراجع إلى الوراء.

وهذا ممّا لم يتيسّر للمسلمين الذين تولّى النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله تربيتهم وصياغتهم ، فإنّ الأحداث التي وقعت ، أثبتت ، أنّ الإسلام لم يتعمّق في نفوس أكثرية المسلمين

ص: 77

وعقولهم ، ولم تجتثّ الرواسب الجاهلية المتأصّلة فيهم ، فقد كانت هذه الرواسب تلوح منهم بين حين وآخر ، . وتظهر مظاهر التذبذب والتردّد ، كلمّا أحكمت الصعوبات والمحن بقبضتها عليهم !!!

ففي معركة ( احد ) مثلاً عندما ترك بعض الرماة مواقعهم على الجبل ( خلافاً لأمر الرسول الأكرم وتأكيداته على البقاء ) وبوغت المسلمون بهجوم الكفار عليهم وهم يجمعون الغنائم ، واصيبوا بنكسة كبرى وروّج الأعداء المشركون شائعات عن مقتل النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله ، هرب بعض المسلمين من ساحة المعركة ، ولاذ بعضهم بالجبل ، بل فكّر بعضهم بالتفاوض مع المشركين حتّى أتاهم أحد المقاتلين ووبّخهم على فرارهم وتخاذلهم وتردّدهم قائلاً : « إن كان محمّد قد مات فربّ محمّد حيّ ، قوموا ودافعوا عن دينه » (1).

ولم تكن هذه الواقعة وحيدة من نوعها ، فقد ظهرت بادرة الارتداد من بعضهم في ( هوازن ) ما لا يقلّ عمّا ظهر في أحد.

فقد روى ابن هشام عن جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ ، قال : لمّا استقبلنا وادي حنين ، انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف( أي متّسع ) حطوط( أي منحدر ) انّما ننحدر فيه انحداراً ، وقال : وفي عماية الصبح ، وكان القوم ( العدو ) قد سبقونا إلى الوادي ، فكمنوا لنا في شعابه وأحنائه ومضايقه وقد أجمعوا وتهيّأوا وأعدّوا ، فواللّه ما راعنا ونحن منحطون إلاّ الكتائب قد شدّوا علينا شدّة رجل واحد وانشمر ( أي انهزم ) الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد وانحاز رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ذات اليمين ، ثمّ قال : « أين أيّها الناس هلمّوا إلّي ، أنا رسول اللّه ».

فانطلق الناس ( أي هربوا ) إلاّ أنّه قد بقي مع رسول اللّه نفر من المهاجرين والأنصار.

فلمّا انهزم الناس ، ورأى من كان مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من جفاة أهل مكّة الهزيمة ،

ص: 78


1- سيرة ابن هشام 2 : 83.

تكلّم رجال منهم بما في أنفسهم من الضّغن ، فقال أبو سفيان بن حرب : لا تنتهي هزيمتهم دون البحر ، وإنّ الأزلام لمعه في كنانته ، وصرخ جبلة بن الحنبل : ( الا بطل السحر اليوم ) (1).

إلى غير ذلك من الأحداث والوقائع ، التي كشفت عن تأصّل الرواسب الجاهليّة في نفوسهم ، وعدم تغلغل الإيمان والعقيدة في قلوبهم. حتّى أنّنا نجد القرآن يشير إلى ذلك تعليقاً على ما حدث ووقع منهم في معركة ( أحد ) إذ يقول سبحانه : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ) ( آل عمران : 144 ).

ويقول في شأن من راح يبحث عن ملجأ له فراراً من الموت : ( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ ) ( العمران : 154 ).

وصفوة القول ، أنّنا لا ننكر - في الوقت نفسه - وجود من بلغت عقيدته واستقامته حداً استوجب أن يتحدث اللّه عنه في كتابه بقوله : ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ( التوبة : 111 ).

بيد أنّ الأكثرية منهم لم تكن قد بلغت ذلك المبلغ من رسوخ الإيمان وعمق العقيدة ، ولم يكونوا قد تخلّصوا تماماً من رواسب الجاهلية.

ويدلّ على ما ذكر من عدم تغلغل الإيمان في نفوس أكثرية الصحابة والمعاصرين للنبيّ صلی اللّه علیه و آله بالإضافة إلى ما ورد من آيات ، ما أخرجه أصحاب الصحاح والسنن ، والمسانيد في هذا المجال من أخبار وأحاديث صحيحة.

ص: 79


1- سيرة ابن هشام 2 : 442 - 444.

فقد روى البخاري عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله قوله : « ما بعث اللّه من نبيّ ولا استخلف من خليفة إلاّ كانت له بطانتان ، بطانة تأمره بالمعروف وتحضّه عليه ، وبطانة تأمره بالشّرّ وتحضّه عليه ، فالمعصوم من عصمه اللّه » (1).

وروى البخاري أيضاً في صحيحه (2) في باب ( وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم ) من كتب التفاسير بسنده عن ابن عباس ، قال :

خطب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : « ألا وإنّه يجاء برجال من امتي فيؤخذ بهم ذات الشّمال فأقول يا ربّ : أصحابي ... فيقول : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول كما قال العبد الصّالح ( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) فيقال : إنّ هؤلاء لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم ما فارقتهم » (3).

فهل كان يجوز لصاحب الدعوة - والحال هذه - أنّ يتجاهل أمر القيادة من بعده ، ولا ينصب أحداً باسمه وشخصه ، ويدع تلك الاُمّة الحديثة العهد بالإسلام ، الناشئة في الدين ، التي لم تترسّخ العقيدة الإسلاميّة في مشاعر الأكثريّة من أبنائها وأفرادها ، ولم تكتسب من التربية الفكريّة ، والإداريّة ما يجعلها قادرةً على إدارة نفسها بنفسها بحزم ، ومتمكّنةً من تدبير شؤونها بدراية وحنكة ؟!

أم لابدّ من تعيين قائد ونصب زعيم مدير لها بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله يكون له من المؤهلات

ص: 80


1- صحيح البخاري 4 : باب ( بطانة الإمام وأهل مشورته ) : 150.
2- صحيح البخاري 3 : 85.
3- وقد ورد هذا الحديث بنصّه وطوله ، أو باختلاف يسير في : كتاب التفسير في باب ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ) وفي باب ( كيف الحشر ) من صحيح البخاري نفسه ، وفي صحيح مسلم في كتاب الجنّة ونعيمها ، وفي صحيح الترمذيّ بطريقتين باب ( ما جاء في شأن الحشر ) وفي أبواب ( تفسير القرآن ) ، وفي صحيح النسائيّ ( ج 1 ) في ذكر أوّل من يكسى ، وفي مستدرك الحاكم في كتاب التفسير في ( سورة الزخرف ) ، وفي مسند أحمد بن حنبل ( ج1 : ص235 وص 253 ) وفي مسند الطيالسيّ ( ج 1 ) في أحاديث سعيد بن جبير عن ابن عبّاس. وفي الدّر المنثور للسيوطي في تفسير قوله تعالی: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) وقال أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي.

الإداريّة ، والقدرة على التدبير والدراية ما للنبيّ صلی اللّه علیه و آله حتّى يخلّفه في سياسة الاُمّة ، وتسيير اُمورها الاجتماعيّة والفرديّة.

وربّما يتصوّر أنّنا نقسوا على الصحابة مع ما يكيل لهم الجمهور من تجليل واحترام كبيرين ، غير أنّ من يرجع إلى القرآن الكريم ، يجد بأنّنا لم نقس على أحد منهم ، بل القرآن الكريم هو الذي يقسمهم إلى صنفين ، فيمدح صنفاً ويذم صنفاً بصراحة كاملة.

فالصنف الأوّل الذين يمدحهم القرآن ويذكر عنهم بخير يشمل السابقين الأوّلين إلى الإسلام والتابعين لهم ، حيث يقول عنهم :

1. ( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ (1) وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ( التوبة : 100 ).

2. ( لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) ( الفتح : 18 ).

3. ( لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) ( الحشر : 8 ).

4. ( مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) ( الفتح : 29 ).

ص: 81


1- لا يخفى أنّ الرضاية الإلهيّة الواردة في الآية مقيّدة بظرفها ووقتها ( أي ظرف المبايعة ووقتها ) لقوله ( إِذْ يُبَايِعُونَكَ ) ، فبقاء الرضاية يحتاج إلى دليل ، كما أنّ ادّعاء نفيها يحتاج أيضاً إلى دليل.

غير أنّ هناك آيات جمّة - إلى جانب ذلك - تدلّ على عدم كون الصحابة كلّهم عدولاً ، بل وممدوحين ، إذ فيهم المنافق الذي يقلّب الاُمور على النبيّ صلی اللّه علیه و آله وفيهم من مرد على النفاق ونبت عليه : ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ) ( التوبة : 101).

ومنهم من خلط عملاً صالحاً بعمل سيّئ : ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ) ( التوبة : 102 ).

وطائفة قد بلغ ضعف إيمانهم إلى حدّ الدنوّ إلى الارتداد والعودة إلى الجاهليّة : ( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ ) ( آل عمران : 154 ).

وطائفة قد بلغ مبلغ إيمانهم باللّه ورسوله أنّهم كلّما أعتورهم الخوف وداهمهم الخطر ، لاذوا بالفرار ، قال سبحانه عنهم : ( إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا * وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللّهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللّهِ مَسْئُولاً * قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ المَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً * قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا * يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ

ص: 82

يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً ) ( الأحزاب : 10 - 20 ).

وهذه الآيات ، تشرح بصراحة ما عليه جماعة كثيرة من أصحاب النبيّ ولا تختصّ بالمنافقين ، لقوله سبحانه : ( إِذْ جَاءُوكُم ... مِن فَوْقِكُمْ ... وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ) وقوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ) عاطفاً لها على المنافقين فقال ( وَالَّذِينَ ) ولم يقل ( الذين ).

نعم كانت في صحابة النبيّ ثلة جليلة بالغة منتهى الإيمان والعمل ، وهم الذين عناهم اللّه تعالى بقوله : ( وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) . ( الأحزاب : 22 - 23 ).

إجابةٌ عن سؤال

ولعل القائل يقول : بأنّهم كيف لم يبلغوا الدرجة الكاملة في أمر القيادة مع أنّهم ، حطّموا امبراطوريتين كبيرتين ، وبنوا فوق أنقاضها صرح الإسلام ، أضف إلى ذلك ، أنّه سبحانه وصفهم في سورة الفتح بقوله : ( فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ ) ( الفتح : 29 ).

فهو يدل على كفاءتهم في أمر القيادة والاعتماد على أنفسهم ، حيث شبّههم بالزرع المستغلظ القائم على سوقه.

ولكن الإجابة على هذا السؤال سهلة بعد الوقوف على ما نذكره :

1. إنّ التسلّط على الامبراطوريّتين لم يكن نتيجة قوة القيادة وصحتها ، بل كان لقوّة تعاليم الإسلام ، أكبر سهم في نفوذهم وسيطرتهم عليهما ، حيث كانت التعاليم بمجرّدها تسحر القلوب ، وتجذب العقول وتفتح الطريق خاصّة بين تلك الشعوب التي طالما عاشت الضغط والحرمان ، وعانت من الظلم والاضطهاد المرير.

ص: 83

2. إنّ التأريخ يشهد ، بأنّ الامبراطوريتين كانتا تلفظا أنفاسهما الأخيرة ، وكانتا قد بلغتا درجةً كبيرةً من الضعف ، فساعد الإسلام على سقوطها واندحارها.

ويشهد على ذلك ، أنّ الشعوب التي كانت تعيش تحت حكميهما كانت تسارع إلى استقبال الفتح الإسلامي وترحّب بحكم المسلمين ونظامهم ، فتفتح أبواب المدن لعساكر الإسلام وتبدي رغبتها الشديدة في العيش تحت لواء الحكومة الإسلامية.

روى البلاذريّ : ( لمّا ردّ المسلمون على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج ، وقالوا : قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم ، فأنتم على أمركم ، قال أهل حمص لهم :

لولايتكم وعدلكم أحبّ إلينا ممّا كنّا فيه من الظلم والغشم ، ولندفعنّ جند هرقل عن المدينة مع عاملكم. و ...

ونهض اليهود وقالوا : والتوراة ، لايدخل عامل هرقل مدينة حمص إلاّ أن نغلب ونجهد. فأغلقوا الأبواب وحرسوها ، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود.

وقالوا : إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنّا عليه وإلاّ فإنّا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد فلمّا هزم اللّه الكفرة وأظهر المسلمين فتحوا مدنهم وأخرجوا المقلسين فلعبوا وأدّوا الخراج ) (1).

3. إنّ المراجع للتأريخ الإسلاميّ يجد أنّ أمير المؤمنين عليّاً علیه السلام كان له السهم الأوفر في القيادة ، وتحقيق الانتصارات التي أصابها المسلمون بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ويدلّ على تلك المساهمة الفعلية ، ما قاله عليّ علیه السلام عندما شاوره عمر بن الخطاب في الخروج بنفسه إلى غزو الروم : « إنّك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك ، فتلقهم فتنكب ، لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم. ليس بعدك مرجع يرجعون إليه ، فابعث إليهم رجلاً محرباً ، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة ، فإن أظهر اللّه فذاك ما تحب ، وإن

ص: 84


1- فتوح البلدان للبلاذريّ : 143.

تكن الاخرى كنت ردءاً للناس ومثابةً للمسلمين » (1).

وبالرغم من أنّه علیه السلام قد اقصي عن الخلافة ، ولم يكن يخطر بباله أنّ العرب تزعج هذا الأمر - من بعد النبيّ - عن أهله ، فإّنه لم يمسك يده عن نصرة المسلمين ، عندما لاحظ رجوع الناس عن الإسلام يريدون محق دين محمد ، والعودة إلى الجاهلية وفي ذلك يكتب إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لمّا ولاّه إمارتها ويقول : « حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين محمّد صلی اللّه علیه و آله فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً ، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان ، كما يزول السراب أو كما يتقشّع السحاب فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل وزهق ، واطمأنّ الدين وتنهنه » (2).

4. إنّ الفرق الكبير بين قيادتهم وقيادة من كان يجب أن يسلّم الأمر إليه إنّا يعلم ، لو باشرت تلك الطائفة الاخرى أمر القيادة ، فعند ذلك نعلم مدى صحة قيادة الطائفة الاولى.

وبما أنّ الأمر لم يسلّم إلى من كان يجب تسليم الأمر إليه. صارت قيادتهم عندنا قيادةً عاريةً عن الضعف والنقص.

والذي يدل على ذلك. أنّ القيادة بعد النبيّ جرّت على المسلمين أكبر المآسي والويلات ، خصوصاً عندما أخذت بنو اميّة وبنو العباس زمام الأمر ، وعادت الخلافة الإسلاميّة ملكاً عضوضاً وحكماً قيصرياً كسروياً.

وللبحث عن أحوال الصحابة ومواقفهم في القرآن الكريم ، مجال آخر ربّما نتوفّق للبحث عنها في وقت آخر. ولا نريد بهذه الكلمة تعكير الصفو ، أو تمزيق الوحدة ، وإنّما نريد أن نوقف القارئ الكريم على الحقيقة على وجه الإجمال.

وخلاصة القول ، أنّ الصحابة ليس كلّهم عدولاً يقتدى بهم ويستضاء بنورهم ،

ص: 85


1- نهج البلاغة : الخطبة 130 ( طبعة عبده ).
2- نهج البلاغة : قسم الكتب الرقم (62).

بل هم على أقسام تحدّث عنها القرآن الكريم ، ويقف عليها من استشفّ الحقيقة عن كثب ، كما لم تبلغ الاُمّة إلى حد الإكتفاء الذاتي في القيادة ، كما هو محط البحث.

ب - الاُمّة الإسلاميّة والخطر الثلاثيّ
اشارة

من الواضح لكل مطلع على أوضاع الاُمّة الإسلاميّة قبيل وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّ الدولة الإسلاميّة الحديثة التأسيس كانت محاصرة من جهتي الشمال والغرب بأكبر إمبراطوريّتين عرفهما تأريخ تلك الفترة ، إمبراطوريّتان كانتا على جانب كبير من القوة والبأس والقدرة العسكرية المتفوّقة مما لم يتوصّل المسلمون إلى أقل درجة منها ... وتلك الامبراطوريّتان هما : الروم ، وإيران.

هذا من الخارج.

وأمّا من الداخل ، فقد كان الإسلام والمسلمون يعانون من جماعة المنافقين الذين كانوا يشكّلون العدوّ الداخلي المبطّن ( أو ما يسمى بالطابور الخامس ).

ولأجل أن نعرف مدى الخطر المتوجّه من هذه الجهات الثلاث على الاُمّة والدولة الإسلاميّة يجدر بنا أن ندرس كلّ واحدة منها بالتفصيل :

1. خطر إمبراطوريّة إيران

لقد كانت إيران إمبراطوريّةً ضخمةً ، ذات حضارة متقدمة زاهرة ، وذات سلطان عريض فرضته على عدد كبير من المستعمرات أحقاباً مديدةً من السنين ، ممّا أكسبت ملوكها وزعماءها روح التسلّط والسيطرة ، وأصبح من العسير أن يعترفوا بسيادة امّة طالما كانت تعيش تحت سلطانهم في العراق واليمن ، وهم الذين لم يعترفوا بالسيادة لأحد قروناً طويلةً ، فلأجل هذه الغطرسة والأنانية شمخ الامبراطور الفارسيّ (خسرو برويز ) بأنفه عندما أتته دعوة الرسول صلی اللّه علیه و آله فمزّق رسالته المباركة التي كتبها صلی اللّه علیه و آله يدعوه فيها إلى الإسلام وعبادة اللّه تعالى ... وكتب إلى عامله باليمن :

ص: 86

( ابعث إلى هذا الرجل بالحجاز [ ويعني الرسول ] رجلين من عندك جلدين فليأتياني به ) (1).

2. خطر الروم

كانت الامبراطوريّة البيزنطيّة تقع في شمال الجزيرة العربية ، وكانت تشغل بال النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله دائماً ، ولم يبارحه التفكير في خطرها حتى رحل إلى ربّه.

ولقد كان لهذا القلق مبرّره ، فإنّ هذه الامبراطورية على غرار الامبراطوريّة الإيرانية ، كانت ذات صفة توسّعيّة ، وكان قادتها يقمعون أي حركة ومحاولة من مستعمراتهم للخروج من فلكها.

ولقد وقعت بين هذه الامبراطوريّة وبين المسلمين اشتباكات عديدةً. وكان أوّل اشتباك مسلّح وأوّل صدام عسكريّ عنيف هو الذي وقع في السنة الثامنة من الهجرة ، وذلك عندما بعث النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله ( الحارث بن عمير الأزدي ) مع رسالة إلى ( الحارث بن أبي شمر الغساني ) يدعوه فيها وقومه إلى الإسلام ، فلمّا وصل إلى ( مؤتة ) تعرّض له ( شرحبيل بن عمرو الغساني ) ، وضرب عنقه (2).

ولمّا كان قتل الرسل أمراً ممنوعاً في جميع الحالات والظروف ، وكان يعني أعتداءً على الجهة المرسلة ، فإنّ هذا الفعل ( اعني قتل رسول النبيّ ) كشف عن استهانتهم بقوة الإسلام وأمره ، وعن تعصبهم ضدّه ، وعدم اعترافهم بكيانه السياسيّ ، وقد حملت هذه الاُمور النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله على ، أن يجهّز لهم جيشاً من ثلاثة آلاف مقاتل ، ويوجّهه إلى ( مؤتة ) وقد قتل في هذه الموقعة من اختارهم لقيادة الجيش وهم جعفر بن أبي طالب ، وزيد بن حارثة ، وعبد اللّه بن رواحة ، وأخذ اللواء بعدهم خالد بن الوليد ، ورجع الجيش الإسلاميّ من تلك الواقعة منهزماً أمام الجيش البيزنطيّ.

ص: 87


1- الكامل للجزري 2 : 145.
2- اُسد الغابة 1 : 341 - 342.

ولقد أثار إخفاق المسلمين وهزيمتهم في هذه المعركة ، واستشهاد القادة الثلاثة ، لوعةً ونقمةً في نفوس المسلمين اتّجاه الروم. كما أنّه زاد من جرأة جيوش الروم ، ولأجل ذلك توجّه الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله إلى تبوك في السنة التاسعة يقصد غزو ذلك الجيش المعادي ، ولكنّه لم يلق أحداً فأقام في تبوك أياماً ، وصالح أهلها على الجزية ، وقد حققت هذه الحملة هدفاً كبيراً وبعيداً على الصعيد السياسيّ وأنست تقهقر الجيش الإسلاميّ المحدود في طاقاته ، أمام جحافل الروم المجهّزة بأحسن تجهيز (1).

ولم يكتف النبيّ صلی اللّه علیه و آله بهذه الحملة ، بل عمد في أخريات حياته إلى بناء جيش إسلاميّ بقيادة ( أسامة بن زيد ) لمواجهة جيش الروم (2).

3. خطر المنافقين

إنّ الدارس للمجتمع الإسلاميّ إبّان الدعوة الإسلاميّة ، والمطّلع على تركيبته يجد ، أنّ ذلك المجتمع كان يزخر بوجود المنافقين بين صفوفه.

والمنافقون هم الذين استسلموا للمدّ الإسلاميّ وأسلموا بألسنتهم دون قلوبهم إمّا خوفاً أو طمعاً. فكانوا يتجاهرون بالولاء للإسلام والمودّة للمسلمين ، ولكنّهم يضمرون لهم كل سوء ويتحيّنون الفرص ، لتوجيه الضربات إلى الدين الجديد ، وضرب المسلمين بعضهم ببعض ، وإضعاف الدولة الإسلاميّة من الداخل بإثارة الفتن ، بين أفرادها وأبنائها ، والسعي لتمزيق صفوفهم وإشعال الحروب الداخليّة فيما بينهم بإيقاظ النخوة الجاهليّة التي طهّر الإسلام أرض الجزيرة منها.

وربّما كانوا يتربّصون بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله الدوائر ، حتّى أنّهم كادوا له ذات مرّة ، وأرادوا أن يجفلوا به بعيره في العقبة عند عودته من حجة الوداع ، وربّما اتّفقوا مع اليهود والمشركين لتوجيه الضربات إلى الكيان الإسلاميّ من الداخل تخلّصاً من هذا الدين الذي هدّد

ص: 88


1- السيرة النبويّة لابن هشام 2 : 515 - 529.
2- الملل والنحل 1 : 29 ( طبعة القاهرة ) ، الطبقات الكبرى 4 : 65 ، الكامل في التاريخ 2 : 215.

مصالحهم.

ولقد كان المنافقون ولايزالون أشدّ خطراً من أي شيء آخر على الإسلام وذلك ، لأنّهم كانوا يوجّهون ضرباتهم بصورة ماكرة وخفية ، وبنحو يخفى على العاديين من الناس (1).

وإليك طرفاً ممّا ذكره القرآن الكريم حولهم ، فهم متآمرون يبيّتون خلاف ما يظهرونه ويبدونه أما م النبيّ إذ يقول : ( وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ) ( النساء : 81 ).

وهم يريدون الشر للمسلمين دائماً ، ولذلك يذيعون الشائعات التي من شأنها إضعاف معنويات المسلمين إذ يقول عنهم : ( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ) ( النساء : 83 ).

وهم يريدون الفتنة دائماً ، لذلك يقلبون الوقائع ويخفون الحقائق كما يقول القرآن : ( لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ) ( التوبة : 48 ).

وهم لا يرتدعون عن أي عمل يحقّق مصالحهم وأغراضهم المضادّة للإسلام ، حتّى ولو كان بالتحالف مع المشركين والكفار ، بل حتّى ولو كان باعطاء الوعود الكاذبة لهم ، والتغرير بهم وخذلانهم عند اللقاء ، وعدم الوفاء بالوعد : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ) ( الحشر : 11 - 12 ).

ص: 89


1- لقد تصدّى القرآن الكريم ، لفضح المنافقين والتشهير بجماعتهم ، وخططهم ، الجهنّمية ضدّ الدين والنبيّ والاُمّة في أكثر السور القرآنيّة ، مثل البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والعنكبوت والأحزاب ومحمّد والفتح والمجادلة والحديد والحشر ، كما نزلت في حقّهم سورة خاصّة تسمّى بسورة المنافقين.

ولذلك ، شدّد القرآن الكريم في ذكر عذابهم أكثر من أي جماعة اخرى إذ يقول : ( إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) ( النساء : 145 ).

ويحدثنا التأريخ كيف لعب المنافقون دوراً خبيثاً ، وخطيراً في تعكير الصفو وإفساح المجال أمام أعداء الإسلام الأجانب - سواء قبل قوة الإسلام وبعدها - للمكر بالإسلام والكيد له ، والمؤامرة عليه ، بحيث لولا وجود النبيّ صلی اللّه علیه و آله لأتوا على ذلك الدين ، ولقضوا على كيانه وأطاحوا بصرحه ، وأطفأوا نوره.

وقد كان من المحتمل - بقوة - أن يتّحد هذا الثلاثي الخطر ( الفرس والروم والمنافقون ) لاكتساح الإسلام واجتثاث جذوره ، وخاصّة بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وغياب شخصه عن الساحة.

وكان من المحتمل جداً ، أن يتفق هذا الثلاثي - الناقم على الإسلام - على محو الدين ، وهدم كلّ ما بناه الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله طوال ثلاثة وعشرين عاماً من الجهود والمتاعب ، وتضييع كلّ ما قدّمه المسلمون من تضحيات في سبيل إقامته.

ج - العشائريّات تمنع من الاتّفاق على قائد

لقد كان من أبرز ما يتميّز به المجتمع العربيّ قبل الإسلام ، هو النظام القبلي ، والتقسيمات العشائرية التي كانت تحتلّ - في ذلك المجتمع - مكانةً كبرى ، وتتمتّع بأهمّية عظيمة.

فلقد كان شعب الجزيرة العربية ، غارقاً في هذا النظام الذي كان سائداً في كلّ أنحائها.

صحيح أنّ جميع القبائل العربية - آنذاك - كانت ترجع - في الأصل - إلى قبيلتي ، القحطانيين ( وهم اليمنيّون ) والعدنانيين ( وهم الحجازيّون ) ، إلاّ أنّ هذا التقسيم الثنائيّ قد تحوّل بمرور الزمن ، إلى تقسيمات كثيرة وعديدة ، حتّى أصبح من العسير ، إحصاء القبائل العربيّة وأفخاذها وفروعها وبطونها.

ص: 90

فمن يراجع الكتب التالية : ( بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب ) تأليف السيد محمود شكري الآلوسي ، و ( المفصّل في تأريخ العرب ) تأليف علي جواد ، الجزء (4) الفصل (46) ، و ( معجم قبائل العرب القديمة والحديثة ) تأليف عمر رضا كحالة الجزء (3). من يراجع هذه المؤلفات التي تشرح النظام القبليّ وأبعاده في المجتمع العربيّ قبل الإسلام ، يعرف - معرفةً كاملةً - مدى تغلغل وتوسّع النمط القبليّ عند العرب ، ومدى تأثير القبيلة وعدد بطونها وأفخاذها وفروعها ، تلك القبائل والأفخاذ والبطون التي كانت تبدأ أسماؤها - في الغالب - بلفظة ( آل ) مثل ، آل النعمان وآل جفنة ، أو لفظة ( بنو) ، كبني أشجع وبني بكر وبني تغلب ، أو كان يطلق على جميع أبنائها اسم الجدّ الأعلى للقبيلة مثل ، غطفان وخزاعة ( وهما - في الحقيقة - اسمان للجدود ولكنّهما اطلقا على القبيلة ).

ولقد كان للقبيلة أكبر الدور في الحياة العربية - قبل الإسلام - وعلى أساسها كانت تدور المفاخرات وتنشد القصائد ، وتبنى الأمجاد ، كما كانت هي ، منشأ أكثر الحروب وأغلب المنازعات التي ربّما كانت تستمرّ قرناً أو قرنين من الزمان ، كما حدث بين الأوس والخزرج ، أكبر قبيلتين عربيّتين في يثرب ( المدينة ) ، وكلّفهم آلاف القتلى قبل دخول النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى المدينة.

كما أنّ التأريخ يشهد لنا ، كيف كاد التنازع القبليّ في قضية بناء الكعبة الشريفة ووضع الحجر الأسود في موضعه أيام الجاهلية ، أن يؤدي إلى الاختلاف فالصراع الدموي ، والاقتتال المرير ، لولا تدخّل النبيّ صلی اللّه علیه و آله الذي حسم الأمر بطريقة أرضت جميع القبائل المتنافسة ، وأطفأت نار الفتنة التي كادت أن تأكل كلّ أخضر ويابس (1).

ونظراً لما كان يتمتع به رؤساء هذه القبائل من نفوذ ، وكانت تلك الجماعات تملك من قوّة ورابطة - في ذات الوقت - فقد سعى الرسول الأكرم - وبحكمة كبرى - أن

ص: 91


1- راجع السيرة النبويّة لابن هشام 1 : 196 تحت عنوان اختلاف قريش فيمن يضع الحجر ولعقة دم ، ومروج الذهب 2 : 278 تحت عنوان بناء قريش الكعبة واختلافهم في وضع الحجر الأسود وحكم النبيّ صلی اللّه علیه و آله فيهم.

يستفيد من قدرة تلك القبائل ونفوذ رؤسائها ، في إنجاح الدعوة الإسلامية وتقوية أركانها ، والتغلّب على أعدائها من الكفّار والمشركين وغيرهم من المعارضين.

إلاّ أنّ هذا النظام ( القبلي ) لما كان ينطوي عليه - في نفس الوقت - من سيئات جسيمة ، وتبعات لا يمكن التغاضي عنها ، ومنافاتها مع ما ينشده الإسلام ويدعو اليه من الوحدة والاتّحاد بين جميع أفراد المسلمين ، فقد سعى الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله في محو الروح القبلية ، وتذويب الفوارق العشائرية. وصهر تلك التجمّعات المتشتّتة المتباينة في بوتقة الإيمان الموحّد ، والصف الإسلامي الواحد ، ولكنّه صلی اللّه علیه و آله رغم ما أوجده في ضوء التعاليم الإسلامية من تحوّلات عظيمة في حياة العرب ، إلاّ أنّ أكثر هذه التحوّلات كانت تتعلّق بقضايا العقيدة ، والمسائل الأخلاقية والروابط الاجتماعية ... ولم يكن من الممكن أن ينقلب شكل النظام القبليّ العربيّ في خلال ( 23 عاماً ) ويتبدل كليةً. ويدلّ على ذلك ، وجود بقايا من هذا النظام في القسم الأكبر من شبه الجزيرة العربية مثل اليمن ونجد والحجاز ... و و.

إنّ اُصول هذه العشائر - في ابّان العهد الإسلاميّ - وإن كانت عبارةً عن حمير وكهلان وقضاعة ومضر وربيعة ، إلاّ أنّ هذه القبائل الأساسية تفرّعت وتشعّبت باستمرار ، إلى قبائل وأفخاذ وفروع ، وكان لكل قبيلة وفخذ منها شيخ ورئيس يرأس الجماعة وتكون له الكلمة والقيادة وتعطي له الإحترام والطاعة.

وقد كانت النفسيات والأخلاق العشائرية ، المتوغّلة في نفوسهم بحيث لم تنعدم انعداماً كلياً ، رغم ما تلقاه اُولئك من التعاليم الإسلاميّة والتربية القرآنية ، ولذلك كانت تظهر بين الفينة والاخرى ، وينشأ بسببها النزاع ويكاد يتوسّع لولا حكمة الرسول صلی اللّه علیه و آله وتدبيره.

فقد ذكر ابن هشام ، حادثةً عند عودة النبيّ والمسلمين من غزو بني المصطلق ، بدأت من قضية صغيرة وكادت أن تتطوّر إلى نزاع قبليّ واسع لولا تصرّف النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

قال : ( بينا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عائداً من غزو بني المصطلق وقد نزل عند ماء ، وردت

ص: 92

واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له : جهجاه بن مسعود يقود فرسه ، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهنيّ حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهنيّ : يا معشر الأنصار ، وصرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين (1) ، فغضب عبد اللّه بن أبي بن سلول وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم ، غلام حدث ، فقال : أو قد فعلوها ، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا ، واللّه ما أعدنا وجلابيب قريش [ أي من أسلم من المهاجرين ] إلاّ كما قال الأوّل : سمّن كلبك يأكلك ، أما واللّه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ ، ثم أقبل على من حضره من قومه ، فقال لهم : هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ، أما واللّه لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير داركم ، فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وذلك عند فراغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من عدوّه ، فأخبره الخبر ، وعنده عمر بن الخطاب فقال : مر به عباد بن بشر فليقتله ، فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أنّ محمّداً يقتل أصحابه ؟ لا ، ولكن أذّن بالرحيل ، وذلك في ساعة لم يكن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يرتحل فيها ... فارتحل الناس (2).

كما أنّ هناك حادثةً اخرى تدلّ على أنّ مادة الاختلاف كانت كامنةً في أعماقهم ، وكانت مستعدةً للإنفجار في كلّ لحظة ، وبأقل تحريك ، وإيقاد للعصبيات والرواسب القبليّة الجاهليّة.

فها هو ابن هشام ينقل : أنّ شأس بن قيس وكان شيخاً من اليهود قد أسنّ ، عظيم الكفر ، شديد الضغن على المسلمين ، شديد الحسد لهم ، مرّ ذات يوم على نفر من أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدّثون فيه ، فغاضه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام ، بعد الذي كان بينهم من

ص: 93


1- قال السهيليّ : ( لمّا سمع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هذه الكلمات قال : « دعوها فإنّها دعوة منتنة » يعني أنّها كلمة خبيثة لأنّها من دعوى الجاهليّة ، وجعل اللّه المؤمنين إخوةً وحزباً واحداً ، فإنّما ينبغي أن تكون الدعوة للمسلمين ).
2- السيرة النبويّة لابن هشام 2 : 290 - 291.

العداوة في الجاهلية. فقال : قد اجتمع ملأُ بني قيلة بهذه البلاد ... لا واللّه مالنا معهم إذا اجتمع ملأهم بها من قرار ، فأمر فتىً شابّاً من يهود كان معهم ، فقال : اعمد إليهم ، فاجلس معهم ، ثمّ اذكر يوم بعاث وما كان قبله ، وانشدهم بعض ما كانوا ما تقاولوا فيه من الأشعار.

وكان يوم بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج ، وكان الظفر فيه يومئذ للأوس على الخزرج ، وكان على الأوس يومئذ حضير بن سماك الأشهليّ ، أبو أسيد بن حضير ، وعلى الخزرج عمرو النعمان البياضيّ ، فقتلا جميعاً ..

قال ابن هشام : قال أبو قيس بن الأسلت :

على أن قد فجعت بذي حفاظ *** فعاودني له حزن رصين

فأما تقتلوه فإنّ عمراً *** أعض برأسه عضب سنين

وهذان البيتان في قصيدة له ، وحديث يوم بعاث أطول ممّا ذكرت.

قال ابن هشام : ففعل [ ذلك الشاب ما أراده شأس ] فتكلّم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتّى تواثب رجلان من الحييّن على الركب ، أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحارث من الأوس ، وجبّار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج ، فتقاولا ثمّ قال أحدهما لصاحبه ، إن شئتم رددناها الآن جذعة [ أي رددنا الآخر إلى أوّله وأعدنا الاقتتال والتنازع ] فغضب الفريقان جميعاً وقالوا : قد فعلنا ، موعدكم الظاهرة [ أي الحرّة ] السلاح السلاح فخرجوا إليها فبلغ ذلك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتّى جاءهم ، فقال : « يا معشر المسلمين ، اللّه اللّه أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم اللّه للإسلام ، وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، واستنقذكم به من الكفر ، وألّف به بين قلوبكم » فعرف القوم أنّها نزعة [ أي إفساد بين الناس ] من الشيطان وكيد من عدوّهم ، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً ، ثمّ انصرفوا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سامعين مطيعين ، قد أطفأ اللّه عنهم كيد عدوّ اللّه شأس بن قيس ، فأنزل اللّه تعالى في شأس بن قيس وما صنع : ( قُلْ يَا أَهْلَ

ص: 94

الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ( العمران : 98 - 99 ).

وأنزل اللّه في أوس بن قيظيّ وجبّار بن صخر ومن كان معهما من قومهما ، الذين صنعوا ما صنعوا عمّا أدخل عليهم شأس من أمر الجاهلية : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * إلى أخر قوله تعالى - وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( آل عمران : 100 - 105 ) (1).

وممّا يدلّ أيضاً على وجود رواسب الخلاف عند قبيلتي الأوس والخزرج حتّى بعد دخولهم في الإسلام ، وانضوائهم تحت لوائه في صف واحد ، ما نقله الشيخ البخاري في صحيحه ، في قصّة الإفك قال ، قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله وهو على المنبر : « يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي ، واللّه ما علمت على أهلي إلاّ خيراً ، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلاّ خيراً ، وما يدخل على أهلي إلاّ معي ».

قالت عائشة : فقام سعد بن معاذ (2) أخو بني عبد الأشهل فقال : أنا يا رسول اللّه أعذرك ، فإن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا.

قالت : فقام رجل من الخزرج وهوسعد بن عبادة وهو سيد الخزرج ، قالت : وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحميّة ، فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمرو اللّه لا تقتله ولا تقدر على قتله ، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل.

فقام أسيد بن حضير ، وهو ابن عمّ سعد [ بن معاذ ] ، فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمرو اللّه لنقتلنّه ، فإنّك منافق تجادل عن المنافقين.

ص: 95


1- السيرة النبويّة لابن هشام 1 : 555 - 557.
2- فيه تأمل ، فإنّ سعداً توفّي قبل غزو بني المصطلق.

قالت عائشة : فصار الحيّان ( الأوس والخزرج ) حتّى همّوا أن يقتتلوا ، ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قائم على المنبر.

قالت : فلم يزل رسول اللّه يخفّضهم ( أي يهدّئهم )حتّى سكتوا وسكت (1).

فكيف كان يجوز - والحال هذه - أن يترك الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله اُمّته المفطورة على العصبيّات القبليّة ، وعلى الاستئثار بالسلطة والزعامة وحرصها على النفس ، ورفض سلطة الآخر ؟

فهل كان يجوز للنبيّ أن يترك تعيين مصير الخلافة لتقوم به اُمّة هذه حالها ، وفي تعيينه قطع لدابر الاختلاف والفرقة ؟

وهل كان من المحتمل أن تتفق كلمة الاُمّة جمعاء على واحد ... ولا تخضع للرواسب القبليّة ولا تبرز إلى الوجود مرّة اخرى ما مضى من الصراعات والتطلّعات العشائرية ، وما يتبع ذلك من حزازات ؟

أم هل يصلح لقائد يهتمّ ببقاء دينه واُمّته أن يترك أكبر الاُمور وأعظمها ، وأشدّها دخالةً في حفظ الدين ، إلى اُمّة نشأت على الاختلاف ، وتربّت على الفرقة ، مع أنّه كان يرى الاختلاف منهم في حياته أحياناً أيضاً كما عرفت ؟

إنّ التأريخ يدلّ على أنّ هذا الأمر قد وقع فعلاً بعد وفاة النبيّ - في السقيفة التي سيأتي ذكرها مفصّلاً - حيث سارعت كلّ قبيلة إلى ترشيح نفسها للزعامة ، منتحلةً لنفسها حججاً وأعذاراً ... وطالبةً ما تريد بكلّ ثمن حتّى بتجاهل المبادئ وتناسي التعاليم الإسلاميّة ، والوصايا النبويّة.

فقد ذكر ابن هشام تحت عنوان « أمر سقيفة بني ساعدة ، تفرّق الكلمة » نقلاً عن عمر بن الخطاب ، ما يدلّ على اختلاف الكلمة وعدم الاتفاق على أحد :

قال عمر : لمّا جلسنا ( أي في سقيفة بني ساعدة ) قام واحد من الأنصار فأثنى

ص: 96


1- صحيح البخاري 5 : 119 باب غزو بني المصطلق.

على اللّه بما هو أهله ثمّ قال :

( أمّا بعد فنحن أنصار اللّه وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منّا ، وقد دفّت دافّة من قومكم ( أي جاء جماعة ببطء ) وإذا هم يريدون أن يحتازونا ( أي يدفعوننا ) من أصلنا ، ويغصبونا الأمر ).

... فقام أبو بكر وقال :

( أمّا ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ، ولن تعرف العرب هذا الأمر ( أي الزعامة ) إلاّ لهذا الحيّ من قريش ، هم أوسط العرب نسباً وداراً ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيّهما شئتم ) وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجّراح :

ثمّ قام وقال قائل من الأنصار ( أنا جذيلها المحكّك ، وعذيلها المرجّب ، منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ).

قال عمر بن الخطاب : ( فكثر اللغط ( أي اختلاف الأصوات ودخول بعضها على بعض ) ، وارتفعت الأصوات حتّى تخوّفت الاختلاف ) (1).

ولم يقتصر اختلاف الاُمّة على هذا الذي ذكرناه ، بل ظهرت مظاهر التشتت القبليّ حتّى بعد ما جرى في السقيفة من بيعة من فيها لأبي بكر ، حيث راح المهاجرون والأنصار يتهاجون فيما بينهم ، وجرت بينهم مشادات كلاميّة وشعريّة هجائيّة ، هاجم فيها كلّ فريق الفريق الآخر بأشدّ أنواع الهجاء نقلها المؤرّخون ونذكر منها شيئاً :

فقد جاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد نقلاً عن كتاب الموفّقيّات : لمّا بويع أبو بكر ... وراح أبو سفيان بن حرب يدّعي الفضل لقريش ويذكر اُموراً في هذا المجال ، قال حسّان بن ثابت :

تنادى سهيل وابن حرب وحارث *** وعكرمة الشاني لنا ابن أبي جهل

قتلنا أباه وانتزعنا سلاحه *** فأصبح بالبطحا أذلّ من النعل

ص: 97


1- السيرة النبويّة لابن هشام 2 : 659 - 660.

فأمّا سهيل فاحتواه ابن دخشم *** أسيراً ذليلاً لا يمرّ ولا يحلي

وصخر بن حرب قد قتلنا رجاله *** غداة لوا بدر فمرجله يغلي

اولئك رهط من قريش تبايعوا *** على خطّة ليست من الخطط الفضل

وأعجب منهم قابلوا ذاك منهم *** كأنّا اشتملنا من قريش على ذحل

وكلّهم ثان عن الحقّ عطفه *** يقول اقتلوا الأنصار بئس من فعل

نصرنا وآوينا النبيّ ولم نخف *** صروف الليالي والبلاء على رجل

بذلنا لهم أنصاف مال أكفّنا *** كقسمة أيسار الجزور من الفضل

ونحمي ذمار الحيّ فهو بن مالك *** ونوقد نار الحرب بالحطب الجزل

فكان جزاء الفضل منّا عليهم *** جهالتهم حمقاً وما ذاك بالعدل

فبلغ شعر حسّان قريشاً ، فغضبوا وأمروا أبي عزّة شاعرهم أن يجيبه ، فقال :

معشر الأنصار خافوا ربّكم *** واستحيروا اللّه من شّر الفتن

إنّني أرهب حرباً لاقحاً *** يشرق المرضع فيها باللبن

جرّها سعد وسعد فتنة *** ليت سعد بن عبّاد لم يكن

خلف برهوت خفيّاً شخصه *** بين بصرى ذي رعين وجدن

ليس ما قدّر سعد كائناً *** ما جرى البحر وما دام حضن

ليس بالقاطع منّا شعرةً *** كيف يرجى خير أمر لم يحن

ليس بالمدرك منها أبداً *** غير أضغاث أماني الوسن

واتّفق أن اجتمع الأنصار والمهاجرين في مجلس ، فأفاضوا الحديث عن يوم السقيفة ، فقال عمرو بن العاص : واللّه لقد دفع اللّه عنّا من الأنصار عظيمةً ، ولما دفع اللّه عنهم أعظم ، كادوا واللّه أن يحلّوا حبل الإسلام كما قاتلوا عليه ، ويخرجوا منه من أدخلوا فيه ؟ ولقد قاتلونا أمس فغلبونا ، ولو قاتلناهم اليوم لغلبناهم على العاقبة ، فلم يجبه أحد وانصرف إلى منزله وقد ظفر فقال :

ص: 98

ألا قل لأوس إذا جئتها *** وقل إذا ما جئت للخزرج

تمنّيتم الملك في يثرب *** فأنزلت القدر لم تنضج

إلى آخر الأبيات.

فلمّا بلغ الأنصار مقالته وشعره ، بعثوا إليه لسانهم وشاعرهم النعمان بن العجلان فقال لعمرو وهو في جماعة من قريش : ( واللّه يا عمرو ما كرهتم من حربنا إلاّ ما كرهنا من حربكم ، وما كان اللّهليخرجكم من الإسلام بمن أدخلكم فيه ، إن كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « الأئمّة من قريش » فقد قال : « لو سلك النّاس شعباً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار » فأمّا المهاجرون والأنصار فلا فرق بينهم ، ولكنّك وترت بني عبد مناف بمسيرك إلى الحبشة ، لقتل جعفر وأصحابه ، ووترت بني مخزوم بإهلاك عمارة بن الوليد ).

ثمّ أنشد أبياتاً يمتدح فيها قومه الأنصار ويهجو المهاجرين.

فلمّا انتهى شعر النعمان وكلامه إلى قريش غضب كثير منهم.

وقد طالت المماحكات والمشاجرات الكلاميّة وطال التهاجي الحاد بين الصحابة ... حتّى قال أحدهم :

أيال قريش أصلحوا ذات بيننا *** وبينكم قد طال حبل التماحك

فلا خير فيكم بعدنا فارفقوا بنا *** ولا خير فينا بعد فهر بن مالك

فلا تذكروا ما كان منّا ومنكم *** ففي ذكر ما قد كان مشيُ التساوك (1)

إنّ ما نقلناه لك هنا ، هو غيض من فيض ممّا جرى بين صحابة الرسول صلی اللّه علیه و آله من المنازعات والاختلافات في مسألة القيادة ، فهل كان يجوز ترك مثل هذا المجتمع غير المتّفق في تطلعاته وآرائه دون نصب قائد يكون نصبه قاطعاً لدابر الاختلاف ومانعاً من مأساة التمزّق والتقاطع والفرقة ؟.

* * *

ص: 99


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6 : 17 - 38 ( طبعة مصر ).

تلك محاسبات عقليّة واجتماعيّة من واقع المجتمع الإسلاميّ الأوّل ، تدلّنا على أنّ الحقّ في مسألة القيادة في المجتمع الإسلاميّ بعد وفاة الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله هو أن يستخلف صلی اللّه علیه و آله ( قائداً ) للاُمّة ، وراعياً لمصالحها وشؤونها ، لما في نفس التنصيب من مصلحة وقطع دابر الاختلاف.

فمثل هذه المحاسبات ، تمنع القائد الحكيم أن يترك الاُمّة من بعده من دون أن يعيّن لها قيادةً تحافظ على الكيان الإسلاميّ الناشيء من الأخطار المحدقة به ، وتقود الاُمّة الإسلاميّة الفتية في الطريق الشائك إلى الهدف المرسوم لها ، والغاية المطلوبة.

إنّ القائد الحكيم ، والرئيس المحنّك هو من يعتبر بالأوضاع الاجتماعيّة لاُمّتة والظروف المحيطة بها ، ويأخذ بنظر الاعتبار ما يمكن أنّ يحدث لها جرّاء غيبته ووفاته ، ثمّ يرسم على ضوء تلك الظروف والأحوال ، والتوقّعات والمحاسبات ما يراه صالحاً للاُمّة ولمستقبلها ، وأهم تلك الاُمور هو تعيين القائد لها ، والمدير لشؤونها من بعده.

إنّ أوضاع المسلمين آنذاك ، والظروف الحرجة المحيطة بهم ، كانت تقتضي أن لا يدع النبيّ صلی اللّه علیه و آله تلك الاُمّة الحديثة العهد بالإسلام وتلك الدولة الفتية الجديدة البنيان ، لآراء الاُمّة وإرادتها لتختار هي بنفسها قائدها ورئيسها ، وهي في خضمّ تلك الأخطار ، والظروف الحسّاسة البالغة الخطورة ، إذ ربمّا كانت تبتلي - في ذلك الأمر - بالخلاف الذريع ، والفرقة الكبيرة ، فتسهل للخصم سبيل السيطرة عليها وتمكّنه من مؤامراته ونواياه.

إنّ عدم بلوغ الاُمّة الإسلاميّة حدّ الاكتفاء الذاتيّ في القيادة والادارة ، مع الأخذ بنظر الاعتبار الأخطار التي كانت تحدق بها ، والرواسب القبليّة الجاهليّة ، وعدم قدرتها على التغلّب على كلّ ذلك لوحدها ، كانت توجب على النبيّ صلی اللّه علیه و آله بحكم العقل السليم ، أن ينصّب للاُمّة قائداً يدبّر شؤونها ويجمع شتاتها ويحافظ على وحدتها ، ويقود سفينتها إلى شاطيء الأمن والدعة والسلام.

ص: 100

ماذا يُراد من الخلافة عن رسول اللّه ؟

إنّ الإمامة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والخلافة عنه تتصوّر بمعنيين :

الأوّل : أنّها إمرة إلهيّة واستمراراً لوظائف النبوّة كلّها سوى تحمّل الوحي الإلهيّ ، وهذا ما تعتقده الشيعة الإماميّة في الإمامة والخلافة ، ويشترط فيه كلّ ما يشترط في النبي صلی اللّه علیه و آله إلاّ ما استثني.

الثاني : أن تكون رئاسةً دينيّةً لتنظيم اُمور الاُمّة ، من تدبير الجيوش وسدّ الثغور وردع الظالم والأخذ للمظلوم وإقامة الحدود وقسم الفيء بين المسلمين وقيادتهم في حجّهم وغزوهم (1). وهذا ما يعتقده اخواننا أهل السنّة في الخلافة ، ولأجل ذلك لا يشترط فيها نبوغ في العلم زائداً على علم الرعيّة ، بل هو والاُمّة في علم الشريعة سيّان ، كما لا يشترط سائر الصفات سوى القدرة على التدبير.

فلو كانت الخلافة بالمعنى الثاني الذي اختاره إخواننا أهل السّنّة ، فيكفي في لزوم نصب الإمام ما مرّ في البحث السابق.

وأمّا إذا قلنا بما اختاره الشيعة الإماميّة ، فيجب أن يكون الإمام ذات صفات وملكات يملأُ بها كلّ الفراغات الحاصلة بوفاة النبيّ ، والإمام بهذه الخصائص يحتاج إلى تربية إلهيّة كما في النبيّ صلی اللّه علیه و آله ولا يعرف تلك الشخصيّة مع ما تتصف به من الصفات إلاّ اللّه سبحانه ، فيجب أن يعرّفها إلى الاُمّة وإلاّ جهلها الناسن ويلزم نقض الغرض.

ولأجل الاختلاف في معنى الإمامة ، عقدنا هذا البحث وفصلناه عن البحث السابق.

ص: 101


1- وقد أجمل الماورديّ مسؤوليّات الإمام في عشرة ، لاحظ الأحكام السلطانيّة : 15 - 16.

الطريق الثاني: وفاة النبيّ والفراغات الهائلة

اشارة

2

1. الفراغ في بيان الحلول التشريعية للمشكلات الجديدة.

2. الفراغ في تفسير القرآن الكريم وشرح مقاصده.

3. الفراغ في مواصلة تكميل الاُمّة روحياً ونفسياً.

4. الفراغ في مجال الردّ على الأسئلة والشبهات.

5. الفراغ في صيانة الدين من محاولات التحريف.

دراسة الفراغات لماذا ؟

اشارة

إنّ دراسة الفراغات الهائلة المذكورة والحاصلة بوفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله والوقوف على كيفيّة سدّها بعده ، تعيننا على معرفة لون الحكومة الإسلاميّة - بعده -.

وعلى القارئ ، أن يتأمّل في هذه النقاط الحساسة ، بتجرّد وموضوعية ، حتّى يقف على ضالّته المنشودة.

لا شكّ أنّ وجود النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله كان يملأُ فراغاً كبيراً وعظيماً في حياة الاُمّة الإسلاميّة.

فالرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله لم تقتصر مسؤوليّاته وأعماله على تلقيّ الوحي الإلهيّ وتبليغ الرسالة الإلهيّة إلى الناس ، بل كانت تتجاوز ذلك بكثير.

ص: 102

فقد كان النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله يقوم ب :

1. بيان الأحكام الإسلاميّة من كليات وجزئيات.

2. تفسير الكتاب العزيز وشرح مقاصده وبيان أهدافه ، وكشف رموزه وأسراره.

3. دفع اُمّته - بحسن قيادته ودرايته - في طريق الكمال والرّقيّ والتقدّم. وتربية المسلمين ، وتهذيبهم وتزكيتهم وتخليص نفوسهم من شوائب الشرك والكفر والجاهلية ، وإعداد المسلم القرآني الكامل.

4. الردّ على الشبهات والتشكيكات التي كان يلقيها أعداء الإسلام ، ويوجّهونها ضد الدعوة الإسلاميّة.

5. صون الدين الإسلاميّ والرسالة الإلهيّة من أيّة محاولة تحريفية ... ومن أي دس في التعاليم المقدّسة.

وقد كانت كلّ هذه الاُمور تعتمد بالإضافة إلى ( الوحي ) إلى قدرات نفسيّة عالية ، وقابليات فكريّة هائلة ، ومعنويّات خاصّة تؤهّل النبيّ صلی اللّه علیه و آله للقيام بكلّ تلك المهام الجسيمة ، والاضطلاع بجميع تلك المسؤوليات الكبرى.

ولا ريب أنّ من كان يقوم بمثل هذه المسؤوليات ، يعتبر فقده وغيابه من الساحة ملازماً لحدوث فراغ هائل في الحياة الاجتماعيّة ، وثغرة كبرى في القيادة لا يسدّها إلاّ من يقوم مقام النبيّ صلی اللّه علیه و آله في القدرة القياديّة ، والإداريّة ، ويتمتّع بكلّ تلك الكفاءات الذاتيّة ، ويتحلّى بجميع تلك الصفات النفسية العليا ، والمؤهّلات الفكريّة والعلميّة والسياسيّة ، ما عدا خصيصة النبوّة وتلقّي الوحي.

ولمّا كانت هذه الكفاءات النفسيّة والمؤهّلات المعنويّة من الاُمور الباطنيّة الخفيّة التي لا يمكن الوقوف عليها ومعرفتها إلاّ بتعريف من اللّه تعالى وتعيينه وتشخيصه.

كما أنّها لمّا كانت لا تحصل للشخص بطريق عاديّ وبالتربية البشريّة المتعارفة بل لابدّ من اعداد إلهيّ خاص ، وتربية إلهيّة خاصّة ، ينطرح هذا السؤال :

ص: 103

هل كان يمكن للاُمّة أن تتعرفّ بنفسها على هذا الشخص ... وتكتشف من تتوفر فيه تلك المؤهّلات والكفاءات الخفيّة بالطرق العاديّة ؟ أو كان يحتاج ذلك إلى تشخيص اللّه تعالى ، وتعيينه وتنصيبه ؟.

ولو قلت : إنّ رحيل النبيّ صلی اللّه علیه و آله يوجد فراغاً في الرسالة واستمرار الوحي فكيف يمكن سد هذا الفراغ ؟ أو هل يمكن ملؤه أيضاً ؟.

قلنا : إنّ خصيصة الخاتميّة التي أخبر عنها القرآن الكريم ، واتّصفت بها النبوّة المحمّديّة ، تخبر عن عدم حصول مثل هذا الفراغ ، وعدم احتياج الاُمّة إلى تتابع الرسالات واستمرار الوحي ، والاتصال السماويّ بالأرض ، لأنّ الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله جاء بأكمل الشرائع وأتمّها ، وأوفاها بحاجات البشريّة.

وبعبارة اخرى ، إنّ الرسول الخاتم قد أتى بكلّ ما تحتاج إليه البشريّة من تشريعات للحاجات الفعليّة ، ومن اُصول للتشريعات اللازمة للحاجات المستجدّة فلا توجد وفاة الرسول فراغاً في ذلك الجانب ، وإنّما الفراغ هو في الجوانب القياديّة الخمس المذكورة ، التي تحتاج إلى الكفاءات والمؤهّلات الذاتيّة والنفسيّة التي كان يتمتّع بها الرسول القائد صلی اللّه علیه و آله .

إنّ الوجوه التي تدلّ بصراحة كافية على أنّ الاُمّة الإسلاميّة لم يكن في مقدورها اختيار ومعرفة القائد المناسب الذي يخلّف الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله ويقود الاُمّة بنفس المؤهّلات والكفاءات التي كان يتحلّى بها النبيّ الراحل - ما عدا الوحي - بل كان يجب تعريفه من جانب اللّه سبحانه ، وتعيينه ونصبه لقيادة الاُمّة وسدّ ما حدث - بوفاة النبيّ القائد المعلّم - من فراغ بل فراغات ..

إنّ هذه الوجوه هي :

1. الفراغ في مجال الحلول التشريعية للمشكلات الجديدة
اشارة

لا شكّ أنّ الوحي الإلهيّ انقطع بوفاة الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله كما لا شكّ أنّ

ص: 104

الرسول صلی اللّه علیه و آله التحق بربه وقد أدّى ما عليه من مهمّة التبليغ والدعوة خير أداء ، وقام بتثقيف الاُمّة الإسلاميّة أفضل قيام ، ولكن الاُمّة كانت تعاني - بعد وفاة النبيّ - من مشكلات كبيرة تشريعيّة بالنسبة للحوادث المستجدّة والوقائع الجديدة ، فماذا كان السبب ؟ فهل كان هناك نقص في التشريع الإسلاميّ ، أم كان هناك أمر آخر يتعلّق بالاُمّة نفسها ؟.

وبعبارة اخرى : إنّ القرآن الكريم والسنّة المطهّرة أعلنا من جانب عن إكمال الشريعة وأنّه ما من شيء تحتاج إليه الاُمّة إلاّ وقد جاء به الكتاب والسنّة ، وبيّنه وأتمّه النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

وهذا ممّا لا يشكّ فيه أحد من المسلمين ، خصوصاً بعد القول بخاتميّة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وانسداد باب الوحي الإلهيّ.

ومن جانب آخر ، نرى بأن الاُمّة الإسلاميّة فوجئت بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله بحوادث جمّة لم تجد لها حلولاً في الكتاب والسنّة ، وقد اعترفت بذلك أتم اعتراف.

فكيف يمكن الجمع بين الأمرين والتوفيق بينهما ؟.

إنّ الذي تدلّ عليه الشواهد التأريخية ، هو أنّ المسلمين لم يستطيعوا - رغم ما بذله الرسول الأكرم من جهود كبرى في فترة رسالته - أن يستوعبوا التربية العلميّة الكافية والتعبئة الفكريّة اللازمة التي تؤهّلهم لمواجهة جميع المفاجئات ، وحلّ جميع المشكلات والمسائل المستجدّة بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وذلك لأنّ مثل هذه التربية الكافية ، وهذه التعبئة الوافية بالحاجة والحاجات المستجدّة كانت تتطلّب فترة طويلة ، وجوّاً من الطمأنينة ، وتركيزاً شديداً.

ولكن هذه الظروف والشرائط المساعدة لم تتوفّر لا للمسلمين ، ولا للنبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله خلال مدّة الدعوة التي استغرقت 23 عاماً.

وإليك فيما يأتي تفصيل العوامل التي حالت دون أن يستوعب المسلمون جميع أبعاد الشريعة ، ويتلقّوا عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله التعبئة الفكرية الكافية والتعليم الواسع ، رغم

ص: 105

ما بذله صلی اللّه علیه و آله في سبيل تحقيق ذلك من جانبه :

(أ) : لقد قضى الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله الفترة المكّيّة من حياته الرسالية - التي استغرقت 13 عاماً كاملة - في دعوة المشركين في مكّة ، وما حولها. تلك الدعوة الرفيقة الرحيمة المخلصة التي كانت تقابل بالعناد واللجاج منهم ، وتواجه بالمضايقات وخلق الصعوبات.

وحتّى لو تمكّن الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله من إحراز بعض النجاح في مهمّته فإنّ عناد المشركين والوثنيين يجعل تلك النتائج قليلة وضئيلة ... واستمر هذا الحال في مكّة حتّى انتهى إلى محاولة اغتيال الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله والقضاء على حياته الشريفة - في فراشه - ، وكانت الهجرة المباركة إلى يثرب ( المدينة ).

إنّ تركيز الدعوة في مكّة على الجوانب الاعتقادية لم يسمح بالتكلّم عن القوانين العباديّة والاجتماعيّة ، والسياسيّة ... هذا مضافاً إلى أنّ التحدّث عن هذه الجوانب والمسائل التي تتعلّق بالنظام الاجتماعيّ في ذلك الجوّ الخانق ، ومع تلك العقول البدائيّة ، والنفوس غير المستعدّة ، كان بعيداً عن مقتضى البلاغة ، التي تقتضي أن يكون لكلّ مقام مقال ولكلّ مقال مقام.

لأجل ذلك نجد أنّ الآيات التي نزلت في مكّة تدور - في الأغلب - حول قضايا التوحيد والمعاد وإبطال الشرك ومقارعة الوثنيّة وغيرها من القضايا الاعتقاديّة الكليّة ، حتّى صار أكثر المفسّرين يعرف الآيات المكّية والمدنيّة ويميّز بينهما بهذا المعيار.

وأمّا في الفترة المدنيّة التي استقبل فيها أهل المدينة رسول الإسلام بحفاوة بالغة وشوق كبير ، فقد تمكّن الرسول الأكرم - بعد أن وجد بعض الأجواء المناسبة للتربية والتعليم - أن يبيّن للاُمّة بعض أحكام الإسلام ويطبق قسماً منها ، ويعرّف الناس بواجباتهم وحقوقهم ، وما يجب أن يعرفوه من مسائل الحلال والحرام.

غير أنّ حياة الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله في المدينة لم تسلم ولم تخل هي أيضاً من مزاحمة

ص: 106

المشاكل الكثيرة ، فقد أثار تمركز المسلمين في يثرب ، وتعالي شوكتهم ، وتعاظم أمر الرسالة الإسلاميّة حفيظة الكفّار والمشركين ، وخوفهم وقلقهم من مستقبل الأمر ، ودفعهم ذلك إلى التعرّض للرسول والمسلمين في المدينة اكثر من مرة.

وهذه الحملات والتحرشات وإن كانت تواجه موقفاً شجاعاً وقوياً من المسلمين بقيادة الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله وكانت تعود في كل مرة بالويل والخيبة على أصحابها ، كما تشهد بذلك وقائع بدر وأحد والأحزاب وغيرها ، إلاّ أنهّا كانت - ولا شكّ - تأخذ الكثير الكثير من أهتمام الرسول ووقته الذي كان يصرفه إلى تجهيز المسلمين وتهيئتهم لصد العدوان ، ومواجهة الأعداء أو إبطال المؤامرات التي كانت تبيّت ضدّ الدولة الإسلاميّة الفتيّة ، الحديثة التأسيس في المدينة المنوّرة.

هذا إلى جانب المشاكل الداخلية التي كان يثيرها المنافقون واليهود الذين كانوا - كما قلنا - بمثابة الطابور الخامس ، وكان لهم دور كبير في إثارة البلبلة في صفوف المسلمين ، وخلق المتاعب للقيادة من الداخل ، وكانوا بذلك يفوّتون الكثير من الوقت الذي كان يمكن أن يصرف على تربية المسلمين وتعبئتهم الفكريّة واعدادهم العلميّ ، وتعليمهم ما يعينهم على حلّ كلّ ما قد يطرأ على حياتهم ويستجدّ من مشكلات ومسائل وحوادث في المستقبل.

إنّ اشتراك النبيّ في (27) غزوة ، كان البعض منها يستغرق أكثر من شهر ، والاشتغال ببعث وتسيير ما يقارب (55) سرّية لقمع المؤمرات وإبطالها ، وصدّ التحركات العدوانيّة.

وبالتالي ، أنّ ماصرفه الرسول القائد في مواجهة المثلّث التآمري ( اليهود - المنافقون - المشركون ) اخذ من وقت الرسول صلی اللّه علیه و آله واهتمامه وجهده ما لو اتيح له أن يصرفه على تعبئة المسلمين علميّاً ، وتربيتهم فكرياً ، لأتى بثمار كبيرة وكثيرة.

على أنّ الوظائف المهمة التي كان يضطلع بها النبيّ صلی اللّه علیه و آله ويقوم بها بنفسه لم تقتصر على هذه الاُمور ، بل كانت تقع على كاهله مهمّة : ( عقد الاتفاقيّات السياسيّة

ص: 107

والمواثيق العسكريّة الهامّة ) التي يزخر بها تأريخ الدعوة الإسلاميّة (1).

مثل هذه الحياة الحافلة بالأحداث والوقائع ، الزاخرة بالصعوبات والمتاعب ، كانت تحمل المسلمين من جانب آخر على صرف جلّ اهتمامهم وأوقاتهم في مسألة الدفاع عن حياض الإسلام ، وحياة الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله فإذا ما تيسّر لهم بعض الفرصة والفراغ ، وانصرفوا إلى تعلّم الأحكام والقوانين الإسلاميّة ، إذا بحوادث جديدة تستقطب اهتمامهم ، وتسلب منهم فرصة الأخذ ، والتعلّم الواسع من النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله .

وخاصّة إذا عرفنا أنّ أوضاع المسلمين وإمكاناتهم البشريّة وعددهم لم يبلغ حدّاً يسمح بأن تتفرّغ كل جماعة منهم لعمل خاصّ ، جماعة للدفاع وجماعة للزراعة ، وجماعة للتعلّم والتفقّه ، ولكن كان الجميع جنوداً عند تعرّض البلاد لهجوم الأعداء ، فإذا فرغوا من الحرب انصرفوا - بعض الوقت - إلى الزراعة أو التعلّم ، أو التكسّب والتجارة.

(ب) : لقد كان التشريع الإسلاميّ يشقّ طريقه نحو التكامل بصورة تدريجية ، لأنّ حدوث الوقائع والحاجات الاجتماعيّة في عهد الرسول الأكرم ، وما كانت تثيره من أسئلة وتتطلّب من حلول هي التي كانت توجب نزول التشريع عن طريق الوحي الإلهيّ ، وبهذه الصورة كان التشريع الإسلاميّ يتكامل ، ويتخذ صيغته الكاملة.

وهذا هو شأن كلّ تشريع ، فلا يمكن أن يكون القانون وليد لحظة واحدة من الزمان أو مقتضيات يوم واحد ، بل يكون وقوع الحوادث والوقائع هو السبب في اتّساع دائرة القانون وتكامله.

ثمّ إنّ تكامل التشريع الإسلاميّ ليس بالمعنى المتبادر في التشريعات البشريّة المتكاملة تدريجياً.

فإنّ الباعث على التدرّج في التشريعات ( الوضعيّة ) هو عدم علم المشرّع بما سيحدث ، وأمّا التشريع الإسلاميّ فالمشرع فيه هو اللّه سبحانه وهوعالم بمقتضيات الأحكام ومصالحها وملابساتها وما يوجب النسخ والتخصيص فيكون معنى التكامل

ص: 108


1- راجع كتاب الوثائق السياسيّة للبروفسور محمّد حميد اللّه. ومكاتيب الرسول للعلاّمة الأحمدي.

التشريعيّ في الإسلام ، هو التكامل في البيان والتدريج في النزول ، لأجل أنّ بيان الأحكام لا يصحّ إلاّ بعد وجود مقتضيات وشروط في نفس المجتمع.

أضف إلى ذلك ، أنّ التدريج في البيان والنزول إذا كان متّصلاً بالواقعة الخاصّة التي نزل في حقّها القرآن يكون أوقع في النفوس وأقرب إلى الحفظ ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ) ( الفرقان : 32 ) وقوله سبحانه : ( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ) ( الاسراء : 106 ).

هذا مضافاً إلى ناحية خاصّة بالمجتمع المدنيّ في عهد الرسول كانت تستوجب هذا التدرج ، وهو كون ذلك المجتمع فاقداً لأيّ قانون اجتماعيّ وأخلاقيّ ، فكان تعليمه جميع القوانين الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة دفعةً واحدةً ، أو في فترة قصيرة ، أمراً يكاد يكون مستحيلاً حتّى لو خلت حياة النبيّ صلی اللّه علیه و آله من المشاكل والمتاعب التي مرّ ذكرها.

وقد كان ذلك عاملاً من عوامل عدم قدرة الاُمّة على استيعاب كلّ معالم الشريعة وأبعادها وتفاصيلها وتفريعاتها ، وأخذها من النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله .

ثمّ إنّ اُموراً وأسباباً عديدةً اخرى كانت تقتضي التدرّج في نزول القرآن الكريم إلى جانب ما ذكرناه ، ويمكن تلخيصها فيما يلي :

1. تثبيت فؤاد النبيّ

إنّ النبيّ إذ كان يتحمّل مسؤوليةً ضخمةً جداً وكان يواجه في هذا السبيل صعوبات ومشقّات صعبة جدّاً ، كان لابدّ له من إمداد غيبيّ مستمرّ غير منقطع ونجدة إلهيّة متّصلة ، ولهذا كان نزول جبرائيل المتكرر موجباً لتسليته وتقويته الروحيّة وإلى هذا أشار القرآن إذ قال : ( كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ) ( الفرقان : 32 ).

ص: 109

2. تسهيل عملية التعليم

إنّ صعوبة مهمّة التعليم كانت تقتضي أن يتنزّل القرآن شيئاً فشيئاً ، ليسهل تعليمه للناس وإلقاؤه إليهم.

كيف لا ، والنبيّ طبيب يعالج النفوس ، ويداوي الأرواح وذلك يقتضي التدرّج في العلاج كما يفعل المداوون.

3. بيان الميزة التطبيقيّة للقرآن

إنّ القوانين التي تسنّ طبقاً للحاجات ، وعند ظهور المشكلات ، تكون أقرب إلى النتيجة المطلوبة منها فيما لو سنّت جملةً في وقت واحد.

ولهذا ، كانت الآيات القرانية تتنزّل وفقاً للحاجات وتبعاً للحوادث التي كانت تقع شيئاً فشيئاً ، فيأخذ بها المسلمون ويعالجون بها مشكلاتهم فيشاهدون النتائج العمليّة الطيّبة ، فبسببها تزداد ثقتهم بالوحي ويزداد تعلقّهم به.

وبهذا كان القرآن يحقّق نجاحات كبيرةً في النفوذ إلى القلوب والأعماق لأنّه كان يقرن العلم بالعمل ، ويلبّي الحاجات الفكريّة والحياتية ... وهي أفضل وسيلة للتأثير في القلوب.

4. تعدّد الاحتجاجات

إنّ قسماً كبيراً من الآيات القرآنية كانت تتنزّل على النبيّ في مقام الاحتجاج على طوائف اليهود والنصارى ، الذين كانوا يتوافدون على النبيّ بين فينة وأخرى ، فكان طبيعياً أن تنزل الآيات في أوقات متعدّدة وأزمنة متفاوتة.

5. التدليل على صدق الرسالة
اشارة

إنّ التدرّج في التنزيل كان أحد الأدلة الساطعة على صدق هذا الكتاب في

ص: 110

انتسابه إلى اللّه ، وكونه وحياً سماوياً وليس تأليفاً بشريّاً ... إذ أنّ نزول الآيات في مواسم وأشهر وأعوام متفاوتة مع حفظ النمط الخاصّ بها ، ورغم ما تعرّض له الرسول في حياته الرسالية من شدّة ورخاء ، وعسر ويسر ، وهدوء واضطراب ، وسلم وحرب ، كان خير دليل على أنّ هذا الكلام لم يكن إلاّ وحياً يوحى إليه من إله قادر حكيم ، وخالق عليّ عليم ... فكان ذلك أظهر لعظمة القرآن ، وأقوى دليل على إعجازه.

* * *

(ج) : إنّ اتساع رقعة الدولة الإسلاميّة ، ومخالطة المسلمين للشعوب والأقوام المختلفة بسبب الفتوحات المتتالية التي قام بها المسلمون ، جعلهم أمام مشاكل مستجدّة ومسائل مستحدثة لم تكن معهودةً ولا معروفةً في عهد النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله الذي لم تكن فيه الدولة الإسلاميّة قد توسعت كما توسعت بعد وفاته والتحاقه بالرفيق الأعلى.

فهل كان من الصحيح - والحال هذه - أنّ يبيّن الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله للناس ، حلولاً لمشاكل لم تحدث بعد ، ويتحدث عن موضوعات لم يعرفوا شيئاً عن ماهيتها وتفاصيلها ، ولم يشهدوا لها نظيراً في حياة الرسول صلی اللّه علیه و آله وانّما كانت تحدث بصورة طبيعية فيما بعد ؟.

ألم يكن بيان تلك الأحكام والحلول لتلك الموضوعات المستقبلية المجهولة عملاً غير مفيد ، بل أمراً صعباً للغاية ، لأنّه لم يكن في وسع المسلمين أنّ يدركوا معناه وهم لم يعرفوها عن كثب ولم يعرفوا لها أي مثيل ونظير ؟.

وهكذا لم يتسنّ للمسلمين أنّ يتعرّفوا على كلّ شيء فيما يتعلق بالحوادث والموضوعات الواقعة في المستقبل ، ولذلك كانوا يجهلون الكثير من الأحكام المتعلّقة بها ، والحلول اللازمة لها.

هذه كانت أهم العوامل التي حالت دون أن يستطيع المسلمين استيعاب كافة التعاليم والأحكام الإسلاميّة من النبيّ الكريم صلی اللّه علیه و آله .

فلم يكن ما وعوه منه صلی اللّه علیه و آله وافياً بالحاجات المستجدة ... وهذا ما يلمسه كلّ من درس تأريخ الاُمّة الإسلاميّة في الصدر الأوّل ... وستقف على نماذج من هذه الحاجات

ص: 111

التي لم يجد فيها المسلمون الأجوبة فيما لديهم من تشريع.

هذا من جانب.

ومن جانب آخر أنّ القرآن الكريم يصرّح في غاية الوضوح بأنّ اللّه سبحانه أكمل دينه بنبيّه صلی اللّه علیه و آله إذ يقول سبحانه : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) ( المائدة : 3 ).

كما يصرّح النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله بذلك في خطابه التأريخي عند عودته من حجة الوداع إذ يقول : « يا أيّها الناس واللّه ما من شيء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النار إلاّ وقد أمرتكم به وما من شيء يقرّبكم من النّار ويباعدكم من الجنّة إلاّ وقد نهيتكم عنه » (1).

وأكّدالإمام عليّ علیه السلام على هذه الحقيقة أيضاً إذ قال : « أم أنزل اللّه سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه ، أم كانوا شركاء له ، فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى ، أم أنزل اللّه سبحانه ديناً تاماً فقصّر الرسول - صلی اللّه علیه و آله - عن تبليغه وأدائه ، واللّه سبحانه يقول : ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) وفيه تبيان لكلّ شيء (2).

فإذا كان اللّه قد أكمل دينه فلا نقصان ، بل كمال وتمام ، فلماذا كانت الاُمّة تعجز عن حل المعضلات الجديدة التي تواجهها في حياتها الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة ؟.

ترى كيف اُكمل الدين في السنة العاشرة من الهجرة ، وبيّن الرسول صلی اللّه علیه و آله كلّ ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة من علوم ومعارف وأصول وفروع وحلول لمشاكلهم الفعليّة والحادثة فيما بعد ؟.

هل استودع النبيّ صلی اللّه علیه و آله كلّ ذلك عند الاُمّة نفسها ، وقد تقدم استحالة تحقق ذلك في تلكم الفترة القصيرة ... ومع تلك المشاكل الكثيرة ، وعدم قدرة الناس على الاستيعاب والأخذ الكامل ؟.

ص: 112


1- الكافي 2 : 74 وتحف العقول : 40 ( طبعة إيران ).
2- نهج البلاغة : الخطبة رقم (18).

كيف لا ؛ وكلّ الأحاديث الصحيحة التي نقلها أعلام السنّة عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله في الفروع والاُصول لا تتجاوز (500) حديثاً.

قال السيد محمّد رشيد رضا في الوحي المحمّديّ : ( إنّ أحاديث الأحكام الاُصول خمسمائة حديث تمدّها أربعة آلاف فيما أذكر ) (1).

وقال أيضاً في موضع آخر : ( يقولون : إنّ مصدر القوانين الاُمّة ، ونحن نقول بذلك في غير المنصوص في الكتاب والسنّة كما قرره الإمام الرازيّ ، والمنصوص قليل جداً ) (2).

هذه هي كلّ الأحاديث المنقولة عن طرق أهل السنّة ، وهي تتعلق بالحوادث التي وقعت في زمن النبيّ صلی اللّه علیه و آله غالباً ، بينما نعلم أنّ ما حدث ووقع بعد وفاة الرسول صلی اللّه علیه و آله كان أكثر بكثير ممّا حدث في حياته الشريفة.

ثمّ لما كانت أكثر الأحاديث ردّاً على الأسئلة التي يطرحها الصحابة ، وتدور حول ما كان يحدث لهم ، لذلك لم يسألوا عمّا لم يحدث ولم يقع بعد.

وقد كان هذا عاملاً مهمّاً من عوامل قلّة الحديث النبويّ في الأحكام.

هذا مضافاً إلى ، أنّ السبب الآخر لقلّة الحديث النبويّ ، هو ضياع طائفة كبيرة منه ، لعدم اعتناء الأوائل بتدوين السنّة وهو الأمر الذي استوجب وقوع الخلاف والاختلاف حتى في أبسط المسائل ، وأكثرها ابتلاء ، مثل الاختلاف في عدد التكبيرات في صلاة الموتى ، وهو أمر كما نعلم ممّا يبتلى به المجتمع كثيراً ، ولو كان هناك شيء مكتوب لما وقع الاختلاف والحيرة.

فإذا بطل هذا الشقّ ( أي استيعاب الاُمّة جميع ما يحتاجون إليه وتكميل الدين من هذا الطريق ) تعيّن الشقّ الآخر لتفسير تكميل الدين ، وهو أنّ النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله أودع كل ما تحتاج إليه الاُمّة من اُصول وفروع لدى فرد أو طائفة خاصّة من الاُمّة ، لكي يرجع إليهم المسلمون بعده صلی اللّه علیه و آله ويعالجوا بما يخرجونه إليهم من تلك المعارف والعلوم ،

ص: 113


1- الوحي المحمّديّ ( الطبعة السادسة ) : 212.
2- تفسير المنار لرشيد رضا 5 : 189.

مشاكلهم في العقيدة والعمل ، في اُمور الدين والدنيا.

أجل لابدّ أن يكون في الاُمّة من يرفع هذه الحاجة ، أي يكون حاملاً لعلم النبيّ صلی اللّه علیه و آله وإن لم يكن له نصيب في النبوّة ، إيفاءً لغرض التشريع الإلهيّ ويكون له من الكفاءات والمؤهّلات ما تؤهّله للقيام بمثل هذه العبء الثقيل والأمر الخطير ، ويسدّ بالتالي ما أحدثه رحيل الرسول صلی اللّه علیه و آله وغيابه من فراغ بل فراغات هائلة وخطيرة.

على أنّ من يتحمّل هذه العلوم لا يمكن أن يتحمّلها عن طريق الأسباب العاديّة والتربية العرفيّة المتعارفة ، وإلاّ لتيسّر للجميع أن يتحمّلوها ... ثمّ إنّ التعلّم والتربية على هذا النمط ، أقصر من أن ينتج شخصيّةً متفوّقةً علميّةً كفوءةً للقيام مقام النبيّ في علمه وسياسته ودرايته وكياسته ، وتدبيره وإدارته وجميع مؤهّلاته ( ما عدا النبوّة وتلقّي الوحي الإلهيّ السماوي ) ويفي بغرض التشريع ويسدّ الفراغ الحاصل بوفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

بل لابدّ أن يكون تعلّمه وأخذه لتلك المعارف والعلوم الجمّة من طرق غير متعارفة وتربية تفوق نوعاً وكيفاً ما تعارف من التربية والتعليم.

ثمّ إنّ التعرف على مثل هذا الشخص أمر متعذّر على الاُمّة لدقّة المواصفات وخفاء المؤهّلات ... فلابدّ أن يكون التعريف من جانب اللّه المحيط بجمبع عباده ، العارف بأسرارهم وسرائرهم ، العالم بنفوسهم ونفسياتهم ، وذلك بالتنصيص عليه بالاسم والشخص.

وبعبارة اُخرى : إنّ هناك أمرين يتطلّبان أن يكون القائم مقام النبيّ صلی اللّه علیه و آله متعيّناً بتنصيص من اللّه سبحانه :

الأوّل : أنّه يجب أن يكون القائم مقامه قادراً على تبيين ما لم يبيّنه النبيّ صلی اللّه علیه و آله لكافّة المسلمين وعامّتهم ، لأسباب خاصّة وقفت عليها في هذا المقام ... وهذه المقدرة لا تحصل في فرد أو طائفة ، إلاّ بتربية إلهيّة خاصّة ، وتعليم خارج عن نطاق التعليم المألوف ، ولولا هذه العناية الخاصّة لما قدر القائم مقام النبيّ صلی اللّه علیه و آله على سدّ الفراغ الحاصل من وفاته.

ص: 114

الثاني : أنّ التعرف على هذا الشخص لا يتحقق بالاختبار والتجربة ، أو أنّه يصعب معرفته بهذا الطريق.

وعلى هذين الأمرين ، يجب أن يكون القائم مقام النبيّ صلی اللّه علیه و آله ذا تربية إلهيّة أوّلاً ، ومعرّفاً من جانبه سبحانه ثانياً ... وهذا يعيّن لون الحكومة وشكلها بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

إنّ ما ذكرناه ، عن عدم إحاطة الاُمّة ومعرفتها بكلّ معالم الشريعة الإسلاميّة وأحكامها ومعارفها على النحو الذي يعينها على حلّ مشاكلها المستحدثة ، لم يكن مجرّد ادّعاء خال من الدليل ، فلنا أن نستدل على ذلك بوجهين :

الأوّل : اعتراف ثلّة من الصحابة بعدم وجود الحلول في الكتاب أو السنّة لبعض المسائل.

الثاني : ذكر بعض الموارد التي لم يردفيها نصٌّ اسلاميٌّ صريح ، ممّا جعل المسلمين أن يأخذوا فيها بظنونهم ، أو أن يأخذوا بمقاييس ومعايير لم يرد على صحّتها دليل.

وإليك أمثلة من الوجهين :

أوّلاً : اعتراف الصحابة بالقصور

أ - عن ميمون بن مهران قال : ( كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب اللّه ، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به ، وإن لم يكن في الكتاب وعلم عن رسول اللّه في ذلك الأمر سنّة قضى بها ، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين فقال : أتاني كذا وكذا ، فهل علمتم أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قضى في ذلك بقضاء ؟ فربّما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فيه قضايا ، فيقول أبو بكر : الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ علينا علم نبيّنا. فإن أعياه أن يجد فيه سنّةً عن رسول اللّه ، جمع رؤوس الناس وخيارهم فأستشارهم ، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به ) (1).

إنّ هذا اعتراف صريح من الخليفة والصحابيّ ، بأنّ الكتاب والسنّة النبويّة

ص: 115


1- دائرة المعارف لفريد وجدي 3 : 212 ( مادة جهد ).

- عندهم - كانا غير وافيين بالحاجات الفقهيّة ، ولهذا كان يعمد إلى الأخذ بالرأي والمقاييس المصطنعة لاستنباط حكم الموضوع.

ب - عندما نصب عمر بن الخطاب شريحاً قاضياً للكوفة ، قال له فيما قال : ( ان جاءك شيء من كتاب اللّه ، فاقض به ولا يلفتك عنه الرجال ، فإن جاءك ما ليس في كتاب اللّه ، فانظر سنّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فاقض بها ، فإن جاءك ما ليس في كتاب اللّه ولم تكن في سنّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به ، فإن جاءك ما ليس في كتاب اللّه ولم يكن في سنّة رسول اللّه ، ولم يتكلم فيه أحد قبلك ، فاختر أي الأمرين شئت ... إن شئت أن تجتهد برأيك لتقدّم فتقدّم ، وإن شئت أن تتأخّر فتأخّر ، ولا أرى التأخّر إلاّ خيراً لك ) (1).

في حين نجد الإمام عليّاً علیه السلام لمّا ولّى شريحاً القضاء يشترط عليه أن لا ينفّذ القضاء حتّى يعرضه عليه ... (2).

ج - عن عبد اللّه بن مسعود قال : ( أتى علينا زمان لسنا نقضي ولسنا هنالك ، وإنّ اللّه قد قدر من الأمر أن قد بلغنا ما ترون ، فمن عرض له قضاء بعد اليوم فليقض فيه بما في كتاب اللّه عزّ وجلّ ، فإن جاءه ما ليس في كتاب اللّه فليقض بما قضى به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فإن جاءه ما ليس في كتاب اللّه ولم يقض به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فليقض فيه بما قضى به الصالحون ، ولا يقل إنّي أخاف وإني أرى ) (3).

وزاد مؤلف كتاب « تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلاميّة » :

فإن جاء أمر ليس في كتاب اللّه ولم يقض به نبيّه ولم يقض به الصالحون ، فليجتهد برأيه فإن لم يحسن فليقم ولا يستحيي (4).

ص: 116


1- دائرة المعارف لفريد وجدي 3 : 212 ( مادة جهد ).
2- وسائل الشيعة 18 : 6 كتاب القضاء ( أبواب صفات القاضي ، الباب الثالث ).
3- دائرة المعارف لفريد وجدي 3 : 212 - 213 ( مادة جهد ).
4- تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلاميّة : 177 ، على ما نقله مؤلّف : الإمامة في التشريع الإسلاميّ.

د - كان ابن عباس إذا سئل عن أمر : فإن كان في القرآن أخبر به ، وإن لم يكن في القرآن وكان عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أخبر به ، فإن لم يكن فعن أبي بكر وعمر ، فإن لم يكن قال فيه رأيه (1).

إنّ هذه العبارات وما يشابهها من الاعترافات ، تستطيع أن تكشف عن مدى قصور الصحابة في أخذ التعاليم والأحكام الإسلاميّة عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

فهي تكشف - بوضوح - عن أنّ الصحابة كانوا يواجهون وقائع وحوادث جديدةً لا يجدون لها حلولاً في الكتاب الكريم أو في ما تلقّوه من النبيّ صلی اللّه علیه و آله ولذلك كانوا يحاولون استنباط حلول لها من غير الكتاب والسنّة.

* * *

ثانياً : بعض ما لا نص فيه من المسائل
اشارة

إنّ الوجه الثاني الذي يدل على عدم استيعاب الاُمّة لكل أبعاد الشريعة وتفاصيلها ، هو الموارد التي لم يرد فيها نصٌّ صريحٌ ، فعمد الصحابة إلى الأخذ بالرأي والقياس ، التماساً للحلول والأحكام المناسبة.

ولذلك أضطرّ الصحابة منذ الأيام الاولى من وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى إعمال الرأي والاجتهاد في المسائل المستحدثة ، وليس اللجوء إلى الاجتهاد بمختلف أشكاله إلاّ تعبيراً واضحاً عن عدم استيعاب الكتاب والسنّة النبويّة - عندهم - للوقائع المستحدثة بالحكم والتشريع.

غير أنّ الاجتهاد في هذا العصر وما بعده ، لم يكن مقصوراً على الاجتهاد المألوف بين الشيعة الإماميّة من ردّ الفروع إلى الاُصول ، وتطبيق الكليات على المصاديق والجزئيات ، بل كان يعبّر عن لون آخر أشبه بإبداء الرأي من عند الشخص بلا دليل وحجّة قاطعة فيما بينه وبين اللّه.

ص: 117


1- دائرة المعارف لفريد وجدي 3 : 213 ( مادة جهد ).

فقد أحدثوا مقاييس للرأي ، واصطنعوا معايير جديدة للاستنباط لم يكن منها أثر في الشرع ، وكان القياس أوّل هذه المقاييس ، ومن هذه المعايير : المصالح المرسلة ، وسدّ الذرائع والاستحسان ، إلى غيرها من القوانين التي اضطرّ الفقهاء إلى اصطناعها عندما طرأت على المجتمع الإسلاميّ ألوان جديدة من الحياة لم يألفوها ، وتشعّبت بهم مذاهبها ، ولم يجد الفقهاء بدّاً من الالتجاء إلى إعمال الرأي في مثل هذه المسائل ، وللبحث حول هذه المعايير المصطنعة مقام ومجال آخر فيطلب منه.

وإليك فيما يلي بعض هذه الموارد ، وهي غيض من فيض ، وقليل من كثير :

(أ) : فيمَنْ شرب خمراً

رفع رجل إلى أبي بكر وقد شرب الخمر ، فأراد أنّ يقيم عليه الحدّ ، فقال : إنّي شربتها ولا علم لي بتحريمها ، لأنّي نشأت بين قوم يستحلّونها ، ولم أعلم بتحريمها حتى الآن ... فتحيّر أبو بكر في حكمه ... فأرسل إلى أمير المؤمنين عليّ علیه السلام فقال :

« مرّ رجلين ثقتين من المسلمين يطوفان به على مجالس المهاجرين والأنصار يناشدانهم هل فيهم أحد تلى عليه آية التحريم ، أو أخبره بذلك عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فإن شهد بذلك رجلان فأقم عليه الحدّ ، وإنّ لم يشهد أحد بذلك ، فاستتبه وخلّ سبيله ».

ففعل أبو بكر ذلك فلم يشهد أحد فاستتابه وخلاّ سبيله (1).

(ب) : ما الكَلاَلَة ؟!

سئل أبو بكر عن الكلالة في قوله تعالى ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ) ( النساء : 176 ). فقال : إنّي سأقول فيها برأيي فإن يك صواباً فمن اللّه وإن يك خطأً فمنّي ومن الشيطان واللّه

ص: 118


1- الإرشاد للمفيد : 106 ، مناقب ابن شهر آشوب : 489

ورسوله بريئان منه ، أراه ما خلا الولد والوالد ، فلمّا استخلف عمر قال : إنّي لأستحيي اللّه أن أردّشيئاً قاله أبو بكر (1).

وهكذا نرى من يتصدر مقام الزعامة والقيادة في المجتمع الإسلاميّ ، يجهل حكماً إسلامياً ويعمد إلى رأيه الشخصيّ ، والأخذ بظنه.

(ج) : أمرأةٌ ولدت لستّة أشهر

رفعت إلى عمر بن الخطاب أمرأة ولدت لستة أشهر فهمّ برجمها ، فبلغ ذلك عليّاً فقال : « ليس عليها رجم » فبلغ ذلك عمر فأرسل إليه فسأله فقال : « قال اللّه تعالى : ( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ) ( البقرة : 233 ) وقال : ( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ) ( الأحقاف : 15 ) فستّة أشهر حمله وحولان رضاعه فذلك ثلاثون شهراً » ، فخلاّ عنها (2).

ولا يمكن القول بأنّ حكم هذه المسألة قد جاء في صريح الكتاب ، لأنّ معنى وروده في الكتاب العزيز هو أن يكون مفهوماً لأغلبية الصحابة ، ومعلوماً لهم ، وخاصّةً لمن يتصدر مقام الزعامة ، ولكن الواقعة بمجموعها تثبت بأن استخراجه وفهمه لم يكن مقدوراً إلاّ للإمام.

(د) : مسألة العوْل

لقد شغلت هذه المسألة بال الصحابة فترةً من الزمن ... وكانت من المسائل المستجدّة بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله التي واجهت جهاز الحكم.

ص: 119


1- سنن الدارمي 2 : 365 ، تفسير الطبري 6 : 30 ، الجامع الكبير للسيوطي 6 : 20 ، تفسير ابن كثير 1 : 260.
2- السنن الكبرى 7 : 442 ، مختصر جامع العلم : 150 ، تفسير الرازي 7 : 484 ، الدرّ المنثور 1 : 288 ، ذخائر العقبى : 82.

ويعنى من العول ؛ أن تقصر التركة عن سهام ذوي الفروض ، ولا تقصر إلاّ بدخول الزوج أو الزوجة في الورثة ، ومثال ذلك ، ما إذا ترك الميت زوجةً وأبوين وبنتين. ولمّا كان سهم الزوجة - حسب فرض القرآن - الثمن ، وفرض الأبوين الثلث ، وفرض البنتين الثلثين ، فإنّ التركة لا تسع للثمن والثلث والثلثين ، أو إذا ماتت امرأة وتركت زوجاً وأختين للأب ، فلمّا كان فرض الزوج النصف ، وفرض الأختين الثلثين ، زادت السهام عن التركة ، فهنا - عندما - يجب إدخال النقص على من له فريضة واحدة في القرآن ، وذلك كالأبوين والبنتين والأختين لاستحالة أن يجعل اللّه في المال ثمناً وثلثاً وثلثين ، أو نصفاً وثلثين وإلاّ كان جاهلاً أو عابثاً تعالى عن ذلك.

ولكن هذه المسألة لمّا طرحت على عمر بن الخطاب تحيّر ، فأدخل النقص على الجميع استحساناً وهو يقول : ( واللّه ما أدري أيكم قدّم اللّه ، ولا أيّكم أخّر ، ما أجد شيئاً هو أوسع لي من أن أقسم المال عليكم بالحصص وادخل على ذي حقّ ما أدخل عليه من عول الفريضة ) (1).

( ه ) : الطلاق في الجاهليّة والإسلام

سئل عمر بن الخطاب عن رجل طلّق امرأته في الجاهلية تطليقتين وفي الإسلام تطليقةً فقال : ( لا آمرك ولا أنهاك ).

فقال عبد الرحمان بن عمر : ( لكنّي آمرك ، ليس طلاقك في الشرك بشيء ) (2).

(و) : معنى الأبّ

بينا عمر جالس في أصحابه إذ تلا هذه الآية ( فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا *

ص: 120


1- أحكام القرآن للجصّاص 2 : 109 ، مستدرك الحاكم 4 : 340 وصحّحه.
2- كنز العمال 5 : 161.

وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) ( عبس : 27 - 31 ) ، ثمّ قال : ( هذا كله عرفناه فما الأبّ ؟ ) ثمّ رفع عصا كانت في يده فقال : ( هذا لعمر اللّه هو التكلّف فما عليك أن تدري ما الأبّ ، اتبعوا ما بيّن لكم هداه من الكتاب فاعملوا به ، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربّه ) (1).

(ز) : خمسةُ أشخاصٍ أُخذوا في الزنا

أحضر عمر بن الخطاب خمسة نفر أخذوا في زنا فأمر أن يقام على كلّ واحد منهم الحدّ ... وكان أمير المؤمنين حاضراً ... فقال : « يا عمر ، ليس هذا حكمهم » ، قال عمر : أقم أنت عليهم الحكم ، فقدّم واحداً منهم فضرب عنقه ، وقدم الثاني فرجمه حتّى مات وقدّم الثالث فضربه الحدّ ، وقدّم الرابع فضربه نصف الحدّ ، وقدّم الخامس فعزّره ، فتحير الناس وتعّجب عمر فقال : يا أبا الحسن خمسة نفر في قصّة واحدة ، أقمت عليهم خمس حكومات ( أي أحكام ) ليس فيها حكم يشبه الآخر ؟ قال :

« نعم ... أما الأوّل : فكان ذميّاً وخرج عن ذمّته فكان الحكم فيه السيف.

وأمّا الثاني : فرجل محصن قد زنا فرجمناه.

وأمّا الثالث : فغير محصن زنا فضربناه الحدّ.

وأمّا الرابع : فرجل عبد زنا فضربناه نصف الحدّ.

وأمّا الخامس : فمجنون مغلوب على عقله عزّرناه ».

فقال عمر : ( لا عشت في اُمّة لست فيها يا أبا الحسن ) (2).

هذه نماذج قليلة من الموارد التي لم يرد فيها نص صريح ، وقد واجهت كبار الصحابة بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وعجزوا عن حلّ معضلاتها ممّا يدلّ بوضوح ، على أنّه لو كان

ص: 121


1- المستدرك للحاكم 2 : 514 ، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 11 : 268 ، الكشّاف 3 : 314.
2- الكافي 7 : 265.

الصحابة مستوعبين لكلّ أحكام الشريعة وأبعادها ، لأجابوا عليها دون تحيّر أو تردد. ولأصابوا فيما أجابوا. وهذا يدل بصراحة لا إبهام فيها ، على أنّ الاُمّة كانت بحاجة شديدة إلى إمام عارف بأحكام الإسلام معرفةً كافيةً كاملةً وحامل لنفس الكفاءات والمؤهلات النفسيّة والفكريّة التي كان يتحلّى بها الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله ( فيما عدا مقام الوحي والنبوة ) ، إذ بهذه الصورة فحسب ، كان من الممكن أن يلي النبيّ صلی اللّه علیه و آله ويخلفه في قيادة الاُمّة ويسد مسدّه ، من حل معضلاتها ، ومعالجة مشاكلها التشريعية والفكريّة المستجدّة ، دون أن يحدث له ما حدث للصحابة من العجز والارتباك ، ومن التحيّر والمفاجأة - كما عرفت -.

وإليك بقية الأوجه التي تدلّ على هذا الادّعاء المدعم بالدليل :

* * *

2. الفراغ في مجال تفسير القرآن وشرح مقاصده

لم يكن القرآن الكريم حديثاً عاديّاً ، وعلى نسق واحد ، بل فيه : المحكم والمتشابه والعامّ ، والخاصّ ، والمطلق والمقيّد ، والمنسوخ والناسخ ، مما يجب على المسلمين أن يعرفوها جيداً ليتسنّى لهم أن يدركوا مقاصد الكتاب العزيز ومفاداته (1).

ثمّ لمّا كان هذا الكتاب الإلهيّ ، جارياً في حديثه مجرى كلام العرب وسائراً على نهجهم في البلاغة وطرقها ... فإنّ الوقوف على معانيه ورموزه ولطائفه كان يتوقف على معرفة كاملة بكلامهم وبلاغتهم.

أضف إلى كل ذلك ، أنّ القرآن إذ كان كتاباً إلهياً حاوياً لأدقّ المعارف وأرفعها

ص: 122


1- ولقد أشار الإمام عليّ علیه السلام إلى هذه الاُمور بقوله : «خلف ( أي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ) .. فيكم كتاب ربكم، مبيناً حلاله وحرامه وفرائضه وفضائله، وناسخه ومنسوخه ورخصه وعزائمه وخاصه وعامه وعبره وأمثاله ، ومرسله ومحدوده ومحكمه ومتشابهه، مفسّراً مجمله ومبيناً غوامضه » نهج البلاغة: الخطبة رقم (1).

درجةً ، ومنطوياً على علوم لم تكن مألوفةً في ذلك العصر ، وعلى أبعاد عديدة (1) تخفى على العاديين من الناس ، فإنّ الإطلاع على هذه الأبعاد والأوجه والحقائق كان يقتضي أن يتصدى لشرحها وتفسيرها وبيان مفاهيمها العالية جليلها ودقيقها : النبيّ صلی اللّه علیه و آله أو من يليه في العلم والكفاءة والمؤهلات الفكريّة صيانةً من الوقوع في الاتجاهات المتباينة ، والتفاسير المتعارضة التي تؤول إلى المذاهب المتناقضة والمسالك المتناحرة - كما حدث ذلك في الاُمّة الإسلاميّة - مع الأسف.

ولو سأل سائل :

إنّ القرآن الكريم يصف نفسه بأنه كتاب مبين إذ يقول : ( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) ( المائدة : 15 ).

كما يصف نفسه بأنّه نزل بلسان عربي مبين فيقول : ( وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) ( النحل : 103 ).

ويقول في آية اخرى بأن اللّه سبحانه وتعالى يسّره للذكر حيث يقول مكرّراً : ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ) ( القمر : 17 ، 22 ، 32 ، 40 ).

ويصرّح في موضع آخر بأنّه سبحانه يسره بلسان النبيّ صلی اللّه علیه و آله : ( فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ( الدخان : 58 ).

ومع ذلك كيف يحتاج إلى التفسير والتوضيح ، وما التفسير إلاّ رفع الستر وكشف القناع عنه ؟.

كيف يحتاج إلى مبيّن ومفسّر قد قال الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله فيه : « إنّ القرآن يفسر بعضه بعضاً ».

وقال الإمام عليّ علیه السلام في شأنه : « كتاب اللّه تبصرون به وتنطقون به

ص: 123


1- ولقد أشار النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى هذا بقوله : « له ظهر وبطن وظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره انيق وباطنه عميق له نجوم وعلی نجومه نجوم لا تحصی عجائبه ولا تبلی غرائبه» الكافي (كتاب القرآن) 598:2 - 599.

وتسمعون به وينطق بعضه ببعض » (1).

لأجبنا : صحيح أنّ القرآن الكريم يصف نفسه بما ذكر ، ولكنّه يصف نفسه أيضاً بأنّه نزل حتى يبيّنه الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله للناس إذ يقول تعالى : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) ( النحل : 44 ). ( وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ) ( النحل : 64 ).

فقد وصف النبيّ صلی اللّه علیه و آله في هاتين الآيتين ، بأنّه مبيّن لما في الكتاب لا قارئ فقط.

فكم من فرق بين القراءة والتبيين ؟.

بل يذكر القرآن الكريم بأنّ بيان القرآن عليه سبحانه ، فهو يبيّن للرسول والرسول يبيّن للناس ، كما يقول سبحانه : ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) ( القيامة : 16 - 19 ).

إنّ وجود هاتين الطائفتين من الآيات في القرآن ، يكشف لنا عن أنّ القرآن رغم وضوحه من حيث اللفظ والمعنى والظواهر ، ورغم أنّه منزّه عن الشباهة بكتب الألغاز والأحاجي إذ أنّه كتاب تربية وتزكية وهداية عامّة ، فإنّه يحتاج إلى ( مبيّن ) ومفسّر لعدّة أسباب :

أوّلاً : وجود المجملات في أحكام العبادات والمعاملات الواردة في آياته.

ثانياً : كون آياته ذات أبعاد وبطون متعددة.

ثالثاً : ، غياب القرائن الحاليّة التي كانت آياته محفوفة بها حين النزول ، وكانت معلومةً للمخاطبين بها في ذلك الوقت.

كلّ هذه الاُمور توجب أن يراجع من يريد فهم الكتاب مصادر تشرح هذه الأمور ، وإليك مفصل هذا القول فيما يأتي :

أوّلاً : إنّ القرآن كما ذكرنا ليس كتاباً عادياً ، بل هو كتاب إلهيّ اُنزل للتربية

ص: 124


1- نهج البلاغة : الخطبة 129 ( طبعة عبده ).

والتعليم ولهداية البشريّة وتهذيبها ، وذلك يقتضي أن ينزل القرآن بألوان مختلفة من الخطاب تناسب ما تقتضيه طبيعة التربية والتعليم ، ومن هنا نشأ في أسلوب القرآن : المطلق والمقيّد ، والعام والخاصّ ، والمنسوخ والناسخ ، والمحكم والمتشابه ، والمجمل والمبيّن كمفاهيم الصلاة والزكاة والحج والجهاد وغيرها ... فهي رغم كونها واضحة في أول نظرة ولكنّها مجملة من حيث الشروط والأجزاء والموانع والمبطلات والتفاصيل.

فكان لابدّ أن يتولّى النبيّ صلی اللّه علیه و آله بيان مجمله ومطلقه ومقيده ... وما شابه ذلك ، وقد فعل النبيّ صلی اللّه علیه و آله ذلك بقدر ما تطلّبه ظرفه واقتضته حاجة المسلمين ... بيد أنّه صلی اللّه علیه و آله لم يكشف القناع عن جميع تفاصيل هذه الاُمور وجزئياتها قاطبة ، لعدم الحاجة إلى ذلك ، وتحيّناً للظروف المناسبة ، وانتظاراً للحاجات والحالات المستجدّة. وإن كان قد أخبر عن اُصولها واُمهاتها أو معظمها ، فتعيّن أن يخلّف النبيّ - من يماثله بالعلم والدراية بالوحي الإلهيّ المدوّن في الكتاب العزيز ، ليسدّ مسدّه في بيان ما يتعلق بالكتاب من اُمور مستجدّة ، ويكشف النقاب عن بقية الجزئيات والتفاصيل لتلك المجملات حسب الظروف والحاجات الجديدة والضرورات الطارئة ، ممّا أودع النبيّ عنده من معارف الكتاب وعلومه ، ويخرج إلى الاُمّة من تلكم المعارف شيئاً فشيئاً.

نعم ، قال شيخ الطائفة الطوسيّ رحمه اللّه في تفسير قوله سبحانه : ( حم * وَالْكِتَابِ المُبِينِ ) ( الزخرف : 1 - 2 والدخان : 1 - 2 ).

( إنّما وصف بأنّه مبين ، وهو بيان مبالغة في وصفه بأنّه بمنزلة الناطق بالحكم الذي فيه ، من غير أن يحتاج إلى استخراج الحكم من مبيّن آخر ، لأنّه يكون من البيان ما لا يقوم بنفسه دون مبيّن حتّى يظهر المعنى فيه ) (1).

ولكن الصحيح أنّ توصيف القرآن بكونه كتاباً مبيّناً ، هو وضوح انتسابه إلى اللّه ، بحيث لا يشك أحد في كونه كلام اللّه والآية نظير قوله سبحانه ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ

ص: 125


1- التبيان 9 : 224 ( طبعة النجف الأشرف ).

فِيهِ ) ( البقرة : 2 ) ، أي لا ريب أنّه منّزل من جانب اللّه سبحانه.

أضف إلى ذلك أنّ الجمع بين هذه الآية وقوله سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) ( النحل : 44 ) وقوله سبحانه : ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) ( القيامة : 16 - 19 ، ، يقضي ، بأنّ المراد هو وضوح مفاهيمه الكليّة لا خصوصياته وجزئياته كما أوضحناه.

ثانياً : لمّا كان القرآن كتاباً خالداً انزل ليكون دستور البشريّة مدى الدهور ، ومعجزة الرسالة الإسلامية الخالدة ، تطلّب ذلك أن يكون ذا أبعاد وبطون يكتشف منه كل جيل ، ما يناسب عقله وفكره وتقدّمه وترقّيه في مدارج الكمال والصعود ، وقد أشار الإمام عليّ بن موسى الرضا علیه السلام إلى هذا الأمر حيث قال عن القرآن وعلّة خلوده وغضاضته الدائمة : « إنّ اللّه تعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس ، فهو في كلّ زمان جديد ، وعند كلّ قوم غضّ إلى يوم القيامة » (1).

فكأنّ القرآن الكريم - في انطوائه على الحقائق العلميّة الزاخرة ، وعدم إمكان التوصل إلى أعماقه - هو النسخة الثانية لعالم الطبيعة الواسع الأطراف ، الذي لا يزيد البحث فيه والكشف عن حقائقه وأسراره ، إلاّ معرفة أنّ الإنسان لا يزال في الخطوات الاولى من التوصّل إلى مكامنه الخفيّة وأغواره ، فإنّ كتاب اللّه تعالى كذلك لا يتوصّل إلى جميع ما فيه من الحقائق والأسرار ، لأنّه منزّل من عند اللّه الذي لا يضمّه أين ولا تحدّده نهاية ، ولا تحصى أبعاد قدرته ، ولا تعرف غاية عظمته.

إذن ، فكون القرآن أمراً مبيّناً لا ينافي أن تكون له أبعاد متعدّدة ، وأفاق كثيرة ، يكون البعد الواحد منه واضحاً مبيّناً دون الأبعاد الاُخرى.

ولهذا ، فإنّ الوقوف على البطون المتعددة بحاجة إلى ما روي من روايات وأخبارحول الآيات ، وما ورد في السّنّة من النصوص المبيّنة والأحاديث الموضّحة ،

ص: 126


1- البرهان في تفسير القرآن 1 : 28.

حتّي تكشف بعض البطون والأبعاد الخفيّة كما هو الحال في بعض أحاديث النبيّ وأهل بيته علیهم السلام وإن كان بعض هذه البطون تنكشف لنا بمرور الزمن وتكامل العقول ونضج العلوم.

وبتعبير آخر : إنّ فهم بعد واحد من أبعاد معاني الآية القرآنيّة ، وإن كان ممكناً للجميع ، غير أنّ وضوح بعد واحد ومعلوميّته لا تغني عن الإحاطة بالأبعاد والأوجه الاخرى لها.

إنّ فهم بعد واحد من أبعاد الآيات التالية :

( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الأنبياء : 22 ).

( وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) ( المؤمنون : 91 ).

( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ ) ( النمل : 82 ).

وكذا الآيات الواقعة في سورة الحديد ، وما بدأ من السور بالتسبيحات.

أقول : إنّ فهم بعد واحد من أبعاد هذه الآيات وإن كان أمراً ميسّراً للجميع ، ولكن لا يمكن لمن له أدنى إلمام بمفاهيم القرآن وأسلوب خطاباته أن يدّعي ، أنّ جميع أبعاد هذه الآيات مفهومة للجميع بمجّرد الوقوف على اللغة العربيّة والاطّلاع على قواعدها.

كلاّ ، فإنّ الوقوف على مغزى هذه الآيات وأبعادها وبطونها وآفاقها ، يحتاج إلى جهود علميّة واطّلاع شامل ودقيق على السنّة المطهّرة ، وما جاء فيها حول الآيات من توضيحات وبيانات.

وقد تمكّن الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله أن يرفع النقاب عن جملة من هذه الأبعاد في حدود ما سمحت له الظروف ، واستعدّت له النفوس المعاصرة ، فكان لابدّ من وجود من يخلّفه

ص: 127

للقيام بهذه المهمة الخطيرة ، فيما يأتي من الزمان ، ولمن يأتي من الأفراد والجماعات.

ثالثاً : لقد نزل القرآن الكريم بالتدريج في مناسبات مختلفة كانت تستدعي نزول آيات من الوحي الإلهيّ المقدسّ ... ولذلك ، فقد كان القرآن - في عصر تنزّله - محفوفاً بالقرائن التي كانت تبيّن مقاصده ، وتعيّن على فهم أهدافه وغاياته.

ولهذا فإنّ القرآن وإن كان مبيّناً في حين نزوله بيد أنّ مرور الزمن ، وبعد الناس عن عهد نزوله ، وانفصال القرائن الحالية عن الآيات صيّر القرآن ذا وجوه وجعل آياته ذات احتمالات عديدة ، لغياب علل النزول وأسبابه التي كانت قرائن حاليّة من شأنها أن توضّح مقاصد الكتاب وتفسر عن غاياته.

وهذا أمر يعرفه كلّ من له إلمام بالقرآن الكريم ، وتاريخه ، وعلومه.

ولأجل ذلك ، يطلب الإمام عليّ علیه السلام من ابن عباس عندما بعثه للمحاجّة مع الخوارج أن لا يحاججهم بالقرآن ، لأنّه أصبح ذا وجوه إذ يقول علیه السلام : « لا تخاصمهم بالقرآن ، فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه تقول ويقولون. ولكن حاججهم بالسنّة فإنهم لم يجدوا عنها محيصاً » (1).

وإليك نماذج من الاختلاف الموجود في هذه الآيات بين الاُمّة ، ولا يمكن رفع هذا الاختلاف إلاّ بإمام معصوم تعتمد عليه الاُمّة ، وتعتبر قوله قول النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

1. قال سبحانه في آية الوضوء : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) ( المائدة : 6 ).

وقد تضاربت الآراء في فهم هذه الآية ، وصارت الاُمّة إلى قولين :

فمن عاطف لفظ ( أَرْجُلَكُمْ ) على الرؤوس فيحكم على الأرجل بالمسح.

ومن عاطف له على الأيدي فيحكم على الأرجل بالغسل.

ومن المعلوم ، أنّ إعراب القرآن الكريم إنّما حدث بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

ص: 128


1- نهج البلاغة : الرسالة (77).

فأيّ الرأيين هو الصحيح ؟ (1).

2. لقد حكم اللّه تعالى على السارق والسارقة بقطع الأيدي حيث قال : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) ( المائدة : 38 ).

وقد اختلفت الاُمّة في مقدار القطع وموضع اليد :

فمن قائل : إنّ القطع من اُصول الأصابع دون الكفّ وترك الإبهام ، كما عليه الإماميّة وجماعة من السلف.

ومن قائل : إنّ القطع من الكوع ، وهو المفصل بين الكفّ والذراع ، كما عليه أبو حنيفة ومالك والشافعيّ.

ومن قائل : إنّ القطع من المنكب كما عليه الخوارج (2).

3. أمر اللّه سبحانه الورثة بإعطاء السدس للكلالة في قوله سبحانه : ( وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ ) ( النساء : 12 ).

وفي الوقت نفسه يحكم سبحانه بأعطاء الكلالة النصف أو الثلثين كما قال : ( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ ) ( النساء : 176 ).

فما هو الحل وكيف الجمع بين هاتين الآيتين ؟

لا شكّ أنّه لم يكن ثمة إبهام في مورد هاتين الآيتين ... بل حدث الإبهام في ذلك فيما بعد.

ألا يدلّ هذا على ضرورة وجود الإمام ، الذي يرفع الستار عن الوجه الحقّ بما

ص: 129


1- وممّن أقرّ بالحقيقة وأنّ مدلولها يوافق مذهب الإماميّة ، ابن حزم الظاهريّ في كتابه المحلّى ، والفخر الرازيّ في تفسيره والحلبيّ في كتاب منية المتملّي في شرح غنية المصلّي فلاحظ المحلّى 3 : 54 ، لاحظ المسألة (200) فإنّه أدّى حقّ المقال فيها ، ومفاتيح الغيب 11 : 161 ( طبع دار الكتب العلمية ).
2- راجع الخلاف للطوسيّ ( كتاب السرقة ) : 184.

عنده من علوم مستودعة.

ولهذا أيضاً عمد علماء الإسلام إلى تأليف كتاب حول شأن نزول الآيات ، كالواحديّ وغيره ، جمعوا فيها ما عثروا عليه من وقائع وأحاديث في هذا السبيل.

على أنّ بعض الآيات ما لم يضّم إليها ، ما ورد حولها من شأن النزول لكانت غير واضحة المقصود ، وإليك نماذج من ذلك :

1. قوله سبحانه : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( البقرة : 189 ).

فيقال ، أي مناسبة بين السؤال عن الأهلّة والإجابة عنها بأنّها مواقيت للناس وبين قوله : ( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا ... ) وعلى فرض وضوح المناسبة ، ماذا يقصد القرآن من هذا الدستور ( وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ) ؟ أليس هذا توضيحاً للواضح ؟ ولكن بالمراجعة إلى ما ورد حوله يظهر الجواب عن كلا السؤالين.

2. قوله سبحانه : ( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ ) ( النمل : 82 ).

فما هذه الدابة التي تخرج من الأرض ، وكيف تكلمهم ومع من تتكلم ؟.

3. وقوله سبحانه : ( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( التوبة : 118 ).

إلى غير ذلك من هذه الآيات التي تتضح الحقيقة فيها بالمراجعة إلى ما حولها من الأحاديث الصحيحة.

هذا هو مجمل القول في علّة احتياج القرآن إلى مبيّن ، وللوقوف على تفصيله لابدّ من بسط الكلام والتوسع في الحديث ، وقد ألفّنا في ذلك رسالةً خاصّة.

ص: 130

إنّ إيقاف الاُمّة على مقاصد الكلام الإلهيّ ، من دون زيادة أو نقصان ، ومن دون تحريف أو تزييف ، ومن دون جهل أو شطط يحتاج إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله أو من يتحلى بمثل ما يتحلى به النبيّ من كفاءات علمية ومؤهلات فكريّة ... ويكون مضافاً إلى ذلك عيبةً لعلمه ، وأميناً على سره ، ومؤدّباً بتأديبه ، وناشئاً على ضوء تربيته ، حفاطاً على خطّ الرسالة من الشذوذ ، وصيانةً للفكر الإسلاميّ من الانحراف ، وصوناً للاُمّة من الوقوع في متاهات الحيرة والضلال والأخذ بالأهواء والأضاليل.

لقد كان من المتعيّن على اللّه بحكم الضرورة والعقل ، وانطلاقاً من الاعتبارات المذكورة ، أن يقرن كتابه بهاد يوضح خصوصياته ، ويبيّن أبعاده ، ويكشف عن معالمه ، ليؤوب إليه المسلمون عند الحاجة ، وترجع إليه الاُمّة عند الضرورة ويكون المرجع الصادق الأمين لمعرفة القرآن حتّى يتحقّق بذلك غرض الرسالة الإلهيّة ، وهو الإرشاد والهداية ، ودفع الاختلاف والغواية الناشئة من التفسيرات الشخصيّة العفويّة للقرآن الكريم.

إنّ ترك أمر الاُمّة وعدم نصب من يقدر - فيما يقدر - على هذه المهمّة القرآنيّة الخطيرة على ضوء ما استودع عنده النبيّ من معارف وعلوم إلهيّة قرآنيّة يؤدّي إلى اختلاف الاُمّة في الرأي والتفسير ، وهو بدوره يؤدّي لا محالة إلى ظهور الفرق والمذاهب المختلفة الشاذّة كما يشهد بذلك تأريخ الاُمّة الإسلاميّة.

يقول منصور بن حازم ، قلت لأبي عبد اللّه ( جعفر بن محمّد الصادق ) علیه السلام :

إنّ اللّه أجلّ وأكرم من أن يعرف بخلقه بل الخلق يعرفون باللّه.

قال : « صدقت ».

قلت : إنّ من عرف أنّ له ربّاً فينبغي له أن يعرف أنّ لذلك الربّ رضىً وسخطاً ، وأنّه لا يعرف رضاه وسخطه إلاّ بوحي أو رسول ، فمن لم يأته الوحي فقد ينبغي له أن يطلب الرسل فإذا لقيهم عرف أنّهم الحجّة ، وأنّ لهم الطاعة المفترضة ، وقلت للناس : تعلمون أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان هو الحجّة من اللّه على خلقه ؟ قالوا : بلى ، قلت : فحين

ص: 131

مضى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من كان الحجّة على خلقه ؟ فقالوا : القرآن ، فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجّيء والقدريّ والزنديق الذي لا يؤمن به حتّى يغلب الرجال بخصومته ، فعرفت أنّ القرآن لا يكون حجّةً إلاّ بقيّم ، فما قال فيه من شيء كان حقاً ، فقلت لهم : من قيّم القرآن ؟ (1) فقالوا : ابن مسعود قد كان يعلم ، وعمر يعلم ، وحذيفة يعلم ، قلت : كلّه ؟ قالوا : لا ، فلم أجد أحداً يقال أنّه يعرف ذلك كلّه إلاّ عليّاً علیه السلام وإذا كان الشيء بين القوم فقال هذا : لا أدري ، وقال هذا : لا أدري ، وقال هذا : لا أدري ، وقال هذا : أنا أدري ، فأشهد أنّ عليّاً علیه السلام كان قيّم القرآن ، وكانت طاعته مفترضةً ، وكان الحجّة على الناس بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأنّ ما قال في القرآن فهو حقّ.

فقال ( الإمام الصادق ) : « رحمك اللّه » (2).

كما ورد شاميّ على الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام فقال له : « كلّم هذا الغلام » ، يعني هشام بن الحكم ، فقال : نعم ، ثمّ دار بينهم حديث فقال الغلام للشاميّ : أقام ربّك للناس حجّةً ودليلاً كيلا يتشتتوا أو يختلفوا ، يتألّفهم ويقيم أودهم ويخبرهم بفرض ربّهم.

قال : فمن هو ؟

قال : رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

قال هشام : فبعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟

قال : الكتاب والسنّة.

قال هشام : فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنّة في رفع الاختلاف عنّا ؟

قال الشاميّ : نعم.

قال : فلم اختلفنا أنا وأنت وصرت ألينا من الشام في مخالفتنا إياّك ؟

ص: 132


1- أي من يقوم بأمر القرآن ويعرف ظاهره وباطنه ومجمله ومأوّله ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه بوحي إلهيّ أو بإلهام رباني ، أو بتعلم نبويّ ( راجع مرآة العقول ).
2- الكافي 1 : 168 - 169.

قال : فسكت الشاميّ.

فقال أبو عبد اللّه للشاميّ : « مالك لا تتكلم ؟ ».

قال الشاميّ : إن قلت : لم نختلف كذبت ، وإن قلت : إنّ الكتاب السنّة يرفعان عنّا الاختلاف أبطلت ، لأنهّما يحتملان الوجوه ، وإن قلت : قد اختلفنا وكلّ واحد منّا يدّعي الحقّ ، فلم ينفعنا إذن الكتاب والسنّة إلاّ أنّ لي عليه هذه الحجّة (1).

أجل ، لابدّ من قائم بأمر القرآن وهاد للاُمّة إلى مقاصده وحقائقه ، لكي لا تضلّ الاُمّة ولا تشذّ عن صراطه المستقيم.

وهذا الهادي الذي يجب أن يقرن اللّه به كتابه هو من عناه النبيّ صلی اللّه علیه و آله بقوله الذي تواتر نقله بين السنّة والشيعة.

فقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب ... إني تارك فيكم خليفتين كتاب اللّه وأهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » (2).

وروي هكذا أيضاً : « إنّي قد تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي : الثّقلين ، أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ، ألاّ وأنهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » (3).

فقد صرح النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعدم افتراق الكتاب والعترة ، وهذا دليل على علمهم بالكتاب علماً وافياً وعدم مخالفتهم له قولاً وعملاً.

كما أنّه جعلهما خليفتين بعده ، وذلك يقتضي ، وجوب التمسك بهم كالقرآن

ص: 133


1- الكافي 1 : 172.
2- (2 و 3) رواه أحمد بن حنبل في مسنده 5 : 182 و 2. والحاكم في مستدركه 3 : 109 ، ومسلم في صحيحه 7 : 122 ، والترمذيّ في سننه 2 : 307 ، والدارميّ في سننه 2 : 432 ، والنسائيّ في خصائصه : 30 ، وابن سعد في طبقاته 4 : 8 ، والجزريّ في اسد الغابة 2 : 12 ، وغيرها من كتب المسانيد والتفاسير والسير والتواريخ واللغة من الفريقين. وقد أفرد دار التقريب رسالة ذكر فيها مسانيد الحديث ومتونة ونشره عام 1375 ه.
3- (2 و 3) رواه أحمد بن حنبل في مسنده 5 : 182 و 2. والحاكم في مستدركه 3 : 109 ، ومسلم في صحيحه 7 : 122 ، والترمذيّ في سننه 2 : 307 ، والدارميّ في سننه 2 : 432 ، والنسائيّ في خصائصه : 30 ، وابن سعد في طبقاته 4 : 8 ، والجزريّ في اسد الغابة 2 : 12 ، وغيرها من كتب المسانيد والتفاسير والسير والتواريخ واللغة من الفريقين. وقد أفرد دار التقريب رسالة ذكر فيها مسانيد الحديث ومتونة ونشره عام 1375 ه.

ولزوم اتّباعهم على الإطلاق لعلمهم بالكتاب وأسراره وبمصالح الاُمّة واحتياجاتها المتعلقة بالقرآن.

وهو من حيث المجموع ، يدلّ على حاكميّة العترة النبويّة وسلطتهم وولايتهم على الناس بعد الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله .

* * *

3. الفراغ في مجال تكميل الاُمّة روحياً

إنّ نظرةً دقيقةً إلى الكون ، تهدينا إلى أنّ اللّه خلق كلّ شيء لهدف معيّن هو غاية كماله ، وعلّته الغائيّة ، وقد زوده بكلّ ما يبلّغه إلى ذلك الكمال ، ويوصله إلى تلك الغاية المنشودة.

ولم يكن « الإنسان » بمستثنى من هذه القاعدة الكلية الكونيّة ، فقد زوده اللّه تعالى - بعد أن أفاض عليه الوجود - بكل ما يوصله إلى كماله الماديّ ..

ولم يكن معقولاً أن يهمل اللّه تكامل الإنسان في الجانب المعنويّ ، وهو الذي أراد له الكمال المادّيّ وهيّأ له أسبابه ، وقيّض وسائله.

ولمّا كان تكامل الإنسان في الجانبين : المادّيّ والمعنويّ لا يمكن إلاّ في ظلّ الهداية الإلهيّة خاصّةً ، وكانت الهداية فرع الإحاطة بما في الشيء من إمكانات وخصوصيّات وأجهزة وحاجات ، وليس أحد أعرف بالإنسان من خالقه فهو القادر على هدايته ، وتوجيهه ، نحو التكامل والصعود إلى كماله المطلوب.

من هنّا تطلّب الأمر إرسال الرسل إلى البشر ... ليضيئوا للبشريّة طريق الرقيّ والتقدّم ، بالتزكية والتعليم والتربية ، ويساعدوها على تجاوز العقبات والعراقيل ، ليبلغوا بها إلى الكمال الذي أراده اللّه لها.

وقد قام انبياء اللّه ورسله الكرام - بكلّ ما في مقدورهم ووسعهم - بهداية البشريّة على مدار الزمن ، وحقّقوا من النجاحات والنتائج العظيمة ما غيّر وجه التاريخ البشريّ ،

ص: 134

وكان منشأ الحضارات الإنسانيّة العظمى ، ومنطلقاً للمدنيّات الخالدة.

لقد كان دور الأنبياء والرسل في تكميل البشريّة معنويّاً وروحيّاً ، دوراً أساسيّاً وعظيماً ، بحيث لولاه لبقيت البشريّة في ظلام دامس من التخلّفات الفكريّة والجاهليّات المقيتة.

ولقد كان هذا الدور منطقيّاً وطبيعيّاً ، فالبشريّة بحكم ما تتنازعها من أهواء ومطامع ، ويكتنفها من جهل بالحقّ والعدل ، لا يمكنها بنفسها أن تشقّ طريقها نحو التكامل المنشود ... فكم من مرّة ابتعدت البشريّة عن العناية الربانيّة والهدايّة الإلهيّة ، فسقطت في الحضيض ، ونزلت إلى مستوى الطبيعة البهيميّة ... وعادت كالأنعام بل أضلّ.

ولقد أشار الإمام السجّاد زين العابدين عليّ بن الحسين علیه السلام إلى حاجة البشريّة إلى الهدايّة الإلهيّة ، وأثر هذه الهداية في تكامل البشريّة سلباً وإيجاباً ، إذ قال في دعائه الأوّل في الصحيفة السجاديّة : « الحمد لله الذي لو حبس عن عباده معرفة حمده على ما أبلاهم من مننه المتتابعة وأسبغ عليهم من نعمه المتظاهرة لتصرّفوا في مننه فلم يحمدوه وتوسّعوا في رزقه فلم يشكروه ، ولو كانوا كذلك لخرجوا من حدود الإنسانيّة إلى حدّ البهيميّة ، فكانوا كما وصف في محكم كتابه ( إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ) » (1).

ولقد كان إيصال هذه الهداية الإلهيّة التكميليّة الضروريّة إلى البشر غير ميسور إلاّ عن طريق إرسال الرسل وبعث الأنبياء الأصفياء الهداة.

إنّ دراسةً سريعةً خاطفةً لحالة العالم الإنسانيّ ، وخاصّة حالة المجتمع العربيّ الساكن في الجزيرة العربية قبيل الإسلام ، وما كان يعاني منه الإنسان من تخلف وتأخّر وسقوط ، وما تحقق له من تقدّم ورقيّ واعتلاء في جميع الأبعاد الأخلاقيّة والفكريّة والإنسانيّة بفضل الدعوة المحمديّة ، والجهود التي بذلها صاحب هذه الدعوة المباركة ،

ص: 135


1- الصحيفة السجادية : الدعاء الأوّل.

وبفضل ما قام به من عناية ورعاية وإراءة الطريق الصحيح ، يكشف عن مدّعى تأثير الهداية الإلهيّة في تكامل المجتمع الإنسانيّ.

إنّ توقف تكامل البشريّة الروحيّ والمعنويّ على إرسال الرسل ، وهداية الأنبياء ورعايتهم ، هو نفسه يستدعي ، وجود الخلف المعصوم العارف بالدين ، للنبيّ ، ليواصل دفع المجتمع الإسلاميّ في طريق الكمال ، ويحفظه من الانقلاب على الأعقاب ، والتقهقر إلى الوراء ، كيف لا ، ووجود الإمام المعصوم العارف بأسرار الشريعة ومعارف الدين ، ضمان لتكامل المجتمع ، وخطوة كبيرة في سبيل إرتقائه الروحيّ والمعنويّ.

فهل يسوغ لله سبحانه أن يهمل هذا العامل البنّاء الهادي للبشريّة إلى ذروة الكمال ؟.

إنّ اللّه سبحانه جهّز الإنسان بأجهزة ضروريّة وغير ضروريّة ، ليوصله إلى الكمال المطلوب حتّى أنّه تعالى قد زودّه بإنبات الشعر على أشفار عينيه وحاجبيه وتقعير الأخمص من القدمين ، لكي تكون حياته لذيذة غير متعبة ، فهل تكون حاجته إلى هذه الاُمور أشد من حاجته إلى الإمام المعصوم الذي يضمن كماله المعنوي ؟ (1).

وما أجمل ما قاله أئمة أهل البيت علیهم السلام في فلسفة وجود الإمام المعصوم المنصوب من جانب اللّه سبحانه ، ومدى تأثيره في تكامل الاُمّة :

أ - يقول الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام : « إنّ الأرض لا تخلو إلاّ وفيها إمام كي ما إذا زاد المؤمنون شيئاً ردهم وإذا نقصوا شيئاً أتمّه لهم » (2).

ب - روى أبو بصير عن الإمام الصادق [ جعفر بن محمّد ] والإمام الباقر [ محمّد بن عليّ ] علیهماالسلام : « إنّ اللّه لم يدع الأرض بغير عالم ولولا ذلك لم يعرف الحقّ من الباطل » (3).

ص: 136


1- هذا الاستدلال مأخوذ من كلام الشيخ الرئيس ابن سينا في إلهيّات الشفا وكتاب النجاة ( له أيضاً ) : 304.
2- الكافي 1 : 178.
3- الكافي 1 : 178.

ج - قال الإمام أمير المؤمنين عليّ علیه السلام في نهج البلاغة : « اللّهمّ بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة ، إمّا ظاهراً مشهوراً وإمّا خائفاً مغموراً ، لئلاّ تبطل حجج اللّه وبيّناته » (1).

وفي حوار طويل جرى بين هشام بن الحكم وهو شاب وبين عمرو بن عبيد العالم المعتزليّ البصريّ ، أشار إلى الفائدة المعنويّة الكبرى لوجود الإمام المعصوم فقال هشام : أيّها العالم إنّي رجل غريب أتأذن لي في مسألة ؟

فقال : نعم.

فقال : ألك عين ؟

قال : نعم.

قال : فما تصنع بها ؟

فقال : أرى بها الألوان والأشخاص.

قال : فلك أنف ؟

فقال : نعم.

قال : فما تصنع به ؟

فقال : أشمّ به الرائحة.

قال : ألك فم ؟

فقال : نعم.

قال : فما تصنع به ؟

فقال : أذوق به الطعام.

قال : فلك اُذن ؟

فقال : نعم.

قال : فما تصنع به ؟

ص: 137


1- نهج البلاغة : قصار الكلمات.

فقال : أسمع به.

قال : ألك قلب ؟

فقال : نعم.

قال : فما تصنع به ؟

فقال : اميّز به كلّما ورد على هذه الجوارح والحواس.

قال : أو ليس في هذه الجوارح غنىً عن القلب ؟

فقال : لا.

قال : وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة ؟

فقال : يا بنيّ إنّ الجوارح إذا شكّت في شيء شمّته أو رأته ، أو ذاقته ، أو سمعته ، ردته إلى القلب فيستيقن اليقين ويبطل الشكّ.

قال هشام : فإنّما أقام اللّه القلب لشكّ الجوارح [ أي لضبطها ] ؟

قال : نعم.

قال : لا بدّ من القلب وإلاّ لم تستيقن الجوارح ؟

قال : نعم.

قال : يا أبا مروان ، فاللّه تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتّى جعل لها ( إماماً ) يصحّح لها الصحيح ويتيّقن به ما شكّ فيه ، ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكّهم واختلافهم لايقيم لهم ( إماماً )يردون إليه شكّهم وحيرتهم ويقيم لك ( إماماً ) لجوارحك تردّ إليه حيرتك وشكّك ؟!

قال هشام : فسكت ولم يقل لي شيئاً (1).

وغير خفي على القارئ النابه ، أنّ لزوم الحاجة إلى الإمام المعصوم ليس بمعنى تعطيل أثر الكتاب والسنّة وإنكار قدرتهما على حلّ الكثير من المشكلات والاختلافات ، بالنسبة إلى من يرجع إليهما بنيّة صادقة ، وتجرّد عن الآراء المسبقة.

ص: 138


1- الكافي 1 : 170.

غير أنّ هناك مسائل واُموراً عويصةً - خصوصاً فيما يرجع إلى المبدأ والمعاد وإلى فهم كتاب اللّه وسنّة رسوله - فلا مناص للاُمّة من وجود إمام عارف معصوم يخلِّف النبيّ صلی اللّه علیه و آله ويقوم مقامه في تكميل المجتمع الإسلاميّ في جميع شؤونه.

وصفوة القول : أنّ تكامل البشريّة الروحيّ والمعنويّ كما أنّه منوط ببعثة الأنبياء ووجود الرسل ، فهو كذلك منوط بوجود الإمام المعصوم الذي يتسنى له بما اوتي من علم وعصمة وملكات عالية وكفاءات قياديّة أن يوصل هداية المجتمع الإسلاميّ إلى ذرى الكمال الروحيّ والارتقاء المعنويّ بلا تعثّر ولا إبطاء ، ولا تقهقر ولا تراجع.

ومن المعلوم ، أنّ الاُمّة لا تقدر على معرفة ذاك الإمام ، إلاّ بتنصيب من اللّه سبحانه وتعيينه.

4. الفراغ في مجال الرد على الأسئلة والشبهات
اشارة

لقد تعرض الإسلام منذ بزوغه لأعنف الحملات التشكيكية ، وكان هدفاً لسهام الشبهات والتساؤلات العويصة والمريبة ، التي كان يثيرها اعداء الإسلام والنبيّ والمسلمين من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين.

وقد قام الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله في حياته بردّ هذه الشبهات وتبديد تلك الشكوك وصدّ الحملات التشكيكيّة بحزم فريد ، وتفوّق عليها بنجاح كبير مستعيناً بالوحي الإلهيّ.

وقد كانت هذه الشبهات تتراوح بين التشكيك في أصل وجود اللّه أو توحيده أو صدق الرسالة الإسلاميّة أو المعاد والحشر ، وغيرها من الاُمور الاعتقاديّة وبعض الاُمور العمليّة.

ولا شكّ ، أنّ هذه الحملات كانت تجد اذناً صاغيةً بين بعض المسلمين ، وتوجب بعض التزعزع في مواقفهم إلاّ أنّها كانت تتبدّد وينعدم أثرها بما كان يقوم به الرسول الأكرم المعلم من ردّ ودفع قاطع وحاسم.

ص: 139

نماذج من الأسئلة العويصة

عندما راجعت قريش يهود يثرب لمعرفة صدق ما يدّعيه النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال لهم اليهود : سلوه عن ثلاث نأمركم بهنّ ، فإن لم يخبر بها فالرجل متقوِّل فروا فيه رأيكم :

1. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ، ما كان أمرهم ؟ فإنّه قد كان لهم حديث عجب.

2. وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، ما كان نبؤه ؟

3. وسلوه عن الروح ما هي ؟

فأقبلوا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وطرحوا عليه الأسئلة المذكورة ، فأخبرهم عن أجوبتها ، وأخبرهم بأنّ الأوّل ، هم أصحاب الكهف الذين ذكرهم القرآن في سورة الكهف ، والثاني ، هو ذو القرنين الذي ذكره اللّه في سورة الكهف أيضاً ، وأمّا الثالث فقد أوكل علمه إلى اللّه بأمره حيث قال : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) ( الإسراء : 85 ) ، وقد أخبر بكل ذلك بما أوحى اللّه تعالى إليه (1).

كما قدم جماعة من كبار النصارى وعلمائهم إلى المدينة لمحاججة الرسول صلی اللّه علیه و آله فاستدلوا لاعتقادهم في المسيح علیه السلام بكونه ولداً لله ، بأنّه لم يكن له أب يعلم وقد تكلّم في المهد ، وهذا لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله ، فأجابهم بما أوحى إليه اللّه سبحانه بأنّ أمر عيسى ليس أغرب من أمر آدم الذي لم يكن له لا أب ولا أمّ. فهو أعجب من عيسى الذي ولد من أمّ حيث قال اللّه في هذا الصدد : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( آل عمران : 59 ) (2).

وعن أمير المؤمنين علي علیه السلام أنّه اجتمع يوماً عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أهل خمسة أديان : اليهود والنصارى والثنويّة والدهريّة ومشركو العرب.

ثمّ وجّه كلّ طائفة من هذه الطوائف أسئلة عويصة ومشكلة إلى النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله

ص: 140


1- سيرة ابن هشام 1 : 300 و 575.
2- سيرة ابن هشام 1 : 300 و 575.

وطالبوه بالإجابات المقنعة الكافية ، وجعلوا ذلك شرطاً لإسلامهم والتصديق به وبرسالته ، فأجابهم الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله بأجوبة كافية شافية مذكورة بتفصيلها في محلّها فأسلموا على أثر ذلك (1) ، والقصة بطولها جديرة بالمطالعة.

وقد بلغت هذه الحملات المعادية للإسلام ذروتها بعد وفاة الرسول صلی اللّه علیه و آله وغياب شخصه الكريم عن الساحة ... فشهد عهد الخلفاء موجات هائلةً من التيارات الإلحادية ، والمحاولات التشكيكيّة وطرح التساؤلات العويصة ، التي هبّت على المجتمع الإسلاميّ لتزعزع المسلمين عن عقيدتهم ، وذلك عندما أخذ يتوافد على المدينة جموع القساوسة والرهبان والأحبار يحملون إلى المسلمين الأسئلة العويصة ، والشبهات المريبة.

ولمّا كان مجرد الاطلاّع على الأحكام والمعارف الإسلاميّة وحدها لا يكفي في مواجهة تلكم الحملات والتيارات ، بل ينبغي أن يكون المتصدّي للرد على تلك الشبهات مضطلعاً ومطّلعاً على ما في الأديان والمباديء الاخرى من عيوب ونواقص ، وثغرات ، لذلك ، فإنّ المتصدّرين لمقام الخلافة كانوا يعانون صعوبات جمّةً وعجزاً ذريعاً في الإجابة عليها ، أو كانت الردود غير مقنعة ولا كافية.

إنّ التأريخ الإسلاميّ يحدثنا أنّ المسلمين لم يبلغوا من الناحية الفكريّة والعلميّة والإحاطة بالمبادئ والأديان الاخرى درجةً تؤهلهم للقيام بذلك ، ولم يقدر أحد منهم ، على مجابهة اولئك العلماء المتوافدين من أرباب الأديان أو الملحدين إلى عاصمة الدولة الإسلاميّة من كلِّ فج عميق بهدف الإيقاع بالإسلام والمسلمين.

وقد أثبتت الوقائع التي وقعت في ذلك العهد ، أنّ الشخص الوحيد الذي كانت ترجع إليه الاُمّة ، ويرجع إليه من تسلّموا مسند الخلافة والحكومة بعد النبيّ لحلِّ تلك المعضلات وردِّ تلك الشبهات والإجابة على تلك التساؤلات ، كان هو الإمام عليّ علیه السلام .

وإليك نماذج من تلك الأسئلة :

ص: 141


1- الاحتجاج للطبرسيّ ( من علماء القرن السادس الهجريّ ) 1 : 16 - 24.

1. جاء بعض أحبار اليهود إلى أبي بكر فقال : أنت خليفة نبيّ هذه الاُمّة ؟

قال : نعم.

فقال : إنّا نجد في التوراة أنّ خلفاء الأنبياء أعلم اممهم ؛ فأخبرني عن اللّه تعالى ، أين هو أفي السماء أم في الأرض ؟

فقال أبو بكر : هو في السماء على العرش.

فقال اليهوديّ : فأرى الأرض خاليةً منه وأراه على هذا القول في مكان دون مكان.

فقال أبو بكر : هذا كلام الزنادقة.

فولىّ الحبر متعجّباً يستهزئ بالإسلام فاستقبله أمير المؤمنين عليّ علیه السلام فقال : « يا يهوديّ قد عرفت ما سألت عنه وما اجبت به ، وإنّا نقول : إنّ اللّه عزّ وجلّ أيّن الأين فلا أين له ، وجلّ أن يحويه مكان وهو في كلِّ مكان بغير مماسة ولا مجاورة يحيط علماً بما فيها ولا يخلو شيء منها من تدبيره وإنّي مخبرك بما جاء في كتاب من كتبكم يصدِّق ما ذكرته لك ... » (1).

2. حضر مجلس علي علیه السلام في جامع الكوفة أحد يهود اليمن فقال : يا أمير المؤمنين صف لنا خالقك وانعته لنا كأنّا نراه وننظر إليه ، فسبح عليّ علیه السلام ربّه وقال :

« الحمد لله الذي هو أوّل بلا بديء ممّا ، ولا باطن فيما ، ولا يزال مهما ، ولا ممازج مع ما ، ولا خيال وهما. ليس بشبح فيُرى ، ولا بجسم فيتجزّأ ، ولا بذي غاية فيتناهى ، ولا بمحدَث فيبصر ، ولا بمستتر فيكشف ، ولا بذي حجب فيحوى ، كان ولا أماكن تحمله أكنافها ، ولا حملة ترفعه بقوّتها ، ولا كان بعد أن لم يكن ، بل حارت الأوهام أن تكيّف المكيّف للأشياء ، ومن لم يزل بلا مكان ، ولا يزول باختلاف الأزمان ... وكيف يوصف بالأشباح ، وينعت بالألسن الفصاح ... » إلى آخر المفصّل (2).

3. عن سلمان الفارسيّ في حديث طويل ذكر فيه قدوم كبير النصارى ( الجاثليق )

ص: 142


1- الإرشاد للمفيد : 108 في قضايا أمير المؤمنين.
2- توحيد الصدوق: 78 ح 34.

إلى المدينة مع مائة من النصارى بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله :

وسأل أبا بكر عن مسائل لم يجبه عنها ثمّ ارشد إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام فسأله عنها وكان ممّا سأل عنه أنّه قال : ( اخبرني عن وجه الربِّ تبارك وتعالى ) ، فدعا عليّ بحطب ونار فأضرمه ، فلمّا اشتعلت قال عليّ علیه السلام له : « أين وجه هذه النّار ؟ ».

قال النصرانيّ هي وجه من جميع حدودها فقال علیه السلام : « هذه النار مدّبرة مصنوعة لا يعرف وجهها ، وخالقها لا يشبهها ، ولله المشرق والمغرب ، فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه ، لا يخفى على ربِّنا خافية » (1).

4. وسأله رأس الجالوت ( اليهودي )عن مسائل بعد ما سأل أبا بكر فلم يجبه ..

سأله : ما أصل الأشياء ؟

فقال علیه السلام : هو الماء لقوله سبحانه : ( وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) ( الانبياء : 30 ).

وما جمادان تكلّما ؟

فقال علیه السلام : هما الأرض والسماء لقوله تعالى : ( فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) ( فصلت : 11 ).

ما شيئان ينقصان ويزيدان ولا يرى الخلق ذلك ؟فقال علیه السلام : هما الليل والنهار لقوله تعالى : ( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ) ( الحديد : 6 ).

إلى غير ذلك من المسائل العويصة ، والصعبة التي أجاب عنها الإمام عليّ علیه السلام بسرعة أدهشت الجاثليق وأثارت إعجابه (2).

هذا ولم تقتصر الموارد التي واجه فيها قادة المسلمين شبهات وأسئلة عجزوا عن

ص: 143


1- قضاء أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب : 88 ( طبعة النجف ).
2- مناقب ابن شهر آشوب 1 : 490 - 491 عنه البحار40 : 224.

ردهّا والإجابة عليها على ما ذكرناه ، بل هناك عشرات الموارد الاخرى نذكر بعضها إجمالاً :

1. سؤال الغلام اليهوديّ من عمر بن الخطاب في اليوم الأوّل من خلافته وإرجاع الخليفة له إلى الإمام عليّ علیه السلام (1).

2. بعد أن ارتد الحارث بن سنان الأسدي الذي كان أحد الصحابة ، والتحق بالروم ، حث الروم على طرح بعض الأسئلة على المسلمين ، فتوجّه ممثل الروم إلى المدينة وطرح بعض الأسئلة (2).

3. سؤال القائد الروميّ من عمر (3).

4. الأسئلة التي طرحها علماء اليهود على عمر حول أصحاب الكهف (4).

5. سؤال كعب الأحبار من عمر (5).

6. وفود أسقف نجران على عمر وطرح بعض الأسئلة عليه (6).

7. وفود جماعة من اليهود على عمر وطرح بعض الشبهات والمواضيع عليه (7)

8. وفود جماعة من اليهود على عمر أيضاً وطرح بعض الأسئلة عليه (8).

9. سؤال كعب الأحبار من عمر ، وإحالة عمر له على الإمام أيضاً (9).

ص: 144


1- الغدير 6 : 168 ، نقلاً عن كتاب زين الفتى في تفسير هل أتى تأليف أحمد بن محمّد بن عليّ العاصميّ الشافعيّ ( مخطوط ) ، علي والخلفاء : 138 - 145 ، نقلاً عن فرائد السمطين 1 : باب 66 ( مخطوط ).
2- قضاء أمير المؤمنين : 263.
3- تذكرة الخواص لابن الجوزيّ المتوفّي عام ( 656 ه ) : 144 - 147 ( طبع النجف الأشرف ).
4- غاية المرام للبحرانيّ المتوفّي عام ( 1107 ه ) : 517 ، والغدير 6 : 47 نقلاً عن العرائس في قصص الأنبياء : 227.
5- كنز العمال للمتّقي الهنديّ 4 : 55 نقلاً عن طبقات ابن سعد المتوفّي عام ( 207 ه ).
6- تفسير البرهان 2 : 107 ، عليّ والخلفاء : 171 نقلاً عن كتاب زين الفتى.
7- قضاء أمير المؤمنين للتستريّ : 67 ( طبعة النجف ) ، عليّ والخلفاء : 176.
8- قضاء أمير المؤمنين : 82 ( طبعة النجف ) ، عليّ والخلفاء : 178.
9- قضاء أمير المؤمنين : 64 ، البحار 9 : 483 ( الطبعة القديمة ).

10. سؤال كعب الأحبار من عثمان وإرجاع عثمان له على الإمام عليّ (1).

11. طرح سؤال عويص من الروم على معاوية والتماس معاوية الجواب من الإمام عليّ بطريقة ماكرة (2).

12. طرح أسئلة اُخرى من جانب البلاط الرومانيّ على معاوية واستمداد معاوية الأجوبة من الإمام عليّ علیه السلام (3).

13. طرح أسئلة للمرّة الثالثة من جانب الامبراطور الرومانيّ على معاوية والتماس معاوية الأجوبة من الإمام عليّ علیه السلام أيضاً (4).

إنّ هذه الوقائع ووقائع كثيرةً اُخرى تشير بوضوح إلى عدم قدرة الاُمّة ، على مواجهة الشبهات والشكوك التي كان يبثّها ويلقيها أعداء الإسلام على المسلمين لتقويض عقيدتهم ، فهل كان من الجائز أن يترك اللّه سبحانه الاُمّة الإسلاميّة - والحال هذه - من دون أن يربّي ويخلّف فيهم من يصون الدين ويحفظ عقيدة اتباعه من أخطار التشكيك ، وذلك بالوقوف في وجه كلّ مشكّك وصاحب شبهة بالمنطق أو الجدل المفحم ، وهل يمكن ذلك إلا لمن يكون عارفاً بأبعاد الدين وقضاياه تفصيلاً ، ويكون محيطاً بما في الأديان الاخرى وما في كتبها وعند علمائها ؟

أليس أي نكسة تصيب المسلمين في هذا المجال من شأنها أنّ تؤثر على معنويّتهم وتزعزع اعتقادهم ، وتزيد من جرأة الأعداء وطمعهم في إخراج المسلمين من دينهم ؟.

إنّ بقاء أي دين وعقيدة ، يرتبط بمدى قدرة المدافعين عن حياضه ، والذبّ عن كيانه الفكريّ والسياسيّ والاجتماعيّ ، إمّا بقوّة السلاح أو بقوّة المنطق من قبل

ص: 145


1- عليّ والخلفاء : 313 نقلاً عن كتاب عجائب أحكام أمير المؤمنين : 119.
2- المصدر نفسه.
3- قضاء أمير المؤمنين : 78 و 114 ، عليّ والخلفاء : 320.
4- قضاء أمير المؤمنين : 16 نقلاً عن مناقب ابن شهر بن آشوب.

الشخصيات المؤهلة القادرة على الدفاع الحازم.

بل لابدّ من الاعتراف بأنّ القوّة العسكريّة وحدها غير كافية للمحافظة على سطوع الدين وبقائه ، وسلامته على مدار الزمان ، فلابدّ - مضافاً إلى ذلك - من وجود الشخصيّات العلميّة اللائقة التي تحرس سياج الدين ، وتلبّي احتياجات الاُمّة ، وتمدّها وتمدّ عقيدتها بطاقة البقاء والاستقامة والحياة.

من هنا يتعين على صاحب الدعوة تربية وتعيين من يكون جديراً بتحمل هذه المسؤولية وقادراً على القيام بها لينير للمسلمين طريقهم ، ويصون من شبهات العابثين المغرضين إيمانهم وعقيدتهم.

* * *

5. الفراغ في مجال صيانة الدين من التحريف
اشارة

إنّ من أهم ما كان يقوم به النبيّ العظيم صلی اللّه علیه و آله هو محافظته الشديدة على الدين وصيانته من التحريف والدسّ ، فقد كان يعلم المسلمين كتابهم العزيز ، ويراقب ما أخذوه عنه من اُصول وفروع فينبّه على خطأهم ، ويدلّهم على الحق.

ولا ريب أنّ من أبرز ما تتمتّع به امّة من الامم ، هو قدرتها على حفظ دينها من كيد الكائدين ودس الداسيّن وتحريف المحرفين ، وهو الخطر الذي تعرضت له جميع الأديان السالفة والمذاهب السابقة وعانت منه أسوء أنواع الدسّ والتحريف وإلى هذا يشير القرآن إلى ما عانى منه دين موسى على أيدي أتباعه اليهود ، إذ قال : ( مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ) ( النساء : 46 ).

ولقد كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يقوم بهذه المهمة الخطيرة في حياته الشريفة ... فكيف يمكن تحقيق ذلك بعد وفاته ؟ وكيف يمكن حفظ الدين من التحريف بعده ؟!

إنّ صيانة الدين من التحريف والدسّ ، لا تمكن إلاّ إذا توفرت لدّى الاُمّة اُمور ثلاثة :

ص: 146

1. أنّ تكون الاُمّة قد بلغت في الرشد الفكريّ والعقليّ مبلغاً يؤهلها للحفاظ على أسس الشريعة ومفاهيمها من أي دسّ وتحريف.

2. أن تكون فروع الدين واُصوله واضحةً ومعلومةً لدى الاُمّة ، وضوحاً يمكِّنها من تمييز الحقّ عن الباطل ، والدخيل عن الأصيل في مفاهيمه ، وعقائده وتشريعاته.

3. أن يكون لديها كلّ ما صدر من النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله من أحاديث ونصوص كاملة ، لتقدر بمراجعة ما لديها من الحديث وعلم الكتاب ومعارفه ، على أن تميِّز الصحيح من المجعول والوارد من الموضوع.

ولا ريب أنّ الاُمّة الإسلاميّة قد وصلت آنذاك بفضل جهود صاحب الدعوة ، إلى درجة مرموقة من الوعي والحفظ لنص الكتاب الكريم ما يجعلها قادرةً على حفظ النصّ القرآنيّ من التحريف ، وصونه من محاولات الزيادة والنقصان كما نرى ذلك في قصة الصحابيّ الجليل « ابيّ بن كعب » الذي كان له موقف عظيم من عثمان في قضية إثبات الواو في آية الكنز ، وإليك الواقعة كما ينقلها تفسير الدرّ المنثور عن علباء بن أحمر : ( انّ عثمان بن عفان لمّا أراد أن يكتب المصاحف أرادوا (1) أن يلقوا ( الواو ) التي في سورة البراءة في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( التوبة : 34 ).

قال ابيّ : ( لتلحقنّها أو لأضعنّ سيفي على عاتقي ) فألحقوها (2).

فقد كان عثمان يريد أن يقرأ قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ ) بدون واو العطف لتكون هذه الجملة وصفاً للأحبار اليهود ... وهذا مضافاً إلى كونه خلاف التنزيل وتغييراً في ما نزل به الوحي كما تلاه الرسول وقرأه على مسامع القوم ، فإنّ حذف الواو كان يعني ، أنّ آية حرمة الكنز لا ترتبط بالمسلمين ، بل هي صفة للأحبار والرهبان وكان يقصد من

ص: 147


1- هكذا في الأصل ، والصحيح : أراد إلاّ أن يراد الكتّاب.
2- الدرّ المنثور 3 : 232.

هذا إضفاء طابع الشرعيّة على اكتناز الأموال الطائلة الذي كان يقوم به جماعة من بطانة الخليفة كما يشهد بذلك التأريخ.

ولكن عثمان لم يستطع تحقيق هذا المطلب فقد عارضه أبّي بن كعب ، واعترض عليه هذا التغيير الطفيفة اللفظي في الظاهر.

وهذا يكشف عن مدى حفظ الاُمّة لنصّ الكتاب بهذه الصورة الدقيقة الأمينة. بيد أنّ حفظ الاُمّة كان محدوداً لا يتجاوز هذا الحدّ ، إذ كان غير شامل لجوانب اخرى من الشريعة واُصولها ومصادرها وينابيعها.

ويدل على ذلك :

أوّلاً : أنّ الامّة اختلفت في تفسير الكثير من آيات القرآن ، وبيان مقاصده ومعارفه اختلافاً جرّ إلى تعدّد المذاهب ، ونشوء الاتّجاهات المختلفة ، والتيارات المتضاربة وكلّ يتمسّك بالكتاب وربّما بالسنّة.

فمن جبريّة إلى معتزلة ، إلى صفاتيّة إلى خوارج ، إلى مرجّئة ، وشيعة ، وكلّ منها يتفرع إلى فرق وطوائف من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار في العقيدة والمسلك ، وفي الاُصول والفروع (1).

فهل يمكن أن يكون كلّ ذلك هو الحقّ الذي تضمّنه القرآن ، ودعا إليه ؟!!

أليس ذلك يدل على أنّ الاُمّة لم تبلغ في الإحاطة بالشريعة والنضج الفكريّ الإسلاميّ ذلك المستوى الذي يؤهلها لحفظ الاُصول والفروع ، والمحافظة على ما يتّصل بالكتاب والسنة ، وطرح ما لا يمتّ إليهما بصلة.

ثانياً : أنّ التأريخ يشهد بأنّ الأمّة الإسلاميّة - في عصر الخلفاء - يوم اتّسعت رقعة البلاد الإسلاميّة واستوعبت شعوباً كثيرةً ، شهدت دخول جماعات عديدة من أحبار

ص: 148


1- راجع للوقوف على هذه المذاهب وفروعها : الملل والنّحل للشهرستانيّ والفرق بين الفرق وغيرهما ممّا ألّف في هذا المجال.

اليهود وعلماء النصارى في الإسلام ، مثل كعب الأحبار وتميم الداريّ ووهب بن منبّهوعبد اللّه بن سلام ، الذين تسللوا إلى صفوف المسلمين ، وراحوا يدسون الأحاديث الإسرائيليّة ، والخرافات والأساطير النصرانيّة في أحاديث المسلمين وكتبهم وأذهانهم.

وقد ظلت هذه الأحاديث المختلفة ، تخيِّم على أفكار المسلمين ردحاً طويلاً من الزمن ، وتؤثر في حياتهم العمليّة ، وتوجّهها في الوجهة المخالفة لروح الإسلام الحنيف في غفلة من المسلمين وغفوتهم. ولم ينتبه إلى هذا الأمر الخطير ، إلاّ من عصمه اللّه كعليّ علیه السلام الذي راح يحذّر المسلمين عن الأخذ بمثل هذه الأحاديث المختلفة فقال : « ولو علم النّاس أنّه منافق كذّاب ، لم يقبلوا منه ولم يصدّق ، ولكنهم قالوا هذا قد صحب رسول اللّه ورآه وسمع منه وأخذ عنه وهم لا يعرفون حاله » (1).

نماذجٌ وأرقامٌ عن الأحاديث الموضوعة :

وحسبك لمعرفة ما أصاب المسلمين وما تعرضت له أحاديثهم ولمعرفة الذين لعبوا هذا الدور الخبيث في غفلة من الاُمّة ما كتب في هذا الصدد مثل كتاب :

ميزان الاعتدال للذهبيّ.

وتهذيب التهذيب للعسقلانيّ.

ولسان الميزان للعسقلانيّ

ونظائرها من الكتب التي صنفت في هذا المجال.

ولعل فيما قاله البخاري صاحب « الصحيح » المعروف ، إشارة إلى طرف من هذه الحقيقة المرّة ، حيث قال ابن حجر في مقدمة فتح الباري :

إنّ أبا عليّ الغسّانيّ روي عنه أنّه قال : خرّجت الصحيح من 600 ألف

ص: 149


1- نهج البلاغة : الخطبة 205.

حديث (1).

وروى عنه الإسماعيليّ أنّه قال :

احفظ مائة ألف حديث صحيح وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح (2).

ويعرب عن كثرة الموضوعات اختيار أئمّة الحديث أخبار تآليفهم ( الصحاح والمسانيد ) من أحاديث كثيرة هائلة ، والصفح عن غيرها ، وقد أتى أبو داود في سننه بأربعة آلاف وثمانمائة حديثاً وقال ، انتخبته من خمسمائة ألف حديث (3).

ويحتوي صحيح البخاري من الخالص بلا تكرارعلى ألفي حديث وسبعمائة وواحد وستين حديثاً اختاره من زهاء ستمائة ألف حديث (4).

وفي صحيح مسلم أربعة آلاف حديث اُصول دون المكررات صنفه من ثلاثمائة ألف (5).

وذكر احمد في مسنده ثلاثين ألف حديث وقد انتخبه من أكثر من سبعمائة وخمسين وألف حديث وكان يحفظ ألف ألف حديث (6).

وقد قام الباحث الكبير المجاهد العلامة الأمينيّ في موسوعته ( الغدير ) - الجزء الخامس - باستخراج أسماء الكذّابين والوضّاعين للحديث على حسب الحروف الهجائية فبلغ عددهم 700.

وما قام به رحمه اللّه وإن كان عملاً كبيراً يشكر عليه ، غير أنّه لو قام بهذا الأمر لجنة من الباحثين لعثروا على أضعاف ما ذكره ذلك الباحث الكبير.

ص: 150


1- من الهدى الساري مقدمة فتح الباري : 4.
2- من الهدى الساري مقدمة فتح الباري : 5.
3- طبقات الحفّاظ للذهبيّ 2 : 154 ، تاريخ بغداد 9 : 57.
4- إرشاد الساري 1 : 208 ، صفوة الصفوة 4 : 143.
5- طبقات الحفاظ للذهبيّ 2 : 151 ، 157 ، شرح صحيح مسلم للنووي 1 : 32.
6- طبقات الذهبيّ 9 : 17.

والذي يرشدك إلى كثرة الاحاديث الموضوعة الكاذبة ما يوجد في ترجمة شرذمة قليلة من أولئك الجمّ الغفير من الكذّابين ، من أنّه وضع عشرة آلاف حديث كما ذكروه في ترجمة أحمد بن عليّ الجويباريّ.

فقد قام الباحث المتقدم الذكر بعد ما أورد من الأرقام في ترجمة اولئك الكذابين بإحصاء عدد الأحاديث التي وضعوها أو قلبوها فبلغت ما يقارب النصف مليون حديثاً.

وهذه الأرقام راجعة إلى واحد وأربعين شخصاً (1).

وقد الفّت في تمييز الأحاديث الموضوعة من الأحاديث الصحيحة كتب نذكر منها ما ألّفه أبو الفرج عبد الرحمان بن عليّ المعروف بابن الجوزيّ البغداديّ المتوفّى ( 597 ه ) الذي ذكر كلّ حديث موضوع.

وقد تنبّأ الرسول صلی اللّه علیه و آله بما سيصيب سنتّه الشريفة ويصيب المسلمين فيما بعد على أيدي الكذّابين ، ووضّاعي الحديث وأعداء الإسلام ، وأخبر عن وجود من يقف في وجه هذا الخطر العظيم إذ قال : « يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين ، وانتحال الجاهلين ، كما ينفي الكير خبث الحديد » (2).

وروي عن الإمام الصادق علیه السلام قوله : « إنّ فينا أهل البيت في كلِّ خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين » (3).

أليس كلّ هذا يستوجب ، أن يربّي النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله بعده من يتمتّع بالعصمة الكافية والعلم الواسع ليحفظ الدين من محاولات التحريف ، ويصون الشريعة من أي خيانة ودسّ ؟

ص: 151


1- راجع الغدير 5 : 247 - 249 تحت عنوان ( قائمة الموضوعات والمقلوبات ).
2- رجال الكشّيّ : 5.
3- الكافي 1 : 25.
خلاصةُ ما سبق

لقد تبين مما تقدم أنّ الإمام الذي يخلّف النبيّ صلی اللّه علیه و آله هو من يقوم مقامه في سدّ ما حدث بوفاته صلی اللّه علیه و آله من فراغ هائل بل فراغات كبرى في الحياة الإسلاميّة :

فكما أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان يقوم إلى جانب مهمّة التبليغ للدين الإلهيّ ب :

1. بيان معالم الشريعة وأحكامها حسب الحاجات المتجددة في حياة الاُمّة.

2. شرح معاني القرآن الكريم ، وتفسير آياته ، وبيان مقاصده وكشف القناع عن أسراره ورموزه وأبعاده حسب اقتضاء الظروف والنفوس.

3. هداية الاُمّة نحو التكامل الروحيّ والمعنويّ بتوحيد صفوف الاُمّة وجمع شملها ، وتعاهدها بالتربية والتزكية ..

4. الدفاع عن حمى الشريعة ، بالرد على الشبهات ، والإجابة على الأسئلة العويصة وتبديد الشكوك التي يثيرها أعداء الإسلام.

5. صيانة الدين عن محاولات الدسّ والتحريف ، في مفاهيمه وشرائعه.

أقول : كما أنّ وجود النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان يملأ هذه الفراغات الهائلة ، فإنّ فقدانه يوجب حدوثها ، فلابدّ من إمام معصوم ليملأها كما كان النبيّ يملأها بحزمه وعلمه ، وقيادته وهدايته.

فعلى الإمام - بما لديه من علم شامل بأبعاد الشريعة وجزئياتها - أن يعالج مشاكل الاُمّة المستحدثة ، ويفسّر لهم الكتاب العزيز ويكشف لهم ما لم يكشف من أبعاده ووجوهه ، ويعين الاُمّة على مواصلة طريق التكامل الذي بدأته بدعوة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ويدافع عن حمى الشريعة برد الشبهات ، والإجابة الوافية على الأسئلة العويصة التي يثيرها الأعداء ، بهدف احراج المسلمين وزعزعتهم عن عقيدتهم ، ويصون الدين والعقيدة من أي تحريف ودسّ.

وبالتالي ، يقوم بكل ما يقوم به النبيّ من قيادة وهداية ، وتربية وتزكية.

ص: 152

ولمّا كانت هذه المسؤوليات لا ينهض بها إلاّ الإمام اللاّئق بخلافة النبيّ صلی اللّه علیه و آله القادر على سدّ الفراغ الكبير الذي يحدثه غياب النبيّ صلی اللّه علیه و آله ولا توجد هذه اللياقة بالتربية العاديّة المتعارفة بل لا بدّ من عناية ربانية واعداد إلهيّ.

ولمّا كانت معرفة مثل هذا الإمام اللائق المعصوم متعذرةً على الاُمّة ، يتعين على اللّه سبحانه العارف بعباده ، المحيط بهم ، أن يعرّف الاُمّة بالإمام وينصبه لهم. ولا يترك الأمر إلى نظر الاُمّة ورأيها لتختار حسب ما ترى ، وتشاء.

ثمّ إنّ الشيخ الرئيس ( ابن سينا ) أشار في بعض كلماته إلى فوائد تنصيب الإمام ، التي ترجع إلى بعض ما ذكرنا ، وإليك بعض نصوص كلماته : ( ثمّ إنّ هذا الشخص الذي هو النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ليس ممّا يتكرر وجود مثله في كلّ وقت فإنّ المادة التي تقبل كمال مثله يقع في قليل من الأمزجة ، فيجب لا محالة ، أن يكون النبيّ قد دبّر لبقاء ما يسنّه ويشرّعه في اُمور المصالح الإنسانية تدبيراً عظيماً ).

إلى أن قال - في الفصل الخامس - : ثمّ يجب أن يفرض السانّ ( أي الشارع ) طاعة من يخلفه ، وأن لا يكون الاستخلاف إلاّ من جهته ( أي من جهة السانِّ الشارع ) أو بإجماع من أهل السابقة على من يصححون ، علانيةً ، عند الجمهور أنّه مستقل بالسياسة وأنّه أصيل العقل حاصل عنده الأخلاق الشريفة من الشجاعة والعفة وحسن التدبير ، وأنّه عارف بالشريعة حتّى لا أعرف منه تصحيحاً.

إلى أن قال : ويسنّ عليهم أنّهم إذا افترقوا وتنازعوا للهوى والميل ، أو أجمعوا على غير من وجدوا الفضل فيه والاستحقاق فقد كفروا باللّه.

والاستخلاف بالنصّ أصوب ، فإنّ ذلك لا يؤدي إلى التشعّب والتشاغب والاختلاف ) (1).

ص: 153


1- الشفاء 2 ( الفن الثالث عشر في الإلهيّات - المقالة العاشرة الفصل الثالث والخامس - في المبدأ والمعاد ) : 558 و 564 ( طبعة إيران ).

الطريق الثالث: الخلافة عند النبيّ والصحابة والاُُمم السابقة

اشارة

3

1. تصوّر النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن مسألة القيادة بعده.

2. تصوّر الصحابة عن الخلافة بعد النبيّ.

3. صيغة القيادة والخلافة عند الاُمم السالفة.

لقد دلّت المحاسبات العقليّة والاجتماعيّة السابقة على لزوم تعين الإمام من جانب اللّه تعالى ، وأثبتت أنّ إيكال الأمر إلى نظر إلامّة وانتخابها وتعيينها خطأ فاضح ، يأباه العقل وترفضه المصالح العامّة وتعارضه المحاسبات الاجتماعيّة.

هذا ويمكن الاستدلال أيضاً على لزوم نصب الإمام من جانب اللّه بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وعدم إيكال ذلك إلى رأي الاُمّة ، بالأدلّة النقلية والتاريخيّة وهي تشمل :

1 / تصوّره صلی اللّه علیه و آله عن مسألة القيادة من بعده.

2 / تصوّر الصحابة عن هذه المسألة.

3 / صيغة القيادة - لدى الامم السابقة - وسيرتهم في ذلك بعد غيبة أنبيائهم.

وإليك فيما يلي بيان هذه الاُمور والأدلة بالتفصيل :

ص: 154

1. تصوّر النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله عن القيادة بعده :

لا ريب أنّ من أهمّ الأدلة على لزوم نصب الإمام والقائد بعد النبيّ هو تصوّر النبيّ صلی اللّه علیه و آله نفسه عن هذه المسألة ، فماذا كان هذا التصوّر ؟

هل كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يعتقد بلزوم نصب الإمام والقائد من جانب اللّه ؟ أم كان يعتقد ترك ذلك إلى نظر الاُمّة وإرادتها وإختيارها ؟ أم كان يعتبر ذلك من شؤونه واختصاصاته على الأقل ؟

إنّ الكلمات المأثورة عن الرسول الأكرم وموقفه صلی اللّه علیه و آله من قضية القيادة بعده ، تدلّ على أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان يعتبر أمر القيادة وتعيين القائد مسألةً إلهيّةً وحقاً إلهيّاً ... فاللّه سبحانه هو الذي له أن يعين القائد وينصب الخليفة الذي يخلِّف النبيّ بعد وفاته. ولا نجد في كلّ ما نقل عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ما يدل على إرجاع الأمر إلى اختيار الاُمّة ونظرها ، أو إلى اراء أهل الحلّ والعقد واجتماعهم ، أو غير ذلك من صور الانتخاب والتعيين غير الإلهيّ.

إنّ الأدلة والشواهد النقليّة تشهد برمتها بأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ذكر للاُمّة مراراً بأنّ تعيين الأمير من بعده أمر إلهيّ ، وليس له في ذلك شيء ، فلا يمكنه أن يقطع لأحد عهداً بأن يستخلفه من بعده ، دون أن يأذن اللّه تعالى له في ذلك أو يأتيه منه سبحانه أمر ووحي.

وفيما يأتي نذكر شاهدين تأريخيين على ذلك ، والشاهد الأوّل أكثر صراحة في ما ذكرناه :

1. لمّا عرض الرسول صلی اللّه علیه و آله نفسه على بني عامر الذين جاؤوا إلى مكة في موسم الحجِّ ودعاهم إلى الإسلام قال له كبيرهم : ( أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثمّ أظهرك اللّه على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ ).

فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « الأمر إلى اللّه يضعه حيث يشاء » (1).

ص: 155


1- السيرة النبويّة لابن هشام 2 : 424 - 425.

2. لما بعث النبيّ صلی اللّه علیه و آله سليط بن عمرو العامريّ إلى ملك اليمامة ( هوذة بن عليّ الحنفيّ ) الذي كان نصرانياً ، يدعوه إلى الإسلام وقد كتب معه كتاباً ، فقدم على هوذة ، فأنزله وحباه وكتب إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله يقول فيه : ( ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله وأنا شاعر قومي ، وخطيبهم ، والعرب تهاب مكاني فاجعل لي بعض الأمر أتبعك ).

فقدم سليط على النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأخبره بما قال هوذة ، وقرأ كتابه فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « لو سألني سيابةً من الأرض ما فعلت ... باد وباد ما في يده » (1).

ونقل ابن الأثير على نحو آخر فقال : أرسل هوذة إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله وفداً يقول له :

( إن جعل له الأمر من بعده أسلم وصار إليه ونصره ، وإلاّ قصد حربه ).

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « فمات بعده قليل لا ولا كرامة ... اللّهمّ اكفنيه » (2).

إنّ هذين النموذجين التاريخيين الذين لم تمسّهما أيدي التحريف والتغيير يدلان بوضوح كامل على تصوّر النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله عن مسألة الخلافة والقيادة من بعده ، فهما يدلاّن على أن هذه المسألة كانت إذا طرحت على النبيّ ، وسئل عمّن سيخلّفه في أمر قيادة الأمّة كان يتجنب إرجاعها إلى نفسه ، أو إلى نظر الاُمّة ، بل يرجع أمرها إلى اللّه تعالى. أو يتوقّف في إبداء النظر فيه على الأقل.

على أنّ مسألة انتخاب الخليفة القائد بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله لو كانت من شؤون الاُمّة وصلاحياتها وجب أن يصرح النبيّ بذلك أو يشير إلى أصل الموضوع ولو بالإجمال.

بل وجب أن يبيّن للاُمّة الطريقة الصحيحة للانتخاب ، ويذكر لهم الشروط والضوابط اللازمة في الناخب ، والمنتخب ، لكي يتحقق هذا الأمر بوجه صحيح ، بينما نجد النبيّ لا يتعرض لهذا الأمر أبداً ، ولم يؤثر عنه أي نقل ، وإرشاد وتعليم في هذا المجال ، رغم أهميّة الموضوع وخطورته البالغة ، مع أنّه صلی اللّه علیه و آله قد تعرّض لاُمور أسهل وأبسط

ص: 156


1- طبقات ابن سعد الكبرى 1 : 262.
2- الكامل في التاريخ لابن الأثير 2 : 146.

من ذلك فهل مسألة القيادة ، والإدارة والإمرة - وخصوصاً في تلك الظروف العصيبة وبالنسبة إلى تلك الاُمّة الناشئة - أقلّ شأناً ، وأهميّةً من المستحبّات والمكروهات التي ورد فيها الكثير الكثير من الأحاديث النبويّة ؟

* * *

2. تصوّر الصحابة عن الخلافة بعد النبيّ

اشارة

إنّ المتتبع في تاريخ الصحابة والخلفاء والذين تعاقبوا على مسند الحكومة بعد النبيّ ، يرى بوضوح أنّ الطريقة التي اتبعها أولئك الصحابة ، والخلفاء كانت هي الطريقة الانتصابيّة لا الانتخابيّة الشعبيّة.

فالخليفة السابق كان يعين الخليفة اللاحق ، إمّا مباشرة أو بتعيين شورى تتولى هي تعيين الخليفة والاتفاق عليه ... ولم يترك أحد من أولئك الخلفاء أمر القيادة إلى نظر الاُمّة وإرادتها واختيارها ، أو يتكل على آراء المهاجرين والأنصار ، أو أهل الحلّ والعقد ليختاروا هم - بمحض إرادتهم - من يشاؤون للخلافة والإمرة.

فمن يلاحظ تاريخ الصدر الأوّل يرى ، أنّ خلافة ( عمر بن الخطاب ) تمت بتعيين من أبي بكر.

وأمّا خلافة ( عثمان بن عفان ) فتمت بواسطة شورى عيّن ( عمر بن الخطاب ) أفرادها وأمرهم بانتخاب الخليفة من بين انفسهم ، ولم يترك أحد من هؤلاء أمر القيادة إلى اختيار الاُمّة.

وإليك تفصيل الأمر في كيفية استخلاف أبي بكر لعمر بن الخطاب ... ويليه تفصيل لكيفية استخلاف عمر بن الخطاب لعثمان بن عفان.

أ - استخلاف أبي بكر لعمر

قال ابن قتيبة الدينوري في تاريخ الخلفاء : ( ... دعا ( أبو بكر ) عثمان بن عفان ،

ص: 157

فقال : اكتب عهدي ، فكتب عثمان ، وأملى عليه : ( بسم اللّه الرّحمن الرّحيم هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة آخر عهده في الدنيا نازحاً عنها ، وأوّل عهده بالآخرة داخلاً فيها ، إنّي استخلف عليكم عمر بن الخطاب فإن تروه عدل فيكم ظنّي به ورجائي فيه ، وإن بدّل وغيّر فالخير أردت ، ولا أعلم الغيب وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) (1).

ويظهر من ابن الاثير - في كامله - أنّ أبا بكر أملى على عثمان عهده ، ولكنّه غشي عليه أثناء الإملاء ، فأكمله عثمان وكتب فيه استخلاف عمر من عند نفسه ، ثمّ إنّه لمّا أفاق أبو بكر من غشيته ، وافق على ما كتبه عثمان ، وإليك نصّ ما كتبه ابن الأثير : ( ... إنّ أبا بكر أحضر عثمان بن عفان خالياً ليكتب عهد عمر فقال له : اكتب بسم اللّه الرّحمن الرّحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة ، أمّابعد ... ثم اغمي عليه ... فكتب عثمان : فإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيراً.

ثمّ أفاق أبو بكر فقال : اقرأ عليّ ، فقرأ عليه ، فكبّر أبو بكر ، وقال : أراك خفت أن يختلف الناس إن متّ في غشيتي ) (2).

قال عثمان : نعم.

قال : جزاك اللّه خيراً عن الإسلام وأهله.

فلمّا كتب العهد أمر به أن يقرأ على الناس فجمعهم ، وأرسل الكتاب مع مولىً له مع ( عمر ) وكان عمر يقول للناس : انصتوا واسمعوا لخليفة رسول اللّه إنّه لم يألكم نصحاً.

فسكت الناس ... فلمّا قرأ عليهم الكتاب سمعوا له وأطاعوا (3).

ص: 158


1- الإمامة والسياسة للدينوريّ المتوفّي ( 262 ه ) : 18 ( طبعة مصر ).
2- هل يمكن أن يلتفت الخليفة إلى الخطر الكامن في ترك الأمّة دون خليفة يستخلفها عليهم ولا يلتفت إليها النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؟!
3- الكامل في التاريخ لابن الأثير 2 : 292 وطبقات ابن سعد الكبرى 3 : 200 ( طبعة بيروت ).

وقد نقل موضوع استخلاف ( ابي بكر ) ل ( عمر ) عدة من أعلام التأريخ والحديث بهذين النحوين من النقل.

ب - استخلاف عثمان

وأمّا قصة استخلاف عثمان فهي كالآتي ، كما نقلها وأثبتها كتّاب التأريخ وأعلام السيرة :

قال ابن قتيبة الدينوريّ في كتابه الإمامة والسياسة : ( قال عمر : ساستخلف النفر الذين توفيّ رسول اللّه وهو عنهم راض ..

فأرسل إليهم فجمعهم ، وهم علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان ، وطلحة بن عبيد اللّه ، والزبير بن عوّام ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمان بن عوف وكان طلحة غائباً فقال :

يا معشر المهاجرين الأولين : إنّي نظرت في أمر الناس ، فلم أجد فيهم شقاقاً ولا نفاقاً فإن يكن بعدي شقاق ونفاق فهو فيكم ، فتشاوروا ثلاثة أيام ، فإن جاءكم طلحة إلى ذلك ، وإلاّ فأعزم عليكم باللّه أن لا تتفرقوا من اليوم الثالث حتّى تستخلفوا أحدكم ) (1).

وكتب ابن الأثير في كامله : ( انّ عمر بن الخطاب لمّا طعن قيل له : يا أمير المؤمنين لو استخلفت ؟ فقال : من استخلف ؟ لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته ... ولو كان سالم مولى حذيفة حياً لاستخلفته ..

فقال رجل : أدلّك عليه ؟ عبد اللّه بن عمر ، فقال ( عمر ) : قاتلك اللّه كيف استخلف من عجز عن طلاق امرأته ... الى أن قال :

عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنهّم من أهل الجنّة وهم عليّ

ص: 159


1- الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوريّ المتوفّي عام ( 262 ه ) : 23.

وعثمان وعبد الرحمان وسعد والزبير بن عوّام وطلحة بن عبد اللّه.

فلمّا أصبح عمر ، دعا عليّاً وعثمان وسعداً وعبد الرحمان والزبير ، فقال لهم :

إنّي نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم ولا يكون هذا الأمر إلاّ فيكم. وقد قبض رسول اللّه وهو عنكم راض. فانهضوا إلى حجرة عائشة بإذنها ، واختاروا منكم رجلاً ، فإذا متّ فتشاوروا ثلاثة أيّام ، وليصلّ بالناس صهيب ، ولا يأتي اليوم الرابع إلاّ وعليكم أمير ».

فاجتمع هؤلاء الرهط في بيت حتّى يختاروا رجلاً منهم.

قال لصهيب : « صلِّ بالناس ثلاثة أيام وأدخل هؤلاء الرهط بيتاً وقم على رؤوسهم فإن اجتمع خمسة وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف ... وإن اتفق أربعة وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما ... وإن رضي ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا ، فحكّموا عبد اللّه بن عمر فان لم يرضوا بحكم عبد اللّه بن عمر ، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمان بن عوف ، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع فيه الناس ) (1).

وممّا يدلّ على أنّ هذا الموقف والرأي لم يكن موقف الصحابة ورأيهم خاصّة في مسألة الاستخلاف والقيادة بل أنّ الرأي العام في ذلك العهد كان يعتقد ضرورة استخلاف القائد والحاكم ، وعدم ترك الأمر إلى نظر الناس وإرادتهم وانتخابهم ، نظريات لطائفة من الشخصيّات نذكر بعضها فيما يأتي :

1. نقل أنّ عمر بن الخطاب لمّا أحس بالموت قال لابنه [ عبد اللّه ] : ( اذهب إلى عائشة واقراها مني السلام ، واستأذن منها أن أقبر في بيتها مع رسول اللّه ومع أبي بكر.

فأتاها عبد اللّه بن عمر فأعلمها ... فقال : ( نعم وكرامة ).

ثمّ قالت : ( يا بنيّ أبلغ عمر سلامي فقل له : لا تدع امّة محمّد بلا راع ... استخلف عليهم ، ولا تدعهم بعدك هملا ، فإنّي أخشى عليهم الفتنة ) (2). فأتى عبد اللّه

ص: 160


1- الكامل لابن الأثير 3 : 35.
2- وهل يمكن أن تلتفت أمّ المؤمنين إلى هذه النكتة ولا يلتفت إليها النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

[ إلى أبيه ] فأعلمه ) (1).

2. نقل الحافظ أبو نعيم الأصفهانيّ المتوفىّ عام (430) أنّ عبد اللّه بن عمر دخل على أبيه قبيل وفاته فقال : ( انّي سمعت الناس يقولون مقالةً فآليت أن أقولها لك وزعموا أنّك غير مستخلف وأنّه لو كان لك راعي إبل - أو راعي غنم - ثمّ جاءك وتركها لرأيت أن قد ضيّع ، فرعاية الناس أشدّ ) (2).

3. قدم معاوية المدينة ليأخذ من أهل المدينة البيعة ليزيد ، فاجتمع مع عدة من الصحابة إلى أن أرسل إلى ابن عمر ، فأتاه وخلا به فكلّمه بكلام وقال : إنّي كرهت أن أدع امّة محمّد بعدي كالضأن لا راعي لها. (3).

كلّ هذه النصوص ، تدلّ بجلاء على أنّ ادّعاء انتخاب الخليفة عن طريق الاستفتاء الشعبيّ أو بمراجعة أهل الحلّ والعقد ، أو اتفاق الأنصار والمهاجرين لم يكن له أصل ولا ذكر في دراسات المتقدمين من أعلام التاريخ وكتّاب السيرة وعلماء المسلمين.

ولو دل هذا الأمر على شيء فإنّما يدلّ على ، أنّ الأصل الذي كان يعتقد به الصحابة والخلفاء في مسألة الخلافة والقيادة ، كان هو التنصيص والتعيين ، وعدم ترك الأمر إلى نظر الاُمّة وانتخابها.

* * *

نظرية تفويض الأمر إلى الاُمّة بعد النبيّ

إنّ في الاُمّة الإسلاميّة طائفةً كبيرةً تعتقد ، بأنّ أمر الحكومة بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان مفوضاً إلى انتخاب الاُمّة ونظرها ، وهم يستندون في ذلك إلى عمل المسلمين في تعيين الخليفة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ص: 161


1- الإمامة والسياسة للدينوريّ : 32.
2- حلية الأولياء 1 : 44.
3- الإمامة والسياسة 1 : 168 ( طبعة مصر ).

ولكنّك - أيّها القارئ الكريم - اطّلعت على كيفية تصدي الخليفة الثاني والثالث للحكم ، وعرفت أنّه لم يكن هناك أي انتخاب من جانب المسلمين ، بل تم الأمر للخليفتين بالاستخلاف من جانب الخليفة السابق.

نعم ، يمكن أن يستند القائل إلى انتخاب ( ابي بكر ) و ( الإمام علي ) للحكم ، فهما تسلّما زمام الحكم والأمر بهذا الطريق.

والحق أنّ هذين الموردين هما من أهم وأوضح ما يمكن أن يستدلّ به القائل بتفويض الأمر إلى نظر الاُمّة بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله على مذهبه ، وهو بظاهره يتصادم مع ما شرحناه وأوردناه من الأدلة على كون صيغة الحكومة الإسلاميّة بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان على التنصيص والاستخلاف لا على التفويض والانتخاب.

ولنتناول البحث حول خلافة ( ابي بكر ) اولاً ، ونعقبه بالبحث حول كيفية استتباب الأمر للإمام عليّ ثانياً.

تحليل لخلافة أبي بكر

إنّ الاستدلال على نظرية تفويض الأمر إلى نظر الاُمّة وانتخابها ، أو إلى أهل الحلّ والعقد منهم ، أو ما شابه ذلك ، بتصدي أبي بكر للخلافة ، يتوقف على أثبات أمرين ، لولا ثبوتهما لما صح الاستناد بهذا الطريق على هذا الانتخاب أبداً :

الأوّل : هل كان هناك انتخاب شعبيّ واقعيّ بحيث اجتمع المسلمون عامّة ، وتشاوروا في الأمر ودرسوا الموضوع ، فانتخبوا أبا بكر وفق الضوابط والمعايير الإسلاميّة ، أو كان هناك انتخاب محدود من جانب عدّة قليلة يهاب منها ، واتبعها الآخرون بلا تفكير ولا مشاورة ... بينما تخلف عن ذلك عدّة اُخرى ؟

الثاني : هل كان انتخاب المنتخبين لأبي بكر بأسلوب المبايعة ، ينبع من تعليم اسلاميّ ويرتكز إلى أصل جاءت به الشريعة ، وكان الداعي لهم إلى ذلك هو ما أخذوه وتعلموه من الرسول ، أو كان اتخاذهم لذلك الاسلوب ، مستنداً إلى ما كان مركوزاً في

ص: 162

أذهانهم ممّا قبل الإسلام ، حيث كانوا يعيّنون الأمير والرئيس بالبيعة ؟

والحقّ أنّ هاتين النقطتين في خلافة أبي بكر قابلتان للمناقشة و التحقيق والتأمّل فنقول : (1)

أمّا النقطة الاُوّلى : فإنّ دراسة التأريخ الإسلاميّ في هذه القظية خير دليل على أنّ خلافة أبي بكر لم تأت نتيجة مشاركة الاُمّة الإسلاميّة في اختياره وانتخابه للحكم والقيادة ، بل لم ينتخبه إلاّ أربعة أنفار لا غير ، وهؤلاء النفر هم ، عمر بن الخطاب وأبو عبيدة من المهاجرين وبشير بن سعد واسيد بن حضير من الأنصار. وأمّا الباقون من رجال الأوس لم يبايعوا أبا بكر إلاّ تبعاً لرئيسهم أسيد بن حضير ، في حين غاب عن هذا المجلس كبار الصحابة وأفاضلهم كالإمام عليّ بن أبي طالب ، والمقداد ، وأبي ذر وحذيفة بن اليمان ، وأبّي بن كعب وطلحة والزبير ، وعشرات اخرين من الصحابة.

كما أنّ الخزرجيين - رغم حضورهم في السقيفة - امتنعوا من البيعة لأبي بكر.

وحتّى لو سلّم بوقوع الانتخاب المزعوم فإنه لا ريب كان فريداً من نوعه ، لأنّه لم يقترع فيه الحاضرون على أبي بكر كما هو المتّبع في الانتخابات الحرّة المتعارفة ، بل تمّ بمبادرة ( عمر ) إلى مبايعة أبي بكر ، ثمّ بايعه المهاجر الآخر وبايعه بشير ورئيس الأوس أسيد بن حضير ، وتبعه الأوسيون ... بينما تخلّف الخزرجيون الحاضرون في السقيفة عن مبايعة أبي بكر ... كما تبين لك ذلك من ما ذكرناه سابقاً ... من تهاجيهم.

ثمّ أخذوا البيعة من كلّ من صادفوه في الطريق خارج السقيفة ، واستمرّ ذلك إلى ستة أشهر بالتهديد والترغيب ... وهذا أمر واضح لمن درس تاريخ السقيفة وما تلاها من الأحداث والوقائع.

ص: 163


1- البحث عن النقطة الاولى ، بحث في الصغرى وهو كون خلافة أبي بكر كانت بالانتخاب الشعبيّ. والبحث عن النقطة الثانية؛ بحث عن الكبری أی كون صيغة الحكومة بعد وفاة رسول اللّه - بلا فصل - هي تعيين الخليفة باسلوب المبايعة، واللازم علی القاریء أن لايخلط بين الأمرين.

ومن الواضح أنّ بيعةً بهذه الصفة ، لا يمكن انّ تكون انتخاباً حقيقيّاً واستفتاءً حرّاً.

فأيّ انتخاب شعبيّ حرّ جاء بالخليفة الأوّل ، وهذا التأريخ يروي لنا ما جرى في السقيفة وما وقع من التهديد والتنديد والسيف ، والشتيمة والمهاترات.

فها هو الحبّاب بن المنذر الصحابيّ البدريّ الأنصاريّ العظيم وقد انتضى سيفه على أبي بكر - يوم السقيفة - وهو يقول : ( واللّه لا يرد عليّ أحد ما أقول إلاّ حطّمت أنفه بالسيف أنا جذيلها المحكّك [ أي أصل الشجرة ] وعذيقها المرجب [ أي النخلة المثقلة بالثمر ] أنا أبو شبل في عرينة الأسد يعزى إليّ الأسد ) (1).

وهو بكلامه هذا يتهدّد كلّ من يحاول إخراج القيادة من الأنصار وإقرارها لغيرهم.

وها هو آخر ( وهو سعد بن عبادة ) يخالف مبايعة أبي بكر وينادي : ( انا أرميكم بكلِّ سهم كنانتي من نبل واخضّب منكم سناني ورمحي ، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي وأقاتلكم مع من معي من أهلي وعشيرتي ) (2).

وها هو ثالث يتذمّر من تلك البيعة ويشبّ نار الحرب بقوله : ( انّي لأرى عجاجةً لا يطفئها إلاّ دم ) (3).

وهذا هو سعد بن عبادة أمير الخزرج الذي طلب أن تكون الخلافة في الأنصار ، يداس بالأقدام ، وينزى عليه وينادى عليه بغضب : ( اقتلوا سعداً قتله اللّه إنّه منافق ، أو صاحب فتنة ) وقد قام الرجل على رأسه ويقول : ( لقد هممت أنّ أطأك حتّى تندر عضوك أو تندر عيونك ) (4).

فإذا بقيس بن سعد يأخذ بلحية عمر ويقول : ( واللّه لو حصصت منه شعرةً ما

ص: 164


1- شرح ابن أبي الحديد 2 : 16.
2- الغدير 7 : 76.
3- الإمامة والسياسة 1 : 11 ، تاريخ الطبري 3 : 210.
4- مسند أحمد 1 : 56 ، تاريخ الطبري 3 : 210 وغيرهما.

رجعت وفي فيك واضحة !!! أو : لو خفضت منه شعرةً ما رجعت وفيك جارحة ) (1).

وهذا الزبير لمّا رأى أنّ الأمر قد عقد لأبي بكر يخترط سيفه ويقول : ( لا أغمده حتّى يبايع عليّ ) فيقول عمر : عليكم الكلب ، فيؤخذ سيفه من يده ، ويضرب به الحجر ويكسر (2).

وها هو المقداد ذلك الرجل الصحابيّ العظيم يدافع في صدره (3).

وها هو أبو بكر يبعث عمر بن الخطاب إلى بيت الإمام عليّ وفاطمة ، ويتهدّد اللائذين به الممتنعين عن مبايعته ويقول له : إن أبوا فقاتلهم.

فيأتي عمر إلى بيت فاطمة ويقول : واللّه لتحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة ، فتقول فاطمة الزهراء بنت النبيّ صلی اللّه علیه و آله وتصيح وتنادي : « يا أبت يا رسول اللّه ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة » (4).

وها هو الإمام عليّ علیه السلام يقاد إلى البيعة كما يقاد البعير المخشوش ويساق سوقاً عنيفاً ويقال له : بايع فيقول : « إن أنا لم أفعل فمه » ؟ فيقال : إذن واللّه الذي لا إله إلاّ هو نضرب عنقك ، فيقول : « إذن تقتلون عبد اللّه وأخا رسوله » (5).

وهؤلاء لمّا يتناقشون الأمر في السقيفة فيقول الأنصار : منّا أمير ومنكم أمير ، يردّ عليه عمر قائلاً : إذا كان ذلك فمت إن استطعت !!

وهذا عمر يعترف أنّ هذه البيعة كانت فلتةً لا تخضع لضابطة ، ولا تقوم على أساس من المبادئ الإسلاميّة والمنطلقات الصحيحة والمشروعة إذ يقول : ( كانت بيعة أبي بكر فلتةً كفلتة الجاهليّة ، وقى اللّه شرّها ».

ص: 165


1- تاريخ الطبري 3 : 210 ، السيرة الحلبيّة 3 : 387.
2- الإمامة والسياسة 1 : 11 ، تاريخ الطبري 3 : 199.
3- تاريخ الطبري 3 : 210.
4- تاريخ الطبري 3 : 210 ، الإمامة والسياسة 1 : 13.
5- الإمامة والسياسة 1 : 13 ، أعلام النساء 3 : 206.

ولهذا يحذِّر المسلمين من الأخذ بها لأنّها لم تكن تمثّل أي صورة انتخابيّة صحيحة حتّى لو قيل بمشروعية تعين الخليفة عن طريق الانتخاب فيقول : ( فمن عاد إليها فاقتلوه ) (1).

تحليل لخلافة الإمام عليّ

اشارة

وأمّا خلافة الإمام عليّ علیه السلام فهي وإن أجمع المسلمون عليها ، وأقبل عليه الناس برمّتهم ، إلاّ أنّه علیه السلام لم يستدلّ لخلافته باجتماع الآراء والأصوات عليه وانتخاب الناس له ، بل كان يستند غالباً بالنصوص النبويّة الواردة في حقّه علیه السلام والتي تنص على خلافته من جانب اللّه سبحانه.

وما عليك إلاّ أنّ تستعرض ما قاله في يوم الرحبة.

عن الصحابيّ أبي الطفيل الليثي قال : جمع عليّ رضی اللّه عنه الناس في الرحبة ، ثم قال لهم : « أنشد اللّه كلّ أمرء مسلم سمع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول يوم غدير خم ما سمع لمّا قام » ، فقام ثلاثون من الناس وقال ، أبو نعيم : فقام ناس كثير فشهدوا حين أخذه بيده فقال للناس : « أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم » قالوا : نعم يا رسول اللّه ، قال : « من كنت مولاه فهذا مولاه ، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه » قال : فخرجت وكأنّ في نفسي شيئاً ، فلقيت زيد بن أرقم فقلت له : إنّي سمعت عليّاً رضی اللّه عنه تعالى يقول : كذا وكذا. قال : فما تنكر ؟ قد سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول له ذلك (2).

وفي رواية أنّ علياً علیه السلام نشد الناس من سمع رسول اللّه يقول من كنت مولاه فهذا مولاه فشهد له قوم وأمسك زيد بن أرقم فلم يشهد ، وكان يعلمها فدعا عليّ علیه السلام عليه بذهاب البصر فعمي فكان يحدّث الناس بالحديث بعد ما كفّ بصره (3).

ص: 166


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 : 123 ( طبعة مصر ).
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 : 2. اسد الغابة3 : 307 و 5 : 205 ، والإصابة 4 : 80 ، ومسند أحمد بن حنبل 1 : 84 ، ومجمع الزوائد 9 : 107 ، ومطالب السؤل : 54 ، شرح المواهب 7 : 13 ، ذخائر العقبى : 67 ، خصائص النسائيّ : 26 وأسنى المطالب : 3.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 : 2. اسد الغابة3 : 307 و 5 : 205 ، والإصابة 4 : 80 ، ومسند أحمد بن حنبل 1 : 84 ، ومجمع الزوائد 9 : 107 ، ومطالب السؤل : 54 ، شرح المواهب 7 : 13 ، ذخائر العقبى : 67 ، خصائص النسائيّ : 26 وأسنى المطالب : 3.

هذا كله في البحث عن النقطة الاولى ، أي البحث عن الصغرى وهو هل كان انتخاب الخليفة الأوّل انتخاباً شعبياً أو لا ؟

وأمّا النقطة الثانية : أعني البحث عن الكبرى أي كون صيغة الحكم بعد رسول اللّه بلا فصل هو تفويض الأمر إلى الاُمّة لانتخاب القائد عن طريق البيعة.

نقول : أنّ تعيين القائد والرئيس بهذه الكيفيّة ( أي البيعة ) لم يكن تعليماً إسلاميّاً ، سار على ضوئه من حضر في السقيفة وأخذوا به بما أنّه قانون نصّت عليه الشريعة ، وأتى به الإسلام.

لأنّ تعيين الحاكم في منطق الدين الإسلاميّ لم يكن بمبايعة أحد على ذلك ، وما قد يتبادر إلى الذهن من وقوع ذلك مع الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله إذ بايعه بعض الناس أو بايعه اصحابه ، فإنّ تلك البيعة لم تكن إلاّ بعد الإقرار بنبوّته وحاكميّته وقيادته وكانت البيعة بمثابة إظهار الإخلاص والوفاء القلبيين له ، وعهداً لفظياً وظاهرياً على التقيد بطاعته ، وتنفيذ اوامره في الحروب والوقائع المهمّة ، لا أنّ البيعة كانت بمعنى نصبه للقيادة ، فالقيادة كانت مجعولة للنبيّ صلی اللّه علیه و آله من جانب اللّه تعالى ، وهي لا تخضع للبيعة وعدم البيعة.

وعلى كلّ حال ، فإنّ البيعة كانت بعد الإقرار بالقيادة النبويّة المجعولة إلهيّاً ولأجل الإخلاص والوفاء للنبيّ المعترف بنبوّته قبلاً.

ومن المحتمل جداً أنّ طريقة تعيين الخليفة بالبيعة له التي تمّت في السقيفة وبموجبها عيّنوا الخليفة كانت تقليداً لما كان مرتكزاً في نفوس البعض ممّا قبل الإسلام ، حيث كان المتبع في الجاهلية إذا أرادوا أن ينصبوا لأنفسهم رئيساً بايعوا أحداً ، وكانت البيعة بمعنى نصبه للقيادة ، وبمثابة جعل الإمرة والرئاسة لشخص (1).

ص: 167


1- وسيوافيك عند البحث عن طرق انتخاب الحاكم ، أنّ البيعة المذكورة في الآيات القرآنيّة لم تكن إلاّ تأكيداً لاعترافهم بالنبوّة وقيادة النبيّ المجعولة من جانب اللّه سبحانه ، ولطمأنة النبيّ صلی اللّه علیه و آله على ما يكنّون له من إخلاص وثبات.

وممّا يدلّ على أنّ تعيين الخليفة والقائد بهذا النمط الذي تمّ في السقيفة كان أسلوباً يعتمد على ما كان مرتكزاً ومترسِّباً في نفوسهم ممّا قبل الإسلام ، أنّهم لم يلتفتوا ولم يعتنوا - في تعيين الخليفة - بالشروط اللازمة في الحاكم الإسلاميّ ، ولم يستندوا في ذلك إلى أصل قرآنيّ واسلاميّ لتصحيح عملهم - في وقته - كآيات الشورى والمشورة ، أو الآيات التي تضمنت كلمة البيعة ، بل كان كلّ من الطائفتين المتنازعتين على نيل الرئاسة والقيادة ، يرجِّح نظره وموقفه باُمور لا أساس لها في الإسلام ولا عبرة بها في تعيين الحاكم وتقرير مصير الحاكميّة كالنسب والنصرة ، حيث ادّعى المهاجرون أنّ الخلافة يجب أنّ تكون فيهم لأنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان من قريش ، وعارضهم الأنصار بأنّهم أولى بالخلافة ، لأنّهم آووا الرسول ونصروه وفدوه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم.

ومن المعلوم ، أنّ ما استندوا إليه واستدلوا به من الملاكات لم تكن ملاكات إسلاميّة في تعيين الخليفة.

وإلى عدم اعتبار تلك الملاكات الواهية ، يشير الإمام عليّ علیه السلام وينتقد أهل السقيفة على تمسكهم بها إذ يقول محتجاً عليهم :

فإن كنت بالشّورى حججت خصيمهم *** فكيف بهذا والمشيرون غيّب

وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم *** فغيرك أولى بالنّبيِّ وأقرب (1)

أمّا ما ورد في كلامه علیه السلام من الاستدلال بالشورى. ورأي المهاجرين والأنصار وأهل الحلّ والعقد ، فلم يكن إلاّ لإبطال ادِّعاء معاوية في الخلافة من باب إفحام الخصم بما يعتقده ويدّعيه ، وذلك لأنّ موضوع القيادة - كما أسلفناه - ، كان ينحصر في التنصيص والاستخلاف ، وهوما ظلّ يعتقد به المسلمون بعد الرسول حتّى انّهم قد بنوا سيرتهم العمليّة عليه.

* * *

ص: 168


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 18 : 416.
3. صيغة القيادة والخلافة عند الاُمم السابقة :

إنّ ملاحظة الآيات القرآنيّة الواردة حول القيادة ، ومراجعة ما نقل وصحّ من الأحاديث والتأريخ في هذا المجال ، تفيد ثلاث نقاط بارزة تؤيّد فكرة التنصيص على الخليفة ، وما أسميناه بالاستخلاف ، وتفيد - بالتالي - أنّ المتّبع بين الامم الغابرة كان هو التنصيص والتعيين للقائد ، وليس ترك الأمر إلى نظر الناس وانتخابهم.

وإليك هذه النقاط :

1. لقد كان المتّبع بين الانبياء السابقين هو تسليم أمر من قاموا بهدايتهم وتربيتهم من الامم وسهروا في صياغتهم ، واجتهدوا في تعليمهم ، إلى خلفاء صالحين لائقين (1). ليتسنّى لتلك الامم والأقوام والجماعات - في ظلِّ الرعاية والتربية الصحيحة التي يوليها الخلفاء والأوصياء - أن تستمر في طريق التكامل والرشد.

صحيح أنّ أكثر الذين كانوا يخلّفون الانبياء كانوا من الانبياء أيضاً ، إلاّ أنّ بعضهم لم يكونوا من الانبياء ، بل كانوا مجرد أوصياء يقومون بما يقوم به الإمام في الاُمّة الإسلاميّة.

وحتّى لو كان الخلفاء المذكورين من الانبياء أيضاً ، فان ذلك يفيد قانوناً كليّاً هو أنّ مسألة القيادة والزعامة والرئاسة بعد غياب النبيّ كان من الأهميّة والخطورة ، بحيث لم يترك أمرها إلى اختيار الناس ونظرهم ، بل كانت تعهد على طول التاريخ إلى رجال أكفّاء ، يعيّنونهم بالاسم والشخص ، لأنّ ترك تعيين القائد إلى اختيار الاُمّة قد يؤدي إلى الاختلاف والفرقة والفتنة ، أو الاشتباه والخطأ في تعيين الراعي الصالح والقائد الكفوء.

2. إنّ القيادة والرئاسة بين الامم السالفة كانت تتحقّق بصورة وراثيّة غالباً ، فيتوارثها أفراد من سلالة الأنبياء والرسل خلفاً عن سلف كما نلاحظ في الآيات التالية :

ص: 169


1- هذا معلوم على نحو الإجمال ، وإن لم نعلم خصوصيّات ولا أسماء تلكم الشخصيات الذين كانوا يخلفّون الأنبياء السابقين.

أ - ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) ( آل عمران : 33 ). ( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ( آل عمران : 34 ).

ب - ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) ( العنكبوت : 27 ).

ج - ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ) ( الحديد : 26 ).

ففي هذه الآيات ، نرى كيف ينتقل مقام الحاكميّة والقيادة بين أفراد من سلالة الانبياء وذريتهم فيتوارثون ذلك المقام الخطير خلفاً عن سلف.

د - وعندما يختار اللّه تعالى إبراهيم لمقام النبوّة والقيادة ، يدعو إبراهيم ربّه أن يجعل هذا المقام في ذرّيّته أيضاً كما جعله فيه ، ولا يردّ اللّه دعاءه ولا يستنكر عليه مطلبه ، بل يخبره بأنّه لا ينيلها الظالمين منهم إذ يقول : ( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ( البقرة : 124 ).

ه - وعند ما يطلب موسى علیه السلام أن يكون أخاه هارون مساعداً ومعيناً له في القيادة ... يحكي اللّه ذلك عنه دون أن يستنكر طلبه إذ يقول : ( وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي ) ( طه : 30 ).

وهذه الآيات ، تكشف بوضوح عن توارث النبوّة والقيادة خلفاً عن سلف وصالحاً عن صالح ، فلا تخرج من سلالة الانبياء وذرياتهم غالباً.

3. إنّ مراجعة تاريخ الانبياء والاُمم السالفة ، تكشف عن أنّ الأنبياء كانوا ينصّون على الخلفاء من بعدهم بصورة الوصاية ، ونذكر فيما يأتي طائفةً من الانبياء ، وأوصيائهم كما يرويها المسعوديّ :

ونبدأ ذلك من النبيّ إبراهيم علیه السلام :

1. إسماعيل بن إبراهيم.

ص: 170

2. إسحاق بن إبراهيم.

3. يوسف بن يعقوب.

4. ببرز بن لاوي بن يعقوب.

5. أحرب بن ببرز.

6. ميتاح بن أحرب.

7. عاق بن ميتاح.

8. خيام بن عاق.

9. مادوم بن خيام.

10. شعيب بن مادوم.

* * *

11. موسى بن عمران.

12. يوشع بن نون.

13. فيخاس بن يوشع.

14. بشير بن يوشع.

15. جبرئيل بن بشير.

16. أبلث بن جبرئيل.

17. أحمر بن أبلث.

18. محتان بن أحمر.

19. عوق بن محتان.

20. طالوت بن عوق.

* * *

21. داود.

22. سليمان بن داود.

23. آصف بن برخيا.

ص: 171

24. صفورا بن برخيا.

25. منبه بن صفورا.

26. هندوا بن منبه.

27. أسفر بن هندوا.

28. رامي بن أسفر.

29. إسحاق بن رامي.

30. أيم بن إسحاق.

31. زكريا بن أيم.

و ...

وقد أخرجنا هذا الفهرس من كتاب إثبات الوصيّة للمسعوديّ المتوفىّ عام (345) تاركين الاطِّلاع على بقيّة أسماء الانبياء وأوصيائهم وأسباطهم للقارئ.

إنّ مراجعة هذا الفهرس من الأسماء ، ومراجعة ذلك الكتاب ، تهدينا إلى نقطتين بوضوح :

الاُوّلى : إنّ القيادة وإن كانت مقرونةً بالنبوّة غالباً ، غير أنّها كانت وراثيّةً في الامم السالفة ، يرثها صالح عن صالح وكابر عن كابر ممّا يعني أنّها لم يكن أمرها متروكاً إلى الناس ومفوضاً إلى آرائهم.

الثانية : أنّ جميع الزعامات والقيادات كانت بأمر اللّه وبنصّ الانبياء السابقين. وممّا يدلّ على أنّ الاُمّة الناشئة لا يجوز ترك أمرها إلى نفسها ، دون تعيين قائد محنّك وراع صالح منصوص عليه يأخذ بزمام أمرها. ويحفظها عن الانحراف ، ما جرى في امّة موسى علیه السلام وذلك لمّا أراد النبيّ موسى بن عمران الاعتزال عن قومه مدّة أربعين ليلةً لمناجاة ربّه سبحانه ، لم يترك امّته دون تعيين الخليفة عليهم ... بل عيّن هارون خليفةً وأميراً في غيابه وإلى هذا يشير قول اللّه سبحانه منبّهاً إلى هذه الواقعة : ( وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ

ص: 172

اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ ) ( الاعراف : 142 ).

فإذا كان هذا هو المتّبع عند الامم السالفة في مسألة القيادة والخلافة بعد الانبياء ، وكان ذلك أمراً متكرراً ومتعارفاً بينهم ، فالانصراف عن تلك الطريقة والإعراض عنها في الإسلام يحتاج إلى التصريح والبيان.

الخلافة بالوصاية

اشارة

ومن طالع الكتاب والسنّة بتتبّع وتوسّع ، لا يجد أي دليل يدلّ على ما يخالف هذه الطريقة ولا أي صارف عن الأخذ بها ، بل يجد في ذينك المصدرين العظيمين المقدسين ما يدلّ على أنّ كلّ ما جرى على الامم السابقة يجري على هذه الاُمّة إلاّ ما استثني ، وهو مبيّن.

ويدل على ذلك بصراحة لا تقبل جدلاً ما روي عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلّما هلك نبيّ خلفه نبيّ ، وإنّه لا نبيّ بعدي وسيكون خلفاء » (1).

وبما أنّ التلازم بين النبوّة والاستخلاف ممّا تقتضيه طبيعة الحياة الاجتماعيّة وتؤكّده حياة الامم السالفة كما ذكرنا لك ، لهذا نجد أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله بمجرد أنّ يصدع بنبوّته ، يواجه الناس بمسألة الخلافة من بعده ويشير إلى الخليفة الذي سيخلفه ، والوصيّ الذي سيلي مهمّاته ومهامّه بعد وفاته ..

وهذا يدلّ على أنّ النبوة والاستخلاف ( وتعيين الخليفة بالوصاية ) متلازمان لا ينفصلان وتوأمان لا يفترقان ..

وإليك ما جرى في يوم الدار المعروف ، وهو يثبت ما قلناه :

أخرج الطبريّ في تاريخه عن عبد اللّه بن عبّاس عن علي بن أبي طالب قال : « لمّا

ص: 173


1- أخرجه البخاري ومسلم كما في جامع الاُصول لابن الاثير الجزريّ 4 : 48.

نزلت هذ الآية على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) ( الشعراء : 214 ) ، دعاني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال يا علي إنّ اللّه أمرني أن أنذر عشيرتك الأقربين فضقت بذلك ذرعاً وعرفت أنّي متى ابادئهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره فصمت عليه حتى جاء جبرئيل فقال : يا محمّد إنّك إن لا تفعل ما تؤمر به يعذّبك ربّك ، فاصنع لنا صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة ، وأملأ لنا عسّاً من لبن ، ثمّ أجمع لي بني عبد المطلب حتّى أكلّمهم وأبلغهم ما أمرت به. ففعلت ما أمرني به ثمّ دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه ، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب ، فلمّا اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الّذي صنعت لهم فجئت به فلمّا وضعته تناول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حذيةً من اللحم فشقّها بأسنانه ، ثمّ ألقاها في نواحي الصّحفة ثمّ قال : خذوا بسم اللّه ، فأكل القوم حتّى ما لهم بشيء حاجة وما أرى إلاّ موضع أيديهم ، وأيم اللّه الذي نفس عليّ بيده وإنّه كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدّمت لجميعهم ثمّ قال صلی اللّه علیه و آله اسق القوم ، فجئتهم بذلك العسّ فشربوا حتّى رووا منه جميعاً ، وأيم اللّه إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله ، فلمّا أراد رسول اللّه أن يكلّمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال : لقدما سحركم صاحبكم ، فتفرّق القوم ولم يكلمهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال الغد : يا عليّ إنّ هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول فتفرّق القوم قبل أن أكلمهم ، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ثمّ أجمعهم إليّ ، قال ففعلت ، ثمّ جمعتهم ثمّ دعاني بالطعام فقربته لهم ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا حتّى ما لهم بشيء حاجة ثمّ قال اسقهم فجئتهم بذلك العسّ فشربوا حتّى رووا منه جميعاً ، ثمّ تكلم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : يا بني عبد المطلب إنّي واللّه ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني اللّه تعالى أن أدعوكم إليه فأيّكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم ».

قال : « فأحجم القوم عنها جميعاً ، وقلت وإنّي لأحدثهم سنّاً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً : أنا يا نبيّ اللّه أكون وزيرك عليه فأخذ برقبتي ثمّ قال :

ص: 174

إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا ».

قال : « فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع » (1).

إنّ الناظر في كلمات الإمام عليّ علیه السلام يرى أنّ الإمام يصرّح بوجود النصّ النبويّ على خلافته وولايته بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إذ يقول في أهل البيت علیه السلام وهو منهم ... يقول علیه السلام : « هم موضع سرّه وملجأ أمره وعيبة علمه وموئل حكمه وكهوف كتبه وهم أساس الدين وعماد اليقين ، وإليهم يفيء الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حق الولاية ، وفيهم الوصيّة » (2).

وهذه العبارة صريحة في أنّه علیه السلام الصاحب الشرعيّ لمقام الخلافة ، لوجود خصائص الولاية في أهل البيت وهو رئيسهم ، ولوجود الوصيّة في أعيانهم وهو أوّلهم.

كما يرى أنّه علیه السلام يصرّح ، بأنّ الولاية حقّ شرعيّ له خاصّةً ولكنّ قريشاً حالوا بينه وبين ذلك الحقّ إذ يقول : « إنّ اللّه لمّا قبض نبيّه استأثر علينا قريش بالأمر ، ودفعتنا عن حقّ نحن أحقّ به من النّاس كافةً ، ورأيت أنّ الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين ، وسفك دمائهم ، والناس حديثوا عهد بالإسلام ، والدّين يمخض مخض الرّطب ، يفسده أدنى وهن ويقلبه أقلّ خلق » (3).

وفي عبارة أخرى يصرّح الإمام علیه السلام بهذا الحقّ بأشدّ وضوح إذ يقول : « اللّهمّ استعينك على قريش ومن أعانهم ، فإنّهم قطعوا رحمي وصغّروا عظيم منزلتي وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي » (4).

ص: 175


1- تاريخ الطبريّ 2 : 216 ، نقض العثمانيّة كما في شرح نهج البلاغة 3 : 263 ، شرح الشفاء للقاضي عياض 3 : 37 ، تفسير الخازن : 390 ، وحياة محمّد لهيكل : 104 ، مسند أحمد 1 : 159 وغيرها.
2- نهج البلاغة : الخطبة 2.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 8 : 30.
4- نهج البلاغة لعبده : الخطبة 168.

وفي عبارة رابعة قال مجيباً على اعتراض أبي عبيدة الجّراح على الإمام حرصه على الخلافة والإمرة : « بل أنتم - واللّه - أحرص وأبعد وأنا أخصّ وأقرب ، وإنّما طلبت حقّاً لي ، وأنتم تحولون بيني وبينه وتصرفون وجهي دونه » (1).

ووجه الدلالة لهذا الكلام العلويّ يتّضح إذا درسنا هذا الحقّ الذي يدّعيه الإمام لنفسه ، ماهيّته وحقيقته.

وفي عبارة خامسة يقول الإمام علیه السلام : « فواللّه ما زلت مدفوعاً عن حقّي مستأثراً عليّ منذ قبض اللّه نبيّه صلی اللّه علیه و آله حتّى يوم النّاس هذا » (2).

والعجيب ، أنّ ابن أبي الحديد فسّر هذا ( الحقّ ) الذي صرّح به الإمام في مواضع عديدة بما يخالف ظاهره. إذ قال ما توضيحه :

إنّ الإمام لمّا كان أقرب الناس إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله وكان أعلمهم وأعدلهم كان له بذلك ( حقّ طبيعيّ ) بأن يكون هو الخليفة ، وأن يقع اختيار الاُمّة عليه للقيادة والإمرة ، غير أنّ الاُمّة - مع ماله من الحقّ المذكور - عدلت عنه ، وقدّمت المفضول على الفاضل لمصلحة كانت تراها ، فعمد الإمام إلى التظلّم والشكوى واللوم على الناخب والمنتخب.

فالحقّ الذي يدّعيه الإمام علیه السلام في هذه العبارات ، والذي حرمته قريش وأزالته عنه ليس حقّاً شرعيّاً ، وليس انتخاب غيره عدولاً عن أمر الشرع ، بل كان حقاً طبيعيّاً ، وعقليّاً واجباً يوجب على الإنسان ان لا يعدل مع وجود الأعلم إلى العالم ، ومع وجود الأفضل إلى المفضول ، ومع وجود اللائق إلى غير اللائق ، بل لابدّ أن يعطى زمام الأمر إلى العالم المستجمع لشرائط القيادة روحيّاً وجسميّاً.

بيد أنّ هذا التوجيه والتفسير ، ينبع عن رأي مسبّق اتخذه صاحبه ، ودرس ( الحقّ ) مستنداً على ذلك الرأي والموقف المسبّق وهو غير مقبول.

ص: 176


1- نهج البلاغة لعبده : الخطبة 167.
2- نهج البلاغة : الخطبة 59.

فإنّه إذ ذهب إلى تصحيح خلافة الخلفاء الذين تسلّموا قيادة المسلمين بعد الرسول ، صار إلى تأويل هذه العبارات وتفسير الحقّ على النحو المخالف لظواهرها الواضحة.

والناظر إلى هذه العبارات والعارف بكلمات الإمام علیه السلام يعلم أنّ الإمام يقصد غير ما قاله ابن ابي الحديد ، فإنّه :

أوّلاً : يعتمد على كلمة ( الوصاية ) ، وهو يبطل بصراحة ما أدّعاه ابن أبي الحديد إذ المراد من الوصاية هو إيصاء النبيّ بالخلافة والولاية الشرعيّة له بعده.

وكلمات الوصاية هذه وردت في كلمات كثيرة للإمام مرّ عليك بعضها في العبارات السابقة ، كما وصف الإمام بها في بعض كلمات المسلمين وأشعارهم (1).

ثانياً : إنّ اللياقة التي توجد في الإمام عليّ علیه السلام لا تولّد لوحدها حقّاً لعليّ علیه السلام ما لم ينضّم إليه انتخاب الاُمّة على مبنى ابن أبي الحديد ، الذي يرى أنّ الخلافة عمليّة انتخابيّة ، فإنّ الحقّ في الخلافة على هذا المبنى يعتمد على أمرين :

1. اللياقة الذاتيّة.

2. انتخاب الشعب.

فلو انتفى أحد الجزئين ، انتفى الحقّ في الخلافة ، فلا يبقى حقّ لكي يدّعيه الإمام ويركّز عليه.

وبتعبير آخر : إنّ أمر القيادة لو كان راجعاً إلى المشاورة والاستفتاء ومفوّضاً إلى انتخاب الصحابة أو أهل الحلّ والعقد ، فإذا لم ينتخبوا أحداً لا يكون الشخص ذا حقّ في الخلافة والإمرة والقيادة ، وإن كان ذا فضائل وكفاءات وصفات قياديّة ، ولا يعدّ العدول عنه عدولاً عن الحقّ ، وميلاً إلى الظلم والإجحاف بأحد ، مع أنّ كلمات الإمام علیه السلام صريحة في أنّ هذا العدول كان عدولاً من الحقّ إلى غير الحقّ إذ قال : « وأجمعوا

ص: 177


1- لاحظ شرح النهج 1 : 143 - 150.

على منازعتي أمراً هو لي ».

وأمّا أنّ الإمام لماذا لم يقم على اخذ الحقّ مع ما يتمتّع به من الشرعيّة والقوّة ؟ فقد أشار الإمام إلى سببه في كلماته إذ قال معزياً ذلك إلى حرصه على وحدة المسلمين ودمائهم : « فرأيت أنّ الصبر على ذلك أفضل من فرقة المسلمين وسفك دمائهم والناس حديثوا عهد بالإسلام ، والدّين يمخض مخض الرّطب يفسده أدنى وهن ويقلبه أقلّ خلق ».

وإلى هذا السبب أشار في موضع آخر إذ قال : « لمّا قبض اللّه نبيّه قلنا نحن أهله وورثته وعترته وأولياؤه دون النّاس وأيم اللّه لولا مخافة الفرقة بين المسلمين وأن لا يعود الكفر ويبور الدّين لكنّا على غير ما كنّا لهم عليه » (1).

ولمّا طالب بعض اصحاب الإمام في أبيات له أن يطالب الإمام بذلك الحقّ الشرعيّ قال علیه السلام : « سلامة الدّين أحبّ إلينا من غيره » (2).

وفي كلام آخر له علیه السلام نجده يعزي سكوته العظيم وإحجامه عن استخدام القوّة إلى عدم وجود النصير الحقيقيّ له إلاّ أهل بيته الذين كان يحرص على المحافظة عليهم : « فنظرت فإذا ليس معين إلاّ أهل بيتي فضننت بهم عن الموت وأغضيت على القذى وشربت على الشّجى ، وصبرت على أخذ الكظم وعلى أمر من طعم العلقم » (3).

ويؤيّد أنّ الحقّ الذي كان يدّعيه الإمام علیه السلام إنّما هو حقّ شرعيّ ، أنّه حكّم اللّه بينه وبين من دفعوه عن مقامه إذ قال لمن سأله وهو أحقّ به : « فاعلم فأمّا الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نسباً والأشدّون برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نوطاً ( أي تعلّقاً ) فإنّها كانت أثرةً شحّت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين والحكم اللّه ، والمعود إليه يوم القيامة » (4).

ص: 178


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 : 307.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6 : 41.
3- (3 و 4) نهج البلاغة : الخطبة3. 157.
4- (3 و 4) نهج البلاغة : الخطبة3. 157.

وهذا يفيد بوضوح أنّ ذلك الحقّ كان حقّاً شرعيّاً إلهيّاً ستسئل الاُمّة الإسلاميّة عنه يوم القيامة.

وخلاصة القول : أنّ النصوص متضافرة على أنّ الإمام كان موصى له بالخلافة ومنصوصاً عليه بالإمرة والولاية ... ولكنّه علیه السلام لم يجد الظروف مناسبةً للمطالبة بذلك المقام المنصوص والحقّ المصرّح به ، حفاظاً على مصلحة الإسلام والمسلمين ، وتجنباً من سفك الدماء وتفرق وحدة الاُمّة ... وسقوط هيبتها. وهو أمر تقتضيها مصلحة القيادة الحكيمة.

وهكذا تبيّن ممّا سبق من البحث المفصّل ، أنّ القاعدة الأصليّة في صيغة الحكومة الإسلاميّة بعد النبيّ هو التنصيص الإلهيّ على حاكم معين باسمه وشخصه ... وهذا هو ما يعبر عنه بالوصاية.

وحاصلها ، أنّ الحاكم الأعلى في نظام الحكم الإسلاميّ يجب أن يكون منصوصاً عليه من جانب اللّه سبحانه ، فكما أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان نبيّاً ورسولاً وحاكماً وقائداً من جانب اللّه سبحانه ، فلابدّ أن يكون خليفته المتولّي لشؤون المسلمين من بعده ، منصوصاً عليه ، وعلى قيادته من جانبه سبحانه أيضاً.

فذلك كما أسلفنا ، ممّا يقتضيه العقل ويدلّ عليه الكتاب والسنّة ويؤكّده موقف الصحابة والخلفاء ، وتكشف عنه سيرة الامم السالفة والأنبياء السابقين.

وقد اقتصرت مهمّتنا في هذا البحث الموسّع ، على الاستدلال والبرهنة على هذه القاعدة الأصيلة في صيغة الحكومة الإسلاميّة ولا يهمّنا هنا إثبات من ورد في شأنه النصّ الإلهيّ ، وعيّنه اللّه سبحانه لإمرة المسلمين وقيادتهم ... فذلك موكول إلى الكتب المعتبرة والمصادر الموثوقة التي تهتمّ بهذا الأمر وتحتوي على النصوص المرتبطة به.

وصفوة القول ، أنّ جميع الأدلة النقليّة والمحاسبات العقليّة والاجتماعيّة والشواهد التأريخيّة تدلّ بالإجماع على ، أنّ الأصل الأصيل في الحاكميّة هو أنّ الحكم لله سبحانه وحده بالأصالة والاستقلال ، وهو يستخلف من يشاء من عباده الصالحين اللائقين

ص: 179

القادرين على إدارة البشريّة وكفايّة اُمورهم وهم ممن تتوفر فيهم مؤهّلات ، وكفاءات عالية ... ولا تعرف بالطريق العاديّ ، ولا تكشف بالتجربة والاختيار ولا تحصل إلاّ بإعداد إلهيّ ... وتربية ربانيّة.

بيد أنّ الإسلام إذ لم يشرّعه اللّه سبحانه إلاّ ليكون منهج حياة للبشريّة يتكفّل تنظيم حياتهم عامّةً ، ولم يكن له بدّ من التخطيط لموضوع الحكومة والدولة التي هي محور الحياة الاجتماعيّة وأساسها في جميع الأحوال وجميع الظروف والأزمنة ، فإذا لم يتسنّ للمجتمع التوصّل إلى الحاكم المنصوص عليه من جانب اللّه بالاسم ، لأسباب استثنائيّة ، وظروف خاصّة ، ولم يجز للإسلام إهمال مسألة الحكومة ، فلابدّ أن يكون له منهج رصين في هذا المجال ايضاً.

وبتعبير آخر أنّ ما ذكرناه لك في الصفحات الماضية والبحوث المتقدمة إنّما هو راجع إلى الظروف التي يوجد فيها إمام منصوص عليه يمكن التوصّل إليه بالأسباب العاديّة ، ويتسنّى له أن يباشر إدارة المجتمع وتدبيره.

غير أنّ المفروض في هذا العصر هو عدم وجود مثل ذلك الإمام فلابدّ أن يكون للدين الإسلاميّ تخطيط آخر قطعاً ... ولا شكّ أنّه تخطيط موجود في الشريعة ويمكن تحصيله بالدراسة والتحقيق ، إذ لا يمكن للإسلام أن يهمل هذه الناحية الحساسّة من حياة المجتمع على كلّ حال.

فلابدّ إذن للباحث عن الحقيقّة ، أن يتحرّى برنامج الإسلام في هذا المجال في الكتاب والسنّة ونصوص الأئمّة الإسلامييّن ، حتّى يستنبط ما يقرره الإسلام في مجال الحكم في هذه الظروف.

وهذا هو ما سنفعله في البحث القادم.

رأي الخُضريّ ومناقشته

وفي الختام نأتي بما قاله الاستاذ محمّد الخضرّي :

ص: 180

( لم يرد في الكتاب أمر صريح بشكل انتخاب خليفة لرسول اللّه اللّهمّ إلاّ تلك الأوامر العامّة التي تتناول الخلافة وغيرها مثل وصف المسلمين بقوله تعالى : ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) (1) وكذلك لم يرد في السنّة بيان نظام لانتخاب الخليفة إلاّ بعض نصائح تبعد عن الاختلاف والتفرّق ، كأنّ الشريعة أرادت أن تكل هذا الأمر للمسلمين حتّى يحلّوه بأنفسهم ، ولو لم يكن الأمر كذلك لمهّدت قواعده وأوضحت سبله ، كما أوضحت سبل الصلاة والصيام ) (2).

وما ذكره الأستاذ ادّعاء غريب إذ فيه :

أوّلاً : كيف لم يرد في السنّة بيان نظام خاصّ حول الخلافة إلاّ الأوامر العامّة ، وقد فصّل الرسول صلی اللّه علیه و آله جلائل الأمور وصغائرها فيما هو أقلّ شأناً من أمر الخلافة بكثير.

كيف وقد بين الرسول كثيراً من المستحبات والمسنونات التي لا تبلغ في الأهميّة والخطورة مبلغ الخلافة والحكومة.

وثانياً : إنكّ قد عرفت أنّ أمر الخلافة لا يصحّ أن يكله النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى الاُمّة وقد عرفت الوجوه الدالة على ذلك ، من عدم بلوغ الذروة في أمر القيادة ، وتجذّر الخلافات العشائريّة بينهم ، والخطر الثلاثي الذي يحدق بهم ، ويهدّد كيانهم (3).

وثالثاً : أنّ الاستاذ لو أحاط بتاريخ الإسلام والمسلمين وما أثر من الرسول من أحاديث صحيحة ومتواترة حول الخلافة لوقف على النصوص الصريحة في لون الخلافة ونظامها في جميع الظروف.

ص: 181


1- الشورى : 38.
2- محاضرات في تاريخ الامم الإسلاميّة 2 : 161.
3- لاحظ صفحة 76 - 100 من هذا الجزء.

ص: 182

الفصل الثالث: صيغةُ الحكومة الإسلاميّة في العصور الحاضرة

اشارة

قد أوقفك ما مضى من البحث على لون الحكومة بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وعرفت حقّ المقال فيه بما لا يبقى لمشكّك شكّ ، ولا لذي ريب ريب.

غير أنّ المهمّ - الآن - هو ، بيان صيغة الحكومة في العصور الحاضرة التي لا تتمكن الاُمّة فيها من الوصول إلى الإمام المنصوص عليه باسمه وشخصه ، وهذا هو ما عقدنا له الفصل التالي.

* * *

ماذا كُتب حول الحكومة ؟

إنّ إيضاح صيغة الحكومة الإسلاميّة في هذه العصور ، وبيان مناهجها وخطوطها وخصائصها مع كونها من أهمّ الموضوعات الحيويّة ، لم يبذل علماء الفريقين حولها الجهود الكبيرة اللائقة بشأنها ، وذلك لسبب في جانب أهل السنّة ، وسبب في جانب الشيعة.

أمّا الأوّل ، فبما أنّ الاسلوب الّذي تمّت به خلافة الخلفاء في العصر الأوّل قد صار ملاكاً للحكومة الإسلاميّة عندهم وحسبوا أنّه المعيار الصحيح ولأجل ذلك صار هذا

ص: 183

مانعاً عن تحقيق الموضوع حسب ما يليق به.

وقد صار ذلك مؤثراً في تعطيل القوى المفكِّرة للبحث عن إسلوب آخر من أساليب الحكم التي ربّما يرشدنا إليه الكتاب والسنّة عند التدبُّر.

وقد سبقنا إلى ذكر هذا السبب الكاتب عبد الكريم الخطيب في كتابه الخلافة والإمامة ( صفحة 272 ) حيث قال : ( وقد كان لهذا الإسلوب أثره في تعطيل القوى المفكّرة للبحث عن إسلوب آخر من أساليب الحكم التي جرّبتها الامم ... إذ أصبحت البيعة التي ظهرت صورتها في سقيفة بني ساعدة ، هي الصورة المرتسمة في ذهن المسلمين وهي عندهم الصورة المثلى لاختيار الخليفة ).

وأمّا من جانب الشيعة ، فلأجل أنّهم لم تقم لهم حكومة إسلاميّة واسعة الأطراف إلاّ دويلات مثل الحمدانييّن والبويهييّن والفاطمييّن ، وقد قضت عليها السلطات الجائرة ، لم يستدعي ذلك البحث عن خطوط الحكومة الإسلاميّة ومسائلها ولأجل ذلك ، اكتفوا بالبحث عن المسائل التي كانت تبتلي بها الشيعة في جميع العصور ، كالخراج والمقاسمة والتولّي عن الحاكم الجائر وغيرها ممّا لم تكن خاصّةً بعصر دون عصر.

نعم ذكر ابن النديم في فهرسته ( صفحة 50 ) كتاباً لأبي موسى جابر بن حيّان تلميذ الإمام جعفر الصادق المتوفّى عام ( 200 ) اسمه ( الحكومة ) ولا نعلم خصوصيّات الكتاب.

وألّف بعض علماء الشيعة كتباً ورسائل في بعض المسائل التي تمت إلى الحكومة بصلة « كقاطاعة اللجاج في حلّ الخراج » للمحقّق الكركي المتوفّى عام ( 940 ه ) ، و « الخراجيّة » للمحقّق الأردبيليّ المتوفّى عام (993) وقد طبعت في هامش كتاب درر الفوائد للمحقّق الخراسانيّ.

كما أنّ هناك رسائل اخرى في هذا الموضوع ذكرها البحّاثة شيخنا الطهرانيّ في موسوعته الذريعة ، راجع الجزء 7 صفحة 68 و 144.

وألّف غير واحد من علماء الشيعة حول الدفاع والجهاد ، كتباً مفصّلة وهما يعدّان

ص: 184

من مسؤوليات الدولة ، كما ألفّوا رسالات حول الولاية عن الحاكم الجائر.

وقد قام في العصر الحاضر أعلام من الشيعة بدراسة هذا الأمر الحيويّ ، ونخص بالذكر العلمين الجليلين : آية اللّه المحقّق النائينيّ المتوفي عام (1355) وقد سمّى كتابه : تنبيه الاُمّة وتنزيه الملّة وطبع عام (1327) وقرضه العلمان ( آية اللّه الخراسانيّ وآية اللّه المازندراني ) وآية اللّه العظمى الإمام الأكبر المجاهد السيد روح اللّه الخمينيّ قائد الثورة الإسلاميّة الظافرة ، وقد بحث عن الحكومة الإسلاميّة بصورة مسهبة في سلسلة محاضرات منتظمة وقد طبعت تحت عنوان « الحكومة الإسلاميّة ».

ولأعلام السنّة مؤلفات في هذا المجال ، يعالج كلّ واحد منها بعض النواحي من الحكومة الإسلاميّة ، وأخصُّ بالذكر كتب :

1. الأموال للإمام الحافظ أبي عبيد القاسم بن سلام المتوفّى عام (224) وهو من أنفس ما ألّف في هذا الموضوع.

2. « الأحكام السلطانيّة » للشيخ أبي الحسن عليّ بن محمد الماورديّ الشافعيّ المتوفّى عام (450) وقد رتّبه على عشرين باباً.

3. « الأحكام السلطانيّة » للشيخ أبي يعلى محمّد بن الحسين الفرّاء الحنبليّ المتوفّى ببغداد عام (458) وهو معاصر للماورديّ.

4. « معالم القربة في أحكام الحسبة » لابن الأخوة القرشيّ المتوفّى عام ( 760 ه ) وهو من أبسط ما كتب في شؤون المحتسب.

5. « الحسبة في الإسلام » تأليف أحمد بن تيمية المولود عام ( 661 - 728 ه ) هذا ما كتبه القدامى من المفكّرين والعلماء.

وأمّا المتأخِّرون ، فقد أكثروا في الكتابة عن الموضوع في عصرنا هذا ، غير أنّ الجميع - كما أشرنا إليه - لم يتجاوزوا عن تصوير الحكومة الإسلاميّة التي قامت في عهد الخلفاء ومن بعدهم من الأموييّن والعباسييّن ، فهذه الكتب أشبه بتأريخ الخلافة الإسلاميّة من

ص: 185

تحقيق خطوطها ورسم معالمها على ضوء الكتاب والسنّة.

والغريب ، أنّ هذه المسائل تهمل ولا يعتني بها كتابنا الأوائل والحال أنّنا نجد بعض مؤرخينا السالفين ، دأبوا على تكريم الظالمين وكالوا لهم الثناء بغير حساب ، وسخّروا تفكيرهم وجهودهم للإطراء على سرفهم وترفهم ، وأعمالهم السيئة فحفلوا - فيما كتبوه من تاريخ - حتّى بحياة المشعوذين والمجانين ، بل وأحوال غلمان الملوك وقردتهم والمغنيّن والراقصين ، ونمثل لذلك بكتاب ( الأغاني ) لأبي فرج الأصفهانيّ المتوفّى عام (356) الذي حفل بكلّ مغنّ ومغنيّة وكلّ راقص وراقصة ، وكلّ شاذّ وشاذّة ، ونقل أشعارهم المائعة وقصائدهم الماجنة ، وكتب في ألوان الألحان والأصوات وذكر الأشعار الموافقة لألحانها مع تراجم شعرائها والمغنيّن بها ... بينما غفل اولئك الكتّاب عن الكتابة والتأليف عن الحكومة الإسلاميّة وخطوطها وخصوصيّتها وما ورد في شأنها في الكتاب والسنّة إلاّ عدّة مختصرات مرّت عليك ، وهو لا يكشف إلاّ عن عدم الاهتمام بهذا الأمر الحيويّ ، هذا وسيقف القارئ الكريم على أنّ صيغة الحكومة في العصور الحاضرة هو التنصيص أيضاً لكن لا على العين والشخص بل على الوصف والمواصفات.

وبعبارة أخرى : إنّ صيغة الحكومة في هذه العصور هي انتخاب الاُمّة للحاكم حسب الضوابط المنصوص عليها في الكتاب والسنّة أو كون الحاكم الأعلى مرضيّاً عند الاُمّة بعد أن يكون متّصفاً بالضوابط الشرعيّة.

وهذا هو الذي يتجلى لك بالتفصيل والبرهان في الصفحات القادمة ، ولا يرجع هذا النمط إلى النظام الدارج في الغرب وفي كثير من البلاد الاُخرى في العالم الثالث.

إذ في الأنظمة الديمقراطيّة السائدة اليوم ، يكفي مجرّد اجماع الشعب ، أو أكثريّته على اختيار فرداً للحكم والرئاسة ، بغضّ النظر عمّا يجب أن تتوفّر في الحاكم والرئيس الأعلى من مؤهّلات وكفاءات عالية تتوقّف عليها عمارة البلاد وسعادة العباد.

بينما يختلف الأمر عن ذلك في ظلّ النظام الإسلاميّ الذي يحصر حقّ الحاكميّة في اللّه وحده.

ص: 186

فإنّ هذا المنطلق وهذه القاعدة الأصليّة الرصينة في الفكر الإسلاميّ تفرض ، أن تكون حاكميّة غير اللّه مستندةً إلى حاكميّته سبحانه ، وموضع رضاه تعالى ، فتكون إمّا منصوصاً عليها بالاسم والعين من جانبه تعالى - كما أسلفناه - ، وإمّا أن تكون موافقةً للصفات والضوابط التي نصّ عليها الكتاب والسنّة ، فلا يكفي في شرعيّة الحكومة والرئاسة مجرد انبثاقها من إرادة الشعب كلّه أو أغلبيّته ، ما لم تكن وفق الضوابط الإلهيّة والمعايير الإسلاميّة المقرّرة في شأن الحاكم.

وهذا أمر منطقيّ ، لأنّ الغرض من إقامة الحكومة في منطق الإسلام إنّما هو إشاعة العدل والحق والأمن ، ولا يتحقق ذلك إلاّ في ظلّ حكومة تكون منطبقةً على المعايير والضوابط الإلهيّة.

ولذلك لا يمكن أن نصف ( الحكومة الإسلاميّة ) في هذه الحال بأنّها : حكومة الشعب على الشعب. بل هي حكومة اللّه على الشعب بقوانينه وضوابطه ، أو حكومة القانون الإلهيّ.

ولا يهمّ مع ذلك ، الوصف والتسمية ، بعد أن اتضح منشأ الحكومة الإسلاميّة وهو حاكميّة اللّه ، وحاكميّة قوانينه وضوابطه وأحكامه.

وبذلك يفترق اسلوب الانتخاب الشعبيّ في ظلّ النظام الإسلاميّ عمّا هو متعارف في ظلّ الأنظمة الديمقراطيّة السائدة ، التي تعتمد على السيادة الشعبيّة دون قيد أو مراعاة للمواصفات والمؤهّلات اللازمة في الحاكم والمنتخب ، وهي بذلك تعتبر الحاكميّة حقّاً خاصّاً بالشعب ونابعاً منه ، ومن إجماعه على شيء أو شخص وارتضائه به حقّاً أو باطلاً ، صالحاً أو فاسداً ، وستعرف المواصفات التي يشترطها الإسلام في الحاكم الأعلى في الفصول القادمة ، ويتعّين علينا هنا أوّلاً أن نعرف الأدلّة التي تعطي الاُمّة حقّ اختيار الحاكم أو ارتضائه - على الأقل - في ظرف عدم التوصُّل إلى الحاكم المنصوص عليه من جانب اللّه.

ص: 187

انتخاب الاُمّة والأدلّة الإسلاميّة

اشارة

انتخاب الاُمّة والأدلّة الإسلاميّة (1)

يحتوي الكتاب والسنّة وسيرة المسلمين العمليّة على أدلّة كثيرة تدلّ على أنّ للاُمّة أن تنتخب حكامها ورؤساءها وفق الضوابط والمعايير الإسلاميّة ، وهي إلى جانب دلالتها على هذا الأمر ، وإثباتها هذا الحقّ للاُمّة ، تكشف عن طبيعة ( الحكومة الإسلاميّة ) ومنطلقاتها ومبادئها الإلهيّة التي تميّزها عن غيرها من أنظمة الحكم المعمول بها في التاريخ أو الرائجة في العالم المعاصر.

وإليك هذه الأدلّة :

1. استخلاف اللّه للإنسان

اشارة

تصرّح بعض الآيات القرآنيّة ، بأنّ اللّه تعالى استخلف الإنسان في الأرض ، فهو إذن (خليفة اللّه ) فيها من غير فرق بين آدم وأبنائه إلى يوم القيامة ، غير أنّ تلك الخلافة قد تجسّدت في ذلك الوقت في آدم ، حيث يقول اللّه تعالى : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ... ) ( البقرة : 30 ).

وهذه الآية والآيات التي ستمرّ عليك ، تدلّ بوضوح كامل على أنّ الخلافة لم تكن منحصرة في فرد واحد من النوع الإنسانيّ وهو آدم علیه السلام بل هي تشمل جميع أبناء البشريّة ، بدليل أنّه بعد ما قال سبحانه : ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) سأل الملائكة بقولهم : ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ) مظهرين بذلك ، أنّ الخليفة المزمع استخلافه في الأرض سيركب الفساد ويسفك الدماء ، ومن المعلوم ، أنّ هذا العمل لم يكن صادراً من الإنسان الشخصيّ المتمثّل في آدم علیه السلام بل من أبنائه وأبناء أبنائه ، الذين طالما اقترفوا الذنوب وارتكبوا المعاصي ، وأخبر القرآن

ص: 188


1- إنّ الأدلّة التي ستمر عليك في الصفحات القادمة تتكفّل بيان أمرين : أحدهما ضمنيّ والآخر استقلاليّ ، فهي مضافاً إلى أنّها تبيّن صيغة الحكومة في العصور الحاضرة تبيّن لزوم إقامة الدولة وتشكيل السلطة في إطار الضوابط الإلهيّة.

الكريم عن فسادهم الكبير في الأرض.

وبعبارة آخرى : بما أنّ الملائكة تنسب الفساد وسفك الدماء إلى الخليفة المجعول في الأرض ، يعلم أنّ الخلافة هذه كانت عامّةً والاستخلاف كان شاملاً لجميع أبناء البشر.

ويمكن استظهار هذا المطلب من الآيات التالية أيضاً :

أ - ( هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ) ( فاطر : 39 )

ب - ( أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ ) ( النمل : 62 ).

إنّ هاتين الآيتين - بإطلاقهما تفيدان أنّ المخاطبين بهما : خلفاء اللّه في أرضه وينبغي أن لا نتوهّم أنّ المراد هو خلافتهم عن الامم السابقة ، إذ لو كان المراد هو ذلك ، لوجب إلقاء الكلام على غير هذا النحو كما في بعض الآيات التي أريد منها خلافة امّة لاحقة عن امّة سابقة كقوله سبحانه : ( ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ ) ( يونس : 14 ) (1).

وصفوة القول : أنّ مقتضى هذه الآيات هو أنّ اللّه سبحانه شرّف الإنسان باستخلافه وجعله خليفته في الأرض ، فكان الإنسان بذلك خلقاً ممتازاً على جميع عناصر الكون ، وبهذه الخلافة والاستخلاف استحقّ أن تسجد له الملائكة تكرمةً وإعظاماً ، وإظهاراً لفضله ومقامه.

أبعاد خلافة الإنسان عن اللّه

إنّ كون الإنسان خليفة اللّه في الأرض يقصد ( أو يستنتج ) منه أمران :

1. كون الإنسان خليفةً لله سبحانه في تمثيل أسمائه ، وصفاته الحسنى.

ص: 189


1- وبهذا المضمون الآية (73) من سورة يونس والآيتين ( 69 و 74 ) من الأعراف.

فهو بما أنّه خليفة اللّه يحكي - بوجوده - قدرة اللّه المستخلف له ، وعمله ، فهو يتفنّن ويبتدع ، ويكتشف ، ويستخرج ، ويجدّ ، ويعمل ، فيجعل الحزن سهلاً والماحل خصباً ، والخراب عمراناً ، والبراري بحاراً أو خلجاناً ، ويولّد بالتلقيح أزواجاً من النبات ، وقد يتصرف في أبناء جنسه من أنواع الحيوان كما يشاء بضروب التربية والتغذية ، والتوليد حتّى ظهر التغيير في خلقتها ، وخلائقها ، وأصنافها فصار منها الكبير والصغير ، ومنها الأهليّ والوحشيّ ، فهو ينتفع بكلّ نوع منها ويسخِّره لخدمته ، كما سخّر القوى الطبيعيّة ، وسائر المخلوقات.

أليس من حكمة اللّه الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى ، أن جعل الإنسان بهذه المواهب خليفته في الأرض يقيم سننه ، ويظهر عجائب صنعه ، وأسرار خليقته ، وبدائع حكمه ، ومنافع أحكامه ؟ وهل وجدت آية على كمال اللّه ، وسعة علمه أظهر من هذا الإنسان ، الذي خلقه على أحسن تقويم ، وإذا كان الإنسان خليفته بهذا المعنى فكيف تعجب الملائكة منه (1).

ولأجل خلافة الإنسان عن اللّه سبحانه في الاُمور التكوينيّة جعل اللّه تعالى عمارة الأرض ، على عاتق هذا الإنسان حتّى يمثّل بعمله وتعميره للأرض تدبير اللّه سبحانه فقال : ( هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) ( هود : 61 ).

وكما أنّ اللّه سبحانه ربّ البقاع والبهائم ومدبّرها ، فإنّ الخليفة مسؤول عنها ومسؤول عن العناية بها أيضاً كما قال الإمام عليّ علیه السلام : « إنّكم مسؤولون حتّى عن البقاع والبهائم » (2).

وخلاصة هذا البعد هي ، خلافة الإنسان عن اللّه سبحانه في الاُمور التكوينيّة بما أعطي من مقدرة من جانبه سبحانه.

2. إنّ الإنسان يخلفه سبحانه في الاُمور الاجتماعيّة ، أعني بها الاُمور الراجعة إلى القيادة والحاكميّة.

ص: 190


1- تفسير المنار 1 : 260.
2- نهج البلاغة : الخطبة (165).

فإنّ كونه خليفةً لله في الأرض لا يقتصر على ما ذكر ، بل يعمّ كونه خليفةً فيها في ( الحكم والحاكميّة ) أيضاً ، إذ من المعلوم أنّه إذا كان الإنسان مسؤولاً - بالخلافة - عن تعمير البقاع ومكلّفاً بالعناية بالبهائم وتدبير شؤونها ، فإنه بالأحرى مسؤول ومكلف بتدبير أمر نفسه ومجتمعه. وهذا ما نعبر عنه بخلافته عن اللّه في الاُمور الاجتماعيّة والاعتباريّة ( الحاكميّة ).

وعلى ذلك يكون معنى استخلاف اللّه للإنسان ، أنّه خوّل إليه أمر القيادة وتدبير مجتمعه ، وممارسة ( الحكم والولاية ) في إطار الضوابط والسنن التي جاء بها الدين.

وفي هذا الصدد يقول العلامة الطباطبائيّ في تفسيره ( الميزان ) : ( انّ الملائكة فهموا من قوله سبحانه ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) أنّ الخلافة لا تقع في الأرض إلاّ بكثرة من الأفراد وقيام وضع اجتماعيّ بينهم ، وهو يفضي بالتالي إلى الفساد والسفك ، والخلافة وهي قيام شيء مقام الآخر لا تتمّ إلاّ بكون الخليفة حاكياً للمستخلف في جميع شؤونه الوجوديّة وآثاره وأحكامه وتدابيره بما هو مستخلف.

وبما أنّ الخليفة الأرضيّ بما هو كذلك لا يليق بالاستخلاف بهذا المعنى الجامع تساءل الملائكة.

ثمّ أنّه سبحانه أجاب عن هذا التساؤل بأنّ هناك مصالح في خلقه ما لا تعرفه الملائكة ولم تقف عليه ) (1).

فخلافة الإنسان عن اللّه لا تنحصر بالاُمور التكوينيّة من عمارة الأرض وغيرها ، بل تعمُّ حاكميّته وقيادته نيابةً عن اللّه سبحانه ، فهو بوجوده الفردي يحكي عن أسمائه وصفاته ، وبوجوده الاجتماعيّ يمثّل حاكميّة اللّه العليا في الأرض.

وبذلك يظهر أنّ حاكميته تنبثق من خلافته.

* * *

ص: 191


1- الميزان 1 : 115.

وصفوة القول : أنّ كون الإنسان خليفة اللّه في أرضه مضافاً إلى كونه ممثلاً بصفاته ، صفات المستخلف له - بمقدار ما يمكن - وممثّلاً بكماله وقدرته وعلمه ، كماله وقدرته وعلمه تعالى ، يعني أيضاً كون الخليفة ذات مسؤوليات من جانب مخلِّفه ، كمسؤوليّة الوكيل عن جانب موكِّله في مجتمعه ، ومن المسؤوليات الموجّه إلى الإنسان من جانب ربّه - بهذا الاستخلاف - هو القيام بتدبير شؤون نفسه ، وشؤون مجتمعه بممارسة القيادة لذلك المجتمع ومزاولة الحكومة والولاية خلافة عن اللّه.

إذن فللناس أن يزاولوا الحاكميّة في الأرض بالخلافة والنيابة عن اللّه ... ولكن من البيّن أنّ هذا لا يتحقّق إلاّ بتقسيم المسؤوليات في عامّة المجالات الحكوميّة ، حتّى تتفرّغ جماعة لإدارة شؤون المجتمع الإنسانيّ ، وسياسته.

وعلى هذا الأساس تقوم فكرة سيادة الاُمّة في منطق الإسلام ، وتتّجه شرعيّة ممارسة الجماعة البشريّة للولاية والحاكميّة على نفسها وبالتالي يبتنى عليه مبدأ الانتخاب الشعبيّ للحكّام في النظام الإسلاميّ السياسيّ.

* * *

آثار الحاكميّة نيابةً عن اللّه

وتترتّب على هذه السيادة والولاية الشعبيّة المنبثقة عن الاستخلاف الإلهيّ للإنسان اُمور :

أوّلاً : انتماء الجماعة البشريّة الواحدة إلى محور واحد ، وهو ( المستخلف الواحد ) الذي استخلفها على الأرض ، بدلاً عن كلّ الانتماءات الاخرى ، وما يتبع ذلك من الإيمان بسيد واحد ، ومالك واحد للكون ، وما فيه.

ويشير القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة العليا في الآية التالية ، لكن استفادتها تحتاج إلى ذوق خاصّ ، قال سبحانه : ( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ) ( الزمر : 29 ).

ص: 192

فالآية تصور حال الفرد المؤمن والفرد الكافر.

فالمؤمن ، بما أنّه ليس في عنقه إلاّ طاعة اللّه فهو بمنزلة رجل سلم لرجل ، والفرد الكافر ، بما أنّه يعتقد بالوهيّات مختلفة متعدّدة فإنّه كرجل فيه شركاء متشاكسون ، هذا حال الفرد ، ومثله حال المجتمع المؤمن والمجتمع الكافر ، فالأوّل بما أنّه لا يخضع لحاكميّة أحد سوى اللّه سبحانه فهو بمنزلة رجل سلم لرجل ، والمجتمع الكافر بما أنّه لا يدور أمره حول محور واحد في العقيدة والنظام فهو كرجل تتنازع فيه شركاء.

ونظيره قوله سبحانه : ( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ( يوسف : 39 ).

ثانياً : إقامة العلاقات الاجتماعيّة على أساس العبودية المخلصة لله تعالى ، وتحرير الإنسان من عبودية الأسماء التي تمثّل أبشع أنواع الاستغلال والجهل والطاغوت كما يشير إليه قوله : ( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم ) ( يوسف : 40 ).

وهو إلذي أشار إليه الإمام عليّ علیه السلام بقوله : « بعث اللّه محمّداً صلی اللّه علیه و آله ليخرج عباده من عبادة عباده إلى عبادته ومن عهود عباده إلى عهوده ، ومن طاعة عباده إلى طاعته ، ومن ولاية عباده إلى ولايته » (1).

ثالثاً : تجسيد روح الاُخوة العامّة في جميع العلاقات الاجتماعيّة ، بعد محو كلّ ألوان التمييز والتسلط والاستغلال ... فما دام اللّه واحداً ولا سيادة إلاّ له وحده ومادام الناس جميعاً متساوون بالنسبة إليه ، فالجميع خلفاؤه في الأرض في تدبير ما فيها من أشياء ، فيجب أن يكونوا اخوة متكافئين في الكرامة الإنسانية والحقوق الطبيعيّة كأسنان المشط.

فالجماعة البشريّة التي تتحمّل مسؤوليّة الخلافة على الأرض ، إنّما تمارس هذا الدور بوصفها خليفةً عن اللّه سبحانه ، ولهذا فهي غير مخوّلة أن تحكم بهواها أو باجتهادها المنفصل عن توجيه اللّه سبحانه ، لأنّ هذا يتنافى مع طبيعة الاستخلاف

ص: 193


1- الوافي 3 : 22.

ومقتضاه.

وبهذا تتمّيز سيادة الجماعة البشريّة حسب منطلقها القرآنيّ والإسلاميّ عن الأنظمة الديمقراطيّة الغربيّة.

فإنّ الجماعة البشريّة - حسب هذه الأنظمة - هي بنفسها صاحبة السيادة ، لا أنّها تنوب عن اللّه في ممارستها للسيادة ، ويترتّب على ذلك أنّها ليست مسؤولةً بين يدي أحد ، وغير ملزمة بمقياس موضوعيّ في الحكم ، بل يكفي أن يتّفق الشعب على أمر ليصبح قانوناً يؤخذ به حتّى إذا كان ذلك الأمر مخالفاً لكرامته ، أو مخالفاً لمصلحة جزء من الجماعة.

وهذا بخلاف حكم الجماعة باعتبار الاستخلاف ، فإنّه حكم مسؤول ، والجماعة بمقتضاه ملزمة بتطبيق الحقّ والعدل ، ورفض الظلم ، ومقاومة الطغيان وتكون مسؤولة أمام اللّه فيما تفعل ، وعلى ذلك فالحكومة الإسلاميّة هو « حكومة الاُمّة على الاُمّة خلافةً عن اللّه » بمعنى : إجراء سننه وقوانينه ومراعاة ضوابطه وحدوده ، في الحكم والحاكميّة (1).

* * *

2. استخلاف داود يستبطن حاكميّته

والذي يدلّ على أنّ الحكم والحاكميّة من آثار الاستخلاف الإلهيّ للإنسان : أنّ اللّه سبحانه لمّا جعل داود خليفته في الارض ، رتّب على هذا الاستخلاف أمره بأن يحكم ويقود الناس بالعدل والحقّ فقال : ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ ) ( ص : 26 ).

ومن المعلوم أنّ ( الخليفة ) هنا وهناك في قصّة آدم علیه السلام واحدة معنىً ومراداً ، غير أنّها هناك ذات معنىً أعمّ ، وهنا ذات معنىً أخصّ.

وقد نقل شيخ الطائفة ( الطوسي ) رحمه اللّه في تفسير التبيان عن ابن مسعود أنّه

ص: 194


1- لاحظ رسالةً ( لمحة فقهيّة تمهيديّة ) للمفكّر الإسلاميّ الشهيد السيد محمّد باقر الصّدر.

قال في تفسير الخليفة مشيراً إلى البعد الأوّل : ( قيل : إنّه يخلفني في إنبات الزرع وإخراج الثمار ، وشقّ الأنهار ).

وقال مشيراً إلى البعد الثاني : ( انّه تعالى أراد بقوله ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) أنّه يخلفني في الحكم بين الخلق ، وهو آدم ومن يقوم مقامه من ولده ) (1).

* * *

3. أداء الأمانة لا يمكن إِلاّ بالحكومة

اشارة

إنّ القرآن الكريم يتحدث عن أنّ اللّه سبحانه عرض الأمانة على الأشياء كلّها ولم يحملها إلاّ الإنسان ، فقال سبحانه : ( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً * لِيُعَذِّبَ اللّهُ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالمُشْرِكِينَ وَالمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( الأحزاب : 72 - 73 ).

فالمراد من الأمانة : هو ما أنزل اللّه سبحانه على الإنسان عن طريق سفرائه من الأحكام والفرائض والحدود وغيرها (2).

ولا شكّ أنّ تحمّل الأمانة ، لأجل أدائها وتنفيذها. ومن المعلوم أنّ تنفيذ الأحكام والفرائض والحدود في الحياة البشريّة لا يمكن إلاّ في ظلّ حكومة نابعة من نفس الدين الإلهيّ تقيمها الاُمّة المؤمنة ، لتستطيع في ظلهّا على طاعة اللّه سبحانه والإتيان بأوامره والاجتناب عن نواهيه وإقامة دينه.

على أنّ الآية الثانية ( لِيُعَذِّبَ اللّهُ ... ) توضّح حقيقة الأمانة المذكورة ، فهي تفيد أنّ حملة الأمانة ينقسمون إلى مؤمن ومنافق ومشرك ، ولا يكون هذا التقسيم صحيحاً إلا بالقياس إلى الاعتقاد بالحقّ والعمل بالدين. فيكون المؤمن هو من يقوم بالدين ... والمشرك هو من يشرك في ذلك فيأخذ بالدين وبغيره ... والمنافق هو من يتظاهر بالأخذ

ص: 195


1- التبيان 1 : 131.
2- التبيان 8 : 373.

بالدين.

وبعبارة اُخرى : إنّ الأمانة هو الدين الحق وأداؤها هو الأخذ به والعمل بمقتضاه ، ولا شكّ أنّ الأخذ بالدين ينطوي على مسؤولية كبيرة اتّجاه اللّه سبحانه ، واتّجاه نبيّه واتّجاه اُمّته.

وهذه المسؤوليّة إذا فسِّرت ، كان من أجزاءها : تدبير المجتمع ، وتنظيم شؤونه ، وأموره ، وإجراء السياسات والحدود في ذلك المجتمع.

وممّا يجدر بالذكر ، أنّ العلاّمة الطباطبائيّ اعترض على هذا التفسير لكلمة الأمانة المذكورة في الآية بالدين الإلهيّ بقوله : ( انّ الآية تصرِّح بحمل مطلق الإنسان لتلك الأمانة كائناً من كان ، أي مؤمناً كان أم كافراً ، مشركاً كان أو منافقاً ... ومن البين أنّ أكثر من لا يؤمن لا يحمله ، ولا يعلم به أساساً ، فكيف يمكن تفسير الأمانة بالدين ، فلابدّ من تفسيرها بغير الدين ، ليصدق حمل جميع أفراد النوع الإنسانيّ لها ) (1).

غير أنّ ما ذكره من الإشكال ليس صحيحاً إذ ليس المراد من ( الحمل ) هو الأخذ الفعليّ بالدين وتطبيقه في المجالات ، بل هو ( تقبّل ) الأخذ بالدين ، ولمّا كان الإنسان ظلوماً ، جهولاً حسب نصّ الآية فإنّه قد خان الأمانة ولم يخرج عن عهدتها ... ولأجل ذلك ، صار بين مؤمن يقوم بتعهده والتزامه ، ومنافق يختلف ظاهره عن باطنه ، فيتظاهر بالتسليم للدين. وهو كاره له في باطنه ، ومشرك يشرك في الأخذ فيأخذ من الدين ضغثاً ومن أهوائه ضغثاً.

* * *

الاستخلاف غير التفويض

قد صار المحصّل من هذا البحث الضافي ، أنّ الإنسان بما هو خليفة اللّه في أرضه ، خليفته في الحكم والقيادة.

ص: 196


1- ملخّص ما كتبه في تفسير الميزان 16 : 371.

وهذه السيادة التي تفيده هذه الآيات كما تختلف اختلافاً أساسياً عن الحقّ الإلهيّ الذي استغله الطغاة والملوك والجبابرة ، قروناً من الزمن للتحكم والسيطرة على الآخرين ، ووضعوا السيادة اسميّاً لله ، لكي يحتكرونها واقعيّاً ، وينصبوا من أنفسهم خلفاء لله على الأرض.

أقول : كما يختلف عن ذلك يختلف أيضاً عن تفويض الحاكميّة من اللّه للمجتمع كلّه ، بل هو خلافة ونيابة عن اللّه سبحانه ، فما فوِّضت الخلافة للإنسان حتّى يتقلب فيها بأيّ نحو يشاء ، بل هو يحكم ويدير خلافةً ونيابةً عن اللّه سبحانه.

ولأجل ذلك فما دام اللّه سبحانه هو مصدر السلطات ، وكانت الشريعة هي التعبير الموضوعيّ المحدّد عن اللّه ، يجب أن تحدّد الطريقة التي تمارس بها هذه السلطات عن طريق الشريعة الإلهيّة.

وبهذا ترتفع الاُمّة - وهي تمارس السلطة - إلى قمّة شعورها بالمسؤوليّة لأنها تدرك بأنها تتصرف بوصفها خليفة لله في الأرض ، فحتّى الاُمّة ليست هي صاحبة السلطان وإنّما هي المسؤولة أمام اللّه سبحانه عن حمل الأمانة وأدائها (1).

* * *

4. الوظائف الاجتماعيّة وتشكيل الدولة

اشارة

تدل الآيات القرآنية التالية - بالدلالة الالتزاميّة - على ، أنّه يتوجب على الاُمّة القيام بتشكيل دولة في إطار القوانين الإسلاميّة ، وأنّ للشعب السيادة ، وأنّه لا يحقّ لأحد أن يحمل نفسه على كاهل الشعب ، ويفرض سيادته عليه دون رضاه ودون موافقته.

وقبل الخوض في تفاصيل هذا البحث لا بدّ من طرح سؤال هو :

هل للمجتمع وجود على الصعيد الخارجيّ ، وواقعيّة مستقلة عن وجود الفرد. أو أنّه أمر اعتباريّ يعتبره الذهن من انضمام فرد إلى فرد آخر ؟

ص: 197


1- لاحظ ( لمحة فقهيّة تمهيديّة ) ، للمفكر الإسلاميّ الشهيد محمّد باقر الصّدر : 20 - 24 بتصرّف.
المجتمع في نظر الفلاسفة والحقوقيّين

يعتقد الفلاسفة بأنّه ليس للمجتمع أي وجود على الصعيد الخارجيّ ... فليس في الواقع الخارجيّ إلاّ ( الأفراد ) وما المجتمع سوى صورة تنتزعها عقولنا عن انضمام الفرد إلى الفرد.

وعلى العكس من الفلاسفة ، يعتقد علماء الاجتماع والحقوقيون أنّ للمجتمع وجوداً وحقيقةً قائمةً على الصعيد الخارجيّ ، ولذلك تكون هناك علاقات اجتماعيّة ، وحقوق ، وأحكام خاصّة للمجتمع.

والحقّ أن كلتا الطائفتين على صواب ، وذلك ، لأنّ الفيلسوف الذي يلاحظ الأشياء من زاوية العينيّة الملموسة ، لا يجد واقعاً في عالم التكوين بمعزل عن واقع الفرد التكوينيّ ، ووجوده الخارجيّ فلا يرى مناصاً من إنكار الوجود الخارجيّ للمجتمع وراء وجود الأفراد.

فعندما يجلس خمسة أشخاص حول طاولة فإنّ الفيلسوف لا يعتبر ( الهيئة الاجتماعيّة ) الحاصلة من اجتماع الأشخاص الخمسة ، شيئاً مستقلاً ووجوداً خاصّاً ، ليفترضه سادساً لهم.

ولكن النظر من الزاوية الحقوقيّة التي هي أكثر مساساً بالواقعيّات العرفيّة يهدينا إلى ، أنّ المجتمع البشريّ سواء كان في حجمه الصغير ( القبيلة ) أو الكبير ( الاُمّة ) يتمتّع بواقعيّة عرفيّة ، وله حقوق وواجبات غير ما للفرد ، وكما للفرد من حقوق وواجبات ومسؤوليّات. فهكذا للمجتمع ومن هذه الزاوية تنظر الامم المتحضّرة إلى المجتمع ، وتعترف به وبوجوده ، وتقرّر له الأنظمة ، والحقوق والواجبات.

وعندما ينظر الإسلام إلى الفرد والمجتمع من الزاوية الحقوقيّة ، نجده يعترف بكلّ واحد منهما في موضعه ومحلّه ، ويقرّر لكلّ واحد منهما ما يناسبه من الشخصيّة والحقوق والواجبات سواء بسواء.

ص: 198

فعندما ينظر القرآن الكريم إلى المجتمع من هذه الزاوية الحقوقيّة ، يعتبر للمجتمع وجوداً ، وعدماً وحياةً ونشوراً ، وأجلاً وكتاباً وتقدمّاً وتقهقراً إلى غير ذلك من الآثار التي تكون للفرد. وفي هذا الصدد يكتب العلاّمة الطباطبائيّ في تفسيره قائلاً :

( انّ القرآن اعتبر للمجتمع وجوداً وعدماً ، وأجلاً وكتاباً ، وشعوراً وفهماً وعملاً وطاعةً ومعصيةً وكلُّ ذلك يدلّ على أنّ للمجتمع - في مقابل الفرد حقيقةً واقعيّةً في ظرفه المناسب له ، يقول سبحانه : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) ( الأعراف : 34 )

وقال : ( كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا ) ( الجاثية : 28 )

وقال : ( كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ) ( الأنعام : 108 )

وقال : ( مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ) ( المائدة : 66 )

وقال : ( أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ ) ( آل عمران : 113 )

وقال : ( وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ) ( غافر : 5 )

وقال : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ) ( يونس : 47 ).

ومن هنا ، نرى أنّ القرآن يعتني بتواريخ الامم كاعتنائه بقصص الأشخاص بل أكثر ، حينما لم يتداول في التواريخ إلاّ ضبط أحوال المشاهير من الملوك والعظماء ، ولم يشتغل المؤرّخون بتواريخ الامم والمجتمعات إلاّ بعد نزول القرآن ، فاشتغل بها بعض الاشتغال آحاد منهم المسعودي وابن خلدون ، حتّى ظهر التحول الأخير في التأريخ النقليّ ، بتبديل الأشخاص اُمماً وهذا هو الملاك في اهتمام الإسلام بشأن الاجتماع ، ذلك الاهتمام الذي لا نجد ولن نجد نظيره في واحد من الشرائع ولا في سنن الاُمم المتمدِّنة ، فإنّ تربية الأخلاق والغرائز في الفرد وهوالأصل في وجود المجتمع ، لا تكاد تنجح مع كينونة الأخلاق والغرائز المعارضة والمضادةّ القوية القاهرة في المجتمع ، إلاّ يسيراً لا قدر له عند القياس والتقدير.

ص: 199

ولأجل ذلك وضع الإسلام أهّم أحكامه كالحجّ والصلاة والجهاد والإنفاق أساس الاجتماع وحافظ على ذلك ، مضافاً إلى قوى الحكومة الإسلاميّة الحافظة لشعائر الدين العامّة وحدودها ، ومضافاً إلى فريضة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الشاملة لجميع الاُمّة ، بجعل سعادة المجتمع هي السعادة الحقيقيّة وجعل غرض المجتمع الإسلاميّ هو القرب والمنزلة عند اللّه.

وهذا هو الذي ذكرناه من أنّ الإسلام تفوق سنّة اهتمامه بشأن الاجتماع سائر السنن والطرق ) (1).

فكما تجب على الفرد - في نظام الإسلام - اُمور كالصلاة والصيام واحترام الوالدين وما شابه ذلك ، كذلك ، توجّهت الشريعة الإسلاميّة إلى المجتمع بسلسلة من التكاليف والواجبات ويتعيّن على المجتمع الإسلاميّ أن يقوم بها دون تلكؤ أو ابطاء.

فيأمر الإسلام المجتمع مثلاً بأن يقطع يد السارق إذ يقول : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( المائدة : 38 ).

ويأمره بجلد الزاني والزانية إذ يقول : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ المُؤْمِنِينَ ) ( النور : 2 ).

كما يأمره بأن يحافط على حدود الوطن الإسلاميّ ويدافع عن ثغوره بالصبر والمرابطة إذ يقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( آل عمران : 200 ).

ويأمره بأن يقاتل البغاة والطغاة حتّى يفيئوا إلى الحق ، ويكفّوا عن البغي والطغيان والعدوان إذ يقول : ( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( الحجرات : 9 ).

ص: 200


1- الميزان 4 : 96 - 97.

وفي هذا الصدد يكتب العلامة الطباطبائيّ في تفسيره قائلاً :

( انّ عامّة الآيات المتضمنّة لإقامة العبادات والقيام بأمر الجهاد وإجراء الحدود والقصاص وغير ذلك توجّه خطاباتها إلى عامّة المؤمنين دون النبيّ خاصّةً كقوله تعالى : ( وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ ) ( البقرة : 195 )

وقوله : ( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ) ( آل عمران : 104 )

وقوله : ( وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ ) ( المائدة : 35 )

وقوله : ( وَجَاهِدُوا فِي اللّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ) ( الحج : 78 )

وقوله : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) ( البقرة : 179 )

وقوله : ( وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ ) ( الطلاق : 2 )

وقوله : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ) ( آل عمران : 103 )

وقوله : ( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) ( الشورى : 13 ).

إلى غير ذلك من الآيات التي يستفاد منها أنّ الدين ذو صبغة اجتماعية الشكل وقد حملها اللّه تعالى على الناس بصفتهم الاجتماعيّة ( كما حمل بعض الاُمور على الافراد بوصفهم الفرديّة ) ولم يرد إقامة الدين إلاّ منهم أجمعهم ، فالمجتمع المتكون منهم هو الذي أمره اللّه وندبه إلى ذلك من غير مزيّة في ذلك لبعضهم ) (1).

إنّ توجيه الخطاب بهذه التكاليف إلى المجتمع ، إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ المجتمع بما هو مجتمع عليه أن يقوم بها كما يقوم الفرد بواجبه الدينيّ ، وهي على نحو الواجب الكفائّي الذي يجب على الجميع القيام بها أوّلاً وبالذات ، فإن قام بها أحد سقطت عن الآخرين ، وأمّا إذا لم يقم بها أحد كان الجميع عصاةً مسؤولين.

وحيث أنّ هذه التكاليف والواجبات المتوجّهة شرعاً إلى المجتمع ممّا لا يمكن

ص: 201


1- الميزان 4 : 122 - 123.

القيام بها وأدائها دون جماعة متفرّغة لذلك ، ودون جهاز حكم يتولّى تنفيذها ، توجّب على المجتمع الإسلاميّ أن يقوم بتشكيل دولة يعهد إليها مسؤولية القيام بهذه التكاليف ، وتطبيق النظم الاجتماعيّة الإسلاميّة ، والوظائف المتوجهة إلى المجتمع أساساً ، وذلك صيانةً للمجتمع من الإنهيار ، وحفظاً لمصالحه وشؤونه ، إذ بغير هذه الصورة لن يكون هناك إلاّ الهرج والمرج والفوضى والفساد الذي يأباه الإسلام بشدّة ، وترفضه تعاليم السماء أشدّ الرفض.

من هذا البيان المقتضب ، يمكن لنا أن نستنبط كون الاُمّة والمجتمع هو مصدر السلطات الحكوميّة ، ولكن ليس مصدراً مطلقاً بل مصدراً في إطار الحاكميّة الإلهيّة والقوانين الإسلاميّة ، فالناس في الدين الإسلاميّ هم المكلفون بتشكيل الحكومة والدولة وتعيين الحاكم وانتخابه - إن لم يكن هناك حاكم منصوص عليه من جانب اللّه - لقيادة الاُمّة ، وإدارة شؤونها ، وتطبيق الشريعة الإلهيّة في المجالات الاجتماعيّة ، لأنّهم هم المخاطبون بالخطابات المذكورة ... ولمّا لم يكن في مقدورهم جميعاً القيام بذلك بأشخاصهم ، لزم أن يبادروا إلى استنابة من يقوم بها.

أليس المجتمع - حسب منطق القرآن - هو الذي توجه إليه الأمر بقطع السارق وحدّ الزاني وردّ المعتدي وحفظ الثغور ، وإقامة النظام الدينيّ ؟؟.

أفلا يدلّ ذلك ضمناً على أن الإسلام سمح للمجتمع الإسلاميّ بأن يشكّل الدولة التي تتولّى القيام بهذه الواجبات الاجتماعيّة ، لأنّ الإسلام جعل هذه التكاليف في عهدة المجتمع ، وطلب منه أداءها ؟ وهل يمكن للمجتمع الذي يقوم كلّ صنف من أصنافه بتكفُّل جانب ضروريّ من الجوانب المعيشيّة ، بكلّ تلك الواجبات الاجتماعيّة والإداريّة والسياسيّة ، دون جهاز حكوميّ متفرّغ ينّفذ ويراقب ويضمن إجراء القوانين الإلهيّة في المجالات المذكورة ؟

وهل يمكن أن يريد الإسلام إقامة الاُمور الاجتماعيّة والنظم الاجتماعيّ ... ولا يريد مقدّمة ذلك وهي تشكيل دولة تقوم ... وتتعهّد بتوزيع المسؤوليات وحفظ الحقوق.

ص: 202

وحراسة العلاقات ؟

وهكذا تكون الاُمّة - في نظر الإسلام - مصدر السلطة الذي له أن يختار وينتخب حكّامه ، وتكون الحكومة نابعةً من إرادته.

* * *

5. العقلُ وتشكيل الدولة

يعتبر ( العقل ) أحد الأدلّة الشرعيّة التي يستند إليها الفقهاء في استنباط الأحكام جنباً إلى جنب مع القرآن والسّنة والاجماع.

وقد أشبع العلماء البحث في حجّية العقل في الموارد التي له الحكم فيها.

لقد دلّ العقل هذا على وجوب تشكيل الدولة من جانب الاُمّة ، وذلك لما في إقامة الدولة من حفظ النظام الإنسانيّ ... ومن المعلوم أنّ حفظ النظام الإنسانيّ من الواجبات العقليّة التي يحتِّمها العقل على البشر.

فإنّه يتوجب على البشر - بحكم العقل - أن يبذل غاية جهده في إقرار النظام وحفظه والدفاع عنه وصيانته ، إذ في ظلّ النظام يمكن أن يحصل الإنسان على سعادته وسلامته ويضمن مصالحه ومستقبله.

ولأجل هذا ، نجد الشعوب تقرّر أنظمةً وقوانين لحفظ هذا النظام رغم أنّ بعضها لا يتديّن بدين ولا يتمسّك بشريعة إلهيّة.

وهذا إنّما يدلّ على أنّ موضوع إقامة النظام الاجتماعيّ ، ممّا يقرُّ به الناس ويذعنون له عقلاً وبديهةً ، قبل أن يأتي لهم في ذلك شرع ودين.

فهذه إذن حقيقة لا نقاش فيها.

ولكن ترى ، هل يمكن للمجتمع أن يقوم بنفسه - ورغم عدم تخصُّصه في شؤون الإدارة ، وعدم تفرغه لها - بحفظ النظام وإقراره ؟ أو هل يمكن التوصل إلى ذلك بمجرد أن يؤمن الناس بهذه الحقيقة إيماناً مجرّداً من أي رادع ، ومن دون أنّ يكون ثمة جهاز يتولّى

ص: 203

مسؤولية الحفاط على النظام الاجتماعيّ الذي يدعو إليه العقل ويطلبه العقلاء ، وينادون به.

والحقّ أنّ مجرّد الاعتقاد بضرورة حفظ النظام الاجتماعيّ وبحجّة أنّه يكفل سعادة الفرد والمجتمع ، من دون إقامة ( دولة ) ، لا يمنع من وقوع الاختلال في هذا النظام ، ولذلك فإنّ العقل نفسه يحتِّم على البشر أن يقيم جهازاً يعهد إليه حفظ النظام ، ولأجل ذلك لم يخل - كما قلنا - أي مجتمع بشريّ من دولة أو دويلة وزعيم كبير أو صغير يتكفّل إقرار النظام الاجتماعيّ المطلوب.

وهذا خير دليل على ، أنّ للشعوب بل عليها أن تقوم بتشكيل السلطات ... فهي إذن مصدرها ، وهذا هو بالضبط ما يؤكّده الإسلام ويؤيّده ، إذ الشرع كما يقولون يعضد العقل ويؤيّده فيما تكون فيه مصلحة الناس ومنفعتهم وخيرهم.

* * *

6. سيرة المسلمين بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله

إنّ الصحابة - بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله - أحسّوا بضرورة إقامة دولة وتشكيل جهاز حكوميّ يخلف القيادة النبويّة ، يلمّون به شعثهم ويحفظون به اجتماعهم ، فأقدموا على انتخاب رئيس من بينهم لزعامة الاُمّة وقيادة البلاد ، وإن كان ذلك لا يخلو من علّة وعلاّت ، كما أوضحناه.

إنّ الصحابة - وإن تناسوا وجود إمام منصوص عليه من جانب النبيّ صلی اللّه علیه و آله حيث كان النبي صلی اللّه علیه و آله قد عيّن عليّاً علیه السلام إماماً للمسلمين من بعده ، كما تدلّ الأخبار القطعيّة والأحاديث المتواترة (1) على ذلك - إلاّ أنّ فعلهم كان يدلّ في حدّ نفسه على أنّ الطريق الطبيعيّ لتأسيس الحكومة وإقامتها ، هو انتخاب الاُمّة للحاكم والقائد ، لولا النصّ.

* * *

ص: 204


1- لقد أشرنا إلى بعض مصادر هذه النصوص في الصفحة 104 - 181 من هذا الكتاب وتركنا الكثير.

7. سلطةُ الناس على أموالهم وأنفسهم

إنّ من أبرز مسلّمات الفقه الإسلاميّ هو قاعدة ( سلطة الإنسان على ماله ) التي هي مفاد قول الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « الناس مسلطون على أموالهم » (1).

فإذا كان الناس مسلّطين على أموالهم بحيث لا يجوز لأحد أن يتصرف فيها إلاّ بإذن أصحابها ، فهم - بطريق أولى - مسلّطون على أنفسهم ، فلا يجوز لأحد أن يحدّد حرياتهم ، ويحمل نفسه عليهم أو يتصرّف في مقدّراتهم وشؤونهم دون إذنهم.

هذا من جانب.

ومن جانب آخر نرى ؛ أنّ إقرار النظام يستلزم بالضرورة تصرّفاً في أموال الناس ونفوسهم وتحديداً لحرياتهم المشروعة بالذات ، فإنّ الجمع بين هذين الأمرين ( سلطة الناس على أموالهم وأنفسهم ، واستلزام أقرار النظام ، التصرّف في تلك الأموال والنفوس ) ، هو بأن تكون الدولة التي تقيم النظام نابعةً من انتخاب الاُمّة ، أو موضع رضاها على الأقلّ.

وبعبارة أوضح : إنّ سيادة أي نظام على الناس لا تخلو من السلطة على أموالهم وأرواحهم والتصرّف فيها بالضرورة لأنّ من النظام أخذ الضرائب ، وتنظيم الصادرات والواردات وتحديدها ، وذلك بوضع القيود اللازمة عليها ، وتنظيم الحريات والعلاقات

ص: 205


1- مبدأ البرهان في هذا الدليل هو القاعدة المسلّمة بين الفقهاء وهي ( الناس مسلّطون على أموالهم ) وقلنا : إذا كان الناس مسلّطين على أموالهم فبالأولى أن يكونوا مسلّطين على نفوسهم. غير أنه يجب التنبيه على نكتة وهي أنّ الأولوية في الجانب السلبي لا الجانب الإيجابي. والمقصود من الجانب السلبي أنه إذا كان للأنسان أن يردّ الغير عن التصرف في ماله فبالأولى يكون له رد الغير عن التصرف في نفسه، إذ جواز الردّ في جانب الأموال يستلزم جوازه في جانب النفس بطريق أولى. وأما الجانب الإيجابي فليست هناك أية ملازمة والمراد منه هو أنه إذا جاز للرجل أن يتصرف في ماله فبالأولى له أن يتصرف في نفسه، ومن المعلوم بطلان هذه الملازمة.

وإرسال الجيوش إلى ميادين القتال ، واستحضار الأفراد للخدمة العسكريّة ، وما شابه ذلك ممّا يكون به حفظ النظام وصيانته وإقراره ، ولمّا كان حفظ النظام واجباً مفروضاً عقلاً وشرعاً وكان ممّا لا يتحقّق إلاّ بإقامة دولة قويّة ذات سلطة واقتدار ، يتراءى - في بادئ النظر - أنّه يصطدم مع ما أقرّه الإسلام للإنسان من سلطة وسلطان على أمواله ونفسه ... فكان الحلّ ، هو أن تكون الدولة المتصرفة واقعةً موقع رضاهم ، حتّى يكون التصرّف بإذنهم ورضاهم ... حفظاً للقاعدة المسلّمة ( الناس مسلطون على أموالهم ) وعلى أنفسهم.

* * *

8. الحكومة أمانةٌ عند الحاكم

إنّ تشكيل الدولة وانتخاب الحاكم الأعلى ، حقّ اجتماعيّ للاُمّة ولها أن تستوفي هذا الحق متى شاءت وأرادت وهذا يعني أنّ الحكومة ( أمانة ) عند الحاكم تعطيها الاُمّة له ، وعليه أن يحرص على الأمانة غاية الحرص ، ويواظب على أدائها أشدّ المواظبة.

أقول : إنّ هذه الحقيقة تستفاد من بعض الآيات والأحاديث العديدة التي تصف الحكم بأنّه أمانة ، ومنها قول اللّه سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) ( النساء : 58 - 59 ).

إنّ الخطاب في قوله سبحانه ( يَأْمُرُكُمْ ) موجّه إلى الحكام بقرينة قوله ( وَإِذَا حَكَمْتُم ) وهذه قرينة على أنّ الأمانة المذكورة هي : الحكومة.

ويؤيّد كون المراد من الأمانة هو ( الحكومة ) ما جاء في الآية الثانية من الحثّ على إطاعة اللّه وإطاعة الرسول واولي الأمر ، فمجيء هذه الآية عقيب الآية المتضمنة لكلمة الأمانة ، يؤيّد أنّ المراد بالأمانة المذكورة هو ( الحكومة ) وأنّ الكلام في الآيتين إنمّا هو

ص: 206

حول ( الحكومة ) وما لها وما عليها من الحقوق والواجبات.

ثمّ إنّ الاستدلال بهذه الآية يتوقف على كون المراد من أهل الأمانة هو « الناس » فعندئذ تدل الآية على ، أنّ الحكومة نابعة من جانب الاُمّة ، وإن كانت نابعةً من جانب اللّه بالأصالة ، وهي أمانة بيد الحاكم ، ووديعة في عنقه ، يطلب منه أداؤها. غير أنّ من الممكن أن يكون المقصود من أهل الأمانة هو ( اللّه ) سبحانه وتعالى ، فإن الحكومة له لا غير كما قال في كتابه الكريم : ( إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ ) ( يوسف : 40 ) فعندئذ لا يتمّ الاستدلال بالآية على المطلوب ، ولكنّ الإجابة عن هذا الاحتمال واضحة ، فإنّ الحكومة كما قلنا في الجزء الأوّل ، حقّ ذاتيّ لله تعالى ، ولا يعني من كونه حقّاً للناس أنّه حقّ أصيل لهم في قبال كونه حقّاً لله سبحانه ، بل المراد أنّه حقّ أعطاه اللّه سبحانه له.

وبعبارة أخرى : ليس المقصود أنّ للشعب سيادةً وحاكميّةً في عرض السيادة والحاكميّة الإلهيّة ، بل هما حقّان من نوعين ، أحدهما حقّ مستقل وذاتيّ ، والآخر حقّ تبعيّ موهوب ، وهما لذلك يجتمعان دونما تضادّ وتباين ، ولا منافاة بين أن يكون أهل الأمانة هو الاُمّة أو اللّه سبحانه.

وممّا يؤيّد القول بأنّ المراد من ( اهلها ) هو الناس ، ما ورد في هذا الصدد من الاحاديث التي يستفاد منها كون ( الحكومة ) أمانة في عنق الحاكم ، أو أنّ الحكّام خزّان الرعيّة ومؤتمنون على الحكومة ، ومسؤولون عنها ، إلى غير ذلك من النصوص التالية :

يقول الإمام عليّ علیه السلام لأحد ولاته : « إنّ عملك ليس لك بطعمة ولكنّه في عنقك أمانة وأنت مسترعىً لما فوقك ليس لك أن تفتات في رعيّة » (1).

ويقول علیه السلام أيضاً : « أيّها الناس إنّ أمركم هذا ليس لأحد فيه حقّ إلاّ من أمرتم ، وإنّه ليس لي دونكم إلاّ مفاتيح مالكم معي » (2).

ويقول الإمام علیه السلام أيضاً : « انصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم

ص: 207


1- نهج البلاغة : الرسالة رقم (5).
2- الكامل لابن الأثير 3 : 193.

فإنّكم خزّان الرّعيّة ووكلاء الاُمّة » (1).

ويؤيّد ذلك أيضاً ما روي حول الآية عن الإمام عليّ علیه السلام أنّه قال : « حقّ على الإمام أن يحكم بما أنزل اللّه وأن يؤدّي الأمانة ، فإذا فعل ذلك فحقّ على الناس أن يسمعوا له وأن يطيعوه ، وأن يجيبوه إذا دعوا » (2).

فهذه العبارات صريحة في كون الاُمّة هي صاحبة الأمانة ، التي هي الحكومة والسيادة ، لأنّ الحكام حسب هذه النصوص ليسوا إلاّ حفظةً للسلطة وحراسها ... وخزاناً لها لا أصحابها. ويؤيّد ذلك أيضاً ، أنّ الروايات والأحاديث تضافرت من أهل البيت علیهم السلام حول الآية ، وهي تفسرها بالإمامة التي يجب على كلّ إمام أن يؤدّيها إلى الإمام الذي بعده.

ففي تفسير البرهان في قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ ... إلى آخر قوله تعالى ... ) عن زرارة عن الإمام الباقر علیه السلام قال : سألته عن قول اللّه عز وجل : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا ... ) فقال علیه السلام : « أمر اللّه الإمام أن يؤدّي الأمانة إلى الإمام الّذي بعده ليس له أن يزويها عنه ، ألا تسمع قوله : ( وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ) هي الحكّام يا زرارة ، إنّه خاطب بها الحكّام » (3).

نعم ، إنّ الجمع بين المعنى ( وهو كون المقصود من الأمانة هو الحكومة التي تسلمّها الاُمّة إلى الحاكم ) والمعنى الثاني ( الذي روي عن أهل البيت من أنّ المقصود هو أداء كلّ إمام الإمامة إلى من بعده ) يحتاج إلى تأمّل ودقة تفكير.

ويؤيّد ما ذهبنا إليه ، أنّ المفسر الإسلاميّ الكبير الطبرسيّ فسّر ( الأمانة ) في الآية بأنّ المراد هو ( الفيء وغير الفيء ) الذي يجب إيصاله إلى الاُمّة ، أصحابها

ص: 208


1- نهج البلاغة : الرسالة رقم (515).
2- الأموال لأبي عبيد : 12 ، 388.
3- تفسير الميزان 5 : 385 نقلاً عن البرهان قال العلاّمة الطباطبائيّ : وصدر هذا الحديث مرويّ بطرق كثيرة عنهم علیهم السلام .

الحقيقيين وهو داخل في موضوع الحكومة ، وأعمالها وصلاحياتها ومسؤوليّاتها ويقول : ( ومن جملتها ( أي من جملة الأمانات ) الأمر لولاة الأمر بقسم الصدقات والغنائم وغير ذلك ممّا يتعلّق به حقّ الرعيّة ) (1).

ويؤيّد ذلك أيضاً أنّ الإمام الباقر محمّد بن عليّ علیه السلام قال في ذيل هاتين الآيتين : « آيتان إحداهما لنا ، والأخرى لكم » (2).

وعنى الإمام بالاولى قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ... ) وبالثانية قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ) .

9. كتب الإمام الحسن بن عليّ علیه السلام إلى معاوية قبل نشوب الحرب بينهما : « إنّ عليّاً لمّا مضى لسبيله ( رحمة اللّه عليه يوم قبض ويوم منّ اللّه عليه بالإسلام ويوم يبعث حيّا ) ولاّني المسلمون الأمر من بعده ... فادخل فيما دخل فيه النّاس » (3).

وهذه العبارات صريحة في أنّ القاعدة المركوزة في أذهان المسلمين ( لولا التنصيص من اللّه سبحانه على شخص معيّن ) هي انتخاب المسلمين لحاكمهم ، بحيث يجب - بعد انتخابه - دخول المخالف والمعارض فيما دخل في جمهرة الناس ، ولذلك مضى الإمام الحسن علیه السلام يلفت نظر معاوية إليها.

10. ذمّ الإمام الصادق علیه السلام من يجبر الناس على حكمه بالسوط والسيف : ممّا يعني أنّ الشارع المقدس لا يرضى بالحاكم الذي يحمل نفسه على رقاب الناس قهراً ويحكمهم دون رضاهم ، وذلك عندما قال له رجل : إنّه ربّما تكون بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشيء فيتراضيان برجل منّا ؟ [ أي هل فيه بأس ] فقال الإمام علیه السلام : « هذا ليس من ذاك ... إنّما ذاك الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف والسّوط » (4).

ص: 209


1- مجمع البيان 2 : 63.
2- مجمع البيان 2 : 63.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4 : 12.
4- المستدرك 3 : 187 نقلا عن دعائم الإسلام.

11. قال الإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام :

« الواجب في حكم اللّه والإسلام على المسلمين بعد ما يموت إمامهم أو يقتل ، ضالاً كان أو مهتدياً ، مظلوماً كان أو ظالماً ، حلال الدم أو حرام الدّم أن لا يعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً ، ولا يقدّموا يداً ولا رجلاً ولا يبدأوا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً يجمع أمرهم ، عفيفاً ، عالماً ، ورعاً ، عارفاً بالقضاء والسنّة يجمع أمرهم ، ويحكم بينهم ، ويأخذ للمظلوم من الظالم ، ويحفظ أطرافهم ويجبي فيئهم ، ويقيم حجّتهم ويجبي صدقاتهم » (1).

وهو صريح في أنّ على الاُمّة أن تبادر إلى انتخاب حاكمها ( لولا النصّ على أحد طبعاً ).

12. وممّا يؤيّد ما ذكرناه من أنّ القاعدة المركوزة في أذهان الناس في مجال الحاكم كانت هي أن يكون الحاكم منتخب الاُمّة ، أو موضع رضاها على الأقلّ هو ما كتبه رجال من أهل الحكومة إلى الإمام الحسين بن عليّ علیه السلام :

« بسم اللّه الرحمن الرحيم. سلام عليك فإنّا نحمد إليك اللّه الذي لا إله إلاّ هو. أمّا بعد فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الاُمّة فابتزّها أمرها ، وغصبها فيئها ، وتآمر عليها بغير رضا منها ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها ».

ولأجل ذلك كتب الإمام الحسين علیه السلام إليهم قائلاً : « أن بلغني أنّه قد اجتمع رأي ملئكم ذوي الحجى منكم على مثل ما قدمت به رسلكم أقدم إليكم » (2).

فهذه الوجوه الاثنا عشر - عند التدبّر - تعطي للاُمّة ، الحريّة الكاملة في انتخاب حكامّها تحت الضوابط الشرعيّة أو تدلّ - على الأقلّ - على لزوم كون الحكومة مورد رضاها.

ص: 210


1- أصل سليم بن قيس : 182 ، وبحار الأنوار 8 : 555 - 556.
2- الكامل للجزري 3 : 266 - 267.

أسئلة وأجوبة

السؤال الأوّل :

قد اتضح من البحث المتقدّم ، أنّ رضا الاُمّة وانتخابها يعدّ منبعاً للسلطة ، وعندئذ ينطرح السؤال التالي :

إذا كانت إرادة الاُمّة منبعاً للسلطة في الحكومة الإسلاميّة وهي بنفسها مصدر للسلطة في الديمقراطيّة الغربيّة أيضاً فما الفرق بين الحكومتين ؟

الجواب :

إنّ المراد بكون الاُمّة ذات سيادة وحقّ في الحكومة الإسلاميّة يختلف عن السيادة الشعبيّة التي تقول بها الأنظمة الديمقراطيّة.

فالاُمّة في ظل الإسلام يجب أن تختار حاكماً متّصفاً بالشروط والصفات المعتبرة في الحاكم الإسلاميّ ، من الفقه والعدل والدراية السياسيّة والمقدرة الإدارية ، وغيرها من الشروط والمواصفات التي سيأتي ذكرها مفصّلاً في صفات الحاكم ... بينما يختلف الأمر عمّا هو عليه في الديمقراطيّة إذ في ظل هذا النظام يحقُّ للشعب أن يختار من يريد سواء أكان صالحاً أم لا ، وسواء أكان متحلّياً بالمؤهّلات والشروط المذكورة أم لا.

كما أنّ على الحاكم الإسلاميّ الأعلى أن يمشي ويسير وفق النظام الإسلاميّ وليس له أن يحيد عن ذلك قيد شعرة ، بينما يكون الأمر في النظام الديمقراطيّ على غير هذا

ص: 211

النحو ؛ حيث يجب على الحاكم المنتخب أن يسير وفق ما يريده الشعب ويرتضيه ويرتئيه صالحاً كان أو فاسداً ، وحقّاً كان أو باطلاً.

وبذلك يظهر ، أنّه لا جامع ولا تشابه بين النظامين حتّى يرد على الاسلوب الإسلاميّ في ( انتخاب الحاكم من جانب الشعب ) ما يرد على الاسلوب الديمقراطيّ ولأجل ذلك ، نجد أنفسنا في غنىً عن الإجابة على تلكم الإشكالات والاعتراضات والمؤاخذات. نعم لا بأس مع ذلك بالإشارة إلى ما أورد على الديمقراطيّة من اعتراضات ومؤاخذات تتميماً للفائدة.

مؤاخذاتٌ على الديمقراطيّة

إنّ الديمقراطيّة التي يعنى منها حكومة الشعب على الشعب عن طريق انتخاب النوّاب والحكام وذلك على النمط الغربيّ الذي يعتمد على تغليب الأكثريّة وترجيح آرائها ، ينطوي على ثلاثة معايب رئيسيّة :

أوّلاً : إنّ الحاكم المنتخب يكون تابعاً للناس ، وليس تابعاً للمصالح والحقائق ، فإنّ الحاكم الذي يعتمد على آراء الناس وأصواتهم ( لا الضوابط والمؤهّلات والمعايير ) سيحاول دائماً أن يفعل ما يرضيهم ، ويخطب ودّهم ويحقّق ما يشاؤون حقّاً كان أو باطلاً ، وسيحاول مثل هذا الحاكم والنائب أن يكيِّف نفسه وفق أهواء ناخبيه ، لا أن يهديهم ويرشدهم إلى مصالحهم الحقيقيّة ، ويعمل بما يقتضيه الواقع في شأنهم ، فما أكثر النوّاب الذين تجاهلوا نداءات الضمير إرضاءً للناس وإبقاءً على تأييدهم وكسباً لآرائهم وأصواتهم في المراحل التالية والدورات الاخرى. وما أكثر الأشخاص الصالحين الذين أرادوا أن يتّبعوا الحقّ والمصلحة الحقيقيّة لإرضاء الناس فخسروا تأييد الناس ، وخسروا أصواتهم.

ثانياً : إنّ الشرط الأساسيّ لصحّة الانتخاب الشعبيّ ، هو أن يكون الناخبون على درجة من الرشد الفكريّ والوعي والبصيرة حتّى لا يقعوا فريسة العواطف الرخيصة

ص: 212

والحادّة عند اختيار النوّاب أو الحكّام.

فلو توفر مثل هذا الشرط كان الانتخاب انتخاباً صحيحاً ، ومفيداً.

ولكنّ المشكلة هي أنّ الأكثريّة الساحقة والتي هي الملاك في النظام الديمقراطيّ تفقد مثل هذه البصيرة والوعي والرشد الفكريّ ، فإنّ الوعي والتفكير يختصان بطبقة خاصّة دون جمهرة الناس وسوادهم ، فهي وحدها تفعل على بصيرة وبوعي ، وأمّا الأكثرية الساحقة ، فتتّبع في فعلها وتركها الأهواء الشخصيّة والتوجيهات التي يقوم بها اللاعبون خلف الستار من السياسيين ومحترفي السياسة.

فهل يمكن أن ننسى ما يعمله المرشّحون للنيابة أو الرئاسة لكسب هذه الأكثريّة من التوسل بجميع الوسائل الإغرائيّة ، والأجهزة الدعائيّة والإعلاميّة ؟ فهم يستخدمون كل وسيلة رخيصة حتّى الفتيات والراقصات والأفلام الخليعة وإعطاء الوعود الخلاّبة ، لاكتساب المزيد من أصوات الناس ، إذ بهذه الاُمور يمكن الاستحواذ على عواطف أكثرية الجماهير ، واستمالتهم ، تلك الأكثريّة التي تتألف - في الأغلب - من السذّج ، والبسطاء وغير المثقفين ، فكيف يمكن أن تكون هذه الأكثرية ملاكاً لصحّة الانتخاب ومشروعيّته ؟

ثالثاً : إنّ تغليب الأكثريّة ولو بصوت واحد لا يكون ( عدلاً ) مضافاً إلى أنّه لا يجعل ما اختارته الأكثريّة ( حقاً ) لا نقاش فيه.

وإنّما لا يكون عدلاً ، لأنّ تغليب هذه الأكثريّة - حتّى لو حصلت باسلوب صحيح بعيد عن المؤثّرات والإغراءات والاحتيالات - تجاهل لحقّ ما يقارب نصف المجتمع ومصالحه وإجحاف بحقّهم ... وهو إجحاف أدركه الغرب نفسه وتفطّن له كبار مفكّريه ، وحقوقيّيه ، واجتماعيّيه ، ولكنّه لم يجد مفرّاً منه لأنّه لايعرف نهجاً بديلاً عنه ، ولأجل ذلك لا يكون حقاً أيضاً.

هذه بعض معايب الديمقراطيّة وانتخاب الشعب لحكّامه ونوّابه على النهج الشائع في الأنظمة الديمقراطيّة ... وهو قليل من كثير.

ص: 213

وهي معايب واُمور يعاني الغرب من تبعاتها وآلامها أشدّ العناء ، ويتحمّل بسببها أشدّ الأذى. ولذلك يبدو ؛ أنّ الانتخاب الشعبيّ للحاكم لا يكون مثالياً ولا صالحاً.

غير أنّ ما يقرّره النظام الإسلاميّ عار عن هذه المعايب ؛ وخال عن هذه المؤاخذات وذلك لوجوه هي :

أوّلاً : أنّه لا شكّ في أنّ أفضل أنواع الحكومات هو ( الحكومة التنصيصيّة الإلهيّة ) وإنّما الكلام هو فيما إذا لم يمكن التوصّل إلى هذا النوع فإنّه لن يكون سوى طريق واحد هو ، قيام الاُمّة بانتخاب حكامها ، بدلاً من أن يتسلّط على مصيرها ومقدّراتها بالقوّة ، من يستبدّ برأيه ، ويستأثر بفيئها ، ولا يكون للناس في الأمر أي إرادة وكلمة.

ثانياً : انّ هذه الاعتراضات والمؤاخذات إنّما ترد على الانتخاب على النمط الغربيّ ، والذي يجري في المجتمعات والبيئات الغربيّة التي لا تتمتّع بتربية أخلاقيّة ودينيّة رفيعة ، والتي لا تخضع لأيّ شروط أو مواصفات موضوعيّة ومنطقيّة لا في الناخب ولا في المنتخب ، ولا يعتبر سوى المزيد من الآراء والأصوات التي تباع وتشترى ، وتكتسب بالأبواق وأجهزة الإعلام ، وتحت تأثير الدعايات البرّاقة والوعود المنمّقة ، لا ما يجري في البيئة الإسلاميّة وعلى النمط الإسلاميّ ، الذي يشترط فيه للحاكم شروط ومواصفات تجعله رجلاً مثالياً في الأخلاق ، نموذجيّاً في الإدراة ، ويشترط على المنتخب ، أن لا يختار إلاّ من تتوفّر فيه الشرائط المعتبرة في الحاكم المثاليّ (1) ، إذ لولا ذلك لكان عمله من باب الركون إلى الظالم الذي أوعد اللّه عليه بالعذاب الأليم وبالنار إذ قال : ( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) ( هود : 113 ).

فيكون الانتخاب - في ظل النظام الإسلاميّ على العكس من النظام الديمقراطيّ - مسؤوليّةً للناخب والمنتخب ، وليس لعبةً سياسيّة.

ثالثاً : إنّ الأدلّة الإسلاميّة تدلّ على أنّه يجب على الفقيه العادل ، بل على كلّ

ص: 214


1- ففي الحديث : « إنّما الإمام هو الحاكم بالكتاب الحابس نفسه على ذات اللّه ... إلى آخره » وسوف توافيك تلك الشروط في محلّها في الفصول القادمة من هذا الكتاب.

مسلم ملتزم إذا رأى بدعةً شائعةً ، وحكومةً منكرةً القيام ضدّها ، ورفض شرعيّتها ، وشجب عملها بل والإعلان عن إلغائها ، بحكم ماله من الولاية التي له من جانب اللّه سبحانه كما يقول الإمام الحسين علیه السلام : « أيُّها الناس إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم اللّه ناكثاً لعهد اللّه مخالفاً لسنّة رسول اللّه يعمل في عباد اللّه بالإثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على اللّه أن يدخله مدخله ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلُّوا حرام اللّه وحرّموا حلاله وأنا أحقُّ من غيّر » (1).

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارُّوا على كظّة ظالم ، ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أوّلها » (2).

وبهذا يأمن المجتمع الإسلاميّ من مخاطر الانتخاب الشعبيّ ، ويسلم من تبعاته وسيئاته.

إنّ افتقاد الانتخاب الشعبيّ على النهج الديمقراطيّ الغربيّ ، الضمانات التي أقامها الإسلام في الانتخاب ، هو الفارق الكبير بين الانتخابين ( الإسلاميّ والغربي ) وهو بالتالي يكون سبباً لفشل الديمقراطيّة الغربيّة بخلاف الإسلام.

إنّ المجتمع الإسلاميّ الذي يرسم القرآن ملامحه في آيات عديدة ويلخِّصها في قوله : ( مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) ( الفتح : 29 ).

إنّ مجتمعاً كهذا ، من الجدير أن لا ينتخب لإدارة شؤونه إلاّ ( حكومةً ) رشيدةً أمينةً رساليّةً مؤمنةً ، وفيّةً للدين ، ملتزمةً بالإسلام ، ومخلصةً لمصالح الاُمّة وذلك على العكس من النظام الديمقراطيّ.

إنّ الأخذ بالضوابط والمقاييس التي ذكرها واشترطها الإسلام للقادة والزعماء ،

ص: 215


1- الطبري 4 : 304.
2- نهج البلاغة : الخطبة (3).

كفيل أيضاً بأن يزيل جميع الاعتراضات الواردة على الانتخاب الشعبيّ ... ويحقّق أفضل حكومة من نوعها بين الحكومات.

* * *

السؤال الثاني :

إذا كان انتخاب الحاكم الأعلى غير مختص بفريق معيّن من أفراد الاُمّة ، فلماذا يقول الإمام عليّ علیه السلام في بعض رسائله : « وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضىً » (1) .

الجواب :

إنّ السبب في حصر الإمام عليّ علیه السلام حقّ انتخاب الإمام في المهاجرين والأنصار - بغضِّ النظر عن الملاحظات الجديرة بالاهتمام في هذه الرسالة - هو تعذّّر إجراء الاستفتاء العامّ الشامل ، وعدم إمكان استعلام آراء المسلمين كلّهم في ذلك العهد ، الذي كان يفقد الوسائل الكافية للاتصال بجميع أفراد الاُمّة. وحيث أنّ تأخير الانتخاب للحاكم الأعلى ريثما يتمّ الوقوف على كلّ آراء المسلمين جميعاً ، كان ينطوي على تعريض الاُمّة الإسلاميّة لأخطار جديّة حقيقيّة لا تخفى على كلّ من يعرف الأوضاع في تلك الحقبة من تاريخ الإسلام ، نجد الإمام علیه السلام يختار هذا الاُسلوب ويعلّل ذلك بقوله : « ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتّى تحضرها عامّة الناس فما إلى ذلك من سبيل ، ولكنّ أهلها يحكمون على من غاب عنها ، ثمّ ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار » (2).

كيف لا وقد مر عليك أيّها القارئ الكريم أنّ الإمام عليّاً علیه السلام صرّح في بعض خطبه بوضوح لا يقبل جدلاً ، أن إرادة الاُمّة الإسلاميّة ، هي مصدر السلطات ، وأنّ الحكومة يجب أن تكون موضع رضا الناس (3).

ص: 216


1- نهج البلاغة : الرسالة رقم (6).
2- نهج البلاغة : الرسالة (173) طبعة عبده.
3- راجع الصفحة 207 - 208 من هذا الجزء.

لقد كان المهاجرون والأنصار - في ذلك العهد - بحكم سبقهم إلى الإيمان بالإسلام بمنزلة وكلاء الاُمّة الإسلاميّة ، فكان ما يختارونه يقرّه الآخرون. ولأجل ذلك ، اعتبر الإمام عليّ علیه السلام ما يختاره شورى المهاجرين والأنصار ومن يتّفقون عليه للحكم ، حجّةً نافذةً على الآخرين.

ولا بأس بأن نذكر في خاتمة هذا الجواب ، أنّ انتخاب الحاكم الأعلى للدولة كما يمكن أن يتحقّق عن طريق انتخاب الاُمّة مباشرةً ، كذلك يمكن أن يتحقّق عن طريق انتخاب نوّابها للحاكم الأعلى ، ويكون مآل ذلك إلى رأي الاُمّة أيضاً.

ولعلّ ما ذكره الإمام عليّ علیه السلام كان إشارةً إلى هذا الاُسلوب ... وكأنّ المسلمين في ذلك العصر كانوا - لاعتمادهم على المهاجرين والأنصار - يعدّونهم نوّاباً لهم ، وإن لم يصرّحوا بذلك لفظاً.

يقول صاحب المنار في شأن هؤلاء المهاجرين والأنصار : ( وقد كانوا ( أي المهاجرين والأنصار ) في عصر النبيّ صلی اللّه علیه و آله يكونون معه حيث كان ، وكذلك كانوا في المدينة قبل الفتوحات ثمّ تفرّقوا وكانوا يحتاجون إليهم في مبايعة الإمام ( الخليفة ) وفي الشورى وفي السياسة والإدارة والقضاء ... فأمّا المبايعة ، فكانوا يرسلون إلى البعيد من اُمراء الأجناد ، ورؤوس الناس في البلاد من يأخذ بيعتهم ) (1).

ثمّ إنّ استدلال الإمام بشورى المهاجرين والأنصار مع كون إمامته وخلافته منصوصاً عليها من جانب اللّه سبحانه ، إنّما هو من باب الجدل وإفحام الخصم ، وسيأتيك تفصيل ذلك عند البحث عن نظرية « الشورى أساس الحكم ».

السؤال الثالث :

لمّا كان الاتفاق على شخص واحد أمراً مستحيلاً عادةً ، فعندئذ كيف ينتخب الحاكم الأعلى ؟ هل بتغليب الأكثريّة على الأقليّة ، وذلك مناف لأصالة الحريّة الإنسانيّة

ص: 217


1- المنار 5 : 195.

الفرديّة وقاعدة سلطة الإنسان على ماله ونفسه ، ومستلزماً لبخس حقوق الأقليّة.

الجواب :

إذا نظرنا إلى الحياة الإنسانيّة من الزاوية الفرديّة ، وأخذنا الإنسان بمعزل عن المجتمع ، جاز لنا أن نستنكر هذا الترجيح ، ونعتبره نقضاً صريحاً لحريّته الفرديّة وحقّه في الأخذ برأيه وانتخابه واختياره ... إذ لا مبرّر لذلك ، ولا مسوّغ ... فلكلّ إنسان حقّ في إبداء رأيه وتنفيذه ، ولا سلطة لأحد على أحد كما أسلفناه.

ولكنّنا لو نظرنا إلى ( الحياة الإنسانيّة ) من الزاوية الاجتماعيّة ودرسنا الإنسان والفرد وهو ضمن مجتمع متكوّن من أفراد آخرين ، ذوي حقوق ومصالح مماثلة ، فإنّ الحياة والعيش بالكيفيّة الاجتماعيّة حينئذ تقتضي القبول بكلّ لوازمها ، ففي الحياة الاجتماعيّة تضمن المصالح ، والحريّات الفرديّة في إطار المصلحة الاجتماعيّة ، إذ بذلك وحده يمكن التوصّل إلى الاستقرار الاجتماعيّ وتحقيق السعادة الاجتماعيّة العامّة التي يتوقف عليها الاستقرار الفرديّ ، وتتحقق في ظلّها السعادة الفرديّة ولمّا كان الطريق الوحيد إلى حفظ النظام الاجتماعيّ وصيانة مصالح الاُمّة متوقّفة - بعد التشاور والمداولة - على ترجيح إحدى الطائفتين المختلفتين في الرأي على الاُخرى ، فلا مناص من تغليب الأكثريّة على الأقليّة ، لأنّ تغليب الأقليّة على الأكثريّة عند العقلاء ترجيح للمرجوح على الراجح.

من هنا يلزم على الأقليّة القبول برأي الأكثريّة وانتخابها ، والتنازل عن حقّها ورأيها.

وبعبارة اُخرى : إنّ الحياة الاجتماعيّة تشبه شركة مساهمة ، يشترك فيها الأفراد المتعددون بالأسهم ، فكما أنّ على مشتري السهم أن يتّبع في شرائه للسهم ، ومشاركته في تلك الشركة برنامج الشركة المدوّن ، ويكون شراؤه بمثابة الموافقة الضمنيّة على ذلك البرنامج ، فإنّ العيش ضمن الحياة الاجتماعيّة يعتبر إمضاءً لشروط الحياة الاجتماعيّة ، وقبولاً بمستلزماتها وأحكامها إذ لا بقاء للحياة الاجتماعيّة ، ولا قيام لأمرها إلا بهذا

ص: 218

الطريق ، كما لابقاء للشركة المساهمة إلاّ بموافقة أصحاب الأسهم على برنامج الشركة وأهدافها ، والقبول بمتطلباتها فهو باختصار ، أشبه شيء بالشرط في ضمن العقد كما هو المصطلح في الفقه ، والاعتراف بالملزوم اعتراف بلازمه.

* * *

الفرق الواضح بين الترجيحين

يمكن أن ينطرح في ذهن القارئ الكريم ، أنّ ما أخذنا به على الديمقراطيّة الغربيّة جار في المقام ، إذ قلنا هناك بأنّ ترجيح الأكثريّة ولو بصوت واحد بخس وتجاهل لحقّ الأقليّة ، وعندئذ فما الفرق بين الترجيحين الحاكمين في الديمقراطيّة الغربيّة والحكومة الإسلاميّة ؟

غير أنّ القارئ الكريم الذي لمس حقيقة الحكومة الإسلاميّة يقف على الفرق الجوهريّ بين الترجيحين ، فإنّ الأكثريّة في النظام الديمقراطيّ الغربيّ تأخذ بزمام الحكم وتتصرف في مصير المجتمع بأيّ نحو شاءت ، وليس هناك ضابطة غالباً تحدد تصرّفاتها في مقابل الأقليّة ، سواء أكانت في مجال التقنين والتشريع أم في مجال التطبيق والتخطيط ، إذ لا يشترط في المتصرِّف شيء من الشرائط سوى تصويت الأكثريّة له. ولذلك لا رادع هناك من أي بخس وتجاوز لحقوق الأقليّة من جانب الأكثريّة الحاكمة.

أمّا الحكومة الإسلاميّة ، فالأقليّة والأكثريّة كلاهما يتّبعان حكماً وقانوناً واحداً لا يختلفان في ذلك أبداً ، فليس لهما إلاّ الاتّباع لما شرعه الإسلام وجاء به الكتاب والسنة ، وإنمّا الاختلاف في اُسلوب التطبيق والتخطيط ، فليس للحاكم الأخذ بزمام الحكم أن يتجاهل حقوق الأقليّة ، كما أنّه ليس للطرف الآخر الخروج عن دائرة الحقّ والعدل المتمثّلين في الشريعة المقدسة فتبقى هناك مسألة التصدّي لمقام الحكم ولا مناص من ترجيح الأكثريّة على الأقليّة حفظاً لنظام المجتمع وإبقاءً على وحدته وكيانه ، ويتضح ما ذكرناه إذا لاحظنا مواصفات الحاكم وشرائطه في الحكومة الإسلاميّة كما ستوافيك في الفصل القادم.

ص: 219

السؤال الرابع : ولاية الفقيه ومكانتها في الحكومة الإسلاميّة

اشارة

ربّما يتصور البعض ، أنّ القول بولاية الفقيه التي اتّفق على أصلها في الجملة جميع الفقهاء في فقه الإماميّة ، يتنافى مع ما مر تقريره من إثبات السيادة للاُمّة وحقّها في انتخاب حكّامها ونوّابها.

الجواب :

إنّ البحث في ولاية الفقيه ، وتوضيح حقيقتها ودلالتها ، وبيان ما حولها من حقائق ، يحتاج إلى تأليف رسالة ، وقد أغنانا عن ذلك ما كتبه قائد الثورة الإسلاميّة الإمام الخمينيّ قدس سره فنقول باختصار :

إنّ ما ذكرناه في « صيغة الحكومة الإسلاميّة » وتركيبتها هو ما يمكن لكلّ مطالع في الإسلام ، استنباطه من الكتاب والسنّة بجلاء ، غير أنّ هناك في فقه الشيعة الإماميّة « عنصراً خاصّاً » في الحكومة الإسلاميّة هو عنصر « ولاية الفقيه » الذي لا نجد مثيله في سائر المذاهب ، وينبغي للقارئ الكريم أن يتعرّف على هذا العنصر استكمالاً لمعرفته بجميع عناصر الحكومة الإسلاميّة في عامّة المذاهب الفقهيّة.

إنّ الحديث عن ولاية الفقيه يقع في أمرين :

ص: 220

الأوّل - : ما هو معنى ولاية الفقيه وما هي حقيقتها ؟

الثاني - : كيف يمارس الفقيه ولايته هذه ، إلى جانب المؤسّسات الدستوريّة والتشكيلات الحكوميّة العليا التي مرّ ذكرها ، وبشكل يتمشّى مع بقيّة المعايير الإسلاميّة في نظام الحكم الإسلاميّ الذي يعطي للاُمّة الحريّة في إدارة نفسها ضمن الضوابط الإلهيّة الشرعيّة.

وإليك فيما يلي الإجابة على هذين السؤالين.

ولاية الفقيه ليست استصغاراً للاُمّة ولا استبداداً

لقد كثر النقاش أخيراً حول ولاية الفقيه ، فمن متوهّم أنّ نتيجة القول بولاية الفقيه هي اعتبار الاُمّة قاصرةً وعاجزةً عن إدارة أمرها ، فلابدّ لها من وليّ يتولّى اُمورها.

ومن متصوّر بأنّ نتيجتها هي استبداد الفرد بالإدارة والحكم ، ورفض الرأي العامّ ، وهو أمر يتنافى مع ما قرّرناه - حسب المعايير الإسلاميّة - من اختيار الاُمّة الإسلاميّة في تشكيل الحكومة ، نوّاباً ووزراء ورؤساء ، وذلك في نطاق الضوابط الإلهيّة الشرعيّة.

ولكنّ هذه التوهّمات ناشئة عن عدم وضوح ( ولاية الفقيه ) وضوحاً لا يبقي شبهةً ، ولا يترك غموضاً ، فليس إقرار ولاية الفقيه بمعنى جعل الاُمّة الإسلاميّة الرشيدة بمنزلة القصّر ، كما ليس نتيجتها استبداد الفقيه بالإدارة والسلطة والعمل أو الترك كيفما شاء دون مشورة أو رعاية للمصالح والمعايير الإسلاميّة.

إنّ للمجتهد الفقيه العارف بأحكام الإسلام القادر على استنباط قوانينه ثلاثة مناصب وهي التي يعبّر عنها جميعاً بولاية الفقيه وهي :

الأوّل : منصب الإفتاء : فإنّ الأحكام الشرعيّة بأبوابها الأربعة ، من عبادات ومعاملات وإيقاعات ، وسياسات ، لمّا كانت أمراً نظرياً يحتاج إلى التعلّم والتعليم ولا يمكن لكلّ أحد من الناس معرفتها عن مصادرها العلميّة المتقنة - فإنّ ذلك يعوق الإنسان عن مهامّ اُموره الدنيويّة والمعيشيّة - عمد الإسلام إلى إرجاع ( نظام الإفتاء ) إلى

ص: 221

فقيه ، عالم بشرائع دينه ، وهذا هو الذي يطلق عليه في اصطلاح المتشرّعة ب ( المفتي ) ليكون مرجعاً لأخذ الأحكام.

الثاني : القضاء : فإنّ من مقتضى القوى والغرائز النفسانيّة والطبيعيّة التوجّه إلى المنافع ، والتباعد عن المضارّ ، وهو بدوره يوجب نزاعاً على المنافع الذي قد ينجرّ إلى الحروب ، فلدفع هذه المفسدة ترك أمر القضاء إلى الفقيه الجامع للشرائط.

الثالث : الحكومة : فإنّ من أهم مايحتاج إليه البشر في حفظ نواميسه ، ونفوسه واجتماع أمره ؛ وجود قائد بينهم يجب على الجميع إطاعة قوله واتباع فعله ، وهو الذي يعبر عنه في لسان الشرع والمتشرّعة بالحاكم والسائس (1).

وعلى هذه الاُمور الثلاثة تدور رحى حياة المجتمع الإسلاميّ.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ للولاية مرتبةً عليا مختصّةً بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله وأوصيائه الطاهرين وغير قابلة للتفويض إلى أحد ، وهي بين تكوينيّة يعبّر عنها بالولاية التكوينيّة التي بها يتصرف النبيّ صلی اللّه علیه و آله في الكون إذا اقتضت المصلحة ذلك كما إذا كان في مقام الإعجاز ، وفي ذلك يقول الإمام الخمينيّ : ( إنّ للنبيّ والإمام مقاماً محموداً ودرجةً ساميةً وخلافةً تكوينيّةً تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرّات هذا الكون ) (2).

وبين التشريعيّة التي يشير إليها قوله سبحانه : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) ( الأحزاب : 6 ) وهي مختصّة بالنبيّ وأوصيائه المعصومين ، فهم أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأموالهم (3).

وأمّا غير المختصّ بهم ، فإنّما هو مقام الافتاء والقضاء ، والولاية ، التي أظهر مصاديقها نظم البلاد والجهاد والدفاع وسدّ الثغور وإجراء الحدود ، وأخذ الزكاة وإقامة

ص: 222


1- اقتباس من دروس الإمام الخمينيّ في علم الاُصول ألقاها في مدينة قم المقدّسة عام ( 1370 ه ) وقد قرّرها الاُستاذ السبحاني ونشرها في كتاب تهذيب الاُصول 3 : 136.
2- الحكومة الإسلاميّة : 52.
3- لاحظ منية الطالب تقريراً لبحث المحقّق النائينيّ : 325.

الجمعة وغيرها.

فالأوّلان من هذه المناصب ( الثلاثة ) ثابتان للفقيه - باتفاق الكلمة - كما سيوافيك بيانه عند بيان السلطات الثلاث.

وأمّا الولاية والحكومة بالمعنى الماضي ، فلا وجه للشك في ثبوتها للفقيه حسب الأدلّة الواردة ولكنّ المراد منها يتلخّص في أمرين :

الأوّل : إذا نهض الفقيه بتشكيل الحكومة وجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوه (1).

إذ كل ما يشترط من المواصفات في الحاكم التي يأتي بيانها ، موجود في الفقيه العادل.

وأمّا الثاني : إذا نهض الناس بتشكيل الحكومة تحت الضوابط الإسلاميّة فللفقيه العادل حينئذ أن يراقب سلوك الحكومة وتصرّفاتها ، فيصحّح مسيرتها إذا انحرفت ويعدّل سلوكها إذا شذّ ... وعندئذ تكون ولاية الفقيه ضمانةً لاستقامة الدولة ومانعاً عن عدولها عن جادّة الحقّ وسنن الدين ، فهو متخصّص عارف بالأحكام والحدود ، وبما أنّه ورع يتّقي اللّه ويخشاه أكثر من سواه كما يقول اللّه سبحانه : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) ( فاطر : 28 ) وقد عاش بين أفراد المجتمع فعرف بالصلاح والورع والأمانة ، فولايته تحجز الحكومة عن الخروج عن المعايير الإسلاميّة ... وارتكاب ما يخالف مصالح الإسلام والمسلمين دون أن ينحرف هو عن صراط الحقّ المستقيم.

كيف يمارسُ الفقيه ولايته

أمّا كيف يمارس الفقيه ولايته - وهو الشقّ الثاني - إلى جانب ما أقرّه الإسلام من أختيار للاُمّة في انتخاب حكّامها ، وما أعطاه من الحرية لهم في نطاق المعايير الإسلاميّة ،

ص: 223


1- الحكومة الإسلاميّة للإمام الخمينيّ : 49 ، بل يجب على الفقيه تشكيل الدولة الإسلاميّة إذا لم يكن هناك دولة إسلاميّة.

فهو يتضح بما يلي :

إنّ الفقيه بحكم مسؤوليته اتّجاه الإسلام والمسلمين يتحرّى في جميع الظروف مصالح الاُمّة ، فإذا كانت الحكومة التي إقامتها الاُمّة الإسلاميّة موافقةً للمعايير الإسلاميّة ، ومطابقةً للمصلحة الاجتماعيّة العليا وجب عليه إمضاؤها ، وإقرارها ، وليس له أن يردّها ، ولأجل ذلك لا يترتب على ( ولاية الفقيه ) إلاّ استقرار الحكومة الإسلاميّة الصالحة ، ولا يتغيّر بولايته أي شيء من الأركان والمؤسسات الحكوميّة المذكورة سلفاً ، ولا تتعارض مع ما ذكرناه وأثبتناه من حريّة الاُمّة واختيارها.

ذلك هو مجمل حقيقة ولاية الفقيه ، وهذه هي كيفيّة ممارستها إلى جانب التشكيلات الاُخرى في النظام الإسلاميّ.

وهي كما ترى خير ضمان جوهراً وممارسةً لاستقامة الحكومة في المجتمع الإسلاميّ ، وإبقائها على الخط المستقيم دون أن يستلزم فرض هذه الولاية اعتبار الاُمّة قصراً ، أو يلازم استبداداً كما يشاء البعض وصفها بذلك ، أو يتوهّمونه خطأً وغفلةً عن حقيقة الحال لهذا العنصر العظيم في الفقه الإماميّ على صعيد الحكم.

* * *

كلمة أخيرة :

لقد تبيّن من هذا البحث الواسع حول لون الحكومة الإسلاميّة ، أنّ الحكومة عند حضور الإمام المنصوص عليه من جانب اللّه حكومة إلهيّة محضة ، وأمّا عند عدم إمكان التوصّل إليه فهي مزيج من ( الحاكميّة الإلهيّة والسيادة الشعبيّة ).

فهي إلهيّة : من جهة أنّ التشريع لله سبحانه بالأصالة ، وأنّ على الاُمّة الإسلاميّة أن تراعي جميع الشرائط والضوابط الإسلاميّة في مجال الانتخاب ، وأنّ على الحاكم الإسلاميّ أن يلتزم بتنفيذ الشريعة الإسلاميّة حرفاً بحرف ، فلأجل هذه الجهات تعدُّ إلهيّة ، أو حكومة قانون اللّه على الناس.

وهي شعبيّة : من جهة أنّ انتخاب الحاكم الأعلى وسائر الأجهزة الحكومية العليا

ص: 224

موكول إلى الناس ومشروط برضاهم.

ثم إنّ هناك نظريتين في كيفيّة تشكيل الحكومة الإسلاميّة جنح إليها كثير من أهل السنّة وهما :

1. الشورى أساس الحكم.

2. البيعة أساس الحكم.

ولتحقيق الحال نبحث عن كلتا النظريتين في البحث القادم.

ص: 225

هل الشورى أساس الحكم الإسلاميّ ؟

اشارة

إنّ الظاهر من بعض من كتب حول الحكومة الإسلاميّة أنّ أساس الحكم في الإسلام هو الشورى ، وقد ذهبوا إلى ذلك لأجل أمرين :

الأوّل : أنّهم جعلوه مكان الاستفتاء الشعبيّ ، لأنّه لم يكن من الممكن - في صدر الإسلام - بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله مراجعة كلّ الأفكار واستعلام جميع الآراء في الوطن الإسلاميّ لقلّة وسائل المواصلات ، وفقدان سبل الاتصال المتعارفة اليوم.

الثاني : أنّهم أرادوا بذلك تصحيح الخلافة بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله لأنّ بعض الخلفاء توصّل إلى ذلك بالشورى ، ثمّ عدّ هذا الاُسلوب إحدى الطرق لتعيين الحاكم.

وربّما يؤيّد الأوّل قول الإمام عليّ علیه السلام : « ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتّى تحضرها عامّة الناس فما إلى ذلك من سبيل ، ولكنّ أهلها يحكمون على من غاب عنها ، ثمّ ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار » (1).

وهو إشارة إلى أنّ عدم إمكان أخذ البيعة بالصورة الواسعة يجوّز أخذها بصورة محدودة.

ولعلّ إلى ذلك نظر الشيخ عبد الكريم الخطيب إذ قال : ( إنّ الذين بايعوا أوّل

ص: 226


1- نهج البلاغة : الخطبة (168) عبده.

خليفة للمسلمين لم يتجاوز أهل المدينة ، وربّما كان بعض أهل مكّة ، وأمّا المسلمون - جميعاً - في الجزيرة العربية فلم يشاركوا في هذه البيعة ، ولم يشهدوها ولم يروا رأيهم ، وإنّما ورد عليهم الخبر بموت النبيّ صلی اللّه علیه و آله مع الخبر باستخلاف أبي بكر ) (1).

ويؤيّد الثاني ( أي اعتبار الشورى أساساً للحكم تصحيحاً للحكومات التي قامت بعد وفاة النبي ) أنّهم ذكروا - فيما تنعقد به الإمامة والخلافة نفس الأعداد التي تنطبق عليها خلافة أحد الخلفاء ، فلم يكن اعتبار هذه الأعداد والوجوه إلاّ للاعتقاد المسبّق بصحّة خلافة اُولئك الخلفاء.

ولأجل ذلك يقول الماورديّ : الإمامة تنعقد من وجهين :

أحدهما : باختيار أهل العقد والحلّ.

والثاني : بعهد الإمام من قبل.

فأمّا انعقاها باختيار أهل العقد والحلّ ، فقد اختلف الفقهاء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم ، على مذاهب شتّى ، فقالت طائفة لا تنعقد الإمامة إلاّ بجمهور أهل العقد والحلّ من كلّ بلد ليكون الرضا به عامّاً ، والتسليم لإمامته إجماعاً ، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر على الخلافة ، باختيار من حضرها ولم ينتظر لبيعته قدوم غائب عنها.

وقالت طائفة أخرى : أقلُّ ما تنعقد به منهم الإمامة ( خمسة ) يجتمعون على عقدها ، أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة استدلالاً بأمرين :

أحدهما : أنّ بيعة أبي بكر انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ، ثمّ تابعهم الناس فيها وهم : ( عمر بن الخطاب ) و ( أبو عبيدة الجراح ) و ( أسيد بن حضير ) و ( بشر بن سعد ) و ( سالم مولى أبي حذيفة ).

الثاني : أنّ عمر (رض) جعل الشورى في ستّة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة ، وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلّمين من أهل البصرة.

ص: 227


1- الإمامة والخلافة : 241.

وقال آخرون : من علماء الكوفة : تنعقد بثلاثة يتولاّها أحدهم برضا الاثنين ليكونوا حاكماً ، وشاهدين ، كما يصح عقد النكاح بوليّ وشاهدين.

وقالت طائفة اُخرى : تنعقد بواحد لأنّ العبّاس قال لعليّ (رض) : أمدد يدك اُبايعك فيقول الناس عمّ رسول اللّه بايع ابن عمّه ، فلا يختلف عليك اثنان ، ولأنّه حكم وحكم الواحد نافذ ) (1).

وقال القاضي العضديّ - في المقصد الثالث فيما تثبت به الإمامة - من كتابه : ( إنّها تثبت بالنص من الرسول ومن الإمام السابق بالإجماع ، وتثبت ببيعة أهل العقد والحلّ ) (2).

ومن المعلوم ، أنّ الاختلاف الواقع في عدد من تنعقد به الشورى يفيد - بوضوح - أنّه لم يكن هناك أي نصّ من الشارع المقدّس على أنّ الإمامة تنعقد بالشورى ، ولذلك اختلفوا فيها على مذاهب وغاب عنهم وجه الصواب.

ثمّ إنّ من مظاهر الاختلاف الواقع في مسألة الشورى أنّ القائلين بها انقسموا - في أثرها - على قسمين :

الأوّل : وهم الأكثريّة ، ذهبوا إلى أنّ انتخاب أهل الشورى كان ملزماً للاُمّة ، فوجب عليها أن تسلِّم لمن اختاروه بهذا الطريق.

الثاني : أنّ انتخاب أهل الشورى لأحد ليس أزيد من ( ترشيح ) له ، وكان للاُمّة هي أن تختاره ، أو لا تختاره فكان الملاك هو رأي الاُمّة (3).

غير أنّ هذا الرأي لا يتفق مع خلافة الخلفاء الذين تسنّموا عرش الخلافة بالشورى ، فقد كان انتخابهم ملزماً يومذاك على رأيهم ، ولم يكن من باقي الاُمّة إلاّ الاتباع والتسليم.

ص: 228


1- الأحكام السلطانيّة للماورديّ : 4.
2- شرح المواقف 3 : 265.
3- راجع الشخصيّة الدوليّة لمحمّد كامل ياقوت : 463.

ما هي أدلّة الأخذ بالشورى ؟

إنّ البحث عن كون الشورى وسيلةً لتعيين الإمام يقع في ظرفين :

الأوّل : بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

الثاني : في زماننا الحاضر ، حيث لا يمكن الوصول إلى الإمام المنصوب من جانب اللّه سبحانه ، بالاسم.

وبما أنّ القائلين بمبدأ الشورى يصرّون على أنّها كانت أساساً للخلافة والحكم بعد الرسول أيضاً ، فإننا سنبحث الموضوع في كلا الموقعين معاً :

حكم الشورى بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله

لقد استدل القائلون بالشورى بآيتين هما :

الاُولى : قوله سبحانه : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) ( العمران : 159 ).

فإنّ اللّه سبحانه يأمر نبيّه بأن يشاور من حوله ، وذلك تعليماً للاُمّة بأن تتشاور في مهامّ الاُمور ، ومنها ( الخلافة ).

غير أنّ التأمّل والنظر في مفاد الآية ، يكشف عن أنّ الخطاب فيها موجّه إلى الحاكم الذي استقرّت حكومته ، وتمّت بوجه من الوجوه ، فإنّ اللّه سبحانه يأمره بأن يشاور أفراد الاُمّة ويستضيء بأفكارهم ، وينتفع بمشاورتهم توصّلاً إلى أحسن النتائج كما يقول الإمام عليّ علیه السلام : « من استبدّ برأيه هلك ومن شاور الرجال في اُمورها شاركها في عقولها » (1). فلا ارتباط للآية ومفادها بما نحن فيه.

وبعبارة اُخرى : إنّ الخطاب وإن كان يمكن التعدي عنه إلى سائر أفراد الاُمّة

ص: 229


1- نهج البلاغة : قسم الحكم الرقم (161).

قائلاً بعدم خصوصيّة النبيّ صلی اللّه علیه و آله في الخطاب لكنّه لا يمكن التعدّي عن ذلك المنطوق إلاّ إلى مقدار يشابه منطوق الآية لا أكثر ، فأقصى ما تفيده الآية ، هو أن لا يكون الحاكم الإسلاميّ ، وصاحب السلطة التي تمت سلطته ، مستبدّاً في أعماله بل ينبغي أن يتشاور مع أصحابه وأعوانه في مهامّ الاُمور وجسامها ، وأمّا أن يصحّ تعيين الإمام والخليفة عن طريق الشورى استدلالاً بهذه الآية ، فلا يمكن الانتقال ممّا ذكرناه إلى هذا المورد.

هذا مضافاً إلى أنّ الظاهر من الآية هو أنّ ( الشورى ) لا توجب حكماً للحاكم ولا تلزمه بشيء ، بل هو يقلّب وجوه الرأي ، ويستعرض الأفكار المختلفة ثمّ يأخذ بما هو المفيد في نظره ، وهذا يتحقق في ظرف يكون هناك ( رئيس ) تام الاختيار في استحصال الأفكار ، والعمل بالنافع منها ، كما أنّ استحصال الأفكار هذا لا يتمّ إلاّ أن يكون للمستشير مقاماً وسلطةً وولايةً مفروضة ، ويكون رئيساً مستقرّ الحاكميّة ، وأمّا إذالم يكن ثمة رئيس فلا يمكن أن يتم هذا الأمر ، الذي ندب إليه القرآن وحثّ عليه ، إذ ليس عندئذ هناك رئيس يندب الأفراد ويستعرض أراءهم ثمّ يتأمّل فيها ويأخذ بالنافع منها.

* * *

الثانية : قوله تعالى : ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) ( الشورى : 38 ) ، فإنّ إضافة المصدر ( أمر ) إلى الضمير ( هم ) يفيد العموم والشمول لكلّ أمر بما فيه الخلافة والإمامة ، فالمؤمنون - بحسب هذه الآية - يتشاورون في جميع اُمورهم حتّى الخلافة.

ولكن ينبغي البحث في الموضوع الذي تأمر الآية بالمشورة فيه وأنّه ما هو ؟ فنقول : إنّ الآية تأمر بالمشورة في الاُمور المضافة إلى المؤمنين ، فلابدّ أن يحرز أنّ هذا الأمر ( أي تعيين الإمام ) أمر مربوط بهم ، ومضاف إليهم ، فما لم يحرز ذلك لم يجز التمسّك بعموم الآية في مورده.

وبعبارة أخرى : إنّ الآية حثّت على الشورى في اُمورهم وشؤونهم لا فيما هو خارج عن حوزة اُمورهم وشؤونهم ، ولما كان تعيين ( الإمام والخليفة ) من جانبهم مشكوكاً في

ص: 230

كونه من اُمورهم ، إذ لا يدرى هل من شؤونهم وصلاحياتهم ، أم من شؤون اللّه سبحانه فعندئذ لا يجوز التمسّك بالآية في المورد.

وبعبارة ثالثة : هل أنّ الإمامة إمرة وولاية إلهيّة لتحتاج إلى نصب وتعيين إلهيّ ، أو هي إمرة وولاية شعبيّة ليجوز للناس أن يعيّنوا بالشورى من أرادوا للإمامة والخلافة ؟

ومع الترديد والشكّ ، لا يمكن الأخذ بإطلاق الآية المذكورة وتعميم ( أمرهم ) لأمر الإمامة ، لأنّه من باب التمسك بالحكم عند الشكّ في الموضوع ، وهذا نظير ما إذا قال أحد : ( أكرم العلماء ) فشككنا في رجل هل هو عالم أو لا ، فلا يجوز التمسّك بالعامّ في هذا المورد المشكوك والقول بلزوم إكرام الرجل.

التمسّك بكلام عليّ علیه السلام في الشورى

ثمّ إنّ القائلين بمبدأ الشورى يتمسّكون بأحاديث في هذا المقام ، وربّما تمسّكوا بقول الإمام عليّ علیه السلام إذ قال : « إنّه بايعني القوم الّذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان ، على ما بايعوهم عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يردّ وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضىً » (1).

ثمّ إنّ الشارح الحديديّ ، كان أوّل من احتج بهذه الخطبة على أنّ نظام الحكومة بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله إنّما هو نظام الشورى وتبعه بعض من تبعه ، من دون رجوع إلى القرائن الحافّة بها ... والحال أنّ الاستدلال بالشورى استدلال جدليّ من باب : ( وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ( النحل : 125 ).

وقد نقل نصر بن مزاحم المنقريّ المتوفّى عام (212 ه ) أي 147 عاماً قبل ميلاد ( الشريف الرضيّ جامع نهج البلاغة ) في كتابه القيّم ( وقعة صفّين ) العبارات

ص: 231


1- نهج البلاغة : قسم الكتب الرقم (6).

الكثيرة التي حذفها الرضي رحمه اللّه من الرسالة كما هو دأبه في أكثر الخطب والكتب (1).

فإنّ الإمام عليّ علیه السلام بدأ رسالته بقوله : « أمّا بعد فإنّ بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام ، لأنّه بايعني ... ».

ثمّ ختمها بقوله : « وإنّ طلحة والزبير بايعاني ثمّ نقضا بيعتي وكان نقضهما كردِّهما فجاهدتهما على ذلك حتّى جاء الحقُّ وظهر أمر اللّه وهم كارهون ، فادخل فيما دخل فيه المسلمون ».

ثمّ قال : « وقد أكثرت في قتلة عثمان فادخل فيما دخل فيه المسلمون ثمّ حاكم القوم إليّ أحملك وإياهم على كتاب اللّه (2) ، وأمّا تلك الّتي تريدها فخدعة الصبيّ عن اللبن ».

هذا وقد طلب معاوية قبل أن يكتب إليه الإمام هذا الكتاب بأن يسلِّم إليه قتلة عثمان حتّى يقتصّ منهم ثمّ يبايع الإمام عليّاً علیه السلام هو ومن معه ، وهذا هو ما سمّاه الإمام بخدعة الصبي عن اللبن.

وهذه الجمل والعبارات التي تركها الرضيّ في نقل الكتاب تشهد بأنّ الإمام كتب هذه الرسالة من باب الجدل والاستدلال بما هو موضع قبول الخصم.

ثمّ إنّ ملاحظة قول : « إنّه بايعني القوم الّذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان » تدلّ أيضاً على أنّ الإمام كان في مقام المجادلة وإفحام الخصم بما هو مسلّم عنده. فالابتداء بتماميّة الخلافة للشيخين بمبايعة المهاجرين والأنصار لهما لأجل إسكات معاوية الذي يعتبر هذه البيعة هي الملاك في خلافة الخليفة. ولولا هذا لما كان لذكر خلافة الشيخين عن طريق البيعة والشورى وجه. ولأجل ذلك نجد الإمام علیه السلام يردف هذه

ص: 232


1- ولد الرضي عام ( 359 ه ) وتوفّي ( 406 ه ).
2- راجع ( وقعة صفّين ) لنصر بن مزاحم ( طبعة مصر ) : 29.

العبارات بقوله : « فإن اجتمعوا على رجل ... » احتجاجاً بمعتقد معاوية.

فهذا الاُسلوب إنّما اتخذه الإمام علیه السلام عملاً بقوله سبحانه : ( وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) .

وكيف لا ، وللإمام علیه السلام كلمات ساخنة في تخطئة الشورى التي تمّت بها خلافة الخلفاء بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقف عليها كلّ من تصفّح نهج البلاغة ، وسائر ما روي عنه علیه السلام في هذا المجال.

والذي يدلّ على ذلك وأنّ الشورى لم تكن أساساً للخلافة والحكومة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّ أصحاب الشورى في السقيفة - لا في غيرها - لم يتمسّكوا بها ، ولا بالآيات والأحاديث الواردة حولها.

إشكالاتٌ أُخرى وملاحظاتٌ أساسيّة :

وهناك ملاحظات أساسيّة أخرى على جعل الشورى منشأً للحكم ، وطريقاً لتعيين الحاكم نشير إلى بعضها :

1. لو كان أساس الحكم ومنشأه هو ( الشورى ) ، لوجب على الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله بيان تفاصيلها وخصوصيّاتها وأسلوبها ، أو خطوطها العريضة على الأقلّ.

فإنّ الإسلام إذا كان قد أرسى نظام الحكم على أساس ( الشورى ) ، وجعله طريقاً لتعيين الحاكم بحيث تكون هي مبدأ الولاية والحاكميّة ، فإنّ من الطبيعيّ بل والضروريّ أن يقوم الإسلام بتوعية الاُمّة ، وإيقافها - بصورة واسعة - على حدود الشورى وتفاصيلها وخطوطها العريضة حتّى لاتتحيّر الاُمّة وتختلف في أمرها ، ولكنّنا رغم هذه الأهميّة القصوى لا نجد لهذه التوعية الضروريّة أي ( أثر ) في الكتاب والسنّة في مجال انتخاب الحاكم.

ولقد بادر بعض الكتاب إلى الإجابة عن هذا الإشكال بأنّ : الإسلام قد تكفّل

ص: 233

إعطاء إشارة عابرة إلى مبدأ الشورى دون تحديد ، موكلاً أمرها وشكلها إلى نظر الاُمّة ، تمشّياً مع الصبغة العامّة التي تتّسم بها الشريعة الإسلاميّة ، وهي صبغة الخلود ، والمرونة ، التي تمكِّن هذه الشريعة من مسايرة كلّ العصور. وبقائها نظاماً خالداً لجميع الأجيال.

وصفوة القول : أنّ خلود الإسلام يقتضي أن يكتفي هذا الدين ببيان جوهر الاُمور دون شكليّاتها ، وكيفيّاتها.

وهذا المطلب صحيح - في حدّ ذاته - وإن كان انطباقه على هذا المورد لا يخلو عن إشكال ، فإنّه وإن كان لا يجب على الشارع إعطاء كلّ التفاصيل والخصوصيّات الراجعة إلى الشورى ، غير أنّ هناك اُموراً ترجع إلى ( جوهر ) الشورى وصميمها ، فلا يصحّ للشارع المقدّس أن يترك بيانها إذ أنّ هناك أسئلةً تطرح نفسها في المقام ، لا يمكن الوقوف على أجوبتها إلاّ عن طريق الشارع وبيانه وهي :

أوّلاً : من هم الذين يجب أن يشتركوا في ( الشورى ) المذكورة ؟ هل هم العلماء وحدهم ، أو السياسيّون وحدهم أو المختلط منهم ؟

ثانياً : من هم الذين يختارون أهل الشورى ؟

ثالثاً : لو اختلف أهل الشورى في شخص فبماذا يكون الترجيح ، هل يكون بملاك الكمّ ، أم بملاك الكيف ؟

إنّ جميع هذه الاُمور تتّصل بجوهر مسألة ( الشورى ) ، فكيف يجوز ترك بيانها ، وتوضيحها ؟ وكيف سكت الإسلام عنها إن كان جعل ( الشورى ) طريقاً إلى تعيين الحاكم ؟

* * *

2. إنّ القوم يعبّرون عن أعضاء الشورى بأهل العقد والحلّ ، ولا يفسّرونه بما يرفع إجماله ، وأنّ المقصود من هو ؟ ولذلك قال الشيخ عبد الكريم الخطيب :

ص: 234

( وليس في القول بأنّ أفراد الاُمّة المسؤولون عنها هم أهل الحلّ والعقد فيها ، ما يفسّر هذا الغموض أو يكشفه فمن هم أهل الحلّ والعقد ، وحلّ ماذا ؟ وعقد ماذا ؟ أهم أصحاب الفقه والرأي الذين يرجع إليهم الناس فيما ينوّبونهم من اُمور ؟ وهل هناك درجة معينة من الفقه والعلم إذا بلغها الإنسان صار من أهل الحلّ والعقد ؟ ما هي تلك الدرجة ؟ وبأيّ ميزان توزن ؟ ومن إليه يرجع الأمر في تقديرها ؟

إنّ كلمة أهل العقد والحلّ لأغمض غموضاً من كلمة « الأفراد المسؤولون » ) (1).

ولأجل غموض نظريّة الشورى برمّتها وعدم ورود نصّ واضح وصريح حولها قال الدكتور طه حسين : ( ولو قد كان للمسلمين هذا النظام المكتوب ( ويعني نظام الشورى ) لعرف المسلمون في أيّام عثمان ما يأتون من ذلك ، وما يدعون دون أن تكون بينهم فرقة أو اختلاف ) (2).

ولذلك - أيضاً - يقول الشيخ عبد الكريم الخطيب ، وهو يشير إلى أنّ قضيّة الشورى كانت مجرّد تجربة وليس قانوناً إسلاميّاً أخذ به ، كما يشير إلى ما في هذه القضية من نواقص وعيوب وما تركته من أثار سيّئة على الفكر الإسلاميّ :

( ينظر بعضهم إليه على أنّه ( أي تعيين الإمام بالشورى ) نواة صالحة لأوّل تجربة وأنّ الأيّام كفيلة بأن تنمّيها ، وتستكمل ما يبدو فيها من نقص ، فلم تكن الأحوال التي تمّت فيها هذه التجربة تسمح بأكثر ممّا حدث ، إذ لم يكن من المستطاع - حينذاك - الوقوف على رأي الاُمّة كلّها فرداً فرداً ؛ فيمن يخلف النبيّ صلی اللّه علیه و آله وينظر بعض آخر إلى هذا الاُسلوب بأنّه اُسلوب بدائيّ عالج أهمّ مشكلة في الحياة ، وقد كان لهذا الاُسلوب أثره في تعطيل القوى المفكّرة للبحث عن اُسلوب آخر من أساليب الحكم التي جربتها الاُمم ) (3).

هذا كلّه حول ( الشورى ) ، وكونها صيغة الحكم ومنشأه عقيب النبيّ صلی اللّه علیه و آله مباشرة.

ص: 235


1- (1 و 2) الخلافة والإمامة : 271.
2- (1 و 2) الخلافة والإمامة : 271.
3- الخلافة والإمامة : 272.

أمّا بالنسبة إلى عصرنا هذا ؛ حيث لا تتمكن الاُمّة من الوصول إلى الإمام المنصوب من جانب اللّه سبحانه بالاسم ، فهناك فكرتان تدور حول محور الشورى :

الاُولى : أن تقتصر وظيفة الشورى على الترشيح ، وإيقاف الاُمّة على الشخص المناسب والرجل الصالح لمقام الحكم والولاية ، من دون أن يكون تصميم الشورى وانتخابها ملزماً للناس. وهذا أمر معقول ، ومقبول شرعاً وعرفاً وهو الرأي الذي أشار إليه صاحب كتاب الشخصيّة الدولية - كما سبق -.

الثانية : أن يكون تصميم الشورى أمراً ملزماً للناس ، وقراراً واجب الاتّباع ، فعلى الناس أن يقبلوا بمن عيّنته الشورى ويرتضونه حتماً دون أن يكون لهم رأيهم في الأمر ، وحريّتهم في الاختيار وهذا ممّا لا يدلّ عليه دليل من الكتاب ولا من السنّة ، وقد ذكرنا أنّ شرط صحّة الحكم الإسلاميّ هو أن يكون موضع رضا الشعب والاُمّة.

ص: 236

هل البيعة وسيلة لتعيين الحاكم ؟

اشارة

هل البيعة طريق إلى تعيين الحاكم الإسلاميّ ؟ إنّ الإجابة على هذا السؤال ، والحديث عن البيعة - بصورة واضحة - يقتضي بيان اُمور :

1. ماذا تعني البيعة ؟

البيعة - لغةً - مصدر باع - لأنّ المبايع يجعل حياته وأمواله - بالبيعة - تحت اختيار من يبايع. ويتعهّد المبايع - في المقابل - بأن يسعى في إصلاح حال المبايع ، وتدبير شؤونه بصورة صحيحة وكأنّ المبايع والمبايع يقومان بعملية تجارية إذ يتعهّد كلّ واحد منهما اتّجاه الآخر بعمل شيء للآخر ، أو أن المبايع يريد من وضع يده في يد المبايع أنّه يكون معه في جميع الوقائع الآتية.

وقد أشار إلى بعض ما ذكرناه ابن خلدون في تعريفه البيعة إذ قال :

( اعلم ، أنّ البيعة هي العهد على الطاعة كأنّ المبايع يعاهد أميره على أن يسلّم له النظر في اُموره واُمور المسلمين ويطيعه فيما يكلّفه ، وكانوا إذا بايعوا الأمير جعلوا أيديهم في يده تأكيداً فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري ) (1).

ص: 237


1- مقدمة ابن خلدون : 174.

2. البيعة قبل الإسلام :

كانت ( البيعة ) التي هي نوع من معاهدة الرئيس ، من تقاليد العرب قبل الإسلام وسننهم ، ولم يكن الإسلام هو أوّل من ابتكر ذلك ، وحيث كانت المبايعة ممّا تنفع المجتمع وتخدم مصالحه ، فقد أمضاها الدين الإسلاميّ وجعلها من العقود اللازمة ، التي يجب العمل بها ، ويحرّم نقضها.

لقد بايع أهل المدينة النبيّ صلی اللّه علیه و آله في السنة الحادية عشرة والثانية عشرة في العقبة بمنى ، بايعوه مرّتين ففي الاُولى من البيعتين بايعوه على أن لا يشركوا باللّه ، ولا يسرقوا ولا يقترفوا فاحشةً ... و و ... (1).

ولقد خطى النبيّ صلی اللّه علیه و آله في البيعة الثانية خطوةً أكبر حيث أخذ البيعة من أهل المدينة على نصرته ، والدفاع عنه كما يدافعون عن أولادهم وأهليهم (2).

لقد بايع أهل المدينة النبيّ - على عاداتهم قبل الإسلام - حيث كانوا يبايعون زعماءهم.

إنّ البيعة نوع من العهد والمعاهدة ، والهدف من إمضائها في زمن النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يكن لتعيينه للحكم والرئاسة ، بل كان لإعطائه الميثاق على الوفاء ، والسير حسب أوامره ، فالمسلمون الذين بايعوا النبيّ صلی اللّه علیه و آله في أوّل بيعة ، إنّما بايعوه على أن لا يشركوا باللّه ، وأن يجتنبوا الفواحش ، ولا يسرقوا ، وفي البيعة الثانية عاهدوا النبيّ صلی اللّه علیه و آله على أن ينصروه ، ويدافعوا عنه كما قلنا ، وفي كلتا الصورتين كانت زعامة النبيّ ورئاسته محقّقة من قبل ، فهم كانوا بعد أن آمنوا بنبوّته ، وقيادته اقتضى إيمانهم أن يسمعوا له ويطيعوا أمره ( فلا يشركوا ولا يزنوا ... ) ويحفظوه وينصروه ، ولكنّهم أظهروا هذا السمع والطاعة وأكّدوهما عن طريق المبايعة معه (3).

ص: 238


1- (1 و 2) سيرة ابن هشام 1 : 1. 438.
2- (1 و 2) سيرة ابن هشام 1 : 1. 438.
3- لاحظ للوقوف على تفصيل هاتين البيعتين ، السيرة النبويّة لابن هشام وصحيح البخاري.

إنّ الموارد التي بايع فيها المسلمون رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جميعاً أو فرادى ، لا تنحصر في هذين الموردين ، بل هي أكثر من ذلك ، وفي جميع تلك الموارد يبدو جليّاً أنّ المبايعين كانوا - بعد أن يؤمنوا بنبوّة النبيّ ويعترفوا بقيادته وزعامته - يصبّون ما يلازم ذلك الإيمان ، من الالتزام بأوامر الرسول وإطاعته في قالب ( البيعة ) ، فكانت البيعة صورةً عمليّةً للالتزام النفسيّ بأوامر النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعد الإقرار بنبوّته والاعتراف المسبق بزعامته.

ولو أمعن القارئ الكريم في تفاصيل الموارد التي بايع فيها المسلمون كلهم أو بعضهم ( النبي ) لوجد ، أنّ البيعة لم تعن الاعتراف بزعامة الرسول ورئاسته فضلاً عن نصبه وتعيينه ، بل كانت لأجل التدليل على ذلك الاعتراف والتأكيد العمليّ على الالتزام بلوازم الإيمان المسبق به صلی اللّه علیه و آله ولذلك نجد النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله كان يقول : « فإن آمنتم بي فبايعوني على أن تطيعوني ، وتصلُّوا وتزكُّوا » (1).

« وأن تدفعوا عنّي العدوّ حتّى الموت (2) ، ولا تفروا من الحرب » (3).

وصفوة القول : أنّ من يلاحظ هذه المضامين ، يمكن أن يحدس بأنّ الهدف من البيعة لم يكن هو الاعتراف بمنصب المبايع وانتخابه وتعيينه لمقام الحكومة والولاية ، بل هو ميثاق بين شخصين وهي تندرج تحت قوله سبحانه : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ( المائدة : 1 ).

وقوله سبحانه : ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً ) ( الإسراء : 34 ).

فيجب العمل بمفادها ويحرم نقضها ونكثها.

يقول الإمام أمير المؤمنين في الحث على الوفاء بالبيعة : « وأمّا حقّي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب والإجابة حين أدعوكم والطاعة حين آمركم » (4).

ومن مراجعة خطب الإمام عليّ علیه السلام وكلماته في نهج البلاغة ، يتضح أنّ

ص: 239


1- صحيح البخاري : كتاب الإيمان.
2- مسند أحمد 4 : 15.
3- مسند أحمد 3 : 292.
4- نهج البلاغة : الخطبة (34).

نكث البيعة إنّما هو نقض للميثاق لا سواه ، وأنّ نكث البيعة من الذنوب الكبيرة ، لا أنّه عزل للحاكم ، وإزاحته عن منصب الولاية.

ولو جعل البعض ( البيعة ) إحدى الطرق لتعيين الإمام ، فليس إلاّ لأحد سببين هما :

الأوّل : أنّ البيعة كانت تقليداً من تقاليد العرب قبل الإسلام ، حيث كان رائجاً بينهم إذا مات منهم أمير أو رئيس عمدوا إلى (شخص ) فأقاموه مكان الراحل بالبيعة.

الثاني : أنّ تعيين بعض الخلفاء بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان بهذا الطراز في الظاهر ، وإن كان على غير ذلك في الباطن ، فإنّ الظاهر هو أنّ خلافة أبي بكر تمّت في السقيفة ، وانتهى كلّ شيء هناك ، ثمّ أريد من بقية الناس - بعد السقيفة - أن يبايعوا أبا بكر ، لتعميم نفوذه. فكانت بيعتهم للخليفة بمثابة التأييد والتسليم لما تمّ في السقيفة قبلاً ، وكانت خلافة عثمان قد تمت وتحققت بالشورى فكانت البيعة بعد الشورى تنفيذاً لقرارها. وإمضاءً ، لا اختياراً وانتخاباً شعبياً.

والحاصل ، أنّه ليس هناك دليل تأريخيّ ولا شرعيّ يدلّ على كون مجرّد ( البيعة ) إحدى الطرق لتعيين الخليفة ونصبه ، بغض النظر عن أيّة مواصفات أو ضوابط اُخرى.

ولأجل ذلك ، إذا راجعنا موارد البيعة التي تمّت في زمن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وجدنا ، أنّها لم يكن القصد من بيعة المبايعين هو ( تعيين الحاكم ) ، بل كان إمّا إعطاءً لميثاق الوفاء لما يأمر به النبيّ ، أو كان إضهاراً للتأييد المجدد في الحوادث الجلل التي وقعت في حياته صلی اللّه علیه و آله كما حدث في الحديبيّة.

ولو غضضنا الطرف عن كلّ هذا لوجب أن نقول : إنّ البيعة هي إحدى الطرق لتعيين الحاكم والرئيس ، وليس الطريق الوحيد. وفي هذه الصورة تكون ( البيعة ) متّحدةً - من حيث المفهوم - مع ما ذكرناه حول تأسيس الدولة ، ومن ضرورة انبثاقها عن رضا الاُمّة وناشئةً عن إرادتها ، غاية ما في الأمر أنّ البيعة [ التي تتحقّق بصفق اليد ] تشتمل مضافاً إلى رضا الاُمّة ، على ما يقوّي مركز الإمام والقائد والحاكم ، لما فيها من إبراز الولاء

ص: 240

النفسيّ ، وإظهار الطاعة القلبيّة بعمل محسوس.

ثمّ لو كانت ( البيعة ) الطريق الوحيد لانتخاب الحاكم وتعيين القائد ، لوجب أن يرد لها ذكر في أحاديث الرسول صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته الطاهرين علیهم السلام ولقد كان الإمام عليّ علیه السلام هو الخليفة الوحيد الذي انتخب للحكم عن طريق البيعة دون بقيّة الخلفاء ، فالاُمّة لم تبايع أيّاً من الخلفاء الأربعة بحقيقة البيعة ، سواه ... اللّهمّ إلاّ في أبي بكر والتي كانت البيعة في مورده بيعةً ناقصةً ، أقتصرت على بعض المسلمين لا عامّتهم (1) ، وكانت بمثابة التسليم للأمر الواقع.

وهناك أحاديث غامضة حول البيعة تحتاج إلى الدراسة والتحقيق فلتراجع المصادر التالية :

بحار الأنوار ( الجزء 2 ) كتاب العلم ( باب 33 ) الأحاديث : 21 و 22 و 23 و 28. وبحار الأنوار ( الجزء 27 ) كتاب الإمامة ( الباب 3 ) الأحاديث : 1 و 4 و ...

ص: 241


1- كما مرّ عليك سابقاً.

ص: 242

الفصل الرابع: صفات الحاكم الإسلاميّ

اشارة

إنّ أهميّة ( القيادة والحكم ) في حياة الاُمّة وخطورتها البالغة وما يترتّب عليها من سعادة وشقاء ، تقتضي اعتبار سلسلة من الشروط والصفات في الحاكم ، والرئيس لولاها لانحرفت القيادة عن طريق الحقّ ، وانتهت بالاُمّة إلى أسوء مصير. ولقد فطن الإسلام إلى ذلك الأمر الخطير والناحية الحسّاسة ، فاشترط وجود صفات معينة في الحاكم والرئيس ... وقد فرض على الاُمّة الإسلاميّة مراعاة هذه الأوصاف والشروط عند انتخاب الحاكم ..

وها نحن نشير فيما يلي إلى بعض هذه الصفات ، مع الإشارة إلى شيء من أدلتها وفلسفتها على نحو الإجمال والاختصار :

1. الإيمان :

وهو الإعتقاد القلبيّ بالإسلام عقيدةً ونظاماً وخلقاً كما في القرآن الكريم والسنّة المطهرة ، ويدلّ على ذلك - مضافاً إلى أنّ الدين الإسلاميّ أفضل المبادئ وخير المناهج ، وأنّ العقيدة باللّه تعالى ، وبشرائعه من مبادئه الأوّليّة فلا يحقّ للكافر بها أن يسود المؤمنين ؛ بحكم العقل ؛ لأنّ ذلك يكون من قبيل تسويد من لا كفاءة له على صاحب

ص: 243

الكفاءة التامّة - قوله سبحانه : ( وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) ( النساء : 141 ).

وأيّ سبيل أقوى من الولاية والحكومة على المؤمنين.

* * *

2. حسن الولاية والقدرة على الإدارة :

إنّ صلاحية الشخص للحكم والإدارة منوطة بقدرته على القيام بلوازم الولاية وأعبائها ، فحسن الولاية والكفاءة الإدارية شرط أساسيّ لاحتلال مقام الحكومة والرئاسة ، إذ التأريخ البشريّ قديماً وحديثاً يشهد بأنّ تصديّ الحكّام غير القادرين على الإدارة وغير الأكّفاء للولاية جرّ على الشعوب والاُمم - وخاصّةً الإسلاميّة - أسوء المآسي ، وأشد الويلات.

إنّ بداهة هذا الشرط وأهميّة هذه الصفة واضحة لكلّ أحد بحيث لا نحتاج إلى إقامة دليل عليها ، فالقيادة توجب بذاتها هذا الشرط وتوفّر مثل هذه الصفة في الحاكم والرئيس حتّى إذا لم يقم على ذلك دليل من خارج.

وإلى أهمية هذه الصفة الحيوية في الحاكم يشير الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله إذ يقول : « لا تصلُح الإمامة إلاّ لرجل فيه ثلاثُ خصال :

1. ورع يحجزه عن معاصي اللّه.

2. وحلم يملكُ به غضبهُ.

3. وحسنُ الولاية على من يلي حتّى يكون كالوالد ( وفي رواية كالأب ) الرحيم » (1).

بل ويشترط الإسلام أن يكون الحاكم أكفأ من غيره على الإدارة ، وأقدر من غيره

ص: 244


1- الكافي 1 : 407.

على الولاية والقيادة.

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « أيّها الناسُ إنّ أحقَّ الناس بهذا الأمر أقومهم [ وفي رواية أقواهم ] وأعلمهم بأمر اللّه فإن شغب شاغب استُعتب وإن أبى قُوتل » (1).

إنّ أهم ما يشترط في الحاكم في نظر الإسلام هو حسن الولاية على من يلي اُمورهم ، والمقدرة الكافية على قيادتهم ، إذ بذلك يمكن للحاكم والرئيس أن يلمَّ شعث المسلمين ، ويجمع شملهم ، ويدفعهم إلى مدارج الكمال والتقدّم ، ويجعلهم في المقدّمة من الشعوب والاُمم ، وفي القّمة من الحضارة المدنيّة والازدهار ، وحسن الولاية ، هذا هو ما يسمّيه ويقصده السياسيّون اليوم بالنُضج العقليّ والرُشد السياسيّ.

3. التفوّق في الدراية السياسيّة :

على أنّ مجرّد المقدرة وحسن الولاية لا يكفي كما عرفت في منطق الإسلام بل يشترط أن يكون الحاكم الإسلاميّ متفوّقاً على غيره في الدراية السياسيّة فيكون أوسع من غيره في الاطّلاع على مصالح الاُمّة ، وأعرف من غيره باُمورها وحاجاتها ، لكي لايغلب في رأيه ، ولا يُخدع في إدارته ، ولكي يصل المجتمع الإسلاميّ إلى أفضل أنواع القيادة وأدراها ، وأكفأها.

من أجل ذلك يتعين على الحاكم الأعلى للاُمّة الإسلاميّة أن تبلغ رؤيته السياسيّة والاجتماعيّة درجةً يستطيع معها أن يقود الاُمّة سياسيّاً واجتماعيّاً ويدفع بهم في طريق التقدم جنباً إلى جنب مع الزمن.

وهذا يستلزم أن يكون الحاكم الأعلى للاُمّة مُلماً بالأوضاع السياسيّة وعارفاً بما يجري على الساحة الدوليّة من تطورات سياسيّة لكي يحفظ اُمّته من كلّ ما يمكن أن يتوجّه إليها من أخطار.

يقول الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام في هذا الصدد : « العالمُ بزمانه لا

ص: 245


1- نهج البلاغة : الخطبة (172).

تهجمُ عليه اللوابسُ » (1).

فإنّ من يسوس الاُمّة ويقودها دون بصيرة بالأحوال والأوضاع المحيطة بها يجرّ إليها الويل والانحراف عن جادّة الحقّ كما قال الإمام جعفر الصادق علیه السلام : « العاملُ على غير بصيرة كالسَّائر على غير الطَّريق ، لا تزيده سرعة السير من الطريق إلاّ بُعداً » (2).

إنّ تسليم القيادة الجماعة إلى من لا يعرف شؤون السياسة والإدارة ، ولا يحسن الولاية والإمرة ، يكون كإعطائها إلى الصبيان وهو أمر معلوم العواقب ، واضح المخاطر كما يقول الإمام عليّ علیه السلام : « يأتي على الناس زمان لا يُقرّب فيه إلاّ الماحلُ ( أي الساعي في الناس بالوشاية ) ولا يُظرّف فيه إلاّ الفاجر ».

إلى أن قال علیه السلام : « فعند ذلك يكون السلطانُ بمشورة النساء ، وإمارة الصبيان » (3).

ومن المعلوم أنّ المراد من قوله علیه السلام من إمارة الصبيان هو الإشارة إلى تفويض الاُمور إلى من لا يتمتع بالرشُد السياسيّ ، والخبرة القياديّة ، والبصيرة الإداريّة ، وليس المراد من الصبيّ - في المقام - هو غير البالغ شرعاً وذلك بقرينة أنّ الإمام يتحدث عن زمن تضيع فيه المقاييس الصحيحة للسياسة والاجتماع ، فبدل أن تسلّم فيه القيادة إلى ذوي الفهم والفكر والكفاءة تُسلّم إلى من لا يملك ذلك.

إنّ تأكيد الإسلام على هذا الشرط - بهذه الدرجة الكبيرة من التأكيد - إنّما هو لصيانة الاُمّة الإسلاميّة من التورّط في المشاكل بسبب ضعف القادة والحكام في السياسة أو غفلتهم عن مقتضيات عصرهم ، وجهلهم بمتطلبات زمانهم وضروراته ، فبسبب هذا الضعف والجهل والغفلة يمكن أن تقع الاُمّة الإسلاميّة فريسةً للمؤامرات الأجنبيّة الشرسة ، وتغدو آلةً طيّعةً بأيدي الأعداء ، لتنفيذ أغراضهم ، وتحقيق مقاصدهم ، وهو أعظم ما تصاب به الاُمم والشعوب في حياتها وتاريخها.

ص: 246


1- (1 و 2) الكافي 1 : 1. 43.
2- (1 و 2) الكافي 1 : 1. 43.
3- نهج البلاغة : الحكم رقم (102).

4. العدالة :

إنّ أهمّ ما يجب أنّ يتحلّى به الحاكم الإسلاميّ والرئيس الأعلى للحكومة الإسلاميّة - بعد حسن الولاية - هو أن يكون متصفاً بالعدالة ، بعيداً عن المعاصي والذنوب فأيّ حاكم يمكن أن يؤتمن على مصير الاُمّة ، ومقدّراتها ويكون ملتزماً بالدين ، ومخلصاً لواجباته ووفيّاً لمصالح الاُمّة ، ما لم يتصف بالعدالة التي هي حالة نفسانيّة تمنعه من ارتكاب الذنوب ، وتردعه عن اقتراف المعاصي ، التي منها الخيانة ، والكذب ، والتضليل ، والغلول.

ولعلّ أوضح ما يدلّ على لزوم وجود مثل هذه الصفة في الحاكم ، وحثّ الناس على اعتبارها وملاحظتها فيه عند اختياره وانتخابه هو قوله تعالى : ( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ ) ( هود : 113 ).

وأيّ ركون إلى الظلم أعظم من تسليط الحاكم الفاسق ، والقبول بولايته ، والانصياع لأوامره وتسليم مقدرات الاُمّة إليه ؟

وقال سبحانه : ( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) ( الكهف : 28 ).

وفي آية أُخرى يعتبر طاعة الأسياد الفاسدين الفاسقين موجباً للضلال وينقل عن لسان المضلَّلين بهم وقولهم : ( وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا ) ( الأحزاب : 67 ).

وأنت إذا لاحظت الآيات الواردة حول الإطاعة تجد أنّ إطاعة الفاسق أمر محرّم بنص الكتاب فراجع الآيات الواردة بهذا الصدد.

وفي هذا المجال قال الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله : « لا تصلُح الإمامةُ إلاّ لرجل فيه ثلاثُ خصال : ورع يحجزه عن محارم اللّه ... » (1).

ص: 247


1- الكافي 1 : 407.

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « وقد علمتم أنّه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدِّماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين :

1. البخيل ، فتكون في أموالهم نهمتهُ

2. ولا الجاهل ، فيُضلَّهم بجهله

3. ولا الجافي ، فيقطعهم بجفائه

4. ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم

5. ولا المُرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع ( أي الحدود التي عيّنها اللّه لها ).

6. ولا المُعطّل للسّنّة فيهلك الاُمّة » (1).

وقال علیه السلام أيضاً : « من نصب نفسه للنَّاس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره ، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه ، ومعلّم نفسه ومؤدبها أحقّ بالإجلال من معلّم النَّاس ومؤدّبهم » (2).

قال الإمام عليّ علیه السلام : « لا يصلح الحكم ولا الحدود ولا الجمعة إلاّ بإمام عدل » (3).

وقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « يوم واحد من سطان عادل خير من مطر أربعين يوماً ، وحدّ يقام في الأرض أزكى من عبادة سنة » (4).

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « وعدل السلطان خير من خصب الزَّمان »(5).

وقال الإمام الحسين بن عليّ علیه السلام : « فلعمري ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب ، القائم بالقسط ، الدائن بدين اللّه ، الحابس نفسه على ذات اللّه » (6).

ص: 248


1- نهج البلاغة : الخطبة (127) شرح عبده.
2- نهج البلاغة : الحكم الرقم (73).
3- الكافي 1 : 314.
4- المستدرك 3 : 216.
5- البحار 78 : 10.
6- روضة الواعظين : 206 ، الإرشاد للمفيد : 210.

وقال علیه السلام أيضاً : « إنّما الخليفةُ من سار بكتاب اللّه وسُنّة نبيّه » (1).

وقال الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام : « ايّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تداري في شيء من الأخذ والعطاء أن تتحاكموا إلى أحد هؤلاء الفُسّاق »(2).

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « اتقوا اللّه وأطيعوا إمامكم فإنَّ الرَّعيَّة الصَّالحة تنجو بالإمام العادل ، ألا وإنَّ الرَّعيَّة الفاجرة تهلك بالإمام الفاجر » (3).

وقال الإمام الكاظم علیه السلام : « طاعة ولاة العدل تمام العزِّ » (4).

وكتب الإمام عليّ علیه السلام إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني عامله على أرديشرخرة : « أمَّا بعد فإنَّ من أعظم الخيانة خيانة الاُمّة ، وأعظم الغشِّ على أهل المصر غشّ الإمام » (5).

وقال علیه السلام أيضاً : « اتقوا الحكومة إنَّما هي للإمام العالم بالقضاء ، العادل في المسلمين كنبيّ أو وصيِّ نبيّ » (6).

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « إيّاكُم أن يُحاكم بعضُكُم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلمُ شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلتُهُ قاضياً فتحاكموا إليه » (7).

وعن النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « أحبّ النَّاس إلى اللّه يوم القيامة وأدناهم منه مجلساً إمام عادل وأبغضُ الناس إلى اللّه ، وأبعدهم منهُ مجلساً إمام جائر » (8).

وقال صلی اللّه علیه و آله : « إنّ المقسطين عند اللّه على منابر من نور عن يمين الرَّحمن وكلتا يديه

ص: 249


1- شرح ابن أبي الحديد 6 : 49.
2- التهذيب 6 : 303.
3- البحار 8 : 482.
4- تحف العقول : 282.
5- البحار 8 : 618.
6- وسائل الشيعة ( كتاب القضاء ) 18 : الباب 3 الطبعة الجديدة نقلاً عن الكافي 7 : 406.
7- الوسائل 18 : أبواب صفات القاضي الباب (1).
8- جامع الاُصول 4 : 55 أخرجه الترمذيّ.

يمين ، الَّذين يعدلون في حُكمهم وأهلهم وما ولوا » (1).

إنّ الحديث الأخير وإن كان حول القضاء والفصل بين الخصومات إلاّ أنّ اعتبار هذه الصفة في مقام القيادة والزعامة العليا يكون أقوى بدليل الأولويّة ، لأنّ مقام الرئاسة العليا والقيادة أكثر خطورةً وأهميّةً من مقام القضاء ، ومسؤوليّة الفصل بين الخصومات ولذلك فهو أكثر حاجة إلى اعتبار وصف العدالة.

أضف إلى ذلك ، أنّ من كان يتصدّى للقضاء - في تلك العهود - كان نفسه يشغل مقام الحكم والإدارة أيضاً ..

ثمّ إذا كان وصف العدالة مشترطاً في إمام الجماعة الذي يؤم جماعةً من المصلّين وهو عمل محدود ومؤقت ، كما نعلم ، فمن الأولى أن يكون مشترطاً في الحاكم الإسلاميّ للاُمّة المتربّع علس مسند القيادة العامّة والآخذ بمقدرات الاُمّة ، والمتصرف في عامّة شؤونها ، والمدبّر لاُمورها في شتى المجالات الحيويّة في خضمِّ الحياة السياسيّة.

* * *

5. الرجولة :

إذا كان الإسلام يشترط أن يكون الوالي والحاكم والقاضي رجلاً فليس لأجل أنّه يريد الحطّ من كرامة المرأة والتقليل من شأوها وشأنها ، أو احتقارها ، إنّما يقوم بهذا العمل مراعاةً للظروف والنواحي الطبيعيّة في المرأة والخصائص التكوينيّة التي تقتضي مثل هذا التفاوت في موضوع الرئاسة العليا ، كما أنّ مبدأ توزيع المسؤوليات الاجتماعيّة وتقسيم الوظائف حسب الإمكانيات يقتضي من جانب آخر إيكال كلّ مسؤوليّة ووظيفة إلى من يمكنه - بحكم طبيعته - القيام بها ، وأدائها.

وحيث إنّ ( المرأة ) انسانة عاطفية أكثر من الرجل ، لذلك ، فهي قد اعفيت في - منطق الإسلام - من المسؤوليّات الشاقة والواجبات الثقيلة ، وأوكل كلّ ذلك إلى

ص: 250


1- جامع الاُصول 4 : 53 أخرجه مسلم.

( العنصر الرجاليّ ) باعتباره قادراً - بحكم خلقته وصلابة تكوينه - على القيام بالأعمال الخشنة والمهمّات الثقيلة العبء ، ولذلك أُنيطت إليه الرئاسة العليا للاُمّة والبلاد لكونها أثقل المسؤوليّات الاجتماعيّة وأشدّها وطأةً ... فيما حظر على المرأة التصدي لها ... وتحمّلها.

فكما أنّ الرجل لا يصلح للاُمور المحتاجة إلى مزيد من العاطفة كالاُمومة والتربية ، فكذلك لا تصلح المرأة للاُمور التي تحتاج إلى مزيد من الصلابة كالقيادة والزعامة.

وهذا أمر أثبتته التجارب ... فقد دلّت على عدم استعداد المرأة لخوض هذا الميدان بنفسها.

إنّ ( المرأة ) حسب نظر القرآن الكريم إنسانة ظريفةُ الإحساس ، لطيفةُ المشاعر ولذلك ، فهي تتناسب حسب حكاية القرآن عنها - مع الزينة والحليّ ، لا مع النواحي الخشنة من الحياة البشريّة ، فليس للمرأة في مقام الجدل والمناقشة منطق قويّ ، وموقف صلب ، لأنّها بحكم طبيعتها ومشاعرها العاطفيّة الطاغية ، ميّالة إلى الزينة ميالة إلى العيش فيها إذ يقول : ( أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) ( الزخرف : 18 ).

فالآية تستنكر على المشركين جعلهم البنات لله واختيارهم الذكور ..

يقول العلاّمة الطباطبائيّ في تفسير الميزان : ( قوله تعالى : ( أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) ، أي ؛ وجعلوا لله سبحانه من ينشأ في الحلية ، أي يتربى في الزينة ، وهو في المخاصمة والمحاجّة غير مبين لحجّته ، لا يقدر على تقدير دعواه.

وإنّما ذكر هذان الوصفان لأنّ المرأة بالطبع أقوى عاطفةً ، وشفقةً ، وأضعف تعقّلاً بالقياس إلى الرجل ، وهو بالعكس ، ومن أوضح مظاهر قوّة عواطفها ؛ تعلّقها الشديد بالحلية والزينة وضعفها في تقرير الحجّة المبنيّ على قوّة التعقّل ) (1).

إنّ الأدلّة الإسلاميّة ( سنّةً وسيرةً وإجماعاً ) تقتضي بأنّ المرأة لا يجوز لها أن تتصدّى

ص: 251


1- الميزان 18 : 93.

لفصل الخصومات والقضاء وهو شعبة صغيرة من شُعب الإمارة ، وما ذلك إلاّ لعدم قدرتها على الاستقامة والثَّبات أمام المؤثّرات القويّة التي تعترض القضاة غالباً ، وعجزها عن التزام جانب الحقّ بعيداً عن العاطفة ، والتأثير العاطفيّ. فعن عليّ بن أبي طالب علیه السلام عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « يا عليّ ... ليس على النساء ... ولا تولي القضاء » (1).

وقال الإمام عليّ علیه السلام في وصية لابنه الحسن علیه السلام كتبها له بحاضرين : « ولا تملكُ المرأةُ ما جاوز نفسها فإنَّ المرأة ريحانة وليست بقهرمانة » (2).

ومن المعلوم ؛ أنّ القضاء هو أحد الاُمور الخارجة عن شؤونها ... الخارجة عن حيطة قدرتها ..

وأمّا السيرة العمليّة فلم يعهد من النبيّ صلی اللّه علیه و آله طيلة حياته أن أعطى امرأة منصب القضاء ، ونصب منهنّ قاضيةً تفصل بين الخصومات (3).

رغم وجود طائفة من النساء ذوات علوم ومحاسن أخلاق.

بل لم يفعل ذلك حتّى الأمويّون والعباسيّون الذين ولُوا أمر الاُمّة الإسلاميّة أكثر من خمسمائة سنة رغم أنّهم ولّوا كثيراً من عبيدهم وغلمانهم وقلّدوهم المناصب الرفيعة (4).

وأمّا إجماع العلماء فهو أوضح من أن يخفى على أحد ، فقد أجمع علماء الإماميّة كلّهم على عدم انعقاد القضاء للمرأة وإن استكملت جميع الشرائط الاُخرى ، ووافقهم على ذلك طائفة من علماء الطوائف الإسلاميّة الاُخرى كالشافعي (5).

قال ابن قُدامة في المغني : ( إنّ المرأة ... لا تصلح للإمامة العظمى ولا لتولية البلدان ، ولهذا لم يولّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ولا أحد من خلفائه ولا من بعدهم امرأةً قضاءاً ولا ولاية

ص: 252


1- وسائل الشيعة 18 : 6 ( كتاب القضاء ).
2- نهج البلاغة : الرسائل الرقم (31).
3- تفسير الميزان 5 : 347.
4- راجع كتاب : رسالة بديعة في تفسير آية ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ) من الصفحة 70 - 76 وهي رسالة مفصّلة في حكم تصدّي المرأة للقضاء والحكومة من نظر الكتاب والسنّة.
5- راجع كتاب : رسالة بديعة في تفسير آية ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ) من الصفحة 70 - 76 وهي رسالة مفصّلة في حكم تصدّي المرأة للقضاء والحكومة من نظر الكتاب والسنّة.

بلد فيما بلغنا ، ولو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالباً ) (1).

وقال الشيخ الطوسيّ في « الخلاف » : لا يجوز أن تكون امرأة قاضيةً في شيء من الأحكام وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : يجوز أن تكون قاضيةً في كلّ ما يجوز أن تكون شاهدةً فيه ، وهو جميع الأحكام إلاّ الحدود والقصاص ، وقال ابن جرير : يجوز أن تكون قاضيةً في كلّ ما يجوز أن يكون الرجل قاضياً فيه ، لأنّها تُعدّ من أهل الاجتهاد.

ثمّ استدل على المنع بقوله : إنّ جواز ذلك يحتاج إلى دليل لأنّ القضاء حكم شرعيّ ، فمن يصلح له يحتاج إلى دليل شرعيّ وروي عن النبيّ أنّه قال : « لا يفلح قوم وليتهم امرأة » (2).

فإذا كان تولّي القضاء محظوراً على المرأة وهو ليس إلاّ شعبةً محدودةً من شعب الزعامة والولاية ، كان حظر تولّي الرئاسة العليا للبلاد والتي يأخذ الرئيس والحاكم الأعلى بموجبها بمقادير الاُمّة ؛ بطريق أولى.

وقد دلّت على حظر تولّي الولاية والحكم على المرأة أحاديث كثيرة منها :

عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنه قال : « لا يفلح قوم وليتهم امرأة » (3).

ورواه الترمذيّ بنحو آخر هو : « لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة » (4).

كما رواه ابن حزم بكيفيّة أُخرى هي : « لا يُفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة » (5).

وذكره ابن الأثير في النهاية « ما أفلح قوم قيّمهم امراة » (6).

ص: 253


1- المغني لابن قدامة 10 : 127.
2- الخلاف ( كتاب آداب القضاء ) 2 : 230 المسألة (6).
3- الخلاف ( كتاب آداب القضاء ) 2 : 230 المسألة (6).
4- أخرجه الترمذيّ كما في جامع الاُصول 4 : 49 والنسائيّ أيضاً في سُننه : 8 ( كتاب آداب القضاء ).
5- الملل والأهواء 4 : 66 ، 67 ، ورواه في كنز العمال 6 : 11 وأسنده إلى البخاريّ وابن ماجة وأحمد بن حنبل ، وفي لفظهم ( لن يُفلح ) بدل ( لا يُفلحُ ).
6- النهاية 4 : 135.

وفي المستند : « لا يصلُح قوم وليتُهُم امرأة » (1).

وعن أبي هريرة عن الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « إذا كان أُمراؤُكُم شراركُم ، وأغنياؤكم بخلاءكم ، واُموركم إلى نسائكم ، فبطن الأرض خير لكم من ظهورها » (2).

وهذا وقد جمع الإمام الباقر محمّد بن عليّ علیه السلام الحظر عن الأمرين ( القضاء والحكومة ) في حديث واحد إذ قال : « ليس على النساء أذان ولا إقامة ».

إلى أن قال : « ولا تولَّى المرأة القضاء ولا تولَّى الإمارة » (3).

إلى غيرها من الأحاديث والروايات المتضافرة مضافاً إلى السيرة العمليّة. بل وروح الشريعة الإسلاميّة المتمثّلة في الحفاظ على شرف المرأة وكرامتها ومكانتها الحقيقية الطبيعيّة ، ومضافاً إلى سعي الشريعة الإسلاميّة للحفاظ على الأخلاق الاجتماعيّة وسلامة أمر الاُمّة بإشاعة جوّ التقوى ؛ وذلك يستلزم بأن تُصان المرأة من الظهور على المسرح السياسيّ في أعلى مستوياته لما في ذلك من أخطار لا تخفى.

ولابدّ في الأخير من الإشارة إلى أمرين هامّين :

الأوّل : أنّ عدم السماح للمرأة بتولّي القضاء والولاية ليس بخساً لحقّها ، أو حطّها من كرامتها أو حرماناً لها من حقّها ، بل رفع لمسؤوليّة ثقيلة جداً عن كاهلها ، ووضعها في الموضع الصحيح لها في تركيبة الحياة الاجتماعيّة المستقيمة السويّة ، وفي الحقيقة إيكال ما هو مناسب لها إليها ، ممّا يكون متناسباً مع تركيبتها العاطفيّة الرقيقة ألا وهو تربية الأولاد وتثقيفهم ، وتعليمهم مالهم وما عليهم من الشؤون والوظائف الاجتماعيّة ، كما لها أن تقوم بما هو دون الولاية من قبيل التصدّي للتعليم والتمريض والخياطة والطبابة وما سواها من الشؤون والأعمال الاجتماعيّة.

يقول العلاّمة الطباطبائيّ في تفسير الميزان : ( وأمّا غيرها ( أي الولاية والقيادة ) من

ص: 254


1- المستند 2 ( كتاب القضاء ) : 519.
2- الترمذيّ في سننه 4 ( كتاب الفتن ) : 529 و 530.
3- الخصال2 : 373 ، البحار 103 : 254 ، الحديث 1.

الجهات كجهات التعلّم والتعليم والمكاسب والتمريض والعلاج وغيرها ممّا لا ينافي نجاح العمل فيها مداخلة العواطف فلم تمنعهنّ السنّة ، والسيرة النبويّة تُمضي كثيراً منها ، والكتاب أيضاً لا يخلو من دلالة على إجازة ذلك في حقّهنّ ، فإنّ ذلك لازم ما أُعطين من الحريّة والإرادة والعمل في كثير من شؤون الحياة ) (1).

ثمّ في الجوّ الإسلاميّ الذي يوجده الإسلام بتعاليمه ونظامه يتّخذ أعمال المسلم والمسلمة صفة العبادة الشرعيّة ويتحلّى بقداسة لا يماثلها شيء في غير المجتمع الإسلاميّ. ولذلك فإنّ ما أُعطيت المرأة من المسؤوليّة تتّخذ صفة العبادة والقداسة ، وهذا يعني أنّ الإسلام أبدل عملاً بعمل آخر مع الاحتفاظ بالقيمة الشرعيّة ... فإذا أسقط عن المرأة الجهاد مثلاً ، جعل حسن تبعّلها جهاداً كالجهاد في سوح الحرب. فلا فضل لعمل على عمل مادام الهدف واحداً هو تحقيق أمر اللّه وإرادته وإطاعته فيما أراد.

وفي هذا الصدد يقول العلاّمة الطباطبائيّ في تفسير الميزان : ( انّ الإسلام لم يهمل أمر هذه الحرمات كحرمان المرأة من فضيلة الجهاد في سبيل اللّه دون أن يكون قد تداركها ، وجبر كسرها بما يعادلها عنده بمزايا وفضائل فيها مفاخر حقيقية ، كما أنّه جعل حسن التبعّل مثلاً جهاداً للمرأة (2) وهذه الاُمور التي هي مفاخر في نظر الإسلام أوشكت أن لا يكون لها عندنا - في ظرفنا الفاسد - قدر ، لكن الظرف الإسلاميّ الذي يقوّم الاُمور بقيمها الحقيقية ، ويتنافس فيه في الفضائل الإنسانيّة المرضية عند اللّه سبحانه ، وهو يقدّرها حقّ قدرها ، يقدّر لسلوك كلّ إنسان مسلكه الذي ندبه إليه ، وللزومه الطريق الذي خطّ له ؛ من القيمة ما يتعادل فيه أنواع الخدمات الإنسانيّة ، وتتوازن أعمالها فلا فضل في الإسلام للشهادة في معركة القتال والسماحة بدماء المهج - على ما فيه من الفضل - ، على لزوم المرأة وظيفتها في الزوجيّة وكذا لا فخار لوال يدير رحى المجتمع الحيويّ ، ولا لقاض يتكئ على مسند القضاء وهما منصبان ليس للمتقلِّد

ص: 255


1- تفسير الميزان 5 : 347.
2- لاحظ نهج البلاغة : الحكم (136) قال الإمام عليّ : « وجهاد المرأة حسن التَّبعّل ».

- بهما في الدنيا - لو عمل فيما عمل ، بالحقّ وجرى فيما جرى على الحقّ - إلاّ تحمّل أثقال الولاية والقضاء ، والتعرّض لمهالك ومخاطر تهدّدهما حيناً بعد حين في حقوق من لا حامي له إلاّ ربّ العالمين ... فأيّ فخر لهؤلاء على من منعه الدين من الورود موردهما ، وخطّ له خطّاً آخر ، وأشار إليه بلزومه وسلوكه ...

وخلاصة القول : أنّه ليس من المستبعد أن يُعظِّم الإسلام اُموراً نستحقرها ، أو يُحقّر اُموراً نستعظمها ونتنافس فيها ... ) (1).

* * *

الثاني : انّنا لا ننكر وجود نساء معدودات تمتَّعن بالقدرة على الإمرة ، وتحلَّين بالمنطق القويّ ، والفكر المتفوّق ... إلاّ أنّ وجود هؤلاء النسوة المعدودات لا يدلّ على قدرة العنصر النسويّ بعمومه على الإدارة والولاية ، والتحلّي بهذه الخصيصة ... وهل يمكن خرق القاعدة العامّة لعدة موارد شاذّة ؟ ونحن نعلم أنّ المقنّين يراعون عند وضع القوانين ، الأكثريّة الساحقة ، فهي الملاك في الخطابات القانونية ... وهي الملاك أيضاً في الخطابات الشرعيّة ... لا الأقليّة النادرة ... والأفراد المعدودون.

* * *

6. العلم بالقانون اجتهاداً أو تقليداً :

لمّا كانت الحكومة الإسلاميّة هي حكومة القانون الإلهيّ على الناس لزم أن يكون الحاكم المجري له في مجالات الحكم والإدارة عالماً به ، وإلاّ عادت حكومةً استبداديّةً ينبع القانون فيها من إرادة الحاكم وهواه. وفي هذا المجال يقول الإمام الخمينيّ :

( بما أنّ الحكومة الإسلاميّة هي حكومة القانون كان لزاماً على حاكم المسلمين أن يكون عالماً بالقانون - كما ورد في الحديث - وكلّ من يشغل منصباً أو يقوم بوظيفة معينة فإنّه يجب عليه أن يعلم في حدود اختصاصه وبمقدار حاجته ). إلى أن قال : ( انّ الحاكم

ص: 256


1- تفسير الميزان 5 : 351 - 352.

ينبغي أن يتحلّى بالعلم بالقانون وعنده ملكة العدالة مع سلامة الاعتقاد وحسن الأخلاق وهذا ما يقتضيه العقل السليم ، خاصّة ونحن نعرف أنّ الحكومة الإسلاميّة تجسيد عمليّ للقانون وليست ركوب هوى فالجاهل بالقوانين لا أهليّة فيه للحكم ) (1).

ثمّ على القول بأنّ الولاية - عند عدم التمكن من الإمام المعصوم - من شؤون الفقيه العدل ، يلزم أنّ يكون الحاكم هو الفقيه ، بيد أنّه لا يلزم أن يتصدّى الفقيه بنفسه إدارة البلاد ، بل يمكن له أن يُوكل شخصاً آخر - ترتضيه الاُمّة وتختاره - ويكون عارفاً بالقانون عن طريق الاجتهاد ، وتجتمع فيه سائر الصفات والمؤهّلات.

ولأجل ذلك قلنا : اجتهاداً أو تقليداً ويدلّ على ذلك مضافاً إلى ما عرفت قول الإمام الحسين بن عليّ علیه السلام : « مجاري الاُمور والأحكام على أيدي العلماء باللّه والامناء على حلاله وحرامه » (2).

وقوله علیه السلام : « واللّه ما الإمام إلاّ القائم بالقسط ، الحاكم بالكتاب الحابس نفسه على ذات اللّه » (3).

ومن المعلوم أنّ القيام بالقسط والحكم على طبق الكتاب لا ينفكّ عن العلم بالقانون الإسلاميّ اجتهاداً ، أو تقليداً.

* * *

7. الحريّة :

يختلف نظام الرقِّ في الإسلام عمّا هو عليه في سائر الأنظمة البشريّة ، فإنّ النظم البشريّة ترى جواز استعباد الانسان واسترقاقه لأخيه الإنسان بحجّة أنّه أقلّ ثقافةً أو لأنّه يعيش في بلد متأخّر ، أو لأنّه يجري في عروقه دم وضيع ، أو لأنّه لا ينتمي إلى حزب !!

غير أنّ الإسلام الذي حرّم على الناس التفاضل بهذه الخرافات ، انقذهم من سيادة بعضهم على بعض بتلك الحجج الواهية السخيفة ، ولم يجز لأحد أن يسلب حريّة

ص: 257


1- الحكومة الإسلاميّة : 45 - 46.
2- تحف العقول : 172 ( طبعة بيروت ).
3- روضة الواعظين : 206.

غيره لتلك الحجج والمعاذير فقال القرآن الكريم : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ ) ( آل عمران : 64 ).

وقال الإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام : « بعث اللّه محمّداً صلی اللّه علیه و آله ليُخرج عبادهُ من عبادة عباده إلى عبادته ومن عهود عباده إلى عُهوده ، ومن طاعة عباده إلى طاعته ، ومن ولاية عباده إلى ولايته » (1).

وقال علیه السلام أيضاً : « ولا تكُن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حُراً » (2).

وقال الإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام : « أيّها الناسُ إنّ آدم لم يلد سيّداً ولا أمة. وإنّ الناس كلهم أحرار ولكنَّ اللّه خوّل بعضكم بعضاً » (3).

وقد وجّه الإسلام دعوته الشاملة إلى كلّ اُمم الأرض ، ودعاها إلى التحرّر من العبوديات الباطلة والانضواء تحت لواء واحد هو لواء الإسلام لله تعالى والتسليم لأوامره في جوّ من المساواة الكاملة والوحدة الشاملة يوم لم يسمع العالم عن الاُمميّة الحديثة شيئاً.

منذ ذلك اليوم دعا الإسلام إلى صيانة الحريّات الطبيعيّة المعقولة ، وحارب بشدة من يحاول إغفالها وتجاهلها.

إنّ تحرير الإنسان من وطأة استعباد الآخرين له ممّا جوز القرآن أن تراق من أجله الدماء إذ قال سبحانه : ( وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا ) ( النساء : 75 ).

ولذلك فإنّ الإسلام لا يُقرّ بالرقّيّة والاسترقاق الذي تقول به الأنظمة البشريّة ، نعم ؛ للإسلام نظام للرقّ بشكل آخر ، وهو موقف يتخذه الإسلام الحنيف كعمل اضطراري لمعالجة حالة شاذّة.

ص: 258


1- الوافي 3 ج 142 : 22.
2- نهج البلاغة : الرسائل ( الرسالة 31 ).
3- روضة الكافي : 69.

فإنّ أعداء الإسلام وأعداء الحريّة إذا هاجموا المسلمين وعرّضوا حياتهم للخطر كان جزاء المعتدين أن يُقتلوا أينما ثُقفوا ما لم تضع الحرب أوزارها (1) ، فإذا وضعت الحرب أوزارها استؤسروا ثمّ وضعوا تحت ولاية حكيمة تعلمهم ما هو جزاء المعتدين على حقوق الآخرين وحرياتهم وتعطي لهم ولأمثالهم درساً عملياً تُفهمهم أنّ الذي يريد أن يستعبد الناس فهو يستعبد جزاءً وفاقاً ، وستظل هذه الولاية ريثما ينشأ نشأةً أُخرى يفهم في ضوئها قيمة الحريّة المخوّلة إليه ، والسبيل الذي يجب أن تصرف فيه فإذا عرف ذلك ردّت إليه حريته ، ويعيش معه في راحة وأمان ... قال اللّه سبحانه : ( وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) ( النور : 33 ).

وهذه الآية تفيد ؛ أنّ تعريض العبد للحريّة والخروج من حالة الرقيّة أمر مرغوب فيه في الإسلام بشرط أن يُعلم منه الخير ، ولا يكون تحريره مضرّاً بالإسلام والمسلمين.

وبهذا تظهر العلّة في عدم سماح الإسلام للعبيد بأن يتصدّروا مسند القيادة ويسلّم إليهم المجتمع الإسلاميّ زمام إدارتهم وحكومتهم.

فإنّ الذي استُرقّ لسوء ماضيه ولإرادته العدوان على نفوس المسلمين وحرياتهم وأموالهم وأعراضهم ، لا يجوز أن يعطى إليه زمام قيادتهم إذ لا يؤمن على أموال المسلمين وحريّاتهم ونفوسهم وأعراضهم ، وهو الذي سبق له الاعتداء عليها.

وخلاصة القول : نعلم من هذا الموقف الإسلاميّ اتّجاه العبد ؛ بأنّ الإسلام إنّما سلب عنهم الصلاحيّة للقيادة لأنّهم كانوا من الذين يريدون أن يسلبوا حريّة الناس ، فلا يمكن لمن يحمل هذه النزعة الخطيرة ، ولو في أمد من الزمان - أن سيود على المسلمين ، ويُسلَّط على شؤونهم.

* * *

هذا مضافاً إلى أنّ حرمان العبد من الارتفاع إلى مستوى القيادة نوع من النكال

ص: 259


1- سيأتي مفصّل القول في هذا المجال عند البحث عن أحكام الجهاد.

والتبكيت للعبد ، ولكلّ من يريد ما أراد من العدوان والتجاوز على حرمة المسلمين وبلادهم.

ثمّ كيف يصلح العبد للولاية وهو بدوره مولّىً عليه ... فهل يجوز أن يرفع إلى مستوى قيادة الأحرار ؟

يبقى أن يعرف القارئ الكريم أنّ الإسلام كما قلنا لم يعمد الاسترقاق إلاّ للضرورة ؛ إذ لم يكن أمام الإسلام اتّجاه المعتدين بعد السيطرة عليهم إلاّ خمس خيارات :

1. أن يقتلهم جميعاً ويسفك دمائهم عن آخرهم وهي قسوة تتنافى مع روح الإسلام الرحيمة المحبّة للسلام.

2. أن يسجنهم جميعاً وذلك يكلف الدولة تكاليف باهضةً وميزانيةً ضخمةً مضافاً إلى أنّ السجن ممّا يعقّد السجين ، ويزيده اندفاعاً في الشرور والفساد.

3. أن يتركهم ليعودوا إلى بلادهم سالمين ، وهذا رجوع إلى المؤامرة والاحتشاد والعدوان مرّة اُخرى.

4. أن يتركهم ليسرحوا في بلاد الإسلام وهذا يعني تعريضهم لسفك دمائهم على أيدي المسلمين ، انتقاماً منهم.

ولمّا لم يكن اختيار شيء من هذه الطرق اختياراً عقلائيّاً ... يبقى أمام الإسلام طريق خامس وهو :

5. استرقاقهم ، بمعنى جعلهم تحت ولاية المسلمين ليراقبوا بشدة تصرفاتهم ، وليتسنّى لهم من خلال العيش في ظل الحياة الإسلاميّة أن يقفوا على تعاليم الدين وينشأوا نشأةً إسلاميّةً ويكون الإسلام بهذا قد حافظ على حياتهم ، ومنع من سفك دمهم ، لأنّ مالكهم سوف يحرص عليهم أشدّ الحرص ويحافظ على حياتهم أشد المحافظة بخلاف من لا يملكهم ، ولا يرجوا منهم نفعاً.

ص: 260

إنّ الإسلام طلب من تشريع هذا النظام منع المزيد من إراقة دماء المعتدين الغزاة بعد السيطرة عليهم ، ولأنّ توزيعهم على المسلمين وجعلهم تحت ولايتهم أقرب إلى إمكانهم من تلقّي التربية الإسلاميّة وتوفير ظروف التهذيب والتعليم الدينيّ لهم.

* * *

8. طهارة المولد

والمقصود من هذا الشرط هو أن يكون ذا ولادة طيّبة ، فلا يحق لغيره أن يتصدّى لقيادة الاُمّة الإسلاميّة أو يُرشح لها من قبل الآخرين. وللدين في هذا الشرط عدة أهداف ؛ منها أن يسدّ سبيل الزنا والبغاء بأن يعرف الزاني بأنّه سيتحمّل ضياعاً أبدياً يورثه أولاده ، وأفلاذ أكباده ، فلعلّه يرتدع عن هذه المعصية الكبيرة ، هذا مضافاً إلى أنّ الدين يستقبح الزنا ويكرهه فلو جوز ارتفاع ( نتاج ) الزنا إلى مستوى القيادة ، فلازم ذلك استهانة الاُمّة باُحدى حسنيين : إمّا بالأخلاق الإسلاميّة التي أبرزها تجنّب الزنا ، أو بطاعة الرئيس ، إذ من الواضح أنّ الرئيس الواطئ في نظر الناس لن يحظى باحترامهم ، وطاعتهم كالذي يحظى به الرئيس الشريف.

إنّ وليد الزنا تنعقد نطفته في حالة عاصفة من الشهوات الرخيصة ، فتنعكس آثارها السيّئة على نفسيّته وفقاً لسُنّة التأثير ، فيتولّد ابن الزنا بنفسيّة ميالة إلى الشهوات صارخة الأهواء ، وحالة من الانفلات الخلقي التي تنمو معه نمواً خطيراً فيصبح مُلتاث الضمير ، محجوب العقل لا يوقفه دون شهوته ضمير أو عقل أو دين.

وبعبارة اُخرى : إنّ وليد الزنا تنعقد نطفته في حال يحسّ والده أو اُمّه أو كلاهما بأنّهما ينقضان القانون ، ويكسران عهداً من عهود اللّه ، وهو احساس ينتقل عن طريق النطفة إلى الوليد طبقاً لقانون التوارث الطبيعيّ ، فيخرج الطفل المولود من الزنا حاملاً لفكرة نقض العهد واختراق القانون ... أو يكون أقرب من غيره إلى هذه الحالة على الأقلّ ... وإلى هذا أشار حديث منقول عن الإمام الحسن بن عليّ المجتبى في هذا الصدد : « إنَّ الرجل إذا أتى أهلهُ بقلب ساكن وعروق هادئة وبدن غير

ص: 261

مُضطرب استكنت تلك النطفة في الرَّحم فخرج الرَّجل يشبهُ أباه واُمَّهُ » (1).

وهذا الحديث يشير إلى أنّ صفات الوالد أو الاُم تنتقل إلى الطفل بصورة قهريّة وراثيّة إن خيراً فخير ، وإن شراً فشرّ.

فكيف لا تنعكس الحالة النفسيّة المضطربة للزاني والزانية في الطفل ولا تورث في خلقته اعوجاجاً - ولو قليلاً - يؤهّله للانحراف الأشدّ.

وكيف يمكن أعطاء زمام الحكم والقيادة وهو أعظم مقام وأخطر منصب في حياة الاُمّة الإسلاميّة بيده وهو لا يؤمن عليه من الانحراف والشذوذ.

ولهذا يقول الإمام الصادق جعفر بن محمّد علیه السلام عن ولد الزنا : « إنّه يحنّ إلى الحرام والاستخفاف بالدين وسوء المحضر » (2).

وهو أمر تثبته التحقيقات الاجتماعيّة ، والوقائع العلميّة.

فإذا كان هذا هو شأن ولد الزنا لم يصلح إذن للقيادة ولم يكن فيه خير كما قال الإمام محمّد بن عليّ الباقر علیه السلام : « لا خير في ولد الزنا ولا في بشرته ولا في شعره ولا في لحمه ، ولا في دمه ولا في شيء منه » (3).

وربمّا يحتمل في الحاكم الإسلاميّ شرائط ومؤهّلات اُخرى لم نجد لها دليلاً

ص: 262


1- بحار الأنوار 14 : 379 ( الطبعة القديمة ).
2- سفينة البحار : 560.
3- إنّ ما ذكرناه من حالة ولد الزنا إنّما هو من باب وجود الاستعداد الأكثر ، والأرضيّة المناسبة للانحراف والشذوذ وبالتالي بيان وجود المقتضي للفساد في الطفل المولود من الزنا ، ولذلك لو شبَّ وكبر كان بإمكانه كأيّ إنسان آخر مختار ، أن يحرز نفسه من آثار هذه الحالة ، ويطهّرها من الشوائب العالقة بطبيعته ، فلا يوجب ما ذكرنا فيه من الحالة الناشئة من الزنا جبراً ... وتفصيل البحث موكول إلى محلّه ، وبالتالي إنّ المتولّد من الزنا كالمتولّد من الأبوين المسلولين يكون أكثر استعداداً وقابليةً من غيره للتعرّض إلى السل ولكنّه في إمكانه أن يراجع الطبيب ويقوم بإعمال وقائيّة تمنع من نمو ذلك الاستعداد ، وتمنعه من الابتلاء بداء والديه. وبعبارة أخری: إنّ خبث الولادة بمنزلة المقتضي لانحراف الطفل أيام شبابه وكبره وليست علّة تامّة له.

فأكتفينا بما ذكرناه لك.

أمّا العقل والبلوغ ، فلم نذكرهما بصورة مستقلة لدخولهما تحت العناوين والصفات السابقة قهراً ، كما هما من الاُمور التي لا يختلف فيهما اثنان.

ثم إنّ النصوص الإسلاميّة دلّت على أنّ الحاكم الإسلاميّ يجب أنّ يكون متحلّياً بالأخلاق الإنسانيّة العالية مضافاً إلى توفّر الصفات المذكورة سابقاً فيه ، فلا يكون مثلاً حريصاً على الملك متعطشاً إلى الرئاسة ، لأنّ ذلك يدلّ في الأغلب على رغبة في الاستئثار والتسلّط الذي - يسوّغ للحاكم - بدوره - أن يفعل كلّ شيء لتثبيت سلطته وتبرير استئثاره.

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنَّا واللّه لا نولّي هذا العمل أحداً سألهُ ، أو أحداً حرص عليه » (1).

وعندما طلب عبد اللّه بن عباس من الإمام عليّ علیه السلام أن يفوّض إمارة البصرة والكوفة إلى طلحة والزبير اللذين كانا يطلبان الرئاسة والحكومة ، حتّى يحسم بذلك مادة الفساد ، فأجابه علیه السلام بقوله : « ويحك إنّ العراقين بهما الرِّجالُ والأموالُ ، ومتى تملكا رقاب النَّاس يستميلا السفينة بالطَّمع ، ويضربا الضَّعيف بالبلاء ، ويقويا على القوي بالسلطان ، ولو كنت مستعملاً أحداً - لضرّه أو نفعه - لاستعملتُ مُعاوية على الشام.

ولولا ما ظهر لي من حُرصهما على الولاية لكان لي فيهما رأي » (2).

إلى غير ذلك من الأخلاق التي تتطلّبها الولاية.

كما ينبغي أنْ يكون بعيداً في حكمه عن أساليب الطغاة والجبارين ، فلا يتخذ حاجباً مثلاً.

فعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « ما من إمام يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة

ص: 263


1- صحيح مسلم ج 5 كتاب الإمارة ، الحديث 14.
2- الإمامة والسياسة 1 : 40.

والمسكنة إلاّ أغلق اللّه أبواب السماء دونَّ خلّته ، وحاجته ومسكنته » (1).

وقال صلی اللّه علیه و آله : « من ولاّه اللّه شيئاً من اُمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلّتهم وفقرهم احتجب اللّه دون حاجته وخلّته وفقره يوم القيامة » (2).

وهناك كلام مماثل للإمام عليّ علیه السلام في عهده المعروف لمالك الأشتر إذ كتب فيه : « وأمّا بعدُ فلا يطولنَّ احتجابك عن رعيتك ، فإنّ احتجاب الولاة عن الرعيَّة شُعبة من الضيق ، وقلّة علم بالاُمور ، والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغَّر عندكم الكبير ويعظِّم الصغير ويقبّح الحسن ويحسن القبيح ويشاب الحقّ بالباطل ، وإنّما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به عن الاُمور ، وليست على الحقِّ سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب » (3).

وقال علیه السلام أيضاً : « أيّما وال احتجب عن حوائج الناس احتجب اللّه يوم القيامة عن حوائجه وإنّ أخذ هديّة كان غلولاً وإن أخذ لها رشوةً فهو مشرك » (4).

وينبغي أن يكون الحاكم الإسلاميّ أميناً على أموال الاُمّة وناصحاً لهم في حكمه.

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطاً فما فوقه كان غلولاً يأتي به يوم القيامة » (5).

وقال صلی اللّه علیه و آله : « ما من عبد يسترعيه اللّه رعيَّةً يموت يوم يموت وهو غاشّ لرعيَّته إلاّ حرّم اللّه عليه الجنَّة » (6).

وقال صلی اللّه علیه و آله : « ما من أمير يلي اُمور المسلمين ثمَّ لا يجهدُ لهم وينصحُ لهم إلاّ لم يدخله معهم الجنَّة » (7).

ص: 264


1- جامع الاُصول 4 : 52 أخرجه الترمذيّ.
2- جامع الاُصول 4 : 52 أخرجه أبو داود.
3- نهج البلاغة : قسم الرسائل ( الرقم 53 ).
4- ثواب الأعمال : 310.
5- صحيح مسلم : 55 كما في جامع الاُصول الجزء (4).
6- جامع الاُصول 4 : 53 نقلاً عن البخاريّ ومسلم.
7- جامع الاُصول 4 : 53 أخرجه مسلم.

وأنْ يكون عطوفاً مع الضعفاء والأيتام. فقد جاء إلى أمير المؤمنين علیه السلام عسل وتين من همدان وحلوان فأمر العرفاء أن يأتوا باليتامى فأمكنهم من رؤوس الأزقاق يلعقونها ، وهو يُقسّمها للناس قدحاً ، قدحاً ، فقيل له : يا أمير المؤمنين ما لهم يلعقونها ؟ فقال : « إنّ الإمام أبو اليتامى ، وإنّما لعَّقتُهم هذا برعاية الآباء » (1).

بل وتبلغ عطوفة الحاكم الإسلاميّ وتتسع وظيفته إلى درجة يجب عليه أداء دين من مات ولم يترك شيئاً ... قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أيّما مؤمن أو مسلم مات وترك ديناً لم يكن في فساد ولا إسراف فعلى الإمام أن يقضيه فإن لم يقضه فعليه إثم ذلك » (2).

وعن أمير المؤمنين في مواساة الحاكم للضعفاء : « إنّ اللّه جعلني إماماً لخلقه ففرض عليَّ التَّقدير في نفسي ومشربي وملبسي كضعفاء الناس كي يقتدي الفقيرُ بفقري ولا يطغي الغنيّ غناهُ » (3).

ولمّا لبس عاصم بن زياد العباء وترك الملاء وشكاه أخوه الربيع (4) بن زياد إلى أمير المؤمنين علیه السلام أنّه قد غمَّ أهله وأحزن ولده بذلك ، فقال أمير المؤمنين علیه السلام : « عليَّ بعاصم بن زياد » ، فجيء به فلما رآه عبس في وجهه ، فقال له : « أمّا استحييت من أهلك ؟ أما رحمت ولدك ؟ أترى اللّه أحل لك الطيبات وهو يكرهُ أخذك منها ، أنت أهون على اللّه من ذلك ، أوليس اللّه يقول : ( وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ ) ( الرحمن : 10 - 11 ) ، أو ليس اللّه يقولُ : ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ * [ إلى قوله ] يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ ) ( الرحمن : 19 - 22 ) ، فباللّه لابتذال نعم اللّه بالفعال أحبّ إليه من أبتذالها بالمقال ، وقد قال اللّه عزَّ وجلَّ : ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) ( الضحى : 11 ).

فقال عاصم : يا أمير المؤمنين فعلى مَ اقتصرت في مطعمك على الجشوبة وفي ملبسك على الخشونة ؟ فقال : « ويحك إنّ اللّه عزَّ وجلَّ فرض على أئمّة العدل أن يُقدّروا أنفسهم بضعفة النَّاس ، كيلا يتبيَّغ بالفقير فقره ».

ص: 265


1- الكافي 1 : 406 ، 407 ، 339.
2- الكافي 1 : 406 ، 407 ، 339.
3- الكافي 1 : 406 ، 407 ، 339.
4- وفي نهج البلاغة ، علاء بن زياد.

فألقى عاصم بن زياد العباء ولبس الملاء (1).

وقال الإمام الصادق علیه السلام في التعريف بالإمام : « يحقن اللّه به الدماء ، ويصلح به ذات البين ، ويلمَّ به الشَّعث ويشعب به الصَّدع ، ويكسو به العاري ويشبع به الجائع ويؤمن به الخائف » (2).

وفي العهد الذي كتبه المأمون للرضا علیه السلام : ( وأنظر الاُمّة لنفسه وأنصحهم لله في دينه وعباده من خلايقه في أرضه من عمل بطاعة اللّه وكتابه وسنَّة نبيّه علیه السلام في مدَّة أيّامه وبعدها ، وأجهد رأيه ونظره فيمن يولّيه عهده ويختاره لإمامة المسلمين ورعايتهم بعده وينصبه علماً لهم ومفزعاً في جمع ألفتهم ولم شعثهم وحقن دمائهم والأمن بإذن اللّه من فرقتهم وفساد ذات بينهم واختلافهم ، ورفع نزع الشيطان وكيده عنهم ) (3).

وإنّما استشهدنا بكلامه هذا لأنّ الظاهر أنّ هذه الكلمات كانت موضع القبول من الإمام علیه السلام وقد نقل الأربليّ كلاماً في هذا المقام فراجعه. وصايا تكشف عن مسؤوليّة الحكام :

ولتتميم الفائدة وايقاف القارئ الكريم على مزيد من الصفات التي يليق أن يتحلّى بها الحاكم الإسلاميّ نلقي نظرةً سريعةً على ما كان يوصي به الإمام عليّ علیه السلام الحكّام والولاة ، وما أتينا به هنا إنّما هو قليل من كثير ممّا هو موزع في الكتب الحديثيّة والتاريخيّة.

وعن النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « أُذكر اللّه الوالي من بعدي على اُمّتي ألاَّ يرحم على جماعة المسلمين فأجلّ كبيرهم ورحم ضعيفهم ووقَّر عالمهم ، ولم يضربهم ، فيذلَّهم ولم يفقرهم فيكفِِّّرهم ولم يغلق بابه دونهم فيأكل قويّهم ضعيفهم ولم يخبزهم في بعوثهم فيقطع نسل

ص: 266


1- الكافي 1 : 410 - 411 ، ونهج البلاغة : الخطبة (204).
2- الكافي 1 : 314.
3- كشف الغمّة 3 لعليّ بن عيسى الأربليّ : 124 ، وبحار الأنوار : 12 في العهد الرضويّ.

أُُمَّتي » (1).

وهذا الحكم وإن كان ورد في حقّ الوالي بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله لكنّه موجّه لطبيعة الوالي ، فهو يشمل جميع الولاة إلى يومنا هذا ، لأنّه من باب تعليق الحكم على الوصف لا الشخص حتّى يختصّ بجماعة دون جماعة.

وفيما كتبه الإمام عليّ علیه السلام لبعض موظّفيه : « آمره بتقوى اللّه في سرائر أمره وخفيَّات عمله حيث لا شاهد غيره ولا وكيل دونه وآمره أنّ لا يعمل بشيء من طاعة اللّه فيما ظهر فيخالف إلى غيره فيما أسرَّ ومن لم يختلف سرّه وعلانيته وفعله ومقالته فقد أدَّى الأمانة ، وأخلص العبادة وأمره أن لا يجبههم ولا يعضههم ولا يرغب عنهم تفضّلاً بالإمارة عليهم فإنَّهم الإخوان في الدِّين والأعوان على استخراج الحقوق » (2).

وكتب علیه السلام إلى أحد ولاته قائلاً : « من عبد اللّه أمير المؤمنين إلى قثم بن العبّاس سلام عليك ، أمّا بعد ، فأقم على ما في يديك قيام الحازم الصَّليب ، والنَّاصح اللَّبيب ، والتابع لسلطانه ، المطيع لإمامه ، وإيّاك وما يعتذر منه ولاتكن عند النَّعماء بطراً ولا عند البأساء فشلاً » (3).

ص: 267


1- الكافي 1 : 406.
2- نهج البلاغة : الرسائل ( الرقم 26 ).
3- نهج البلاغة : الرسائل ( الرقم 33 ).

ص: 268

الفصل الخامس: أركان الحكومة الإسلاميّة

اشارة

إنّ للحكومة الإسلاميّة - كالحكومات الحيّة العالميّة الاُخرى - أركاناً ثلاثةً هي السلطات الثلاث التي تشكّل تركيبة الدولة الإسلاميّة ويلعب كلّ ركن من هذه الأركان دوراً خاصّاً ومهمّاً في الحكومة ، ولو كانت الحكومات العالميّة تفتخر اليوم بأنّها قد توصّلت إلى اكتشاف هذه السلطات الثلاث ، فإنّ الإسلام قد سبقها إلى إقرارها منذ اللحظات الاُولى من انعقاد السياسة والحكومة الإسلاميّة ، وهذه حقيقة تؤكّدها مراجعة القرآن الكريم والأحاديث الشريفة.

وممّا لا شك فيه أنّ الحكومة الإسلاميّة لا يمكن أن تقوم ، ولا يمكن أن تؤدّي وظائفها إلاّ بواسطة أجهزة وتشكيلات وسلطات ، وتقسيم المسؤوليّات الإدارية والأعمال الحكوميّة على أفراد ودوائر ، كما كان يفعله النبيّ صلی اللّه علیه و آله طيلة حياته السياسيّة والإداريّة ولكن بصورة بسيطة ، وبأسماء وعناوين اُخرى غير الأسماء والعناوين المعروفة الآن.

والسلطات التي تعتمدها الحكومة الإسلاميّة هي عبارة عن :

1. السلطة التشريعيّة

2. السلطة التنفيذيّة

3. السلطة القضائيّة

وإليك تفصيل هذه السلطات الثلاث.

ص: 269

1

السلطة التشريعيّة

اشارة

ونقصد بهذه السلطة فريق الشورى الذين تنتخب الاُمّة أعضاءه تحت شروط ووفق مواصفات خاصّة (1) وتقع عليهم مهمة التصديق على لوائح الحكومة ومقترحات الوزراء ، بعد تبادل الرأي فيها ودراستها ، لتقديمها بعد ذلك إلى الحكومة للتنفيذ والتطبيق.

وهذه السلطة هي التي يصطلح عليها في السياسة الحديثة بالبرلمان ، والمجلس النيابي ، أو مجلس الشورى.

وبما سنذكره من مهمّة فريق الشورى هذا ، يتبيّن بطلان ما قد يتوهّمه متوهّم من أنّ السلطة التشريعيّة - التي نذكرها هنا ، ونعدّها من أركان الحكومة الإسلاميّة - هي الرائج والمتعارف في الحكومات العالميّة ، من إعداد فرد أو جماعة يقومون بسنّ التشريعات والقوانين التي تحتاج إليها البلاد ، فقد فصّلنا القول في الجزء الأوّل من كتابنا تحت عنوان : ( التوحيد في التقنين والتشريع ) وذكرنا ؛ أنّ التشريع والتقنين محض حقّ لله سبحانه فلا شارع ولا مقنّن سواه ، ولا يحقّ لأحد - كان من كان وبلغ ما بلغ من

ص: 270


1- سوف يوافيك دليل انتخابهم من جانب الاُمّة.

العلم والثقافة والمكانة الفكريّة والاجتماعيّة - أن يشرّع حكماً أو يحلّ حلالاً ، أو يحرّم حراماً ، فكل ذلك موكول إلى اللّه سبحانه ، ومن شأنه خاصّةً ، فتقتصر مهمّة السلطة التشريعيّة المتمثّلة في مجلس الشورى ( أو مجلس النواب حسب المصطلح الحديث ) في التخطيط للبلاد ، عن طريق التشاور وتبادل وجهات النظر ومدارسة المقترحات والآراء ثمّ إبلاغ ما يتم التصديق عليه من البرامج إلى الحكومة ( التي تمثل السلطة التنفيذيّة ) لغرض التنفيذ ، بشرط أنّ يكون كلّ ذلك ضمن إطار القوانين الإسلاميّة في جميع المجلات.

وبعبارة اُخرى : للحكم والقانون ثلاث مراحل :

1. مرحلة التشريع ؛ وهي لله خاصّةً بالأصالة.

2. مرحلة التشخيص ؛ وهي للفقهاء والعدول.

3. مرحلة التخطيط ؛ وهي للمجلس النيابيّ.

والأخير هو الذي يجتمع فيه جماعة من ذوي الاطلاع والاختصاص وممّن يحملون معلومات مختلفةً فيخطّطون لبرامج البلاد حسب الضوابط الإسلاميّة.

وهذا القسم يستفاد من الآيات والروايات الواردة حول الشورى ، وستوافيك عند الكلام عن خصائص الحكومة الإسلاميّة.

يقول الإمام الخمينيّ :

( الحكومة الإسلاميّة هي حكومة القانون الإلهيّ ويكمن الفرق بينها وبين الحكومات الدستوريّة منها والجمهوريّة في أنّ ممثّلي الشعب أو ممثّلي الملك هم الذين يقنّنون ويشرّعون ، في حين تنحصر سلطة التشريع باللّه عزَّ وجلّ وليس لأحد أيّاً كان أن يشرّع وليس لأحد أن يحكم بما لم ينزّل اللّه به من سلطان ، ولهذا السبب فقد استبدل الإسلام بالمجلس التشريعيّ مجلساً آخر للتخطيط يعمل على تنظيم سير الوزارات في أعمالها وفي تقديم خدماتها في جميع المجالات ) (1).

ص: 271


1- الحكومة الإسلاميّة للإمام الخمينيّ : 41 - 42.

إنّ أفضل تسمية لهذا المجلس هو ( مجلس الشورى الإسلامي ) لاستناده إلى قاعدتي : القوانين الإسلاميّة ، والشورى بين نواب الشعب ، وبهذا يكون هذا المجلس وطنيّاً حقيقيّاً لأنّه ينبثق من إرادة الشعب بصورة حقيقيّة.

وأمّا الشواهد والأدلّة التي تدلّ على ضرورة وجود مثل هذه السلطة في الحياة الإسلاميّة ، من الكتاب والحديث فهي أكثر من أن تحصى ، فإنّ الآيات القرآنيّة والأحاديث تدلّ بصراحة لا تقبل نقاشاً على أنّه يجب على الاُمّة الإسلاميّة أن تعالج مشاكلها بالمشاورة وتبادل الرأي.

وستوافيك نصوص المشاورة.

انتخاب فريق الشورى :

لمّا كانت تقع على عاتق فريق الشورى مسؤوليّة التشاور في التدابير المهمّة والخطيرة ، ورسم سياسة الدولة والمجتمع ، لذلك ؛ فإنّ أصح الطرق وأفضلها إلى إيجاد هذا الفريق هو انتخابها من جانب الاُمّة ، على أنّ عموميّة حقّ السيادة لجميع أفراد الاُمّة تقتضي أن يشترك جميع أبناء الاُمّة في مثل هذا الانتخاب ، لتكون السلطة التشريعيّة منبثقةً عن إرادة الاُمّة بصورة حقيقيّة ، وموافقةً لرضاها عامّة.

ولا شكّ أنّ الذين يتمتّعون بحقّ الانتخاب هذا لا بدّ أنّ يتّصفوا بالبلوغ في السنّ ، والرشد في الفكر ، لأنّ انتخاب الفرد الأصلح للمجلس الذي يتحمّل مسؤوليّة التصميم والقرار ، يعتمد على وعي المنتخب ورشده وهو أمر لا يتوفّر إلاّ في البالغين سنّاً وعقلاً.

وإنمّا يجب أن يكون فريق الشورى وأعضاء المجلس النيابيّ مختارين ومنتخبين من جانب الاُمّة ، لأنّ قاعدة « سلطة الناس على أموالهم وأنفسهم » تقتضي أن لا يقيم أحد أو جماعة أنفسهم نوّاباً عن الناس دون أن يكون للناس دور في انتخابهم واختيارهم ، وإن اعتادت اُمّتنا طوال القرون الأخيرة على هذا النمط من النيابة المزعومة ،

ص: 272

وهؤلاء النواب غير المختارين من جانب الاُمّة.

على أنّ الأهمّ من مسألة الانتخاب هو ملاحظة المعايير والمواصفات الإسلاميّة التي يجب توفّرها في الانتخاب والناخب ، فليس للناس في ظل النظام الإسلاميّ أن ينتخبوا نوابهم ومندوبيهم في فريق الشورى دون مراعاة هذه الشروط والمواصفات ، وانتخابهم وفق الاعتبارات التافهة كالروابط العائليّة والعشائريّة ، أو التحالفات السياسيّة أو المعايير القوميّة العنصريّة ، أو تحت تأثير المؤثرات الدعائيّة والاعلاميّة ، أو تأثير التطميع والترغيب المادي.

إنّ أهميّة فريق الشورى ( ومجلس النواب ) ومدى دوره في تعيين مصير البلاد ، والشعب يقتضي أن ينتخب الناس نوّابهم ومندوبيهم إلى هذا المجلس وفق اُسس دقيقة جداً ذكرها الدين في نصوصه ، وحتّم على الاُمّة مراعاتها وعدم التفريط بها ، وأهمها أن يكون النائب صالحاً ، منزّهاً ، طاهراً ، عارفاً بأوضاع البلاد ، ومطلعاً على حاجات الاُمّة ، غير جاهل بما يحيق باُمته من أخطار وأوضاع وغير مرجح مصلحة جماعة على اُخرى.

إنّ على الاُمّة أن تنتخب نوّابها الاُمناء الصادقين ، العارفين بالمصالح العامّة الأوفياء لها ، إذ لو لم يكن على هذا النمط لعرّضوا البلاد لأخطار السياسة الماكرة ولخانوا مصالح الاُمّة ، وكانوا سبباً لفسادها وفساد شؤونها.

فإذا كان استيجار شخص لعمل محدود بسيط يقتضي انتخاب القويّ الأمين كما يقول القرآن الكريم : ( إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ ) ( القصص : 26 ).

فمن الأولى ؛ أن يكون المنتخب لمجلس الشورى الذي يتصدّى لأعظم مسؤوليّة في البلاد قويّاً في نفسيّته ، أميناً على الأمانة المعطاة له.

ومن هنا يتحتم على النائب المنتخب المختار من جانب الاُمّة أن لا يخشى أحداً أبداً ، فلا يتلكّأ في الإدلاء برأيه بكلّ قوّة وأمانة ، كما على النائب أيضاً أن يتخذ جانب الحذر في جميع مدّة مسؤوليته النيابيّة ، حتّى لا يقع في شراك اللعب السياسيّة ، ويصير أداةً طيّعةً بأيدي الآخرين ، وعليه أن يرجح المصالح العامّة على المصلحة الشخصيّة.

ص: 273

وبهذا يكون توفرّ صفتي القوّة والأمانة سبباً لأن يجعل من النائب عنصراً فعّالاً وخدوماً لشعبه واُمّته.

وهناك - إلى جانب هذه المواصفات - اُمور ينبغي توفّرها في النائب وعضو فريق الشورى ذكرها الإمام عليّ علیه السلام في عهده التاريخيّ إلى مالك الأشتر - عندما ذكر له صفات مستشاريه - إذ قال : « ولا تدخلنَّ في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر. ولا جباناً يضعفك عن الاُمور ، ولا حريصاً يزيّن لك الشره بالجَّور » (1).

وهذا أمر ينطبق على المورد الذي نحن بصدده بطريق أولى.

وقال الإمام جعفر الصادق علیه السلام : « فلا تستشر العبد والسفلة في أمرك » (2).

وعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ما يمنع أحدكم إذا ورد عليه ما لا قبل له به أن يستشير رجلاً عاقلاً له دين وورع » (3).

وقال الإمام جعفر الصادق علیه السلام : « إنّ المشورة لا تكون إلاّ بحدودها فمن عرفها بحدودها. وإلاّ كانت مضرتها على المستشير أكثر من منفعتها ، فأوّلها أن يكون الذي يشاوره عاقلاً ، والثانية أن يكون حرّاً متديّناً ، والثالثة أن يكون صديقاً مواخياً ، والرابعة أن تطلعه على سرّك فيكون علمه به كعلمك بنفسك ثمَّ يستر ذلك ويكتمه فإنّه إذا كان عاقلاً انتفعت بمشورته وإذا كان حرّاً متديّناً جهد نفسه في النصيحة لك وإذا كان صديقاً مواخياً كتم سرَّك إذا أطلعته على سرّك فكان علمه به كعلمك ؛ تمت المشورة وكملت النصيحة » (4).

وقال علیه السلام أيضاً : « من استشار أخاه فلم يمحضه محض الرأي سلبه اللّه عزّ وجلّ رأيه » (5).

ثمّ لمّا كان يجب أنّ تنطبق مصوّبات فريق الشورى مع القوانين والمعايير

ص: 274


1- نهج البلاغة : قسم الرسائل ( الرقم 53 ).
2- راجع سفينة البحار 1 : 718 للبحّاثة القمّي رحمه اللّه .
3- راجع سفينة البحار 1 : 718 للبحّاثة القمّي رحمه اللّه .
4- راجع سفينة البحار 1 : 718 .
5- راجع سفينة البحار 1 : 718 .

الإسلاميّة ؛ لذلك يتحتّم أن يكون أعضاء هذا الفريق عارفين بالفقه الإسلاميّ معرفةً كاملةً وإذا لم يكونوا من ذوي الاختصاص والمعرفة الكاملة بالفقه الإسلاميّ ، بل اقتصرت معلوماتهم على البرامج الاقتصاديّة والشؤون السياسيّة - مثلاً - وجب حينئذ أن يكون إلى جانب مجلس الشورى هذا ، جماعة من الفقهاء ليقيّموا مصوّبات مجلس الشورى ويوازنوا بينها وبين معايير الشريعة الإسلاميّة وضوابطها ... ويجب أن يتخذ لذلك قرار خاصّ في الدستور بحيث لا تتصف مصوّبات المجلس النيابيّ بالصفة القانونيّة إلاّ بعد إمضائها من تلك الجماعة من الفقهاء. وهذه الجماعة هي التي نصطلح عليها بمجلس المحافظة على الدستور كما نصّ عليه في الدستور الأساسيّ لجمهورية إيران الإسلاميّة في الأصل الواحد والتسعين.

إنّ السلطة التشريعيّة التي تُعدّ ركناً أساسياً من أركان الحكومة الإسلاميّة إنّما هي بالمعنى الذي قد مرّ عليك ، فليست لها وظيفة سوى التخطيط ... غير أنّ الدولة الإسلاميّة حكومةً وشعباً لا تستغني عن وجود ( جهة ) تتبنّى استخراج الأحكام الشرعيّة في جميع الأجيال والقرون عن مصادرها الشرعيّة ، وهذا ما يقال له مقام الافتاء وبما أنّ لهذه الجهة والمقام دور كبير وحسّاس في الدولة الإسلاميّة ؛ نشرح لك حقيقته وما يترتّب عليه من مسؤوليّات ووظائف.

* * *

المفتي أو فريق الإفتاء :

لا ريب أنّ جميع الأحكام التي يحتاج إليها المجتمع البشريّ قد بيّنها اللّه سبحانه بواسطة الكتاب والسنّة ولذلك فإنّ وظيفة فريق الإفتاء لا تكون سنّ القوانين والتشريعات ، بل استنباط الأحكام للموضوعات المتجدّدة من المصادر الإسلاميّة المذكورة مضافاً إلى : العقل واجماع الفقهاء السابقين.

فليس لفريق الإفتاء إلاّ استخراج الأحكام لما يتجدّد ويحدث للمجتمعات الإسلاميّة من الوقائع ، وعرض ما استنبطوه في صورة القوانين الإسلاميّة الواضحة

ص: 275

المحدّدة على المجتمع الإسلاميّ ، وعلى فريق الشورى تنظيم مصوّباتهم وفق هذه الأحكام والمعايير المبيّنة المحدّدة.

وباختصار تتحدّد وظيفة فريق الإفتاء في أمرين :

أ / بيان الوظائف الفرديّة ليتسنّى لكلّ مسلم تطبيق حياته عليها سواء أكان هناك حكومة إسلاميّة قائمة ، أم لا ، وتكون هذه الوظائف غالباً في مجالات العبادة والأخلاق وقسم من نظم التعامل الفرديّ والعلاقات الخاصّة ، والأحوال الشخصيّة كالنكاح والطلاق والميراث وغيرهما.

ب / بيان الضوابط والمناهج السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة العامّة الإسلاميّة التي تكون نماذج حيّةً يخطّط ( فريق الشورى ) شؤون البلاد في السياسة والاقتصاد والاجتماع وفقها وعلى ضوئها.

وتدلّ على ضرورة وجود هذا الفريق ( أي فريق الإفتاء ) في الحياة الإسلاميّة آيات كثيرة وأحاديث متضافرة نذكر بعضها في ما يأتي :

فريق الإفتاء والنصوص :

وأمّا ما يدلّ على ذلك من القرآن الكريم فقوله تعالى : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) ( النحل : 43 ) (1).

وقوله تعالى : ( فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) ( التوبة : 122 ).

وقد جاء في تفسير هذه الآية عن الإمام جعفر الصادق علیه السلام قوله : « أمرهُم

ص: 276


1- إنّ المراد بأهل الذكر ، وإن كان علماء أهل الكتاب ( اليهود والنصارى ) كما يشهد بذلك سياق الآية وشأن نزولها ، ولكنّ المورد لا يكون مخصّصاً للحكم الكلّي أبداً كما هو واضح ، فالرجوع إلى أهل العلم وذوي الاختصاص لاكتشاف المجهولات أمر فطريّ مركوز في العقول ، ومعترف به لدى العرف. فهو قانون عامّ لا يقتصر على موضوع دون موضوع، ولا جيل دون جيل.

( اللّه ) أن ينفروا إلى رسول اللّه فيتعلّموا ثُمّ يرجعوا إلى قومهم فيُعلِّموهُم » (1).

وأمّا الأحاديث الدالة على ضرورة وجود هذا الفريق ووجوب الرجوع إليه والأخذ بآرائه ، فقد تضافرت الأحاديث عن أئمّة أهل البيت على لزوم الرجوع إلى الفقهاء في الفروع والأحكام والحوادث الواقعة ، وقد جمعها الشيخ الحرّ العامليّ في كتاب الوسائل فراجع كتاب القضاء الأبواب المختلفة منه.

* * *

نقطتان لا بدّ من ذكرهما :

إنّ طرح موضوع فريق الإفتاء يتطلب منّا توضيح نقطتين هامّتين في المقام :

النقطة الاُولى : - إنّ الإسلام لا يتلخّص في مجموعة من الأوراد والأذكار أو القوانين الجامدة البعيدة عن واقع الحياة المتطوّر ، وحاجة المجتمع المتجدّدة ، بل ينطوي الدين الإسلاميّ على برنامج كامل للحياة الإنسانيّة ، ولكلّ العصور والأمكنة ولكلّ أصناف المجتمع ومستوياته.

وهذا يستلزم أن يكون فريق الإفتاء في مواجهة دائمة مع الوقائع المستجدّة والمسائل المستحدثة ... التي تتطلّب الإجابة والحكم المناسب لها وفق الشريعة المقدّسة. ولا شكّ أنّ إعطاء هذا الجواب والحكم يتطلّب الوقوف والمعرفة بالموضوعات المستحدثة ، ولهذا يتحتم على فريق الإفتاء أن يكون على اتّصال دائم بذوي الاختصاص في المجالات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة ، للوقوف على أحدث التطوّرات في هذه الأصعدة ، إذ ربما أحتاج الفقهاء إلى من يشرح لهم حقيقة الواقعة المستجدّة ، أو يبيّن ما حدث لموضوع معيّن من التطوّرات وحصل حوله من معلومات يمكن أن يوجب تغييراً في حكمها ، ويدخله تحت عنوان يختلف عن الموضوع الأوّل في الأحكام والتبعات فلطالما شاهدنا نماذج من هذا التبدّل في الموضوع والحكم ، فربَّ موضوع كان يوضع في صنف المحرّمات ، ولكنّ مرور الزمن استوجب ظهور حقيقته ، وتبدّل عنوانه فصار من

ص: 277


1- وسائل الشيعة ج 18 كتاب القضاء : ص 10.

المباحات.

إنّ اتساع وسائل الإعلام وتطور المواصلات الذي استوجب تقارب المجتمعات البشريّة وارتباطها ، أفرزت اليوم مسائل مستجدّة ومشكلات وقضايا لا يمكن حلّها فقهيّاً إلاّ بعد الاتصال بذوي الاختصاص في العلوم الحديثة المختلفة. إذ في هذا الاتّصال ما يوضّح حقيقة هذه المستجدات وحدودها وقيودها ، وهي اُمور دخيلة في نوع الحكم المراد استنباطه لها ، وفي صحة الاستنباط.

فإذا كان الفقيه أو الفقهاء يريدون استنباط حكم شرعيّ لما حدث اليوم من مسائل التأمين على الحياة أو المال أو الضمان الاجتماعيّ وقضايا الشركات السهاميّة التي تقام في الحياة المعاصرة وتحظى بصفة قانونيّة ، ورسميّة - مثلاً - توجّب عليهم أن يعرفوا حقيقة هذه المسائل وابعادها وحدودها وتفاصيلها لكي لا تأتي استنباطاتهم الفقهيّة لها بعيدةً عن روح الشريعة الإسلاميّة ومتنافيةً مع جوهر تعاليمها السمحة الخالدة.

* * *

النقطة الثانية : - إنّ إعطاء مسؤوليّة الإفتاء لفريق ، لا يعني أنّ مقام الإفتاء يجب أن يكون حتماً من حقّ جماعة ، يجتمعون ويتدارسون فيما بينهم جوانب المسألة المستجدّة ، ويستنبطون الحكم الشرعيّ المناسب لها بحيث لا يحقّ لفرد واحد أن يتحمّل هذه المسؤوليّة بمفرده ويتصدّر مقام الإفتاء لوحده ، بل إنّ إعطاء هذا المقام لجماعة دون فرد واحد هو أفضل صيغة لهذا القسم الخطير والحسّاس في تركيبة الحكومة الإسلاميّة. وهو أمر تدل عليه آيات الشورى وأحاديثها التي مرّت عليك التفصيل. فبالمشورة وتبادل الآراء لدى استنباط الأحكام الشرعيّة الفقهيّة يمكن أن نضمن حلاًّ أفضل وأسرع للمشكلات الطارئة ، كما يمكن التخلّص من أكثر الاحتياطات المقيّدة لحريّات الناس والموجبة لعسرهم وحرجهم ، فإنّ قيمة العمل الجماعي القائم على الشورى والتشاور تختلف اختلافاً كبيراً عن العمل الفرديّ إلى درجة نجد أنّ اللجان الاستشاريّة تحتلّ - في عالمنا المعاصر - مكان المشورة الفرديّة ، وتحتلّ هيئة القضاة محلّ القاضي المنفرد

ص: 278

وبالتالي فإنّ النتيجة التي يمكن الحصول عليها من النشاط الجماعيّ تفوق ما يكون فردياً لا يشارك في صنعه الآخرون ، لما في احتكاك الآراء وتبادل الأفكار وتلاحقها واجتماعها من فوائد ، على غرار ما لاجتماع القوى الماديّة وانضمامها إلى بعض وتمركزها في نقطة واحدة من الفوائد والآثار ، ولكنّ ايكال الأمر إلى فريق - مع ذلك - مجرّد اقتراح مطروح للدرس والمناقشة ، ولذلك قلنا في عنوان هذا البحث : المفتي أو فريق الإفتاء.

نعم ، إنّ الطريق الأفضل هو تقديم الأعلم والأخذ بفتواه ، وإيكال مهمّة الإفتاء إليه ريثما يتسنّى تشكيل فريق الإفتاء.

هذا ويمكن أن يتردّد البعض اتّجاه صحّة هذه الصيغة ونعني إيكال الإفتاء إلى فريق من المفتين بدل المفتي الواحد - رغم أنّ هذا الشكل هو أفضل نمط لهذه السلطة - بحجة أنّه لم يسبق له مثيل في ما مضى من الزمن.

ونجيب بأنّ أحاديث الشورى المنقولة سابقاً وفي الفصول القادمة خير دليل على صحّة وأفضليّة هذا النمط ، مضافاً إلى أنّه نقل عن سنن أبي داود أنّه قال الراوي : قلت : يا رسول اللّه ينزل بنا أمر ، ولم ينزل فيه قرآن ، ولم تمض سنّتك ؟ فقال صلی اللّه علیه و آله : « اجمعُوا العالمين من المؤمنين فاجعلوهُ شورى ، ولا تقضوا فيه برأي أحد ( أي واحد ) » (1).

إنّ العمل الاجتهاديّ الجماعيّ أقلّ خطأً ، وأقرب إلى إصابة الواقع ، وأكثر قدرةً على تجاوز المشكلات وهو ما يسعى إلى تحقيقه مبدأ الشورى الذي ابتكره الإسلام وحضّ عليه أشدّ الحضّ ، وأكدّ عليه أشدّ التأكيد.

وهو مع ذلك مجرّد اقتراح مطروح للمناقشة ... والدرس بموضوعيّة وتجرّد لا أكثر.

ثمّ إنّه لا بدّ - في تشكيل فريق الإفتاء - من ملاحظة الظروف والجوانب السياسيّة والاجتماعيّة ، فلا بدّ من المشورة إذن في أصل : تشكيل مثل هذا الفريق ، فقد لا تقتضي بعض الظروف إيكال مهمّة الإفتاء إلى جماعة ، بل لا بدّ من وجود قائد واحد وإرجاع الأمر إليه وحده لما في إطاعته وحده من قوّة لشوكة المسلمين التي قد لا تتوفر في إرجاع

ص: 279


1- السيوطي في الدر المنثور7 : 357.

الأمر إلى جماعة ... بل ربّما يكون إيكال مقام الإفتاء إلى مفت واحد وقائد فقيه منفرد أدعى لعزّة المسلمين ، وارتفاع شأن الدين لما له من شخصيّة نافذة وقوّة ذاتيّة معروفة فيما يكون العكس في فريق الإفتاء حيث تضمحلّ فيه الشخصيّات ، ويفقد الأشخاص أهميّتهم الذاتيّة في ظلّ ذلك المجلس وهو من شأنه ضعف قدرة القيادة الإسلاميّة ، ووهن الزعامة الدينيّة.

وقد يكون من نافلة القول إذا قلنا إنّ الاشتراك في هذا الفريق يتطلّب الاتّصاف بمواصفات خاصّة تؤهّل الفرد للانخراط فيه ، فلا يدخل في هذا الفريق إلاّ المجتهدون ، الواعون المعروفون بالفهم والعلم ، والورع والشجاعة ، والإحاطة بمشكلات العصر وحاجات الاُمّة ... وغير ذلك من الصفات والأخلاق اللازمة.

ص: 280

2

السلطة التنفيذيّة

اشارة

المراد بالسلطة التنفيذيّة في مصطلح اليوم هو هيئة الوزراء ، وما يتبعها من دوائر ومديريّات منتشرة في أنحاء البلاد ، ويكون مهمّتها تنفيذ ما يقرّره مجلس الشورى من تصميمات ، وقرارات ، ومخطّطات في شتّى حقول الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة ، وبالتالي يقع على عاتقها مهمّة إدارة البلاد بصورة مباشرة ، وهذه السطة لا تتحدّد - في عصرنا - بتشكيلات محدّدة كمّاً أو كيفاً بحيث لا تتعدّاها بل تختلف من بلد إلى بلد ، ومن زمن إلى زمن ... فهي تزيد أو تنقص ، وتضاف مديريّة أو تحذف ، أو يدمج بعض في بعض تبعاً للحاجة.

وهيئة الوزراء التي تتصدّر هذه السلطة إمّا أن :

أ - ينتخبها الحاكم الأعلى المنتخب للبلاد رأساً.

ب - أو ينتخبها مجلس الشورى.

ج - أو تنتخبها الاُمّة مباشرةً ، وإن كان هذا نادراً.

وعلى أي تقدير فإنّ الذي لا بدّ منه هو أن تكون السلطة التنفيذيّة - وفي مقدمتها الوزراء موضع رضا الاُمّة ، وذلك يحصل بإحدى الطرق المذكورة ، وإن كان الدارج الآن

ص: 281

هو انتخابها عن طريق الحاكم الأعلى ، مع موافقة مجلس الشورى.

وإنّما يجب أن تكون هذه السلطة موضع رضا الاُمّة لأنّها تتسلّم زمام السلطة المباشرة على نفوس الناس وأموالهم وأرواحهم ، وهذا التسلّط والتصرّف يؤول إلى الاستبداد إذا لم يكن منوطاً برضا الناس ، وموافقتهم وإرادتهم.

وهذا هو ما أكّد عليه الدين الإسلاميّ في نظامه السياسيّ ، فقد أشار الإمام عليّ ابن أبي طالب علیه السلام إلى ذلك - في عهده المعروف للأشتر النخعيّ لمّا ولاّه على مصر حيث وصّاه بأن يتحرّى رضا الرعيّة إذ قال : « وليكن أحبّ الاُمور أليك أوسطها في الحقِّ ، وأعمَّها في العدل ، وأجمعها لرضا الرَّعيَّة ، فإنَّ سخط الخاصَّة - يُجحفُ برضا العامّة ، وإنَّ سخط الخاصَّة يُغتفرُ مع رضا العامّة » (1).

هذا والحديث عن السلطة التنفيذيّة يستدعي البحث في ثلاثة اُمور :

أوّلاً : إثبات ضرورة وجود هذه السلطة في الحياة الاجتماعيّة جنباً إلى جنب مع السلطة التشريعيّة ، والحاكم الأعلى للبلاد.

ثانياً : استعراض ما كانت عليه هذه السلطة في ( العهد النبوي ) خاصّةً وما آلت إليه فيما بعد.

ثالثاً : بيان الكيفيّة التي يجب أن تكون عليه الآن.

وإليك بيان هذه الاُمور تدريجياً.

ضرورة السلطة التنفيذيّة :

لا ريب أنّ القوانين الإسلاميّة التي شرّعها اللّه سبحانه للبشريّة وأنزلها عليهم ، وكذا ما يستنبطه الفقهاء والمجتهدون أو تقرّره السلطة التشريعيّة من برامج على ضوء التعاليم الإسلاميّة لم تكن إلاّ لإدارة المجتمع. فلم يكن تشريع كلّ تلك الشرائع ، ولا

ص: 282


1- نهج البلاغة : الرسالة (53).

وضع جميع تلك البرامج عملاً اعتباطيّاً ، بل كانت لأجل التنفيذ والتطبيق ، وتنظيم الحياة الاجتماعيّة وفقها ، فالقانون مهما كان راقياً وصالحاً ليس بكاف وحده في إصلاح المجتمع وإصلاح شؤونه ، بل لا بدّ من إجرائه ، وتنفيذه في الصعيد العمليّ.

إنّ الكتاب والسنّة زاخران بأحكام حقوقيّة ومدنيّة وجزائيّة وسياسيّة كثيرة وواسعة الأطراف والأبعاد وهي غير خافية على كلّ من له أدنى إلمام بهذين المصدرين الإسلاميّين العظيمين.

ففيهما الأمر الصريح والأكيد بقطع يد السارق : ( فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) ( المائدة : 38 ) وجلد الزاني والزانية : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ) ( النور : 2 ).

إلى غير ذلك من القوانين والحدود. ولقد حثّ الشارع الكريم على إجراء هذه الحدود وتنفيذ هذه القوانين ، والتعاليم حثّاً أكيداً لا يترك لمتعلّل عذراً فقد ورد عن الإمام عليّ علیه السلام أنّه قال : « سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : لن تقدس اُمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقَّه من القوي غير متعتع » (1).

وروى ابن أبي الحديد المعتزليّ أنَّه خرج رجل من أهل الشام في وقعة صفين فنادى بين الصفّين : يا عليّ ابرز أليّ ، فخرج إليه عليّ علیه السلام فقال : إنّ لك يا عليّ لقدماً في الإسلام والهجرة ، فهل لك في أمر أعرضه عليك يكون فيه حقن دماء المسلمين وتأخّر هذه الحروب حتّى ترى رأيك ؟ فقال علیه السلام : « وما هو ؟ » قال : ترجع إلى عراقك فنخلّي بينك وبين العراق ، ونرجع نحن إلى شامنا فتخلّي بيننا وبين الشام ؟ فقال عليّ علیه السلام : « قد عرفت ما عرضت إنّ هذه لنصيحة وشفقة ، ولقد أهمَّني هذا الأمر وأسهرني وضربت أنفه وعينه ، فلم أجد إلاَّ القتال أو الكفر بما أنزل اللّه على محمّد صلی اللّه علیه و آله .

إنّ اللّه تعالى ذكره لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون ، لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر فوجدت القتال أهون عليَّ من معالجة في الأغلال في جهنَّم » (2).

ص: 283


1- نهج البلاغة : الرسالة (53).
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 : 207 - 208.

ولمّا سرقت المرأة المخزوميّة ما سرقت - في عهد النبيّ صلی اللّه علیه و آله - وأراد اُسامة بن زيد الشفاعة في حقّها ، فكلّم النبيّ في أمرها ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أتشفع في حدّ من حدود اللّه » ؟!

ثمّ قام فخطب وقال : « أيّها الناسُ إنَّما هلك الَّذين من قبلكُم أنَّهم كانوا إذا سرق فيهم الشَّريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضَّعيف أقاموا عليه الحدَّ » (1).

وعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « ساعة إمام عادل أفضل من عبادة سبعين سنة وحدّ يقام لله في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحاً » (2).

وفي حديث مفصّل وقضية مطوّلة قال الإمام عليّ علیه السلام : « اللّهمَّ إنّك قلت لنبيّك فيما أخبرته من دينك : يا محمّد من عطَّل حدَّاً من حدودي فقد عاندني وطلب بذلك مضادَّتي » (3).

وقال الإمام أمير المؤمنين علیه السلام أيضاً : « لابدَّ للنَّاس من إمام يقوم بأمرهم وينهاهم ويقيم فيهم الحدود ويجاهد فيهم العدوَّ ، ويقسّم الغنائم ويفرض الفرائض أبواب ما فيه صلاحهم ويحذّرهم ما فيه مضارّهم ، إذا كان الأمر والنهي أحد أسباب بقاء الخلق وإلاّ سقطت الرغبة والرهبة ولم يرتدع ويفسد التدبير وكان ذلك سبباً لهلاك العباد فتمام أمر البقاء والحياة في الطَّعام والشَّراب والمساكن والنكاح من النّساء والحلال الأمر والنَّهي » (4).

وعن الإمام الباقر محمد بن عليّ علیه السلام : « إنّ اللّه تعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الاُمّةُ - إلى يوم القيامة - إلاَّ أنزله في كتابه ، وبيَّنه لرسوله. وجعل لمن تعدَّى الحدَّ حدَّاً » (5).

وعنه علیه السلام أيضاً أنّه قال : « حدّ يقام في الأرض أزكى فيها من مطر أربعين

ص: 284


1- صحيح مسلم 5 : 114.
2- وسائل الشيعة 18 : 308 ، والخراج : 164.
3- وسائل الشيعة 18 : 308.
4- رسالة المحكم والمتشابه للسيد المرتضى نقلاً عن تفسير النعمانيّ : 50.
5- وسائل الشيعة 18 : 311.

ليلة وأيّامها » (1).

وعنه علیه السلام أيضاً أنه قال : « لا تبطل حدود اللّه في خلقه ولا تبطل حقوق المسلمين بينهم » (2).

وقال الإمام الصادق جعفر بن محمّد علیه السلام : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إقامة حدّ خير من مطر أربعين صباحاً » (3).

وقال الإمام الكاظم موسى بن جعفر علیه السلام في تفسير قول اللّه عز وجل : ( يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) ( الروم : 19 ) : « ليس يحييها بالقطر ، ولكن يبعث اللّه رجالاً فيحيون العدل فتحيا الأرض لأحياء العدل ، لإقامة الحدّ فيه أنفع في الأرض من القطر أربعين صباحاً » (4).

إلى غير ذلك من الأحاديث الصريحة التي تحث على إجراء الحدود ، مضافاً إلى الآيات القرآنيّة الكريمة التي تحثّ بدورها على العمل بأحكام اللّه سبحانه ، دون فرق بين ما تعلّق منها بالفرد أو المجتمع وتندّد بالذين يعلمون الكتاب ، ويعرفون ما فيه من التعاليم والأحكام ولا يعملون بها.

بيد أنّ تنفيذ الأحكام والقوانين المتعلّقة بالمجتمع ، وإجراء الحدود لا يمكن أن يفوّض إلى عامّة الناس وسوادهم فلا يعني ذلك إلاّ شيوع الفوضى ، وضياع الحقوق ، واضطراب الحدود بين الافراط والتفريط ، ولهذا لابدّ من جهاز تنفيذيّ خاصّ يتولّى هذه المهمّة الاجتماعيّة الحساسّة ... ويقوم بهذا الدور الخطير.

ومن العجيب أنّ موضوع الهيئة التنفيذيّة رغم كونه من أبرز ما أشار إليه الإسلام بل وصرّح به في نظام الحكومة الإسلاميّة ؛ قد تعرّض لتجاهل بعض الباحثين حول الإسلام بل وإنكارهم ؛ فقد أخذ بعض المستشرقين - فيما أخذ - على الإسلام فقدانه لجهاز تنفيذيّ ونظام حكوميّ يضمن تنفيذ القوانين ، ويضفي على الإسلام طابع المنهج

ص: 285


1- وسائل الشيعة 18 : 1. 315.
2- وسائل الشيعة 18 : 1. 315.
3- نفس المصدر : 308.
4- نفس المصدر : 308.

الصالح لقيادة البشريّة حتّى في الصعيد السياسيّ فقال ما ملخّصه : « إنّ الإسلام مشتمل على قوانين وسنن رفيعة تتكفّل سعادة المجتمع فرديّاً واجتماعيّاً بيد أنّ ما جاء به الإسلام لا يتجاوز حدود التوصية الاخلاقيّة والإرشاد المعنويّ دون أن يكون لديه ما يضمن تنفيذها من سلطات وأجهزة ، فإنّنا لم نلمس في التعاليم الإسلاميّة الموجودة أي إشارة إلى هيئة تنفيذيّة تقوم بإجراء الأحكام ، وتنفيذ القوانيين ولذلك تعتبر الشريعة الإسلاميّة غير كافية من هذه الناحية ، وعاجزةً عن التطبيق ».

هذا هو خلاصة ماقاله بعض المستشرقين ، ولكن لو رجع صاحب هذه المقالة إلى الكتاب والسنّة ، ولاحظ ما طفحت به الكتب الفقهيّة الإسلاميّة من سياسات اجتماعيّة ، وحقوق مدنيّة ، وتدابير جزائيّة عهد إجراؤها إلى الحاكم الإسلامي ؛ للمس وجود الهيئة التنفيذيّة في النظام الإسلاميّ بجوهره وحقيقته وإن لم يكن بتفصيله المتعارف الآن.

فأيّ تصريح بوجود الجهاز التنفيذيّ أكثر صراحةً من إيكال قسم كبير من القضايا الاجتماعيّة ، والاُمور الجزائيّة إلى ( الحاكم الشرعي ) حيث نجد الكتب الفقهيّة زاخرةً بعبارات : عزّره الحاكم ، أدّبه الحاكم ، نفاه الحاكم ، طلّق عنه الحاكم ، حبسه الحاكم ، خيّره الحاكم (1). وما شابه من الاُمور المخوّلة إلى الحاكم الإسلاميّ ، وهو يوحي بوجود جهاز تنفيذيّ في النظام الإسلاميّ ، لأنّ أكثر تلك المهام هي من صلاحيات السلطة التنفيذيّة المتعارفة الآن.

هذا مضافاً إلى أنّ موضوع ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) الذي يؤكّد عليهما الدين الإسلاميّ أشدّ تأكيد يعتبر من أوضح الأدلّة على لزوم مثل هذا الجهاز التنفيذيّ حتّى يمكن القول - بدون مبالغة - أنّ المقصود بالقائمين بهذه الفريضة الكبرى ، والوظيفة العظمى هو ( الهيئة التنفيذيّة ).

ص: 286


1- راجع هذا الجزء : 23 - 30.

الآمرون بالمعروف هم السلطة التنفيذيّة :

إنّ النظر العميق في فريضة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) وأحكامهما ومسائلهما ، وشروطهما يقضي بأنّ الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هم ( السلطة التنفيذيّة ) التي تقع على عاتقها مهمّة إجراء الأحكام ، وتنفيذها وصيانتها في المجتمع الإسلاميّ. ولابدّ - قبل إثبات هذا الأمر - من تقديم مقدّمة حول هذه الفريضة الإسلاميّة العظمى فنقول : تعتبر وظيفة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) أصلاً مبتكراً ، وفريضةً بديعةً جاء بها الإسلام وهي ممّا لم يعهد لها نظير في الأنظمة الوضعيّة البشريّة فقد فرض الدين الإسلاميّ - بموجب هذه الفريضة - على أتباعه أن ينشروا الخير والمعروف بين الناس ، ويزجروا عن الشرّ والمنكر ، ولا يكونوا متفرّجين أو ساكتين اتّجاه ما يجري في المجتمع ويقع من إظهار المنكر أو تضييع للمعروف.

ولقد انطلق الإسلام - في إيجابه لهذه الفريضة العظيمة - من حقيقة اجتماعيّة مسلّمة وهي : أنّ أعضاء المجتمع الواحد الذين يعيشون في بيئة واحدة ، مشتركون في المصير ... فلو كان هناك خير لعمّ الجميع ولم يقتصر على فاعله ، ولو كان هناك شرّ لشمل الجميع أيضاً ولم يختصّ بمرتكبه. ومن هناك يجب أن تتحدّد تصرّفات الأفراد في هذا المجتمع ، وتتحدّد حريّاتهم بمصالح الاُمّة ، ولا تتخطّاها.

ولقد شبّه الرسول الأكرم وحدة المصير للمجتمع الواحد بأحسن تشبيه حيث مثّل أفراد المجتمع بركاب سفينة في عرض البحر ، إذا تهددها خطر تهدّد الجميع ولم يختصّ بأحد دون أحد ... ولذلك لا يجوز لأحد ركّابها أن يثقب موضع قدمه بحجّة أنّه مكان يختصّ به. ولا يرتبط بالآخرين ، لأنّ ضرر هذا العمل يعود إلى الجميع ... ولا يعود إليه خاصّةً. وهذا هو أفضل تشبيه لاشتراك المجتمع الواحد في المصير ، والمسير (1).

كما أنّه لو أصيب أحد أفراد المجتمع بالوباء لم يجز له أن يتجوّل في البلاد بحجّة

ص: 287


1- راجع روض الجنان للشيخ أبي الفتوح الرازيّ.

أنّه حرّ ؛ لأنّ ذلك يعرّض سلامة الآخرين للخطر ، فلا بدّ أن يتحدّد تجوّله ، تجنيباً للمجتمع من كوارث ذلك المرض.

إنّ هذه الأمثلة وأشباهها توضّح أهميّة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) ومكانتهما ومدى أثرهما في سلامة المجتمع واستقامته وصلاحه ، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نظارة عموميّة ، ورقابة صارمة تمنع من تفشّي المنكر وتساعد على نمو الخير ، وازدهاره. وهما إلى جانب ذلك سبب قويّ في بقاء الدين ، واستمرار الرسالة الإلهيّة.

ولقد وردت في التأكيد على هذه المهمّة الخطيرة آيات قرآنيّة كثيرة ، وأحاديث ، تأمر الجميع بالقيام بالدعوة إلى الخير ، وإنكار المنكر ، وهي معلومة وواضحة لكلّ من له أدنى إلمام بالشريعة الإسلاميّة.

نعم ، ربّما يُتوهّم من بعض الآيات خلاف ذلك ، وهي تلك الآيات التي يتمسّك بها بعض طلاب الراحة والعافية واتّباع الهوس لسدّ باب التبليغ والدعوة ، أو للتخلّص من تحمّل مشكلاتها ، وصعوبتها ، ومن تلك الآيات قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( المائدة : 105 ).

وقد رفع المفسّرون النقاب عن وجه هذه الآية وفسّرها الأمين الطبرسيّ في تفسيره مجمع البيان بقوله : « إنّ الآية لا تدل على جواز ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل توجب أنّ المطيع لربّه لا يؤخذ بذنوب العاصي » (1).

بيد أنّ لنا توضيحاً آخر لمفاد هذه الآية وهو : أنّ الآية تشير إلى سيرة عقلائيّة وقضيّة عقليّة وهي أنّ على من يريد إصلاح المجتمع أن يبدأ بنفسه ثمّ يتعرّض لإصلاح الآخرين فما لم يصلح المرء نفسه ليس له أن يؤدّب غيره ، وإلى ذلك يشير الإمام عليّ علیه السلام قائلاً : « من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأديبهُ بسيرته قبل تأديبه بلسانه ، ومعلمُ نفسه ومؤدّبها أحقّ بالإجلال من معلّم الناس

ص: 288


1- تفسير مجمع البيان 3 : 254.

ومؤدّبهم » (1).

وبالجملة أنّ الآية ناظرة إلى الاجتماعات الفاسدة الغارقة في الفساد والانحراف ... فإنّ الطريق الوحيد لإصلاحها هو الابتداء بإصلاح الذات وعدم توقّع أي إصلاح للغير قبل ذلك ؛ وأن لا يترك إصلاح نفسه بحجّة أنّ المجتمع فاسد وإليه يشير قوله سبحانه : ( لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) ويؤيد ذلك قول النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ».

فقيل : يا رسول ، من الغرباء ؟ فقال : « الَّذين يصلحون إذا أفسد الناس من سنَّتي » (2).

وهذا الحديث يرفع التوهّم حول الآية خصوصاً إذا قرئ قوله صلی اللّه علیه و آله : « يصلحون » بصيغة اللازم ، فإلى هذا المعنى تشير الآية المذكورة. وعلى أي تقدير فالآية لا ترتبط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا تمتّ بهما بصلة.

ولقد كفى في أهميّة هذه الوظيفة أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد بلغا من الأهميّة والأثر حتّى صارا أفضل من الجهاد إذ قال الإمام عليّ علیه السلام : « وما أعمال البرّ كلّها والجهاد في سبيل اللّه عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلاّ كنفثة في بحر لجّيّ » (3).

ووجه هذه الأفضليّة على الجهاد وسائر أعمال البرّ هو أنّ ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) بكلا قسميه ( الفرديّ والاجتماعيّ ) كما سيوافيك بيانهما مكافحة داخليّة ، والجهاد كفاح خارجيّ. والاُولى متقدّمة على الثانية ، فلو لم يصلح الداخل لم يصلح الخارج ، وما دام الداخل غير مستعدّ للإصلاح لا يمكن للمسلمين أن يخطوا أيّة خطوة لإصلاح الخارج.

كما ويؤكّد ضرورة إنكار المنكر وحرمة تركه قوله تعالى : ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي

ص: 289


1- نهج البلاغة : - الحكم - الرقم (73).
2- جامع الاُصول 10 : 212 ، أخرجه الترمذي.
3- نهج البلاغة : قصار الحكم الرقم (374).

الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ) ( النساء : 140 ).

فهذه الآية تدلّ على أنّ السكوت على المنكر يوجب أن يكون الساكت على الذنب كالمرتكب له ، ولأجل ذلك قال الإمام عليّ علیه السلام : « إنَّما يجمع الناسُ الرِّضى والسَّخطُ وإنَّما عقر ناقة ثمود رجُل واحد فعمَّهُم اللّه بالعذاب لمَّا عمّوهُ بالرِّضى » (1).

ثمّ إنّ الغور في هذه الوظيفة الإسلاميّة ومعرفة شروطها وفروعها وآثارها الحيويّة يستدعي إفراد رسالة مفصّلة خاصّة بذلك.

غير أنّنا نقتصر هنا على ذكر ما يرتبط ببحثنا وهو إثبات وجود ( السلطة التنفيذيّة ) في نظام الحكم الإسلاميّ فنقول : إنّ النظر في مهمّة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) يقضي بأنّ الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر يتمثّلون - في الحكومة الإسلاميّة - في ( الهيئة التنفيذيّة ) فليست هذه السلطة في حقيقة الأمر إلاّ القائمين بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على صعيدهما الاجتماعيّ العموميّ. والوقوف على هذا المطلب يحتاج إلى التنبيه على أنّ فريضة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) تنقسم إلى وظيفتين :

1. وظيفة فرديّة.

2. وظيفة اجتماعيّة عموميّة.

وهما يختلفان ماهيّةً وشروطاً حسبما نعرف ذلك من الكتاب والسنّة كما سيوافيك بيانه.

أمّا الكتاب فنجده يوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تارةً على المجتمع ، أي على كلّ فرد فرد من أعضاء الاُمّة الإسلاميّة ، وتارةً على جماعة خاصّة من المجتمع الإسلاميّ وإلى القسم الأوّل ( الفردي ) يشير قوله تعالى : ( وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ

ص: 290


1- نهج البلاغة : الخطبة (201).

أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة : 71 ).

وقوله تعالى : ( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ ) ( التوبة : 112 ).

وقوله سبحانه : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ) ( آل عمران : 110 ).

إلى غير ذلك من الآيات ، والخطابات الموجّهة إلى المجتمع بصورة عامّة.

وإلى القسم الثاني تشير الآيات التي تضع هذه الوظيفة على عاتق جماعة خاصّة وتعبّر عنها ... ب ( اُمّة ) ... وفي ذلك قوله سبحانه : ( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) ( العمران : 104 ).

ومن المعلوم أنّ الاُمّة عبارة عن جماعة خاصّة تجمعهم رابطة العقيدة ووحدة الفكر ، وهي وإن كانت تطلق أحياناً على الفرد الواحد كقوله سبحانه : ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( النحل : 120 ) لكنه إطلاق واستعمال غير شائع فلا تحمل الآية عليه. وقد فسّر الإمام الصادق جعفر بن محمّد علیه السلام هذه الآية بقوله : « وسُئل عن الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أواجب هو على الاُمّة جميعاً ؟ فقال : لا ، فقيل لهُ : ولم ؟ قال : إنَّما هُو على القوي المُطاع العالم بالمعروف من المنكر لا على الضَّعيف ... والدَّليلُ على ذلك كتاب اللّه عزَّ وجلَّ قوله : ( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ) فهذا خاص غير عام كما قال اللّه عزَّ وجلَّ : ( وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) ( الأعراف : 159 ) ولم يقل : على أُمَّة موسى ولا على كُلِّ قومه ، وهم يومئذ اُمم مختلفة والاُمّة واحد فصاعداً كما قال اللّه عزَّ وجلَّ : ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ ) » (1).

ص: 291


1- وسائل الشيعة 11 : 400.

وقوله تعالى : ( إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) ( الحج : 41 ).

فهذه الآية تشير - بوضوح - إلى أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المذكورين في الآية هو من النوع الذي يحتاج إلى المكنة والقدرة والسلطة ، فالوصف فيه وصف للمؤمنين الذين تمكّنوا من السلطة ... وبالتالي فهو وصف للجهاز الحاكم والسلطة التنفيذيّة ، ولا يمكن إرجاعه إلى عامّة المسلمين لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتوجّبين على الكافة لا يختصّ بظرف المكنة في الأرض ، ولا يتقيد بقيد السلطة ، بل تجب مراتبه قلباً ولساناً في جميع الأحوال بل يمكن أن يقال أيضاً إنّ الدعوة والتبليغ حتى باللسان على قسمين :

قسم يمكن أن يقوم به كلّ مسلم عارف بضروريات الإسلام من واجبها وحرامها.

وقسم لا يمكن أن يقوم به إلاّ فرقة من كلّ طائفة ممّن صرفوا أوقاتهم وأعمارهم في تعلّم الدين بعمقه وتفاصيله وجزئيّاته ، وإلى ذلك يشير قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) ( التوبة : 122 ).

وقد سئل الإمام الصادق علیه السلام عن قول رسول اللّه : « اختلافُ أُمّتي رحمة » فقال : « صدقوا في هذا النَّقل » فقلت : إن كان أختلافهم رحمةً فاجتماعهم عذاب قال : « ليس حيثُ تذهب وذهبوا ، إنَّما أراد قولُ اللّه تعالى : ( فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) فأمرهُم اللّه أن ينفروا إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويختلفوا إليه فيتعلّموا ثمَّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم ، إنّما أرادهم من البلدان لا اختلافهم في الدين ... إنّما الدّينُ واحد » (1).

ص: 292


1- تفسير البرهان 2 : 172 ومعاني الاخبار : 157 وعلل الشرائع 1 : 60 وقد نقلها صاحب الوسائل في 8 : 101 - 102.

وأمّا الأحاديث والأخبارُ الواردة في شأن وظيفة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر فهي أيضاً تُقسِّم هذه الفريضة إلى قسمين :

قسم لا يحتاج القيام به الى جهاز خاص وقدرة وتمكّن ، لأنّه لا يتجاوز القلب واللسان والوجه. وقسم يتوقّف القيام به على الجهاز والقوَّة والسّلطة.

وإلى القسم الأوّل يشير ما روي عن الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام إذ قال : « من ترك إنكار المنكر بقلبه ولسانه فهو ميّت بين الأحياء » (1).

وعنه علیه السلام أيضاً قال : « أمرنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرَّة » (2).

وقال علیه السلام أيضاً : « أدنى الإنكار أن تلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة » (3).

وعن الإمام الصادق جعفر بن محمّد علیه السلام إذ قال : « حسبُ المؤمن غيراً ( أي غيرة ) إذا رأى منكر أن يعلم اللّه عزَّ وجلَّ من قلبهُ إنكاره » (4).

وهذا القسم من الأحاديث الحاثَّة على الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر يشملُ كلّ فرد من أفراد المسلمين ولا يتجاوز القلب والوجه واللسان ويمكن لأيِّ فرد من الأفراد القيام به ؛ إذ لا يحتاج إلى تكلّف مؤنة ، ولا توفّر قوَّة وسلطة وهو بالتالي يعمُّ كلّ مسلم آمراً ومأموراً حاكماً ومحكوماً.

وأمّا القسم الثاني ؛ وهي الأحاديث التي تجعل الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر دعامةً لأقامة الفرائض ، وسبيلاً إلى أمن الطرق والمسالك ، وردِّ المظالم ، وردع الظَّالم ، ووسيلةً إلى عمارة الأرض والانتصاف من الأعداء وهي اُمور لا تتحقّق إلاّ بجهاز قادر متمكِّن فهي كالتالي :

قال الإمام محمّد بن علي الباقر علیه السلام : « إنَّ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض والنَّهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء بها

ص: 293


1- وسائل الشيعة 11 : 1. 413.
2- وسائل الشيعة 11 : 1. 413.
3- وسائل الشيعة 11 : 2. 409.
4- وسائل الشيعة 11 : 2. 409.

تأمن المذاهب ، وتحلّ المكاسب ، وتردّ المظالم وتعمّر الأرض ، وينتصف من الأعداء ، ويستقيم الأمر » (1).

ومن المعلوم أنّ الأمر والنّهي المؤدّيين إلى أمان الطّرق والمسالك وعمارة الأرض والانتصاف من الأعداء للمظلومين لا يتيسّر إلاّ بجهاز تنفيذيّ قويّ ، وسلطة إجرائيّة قادرة تتحمّل عبء الأمر والنّهي على المستوى العموميّ وبواسطة الأجهزة والتشكيلات ، هذا مضافاً إلى أنّ ذكر الأنبياء في الحديث لعلّه يوحي بأنّ الأمر والنهي المذكورين هنا هو ما كان مقروناً بالحاكميّة والسلطة على غرار ما كان للأنبياء علیهم السلام حيث كانوا يمارسون مهمّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - غالباً - من موقع السلطة والحاكميّة والولاية لا من موقع الفرد ومن موضع التبليغ ومجرد الوعظ والإرشاد الفرديّ.

وعن النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « لا تزال اُمّتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البرِّ فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات ، وسلّط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء » (2)(3).

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام مع ردِّ المظالم ، ومخالفة الظالم وقسمه الفيء وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقّها » (4).

ومن البين أنّ مخالفة الظالم وردعه وإيقافه عند حدّه ، وتقسيم المال بين المسلمين بصورة عادلة وأخذ الصدقات والموارد الماليّة ، الذي يعني التنظيم الاقتصاديّ على المستوى العام للمجتمع ، لا يتأتّى عن طريق الأمر والنهي الفرديين والمنحصرين في إطار الموعظة بل يحصل ويتحقّق بوجود جهاز تنفيذيّ حاكم وسلطة إجرائيّة تتولّى إدارة دفّة البلاد وفق تعاليم الإسلام ، فإنّ مثل هذا الأمر والنهي يحتاج إلى استعمال القوّة

ص: 294


1- وسائل الشيعة 11 : 1. 398.
2- وسائل الشيعة 11 : 1. 398.
3- وسائل الشيعة 11 : 403 ، وقد ورد مثلها عن الإمام الحسين بن عليّ في تحف العقول : 171 ( طبعة بيروت ).
4- وسائل الشيعة 11 : 403 ، وقد ورد مثلها عن الإمام الحسين بن عليّ في تحف العقول : 171 ( طبعة بيروت ).

لإجراء الحدود والعقوبات وتنفيذ الأحكام الجزائيّة ، وهي اُمور لا يمكن أن تتحقّق إلاّ في ظلّ سلطة وجهاز تنفيذيّ.

من هنا ؛ تكون الوظيفة العموميّة وما يترتّب عليها من الحبس والتأديب والقصاص وما شابه ؛ مقتضية لوجود سلطة تنفيذيّة يعهد إليها الأمر والنهي الاجتماعيين العموميين ، الذين فيهما صلاح عامّة الناس ، واستقامة اُمورهم عامّة ويمكن إستفادة هذا المطلب من كلام للسيدة فاطمة الزهراء علیهاالسلام إذ قالت : « والأمرُ بالمعروف مصلحة للعامَّة » (1).

إذ أي أمر بالمعروف يمكن أن يكون مصلحة للعامّة إذا لم يكن القائم به جهاز ذو قدرة وسلطان يقوم بذلك عن طريق التشكيلات والتنفيذ العام.

كما ويمكن استفادة ذلك أيضاً من كلام الإمام عليّ علیه السلام إذ قال : « ... أخذ اللّه على العُلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم وسغب مظلوم » (2).

فكيف يمكن منع الظالم من ظلمه ، ومنع المستغلّ من الاستئثار بلقمة الفقير ، إلاّ بجهاز وسلطة خاصّة ، فليس العلماء المذكورون في هذا الحديث إلاّ ذلك الجهاز التنفيذيّ القادر على الإجراء.

وكذا يستفاد هذا الأمر من كلام آخر للإمام علیه السلام وهو يتحدّث عن الوالي وماله وما عليه : « اللّهمَّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الّذي كان منّا منافسةً في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنردَّ المعالم من دينك ، ونظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطَّلة من حدودك » (3).

ص: 295


1- بلاغات النساء لابن طيفور - المتوفّى عام ( 380 ه ) - ص 12 ، ومعاني الأخبار : 336.
2- نهج البلاغة : الخطبة (3).
3- نهج البلاغة : الخطبة (127) شرح عبده ، وقد ورد نظيره عن الإمام الحسين بن عليّ إذ قال : « اللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان ، ولا التماساً من فضول الحطام ولكن لنرى المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك ، ويأمن المظلومون من عبادك ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك » راجع تحف العقول : 172 ( طبعة بيروت ).

فكيف يمكن أمان المظلومين ، وإقامة الحدود المعطّلة وإظهار الإصلاح العام في البلاد وتطبيق سنن اللّه وأحكامه بلا استثناء إلاّ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المعتمدين على السلطة والناشئين عن جهاز تنفيذيّ ؟

إذ كيف يمكن قيام الفرد أو الأفراد بكلّ ذلك وهو بحاجة إلى قدرة وتمكّن ونفوذ أمر وسلطان ؟

ويمكن تأييد ضرورة وجود هذه السلطة واختصاص هذا النوع من ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) الذي يتجاوز القلب والوجه واللسان ويتعدّاه إلى ( اليد ) وإستعمال القوة والسلطة ؛ بتنديد اللّه بالربانيّين والأحبار الذين تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهم المسؤولون عن ذلك لأنّهم كانوا في مقام الإمرة وفي موقع السلطة فقال اللّه تعالى : ( وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) ( المائدة : 62 - 63 ).

وقد أشار الإمام عليّ علیه السلام إلى تفسير هذه بقوله : « أمّا بعد فإنّه إنّما هلك من كان قبلكم حينما عملوا من المعاصي ولم ينههم الرَّبانيون والأحبار عن ذلك وأنَّهم لمَّا تمادوا في المعاصي ولم ينههم الرَّبانيون والأحبار عن ذلك نزلت بهم العقوبات » (1).

وهكذا تفيد نصوص الكتاب والسنّة وجود نوعين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ أحدهما وظيفة جميع الأفراد والآخر وظيفة سلطة قادرة ..

وبذلك يجمع بين الطائفتين من الآيات والروايات اللتين يضع قسم منها هذه الوظيفة على عاتق الجميع ، وقسم منها على عاتق جماعة خاصّة ؛ فالأوّل راجع إلى الوظيفة الفرديّة منهما ، فهو الذي يجب على الجميع ، والثاني راجع إلى الوظيفة الاجتماعيّة التي تختصّ باُمّة متمكّنة من السلطة.

وممّا يدلّ على هذا إلى جانب تلك النصوص فتاوى الفقهاء - في باب الحدود -

ص: 296


1- وسائل الشيعة 11 : 395.

والتي تضافرت على أنّه لو وجب قتل مسلم قصاصاً لم يجز لأحد أن يقتص منه غير ولي الدم بإذن الحاكم أو الحاكم نفسه ، فلو قتله غيره كان عليه القود ، ولا يتوهّم أنّ من وجب عليه إجراء الحدّ ، يكون مهدور الدم بالنسبة إلى كلّ واحد فإنّه توهّم باطل ... فإنّ من وجب عليه الحد والقصاص على أقسام :

1. إمّا أن يكون مهدور الدم لكلّ أحد كساب النبيّ صلی اللّه علیه و آله أو الكافر الحربيّ ، فإنّه إذا قتله المسلم أو الذمي لا قود عليهما. ولكنّهما يعزّران لتدخلهما في أمر الحاكم.

2. أن يكون مهدور الدم بالنسبة إلى المسلمين كالمرتد الفطريّ ، فإذا قتله المسلم لا قود عليه ، ولو قتله الذميّ فعليه قود ، ومع ذلك فيعزّر المسلم لو قتله للتدخّل المذكور.

3. أن يكون مهدور الدم بالنسبة إلى من له القصاص ( أي وليّ الدم ) ومن إليه القصاص ( أي الحاكم ) كالقاتل المسلم ظلماً فلا يجوز لغير ولي الدم أو الحاكم قتله (1).

4. أن يكون مهدور الدم بالنسبة إلى من إليه الحكم ، كاللائط والزاني المحصن.

كما أنّ ممّا يدلّ على وجود نوعين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أنّ الفقهاء ذكروا للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر شروطاً أربعة هي :

1. أن يكون عارفاً بالمعروف من المنكر.

2. أن يحتمل تأثير إنكاره فلو غلب على ظنّه أو علم أنّه لا يؤثّر لم يجب عليه شيء.

3. أن يكون الفاعل للمنكر مصرّاً على الاستمرار فلو لاحت منه إمارة الامتناع أو قلع عنه ، سقط الإنكار.

4. أن لا يكون في الإنكار مفسدة ، فلو ظنّ توجّه الضرر إليه ، أو إلى ماله أو إلى أحد من المسلمين سقط (2).

ص: 297


1- راجع جواهر الكلام ونظائر هذه المسألة من ص 159 - 198 الجزء 41.
2- شرائع الإسلام : كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومن المعلوم ؛ أنّ الشرط الثاني ( احتمال التأثير ) والثالث ( الإصرار على المنكر ) من شروط القسم الفرديّ من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا الاجتماعيّ منهما إذ لا يعتبر في الاجتماعيّ من هذه الفريضة احتمال التأثير ، بل للحاكم أن يجري الحدود والعقوبات المقرّرة فيقتصّ من القاتل أو الجارح ، ويقطع يد السارق سواء أكان هناك تأثير أم لا.

كما أنّ للحاكم أن يجري الحدود والعقوبات المقرّرة سواء كرّر المجرم أم لم يكرّر جريمته ومعصيته ، ولأجل هذا يجب التمييز والفصل بين الأمر والنهي الفردي ، والأمر والنهي الاجتماعيّ العموميّ لاختلافهما في الشروط والغايات. ولا شكّ أنّ هذه المغايرة والتمايز يكشف - وبمعونة ما سبق وما يأتي من الأدّلة - عن أنّ القسم الثاني من هذه الفريضة هو من شأن سلطة تنفيذيّة وجهاز حكم وليس من شأن الأفراد.

دفع إشكال حول الأمر والنهي :

ربما يتوهّم أحد أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينطويان على مجرّد طلب فعل المعروف وطلب ترك المنكر وهذا ممّا لا يتحقّق في إجراء حدّ القتل أو الرجم على المحكوم بهما ، فكيف يمكن أن نعتبرهما من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟

ولكن هذا الإشكال مدفوع بأنّ الطلب الإنشائي الذي هو من قبيل المفهوم ، وإن لم يكن موجوداً في إجراء حدّ القتل والرجم لكنّه فيه واقعيّة الطلب وحقيقته وأثره ، إذ باجراء هذين الحدّين تنعدم المنكرات واقعاً ، ولو بالنسبة للآخرين ، وهذا نظير قوله سبحانه : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة : 179 ) فإن قتل القاتل وإن كان سلباً لحياته لكنّه إحياء للنفوس الاُخرى. وهو هدف القصاص ، ولأجل ذلك كانت العرب تقول في مورد القصاص « القتل أنفى للقتل ».

وخلاصة القول أنّ الأثر المطلوب من إجراء الحدود وإن كان منفيّاً بالنسبة إلى الجاني نفسه ولكنّه موجود بالنسبة إلى المجتمع.

ص: 298

هذا وممّا يؤكد وجود نوعين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنّ علماء الإسلام ذكروا للمحتسب وهو من يقوم بالأمر والنهي الاجتماعيّين شروطاً لا تعتبر في القسم الفرديّ من هذه الفريضة.

فقد قال ابن الاخوة القرشيّ في كتابه معالم القربة في أحكام الحسبة :

الحسبة من قواعد الاُمور الدينيّة ، وقد كان أئمّة الصدر الأوّل يباشرونها بأنفسهم لعموم صلاحها وجزيل ثوابها وهي : أمر بالمعروف إذا ظهر تركه ، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله وإصلاح بين الناس ، قال اللّه تعالى : ( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) ( النساء : 114 ).

والمحتسب من نصبه الإمام أو نائبه للنظر في أحوال الرعيّة والكشف عن اُمورهم ومصالحهم ( وفي نسخة اُخرى : وبياعاتهم ومأكولهم ومشروبهم ومساكنهم وطرقاتهم ) وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.

ومن شروط المحتسب أن يكون : ( مسلماً ) ( حرّاً ) ( بالغاً ) ( عاقلاً ) ( عدلاً ) ( قادراً ) (1).

ومن المعلوم أنّ ( الحريّة ) و ( البلوغ ) و ( العدالة ) ليست شروطاً في القسم الفرديّ من وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فهذا التباين في الشرائط والصلاحيّات يكشف - بوضوح - عن تنوّع وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى نوعين مختلفين : فرديّ ، وعموميّ ، والأوّل هو وظيفة كلّ فرد من أفراد المسلمين ، بينما يختصّ الثاني بجهاز وسلطة ويتطلّب وجودها في الحياة الإسلاميّة.

وظيفة المحتسب والسلطة التنفيذيّة :

وممّا يدلّ على اختصاص القسم الاجتماعيّ من وظيفة ( الأمر بالمعروف والنهي

ص: 299


1- معالم القربة في أحكام الحسبة لابن الاخوة : 7.

عن المنكر ) والمسمّى بالحسبة ، بالسلطة التنفيذيّة ؛ مطالبة الإمام عليّ علیه السلام أحد ولاته على بعض الأمصار بأن يقوم بها - وهو في موقع الحكم - باعتبار أنّ ذلك أحد مسؤوليّاته ووظائفه وهو يتولّى اُمور المسلمين إذ قال : « من الحقّ عليك حفظُ نفسك والاحتسابُ على الرَّعيّة بجهدك فإنّ الّذي يصلُ إليك من ذلك ( أي من جانب اللّه ) أفضلُ من الّذي يصلُ بك ( أي من جانب الناس ) ».

وقد أشار صاحب كتاب معالم القربة في أحكام الحسبة فروقاً بين المحتسب والمتطوّع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ قال : ( وأمّا ما بين المحتسب المتولّي من السلطان وبين المنكر المتطوّع من عدّة أوجه :

أحدها : أنّ فرضه متعيّن على المحتسب - بحكم الولاية - وفرضه على غيره داخل تحت فرض الكفاية.

الثاني : أنّ قيام المحتسب به من حقوق تصرّفه الذي لا يجوز أن يتشاغل عنه بغيره ، وقيام المتطوّع به من نوافل عمله الذي يجوز أن يتشاغل عنه بغيره.

الثالث : أنّه منصوب للاستعداء إليه في ما يجب إنكاره ، وليس المتطوّع منصوباً للاستعداء.

الرابع : على المحتسب إجابة من استعداه وليس على المتطوّع إجابته.

الخامس : أنّ له أن يتّخذ على الإنكار أعواناً لأنّه عمل هو له منصوب ، وإليه مندوب وليكون له أقهر ، وعليه أقدر ، وليس للمتطوّع أن يتّخذ لذلك أعواناً.

السادس : أنّ له أن يعزّر في المنكرات الظاهرة ولا يتجاوز بها الحدود ، وليس للمتطوّع أن يعزّر.

السابع : أن يرتزق على حسبته من بيت المال وليس للمتطوّع أن يرتزق على إنكار منكر ... إلى غير ذلك.

فهذه وجوه الفرق بين من يحتسب بولاية السلطان ( أي يقوم بالقسم الاجتماعيّ

ص: 300

من وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) وبين من يحتسب تطوّعاً ( أي يقوم بالقسم الفرديّ من تلك الوظيفة » (1).

وقد أشار ابن الاخوة في مقدّمة كتابه إلى أنّ الحسبة منصب سياسيّ حكوميّ ، فالمحتسب يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من موقع الحكم فقال : « لقد رأيت أن أجمع - في هذا الكتاب - أقاويل العلماء مستنداً به إلى الأحاديث النبويّة ما ينتفع به من استند لمنصب الحسبة وقلّد النظر في مصالح الرّعية وكشف أحوال السوقة ، واُمور المتعيّشين على الوجه المشروع ليكون ذلك عماداً لسياسته وقواماً لرئاسته » (2).

وممّا يدلّ على أنّ القسم الاجتماعيّ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ المصطلح عليه في لسان الفقهاء بالحسبة لا يختصّ بمجرّد بيان المحرّمات والواجبات بل يقع على عاتق المحتسبين ما يتعدّى الوعظ والإرشاد إلى إستعمال القوّة والسلطة ، ما ذكره الفقهاء للمحتسبين من وظائف كثيرة تشمل كافّة مناحي الحياة الاجتماعيّة وتقترن - في الأغلب - باستخدام الردع العمليّ والإشراف القاطع والمؤاخذة والعقاب. وإليك نماذج من وظائف المحتسب (3) التي توزّعت اليوم في وزارات ومديريّات مختلفة :

1. الحسبة على الآلات المحرّمة والخمر ، فإذا جاهر رجل بإظهار الخمر أراقه المحتسب ، وأدّبه إن كان ذلك الرجل مسلماً ، أو أدّبه على إظهاره إن كان ذميّاً ... وهكذا بالنسبة إلى الالات المحرّمة ، فإنّ المحتسب يفصلها حتى تعود خشباً ، ويؤدّب صاحبها.

ويمكن أن يدخل هذا في شؤون وزارة الداخليّة.

2. الحسبة على أهل الذمة ومراقبة أحوالهم وتصرّفاتهم ، ومدى التزامهم بعهودهم ، ومراعاتهم لشروطها ، ويدخل هذا في شؤون وصلاحيّات وزارة الداخليّة.

ص: 301


1- معالم القربة في أحكام الحسبة : 11.
2- معالم القربة : 3.
3- لقد وردت كلمة الحسبة في مجمع البحرين هكذا : الحسبة : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واختلف في وجوبها عيناً أو كفاية. راجع باب حسب ص 106.

3. الحسبة على أهل الجنائز ، ومراقبة شؤونها من جهة الاُمور الصحيّة والحقوقيّة ويدخل في شؤون وزارة الداخليّة ، ووزارة الصحّة.

4. الإشراف على المعاملات التجاريّة لمنع المعاملات الفاسدة كالبيوع الفاسدة وتعاطي الربا ، والمسلم الفاسد ، والإجارة الفاسدة وهي تدخل في شؤون وزارة العدل.

5. الإشراف على العلاقات الاجتماعيّة والأخلاقيّة ومنع الناس من مواقف الريب ومظانّ التهم ممّا يدخل في شؤون وزارة الداخليّة.

6. مراقبة شؤون النقد ومنع التعامل بالنقود الزائفة ، بعد تحديدها وتعيينها وهو يدخل في شؤون وزارة المال والدوائر التابعة لها.

7. الحسبة على منكرات الأسواق كمنع بعض السوقة من سدّ طرقات المارّة بمتاعهم وما شابه مما يدخل في صلاحيات الدوائر التابعة للاُمور البلديّة. وكمنع الحمّالين من أشياء بنحو يلحق الضرر بالمارّة ، إمّا بتمزيق ثيابهم أو تلويثها.

8. ضبط المكاييل والمقاييس والأوزان المستعملة في الأسواق ، وتعيينها والمنع من التلاعب فيها ممّا يدخل في شؤون البلديّة.

9. مراقبة تجّار الغلاّت للحيلولة دون احتكارها ، أو التلاعب فيها وتعيين أسعارها عند الضرورة ممّا يدخل في صلاحيّات وزارة التجارة والاقتصاد.

10. مراقبة الخبّازين وأصحاب الأفران من الناحية الصحيّة منعاً من إصابة الناس بالأمراض والأوبئة ، وهو يدخل في شؤون وزارة الصحة وكذا مراقبة كلّ باعة الأغذية ، والحلويّات والشرابت لنفس الغرض ... وأيضاً من ناحية الأسعار.

11. ملاحظة القصّابين واللحّامين لمنعهم من فعل ما يوجب التلوث كذبح الحيوانات في الأسواق أو بيع اللحوم الفاسدة ، وتحديد أسعارها وإعطائهم التعليمات الصحيّة وهو يدخل في صلاحيّات وزارتي الصحة والتجارة. والدوائر التابعة لها.

12. مراقبة البزّازين وبيّاع الألبسة وما يتعلّق بهذه المهن من شؤون لمنع أي تلاعب

ص: 302

في هذا المجال ، أو تلاعب في الأسعار والقيم ، وكذا مراقبة الخيّاطين وصنّاع الثياب.

13. مراقبة كلّ المشاغل والمهن وأصحاب الحرف كالصاغة والحدّادين ، والنحاسين ، والصبّاغين ، والبياطرة ، والحمّامات وأصحابها والفصّادين والحجّامين والأطبّاء والمجبّرين والجرّاحين مراقبة شاملة من ناحية الأسعار والمبالغ التي يتقاضونها ، أو شروط العمل ، أو مواصفاته الصحيّة ممّا يدخل بعضها في شؤون وزارة التجارة والاقتصاد ، وبعضها الآخر في شؤون وزارتي الصحّة والداخليّة.

14. مراقبة المساجد والمؤذنيين والوعّاظ والقرّاء ، وعدم السماح لتصدّي هذه المشاغل إلاّ لمن اشتهر بين الناس بالدين والخير والفضيلة ويكون عالماً بالاُمور والعلوم الشرعيّة ممّا يدخل الآن في نطاق صلاحيّات وزارة الأوقاف.

15. الحسبة على مؤدّبي الصبيان ومعلّمي الأولاد ، ومراقبة شروط الدراسة ومكانها وكيفيتها وما يرتبط بذلك ممّا يدخل في مسؤوليّات وزارة التربية والتعليم.

16. الحسبة على كتّاب الرسائل لمنع تصدّي من لا أهليّة له لذلك لما في هذا الأمر من خطر على أسرار الناس وأعراضهم.

17. القيام ببعض التعزيرات والتأديبات لمن يتخلّف عن القوانين الإسلاميّة المقرّرة.

18. الحسبة على أصحاب السفن والمراكب ومراقبة الطرق ووسائط النقل ممّا يكون من شؤون وزارة الطرق والمواصلات.

19. الحسبة على شؤون العمل والعمّال ومراقبة شؤونهم وحقوقهم وظروف عملهم ممّا يدخل في شؤون ومسؤوليّات وزارة العمل ، والشؤون الاجتماعيّة و ( الضمان الاجتماعي ).

وغير ذلك (1).

ص: 303


1- راجع هذه التفاصيل في كتاب معالم القربة تصفّح كلّ الأبواب.

وللوقوف على وظائف المحتسب باختصار ؛ نذكر لك ما كتبه ابن خلدون في مقدمته : « أمّا الحسبة فهي وظيفة دينيّة من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو فرض على القائم باُمور المسلمين يعيّن لذلك من يراه أهلاً له فيتعيّن فرضه عليه ويتّخذ الأعوان على ذلك ويبحث عن المنكرات ويعزّر ويؤدّب على قدرها ، ويحمل الناس على المصالح العامّة في المدينة ، مثل المنع من المضايقة في الطرقات ومنع الحمّالين وأهل السفن من الإكثار في الحمل والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها وإزالة ما يتوقّع من ضررها على السابلة والضرب على أيدي المعلّمين في المكاتب وغيرها في الإبلاغ في ضربهم للصبيان المتعلّمين ، ولا يتوقّف حكمه على تنازع واستعداء بل له النظر فيما يصل إلى علمه من ذلك ... بل فيما يتعلّق بالغش والتدليس في المعايش وغيرها في المكاييل والموازين ، وله أيضاً حمل المماطلين على الإنصاف وأمثال ذلك ... » (1).

إنّ من يلاحظ هذه المهام الموكلة إلى المحتسب والمحتسبين يرى أنّها نفس الصلاحيّات والمهام التي تقوم بها أجهزة السلطة التنفيذيّة المتمثّلة في الوزارات وما يتبعها من دوائر ومديريّات بتنظيم دقيق وعلى نطاق أوسع ، غاية ما هنالك أنّ الحياة الإسلاميّة في العصور الغابرة والعهود الإسلاميّة الاُولى لم تستلزم التوسّع في الأجهزة والتشكيلات على غرار ما نلاحظ اليوم ، بل اكتفي بالمحتسب أو المحتسبين ولكن التطوّر الحضاريّ ، واتّساع البلاد ، وتزايد الحاجات تطلّبت إحالة تلك المهام والمسؤوليّات والصلاحيّات إلى وزارات وأجهزة ومديريات هذا مضافاً إلى أنّ الإسلام اهتمّ ببيان الخطوط العريضة للحكم والولاية ، واعتنى ببيان جوهر الوظائف ، تاركاً اختيار الظواهر والشكليّات للزمن والحاجة ، ما دامت تتّفق مع ما رسمه من خطوط ووظائف وغايات.

إنّ الإسلام وإن أوكل الكثير من القضايا الاجتماعيّة إلى الحاكم كما مرّ عليك باختصار ؛ ولكن هل يمكن للحاكم ، وهو يواجه كلّ يوم آلاف المشاكل والقضايا أن

ص: 304


1- مقدمة ابن خلدون المتوفّي ( 808 ه ) : 225 - 226.

يقوم بكلّ أعباء الولاية والحكومة لوحده دون معاونين ووزراء ، ودون أجهزة وتشكيلات ... ؟ الجواب لا قطعاً.

هذا ولقد ورد ذكر الوزير والوزراء في عهد الإمام عليّ علیه السلام لمالك الأشتر النخعيّ لمّا ولاّه على مصر حيث قال : « إنّ شرَّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً ومن شركهم في الآثام فلا يكونّن لك بطانة فإنّهم أعوان الأثمة وإخوان الظلمة »(1).

وهذا يعني أنّ على الحاكم الإسلاميّ الأعلى للبلاد أن يتّخذ لنفسه ( وزراء ) يعينونه على إدارة البلاد ، وتنفيذ القوانيين ، وأنّ عليه - وراء ذلك - أن يختار بدقّة وعناية اُولئك الوزراء وأفراد السلطة التنفيذيّة ؛ لما لهم من أثر حسّاس في الأحوال الاجتماعيّة والسياسيّة.

وربمّا عبّر في الإسلام عن الوزير بالكاتب كما جاء في عهد الإمام عليّ علیه السلام لمالك الأشتر ، قال الاُستاذ توفيق الفكيكي في كتابه « الراعي والرعية » : « قال الإمام عليّ : « ثمَّ انظر في حال كتّابك » ، ولم يقل ( كاتبك ) علمنا أنّ معنى الكاتب يراد به الوزير في عرف اليوم فقد جوّز علیه السلام تعدّد الوزراء على قدر الحاجة التي تدعو إليها المصلحة العامّة ويؤكّد هذا ما جاء في آخر كلامه المتقدّم : ( و اجعل لرأس كلّ أمر من أُمورك رأساً منهم لا يقهره كبيره ولا يتشتَّت عليه كثيرها ) » (2).

ثمّ إن السلطة التنفيذيّة اجتمعت في القرآن تحت كلمة ( اُولي الأمر ) وقد وردت هذه الكلمة في القرآن في عدّة مواضع : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) ( النساء : 59 ).

( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) ( النساء : 83 ).

ص: 305


1- نهج البلاغة : الرسالة 53.
2- الراعي والرعيّة : 162 - 163 وهو شرح وتحليل سياسيّ لعهد الإمام عليّ علیه السلام للأشتر النخعيّ.

وغير خفيّ على المتتبّع في الآثار النبويّة أنّ المراد من اُولي الأمر حين نزول الآية هو الذي نصّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله على أسمائهم من أوّلهم إلى آخرهم ، بيد أنّهم كانوا مصاديق كاملة لهذا العنوان وكان الإشارة إليهم من باب أظهر المصاديق فعندما لا تتمكّن الاُمّة الإسلاميّة من هؤلاء المنصوص عليهم تتمثّل هذه القضية الكليّة في ( العدول ) من أئمّة المسلمين الذين يديرون دفّة البلاد.

ثمّ قد سبق القرآن الكريم إلى هذا بصورة ضمنيّة عند حكايته لقول موسى علیه السلام وطلبه من اللّه تعالى إذ قال : ( وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ) ( طه : 29 - 31 ).

وهو يكشف عن وجود الوزراء للحاكم الأعلى في النظام السياسيّ الإسلاميّ ليشدّوا أزره ، ويعينوه على الإدارة والولاية.

ولقد أقرّ الإسلام وجود السلطة التنفيذيّة وأخذ بها عمليّاً حيث كان النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله يقسّم المسؤوليّات الإداريّة والسياسيّة على الأفراد ، وإن لم يكن هذا التقسيم تحت عنوان إلاستيزار ، واتّخاذ الوزراء ، كما ستعرف.

وخلاصة القول ؛ أنّ القارئ الكريم إذا لاحظ برامج الحكومة الإسلاميّة التي يجب أن يقوم بها النظام الإسلاميّ ، يقف على أنّها لا يمكن تطبيقها بدون أجهزة كاملة ، وسلطة تنفيذيّة في مجالات الاقتصاد والزراعة والماليّة والدفاع والمواصلات وغير ذلك من البرامج وستقف عليها بإذن اللّه سبحانه في فصلها الخاصّ ، وكلّ من يقوم على هذه البرامج يعدّ جزء من السلطة التنفيذيّة.

السلطة التنفيذيّة على عهد النبيّ صلی اللّه علیه و آله

لا شكّ أنّ الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله كان إلى جانب مهامه الرساليّة ، يتولّى القسم الأكبر من إدارة شؤون المسلمين السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة ولا شكّ أنّ رقعة البلاد الإسلاميّة - آنذاك - لم تبلغ من السعة والانتشار بحيث تتطلّب إنشاء تشكيلات

ص: 306

تنفيذيّة واسعة الأطراف والأبعاد ، ولذلك لم يكن في ( العهد النبوي ) سلطة باسم السلطة التنفيذيّة ، ولا وزارة ولا وزارات (1) ولا مديريّات مركزيّة ومحليّة على غرار ما يوجد الآن ، بل كان هناك فيما وقفنا عليه من خلال مطالعة ذلك العهد - تقسيم بعض المسؤوليّات الإداريّة والمهامّ السياسيّة على الأفراد القادرين على تحمّلها ، والصالحين للقيام بها ، وهذا هو المهمّ معرفته في هذا المقام ، فإنّ المهمّ هو معرفة كيفيّة إدارة المجتمع على عهد النبيّ صلی اللّه علیه و آله والاطّلاع على ما إذا اتّخذ النبيّ الأكرم وهو أوّل حاكم إسلاميّ أعلى للاُمّة الإسلاميّة من وازروه وعاونوه في مسألة الإدارة ، وتدبير شؤون الاُمّة في مجالات السياسة والعسكريّة والقضاء وما شابه أم لا ، لنرى ما إذا كان يتعيّن على الدولة الإسلاميّة أن تتّخذ مثل هذه السلطة أم لا ، وكيف ؟

إنّ المراجع لتاريخ الحكومة النبويّة يرى بوضوح ؛ أنّ النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله كان يمارس حكومته على المسلمين من خلال توزيع بعض المسؤوليّات على أفراد صالحين ، وكان ذلك يمثّل التشكيلات الإداريّة في ذلك العهد والتي تعادل الوزارات في هذا العصر ونحن لا ننكر أنّها كانت تشكيلات إداريّة بسيطة ، ولكنّها توسّعت فيما بعد واتّخذت أشكالاً أكثر تنظيماً وسعة باتّساع رقعة البلاد الإسلاميّة ، وتطوّر الحاجات الاجتماعيّة وتشعّبها ، واتّساع نطاقها الذي اقتضى - بدوره - التوسّع في التشكيلات الإداريّة وإحداث الوزارات والدواوين والدوائر والأجهزة التنفيذيّة المتعدّدة.

إنّ من يراجع تاريخ الحكومة النبويّة يجد أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان يعيّن الاُمراء العامّين على النواحي ويقيم الولاة على البلاد ويعيّن رجالاً للقضاء ، وآخرين لجباية الصدقات وجلب الزكوات ، وآخرين للكتابة ، وربّما أمّر الرجل على قومه لأنّه أيقظ عيناً وأدرى بفنون الحرب من غيره ، أو خلّف أحداً مكانه عند غيابه ، كما كان يخلّف ابن اُمّ مكتوم في بعض الأحيان عند غيابه عن المدينة (2). وكما خلف عليّاً علیه السلام عند خروجه لغزوة

ص: 307


1- نعم اتّخذ النبيّ صلی اللّه علیه و آله عليّاً علیه السلام وزيراً لنفسه كما يدلّ عليه حديث بدء الدعوة ، لاحظ الصفحة 83 من هذا الكتاب.
2- الكنى والألقاب ( للقمّي ) 1 : 208.

تبوك (1) وأمّر عتّاب بن أسيد على مكّة وأوكل إليه إقامة المواسم والحجّ للمسلمين عام الفتح.

النبيّ يعيّن الولاة ويحدّد مسؤوليّاتهم

وكان يعيّن الولاة ( الذين هم الآن بمثابة المحافظين ) وكان يرسم لهم منهجهم في الحكم وسياستهم الداخليّة ..

فقد بعث معاذ بن جبل إلى اليمن ووصّاه بما يلي :

« يا معاذ علّمهم كتاب اللّه ، وأحسن أدبهم على الأخلاق الصالحة وأنزل النّاس منازلهم خيرهم وشرّهم وأنفذ فيهم أمر اللّه ، ولا تحاش في أمره. ولا ماله أحداً ، فإنّها ليست بولايتك ولا مالك وأدّ إليهم الأمانة في كلّ قليل وكثير ، وعليك بالرفق والعفو في غير ترك للحقّ ، يقول الجاهل قد تركت من حقّ اللّه ، واعتذر إلى أهل عملك من كلّ أمر خشيت أن يقع إليك منه عيب حتّى يعذروك ، وأمت أمر الجاهلية إلاّ ما سنّه الإسلام.

وأظهر أمر الإسلام صغيره وكبيره ، وليكن أكثر همّك الصّلاة فإنّها رأس الإسلام بعد الإقرار بالدّين وذكّر النّاس باللّه واليوم الآخر ، واتبع الموعظة فإنّه أقوى لهم على العمل بمّا يحبُّ اللّه ، ثمّ بثّ فيهم المعلّمين وأعبد اللّه الذّي إليه ترجع ولا تخف في اللّه لومة لائم.

وأوصيك بتقوى اللّه وصدق الحديث والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وترك الخيانة ولين الكلام وبذل السلام وحفظ الجار ورحمة اليتيم وحسن العمل وقصر الأمل وحبّ الآخرة والجزع من الحساب ولزوم الإيمان والفقه في القرآن ، وكظم الغيظ ، وخفض الجناح.

وإيّاك أن تشتم مسلماً ، أو تطيع آثماً ، أو تعصي إماماً عادلاً أو تكذّب صادقاً ، أو

ص: 308


1- سيرة ابن هشام 2 : 520 وبحار الأنوار 21 : 207.

تصدّق كاذباً واذكر ربّك عند كُلّ شجر وحجر واحدث لكلّ ذنب توبةً ، السرّ بالسرّ والعلانية بالعلانية.

يا معاذ لولا أنّني أرى ألاّ نلتقي إلى يوم القيامة لقصّرتُ في الوصيّة ولكنّني أرى أنّنا لا نلتقي أبداً ..

ثمّ أعلم يا معاذ إنّ أحبّكُم إليّ من يلقاني على مثل الحال التّي فارقني عليها » (1).

وبعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عمرو بن حزم إلى بني الحارث وجعله والياً عليهم ليفقّههم في الدين ، ويعلّمهم السنُّة ومعالم الإسلام ويأخذ منهم الصدقات وكتب له كتاباً عهد إليه فيه عهده وأمره فيه بأمره : « بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ، هذا بيان من اللّه ورسوله ، يا أيّها الذين آمنوا أوفوا بالعقُود ، عهد من محمّد النّبي رسول اللّه لعمرو بن حزم حين بعثهُ إلى اليمن أمرهُ بتقوى اللّه في أمره كُلّه ، فإنّ اللّه مع الّذين اتّقوا ، والّذين هم محسنون.

وأمره أن يأخذ بالحقّ كما أمره اللّه وأن يبشّر النّاس بالخير ، ويأمرهم به ، ويعلّم النّاس القرآن ويفقّههم فيه ، وينهى النّاس فلا يمس القران إنسان إلاّ وهو طاهر ويخبر النّاس بالذي لهم والذي عليهم ويلين للنّاس في الحقّ ويشتدّ عليهم في الظّلم فإنّ اللّه كره الظّلم ونهى عنه ، فقال : ( أَلا لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) ( هود : 18 ) ويبشر النّاس بالجنّة وبعملها وينذر النّاس النّار وعملها ويستألف النّاس حتّى يفقهوا في الدّين ويعلّم النّاس معالم الحجّ وسنّته وفريضته ، وما أمر اللّه به ، والحجّ الأكبر : الحجّ الأكبر والحجّ الأصغر هُو العُمرة ... إلى آخر العهد ... » (2).

ومن هذين العهدين ، ونظائرهما ، يتبيّن لنا أنّ النبيّ كان يعهد بعض السلطات والمسؤوليّات إلى من يراه صالحاً من المسلمين ليقوموا بإدارة بعض أنحاء البلاد ، ويزوّدهم ببرامج وأنظمة للحكم والعمل السياسيّ والإداريّ ، ممّا يكشف عن وجود صورة مصغّرة عن السلطة التنفيذيّة إلى جانب الحاكم الأعلى للبلاد.

وقد كان له صلی اللّه علیه و آله عمّال للبريد ، وله تعليمات خاصّة لهم في هذا الشأن ومن ذلك

ص: 309


1- تحف العقول : 25 - 26.
2- سيرة ابن هشام 4 : 595.

قوله : « إذا أبردتم إليّ بريداً فأبردوه حسن الوجه حسن الاسم » (1).

وقوله لأحد عمّال البريد : « إذا جئت أرضهم فلا تدخل ليلاً حتّى تصبح وتطهّر فأحسن طهورك وصلّ ركعتين وسل اللّه النّجاح والقبول وأستعد لذلك وخذ كتابي بيمينك وادفعه بيمينك في أيمانهم » (2).

وربّما اتّخذ بعض الحراس الليليين ليتتبّعوا أهل الريب ، وقد عدّ من ذلك سعد ابن أبي وقّاص(3) ، وربّما اتّخذ حرساً خاصّاً في بعض الأحيان غير العادية ويذكر أنّ سعد بن معاذ كان حرسه يوم بدر (4).

وقد روي أنّ بعض المسلمين كانوا يشترون الطعام من الركبان على عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه حتّى ينقلوه حيث يباع الطعام ، قال ابن عبد البرّ : استعمل النبيُّ صلی اللّه علیه و آله سعيد بن سعيد العاص على سوق مكّة (5).

كما كان له كتاب الرسائل الذين كانوا يكتبون للملوك والاُمراء والبوادي وغيرهم وكان له من يقوم بمهمّة الحسبة التي مرّ ذكرها مفصّلاً (6).

وهكذا كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يتّخذ المعاونين والمساعدين لإدارة ما يمكن لهم إدارته من الأعمال والمهامّ ... ويوكل إليهم من الصلاحيّات والمسؤوليّات ما تعارف إيكاله الآن إلى الوزارات والمديريّات والإدارات التي تشكّل حقيقة السلطة التنفيذيّة ، وقد كان إيكاله المهامّ للأشخاص مشفوعاً بإعطاء البرامج والتوجيهات الإداريّة المفصّلة التي مرّ عليك ذكر بعضها ، وتجد المزيد منها في كتب السير والتاريخ.

* * * كيفيّة السلطة التنفيذيّة الآن

بعد أن عرفت أيّها القارئ الكريم من البحثين السابقين ؛ أنّ جانباً كثيراً من

ص: 310


1- التراتيب الإداريّة 1 : 247.
2- راجع النظم الإسلاميّة نشأتها وتطوّرها من الصفحة 294 إلى 428.
3- راجع النظم الإسلاميّة نشأتها وتطوّرها من الصفحة 294 إلى 428.
4- (2. 5) راجع النظم الإسلاميّة نشأتها وتطوّرها من الصفحة 294 إلى 428.
5- راجع النظم الإسلاميّة نشأتها وتطوّرها من الصفحة 294 إلى 428.
6- التراتيب الإداريّة 2 : 285.

النظم الإداريّة والتوجيهات الضروريّة لتنظيم الحياة الاجتماعيّة في مجالات العلاقات والحقوق والتعامل ( كالتبادل التجاريّ مثلما جاء في الكتاب العزيز ضمن آيات أطولها آية الدين التي حثّت على كتابة الدين وتسجيله ) يتطلّب وجود جهاز تنفيذيّ وقد كان هذا الأمر يتم في العهد النبويّ ببساطة ؛ وان استوجب تزايد حجم الاُمور واتسّاع رقعة البلاد ، تطوير الترتيبات اللازمة لذلك ، وتوسيع التشكيلات ، يصبح الجواب على السؤال المطروح وهو ؛ كيف يجب أن تكون السلطة التنفيذيّة في العصور الحاضرة ؟ واضحاً من وجهة نظر الإسلام.

فإنّ ذكر الترتيبات والتشكيلات ليس من مهمّة الدين الإسلاميّ فذلك متروك للزمن المتحوّل ، والحاجات المتطوّرة ، لأنّ تحديدها وتعيينها بصورة لا يجوز تخطّيها لا ينسجم مع خاتميّة الرسالة الإسلاميّة التي نزلت لتكون دين الأبديّة ، ومنهج البشريّة إلى يوم القيامة ، فإنّ مثل هذه الخاصّية في الدين الإسلاميّ تقتضي أن يبيّن الإسلام الجوهر ويترك اختيار الشكل واللباس إلى الزمن والحاجة حتّى يستطيع مسايرة الزمن ويتمشّى مع تقدم الحياة البشريّة وتطوّرها ، إذ ذكر الخصوصيّات والأشكال يفرض على الدين الإسلاميّ جموداً هو منه براء ، ويحصره في زمن خاصّ دون زمن آخر ؛ لأنّ الحاجات البشريّة متجدّدة ومتحوّلة ومتزايدة ولا يمكن الجمود - في رفعها - على نمط خاصّ من التشكيلات والأشكال ، ولهذا نجده يذكر - مثلاً - موضوع تسجيل المعاملات الماليّة التي فيها أجل دون أن يحدّد نوع تنفيذ هذا الأمر وما يلزم من أجهزة ودوائر فيقول في أطول آية قرآنية :

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ

ص: 311

ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( البقرة : 282 ).

إنّ هذه الآية ترسم أهمّ الاُسس التي يجب أن يبنى عليها التعامل التجاريّ ، ويكتفي فيها الإسلام بذكر الجوهر تاركاً اختيار الترتيبات الفنيّة ، والتشكيلات الإداريّة التي تقوم بهذه الاُمور إلى الأوضاع البشريّة المتجدّدة.

وعلى ذلك فإنّ ما نجده في الكتب التي أُلّفت حول النظم السياسيّة مثل ما كتبه الباحث العلاّمة الشيخ عبد الحيّ الكتاني في تأليفه القيّم « التراتيب الإداريّة » والدكتور صبحي الصالح في « النظم الإسلاميّة » لا يمثّل إلاّ تصوير ما توصّلت إليه الحكومات السابقة من تشكيلات وأساليب للعمل الإداريّ والحكوميّ ولا تمثّل بعينها وشكلها أمراً إسلاميّاً يجب الأخذ به حتماً دون زيادة أو نقصان ودون تغيير أو تحوير ، تستدعيه الحاجة ويستلزمه الظرف.

ويدلّ على ذلك ؛ أنّ هذه الاُمور في العهد النبويّ كانت تمارس بأساليب بسيطة وبدائيّة ومختصرة كما عرفت ، وتطوّرت فيما بعد في العهود اللاحقة ، ولكنّها كانت على كلّ حال تدلّ على وجود السلطة التنفيذيّة حتّى في العهد النبويّ وإن لم تكن بالتفاصيل والخصوصيّات المتعارفة الآن.

* * *

مواصفات أعضاء السلطة التنفيذيّة

اشارة

يعتبر دور السلطة التنفيذيّة في الدولة دوراً بالغ الخطورة والأهميّة ، لأنّه على عاتقها تقع مهمّة القيام بشؤون الناس ، وإدارة اُمورهم وسدّ حاجاتهم ، وحلّ مشكلاتهم ، فإذا قامت هذه السلطة بواجباتها أفضل قيام استطاعت أن تكتسب رضا الاُمّة ، وتجلب مودّتهم التي يقوم عليها بقاء الدولة ، واستقرار الأمن.

ص: 312

إنّ ضمان استقامة السلطة التنفيذيّة وسلامة سلوكها يتوقّف - بالدرجة الاُولى - على نوع الشروط والمواصفات المعتبرة في أعضاء تلك السلطة فإنّ أكثر المشاكل التي تعانيها أنظمة الحكم في العالم ترجع إلى سوء اختيار أعضاء هذه السلطة ويعود ذلك إلى الخطأ الحاصل في المواصفات والشروط التي تقيم الأنظمة البشريّة اختيار الوزراء والمدراء والمسؤولين ، على أساسها.

ولقد أدرك الإسلام كلّ هذا من قبل فاعتبر لأعضاء السلطة التنفيذيّة شروطاً ومواصفات يضمن توفّرها فيهم ، سلامة هذه السلطة ، واستقامة تصرّفاتها ... وأبرز هذه المواصفات هي :

1. التخصّص

لقد كان الإسلام أوّل من اشترط وجود هذا الشرط في أفراد السلطة التنفيذيّة وهو أمر اشترطه في جميع المناصب الدينيّة والزمنيّة حيث يقول : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) ( النحل : 43 ) ، وهو حثّ على إرجاع كل أمر إلى أهله والعارفين به.

ولذلك قال الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله : « إنّ الرّئاسة لا تصلحُ إلاّ لأهلها » (1).

وقال صلی اللّه علیه و آله : « من عمل على غير علم كان ما يُفسدُ أكثر ممّا يُصلحُ » (2).

وقال الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیهماالسلام : « العاملُ على غير بصيرة كالسّائر على غير الطّريق لا يُزيدُهُ سُرعة السّير إلاّ بُعداً » (3).

إنّ إيكال الأمر إلى من لا يعرفه ولا يعرف مدخله ومخرجه إضاعة لذلك الأمر وإيذان بسوء العواقب فالعقل لا يسمح بإيكال أمر إلى من لا يعرف القيام به فكيف بالمسؤوليّة الاجتماعيّة وإدارة البلاد ... ولذلك قالوا : الحكمة هي وضع الرجل المناسب في المكان المناسب ... ومن الحمق وضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب.

ص: 313


1- الكافي 1 : 47 و 45 و 44.
2- الكافي 1 : 47 و 45 و 44.
3- الكافي 1 : 47 و 45 و 44.

على أنّ من التخصّص أيضاً معرفة الزمان وأهله وما يقتضيانه من التدبير والحيلة. ولذلك قال الإمام عليّ علیه السلام : « العالمُ بزمانه لا تهجُمُ عليه اللّوابسُ » (1).

وقال الإمام الصادق جعفر بن محمّد علیهماالسلام وهو يصف المسؤول الصالح ، والراعي الناجح : « يعملُ ويخشى ... رجلاً ، داعياً ، مشفقاً مُقبلاً على شأنه ، عارفاً بأهل زمانه مُستوحشاً من أوثق إخوانه ، فشدّ اللّه من هذا أركانه وأعطاه يوم القيامة أمانه » (2).

إن قوله « مُقبلاً على شأنه ، عارفاً بأهل زمانه » إشارة إلى شرط التخصّص بجانبيه : معرفة الأمر ، ومعرفة الزمان وأهله.

2. الوثاقة

إنّ أهمّ شرط بعد شرط التخصّص هو : الوثاقة وكون المسؤول الحكوميّ أميناً ومأموناً على إدارته ومسؤوليّته فإنّ أكثر المآسي الاجتماعيّة الناشئة من رجال الحكومات في الأنظمة البشريّة ترجع - في الحقيقة - إلى خيانة هؤلاء الرجال لما أوكل إليهم من مسؤوليّات ومهامّ ، فقاموا بها دون ورع ، وتصرّفوا فيما فوّض إليهم دون تقوى ولأجل ذلك يؤكد القرآن الكريم على تفويض الاُمور إلى الأمناء من الرجال ، المأمونين على أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم إذ يقول عن لسان ابنة شعيب : ( يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ ) ( القصص : 26 ).

فإنّ كانت القوّة والأمانة شرطان ضروريّان في راعي شويهات وأغنام ، كان اشتراطهما في من يراد تسليطه على أرواح الناس وأموالهم وأعراضهم ضروريّاً بطريق أولى.

3. الزهد والتعفّف

والمراد من الزهد هو أن لا يكون المرء متعلّقاً بالدنيا وحطامها ، وآخذاً بها على وجه

ص: 314


1- اُصول الكافي 1 : 27 و 39.
2- اُصول الكافي 1 : 27 و 39.

الغاية والهدف ... فإنّ من جعل الدنيا وزبارجها غايته وهدفه ، جعلها همّته ، ومن جعلها همّته تجاوز الحدود وضيّع الحقوق ، ونسي رعيّته وضيّع من ولي أمرهم ... فخسرهم ، وضيّع مودّتهم.

إنّ على المسؤول الحكوميّ أن يجعل الزهد نصب عينيه فيأخذ من الدنيا ما يكفيه. ومن كان كذلك لم يمدّ عينيه إلى أموال الناس حبّاً في العاجلة ، وغفلة عن الآجلة ... وكان جديراً بأن يراعي أضعف الناس. . فلا يضيع منهم حقّاً ولا يغفل فاقة وفقراً ولذلك قال الإمام عليّ علیه السلام في كلام له : « إنّ اللّه فرض على أئمّة العدل أن يقدروا معيشتهم على قدر ضعفة الناس كيلا يتبيّغ بالفقير فقرهُ » (1).

ونجده يوبّخ أحد ولاته - وهو عثمان بن حنيف - لأنّه دعي إلى وليمة فأجاب لأنّ ذلك - في نظر الإمام عليّ يعرّض الوالي والمسؤول الحكوميّ لخطر الإنبهار بحطام الدنيا وبريقها وهو أمر فيه ما فيه من العواقب مضافاً إلى تضييع محتمل لحقّ الحاضر : « أمّا بعدُ يا بن حنيف فقد بلغني أنّ رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان ، وتنقل إليك الجفان ، وما ظننت أنّك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوّ ، وغنيُّهم مدعوّ ... فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم فما اشتبه عليك علمه فالفظه وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه.

ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنورعلمه ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه ، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك فأعينوني بورع ، واجتهاد وعفّة وسداد ، فواللّه ما كنزت من دنياكم تبراً ولا ادّخرت من غنائمها وفراً ، ولا أعددت لبالي ثوبي طِمراً ولا حزت من أرضها شبراً ، ولا أخذت منه إلاّ كقوتِ أتانٍ دَبِرة ولهي في عيني أوهى وأوهن من عفصة مقرة » (2).

إنّ الزهد الذي يتحلّى به الحاكم والمسؤول الإداريّ هو الذي يمنعه من أن يمدّ عينيه إلى أموال الناس وأشيائهم ... وهو الذي يجعله يحس بآلام الرعيّة وحاجاتها ،

ص: 315


1- نهج البلاغة : الخطبة (207).
2- نهج البلاغة : الخطبة (45).

ونواقصها ... وإنّ أسوأ ما يعاني منه عالمنا اليوم هو جشع الحكّام وحرصهم على الدنيا ، وتعلّقهم الشديد بحطامها ، الذي يسوّغون في سبيله كلّ حرام ويرتكبون كلّ معصية ، ويقترفون كلّ جريمة.

إنّ الزهد هو العامل الفعال الذي يردع عن اقتحام الشبهات فضلاً عن نيل الحرام.

هذه هي أهمّ الشروط والمواصفات المعتبرة في أعضاء السلطة التنفيذيّة ، وهي مواصفات إن توفّرت فيهم سلمت هذه السلطة من الآفات الجسيمة التي تعاني منها أنظمة الحكم ، والحكومات الراهنة. وتتخلّص الشعوب من العناء والعذاب الذي تلقاه على أيدي الحكام والمسؤولين ، بدل أن تنال على أيديهم السعادة والخير والرفاه.

ولا شكّ أنّ هذه المواصفات تتوفّر - في الأغلب - في المسلم المؤمن العارف بدينه ، ولذلك يتعيّن تقديمه على غيره في تفويض المسؤوليّات الحكوميّة إليه.

غير أنّه لا بدّ من التنبيه - بعد ذكر هذه المواصفات - إلى نقطة هامة وهي : أنّ صلاحيّة المسؤول الحكوميّ وحدها لاتكفي في استقامة الاُمور وصلاح الرعيّة وعمارة البلاد وتقدمها ، بل لا بدّ إلى جانب ذلك من أن يتحلى المسؤول بالصفات الأخلاقيّة العليا كالحلم والصبر والأناة ، والعطف والشفقة ... وغير ذلك من نبيل الأخلاق.

بيد أنّ الأهمّ من ذلك كلّه هو ( طاعة الرعيّة للحاكم الصالح ) والانقياد لأوامره ، لأنّ الحاكم غير المطاع لا يمكن أن يقيم أمناً ، أو ينشر عدلاً ، فلا رأي لمن لا يطاع كما قال النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله وإليك مفصّل الكلام في هذا الأمر :

إطاعة الحاكم الصالح

إنّ نفوذ السلطة التنفيذيّة ، يتقوّم بطاعة الناس لها ... وإلاّ صار وجود السلطة هذه لغواً ، لا فائدة فيه ولا أثر له ولذلك وردت عن النبيّ العظيم صلی اللّه علیه و آله والأئمّة الطاهرين أحاديث كثيرة تحثّ على طاعة الحاكم الصالح ، وصاحب السلطة العادل :

ص: 316

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « طاعة السُّلطان [ أي صاحب السلطة العادل ] واجبة ، ومن ترك طاعة السُّلطان فقد ترك طاعة اللّه عزّ وجلّ » (1).

وقد خطب النبيّ صلی اللّه علیه و آله ذات يوم في مسجد الخيف وقال : « نضّر اللّه عبداً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلّغها من لم يسمعها فربّ حامل فقه غير فقيه ، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه.

ثلاثة لا يغلُّ عليهنّ قلب امرئ مسلم :

إخلاص العمل لله ..

والنّصيحة لأئمّة المسلمين.

واللّزوم لجماعتهم ... فإنّ دعوتهم محيطة من ورائهم : المسلمون اخوة تتكاتفأ دماؤهم ويسعى بذمّتهم أدناهم » (2).

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « لا تختانوا ولاتكم ، ولا تغشّوا هداتكم ولا تجهلوا أئمّتكم ، ولا تصدّعوا عن حبلكم فتفشلوا وتذهب ريحكم وعلى هذا فليكن تأسيس اُموركم والزموا هذه الطريقة » (3).

وقال الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين علیه السلام في رسالة الحقوق : « فأمّا حقٌّ سائسك بالسلطان فأن تعلم أنّك جعلت له فتنةً وأنّه مبتلى بك بما جعله اللّه له عليك من السُّلطان ، وأن تخلص له في النّصيحة وأن لا تماحكه وقد بسطت يده عليك فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه ... » (4).

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « أيّها النّاس إنّ لي عليكم حقّاً ولكم عليّ حقٌّ :

فأمّا حقّكم عليّ فالنّصيحة لكم وتوفير فيئكم وتعليمكم كيلا تجهلوا وتأديبكم كيما تعلموا.

ص: 317


1- وسائل الشيعة 11 : 472.
2- الكافي 1 :2. 233 ، 235.
3- الكافي 1 :2. 233 ، 235.
4- مكارم الأخلاق للطبرسيّ : 187.

وأمّا حقّي عليكم فالوفاء بالبيعة والنّصيحة في المشهد والمغيب والإجابة حين أدعوكم والطاعة حين آمركم » (1).

ولمّا سئل الإمام الباقر محمّد بن عليّ علیه السلام : ما حقّ الإمام على الناس ؟ قال : « حقُّه عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا ».

فقيل : فما حقُّهم عليه ؟ قال : « يقسّم بينهم بالسّويّة ويعدل في الرّعيّة » (2).

وقال الإمام موسى بن جعفر علیه السلام : « إنّ السُّلطان العادل بمنزلة الوالد الرّحيم فأحبُّوا له ما تحبُّون لأنفسكم واكرهوا له ما تكرهون لأنفسكم » (3).

وعن أبي سعيد الخدري ، قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « إنّ من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سُلطان جائر » (4).

إنّ طاعة الشعب للحكّام الصالحين والإخلاص لهم وإنفاذ أوامرهم يشكّل عاملاً أساسيّاً في نجاح الحكومة الإسلاميّة وموفقيّتها في إدارة البلاد على أحسن وجه.

إنّ السلطة التنفيذيّة في الحكومة الإسلاميّة ليست جهازاً غريباً عن الشعب فليس أعضاؤها جماعة تسلّطت على الناس بالقهر والغلبة بل هم خزّان الرعيّة وخدّامها ... واُمناء الشعب على الحكم والسلطة ... وهذا يجعل طاعة الولاة واجباً مقدّساً مفروضاً على الناس ... يسألون عنه ويعاقبون على تركه وهذا هو سبب نجاح الحكومة الإسلاميّة وعلّة بقائها ، واستمرارها.

هذا وإنّ الأحاديث التي ذكرناها في باب طاعة الرعيّة للولاة ، تدلّ بصورة ضمنيّة على ضرورة وجود هذه السلطة في الحياة الإسلاميّة ولزوم إيجادها أيضاً.

إنّ ما ذكرناه لك من الأحاديث في باب طاعة الحاكم العادل والراعي الصالح

ص: 318


1- نهج البلاغة : الخطبة (33).
2- الكافي 1 : 334.
3- وسائل الشيعة 11 : 472.
4- رواه الترمذيّ 1 : 235 كما في جامع الاُصول ( الطبعة الاُولى ).

والسلطة التنفيذيّة الصالحة ؛ ما هو إلاّ قليل من كثير تجده في المجاميع الحديثيّة كما في أبواب الحجّة من اُصول الكافي ، وأبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من وسائل الشيعة ... ورسائل الإمام عليّ وعهوده في نهج البلاغة.

لا طاعة للحاكم الجائر

ثمّ إنّ ها هنا أمراً لابدّ من التنبيه عليه وهو أنّه قد تُنقل أحاديث وروايات تدلّ على وجوب إطاعة مطلق الحاكم والخضوع لمطلق السلطات عادلة كانت أو ظالمة ، صالحة كانت أو جائرة وإليك فيما يأتي بعض هذه الروايات :

1. ما رووه عن الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « لا تسبُّوا الولاة فإنّهُم إن أحسنُوا كان لهُم الأجر وعليكُمُ الشُّكر وإن أساؤوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر ، وإنّما هم نقمة ينتقم اللّه بهم ممّن يشاء فلا تستقبلوا نقمة اللّه بالحميّة واستقبلوها بالاستكانة والتضرُّع » (1).

2. ما رووه عنه صلی اللّه علیه و آله أيضاً أنّه قال : « سيأتيكم ركب مبغوضون يطلبون منكم ما لا يجب عليكم فإذا سألوا ذلك فاعطوهم ولا تسبُّوهم وليدعوا لكم » (2).

3. ما رواه سلمة عن النبيّ لمّا سأل النبيّ قائلاً : يا نبيّ اللّه أرأيت إن قامت علينا اُمراء يسألونا حقّهم ويمنعونا حقّنا فما تأمرنا ؟ فأعرض عنه ، ثمّ سأله فأعرض عنه ، ثمّ سأله في الثالثة فجذبه الأشعث بن قيس ، فقال صلی اللّه علیه و آله : « اسمعوا وأطيعوا فإنّما عليهم ما حمّلوا وعليكم ما حمّلتم » (3).

4. ما رواه ابن مسعود عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « إنّها ستكون بعدي إثرة واُمور تنكرونها » ، قالوا يا رسول اللّه : كيف تأمر من أدرك ذلك منّا ؟

ص: 319


1- النظام السياسيّ في الإسلام : 114 ، نقلاً عن الخراج لأبي يوسف.
2- النظام السياسيّ في الإسلام : 114 ، نقلاً عن سنن أبي داود.
3- رواه مسلم ... ونقله جامع الاُصول 4 : 64.

قال : « تؤدوُّن الحقّ الذّي عليكم ، وتسألون اللّه الذّي لكم » (1).

إنّها إذن دعوة إلى السكوت على الظالم والرضا بما يفعل ؟!!

5. وما رواه عوف عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّ قال : « شرار اُمّتكم الذّين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم » ، قلنا يا رسول اللّه أفلا ننابذهم [ عند ذلك ؟ ].

قال : « لا ما أقاموا فيكم الصّلاة ، لا ما أقاموا فيكم الصّلاة ، ألا من ولّي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية اللّه فليكره ما يأتي من معصية اللّه ، ولا ينزعنّ يداً من طاعة » (2).

6. ما روته اُمّ سلمة عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « إنّه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون ما تنكرون فمن كره فقد بريء ومن أنكر فقد سلم ، ولكن من رضى وتابع ».

قالوا : أفلا نقاتلهم ؟

قال : « لا ما صلُّوا » (3).

وهكذا تبدو من هذه الروايات الدعوة إلى السكوت على فعل الظالم والحاكم الجائر والرضا بأفعاله المخالفة للدين والعدل ، والاكتفاء بالصلاة ... فهو ما دام يصلّي جاز له أن يفعل ما يفعل ، وأن يخالف كتاب اللّه وسنّة نبيّه ... !!!

7. ما رواه ابن عباس عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « من كره من أميره شيئاً فليصبر فإنّه من خرج من طاعة السلطان شبراً مات ميتةً جاهليّةً » (4).

ولكن هذه الروايات وهذه الدعوة مردودة ومدفوعة بما ورد في الكتاب الكريم من النهي عن المنكر ، والردّ على الظالم ، والضرب على يده وعدم الركون إليه كقوله تعالى : ( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) ( هود : 113 ).

ص: 320


1- جامع الاُصول 4 : 64 ، نقلاً عن مسلم والترمذيّ.
2- جامع الاُصول 4 : 67 ، نقلاً عن مسلم.
3- جامع الاُصول 4 : 68 ، نقلاً عن مسلم وأبي داود والترمذيّ.
4- جامع الاُصول 4 : 69 ، نقلاً عن البخاريّ ومسلم.

وما ورد من الآيات الناهية عن الحكم بغير ما أنزل اللّه ووصف الحاكم بغير ما أنزل اللّه بالكفر والفسق والظلم (1) ومن المعلوم لزوم مكافحة الكفر والفسق والظلم وهو غير خفيّ على من له أدنى إلمام بالكتاب والسنّة.

كما أنّها مدفوعة بما صح عن النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله من الروايات الناهية عن التعاون مع الظالم وإعانته ومساعدته ، منها ما ورد عن كعب بن عجرة عن النبيّ أنّه قال : « اسمعُوا سيكُونُ بعدي اُمراءُ فمن دخل عليهم فصدّقهُم بكذبهم وأعانهُم على ظُلمهم فليس منّي ولستُ منهُ وليس بوارد عليّ [ الحوض ] » (2).

وعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « ألا ومن علّق سوطاً بين يدي سُلطان جعل اللّه ذلك السّوط يوم القيامة ثُعباناً من النّار طولُهُ سبعون ذراعاً يُسلّطهُ اللّه عليه في نار جهنّم وبئس المصير » (3).

وعنه صلی اللّه علیه و آله أيضاً أنّه قال : « إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين أعوانُ الظلمة ومن لاق لهُم دواة ، أو ربط لهُم كيساً ، أو مدّ لهُم مدّة قلم ، فاحشُرُوهُم معهُم » (4).

وعنه صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « من خفّ لسُلطان جائر في حاجة كان قرينهُ في النّار » (5).

وقال صلی اللّه علیه و آله : « ما اقترب عبد من سُلطان جائر إلاّ تباعد من اللّه » (6).

وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام أنّه قال : « من أحبّ بقاء الظالمين فقد أحبّ أن يُعصي اللّه » (7).

ص: 321


1- المائدة : 44 و 45 و 47.
2- جامع الأصول 4 : 75 ، نقلاً عن الترمذيّ والنسائيّ.
3- وسائل الشيعة 12 : 130 ، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به حديث 10.
4- وسائل الشيعة 12 : 130 ، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به ، حديث 11.
5- وسائل الشيعة 12 : 130 ، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به ، حديث 14.
6- وسائل الشيعة 12 : 130 حديث 12.
7- وسائل الشيعة 12 : 134 ، حديث 5.

وعنه علیه السلام أنّه قال : « من سُوّد اسمهُ في ديوان الجبّارين ... حشرهُ اللّه يوم القيامة حيراناً » (1).

وعنه علیه السلام أنّه قال : « من مشى إلى ظالم ليُعينهُ وهو يعلمُ أنّهُ ظالم فقد خرج عن الإسلام » (2).

وعن الإمام الصادق جعفر بن محمّد علیه السلام أنّه قال : « ما أحبُّ أنّي عقدت لهم عقدةً أو وكيت لهم وكاء وأنّ لي ما بين لابتيها لا ولا مدّة بقلم ، إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتّى يفرغ اللّه من الحساب » (3).

وغيرها من عشرات الأحاديث والروايات الواردة من النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته المعصومين ممّا وردت في كتب الحديث ، الناهية عن السكوت على الحاكم الجائر ، والحاثّة على زجره ودفعه ، والإنكار عليه بكل الوسائل الممكنة المتاحة ممّا يدلّ على أنّ الأحاديث التي تحثّ على السكوت عن الحاكم الظالم ، والانصياع لحكمه والتسليم لظلمه والرضا بجوره ممّا أوعزت السلطات الحاكمة به في تلك العصور المظلمة ، فلفّق البعض هذه الروايات والأحاديث ونسبوها إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله وهو منها براء لمعارضتها الصريحة لمبادئ الكتاب والسّنة.

ولو لم يكن في المقام إلاّ قول الإمام عليّ علیه السلام في خطبته : « ... وما أخذ اللّه على العُلماء أن لا يُقارُّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم ... الخ » (4).

لكفى في وهن تلك الروايات المفتعلة على لسان النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

وبما أنّ هذا البحث واضح لكلّ مسلم يحمل بين جنبيه الحريّة ويفكّر في العدل الإسلاميّ طوينا البحث عن بعض ما ورد في هذا المجال.

ص: 322


1- وسائل الشيعة 12 : 134 حديث 6.
2- وسائل الشيعة 12 : 131 حديث 15.
3- وسائل الشيعة 12 : 129 حديث 6.
4- نهج البلاغة : الخطبة 3.

3

السلطة القضائيّة

دور القضاء والسلطة القضائيّة :

يحتلّ القضاء ، وفصل الخصومات بين الناس دوراً عظيماً ، ومكانة حسّاسة في أي مجتمع بشريّ ، لأنّ عليه وعلى كيفيّته تتوقّف سلامة المجتمع ، واستتباب الأمن ، واستقرار العدل ، وصيانة الحقوق والحريّات ، والحرمات وبالتالي يقوم التوازن الاجتماعيّ.

إنّ القضاء مرتبط بالعدالة ، فإن صلح شاعت العدالة وانتعشت ، وأمن الناس على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم ، وصلح أمر الدولة ، والناس جميعاً. وإن فسد القضاء اختفت العدالة وباختفائها تعم الفوضى وينتشر الفساد ، ولا يأمن الناس على أنفسهم ، فتضيع هيبة الدولة ، ويتقلّص سلطانها ، إنذاراً لها بالنزوال والاندحار.

إنّ القضاء يلعب دوراً كبيراً في تبديل الاختلاف إلى الوئام ، وفي تحويل التنازع والتصارع إلى التوافق والتقارب الذي يحتاج إليه كلّ مجتمع إنسانيّ ينشد السعادة والطمأنينة والأمن.

ص: 323

عوامل التنازع وأسبابه :

لم يزل المجتمع البشريّ - منذ تكوّنه وانضمام فرد إلى فرد آخر - تلازم حياته التشاجر والاختلاف والتنازع بين أفراده ، وقد شهد بذلك التاريخ ، وبرهنت عليه الوقائع المحسوسة ، ثمّ إنّ هذا الاختلاف لا ينشأ - غالباً - إلاّ من أمرين :

1. الحرص الشديد على جلب الأموال والمنافع والحقوق ، الذي يلازم البعد عن المعنويّات والمثل الإنسانيّة ، فإنّ حرص كلّ واحد من أفراد النوع الإنسانيّ على أن يجلب المنافع العاجلة العابرة لنفسه ينسيه الجوانب المعنويّة والمثل النبيلة وذلك بدوره يجرّ إلى التعدّي على مصالح الآخرين وحقوقهم ومنافعهم حيث لا إيمان يردع عن ذلك ، ولا مكارم أخلاق تحدّ من تلك النزعة الجامحة.

2. الاختلاف في تشخيص الحقّ ، فربّما يتنازع فردان لا للحرص الشديد بل للاختلاف في تشخيص ( الحقّ ) فكلّ واحد منهما يعتقد - اعتقاداً جازماً - بأنّ الحقّ هو ما يراه دون غيره.

وربّما يبلغ الطرفان المختلفان المتنازعان - مع ذلك - أقصى درجات التقوى وحسن النية والفضيلة ، ولكن جهلهما بالحقّ دفعهما إلى ذلك الاختلاف والتنازع ، ولا ريب أنّ بقاء الاختلاف في المجتمع يشكّل خطراً كبيراً على أمنه واستقراره وسلامته ؛ إذ قد يؤدي إلى العدوان ، وتأجّج نيران البغضاء والضغينة بين المتخاصمين المختلفين ، وربما اُريقت - في هذا السبيل - دماء كثيرة. واُهدرت أموال طائلة ، وضاعت أغراض شريفة ليس إلاّ لاُمور حقيرة لا تستأهل كل تلك التبعات والعواقب. ومن أجل ذلك حثّ القرآن الكريم على سدّ باب الاختلاف وقطع دابره من الجذور وحثّ المسلمين على الإصلاح بين المتنازعين إذ قال : ( وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ) ( الأنفال : 1 ).

وقال الإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام نقلاً عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه كان يقول :

ص: 324

« صلاحُ ذات البين أفضلُ من عامّة الصّلاة والصّيام » (1).

بيد أنّ حلّ الاختلاف يتصوّر بوجوه هي :

إمّا بإخضاع القضيّة لسلاح القوّة ، ومنطق الغلبة الذي عبّر عنه المثل السائر بقوله : ( الحقُ لمن غلب ) ... فيكون الغالب هو المحقّ ... ولكن هذا ممّا لا يقبله ذو وجدان سليم ولا يرضاه عقل ولا دين.

أو بإخضاع القضيّة لعامل الدعاية والتبليغ الكاذب ، وإرغام الطرف الآخر على القبول بما يخالفه انخداعاً وتضليلاً ، ... وهو كذلك أمر يرفضه الدين.

أو يترك الأمر لعامل الزمن ليتجلّى الحقّ بمرور الأيام وتوالي الشهور ومضي السنين والأعوام ... وهو أمر لا تحتمله الحياة الاجتماعيّة التي تتطلّب الحلول العاجلة لمشكلاتها والمعالجة السريعة لآلامها ..

أو يترك الأمر حتّى يتعب المتنازعان فيكفّا عن المطالبة ، أو يخلّي أحدهما الآخر ، ليبطل الحقّ ، ويعود باطلاً ، ويعود الباطل حقّاً. وهو أمر يرفضه الإسلام كذلك إذ يقول الإمام عليّ علیه السلام : « الحقُّ القديم لا يبطله شيء ».

ولقد اتّخذ الإسلام طريقاً خامساً ، وهو الذي ندبت إليه الشرائع السماويّة السابقة وتقتضيه سنّة الحياة وضرورات المجتمع ... ألا وهو حثّ المتنازعين على الرجوع إلى أهل الصلاح والتحاكم إليهم ، والخضوع لقضائهم وحكمهم ... ليرتفع التنازع ... ويعود المتخاصمون اخوة متحابّين ، ويتخلّص المجتمع من أخطار الاختلاف والتنازع. ولأجل مثل هذا الدور كانت السلطة القضائيّة الركن الثالث والأساسيّ من أركان الحكومات قديماً وحديثاً ، وكان لها من الأهميّة والمكانة ما ليس لغيرها من أركان الحكومة.

ولأجل ذلك أيضاً كان للقضاء والسلطة القضائية مكانة مرموقة في النظام

ص: 325


1- نهج البلاغة : - قسم الكتب - 47.

الإسلاميّ لم يسبق لها مثيل في العهود والأنظمة السابقة واللاحقة ؛ حيث سنّ له ولها اُصولاً وقواعد واُسساً وبرامج فريدة في نوعها ، وعظيمة في محتوياتها.

فلقد وضع القرآن الكريما اُسس القضاء وشيّد الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله إركانه وبنيانه وبين خلفاؤه المعصومون تفاصيله ، وجزئياته ، وحدوده وأحكامه.

القضاء والحكومة لله خاصّة

ولمّا كان القضاء ملازماً للتصرّف في أموال الناس وأنفسهم وأعراضهم احتاج إلى ولاية حقيقيّة وحيث لم تكن الولاية الحقيقيّة إلاّ لله تعالى خاصّة ؛ كان القضاء أحد الحقوق المختصة به سبحانه دون سواه ، فلا ولاية لأحد على أحد في هذه الشؤون ، ولهذا قال سبحانه : ( إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) ( الأنعام : 57 ).

وقال : ( إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ ) ( يوسف : 40 ) (1).

إلى غير ذلك من الآيات التي تحصر حقّ الحكومة ( الشاملة للقضاء وغيره ) باللّه سبحانه وحده لانحصار الولاية الحقيقيّة فيه دون سواه.

وقد عهد اللّه سبحانه بممارسة هذا الحق إلى أنبيائه وأوصيائهم سواء أكانوا أوصياء بالاسم والشخص ، أم بالرسم والوصف.

فالقضاة المنصوبون من ناحية النبيّ صلی اللّه علیه و آله أو أوصيائهم قضاة منصوبون بالاسم والشخص وأمّا الذين يتعاهدون القضاء - زمن عدم التمكّن من الأوصياء والأئمّة - قضاة منصوبون بالرسم والوصف. كما نرى ذلك من رواية مقبولة لعمر بن حنظلة حيث قال الصادق الإمام جعفر بن محمّد علیه السلام له : « من تحاكم إليهم (2) في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطّاغُوت ، وما يحكُمُ لهُ فإنّما يأخُذُ سُحتاً وإن كان حقّاً ثابتاً لهُ ،

ص: 326


1- ولم نذكر الآية المشابهة (67) في تلك السورة لأنّها ناظرة إلى معنى تكوينيّ.
2- المراد قضاة الجور.

لأنّهُ أخذهُ بحُكم الطّاغُوت وما أمر اللّه أن يُكفر به. قال اللّه تعالى : ( يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ ) ( النساء : 60 ) ».

ولمّا قال : فكيف يصنعان ؟ قال علیه السلام : « ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثناً ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم اللّه ، وعلينا ردّ ، والرادّ علينا كالرّادّ على اللّه وهو على حدّ الشّرك باللّه ... الحديث » (1).

وما ورد عن الإمام الصادق علیه السلام نفسه برواية أبي خديجة سالم بن مكرم الجمّال أنّه قال : « إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم ، فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه » (2).

هذا وقد كان طبيعياً أن يحكم هؤلاء القضاة العدول ويقضوا ويفصلوا في الخصومات وفق منهج اللّه تعالى وتعاليمه وأحكامه في مجال القضاء ، لا بما تهواه أنفسهم أو ما يشاؤه المتخاصمون المتحاكمون.

ولذلك أنزل اللّه الشرائع والكتب والرسالات على الأنبياء وأمرهم أن يحكموا بين الناس بما فيها من الحقّ والقسط فقال تعالى : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) ( الحديد : 25 ).

وقال سبحانه : ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا ) ( المائدة : 44 ).

وقال تعالى - وهو يوصي داود نبيّه - أن يحكم بالحق : ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ (3) بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِنَّ الَّذِينَ

ص: 327


1- وسائل الشيعة 18 : باب 11 من أبواب صفات القاضي / الحديث (1).
2- وسائل الشيعة 18 : باب 1 من أبواب صفات القاضي / الحديث (5) ويقرب منه ما نقل عنه في الباب 11 / الحديث (6).
3- المراد من الحكومة أعمّ من الولاية والقضاء.

يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ ) ( ص : 26 ).

كما أمر اللّه تعالى المقتفين أثر المسيح أن يحكموا بما في الانجيل إذ قال : ( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) ( المائدة : 47 ).

وبيّن سبحانه أثر الحكم بما في التوراة والانجيل وثمرته بقوله : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ) ( المائدة : 66 ).

وقد أمر اللّه سبحانه نبيّه الأكرم محمّد صلی اللّه علیه و آله بالقضاء بالقسط والعدل إذ قال : ( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( المائدة : 42 ).

وقال سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) ( المائدة : 48 ).

ولم يكتف سبحانه بذلك بل أمر الاُمّة الإسلاميّة ودعاها إلى أن تقضي بالحق والعدل والقسط إذ قال : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ) ( النساء : 58 ).

وأمرها بأن لا يحملها شنآن قوم على التخلّي عن العدل ، والتقاعس عن إجرائه إذ قال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( المائدة : 8 ).

بل وأمر المسلمين باتّخاذ جانب العدل ليس في مجالات القضاء وحدها بل في كلّ مجالات الحياة ، حتّى في النطق والكلام إذ قال : ( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) ( الانعام : 152 ).

وصفوة الكلام أنّ الآيات التي مرّت عليك تثبت - بجلاء ودون إبهام - أنّ

ص: 328

القضاء حقّ خاصّ باللّه سبحانه ، وقد عهد به إلى الأنبياء ، وأوصيائهم ، ومن أقاموه لذلك المنصب ، وجعل كتبه ورسالاته مناهج لهم ، ليحكموا بما فيها ، ويقضوا بين المتنازعين والمتخاصمين على ضوء تعاليمها وأحكامها.

النبيّ صلی اللّه علیه و آله يمارس القضاء

ولقد عهد اللّه بالقضاء إلى النبيّ محمّد صلی اللّه علیه و آله فيما عهد إليه ، كما عرفت ذلك من خلال الآيات التي مرّت عليك آنفاً ، وقد تولّى صلی اللّه علیه و آله بنفسه حلّ الخصومات والحكم بين الناس على ضوء ما أُنزل إليه من القرآن وأحكامه ، بل وعيّن - في زمنه - رجالاً صالحين للقضاء وفصل الخصومات ، قال الإمام عليّ علیه السلام : « بعثني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى اليمن قاضياً ، فقُلتُ يا رسول اللّه : تُرسلُني وأنا حديثُ السّنّ ولا علم لي بالقضاء ؟

فقال : إنّ اللّه سيهدي قلبك ويُثبتُ لسانك ، فإذا جلس بين يديك الخصمان ، فلاتقضي حتّى تسمع من الآخر كما سمعت من الأوّل فإنّه أحرى أن يتبيّن لك القضاء.

قال : فما زلت قاضياً. ( أو ) ما شككت في قضاء بعد » (1).

كما قد بعث صلی اللّه علیه و آله معاذاً إلى اليمن وقال له : « كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ » ، قال : أقضي بكتاب اللّه ... الى آخر الحديث (2).

وبذلك نعلم أنّ ما كتبه بعض المتأخّرين من أنّه لم يعرف القضاء في العهد النبويّ ولا في عهد الخلفاء ، بل هو شيء جديد أسّسه الأمويون في الشام ، أمّا قبل ذلك فإنّ العرب كانت في خلافاتها ترجع إلى طريقة التحكيم (3) ، فهو إمّا جهل بتاريخ الإسلام ، أو افتراء واضح البطلان يقف عليه كلّ من له أقلّ إلمام بالكتاب والسنّة ، وما

ص: 329


1- جامع الاُصول 1 : 549 ، أخرجه أبو داود والترمذيّ.
2- جامع الاُصول 10 : 551 .
3- النظام السياسيّ : 129 ، نقلاً عن كتاب عبقريّة الإسلام في اُصول الحكم.

ورد فيهما من الآيات والأحاديث في مختلف أبواب القضاء بحيث يصعب لنا نقل فهرستها ، فضلاً عن ذكر نصوصها (1).

ثمّ إنّ نظرة واحدة إلى القرآن الكريم تفنّد هذا الزعم الباطل ... فلاحظ الآيات 40 إلى 60 من سورة المائدة فهي في معرض ذكر الأحكام المتعلّقة بالقضاء والفصل في الخصومات وأحكام القصص والحدود.

كيف يحقّق القضاء أهدافه ؟

إنّ أهمّ أمر في القضاء والسلطة القضائيّة هو أن تحقّق هذه السلطة غرضها وهدفها الأساسيّ في إشاعة العدل وإقامة القسط في المجتمع ، بحيث يحسّ كلّ فرد من أفراد المجتمع بالأمن على نفسه وماله وعرضه في ظلّ ما توفّره السلطة القضائيّة له من عدالة شاملة لا يشوبها ظلم ولا عدوان ولا يتخلّلها حيف ولا تجاوز.

إنّ وصول السلطة القضائيّة إلى هذا الهدف الأساسيّ يتحقّق بأربعة اُمور :

1. صلاحيّة القاضي وأهليّته للقضاء.

2. استقلاله الماليّ والسياسيّ.

3. رعايته لآداب القضاء.

4. أن تكون لديه برامج حقوقيّة وجزائيّة عادلة للقضاء وفقها ، وهي بأجمعها متوفّرة في النظام الإسلاميّ وإليك تفصيل ذلك :

1. صلاحيّة القاضي وأهليّته للقضاء

إنّ أهمّ عامل يمكّن السلطة القضائيّة من أداء دورها الخطير في المجتمع هو

ص: 330


1- وقد جمع أحمد بن حنبل في مسنده قضايا النبيّ 5 : 326 ، ونقل جملة منها الجزريّ في كتابه جامع الاُصول 10 : 565.

صلاحيّة القاضي ، وتوفّر الشروط المؤهّلة للقضاء فيه.

ولقد اشترط الإسلام في القاضي شروطاً وأوصافاً لم يسبق لها مثيل في تاريخ القضاء وهذه الصفات هي :

1. البلوغ.

2. العقل.

3. الإيمان.

4. العدالة.

5. طهارة المولد.

6. العلم بالقانون.

7. الذكورة.

8. أن يكون ظابطاً سليم الذاكرة فلو غلب عليه النسيان لم يجز نصبه للقضاء (1).

ولقد شدّد الإسلام على خطورة منصب القضاء ، وجسامة مسؤوليّة القاضي ومقامه فقد ورد عن الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « القضاة ثلاثة : واحد في الجنّة واثنان في النّار ..

فأمّا الذّي في الجنّة فرجل عرف الحقّ وقضى به.

ورجل عرف الحقّ فجار في الحكم فهو في النّار.

ورجل قضى للنّاس على جهله فهو في النّار » (2).

ورفع إلى أبي عبد اللّه الإمام الصادق علیه السلام قوله : « القضاة أربعة ، ثلاثة في النّار وواحد في الجنّة :

رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النّار.

ص: 331


1- راجع شرائع الإسلام للمحقّق الحليّ كتاب القضاء في الصفات.
2- جامع الاُصول 10 : 545 نقلاً عن أبي داود.

ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النّار.

ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النّار.

ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة » (1).

وقال الإمام عليّ علیه السلام عن من يتصدّى لمقام القضاء وليس له أهل : « ورجل قمش جهلاً ، موضع في جهال الاُمّة ، غار في أغباش الفتنة ، عمّ بما في عقد الهدنة ، قد سمّاه أشباه النّاس عالماً وليس به ، بكر فاستكثر من جمع ما قلّ منه خير ممّا كثر ... جلس بين النّاس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره فإن نزلت به إحدى المبهمات هيّأ لها حشواً رثّاً من رأيه ثمّ قطع به فهو من لبس الشُّبهات في مثل نسج العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ » (2).

وقال الإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام مشيراً إلى حراجة موقف القاضي ، وصعوبة إجراء الحق والعدل الذي هو هدف القضاء الإساسيّ : « الحقُّ أوسع الأشياء في التّواصف وأضيقها في التناصف » (3).

إنّ القضاء ليس شيئاً بسيطاً عادياً بل هو أمر مهمّ حتّى في أبسط الأشياء فقد روي أنّ صبيّين تحاكما إلى الإمام الحسن بن عليّ علیه السلام في خطّ كتباه وحكّماه في ذلك ليحكم أي الخطّين أجود فبصر به عليّ علیه السلام فقال : « يا بنيّ انظر كيف تحكم فإنّ هذا حكم ، واللّه سائلك عنه يوم القيامة » (4).

وقد وقع نظير هذه القضية للإمام عليّ علیه السلام نفسه فقد روى الإمام أبو عبد اللّه الصادق علیه السلام أنّ أمير المؤمنين علیه السلام ألقى صبيان الكتاب ألواحهم بين يديه ليخيّر بينهم فقال : « أما إنّها حكومة والجور فيها كالجور في الحكم ، أبلغوا معلّمكم إن ضربكم فوق ثلاث ضربات في الأدب اقتصّ منه » (5).

ص: 332


1- وسائل الشيعة 18 : 11 و 582.
2- نهج البلاغة : الخطبة 2. 216.
3- نهج البلاغة : الخطبة 2. 216.
4- مجمع البيان3 : 64 في تفسير قوله : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ ) .
5- وسائل الشيعة 18 : 11 و 582.

ولذلك قال النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « لسانُ القاضي بين جمرتين من نار حتّى يقضي بين الناس فإمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار » (1).

كما لذلك أيضاً اشترط الإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام على القاضي شُريح أن لا ينفذ قضاء حتّى يعرضه عليه ... قال الإمام الصادق علیه السلام : « لمّا ولّى أمير المؤمنين علیه السلام شريحاً القضاء اشترط عليه أن لا يُنفذ القضاء حتّى يعرضهُ عليه » (2).

ومن هنا أكد الإمام عليّ علیه السلام على الأشتر واليه على مصر ، في عهده المعروف ، أن يختار من يريدهم لمنصب القضاء ، اختياراً دقيقاً بقوله : « ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك ممّن لا تضيق به الاُمور ، ولا تمحكه الخصوم ولا يتمادى في الزّلّة ولا يحصر من الفيء إلى الحقّ إذا عرفه ، ولا تشرف نفسه على طمع ، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه ، وأوقفهم في الشّبهات ، وآخذهم بالحجج وأقلّهم تبرُّماً بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشّف الاُمور ، وأصرمهم عند اتّضاح الحكم ، ممّن لا يزدهيه إطراء ، ولا يستميله إغراء ، واُولئك قليل ، ثمّ أكثر تعاهد قضائه ... » (3).

ولخطورة مقام القضاء لا يجوز إلاّ للنبيّ أو وصيّه ، كما قال الإمام عليّ علیه السلام لشريح : « يا شريح قد جلست مجلساً لا يجلسه ( ما جلسه ) إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ ، أو شقيّ » (4).

وورد عن الإمام جعفر الصادق علیه السلام قوله : « اتّقوا الحُكومة ( أي القضاء ) إنّما هي للإمام العادل العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبيٍّ ( كنبيّ ) أو وصيّ (5). نبيّ » (6).

* * *

2. إستقلال القاضي الماليّ والسياسيّ

إنّ القاضي بما أنّه يتحمّل مسؤوليّة كبيرة وخطيرة لا مشابه لها بين أقرانها من

ص: 333


1- وسائل الشيعة 18 : 1. 6 ، 7.
2- وسائل الشيعة 18 : 1. 6 ، 7.
3- نهج البلاغة : قسم الكتب 53.
4- وسائل الشيعة 18 : 1. 6 ، 7.
5- المراد بالوصيّ هو الأعم من الوصيّ المنصوص عليه بالاسم فيشمل المنصوص عليه بالوصف ، أي الذي جمع صفات القاضي المعتبرة في الإسلام.
6- وسائل الشيعة 18 : 7.

المسؤوليّات والمناصب الاُخرى ، يجب أن يكون مستقلاًّ في عمله غاية الاستقلال ، لكي لا يخضع لما يميل به عن العمل بمسؤوليّته ... ويقتضي ذلك أن يكون مستقلاًّ في اقتصاده عن الآخرين كيلا يقع فريسة الأطماع ، ولقد أدرك الإسلام هذه الناحية الحسّاسة فأمر الحكومة الإسلاميّة بالإغداق على القاضي إغداقاً يقطع طمعه عمّا في أيدي الآخرين ، يقول الإمام عليّ علیه السلام في عهده للأشتر النخعيّ في هذا الصدد : « وافسح لهُ ( أي للقاضي ) في البذل ما يزيل علّته ، وتقلُّ معه حاجته إلى الناس » (1).

ولكنّ هذا الاستقلال لا يكفي إذا لم ينضمّ إليه استقلال القاضي من أي تأثير خارجيّ سياسيّ عليه ، ومن أيّة تدخّلات صادرة عن السلطات الاُخرى في عمله القضائي فإنّ القاضي يجب أن يُترك وشأنه حتّى يستجلّي الحقّ بنفسه دون مؤثرات خارجيّة ولا تدخلات في عمله ... ولذلك قال الإمام عليّ علیه السلام في عهده للأشتر النخعيّ ، في هذا الصدد : « واعطه من المنزلة لديك ملا يطمعُ فيه غيرهُ من خاصّتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال لهُ عندك فانظر في ذلك نظراً بليغاً » (2).

والمقصود هو أن يكون للقاضي موضعاً غير متأثّر بأحد ليقضي بالحقّ ، ويفصل في الخصومات ، ويصدر الأحكام غير متهيّب ولا متأثّر وهذا هو ما يصطلح عليه السياسيّون اليوم باستقلال السلطة القضائيّة ، وتفكيكها عن بقية السلطات.

ولقد نبّه إلى هذا فقهاؤنا العظام استلهاماً ممّا لديهم من تعاليم الشريعة المقدّسة في هذا المجال ، قال المحقّق النائينيّ ( المتوفّى عام 1355 ه ) :

( إنّ ولاية الحاكم ترجع إلى قسمين : الأوّل الاُمور السياسيّة ، التي ترجع إلى نظم البلاد وانتظام اُمور العباد ، والثاني الإفتاء والقضاء ، وكان هذان المنصبان في عصر النبيّ والأمير علیه السلام بل في عصر الخلفاء الثلاثة لطائفتين وفي كل بلد أو صقع كان الوالي غير القاضي فصنف كان منصوباً لخصوص القضاء والإفتاء وصنف كان منصوباً لإجراء الحدود ونظم البلاد والنظر في مصالح المسلمين ، نعم اتّفق إعطاء كلتا الوظيفتين

ص: 334


1- نهج البلاغة : قسم الكتب الرقم 53.
2- نهج البلاغة : قسم الكتب الرقم 53.

لشخص واحد لأهليّته لهما إلاّ أنّ الغالب اختلاف الوالي والقاضي ) (1).

ولقد أعطى الإمام عليّ علیه السلام وهو إمام المسلمين على الإطلاق ، والحاكم الأعلى للاُمّة الإسلاميّة مثلاً عمليّاً على هذا الاستقلال القضائيّ السياسيّ حيث مكّن القاضيّ - بفضل هذا السلوك الإسلاميّ - من محاكمة حاكم المسلمين وأحد رعاياه في محكمة واحدة ... وذلك في قضيّة اليهودي مع الإمام عليّ علیه السلام :

فقد نقل المؤرّخون أنّه علیه السلام لمّا وجد درعه عند يهودي من عامّة الناس فأقبل به إلى أحد القضاة وهو شريح ليخاصمه ويقاضيه ، ولمّا كان الرجلان أمام القاضي قال عليّ : « إنّها درعي ولم أبع ولم أهب ». فسأل القاضي الرجل اليهوديّ ما تقول ؟ فقال اليهوديّ : ما الدرع إلاّ درعي ، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب وهنا التفت القاضي شريح إلى عليّ يسأله : هل من بيّنة تشهد أنّ هذه الدرع لك ؟ فضحك عليّ وقال « مالي بيّنة » فقضى شريح بالدرع لليهوديّ ، فأخذها ومشى وأمير المؤمنين ينظر إليه ! إلاّ أنّ الرجل لم يخط خطوات قلائل حتّى عاد يقول :

إمّا أنا فأشهد أنّ هذا أحكام أنبياء ، أمير المؤمنين يدينني إلى قاض يقضي عليه ثمّ قال : الدرع واللّه درعك يا أمير المؤمنين وقد كنت كاذباً فيما ادّعيت (2).

* * *

3. رعاية آداب القضاء وكيفيّته

إنّ الإسلام لم يكتف بالتشديد على أهميّة القضاء ، واعتبار صفات معيّنة في القاضي ، بل سنّ للعمل القضائيّ آداباً وسنناً أكّد على القاضي الأخذ بها في قضائه ليسلم من شوائب الظلم والحيف ، ويكون أقرب إلى الإنصاف والحقّ والعدل ، وقد لخّص فقهاؤنا هذه الآداب التي ذكرتها الأحاديث المتواترة ، في كتبهم الفقهيّة نشير إليها.

ص: 335


1- راجع منية الطالب 1 : 325.
2- بحار الأنوار 41 : 56 ، عليّ وحقوق الإنسان : 87 ، 88 لجورج جرداق مع اختلاف يسير.

قال المحقّق في شرائع الإسلام كتاب القضاء :

في الآداب [ أي آداب القضاء ] وهي قسمان مستحبّة ومكروهة ، فالمستحبّة :

1. أن يطلب من أهل ولايته من يسأله عمّا يحتاج إليه في اُمور بلده.

2. أن يسكن عند وصوله في وسط البلد لترد الخصوم عليّه وروداً متساوياً.

3. أن يجلس للقضاء في موضع بارز مثل رحبة أو فضاء ليسهل الوصول إليه.

4. أن يحضر من أهل العلم من يشهد حكمه فإن أخطأ نهوه لأنّ المصيب عندنا واحد ويخاوضهم [ أي يطرح عليهم القضايا ويتبادل معهم الرأي ] فيما يستبهم من المسائل النظريّة لتقع الفتوى مقرّرة ، ولو أخطأ فأتلف لم يضمن وكان على بيت المال.

5. وإذا تعدّى أحد الغريمين سنن الشرع عرّفه خطأه بالرفق.

والآداب المكروهة :

1. أن يتخذ حاجباً وقت القضاء.

2. أن يقضي وهو غضبان.

3. وكذا يكره مع كلّ وصف يساوي الغضب في شغل النفس كالجوع والعطش والغمّ والفرح والوجع ، ومدافعة الأخبثين ، وغلبة النعاس ..

4. أن يستعمل الانقباض [ والتقطيب في الوجه ] المانع من الإعلان عن الحجّة ، وكذا يكره إظهار اللين الذي لا يؤمن معه من جرأة الخصوم.

ثمّ ذكر مسائل من شأنها حصول الدقة في العمل القضائيّ كقوله :

إذا أفتقر الحاكم إلى مترجم لم يقبل إلاّ شاهدان عدلان ولا يقتنع بالواحد عملاً بالمتّفق عليه.

وإذا اتخذ القاضي كاتباً وجب أن يكون بالغاً عاقلاً مسلماً عدلاً بصيراً ليؤمن انخداعه ، وإن كان فقيهاً كان حسناً.

ص: 336

ويكره للحاكم أن يعنّت الشهود إذا كانوا من ذوي البصائر والأديان القويمة ؛ مثل أن يفرق بينهم لأنّ في ذلك غضّاً منهم ، ويستحب ذلك في وضع الريبة.

ولا يجوز للحاكم أن يتعتع الشاهد وهو أن يداخله في التلفّظ بالشهادة أو يتعقّبه بل يكفّ عنه حتّى ينهي ما عنده.

ويكره أن يضيف القاضي أحد الخصمين دون صاحبه ، لأنّ ذلك يكسب الخصم الضيف شيئاً من القوة.

ثم قال عن الرشوة : الرشوة حرام على آخذها ، ويأثم الدافع إن توصّل بها إلى الحكم له بالباطل ، ولو كان إلى حقّ لم يأثم ويجب على المرتشي إعادة الرشوة إلى صاحبها ولو تلفت قبل وصولها إليه ضمنها له.

ثمّ ذكر المحقّق الحليّ اُموراً في وظائف القاضي فقال : في وظائف القاضي وهي سبع :

الاُولى : التسوية بين الخصمين في السلام والجلوس والنظر والكلام والإنصات والعدل في الحكم.

الثانية : لا يجوز أن يلقّن أحد الخصمين ما فيه ضرر على خصمه.

الثالثة : يكره أن يواجه بالخطاب أحدهما لما يتضمّن من إيحاش الآخر.

الرابعة : إذا ترافع الخصمان وكان الحكم واضحاً لزمه القضاء ، ويستحبّ ترغيبهما في الصلح ، فإن أبيا حكم بينهما وإن أشكل أخّر الحكم حتّى يتّضح ولا حدّ للتأخير إلاّ الوضوح.

الخامسة : إذا ورد الخصوم [ في المحكمة ] مترتّبين بدأ بالأوّل فالأوّل فإن وردوا جميعاً قيل يقرع بينهم.

السادسة : إذا قطع المدّعى عليه دعوى المدّعي بدعوى ، لم تسمع حتّى يجيب عن الدعوى وينهي الحكومة ثمّ يستأنف هو.

ص: 337

السابعة : إذا بدر أحد الخصمين بالدعوى فهو أولى.

وهناك اُمور ذكرها على صعيد عمل القاضي جديرة بالمطالعة نترك ذكرها رعاية للإختصار.

وما ذكره هذا المحقّق وغيره من الفقهاء في آداب القضاء ووظائف القاضي ؛ خلاصة نصوص صريحة وردت في هذه المجالات عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته وقد اكتفينا بنقل ما ذكره الفقهاء في كتبهم تاركين نقل النصوص ... رعاية للإيجاز لكنّنا تيمّناً نذكر بعض هذه الأحاديث :

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من ابتُلي بالقضاء فلا يقضي وهو غضبان » (1).

وقال أمير المؤمنين عليّ علیه السلام لشريح : « لا تُشاور [ أو لا تسار ] أحداً في مجلسك ، وإن غضبت فقم ولا تقضينّ وأنت غضبان » (2).

وقال علیه السلام : « من ابتلي بالقضاء فليواس بينهم في الإشارة وفي النّظر وفي المجلس » (3).

وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأوّل حتّى تسمع من الآخر فإنّك إذا فعلت ذلك تبيّن لك القضاء » (4).

وعن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال : « الرشا في الحكم هو الكفر باللّه » (5).

إلى غير ذلك من الأحاديث المتواترة على هذا الصعيد.

* * *

4. وجود البرامج الحقوقيّة والجزائيّة الصالحة

إنّ الأمر الرابع الذي يمكّن السلطة القضائيّة من أداء دورها الحسّاس والخطير في المجتمع هو وجود البرامج الحقوقيّة والجزائيّة الصالحة للقضاء لكي يقضي القاضي

ص: 338


1- وسائل الشيعة 18 : 156 ومثله في جامع الاُصول 10 : 549.
2- الوسائل 18 : أبواب آداب القضاء.
3- الوسائل 18 : أبواب آداب القضاء.
4- الوسائل 18 : أبواب آداب القضاء.
5- الوسائل 18 : أبواب آداب القضاء.

وفقها.

وقد وفّر الإسلام هذه البرامج والقوانين العادلة الصالحة للقاضي وذلك بالتعاليم التي زخر بها الكتاب والسنّة وسيرة الأئمّة الطاهرين ، ودوّنها الفقهاء في كتبهم الفقهيّة المفصّلة بدقّة وعناية وتفصيل. فإنّ القاضي يجد في هذه المصادر والبرامج أدقّ الحقوق والحدود وأعدلها ، ولو أخذ العالم في مجال القضاء بهذه البرامج والحقوق والحدود لعمّت العدالة كلّ أرجاء الأرض ، ولساد السلام والأمن ولاختفى الظلم والجور والشر.

ولقد أكّد الإسلام على القضاة أن يقضوا على ضوء الكتاب والسنّة ، وحرّم عليهم القضاء وفق أهوائهم وآرائهم الخاصّة.

هذا كلّه بالنسبة إلى البرامج الكليّة في صعيد العمل القضائيّ.

وأمّا تمييز الحق عن الباطل والمحق عن المبطل والمظلوم عن الظالم ومن له الحقّ ومن عليه ، فقد اعتمد الإسلام في تشخيصه وتمييزه على أوثق السبل وأكثر الوسائل اطمئناناً ، وهو الاستشهاد بالبيّنات والأيمان فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « إنّما أقضي بينكُم بالبّينات والأيمان » (1).

نعم إنّ الاعتماد على هذا الأصل في إثبات الحقّ لا يمنع عن الاعتماد على غيرهما ممّا يفيد للقاضي علماً عاديّاً ، ولأجل ذلمك قال الفقهاء : ويجوز للقاضي العمل بعلمه.

قال صاحب شرائع الإسلام : « الإمام علیه السلام يقضي بعلمه مطلقاً ، وغيره من القضاة يقضي بعلمه في حقوق الناس وفي حقوق اللّه سبحانه على قولين أصحّهما القضاء » (2).

الشهادة والشهود

ولقد اشترط الإسلام في الشهود شروطاً من شأنها أن تمنعهم من شهادة الزور

ص: 339


1- وسائل الشيعة 18 : أبواب كيفيّة الحكم ، الإيمان جمع اليمين أي الحلف والقسم.
2- شرائع الإسلام في آداب القضاء.

والإدلاء بما هو باطل ... وهذه هي الشروط :

1. البلوغ.

2. كمال العقل.

3. الإيمان.

4. العدالة.

5. إرتفاع التهمة فلا تقبل شهادة من يجرّ بشهادته نفعاً لنفسه.

وإليك نبذة عن الأحاديث في أهميّة وخطورة الشهادة وشروط الشاهد ، فقد روي حول أهميّة الشهادة وخطورتها وعظيم مسؤوليّتها أحاديث تفوق الحصر وكلّها تشدّد على أمر الشهادة بالإجماع ، ومن ذلك ما عن الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله إذ قال :

« من كتم شهادةً ، أو شهد بها ليهدر بها دم امرئ مسلم أو ليزوي بها مال امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه ظلمة مدّ البصر ، وفي وجهه كدوح تعرفه الخلائق باسمه ونسبه.

ومن شهد شهادةً حقّ ليحيي بها حقّ امرئ مسلم أتى يوم القيامة ولوجهه نور مدّ البصر تعرفه الخلائق باسمه ونسبه ... » (1).

ثمّ قال أبو جعفر الباقر علیه السلام : « ألا ترى أنّ اللّه عزّ وجلّ يقولُ : ( وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ ) » (2).

وما روي عن الإمام الصادق علیه السلام : « شاهد الزور لا تزولُ قدماهُ حتّى تجبُ لهُ النّارُ » (3).

وما روي عن النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « من شهد شهادة زُور على أحد من النّاس عُلّق بلسانه مع المنافقين في الدّرك الأسفل من النّار ، ومن حبس عن أخيه المسلم شيئاً من

ص: 340


1- وسائل الشيعة 18 : أبواب الشهادات.
2- وسائل الشيعة 18 : أبواب الشهادات.
3- وسائل الشيعة 18 : أبواب الشهادات.

حقّه حرّم اللّه عليه بركة الرزق إلاّ أنّ يتوب » (1).

وحول شروط الشهادة والشاهد جاءت روايات وأحاديث كثيرة مثلما :

عن أبي عبد اللّه الصادق علیه السلام : « لا تشهد بشهادة حتّى تعرفها كما تعرف كفّك » (2).

بل واشترط الإسلام أن تكون الشهادة عن يقين وعلم كما يعرف ذلك من الأحاديث الناصّة على ذلك ومنها قوله صلی اللّه علیه و آله وقد سئل عن الشهادة : « هل ترى الشّمس ؟ على مثلها فاشهد أو دع » (3).

وعن أبي عبد اللّه الصادق علیه السلام أيضاً لمّا سئل عمّن لا تقبل شهادته قال : « الظنّين والمتّهم ».

فلما قيل : والفاسق والخائن ؟ قال : « ذلك يدخل في الظّنين » (4).

وقال علیه السلام أيضاً : « لا تجوز شهادة ولد الزّنا » (5).

وقال علیه السلام : « لا تقبل شهادة شارب الخمر ولا شهادة الّلاعب بالشّطرنج والنّرد ولا شهادة المقامر ولا ذي غمز على أخيه ولا السّائل بكفّه لأنّه لا يؤمن على الشهادة وذلك لأنّه إذا أعطي رضي وإن منع سخط » (6).

إلى غير ذلك من الروايات.

لا استئناف ولا تمييز

هذا وحيث أنّ الإسلام يساوي بين جميع أفراد البشر ، ويسوّي بينهم أمام القانون لم يكن في القضاء الإسلاميّ أيّة امتيازات.

ص: 341


1- وسائل الشيعة 18 : أبواب الشهادات.
2- وسائل الشيعة 18 : الباب (20) من أبواب الشهادات الحديث (3).
3- وسائل الشيعة 18 : أبواب الشهادات.
4- وسائل الشيعة 18 : أبواب الشهادات.
5- وسائل الشيعة 18 : أبواب الشهادات.
6- وسائل الشيعة 18 : أبواب الشهادات.

فليس في الإسلام محاكم خاصّة بالعسكر ، واُخرى عاديّة ، واُخرى خاصّة بأصحاب الرتب العالية ، والمناصب الرفيعة.

ثمّ بما أنّ الإسلام يشترط في تعيين القضاة شرائط معيّنة لا تتوفّر إلاّ في الصالحين العدول الأتقياء من الرجال ، لا يوجد هناك في القضاء الإسلاميّ استئناف ولا تمييز إذ على القاضي الصالح أن لا يحكم إلاّ بعد أن يحصل على الأدلّة والإثباتات الكافية للحكم فيندر لذلك وقوع الخطأ ... بل قد ينعدم أصلاً ... هذا مع العلم أنّ المبرّر لوجود الاستئناف في المحاكم الراهنة هو كثرة وقوع الخطأ في أحكامها لخلوّها عن الشرائط الدقيقة التي اعتبرها الإسلام.

نعم إذا تبيّن لقاض آخر خطأ القاضي في حكمه جاز له نقضه والحكم بما يقتضيه الحقّ.

قال صاحب الشرائع : « كلّ حكم قضى به الأوّل وبان للثاني فيه خطأ فإنّه ينقضه » (1).

وقال صاحب الجواهر في شرح الشرائع : « إنّ الحكم ينقض في موردين :

الأوّل : إذا خالف الحكم الأوّل دليلاً علميّاً لا مجال للاجتهاد فيه ، أو دليلاً أجتهاديّاً لا مجال للاجتهاد بخلافه إلاّ غفلة أو نحوهما.

الثاني : إذا تراضى الخصمان على تجديد الدعوى وقبول حكم الحاكم الثاني ، ولا ينقض في غير ذلك » (2).

على أنّ ما ذكرناه لا يمثّل إلاّ جوهر القضاء الإسلاميّ ، والخطوط العريضة لهذه السلطة وبرامجها ووظائفها وغاياتها ، أمّا اختيار الترتيبات والأشكال التي تحقّق هذا الجوهر ، وكيفيّة الأجهزة التي تقوم بهذه المهمّة الخطيرة فمتروك لمقتضيات الحاجة والزمن.

ص: 342


1- شرائع الإسلام : كتاب القضاء وآدابه.
2- جواهر الكلام 4 : 79.

الفصل السادس: حول أهمّ خصائص الحكومة الإسلاميّة

اشارة

قد تبيّن ممّا ذكرنا سلفاً لون وصيغة الحكومة الإسلاميّة وتركيبتها ، وأنّها تختلف عن سائر الحكومات الرائجة قديماً وحديثاً من ملوكيّة استبداديّة أو دستوريّة أو ديمقراطيّة ، أو غيرها من أشكال الحكومات التي سبق الإلماع إليها.

ولا شكّ أنّ هذا الاختلاف الجوهريّ يستتبع الاختلاف في الآثار والخصائص والمعطيات ؛ إذ ليس من المعقول أن تختلف الحكومة الإسلاميّة عن سائر الحكومات في الصيغة والجوهر ، ولا تختلف عنها في الآثار والخصائص والمعطيات.

فللحكومة الإسلاميّة مميّزات ذاتيّة تتعلّق بجوهرها ، ووصفيّة تتعلّق بآثارها ومعطياتها.

ولا بدّ من القول بأنّها تمتاز بخصائص يفتقر إليها أي نظام آخر غير نظام الحكم الإسلاميّ.

ولمعرفة هذه الخصائص والمميّزات عقدنا الفصل التالي ، وهي ليست - في الحقيقة - إلاّ بعض الخصائص.

ص: 343

خصائص الحكومة الإسلاميّة ومميّزاتها

اشارة

1

الحكومة الإسلاميّة حكومة عالميّة

اشارة

بينما كان البعض - في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ينادي بإحياء فكرة القوميّة عند الشعوب ، وكان هناك من يعمل لها ويدافع عنها بقوّة تحت أسماء وعناوين مختلفة وتبريرات متنوّعة برزت فجأة فكرة « الاُمميّة العالميّة » وراجت الفكرة القائلة بضرورة تشكيل حكومة عالميّة واحدة تتقوّى وتشتدّ في نظر المفكرين الغربيين كحلّ للتخلّص من المطاحنات والحروب والمذابح التي كان العالم يشهدها باستمرار.

وقد ساعدت نتائج الحربين العالميتين الاُولى والثانية على تأكيد هذه الضرورة ، وترسيخ هذه الفكرة ، فقد أدرك اُولئك المفكّرون ومن تبعهم بأنّ الحدود والفواصل المصطنعة بين الشعوب والاُمم هي السبب الوحيد والعامل الأساسيّ لظهور الحروب والمشاحنات الدامية ، وأن لا مخلص من هذه الحروب والمآسي - حسب نظرهم - إلاّ بزوال تلك الحدود والفواصل وانضواء الجميع تحت راية حكومة واحدة.

إنّ الحرب كانت ولا تزال أمراً جديراً بأن تخشاه البشريّة وتتجنّبه وتتقيه ، ولكن

ص: 344

الحربين الكونيتين الاُولى والثانية زادت من قلق الإنسان وخوفه واستيحاشه وعمّقت لديه النفرة والخشية من الحرب ، لأنّهما كانتا - بحقّ - أشدّ جميع الحروب ضراوة ووحشيّة في تاريخ البشريّة !!! وكانتا سبباً لمقتل ملايين عديدة من البشريّة الأبرياء على أيدي البشر أنفسهم ، وكانتا سبباً لإهدار ملايين الملايين من ثرواته بحيث بلغت الأضرار البشريّة في الحرب العالميّة الاُولى وحدها ما يقارب (9) ملايين قتيل و (22) مليون مُقعد ومعوّق حرب و (10) ملايين من مفقودي الأثر !!!

وأمّا خسائر الحرب العالميّة الثانية فقد كانت - بحكم كونها أشدّ ضراوة ووحشيّة - أضخم من الاُولى بحيث قدر عدد الأرواح التي زهقت بثلاثين مليوناً فيما قاربت الخسائر الماديّة المليارد دولاراً على وجه التقريب !!!

كلّ هذه المذابح الرهيبة والخسائر الجسيمة في الأرواح والمعدّات التي أفرزتها الحرب الاُولى ، سببّت ظهور هيئة دولية باسم « عصبة الاُمم » التي تأسّست في أعقاب تلك الحرب واتّحد فيها 26 دولة ليمنعوا - في ظل هذا الاتحاد والتجمّع - من إراقة المزيد من الدماء ، ويتمكّنوا في ظل هذه المنظمة الدوليّة من حلّ المشكلات العالميّة عن طريق المفاوضات لا الحروب ، وعن طريق المنطق المبرهن لا السلاح المدمّر ، بيد أنّ تأسيس هذه المنظمة حيث كان ناقصاً وفاقداً لبعض الاُمور والشرائط لذلك لم تستطع تجنيب العالم من شرور حرب اُخرى ... فقد تورّطت البشريّة في حرب أكثر دماراً ، وفناء هي الحرب العالميّة الثانية (1) التي أنهكت البشريّة بنيران دباباتها وقنابلها وأسلحتها الفتّاكة المدمّرة وانتهت بمذبحة عظيمة ، ومفجعة ، ورهيبة وإلى تحول سياسيّ وانقلاب فكريّ في كثير من القيم الحضاريّة والمعايير والأفكار السائدة آنذاك.

وفي خلال الحرب الثانية - هذه - تأكّدت فكرة تأسيس منظمة عالميّة ، ومجمع دولي على اُسس أكثر واقعيّة ، وفي إطار أكثر شموليّة فبرزت - إلى الوجود - « هيئة الاُمم المتّحدة » التي وضعت نواتها في ديسمبر عام 1943 واستطاعت منذئذ أن تحول دون

ص: 345


1- يراجع كتاب الحرب العالمية الاُولى والثانية.

وقوع حروب عالميّة خطيرة بين الدول كما حدث في السابق.

وقد شرحت أهداف وغايات هذه المؤسسة العالميّة الكبرى في ما يسمى ب : ميثاق الاُمم المتحدة.

ويعتبر تأسيس هاتين المنظّمتين العالميتين - في الحقيقة - خطوة عمليّة وإيجابيّة في سبيل تحقيق ما تمنّاه الإسلام ونادى به منذ أربعة عشر قرناً مع ما بين الأمرين من الفروق في الوسائل والأساليب والأهداف ، فقد تمنّى الإسلام منذ ذلك الزمن السحيق أن تنسى البشريّة خلافاتها ، وتضرب صفحاً كلّ الحدود والفواصل المصطنعة الموهومة بينها وتتّحد تحت لواء الأخوة والوحدة ، وتنضوي تحت حكومة واحدة تراعي مصالح الجميع وتحفظ كرامة الجميع ، وتصون أمن الجميع بلا تفرقة ولا تمييز ... وحينئذ فلا تكون مطاحنات ولا حروب ولا مشاحنات ولا مآسي ولا ويلات.

لقد توصّل العالم إلى تأسيس منظمة الاُمم المتحدة ويتكهّن المفكّرون الكبار والسياسيّون العالميّون بأن تصبح هذه المنظمة التي هي بمثابة « برلمان عالميّ موحّد » مركزاً لحكومة عالميّة موحّدة ، وأن يتحوّل أصدقاء البشريّة من المناداة بالقوميّة ، والدعوة إليها ، إلى الوحدة العالميّة ، أو بالأحرى إلى الحكومة العالميّة الموحّدة ، التي تحقّق توحيد كلّ شعوب الأرض وتحقّق تساويهم.

ولكن ما هو الطريق الطبيعيّ السليم إلى تحقيق هذه الاُمنيّة المحبّبة ، وهذا الأمل العالميّ المرغوب وهل يمكن أن تصل هيئة الاُمم المتحدة إلى هذا الهدف ، فهو بحث طويل ومفصل لا بدّ من إفراد مجال مستقلّ له بيد أنّ الدلائل والشواهد الراهنة والصراعات الحامية الدامية المبعثرة هنا وهناك والأحداث الأليمة المرّة التي يعاني منها العالم كلّه بل والاختلافات التي تشهدها أروقة هيئة الاُمم المتّحدة نفسها وما تعاني منه هذه المؤسّسة من تنفيذ قراراتها وتطبيق أحكامها يجعلنا نقطع بأنّ هذه الهيئة ليست قادرة على إقرار السلام والأمن والاستقرار في المستوى العالميّ ، فالوقائع تشهد بأنّ العالم يعيش الآن على كفّ عفريت ، وأنّ مبدأ توازن القوى هو الذي يكبح جماح الدول لا

ص: 346

منطق الفكر ومبادئ الاخوة الإنسانيّة ... ومن يدري ماذا سيحلّ بالبشريّة لو اختلّ توازن القوى ... ومن يدري ماذا ستكون أبعاد الانفجار البشع ، ومدى ويلاته ومآسيه ...

إنّ عجز هيئة الاُمم عن تحقيق السلام والاستقرار العالميين دفع ببعض المفكّرين والاجتماعيين إلى طرح فكرة الحكومة العالميّة الواحدة التي يكون العالم بموجبها ذا تشكيلات سياسيّة واحدة ، بأن يكون للمجتمع الدوليّ برمّته :

1. سلطة تشريعيّة واحدة.

2. سلطة تنفيذيّة واحدة.

3. سلطة قضائيّة واحدة.

وقد ذكروا لتبرير هذه الفكرة وتوجيهها بما جاء في بيانهم الذي نشروه في مؤتمرهم بطوكيو عام 1963 م :

( إنّ السلام الدائم والشامل لا يتحقق بتوقيع المواثيق وتبادل الوعود بين القادة السياسيّين فلا بدّ للحصول على السلام الواقعي والدائم والشامل من أن نتوسّل بحكومة عالميّة واحدة تعتمد على برلمان ومحاكم وجيش عالميّ موحّد ، إذ في ظلّ هذه الحكومة العالميّة الموحّدة فقط يمكن أن نحصل على الاستقرار والثبات ).

وتدعو هذه الفكرة بالتفصيل إلى إيجاد وتأسيس الاُمور التالية :

1. برلمان عالمي ؛ يشترك في عضويته جميع الشعوب العالميّة ، ويكون لكلّ واحد منها حقّ الرأي والعضويّة بنسبة عدد نفوسها ، فيكون للشعوب الأكثر أفراداً ، حظاً أكثر من العضويّة والرأي.

2. مجلس أمن يشترك في عضويّته عدد أكثر من الدول والأعضاء ولا يقتصر على الدول الخمس كما هو الحال في مجلس الأمن الفعليّ ، ويتولّى هذا المجلس تنفيذ مقرّرات البرلمان العالميّ المذكور ، ويكون مسؤولاً اتّجاه البرلمان.

3. جيش عالمي ؛ يكون في حقيقته جيش سلام ، ويكون تابعاً لإرادة مجلس الأمن

ص: 347

للقيام بحفظ السلام والاستقرار العالميّين.

4. مكتب عدل دوليّ يتولّى تفسير قوانين البرلمان ومقرّراته وملاحقة التخلّفات والتجاوزات ، بما لديه من محكمة دوليّة وأجهزة مختصّة.

هذه الفكرة وما سواها ممّا يطرحها المفكّرون ، وطلاّب السلام والاستقرار في العالم ، رغم أنّها قد تبشّر بإمكان قيام مثل هذا التكتل العالميّ الواحد والحكومة الواحدة المنشودة إلاّ أنّها محكوم عليها بالفشل - مسبقاً - لأسباب عديدة أهمّها فقدان أصحاب هذه الفكر والاطروحات لحسن النوايا ، والفضائل الأخلاقيّة الإنسانيّة التي يجب توفّرها لدى أمثالهم.

هذا مضافاً إلى عدم وجود عامل أهمّ وهو ما يضمن استقامة هذه الحكومة - لو فرض تحققّها - بحيث لا تتحوّل إلى غطاء لأهداف الدول العظمى التوسعيّة ونواياهم ومطامعهم الاستعماريّة ، وتؤول إلى ما آلت إليه عصبة الاُمم وهيئتها من قبل ، وتصبح أداة طيّعة بيد تلكم الدول لتظليل الدول الصغار وخداعها ... كما هو شأن كلّ المنظمات الفعليّة المنادية بالدفاع عن حقوق الإنسان !!

إنّ فقدان هذه الضمانات هو أهمّ ما سبّب فشل المنظمات القديمة ... ويسبّب فشل المنظمات الاُخرى أيضاً.

إنّ أصحاب هذه المؤسّسات والمنظمات العالميّة ما لم يطهّروا أنفسهم من حبّ الذات وعبادتها وما لم يخلصوا نواياهم من العجب والمكر ، وما لم يؤمنوا بالإنسان وحقوقه بصدق وإخلاص لم تطمئنّ إليهم الشعوب ، ولم يطمئنّ إلى منظماتهم مستضعفوا البشر.

وهكذا الحال بالنسبة إلى أصحاب فكرة الحكومة العالميّة الواحدة والدعاة إليها.

إنّ أصحاب هذه النظريّة ما لم يعشقوا الإنسان بإخلاص وصدق ، وما لم يحبّوا البشريّة حبّاً يلمس شغاف القلوب ، وتمسّ حرارتها عمق الضمير فلن تلق فكرتهم

ص: 348

قبولاً من الشعوب التي طالما جرّبت هذه الدعوات ولم تجد فيها خيراً ولا صدقاً ولا نفعاً ، إذ كيف يمكن القبول بدعوة من لا تتوفّر فيه الصفات الإنسانيّة ولا يكون كما قال الإمام عليّ علیه السلام وهو يكتب إلى واليه على مصر : « ولا تكُن عليهم ( على الرعية ) سبُعاً ضارياً ، تغتنمُ أكلُهم ، فإنّهُم صنفان :

إمّا أخ لك في الدّين

وإمّا نظير لك في الخلق » (1).

إنّ للإسلام - بما هو دين متكامل وشريعة خالدة - نظاماً اجتماعيّاً وسياسيّاً شاملاً يكفل كافّة الاحتياجات البشريّة ولو طبّق كما هو ؛ لعمّ الخير الحياة كلّها ، ولسادت الاخوة كلّ بني آدم بجميع ألوانهم ، وأشكالهم ، وجنسيّاتهم وقوميّاتهم ، وتحقّق ما يسعى إليه المفكّرون المهتمّون بالسلام والاستقرار في العالم من الوحدة والألفة والاجتماع.

إنّ أهمّ دليل يدلّ على أنّ الإسلام يسعى إلى تحقيق هذه الوحدة العالميّة هو أنّه لم يحصر دعوته على جماعة دون جماعة ، وقوميّة دون اُخرى ، بل وجّه نداءه إلى جميع البشريّة منذ البداية للأخذ به وبشرائعه بوصفها أكمل الشرائع وأفضلها إذ قال : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) ( سبأ : 28 ).

وقال : ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) ( الأعراف : 158 ).

وقال : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) ( التوبة : 33 ).

لقد وسّع النبيّ الكريم صلی اللّه علیه و آله في العام السادس والسابع من الهجرة ، نطاق دعوته المباركة وبدأ دعوته العالميّة بمراسلة ملوك عصره ورؤسائه في الجزيرة العربيّة وخارجها يدعوهم إلى الانضمام إلى دعوته ، والانضواء تحت راية الإسلام الحنيف

ص: 349


1- نهج البلاغة : قسم الرسائل (53).

كافّة (1) ، وإنّ مراجعة واحدة لمجموعة الرسائل والمكاتيب النبويّة وسيرة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وسيرة أصحابه وما تحقّق من فتوحات على أيدي المسلمين تكشف عن أنّ الإسلام بدأ في صورة دعوة إلى حكومة عالميّة تعيش في ظلّها الشعوب المختلفة جنباً إلى جنب بلا فوارق ولا فواصل ودونما مطاحنات أو مشاحنات ولكن سعي الإسلام هذا كان مبتنياً على اُسس معقولة ومنطلقاً من حقائق يكون التنبيه إليها ضماناً لتحقيق ما أراده الإسلام ، ولم تكن دعوة الإسلام مجرّد ادّعاء ودعوة فارغة لا تقوم على شيء فما هي هذه الاُسس ؟

الاُسس الفكريّة للحكومة العالميّة

إنّ الإسلام يقيم دعوته إلى حكومة عالميّة واحدة على سلسلة من الاُسس والمبادئ الفكريّة الضامنة للوحدة بين شعوب الأرض ، وهي عديدة أهمّها وأبرزها : « المساواة بين جميع أبناء البشر » فالإسلام ينبه البشر إلى أنّهم متساوون في الخلق فكلّهم من آدم وحواء وكلاهما من تراب وهم متساوون في الإنسانيّة والمشاعر البشريّة ومتساوون في المصير فكلّهم راجعون إلى اللّه تعالى وإذا كانوا كذلك فلماذا يختلفون في القوميّة ، ولماذا يتميّز بعضهم على بعض بالعنصر ، أو الأرض ، أو غير ذلك من ألوان التمييز الظالم ودواعيه الوهميّة وإلى هذا يشير قول اللّه تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ ) ( الحجرات : 13 ) (2).

وقوله سبحانه : ( إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ) ( المائدة : 48 ).

إنّ هاتين الآيتين وماشابههما من الآيات القرآنيّة تعلن بصراحة عن وحدة أبناء

ص: 350


1- راجع كتابي : الوثائق السياسيّة ، ومكاتيب الرسول ، وسيوافيك قسم من هذه الكتب في الجزء الثالث من موسوعتنا هذا ، عند البحث عن كون دعوة الرسول دعوة عالميّة لا إقليميّة.
2- إنّ الملاحظ أنّ القرآن وجّه أكثر دعواته إلى الناس فقال ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ) ولم يوجهها إلى طائفة خاصّة فلم يقل يا أيّها القريشيّون أو يا أهل مكّة ، أو يا أهل الحجاز أو أيّها البيض أو أيّها العرب.

الإنسان مبدأ ومصيراً ... ووحدتهم أصلاً ونهاية ، وتنهي كلّ ألوان التمييز العنصريّ ، والقوميّ وكلّ دواعيه الخياليّة ، فالإسلام لا يقر الحدود والأجناس والقوميّات والعنصريّات كعوامل واُمور تسوّغ التفريق بين أبناء البشر ، وترفع جماعة وتضع اُخرى.

وبهذا يرسي قواعد حكومة عالميّة واحدة ذات نظام إلهيّ توحيديّ واحد تدار فيها جميع المجتمعات البشريّة بمجموعة واحدة من القوانين الالهيّة المطابقة للفطرة الإنسانيّة والطبيعة البشريّة ، ويخضع العالم برمّته - في ظلالها - لاقتصاد واحد وسياسة واحدة وقضاء واحد ومحكمة واحدة ، ومعتمداً على جيش قويّ واحد ... ويستفيد جميع أبناء البشر من جميع المواهب الالهيّة الطبيعيّة بصورة متساويّة ، لا أن يحتكر بلد صغير جداً موارد طبيعيّة ضخمة وهائلة تكفي لأن يعيش بها عشرات الملايين بل ومئاتها ، بينما يرزح كثير من الناس في البلاد الاُخرى تحت حال يرثى لها من الحرمان والبؤس والفقر المدقع ، ويعانون من الجوع والجهل ، والعري والمرض ويموت منهم كلّ يوم عشرات الآلاف بل مئات الآلاف نتيجة الفقر ، ونقصان المواد الغذائيّة ، وما شابه ذلك.

وبذلك نعرف أنّ الدعوات القائمة - اليوم - باسم القوميّة ، والعنصريّة والطبقيّة ما هي إلاّ خطوات مضادّة لاطروحة الحكومة العالميّة الموحّدة التي سبق الإسلام إلى المناداة بها والدعوة إليها بإصرار.

لقد شجب الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله في خطابه التاريخيّ عند عودته من حجّة الوداع ، كلّ ألوان التمييز والتفرقة بين أبناء البشر وقال : « لا فضل لعربيّ على أعجميّ ولا لأعجميّ على عربيّ إلاّ بالتّقوى » (1).

وقال : « كلّكم من آدم وآدم من تراب » (2).

وقال : « أيّها الناس أنّ اللّه أذهب عنكم نخوة الجاهلية ، وتفاخرها بآبائها ألا انّكم من آدم وآدم من طين » (3).

ص: 351


1- تحف العقول : 1. وسيرة ابن هشام 2 : 414.
2- تحف العقول : 1. وسيرة ابن هشام 2 : 414.
3- سيرة ابن هشام 2 : 412.

وقال : « ألا أنّ خير عباد اللّه عبد اتّقاه إنّ الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثّل أسنان المشط لا فضل لعربيّ على أعجميّ ولا لأحمر على أسود إلاّ بالتقوى » (1).

وقال : « إنّما الناس رجلان : مؤمن تقيٌّ كريم على اللّه ، أو فاجر شقيٌّ هينٌّ على اللّه ».

وقال : « ألا أنّ العربيّة ليست بأب والد ، ولكنّها لسان ناطق ، فمن قصر به عمله لم يبلغ به حسبه » (2).

وقال : « ليدعنّ رجال فخرهم بأقوام ، إنّما هم فحم من فحم جهنّم. أو ليكوننّ أهون على اللّه من الجعلان التي تدفع بانفها النتن » (3).

وقال عليّ علیه السلام : « أصل الإنسان لبُّه وعقله ودينه ومروّته حيث يجعل نفسه ، والأيام دول والنّاس إلى آدم شرع سواء » (4).

إنّ مثل هذا الموقف الإنسانيّ الصحيح من البشريّة يمكن أن يكون قاعدة فكريّة أساسيّة لتشكيل حكومة عالميّة موحّدة تقضي على كلّ ألوان الصراع والتشاحن ، وتزيل أسباب الحروب الدامية ، وينعم في ظلالها جميع البشريّة بالسعادة والعزّة والاستقرار والثبات ، ويستفيد فيها الجميع من النعم الإلهيّة والمواهب الطبيعيّة على قدم المساواة ، دونما تفضيل أو تمييز ، ودونما إجحاف أو ظلم.

قال عليّ علیه السلام : « أفضل النّاس - أيُّها النّاس - عند اللّه منزلةً وأعظمهم عند اللّه خطراً أطوعهم لأمر اللّه وأعلمهم بطاعة اللّه ، واتبعهم لسنّة رسول اللّه وأحياهم لكتاب اللّه ، فليس لأحد من خلق اللّه عندنا فضل إلاّ بطاعة اللّه وطاعة رسوله واتباع كتابه وسنّة نبيّه ، وهذا كتاب اللّه بين أظهرنا وعهد نبيّه وسيرته فينا لا يجهلها إلاّ جاهل مخالف معاند عن اللّه عزّ وجلّ يقول اللّه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ ) ( الحجرات : 13 ) فمن اتقى اللّه فهو الشريف المكرم المحبُّ كذلك أهل طاعته وطاعة رسوله » (5).

ص: 352


1- الفقيه 2 : 27 باختلاف يسير ، والكافي 2 : 246.
2- سنن أبي داود 2 : 625.
3- سنن أبي داود 2 : 624.
4- أمالي الصدوق : المجلس 42.
5- تحف العقول : 183.

خصائص الحكومة الإسلامية ومميّزاتها

2

الإيمان ملاك تكوّن الاُمّة الإسلاميّة

اشارة

( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ )

( الأنبياء : 92 ).

بماذا تتكون الاُمّة ويتحقّق مفهومها :

إنّ أوّل مسألة تطرح نفسها عند الحديث عن الحكومة الإسلاميّة ، هو السؤال عمّا به تتكوّن الاُمّة الإسلاميّة ، وما يكون ملاكاً لأن يكون الفرد بسببه جزءاً من هذه الاُمّة أو لا يكون ، وبالأحرى ، ما هي العناصر التي تحقّق مفهوم الاُمّة الإسلاميّة وتستحقّ بها إطلاق عنوان الاُمّة عليها ، فإنّ الملاك الذي يجعل الفرد جزءاً من الاُمّة الإسلاميّة أو يخرجه عنها هو الذي يكون موضوعاً للحقوق ، ومناطاً لها وهو الذي يقرّر ما له وما عليه في إطار الاُمّة الإسلاميّة التي ينتمي إليها بسبب ذلك الملاك.

إنّ الملاك الذي يحقّق مفهوم الاُمّة وبموجبه يقوّم كيانها هو الذي يحدّد نوع

ص: 353

العلاقات بين أفراد الاُمّة الواحدة أنفسهم ونوع العلاقات بينهم وبين الخارجين عن إطار هذه الاُمّة : فما هو إذن ذلك الملاك ( الملاك ) الذي يحقّق مفهوم الاُمّة الإسلاميّة ويصنع حقيقتها ويستتبع حقوقاً وواجبات خاصّة ... وما هي الرابطة التي تجعل الفرد جزءاً من هذه الاُمّة أو تخرجه من إطارها ، ويفترض وجودها نمطاً واحداً من المقرّرات ؟

مكوّنات الاُمّة عند الحقوقيّين

إنّ العناصر التي تحقّق مفهوم الاُمّة وتكوّن واقعها الخارجيّ - في نظر الحقوقيّين - وتميّز جماعة عن اُخرى هي عبارة عن وحدة أفراد تلك الجماعة في إحدى هذه الاُمور أو جميعها :

1. الأرض.

2. الدم والعنصر ( أو الجنس والأصل ).

3. اللغة.

4. التاريخ.

5. المصلحة المشتركة (1).

فهذه العناصر كلّها أو بعضها إذا توفّرت لدى جماعة ، كانوا بذلك ( اُمّة ) خاصّة تختلف عن الاُمم الاُخرى ، وقد بنى دعاة القوميّة أساس دعوتهم على هذه الوحدات ، وميّزوا بها شعوبهم عن غيرها.

ولكنّ هذه العناصر ، التي اعتبرها بعض الحقوقيّين ملاكات لتحقيق مفهوم الاُمّة ووجودها ، وإن كان لها بعض التأثير في تمييز جماعة بشريّة عن اُخرى إلاّ أنّها لا يمكن أن تكون صانعة لمفهوم الاُمّة ، وواقعها الخارجيّ. لأنّها عناصر خارجة عن إرادة الإنسان وحدود اختياره. ومن المعلوم أنّ الاجتماع الحاصل عن ملاكات خارجة عن إطار الاختيار والإرادة لا تشكّل اجتماعاً حقيقيّاً يستحقّ صفة الاُمّة.

ص: 354


1- راجع الاُمّة والعوامل المكوّنة لها لمحمّد المبارك.

إنّ هذه العناصر وإن كانت تجمع جماعة من الناس ، فإنّ هناك اُموراً اختياريّة تفرّقهم ، وتبدّل هذا الاجتماع إلى الفرقة فلا تتحقّق - عندئذ - الاُمّة التي تعني وحدة الجماعة على اُسس جامعة لا تقبل تفكّكاً ولا تنالها أيدي التمزيق.

إنّ ( الاُمّة ) هي الجماعة التي يلتقي أفرادها على رابطة جامعة حقيقيّة وهي لا تكوّن إلاّ ما يشترك فيه الأفراد اشتراكاً اختيارياً اراديّاً ، ويكون قادراً على جمعهم حول محور واحد ، ودفعهم في مسير واحد بحيث يحسّ البعض باحساس الآخر ويتألم لتألمّه ، ويطلب للغير ما يطلبه لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه وهذا لا يحصل بالاتّحاد في المولد أو الاشتراك في الدم أو اللغة أو التاريخ وهم لا يشتركون في تلك الرابطة الجامعة الحقيقيّة.

وبتعبير آخر : انّ المجتمع الذي ينطوي على تباين في الاُسس الفكريّة ، واختلاف في الاتجاهات المسلكيّة ، وتنوّع في الآمال والمطاليب كيف يمكن أن يجتمع أفراده في وحدة متماسكة ، وتكون مجموعة بشريّة خاصّة تستحقّ إطلاق صفة الاُمّة عليها ؟

لا شكّ أنّ مثل هذه الاُمّة المختلفة في آرائها ، وأهوائها تؤول - لا محالة - إلى التفرّق ، وينتهي آخر أمرها إلى التفكّك إذ لا جامع حقيقيّ يجمعهم ، ولا رابط واقعي يربط بينهم.

إنّ مجرد الاتحاد والوحدة في الاُمور الخارجة عن الاختيار والإرادة كالملاكات التي ذكرها بعض الحقوقيّين لتكوّن مفهوم الاُمّة مع وجود الاختلاف والتباين في الآراء والأهواء ، وفي النظريّات والعقائد التي يقدسها الأفراد ويعتبرونها أعزّ الأشياء ويضحّون في سبيلها بالغالي والرخيص ، لا يجدي نفعاً في تشكيل الاُمّة الواحدة ، وتكوين الجماعة المتميّزة عن غيرها إلى درجة تستحقّ إطلاق الاُمّة عليها.

لنفترض مواطنين ولدا على أرض واحدة أو يعيشان عليها ، وينتميان إلى عرق واحد ، ويشتركان في اللغة والتاريخ ، ولكنّهما يختلفان في العقيدة والمسلك فيعتقد أحدهما بأصالة الفرد ، ويرى إعطاءه الحريّة المطلقة في كلّ المجالات ، بحجّة أنّ ما هو

ص: 355

الموجود والمؤثّر حقيقة هو الفرد وليس للمجتمع حقيقة وراء الأفراد ... فلا بدّ أن تضمن مصالح الفرد فقط ويجوز للفرد بسبب ذلك أن يفعل ما يريد لتحقيق غاياته الماديّة فيشعل نيران الحروب لكي يبيع على المتحاربين أسلحته ومعداته ، وقع ما وقع من المآسي والويلات !!.

بينما يعتقد المواطن الآخر نقيض هذا الرأي فيرى بحكم اعتقاده بأصالة المجتمع إعطاء الأولويّة للمجتمع ومصالحه ومسائله باعتبار أنّ بقاء الفرد ببقاء المجتمع فلا بدّ أن يخضع الفرد للمجتمع خضوعاً كاملاً ويضحّي بكلّ مصالحه في سبيل مصالح المجتمع ، فلا يأخذ من نتاج يده إلاّ ما يسدّ رمقه ... لينتعش المجتمع ، وتأمن مصالحه.

لنفترض هذين المواطنين المختلفين في الرأي والمسلك ، هل يمكن أن توحّدهم رابطة الدم أو التاريخ أو اللغة أو الميلاد على أرض واحدة ؟

وهل يكمن أن يتكوّن منهما - والحال هذه - اُمّة ذات طابع خاصّ ، ووحدة متميّزة ، وضمير واحد وإحساس واحد وعلاقة واحدة.

إنّ العناصر التي ذكرها الحقوقيّون وإن كان لها تأثير ما في تجميع الأفراد على صعيد واحد ، إلاّ أنّها ما لم تنضم إليها العوامل الإراديّة الاختياريّة لا يؤول توفّرها في جماعة إلى تكوّن الاُمّة بحقيقتها وجوهرها. فإنّ هذه العناصر ما لم تنضمّ إلى عامل الوحدة العقائديّة الاختياريّ ، الذي بإمكانه أن يهدم فقدانه أيّة وحدة ناشئة من الدم أو اللغة أو التاريخ أو الأرض ، لا تحقّق ( الاُمّة ) ولو تحقّقت لا تتجاوز حقيقتها عن اجتماع الأبدان مع التفرّق في الأهواء.

من هنا لا يكون ما جاء في البند الأوّل من وثيقة حقوق الإنسان من أنّ ( ابناء الإنسان إخوة من دون أي تمييز حتّى في الدين ) وجيهاً فكيف يكون رجلان إخوة وبينهما غاية التباعد والتباين في المسلك والفكر ، أم كيف يمكن أن تحصل الاُخوّة والحال هذه ؟

إنّ وحدة الأفراد وتحقيق مفهوم الاُمّة الواحدة رهن بأن يكون الأفراد مختارين في انتخاب ( شركاء ) حياتهم ، ومن يتّحدون معه وهو أمر لا يحصل إلاّ إذا كان بين

ص: 356

الشريكين وحدة الفكر ، فماذا تجدي وحدة الأرض أو اللغة وفي مقدور ( الاختلاف الفكري ) أن ينسف تلك الوحدة الناشئة من الأرض أو اللغة في أي لحظة من اللحظات ؟ ولأجل ذلك نجد القرآن الكريم يقيّم الاخّوة على أساس الإيمان فيصف المؤمنين بالإخوة قائلاً : ( إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) ( الحجرات : 10 ).

فاتّحاد الفكر والإيمان وحده هو القادر على جمع الأفراد ، لا وحدة الأرض مع اختلاف الرأي ، ولا وحدة اللغة مع اختلاف العقيدة ولا وحدة الدم مع اختلاف الاتّجاه.

فقد نقل أنّه كان أوّل من طرح فكرة بناء الاُمّة على العناصر والروابط المذكورة الخارجة عن نطاق الاختيار هو « جوبينو » حيث طرح وحدة العنصر أساساً للقوميّة الواحدة وجعل الاتحاد في العنصر مقوّماً من مقوّمات الاُمّة الواحدة ذات الصفة الخاصّة ، ولقد صارت هذه النظريّة أساساً للسياسات الخشنة التي تبنّاها موسوليني وهتلر ، وكانت أبرز عامل لوقوع الحرب العالميّة الاُوّلى التي جرّت على البشريّة أسوء الويلات.

المِلاك الإسلاميّ للاُمّة

ولكنّ الإسلام يجعل العامل المكوّن للاُمّة والذي يترتّب عليه التعامل والتعايش الخاصّ شيئاً آخر هو الوحدة في الإيمان ، فإنّ وحدة الناس في العقيدة والإيمان ( وهو أمر اختياريّ وله كلّ التأثير في الحياة الاجتماعيّة ) هي التي تصلح أن تكون أساس اجتماع الناس واتفاقهم بحيث يصحّ إطلاق وصف الاُمّة عليهم ... كما أنّ عدمها يوجب تفرّقهم وبطلان وصف الاُمّة في شأنهم.

إنّ لفظة الاُمّة تنطوي على وحدة الهدف الذي يقصد ، والغاية التي تؤم (1) ولا ريب أنّ وحدة الأيديولوجيّة والعقيدة هي التي تجعل الجماعة المعتنقة لتلك العقيدة ذات هدف واحد ، وغاية واحدة ومقصد واحد ... ولذلك فهي أجدر من غيرها ( من العناصر

ص: 357


1- خصوصاً إذا جعلنا الاُمّة مأخوذة من أمّ بمعنى قصد.

المذكورة لتكوّن الاُمّة ) على تكوين مفهوم الاُمّة ، وحقيقتها على الصعيد الخارجيّ.

وإلى هذا يشير القرآن ويرى أنّ الملاك الجامع بين أفراد المجتمع ، الصانع منهم اُمّة واحدة ليس هو إلاّ وحدة الإيمان باللّه إذ قال :

أ - ( إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) ( الحجرات : 10 ).

ب - ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) ( الأنبياء : 92 ).

ج - ( وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ) (1) ( المؤمنون : 52 ).

د - ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ) ( آل عمران : 110 ).

ه - ( فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ) ( التوبة : 11 ).

إنّ الناظر إلى هذه الآيات القرآنية الكريمة يلاحظ أنّ اللّه سبحانه جعل الاُمّة الإسلاميّة موضع خطابه بما هم مؤمنين وجعل ملاك الاخوة والاجتماع هو الإيمان ، ووحدة العقيدة. وقد صرّحت الأحاديث المرويّة عن النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله بهذا الموضوع في أكثر من موضع ، حتّى أنّ الأمر قد أصبح من أوضح الواضحات فقد ورد عن النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « أيُّها النّاس إنّ ربّكم واحد وإنّ أباكم واحد ، كلّكم لآدم وآدم من تراب إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم وليس لعربيّ على أعجميّ فضل إلاّ بالتقوى » (2).

ص: 358


1- من الجدير بالذكر أنّ الآية 92 من سورة الأنبياء خطاب للمسلمين ، بينما الآية 52 من سورة المؤمنون خطاب للرسل واُممهم ممّا يعني أنّ الملاك الإسلاميّ القرآنيّ المعتبر لتكوّن الاُمّة هو الإيمان ووحدة العقيدة ، لم يكن بالنسبة للاُمّة الإسلاميّة فقط بل كان بالنسبة لاُمم الرسل السابقين على النبيّ الأكرم والاُمّة الإسلاميّة أيضاً وإليك الآية : (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)
2- تحف العقول : 30 من خطبة الوداع.

وقال صلی اللّه علیه و آله أيضاً : « أيّها الناس أنّ اللّه قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية ، وتفاخرها بآبائها ألا أنّكم من آدم وآدم من طين ، ألا أنّ خير عباد اللّه عبد اتّقاه.

أنّ العربيّة ليست بأب والد ، ولكنّها لسان ناطق ، فمن قصّر به عمله لم يبلغه حسبه » (1).

وقال صلی اللّه علیه و آله في خطبة حجة الوداع : « اسمعوا قولي واعقلوه تعلمنّ أنّ كلّ مسلم أخ للمسلم ، وأنّ المسلمين إخوة » (2).

وقال صلی اللّه علیه و آله : « ذمّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم » (3).

وقال الإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام : « من استقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا وآمن بنبيّنا وشهد شهادتنا دخل في ديننا وأجرينا عليه حكم القرآن وحدود الإسلام ليس لأحد فضل على أحد إلاّ بالتقوى.

ألا إنّ للمتقين عند اللّه أفضل الثواب وأحسن الجزاء والمثاب » (4).

وورد عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله قوله : « إنّما المؤمنون في تراحمهم وتعاطفهم [ وتوادّهم ] بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسّهر » (5).

وقال الإمام الصادق جعفر بن محمد علیهماالسلام : « المسلم أخو المسلم وحقُّ

ص: 359


1- الكافي 8 : 246 ، ومشكاة الأنوار للطبرسيّ : 59.
2- الأموال : 268.
3- السيرة النبويّة لابن هشام 4 : 604.
4- بحار الأنوار 15 : 182 ونقل أيضاً هكذا : قال النبي صلی اللّه عليه وآله وسلم : « إن اللّه تعالى جعل الإسلام دينه وجعل كلمة الإخلاص حسنا له فمن استقبل قبلتنا وشهد شهادتنا، وأحل ذبيحتنا فهو مسلم له ما لنا وعليه ما علينا » نوادر الراوندي: 21، وبحار الأنوار 68 : 288، وراجع الخراج لأبي يوسف: 141.
5- سفينة البحار 1 : مادة أخ ، ونقله أيضاً البخاريّ ومسلم حيث نقلاه بصيغة مماثلة : « مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى » راجع التاج 5 : 17 ورواه أحمد بن حنبل في 4 : 7.

المسلم على أخيه المسلم أن لا يشبع ويجوع أخوه ولا يروى ويعطش أخوه ، ولا يكتسي ويعرى أخوه فما أعظم حقُّ المسلم على أخيه المسلم » (1).

وقال النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « المسلمون [ إخوة ] تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ويردُّ عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم » (2).

ولم يقتصر الإسلام على اعتبار الإيمان ملاكاً للانخراط في سلك الاُمّة الإسلاميّة ، بل نفى كلّ ما سوى ذلك من العناصر التي ربّما يتمسّك بها الناس للتفريق بين جماعة واُخرى كاللون أو اللغة أو ما شابه ذلك.

وقد قام النبيّ الأكرم باتخاذ هذا الموقف عمليّاً في عدة قصص ؛ منها قصة جويبر فإنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نظر إلى جويبر ذات يوم برحمة منه له ورقّة عليه فقال له : « يا جُويبر لو تزوجت امرأةً فعففت بها فرجك وأعانتك على دُنياك وآخرتك »

قال جويبر : - يا رسول بأبي أنت واُمّي من يرغب فيّ ، فواللّه ما من حسب ولا نسب ولا مال ولا جمال فأيّة امرأة ترغب فيّ ؟

فقال صلی اللّه علیه و آله : « يا جويبر إنّ اللّه قد وضع بالإسلام من كان في الجاهلية شريفاً ، وشرّف بالإسلام من كان في الجاهلية وضيعاً وأعزّ بالإسلام من كان في الجاهلية ذليلاً ، وأذهب بالإسلام ما كان من نخوة الجاهلية وتفاخرها بعشائرها وباسق أنسابها فالناس اليوم كلُّهم ، أبيضهم وأسودهم وقرشيهم وعربيهم وعجميهم من آدم وإنّ آدم خلقه اللّه من طين وإنّ أحبّ النّاس إلى اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة أطوعهم له ، وأتقاهم وما أعلم يا جويبر لأحد من المسلمين عليك اليوم فضلاً إلاّ لمن كان أتقى لله منك وأطوع » ثمّ قال له : « انطلق يا جويبر إلى زياد بن لبيد فإنّه من أشرف بني بياضة [ قبيلة من الأنصار ] حسباً فيهم فقل له : إنّي رسول رسول اللّه إليك وهو يقول لك : زوّج جويبراً ابنتك

ص: 360


1- سفينة البحار 1 : مادة أخ.
2- المجازات النبويّة للشريف الرضيّ : 17 ، وأخرجه أبو داود وابن ماجة مع فارق بسيط جداً ووسائل الشيعة 19 : 55.

الذّلفاء ».

فانطلق جويبر برسالة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى زياد بن لبيد وهو في منزله وجماعة من قومه عنده ، فاستأذن فأعلم فاذن له فدخل وسلم عليه ثمّ قال : يا زياد بن لبيد انّي رسول رسول اللّه إليك في حاجة لي فأبوح بها أم أسرّها إليك ؟

فقال له زياد : بل بح بها فإنّ ذلك شرف لي وفخر.

فقال له جويبر : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول لك : زوّج جويبراً ابنتك الذلفاء.

فقال له زياد : أرسول اللّه أرسلك إليّ بهذا ؟

فقال له : نعم ما كنت لأكذب على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فقال له زياد : إنّا لا نزوّج فتياتنا إلاّ أكفّائنا من الأنصار ، فانصرف يا جويبر حتّى ألقى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فاخبره بعذري ، فانصرف جويبر وهو يقول : واللّه ما بهذا نزل القرآن ولا بهذا ظهرت نبوّة محمّد صلی اللّه علیه و آله فسمعت مقالته الذلفاء بنت زياد وهي في خدرها فأرسلت إلى أبيها : ادخل إليّ ، فدخل إليها ، فقال ما هذا الكلام الذي سمعته منك تحاور به جويبراً ؟

فقال لها : ذكر لي أنّ رسول اللّه أرسله ، وقال : يقول لك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله زوّج جويبراً ابنتك الذلفاء.

فقالت له : واللّه ما كان جويبراً ليكذب على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بحضرته فابعث الآن رسولاً يرّد عليك جويبراً.

فبعث زياد رسولاً فلحق جويبراً فقال له زياد : يا جويبر مرحباً بك اطمئنّ حتّى أعود إليك.

ثمّ انطق زياد إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال له بأبي أنت واُميّ إنّ جويبراً أتاني برسالتك وقال : إنّ رسول اللّه يقول لك : زوّج جويبراً ابنتك الذلفاء ، فلم ألن له بالقول ، ورأيت لقاءك ونحن لا نزوّج إلا أكفّاءنا من الأنصار.

فقال له رسول اللّه : « يا زياد ! جويبر مؤمن والمؤمن كفؤ للمؤمنة ، والمسلم كفؤ

ص: 361

للمُسلمة فزوّجهُ يا زياد ولا ترغب عنهُ ».

فرجع زياد إلى منزله ودخل على ابنته فقال لها ما سمعه من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقالت له : إنّك عصيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وكفرت فزوّج جويبراً.

فخرج زياد ، فأخذ بيد جويبر ثمّ أخرجه إلى قومه فزوّجه على سنّة اللّه وسنّة رسوله صلی اللّه علیه و آله وضمن صداقه (1).

وروي أنّه جاء قيس بن مطاطيه [ وهو رجل منافق ] إلى حلقة فيها سلمان الفارسيّ وصهيب الروميّ وبلال الحبشيّ فقال : هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل فما بال هذا ؟

وهو يقصد بالرجل النبيّ صلی اللّه علیه و آله ويقصد من مجموع كلامه أنّ الأوس والخزرج من قومه العرب ينصرونه لأنّه من قومه ... فما الذي يدعو الفارسيّ والروميّ والحبشيّ إلى أن ينصروه.

فقام إليه معاذ بن جبل فأخذ بتلابيبه ثمّ أتى النبيّ صلی اللّه علیه و آله فأخبره بمقالته ، فقام النبيّ صلی اللّه علیه و آله مغضباً يجرّ رداءه حتّى أتى المسجد ثمّ نودي : أنّ الصلاة جماعة وقال صلی اللّه علیه و آله : « يا أيُّها النّاس إنّ الربّ واحد والأب واحد وإنّ الدين واحد ، وليست العربيّة لأحدكم بأب ، ولا اُمّ ، وإنّما هي اللسان ، فمن تكلّم بالعربيّ فهو عربيٌّ ».

فقام معاذ ، فقال فما تأمرني بهذا المنافق يا رسول اللّه ؟ قال : « دعهُ إلى النّار » فكان قيس ممّن ارتدّ في الرّدّة فقتل (2).

وقد خطب الإمام عليّ بن أبي طالب وقال : « أيُّها النّاس إنّ آدم لم يلد عبداً ولا أمةً ، وإنّ النّاس كلُّهم أحرار ولكنّ اللّه خوّل بعضكم بعضاً فمن كان له بلاء فصبر في الخير ، فلا يمنُّ به على اللّه عزّ وجلّ.

ألا وقد حضر شيء ونحن مسّووُن فيه بين الأسود والأحمر ».

ص: 362


1- الكافي 5 : 340 - 342 والقصة مفصّلة وجديرة بالمطالعة.
2- تفسير المنار لمحمّد رشيد رضا 11 : 258 - 259.

فقال مروان لطلحة والزبير : ما أراد بهذا غيركما.

قال الراوي فأعطى كلّ واحد ثلاثة دنانير وأعطى رجلاً من الأنصار ثلاثة دنانير ، وجاء - بعد - غلام أسود فأعطاه ثلاثة دنانير فقال الأنصار : يا أمير المؤمنين هذا غلام اعتقته بالأمس ، تجعلنا وايّاه سواء ؟ فقال : « إنّي نظرتُ في كتاب اللّه فلم أجد لولد إسماعيل على ولد إسحاق فضلاً ، إنّي لا أرى في هذا الفيء فضيلةً لبني إسماعيل على غيرهم » (1).

وروي أنّ الإمام موسى بن جعفر الكاظم علیه السلام مرّ برجل من أهل السواد دميم المنظر فسلّم عليه ، ونزل عنده وحادثه طويلاً ، ثمّ عرض عليه نفسه في القيام بحاجة إن عرضت له فقيل له : يا ابن رسول اللّه أتنزل إلى هذا ثمّ تسأله عن حوائجه وهو أحوج إليك فقال علیه السلام : « عبد من عبيد اللّه ، وأخ في كتاب اللّه ، وجار في بلاد اللّه يجمعنا وإيّاه خير الآباء آدم علیه السلام وأفضل الأديان الإسلام » (2).

هكذا نجد الإسلام على لسان نبيّه وأئمّته علیهم السلام يجعل الإيمان هو الرابطة الجامعة بين أفراد المسلمين والملاك الوحيد المكوّن للاُمّة الإسلاميّة دون سواه فيما ينفي كلّ ملاك آخر لكونه ملاكاً مزيّفاً وفرقاً غير فارق.

وعن الإمام جعفر الصادق علیه السلام : « لمّا ولي عليٌّ علیه السلام صعد على المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه ثمّ قال :

أمّا إنّي واللّه ما أرزأكم من فيئكم هذه درهماً ما قام بي عذق بيثرب فلتصدّقكم أنفسكم ، أفتروني مانعاً نفسي ومعطيكم ، قال : فقام إليه عقيل كرّم اللّه وجهه فقال : فتجعلني وأسود في المدينة سواء ، فقال : اجلس ما كان هاهنا أحد يتكلّم غيرك وما فضلك عليه إلاّ بسابقة أو تقوى » (3).

ص: 363


1- الكافي 8 : 69.
2- تحف العقول : 305 ( طبعة بيروت ) و : 413 ( طبعة طهران ).
3- وسائل الشيعة 11 : كتاب الجهاد ( باب 39 ) نقلاً عن الكافي.

ولعل من الجدير هنا أنّ نورد ما ذكره العلاّمة الطباطبائيّ في هذا الصدد تحت عنوان : حدود الدولة الإسلاميّة هو الاعتقاد دون الحدود الطبيعيّة أو المصطنعة :

( لقد ألغى الإسلام فكرة الإنشعابات القوميّة ، ورفض أن يكون لها أثرها في تكوّن الاُمّة ، تلك الإنشعابات التي عاملها الأصليّ الحياة البدويّة والمعيشة القبائليّة العشائريّة أو اختلاف الوطن ... وهما أمران يجرّان ورائهما الاختلاف في الألسن والألوان ونشوء القبائل ، والشعوب ، ثم صارا سبباً لأن تحوز كلّ جماعة قطعة من الأرض وتخصّصها لنفسها ، وتسمّيها وطناً يألفونه ويذبّون عنه.

وهذا وإن كان أمراً ساقهم إليه الحوائج الطبيعيّة التي يدفعهم الفطرة إلى رفعها غير أنّ فيه خاصّية تنافي ما يستدعيه أصل الفطرة الإنسانيّة ، فإنّ الطبيعة تدعو - بالضرورة - إلى اجتماع القوى المتشتّتة وتألفها وتقوّيها بالتراكم والتوحيد لتنال ما تطلبه من غاياتها الصالحة بوجه أتمّ وأصلح.

والانشعابات بحسب الأوطان ( أو الألوان أو اللغات ) تسوق الاُمّة إلى توحّد في مجتمعهم يفصله عن المجتمعات الاُخرى ذات الأوطان الاُخرى فتصير جماعة واحدة منفصلة الجسم والروح عن المجتمعات الاُخرى ، فتنعزل الإنسانيّة عن التوحيد المطلوب والتجمّع المنشود وتصاب بالتفرّق والتشتّت الذي كانت تفرّ منه ، كما ويترتّب على ذلك أن يعامل هذا الجزء البشريّ بقية الأجزاء البشريّة الاُخرى كما يعامل الإنسان سائر الأشياء الكونيّة ، أي على أساس الاستثمار والاستخدام لا على أساس التعاون والتعايش والمعاشرة الإسلاميّة المطلوبة.

وهذا هو السبب في إلغاء الإسلام للإنشعابات القوميّة والتميّزات الأرضيّة وبناء الاجتماع على العقيدة دون الجنسيّة والقوميّة والوطن ونحو ذلك ، حتّى في مثل الزوجية والقرابة في الاستمتاع والميراث فإنّ المدار فيهما على الاشتراك في العقيدة لا في المنزل والوطن مثلاً ) (1).

ص: 364


1- تفسير الميزان 4 : 200 بتصرّف بسيط.

إنّ رابطة الإيمان لا تجمع الأفراد الحاضرين الأحياء فقط ، وتشكّل منهم اُمّة واحدة متعاطفة متحابّة ، بل تجعل المؤمن يشعر بالاخوّة والعلاقة والرابطة حتّى بالنسبة إلى كلّ الذين سبقوه ، وتطهّر قلبه من أيّة ضغينة أو غلّ تجاههم كما يقول القرآن. ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( الحشر : 10 ).

إنّ البحث حول الإشكالات الواردة على العناصر المكوّنة للاُمّة في نظر الحقوقيّين موكول إلى موضع آخر ، ونحن هنا نكتفي ببيان العنصر المعقول الصحيح الذي يبني عليه الإسلام مفهوم الاُمّة ويحقّق وجودها الخارجيّ الحقيقيّ وهو رابطة الإيمان ، ووحدة العقيدة.

إنّ الإيمان هو الملاك الطبيعيّ لتكوّن الاُمّة في نظر الإسلام ، فهو الذي تترتّب عليه الحقوق ، وتبتني عليه علاقات الفرد المؤمن مع الفرد الآخر في الاُمّة الإسلاميّة ، وعلاقات الاُمّة مع غيرها من الطوائف والاُمم الاُخرى.

إنّ التجارب التاريخيّة المسلّمة ، والوقائع المحسوسة أثبتت أنّ رابطة الإيمان أقدر من غيرها على تجميع الأفراد وتكوين الاُمّة الواحدة منهم ، وتوجيههم وجهة واحدة ودفعهم إلى حماية أنفسهم وكيانهم وبثّ روح التعاطف والتراحم والتواصل بينهم ، وإخراجهم اُمّة واحدة متماسكة بينما أثبتت التجارب والوقائع فشل الملاكات والعناصر التي ذكرها الحقوقيّون ، لتكوين مفهوم الاُمّة فضلاً عن تحقيق حقيقتها ووجودها على الصعيد الخارجيّ ، لأنّها عجزت عن إيجاد أيّة وحدة حقيقيّة وأيّ تعاطف حقيقيّ وأيّ تلاحم وتراحم ، وتعاون وتعايش ووئام وانسجام بين الأفراد.

إنّ التجربة الماضية والحاضرة برهنت على عجز ( العامل القومي ) المرتكز على وحدة الأرض أو الدم أو اللغة ، أو التاريخ ، عن إثارة همم الأشخاص وعزائمهم ، ودفعهم إلى أن يفكروا معاً في مسيرهم ومصيرهم ويتعاونوا فيما بينهم كما يتعاون أعضاء العائلة الواحدة ، بينما برهنت التجربة قديماً وحديثاً على أنّ الرابطة العقيديّة في الإسلام

ص: 365

كانت سبباً للتضحيات الجسيمة وتغاضي الأفراد عن مصالحهم بل وحياتهم في سبيل إسعاد الجماعة.

وهذا كلّه يدلّ على أنّ الملاك الوحيد القادر على صنع الاُمّة وتكوينها بحقيقتها وجوهرها هو الإيمان ووحدة العقيدة دون سواه ، بل وإنّ الأدلّة والوثائق الموجودة تدلّ على أنّ « القوميّة » كانت إحدى الأسلحة والوسائل الاستعماريّة لتفتيت وحدة الاُمّة الإسلاميّة وشقّ عصا المسلمين حيث فرّقوا الاُمّة الواحدة إلى قوميّة عربيّة وتركيّة وفارسيّة وكرديّة ، في حين كان العدو الإسرائيليّ يجمع أبناءه وأعضاءه تحت لواء الدين دون أن يفرّق بينهم بالنعرات القوميّة والدعوات الجنسيّة فجمع من أنحاء العالم كلّ من انتمى إلى الدين اليهوديّ دون النظر إلى اختلاف أجناسهم وألوانهم وشكّل بذلك قوّة كبيرة عبّأها ضد العرب ، بينما راح العرب يطرحون القضيّة من وجهة قوميّة فابعدوا المسلمين عن أنفسهم وخسروا بذلك قوّة عظمى في الحرب والمواجهة مع إسرائيل.

هذا بالإضافة إلى أنّ القوميّة أخّرت الاُمّة الإسلاميّة في كلّ المجالات لأنّها قتلت الكفاءات وأهدرت الطاقات في نزاعات جانبيّة وتخلّفت بذلك عن التقدم والرقيّ واللحاق بركب الحضارة (1).

ص: 366


1- راجع كتاب حركات ومذاهب في ميزان الإسلام.

خصائص الحكومة الإسلاميّة ومميّزاتها

3

المساواة أمام القانون

اشارة

المساواة أمام القانون (1)

« النّاسُ أمامُ الحقّ سواء »

( حديث نبوي )

تتميّز الحكومة الإسلاميّة عن غيرها من الحكومات بأنّها لا تفرّق بين من يعيشون تحت رايتها في تطبيق القوانيين عليهم وشملهم بالأحكام الحقوقيّة ، والجزائيّة فلا تفرّق بين الغنيّ والفقير والراعي والرعيّة ، والحضريّ والقرويّ ، بل والبرّ والفاجر ، على العكس من الحكومات الاُخرى التي تعامل رعاياها على أساس من التمييز والتفريق الشديد أو الخفيف.

وتعود هذه الخصيصة في الحكومة الإسلاميّة إلى طبيعة الدين الإسلاميّ أساساً

ص: 367


1- فيما كان هذا المقطع من كتابنا يهيّأ للطباعة ( صبيحة 18 / محرم / 1402 ه ) - الطبعة الاُولى - فجع العالم الإسلاميّ بفقدان علم من أعلام الفقه والفكر هو آية اللّه العلاّمة السيد محمّد حسين الطباطبائيّ قدس سره ذلك الرجل الذي كان ينطوي على كنوز عظيمة من العلم والمعنويّة ، والذي قام - طوال ثمانين سنة من عمره المبارك - بأعظم الخدمات إلى العالم الإسلاميّ حيث أسّس منهج ( تفسير القرآن بالقرآن ) متمثّلاً في تفسير الميزان وأشاع اُسلوب التفكّر الإسلاميّ على أساس التعقّل والكتاب والسنّة. ونحن إذ نعزّي العالم الإسلامي بهذه الفاجعة نهيب بالمسلمين أن يتهموا بما تركه هذا الرجل العظيم من تراث فكري عني.

فإنّ الإسلام يتميّز - عن المبادئ الوضعيّة - بتركيزه الشديد على التسوية بين جميع أفراد البشر ، مهما اختلفت طبقاتهم وأوضاعهم الاجتماعيّة والسياسيّة ، وانتماءاتهم العشائريّة وتعود هذه التسوية الإسلاميّة إلى أمرين أساسيين :

أوّلاً / اعتقاد الإسلام بوحدة بني الإنسان جميعاً ، في المنشأ والعنصر ، فماداموا جميعاً بشراً من آدم وحواء وهما من تراب وطين.

وماداموا يشتركون في المشاعر والأحاسيس والحاجات والآمال والألام فكلّهم عباد اللّه تعالى على السواء وكلّهم مخلوقون له بدون استثناء ، فلماذا التمييز بين راعيهم ورعيّتهم وغنيّهم وفقيرهم ؟

إنّ الاختلاف في المكانة الاجتماعيّة والاقتصاديّة لا يمكن - في نظر الإسلام - أن يكون عاملاً موجباً لتفضيل بعض على بعض ، وإخضاع بعض للقانون دون آخر.

ثانيا / لأنّ التمييز في الأخذ بالقانون وتطبيقه والخضوع له ، وجعل طائفة من الناس فوق القانون ، واُخرى محكومة به ممّا يوهن موضع القانون ، ويقلّل من مهابته ، فينتفي الغرض المهم منه ، وهو تنظيم سلك المجتمع ، وإصلاح وضعه وتنسيق شؤونه.

إنّ مكانة القانون ومهابته تظلّ محفوظة ومصانة ، ما دام يكون موضع الاعتراف والاحترام من الجميع فلا خارج عنه ، ولا مترفّع عليه ، ولا ناقض لأحكامه. ولو سمح الإسلام لأحد أن يخرج عن القانون ويجعل نفسه فوق أحكامه لعاد نقض القانون فخراً. وفي ذلك ما فيه من ضياع النظام وسقوطه ، وانعدام تأثيره.

ولأجل ذلك مضى الإسلام يكافح - بدون هوادة وبكلّ قوّة - أي نقض للقانون حتّى في أبسط الصور مثل أن يكون لجماعة خاصّة محكمة خاصّة بهم نظراً لمكانتهم الاجتماعيّة والسياسيّة بينما يكون لعامّة الناس محكمة اُخرى لأنّهم الطبقة الدنيا من المجتمع ، وإن كانت الأحكام السائدة في جميع هذه المحاكم المختلفة ، نوعاً واحداً.

إنّ الخضوع والتسليم لهذا الأصل الإسلاميّ في التسوية بين جميع أفراد الاُمّة ، وتطبيق القانون على الجميع بدون استثناء بلغ إلى حدّ أدّى بأن يعتبر الدين الإسلاميّ ،

ص: 368

الانقياد للقانون والتسليم له ، من شرائط تحقّق الإيمان وصدق ادّعائه إذ قال سبحانه :

( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) ( النساء : 65 ).

ومن المعلوم أنّ المراد بتسليمهم للنبيّ هو التسليم لأحكامه والقوانين التي جاء بها والشرع الذي صدع به ، وهو يعني عدم التمييز.

ولقد ذمّ اللّه سبحانه شرذمة من الناس يخضعون للقانون ويذعنون له ما دام يحقّق مصالحهم وينسجم مع رغباتهم فإذا وجدوه خلاف ذلك نبذوه وخالفوه وأعرضوا عنه ، يقول القرآن عن هؤلاء : ( وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُن لَّهُمُ الحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ) ( النور : 48 - 49 ).

وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ ) ( الحج : 11 ).

ولهذا وصف اللّه سبحانه ( النسيء ) بأنّه زيادة في الكفر وكان النسيء عبارة عن تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر ... وهو أمر كانت تفعله الجاهليّة فتؤخّر حرمة شهر المحرّم - إذا أهلّ وهم في القتال - إلى شهر صفر ، وقد كان سدنة الكعبة يرتكبون ذلك لقاء ثمن قليل يأخذونه من المعتدين والراغبين في القتال والعدوان في الأشهر الحرم فقال سبحانه : ( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) ( التوبة : 37 ).

كما ذمّ اللّه سبحانه أحبار اليهود على تحريفهم الكتاب جلباً لرضا الناس ولقاء أجر بخس حيث قال سبحانه عنهم : ( مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ) ( النساء : 46 ).

وقال تعالى : ( فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ

ص: 369

لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ ) ( البقرة : 79 ).

وقال تعالى : ( فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ ) ( المائدة : 13 ).

ولقد ورد في ذيل قوله تعالى : ( فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ ) عن الإمام الصادق علیه السلام قوله : « إنّ عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح وبأكل الحرام والرشا وبتغيير الأحكام ، عن واجبها بالشفاعات والعنايات والمصانعات وعرفوهم بالتّعصب الشّديد الذّي يفارقون به أديانهم ، وإنّهم إذا تعصّبوا أزالوا حقوق من تعصّبوا عليه وأعطوا ما لا يستحقّه من تعصّبوا له من أموال غيرهم ، وظلموهم من أجلهم وعرفوهم يقارفون الحرمات » (1).

ولأجل ذلك رفض الإسلام بشدّة أي شفاعة في إجراء الحدود ، فالحدود يجب أن تجرى على الجميع بغض النظر عن مكانة المستحقّ ما دام مستحقّاً فقد وردت في هذا المجال طائفة كبيرة من الأحاديث ، كما عن أبي جعفر الباقر علیه السلام حيث قال : « كان لاُمّ سلمة زوجة النبيّ صلی اللّه علیه و آله أمة فسرقت من قوم ، فأتي بها إلى النّبيّ صلی اللّه علیه و آله فكلّمته اُمُّ سلمة فيها. فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « يا أُمّ سلمة هذا حد من حدود اللّه لا يُضيعُ ، فقطعها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله » (2).

وعن الإمام الصادق علیه السلام قال : « قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لاُسامة بن زيد : لا يُشفعُ في حدّ » (3).

وعن أبي عبد اللّه الصادق علیه السلام أيضاً قال : « كان أُسامةُ بن زيد يشفعُ في الشيء الذي لا حدّ فيه ، فاتي إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بإنسان قد وجب عليه حدّ فشفع لهُ أُسامةُ ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لا تشفع في حدّ » (4).

ولقد جسد النبيّ صلی اللّه علیه و آله هذه التسوية أمام القانون عملياً في قصة سوادة بن قيس.

ص: 370


1- إحتجاج الطبرسيّ ( طبعة النجف ) 2 : 262.
2- وسائل الشيعة 18 :2. 333.
3- وسائل الشيعة 18 :2. 333.
4- وسائل الشيعة 18 :2. 333.

فقد قال سوادة للنبيّ صلی اللّه علیه و آله في أيام مرضه لمّا صعد المنبر وطلب من الناس أن يطالبوه بما لهم عليه من حقّ إن كان : يا رسول اللّه انّك لمّا اقبلت من الطائف استقبلتك وأنت على ناقتك العضباء وبيدك القضيب الممشوق فرفعت القضيب وأنت تريد الراحلة فأصاب بطني ، فأمره النبيّ صلی اللّه علیه و آله أن يقتص منه ، فقال اكشف لي عن بطنك يا رسول اللّه فكشف عن بطنه فقال سوادة : أتأذن لي أن أضع فمي على بطنك ، فأذن له ، فقال أعوذ بموضع القصاص من رسول اللّه من النار ، فقال صلی اللّه علیه و آله : « يا سوادة أتعفو أم تقتصّ » فقال سوادة : بل أعفو يا رسول اللّه ، فقال صلی اللّه علیه و آله : « اللّهمّ اعف عن سوادة بن قيس كما عفى عن نبيّك محمّد » (1).

ولأجل هذا قال النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « الناس سواسيّة كأسنان المشط » (2).

وأوضح نص في هذا المجال هو قول اللّه تعالى : ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) ( المائدة : 45 ) ، فقد جعل اللّه النفس في مقابل النفس دون تمييز يعود إلى الغنى والفقر ... وما شابه ذلك.

وقد اعتبر الإسلام أي تمييز بين الأفراد أمام القانون بحجّة الغنى والفقر ، أو القوة والضعف إيذاناً بالسقوط والهلاك والعذاب حيث نقل المحدثون عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله قوله : « أيُّها الناس ... إنّما هلك من قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضّعيف أقاموا عليه الحدّ » (3).

كما أنّ أوضح دليل عملي على هذه المساواة هو ما فعله النبي صلی اللّه علیه و آله في حجّة الوداع ، فإنّه لمّا أبطل ما كان من الربا بين الناس بدأ بعمّه العباس فأبطل ما كان له في ذمّة الناس من الربا قائلاً : « إنّ ربا الجاهليّةُ موضوع وإنّ أوّل ربا أبدأ به ربا العبّاس بن عبد المطلب » (4).

وعندما وضع ماسبق من دماء الجاهلية بدأ بدم عامر بن ربيعة الذي كان من

ص: 371


1- وسائل الشيعة 18 : 156 ، سفينة البحار 1 : 671 ، وقد ذكر ابن الاثير في اُسد الغابة نظير هذه القصّة 2 : 374.
2- من لا يحظره الفقيه 4 : 272.
3- صحيح مسلم 5 : 114.
4- تحف العقول : 29 خطبة حجّة الوداع.

أقرباء النبيّ صلی اللّه علیه و آله فقال : « وإنّ دماء الجاهليّة موضوعة وإنّ أوّل دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن المطلّب » (1).

وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق قال : « قال أمير المؤمنين ( الإمام عليّ بن أبي طالب ) علیه السلام لعمر بن الخطاب : ثلاث إن حفظتهنّ وعملت بهنّ كفتك ما سواهنّ ، وإن تركتهنّ لم ينفعك شيء سواهنّ.

قال : وما هنّ يا أبا الحسن ؟

قال علیه السلام : إقامة الحدود على القريب والبعيد والحكم بكتاب اللّه في الرّضا والسّخط والقسم بالعدل بين الأحمر والأسود.

قال عمر : لعمري لقد أوجزت وأبلغت » (2).

وقد جسّد الإمام عليّ علیه السلام هذه التسوية بين الأفراد عمليّاً وذلك لمّا حدّ النجاشيّ فغضب اليمانية فدخل طارق بن عبد اللّه عليه ، فقال : « يا أمير المؤمنين ما كُنّا نرى أنّ أهل المعصية والطاعة وأهل الفرقة والجماعة عند ولاة العدل ومعادن الفضل سيّان في الجزاء حتّى رأينا ما كان من صنيعك بأخي الحارث فأوغرت صدورنا وشتّت اُمورنا وحملتنا على الجادّة التي كنّا نرى أنّ سبيل من ركبها النار ، فقال علیه السلام : « وإنّها لكبيرة إلاّ على الخاشعين ، يا أخا بني نهد ، وهل هو إلاّ رجل من المُسلمين انتهك حُرمة ما حرّم اللّه فأقمنا عليه حدّاً كان كفّارتهُ ، إنّ اللّه تعالى قال : ( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ) ».

فلما جنّ الليل همس هو والنجاشيّ إلى معاوية (3).

إلى غير ذلك من النصوص والأمثلة العمليّة على ذلك.

وينشأ هذا الأصل الإسلاميّ العظيم من إهتمام الإسلام الأكيد بالعدالة الذي يعتبر في حقيقته خصيصة برأسها.

ص: 372


1- تحف العقول : 29 خطبة حجّة الوداع.
2- وسائل الشيعة 18 : 156.
3- البحار 41 : 9 و 10.
المساواة من ثمار العدل :

فقد تميّز الإسلام بتركيزه الشديد على أمر العدل ، واهتمّ به أكثر من اهتمامه بأيّ شيء آخر ، حتّى عاد العدل أساس الإسلام وقاعدته الكبرى ، ومطلبه الرئيسيّ فلقد نادى الإسلام بالعدالة ، وطلب إجراءها ، وتنفيذها على الإطلاق بحيث تشمل جميع الأفراد من دون نظر إلى اختلافاتهم العنصريّة والاقليميّة والمذهبيّة.

إنّ الإسلام إذ يعتقد وحدة الناس أباً واُمّاً خاطبهم جميعاً بقوله : أيُّها الناس ، وهو كما نلاحظ خطاب يعمّ كلّ بني الإنسان كافّة وقد بنى على هذا الأصل ما نشده من التسوية بين القويّ والضعيف والغنيّ والفقير ، والشريف والوضيع.

إنّ تعميم العدل - في نظر الإسلام - ضرورة لا مندوحة منها ، وقد اعتبر العدول عن ذلك ناجماً عن اتّباع الهوى كما قال سبحانه : ( فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا ) ( النساء : 135 ).

ورفض أن يكون أي شيء مانعاً من تطبيقه وإجرائه خصوصاً شنآن قوم على ذلك ومعاداتهم بسبب إجراء العدل فقال : ( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللّهَ ) ( المائدة : 8 ).

وقد اعتبره الإسلام أجمل مطلب يطمح إليه النوع الإنسانيّ إذ قال الصادق علیه السلام : « العدلُ أحلى من العسل » (1).

وذلك لأنّ العدل طريق إلى تحقّق الأمن الاجتماعيّ ، فلولاه لما بقي من الأمن أثر ولا خبر. ولهذا كان أهمّ وظيفة من وظائف النبيّ صلی اللّه علیه و آله هو إجراء العدل وبسطه في المجتمع إذ قال سبحانه : ( وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) ( الشورى : 15 ).

وراح القرآن الكريم يقارن بين من يعدل وبين من لا يعدل ، ويستنكر التسوية بينهما إظهاراً لأهمّية العدل ، إذ قال : ( هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ

ص: 373


1- سفينة البحار 1 : 166.

مُّسْتَقِيمٍ ) ( النحل : 76 ).

ولذلك أمر سبحانه جميع الناس بإجراء العدل وتطبيقه وصيانته قائلاً : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ) ( النحل : 90 ) وهو كما نلاحظ أمر مطلق غير مقيّد بزمان أو مكان خاصّ أو أفراد معينّين.

من نتائج العدل

إنّ من أبرز نتائج العدل وثماره هو خروج القابليات إلى كمالها ، ونموّها وتكاملها لأنّ صاحب القابليات والمواهب إذا عرف أنّ جهده لا يضيع ، وأنّه لو أظهر نبوغه وعمل على ابراز قابليّته فاز بالمقام والتقدير دون حيف وجور ، اجتهد في ذلك ، وأعطى من نفسه وراحته ما يحقّق تقدّمه وهذا بعكس ما إذا كان الملاك للتقدير في المجتمع هو العلاقات والخداع ، والدهاء فعندئذ تبقى المواهب والقابليات محبوسة في مواضعها خامدة جامدة.

إنّ التعامل على أساس العدل وموافاة كلّ ذي حقّ حقّه ، وتقديم الضوابط على العلاقات يطمئنّ الناس إلى مصير سعيهم ونتيجة عملهم ويشجّعهم على الخير والاجتهاد فينطلق المحسن في إحسانه ويرتدع المسيء عن إساءته.

ولأجل هذا قال الإمام عليّ علیه السلام في عهده المعروف للأشتر النخعيّ : « ولا يكوننّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء ، فإنّ في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان ، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة » (1).

ويكفي إظهاراً لأهمّية العدل وعظمة دوره في إسعاد المجتمع أنّ اللّه سبحانه جعل إقامة العدل ، الهدف النهائيّ لإرسال الرسل والأنبياء إلى البشريّة وإنزال الكتب عليهم إذ قال : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ) ( الحديد : 25 ).

ص: 374


1- نهج البلاغة : قسم الكتب الرقم 53.
إهتمام الإسلام بالعدل

ولقد بلغ اهتمام الإسلام باجراء العدل أنّه نهى أن يقف المسلم موقف الحياد من الظلم والبغي ومن الظالم والباغي ، وفرض عليه أن يصلح بين طائفتين من المؤمنين اقتتلا ، فرض عليه ذلك صوناً للعدل ومنعاً للظلم فقال : ( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) .

وإذا بغت إحدى الطائفتين وتجاوزت حدودها ، ولم تخضع للصلح أوجب الإسلام محاربتها ، وإيقافها عند حدّها وإرجاعها إلى جادّة الحقّ والسلام إذ قال : ( فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللّهِ ) .

على أن يكون الإصلاح بينهما بالعدل لا بالظلم وإبطال الحقّ وإحياء الباطل ، وسحق المظلوم ودعم الظالم ، وتشجيع المعتدي وتضييع المعتدى عليه : فقال سبحانه : ( فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( الحجرات : 9 ).

ولأجل هذه الأهمّية البالغة صارت العدالة من الاُصول التي لا تقبل أي تخصيص.

كما لأجل هذه الأهمّية البالغة نجد الإسلام الذي يدعو إلى السلم والصلح والتعايش السلميّ يجوّز الحرب والقتال دفعاً للظلم وردعاً للظالم ، وقد وعد اللّه سبحانه عليه بالنصر تثبيتاً لموقع العدل ، وإظهاراً للإهتمام به فقال سبحانه : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) ( الحج : 39 ).

واشترط الإسلام أن لا يتجاوز هذا القتال والحرب حدود العدل ، لأنّه لإقامة العدل فكيف يتجاوز حدوده ، ولذلك نهى عن الاعتداء على الطرف الآخر بمزيد من عدوانه واعتدائه إذ قال : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ المُتَّقِينَ ) ( البقرة : 194 ).

إنّ العدل - في النظام الإسلاميّ - يمثّل أساس الأحكام والقوانين ، وميزان

ص: 375

التشريع وقسطاسه المستقيم فلا شيء في النظام الإسلاميّ إلاّ وينطلق من منطلق العدل ، ولا شيء فيه إلاّ ويهدف تحقيق العدالة في الحياة الإجتماعيّة ، ولقد أمر القرآن الكريم عامّة المسلمين أنّ يهتمّوا بإقامة القسط والعدل غاية الاهتمام فقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ ) ( النساء : 135 ).

ومن الواضح أنّ ( قوّام ) الذي هو صيغة المبالغة من ( قائم ) يوحي بشدّة التأكيد الإلهيّ على مسألة العدل ، وإجرائه فعلى المسلمين - لذلك - أن يبالغوا في تحقيق العدالة حتّى على الأغنياء فلا يحابوهم ولا يداروهم ، ولذا قال اللّه سبحانه في ذيل تلك الآية : ( أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) ( النساء : 135 ).

فإنّ غنى المحكوم يجب أن لا يقف سدّاً في طريق العدل ، وينبغي أن لا يكون سبباً للتخلّي عنه.

فها هو الإمام عليّ علیه السلام يرى أنّ من أهمّ واجبات الحاكم هو إقامة العدل : « وايم اللّه لأنصفنّ المظلوم من ظالمه ولأقودنّ الظالم بخزامته حتّى أورده منهل الحقّ وإن كان كارهاً » (1).

إنّ العدل لا يشكل طريقاً للأمن الإجتماعيّ للاُمّة الإسلاميّة فقط ، بل يمثّل طريقاً طبيعياً لحفظ السلام العالميّ أيضاً ، فإذا أراد العالم أن يأمن الحرب ويتخلّص من التجاوز فما عليه إلاّ إجراء العدل والأخذ به في تعامله وتعايشه ... ولا يمكن ذلك إلاّ بالأخذ بالنظام الإسلاميّ.

أبعاد العدل ومجالاته
اشارة

إنّ للعدل أبعاداً ومجالات كثيرة ومفصّلة ذكرها القرآن الكريم ، نشير إليها هنا باختصار :

ص: 376


1- نهج البلاغة : الخطبة رقم 132.
1. العدل في مجال الحكم

لقد أكّد الإسلام على الأخذ بالعدل في مجال الحكم ، فاشترط أن يكون الحاكم عادلاً ، وفرض عليه العمل وفق سنن العدالة في كلّ مجالات الحكم والولاية قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ) ( النساء : 58 ). ( الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) ( الحج : 41 ).

ومن المعلوم أنّ إقامة المعروف هو أظهر مصاديق العدل كما أنّ النهي عن المنكر أظهر مصاديق ردع الظالم ودفع الظلم.

2. العدل في مجال الأخذ بالقانون

لقد حثّ الإسلام حثّاً أكيداً على إجراء العدل على جميع أفراد المجتمع بدون استثناء فالكلّ أمام القانون سواء من دون فرق بين رئيس ومرؤوس ، وغنيّ وفقير ، وآمر ومأمور. قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « النّاس أمام الحقّ [ القانون ] سواء ».

وقال أمير المؤمنين علیه السلام : « الحقُّ لا يجري لأحد إلاّ جرى عليه ولا يجري على أحد إلاّ جرى لهُ » (1).

3. العدل في مجال الأقتصاد

فلقد سنّ الإسلام برامجه الاقتصاديّة على اُسس عادلة ، وأوجب على الحاكم بسط العدل في مجالات الاقتصاد بكلّ الوسائل الممكنة ، فمنع من كلّ ألوان الظلم الاقتصاديّ كالربا والاحتكار وإعطاء الامتيازات لبعض دون بعض ، وشرّع لذلك

ص: 377


1- نهج البلاغة : الخطبة رقم 211 ( طبعة عبده ).

قوانين جزائيّة صارمة تضمن العدالة في هذه المجالات فقال سبحانه : ( وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) ( البقرة : 279 ).

والجملة الأخيرة قاعدة كليّة في كلّ المجالات الاقتصاديّة وغيرها.

كما أنّه يرى الحاكم مسؤولاً عن أموال الاُمّة حتّى لا يهضم حقّ أحد ففي هذا المجال يقول الإمام عليّ علیه السلام وهو يقصد من استولوا على أموال بيت المال في عهد عثمان : « واللّه لو وجدته قد تزوّج به النّساء وملك به الأماء لرددته فإنّ في العدل سعةً ، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق » (1).

وعن مسؤولية الحاكم اتّجاه العدالة الاقتصاديّة قال لمن أتاه يطلب منه مالاً في غير حقّ ( أيضاً ) : « إنّ هذا المال ليس ليّ ولا لك وإنّما هو فيء للمسلمين ، وجلب أسيافهم فإن شركتهم في حربهم كان لك مثل حظّهم ، وإلاّ فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم » (2).

4. العدل في مجال العلاقات الاجتماعيّة

لقد سعى الإسلام غاية السعي إلى إقامة العلاقات الاجتماعيّة على قواعد العدل وأسسه بحيث لا يقع حيف من أحد على أحد في هذه العلاقات والروابط.

ومن هنا سنّ حقوقاً للوالدين والجيران والصغار والنساء والأيتام والمرضى والمقعدين ... الخ (3).

وأخيراً لقد اعتبر الإسلام العدل أفضل وأحسن مآلاً للمجتمع إذ قال : ( وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) ( الأسراء : 35 ).

وإنّما يكون العدل خيراً وأحسن مآلا لأنّ الظلم إذا اجتمع جزء فجزء أوجب الانفجار والنقمة ، وآل بالبلاد والعباد إلى الفساد والشرّ.

ص: 378


1- نهج البلاغة : الخطبة رقم 14.
2- نهج البلاغة : الخطبة رقم 227.
3- راجع رسالة الحقوق للإمام عليّ بن الحسينّ علیهماالسلام .

إنّ المجتمع المهضوم حقّه الذي يتعرّض للظلم الاقتصادي والسياسيّ لا يمكن أن يطول به الأمر دون أن ينفجر في المآل ويثور في وجه حكّامه.

إنّ الاستبداد والديكتاتوريّة وإن استطاعت أن تكبح جماح الشعوب لفترة من الزمن باستخدام العنف والقوّة والقهر والإرغام ، ولكنّ الظلم والحيف إذا اجتمعا شيئاً فشيئاً تحوّل إلى طوفان جارف ، وانفجار يأتي على كلّ شيء فلا يبقي ولا يذر ... ولهذا كان العدل خيراً وأحسن مآلا ... والظلم بخلافه.

* * *

وخلاصة القول أنّ الإسلام جاء والبشر أجناس متفرّقون يتعادون في الأنساب والألوان ، واللغات والأوطان والأديان والمذاهب والمشارب والشعوب والقبائل والحكومات والسياسات فدعاهم الإسلام إلى الوحدة الإنسانيّة العامّة الجامعة وفرضها عليهم ... فدعا إلى الوحدات التالية :

1. وحدة الاُمّة.

2. وحدة الأجناس البشريّة.

3. وحدة الدين.

4. وحدة التشريع بالمساواة في الحقوق المدنيّة والتأديبيّة.

5. الوحدة بين المؤمنين.

6. وحدة الجنسيّة السياسيّة الدوليّة (1).

وبذلك تكون الدعوة إلى الوحدة في هذه المجالات من خصائص الإسلام والحكومة الإسلاميّة وامتيازاتها.

على أنّ ما ذكرناه من خصائص الحكومة الإسلاميّة إنّما هو مساواة المعتنقين أمام القانون لا مساواتهم في كلّ شيء حتّى في حيازة المناصب ، إذ هي تابعة للقابليّات والمؤهّلات وأهمّية الجهود وقلّتها وشدّتها.

ص: 379


1- تفسير المنار 11 : 255.

خصائص الحكومة الإسلاميّة ومميّزاتها

4

الإسلام بين الماديّة والمعنويّة

اشارة

( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا )

( البقرة : 143 ).

لا شكّ في أنّ الدين الإسلاميّ دعا إلى العبادة والأخذ بتقوى اللّه سبحانه ، إلى جانب الدعوة إلى الاستفادة من النعم الماديّة ، والتمتّع بلذائذ الحياة الدنيا ، وهو بهذا استطاع أن يخلق من الاُمّة الإسلاميّة ، اُمّة ( وسطاً ) حازت الجوانب الماديّة والمعنويّة معاً. فهي ليست كالاُمم ( الماديّة ) التي تعتقد بأصالة اللذة فتلخّص الإنسانيّة والحياة البشريّة في مجرد الاستمتاع بلذائذ الدنيا ونعمها ، ومواهبها ، كما يشاء الأعداء أن يتّهموا الإسلام بذلك.

كما ليست كالاُمم ذات الاتّجاه الروحيّ البحت ، التي لخّصت الحياة الإنسانيّة في الانسياق وراء الجوانب الروحيّة المحضة ناسية وراءها الدنيا وما فيها ، والجسد ومتطلباته ، بل الإنسان الكامل - في ظل النظام الإسلاميّ وبحكم طبيعته المزدوجة من الروح والجسد - هو الذي يتمتع بكلا الجانبين الماديّ والمعنويّ ، فيأخذ من الدنيا زاده ومتاعه ، ويتّجه إلى الآخرة هدفاً ومقصداً فيأخذ من هذا حظّاً ، ومن ذلك حظّاً غير

ص: 380

مهمل جانب الروح ، أوناس جانب الجسد ، ويتجلّى هذا المنطق وهذا المنطلق في موقف القرآن الكريم من الدنيا والآخرة ، فهو يرسم لنا كيف يجب أن يتعامل الإنسان مع كلّ واحد من هذين الجانبين ، ولهذا يتعيّن علينا - قبل أي شيء - أن نلقي نظرة فاحصة على ما ذكره القرآن في هذا الصعيد.

ورغم أنّ هذا البحث حول ( الدنيا والآخرة ) في القرآن يعتبر من أهمّ البحوث وأوسعها لكثرة الآيات الواردة فيه ، إلاّ أنّه ربّما غفل البعض عن موقف القرآن الحقيقيّ في هذه المسألة ، فخرج بتفسيرات وتوجيهات بعيدة عن هدف الإسلام ، وروح تعاليمه الجامعة.

لقد نظر القرآن الكريم في آياته نظرة شاملة جامعة إلى الدنيا والآخرة ، ولكن فريقاً من الناس لم يلاحظ إلاّ الآيات التي تحث على الاستفادة من النعم الدنيويّة فوصف ( الإسلام ) بأنّه دين ماديّ المنزع يسعى لضمان الجانب الماديّ فحسب ، في حين لاحظ فريق آخر تلك الآيات الذامة للدنيا والآخذين بها ، والتي تصفها بأنّها ( متاع قليل ) ولذلك وصف الإسلام بأنّه يخالف الدنيا ، وأنّه دين الآخرة ليس إلاّ ، في حين أنّ النظرة الشاملة لجميع الآيات الواردة حول هذه المسألة تهدينا إلى غير ما ذهب إليه هذا ، أو ذاك الفريق. فهي تقودنا إلى معرفة الموقف القرآني الحقيقيّ اتّجاه الدنيا والآخرة ، واتّجاه الماديّة والمعنويّة.

ولمّا كان هذا البحث بحثاً قرآنياً مفصّلاً ومستقلاً فإنّنا نكتفي هاهنا بعرض المسألة إجمالاً ، ونشير إلى بعض الآيات تاركين تحقيق المطلب إلى موضع آخر.

إنّ الناظر إلى آيات القرآن الكريم حول الدنيا يجدها على طوائف ثلاث :

1. طائفة مادحة للدنيا.

2. طائفة ذامة لها.

3. طائفة حاثّة على الأخذ بالدنيا والآخرة معاً ومشيرة إلى أنّ الدنيا الملهية هي المذمومة دون غيرها.

ص: 381

وبما أنّ الآيات في كلّ طائفة ، كثيرة جداً نكتفي بسرد بعضها :

الآيات المادحة للدنيا

وأمّا الطائفة التي تمدح الحياة الدنيا فهي كثيرة منها ما تأمر بتحصيل المواهب الماديّة والنعم الدنيويّة كقوله سبحانه : ( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللّهِ ) ( الجمعة : 10 ).

وقوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) ( الملك : 15 ).

ومنها ما تصفها بأنّها خير كقوله : ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ... ) ( البقرة : 215 ).

ومنها ما تعد الدنيا فضلاً من فضل اللّه سبحانه كقوله تعالى : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ) ( البقرة : 198 ). ( وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ) ( الإسراء : 12 ).

أو تعدّها رحمة وجزاء للمحسنين كقوله تعالى : ( ... نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ ) ( يوسف : 56 ).

ومنها ما نصّت على أنّ الدنيا ومواهبها ونعمها خلقت لعباد اللّه كقوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ) ( البقرة : 29 ).

أو أنها زينة لهم ومتاع جميل كقوله : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) ( الأعراف : 32 ).

ومنها ما تصفها بكونها حسنة ورحمة كقوله سبحانه : ( وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا ) ( يونس : 21 ).

وقوله سبحانه : ( وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ ) ( الأعراف : 156 ).

ص: 382

وغير ذلك من الآيات التي تمدح الدنيا والنعم الدنيويّة وتحثّ الناس والمؤمنين خاصّة على الأخذ والتمتع بها.

الآيات الذامّة للدنيا

وهي التي تذم الأخذ بالدنيا والتوجّه إليها كقوله سبحانه : ( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) ( الحجر : 88 ).

ومنها ما تصفها بأنّها عرض زائل كقوله سبحانه : ( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ) ( النساء : 94 ).

أو تصفها بأنّها متاع الغرور إذ يقول سبحانه : ( وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ) ( آل عمران : 185 ).

أو تصرّح بأنّها لا تجتمع مع الآخرة ، فهما على طرفي نقيض كقوله لنساء النبيّ صلی اللّه علیه و آله : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ) ( الأحزاب : 28 - 29 ).

وكقوله سبحانه : ( مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ) ( الشورى : 20 ).

أو تصفها بأنّها لهو ولعب إذ يقول سبحانه : ( وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( الأنعام : 32 ).

أو تعتبر الأخذ بالدنيا والتوجّه إليها وإلى أنعمها ولذائذها موجباً للإعراض عن الآخرة مثل قوله سبحانه : ( وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ ... ) ( الإسراء : 83 ).

إلى غير ذلك من الآيات التي تشتمل على ذمّ الدنيا ، وذمّ الآخذين بها.

ص: 383

وأمّا الطائفة الثالثة فهي التي تدعو إلى الأخذ بالدنيا والآخرة معاً كقوله : ( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) ( القصص : 77 ).

والتي يستفاد منها أنّ أصل الدنيا بما هي ليست مذموماً بل المذموم هو حبّ الدنيا والانخداع بها ، والوقوع في فخاخها ، والفرح بها فرحاً صارفاً عن الآخرة ومن هذه الآيات قوله سبحانه : ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ المَآبِ ) ( آل عمران : 14 ).

فقد أصبحت الدنيا وما فيها من متع ونعم مذمومة لأنّها حجبت الإنسان عن الآخرة وأوجبت نسيان طاعة اللّه والابتعاد عن العمل الصالح.

أو كقوله سبحانه : ( كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ ) ( القيامة : 20 - 21 ). ( إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلاً ) ( الإنسان : 27 ).

وقوله تعالى : ( وَفَرِحُوا بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ ) ( الرعد : 26 ).

وخلاصة القول ، أنّ مقتضى الجمع بين الطائفتين المادحة للدنيا والذامّة لها ، هو ما ذكرته الطائفة الثالثة من أنّ الدنيا ليست في حدّ ذاتها مذمومة بل ما كان منها ملهياً عن الآخرة وصارفاً عن ذكر اللّه وطاعته.

ولذلك وصف اللّه سبحانه الرجال الذين لا تلهيهم الدنيا عن التوجّه إلى الآخرة ، فقال : ( رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ) ( النور - 37 ). ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ ) ( المنافقون : 9 ).

إنّ الدنيا ليست مذمومة في نظر القرآن إلاّ إذا شغلت عن الآخرة ، كما صرّح بذلك القرآن بقوله : ( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ

ص: 384

وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) ( التوبة : 24 ).

ولا تكون مذمومة إلاّ إذا أدّى حبّها والتعلّق بها إلى شرائها بالآخرة ، إذ قال سبحانه : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) ( البقرة : 86 ).

ولا تكون مذمومة إلاّ إذا آل الرضا بالدنيا إلى نسيان الآخرة ، كما يقول سبحانه : ( ... أَرَضِيتُم بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ) ( التوبة : 38 ).

ولكن إذا كانت الدنيا عوناً على الآخرة فنعمت الدنيا ، عندئذ ، ونعمت العون والوسيلة : ( إِن تُقْرِضُوا اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ) ( التغابن : 17 ).

وإلى هذا أشار الحديث النبوي الشريف المشهور « الغنى نعم العون على الآخرة ».

ولهذا حثّ القرآن على الأخذ بالدنيا والآخرة معاً ، ولا يجد بينهما تبايناً لو كان الانتفاع بالدنيا من هذا الباب ، كما في قوله : ( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) ( القصص : 77 ).

ومن هنا يتبيّن أنّ حاصل الجمع بين الآيات المادحة للدنيا ، والذامّة لها هو أنّ الدنيا محبوبة ومرغوب فيها إذا كانت وسيلة لكسب الآخرة ، والتوصّل إلى المقامات المعنويّة ، ومذمومة ومرغوب عنها إذا كانت هدفاً بنفسها ، وغاية لذاتها.

والكلمة الجامعة في الجمع بين الآيات ما أشار إليه الإمام عليّ علیه السلام في كلامه في صفة الدنيا حيث قال : « ومن أبصر بها بصّرتهُ ومن أبصر إليها أعمتهُ » (1).

فمن جعلها وسيلة للحياة وطريقاً إلى الآخرة كما يتّخذ الإنسان المرآة وسيلة لرؤية

ص: 385


1- نهج البلاغة : الخطبة رقم 97.

نفسه وتشخيص ما في وجهه من آثار وأشياء بصّرته ، ومن جعلها هدفاً واشتغل بها بما هي مطلوبة بالذات لا مطلوبة للغير فإنّها تعمي عن كلّ خير فيها.

وللإمام عليّ علیه السلام في وصف الدنيا كلمات يتفق مضمونها مع ما ذكرناه فلاحظ من خطبه الكثيرة خصوص الخطبة رقم (204) طبعة عبده.

إنّ الدنيا محبوبة في - نظر الإسلام - إذا كانت وسيلة لعمل الخيرات وبلاغاً إلى الآخرة لأنّها حينئذ ليست إلاّ مطيّة كما صرّح بذلك الحديث النبويّ القائل : « الدُنيا مطيّة المؤمن ».

وتكون مذمومة مبغوضة إذا كانت سبباً لتناسي فعل الخيرات ، وترك المعنويّات وهجرانها ، ومن هنا نكتشف أنّ كلّ طائفة من هاتين الطائفتين : المادحة ، والذامّة ناظرة إلى جهة خاصّة وعنوان خاصّ ، وليست مطلقة.

ومن هنا أيضاً نعرف ، أنّ الإسلام يقيم توازناً فريداً بين الماديّة والمعنويّة ، بين الدنيا والآخرة ، فلا يرجح شيئاً ويترك آخر وهو موقف تفرضه طبيعة الكينونة الإنسانيّة وتتطلّبه حقيقة الفطرة البشريّة.

ولأجل هذا يجب أن تكون الحكومة الإسلاميّة في تركيبها ، ومنهاجها متّصفة بهذا اللون ومتّسمة بهذه الكيفية ، فلا ينصرف همهّا إلى توفير الظروف الماديّة وتتجاهل الجوانب الروحيّة والمعنويّة بل عليها أن تسعى إلى إقامة ذلك التوازن بين الجانبين ، في حياة الاُمّة الإسلاميّة فلا تدع جانباً يطغى على جانب آخر ، ولا تدع شيئاً يأتي على حساب شيء آخر.

إنّ الحكومة الإسلاميّة تتميّز عن سائر الحكومات بأنّ وظيفتها لا تنحصر فقط في توفير الظروف الماديّة للناس ، ولا يقتصر واجبها على تهيئة وسائل الاستفادة المطلقة من أنواع اللذائذ الماديّة كيفما كان ، وبأيّة وسيلة كانت ، بل هي مسؤولة عن العناية بكلا الجانبين على قدم المساواة ، فعليها أن تعتني بالجانب الروحيّ وتعمل جهدها على إصلاحه وإنعاشه كما تعتني بالجانب الماديّ وتهيّء الظروف المعيشيّة الماديّة بأفضل شكل.

ص: 386

إنّ الحكومات غير الإسلاميّة حيث لا تنطلق من أيديولوجيّة جامعة للروح والجسد والمادّة والمعنى ولا ترى لنفسها من وظيفة إلاّ توفير الحاجات الماديّة وتلبية النداءات الجسديّة للناس فقط ، ترى من واجبها أن تهيّء لشعوبها كلّ ما يرضيهم في هذا الجانب فلا تأل جهداً في توفير وسائل الاستمتاع واللذة من دون النظر إلى ماهيتها وآثارها وعواقبها السيّئة. فهي تخصّص الميزانيات الضخمة والأموال الطائلة لبرامج الترفيه ، واللّهو والتسلية ، ولكي تسد هذه النفقات وتوفّر هذه الميزانيات الهائلة تحصل المال من كلّ سبيل حرام كالتجارة بالخمور ، ووضع الضرائب على البغاء ، والفحشاء والقمار ، وغير ذلك من الموارد المحرّمة التي لو عمدت إلى حذفها لأختلت ميزانيّاتها ، وأصيبت بالنقص والشلل والعجز.

ولكن الحكومة الإسلاميّة حيث تنطلق من المنطلق الإسلاميّ الذي يوفّق بين الجانب الماديّ والمعنويّ تسعى جهدها في الاهتمام بالجوانب الروحيّة إلى جانب النواحي الماديّة فلا تضحّي بمعنويات الشعوب واخلاقهم ، وهي لذلك لا تفعل ما تغعله الحكومات الاُخرى من تحصيل مواردها من الطرق والسبل الماديّة المحّرمة فلا تعتمد على عائدات القمار والخمور والبغاء وغير ذلك.

لقد حرّم الإسلام كلّ هذه المكاسب وحرّم ما يحصل منها من أموال ، وحظرها على الاُمّة الإسلاميّة في حين تشكّل هذه المكاسب أهم الموارد الاقتصاديّة للحكومات غير الإسلاميّة ولقد حرّم هذه المكاسب لأخطارها على الجانب المعنويّ والأخلاقيّ للاُمّة ولما لها من تبعات سيّئة في حياتها الروحيّة.

إنّ العناية والاهتمام بالجانب الروحيّ ليست فقط إحدى الوظائف التي تضطلع بها الحكومة الإسلاميّة بل هي أهمّ وظيفة من وظائفها إذ في ظل استقامة هذا الجانب يستقيم الجانب الماديّ ، ويسعد البشر في الحياة الدنيويّة (1) ، ولهذا كان النبيّ يوصي

ص: 387


1- ونعم ما قال القائل : وإنّما الاُمم الأخلاق ما بقيت *** فإن هُمو ذهبت أخلاقهم ذهبوا

عمّاله الذين يعهد إليهم إدارة المناطق أن يركّزوا اهتمامهم على تربية الناس وتزكيتهم وتثقيفهم بالثقافة الإسلاميّة ... فها هو صلی اللّه علیه و آله عندما يولّي معاذ بن جبل يوصيه بأن يهتم بتربية الناس وتثقيفهم وتنمية معنوياتهم إذ يقول : « يا معاذُ علّمهم كتاب اللّه وأحسن أدبهُم على الأخلاق الصّالحة ... وأمت أمر الجاهليّة إلاّ ما سنّهُ الإسلامُ ... » (1).

هذا والحديث مفصل.

كما ويكتب لعمرو بن حزم حينما ولاّه نجران بأن يبالغ في تربية الناس إذ يقول : « بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ... ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) عهد من رسُول اللّه لعمرو بن حزم حين بعثهُ إلى اليمن أمرهُ بتقوى اللّه في أمره كلّه فإنّ اللّه مع الذين اتّقُوا والذين هُم محسنُون ، وأمرهُ أن يأخُذ بالحقّ كما أمره اللّه وأن يبشّر الناس بالخير ويأمُرهُم به ويُعلّمُ الناس القُرآن ، ويفقّههم فيه وينهى الناس فلا يمسُّ القُرآن إلاّ وهُو طاهرُ إنسان ، ويخبرُ الناس بالذي لهم والذي عليهم ، ويلين لهُم في الحقّ [ أي ينشر الحقّ بينهُم وينفذه بأساليب ليّنة تستهويهم ] ويشتدّ عليهُم في الظلم فإنّ اللّه كره الظُلم ونهى عنهُ ، وقال ( أَلا لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) ويُبشّر الناس بالجنة وبعملها ويُنذر الناس النار وعملها ويستألف النّاس حتّى يفقهوا في الدّين ، ويُعلّم النّاس معالم الحجّ وسُننه وفرائضه » (2).

إلى غير ذلك من الوصايا التي كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يوصي بها من يولّيهم شؤون البلاد وإدارة المناطق المختلفة ، ويدعوهم فيها إلى الاهتمام بالجوانب الروحيّة والمعنويّة والأخلاقيّة ، إلى جانب اهتمامهم بالجوانب الاقتصاديّة الماديّة.

ص: 388


1- تحف العقول ( طبعة بيروت ) : 27.
2- تنوير الحوالك في شرح موطأ مالك للسيوطيّ 1 : 157 ، والطبريّ 2 : 388 ، والبداية والنهاية 5 : 76 ، وسيرة ابن هشام 4 : 595 ومصادر اُخرى هذا والحديث مفصّل وفيه تعاليم اقتصاديّة وإداريّة واجتماعيّة مفصّلة.

خصائص الحكومة الإسلاميّة ومميّزاتها

5

الشورى

اشارة

( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ )

( قرآن كريم )

تمتاز الحكومة الإسلاميّة بأنّها تعتمد على مبدأ الشورى في إدارة البلاد ، ومعالجة مشكلاتها بعيداً عن الديكتاتوريّة ، والاستبداد ، والتفرّد بالرأي ، وقد كان الإسلام أوّل من أتى بمدأ الشورى في مجال الحكم في عصر كان العالم يخضع فيه للحكومات الديكتاتوريّة والملكيّات المستبدة ، وقد سمّيت سورة كاملة في القرآن باسم الشورى تعظيماً لهذا المبدأ ، وإيذانا بأهمّيته الإجتماعيّة.

القرآن والشورى :

إنّ القرآن الكريم يصف المجتمع الإسلاميّ بأنّه يعالج أُموره ومشاكله عن طريق التشاور وتبادل الرأي فيقول : ( وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا

ص: 389

رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) ( الشورى : 37 - 38 ).

إنّ على المجتمع الإسلاميّ طبقاً لهذه الآية أن يعالج مشاكله ، بالشورى وتبادل الرأي وذلك فيما يتعلّق بكيفيّة العيش وطريقة الحياة ... ويخطّط بالتشاور لما يحتاج إليه من برامج لترفيع مستوى الثقافة والتعليم ، وتوسيع نطاق العمران والانتاج الاقتصاديّ وكيفيّة التوزيع وتأسيس الجيش والحرس ، وتنظيم شؤون الدفاع وما سوى ذلك من برامج لمختلف المجالات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة ، وذلك لما في الشورى من نتائج طيبة لا تحصل إلاّ بها.

وتبلغ أهمّية الشورى في الاُمور بحيث يأمر اللّه نبيّه ( المعصوم من السهو والخطأ ) أن يتشاور مع أصحابه في بعض الاُمور ، ويتّخذ الطريق الصحيح ، والرأي الأصوب ، بعد تبادل الرأي والاستماع إلى جميع وجهات النظر حيث يقول : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ ) ( آل عمران : 159 ).

ولقد ذكر المؤرّخون نماذج عديدة من مشاورة النبيّ صلی اللّه علیه و آله مع أصحابه في طائفة من الشؤون العسكريّة كما وقع منه في الخروج إلى بدر حيث جمع أصحابه وقال : « أشيرُوا عليّ أيُّها النّاس » فيظهر أصحابه أراءهم بحريّة كبيرة ، ويختار النبيّ صلی اللّه علیه و آله ما اقترحه الأنصار (1).

الأحاديث والشورى

ولم يرد ذكر الشورى في القرآن فقط ، بل ورد في شأنها ما لا يحصى من الأحاديث نذكر طائفة منها هنا :

قال النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله « إذا كانت أُمراؤُكُم خيارُكُم وأغنياؤُكُم سُمحاؤُكُم وأمُورُكُم شُورى بينكُم فظهرُ الأرض خير من بطنها » (2).

ص: 390


1- السيرة النبويّة لابن هشام 1 : 615.
2- سنن الترمذيّ كتاب الفتن : 78.

وقال صلی اللّه علیه و آله : « استرشدُوا العاقل ولا تعصوهُ فتندمُوا » (1).

وقال صلی اللّه علیه و آله : « لا مُظاهرة أوثق من المشاورة ولا عقل كالتّدبير » (2).

ولما سئل النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن الحزم ما هو ؟ قال : « مُشاورةُ ذوي الرأي واتّباعُهُم » (3).

وقال الإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام : « فلا تكُفّوا عنّ مقالة بحقّ أو مشُورة بعدل » (4).

وقال علیه السلام أيضاً في وصية إلى ابنه محمّد بن الحنفيّة : « اضمُم آراء الرّجال بعضها إلى بعض ، ثُمّ اختر أقربها من الصواب ، وأبعدها من الارتياب ، قد خاطر بنفسه من استغنى برأيه ومن استقبل وُجُوه الآراء عرف مواقع الخطأ » (5).

وقال الإمام الباقر محمّد بن عليّ علیه السلام : « من لا يستشيرُ يندم » (6).

وقال الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام : « لن يهلُك امرء من مشُورة » (7).

وقال علیه السلام أيضاً : « استشر العاقل من الرّجال الورع ، فإنّهُ لا يأمرُ إلاّ بخير وإيّاك والخلافُ فإنّ مُخالفة الورع العاقل مفسدة في الدّين والدُّنيا ».

وعن الإمام زين العابدين علیه السلام في نصح المستشير قال : « وأمّا حقُّ المستشير فإن حضرك لهُ وجهُ رأيّ جهدت لهُ في النصّيحة وأشرت عليه بما تعلمُ أنّك لو كُنت مكانهُ عملت به وذلك ليكُن منك في رحمة ولين ، فإنّ اللين يُؤنسُ الوحشة ، وإنّ الغلظ يُوحشُ موضع الانس وإن لم يحضرك لهُ رأيٌ وعرفت لهُ من تثق برأيه ، وترضى به لنفسك دللتهُ عليه ، وأرشدتهُ إليه فكُنت لم تأله خيراً ، ولم تدّخر نُصحاً ، ولا حول ولاقوّة إلاّ باللّه.

وأمّا حقّ المشير عليك فلا تتّهمهُ فيما وافقك عليه من رأيه إذا أشار عليك فإنّما هي الآراءُ وتصرُفُ النّاسُ فيها واختلافهم ، فكُن في رأيه بالخيار إذا اتّهمت رأيهُ ، فأمّا

ص: 391


1- وسائل الشيعة 8 : 224.
2- وسائل الشيعة 8 : باب 9 أبواب أحكام العشرة : 409.
3- وسائل الشيعة 8 : 224.
4- نهج البلاغة : الخطبة رقم 214.
5- وسائل الشيعة 8 : 429، 424.
6- وسائل الشيعة 8 : 429، 424.
7- وسائل الشيعة 8 : 429، 424.

تُهمتهُ فلا تجوز لك إذا كان عندك ممّن يستحقُّ المشاورة ، ولا تدعُ شُكرهُ على ما بدا لك من إشخاص رأيه وحُسن وجه مشورته ، فإذا وافقك حمدت اللّه وقبلت ذلك من أخيك بالشّكر ، والإرصاد بالمُكافأة في مثلها إن فزع إليك ولا قوّة إلاّ باللّه » (1).

وقد جمعت الأحاديث المرتبطة بالشورى الحاثة عليها ، والمشيرة إلى نتائجها الطيّبة ، في أبواب « العشرة » من كتاب وسائل الشيعة للحرّ العامليّ ... وهي كثيرة ... ذكرنا منها هنا غيض من فيض وقليلا من كثير (2).

وقد نقل أهل السنّة أحاديث عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حثّ فيها على المشاورة منها قوله : « المُستشارُ مُؤتمن فإذا استُشير فليُشر بما هُو صانع لنفسه ».

وقوله : « إذا استشار أحدكُم أخاهُ فليُشر عليه ».

وقوله : « ما ندم من استشار ».

وقوله : « من استشار أخاهُ فأشار عليه بغير رُشده فقد خانهُ ».

وقوله : « ما يستغني رجُل عن مشُورة ».

وقوله : « من أراد أمراً فشاور فيه وقضى هُدي لأرشد الاُمُور ».

وعندما نزل قوله تعالى : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) قال النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « أما ، إنّ اللّه ورسُولهُ لغنيّان عنها ولكن جعلها اللّه رحمةً لاُمّتي ، من استشار منهُم لم يعدم رُشداً ، ومن تركها لم يعدم غيّاً » (3).

ثمّ إنّه إذا اختلف أصحاب الشورى في الرأي فبماذا يعالج الأمر ؟ فالمعروف هو أنّه يعالج فيما إذا كانا موافقين للإسلام بتقديم الأكثريّة على الأقليّة ، ولكن ذلك الترجيح يتمّ إذا لم يكن هناك رئيس نافذ منتخب من جانب الاُمّة ، إذ الطريق عند عدم وجود مثل هذا الرئيس ، ينحصر لا محالة في تغليب رأي الأكثريّة على رأي الأقليّة.

ص: 392


1- تحف العقول : 296.
2- وسائل الشيعة 8 : 426.
3- هذه الأحاديث السبعة وغيرها وردت في كتاب الشورى بين النظريّة والتطبيق : 27 - 30.

وأمّا إذا اختارت الاُمّة رئيساً نافذاً كامل الصلاحيات فله أن يتدخّل في الأمر ويأخذ بما هو مطابق للإسلام ، وإذا كان كلاهما مطابقين مع الموازين الإسلاميّة فللرئيس أن يختار ما هو أصلح لحال الاُمّة ، وأنفع لها سواء أيّدته الأكثريّة أو الأقليّة.

ولعلّه إلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( فَإِذَا عَزَمْتَ ) المشير إلى أنّ صاحب القرار الأخير هو الرئيس فهو الذي يعزم ويقصد في مجال الأخذ بالآراء المتضاربة كما في قوله سبحانه : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) ( العمران : 159 ).

فإنّ الآية تتضمّن أمرين :

الأوّل : ايصاء النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالمشاورة مع المسلمين ، والاستماع إلى آرائهم فإنّ المشاورة واحتكاك الرأي بالرأي الآخر يفيد تلاقح الأفكار ، والوصول إلى النتيجة الناضجة ، والرأي الصواب ، كما يفيد احتكاك الأسلاك الكهربائيّة انبثاق النور والحرارة ولذلك يجب على الحاكم الإسلاميّ - على الإطلاق - المشاورة ، وتجنّب الاستبداد والتفرّد بالرأي وإلى هذه الوظيفة الحساسة يشير قوله سبحانه : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) .

الثاني : إنّ على الحاكم الإسلاميّ الأعلى بعد المشاورة والاستماع إلى الآراء المختلفة ويقلّب وجوه الرأي ، أن يقيّمها بتعمّق ثم يختار ما هو الأصلح بحال الاُمّة وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( فَإِذَا عَزَمْتَ ( أي بعد التشاور والعزم على الرأي الأصلح ) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) ونفّذه ، وأوكل الأمر إليه سبحانه ليمدّك ويعينك في المشاكل.

فالخطاب في ( عزمت ) يدلّ على أنّ صاحب القرار ومن بيده الأمر هو نفس ( النبي ) بعد المشاورة.

وبتعبير آخر : إنّ هذا يكشف عن أنّ وظيفة الاُمّة اتّجاه النبيّ الأكرم هو مجرّد الإدلاء بالرأي وإبداء النظر ، وأمّا القرار النهائيّ فله صلی اللّه علیه و آله ومن شأنه وحده ، ويؤيّد ذلك ما روي عن الإمام عليّ علیه السلام حيث قال لابن عباس في إحدى الوقائع وقد اشار ابن

ص: 393

عباس على الإمام ما لم يوافق رأيه : « لك أن تُشير عليّ وأرى ، فإن عصيتُك فأطعني » (1).

إذن فلرئيس الدولة الأعلى أن يختار عند اختلاف الآراء ما هو أصلح لحال الاُمّة وأقرب إلى الموازين الإسلاميّة ، وإلاّ انحصر الطريق في تغليب الأكثريّة على الأقليّة لما ذكرنا.

وأمّا سيرة الرسول في الشورى فلم يظهر منه أنّه قدّم الأكثريّة على الأقليّة إطلاقاً ، بل الظاهر أنّه بحكم أنّه صلی اللّه علیه و آله كان مفوّضاً إليه الأمر على الإطلاق في التصميم واتّخاذ القرار والاستنتاج كما هو الظاهر من خطابه سبحانه إليه ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) أنّ يقدّم ما هو الحقّ والصلاح أو الأحقّ والأصلح على غيره سواء أوافق نظرية الأكثرين أم خالفها.

هذا وللرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله عدة مشاورات ضبطها التاريخ مبثوثة في طيّات الكتب والمؤلّفات ونحن نجمعها في مكان واحد حتّى تتبيّن كيفيّة استشارته.

إنّ للرسول الأعظم مشاورات خمس حسبما وقفنا عليها وإليك توضيحها :

الاُولى / في غزوة بدر ، قبل أن يواجه العدو ، فاستشار الناس ، وأخبرهم بأمر قريش فقام أبو بكر وقال : يا رسول اللّه إنّها واللّه قريش وعزّها ، واللّه ما ذلّت منذ عزّت ، واللّه ما آمنت منذ كفرت ، واللّه لا تسلّم عزّها أبداً فاتّهب لذلك أهبته وأعدّ لذلك عدّته ، وتكلّم بمثله أيضاً عمر ، ثمّ قام المقداد بن عمرو فقال يا رسول اللّه : امض لأمر اللّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيّها : ( فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) ( المائدة : 24 ) ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون.

فقال له رسول اللّه خيراً ودعا له بخير ثم قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أشيرُوا عليّ أيُّها النّاسُ » وإنّما يريد رسول اللّه الأنصار وكان يظنّ أنّ الأنصار لا تنصره إلاّ في الدار ، وذلك أنّهم شرطوا له أن يمنعوه ممّا يمنعون منه أنفسهم وأولادهم فقال رسول اللّه : « أشيروا عليّ ».

ص: 394


1- نهج البلاغة : باب الحكم ( الرقم 321 ) وقد مرّ في الصفحة 391 و 392 ما يدلّ على ذلك أيضاً.

فقام سعد بن معاذ وقال : أنا اجيب عن الأنصار كأنّك يا رسول اللّه تريدنا ، قال صلی اللّه علیه و آله : « أجل » ، قال : إنّك عسى أن تكون خرجت عن أمر قد أوحي إليك في غيره وإنّا قد آمنا بك وصدّقناك ... فامض يا نبيّ اللّه ، فو الذي بعثك بالحقّ ، لو استعرضت هذا البحر ، فخضته لخضناه معك ، ما بقي منّا رجل وصل من شئت واقطع من شئت ... إلى آخر ما قاله سعد بهذا المنوال ... فلمّا فرغ سعد قال رسول اللّه : « سيرُوا على بركة اللّه فإنّ اللّه قد وعدني إحدى الطّائفتين ، واللّه لكأنّي أنظُر إلى مصارع القوم » ، قال : وأرانا رسول اللّه مصارعهم يومئذ (1).

وممّا قاله رسول اللّه في ذيل كلامه من أنّ اللّه وعده احدى الطائفتين ، حتّى أراهم مصارع القوم يعلم أنّه قدّم نظرية مندوب الأنصار ، لأنّه وقف على صحّتها عن طريق الوحي.

الثانية / في غزوة اُحد ، وذلك عندما سمع رسول اللّه نزول قريش عند مشارف المدينة ، فشاور الرسول اصحابه في الخروج أو البقاء.

فقال صلی اللّه علیه و آله : « فإن رأيتُم أن تُقيمُوا بالمدينة وتدعُوهُم حيثُ نزلُوا ، فإن أقاموُا ، أقامُوا بشرّ مقام وإن هُم دخلُوا علينا قاتلناهُم فيها » وكان رسول اللّه يكره الخروج ، فقال رجال من المسلمين : يا رسول اللّه أخرج بنا إلى أعدائنا ، لا يرون أنّا جبنّا عنهم وضعفنا ، فقال عبد اللّه بن أُبيّ : يا رسول اللّه أقم بالمدينة لا تخرج إليهم.

فلم يزل الناس برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، الذين كان من أمرهم حبّ لقاء القوم ، حتّى دخل رسول اللّه بيته فلبس لاُمّته ، ثمّ خرج عليهم وقد ندم الناس ، وقالوا استكرهنا رسول اللّه ، قالوا : يا رسول اللّه استكرهناك ولم يكن ذلك لنا.

فقال رسول اللّه : « ما ينبغي لنبيّ إذا لبس لاُمّتهُ أن يضعها حتّى يُقاتل » (2).

ونقل الواقدي في مغازيه صورة المشاورة بوجه أبسط وقال : وكان رأي رسول اللّه

ص: 395


1- المغازي للواقدي المتوفّى عام (207) 1 : 48 - 49 بتلخيص.
2- سيرة ابن هشام 2 : 63 بتلخيص.

مع رأي ابن اُبيّ وكان ذلك رأي الأكابر من المهاجرين والأنصار.

فقال فتيان أحداث لم يشهدوا بدراً وطلبوا من رسول اللّه الخروج إلى عدوّهم ورغبوا في الشهادة وأحبّوا لقاء العدو : أخرج بنا إلى عدوّنا.

وقال رجال من أهل السنّ والنبه منهم حمزة بن عبد المطلّب ، وسعد بن عبادة ، والنعمان بن مالك من الأوس والخزرج : إنّا نخشى يا رسول اللّه ، أن يظنّ عدونا أنّا كرهنا الخروج إليهم جبناً عن لقائهم ، فيكون هذا جرأة ، ورسول اللّه لما يرى من إلحاحهم كاره ، وقد لبسوا السلاح يخطرون بسيوفهم يتسامون كأنّهم الفحول.

وقال مالك بن سنان : يا رسول اللّه نحن واللّه بين إحدى الحسنيين ، إمّا أن يظفرنا اللّه بهم ، أو يرزقنا اللّه الشهادة ، وقال حمزة بن عبد المطّلب : والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم اليوم طعاماً حتى أجادلهم بسيفي خارجاً من المدينة.

وتكلّم آخرون بمثل ما تكلّم به طلاّب الشهادة والخروج.

فلما أبوا إلاّ الخروج ، صلّى رسول اللّه الجمعة بالناس ثمّ وعظ الناس وأمرهم بالجدّ والجهاد (1).

فالناظر فيما نقله الواقديّ حول هذه المشورة يرى تسليم النبيّ للطائفة الثانية لما رأى منهم من الحرص والولع إلى الشهادة ، ورأى أنّ مخالفة هذه الجماعة تميت فيهم روح الحماسة والشجاعة ، ولعلّه يستتبع ردّ فعل سيّء ، فخرج معهم ، وأخبرهم أنّ النصر لهم ما صبروا.

الثالثة / في غزوة الأحزاب ( الخندق ) ، لمّا وقف رسول اللّه على أنّ قريشاً قد وصلوا مع حلفائهم إلى مشارف المدينة ، أمر بحفر الخندق ، وأشار به سلمان الفارسيّ وكان أوّل مشهد شهده مع رسول اللّه ، وهو يومئذ حرّ (2).

وقال الواقدي : وشاور رسول اللّه أصحابه في أمرهم بالجدّ والجهاد ووعدهم

ص: 396


1- المغازي للواقديّ 1 : 210 - 214 وقد أخذنا موضع الحاجة منه.
2- تاريخ الكامل لابن الاثير 2 : 122.

النصر إن هم صبروا وكان رسول اللّه يكثر مشاورتهم في الحرب فقال : « أنبرز لهم من المدينة أم نكون فيها أم نكون قريباً ونجعل ظهورنا إلى هذا الجبل » ، فاختلفوا فقالت طائفة : نكون ممّا يلي بعاث إلى ثنية الوداع إلى الجرف وقال قائل : ندع المدينة خلوفاً ... فقال سلمان يا رسول اللّه إنّا إذ كنّا بأرض فارس وتخوّفنا الخيل خندقنا علينا فهل لك يا رسول اللّه أن نخندق ، فأعجب رأي سلمان المسلمين وذكروا حين دعاهم النبيّ يوم اُحد أن يقيموا ولا يخرجوا فكره المسلمون الخروج وأحبّوا الثبات في المدينة.

ومن المعلوم أنّ تقديم نظريّة سلمان مع أنّه كان واحداً بين المشاورين كان لأجل كونه رأياً رصيناً ونظريّة صائبة ، وكان مصداقاً لقوله تعالى : ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) .

الرابعة / في غزوة الخندق أيضاً ، عندما اشتد على الناس البلاء بعث النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف قائد غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا حتّى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إلاّ المراوضة في ذلك ، فلمّا أراد رسول اللّه أن يفعل بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر ذلك لهما واستشارهما فيه ، فقال له : يا رسول اللّه أمراً نحبّه فنصنعه ، أم شيئاً أمرك اللّه به أم شيئاً تصنعه لنا ، قال : « بل شيء أصنعهُ لكُم ، واللّهما أصنعُ ذلك لأنّي رأيتُ العرب رمتكُم عن قوس واحدة » فقال له سعد بن معاذ : يا رسول اللّه قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الشرك باللّه وعبادة الأوثان لا نعبد اللّه ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلاّ قرى أو بيعاً ، أفحين اكرمنا بالإسلام ، وهدانا له وأعزّنا بك وبه نعطيهم أموالنا ؟ ... قال رسول اللّه : « فأنت وذاك » ، فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحى ما فيها من الكتاب (1).

الخامسة / ما ورد في غزوة الطائف ما يشبه المشاورة ، وذلك عندما مضى رسول اللّه حتّى نزل قريباً من حصن الطائف ، فضرب عسكره هناك ، فساعة حلّ رسول اللّه

ص: 397


1- المغازي للواقديّ 2 : 444 - 445.

وأصحابه جاءه الحبّاب بن المنذر فقال يا رسول اللّه : إنّا قد دنونا من الحصن فإن كان عن أمرنا سلمنا ، وإن كان عن الرأي فالتأخّر عن حصنهم ... قال : فأَسكت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

وينقل الواقدي عن عمرو بن أميّة أنّ رسول اللّه دعا الحباّب بن منذر فقال : « أُنظُر مكاناً مُرتفعاً مُستأخراًعن القوم » فخرج الحبّاب حتّى انتهى إلى موضع مسجد الطائف فجاء إلى النبيّ فأخبره فأمر رسول اللّه أصحابه أن يتحوّلوا (1).

وأنت إذا عطفت النظر على المشورتين الرابعة والخامسة تقف على أنّ قبول النبيّ لقول المشاورين كان من باب الأخذ بالأحقّ والأصلح في مجال العمل وهو حفظ كيان الأنصار وصون دمائهم وأموالهم بعد أن رأى أنّ العرب تألّبت عليهم ، وقصدت رميهم عن قوس واحدة فلمّا تكلّم مع رئيس الأوس سعد بن معاذ ورأى فيهم قوّة قلب ورباطة جأش وإصراراً على المواجهة والتفدية والتضحية انقلب الموضوع فنزل عند رأيهم وطلب منهم على مواصلة الحرب.

كما أنّ النزول عند اقتراح من اقترح تغيير المعسكر لم يكن إلاّ تقديراً لاقتراح المقترح مع كون النزول في المعسكرين سواسية.

فالناظر في تلكم المشاورات يجد أنّ النبيّ لم يكن يقدّم رأياً ويؤخّر اُخرى لأجل الأقليّة والأكثريّة ، بل لإنّه كان يستمع لجميع الأراء والاقتراحات ثم يختار ما هو الأصوب.

ولأجل ذلك نرى أنّه ربما كان يعارض رأي الجماعة ... كما في صلح الحديبيّة فإنّ أكثر الأصحاب ممّن كان يعبأ بقوله ورأيه كانوا يخالفونه في عقد الصلح مع المشركين في الحديبية ومع ذلك كلّه فقد عقد الصلح ، وأمضاه ، راجع تفصيل ذلك كلّه في السير والتواريخ (2).

وأوضح من ذلك قصّة اُسامة بن زيد حيث عقد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اللواء له وفعل

ص: 398


1- المغازي للواقديّ 3 : 925 - 926.
2- سيرة ابن هشام 2 : 316 - 317.

ذلك بيده الشريفة تحريكاً لحميّتهم وإرهافاً لعزيمتهم وقال : « سر إلى موضع قتل أبيك فأوطئهُم الخيل فقد ولّيتك هذا الجيش » ، لكن الصحابة تثاقلت هناك فلم يبرحوا مع ما وعوه ورعوه من النصوص الصحيحة في وجوب إسراعهم ، وطعن قوم منهم في تأمير اُسامة ، كما طعنوا من قبل في تأمير أبيه.

ولكن هذه المخالفة لم تثن عزيمة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ولم ترده عن رأيه فصعد المنبر فقال : « أيُّها النّاسُ ما مقالةً بلغتني عن بعضكُم في تأميري أُسامة ولئن طعنتُم في تأميري أُسامة لقد طعنتُم في تأميري أباهُ من قبله ، وأيمُ واللّه إن كان لخليقاً بالإمارة وإنّ ابنهُ من بعده لخليق بها » (1).

ولعلّه يؤيّد ما ذكرنا من أنّ قبول النبيّ صلی اللّه علیه و آله لقول المشاورين كان من باب الأخذ بالأحقّ والأصلح في مجال العمل لا الأخذ بالأكثريّة بداعي الأكثريّة ما قاله صاحب المنار : إنّ النبيّ رجّح في أحد رأي الأكثرين مخالفاً لرأيه ورجّح في بدر الرأي الموافق لرأيه ولم يكن هناك أكثريّة ظاهريّة فيجب أن يراعي الإمام ذلك ولا مجال في هذا للتفريق والخلاف (2).

وحصيلة القول : انّ الإمام المفترض طاعته سواء أكان معصوماً أم غيره إذا استشار يجب عليه أن يتحرى الأصلح والأحقّ ولا يخضع للأكثريّة بما هي أكثريّة ولا يوجب رأي الأكثريّة إلزاماً على الإمام أن يختاره ، نعم ربما تقتضي المصلحة الأخذ برأي الأكثريّة كما فعل الرسول في موقف اُحد.

نعم مسألة الاستشارة في الاُمور تختلف عن مسألة انتخاب الحاكم أو النائب الأصلح فإنّه يؤخذ فيه بالأكثريّة حسماً لمادّة النزاع والاختلاف لا أنّ الحلّ منحصر في هذا الاسلوب لا غير بخلاف ما إذا كان هناك حاكم إسلاميّ مفروغ السلطة آخذاً بالزمام تحت الضوابط السالفة ، فعندئذ إذا استشار جماعة ، في مشاكل الاُمور ، وطلب آراءهم ، لم تكن آراء المشيرين ملزمة له وحجّة عليه ، إذا رأى الحقّ في خلافهم.

ص: 399


1- راجع طبقات ابن سعد 2 : 190.
2- المنار 5 : 191.

خصائص الحكومة الإسلاميّة ومميّزاتها

6

ضمان الحريّات المعقولة

اشارة

( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ )

( الأعراف : 157 )

لم تزل الحريّة ( أعزّ ) ما تنشده البشريّة قديماً وحديثاً ، وتبذل من أجلها النفوس والدماء ، ولذلك فالحريّة كلمة مقدّسة تهفو إليها الشعوب والجماعات وخاصّة المستضعفة والمضطهدة منها وتسعى لتحقيقها بكلّ وسيلة ولكنّها قليلاً ما تنالها وتصل إليها رغم ما تبذل من دماء ، وتقدّم من ضحايا في سبيلها.

فلا تزال شعوب وجماعات إلى اليوم ترزح تحت ضغط الاستبداد والديكتاتوريّة وتعيش بين مخالب الاستعباد والاستعمار.

ما هي الحريّة ؟

لقد عرّف الحقوقيّون ( الحريّة ) بتعاريف مختلفة فعرّفها مونتسكيو بأنّ ( الحريّة هي حقّ صنع جميع ما تبيحه القوانين ، فإذا استطاع أحد أن يصنع ما تحرّمه القوانين فقد

ص: 400

الحريّة ( وسلبها ) وذلك لإمكان قيام الآخرين بمثل ما صنع ) (1).

وعرّفها آخرون بأنّ الحريّة تعني أن لا يكون أمام الإنسان أي مانع من التفكّر والعمل الحسن ، وعرّفها آخرون باُمور وتعاريف اُخرى ، ولكنّنا نرى أنّ التعريف الجامع هو : أنّ الحريّة تعني أن يكون الجو الاجتماعيّ بنحو يستطيع فيه كلّ فرد من أفراد المجتمع من إخراج مواهبه وقابليّاته إلى منصّة الظهور دون أن يمنعه مانع ، أو يحجزه حاجز يقف دون ظهور المواهب ، ويمنع من نمو الاستعدادات.

وقد جاء الأنبياء والمرسلون لمثل هذه المهمة الكبرى ، فهم جاؤوا ليرفعوا جميع الموانع والحواجز من بين أيدي البشريّة ، ويخلقوا بيئة حرّة لا مكان فيها للسدود والقيود حتّى يستطيع كلّ فرد أن يصل إلى كماله المنشود ، وينمّي مواهبه وقابليّاته دون مانع.

أقسام الحريّات ومجالاتها
اشارة

تنقسم الحريّة إلى أقسام كثيرة نشير إلى أهمّها وهي :

1. الحريّة الشخصيّة.

2. الحريّة الفكريّة والعقيديّة.

3. الحريّة السياسيّة.

4. الحريّة المدنيّة.

وإليك تفصيل الكلام في هذه الحريّات.

* * *

1. الحريّة الشخصيّة

وتعني أنّه لا سيادة لأحد على أحد بالأصل والفطرة ، فكلّ إنسان حرّ بالذات

ص: 401


1- روح الشرائع 1 : 226 ، طبعة دار المعارف بمصر ترجمة عادل زعيتر ( عام 1953 م ).

وليس بمملوك لأحد أو مستعبد لآخر.

والحريّة بهذا المعنى حقّ طبيعيّ لكلّ إنسان ، لا أنّه أمر خاضع للوضع والجعل ليمكن إعطاؤه أو منعه ، خلاف ما اعتقده بعض الفلاسفة الذين مضوا حيث كانوا يعتقدون بأنّ اللّه خلق الناس صنفين عبيداً وأحراراً. وأنّ السود هُم العبيد الذين زودهُم اللّه بقوة أكبر لخدمة الأحرار وأنّهم محرومون من كلّ ما يتمتّع به الأحرار من امتيازات وحقوق.

وقد اعترف الإسلام بهذه الحريّة لكلّ إنسان ونادى بها ، ودعا إلى احترامها وحمايتها قال الإمام عليّ علیه السلام : « لا تكُن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حُرّاً » (1).

وألغى كلّ الفوارق المزعومة بين الناس وردّ الجميع إلى أصل واحد حيث قال الإمام عليّ علیه السلام : « أيُّها النّاسُ أنّ آدم لم يلد سيّداً ولا أمةً وإنّ النّاس كُلُّهُم أحرار » (2).

وهذا هو أصل نادت به جميع الرسالات الإلهيّة من قبل ، فها هو القرآن الكريم يحدّثنا كيف اعترض موسى علیه السلام على فرعون استعباده لبني إسرائيل لمّا منّ فرعون على موسى بتربيته له ، وعنايته به مذ كان صغيراً وقال : ( أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا ) ( الشعراء : 18 ) فقال موسى : ( وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ( الشعراء : 22 ).

وهذا يعني أنّ النعم مهما كانت كبيرة وعظيمة لا تساوي شيئا إذا سلب الإنسان حريّته.

ولأجل ذلك يوبّخ اللّه سبحانه أهل الكتاب على خضوعهم لأحبارهم ورهبانهم واتّخاذهم أربابا وأسياداً من دون اللّه إذ يقول : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( التوبة : 31 ).

ص: 402


1- روضة الكافي : 9.
2- مرّ مصدر هذا الحديث.

لأنّ ذلك يعني تخلّي أهل الكتاب عن حرّيتهم الطبيعيّة ، وإعطاء مصيرهم في التحليل والتحريم والتشريع والتقنين إلى بشر أمثالهم وهو أمر مرفوض في منطق الدين ، الذي يرى بأنّ اللّه خلق الناس أحراراً ، وأراد لهم أن يعيشوا كذلك ولا تكون لأحد على أحد سلطة التشريع إلاّ لله سبحانه.

وقد دعا الإسلام أهل الكتاب إلى نبذ هذه الأرباب والأسياد البشريّة وتحرير الإنسان من كلّ قيد ظالم فقال : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ ) ( العمران : 64 ).

ولقد دفع الإسلام اتباعه إلى الدفاع عن حريّتهم ، وزرع فيهم روح العزّة والإباء والاعتلاء إذ قال : ( وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) ( المنافقون : 8 ).

وقال سبحانه : ( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ( العمران : 139 ).

ورفض أن يذلّ المؤمنون أنفسهم ويتخلّوا عن حريّتهم وعزّتهم فقال عليّ علیه السلام : « إنّ اللّه تبارك وتعالى فوّض إلى المُؤمن كُلّ شيء إلاّ إذلال نفسه » (1).

وقال الإمام الحسين بن عليّ علیه السلام في الرد على من أرادوا له الخضوع ليزيد : « لا اعطينّكُم بيدي إعطاء الذّليل ولا اقرُّ لكُم إقرار العبيد » (2).

بل وليس الإيمان باللّه ورفض الشركاء والأنداد الذي دعا إليه الدين إلاّ الخروج من عبوديّة العباد إلى جوّ الحريّة الكريمة اللائقة بالإنسان المتوفّرة في العبوديّة لله وحده.

فجملة لا إله إلاّ اللّه من أعظم الشعارات التي نادى بها الإسلام لتحرير الإنسان وإخراجه من أيّة عبوديّة وخضوع لأحد إلاّ لله سبحانه.

ص: 403


1- وسائل الشيعة 6 : 424.
2- بلاغة الحسين : 43.

نعم ربّما يتسبّب الإنسان نفسه في عبوديّته إذا تخاذل وخنع ، وتهاون في حفظ شخصيّته ، وترك الآخرين يستعبدونه ويسلبون حريّته ، ويستعلون عليه ويسترقّونه ولم يدافع حقّ الدفاع عن حريّته وكرامته ، قال الإمام عليّ علیه السلام : « الناسُ كُلُّهم أحرار إلاّ من أقرّ على نفسه بالعُبُوديّة » (1).

ولكنّ الإسلام حارب كلّ ألوان الخضوع والتبعيّة لغير اللّه ... ووصف هدفه بأنّه جاء ليضع عن الناس كلّ الأغلال قال سبحانه : ( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) ( الأعراف : 157 ).

كما حارب الإسلام بشدّة كلّ ألوان الرقّ الذي كان متعارفاً زمن الجاهليّة ولا زال العالم الحديث يعاني منه قليلاً (2).

ومن حقّ الحريّة الشخصيّة هذه أن يصبح كلّ إنسان آمناً على حريّته فلا يحبس ولا يعتقل إلاّ بقانون صحيح (3).

2. الحريّة الفكريّة والعقيديّة :

وهي من أهمّ أقسام الحريّة ( بعد الحريّة الشخصيّة ) وتعني : بأن يكون لكلّ إنسان الحقّ في اختيار ما يراه من عقيدة ، واعتناق ما يريده من فكرة دون أن يجوز لأحد إجباره على غيره ، وإلى هذا أشار القرآن الكريم إذ قال : ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) ( البقرة : 256 ).

ص: 404


1- وسائل الشيعة 3 : 243.
2- لقد ذكرنا لك فلسفة الرقّ الذي يعترف به الإسلام أثناء الحرب في الفصل الرابع الصفحة : 257 من هذا الكتاب.
3- ليس للسجون في النظام الإسلاميّ مجال واسع كما هو الحال في الأنظمة الوضعية ، نعم هناك بعض الموارد يضطرّ فيها الحاكم إلى حبس الأفراد وهي نادرة مذكورة في الفقه ، وسنذكر إجمال القول فيها في آخر هذا الفصل.

وقد وصف اللّه سبحانه مهمّة نبيّه محمّد صلی اللّه علیه و آله بأنّها مهمّة التذكير والإرشاد لا القهر والإجبار فقال : ( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ) ( الغاشية : 21 - 22 ).

وستعرف - في الفصول القادمة - مدى تسامح الإسلام مع أصحاب الشرائع الاُخرى وما قرّره للأقلّيات الدينيّة من حريّات وحقوق.

فلأجل هذه الحريّة لا يجوز أن يجبر كافر ( كتابيّ أو غير كتابيّ ) على إعتناق الإسلام ، أو يمنع الوثني إذا أراد أن يعتنق إحدى الشرائع الكتابيّة الاُخرى أو أراد أن ينتقل من وثنيّة إلى وثنيّة اُخرى ، أو يتحوّل يهوديّ إلى النصرانيّة أو نصرانيّ إلى اليهوديّة.

نعم لا يحقّ للمسلم أن يبدّل دينه إلى غير الإسلام لأنّ في ذلك إهانة للدين وجرحاً للعقيدة الإسلاميّة وإضعافاً لموقع المسلمين ولذلك يقتل المرتدّ إذا كان معانداً ، إلاّ إذا كان شاكّاً إشتبه عليه الأمر فوجب رفع شبهته وتبديد شكّه ، فإن عاند - بعد ذلك - قتل ، وتقبل توبة المرتدّ الفطريّ إذا كان إرتداده عن شبهة حصلت له ، واعترضت سبيل اعتقاده.

بيد أنّ الارتداد الجماهيريّ لا يكون سبباً لتطبيق حكم الارتداد ، وهو لا يكون غالباً عن تغيير طبيعيّ وجذريّ في الاعتقاد ، إذ يكون عادة بسبب الجوّ الفكريّ أو الدعاية الكبرى التي ينحرف بسببها الكثيرون ولا يؤمن معها على انحراف عقيدة وتبديل دين.

على أنّ الإسلام لا يترك الناس دون توجيه وارشاد وتبيين الرشد من الغيّ ، ومن هذا الباب ، نفيه لكلّ العوامل والأمور التي تمنع من التفكّر الصحيح.

فقد عمل الإسلام على إزالة كلّ الموانع أمام الرشد الفكريّ السليم التي توجب انحراف العقيدة وتقييد الفكر البشريّ عن النمو والانطلاق وهذه الموانع هي :

1. الإبقاء في الجهل والعمى.

2. التفتيش عن العقائد.

ص: 405

3. نشر الخرافات وتعميمها.

4. إلهاب الغرائز الجنسية والأهواء الفاسدة.

أمّا ابقاء الناس في الجهل والعمى ( وهو الذي يسعى إليه المستعمرون فيمنعون من بثّ الثقافة والعلم بين الشعوب المغلوبة حتّى يبقى النّاس في تأخّر وانحطاط. فها هي الجزائر أيام الاحتلال الفرنسيّ لم يتجاوز المتعلّمون فيها ( 1000 شخص ) ، فقد قابله الإسلام باشاعة الثقافة وتعميم العلم ودعوة الناس إلى اكتساب المعرفة ، كما سنعرف ذلك مفصّلاً في الفصول القادمة.

وأمّا التفتيش عن العقائد وملاحقة كلّ من يخالف اعتقاده عقيدة الجماعة فهو أمر طالما عانت منه البشريّة في ظل بعض الشرائع المحرّفة ، فقد مارست الكنيسة هذا الأمر اتّجاه كلّ المتدينين بغير دينها ، وأقامت محاكم التفتيش هنا وهناك وأحرقت وقتلت جماعات كبيرة من الناس لهذا السبب حتّى أنّ ويل دورانت ذكر في تاريخه : أنّ عدد من قتل حرقاً بين عام 1480 و 1488 بلغ 8800 شخصاً ومن حكم عليه بالأحكام الشاقّة بلغ 96494 (1).

وقدرفض الإسلام هذه الرقابة وهذا التفتيش حيث دعا إلى التفكّر الصحيح للوصول إلى الحقيقة ولهذا عدّه من أفضل العبادات.

قال سبحانه : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) ( الزمر : 9 ).

وقال سبحانه : ( فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) ( الزمر : 17 - 18 ).

وقال الرسول صلی اللّه علیه و آله في حديث مشهور : « تفكُّرُ ساعة أفضلُ من عبادة سنة ».

كما وأكّد على دور العقل والتعقّل ومن ذلك ما قاله عليّ علیه السلام : « أفضل العبادة إدمانُ التفكُّر » وقال : « ونبّه بالتّفكُّر قلبك » (2).

ص: 406


1- قصة الحضارة : ويل دورانت الجزء 18.
2- راجع الكافي 1 كتاب العقل والجهل : 54 - 55 و 224 ، وسفينة البحار 2 : 382.

وكمثل بسيط نذكر لك قصّة صفوان بن اُميّة الذي كان يعادي النبيّ صلی اللّه علیه و آله فخرج هارباً ، فأمّنه النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأعطاه عمامته التي دخل فيها مكّة كوثيقة للأمان فلمّا اطمأن ورجع حتّى وقف على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : إنّ هذا يقول : إنّك قد أمنّتني ، قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « صدق » قال : فاجعلني فيه بالخيار شهرين.

قال صلی اللّه علیه و آله : « أنت بالخيار فيه أربعة أشهُر » (1).

وهكذا نجد النبيّ صلی اللّه علیه و آله يخيّر هذا المشرك ويمهله أربعة أشهر ليفكّر ويختار الإسلام عن قناعة وقبول.

ولعلّ أوضح دليل في هذا المجال هو قوله سبحانه : ( وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ) ( التوبة : 6 ).

وهنا لا بدّ أن نسجّل أنّ هذه الآيات والمواقف الصريحة في حريّة الاعتقاد تكذّب الاتّهام القائل بأنّ الإسلام انتشر بالسيف ، فالإسلام انتشر بالتبليغ الحسن ، والدعوة الخالصة ورغبة الشعوب فيه.

وهذه هي حقيقة يعترف بها الأجانب قبل الأصدقاء ، فهذا هو غوستاف لوبون في كتاب حضارة العرب يقول :

( انّ القوّة لم تكن عاملاً في انتشار القرآن فقد ترك العرب المغلوبين على أمرهم أحراراً في أديانهم ولم ينشر الإسلام بالسيف بل انتشر بالدعوة وحدها ، وبالدعوة وحدها اعتنقت الشعوب التي قهرت العرب مؤخّراً كالترك والمغول ، وأدرك الخلفاء السابقون أنّ النظم والأديان ليست ممّا يفرض قسراً فعاملوا أهل كلّ قطر استولوا عليه بلطف عظيم ، فالحقّ أنّ الاُمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب ( المسلمين ) ولا ديناً سمحاً مثل دينهم ) (2).

ص: 407


1- سيرة ابن هشام 2 : 417 - 418.
2- روح الشرائع 2 : 178 - 179 نقله عادل زعيتر في هامشه عليه.

ولتوفّر مثل هذه الحريّة الفكريّة والعقيديّة في ظلّ الإسلام ، نرى أنّ الملاحدة والزنادقة الذين كانوا يحملون عقائد مضادة للإسلام كانوا يعيشون في الأوساط الإسلاميّة في القرون الاُولى أحراراً ودون أن يمسّهم أحد بسوء ... بل وطالما كانوا يناقشون أئمة المسلمين كما نلاحظ ذلك من مناظراتهم واحتجاجاتهم مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله والإمام علي علیه السلام والباقر والصادق علیهماالسلام (1).

أمّا منع كتب الضلال وتحريم اقتنائها وتداولها الذي نجده في الفقه الإسلامي ؛ فهو خاصّ بمن يتضرّر فكريّاً بهذه الكتب ، فإنّ كتب الضلال بمنزلة الدواء الضارّ فكما لا يصحّ السماح لكلّ أحد حتّى الأطفال باقتناء الدواء الضارّ ؛ كذلك لا يجوز لغير العالم الراسخ في عقيدته تناول هذه الكتب تجنيباً للمجتمع من أخطارها وأضرارها.

وأمّا الخرافات المانعة من التفكّر الصحيح ؛ فقد حاربها الإسلام محاربة لا هوادة فيها ، فمن جانب دعا إلى التأمّل والتدبّر والتفكّر الصحيح ومنع من التقليد الأعمى ، ومن جانب آخر منع بشدّة من الاعتقاد بالخرافات واعتناقها ... وكافحها مكافحة قويّة ، فهو ينكر على الوثنيّين عبادتهم للأصنام التي لا تضرّ ولا تنفع فيقول سبحانه : ( أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ) ( الصافات : 95 ).

كما نرى النبيّ صلی اللّه علیه و آله يوصي معاذاً حينما يبعثه إلى اليمن قائلاً : « وأمت أمر الجاهليّة » (2).

ويقول صلی اللّه علیه و آله في صراحة كاملة : « كُلّ مأثرة في الجاهليّة تحت قدميّ » (3).

ولما قبض ابراهيم ابن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جرت في موته ثلاث سنن ، أمّا واحدة فإنّه لمّا قبض انكسفت الشمس فقال الناس : إنّما انكسفت الشمس لموت ابن رسول اللّه ، فصعد رسول اللّه المنبر ، فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال : « أيُّها الناسُ إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات اللّه يجريان بأمره مُطيعان لهُ لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا

ص: 408


1- راجع لمعرفة هذه الاحتجاجات والمناظرات كتاب الاحتجاج وعيون أخبار الرضا علیه السلام .
2- تحف العقول : 2. وسيرة ابن هشام 3 : 412.
3- تحف العقول : 2. وسيرة ابن هشام 3 : 412.

انكسفا أو أحدُهُما صلُّوا ».

ثمّ نزل من المنبر فصلّى بالناس الكسوف فلما سلّم قال : « قُم يا عليّ جهّز ابني » (1).

وأمّا مسألة الغرائز الجنسيّة ، التي تعمد السلطات غير الشرعيّة في الأنظمة الوضعيّة إلى إلهابها وتفجيرها لصرف الناس عن التفكير الجدّي في حياتهم من أجل استعبادهم فقد اتّخذ الإسلام من هذه الغرائز موقفاً معقولاً ومنطقيّاً ...

فإنّ الغرائز الجنسيّة وما شابهها حيث تعتبر من الاُمور الضروريّة لحياة الإنسان وبقائه لم يمكن إلغاءها وحذفها بالمرّة بل وجب تعديلها ووضعها في الموضع الصحيح والاستفادة منها بالقدر اللازم (2).

إنّ الغرائز حسب منطق الإسلام حاجة ضروريّة لبقاء النوع الإنسانيّ فلم ينكرها كما فعلت الكنيسة التي دعت إلى الرهبنة وتجاهل العواطف والغرائز ولكنّ التمادي فيها والإفساح لها أكثر من الحاجة ؛ يفسد العقل والفكر ويهدم الحياة والاستقرار ويعود الإنسان كالأنعام بل أضلّ ، ولذلك عدّ لها الإسلام ووضع لها برامج صحيحة ، وحدود معقولة.

بينما عارض الأهواء الفاسدة والمشتهيات الرخيصة المضلّة ، واعتبر ذلك من قبيل عبادة الهوى فقال : ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللّهُ عَلَى عِلْمٍ ) ( الجاثية : 23 ).

وقال علي علیه السلام : « إنّ أخوف ما أخافُ عليكُم اتّباعُ الهوى وطُولُ الأمل » (3).

وقال علیه السلام في شجب اتّباع الشهوات الكاذبة : « عبدُ الشّهوة أشدُّ من عبد الرّقّ » (4).

ص: 409


1- بحار الأنوار 22 : 155.
2- راجع أحكام الزواج والأطعمة والأشربة من كتب الفقه الإسلاميّ وكتب الأخلاق والآداب ككتاب مكارم الأخلاق للطبرسيّ.
3- نهج البلاغة : الخطبة 41.
4- غرر الحكم : 498.
3. الحريّة السياسيّة

وهي تعني أنّ لكلّ فرد أن يشغل المناصب الإداريّة ويساهم في الاُمور السياسيّة ولا يمنعه عن ذلك مانع ... وهذا حقّ طبيعيّ لكلّ إنسان فليس لفرد أو جماعة خاصّة أن يستأثر بإدارة البلاد دون اشراك الآخرين في ذلك حسب منطق الإسلام. بينما كان النظام في الشعوب والملل السابقة نظاماً طبقيّاً يقسّم الناس إلى طبقات مختلفة متفاوتة من حيث الحقوق والامتيازات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة ، فكان الحكم والإدارة والسياسة من حقّ الطبقة الخاصّة وكان على بقيّة أفراد الشعب أن يكدحوا ويعملوا ولا يتدخّلوا في الاُمور السياسيّة فلا دور للكفاءات ولا مجال للإسهام السياسيّ مطلقاً.

وقد كان هذا الوضع سائداً قبل الإسلام في اليونان وإيران والهند وغيرها.

وربّما كان بعض الشعوب والاُمم كاليهود تقيّم استحقاق المناصب على أساس الغنى والثروة فكانوا يعطون حقّ الملك والسلطنة لمن كان غنيّاً صاحب ثروة ولهذا لما نصب اللّه تعالى طالوت ملكاً على بني إسرائيل اعترضوا بأنّه فقير متجاهلين المؤهّلات والصفات القياديّة الاُخرى (1) ، إذ قالوا : ( أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المَالِ ) فقال اللّه تعالى : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالجِسْمِ ) ( البقرة : 246 ) ، مشيراً إلى أنّ طالوت يتمتع بالكفاءات القياديّة وهو المهم في أمر القيادة والولاية والسياسة والإدارة.

وإلى هذا الملاك ( ملاك الكفاءة السياسيّة ) يشير النبيّ يوسف علیه السلام لمّا يطالب عزيز مصر بأن يسلّمه خزائن البلاد وأمر الاقتصاد فيقول : ( ... اجْعَلنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) ( يوسف : 55 ).

إنّ الإسلام يعتبر الكفاءة واللياقة هو الملاك الأساسيّ للسياسة والإدارة وليس التقسيمات الطبقيّة أو الاعتبارات الماديّة ، وإلى هذا أشار الرسول الأعظم في قوله : « من

ص: 410


1- بحار الأنوار 13 : 435 ، وتاريخ الطبريّ 2 : 547.

استعمل عاملاً من المسلمين وهو يعلمُ أنّ فيهم من هُو أولى بذلك منهُ وأعلمُ بكتاب اللّه وسُنّة نبيّه فقد خان اللّه ورسُولهُ والمسلمين » (1).

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « ولا تقبلنّ في استعمال عُمّالك وأُمرائك إلاّ شفاعة الكفاءة والأمانة » (2).

وقد مرّت عليك قصّة عدم استخلاف الإمام عليّ علیه السلام لطلحة والزبير لعدم كفاءتهما (3).

وقد أكّد الإسلام على مسألة الكفاءة في تقلّد المناصب الإداريّة تأكيداً شديداً حتّى نُقل عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله قوله : « من ولي من اُمور المُسلمين شيئاً فأمّر عليهم أحداً مُحاباةً فعليه لعنةُ اللّه لا يقبلُ اللّه منهُ صرفاً ولا عدلاً حتّى يُدخلهُ في جهنّم » (4).

ولذلك نجد النبيّ صلی اللّه علیه و آله يستعمل عتاب بن أسيد ( وهو شاب ) على مكّة يوم فتحها ، وفي القوم كبار وشيوخ ليس لشيء إلاّ لكفاءته ، كما استعمله بعد عوده من حصن الطائف وقال صلی اللّه علیه و آله له : « يا عتابُ تدري على من استعملتُك ؟ على أهل اللّه عزّ وجلّ ولو أعلمُ لهُم خيراً منك استعملتُهُ عليهم » (5).

ولمّا اعترض البعض على استعمال عتاب لصغره كتب النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى أهل مكّة يقول : « ولا يحتجُّ مُحتجّ منكُم في مُخالفته بصغر سنّه فليس الأكبرُ هُو الأفضلُ بل الأفضلُ هُو الأكبرُ » (6).

هذا وتشمل الحريّة السياسيّة اُموراً كثيرة في المجال السياسي ؛ مثل حقّ النقد في

ص: 411


1- نظام الحكم والإدارة في الإسلام عن سنن البيهقيّ : 302.
2- نظام الحكم والإدارة في الإسلام : 301 - 302.
3- راجع الصفحة 263 من كتابنا هذا.
4- حقوق الإنسان : 72.
5- اُسد الغابة 3 : 358.
6- ناسخ التواريخ حالات النبيّ : 387.

إطار الشرعيّة والصالح العامّ والهدف الصحيح لأنّ في النقد الصحيح ما يساعد على رفع النقائص وتكامل المجتمع وتربيته تربية سليمة ، ولأنّ عدم السماح بالنقد يؤدّي إلى تراكم العيوب والظلامات وينتهي إلى الانفجار ، ويمهّد للثورة والطغيان ، كما ويمهّد السبيل إلى ظهور الديكتاتوريّة والاستبداد فالمثل يقول : الطغاة يتكوّنون صغاراً ( أي شيئاً فشيئاً ) إذا لم يؤخذ على أيديهم ولم يعترض عليهم ولم ينتقد أحد أعمالهم ، ولم يحاسبهم على تصرّفاتهم.

ومن هنا تكون المعارضة والسماح لها بالمناقشة والنقد بالوسائل المشروعة من صالح الدولة والاُمّة وهو أمر كان يتمّ في عهد النبيّ صلی اللّه علیه و آله والخلفاء حيث كان هناك من يعترض وكان القادة الإسلاميّون يجيبون على ذلك بصدر رحب ، وديمقراطيّة عديمة النظير.

وإقرار مبدأ الشورى ليس إلاّ من هذا الباب.

نعم في أثناء الحرب مع الأعداء يجوز للدولة أن تحدّ من نشاط المنتقدين تجنّباً من تسميم الأفكار وإضعاف المعنويّات وبلبلة النفوس ، ومع ذلك لا يمكن إلغاء دورهم بالمرّة لأنّ في وجودهم مبعث اليقظة والتنبّه إلى مواقع العيب ومواطن الخطأ.

نعم يعارض الإسلام بشدّة أعمال التخريب والتجسّس والتلصّص وكلّ ما يخلّ بالأمن والاستقرار ويؤدّي إلى اضطراب الأحوال كبثّ الشائعات الكاذبة وترويج الاتّهامات والشكوك الباطلة (1).

كما ويدخل في هذا الباب حقّ التصويت والانتخاب الذي ذكرناه في الفصول السابقة ، ولا يختلف في ذلك الرجال والنساء.

ويندرج في هذا الباب كذلك ؛ حريّة التعبير ؛ فإنّ النظام الإسلاميّ بخلاف كلّ

ص: 412


1- وردت في ذلك آيات وأحاديث نتركها لضيق المجال منها قوله صلی اللّه علیه و آله : « أيّما رجل اطّلع على قوم في دارهم لينظر إلى عوراتهم ففقأوا عينه أو جرحوه فلا دية عليهم » ( وسائل الشيعة 19 : 50 ) وقوله تعالى : ( وَلا تَجَسَّسُوا ) وما شابه ممّا سيأتي في بحث الاستخبارات.

الأنظمة الوضعيّة السائدة التي تلجم الأفواه وتسكت الأقلام وتفرض نوعا من الحدود والسدود ؛ يفسح للجميع المجال للتعبير عن آرائهم وآلامهم وآمالهم ما دامت في مصلحة الاُمّة ، وضمن إطار القوانين والأخلاق الإسلاميّة ، لأنّ في ذلك تقدّم البلاد وازدهار الحياة ، ولأجل هذا قال الإمام الصادق علیه السلام : « خيرُ إخواني من أهدى إليّ عُيوُبي » (1).

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « من استقبل وُجُوه الآراء عرف مواقع الخطأ » (2).

ولأجل هذا يمنع الإسلام من كلّ ألوان التعتيم الإعلاميّ ، واتّخاذ القرارات وراء الكواليس ، وإخفاء الحقائق عن الشعب ، وفرض الرقابة على الأفكار والآراء وإلهاء الناس بالملاهي الجنسيّة بهدف صرفهم عن القضايا المصيريّة ، أو بثّ الخرافات بينهم أو سدّ باب الاعتراض أو السؤال والاستفسار.

فنحن نرى كيف كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يسمح بالاعتراض والاستفسار ويقابل ذلك بالإجابة المقنعة وبيان الحقيقة دون غضب أو استياء.

فعن عبد الرحمن بن عوف أنّه قال - لمّا وجد النبيّ صلی اللّه علیه و آله يبكي في موت ولده إبراهيم ، قلت : أو لم تكن نهيت عن البكاء ؟ فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « لا ولكن نهيتُ عن صوتين أحمقين وآخرين : صوت عند مُصيبة ورنّةُ شيطان وصوت عند نغمة لهو ، وهذه رحمة ومن لا يرحمُ لا يُرحم » (3).

وقد مرّ عليك كيف أنّ الإمام عليّ علیه السلام كان يكتب في عهوده إلى ولاته بأن لا يحتجبوا عن الناس وأن يستمعوا إلى آرائهم وشكاواهم ، ويأخذوا بما يجدونه خيراً لهم وللاُمّة تجنّباً من ظهور النقمة الشعبيّة ... فالطغيان.

* * *

ص: 413


1- تحف العقول : 366.
2- صوت العدالة الإنسانيّة 2 : 458.
3- السيرة الحلبيّة 3 : 348.

4. الحريّة المدنيّة وهي تشمل حريّة كلّ إنسان في اختيار المسكن والبلد ، والعمل ، وطريقة حياته الخاصّة والكسب وكيفية تحصيل المال وتملّكه وحريّة الحيازة والاستفادة من المواهب الطبيعيّة ما دام في الإطار الشرعيّ.

فأمّا حريّة المسكن فقد فسح الإسلام المجال لأيّ مسلم أن يعيش في أيّة نقطة يقدر فيها على السكنى وتطيب له الإقامة فيها فعن النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « البلادُ بلادُ اللّه والعبادُ عبادُ اللّه فحيث ما أصبت خيراً فأقم » (1).

وعن اُولئك الذين بقوا في بلد عانوا فيه الظلم والحيف يقول اللّه تعالى : ( ... أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ... ) ( النساء : 97 ).

وأمّا حريّة العمل فإنّ الإسلام لا يرى جبر أحد على العمل أو إكراهه على شغل خاصّ ...

وإليك ما جاء في نهج البلاغة في هذا الصدد فقد كتب الإمام علي علیه السلام إلى أحد عمّاله يقول : « أمّا بعد فإنّ قوماً من أهل عملك أتوني فذكروا أنّ لهم نهراً قد عفى ودرس وأنّهم إن حفروه واستخرجوه عمرت بلادهم وقووا على كلّ خراجهم وزاد فيء المسلمين قبلهم وسألوني الكتاب إليك لتأخذهم بعمله وتجمعهم لحفره والإنفاق عليه ولست أرى أن أجبر أحداً على عمل يكرهه فادعهم إليك فإن كان الأمر في النّهر على ما وصفوا فمن أحبّ أن يعمل فمره بالعمل والنّهر لمن عمل دون من كرهه وأن يعمروا ويقووا أحبُّ إليّ من أن يضعفوا » (2).

نعم يصحّ الإجبار على العمل حينما يمتنع الإنسان عن إرزاق عائلته والإنفاق عليهم.

ص: 414


1- نهج الفصاحة : 223.
2- صوت العدالة الإنسانيّة 1 : 132.

ثمّ إنّ الإنسان حرّ في العمل والاشتغال إلاّ أن يتعهّد لأحد بنفسه اختياراً فحينئذ لا يكون مخيّراً في الوفاء بالتزامه بل يجب عليه أن يقوم بما تعهّد به.

ثمّ إنّ الكسب مباح بكلّ ألوانه إلاّ أن يكون خلاف القوانين الشرعيّة لإضرارها على الفرد والمجتمع كالاكتساب بالأشياء المحرّمة الممنوعة مثل الخمر وما شابهها.

وأمّا حريّة التملّك والانتفاع بمواهب الطبيعة وحيازتها - على الوجه الشرعيّ - فهي ليست خاصّة بجماعة من الرأسماليّين الكبار وأصحاب الامتيازات والثروات كما هو الحال في النظام الرأسماليّ الغربيّ الظالم ، وليست خاصّة بالحزب وأعضائه وأقطابه كما في النظام الشرقيّ ، بل هي عامّة للجميع على قدم المساواة ... وهذا بحث يتعلق بالاقتصاد الذي سنبحثه في فصل خاصّ.

وصفوة القول : أنّ جميع هذه الحريات المذكورة وتلك التي لم نذكرها ثابتة لكلّ إنسان في النظام الإسلاميّ ، وقد كفلها الإسلام بقوانينه وما اتّّخذه من مواقف ومقرّرات حاسمة وصارمة وقويّة ... بحيث لا مجال فيها للعدوان على حريّة أحد.

نقاط حول السجن

يبقى أن نذكّر القارئ - في مورد الحبس والسجن - بنقاط :

1. إنّ في الإسلام حدّاً وتعزيراً فالمراد من الأوّل العقوبة التي لها تقدير ، كما أنّ المراد من الثاني العقوبة التي ليس لها تقدير ، والأصل في الإسلام هو الحدّ ، وأمّا التعزير فإنّه عقوبة ثانويّة لمرتكبي الجرائم إذا لم يكن هناك حدّ معيّن ، والحبس إنّما يعاقب به إذا لم يكن هناك حدّ شرعيّ معيّن ، فإذن هي عقوبة ثانويّة ومن باب التعزير بخلاف ما في الأنظمة الوضعيّة التي تعتمد على الحبس كعقوبة أصليّة تلجأ إليها في كلّ قضيّة.

2. الحبس الشرعيّ ليس هو السجن في مكان ضيّق وإنّما هو تعويق الشخص ومنعه عن التصرّف بنفسه ( راجع الأحكام السلطانيّة للماوردي ) ولذلك يجب أن يكون بعيداً عن التعذيب والأذى ، قال الإمام عليّ علیه السلام في ابن ملجم بعد جنايته عليه :

ص: 415

« احبسوا هذا الأسير وأطعموه وأحسنوا اساره » (1).

3. إنّ التعزير بالحبس في الشريعة الإسلاميّة ورد في موارد قليلة لا تتجاوز 13 مورداً ، لاحظ وسائل الشيعة 18 : 32 و 35 و 221 و 244 و 386 و 492 و 536 و 549 و 578 وج 19 : 34 و 121.

ص: 416


1- الوسائل 19 : 96.

الفصل السابع: حول أهمّ برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها

اشارة

بعد أن اتّضح لك أيّها القارئ لون الحكومة الإسلاميّة وصيغتها وطرف من خصائصها ينطرح هذا السؤال :

ما هي برامج الحكومة الإسلاميّة وما هي وظائفها وما هي سياستها في حقول التربية والتعليم والاجتماع والعلاقات الدوليّة ، والاقتصاد وغيرها ممّا يتحتّم على كلّ حكومة أن يكون لها سياسة ومنهج فيه ؟

من أجل بيان هذا الجانب في بحوث الحكومة الإسلاميّة عقدنا هذا الفصل ففيه سنذكر أهمّ وظائف هذه الحكومة وبرامجها.

وفي الأخير نذكّر القارئ بأنّ ما نبيّنه في هذه المجالات لا يتعدّى بيان الجواهر وأمّا الأشكال والترتيبات الّتي تتمّ بها هذه الوظائف فمتروكة للظروف ومقتضياتها كما أسلفناه غير مرّة.

ص: 417

برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها

اشارة

1

الحكومة الإسلاميّة ومسؤوليّة التربية والتعليم

مسؤوليّة التربية :

لا شكّ في أنّ التزكية والتربية كانت الهدف الأسمى لأنبياء اللّه ورسله أجمعين فها هو خليل الرحمن النبيّ إبراهيم علیه السلام يطلب من اللّه سبحانه - وهو يرفع قواعد الكعبة الشريفة - أن يبعث في اُمّته من يزكّيهم ويربّيهم إذ قال : ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( البقرة : 129 ).

وإنّما اتّخذت التربية والتزكية هذه المكانة في رسالات السماء ومهام الأنبياء لأنّ الإنسان لا يمكنه أن يبلغ أي مبلغ من النضوج العلميّ ، أو التقدمّ الاجتماعيّ من دون أن تتوفّر له التربية الواعية التي تتكفّل بناء شخصيّته.

ولقد تركّزت مساعي الأنبياء على تحقيق هذه المهمّة العظيمة ، وبذلوا في سبيله

ص: 418

أعظم الجهود ، ويدلّ على ذلك ما روي من أنّ اللّه سبحانه خصّ الأنبياء بمكارم الأخلاق (1).

ومن المعلوم أنّ هذا التخصيص يهدف - مضافاً إلى تكميلهم بهذه المكارم - جعلهم اُسوة لاُممهم.

ونخصّ من اُولئك الأنبياء العظام بالذكر نبيّنا محمّد صلی اللّه علیه و آله فقد وصفه اللّه سبحانه بأنّه بُعث للتزكية فقال : ( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) ( البقرة : 151 ).

وقال : ( لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ( آل عمران : 164 ).

وقال : ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ( الجمعة : 2 ) (2).

وقد أعلن النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله في حديث مشهور عن هذه المهمّة الكبرى التي حمّل بها ، واعتبرها أساس رسالته ، وغاية بعثته إذ قال : « إنّما بُعثتُ لاُتمّم مكارم الأخلاق » (3).

وقال أيضاً : « عليكُم بمكارم الأخلاق فإنّ اللّه بعثني بها » (4).

وقال عليّ علیه السلام : « سمعتُ النبيّ صلی اللّه علیه و آله يقول : بُعثتُ بمكارم الأخلاق ومحاسنها » (5).

ص: 419


1- سفينة البحار 1 : 410.
2- قدّم التعليم في بعض الآيات على التزكية واخّر في البعض الآخر ، لأجل أنّ التعليم بالمعنى الوسيع مقدّم من حيث الحصول والوجود على التزكية التي هي بمعنى التربية الكاملة ولكن حيث أنّ الهدف الأعلى هو التزكية قدّمت التزكية على التعليم في غيرها.
3- سفينة البحار 1 : 410 ، مستدرك الوسائل 2 : 282.
4- كتاب سنن النبيّ للعلاّمة الطباطبائيّ : 23 نقلاً عن أمالي الشيخ.
5- مجمع البيان 10 : 333.

وعن أبي عبد اللّه الصادق علیه السلام قال : « إنّ اللّه تعالى خصّ رسوله بمكارم الأخلاق » (1).

ووصفه الإمام عليّ علیه السلام بذلك إذ قال : « طبيب دوّار بطبّه ، قد أحكم مراهمه ، وأحمى مواسمه يضع من ذلك حيث الحاجة إليه من قلوب عمي ، وآذان صمّ وألسنة بكم متّبع بدوائه مواضع الغفلة ومواطن الحيرة » (2).

وهذا يفيد أنّ للإسلام برنامجاً كاملاً لتحقيق هذا المقصد الأعلى والمطلب الأسمى.

الإسلام ومسألة التزكية

يعتقد النظام الإسلاميّ بأنّ الإنسان مفطور على السجايا الأخلاقيّة النبيلة ، وأنّ اُصول التربية موجودة في فطرته بخلق اللّه سبحانه ، وإنّما يكون دور المربّين والاُساتذة هو استخراج هذه السجايا المكنونة في النفس الإنسانيّة وإثارتها وتنميتها ، وهذا أمر أكّدته آيات كثيرة في الكتاب العزيز ، وإليك - فيما يأتي - نماذج من هذه الآيات يقول اللّه سبحانه : ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) ( الشمس : 7 - 8 ).

( وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) ( البلد : 10 ).

إلى غير ذلك من الآيات التي تشير - بوضوح - إلى هذه الحقيقة ، وتؤكّد بأنّ أصول التربية مزروعة في داخل النفس البشريّة زرعاً ومغروسة غرساً.

وعلى ذلك ، فإنّ دور المربّي ، والمعلّم الأخلاقيّ - في هذا المجال - لا يتعدّى دور الاكتشاف والإنماء والرعاية ، فمثله مثل البستانيّ الذي لا يقوم إلاّ بتهيئة الظروف المساعدة للنبات والزرع من الرعاية والسقي والعناية بالبذرة لتنبت وتكبر وتنمو ، فإنّ المربّي والمعلّم يهيّء الأجواء المساعدة لنمو تلك السجايا والبذور الأخلاقيّة الموجودة في

ص: 420


1- من لا يحضره الفقيه : 458 ، ومعاني الأخبار : 191.
2- نهج البلاغة : الخطبة 104.

داخل النفوس البشريّة ، وإثارتها من مكامنها ، وإلى ذلك يشير قول الإمام عليّ علیه السلام وهو يصف مهمّة الأنبياء : « فبعث فيهم رسله ، وواتر إليهم أنبياءه ، ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكّروهم منسيّ نعمته ، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول » (1).

ولأجل ذلك أيضاً أمر اللّه سبحانه نبيّه محمّداً صلی اللّه علیه و آله بأن يذكّر الناس بما خلقوا وفطروا عليه فقال : ( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ ) ( الغاشية : 21 ).

ولقد أشبعنا الكلام - في الجزء الأوّل - عند البحث عن المعرفة الفطريّة ، وقلنا بأنّ الدين ، واُصول فروعه الكليّة مركوزة في النفس البشريّة ، وهو شيء أشار إليه قوله سبحانه : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ( الروم : 30 ).

فما هو المفطور عليه البشر هو الدين بمعناه الوسيع الشامل للعقيدة والأخلاق والقيم والسجايا وقد روى الفريقان عن النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله قوله : « ما من مولود إلاّ يولد على الفطرة ثمّ أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه. ثُمّ قال : ( فِطْرَةَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) » (2).

عوامل تكوين الشخصيّة
اشارة

وتتلخّص عوامل تكوين الشخصيّة وأجواء التربية في ثلاث اُمور أساسيّة هي :

1. الوراثة.

2. التعليم.

3. البيئة.

ولقد اهتم الإسلام بهذه الاُمور الثلاثة اهتماماً بالغاً ، ورسم لها برامج ومناهج

ص: 421


1- نهج البلاغة : الخطبة الاُولى.
2- تفسير البرهان 3 : 361 ، التاج الجامع للاُصول 4 : 180.

دقيقة ورصينة ليمكن تكوين الشخصيّة الإنسانيّة المتكاملة والنفسيّة البشريّة الفاضلة ؛ وإليك تفصيل القول في كلّ واحد منها :

1. الوراثة

يرى علماء التربية والنفس للابتداء في تربية النشء مبدءاً معيّنا في عمر الإنسان ، يعتقدون أنّه الوقت المناسب للتهذيب والتربية ... بيد أنّ الإسلام لا يرى ذلك بل يعتقد أنّ العناية بأمر الطفل يجب أن تبدأ منذ اللقاء الأوّل بين والديه ، ومنذ انعقاد نطفته بل وقبل ذلك. لأنّ الإسلام يرى أنّ أكثر ما ينطوي عليه الأبوان من أخلاق وصفات تنتقل - بالوراثة - إلى أبنائهم ، وتؤثّر على شخصيّتهم ، ومسيرهم ومصيرهم ، ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة العلميّة بالكناية البليغة ، والاشارة الحسيّة اللطيفة حيث قال : ( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ) ( الأعراف : 58 ).

إنّ اللّه سبحانه لم يكن يريد أن يقرّر للناس ما هم عارفونه ، ومطّلعون عليه من ظواهر الطبيعة من أنّ الأرض الطيبة يكون نباتها طيباً ، والخبيثة لا يُخرج منها إلاّ النكد ، بل كان يريد الإشارة إلى الدور الحسّاس الذي يلعبه عامل الوراثة وأخلاق الأبوين في المولود. وإلى ذلك يشير شيخ الأنبياء نوح علیه السلام حيث يدعو اللّه سبحانه أن لا يبقي من قومه الكفرة أحداً في الأرض لأنّهم إن بقوا لا يلدوا إلاّ فاجراً كفّاراً إذ قال اللّه عنه : ( وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا ) ( نوح : 26 - 27 ).

وهي تكشف عن أنّ صلاح الوالدين يهيّء الأرضيّة لصلاح الولد كما أنّ فسادهما يهيّء الأرضيّة لفساده وانحرافه. كما قال الإمام عليّ علیه السلام : « حُسنُ الأخلاق بُرهانُ كرم الأعراق » (1).

ص: 422


1- غرر الحكم : 379.

وإلى هذا الناموس الطبيعيّ ( الوراثة ) أشارت جملة كبيرة من الأحاديث ، والمناهي الواردة عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته المعصومين.

فقد نهى الإسلام عن التزوّج بالمرأة الحمقاء تجنّباً لمساوئ هذا الزواج إذ قال النبيّ الكريم صلی اللّه علیه و آله : « إيّاكُم وتزويج الحمقاء فإنّ صُحبتها بلاء ، وولدُها ضياع » (1).

كما نهى صلی اللّه علیه و آله عن تزويج الفاسق : « من زوّج كريمته من فاسق فقد قطع رحمه » (2).

ولتأثير الوراثة على الشخصيّة الإنسانيّة نرى أنّ الإمام عليّ علیه السلام يأمر عامله الأشتر في عهده بالاتّصال بذوي المروءات وأصحاب الأحساب الكريمة حيث يقول : « ثمّ الصق بذوي المروءات والأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسّوابق الحسنة ثمّ أهل النجدة والشّجاعة والسّخاء والسّماحة فإنّهُم جماع من الكرم وشعب من العُرف » (3).

وذلك لما في هذه الناحية من الأثر الطيّب على فكر الإنسان وسلوكه وشخصيّته ونفسيّته.

ونهى عن تزويج الزانية والزاني إذ قال الإمام الصادق علیه السلام : « لا تزوّجوا المرأة المستعلنة بالزّنا ولا تزوّجوا الرجل المستعلن بالزّنا إلاّ أن تعرفوا منهما التّوبة » (4).

ثمّ أشار الإمام الصادق علیه السلام في رواية اُخرى إلى تأثير الزنا في نفسيّة الطفل المتولّد من الزنا بقوله : « ثانيهما : أنّه يحنّ إلى الحرام الّذي خُلق منهُ ، وثالثُها : الاستخفافُ بالدّين ... » (5).

ولعلّه يكون لولد الزنا هذه الحال لأنّ والديه حينما يقومان بالزنا ، يشعران بأنّهما ينقضان القانون ، وهي صفة تنتقل إلى وليدهما - بالوراثة - فيكون الولد المتولّد منهما

ص: 423


1- وسائل الشيعة 14 : 56.
2- الكافي 1 : 54.
3- نهج البلاغة : قسم الكتب ( الكتاب 53 ).
4- مكارم الأخلاق : 104.
5- سفينة البحار 1 : 560. ومن أراد الوقوف علی بقية الروايات في هذا الباب وتأثير الوراثة علی الطفل فليرجع إلی الجزء الرابع عشر من الوسائل من الصفحة 47 إلی الصفحة 57.

مهيّئاً لنقض القانون ، ويسهل ذلك عنده.

ولهذا حثّ الإسلام حثّاً شديداً على اختيار الزوجة الصالحة فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « تخيّروا لنطفكم فإنّ العرق دسّاس » (1).

وقال : « إيّاكم وخضراء الدّمن »

قيل : وما خضراء الدمن ؟

قال : « المرأة الحسناء في منبت سوء » (2).

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « طوبى لمن كانت اُمّه عفيفةً » (3).

وقال الحسين بن بشّار الواسطي كتبت إلى أبي الحسن الرضا علیه السلام أنّ لي قرابة قد خطب إليّ وفي خلقه سوء قال : « لا تزوّجه إن كان سيّء الخلق » (4).

وأنت إذا تصفّحت الأحاديث المرويّة في هذا المجال لوجدت أنّ الإسلام اعتبر صلاح الوالدين اللبنة الاُولى في صلاح الولد واستقامته. وقد صار هذا القانون معروفاً بين الناس حتّى عاد شاعرهم يقول :

ينشأ الصغير على ما كان والده

إنّ الاُصول عليها تنبت الشجر

ولابدّ من القول بأنّ ما ذكر حول عامل الوراثة ، وأثره في تكوين شخصيّة الطفل ؛ لا يعني أنّ ما يرتسم في شخصيّة الطفل من أبويه - بالوراثة - لا يتغيّر ولا يخضع للتبدّل والتحوّل بحيث لا يمكن أن تؤثّر فيه عوامل اُخرى تقضي على ما ورثه من كريم السجايا وشريف الأخلاق أو سيّئها ، بل يعني أنّ الوراثة ، وصلاح الأبوين يعتبر عاملاً مقتضياً لصلاح الطفل وأرضيّة مناسبة لتنشئته نشأة صالحة مستقيمة ، ما لم يمنع مانع ، ولم يطرأ طارئ ، كما حدث لولد نوح وغيره ، وكذا العكس.

وهكذا يكون عامل الوراثة وصلاح الوالدين أوّل مدرسة للتربية السليمة ،

ص: 424


1- غرر الحكم : 379.
2- المحجّة البيضاء 2 : 52 ، بحار الأنوار 22 : 54.
3- بحار الأنوار 23 : 79.
4- وسائل الشيعة 14 : 54.

وتكوين الشخصيّة الصالحة. نعم إنّ صلاح الوالدين من حيث الصفات الذاتيّة وحده لا يكفي في نشأة الولد نشأة صالحة ، بل يفرض الإسلام على الأبوين أن يتعاهدا ولدهما بالتربية العمليّة ، والأدب السليم فقال الإمام زين العابدين علیه السلام : « وأمّا حقّ ولدك فأن تعلم أنّه منك ومضاف إليك في عاجل الدّنيا بخيره وشرّه وأنّك مسؤول عمّا ولّيته من حسن الأدب ، والدلالة على ربّه عزّ وجلّ والمعونة على طاعته فاعمل في أمره عمل من يعلم أنّه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه » (1).

وقال الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « الرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم ، والمرأة راعية على أهل بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم » (2).

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « خير ما ورّث الآباء الأبناء الأدب » (3).

وحيث أنّ الكتب الأخلاقيّة الإسلاميّة قد تكفّلت بالبحث المفصّل والعميق في وظيفة الوالدين ، فقد طوينا الكلام عنها في هذا الباب خاصّة ، وفي مجالات التربية عامّة.

وفي الحقيقة يكون ما ذكرناه هنا دراسة عابرة للإشارة إلى وجود منهج التربية في الحكومة الإسلاميّة ، والتفصيل موكول إلى الكتب المعدّة لذلك ، ويكفي لمعرفة أهميّة التزكية والتهذيب ، ما قاله الإمام الصادق علیه السلام : « أحبّ إخواني من أهدى إليّ عيوبي » (4).

* * *

2. التعليم

2. التعليم (5)

عندما تتكوّن اُسس الشخصيّة وقواعدها في نفسيّة الطفل - بالوراثة - يأتي دور المعلّم ، الذي يمثّل المدرسة التربويّة الثانية بعد مدرسة الأبوين وعامل الوراثة. فعلى

ص: 425


1- وسائل الشيعة 3 : 135 ، ورسالة الحقوق في آخر كتاب مكارم الأخلاق.
2- مجموعة ورّام 1 : 6.
3- غرر الحكم : 393.
4- تحف العقول : 366.
5- سوف يوافيك أنّ الحكومة الإسلاميّة يجب أن تقوم بمسؤوليّة التعليم والتثقيف الصحيح السليم.

يدي المعلّم الصالح والمربّي الطيّب تنمو السجايا والصفات الحسنة ، وتتكامل التربية لدى الطفل ولهذا يكون دور التعليم - في مصير الطفل - دوراً حسّاساً بالغ الخطورة جداً.

ففي هذه الفترة - بالذات - تتّخذ الشخصيّة شكلها الكامل تقريباً ، ومن هنا حرص الدين الإسلاميّ على أن يكون جوّ التعليم جوّاً سليماً طاهراً وصالحاً للغاية ، وذلك لأنّ قلب الطفل أسرع قبولاً لما يلقى فيه ، فهو يتقبّل كلّ شيء من معلّمه ، إن خيراً فخير ، وإن شرّاً فشرّ ولذلك قال الإمام عليّ لولده الحسن علیهماالسلام : « وإنّما قلب الحدث كالأرض الخالية ما اُلقي فيها من شيء قبلته فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبّك » (1).

وقال الإمام الصادق علیه السلام لأبي جعفر الأحول حينما بعثه للتبليغ والتعليم : « عليك بالأحداث فإنّهم أسرع إلى كلّ الخير » (2).

إنّ هذه الفترة من أخطر الفترات وأكثرها حسّاسية في حياة الطفل ولذلك قال الإمام الصادق علیه السلام : « بادروا أحداثكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة » (3).

ولقد كان للتربية الصالحة والتعليم السليم آثاراً جليلة في التاريخ البشريّ فهاهو عمر بن عبد العزيز سليل الشجرة الملعونة على لسان النبيّ صلی اللّه علیه و آله تتغيّر طباعه وتتحوّل سجاياه إذ يتولاّه معلّم صالح بتربية صالحة فينشأ على خلاف ما نشأ عليه آباؤه وأسلافه ويفعل عكس ما يفعلوه.

قال عمر بن عبد العزيز : ( كنت غلاماً أقرأ القرآن على بعض ولد عتبة بن مسعود فمرّ بي يوماً وأنا ألعب مع الصبيان ونحن نلعن عليّاً ، فكره ذلك ودخل المسجد ، فتركت الصبيان وجئت إليه لأدرس عليه وزدي ، فلمّا رآني قام فصلّى وآطال في الصلاة شبه المعرض عنّي حتّى أحسست منه ذلك فلمّا انفتل من صلاته كلح في وجهي.

فقلت له : ما بال الشيخ ؟

ص: 426


1- مستدرك الوسائل 3 : 71.
2- الكافي 6 : 2. 47.
3- الكافي 6 : 2. 47.

فقال لي : يا بنيّ أنت اللاعن عليّاً منذ اليوم ؟!

قلت : نعم.

قال : فمتى علمت أنّ اللّه سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم ؟

فقلت : يا أبت ، وهل كان ( عليّ ) من أهل بدر ؟

فقال : ويحك ! وهل كانت بدر كلّها إلاّ له ؟

فقلت : لا أعود.

فقال : اللّه إنّك لا تعود.

قلت : نعم.

فلم ألعنه بعدها.

ثمّ كنت أحضر تحت منبر المدينة وأبي يخطب يوم الجمعة ، وهو حينئذ أمير ، فكنت أسمع أبي يمرّ في خطبته تهدر شقاشقه حتّى يأتي إلى لعن عليّ علیه السلام فيجمجم ويعرض له من الفهاهة والحصر ما اللّه عالم به ، فكنت أعجب من ذلك.

فقلت له يوماً : يا أبت أنت أفصح الناس وأخطبهم فما بالي أراك أفصح خطيب يوم حفلك حتّى إذا مررت بلعن هذا الرجل صرت ألكن عييّاً ؟

فقال : يا بنيّ أنّ من ترى تحت منبرنا من أهل الشام وغيرهم لو علموا من فضل هذا الرجل ما يعلمه أبوك لم يتّبعنا منهم أحد. فوقرت كلمته في صدري مع ما كان قاله لي معلّمي أيام صغري فأعطيت اللّه عهداً لئن كان لي في هذا الأمر نصيب لاُغيرنّه ... فلمّا منّ اللّه عليّ بالخلافة أسقطت ذلك ، وجعلت مكانه ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) وكتبت إلى الافاق فصار سنّة (1).

ص: 427


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4 : 58 المتوفّى (655).
3. البيئة

إنّ للبيئة والمحيط أثراً كبيراً في تربية الشخصيّة البشريّة وتكوينها فالبيئة الصالحة الطاهرة تساعد على النشأة الصالحة ، وعلى العكس تكون البيئة الفاسدة.

ويضرب القرآن الكريم لنا مثلاً عن تأثير البيئة في شخصيّة الإنسان وسلوكه ، ومن المعلوم أنّ القرآن الكريم إذا ضرب مثلاً على أمر اختار نموذجاً كبيراً ومثلاً بارزاً جدّاً فهو يمثل لمن أثّرت البيئة الفاسدة في سلوكه ومصيره بامرأتي لوط ونوح إذ قال : ( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) ( التحريم : 10 ).

ولذلك حرص الإسلام على طهارة المجتمع وسعى في تطهيره من كلّ فساد وانحراف ؛ فأكّد مثلاً على اختيار الصديق الصالح لما له من الأثر على شخصيّة صديقه وخلقه وسلوكه قال الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « من أراد اللّه به خيراً رزقه خليلاً صالحاً إن نسي ذكّره وإن ذكر أعانه » (1).

وقال صلی اللّه علیه و آله أيضاً : « اسعد النّاس من خالط كرام النّاس » (2).

وقد ورد عنه صلی اللّه علیه و آله : أيضاً أنّه قال : « المرء على دين خليله وقرينه » (3).

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « واحذر صحابة من يفيل رأيه وينكر عمله فإنّ الصّاحب معتبر بصاحبه »(4) .

وقال علیه السلام : « لا تصحب الشّرّير فإنّ طبعك يسرق من طبعه شرّاً وأنت لا تعلم » (5).

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « من يصحب صاحب السّوء لا يسلم » (6).

ص: 428


1- (1 و 2) بحار الأنوار 15 : 51.
2- (1 و 2) بحار الأنوار 15 : 51.
3- وسائل الشيعة 4 : 207.
4- غرر الحكم : 723.
5- ابن أبي الحديد 20 الكلمة 147ص 272.
6- مستدرك الوسائل 2 : 65.

وإلى ذلك أشار الشاعر بقوله :

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه *** فكلّ قرين بالمقارن مُقتدي

إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم *** ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي

ولأجل ذلك قرّر الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والذي من شأنهما تطهير المجتمع ... كما منع من التجاهر بالمعصية لأنّ ذلك يهوّن الذنب ويزيل قبحه ، ويجرّ إلى الانحراف الأخلاقيّ وإلى ذلك أشار الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله بقوله : « إنّ المعصية إذا عمل بها العبدُ سرّاً لم يضرّ إلاّ عاملها فإذا عمل بها علانيةً ولم يغيّر عليه أضرّت بالعامّة » (1).

ثمّ انّ الإسلام لم يكتف بتوجيه العناية إلى الاُمور الثلاثة المذكورة ، وتقوية ما فطر عليه الإنسان ، بل جعل له روادع وزواجر اُخرى فأكّد دور :

1. العقل.

2. الأنبياء وأوصيائهم.

واعتبرهما حجّتين ملزمتين ، قال الإمام موسى بن جعفر الكاظم علیه السلام : « إنّ لله على الناس حجّتين حجّة ظاهرة وحجّة باطنة فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة وأمّا الباطنة فالعقول » (2).

وأمّا العقل فقد حثّ الإسلام على إحيائه والاهتمام بنداءاته والأخذ بإرشاداته لأنّه قادر على تمييز الخير عن الشرّ إذ قال الإمام عليّ علیه السلام : « كفاك من عقلك ما أوضح لك سبيل غيّك من رُشدك » (3).

ومنع من كلّ ما يميت العقل ويقضي على نوره ، ويعطل أثره ... فمنع عن شرب الخمر وتعاطيه مثلاً إذ قال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ

ص: 429


1- وسائل الشيعة 11 : 407.
2- الكافي 1 : 11.
3- نهج البلاغة : قسم الحكم ( الرقم 421 ).

رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( المائدة : 90 ).

وأمّا الأنبياء علیهم السلام فقد جهزهم سبحانه بكلّ ما يمكّنهم من تربية الناس تربية صالحة من برامج وتعاليم في هذا المجال.

* * *

والجدير بالذكر أنّ الإسلام اتّخذ طريقين حيويين ليجعل تعاليمه أكثر نفوذاً في النفوس وأكثر توفيقاً ونجاحاً في مجال التربية والتزكية وهما :

أوّلاً : إنّه بيّن للناس فلسفة الأحكام والتعاليم وعللها النفسيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة والصحّية ... ولم يكتف بتقديم النصائح الجافّة ، وذلك ليقف الناس بأنفسهم على المفاسد التي تكمن في المناهي وأضرار المعاصي وإلى هذا يشير ما قاله الإمام عليّ بن موسى الرضا علیه السلام : « إن قال قائل : لم أمر اللّه تعالى العباد ونهاهم ، قيل : لأنّه لا يكون بقاؤهم وصلاحهم إلاّ بالأمر والنّهي والمنع من الفساد والتغاصب » (1).

وكنموذج من هذه العلل نذكر ما قاله الإمام الصادق علیه السلام : « حرّم اللّه الخمر لفعلها وفسادها لأنّ مدمن الخمر تورّثه الإرتعاش وتذهب بنوره ، وتهدم مروّته وتحمله أن يجسر على ارتكاب المحارم وسفك الدّماء ، وركوب الزّنا ولا يؤمن إذا سكر أن يثب على حرمه وهو لا يعقل ذلك ولا يزيد شاربها إلاّ كلّ شرّ » (2).

ولذلك علّل القرآن الكريم تحريمه للخمر والميسر بقوله سبحانه : ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) ( المائدة : 91 ).

وقد ألّف علماء الإماميّة رحمهم اللّه كتباً متعدّدة نظّموا فيها ما روي عن النبّي وأئمّة أهل البيت - عليهم الصلاة والسلام - حول فلسفة الأحكام وعللها ونخصّ بالذكر كتاب

ص: 430


1- عيون أخبار الرضا : 101.
2- وسائل الشيعة 17 : كتاب الأطعمة والأشربة : 244.

( علل الشرائع ) تأليف الشيخ الصدوق المتوفّى ( 381 ه ) رحمه اللّه .

ثانياً : إنّه أردف أوامره ونواهيه بالتبشير بالثواب الإلهيّ أو الإنذار والتخويف من العذاب. وبذلك حقّق الإسلام ويحقّق نجاحاً كبيراً في مجال التربية يفقده أي برامج آخر سواه ، ويدلّ عليه أخلاق المسلمين وسلوكهم حاضراً وماضياً خاصّة ، وهي كانت سبب تقدمهم في السابق ، كما يدلّ عليه اعتراف الأجانب والأباعد قبل الأصدقاء والأقارب ، فقد قال بعض الباحثين عن التربية في الإسلام :

( لا يستطيع أحد من المربّين والمؤرّخين أن ينكر أنّ التربية الإسلاميّة هي الأساس المتين لحضارة المسلمين ، والمثل العليا في تلك التربية تتّفق مع الاتّجاهات الحديثة في عالم التربية اليوم ) (1).

ومن هنا يتحتّم على الحكومة الإسلاميّة أن تخطّط لمنهج التربية ، وتوفّر أجواءها الصالحة وتخصّص الميزانيّات اللازمة لها ، وتستخدم في هذا السبيل كلّ الأجهزة المناسبة من وسائل الإعلام والتوجيه والثقافة وعمارة المراكز الدينيّة والعباديّة وما شابه. ومن المعلوم أنّ هذه الوظيفة تندرج في نطاق مسؤوليّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بقسمه الاجتماعيّ العامّ الذي سبق أن قلنا انّه من واجب الدولة ووظيفتها ومسؤوليّتها وصلاحيّاتها.

هذا وقد قام علماء الإسلام بتأليف كتب كثيرة في علم الأخلاق. ولهذا نجد الاُمّة الإسلاميّة في غنى عن كلّ كتاب أخلاقيّ مؤلّف على أساس الفكر الغربيّ.

ومن أراد التوسع في هذا الباب فليراجع كتاب « طهارة النفس » أو « تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق » تأليف الإمام أبي عليّ بن محمّد ابن مسكويه المتوفّى عام ( 421 ه ). وقد أثنى عليه المحقّق الخواجا نصير الدين الطوسيّ بقوله :

بنفسي كتاباً حاز كلّ فضيلة *** وصار لتكميل البريّة ضامناً

ص: 431


1- النظام التربويّ في الإسلام : 18.

و « أحياء العلوم » للإمام الغزاليّ المتوفّى عام ( 505 ه ) وهوكتاب فريد في بابه لم يؤلّف مثله وإن كان فيه بعض الهنات و « جامع السعادات » للعلاّمة النراقيّ المتوفّى عام ( 1209 ه ) إلى غير ذلك من المؤلّفات الأخلاقيّة.

وفي الختام نشير إلى نكتة هامّة وهي أنّه يتحتّم على علماء الأخلاق المسلمين إخراج الأخلاق الإسلاميّة في ثوب عصريّ حديث يتمشّى مع الحاجات والمشكلات العصريّة الراهنة في الشباب وغيرهم.

كما يتحتّم عليهم أن يستفيدوا في تهذيب اجتماع المجتمع من جميع الوسائل والأساليب التربويّة والعلوم الحديثة.

مسؤوليّة التعليم

تحتلّ مسألة التعليم بعد التربية مكانة مرموقة وحسّاسة في برامج ومسؤوليّات الحكومة الإسلاميّة ، لا تقل أهمّية عن المسائل الاُخرى.

وبما أنّ البحث في هذا المجال واسع النطاق مترامي الأطراف ، لا يسع لنا التعمّق فيه ، في هذه العجالة من الوقت ، لهذا نكتفي هنا بالإشارة والتلميح إلى بعض الخطوط في هذا المجال ، تاركين تفاصيلها للكتب المفصّلة المخصّصة لبيان هذا الجانب المهمّ من جوانب الإسلام الحنيف.

لقد دعا ( الإسلام ) الاُمّة الإسلاميّة دعوة أكيدة وشديدة إلى تحصيل العلم واكتسابه بكلّ وسيلة ممكنة ، ومهما كلّف ذلك من الثمن ، وتطلّب من الجهد ، قال الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين علیه السلام : « لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللّجج » (1).

وينطلق هذا الموقف من اهتمام الإسلام بالعلم والمعرفة ، فللعلم والمعرفة مكانة عظيمة في هذا الدين تتجلّى في خلال ما جاء حولها من الآيات والنصوص الحديثيّة ، وما

ص: 432


1- بحار الأنوار 1 : 185.

جاء حول أهل العلم ورجاله وطلاّبه من التجليل والتبجيل والاحترام والتكريم.

فقد قال سبحانه في كتابه الكريم : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ ) ( الزمر : 9 ).

وقال أيضاً : ( يَرْفَعِ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) ( المجادلة : 11 ).

ويكفي للتدليل على شدّة اهتمام الإسلام بالعلم والعلماء أنّه وردت مادّة ( العلم ) في الكتاب العزيز ما يقارب (779) مرّة (1).

وأيّ أمر أدل على هذا الاهتمام والعناية من افتتاح اللّه سبحانه وحيه لنبيّه محمّد صلی اللّه علیه و آله بذكر العلم والقلم ، فلقد ابتدأت الآيات التي نزلت على النبيّ صلی اللّه علیه و آله في مطلع البعثة الشريفة بالأمر بالقراءة ، وتحدثت عن القلم ، وتعليم الإنسان ما لم يعلم ، إشارة إلى أعظم موهبة إلهيّة بعد نعمة الخلق والإيجاد ، إذ قال تعالى : ( بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) ( سورة العلق : 1 - 5 ).

فهذه الآيات التي نزلت في بدء الدعوة وشروع الرسالة المحمديّة كانت بمثابة الخطب الافتتاحيّة التي يفتتح بها الرؤساء والقادة عهود حكمهم ورئاستهم ويبيّنون فيها منهج سياستهم وأهمّ الخطوط في برنامجهم للمستقبل ، فكما أنّ هذه الخطب بحكم كونها ترسم السياسة المستقبليّة لذلك الرئيس - تأتي مدروسة الألفاظ ، دقيقة المعاني ، محسوبة العبارات وتكون مهمّة غاية الأهمّية لأنّها تعكس أهمّ أغراض الحاكم وأبرز اهتماماته ، يكون افتتاح الوحي الإلهيّ بذكر العلم والقراءة والقلم وهو كناية عن الكتابة دليلا - وأيّ دليل - على العناية القصوى التي يحضى بها ( العلم ) في النظام الإسلاميّ.

وأيضاً يكفي للتدليل على هذه العناية الإسلاميّة القصوى بالعلم أنّ اللّه تعالى أقسم - في كتابه الكريم - بالقلم بقوله سبحانه : ( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) ( القلم : 1 ).

ص: 433


1- راجع لذلك : المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم مادّة ( علم ).

وهو أمر ذو دلالة قويّة جداً وخاصّة في ذلك العصر الذي كان الاهتمام فيه بالعلم منعدماً أو كاد أن يكون كذلك (1).

على أنّ ما جاء في الأحاديث والأخبار من النصوص المتضمّنة لبيان مكانة العلم والعلماء يضاهي ما جاء في القرآن ...

وأنت - أيّها القارئ الكريم - لو راجعت الموسوعات الحديثيّة ، ترى من كثب كيف اهتمّت الأخبار والروايات بهذا الأمر اهتماماً بالغاً لا تجد له نظيراً بالنسبة إلى سائر الموضوعات ؛ ممّا يعني أنّ ( العلم ) انفرد بهذا المقام في الأحاديث واختصّ به دون غيره وإليك فيما يلي طائفة من هذه الأحاديث :

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « فضلُ العلم أحبّ إلى اللّه من فضل العبادة » (2).

وقال أيضاً : « العلمُ رأس الخير كُلّه » (3).

وقال : « قليل من العلم خير من كثير من العبادة » (4).

ويروى أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله دخل ذات يوم إلى المسجد فإذا في المسجد مجلسان : مجلس يتفقّهون ، ومجلس يدعون اللّه ويسألونه فقال :

« كلا المجلسين إلى خير ، أمّا هؤلاء فيدعون اللّه ، وأمّا هؤلاء فيتعلّمون ويفقّهون الجاهل. هؤلاء أفضل ، بالتّعليم أرسلت » ، ثمّ قعد معهم (5).

وقال الإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام : « العلم أصل كلّ خير » (6).

وقال علیه السلام أيضاً : « العلم وراثة كريمة » (7).

وقال علیه السلام أيضاً : « قيمة كلّ أمرئ ما يحسنه » (8).

ص: 434


1- روى البلاذري في فتوح البلدان : 459 ، إنّ عدد من كان يحسن الكتابة في الأوس والخزرج كان قليلاً ولا يتجاوز (11) شخصاً كما كان عدد من يحسن الكتابة في مكّة قليلاً أيضاً بحيث لا يتجاوز سبعة عشر كما في الصفحة 457 من نفس الكتاب.
2- بحار الأنوار 1 : 167 ، 185 ، 169.
3- بحار الأنوار.
4- بحار الأنوار 1 : 167 ، 185 ، 169.
5- منية المريد : 13.
6- غرر الحكم : 20.
7- بحار الأنوار 1 : 167 ، 185 ، 169.
8- نهج البلاغة : قصار الكلمات ( الكلمة رقم 81 ).

وقال علیه السلام أيضاً : « العلم ضالّة المؤمن » (1).

وقال الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام : « العلم أصل كلّ حال سنيّ ومنتهى كلّ منزلة رفيعة » (2).

وقال الإمام الباقر محمّد بن عليّ علیه السلام : « الرّوح عماد الدّين ، والعلم عماد الرّوح ، والبيان عماد العلم » (3).

إلى غير ذلك من مئات الأحاديث والأخبار الدالّة على أهمّية العلم ومكانته العليا وموضعه الأرفع في الدين الإسلاميّ.

ومن هنا أكّد الإسلام على المسلمين أن يكتسبوا العلم ويحصلوا على المعرفة فقد روي عن النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة » (4).

وقال صلی اللّه علیه و آله : « طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ألا إنّ اللّه يحبّ بغاة العلم » (5).

وقال الإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام : « الشّاخص في طلب العلم كالمجاهد في سبيل اللّه » (6).

وقال الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام : « طلب العلم فريضة على كلّ حال » (7).

وقال : « لست اُحبّ أن أرى الشّابّ منكم إلاّ غادياً في حالين : إمّا عالماً أو متعلّماً فإن لم يفعل فرّط ، فإن فرّط ضيّع ، فإن ضيّع أثم ، وإن أثم سكن النّار والّذي بعث محمّداً بالحقّ » (8).

ص: 435


1- بحار الأنوار 1 : 1. 181.
2- - بحار الأنوار 2 : 31 - 32.
3- بحار الأنوار 1 : 1. 181.
4- البحار 1 : 177 ، وربّما ورد في بعض الأحاديث ذكر المسلم دون المسلمة والمراد به هو الجنس المسلم الشامل للذكر والاُنثى مثل ( إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) .
5- الكافي 1 : 30.
6- روضة الواعظين : 10.
7- بصائر الدرجات : 3.
8- بحار الأنوار 1 : 170 ، الحديث 22.

إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة جدّاً.

وفي الوقت نفسه أوصى العلماء وأهل العلم أن يعلّموا الناس وينشروا الثقافة والعلم والمعرفة بينهم فقد روي عن الإمام عليّ علیه السلام أنّه قال : « إنّ اللّه لم يأخذ على الجّهال عهداً بطلب العلم حتّى أخذ على العلماء عهداً ببذل العلم للجهّال لأنّ العلم كان قبل الجهل » (1).

وعن الإمام أبي جعفر الباقر علیه السلام أنّه قال : « زكاة العلم أن تعلّمه عباد اللّه » (2).

ولقد روي أنّ الإمام عليّ لمّا كان يفرغ من الجهاد يتفرّغ لتعليم الناس (3).

ولقد اعتبر الإسلام تعليم الأولاد وتثقيفهم حقّاً واجباً من حقوق الأبناء على آبائهم فعن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « من حقّ الولد على والده ثلاثة

يحسن اسمه

ويعلّمه الكتابة

ويزوّجه إذا بلغ » (4).

وعن الإمام الصادق جعفر بن محمّد علیه السلام أنّه قال : « الغلام يلعب سبع سنين ويتعلّم الكتابة سبع سنين ويتعلّم الحلال والحرام سبع سنين » (5).

وقد كشف الإمام عليّ علیه السلام عن أنّ سنّ الطفولة هو أفضل فرصة لتلقّي العلم وأخذ المعرفة فقال : « وإنّما قلب الحدث كالأرض الخالية ما القي فيها من شيء قبلته » (6).

ولذلك قال علیه السلام : « علّموا صبيانكم من علمنا ما ينفعهم اللّه به لا تغلب عليهم المرجّئة برأيها » (7).

ص: 436


1- الكافي 1 :1. 33.
2- الكافي 1 :1. 33.
3- مستدرك الوسائل 2 : 417.
4- مكارم الأخلاق : 114.
5- وسائل الشيعة 7 : 194.
6- نهج البلاغة : الخطبة 31.
7- بحار الأنوار 2 : 16.

فلا بدّ إذن من استغلال هذه الظاهرة واغتنام الفرصة وتوجيهها الوجهة الصالحة التي تتّسم بالتوازن وحسن السلوك وحبّ الفضيلة والمعرفة.

ولقد فتح الإسلام باب تحصيل العلوم في وجه الجميع نساء ورجالاً من دون أي قيد أو شرط ، إلاّ شرطاً واحداً هو أن يتمّ هذا التحصيل في جوّ سليم عار من أي فساد أخلاقيّ أو انحراف معنويّ.

وتحقيقاً لهذا الأمر السامي وهو تعميم الثقافة والعلم حظر على المعلّمين أن يأخذوا الاُجرة - على تعليمهم بعض العلوم.

هذا بعد أن رفع مكانة المعلّم ، وكشف عن جليل مقامه ، واعتبر حقّه من أعظم الحقوق.

قال الإمام زين العابدين علیه السلام : « وأمّا حقّ سائسك بالعلم فالتّعظيم له ، والتّوقير لمجلسه ، وحسن الاستماع إليه والإقبال عليه ، والمعونة له على نفسك فيما لا غنى بك عنه من العلم بأن تفرّغ له عقلك وتحضره فهمك ، وتزكّي له قلبك وتجلي له بصرك بترك اللّذات ، ونقص الشّهوات وأن تعلم أنّك فيما ألقى إليك رسوله إلى من لقيك من أهل الجّهل فلزمك حسن التأدية عنه إليهم ولا تخنه في تأدية رسالته والقيام بها عنه إذا تقلّدتها » (1).

وروي عن الإمام أبي محمّد الحسن العسكريّ علیه السلام أنّه قال : « إنّ رجلاً جاء إلى عليّ بن الحسين برجل يزعم أنّه قاتل أبيه فاعترف فأوجب عليه القصاص ، وسأله أن يعفو عنه ليعظّم اللّه ثوابه فكأنّه لم تطب نفسه بذلك ، فقال عليّ بن الحسين علیه السلام للمدّعي للدّم الوليّ المستحقّ للقصاص :

إن كنت تذكر لهذا الرّجل عليك فضلاً فهب له هذه الجناية واغفر له هذا الذّنب ».

قال : أُريد القود [ أي القصاص ] فإن أراد لحقه على أن اُصالحه على الدية

ص: 437


1- تحف العقول - رسالة الحقوق ص 260.

صالحته وعفوت عنه ... فقال عليّ بن الحسين علیه السلام : « فماذا حقّه عليك ».

قال : يا ابن رسول اللّه لقّنني توحيد اللّه ونبوّة محمّد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وإمامة عليّ والأئمّة علیهم السلام ...

فقال عليّ بن الحسين علیه السلام : « فهذا لا يفي بدم أبيك ؟

بلى واللّه يفي بدماء أهل الأرض كلّهم من الأوّلين والآخرين سوى الأنبياء والأئمّة إن قتلوا ، فإنّه لا يفي بدمائهم شيء إن يقنع منه الدية ».

قال : بلى.

قال عليّ بن الحسين علیه السلام للقاتل : « افتجعل لي ثواب تلقينك له حتّى أبذل لك الدية فتنجو من القتل » ؟.

قال : يا ابن رسول اللّه أنا محتاج إليها وأنت مستغن عنها فإنّ ذنوبي عظيمة وذنبي إلى هذا المقتول أيضاً بيني وبينه لا بيني وبين وليّه هذا.

قال عليّ بن الحسين علیه السلام : « فتستسلم للقتل أحبّ إليك من نزولك عن هذا التّلقين » ؟.

قال : بلى يا ابن رسول اللّه.

فقال عليّ بن الحسين لوليّ المقتول : « يا عبد اللّه قابل بين ذنب هذا إليك وبين تطوّله عليك ، قتل أباك ، حرمه لذّة الدنيا وحرمك التّمتع به فيها على أنّك إن صبرت وسلمت فرفيقك أبوك في الجنان ، ولقّنك الإيمان فأوجب لك به جنّة اللّه الدائمة وأنقذك من عذابه الأليم ، فإحسانه إليك أضعاف جنايته عليك ، فإمّا أن تعفو عنه جزاءً على إحسانه إليك ، لأُحدّثكما بحديث من فضل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خير لك من الدّنيا بما فيها ، وإمّا أن تأبى أن تعفو عنه حتّى أبذل لك الدية لتصالحه عليها ثمّ أخبرته بالحديث دونك فلمّا يفوتك من ذلك الحديث خير من الدّنيا بما فيها لو اعتبرت به ».

فقال الفتى : يا ابن رسول اللّه قد عفوت عنه بلا دية ولا شيء إلاّ ابتغاء وجه اللّه

ص: 438

ولمسألتك في أمره فحدّثنا يا ابن رسول اللّه بالحديث ... الخ ... » (1).

وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ معلّم الخيرات يستغفر له دوابّ الأرض وحيتان البحر وكلّ ذي روح في الهواء وجميع أهل السّماء والأرض » (2).

وقال الصادق علیه السلام : « من علّم خيراً فله بمثل أجر من عمل به ».

قلت : فإن علّمه غيره أيجري ذلك ؟

قال علیه السلام : « إن علّمه النّاس كلّهم جرى له ».

قلت : فإن مات ؟ قال : « وإن مات » (3).

وعن النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « ما تصدّق النّاس بصدقة مثل علم ينشر ».

وعن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « من علّم مسلماً مسألةً فقد ملك رقبته » فقيل يا رسول اللّه : أيبيعه ؟ قال : « لا ، ولكن يأمره وينهاه » (4).

ثمّ إنّ التاريخ الإسلاميّ مليء بالنساء العالمات اللواتي حظين بالمقام العلميّ السامي بفضل ما أتاح لهنّ الإسلام من فرصة التعليم واكتساب المعرفة ، وحتّى كان منهنّ المحدثات والراويات عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله وعن أهل بيته المطهّرين علیهم السلام .

فها هو ابن الأثير يذكر في كتابه طائفة منهنّ روين أحاديث عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله منهنّ :

أسماء بنت يزيد السكن الأنصاريّة ابنة عمّ معاذ بن جبل.

وأسماء بنت يزيد الأنصاريّة من بني عبد الأشهل التي روت رواية شريفة جداً عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعد أن سألته عمّا يلحق بالنساء من الأجر والمثوبة من خدمة أزواجهنّ واستحسن النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله سؤالها ومنطقها وأدبها.

واُميمة مولاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

واُميمة بنت رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف.

وجويريّة بنت الحارث الخزاعيّة المصطلقيّة.

ص: 439


1- بحار الأنوار 2 :1. 13 ، 17 ، 16 ، 42.
2- بحار الأنوار 2 :1. 13 ، 17 ، 16 ، 42.
3- بحار الأنوار 2 :1. 13 ، 17 ، 16 ، 42.
4- بحار الأنوار 2 :1. 13 ، 17 ، 16 ، 42.

وحواء بنت زيد السكن الأنصاريّة الأشهليّة.

وخولة بنت عبد اللّه الأنصاريّة.

وزينب بنت جحش الأسديّة.

وزينب بنت خباب بن الأرت ( ذكرها البخاريّ في من روى عن النبيّ ).

واُمّ صابر بنت نعيم بن مسعود الأشجعيّ.

وهذه نماذج من الصحابيّات والراويات التي تزخر بأسماءهنّ كتب أسماء الصحابة والرواة.

كما عقد العلاّمة المامقانيّ في كتابه الرجاليّ فصلاً خاصّاً وموسّعاً في ذكر النساء اللواتي لهنّ رواية عن النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله ويعتبرن من حملة الحديث فعدّ منهنّ نساء بارزات في مجالات العلم والثقافة وذات شخصيّات ومواقف نبيلة ، ومن أراد الوقوف على كامل أسمائهنّ فليراجع الجزء الثالث / الصفحة 69 - 83 من هذا الكتاب.

وها نحن نذكر هنا بعضاً منهنّ على سبيل المثال لا الحصر :

اُمّ أيمن التي شهدت مع الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء بنت النبيّ صلی اللّه علیه و آله في قضيّة فدك.

وأسماء بنت أبي بكر التي سمّاها النبيّ صلی اللّه علیه و آله بذات النطاقين إشارة لموقفها في حصار الشعب.

واُمّ حزام التي كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يكرمها ويزورها في بيتها ، ويقيل عندها ، وأخبرها بأنّها شهيدة.

واُمّ سلمة التي كانت تغزو مع رسول اللّه وروت عنه صلی اللّه علیه و آله أحاديث ، وروى عنها ابنها انس.

واُمّ سلمة التي كانت من المهاجرات إلى الحبشة.

واُمّ كلثوم التي كانت جليلة القدر فصيحة بليغة.

وثويبة مولاة أبي لهب ، وقد وقعت ضمن أسانيد الصدوق في كتاب من لا يحضره

ص: 440

الفقيه في باب ما أحلّ اللّه من النكاح وما حرّم.

وحبابة بنت جعفر الأسديّة التي روت عن أمير المؤمنين علیه السلام وقالت : رأيت أمير المؤمنين في شرطة الخميس ومعه درّة يضرب بها بيّاع الجريّ والمارماهيّ ، والمزماريّ ويقول لهم : « يا بُيّاع مُسوُخ بني إسرائيل ... » إلى آخر الحديث.

وحكيمة بنت الإمام أبي جعفر محمّد بن عليّ الجواد علیه السلام .

وحميدة البربريّة اُمّ الإمام أبي الحسن موسى بن جعفر علیه السلام وهي من الثقات التقيّات ، وكان مولانا الإمام الصادق علیه السلام يرسلها مع اُمّ فروة تقضيان حقوق أهل المدينة.

وزينب بنت أبي سلمة التي كانت من أفقه نساء زمانها ، وكانت كثيرة الخير والصدقة وكانت صنّاع تعمل بيدها وتتصدّق بيدها.

وسعيدة التي وقع اسمها في إسناد الكافي فقد روى في باب النوادر من آخر كتاب النكاح عن سعيدة ... .

وغيرهنّ كثيرات لم نذكر أسماءهنّ اختصاراً وإيجازاً (1).

وقد برزت هذه النسوة وصعدن إلى تلك المرتبة من العلم والفضيلة ، وضاهين الرجال في المقام والمنزلة بفضل الإسلام.

فقد ربّى في حجره مثل هذه النساء العالمات التقيّات ذوات الشخصيّة الرشيدة والمواقف البارزة ، والصفحات البيض ، والتواريخ المشرقة في شتّى مناحي الحياة الإسلاميّة ولولا الإسلام ، وما أولاهن من المنزلة والحظوة لبقيت المرأة تعاني من ما كانت تعانيه من ظلم الجاهليّة وعسفها ، وكبتها وتحقيرها.

فقد كانت المرأة في زمن الجاهليّة محرومة من كلّ مزايا الرجال ، تحتقر كما يحتقر

ص: 441


1- من أراد الوقوف على تفصيل ذكرهنّ وأسمائهنّ فعليه أن يراجع كتاب : أعلام النساء ، بلاغات النساء ، الخيرات الحسان ، والاستيعاب ، والإصابة.

الحيوان ، وتباع وتشترى كما يشترى ويباع المتاع ، حتّى جاء الإسلام وأولاهنّ ما أولاه من الرفعة بعد الضعة ، والشرف بعد المقت والعزّة بعد الإهانة والذّل ، فتخرّج منهنّ الكاتبات والأديبات والعالمات ، والراويات ، وربّات الفكر والرأي ، وذوات الشخصيّة والشأن الكبير.

على أنّ النساء لم يحصلن على حقوقهنّ في التعليم في ظلّ الحكومة والشريعة الإسلاميّة فقط ، بل حصلن على حقوق عادلة في التسوية مع الرجال في اعتناق الدين ، واستحقاق الثواب الاُخرويّ ، والاحترام الدنيويّ ، والميراث ، والزواج وحقوق الزوجيّة ، والطلاق ، والنفقة ، والوصيّة.

وجملة القول ؛ أنّه ما وجد دين ولا شرع ولا قانون في اُمّة من الاُمم أعطى النساء ما أعطاهنّ الإسلام من الحقوق والعناية والكرامة ، في جميع المجالات الإنسانيّة.

هذا ولقد كان الإسلام أوّل من عمل على محو الاُميّة ونشر الثقافة والعلم وتعميمها في أوساط الناس فيما كانت الحكومات المعاصرة لعصر النبوّة المحمديّة - كالأجهزة الحاكمة في إيران - تحظر العلم والثقافة على طبقات الشعب وتحرم اكتسابهما إلاّ على الأُمراء وأبناء الاُمراء ، وطبقة المؤبذين ( وهم رجال الدين الزرادشتي ) (1).

وإنّ أدلّ دليل على سعي الإسلام لمحو الاُميّة قبل أي أحد هو ما فعله النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله مع أسرى بدر حيث جعل فداء بعض الأسرى الذين كانوا يعرفون القراءة والكتابة ، تعليم أولاد المسلمين : القراءة والكتابة.

فقد روى الحلبي في سيرته ذلك قائلاً : ( بعثت قريش في فداء الأسارى وكان الفداء فيهم على قدر أموالهم ، وكان من أربعة آلاف إلى ثلاثة آلاف درهم إلى ألفين إلى ألف. ومن لم يكن معه فداء وهو يحسن الكتابة دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة ليعلّمهم الكتابة فإذا تعلّموا كان ذلك فداء ) (2).

ص: 442


1- الشاهنامة للفردوسيّ 6 : 257 - 260.
2- السيرة الحلبيّة 2 : 204.

على أنّ المنهج الذي اختاره الإسلام هو جعل الإيمان مقروناً بالعلم ، والعلم مقروناً بالإيمان ... فالمكتفي بأحدهما كطائر يحلّق بجناح واحد ... ولذلك نرى أنّ اللّه سبحانه يقرن أحدهما بالآخر في كتابه إذ يقول : ( يَرْفَعِ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) ( المجادلة : 11 ).

وكقوله : ( وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ ... ) ( الروم : 56 ).

وممّا يدلّ على ذلك ما نراه - إذا سرنا في البلاد الإسلاميّة - من بناء الجامعات إلى جنب المساجد الذي يشير بوضوح إلى عدم التفكيك بين العلم والإيمان ، وبين الدين والمعرفة في الحوزات الإسلاميّة العلميّة المبثوثة في كلّ أرجاء العالم الإسلاميّ أو انعقاد الحلقات الدراسيّة في المساجد. ولقد بلغ حثّ الإسلام على اكتساب العلم والمعرفة حدّاً بليغاً حتّى أنّه حرّض على الهجرة في سبيل اكتساب العلم ، عندما حثّ على أن يخرج من كلّ فريق طائفة تسافر إلى المدينة ، ليدركوا حضرة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وليتعلّموا منه ما يحتاجون إليه من العلوم والمعارف الإلهيّة المفيدة ثم يرجعوا إلى قومهم ... وهو أمر يدلّ ضمناً على أنّ الإسلام كان ممن أسّس بنيان الحوزات العلميّة والجامعات وهي حقيقة يدلّ عليها قوله سبحانه : ( فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) ( التوبة : 122 ).

فإنّ هذه الآية وإن فسّرت بوجوه غير أنّ الأظهر في تفسير الآية ما روي عن الإمام الصادق علیه السلام :

قال عبد اللّه بن المؤمن الأنصاريّ قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : إنّ قوماً يروون أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « اختلافُ اُمّتي رحمة » فقال : « صدقُوا » فقال : إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب ؟ قال : « ليس حيثُ تذهب وذهبُوا ، إنّما أراد قول اللّه عزّ وجلّ : ( فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) فأمرهم أن ينفروا إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويختلفوا إليه فيتعلّموا ثمّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم ، إنّما أراد اختلافهم من البلدان لا اختلافاً في دين اللّه إنّما الديّن

ص: 443

واحد » (1).

وهذه الآية مضافاً إلى كونها دالّة على وجود مركز أو مراكز علميّة في زمن النبيّ يسافر إليها الأفراد ليتلقّوا فيها العلوم والمعارف اللازمة ؛ تدلّ على وجوب هذا الأمر وجوباً كفائيّاً ، ولقد استمرّ وجود هذه المراكز والحوزات العلميّة في زمن الأئمّة علیهم السلام وفي زمن الإمام الصادق خاصّة.

فقد روى أحمد بن محمّد بن عيسى وقال : خرجت إلى الكوفة في طلب الحديث فلقيت بها الحسن بن عليّ الوشا ، فسألته أن يخرج لي كتاب العلا بن رزين وأبان بن عثمان ، فأخرجهما إليّ فقلت له : أحبّ أن يجيزهما لي فقال : يرحمك اللّه وما عجلتك ، اذهب فاكتبهما واسمع من بعد ذلك ، فقال : لا آمن الحدثان ، فقال : لو علمت هذا الحديث يكون له هذا الطلب لاستكثرت منه فإنّي أدركت في هذا المسجد ( بالكوفة ) تسعمائة شيخ كلّ يقول حدّثني جعفر ( أي الإمام الصادق علیه السلام ) (2).

وبالتالي فإنّ ما يدلّ على اهتمام الدين الإسلاميّ بانتشار العلوم والأخذ بالمعارف المتنوّعة هو ازدهار العلوم المختلفة بين المسلمين ونبوغهم المطّرد والبارز في شتّى مجالات المعرفة ، وتنوّع الكتب والمصنفات التي خلّفها المسلمون وصنّفها علماؤهم وكتّابهم ، وكانت أساساً لكثير من العلوم الحديثة.

يبقى أن نعرف أنّ الإسلام لا يطرح صيغة خاصّة لمنهج التعليم ، وقد سبق أن قلنا : إنّ خاتمية الدين الإسلاميّ تقتضي أن يبيّن الإسلام الجوهر واللب ، وأمّا الصور والأشكال فمتروكة للأجيال والعصور ، ومقتضياتها فلا مانع من أن يستفيد المسلمون من أي منهج تعليميّ ، وأن يستخدموا أي جهاز يضمن تعميم العلم كالتلفزيون والمذياع شريطة الحفاظ على خلق المجتمع ، وقيمه الإسلاميّة العليا. فإنّ الإسلام يخالف كلّ علم يتنافى مع سعادة البشر ويهدّد استقراره.

ص: 444


1- نور الثقلين 2 : 238.
2- رجال النجاشيّ : 28 وتنقيح المقال للمامقانيّ 1 : 294.

هذا ولعلّك تعجب إذا علمت أنّ تحصيل العلم في الفنون المختلفة من الطبّ والاقتصاد والحقوق السياسيّة والصنائع المتنوّعة فريضة إسلاميّة يجب على الجميع تعلّمه على نحو الواجب الكفائيّ لكي ترتفع حاجة المسلمين إلى غيرهم ، ويأمنوا بذلك من تدخّل الأجانب في شؤونهم ، بل الأعجب من ذلك أنّ التحصيل في بعض الشؤون واجب عينيّ وذلك فيما يتعلّق بمعرفة الأحكام الدينيّة من أحكام العبادات والمعاملات كما حقّق في موضعه (1) ، ولأجل ذلك وجب على الحكومة الإسلاميّة أن تخصّص قسماً كبيراً من ميزانيّتها لتأسيس الجامعات الدينيّة ، والعلميّة وتهيئة ظروف التعليم والتعلّم حتّى يتسنّى لأبناء الاُمّة تحصيل المعرفة في أي مجال مفيد ، وضروريّ لحياة الاُمّة. فإنّ جميع ما سقناه إليك من أدلّة حاثّة على طلب العلم ، وإنّ ما وصل إليه المسلمون القدامى من أزدهار ، وتقدّم عظيم ، في العلوم يستدعيان أن تكون الحكومة الإسلاميّة هي التي تتولّى تهيئة أجواء العلم والتعلّم والتعليم ، وإلاّ فكيف يمكن أن يتحقّق ذلك الازدهار ويتحقّق هذا الهدف العظيم ، والأمر خارج عن نطاق الأفراد بل هو ميسّر للحكومة وإمكانيّاتها ، ولوجوب أن تقتدي هذه الحكومة بسيرة النبيّ صلی اللّه علیه و آله حيث تولّى بنفسه تهيئة أجواء التعليم والتعلّم لأبناء المدينة كما مرّ عليك في قصّة أسرى بدر.

الإسلام والعلوم الطبيعيّة

ثمّ انّه لم يكن تأكيد الإسلام على تحصيل العلم ليختصّ بعلم دون علم وبباب دون آخر ، وإن كان التأكيد على اكتساب الفقه والعلم بأحكام الدين أشدّ ، وأكثر.

فالعلم بأحكام الدين واُصوله وفروعه ، أو العلم بما يجري في الطبيعة من السنن والقوانين وكشف غوامض الحياة ومعضلاتها واختراع ما يكون مفيداً للحياة البشريّة ممّا دعا إليه الإسلام من غير فرق بين علم وعلم. ولذلك أمر سبحانه في الكثير من الآيات القرآنيّة بالتدبّر في الكون والسنن الحاكمة فيه ، كما هو غير خفيّ على من له إلمام بالكتاب

ص: 445


1- راجع فرائد الشيخ الأنصاريّ : 300 - 301.

الكريم.

وتقسيم العلوم إلى دينيّة وغير دينيّة ( أو قديمة وحديثة ) مجرّد اصطلاح وإلاّ فكلّ علم نافع ناجع قد دعا إليه الدين وأمر به الكتاب ، وأخذ به المسلمون ، وما يعدّ علوماً حديثة فلها جذور في القديم وإنّما حدث التطوّر والتكامل حسب مرور الزمان شأن كلّ ظاهرة وعلم.

ولأجل ذلك نرى أنّ المسلمين اهتمّوا - منذ بزوغ الإسلام - بمختلف العلوم والمعارف ، وبرعوا فيها ، وكانوا لكثير منها مكتشفين ، وكان منهم المخترعون ، والمبدعون.

وقد اعترف بذلك كثير من علماء الغرب والشرق ، وأقرّوا للمسلمين به ، وبيّنوا جهود المسلمين في هذا المضمار ، وعدّوهم آباء العلم الحديث في كثير من المجالات والأصعدة.

ونحن هنا نشير إلى طائفة ممّن كان لهم من المسلمين اكتشافات علميّة :

1. جابر بن حيّان ، تلميذ الإمام جعفر بن محمد الصادق علیه السلام كان من أشهر علماء الكيمياء. هذا وللرازي وأبو ريحان البيرونيّ بحوث شيّقة وهامّة في الكيمياء أيضاً.

2. يعقوب ابن إسحاق الكندي ؛ له 15 كتاباً في معرفة أحوال الجوّ.

3. الحسن بن الهيثم ؛ المتولّد عام 304 ألّف كتباً عديدة في الضوء وخواصّ المرايا المقعّرة والمحدّبة والمنكسرة.

4. محمد بن إبراهيم الفزاري ، والحجاج بن يوسف بن مطر ؛ لهما ولغيرهما من المسلمين جهود علميّة كبرى في الرياضيّات.

5. الخواجا نصير الدين الطوسيّ ، وأبو معشر البلخيّ ، يعود إليهما الكثير من الاختراعات والاكتشافات في علم الهيئة والفلك.

6. محمّد بن زكريّا الرازي ، وأبو عليّ بن سينا ، وابن رشد الأندلسيّ يعود إليهما

ص: 446

الكثير من الأبحاث الطبيّة ، ومسائل العلاجات والأدوية.

7. الكندي والدميريّ والقزوينيّ وابن بطوطة وابن خلدون ؛ ممّن لهم كتب ومؤلّفات واسعة في علم الأحياء ، والجغرافيه ، وغيرهما من العلوم والمعارف ، وغيرهم ممّن لا يمكن إحصاء أسمائهم لكثرتهم وكثرة مؤلّفاتهم.

ويكفي دلالة على تشجيع الإسلام للصناعة ما قاله الإمام الصادق علیه السلام في حديث مفصّل : « كلّ ما يتعلّم العبادُ أو يُعلّمون غيرهُم من صُنوف الصناعات مثل الكتابة والحساب والنّجارة والصّياغة والسّراجة والبناء والحياكة والقُصارة والخياطة وصُنعة صنوف التصاوير ما لم يكُن مثل الرّوحانيّ وأنواع صنوف الآلات التي يحتاجُ إليها العبادُ التي منها منافعهُم وبها قوامُهم وفيها بُلغةُ جميع حوائجهم فحلال فعلهُ ، وتعليمهُ والعملُ به وفيه لنفسه أو لغيره » (1).

ثمّ انّ عناية الإسلام بالكتابة وتقييد العلم بواسطتها يعتبر من أبرز الأدلّة على تبنيّ الإسلام للعلم وحرصه عليه فقد كان الإسلام أوّل من روّج الكتابة وحثّ على تعلّمها ، وكان ذلك الموقف من الكتابة والتدوين هو السبب الرئيسيّ في كتابة المؤلّفات وتأليف الكتب العديدة الذي كان - بدوره - خير وسيلة لأحياء العلم ، والابقاء عليه فقد روي أنّه كتب الشيعة وحدهم ما يقارب (10) آلاف كتاب خلال عهد الإمامين الباقرين خاصّة (2).

ولقد وردت أحاديث كثير في هذا الصدد يضيق المجال بذكرها في هذه العجالة ولكنّنا ندرج هنا بعضها على سبيل المثال :

عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « قيّدُوا العلم بالكتابة » (3).

ص: 447


1- تحف العقول : 246.
2- المراجعات : 337 المراجعة (110).
3- تحف العقول كما في الذريعة 1 : 6 ، المستدرك للحاكم 1 : 106 ، كنز العمال 5 : 277 ، البيان والتبيين 1 : 161.

وعن عبد اللّه بن عمر قال قلت لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أقيّد العلم ؟ قال : « نعم » ، قيل وما تقييده ؟ قال صلی اللّه علیه و آله : « كتابتُهُ » (1).

وعن أبي بصير قال دخلت على أبي عبد اللّه ( الصادق ) فقال : « ما يمنعُكُم من الكتابة ، إنّكُم لن تحفظُوا حتّى تكتبُوا » (2).

وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إذا مات ابنُ آدم انقطع عملهُ إلاّ من ثلاث :

صدقة جارية ، أو علم ينتفعُ به أو ولد صالح يستغفُر لهُ » (3).

وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « المُؤمنُ إذا مات وترك ورقةً واحدةً عليها علم تكُونُ تلك الورقةُ سُتراً فيما بينهُ وبين النّار وأعطاهُ اللّه بكُلّ حرف مكتُوب عليها مدينةً في الجنّة » (4).

وعنه علیه السلام أيضاً أنّه قال : « احتفظُوا بكُتبكُم فسوف تحتاجُون إليها » (5).

وقال علیه السلام : « القلبُ يتّكلُ على الكتابة »(6) .

وقال علیه السلام : « اُكتُب وبُث علمك في إخوانك فإن متّ فأورث كُتُبك بنيك فإنّهُ يأتي على النّاس زمان هرج ما يأنسُون إلاّ بكُتُبهم »(7) .

وعن الإمام الحسن علیه السلام أنّه دعا بنيه وبني أخيه فقال : « إنّكُم صغار قوم ويُوشكُ أن تكُونُوا كبار قوم آخرين فتعلّمُوا العلم فمن لم يستطع منكُم أن يحفظهُ فليكتُبهُ وليضعهُ في بيته » (8).

هذا وللإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام تعاليم لطيفة في مجال الكتابة وتحسين الخطّ ... فقد قال لكاتبه عبيد اللّه بن أبي رافع : « ألق دواتك ، وأطل جلفة (9) قلمك ،

ص: 448


1- راجع الذريعة 1 : 6 ، التاج 1 : 61.
2- مشكاة الأنوار للطبرسيّ : 142 ، وروي في الكافي 1 : 52 بهذه الصورة : « اكتُبُوا فإنّكُم لا تحفظُون حتّى تكتبُوا ».
3- رواه الخمسة إلاّ البخاريّ ، راجع التاج 1 : 66.
4- أوثق الوسائل : المقدّمة.
5- الكافي 1 : 52.
6- الكافي 1 : 52.
7- الكافي 1 : 52.
8- بحار الأنوار 2 : 152.
9- الجلفة ما بين مبراه وسنته.

وفرّج بين السّطُور وقرمط (1) بين الحُرُوف ، فإنّ ذلك أجدرُ بصباحة الخطّ » (2).

كما روي عنه علیه السلام قوله : « الخطّ الحسن يزيد الحقّ وضوحاً » (3).

هكذا حثّ الإسلام على الكتابة حثّا بليغاً ، وأكيداً ، وكفى في ذلك أنّ اللّه تعالى أقسم بالقلم باعتباره وسيلة فعّالة لنقل المعرفة وتدوينها ، وإبقائها.

بحث وتنقيب

ولعلّك تقول : لو حثّ الإسلام مثل هذا الحثّ على الكتابة والتدوين فلماذا نهى الخليفة الثاني عن كتابة الحديث في حين كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يحثّ أصحابه على كتابة ما يسمعونه منه. فقد أخرج صاحب غوالي اللئالي عن عمر بن شعيب عن أبيه وجدّه قال قلت : يا رسول اللّه أكتب كلّ ما أسمع منك ؟ قال صلی اللّه علیه و آله : « نعم » ، قال : قلت في الرضا والغضب ؟ قال صلی اللّه علیه و آله : « نعم فإنّي لا أقول في ذلك كلّه إلاّ الحقّ » (4).

وقد أملى صلی اللّه علیه و آله كتباً في الشرائع والأحكام كان قد جهّز بها رسله وعمّاله في الأقطار المفتوحة وقد احتفظ بها المسلمون وأوردها أصحاب السير والمعاجم وأهل الحديث والتفسير في كتبهم وهذه الصحف تعرب قبل كلّ شيء عن عناية الرسول بحفظ علوم الرسالة وذخائر النبوّة وأحكام الدين ودساتيره ليستفيد منها القريب ويرجع إليها النائي.

وقد تواتر عن الفريقين أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله قبض وفي قراب سيفه أو ذؤابة سيفه كتاب أو كتابان (5).

ص: 449


1- القرمطة بين الحروف ، المقاربة بينها وتضييق فواصلها.
2- نهج البلاغة : قصار الكلم ( الرقم 315 ).
3- حديث مشهور.
4- راجع الذريعة 1 : 6 ، التاج 1 : 61.
5- صرّح بذلك إمام الحنابلة في مواضع من مسنده راجع المسند 1 : 81 ، 100 ، 119 ، 126 ، 132 ، صحيح مسلم 4 : 217 ، السنن الكبرى 8 : 30.

وقد اعتمد على هذا الكتاب أئمّة أهل الحديث في مختلف الأبواب والأحكام واكثر النقل عنه المحدّث الحرّ العامليّ في جامعه الكبير وينهي إسناده إلى أئمّة أهل البيت (1).

قال ابن عمر : إنّ قريشاً قالت : إنّك تكتب عن رسول اللّه وهو بشر يغضب يعنون به أنّه يقول عند الغضب باطلاً ، فعرضت كلامهم على رسول اللّه قال : « اكتب فإنّي لا أقُولُ إلاّ حقّاً » أو أشار إلى شفتيه وقال : « لا يخرُجُ منهُما إلاّ الحقّ اكتُب »(2).

وقد أملى رسول اللّه كثيراً من الأحكام على ( علي ) فدوّن أمالي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حياته ، واشتهر بكتاب عليّ ، وقد روى عنه البخاريّ في صحيحه في باب كتابة الحديث وباب « إثم من تبرّأ من مواليه ».

وقد أكثر عنه النقل الإمامان الباقر والصادق علیهماالسلام ورآه كثير من أصحابهما كزرارة بن اُعين ومحمد بن مسلم وأبي بصير ونظرائهم.

وأخرج الشيخ أو العباس النجاشي ( المتوفّى عام 450 ) في ترجمة « محمّد بن عذافر » عن عذار الصيرفيّ قال : كنت مع الحكم بن عيينة ، عند أبي جعفر محمّد بن علي الباقر علیه السلام فجعل يسأله وكان أبو جعفر له مكرهاً فاختلفا في شيء ، فقال أبو جعفر : « يا بنيّ قم فأخرج كتاب عليّ » فاخرج كتاباً مدرجاً عظيماً ، ففتح وجعل ينظر حتى أخرج المسألة ، فقال أبو جعفر : « هذا خطّ عليّ وإملاء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأقبل على الحكم وقال : « يا أبا محمّد : إذهب وسلمة والمقداد حيث شئتم يميناً وشمالاً ، فواللّه لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرائيل » (3).

والحديث عمّا كتبه عليّ علیه السلام كثير ، وأخرج المشايخ والمحمّدون الثلاثة روايات جمّة عنه ينتهون بإسنادها إلى أئمة الحديث مبثوثة في كتب الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحجّ والجهاد والأمر بالمعروف والتجارة والوصايا والطلاق والنكاح

ص: 450


1- راجع وسائل الشيعة كتاب القصاص.
2- مستدرك الحاكم 1 : 4.
3- فهرست النجاشيّ : 255 ( طبعة الهند ).

والأطعمة والأشربة والحدود والقصاص والديات والقضاء والأيمان والصيد والميراث وإحياء الموات (1).

ثمّ إنّ الشيعة في الصدر الأوّل اقتفوا أثر إمامهم في الكتابة والتأليف فاهتمّوا بجمع أحاديث الأحكام والفرائض والقضايا وأخبار المغازي ، وتراجم الرجال وقد جمع أسماءهم الشيخ أبو العباس النجاشيّ في أوّل رجاله.

ثمّ الذين نشأوا بعد الطبقة الاُولى نهجوا منهاج سلفهم ، حذو القذّة بالقذّة في كلّ قرن وجيل ؛ رغم ما كانت تواجههم من الظروف القاسية والكوارث الداهمة ورغم ما كانوا يعانون من السلطات الغاشمة ...

فإنّ الشيعة رغم كلّ تلك المصاعب ألّفوا كتباً ثمينة جمعوا فيها شذرات الحديث وشوارد السير واُصول الأخلاق ، ونهضوا بهذه المهمّة بعزم راسخ لا يعرف الكلل والملل مثابرين على العمل ، ومعانين في طريق هدفهم كثيراً من الأذى حفاظاً على حياض الشريعة الإسلاميّة وصوناً لكنوزها ، وبثّاً لتعاليم الحنيفيّة البيضاء.

وقد ترجم الشيخ أبو العباس النجاشيّ صاحب الفهرست المعروف في صدر كتابه بعض رجال الشيعة ممّن يعدّون من المؤلّفين في الطبقة الاُولى.

ودونك أسماء عدّة منهم من الذين ذكرهم الشيخ أبو العباس النجاشيّ بهذا العنوان في أوّل فهرسته :

1. أبو رافع ؛ مولى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وصاحب بيت مال أمير المؤمنين عليّ علیه السلام صنف كتاب السنن والأحكام والقضايا.

2. عبيد اللّه بن أبي رافع ؛ كاتب أمير المؤمنين وأوّل من ألّف في الرجال ، ترجم من أصحاب الرسول صلی اللّه علیه و آله من شهد منهم حروب أمير المؤمنين علیه السلام الجمل وصفين.

ص: 451


1- راجع وسائل الشيعة في هذه الكتب وقد جمع العلاّمة الشيخ الأحمديّ في كتابه القيّم « مكاتيب الرسول » 1 : 82 - 88 ما بثّه صاحب الوسائل في جامعه على نسق الكتب الفقهيّة.

3. عليّ بن أبي رافع ؛ كاتب أمير المؤمنين علیه السلام صنف كتاباً في فنون من الفقه : الوضوء والصلاة وسائر الأبواب.

4. ربيعة بن سميع ؛ صنّف كتاب زكاة النعم على ما سمعه عن أمير المؤمنين علیه السلام في صدقات النعم وما يؤخذ من ذلك.

5. أبو صادق سليم بن قيس الهلالي ؛ صاحب أمير المؤمنين ألّف أصله المعروف المطبوع.

6. الأصبغ بن نباتة المجاشعيّ ، من خيار أصحاب أمير المؤمنين ومن شرطة الخميس له كتاب عهد أمير المؤمنين إلى مالك الأشتر النخعيّ ووصيّته إلى ابنه محمّد بن الحنفيّة.

7. أبو عبد اللّه سلمان الفارسي ؛ له كتاب ( خبر جاثليق ) وقد أملى الخطبة الطويلة والاحتجاجات.

8. أبو ذرّ الغفاري ؛ له كتاب وصايا النبيّ وشرحه العلاّمة المجلسي وأسماه عين الحياة.

هذا حال الطبقة الاُولى منهم وأمّا الذين أتوا بعدهم فالرواة منهم المعاصرون للأئمّة الهداة في مجموع القرنين منذ قبض الإمام أمير المؤمنين علیه السلام إلى عصر العسكري علیه السلام لم يؤثر عنهم فتور في تدوين العلوم وضبط الحديث ، وجمع قواعد الفقه وتنسيق طبقات الرجال وضمّ حلقات التفسير وإتقان مباني واُسس الكلام إلى غير ذلك.

كلّ ذلك يشهد على مبلغ اهتمامهم بتلقّي أنواع المعارف والعلوم من معادنها في السرّ والعلانية ، وتغنينا عن إفاضة القول وسرد الشواهد ، الفهارس المؤلّفة لكتب الشيعة في القرون الإسلاميّة الغابرة ولا سيّما ما ألّفه العلاّمة المتتبّع المغفور له الشيخ أغا بزرگ الطهرانيّ في أثره الخالد ( الذريعة إلى تصانيف الشيعة ) المطبوع في خمسة وعشرين جزء.

ص: 452

وأظنّ أنّ الموضوع لا يحتاج إلى أن نتوسّع فيه أكثر من ذلك ... وهذا كتاب اللّه سبحانه يحثّ في أطول آيات كتابه (1) على كتابة ما يتوصّل بها إلى حفظ عرض دنيويّ زائل ومتاع مندثر ، أفلا يجوز لنا من هذا الحثّ الأكيد استنباط لزوم الاهتمام بما ننال به المقاصد العالية ويفوز الإنسان به بالسعادة الخالدة ؟

حول الحديث الموضوع

وبعد ذلك كله لا اعتبار بما نسبوه إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من أنّه قال : « لا تكتبوا عنّي شيئاً سوى القرآن فمن كتب عنّي غير القرآن فليمحه » (2) أو أنّه لم يأذن بكتابة الحديث على ما رواه الترمذيّ عن أبي سعد قال : استأذنا النبيّ في الكتابة فلم يأذن لنا (3).

وأغرب منه ما رواه الحاكم بسنده عن عائشة قالت : جمع أبي الحديث عن رسول اللّه فكانت خمسمائة حديث فبات يتقلّب ، قالت فغمّني كثيراً ، فقلت يتقلّب لشكوى أو لشيء بلغه ، فلّما أصبح قال : أي بنيّة هلمّي الأحاديث التي عندك ! فجئته بها فأحرقها ، وقال خشيت أن أمُوت وهي عندك فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ولم يكن كما حدّثني فأكون قد تقلّدت ذلك (4).

وأظنّ أنّ ما اُلصق برسول اللّه من مختلقات الحديث وضعها القائل أو القائلون لأغراض وغايات سياسيّة وأظنّ أنّ الذي دفع الوضّاعين إلى إعزاء ما اختلقوه إلى رسول اللّه أحد أمرين أو كليهما :

إمّا لأنّ المعتمد في كتابة أحاديث الرسول آنذاك كان هو الإمام عليّ علیه السلام دون سائر الصحابة ، وكان ذلك يعدّ فضيلة رابية للإمام ، فحاول أعداؤه ومناوؤه طمسها فاختلقوا ما اختلقوا لكي يصبح عمل الإمام في استقلاله بالتدوين ، أو تبرّزه في هذا الباب عملاً غير مشروع.

ص: 453


1- سورة البقرة 2 : الآية (282) آية الدين.
2- رواه الدارميّ في مقدّمة سننه.
3- صحيح الترمذيّ 2 : 91 ( طبعة الهند ).
4- جمع الجوامع للسيوطيّ 2 : 147.

وإمّا لأنّ تلك الأحاديث فيها الكثير ممّا قاله النبيّ صلی اللّه علیه و آله في فضل عليّ علیه السلام وعظم شأنه ، فلو سوّغت كتابة الأحاديث وأحاط بها الناس علماً وتناقلها المسلمون في شتّى الأقطار ، لأدّت إلى ظهور الإمام علیه السلام على سائر الصحابة ، وكونه الأحقّ في تسنّم منصب الخلافة بعد الرسول وفي ذلك ما فيه من الخطر على من تسنّموا عرشها بغير حقّ وبغير دليل.

فلو كان كتابة الحديث وضبطه في الصحائف والجلود أمراً مرغوباً عنه فلماذا أملى النبيّ بنفسه كتباً في الشرائع والأحكام وجهّز بها رسله وعماله في الأقطار المفتوحة.

ولو كان نهي النبيّ بمرأى ومسمع من أصحابه وأنصاره ، فلماذا استفتى عمر أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في ذلك فأشاروا عليه أن يكتب فطفق عمر يستخير اللّه شهراً ثمّ أصبح يوماً وقد عزم اللّه له فقال : إنّي كنت اُريد أن أكتب السنن وإنّي ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبّوا عليها وتركوا كتاب اللّه وإنّي واللّه لا أشوب كتاب اللّه بشيء أبداً ولا اُلبس كتاب اللّه بشيء أبداً (1).

والعذر الذي جاء به الخليفة في كلامه يشبه ما في كلام بعضهم في تفسير نهي النبيّ عن الكتابة من أنّ نهيه صلی اللّه علیه و آله عن كتابة الحديث كان لخوفه صلی اللّه علیه و آله من اختلاط الحديث بالقرآن.

ولا يخفى ما فيه من الخبط والخطأ فإنّ ما يفسده أكثر ممّا يصلحه إذ معنى ما ذكره هو إبطال معجزة القرآن وهدم اُصولها من القواعد ، وإنّ معنى ذلك كون بلاغة القرآن والحديث والخطب المرويّة من باب واحد هو باطل ، واللّه سبحانه يقول : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) ( الإسراء : 88 ).

وقد حقّق في محلّه أنّ القرآن وحي بلفظه ومعناه ، لا يشبه كلام الإنسان من حيث

ص: 454


1- رواه الكاتب المتتبع المعاصر أبو ريّه عن الحافظ بن عبد ربه والبيهقي في أضواء على السنّة المحمديّة ص 43.

الصياغة والانسجام ، والحديث وحي بمعناه دون لفظه ، فهو من جهة اللفظ والصياغة كلام بشريّ يمكن مباراته.

وهناك عذر آخر لا يقلّ في الوهن والضعف عن الأوّل جاء به بعض المعاصرين قال : يمكن أن تكون حكمة النهي عن كتابة الحديث هو أن لا تكثر أوامر التشريع ، ولا تتّسع أدلّة الأحكام وهو ما كان يتحاشاه صلی اللّه علیه و آله حتّى كان يكره كثرة السؤال ، أو يكون من أحاديث في اُمور خاصّة بوقتها بحيث لا يصح الاستمرار في العمل بها. ونحن لا نعلّق عليها إلاّ شيئاً طفيفاً إذ القارئ الكريم أعرف بحالها ، إذ أي صلة بين كتابة حديث نافع وسنّة متّبعة تتّصل بحياة المسلمين الفرديّة والاجتماعيّة وتحتلّ مكاناً سامياً في استنباط كثير من الأحكام التي كانوا يواجهونها بعد عصر الرسالة عندما توسّعت الحكومة الإسلاميّة وتلوّنت حياتهم بألوان حضارة جديدة ، ولم يكن لهم بها عهد في عصر النبيّ صلی اللّه علیه و آله وبين كثرة السؤال عن أشياء لا تهمّ السائل معرفتها.

على أنّ ما اعتذر به الكاتب في تصحيح النهي عن تدوين السنّة يستدعي النهي عن كتابة القرآن وهما في المقام سواسية ، لأنّ عمق معاني القرآن وغزارة مقاصده تؤدّي بالباحث إلى كثرة التساؤل واتّساع أدلّة الأحكام وتكثر أوامر التشريع ، وبالتالي يستلزم تسلسل الأسئلة.

ولا يتردّد المحقّق الباحث في أنّ ما عزوه إلى النبيّ من مخاريق الأوهام الباطلة التي نحتوها لأغراض سياسيّة ، لتصحيح فعل الخليفة ونهيه عن كتابة الحديث وسنّة النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله .

وما ارتكبه الخليفة عثرة لا تقال ، فاللّه يعلم كم خسر الإسلام والمسلمون من جرّائها لولا أن تدارك الخسران العظيم عمر بن عبد العزيز فكتب من الشام إلى أبي بكر ابن حزم وهو من كبار المحدّثين بالمدينة : انظر من حديث رسول اللّه فاكتبه ، فإنّي خفت دروس العلم وذهاب العلماء (1).

ص: 455


1- صحيح البخاريّ 1 : 27 كتاب العلم.

برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها

2

الحكومة الإسلاميّة والحقوق الفرديّة والاجتماعيّة

حاجة المجتمعات إلى الحقوق

بما أنّ الإنسان بطبيعته ذو تطلّعات وحاجات تزداد بتوسّع التمدّن وتقدّم الحضارة ، وبما أنّ الحياة الاجتماعيّة لا تنفكّ عن إقامة العلاقات والروابط بين أبناء البشريّة ، وبما أنّ وصول الأفراد إلى تطلّعاتهم وحاجاتهم لا ينفكّ عن التزاحم والتصادم والاختلاف والتشاجر ، كان لا بدّ من حلّ هذا الاختلاف والتنازع ، ووضع العلاقات الاجتماعيّة في الإطار الصحيح.

وقد كان هذا الحلّ يتمّ - في العصور السابقة - بالقوّة ، وقدرة السلاح وكان المنطق الحاكم هو ( الحقّ لمن غلب ) ، غير أنّ تقدّم البشريّة في مدارج التربية أوجد لديها فكرة التنظيم وحلّ الاختلافات بين أفراد البشر بغير وسيلة القوّة ، والسلاح ، ومن هنا تكوّن ما يسمّى بعلم الحقوق ، فعلم الحقوق عبارة عن الاُصول والقواعد التي تنظّم علاقات الأفراد ، والتي يجب أن تسود المجتمعات حتماً ، ولا يتخلّف عنها أحد أبداً.

ص: 456

وبعبارة اُخرى ؛ إنّ الحقوق عبارة عن ( مجموع القواعد والقوانين المقرّرة لحفظ الأفراد وترقية المجتمع البشريّ ، وعلى ذلك ينطبق علم الحقوق على قسم من الفقه الإسلاميّ ، ويكون شعبة من الفقه ).

ولقد كان الفقه الإسلاميّ القانون الوحيد الحافظ لحقوق الأفراد والجماعات في الشرق الإسلاميّ إلى أوائل القرن الرابع عشر حتّى أن قامت الثورات الشعبية (؟) وأسّست مجالس الاُمّة ، وسنّت القوانين الجديدة ، وتركت القوانين الإسلاميّة جانباً وقد خسر المسلمون ، بالعدول عن القوانين الإسلاميّة إلى تلك القوانين البشريّة المقتبسة من الغرب ، خسر المسلمون - بسبب ذلك - العدل والرحمة ، والإنسانيّة والاستقرار والدقّة.

تقسيمات الحقوق
اشارة

لقد قسّم علماء الحقوق القوانين والحقوق (1) إلى :

أ - داخليّة ؛ تختصّ بالعلاقات المتقابلة بين أفراد الاُمّة الواحدة.

ب - خارجيّة ؛ تختص بالعلاقات المتقابلة بين الاُمم والدول المختلفة.

وكلّ من الداخليّة والخارجيّة ينقسمان إلى خاصّة ، وعامّة ، وإليك فيما يأتي تفصيل هذه التقسيمات إجمالاً :

أ - الحقوق الداخليّة

والعامّة منها تنقسم إلى ثلاث شعب هي :

الاُولى / القانون الأساسيّ الذي يقوم في إطاره كلّ الروابط والعلاقات بين الأفراد ، وتقوم كلّ التشكيلات الحاكمة على حياة الاُمّة ... فهو بمثابة ( الاُسس الكليّة لأي

ص: 457


1- ليس المراد بالحقوق - هنا - هو المعنى الخاصّ له ، بل هو مطلق القوانين ولذلك يكون الحقوق بمعناه الخاصّ المصطلح فقهياً جزءاً من هذا البحث.

نظام ).

الثانية / القوانين المختصّة بالدوائر الحكوميّة وحدود وظائفها ، وما يحدّد علاقات الأفراد ( موظّفين ومراجعين ) بها.

الثالثة / الحقوق والقوانين الجزائيّة التي يتميّز بها المعتدي عن غير المعتدي والمجرم عن غير المجرم ، وتكون مانعة للأفراد عن الأعمال والتصرّفات المخلّة بالنظام.

وأمّا الخاصّة فهي تنقسم أيضاً إلى ثلاث شعب هي :

الاُولى / الحقوق المدنيّة وهي المتعلّقة بالأفراد في إطار العلاقات العائليّة والتي تسمّى الآن بالأحوال الشخصيّة ، كالنكاح والطلاق والميراث وما شابه.

الثانية / القوانين والمسائل المرتبطة بالقضاء التي يستطيع الأفراد بالتوسّل بها أن يستوفوا حقوقهم الضائعة.

الثالثة / القوانين المتعلّقة بالعلاقات والمبادلات التجاريّة.

ب - الحقوق الخارجيّة ( الدوليّة )

والعامّة منها هي التي تبيّن وترسم كيفية علاقات الدول مع الدول ، والحكومات مع الحكومات ، ويندرج في ذلك المعاهدات وغيرها ممّا يدور بين الدول.

والخاصّة ، هي التي ترتبط بعلاقة الدولة أو أفراد الشعب مع أتباع دولة اُخرى.

هذه هي ثمانية أنواع من القوانين والحقوق حسب التقسيم الحديث.

الإسلام والحقوق

لقد حظيت الحقوق - في الفقه الإسلاميّ - بأفضل مكانة في تشريعاته وتعاليمه بل إنّ الحقوق التي رسمها الإسلام وبيّنها على لسان القرآن أو السنّة الشريفة تعتبر من أدقّ ، وأمتن الحقوق ، وأكثرها إنسانيّة ورحمة وعقلانيّة. غير أنّ هناك - مضافاً إلى ذلك - خصائص تمتاز بها الحقوق الإسلاميّة عن الحقوق التي تطرحها القوانين البشريّة

ص: 458

الوضعيّة هي :

أوّلاً : انّ الحقوق والقوانين التي جاء بها الإسلام تستمدّ اُصولها ، وجزئياتها من ( الوحي الإلهيّ ) ، ولذلك فهي لا تقبل التغيير والتبديل ، ولكنّ الحقوق التي طرحتها الأنظمة البشريّة فحيث أنّها تنبع من العلم البشريّ المحدود فهي تتعرّض دائماً للتغيير ... والتطوير لضيق آفاق العقل البشريّ.

ثانياً : أنّ الحقوق في الإسلام حيث تكون تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية ونابعة من الملاكات الحقيقيّة فإنّها لا تخضع لأيّ زيادة أو نقصان وأيّ تطوير وتحوير ، لانّها تقوم على أساس الواقع الإنسانيّ الثابت ، والفطرة الحقيقيّة التي لا تتغيّر ، والمصالح والمفاسد الموجودة في أفعال الإنسان وأعماله ، ولكنّ الحقوق التي عرضتها الأنظمة والقوانين الوضعيّة حيث تنبع من الأهواء والميول والرغبات الفرديّة أو الجماعيّة فإنّها كثيراً ما تنالها أيدي التطوير والحذف لما يظهر فيها من عجز وضعف.

نعم إنّ القوانين والحقوق الإسلاميّة وإن كان بعضها يتغيّر شكلاً وإطاراً لكنّها لا تتغيّر جوهراً ومضموناً ، ولقد أشبعنا القول في هذا الأمر في بحث الخاتميّة (1).

ثالثاً : إنّ القوانين الإسلاميّة حيث تكون صادرة من مصدر ربّانيّ وتكون موجّهة إلى مؤمنين معتقدين بشرائعه ووعوده ومواعيده تتمتّع طبعاً وبالذات بخاصّية الانقياد النفسيّ والخضوع الكامل والطاعة التامّة لها.

وحيث تكون القوانين الوضعيّة البشريّة صادرة من الأدمغة البشريّة لا يجد الإنسان أي دافع ذاتيّ إلى التقيّد بها وتطبيق العمل عليها إلاّ بدافع الإكراه وتحت طائلة القانون ، وخوفاً من سلطات الدولة.

ولا يخفى على أي ذي لبّ رجحان الأوّل على الثاني في ميزان الحياة.

ثمّ إنّ اُمّهات هذه التقسيمات الحديثة الثمانية من القوانين والحقوق موجودة

ص: 459


1- راجع هذا البحث في الجزء الثالث من المجموعة القرآنيّة التي تفسير الآيات تفسيراً موضوعياً وفي ضوء القرآن.

بمغزاها في التشريع الإسلاميّ وإن لم تكن تحت العناوين والتسميات الحديثة فالقانون الأساسيّ في الإسلام هو عبارة عن الأحكام والاُصول الكليّة الموجودة في الكتاب والسنّة غير المتغيّرة عبر الزمان والمكان ، والتي يجب أن يقوم عليها كلّ تخطيط وتنظيم لحياة المسلمين في جميع المجالات.

أمّا النظام الإداريّ ( وهو القسم الثاني من الحقوق الداخليّة العامّة ) فتجدها مذكورة بتوسّع وتفصيل في كتب الفقه وقد أخذها فقهاء الإسلام من سيرة النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله وسنّته الشريفة ، وسيرة الإمام عليّ وكلماته علیه السلام وغيرهما في المجال الإداريّ والتدبير الحكوميّ ، ويمكن للقارئ الكريم أن يقف على الكثير منها في الكتابين التاليين :

1. الراعي والرعيّة للفكيكيّ.

2. نظام الحكم والإدارة في الإسلام للقرشيّ وغيرهما.

وأمّا الحقوق والقوانين الجزائيّة فقد ألّف فيها علماء الإسلام المطوّلات والمختصرات التي تحتوي على تفصيلاتها وجزئيّاتها فلاحظ كتب الحدود والقصاص والديات ... هذا كلّه في مجال الحقوق والقوانين الداخليّة العامّة.

وأمّا الداخليّة الخاصّة الراجعة إلى العلاقات العائليّة والشخصيّة فقد بسط فيها الفقهاء القول تحت عنوان « الأحوال الشخصيّة » والمذكورة - قديماً - تحت عناوين النكاح والطلاق والميراث والوصايا وما شابهها.

وأمّا ما يرجع إلى القضاء فقد بحث عنها الفقهاء تحت عنوان القضاء والشهادات.

وأمّا ما يرجع إلى ( العلاقات التجاريّة ) فقد بيّن الفقهاء أحكامها المفصّلة في كتبهم تحت العناوين التالية : التجارة ، الخيار ، السلف ، المفلس ، الحجر ، الضمان ، الصلح ، العارية ، الوديعة ، الشركة ، المضاربة ، المزارعة ، المساقاة ، الإجارة ، الوكالة ، الوقف ، السبق والرماية.

ص: 460

وأمّا ما يتعلّق بالحقوق والقوانين الدوليّة بعامّتها وخاصّتها فسيوافيك الحديث عنها في بحث خاصّ تحت عنوان : « السياسة الخارجيّة في الحكومة الإسلاميّة ».

إنّ من له أدنى إلمام بالفقه الإسلاميّ يجده غنيّاً عن أي تشريع بشريّ وأيّ قانون وضعيّ.

ولو أنّ المسلمين - اليوم - أخذوا بالتشريع الإسلاميّ كاملاً ، وفرّعوا الفروع ، واجتهدوا على أساسه لوجدوه ووجدوا أنفسهم في غنى عن أي اقتباس من هنا أو هناك ، وللتأكّد من هذه الحقيقة الساطعة لاحظ - أيّها القارئ الكريم - كتاب « تحرير الأحكام الشرعيّة على مذهب الإماميّة » في تمام الفقه ، لآية اللّه العلاّمة الحليّ المولود عام ( 648 ه ) والمتوفّى عام ( 726 ه ) والذي اقتصر فيه المؤلّف على مجرّد الفتوى ، وترك الاستدلال ولكنّه استوعب الفروع والجزئيّات حتّى أنّه اُحصيت مسائله فبلغت أربعين ألف مسألة ، رتّبها على ترتيب كتب الفقه في أربع قواعد للعبادات والمعاملات والإيقاعات والأحكام (1).

ولهذا فإنّ الحضارة الغربيّة لمّا داهمت المسلمين لم تخلب عقولهم من الناحية الحقوقيّة ، والقانونيّة ، وإن خلبتهم من ناحية التكنولوجيا والصناعة وذلك لما كان يتمتّع به المسلمون من الغنى الفقهيّ بفضل التشريع الإسلاميّ الواسع الأطراف من جانب ، وما كانوا يعانون منه من الفقر في الجانب التكنولوجيّ حيث أنّهم كانوا قد تركوا الغور في العلوم الطبيعيّة منذ زمن طويل ، وإن كان أسلافهم قد بدأوها وأبدعوا فيها ، وأتوا بابتكارات لا سابق لها.

شموليّة الحقوق الإسلاميّة

يبقى أن نعرف أنّ الحقوق التي جاء بها الإسلام لا تقتصر على الاُمور المذكورة في الكتب الفقهيّة ، بل هناك حقوق أخلاقيّة بين الأفراد والأفراد ، بل وبين الإنسان

ص: 461


1- لاحظ كتاب الذريعة 3 : 378.

والحيوان (1) ، والإنسان والأشياء الاُخرى (2) في عالم الطبيعة ، وهي تعكس دقّة الإسلام وعمق نظره ، وسعة اُفقه التشريعيّ ، وشموليّة بعده الفقهيّ وتفوّقه على ما يسمى الآن بميثاق حقوق الإنسان وغيره الرائج في الغرب.

وبهذا يكون الإسلام قد امتاز على القوانين الوضعيّة بميزة اُخرى مضافاً إلى الميزات السابقة المذكورة ، وهي ميزة الشموليّة.

وأنت أيّها القارئ الكريم إذا أردت أن تقف على الحقوق الإسلاميّة بشكل إجماليّ فعليك بمراجعة الكتب والرسائل التالية :

1. رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليّ بن الحسين علیهماالسلام .

2. رسالة الحقوق للشيخ الصدوق المعروفة برسالة مصادقة الإخوان وقد طبعت.

3. الحقوق للعلاّمة السيد صدر الدين المتوفّى بقم عام ( 1373 ه ) أورد فيه اثنين وستّين حقّاً ، وقد طبع.

4. حقوق المؤمنين للشيخ الحسين بن سعيد الأهوازيّ وهو مخطوط.

وهناك مؤلّفات اُخرى لمشايخنا الإماميّة حول الحقوق العامّة والخاصّة وحول الفرق بين الحقّ والحكم وقد طبع بعضها ولا زال أكثرها مخطوطاً.( لاحظ الذريعة 7 : 39 - 47 ).

هذا وحيث أنّ حقوق الأقليّات في المجتمع الإسلاميّ تحظى بأهميّة خاصّة ولها صلة شديدة بالحكومة الإسلاميّة أفردنا لها البحث التالي ، ونحيل البحث عن سائر الحقوق بالتفصيل إلى الكتب المعدّة لها وكذا أفردنا للحقوق الدوليّة فصلاً آخر.

ص: 462


1- لاحظ وسائل الشيعة كتاب الحجّ الجزء الثامن أبواب أحكام الدواب الصفحة 339 - 397 فقد عقد فيها الشيخ الحرّ العامليّ 53 باباً في أحكام الدواب وحقوقها ، وفصّل حقوق الحيوان في كتاب الجواهر 31 : 349 - 398 ، فقد بحث ذلك الفقيه المحقّق الذي كان يعيش في القرن الثالث عشر الهجري حقوق الحيوان على ضوء الإسلام قبل أن يعرف العالم الحديث قضيّة الرفق بالحيوان.
2- وإلى ذلك يشير قول الإمام عليّ علیه السلام في نهج البلاغة : « فإنّكُم مسؤولون حتّى عن البقاع والبهائم » الخطبة 162 ( طبعة عبده ).

الأقليّات الدينيّة في الحكومة الإسلاميّة

اشارة

إنّ حكومة تقوم على أساس الإيمان باللّه سبحانه وعلى أساس الشريعة الإلهيّة لا يمكن أن تكون معاملتها وموقفها من الأقليّات الدينيّة إلاّ أفضل موقف ، وأحسن معاملة وأقربها إلى الإنسانيّة والعدل والنصفة والحقّ وإليك ملامح من هذه المعاملة الحسنة العادلة فيما يأتي :

1. الإعتراف بحقوق الأقليّات

إنّ أبرز ما يتجلّى في معاملة الحكومة الإسلاميّة للأقليّات الدينيّة هو الاعتراف بحقوقهم الطبيعيّة في العدل والقسط وغيره ، فها هو القرآن الكريم يبيّن بكلّ صراحة سياسة الإسلام الكليّة بالنسبة إلى حقوق الشعوب غير المسلمة سواء أكانوا أهل الكتاب أم لا إذ يقول : ( لا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( الممتحنة : 8 ).

فهذه الآية تفيد أنّ الأقليّات والشعوب غير المسلمة تحظى بالاحترام وتستحقّ العدل والقسط إذا لم تعلن حرباً على المسلمين ، ولم تخرجهم من مساكنهم وأوطانهم ، ولم تتآمر ضدّهم ، فإذن ينبغي أن يشلمها المسلمون بالعدل والإنصاف والبرّ ، وبهذا يسمح النظام الإسلاميّ للأقليّات الدينيّة أن تعيش ضمن المجتمع الإسلاميّ وتستفيد من الحقوق الإنسانيّة في الحياة الآمنة.

نعم إنّ القرآن الكريم ينهى عن المعاشرة السلميّة مع الفرق والجماعات التي تتآمر ضدّ الإسلام ومصالح المسلمين ، إذ يقول : ( إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ( الممتحنة : 9 ).

ص: 463

إنّ سياسة الإسلام العامّة اتّجاه الأقليّات الدينيّة تفهم من هاتين الآيتين جيّداً فالأقليّات الدينيّة - حسب هاتين الآيتين - محترمون في البلاد الإسلاميّة وعلى المسلمون أن يعايشونهم ويعترفوا لهم بحقوقهم في الحياة الآمنة ما لم يتجاوز أبناؤها وأعضاؤها على حقوق الأكثريّة المسلمة ، ولم تتآمر ضدّ الإسلام ، فإذا تآمرت ، وتحالفت مع أعداء الإسلام ومعارضيه وخصومه ، ارتفعت عنهم هذه الحصانة الإسلاميّة وجاز للمسلمين أن يقفوا ضدهم ... ولا يوادّوهم.

ولقد بلغت هذه الحريّة والاحترام إلى درجة لو فعل أهل الذمّة ما هو سائغ في شرعهم وليس بسائغ في الإسلام كشرب الخمر لم يتعرّض لهم ما لم يتجاهروا به ، نعم إن تجاهروا به عمل بهم ما تقتضيه الجناية بموجب الشرع.

وإن فعلوا ما ليس بسائغ في شرعهم (1) كالزنا واللواط ، فالحكم فيه أيضاً كما في المسلم. وإن شاء الحاكم رفعه إلى أهل نحلته ليقيموا الحدّ فيه ، بمقتضى شرعهم كما لو تحاكم إلينا ذميّان كان الحاكم مخيّراً بين الحكم عليهما بحكم الإسلام وبين الإعراض عنهم لقوله سبحانه : ( فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) ( المائدة : 42 ).

2. حسن المعاشرة مع الأقلّيات

إنّ الإسلام يحث المسلمين على الإحسان إلى أهل الكتاب ، وأخذهم بحسن المعاشرة واحترام عقائدهم وإبقائهم على دينهم إذا هم اختاروا ذلك ، قال اللّه تعالى : ( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ ) ( العنكبوت : 46 ).

وقال الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « من ظلم مُعاهداً وكلّفهُ فوق طاقته فأنا حجيجهُ يوم القيامة » (2).

ص: 464


1- لاحظ في ذلك جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 21 : 31.
2- فتوح البلدان للبلاذريّ : 167 ( طبعة مصر ).

وقال : « من آذى ذميّاً فأنا خصمُه ومن كُنتُ خصمهُ خصمتُهُ يوم القيامة » (1).

وكتب النبي صلی اللّه علیه و آله لأبي الحارث بن علقمة أسقف نجران :

« بسم اللّه الرّحمن الرحّيم. من محمّد النبيّ إلى الأسقف أبي الحارث وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم ، أنّ لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير من بيعهم وصلواتهم ورهبانيّتهم وجوار اللّه ورسوله ، لا يغيّر أسقف من أسقفيّته ، ولا راهب من رهبانيّته ولا كاهن من كهانته ، ولا يغيّر حق من حقوقهم ولا سلطانهم ولا شيء ممّا كانوا عليه ما نصحوا وصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم ولا ظالمين وكتب المغيرة » (2).

وإليك نموذج آخر من هذه العهود :

( بسم اللّه الرحّمن الرّحيم ، وبه العون ، هذا كتاب كتبه محمّد بن عبد اللّه إلى كافّة النّاس أجمعين بشيراً ونذيراً ، ومؤتمناً على وديعة اللّه في خلقه لئلاّ يكون للنّاس على اللّه حجّة بعد الرّسل ، وكان اللّه عزيزاً حكيماً ، كتبه لأهل ملّته ، ولجميع من ينتحل دين النّصرانيّة من مشارق الأرض ومغاربها ، قريبها وبعيدها ، فصيحها وعجميها ، معروفها ومجهولها ، كتاباً جعله لهم عهداً ، ومن نكث العهد الّذي فيه وخالفه إلى غيره ، وتعدّى ما أمره كان لعهد اللّه ناكثاً ، ولميثاقه ناقضاً وبدينه مستهزئ ، وللّعنته مستوجباً ، سلطاناً كان أم غيره من المسلمين المؤمنين ، وإن احتمى راهب أو سائح في جبل أو واد أو مغارة أو عمران أو سهل أو رمل أو ردنة أو بيعة فأنا أكون من ورائهم ذابّ عنهم ، من كلّ عدة لهم ، بنفسي وأعواني ، وأهل ملّتي وأتباعي ، كأنّهم رعيّتي ، وأهل ذمّتي وأن أعزل عنهم الأذى في المؤن التي تحمل أهل العهد من القيام بالخراج إلاّ ما طابت به نفوسهم وليس عليهم جبر ولا إكراه على شيء من ذلك ، ولا يغيّر أسقف من أسقفيّته ، ولا راهب من رهبانيّته ، ولا حبيس من صومعته ، ولا سائح من سياحته ، ولا يهدم بيت من بيوت

ص: 465


1- روح الدين الإسلاميّ : 274.
2- الطبقات الكبرى 1 : 266 ، والبداية والنهاية 5 : 55 ، والوثائق السياسيّة : 115 رقم 95 كما في مكاتيب الرسول 2 : 333.

كنائسهم وبيعهم ، ولا يدخلُ شيء من مال كنائسهم في بناء مسجد ولا في منازل المُسلمين فمن فعل شيئاً من ذلك فقد نكث عهد اللّه ، وخالف رسُولهُ ، ولا يحملُ على الرّهبان والأساقفة ، ولا من يتعبّد جزيةً ولا غرامةً ، وأنا أحفظُ ذمّتهم أينما كانُوا من برّ أو بحر ، في المشرق والمغرب والشّمال والجنُوب. وهُم في ذمّتي وميثاقي وأماني من كُلّ مكرُوه.

وكذلك من ينفرد بالعبادة في الجبال والمواضع المُباركة ، لا يلزمُهُم ما يزرعُوهُ ، لا خراج ولا عُشر ، ولا يُشاطرُونهُ لكونه برسم أفواههم ، ويُعانُوا عند إدراك الغُلّة بإطلاق قدح واحد ، من كلّ أردب برسم أفواههم ، ولا يُلزمُوا بخرُوج في حرب ولا قيام بجزية ولا من أصحاب الخراج ، وذوي الأموال والعقارات والتّجارات ممّا أكثر [ من ] اثني عشر درهم بالحُجّة في كُلّ عام ، ولا يُكلّفُ أحداً منهُم شططاً ، ولا يُجادلُوا إلاّ بالتي هي أحسنُ ، ويُخفضُ لهُم جناحُ الرّحمة ويُكفّ عنهُم أدبُ المكرُوه حيثُما كانُوا وحيثُما حلّوا.

وإن صارت النصّرانيّةُ عند المُسلمين فعليه برضاها ، وتمكينها من الصّلوات في بيعها ، ولا يُحيلُ بينها وبين هوى دينها.

ومن خالف عهد اللّه ، واعتمد بالضدّ من ذلك ، فقد عصى ميثاقهُ ورسُولهُ ويُعانُوا على مرمّة بيعهم ومواضعهم ، ويُكونُ ذلك معونةً لهُم على دينهم ومعا [ وفاء ] لهُم بالعهد ، ولا يُلزمُ أحد منهُم بنقل السّلاح ، بل المُسلمين يذبّون عنهُم ولا يُخالفُوا هذا العهد أبداً إلى حين تقُومُ الساعة وتنقضي الدّنيا.

وشهد بهذا العهد الّذي كتبهُ مُحمّد بنُ عبد اللّه رسُول اللّه صلی اللّه علیه و آله لجميع النّصارى والوفاء بجميع ما شرط لهُم عليه عليّ بنُ أبي طالب و ... ) (1).

إنّ أبرز ما يتجلّى للقارئ في هذا العهد النبويّ للنصارى اُمور :

1. مدى الحريّة العقائديّة المعطاة من جانب الإسلام للأقلّيات الدينيّة.

ص: 466


1- مجموعة الوثائق السياسيّة : 373 ، كما عن أحمد زكي باشا ، رسالة صورة العهد النبويّة الطوريّة عن خطية دار الكتب المصريّة رقم 814 كما في مكاتيب الرسول 2 : 635.

2. سعة الحماية التي تقوم بها الحكومة الإسلاميّة لهذه الأقليّات.

3. سعة الرحمة التي يشمل بها الدين الإسلاميّ الأقليّات.

إلى غير ذلك من النقاط الكليّة والجزئيّة التي يقف عليها المتتبّع بالإمعان في هذه الوثيقة الإسلاميّة التاريخيّة التي تمثّل - في حقيقتها - سياسة الحكومة الإسلاميّة اتّجاه الأقليّات وتصوّر اُسس هذه السياسة وخطوطها العريضة التي لا تجد لها مثيلاً في الحقوق الدوليّة المعاصرة !! وما عليك أيّها القارئ الكريم إلاّ أن تقايس هذه الحريّة المعطاة للأقليّات في مجال العقيدة ، بما جرى على فروة بن عمرو الذي كان عاملاً للروم على من يليهم من العرب ، فلمّا بعث فروة رسولاً بإسلامه إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأهدى له بغلة بيضاء طلبه الروم حتّى أخذوه فحبسوه عندهم فلمّا قدموا ليقتلوه أنشأ فروة قائلاً :

بلّغ سراة المسلمين بأنّني

سلم لربّي أعظُمي وبناني (1)

بل وقايسه بما جرى وحلّ بالنصارى على أيدي كنائسهم في محاكم التفتيش في القرون الوسطى ، وما وقع من مجازر شملت آلاف الناس بمن فيهم العلماء والمفكّرون لأجل الاختلاف العقيديّ (2).

وقد ورد مفاد هذه الرسالة والوثيقة في وثائق وكتب اُخرى للنبيّ صلی اللّه علیه و آله اُعطيت لأهل الملل ، والعقائد غير الإسلاميّة رسم النبيّ صلی اللّه علیه و آله فيها خطوط التعايش السلميّ الذي أشار إليه القرآن الكريم ، الذي يقوم على احترام الحقوق والعقائد للأقلّيّات الدينيّة.

لقد كانت معاملة الرسول الحسنة مع أهل الكتاب وما يسمّى الآن بالأقليّات الدينيّة قدوة للمسلمين دائماً ، فهذا هو الإمام أمير المؤمنين عليّ علیه السلام يوصي واليه بأهل الذمّة فيقول : « ولا تبيعنّ للنّاس في الخراج [ وهو ما يؤخذ من الضرائب على الأراضي العامة ] كُسوة شتاء ، ولا سيفاً ولا دابّةً يعتملُون عليها ولا عبداً ولا تضربنّ أحداً

ص: 467


1- اُسد الغابة 4 : 178.
2- راجع ما كتبه ويل دورانت في قصّة الحضارة.

سوطاً لمكان درهم ، ولا تمُسّنّ مال أحد من النّاس مُصلّ ولا مُعاهد » (1).

كما أنّ الإمام عليّاً علیه السلام لما رأى ذات يوم شيخاً نصرانيّاً يستجدي ويتكفّف فقال : « ما هذا ؟ » قالوا : يا أمير المؤمنين ، نصرانيّ. فقال : « استعملتُمُوهُ حتّى إذا كبر وعجز منعتُمُوهُ. أنفقُوا عليه من بيت المال » (2).

ولقد كانت هذه السيرة مع الأقلّيّات الدينيّة هي سيرة أغلب قادة الإسلام فالتاريخ يحدّثنا : أنّ أحد الخلفاء مرّ على شيخ مضطرب الحال يتكفّف فسأل عنه ، ولمّا تبيّن له أنّه يهوديّ قال له : وما الذي دعاك إلى هذا.

فلمّا قال : إعطاء الجزية والحاجة ، والكبر ، أخذ الخليفة بيده ، وأدخله إلى منزله وسدّ حاجته بمبلغ من المال وأوصى خازن بيت المال وأمره أن يرفق به ويراعي حاله ، وحال من يشابهه وقال : « ليس من النصفة أن نستعمله في شبابه ونتركه في كبره » (3).

على أنّ الإسلام لم يكتف بهذا القدر من الاحترام وحسن المعاشرة والمعاملة ، فلم يقتصر على الأمر باحترام الأحياء من أهل الكتاب ، بل دعا إلى احترام أمواتهم كذلك. يقول جابر بن عبد اللّه : مرّت بنا جنازة ، فقام لها النبيّ صلی اللّه علیه و آله وقمنا به. فقلنا : يا رسول اللّه : إنّها جنازة يهوديّ. فقال صلی اللّه علیه و آله : « إذا رأيتم الجنازة فقوموا » (4).

وقال : كان سهل بن حنيف وقيس بن سعد قاعدين بالقادسيّة فمرّوا عليهما بجنازة ، فقاما ، فقيل لهما : إنّهما من أهل الأرض ، أي من أهل الذمّة ، فقالا : إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله مرّت به جنازة فقام ، فقيل له : إنّها جنازة يهوديّ ، فقال : « أليست نفساً » (5).

ولهذا السبب كان أهل الكتاب في البلاد غير الإسلاميّة يستقبلون المسلمين الفاتحين لتلك البلاد باشتياق كبير ، ويفتحون في وجوههم أبواب مدنهم وحصونهم ، فعندما وصل الجيش الإسلاميّ بقيادة أبي عبيدة بن الجرّاح إلى أرض الأردن ، كتب إليه

ص: 468


1- نهج البلاغة : قسم الكتب رقم 51.
2- وسائل الشيعة 1 : كتاب الجهاد : الباب 19 ح 1.
3- السلام العالميّ والإسلام.
4- البخاريّ 2 : 85.
5- البخاريّ 2 : 85.

مسيحيّوا الأردن كتاباً قالوا فيه :

( أنتم أيها المسلمون أحبّ إلينا من الروم ، وإن كانوا معنا على دين واحد لكنّكم أوفى لنا ، وأرأف وأعدل ، وأبرّ ، إنّهم حكمونا ، وسلبوا منّا بيوتنا وأموالنا ) (1).

وقد كان هذا الكلام كتبه قسّيس أنطاكية الكبير الذي دفعه ظلم الروم وجفوتهم وقسوتهم - رغم نصرانيّتهم - إلى اللجوء إلى أحضان المسلمين ، والاحتماء بالنظام الإسلاميّ العادل الرحيم.

فهو يعترف في موضع آخر من رسالته قائلاً :

( انّ إله الانتقام لمّا رأى شرور الروم الذين لجأوا إلى القوّة فنهبوا كنائسنا وسلبونا ديارنا في كافّة ممتلكاتهم وأنزلوا بنا العقاب في غير رحمة ولا شفقة ، أرسل أبناء إسماعيل ( أي العرب المسلمين ) من بلاد الجنوب ( أي مكّة والمدينة ) لتخليصنا من قبضة الروم ) (2).

ثمّ يكتب مؤلّف « الدعوة إلى الإسلام » قائلاً :

( امّا ولايات الدولة البيزنطيّة التي سرعان ما استولى عليها المسلمون ببسالتهم فقد وجدت أنّها تنعم بحالة من التسامح لم تعرفها طوال قرون كثيرة بسبب ما شاع بينهم من الآراء اليعقوبيّة والنسطوريّة ( المتضاربة فيما بينها ) فقد سمح الإسلام لهم أن يؤدّوا شعائر دينهم دون أن يتعرّض لهم أحد ، اللّهمّ إلاّ إذا استثنينا بعض القيود التي فرضت عليهم منعاً لإثارة أي احتكاك بين أتباع الديانات المتنافسة ) (3).

وقد دفعت مداراة المسلمين وحسن معاشرتهم ومعاملتهم لأهل الكتاب في أن يجدوا أمنهم المطلوب في كنف المسلمين ، ويحسّوا بالطمأنينة في ظلال الحكومة الإسلاميّة والنظام الإسلاميّ حتّى أنّ الأدلّة التاريخيّة والشواهد القطعيّة الكثيرة تشهد على أنّ الكثير من النصارى الذين كانوا يطاردون من قبل الكنيسة الرسميّة في بيزنطية

ص: 469


1- الدعوة إلى الإسلام تأليف السير توماس أرنولد : 53.
2- الدعوة إلى الإسلام تأليف السير توماس أرنولد : 53.
3- الدعوة إلى الإسلام تأليف السير توماس أرنولد : 53.

كانوا يلجأون إلى البلاد الإسلاميّة حصولا على الحماية والأمن والاستقرار ولأجل هذا نجد أنّ أجمل الكنائس والصلوات هي تلك التي بنيت في أرض الإسلام أيّام مجد المسلمين ودولتهم.

وهذا أمر ملحوظ في جميع البلاد الإسلاميّة الحاضرة.

هذا مضافاً إلى أنّ الأقليّات الدينيّة كانت ولا تزال تتمتّع بالحريّة الاقتصاديّة والتجاريّة والمعيشيّة ، دون أن تحسّ بحاجة إلى التحزّب والتمركز والتجمّع لمواجهة أي خطر.

3. احترام الإسلام لحياة الأقليّات
اشارة

إنّ الذي لا يمكن إنكاره أبداً أنّه ليس هناك أي دين ولا أيّة حكومة في العالم كالدين الإسلاميّ والحكومة الإسلاميّة تضمن حريّات الأقليّات ، وتحفظ شرفها وحقوقها الوطنيّة ، فأيّ دين يحترم الأقليّات كهذا الاحترام ، أم أي قانون يقدّرها كما يحترمها النظام الإسلاميّ ، ويقدّرها ويرعى حقوقها.

أجل إنّه الإسلام وحده يكفل العدالة الاجتماعيّة الكاملة الشاملة للمسلمين ، وغير المسلمين على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم وألوانهم ولغاتهم ، وإنّ هذا لمن احدى ميزات الدين الإسلاميّ وخصائصه الإنسانيّة التي ينفرد بها دون غيره ، ويعجز الآخرون عن تحقيقه ، وأدلّ دليل على حسن معاملة الإسلام للأقليّات أنّ الإسلام أمّن على أنفسهم وأموالهم وتعهّد في ذمّته بحمايتهم وحفظهم وأمانهم من كلّ شرّ وسوء ازاء شروط خاصّة لا يصعب تحمّلها عادة في مقابل ما تعهّد الإسلام لهم به. وإليك هذه الشروط :

في شرائط الذمّة

إنّ الشرائط المقوّمة للذمّة ( التي تنتفي الذمّة بانتفاء واحدة منها ) ثلاثة :

الأوّل : أن لا يفعلوا ما ينافي الأمان مثل العزم على حرب المسلمين ، أو إمداد

ص: 470

المشركين والتواطؤ معهم ضدّ مصالح الإسلام والمسلمين.

الثاني : أن يلتزموا بأن تجري عليهم أحكام المسلمين ... بمعنى وجوب قبولهم لما يحكم به المسلمون من أداء حقّ أو ترك محرّم.

والمراد من الأحكام هي الأحكام الاجتماعيّة والجزائيّة ، كجلدهم إذا زنوا ، وقطع أيديهم إذا سرقوا وما شابه.

الثالث : القبول بدفع الجزية ... .

فهذه الشروط الثلاثة تعتبر من مقوّمات الذمّة ، وأمّا غير ذلك من الشروط فإنّما يجب العمل بها من جانبهم إذا اشترطت في ( عقد الذمّة ) (1).

إنّ في مقدور الأقليّات الدينيّة - بعقد الذمّة - أن تعيش بين المسلمين عيشة حرّة ، ويكون لها ما للمسلمين وعليها ما على المسلمين ، من حقوق اجتماعيّة ، وأمن داخليّ ، وحماية خارجيّة ، وتلك هي وظيفة الحكومة الإسلاميّة أن توفّر ظروف العيش الآمن ، والاحترام المناسب للأقليّات الدينيّة ، والحفاظ على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم ، من دون أي عدوان وتجاوز وحيف ، هذا فيما إذا عمل أهل الكتاب وغيرهم بشرائط الذمّة والهدنة.

إنّ الإسلام يحترم دماء الكتابيّين الذين يعيشون في الذمّة وأعراضهم كما يحترم دماء المسلمين وأعراضهم دون فرق ، وتلك حقيقة لا تجد نظيرها في أي نظام غير النظام الإسلاميّ مهما كان إنسانيّاً ، ولهذا عندما يسمع الإمام عليّ علیه السلام بأنّ جماعة من البغاة أغاروا بأمر معاوية على ( الأنبار ) وهي إحدى مدن العراق ، واعتدوا على أهلها ، وأعراضهم وأموالهم ، نجده ينزعج غاية الانزعاج ويحزن غاية الحزن ، ويمضي في لومهم وشجبهم قائلاً - في أسف ظاهر - : « ولقد بلغني أنّ الرّجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة ، والاُخرى المعاهدة ، فينتزع حجلها ، وقلبها ، وقلائدها ورعاثها ، ما تمنع منه إلاّ بالاسترجاع ، والاسترحام ثمّ انصرفوا وافرين ما نال رجلاً منهم كلم ولا اريق منهم

ص: 471


1- جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 21 : 271.

دم » !!

إنّ أعراض المسلمين والذميين عند الإمام عليّ علیه السلام من حيث الاحترام والحرمة بحيث يقول في شأن ذلك في ذيل العبارات السابقة : « فلو أنّ امرأً مُسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملُوماً ، بل كان به عندي جديراً » (1).

إنّ القانون الإسلاميّ يقضي بأن تتكفّل الحكومة الإسلاميّة حماية الأقليّات الدينيّة ، وأعراضهم وأموالهم وكنائسهم ومعابدهم ، بحيث يمكنهم أن يؤدّوا شعائرهم الدينيّة بحريّة وأمان ، وفي الوقت الذي يدعو فيه الإسلام هذه الأقليّات وغيرها إلى اعتناق الإسلام ، لا يسمح بأن تعطّل حريّة الأقليّات في تعليم دينها لأبنائها.

إنّ الذمّيين أحرار - تماماً - من جهة ( القضاء ) فلهم أن يتحاكموا - في منازعاتهم واختلافاتهم الخاصّة - إلى محاكمهم الخاصّة ، أو إلى محاكم المسلمين وقضاتهم ، إن كان النزاع بينهم وبين مسلم ، وأن يدافعوا عن حقوقهم في محاكم المسلمين بمنتهى الحريّة والطمأنينة والحصانة (2).

إنّ للذمّي - حسب نظر الإسلام - أن يشتكي أمام قاضي المسلمين على أكبر شخصيّة إسلاميّة كالخليفة وحاكم البلاد ، أو يدافع عن نفسه إذا اشتكى عليه تلك الشخصيّة ، ويطالبه بالبيّنة لدعواه.

ولا يخفى أنّ هذه الأحكام ليست مجرّد نظريّة قانونيّة لم يعمل بها في تاريخ المسلمين وحياتهم ، بل لها نماذج ومصاديق مطبّقة أكثر من أن تحصى ، منها قضيّة الدعوة التي أقامها الإمام عليّ علیه السلام على رجل يهوديّ في قصّة الدرع التي ، مرّت عليك فيما سبق في هذا الكتاب (3).

انّ تاريخ الإسلام المشرق يبيّن لنا أنّ علاقات المسلمين مع الشعوب والأقليّات

ص: 472


1- نهج البلاغة : الخطبة (26).
2- لاحظ في ذلك الصفحة 464 من كتابنا هذا.
3- راجع الصفحة 335 من كتابنا هذا.

الدينيّة كانت قائمة منذ ظهور الحكومة الإسلاميّة ، وحصول الاستقلال السياسيّ للمسلمين على اُسس التسامح والسلام والمحبّة والمعاشرة الإنسانيّة ، والمعاهدات المتبادلة ، ولهذا كانت تلك الأقليّات الدينيّة تعيش بين المسلمين بحريّة كاملة ، ودون أن يلحقها أي أذى أو سوء ، وتستفيد من حقوقها المُسلمة دون أي عدوان أو نقصان ، وهذا هو الأمر الذي جعلهم يفضّلون حكم الإسلام على غيره.

كما أنّ هذا هو الذي حدى بالكتاب المسيحيّين ومؤرّخيهم أن يعترفوا بفضل الإسلام وحسن سيرة المسليمن بالنسبة إلى أبناء دينهم ، لاحظ في ذلك ما قاله غوستاف لوبون.

وقال روبرتسون في كتابه تاريخ شارلكن : ( إنّ المسلمين وحدهم هم الذين جمعوا بين الجهاد والتسامح نحو أتباع الأديان الاُخرى الذين غلبوهم وتركوهم أحراراً في إقامة شعائرهم الدينيّة ) (1).

4. الجزية ضريبة عادلة

يبقى أن نعرف أنّ الإسلام فرض على أهل الكتاب - بعد الغلبة عليهم - دفع ضريبة تسمّى بالجزية ، وهي بمنزلة الضريبة التي تؤخذ من المسلمين تحت عناوين مختلفة من الزكاة والخمس وسائر الصدقات لتصرف في شؤون الدولة الإسلاميّة ولأجل ذلك لا تؤخذ الجزية من المعتُوه ولا من المغلُوب على عقله ، ولا الصبيان ولا النساء ، لأنّ الجزية إنّما هي في مقابل الدخل تقريباً. قال الإمام الصادق علیه السلام : « جرت السنّة أن لا تُؤخذ الجزية من المعتُوه ولا من المغلُوب على عقله » (2).

ثمّ إنّ الجزية تقدر بقدر المُكنة والقدرة فقد سئل الإمام الصادق علیه السلام عن حدّ الجزية فقال : « ذلك إلى الإمام يأخذ من كلّ إنسان منهم ما شاء على قدر ماله وما

ص: 473


1- روح الدين الإسلاميّ : 411.
2- الوسائل 11 : 100 ، وراجع تحرير الوسيلة 2 : 498 للإمام الخمينيّ.

يُطيقُ » (1).

كما أنّ الإمام مخيّر في الجزية في أن يضع الجزية على حسب رؤوسهم دون أرضهم أو على أرضهم دون رؤوسهم ... في حين أنّه يأخذ من المسلمين الضرائب المتوجّبة عليهم من أموالهم خاصّة ، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على مدى روح السماحة والعطف والعدالة التي يعامل بها الإسلام الأقليّات الاُخرى ، فعن محمّد بن مسلم قال : سألته علیه السلام عن أهل الذمّة ماذا عليهم ما يحقنون به دماءهم وأموالهم ؟ قال : « الخراج ، وإن أُخذ من رُؤوسهُمُ الجزية فلا سبيل على أرضهم وإن أُخذ من أرضهم فلا سبيل على رُؤوسهم » (2).

كما أنّه لا يجوز للحكومة الإسلاميّة أن تأخذ من الأقليّات شيئاً علاوة على الجزية ، فعن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر علیه السلام في أهل الجزية أيؤخذ من أموالهم ومواشيهم سوى الجزية ؟ قال : « لا » (3).

وبالتالي ، إنّ الجزية لم تكن ضريبة شاقّة لو عرفنا مقاديرها فقد جعل الإسلام على غنيّهم ثمانية وأربعين درهماً ، وعلى أوساطهم أربعة وعشرون درهماً ، وعلى فقرائهم إثنا عشر درهما ... يؤخذ منهم كلّ سنة ، راجع لمعرفة ذلك الحديث المروي في هذا الباب (4).

وفي الحقيقة لا تقدير خاصّ للجزية ، ولا حدّ لها بل تقديرها إلى الوالي ، والحكومة الإسلاميّة بحسب ما يراه من المصالح والأزمنة ومقتضيات الحال (5) والمقدار المذكور في الرواية هو مصداق لهذا التقدير.

وبالتالي فإنّ ما تأخذه الدولة الإسلاميّة من الأقليّات باسم الجزية إنّما هو في الحقيقة لتقديم الخدمات إليهم ، وحمايتهم ، لا أنّه أتاوة على نحو ما يفعل الفاتحون عادة.

ص: 474


1- الوسائل 11 : 114 و 115.
2- الوسائل 11 : 114 و 115.
3- الوسائل 11 : 114 و 115.
4- وسائل الشيعة 11 : 116.
5- تحرير الوسيلة للإمام الخمينيّ 2 : 449.

وفي هذا الصدد يقول السيد رشيد رضا : ( إنّ الجزية في الإسلام لم تكن كالضرائب التي يضعها الفاتحون على من يتغلّبون عليهم فضلاً عن المغارم التي يرهقونهم بها ، وإنّما هي جزاء قليل على ما تلتزمه الحكومة الإسلاميّة من الدفاع عن أهل الذمّة ، وإعانة الجند الذي يمنعهم ( أي يحميهم ) ممّن يعتدي عليهم كما يعلم من سيرة أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والشواهد على ذلك كثيرة ) (1).

فهي إذن ضريبة ضئيلة يقابلها تأمين الإسلام لهم الحراسة والحفظ وتوفير ضروريّات الحياة.

وبذلك يبقى الكتابيّ على دينه ويقيم شعائره في حدود المصلحة الإسلاميّة العامّة حسب ما قرّر لها من شروط ، وأحكام.

ص: 475


1- تفسير المنار 11 : 282.

برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها

3

الحكومة الإسلاميّة والدعوة إلى التنمية الاقتصاديّة

أهميّة الاقتصاد في الحياة البشريّة :

لا شكّ في أنّ الاقتصاد يحتلّ موقعاً حسّاساً وهاماً في الحياة البشريّة ، إذ يدور عليها رحى جوانب كثيرة من هذه الحياة ، ومن هنا اهتمّ الإسلام بالمسائل الاقتصاديّة اهتماماً بالغاً. فوجود الأبواب الكثيرة ، المتعلّقة بالمبادلات الماليّة في الفقه والتشريع الإسلاميّ إلى جانب التوجيهات والإرشادات المرتبطة بهذا الحقل ينبئ عن اهتمام الإسلام الشديد بالاقتصاد ويكشف عن أنّ الدين الإسلاميّ ليس كسائر الأديان تنحصر مسؤوليّته في إعطاء العظات الأخلاقيّة ، وتقديم الوصايا المعنويّة الفرديّة مهملاً أهمّ مسألة في حياة الإنسان وهي القضية الاقتصاديّة.

كيف والعمل من أجل الآخرة يتوقّف على قدرة الجسم ، وسلامة البدن ، وانتعاش الجانب الاقتصاديّ فقد روي عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « اللّهمّ بارك لنا في الخبز ، ولا تفرّق

ص: 476

بيننا وبينهُ ، فلولا الخُبزُ ما صلّينا ولا صُمنا ولا أدّينا فرائض ربّنا » (1).

وعن الإمام عليّ علیه السلام أنّه قال : « وبالدّنيا تُحرزُ الآخرةُ » (2).

ثمّ لا ريب في أنّ الإنسان مركّب من المادة والروح ، وأنّ لوجوده بعدين : بعداً ماديّاً ، وبعداً معنويّاً ، ولذلك لابد للإسلام كنظام للإنسان ومنهج للحياة أن يعتني بهذا البعد ( المادي ) أيضاً لأنّ تجاهله ما هو إلاّ تجاهل لنصف الإنسان.

وبعبارة اُخرى ، إنّ ( الغنى ) في الجانب المعنويّ - وحده - لا يكفي ، لأنّ الفقر الاقتصاديّ كفقر الدم تماماً ، إذ الاقتصاد عصب الحياة ، ودم يجري في عروق المجتمع ، ويضمن حياته وبقاءه ، فكما أنّ فقر الدم يوجب سلسلة من الأمراض والمضاعفات الخطيرة مثل ضعف السماع والبصر ، وظهور اللكنة في اللسان ، وتعرقل عمليات المخّ ، إلى غير ذلك من العوارض ، وألوان الخلل في وظائف الأعضاء فإنّ للفقر الاقتصاديّ والماديّ ( عوارض ) سيّئة ، وآثار خطيرة على الحياة الفرديّة والاجتماعيّة فهو يوجب ضعفاً في الهيكل الاجتماعيّ وتصدّعاً في تماسكه ، ولذلك يكون الاقتصاد مطروحاً للإنسان منذ أن يولد حتّى يوسّد في لحده ، هذا مضافاً إلى أنّ بقاء الاُصول الأخلاقيّة والتزام الصراحة ، ومناعة الطبع واستقلال الشخصيّة اُمور متفرّعة على الجانب الماديّ ، بمعنى أنّ الإبقاء على هذه الاُمور في غاية الصعوبة على من اضطرب أمر معاشه ، وأصابه الفقر ، واختلّ اقتصاده. فكم من إنسان ابتلي بصفة التملّق وفقدان الشهامة ، والاخلال بالواجب نتيجة الفقر ، واضطراب المعاش ؟ وكم من إنسان اضطّر إلى الكذب والخداع ، والمساومة على العقيدة والدين لهذا السبب ؟ بل وكم من شعب وقع فريسة الاستعمار والتبعيّة نتيجة التدهور الاقتصاديّ والحرمان الماديّ ، والحاجة إلى المساعدات ، فحرم المجد والعظمة ، وفقد الاستقلال ، والحريّة.

ومن هنا لم يكن للاُمم الفقيرة أي نصيب في العزّة والكرامة والمكانة الدوليّة

ص: 477


1- وسائل الشيعة 12 : 17.
2- نهج البلاغة : الخطبة 145.

اللائقة بين شعوب الأرض.

بل وعلى هذا الأساس الاقتصاديّ قامت العلاقات الدوليّة ، والروابط السياسيّة بين الحكومات والشعوب.

الاقتصاد أصل هامّ وليس محوراً

نعم إنّ الفرق بين النظام الإسلاميّ والنظامين الرأسماليّ والاشتراكيّ هو أنّ الاقتصاد في الإسلام يشكّل أصلاً هاماً إلى جانب الاُصول الهامّة الاُخرى - كما ظهر من البيان السابق - لا أنّه الأصل الوحيد الذي تقوم عليه سائر المسائل الأيديولوجيّة ، والأخلاقيّة ، والسياسيّة كما تدّعيه الاشتراكيّة ، أو تذهب إليه الرأسماليّة عمليّاً.

ونعود لنقول إنّ أفضل ما يدلّ على أنّ الاقتصاد في الإسلام يشكّل أحد الاُصول ، الهامّة هو أنّ أكثر الكتب الفقهيّة تتركّز على ذكر القوانين المتعلّقة بالاقتصاد ، وتعقد أبواباً خاصّة كأبواب المكاسب ، والشفعة والإقالة والصلح والمضاربة والمزارعة والمساقاة والإجارة والجعالة والعارية والقسمة ، والدين والرهن والحجر والمفلس والضمان والحوالة ، والهبة والوقف والصدقة ، والصيد والذباحة والغصب وإحياء الموات ، والمشتركات واللقطة والإرث وأحكام الأبنية والأرضين وما شابه ذلك.

هذا مضافاً إلى أنّنا نجد القرآن يقرن ذكر الصلاة بذكر الزكاة كلّما تحدث عن تلك العبادة وقد تكرّر ذلك في القرآن ما يقارب 32 مرّة تقريباً ، ومن المعلوم أنّ الأوّل ينظّم علاقة المخلوق بالخالق ، والثاني ينظّم علاقة الفرد بالمجتمع ؛ واقتران كلّ من الأمرين بالآخر يشهد بأنّ هناك بين المعاش والمعاد صلة وثيقة ، وارتباطاً لا ينفك ّ.

ثمّ لمّا كان الإسلام منهجاً كاملاً وكافلاً لاحتياجات المجتمعات البشريّة ماديّها ومعنويّها ، اقتضى ذلك أن يكون له ( منهج اقتصاديّ واحد ) يخضع له الجميع ، ويكون قادراً على رفع تلك الاحتياجات ، ومتمشّياً مع الحاجات المتجدّدة ، والاكتشافات الحديثة ، ومتمكّناً من إقامة التوازن بين الإنتاج والتوزيع ، وموفّراً لكلّ أعضاء المجتمع

ص: 478

البشريّ جوّاً مناسباً ومطلوباً من الخير والرفاه ؛ لتعيش البشريّة في كنفه في أمان وسلام ورخاء واكتفاء.

إنّ هذا هو ما يتوخّاه النظام الإسلاميّ ويسعى إليه في منهجه الاقتصاديّ.

الدعوة إلى التنمية الإقتصاديّة وإطاراتها
اشارة

إنّ بيان المنهج الاقتصاديّ في الإسلام يستدعي بحثاً مترامي الأطراف ، وهو خارج عن نطاق هذه الدراسة ، غير أنّ الذي له صلة وثيقة بهذا البحث هو معرفة أنّ الإسلام اهتمّ - اهتماماً شديداً - بالجانب الاقتصاديّ في حياة الاُمّة ودعا إلى التنمية الاقتصاديّة في مجالات الزراعة والصناعة والتجارة وغيرها.

ولإيقاف القارئ على تلك الدعوة نأتي بإجمال عن ذلك في ضمن عناوين خاصّة ونحيل التفصيل إلى مجال آخر.

1. الإنسان مأمور بعمارة الأرض

إنّ الإنسان - في هذا النظام - مأمور من جانب اللّه سبحانه بعمارة الأرض ، وإصلاحها ، وإحيائها ، دون أن يمنعه مانع عن ذلك إذا ما كان في حدود الدين وشرائعه ، إذ قال سبحانه : ( هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) ( هود : 61 ).

وعن الإمام عليّ علیه السلام في حديث أنّه قال : « إنّ معايش الخلق خمسة : الإمارةُ ، والعمارةُ ، والتّجارةُ ، والإجارةُ والصّدقاتُ [ إلى إن قال ] وأمّا وجه العمارة فقوله تعالى : ( هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) فأعلمنا سبحانه أنّه قد أمرهم بالعمارة ، ليكون ذلك سبباً لمعايشهم بما يخرج من الأرض » (1).

ص: 479


1- وسائل الشيعة 13 : 195.
2. الإنسان مدعو إلى الكدح والعمل
اشارة

لقد دعا الإسلام إلى الكدّ والكدح والعمل دعوة أكيدة ، وحثّ عليها حثّاً بليغاً لا نجد نظيره في أي نظام آخر ، فهو نهى عن الكسل ، كما نهى أن يكون المرء كلاًّ على الآخرين ، يستهلك ولا يعمل ، ويأكل ولا يشتغل وإليك طائفة من الأحاديث المرويّة عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته الطاهرين علیهم السلام في هذا المجال ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « ملعون من ألقى كلّهُ على النّاس » (1).

وقال في وصيّته لعليّ علیه السلام : « إيّاك وخصلتين : الضجرُ والكسلُ ، فإنّك إن ضجرت لم تصبر على حقّ وإن كسلت لم تُؤدّ حقّاً ، يا عليّ من استولى عليه الضجرُ رحلت عنهُ الرّاحةُ » (2).

وقال أمير المؤمنين علیه السلام : « إنّ الأشياء لمّا ازدوجت ازدوج الكسلُ والعجزُ فنجا بينهُما الفقرُ » (3).

وقال الإمام الباقر علیه السلام : « إنّي لأبغضُ الرّجُل ( أو لأبغض للرجل ) أن يكون كسلان عن أمر دُنياهُ ومن كسل عن أمر دُنياهُ فهو عن أمر آخرته أكسلُ » (4).

وقال الإمام الباقر علیه السلام : « إنّي لأجدُني أمقُتُ الرّجُل يتعذّرُ عليه المكاسبُ فيستلقي على قفاه ويقولُ : ( اللّهمّ ارزقني ) ويدع أن ينتشر في الأرض ويلتمس من فضل اللّه ، والذرةُ ( أيّ النّملُ ) تخرُجُ من حجرها تلتمسُ الرّزق » (5).

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « لا تكُونُوا كُلُولاً على النّاس » (6).

وقال علیه السلام أيضاً : « لا تكسلُوا في طلب معايشكُم فإنّ آباءنا ، قد كانُوا يركُضُون فيها ، ويطلُبونها » (7).

ص: 480


1- وسائل الشيعة 12 : 1. 37 ، 18 ، 18.
2- الوسائل 11 : 320.
3- وسائل الشيعة 12 : 1. 37 ، 18 ، 18.
4- وسائل الشيعة 12 : 1. 37 ، 18 ، 18.
5- من لا يحضره الفقيه 3 : 95.
6- وسائل الشيعة 12 : 1. 37 ، 18 ، 18.
7- من لا يحضره الفقيه 3 : 95.

وقال علیه السلام : « من كسل عمّا يُصلحُ به أمر معيشته فليس فيه خير لأمر دُنياهُ » (1).

وقال علیه السلام : « ليس منّا من ترك دُنياهُ لآخرته ، ولا آخرته لدُنياهُ » (2).

وقال علیه السلام : « لا تكسل عن معيشتك فتكُون كلاًّ على غيرك ( أو قال : على أهلك ) » (3).

وقال الإمام الكاظم علیه السلام : « إنّ اللّه تعالى ليُبغضُ العبد النوّام ، إنّ اللّه تعالى ليُبغضُ العبد الفارغ ( العاطل ) » (4).

وحثّ على العمل والسعي والاشتغال بكلّ عمل مفيد كالتجارة والزراعة ، والصناعة وما شابهها من الاُمور التي تدرّ على الإنسان بالرزق الحلال وتؤدّي إلى إنعاش الاقتصاد وإليك طائفة من الروايات في هذا المجال :

قال الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « العبادةُ سبعُون جُزءاً أفضلُها طلبُ الحلال » (5).

وقال : « من المُروّة استصلاحُ المال » (6).

وقال : « اتّجرُوا بارك اللّه لكُم » (7).

وقال : « نعم العونُ على تقوى اللّه الغنى » (8).

وروي أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لمّا أقبل من غزوة تبوك استقبله سعد الانصاريّ فصافحه النبيّ صلی اللّه علیه و آله ثمّ قال له : « ما هذا الذّي أكبت ( أخشن ) يديك ؟! »

قال يا رسول اللّه : أضرب بالمرّ والمسحاة فأنفقه على عيالي ، فقبّل يده رسول اللّه ، وقال : « هذه يد لا تمسّها النّارُ » (9).

وقال الإمام عليّ بن أبي طالب علیه السلام : « إنّ اللّه تبارك وتعالى يُحبّ المُحترف الأمين » (10).

ص: 481


1- الوسائل 12 : 1. 37 ، 13 ، 5.
2- من لا يحضره الفقيه 3 : 2. 103 ، 102 ، 94 ، 95.
3- الوسائل 12 : 1. 37 ، 13 ، 5.
4- من لا يحضره الفقيه 3 : 2. 103 ، 102 ، 94 ، 95.
5- الوسائل 12 : 1. 37 ، 13 ، 5.
6- من لا يحضره الفقيه 3 : 2. 103 ، 102 ، 94 ، 95.
7- الوسائل 12 : 1. 37 ، 13 ، 5.
8- من لا يحضره الفقيه 3 : 2. 103 ، 102 ، 94 ، 95.
9- اُسد الغابة 2 : 269.
10- من لا يحضره الفقيه 3 : 2. 103 ، 102 ، 94 ، 95.

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « إن اللّه ليُحبُّ الاغتراب في طلب الرّزق » (1).

وقال أيضا : « نعم العون : الدّنيا على الآخرة » (2).

وقال أيضا : « إنّي لأُحبّ أن أرى الرجُل مُتحرّفاً [ أو متبكّراً ] في طلب الرّزق » (3).

وكان الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب يخرج في الهاجرة ( وقت الظهر ) في الحاجة قد كفيها ، يريد أن يراه اللّه يتعب نفسه في طلب الحلال » (4).

وقال الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله : « طلبُ الحلال فريضة على كُلّ مُسلم ومُسلمة » (5).

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « كان أمير المُؤمنين يحتطبُ ويستقي ويكنسُ ، وكانت فاطمةُ تُطحنُ وتعجنُ وتخبزُ » (6).

وقال أيضا : « الكادّ على عياله من حلال كالمُجاهد في سبيل اللّه » (7).

وقال أيضا : « إصلاحُ المال من الإيمان » (8).

وعن الفضل بن أبي قرّة قال : دخلنا على أبي عبد اللّه [ الصادق ] وهو يعمل في حائط له فقلنا : جعلنا اللّه فداك دعنا نعمل لك ، أو تعمله الغلمان ، قال : « لا ، دعُوني فإنّي أشتهي أن يراني اللّه عزّ وجلّ أعملُ بيدي وأطلبُ الحلال في أذى نفسي » (9).

وقال : الإمام موسى بن جعفر الكاظم علیه السلام : « اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً » (10).

وقال : « لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتّى تكون فيه خصال ثلاث : الفقه في الدّين وحسن التّقدير في المعيشة والصّبر على الرزايا » (11).

ص: 482


1- من لا يحضره الفقيه 3 : 1. 95 ، 95 ، 99.
2- من لا يحضره الفقيه 3 : 1. 95 ، 95 ، 99.
3- من لا يحضره الفقيه 3 : 1. 95 ، 95 ، 99.
4- من لا يحضره الفقيه 3 : 1. 95 ، 95 ، 99.
5- بحار الأنوار 103 : 9.
6- من لا يحضره الفقيه 3 : 104.
7- من لا يحضره الفقيه 3 : 104.
8- من لا يحضره الفقيه 3 : 104.
9- من لا يحضره الفقيه 3 : 94 و 98.
10- من لا يحضره الفقيه 3 : 94 و 98.
11- تحف العقول : 324.

وعن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة عن أبيه قال رأيت أبا الحسن [ الكاظم ] علیه السلام يعمل في أرض له ، وقد استنقعت قدماه في العرق ، فقلت له : جعلت فداك أين الرجال ؟ فقال علیه السلام : « يا عليّ عمل باليد من هو خير منّي ومن أبي في أرضه » فقلت : من هو ؟ فقال : « رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأمير المؤمنين وآبائي علیهم السلام كلّهم قد عملوا بأيديهم وهو من عمل النّبيّين والمرسلين والصّالحين » (1).

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « تعرّضوا للتّجارات فإنّ لكم فيها غنىً عمّا في أيدي النّاس » (2).

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « ازرعوا واغرسوا فلا واللّه ما عمل النّاس عملاً أحلّ ولا أطيب منه » (3).

وقال أيضا : « الزّارعون كنوز الأنام يزرعون طيّباً أخرجه اللّه عزّ وجلّ وهم يوم القيامة أحسن الناس مقاماً ، وأقربهم منزلةً يدعون المباركين »(4) .

وقال : « الّذي يطلب من فضل اللّه عزّ وجلّ ما يكفّ به عياله أعظم أجراً من المجاهد في سبيل اللّه » (5).

وعن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « طلب الكسب فريضة بعد الفريضة » (6).

ولعلّ أجمع ما ورد حول تشجيع الزراعة والصناعة والعناية بالاقتصاد في الإسلام هو ما كتبه الإمام عليّ علیه السلام في عهده المعروف للأشتر النخعيّ حينما ولاّه على مصر إذ قال : « وتفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله ، فإنّ في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم ، ولا صلاح لمن سواهم إلاّ بهم ، لأنّ النّاس كلّهم عيال على الخراج وأهله.

وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأنّ ذلك لا

ص: 483


1- من لا يحضره الفقيه 3 : 98.
2- وسائل الشيعة 12 :2. 193 - 194.
3- وسائل الشيعة 12 :2. 193 - 194.
4- وسائل الشيعة 12 :2. 193 - 194.
5- الكافي 5 : 88.
6- بحار الأنوار 103 : 17.

يُدركُ إلاّ بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلاّ قليلاً. فإن شكوا ثقلاً أو علّةً أو انقطاع شرب أو بالة أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش خفّفت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم ولا يثقلنّ عليك شيء خفّفت به المؤونة عنهم ، فإنّه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك ».

ثمّ يقول : « ثمّ استوص بالتجّار وذوي الصّناعات وأوص بهم خيراً المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفّق ببدنه ... فإنّهم موادّ المنافع وأسباب المرافق وجلاّبها من المنافع والمطارح في برّك وبحرك وسهلك وجبلك ... وتفقّد امورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك وأعلم - مع ذلك - أنّ في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحّاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكّماً في البياعات وذلك باب مضرّة للعامّة وعيب على الولاة فامنع من الاحتكار فانّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله منع منه وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل ، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع ، فمن قارف حكرةً بعد نهيك إيّاه فنكّل به وعاقبه من غير إسراف ».

إلى غير ذلك من الأحاديث والروايات الوافرة التي يضيق بذكرها المجال.

موضع الزهد والتوكّل في الإسلام

ربّما يتوهّم وجود المنافاة بين دعوة الإسلام إلى العمل ونبذ الكسل وما يدلّ على لزوم الزهد والتوكّل على اللّه في الاُمور ، وهذا وهم يقف على بطلانه من له إلمام بالكتاب والسنّة ، فإنّ الزهد الذي ندب إليه الإسلام ، والتوكّل الذي حثّ عليه ليس بمعنى ترك تحصيل الدنيا وترك الاشتغال والعمل ، وإنّما يراد من الزهد عدم التعلّق بالدنيا كما فسّرته الأحاديث الشريفة ومنها قول أمير المؤمنين علیه السلام : « الزّهد في الدّنيا قصر الأمل ، وشكر كلّ نعمة والورع عمّا حرّم اللّه عليك » (1).

ص: 484


1- معاني الأخبار للصدوق : 239 ، ونهج البلاغة : الخطبة رقم 79.

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « ليس الزّهدُ في الدّنيا بإضاعة المال ، ولا بتحريم الحلال بل الزّهدُ في الدّنيا أن لا تكون بما في يدك أوثقُ منك بما في يد اللّه عزّ وجلّ » (1).

وعن الإمام عليّ علیه السلام أنّه قال : « الزّهدُ بين كلمتين من القُرآن : قال اللّه سُبحانهُ : ( لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ) ومن لم يأس على الماضي ، ولم يفرح بالآتي ، فقد أخذ الزّهد بطرفيه » (2).

وعن الإمام عليّ بن الحسين السجّاد علیه السلام أنّه جاءه رجل فقال له :

فما الزهد قال : « الزّهدُ عشرُ درجات ، فأعلى درجات الزّهد أدنى درجات الرّضا ، ألا وإنّ الزّهد في آية من كتاب اللّه ( لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ) » (3).

وأمّا التوكّل على اللّه فلا يعني ترك العمل بل يعني أن يتوسّل الإنسان بكلّ الأسباب الظاهريّة لقضاء حوائجه ، ولكي يرفع كلّ نقص في الأسباب الطبيعيّة يستمدّ المدد والعون من اللّه ، ويستعينه على التوفيق.

إنّ الإنسان المتوكّل يعلم أنّه يعيش في عالم الأسباب والمسبّبات وأنّ إرادة اللّه تعلّقت بأن يتوصّل الإنسان إلى مقاصده عن طريق هذه الأسباب ، فيكون التمسّك بهذه الأسباب أخذاً بأمره ، واتّباعاً لقانونه ، ولكن حيث إنّ هذه العلل والأسباب قد تقصر عن اداء المطلوب ، أو ربما لا يتعرّف الإنسان عليها أو على بعضها أو ربّما يعوقه عائق فإنّ اللّه يأمر المسلم بأن يتّكل على قدرة اللّه المطلقة ، ويطلب منه العون والمدد على قضاء حوائجه دون أن يقنط أو ييأس اتّجاه هذه المشاكل ، ويزداد هذا المعنى وضوحاً إذا علمنا بأنّ الحثّ على التوكّل والأمر به جاء في سياق آيات الجهاد والقتال والمرابطة ، والعمل ، والاجتهاد وقد خاطب اللّه - في الأغلب - به المجاهدين ، وإليك طائفة من هذه الآيات ، قال سبحانه : ( إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ

ص: 485


1- معاني الأخبار للصدوق : 239.
2- نهج البلاغة : الحكم رقم 439.
3- معاني الأخبار للصدوق : 239.

المُؤْمِنُونَ ) ( آل عمران : 122 ).

وقال : ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) ( آل عمران : 173 ).

وقال : ( نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) ( العنكبوت : 58 - 59 ).

وقال : ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) ( آل عمران : 159 ).

وخلاصة القول : أنّ التوكّل على اللّه ليس بالمعنى المحرّف الذي ذهب إليه فريق من الناس من أنّه ترك العمل والجهد والسعي ، بل يعني أنّ الإنسان قد يواجه في حياته مشكلات يعجز عن التغلّب عليها وتجاوزها فعليه أن يستمد العون من اللّه تعالى ، وبهذا الطريق يحارب اليأس ، وتزداد روحه قوّة وصموداً ، ويتغلّب على مشكلاته.

وبعبارة اُخرى : إنّ التوكّل هو قسم من التوحيد الأفعالي الذي يعني أن يعتقد المسلم بأنّه لا مؤثّر مستقل في الوجود إلاّ اللّه سبحانه ، وأمّا غيره فليست إلاّ مؤثّرات وعوامل بإذنه ومشيئته سبحانه ، وبهذا لا يكون التوكّل منحصراً في صعاب الاُمور ، بل يعمّ هيّنها وصعبها جميعاً لأنّ معناه - حينئذ - هو أنّ العبد لا يقوم بفعل مهما كان سهلاً أو صعباً إلاّ بحول اللّه وقوّته وإلاّ بعونه وطوله سبحانه وتعالى ، وأنّ جميع الأسباب مؤثّرة بإذنه سبحانه ، ولعلّ الحديث التالي أوضح برهان على ما ذكرناه في معنى التوكّل مضافاً إلى ما سبق من الأحاديث :

عن عليّ بن عبد العزيز قال : قال أبو عبد اللّه [ الصادق علیه السلام ] : « ما فعل عُمرُ بنُ مُسلم » قلت : جعلت فداك أقبل على العبادة وترك التجارة ، فقال :

« ويحه أما علم أنّ تارك الطّلب لا يستجاب له ».

إنّ قوماً من أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لمّا نزلت ( وَمَن يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) أغلقوا الأبواب وأقبلوا على العبادة وقالوا : قد كفينا ، فبلغ

ص: 486

ذلك النبيّ صلی اللّه علیه و آله فأرسل إليهم وقال : « ما حملكم على ما صنعتم ؟ » فقالوا : يا رسول اللّه تكفّل لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة ، قال : « إنّه من فعل ذلك لم يستجب له ، عليكم بالطّلب » (1).

3. الإسلام يقرّ مبدأ التنافس

إنّ الإسلام لم يكتف بالحثّ على العمل والسعي بل ذهب إلى أبعد من ذلك حيث أقر التنافس السليم لأنّ ذلك يوجب تفتّح المواهب وتحرّك القابليّات الذي من شأنه تقدّم الاقتصاد ، بل وازدهار الحياة ، ولذلك فهو يقرّ كلّ ملكيّة حاصلة عن سبب مشروع كائناً من كان صاحبها ، فلا يؤمم وسائل الإنتاج بصورة مطلقة لأنّ ذلك يقتل الدوافع الذاتيّة لدى الأفراد ، ويقضي على الحوافز الشخصيّة ، ويوجب ذلك شلل الاقتصاد كما هو الحال في الأنظمة الاشتراكيّة ، ولكنّه منعاً من ظهور الرساميل الكبيرة - جدّاً - جعل الإسلام المنابع الطبيعيّة - التي سيوافيك ذكرها في الأنفال - في ملكيّة الدولة الإسلاميّة.

ولا يخفى أنّ الكثير من الرساميل والثروات الضخمة الهائلة جداً تنشأ عادة من استيلاء الأفراد على هذه المنابع واستقلالهم - دون الناس - باستثمارها واستخراجها دون رقيب ، وبلا حساب ، ويكفي أن نعرف أنّ في إيران وحدها (800) نوعاً من المعادن الغنيّة جدّاً ، في حين لا يستثمر سوى عُشر هذه المعادن لا أكثر وهي تشكّل ثروات لا يمكن تحديد عائداتها إطلاقاً ولقد كان استثمار أكثر هذه المعادن في العهد المباد يعود إلى جماعة خاصّة من الرأسماليين الكبار الذين كنزوا من عائداتها ثروات لا تحدّ ولا تعدّ.

إنّ الإسلام بتأميمه للثروات الطبيعيّة وجعلها للعموم منع من ظهور الملكيّات الهائلة.

هذا مضافاً إلى أنّ الدولة الإسلاميّة يجوز لها أن تمنع الأفراد من توظيف الأموال في

ص: 487


1- نور الثقلين 5 : 354 - 355.

الأقسام الضخمة والكبيرة كالصنائع الاُمّ ، وشركات انتاج الطاقة وإسالة المياه ، والمواصلات الجويّة وما شابه ، ممّا يدرّ بالدخل غير المحدود على أصحاب تلك الأموال ، حتّى يمنع من ظهور الفوارق الطبقيّة العميقة الناشئة من حصول أمثال تلك الثروات الهائلة للأفراد.

إنّ الإسلام وإن أقرّ مبدأ التنافس وترك المجال مفتوحاً أمام الساعين والعاملين إلاّ أنّ هذا لم يمنعه من تحديد الملكيّة حتّى لا تطغى ، فقد منع من ظهور الملكيّات الطائلة بالطرق التالية :

أوّلاً : تأميم المصادر الطبيعيّة وجعلها ملكاً للدولة لا للأفراد.

ثانياً : إنّه جوّز وفقا للمصالح العامّة للدولة الإسلاميّة منع الأفراد من توظيف رؤوس الأموال في الصناعات الكبرى ذات العائدات غير المحدودة.

ثالثاً : فرض الضرائب التصاعديّة الدائميّة ، والاستثنائيّة في بعض الأحيان المقتضية لذلك.

رابعاً : تهيئة فرص العمل والتقدّم لجميع الأفراد من الاُمّة بإعطاء المعونات الماليّة لهم ، والسماح للجميع بامتلاك وسائل الإنتاج بصورة مستقلّة أو على نحو الشركة حتّى يتخلّص العامل من استثمار أرباب العمل واستغلالهم له ، وإجباره على القبول باجور زهيدة ، والرضوخ لشروط مجحفة.

4. الحريّة الاقتصاديّة في النظام الإسلاميّ

إنّ إقرار مبدأ التنافس والدعوة إليه يطرح مسألة الحريّة ، إذ بدون الحريّة لا يمكن التنافس ، فهل توجد الحريّات في ظلّ الأنظمة غير الإسلاميّة ؟

إنّ مراجعة سريعة للنظريّة والتطبيق تهدينا إلى أنّه لا توجد أيّة حريّات في النظام الاشتراكيّ إطلاقاً ، وأمّا في النظام الرأسماليّ فلا تعني الحريّة سوى إطلاق العنان لجماعة خاصّة ومن يدور في فلكهم ، في تكديس الثروة كيفما اتّفق والمضي بلا حدود في إشباع

ص: 488

الشهوات والنزوات الحيوانيّة وإن أضرّت بالأخلاق ، وأساءت إلى القيم الإنسانيّة الرفيعة ، بينما تخضع ( الحريّة ) في النظام الإسلاميّ لحدود معقولة إنسانيّة ، لأنّها لا تعني في منطقه إلاّ إفساح المجال للمواهب والقابليّات البشريّة للتكامل ، والانطلاق في دروب التقدّم والرقي ، والاستفادة من مواهب اللّه في الطبيعة دون اعتداء على عقيدة الآخرين وأخلاقهم وأمنهم وراحتهم.

إنّ الإسلام يعتقد بحريّة الإنسان في مسكنه ومعمله ، وفي كلّ مجالات حياته ولكن في إطار الأخلاق والإنسانيّة وقيم الدين ، التي من شأنها توظيف الحريّة في سبيل إسعاد الإنسان.

وقد مرّ مجمل القول في ذلك عند البحث عن خصائص الحكومة الإسلاميّة الخصيصة السادسة.

5. الإنتاج في إطار الإنسانيّة

إنّ كلا المنهجين ( الرأسماليّ والاشتراكي ) لا يعترفان بمانع ولا حاجز في طريق الإنتاج ، فهما يطلبان المزيد منه بالعمل والسعي ويرفضان كلّ قيد وشرط في هذا السبيل إلاّ إذا كان يساعد بدوره على تصعيد الإنتاج ، واستدرار المزيد من الأرباح والعائدات !! بينما يقيم الإسلام بعض الموانع ، ويضع بعض القيود في هذا السبيل ، ويقيّد العمل والإنتاج ببعض الشروط والحدود ، فلا يمكن للناس أن ينتجوا كل ما تهواه نفوسهم حتّى إذا كان يعود على أخلاقهم وعقيدتهم وحياتهم بسوء أو أذى ، فحتّى الأسلحة والوسائل الحربيّة التي يسمح الإسلام بإنتاجها ، إنّما يسمح به لأجل الدفاع عن حوزة الإنسان والإنسانيّة ، ولأجل تحصين البشر من شرّ أنفسهم ، وها هو القرآن الكريم يشير إلى هذه الحقيقة بقوله : ( وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ ) ( الأنبياء : 80 ).

ص: 489

6. العدالة الاجتماعيّة هو الهدف الأسمى

إنّ العدالة الاجتماعيّة هي الأصل والأساس ، وهي الهدف الأسمى والمطلب الأعلى في الاقتصاد الإسلاميّ ، وهو أصل حاكم على كلّ برامجه ، ومقرّراته وتعاليمه.

إنّ تمركز الثروة عند طبقة خاصّة وتكدّسها عند جماعة معدودة أمر مرفوض في منطق الإسلام رفضاً قاطعاً ، لأنّه يتنافى وأصل العدالة الاجتماعيّة التي يسعى الإسلام إلى إقامتها ونشرها في المجتمع البشريّ ، فيجب على ( الحاكم الإسلاميّ ) أن يخطّط للاقتصاد تخطيطاً يضمن تداول الثروة بين جميع أبناء الاُمّة بصورة عادلة ، ويحول دون تداولها بين الأغنياء خاصّة ... الذي منع عنه القرآن الكريم بقوله : ( كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ) ( الحشر : 7 ).

ولأجل ذلك حرّم الإسلام ( الكنز ) (1) كما يقول سبحانه : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( التوبة : 34 ).

ولتحقيق هذه العدالة الاجتماعيّة المتوخّاة ، يرفض الإسلام أي تمييز واستثناء بين أفراد الاُمّة الإسلاميّة ، ومن هنا لا تختصّ المنابع الطبيعيّة التي سنشرحها في الأنفال والأرض منها خاصّة ، بفئة دون فئة ، أو فرد دون فرد ، أو طبقة دون طبقة ... بل للدولة الإسلاميّة حقّ النظارة وأولويّة الاستفادة منها وصرف عائداتها في مصالح الشعب بلا تمييز ولا استثناء ، أو قيام أفراد الشعب بأنفسهم باستثمار تلك المنابع حسب الضوابط التي تستوجبها المصلحة الراهنة.

7. لا إسراف ولا تبذير

كما أنّ الإسلام خطى خطوة اُخرى في سبيل تحقيق هذه العدالة فنهى عن الإسراف والتبذير لأنّ في ذلك إهدار للطاقات ، وتضييع لحقوق الآخرين ، وهو أمر

ص: 490


1- وللبحث حول حقيقة الكنز وبماذا يتحقّق مجال آخر.

مخالف لأصل العدالة التي يسعى الإسلام إلى إقامتها. يقول اللّه سبحانه : ( وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ) ( الاسراء : 26 - 27 ).

ويقول سبحانه : ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ ) ( الأعراف : 31 ).

8. الأخلاق عامل أصيل

إنّ جميع المفاهيم الأخلاقية لا معنى لها ولا مبرّر في النظامين الاقتصادييّن ( الرأسماليّ والاشتراكيّ ) إلاّ إذا ساعدت على زيادة الإنتاج وزيادة الاستهلاك وإنجاح الأهداف الاقتصاديّة ، بل إنّ الفكر الاشتراكيّ يعتبر الأخلاق وليدة الظروف الاقتصاديّة ، وبذلك تعتقد بعدم أصالتها في الحياة البشريّة ، ولكن الإسلام يعتبر لهذه المفاهيم أصالة وواقعيّة بصرف النظر عن القضايا الاقتصاديّة وإن كانت ترتبط بها أحياناً.

ولهذا ورد الحثّ عليها حثّاً مطلقاً وأكيداً فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ اللّه يحبّ مكارم الأخلاق ويبغض سفسافها » (1).

وعن أبي عبد اللّه الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال : « عليكم بمكارم الأخلاق فإنّ اللّه عزّ وجلّ يحبّها ، وإيّاكم ومذامّ الأخلاق فإنّ اللّه عزّ وجلّ يبغضها » (2).

فالذي يطلب الدنيا وشهواتها ولذائذها ويضحّي في سبيل ذلك بكلّ القيم والأخلاق فهو إنسان في صورته وحيوان في سيرته كما قال الإمام عليّ علیه السلام : « فالصورة صورة إنسان والقلب قلب حيوان لا يعرف باب الهدى فيتّبعه ولا باب العمى فيصدّ عنه فذلك ميت الأحياء » (3).

ص: 491


1- سفينة البحار 1 : 411.
2- وسائل الشيعة ( كتاب جهاد النفس ) 11 : 156.
3- نهج البلاغة : الخطبة 83.

هذا مضافاً إلى أنّ الإسلام يعتبر العامل الأخلاقيّ خير وسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعيّة التي ينشدها ، ويعزّي أكثر الانحرافات الاقتصاديّة إلى انعدام الأخلاق الفاضلة والسجايا الإنسانيّة.

9. الاقتصاد وسيلة لا هدف

إنّ كلا المنهجين الرأسماليّ والاشتراكيّ يجتهدان لتحقيق أهداف ثلاثة لا شيء وراءها :

1. التخطيط لما يجب إنتاجه من البضائع.

2. التفكير في الكيفيّة التي يجب الإنتاج بها من حيث الوسائل ، والقوى العاملة.

3. التفكير في كيفيّة التوزيع ، والتخطيط لذلك.

إنّ أفضل نظام اقتصاديّ في نظر أصحاب هذين النظامين ، هو الذي يقدر على ضمان هذه الاُمور الثلاثة وإعطاء الاقتراحات المناسبة لذلك بأحسن وجه ، وأمّا ما هو الهدف الأصليّ من تحقيق هذه الأهداف الثلاثة ؟ فلم يفكّر فيه النظامان المذكوران ، ولا أنّهما أجابا عليه.

ويمكن أن يقال : إنّ الإجابة على هذا السؤال ليست من اختصاص النظام الاقتصاديّ ، بل هو من مسؤوليّة العالم الفلسفيّ ، وشؤونه ، بيد أنّنا عندما نراجع العالم الماديّ الذي يستند إليه هذان النظامان لا نجد عنده جواباً كذلك.

من هنا لا بدّ أن نعتبر هذه الأهداف الثلاثة مثلّث الضياع والعبث والحيرة فالذي يلاحظ هذا المثلّث : ( العمل لأجل الأكل ، والأكل لأجل البقاء ، والبقاء لأجل العمل ) لا يرى فيه سوى العبث واللاهدفيّة والضياع.

إنّ مثل هؤلاء مثل سفينة يجهّزها صاحبها بأحسن الوسائل ، ويملأها بأنواع الزاد ، ويحمل الناس فيها ، ثمّ يسافر بها إلى وسط المحيط حيث لا يرى للماء ساحل ، ثمّ

ص: 492

يصير هناك حيران لا يعرف مقصداً ، ولا يطلب هدفاً ، أو يرجع إلى مكانه الأوّل.

إنّ الذاهبين إلى تلخيص الحياة في الهدف الماديّ مثلهم كمثل هذا الربّان لا يهدفُ من رحلته مقصداً ولا يقصد منها غاية وهل أمر ذلك إلاّ في خسار.

أجل ، هذا هو كلّ ما يقصده ويسعى إليه النظامان الاقتصاديّان الرأسماليّة والاشتراكيّة : زيادة في الإنتاج ، وتخطيط للتوزيع ، وتطوير في وسائل الإنتاج ، ولا شيء وراء ذلك ، ولكنّ الإسلام يعالج هذه المسألة معالجة منطقيّة واقعيّة فهو يعتبر الدنيا مقدّمة للآخرة ومزرعة لها ، وأنّ على الإنسان أن لا يحصر اهتمامه في هذه الحياة العابرة ، بل يسعى للآخرة دون أن ينسى نصيبه من الدنيا ، كما قال اللّه تعالى : ( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ ) ( القصص : 77 ).

ولابد هنا من الإشارة إلى المواضيع التي تضمّنتها هذه الآية :

إنّ قوله تعالى : ( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ ) يشير إلى أنّ طلب الدنيا يجب أن يكون لأجل الآخرة فتكون الآخرة هي المقصد والغاية ، وحيث أمكن أن يتوهّم من هذا الكلام أنّ الإسلام يدعو إلى الرهبنة وترك الدنيا ، إستدرك اللّه سبحانه ذلك بقوله : ( وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) فأفاد بذلك أنّه لا رهبانيّة في الإسلام.

فعلى المسلم أن يقصد الآخرة ويهدفها ولكن دون أن ينسى نصيبه من الدنيا إذ لا معاد لمن لا معاش له.

وأمّا قوله سبحانه : ( وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللّهُ إِلَيْكَ ) فهو إشارة إلى أنّ على الإنسان أن يعلم بأنّ ما وصل إليه إنّما هو بإحسان اللّه إليه ، فعليه أن يقابل ذلك الإحسان بأداء ما افترض اللّه عليه من حقوق والقيام بما ندبه إليه من واجبات اجتماعيّة.

وقوله سبحانه : ( وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ ) إشارة إلى كيفيّة الإنفاق والمصرف ، فعلى المسلم أن لا ينفق في باطل ، ولا يسرف ولا يبذّر ولا يعبث ولا يصرف مال اللّه في لهو أو فساد.

ص: 493

10. الإنسان محور وليس آلة

إنّ للإنسان - في الاقتصاد الإسلاميّ - مقاماً رفيعاً ، وشأناً كبيراً ، فهو لم يخلق للإنتاج والاستهلاك ، وهو لم يأت إلى هذه الحياة ليكون مسماراً في معمل أو حيواناً مستهلكاً في زريبة. بل هو كائن مكرّم خلقت الأشياء لأجله ولم يخلق هو لأجلها ولذلك فليس الإنسان عبداً أسيراً بيد الاقتصاد ، وآلة طيّعة بأيدي الاقتصاديّين ليستغلّوه كيفما شاؤوا ، ويستخدموه كيفما أرادوا ، كيف وقد جعله اللّه حرّاً كما قال الإمام عليّ علیه السلام : « لا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه حرّاً » (1).

وأيّة عبوديّة أشدّ وأوضح من تعلّق الإنسان بالمال ، وفنائه في الإنتاج والتوزيع والاستهلاك ؟ وهل جاء الإنسان إلى هذه الحياة ليفعل ما تفعله الحيوانات في حظائرها وزرائبها كما يقول الإمام عليّ علیه السلام : « ما خلقت ليشغلني أكل الطيّبات كالبهيمة المربوطة همّها علفها ، أو المرسلة شغلها تقمّمها ، تكترش من أعلافها ، وتلهو عمّا يراد بها ، أو اترك سدىً ، أو أهمل عابثاً ، أو أجرّ حبل الضّلالة أو اعتسف طريق المتاهة » (2).

فذلك لا يتفق مع المكانة التي رشّحه اللّه سبحانه لها ، والمقام الذي ندبه إليه ، وهو مقام الخلافة الإلهيّة في الأرض ، التي صرح بها القرآن الكريم إذ قال : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) ( البقرة : 30 ).

وهو الذي كرّمه اللّه سبحانه ، وفضّله على كثير ممّن خلق إذ قال : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) ( الإسراء : 70 ).

إنّ الإسلام ينظر إلى النوع الإنسانيّ من هذه الزاوية ، وبهذا المنظار ، فإنّ الإنسان - في منطق الإسلام - كائن مكرّم ، ذو مكانة رفيعة فلا تجوز الاستهانة بقيمته ، وتلخيص

ص: 494


1- نهج البلاغة : قسم الكتب : الرقم 31.
2- نهج البلاغة : قسم الكتب : الرقم 45.

حياته ووجوده في الإنتاج والاستهلاك ، وتلبية الغرائز الحيوانيّة وإشباعها.

وإذا نظر الإسلام إلى القضيّة الاقتصاديّة والاُمور المعيشيّة من مسكن وغذاء وغيرهما ، فلأجل أنّ كرامة الإنسان وتكامله يستدعيان ذلك ، وبذلك يكون الاقتصاد في نظر الإسلام وسيلة لا هدفاً ، وطريقاً لا غاية ونهاية.

من هنا لا يصحّ - مطلقاً - أن نتوخّى من الاقتصاد الإسلاميّ ، ما نتوقّعه من الاقتصادين الرأسماليّ والاشتراكيّ فإنّ هذين المنهجين ينظران إلى الإنسان بما أنّه ( منتج ) أو ( مستهلك ) ولا تهمّهما كرامته وشخصيّته ، ومن هنا كان الاقتصاد في هذين المنهجين هدفاً وغاية ، وكان الإنسان فيهما وسيلة وآلة ، فلا اعتناء بشأنه ، ولا اهتمام بكرامته.

ولا تنس ما ذكرناه في أوّل البحث من أنّ الهدف من هذا الفصل هو بيان مسألة دعوة الإسلام إلى التنمية الاقتصاديّة وبيان إطاراتها دون بيان المنهج الاقتصاديّ للإسلام فإنّ لذلك مجالاً آخر.

ص: 495

برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها

4

الحكومة الإسلاميّة والصحّة الفرديّة والصحّة العامّة

عناية الإسلام بصحّة الأبدان

لم يحصر الإسلام عنايته بالاُمور الاُخرويّة وحدها ، بل عمّم هذه العناية للاُمور الماديّة والدنيويّة أيضًا ، وعلّم المسلم أن يطلب من اللّه سبحانه حسنة الدنيا والآخرة : ( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً ) ( البقرة : 201).

ومن هنا اهتمّ الإسلام بالجسد اهتمامه بالروح ، وحرص على سلامة الأبدان وتقويتها كما حرص على سلامة الأرواح وتقويتها سواء بسواء ، ولأجل هذا نجد القرآن الكريم إذا ذكر نعمة اللّه على أحد من عباده لم يكتف بذكر النعم المعنويّة كالعلم ، بل ذكر إلى جانب ذلك نعمة القوّة البدنيّة ، والكمال الجسديّ.

فهو عندما يتحدّث عن ( طالوت ) الذي أرسله اللّه لقيادة بني اسرائيل قال في وصفه : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ

ص: 496

وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( البقرة : 247 ).

وهو عندما يتحدّث عن أبرز صفتين من صفات موسى علیه السلام على لسان ابنة شعيب يذكر أمانته وقوّته الجسمانيّة فيقول : ( يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ ) ( القصص : 26 ).

إنّ صاحب الجسم العليل لا تتاح له الفرصة الكاملة للسير صعداً في مضمار الحياة ، والقيام بواجبه الإنسانيّ كأيّ عضو سليم ، صحيح البدن ، معتدل البنية من أعضاء المجتمع البشريّ وذلك للصّلة الوثيقة بين الروح والجسدفي الكيان الإنسانيّ والتأثير المتقابل بينهما ومن هنا مدح القرآن الكريم الكمال الجسمانيّ والقوّة البدنيّة ، كما مرّ عليك في الآيتين السابقتين ، فإنّ القوّة البدنيّة إذا انضمّت إلى سلامة العقل أنتجت جودة الفكر ، وحسن التدبير ، وسعادة الحياة ولهذا ذكر القرآن بعد مسألة الاصطفاء والاختيار « العلم والقوّة البدنيّة » إيذاناً وإعلاماً بأنّ الاصطفاء والاختيار كان باعتبار القوّة البدنيّة إلى جانب العلم ممّا يعني أنّ للجسم والكمال الجسمانيّ قسط من الثمن ، ومدخليّة في السعادة أو الشقاء سلباً أو إيجاباً.

وانطلاقاً من حرص الإسلام على صحّة الأبدان وسلامتها ، وقوّتها واستقامتها يرفع الدين أي تكليف شاقّ مضرّ بالبدن ، عن الناس ، فرفع اللّه الصيام عن ( المريض ) و ( المسافر ) ، إذ يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ( البقرة : 183 - 184 ).

وإنّما رفع الصوم عن المسافر لأنّ السفر بنفسه مضنّة النصب ، وهو من مغيّرات الصحّة فإذا وقع فيه الصيام ازداد التعب والنصب ولهذا أيضاً جوّز القرآن للمحرم المريض أو من به أذى في رأسه أن يحلق رأسه إذا كان إبقاء الشعر يوجب الأذى فقال تعالى : ( وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن

ص: 497

رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) ( البقرة : 196 ).

وهو إشارة إلى جواز حلق الرأس الذي منع منه المحرم ، للتخلّص من الأذى الحاصل بسبب إبقاء الشعر ، وانحباس الحرارة في الرأس ، بل يرفع الإسلام كلّ ما يجهد البدن ويتعبه ويضنيه ، ويجر إليه التعب والنصب كما يقول القرآن الكريم : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ) ( البقرة : 286 ).

تعاليم القرآن الصحّيّة

وفي هذا السبيل وضع الإسلام سلسلة من التعاليم الصحّية للأبدان من شأنها أن تصون الأبدان من الأمراض ، وتقيها من العلل والأسقام لو روعيت حقّ الرعاية وطبقت حقّ التطبيق وقد جاءت طائفة من هذه التعاليم في القرآن الكريم ، وتكفّلت السنّة المطهّرة ببيان البقيّة ، وها نحن نذكر باختصار ما ذكره القرآن الكريم أوّلا.

لقد حرم القرآن اُموراً ونهى عن اُمور وكره أشياء وأباح اُخرى ، وما حرّم ولا نهى ، وما كره أو أباح إلاّ لحكمة ظاهرة وأثر سيّء أو حسن على سلامة البدن وصحّته ، فحرّم أكل الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير بقوله : ( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة : 173 ).

وإنّما حرّم « الميتة » من الحيوان ( وهي التي تفارقها الحياة من دون ذبح ) لأنّ الموت إن كان عن مرض ، أضرّ بالإنسان حتّى إذا عقّم لحمها من الجراثيم فهي تسبّب المغص في المعدة ، وتسبب النزلات المعويّة ، وعشرات المضاعفات الاُخرى.

وحرّم « الدم » لأنّه أفضل مرتع للجراثيم والميكروبات المسبّبة للأمراض الخطيرة.

وحرّم « لحم الخنزير » لما يحدثه من أمراض خطيرة لما يحمله من دودة خاصّة تنتقل بالأكل إلى بدن الإنسان وتحدث لديه أمراضاً كثيرة قد تؤدّي إلى الموت.

وحرّم - أيضاً - ما يشبه الميتة كالمنخنقة ، والموقوذة ، والمترديّة ، والنطيحة فقال

ص: 498

سبحانه : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالمُنْخَنِقَةُ وَالمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ ) ( المائدة : 3 ).

لأنّ الاختناق يجعل لحم الحيوان المخنوق أسرع إلى التعفّن والفساد.

ومثل المنخنقة ، الموقوذة ، وهي التي تضرب حتّى تشرف على الموت فتترك حتّى تموت ، والمتردّية وهي التي سقطت من مكان مرتفع فماتت من أثر صدمة الوقوع ، والنطيحة وهي التي ماتت من أثر عراكها مع مثيلاتها من الحيوانات.

وبالجملة فهذه الحالات تجعل بدن الحيوان مرتعاً خصباً لنموّ الجراثيم والميكروبات ، ومعرضاً لسرعة التعفّن والفساد.

ولم يقتصر تحريم الإسلام على هذه الاُمور بل حرّم مطلق الخبائث ، إذ قال اللّه سبحانه : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ ) ( الأعراف : 157 ).

هذا مضافاً إلى أنّه حرّم تناول الخمور ( بل كلّ مسكر (1) كما في الحديث ) بقوله : ( ... إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( المائدة : 90 ).

ص: 499


1- قال الصادقّ علیه السلام : « حرّم اللّه عزّ وجلّ الخمر بعينها وحرّم رسُولُ اللّه المُسكر من كُلّ شراب فأجاز اللّه لهُ ذلك كُلّهُ » الكافي 1 : 266 ، لقد أسلفنا الكلام في الجزء الأوّل : 553 في ماهيّة هذا النوع من التحريم وقلنا : إنّ تحريم رسول اللّه لشيء يمكن أن يكون بأحد معنيين : الأول : أن يكون طلباً ودعاء من رسول اللّه صلی اللّه عليه وآله وسلم و إجابة من اللّه سبحانه كما يشير بذلك الحديث فأجاز اللّه له ذلك ». الثاني: أن يكون علماً من رسول اللّه بمناطات الأحكام وملاكاتها الواقعية، فعند ذلك يصح للرسول أن يحرم المسكر من كل شراب لعلمه بمناط الحكم في الخمر. كيف ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من أفضل مصاديق من قال فيهم أمير المؤمنين - عليه السلام : « عقلُوا الدين عقل وعاية ورعاية لاعقل سماع ورواية » نهج البلاغة ( طبعة عبده ) الخطبة 234 .

وفعل ذلك وقاية للإنسان من كثير من الأمراض والمضاعفات الناجمة عن المسكرات وتخلّصاً من الآثار والعواقب السيئة التي تتركها الخمرة على الجسم والعقل ، بل وعلى النسل والذريّة.

كما نهى القرآن الكريم عن الشراهة في الأكل ، والإسراف في المطعم والمشرب فقال : ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ ) ( الأعراف : 31 ).

ومن المعلوم أنّ هذه الآية - على قصرها - تنطوي على أهمّ قانون من قوانين الوقاية الصحيّة ، والحفاظ على سلامة البدن ، فالإنسان إذا أكثر من الأكل اُصيب بعسر الهضم الذي يستوجب أمراضاً عديدة للمعدة مذكورة في محلّها.

وفي هذا السياق نجد الإسلام يفرض الصوم على المسلمين فيقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة : 183 ) ، لما في الصوم من فوائد عظيمة على البدن عرفها العلم الحديث أخيراً ، وأخذ به لعلاج الكثير من الأمراض.

ولم ينته الأمر إلى هذا الحدّ ، بل كشف القرآن للناس عمّا ينفعهم أو يشفيهم من بعض الأسقام فأشار إلى العسل فوصفه بأنّ فيه شفاء للأسقام إذ قال : ( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) ( النحل : 68 - 69 ).

كما حثّ على اُمور من شأنها أن توفّر الأجواء الصالحة المناسبة لسلامة البدن في الجانب الفرديّ والاجتماعيّ كالتطهّر والنظافة ، فحثّ على التزام التنظّف وتعاهده حتّى أنّ أوّل تعليم تلقّاه النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله هو : ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) ( المدثر : 4 ).

وقال مادحاً الذين يتطهّرون : ( إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ ) ( البقرة : 222 ).

وقال : ( فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ ) ( التوبة : 108 ).

ص: 500

والطهارة المذكورة أعمّ من طهارة النفس والجسد ، وتنظيف الباطن والظاهر.

وينبّه القرآن الكريم إلى دور الماء في النظافة والطهارة فيقول : ( وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ) ( الفرقان : 48 ).

ومن أجل هذا فرض الإسلام الوضوء فدعى إلى التوضّؤ قبل كلّ صلاة ، أي في اليوم خمس مرّات ( مضافاً إلى كونه بنفسه عبادة ) إذ قال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) ( المائدة : 6 ).

ودعا إلى الاغتسال والاستحمام عند الجنابة فقال : ( وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ) ( المائدة : 6 ).

أو التيمّم بالتراب الطاهر بدلاً عن الغسل أو الوضوء إذا تعذّر الماء ، أو تعسّر استعماله فقال : ( ... فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ) ( المائدة : 6 ).

وذلك لأنّ التراب الطاهر يصون الجسم من الميكروبات ، مضافاً إلى أنّ التيمّم بالتراب يتضمّن الخضوع لله سبحانه وهو بنفسه عبادة.

وقد فرض الإسلام هذه الأنواع من الطهارات لأنّها طريق إلى نظافة الجسم وهي بدورها طريق إلى الحفاظ على سلامته ... ولذلك قال القرآن معقّباً على الأمر بالوضوء أو الاغتسال أو التيمّم : ( مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( المائدة : 6 ).

وهي إشارة واضحة إلى الهدف من هذه الطهارات.

ومن هذا الباب نهى الإسلام عن مقاربة النساء ( الأزواج ) وهنّ في حالة ( المحيض ) وقاية عن الأمراض الجسمية والمعنويّة الناجمة عن ذلك فيقول : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ

ص: 501

المُتَطَهِّرِينَ ) ( البقرة : 222 ).

وهو أمر أكّده الطبّ الحديث ، وكشف عن أضراره بالنسبة إلى الزوج والزوجة معاً ، فإنّ الدم الفاسد الذي تفرزه المرأة أثناء العادة الشهريّة يحتوي على ميكروبات عديدة وجراثيم متنوّعة لا تلبث أن تصيب الرجل فتحدث له الالتهابات ، كمّا أنّه في زمن المحيض تحتقن أغشية المرأة الداخليّة ، وفي المقاربة الجنسيّة قد يحدث لها التمزّق فتنتشر العدوى من الميكروبات ، وتؤثّر في صحّة المرأة ، وتضّر بها ، وقد تسبّب لها السرطان ، بسبب التمزّق كما يقول العلم الحديث.

كما نهى الإسلام عن ( الزنا ) وقاية من كثير من الأمراض الجنسيّة إذ يقول سبحانه : ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً ) ( الإسراء : 32 ).

فالزنا - مضافاً إلى أنّها توجّه ضربة كبيرة إلى العلاقات الاجتماعيّة السليمة ، والقيم الأخلاقيّة الرفيعة ، تسبّب أمراضاً جنسيّة خطيرة كالزهريّ والقرحة والسيلان للرجل والمرأة كليهما.

هذه هي أهمّ التعاليم الصحيّة التي يشير إليها القرآن الكريم ، وهي توافق في نتائجها ، وفلسفتها ، وعللها ، أحدث ما توصّل إليه العلم الحديث.

الصحّة في السنّة المطهّرة

لقد حفلت السنّة المطهّرة المرويّة عن النبيّ والأئمّة من أهل البيت بطائفة كبيرة جداً من التعاليم الصحيّة سواء في مجال الوقاية ، أو النظافة ، أو العلاج وسواء في مجال الصحّة الفرديّة أو العامّة ، وقد دوّنت هذه التعاليم وجمعت هذه الأحاديث القيّمة في الكتب والمؤلّفات التي ألّفها علماء الإسلام حول الطبّ ، وقوانين الصحّة فجاؤوا في هذا المضمار بما يكشف عن أنّ الإسلام سبق العلم الحديث في وضع برنامج كامل للصحّة لا يعرف له مثيل وإليك فيما يأتي أسماء بعض تلك المؤلّفات الخاصّة بطبّ النبيّ وأهل بيته الطاهرين :

ص: 502

1. طبّ النبيّ : للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد اللّه الأصفهانيّ ، المتوفّى عام ( 430 ه ).

2. طبّ النبيّ : للشيخ الإمام أبي العبّاس المستغفريّ ، ينقل عنه المحقّق الطوسي في آداب المتعلّمين.

3. طبّ النبيّ : لأبي الوزير أحمد الأبهريّ ، وينقل عنه العلاّمة المجلسيّ في كتاب العترة من بحار الأنوار.

4. طبّ أهل البيت : للسيّد أبي محمّد زيد بن عليّ بن الحسين. تلميذ شيخ الطائفة الطوسيّ.

5. طبّ الإمام الصادق : جمعه الطبيب الماهر محمّد بن صادق الرازيّ طبع عام ( 1374 ه ).

6. طبّ الرضا : الموسوم بالرسالة الذهبيّة ، أورد تمامه العلاّمة المجلسيّ في مجلّد السماء والعالم من موسوعته بحار الأنوار.

وأنت إذا راجعت الكتب الحديثيّة للفريقين وبالأخصّ ما ألّفه علماء الشيعة ومؤلّفوهم ، وجدت اهتماماً خاصّاً من النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته الطاهرين بسلامة الأبدان وعافيتها.

كما أنّك إذا راجعت الكتب الحديثيّة والفقهيّة الإسلاميّة وجدت فيها أبواباً خاصّة ترتبط بهذا الجانب الحيويّ من الحياة الفرديّة والاجتماعيّة مثل كتاب الأطعمة والأشربة ، وكتاب الزيّ والتجمّل وهما بابان واسعان عقدهما صاحب وسائل الشيعة ، والكافي في كتابيهما ، ومثل كتاب مكارم الأخلاق للطبرسيّ (1) المخصّص لهذا الجانب

ص: 503


1- وهو الشيخ أبو نصر رضي الدين الحسن الطبرسيّ وهو نجل العلاّمة الطبرسيّ صاحب تفسير مجمع البيان وقد طبع مرّة بالحروف في مطبعة بولاق سنة ( 1300 ه ) ومرّة بالحروف في مطبعة الخيريّة سنة ( 1303 ه ) وبهامشه طهارة الأعراق لابن مسكويه ثمّ طبع عدّة مرّات والمؤلّف من أعلام المائة السادسة.

وغير ذلك من الأبواب ، والكتب وإليك بعض الأحاديث المرويّة عن الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته المكرمين علیهم السلام في مجال الطبّ ، والوقايّة الصحيّة ، وقضايا السلامة الجسديّة ، ونقتصر في ذلك على المهمّات :

قال النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « المعدة بيت الدّاء والحميّة هي الدّواء ، وعوّد البدن ما اعتاد ».

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « لا يستغني أهل كلّ بلد عن ثلاثة تفزع إليهم في أمر دنياهم وآخرتهم ، فإن عدموا كانوا همجاً : فقيه عالم ورع وأمير خيّر مطاع وطبيب بصير ثقة ».

وروي عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « إنّ في صحّة البدن فرح الملائكة ومرضاة الرّبّ وتثبيت السّنّة ».

وأنّه قال صلی اللّه علیه و آله : « لا خير في الحياة إلاّ مع الصّحّة ».

وفي مجال العلاج والمداواة قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « تجنّب الدّواء ما احتمل بدنك الدّاء ، فإذا لم يحتمل الدّاء ، فالدّواء ».

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « إمش بدائك ما مشى بك ».

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « من ظهرت صحّته على سقمه فعالج نفسه بشيء فمات ، أنا إلى اللّه بريء منه ».

وفي رواية اُخرى : « فشرب الدّواء فقد أعان على نفسه ».

وكلّ الأحاديث تشير إلى أنّ على الإنسان أن لا يستعمل الدواء إلاّ للضرورة لأنّ الدواء لا يسكن داء إلاّ ويثير آخر وفي هذا الصدد قال الإمام عليّ علیه السلام : « ليس من دواء إلاّ وهو يهيّجُ داءً ».

ولكنّ المعالجة والمداواة مطلوبة على كلّ حال ، ولهذا يقول الإمام الصادق علیه السلام : « تداوُوا فما أنزل اللّه داءً إلاّ وأنزل معه الدّواء إلاّ السّام ( أي الموت ) ».

ص: 504

ثمّ إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله والأئمّة علیهم السلام يشيرون إلى أنّ أهمّ عامل من عوامل المرض هو الأكل غير المعتدل ، والمطعم غير المستقيم قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « ما ملا ابنُ آدم وعاءً شرّاً من بطنه ، وبحسب ابن آدم لُقيمات يُقمن صُلبهُ ، فإن كان لا بُدّ فثُلث لطعامه ، وثُلث لشرابه ، وثُلث لنفسه ».

وقال الإمام عليّ علیه السلام لكميل : « صحّةُ الجسم من قلّة الطّعام وقلّة الماء.

يا كُميلُ لا تُوقرن معدتك طعاماً ودع فيها للماء موضعاً ... ».

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « لو اقتصد النّاسُ في المطعم لاستقامت أبدانُهُم ».

ثمّ إنّ الوصايا والتعاليم الصحيّة التي بيّنها النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته تنقسم إلى نوعين :

النوع الأوّل : ما يرتبط بالصحّة الفرديّة.

النوع الثاني : ما يرتبط بالصحّة العامّة.

ونحن وإن قسّمنا هذه التعاليم إلى فرديّة واجتماعيّة ، لكن الحقيقة أنّهما متداخلتان ، إذ أنّ استقامة الصحّة الفرديّة تضمن استقامة الصحّة العامّة ، وهكذا بالعكس ، فالتقسيم الموجود ليس تقسيماً حقيقيّاً.

التعاليم الصحيّة الفرديّة

لقد اعتنى الإسلام على لسان النبيّ وأهل بيته المطهّرين بالصحّة الفرديّة عناية بالغة تفوق الوصف فسنّوا اُمواراً وأعمالا من شأنها - إذا روعيت - أن تقي الإنسان كثيراً من الأمراض والأسقام ، وتهيّء جوّاً سليم ورائعاً من الصحّة ، والعافية ، ففي مجال المطعم والمشرب نهى النبيّ عن أكل الطعام الحار فقال صلی اللّه علیه و آله : « برّد الطعام فإنّ الحارّ لا بركة فيه ».

ونهى عن النفخ في الطعام فقال صلی اللّه علیه و آله : « النّفخُ في الطعام يُذهبُ بالبركة ».

ص: 505

ونهى الإمام الصادق علیه السلام عن ترك العشاء فقال : « أصلُ خراب البدن تركُ العشاء ».

ودعا إلى غسل اليدين قبل الطعام فقال : « من غسل يده قبل الطعام وبعده عاش في سعة وعوفي من بلوى في جسده ».

ونهى عن كثرة الأكل فقال : « كثرة الأكل مكروه ».

وقال : « الأكل على الشّبع يورث البرص ».

ودعا الرسول صلی اللّه علیه و آله إلى الافتتاح بالملح والاختتام به عند الطعام فقال : « يا عليّ افتتح بالملح واختتم به فإنّه شفاء من سبعين داءً منها الجنون والجذام والبرص ووجع الحلق ووجع الأمراض ووجع البطن ».

وقال : « افتتحوا بالملح واختتموا به وإلاّ فلا تلوموا إلاّ أنفسكم ».

وحول آداب الشرب وكيفيّته السليمة : يقول الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « لا يشربنّ أحدكم الماء من عروة الإناء فإنّه مجتمع الوسخ ».

وقال : « لا يشرب من عند عروته ( أي عروة الكوز أو الأناء ) ولا من كسر إن كان فيه ».

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « لا تشربوا الماء من ثلمة الأناء ولا من عروته فإنّ الشيطان يقعد على العروة والثلمة ».

وقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « مصّوا الماء مصّاً ولا تعبّوه عبّاً فإنّه يوجد منه الكباد » ( مرض يصيب الكبد ).

وقال الإمام الرضا علیه السلام : « من أراد أن لا تؤذيه معدته فلا يشرب بين طعامه ماءً حتّى يفرغ ، ومن فعل ذلك رطب بدنه وضعفت معدته ولم تأخذ العروق قوّة الطّعام فإنّه يصير في المعدة فحا إذا صبّ الماء على الطعام أوّلاً فأوّلا ».

وفي مجال مضغ الطعام قال الإمام عليّ علیه السلام في وصيّته لابنه الحسن علیه السلام : « ... وجوّد المضغ ».

ص: 506

وفي مجال العناية بالملبس : قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « من اتّخذ ثوباً فليطهّره » وفي رواية « فلينظّفه » وقال الصادق علیه السلام : « النّظيف من الثّياب يذهب الهمّ والحزن ».

وقال في جواب من سأله هل يجوز أن يكون للمؤمن عشرة ثياب : « نعم ... وثلاثون ... فليس هذا من السّرف ».

وقال : « لبس الخفّ يزيد في قوّة البصر ».

وقال الإمام الباقر علیه السلام : « لبس الخفّ أمان من السّل ».

وفي مجال العناية بالحذاء : قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « إدمان لبس الخفّ ( أي الحذاء ) أمان من الجذام ، شتاءً وصيفاً ».

وقال : « من اتّخذ نعلاً فليستجدها ».

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « إستجادة الحذاء وقاية للبدن ».

وحول نظافة المسكن وسعته : قال الإمام الصادق علیه السلام : « من سعادة المرء حسن مجلسه وسعة فنائه ، ونظافة متوضّئه ».

وقال علیه السلام : « من الشّقاء المسكن الضيّق ».

وقال علیه السلام : « من سعادة المرء المسلم سعة المنزل ».

وقال علیه السلام : « غسل الإناء ، وكسح الفناء ( أي كنس البيت ) مجلبة للرّزق ».

وقال صلی اللّه علیه و آله : « اكنسوا أفنيتكم ولا تشبّهوا باليهود ».

وقال الإمام علي علیه السلام : « لا تأووا التّراب ( أي القاذورات ) خلف الباب فإنّه مأوى للشّياطين » (1).

وقال علیه السلام : « نظّفوا بيوتكم من حول العنكبوت فإنّ تركه في البيت يورث

ص: 507


1- لقد وردت كلمة ( الشيطان ) في كثير من الروايات الصحيّة ، وحيث إنّ الشيطان كائن يترقّب منه الشرّ ويضرّ بالإنسان فاستعير لفظه في هذه الأحاديث للجراثيم والميكروبات التي تضرّ بالحياة البشريّة ولا يستبعد ذلك بل يلمسه كلّ من له إلمام بالأحاديث الإسلاميّة. كما أنّ إطلاق الجن عليها من باب أنّ الجن في اللغة هو الموجود الذي لا يری بالعين.

الفقر ».

وقال : « لا تبيّتوا القمامة في بيوتكم فأخرجوها نهاراً فإنّها مقعد الشّيطان ».

وقال الإمام الصادق علیه السلام حول المناديل الوسخة ووجودها في البيت : « لا تأووا منديل اللحم في البيت ، فإنّه مربض الشّيطان ».

وحول تنظيف شعر الرأس وتمشيطه وتسريحه أو استئصاله قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « كثرة تسريح الرأس ... تجلب الرّزق و ... ».

وقال : « مشط الرأس يذهب بالوباء ».

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « استأصل شعرك يقلّ درنه ، ودوابه ووسخه ، ويجلو بصرك ويستريح بدنك ».

وقال صلی اللّه علیه و آله : « من اتّخذ شعراً فليحسن ولايته أو ليجزّه ».

وحول تقليم الأظفار قال النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « تقليم الأظفار يمنع الدّاء الأعظم ويدرّ الرّزق ».

وقال : « من أدمن أخذ أظفاره كلّ خميس لم ترمد عينه ».

وقال الإمام الباقر علیه السلام : « إنّ أستر وأخفى ما يسلّط الشّيطان على ابن آدم أن صار يسكن تحت الأظافير ».

وقال : « تقليم الأظفار يوم الجمعة يؤمّن من الجذام والبرص والعمى ».

وقال : « إنّما قصّ الأظفار لأنّها مقيل الشّيطان ومنه يكون النسيان ».

وحول شعر الأبط والشارب الذي يكون موضعاً مناسباً وصالحاً لنموّ الجراثيم قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « لا يطوّلنّ أحدكم شعر أبطه فإنّ الشيطان يتّخذه مخبئاً يستتر به ».

وقال : « لا يطوّلنّ أحدكم شاربه فإنّ الشيطان يتّخذه مخبئاً يستتر به ».

وفي مجال العناية بالعين دعا الإسلام إلى التكّحل وغير ذلك فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « الكحل ينبت الشّعر ، ويحفظ الدمعة ويعذب الريق ويجلو البصر ».

وفي مجال العناية بالاسنان دعا إلى تنظيفها باستمرار وذلك بالسواك والمضمضة

ص: 508

فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « لولا أن أشققّ على امّتي لأمرتهم بالسّواك ( أي لأوجبته عليهم وجوباً ) ».

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « في السّواك عشرُ خصال ( أي فوائد ) : مطهرة للفم ، ومرضاة للرّب ، ومُفرحة للملائكة وهو من السّنة ، ويشُدّ اللّثّة ويجلُو البصر ، ويذهبُ بالبلغم ، ويذهبُ بالحُفر ».

وحول الاستحمام وغسل الرأس قال الإمام موسى بن جعفر علیه السلام : « الحمّامُ يوم ويوم لا ، يُكثرُ اللّحم ».

وقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « غسلُ الرّأس بالخطميّ في كُلّ جُمعة أمان من البرص والجُنُون والصُداع وطهُور للرّأس من الخزار ( أي القرع ) ».

وحول الختان قال النبي صلی اللّه علیه و آله : « طهّرُوا أولادكُم اليوم السابع فإنّهُ أطيبُ وأطهرُ وأسرعُ لنبات اللحم ».

وحول عدة اُمور اُخرى من هذا الباب قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله :

« خمس من السُنن في الرّأس وخمس في الجسد.

فأمّا التي في الرّأس فالسّواكُ وأخذُ الشّارب وفرقُ الشعر والمضمضةُ والاستنشاق.

وأمّا التي في الجسد فالختانُ وحلقُ العانة ونتفُ الأبطين وتقليمُ الأظفاروالاستنجاءُ » (1).

هذا هو بعض ما أمكن إيراده من التعاليم والتوصيات في مجال الصحّة الفرديّة ، والسلامة الشخصيّة ، وهي غيض من فيض ، وقليل من كثير ، وإنّما ألمحنا إلى ذلك للإلفات إلى جانب من البرنامج الصحّي في النظام الإسلاميّ وأعرضنا عن الإلمام الكامل بتلك التعاليم رعاية للاختصار.

ص: 509


1- وسنوقّفك على مصادر تلك الأحاديث قريباً.
التعاليم الصحيّة العامّة

للإسلام تعاليم وبرامج صحيّة عامّة توجب مراعاتها حفظ الصحّة العامّة ، وعدم انتقال الأمراض ، وسرايتها ... وهي تعتبر من أفضل وأعظم البرامج الوقائيّة التي عرفها العالم اليوم.

فقد دعا النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى دفن كلّ ما من شأنه أن يلوّث الهواء والجوّ كالأشياء التي تنفصل من الإنسان من الفضلات والزوائد ، فعن عائشة قالت :

( انّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يأمر بدفن سبعة أشياء من الإنسان : الشعر والظفر والدم والحيض والمشيمة والسنّ والعلقة ).

ونهى النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن الفرار من الطاعون إذا جاء في بلد ، وحكمة ذلك أن لا يسري المرض إلى بلد آخر ، فتنتشر العدوى وتتعرّض السلامة العامّة للخطر.

فقال : « إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها ، وإذا نزل وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها » (1).

وقال للوقاية من العدوى أيضا : « لا يورد ممرض على مصحّ ».

وقال : « فرّ من المجذوم فرارك من الأسد ».

ومن هذا الباب نهى الإسلام عن الاشتراك في المنديل ... فقد روي عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال : « كانت لأمير المؤمنين علیه السلام خرقة يمسح بها إذا توضّأ للصّلاة ثمّ يعلّقها على وتد ولا يمسحه غيره ».

ومن هذا الباب أيضا أوجب الإسلام إزالة النجاسة عن المساجد ، كما أوجب دفن الأموات ، ونزح البئر إذا سقط فيها شيء نجس أو مات فيه حيوان ، كما نهى عن تعاطي النجاسات وبيعها وشرائها ومنها الخمر ، قال الرسول صلی اللّه علیه و آله : « لعن اللّه الخمر وشاربها وساقيها ومبتاعها وبائعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه ».

ص: 510


1- رواه أصحاب السنن ، وتاريخ الطبريّ 4 : 57 ، طبع دار المعارف شرح حوادث سنة ( 27 ه ).

هذا ولعلّ من أبرز ما يدلّ على عناية الإسلام بالصحّة العامّة هو حثّه البالغ على الزواج لأنّ الزواج لو تحقّق بصورة سليمة تكفّل شطراً كبيراً من سلامة الفرد والجماعة. إذ الزواج علاج طبيعيّ مفيد لكثير من المفاسد الخلقيّة والصحيّة التي تصيب المجتمع كما أنّه علاج ناجع لكثير من الادواء التي قد تصيب الأفراد نتيجة الحيادة العزوبيّة وما تتركه هذه الحالة من الآثار السيّئة على الصحّة.

الزواج والصحّة

لقد أصبحت قضيّة الزواج وبعدها الصحيّ الآن علماً مستقلاً من علوم الصحّة ألّفت حوله الكثير من الدراسات ، فيما كانت هذه المسألة موضع اهتمام الدين الإسلاميّ منذ أربعة عشر قرناً ... حيث أتى فيها باُمور سبق بها جميع الكشوف والتوصيات التي توصّل إليها العلم الحديث مؤخّراً.

فهو مثلاً حرّم الزواج بطائفة من النساء من المحارم إذ قال سبحانه :

( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( النساء : 23 ).

وهذا يعني أنّ الإسلام حرّم التزوّج بسبع طوائف من النساء المنتمين إلى الشخص بالنسب وهنّ التي ذكرتهنّ الآية السابقة (1).

وقد توصّل العلم الحديث أخيراً إلى علل هذا التحريم ، كما أنّ الشريعة الإسلاميّة انفردت من بين الشرائع القائمة بجعل الرضاع سبباً من أسباب التحريم ، وذلك لأنّ المرضعة التي ترضع الولد إنّما تغذيه بجزء من جسمها فتدخل أجزاؤها في

ص: 511


1- نعم لا تختصّ الحرمة بمن ذكرن في الآية.

تكوينه ، ويصبح جزءاً منها. فإنّ لبنها خلاصة من دمها منه ينبت لحم الطفل ويقوى عظمه ، وإذا كان الطفل جزءاً منها فهي كالأُمّ النسبيّة محرّمة إلى الأبد (1).

كما أنّ الإسلام نهى عن التزوّج بالحمقاء لما في مثل هذا الزواج من نتاج غير مطلوب قال الإمام علي علیه السلام : « إيّاكُم وتزويج الحمقاء فإنّ صُحبتها بلاء وولدها ضياع ».

كما نهى عن التزوّج بشارب الخمر لنفس السبب ، قال الإمام الصادق علیه السلام : « من زوَّج كريمته من شارب الخمر فقد قطع رحمها ».

ونهى عن مقاربة الزوج في فترة العادة الشهريّة لما أسلفنا ، نهياً تحريميّاً مغلظاً.

ونهى عن مقاربتها في بعض الحالات النفسيّة أو الجسديّة أو الكونيّة الخاصّة نهياً تنزيهيّاً ، لما تجرّه المقاربة في تلك الظروف والحالات والأوقات والأوضاع من آثار سيّئة على صحّة الزوج والزوجة ، وصحّة الولد الناشئ منهما.

وقد وردت تفصيلات هذه الأوقات في وصيّة مطوّلة للنبي الأكرم صلی اللّه علیه و آله إلى الإمام عليّ تجدها في كتاب مكارم الأخلاق وغيره من الكتب الحديثيّة في هذا المجال.

وقد توصّل العلم الحديث الآن إلى الكثير من علل هذه التوصيات التي سبق الإسلام إلى ذكرها.

هذا ونظراً لأهمّية الزواج من الناحية الصحّية سواء في المجال الفرديّ أو في المجال الاجتماعيّ حثّ النبيّ وأهل بيته المعصومون علیهم السلام على التزوّج ، وترك الحياة العزوبيّة وها نحن نورد هنا طائفة من الأحاديث تتميماً للفائدة :

قال النبي صلی اللّه علیه و آله : « تزوّجوا ، وزوّجوا الأيم فمن حظّ امرء مسلم انفاق قيمة أيّمة ، وما من شيء أحبّ إلى اللّه من بيت يعمر في الإسلام بالنّكاح ».

وقال : « تزوّجوا فإنّي مكاثر بكم الاُمم غداً في القيامة ».

ص: 512


1- لاحظ أحكام الرضا (عليه السلام) في الكتب الفقهيّة.

وقال : « من أحبّ أن يكون على فطرتي فليستنّ بسنّتي فإنّ من سنّتي النكاح ».

وقال : « ما يمنع المؤمن أن يتّخذ أهلاً لعلّ اللّه يرزقه نسمةً تثقل الأرض بلا إله إلاّ اللّه ».

وقال : « يا معشر الشباب من استطاع منكم الباه فليتزوّج فإنّه أغض للبصر وأحصن للفرج ».

وقال : « من تزوّج فقد أعطي نصف السّعادة ».

وقال : « إنّ من سنّتي وسنّة الأنبياء من قبلي النّكاح والختان والسّواك والعطر ».

وقال : « ما بني في الإسلام بناء أحبّ إلى اللّه من التزويج ».

وقال : « من تزوّج أحرز نصف دينه فليتّق اللّه في النّصف الآخر ».

وقال : « النّكاح سنّتي فمن رغب عن سنّتي فليس منّي ».

وقال : « أكثر أهل النّار العزّاب ».

وقال : « أراذل موتاكم العزّاب ».

وقال : « من أحبّ أن يلقى اللّه طاهراً مطهّراً فليستعفف بزوجة ».

وقال : « شرار أمّتي عزّابها ».

وقال : « شراركم عزّابكم والعزّاب إخوان الشّياطين ».

وقال : « لو خرج العزّاب من موتاكم إلى الدّنيا لتزوّجوا ».

وقال : « ما للشّيطان سلاح أبلغ في الصّالحين من النّساء إلاّ المتزوّجون اُولئك المطهّرون المبرّؤون ».

وقال عكاف أتيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال لي : « يا عكاف : ألك زوجة » قلت : لا ، قال : « وأنت صحيح موسر » قلت : نعم والحمد لله ، قال : « فإنّك إذن من إخوان الشّيطان ، إمّا أن تكون من رهبان النّصارى ، وإمّا أن تصنع كما يصنع المسلمون وإنّ من سنّتنا النّكاح ، شراركم عزّابكم وأراذل موتاكم عزّابكم - إلى أن قال - ويحك يا عكاف تزوّج

ص: 513

تزوّج وإلاّ فإنّك من الخاطئين ».

وقال الإمام عليّ علیه السلام : « لم يكن أحد من أصحاب رسول اللّه يتزوّج إلاّ قال صلی اللّه علیه و آله : كمل دينه ».

وقال الإمام الصادق علیه السلام : « ركعتان يصلّيهما المتزوّج أفضل من سبعين ركعةً يصلّيها العزب ».

ولم يكتف الإسلام بإعطاء هذا القدر من التوصيات المفيدة في مجال الزواج بل حرص على جودة النسل ؛ فنهى الزوجة الحامل عن أكل أشياء أو فعل اُمور حفاظاً على صحّتها وصحّة جنينها ، كما حثّها على تناول مأكولات خاصّة (1) ، تقوية لها ولجنينها ... وهي اُمور كشف الطبّ الحديث عن صحّتهاوعمقها وجدواها.

كما نهى عن إرضاع الطفل بلبن الحمقاء ، قال النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « لا تسترضعوا الحمقاء فإنّ اللّبن يعدي » (2).

هذه بعض ما أتى به الإسلام في مجال الزواج ، هذه المسألة الاجتماعيّة المهمّة التي يكون لها دور فعّال في حفظ الصحّة الفرديّة والعامّة مضافاً إلى حفظ العلاقات الاجتماعيّة السليمة ، وتقوية القيم والمثل الأخلاقيّة الإنسانيّة.

إهتمام المسلمين بعلم الطبّ

هذا وقد اقتفى المسلمون أثر النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته الطاهرين في العناية بالصحّة والطبّ فكتبوا الكتب الطبيّة ، وأقاموا المستشفيات بل وكان المسلمون أوّل من أقامها وأقاموا المصحّات ، وشيّدوا المختبرات ، وتخرّج منهم الأطبّاء الحاذقون الذين شاع

ص: 514


1- مثل قوله صلی اللّه علیه و آله « اسقُوا نسائكُم الحوامل اللّبن فإنّها تُزيدُ في عقل الصّبيّ ».
2- جميع الأحاديث والتعاليم الصحيّة المذكورة في هذا الفصل اقتبست من : الكافي 6 : كتاب الأطعمة والأشربة والزي والتجمل، وكتاب مكارم الأخلاق، ونهج البلاغة، وخصال الصدوق، ووسائل الشيعة 8: كتاب العشرة، فراجع الفصول والأبواب المختلفة من تلك الكتب.

صيتهم في الآفاق ولا زالت الكثير من مؤلّفاتهم وتحليلاتهم وكشوفاتهم موضع اهتمام الغربيّين.

وبالتالي نبغ فيهم رجال مثل جابر بن حيّان ، والكندي وابن مسكويه وابن سينا ، والرازيّ وغيرهم ممّن تركوا مؤلّفات كثيرة في مجال الطبّ ، وخرجوا إلى العالم بنظريّات وابتكارات في هذا المجال.

وبإمكان القارئ الكريم أن يتعرّف على هذه الاُمور من المصادر التالية :

1. الطبّ العربي ، مقدمة تدرس مساهمة العرب ( والمراد بهم المسلمون ) في الطبّ ، والعلوم المتّصلة به ، تأليف الدكتور أسعد خير اللّه.

2. الطبّ عند العرب للدكتور أحمد شوكت شطّي طبعة القاهرة مؤسّسة المطبوعات الحديثة.

3. تاريخ الصيدلة والعقاقير في العهد القديم والعهد الوسيط تأليف جورج شحاته قنواتي ، القاهرة دار المعارف عام (1959).

4. ميراث الإسلام تأليف 13 مستشرقاً واُستاذ جامعة.

5. شمس الشرق تطلع على الغرب.

6. فلاسفة الشيعة للعلاّمة الشيخ عبد اللّه نعمة.

7. وراجع كشف الظنون 2 : 86 إلى 88 ، والذريعة 15 : 135 - 144.

العناية بالصحّة وظيفة الحكومة الإسلاميّة

لا شكّ أنّ الحفاظ على الصحّة الفرديّة والصحّة العامّة وتهيئة الأجواء المناسبة لذلك لا يمكن أن يتوفّر إلاّ بأمرين :

أ - التوجيه والتثقيف الصحّي المستمر.

ب - تهيئة الأجواء الصحّية في الوسط الاجتماعيّ من قبيل إقامة المستشفيات

ص: 515

والمصحّات ، وإجراء التلقيح الصحّي للوقاية إذا داهم البلد مرض معد ، وإقامة المختبرات والمؤسّسات للتحقيق في شؤون الطبّ ، وتعاهد أمر التنظيف البلديّ.

ومن المعلوم أنّ كلّ هذه الوظائف الثقيلة لا يمكن القيام بها إلاّ بواسطة الأجهزة المزوّدة بالتخطيط والقانون والمال ... ولهذا فإنّ مسؤوليّة العناية بالصحّة الفرديّة والصحّة العامّة تقع في الدرجة الاُولى على عاتق الحكومة الإسلاميّة استلهاماً من الأحاديث الحاثّة على الصحّة في المجالين ، بل ويمكن القول بأنّ هذه المسألة من أهمّ الواجبات التي تقع على كاهل الحكومة ... إذ الحصول على اُمّة قوّية متحرّكة متقدّمة منتجة مدافعة عن نفسها لا يتيسّر إلاّ بوجود اُمّة سالمة تتمتّع بالصحّة والعافية الكاملة.

إنّ على الحكومة الإسلاميّة أن تهتمّ - بواسطة أجهزتها المختصّة ومؤسسات وزارة الصحّة - بالصحّة العامّة فتراقب نظافة الشوارع والأزقّة ، وتراقب صانعي المأكولات والأطعمة والقصّابين والحمامات والمسابح العامّة لتكون موافقة مع قوانين الصحّة ، وتقيم المستشفيات والمصحّات ، وتقوم بتلقيح الأطفال والكبار ضد الأمراض الداهمة ، وتقوم بتوجيه النّاس إلى وظائفهم الصحّية وتفرض رقابة مشدّدة على الاجتماعات من الناحية الصحّية لتمنع من تسرّب أي مرض يهدّد سلامة الاُمّة ، ولعلّ من أهمّ ما يجب على الحكومة الإسلاميّة هو برنامج الضمان الصحّي لجميع افراد الاُمّة بلا استثناء ، لينشأوا أصحّاء البدن أقوياء البنية ... أخذا بقول الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « المُؤمنُ القويّ خير وأحبّ إلى اللّه من المُؤمن الضّعيف وفي كُلّ خير » (1).

وقد كان هذا هو سيرة المسلمين شعوباً وحكومات منذ الصدر الأوّل للإسلام ويدلّ على ذلك ما أقاموه هنا وهناك من مؤسّسات صحّية ، وشيّدوه من مختبرات علميّة طبيّة ، فقد كانت الحكومات الإسلاميّة الغابرة ترى نفسها ملزمة بإقامة الصحّة ورعايتها في المجتمع الإسلاميّ ، فكان القسم الأكبر من وظائف الصحّة الاجتماعيّة على عاتق المحتسبين ، وفي ذلك كتب ابن الاخوة الذي كان يعيش في القرن السابع الهجريّ حول

ص: 516


1- سنن ابن ماجة : 2 ، كتاب الزهد ، الباب 14 ، الحديث 5 ، رقم التسلسل 4168.

وظائف المحتسب في هذا المجال قائلاً :

( في الحسبة على الفرّانين والخبّازين : ينبغي أن يأمرهم المحتسب بغسل المعاجن وتنظيفها ، ولا يعجن العجّان بقدميه وبركبتيه ولا بمرفقيه ، فربما قطر في العجين شيء من عرق أبطيه أو بدنه ، وأن يعجن ملثّماً لأنّه ربّما عطس أو تكلّم فقطر شيء من بصاقه في العجين.

وقال في الحسبة على الجزّارين ( القصّابين ) : يجب على المحتسب أن يمنعهم من الذبح على أبواب دكاكينهم فإنّهم يلوّثون الطريق بالدم والروث.

وقال في الحسبة على الطبّاخين : يأمرهم بتغطية أوانيهم وحفظها من الذباب وهوامّ الأرض بعد غسلها بالماء الحارّ.

وقال في الحسبة على صانعي الأدوية والعقاقير : ويعتبر عليهم في عقاقير الأقراص والمعاجين قبل عملها بمن ظهرت مخبرته وكثرت تجربته للعقاقير ويكون من أهل الخير والصلاح ، فإنّها إذا اختلّ أمرها أضرّت بالمريض لا محالة (1).

وقال في الحسبة على الأطباء والجرّاحين والمجبّرين : الطبيب هو العارف بتركيب البدن ومزاج الأعضاء والأمراض الحادثة فيها وأسبابها وأعراضها وعلاماتها والأدوية النافعة فيها والاعتياض عمّا لم يوجد منها والوجه في استخراجها وطريق مداواتها بالتساوي بين الأمراض والأدوية في كمّياتها ولا يجوز له الإقدام على علاج يخاطر فيه ولا يتعرّض لما لا علم له فيه ففي الخبر : « من تطبّب ولم يُعلم منهُ طبّ قبل ذلك فهو ضامن » (2).

وينبغي أن يكون لهم مقدم من أهل صناعتهم فقد حكي أنّ ملوك اليونان كانوا يجعلون في كلّ مدينة حكيماً مشهوراً بالحكمة ثمّ يعرضون عليه بقيّة أطبّاء البلد

ص: 517


1- هذه ملاحظة في الطب مهمّة جداً وقد عرفها العالم اليوم ، حيث أسّس جهازاً خاصاً بمراقبة الأدوية والعقاقير قبل إنزالها إلى الأسواق.
2- مجمع البحرين ( مادّة طبب ).

فيمتحنهم فمن وجده مقصّراً في علمه أمره بالاشتغال وقراءة العلم ونهاه عن المداواة (1).

وينبغي إذا دخل الطبيب على المريض أن يسأله عن سبب مرضه وعن ما يجد من الألم ثمّ يرتّب له قانوناً من الأشربة وغيره من العقاقير ثمّ يكتب له نسخة لأولياء المريض بشهادة من حضر معه عند المريض وإذا كان من الغد حضر ونظر إلى قارورته ( أي بوله ) وسأل المريض هل تناقص به المرض أم لا ثمّ يرتّب له ما ينبغي على حسب مقتضى الحال ... وهكذا حتّى يبرأ المريض ، وينبغي للمحتسب أن يأخذ على الأطباء عهداً أن لا يعطوا أحداً دواء مضرّاً ولا يركّبوا له سمّاً ولا يصفوا سمّاً عند أحد من العامّة ولا يذكروا للنساء الدواء الذي يسقط الأجنّة ولا للرجال الذي يقطع النسل وليغضّوا أبصارهم عند المحارم عند دخولهم على المرضى ... ) (2).

ص: 518


1- هذا هو ما عرفه العالم الحديث اليوم وأخذ به حتّى أنّه لا يجيز طبيباً ولا يسمح له بفتح العيادة الطبيّة ومعالجة المرضى إلاّ بعد تقديم اطروحة تشهد على إكتماله في هذا الفن.
2- راجع معالم القربى في أحكام الحسبة من 90 إلى 170 والكتاب برمّته جدير بالمطالعة جدّاً.

برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها

5

الحكومة الإسلاميّة والسياسة الخارجيّة

الإسلام يرسم قواعد السياسة الخارجيّة :
اشارة

يظنّ بعض الكتّاب الغربيّين ، ومن استقى معلوماته من دراساتهم ومؤلّفاتهم أنّ الغرب هو أوّل من ابتكر ( نظاماً للعلاقات الدوليّة ) ، وأوّل من أسّس ما يسمّى بالسياسة الخارجيّة ، للحكومات والدول ، ولم يكن للعالم - قبل ميلاد الحضارة الغربيّة - أي نظام للسياسة الخارجيّة ، لأنّه لم تكن هناك علاقات وروابط بين الدول ، كما ظنّوا.

بيد أنّ هذا ادّعاء يعرف ضعفه وخطأه كلّ من له أدنى إلمام بالتاريخ البشريّ فقد كان بين الشعوب علاقات وروابط ، ولأجل ذلك فقد كان بينهم قوانين ورسوم وضوابط وحقوق تنظّم علاقاتهم وروابطهم حسبما تقتضيه الظروف ، وتتطلّبه الحاجة ولقد اتّخذت هذه السياسة آخر وأفضل أشكالها بمجيء الإسلام.

ولا نريد - في هذا المقام - أن نستعرض جميع تلك الضوابط الدوليّة ، وخطوط

ص: 519

تلك السياسة الخارجيّة التي سنّها الإسلام فإنّ شرح كلّ ذلك على وجه التفصيل يحتاج إلى دراسة موسّعة وعامّة تتناول بالبحث جميع المعاهدات التي عقدها الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله مع الدول ، والملوك وزعماء القبائل ، وكذا دراسة المعاهدات والمواثيق التي عقدها بعض الحكّام المسلمين بعده صلی اللّه علیه و آله .

غير أنّ الهدف - هنا - هو إشارة خاطفة وتلميح عابر إلى ( اُصول ) هذه السياسة وخطوطها العريضة ، ليعرف الجميع أنّ الحكومة الإسلاميّة يوم قامت كانت جامعة لكلّ البرامج وآلمناهج التي تحتاج إليها أيّة حكومة ، وحاوية لكلّ ما تحتاج إليه الشعوب والاُمم ، في علاقاتها الخارجيّة.

وأمّا ما سيتجدّد من الاُمور والحاجات فيمكن معرفة حلولها ، على ضوء الاُصول والقواعد المقرّرة كما هو الحال في غير هذا الباب فإنّ على الشارع المقدّس بيان الاُصول وعلى علماء الحقوق والفقهاء التفريع ، والاستنتاج.

ونحن نشير في هذا البحث إلى بعض الخطوط الكلّية في السياسة الخارجيّة للحكومة الإسلاميّة :

1. إحترام العهود والمواثيق الدوليّة

إنّ إحترام المواثيق ، والوفاء بالعهود من الاُمور الفطريّة التي طبع عليها البشر وتعلّمها في أوّل مدرسة من مدارس تكوين الشخصيّة ، أعني مدرسة الفطرة ولأجل ذلك نجد الأطفال يعترضون على أوليائهم إذا خالفوا وعودهم ولم يفوا بها ولهذا قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « احبّوا الصّبيان وارحموهم وإذا وعدتّموهم شيئاً فأوفوا لهم » (1).

هذا مضافاً إلى أنّ الاحترام للميثاق والوفاء بالعهد شرط ضروريّ لإستقرار الحياة الاجتماعيّة واستقامتها ، إذ الثقة المتبادلة ركن أساسيّ لهذه الحياة ، ولا تتحقّق هذه الثقة المتبادلة إلاّ بالوفاء بالعهود ، والاحترام المتقابل للمواثيق ، والوعود ، ولهذا أمر اللّه سبحانه

ص: 520


1- بحار الأنوار 16 : 155.

وتعالى بلزوم الوفاء بالعهد وقال : ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً ) ( الإسراء : 34 ).

ويقول عن صفات المؤمنين : ( وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ) ( المؤمنون : 8 ).

وتبلغ أهميّة ذلك أنّ القرآن كما يمدح الموفين بالعهد ، ويقول : ( الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلا يَنقُضُونَ المِيثَاقَ ) ( الرعد : 20 ) ، يذمّ في المقابل الناقضين للعهود ، ويقول عنهم : ( وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ) ( الرعد : 25 ).

بل يشبّه الناقض للعهد بالمرأة الناقضة لغزلها ، بعد أن تعبت على صنعه إشارة إلى ما يتركه نقض العهد من اختلال في الحياة الاجتماعيّة فيقول : ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا ) ( النحل : 91 - 92 ).

وقد تضافرت الأحاديث على التأكيد والإيصاء بهذا الأمر فقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليف إذا وعد » (1).

وقال أيضاً : « أقربكم منّي غداً في الموقف أصدقكم في الحديث وأدّاكم للأمانة وأوفاكم بالعهد » (2).

وقال أيضاً : « يجب على المؤمن الوفاء بالمواعيد والصّدق فيها » (3).

إنّ نقض العهد والميثاق خير دليل على فقدان الوازع الدينيّ ، وانعدام الشخصيّة الدينيّة ولهذا قال النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله : « لا دين لمن لا عهد لهُ » (4).

إنّ الذي لا يرتاب فيه أحد هو أنّ المشركين واليهود أشدّ الناس عداوة للمؤمنين كما صرّح القرآن بذلك قائلا : ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ) ( المائدة : 82 ).

ص: 521


1- الكافي 2 : 1. 364.
2- الكافي 2 : 1. 364.
3- المستدرك 2 : 85.
4- بحار الأنوار 16 : 144.

ومع ذلك نجد القرآن الكريم يصرّح بلزوم احترام المواثيق والمعاهدات المعقودة مع المشركين فيقول : ( وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ ) ( التوبة : 3 - 4 ).

نعم أجاز الإسلام قتال المشركين إذا نكثوا ايمانهم وخالفوا عهودهم مع المسلمين ولذلك قال سبحانه : ( وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ) ( التوبة : 12 ).

ولأجل أهمّية العهود والمواثيق المعقودة بين المسلمين وغيرهم من الحكومات والأطراف أوصى الإمام عليّ علیه السلام واليه الأشتر باحترام المواثيق إذ كتب في عهده المعروف :

« وإن عقدت بينك وبين عدُوّك عُقدةً أو ألبستهُ منّك ذمّةً فحُط عهدك بالوفاء وارع ذمّتك بالأمانة واجعل نفسك جُنّةً دون ما أعطيت فإنّهُ ليس من فرائض اللّه شيء النّاسُ أشدّ عليه اجتماعاً مع تفرّق أهوائهم ، وتشتّت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعُهود » (1).

كما أنّه لمّا تمّ التحكيم - في صفّين - طلب الخوارج من الإمام أن ينقض قرارالتحكيم ولكنّه علیه السلام ردّهم بأشدّ الردّ قائلاً : « ويحكُم أبعد الرّضا والعهد نرجعُ ، أو ليس اللّه يقولُ : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وقال : ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) » (2).

ومن نماذج التزام النبيّ صلی اللّه علیه و آله بمواثيقه وتعهّداته ردّ أبي بصير إلى مكّة بعد توقيع ميثاق الحديبيّة حيث التزم - توخّياً للمصلحة - في أحد بنود ذلك الميثاق أن يردّ إلى

ص: 522


1- نهج البلاغة : قسم الكتب الرقم : 53.
2- وقعة صفّين لابن مزاحم ( طبعة مصر ) : 514 ، وفي الارشاد للشيخ المفيد : 143 - 144 ما يقارب هذا.

المشركين كلّ من فرّ من مكّة إلى المدينة ، واعتنق الإسلام فلمّا قدم النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى المدينة أتاه أبو بصير ، وكان ممّن حبس لإسلامه بمكّة فلمّا قدم إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كتب فيه قريش إليه صلی اللّه علیه و آله يطلبونه منه - حسب ما التزم في صلح الحديبيّة - وأرسلوا من يعيده إلى مكّة ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « يا أبا بصير إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ولا يصلُحُ لنا في ديننا الغدر وإنّ اللّه جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً فانطلق إلى قومك ».

قال يا رسول اللّه أتردّني إلى المشركين يفتنونني في ديني ؟ قال صلی اللّه علیه و آله : « يا أبا بصير انطلق فإنّ اللّه تعالى سيجعلُ لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً » (1).

وقد فرّج عنه فيما بعد كما وعده الرسول بإذن اللّه وممّا يؤكد أهمّية العهد والميثاق أنّ اللّه سبحانه صرّح بوجوب نصرة المؤمنين القاطنين في مكّة غير المهاجرين إلى المدينة إذا طلبوا النصرة من مسلمي المدينة على المشركين إلاّ إذا طلبوا العون والنصرة على قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق وعهد ، وإلى هذا أشار قوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) ( الأنفال : 72 ).

ويندرج تحت هذا الأصل احترام جميع المعاهدات والمواثيق على اختلاف مقاصدها ، ومحتوياتها ، كالمواثيق التجاريّة والعسكريّة والسياسيّة إذا كانت في صالح المسلمين حدوثاً وبقاء.

2. الإسلام والسلام العالميّ

لا شكّ أنّ لفظة السلام ممّا تلتذّ بسماعها الاذان ، وتهوى إلى حقيقتها الأفئدة والقلوب ، ولذلك تتستّر ورائها الدول الكبرى لتضليل الشعوب.

ص: 523


1- سيرة ابن هشام 2 : 323.

وقد أصبح ( السلام العالمي ) اليوم أكبر مشكلة في المجال الدوليّ حيث تتبارى القوى العظمى في تسليح نفسها بأخطر الأسلحة ، وأفتكها. ولذلك تجري محاولات كبيرة وجهود جبّارة للحفاظ على السلام العالميّ وإقامته ، ومن هذا الباب عقدت مؤتمرات نزع السلاح ، والحدّ من صنع ( الأسلحة النووية ) وانتشارها ، ولكن هل تُرى استطاعت البشريّة أن تحقّق أيّة خطوات إيجابيّة في هذا المجال أو أخفقت ؟ إنّ الوقائع الدامية في أرجاء العالم هي التي تجيب عن هذا السؤال. نعم لقد استطاع الإسلام بما وضع من اُسس وقواعد إنسانيّة أن يحقّق أمل البشريّة في السلام.

ويكفي دلالة على عناية الإسلام بالسلام اشتقاق اسمه من السلم قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ) ( البقرة : 208 ).

ثمّ هو يدعو إلى الصلح والمسالمة إذا جنح العدو لذلك ، قال سبحانه : ( وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ) ( الأنفال : 61 ).

وهو يدعو إلى اقرار السلام حتّى في المحيط العائلي لأنّه مقدّمة لإقرار الصلح في المحيط الاجتماعيّ ، قال : ( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) ( النساء : 128 ).

ثمّ هو يعتبر جميع المؤمنين والمؤمنات اخوة فإذا حدث بينهم نزاع أوجب على المسلمين المبادرة إلى المصالحة بين المتنازعين ، فقال : ( إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) ( الحجرات : 10 ).

وإذا ما حدث نزاع واقتتال بين طائفتين من المسلمين أمر باصلاح أمرهم ودعا إلى الضرب على أيدي الباغي منهما فقال : ( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( الحجرات : 9 ).

وقد شاء الإسلام كلّ ذلك وأراده حفاظاً على السلام والتعايش السلميّ ، بحيث يأمل الإسلام في أن تحصل المودّة حتّى بين المؤمنين ومن يعادونهم ويخالفونهم في العقيدة ، قال سبحانه : ( عَسَى اللّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللّهُ

ص: 524

قَدِيرٌ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( المممتحنة : 7 ).

وبالتالي فإنّ الإسلام يدعو إلى اقرار السلام في جميع أرجاء الحياة البشريّة.

وقد سار النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله على هذا النهج الإنسانيّ ، فقد فعل - عند فتح مكّة - ما يكون اُسوة حسنة بعده للحكومات الإسلاميّة حال الفتح فقد أعطى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله رايته - يوم فتح مكّة - سعد بن عبادة ، وهو أمام الكتيبة فلمّا مرّ سعد براية النبيّ صلی اللّه علیه و آله على أبي سفيان نادى : يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحلّ (1) الحرمة اليوم أذلّ اللّه قريشاً.

فأقبل رسول اللّه حتّى إذا حاذى أبا سفيان ناداه :

يا رسول اللّه أمرت بقتل قومك ، زعم سعد ومن معه حينما مرّ بنا فقال : يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحلّ الحرمة اليوم أذلّ اللّه قريشاً وإنّي أنشدك اللّه في قومك ، فأنت أبرّ الناس وأرحم الناس وأوصل الناس.

قال عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان : ما نأمن سعداً أن يكون منه في قريش صولة ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « اليومُ يومُ المرحمة اليومُ أعزّ اللّه فيه قُريشاً ».

[ قال ] : وأرسل رسول اللّه إلى سعد فعزله ، وجعل اللواء إلى قيس بن سعد (2).

وأقدم دليل على توخّي الإسلام للتعايش السلميّ ، والسعي إليه بكلّ وسيلة ممكنة ما دام الخصم لا يريد العدوان ، تلك الوثيقة المعروفة التي وقّعها الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله مع قريش في ( الحديبيّة ) ، فإنّ فيها مواداً تدلّ على مدى اهتمام الإسلام بقضيّة السلام ، والتعايش السلميّ ومدى سعيه لإقراره ما أمكنه ، فإنّ الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله لمّا أراد أن يكتب وثيقة الصلح بينه وبين أهل مكّة ، دعا صلی اللّه علیه و آله عليّ بن أبي طالب علیه السلام فقال : « اكتُب بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ».

فقال سهيل : لا أعرف هذا ولكن اكتب : باسمك اللّهمّ.

ص: 525


1- في رواية : تسبى.
2- مغازي الواقديّ 2 : 821 - 822 وأعلام الورى للطبرسيّ : 197.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « اكتُب باسمك اللّهُمّ » فكتبها.

ثمّ قال : « اكتُب هذا ما صالح عليه مُحمّد رسولُ اللّه سُهيل بن عمرو ».

فقال سهيل : لو شهدت أنّك رسول اللّه لم اقاتلك ، ولكن اكتب : اسمك واسم أبيك.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « اكتب هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد اللّه سهيل بن عمرو ، اصطلحا على وضع الحرب عن النّاس عشر سنين يأمن فيهنّ النّاس ويكفّ بعضهم عن بعض على أنّه من أتى محمّداً من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم ، ومن جاء قريشاً ممّن مع محمّد لم يردّوه عليه ، وأنّ بيننا عيبةً مكفوفةً وأنّه لا أسلال ولا أغلال ، وأنّه من أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه » (1).

انظر كيف رضي النبيّ صلی اللّه علیه و آله بحذف لقبه توخّيا للسلام وطلباً للصلح.

وانظر كم بلغت مرونة الإسلام حتّى أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله رضي في عهده أن يعيد الهارب من صفوف الكفّار ، في حين التزم بأن لا يعيدوا إليه من ترك صفوف المسلمين وهرب إلى قريش ، وهو غاية في التنازل بهدف إقرار السلام.

والعجيب أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله عمل بهذا البند من الوثيقة في نفس المجلس تدليلاً على حسن نيّته ، والتزامه بما كتب ، وحرصه على السلام ، فبينا رسول اللّه يكتب هذا الكتاب هو وسهيل بن عمرو إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد ، قد انفلت إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلمّا رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه ، وأخذ بتلبيبه ثمّ قال : يا محمّد قد لجّت [ تمّت ] القضيّة بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا ، قال : « صدقت » ، فجعل يجذبه جذباً شديداً ويجرّه ليردّه إلى قريش ، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته : يا معشر المسلمين أأردّ إلى المشركين يفتننوني في ديني ؟ فزاد ذلك الناس إلى ما بهم فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « يا أبا جندل ، اصبر واحتسب فإنّ اللّه جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً إنّا قد عقدنا بيننا وبين القوم صُلحاً ، وأعطيناهُم على ذلك

ص: 526


1- سيرة ابن هشام 4 : 318 ، والكامل للجزريّ 2 : 138 ، وأعلام الورى للطبرسيّ : 97.

وأعطُونا عهد اللّه ، وإنّا لا نغدُر بهم » (1).

وهذا هو نموذج أو نماذج معدودة في هذا المجال وكتب التاريخ والسير والفقه والحديث طافحة بأمثالها.

3. حكم الأسرى

تعتبر مسألة ( الأسرى ) من أهمّ القضايا في النظام السياسيّ الخارجيّ للدول وتعتبر حقوقهم من أبرز ما لفت نظر الحقوقيّين ، واهتمامهم في عالمنا المعاصر حتّى أنّه اتفقت الدول على ميثاق ينصّ على هذه الحقوق هو ( ميثاق جنيف ).

وللأسرى في النظام الإسلاميّ مكانة خاصّة ، وقوانين تضمن حقوقهم ، وكرامتهم ، وتكفل احترامهم وسلامتهم.

إنّ الأسارى على نوعين :

نوع ؛ يؤخذون قبل انقضاء القتال والحرب قائمة ما لم يسلموا ، والإمام مخيّر بين ضرب أعناقهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وتركهم حتّى ينزفوا.

ونوع آخر ؛ وهو ما إذا اُخذوا بعد انقضائها فحينئذ لم يقتلوا وكان الإمام مخيّراً بين المنّ والفداء ، والاسترقاق ، ولا يسقط هذا الحكم لو أسلموا (2) وهذا هو المشهور بين الفقهاء.

ويستفاد ذلك من كتاب اللّه العزيز قال سبحانه : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( الأنفال : 67 ).

فالآية صريحة في وجوب قتل الأسارى لغاية الاثخان في الأرض والتمكّن فيها

ص: 527


1- سيرة ابن هشام 2 : 318 ، والكامل للجزريّ 2 : 138 ، وأعلام الورى للطبرسيّ : 97.
2- نعم نقل أمين الإسلام في مجمع البيان 5 : 97 ، قولا آخر يلاحظه من أراد الوقوف عليه وهو لا يوافق القول المشهور بين فقهاء الشيعة فهو يخالف المشهور في كلا القسمين فلاحظ.

واستضعاف المشركين ، كما أنّها ناظرة إلى النوع الأوّل من الأسارى كقوله سبحانه : ( فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) ( الأنفال : 57 ).

فهي نزلت في حقّ الناقضين للعهود وتؤكّد على النبيّ بأنّه إذا صادفتهم في الحرب وظفرت بهم وأدركتهم فنكّل بهم تنكيلاً وأثّر فيهم تأثيراً حتّى تشرّد بهم من بعدهم وتطردهم وتمنعهم من نقض العهد بأن ينظروا فيهم فيعتبروا بهم فلا ينقضوا العهد ويتفرّقوا في البلاد مخافة أن تقابلهم بمثل ما قابلتهم به ، وأن يحلّ بهم ما حلّ بمن قبلهم فالآية ناظرة إلى النوع الأوّل من الأسارى أعني المأخوذين قبل أن تضع الحرب أوزارها ، ويشهد على ذلك قوله تعالى : ( فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ ) ، وقوله سبحانه : ( فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا ) ( محمد : 4 ).

والظاهر أنّ قوله : ( حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا ) غاية لقوله : ( فَضَرْبَ الرِّقَابِ ) أي القتل والتنكيل لحد وضع الحرب أوزارها ، فيختصّ القتل بالأسرى المأخوذين قبل انقضاء القتال وانتهائه.

وأمّا النوع الآخر أعني المأخوذين بعده فحكمه ما أفاده قوله : ( حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ) فالآية تخيّر الحاكم بين إطلاق سراحهم مجّاناً بلا عوض ، وأخذ الفداء بالنفس أو المال.

وأمّا الاسترقاق فقد دلّت عليه الأحاديث الإسلاميّة ، فلاحظ الكتب الفقهيّة.

* * *

بقي هنا أمران :

الأوّل : أنّ قتل الأسارى المأخوذين والحرب قائمة يختص بوضع خاصّ لا بزمان خاصّ ، فالحكم أبديّ إلى يوم القيامة لكنّه حكم على موضوع محدّد وهو ما إذا كان في استبقاء الأسارى قبل الاثخان محذور كما هو الحال في الصدر الأوّل من التاريخ الإسلاميّ ، فإنّ معيشتهم في ذلك العصر وإمكانيّاتهم كانت محدودة بحيث لا يمكن

ص: 528

لهم حفظ الأسرى في أثناء الحرب لقلّة الإمكانيّات وعدم وجود الأماكن المناسبة لحفظهم واستبقائهم (1) فربّما كان في استبقاؤهم مظنّة وقوع الفتنة ، وكان موجباً لبقاء قوّة العدو ، وشوكته ، فلأجل ذلك يأمر الكتاب العزيز بقتلهم لغاية الإثخان والغلبة في الأرض والتمكّن فيها في مقابل العدو.

فكلمة ( حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ) وقوله : ( حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ ) توحي بذلك القيد وأنّ الحكم مختصّ بما إذا كان في قتلهم تقوية للمسلمين وإضعاف للعدو.

وأمّا إذا كان المسلمون أقوياء وكان استبقاؤهم أمراً ممكناً ، ولم تكن في قتلهم تقوية لهم وإضعاف للعدو فالآية منصرفة عن ذلك الوضع ، وممّن تنبّه إلى ذلك « الجصّاص » في إحكام القرآن حيث قال :

( وذلك في وقت قلّة عدد المسلمين وكثرة عدد عدوّهم من المشركين فمتى اُثخن المشركون واُذلّوا بالقتل والتشريد جاز الاستبقاء ، فالواجب أن يكون هذا حكماً ثابتاً إذا وجد مثل الحالة التي كان عليها المسلمون في أوّل الإسلام ) (2).

وقال صاحب المنار في فلسفة القتل قبل الإثخان ما يؤيّد هذا الاتّجاه :

( فإذا التقى الجيشان فالواجب علينا بذل الجهد في قتل الأعداء دون أخذهم أسرى لإنّ ذلك يفضي إلى ضعفنا ورجحانهم علينا حتّى إذا أثخنّاهم في المعركة جرحاً وقتلاً وتمّ لنا الرجحان عليهم فعلاً ، رجّحنا الأسر (3) المعبّر عنه بشدّ الوثاق لأنّه يكون حينئذ من الرحمة الاختياريّة ، وجعل الحرب ضرورة تقدّر بقدرها ، ولذلك خيّرنا اللّه تعالى فيه بين المنّ عليهم وإعتاقهم بفكّ وثاقهم وإطلاق حريّتهم. وامّا بفداء أسرانا عند

ص: 529


1- والذي يدلّ على فقدان الأمكنة لحبس الأسارى ما نقله الكتاني عن شفاء الغليل للخفاجيّ أنّه كتب قائلا : « لم يكن في زمن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سجن » ، وأضاف قائلا : « وكان يحبس في المسجد وفي الدهاليز » التراتيب الإداريّة 1 : 297.
2- أحكام القرآن 3 : 391 ، ولاحظ أيضاً الصفحة 72 من ذلك الجزء.
3- الأولى أن يقول : رجّح القرآن الأسر.

قومهم ودولتهم إن كان لنا أسرى عندهم أو بمال نأخذه منهم.

وجملة القول ، أنّ اتّخاذ الأسرى إنّما يحسن ويكون خيراً ورحمة ومصلحة للبشر إذا كان الظهور والغلب لأهل الحقّ والعدل ، إمّا في المعركة الواحدة فبإثخانهم لأعدائهم من المشركين والمعتدين ، وإمّا في الحالة العامّة التي تعمّ كلّ معركة وكلّ قتال فبإثخانهم في الأرض بالقوّة العامّة والسلطان الذي يرهب الأعداء ) (1).

والعجب أنّ الدكتور محمّد فتحي عثمان الاُستاذ بكليّة العلوم الاجتماعيّة قد نقل في تأليفه « من اُصول الفكر السياسيّ الإسلاميّ » في الصفحة 206 عن الكاتب الشهير محمّد عبد اللّه درّاز في كتابه « دراسات إسلاميّة في العلاقات الاجتماعيّة الدوليّة » في بحث الإسلام والرقّ ، كلمة صرح فيها ( بأنّنا إذا نظرنا في القرآن لم نجد فيه أثراً لقتل الأسير والاسترقاق ).

أقول : أمّا الاسترقاق فصحيح أنّه لا يوجد في القرآن ولكنّه ورد في الأحاديث الإسلاميّة ، وإن كان الاسترقاق خطوة انتقالية إلى أمر آخر وهو تربيتهم على النهج الإسلاميّ ثمّ تحريرهم.

وأمّا قتل الأسير فيدلّ عليه قوله سبحانه : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ) ( الأنفال : 67 ) وقد عرفت المراد من الآية.

* * *

الأمر الثاني : قد عرفت أنّ الإمام مخيّر في الأسارى المأخوذين بعد وضع الحرب أوزارها بين اُمور منها الاسترقاق ، فلابدّ من بيان النكتة في ذلك.

إنّ الاسترقاق لأجل أنّه ربّما تكون المصلحة المنحصرة فيه إذ ربّما يكون إطلاق سراحهم بلا عوض أو مع العوض سبباً لاجتماعهم مرّة اُخرى وتآمرهم ضدّ الإسلام والمسلمين ، ويكون الحبس أمراً شاقّاً وعسيراً.

ص: 530


1- المنار 10 : 97 - 98.

وأمّا قتلهم بعد وضع الحرب أوزارها فتعدّ ضراوة بسفك الدماء وإسرافاً بلا جهة فيتعيّن الأمر في الاسترقاق بتوزيعهم في بيوت المسلمين وجعلهم تحت ولايتهم حتّى يتربّوا بتربيتهم ويتخلّقوا بأخلاقهم وآدابهم (1).

هذا وتخيّر الإمام أدلّ دليل على مرونة الإسلام حيث ترك للإمام والحاكم المجال ليقوم بما تقتضيه المصلحة.

وقد أكّد الإسلام على احترام الأسرى والعطف عليهم والرحمة بهم وحسن المعاملة معهم ، قال النبي صلی اللّه علیه و آله « استوصُوا بالأسارى خيراً » (2).

ويكفي دلالة عمليّة على ذلك أنّه لمّا افتتح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله القموص [ وهي من قلاع اليهود بخيبر ] أتى رسول اللّه بصفيّة بنت حيّي بن أخطب ، وباُخرى معها فمرّ بها بلال ، وهو الذي جاء بهما ، على قتلى من قتلى يهود فلمّا رأتهم التي مع صفيّة صاحت ، وصكّت وجهها وحثّت التراب على رأسها فلمّا رآها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : « اعزُبُوا عنّي هذه الشّيطانة » ، وأمر بصفيّة فحيزت خلفه وألقى عليها رداءه ، فعرف المسلمون أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد اصطفاها لنفسه فقال رسول اللّه لبلال : حين رأى بتلك اليهوديّة ما رأى : « أنزعت منّك الرّحمةُ يا بلالُ حين تمرّ بامرأتين على قتلى رجالهما » (3).

بل وحث على إطعام الأسير وسقيه حيث قال صلی اللّه علیه و آله : « إطعامُ الأسير حقّ على من أسرهُ » (4).

وقد بلغ من عطف الإسلام وإنسانيّته أنّه حرّم المثلة بالقتلى ، فلمّا وقف النبيّ صلی اللّه علیه و آله في اُحد على جسد حمزة بن عبد المطّلب فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه عن كبده ،

ص: 531


1- راجع في أحكام الأسارى المصادر التالية : الخلاف لشيخ الطائفة الطوسيّ 2 : 46 ، والمختلف للعلاّمة الحليّ 1 : 169 ، وكنز العرفان : 365. وقد أشرنا إلی فلسفة الرق والاسترقاق في الإسلام وأنها حالة استثنائية اقتضتها ظروف الحرب خاصة فلاحظ: 275 - 261 من كتابنا هذا.
2- سيرة ابن هشام 2 : 299 و 236.
3- سيرة ابن هشام 2 : 299 و 236.
4- وسائل الشيعة 11 : 69 وقد مرّت الإشارة إلى هذا الأمر في : 415 من كتابنا هذا.

ومثّل به فجدع أنفه واُذنه ، فحزن حزناً شديداً وقال : « ولئن أظهرني اللّه على قُريش في موطن من المواطن لأُمثّلنّ بثلاثين رجُلاً منهُم ».

فأنزل اللّه سبحانه : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ) ( النحل : 126 - 127 ).

فعفا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (1).

* * *

4. الحصار الاقتصاديّ ضدّ المعتدين فقط

لا شكّ أنّ للحكومة الإسلاميّة أن تتوسّل بالحصار الاقتصاديّ ، كوسيلة من وسائل الحرب والدفاع ولكن هذا الأمر تابع لهدف عسكريّ فقط بمعنى أنّه يجوز فقط لأجل تحديد الفعاليّات العسكريّة للعدو في اطار الأهداف الاستراتيجيةّ.

إنّ الإسلام يقوم بهذا الأمر ضدّ المعتدين والمهاجمين فحسب ، ولا يسوغ استخدامه ضدّ الأبرياء من الناس.

وهذا هو سيرة النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله ، وإليك نموذجاً من ذلك :

خرجت خيل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأسّروا ثمامة بن أثال الحنفيّ ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « أحسنُوا اُسارهُ » فمكث مدة ثمّ اطلقوا سراحه فأسلم ، ثمّ خرج إلى مكّة معتمراً فأخذته قريش وأرادوا قتله ، فقال قائل منهم : دعوه فإنّكم تحتاجون إلى اليمامة [ وكان من ملوكها ] لطعامكم ، فخلّوه ، ثمّ خرج إلى اليمامة ، فمنعهم أن يحملوا إلى مكّة شيئاً فكتبوا إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّك تأمر بصلة الرحم ، وإنّك قد قطعت أرحامها فقد قتلت الآباء بالسيف ، والأبناء بالجوع. فكتب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إليه ، أن يخلّي بينهم وبين الحمل (2).

وهكذا منع الرسول من استخدام الحصار الاقتصاديّ ضدّ الأبرياء من الناس ،

ص: 532


1- سيرة ابن هشام 2 : 96 و 639.
2- سيرة ابن هشام 2 : 96 و 639.

وأعطى درساً رائعاً في مقابلة الأعداء.

5. الحدّ من التسلّح

يشهدا العالم اليوم سعياً شديداً من الشرق والغرب لنزع السلاح أو الحدّ من التسلّح ، وهو أمر يتبنّاه كثير من الحقوقيّين والمفكّرين غير أنّهم لم ينجحوا في ذلك اللّهمّ إلاّ في حقّ الشعوب الضعيفة حيث تمكّن الدول العظمى من إبقاء هذه الشعوب في إطارات محدودة من التسلّح فيما مضت هي في تسليح نفسها حتّى قمّة رؤوسها.

ويرجع فشل هؤلاء الحقوقيّين والساعين إلى أنّهم يطلبون أمراً غير عمليّ فالإنسان ينزع بصورة فطريّة إلى السيطرة ، والاستيلاء وهي نزعة تجرّه إلى أن يسلّح نفسه بما يتسنّى له من أسلحة.

ولذلك فإنّ الإسلام يعمد - بدل الدعوة إلى نزع السلاح أو ما شابهه إلى تغيير هدف التسلّح ، ووجهة الكفاح والنضال فهو يحثّ البشريّة على أن تجعل نضالها من أجل العقيدة الإلهيّة وبسط العدالة الاجتماعيّة.

وعندئذ يتغيّر استعمال الأسلحة بتغيّر الأهداف والمقاصد ولا يضير التسلّح ولا يشكّل خطراً على أحد.

وبالجملة إذا كان النضال من أجل عقيدة دينيّة صحيحة وبوحي منها وتوجيه من تعاليمها تحدّد استخدام الوسيلة الحربيّة بصورة قهريّة ، وأحسن الإنسان استعمالها تبعاً لذلك ، ولهذا يتعيّن على المصلحين السعي في هذا المجال لتثمر جهودهم وتتخلّص البشريّة من الرعب الناشئ عن سباق التسلّح إذ في غير هذه الصورة لن تثمر جهودهم ويبقى الحدّ من التسلّح أو عدم استخدامه في تدمير الحياة أملاً بعيد المنال.

6. الحصانة الدبلوماسيّة في الإسلام

كما يمتلك الإسلام نظاماً للقتال والحرب كذلك يمتلك نظاماً رائعاً في حال

ص: 533

السلم والصلح ومن ذلك : النظام الخاصّ بالدبلوماسيّين فإنّ للدبلوماسيّين والسفراء والرسل عند الإسلام احتراماً كبيراً ، وحصانة خاصّة لا نجد لها مثيلا أبداً ، حتّى أنّ للدبلوماسيّ أن يظهر عقيدته المخالفة للدولة الإسلاميّة دون أن يصيبه أذى أو يمسّه من المسلمين ضرر ، ونذكر من باب المثال نموذجاً واحداً يدلّ على ما قلناه : فقد كتب مسيلمة بن حبيب [ الكذّاب ] إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كتاباً جاء فيه :

أمّا بعد فإنّي قد أشركت في الأمر معك وأنّ لنا نصف الأرض ، ولقريش نصف الأرض ، ولكن قريشا قوماً يعتدون. فلمّا قدم رسول مسيلمة بهذا الكتاب إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله وقرأه قال لهما : فما تقولان أنتما ، قالا نقول كما قال ، فقال صلی اللّه علیه و آله : « أمّا واللّه لولا أنّ الرّسُل لا تُقتلُ لضربتُ أعناقكُما ».

ثمّ كتب صلی اللّه علیه و آله إلى مسيلمة : « بسم اللّه الرّحمن الرّحيم من مُحمد رسُول اللّه إلى مُسيلمة الكذّاب السّلامُ على من اتّبع الهُدى أمّا بعدُ فإنّ الأرض لله يُورثُها من يشاءُ من عباده والعاقبةُ للمُتّقين » (1).

انظر كيف عامل الرسول صلی اللّه علیه و آله سفيري مسيلمة ... ولم يعاقبهما على إلحادهما.

وانظر كيف قابل النبيّ مسيلمة ، وقايس بين الكتابين ، فإنّك تجد رائحة الوحي الطيّبة تفوح من كتاب الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله وتنبئ عن ذكائه وعقله وحسن درايته وعظيم سياسته وكياسته.

7. التعهّدات المتقابلة ، والمنفردة

إنّ من أهمّ ما يستدعي اهتماماً خاصّاً في السياسة الخارجيّة هي التعهّدات بين الدول وهي على نوعين :

1. التعهّد من جانب واحد.

2. التعهّد من جانبين.

ص: 534


1- سيرة ابن هشام 2 : 639.

أمّا التعهّد من جانب واحد فهو شكل بسيط من التعهّدات ... فإنّ الدولة تلتزم من ناحيتها باُمور اتّجاه دولة اُخرى بصورة ابتدائية ، كأن تعترف بها ، وبأمنها وتتعهّد بعدم العدوان عليها وعدم التعرّض لها ، ونحن نجد - في الإسلام - نماذج من هذا النوع ، فعندما خرج النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى تبوك في ملاحقة الروم ، فانتهى إلى تبوك أتاه يحنة بن رؤبة صاحب أيلة ، فصالح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأعطاه النبيّ كتاباً التزم فيه باُمور وإليك نصّه :

« بسم اللّه الرّحمن الرّحيم هذه أمنة من اللّه ومحمّد النبيّ رسول اللّه ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة سفنهم وسيّارتهم في البرّ والبحر لهم ذمّة اللّه ، وذمّة محمّد النبيّ ، ومن كان معهم من أهل الشّام وأهل اليمن وأهل البحر فمن أحدث منهم حدثاً فإنّه لا يحول ماله دون نفسه وأنّه طيّب لمن أخذه من النّاس وأنّه لا يحلّ أن يمنعوا ماءً يردونه ولا طريقاً يريدونه من برّ أو بحر » (1).

إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله يتعهّد لتلك الجماعة بأن يحترم أمنهم في كلّ الحالات والأماكن ويعترف لهم بحقّ الحياة والعيش ، ويضمن سلامة تنقّلاتهم من دون أن يأخذ منهم تعهّداً متقابلا.

وأمّا التعهّدات المتقابلة فهي أيضا على قسمين : فتارة يلتزم الطرفان بالاُمور السلبيّة مثل : أن يتعهّدا بأن لا يتعرّض أحدهما للاخر ، وغير ذلك ، وتارة يلتزم الطرفان بالاُمور الإيجابيّة مثل التعهّد بالتبادل التجاريّ والثقافيّ ، ونحن نرى نماذج من كلا النوعين في تاريخ الحياة السياسيّة للإسلام.

ونمثّل للنوع الأوّل بقصّة بني ضمرة.

فإنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لما بلغ « ودان » وهي غزوة الأبواء يريد قريشاً ، وبني ضمرة بن بكر بن عبد منات بن كنانة فوادعته فيها بنو ضمرة ، وكان الذي وادعه منهم عليه مخشي ابن عمرو الضمري وكان سيّدهم في زمانه ، فلمّا خرج الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله إلى بدر ينتظر أبا سفيان لميعاده فأتاه مخشي بن عمرو الضمري وهو الذي وادعه على بني ضمرة في

ص: 535


1- سيرة ابن هشام 2 : 525.

غزوة ودان فقال : يا محمّد أجئت للقاء قريش على هذا الماء ؟ قال : « نعم يا أخا بني ضمرة وإن شئت مع ذلك رددنا إليك ما كان بيننا وبينك (1) ثُمّ جالدناك حتّى يحكُم اللّه بيننا وبينك » (2).

ومن هذا القبيل ما جرى في صلح الحديبيّة الذي مرّ عليك.

ونمثّل للتعهّدات المتقابلة على الاُمور الإيجابيّة بما حصل بين النبيّ صلی اللّه علیه و آله وخزاعة في الحديبيّة ، حيث كان من بنود صلح الحديبيّة مع قريش أنّه من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد وعهده دخل فيه ، ومن أحبّ أن يدخل في عهد قريش وعهدهم دخل فيه ، فدخلت خزاعة في عقد رسول اللّه وعهده ، وهو يمثّل التعاون الدفاعيّ الذي يطلق عليه اليوم بالمعاهدات الدفاعيّة.

ويستفاد من حياة النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّ إلغاء المعاهدة كان يتمّ تارة بصورة مباشرة واُخرى بصورة غير مباشرة.

فنرى أنّ قريشاً لمّا عاونت بني كنانة معاونة غير مباشرة بالسلاح عدّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله ذلك نقضاً وذلك عندما تحقّقت الهدنة اغتنمها بنو الديل من بني بكر من خزاعة وأرادوا أن يصيبوا منها ثأراً ، فخرج نوفل بن معاوية وهو يومئذ قائدهم حتّى بيت خزاعة وهم على الوتير ، ماء لهم ، فأصابوا منهم رجلا وتحاوزوا واقتتلوا ورفدت بني بكر قريش بالسلاح وقاتل معهم قريش من قاتل بالليل مستخفيا حتّى حازوا خزاعة إلى الحرم.

فلمّا تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة وأصابوا منهم ما أصابوا ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من العهد والميثاق بما استحلّوا من خزاعة وكان في عقده وعهده وعرف النبيّ بذلك اعتبره نقضاً للعهد وإلغاء للمعاهدة ، فخرج صلی اللّه علیه و آله إلى فتح مكّة ملغياً ما كان بينه وبين قريش من وثيقة الصلح (3).

ص: 536


1- المقصود هو الموداعة التي تمّت في اللقاء الأول لاحظ سيرة ابن هشام 1 : 591.
2- سيرة ابن هشام 2 : 210 و2. 397.
3- سيرة ابن هشام 2 : 210 و2. 397.

كل هذا يكشف عن وجود نظام خاصّ لهذه التعهّدات في السياسة الخارجيّة للإسلام يتجلّى خطوطه في مجموعة المواقف النبويّة وغيرها من مصادر الشريعة.

8. المعاهدة للاستقراض الحربيّ

إنّ للحكومة الإسلاميّة أن تستقرض أو تستعير من الآخرين ما تحتاج إليه من المال أو السلاح في حالات الحرب. والحاجة إلى ذلك ... وهو أمر فعله النبيّ صلی اللّه علیه و آله لما عاهد نصارى نجران ووضع عليهم جزية معيّنة ، وشرط عليهم أن يعيروا ثلاثين درعاً وثلاثين فرساً وثلاثين بعيراً إذا كان كيد باليمن ذو مغدرة.

وقد جاء في هذه الوثيقة. « وما هلك ممّا أعاروُا رُسلي من خيل أو ركاب فهُم ضمن حتّى يردّوهُ إليهم ، ولنجران وحاشيتها جوارُ اللّه وذمّةُ مُحمّد النبيّ رسُول اللّه على أنفُسهم وملّتهم وأرضهم وأمُوالهم وغائبهم وشاهدهم الخ » (1).

9. قطع العلاقات السياسيّة

لما كانت إقامة العلاقات الوديّة مع الدول الاُخرى ، وتوقيع المعاهدات معها لأجل مصالح تقتضي ذلك ، وفي مقابل أعمال يجب أن يقوم بها المعاهد ، فإنّ الإخلال بمحتويات هذه المعاهدات ، والقيام بما يخالف هذه المصالح يجوّز - في منطق العقل - قطع العلاقات ... ونقض المواثيق المعقودة وقد فعل الرسول الأكرم ذلك في قصّة الحديبيّة حيث أقدم على نقض الصلح مع قريش ، وفتح مكّة عندما أظهرت قريش سوء نيّتها.

بيد أنّه يجب أن يكون قطع العلاقات تابعاً للمعايير الإنسانيّة ، ولمبرّرات صحيحة ، فإذا اقتضى الأمر قطع العلاقات ونقض المعاهدة وجب على الحكومة الإسلاميّة إعلام الطرف الآخر بذلك وإبلاغه بالقطع ، قال اللّه سبحانه : ( الَّذِينَ

ص: 537


1- راجع فتوح البلدان للبلاذريّ 76.

عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ * فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الخَائِنِينَ ) ( الأنفال : 56 - 58 ).

10. الإسلام والبلاد المفتوحة

لقد كان المتعارف في العصور الماضية إذا استولت دولة على بلد ، أن تفعل فيه ما تشاء من القتل والتشريد والاسترقاق والنهب وما شابه ذلك ، وإلى ذلك أشار القرآن الكريم إذ قال : ( إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ) ( النمل : 34 ).

وأدلّ دليل على ما ذكره التاريخ من أعمال الملوك والقادة عند فتحهم للبلاد ، وللمثال نذكر القصّة التالية :

لمّا دخل إسكندر المقدونيّ فارس هدم حصون فارس ، وبيوت النيران وقتل الهرابذة ، وأحرق كتبهم واستعمل على مملكة فارس رجالاً وسار قدماً إلى أرض الهند فقتل ملكها ، وهدم مدنها ، وخرّب بيوت الأصنام وأحرق كتب علومهم ثمّ سار منها إلى الصين (1).

ولا يخفى عليك ما ارتكبه جيش المغول والتتار من الدمار والجرائم عند غزو إيران والعراق وارتكاب ما لا يمكن ذكره في هذا المختصر ، وقد كانوا يفعلون كلّ ذلك استناداً إلى ما كانوا يعتقدونه من حقّ التسخير والفتح للفاتحين.

نعم إنّ الحقوقيّين قرّروا اُموراً لمن يسخّرون البلاد ويفتحونها ولكن من ترى يصغي لهم ويعمل بما قرّروه من قيود وأحكام ، فليس كلّ ما تقرّره المؤسّسات العالميّة من اُمور تجريه الدول وتنفّذه الحكومات ، فهذه منظمة الاُمم المتّحدة لا يتجاوز أحكامها عن

ص: 538


1- الكامل لابن الاثير 2 : 160.

حدود التوصيات والرجاءات ... وهذه إسرائيل قد صدرت بحقّها عشرات القرارات والطلبات من منظمة الاُمم المتّحدة ولكنّها تنفّذ كلّ يوم جرائمها في لبنان وغيرها من الأراضي الإسلاميّة بلا اكتراث واعتناء بالاُمم المتّحدة وقراراتها وطلباتها ونداءاتها المكرّرة.

وها هو الإسلام قد فتح - أيام حكومته - بلاداً ومدناً ، وسيطر على الامبراطوريّتين الكبيرتين ( فارس والروم ) ولكن لم يفعل ما يفعله الفاتحون ، إلاّ بما تقتضيه الضرورة ، ولم يأخذ من المغلوب عليه سوى ( الجزية ) التي وقفت على قدرها وأحكامها السهلة السمحة.

ولأجل ذلك نجد الشعوب المختلفة تستقبل الفتوحات الإسلاميّة برحابة صدر بل وتطالب الحكومات الإسلاميّة تخليصها من حكوماتهم والعيش تحت راية الإسلام وفي ظلّ حكومته العادلة.

وما ذكرناه في سيرة النبيّ صلی اللّه علیه و آله في مجال العلاقات الخارجيّة وعهوده يعتبر قدوة ومنهجاً كاملا للحكومة الإسلاميّة في معاملتها مع الدول والشعوب الاُخرى. وقد أشرنا غير مرّة إلى أنّ الواجب على الإسلام هو بيان الاُسس الكليّة والاُصول العامّة وأمّا الأشكال المناسبة لهذه الاُسس فمتروكة للزمن والظروف الطارئة.

ثمّ لمّا كان الإسلام نظاماً للبشريّة كافّة فإنّ هذا النظام لم يرتض لحكومته أن تعيش منغلقة على العالم كجزيرة في وسط بحر بل يدعو إلى أن تقيم هذه الحكومة جسوراً مع المجتمع الدوليّ لتستفيد من خبرات البشر ، كما تفيدها ديناً وأخلاقاً ونظاماً إلهيّاً ضامناً لسعادة البشريّة.

ص: 539

برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها

6

الحكومة الإسلاميّة والاستخبارات والأمن العامّ

لا تفتيش عن العقائد ، ولا اطّلاع على الأسرار

لا شكّ في أنّ أهمّ ما جاء به الإسلام من اُصول اجتماعيّة هو الحريّة العقائديّة والشخصيّة ، والاحترام الكامل للإنسان وعقائده ، وأفكاره وأسراره ، ولذلك فهو لم يسمح بتفتيش عقائد الأفراد ومنع من محاولة التعرّف على أسرارهم ودخائل حياتهم وإلى ذلك أشار القرآن الكريم بقوله : ( وَلا تَجَسَّسُوا ) ( الحجرات : 12 ).

كما أنّه لم يسمح لأحد - فيما لو اطّلع على دخيلة أحد أو علم بسرّ من أسراره الخاصّة - أن يبوح به للناس ، أو يفضحه على رؤوس العباد وإلى ذلك أشار القرآن الكريم بقوله : ( وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ) ( الحجرات : 12 ) ، فهاتان الجملتان اللتان وردتا في آية واحدة تكشفان عن هذا الأصل الإسلاميّ الذي أشرنا إليه إلاّ وهو الحفاظ على أسرار الآخرين وحرمة الاطّلاع عليها ، وهو أصل دلّت عليه الروايات والنصوص المتضافرة القاطعة في النهي ، والتحريم والتحذير.

ص: 540

فقد ورد عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « يا معشر من أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه لا تذمّوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم » (1).

وهو كلام صريح في الأصل المذكور.

ترجيح المصالح العامّة على المصالح الخاصّة

ولكنّ المتأمّل في تلك النصوص والقرائن الحافّة بها يجد أن هذا النهي والتحريم يختصّان بالأسرار الفرديّة التي لا تمتّ إلى المجتمع بصلة ، ولا ترتبط بمصالح الاُمّة بوشيجة.

فعندما يتعلّق الأمر بالمصالح العامّة لا يمكن التغاضي عن أسرار الفرد ، وقضاياه ، إذ من البديهيّ في تلك الصورة - أن تترجّح المصالح العامّة على المصالح الخاصّة ، وإلاّ تعرّضت الاُمّة لأخطار تهدّد كيانها ، وتنذر وجودها بالفناء والدمار.

إنّ التشريع الإسلاميّ الذي ينهي بشدّة عن محاولة الاطّلاع على دخائل الناس وأسرارهم الشخصيّة - فيما لو كانت تخصّ بهم - ويحرّم اغتياب الأفراد لا يمنع من التعرّف على الاُمور التي ترتبط بمصلحة الجماعة ، بل يسمح للدولة الإسلاميّة بجمع المعلومات الصحيحة المفيدة لوضعها تحت تصرّف الحاكم الإسلاميّ ، حتّى يتحرّك على ضوئها ، فيتعرّف على المتآمرين ، ويبطل خططهم ومؤامراتهم حفاظاً على مصلحة الاُمّة وإبقاء على وجودها ، وكيانها من كيد الكائدين ومكر الماكرين ، وهذا أمر يؤيّده العقل السليم وتقبله الفطرة ، وتدعو إليه الحكمة ، ويقتضيه التدبير الصحيح ، والسياسة الرشيدة.

الاستخبارات الراهنة مرفوضة

على أنّ من الطبيعيّ أن يتصوّر القارئ الكريم بمجرّد سماعه لكلمة

ص: 541


1- بحار الأنوار 75 : 214 نقلا عن ثواب الأعمال : 216.

( الاستخبارات والأمن العامّ ) تلك الأجهزة الجهنّمية المخيفة التي تعتمد عليها الحكومات الطاغوتيّة الحاضرة في ملاحقة الشعوب ، وقهر إرادتها ، وقمع حركتها.

أقول من الطبيعيّ أن تتداعى في ذهن القارئ هذه الصورة القائمة ، وهذا المعنى الأسود ، لأنّ شعوبنا المظلومة قد اعتادت على مثل هذا التصوّر عن جهاز المخابرات وأعمال التجسّس ، ولكنّ الحقيقة أنّ ما نقصده من جهاز الاستخبارات يختلف تماماً عن هذه الصورة.

فجهاز الاستخبارات - في الحكومة - ليس لقمع الشعوب المظلومة المضطهدة وخنق صرخاتها ، وتحطيم حركاتها العادلة وليس لتحديد نموّ الاُمم ورشدها العقليّ والعلميّ ، وإخضاعها لسياسة معينة حتّى لو كانت خاطئة ، وجائرة ... بل هو لأهداف وطنيّة عادلة نشير إليها فيما يلي :

أهداف الاستخبارات في الحكومة الإسلاميّة
اشارة

إنّ أهداف جهاز الاستخبارات والأمن العامّ - في الحكومة الإسلاميّة - تتلخّص في ثلاثة وظائف واُمور أساسيّة تقتضيها مصلحة الاُمّة وهي :

1 / مراقبة نشاط الموظّفين في الحكومة الإسلاميّة ، ليقوموا بمسؤوليّاتهم الإداريّة المناطة إليهم بأمانة وانضباط.

2 / مراقبة التحرّكات العسكريّة للأعداء بهدف إفشال أي عدوان محتمل وإحباط أي تحرّش في اللحظة المناسبة.

3 / مراقبة تحرّكات ونشاطات الأجانب ورصد تسلّلهم أو نفوذهم في البلاد الإسلاميّة للحيلولة دون قيامهم بأيّة ( مؤامرة ) تسيء إلى أمن البلاد ، من إيجاد الأحزاب الداخليّة ، والسريّة المعادية للاُمّة أو بثّ الشائعات المضرّة بالأمن ، والمخلّة بعزائم الناس ، وإرادة الجماهير ، فإنّ للمخابرات وجهاز الأمن العامّ - في الدولة الإسلاميّة - أن تقوم بعمل تجسّسيّ دقيق في هذه المجالات والأبعاد.

ص: 542

وإليك فيما يلي تفصيل هذه الأقسام الثلاثة وأدلّتها الإسلاميّة :

1. مراقبة الموظّفين

إنّ أوّل ما تهدفه الحكومة الإسلاميّة هو خدمة الاُمّة ، وتنفيذ الأحكام الإسلاميّة بأمانة ودقّة ، وهذا لا يتحقّق إلاّ بأن يقوم جميع الموظفين - في هذه الحكومة - بواجباتهم ووظائفهم الإداريّة بأمانة وصدق وانضباط ، ولتحقيق هذا الأمر يحاول الإسلام في الدرجة الاُولى أن يختار للمناصب والوظائف الحكومية كلّ أمين صادق من الموظّفين كمّا مرّ عليك سابقاً ولكنّ الدولة الإسلاميّة لا تكتفي بالاختيار الحسن لموظّفيها ، وتتركهم دون مراقبة ونظارة ، بل تنصب من تراقبهم وترصد أعمالهم ليقوموا بمسؤوليّاتهم دون تلكّؤ ويؤدّوا واجباتهم الإداريّة والحكوميّة دون تقصير فها هو الإمام الرضا علیه السلام يقول : « كان رسولُ اللّه صلی اللّه علیه و آله إذا بعث جيشاً فأمّهُم أمير بعث معهُ من ثُقاته من يتجسّس لهُ خبرهُ » (1).

وفي عهده المعروف لمالك الأشتر يوصي الإمام عليّ مالكاً بإرسال من يراقب عمّاله ، ويرفع إليه عنهم الأخبار والتقارير فيقول : « وابعث العُيون من أهل الصّدق والوفاء عليهم فإنّ تعاهُدك في السرّ لاُمُورهم حدوة لهُم على استعمال الأمانة والرفق بالرّعية. وتحفّظ من الأعوان فإن أحد منهُم بسط يدهُ إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبارُ عُيُونك اكتفيت بذلك شاهداً فبسطت عليه العقُوبة في بدنه وأخذتهُ بما أصاب من عمله ثُمّ نصبتهُ بمقام المذلّة ، ووسمتهُ بالخيانة ، وقلّدتهُ عار التّهمة » (2).

وهكذا يؤكّد الإمام عليّ علیه السلام على ضرورة تعيين جهاز يراقب أعمال الموظّفين وأصحاب المناصب الحكوميّة ، ثمّ يؤكّد عليه أن يختار لهذا الجهاز من يثق بأخباره من الأفراد ثقة مطلقة إلى درجة يكتفي بأخبارهم إذا أخبروا عن خيانة أو تقصير ، وهذا يعني أن يكون أعضاء جهاز ( الاستخبارات ) من الرجال الصالحين إلى درجة يثق الحاكم

ص: 543


1- قرب الاسناد : 148.
2- نهج البلاغة : قسم الكتب : الرقم 53.

الإسلاميّ بأخبارهم.

ومن المعلوم أنّ جهازاً من هذا النوع وأعضاء من هذا القبيل لا يمكن أن يتحوّل إلى جهاز جهنّمي على غرار ما يوجد الآن في البلاد الإسلاميّة في ظلّ الحكومات الطاغوتيّة الراهنة التي تتحكّم في أعراض الناس ودمائهم وأموالهم وتتجاوز على حقوقهم دون أن يجرأ أحد على الاعتراض أو الشكوى.

ويبدو أنّ الإمام عليّاً علیه السلام نفسه كان له عيون ورجال يتجسّسون له على ولاته وعمّاله في مختلف البلاد حيث إنّنا نجده يعاتب بعض ولاته على اُمور غير لائقة بهم - كولاة وحكّام إسلاميّين - صدرت عنهم ، ونرى نموذج ذلك في كتابه إلى عثمان بن حنيف وكان عامله على البصرة ، وقد بلغه أنّه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها فكتب الإمام علیه السلام إليه : « أمّا بعدُ ، يا ابن حُنيف ، فقد بلغني أنّ رجُلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدُبة فأسرعت إليها تُستطابُ لك الألوانُ ، وتُنقلُ إليك الجفانُ ، وما ظننتُ أنّك تُجيبُ إلى طعام قوم عائلُهُم مجفُوّ وغنيّهُم مدعُوّ » (1).

وتفيد كلمة ( بلغني ) أن هناك من كان يبلّغ هذه المعلومات عن الولاة إلى الإمام عليّ ... كيف لا وهو يأمر مالكاً أن يتّخذ مثل هؤلاء النظّار والمفتّشين على عمّاله ، وقد دعا بعض علماء الإسلام إلى ذلك أيضاً ، قال أبو يوسف في كتاب الخراج يوصي حكام زمانه : ( وأنا أرى أن تبعث قوماً من أهل الصلاح والعفاف ممّن يوثق بدينه وأمانته يسألون عن سيرة العمّال وما عملوا به البلاد ... وإذا صحّ عندك من العامل والوالي تعدّ بظلم وعسف وخيانة لك في رعيّتك ... فحرام عليك استعماله ) (2).

وربما كان الإمام عليّ علیه السلام بنفسه يقوم بالسؤال عن أعمال الولاة ، أو يأمر ولاته بأن يراقبوا أعمال الموظّفين من جانبهم.

فقد كتب إلى كعب بن مالك وهو عامله : « أمّا بعدُ فاستخلف على عملك

ص: 544


1- نهج البلاغة : قسم الكتب : الرقم 45.
2- الخراج لأبي يوسف : 128.

وأخرج طائفةً من أصحابك حتّى تمرّ بأرض السّواد كورةً بعد كورةً فتسألهم عن عمالهم وتنظر في سيرتهم » (1).

2. مراقبة تحرّكات العدو العسكريّة

رغم أنّ التكتيكات العسكريّة ، والتمرينات النظاميّة اليوم تختلف عمّا كانت عليه بالأمس اختلافاً شاسعاً ، ولكنّ عامل ( التجسّس على تحرّكات العدو العسكريّة والتعرّف على أسراره ومواقعه النظاميّة ، وفنونه القتاليّة ، ومدى استعداداته ، وحجم قواه ومعدّاته وعدد أفراده وآليّاته ) لا يزال منذ القديم وإلى الآن يحتفظ بأهمّيته القصوى ، ويعتبر - اليوم - من أفضل الأسباب والعلل لنجاح الجيوش أو سقوطها وفشلها.

ولقد كانت هذه المسألة موضع اهتمام المسلمين - قادة وحكومات - منذ القدم غير أنّها اتّخذت صفة العلم والتخصّص في العصور الحاضرة فصار ( فن التجسّس ) علماً يدرّس في الجامعات يتخصّص فيها الأفراد كما يتخصّصون في الفنون الاُخرى إلى درجة صارت القوى العظمى - اليوم - تجعل انتصاراتها ونجاحاتها مرهونة بمدى نجاحها وتفوّقها في ميدان التجسّس على العدو ، فراحت تنفق الأموال الطائلة على جهاز الاستخبارات ، وتدفع بجواسيسها المتمرّسين في شتّى أنحاء العالم ليجمعوا لها الأخبار ، ويرفعوا إليها التقارير ، ويتوسّلوا بكلّ وسيلة ممكنة للحصول على أدقّ المعلومات العسكريّة ونقلها إلى مراكزهم بشتّى الوسائل والحيل.

وربّما تسلّل هؤلاء الجواسيس إلى السلطات في الدول الاُخرى ، إمّا بأنفسهم أو بواسطة من يدسّونهم في تلك الدوائر من رجال أو نساء بمختلف الحيل والسبل والحجج.

وربّما تسابق الجواسيس سباقاً عنيفاً ، ودمويّاً في تحصيل المعلومات ، وأدّى الأمر في بعض الأحيان إلى المخاطرة بالنفس والمغامرة بالحياة كلّ ذلك انطلاقاً من أهمّية

ص: 545


1- الخراج لأبي يوسف : 128.

العمل التجسّسي في حياة وبقاء الشعوب والحكومات.

نماذج من التجسّس العسكريّ في عصر النبيّ
اشارة

لقد استخدم النبيّ صلی اللّه علیه و آله منذ تشكيله للدولة الإسلاميّة نظام التجسّس على تحرّكات العدو العسكريّة حتّى أنّ كثيراً من نجاحاته وانتصاراته العسكريّة والسياسيّة ترجع إلى اهتمامه البالغ بالمعلومات التي كانت ترد إليه من الأعداء عن طريق ( عيونه ) وجواسيسه الذين كان يبثّهم في كلّ مكان ، فيرفعون إليه ما يشاهدونه من تحرّكات العدوّ ، ويخبرونه بأخبارهم وأقوالهم وأفعالهم ، فكان صلی اللّه علیه و آله يباغتهم وهم في عقر دارهم ويفاجئهم وهم نيّام راقدون ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالمُغِيرَاتِ صُبْحًا ) ( العاديات : 1 - 2 ).

فقد وجّه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليّ بن أبي طالب علیه السلام إلى منطقة وقال له : « اكمن النّهار ، وسر اللّيل ولا تُفارقك العينُ ( أي الجاسوس ) ».

فانتهى علیه السلام إلى ما أمره رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فسار إليهم ، فلمّا كان عند وجه الصبح أغار عليهم ، فأنزل اللّه سبحانه على نبيّه صلی اللّه علیه و آله : ( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ) (1).

وإليك فيما يأتي نماذج من هذا الأمر :

1. في حرب بدر خرج النبيّ مع أحد أصحابه حتّى وقف على شيخ من العرب ، وهو صلی اللّه علیه و آله يحاول التعرّف على أخبار قريش فسأله صلی اللّه علیه و آله عن قريش وعن محمّد وأصحابه وما بلغه عنهم فقال الشيخ : انّه بلغني أنّ محمّداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان صدق الذي أخبرني ، فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبلغني أنّ قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به قريش.

2. بعث النبيّ صلی اللّه علیه و آله عليّاً علیه السلام مع بعض الأصحاب إلى ماء بدر يلتمسون

ص: 546


1- نور الثقلين 5 : 652.

الخبر له عليه فأصابوا راوية لقريش فيها غلامان لقريش فأتوا بهما فسألوهما ورسول اللّه قائم يصّلي فقالا : نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء فكره القوم خبرهما ، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما فلمّا بالغوا في ضربهما قالا : نحن لأبي سفيان فتركوهما ، وركع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وسجد سجدتيه وقال : « واللّه إنّهُما لقُريش ، أخبراني عن قُريش » ؟ قالا : هم واللّه وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى ، فقال لهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « كم القُومُ » ؟ قالا : كثير ، قال : « ما عدّتُهُم » ؟ قالا : لا ندري ، قال : « كم ينحرُون كُلّ يوم » ؟ قالا : يوما تسعاً ، ويوما عشراً ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « القومُ فيما بين التسع مئة ، والألف ».

ثمّ قال لهما : « فمن فيهم من أشراف قُريش » ؟ قالا : عتبة بن ربيعة وشيبة بي ربيعة وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام ونوفل بن خويلد ، والحارث بن عامر بن نوفل و ... فأقبل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على الناس فقال : « هذه مكّةُ قد ألقت إليكُم أفلاذ كبدها » (1).

3. كان بسبس بن عمرو ، وعدي بن أبي الزغباء ( الذين اُرسلا من جانب النبيّ للتجسّس على قريش ) قد مضيا حتّى نزلا بدراً فأناخا إلى تل قريب من الماء ثمّ أخذا شناً لهما يستقيان فيه ، ومجديّ بن عمرو الجهنيّ على الماء فسمع عدي وبسبس جاريتين من جواري القوم النازلين على الماء وهما يتلازمان ويتعاركان على الماء والملزومة تقول لصاحبتها إنّما تأتي العير غداً أو بعد غد ، فاعمل لهم ثمّ اقضيك الذي لك ، قال مجدي : صدقت ثمّ خلص بينهما وسمع ذلك عدي وبسبس فجلسا على بعيريهما ثمّ انطلقا حتّى أتيا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فاخبراه بما سمعا (2).

هكذا كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يستطلع أخبار القوم ويتجسّس عليهم ويبطل مؤامراتهم في اللحظة المناسبة.

وقد أخمد مؤامرة بني سليم وقبيلة قطوان بما حصل عليه من معلومات ساعدته على مباغتتهم وإفشالهم.

ص: 547


1- سيرة ابن هشام 1 : 1. 617.
2- سيرة ابن هشام 1 : 1. 617.

ثمّ إنّنا نلاحظ كيف استفاد عيون الرسول من تقصّي الخبر ، مع الإستفادة الكاملة من قاعدة التستّر والسريّة وهو أمر كان يهتمّ به الرسول في كلّ عمليّاته الاستطلاعيّة ، فها هو عندما يبعث أحد أصحابه للاستطلاع يحيط مهمّته بكامل السريّة والتحوّط وإليك القصّة :

بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عبد اللّه بن جحش بن رئاب الأسدي في رجب ، مقفله من بدر الاُولى وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتّى يسير يومين ثمّ ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يستكره من أصحابه أحداً.

فلمّا سار عبد اللّه بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فإذا فيه : « إذا نظرت في كتابي هذا فأمض حتّى تنزل نخلةً بين مكّة والطّائف فترصُد بها قُريشاً وتعلم لنا من أخبارهم ».

فلمّا نظر عبد اللّه بن جحش قال : سمعاً وطاعة (1).

ألا ترى كيف أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله فرض على مبعوثه أن لا يطلع على الكتاب الذي أعطاه خوف أن يتسرّب الخبر إلى الناس فيتسرّب منهم إلى قريش وتفشل خطة الرسول.

4. لقد كانت معركة أحد من المعارك الصعبة التي فقد فيها الرسول الأكرم 70 شخصا من أصحابه بمن فيهم حمزة أسد اللّه وأسد رسوله ولكن لو لم يكن يعرف الرسول - قبل ذلك - أوضاع العدو لفاقت الخسائر ما وقع.

فإنّ قريشا لمّا خرجت وهم ثلاثة آلاف ومعهم عدة وسلاح كثير وقادوا مائتي فرس وكان فيهم سبعمائة دارع وأجمعوا المسير كتب العبّاس بن عبد المطلب كتاباً وختمه واستأجر رجلاً من بني غفار واشترط عليه أن يسير ثلاثاً إلى رسول اللّه يخبره « أنّ قريشا قد أجمعت المسير إليك فما كنت صانعاً إذا حلّوا بك فاصنعه وقد توجّهوا إليك وقادوا مائتي فرس ، وفيهم سبعمائة دارع وثلاثة آلاف بعير واوعبوا من السلاح » فقدم الغفاري إلى المدينة فوجد النبيّ بقباء وهي قرية متّصلة بالمدينة فدفع إليه الكتاب فقرأه

ص: 548


1- سيرة ابن هشام 1 : 601.

عليه اُبيّ بن كعب واستكتم اُبيّاً ما فيه (1).

5. تحالفت قريش واليهود وغطفان في حرب الخندق ضد النبيّ صلی اللّه علیه و آله وصاروا كتلة واحدة على الإسلام والمسلمين ، فاتّخذ النبيّ صلی اللّه علیه و آله سياسة التفرقة بينهم فبعث نعيم ابن مسعود ، الذي قام بدوره بأحسن صورة ، التي تعد فريدة في نوعها وإليك القصّة :

جاء نعيم بن مسعود إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال : يا رسول اللّه إنّي قد أسلمت وإنّ قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّما أنت فينا رجُل واحد فخذّل عنّا إن استطعت فإنّ الحرب خُدعة ».

فخرج نعيم حتّى أتى بني قريظة وكان لهم نديماً في الجاهليّة فقال : يا بني قريظة قد عرفتم ودّي إيّاكم ، وخاصّة ما بيني وبينكم ، قالوا : صدقت لست عندنا بمتّهم ، فقال لهم : إنّ قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم ، البلد بلدكم ، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره وانّ قريشاً وغطفان قد جاؤوا لحرب محمّد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره فليسوا كأنتم فإن رأوا نهزة أصابوها ، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتّى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمّداً حتّى تناجزوه ، فقالوا له : قد أشرت بالرأي.

ثمّ أتى إلى أبي سفيان ورجال قريش وقال : إنّ اليهود قد ندموا على ما صنعوا مع محمّد وتعهّدوا له بأن يسلّموا إليه رجالاً من قريش ليعفو عنهم ثمّ خرج إلى غطفان وهم عشيرته وحذّرهم وقال لهم مثل ما قال لقريش.

وهكذا ألقى الحيرة والخوف وعدم الثقة بين قريش وغطفان واليهود المتحالفين ضدّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

فلمّا اقترب موعد الحرب ضد النبيّ طلبت اليهود من قريش وغطفان رجالاً كرهائن عندهم ، قالت قريش وغطفان : إنّا واللّه لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا

ص: 549


1- مغازي الواقديّ 1 : 203 - 204.

فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا ... (1) وهكذا انفرط عقد التحالف القرشيّ اليهوديّ الغطفانيّ بفعل نعيم وتخذيله والدور الذي لعبه كما يلعبه أي جاسوس يعمل لصالح جهة معيّنة ، وينفّذ تكتيك التفرقة بين قوى العدو ببث الشائعات والتخويف.

6. وفي نفس الواقعة ( أي واقعة الخندق ) لمّا انتهى إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما اختلف من أمرهم وما فرّق اللّه من جماعتهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلاً. وقال له : يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يصنعون ولا تحدّثن شيئاً حتّى تأتينا.

يقول : فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود اللّه تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناء فقام أبو سفيان وقال : يا معشر قريش ، لينظر امرؤ من جليسه ؟

قال حذيفة : فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي فقلت : من أنت ، قال : فلان ابن فلان.

[ وفي شرح المواهب : فضربت بيدي على يد الذي عن يميني فأخذت بيده ، فقلت من أنت ؟ قال معاوية بن أبي سفيان ثمّ ضربت بيدي على يد الذي كان على شمالي فقلت من أنت ؟ قال : عمرو بن العاص ] (2).

ثمّ راح أبو سفيان يتحدّث عن ما لحقهم من الخلاف والبلاء ومقتل عمرو بن ود وقال ارتحلوا فانّي مرتحل.

يقول حذيفة : فواللّه لولا عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لقتلته بسهم.

ثمّ رجع إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأخبره بعزم قريش على الانسحاب من هذه المعركة والفرار.

وهذا يكشف عن أنّ هذا النوع من العمل كان ابتكاراً من النبيّ صلی اللّه علیه و آله وعملاً

ص: 550


1- سيرة ابن هشام 2 : 229 ، ومغازي الواقديّ : 480.
2- سيرة ابن هشام 2 : 232 ومغازي الواقديّ : 482.

بديعاً في ذلك العصر ، وهو ينبئ عن نبوغ الرجل الذي اختاره النبيّ وحسن اختياره صلی اللّه علیه و آله وحرصه على العمل الذي كلّف به.

وفي هذا الصدد قال نابليون : إنّ وجود رجل واحد مناسب وذكيّ من الاستخبارات خير من عشرين ألف مقاتل في ميدان الحرب.

7. بلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّ ناساً من المنافقين يجتمعون في بيت « سويلم » اليهوديّ ، وكان بيته عند جاسوم ( موضع بالمدينة ) يثبّطون الناس عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في غزوة تبوك فبعث إليهم النبيّ صلی اللّه علیه و آله طلحة بن عبيد اللّه في نفر من أصحابه ، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم ، ففعل طلحة.

ومن المعلوم أنّ هناك من كان يترصّد الأخبار لرسول اللّه ويبلغها له ، إذ من المعلوم أنّ العمليات التي كان يقوم بها اليهود والمنافقون وهم بمثابة الطابور الخامس ، كانت في غاية السريّة ، فلا بدّ أن يكون هناك من كان يتجسّس عليهم ويسترقّ أخبارهم ويعطيها للنبيّ صلی اللّه علیه و آله .

8. في وقعة خيبر لمّا كان في إحدى الليالي قبضت الدوريّة العسكريّة الإسلاميّة على رجل من يهود خيبر في جوف الليل فأمر به عمر أن يضرب عنقه ، فقال : اذهب بي إلى نبيّكم حتّى اُكلّمه فأمسك عنه وانتهى به إلى باب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فوجده يصلّي فسمع صلی اللّه علیه و آله كلام عمر ، فسلّم وأدخله عليه فدخل باليهوديّ ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لليهودي : « ما وراءُك » ؟ فقال : تؤمنّي يا أبا القاسم ، فقال : « نعم » ، قال : خرجت من حصن النطاة من عند قوم يتسلّلون من الحصن في هذه الليلة. قال فأين يذهبون ؟ قال : إلى الشقّ يجعلون فيه ذراريهم ، ويتهيّأون للقتال في هذا الحصن الذي هو الحصن الصعب من حصون النطاة في بيت فيه تحت الأرض منجنيق ودبّابات ودروع وسيوف فإذا دخلت الحصن غداً وأنت تدخله ( قال رسول اللّه : « إنشاء اللّه » قال اليهوديّ : إنشاء اللّه ) أوقفتك عليه فإنّه لا يعرفه غيري ، واُخرى ، قيل ما هي ، قال : يستخرج المنجنيق ، وينصب على الشقّ ويدخل الرجال تحت الدبّابات فيحفر الحصن فتفتحه من يومك ، وكذا تفعل بحصون

ص: 551

الكتيبة.

ثمّ قال : يا أبا القاسم : احقن دمي ، قال : « أنت آمن » قال : ولي زوجة فهبها لي ، قال : « هي لك ».

ثمّ دعاه صلی اللّه علیه و آله إلى الإسلام فقال : انظرني أيّاماً (1).

9. بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عباد بن بشر في فوارس طليعة فأخذ عيناً من يهود من أشجع فقال : من أنت ، قال : باغ ابتغي أبعرة ضلّت لي ، قال له عباد : ألك علم بخيبر ؟ ، قال : عهدي بها حديث فيم تسألني عنه ، قال : عن اليهود ، قال : نعم.

( ثمّ أخبر عن اليهود بأخبار كاذبة بقصد إرعاب المسلمين ) فعند ذلك رفع عباد ابن بشر السوط فضربه ضربات وقال : ما أنت إلاّ عين لهم ، أصدقني والاّ ضربتُ عنقك. فقال الإعرابي : أتؤمنني على أن أصدقك ، قال عباد : نعم ، فقال الإعرابي : القوم مرعوبون منكم خائفون وجلون لما قد صنعتم بمن كان بيثرب من اليهود إلى آخر القصة (2).

10. وفي اُحد بعث النبيّ صلی اللّه علیه و آله عينين له انساً ومؤنساً ابني فضالة ليلة الخميس فاعترضا لقريش بالعقيق فسارا معهم حتّى نزلوا بالوطاء فأتيا رسول اللّه فأخبراه بمكان قريش وأنّ مع قريش ثلاثة آلاف بعير ومائتا فرس وغير ذلك (3).

11. وفي غزوة الحديبيّة بعث رسول اللّه بين يديه عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش وسار رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتّى إذا كان بغدير الأشطاط قريباً من عسفان أتاه عينه الخزاعيّ فقال : إنّي تركت كعباً وعامراً قد جمعوا لك الأحابيش وجمعوا لك جموعاً وهم قاتلوك أو مقاتلوك ، وصادّوك عن البيت ، فقال : « روحُوا » إلى آخر القصّة (4).

ص: 552


1- المغازي 2 : 647 - 648 ، السيرة الحلبيّة 3 : 41.
2- المغازي للواقديّ 2 : 640 - 642.
3- المغازي 1 : 206.
4- مجمع البيان 9 : 117.

ولعلّ أوضح نصّ في هذا المجال هو ما وصّى به الإمام عليّ علیه السلام جيشاً بعثه إلى العدو حيث قال : « واجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال ومناكب الهضاب لئلاّ يأتيكم العدّو من مكان مخافةً أو أمن واعلموا أنّ مقدّمة القوم عيونهم ، وعيون المقدّمة طلائعهم ... وإيّاكم والتفرّق فإذا نزلتم فانزلوا جميعاً وإذا ارتحلتم فارتحلوا جميعاً وإذا غشيكم الليل فاجعلوا الرّماح كفةً [ أي مثل كفة الميزان مستديرة حولكم محيطة بكم ] ولا تذوقوا النوّم إلاّ غراراً أو مضمضةً [ أي ينام ثمّ يستيقظ ثمّ ينام ] » (1).

وهو موقف اتّخذه الإمام عليّ علیه السلام عمليّاً إذ كتب إلى قثم بن العبّاس وهو عامله على مكّة إذ قال : « أمّا بعد فإنّ عيني [ أي رقيبي الذي يأتيني بالأخبار ] بالمغرب [ أي الأقاليم الغربيّة ] كتب إليّ يعلمني أنّه وجّه إلى الموسم أناس من أهل الشّام ، العمي القلوب الصمّ الأسماع ، الكمه الأبصار الّذين يلبسون الحقّ بالباطل ... الخ ».

هذه بعض النماذج من الأعمال التجسّسية التي كان يأمر بها الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله غيره من قادة الإسلام في المجال العسكريّ ، لمعرفة التحركات المعادية للحكومة الإسلاميّة.

كلّ ذلك يؤكّد موقف الإسلام من جهاز الاستخبارات العسكريّة الذي يضمن جمع المعلومات الدقيقة حول العدو ، ويمكّن القيادة والحكومة من اتّخاذ الموقف المناسب.

* * *

3. مراقبة نشاطات الأجانب ونفوذهم

إنّ الوظيفة الثالثة ، وبالأحرى الجانب الأهمّ من عمل الأمن العامّ والاستخبارات هو مراقبة نشاطات الأجانب الأعداء في داخل البلاد الإسلاميّة ورصد تحرّكاتهم ونفوذهم لمنع ظهور الطابور الخامس الذي يرجع إليه السبب الأكبر في سقوط الدول

ص: 553


1- نهج البلاغة : الكتاب 33.

والحكومات ولقد سلك النبيّ صلی اللّه علیه و آله هذا المسلك وتمكّن بذلك أن يمنع من محاولات أعداءه العدائيّة ، ويبطل خططهم في الداخل.

إنّ حياة النبيّ صلی اللّه علیه و آله تبيّن أنّه كان يسعى دوماً إلى أن يدفع العدو إلى الخضوع للحقّ ، ولم يكن يهدف الانتقام والثأر وإراقة الدماء.

ففي المعارك والغزوات التي شارك فيها النبيّ صلی اللّه علیه و آله أو بعث سريّة لمقابلة العدو كان يهدف بالدرجة الاُولى إلى تفريق جمعهم ، وتشتيت صفّهم لأنّه كان يعلم بأنّه لو ارتفعت الموانع عن طريق الإسلام لاستطاع الدين بمنطقه البيّن ونهجه القويم أن يشقّ طريقه إلى قلوب الناس.

فإذا تفرّق جمع العدو ، ويئس من السيطرة على الإسلام ، وعاد الناس إلى فطرتهم ورشدهم ، استطاع الدين أن يتسرّب إلى قلوبهم ، وجذبهم إلى صفّه ، وهذا هو أمر تدلّ عليه الأحداث التاريخيّة فإنّ كثيراً من الشعوب والأقوام التي هزمت أمام القوّة الإسلاميّة العسكريّة ، عادت إلى رشدها وراحت تفكّر في قبول الدين واعتناق تعاليمه ومفاهيمه.

وقد ظهر هذا الأمر في فتح مكّة بأجلى مظاهره.

لقد كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يعلم أنّه لو فتح مكّة ونزع السلاح من العدو ، وتهيّأت البيئة المساعدة للتفكير والتدبّر فلن يمضي زمان كبير إلاّ ويستقبل الناس بقلوبهم وعقولهم دعوة الإسلام ، ولذلك كان يتحتّم على النبيّ صلی اللّه علیه و آله أن ينتصر على العدو ، ويتغلّب عليه ولكن دون إبادته وتدميره وإفنائه ... ما دام حقن الدماء ممكناً. ولتحقيق هذا الهدف المقدّس ( الغلبة على العدو دون إراقة الدماء ) كان يتعيّن مباغتة الطرف الآخر ومفاجأته قبل أن يفكّر في الدفاع عن نفسه ، وقبل أن يقوم بأيّ عمل مضادّ ، ولا شكّ أنّ هذا الأمر ما كان ليتحقّق إلاّ بأن تبقى جميع أسرار السياسة الإسلاميّة مصونة محفوظة لا يعلم بها الطرف الآخر ، ولا يقع في يده شيء منها فلا يعلم العدو مثلا هل يريد النبيّ صلی اللّه علیه و آله مهاجمتهم أوّلاً ، وعلى فرض عرف العدو ذلك ، فلا يعرف متى وكيف ومن أين ، كلّ ذلك

ص: 554

أسرار يجب أن تبقى مصانة ومحفوظة لا يدري بها العدو ، ولهذا كان يتعيّن على النبيّ أن يلاحظ عملاء العدو في الداخل لكي لا يسرّبوا أي خبر من داخل البلاد إلى العدو ولا يخبروه بخبر يفوّت على النبيّ مقاصده.

ومن هنا اتّخذ النبيّ الاجراءات الفوريّة عندما بلغه أنّ هناك من أفشى خبر سفره وتوجّهه إلى مكّة لفتحها ، فلمّا أجمع الرسول صلی اللّه علیه و آله المسير إلى مكّة كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش بخبرهم بعزم الرسول ، ثمّ أعطى الكتاب إلى امرأة فجعلته في شعر رأسها ، فأتى الخبر إلى رسول اللّه من السماء فبعث عليّ بن أبي طالب والزبير بن العوّام فخرجا حتّى أدركاها في موضع بين مكّة والمدينة فأنزلاها من رحلها ، وفتّشا الرحل فلم يجدا شيئاً فقال لها عليّ بن أبي طالب : « إنّي أحلفُ باللّه ما كذب رسولُ اللّه صلی اللّه علیه و آله ولا كُذّبنا ولتُخرجنّ هذا الكتاب أو لنكشفنّك ».

فلمّا رأت الجدّ منه ، قالت : أعرض ، فأعرض ، فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منها فدفعته إليه. فأتى به إلى رسول اللّه وعاتب النبيّ حاطب بشدّة (1).

وفي ذلك نزلت الآيات الاُول من سورة الممتحنة ابتداء من قوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالمَوَدَّةِ ... الخ ) ( الممتحنة : 1 ).

وهكذا كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يحبط الأعمال التجسّسيّة التي كان يقوم بها العدوّ في عمق بلاده.

وقد ذهب بعض علماء الإسلام إلى ضرورة وجود جهاز يكشف مؤامرات العدو في الداخل.

يقول القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج :

( وينبغي للإمام أن تكون له مسالح ( مخافر حدوديّة ) على المواضع التي تنفذ إلى بلاد أهل الشرك من الطرق فيفتّشون من مرّ بهم من التجّار فمن كان معه سلاح أخذ منه ورد ، ومن كان معه كتب قرئت كتبه فما كان من خبر من أخبار المسلمين قد كتب به

ص: 555


1- سيرة ابن هشام 2 : 399.

أخذ الذي اُصيب معه الكتاب وبعث به إلى الإمام ليرى فيه رأيه ) (1).

حكم المتجسّس لصالح الأجنبيّ

إنّ الإسلام أمر بالتشدّد مع اُولئك النفر من المسلمين الذين يتجسّسون لصالح الأجانب ، ففي الإرشاد للشيخ الأجلّ المفيد :

لمّا بلغ معاوية بن أبي سفيان وفاة أمير المؤمنين علیه السلام وبيعة الناس ابنه الحسن علیه السلام دسّ رجلاً من حمير إلى الكوفة ورجلاً من بني القين إلى البصرة ليكتبا إليه بالأخبار ويفسدا على الحسن الاُمور فعرف ذلك الحسن علیه السلام فأمر باستخراج الحميري من عند لحّام بالكوفة فأخرج وأمر بضرب عنقه وكتب إلى البصرة باستخراج القيني من بني سليم فاُخرج وضربت عنقه وكتب الحسن علیه السلام إلى معاوية : « أمّا بعدُ فإنّك دسست الرّجال للاحتيال والاغتيال وأصدرت العيُون كأنّك تُحبّ اللقاء وما أوشك ذلك فتُوقعهُ إنشاء اللّه تعالى » (2).

كما أمر بالتشديد مع أهل الذمّة الذين يتجسّسون في الداخل على المسلمين لصالح الأعداء والأجانب ويعتبر ذلك نقضاً للذمّة.

قال المحقّق الحليّ في الشرائع في باب شرائط أهل الذمّة :

( ... أن لا يؤذوا المسلمين كالزنى بنسائهم واللواط بصبيانهم والسرقة لأموالهم وإيواء عين المشركين ( أي جاسوسهم ) والتجسّس لهم فإن فعلوا من ذلك شيئاً وكان تركه مشترطاً في الهدنة كان نقضاً ) (3).

وقال العلامة الحلي في تذكرة الفقهاء في ما يشترط على أهل الذمّة :

ص: 556


1- كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم المتوفّى ( 182 ه ) طبعة القاهرة عام (1303).
2- الإرشاد : 192 للمفيد الفقيه المؤرّخ محمّد بن محمّد بن النعمان المتوفّى ( 413 ه ).
3- شرائع الإسلام كتاب الجهاد : 329.

( وأن لا ينقلوا أخبار المسلمين إلى أعدائهم ولا يدلّوا على عوراتهم فمن فعل شيئا من ذلك فقد نقض عهده وأحلّ دمه وماله وبرئت منه ذمّة اللّه ورسوله والمؤمنين ) (1).

وكتب القاضي أبو يوسف في كتابه الخراج يقول :

( سألت عن الجواسيس يوجدون وهم من أهل الذمّة أو أهل الحرب أو من المسلمين فإن كانوا من أهل الحرب أو من أهل الذمّة ممّن يؤدّي الجزية من اليهود والنصارى والمجوس فاضرب أعناقهم ، وإن كانوا من الإسلام معروفين فأوجعهم عقوبة وأطل حبسهم حتّى يحدثوا توبة ) (2).

وهكذا يكون من وظائف الحكومة الإسلاميّة تشكيل جهاز قويّ مجهّز بكلّ الوسائل القويّة للتجسّس في الإطارات المذكورة التي مرّ عليك ذكرها.

على أنّ الإسلام - كعادته وكما أسلفنا - تعرّض في هذه المسألة لجوهر الأمر ولم يدخل في تفصيلاته وشكليّاته فإنّ كيفيّة التجسّس ونوع الرموز والأجهزة متروكة للزمن على أن تكون في إطار التقوى والأخلاق وحسب الشروط التي مرّت.

وجملة القول أنّ ما نفهمه من حياة الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله وسيرته السياسيّة هو الاهتمام الشديد الذي كان يبديه بمسألة الاستخبارات.

فإنّه وإن لم يكن في زمن النبيّ تشكيلات للاستخبارات على غرار ما يوجد الآن في العالم الحديث ولكن النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان - مضافا إلى اتّخاذ العيون - قد ربّى المسلمين تربية سياسيّة رائعة بحيث أصبح كلّ مسلم يرى نفسه مسؤولا عن الأمن فكانوا يرفعون إليه فوراً كلّ خبر يرتبط بهذا الأمر ، فها هو زيد بن أرقم - وهو غلام يافع - عندما يسمع أحد قادة الطابور الخامس ( عبد اللّه بن اُبي ) في غزوة بني المصطلق وهو يقول : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل ويعني بالأعز نفسه وبالأذلّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : أنت واللّه الذليل القليل المبغض ومحمّد في عزّ من الرحمن ومودّة من المسلمين ..

ص: 557


1- تذكرة الفقهاء 1 : 442.
2- كتاب الخراج : 205 - 206.

ثمّ أسرع إلى النبيّ وأخبره بالأمر (1).

فعلى الحكومة الإسلاميّة أن تربّي المسلمين بهذه التربية ، ليعتبر كلّ واحد منهم نفسه مسؤولاً عن أمن البلاد دفعاً للفساد ، ونهياً عن المنكر ، وإن كان ذلك لا يغني عن تأسيس جهاز مستقلّ لذلك.

وأخيراً نكرّر القول بأنّه يجب أن يكون جهاز الاستخبارات لصالح الإسلام والمسلمين مائة بالمائة ، ولا يكون على غرار ما في الدول المعاصرة ، إذ ليس ذاك إلاّ للحفاظ على عروش الاُمراء والرؤساء والملوك ، ولذلك فهو لا يتجسّس لصالح الاُمّة بل يتجسّس على الاُمّة لإخماد صوتها وإكبات حريّاتها وتحطيم مقاومتها. وإخضاعها للسياسات الاستعماريّة ، والمطامع الأجنبيّة.

ص: 558


1- مجمع البيان 5 : 294.

برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها

7

الحكومة الإسلاميّة والنظام العسكريّ

قوام الاُمّة رهن بقدرتها العسكريّة

إنّ قوام كلّ اُمّة من الاُمم يرتبط بمدى قدرتها على الدفاع عن وجودها ، وحماية شخصيّتها اتّجاه الأعداء ، فبقدر ما تكون تلك الاُمّة مجهّزة بالعدد والعدّة ، تستطيع أن تدفع عن نفسها أي عدوان وتحافظ على كيانها في سياج من الأمن والدعة والاسقرار ، وبقدر ما تكون ضعيفة في هذه الناحية تكون معرّضة للزوال والاندحار أمام هجمات الأعداء ، ومن هنا أنشأت الجيوش ، واُوجدت العساكر الجرّارة ... وظهرت إلى الوجود الأساطيل البحريّة ، ووسائل الحرب ... .

ولقد صارت هذه الجيوش والعساكر شيئاً فشيئاً وسيلة بأيدي الطغاة والطامعين فغزوا بها البلاد وأغاروا بها على المدن ... فكانت الوقائع الدامية ، والحروب المريعة ، والمجازر الفضيعة التي صبغت التاريخ البشريّ بلون الدم القاني.

ص: 559

الجيش في خدمة الدين والشعب

إنّ الجيش في الحكومة الإسلاميّة ليس كالجيوش في الدول الامبرياليّة الشرقيّة والغربيّة لا يكون الهدف منها إلاّ توسعة النفوذ ، والتجاوز على الحقوق والإغارة على أموال الآخرين وثرواتهم.

كما أنّه ليس كالجيوش في العالم الثالث حيث لا يكون الهدف منها إلاّ الحفاظ على سيطرة السلطات الديكتاتوريّة العميلة هناك وسلب الحريّات ، وقمع المعارضة ، وضرب الانتفاضات الشعبيّة ... وبالتالي حماية المصالح الأجنبيّة ، بل الجيش في الحكومة الإسلاميّة إنّما هو للمحافظة على ثغور البلاد الإسلاميّة ، واستقلال البلاد ... وما فيها من ثروات وشعوب ، وعلى ذلك يتّصف الجيش الإسلاميّ بصفة الحافظ الصائن لا الغازي المهاجم ، المحرّر لا المعتدي ... والصديق في جانب الشعب ، لا القوّة القاهرة له ، العدوة لأبنائه.

ولقد كان هذا الأمر موضع اهتمام الإسلام منذ طلوعه وبزوغه ، فإنّ الدين الذي جاء ليكتسح الظلمات وينقذ البشريّة من براثن الاستعباد والاستثمار كان من الطبيعيّ أن يواجه معارضة ممّن بنوا حياتهم على استعباد الإنسان واستثماره واستغلاله ، ومن هنا كان طبيعيّاً - أيضاً - أن يعدّ الإسلام عدّته لمواجهة أعدائه ومعارضيه الذين راحوا يكيدون له أشدّ الكيد ، ويتربّصون به الدوائر.

إنّ من يلاحظ الحياة الإسلاميّة في الصدر الأوّل وما بعده يجد نشاطاً عسكريّاً فريداً من نوعه ، ومن يلاحظ التعاليم الإسلاميّة ذاتها يجد نظاماً عسكريّاً فريداً أيضاً ، فقد تضمّن القرآن الكريم تعاليم راقية ومتقدّمة جداً في الشؤون العسكريّة وتوجيهات لا سابق لها في الفنون النظاميّة.

ثم إنّ من يلاحظ النصوص الإسلاميّة يجدها تحثّ المسلمين حثّاً بليغاً وأكيداً على تعلم الرماية والتدريب على السلاح ومزاولة التمرينات العسكريّة استعداداً لكل

ص: 560

مواجهة ، وإليك فيما يلي بعض هذه النصوص :

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لا سباق إلاّ في خفّ أو حافر أو نصل ( يعني النصال والرمي ) » (1).

وعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في قول اللّه عزّ وجلّ : ( وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ ) ( الأنفال : 60 ) ، قال : « الرّمي » (2).

وعنه صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : « علّموا أبناءكم الرّمي والسّباحة » (3).

وقال أيضا : « اركبوا وارموا وأن ترموا أحبّ إليّ من أن تركبوا ...

كلّ لهو المؤمن باطل إلاّ في ثلاث في تأديبه للفرس ، ورميه عن القوس ... فإنّهنّ حقّ. ألاّ أنّ اللّه عزّ وجلّ ليدخل بالسّهم الواحد الثلاثة الجنّة : عامل الخشبة والمقوّي به في سبيل اللّه والرّامي به في سبيل اللّه » (4).

وقال الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام : « الرّمي سهم من سهام الإسلام » (5).

وهذا يعني أنّ على كافة المسلمين أن يتلقّوا التدريب العسكريّ ويتعرّفوا على فنون الرماية والقتال. ليكونوا على استعداد كامل ودائم لأيّة مواجهة مع الأعداء.

ولقد دفعت الروح القتاليّة والبسالة والتشجيع على التدريب العسكريّ التي بثّها الإسلام في المسلمين إلى أن يتطوّعون بكامل رغبتهم للخدمة العسكريّة ويبادروا إلى الانضواء في الجيش الإسلاميّ كلّما استدعت الحاجة ، واقتضت الظروف.

على أنّ السبب الرئيسيّ في ذلك هو أنّ الإسلام أفاض على الخدمة العسكريّة قدسية يخلو منها جميع الأنظمة البشريّة ... فقد اعتبر الإسلام الإنضواء في الجيش

ص: 561


1- وسائل الشيعة 13 :1. 351 كتاب السبق والرماية - باب استحباب الرمي والمراماة.
2- وسائل الشيعة 13 :1. 351 كتاب السبق والرماية - باب استحباب الرمي والمراماة.
3- مستدرك الوسائل 2 : 517.
4- وسائل الشيعة 11 : 107 باب استعمال تعلّم الرمي بالسهم.
5- وسائل الشيعة 11 : 107 باب استعمال تعلّم الرمي بالسهم.

الإسلاميّ والخدمة العسكريّة والقتال في صفوف هذا الجيش ( جهاداً في سبيل اللّه ).

وينطوي هذا اللفظ على بعد معنويّ رفيع جدّاً حيث يعني الجهد والسعي لحفظ البلاد وإنقاذ المستضعفين وإعلاء كلمة اللّه ... وذلك يكفي لأن تجتذب نحوها القلوب والضمائر. ذلك لأنّ هذا الوصف في الخدمة العسكريّة وهذا الهدف المقدّس يخرج العمل العسكريّ من كونه خدمة للطغاة ، وسعياً من أجل إرضاء رغباتهم كما هو الحال في الجيوش الحاضرة ، التي لم تنشأ في الأغلب إلاّ لحماية الطواغيت ولا تحارب إلاّ لإرضاء شهواتهم ورغباتهم وتحقيق مطامعهم.

من هنا يكفي للحكومة الإسلاميّة أن تعلن عن حاجتها إلى الجنود والمقاتلين لتنهال عليها طلبات الإلتحاق إلى صفوف الجيش من كلّ جانب بهدف أن ينالوا شرف الجهاد تحت لواء الإسلام ، وهم يسمعون كلام اللّه إذ يقول : ( وَفَضَّلَ اللّهُ المُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ) ( النساء : 95 ).

على أنّ هذا الأمر لا يمنع من أن تتّخذ الحكومة الإسلاميّة جيشاً منظّماً مجهّزاً بأحدث الأسلحة والتكتيات عملاً بقوله سبحانه : ( وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) ( الأنفال : 60 ).

بل وللحكومة الإسلاميّة أن تفرض نظام التجنيد الإجباريّ على بعض الناس ضمن شروط خاصّة إذ لا يمكن في مثل هذا العصر الذي تتّخذ فيه الدول الجيوش القويّة المدرّبة والمنظّمة ، أن لا تتّخذ الحكومة الإسلاميّة جيشاً مماثلاً في القوّة والتدريب والنظام والعدّة ، تنيط إليه مسؤولية الدفاع عن الوطن الإسلاميّ والمرابطة على ثغوره والسهر على أمنه الخارجيّ ودرء الأخطار عنه وإن كانت هذه المسؤوليّة قد تعمّ كلّ أفراد الاُمّة دون إستثناء إذا اقتضى الأمر ، وتطلب أن يتطوّع الجميع لحمل السلاح ، والدفاع عن حوزة الإسلام والمسلمين.

وخلاصة القول ؛ أنّ النظام والعمل العسكريّ في الإسلام لا يهدف فتح البلاد

ص: 562

وغزو الشعوب واستعمارها ، واستغلالها ، بل يتركّز في أحد أمرين :

1. الدفاع عن حدود البلاد الإسلاميّة وحماية الاُمّة من غزو الغزاة ، وعدوان الأعداء.

2. تحرير المستضعفين وإنقاذهم من ظلم اُمرائهم وملوكهم ... ليختاروا ما يشاؤون من دين ، ويتّخذوا بإرادتهم ما يريدون. وهذا ما أعلن عنه المسلمين يوم أرادوا فتح إيران وانقاذ أهلها من ظلم ملوكهم ، وحيفهم.

فقد قال مندوب المسلمين لمّا سأله الأمير الايرانيّ رستم عن سبب تحرّكهم العسكريّ نحو إيران ، وسأله عن الدين الذي يحملونه ويبشّرون به :

« هو دين الحقّ وعموده الذي لا يصلح إلاّ به فشهادة أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه ... وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة اللّه ، والناس بنو آدم وحوا ، اخوة لأب واُمّ » (1).

تعاليم إنسانيّة في الحرب

ولذلك نجد للإسلام تعليمات إنسانيّة عظيمة للجنود والمقاتلين تكشف عن أهداف الحروب الإسلاميّة وغاياتها السامية ، فها هو النبيّ صلی اللّه علیه و آله كلّما أراد أن يبعث جيشاً إلى موضع من المواضع وصّاه بوصايا تفوح منها رائحة الرحمة والإنسانيّة ، فعن الإمام الصادق جعفر بن محمّد علیه السلام قال : « كان رسُولُ اللّه صلی اللّه علیه و آله إذا أراد أن يبعث سريّةً دعاهُم فأجلسهُم بين يديه ثُمّ يقُولُ :

سيروا بسم اللّه وباللّه وفي سبيل اللّه وعلى ملّة رسول اللّه لا تغلوا ولا تمثّلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ، ولا صبيّاً ، ولا امرأةً ولا تقطعوا شجراً إلاّ أن تضطروا إليها

ص: 563


1- الكامل لابن الأثير 1 : 319 وفي رواية اُخرى قال : اللّه جاء بنا وهو بعثنا لنخرج من يشاء من عباده من ضيق الدنيا إلی سعتها، ومن جور الأديان إلی عدل الإسلام. راجع الكامل 320:1.

وأيّما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى أحد من المشركين فهو جار حتّى يسمع كلام اللّه فإن تبعكم فأخوكم في الدّين ، وإن أبى فأبلغوه مأمنه واستعينوا باللّه » (1).

وقال علیه السلام أيضاً : « إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان إذا بعث أميراً له على سريّة أمره بتقوى اللّه عزّ وجلّ في خاصّة نفسه ثمّ في أصحابه عامّةً ثمّ يقول :

اغز باسم اللّه وفي سبيل اللّه ، قاتلوا من كفر باللّه ... لا تغدروا ... ولا تغلوا ... ولا تمثّلوا ... ولا تقتلوا وليداً. . ولا متبتّلاً في شاهق ، ولا تحرقوا النّخل ، ولا تغرقوه بالماء ، ولا تقطعوا شجرة مثمرةً ولا تحرقوا زرعاً لأنّكم لا تدرون لعلّكم تحتاجون إليه ، ولا تعقروا من البهائم يؤكل لحمه إلاّ ما لا بدّ لكم من أكله ، وإذا لقيتم عدوّاً للمسلمين فادعوهم إلى إحدى ثلاث فإن هم أجابوكم فاقبلوا منهم وكفّوا عنهم :

ادعوهم إلى الإسلام فإن دخلوا فيه فاقبلوا منهم وكفّوا عنهم ، وإن أبوا أن يهاجروا واختاروا ديارهم وأبوا أن يدخلوا في ديار الهجرة ، كانوا بمنزلة أعراب المؤمنين يجري عليهم ما يجري على أعراب المؤمنين ولا يجري لهم في الفيء ولا في القسمة شيئاً إلاّ أن يهاجروا [ يجاهدوا ] في سبيل اللّه. فإن أبوا هاتين فادعوهم إلى إعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون فإن أعطوا الجزية فاقبل وكفّ عنهم وإن أبوا فاستعن باللّه عزّ وجلّ عليهم وجاهدهم في اللّه حقّ جهاده ... الخ » (2).

وكان عليّ بن أبي طالب علیه السلام إذا بعث سرية ولّي أمرها رجلاً ثمّ قال له : « أُوصيك بتقوى اللّه الّذي لا بدّ لك من لقائه ولا منتهى لك دونه وهو يملك الدّنيا والآخرة وعليك بالّذي بعثت له ، وعليك بالّذي يقرّبك إلى اللّه عزّ وجلّ فإنّ فيما عند اللّه خلفاً من الدّنيا » (3).

إلى غير ذلك من التعليمات والوصايا التي تكشف عن أهداف النظام العسكريّ

ص: 564


1- وسائل الشيعة 11 : 42 - 43.
2- وسائل الشيعة 11 : 45 - 46 ، وتاريخ اليعقوبيّ 2 : 59.
3- الخراج : 16.

في الإسلام.

ولعل من أبرز ما يكشف لنا عن هدف الإسلام من الجهاد والقتال والنشاط العسكريّ هو قوله تعالى : ( وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ) ( النساء : 75 ).

ولقد اهتمّ الإسلام بالجنود غاية الاهتمام ، وأعطاهم غاية العناية لمالهم من الدور الحسّاس والخطير في الدولة الإسلاميّة.

فها هو الإمام عليّ أمير المؤمنين علیه السلام يوصي الأشتر النخعيّ واليه على مصر بالجنود ويقول في حقّهم ما لم يعرف التاريخ له مثيلاً : « فالجنود بإذن اللّه حصون الرّعيّة وزين الولاة ، وعزّ الدّين وسبل الأمن وليس تقوم الرّعيّة إلاّ بهم ثمّ لا قوام للجنود إلاّ بما يخرج اللّه لهم من الخراج الذي يقوون به على جهاد عدوّهم ويعتمدون عليه فيما يصلحهم ويكون من وراء حاجتهم ..

وليكن أثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته ، وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم حتّى يكون همّهم همّاً واحداً في جهاد العدوّ فإنّ عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك ... وإنّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد وظهور موّدة الرّعية » (1).

كما أعطى الإمام عليّ تعليماته في النشاط العسكريّ فقال : « فقدّموا الدّارع ، وأخّروا الحاسر وعضّوا على الأضراس فإنّه أنبى للسيوف عن الهام ، والتووا في أطراف الرّماح فإنّه امور للأسنّة وغضّوا للأبصار فإنّه أربط للجأش وأسكن للقلوب وأميتوا الأصوات فإنّه أطرد للفشل ، ورايتكم فلا تميلوها ولا تخلّوها ولا تجعلوها إلاّ بأيدي شجعانكم ... الخ » (2).

ص: 565


1- نهج البلاغة : قسم الرسائل : رقم 53.
2- نهج البلاغة : قسم الخطب : رقم 12 طبعة عبده.

وقال : « تزول الجبال ولا تزل عض على ناجذك أعر اللّه جمجمتك ، تدفي الأرض قدمك أرم ببصرك أقصى القوم وغضّ بصرك وأعلم أنّ النّصر من عند اللّه سبحانه » (1).

وقال : « فإذا نزلتم بعدوّ أو نزل بكم فليكن معسكركم في قبل الأشراف أو سفاح الجبال ، أو أثناء الأنهار ، كيما يكون لكم رداءاً ودونكم مردّاً ، ولتكن مقاتلتكم من وجه واحد أو اثنين وأجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال ومناكب الهضاب ، لئلاّ يأتيكم العدوّ من مكان مخافةً أو أمن. واعلموا أنّ مقدّمة القوم عيونهم وعيون المقدّمة طلائعهم ، وإيّاكم والتفرّق ، فإذا نزلتم فانزلوا جميعاً وإذا ارتحلتم فارتحلوا جميعاً ، وإذا غشيكم الليل فاجعلوا الرّماح كفّةً ، ولا تذوقوا النّوم إلاّ غراراً أو مضمضةً » (2).

إنّ مثل هذا النظام ومثل هذه التعاليم حول العسكر يقتضي وجود جهاز خاصّ مستقلّ يقوم بشؤون الجند ، ويتكفّل إدارة اُمورهم ، وخاصّة أنّ الحاجة تزداد يوما بعد يوم إلى الجيوش المنظّمة القويّة ، وتزداد متطلّبات الجنود.

إنّ القيام بشؤون الجند من وظائف السلطة التنفيذيّة ... فوزارة الدفاع من هذه السلطة هي التي يجب أن تتولّى هذه الناحية الخطيرة ، وتنظّم الجيش الإسلاميّ بأحسن تنظيم.

وقال علیه السلام لأحد قادة جيشه حينما أنفذه إلى الشام : « اتّق اللّه الذي لا بدّ لك من لقائه ولا منتهى لك دونه ، ولا تقاتلنّ إلاّ من قاتلك وسر البردين [ الغداة والعشي ] وغور بالنّاس ، ورفّه في السير ، ولا تسر أوّل الليل فإنّ اللّه جعله سكناً ، وقدّره مقاماً لا ظعناً ، فأرح فيه بدنك وروّح ظهرك ، فإذا وقفت حين ينبطح السحر ، أو حين ينفجر الفجر فسر على بركة اللّه ، فإذا لقيت العدوّ فقف من أصحابك وسطاً ولا تدن من القوم دنوّ من يريد أن ينشب الحرب ، ولا تباعد عنهم تباعد من يهاب البأس حتّى يأتيك أمري ، ولا يحملنّكم شن آنهم على قتالهم قبل دعائهم والاعذار إليهم » (3).

ص: 566


1- نهج البلاغة : قسم الخطب : رقم 10.
2- نهج البلاغة : قسم الكتب : رقم 2. 12.
3- نهج البلاغة : قسم الكتب : رقم 2. 12.

وقال علیه السلام لأصحابه عند الحرب : « لا تشتدنّ عليكُم فرة بعدها كرّة ولا جولة بعدها حملة واعطُوا السّيُوف حُقُوقها ، ووطّئُوا للجُنُوب مصارعها ، واذمُرُوا أنفُسكُم على الطّعن الدّعسيّ والضرب الطّلحفي ، واميتُوا الأصوات فإنّهُ أطردُ للفشل. فوالّذي فلق الحبّة ، وبرأ النّسمة ؛ ما أسلمُوا ولكن استسلمُوا ، وأسرّوا الكُفر ، فلمّا وجدُوا أعواناً عليه أظهرُوهُ » (1).

وقال علیه السلام في تعليم الحرب والمقاتلة : « معاشر المُسلمين : استشعرُوا الخشية وتجلببُوا السّكينة وعضّوا على النّواجذ فإنّهُ أنبى للسيوف عن الهام ، وأكملُوا اللاّمة ، وقلقلُوا السيوف في اغمادها قبل سلّها ، والحظُوُا الخزر ، واطعنُوا الشّزر ، ونافحُوا بالضّبا ، وصلُوا السّيُوف بالخُطا ، واعلمُوا أنّكُم بعين اللّه ، ومع ابن عمّ رسُول اللّه ، فعاودُوا الكرّ ، واستحيُوا من الفرّ ، فإنهُ عار في الأعقاب ، ونار يوم الحساب. وطيبُوا عن أنفُسكُم نفساً ، وامشُوا إلى الموت مشياً سُجُحاً ، وعليكُم بهذا السّواد الأعظم ، والرّواق المُطنّب فاضربُوا ثبجهُ فإنّ الشيطان كامن في كسره ، وقد قدّم للوثبة يداً وأخّر للنّكُوص رجلاً ، فصمداً صمداً حتّى ينجلي لكُم عمُودُ الحقّ وانتُم الأعلون واللّه معكُم ولن يتركُم أعمالكُم » (2).

وجملة القول ؛ إنّ الإسلام أشار إلى أهم الخطوط والاُسس التي يجب أن تقوم عليها بناء العسكريّة الإسلاميّة تاركاً الخصوصيّات والتفاصيل لمقتضيات الزمن.

ص: 567


1- نهج البلاغة قسم الكتب رقم 16.
2- نهج البلاغة قسم الخطب رقم 63.

ص: 568

الفصل الثامن: المنابع الماليّة للحكومة الإسلاميّة

لابدّ للبرامج من منابع ماليّة

اشارة

لقد أوضحت البحوث السابقة صيغة الحكومة الإسلاميّة وأركانها ووظائفها وأهدافها ... وهنا ينطرح هذا السؤال :

كيف تستطيع الحكومة الإسلاميّة تطبيق هذه البرامج والقيام بهذه الوظائف الكبرى وكيف تضمن النفقات اللازمة لذلك ؟

وبتعبير آخر : ما هي المنابع الماليّة التي تعتمد عليها الحكومة الإسلاميّة ... وهل تكتفي بالضرائب المقرّرة المعروفة بالخمس والزكاة في تكوين ميزانيّتها أو أنّ هناك منابع وموارد ماليّة اُخرى تستعين بها هذه الحكومة في سدّ نفقاتها.

فربّما يقال : إنّ الإسلام الذي أغلق في وجه حكومته كلّ السبل غير المشروعة التي تعتمد عليها الحكومات الحاضرة كالضرائب المأخوذة على تجارة الخمور والبغاء والقمار ، وما شابهها فتخسر بذلك واردات كبرى ، كيف يمكنها أن تسدّ نفقاتها الهائلة

ص: 569

من فريضتي الخمس والزكاة ، المحدودتين ؟

غير أنّنا نلفت القارئ الكريم إلى أنّ الحكومة الإسلاميّة لا تقتصر على ( الخمس والزكاة ) الماليتين ، فهما يشكّلان جانباً واحداً من عائداتها ... بل هناك منابع اُخرى نشير إليها باختصار :

1. الأنفال

وهي كلّ أرض ملكت بغير قتال ، وكلّ موات ، ورؤوس الجبال وبطون الأودية ، والآجام والغابات والمعادن (1) ، وميراث من لا وارث له ، وما يغنمه المقاتلون بغير إذن الإمام ، وكافّة المياه العامّة والأحراش الطبيعيّة ، والمراتع التي ليست حريماً لأحد وقطائع الملوك وصفاياهم غير المغصوبة.

فذلك كلّه يكون أمره بيد الحكومة الإسلاميّة باعتبارها الممثّلة الشرعيّة للاُمّة الإسلاميّة التي تعود إليها ملكيّة هذه الأشياء ، فتتصرّف فيها الحكومة الإسلاميّة وتصرف عائداتها في مصالح المسلمين وشؤونهم ، والأصل في ذلك قوله سبحانه : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ) ( الأنفال : 1 ).

وما لله وللرسول في هذه الآية يصرف في مصالح المسلمين.

ويدلّ على ذلك أيضاً قوله سبحانه : ( وَمَا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ

ص: 570


1- لقد اختلف فقهاء الشيعة الإماميّة في عدّ المعادن من الأنفال فمنهم - كالمفيد وسلار - من عدّها من الأنفال ، تبعاً لما ورد عن الإمام الصادق علیه السلام في تعربف الأنفال حيث قال : « هي التي خربت ... والمعادن منها » وفي خبر آخر سئل عن الأنفال فقال : « المعادنُ والآجامُ » ومنهم من لم يعدّها من الأنفال - كالمحقّق وغيره - لاحظ جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 38 :1. 113. وذهب الإمام الخميني إلى أن المعادن من الأنفال إذا لم تكن لمالك خاص تبعا للأرض أو بالإحياء (تحرير الوسيلة 369:1)، هذا وللمعادن المكشوفة الموجودة في الأراضي المملوكة أحكام خاصة فليرجع إلى الكتب الفقهية (لاحظ تحرير الوسيلة 220:2).

عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( الحشر : 6 ).

ويدلّ عليه أيضاً ما ورد عن الإمام الصادق جعفر بن محمّد علیه السلام إذ قال : « الأنفالُ ما لم يُوجفُ عليه بخيل ولا ركاب ، أو قوم صالحُوا ، أو قوم أعطُوا بأيديهم ، وكُلّ أرض خربة وبُطونُ الأودية فهو لرسُول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو للإمام من بعده يضعُهُ حيثُ يشاءُ » (1).

وما ورد عن الإمام الكاظم موسى بن جعفر علیه السلام أنّه قال : « ولهُ [ أي للإمام ] بعد الخُمس الأنفالُ والأنفالُ كُلّ أرض خربة باد أهلُها وكُلّ أرض لم يُوجف عليها بخيل ولا ركاب ولكن صالحُوا صُلحاً وأعطُوا بأيديهم على غير قتال ، ولهُ رُؤُوس الجبال وبُطونُ الأودية والآجام وكُلّ أرض ميتة لاربّ لها ، ولهُ صوافي الملوك ما كان في أيديهم من غير وجه الغصب لأنّ الغصب كُلّهُ مردود [ أي على صاحبه الحقيقي ] وهُو وارثُ من لا وارث لهُ » ثمّ قال : « والأنفالُ إلى الوالي » (2).

إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة الواردة في هذا الشأن.

وتشكّل هذه المصادر الطبيعيّة أضخم ثروة ماليّة خاصّة في مناطق العالم الإسلاميّ ، فيكفي أن نعرف أنّ إيران وحدها تملك (19) مليون هكتار من الغابات الغنيّة بالأخشاب التي قدّرت ب (300) مليون متر مكعّب من الخشب القابل للانتفاع ، هذا مضافاً إلى ما تعطيه أشجار الغابات من الثمار والمواد التصنيعيّة والكيمياويّة التي تشكّل بنفسها أعظم ثروة طبيعيّة وأضخم مورد ماليّ (3).

بل يكفي أن نعلم أنّ العالم الإسلاميّ ينتج ( 66 % ) من مجموع ما ينتجه العالم من الزيت الخام [ النفط ] وحده ، كما أنّ لدينا احتياطيّ ضخم من المعادن كما تنتج ( 70 % ) ممّا ينتجه العالم من المطّاط الطبيعيّ و ( 40 % ) ممّا ينتجه العالم من الجوت الطبيعيّ ،

ص: 571


1- وسائل الشيعة 6 : 1. 365 - 366.
2- وسائل الشيعة 6 : 1. 365 - 366.
3- راجع كتاب الأنفال أو الثروات العامّة.

و ( 56 % ) من زيت النخيل ، ويوجد احتياطيّ عظيم من الحديد والنحاس ... وحتّى اليورانيوم الذي أصبح ثميناً للغاية في هذه الأيام نظراً لإستعماله في انتاج الطاقة النووية فإنّه موجود أيضاً في أقطار إسلاميّة عديدة من أفريقيا (1).

2. الزكاة

وهي ضريبة تجب في تسعة أشياء : الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم ، والنقدين وهما الذهب والفضة ، والغلاّت وهي الحنطة والشعير والتمر والزبيب (2) والأدلّة عليها من الكتاب والسنّة ما لا يحصى.

3. الخمس

اشارة

ويجب في سبعة أشياء :

الأوّل : الغنائم المأخوذة من أهل الحرب قهراً بالمقاتلة.

الثاني : المعادن من الفضّة والرصاص والصفر والحديد والياقوت والزبرجد والفيروزج والعقيق والزيبق والكبريت والنفط والقير والسبخ والزاج والزرنيخ والكحل والملح بل والجصّ والنورة وغيرها.

على أنّ المعادن الأرضيّة بما أنّها من الأنفال كما أشرنا إليه متعلّقة كلّها بالحكومة الإسلاميّة أساساً ، ولكن لا يحقّ للحكومة أن تحتكرها أو تهبها لأحد مجانا ، ولا أن تستخرجها بلا ميزان ، وتضع عائداتها في البنوك والمصارف لحساب شخص أو أشخاص معيّنين.

أنّ هذه المعادن تعتبر من الأنفال التي يقول اللّه سبحانه عنها : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ

ص: 572


1- الحل الإسلاميّ ضرورة وفريضة 1 : 30 وأيضاً راجع كتاب اقتصاديّات العالم الإسلاميّ.
2- العروة الوثقى كتاب الزكاة : 390 هذا وللوقوف على آراء سائر المذاهب حول ما تجب فيه الزكاة لاحظ الفقه على المذاهب الأربعة.

الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ ) أي تعود ملكيتها إلى الدولة باعتبارها ممثّلة شرعيّة عن الاُمّة وخليفة عن اللّه والرسول صلی اللّه علیه و آله ولكنّها مختارة في أن تقوم هي بنفسها باستخراجها وصرف عائداتها لصالح الاُمّة ، أو أن تسلّمها إلى شركة أو شخص معيّن للاستخراج ، وذلك حسب الشرائط التي تقوم بها المصلحة.

ثمّ إذا سلّمت الحكومة هذه المعادن إلى شركة ، أو فرد خاصّ ، تبعاً للمصلحة ، فإنّ الشركة المستخرجة أو الفرد المستخرج يملك ما يستخرجه بشرط أن يدفع ( خمسه ) إلى الحكومة الإسلاميّة ، مضافاً إلى ما يدفعه إلى الدولة في مقابل تسليم هذه المعادن إلى تلك الشركة أو ذلك الفرد الخاصّ من قبل الحكومة الإسلاميّة ، نعم إنّ المصالح الفعليّة للاُمّة الإسلاميّة لا تسمح للحكومة الإسلاميّة أن تسلّم معادن البترول والذهب والفضة واليورانيوم ، والألماس وما شابهها إلى فرد أو شركة خاصّة ، بل عليها هي أن تقوم باستخراج هذه المعادن وتصنيعها. وصرف مواردها في المصالح العامّة للاُمّة الإسلاميّة.

يبقى أن نعرف أنّ الانتفاع من هذه المعادن واستخراجها قد يقتضي أحياناً استخدام المستشارين والمتخصّصين الأجانب فهل يجوز للحكومة الإسلاميّة استخدامهم لذلك أو لا ؟

الحقّ أنّ هؤلاء المستشارين الأجانب لمّا كانوا في الأغلب يلعبون دوراً تجسّسيّاً ، أو يسيئون إلى كرامة المسلمين أو يمهّدون لسيادة الاستعمار البغيض على بلاد المسلمين فعلى الحكومة الإسلاميّة أن تستعين بهم بقدر الضرورة مع التحفّظ والتحوّط الكامل منهم ، في حين تدفع مجموعة من خيرة أبنائها لتحصيل العلوم المرتبطة بهذه المجالات والتخصّص في هذه الشؤون تخلّصاً من هذه المشكلة التي دلّت التجارب الكثيرة على أنّها السبب الرئيس في كثير من مشاكل المسلمين.

الثالث : الكنز ، وهو المال المذخور في الأرض أو الجبل أو الجدار.

الرابع : الغوص ، أي ما اُخرج به من الجواهر من البحر مثل اللؤلؤ والمرجان.

الخامس : المال الحلال المخلوط بالحرام على وجه لا يتميّز مع الجهل.

ص: 573

السادس : الأرض التي اشتراها الذمّي من المسلم سواء أكانت أرضاً زراعيّة أم سكنيّة.

السابع : ما يفضل من مؤونة سنة المكتسب ومؤونة عياله من أرباح التجارات والصناعات والمكاسب ، ويدخل في هذا القسم ما يتعلّق بأرباح مصانع انتاج السكر ، والصوف والخيوط والقطن والأدوية والسيارات والمدافئ والخزف والسجاجيد وقطع الخشب ، والأغذية ، والورق ، وغيرها والأصل في ذلك قوله سبحانه : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) ( الأنفال : 41 ).

ولكي نثبت للقارئ الكريم أنّ المال الوارد عن طريق الخمس لا يكون شيئاً يسيراً بل يشكّل مورداً ماليّاً كبيراً للدولة الإسلاميّة لا بدّ أن نثبت للقارئ أنّ فريضة الخمس التي سنّها الإسلام تعمّ غنائم الحرب ، وغيرها ممّا ذكرناها ممّا يشكّل مجموعها قدراً كبيراً ووارداً هائلاً ، ولذلك فنحن مضطرّون لإجراء تحقيق حول عموميّة الخمس للغنائم وغيرها.

تحقيق ضروريّ حول الخمس

إنّنا لا ننكر أنّ لفظة الغنيمة صارت في مصطلح الفقهاء في القرون الأخيرة ، منحصرة فيما يؤخذ من الكفّار والمشركين بالقتال والحرب ، إلاّ أنّ مراجعة واحدة لوضع هذه اللفظة في اللغة ، واستعمالها في الكتاب والسنّة تكشف لنا أنّ هذه اللفظة كانت تطلق في مطلق ما يفوز به الإنسان من منافع وأموال ولو بدون الحرب ، وأنّ ما حصل لها من الحصر في غنائم الحرب ، كان بعد العصر الأوّل للرسالة الإسلاميّة ، وعلى ذلك يكون الخمس متعلّقاً بكلّ ما يكتسبه الإنسان لا بمغانم الحرب فقط وإليك تحقيق المطلب فيما يلي :

الغنيمة في اللغة

اشارة

إنّ ما يظهر من أئمّة اللغة هو أنّ الغنيمة بمادّتها الأوّلية تستعمل في مطلق ما

ص: 574

يحصل عليه الإنسان بيسر وسهولة ، ولو كان بغير حرب وقتال ومدافعة وإليك بعض ما نصّت به أئمّة اللغة وأقطابها.

قال الجوهريّ في صحاحه : ( والمغنم والغنيمة بمعنى [ أي بمعنى واحد ] يقال : غنم القوم غُنماً - بالضمّ - وغنمته تغنيماً إذا نفلته. واغتنمه وتغنّمه عدّه غنيمة ) (1).

وقال ابن فارس في مقاييسه : ( غنم أصل صحيح واحد يدلّ على إفادة شيء لم يملك من قبل ثمّ يختص بما اُخذ من مال المشركين ) (2).

وقال الراغب في مفرداته : ( والغنم ، إصابته والظفر به ثمّ استعمل في كلّ مظفور به من جهة العدى وغيرهم ) (3).

ويشير ابن الأثير إلى المعنى الأصليّ لهذه اللفظة في تفسير بعض الأحاديث ويقول : ( فلان يتغنم الأمر أي يحرص عليه كما يحرص على الغنيمة ، ومنه الحديث : ِ « الصّومُ في الشّتاء غنيمة باردة » سمّاها غنيمة لما فيها من الأجر والثواب ومنه : « الرّهن لمن رهنهُ لهُ غنمهُ وعليه غرمُه » وغنمه : زيادته ونماؤه وفاضل قيمته ) (4).

وقال في لسان العرب مثل ما قاله ابن الأثير (5).

وقال الفيروزآبادي في قاموسه : ( والغُنم - بالضم - الفوز بالشيء لا مشقّة وأغنمه كذا تغنيماً نفله إيّاه ، واغتنمه وتغنّمه عدّه غنيمة ) (6).

وقال الأزهريّ في تهذيبه : ( قال الليث : الغنم الفوز بالشيء فاز به ، والاغتنام انتهاز الغنم ) (7).

وممّا قاله أئمّة اللغة في الغنيمة نعرف أنّ العرب كانت تستعمل هذه اللفظة في كلّ ما يفوز به الإنسان حتّى ولو لم يكن من طريق الحرب والقتال.

ص: 575


1- صحاح اللغة : مادة ( غنم ).
2- مقاييس اللغة : مادة ( غنم ).
3- مفردات الراغب : مادة ( غنم ).
4- غريب مفردات الحديث : مادة ( غنم ).
5- لسان العرب : مادة ( غنم ).
6- قاموس اللغة : مادة ( غنم ).
7- تهذيب اللغة : مادة ( غنم ).

وقد وردت هذه اللفظة بنفس المعنى في الكتاب والسنّة وأفادت مطلق ما يفوز به الإنسان وإليك الشواهد منهما فيما يلي :

الغنيمة في الكتاب والسنّة

لقد استعمل القرآن لفظة المغنم فيما يفوز به الإنسان وإن لم يكن عن طريق القتال بل كان عن طريق العمل العادي الدنيويّ أو الاُخرويّ إذ يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ) ( النساء : 94 ).

والمراد بالمغنائم الكثيرة هو أجر الآخرة بدليل مقابلته لعرض الحياة الدنيا فيعلم أنّ لفظ المغنم لا يختصّ بالاُمور والأشياء التي يحصل عليها الإنسان في هذه الدنيا ، وفي ساحات الحروب فقط بل هي عامّة شاملة لكلّ مكسب وفائدة.

ثمّ إنّه قد وردت هذه اللفظة في الأحاديث واُريد منها مطلق الفائدة الحاصلة للمرء ففي باب « ما يقال عند إخراج الزكاة » من سنن ابن ماجة جاء عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « اللّهمّ اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرماً » (1).

وفي مسند أحمد عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « غنيمةُ مجالس الذّكر الجنّة » (2).

وفي وصف شهر رمضان عنه صلی اللّه علیه و آله : « هُو غنم للمُؤمن » (3).

كما جاء في دعاء مشهور : « والغنيمةُ من كُلّ برّ ».

هذا مضافا إلى أنّ الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله طلب في مكاتيبه ورسائله من جماعات مسلمة نائية عن المدينة ، غير مشتركة في القتال تحت راية النبيّ ، أن يدفعوا الخمس ، وإليك طائفة من هذه الرسائل :

ص: 576


1- سنن ابن ماجه : كتاب الزكاة الحديث 1797.
2- مسند أحمد 2 : 330 و 374 و 524.
3- مسند أحمد 2 : 177.
الخمس في رسائل النبيّ وعهوده

1. لمّا قال وفد عبد القيس لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إنّ بيننا وبينك المشركين من مضر ، وإنّا لا نصل إليك إلاّ في أشهر حرم فمرنا بحمل الأمر إن عملنا به دخلنا الجنة ، وندعو إليه من ورائنا » فقال صلی اللّه علیه و آله : « آمرُكُم بأربع وأنهاكُم عن أربع ، آمُرُكُم بالإيمان باللّه ، وهل تدرُون ما الإيمانُ : شهادةُ أن لا إله إلاّ اللّه ، وإقامُ الصّلاة ، وإيتاءُ الزّكاة وتُعطُوا الخُمس من المغنم » (1).

ومن المعلوم أنّ النبيّ لم يطلب من بني عبد القيس أن يدفعوا غنائم الحرب كيف وهم لا يستطيعون الخروج من حيّهم في غير الأشهر الحرم خوفاً من المشركين فيكون قد قصد المغنم بمعناه الحقيقيّ في لغة العرب وهو ما يفوزون به بلا مشقّة فعليهم أن يعطوا خمس ما يربحون.

2. كتب لعمر بن حزم حين بعثه إلى اليمن :

« بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ... هذا ... عهد من النبيّ رسول اللّه لعمرُو بن حزم حين بعثهُ إلى اليمن ، أمرهُ بتقوى اللّه في أمره كُلّّه وأن يأخُذ من المغانم خُمس اللّه وما كُتب على المؤمنين من الصّدقة من العقار عُشرُ ما سقى البعلُ وسقت السّماءُ » (2).

3. كتب إلى شرحبيل بن كلال ونعيم بن كلال وحارث بن كلال رؤساء قبيلة ذي رعين ومعافر وهمدان : « أمّا بعدُ فقد رجع رسُولُكُم وأعطيتُم من المغانم خُمس اللّه » (3).

4. كتب لسعد هذيم من قضاعة وإلى جذام كتاباً واحداً يعلمهم فرائض

ص: 577


1- صحيح البخاريّ 4 : 205 ، باب واللّه خلقكم وما تعملون ، و 1 : 13 و 19 ، 3 : 53 وصحيح مسلم 1 : 35 و 36 باب الأمر بالإيمان ، وسنن النسائيّ 3 : 333 ، ومسند أحمد 3 : 318 ، الأموال : 12 وغيرها.
2- فتوح البلدان 1 : 81 ، وسيرة ابن هشام 4 : 265.
3- تنوير الحوالك في شرح موطأ مالك 1 : 157.

الصدقة ويأمرهم أن يدفعوا الصدقة والخمس إلى رسوليه (1).

إنّ النبيّ حينما طلب دفع الخمس على أيدي رسوليه لم يطلب خمس غنائم الحرب التي خاضوها مع الكفّار وإنّما قصد ما استحق عليهما من الصدقة وخمس الأرباح :

5. كتب للفجيع ومن تبعه : « من مُحمّد النبيّ للفجيع ومن تبعهُ وأسلم وأقام الصّلاة وآتى الزّكاة وأطاع اللّه وأعطى من المغانم خُمس اللّه » (2).

6. كتب لجنادة الأزديّ وقومه ومن تبعه : « ما أقامُوا الصّلاة وآتُوا الزّكاة وأطاعُوا اللّه ورسُولهُ وأعطُوا من المغانم خُمس اللّه » (3).

7. كتب لجهينة بن زيد فيما كتب :« وتشربُوا ماءها على أن تُؤدّوا الخُمس » (4).

8. كتب لملوك حمير فيما كتب : « وآتيتُمُ الزكاة من المغانم خُمس اللّه وسهم النبيّ وصفيّه وما كتب اللّه على المُؤمنين من الصّدقة » (5).

9. كتب لبني ثعلبة بن عامر : « من أسلم منهُم وأقام الصّلاة وآتى الزّكاة وخُمس المغنم وسهم النّبيّ والصفّى » (6).

10. كتب إلى بعض أفخاذ جهينة : « من أسلم منهُم ... وأعطى من الغنائم الخُمس » (7).

ويتبيّن - بجلاء - من هذه الرسائل أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يكن يطلب منهم أن يدفعوا خمس غنائم الحرب التي اشتركوا فيها بل كان يطلب ما استحقّ في أموالهم من خمس وصدقة.

ص: 578


1- طبقات ابن سعد 1 :1. 270.
2- طبقات ابن سعد 1 :1. 270.
3- طبقات ابن سعد 1 :1. 270.
4- الوثائق السياسيّة : 142.
5- فتوح البلدان 1 : 85 ، وسيرة ابن هشام 4 : 258.
6- الإصابة 2 : 189 ، واسد الغابة 3 : 34.
7- سنن أبي داود 2 : 55 الباب (20) وسنن النسائيّ 2 : 179.

ثمّ إنّه كان يطلب منهم الخمس دون أن يشترط - في ذلك - خوض حرب واكتساب الغنائم.

هذا مضافاً إلى أنّ الحاكم الإسلاميّ أو نائبه هما اللذان يليان بعد الفتح قبض جميع غنائم الحرب ، وتقسيمها بالنحو الذي يحب بعد أن يستخرج منها الخمس ، ولا يملك أحد من الغزاة عدا سلب القتيل شيئاً ممّا سلب وإلاّ كان سارقاً مغلاًّ.

فإذا كان إعلان الحرب وإخراج خمس الغنائم على عهد النبيّ من شؤون النبيّ في هذه الاُمّة فماذا يعني طلبه الخمس من الناس وتأكيده في كتاب بعد كتاب وفي عهد بعد عهد. فيتبيّن أنّ ما كان يطلبه لم يكن مرتبطاً بغنائم الحرب.

هذا مضافا إلى أنّه لا يمكن أن يقال : إنّ المراد بالغنيمة في هذه الرسائل هو ما كان يحصل الناس عليه في الجاهليّة عن طريق النهب كيف وقد نهى النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن النهب والنهبة بشدّة ففي كتاب الفتن باب النهي عن النهبة عنه صلی اللّه علیه و آله : « من انتهب نُهبةً فليس منّا » (1).

وقال : « إنّ النُهبة لا تحلّ » (2).

وفي صحيح البخاري ومسند أحمد عن عبادة بن الصامت : بايعنا النبيّ أن لا ننتهب (3).

وفي سنن أبي داود باب النهي عن النهبى عن رجل من الأنصار قال : خرجنا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأصاب الناس حاجة شديدة وجهدوا وأصابوا غنماً فانتهبوها فإنّ قدورنا لتغلي إذ جاء رسول اللّه يمشي متّكئاً على قوسه فأكفأ قدورنا بقوسه ثمّ جعل يرمل اللحم بالتراب ثمّ قال : « إنّ النُهبة ليست بأحلّ من الميتة » (4).

وعن عبد اللّه بن زيد : ( نهى النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن النهبى والمثلة ) (5).

ص: 579


1- سنن ابن ماجه :1. 1299.
2- سنن ابن ماجه :1. 1299.
3- صحيح البخاريّ 2 : 48 باب النهبى بغير إذن صاحبه.
4- سنن أبي داود 2 : 12.
5- رواه البخاريّ في الصيد راجع التاج 4 : 334.

إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت في كتاب الجهاد.

وقد كانت النهيبة والنهبى عند العرب تساوق الغنيمة والمغنم - في مصطلح يومنا هذا - الذي يستعمل في أخذ مال العدو.

فإذا لم يكن النهب مسموحاً به في الدين ، وإذا لم تكن الحروب التي يقوم بها أحد بغير اذن النبيّ جائزة لم تكن الغنيمة تعني دائماً ما يؤخذ في القتال بل كان معنى الغنيمة الواردة في كتب النبيّ هو ما يفوز به الناس من غير طريق القتال بل من طريق الكسب وما شابهه. ولا محيص حينئذ من أن يقال : إنّ المراد بالخمس الذي كان يطلبه النبيّ صلی اللّه علیه و آله هو خمس أرباح الكسب والفوائد الحاصلة للإنسان من غير طريق القتال ، أو النهب الممنوع في الدين.

وعلى الجملة : إنّ الغنائم المطلوب في هذه الرسائل النبويّة اداء خمسها إمّا أن يراد ما يستولي عليه أحد من طريق النهب والإغارة ، أو ما يستولي عليه من طريق محاربة بصورة الجهاد أو ما يستولي عليه من طريق الكسب والكدّ.

والأوّل ممنوع بنصّ الأحاديث السابقة فلا معنى أن يطلب النبيّ صلی اللّه علیه و آله خمس النهيبة.

وفي الثاني يكون أمر الغنائم بيد النبيّ مباشرة فهو الذي يأخذ كلّ الغنائم ويضرب لكلّ من الفارس والراجل ما له من الأسهم بعد أن يستخرج الخمس بنفسه من تلك الغنائم ، فلا معنى لأن يطلب النبيّ الخمس من الغزاة. فيكون الثالث هو المتعيّن.

وقد ورد فرض الخمس في غير غنائم الحرب في أحاديث منقولة عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله : ففي سنن البيهقي عن أبي هريرة عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أنّ قال : « في الرّكاز الخُمسُ ».

قيل : وما الركاز يا رسول اللّه ؟

فقال : « الذهبُ والفضّةُ الذي خلقهُ اللّه في الأرض يوم خُلقت » (1).

ص: 580


1- سنن البيهقيّ 4 : 152 و 155.

كما ورد عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام ما يدلّ على ذلك ، فقد كتب بعض أصحابنا إلى الإمام الجواد علیه السلام قائلاً : أخبرني عن الخمس أَعَلَى جميع ما يستفيد الرجل من قليل وكثير من جميع الضروب وعلى الصّناع ؟ وكيف ذلك ؟ فكتب علیه السلام بخطّه : « الخمس بعد المؤنة » (1).

وفي هذه الإجابة القصيرة يظهر تأييد الإمام لما ذهب إليه السائل ، ويتضمّن ذكر الكيفية التي يجب أن تراعى في أداء الخمس.

وعن سماعة قال سألت أبا الحسن [ الكاظم ] عن الخمس فقال : « في كلّ ما أفاد النّاس من قليل أو كثير » (2).

وعن أبي عليّ بن راشد [ وهو من وكلاء الإمام الجواد والإمام الهادي ] قال قلت له [ أي للإمام ] أمرتني بالقيام بأمرك وأخذ حقّك فأعلمت مواليك بذلك ، فقال لي بعضهم : وأيّ شيء حقّه فلم أدر ما أجيبه ؟ فقال : « يجب عليهم الخمس » فقلت : ففي أي شيء ؟ فقال : « في أمتعتهم وصنايعهم ».

قلت : والتاجر عليه ، والصانع بيده ؟ فقال : « إذا أمكنهم بعد مؤنتهم » (3).

إلى غير ذلك من الأحاديث والأخبار المرويّة عن النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته الطاهرين التي تدلّ على شمول الخمس لكلّ مكسب وفائدة يحصل عليها الإنسان.

هذا ما عند الشيعة وأمّا غيرهم فهم وإن قصروا ضريبة الخمس على مغانم الحرب [ وعلى الركاز وهو المعدن عند بعضهم ] غير أنّ لعروض التجارة عندهم ضريبة الزكاة بشروط وكيفيّة مفصّلة في مذاهبهم ، فقد جاء في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة عن الحنفية أنّهم قالوا : ( المعدن والركاز بمعنى واحد وهو شرعاً مال وجد تحت الأرض سواء كان معدنا خلقيّاً خلقه اللّه تعالى بدون أن يضعه أحد فيها أو كان كنزاً دفنه الكفّار ولا يسمّى ما يخرج من المعدن والركاز زكاة على الحقيقة لأنّه لا يشترط فيهما ما يشترط في

ص: 581


1- وسائل الشيعة أبواب الخمس 6 : 348 حديث 1.
2- وسائل الشيعة 6 : 2. 349.
3- وسائل الشيعة 6 : 2. 349.

الزكاة. وتنقسم المعادن إلى أقسام ثلاثة : ما ينطبع بالنار ، ومائع ، وما ليس بمنطبع ولا مائع ، فالمنطبع ما كان كالذهب والفضّة والنحاس والرصاص والحديد ، والمائع ما كان كالقار ( الزفت ) والنفط ( البترول - الغاز ) ونحوهما والذي ليس بمنطبع ولا مائع كالنورة والجواهر واليواقيت : فأمّا الذي ينطبع بالنار فيجب فيه إخراج الخمس ومصرفه مصرف خمس الغنيمة المذكور في قوله تعالى : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ ) الآية. وما بقي بعد الخمس يكون للواجد ... ) (1).

وجاء في نفس الكتاب عن الحنابلة أنّهم قالوا : ( ويجب على واجد الركاز أخراج خمسه إلى بيت المال فيصرفه أو نائبه في المصالح العامّة والباقي لواجده ) (2).

هذا ما قاله بعض أصحاب المذاهب الأربعة في الخمس ، أمّا ما جاء عنهم حول الزكاة وما يعود منها إلى الدولة الإسلاميّة ، فنكتفي بما ذكره مؤلّف كتاب الفقه على المذاهب الأربعة في كتاب الزكاة إذ قال :

( الأنواع التي يجب فيها الزكاة خمسة أشياء ... الثالث : عروض التجارة ) (3).

4. زكاة الفطرة

وتسمّى بزكاة الأبدان وهي التي تجب على كلّ مسلم في عيد الفطر ، ومقدارها مذكور في كتب الفقه.

5. الخراج والمقاسمة

وهما ضريبتان مضروبتان على من يعمل في الأراضي التي فتحها المسلمون بالقتال وسبب ذلك أنّ هذه الأراضيّ ملك لعامّة المسلمين فلا بدّ أن تصرف عائداتها في مصالحهم بعد أن يكون للعامل فيها ومحييها حصّة لقاء عمله.

إنّ الخراج عبارة عن الضريبة الماليّة النقديّة على الأرض مثل أن يدفع العامل

ص: 582


1- كتاب الفقه على المذاهب الأربعة 1 : 1. 495 ، 479.
2- كتاب الفقه على المذاهب الأربعة 1 : 1. 495 ، 479.
3- كتاب الفقه على المذاهب الأربعة 1 : 1. 495 ، 479.

عليها عشرة دنانير سنويّاً على كلّ جريب.

والمقاسمة عبارة عن الشركة في حاصلات الأرض الخراجيّة بالكسر المشاع كأن يكون عشر حاصلاتها للدولة.

6. الجزية

وهي الضريبة العادلة المفروضة على أهل الذمّة على رؤوسهم أو أراضيهم إذا قاموا بشرائط الذمّة المقرّرة في موضعها. وقد مرّ الحديث عن ذلك في الفصل السابق.

7. هناك ضرائب ليس لها حدّ معيّن ولا زمان خاصّ ، بل هي موكولة إلى نظر الحاكم الإسلاميّ يفترضها عند الحاجة إليها من عمران للبلاد أو جهاد في سبيل اللّه ، أو سدّ عيلة الفقراء أو غير ذلك ممّا يحتاج إليه قوام العباد والبلاد.

وهذا هو الذكر الحكيم يصرّح بأنّ ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) ( الأحزاب : 6 ) ، فهو أولى منهم بأموالهم ، يتصرّف فيها كيفما اقتضت المصلحة الملزمة.

وهذا أمير المؤمنين ( عليّ بن أبي طالب ) علیه السلام يقول في عهده إلى مالك الأشتر حين ولاّه على مصر : « وليكُن نظرُك في عمارة الأرض أبلغُ من نظرك في استجلاب الخراج لأنّ ذلك لا يُدركُ إلاّ بالعمارة.

ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ... .

فربّما حدث من الاُمور ما إذا عوّلت فيه عليهم من بعد احتملوه طيّبة أنفسهم به فإنّ العمران محتمل ما حملته ، وإنّما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها » (1).

فلو كان للخراج حدّ معيّن غير متجاوز عنه لما كان لقوله علیه السلام : « احتملوه طيّبة أنفسهم » وجه ، فإنّ معناه : أنّهم قبلوا ما طلبته من الناس بطيب خاطر فيعطونك كذلك.

ص: 583


1- نهج البلاغة : قسم الرسائل ( الرسالة 53 ).

أضف إلى ذلك قوله علیه السلام : « فإنّ العمران محتمل ما حملته » فإنّه يدلّ على إنّ الوالي إذا عمّر البلاد وصارت عامرة وخصبة وغارقة في الخيرات والنعم يمكن له أن يفرض الخراج عليه بالمقادير التي يتوخّاها الوالي وتقتضيها المصلحة.

روى محمّد بن مسلم وزرارة بن أعين عن الباقر والصادق علیهماالسلام قالا : « وضع أمير المؤمنين على الخيل العتاق الرّاعية في كلّ فرس في كلّ عام دينارين وجعل على البراذين ديناراً » (1).

وفيما رواه الشيخ الأقدم محمّد بن الحسن الصفّار المتوفّى عام (290) بإسناده عن عليّ بن مهزيار دلالة على أنّ للإمام الصلاحيّة في تخفيف الضرائب الإسلاميّة أو مضاعفتها وتصعيدها وبما أنّ الرواية طويلة يرجى من القارئ الكريم الرجوع إلى المصدر (2).

وهذا وأمثاله من النصوص تدلّ على أنّ هناك قسماً من الضرائب التي ليس لها حدّ معيّن بل هي موكولة إلى نظر الحاكم.

8. موارد ماليّة استثنائيّة

هذه هي اُصول المنابع والموارد الماليّة للحكومة الإسلاميّة ، غير أنّ هناك منابع اُخرى متفرّقة يجوز للدولة الإسلاميّة التصرّف فيها ، وصرفها في مصالح المسلمين العامّة ، وإن كان ذلك أمراً غير واجب ، ولا من وظائف الدولة وهي عبارة عن :

أ / المظالم وهي ما يتعلّق بذمّة الإنسان بتعدّ أو تفريط ، أو إتلاف في مال الغير ولم يعرف صاحبه ، فكما يجوز لمن تكون المظلمة في ذمّته صرفها في مواردها على النحو المقرّر شرعاً كذلك يجوز للحكومة التصرّف فيها ، وصرفها في المصارف المقرّرة لها.

ص: 584


1- الوسائل 4 ( كتاب الزكاة ) : 51 فقوله « فوضع » يدلّ على ما ذكرناه من أنّ الحاكم الإسلاميّ له جعل الضرائب كلّما احتاجت مصلحة البلاد إلى ذلك.
2- الوسائل كتاب الخمس أبواب ما يجب فيه الخمس الباب الثامن الحديث 5.

ب / الكفّارات مثل كفّارة قتل العمد والخطأ ، ومخالفة النذر والعهد ، واليمين فيما يتعلّق بالإطعام والإكساء فيجوز للحكومة أن تتولّى أمرها بدلاً عن صاحب الكفّارة.

ج / اللُقطة ، وهي الضّالة من الأشياء ولم يعرف لها صاحب ، فيجوز للحكومة الإسلاميّة التصرّف فيها حسب الشروط.

د / الأوقاف والوصايا والنذور العامّة والقرابين التي يذبحها الحجّاج في منى في مناسك الحجّ ، فيجوز للحكومة الإسلاميّة التصرّف فيها ، وصرفها في مصالح المسلمين عامّة.

9. توظيف الأموال في المجالات الاقتصاديّة الكبرى

ثمّ إنّ الحكومة الإسلاميّة لا تكتفي بما يحصل لها من هذه الطرق بل يجوز لها أن تباشر القيام بالصناعات الاُمّ ، والتجارة ، والعمل المصرفيّ ، والتأمين ، والشركات الزراعيّة وتوفير الطاقة ، وإدارة شبكات الريّ ، والمواصلات الجويّة والبريّة والبحريّة ، وإدارة الموانئ والخدمات البريديّة والهاتفيّة وما شابه ذلك ... وتأمين قسم كبير من ميزانيّتها هذه الموارد الضخمة.

10. هذه العائدات تكفي لميزانية الدولة الإسلاميّة

وينبغي أن لا نستقلّ ما يرد إلى دخل الدولة من هذه الموارد ونتصوّر أنّها قليلة ، لا يستهان بها بالنسبة إلى ميزانيّة الدولة فيكفي أن نلقي نظرة إلى عائدات الموانئ وحدها لنعرف ما يعود منها إلى الدولة ، من عائدات مدهشة.

إنّ المنابع الضخمة العائدة إلى خزينة الحكومة الإسلاميّة من هذه المنابع والموارد تجعل هذه الحكومة قادرة - تماماً - على تنفيذ برامجها والقيام بمشاريعها الاجتماعيّة والسياسيّة ، وإدارة مصالح الاُمّة الإسلاميّة بأفضل وجه لو تمّ ذلك وفق تخطيط

ص: 585

مدروس ، ينسجم مع خطوط الاقتصاد الإسلاميّ.

فيكفي أن نعرف أنّ فريضة الزكاة وحدها لو أدّاها المسلمون جميعاً لما بقي هناك لمشكلة الفقر أثر وإليك بعض ما ورد في هذا الصدد من أئمّة أهل البيت علیهم السلام .

قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام : « إنّ اللّه عزّ وجلّ فرض في مال الأغنياء ما يسعهم ولو علم أنّ ذلك لا يسعهم لزادهم إنّهم لم يؤتوا [ أي لم يصبهم الفقر والحرمان والنقص ] من قبل فريضة اللّه عزّ وجلّ ، ولكن اوتوا من منع من منعهم حقّهم لا ممّا فرض اللّه لهم ولو أنّ النّاس أدّوا حقوقهم لكانوا عايشين بخير » (1).

وقال علیه السلام أيضاً : « إنّما وضعت الزّكاة اختباراً للأغنياء ومعونةً للفقراء ، ولو أنّ النّاس أدّوا زكاة أموالهم ما بقي مسلم فقيراً محتاجاً ولاستغنى بما فرض اللّه له وإنّ النّاس ما افتقروا ولا احتاجوا ولا جاعوا ولا عروا إلاّ بذنوب الأغنياء وحقيق على اللّه تبارك وتعالى أن يمنع رحمته ممّن منع حقّ اللّه في ماله » (2).

أجل إنّ ما مرّ عليك يكفي لميزانية الحكومة الإسلاميّة خاصّة بعد أن عرفنا ممّا سبق أنّ الدولة الإسلاميّة ليست دولة مكتوفة الأيدي تنتظر ما يرد إليها من الموارد الماليّة المذكورة حتّى يقال انّ الحقوق الماليّة المفروضة لا تكفي لسدّ ميزانيّة الدولة ولذلك فهي عاجزة عن تحقيق أهدافها العليا وغاياتها الواسعة بل الدولة الإسلاميّة ذات شخصيّة حقوقيّة لها أن تقوم بتحصيل عائدات جديدة - مضافاً إلى الضرائب الأساسيّة المقرّرة في الشريعة - بواسطة العمليات التجاريّة الواسعة ، وتقديم الخدمات وهو حقل واسع يدرّ على الدولة أكبر المبالغ وأعظم الثروات ومن هنا أيضاً يتبيّن بطلان ما ادّعاه البعض من أنّ الإسلام والحكومة الإسلاميّة لا يصلحان إلاّ للحياة البدوية البسيطة بحجة أنّه افترض بعض الضرائب على المواشي والأنعام واعتمد عليها في بناء ميزانيّته الماليّة ولذلك فهما لا يصلحان لمسايرة عصر البترول والذرة والمصانع الضخمة والبرامج الاقتصاديّة الهائلة لقلّة مواردها وبساطتها.

ص: 586


1- وسائل الشيعة 6 :1. 6 باب وجوب الزكاة.
2- وسائل الشيعة 6 :1. 6 باب وجوب الزكاة.

فقد تبيّن لك أيّها القارئ الكريم بطلان هذا الزعم ممّا ذكرناه لك مفصّلاً حول المنابع الماليّة الضخمة لهذه الحكومة.

إنّ القول بأنّ الإسلام لا يناسب عصر التقدّم والتطوّر الاقتصاديّ العظيم وعصر البرامج والحاجات الكبرى ادّعاء باطل واضح البطلان فإنّ الإسلام جاء بضرائب دقيقة على أرباح المصانع والمعامل ، بل في كلّ ما استفاده الناس من قليل أو كثير كما مرّ ... فقد جعل على أرباح التجارات وسائر التكسّبات من الصناعات والزراعات والإجارات حتّى الخياطة والكتابة والصيد وحيازة المباحات وغير ذلك من الموارد ضريبة الخمس أي ( 20 % ) وهو يمثّل ثروة عظيمة وخاصّة إذا اُضيفت إلى بقيّة الموارد ، وأضيفت إلى ما يمكن للحكومة الإسلاميّة استفادته من خلال التجارة الواسعة ، والاقتصاديّة المشروعة الكبيرة وتقديم الخدمات العظيمة المكسب ، إذن فلا نقص في ميزانيّة الدولة الإسلاميّة ولا عجز في مواردها.

11. هذه الأموال ملك الدولة لا الحاكم

ثمّ إنّ جميع العائدات الحاصلة من الموارد والضرائب المذكورة هي ملك الحكومة وراجعة إلى الحاكم الإسلاميّ لا لشخصه بل من جهة قيامه مقام الولاية والإمامة ... أي أنّ هذه الأموال يعود أمرها إلى الوالي بما هو ممثّل للاُمّة فعليه أن يحافظ عليها ويصرفها في شؤون الاُمّة ومصالحها.

وتدلّ على ذلك روايات كثيرة متضافرة منها ماورد عن أبي عليّ بن راشد قال : قلت لأبي الحسن الثالث الهادي علیه السلام : إنّا نؤتي بالشيء فيقال هذا كان لأبي جعفر الجواد علیه السلام عندنا فكيف نصنع ؟ فقال علیه السلام : « ما كان لأبي بسبب الإمامة فهو لي ( أي لمقام الإمامة والولاية ) ، وما كان غير ذلك فهوُ ميراث على كتاب اللّه وسُنّة نبيّه » (1).

ص: 587


1- وسائل الشيعة 6 : باب 2 من أبواب الانفال : 374.

وهذا الحديث يفيد بوضوح أنّ الأموال التي ترد إلى الحاكم الإسلاميّ تتنوّع إلى نوعين ، نوع يعطى له لكونه إماماً وحاكماً من أجل أن يصرفه في مصالح الاُمّة ... والنوع الآخر ما يملكه كسائر الناس من أسباب عاديّة.

وقد شدّد الإسلام على الحاكم الإسلاميّ بأن يحرص على الأموال ( العامّة ) ويصرفها في شؤون المسلمين ولا يتصرّف فيها تصرّفاً شخصيّاً كما يتصرّف في أمواله الخاصّة إلاّ بقدر الضرورة.

فليس له أن يتقلّب فيها كما يشاء ويحرم منها أصحابها الشرعيّين وهم الاُمّة الإسلاميّة كما ليس له أن ينفقها على حواشيه وبطانته بلا استحقاق ، فالحاكم أمين الاُمّة وخازن أموالها كما قال عليّ علیه السلام في كتابه إلى عامله : « ليس لك أن تفتات في رعيّة ، ولا تُخاطر إلاّ بوثيقة ، وفي يديك مال من مال اللّه عزّ وجلّ وأنت من خُزّانه » (1).

وفي كتاب له إلى أهل مصر قال : « ولكنّني آسي أن يلي أمر هذه الاُمّة سُفهاؤُها وفُجّارُها فيتّخذُوا مال اللّه دُولاً وعبادهُ خولاً ، والصّالحين حرباً والفاسقين حزباً » (2).

وفي كتاب له إلى عبد اللّه بن العبّاس : « وانظُر إلى ما اجتمع عندك من مال اللّه فاصرفهُ إلى من قبلك من ذوي العيال المجاعة » (3).

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّى اللّه على سيّدنا محمّد

وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين.

ص: 588


1- نهج البلاغة : قسم الكتب ( الرقم 6 و 2 و 128 ).
2- نهج البلاغة : قسم الكتب ( الرقم 6 و 2 و 128 ).
3- نهج البلاغة : قسم الكتب ( الرقم 6 و 2 و 128 ).

الفهارس

اشارة

1- مصادر الكتاب

2- محتويات الكتاب

ص: 589

ص: 590

فهرس مصادر الكتاب

بعد القرآن الكريم

حرف الألف

1. الإحتجاج : الطبرسى : أبو منصور أحمد بن علي ( من أعلام القرن السادس الهجري ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت - 1403 ه.

2. الأحكام السلطانية : الماوردي : علي بن محمد ( م 450 ه ) دار الكتب العلمية ، بيروت.

3. أحكام القرآن : الجصاص : أحمد بن علي ( م 370 ه ) دار الكتاب العربي ، بيروت - 1406 ه.

4. الإرشاد : المفيد : محمد بن محمد بن النعمان ( 336 - 413 ه ) قم - 1402 ه.

5. ارشاد الساري : القسطلاني : أبو العباس : أحمد بن محمد ( 851 - 923 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

6. اُسد الغابة : ابن الأثير : أبو الحسن : علي بن أبي الكرم ( م 630 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

7. أسنى المطالب : محمد بن محمد الجزري الشافعي ( م 833 ه ) مكتبة الإمام أمير المؤمنين علیه السلام اصفهان - إيران.

ص: 591

8. الإصابة : العسقلاني : أحمد بن علي بن حجر ( م 852 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت - 1358 ه.

9. أصل سليم بن قيس : سليم بن قيس الهلالي العامري ( م 90 ه ) دار الفنون ، بيروت - 1400 ه.

10. أضواء على السنّة المحمّدية : محمود أبو ريّة ، مطبعة صور الحديثة - 1383 ه.

11. الأعلام : خير الدين الزرگلي ( م 1396 ه ) دار العلم للملايين ، بيروت - 1404 ه.

12. أعلام الورى : الطبرسى : الفضل بن الحسن ( 471 - 548 ه ) طبع إيران.

13. أعيان الشيعة : السيّد محسن الأمين العاملي ( م 1371 ه ) دار التعارف ، بيروت.

14. اقتصاديات العالم الإسلامي.

15. الأمالي : الشيخ الصدوق ( م 381 ه ) المكتبة الإسلامية ، طهران.

16. الإمام علي صوت العدالة الإنسانية : جورج جرداق ، دار الروائع ، بيروت.

17. الإمامة في التشريع الإسلامي : المحقّق المعاصر محمد مهدي الآصفي ، طبع النجف الأشرف - 1383 ه.

18. الإمامة والسياسة : الدينوري : عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة ( م 276 ه ) مطبعة مصطفى محمّد ، مصر.

19. الأموال : الحافظ أبو عبيد : سلام بن القاسم ( م 224 ه ) دار الحداثة ، بيروت - 1408 ه.

حرف الباء

20. بحار الأنوار : محمّد باقر المجلسي ( م 1111 ه ) مؤسسة الوفاء ، بيروت - 1403 ه.

21. البداية وآلنهاية : ابن كثير : الحافظ أبو الفداء ( م 774 ه ) دار الفكر ، بيروت - 1402 ه.

22. البرهان في تفسير القرآن : البحراني : السيّد هاشم التوبلي ( م 1107 ه ) قم -

ص: 592

1375 ه.

23. بصائر الدرجات : الصفار : محمّد بن الحسن ( م 290 ه ) شركت چاپ كتاب - 1380 ه.

24. بلاغات النساء : ابن طيفور : أحمد بن أبي ظاهر ( م 380 ه ) مكتبة بصيرتي ، قم - إيران.

25. بلاغة الحسين : الموسوي الحائري : مصطفى محسن ، طبع إيران - 1369 ه.

26. البيان والتبيين : أبو عثمان : عمرو بن بحر الجاحظ ( م 255 ه ) دار الفكر للجميع ، بيروت - 1968 م.

حرف التاء

27. التاج : أبو عثمان : عمرو بن بحر الجاحظ ( م 255 ه ) مطبعة تابان - 1349 ه.

28. التاج الجامع للاُصول : الشيخ منصور علي ناصف ، دار الفكر ، بيروت - 1406 ه.

29. تاريخ الإسلام السياسى : الدكتور حسن إبراهيم حسن ( المعاصر ) مصر.

30. تاريخ بغداد : الخطيب البغدادي : أبوبكر : أحمد بن علي ( م 463 ه ) المكتبة السلفية ، المدينة المنوّرة.

31. تاريخ اليعقوبي : أحمد بن أبي يعقوب ( من علماء القرن الثالث الهجري ) المكتبة الحيدرية ، النجف الأشرف.

32. التبيان في تفسير القرآن : الطوسي : محمّد بن الحسن ( م 460 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

33. تحرير الوسيلة : الإمام الخميني ( م 1409 ه ) مؤسسة مطبوعات دار العلم ، قم إيران.

34. تحف العقول : الحرّاني : الحسن بن علي ( من أعلام القرن الرابع الهجري ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت - 1394 ه.

35. تذكرة الخواص : سبط ابن الجوزي ( 581 - 654 ه ) مؤسسة أهل البيت ، بيروت - 1401 ه.

ص: 593

36. تذكرة الفقهاء : العلاّمة الحلّي : الحسن بن يوسف ( 602 - 676 ه ) منشورات المكتبة المرتضوية ، إيران.

37. التراتيب الإدارية : الشيخ عبد الحي الكتّاني ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

38. التفسير : ابن كثير : إسماعيل الدمشقي ( م 774 ه ) دار الفكر ، بيروت - 1403 ه.

39. تفسير الخازن : الشيخ علاء الدين محمد البغدادي ، طبع القاهرة.

40. التفسير الكبير : الفخر الرازي : محمد بن عمر الخطيب ( 544 - 606 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

41. تفسير الطبري : أبو جعفر : محمّد بن جرير ( م 310 ه ) دار المعرفة ، بيروت - 1400 ه.

42. تفسير العياشي : أبو النضر : محمّد بن مسعود ( 320 ه ) المطبعة العلمية ، قم.

43. تفسير القمي : علي بن إبراهيم ( من أعلام القرن الثالث والرابع الهجري ) مطبعة النجف - 1387 ه.

44. تفسير المنار : محمّد رشيد رضا ( م 1354 ه ) دار المنار ، مصر - 1373 ه.

45. تفسير الميزان : العلاّمة الطباطبائي : محمّد حسين ( 1321 - 1402 ه ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت - 1393 ه.

46. تنقيح المقال : عبد اللّه المامقاني ( 1290 - 1351 ه ) النجف الأشرف - 1350 ه.

47. تنوير الحوالك في شرح موطأ مالك : جلال الدين السيوطي ( م 911 ه ) دار الفكر.

حرف الثاء

48. ثواب الأعمال : الشيخ الصدوق : محمد بن بابويه القمي ( 381 ه ) مكتبة الصدوق ، طهران.

حرف الجيم

49. جامع الاُصول : ابن الأثير الجزري : المبارك بن محمّد ( 544 - 606 ه ) دار الفكر ، بيروت - 1403 ه.

ص: 594

50. الجامع الكبير : جلال الدين السيوطي ( 849 - 911 ه ) طبع دمشق.

51. جمع الجوامع : جلال الدين السيوطي ( م 911 ه ).

52. الجمهورية : أفلاطون.

53. الجواهر : الحرّ العاملي ( م 1104 ه )

54. جواهر الكلام : النجفي : محمّد حسن ( م 1266 ه ) دار احياء التراث العربي ، بيروت - 1981 م.

حرف الحاء

55. حركات ومذاهب في ميزان الإسلام.

56. حقوق الإنسان : السيّد ميرزا إبراهيم خان ، طهران - 1331 ه.

57. الحكومة الإسلامية : الإمام الخميني ( م 1409 ه ) المكتبة الإسلامية الكبرى ، طهران.

58. الحل الإسلامي فريضة وضرورة : الدكتور يوسف القرضاوي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت - 1400 ه.

59. حلية الأولياء : أبو نعيم : أحمد بن عبد اللّه الإصبهاني ( م 430 ه ) دار الكتاب العربي ، بيروت - 1387 ه.

حرف الخاء

60. الخصائص : النسائي : أبو عبد الرحمان أحمد ( 215 - 303 ه ) المطبعة الحيدرية ، النجف الأشرف - 1388 ه.

61. الخصال : الصدوق : محمد بن بابويه القمي ( م 381 ه ) منشورات جماعة المدرسين ، قم - 1403 ه.

62. الخراج : القاضي أبو يوسف : يعقوب بن إبراهيم ( م 182 ه ) دار المعرفة ، بيروت - 1395 ه.

63. الخلاف : الشيخ الطوسي : محمد بن الحسن ( 385 - 460 ه ) دار الكتب العلمية ، قم - إيران.

ص: 595

64. الخلافة والإمامة : عبد الكريم الخطيب ( 1396 ه ) دار المعرفة ، بيروت - 1395 ه.

حرف الدال

65. دائرة المعارف : فريد وجدي ، مطبعة دائرة معارف القرن العشرين - 1386 ه.

66. الدر المنثور : السيوطي : جلال الدين ( 849 - 911 ه ) دار الفكر ، بيروت - 1403 ه.

67. الدعوة إلى الإسلام : السير توماس ارنولد.

حرف الذال

68. ذخائر العقبى : المحب الطبري : أحمد بن عبد اللّه ( 615 - 694 ه ) مكتبة القدسي ، القاهرة - 1356 ه.

69. الذريعة : آقا بزرگ الطهراني ( 1293 - 1389 ه ) دار الأضواء ، بيروت - 1402 ه.

حرف الراء

70. الراعي والرعية : توفيق الفكيكي ، مؤسسة نهج البلاغة ، طهران - 1402 ه.

71. الرجال : أبو عمرو الكشي ( من علماء القرن الرابع الهجري ) مؤسسة الأعلمي ، كربلاء - العراق.

72. رسالة الحقوق : الإمام علي بن الحسين زين العابدين علیهماالسلام المكتبة الرضوية - طهران.

73. روح الشرائع : مونتسكيوبان ، ترجمة عادل زعيتر ، دار التعارف ، مصر - 1953 م.

74. روض الجنان : الشيخ أبو الفتوح الرازي ( حوالي 588 ه ).

75. روضة الواعظين : الفتّال النيسابوري : محمّد بن علي ( من علماء القرن السادس الهجري ) تبريز - 1333 ه.

76. الرياض النضرة : المحب الطبري : أحمد بن عبد اللّه ( 615 - 694 ه ) دار الكتب

ص: 596

العلمية ، بيروت.

حرف الزاي

77. زين الفتى في تفسير هل أتى : أحمد بن محمّد بن علي الشافعي ، مخطوط.

حرف السين

78. سفينة البحار : الشيخ عباس القمي ( 1294 - 1359 ه ) طبعة حجر ، النجف الأشرف.

79. السلام العالمي وآلإسلام : سيد قطب ، مكتبة وهبة ، القاهرة.

80. سنن ابن ماجة : أبو عبد اللّه : محمّد بن يزيد القزويني ( 207 - 275 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت - 1395 ه.

81. سنن أبي داود : أبو داود السجستاني ( م 275 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

82. سنن الدارمي : عبد اللّه بن عبد الرحمان ( 181 - 255 ه ) دار إحياء السنة النبويّة.

83. السنن الكبرى : البيهقي : أبوبكر : أحمد بن الحسين ( م 458 ه ) دار المعرفة ، بيروت - 1406 ه.

84. سنن النبي : العلاّمة الطباطبائي ( م 1402 ه ) المكتبة الإسلامية ، طهران.

85. السياسة : محمد الحسيني الشيرازي ( المعاصر ) مطبعة سيد الشهداء ، قم - 1401 ه.

86. السيرة الحلبية : الحلبي : برهان الدين علي بن إبراهيم ( م 1044 ه ) المكتبة الإسلامية ، بيروت.

87. السيرة الدحلانية على هامش السيرة الحلبية : السيد أحمد زيني دحلان ، المكتبة الإسلامية ، بيروت.

88. السيرة النبوية : ابن هشام : عبد الملك بن أيوب الحميري ( م 213 أو 218 ه ) دار التراث العربي ، بيروت.

ص: 597

حرف الشين

89. الشاهنامة : الفردوسي : أبو القاسم الفردوسي ، طهران - 1376 ه.

90. الشخصية الدولية : محمد كامل ياقوت.

91. شرائع الإسلام : المحقق الحلّي : أبو القاسم : جعفر بن الحسن ( 602 - 676 ه ) دار الأضواء ، بيروت - 1403 ه.

92. نسيم الرياض في شرح الشفاء : القاضي عياض ، دار الفكر ، بيروت.

93. شرح صحيح مسلم : النووي : أبو زكريا : يحيى بن شرف ( 631 - 676 ه ) دار القلم ، بيروت - 1407 ه.

94. شرح المواقف : السيد الشريف الجرجاني ( م 816 ه ) مؤسسة السعادة ، القاهرة - 1325 ه.

95. شرح نهج البلاغة : ابن أبي الحديد ( م 655 ه ) دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة - 1378 ه.

96. الشفاء : الشيخ الرئيس ابن سينا ( م 428 ه ) انتشارات بيدار ، إيران.

97. الشورى بين النظرية والتطبيق.

حرف الصاد

98. صحاح اللغة : الجوهري : اسماعيل بن حماد ، دار العلم للملايين ، بيروت - 1404 ه.

99. الصحيح : البخاري : أبو عبد اللّه محمد بن إسماعيل ( م 256 ه ) مكتبة عبد الحميد أحمد حنفي ، مصر - 1314 ه.

100. الصحيح : الترمذي : محمد بن عيسى ( م 279 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

101. الصحيح : مسلم بن الحجاج القشيري ( م 261 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

ص: 598

102. الصحيح : النسائي : أحمد بن شعيب ( م 303 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

103. الصحيفة السجادية : الإمام زين العابدين علي بن الحسين علیهماالسلام ، مؤسسة الإمام المهدي - عج - ، قم - 1411 ه.

حرف الطاء

104. طبقات الحفاظ : جلال الدين السيوطي ( 849 - 911 ه ) دار الكتب العلمية ، بيروت - 1403 ه.

105. الطبقات الكبرى : محمد بن سعد ( م 230 ه ) دار صادر ، بيروت - 1380 ه.

حرف العين

106. عجائب أحكام أمير المؤمنين.

107. العروة الوثقى : السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي ، المكتبة العلمية ، طهران - 1399 ه.

108. علل الشرائع : الصدوق : محمد بن بابويه القمي ( م 381 ه ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت - 1408 ه.

109. عيون أخبار الرضا علیه السلام : الشيخ الصدوق ( 381 ه ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت - 1404 ه.

حرف الغين

110. غاية المرام : السيد هاشم البحراني ( م 1107 ه ) طبعة حجر ، إيران.

111. الغدير : الأميني : عبد الحسين أحمد النجفي ( 1320 - 1390 ه ) دار الكتاب العربي ، بيروت - 1387 ه.

112. غرر الحكم : عبد الواحد الآمدي التميمي ( من علماء القرن الخامس الهجري ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت - 1407 ه.

113. غريب مفردات الحديث : ابن الأثير ( 544 - 606 ه ) دار إحياء الكتب العربية

ص: 599

- 1383 ه.

حرف الفاء

114. فتوح البلدان : البلاذري : أبو الحسن ( م 279 ه ) المكتبة التجارية ، مصر - 1959 م.

115. فرائد السمطين : إبراهيم بن محمد الحمويني ، مطبعة النعمان ، النجف الأشرف.

116. الفرائد : الشيخ الأنصاري ( 1212 - 1281 ه ) طبعة حجر ، إيران.

117. الفَرق بين الفِرَق : البغدادي : عبد القاهر بن طاهر بن محمد ( م 429 ه ) دار المعرفة ، بيروت.

118. الفقه على المذاهب الأربعة : عبد الرحمان الجزيري : دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

119. في ظلال القرآن : سيد قطب ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت - 1386 ه.

حرف القاف

120. قاموس اللغة : الفيروزآبادي : محمد بن يعقوب ( 729 - 816 ه ) القاهرة - 1333 ه.

121. قرب الإسناد : الحميري القمي : عبد اللّه بن جعفر ( من أعلام القرن الثالث الهجري ) مكتبة نينوى الحديثة ، طهران.

122. قصة الحضارة : ويل ديورانت ، دار الجيل ، بيروت - 1408 ه.

123. قضاء أمير المؤمنين : محمّد تقي التستري ، المطبعة الحيدرية ، النجف الأشرف.

حرف الكاف

124. الكافي : الكليني : محمد بن يعقوب ( م 329 ه ) دار الكتب الإسلامية ، طهران - 1388 ه.

125. الكامل في التاريخ : ابن الأثير الجزري : محمد بن محمد ( م 630 ه ) دار الكتاب

ص: 600

العربي ، بيروت.

126. الكشّاف : الزمخشري : محمود بن عمر ( م 538 ه ) مكتبة مصطفى البابي الحلبي ، القاهرة - 1367 ه.

127. كشف الغمة : الأربلي : عليّ بن عيسى ( م 693 ه ) دار الأضواء ، بيروت - 1405 ه.

128. الكنى والألقاب : الشيخ عباس القمي ( 1294 - 1359 ه ) مكتبة الصدر ، طهران - 1397 ه.

129. كنز العرفان : المقداد بن عبد اللّه السيوري ( م 826 ه ) المكتبة المرتضوية ، طهران - 1384 ه.

130. كنز العمال : المتقي الهندي ( م 975 ه ) مؤسسة الرسالة ، بيروت - 1405 ه.

حرف اللام

131. لسان العرب : العلاّمة ابن منظور : محمد بن مكرم ( م 711 ه ) قم - 1405 ه.

132. لمحة فقهية تمهيدية : الشهيد محمد باقر الصدر ( م 1400 ه ) مؤسسة البعثة ، طهران - إيران.

حرف الميم

133. المجازات النبوية : الشريف الرضي ( 359 - 406 ه ) مطبعة الآداب ، بغداد.

134. مجمع البحرين : العلاّمة الطريحي ( م 1085 ه ) المكتبة الرضوية ، طهران.

135. مجمع البيان : الطبرسي : الفضل بن الحسن ( 471 - 548 ه ) دار الكتاب العربي ، بيروت - 1402 ه.

136. مجمع الزوائد : الهيثمي : علي بن أبي بكر ( 735 - 807 ه ) دار الكتاب العربي ، بيروت - 1402 ه.

137. محاضرات في تاريخ الاُمم الإسلامية : محمّد الخضري ، دار إحياء الكتب العربية - 1349 ه.

138. المحجة البيضاء : الفيض الكاشاني ( م 1091 ه ) المكتبة الإسلامية ، طهران.

ص: 601

139. المحكم والمتشابة : السيد المرتضى : علي بن الحسين ( 355 - 436 ه ).

140. المحلّى : ابن حزم الظاهري ( م 456 ه ) دار الآفاق الجديدة ، بيروت.

141. مختصر جامع العلم.

142. المختلف : العلاّمة الحلّي ( 648 - 726 ه ) منشورات مكتبة أمير المؤمنين علیه السلام اصفهان.

143. مرآة العقول : محمد باقر مجلسي ( م 1111 ه ) دار الكتب الإسلامية ، طهران - 1404 ه.

144. المراجعات : السيد عبد الحسين شرف الدين ( 1290 - 1377 ه ) طبع مصر.

145. مروج الذهب : المسعودي : علي بن الحسين ( م 345 ه ) منشورات الجامعة اللبنانية ، بيروت - 1965 م.

146. المستدرك : الحاكم النيسابوري : محمد بن عبد اللّه ( م 405 ه ) دار المعرفة ، بيروت.

147. مستدرك الوسائل : النوري الطبرسي : الحسين بن محمد تقي ( 1254 - 1320 ه ) مؤسسة آل البيت ، قم - 1407 ه.

148. المستند : المحقق النراقي : أحمد بن مهدي ( م 1248 ه ) طبعة حجر.

149. مسند أحمد : أحمد بن حنبل ( م 241 ه ) دار الفكر ، بيروت.

150. مسند الطيالسي : سليمان بن داود الجارود ( م 204 ه ) دار المعرفة ، بيروت.

151. مشكاة الأنوار : أبو الفضل : علي بن الحسن بن الفضل الطبرسي ، النجف الأشرف - 1385 ه.

152. مطالب السؤول : محمد بن طلحة الشافعي ( م 652 ه ) النجف الأشرف.

153. معاني الأخبار : الصدوق : محمد بن بابويه القمي ( م 381 ه ) دار المعرفة ، بيروت - 1399 ه.

154. معالم القربة في أحكام الحسبة : ابن الاخوة : محمد بن محمد القرشي ، مطبعة دار الفنون ، كيمبرج - 1937 م.

155. المغني : عبد اللّه بن قدامة ( 541 - 620 ه ) مطبعة الإمام ، مصر.

156. المغازي : الواقدي : محمد بن عمر بن واقد ( 130 - 207 ه ) مؤسسة الأعلمي ،

ص: 602

بيروت.

157. المفردات : الراغب الاصفهاني : الحسين بن محمد ( م 502 ه ) مطبعة الميمنية ، القاهرة - 1324 ه.

158. مكاتيب الرسول : علي بن حسين علي الأحمدي ( المعاصر ) المطبعة العلمية ، قم - 1379 ه.

159. مكارم الأخلاق : الطبرسي : أبو نصر : الحسن بن الفضل ( من أعلام القرن السادس الهجري ) منشورات الشريف الرضي ، قم - 1408 ه.

160. الملل والنحل : الشهرستاني : محمد بن عبد الكريم ( 479 - 548 ه ) دار المعرفة ، بيروت - 1402 ه.

161. مناقب آل أبي طالب : ابن شهر آشوب ( 488 - 588 ه ) المطبعة العلمية ، قم - إيران.

162. من لايحضره الفقيه : الشيخ الصدوق ( 381 ه ) دار الكتب الإسلامية ، طهران ، 1390 ه.

163. من الهدي الساري مقدمة فتح الباري : العسقلاني ( 773 - 852 ه ) المطبعة السلفية ، القاهرة.

164. منية المريد : زين الدين العاملي ( 911 - 965 ه ) مجمع الذخائر الإسلامية ، قم - 1402 ه.

165. منية الطالب : الشيخ موسى النجفي الخوانساري ، طبعة حجر ، النجف الأشرف.

166. منية المتملّي في شرح غنية المصلّى : الحلبي.

167. مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام : الاُستاذ عبد اللّه عنان.

168. المواهب اللدنية : أحمد بن محمد القسطلاني ، دار الكتب العلمية ، بيروت.

حرف النون

169. ناسخ التواريخ : لسان الملك : محمد تقي بن محمد علي ( م 1297 ه ) طبع طهران.

170. النجاة : الشيخ الرئيس ابن سينا ( 428 ه ) مطبعة السعادة ، مصر.

ص: 603

171. النظام التربوي في الإسلام : باقر شريف القرشي ، دار التعارف ، بيروت - 1399 ه.

172. نظام الحكم والإدارة في الإسلام : باقر شريف القرشي.

173. النظام السياسي في الإسلام : المحامي أحمد حسين يعقوب ، قم - 1412 ه.

174. النظم الإسلامية نشأتها وتطورها : الدكتور صبحي الصالح ، دار العلم للملايين ، بيروت - لبنان.

175. النظم السياسية : ثروت بدوي ( المعاصر ) مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة - 1957 م.

176. النهاية : ابن الأثير : محمد بن مبارك الجزري ( م 606 ه ) مؤسسة إسماعيليان ، قم - 1405 ه.

177. نهج البلاغة : جمع الشريف الرضي : محمد بن الحسن ( 359 - 404 ه ) بيروت - 1387 ه.

178. نهج الفصاحة : أبو القاسم پاينده ، المطبعة الإسلامية ، طهران - 1389 ه.

179. نوادر الراوندي : قطب الدين الراوندي ( م 573 ه ) مخطوط.

180. نور الثقلين : العروسي الحويزي : عبد علي بن جمعة ( م 1112 ه ) مطبعة الحكمة ، قم - إيران.

حرف الواو

181. الوثائق السياسية : البروفسور محمد حميد اللّه ، دار النفائس ، بيروت - 1407 ه.

182. الوحي المحمدي : السيد محمد رشيد رضا ( 1354 ه ) طبع مصر.

183. وسائل الشيعة : الحر العاملي : محمد بن الحسن ( 1033 - 1104 ه ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت - 1403 ه.

184. وقعة صفين : نصر بن مزاحم المنقري ( م 212 ه ) دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة - 1365 ه.

ص: 604

فهرس محتويات الكتاب

الموضوع / الصفحة

الفصل الأوّل

بحوث تمهيديّة حول الحكومة

(1) الحكومة حاجة طبيعيّة وضروريّة ... 13

الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله المؤسّس الأوّل للحكومة الإسلاميّة ... 15

نماذج من الوظائف الحكوميّة في الأحاديث ... 23

(2) لماذا يرفض البعض وجود الحكومة ؟ ... 31

ملامح الحكومة الإسلاميّة حسب النصوص ... 34

الحكومات الجائرة ... 44

وظيفة الاُمّة اتّجاه الحكومة ... 46

(3) أنواع الحكومات في العالم ... 48

1. الملوكيّة ... 48

القرآن الكريم والملوكيّة ... 49

ص: 605

مفاسد الحكم الاستبداديّ ... 52

2. الحكومة الأشرافيّة ... 62

3. حكومة الأغنياء ... 63

4. النمطُ الديمقراطيّ ... 63

الفصل الثاني

صيغة الحكومة الإسلامية

(1) صيغة الحكومة الإسلاميّة كيف ؟ ... 67

ما هي صيغة الحكومة الإسلاميّة إِذنْ ؟ ... 68

التنصيص الإلهيّ على الحاكم الأعلى باسمه وشخصه ... 71

ما هي صيغة الحكومة بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ... 74

المصالح العامّة في الصدر الأوّل وشكل الحكومة ... 76

ماذا كانت تقتضيه المصالح ؟ ... 76

أ - عدم بلوغ الذروة في أمر القيادة ... 77

إجابةٌ عن سؤال ... 83

ب - الاُمّة الإسلاميّة والخطر الثلاثيّ ... 86

1. خطر إمبراطوريّة إيران ... 86

2. خطر الروم ... 87

3. خطر المنافقين ... 88

ج - العشائريّات تمنع من الاتّفاق على قائد ... 90

ماذا يُراد من الخلافة عن رسول اللّه ؟ ... 101

(2) وفاة النبيّ والفراغات الهائلة ... 102

دراسة الفراغات لماذا ؟ ... 102

ص: 606

1. الفراغ في مجال الحلول التشريعية للمشكلات الجديدة ... 104

اعتراف الصحابة بالقصور ... 115

بعض ما لا نص فيه من المسائل ... 117

فيمَنْ شرب خمراً ... 118

ما الكَلاَلَة ؟ ... 118

أمرأةٌ ولدت لستّة أشهر ... 119

مسألة العوْل ... 119

فيمن كسر بيض نعامة ... 120

الطلاق في الجاهليّة والإسلام ... 120

معنى الأبّ ... 121

خمسةُ أشخاص أُخذوا في الزنا ... 121

2. الفراغات في مجال تفسير القرآن الكريم وشرح مقاصده ... 122

3. الفراغات في مجال تكميل الاُمّة روحياً وفسياً ... 134

4. الفراغات الحاصل في مجال الرد على الأسئلة والشبهات ... 139

نماذج من الأسئلة العويصة ... 140

5. الفراغ الحاصل في مجال صيانة الدين من التحريف ... 146

نماذجٌ وأرقامٌ عن الأحاديث الموضوعة ... 149

(3) الخلافة عند النبيّ والصحابة والاُُمم السابقة ... 154

1. تصوّر النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله عن القيادة بعده ... 155

2. تصوّر الصحابة عن الخلافة بعد النبيّ ... 157

أ - استخلاف أبي بكر لعمر ... 157

ب - استخلاف عثمان ... 159

نظرية تفويض الأمر إلى الاُمّة بعد النبيّ ... 161

تحليل لخلافة أبي بكر ... 162

ص: 607

تحليل لخلافة الإمام عليّ ... 166

3. صيغة القيادة والخلافة عند الاُمم السابقة ... 169

الخلافة بالوصاية ... 173

رأي الخُضريّ ومناقشته ... 180

الفصل الثالث

صيغةُ الحكومة الإسلاميّة في العصور الحاضرة ... 183

ماذا كُتب حول الحكومة ؟ ... 183

انتخاب الاُمّة والأدلّة الإسلاميّة ... 188

1. استخلاف اللّه للإنسان ... 188

أبعاد خلافة الإنسان عن اللّه ... 189

آثار الحاكميّة نيابةً عن اللّه ... 192

2. استخلاف داود يستبطن حاكميّته ... 194

3. أداء الأمانة لا يمكن إِلاّ بالحكومة ... 195

الاستخلاف غير التفويض ... 196

4. الوظائف الاجتماعيّة وتشكيل الدولة ... 197

المجتمع في نظر الفلاسفة والحقوقيّين ... 198

5. العقلُ وتشكيل الدولة ... 203

6. سيرة المسلمين بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ... 204

7. سلطةُ الناس على أموالهم وأنفسهم ... 205

8. الحكومة أمانةٌ عند الحاكم ... 206

أسئلة وأجوبة ... 211

مؤاخذاتٌ على الديمقراطيّة ... 212

ولاية الفقيه ومكانتها في الحكومة الإسلاميّة ... 220

ص: 608

ولاية الفقيه ليست استصغاراً للاُمّة ولا استبداداً ... 221

كيف يمارسُ الفقيه ولايته ... 223

كلمة أخيرة ... 224

هل الشورى أساس الحكم الإسلاميّ ؟ ... 226

ما هي أدلّة الأخذ بالشورى ؟ ... 229

حكم الشورى بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ... 229

التمسّك بكلام عليّ علیه السلام في الشورى ... 231

إشكالاتٌ أُخرى وملاحظاتٌ أساسيّة ... 233

هل البيعة وسيلة لتعيين الحاكم ؟ ... 237

1. ماذا تعني البيعة ؟ ... 237

2. البيعة قبل الإسلام ... 238

الفصل الرابع

صفات الحاكم الإسلاميّ ... 243

1. الإيمان ... 243

2. حسن الولاية والقدرة على الإدارة ... 244

3. التفوّق في الدراية السياسيّة ... 245

4. العدالة ... 247

5. الرجولة ... 250

6. العلم بالقانون اجتهاداً أو تقليداً ... 256

7. الحريّة ... 257

8. طهارة المولد ... 261

وصايا تكشف عن مسؤوليّة الحكام ... 266

ص: 609

الفصل الخامس

أركان الحكومة الإسلاميّة ... 269

(1) السلطة التشريعيّة ... 270

انتخاب فريق الشورى ... 272

المفتي أو فريق الإفتاء ... 275

فريق الإفتاء والنصوص ... 276

(2) السلطة التنفيذيّة ... 281

ضرورة السلطة التنفيذيّة ... 282

الآمرون بالمعروف هم السلطة التنفيذيّة ... 287

دفع إشكال حول الأمر والنهي ... 298

وظيفة المحتسب والسلطة التنفيذيّة ... 299

السلطة التنفيذيّة على عهد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ... 306

النبيّ يعيّن الولاة ويحدّد مسؤوليّاتهم ... 308

كيفيّة السلطة التنفيذيّة الآن ... 310

مواصفات أعضاء السلطة التنفيذيّة ... 312

1. التخصّص ... 313

2. الوثاقة ... 314

3. الزهد والتعفّف ... 314

إطاعة الحاكم الصالح ... 316

لا طاعة للحاكم الجائر ... 319

(3) السلطة القضائيّة ... 323

دور القضاء والسلطة القضائيّة ... 323

ص: 610

عوامل التنازع وأسبابه ... 324

القضاء والحكومة لله خاصّة ... 326

النبيّ صلی اللّه علیه و آله يمارس القضاء ... 329

كيف يحقّق القضاء أهدافه ؟ ... 330

1. صلاحيّة القاضي وأهليّته للقضاء ... 330

2. إستقلال القاضي الماليّ والسياسيّ ... 333

3. رعاية آداب القضاء وكيفيّته ... 335

4. وجود البرامج الحقوقيّة والجزائيّة الصالحة ... 338

الشهادة والشهود ... 339

لا استئناف ولا تمييز ... 341

الفصل السادس

حول أهمّ خصائص الحكومة الإسلاميّة ... 343

(1) الحكومة الإسلاميّة حكومة عالميّة ... 344

الاُسس الفكريّة للحكومة العالميّة ... 350

(2) الإيمان ملاك تكوّن الاُمّة الإسلاميّة ... 353

بماذا تتكون الاُمّة ويتحقّق مفهومها ... 353

مكوّنات الاُمّة عند الحقوقيّين ... 354

المِلاك الإسلاميّ للاُمّة ... 357

(3) المساواة أمام القانون ... 367

المساواة من ثمار العدل ... 373

من نتائج العدل ... 374

إهتمام الإسلام بالعدل ... 375

أبعاد العدل ومجالاته ... 376

ص: 611

1. العدل في مجال الحكم ... 377

2. العدل في مجال الأخذ بالقانون ... 377

3. العدل في مجال الأقتصاد ... 377

4. العدل في مجال العلاقات الاجتماعيّة ... 378

(4) الإسلام بين الماديّة والمعنويّة ... 380

الآيات المادحة للدنيا ... 382

الآيات الذامّة للدنيا ... 383

(5) الشورى ... 389

القرآن والشورى ... 389

الأحاديث والشورى ... 390

(6) ضمان الحريّات المعقولة ... 400

ما هي الحريّة ... 400

أقسام الحريّات ومجالاتها ... 401

1. الحريّة الشخصيّة ... 401

2. الحريّة الفكريّة والعقيديّة ... 404

3. الحريّة السياسيّة ... 410

4. الحريّة المدنيّة ... 414

نقاط حول السجن ... 415

الفصل السابع

حول أهمّ برامج الحكومة الإسلاميّة ووظائفها ... 417

(1) الحكومة الإسلاميّة ومسؤوليّة التربية والتعليم ... 418

الإسلام ومسألة التزكية ... 420

عوامل تكوين الشخصيّة ... 421

ص: 612

1. عوامل الوراثة ... 422

2. التعليم ... 425

3. البيئة ... 428

مسؤوليّة التعليم ... 432

الإسلام والعلوم الطبيعيّة ... 445

بحث وتنقيب ... 449

(2) الحكومة الإسلاميّة والحقوق الفرديّة والاجتماعيّة ... 456

تقسيمات الحقوق ... 457

أ - الحقوق الداخليّة ... 457

ب - الحقوق الخارجيّة ( الدوليّة ) ... 458

الإسلام والحقوق ... 458

شموليّة الحقوق الإسلاميّة ... 461

الأقليّات الدينيّة في الحكومة الإسلاميّة ... 463

1. الإعتراف بحقوق الأقليّات ... 463

2. حسن المعاشرة مع الأقلّيات ... 464

3. احترام الإسلام لحياة الأقليّات ... 470

4. الجزية ضريبة عادلة ... 473

(3) الحكومة الإسلاميّة والدعوة إلى التنمية الاقتصاديّة ... 476

أهميّة الاقتصاد في الحياة البشريّة ... 476

الاقتصاد أصل هامّ وليس محوراً ... 478

الدعوة إلى التنمية الإقتصاديّة وإطاراتها ... 479

1. الإنسان مأمور بعمارة الأرض ... 479

2. الإنسان مدعو إلى الكدح والعمل ... 480

موضع الزهد والتوكّل في الإسلام ... 484

ص: 613

3. الإسلام يقرّ مبدأ التنافس ... 487

4. الحريّة الاقتصاديّة في النظام الإسلاميّ ... 488

5. الإنتاج في إطار الإنسانيّة ... 489

6. العدالة الاجتماعيّة هو الهدف الأسمى ... 490

7. لا إسراف ولا تبذير ... 490

8. الأخلاق عامل أصيل ... 491

9. الاقتصاد وسيلة لا هدف ... 492

10. الإنسان محور وليس آلة ... 494

(4) الحكومة الإسلاميّة والصحّة الفرديّة والصحّة العامّة ... 496

تعاليم القرآن الصحّيّة ... 498

الصحّة في السنّة المطهّرة ... 502

التعاليم الصحيّة الفرديّة ... 505

التعاليم الصحيّة العامّة ... 510

الزواج والصحّة ... 511

إهتمام المسلمين بعلم الطبّ ... 514

العناية بالصحّة وظيفة الحكومة الإسلاميّة ... 515

(5) الحكومة الإسلاميّة والسياسة الخارجيّة ... 519

الإسلام يرسم قواعد السياسة الخارجيّة ... 519

1. إحترام العهود والمواثيق الدوليّة ... 520

2. الإسلام والسلام العالميّ ... 523

3. حكم الأسرى ... 527

4. الحصار الاقتصاديّ ضدّ المعتدين فقط ... 532

5. الحدّ من التسلّح ... 533

6. الحصانة الدبلوماسيّة في الإسلام ... 533

ص: 614

7. التعهّدات المتقابلة ، والمنفردة ... 534

8. المعاهدة للاستقراض الحربيّ ... 537

9. قطع العلاقات السياسيّة ... 537

10. الإسلام والبلاد المفتوحة ... 538

(6) الحكومة الإسلاميّة والاستخبارات والأمن العامّ ... 540

لا تفتيش عن العقائد ، ولا اطّلاع على الأسرار ... 540

ترجيح المصالح العامّة على المصالح الخاصّة ... 541

الاستخبارات الراهنة مرفوضة ... 541

أهداف الاستخبارات في الحكومة الإسلاميّة ... 542

1. مراقبة الموظّفين ... 543

2. مراقبة تحرّّكات العدو العسكريّة ... 545

نماذج من التجسّس العسكريّ في عصر النبيّ ... 546

3. مراقبة نشاطات الأجانب ونفوذهم ... 553

حكم المتجسّس لصالح الأجنبيّ ... 556

(7) الحكومة الإسلاميّة والنظام العسكريّ ... 559

قوام الاُمّة رهن بقدرتها العسكريّة ... 559

الجيش في خدمة الدين والشعب ... 560

تعاليم إنسانيّة في الحرب ... 563

الفصل الثامن

المنابع الماليّة للحكومة الإسلاميّة

لابدّ للبرامج من منابع ماليّة ... 569

1. الأنفال ... 570

2. الزكاة ... 572

ص: 615

3. الخمس ... 572

تحقيق ضروريّ حول الخمس ... 574

الغنيمة في اللغة ... 574

الغنيمة في الكتاب والسنّة ... 576

الخمس في رسائل النبيّ وعهوده ... 577

4. زكاة الفطرة ... 582

5. الخراج والمقاسمة ... 582

6. الجزية ... 583

7. ضرائب ليس لها حد معين ولا زمان خاص ... 583

8. موارد ماليّة استثنائيّة ... 584

9. توظيف الأموال في المجالات الاقتصاديّة الكبرى ... 585

هذه العائدات تكفي لميزانية الدولة الإسلاميّة ... 585

10. هذه الأموال ملك الدولة لا الحاكم ... 587

فهرس مصادر ... 591

فهرس محتويات الكتاب ... 605

وآخر دعوانا أن الحمدلله ربّ العالمين

ص: 616

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.