مناظرات في الإمامة المجلد 4

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ عبد اللّه الحسن

المحقق: الشيخ عبد اللّه الحسن

الناشر: شركة دار المصطفى (صلی الله عليه وآله وسلم) لإحياء التراث

الطبعة: 1

الموضوع : العقائد والكلام

تاريخ النشر : 1428 ه.ق

الصفحات: 784

مناظرات في الإمامة

الجزء الرابع

ص: 1

اشاره

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ

صَدَقَ اللَّهُ العَلِيُّ العَظِيم

ص: 2

مناظرات في الإمامة

الجزء الرابع

تأليف و تحقيق: الشيخ عبداللّه الحسن

منشورات شركة دار المصطفی لإحياء التراث

ص: 3

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولی

1428ه - 2007 م

يطلب من:

لبنان - بيروت - جادة السيد هادي - مفرق الرويس - بناية اللؤلؤة ط1 - ص.ب: برج البراجنة - بعبدا - 2020 1017 - هاتف: 009611540672 سوريا - دمشق - ص.ب: 733 - السيدة زينب - تلفاكس: 00963116470124 محمول: 0096394356584

إيران - قم - خ سمية - 16 متری عباس آباد بلاك 24 تلفاكس: 7738855 - 0098251

البريد الإلكتروني Email: mnmnmn3@hotmail.com

منشورات شركة دار المصطفی لإحياء التراث

ص: 4

مقدمة الكتاب

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، وصلّى اللّه على أشرف الأنبياء والمرسلين محمّد وآله الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين ، وبعد :

بين يديك أخي الكريم الجزء الرابع من كتابنا المناظرات ، وهو القسم الثاني من المناظرات في الإمامة ومسائل أخرى ، وهو يحتوي على المناظرات التي جمعناها من بطون الكتب - قديماً وحديثاً - وكتب المستبصرين أيضاً لما لها من الأهمية الكبرى إذ أن مناظراتهم هذه تحكي تجربة جدية صادقة في سبيل الوصول إلى الحق ، وما عانوه في سبيل ذلك من متاعب ومشاق لا يتحملها إلاّ الصابر المجاهد.

وهذه المناظرات بمجموعها تشكل حلقة الوصل بما قدّمناه في الجزء الثالث من هذا الكتاب ، وهي بلا شك مناظرات قيّمة تستحق القراءة بتمعّن ودراسة - لمن أراد الوقوف على الحقيقة - لما حوته من حقائق ودلائل وبراهين ساطعة في إمامة أميرالمؤمنين علیه السلام وظلامته ، وأسأل اللّه العلي القدير أن يتقبل مني هذا المجهود المتواضع ويثيبني عليه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى اللّه

ص: 5

بقلب سليم.

وكما أتقدم بجزيل الشكر والإمتنان لكل من ساهم معي في إنجاز هذا الكتاب ، وسبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين.

يوم الأحد الموافق ذكرى يوم مولد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله

17 ربيع الأول عام 1427 ه-

عبد اللّه الحسن

ص: 6

بعض المناظرات في الفهارس والكتب

ونذكر هنا جملة مما أشار إليه الحجة العلم أغا بزر الطهراني عليه الرحمة من المناظرات التأريخية (1) ، ثم نذكر ما وجدناه مما أشاروا إليه في بعض الفهارس والتراجم والكتب ، ونختار منها ما يلي :

1 - ( 7102 : المناظرات ) للمحقق الكركي الشيخ عبد العالي بن علي بن عبد العالي الكركي ، مع الميرزا مخدوم الشريفي ، في الإمامة ، وتوفي الشيخ سنة 993 ه- عن سبع وستين سنة ، وحمل من أصفهان إلى مشهد الرضا علیه السلام ودفن بدار السيادة (2).

2 - ( مناظرات الشيخ المفيد ) مع أصحاب الفرق والمذاهب ، مر في ( 364 / 19 ) بعنوان المجالس المحفوظة (3).

ص: 7


1- وقد ذكر بعضها أيضاً السيد إعجاز حسين في كشف الحجب والأستار ص : 553 - 554 ، ومجلة تراثنا العدد : 26 : السنة السابعة عام 1312 ، ص 149 - 151 تحت عنوان : تعريف بمصادر الإمامة في التراث الشيعي.
2- جاء في تكملة أمل الآمل ، للسيد حسن الصدر عليه الرحمة : ص 265 ، في ترجمة الشيخ عبد العالي بن الشيخ علي المحقق الكركي عليه الرحمة : قال المولى عبد اللّه في رياض العلماء : كان ظهر الشيعة وظهيرها بعد أبيه المحقق الكركي ورأس الإمامية أثر والده ، وكان معاصرا للميرزا مخدوم الشريفي السني صاحب كتاب نواقض الروافض ، وكان بينهما مناظرات ومباحثات في الإمامة وغيرها.
3- 3 - جاء في الذريعة تحت رقم : ( 1627 : المجالس المحفوظة ) في فنون الكلام ، قال النجاشي : إنه للشيخ أبي عبد اللّه محمّد بن محمّد بن النعمان المفيد المتوفى 413 ه- وذكر في كشف الحجب أن فيه ذكر مناظرته مع القاضي أبي بكر أحمد بن سيار وأبي عمر والشطوي والنقيب أبي الحسن العمري وأبي الحسين الخياط والوراق وغيرهم من المعتزلة والناصبة والحشوية والمرجئة والإسماعيلية والكيسانية والفطحية ، وطرف يسير من مناظرات الأئمة علیهم السلام ومناظرات هشام بن الحكم مع يحيى بن خالد البرمكي وغيره ، ومناظرات علي بن إسماعيل بن شعيب بن ميثم التمار مع أبي الهذيل العلاف ، وضرار بن عمرو الضبي ، وغير ذلك أوله ( الحمد لله المتوحد بالقدم العام لجميع خلقه بالنعم وصلى اللّه على محمّد وآله معادن الدين والكرم ).

3 - ( 7108 : مناظرات علي بن موسى الرضا علیه السلام لأبي أحمد عبد العزيز بن يحيى الجلودي شيخ جعفر بن قولويه.

4 - ( 7110 : المناظرات الكمالية في بعض المسائل الخلافية ) للشيخ علي بن الحاج حسن الخنيزي القطيفي ، المولود سنة 1291 ه- ، ذكره تلميذه الشيخ فرج بن الحسن القطيفي ( رحمهما اللّه ).

5 - ( 7112 : المناظرات مع ابن آلوسي ) محمود شكري أفندي المدرس ببغداد ، في إثبات وجود الحجة وإمامته ، لشيخنا الحاج ميرزا فتح اللّه المشتهر بشيخ الشريعة ، ابن الحاج ميرزا محمّد جواد النمازي الشيرازي الأصفهاني (1) ، وهي ثلاث رسائل : صغير ، ووسيط ، وكبير ، مجموعها في 3700 بيت ، فيها تحقيقات وتدقيقات رشيقة ، وجوابات كافية وافية ، واستنسخه صدر الإسلام الخوئي ، ومر ( الأسنة في قلوب السنة ) فراجعه.

6 - ( 7113 : المناظرات مع بعض الشيعة ) للمجدوع ، الشيخ إسماعيل بن عبد الرسول الأجيني ، مؤلف فهرسة الكتب والرسائل.

ص: 8


1- وقد أشار إلى هذه المناظرة السيد أحمد الحسيني في تقديمه لكتاب نخبة الأزهار بحث الأصفهاني للشيخ السبحاني : ص 11.

ذكر ضمن تأليفاته في مقدمة طبع الفهرسة المذكورة ، بقلم ابن المؤلف علينقي المنزوي ص 15.

7 - ( 7115 : المناظرات مع المولى ميرزا جان الشيرازي العامي ) للشاه تقي الدين محمّد الشيرازي ، النسابة المدرس بشيراز في عصر الصفوية ، والمتوفى ، سنة 1019 ه- ، كما في ( أمل الآمل ) ولأخيه المير غياث الدين مقام عظيم ذكرهما في ( عالم آرا ) وذكر الشاه تقي الدين في ( السلافة ) و ( أمل الآمل ).

8 - ( 7116 : المناظرات مع العامة ) (1) للمولى عبد الوهاب الشاهجهاني السني الأصل المستبصر بواسطة منامين ، ثم ناظر مع أبيه السني ، وجمع آخر من علماء أهل السنة بشاه جهان آباد في سنة 1073 ه- في عهد عالم گ ير پ أدشاه ، وأجاب أيضاً عن جملة من الإعتراضات التي كتبوها إليه فكتب هذه المناظرات والجوابات بخطه في مجلد وهو فارسي في كتب المولى محمّد علي الخوانساري ، وله إبصار المستبصرين الذي ذكر فيه كيفية استبصاره في سنة 1062 (2).

9 - ( 7117 : مناظرات مع المخالفين ) للشيخ زين الدين أبي الحسن علي

ص: 9


1- وسوف تأتي أيضاً تحت رقم : ( 7170 : مناظرة عبد الوهاب الهندي ) وهي نفسها.
2- وجاء في كتاب تراجم الرجال ، للسيد أحمد الحسيني : 1 / 342 : عبد الوهاب الدبيلي ( ق 11 ) عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن محمّد حسين بن نظر علي بن مرتضى قلي الشيرازي الدبيلي كان من الحنفية على مذهب أبيه وأجداده ، والتقى في دبيل من بلاد السند من توابع الهند بالمولى عبد علي الشيرازي في سنة 1042 ه- وناظره مناظرة طويلة تشيع على أثرها ، ويبدو من مناظراته أنه كان على جانب من العلم والدراية ، وبعد تشيعه كان يدور في البلدان الهندية للمناظرة ، ولذا كانوا بصدد قتله ، وآخر مناظراته كان في شاه جهان آباد سنة 1073 ه. له إبصار المستبصرين.

بن محمّد الرازي ، أستاذ علماء الطائفة وشيخ الشيخ منتجب الدين.

10 - ( 7124 : مناظرة ابن أبي جمهور ) (1) محمّد بن علي بن إبراهيم بن الحسن بن أبي جمهور الأحسائي ، مع الفاضل الهروي العامي في المشهد الرضوي ، في مجالس ثلاثة ، في مسألة الإمامة. أولها : ( الحمد لله حق حمده .. ). والنسخة رأيتها عند ( الصدر ) ، ذكر فيه أنه حصل بينه وبين الهروي ملاقات فجادل معه في ثلاثة مجالس : المجلس الأول في إمامة أميرالمؤمنين علیه السلام وقد كان في دار السيد النقيب السيد محسن بن المير محمّد الرضوي - وأورد ترجمته القاضي نور اللّه في مجالسه مختصراً ، والمجلس الثاني في المدرسة أول البحث فيه في مسألة ولد الزنا وجرى الكلام إلى طعن القرطاس ، والمجلس الثالث في ذكر أعمال الخدعة في أمر الخلافة وبعض المطاعن كل ذلك في أيام من سنة سبع وثمانين وثمانمائة 887 ه- ، وفرغ من تبييض كتابه درر الئلالى العمادية سنة 901 ه- ، يوجد هذه المناظرات كلها عند الميرزا محمّد الطهراني بسامراء ، وقد ترجمها جميعا إلى الفارسية المولى نوروز علي البسطامي وأدرج الترجمة في كتابه فردوس التواريخ المطبوع سنة 1315 ه- ، وطبع للمؤلف المناظرات مع العالم الهروي ، والمظنون أنها عين ما ذكرناه.

وأورد القاضي ترجمة قسم منها في مجالس المؤمنين ، وترجمها أيضاً جلال الدين محمّد بن محمّد الكاشاني ، فرغ من الترجمة في الهند في ( 19

ص: 10


1- وقد أخذنا صورة عن هذه المخطوطة من مكتبة المرعشي النجفي قدس سره ، وقد ذكرناها في الجزء الثالث : ص 347 المناظرة الخمسون.

شعبان 1091 ه- ). أوله : ( ثنا ومحمدتي كه زبان بيان بحكم أنت كما أثنيت على نفسك بعجز وقصور ... ). نسخة منها في ( الرضوية 401 حكمت ) كتبها الشاه محمّد الهمداني بقلم النستعليق في ( رجب 1042 ه- ) ولمحمّد أشرف بن علينقي أقدس الشريف الحسيني المشهدي أيضاً ترجمه مناضره أحسائي فرغ منه سنة 1090 ه- ، وصدرها باسم الشاه سليمان. أوله : ( بهترين مقالي كه مترجمان صحايف فرقان حق گو ئى به آن .. ). والنسخة في طهران عند الدكتور مفتاح رقم 79 ، كتبت بقلم النستعليق في المتن والهامش.

11 - ( 7127 : مناظرة الإدريسي ) من ذرية إدريس بن إدريس الحسني العلوي في مجلس الواثق باللّه ، مع أبي الهذيل العلاف ، أولها : ( قال أبو الهذيل : دخلت على الواثق فأمر بحبسي فبينا أنا في محبسي في ليلة .. ). والنسخة عند السيد شهاب الدين بقم.

12 - ( 7128 : مناظرة المير إعجاز حسين ) (1) مع المولوي محمّد جان اللاهوري ، وذكر ترجمة المير إعجاز حسين على ظهر كتابه كشف الحجب وأنه ولد 1240 ه- وتوفي 1286 ه.

13 - ( 7129 : مناظرة الإمام الباقر علیه السلام مع الهروي ( الجروي ) (2) أولها : ( قال الهروي : إن في أبي بكر أربع خصال استحق بها الخلافة ، قال الباقر علیه السلام : وما هي؟ قال : إنه أول الصديقين ولا نعرفه حتى يقال الصديق ، الثانية صاحب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الغار ، الثالثة المتولي أمر الصلاة ، الرابعة ضجيعه في قبره .. )

ص: 11


1- وقد ذكرت من ضمن مؤلفاته راجع : كتاب كشف الحجب والأستار ، السيد إعجاز حسين : 6 ، مرآة الكتب ، التبريزي : 366 ، وكتاب خلاصة عبقات الأنوار لأخيه السيد حامد حسين : 1 / 142.
2- وقد ذكرنا هذه المناظرة في هذا الجزء وقد ذكرها المجلسي عليه الرحمة في بحار الأنوار.

ذكرها في كشف الحجب ، وهي غير مذكورة في احتجاج الطبرسي ، موجودة في مجموعة مع مناظرة ابن أبي جمهور ومناظرة ركن الدولة في ( الرضوية ).

14 - ( 7134 : مناظره بافرق ) لعبد الوهاب الشيرازي الحنفي المستبصر الذي أراد أبوه قتله لاستبصاره ولم يوفق ، وهذه المناظرة كلامي (1) وقعت في شاهجهان في سنة 1073 ه- مع المخالفين. أوله : ( ابتداي مناظرة أي چند كه أقل عباد ، عبد الوهاب را بعد از تعيين طريق إرشاد در بعض بلاد سند ... ) ذكر في فهرست نسخه هاى خطى ص 994 خمسة نسخ منها في مكتبات إيران أقدمها كتابة في ( الملك 7 / 4137 ) ضمن المجموعة المؤرخة ( 1161 - 1041 ) وأخرى في ( الرضوية 6 / 236 ، أدبيات ) كتبها محمّد حسين بن محمّد كاظم في ( 17 ج 2 / 1104 ) وذكرت في فهرس الرضوية بعنوان : رساله در حقانيت مذهب جعفري ، ويحتمل أن يكون غير المناظرة المذكورة ، ويأتي للمؤلف مناظره ديني.

15 - ( 7142 : مناظرة الشيخ حسين بن عبد الصمد الحارثي ) (2) والد البهائي والمتوفى سنة أربع وثمانين وتسعمائة 984 ه- (3) مع بعض العامة من

ص: 12


1- لعلها : كلامية.
2- وقد ذكرنا هذه المناظرة أيضاً في هذا الجزء.
3- قال خيرالدين الزركلي في كتابه الأعلام : 2 / 240 - 241 ، قال : حسين بن عبد الصمد بن محمّد الجُبَعي ( بضم ففتح ) العاملي الحارثي الهمداني : ( 918 - 984 ه- ) : فقيه إمامي ، عارف بالأدب ، له نظم حسن ، أصله من جبل عامل ( بلبنان ) وانتقل إلى أصفهان فمكث ثلاث سنوات ، ورحل إلى قزوين ، فاستمر فيها شيخاً للإسلام سبع سنين ، وتوجه إلى هراة ، وعاد إلى قزوين ، ثم حج ، وأقام في البحرين إلى أن توفي ، من كتبه ( دراية الحديث ) رسالة ، و ( شرح ألفيه الشهيد ) فقه ، و ( وصول الأخيار إلى أصول الأخبار ) و ( مناظرة مع بعض علماء حلب ) و ( ديوان شعر ) كبير ، وهو والد بهاء الدين العاملي صاحب الكشكول.

علماء حلب ، في مسألة الإمامة وما يتعلق بها ، إلى أن استبصر الحلبي ، في سنة إحدى وخمسين وتسعمائة 951 ه. أولها : ( الحمد لله على ما أنعم به وكفى وصلاة وسلام على عباده الذين اصطفى .. فهذا صورة بحث لهذا الفقير حسين بن عبد الصمد الحارثي في حلب في سنة 951 ه- ، أضافني بعض فضلائها .. ). والنسخة في مخزن كتب ( محمّد علي الخوانساري ) بالنجف ، و ( الطهراني في سامراء ) يقول في آخره : ( ثم باحثته في مسائل كلامية كالرؤية والقضاء والقدر ، وفي مسائل فرعية كالمتعة والمسح ، وذلك بعد أن أذعن واستقر الإيمان في قلبه ، وسب أعداء أهل البيت علیهم السلام عموما وخصوصاً .. ).

16 - ( 7146 : مناظره دانشمند ديوانه نما ) مع أبي الهذيل العلاف المتكلم في عهد المأمون العباسي ( 198 - 218 ) في الخلافة وإسكات أبي الهذيل. لسبهر الثاني الكاشاني المذكور في ( 9 : 429 ) والمتوفى سنة 1340 ه- ، فرغ منه قبل ذي القعدة سنة 1320 ، أوله : ( حمد له ، صلاة. بر حسب أمر مطاع جهان اتباع بندگ ان اعليحضرت .. ). والنسخة في ( طهران ، ملي 325 ف ) كتبه محمّد تقي كمال السلطنة خادم حضرة مظفر الدين شاه في ذي القعدة سنة 1320 ه- في 32 ورق.

17 - ( 7151 : مناظرة ركن الدولة ) مع الشيخ الصدوق (1) أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي عليه الرحمة ، المتوفى سنة 381 ه- ، جمعها الشيخ ركن الدين الدوريستي ، وذلك أنه لما اطلع الملك ركن الدولة على رياسة الصدوق لمذهب الشيعة ، وغزارة علمه ، اشتاق إليه فلما قدم

ص: 13


1- وقد ذكرنا هذه المناظرة في الجزء الثالث ، ص 252 ، المناظرة الثانية والأربعون.

إليه الصدوق عظمه ورحبه وناظر معه. أولها : ( قال الملك : أيها الشيخ العالم اختلف الحاضرون في القوم الذين يطعن عليهم الشيعة ، قال بعض : يجب الطعن عليهم ، وقال آخرون : لا يجب ، ولا يجوز فما عندك .. ). وذكر في مجالس المؤمنين ترجمة هذه المناظرة ، وهي في خزانة ( الصدر ) و ( الرضوية ) (1).

ص: 14


1- جاء في كتاب الهداية للشيخ الصدوق عليه الرحمة : ص 132 ، في المقدمة في ترجمة الشيخ الصدوق عليه الرحمة وأثره في التشيع : جاء في كتب التأريخ إن بعض حكام بني بويه كانوا يقيمون مجالس المناظرة والاحتجاج بين علماء الأديان والمذاهب ، ويتطرقون إلى بحث المسائل الأساسية التي أدت إلى اختلاف المسلمين وفرقتهم ، وتأييد من يظهر على غيره بالدليل العقلي والنقلي ، وتأييد من يكون الحق إلى جانبه ، فعلى سبيل المثال يمكن الإشارة إلى مناظرات متعددة كانت للشيخ الصدوق رحمه اللّه في مجلس ركن الدولة وغلبته على الآخرين باستدلاله العقلي والنقلي وما حظي به من ثناء من قبل ركن الدولة. وقال في ص 139 : وقد جمع الشيخ جعفر الدوريستي مناظرات الشيخ الصدوق رحمه اللّه في كتاب على حده ، وذكر النجاشي من جملة كتب الشيخ الصدوق رحمه اللّه : ذكر المجلس الذي جرى له بين يدي ركن الدولة ، ذكر مجلس آخر ، ذكر مجلس ثالث ، ذكر مجلس رابع، ذكر مجلس خامس. وورد في مقدمة كتاب معاني الأخبار بشأن محاوراته عليه الرحمة ورد شبهات المخالفين ما يلي : له مباحثات ضافية وجوابات شافية في مناصرة المذهب الحق ، ومناجزة الباطل ، منها ما وقع بحضرة الملك ركن الدولة البويهي الديلمي. وورد في مقدمة كتاب كمال الدين : .. وعمدة الكلام في تلك المجالس إثبات مذهب الإمامية ولا سيما مسألة الغيبة .. ولو لا مجاهداته ومباحثاته في الري في مجالس عدة عند ركن الدولة البويهي مع المخالفين ، وفي نيشابور مع أكثر المختلفين إليه ، وفي بغداد مع غير واحد من المنكرين لكاد أن ينفصم حبل الإمامية والاعتقاد بالحجة ، ويمحى أثرهم ويؤول أمرهم إلى التلاشي والخفوت والاضمحلال والسقوط ويفضي إلى الدمار والبوار ، وهذه كتب الحديث والتأريخ تقص علينا ضخامة الأعمال التي نهض بأعبائها هذا المجاهد المناضل ، وزمرة كبيرة من رجل العلم ، وقيام هؤلاء في تدعيم الحق وتنوير الأفكار ، ودرء شبهات المخالفين وسفاسفهم الممقوتة ، ونجاة الفرقة المحقة عن خطر الزوال ، ومتعسة السقوط ، فجزاهم اللّه عن الإسلام خير جزاء العلماء المجاهدين. وجاء في الهامش من نفس الكتاب ( أي كتاب الهداية ) ص 132 : وفي كتاب آل بويه نخستين سلسله قدرتمند شيعة : 278 منذ ذلك التأريخ كان ركن الدولة يقيم مجالس المناظرات الدينية وكان للصدوق مناظرات عديدة مع أتباع الديانات والمذاهب المختلفة « وانظر ص509- 510 ، وص 514 - 517 ، إحياى فرهنكي در عهد آل بويه : 256 - 262.

18 - ( 7153 : مناظرة سائر فرق الشيعة ) مع الإمامية الإثني عشرية في الإمامة (1) للشيخ المفيد عليه الرحمة ، والنسخة عند السيد شهاب الدين بقم. أوله : ( اتفقت الشيعة العلوية من الإمامية والزيدية والجارودية (2) .. ).

19 - ( 7156 : مناظرة الشاري والشاعي ) (3) لبعض الأصحاب ، والشاري إبراهيم بن الحجاج كان بمذهب الشراء الخوارج ، محب الشيخين ومبغض الصهرين ، والشاعي هو الحسن بن أحمد من ولد حذيفة بن اليمان الصحابي كان شيعيا ، آلت أمر تلك المناظرة إلى تشيع الشاري ، أوله : ( قيل : خرج رجل من خراسان اسمه إبراهيم بن الحجاج .. ). والنسخة عند السيد باقر اليزدي ، وأخرى ضمن مجموعة ملكها السيد حسن بن عبد اللّه الكشميري الحائري الرضوي المتوفى سنة 1328 ه- ، يقرب من 780 بيتا ، عناوينه : ( قال الشاري .. فقال الشاعي ).

20 - ( 7164 : مناظرة الشيعي والمرجي ) في المسح على الخفين ، وأكل

ص: 15


1- وهي مناقشة لآراء الزيدية والجارودية وقد طبعت باسم المسائل الجارودية ، بتحقيق الشيخ محمّد كاظم مدير شانجي ، ومجموعها 47 صفحة.
2- الجارودية : فرقة من فرق الزيدية ، وسموا بالجارودية نسبة لصاحبهم ورئيسهم أبي الجارود زياد بن منذر.
3- وصورة من هذه المناظرة مو جودة عندنا وهي مستنسخة من مكتبة الإمام الحكيم العامة في النجف الأشرف ، حصلنا عليها من طريق الأخ العزيز الفاضل الشيخ محمّد تقي الفقيه العاملي جزاه اللّه خير الجزاء.

الجري وغير ذلك ، لأبي يحيى الجرجاني أحمد بن محمّد بن داود ، ذكره النجاشي في الكنى (1).

21 - ( 7167 : مناظرة السيد عبد الحسين شرف الدين ) وهو ابن أخت سيدنا أبي محمّد الحسن صدر الدين العاملي الكاظمي ، نزيل صور وصاحب الفصول المهمة طبعت في آخر ( كتاب ) الشيعة والمنار (2) سنة 1328 ه- في بيروت ، وهي مناظرة فقهية في اشتراط صحة الطلاق بكونه في طهر غير مواقعة ، ناظر فيها مع بعض فضلاء الأزهر.

22 - ( 7168 : مناظرة المولى عبد الرحيم ) مع بعض علماء العامة في بلاد الهند وهي لطيفة.

23 - ( 7170 : مناظرة عبد الوهاب الهندي ) المستبصر الشاه جهان آبادي ، والساكن في دهلي ، مع أبيه وبعض علماء العامة ، بشاه جهان آباد في سنة 1073 ه- وجواباته عن اعتراضاتهم ، وقد ألف قبل ذلك ( أبصار المستبصرين ) ، في كيفية استبصاره في سنة 1062 ه- ، والمناظرة بالفارسية ، موجودة في مخزن كتب المولى محمّد علي الخوانساري بالنجف ، وعند السيد آقا التستري (3) (4).

ص: 16


1- رجال النجاشي : 454 ، رقم : 1231 ، ترجمة أبي يحيى الجرجاني ، الفهرست ، الطوسي : 81.
2- كتاب الشيعة والمنار ، وهو للعلامة السيد محسن بن عبد الكريم العاملي نزيل دمشق رد فيه على ما صدر في مجلة المنار من الإعتراض على الشيعة. انظر الذريعة : 14 / 2. رقم : 2562.
3- وهذه المناظرة هي نفسها التي تقدمت تحت رقم : ( 7116 : المناظرات مع العامة ) و : ( 7134 : مناظره بافرق ).
4- وقد أخذنا صورة هذه المناظرة من عند العلامة الحجة المحقق السيد أحمد الأشكوري جزاه اللّه خير الجزاء.

24 - ( 7173 : مناظرة علي بن بابويه ) وهو أبو الحسن علي بن الحسين بن موسى ابن بابويه الصدوق القمي ، المتوفى سنة 329 ه- ، مع أبي عبد اللّه محمّد بن مقاتل الرازي في الإمامة ، آلت أمرها إلى تشيع ابن مقاتل (1) رواه أبو الحسن الطبري ، وهو علي بن أحمد بن الحسين الطبري الآملي الشيخ الكثير الحديث الثقة من أصحابنا كما وصفه النجاشي عن أبي غياث بن بسطام ، وأفرده بعض الأصحاب رسالة مستقلة ، وفي آخره : ( قال ابن مقاتل : ما ناظرت أحدا في هذا الأمر أعلم ولا أنصف منه ، ولا أورد شيئا إلاّ عرفته ، وروى علمائنا دونهم في مجموعة من المناظرات وغيرها ) جمعها بخطه المولى رفيع الدين محمّد بن علي رضا ، المقارب لعصر المجلسي الثاني ، والنسخة عند السيد محمّد باقر حفيد السيد محمّد كاظم اليزدي في النجف (2).

25 - ( 7175 : مناظرة علي بن يقطين ت 182 ) مع الشاك بحضرة الإمام الصادق علیه السلام ذكره الشيخ في الفهرست ، وتوفي ابن يقطين في أيام حبس موسى بن جعفر علیه السلام سنة اثنين وثمانين ومائة 182 ه- ، كما ذكره النجاشي.

26 - ( 7177 : مناظرة السيد فتح اللّه الشيرازي ) وهو ابن هبة اللّه بن عطاء اللّه الحسيني القاضي بلار ثم بأصفهان ، من قبل الشاه سليمان المتوفى سنة 1098 ه- ، مع الشيخ عبد الرحيم اللاري المدرس بمدينة الرسول صلی اللّه علیه و آله ، في

ص: 17


1- قال صاحب رياض العلماء : 4 / 6 : ورأيت نسخة منها في كازرون في بعض المجاميع ، وهي رسالة جليلة لطيفة محتوية على تلك المناظرة ، ولكن جمعها بعض تلاميذه.
2- جاء في كتاب الإمامة والتبصرة ، ابن بابويه القمي : 167 في تعداد مؤلفات الصدوق الأول وكتبه ، منها : مناظرة ابن بابويه القمي مع محمّد بن مقاتل الرازي في إثبات إمامة أميرالمؤمنين علیه السلام في الري إلى أن صار محمّد بن مقاتل شيعيا.

الإمامة ، وهي مناظرة غريبة ، كتبها حين تشرفه إلى مكة ، وحصلت المناظرة في المدينة ، وقد أدرجها بتمامها في كتابه المبسوط في الإمامة.

27 - ( 7191 : مناظرة مأمون ) مع المخالفين مع علماء السنة (1) ، ترجمة بالفارسية لما حكاه الصدوق في عيون أخبار الرضا علیه السلام والنسخة في ( يزد ، الجامع الكبير 12 / 419 ) كتبت بقلم النستعليق في القرن الثاني عشر ، أقول : وأورد مناظرة المأمون القاضي ابن عبد ربه المالكي في العقد الفريد على ما ترجم منها في تأريخ آل محمّد صلی اللّه علیه و آله للقاضي بهلول بهجت.

28 - ( 7195 : مناظرة الشيخ المفيد ) محمّد بن محمّد بن النعمان الحارثي المتوفى سنة 413 ه- ، مع الرجل البهشمي (2) ، في مجلس فيه جمع من المعتزلة والمجبرة ، في معنى المولى في قوله صلی اللّه علیه و آله : ( من كنت مولاه .. ) ، وبعد إيراد مناظرته في المجلس أورد فصولا فيما تذكر به بعد الإنصراف عن مجلس المناظرة ، وهو غير كتابه في أقسام المولى الموجود أيضاً وصرح به النجاشي ، وهذه المناظرة لم يذكرها النجاشي ، وهي موجودة في خزانة كتب الميزرا محمّد الطهراني ، أوله : ( أنكر رجل من البهشمية ، جمعنا وإياه وجماعة من المعتزلة مجلس ، أن يكون قول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : من كنت مولاه فعلي مولاه ، يحتمل الإمامة وفرض الطاعة والرياسة ، وقال : غير معروف ، أن معناه الإمام ولا

ص: 18


1- وقد ذكرنا هذه المناظرة في الجزء الثالث ، ص : 197 المناظرة التاسعة والثلاثون ، عن العقد الفريد ، وذكرناها أيضاً في ص : 217 المناظرة الأربعون عن عيون أخبار الرضا علیه السلام .
2- وقد طبعت باسم رسالة في معنى المولى بتحقيق الشيخ مهدي نجف في أربعين صفحة. والبهشمي : بفتح الباء الموحدة وسكون الهاء وفتح الشين المعجمة ، هذه النسبة إلى طائفة من المعتزلة يقال لهم : البهشمية ينتمون إلى أبي هاشم بن أبي علي الجبائي ، وهو زعيم أكثر المعتزلة ، وقد تفرد بفضائح لم يسبق إليها .. الأنساب ، السمعاني : 1 / 421.

المفترض الطاعة .. ) ويوجد أيضاً في النجف عند السيد أبي الحسن الأصفهاني وغيره.

29 - ( 7197 : مناظرة السيد مهدي بحر العلوم الطباطبائي ) المتوفى سنة 1212 ه- مع بعض علماء اليهود في ذي الكفل ، في ذي الحجة سنة 1211 ه- ، وعدة اليهود يومئذ قرب 3000 نفس في ذي الكفل ، والنسخة موجودة في مكتبة المولى محمّد علي الخوانساري بالنجف ، ألفها تلميذه الشيخ محمّد سعيد الدينوري القراچه داغي النجفي. أوله : ( الحمد لله رب العالمين الذي بعث محمّداً صلی اللّه علیه و آله سيد المرسلين خاتماً لرسله أجمعين بأوضح الدلائل والبراهين ، وأيده بابن عمه أميرالمؤمنين علیه السلام .. ) (1).

30 - ( 7198 : مناظرة السيد مهدي بحر العلوم ) مع يهودي في ذي الكفل ، من إملاء تلميذه السيد محمّد جواد العاملي ، صاحب مفتاح الكرامة كما يظهر من آخر كتاب متاجره ، وهو موجود عند حفيده السيد جعفر بن باقر بن السيد علي بحر العلوم وصاحب البرهان ، ونسخة منه بخط المولى إبراهيم بن سعيد المخصص كتبها في كربلاء 26 ج 2 / 1298 ه- ، عند السيد ضياء الدين العلامة الأصفهاني.

31 - ( 7201 : مناظرة ناصر الدين الشيعي ) مع المولوي العامي ، فارسي كبير في عدة مطالب ، تنتهي إلى المطلب الثالث والسبعين والمائتين في 365 ص وفي كل صفحة خمسون بيتا ، يذكر المطلب المولوي ويجيبه ناصر الدين ، وقد

ص: 19


1- وهي مذكورة في مقدمة كتاب رجال بحر العلوم ، تحقيق السيد محمّد صادق بحر العلوم والسيد حسين بحر العلوم : 1 / 50 - 66.

يعبر عن نفسه بحامي الدين ، وينقل فيه كلام المجلسي الثاني. والنسخة في الكاظمية ، ونسخة أخرى عند الميرزا محمّد الطهراني ، كانت متفرقة الأوراق جمعها الشيخ حسين المقدس الهراتي المشهدي إمام الجماعة بمسجد بغركيل فصحفه وجلده ..

32 - ( 7204 : مناظرة هشام بن الحكم ) وما جرى له مع الرشيد ، نقلا عن الشيخ المفيد عليه الرحمة أنه قال : ( حدثني أبو الحسن كثير بن عبد اللّه ، قال : حدثني محمّد بن عبد اللّه بن الحسن بن فضل الشيباني البصري ، قال : حدثني أبو محمّد بن الحسن بن قاسم بن المهدي الكاتب ، قال : سمعت خالي أبا هنلق يقول : حدثني ابن الربيع عن أبيه الربيع قال : اجتمعت أصحاب الحديث والفقهاء وجماعة من الشهود والثقات والقضاة تحضرون هارون الرشيد يوما وفي جملتهم القاضي النحري بن وهب فتذاكروا أصحاب الحديث في الرفضة .. ). والنسخة منضم إلى « إكمال الدين » الذي بخط محمّد مؤمن بن عناية اللّه في سنة 1070 ه- ، عند الشيخ محمّد علي الحائري نزيل سنقر ، ونسخة في مكتبة راجه فيض آبادي الماري (1).

إنتهى ما ذكرناه عن آغا بزرگ عليه الرحمة من كتابه القيم الذريعة ، ونضيف إلى ما ذكر ما يلي :

33 - مناظرة ابن عباس مع عتاب بن الأعور.

ذكرها ابن شهر اشوب في المناقب وابن الأعثم في كتاب الفتوح (2) وقد ذكرناها في هذا الجزء ، قال السيد الخوئي عليه الرحمة في المعجم : عتاب بن

ص: 20


1- الذريعة ، آقا بزرگ الطهراني : 22 / 280 - 304.
2- مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 2 / 369 ، الفتوح ، ابن أعثم الكوفي : 4 / 251.

الأعور الثعلبي ، من خطباء الخوارج ، له مناظرة مع ابن عباس ، ولقد ألقمه ابن عباس حجرا (1).

34 - مناظرة مؤمن الطاق مع زيد بن علي علیه السلام لما دعاه إلى الخروج معه.

رواها الشيخ الكليني عليه الرحمة في كتاب الكافي عن أبان قال : أخبرني الأحول أن زيد بن علي بن الحسين علیهماالسلام بعث إليه وهو مستخف قال : فأتيته فقال لي : يا أبا جعفر ما تقول إن طرقك طارق منا أتخرج معه؟ .. الخ (2).

35 - مناظرة أبي خالد القماط مع زيدي.

روى الكشي عليه الرحمة عن علي بن رئاب ، عن أبي خالد القماط ، قال : قال لي رجل من الزيدية أيام زيد : ما منعك أن تخرج مع زيد؟ .. الخ (3).

وجاء في معجم رجال الحديث : تقدمت له مناظرة مع زيدي في ترجمة خالد بن يزيد ، فظهر عليه ، وأعجب الصادق علیه السلام مناظرته (4).

36 - ( مناظرة أبي العلاء المعري ) مع السيد الشريف المرتضى علم الهدى الموسوي ، المتوفى سنة 436 ه- ، نسخة كتابتها 676 ه- في الخزانة ( الرضوية ) وهي مختصرة قرب خمسين بيتا (5).

أولها : دخل أبو العلاء المعري على السيد المرتضى قدس اللّه روحه فقال : أيها السيد ، ما قولك في الكل ، فقال السيد : ماقولك في الجزء ، فقال : ما قولك في

ص: 21


1- معجم رجال الحديث ، السيد الخوئي : 12 / 109 ، رقم : 7554.
2- الكافي ، الكليني : 1 / 174 ح 5.
3- إختيار معرفة الرجال ، الطوسي : 2 / 711 ح 774 ، مناقب آل أبي طالب ، اين شهر آشوب : 1 / 223.
4- معجم رجال الحديث ، السيد الخوئي : 12 / 110.
5- الذريعة ، آغا بزرگ الطهراني : 22 / 286 ، رقم : 7125.

الشعرى ، فقال : ما قولك في التدوير .. الخ ثم سئل السيد ( رضي اللّه عنه ) عن هذه الرموز فشرحها ، وقد ذكر هذه المناظرة الشيخ الطبرسي عليه الرحمة في الإحتجاج : 2 / 329 - 336.

37 - مناظرة عبد العزيز النخشبي مع القاسم الحافظ الشيرازي في لعن يزيد بن معاوية وبني أمية.

قال عبد العزيز النخشبي : أبو القاسم الحافظ الشيرازي كان يحفظ الغرائب ، حسن الفهم ، حسن المعرفة ، غير أنه يلعن يزيد بن معاوية ، وعبد الملك بن مروان ، وبني أمية كلهم ، وجرت بيني وبينه مناظرة في ذلك (1).

38 - مناظرة أحمد بن نصير الدين علي الشنوي السندي مع بعض علماء السنة.

قال الحر العاملي عليه الرحمة : كان أبوه قاضياً بالسند حنفياً ، وكان هو شيعياً ، ذكره القاضي نور اللّه في مجالس المؤمنين وأثنى عليه ثناءاً بليغاً ، وذكر له مناظرة مع بعض علماء أهل السنة جيدة (2).

39 - مناظرة بين كبار العلماء في بغداد.

وهي مناظرة عقدها عز الدولة ( بختيار ) في بغداد بين كبار العلماء (3).

40 - مناظرة أبي إسحاق النصيبي مع أبي بكر الباقلاني في بلاط عضد

ص: 22


1- الأنساب ، السمعاني : 3 / 493.
2- أمل الآمل ، الحر العاملي : 2 / 31 رقم : 81 ، معجم رجال الحديث ، السيد الخوئي : 2 / 185 ، رقم : 714.
3- راجع : كتاب الهداية ، الصدوق : في المقدمة 133 ، عن كتاب إحياى فرهنكي در عهد آل بويه : 258 - 262.

الدولة في شيراز (1).

41 - مناظرة الفاضل الهندي في الإمامة مع أحد أبناء العامة.

وقصتها كانت مشهورة على الألسنة ، قال في مقابس الأنوار ما نصه : وجرت له فيها يعني بلاد الهند مع المخالفين مناظرة في الإمامة معروفة على الألسنة قصتها عجيبة (2).

42 - مناظرة الوحيد البهبهاني مع فاضل من علماء العامة.

قال السيد إ جاز حسين عليه الرحمة في كشف الحجب : مناظرة أستاذ الكل محمّد باقر بن محمّد أكمل الأصفهاني البهبهاني المتوفى سنة خمس بعد مائتين وألف مع فاضل مع الأشاعرة في أمر الرؤيه حررها إجابة لبعض العلماء قال فيها : كان الواسطة بيني وبينه المرحوم ميرزا محمّد علي وعجز الفاضل عن الجواب ورجع عن القول بالرؤية على ما سمعته من المرحوم ، أوله الحمد لله رب العالمين وصلى اللّه على محمّد وآله الطاهرين أما بعد فيقول الأقل محمّد باقر بن محمّد أكمل هذه صورة المباحثة مع فاضل من الأشاعرة الخ (3).

وقال السيد علي البروجردي عليه الرحمة في طرائف المقال في ترجمة الوحيد البهبهاني أعلى اللّه مقامه الشريف : وله رسالة في صورة مناظرة مع فاضل مع علماء العامة في استحقاق الرؤية على اللّه ، وعجز ذلك الفاضل وتوقفه في الرؤية (4).

ص: 23


1- الهداية ، الصدوق : في المقدمة 133 ، عن كتاب إحياي فرهنكي در عهد آل بويه : 262.
2- كشف اللثام ، الهندي : 1 / 14 المقدمة عن مقابس الأنوار : 18 ، وروضات الجنات : 7 / 112.
3- كشف الحجب والأستار ، السيد إعجاز حسين : 554 - 555 ، رقم : 3125.
4- طرائف المقال ، السيد علي البروجردي : 2 / 384.

43 - مناظرة السيد أبي البركات العلوي مع الكرامي في الإمامة.

هو السيد أبو البركات ناصح الدين العلوي المشهدي (1) محمّد ابن المشهدي صاحب المزار (2) نقل صاحب تبصرة العوام قصة مناظرته في الإمامة مع أبي بكر بن إسحاق الكرامي (3).

44 - مناظرة الحر العاملي مع بعض علماء العامة.

جاء في مقدمة كتاب أمل الآمل في ترجمة الشيخ الحر العاملي أعلى اللّه مقامه الشريف ، من ضمن مؤلفاته : ( مناظرة مع بعض علماء العامة ) قال : وهذه المناظرة كانت في سفر الحج (4).

45 - مناظرة الشيخ حيدر العاملي الهرملي مع بعض المخالفين بطريق مكة.

قال السيد حسن الصدر عليه الرحمة في التكملة : الشيخ حيدر العاملي الهرملي من العلماء الصالحين والفقهاء العاملين ، جليل القدر عظيم الشأن ، حتى أن الأمير سلطان الحرفوشي أوصى أن يدفن عند رجليه ، لما هو اشتهر وتحقق ورآه بعينه من واقعة انهدام قبر الشيخ بعد سنين من دفنه فرؤي جسده طريا ، ووجه مضي ، وكريمته شقراء لم يبل منه شيء ، فالرجل من أوليا اللّه الصالحين ، وقبره معروف في قرية العين من أعمال بعلبك.

ويحكى أن له مناظرة مع بعض المخالفين بطريق مكة ، كتب الشيخ اسم أميرالمؤمنين علیه السلام وصي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بلا فصل ، وكتب المخالف على ورقة ..

ص: 24


1- خاتمة المستدرك ، الميرزا النوري : 1 / 359.
2- راجع كتاب المزار : للمشهدي : 8.
3- رياض العلماء : 5 / 423 ، تبصرة العوام : 70.
4- أمل الآمل ، الحر العاملي : 1 / 33 ، رقم : 55.

فظهرت حجة الشيخ وأفحم الخصم (1).

46 - مناظرة أحمد بن محمّد الغزالي مع أخيه في المذهب.

قال السيد علي البروجردي في طرائف المقال : أحمد بن محمّد الغزالي ، كان أخو محمّد الغزالي ، متصوف ، وله مناظرة طويلة مع أخيه في المذهب (2).

47 - مناظرة سلطان الواعظين مع جمع من علماء العامة في إمامة أميرالمؤمنين علیه السلام في بيشاور.

هو الحجة السيد محمّد الموسوي الشيرازي قدس سره ، وقد ترجمها إلى العربية وحققها صديقنا الفاضل المحقق السيد حسين الموسوي الفالي وكان اسمها بالفارسي شبهاي بيشاور ، وطبعها في كتاب باسم ليالي بيشاور ، مناظرات وحوار في 1191 صفحة فجزاه اللّه خير الجزاء ، وأثابه اللّه تعالى على هذا العمل القيم.

48 - من مناظرات العلماء

قال الشيخ الغفاري : اطلعنا على مجموعة خطية نفيسة تحتوي على رسائل شتى من مناظرات العلماء ومنها هذه المناظرة (3) ، وفي خزانة كتب الأستاذ الشريف السيد جلال الدين الأرموي المشتهر بالمحدث أطال اللّه بقاه ، ورأيتها وهي نسخة ثمينة من نفائس تلك المكتبة العامرة ، جديرة بالطبع والنشر بما تتضمن من محاسن الإحتجاجات وغيرها ، نسأل اللّه تعالى أن يوفقنا لذلك (4).

ص: 25


1- تكملة أمل الآمل ، السيد حسن الصدر : 194 - 195.
2- طرائف المقال ، السيد علي البروجردي : 2 / 122 ، رقم : 521.
3- يعني مناظرة الشيخ الصدوق عليه الرحمة في مجلس السلطان ركن الدوله.
4- مقدمة كتاب معاني الأخبار ، الصدوق : 94.

49 - مناظرة في مسألة الإمامة ، بالفارسية. لعبد الخالق الكرهرودي ، المعروف بقاضي زاده ، مع القاضي الزادة الماوراء النهري في مجلس الشاه عباس الصفوي (1).

50 - مناظرات حسنيه با بيشوايان أهل سنت. بالفارسية. لإبراهيم استرآبادي. قم ، مؤسسة إمام صادق علیه السلام ، 1976 م ، 388 ص ( مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام ، 12 ) (2).

51 - مؤتمر علماء بغداد في الإمامة والخلافة : بقلم مقاتل بن عطية الحنفي من علماء القرن الخامس ، وهو يحكي قصة المحاورة والمناظرة التي وقعت بين بعض علماء الشيعة ، وبعض علماء السنة بحضور الملك الكبير ( ملك شاه سلجوقي ) تحت إشراف الوزير ( نظام الملك ) وأدت هذه المناظره إلى تشيع الملك وأصحابه ، طبعت هذه المناظرة عدة طبعات منها طبعة مكتبة المرعشي قدس سره ، في قم المقدسة ، وطبع بتحقيق العلامة السيد مرتضى الرضوي نشر دار الكتب الإسلامية - طهران.

52 - المراجعات : للسيد عبد الحسين بن شرف الدين الموسوي العاملي وهي حوارات وأسئلة وجهها إليه الشيخ سليم البشري المصري فأجاب عليها وهي تحكي بمجموعها مناظرة من أفضل المناظرات العلمية والموضوعية.

53 - الإنتصار ( مناظرات الشيعة في شبكات الأنترنت ) بقلم العاملي ، وهي موسوعة في تسعة أجزاء ، تتضمن حوارات ومناظرات في الإمامة وغيرها. نشر دار السيرة ، بيروت - لبنان الطبعة الأولى 1421 ه.

ص: 26


1- مجلة تراثنا عدد 26 ، نشر مؤسسة آل البيت علیهم السلام : ص 151 ، عن مرآة الكتب : 4 / 97.
2- مجلة تراثنا عدد 26 ، نشر مؤسسة آل البيت علیهم السلام : ص 149.

المناظرة الأُولى: مناظرة أميرالمؤمنين علیه السلام مع أبي بكر في الخلافة واحتجاجه عليه بثلاث وأربعين خصلة

روى الشيخ الصدوق عليه الرحمة عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن جدِّه علیهم السلام قال : لمَّا كان من أمر أبي بكر وبيعة الناس له وفعلهم بعلي بن أبي طالب علیه السلام ما كان لم يزل أبو بكر يظهر له الانبساط ، ويرى منه انقباضاً ، فكبر ذلك على أبي بكر فأحبَّ لقاءه ، واستخراج ما عنده ، والمعذرة إليه لما اجتمع الناس عليه وتقليدهم إيَّاه أمر الأمَّة ، وقلَّة رغبته في ذلك وزهده فيه ، أتاه في وقت غفلة ، وطلب منه الخلوة ، وقال له : واللّه يا أبا الحسن! ما كان هذا الأمر مواطاة منّي ، ولا رغبة فيما وقعت فيه ، ولا حرصاً عليه ، ولا ثقة بنفسي فيما تحتاج إليه الأُمَّة ، ولا قوَّة لي لمال ، ولا كثرة العشيرة ، ولا ابتزاز له دون غيري ، فمالك تضمر عليَّ ما لم أستحقَّه منك ، وتظهر لي الكراهة فيما صرت إليه ، وتنظر إليَّ بعين السأمة منّي؟

قال : فقال له علیه السلام : فما حملك عليه إذا لم ترغب فيه ، ولا حرصت عليه ، ولا وثقت بنفسك في القيام به ، وبما يحتاج منك فيه؟

ص: 27

فقال أبو بكر : حديث سمعته من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إن اللّه لا يجمع أمّتي على ضلال (1) ، ولمّا رأيت اجتماعهم اتّبعت حديث النبيِّ صلی اللّه علیه و آله وأحلت أن يكون اجتماعهم على خلاف الهدى ، وأعطيتهم قود الإجابة ، ولو علمت أن أحداً يتخلَّف لامتنعت.

قال : فقال علي علیه السلام : أمَّا ما ذكرت من حديث النبيِّ صلی اللّه علیه و آله : إن اللّه لا يجمع أمّتي على ضلال ; أفكنتُ من الأمَّة أو لم أكن؟

قال : بلى.

قال : وكذلك العصابة الممتنعة عليك من سلمان وعمَّار وأبي ذر والمقداد وابن عبادة ومن معه من الأنصار؟

قال : كلٌّ من الأمَّة.

فقال عليٌّ علیه السلام : فكيف تحتجُّ بحديث النبيِّ صلی اللّه علیه و آله وأمثال هؤلاء قد تخلَّفوا عنك ، وليس للأُمَّة فيهم طعن ، ولا في صحبة الرسول صلی اللّه علیه و آله ونصيحته منهم تقصير.

قال : ما علمت بتخلُّفهم إلاَّ من بعد إبرام الأمر ، وخفت إن دفعت عنّي الأمر أن يتفاقم إلى أن يرجع الناس مرتدّين عن الدين ، وكان ممارستكم إلى أن أجبتم

ص: 28


1- أحكام القرآن ، الجصاص : 2 / 37 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 2 / 280 ، الجامع الصغير ، السيوطي : 278 ح 1818 ، كشف الخفاء ، العجلوني : 2 / 350 ح 2999 ، قال الشيخ علي بن يونس العاملي عليه الرحمة في هذا الخبر في كتابه القيِّم الصراط المستقيم : 1 / 113 - 114 : هذا الخبر إن نقله بعض الأمّة فلا حجّة في نقله ، وإن نقله كلهم لزم إثبات الشيء بنفسه ; إذ لا يعلم حينئذ صحّة إجماعهم إلاَّ من إجماعهم ، ولو سلِّم صدوره عن النبيِّ صلی اللّه علیه و آله فالوجه فيه أن الإمام المعصوم من جملة الأمَّة ، فلهذا لا تجتمع على ضلال ; لأنه إن دخل في أقوالهم فالحقُّ في قوله ، فلهذا قال النبي صلی اللّه علیه و آله : عليٌّ يدور مع الحق والحق معه ، وإن خرج فلا إجماع.

أهون مؤونة على الدين ، وأبقى له من ضرب الناس بعضهم ببعض ، فيرجعوا كفّاراً ، وعلمت أنك لست بدوني في الإبقاء عليهم وعلى أديانهم.

قال عليٌّ علیه السلام : أجل ، ولكن أخبرني عن الذي يستحقُّ هذا الأمر بم يستحقُّه؟

فقال أبو بكر : بالنصيحة ، والوفاء ، ودفع المداهنة والمحاباة ، وحسن السيرة ، وإظهار العدل ، والعلم بالكتاب والسنّة وفصل الخطاب ، مع الزهد في الدنيا وقلّة الرغبة فيها ، وإنصاف المظلوم من الظالم القريب والبعيد .. ثمَّ سكت.

فقال علي علیه السلام : أنشدك باللّه يا أبا بكر! أفي نفسك تجد هذه الخصال ، أو فيَّ؟

قال : بل فيك يا أبا الحسن.

قال : أنشدك باللّه ، أنا المجيب لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قبل ذكران المسلمين ، أم أنت؟

قال : بل أنت.

قال : فأنشدك باللّه ، أنا الأذان لأهل الموسم ولجميع الأمّة بسورة براءة ، أم أنت؟

قال : بل أنت.

قال : فأنشدك باللّه ، أنا وقيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بنفسي يوم الغار ، أم أنت؟

قال : بل أنت.

قال : أنشدك باللّه ، إليَّ الولاية من اللّه مع ولاية رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في آية زكاة الخاتم ، أم لك؟

قال : بل لك.

ص: 29

قال : أنشدك باللّه ، أنا المولى لك ولكل مسلم بحديث النبيِّ صلی اللّه علیه و آله يوم الغدير ، أم أنت؟

قال : بل أنت.

قال : أنشدك باللّه ، ألي الوزارة من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والمثل من هارون من موسى ، أم لك؟

قال : بل لك.

قال : فأنشدك باللّه ، أبي برز رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبأهل بيتي وولدي في مباهلة المشركين من النصارى ، أم بك وبأهلك وولدك؟

قال : بكم.

قال : فأنشدك باللّه ، إليَّ ولأهلي وولدي آية التطهير من الرجس (1) ، أم لك ولأهل بيتك؟

قال : بل لك ولأهل بيتك.

قال : فأنشدك باللّه ، أنا صاحب دعوة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأهلي وولدي يوم الكساء : اللّهم هؤلاء أهلي إليك لا إلى النار ، أم أنت؟

قال : بل أنت وأهلك وولدك.

قال : فأنشدك باللّه ، أنا صاحب الآية : ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) (2) ، أم أنت؟

قال : بل أنت.

قال : فأنشدك باللّه ، أنت الفتى الذي نودي من السماء : لا سيف إلاَّ ذو

ص: 30


1- وهي قوله تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) الآية 33 من سورة الأحزاب.
2- سورة الإنسان ، الآية : 7.

الفقار ولا فتى إلاَّ علي ، أم أنا؟

قال : بل أنت.

قال : فأنشدك باللّه ، أنت الذي ردَّت له الشمس لوقت صلاته فصلاَّها ثم توارت ، أم أنا؟

قال : بل أنت.

قال : فأنشدك باللّه ، أنت الذي حباك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله برايته يوم خيبر ففتح اللّه له ، أم أنا؟

قال : بل أنت.

قال : فأنشدك باللّه ، أنت الذي نفَّست عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كربته وعن المسلمين بقتل عمرو بن عبد ود ، أم أنا؟

قال : بل أنت.

إلى أن قال : فلم يزل علیه السلام يعدُّ عليه مناقبه التي جعل اللّه عزَّ وجلَّ له دونه ودون غيره ويقول له أبو بكر : بل أنت.

قال : فبهذا وشبهه يستحقُّ القيام بأمور أمَّة محمّد صلی اللّه علیه و آله ، فقال له علي علیه السلام : فما الذي غرَّك عن اللّه وعن رسوله وعن دينه ، وأنت خلوٌ ممّا يحتاج إليه أهل دينه؟

قال : فبكى أبو بكر وقال : صدقت يا أبا الحسن ، أنظرني يومي هذا ، فأدبِّر ما أنا فيه وما سمعت منك.

قال : فقال له علي علیه السلام : لك ذلك يا أبا بكر ، فرجع من عنده ، وخلا بنفسه يومه ، ولم يأذن لأحد إلى الليل ، وعمر يتردَّد في الناس لما بلغه من خلوته بعلي علیه السلام .. إلخ (1).

ص: 31


1- الخصال ، الصدوق : 548 - 553 ح 30 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 29 / 3.

المناظرة الثانية: مناظرة الإمام الباقر علیه السلام مع هشام بن عبد الملك

عن عمارة بن زيد الواقدي ، قال : حجَّ هشام بن عبد الملك بن مروان سنة من السنين ، وكان قد حجَّ في تلك السنة محمّد بن علي الباقر وابنه جعفر علیهماالسلام ، فقال جعفر في بعض كلامه : الحمد لله الذي بعث محمّداً بالحقِّ نبيّاً ، وأكرمنا به ، فنحن صفوة اللّه على خلقه ، وخيرته من عباده ، فالسعيد من اتّبعنا ، والشقيُّ من عادانا وخالفنا ، ومن الناس من يقول إنه يتولاّنا وهو يوالي أعداءنا ومن يليهم من جلسائهم وأصحابهم ، فهو لم يسمع كلام ربِّنا ولم يعمل به.

قال أبو عبداللّه جعفر بن محمّد علیه السلام : فأخبر مسيلمة أخاه بما سمع ، فلم يعرض لنا حتى انصرف إلى دمشق ، وانصرفنا إلى المدينة ، فأنفذ بريداً إلى عامل المدينة بإشخاص أبي وإشخاصي معه ، فأشخصنا ، فلمَّا وردنا دمشق حجبنا ثلاثة أيام ، ثمَّ أذن لنا في اليوم الرابع ، فدخلنا وإذا هو قد قعد على سرير الملك ، وجنده وخاصّته وقوف على أرجلهم سماطين متسلِّحين ، وقد نصب

ص: 32

البرجاس (1) حذاءه ، وأشياخ قومه يرمون.

فلمَّا دخل أبي وأنا خلفه ما زال يستدنينا منه حتى حاذيناه ، وجلسنا قليلا ، فقال لأبي : يا أبا جعفر! لو رميت مع أشياخ قومك الغرض ، وإنّما أراد أن يهتك بأبي ، ظنّاً منه أنه يقصر ويخطئ ولا يصيب إذا رمى ، فيشتفي منه بذلك ، فقال له : إنّي قد كبرت عن الرمي ، فإن رأيت أن تعفيني.

فقال : وحقِّ من أعزنا بدينه ونبيِّه محمّد صلی اللّه علیه و آله لا أعفيك ، ثمَّ أومأ إلى شيخ من بني أميَّة أن أعطه قوسك.

فتناول أبي عند ذلك قوس الشيخ ، ثمَّ تناول منه سهماً فوضعه في كبد القوس ، ثمَّ انتزع ورمى وسط الغرض فنصبه فيه ، ثمَّ رمى فيه الثانية فشقَّ فوق سهمه إلى نصله ، ثمَّ تابع الرمي حتى شقَّ تسعة أسهم بعضها في جوف بعض ، وهشام يضطرب في مجلسه ، فلم يتمالك أن قال : أجدت يا أبا جعفر ، وأنت أرمى العرب والعجم ، كلاَّ ، زعمت أنك قد كبرت عن الرمي ، ثمَّ أدركته ندامة على ما قال.

وكان هشام لا يكنّي أحداً قبل أبي ولا بعده في خلافته ، فهمَّ به ، وأطرق إطراقة يرتأي فيه رأياً ، وأبي واقف بحذائه مواجهاً له ، وأنا وراء أبي ، فلمَّا طال وقوفنا بين يديه غضب أبي فهمَّ به ، وكان أبي إذا غضب نظر إلى السماء نظر غضبان ، يتبيَّن للناظر الغضب في وجهه ، فلمَّا نظر هشام ذلك من أبي قال له : يا محمّد! اصعد ، فصعد أبي إلى سريره وأنا أتبعه.

فلمَّا دنا من هشام قام إليه فاعتنقه وأقعده عن يمينه ، ثمَّ اعتنقني وأقعدني

ص: 33


1- البرجاس : غرض في الهواء يرمى به.

عن يمين أبي ، ثمَّ أقبل على أبي بوجهه فقال له : يا محمّد! لا تزال العرب والعجم تسودها قريش ما دام فيهم مثلك ، ولله درُّك ، من علَّمك هذا الرمي؟ وفي كم تعلَّمته؟

فقال له أبي : قد علمت أن أهل المدينة يتعاطونه ، فتعاطيته أيام حداثتي ، ثمَّ تركته ، فلمَّا أراد أميرالمؤمنين منّي ذلك عدت إليه.

فقال له : ما رأيت مثل هذا الرمي قط مذ عقلت ، وما ظننت أن في الأرض أحداً يرمي مثل هذا الرمي ، أين رمي جعفر من رميك؟

فقال : إنّا نحن نتوارث الكمال والتمام اللذين أنزلهما اللّه على نبيِّه صلی اللّه علیه و آله في قوله : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) (1) ، والأرض لا تخلو ممن يكمل هذه الأمور التي يقصر عنها غيرنا.

قال : فلمَّا سمع ذلك من أبي انقلبت عينه اليمنى فاحولّت ، واحمرَّ وجهه ، وكان ذلك علامة غضبه إذا غضب ، ثمَّ أطرق هنيئة ، ثمَّ رفع رأسه فقال لأبي : ألسنا بنو عبد مناف نسبنا ونسبكم واحد؟

فقال أبي : نحن كذلك ، ولكنَّ اللّه - جلَّ ثناؤه - اختصّنا من مكنون سرِّه وخالص علمه ، بما لم يختص أحداً به غيرنا.

فقال : أليس اللّه - جلَّ ثناؤه - بعث محمّداً صلی اللّه علیه و آله من شجرة عبد مناف إلى الناس كافّة ، أبيضها وأسودها وأحمرها ، من أين ورثتم ما ليس لغيركم؟ ورسول اللّه مبعوث إلى الناس كافّة ، وذلك قول اللّه تبارك وتعالى : ( وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) (2) إلى آخر الآية ، فمن أين ورثتم هذا العلم وليس بعد محمّد صلی اللّه علیه و آله نبيٌّ

ص: 34


1- سورة المائدة ، الآية : 3.
2- سورة آل عمران ، الآية : 180.

ولا أنتم أنبياء؟

فقال : من قوله تعالى لنبيِّه صلی اللّه علیه و آله : ( لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ) (1) فالذي أبداه فهو للناس كافّة ، والذي لم يحرِّك به لسانه أمر اللّه تعالى أن يخصَّنا به من دون غيرنا ، فلذلك كان يناجي أخاه عليّاً من دون أصحابه ، وأنزل اللّه بذلك قرآناً في قوله تعالى : ( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) (2) ، فقال رسول اللّه لأصحابه : سألت اللّه تعالى أن يجعلها أذنك يا علي (3) ، فلذلك قال علي بن أبي طالب - صلوات اللّه عليه - بالكوفة : علَّمني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ألف باب من العلم يفتح من كل باب ألف باب (4) ، خصَّه به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من مكنون علمه ما خصَّه اللّه به ، فصار إلينا ، وتوارثناه من دون قومنا.

فقال له هشام : إن عليّاً كان يدّعي علم الغيب ، واللّه لم يطلع على غيبه أحداً ، فمن أين ادّعى ذلك؟

فقال أبي : إن اللّه - جلَّ ذكره - أنزل على نبيِّه كتاباً بيَّن فيه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، في قوله : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْء وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) (5) ، وفي قوله : ( كُلَّ شَيْء أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَام مُبِين ) (6) ، وفي

ص: 35


1- سورة القيامة ، الآية : 16.
2- سورة الحاقة ، الآية : 12.
3- مناقب أميرالمؤمنين علیه السلام ، الكوفي : 1 / 142 ح 79 ، شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : 2 / 361 ح 1007 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 38 / 349 ، خصائص الوحي المبين ، ابن البطريق : 171 ح 123 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 13 / 177 ح 36526 ، تفسسير القرطبي : 18 / 264 ، فتح القدير ، الشوكاني : 5 / 282.
4- الكافي ، الكليني : 8 / 147 ح 123 ، الخصال ، الصدوق : 572 ح 1 ، تأريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42 / 385 ، ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : 1 / 219 ح 35.
5- سورة النحل ، الآية : 89.
6- سورة يس ، الآية : 12.

قوله : ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء ) (1) ، وفي قوله : ( وَمَا مِنْ غَائِبَة فِي السَّمَاء وَالاَْرْضِ إِلاَّ فِي كِتَاب مُّبِين ) (2) وأوحى اللّه تعالى إلى نبيِّه صلی اللّه علیه و آله أن لا يبقي في غيبه وسرِّه ومكنون علمه شيئاً إلاَّ يناجي به عليّاً ، فأمره أن يؤلِّف القرآن من بعده ، ويتولَّى غسله وتكفينه وتحنيطه من دون قومه ، وقال لأصحابه : حرام على أصحابي وأهلي أن ينظروا إلى عورتي غير أخي علي ، فإنّه منّي وأنا منه ، له مالي ، وعليه ما عليَّ ، وهو قاضي ديني ومنجز موعدي.

ثمَّ قال لأصحابه : علي بن أبي طالب يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله (3) ، ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وتمامه إلاَّ عند علي علیه السلام ، ولذلك قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لأصحابه : أقضاكم علي (4) ; أي هو قاضيكم ، وقال عمر بن الخطاب : لو لا عليٌّ لهلك عمر (5) ، أفيشهد له عمر ويجحد غيره؟!

فأطرق هشام طويلا ، ثمَّ رفع رأسه فقال : سل حاجتك.

فقال : خلَّفت أهلي وعيالي مستوحشين لخروجي.

فقال : قد آمن اللّه وحشتهم برجوعك إليهم ، ولا تقم أكثر من يومك .. (6).

ص: 36


1- سورة ، الأنعام ، الآية : 38.
2- سورة ، النمل ، الآية : 75.
3- مسند أحمد بن حنبل : 3 / 33 ، السنن الكبرى ، النسائي : 5 / 154 ، صحيح ابن حبان : 15 / 385 ، المستدرك ، الحاكم : 3 / 122 - 123 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر ، 42 / 451 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 5 / 186 ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبداللّه الطبري : 76.
4- راجع : تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42 / 16 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1 / 18 و 7 / 219. وسوف يأتي المزيد من التخريجات في مناظرة هشام بن الحكم مع حفص بن سالم.
5- تأويل مختلف الحديث ، ابن قتيبة : 152 ، المناقب ، الخوارزمي : 81 ح 65 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1 / 18 ، 141 ، نظم درر السمطين ، الزرندي : 130 ، فتح الملك العلي ، المغربي : 71 ، ينابيع المودّة ، القندوزي : 1 / 216 ح 28.
6- دلائل الإمامة ، محمّد بن جرير الطبري ( الشيعي ) : 233 - 237 ح 26.

المناظرة الثالثة مناظرة: الإمام الباقر علیه السلام مع عمر بن عبد العزيز في الخلافة

قال إبراهيم بن محمّد ، كاتب بغداد ، المشهور بابن أبي عون : قال عمر بن عبد العزيز : قد كلَّمت سائر الناس ، وأحبُّ أن أكلِّم الشيعة ، فشخص إليه أبو جعفر محمّد بن علي علیهماالسلام ومعه زرارة بن أعين صاحبهم ، فقال له محمّد علیه السلام : أخبرني عن مقعدك الذي أقعدته ، أبإرث من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟

قال : لا.

قال : أفبوصيَّة منه؟

قال لا.

قال : فبإجماع المسلمين أنه لا أحد أولى بها منك؟

قال : لا.

قال : فلمَّا نهض أبو جعفر علیه السلام قال له زرارة : ما تقول فيه؟

قال : هو خير ممن كان قبله ، وإن ... (1) صاحب الترك خير منه (2).

ص: 37


1- كلمة غير مفهومة.
2- الأجوبة المسكتة ، إبراهيم بن محمّد كاتب بغداد المعروف بابن أبي عون الأنباري : 24 - 25 ، مخطوط ، رقم : 430 في مكتبة المرعشي النجفي قدس سره .

المناظرة الرابعة: مناظرة الإمام الباقر علیه السلام مع الحروري

الإمام الباقر علیه السلام مع الحروري (1)

قال العلاّمة المجلسي عليه الرحمة : وجدت في بعض مؤلَّفات قدماء أصحابنا في الأخبار ما هذا لفظه : مناظرة الحروري والباقر علیه السلام .

قال الحروري : إن في أبي بكر أربع خصال استحقَّ بها الإمامة.

قال الباقر علیه السلام : ما هنَّ؟

قال : فإنّه أوَّل الصدّيقين ولا نعرفه حتى يقال : الصدّيق ، والثانية : صاحب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الغار ، والثالثة : المتولّي أمر الصلاة ، والرابعة : ضجيعه في قبره.

قال أبو جعفر علیه السلام : أخبرني عن هذه الخصال ، هنَّ لصاحبك بان بها من الناس أجمعين؟

قال : نعم.

ص: 38


1- وسوف تأتي أيضاً مناظرة مؤمن الطاق مع الحروري ، وفيها مضامين شبيهة جدّاً بما في هذه المناظرة.

قال أبو جعفر علیه السلام : ويحك! هذه الخصال تظنُّ أنَّهنَّ مناقب لصاحبك وهي (1) مثالب له.

أمَّا قوله : كان صدّيقاً ، فاسألوه من سمَّاه بهذا الاسم؟

قال الحروري : اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله .

قال أبو جعفر علیه السلام : اسأل الفقهاء هل أجمعوا على هذا من رواياتهم أن أبا بكر أول من آمن برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟

قالت الجماعة : اللّهمَّ لا ، وقد روينا أن ذلك علي بن أبي طالب علیه السلام .

قال الحروري : أو ليس قد زعمتم أن علي بن أبي طالب لم يشرك باللّه في وقت من الأوقات؟ فإن كان ما رويتم حقّاً فأحرى أن يستحقَّ هذا الاسم.

قالت الجماعة : أجل.

قال أبو جعفر علیه السلام : يا حروري! إن كان سُمِّي صاحبك صدّيقاً بهذه الخصلة فقد استحقَّها غيره قبله ، فيكون المخصوص بهذا الاسم دون أبي بكر ; إذ كان أوَّل المؤمنين من جاء بالصدق وهو رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (2) ، وكان عليٌّ علیه السلام هو المصدِّق.

فانقطع الحروري.

قال أبو جعفر علیه السلام : وأمَّا ما ذكرت أنه صاحب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الغار فذلك رذيلة لا فضيلة من وجوه :

الأول : أنّا لا نجد له في الآية مدحاً أكثر من خروجه معه وصحبته له ، وقد أخبر اللّه في كتابه أن الصحبة قد يكون للكافر مع المؤمن ، حيث يقول : ( قَالَ لَهُ

ص: 39


1- في نسخة : وهن.
2- في نسخة : ومن جاء بالصدق هو رسول صلی اللّه علیه و آله .

صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ ) (1) ، وقوله : ( أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّة ) (2) ، ولا مدح له في صحبته ; إذ لم يدفع عنه ضيماً ، ولم يحارب عنه عدوّاً.

الثاني : قوله تعالى : ( لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ) (3) ، وذلك يدلُّ على قلقه وضرعه ، وقلَّة صبره ، وخوفه على نفسه ، وعدم وثوقه بما وعده اللّه ورسوله من السلامة والظفر ، ولم يرض بمساواته للنبيِّ صلی اللّه علیه و آله حتى نهاه عن حاله.

ثم إني أسألك عن حزنه هل كان رضاً لله تعالى أو سخطاً له؟ فإن قلت : إنّه رضاً لله تعالى خصمت ; لأن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله لا ينهى عن شيء لله فيه رضاً ، وإن قلت : إنّه سخط فما فضل من نهاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن سخط اللّه؟ وذلك أنّه إن كان أصاب في حزنه فقد أخطأ من نهاه ، وحاشا النبي صلی اللّه علیه و آله أن يكون قد أخطأ ، فلم يبق إلاَّ أن حزنه كان خطأ ، فنهاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن خطأه.

الثالث : قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ) تعريف لجاهل لم يعرف حقيقة ما يهم فيه (4) ، ولو لم يعرف النبيُّ صلی اللّه علیه و آله فساد اعتقاده لم يحسن منه القول : ( إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ) ، وأيضاً فإن اللّه تعالى مع الخلق كلِّهم ، حيث خلقهم ورزقهم ، وهم في علمه كما قال اللّه تعالى : ( مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَة إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ ) (5) ، فلا فضل لصاحبك في هذا الوجه.

ص: 40


1- سورة الكهف ، الآية : 37.
2- سورة سبأ ، الآية : 46.
3- سورة التوبة ، الآية : 40.
4- في نسخة : ما هم فيه.
5- سورة المجادلة ، الآية : 7.

والرابع : قوله تعالى : ( فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُود لَّمْ تَرَوْهَا ) (1) فيمن نزلت؟

قال : على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

قال له أبو جعفر علیه السلام : فهل شاركه أبو بكر في السكينة؟

قال الحروري : نعم.

قال له أبو جعفر علیه السلام : كذبت ; لأنه لو كان شريكاً فيها لقال تعالى : عليهما ، فلمَّا قال : ( عليه ) دلَّ على اختصاصها بالنبيِّ صلی اللّه علیه و آله لما خصَّه بالتأييد بالملائكة ; لأن التأييد بالملائكة لا يكون لغير النبيِّ صلی اللّه علیه و آله بالإجماع ، ولو كان أبو بكر ممن يستحقُّ المشاركة هنا لأشركه اللّه فيها كما أشرك فيها المؤمنين يوم حنين ، حيث يقول : ( ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (2) ممن يستحقُّ المشاركة ; لأنه لم يصبر مع النبيِّ صلی اللّه علیه و آله غير تسعة نفر : علي علیه السلام ، وستّة من بني هاشم ، وأبو دجانة الأنصاري ، وأيمن بن أم أيمن ، فبان بهذا أن أبا بكر لم يكن من المؤمنين ، ولو كان مؤمناً لأشركه مع النبيِّ صلی اللّه علیه و آله في السكينة هنا ، كما أشرك فيها المؤمنين يوم حنين.

فقال الحروري : قوما (3) فقد أخرجه من الإيمان.

فقال أبو جعفر علیه السلام : ما أنا قلته ، وإنّما قاله اللّه تعالى في محكم كتابه.

قالت الجماعة : خصمت يا حروري.

ص: 41


1- سورة التوبة ، الآية : 40.
2- سورة التوبة ، الآية : 25 - 26.
3- جاء في الهامش : لعلّ الصحيح : ( قوموا ) كما في نسخة ، والخطاب للحروري وجماعة الفقهاء الذين كانوا معه.

قال أبو جعفر علیه السلام : وأمَّا قولك في الصلاة بالناس فإن أبا بكر قد خرج تحت يد أسامة بن زيد بأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بإجماع الأمَّة ، وكان أسامة قد عسكر على أميال من المدينة ، فكيف يتقدَّر أن يأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله رجلا قد أخرجه تحت يد أسامة ، وجعل أسامة أميراً عليه أن يصلّي بالناس بالمدينة؟! ولم يأمر النبيُّ صلی اللّه علیه و آله بردِّ ذلك الجيش ، بل كان يقول : نفِّذوا جيش أسامة ، لعن اللّه من تأخَّر عنه (1).

ثمَّ أنتم تقولون : إن أبا بكر لمَّا تقدَّم بالناس ، وكبَّر ، وسمع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله التكبير خرج مسرعاً يتهادى (2) بين عليٍّ والفضل بن العباس ، وهو معصَّب الرأس ، ورجلاه يخطّان الأرض من الضعف قبل أن يركع بهم أبو بكر ، حتى جاء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ونحَّاه عن المحراب ، فلو كان النبيُّ صلی اللّه علیه و آله أمره بالصلاة لم يخرج إليه مسرعاً على ضعفه ذلك ، أن لا يتمَّ له ركوع ولا سجود ، فيكون ذلك حجّة له ، فدلَّ على أنه لم يكن أمره.

والحديث الصحيح أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حال مرضه كان إذا حضر وقت الصلاة أتاه بلال ، فيقول : الصلاة يا رسول اللّه ، فإن قدر على الصلاة بنفسه تحامل وخرج ، وإلاّ أمر علياً علیه السلام يصلّي بالناس.

قال أبو جعفر علیه السلام : الرابعة زعمت أنه ضجيعه في قبره؟

ص: 42


1- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 6 / 52 ، وقال الشهرستاني في الملل والنحل : 1 / 29 : الخلاف الثاني في مرضه صلی اللّه علیه و آله أنه قال : جهِّزوا جيش أسامة ، لعن اللّه من تخلَّف عنه ، فقال قوم : يجب علينا امتثال أمره ، وأسامة برز من المدينة ، وقال قوم : قد اشتدَّ مرض النبي صلی اللّه علیه و آله فلا تسع قلوبنا مفارقته والحال هذه.
2- أي مشى وهو يعتمد عليهما في مشيته.

قال : نعم.

قال أبو جعفر علیه السلام : وأين قبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟

قال الحروري : في بيته.

قال أبو جعفر علیه السلام : أو ليس قال اللّه تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ ) (1) ، فهل استأذنه في ذلك؟

قال الحروري : نعم.

قال أبو جعفر علیه السلام : كذبت ; لأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سدَّ بابه عن المسجد وباب صاحبه عمر ، فقال عمر : يا رسول اللّه! اترك لي كوّة أنظرك منها ، قال له : ( ولا مثل قلامة ظفر ) فأخرجهما وسدَّ أبوابهما ، فأقم البيِّنة على أنَّه أذن لهما في ذلك ، فقال أبو جعفر علیه السلام : بأيِّ وحي وبأيِّ نص؟

قال : بما لا يدفع ; بميراث ابنتيهما.

قال أبو جعفر علیه السلام : أصبت ، أصبت يا حروري! استحقّا بذلك تسعاً من ثمن ، وهو جزء من اثنين وسبعين جزءاً ; لأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مات عن ابنته فاطمة علیهاالسلام وعن تسع نسوة ، وأنتم رويتم أن الأنبياء لا تورِّث.

فانقطع الحروري (2).

ص: 43


1- سورة الأحزاب ، الآية : 53.
2- بحار الأوار ، المجلسي : 27 / 321 - 325 ح 4.

المناظرة الخامسة: مناظرة الإمام الصادق علیه السلام مع أبي حنيفة في أربعين مسألة

قال الحسن بن زياد الفقيه : سمعت أبا حنيفة وسئل : من أفقه من رأيت؟ فقال : ما رأيت أحداً أفقه من جعفر علیه السلام ، لمَّا أقدمه المنصور الحيرة بعث إليَّ فقال : يا أبا حنيفة! إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمّد ، فهيِّئ لنا من مسائلك الصعاب ، فهيَّأت له أربعين مسألة ، ثمَّ بعث إليَّ المنصور فأتيته ، فدخلت وجعفر جالس عن يمينه ، فلمَّا بصرت بهما دخلني لجعفر من الهيبة ما لم يدخلني للمنصور ، ثمَّ التفت إلى جعفر فقال : يا أبا عبداللّه! أتعرف هذا؟

قال علیه السلام : نعم ، هذا أبو حنيفة ، ثمَّ أتبعها : قد أتانا ، ثمَّ قال : يا أبا حنيفة! هات من مسائلك فاسأل أبا عبداللّه ، فابتدأت أسأله ، فكان يقول في المسألة : أنتم تقولون فيها كذا وكذا ، وأهل المدينة يقولون كذا وكذا ، ونحن - يريد أهل البيت علیهم السلام - نقول كذا وكذا ، فربَّما تابعنا ، وربما تابع أهل المدينة ، وربما خالفنا معاً ، حتى أتيت على أربعين مسألة ، ما أخرم فيها مسألة.

ثمَّ يقول أبو حنيفة : أليس قد روينا أن أعلم الناس أعلم الناس

ص: 44

بالاختلاف (1).

وفي جامع مسانيد أبي حنيفة أنه قال : فجعلت أسأله ويجيب الإجابة الحسنة ويفحم حتى أجاب عن أربعين مسألة ، فرأيته أعلم الناس باختلاف الفقهاء ، فلذلك أحكم أنه أفقه من رأيت (2).

قال أبو حنيفة : ما رأيت أفقه من جعفر بن محمّد علیه السلام ، وكان يقول : سلوني قبل أن تفقدوني ; فإنه لا يحدِّثكم بعدي بمثل حديثي (3).

ص: 45


1- تأريخ الإسلام ، الذهبي : 9 / 89 - 90 ( حوادث سنة 141 - 160 ه- ) ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 6 / 257 - 258 ، تهذيب الكمال ، المزي : 5 / 79 - 80.
2- جامع مسانيد أبي حنيفة ، الخوارزمي : 1 / 222.
3- عيون التواريخ ، محمّد بن شاكر بن أحمد الشافعي : 6 / 30 ، تهذيب الكمال ، المزي : 5 / 79 لكنَّه روى المقالة عن صالح ، بن أبي الأسود ، وكذلك في تذكرة الحفاظ ، الذهبي : 1 / 166 ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 6 / 257.

المناظرة السادسة: مناظرة الإمام الصادق علیه السلام مع عمرو بن عبيد في الخلافة وشؤونها

روى الكليني بإسناده عن عبد الكريم بن عتبة الهاشمي قال : كنت قاعداً عند أبي عبداللّه علیه السلام بمكة إذ دخل عليه أناس من المعتزلة فيهم عمرو بن عبيد ، وواصل بن عطاء ، وحفص بن سالم مولى ابن هبيرة ، وناس من رؤسائهم ، وذلك حدثان قتل الوليد ، واختلاف أهل الشام بينهم ، فتكلَّموا وأكثروا ، وخطبوا فأطالوا.

فقال لهم أبو عبد اللّه علیه السلام : إنكم قد أكثرتم عليَّ ، فأسندوا أمركم إلى رجل منكم ، وليتكلَّم بحججكم ويوجز.

فأسندوا أمرهم إلى عمرو بن عبيد ، فتكلَّم فأبلغ وأطال ، فكان فيما قال أن قال : قد قتل أهل الشام خليفتهم ، وضرب اللّه عزَّوجلَّ بعضهم ببعض ، وشتَّت اللّه أمرهم ، فنظرنا فوجدنا رجلا له دين وعقل ، ومروّة وموضع ، ومعدن للخلافة ، وهو محمّد بن عبداللّه بن الحسن ، فأردنا أن نجتمع عليه فنبايعه ، ثمَّ نظهر معه ، فمن كان بايعنا فهو منّا وكنَّا منه. ومن اعتزلنا كففنا عنه ، ومن نصب لنا جاهدناه ، ونصبنا له على بغيه وردِّه إلى الحقّ وأهله ، وقد أحببنا أن نعرض ذلك عليك

ص: 46

فتدخل معنا ، فإنّه لا غنى بنا عن مثلك لموضعك وكثرة شيعتك.

فلمَّا فرغ قال أبو عبد اللّه علیه السلام : أكلُّكم على مثل ما قال عمرو؟

قالوا : نعم.

فحمد اللّه وأثنى عليه ، وصلَّى على النبي صلی اللّه علیه و آله ، ثمَّ قال : إنما نسخط إذا عصي اللّه ، فأمَّا إذا أطيع رضينا ، أخبرني - يا عمرو - لو أن الأمَّة قلدتك أمرها ، وولَّتك بغير قتال ولا مؤونة ، وقيل لك : ولِّها من شئت ، من كنت تولِّيها؟

قال : كنت أجعلها شورى بين المسلمين.

قال : بين المسلمين كلِّهم؟

قال : نعم.

قال : بين فقهائهم وخيارهم؟

قال : نعم.

قال : قريش وغيرهم؟

قال : نعم.

قال : والعرب والعجم؟

قال : نعم.

قال : أخبرني - يا عمرو - أتتولَّى أبا بكر وعمر أو تتبرَّأ منهما؟

قال : أتولاَّهما.

فقال : فقد خالفتهما ، ما تقولون أنتم؟ تتولَّونهما أو تتبرَّؤون منهما؟

قالوا : نتولاَّهما.

قال : يا عمرو! ان كنت رجلا تتبرَّأ منهما فإنه يجوز لك الخلاف علهيما ، وإن كنت تتولاَّهما فقد خالفتهما ، قد عهد عمر إلى أبي بكر فبايعه ولم يشاور فيه

ص: 47

أحداً ، ثمَّ ردها أبو بكر عليه ولم يشاور فيه أحداً ، ثمَّ جعلها عمر شورى بين ستة ، وأخرج منها جميع المهاجرين والأنصار غير أولئك الستة من قريش ، وأوصى فيهم شيئاً لا أراك ترضى به أنت ولا أصحابك ; إذ جعلتها شورى بين جميع المسلمين.

قال : وما صنع؟

قال : أمر صهيباً أن يصلّي بالناس ثلاثة أيام ، وأن يشاور أولئك الستة ليس معهم أحد ، وابن عمر يشاورونه وليس له من الأمر شيء ، وأوصى من بحضرته من المهاجرين والأنصار - إن مضت ثلاثة أيام قبل أن يفرغوا أو يبايعوا رجلا - أن يضربوا أعناق أولئك الستة جميعاً ، فإن اجتمع أربعة قبل أن تمضي ثلاثة أيام وخالف اثنان أن يضربوا أعناق الإثنين ، أفترضون بهذا أنتم فيما تجعلون من الشورى في جماعة من المسلمين؟

قالوا : لا.

ثمَّ قال : يا عمرو! دع ذا ، أرأيت لو بايعت صاحبك الذي تدعوني إلى بيعته ، ثمَّ اجتمعت لكم الأمَّة فلم يختلف عليكم رجلان فيها ، فأفضتم إلى المشركين الذين لا يسلمون ولا يؤدّون الجزية ، أكان عندكم وعند صاحبكم من العلم ما تسيرون بسيرة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المشركين في حروبه؟

قال : نعم.

قال : فتصنع ماذا؟

قال : ندعوهم إلى الإسلام ، فإن أبوا دعوناهم إلى الجزية.

قال : وإن كانوا مجوساً ليسوا بأهل الكتاب؟

قال : سواء.

ص: 48

قال : وإن كانوا مشركي العرب وعبدة الأوثان؟

قال : سواء.

قال : أخبرني عن القرآن تقرؤه؟

قال : نعم.

قال : اقرأ : ( قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَد وَهُمْ صَاغِرُونَ ) (1). فاستثناء اللّه عزَّوجلَّ واشتراطه من الذين أوتوا الكتاب ، فهم والذين لم يؤتوا الكتاب سواء؟

قال : نعم.

قال : عمَّن أخذت ذا؟

قال : سمعت الناس يقولون.

قال : فدع ذا ، فإن هم أبوا الجزية فقاتلتهم فظهرت عليهم كيف تصنع بالغنيمة؟

قال : أخرج الخمس ، وأقسم أربعة أخماس بين من قاتل عليه.

قال : أخبرني عن الخمس ، من تعطيه؟

قال : حيثما سمَّى اللّه ، قال : فقرأ : ( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْء فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) (2).

قال : الذي للرسول صلی اللّه علیه و آله من تعطيه؟ ومن ذو القربى؟

ص: 49


1- سورة التوبة ، الآية : 29.
2- سورة الأنفال ، الآية : 41.

قال : قد اختلف فيه الفقهاء فقال بعضهم : قرابة النبي صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته علیهم السلام ، وقال بعضهم : الخليفة ، وقال بعضهم : قرابة الذين قاتلوا عليه من المسلمين.

قال : فأيُّ ذلك تقول أنت؟

قال : لا أدري.

قال : فأراك لا تدري ، فدع ذا. ثمَّ قال : أرأيت الأربعة أخماس تقسمها بين جميع من قاتل عليها؟

قال : نعم.

قال : فقد خالفت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في سيرته ، بيني وبينك فقهاء أهل المدينة ومشيختهم ، فاسألهم فإنهم لا يختلفون ، ولا يتنازعون في أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنما صالح الأعراب على أن يدعهم في ديارهم ، ولا يهاجروا ، على إن دهمه (1) من عدوِّه دهم أن يستنفرهم فيقاتل بهم ، وليس لهم في الغنيمة نصيب ، وأنت تقول بين جميعهم ، فقد خالفت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في كل ما قلت في سيرته في المشركين ، ومع هذا ما تقول في الصدقة؟ فقرأ عليه الآية : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ) إلى آخر الآية (2).

قال : نعم ، فكيف تقسمها؟

قال : أقسمها على ثمانية أجزاء ، فأعطي كل جزء من الثمانية جزءاً ، قال : وان كان صنف منهم عشرة آلاف ، وصنف منهم رجلا واحداً أو رجلين أو ثلاثة ، جعلت لهذا الواحد مثل ما جعلت للعشرة آلاف؟

ص: 50


1- دهمه : غشيه ، والدهم : العدد الكثير ، وجماعة الناس.
2- سورة التوبة ، الآية : 60.

قال : نعم.

قال : وتجمع صدقات أهل الحضر وأهل البوادي ، فتجعلهم فيها سواء؟

قال : نعم.

قال : فقد خالفت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في كل ما قلت في سيرته ، كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقسم صدقة أهل البوادي في أهل البوادي ، وصدقة أهل الحضر في أهل الحضر ، ولا يقسمه بينهم بالسويَّة ، وإنما يقسمه على قدر ما يحضره منهم وما يرى ، وليس عليه في ذلك شيء موقّت موظّف ، وإنما يصنع ذلك بما يرى على قدر من يحضره منهم ، فإن كان في نفسك مما قلت شيءٌ فالقِ فقهاء أهل المدينة ; فإنهم لا يختلفون في أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كذا كان يصنع.

ثمَّ أقبل على عمرو بن عبيد فقال له : اتق اللّه ، وأنتم - أيُّها الرهط - فاتقوا اللّه ، فإن أبي حدَّثني - وكان خير أهل الأرض ، وأعلمهم بكتاب اللّه عزَّوجلَّ وسنة نبيه صلی اللّه علیه و آله - أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : من ضرب الناس بسيفه ، ودعاهم إلى نفسه ، وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضالّ متكلّف (1).

ص: 51


1- الكافي ، الكليني : 5 / 23 - 27 ح 1 ، تهذيب الأحكام الطوسي : 6 / 148 - 151 ح 7 ، الاحتجاج ، الطبرسي : 2 / 118 - 122.

المناظرة السابعة: مناظرة الإمام الصادق علیه السلام مع القاضي ابن أبي ليلى في وجوب متابعة علي بن أبي طالب علیه السلام

قال القاضي النعمان المغربي : روينا عنه - صلوات اللّه عليه - أنّه قال يوماً لابن أبي ليلى : أتقضي بين الناس ، يا عبد الرحمن؟

فقال : نعم ، يا بن رسول اللّه.

قال : تنزع مالا من يدي هذا فتعطيه هذا ، وتنزع امرأة من يدي هذا فتعطيها هذا ، وتحدُّ هذا ، وتحبس هذا؟

قال : نعم.

قال : بماذا تفعل ذلك كلَّه؟

قال : بكتاب اللّه.

قال : كل شيء تفعله تجده في كتاب اللّه؟

قال : لا.

قال : فما لم تجده في كتاب اللّه ، فمن أين تأخذه؟

قال : فآخذه عن رسول اللّه.

ص: 52

قال : وكل شيء تجده في كتاب اللّه وعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟

قال : ما لم أجده في كتاب اللّه ولا سنّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أخذته عن أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

قال : عن أيِّهم تأخذ؟

قال : عن أبي بكر وعمر وعثمان وعليٍّ علیه السلام وطلحة والزبير ، وعدَّ أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

قال : فكل شيء تأخذه عنهم تجدهم قد اجتمعوا عليه؟

قال : لا.

قال : فإذا اختلفوا فبقول من تأخذ منهم؟

قال : بقول من رأيت أن آخذ منهم أخذت.

قال : ولا تبالي أن تخالف الباقين؟

قال : لا.

قال : فهل تخالف عليّاً فيما بلغك أنه قضى به؟

قال : ربّما خالفته إلى غيره منهم.

فسكت أبو عبد اللّه علیه السلام ساعة ينكت في الأرض ، ثمَّ رفع رأسه إليه ، فقال : يا عبد الرحمن! فما تقول يوم القيامة إن أخذ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بيدك ، وأوقفك بين يدي اللّه فقال : أي ربِّ! إن هذا بلغه عنّي قول فخالفه؟

قال : وأين خالفت قوله يابن رسول اللّه؟

قال : ألم يبلغك قوله صلی اللّه علیه و آله لأصحابه : أقضاكم علي؟ (1).

ص: 53


1- تقدَّم مع بعض التخريجات في مناظرة الإمام الباقر علیه السلام مع هشام بن عبد الملك ، وسوف يأتي المزيد في مناظرة هشام بن الحكم مع حفص بن سالم.

قال : نعم.

قال : فإذا خالفت قوله ، ألم تخالف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟

فاصفرَّ وجه ابن أبي ليلى حتّى عاد كالأترجة ، ولم يحر جواباً (1).

وفي رواية الكليني : عن سعيد بن أبي الخضيب البجلي قال : كنت مع ابن أبي ليلى مزاملة حتى جئنا إلى المدينة ، فبينا نحن في مسجد الرسول صلی اللّه علیه و آله إذ دخل جعفر بن محمّد علیهماالسلام ، فقلت لابن أبي ليلى : تقوم بنا إليه؟

فقال : وما نصنع عنده؟

فقلت : نسائله ونحدِّثه.

فقال : قم ، فقمنا إليه ، فسائلني عن نفسي وأهلي ، ثمَّ قال : من هذا معك؟ فقلت : ابن أبي ليلى قاضي المسلمين.

فقال له : أنت ابن أبي ليلى قاضي المسلمين؟

قال : نعم.

قال : تأخذ مال هذا فتعطيه هذا؟ وتقتل ، وتفرِّق بين المرء وزوجه؟ لا تخاف في ذلك أحداً؟

قال : نعم.

قال : فبأيِّ شيء تقضي؟

قال : بما بلغني عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وعن علي علیه السلام ، وعن أبي بكر وعمر.

قال : فبلغك عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّه قال : إن عليّاً علیه السلام أقضاكم؟

ص: 54


1- دعائم الإسلام ، القاضي النعمان المغربي : 1 / 92 ، مستدرك الوسائل ، الميرزا النوري : 17 / 241 - 242 ح 2 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 101 / 269 - 270 ح 3 ، و 40 / 150.

قال : نعم.

قال : فكيف تقضي بغير قضاء عليٍّ علیه السلام وقد بلغك هذا؟ فما تقول إذا جيء بأرض من فضّة ، وسماء من فضّة ، ثمَّ أخذ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بيدك فأوقفك بين يدي ربِّك فقال : يا ربِّ! إن هذا قضى بغير ما قضيت؟

قال : فاصفرِّ وجه ابن أبي ليلى حتى عاد مثل الزعفران ، ثمَّ قال لي : التمس لنفسك زميلا ، واللّه لا أكلِّمك من رأسي كلمة أبداً (1).

ص: 55


1- الكافي ، الكليني : 7 / 408 - 409 ح 5.

المناظرة الثامنة: مناظرة الإمام الصادق علیه السلام مع القاضي غيلان بن جامع

روى الكليني عن عقبة بن خالد قال : قال لي أبو عبداللّه علیه السلام لو رأيت غيلان بن جامع واستأذن عليَّ فأذنت له ، وقد بلغني أنه كان يدخل إلى بني هاشم ، فلمَّا جلس قال : أصلحك اللّه! أنا غيلان بن جامع المحاربي قاضي ابن هبيرة.

قال : قلت : يا غيلان! ما أظنُّ ابن هبيرة وضع على قضائه إلاَّ فقيهاً؟

قال : أجل.

قلت : يا غيلان! تجمع بين المرء وزوجه؟

قال : نعم.

قلت : وتفرِّق بين المرء وزوجه؟

قال : نعم.

قلت : وتقتل؟

قال : نعم.

قلت : وتضرب الحدود؟

ص: 56

قال : نعم.

قلت : وتحكم في أموال اليتامى؟

قال : نعم.

قلت : وبقضاء من تقضي؟

قال : بقضاء عمر ، وبقضاء ابن مسعود ، وبقضاء ابن عباس ، وأقضي من قضاء أميرالمؤمنين علیه السلام بالشيء.

قال : قلت : يا غيلان! ألستم تزعمون - يا أهل العراق - وتروون أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : علي أقضاكم؟

فقال : نعم.

قال : قلت : وكيف تقضي من قضاء علي علیه السلام - زعمت - بالشيء ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : عليٌّ أقضاكم؟

قال : وقلت : كيف تقضي يا غيلان؟

قال : أكتب : هذا ما قضى به فلان بن فلان لفلان بن فلان ، يوم كذا وكذا ، من شهر كذا وكذا ، من سنة كذا ، ثمَّ أطرحه في الدواوين.

قال : قلت : يا غيلان! هذا الحتم من القضاء ، فكيف تقول إذا جمع اللّه الأولين والأخرين في صعيد ، ثمَّ وجدك قد خالفت قضاء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعلي علیه السلام ؟

قال : فأقسم باللّه لجعل ينتحب.

قلت : أيُّها الرجل! اقصد لسانك.

قال : ثمَّ قدمت الكوفة ، فمكثت ما شاء اللّه ، ثمَّ إنّي سمعت رجلا من الحيِّ يحدِّث ، وكان في سمر ابن هبيرة ، قال : واللّه إنّي لعنده ليلة إذ جاءه الحاجب

ص: 57

فقال : هذا غيلان بن جامع ، فقال : أدخله ، قال : فدخل فساءله ، ثمَّ قال له : ما حال الناس؟ أخبرني لو اضطرب حبل من كان لها؟

قال : ما رأيت ثمَّ أحداً إلاَّ جعفر بن محمّد علیه السلام .. (1).

ص: 58


1- الكافي ، الكليني : 7 / 429 - 430 ح 13.

المناظرة التاسعة: مناظرة الإمام الصادق علیه السلام وبعض أصحابه مع الشامي

روى الكشي عليه الرحمة ، عن هشام بن سالم قال : كنّا عند أبي عبد اللّه علیه السلام جماعة من أصحابه ، فورد رجل من أهل الشام ، فاستأذن فأذن له ، فلمَّا دخل سلَّم ، فأمره أبو عبد اللّه علیه السلام بالجلوس.

ثمَّ قال له : ما حاجتك أيُّها الرجل؟

قال : بلغني أنّك عالم بكل ما تسأل عنه ، فصرت إليك لأناظرك.

فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : في ماذا؟

قال : في القرآن ، وقطعه وإسكانه ، وخفضه ونصبه ورفعه.

فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : يا حمران! دونك الرجل.

فقال الرجل : إنّما أريدك أنت لا حمران.

فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : إن غلبت حمران فقد غلبتني.

فأقبل الشاميُّ يسأل حمران حتى غرض (1) ، وحمران يجيبه.

فقال أبو عبداللّه علیه السلام : كيف رأيت يا شاميّ؟!

قال : رأيته حاذقاً ، ما سألته عن شيء إلاَّ أجابني فيه.

ص: 59


1- أي : ملَّ وضجر.

فقال : أبو عبداللّه علیه السلام : يا حمران! سل الشاميَّ ، فما تركه يكشر (1).

فقال الشامي : أرأيت - يا أبا عبد اللّه - أناظرك في العربية.

فالتفت أبو عبداللّه علیه السلام فقال : يا أبان بن تغلب! ناظره ، فناظره فما ترك الشامي يكشر.

قال : أريد أن أناظرك في الفقه.

فقال أبو عبداللّه علیه السلام : يا زرارة! ناظره ، فما ترك الشامي يكشر.

قال : أريد أن أناظرك في الكلام.

فقال : يا مؤمن الطاق! ناظره ، فناظره فسجل الكلام بينهما ، ثمَّ تكلَّم مؤمن الطاق بكلامه فغلبه به.

فقال : أريد أن أناظرك في الاستطاعة.

فقال للطيار : كلِّمه فيها.

قال : فكلَّمه فما تركه يكشر.

فقال : أريد أناظرك في التوحيد.

فقال لهشام بن سالم : كلِّمه ، فسجل الكلام بينهما ، ثمَّ خصمه هشام.

فقال : أريد أن أتكلَّم في الإمامة.

فقال لهشام بن الحكم : كلِّمه يا أبا الحكم فكلَّمه فما تركه يريم ولا يحلي ولا يمري.

قال : فبقي يضحك أبو عبداللّه علیه السلام حتى بدت نواجذه.

فقال الشامي : كأنك أردت أن تخبرني أن في شيعتك مثل هؤلاء الرجال؟

قال : هو ذلك ، ثمَّ قال : يا أخا أهل الشام ، أمَّا حمران فحزقك فحرت له فغلبك بلسانه ، وسألك عن حرف من الحقِّ فلم تعرفه.

ص: 60


1- كشَّر عن أسنانه ، كشف عن أسنانه ، أرعده.

وأمَّا أبان بن تغلب فمغث حقّاً بباطل فغلبك ، وأمَّا زرارة فقاسك فغلب قياسه قياسك ، وأمَّا الطيار فكان كالطير يقع ويقوم ، وأنت كالطير المقصوص لا نهوض لك ، وأمَّا هشام بن سالم فأحسن أن يقع ويطير ، وأمَّا هشام بن الحكم فتكلَّم بالحق فما سوَّغك بريقك.

يا أخا أهل الشام! إن اللّه أخذ ضغثاً من الحقِّ ، وضغثاً من الباطل فمغثهما ، ثمَّ أخرجهما إلى الناس ، ثمَّ بعث أنبياء يفرِّقون بينهما ، ففرَّقها الأنبياء والأوصياء ، وبعث اللّه الأنبياء ليعرِّفوا ذلك ، وجعل الأنبياء قبل الأوصياء ليعلم الناس من يفضل اللّه ومن يختصّ ، ولو كان الحقُّ على حدة والباطل على حدة ، كل واحد منهما قائم بشأنه ما احتاج الناس إلى نبيٍّ ولا وصيٍّ ، ولكنَّ اللّه خلطهما ، وجعل تفريقهما إلى الأنبياء والأئمة علیهم السلام من عباده.

فقال الشامي : قد أفلح من جالسك.

فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يجالسه جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، يصعد إلى السماء فيأتيه بالخبر من عند الجبّار ، فإن كان ذلك كذلك فهو كذلك.

فقال الشامي : اجعلني من شيعتك وعلِّمني.

فقال أبو عبداللّه علیه السلام لهشام : علِّمه ، فإنّي أحبُّ أن يكون تلماذاً لك.

قال علي بن منصور وأبو مالك الحضرمي : رأينا الشاميَّ عند هشام بعد موت أبي عبد اللّه علیه السلام ، ويأتي الشامي بهدايا أهل الشام ، وهشام يزوِّده هدايا أهل العراق. قال علي بن منصور : وكان الشاميُّ ذكيَّ القلب (1).

ص: 61


1- اختيار معرفة الرجال ، الطوسي : 2 / 554 - 560 ح 494 ، بحار الأنوار : 47 / 407 - 409 ح 11.

المناظرة العاشرة: مناظرة الإمام الرضا علیه السلام مع يحيى بن الضحاك السمرقندي

قال الشيخ الصدوق عليه الرحمة : ذكر ما كلم به الرضا علیه السلام يحيى بن الضحاك السمرقندي في الإمامة عند المأمون ، حدثنا الحاكم أبو علي الحسين بن أحمد البيهقي قال : حدثني محمّد بن يحيى الصولي قال : .. كان المأمون في باطنه يحب سقطات الرضا علیه السلام وأن يعلوه المحتج ، وإن أظهر غير ذلك ، فاجتمع عنده الفقهاء والمتكلمون فدس إليهم أن ناظروه في الإمامة فقال لهم الرضا علیه السلام : اقتصروا على واحد منكم يلزمكم ما يلزمه ، فرضوا برجل يعرف بيحيى بن الضحاك السمرقندي ، ولم يكن بخراسان مثله ، فقال له الرضا علیه السلام : يا يحيى سل عما شئت.

فقال : نتكلم في الإمامة ، كيف ادعيت لمن لم يؤم وتركت من أم ، ووقع الرضا به؟

فقال له علیه السلام : يا يحيى أخبرني عمن صدق كاذبا على نفسه ، أو كذب صادقا على نفسه ، أيكون محقا مصيبا ، أم مبطلاً مخطياً؟

فسكت يحيى ، فقال له المأمون : أجبه.

ص: 62

فقال : يعفيني أميرالمؤمنين من جوابه.

فقال المأمون : يا أبا الحسن عرفنا الغرض في هذه المسألة.

فقال علیه السلام : لابد ليحيى من أن يخبر عن أئمته : أنهم كذبوا على أنفسهم أو صدقوا؟ فإن زعم أنهم كذبوا فلا أمانة لكذاب (1) ، وإن زعم أنهم صدقوا فقد قال أولهم : وليتكم ولست بخيركم (2) ، وقال تاليه : كانت بيعته فلته فمن عاد لمثلها فاقتلوه (3) فو اللّه ما رضي لمن فعل مثل فعلهم إلاّ بالقتل ، فمن لم يكن بخير الناس والخيرية لا تقع إلاّ بنعوت منها : العلم ، ومنها الجهاد ، ومنها سائر الفضائل وليست فيه (4) ومن كانت بيعته فلته يجب القتل على من فعل مثلها ، كيف يقبل عهده غيره

ص: 63


1- في الإحتجاج : فلا إمامة.
2- روى عبد الرزاق الصنعاني : عن معمر رجل عن الحسن أن أبا بكر خطب فقال : أما واللّه ما أنا بخيركم ، ولقد كنت لقامي هذا كارها ، ولوددت لو أن فيكم من يكفيني ، فتظنون أني أعمل فيكم سنة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إذا لا أقوم لها ، إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يعصم بالوحي ، وكان معه ملك ، وإن لي شيطانا يعتريني ، فإذا غضبت فاجتنبوني ، لا أوثر في أشعاركم ولا أبشاركم ، ألا فراعوني! فإن استقمت فأعينوني ،. إن زغت فقوموني. راجع : المصنف ، عبد الرزاق الصنعاني : 11 / 336 ح 20701 و 20702 السقيفة وفدك ، الجوهري : 52 ، الطبقات الكبرى ، محمّد بن سعد : 3 / 212 ، تاريخ اليعقوبي : 2 / 127 ، الثقات ، ابن حبان : 2 / 157 ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة الدينوري : 1 / 34 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 2 / 56 و 6 / 20 تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 30 / 301 - 303 ، تاريخ الطبري : 2 / 450 و 460 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 5 / 269 و 334 ، السيرة النبوية ، ابن كثير : 4 / 493 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 5 / 589 ح 1405 ، و 599 ح 14062 و 607 ح 14073 ، تفسير القرطبي : 3 / 262.
3- صحيح البخاري : 8 / 26 ، المصنف ، ابن أبي شيبة : 7 / 615 - 616 ح 5 ، و 8 / 570 ح 1 ، تأريخ اليعقوبي : 2 / 158 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 9 / 31 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 6 / 5 ، الثقات ، ابن حبان : 2 / 156 ، الفائق في غريب الحديث ، الزمخشري : 3 / 50.
4- جاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 17 / 156 : اعترض المرتضى رضي اللّه عنه فقال : أما قول أبي بكر : وليتكم ولست بخيركم ، فإن استقمت فاتبعوني ، وإن اعوججت فقوموني ، فإن لي شيطانا يعتريني عند غضبي ، فإذا رأيتموني مغضبا فاجتنبوني ، لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم ، فإنه يدل على أنه لا يصلح للإمامه من وجهين : أحدهما أن هذا صفة من ليس بمعصوم ، ولا يأمن الغلط على نفسه من يحتاج إلى تقويم رعيته له إذا وقع في المعصية ، وقد بينا أن الإمام لابد أن يكون معصوما موفقا مسددا. والوجه الآخر : أن هذه صفة من لا يملك نفسه ، ولا يضبط غضبه ، ومن هو في نهاية الطيش والحدة والخرق والعجلة ، ولا خلاف أن الإمام يجب أن يكون منزها عن هذه الأوصاف ، غير حاصل عليها ، وليس يشبه قول أبي بكر ما تلاه من الآيات كلها ، لأن أبا بكر خبر عن نفسه بطاعة الشيطان عند الغضب ، وأن عادته بذلك جاريه ، وليس هذا بمنزلة من يوسوس إليه الشيطان ولا يطيعه ، ويزين له القبيح فلا يأتيه ، وليس وسوسة الشيطان بعيب على الموسوس له إذا لم يستزله ذلك عن الصواب ، بل هو زيادة في التكليف ، ووجه يتضاعف معه الثواب .. الخ.

إلى غيره وهذه صورته؟! ثم يقول على المنبر : إن لي شيطانا يعتريني ، فإذا مال بي فقوموني ، وإذا أخطأت فأرشدوني ، فليسوا أئمة بقولهم إن صدقوا أو كذبوا ، فما عند يحيى في هذا جواب؟

فعجب المأمون من كلامه وقال : يا أبا الحسن ما في الأرض من يحسن هذا سواك (1).

ص: 64


1- عيون أخبار الرضا ، علیه السلام ، الصدوق : 1 / 255 - 256 ح 1 ، الإحتجاج ، الطبرسي : 2 / 234 - 235.

المناظرة الحادية عشرة: مناظرة فروة بن عمرو مع قيس بن مخرمة لمَّا بويع أبو بكر

قام فروة بن عمرو الأنصاري - وكان يقود مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فرسين ، ويصرم ألف وسق من تمر فيتصدَّق به على المساكين - فنادى : يا معشر قريش! أخبروني هل فيكم رجل تحلّ له الخلافة ، وفيه ما في عليٍّ علیه السلام ؟

فقال قيس بن مخرمة الزهري : ليس فينا من فيه ما في عليٍّ علیه السلام .

فقال له : صدقت ، فهل في علي علیه السلام ما ليس في أحد منكم؟

قال : نعم.

قال : فما يصدُّكم عنه؟

قال : اجتماع الناس على أبي بكر.

قال : أما واللّه ، لئن أصبتم سنَّتكم لقد أخطأتم سنَّة نبيِّكم صلی اللّه علیه و آله ، ولو جعلتموها في أهل بيت نبيِّكم (1) لأكلتم من فوقكم ومن تحت أرجلكم (2).

ص: 65


1- في المسترشد للطبري : فلو جعلتموها في علي علیه السلام .
2- كشف المحجّة ، ابن طاووس : 177 ، المسترشد ، محمّد بن جرير الطبري ( الشيعي ) : 413 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 30 / 11 - 12.

المناظرة الثانية عشرة: مناظرة المقداد مع عبد الرحمن بن عوف بعد تولّي عثمان الخلافة

قال الشعبي : حدَّثني عبد الرحمن بن جندب ، عن أبيه جندب بن عبد اللّه الأزدي ، قال : كنت جالساً بالمدينة حيث بويع عثمان ، فجئت فجلست إلى المقداد بن عمرو ، فسمعته يقول : واللّه ما رأيت مثل ما أتى إلى أهل هذا البيت علیهم السلام !

وكان عبد الرحمن بن عوف جالساً ، فقال : وما أنت وذاك يا مقداد؟! قال المقداد : إنّي واللّه أحبُّهم لحبِّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وإنّي لأعجب من قريش وتطاولهم على الناس بفضل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ثمَّ انتزاعهم سلطانه من أهله.

قال عبد الرحمن : أما واللّه لقد أجهدت نفسي لكم.

قال المقداد : أما واللّه لقد تركت رجلا من الذين يأمرون بالحقِّ وبه يعدلون ، أما واللّه لو أن لي على قريش أعواناً لقاتلتهم قتالي إيَّاهم ببدر واحد.

فقال عبد الرحمن : ثكلتك أمُّك ، لا يسمعن هذا الكلام الناس ، فإني أخاف أن تكون صاحب فتنة وفرقة.

قال المقداد : إن من دعا إلى الحقِّ وأهله وولاة الأمر لا يكون صاحب

ص: 66

فتنة ، ولكن من أقحم الناس في الباطل ، وآثر الهوى على الحقِّ ، فذلك صاحب الفتنة والفرقة.

قال : فتربَّد وجه عبد الرحمن ، ثمَّ قال : لو أعلم أنك إياي تعني لكان لي ولك شأن.

قال المقداد : إياي تهدِّد يابن أم عبد الرحمن؟!

ثمَّ قام عن عبد الرحمن ، فانصرف.

قال جندب بن عبداللّه : فاتبعته ، وقلت له : يا عبداللّه! أنا من أعوانك.

فقال : رحمك اللّه! إن هذا الأمر لا يغني فيه الرجلان ولا الثلاثة.

قال : فدخلت من فوري ذلك على عليٍّ علیه السلام ، فلمَّا جلست إليه قلت : يا أبا الحسن! واللّه ما أصاب قومك بصرف هذا الأمر ، عنك.

فقال : صبر جميل واللّه المستعان.

فقلت : واللّه إنك لصبور!

قال : فإن لم أصبر فما ذا أصنع؟

قلت : إنّي جلست إلى المقداد بن عمرو آنفاً وعبد الرحمن بن عوف ، فقالا كذا وكذا ، ثمَّ قام المقداد فاتبعته ، فقلت له كذا ، فقال لي كذا ، فقال علي علیه السلام : لقد صدق المقداد ، فما أصنع؟

فقلت : تقوم في الناس فتدعوهم إلى نفسك ، وتخبرهم أنك أولى بالنبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، وتسألهم النصر على هؤلاء المظاهرين عليك ، فإن أجابك عشرة من مائة شددت بهم على الباقين ، فإن دانوا لك فذاك ، وإلاَّ قاتلتهم ، وكنت أولى بالعذر ، قتلت أو بقيت ، وكنت أعلى عند اللّه حجَّة.

فقال : أترجو - يا جندب - أن يبايعني من كل عشرة واحد؟

ص: 67

قلت : أرجو ذلك.

قال : لكنّي لا أرجو ذلك ، لا واللّه ولا من المائة واحد ، وسأخبرك ، إن الناس إنّما ينظرون إلى قريش فيقولون : هم قوم محمَّد وقبيله ، وأمَّا قريش بينها فتقول : إن آل محمَّد يرون لهم على الناس بنبوَّته فضلا ، ويرون أنهم أولياء هذا الأمر دون قريش ، ودون غيرهم من الناس ، وهم إن ولوه لم يخرج السلطان منهم إلى أحد أبداً ، ومتى كان في غيرهم تداولته قريش بينها ، لا واللّه لا يدفع الناس إلينا هذا الأمر طائعين أبداً!

فقلت : جعلت فداك يابن عمِّ رسول اللّه! لقد صدَّعت قلبي بهذا القول ، أفلا أرجع إلى المصر ، فأوذن الناس بمقالتك ، وأدعو الناس إليك؟

فقال : يا جندب! ليس هذا زمان ذاك.

قال : فانصرفت إلى العراق ، فكنت أذكر فضل علي علیه السلام على الناس ، فلا أعدم رجلا يقول لي ما أكره ، وأحسن ما أسمعه قول من يقول : دع عنك هذا وخذ فيما ينفعك ، فأقول : إن هذا مما ينفعني وينفعك ، فيقوم عنّي ويدعني (1).

ص: 68


1- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 9 / 56 - 58.

المناظرة الثالثة عشرة: مناظرة ابن عباس مع عمر

عن نبيط بن شريط قال : خرجت مع علي بن أبي طالب علیه السلام ومعنا عبداللّه ابن عباس ، فلمَّا صرنا إلى بعض حيطان الأنصار وجدنا عمر جالساً وحده ينكت الأرض ، فقال له علي بن أبي طالب علیه السلام : يا أميرالمؤمنين! ما الذي أجلسك وحدك هاهنا؟ فقال : لأمر همَّني.

قال عليٌّ : أفتريد أحدنا؟

قال عمر : إن كان فعبد اللّه.

فتخلَّف معه عبداللّه بن عباس ، ومضيت مع عليٍّ ، وأبطأ علينا ابن عباس ثم لحق بنا ، فقال له علي علیه السلام : ما وراءك؟

قال : يا أبا الحسن! أعجوبة من عجائب أميرالمؤمنين أخبرك بها واكتم عليَّ.

فقال : هلمَّ.

قال : لمَّا أن ولَّيت قال عمر - وهو ينظر إلى أثرك - : آه آه آه.

فقلت : ممَّ تأوُّهك يا أميرالمؤمنين؟

ص: 69

قال : من أجل صاحبك - يا ابن عباس - وقد أعطي ما لم يعطه أحد من آل النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، ولو لا ثلاث هنَّ فيه ما كان لهذا الأمر من أحد سواه.

قلت : ما هنَّ يا أميرالمؤمنين؟

قال : كثرة دعابته ، وبغض قريش له ، وصغر سنِّه.

قال : فما رددتَ عليه؟

قال : داخلني ما يداخل ابن العمِّ لابن عمِّه ، فقلت : يا أميرالمؤمنين! أمَّا كثرة دعابته فقد كان النبيُّ صلی اللّه علیه و آله يداعب فلا يقول إلاَّ حقاً ، وأين أنت حيث كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول ونحن حوله صبيان وكهول وشيوخ وشبَّان ، ويقول للصبيِّ : ( سناقا ، سناقا ) ولكل ما يعلمه اللّه يشتمل على قلبه (1).

وأمَّا بغض قريش له فواللّه ما يبالي ببغضهم له بعد أن جاهدهم في اللّه حتى أظهر اللّه دينه ، فقصم أقرانها ، وكسر آلهتها ، وأثكل نساءها ، لامه من لامه.

وأمَّا صغر سنِّه فقد علمت أن اللّه تعالى حيث أنزل على رسول صلی اللّه علیه و آله : ( بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ ) (2) وجَّه النبي صلی اللّه علیه و آله صاحبه ليبلِّغ عنه ، فأمره اللّه أن لا يبلِّغ عنه ألاَّ رجل من أهله ، فوجَّهه في أثره ، فهل استصغر اللّه سنَّه؟

فقال عمر لابن عباس : أمسك عليَّ ، واكتم ، فإن سمعتها من غيرك لم أنم بين لابتيها (3).

ص: 70


1- وفي الهامش : ( دل كل ما يعمله أنه يشتمل على قلبه ).
2- سورة التوبة ، الآية : 1.
3- فرائد المسطين ، الجويني : 1 / 334 - 336.

المناظرة الرابعة عشرة: مناظرة سعد بن أبي وقاص مع معاوية في حرمة قتال أميرالمؤمنين علیه السلام

روى ابن عساكر بالإسناد عن عبيداللّه بن عبد اللّه المديني قال : حجَّ معاوية بن أبي سفيان فمرَّ بالمدينة ، فجلس في مجلس فيه سعد بن أبي وقاص ، وعبد اللّه بن عمرو ، وعبد اللّه بن عباس ، فالتفت إلى عبد اللّه ابن عباس فقال : يا أبا عباس! إنك لم تعرف حقَّنا من باطل غيرنا ، فكنت علينا ولم تكن معنا ، وأنا ابن عمِّ المقتول ظلماً - يعني عثمان بن عفان - وكنت أحقَّ بهذا الأمر من غيري.

فقال ابن عباس : اللّهم إن كان هكذا فهذا - وأومأ إلى ابن عمر - أحقُّ بها منك ; لأن أباه قتل قبل ابن عمك.

فقال معاوية : ولا سواء : إن أبا هذا قتله المشركون ، وابن عمي قتله المسلمون.

فقال ابن عباس : هم واللّه أبعد لك ، وأدحض لحجّتك.

فتركه ، وأقبل على سعد فقال : يا أبا إسحاق! أنت الذي لم تعرف حقَّنا ، وجلس فلم يكن معنا ولا علينا.

ص: 71

قال : فقال سعد : إني رأيت الدنيا قد أظلمت ، فقلت لبعيري : إخ ، فأنختها حتى انكشفت.

قال : فقال معاوية : لقد قرأت ما بين اللوحين ، ما قرأت في كتاب اللّه عزَّوجلَّ : إخ.

قال : فقال سعد : أمَّا إذا أبيت فإني سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول لعلي : أنت مع الحق والحق معك حيثما دار.

قال : فقال معاوية : لتأتيني على هذا ببيِّنة.

قال : فقال سعد : هذه أم سلمة تشهد على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فقاموا جميعاً فدخلوا على أم سلمة ، فقالوا : يا أم المؤمنين! إن الأكاذيب قد كثرت على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وهذا سعد يذكر عن النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ما لم نسمعه.

أنه قال - يعني لعلي علیه السلام - : أنت مع الحق والحق معك حيثما دار.

فقالت أم سلمة : في بيتي هذا قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعلي.

قال : فقال معاوية لسعد : يا أبا اسحاق! ما كنت ألوم الآن إذ سمعت هذا من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وجلست عن علي علیه السلام ، لو سمعت هذا من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لكنت خادماً لعلي حتى أموت (1).

ولا يسوغ لمعاوية أن يتذرَّع بعدم معرفة علي علیه السلام وفضله ، وحرمة قتاله ، وأنه على الحق ، والمتتبِّع لكلمات معاوية في حق علي علیه السلام يلمس جيّداً أنه كان يعرف الكثير من فضل علي علیه السلام ، ويعرف حرمته ، ومع ذلك لا يتورَّع عن عداوته

ص: 72


1- تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 20 / 360 - 361 ، مناقب أميرالمؤمنين علیه السلام ، محمّد بن سليمان الكوفي : 1 / 421 - 423 ح 330.

وقتاله وشتمه ، غير أن الحقد الدفين أصمَّه وصدَّه عن الحق وأعمى بصيرته.

قال المسعودي بعد رواية ابن أبي نجيح : ووجدت في وجه آخر من الروايات - وذلك في كتاب علي بن محمّد بن سليمان النوفلي في الأخبار - عن ابن عائشة وغيره : ان سعداً لمَّا قال هذه المقالة لمعاوية (1) ونهض ليقوم ضرط له معاوية ، وقال له : اقعد حتى تسمع جواب ما قلت ، ما كنت عندي قطّ ألأم منك الآن ، فهلا نصرته؟ ولم قعدت عن بيعته؟ فاني لو سمعت من النبي صلی اللّه علیه و آله مثل الذي سمعت فيه لكنت خادماً لعليٍّ ما عشت.

فقال سعد : واللّه إني لأحقُّ بموضعك منك.

فقال معاوية : يأبى عليك بنو عذرة ، وكان سعد فيما يقال لرجل من بني عذرة (2).

وفي رواية ابن كثير في تأريخه قال : دخل سعد بن أبي وقاص على معاوية ، فقال له : مالك لم تقاتل علياً؟

فقال : اني مرَّت بي ريح مظلمة ، فقلت : أخ أخ ، فأنخت راحلتي حتى انجلت عنّي ، ثمَّ عرفت الطريق فسرت.

فقال معاوية : ليس في كتاب اللّه أخ أخ ، ولكن قال اللّه تعالى : ( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْاُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ) (3) فو اللّه ما كنت مع الباغية على العادلة ، ولا مع العادلة على الباغية.

ص: 73


1- يعني ذكره بعض فضائل علي علیه السلام وما سمعه من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حقه.
2- مروج الذهب ، المسعودي : 3 / 15 ، وحكى شطراً منه سبط ابن الجوزي في تذكرته : 27.
3- سورة الحجرات ، الآية : 9.

فقال سعد : ما كنت لأقاتل رجلا قال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبيَّ بعدي (1).

فقال معاوية : من سمع هذا معك؟

فقال : فلان وفلان وأم سلمة.

فقال معاوية : أما إني لو سمعته منه صلی اللّه علیه و آله لما قاتلت علياً.

قال : وفي رواية من وجه آخر : إن هذا الكلام كان بينهما وهما بالمدينة في حجَّة حجَّها معاوية ، وإنهما قاما إلى أم سلمة فسألاها ، فحدَّثتهما بما حدَّث به سعد ، فقال معاوية : لو سمعت هذا قبل هذا اليوم لكنت خادماً لعليٍّ علیه السلام حتى يموت أو أموت (2).

ص: 74


1- فضائل الصحابة ، أحمد بن حنبل : 12 - 14 ، صحيح مسلم : 7 / 120 - 121 ، سنن الترمذي : 5 / 302 ح 3808 و 304 ح 3813 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 3 / 23 - 24 ، المستدرك ، الحاكم : 2 / 337 - 338 ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، و 3 / 108 - 109 ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة و 3 / 133 أيضاً ، السنن الكبرى ، البيهقي : 9 / 40 ، المصنَّف ، عبد الرزاق : 5 / 405 - 406 ح 9745. وغير ذلك من المصادر الكثيرة ، كما أن هذا الحديث يعدُّ من المتواترات.
2- البداية والنهاية ، ابن كثير : 8 / 83 - 84.

المناظرة الخامسة عشرة: مناظرة ابن عباس مع عتاب بن الأعور

قال ابن شهر آشوب في أمر الخوارج واجتماعهم لقتال أميرالمؤمنين علیه السلام : وكانوا اثني عشر ألفاً من أهل الكوفة والبصرة وغيرهما ، ونادى مناديهم : إن أميرالمؤمنين شبث بن ربعي ، وأمير الصلاة عبداللّه بن الكوَّاء ، والأمر شورى بعد الفتح ، والبيعة لله على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واستعرضوا الناس ، وقتلوا عبد اللّه بن خباب بن الأرت ، وكان عامله علیه السلام على النهروان.

فقال أميرالمؤمنين علیه السلام : يا ابن عباس! امض إلى هؤلاء القوم ، فانظر ما هم عليه ، ولماذا اجتمعوا؟

فلمَّا وصل إليهم قالوا : ويلك يا ابن عباس! أكفرت بربِّك كما كفر صاحبك عليُّ بن أبي طالب؟ وخرج خطيبهم عتاب بن الأعور الثعلبي.

فقال ابن عباس : من بنى الإسلام؟

فقال : اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله .

فقال : النبيُّ صلی اللّه علیه و آله أحكم أموره ودخل بين حدوده أم لا؟

قال : بلى.

ص: 75

قال : فالنبيُّ صلی اللّه علیه و آله بقي في دار الإسلام أم ارتحل؟

قال : بل ارتحل.

قال : فأمور الشرع ارتحلت معه أم بقيت بعده؟

قال : بل بقيت.

قال : وهل قام أحد بعده بعمارة ما بناه؟

قال : نعم ، الذرِّيَّة والصحابة.

قال : أفعمروها أو خربوها؟

قال : بل عمروها.

قال : فالآن هي معمورة أم خراب؟

قال : بل خراب.

قال : خربها ذرِّيَّته أم أمَّته؟

قال : بل أمَّته.

قال : وأنت من الذرِّيَّة أو من الأمَّة؟

قال : من الأمَّة.

قال : أنت من الأمَّة وخربت دار الإسلام ، فكيف ترجو الجنّة؟

وجرى بينهم كلام كثير (1).

ورواها ابن الأعثم الكوفي - أيضاً - أكمل من السابقة ، قال : فبينا عليٌّ - كرَّم اللّه وجهه - مقيم بالكوفة ينتظر انقضاء المدّة التي كانت بينه وبين معاوية ، ثمَّ يرجع إلى محاربة أهل الشام ، إذ تحرَّكت طائفة من خاصَّة أصحابه في أربعة

ص: 76


1- مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 2 / 369 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 33 / 388 - 389 ح 618.

آلاف فارس ، وهم من النسَّاك العبَّاد أصحاب البرانس ، فخرجوا عن الكوفة ، وتحزَّبوا ، وخالفوا عليّاً - كرَّم اللّه وجهه - وقالوا : لا حكم إلاَّ لله ، ولا طاعة لمن عصى اللّه ، قال : وانحاز إليهم ما ينيف عن ثمانية آلاف رجل ممن يرى رأيهم.

قال : فصار القوم في اثني عشر ألفاً ، وساروا حتى نزلوا بحروراء ، وأمَّروا عليهم عبد اللّه بن الكوَّاء.

قال : فدعا عليٌّ علیه السلام بعبد اللّه بن عباس فأرسله إليهم ، وقال : يا ابن عباس! امض إلى هؤلاء القوم ، فانظر ما هم عليه ، ولماذا اجتمعوا؟

قال : فأقبل عليهم ابن عباس حتى إذا أشرف عليهم ونظروا إليه ناداه بعضهم ، وقال : ويلك يا ابن عباس! أكفرت بربِّك كما كفر صاحبك عليُّ بن أبي طالب؟

فقال ابن عباس : إني لا أستطيع أن أكلِّم كلَّكم ، ولكن انظروا أيّكم أعلم بما يأتي ويذر فليخرج إليَّ حتى أكلِّمه.

قال : فخرج إليه رجل منهم يقال له : عتاب بن الأعور الثعلبي حتى وقف قبالته ، وكأنَّ القرآن إنَّما كان ممثَّلا بين عينيه ، فجعل يقول ويحتجُّ ويتكلَّم بما يريد ، وابن عباس ساكت لا يكلِّمه بشيء ، حتى إذا فرغ من كلامه أقبل عليه ابن عباس ، فقال : إنّي أريد أن أضرب لك مثلا ، فإن كنت عاقلا فافهم.

فقال الخارجي : قل ما بدالك.

فقال له ابن عباس : خبرِّني عن دار الإسلام هذه ، هل تعلم لمن هي؟ ومن بناها؟

فقال الخارجي : نعم ، هي لله عزَّ وجلَّ ، وهو الذي بناها على أيدي أنبيائه علیهم السلام وأهل طاعته ، ثمَّ أمر من بعثه إليها من الأنبياء أن يأمروا الأمم أن لا

ص: 77

تعبدوا إلاَّ إيّاه ، فآمن قوم وكفر قوم ، وآخر من بعثه إليها من الأنبياء محمّد صلی اللّه علیه و آله .

فقال ابن عباس : صدقت ، ولكن خبِّرني عن محمّد حين بعث إلى دار الإسلام فبناها كما بناها غيره من الأنبياء ، هل أحكم عمارتها ، وبيَّن حدودها ، وأوقف الأمَّة على سبلها وعملها وشرايع أحكامها ومعالم دينها؟

قال الخارجي : نعم ، قد فعل محمّد ذلك.

قال ابن عباس : فخبِّرني الآن عن محمّد صلی اللّه علیه و آله ، هل بقي فيها أو رحل عنها؟

قال الخارجي : بل رحل عنها.

قال ابن عباس : فخبِّرني رحل عنها وهي كاملة العمارة بيِّنة الحدود ، أم رحل عنها وهي خربة لا عمران فيها؟

قال الخارجي : بل رحل عنها وهي كاملة العمارة ، بيِّنة الحدود ، قائمة المنار.

قال ابن عباس : صدقت الآن ، فخبِّرني هل كان لمحمّد صلی اللّه علیه و آله أحد يقوم بعمارة هذه الدار من بعده أم لا؟

قال الخارجي : بلى ، قد كان له صحابة ، وأهل بيت ، ووصيٌّ ، وذرِّيَّة يقومون بعمارة هذه الدار من بعده.

قال ابن عباس : ففعلوا أم لم يفعلوا؟

قال الخارجي : بلى ، قد فعلوا ، وعمروا هذه الدار من بعده.

قال ابن عباس : فخبِّرني الآن عن هذه الدار من بعده ، هل هي اليوم على ما تركها محمّد صلی اللّه علیه و آله من كمال عمارتها ، وقوام حدودها ، أم هي خربة عاطلة الحدود؟

ص: 78

قال الخارجي : بل هي عاطلة الحدود ، خربة.

قال ابن عباس : أفذرِّيَّته وليت هذه الخراب أم أمَّته؟

قال : بل أمَّته.

قال ابن عباس : أفأنت من الأمَّة أو من الذرِّيَّة؟

قال : أنا من الأمَّة.

قال ابن عباس : يا عتاب! فخبِّرني الآن عنك ، كيف ترجو النجاة من النار وأنت من أمَّة قد أخربت دار اللّه ودار رسوله علیه السلام ، وعطَّلت حدودها؟

فقال الخارجي : إنّا لله وإنّا إليه راجعون! ويحك يا ابن عباس! احتلت واللّه حتى أوقعتني في أمر عظيم ، وألزمتني الحجّة حتى جعلتني ممن أخرب دار اللّه ، ولكن ويحك يا ابن عباس! فكيف الحيلة في التخليص مما أنا فيه؟

قال ابن عباس : الحيلة في ذلك أن تسعى في عمارة ما أخربته الأمَّة من دار الإسلام.

قال : فدلَّني على السعي في ذلك.

قال ابن عباس : إن أوَّل ما يجب عليك في ذلك أن تعلم من سعى في خراب هذه الدار فتعاديه ، وتعلم من يريد عمارتها فتواليه.

قال : صدقت يا ابن عباس! واللّه ما أعرف أحداً في هذا الوقت يحبُّ عمارة دار الإسلام غير ابن عمِّك عليِّ بن أبي طالب علیه السلام لو لا أنه حكَّم عبداللّه بن قيس في حقٍّ هو له.

قال ابن عباس : ويحك يا عتاب! إنَّا وجدنا الحكومة في كتاب اللّه عزَّ وجلَّ ، إنه قال تعالى : ( فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ

ص: 79

اللّهُ بَيْنَهُمَا ) (1) ، وقال تعالى : ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْل مِّنكُمْ ) (2).

قال : فصاحت الخوارج من كل ناحية ، وقالوا : فكأن عمرو بن العاص عندك من العدول؟ وأنت تعلم أنه كان في الجاهليَّة رأساً ، وفي الإسلام ذنباً ، وهو الأبتر ابن الأبتر ، ممن قاتل محمّداً صلی اللّه علیه و آله وفتن أمَّته من بعده.

قال : فقال ابن عباس : يا هؤلاء! إن عمرو بن العاص لم يكن حكماً ، أفتحتجُّون به علينا؟ إنما كان حكماً لمعاوية ، وقد أراد أميرالمؤمنين علي علیه السلام أن يبعثني أنا فأكون له حكماً ، فأبيتم عليه ، وقلتم : قد رضينا بأبي موسى الأشعري ، وقد كان أبو موسى لعمري رضيّاً في نفسه وصحبته وإسلامه وسابقته ، غير أنه خدع فقال ما قال ، وليس يلزمنا من خديعة عمرو بن العاص لأبي موسى ، فاتقوا ربَّكم ، وارجعوا إلى ما كنتم عليه من طاعة أميرالمؤمنين علیه السلام ، فإنّه وإن كان قاعداً عن طلب حقِّه فإنّما ينتظر انقضاء المدة ، ثمَّ يعود إلى محاربة القوم ، وليس علي علیه السلام ممن يقعد عن حقٍّ جعله اللّه له.

قال : فصاحت الخوارج ، وقالوا : هيهات يا ابن عباس! نحن لا نتولَّى عليّاً بعد هذا اليوم أبداً ، فارجع إليه وقل له : فليخرج إلينا بنفسه حتى نحتجَّ عليه ونسمع كلامه .. (3).

ص: 80


1- سورة النساء ، الآية : 35.
2- سورة المائدة ، الآية : 95.
3- كتاب الفتوح ، ابن الأعثم الكوفي : 4 / 89 - 95.

المناظرة السادسة عشرة: مناظرة ابن عباس مع عائشة في دفن الإمام الحسن علیه السلام عند جدِّه النبي صلی اللّه علیه و آله ومنع مروان بن الحكم من دفنه

قال القرطبي : لمَّا مات الحسن علیه السلام أرادوا أن يدفنوه في بيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فأبت ذلك عائشة ، وركبت بغلة ، وجمعت إليها الناس ، فقال لها ابن عباس : كأنكِ أردتِ أن يقال : يوم البغلة كما قيل : يوم الجمل؟

قالت : رحمك اللّه ، ذاك يوم نسي.

قال : لا يوم أذكر منه على الدهر (1).

وقال اليعقوبي : لمَّا حضرته علیه السلام الوفاة قال لأخيه الحسين علیه السلام : يا أخي! إن هذه آخر ثلاث مرار سقيت فيها السمَّ ، ولم أسقه مثل مرَّتي هذه ، وأنا ميِّت من يومي ، فإذا أنا متُّ فادفنّي مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فما أحدٌ أولى بقربه منّي ، إلاَّ أن تمنع من ذلك فلا تسفك فيه محجمة دم.

ثمَّ أخرج نعشه يراد به قبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فركب مروان بن الحكم ،

ص: 81


1- بهجة المجالس وأنس المجالس ، القرطبي : 1 / 100.

وسعيد بن العاص ، فمنعا من ذلك ، حتى كادت تقع فتنة.

وقيل : إن عائشة ركبت بغلة شهباء ، وقالت : بيتي لا آذن فيه لأحد ، فأتاها القاسم بن محمّد بن أبي بكر ، فقال لها : يا عمَّة! ما غسلنا رؤوسنا من يوم الجمل الأحمر ، أتريدين أن يقال : يوم البغلة الشهباء؟ فرجعت.

واجتمع مع الحسين بن علي علیهماالسلام جماعة وخلق من الناس ، فقالوا له : دعنا وآل مروان ، فواللّه ما هم عندنا إلاَّ كأكلة رأس.

فقال : إن أخي أوصاني أن لا أريق فيه محجمة دم (1).

وروى أبو الفرج الإصفهاني ، عن عمير بن إسحاق قال : كنت مع الحسن والحسين علیهماالسلام في الدار ، فدخل الحسن المخرج ، ثمَّ خرج فقال : لقد سقيت السمَّ مراراً ، ما سقيته مثل هذه المرَّة ، ولقد لفظت قطعة من كبدي فجعلت أقلِّبها بعود معي ، فقال له الحسين علیه السلام : من سقاكه؟ فقال : وما تريد منه؟ أتريد أن تقتله؟ إن يكن هو هو فاللّه أشدُّ نقمة منك ، وإن لم يكن هو فما أحبُّ أن يؤخذ بي بريءٌ.

ودفن الحسن علیه السلام في جنب قبر فاطمة بنت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، في البقيع ، في ظلّة بني نبيه ، وقد كان أوصى أن يدفن مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فمنع مروان بن الحكم من ذلك ، وركبت بنو أميَّة في السلاح ، وجعل مروان يقول : يا رُبَّ هيجا هي خير من دعة ، أيدفن عثمان في أقصى البقيع ويدفن الحسن علیه السلام في بيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟ واللّه لا يكون ذلك أبداً وأنا أحمل السيف ، فكادت الفتنة تقع.

وأبى الحسين علیه السلام أن يدفنه إلاَّ مع النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، فقال له عبد اللّه بن جعفر : عزمت عليك بحقّي ألا تكلَّم بكلمة ، فمضى به إلى البقيع ، وانصرف مروان بن

ص: 82


1- تأريخ اليعقوبي : 2 / 225.

الحكم.

وقال علي بن طاهر بن زيد : لمَّا أرادوا دفنه ركبت عائشة بغلا ، واستنفرت بني أميَّة ; مروان بن الحكم ، ومن كان هناك منهم ومن حشمهم ، وهو القائل :

فيوماً على بغل

ويوماً على جمل (1)

وروى الشيخ الطوسي عليه الرحمة ، عن ابن عباس ما جاء في وصيَّة الإمام الحسن بن علي علیهماالسلام لأخيه الحسين علیه السلام ، ومما جاء فيها : فإنّي أوصيك - يا حسين - بمن خلَّفت من أهلي وولدي وأهل بيتك ، أن تصفح عن مسيئهم ، وتقبل من محسنهم ، وتكون لهم خلفاً ووالداً ، وأن تدفنني مع جدّي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فإني أحقُّ به وببيته ممن أدخل بيته بغير إذنه ، ولا كتاب جاءهم من بعده ، قال اللّه تعالى فيما أنزله على نبيِّه صلی اللّه علیه و آله في كتابه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ ) (2) ، فواللّه ما أذن لهم في الدخول عليه في حياته بغير إذنه ، ولا جاءهم الإذن في ذلك من بعد وفاته ، ونحن مأذون لنا في التصرُّف فيما ورثناه من بعده ، فإن أبت عليك الامرأة فأنشدك بالقرابة التي قرَّب اللّه عزَّوجلَّ منك ، والرحم الماسّة من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن لا تهريق فيَّ محجمة (3) من دم حتى نلقى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فنختصم إليه ، ونخبره بما كان من الناس إلينا بعده. ثم قبض علیه السلام .

قال ابن عباس : فدعاني الحسين علیه السلام وعبد اللّه بن جعفر وعلي بن عبداللّه بن العباس ، فقال : اغسلوا ابن عمِّكم ، فغسلناه وحنّطناه وألبسناه أكفانه ، ثمَّ خرجنا به حتى صلَّينا عليه في المسجد ، وإن الحسين علیه السلام أمر أن يفتح البيت ،

ص: 83


1- مقاتل الطالبيين ، أبو الفرج الإصفهاني : 48 - 49.
2- سورة الأحزاب ، الآية : 53.
3- المحجمة : أداة الحجم ، والقارورة التي يجمع فيها دم الحجامة.

فحال دون ذلك مروان بن الحكم ، وآل أبي سفيان ، ومن حضر هناك من ولد عثمان بن عفان ، وقالوا : أيدفن أميرالمؤمنين عثمان الشهيد القتيل ظلماً بالبقيع بشرِّ مكان ، ويدفن الحسن علیه السلام مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟! واللّه لا يكون ذلك أبداً حتى تكسر السيوف بيننا ، وتنقصف الرماح ، وينفد النبل.

فقال الحسين علیه السلام : أما واللّه الذي حرَّم مكة ، لَلْحسن بنُ عليٍّ بنُ فاطمة أحقُّ برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبيته ممن أدخل بيته بغير إذنه ، وهو واللّه أحقُّ به من حمَّال الخطايا ، مسيِّر أبي ذر رحمه اللّه ، الفاعل بعمَّار ما فعل ، وبعبد اللّه ما صنع ، الحامي الحمى ، المؤوي لطريد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، لكنَّكم صرتم بعده الأمراء ، وبايعكم على ذلك الأعداء وأبناء الأعداء.

قال : فحملناه ، فأتينا به قبر أمِّه فاطمة علیهاالسلام فدفنّاه إلى جنبها.

قال ابن عباس : وكنت أول من انصرف ، فسمعت اللغط ، وخفت أن يعجل الحسين علیه السلام على من قد أقبل ، ورأيت شخصاً علمت الشرَّ فيه ، فأقبلت مبادراً ، فإذا أنا بعائشة في أربعين راكباً على بغل مرحَّل ، تقدمهم وتأمرهم بالقتال ، فلمَّا رأتني قالت : إليَّ إليَّ يابن عباس! لقد اجترأتم عليَّ في الدنيا ، تؤذونني مرَّة بعد أخرى ، تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أهوى ولا أحبُّ.

فقلت : واسوأتاه! يوم على بغل ، ويوم على جمل ، تريدين أن تطفئي فيه نور اللّه ، وتقاتلي أولياء اللّه ، وتحولي بين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبين حبيبه أن يدفن معه ، ارجعي فقد كفى اللّه ( تعالى ) المؤنة ، ودفن الحسن علیه السلام إلى جنب أمِّه ، فلم يزدد من اللّه ( تعالى ) إلاَّ قرباً ، وما ازددتم منه واللّه إلاَّ بعداً ، يا سوأتاه! انصرفي فقد رأيت ما سرَّك.

قال : فقطَّبت في وجهي ، ونادت بأعلى صوتها : أما نسيتم الجمل يابن

ص: 84

عباس؟ إنكم لذوو أحقاد.

فقلت : أما واللّه ما نسيه أهل السماء ، فكيف ينساه أهل الأرض؟! فانصرفت وهي تقول :

فألقت عصاها فاستقرَّت بها النوى

كما قرَّعيناً بالإياب المسافر (1)

وجاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 16 / 13 - 14 ، قال : روى المدائني ، عن يحيى بن زكريا ، عن هشام بن عروة ، قال : قال الحسن علیه السلام عند وفاته : ادفنوني عند قبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلاَّ أن تخافوا أن يكون في ذلك شرٌّ ، فلمَّا أرادوا دفنه قال مروان بن الحكم : لا يدفن عثمان في حشّ كوكب (2) ويدفن الحسن ها هنا ، فاجتمع بنو هاشم وبنو أميَّة ، وأعان هؤلاء قوم ، وهؤلاء قوم ، وجاءوا بالسلاح ، فقال أبو هريرة لمروان : أتمنع الحسن علیه السلام أن يدفن في هذا الموضع ، وقد سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنّة؟! قال مروان : دعنا منك ، لقد ضاع حديث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إذ كان لا يحفظه غيرك وغير أبي سعيد الخدري! وإنّما أسلمت أيام خيبر ..

وروى ابن عساكر ، عن محمّد بن الضحاك الحرامي قال : لمَّا بلغ مروان ابن الحكم أنهم قد أجمعوا أن يدفنوا الحسن بن علي علیه السلام مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جاء إلى سعيد بن العاص - وهو عامل المدينة - فذكر ذلك له ، فقال : ما أنت صانع في أمرهم؟

فقال : لست منهم في شيء ، ولست حائلا بينهم وبين ذلك.

ص: 85


1- الأمالي ، الشيخ الطوسي : 160 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44 / 151 ح 22.
2- قال في الهامش : حش كوكب - بفتح أوَّله وتشديد ثانيه - موضع عند بقيع الغرقد ، اشتراه عثمان ، وزاده في البقيع ، ولمَّا قتل ألقي فيه.

قال : فخلِّني وإيَّاهم.

فقال : أنت وذاك.

فجمع لهم مروان مَنْ كان هناك من بني أميّة وحشمهم ومواليهم ، وبلغ ذلك حسيناً ، فجاء هو ومن معه في السلاح ليدفن حسناً في بيت النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، وأقبل مروان في أصحابه وهو يقول : يا ربَّ هيجا هي خير من دعة ، أيدفن عثمان بالبقيع ، ويدفن حسن في بيت النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ؟ واللّه لا يكون ذلك أبداً وأنا أحمل السيف.

فلمَّا صلوا على حسن علیه السلام خشي عبداللّه بن جعفر أن يقع في ذلك ملحمة عظيمة ، فأخذ بمقدَّم السرير ، ثمَّ مضى نحو البقيع .. (1).

ص: 86


1- تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 13 / 290 - 291.

المناظرة السابعة عشرة: مناظرة رجل من بني سعد مع طلحة والزبير في خروج عائشة

روى الطبري ، قال : فخرج غلام شاب من بني سعد إلى طلحة والزبير ، فقال : أمَّا أنت - يا زبير - فحواري رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأمَّا أنت - يا طلحة - فوقيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بيدك ، وأرى أمَّكما معكما ، فهل جئتما بنسائكما؟

قالا : لا.

قال : فما أنا منكما في شيء ، واعتزل. وقال السعدي في ذلك :

صُنْتُم حَلاَئِلَكم وَقُدْتُم أُمَّكم *** هذا لَعَمْرُك قلَّةُ الإنصافِ

أُمِرَتْ بجرِّ ذُيُولِها في بَيْتِها *** فَهَوَتْ تشقُّ البيدَ بالإِيجافِ

غرضاً يُقَاتِلُ دونها أبناؤُها *** بالنَّبْلِ وَالْخِطيِّ والأسيافِ

هُتِكَتْ بطَلْحَةَ والزبيرِ سُتُورُها *** هذا المخبِّرُ عَنْهُمُ والكافي (1)

وذكر نصر بن مزاحم عن القاسم بن محمّد ، قال : أقبل جارية بن قدامة السعدي فقال : يا أمَّ المؤمنين! واللّه لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على

ص: 87


1- تاريخ الطبري : 3 / 482.

هذا الجمل الملعون ، عرضة للسلاح ، إنّه قد كان لك من اللّه ستر وحرمة ، فهتكت سترك ، وأبحت حرمتك ، إنّه من رأى قتالك فإنّه يرى قتلك ، إن كنت أتيتينا طائعة فارجعي إلى منزلك ، وإن كنت أتيتينا مستكرهة ، فاستعيني بالناس (1).

ص: 88


1- تاريخ الطبري 3 / 482 ، الإمامة والسياسة : 1 / 88 ، وفيه : فاستعتبي اللّه ، بدل : فاستعيني بالناس.

المناظرة الثامنة عشرة: مناظرة رجل مع عبد الملك بن مروان

من كتاب أعلام الدين للديلمي : قال رجل لعبد الملك بن مروان : أناظرك وأنا آمن؟

قال : نعم.

فقال له : أخبرني عن هذا الأمر الذي صار إليك ، أبنصٍّ من اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله ؟

قال : لا.

قال : اجتمعت الأمّة فتراضوا بك؟

فقال : لا.

قال : فكانت لك بيعة في أعناقهم فوفوا بها؟

قال : لا.

قال : فاختارك أهل الشورى؟

قال : لا.

قال : أفليس قد قهرتهم على أمرهم ، واستأثرت بفيئهم دونهم؟

ص: 89

قال : بلى.

قال : فبأيِّ شيء سمِّيت أميرالمؤمنين ، ولم يؤمِّرك اللّه ولا رسوله صلی اللّه علیه و آله ولا المسلمون؟

قال له : اخرج عن بلادي وإلاَّ قتلتك.

قال : ليس هذا جواب أهل العدل والإنصاف ، ثمَّ خرج عنه (1).

ص: 90


1- بحار الأنوار ، المجلسي : 46 / 335 ح 23.

المناظرة التاسعة عشرة: مناظرة الأعمش مع أبي حنيفة

عن شريك بن عبداللّه القاضي ، قال : حضرت الأعمش في علّته التي قبض فيها ، فبينا أنا عنده إذ دخل عليه ابن شبرمة وابن أبي ليلى وأبو حنيفة ، فسألوه عن حاله ، فذكر ضعفاً شديداً ، وذكر ما يتخوَّف من خطيئاته ، وأدركته رقّة فبكى ، فأقبل عليه أبو حنيفة ، فقال : يا أبا محمّد! اتق اللّه ، وانظر لنفسك ، فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا ، وأول يوم من أيام الآخرة ، وقد كنت تحدِّث في علي بن أبي طالب علیه السلام بأحاديث ، لو رجعت عنها كان خيراً لك.

قال الأعمش : مثل ماذا ، يا نعمان؟

قال : مثل حديث عباية : أنا قسيم النار.

قال : أو لمثلي تقول [ هذا ] يا يهودي؟ أقعدوني ، سنِّدوني ، أقعدوني ، حدَّثني - والذي إليه مصيري - موسى بن طريف - ولم أر أسديّاً كان خيراً منه - قال : سمعت عباية بن ربعي إمام الحي ، قال : سمعت علياً أميرالمؤمنين علیه السلام يقول : أنا قسيم النار ، أقول : هذا وليّي دعيه ، وهذا عدوّي خذيه.

وحدَّثني أبو المتوكل الناجي ، في إمرة الحجاج ، وكان يشتم علياً علیه السلام

ص: 91

شتماً مقذعاً - يعني الحجاج ( لعنه اللّه ) - عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إذا كان يوم القيامة يأمر اللّه عزَّوجلَّ فأقعد أنا وعلي على الصراط ، ويقال لنا : أدخلا الجنة من آمن بي وأحبَّكما ، وأدخلا النار من كفر بي وأبغضكما.

قال أبو سعيد : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ما آمن باللّه من لم يؤمن بي ، ولم يؤمن بي من لم يتولَّ - أو قال : لم يحبَّ عليّاً ، وتلا ( أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّار عَنِيد ) (1).

قال : فجعل أبو حنيفة إزاره على رأسه ، وقال : قوموا بنا ، لا يجيئنا أبو محمّد بأطمَّ من هذا.

قال الحسن بن سعيد : قال لي شريك بن عبداللّه : فما أمسى - يعني الأعمش - حتى فارق الدنيا رحمه اللّه (2).

ص: 92


1- سورة ق ، الآية : 24.
2- الأمالى ، الطوسي : 628 - 629 ح 7 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 47 / 412 - 413 ح 19.

المناظرة العشرون: مناظرة أبي الحسن علي بن ميثم رحمه اللّه مع أبي الهذيل العلاف

قال الشريف المرتضى عليه الرحمة : أخبرني الشيخ أدام اللّه عزَّه قال : سأل أبو الهذيل العلاف أبا الحسن علي بن ميثم رحمه اللّه عند علي بن رياح ، فقال له : ما الدليل على أن عليّاً علیه السلام كان أولى بالإمامة من أبي بكر؟

فقال له : الدليل على ذلك إجماع أهل القبلة على أن علياً علیه السلام كان عند وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مؤمناً عالماً كافياً ، ولم يجمعوا بذلك على أبي بكر.

فقال له أبو الهذيل : ومن لم يجمع عليه عافاك اللّه؟

قال له أبو الحسن : أنا وأسلافي من قبل وأصحابي الآن.

فقال له أبو الهذيل : فأنت وأصحابك ضلاَّل تائهون.

قال له أبو الحسن : ليس جواب هذا الكلام إلاَّ السباب ثمَّ اللطام (1).

ص: 93


1- الفصول المختارة ، المفيد : 86.

المناظرة الحادية والعشرون: مناظرة هشام بن الحكم مع حفص بن سالم في الخلافة بعد النبي صلی اللّه علیه و آله

اشارة

اجتمع هشام بن الحكم وحفص بن سالم (1) في مجلس ، فقال هشام

ص: 94


1- الظاهر - واللّه العالم - أنه حفص بن سالم مولى ابن هبيرة الذي هو أحد المعتزلة ، وقد ذكره الكليني عليه الرحمة في الذين جاؤوا لمناظرة الإمام الصادق علیه السلام ، فقد روى عن عبد الكريم بن عتبة الهاشمي ، قال : كنت قاعداً عند أبي عبد اللّه علیه السلام بمكة إذ دخل عليه أناس من المعتزلة فيهم عمرو بن عبيد ، وواصل بن عطاء ، وحفص بن سالم مولى ابن هبيرة ، وناس من رؤسائهم .. ، الخ ، وأغلب الظنّ أنه من البصرة ، وقد روى عنه عمرو بن عبيد ، والذي يدلّ على ذلك أنه جاء في إسناد محمّد بن سليمان الكوفي في كتاب مناقب أميرالمؤمنين علیه السلام ، وجاء السند هكذا : عن إبراهيم بن أبي يحيى ، عن عمرو بن عبيد ، عن حفص بن سالم البصري. هذا ولم أجد له ترجمة في كتب الرجال بهذا الاسم في هذه العجالة. وقد جاء في كتب العامة حفص بن سلم أبو مقاتل السمرقندي ، وهو يروي عن سفيان الثوري ، كما في الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ، وذكره سبط ابن العجمي باسم حفص بن سالم وليس سلم. وقد جاء بهذا الإسم في مصادرنا أيضاً وهو : حفص بن سالم الكوفي أبو ولاد ، ولكنه مختلف عنه ; إذ هو من أصحاب الإمام الصادق علیه السلام ، كما في معجم رجال الحديث للسيد الخوئي عليه الرحمة وغيره. راجع : معجم رجال الحديث ، السيد الخوئي : 7 / 137 رقم : 3768 و 145 رقم : 3786، تهذيب المقال ، السيّد محمّد علي الأبطحي : 5 / 159 ، الكفاية في علم الرواية ، الخطيب البغدادي : 310 ، الكشف الحثيث ، سبط ابن العجمي : 101 ، مناقب أميرالمؤمنين علیه السلام ، محمّد بن سليمان الكوفي : 1 / 154. رقم : 88.

لحفص : أخبرني هل يجوز أن يخرج الحقّ من الأمّة حتى يكون الحق موجوداً في غير الأمّة؟

قال حفص : لا يجوز ذلك.

فقال هشام : أو ليس انما اختلفت الأمّة في علي علیه السلام وأبي بكر ، والخلافة كانت لأحدهما - لا محالة - بعد النبي صلی اللّه علیه و آله ؟

قال حفص : بلى.

قال هشام : أفليس قد سقط العباس بقرابته ، ومعاذ بن جبل بعلمه؟

قال حفص : بلى.

قال هشام : وقد سقط الناس كلّهم بعد هذين؟

قال : نعم.

قال : فلا يحتاج إذن إلى النظر في أمرهم ، وانّما النظر في أبي بكر وعلي علیه السلام أيّهما يستحقّ الخلافة ممّن لا يستحقّها إذا كان الأمر بالاختيار على ما زعمتم؟

قال : نعم.

قال هشام : أفليس قد رويتم أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله قال : عليٌّ أقضاكم (1).

ص: 95


1- راجع : تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42 / 16 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1 / 18 و 7 / 219 ، فيض القدير ، المناوي : 1 / 285 ، تفسير القرطبي : 15 / 162 ، الجوهرة في نسب الإمام علي وآله ، البري : 71، جواهر المطالب في مناقب الإمام علي علیه السلام ، ابن الدمشقي : 1 / 76 ، تاريخ ابن خلدون ، ابن خلدون : 1 / 197. وعن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، عن النبي صلی اللّه علیه و آله مرسلا .. وأقضاهم علي. وعن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله علىٌّ أقضى أمتي بكتاب اللّه ، فمن أحبَّني فليحبَّه ، فان العبد لا ينال ولا يتي إلاَّ بحبِّ علي علیه السلام . ( تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42 / 241 ). وروي عن أنس أن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : أقضى أمتي علي. قال الطبري : أخرجه البغوي في المصابيح في الحسان. ( ذخائر العقبى ، أحمد بن عبداللّه الطبري : 4. فتح الباري ، ابن حجر : 8 / 127 ). وقد اعترف الصحابة وغيرهم بأن أميرالمؤمنين علیه السلام أقضى الأمة. فقد روى أحمد بن حنبل في مسنده : 5 / 113 : عن عمر بن الخطاب قال : علي أقضانا ، وروى أحمد بن عبداللّه الطبري في ذخائر العقبى : 83 : عن عمر قال : أقضانا علي. قال : أخرجه الحافظ السلفي. وعن ابن عبّاس قال : إذا حدَّثنا ثقة عن عليٍّ بفتيا لا نعدوها. وعن أبي إسحاق أن عبداللّه كان يقول : أقضى أهل المدينة علي بن أبي طالب. ( الطبقات الكبرى ، محمّد بن سعد : 2 /7. 339 ). وعن النعمان بن ثابت القاضي قال : حدَّثنا شريح القاضي ، قال : حدَّثنا علي بن أبي طالب علیه السلام - وكان أقضى الأمة - قال : لمَّا أنفذني النبيُّ صلی اللّه علیه و آله إلى اليمن قال : يا علي! الناس رجلان ، فعاقل يصلح للعفو ، وجاهل يصلح للعقوبة. ( تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 20 / 236 ). وروى البيهقي ، عن محمّد بن سليمان ، عن رقبة قال : خرج يزيد بن أبي مسلم من عند الحجاج ، فقال : لقد قضى الأمير بقضيّة ، فقال له الشعبي : وما هي؟ فقال : قال : ما كان للرجل فهو للرجل ، وما كان للنساء فهو للمرأة ، فقال الشعبي : قضاء رجل من أهل بدر ، قال : ومن؟ قال : لا أخبرك ، قال : من هو؟ عليَّ عهد اللّه وميثاقه أن لا أخبره ، قال : هو علي بن أبي طالب علیه السلام ، قال : فدخل على الحجاج فأخبره ، فقال الحجاج : صدق ويحك إنَّا لم ننقم على عليٍّ قضاءه ، قد علمنا أن عليّاً كان أقضاهم. ( السنن الكبرى ، البيهقي : 10 / 10. تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 65 / 388 ). وحدَّث أبو عبداللّه الزبيري عن بعض العلماء أنَّه قال في منزلة الشافعي في العلماء : ومنزلة الشافعي في العلماء كمنزلة علي علیه السلام في الصحابة ; فإنه كان أعلمهم وأفضلهم وأقضاهم ، وقد قال النبي صلی اللّه علیه و آله : أقضاكم علي. تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 15 / 300 ).

ورويتم أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله وجَّهه إلى اليمن قاضياً ، قال : يا رسول اللّه! تبعثني

ص: 96

ولا بصر لي بالقضاء؟ فضرب بيده على صدره ، ثمَّ قال : اللّهم اهدِ قلبه ، واشرح صدره ، فقال عليّ علیه السلام : فما شككت في قضاء بعدها (1).

ورويتم أنه قال : كنت إذا سألت أعطيت ، وإذا سكت ابتدأت (2) وبين الجوانح علم جمٌّ (3) ، وعلَّمني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ألف باب من العلم ، كل باب يفتح ألف باب (4) ، ولقد علمت المنايا والبلايا وفصل الخطاب (5) ، وقال النبي صلی اللّه علیه و آله : أنا

ص: 97


1- سنن ابن ماجة : 2 / 774 ح 2310 ، المصنَّف ، ابن أبي شيبة الكوفي : 7 / 495 ح 5 ، السنن الكبرى ، النسائي : 5 / 116 ح 8419 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 2 / 337 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1 / 18 ، تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : 12 / 439 ، رقم : 6916 ، تاريخ دمشق ، ابن عساكر : 42 / 389 ، وغيرها الكثير.
2- المصنَّف ، ابن أبي شيبة الكوفي : 7 / 495 ح 6 ، السنن الكبرى ، النسائي : 5 / 142 ح 8505 و 8506 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 6 / 213 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 2 / 346.
3- المحتضر ، الحسن بن سليمان الحلي : 88.
4- تاريخ دمشق ، ابن عساكر : 42 / 385 ، فتح الملك العلي ، أحمد بن الصديق المغربي : 48 ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 8 / 24 ، نظم درر السمطين ، الزرندي : 113 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 13 / 114 - 115 ح 36372 ، ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : 1 / 222 ح 43.
5- عيون أخبار الرضا علیه السلام ، الصدوق : 1 / 224 ح 7 ، الخصال ، الصدوق : 414 - 415 ح 4 ، وعن الأصبغ بن نباته قال : سمعت أميرالمؤمنين علیه السلام يقول : إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله علّمني ألف باب ، وكل باب منها يفتح ألف باب ، فذلك ألف ألف باب ، حتى علمت ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، وعلمت علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب. ينابيع المودة ، القندوزي : 1 / 231 ح 70. ومن كلام لعمار بن ياسر رضوان اللّه تعالى عليه في حق أميرالمؤمنين علیه السلام قال : يا أيها الناس! إنكم واللّه إن اتّبعتموه وأطعتموه لم يضلَّ بكم عن منهاج نبيِّكم قيد شعرة ، وكيف يكون ذلك وقد استودعه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المنايا والوصايا وفصل الخطاب ، على منهاج هارون بن عمران ; إذ قال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنَّه لا نبيَّ بعدي ، فضلا خصَّه اللّه به إكراماً منه لنبيِّه صلی اللّه علیه و آله ، حيث أعطاه اللّه ما لم يعطه أحداً من خلقه. كنز العمال ، المتقي الهندي : 16 /185 - 186.

مدينة العلم وعليٌّ بابها (1) ، مع اتفاق المختلفين أنه كان أعلم أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتى صار المأخوذ قوله في عامّة أحكامهم؟

قال حفص : بلى ، ولا ننكر فضل علي علیه السلام وبصره بالقضاء ، وبما حكى عن نفسه من العلم وما ظهر منه ، وأنّهم كلَّهم قد سألوه واحتاجوا إليه ، ولم يسأل هو أحداً منهم ، ولا احتاج إليه.

قال هشام : فإذا أقررت بذلك فهل تعلمون أن اللّه تعالى قال في كتابه : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الاَْلْبَابِ ) (2) وقال : ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات ) (3) وقال : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ) (4)؟

ص: 98


1- روى الحاكم النيسابوري في المستدرك : 3 / 126 - 127 بالإسناد عن ابن عباس رضي اللّه عنهما ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها ، فمن أراد المدينة فليأت الباب. قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد. وراجع : المعجم الكبير ، الطبراني : 11 / 55، الفايق في غريب الحديث ، جار اللّه الزمخشري : 2 / 16 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 7 / 219 و 9 / 165 ، شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : 1 / 104 ح 118 ، تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : 5 / 110 و 7 / 182 ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42 / 378 ، أسد الغابة ، ابن الأثير : 4 / 22 ، تهذيب الكمال ، المزي : 18 / 77 و 79 ، تذكرة الحفاظ ، الذهبي : 4 / 1231 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 7 / 398 ، المستصفى ، الغزالي : 170 ، الجامع الصغير ، السيوطي : 1 / 415 ح 2705 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 13 / 148 ، فيض القدير ، المناوي : 1 / 49 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 7 / 235 و 9 / 114 ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبداللّه الطبري : 77 ، وقد ألَّف أحمد بن الصديق المغربي ( المتوفَّى 1380 ) كتاباً كاملا في هذا الحديث وطرقه ، وحكم بصحّته ، وسمَّاه : فتح الملك العلي بصحّة حديث باب مدينة العلم علي علیه السلام .
2- سورة الزمر ، الآية : 9.
3- سورة المجادلة ، الآية : 11.
4- سورة فاطر ، الآية : 28.

قال حفص : كذلك قال اللّه.

قال هشام : ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (1) فإذا أخبر اللّه أنَّه قد رفع علياً على أبي بكر درجات ، فلم صار أبو بكر أولى بها منه؟ ولم قدَّمتم أبا بكر عليه بعدما قد بيَّن اللّه في كتابه ما بيَّن؟

قال حفص : لأن أهل الفضل والعلم قدَّموه.

فقال هشام : فقد نفى اللّه عنهم ما أثبتَّه أنت لهم.

قال حفص : من أين قلت؟

قال : ذلك لقول اللّه عزَّوجلَّ : ( إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الاَْلْبَابِ ) وأولو الألباب أهل العقل والفضل ، فلو كانوا كذلك لتفكَّروا وقدَّموا علياً علیه السلام ، فسكت حفص (2).

هشام بن الحكم وروح النقد

كان هشام أحد المدافعين عن التشيع بيده ولسانه وقلبه ، وبكلِّ ما أوتيه من قوّة ، وكان مهاباً عند الخصم ، وقد عرف بينهم بحجّته القويّة ، وكان سريع البديهة ، حاضر الجواب ، وكان معظَّماً عند الإمام الصادق علیه السلام .

جاء في الكافي للكليني : 1 / 172 : عن يونس بن يعقوب قال : ورد هشام بن الحكم ، وهو أوّل ما اختطَّت لحيته ، وليس فينا إلاَّ من هو أكبر سنّاً منه ، قال : فوسَّع له أبو عبداللّه علیه السلام وقال : ناصرنا بقلبه ولسانه ويده.

قال الشيخ عبداللّه نعمة في كتابه ( هشام بن الحكم ) (3) : الاتّجاهات الغالبة

ص: 99


1- سورة يونس ، الآية : 35.
2- الدرّ النظيم في مناقب الأئمة اللّهاميم ، ابن حاتم الشامي : 285 - 286.
3- هشام بن الحكم ، الشيخ عبداللّه نعمة : 107 - 109.

عليه : كان هشام خصب الذهن ، مركَّز التفكير ، لا يضطرب في آرائه ، يفكِّر بتصميم ، ويقول بتصميم ، ويرسم الخطوط لتعزيز مذهبه الذي اختاره ، ولا يدع فرصة سانحة إلاَّ ويتّخذ منها وسيلة لتأييد رأيه وتقرير نزعته ، في طريق واضح لا يلتوي عليه ، وتتحكَّم في تفكيره اتجاهات كثيرة ، يلتقي بها كلُّ من درس آراءه ، تلك الاتجاهات التي لا تزايله في جميع مواقفه ، قد انصهرت فيها شخصيته ، واستحالت في طبيعتها ، وأبرزها : روح النقد.

ويشيع في تفكيره روح النقد لآراء مخالفيه ، وقد يأتي ذلك في كلمة قصيرة سانحة ، فمن ذلك قوله - وقد سئل عن معاوية ، أشهد بدراً؟ فقال : نعم ، من ذلك الجانب (1) وهي كلمة قصيرة تفيض بالنقد اللاذع الهادئ ، يقولها بغير تكلّف ، وتتداعى فيها الأفكار ، فتعود بنا إلى ماضي معاوية يوم كان يحارب في صفوف المشركين ضدَّ الإسلام والمسلمين.

ومثال آخر : أنّ صديقه عبداللّه بن يزيد الأباضي خطب منه ابنته فاطمة ، فقال له : تعلم ما بيننا من مودّة ودوام الشركة ، وقد أحببت أن تنكحني ابنتك فاطمة ، فقال هشام : إنّها مؤمنة ، فأمسك الأباضي ولم يعاوده في شيء.

ويقصد بقوله : ( مؤمنة ) ما يترتَّب على ذلك من عدم جواز تزويجها للمشركين ، المفضي إلى حكمه على الخوارج - ومنهم صديقه عبداللّه بن يزيد - بالإشراك.

ومثال ثالث : أنه كان يقول : ما رأيت مثل مخالفينا ، عمدوا إلى من ولاَّه اللّه من سمائه فعزلوه ، وإلى من عزله اللّه من سمائه فولّوه ، ويذكر قصّة مبلغ سورة

ص: 100


1- الفهرست ، الشيخ الطوسي : 259.

برائة ، ومرد أبي بكر ، وإيراد علي علیه السلام بعد نزول جبرئيل قائلا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن اللّه تعالى : إنه لا يؤدّيها عنك إلاَّ أنت أو رجل منك ، فردَّ أبا بكر ، وأنفذ علياً علیه السلام (1) وهي لفتة ذهن حديد ، ذات طابع مركَّز ، قد فسحت له درب النقد مسايرة لهذه النزعة المتأصِّلة فيه.

ومثال رابع : سئل هشام بن الحكم - وهو في مجلس مناظرة عند بني أمية - : كم عمرك يا غلام؟ فقال : إن عمري كعمر أسامة بن زيد الذي أمَّره النبي صلی اللّه علیه و آله على مشائخ الصحابة.

ومثال خامس : سأله سليمان بن حريز فقال : يا هشام بن الحكم! أخبرني عن قول علي لأبي بكر : يا خليفة رسول اللّه ، أكان صادقاً أم كاذباً؟ فقال هشام : وما الدليل على أنّه قاله؟ ثمَّ قال : وإن كان قاله فهو كقول إبراهيم : ( إِنِّي سَقِيمٌ ) (2) وكقوله : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ) (3) وكقول يوسف : ( أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ) (4) (5).

ص: 101


1- فهرست ابن النديم البغدادي : 224.
2- سورة الصافات ، الآية 89.
3- سورة الأنبياء ، الآية : 63.
4- سورة يوسف ، الآية : 70.
5- مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 1 / 235.

المناظرة الثانية والعشرون: مناظرة مؤمن الطاق مع بعض الحروريّة بمحضر أبي حنيفة وسفيان الثوري في الخليفة بعد النبي صلی اللّه علیه و آله

قال المرزباني الخراساني : وقيل : إن مؤمن الطاق رحمه اللّه دخل يوماً مسجد الكوفة وفيه جماعة من المرجئة (1) ، منهم : أبو حنيفة وسفيان ، ورجل من الحروريّة جيِّد المناظرة فيهم ، فلمَّا رآه أبو حنيفة قال للحروري : هذا رأس الشيعة وعالمها ، فهل لك في مناظرته؟

فقال : إذا شئت ، فنهضا والجماعة ، وأتوا إليه وهو قائم يصلّي ، فلم يزالوا حتّى فرغ ، فسلَّموا عليه ، ثمَّ قال له أبو حنيفة : قد أتينا للمناظرة.

فقال : أضللتم دينكم فأنتم تطلبونه ، ولولا ذلك لقلَّت مناظرتكم فيه ، ولا شتغلتم بالعمل ، وإنّما يعمل المتّقون ، وقليله ينفع ، وإنه لقليل ، قال اللّه : ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) (2).

ص: 102


1- فرقة من الفرق الإسلامية ، وهي أصناف أربعة. دائرة المعارف 8 / 723.
2- سورة المائدة ، الآية : 27.

فقال الحروري : كلٌّ يدّعي الذي تدّعي ، لكن من إمامك؟

قال : من نصبه اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله يوم الغدير.

قال : ما اسمه؟

قال : بيَّنت.

قال : فهو أبو بكر.

قال : ذاك المردود يوم سورة براءة ، وصاحبي المؤدّي عن اللّه وعن رسوله صلی اللّه علیه و آله إلى أهل مكة.

قال : ذاك أبو بكر.

قال : دعوى أقم عليها بيِّنة.

قال : أنت المدّعي.

قال : كيف أكون أنا المدّعي وأنا المنكر لذلك؟! أنت تقول : هو ذاك ، وأنا أقول : هو رجل قد اجتمعت عليه الأمّة ، وإنّه صاحب يوم الغدير ، فكيف يكون الإجماع دعوى ، بل أنت المدّعي أنّه أبو بكر.

قال الحروري : دعنا من هذا.

قال : هذه واحدة لم تخرج منها ، والحقُّ بيدي حتى تقيم البيِّنة.

قال الحروري : إن في أبي بكر أربع خصال بان بها من العالم بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، استحقَّ بها الإمامة.

قال : ما هي؟

قال : الصدّيق ، وصاحبه في الغار ، والمتولّي للصلاة ، وضجيعه في القبر.

قال : أخبرني عن هذه المناقب بان بها من جميع العالم؟

قال : نعم.

ص: 103

قال : فإنَّ هذه مثالب.

قال : بقولك؟

قال : بل بإقرارك.

قال : فهات إذن.

قال : حتى يحضر من يحكم بيننا.

قالت الجماعة : نحن الحكَّام إذا ظهر الحقُّ.

قال : فالدليل على أنّها مثالب هو أن تدلَّ على من سمَّاه صدّيقاً.

قال : رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

قال : فما العلّة والمعنى الذي سمِّي به ...؟

قال : لأنّه أوَّل المسلمين.

قال : هذا ما لم يقل به أحد ، على أنّه أوّل المسلمين ، إنّما الإجماع على أن أول المسلمين علي بن أبي طالب علیه السلام ، وأوَّل من آمن ، فما تقولون أيُّها الحكام؟

قالوا : أجل ، هو كما ذكرت.

قال الحروري : قد زعمتم أنه ما أشرك باللّه قط.

قال : ليس (1) اتّباعه للرسول صلی اللّه علیه و آله في وقت من الأوقات - وإن لم يكن مشركاً - حدثاً يستحقُّ به الإسلام؟

قالت الجماعة : أجل.

فقال الحروري : أنا لا أقبل قول هؤلاء.

قال : فأنا أساعدك ، أمَّا ما ذكرت أنّه صدّيق : أليس زعمت أن اللّه

ص: 104


1- الظاهر : أليس.

ورسوله صلی اللّه علیه و آله سمَّياه صدّيقاً ، وأنّه ليس له في هذا الاسم مساوىء؟

قال : نعم.

قال للجماعة : اشهدوا عليه ، متى وجدنا في أصحاب الرسول صلی اللّه علیه و آله من اسمه صدّيق سقطت حجّته عنّا.

قالوا : نعم.

قال : هل تعلم أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : ما أقلَّت الغبراء ولا أظلَّت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر (1)؟

قال القوم : واحدة ، خصمت يا حروريّ.

قال الحروري : أنا لا أعرف هذه الرواية ، فظلمه القوم.

قال : يا حروريُّ! فهل تعرف القرآن؟

قال : نعم.

قال : فيلزمك ما فيه من الحجّة؟

قال : نعم.

قال : فقد شارك صاحبك في هذا الاسم المؤمنون جميعاً ، قال اللّه تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ ) (2).

قالت الجماعة : خصمت يا حروري.

قال : وأمَّا ما ذكرت من أنّه صاحبه في الغار فما رأيت الصاحب محموداً

ص: 105


1- مسند أحمد بن حنبل : 5 / 197 ، سنن الترمذي : 5 / 334 ح 3890 ، صحيح ابن حبان : 16 / 76 ، المصنّف ، ابن أبي شيبة : 7 / 526 ح 3 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 4 / 228 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 21 / 413 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 8 / 259.
2- سورة الحديد ، الآية : 19.

في القرآن ، قال اللّه تعالى : ( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَاب ) (1) ، وقال : ( وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُون ) (2) ، وقال العالم لصاحبه - وهما في فضلهما ما هما - : ( إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْء بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي ) (3).

قال الحروري : ما هذا مثل ذاك.

قال : أجل ، إن ذاك نبيٌّ معصوم ، وذا حكيم عليم قد علَّمه اللّه علماً ، ولم يعرفه موسى علیه السلام ثمَّ عرفه فأقرَّ له موسى ، واستيقن أنه ابن عمران ، ولكن لعلَّك صاحبك يستحقُّ المثل الأول ، وهو قوله : ( فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ) .

فقالت الجماعة : أعلنت - أبا جعفر - بما في نفسك.

قال : ما قلت بأساً ، إنّما ذكرت الصحبة فأحببت أن لا يحتجَّ بها للذي بيَّن اللّه في كتابه عن الصاحب.

قال الحروري : هذا صاحبه في الغار ، يلقى الأذى ويصبر على الخوف.

قال : هل كان صابراً ، وراجياً على ذلك ثواباً.

قال : نعم.

قال : أمَّا السكينة فقد نزلت على غيره ، وأمَّا الحزن فقد تعجَّله ، والأمر كما قال اللّه : ( إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ) (4) ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لا ينهى عن طاعة ، وإنّما ينهى عن معصية ، فقد عصى اللّه في حزنه وهو مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، واكتسب ذنباً ، فهذا مما ينبغي لصاحبك أن يستغفر اللّه منه ، ولو كان ثبت في

ص: 106


1- سورة الكهف ، الآية : 34.
2- سورة التكوير ، الآية : 22.
3- سورة الكهف ، الآية : 76.
4- سورة التوبة ، الآية : 40.

كينونته في الغار لقد كان اللّه أبان له ذلك فيه ، إنما كانت السكينة للرسول صلی اللّه علیه و آله بصريح القول ، وبقوله : ( وأيَّده ) فهل تقول بأنه شارك أيضاً؟

قال : نعم.

قال : فهل أبان اللّه ذلك إذ كانت السكينة وكان المشارك فيها واحد ، كما أنزلت على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو في جماعة ، فخصَّت الرسول وعمَّتهم ، حيث قال : ( فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (1) ، فأبانها له كما أبانها لهؤلاء ، وإنما قال اللّه تعالى : ( وَأَيَّدَهُ ) .

قال الحروري : قوموا ، قد أخرجه عن الإيمان.

قال : أنا لم أخرجه ، ولكنَّك أنت أخرجته.

قال : أنت تقول : أنا أخرجته؟

قال : يا حروري! أخرجته ، وهذا كتابنا ينطق.

قالت الجماعة : اثنين يا حروري.

قال أبو جعفر : وأمَّا الصلاة فلعمري إنكم تقولون : ما استتمَّها حتى خرج النبيُّ صلی اللّه علیه و آله وأخرجه ، وتقدَّم فصلَّى بالناس ، فإن كان قدَّمه للصلاة وعددتم ذلك له فضلا ، فقد كان خروجه إلى الصلاة وإخراجه من المحراب له نقصاً ، ولعمري لقد كان فضلا لو كان هو الذي أمره بالصلاة وتركه على حاله ولم يخرجه منها.

قال الحروري : فلم يخرجه ، بل صلَّى بالناس.

قال : فهل كان النبيُّ صلی اللّه علیه و آله أم أمامه؟

قال : بل أمامه ، ولكن كان هو المكبِّر خلفه.

ص: 107


1- سورة الفتح ، الآية : 26.

قال : فمن كان إمام الناس في تلك الحال؟

قال : رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إمام لأبي بكر وللناس جميعاً.

قال : فإنّما منزلة أبي بكر بمنزلة الصفِّ الأول على سائر الصفوف ، مع أن هذه دعوى لم تدعم ، ثمَّ - أيضاً - ما المعنى الذي أوقف أبا بكر في ذلك الموقف؟

قال : يرفع صوته بالتكبير ليسمع الناس.

قال : لا تفعل تقع في صاحبك ، وتكذب على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

قالت الجماعة : وكيف ذلك؟

قال : لأن اللّه تعالى يقول : ( لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) (1) ، وقال : ( إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) (2) ، نهى أن ترفع الأصوات فوق صوته ، وأمره أن يرفع صوته فقد نهى عنه ، ووعد من غضَّ صوته مغفرة وأجراً عظيماً ، فهل تجيز لصاحبك فعل ذلك؟

قال الحروري : ليس هذا من ذاك ، إنّما أوقف أبا بكر ليسمع الناس التكبير.

قال : هذه حدود مسجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله معروفة الطول والعرض ، فهل نحتاج إلى مسمع ، وأيضاً فإن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله كان في حال ضعفه أقوى من قويِّهم في حال شبابه.

قالت الجماعة : هذه ثلاثة يا حروري.

قال : وأمَّا ما زعمت أنه ضجيعه في قبره فخبِّرني أين قبره؟

ص: 108


1- سورة الحجرات ، الآية : 2.
2- سورة الحجرات ، الآية : 3.

قال : في بيته.

قال : لعلّه في بيت عمر.

قال : بل في بيته صلی اللّه علیه و آله .

قال له : أوليس قد قال اللّه تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ ) (1) ، فهل استأذناه فأذن لهما؟ ثمَّ الخاص والعام يعلم أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سدَّ أبوابهما في حال حياته حتى إن أحدهما قال : اترك لي كوَّة أو خوخة أنظر إليك منها ، قال : لا ، ولا مثل الإصبع (2) ، فأخرجهما وسدَّ أبوابهما (3) ، فأقم أنت البيِّنة على أنه أذن لهما.

قال الحروري : ذلك بفرض من اللّه.

قال له : بأيِّ وصيٍّ أو بأيِّ حجّة؟

ص: 109


1- سورة الأحزاب ، الآية : 53.
2- راجع : مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 2 / 38 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 2 / 228.
3- قال العلاّمة الأميني عليه الرحمة في الغدير : 3 / 213 في أحاديث سدّ الأبواب إلاَّ باب علي علیه السلام : إن مقتضى هذه الأحاديث أنّه لم يبق بعد قصة سدِّ الأبواب باب يفتح إلى المسجد سوى باب الرسول العظيم صلی اللّه علیه و آله وابن عمِّه ، وحديث خوخة أبي بكر يصرِّح بأنه كانت هناك أبواب شارعة ، وسيوافيك البعد الشاسع بين القصتين ، وما ذكروه من الجمع بحمل الباب في قصة أميرالمؤمنين علیه السلام على الحقيقة ، وفي قصة أبي بكر بالتجوّز بإطلاقه على الخوخة ، وقولهم : ( كأنّهم لمَّا أمروا بسدِّ الأبواب سدُّوها ، وأحدثوا خوخاً يستقربون الدخول إلى المسجد منها ، فأمروا بعد ذلك بسدِّها ) تبرُّعىٌّ لا شاهد له ، بل يكذِّبه أن ذلك ما كان يتسنَّى لهم نصب عين النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، وقد أمرهم بسدِّ الأبواب لئلاّ يدخلوا المسجد منها ، ولا يكون لهم ممرٌّ به ، فكيف يمكنهم إحداث ما هو بمنزلة الباب في الغاية المبغوضة للشارع ، ولذلك لم يترك لعمّيه : حمزة والعباس ممرّاً يدخلان منه وحدهما ويخرجان منه ، ولم يترك لمن أراد كوَّة يشرف بها على المسجد ، فالحكم الواحد لا يختلف باختلاف أسماء الموضوع مع وحدة الغاية ، وإرادة الخوخة من الباب لا تبيح المحظور ولا تغيِّر الموضوع.

قال : بما لا يدفع ، وهو ميراث ابنتيهما من البيت.

قال له : قد استحقّا ثمناً من بين تسع حشايا كنَّ لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فقد ظلمت صاحبك وهو يجحد فاطمة علیهاالسلام ميراثها ، وأنت تزعم أن ميراث النساء قد أوجبه لا بنتيهما ، وأسقط الكثير من ميراث فاطمة علیهاالسلام ، وإن أحببت أجبتك إلى ما ادّعيت من الميراث ، فنظرنا هل يصير لا بنتيهما على قدر الحصّة من الحصص التسع فعلنا.

فقال أبو حنيفة والثوري : قم ويلك! كم تزري عليهما وتلزمهما الحجّة؟ إذا كان هكذا من أن النبي صلی اللّه علیه و آله لا يورِّث ، وقد احتمل لك أبو جعفر الحجّة ، وطلبت المقاسمة ، واللّه ما يصير لهما قدر ذراعين في البيت.

فالتفت أبو جعفر إلى الجماعة ، وقال : قد أبصرتم وسمعتم ، مع أنّي لم أذكر أشياء أخر ادّخرتها ، ثمَّ التفت إلى الحروري وقال : إذا كنّا نعلم أن حرمة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو ميِّت كحرمته وهو حيٌّ ، وقد أمر اللّه أن تغضَّ الأصوات عنده ، وأثاب فاعل ذلك ومعتمده ، فمن جعل لأبي بكر وعمر أن يضرب بالمعاول عنده ليدفنهما؟

فانقطع ، وكأنما أخرس لسانه ، فالتفت إليه الجماعة وقالوا : يا أبا جعفر! أنت الذي لا يقوم لك مناظر ، ولا تؤخذ عليك حجّة ، وقاموا وعليهم الخزية ، وسمَّوه من ذلك الوقت : شيطان الطاق ، رضي اللّه عنه ورحمه (1).

ص: 110


1- مختصر أخبار شعراء الشيعة ، المرزباني الخراساني : 90 - 95.

المناظرة الثالثة والعشرون: مناظرة مؤمن الطاق مع أبي حنيفة في حديث ردِّ الشمس

قال أحمد بن الصّديق المغربي : محمّد بن علي بن النعمان ، وهو الذي وقعت له مناظرة مع أبي حنيفة ; إذ قال له كالمنكر عليه : عمَّن رويت حديث ردِّ الشمس لعلي علیه السلام ؟

فقال : عمَّن رويت أنت عنه يا سارية الجبل ، فأفحمه (1).

ص: 111


1- فتح الملك العلي ، أحمد بن الصديق المغربي : 144 ، لسان الميزان ، ابن حجر : 5 / 300 - 301 رقم : 1017.

المناظرة الرابعة والعشرون: مناظرة مؤمن الطاق مع أبي حنيفة في حلّيّة المتعة

روى الشيخ الكليني عليه الرحمة عن علي رفعه ، قال : سأل أبو حنيفة أبا جعفر محمّد بن النعمان صاحب الطاق ، فقال له : يا أبا جعفر! ما تقول في المتعة؟ أتزعم أنها حلال؟

قال : نعم.

قال : فما منعك أن تأمر نساءك أن يستمتعن ، ويكتسبن عليك؟

فقال له أبو جعفر : ليس كل الصناعات يرغب فيها ، وإن كانت حلالا ، وللناس أقدار ومراتب ، يرفعون أقدارهم ، ولكن ما تقول - يا أبا حنيفة - في النبيذ؟ أتزعم أنه حلال؟

قال : نعم.

قال : فما يمنعك أن تقعد نساءك في الحوانيت نبَّاذات فيكسبن عليك؟

فقال أبو حنيفة : واحدة بواحدة ، وسهمك أنفذ.

ثمَّ قال له : يا أبا جعفر! إن الآية التي في ( سَأَلَ سَائِلٌ ) تنطق بتحريم المتعة ، والرواية عن النبيِّ صلی اللّه علیه و آله قد جاءت بنسخها.

ص: 112

فقال له أبو جعفر : يا أبا حنيفة! إن سورة ( سَأَلَ سَائِلٌ ) مكّية ، وآية المتعة مدنيّة ، وروايتك شاذّة رديَّة.

فقال له أبو حنيفة : وآية الميراث - أيضاً - تنطق بنسخ المتعة.

فقال أبو جعفر : قد ثبت النكاح بغير ميراث.

قال أبو حنيفة : ممن أين قلت ذاك؟

فقال أبو جعفر : لو أن رجلا من المسلمين تزوَّج امرأة من أهل الكتاب ، ثمَّ توفِّي عنها ما تقول فيها؟

قال : لا ترث منه.

قال : فقد ثبت النكاح بغير ميراث ، ثمَّ افترقا (1).

وقيل : إنه دخل على أبي حنيفة يوماً ، فقال له أبو حنيفة : بلغني عنكم - معشر الشيعة - شيء.

فقال : فما هو؟

قال : بلغني أن الميِّت منكم إذا مات كسرتم يده اليسرى لكي يعطى كتابه بيمينه.

فقال : مكذوب علينا يا نعمان ، ولكنّي بلغني عنكم - معشر المرجئة - أن الميِّت منكم إذا مات قمعتم في دبره قمعاً ، فصببتم فيه جرّة من ماء لكي لا يعطش يوم القيامة.

فقال أبو حنيفة : مكذوب علينا وعليكم (2).

ص: 113


1- الكافي ، الكليني : 5 / 450 ح 8 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 47 / 411 - ح 17.
2- اختيار معرفة الرجال ، الطوسي : 2 / 430 - 431 ، ح 332 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 47 / 406 - 407 ح 10.

المناظرة الخامسة والعشرون: مناظرة عمرو بن أذينة مع القاضي عبدالرحمن بن أبي ليلى في وجوب اتّباع أمير المؤمنين علیه السلام

عن عمرو بن أذينة - وكان من أصحاب أبي عبداللّه جعفر بن محمّد صلوات اللّه عليه - أنّه قال : دخلت يوماً على عبدالرحمن بن أبي ليلى بالكوفة وهو قاض ، فقلت : أردت - أصلحك اللّه - أن أسألك عن مسائل ، - وكنت حديث السنّ - فقال : سل - يا بن أخي - عمّا شئت.

قلت : أخبرني عنكم معاشر القضاة ، ترد عليكم القضيّة في المال والفرج والدم ، فتقضي أنت فيها برأيك ، ثمَّ ترد تلك القضيّة بعينها على قاضي مكة ، فيقضي فيها بخلاف قضيّتك ، ثمَّ ترد على قاضي البصرة ، وقاضي اليمن ، وقاضي المدينة ، فيقضون فيها بخلاف ذلك ، ثمَّ تجتمعون عند خليفتكم الذي استقضاكم ، فتخبرونه باختلاف قضاياكم ، فيصوِّب رأي كلِّ واحد منكم ، وإلهكم واحد ، ونبيُّكم واحد ، ودينكم واحد ، أفأمركم اللّه عزَّ وجلَّ بالاختلاف فأطعتموه؟ أم نهاكم عنه فعصيتموه؟ أم كنتم شركاء اللّه في حكمه فلكم أن تقولوا ، وعليه أن يرضى؟ أم أنزل اللّه ديناً ناقصاً فاستعان بكم في إتمامه؟ أم أنزله اللّه تامّاً فقصَّر

ص: 114

رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن أدائه؟ أم ماذا تقولون؟

فقال : من أين أنت يا فتى؟

قلت : من أهل البصرة.

قال : من أيِّها؟

قلت : من عبد القيس.

قال : من أيِّهم؟

قلت : من بني أذينة.

قال : ما قرابتك من عبدالرحمن بن أذينة؟

قلت : هو جدّي.

فرحَّب بي وقرَّبني ، وقال : أَي فتى! لقد سألت فغلظت ، وانهمكت فتعوَّصت ، وسأخبرك إن شاء اللّه ، أما قولك في اختلاف القضايا فإنه ماورد علينا من أمر القضايا ممَّا له في كتاب اللّه أصل أو في سنَّة نبيِّه صلی اللّه علیه و آله فليس لنا أن نعدو الكتاب والسنة ، وأمَّا ما ورد علينا ممَّا ليس في كتاب اللّه ولا في سنَّة نبيِّه ، فإنا نأخذ فيه برأينا.

قلت : ما صنعت شيئاً ; لأن اللّه عزَّ وجلَّ يقول : ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء ) (1) وقال فيه : ( تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْء ) (2) أرأيت لو أن رجلا عمل بما أمر اللّه به ، وانتهى عمَّا نهى اللّه عنه ، أبقي لله شيء يعذّبه عليه إن لم يفعله ، أو يثيبه عليه إن فعله؟

قال : وكيف يثيبه على ما لم يأمره به ، أو يعاقبه على ما لم ينهه عنه؟

ص: 115


1- سورة الأنعام ، الآية : 38.
2- سورة النحل ، الآية : 89.

قلت : وكيف يرد عليك من الأحكام ما ليس له في كتاب اللّه أثر ، ولا في سنَّة نبيِّه صلی اللّه علیه و آله خبر؟

قال : أخبرك - يابن أخي - حديثاً حدَّثَنَاه بعض أصحابنا ، يرفع الحديث إلى عمر بن الخطاب ، أنه قضى قضيَّة بين رجلين ، فقال له أدنى القوم إليه مجلساً : أصبت يا أميرالمؤمنين ، فعلاه عمر بالدرّة وقال : ثكلتك أمُّك ، واللّه ما يدري عمر أصاب أم أخطأ ، إنما هو رأي اجتهدته ، فلا تزكّونا في وجوهنا.

قلت : أفلا أحدِّثك حديثاً؟

قال : وما هو؟

قلت : أخبرني أبي ، عن أبي القاسم العبدي ، عن أبان ، عن علي بن أبي طالب علیه السلام أنه قال : القضاة ثلاثة ، هالكان وناج ، فأمَّا الهالكان فجائر جار متعمِّداً ، ومجتهد أخطأ ، والناجي من عمل بما أمر اللّه به .. فهذا نقض حديثك يا عمّ.

قال : أجل واللّه يابن أخي ، فتقول أنت : إن كل شيء في كتاب اللّه عزَّ وجلَّ؟

قلت : اللّه قال ذلك ، وما من حلال ولا حرام ، ولا أمر ولا نهي إلاّ وهو في كتاب اللّه عزَّ وجلَّ ، عرف ذلك من عرفه ، وجهله من جهله ، ولقد أخبرنا اللّه فيه بما لا نحتاج إليه ، فكيف بما نحتاج إليه؟!

قال : كيف قلت؟

قلت : قوله : ( فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا ) (1).

قال : فعند من يوجد علم ذلك؟

ص: 116


1- سورة الكهف ، الآية : 42.

قلت : عند من عرفت.

قال : وددت لو أني عرفته ، فأغسل قدميه وآخذ عنه وأتعلَّم منه.

قلت : أناشدك اللّه ، هل تعلم رجلا كان إذا سأل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله شيئاً أعطاه ، وإذا سكت عنه ابتدأه؟

قال : نعم ، ذلك علي بن أبي طالب صلوات اللّه عليه.

قلت : فهل علمت أن علياً سأل أحداً بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن حلال أو حرام؟

قال : لا.

قلت : هل علمت أنهم كانوا يحتاجون إليه ويأخذون عنه؟

قال : نعم.

قلت : فذلك عنده.

قال : فقد مضى ، فأين لنا به؟

قلت : تسأل في ولده ، فإن ذلك العلم عندهم.

قال : وكيف لي بهم؟

قلت : أرأيت قوماً كانوا بمفازة من الأرض ومعهم أدلاّء ، فوثبوا علهيم فقتلوا بعضهم ، وجافوا بعضهم (1) ، فهرب واستتر من بقي لخوفهم ، فلم يجدوا من يدلّهم ، فتاهوا في تلك المفازة حتى هلكوا ، ما تقول فيهم؟

قال : إلى النار ، واصفرَّ وجهه ، وكانت في يده سفرجلة ، فضرب بها الأرض فتهشَّمت ، وضرب بين يديه وقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون (2).

ص: 117


1- جافوا : أخافوا.
2- دعائم الإسلام ، القاضي النعمان المغربي : 1 / 92 - 95.

المناظرة السادسة والعشرون: مناظرة شريك مع المهدي العباسي في إمامة أميرالمؤمنين علیه السلام

دخل شريك على المهدي ، فقال له : ما ينبغي أن تقلَّد الحكم بين المسلمين؟

قال : ولم؟

قال : لخلافك على الجماعة ، وقولك بالإمامة.

قال : أمَّا قولك : « بخلافك على الجماعة » فعن الجماعة أخذت ديني ، فكيف أخالفهم وهم أصل ديني؟!

وأمَّا قولك : « وقولك بالإمامة » فما أعرف إلاَّ كتاب اللّه وسنَّة رسوله صلی اللّه علیه و آله .

وأمَّا قولك : مثلك ما يقلَّد الحكم بين المسلمين ، فهذا شيء أنتم فعلتموه ، فإن كان خطأ فاستغفروا اللّه منه ، وإن كان صواباً فأمسكوا عليه.

قال : ما تقول في علي بن أبي طالب؟

قال : ما قال جدّك العباس وعبداللّه.

قال : وما قالا فيه؟

ص: 118

قال : فأمَّا العباس ، فمات وعلي عنده أفضل الصحابة ، وقد كان يرى كبراء المهاجرين يسألونه عمَّا ينزل من النوازل ، وما احتاج هو إلى أحد حتى لحق باللّه.

وأمَّا عبداللّه ، فانه كان يضرب بين يديه بسيفين ، وكان في حروبه رأساً متَّبعاً ، وقائداً مطاعاً ، فلو كانت إمامته على جور كان أول من يقعد عنها أبوك ، لعلمه بدين اللّه ، وفقهه في أحكام اللّه.

فسكت المهدي وأطرق ، ولم يمض بعد هذا المجلس إلاَّ قليل حتى عزل شريك (1).

ص: 119


1- تأريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : 9 / 291 - 292.

المناظرة السابعة والعشرون: مناظرة سعد بن عبداللّه القمي مع بعض النواصب

روى الشيخ الصدوق عليه الرحمة بالإسناد عن أحمد بن مسرور ، عن سعد بن عبد اللّه القمي قال : كنت امرءاً لهجاً بجمع الكتب المشتملة على غوامض العلوم ودقائقها ، كلفاً باستظهار ما يصحُّ لي من حقائقها ، مغرماً بحفظ مشتبهها ومستغلقها ، شحيحاً على ما أظفر به من معضلاتها ومشكلاتها ، متعصِّباً لمذهب الإماميّة ، راغباً عن الأمن والسلامة في انتظار التنازع والتخاصم والتعدّي إلى التباغض والتشاتم ، معيباً للفرق ذوي الخلاف ، كاشفاً عن مثالب أئمَّتهم ، هتّاكاً لحجب قادتهم ، إلى أن بليت بأشِّد النواصب منازعة ، وأطولهم مخاصمة ، وأكثرهم جدلا ، وأشنعهم سؤالا ، وأثبتهم على الباطل قدماً.

فقال ذات يوم - وأنا أناظره - : تبّاً لك ولأصحابك يا سعد ، إنكم - معاشر الرافضة - تقصدون على المهاجرين والأنصار بالطعن عليهما ، وتجحدون من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولايتهما وإمامتهما ، هذا الصدّيق الذي فاق جميع الصحابة بشرف سابقته ، أما علمتم أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما أخرجه مع نفسه إلى الغار إلاَّ علماً منه أن الخلافة له من بعده ، وأنّه هو المقلَّد لأمر التأويل ، والملقى إليه أزمّة

ص: 120

الأمّة ، وعليه المعوِّل في شعب الصدع ، ولمِّ الشعث ، وسدِّ الخلل ، وإقامة الحدود ، وتسريب الجيوش (1) لفتح بلاد الشرك؟ وكما أشفق على نبوَّته أشفق على خلافته ; إذ ليس من حكم الاستتار والتواري أن يروم الهارب من الشرِّ مساعدة إلى مكان يستخفي فيه ، ولمَّا رأينا النبيَّ صلی اللّه علیه و آله متوجِّهاً إلى الانجحار ، ولم تكن الحال توجب استدعاء المساعدة من أحد استبان لنا قصد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأبي بكر للغار للعلّة التي شرحناها ، وإنّما أبات علياً علیه السلام على فراشه لمَّا لم يكن يكترث به ، ولم يحفل به (2) لاستثقاله ، ولعلمه بأنه إن قتل لم يتعذَّر عليه نصب غيره مكانه للخطوب التي كان يصلح لها.

قال سعد : فأوردت عليه أجوبة شتّى ، فما زال يعقب كل واحد منها بالنقض والردِّ عليَّ ، ثمَّ قال : يا سعد! ودونكها أخرى بمثلها تخطم (3) أنوف الروافض ، ألستم تزعمون أن الصدّيق المبرَّأ من دنس الشكوك ، والفاروق المحامي عن بيضة الإسلام كانا يسرَّان النفاق ، واستدللتم بليلة العقبة؟ أخبرني عن الصدّيق والفاروق أسلما طوعاً أو كرهاً؟

قال سعد : فاحتلت لدفع هذه المسألة عنّي خوفاً من الإلزام ، وحذراً من أنّي إن أقررت له بطوعهما للإسلام احتجَّ بأن بدء النفاق ونشأه في القلب لا يكون إلاَّ عند هبوب روائح القهر والغلبة ، وإظهار البأس الشديد في حمل المرء على من ليس ينقاد إليه قلبه ، نحو قول اللّه تعالى : ( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ

ص: 121


1- تسريب الجيوش : بعثها قطعة قطعة.
2- لم أكترث له أي ما أبالي ، وما حفله وما حفل به أي ما بالى به ولا اهتمَّ له.
3- خطمه : أي ضرب أنفه.

وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ) (1).

وإن قلت : أسلما كرهاً كان يقصدني بالطعن ; إذ لم تكن ثمَّة سيوف منتضاة (2) كانت تريهما البأس.

قال سعد : فصدرت عنه مزورَّاً (3) قد انتفخت أحشائي من الغضب ، وتقطَّع كبدي من الكرب ، وكنت قد اتخذت طوماراً ، وأثبتُّ فيه نيِّفاً وأربعين مسألة من صعاب المسائل لم أجد لها مجيباً ، على أن أسال عنها خبير أهل بلدي ; أحمد بن إسحاق ، صاحب مولانا أبي محمّد علیه السلام (4) فارتحلت خلفه ، وقد كان خرج قاصداً نحو مولانا بسر من رأى ، فلحقته في بعض المنازل ، فلمَّا تصافحنا قال : بخير لحاقك بي ، قلت : الشوق ثمَّ العادة في الأسئلة.

قال : قد تكافينا على هذه الخطّة الواحدة ، فقد برَّح بي القرم (5) إلى لقاء مولانا أبي محمّد علیه السلام وأنا أريد أن أسأله عن معاضل في التأويل ، ومشاكل في التنزيل فدونكها الصحبة المباركة ، فإنها تقف بك على ضفّة بحر لا تنقضي عجائبه ، ولا تفنى غرائبه ، وهو إمامنا.

فوردنا سر من رأى فانتهينا منها إلى باب سيِّدنا ، فاستأذنّا فخرج علينا الإذن بالدخول عليه ، وساق الحديث في عرض أسئلته على الإمام علیه السلام وجواباته له ، إلى أن قال : ثمَّ قال مولانا علیه السلام : يا سعد! وحين ادّعى خصمك أن رسول

ص: 122


1- سورة المؤمن ، الآية : 84.
2- انتضى السف : سلَّه.
3- الإزورار عن الشيء : العدول عنه.
4- يعني الإمام الحسن العسكري علیه السلام .
5- المراد بها هنا : شدّة الشوق.

اللّه صلی اللّه علیه و آله ما أخرج مع نفسه مختار هذه الأمَّة إلى الغار إلاَّ علماً منه أن الخلافة له من بعده ، وأنّه هو المقلَّد أمور التأويل ، والملقى إليه أزمَّة الأمّة ، وعليه المعوَّل في لمِّ الشعث ، وسدِّ الخلل ، وإقامة الحدود ، وتسريب الجيوش لفتح بلاد الكفر ، فكما أشفق على نبوَّته أشفق على خلافته ; إذ لم يكن من حكم الاستتار والتواري أن يروم الهارب من الشرِّ مساعدة من غيره إلى مكان يستخفي فيه ، وإنما أبات عليّاً علیه السلام على فراشه لمَّا لم يكن يكترث له ، ولم يحفل به لا ستثقاله إياه ، وعلمه أنه إن قتل لم يتعذَّر عليه نصب غيره مكانه للخطوب التي كان يصلح لها.

فهلا نقضت عليه دعواه بقولك : أليس قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : الخلافة بعدي ثلاثون سنة (1) ، فجعل هذه موقوفة على أعمار الأربعة الذين هم الخلفاء الراشدون في مذهبكم؟

فكان لا يجد بدّاً من قوله لك : بلى.

قلت : فكيف تقول حينئذ : أليس كما علم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن الخلافة من بعده لأبي بكر علم أنها من بعد أبي بكر لعمر ، ومن بعد عمر لعثمان ، ومن بعد عثمان لعلي علیه السلام ؟

فكان أيضاً لا يجد بدّاً من قوله لك : نعم.

ثمَّ كنت تقول له : فكان الواجب على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يخرجهم جميعاً ( على الترتيب ) إلى الغار ويشفق عليهم كما أشفق على أبي بكر ، ولا يستخفَّ

ص: 123


1- صحيح ابن حبان : 15 / 392 ، الثقات ، ابن حبان : 2 / 304 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 1 / 89 ح 136 ، فتح الباري ، ابن حجر : 8 / 61.

بقدر هؤلاء الثلاثة بتركه إيَّاهم ، وتخصيصه أبا بكر وإخراجه مع نفسه دونهم.

ولمَّا قال : أخبرني عن الصدِّيق والفاروق أسلما طوعاً أو كرهاً؟ لم لم تقل له : بل أسلما طمعاً ، وذلك بأنهما كانا يجالسان اليهود ويستخبرانهم عمَّا كانوا يجدون في التوراة ، وفي سائر الكتب المتقدِّمة الناطقة بالملاحم من حال إلى حال من قصة محمّد صلی اللّه علیه و آله ومن عواقب أمره ، فكانت اليهود تذكر أن محمّداً يسلَّط على العرب كما كان بختنصَّر سلِّط على بني إسرائيل ، ولا بدَّ له من الظفر بالعرب كما ظفر بختنصَّر ببني إسرائيل .. الخ (1).

ص: 124


1- كمال الدين وتمام النعمة ، الصدوق : 454 - 463 ح 21 ، دلائل الإمامة ، الطبري ( الشيعي ) : 515.

المناظرة الثامنة والعشرون: مناظرة الشيخ المفيد رحمه اللّه مع القاضي عبد الجبار في حديث الغدير

الشيخ المفيد رحمه اللّه مع القاضي عبد الجبار في حديث الغدير (1)

قال القاضي في المجالس نقلا عن مصابيح القلوب : بينما القاضي عبد الجبّار ذات يوم في مجلسه في بغداد - ومجلسه مملوء من علماء الفريقين - إذ حضر الشيخ وجلس في صفِّ النعال ، ثمَّ قال للقاضي : إن لي سؤالا ، فإن أجزت بحضور هؤلاء الأئمة.

فقال له القاضي : سل.

فقال : ما تقول في هذا الخبر الذي ترويه طائفة من الشيعة : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه (2) ، أهو مسلَّم صحيح عن النبيِّ صلی اللّه علیه و آله يوم الغدير؟

ص: 125


1- قد تقدَّمت في الجزء الثالث : 301 ، المناظرة الحادية والخمسون ، مناظرة الشيخ المفيد مع الرمّاني ، وهي شبيهة بهذه المناظرة ، وهذه أكمل منها.
2- 2 - وهذا الحديث قاله المصطفى صلی اللّه علیه و آله يوم الغدير ، وهو يعدُّ من المتواترات جدّاً ، فقد روته جلُّ كتب الحديث والسنن والتأريخ عند جمهور المسلمين ، ونذكر منها على سبيل المثال : فضائل الصحابة ، أحمد بن حنبل : 14 ، مسند أحمد بن حنبل : 1 / 84 ، سنن ابن ماجة : 1 / 45 ، سنن الترمذي : 5 / 297 ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 3 / 109 ، المصنّف ، عبد الرزاق الصنعاني : 11 / 225 ، المصنّف ، ابن أبي شيبة الكوفي : 7 / 495 ح 9، السنن الكبرى ، النسائي : 5 / 45 ، صحيح ابن حبان : 15 / 376 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 4 / 17 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 7 / 17.

فقال : نعم خبر صحيح.

فقال الشيخ : ما المراد بلفظ المولى في الخبر؟

فقال : هو بمعنى أولى.

فقال الشيخ : فما هذا الخلاف والخصومة بين الشيعة والسنّة؟

فقال الشيخ : أيُّها الأخ! هذه رواية ، وخلافة أبي بكر دراية ، والعادل لا يعادل الرواية بالدراية.

فقال الشيخ : ما تقول في قول النبيِّ صلی اللّه علیه و آله لعليٍّ علیه السلام : حربك حربي ، وسلمك سلمي؟ (1)

قال القاضي : الحديث صحيح.

فقال : ما تقول في أصحاب الجمل؟

فقال القاضي : أيُّها الأخ! إنهم تابوا.

فقال الشيخ : أيُّها القاضي! الحرب دراية ، والتوبة رواية ، وأنت قرَّرت في حديث الغدير أن الرواية لا تعارض الدراية.

فبهت الشيخ القاضي ، ولم يحر جواباً ، ووضع رأسه ساعة ، ثمَّ رفع رأسه وقال : من أنت؟

فقال : خادمك محمّد بن محمّد بن النعمان الحارثي.

فقام القاضي من مقامه ، وأخذ بيد الشيخ وأجلسه في مسنده ، وقال : أنت

ص: 126


1- المناقب ، الخوارزمي : 129 ح 143 ، مناقب أميرالمؤمنين علیه السلام ، الكوفي : 1 / 250 ح 167 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 2 / 297 ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : 1 / 200.

المفيد حقّاً! فتغيَّرت وجوه علماء المجلس.

فلمَّا أبصر القاضي ذلك منهم قال : أيُّها الفضلاء! إن هذا الرجل ألزمني ، وأنا عجزت عن جوابه ، فإن كان أحد منكم عنده جواب عمّا ذكر فليذكر ، ليقوم الرجل ويرجع مكانه الأول.

فلمَّا انفصل المجلس شاعت القصّة ، واتّصلت بعضد الدولة ، فأرسل إلى الشيخ فأحضره ، وسأله عمّا جرى فحكى له ذلك ، فخلع عليه خلعة سنيّة ، وأخذ له بفرس محلَّى بالزينة ، وأمر له بوظيفة تجري عليه (1).

ص: 127


1- خاتمة المستدرك ، الميرزا النوري : 3 / 236 ، مستدرك سفينة البحار ، النمازي : 8 / 349 - 350.

المناظرة التاسعة والعشرون: مناظرة الشيخ المفيد مع شيخ من المعتزلة في المأثور عن الأئمة علیهم السلام وخلاف العامة لهم

قال الشريف المرتضى ( رضي اللّه عنه ) : ومن حكايات الشيخ - أيَّده اللّه - قال : حضرت مجمعاً لقوم من الرؤساء ، وكان فيهم شيخ من أهل الري ، معتزليّ ، يعظِّمونه لمحل سلفه ، وتعلُّقه بالدولة ، فسئلت عن شيء من الفقه ، فأفتيت فيه على المأثور عن الأئمة علیهم السلام .

فقال ذلك الشيخ : هذه الفتيا تخالف الإجماع.

فقلت له : عافاك اللّه ، من تعني بالإجماع؟

فقال : الفقهاء المعروفين بالفتيا في الحلال والحرام من فقهاء الأمصار.

فقلت : هذا - أيضاً - مجمل من القول ، فهل تدخل آل محمّد علیهم السلام في جملة هؤلاء الفقهاء ، أم تخرجهم من الإجماع؟

فقال : بل أجعلهم في صدر الفقهاء ، ولو صحَّ عنهم ما تروونه لما خالفناه.

فقلت له : هذا مذهب لا أعرفه لك ، ولا لمن أو مأت إليه ممن جعلتهم الفقهاء ; لأن القوم بأجمعهم يرون الخلاف على أميرالمؤمنين علي بن أبي

ص: 128

طالب علیه السلام - وهو سيِّد أهل البيت علیهم السلام - في كثير ممَّا قد صحَّ عنه من الأحكام ، فكيف تستوحشون من خلاف ذرّيّته ، وتوجبون على أنفسكم قبول قولهم على كل حال؟

فقال : معاذ اللّه! ما نذهب إلى هذا ، ولا يذهب إليه أحد من الفقهاء ، وهذه شناعة منك على القوم بحضرة هؤلاء الرؤساء.

فقلت له : لم أحكِ إلاَّ ما أقيم عليه البرهان ، ولا ذكرت إلاَّ معروفاً لا يمكن أحداً من أهل العلم دفعي عنه لما هو عليه من الاشتهار ، لكنك أنت تريد أن تتجمَّل بضدّ مذهبك على هؤلاء الرؤساء.

ثمَّ أقبلت على القوم ، فقلت : لا خلاف عند شيوخ هذا الرجل وأئمّته وفقهائه وسادته أن أميرالمؤمنين علیه السلام قد يجوز عليه الخطأ في شيء يصيب فيه عمرو بن العاص ، زيادة على ما حكيت عنه من المقال!

فاستعظم القوم ذلك ، وأظهروا البراءة من معتقده ، وأنكره هو ، وزاد في الإنكار.

فقلت له : أليس من مذهبك ومذهب هؤلاء الفقهاء أن علياً علیه السلام لم يكن معصوماً كعصمة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؟

قال : بلى.

قلت : فلم لا يجوز عليه الخطأ في شيء من الأحكام؟ فسكت.

ثمَّ قلت له : أليس عندكم أن أميرالمؤمنين علیه السلام قد كان يجتهد رأيه في كثير من الأحكام ، وأن عمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري والمغيرة بن شعبة كانوا من أهل الاجتهاد؟

قال : بلى.

ص: 129

قلت له : فما الذي يمنع من إصابة هؤلاء القوم ما يذهب على أميرالمؤمنين علیه السلام من جهة الاجتهاد ، مع ارتفاع العصمة عنه ، وكون هؤلاء القوم من أهل الاجتهاد؟

فقال : ليس يمنع من ذلك مانع.

قلت له : فقد أقررت بما أنكرت الآن ، ومع هذا أفليس من أصلك أن كل أحد بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله يؤخذ من قوله ويترك إلاَّ ما انعقد عليه الإجماع؟ قال : بلى.

قلت له : أفليس هذا يسوِّغكم الخلاف على أميرالمؤمنين علیه السلام في كثير من أحكامه التي لم يقع عليها الإجماع؟

وبعد ، فليست لي حاجة إلى هذا التعسّف ، ولا أنا مفتقر فيما حكيت إلى هذا الاستدلال ; لأنه لا أحد من الفقهاء إلاَّ وقد خالف أميرالمؤمنين علیه السلام في بعض أحكامه ، ورغب عنها إلى غيرها ، وليس فيهم أحد وافقه في جميع ما حكم به من الحلال والحرام ، وإني لأعجب من إنكارك ما ذكرت وصاحبك الشافعي يخالف أميرالمؤمنين علیه السلام في الميراث والمكاتب ، ويذهب إلى قول زيد فيهما!

ويروي عنه علیه السلام أنه كان لا يرى الوضوء من مسّ الذكر ، ويقول هو : إن الوضوء منه واجب ، وإن علياً علیه السلام خالف الحكم فيه بضرب من الرأي!

وحكى الربيع عنه في كتابه المشهور عنه أنه قال : لا بأس بصلاة الجمعة والعيدين خلف كل أمين وغير مأمون ومتغلِّب ، صلَّى عليٌّ علیه السلام بالناس وعثمان محصور ، فجعل الدلالة على جواز الصلاة خلف المتغلِّب على أمر الأمّة صلاة الناس خلف علي علیه السلام في زمن حصر عثمان ، فصرح بأن علياً كان متغلِّباً ، ولا خلاف أن المتغلِّب على أمر الأمَّة فاسق ضالّ ، وقال : لا بأس بالصلاة خلف الخوارج ، لأنهم متأوِّلون ، وإن كانوا فاسقين.

فمن يكون هذا مذهبه ومقالة إمامه وفقيهه ، يزعم معه أنه لو صحَّ له عن

ص: 130

أميرالمؤمنين علیه السلام شيء أو عن ذرّيّته لدان به! لو لا أن الذاهب إلى هذا يريد التلبيس.

وليس في فقهاء الأمصار - سوى الشافعي - إلاَّ وقد شارك الشافعي في الطعن على أميرالمؤمنين علیه السلام ، وتزييف كثير من قوله ، والردّ عليه في أحكامه ، حتى إنهم يصرِّحون بأن الذي يذكره أميرالمؤمنين علیه السلام في الأحكام معتبر ، فإن أسنده إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله قبلوه منه على ظاهر العدالة ، كما يقبلون من أبي موسى الأشعري وأبي هريرة والمغيرة بن شعبة ما يسندونه إلى النبي صلی اللّه علیه و آله ، بل كما يقبلون من حمَّال في السوق على ظاهر العدالة ما يرويه مسنداً إلى النبي صلی اللّه علیه و آله .

فأمَّا ما قال أميرالمؤمنين علیه السلام من غير إسناد إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان موقوفاً على سيرهم ونظرهم واجتهادهم ، فإن وضح لهم صوابه فيه قالوا به من حيث النظر ، لا من حيث حكمه به وقوله ، وإن عثروا على خطأ فيه اجتنبوه وردّوه عليه وعلى من اتّبعه فيه ، فزعموا أن آراءهم هي المعيار على قوله علیه السلام ، وهذا مالا يذهب إليه من وجد في صدره جزأً من مودّته علیه السلام ، وحقّه الواجب له ، وتعظيمه الذي فرضه اللّه تعالى ورسوله صلی اللّه علیه و آله ، بل لا يذهب إلى هذا القول إلاَّ من ردَّ على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قوله : علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار (1).

ص: 131


1- روى الخطيب البغدادي عن أبي ثابت مولى أبي ذر ، قال : دخلت على أم سلمة فرأيتها تبكي وتذكر علياً ، وقالت : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : علي مع الحق والحق مع علي ، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض يوم القيامة. ( تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : 14 / 1. رقم : 7643 ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42 / 449 ). وعن سعد بن أبي وقاص قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : علي مع الحق والحق معه. ( مناقب أميرالمؤمنين علیه السلام ، الكوفي : 1 / 422، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 7 / 235 ). وجاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 2 / 297 عن تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي - وقد أيَّدهم - قالوا جميعاً : قد ثبت عنه في الأخبار الصحيحة أنه قال : علي مع الحق ، والحق مع علي ، يدور حيثما دار. وجاء في كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري : 1 / 98 قال : وأتى محمّد ابن أبي بكر ، فدخل على أخته عائشة ، قال لها : أما سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : علي مع الحق ، والحق مع علي؟ ثمَّ خرجت تقاتلينه بدم عثمان ... إلخ. وروى ابن عساكر في تأريخ مدينة دمشق : 42 / 499، بالإسناد عن أم سلمة قالت : واللّه إن علياً على الحق قبل اليوم وبعد اليوم ، عهداً معهوداً وقضاء مقضياً وراجع - أيضاً - شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 18 / 72 ، ينابيع المودة لذوي القربى ، القندوزي : 1 / 173.

وقوله صلی اللّه علیه و آله : أنا مدينة العلم وعلي بابها (1) وقوله صلی اللّه علیه و آله : علي أقضاكم (2) ، وقول أميرالمؤمنين علیه السلام : ضرب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يده على صدري وقال : اللّهم اهد قلبه ، وثبِّت لسانه ، فما شككت في قضاء بين اثنين (3).

فلمَّا ورد عليه هذا الكلام تحيَّر ، وقال : هذه شناعات على الفقهاء ، والقوم لهم حجج على ما حكيت عنهم.

فقال له بعض الحاضرين : نحن نبرأ إلى اللّه من هذا المقال وكل دائن به.

وقال له آخر : إن كان مع القوم حجج على ما حكاه الشيخ فهي حجج على إبطال ما ادّعيت أولا من ضدّ هذه الحكاية ، ونحن نعيذك باللّه أن تذهب إلى هذا القول! فإن كل شيء تظنّه حجّة عليه فهو كالحجّة في إبطال نبوة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فسكت مستحيياً ممّا جرى ، وتفرَّق الجمع (4).

ص: 132


1- تقدَّمت تخريجاته.
2- تقدَّمت تخريجاته.
3- تقدَّمت تخريجاته.
4- الفصول المختارة ، المفيد : 132 - 135 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 10 / 443 - 445 ح 15.

المناظرة الثلاثون: مناظرة الشيخ المفيد رحمه اللّه مع بعض المعتزلة في فقه أهل البيت علیهم السلام

قال الشيخ أدام اللّه عزَّه : قال لي يوماً بعض المعتزلة : لو كان ما تدّعونه من هذا الفقه الذي تضيفونه إلى جعفر بن محمّد وأبيه وابنه علیهم السلام حقاً ، وأنتم صادقون في الحكاية عنهم ، لوجب أن يقع لنا - معشر مخالفيكم - العلم الضروريّ بصحّة ذلك حتى لا نشكَّ فيه ، كما وقع لكم صحّة الحكاية عن أبي حنيفة ومالك والشافعي وداود وغيرهم من فقهاء الأمصار برواية أصحابهم عنهم ، فلمّا لم نعلم صحّة ما تدّعونه ، مع سماعنا لأخباركم وطول مجالستنا لكم دلَّ على أنكم متخرِّصون في ذلك!

وبعد فما بال كل من عددنا من فقهاء الأمصار قد استفاض عنهم القول في الفتيا استفاضة منعت من الريب في مذاهبهم ، وأنتم أئمّتكم أعظم قدراً من هؤلاء ، وأجلُّ خطراً ، لاسيما مع ما تعتقدون فيهم : من العصمة ، وعلوّ المنزلة ، والفضل على جميع البريّة ، والبينونة من الخلق بالمعجزة ، وما اختصّوا به من خلافة الرسول عليه وآله السلام ، وفرض الطاعة على الجنّ والإنس؟ وإن هذا لشيء عجيب!

ص: 133

قال الشيخ أدام اللّه عزَّه : فقلت له : إن الجواب عن هذا السؤال قريب جدّاً ، غير أني أقلبه عليك ، فلا يمكنك الانفصال منه إلاَّ بإخراج من ذكرت من جملة أهل العلم ، ونفي المعرفة عنهم ، وإسقاط مقال من زعمت أنهم كانوا من أصحاب الفتيا ، والعلم الضروريّ حاصل لكل من سمع الأخبار بضدّ ذلك وخلافه ، وأنهم علیهم السلام كانوا من أجلّة أهل الفتيا.

وذلك : أننا وإن كنا كاذبين على قولك ، فلابدّ لهؤلاء القوم علیهم السلام من مقال في الفتيا يتضمَّن بعض ما حكيناه عنهم ، فما بالنا معشر الشيعة ، بل ما بالكم - معشر الناصبة - لا تعلمون مذاهبهم على الحقيقة بالضرورة ، كما تعلمون مذاهب أهل الحجاز والعراق ومن ذكرت من فقهاء الأمصار؟

فإن زعمت أنك تعلم لهم في الفتيا مذهباً بخلاف ما نحكيه عنهم علم اضطرار - مع تديُّننا بكذبك في ذلك - لم نجد فرقاً بيننا وبينك إذا ادّعينا أننا نعلم صحّة ما نحكيه عنهم بالاضطرار ، وأنك وأصحابك تعلمون ذلك ، ولكنكم تكابرون العيان ، وهذا مالا فصل فيه.

فقال : إنما لم نعلم مذهبهم باضطرار لأنّه مبثوث في مذاهب الفقهاء إذا كانوا علیهم السلام يختارون ما اختاروا من قول الصحابة والتابعين ، فتفرَّق مجموع أخبارهم في مذاهب الفقهاء.

فقلت له : فإن هذا بعينه موجود في مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي ومن عددت ; لأن هؤلاء تخيَّروا من أقوال الصحابة والتابعين ، فكان يجب أن لا نعلم مذاهبهم باضطرار ، على أنك إن قنعت بهذا الاعتلال فإنّا نعتمد عليه في جوابك ، فنقول : إننا إنما تعرَّينا من علم الاضطرار بمذاهبهم علیهم السلام لأن الفقهاء تقسَّموا مذاهبهم المنصوصة عندنا ، فدانوا بها على سبيل الاختيار ; لأن قولهم

ص: 134

متفرِّق في مقال الفقهاء ، فلذلك لم يقع العلم به باضطرار.

فقال : فهب أن الأمر كما وصفت ، ما بالنا لا نعلم ما رويتم عنهم من خلاف جميع الفقهاء علم اضطرار؟

فقلت له : ليس شيء مما تومئ إليه إلاَّ وقد قاله صحابيّ أو تابعي ، وإن اتّفق من ذكرت من فقهاء الأمصار على خلافه الآن ، فلمَا قدَّمنا مما رضيته من الاعتلال لم يحصل علم الاضطرار ، مع أنك تقول - لا محالة - بأن قولهم علیهم السلام في هذه الأبواب بخلاف ما عليه غيرهم فيها ، وهو ما أجمع عليه عندك فقهاء الأمصار من الصحابة والتابعين بإحسان ، فما بالنا لا نعلم ذلك من مقالهم علم اضطرار؟ وليس هو مما تحدَّثته مذاهب الفقهاء ، ولا اختلف فيه عندك من أهل الإسلام أحد ، فبأيِّ شيء تعلَّقت في ذلك تعلَّقنا به في إسقاط سؤالك ، واللّه الموفّق للصواب.

فلم يأت بشيء تجب حكايته ، والحمد لله.

قال السيِّد رضي اللّه عنه ، مؤلِّف الفصول المختارة : وقلت للشيخ عقيب هذه الحكاية لي : إن حمل هؤلاء القوم أنفسهم على أن يقولوا : إن جعفر بن محمّد ، وأباه محمّد بن علي ، وابنه موسى بن جعفر علیهم السلام لم يكونوا من أهل الفتيا ، لكنهم كانوا من أهل الزهد والصلاح؟

قال : يقال لهم : هب أنا سامحناكم في هذه المكابرة ، وجوَّزناها لكم ، أليس من قولكم وقول كل مسلم وذمّيٍّ وعدوٍّ لعلي بن أبي طالب علیه السلام ووليٍّ له : أن أميرالمؤمنين علیه السلام كان من أهل الفتيا؟

فلابد من أن يقولوا : بلى.

فيقال لهم : فما بالنا لا نعلم جميع مذاهبه في الفتيا كما نعلم جميع مذاهب من عددتموه من فقهاء الأمصار ، بل من الصحابة كزيد وابن مسعود وعمر بن

ص: 135

الخطاب؟

إن قالوا : إنكم تعلمون ذلك باضطرار.

قلنا لهم : وذلك هو ما تحكونه أنتم عنه ، أو ما نحكيه نحن مما يوافق حكايتنا عن ذرّيّته علیهم السلام ؟

فإن قالوا : هو ما نحكيه دونكم.

قلنا لهم : ونحن - على أصلكم - في إنكار ذلك مكابرون.

وإن قالوا : نعم.

قلنا لهم : بل العلم حاصل لكم بما نحكيه عنه خاصّة ، وأنتم في إنكار ذلك مكابرون ، وهذا ما لا فصل فيه.

وهو أيضاً يسقط اعتلالهم في عدم العلم الضروريّ بمذاهب الذرّيّة لما ذكروه من تقسيم الفقهاء لها ; لأن أميرالمؤمنين علیه السلام قد سبق الفقهاء الذين أشاروا إليهم ، وكان مذهب علي علیه السلام متفرِّداً.

فإن اعتلّوا بأنه كان منقسماً في قول الصحابة فهم أنفسهم ينكرون ذلك ; لروايتهم عنه الخلاف ، مع أنه يجب أن لا يعرف مذهب عمر وابن مسعود ، لأنهما كانا منقسمين في مذاهب الصحابة ، وهذا فاسد من القول بيِّن الاضمحلال.

قال الشيخ أدام اللّه عزَّه : وهذا كلام صحيح ، ويؤيِّده علمنا بمذاهب المختارين من المعتزلة والزيدية والخوارج ، مع انبثاثها في أقوال الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار.

وقال الشيخ أدام اللّه حراسته : وقد ذكرت الجواب عمَّا تقدم من السؤال في هذا الباب ، في كتابي المعروف بتقرير الأحكام ، ووجوده هناك يغني عن تكراره هاهنا ، إذ هو في موضعه مستقصى عن البيان (1).

ص: 136


1- الفصول المختارة ، المفيد : 201 - 204 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 10 / 446 - 448 ح 16.

المناظرة الحادية والثلاثون: مناظرة الشيخ المفيد مع أبي علي بن شاذان في حديث الأنبياء يورِّثون أم لا

قال السيوطي في تنوير الحوالك في شرح موطأ مالك في البحث عن أن الأنبياء علیهم السلام يورِّثون أم لا؟ : قال الباجي : أخبرني القاضي أبو جعفر السماني أن أبا علي بن شاذان - وكان من أهل العلم بهذا الشأن إلاَّ أنه لم يكن قرأ عربيّة - فناظر يوماً في هذه المسألة أبا عبداللّه بن المعلِّم - وكان إمام الإماميّة ، وكان مع ذلك من أهل العلم بالعربيَّة - فاستدل ابن شاذان على أن الأنبياء لا يورِّثون بحديث : إنّا معاشر الأنبياء لا نورِّث ، ما تركناه صدقة (1).

فقال له ابن المعلِّم : أمَّا ما ذكرت من هذا الحديث فإنّما هو صدقة نصب على الحال ، فيقتضي ذلك : أن ما تركه النبيُّ صلی اللّه علیه و آله على وجه الصدقة لا يورث عنه ، ونحن لا نمنع هذا ، وإنّما نمنع ذلك فيما تركه على غير هذا الوجه .. (2).

ص: 137


1- قال الشهرستاني في الملل والنحل : 1 / 31 فيما وقع من الخلاف بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : الخلاف السادس : في أمر فدك والتوارث عن النبي صلی اللّه علیه و آله ودعوى فاطمة علیهاالسلام وراثة تارة ، وتمليكاً أخرى ، حتى دفعت عن ذلك بالرواية المشهورة عن النبي صلی اللّه علیه و آله : نحن معاشر الأنبياء لا نورِّث ما تركناه صدقة.
2- تنوير الحوالك : 715 ، مواقف الشيعة ، الأحمدي الميانجي : 1 / 42.

المناظرة الثانية والثلاثون: مناظرة الشريف المرتضى مع علماء الجمهور في الإمامة

قال ابن أبي جمهور الأحسائي عليه الرحمة : وقد اتّفق للمرتضى عليه الرحمة مع علماء الجمهور في الإمامة ، فأوردوا عليه أخباراً موضوعة في فضائل الشيخين ، فقال : هي مكذوبة بها على النبي صلی اللّه علیه و آله .

فقالوا : لا يقدر ولا يتجَّرى أحد على الكذب عليه.

فأجابهم بأنه روي عنه هذا الحديث - أعني قوله صلی اللّه علیه و آله : ( ستكثر عليَّ الكذّابة ) (1) - فهذا الحديث إمّا مكذوب عليه أو هو صحيح عنه ، ويلزم المطلوب على كلا التقديرين ، فأفحموا به عن الجواب (2).

ص: 138


1- الكافي ، الكليني : 1 / 62 ح 1 ، تحف العقول ، ابن شعبة الحراني : 193.
2- عوالي اللئالي ، ابن أبي جمهور الأحسائي : 1 / 187.

المناظرة الثالثة والثلاثون: مناظرة إسماعيل بن علي الفقيه مع بعض الحنابلة

قال ابن أبي الحديد : حدَّثني يحيى بن سعيد بن علي الحنبلي ، المعروف بابن عالية ، من ساكني قطفتا (1) ، بالجانب الغربيِّ من بغداد ، وأحد الشهود المعدَّلين بها ، قال : كنت حاضراً الفخر إسماعيل بن علي الحنبلي ، الفقيه المعروف بغلام ابن المنى ، وكان الفخر إسماعيل بن علي هذا مقدَّم الحنابلة ببغداد في الفقه والخلاف ، ويشتغل بشيء في علم المنطق ، وكان حلو العبارة ، وقد رأيته أنا ، وحضرت عنده ، وسمعت كلامه ، وتوفِّي سنة عشر وستمائة.

قال ابن عالية : ونحن عنده نتحدَّث ، إذ دخل شخص من الحنابلة ، قد كان له دين على بعض أهل الكوفة ، فانحدر إليه يطالبه به ، واتّفق أن حضرت زيارة يوم الغدير والحنبلي المذكور بالكوفة ، وهذه الزيارة هي اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة ، ويجتمع بمشهد أميرالمؤمنين علیه السلام من الخلائق جموع عظيمة ،

ص: 139


1- قطفتا - بالفتح ثمَّ الضمِّ ، والفاء ساكنة ، وتاء مثنّاة ، والقصر - محلّة كبيرة ذات أسواق ، بالجانب الغربيِّ من بغداد ، بينها وبين دجلة أقلّ من ميل. مراصد الاطلاع، البجاوي : 3 / 1107.

تتجاوز حدَّ الإحصاء.

قال ابن عالية : فجعل الشيخ الفخر يسائل ذلك الشخص : ما فعلت؟ ما رأيت؟ هل وصل مالك إليك؟ هل بقي لك منه بقيّة عند غريمك؟ وذلك يجاوبه ، حتى قال له : يا سيِّدي! لو شاهدت يوم الزيارة يوم الغدير ، وما يجري عند قبر علي بن أبي طالب علیه السلام من الفضائح والأقوال الشنيعة ، وسبِّ الصحابة جهاراً بأصوات مرتفعة من غير مراقبة ولا خيفة!

فقال إسماعيل : أيُّ ذنب لهم؟ واللّه ما جرَّأهم على ذلك ، ولا فتح لهم هذا الباب إلاَّ صاحب ذلك القبر!

فقال ذلك الشخص : ومن صاحب القبر؟

قال : عليُّ بن أبي طالب!

قال : يا سيِّدي! هو الذي سنَّ لهم ذلك ، وعلَّمهم إيّاه ، وطرقهم إليه؟!

قال : نعم واللّه.

قال : يا سيدي! فإن كان محقّاً فمالنا أن نتولّى فلاناً وفلاناً؟! وإن كان مبطلا فمالنا نتولاّه؟! ينبغي أن نبرأ إمَّا منه أو منهما.

قال ابن عالية : فقام إسماعيل مسرعاً ، فلبس نعليه ، وقال : لعن اللّه إسماعيل الفاعل إن كان يعرف جواب هذه المسألة ، ودخل دار حرمه ، وقمنا نحن وانصرفنا (1).

ص: 140


1- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 9 / 307 - 308.

المناظرة الرابعة والثلاثون: مناظرة الأمير أبي الفوارس مع الوزير يحيى بن هبيرة في إيمان أبي طالب علیه السلام

عن سلار بن حبيش البغدادي ، عن الأمير أبي الفوارس الشاعر قال : حضرت مجلس الوزير يحيى بن هبيرة ومعي يومئذ جماعة من الأماثل وأهل العلم ، وكان في جملتهم الشيخ أبو محمّد بن الخشّاب اللغوي ، والشيخ أبو الفرج ابن الجوزي وغيرهم ، فجرى حديث شعر أبي طالب ابن عبد المطلب ، فقال الوزير : ما أحسن شعره لو كان صدر عن إيمان!

فقلت : واللّه لأجيبن الجواب قربة إلى اللّه ، فقلت : يا مولانا! ومن أين لك أنّه لم يصدر عن إيمان؟

فقال : لو كان صادراً عن إيمان لكان أظهره ولم يخفه.

فقلت : لو كان أظهره لم يكن للنبيِّ صلی اللّه علیه و آله ناصر.

قال : فسكت ولم يحر جواباً ، وكانت لي عليه رسوم فقطعها ، وكانت لي فيه مدائح في مسودات فغسلتها جميعاً (1).

ص: 141


1- بحار الأنوار ، المجلسي : 35 / 134 ح 79.

المناظرة الخامسة والثلاثون: مناظرة إمرأة مع ابن الجوزي

قال ابن الجوزي يوماً على المنبر : سلوني قبل أن تفقدوني ، فسألته امرأة عمَّا روي أن عليّاً علیه السلام سار في ليلة إلى سلمان فجهَّزه ورجع.

فقال : روي ذلك.

قالت : وعثمان تمَّ ثلاثة أيام منبوذاً في المزابل ، وعليُّ علیه السلام حاضر؟

قال : نعم.

قالت : فقد لزم الخطأ لأحدهما.

فقال : إن كنت خرجت من بيتك بغير إذن بعلك فعليك لعنة اللّه ، وإلاَّ فعليه.

فقالت : خرجت عائشة إلى حرب عليٍّ بإذن النبيِّ صلی اللّه علیه و آله أو لا؟ (1)

فانقطع ولم يحر جواباً (2).

ص: 142


1- روى الموفّق الخوارزمي في المناقب : 176 - 177 ح 214 بالإسناد عن شهر بن حوشب قال : كنت عند أم سلمة رضي اللّه عنها ، فسلَّم رجل ، فقيل : من أنت؟ قال : أنا أبو ثابت مولى أبي ذر ، قالت : مرحباً بأبي ثابت ، ادخل ، فدخل فرحَّبت به ، فقالت : أين طار قلبك حين طارت القلوب مطايرها؟ قال : مع علي بن أبي طالب علیه السلام ، قالت : وفِّقت ، والذي نفس أم سلمة بيده لسمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : علي مع القرآن والقرآن مع علي ، لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، ولقد بعثت ابني عمر ، وابن أخي عبداللّه - أبي أميَّة - وأمرتهما أن يقاتلا مع علي من قاتله ، ولو لا أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمرنا أن نقرَّ في حجالنا أو في بيوتنا ، لخرجت حتى أقف في صفِّ عليٍّ علیه السلام .
2- الصراط المستقيم ، علي بن يونس العاملي : 1 / 218 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 29 / 647.

المناظرة السادسة والثلاثون: مناظرة رجل مع قاضي بغداد في تصدُّق أميرالمؤمنين علیه السلام بالخاتم

قال السيِّد نعمة اللّه الجزائري عليه الرحمة : حكى لي بعض إخواني ، قال : كنت جالساً في بعض الأيَّام عند قاضي بغداد الحنفي ، فسمعنا سائلا يقرأ قصيدة التصدُّق بالخاتم ، فقال لي : اسمع هؤلاء الروافض كيف نظموا القصائد في مدح علي بن أبي طالب علیه السلام على تصدُّقه بخاتم ما تبلغ قيمته أربعة دراهم ، وأبو بكر الصدّيق تصدَّق بجميع ماله ، ولم يذكره أحد في نظم ولا نثر.

فقلت له : أصلح اللّه القاضي ، ليس للروافض ذنب في هذا المعنى ، إن كان شيءٌ فهو من عالم الملكوت ، لأنه أنزل في ذلك الخاتم قرآناً يتلى إلى يوم القيامة (1) ، ولم ينزل في شأن أبي بكر آية ولا سورة مع تصدُّقه بالمال الجزيل (2).

ص: 143


1- روى ابن عساكر بالإسناد عن علي علیه السلام قال : نزلت هذه الآية على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) : فدخل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المسجد ، والناس يصلّون بين راكع وقائم يصلّي ، فإذا سائل ، فقال : يا سائل! هل أعطاك أحد شيئاً؟ فقال : لا إلاَّ هذاك الراكع - لعلي - أعطاني خاتمه. تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42 /1. 357. وروى الحاكم الحسكاني بالإسناد عن ابن عباس في قوله تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ) قال : نزلت في علي بن أبي طالب علیه السلام . شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : 1 / 209 ح 216. وراجع - أيضاً - من المصادر : أسباب النزول ، الواحدي : 133 ، المناقب ، الموفّق الخوارزمي : 264 ح 246 و 266 ح 248 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 13 / 277 ، وراه أيضاً الحافظ أبو نعيم الإصبهاني في كتابه : ما نزل من القرآن في علي علیه السلام ، زاد المسير ، ابن الجوزي : 2 / 292 ، تفسير القرطبي : 6 / 221 ، تفسير ابن كثير : 2 / 74 ، الدرّ المنثور ، السيوطي : 2 / 294 ، نظم درر المسطين ، الزرندي : 86 - 88. وقال شرف الدين الحسيني عليه الرحمة في تأويل الآيات : 1 / 153 ح 11 : ونقل ابن طاووس : أن محمّد بن العباس روى حكاية نزول الآية الكريمة ، والولاية العظيمة من تسعين طريقاً ، بأسانيد متّصلة ، كلّها من رجال المخالفين لأهل البيت علیهم السلام ، ثم عدَّد الرواة وسمَّاهم. ومما اشتهر - أيضاً - في هذه المنقبة الشريفة ما أنشده حسان بن ثابت ، قال : أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي *** وكل بطيء في الهدى ومسارع أيذهب مدحي والمحبر ضائعا *** وما المدح في جنب الإله بضائع فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعاً *** فدتك نفوس القوم يا خير راكع فأنزل فيك اللّه خير ولاية *** فبيَّنها في محكمات الشرائع المناقب ، الموفّق الخوارزمي : 265 ، شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : 1 / 236 ، نظم درر السمطين ، الزرندي الحنفي : 88.
2- ويروى - أيضاً - أن عمر تصدَّق بأربعين خاتماً رجاء أن ينزل فيه شيءٌ فلم ينزل ، وروي أن عمر بن الخطاب قال : واللّه لقد تصدَّقت بأربعين خاتماً وأنا راكع ، لينزل فيَّ ما نزل في علي بن أبي طالب علیه السلام فما نزل. الأمالي ، الصدوق : 186 ، مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 2 / 209. وفي رواية أخرى عن عمر أنه قال : أخرجت من مالي صدقة يتصدَّق بها عنّي وأنا راكع أربعاً وعشرين مرّة على أن ينزل فيَّ ما نزل في علي علیه السلام فما نزل. تأويل الآيات ، شرف الدين الحسيني : 1 / 153.

فحرَّك يده وقال : يا أخي! خطر هذا في بالي أيضاً ، ولكن كيف الحيلة؟! (1)

ص: 144


1- زهر الربيع ، الجزائري : 28 - 29.

المناظرة السابعة والثلاثون: مناظرة السيِّد الفندرسكي مع سلطان الهند في شتم معاوية

حكي : أن الأمير فندرسكي في أثناء سياحته وصل إلى الهند ، فطلب السلطان منه لقاءه ، فامتنع السيِّد لكون السلطان سنّياً ، وبعد الإصرار قبله بشرط عدم مذاكرات مذهبيّة ، ولكن بعد اللقاء قال السلطان : وإن كان شرط اللقاء عدم البحث في المذهب ولكنّي أسألكم سؤالا واحداً في سبّ معاوية لأيِّ جهة هو؟

قال السيِّد : لو فرضنا أنّك كنت في الحرب بين علي علیه السلام ومعاوية موجوداً ، بأمر أيِّهما كنت ممتثلا؟

قال السلطان : كنت أطيع أمر علي علیه السلام ; لكونه خليفة بالإجماع ، وكون مخالفته كفراً.

قال السيِّد : لو أمرك عليٌّ علیه السلام بمبارزة معاوية ، تطيعه أو تعصيه؟

قال السلطان : لقد كنت أطيعه ; لكون خلافه كفراً.

قال السيِّد : فحينئذ لو سلَّ معاوية سيفه وأراد قتلك ، هل كنت تقتله ، أو تهرب من الجهاد ، أو كنت تقتل نفسك؟

قال السلطان : كنت أقتله قطعاً.

ص: 145

قال السيِّد : تعدُّ قتله طاعة أو معصية؟

قال السلطان : أعدُّه طاعة ; لكونه طاعة لعليٍّ علیه السلام .

قال السيِّد : فمن كنت تقتله وتستبيح دمه تسألني عن سبِّه أنه يجوز أو لا يجوز؟! (1).

ص: 146


1- روضة المؤمنين : 125 ، زهر الربيع ، الجزائري : 323 ، مواقف الشيعة ، الأحمدي : 3 / 247 - 248.

المناظرة الثامنة والثلاثون: مناظرة مع شيخ من أهل الشام جاء لمناظرة

العلامة الحلي رحمه اللّه في الفرقة الناجية

جاء في كتاب التحفة الشاهية (1) : أنَّه - بعد أن ذاع صيت اجتهاد شيخ الطائفة الإمامية في زمانه ، ووجههم ورئيسهم في ذلك الزمان ، وهو جمال الملّة والدين ، الحسن بن المطهَّر الحلي ، روَّح اللّه روحه ، وأسكنه بحبوحة جنَّاته - أنه قدم أحد المشائخ ، وكان ساكناً بأرض الشام ، فحينما سمع بأن العلامة على مذهب الأئمّة الاثني عشر علیهم السلام ، وأن الأحاديث والأخبار الشريفة تدل على أحقّيّتهم ، وأنهم على سنَّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سافر من بلده إلى الحلّة قاصداً مناظرة العلاّمة - عليه الرحمة - وإفحامه.

وحينما وصل خبر وصوله إلى الحلّة خرج اثنان من تلامذة العلامة لاستقباله ، وليمتحنوا قدرته على مناظرة العلامة ، ومدى معرفته بالعلوم ليخبروا

ص: 147


1- قد تفضل علينا بهذه المناظرة وترجمها إلى العربية صديقنا فضيلة العلامة المحقق الشيخ محمّد رضا الأنصاري جزاه اللّه خير الجزاء.

العلامة بذلك.

وحينما التقوا بالشيخ الشامي سألوه عن الحديث المرويّ المشهور : ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، كلّهم في النار إلاَّ واحدة (1) ، وأنه هل ثبت صحّة هذا الحديث عنده أم لا؟

فقال : نعم.

ص: 148


1- روى الخزاز القمّي عليه الرحمة في كفاية الأثر : 155 ، عن يحيى البكا ، عن علي علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، منها فرقة ناجية ، والباقون هالكة ، والناجية الذين يتمسَّكون بولايتكم ، ويقتبسون من علمكم ، ولا يعملون برأيهم ، فأولئك ما علهيم من سبيل ، فسألت عن الأئمة ، فقال : عدد نقباء بني إسرائيل. وجاء في مسند أحمد بن حنبل : 3 / 120 عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إن بني إسرائيل قد افترقت على ثنتين وسبعين فرقة ، وأنتم تفترقون على مثلها ، كلّها في النار إلاَّ فرقة. وجاء في ص 145 عن أنس أيضاً مثله ، وفيه : فتهلك إحدى وسبعين ، وتخلص فرقة .. وفي سنن ابن ماجة : 2 / 1322 ح 3992 : عن عوف بن مالك ، عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والذي نفس محمّد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، واحدة في الجنّة ، وثنتان وسبعون في النار. وراجع أيضاً : المستدرك ، الحاكم : 1 / 129 المصنّف ، عبدالرزاق : 10 / 156 ح 18674 و 18657 ، المعجم الصغير ، الطبراني : 1 / 256. وروى البيهقي في السنن : 10 / 208 عن أبي هريرة ، عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .. وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة. قال : قال أبو سلميان الخطابي : قوله : وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، فيه دلالة على أن هذه الفرق كلّها غير خارجين من الدين ; إذ أن النبيّ صلی اللّه علیه و آله جعلهم كلّهم من أمته. أقول : هذا الكلام غير صحيح وذلك لأنّه : أولا تنافيه الروايتان السابقتان المرويَّتان عن أنس وعوف بن مالك ; إذ هما صريحتان في كون سائر الفرق هالكة وأنها في النار إلاَّ واحدة ، ومعه كيف يصحّ عدّ سائر الفرق غير خارجة من الدين؟ وأيُّ خروج أعظم ممَّا يؤول إلى الهلاك وإلى النار؟ وثانياً : كون الشخص من أمّة النبي صلی اللّه علیه و آله لا يعطيه أماناً من عدم الخروج من الدين ومن الهلاك ومن النار ; إلا إذا كان من أهل الفرقة الناجية - بشرطها وشروطها - فكون الشخص من الأمة يعني أنه من أهل الإسلام له ما للمسلمين وعليه ما عليهم وأنه محقون الدم والمال والعرض .. الخ.

فسألوه : هل أن الأئمة الاثني عشر علیهم السلام الذين يعتقد فيهم الشيعة العصمة والطهارة ، وأنهم أئمّة تجب طاعتهم داخلون في هذه الفرقة ، أم أنهم داخلون في الفرقة الهالكة؟

فلم يلتفت إليهم الشيخ الشامي ، ولم يجبهم ، ثم قفل عائداً إلى الشام وتركهم.

ويقال : إنه حينما سألوه عن السبب في عدم إجابتهم قال لهم : لأني كنت عاجزاً عن إجابتهم شِقَّي السؤال ; لأنه لو أجبتهم بدخول هؤلاء في الفرقة الناجية فإنه يستلزم الاعتراف بنجاة الفرقة الإماميّة ، وأدخل نفسي في الفرقة الهالكة ، وإن لم أعترف بدخولهم - والعياذ باللّه - في الفرقة الناجية فإني أدخل في زمرة الكفرة والمخلدين في النار (1).

ص: 149


1- التحفة الشاهية ، عبدالخالق قاضي زاده : 35 - 36.

المناظرة التاسعة والثلاثون: مناظرة الشيخ حسين بن عبدالصمد الجبعي العاملي مع بعض فضلاء حلب

اشارة

مناظرة الشيخ حسين بن عبدالصمد الجبعي العامليمع بعض فضلاء حلب (1)

قال الشيخ حسين بن عبد الصمد الجبعي العاملي عليه الرحمة : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، الحمد لله على ما أنعم به فكفى ، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى ، محمَّد النبيِّ الأُمّيِّ وأهل بيته ذوي الكرم والوفاء. أمَّا بعد :

فهذه صورة بحث وقع لهذا الفقير إلى رحمة ربه الغنيّ ، حسين بن

ص: 150


1- قد ذكرنا في الجزء الأول من المناظرات في العقائد : ص 481 مناظرة مع بعض فضلاء حلب ، ولم نعرف آنذاك صاحبها ، وهي مخطوطة من مكتبة المرعشي النجفي ، بقلم ناسخها : محمّد بن عبد الإله السلامي ، سنة خمس وتسعين وتسعمائة ، وقد قارنتها بهذه المناظرة التي هي للشيخ حسين بن عبد الصمد والتي وقعت سنة واحد وخمسين وتسعمائة ، فوجدت بينهما بعض الالتقاء في مواضيعهما ، وأقرب الظنّ أنها هي نفسها مع وجود بعض الفوارق ، ويحتمل أن الشيخ حسين بن عبدالصمد قد كتب هذه المناظرة بقلمه الشريف مرّتين - مع وجود الزيادة والنقيصة والإطناب والاختصار في بعض بحوثهما واللّه العالم. وهذه المناظرة أوسع وأكمل ، والأولى - أيضاً - تحتوي على بعض البحوث المهمّة التي لا توجد في الثانية ، وقد وجدنا هذه المناظرة مطبوعة بتحقيق شاكر شبع، جزاه اللّه خيراً.

عبدالصمد الجبعي ، في حلب ، سنة إحدى وخمسين وتسعمائة ، أضافني بعض فضلاء حلب ، وكان ذكيّاً بحّاثاً ، ولي معه خصوصية وصداقة وكيدة بحيث لا أتّقيه ، وكان أبوه من أعيانها.

فقلت له : إنه يقبح بمثلي ومثلك - بعد أن صرف كل منّا عمره في تحصيل العلوم الإسلاميّة وتحقيق مقدماتها - أن يقلِّد في مذهبه الذي يلقى اللّه به ، والتقليد مذموم بنصّ القرآن ، وليس حجَّةً منجية ; لأن كل أحد يقلِّد سلفه ، فلو كان حجَّةً كان الكل ناجين ، وليس كذلك.

فقال : هلمَّ حتى نبحث.

البحث في اتباع المذاهب الأربعة

فقلت : هل عندكم نصٌّ من القرآن ، أو من الرسول صلی اللّه علیه و آله على وجوب اتّباع أبي حنيفة؟

فقال : لا.

فقلت : هل أجمع أهل الإسلام على وجوب اتّباعه؟

فقال : لا.

فقلت : فما سوَّغ لك تقليده؟

فقال : إنّه مجتهد وأنا مقلِّد ، والمقلِّد فرضه أن يقلِّد مجتهداً من المجتهدين.

فقلت : فما تقول في جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام ؟ هل كان مجتهداً من المجتهدين؟

فقال : هو فوق الاجتهاد ، وفوق الوصف في العلم والتقى والنسب وعظم الشأن ، وقد عدَّ بعض علمائنا من تلاميذه نحو أربعمائة رجل ، كلّهم علماء فضلاء مجتهدون ، وأبو حنيفة أحدهم.

ص: 151

فقلت : قد اعترفت باجتهاده وتقواه ، وجواز تقليد المجتهد ، ونحن قد قلَّدناه ، فمن أين تعلم أنَّا على الضلالة وأنَّكم على الهداية؟! مع أنّا نعتقد عصمته ، وأنّه لا يخطئ ، بل ما يحكم به هو حكم اللّه ، ولنا على ذلك أدلّة مدوَّنة ، وليس كأبي حنيفة يقول بالقياس والرأي والاستحسان ويجوز عليه الخطأ ، وبعد التنزُّل عن عصمته ، والاعتراف بأنه يقول بالاجتهاد كما تزعمون ، فلنا دلائل على وجوب اتّباعه ليس في أبي حنيفة واحد منها.

أحدها : إجماع كل أهل الإسلام - حتى الأشاعرة والمعتزلة - على غزارة علمه ، ووفور تقواه ، وعدالته ، وعظم شأنه ، بحيث إني إلى يومي هذا - مع كثرة ما رأيت من كتب أهل الملل ، والتواريخ والسير ، وكتب الجرح والتعديل ، ونحو ذلك - لم أرَ قطّ طاعناً عليه بشيء من مخالفيه ، وأعداء شيعته ، مع كثرتهم ، وعظم شأنهم في الدنيا ; لأنهم كانوا ملوك الأرض ، والناس تحبُّ التقرُّب إليهم بالصدق والكذب ، ولم يقدر أحد أن يفتري عليه كذباً في الطعن ليتقرَّب به إلى ملوك عصره ، وما ذاك إلاَّ لعلمه أنه إن افترى كذباً كذَّبه كل من سمعه ، وهذه مزيَّة تميَّز هو وآباؤه وأبناؤه الستّة بها عن جميع الخلق.

فكيف يجوز ترك تقليد من أجمع الناس على علمه وعدالته وجواز تقليده ، ويقلَّد من وقع فيه الشك والطعن؟! مع أن الجرح مقدَّم على التعديل كما تقرَّر في موضعه ، وهذا إمامكم الغزالي صنَّف كتاباً سمَّاه : المنخول ، موضوعه الطعن على أبي حنيفة ، وإثبات كفره بأدلّة يطول شرحها ، وصنَّف بعض فضلاء الشافعية كتاباً سمَّاه : النكت الشريفة في الردّ على أبي حنيفة ، رأيته في مصر ، ذكر فيه جميع ما ذكره الغزالي وزاد أشياء أخر.

ولا شبهة في وجوب تقليد المتّفق على علمه وعدالته ; لأن ظنّ الصواب

ص: 152

معه أغلب ، ولا يجوز العمل بالمرجوح مع وجود الراجح إجماعاً ، والجرح مقدَّم على التعديل كما تقرَّر.

ثانيها : أنَّه - عندنا - من أهل البيت المطهَّرين علیهم السلام بنصّ القرآن ، والتطهُّر هو : التنزُّه عن الآثام ، وعن كل قبيح ، كما نصَّ عليه ابن فارس في مجمل اللغة ، وهذا نفس العصمة التي يدّعيها الشيعة ، وأبو حنيفة ليس منهم إجماعاً ، ويتحتَّم تقليد المطهَّر بنصّ القرآن ، لتيقُّن النجاة معه.

قال : نحن لا نسلِّم أنه من أهل البيت علیهم السلام ; إذ قد صحَّ في أحاديثنا أنهم خمسة.

فقلت : سلَّمنا أنه ليس من الخمسة ، ولكن حكمه حكمهم في العصمة ، ووجوب الاتّباع لوجهين :

الأول : إن كل من قال بعصمة الخمسة قال بعصمته ، ومَنْ لا فلا ، وقد ثبتت عصمة الخمسة بنصّ القرآن ، فثبتت عصمته ; لأنه قد وقع الإجماع على أنّه لا فرق بينه وبينهم ، فالقول بعصمتهم دونه خلاف إجماع المسلمين.

الثاني : إنه اشتهر بين أهل النقل والسير أن جعفر الصادق وآباءه علیهم السلام لم يتردَّدوا إلى مجالس العلماء أصلا ، ولم ينقل أنهم تردَّدوا إلى مخالف ولا مؤالف ، مع كثرة المصنِّفين في الرجال ، وطرق النقل ، وتعداد الشيوخ والتلاميذ ، وإنّما ذكروا أنه أخذ العلم عن أبيه محمّد الباقر علیه السلام ، وهو أخذه عن أبيه زين العابدين علیه السلام ، وهو أخذه عن أبيه الحسين علیه السلام ، وهو من أهل البيت علیهم السلام إجماعاً.

وقد صحَّ عندنا أنهم علیهم السلام لم يكن قولهم بطريق الاجتهاد ، ولهذا لم يسأل أحد قط صغيراً ولا كبيراً عن مسألة فتوقَّف في جوابها ، أو احتاج إلى مراجعة ، وقد صرَّحوا علیهم السلام أن قول الواحد منهم كقول آبائهم ، وقول آبائهم كقول

ص: 153

النبي صلی اللّه علیه و آله ، وثبت ذلك عندنا بالطرق الصحيحة المتّصلة بهم ، فقوله علیه السلام هو قول المطهرَّين بنصّ القرآن.

وثالثها : ما ثبت في صحاح أحاديثكم بالطرق الصحيحة المتكثِّرة ، المتّحدة المعنى ، المختلفة اللفظ ، من قوله علیه السلام : إنّي مخلِّف فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلوا بعدي ، الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يتفرَّقا حتى يردا عليَّ الحوض (1).

وفي بعض الطرق : إني تارك فيكم خليفتين : كتاب اللّه وعترتي (2) ، فصرَّح صلی اللّه علیه و آله بأن المتمسِّك بكتاب اللّه وعترته لن يضلَّ ، ولم يتمسَّك بهما إلاَّ الشيعة كما لا يخفى ; لأن الباقين جعلوا عترته كباقي الناس ، وتمسَّكوا بغيرهم ، ولم يقل : مخلِّف فيكم كتاب اللّه وأبا حنيفة ، ولا الشافعي.

فكيف يجوز ترك التمسُّك بمن تتحقَّق النجاة بالتمسُّك به ، ويتمسَّك بمن لم تعلم النجاة معه؟! إن هذا إلاَّ لمحض السفه والضلال ، وهذا يقتضي العلم بوجوب اتّباعهم ، وإن نوزع فيه فلا ريب في اقتضائه ظنَّ وجوب الاتّباع ، وذلك

ص: 154


1- مسند أحمد بن حنبل : 4 / 367 ، فضائل الصحابة ، أحمد بن حنبل : 22 ، صحيح مسلم : 7 / 122 - 123 ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 3 / 110 ، السنن الكبرى ، البيهقي : 2 / 148 و 7 / 30 ، السنن الكبرى ، النسائي : 5 / 51 ، مسند أبي يعلى الموصلي : 2 / 297 ح 48 و 303 و 54 ، والمعجم الكبير ، الطبراني : 5 / 154 ح 4923 وص 166 ، ذيل تاريخ بغداد ، ابن النجار البغدادي : 5 / 14 ، المناقب ، الموفق الخوارزمي : 200 ، ينابيع المودة ، القندوزي : 1 / 121 ح 49.
2- مسند أحمد بن حنبل : 5 / 181 - 182 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 5 / 153 - 154 ح 4921 و 4922 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 1 / 172 ح 872 و 186 ح 947 و 384 ح 1667 ، الدرّ المنثور ، السيوطي : 2 / 60 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 1 / 170 ، وقال : رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثقون ، وذكره أيضاً في : 9 / 162 - 163 وقال : رواه أحمد وإسناده جيّد.

كاف لوجوب العمل بالراجح ، واختيارهم علیهم السلام بهذه المرجِّحات على غيرهم من المجتهدين ، فلا يكون العدول عنهم إلاَّ اتّباعاً للهوى والتقليد المألوف.

فقال : أنا لا أشك في اجتهادهم ، وغزارة علمهم ، ونجاة مقلِّدهم ، ولكن مذهبهم لم ينقل ولم يشتهر ، كما نقلت المذاهب الأربعة.

فقلت : إن كان مرادك أن الحنفيّة والشافعيّة لم ينقلوه ، فمسلَّم ، ولكن لا يضرُّنا ; لأنَّا لم ننقل مذهبهما أيضاً ، والشافعيَّة لم ينقلوا مذهب أبي حنيفة ، وبالعكس ، وكذا باقي المذاهب ، وليس ذلك طعناً فيها عندكم.

وإن كان مرادك أنه لم ينقله أحد من المسلمين ، فهذه مكابرة محضة ; لأن شيعتهم ، وكثيراً من أهل السنة وباقي الطوائف قد نقلوا أقوالهم وآدابهم وعباداتهم ، واعتنى الشيعة بذلك أشدَّ الاعتناء ، وبحثوا عن تصحيح الناقلين وجرحهم وتعديلهم أشدَّ البحث ، وهذه صحاح أحاديثهم وكتب الجرح والتعديل عندهم مدوَّنة مشهورة بينهم ، لا يمكن إنكارها.

وعلماء الشيعة وإن كانوا أقلَّ من علماء السنة ، ولكن ليسوا أقلَّ من فرقة من فرق المذاهب الأربعة ، خصوصاً الحنابلة والمالكيّة ، فإن الشيعة أكثر منهم يقيناً ، ولم يزل - بحمد اللّه - علماء الشيعة في جميع الأعصار أعلم العلماء وأتقاهم ، وأحذقهم في فنون العلوم ، أمَّا في زمن الأئمّة الاثني عشر علیهم السلام فواضح أنه لم يساوهم أحد في علم ولا عمل ، حتى فاق تلاميذهم ، واشتهروا بغزارة العلم ، وقوّة الجدال ، كهشام بن الحكم ، وهشام بن سالم ، وجميل بن درّاج ، وزرارة بن أعين ، ومحمّد بن مسلم ، وأشباههم ممّن عرفهم مخالفوهم في المذهب ، وأثنوا عليهم بما لا مزيد عليه.

وأمَّا بعد زمان الأئمَّة فمنهم مثل ابن بابويه ، والشيخ الكليني ، والشيخ

ص: 155

المفيد ، والشيخ الطوسي ، والسيِّد المرتضى ، وأخيه ، وابني طاووس ، والخواجة نصير الدين الطوسي ، وميثم البحراني ، والشيخ أبي القاسم المحقِّق ، والشيخ جمال الدين ابن المطهَّر الحلي ، وولده فخر المحقِّقين ، وأشباههم من المشايخ المشاهير ، الذين قد ملأوا الخافقين بمصنَّفاتهم ومباحثهم ، ومن وقف عليها علم علوَّ شأنهم ، وبلوغهم مرتبة الاجتهاد وقوَّة الاستنباط ، وإنكار ذلك إمَّا لتعصُّب أو جهل.

فقد لزمك القول بصحّة مذهبنا ، وأرجحيَّة من قلَّدناه ، بل يلزم ذلك كل من وقف نفسه على جادّة الإنصاف ، ولا يلزمنا القول بصحّة مذهبك ; لأنّا قد شرطنا في المتَّبع العصمة ، فنكون نحن الفرقة الناجية إجماعاً ، وأنتم وإن لم تقولوا بصحّة مذهبنا ، ولكن يلزمكم ذلك بحسب قواعدكم ; للدليل المسلَّم المقدّمات عندكم ; إذ سبب نجاتكم أنكم قد قلَّدتم مجتهداً ، وهذا بعينه حاصل لنا باعترافكم ، مع ترجيحات فيمن اتّبعناه لا يمكنكم إنكارها.

البحث في عدالة الصحابة

فبهت ، ولم يجب بشيء.

ولكن عدل عن سوق البحث ، وقال : إني أسألكم عن سبِّكم أكابر الصحابة ، وأقربهم من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، الذين نصروه بأموالهم وأنفسهم ، حتى ظهر الدين بسيوفهم ، في حياته وبعد موته ، حتى فتحوا البلاد ، ونصروا دين اللّه بكل ما أمكنهم ، والفتوحات التي فتحها عمر لم يقع مثلها في زمن النبيِّ صلی اللّه علیه و آله كمصر والشام ، وبيت المقدس ، والروم والعراق وخراسان ، وعراق العجم ، وتوابع ذلك مما يطول شرحه ، ولا يمكن إنكاره ، كما لا يمكن إنكار قوَّته في الدين

ص: 156

وسطوته ، وشدّة بأسه ، وإني إذا نظرت في أدلّتكم وجدتها واضحة قويَّة ، وإذا رأيت من مذهبكم سبّ أكابر أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وخواصّه ، الذين سبقوا في الإسلام ، وكانوا من المقرَّبين عنده حتى تزوَّج بناتهم ، وزوَّجهم بناته ، ومدحهم اللّه في كتابه بقوله : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً ) (1) إلى آخر الآية ، فإذا رأيت ذلك نفرت نفسي ، وجزمت بفساد مذهبكم.

فقلت له : ليس في مذهبنا وجوب سبِّهم ، وإنَّما يسبُّهم عوام الناس المتعصِّبون ، وأمَّا علماؤنا فلم يقل أحد بوجوب سبِّهم ، وهذه كتبهم موجودة ، وأقسمت له أيماناً مغلَّظة بأنّه لو عاش أحد ألف سنة وهو يتديَّن بمذهب أهل البيت علیهم السلام ويتولاَّهم ، ويتبرَّأ من أعدائهم ، ولم يسبَّ الصحابة قط ، لم يكن مخطئاً ، ولا في إيمانه قصور ، فتهلَّل وجهه ، وأنس بذلك ; لأنه صدَّقني فيه.

فقلت له : إذا ثبت عندك غزارة علم أهل البيت علیهم السلام ، واجتهادهم ، وعدالتهم ، وترجيحهم على غيرهم ، فهم أولى بالاتّباع ، فتابعهم.

فقال : أشهد على أني متابع لهم ، ولكني لا أسبُّ الصحابة.

فقلت : لا تسبَّ أحداً منهم ، ولكن إذا اعتقدت عظم شأن أهل البيت علیهم السلام عند اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله فما تقول فيمن عاداهم وآذاهم؟

فقال : أنا بريء منهم.

فقلت : هذا يكفيني منك ، فأشهد اللّه ورسوله وملائكته أنه محبٌّ لهم ومتابع ، وبريء من أعدائهم ، وطلب منّي كتاباً في فقههم ، فدفعت إليه النافع ،

ص: 157


1- سورة الفتح ، الآية : 29.

وتفرَّفنا.

ثم رأيته بعد ذلك في غضب وتكدُّر من التشيُّع ، بواسطة ما رسخ في قلبه من عظم شأن الصحابة ، واعتقاده أن الشيعة تسبُّهم.

فقلت له في ليلة أخرى : إن عاهدت اللّه على الإنصاف ، وكتم الأمر عليَّ ، بيَّنت لك أمر السبِّ ، فعاهد اللّه على ذلك ما دمت حيّاً بأيمان مغلَّظة ، ونذور مؤكَّدة ، وسألته : ما تقول في الصحابة الذين قتلوا عثمان؟

فقال : إن ذلك وقع باجتهادهم ، وإنهم غير مأثومين ، وقد صرَّح أصحابنا بذلك.

فقلت : وما تقول في عائشة وطلحة والزبير وأتباعهم ، الذين حاربوا عليّاً علیه السلام يوم الجمل ، وقتل في حربهم من الفريقين نحو ستة عشر ألفاً؟ وما تقول في معاوية وأصحابه ، الذين حاربوا في صفّين ، وقتل من الفريقين ( نحو ) ستين ألفاً؟

فقال : كالأول.

فقلت : هل جواز الاجتهاد مقرٌّ على فرقة من المسلمين دون فرقة؟

قال : لا ، كل أحد له صلاحيَّة الاجتهاد.

فقلت : إذا جاز الاجتهاد في قتل أكابر الصحابة ، وقتل خلفاء المؤمنين ، وحرب أخي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وابن عمّه ، وزوج فاطمة سيِّدة نساء العالمين ، أعلم الخلق ، وأزهدهم ، وأقربهم من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ووارث علمه ، الذي قام الإسلام بسيفه ، ومن أثنى عليه اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله بما لا يمكن إنكاره ، حتى جعله اللّه وليَّ الناس كافّة بقوله تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ) (1) يعني

ص: 158


1- سورة المائدة ، الآية : 55.

عليّاً علیه السلام بالإجماع ، وقال النبيُّ صلی اللّه علیه و آله : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه (1) ، أنا مدينة العلم وعلىٌّ بابها (2) ، اللَّهُمَّ أئتني بأحبِّ خلقك إليك (3) ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى (4) ، وأشباه ذلك ممَّا يطول تعداده ، فلم لا يجوز الاجتهاد في سبِّ بعض الصحابة؟!

فإنّا لا نسبُّ إلاَّ من علمنا أنه أظهر العداوة لأهل البيت علیهم السلام ، ونحبُّ المخلصين منهم ، الحافظين وصيَّة اللّه ورسوله فيهم ، كسلمان ، والمقداد وعمَّار ، وأبي ذر ، ونتقرَّب إلى اللّه بحبِّهم ، ونسكت عن المجهول حالهم ، هذا اعتقادنا

ص: 159


1- سوف يأتي الحديث مع تخريجاته في مناظرة الدكتور أسعد القاسم الفلسطيني.
2- تقدَّمت تخريجاته.
3- روى النسائي ، عن أنس بن مالك أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله كان عنده طائر ، فقال : اللّهم ائتني بأحبِّ خلقك إليك ، يأكل معي من هذا الطير ، فجاء أبو بكر فردَّه ، وجاء عمر فردَّه ، وجاء عليٌّ فأذن له. راجع : السنن الكبرى ، النسائي : 5 / 107 ح 8398، خصائص أميرالمؤمنين علیه السلام ، النسائي : 51 - 52 ، مسند أبي يعلى الموصلي : 7 / 105 ح 4052 ، أسد الغابة ، ابن الأثير : 4 / 30. وروى الترمذي بالإسناد عن أنس بن مالك ، قال : كان عند النبيِّ صلی اللّه علیه و آله طير فقال : اللّهم ائتني بأحب خلقك إليك ، يأكل معي هذا الطير ، فجاء عليٌّ فأكل معه. راجع : سنن الترمذي : 5 / 300 ح 3805 التاريخ الكبير ، البخاري : 1 / 358 ، رقم : 1132 ، تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي 3 / 390 ، رقم : 1531 ، مناقب أميرالمؤمنين علیه السلام ، الكوفي : 2 / 489 ح 993 ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42 / 245 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 7 / 387 ، المناقب ، الموفق الخوارزمي : 107 - 108 ح 114 ، المعجم الأوسط ، الطبراني : 2 / 206 - 207 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 1 / 253 ح 730 ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبداللّه الطبري : 61 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 9 / 126 ، وقال : رواه البزار والطبراني باختصار ، ورجال الطبراني رجال الصحيح غير فطر بن خليفة ، وهو ثقة ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 18 / 24 ، نظم درر السمطين ، الزرندي الحنفي : 101 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 13 / 166 ح 36505.
4- تقدَّمت تخريجاته.

فيهم.

وهذا معاوية قد سبَّ عليّاً وأهل بيته علیهم السلام ، واستمرَّ ذلك في زمن بني أميَّة ثمانين سنة ، ولم ينقص ذلك من قدره عندكم ، وكذلك الشيعة اجتهدوا في جواز سبِّ أعداء أهل البيت منهم ، ولو كانوا مخطئين فيهم غير مأثومين.

ومدح اللّه تعالى لهم في القرآن نقول به ; لأنهم ممدوحون بقول مطلق ; لأن فيهم أتقياء أبراراً ، وليس كلّهم كذلك جزماً ، وحديث الحوض يوضح ذلك (1).

وأيضاً فيهم منافقون بنصّ القرآن ، فلا يمنع مدح اللّه لهم فسق بعضهم أو كفره ، واجتهادنا في جواز سبِّ ذلك البعض.

فقال كالمتعجِّب : أو يجوز الاجتهاد بغير دليل؟!

فقلت : أدلّتهم في ذلك كثيرة واضحة.

فقال كالمستبعد : بيِّن لي منها واحداً.

فقلت : سأذكر لك ما لا يمكنك إنكاره ، وذلك أنه قد ثبت عندكم وعندنا أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله لمَّا جعل أسامة بن زيد أميراً ، وجهَّزه إلى الشام أمر الصحابة عموماً باتّباعه ، وخصَّص أبا بكر وعمر وأمرهما باتّباعه ، وقال : جهِّزوا جيش أسامة ، لعن اللّه من تأخَّر عن جيش أسامة (2) ، وقد تخلَّف الرجلان بإجماع المسلمين ، فكانا مشمولين بنصّ الرسول صلی اللّه علیه و آله ونصّ اللّه ; لأنه لم ينطق عن الهوى.

فقال : إنما تخلَّفا باجتهاد ، وشفقة على الرسول صلی اللّه علیه و آله والمسلمين ، وقالا : كيف نمضي ونترك نبيَّنا مريضاً ، نسأل عنه الركبان؟! ورأيا صلاح المسلمين في

ص: 160


1- سوف يأتي قريباً.
2- السقيفة وفدك ، الجوهري : 77 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 6 / 52 ، وراجع المصادر الأخرى في الجزء الثالث : 423.

تخلُّفهما.

فقلت : هذا خطأ محض ، فإن الاجتهاد إنما يجوز في مسألة لا نصَّ فيها ، ولا يجوز مقابل النصّ بإجماع علماء الإسلام ، وقد قال اللّه تعالى : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) (1) فاجتهادهما هذا ردٌّ على اللّه وعلى رسوله صلی اللّه علیه و آله ، وهل يتصوَّر مسلم أنهما أعلم بصلاح المسلمين من اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله ؟! ما هذا ( إلاَّ ) العمى عن الحقّ ، والتلبُّس بالشبهات.

فقال : أمهلني حتى أنظر.

فقلت : قد أمهلتك إلى يوم القيامة ، ثمَّ ذكرت له - بعد ذلك - حديث الحوض ، وهو ما رواه في الجمع بين الصحيحين للحميدي ، في الحديث الحادي والثلاثين بعد المائة ، من المتفق عليه من مسند أنس بن مالك ، قال : إن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : ليردن عليَّ الحوض رجال ممن صاحبني ، حتى إذا رأيتهم ورفعوا إليَّ رؤوسهم اختلجوا ، فأقولن : أي ربِّ! أصحابي! فيقال لي : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك (2).

ورواه أيضاً في الجمع بين الصحيحين من مسند ابن عباس بلفظ آخر ، والمعنى متفق ، وفي آخره زيادة : إنهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم (3).

ص: 161


1- سورة النجم ، الآية : 3 - 4.
2- مسند أبي يعلى الموصلي : 7 / 34 - 35 ح 3942 ، المصنّف ، ابن أبي شيبة : 7 / 415 ح 35 ، مسند أحمد بن حنبل : 5 / 48 و 50 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 36 / 8 ، فتح الباري ، ابن حجر : 11 / 333 ، كنز العمال ، المتقي الهندي 13 / 238 - 239 ح 36714 ، تفسير القرطبي : 6 / 377.
3- مسند أحمد بن حنبل : 1 / 235 ، السنن الكبرى ، النسائي : 1 / 668 - 669 ح 2214 ، المعجم الأوسط ، الطبراني : 3 / 186.

ورواه أيضاً في الجمع بين الصحيحين من مسند سهل بن سعد ، في الحديث الثامن والعشرين من المتفق عليه ، وفي آخره زيادة : فأقول : سحقاً سحقاً لمن بدَّل بعدي (1).

ورواه أيضاً في الحديث السابع والستين بعد المائتين من مسند أبي هريرة ، من عدّة طرق ، وفي آخره زيادة : فلا يخلص منهم إلاَّ همل (2) النعم (3).

وقد روى مثل ذلك من مسند عائشة بعدّة طرق ، ومن مسند أسماء بنت أبي بكر بعدّة طرق ، ومن مسند أم سلمة بعدّة طرق ، ومن مسند سعيد بن المسيَّب بعدّة طرق.

وهذا ذمٌّ لهم على لسان الرسول صلی اللّه علیه و آله ، الثابت في صحاحكم ، قد بلغ حدَّ التواتر ، وهو عين ما ندّعيه من ميل كثير منهم إلى الملك والرئاسة والحياة الدنيا ، وبسبب ذلك أظهروا العداوة لأهل البيت علیهم السلام ، وجدّوا في أذاهم.

وقد سمعنا بسير الملوك الذين قتلوا أبناءهم ، والأبناء الذين قتلوا آباءهم حرصاً على الملك ، وأظهر من ذلك في القرآن ، فقد أخبر بوقوع أكبر الكبائر منهم ، وهي الفرار من الزحف ، قال اللّه تعالى : ( وَيَوْمَ حُنَيْن إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ) (4).

ص: 162


1- صحيح البخاري : 8 / 87 ، صحيح مسلم : 7 / 66 ، مسند أحمد بن حنبل : 3 / 28 و 5 / 333.
2- قال ابن الأثير في مادة ( همل ) : في حديث الحوض : فلا يخلص منهم إلاَّ مثل همل النعم. الهمل : ضوالّ الإبل ، واحدها : هامل. أي إن الناجي منهم قليل في قلّة النعم الضالّة ( النهاية في غريب الحديث ، ابن الأثير : 5 / 274 ).
3- صحيح البخاري : 7 / 208 - 209 ، فتح الباري ، ابن حجر : 11 / 333 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 11 / 132 - 133 ح 30918.
4- سورة التوبة ، الآية : 25.

وقد كانوا أكثر من عشرة آلاف ، فلم يتخلف معه إلاَّ علي علیه السلام والعباس وجماعة أخرى ، والباقون سلَّموا نبيَّهم إلى القتل ، ولم يخشوا العار ولا النار ، ولم يستحيوا من اللّه ولا من رسوله صلی اللّه علیه و آله ، وممَّا يشاهدانهما عياناً.

وقال اللّه تعالى : ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً ) (1) فإذا كانوا يتركون الصلاة خلفه للتفرُّج على القافلة ، فكيف يستبعد ميلهم إلى الدنيا بعده ، واتّباعهم هوى أنفسهم في طلب الملك؟ وقد أخبر النبيّ صلی اللّه علیه و آله بذلك في الأخبار المتقدّمة.

وذكرت له قول أبي بكر : إن لي شيطاناً يعتريني (2) ، وعزله عن براءة ، فلم يؤمن عليها ، وهي سورة واحدة ، وهزيمته وهزيمة عمر في خيبر وعدّة مواطن (3).

ص: 163


1- سورة الجمعة ، الآية : 11.
2- المصنّف ، عبدالرزاق الصنعاني : 11 / 336 ح 20701 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 3 / 212 ، المعيار والموازنة ، أبو جعفر الإسكافي : 61 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 30 / 303 ، البداية والنهاية ، ابن الأثير : 334 ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : 1 / 34.
3- روى الحاكم النيسابوري بالإسناد عن أبي ليلى ، عن علي علیه السلام أنه قال : يا أبا ليلى! أما كنت معنا بخيبر؟ قال : بلى واللّه ، كنت معكم ، قال : فإن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعث أبا بكر إلى خيبر ، فسار بالناس وانهزم حتى رجع. قال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وروى أيضاً بالإسناد عن جابر رضي اللّه عنه أن النبي صلی اللّه علیه و آله دفع الراية يوم خيبر إلى عمر ، فانطلق فرجع يجبِّن أصحابه ويجبّنونه ، قال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ( المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 3 /37 - 38 ). وروى ابن عساكر بالإسناد عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أبا بكر إلى خيبر ، فهزم فرجع ، فبعث عمر فهزم ، فرجع يجبِّن أصحابه ويجبِّنه أصحابه ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لأدفعنَّ الراية إلى رجل يحبُّ اللّه ورسوله ، ويحبُّه اللّه ورسوله ، يفتح اللّه عليه ، فدعا علياً ، فقيل له : إنَّه أرمد ، قال : ادعوه ، فدعوه فجاءه ، فدفع إليه الراية ففتح اللّه عليه. ( تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42 /96 - 97 ).

ومنعه فاطمة علیهاالسلام إرثها بحديث تفرَّد بروايته ، مخالف للقرآن يجب ردُّه ، وقالت له علیهاالسلام : أترث أباك ولا أرث أبي؟! أفي كتاب اللّه ذلك؟! (1).

ويلزم أن يكون النبيّ صلی اللّه علیه و آله قد قصَّر في أنه لم ينذر إلاَّ أبا بكر ، ولم ينذر أهل البيت علیهم السلام وقد قال اللّه تعالى : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَقْرَبِينَ ) (2).

ومنها ( أنه غصب ) فدك التي أنحلها إيَّاها أبوها ، وشهد لها عليٌّ والحسنان علیهم السلام وأم أيمن ، وردّ شهادتهم - وهم مطهَّرون - تعصُّباً وعناداً ، أو جهلا بالأحكام ، فماتت مغضبة عليهما ، وأوصت ألا يصلّيا عليها ، وأن تدفن ليلا ، وقد قال أبوها صلی اللّه علیه و آله : فاطمة بضعة منّي ، من آذاها فقد آذاني ، ومن آذى رسول اللّه فقد آذى اللّه ، وقد قال اللّه تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً ) (3).

وذكرت له منع عمر من الكتاب الذي لا يضلُّ بعده ، وشتمه للنبيِّ صلی اللّه علیه و آله بقوله : دعوه ، فإن نبيَّكم يهجر (4) ، وهذا ردٌّ على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعلى اللّه ، وهو كفر.

ومنع من المغالاة في المهور ، فنبَّهته امرأة ، فقال : كل الناس أفقه من عمر

ص: 164


1- تاريخ اليعقوبي : 2 / 127 ، بلاغات النساء ، ابن طيفور : 14 ، جواهر المطالب ، ابن الدمشقي : 1 / 161.
2- سورة الشعراء ، الآية : 214.
3- سورة الأحزاب ، الآية : 57.
4- راجع : صحيح البخاري : 4 / 31 و 66 ، مسند أحمد بن حنبل : 1 / 222 ، صحيح مسلم : 5 / 75 ، المصنّف ، عبدالرزاق الصنعاني : 57 ح 9992.

حتى المخدَّرات ( في الحجال ) (1) ، وقال : متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأنا أنهى عنهما ، وأعاقب عليهما (2) ، وهذا يقدح في إيمانه.

وأبدع في قيام نوافل رمضان جماعة ، واعترف بأنّهما بدعة (3) ، مع أن كل بدعة ضلالة.

وذكرت له أن عثمان ولَّى أمور المسلمين للفساق ، لمحض القرابة ، بعد أن

ص: 165


1- السنن الكبرى ، البيهقي : 7 / 233 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 4 / 283 - 284 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1 / 182 و 12 / 208 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 16 / 536 - 537 ح 45796 ، فيض القدير ، المناوي : 2 / 8 ، الدرّ المنثور ، السيوطي : 2 / 133.
2- علل الدار قطني : 2 / 156 ح 182 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1 / 182 ، مسند أحمد بن حنبل : 3 / 325 ، تاريخ بغداد ، البغدادي : 14 / 202 ، تاريخ دمشق. ابن عساكر : 64 / 2. تهذيب الكمال ، المزي : 31 / 214 ، تذكرة الحفاظ ، الذهبي : 1 / 366 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 16 / 521 ح 45722 ، تفسير القرطبي 2 / 392.
3- روى البخاري ، عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال : خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد ، فإذا الناس أوزاع متفرِّقون ، يصلّي الرجل لنفسه ، ويصلّي الرجل فيصلّي بصلاته الرهط ، فقال عمر : إنّي أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ، ثمَّ عزم فجمعهم على أبي بن كعب ، ثمَّ خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم ، قال عمر : نعم البدعة. صحيح البخاري : 2 / 252، السنن الكبرى ، البيهقي : 2 / 493 ، المصنّف ، عبدالرزاق الصنعاني : 4 / 259. وجاء في شرح النهج : أن عمر خرج في شهر رمضان ليلا ، فرأى المصابيح في المسجد ، فقال : ما هذا؟ فقيل له : إن الناس قد اجتمعوا لصلاة التطوّع، فقال : بدعة فنعمت البدعة! فاعترف - كما ترى - بأنّها بدعة ، وقد شهد الرسول صلی اللّه علیه و آله أن كل بدعة ضلالة. وقد روي أن أميرالمؤمنين علیه السلام لمَّا اجتمعوا إليه بالكوفة فسألوه أن ينصب لهم إماماً يصلي بهم نافلة شهر رمضان ، زجرهم وعرَّفهم أن ذلك خلاف السنة فتركوه ، واجتمعوا لأنفسهم ، وقدَّموا بعضهم ، فبعث إليهم ابنه الحسن علیه السلام ، فدخل عليهم المسجد ومعه الدرّة ، فلمَّا رأوه تبادروا الأبواب ، وصاحوا : وا عمراه! شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 12 / 283.

نهاه الصحابة ، ولم يلاحظ اللّه في ذلك ، حتى أظهروا المناكير من القتل وشرب الخمر ، وضرب عبداللّه بن مسعود حتى كسر بعض أضلاعه ، وضرب عمَّار بن ياسر حتى حدث به فتق (1) ، ونفى أبا ذر مع عظم شأنه ، وتقدُّمه في الإسلام ، ولا ذنب له سوى إنكاره على بعض منكراته.

وآوى طريد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى المدينة بعد أن طرده رسول اللّه منها ، وسأل قبل ذلك أبا بكر وعمر في ردِّه فلم يقبلا ، فعند ذلك ثار عليه الناس فقتلوه ، وكان الصحابة والتابعون بين قاتل وراض ، ولم يحم عنه منهم أحد ، وترك ثلاثة أيام بغير دفن.

وقد شهد عمَّار بن ياسر ، وزيد بن أرقم ، وحذيفة بن اليمان ، وجماعة آخرون بكفره ، وقالوا : ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) (2) ، وكانوا يقولون علانية : قتلناه - بحمد اللّه - كافراً (3).

ثمَّ بيَّنت له أن عمر قد فتح البلاد بسيوف الصحابة ، وإمداد أهل البيت علیهم السلام كما نقل ، ومع ذلك لا يدلّ على مدّاكم فيه ; لأن ذلك للزيادة في ملكه ، ونحن نجد الملوك يسفكون الدماء لفتح البلاد والزيادة في الملك ، وإن استوجب العقاب في الآخرة ، وما فعله عمر لزيادة ملكه وإظهار صيته ، وليس عليه في الآخرة منه لوم ، فأيُّ دليل على صلاح باطنه؟!

وذكرت له أمثال ذلك مما يطول شرحه ، واتفق أهل النقل من الشيعة والسنة والمعتزلة على نقله وصحّته ، فلم يمكنهم إنكاره ، ولهذا تأوَّلوه بتكلُّفات

ص: 166


1- راجع مصادره في الجزء الثالث من هذا الكتاب : 487.
2- سورة المائدة ، الآية : 44.
3- المعيار والموازنة ، أبو جعفر الإسكافي : 171 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 3 / 47.

تصغر عن النقل ، ويحكم بفسادها كل ذي عقل.

وكان يجيبني في المجلس عن بعضها بما ذكروه من التكلُّفات ، فأردُّه بأيسر وجه ، وقلت له : إن اتّباع الحقّ يحتاج إلى إنصاف ، وترك الهوى ، والتقليد المألوف ، وإلاَّ فمعاجز نبيِّنا صلی اللّه علیه و آله الدالّة على صدقه ، كالقرآن وانشقاق القمر لا تبقي لأحد شكاً ، والكفَّار لمَّا سلكوا التعصُّب والعناد والتقليد المألوف لهم ، نشزت أنفسهم عن قبول ذلك ، وقابلوه بالشبهات ، فبقوا على كفرهم ، فاعترف بذلك.

حديث الأئمة إثنى عشر

ودخلت إلى عنده يوماً ، فرأيت بين يديه كتباً منها صحيح البخاري ، فتذكَّرت الأحاديث التي فيه : إن الأئمة اثنا عشر - فأريته إيّاها - وذلك أنه روي في صحيح البخاري بطريقين :

أحدهما : إلى جابر بن سمرة قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : يكون بعدي اثنا عشر أميراً ، فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي : إنه قال : كلُّهم من قريش (1).

وثانيهما : إلى ابن عيينة قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلا ، ثمَّ تكلَّم بكلمة خفيت عليَّ ، فسألت أبي : ماذا قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟ فقال : قال : كلُّهم من قريش (2).

ص: 167


1- صحيح البخاري : 8 / 127 ، مسند أحمد بن حنبل : 5 / 90 و 93 و 95 ، صحيح ابن حبان : 15 / 44 ، مسند أبي داوود : 103 - 104 ، فتح الباري ، ابن حجر : 13 / 181.
2- مسند أحمد بن حنبل : 5 / 97 - 98 و 101 ، صحيح مسلم : 6 / 3 ، السنن الكبرى ، البيهقي : 6 / 254 ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 3 / 617 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 2 / 196.

وروى بطريق آخر إلى ابن عمر ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان (1).

وذكرت له أن مسلماً روى في صحيحه هذا الحديث بلفظه ، وروى مسلم أيضاً في صحيحه الحديث الأول بطرق متعدِّدة ، وكان صحيح مسلم عنده فأتى به ، فأريته ذلك فيه ، وفي بعض طرقه : لا يزال هذا الدين عزيزاً (2).

فقلت له : هذا عين ما تقوله الشيعة ، وشاهد بصحّة معتقدهم ، فلا يتمُّ إلاَّ على مذهبهم ، فيكونون هم الفرقة الناجية ; لأنهم هم المتمسِّكون بالخليفتين اللذين لن يفترقا حتى يردا الحوض ، القائلون بالاثني عشر خليفة ، الموادُّون أهل بيت نبيهم علیهم السلام ، الذين جعل اللّه ودَّهم أجر الرسالة بقوله تعالى : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (3) فإن غير الشيعة لم يميِّزوهم ، بل قدَّموا غيرهم عليهم ، فلا يضرُّهم تلبيس المتلبِّسين بالشبهات ، ولا معاداة المعاندين.

ثمَّ باحثته في مسائل كلاميّة ، كالرؤية ، والقضاء والقدر ، وفي مسائل فرعيَّة كالمسح ، والمتعة ، وذلك بعد أن كان قد أذعن واستقرَّ الإيمان في قلبه ، وسبَّ أعداء أهل البيت عموماً ، لما تبيَّن له أحوالهم ، وما وقع منهم ، واتّضحت له حقيقة الحال ، وصار من خواصّ الشيعة.

ولله الحمد أولا وآخراً ، وظاهراً وباطناً ، وصلَّى اللّه على سيِّدنا محمّد وآله الطيِّبين الطاهرين إلى يوم الدين.

ص: 168


1- صحيح البخاري : 8 / 105 ، فتح الباري ، ابن حجر : 6 / 390 ، شرح مسلم ، النووي : 12 / 200.
2- صحيح مسلم : 6 / 4 ، سنن أبي داوود : 2 / 309 ح 4280 ، مسند أحمد بن حنبل : 5 / 96.
3- سورة الشورى ، الآية : 23.

المناظرة الأربعون: مناظرة الشيخ محمّد طاهر القمّي الشيرازي مع مفتي الحنفية في عدم الدليل على وجوب اتّباع أحد المذاهب الأربعة

قال محمّد طاهر القمّي الشيرازي عليه الرحمة : حكاية لطيفة مناسبة ، قد اتّفق لي صحبة في مكة المشرفة مع بعض فضلاء أهل السنة ، وكان مفتي الحنفيّة ، وكان يتوهَّم أني علم مذهبه وعقيدته ، فجرى بيني وبينه مكالمات هذا مضمونها وحاصلها : قلت له : هل يرجى النجاة للشيعة؟ وهم يقولون : ليس دليل يدلّ على عدم جواز اتّباع غير الأربعة ، ونحن نعمل بقول جعفر بن محمّد الصادق علیه السلام ؟

فأجاب : بأن جعفر بن محمّد كان من المجتهدين الكبار ، ويجوز اتّباعه ، ولكن ما يدّعي الشيعة من المسائل بأنه قول جعفر بن محمّد علیه السلام غير ثابت.

فقلت له : إن الشيعة يقولون : إنّا إذا سألنا الحنفيّة والشافعيّة والمالكيّة والحنبليّة ، وقلنا لهم : من أين عرفتم أن ما تعملون به قول هؤلاء المجتهدين؟ قال كل واحد من هذه الطوائف الأربعة : إن مشايخنا نقلوا عن مشايخهم ، وهكذا إلى المجتهد الذي نعمل برأيه ، فثبت بالنقل المشهور مذهب المجتهد الذي نعمل

ص: 169

برأيه ، وهكذا نحن عملنا بالنقل المشهور عن مشايخنا طبقة عن طبقة أن ما نعمل به قول جعفر بن محمّد صلی اللّه علیه و آله .

فقال : إذا كان هذا فهم من أهل النجاة (1).

ص: 170


1- كتاب الأربعين ، محمّد طاهر القمي الشيرازي : 640 - 641.

المناظرة الحادية والأربعون: مناظرة رجل من عوام الشيعة مع بعض المتعصِّبين

قال العلاّمة الدربندي عليه الرحمة : حدَّثني علاّمة علماء العامة المفتي الأروسي ، قال : كنت مع جمع من عظماء العامة والمتنصِّبين المتعصِّبين منهم ، وكنّآ جالسين في مكان يكثر فيه عبور المسافرين والغرباء ، فمرَّ بنا رجل من أهل العجم ، وكان ممَّن لايملأ العيون لكونه وضيعاً ومن العوام ، فخاض طائفة من الجالسين في طعنه وإيذائه والاستهزاء به ، فقالوا : مالكم - أيَّها الأعاجم ، أيُّها الحمقاء! - تفعلون في كل سنة في شهر المحرَّم فعل المجانين والأطفال ، تضربون صدوركم ، وتحثون التراب على صدوركم ، وتجزعون ، وترفعون أصواتكم في الصيحة والضجَّة ، وتقولون : واحسناه واحسيناه ، ونحو ذلك؟

فقال : هذا الرجل : أتدرون سبب هذا وسره؟

فقالوا : لا.

فقال : هذا مما يجب فعله علينا ; لأنّا إن تركنا ذلك وبقينا على هذا الترك مدّة مديدة لكنتم تقولون : إن يزيد لم يقتل ريحانة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقرّة عينه ، ولم يسبِ - بنات رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، بل إن قضيّة يوم الطفّ ليس لها أصل.

ص: 171

فقالوا : فلم ذا؟

قال : إنّا قد جرَّبناكم وشاهدنا أمثال ذلك منكم مراراً.

فقالوا : فكيف ذا؟

فقال : إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد جعل ابن عمِّه ووصيَّه وأميرالمؤمنين وسيِّد الوصيين إماماً وخليفة بأمر مؤكَّد من اللّه تعالى ، وكان ذلك بعد حجّة الوداع في مكان يسمَّى بخم ، وكان ذلك في محضر سبعين ألف رجل حاج في تلك السنة ، وقد وصل ذلك إليكم بطرق متكاثرة متظافرة خارجة عن الحدّ والإحصاء ، مذكورة في كتبكم ، فلمَّا رأيتمونا أنَّا لا نفعل - خوفاً وتقيَّة منكم - يوم الغدير ، الذي هو أعظم الأعياد سلكتم جادّة الاعتساف ، وخالفتم أمر اللّه تعالى ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأنكرتم قضيَّة الغدير من أصلها (1).

ص: 172


1- وفي يوم الغدير يقول الكميت : وَيَوْمَ الدَّوْحِ دَوْحِ غَدِيرِ خُمٍّ *** أَبَانَ لَهُ الْوِلاَيَةَ لَوْ أُطِيْعَا ولكنَّ الرِّجالَ تَبَايعوها *** فكم لك مثلُها خَطباً منيعا وَلَمْ أر مِثْلَ ذاك اليومِ يوماً *** وَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ حقّاً أُضيعا وروي أن ابن الكميت رأى النبي صلی اللّه علیه و آله في المنام ، فقال : أنشدني قصيدة أبيك! فلمَّا وصل إلى هذا بكى بكاء شديداً ، وقال صلی اللّه علیه و آله : صدق أبوك رحمة اللّه ، اي - واللّه - لم أر مثله حقّاً أضيعا. الصراط المستقيم ، علي بن يونس العاملي : 1 / 310. وفي كنز الفوائد للكراجكي : 154 قال هناد بن السري : رأيت أميرالمؤمنين علیه السلام في المنام ، فقال لي : يا هناد! قلت : لبَّيك يا أميرالمؤمنين ، قال : أنشدني قول الكميت : ويوم الدوح دوح غدير خم *** أبان لنا الولاية لو أطيعا ولكن الرجال تبايعوها *** فلم أر مثلها أمراً شنيعا قال : فأنشدته فقال : خذ إليك يا هناد ، فقلت : هات يا سيدي ، فقال : ولم أر مثل ذاك اليوم يوماً *** ولم أر مثله حقاً أضيعا

ونجدِّد في كل سنة إقامة التعزية ، وذكر مصائب سيِّد الشهداء علیه السلام والنوح والجزع والبكاء عليه ، واللعن على قاتله ، وتسميتهم بأسمائهم لئلا تطمعوا في إنكار هذا الأمر البديهيِّ الضروريِّ ، الواصل شأنه إلى هذا المقام ..

قال : لمَّا سمعوا مقالته هذه ارتعدت فرائصهم ، وتغيَّرت ألوانهم ، واصفرَّت وجوههم ، وطأطأوا رؤوسهم إلى الأرض ، فارتطموا في الوحل.

ثمَّ قال : واللّه إن هذا كان في باب ذلك الرجل من ألطاف اللّه تعالى وإلهاماته بحسب المقام ; لأنه كان رجلا من عوام الناس ، غير مطّلع على اصطلاحات العلماء ، وكيفيّة معارضتهم ومباحثاتهم (1).

قال الأستاذ عبدالمنعم حسن السوداني المستبصر : والمحاولات التي يبثُّها المغرضون اليوم حول البكاء على الحسين علیه السلام ما هي إلاَّ إحدى المحاولات لإسكات صوت الحقّ ، وإطفاء نور اللّه ( وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (2).

ولو لم يفعل الشيعة ذلك لإحياء ذكرى كربلاء لحاولوا طمسها كما فعلوا بحادثة الغدير ، ولقالوا لنا اليوم إن الذي قتل لم يكن الحسين بن علي علیه السلام ، ويكفي فخراً لمجالس الحسين علیه السلام أنَّها ما فتئت تؤرق مضاجع الطغاة ، وتلهب في النفس المؤمنة روح الجهاد ، ويكفي قراءة خطبة واحدة من خطب الحسين علیه السلام ليسري مفعولها السحريُّ في الأرواح المؤمنة (3).

ص: 173


1- أسرار الشهادة ، الدربندي : 1 / 75 - 76.
2- سورة التوبة ، الآية : 32.
3- بنور فاطمة اهتديت ، عبدالمنعم حسن السوداني : 203.

المناظرة الثانية والأربعون: مناظرة الشيخ الكاظمي مع الآلوسي

قال العلاّمة الميانجي رحمه اللّه : نقل السيِّد المحقِّق العلامة الحاج السيِّد مهدي الروحاني : أن في بغداد انعقدت حفلة عرس حضرها كثير من الشيعة والسنة ، وحضرها العالم الكبير والمحقِّق التقيُّ الشيخ محمّد حسين الكاظمي ، ومن أهل السنة الشيخ محمود شكري الآلوسي ، فالتفت الآلوسي إلى الشيخ فقال : كان الماضون من العلماء يباحثون في مسائل دينيّة في المجالس فيستفيد منه الناس ، فهل لك أن تناظرني في بعض المسائل الشرعيَّة حتى يستفيد هؤلاء؟

قال الشيخ : باختياركم.

قال الآلوسي : فهل في الأصول أو الفروع؟

قال الشيخ : باختياركم.

قال : فإذن نبحث في الأصول ، ولكن في أيِّ أصل منها؟ فهل نجعلها مناظرة؟

قال الشيخ : باختياركم.

قال الآلوسي : لم لا يقول الشيعة بإمامة الشيخين؟

قال الشيخ : للمدّعي أن يأتي بدليل ، فإنّا نسأل أهل السنة : لم اختاروا إمامة الشيخين؟

ص: 174

قال الآلوسي : لأنَّ النبيَّ صلی اللّه علیه و آله نصبه للصلاة في أيام مرضه.

وهنا أخذ الشيخ يذكِّر الآلوسي بأن بعض الصحابة زعم أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله في مرضه كان يهجر ( وذلك لما قال لهم صلی اللّه علیه و آله : آتوني بدواة وكتف ... ) (1).

سكت الآلوسي وبهت وتحير ، وبان على وجهه الانكسار والعيُّ ، وفهمه الحاضرون ، وانكسر أهل السنّة الموجودون في المجلس ، وسرَّ وفرح الشيعة ، فأراد الآلوسي أن يجبر الانكسار بشيء ينسيه فقال : هلمّوا بالطعام ، فجاءوا بالطعام إليَّ وإليه ، فأراد الآلوسي جبران ما فات بالمزاح ، وأخذ يأكل من الطعام.

فقال الألوسي : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : من أكل وحده فشريكه شيطان.

فقال الشيخ : صدق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فانكسر الآلوسي أيضاً ، وضحك الحاضرون.

وكان على رأس الأرز المطبوخ الموضوع أمام كل من الحاضرين دجاجة ، فأكل الآلوسي وأخذ من الأرز فانهارت الدجاجة إليه ، فقال : عرف الحقُّ أهله فتقدَّم ، فقال الشيخ : لا ، بل حفر الشيخ تحته فتهدَّم.

قال الأحمدي الميانجي رحمه اللّه : نقل السيِّد الروحاني هذا في منزلي في محلة خاك فرج ليلة الجمعة في شهر ربيع الأول من 1406 ه- ق (2).

ص: 175


1- والمعنى الذي يريد أن يوصله الشيخ للآلوسي ولأمثاله من السنة : أنهم ماداموا يسلِّمون بصدور هذه المقالة بمحضر النبيِّ صلی اللّه علیه و آله في مرضه وقد زعموا : أنّه يهجر وفي رواية قالوا : غلب عليه الوجع كما في صحيح البخاري وغيره ، ولم نر أحداً منهم ردَّ هذه المزاعم الكاذبة أو أنكر على قائلها ، فكيف يأخذون ويحتجّون - والحال هذه - ويدّعون أنه في مرضه صلی اللّه علیه و آله قدم أبا بكر للصلاة؟! فإن كان كلام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حجّة في حال المرض فقوله : آتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً حجّة أيضاً ، فلماذا غضّوا الطرف عن هذه الوصيَّة ، وأخذوا بما يروونه من أنّه في المرض قدَّم أبا بكر للصلاة؟ مع أن هذه الرواية غير ثابتة أيضاً وغير صحيحة. راجع : الجزء الثالث : 260.
2- مواقف الشيعة ، الأحمدي الميانجي : 3 / 479 - 481.

المناظرة الثالثة والأربعون: مناظرة الشيخ كاشف الغطاء مع أحمد أمين المصري

قال الشيخ الأحمدي الميانجي رحمه اللّه : سافرنا إلى الأهواز للقاء العلماء العظام فيها ، ونزلنا على السيِّد الجليل العالم الفاضل السيِّد محمّد علي الجزائري الشوشتري ، إمام الجمعة في الأهواز ، دامت إفاضاته ، كنت يوم الخميس 15 / 10 / 1362 ه. ش ، الموافق ل- 1 / 4 / 1404 ه- ق حبيس البيت ، جالساً أطالع في مكتبة السيِّد الجزائري دامت إفاضاته العالية ، فإذا بكتاب جنّة المأوى للعلاّمة الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء رحمه اللّه ، المطبوع في تبريز بتحقيق العلاّمة الشهيد السيِّد محمّد علي القاضي الطباطبائي رحمه اللّه ، وفي مقدَّمته بقلم المحقِّق الشهيد - رضوان اللّه تعالى عليه - هذه الحكاية نقلا عن مجلة العرفان في المجلَّد 21 ج 3 / 308 : عند مجيء البعثة المصريّة المؤلَّفة من الأستاذ أحمد أمين صاحب فجر الإسلام وإخوانه إلى النجف الأشرف ، ليلة 21 شهر رمضان من عام 1349 ه. ق ، وزيارته للإمام المترجم له - يعني المرحوم كاشف الغطاء - في داره ، ومشاهدة مكتبة الإمام في مدرسته العلميّة ، فكان لملاقاتهم له أثر بالغ في نفوسهم.

ص: 176

وإليك ما دار بينهم من المناظرات والمسألة لتقف على المواهب العالية كيف يخصُّ اللّه تعالى بعض عباده بها؟

قال سماحته لأحمد أمين : من العسير أن يلمَّ بما حول النجف وأوضاعها - وهي تلك المدينة العلميّة المهمّة - شخص لا يلبث فيها أكثر من سواد ليلة واحدة ، فإنّي قد دخلت مصركم قبل عشرين سنة ، ومكثت فيها مدّة ثلاثة أشهر متجوِّلا في بلدانها ، باحثا ومنقِّباً ، ثمَّ فارقتها وأنا لا أعرف من أوضاعها شيئاً إلاَّ قليلا ضمَّنته أبياتاً أتذكَّر منها :

تبزغ شمس العلى ولكن *** من أفقها ذلك البزوغ

ومثلما تنبغ البرايا *** كذا لبلدانها نبوغ

أكل شيء يروج فيها *** اللّهو وألزهو والنزوغ

فضحكوا من كلمة النزوغ.

قال الأستاذ أحمد أمين مخاطباً الشيخ : قلتم هذا قبل عشرين سنة؟

قال : نعم ، وقبل أن ينبغ طه حسين ، ويبزغ سلامة موسى ، ويبزغ فجر الإسلام ، وقد ضمَّنته - مخطاباً أحمد أمين - من التلفيقات عن مذهب الشيعة مالا يحسن بالباحث المؤرِّخ اتّباعه (1).

ص: 177


1- قال العلاّمة الأميني عليه الرحمة في كتابه القيِّم الغدير : 3 / 310 : فجر الإسلام ، ضحى الإسلام ، ظهر الإسلام ، هذه الكتب ألفَّها الأستاذ أحمد أمين المصري لغاية هو أدرى بها ، ونحن أيضاً لا يفوتنا عرفانها ، وهذه الأسماء الفخمة لا تغرُّ الباحث النابه مهما وقف على ما في طيِّها من التافهات والمخازي ، فهي كاسمه ( الأمين ) لا تطابق المسمَّى ، وأيم اللّه إنه لو كان أميناً لكان يتحفَّظ على ناموس العلم والدين والكتاب والسنّة ، وكفِّ القلم عن تسويد تلك الصحائف السوداء .. ولم يطمس الحقائق ، ولم يظهرها للناس بغير صورها الحقيقيّة المبهجة ، ولم يحرِّف الكلم عن مواضعها ، ولم يقذف أمّة كبيرة بنسب مفتعلة ، ولم يتقوَّل عليهم بما يدنِّس ذيل قدسهم. كما أن تآليفه هذه لو كانت إسلامية - كما توهمها أسماؤها - لما كانت مشحونة بالضلال والإفك وقول الزور ، ولما بعدت عن أدب الإسلام. وقال في موضع آخر : 3 / 338 : وواجب رجال الدعاية والنشر في الحكومات الإسلاميّة عرض كل تأليف مذهبيٍّ حول أيِّ فرقة من فرق الإسلام إلى أصولها ومبادئها الصحيحة المؤلَّفة بيد رجالها ومشايخها ، والمنع عما يضادُّها ويخالفها .. وعليهم قطع جذور الفساد قبل أن يؤجِّج المفسد نار الشحناء في الملأ ، ثمَّ يعتذر بعدم الاطّلاع وقلّة المصادر عنده ، كما فعل أحمد أمين بعد نشر كتابه فجر الإسلام في ملأ من قومه ، والإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره ، ولا عذر لأيِّ أحد في القعود عن واجبه الديني الاجتماعي ( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) سوره آل عمران ، الآية : 104.

قال أحمد أمين : ولكنه ذنب الشيعة أنفسهم ; إذ لم يتصدّوا إلى نشر حقيقة مذهبهم في الكتب والصحف ليطلع العالم عليه.

الشيخ : هذا كسابقه ... فإن كتب الشيعة مطبوعة ومبذولة أكثر من أيِّ كتب ، وأيِّ مذهب آخر ، وبينها ما هو مطبوع في مصر ، وما هو مطبوع في سوريا ، عدا ما هو مطبوع في الهند وفارس والعراق وغيرها ، هذا فضلا عمّا يلزم للمؤرِّخ من طلب الأشياء من مصادرها.

أحمد أمين : حسناً ، سنجهد في أن نتدارك ما فات في الجزء الثاني .. إلخ (1).

ص: 178


1- مواقف الشيعة ، الأحمدي الميانجي : 3 / 400 - 401.

المناظرة الرابعة والأربعون: مناظرة العلاّمة الشيخ الأميني رحمه اللّه مع الأستاذ حسين الأعظمي وكيل عميد كلّيّة الحقوق ببغداد في الحديث عن أميرالمؤمنين علیه السلام بما وصفه الوحي الإلهيّ

قال الشيخ رضا الأميني : لقاء بين علمين ، في حديث لشيخنا الوالد - طاب ثراه - قال : وقفت في ( جريدة الساعة ) البغداديّة الصادرة في شهر محرَّم (1) على قصيدة عصماء للأستاذ حسين علي الأعظمي ، وكيل عميد كلّيّة الحقوق ببغداد ، في رثاء الإمام الحسين علیه السلام ، وأشار في التعليق على بعض أبياتها إلى أن له مؤلَّفاً في حياة الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام .

فأحببت أن أقف عن كثب على تأليفه ، وأسبر طريقته في ذلك ، وإن وجدت لديه نظماً في واقعة ( الغدير ) جعلته ضمن شعراء القرن الرابع عشر الهجري.

ص: 179


1- جاء في الهامش : لم يحضرني التاريخ بصورة دقيقة ، وأكثر ظنّي أنه كان بين أعوام 65 - 1367 هجريّة.

فقصدت داره ، وكانت على مقربة من إحدى سفارات الدول الغربيّة ، فطرقت الباب فخرج إليَّ خادمه ، فسألته عن الأستاذ فأجاب : نعم ، هو موجود في الدار ، فطلبت مواجهته فخرج إليَّ الأستاذ ، وما إن رآني أخذ يفكِّر في السرِّ الذي دعاني إلى زيارته ، لم قصد هذا العالم الشيعيُّ زيارتي؟ أهو بحاجة للتوسُّط في قبول أبنائه في الجامعة؟ أم للتوسُّط في توظيف أحد منسوبيه في إحدى الدوائر؟ فبدأته بالسلام وقلت : أنا أخ لك في الدين ، فإن كنت في شك من إسلامك فأنا قبل كل شيء أعترف بإسلامك وإيمانك ، لما سبرته في قصيدتك العصماء في رثاء سيِّدنا السبط الشهيد أبي عبد اللّه الحسين علیه السلام من نزعة دينيّة ، وإن كنت في شك من إسلامي فأنا أشهد أن لا إله إلاَّ اللّه وأن محمّداً عبده ورسوله صلی اللّه علیه و آله أرسله بالهدى ودين الحقّ.

فخرج الأستاذ إلى خارج الدار ، ومدَّ يده للمصافحة ، عند ذلك بسطت له ذراعي واحتضنته ، فتبادلنا القبلات ، وسار بي إلى الغرفة الخاصة باستقبال زائريه ، عند ذلك افتتحت الحديث بالكلام حول قصيدته ، وتطرَّقت إلى ما أشار إليه في التعليق على بعض أبياتها ، وأن له مؤلَّفاً حول الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام ، وأني قصدته من النجف الأشرف لأشكره على قصيدته ورؤية مؤلَّفه.

خلال بحثنا فيما عرضته عليه دخل الغرفة بكل أدب أشباله الثلاثة ، وكانوا من ذوي الثقافة العالية ، عليهم سيماء العلم والأدب ، وبعد المصافحة وتبادل عبارات الترحيب ، اغتنم الأستاذ الأعظمي الفرصة وأراد أن يستخبر ميزان ثقافتي وعلمي ، وما أتحلَّى به من العلوم الإسلاميَّة ، فقال : شيخنا! ما رأيكم حول كتاب ( عبقريَّة الإمام علي علیه السلام ) تأليف الأستاذ المصري عباس محمود العقَّاد؟ ولم يكن مضى على عرض كتابه في الأسواق التجاريَّة سوى أشهر عديدة ، وقد لاقى إقبالا كبيراً بين الشباب العربي والإسلامي.

ص: 180

قلت : لا أخال أن الأستاذ العقّاد كتب ما يشفي الغليل ; إذ ليس بوسعه ولا بوسع أمَّة من أمثاله عرفان شخصيّة الإمام علي علیه السلام على حقيقتها مهما جدّوا واجتهدوا في ذلك ، وبهذا طرأ على الأستاذ وأبنائه استغراب وتفكير ، واستغرق ذلك شيئاً من الوقت في جوٍّ يسوده الهدوء.

فتقدَّمت بالكلام وقلت : تسمحون لي ، قد أكون أنا في كلامي أوجدت نزاعاً بينكم ، إذ بعد أن أترك الدار ستقوم القائمة بينكم ، فتعترضون على والدكم قائلين : يا بابا! كيف يتسنَّى لشخص بهذه البزّة ، وهذا الهيكل أن يقف على الغثّ والسمين ، ويتعرَّف على ما جاء في كتاب ( عبقريَّة الإمام علیه السلام )؟ وستكون إجابة الأستاذ إليكم : كلاّ يا أبنائي ، ليس الأمر كما تزعمون ، بل إن الرجل عالم من علماء أمَّة من المسلمين ، وعلى علم بكل شيء ، إلاَّ أنه لا يروقه أن يثني على كتاب أديب سنّيٍّ مخالف لنزعته الدينيّة.

وحتى لا أكون أضرمت نار الفتنة بينكم سأقوم بحسم النزاع بعد أن أعرض على الأستاذ شواهد كلامي ، وإن كنت مخطئاً فسيتولَّى مناقشتي برأيه الصائب ، ويقضي بالحقِّ ، وهو أستاذ القضاء ، ومربّي رجالاته.

عند ذلك سألت الأستاذ الأعظمي قائلا : هل يسعنا أن نقيس الأستاذ العقّاد في الفكر والنظر بواحد من العلماء أمثال : أبي نعيم الإصفهاني ، الفخر الرازي ، ابن عساكر ، الكنجي الشافعي ، أو أخطب خوارزم ، وأضرابهم ممَّن كتبوا حول الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام مؤلَّفاً خاصاً ، أو تطرَّقوا إلى ناحية من حياته في تآليفهم؟

أجاب الأستاذ قائلا : شيخنا! من الجفاء بحقِّ العلم والعلماء أن نقيس مائة من أمثال العقّاد بواحد ممَّن ذكرتم ، إذ أن أولئك أساطين العلم وجهابذة الفكر

ص: 181

الإسلامي ، ولا يتسنّى لإنسان أن يسبر ما كانوا عليه من مكانة سامية في الحديث والتفسير والحكمة والفلسفة وسائر العلوم الإسلاميَّة.

قلت : إذن ما السرُّ في أن أولئك حينما يتطرَّقون إلى ذكر الإمام علیه السلام لم يتفوَّهوا في وصفه ببنت شفة بآرائهم الخاصة ، بل يذكرونه بما وصفه الوحي الإلهيُّ ، وما روي عن النبيِّ الأعظم صلی اللّه علیه و آله في حقِّه؟

قال الأستاذ الأعظمي : هذه نظريَّة مبتكرة نرجو توضيحها كي نستفيد منها ، ونقف على السرِّ الكامن فيها.

قلت : ألم نكن في دراستنا للمنطق قرأنا قول علمائه : يشترط في المعرِّف أن يكون أجلى من المعرَّف؟ فالصحابة وأئمّة الحديث حيث وقفوا على قول النبيِّ الأعظم صلی اللّه علیه و آله : عليٌّ ممسوس بذات اللّه (1) ، وقوله صلی اللّه علیه و آله : يا عليُّ! ما عرف اللّه إلاَّ أنا وأنت ، وما عرفني إلاَّ اللّه وأنت ، وما عرفك إلاَّ اللّه وأنا (2).

هذا جزء يسير من خصائصه وصفاته ، من العسير على الأمّة عرفان حقيقته إلاَّ بما وصفه المولى عزَّوجلَّ به ، فأعلنوا إلى الملأ أن عليّاً علیه السلام من المعنيَّين بقوله تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (3) ، وقوله تعالى : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (4) ،

ص: 182


1- المعجم الأوسط ، الطبراني : 9 / 142 - 143 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 19 / 148 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 9 / 130 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 11 / 621 ح 33017 ، ينابيع المودة ، القندوزي : 2 / 84.
2- تأويل الآيات ، السيِّد شرف الدين الحسيني : 1 / 139 ح 18 ، مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 3 / 60 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 39 / 84.
3- سورة الأحزاب ، الآية : 33.
4- سورة الشورى ، الآية : 23.

وقوله تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (1) ، وقوله تعالى : ( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ ) (2).

وإن خير معرِّف للإمام علیه السلام وخصائصه الذاتيّة هو ما أصحر به النبيُّ الأعظم صلی اللّه علیه و آله من قوله صلی اللّه علیه و آله : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، اللّهم والِ من والاه ، وعادِ من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله (3) ، وقوله صلی اللّه علیه و آله : عليٌّ مع الحقِّ والحقُّ مع عليٍّ ، يدور الحقُّ مع عليٍّ حيثما دار (4) ، وقوله صلی اللّه علیه و آله : عليٌّ خير البشر ، من أبي فقد كفر (5) ، وقوله صلی اللّه علیه و آله : عليٌّ مع القرآن والقرآن معه ، لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض (6).

ص: 183


1- سورة المائدة ، الآية : 55.
2- سورة السجدة ، الآية : 17.
3- تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 42 / 449 ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : 1 / 98 ، وراجع بقيَّة تخريجات الحديث الشريف في مناظرة أسعد القاسم.
4- تقدَّمت تخريجاته.
5- تقدَّمت تخريجاته.
6- جاء في ينابيع المودة ، القندوزي : 1 / 124 ح 56 : وأخرج ابن عقدة من طريق عروة بن خارجة ، عن فاطمة الزهراء علیهاالسلام قالت : سمعت أبي صلی اللّه علیه و آله في مرضه الذي قبض فيه يقول - وقد امتلأت الحجرة من أصحابه - : أيُّها الناس! يوشك أن أقبض قبضاً سريعاً ، وقد قدَّمت إليكم القول معذرة إليكم ، ألا وإنّي مخلِّف فيكم كتاب ربّي عزَّ وجلَّ وعترتي أهل بيتي ، ثمَّ أخذ بيد عليٍّ فقال : هذا عليٌّ مع القرآن والقرآن مع عليٍّ ، لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض ، فأسألكم ما تخلِّفوني فيهما. وجاء في المستدرك للحاكم النيسابوري : 3 / 124 : عن أبي ثابت مولى أبي ذر قال : كنت مع علي علیه السلام يوم الجمل ، فلمَّا رأيت عائشة واقفة دخلني بعض ما يدخل الناس ، فكشف اللّه عنّي ذلك عند صلاة الظهر ، فقاتلت مع أميرالمؤمنين ، فلمَّا فرغ ذهبت إلى المدينة ، فأتيت أم سلمة فقلت : إني - واللّه - ما جئت أسأل طعاماً ولا شراباً ، ولكنّي مولى لأبي ذر ، فقالت : مرحباً ، فقصصت عليها قصتي ، فقالت : أين كنت حين طارت القلوب مطائرها؟ قلت : إلى حيث كشف اللّه ذلك عنّي عند زوال الشمس، قالت : أحسنت ، سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : عليٌّ مع القرآن والقرآن مع علي لن يتفرَّقا حتى يردا عليَّ الحوض. قال : هذا حديث صحيح الإسناد ، وأبو سعيد التيمي هو عقيصاء ، ثقة مأمون ولم يخرجاه. وراجع المصادر التالية : المعجم الصغير ، الطبراني : 1 / 255 المعجم الأوسط ، الطبراني : 5 / 135 ، المناقب ، الموفَّق الخوارزمي : 176 - 177 ح 214 ، سبل الهدى والرشاد ، الصالحي الشامي : 11 / 297 ، ينابيع المودة لذوي القربى ، القندوزي : 1 / 269 ، ح 2 ، و 2 / 96 ح 234 ، الجامع الصغير ، جلال الدين السيوطي : 2 / 177 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 11 / 603 ح 32912 ، فيض القدير ، المناوي : 4 / 470 رقم : 5594.

ونرى الأستاذ العقّاد قبل أشهر عديدة نشر كتاباً حول الشاعر ابن الرومي ، وهو من رجال القرن الثالث الهجري ، وله تراجم مسهبة في كتاب التاريخ والسير ، ولم يتحلَّ بشيء من الخصائص فوق خصائص الإنسان ، في حين أخذ العلماء والأساتذة عليه شطحات كثيرة ، ونشروا حولها مقالات مسهبة ; لعدم عرفانه بسيرة الرجل وسلوكه ، أو أخطائه في تحليل تاريخ حياته ، أو بعده عن دراسة نفسيَّته ، أو سوء تفهُّمه لفلسفة الرجل وشعره.

فمؤلِّف هذا مبلغه من العلم في الكتابة عن إنسان في شاكلته ، وهذه سعة اطّلاعه عمَّن انبرى مئات من الكتَّاب في الكتابة عنه ، كيف يتسنَّى له أن يعرف بفكره ونظره شخصيَّةً ممسوسة بذات اللّه ، وأن يكتب عن قطب رحى الحقِّ الذي يدور الحقُّ معه حيثما دار؟ وإن كنت أنت - أيُّها الأستاذ - قد اتّبعت في تأليفك طريقة العقّاد فأراني في غنى عن مطالعته ، وإن اتّبعت في كتابك سيرة السلف ، واعتمدت في بحثك على كتاب اللّه وسنّة نبيِّه صلی اللّه علیه و آله فسأكون شاكراً لك لو سمحت لي بمطالعته.

ص: 184

أجاب الأستاذ الأعظمي قائلا : كلاَّ يا شيخ ، أنا سرت في كتابي على كتاب اللّه وسنَّة نبيِّه صلی اللّه علیه و آله ، وسأكون شاكراً لك مدى الحياة لو سبرت كتابي بدقَّة ، وأخذت عليَّ ما فاتني ، مع ما أفضته عليَّ من حديثك العلمي.

قلت له : هات بحثك ، وأظهر رؤوس عناوينه ، فأوعز إلى أحد أنجاله بذلك ، فأحضر ملفّاً ضخماً كبيراً ، وقال : أنا قمت بتحليل شخصيَّة الإمام شرحاً وبياناً في الكلام حول أربعة أحاديث.

الأول : قوله صلی اللّه علیه و آله : علي مع الحق ، والحق مع علي ، يدور الحق معه حيثما دار.

قلت له : أترى هذه فضيلة تخصُّ عليّاً سلام اللّه عليه؟

قال : بلى ، ولم يشاركه فيه أيُّ ابن أنثى.

قلت : فما تقول في قوله صلی اللّه علیه و آله : عمَّار مع الحقِّ ، والحقُّ مع عمار ، يدور عمار مع الحق حيثما دار؟ (1) وأوعزت إلى مصادر الحديث.

وجم الأستاذ حينما سمع ذلك ، وطأطأ برأسه ، وطرأ على الحفل هدوء مشفوع بتأثُّر مزعج ، وبعد دقائق رفع الأستاذ رأسه وقال : شيخنا! نسفت ربع البحث بحديثك ، وقضيت على الحول الذي بذلته دونه.

قلت له : بل أحييت لك كتابك ، وأظهرت لك بالحديث الذي ذكرته ما خفي عنك وعن الصحابة قبلك السرُّ الكامن فيه.

قال : وما ذلك؟

ص: 185


1- الأخبار الطوال ، الدينوري : 147 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 3 / 262 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 43 / 476 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 13 / 539 ح 37411 ، الجوهرة في نسب الإمام علي علیه السلام وآله ، البري : 101.

قلت : عندما أصحر النبيُّ صلی اللّه علیه و آله بحديثه حول عليٍّ سلام اللّه عليه ، لم يدرك المجتمع الإسلامي الناحية الهامّة الكامنة في الحديث ، لذلك أصحر بحديثه حول عمار ليدرك المجتمع مكانة عليٍّ سلام اللّه عليه الإلهيّة بذلك.

ففي حديث عليٍّ علیه السلام جعل النبيُّ صلی اللّه علیه و آله عليّاً محوراً للحقِّ وقطب رحاه ، قال : علي مع الحق والحق مع علي ، يدور الحق مع علي حيثما دار علي ، وفي حديث عمّار قال : عمار مع الحق والحق مع عمار ، يدور عمار مع الحق حيثما دار الحق.

وبهذا أراد النبيُّ صلی اللّه علیه و آله أن يبيِّن للعالم أن عليّاً علیه السلام هو قطب رحى الحق ، والحق يدور معه حيثما دار هو سلام اللّه عليه ، وكل طالب للحق عليه أن يكون على صلة في علي علیه السلام كي يتسنَّى له أن يعرف الحق ، ويتّصل به ، ويسير على نهجه.

هنا طرأ على الأستاذ وأنجاله فرحة وسرور ، فقالوا بصوت عال : اللّه أكبر! اللّه أكبر! ما أحلاه من شرح وتوضيح يقام له ويقعد!!

إلى هنا أختتم ما سمعت من حديث شيخنا الوالد طاب ثراه ، وما رسخ في بالي ، ومنه سبحانه وتعالى أستمدُّ العون والتسديد ، والحمد لله ربِّ العالمين.

رضا الأميني (1).

ص: 186


1- ربع قرن مع العلامة الأميني ، الشاكري : 64 - 69.

المناظرة الخامسة والأربعون: مناظرة السيِّد محمّد تقي الحكيم مع أمين مكتبة الأزهر وممثِّل الجزائر في فتح باب الاجتهاد والصحابة

قال السيِّد مرتضى الرضوي : حدَّثني الأستاذ عباس الترجمان ، قال : قال لي الأستاذ السيِّد محمّد تقي الحكيم بعد ما رجع من القاهرة لحضور المؤتمر الإسلاميّ هناك : دخلنا يوماً إلى مكتبة جامع الأزهر مع كثير من المؤتمرين في الدول الإسلاميّة ، فتوجَّه إليَّ أمين المكتبة بصورة خاصة وبلهجة شديدة قائلا : على أيِّ استناد استندتم في فتح باب الاجتهاد على أنفسكم بعد ما سدَّه السلف الصالح؟! (1)

فأجبته بهدوء : وأنتم على أيِّ استناد استندتم في سدِّ باب الاجتهاد على أنفسكم بعد ما فتحه السلف الصالح؟!

فسكت ولم يحر جواباً ... فالتفت ممثِّل الجزائر في المؤتمر ، وقال لي :

ص: 187


1- وقد تقدَّمت مثل هذه المناظرة للسيِّد نفسه عليه الرحمة في الجزء الثاني : 311 ، المناظرة الحادية والأربعون ، مع مدير مكتبة الأزهر ، وهو الشيخ أبو الوفا المراغي ، في حكم فتح باب الاجتهاد ، ولكن هذه المضامين المذكورة هنا لم تذكر هناك.

الحقُّ معكم ، فلنتازل نحن السنَّة ، وأنتم الشيعة عن بعض الأشياء ، ونتفق على أشياء ، ونكون يداً واحدة ، وأقول لك الآن هذا.

فأجبته بقولي : يا أستاذ! لا يمكن التفاهم والاتفاق على شيء قبل أن نضع رجال الصدر الأول في ميزان الحساب ; لأنهم خلَّفوا أموراً خلافيّة كثيرة لا يمكن التغاضي والسكوت عنها ، وتركها من دون علاج ، وبعد ذلك فمن السهل أن نتحدَّث ونتفق على كل شيء.

فسكت الأستاذ الخولي ، أمَّا الحاضرون فاحمرَّت عيونهم ، وانتفخت أوداجهم ، وكأن كلامي هذا كان غذاباً قد صبَّ عليهم ، وبعد أن انتهت الندوة استأذنت وانصرفت (1).

ص: 188


1- مع رجال الفكر في القاهرة ، السيِّد مرتضى الرضوي : 1 / 311 - 312.

المناظرة السادسة والأربعون: مناظرة السيِّد مهدي الروحاني مع بعضهم في حكم مسح الرجلين في الوضوء

اشارة

مناظرة السيِّد مهدي الروحاني مع بعضهم في حكم مسح الرجلين في الوضوء (1)

حدَّثنا المرحوم الحجّة السيِّد مهدي الروحاني القمي ، قال : كنّا مع بعض الأصدقاء في منى قريباً من الجمرات ، وكنّا ننتظر طلوع الشمس لنرمي الجمرات ، بينا نحن كذلك إذ أقبل علينا رجل ، وسلَّم علينا فرددنا علیه السلام ، فاستأذن في الكلام معنا ، وبيَّن لنا أنه من السنّة السلفيّين ، ثمَّ قال : إن كل الناس يعلمون أن لكل مذهب منطلقاً ينطلق منه ، ويمشي على طبقه ، وكل الفرق الإسلاميَّة تعلم أن منطلقنا - نحن السلفية - هو الكتاب والسنّة.

فقلت له : أنتم منطلقكم الكتاب والسنّة؟

قال : نعم.

فقلت : إن كل الفرق الإسلاميّة تقول ما تقولونه ، فالحنفيّة يقولون : إن

ص: 189


1- كتبت هذه المناظرة وما بعدها من لسان السيِّد نفسه رحمه اللّه في عام 1416 تقريباً ، بالتماس منّا ، فلم يبخل علينا بالحديث بهاتين المناظرتين ، وكان في غاية الارتياح ، فجزاه اللّه خير الجزاء ، وقد أهديناه حينها كتابنا : مناظرات في الإمامة.

منطلقهم الكتاب والسنَّة ، وكذلك الشافعيّة والمالكية والحنبليَّة والشيعة الإماميَّة والإسماعيليّة ، وكل الفرق الإسلاميَّة تسلِّم للكتاب والسنّة ، وأنا أقول لك : إذا كان منطلقكم هو الكتاب والسنَّة فعلا كما تقول فعليكم عدّة مؤاخذات في آرائكم.

فقال : ما هي؟

فقلت : منها القول بالتشبيه والتجسيم ، ونحن نعرف أن اليهود يقولون بالتشبيه والتجسيم ، وقد ذكر اللّه سبحانه وتعالى ذلك عنهم في كتابه ، وأنتم أكثر الفرق تشبيهاً وتجسيماً ، فهذا ابن تيميَّة يقول : إن روايات الإثبات أقرب للسنَّة ، ويعني بروايات الإثبات الروايات التي تثبت لله تعالى يدين ورجلين وساقين ووجهاً ، فينبغي عليكم تنزيه الباري تعالى عن التشبيه والتجسيم.

وأصل التنزيه مأخوذ من كلمات أميرالمؤمنين علیه السلام وخطبه الشريفة ، فأخذ منه الشيعة والأشاعرة والمعتزلة.

ومنها : مسألة غسل الرجلين في الوضوء ، فإن الواجب في الرجلين هو المسح ولم تأخذوا به (1) ، وأنتم تقولون : إن منطلقنا الكتاب والسنّة ، والمسح في الرجلين هو صريح الآية الشريفة ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) (2) ، وفي كلمة أرجلكم قراءتان : قراءة بالنصب وهي الموجودة في المصاحف

ص: 190


1- ومن أفضل ما كتب في هذا المجال ما كتبه العلامة المحقِّق السيِّد علي الشهرستاني في كتابه القيِّم ( وضوء النبي صلی اللّه علیه و آله ) وما كتبه الفاضل المحقق الشيخ محمّد كوزل الآمدي في كتابه ( حكم الأرجل في الوضوء ) ، وقد كتب بحثاً موسَّعاً في ذلك في أكثر من ستمائة صفحة.
2- سورة المائدة ، الآية : 6.

الشائعة ، وقراءة بالجرّ ، وقد قرأ بالجرِّ نصف القرَّاء ، وبناءً على قراءة الجرِّ يكون الواجب في الوضوء بالنسبة للأرجل واضحاً وهو المسح ; إذ الأرجل معطوفة على الرؤوس ، فالواجب فيها هو المسح إلى الكعبين.

وأمَّا بناء على قراءة النصب فالآية تدل أيضاً على وجوب المسح ، وذلك لأمر نبَّه عليه علماء اللغة وهو : أنه إذا جاء عامل ، وجاء بعده معمول ، ثمَّ جاء عامل آخر ، وجاء بعده معمول ، ثمَّ جاء معمول آخر فلا يكون المعمول الأخير معطوفاً على معمول العامل الأول ، بل لابد أن يكون معطوفاً على معمول العامل الثاني ، فإنّ العطف على معمول عامل مع فصل العامل الثاني بين المعطوف والمعطوف عليه يعدُّ غير صحيح عند علماء اللغة العربيّة ، ولا أقول هذا الكلام لأنني شيعيٌّ ومذهبي المسح ، بل أقول هذا لأن علماء اللغة الكبار قد صرَّحوا به.

ونوضح هذا الكلام بالمثال ، فإذا قلت مثلا : ضربت زيداً وأكرمت عمراً وخالداً ، فإن كل من يسمع هذا الكلام يفهم منه أن خالداً في المثال معطوف على معمول العامل الثاني وهو عمرو ، وليس معطوفاً على معمول العامل الأول وهو زيد كما في المثال.

فيفهم من المثال أن خالداً مكرم كعمرو ، لا مضروب كزيد ; إذ لو كان معطوفاً على زيد للزم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بعامل آخر ومعموله ، وهو خطأ ; إذ يتضمَّن إخلالا ببيان المقصود.

وقد صرَّح بهذا علماء اللغة ، وعلماء التفسير - أيضاً - كالفخر الرازي ، حيث قال : إن حجة القول بالمسح هو الآية الشريفة ، ثمَّ أورد البيان الذي ذكرناه.

وممَّن صرَّح بذلك أيضاً إبراهيم بن محمّد القسطنطيني ، إمام جامع القسطنطينية في كتابه غنية المتملّي في شرح منية المصلّي وقد تعرّض فيه

ص: 191

للمسح على الأرجل ، وصرَّح بالبيان المذكور أيضاً (1).

وممن صرَّح بذلك محمّد عبده ، وتلميذه محمّد رشيد رضا في تفسير المنار ، فقد صرَّحا بأن ظاهر القرآن هو المسح.

وقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لا صلاة إلاَّ بطهور (2) ، والطهور لا يحصل إلاَّ بمسح الرجلين في الوضوء لا الغسل ، كما دلَّت عليه الآية الشريفة ، فهو المتعيِّن.

وإذا كان هناك خبر يدلُّ على الغسل فهو مردود بمخالفته للقرآن الكريم ، ويكون العامل به داخلا في قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ) (3) ووجوب مسح الرجلين في الوضوء شيء بيَّنه اللّه تعالى في كتابه ، فبأيِّ مسوِّغ نعدل عنه إلى غيره؟

ولو ورد على سبيل الفرض في السنة الشريفة ما يدلُّ على غسل الرجلين فإنه لا يصلح للعدول عن حكم القرآن الكريم ، وذلك لمايلي :

أوّلا : أنه لو قلنا بصحّة سند ما يدلُّ على غسل الرجلين فهو لا يقاوم دلالة القرآن الكريم ، إذ القرآن مقدَّم في الدلالة (4).

ص: 192


1- راجع في ذلك أيضاً : المسائل الفقهيّة ، السيِّد شرف الدين : 76 ، المسح في وضوء الرسول صلی اللّه علیه و آله ، محمّد بن الحسن الآمدي : 54.
2- تهذيب الأحكام ، الطوسي : 1 / 50 ح 83 ، الأمالي ، الصدوق : 744 ، المناقب ، الخوارزمي : 384 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 1 / 101 ، المصنّف ، ابن أبي شيبة : 1 / 15 ، تاريخ الطبري : 4 / 113 ، الأحكام ، ابن حزم : 5 / 718.
3- سورة البقرة ، الآية : 159.
4- 4 - ويدلّ على ذلك أخبار عرض الروايات على القرآن الكريم ، والتي منها : ما رواه الشيخ الكليني عليه الرحمة بالإسناد عن السكوني ، عن أبي عبداللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إن على كل حقّ حقيقة ، وعلى كل صواب نوراً ، فما وافق كتاب اللّه فخذوه ، وما خالف كتاب اللّه فدعوه. راجع : الكافي ، الكليني : 1 / 69 ح 1 الأمالي ، الصدوق : 449 ح 18 ، المحاسن ، البرقي : 1 / 226 ح 150. وروى الأشعري عنه علیه السلام ، قال : كل ما خالف كتاب اللّه في شيء من الأشياء من يمين أو غيره ردّ إلى كتاب اللّه. النوادر ، الأشعري : 173 ح 452. وقد ذكر السيّد مهدي الروحاني رحمه اللّه تعالى في كتابه : ( بحوث مع أهل السنّة والسلفية ) أن هذه الأحاديث - أي أحاديث عرض الحديث على الكتاب - ناظرة إلى قبول الموافق وردّ المخالف ، أمَّا ما لا يوافق ولا يخالف فهو باق تحت حجّيّة الأخبار ، كما جاء في كتاب موسوعة التاريخ الإسلامي ، اليوسفي : 1 / 59.

ثانياً : أن دلالة بعض الروايات التي ادّعيت استفادة الغسل منها مخدوشة ، وعمدة ما استدلّ به على الغسل هو الرواية المعروفة ، وهي : كنّا نمسح على أرجلنا ، فرأى النبي صلی اللّه علیه و آله ذلك فقال : ويل للأعقاب من النار (1).

وصريح هذه الرواية أن أصحاب الرسول صلی اللّه علیه و آله كانوا يمسحون على أرجلهم ، وأما جملة ، ويل للأعقاب من النار ، فأيُّ دلالة فيها على وجوب غسل الأعقاب ، وجعله من الوضوء؟

وهذه الرواية تدل على أن الصحابة كانوا أيضاً يمسحون أرجلهم ، وهذا يعني أنهم أخذوه عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فهي صريحة في أن المسح كان عندهم أمراً واضحاً ، ومعروفاً فيما بينهم.

وعلى فرض صدور هذه الرواية من النبي صلی اللّه علیه و آله ، وأنه قال : ويل للأعقاب

ص: 193


1- روى البخاري ، عن عبداللّه بن عمرو قال : تخلَّف النبي صلی اللّه علیه و آله في سفرة سافرناها ، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضّأ ، فجعلنا نمسح على أرجلنا ، فنادى بأعلى صوته : ويل للأعقاب من النار مرَّتين أو ثلاثاً. صحيح البخاري : 1 / 21، صحيح ابن حبان : 3 / 335 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 8 / 289.

من النار ، فلعلّه التفت إلى أن بعضهم كانوا يبولون ، وأن البول يصل إلى أعقابهم ، ويتوضّأون ولا يغسلون أعقابهم من النجاسة ، ولا يتحرَّزون منها ، فقال حينئذ : ويل للأعقاب من النار.

فهذه الجملة لا توجب غسل الرجلين في الوضوء ، بل تدلّ على وجوب تطهير الرجلين من النجاسة.

كما أن الرواية لا تعارض الآية الشريفة ; إذ أن الرواية أقصى ما تدلّ عليه هو وجوب إزالة النجاسة عن الأعقاب ، ولا دلالة فيها على وجوب غسل الأرجل وكونه من الوضوء ، نعم يظهر منها أن بعض الصحابة كانوا يتهاونون في إزالة النجاسة عن أعقابهم.

والجدير بالذكر أن محمّد رشيد رضا ذكر عن بعضهم أن دلالة هذه الرواية على وجوب المسح في الوضوء أقوى من دلالتها على وجوب غسل الرجلين.

والخلاصة أنَّه قد وقع النزاع والاختلاف بين الأمّة في تفسير الآية الشريفة ، فقال قوم بالمسح ، وهم فقهاء كثيرون من الأمّة في عصر التابعين.

وفي هذه الحالة نرجع إلى سنّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ونراه يقول : إني مخلِّف فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي (1) ، فجعل المرجع في مثل هذا الحال إلى أهل بيته علیهم السلام ، فنرجع إلى آل محمّد علیهم السلام ، وهم الذين أوجب الصلاة عليهم بعد الصلاة على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في جميع الصلوات ، وجعلهم في الصلاة تلو محمَّد رسوله صلی اللّه علیه و آله لنفهم أن لهم مقاماً عظيماً ليس لغيرهم ، يتلو مقام النبي صلی اللّه علیه و آله ، ولو كان هناك أناس أفضل منهم وأحقّ منهم لقدَّمهم عليهم.

ص: 194


1- تقدمت تخريجاته.

هذا وقد جعل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أهل بيته علیهم السلام مرجعاً لنا في الدين كالقرآن ، لا يمكن التخلُّف عنهم ، وأهل البيت علیهم السلام يقولون بوجوب مسح الرجلين في الوضوء ، فأنتم إذن حينما تتركون المسح وتغسلون أرجلكم تخالفون بذلك الكتاب الكريم ، وتخالفون سنَّة نبيِّه العظيم صلی اللّه علیه و آله في عدم الرجوع إلى أهل بيته علیهم السلام ، وبعد هذا كيف تقولون : إن منطلقنا هو الكتاب والسنَّة؟

ففهمت أن المناظر لم يستوعب ويفهم كلامي جيِّداً ، ولم يعطه حقَّه ، ولذا كرَّرت عليه المطلب بعبارة ثانية ، وقلت له : غداً يوم القيامة أحضر أنا للمحاكمة والحساب ، وكذلك تحضر أنت أيضاً ، فيقولون لي : يا مهدي! لماذا مسحت رجليك بدلا من الغسل في الوضوء؟ فأقول : يا رب! إن ظاهر القرآن الكريم هو المسح ، وقد رأيت الناس مختلفين فيه بين من يقول بالمسح ، وبين من يقول بالغسل ، فرجعت لآل محمَّد علیهم السلام الذين جعلت ذكرهم في كل صلاة ، فوجدتهم يقولون بوجوب المسح ، ولهذا مسحت رجلي.

وأمَّا أنت إذا سئلت عن غسل الرجلين في الوضوء فبماذا تجيبهم؟ وأين دليلك في هذا الأمر العظيم الذي بيَّنه اللّه تعالى في كتابه؟

فسكت ولم يقل شيئاً ، ورأيت في وجهه الانكسار ، فخفَّفت عنه ، ثمَّ قلت له : نحن الشيعة قد اتُّهمنا بعدّة اتّهامات غير صحيحة ، منها الغلو في أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام ، ومنها أننا نقول بتحريف القرآن ، وهذا كلُّه غير صحيح ، وهو كلام باطل لا أساس له من الصحّة ، فلماذا ترمى أمّة مسلمة ويفترى عليها ، والحال أنها ترجع في عقائدها وأحكامها إلى آل محمَّد علیهم السلام ، وهم علماء معروفون بالعلم والتقوى؟

فقال : من هم؟

ص: 195

فقلت له : هم الأئمّة الاثنا عشر علیهم السلام .

فقال : من هم الأئمة الاثنا عشر؟

فقلت له : هم الذين ذكرهم السيوطي في تأريخ الخلفاء الراشدين ، حيث قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : الأئمة بعدي اثنا عشر ، وذكر ذيلا للحديث : أبو بكر لا يلبث إلاَّ قليلا ... ثمَّ قال السيوطي : إن صدر الحديث وهو : الأئمة بعدي اثنا عشر مجمع على صحّته ، وأمَّا ذيله ففيه ضعف ، ولم يقله إلاَّ فلان.

فقال : فمن هم إذن الأئمة الاثنا عشر؟

فقلت له : أوَّلهم أميرالمؤمنين علیهم السلام ، ثمَّ الحسن ، ثمَّ الحسين ، ثمَّ علي بن الحسين ، ثمَّ محمّد بن علي الباقر ، ثمَّ جعفر بن محمّد الصادق ، ثمَّ موسى بن جعفر الكاظم ، ثمَّ علي بن موسى الرضا ، ثمَّ محمّد بن علي الجواد ، ثمَّ علي بن محمّد الهادي ، ثمَّ الحسن بن علي العسكري ، ثمَّ المهدي الحجة بن الحسن علیهم السلام ، ولمَّا وصلت إلى ذكر اسم الحجة قمت ، فقام وودَّعنا قائلا : في أمان اللّه.

فقلت له : في أمان اللّه. انتهى.

مسح القدمين في كتب السنّة

أقول : هذا وقد ورد في كتب السنّة بعض الأخبار ، وجملة من كلمات بعض الصحابة تدلّ على وجوب مسح القدمين ، وقد غضَّ القوم الطرف عنها ، وصاروا إلى غسل الرجلين بلا مسوِّغ في ذلك ، مع تعيُّن المسح كتاباً وسنّة.

ويبدو من بعض روايات المسح التي رواها السنة أنه أضيف إليها بعض الكلمات كي يصرفوا معنى المسح إلى الغسل ، تارة بتفسيرها بالمسح على

ص: 196

الخفين (1) ، وأخرى بتأويل المسح وتفسيره بالغسل الخفيف (2) ، وهو قول باطل لا دليل عليه ، وحمله على غير معناه يحتاج إلى دليل ، ولكنها محاولات يراد منها تحريف ما ينصُّ على تعيُّن المسح.

وإليك هنا بعض الروايات والأقوال في ذلك :

1 - روى أحمد بن حنبل ، عن عبد خير ، عن علي علیه السلام قال : كنت أرى أن باطن القدمين أحقُّ بالمسح من ظاهرهما حتى رأيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يمسح ظاهرهما (3).

وفي رواية ابن أبي شيبة الكوفي : عن عبد خير ، عن علي علیه السلام قال : لو كان الدين برأي كان باطن القدمين أحقَّ بالمسح من ظاهرهما (4).

2 - وروى أبو داود ، عن الأعمش قال : لو كان الدين بالرأي لكان باطن القدمين أحقَّ بالمسح من ظاهرهما.

ص: 197


1- راجع : سنن أبي داود : 1 / 44 ح 164 وقول وكيع في ذلك.
2- وهو قول ابن كثير الذي تحير في تأويل الحديث ولم يهتد إلى مخرج بعدما أورد روايات المسح الصريحة في ذلك ، قال : فهذه آثار غريبة جداً ، وهي محمولة على أن المراد بالمسح هو الغسل الخفيف. راجع تفسير ابن كثير : 2 / 27.
3- مسند أحمد بن حنبل : 1 / 95 و 114 ، السنن الكبرى ، البيهقي : 1 / 292 ، السنن الكبرى ، النسائي : 1 / 90 ح 119.
4- قال المحقِّق السيِّد علي الشهرستاني في كتابه القيِّم ( وضوء النبي صلی اللّه علیه و آله : 2 / 44 : تنبيه وإشارة الإمام علي علیه السلام - في جملة أحاديثه الوضوئيّة - إلى أن مبعث الإحداث في الوضوء هو الاجتهاد والرأي ، وأن الوضوء - بل الدين - لا يدرك بالرأي ، فكان يقول : لو كان الدين بالرأي لكان باطن القدم أحقَّ بالمسح من ظاهرها ، لكن رأيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مسح ظاهرها .. فهو يقرِّر أن الدين - ومنه الوضوء - لا يدرك بالرأي كما يتصوَّره البعض ، وإلاَّ لكان باطن القدم أحقَّ بالمسح ، فكيف يعدل عنه إلى غسل الظاهر والباطن بمحض الرأي والاجتهاد؟!

ورواه أيضاً وكيع عن الأعمش بإسناده ، قال : كنت أرى أن باطن القدمين أحقُّ بالمسح من ظاهرهما ، حتى رأيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يمسح ظاهرهما (1).

وجاء بعد هذه الرواية تفسير المسح وتأويله ، قال وكيع : يعني الخفّين.

وهذا التفسير - كما ترى - ليس من راوي الحديث ، بل هو تفسير جاء به وكيع ، وليس عليه دليل ، إذ روي مثل هذه الرواية عن عبد خير عن أميرالمؤمنين علیه السلام ولا يوجد فيها هذا التفسير.

ثمَّ إن هذا التفسير غير صحيح ; لأن صدر الحديث يقول : كنت أرى أن باطن القدمين أحقُّ بالمسح ، وهذا لا ينسجم مع المسح على الخفّين ، ولا معنى له أصلا ، وإنما ينسجم مع المسح على نفس القدمين.

3 - روى ابن أبي شيبة الكوفي ، عن الشعبي قال : نزل جبرائيل بالمسح على القدمين (2).

4 - وقال القرطبي : قال عامر الشعبي : نزل جبريل بالمسح ، ألا ترى أن التيمُّم يمسح فيه ما كان غسلا ، ويلغى ما كان مسحاً (3).

5 - ابن كثير : عن ابن أبي زياد ، قال : حدَّثنا يزيد ، أخبرنا إسماعيل ، قلت لعامر : إن ناساً يقولون : إن جبريل نزل بغسل الرجلين ، فقال : نزل جبريل بالمسح (4).

ص: 198


1- سنن أبي داود : 1 / 44 ح 164.
2- المصنّف ، ابن أبي شيبة الكوفي : 1 / 30 ح 7 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 9 / 434 ح 26851.
3- تفسير القرطبي : 6 / 92 ، تفسير ابن كثير : 2 / 27 ، الدر المنثور ، السيوطي : 2 / 262.
4- تفسير ابن كثير : 2 / 27.

6 - وعن عاصم ، عن الشعبي قال : نزل القرآن بالمسح ، والسنَّة بالغسل (1).

وقد نسب مثل هذا القول أيضاً إلى أنس ، حيث نقل أنه قال : نزل القرآن بالمسح والسنّة بالغسل (2) ، ولكن روي عنه ما ينافي هذا القول ، كما سوف يأتي قريباً ; فقد كان أنس يمسح قدميه ، وكان يقول : صدق اللّه وكذب الحجاج.

فقولهم : ( نزل القرآن بالمسح والسنَّة بالغسل ) ما هو إلاَّ جمع بين المتناقضين ، فالقرآن يوجب المسح ، والسنة تعيِّن الغسل ، فهل السنة تخالف القرآن؟ وأيُّ حكيم يتفوَّه بهذا؟ وكيف ينسب لسنَّة النبي صلی اللّه علیه و آله ما يخالف القرآن ويتعارض معه؟ وقد ورد أنه إذا جاء في الروايات ما يخالف القرآن فلا يعمل بها ، ولا تكون حجة.

7 - وروي عن ابن عبّاس أنه قال : الوضوء غسلتان ومسحتان (3).

8 - قال ابن أبي حاتم : بالإسناد عن ابن عباس ( وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ ) قال : هو المسح.

ثمَّ قال : وروي عن ابن عمر ، وعلقمة ، وأبي جعفر - محمّد بن علي علیه السلام - ، والحسن في إحدى الروايات ، وجابر بن زيد ، ومجاهد في إحدى الروايات نحوه (4).

9 - السيوطي : أخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وابن ماجه ، عن ابن

ص: 199


1- شرح معاني الآثار ، أحمد بن محمّد بن سلمة : 1 / 40 ، الدرّ المنثور ، السيوطي : 2 / 262 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 9 / 434 ح 26852.
2- تفسير القرطبي : 6 / 92.
3- تفسير القرطبي : 6 / 92 ، تفسير ابن كثير : 2 / 27 ، الدرّ المنثور ، السيوطي : 2 / 262.
4- تفسير ابن كثير : 2 / 27 ، الدر المنثور ، السيوطي : 2 / 262.

عباس قال : أبى الناس إلاَّ الغسل ، ولا أجد في كتاب اللّه إلاَّ المسح (1).

10 - السيوطي : أخرج عبدالرزاق ، وعبد بن حميد ، عن ابن عباس قال : افترض اللّه غسلتين ومسحتين ، ألا ترى أنه ذكر التيمُّم فجعل مكان الغسلتين مسحتين ، وترك المسحتين (2).

11 - وروي أن الحجاج خطب بالأهواز ، فذكر الوضوء فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم ، وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم ، فإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب إلى خبثه من قدميه ، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما ، فسمع ذلك أنس بن مالك فقال : صدق اللّه وكذب الحجاج ، قال اللّه تعالى : ( وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) قال : وكان إذا مسح رجليه بلَّهما (3).

12 - وكان عكرمة يمسح رجليه ، وقال : ليس في الرجلين غسل ، إنما نزل فيهما المسح (4).

13 - وقال ابن جرير : حدَّثنا يعقوب ، حدَّثنا ابن علية ، حدَّثنا أيوب ، قال : رأيت عكرمة يمسح على رجليه ، قال : وكان يقوله (5).

14 - وقال قتادة : افترض اللّه غسلتين ومسحتين (6).

وكل هذه الروايات - كما ترى - دلائل على وجوب المسح في الرجلين ،

ص: 200


1- الدرّ المنثور ، السيوطي : 2 / 262.
2- الدرّ المنثور ، السيوطي : 2 / 262.
3- تفسير القرطبي : 6 / 92 ، الدرّ المنثور ، السيوطي : 2 / 262 ، وقد روى هذه الرواية أيضاً ابن كثير في التفسير 2 / 27 عن ابن جرير مسنداً ، عن موسى بن أنس ، عن أنس مثلها ، وقال : إسناد صحيح إليه.
4- تفسير القرطبي : 6 / 92.
5- تفسير ابن كثير : 2 / 27.
6- تفسير القرطبي : 6 / 92 ، تفسير ابن كثير : 2 / 27.

وصريحة في ذلك ، وأن دعوى النسخ غير ثابتة ، وكذلك التأويلات الأخرى ، وهي تنفي صراحة القول بغسلهما ، فما ورد من قول ابن عباس : الوضوء غسلتان ومسحتان ، واحتجاج أنس بالآية الشريفة على لزوم المسح وتكذيبه الحجاج الذي أمر الناس بالغسل ، وقول قتادة : افترض اللّه .. وقولهم : نزل جبرئيل بالمسح ، كلُّها دلائل قطعية على أن المتعيِّن في الرجلين هو المسح وليس الغسل.

ويدل كلام ابن عباس وقوله : أبى الناس إلاَّ الغسل على أن تحوُّل الناس من المسح إلى الغسل ليس شرعّياً ، ولهذا نسب الغسل للناس ، ولو كان من السنّة والشرع لما صحَّ أن ينسب الغسل للناس.

وبعد ما عرفت جملة من هذه الروايات التي تنصّ على لزوم المسح فلا عبرة إذن بما ورد من دعوى أن الصحابة كانوا يغسلون أرجلهم (1) ; إذ لا يعدو كونه اجتهاداً منهم ، كما يدل عليه قول ابن عباس : وأبى الناس إلاَّ الغسل ، فلا يمكن بوجه ترك ما جاء به القرآن الكريم والمصير إلى اجتهادات الصحابة ، وما قيل من أن المسح مضت به السنّة من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (2) فهو غير صحيح قطعاً ، فإنه لو كان من السنّة لما خفي على أميرالمؤمنين علیه السلام الذي هو باب مدينة علم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأقضى الأمة ، وعلى ابن عباس حبر الأمّة ، ومن حذا حذوه من الصحابة.

وما رووه عن النبي صلی اللّه علیه و آله من أنه غسل قدميه ، فهو من الروايات التي لا

ص: 201


1- الدرّ المنثور ، السيوطي : 2 / 262.
2- الدرّ المنثور ، السيوطي : 2 / 262.

تقاوم ما مرَّ عليك ، مضافاً إلى أنها مخالفة للقرآن فلا يؤخذ بها ، وعلى فرض صحّتها فيحمل الغسل فيها على ما بعد الوضوء ; إذ لا ضير أن يمسح قدميه للفرض ، ثم يغسل رجليه لمقتض آخر استوجب ذلك ، وهذا يحصل كثيراً عند المتوضِّئين ، فيمسح قدميه وبعد أن يتمَّ وضوءه يغسل قدميه للنظافة أو أمر آخر.

ص: 202

المناظرة السابعة والأربعون: مناظرة السيِّد مهدي الروحاني مع رجلين مصريين في وجوب اتّباع أهل البيت علیه السلام

حدثني الحجة السيد مهدي الروحاني القمي عليه الرحمة قال : كنت جالساً في مسجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المدينة المنوَّرة ، بعد صلاة المغرب ، وعن يميني شيخ حليق اللحية ، وقد ذكر لي أنه حنفيٌّ ، وأنه من أهل العلم ، وهو من ( أبو ظبي ) فجاء شابَّان مصريَّان ، عليهما آثار النجابة وسيماء الصالحين ، وهما شافعيَّان ، فسلَّما وقالا : هل أنت إيرانيٌّ؟

قلت : نعم.

قالا : هل أنت شيعيٌّ جعفريٌّ.

قلت : نعم ، أنا شيعيٌّ جعفريٌّ.

قالا : ما الفرق بيننا وبينكم؟ وكيف صرتم أنتم شيعة ونحن سنة؟

قلت : الفرق بيننا وبينكم في أمرين عظيمين ، وهما منشأ لاختلافات كثيرة ، وهما :

الأمر الأوَّل : مسألة الخلافة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ص: 203

فالشيعة يقولون : إن خلافة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تكون بنصٍّ من اللّه تعالى على لسان نبيِّه صلی اللّه علیه و آله ، وقد نصَّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام .

وأمَّا السنة فإنهم يقولون : إن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله لم يعيِّن أحداً خليفة من بعده ، واختار الناس من بعده أبا بكر ، ثمَّ عمر ، ثمَّ عثمان ، ثمَّ علياً علیه السلام .

الأمر الثاني : تحديد المرجع في الأحكام والفتاوى وما تحتاج إليه الأمة.

فإن من المسلَّم أن أقوال الرسول صلی اللّه علیه و آله وأفعاله حجّة علينا ، ولكنه قد تجيء مسائل كثيرة لا نجد لها حكماً في كتاب اللّه ، ولا في سنَّة رسوله صلی اللّه علیه و آله فإلى من نرجع؟

فنحن الشيعة نقول : إن الرجوع في ذلك هو إلى آل محمَّد صلوات اللّه عليهم ، والاعتماد عليهم ، وأمَّا السنَّة فقد فزعوا إلى أربعة رجال جاءوا في عصر متأخِّر ، وهم : مالك بن أنس ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وهم تلاميذ لأئمَّة آخرين ، ولعلَّ فيهم من هو أعلم منهم ، ولا دليل لكم على اتّباع هؤلاء الأربعة.

وأمَّا نحن الإماميَّة فلنا دليل على اتّباع آل محمّد علیهم السلام وهو :

أوّلا : أنّنا فهمنا من وجوب الصلاة على آل محمَّد في الصلاة أن لهم مقاماً يتلو مقام الرسالة في الأمّة ; إذ لو لم يكن لهم هذا المقام لما جعلت الصلاة عليهم في الصلاة ; إذ لا يحتمل أن يكون ذلك مجاملة من اللّه لرسوله صلی اللّه علیه و آله ، فالمجاملات تقع بيننا فقط.

ثانياً : أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أرجع الأمَّة إلى العترة علیهم السلام صريحاً ، حيث قال : إني مخلِّف فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسَّكتم بهما لن

ص: 204

تضلّوا من بعدي .. (1) ، فبنصِّ هذا الحديث لابدَّ من التمسُّك بالعترة علیهم السلام ، كتمسُّكنا بالقرآن الكريم ، فتمسَّكنا بهم علیهم السلام ، وأما أنتم فقد رجعتم في أخذ الأحكام إلى أربعة لا دليل لكم على جواز الرجوع إليهم ، مع أنهم لهم فتاوى يخالف فيها بعضهم بعضاً ، وليسوا متفقين في فتاواهم ، فكيف ساغ لكم الرجوع إليهم؟

فقال أحد الشابين : شيخنا! إن علوم هؤلاء الأربعة علوم لدنيَّة من اللّه العزيز.

فضرب الآخر صدره وقال له : ما هذا الاستدلال؟

وقال لي الشيخ الجالس عن يميني : هذا غير صحيح ، وقد رأيت أن كلامه لا يتعلَّق بشيء ، ورأيت الشابين لا يعبآن بكلامه.

فقلت لهما : أنتم أهل السنة خصومنا في هذا الأمر ، ولنا - رغم ذلك - في كتبكم أدلّة كثيرة على مدّعانا ، وهو وجوب اتّباع أهل البيت علیهم السلام ، وليس لكم دليل واحد في كتبكم على إمامة أئمتكم ، وإذا كان هناك دليل فأتني بدليل واحد على إمامة الشافعي.

ولمَّا قلت هذا الكلام قام الشيخ الجالس عن يميني ، وثار عليَّ ، وذهب للشرطي وقال له : إن هذا الإيراني يرفِّض هذين الشابيّن.

فجاء الشرطي ولم يكلِّمني ، وأخذ يكلِّم الشابين وقال لهما : قوما ، فقاما ، وقال لهما : اذهبا فذهبا ، فقلت للشرطي : نحن نتذاكر في القرآن وسنن الرسول صلی اللّه علیه و آله ، فلماذا تفعل معهما هذا الفعل؟ إنَّهما لم يصنعا جرماً ، فلم يعبأبي.

ص: 205


1- تقدَّمت تخريجاته.

المناظرة الثامنة والأربعون: مناظرة السيِّد عبد الكريم الأردبيلي مع جمع من طلبة الجامعة في عدالة الصحابة والخلافة بعد النبي صلی اللّه علیه و آله

قال المحقِّق العلاّمة المرحوم الشيخ الأحمدي الميانجي : حكى لي صديقي المفضال العلاّمة السيِّد عبد الكريم الموسوي الأردبيلي ، قال : كنت في المدينة المنورة الطيِّبة ، فذهبت إلى زيارة جامعة المدينة ، فحينما كنت قافلا صادفت في الطريق جمعاً من الطلاب قاصدين البلدة - والجامعة واقعة في خارجها - فقلت لهم : أيُّ العلوم يدرس فيها؟

قالوا : كل العلوم إلاَّ المنطق والفلسفة.

قلت : لماذا لا يدرس العلمان؟

قالوا : لأنهما يخرجان الطالب عن الدين.

قلت : أيُّ فرقة من المسلمين يشتغلون في الجامعة؟

قالو : كلُّهم إلاَّ الشيعة.

قلت : لماذا؟

قالوا : إنهم إن دخلوا التحقوا بالسنَّة وتركوا الرفض ، ولكنهم لم يدخلوا فعلا.

ص: 206

قلت : أسألكم سؤالا؟

قالوا : نعم.

قلت : الذي تعتقدون أنتم من عصمة الصحابة وعدالتهم ، وأنهم كلّهم أبرياء وأتقياء ، فهل هذه العقيدة حادثة فيكم ، أم كانت الصحابة أيضاً معتقدين بهذه العقيدة فيهم؟

قالوا : بل كان هذا الاعتقاد عندهم أيضاً.

قلت : فأميرالمؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام كان يحارب معاوية ، ومعاوية يحاربه (1) ، هذا كان يريد قتل ذاك ، وهذا يريد قتله ، فهل هذا كان مع اعتقادهما بعدالتهما وتقواهما ، أو كل يرى الأخر مستحقّاً للقتل ومفسداً للدين والدنيا؟

قالوا : كل يرى الأخر مستحقّاً للقتل ، ولكن كان ذلك اجتهاداً منهما ، ومعاوية كان مخطئاً ، وعلي علیه السلام كان مصيباً.

فقلت : على اعترافكم كان معاوية مستحقّاً للقتل ، لأنكم قلتم : بأن عليّاً علیه السلام أصاب في اجتهاده.

قالوا : هذا مما تدرسون أنتم من المنطق والفلسفة.

قلت : سؤال آخر ; وهو أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله حين وفاته أيُّ العملين كان أحسن

ص: 207


1- قال بعض أشراف مكة : لمَّا مضوا إلى برلين قبل اقتسامها التفت إليهم أحد المسؤولين الألمان فقال لهم : هل لمعاوية صورة عندكم ، أو تمثال؟ قالوا : لا ، ثمَّ قال له : ما أنت ومعاوية؟ قال : لو وجدنا له صورة لصنعنا له تمثالا من ذهب ، ووضعنا التمثال في أكبر ساحة في برلين ، فسألوه : ولماذا؟ ما أنتم ومعاوية؟ فقال : لو لم يقف معاوية في وجه علي علیه السلام وإصلاحاته ، لكانت أوروبا - ومنها ألمانيا - كلها مسلمة اليوم ، ولكن معاوية هو الذي وقف في وجه إصلاحات علي ، وهو الذي منع الإسلام أن ينتشر ، ويكتسح الأديان الأخرى والمذاهب الأخرى. مع رجال الفكر في القاهرة ، السيِّد مرتضى الرضوي : 2 / 168.

له : الوصية وتعيين الخليفة ، أو تركها وإهمال الأمّة وإرجاع الناس إلى شعورهم الاجتماعيّ الثقافي من تعيين رئيس لهم؟

قالوا : الثاني أولى عندنا ; لما فيه من الحرّيّة ، وإرجاع أمور المسلمين إليهم.

قلت : هذا صحيح ، ولكن يأتي سؤال آخر وهو : أن أبا بكر لم ترك الطريقة الحسناء ، وعدل عنها فعيَّن عمر بن الخطاب؟

فسكتوا عن الجواب.

فقلت لهم : أجيبوا بأن أبا بكر علم أن ترك التعيين سوف يورث الفرقة بين المسلمين ، ويولِّد البغضاء والشحناء ، فعمل ذلك حفظاً لهم وحياطة للدين.

قالوا : يأتي حينئذ سؤال آخر ، وهو : أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله لم لم يتوجَّه إلى هذه المصلحة الاجتماعيّة ، وأخطأ في ذلك ، وأوقع المسلمين في خلاف شديد؟

قالوا : فنحن إذن نسألك.

قلت : نعم.

قالوا : هل كان من الحسن أن يترك النبيُّ صلی اللّه علیه و آله الوصيّة وتعيين الخليفة ، أو كان من الحسن التعيين والإيصاء؟

قلت : هذا السؤال ساقط عندنا ; لأن تعيين الخليفة والوصيِّ ليس للنبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، بل هو لله عزَّ وجلَّ ، كبعث النبيِّ صلی اللّه علیه و آله وإرساله ، هو يأمر النبي صلی اللّه علیه و آله بتعيين الإمام والوصيّة به فحسب.

فقالوا : هل عندكم علم من هذه الأمور والمطالب الإسلاميّة؟

قلت : أي نعم ، كثير.

قالوا : ولكن نحن محرومون وممنوعون (1).

ص: 208


1- مواقف الشيعة ، الأحمدي الميانجي : 3 / 74 - 75.

المناظرة التاسعة والأربعون: مناظرة السيِّد مرتضى الرضوي مع الدكتور طه حسين في النصِّ على الخلافة ورزيّة يوم الخميس

اشارة

قال السيِّد مرتضى الرضوي حفظه اللّه تعالى : جرى حديث الدكتور طه حسين (1) بين أساتذة وكتَّاب ، وكان الدكتور حامد حفني داود إلى جنبي ، فطلبت منه أن يتّصل بالدكتور طه حسين ليحدِّد لنا موعداً نلتقي به معه ، فاتّصل به الدكتور حامد ، وقال له : قدم ناشر من العراق ومعه كتب للشيعة ، ويريد مقابلتك ، وإهداء الكتب لسيادتك ، فعيَّن الدكتور وقت المقابلة في الساعة السادسة من مساء الأربعاء ، فاتّصل بي الدكتور حامد ، وأخبرني بتحديد الموعد للمقابلة مع

ص: 209


1- الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي في القرن العشرين ، ولد بمديرية المينا بالصعيد ، في 21 اكتوبر 1889 م ، درس في الأزهر الشريف ، والتحق بالجامعة الأهليّة ، حصل على الدكتوراه من جامعة السوربون في فرنسا 1918 م ، كان مديراً أو رئيساً لتحرير مجلّة الكاتب المصري ، أهم آثاره : الأيام جزءان ، ويتضمَّن تاريخ حياته ، الأدب الجاهلي ، الشعر الجاهلي ، تجديد ذكرى أبي العلاء ، الفتنة الكبرى جزءان ، وله عشرات المقالات والمؤلَّفات الأخرى ، توفي في 14 نوفمبر 1973 م ، من مشاهير رجال الأدب والفكر في العالم العربي ، يتميَّز بحرّيَّة الرأي والجرأة الأدبيَّة في عرض آرائه. مع رجال الفكر في القاهرة : السيِّد مرتضى الرضوي : 1 / 265.

سعادة الدكتور طه حسين ، فحضرنا القصر ( الفيلا ) الذي يقيم فيه الدكتور في الوقت الذي حدَّده لنا سعادته.

ولمَّا طرقنا الباب فتحها الأستاذ فريد شحاته الملازم له ، فقال له الدكتور حامد : لنا موعد سابق في هذه الساعة مع سعادة الدكتور ، فرحَّب بنا ، ودخلنا عليه في غرفة الاستقبال - وكان الدكتور حاضراً - وبعد أن سلَّمنا عليه وردَّ علينا الجواب خاطبني قائلا : حضرتك من أين؟

قلت : من النجف الأشرف - العراق.

قال : شيعيٌّ؟

قلت : نعم ، بالطبع شيعيٌّ ، ثمَّ قلت : الشيعة تعتقد أن الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام قد ظلم ، وغصب حقّه ، واعتدي عليه ، وخالفوا في شأنه نصَّ الرسول صلی اللّه علیه و آله .

فأجاب الدكتور قائلا : لو أننا نعترف بوجود نصٍّ لكفَّرنا جميع الصحابة.

فقلت : قال اللّه تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ) (1) ، ولم يبق - يا دكتور - من الصحابة سوى أفراد يعدّون بالأصابع (2).

ص: 210


1- سورة آل عمران : الآية : 144.
2- روى الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل : 1 / 257 بالإسناد عن أبي هارون العبدي قال : كنت أرى رأي الخوارج ، لا رأي لي غيره ، حتى جلست إلى أبي سعيد الخدري فسمعته يقول : أمر الناس بخمس فعملوا بأربع وتركوا واحدة. فقال له رجل : يا أبا سعيد! ما هذه الأربع التي عملوا بها؟ قال : الصلاة والزكاة والحج والصوم - أعني صوم شهر رمضان ، قال : فما الواحدة التي تركوها؟ قال : ولاية علي بن أبي طالب ، قال : وإنها مفترضة معهن؟ قال : نعم ، قال : فقد كفر الناس ، قال : فما ذنبي؟ انتهى. وقال هناد : كتبت عن عمرو بن ثابت أبي المقدام بن هرمز الكوفي كثيراً ، فبلغني أنه كان عند حبان بن علي ، فأخبرني من سمعه يقول : كفر الناس بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلاَّ أربعة ، فقيل لحبان : ألا تنكر عليه؟ فقال حبان : هو جليسنا. راجع : تهذيب الكمال ، المزي : 21 / 557 ، ميزان الاعتدال ، الذهبي : 3 / 249 ، رقم : 6340 ، تهذيب التهذيب ، ابن حجر : 8 / 9 ، تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : 12 / 135. وروى الجوهري عن غسان بن عبد الحميد ، قال : لمَّا أكثر في تخلُّف علي علیه السلام عن البيعة ، واشتدَّ أبو بكر وعمر في ذلك خرجت أم مسطح بن أثاثة ، فوقفت عند قبر النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، ونادته : يا رسول اللّه! قد كان بعدك أنباءٌ وهنبثة *** لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها *** فاختلَّ قومك فاشهدهم ولا تغب السقيفة وفدك ، الجوهري : 69.

فأجاب الدكتور قائلا : لا ، لا ، أكثر من هذا.

وقد لاحظت على الدكتور أنه يرى للخليفتين أبي بكر وعمر منزلة خاصة ، فقلت : إن عمر قد تجرَّأ على الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وتحدَّاه ووقف دون وصيَّته ، ونسب إليه ما نسب له عند مرضه ، روى البخاري عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه قال : يوم الخميس وما يوم الخميس ، اشتدَّ برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وجعه ، وتنازعوا ولا ينبغي عند نبيٍّ تنازع ، فقالوا : ما شأنه؟ أهجر؟ استفهموه فذهبوا يردّون عليه .. الحديث (1).

قال الدكتور : حاشا لعمر أن يقول هذا ، وهذا الحديث غير صحيح.

فأجبته : يا دكتور! الحديث الذي يوافقك تأخذ به ، والذي يخالفك ترفضه وتحكم بعدم صحّته ، فإمّا أن تعترف بصحّة ما جاء في البخاري ، وإمَّا أن تحكم

ص: 211


1- صحيح البخاري : 5 / 137 ، السنن الكبرى ، النسائي : 3 / 434 ح 5854 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 2 / 242.

بعدم صحّته ولا تستشهد به ، وإن ابن عباس كان يقول : الرزيَّة الرزيَّة ما حال بين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب (1).

فأجاب الدكتور : إن ابن عباس لا يحتجُّ بقوله.

فقلت له : إن الشيعة غير مجمعة على صحّة جميع ما روي عنه ، ولكنه حبر الأمّة ، ولكن أليس أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله أراد الخير لأمَّته بأن يكتب لهم الكتاب كي لا يضلُّوا بعده ، وقال عمر : حسبنا كتاب اللّه؟ أفهل يمكن العمل بالكتاب وحده؟! أليس السنَّة هي المبيِّنة للكتاب؟ قال اللّه تعالى : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (2) ، وقال صلی اللّه علیه و آله : إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما (3)

ص: 212


1- روى البخاري عن ابن عباس رضي اللّه عنهما ، قال : لمّا حضر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي صلی اللّه علیه و آله : هلمَّ أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده ، فقال عمر : إن النبي صلی اللّه علیه و آله قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب اللّه ، فاختلف أهل البيت فاختصموا ، منهم من يقول : قرِّبوا يكتب لكم النبيُّ صلی اللّه علیه و آله كتاباً لن تضلّوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلمَّا أكثروا اللغو والاختلاف عند النبيِّ صلی اللّه علیه و آله قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : قوموا. قال عبيد اللّه : وكان ابن عباس يقول : إن الرزيَّة كل الرزيَّة ما حال بين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. صحيح البخاري : 7 / 9 و 8 / 161 صحيح مسلم : 5 / 76 ، مسند أحمد بن حنبل : 1 / 324 - 325 و 336 ، السنن الكبرى ، النسائي : 3 / 433 ح 5852 و 4 / 360 ح 7516 ، صحيح ابن حبان : 14 / 562 ، شرح مسلم ، النووي : 11 / 89 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 2 / 55 و 6 / 51 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 5 / 248. وجاء في رواية ابن سعد في الطبقات الكبرى : 2 / 244 : فلمَّا كثر اللغط والاختلاف وغمُّوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : قوموا عنّي.
2- سورة النمل ، الآية : 44.
3- تقدَّمت تخريجاته. قال السمهودي : تنبيه ، قال الشريف : هذا الخبر يفهم وجود من يكون أهلا للتمسُّك من أهل البيت والعترة الطاهرة علیهم السلام في كل زمان إلى قيام الساعة ، حتى يتوجَّه الحثُّ المذكور إلى التمسُّك به ، كما أن الكتاب كذلك ، فلذلك كانا أماناً لأهل الأرض ، فإذا ذهبوا ذهب أهل الأرض ، انتهى. وقال الزرقاني المالكي في شرح المواهب اللدنية : قال القرطبي : وهذه الوصيَّة وهذا التأكيد العظيم يقتضي وجوب احترام آله وبرِّهم وتوقيرهم ومحبَّتهم ، وجوب الفرائض التي لا عذر لأحد في التخلُّف عنها ، هذا مع ما علم من خصوصيَّتهم به صلی اللّه علیه و آله ، وبأنهم جزء منه ، كما قال : فاطمة بضعة منّي ، ومع ذلك فقابل بنو أمية عظيم هذه الحقوق بالمخالفة والعقوق ، فسفكوا من أهل البيت دماءهم ، وسبوا نساءهم ، وأسروا صغارهم ، وخربوا ديارهم ، وجحدوا شرفهم وفضلهم ، واستباحوا سبَّهم ولعنهم ، فخالفوا وصيَّته ، وقابلوه بنقيض قصده ، فواخجلتهم إذا وقفوا بين يديه ، ويا فضيحتهم يوم يعرضون عليه ، فالوصيَّة بالبرِّ بآل البيت على الإطلاق ، وأمّا الاقتداء فإنما يكون بالعلماء العاملين منهم ، إذ هم الذين لا يفارقون القرآن. شرح الزرقاني على المواهب اللدنية : 7 /7- 8 ، دار المعرفة - بيروت - ، فيض القدير ، المناوي : 3 / 20.

فالعترة هي المفسِّرة لكتاب اللّه جلَّ شأنه.

ونسبة الهجر إلى رسول الإسلام صلی اللّه علیه و آله لا يرضى به الباري تعالى ، وقد نزَّهه اللّه سبحانه ونسبه بقوله : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) (1).

وبعد هذا سألت الدكتور عن رأيه في الخليفة عثمان ، فقال : كان عثمان يقاد ..

ثمَّ سألته عن أمِّ المؤمنين عائشة ، فقال : كان أحد الأساتذة يقول : لو أدركت عائشة .. أقعدتها في بيتها ; لقوله تعالى : ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ

ص: 213


1- سورة النجم ، الآية : 3 - 4.

تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الاُْولَى ) (1).

ثمَّ قال الدكتور : ولمَّا بلغ عائشة خلافة الإمام علي علیه السلام قالت : ليت السماء قد أطبقت على الأرض ، ولمَّا بلغها وفاته فرحت وتمثَّلت بهذا البيت وقالت :

فألقت عصاها واستقرَّ بها النوى

كما قرَّ عيناً بالإياب المسافر (2)

وعندما أهديت مجموعة الكتب للدكتور - وهي التي قمت بنشرها في القاهرة - مع كتاب الإسلام للأستاذ العلاّمة الكبير الشيخ محمّد أمين زين الدين ، وكتاب مصادر نهج البلاغة وأسانيده لصديقنا العلاّمة المحقِّق السيِّد عبد الزهراء

ص: 214


1- سورة الأحزاب ، الآية : 33.
2- مقاتل الطالبيين ، أبو الفرج الإصبهاني : 26 : الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 3 / 40 ، العلل ، أحمد بن حنبل : 1 / 13 ، تأريخ الطبري : 4 / 115. قال الأمير أحمد حسين بهادر خان الهندي : وفي المعارف لابن قتيبة قال : توفِّيت عائشة سنة ثمان وخمسين ، فقيل لها : ندفنك عند رسول صلی اللّه علیه و آله ؟ فقالت : إنّي قد أحدثت بعده ، ادفنوني مع أخواتي ، فدفنوها بالبقيع. تاريخ الأحمدي : 223 ، ط. بيروت ، نشر مركز الدراسات والبحوث العلميّة. وقال ابن عبد ربِّه الأندلسي : وماتت عائشة في أيام معاوية ، وقد قاربت السبعين ، وقيل لها : تدفنين مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟ قالت : لا ، إني أحدثت بعده حدثاً فادفنوني مع إخوتي بالبقيع. العقد الفريد 4 / 331 ط. مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة. وفي المستدرك للحاكم : 4 / 6 بسند صحيح عن قيس بن أبي حازم قال : قالت : إنّي أحدثت بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حدثاً ، ادفنوني مع أزواجه ، فدفنت بالبقيع. قال ابن عبد ربِّه في العقد الفريد ، : 3 / 108 طبع مصر سنة 1353 : وقد كان النبي صلی اللّه علیه و آله قال لها : يا حميراء! كأني بك تنبحك كلاب الحوأب ، تقاتلين عليّاً وأنت له ظالمة ، والحوأب بضمِّ الحاء وتثقيل الواو ، وقد زعموا أن الحوب ماء في طريق البصرة ، قال في ذلك بعض الشعراء : إني أدين بحبِّ آل محمّد *** وبني الوصيِّ شهودهم والغيَّب وأنا البريء من الزبير وطلحة *** ومن التي نبحت كلاب الحوأب

الخطيب ، وذكرت له أسماءها واحداً بعد واحد إلى أن وصلت إلى ذكر كتاب عبد اللّه بن سبأ سألني الدكتور : هل قرأت الفتنة الكبرى؟

فأجبته : لا.

فقال : إنّي نصرتكم في عبد اللّه بن سبأ ، وقلت في كتابي الفتنة الكبرى : إن عبد اللّه بن سبأ شخصيّة خياليّة أوجدها خصوم الشيعة للطعن بهم ، ما فيش حاجة اسمها عبد اللّه بن سبأ ، لم يخلق اللّه شيئاً اسمه عبد اللّه بن سبأ.

فأجبته : هذا هو رأيك يا أستاذ.

ثمَّ قلت للدكتور : إن الدكتور حامد ألَّف كتاباً في الصاحب بن عبَّاد ، ولي رغبة في أن تكتب سيادتك تقديماً له ، وإن الصاحب بن عبَّاد كان عميد الأدب العربي في النصف الثاني من القرن الرابع ، وأنت - يا أستاذ - عميد الأدب العربي في النصف الثاني من القرن الرابع عشر ، وبينك وبينه ألف عام.

فابتسم سيادته ابتسامة حلوة ، وقال : هات الكتاب لأقرأه ، وكنت قد صحبت الكتاب معي عندما قابلته في داره ، فدفعته إليه ، وتركته عنده ليطّلع عليه ويكتب التقديم له ، واستأذنته وانصرفت.

وكان هذا الكتاب ( الصاحب بن عباد بعد ألف عام ) رسالة الماجستير التي قدَّمها الدكتور حامد حفني داود إلى الجامعة ، وحصل على هذه الدرجة (1).

رأي الدكتور طه حسين في حقيقة عبد اللّه بن سبأ

قال السيِّد الرضوي أيَّده اللّه تعالى : وإليك نص ما قاله الدكتور طه حسين

ص: 215


1- مع رجال الفكر في القاهرة : السيِّد مرتضى الرضوي : 1 / 276 - 279.

في حقيقة عبد اللّه بن سبأ في كتابه الفتنة الكبرى : 2 / 98 طبعة دار المعارف بمصر عام 1953 م :

وأقلُّ ما يدلُّ عليه إعراض المؤرِّخين عن السبئيَّة ، وعن ابن السوداء في حرب صفين : أن أمر السبئيّة وصاحبهم ابن السوداء إنّما كان متكلَّفاً منحولا ، قد اخترع بآخرة ، حين كان الجدال بين الشيعة وغيرهم من الفرق الإسلاميّة ، أراد خصوم الشيعة أن يدخلوا في أصول هذا المذهب عنصراً يهوديّاً ، إمعاناً في الكيد لهم ، والنيل منهم.

ولو قد كان أمر ابن السوداء مستنداً إلى أساس من الحقِّ والتاريخ الصحيح لكان من الطبيعي أن يظهر أثره وكيده في هذه الحرب المعقَّدة المفصَّلة التي كانت بصفين ، ولكان من الطبيعي أن يظهر أثره حين اختلف أصحاب عليٍّ في أمر الحكومة ، ولكان من الطبيعي بنوع خاص أن يظهر أثره في تكوين هذا الحرب الجديد الذي كان يكره الصلح وينفر منه ، ويكفر من مال إليه أو شارك فيه.

ولكنّا لا نرى لابن السوداء ذكراً في أمر الخوارج ، فكيف يمكن تعليل هذا الإهمال؟ أو كيف يمكن أن نعلِّل غياب ابن سبأ من وقعة صفين ، وعن نشأة حزب المحكِّمة؟!

أمَّا أنا فلا أعلِّل الأمرين إلاَّ بعلة واحدة ، وهي : أن ابن السوداء لم يكن إلاَّ وهماً ، وإن وجد بالفعل فلم يكن ذا خطر كالذي صوَّره المؤرِّخون ، وصوَّروا نشاطه في أيام عثمان ، وفي العام الأول من خلافة علي علیه السلام ، وإنّما هو شخص اذّخره خصوم الشيعة وحدهم ، ولم يذّخروه للخوارج ... إلخ.

قال السيد الرضوي حفظه اللّه تعالى : إن الدكتور طه حسين لإلمامه بالتاريخ ، ولتعمُّقه فيه ، ولسعة اطلاعه استطاع أن يقول بجرأة وقوَّة : إن عبداللّه

ص: 216

بن سبأ شخصيّة خياليّة كما صرَّح لي سيادته بذلك ، وهو أوَّل من نبَّه على هذا ، وذكره في كتابه : الفتنة الكبرى : 2 / 98 ، وعلى أثر صدور هذا الكتاب أخذ السيِّد العسكري يبحث هذا الموضوع بحثاً مطوَّلا ، وأخرج نصوصه ، ونشر الجزء الأوَّل منه بعنوان : المدخل ، وطبع في النجف الأشرف - العراق عام 1375 ه- - 1955 م ، وأضاف عليه بعض التحقيق والتعليق ، ونشرته مكتبتنا ; مكتبة النجاح ضمن مطبوعاتها ; مطبوعات النجاح بالقاهرة ، وذلك في عام 1965 ، ثمَّ بعد ذلك أخذ السيِّد المؤلِّف يعقب هذا الموضوع حتى استطاع أن يلحقه بجزء ثان ، وطبع في طهران عام 1972 م (1).

ص: 217


1- مع رجال الفكر في القاهرة ، السيد مرتضى الرضوي : 1 / 278.

المناظرة الخمسون: مناظرة السيِّد مرتضى الرضوي مع الأستاذ الكبير عبد الفتاح عبدالمقصود في أحقّيّة الإمام علي علیه السلام بالخلافة بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله

اشارة

يقول السيِّد مرتضى الرضوي : في رحلتي إلى القاهرة عام 1974 م سافرت إلى الإسكندرية لمواجهة الأستاذ عبد الفتاح (1) فيها ، وأتيت داره العامرة ، فجاءت السيِّدة حرمه وفتحت الباب ، فأدخلتني الغرفة المعدَّة للضيوف ، ورحَّبت بي ترحيباً منقطع النظير ، فسألتها عن الأستاذ أجابت : سافر

ص: 218


1- قال السيِّد الرضوي حفظه اللّه تعالى : الأستاذ عبد الفتاح عبد المقصود ، الكاتب المصري الشهير ، مؤلِّف الموسوعة العلوية ( الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام ) ولد في 10 / 12 / 1912 م ، بكفر عشري الواقعة قرب راقوتة ، التي بنى علهيا الإسكندر الأكبر مدينة الإسكندرية ، دراسته : ليسانس الآداب ، قسم التاريخ بجامعة الإسكندرية ، دراسات في الرأي العام ، دراسات في فنّ الإدارة العليا ، عيِّن مديراً لمكتب السيِّد نائب رئيس الجمهوريّة لشؤن الاتّحاد ، أهم آثاره : الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام تسعة أجزاء ، أبناؤنا مع الرسول صلی اللّه علیه و آله ، الزهراء علیهاالسلام أم أبيها ، يوم كيوم عثمان ، السقيفة والخلافة ، من مشاهير الأساتذة والكتَّاب البارزين بمصر ، ينظم الشعر باللغتين الفصحى والعامّيّة ، كتب موسوعة تحليلية في شخصيّة الإمام علي علیه السلام في 2500 صفحة ، يتميَّز بحرية الرأي والأصالة الفكرية. مع رجال الفكر في القاهرة ، الرضوي : 2 / 91.

أمس إلى القاهرة ، وسيتصل بنا تليفونياً في صباح غد ، ويمكنك أن تترك عندنا نمرة تليفونك في القاهرة ، وعندما يتصل بنا نخبره ليتصل بك من هناك ، فتركت عندها رقم تليفون مطعم المنظر الجميل ، وعدت إلى القاهرة.

وفي اليوم الثاني اتصل بي الأستاذ عبد الفتاح ، وحدَّدت معه وقتاً للمقابلة في المطعم المذكور ، فجاء إلى المطعم ، وجلست معه جلسة امتدَّت إلى ساعات ، سألته خلالها عن انطباعاته عن الإمام علي علیه السلام والخلافة ، فأجاب : إنّني عرفت أحقّيّة الإمام بالخلافة بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله من خطبة أبي بكر (1) ، فإن خطبته التي خطبها في المسجد تنطبق على الإمام علي علیه السلام أكثر مما تنطبق على أيِّ إنسان سواه (2).

ص: 219


1- وهي قوله : أيُّها الناس! نحن - المهاجرين - أول الناس إسلاماً ، وأكرمهم أحساباً ، وأوسطهم داراً ، وأحسنهم وجوهاً ، وأكثرهم ولادة في العرب ، وأمسُّهم رحماً برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ... إلخ عيون الأخبار ، ابن قتيبة : 2 / 232.
2- وهذه الالتفاتة من الأستاذ عبد الفتاح التفاتة جيِّدة وفي محلِّها ، فإذا كان الخليفة يستدل بأولوية المهاجرين بما ذكره من أوصاف فليس هناك أحد أحقّ بالخلافة من أميرالمؤمنين علیه السلام ; لأن كلَّ هذه الأوصاف موجودة فيه زيادة على الأوصاف الأخرى ، والتي كان يتحلَّى بها علیه السلام ، وقد كانت الصحابة تتمنَّى ولو بعض فضائله الشريفة .. والجدير بالذكر هنا - أيضاً - كلام العلاّمة المحقِّق الشيخ باقر شريف القرشي حفظه اللّه تعالى ، إذ يقول في هذا المعنى : إن المنطق الذي استند إليه أبو بكر لأ حقّيّة المهاجرين من قريش بالخلافة هو أنهم أمسُّ الناس رحماً برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأقربهم إليه ، وهذا الملاك على أكمل وجوهه ، وأتمِّ رحابه متوفِّر في أهل البيت علیهم السلام ، فهم ألصق الناس به ، وأمسُّهم به ، وما أروع قول الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام : احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة! وخاطب علیه السلام أبا بكر بقوله : فإن كنت بالقربى حججت خصيمهم *** فغيرك أولى بالنبيِّ وأقرب وإن كنت بالشورى ملكت أمورهم *** فكيف بهذا والمشيرون غيَّب ويقول الكميت : بحقِّكم أمست قريش تقودنا *** وبالفذِّ منها والرديفين نركب وقالوا : ورثناها أبانا وأمنا *** وما ورَّثتهم ذاك أمٌّ ولا أب يرون لهم فضلا على الناس واجباً *** سفاهاً وحقُّ الهاشميين أوجب وعرض الإمام علیه السلام في حديث له عن شدّة قربه من النبيِّ صلی اللّه علیه و آله وبعض مواهبه ، فقال : واللّه إني لأخوه - أي أخو النبيِّ صلی اللّه علیه و آله - ووليُّه ، وابن عمِّه ، ووارث علمه ، فمن أحقُّ به منّي؟ ... لقد انساب القوم وراء أطماعهم وأهوائهم ، وتهالكوا على الحكم ، والظفر بخيراته ، وأعرضوا عمَّا ألزمهم به النبيُّ صلی اللّه علیه و آله من التمسُّك بعترته ، وعدم التقدُّم عليها ، ووجوب رعايتها في كل شيء. حياة الإمام الحسين علیه السلام ، الشيخ باقر شريف القرشي : 1 / 247.

وإنّي حينما أستعرض هذه الأمور أعتمد على المعقول قبل المنقول ، وإنّي لا أنظر إلى صغر سنِّ الإمام صلی اللّه علیه و آله ; لأن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله جعل أسامة أميراً على أبي بكر وعمر(1).

فقلت للأستاذ عند ذلك : إنَّ عمر قد طعن في شخصيَّة الرسول صلی اللّه علیه و آله وقال :

ص: 220


1- روى ابن سعد ، عن نافع ، عن ابن عمر أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله بعث سريَّة فيهم أبو بكر وعمر ، واستعمل عليهم أسامة بن زيد ، فكأن الناس طعنوا فيه ; أي في صغره ، فبلغ ذلك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فصعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه ، وقال : إن الناس قد طعنوا في إمارة أسامة وقد كانوا طعنوا في إمارة أبيه من قبله ، وإنهما لخليقان لها ، وإنه لمن أحبِّ الناس إليَّ ، ألا فأوصيكم بأسامة خيراً. وعن حنش قال : سمعت أبي يقول : استعمل النبيُّ صلی اللّه علیه و آله أسامة بن زيد وهو ابن ثماني عشرة سنة. الطبقات الكبرى ، محمّد بن سعد : 2 / 249 و 4 / 66. وقد أورد الحلبي خبر هذه السريّة في الجزء الثالث من سيرته ، وحكى حكاية طريفة نوردها بعين لفظه ، قال : إن الخليفة المهدي لمَّا دخل البصرة رأى أياس بن معاوية ، الذي يضرب به المثل في الذكاء ، وهو صبيٌّ ، ووراءه أربعمائة من العلماء وأصحاب الطيالسة ، فقال المهدي : أفٍّ لهذه العثانين - أي اللحى - أما كان فيهم شيخ يتقدَّمهم غير هذا الحدث؟! ثمَّ التفت إليه المهدي وقال : كم سنُّك يا فتى؟ فقال : أطال اللّه بقاء أميرالمؤمنين ، سنُّ أسامة بن زيد بن حارثة لمَّا ولاَّه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جيشاً فيه أبو بكر وعمر ، فقال : تقدَّم بارك اللّه فيك. قال الحلبي : وكان سنُّه سبع عشرة سنة. النص والاجتهاد ، السيِّد شرف الدين : 31.

إن الرجل ليهجر (1).

فأجاب الأستاذ : إن لكلمة يهجر معنى آخر.

قلت : إن اللّه تعالى قد نزَّه نبيَّه صلوات اللّه عليه وآله بقوله تعالى : ( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ) (2)

قال : بالنسبة إلى الأحكام (3).

ثمَّ قلت : قوله صلی اللّه علیه و آله : ائتوني بدواة وبيضاء لأكتب لكم كتاباً لا تضلُّوا بعدي أبداً (4) ، والظاهر من هذا أنه - صلوات اللّه عليه وآله - أراد أن يؤكِّد على تعيين الخليفة من بعده ، ولذلك عرف عمر من حديثه صلی اللّه علیه و آله هذا ، وتفوَّه بقوله : إن الرجل ليهجر.

ثمَّ قلت : إنّي أعتقد أن أبا بكر وعمر كانا قد سلف منهما تدبير اتفاق يرجع إلى انتزاع الخلافة من صاحبها الشرعيِّ ; لعدم تنفيذهما جيش أسامة.

أجاب الأستاذ : المعلوم أن أسامة وجيشه وكافّة المسلمين كانوا في قلق على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، حتى لقد عاد أسامة إلى المدينة تاركاً الجيش بالجرف ، وذلك ليطمئنَّ على الرسول الكريم صلی اللّه علیه و آله ، ومعلوم أيضاً أنه صلوات اللّه وسلامه عليه وآله خرج يوم وفاته وقد بدا في خير حال ، حتى لقد تفأَّل الناس خيراً ،

ص: 221


1- راجع : صحيح البخاري : 4 / 66 ، مسند أحمد : 1 / 222 ، صحيح مسلم : 5 / 75 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 2 / 242.
2- سورة النجم ، الآية : 2 - 5.
3- وهذا رأي علماء السنّة أو أكثرهم.
4- صحيح البخاري : 4 / 31 و 5 / 137 ، صحيح مسلم : 5 / 76 ، مسند أحمد بن حنبل : 1 / 324 - 325 ، السنن الكبرى ، النسائي : 3 / 433 ح 5852 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 2 / 243 - 244.

وقالوا : أصبح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بحمد اللّه بارئاً ، .. وتقدَّم أبو بكر يستأذن في الذهاب إلى زوجته بنت خارجة في السنح ، على مبعدة نحو ثلاثة أو أربعة أميال من المدينة ، ولا يبعد التوفيق بين رحيل أبي بكر للسنح وبين قول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أنفذوا بعث أسامة ... إلخ.

فربّما يكون هذا الرحيل من استعداد أبي بكر للسفر ، وحدثت الوفاة وأبو بكر غائب بتلك العالية.

قلت : ومن تتبَّع الحوادث التاريخيَّة بعمق ، ونظر إلى تلك الظروف والملابسات ، وكان بعيداً عن الانحياز والتعصُّب لجهة ما ، يقف على نتيجة : من أن اتفاقاً سابقاً ومبيَّتاً كان قد حصل بين أبي بكر وعمر قبل وفاة الرسول صلی اللّه علیه و آله حول تولّي الخلافة بعده.

ثمَّ قال الأستاذ : أنا لا أستبعد حدوث الاتفاق على الخلافة بين أبي بكر وعمر في مرض الرسول صلی اللّه علیه و آله (1) ، وأن الخلافة من حقِّ الإمام علي علیه السلام ، وأنَّها بهذا النحو انتزعت منه ، وأنّه أحقُّ بها منهما ومن كافة المسلمين.

وقال : ألَّفت كتاباً في موضوع السقيفة وسيتمُّ ، وأنا أعرف أحقّيّة الإمام علي علیه السلام في الخلافة من سلوكه ، ونشأته ، وأيَّام حياته ، ثمَّ قال : إني دعيت إلى العراق لإلقاء محاضرات في كلّيّة الفقه في النجف الأشرف ، وسوف أسافر إلى العراق بعد عيد الفطر إن شاء اللّه.

ثمَّ قال : إني مع إيماني العميق بما ورد في فضل الإمام الحسين علیه السلام ، وما

ص: 222


1- قال السيِّد الرضوي في الهامش : صرَّح الأستاذ بهذا يوم زيارتي له في منزله بالإسكندرية ، وكان معي الأستاذ الشيخ عبد اللّه الخنيزي مؤلِّف كتاب : أبو طالب مؤمن قريش ، والأستاذ عبد العزيز سلام شاعر جمعية أهل البيت علیهم السلام بالقاهرة ، وكان ذلك في يوم الجمعة 16 أغسطس عام 1973 م.

صوَّر جوانب طفولته من أحاديث ، الكتابة عنه تكون مبتورة ما لم أستخلص شخصيَّته من سلوكه وأعماله ، في طفولته وصباه ; لأن الطفل في اعتقادي - وكما يقول المثل - هو أبو الرجل.

ثمَّ سألت الأستاذ عن رأيه في الفتوى التي أصدرها الأستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت ، شيخ الجامع الأزهر ، عند رئاسته للأزهر الشريف ، في جواز التعبُّد بمذهب الشيعة الإمامية ، فقال : لا أرى في المذاهب المعروفة في تعدُّدها سوى أنها الوسيلة لتفسير ما غمض على المسلمين من أحكام الإسلام ، ومن هنا فمن حقِّ مذهب الشيعة الإماميَّة أن يكون في نفس مستوى مذاهب السنّة ، فلا يغفل أمره ، ولا حرج في رأيي على سنّيٍّ يأخذ بما فيه ، هو أولى به من سواه ، إذا علمنا أن منبعه الأصلي هو الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام أعلم الناس بدين الإسلام بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله .

وفي رحلتي إلى القاهرة عام 1975 م كنت قد صحبت معي كتاب : ثورة الحسين علیه السلام مع كتاب : دراسات في نهج البلاغة ، أهداهما مؤلِّفهما سماحة العلاّمة الكبير الشيخ محمّد مهدي شمس الدين لسيادة الأستاذ الكبير عبد الفتاح ، حملتهما معي لإيصالهما لسيادته ، حيث إنه رغب في كتابة موضوع عن الإمام الحسين علیه السلام كما أخبرني في رحلتي إلى القاهرة عام 1974 م (1).

رأي الأستاذ عبد الفتاح عبد المقصود في وصيَّة النبيِّ صلی اللّه علیه و آله بالخلافة

قال السيِّد مرتضى الرضوي حفظه اللّه تعالى : وفي ليلة الجمعة 19 من ذي

ص: 223


1- مع رجال الفكر في القاهرة ، السيِّد مرتضى الرضوي : 1 / 94 - 117.

القعدة الحرام ، المصادف 12 نوفمبر 1976 م أقمت للأستاذ - يعني الأستاذ عبد الفتاح - لمَّا جاء لزيارة إيران حفلة في منزلي بطهران ، دعوت إليها عدداً كبيراً من العلماء والشخصيّات الأدبيّة البارزة ورجال الفكر ، وجرى الحديث حول الوصيَّة ، وهل أن الرسول صلی اللّه علیه و آله أوصى أم لا؟

فقال الأستاذ : إن هناك وصيَّة من حيث المبدأ ، سواء ظهرت في إيماءاته ، أو سماته التي أعطاها للبعض ، ولذلك استند الخلفاء إلى هذا المبدأ ، حيث استند - على حدِّ تعبير الأستاذ - الخليفة الأول في أمر الخلافة إلى الاجتماع بالصلاة ، وعلى هذا بايعه الخليفة الثاني.

ويرى الأستاذ أن التعيينات في أمر الخلافة استندت إلى الاستفادة من ذلك ، ومن أبرز هذه الشواهد قول عثمان حينما خيَّروه بين العزل أو القتل ، قال : لن أخلع ثوباً ألبسنيه اللّه.

وأراد الأستاذ أن يستند في رأيه هذا إلى الاستنتاج العقلي ليتخلَّص من النصوص التي يتعصَّب لها الطرفان.

ومن رأي الأستاذ : أن المغيرة بن شعبة كان المسبِّب الأصلي لقتل الإمام الحسين علیه السلام ، فبعد أن ذكر مواقفه النفاقيَّة قال : مرَّ المغيرة على باب بيت علي علیه السلام ، وذلك بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فرأى أبا بكر وعمر جالسين على الباب ، فقال لهما : أتنتظران حبل الحبلة (1) ليخرج فتبايعانه؟! قوما واجعلا من أنفسكما خليفة (2).

ص: 224


1- جاء في هامش شرح النهج : الحبلة في الأصل : الكرم ، قيل : معناه حمل الكرمة قبل أن تبلغ ، ولعلّه كناية عن صغر سنّ علي علیه السلام .
2- 2 - قال الجوهري : سمعت أبا زيد عمر بن شبة يحدِّث رجلا بحديث لم أحفظ إسناده ، قال : مرَّ المغيرة بن شعبة بأبي بكر وعمر وهما جالسان على باب النبي صلی اللّه علیه و آله حين قبض ، فقال : وما يقعدكما؟ قالا : ننتظر هذا الرجل يخرج فنبايعه ، يعنيان عليّاً ، فقال : أتريدون أن تنظروا حبل الحبلة من أهل هذا البيت ، وسِّعوها في قريش تتسع قال : فقاما إلى سقيفة بني ساعدة ، أو كلاماً هذا معناه. السقيفة وفدك ، الجوهري :2. 70 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 6 / 43.

وأضاف الأستاذ أن هذا الموقف من المغيرة هو الذي جرَّ الويلات على أهل بيت الرسول صلی اللّه علیه و آله حتى آل الأمر إلى قتل الإمام الحسين علیه السلام .

وسئل الأستاذ : هل أن المغيرة كان يعدُّ من الصحابة العدول.

أجاب : إن الصحابي - في رأيي - هو الذي يحفظ الرسول صلی اللّه علیه و آله في ذرِّيَّته وشريعته (1).

كلام الأستاذ عبد الفتاح في عدم معرفة أكثر الناس بحقيقة الشيعة والتشيُّع

وجاء في كلمة الأستاذ عبد الفتاح عبد المقصود رحمه اللّه القيِّمة ، والتي ألقاها في الحفل الكبير الذي أعدَّه له صاحب السماحة فضيلة العلاّمة الكبير الشيخ سلمان الخاقاني رحمه اللّه ، في مدينة خرَّمشهر - إيران ، قال : الأخ تفضَّل فقال الكثير عن وجود الكتب الشيعيّة أو السنّيّة - أقصد في مكتبات الشيعة - وعدم وجود الكتب الشيعيّة في مكتبات السنّة. هذا حقٌّ إلى حدٍّ كبير ، لكن ليس المعوَّل على وجود الكتب في المكتبات ، المعوَّل على من هؤلاء الذين يقرأون هذه الكتب ، فلتمتلأ المكتبة السنّيّة بكتب شيعيّة ، من تظنُّون سيقرأون مثل هذه الكتب العميقة الجادّة ، التي تحتوي الكثير من البحوث والمناقشات ، إلاَّ أن يكون القارئ عالماً من العلماء ، باحثاً من البحَّاث ، يريد أن يصل إلى شيء ليقارن بينه وبين

ص: 225


1- مع رجال الفكر في القاهرة ، السيِّد مرتضى الرضوي : 2 / 160 - 161.

شيء آخر.

ومع احترامي للعلماء من الطرفين ، إلاَّ أنني أقول : العلماء ليسوا الأمّة كلّها ، قد يكونون على رأس الأمّة الإسلاميّة ، ولكنَّ ما يبلغ الناس العاديّين عن السنّة وعن الشيعة ليس بكثير ...

أمَّا السنّة فكثرتهم أو كثرة توالي الحقب والعصور التي تولَّوا فيها الحكم في الدول الإسلاميّة المختلفة قد مكَّن للمذهب السنّيِّ في البلاد أو في كثير من البلاد الإسلاميّة.

الشيعة - كما هو معروف - كانوا مضطهدين في كل الحقب الإسلاميّة إلاَّ قليلا ، حتى من بني عمومتهم بني العبّاس (1) كانوا مضطهدين أشدَّ الاضطهاد. إذن الذي أريده ، والذي أرجوه ، أن تكتبوا للرجل العاديِّ المسلم ، العاديِّ الذي يشكِّل تسعة وتسعين في المئة ( 99% ) من الأمّة الإسلاميَّة ، تسعة وتسعون في المئة ( 99% ) إن لم يكن من الأمَّة الإسلاميَّة فمن السنَّة ، والسنّة تجهل كثيراً ... إذا كتبتم لهؤلاء الكتاب الميسَّر السهل الذي يستطيعون فهمه من الممكن جدّاً أن يتبيَّن لأهل السنَّة حقيقة الشيعة ، من الممكن - بعد هذا - أن تمتلأ المكتبات بكتب الشيعة.

فقد كان لي رأي قاطع أحببت أن أسوقه ، فسقته لبعض الصحاب ، وهو أن نبدأ بتنشئة جيل جديد يعرف حقيقة الشيعة ; من الطفل الصغير ، من الصبيِّ ، من الشابِّ ، أن نقدِّم لهم كتباً ميسَّرة سهلة ، نطلعهم على حقيقة الشيعة.

إنكم تعلمون أن كثيراً من السنّة لا يجهلون - فقط - كل شيء عنكم ، بل

ص: 226


1- غرضه : بني عمومة أئمتهم علیهم السلام .

يتهمونكم اتّهامات أنتم منها براء ، يتهمونكم - أحياناً - بالكفر ، بالخروج عن الإسلام .. هذا ما يقال ، بالخروج عن الإسلام.

يتهمونكم - مثلا - بأنكم تقولون : إن الرسالة نزلت خطأ من السماء على محمّد ، وكان مقصوداً بها علي.

يتهمونكم بأشياء كثيرة جدّاً ، وترون في العامّة ، بل منهم من يتهمونكم بأنكم تؤلِّهون عليّاً علیه السلام .

سمعت هذا من أناس لا أقول : إنّهم جهلاء ، بل أقول : إنهم متعلِّمون ، وبعضهم يعتبر من المثقَّفين ، ماذا عليكم لو بدأتم وكتبتم قصصاً سهلة للأطفال الصغار ... لا للرجال العظام ، أيّ مشهد من المشاهد التي تعلِّم الطفل الصغير الذي يقرأ : إن الإسلام واحد ، كما هو في السنة هو في الشيعة.

من السهل جدّاً أن تكتب هذه ، ومن السهل جدّاً - في سياق الكلام القصصي والروائي البسيط الذي يغري الطفل ويستهويه - أن تدرس المعلومات المطلوبة عن حقيقة الشيعة ، إني أرجو هذا رجاء منكم لا من أجل نشر المذهب الشيعيِّ ، وإنما من أجل التقريب بين المذاهب الإسلاميَّة ، بين المذهبين الكبيرين الذين يعتبران جناحي الإسلام ...

إذا تمَّ هذا ففي اعتقادي أنَّه من الممكن أن يتآخى المسلمون بزيادة اقترابهم بعضهم من بعض ، وبهذا يمكن أن يقف الإسلام على قدميه مرَّة أخرى ، ولربَّما نستطيع أن نستعيد عصر الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام ، الذي أعتبره امتداداً لعصر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، والسلام عليكم (1).

ص: 227


1- مع رجال الفكر في القاهرة ، السيد مرتضى الرضوي : 179 - 181.

المناظرة الحادية والخمسون: مناظرة السيِّد مرتضى الرضوي مع الشيخ عبد الرحيم عرابي في أمر الصحابة وعائشة

قال السيِّد مرتضى الرضوي : زارني الشيخ حسن زيدان على عادته ، في مقرّي الكائن بفندق ميامي ، بشارع عبد العزيز ، أمام بناية عمر أفندي وقال : إنّي كنت قد حدَّثت الأستاذ الشيخ عبد الرحيم أحمد عرابي (1) عنك ، ويطلب مقابلتك ، وهذا الشيخ عبد الرحيم من الأساتذة والعلماء والمدرِّسين بوزارة التربية والتعليم ، ففي أيِّ وقت ممكن لك تعيينه أخبره وأحضر معه ، فأخرجت له

ص: 228


1- قال السيِّد مرتضى الرضوي : الشيخ عبد الرحيم أحمد العرابي ، المدرِّس بوزارة التربية والتعليم ، ولد بقرية عرابة أبي دوس ، محافظة سوهاج ، في : 14 / 3 / 1924 م ، دخل الأزهر عام 1938 م ، وتخرَّج عام 1953 م ، في كلّيّة اللغة العربيّة ، عيِّن مدرِّساً في وزارة التربية والتعليم عام 1950 م ، ومفتِّشاً في اللغة العربية والدين عام 1973 م ، أهم آثاره : له مجموعة من الشعر قالها في مناسبات ، كتب رسالة عنوانها : بحث عن أبي نؤاس الزاهد المفترى عليه ، له مقالات منشورة قديماً في صحيفة ( الرابطة الإسلامية ) تعرَّفت إليه في القاهرة عام 1961 م ، من علماء الأزهر الشريف ، يتحلَّى بأدب المناقشة ، وطيب القلب ، ويحبُّ أهل البيت علیهم السلام ويقدِّسهم ، يتميَّز بالتسامح الخلقي وحرية الفكر والمرونة. مع رجال الفكر في القاهرة ، السيد مرتضى الرضوي : 2 / 227.

مجموعة من مطبوعاتنا بالقاهرة ، وكتبت عليها الإهداء له ، ودفعتها بيد الشيخ حسن زيدان على أن يوصلها إليه ، فأعطاه الكتب ، وبعد أيام جاءني الشيخ حسن وقال : إن الأستاذ الشيخ عبد الرحيم عرابي مشتاق إلى زيارتك ، ففي أيِّ وقت نحضر ، فأجبته : في الليلة القادمة بعد العشاء ، وجاء بصحبته الشيخ حسن زيدان في الموعد المحدَّد ، حيث إنه كان المعرِّف له ، وبعد أن جلسنا واستقرَّ بهما المكان توجَّه نحوي الأستاذ الشيخ عبد الرحيم وقال : هل أنكم تسبُّون الصحابة؟

فقلت : ليست هذه مسألة - على حدِّ تعبيركم - مما هو مسؤول عنه الشيعة ، ولا هو محسوب عليها ، ولا هو منبثق عنها ، بل يا ترى ماذا تؤدّي إليه هذه النصوص ، والحقائق التاريخية التي جاء بها أوثق المصادر ، بل وجاء بها الكتاب والسنّة ، وأعظم رجال المسلمين وأقدمهم.

فهل تنكر حضرتك ما ورد عن النبيِّ صلی اللّه علیه و آله قوله : من آذى شعرة مني فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى اللّه (1) ، وقال صلی اللّه علیه و آله : اللّه يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها (2)؟

وقال ابن قتيبة : قال عمر لأبي بكر : انطلق بنا إلى فاطمة ، فإنّا قد أغضبناها (3) ، أليس هذا إحساس منهما بأنَّهما قد أغضباها وآذياها؟ (4) ، قال اللّه

ص: 229


1- تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 54 / 308 ، الجامع الصغير ، السيوطي : 2 / 547 ح 8267 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 12 / 95 ح 34154 ، فيض القدير ، المناوي : 6 / 24 ح 8267.
2- راجع : الأمالي ، المفيد : 95 ، الأمالي ، الطوسي : 427 ح 11 ، كنز العمال المتقي الهندي : 2 / 111 ح 34237 ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : 2 / 56 ح 32 و 72 ح 24.
3- الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : 1 / 31 وقد تقدَّم هذا النصُّ في الجزء الأول : 196.
4- 4 - فقد روى أصحاب السنن أن فاطمة علیهاالسلام ماتت وهي غضبى على أبي بكر ، روى البخاري ، عن عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أن فاطمة علیهاالسلام ابنة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سألت أبا بكر بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مما أفاء اللّه عليه ، فقال لها أبو بكر : إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : لا نورِّث ، ما تركنا صدقة ، فغضبت فاطمة بنت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فهجرت أبا بكر ، فلم تزل مهاجرته حتى توفِّيت. راجع : صحيح البخاري : 4 / 42 مسند أحمد بن حنبل : 1 / 6 ، السنن الكبرى ، البيهقي : 6 / 300 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 8 / 28 ، فتح الباري ، ابن حجر : 6 / 139 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 7 / 242 ح 18769.

تعالى : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (1) ، وقال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً ) (2) ، وقال تعالى : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ) (3).

وقال الشهرستاني : الخلاف الثاني في مرضه أنه قال : جهِّزوا جيش أسامة ، لعن اللّه من تخلَّف عنه (4).

وفي سبر هذه النصوص نجد أن هناك لعناً قد يتذرَّع به من الكتاب أو السنّة في التعرية أو الاستنكار ، بيد أنه لم يكن الكتاب ولا السنّة ليتذرَّع بالسبِّ أو النبز أو الوصم والتعيير ، فهل تنكر حضرتك تخلُّفهم عن جيش أسامة؟

فابتسم ضاحكاً ثمَّ قال : ما رأيكم في أمِّ المؤمنين عائشة؟

قلت : قال اللّه تعالى : ( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا

ص: 230


1- سورة التوبة ، الآية : 61.
2- سورة الأحزاب ، الآية : 57.
3- سورة الأحزاب ، الآية : 58.
4- الملل والنحل ، الشهرستاني : 1 / 23 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 6 / 52.

وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ) (1) ، وعائشة في حرب الجمل سبَّبت قتل عشرين ألفاً من المسلمين (2).

ثمَّ نقلت للشيخ عبد الرحيم كلام الدكتور طه حسين حولها (3) ، وقد تقدَّم في محادثاتنا معه ..

فقام الأستاذ الشيخ عبد الرحيم عرابي مستأذناً ، وخرج مقتنعاً.

قال ابن عبد ربِّه : دخلت أم أوفى العبديَّة على عائشة بعد وقعة الجمل ، فقالت لها : يا أمَّ المؤمنين! ما تقولين في امرأة قتلت ابناً لها صغيراً؟ قالت : وجبت لها النار ، قالت : فما تقولين في امرأة قتلت من أولادها الأكابر عشرين ألفاً في صعيد واحد؟ قالت : خذوا بيد عدوَّة اللّه (4).

وماتت عائشة في أيام معاوية ، وقد قاربت السبعين ، وقيل لها : تدفنين مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟ قالت : لا ، إني أحدثت بعده حدثاً ، فادفنوني مع أخواتي في البقيع ، وقد كان النبيُّ صلی اللّه علیه و آله قال لها : يا حميراء! كأني بك ينبحك كلاب الحوأب ، تقاتلين عليّاً وأنت له ظالمة.

وقال ابن عبد ربِّه : أخرج أبو بكر بن أبي شيبة ، عن ابن أبزى قال : انتهى عبد اللّه بن بديل إلى عائشة وهي في الهودج ، فقال : يا أم المؤمنين! أنشدك باللّه ،

ص: 231


1- سورة النساء ، الآية : 93.
2- أخرج ابن عبد ربِّه عن سعيد بن قتادة قال : قتل يوم الجمل مع عائشة عشرون ألفاً ، منهم ثمانمائة من بني ضبّة كما في العقد الفريد : 3 / 105 ط. المكتبة التجارية بمصر.
3- قال السيِّد الرضوي : كنت عند الدكتور طه حسين ، وكان معي الدكتور حامد حفني داود ، فسألته عن رأيه في عائشة فقال : كان أحد الأساتذة يقول : لو أدركت عائشة ... أقعدتها في بيتها ; لقوله تعالى : ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الاُْولَى ) .
4- العقد الفريد : 3 / 108 ط ، المكتبة التجارية بمصر ، عام 1353 ه- - 1935 م.

أتعلمين أني أتيتك يوم قتل عثمان فقلت لك : إن عثمان قد قتل فما تأمرينني فقلت لي : إلزم عليّاً ، فواللّه ما غيَّر ولا بدَّل؟ فسكتت ، ثمَّ أعاد عليها فسكتت ثلاث مرَّات ، فقال : اعقروا الجمل ، فعقروه ... إلخ (1).

ص: 232


1- مع رجال الفكر في القاهرة ، السيِّد مرتضى الرضوي : 2 / 229 - 232.

المناظرة الثانية والخمسون: مناظرة السيِّد مرتضى الرضوي مع الأستاذ عبد الهادي مسعود في مسألة المتعة وظلامة فاطمة علیهاالسلام

اشارة

قال السيِّد مرتضى الرضوي : وفي إحدى زياراتي له (1) في داره قلت : أجد

ص: 233


1- قال السيِّد مرتضى الرضوي دام مؤيَّداً : الأستاذ عبد الهادي مسعود الأستاذ بوزارة الثقافة والإرشاد القومي ، ومدير الفهارس العامة بدار الكتب المصرية ، ولد بمدينة الفيوم في 19 / 2 / 1924 م ، حصل على ليسانس الآداب عام 1946 م ، رائد دار المنتدى الثقافي ، وشعارها : الثقافة سبيل الحرّيّة ، اختير مديراً للمكتبات الفرعيّة بدار الكتب المصريّة عام 1955 م ، عيِّن وكيلا لدار الكتب المصريّة عام 1968 م ، أهم آثاره : شخصيات في السياسة والمجتمع ، والثورات الحديثة في الشرق ، وله مقدِّمة لكتاب حقيقة الفلسفات الإسلاميّة ، ومؤلَّفات أخرى مطبوعة ، تعرَّفت إليه عام 1958 م ، رجل الثقافة والعلم ، والأبحاث العميقة في مختلف حقول المعرفة ، له مقدِّمة لكتاب وسائل الشيعة ومستدركاتها ، تعرَّض بها لما يمتاز به الفقه الشيعي من الأصالة والدقّة والعمق ، كتب مقدِّمة أخرى لكتاب المتعة وأثرها في الإصلاح الاجتماعي ، استعرض فيها أوجه ضرورتها للمجتمع الإسلامي ، وأصالة تشريعها في الكتاب والسنّة ، كتب مقدِّمة ثالثة لكتاب علي ومناوئوه ، عرض فيها الأحاديث الدالة على أحقّيّة الإمام علي علیه السلام بالخلافة بعد الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله ، والإمام أميرالمؤمنين علي علیه السلام هو وزير النبي صلی اللّه علیه و آله وخليفته من بعده ، ثمَّ ذكر معاوية بن أبي سفيان وأنَّه من شجرة الفساد بني أميّة ، وأن أمَّه آكلة الأكباد ، وهي التي نهشت جسد حمزة عمِّ الرسول صلی اللّه علیه و آله ، ولاكت كبده ... إلخ. مع رجال الفكر في القاهرة ، السيِّد مرتضى الرضوي : 2 / 267.

في كتبكم خلافاً بيننا في بعض المسائل والأحكام وغيرهما.

فأجاب الأستاذ : - زي إيه - نظير أيِّ شيء؟

فقلت : أشياء وخلافات تاريخيّة وفقهيّة كثيرة.

فأجاب قائلا : الحديث الذي تراه وفي نظرك أنه فيه خلاف أثبته لي بمنطق العلم ، وأنا أكتب عنه ، ولا يهمّني لو خالفت العالم كلَّه ، إنّما المهمُّ أن أقتنع به.

فقلت له : ومنها مسألة المتعة ، فهي عندنا - أي الشيعة الإماميّة - جائزة (1) ، وعندكم محرَّمة ، وقد أحلَّها اللّه تعالى في كتابه العزيز فقال :

( فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) (2) ، وهذا هو نصُّ القرآن الكريم ، وأمَّا السنة النبويّة : فعن جابر : كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق على عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأبي بكر حتى نهانا عنها عمر (3) ، وأن ابن الزبير ولد من

ص: 234


1- قال الراغب الإصبهاني في كتابه : المفردات في غريب الحديث : ص 461 في مادة متع : ومتعة النكاح هي : أن الرجل كان يشارط المرأة بمال معلوم يعطيها إلى أجل معلوم ، فإذا انقضى الأجل فارقها من غير طلاق. انتهى. وقال زعيم الحوزة في جامعة النجف الأشرف السيِّد الخوئي عليه الرحمة : إن نكاح المتعة قد ثبت في الشريعة الإسلاميّة دون أن يثبت له ناسخ ، فلم يبق للقائلين بتحريمه غير اتّباع أقوال كتبهم دون كتاب اللّه وسنّة رسوله صلی اللّه علیه و آله . البيان في تفسير القرآن : 584 الطبعة الثانية.
2- سورة النساء ، الآية : 24.
3- شرح معاني الآثار ، ابن سلمة : 3 / 27 ، فتح الباري ، ابن حجر : 9 / 173 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 16 / 523 ح 45732. وجاء في كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد ، لابن رشد الحفيد : 2 / 47 ، قال : واشتهر عن ابن عباس تحليلها ، وتبع ابن عباس على القول بها أصحابه من أهل مكة وأهل اليمن ، ورووا أن ابن عباس كان يحتج لذلك بقوله تعالى : ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ) وفي حرف عنه : إلى أجل مسمَّى ، وروي عنه أنه قال : ما كانت المتعة إلاَّ رحمة من اللّه عزَّ وجلَّ رحم بها أمَّة محمّد صلی اللّه علیه و آله ، ولو لا نهي عمر عنها ما اضطرَّ إلى الزنا إلاَّ شقيٌّ ، وهذا الذي روي عن ابن عباس رواه عنه ابن جريج وعمرو بن دينار ، وعن عطاء قال : سمعت جابر بن عبداللّه يقول : تمتَّعتنا على عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأبي بكر ونصفاً من خلافة عمر ، ثمَّ نهى عنها عمر الناس.

المتعة (1).

ووردت روايات كثيرة في الصحاح وغيرها مما تثبت حلّيّتها ، ولا يعرف سبب ذلك ، ومع ذلك تفتون بحرمتها.

وأمَّا عندنا - نحن الشيعة الإماميَّة أتباع أهل البيت علیهم السلام - فهي مشروعة بل مستحبّة.

ثمَّ بعد هذا كلِّه طلب الأستاذ عبد الهادي منّي مدَّة ليراجع النصوص ، ووعدني بكتابة مقدِّمة عن هذا الموضوع بعد المراجعة ، وقد لبَّى سيادته هذا الطلب.

في ظلامات فاطمة علیهاالسلام

وفي إحدى زياراتي له في داره قلت : وقد قيل : لأجل عين ألف عين تكرم ، نبيُّ الرحمة محمّد صلی اللّه علیه و آله لم يخلِّف سوى ابنته فاطمة الزهراء البتول علیهاالسلام ، وقال في حقِّها أحاديث مستفيضة ، منها : قوله صلی اللّه علیه و آله : فاطمة بضعة منّي فمن

ص: 235


1- جاء في كتاب محاضرات الأدباء للراغب الإصبهاني : 3 / 314 ما نصه : إن عبد اللّه بن الزبير عيَّر ابن عباس بتحليله المتعة ، فقال له ابن عباس : سل أمَّك كيف سطعت المجامر بينها وبين أبيك ، فسألها فقالت : واللّه ما ولدتك إلاَّ بالمتعة. وأمُّ عبد اللّه بن الزبير هي أسماء بنت أبي بكر أخت عائشة ، وزوجها الزبير من حواري رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وقد تزوَّجها بالمتعة.

أغضبها أغضبني (1) ، وقوله صلی اللّه علیه و آله وهو آخذ بيدها - أي بيد فاطمة علیهاالسلام - : من عرف هذه فقد عرفها ، ومن لم يعرفها فهي بضعة منّي ، وروحي التي بين جنبيَّ ، فمن آذاها فقد آذاني (2).

وقد جعل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليّاً نفسه كما جاء بنصِّ القرآن الكريم ، قال اللّه تعالى : ( فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (3) ، وقال النيسابوري : ( نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ ) أي يدع كلٌّ منّا ومنكم أبناءه ، ونساءه ، ويأت هو بنفسه وبمن هو كنفسه إلى المباهلة ، وإنّما يعلم إتيانه بنفسه من قرينة ذكر النفس ، ومن إحضار من هم أعزُّ من النفس ، ويعلم إتيان من هو بمنزلة النفس من قرينة أن الإنسان لا يدعو نفسه ، وقوله صلی اللّه علیه و آله : خير رجالكم علي بن أبي طالب ، وخير نسائكم فاطمة بنت محمّد (4).

وأخرج الطبراني في الأوسط ، عن ابن عمر قال : آخر ما تكلَّم به النبيُّ صلی اللّه علیه و آله : اخلفوني في أهل بيتي (5) ، وقال صلی اللّه علیه و آله : عليٌّ خير البشر ، ومن أبى

ص: 236


1- صحيح البخاري : 4 / 210 ، فضائل الصحابة ، أحمد بن حنبل : 78 ، السنن الكبرى ، النسائي : 5 / 97 ح 8371 و 148 ح 8520 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 22 / 404.
2- راجع : كشف الغمّة ، الإربلي : 2 / 94 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 43 / 54 ، الغدير ، الأميني : 3 / 20 ، الفصول المهمّة ، ابن الصباغ المالكي : 150 ، نور الأبصار ، الشبلنجي : 45.
3- سورة آل عمران ، الآية : 61.
4- تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 14 / 167 ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : 12 / 275 ح 788 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 12 / 102 ح 34191.
5- المعجم الأوسط ، الطبراني : 4 / 157 ، الجامع الصغير ، السيوطي : 1 / 50 ح 302 ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : 2 / 438 ح 204.

فقد كفر (1) ، وصحَّ عن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله قوله : من أحبَّ عليّاً فقد أحبَّني ، ومن أبغض عليّاً فقد أبغضني ، ومن آذى عليّاً فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى اللّه (2) وقال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً ) (3).

وقال علیه السلام : عليٌّ منّي وأنا منه ، وهو وليُّ كلِّ مؤمن بعدي (4) ، وقال صلی اللّه علیه و آله لفاطمة علیهاالسلام : إن اللّه يغضب لغضبك ويرضى لرضاك (5).

وعن محمّد بن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن جدِّه علیهم السلام أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : أتاني جبريل فقال : يا محمّد! إن اللّه يحبُّ من أصحابك ثلاثة فأحبَّهم : علي ، وأبو ذر ، والمقداد بن الأسود ، يا محمّد! إن الجنّة تشتاق إلى ثلاثة : علي وعمار وسلمان ( أخرجه أبو يعلى الموصلي ) (6).

ص: 237


1- تأريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : 7 / 433 ، رقم : 3984 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 42 / 372 - 373 ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : 2 / 78 ح 80 و 81.
2- المعجم الكبير ، الطبراني : 23 / 380 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 42 / 270 - 271 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 9 / 182 ، وقال : رواه الطبراني وإسناده حسن ، الجامع الصغير ، السيوطي : 2 / 554 ح 8319.
3- سورة الأحزاب ، الآية : 57.
4- المصنّف ، ابن أبي شيبة الكوفي : 7 / 504 ح 58 ، الآحاد والمثاني ، الضحاك : 4 / 279 ح 2298 ، السنن الكبرى ، النسائي : 5 / 132 - 133 ح 8474 ، صحيح ابن حبان : 15 / 374 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 12 / 78 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 7 / 381 ، الإصابة ، ابن حجر : 4 / 468 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 42 / 197 - 199 ، أسد الغابة ، ابن الأثير : 4 / 27.
5- المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 3 / 154 ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، المعجم الكبير ، الطبراني : 1 / 108 ح 182 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 13 / 156 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 9 / 203 ، وقال : رواه الطبراني وإسناده حسن ، أسد الغابة ، ابن الأثير : 5 / 522 ، الإصابة ، ابن حجر : 8 / 266 ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبداللّه الطبري : 39.
6- مسند أبي يعلى الموصلي : 12 / 143 ح 6772 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 12 / 412 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 9 / 117 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 11 / 754 ح 33671.

وحين وقف الأستاذ على هذه النصوص وتدبَّرها ، وأثارت فيه روح الحقِّ والإنصاف ، وتأثَّر بأقوال النبيِّ صلی اللّه علیه و آله صرخ قائلا : أنا معك ، وسوف لا آلو جهداً لانتصار الحقّ ، فقدَّم لهذه الكتب بما يفرغ عن العقيدة الحقَّة (1).

ص: 238


1- مع رجال الفكر في القاهرة ، السيد مرتضى الرضوي : 274 - 281.

المناظرة الثالثة والخمسون: مناظرة السيِّد مرتضى الرضوي مع الأستاذ محمود محمّد شاكر في بعض المسائل وروايات أبي هريرة

قال السيِّد مرتضى الرضوي حفظه اللّه تعالى : تعرفت إلى هذا الأستاذ ، والتقيت به مراراً عند المجلِّد الفنّيِّ الحاج سعد خضر ، وكان أحد علماء الأزهر الشريف جالساً عن شماله ، فجلست عن يمينه ، وبعد أن عرفني قال لي : هات المذكِّرة التي معك ، فأخرجتها من جيبي ودفعتها إليه - وكنت قد سجَّلت فيها بعض الحقائق التاريخيّة - وصار يقلِّب أوراقها ، وينظر في صفحاتها فوجد فيها ما يخالف رأيه وعقيدته وما يغيضه ، وبعد ذلك قال : سأغيضك الآن ، وأخذ يكتب عنوان داره في المذكِّرة ، وأول شيء كتبه : رسم خريطة موصلة إلى داره ، وأول ما كتب فيها : شارع أبو بكر الصدّيق.

وفي أثناء ما كان يكتب قلت له : صدّيق إيه يا أستاذ! وقد قال النبي صلی اللّه علیه و آله لأميرالمؤمنين علي علیه السلام : يا علي! أنت الفاروق الأعظم ، وأنت الصدّيق الأكبر (1) ،

ص: 239


1- المعجم الكبير ، الطبراني : 6 / 269 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 42 / 41 - 43 ، فيض القدير ، المناوي : 4 / 472 ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : 2 / 144 ح 398.

وقد قالهما في حقّ أميرالمؤمنين علي علیه السلام .

وبعد ذلك سجَّل في المذكِّرة رقم تليفون منزله بمصر الجديدة ، وقال : إذا ظللت الطريق تتصل بي بهذا الرقم وتنتظرني حتى أحضر.

فأجبته فوراً ، وقلت : يا أستاذ! نحن أتباع أهل البيت علیهم السلام ، وأتباع أهل البيت لا يضلّون.

وعند ذلك رفع يده وضرب بها على فخذي ، وقال : هذا لا أقدر عليه.

وبعد أن عرَّفته أن لي دار نشر في العراق سألني عن الكتب التي قمت بطبعها في القاهرة ، فذكرتها له ، ومنها كتاب : المتعة وأثرها في الإصلاح الاجتماعي للأستاذ المحامي توفيق الفكيكي.

فقال الأستاذ : هل هناك متعة الآن؟

قلت : لا.

قال : إذن طبعتها لمن.

قلت : طبعتها للعقول المتحرِّرة ، لا المتحجِّرة ، فازداد غيضاً وسكت.

وذهبت مرَّة أنا والأستاذ رشيد الصفار (1) إلى داره في مصر الجديدة ، فسألني عن أبي هريرة ، فقلت له : رجل يقول عنه النقّاد والمحقِّقون بأنه وضاع (2).

ص: 240


1- قال السيِّد الرضوي في الهامش : من رجال التحقيق للآثار الإسلاميّة ، المعروفين في أنحاء العراق ومصر ، حقَّق كتباً نفيسة ، منها : ديوان الشريف المرتضى في ثلاث مجلَّدات ، طبع بمصر ، وجمل العلم والعمل للشريف المرتضى ، طبع في العراق ، ونسمة السحر فيمن تشيَّع وشعر ، وغيرها ، وكان رئيس ملاحظي الحقوق في المصرف الزراعي المركزي - بغداد.
2- 2 - انظر الإحكام في أصول الأحكام للآمدي : 2 / 106 ، ونصه : إن الصحابة أنكرت على أبي هريرة كثرة روايته حتى قالت عائشة : رحم اللّه أبا هريرة ، لقد كان رجلا مهذاراً ، وفي لسان العرب مادة هذر : الهذر هو الكلام الذي لا يعبأ به ، وهذر في كلامه كفرح : أكثر من الخطأ والباطل ، والهذر : الكثير الردي.

فقال : لماذا؟

قلت : إن أبا هريرة أحد أفراد رجال الصفة ، وهم عدّة قليلون يسعون طول النهار لتحصيل قوت يومهم ، ولذلك لا ترى لأحدهم سوى خمسة أحاديث أو ثلاثة وهكذا ، وإن أبا هريرة كان واحداً منهم ، فكيف استطاع رواية آلاف الأحاديث بعد النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ؟!

فقام الأستاذ شاكر ، وتناول كتاباً من مكتبته بحجم متوسِّط ، ودفعه إليَّ وقال : انظر صفحات هذا الكتاب ، وعلى كم صفحة يحتوي.

قلت : 230 صفحة.

فقال : الصفحة فيها كم سطر؟

قلت : 23 سطراً.

فقال : اضرب أسطر الكتاب بالصفحات فكم يكون الحاصل؟

قلت - بعد أن قمت بعملية الضرب - : 5290 سطراً.

فأخذ الكتاب بيده وقال : أنت تستكثر حفظ هذا الكتاب على أبي هريرة.

فقلت له : يا أستاذ! كيف اختصَّ أبو هريرة بسماع هذه الأحاديث وحفظها من الرسول صلی اللّه علیه و آله ، ولم يختصَّ بها غيره من هو أخصُّ الناس بالنبي صلی اللّه علیه و آله ؟!

فأجابني قائلا : أبو هريرة كان ملازماً للنبي صلی اللّه علیه و آله .

فأجبته : إن النبي صلی اللّه علیه و آله كان يحضر أوقات الصلوات في المسجد ، وكان عنده تسعة أزواج ، وكان يحضر ويجيب دعوة من يدعوه من الصحابة ، وإن أبا

ص: 241

هريرة لم يحضر عند النبي صلی اللّه علیه و آله سوى سنة وتسعة أشهر ; لأنه أسلم في السنة السابعة من الهجرة ، وأقصاه النبي صلی اللّه علیه و آله إلى البحرين مع العلاء بن الحضرمي في سنة ثمان من الهجرة ، فكيف استطاع حفظ هذه الأحاديث وسماعها من النبيِّ صلی اللّه علیه و آله بشكل مباشر ، مع أن سماعها يستلزم زمناً طويلا يحتاج إليه الحفظ عن ظهر القلب؟

فلم يحر جواباً ، وبعد فترة استأذنّاه وانصرفنا (1).

ص: 242


1- مع رجال الفكر في القاهرة ، السيِّد مرتضى الرضوي : 2 / 67 - 71.

المناظرة الرابعة والخمسون: مناظرة السيِّد مرتضى الرضوي مع الأستاذ عبد اللّه يحيى العلوي في النصوص والأحاديث الدالة على إمامة أميرالمؤمنين علیه السلام والمذاهب الأربعة

قال السيِّد مرتضى الرضوي : تعرَّفت على هذا الأستاذ الكبير (1) في القاهرة ، في عصر الخميس 23 ذي القعدة الحرام عام 1375 ه- ، الموافق 27 / 11 / 1975 ، بواسطة الأخ الأستاذ أحمد ربيع المصري ، سكرتير عام لجنة نشر المؤلَّفات التيمورية بالقاهرة ، وكنت أتردَّد عليه في اللجنة ، وفي أحد الأيام كنت في اللجنة إذ قدَّم لي الأستاذ أحمد ربيع كتاب : المجاج ، ففتحته فرأيت قد كتب عليه الإهداء باسمي بعبارة رقيقة ، فيها صفات لا تنطبق عليَّ ولا أستحقُّها ،

ص: 243


1- قال السيِّد مرتضى الرضوي : الأستاذ عبد اللّه يحيى العلوي ، من مشاهير الكتَّاب في العالم الإسلاميّ ، ولادته : ولد في ستعاموزه عام 1903 م ، حصل على الشهادة العالميّة عام 1920 م في الأزهر الشريف ، لجأ إلى أندنوسيا عام 1947 م ، انتخب عضواً في إدارة المجلس التشريعي بسنغافورة ، ونائباً لرئيس جمعية الشبان المسلمين بها ، ورئيساً لجمعية الدعوة الإسلامية وللرابطة الإسلامية ، هاجر إلى القاهرة عام 1951 م ، عيِّن مستشاراً لأعمال سفارة اليمن أكثر من مرَّة ، وممثِّلا لحكومتها في أربعين مؤتمراً دولياً وشعبياً ، وفي جامعة الدول العربية بالقاهرة.

فحمدت اللّه تعالى على حسن ظنِّ أستاذنا الكبير ، فذهبت لزيارته بداره العامرة بالزمالك ، بمعيَّة الأستاذ أحمد ربيع المصري ، وتفضَّل مشكوراً بإهدائه لي آثاره ، وكانت جلسة ممتعة ، ودارت بيننا أحاديث متنوِّعة ، وفي صباح الأربعاء 7 / 4 / 1976 م اتصل بي الأستاذ أحمد ربيع ، وقال : اتصلت بالأستاذ العلوي ، وعرَّفته بوصولك القاهرة ، ويمكننا مقابلته في منزله بالزمالك في غد ، الخميس 8 / 4 / 1976 م في الساعة السادسة بعد الظهر.

وحين قرب وقت الصلاة صلاة المغرب قال الأستاذ العلوي : ما حكم الصلاة في السفر عندكم؟ الجمع أو التقصير؟

قلت : المسافر إن نوى الإقامة في بلد يمكث فيه عشرة أيام تجب عليه الصلاة تامّة ، ولا فرق بينه وبين المقيم فيها ، ولو أن المسافر دخل بلداً لأجل عمل له فيه ، ولا يدري متى يفرغ منه ; يومين أو أسبوعاً أو أقل أو أكثر ، وحيث إنه لا يمكنه تحديده عليه أن يأتي بالصلاة قصراً ( إلى نهاية الثلاثين ) يوماً (1) ، وبعد هذه المدّة يتمُّ الصلاة ولو بقي يوماً واحداً ، هذا ما عندنا نحن الشيعة الإماميّة (2).

ثمَّ قال الأستاذ : الأسف أن الشعب هنا يجهل حقيقة الشيعة ، ولا يعرف عنها سوى ما صوَّره له أعداؤه! وقال : يا حبذا لو أنكم تفكِّروا بإصدار مجلّة أو نشرة ، وتباع بسعر رخيص ، تعرضوا فيها آراء الشيعة الإماميّة ومفاهيمها ، حيث

ص: 244


1- يعني مع التردد ومع عدم العلم أنه سوف يبقى هذه المدة.
2- جاء في كتاب منهاج الصالحين للسيد الخوئي عليه الرحمة : 1 / 252 - 253 ، من قواطع السفر : الثالث ، أن يقيم في مكان واحد ( ثلاثين يوماً ) من دون عزم على الإقامة عشرة أيام ، سواء عزم على إقامة تسعة أو أقل أم بقي متردداً فإنه يجب عليه القصر إلى نهاية الثلاثين ، وبعدها يجب عليه التمام إلى أن يسافر سفراً جديداً.

إن المصريين يجهلون حقيقتها ، ولا يعرفون عنها سوى ما صوَّرها الأعداء.

وقلت : هل نصَّ الرسول صلی اللّه علیه و آله على الخليفة من بعده؟

قال : نعم ، لقد نصَّ عليها - صلوات اللّه وسلامه عليه وعلى آله - بأحاديث صريحة صحيحة لا غبار عليها ، ويفهمها من تجرَّد عن التعصُّب وبغض الآل ، كما نصَّ عليها أيضاً العقل السليم.

أمَّا الأحاديث فمنها : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنّه لا نبيَّ بعدي (1) ، أنت وليُّ كلِّ مؤمن بعدي (2) ، القرآن مع عليٍّ ، لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض (3) ، من كنت مولاه فعليٌّ مولاه (4).

ص: 245


1- تقدَّمت تخريجاته.
2- جاء في فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل : 15 : عن عمران بن حصين قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إن عليّاً منّي وأنا منه ، وهو وليُّ كل مؤمن من بعدي. وجاء في المستدرك للحاكم النيسابوري : 3 / 134 : قال ابن عباس : وقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أنت وليُّ كل مؤمن بعدي ومؤمنة. وراجع المصادر الآتية : مناقب أميرالمؤمنين علیه السلام ، محمّد بن سليمان الكوفي : 1 / 449 ح 348 مسند أبي داود الطيالسي : 111 ، المصنّف ، ابن أبي شيبة الكوفي : 7 / 504 ح 58 ، الآحاد والمثاني ، الضحاك 4 / 278 - 279 ح 2298 ، كتاب السنة ، عمرو بن أبي عاصم : 550 ح 1187 ، السنن الكبرى ، النسائي : 5 / 45 ح 8146 ، صحيح ابن حبان : 15 / 374 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 12 / 78 ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42 / 100 ، أسد الغابة ، ابن الأثير : 4 / 27 ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 8 / 199 ، الإصابة ، ابن حجر : 4 / 467 ، المناقب ، الموفّق الخوارزمي : 127 ، نظم درر السمطين ، الزرندي الحنفي : 79. وجاء في أسد الغابة لابن الأثير : 4 / 28 عن البراء بن عازب وزاد : فقال عمر بن الخطاب : يا ابن أبي طالب! أصبحت اليوم وليَّ كل مؤمن.
3- تقدَّمت تخريجاته.
4- تقدَّمت تخريجاته.

إن هذه الأحاديث فقط وفقط لمن أمعن في ألفاظها ، وعمق معانيها لأكبر دليل على استخلاف النبي صلی اللّه علیه و آله عليّاً علیه السلام في قومه حين خرج إلى غزوة تبوك ، كما استخلف موسى علیه السلام هارون على قومه واستوزره ، وإن تشبيه النبيِّ صلی اللّه علیه و آله عليّاً بهارون من موسى فيه كل الاستدلال على أن يخلفه بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى.

وقصة الغدير المعروفة المتواترة وحدها - وحدها فقط - صريحة في أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله أثبت الولاية لعليٍّ ليكون خليفته ، وقد همَّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يكتب في مرض وفاته حين رأى الصحابة في هرج ومرج - كتاباً يحول بينهم وبين الضلال والتفرقة ، لو لا أن عمر بن الخطاب حال بينه وبين كتابة الكتاب.

وقوله صلی اللّه علیه و آله : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، صريح في أن عليّاً علیه السلام أصبح مولى كل مؤمن ومؤمنة.

أمَّا الدليل العقلي على أحّقيّة الإمام عليٍّ بالخلافة - كرَّم اللّه وجهه - فهو أن الخلافة وتولّي أمور المسلمين بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لا يجدر أن يتولاَّها إلاَّ من كان نسيج وحده ، وقريع دهره في الشمائل والفضائل ، وقد فاق أقرانه ، وأربى على الأكفاء ، وتميَّز عن النظراء ، وترفَّع عن الأشكال ، وانفرد عن مواقف الأشباه ، لا تفتح العين على مثله ، ولا يلقى نظيره ، ولا يدرك قرينه ، كاملا في دينه ، وفي عمله ، وفي تقواه ، لإعلاء كلمة لا إله إلاَّ اللّه محمّد رسول اللّه ، ونصرة سيِّد الأنام صلی اللّه علیه و آله ، وكان أسبق الخلق إلى الإسلام غير مدافع ، وأفضلهم وأشجعهم ، وأتقاهم غير معارض.

وكل هذه الصفات مستجمعة في الإمام علي الذي ولد مسلماً ، وأسلم بأمر من اللّه تبارك وتعالى ، وتخرَّج من مدرسة الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله ، وترعرع وشبَّ

ص: 246

منذ نعومة أظفاره في رحاب سيِّد الوجود وإمام المتقين صلی اللّه علیه و آله ، وكان جهاده في سبيل الإسلام فوق كل جهاد ، وتقواه فوق كل تقوى ، وبطولاته فوق كل بطولات ، وإيمانه وزهده فوق كل زهد وإيمان ، يصغي إلى النبي صلی اللّه علیه و آله وهو يناجي ربَّه وخالقه فيرتوي من أقواله وعظاته ، ويعرف الفضيلة من مصدرها ، والعرفان من ينبوعه ، والإيمان من معقله ، عرف كل ذاك وهو وليد في رحاب إمام المتقين صلی اللّه علیه و آله وحيث عني بتربيته ، يضعه النبيُّ صلی اللّه علیه و آله في حجره ، ويضمُّه إلى صدره ، ويكنفه في فراشه ، ويمسُّه جسده الشريف صلی اللّه علیه و آله ، ويشمُّه عرفه ، ويريه نور الوحي.

إن شريط التاريخ حين يمرُّ على العقل السليم ، وهو يستعرض كبار الصحابة وأعمالهم فرداً فرداً ، ويقارن بينه وبين أعمال الإمام علي كرَّم اللّه وجهه ، وجهوده ، وجهاده ، ونشأته ، ومكانته من الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله .. إلخ ، ليحكم دون تردُّد بأنّه الأجدر بالخلافة ، والأحقُّ بها دون ريب.

أيُّ عقل ياترى لا يقرُّ أنّ عليّاً كرَّم اللّه وجهه أحقُّ بالخلافة ، وقد أعطاه النبيُّ صلی اللّه علیه و آله الولاية؟ وهو الذي ولد مسلماً ، وأخلص بالشهادة لله ، وسبق إلى الإسلام بدعوة من الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله ؟

أيُّ عقل ياترى لا يقول : إن عليّاً كرَّم اللّه وجهه ليس أحقَّ بالخلافة ، وهو الذي ولد بالكعبة ، ولم يسجد لصنم قط ، وشارك النبي صلی اللّه علیه و آله في أول صلاة صلاَّها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟

أيُّ عقل لا يقول : إن عليّاً أحقُّ بالخلافة وهو الذي كان في حروب الرسول صلی اللّه علیه و آله من أوَّلها إلى آخرها ، ما عدا غزوة تبوك حيث استخلفه الرسول صلی اللّه علیه و آله على المدينة؟

ص: 247

أيُّ عقل لا يقول : إن علياً أحقُّ بالخلافة وهو الذي قال فيه النبي صلی اللّه علیه و آله : برز الإيمان كلُّه إلى الشرك كلِّه (1)؟

أيُّ عقل لا يقول : إن عليّاً أحقُّ بالخلافة وهو الذي لم يدع بيتاً في العرب إلاّ ترك فيه ناعياً أو ناعية من أجل : لا إله إلاَّ اللّه محمّد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟

أيُّ عقل لا يقول : إن عليّاً أحقُّ بالخلافة ، وهو الذي قتل وحده من جيش المشركين في يوم بدر النصف ، بينما قتل المسلمون بأجمعهم وأكتعهم وأبصعهم وأكملهم النصف الآخر؟

أيُّ عقل لا يقول : إن عليّاً أحقُّ بالخلافة ، وهو الذي قال فيه الرسول صلی اللّه علیه و آله : أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها (2)؟

أيُّ عقل لا يقول : إن عليّاً أحقُّ بالخلافة ، وهو ظهيره ، وأخوه في الدنيا والآخرة ، وعيبة علمه ، ووارث حكمته ، وسابق الأمَّة ، وصاحب النجوى ، وباذل الأموال سرّاً وعلانية ، ووارث الكتاب ، وذو الأذن الواعية؟

أيُّ عقل لا يؤمن بأحقّيّة عليٍّ في الخلافة ، وهو أميرالمؤمنين ، ويعسوب الدين ، وزوج البتول ، وقاتل الفجرة ، وصاحب الراية ، وسيِّد العرب؟

أيُّ عقل لا يؤمن بأحقّيّة عليٍّ في الخلافة ، وهو الذي قال فيه عمر بن الخطاب : لو لا عليٌّ لهلك عمر (3)؟

ص: 248


1- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 13 / 261 ، 285 و 19 / 61 ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : 1 / 281 ح 2.
2- تقدَّمت تخريجاته.
3- تأويل مختلف الحديث ، ابن قتيبة : 152 ، المناقب ، الخوارزمي : 81 ح 65 ، وقد تقدَّم المزيد من تخريجاته فيما سبق.

أيُّ عقل لا يؤمن بأحقّيّة الإمام عليٍّ في الخلافة ، وقد تقدَّم الشيخان : أبو بكر وعمر إليه يوم غدير خمٍّ ، وكلٌّ منهما يقول : بخ بخ لك يا بن أبي طالب ، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلِّ مؤمن ومؤمنة (1)؟

أيُّ عقل لا يؤمن بأحقّيّة الإمام في الخلافة ، وهو الذي قال فيه الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله في حديث طويل : إن الحقَّ معه حيث دار (2)؟

إن عليّاً - كرَّم اللّه وجهه - هو الأحقُّ بالخلافة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ; لتلكم الصفات المجتمعة فيه ، ولا ريب :

ولم تك تصلح إلاَّ له *** ولم يك يصلح إلاَّ لها

وتولّي أبي بكر الخلافة من بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله ، مع وجود الإمام الفاضل ليس دليلا على أفضليَّة أبي بكر على عليٍّ علیه السلام ، إنّها السياسة في كل زمان ومكان ، إنّها حصيلة يوم السقيفة ، إنّها نتاج اختلاف الآراء يوم طلب سيِّد الوجود صلی اللّه علیه و آله إلى الحاضرين من أصحابه أن يؤتوه دواة وصحيفة ، ليكتب لهم كتاباً لن يضلّوا بعده (3).

ثمَّ قلت : هل تنعقد الخلافة بالنصِّ أم بالإجماع؟

أجاب : لا ريب أنّه إذا جاء النصُّ بطل ما دونه ، وهو قاعدة أصوليّة.

وقلت : ما رأيكم في فتح باب الاجتهاد؟ وما هو السبب في غلقه؟

ص: 249


1- مسند أحمد بن حنبل : 4 / 281 ، المصنّف ، ابن أبي شيبة : 7 / 503 ، ح 55 ، تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : 8 / 284 ، رقم : 4392 ، المناقب ، الخوارزمي : 156 ح 184 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 42 / 233 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 5 / 229 و 7 / 386 ، ينابيع المودّة ، القندوزي : 2 / 249 ح 699 ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبداللّه الطبري : 67.
2- تقدّمت تخريجاته.
3- تقدّمت تخريجاته.

قال : لقد ظلَّ الاجتهاد مفتوحاً منذ الفتح ، وما زال عند الإماميّة والزيديّة ورثة أهل البيت علیهم السلام إلى الآن ، ولم يسدَّ بابه إلاَّ في عصر المنتصر العبَّاسي ، وبأمر من عنده ، ولأمر يجيش في نفسه ، ويخشى من تفاعله وأثره على دولته وحكمه ، خصوصاً عندما اشتدَّ الصراع بين رجالات المذاهب الفقهيّة في ذلك العصر ، وبين فقهاء الرأي وفقهاء الأثر بالأخصِّ.

ومن الأسباب التي حالت دون استمرار الاجتهاد عند أهل السنّة انقراض العلم وجمود الفكر ، وخمول الذهن ، وشلل الرأي ، وقد يكون خوف السلطة الحاكمة من استمرار الاجتهاد ، وتصدّي المجتهد لأوضاعهم ، والفتوى ضدَّهم ، عاملا من عوامل غلق باب الاجتهاد وتفشّي الجمود الفقهيِّ.

ثمَّ قلت : هل أمر الرسول صلی اللّه علیه و آله باتّباع أحد المذاهب الأربعة؟ وما رأيكم فيها؟

قال : كيف يأمر الرسول صلی اللّه علیه و آله باتّباع مذهب معين في زمن لم تكن فيه تلكم المذاهب؟ لقد كان الصحابة يرجعون في النوازل إلى الكتاب والسنّة ، وإلى ما يتمخَّض لديهم من النظر عند فقد الدليل ، وكذلك تابعوهم ، فإن لم يجدوا نظروا إلى ما أجمع عليه الصحابة ، فإن لم يجدوا اجتهدوا ، واختار البعض قول صحابيٍّ أو تابعيٍّ أو إمام حين يطمئنُّ إلى الدليل ويأنس به ، ولا يتعيَّن على المسلم أن يتقيَّد بتقليد مذهب معيَّن ، ولم ينقل عن السلف الحجز في ذلك ، وتقليد أئمّة المذاهب الأربعة ، وعدم التقيُّد بتقليد مذهب أو قول معيَّن أمر جائز ، والتلفيق بين أقوال المذاهب لا محذور فيه ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (1).

ص: 250


1- سورة البقرة ، الآية : 185.

والالتزام بتقليد إمام أو مذهب معيَّن لم يحدث إلاَّ في القرن الثالث من الهجرة ، وبعد فناء القرون التي أثنى عليهم الرسول صلی اللّه علیه و آله ، ومن المؤسف أن الحكَّام في ذلكم العصر والسياسة لعبت دورها في تقييد الشعب المحكوم عليه بتقيُّد مذهب معيَّن ، تمشّياً على مذهب : الناس على دين ملوكهم.

على أنّه قد تواترت الروايات عن الإمام مالك أنه حين قال له الرشيد : إنه يريد أن يحمل الناس على مذهبه ، نهاه عن ذلك ، وكذلك الإمام الشافعي القائل : إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي ، وقال أبو حنيفة : لا ينبغي لمن لا يعرف دليلي أن يفتي بكلامي ، وقال أحمد : لا تقلِّدني ولا تقلِّدن مالكاً ولا غيره.

لقد شوِّهت الحقائق ، واتهم كل فريق الآخر بشتَّى التهم ، ورماه بما ليس فيه ، وكانت النتيجة الحتميَّة هي القطيعة بين مئات الملايين من المسلمين مع الأسف الشديد.

إن هناك - ولا ريب - خلافات في المذاهب ، ولكن لم تمسَّ - والحمد لله - أركان الإسلام ، على أنها بفضل انتشار الشيعة ، وتعارف بعضهم بعضاً ، وأخذ الحقائق الفقهيّة والعلميّة من مصادرها ، قد وهنت خيوطها وضعفت أسبابها ، وكادت تتلاشى في المجتمعين الشيعيِّ والسنّيِّ ، وعرف كل منهم أن ما بين تلكم المذاهب من خلافات لم تمسَّ الجوهر من كل مذهب ، ولا تستوجب القطيعة والتكفير برغم تعصُّب الكثيرين من أهل السنّة الذين يجهلون مذهب الإماميّة ، ويروون الموبقات - مع الأسف - عنهم.

إنّها الآراء الجامحة ، والأقلام الطائشة ، والحكومات الحاكمة ، والجهل المتفشّي ، والتعصُّب الأعمى ، كل ذلك مجتمعة أو بعضها قد فعل فعله في الماضي ، وما زال عالقاً بالأذهان ، وضخّمه وبالغ فيه ، لا عن قصد ولكن عن

ص: 251

جهل وعصبيّة.

وعلى علماء المسلمين - وهم المسؤولون أولا - أن يعطوا بكل ما أوتوا من قوّة وسلطان للتقريب بين المذاهب ، وتبادل الزيارات ، وتعرُّف بعضهم إلى بعض ، ويزيلوا تلكم الحوائط الثلجيّة ، ولا ريب مع الإخلاص في العمل ، وإزالة الأتربة عن العقول المتحجِّرة ، وعن التزمُّت ، سوف تذوب تدريجيّاً ، ويتمُّ اللقاء بين الطوائف الإسلاميّة على وجهه الأكمل إن شاء اللّه.

وسألت الأستاذ عن أبي هريرة ، وقلت : ما رأيكم في أبي هريرة؟ وفي أحاديثه؟

أجاب : رأيي فيه رأي عمر بن الخطاب حين ضربه بالدرّة ، فلقد قال فيه : أكثرت - يا أبا هريرة - من الرواية ، وأحرى بك أن تكون كاذباً على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (1) ، ثمَّ هدَّده وأوعده أن يترك الحديث عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فإنّه ينفيه إلى بلاده.

وقد أخرج ابن عساكر من حديث السائب بن يزيد : لتتركنَّ الحديث عن رسول اللّه أو لألحقنَّك بأرض دوس .. (2) ، وجاء مثل هذا في البداية والنهاية (3).

وقلت : هل زرتم مراقد أهل البيت علیهم السلام في العراق؟ وما هي انطباعاتكم عنها؟

قال : لقد كان لي شرف زيارة تلك البقاع الطاهرة ، حيث يرقد أهل

ص: 252


1- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 4 / 68.
2- تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 50 / 172 ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 2 / 600 - 601 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 8 / 115 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 10 / 291 ح 29472.
3- البداية والنهاية ، ابن كثير : 8 / 115.

البيت علیهم السلام الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً ، ولا أقول إلاَّ :

تلك أرض قدِّست تربتها *** واستقرَّ المجد في أبوابها

كيف لا تصبح أسمى مشهد *** وبنو خير النبيين بها

ثمَّ قلت للأستاذ : هل اجتمعتم بعلماء الشيعة الإماميّة المتمسِّكة بمذهب أهل البيت علیهم السلام ؟ وما هي انطباعاتكم عنها؟

قال سيادته : لا شك أن علماء الشيعة المتمسِّكين بمذهب أهل البيت علیهم السلام الذين حملوا مشعل شريعة جدِّهم الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله على هدى ونور من اللّه ، وأأسف جدَّ الأسف إذ لم يكن لي حظُّ التعرُّف بأولئك الأعلام ، وأسأل اللّه تبارك وتعالى أن يتيح لي زيارتهم في مدائنهم.

وسألت الأستاذ عن رأيه في الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق ، وفي فتواه بجواز التعبُّد بمذهب الشيعة الإماميَّة التي أصدرها عام 1959 م؟

أجاب : التعبُّد بمذهب الإماميّة لا يحتاج إلى استئذان من شيخ الأزهر ، أو عالم أزهر ، حسب أن مذهب الإمام جعفر الصادق علیه السلام ، ( الذي هو ) أعلم الناس باختلاف الفقهاء (1) ، وأكمل أهل زمانه ، وأورعهم ، وأنصحهم لله ، ملأت آثاره دنيا العرب والإسلام (2) ، مذهب اعتصره صاحبه من كتاب اللّه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ومن أحاديث جدِّه الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله .

ص: 253


1- راجع شهادة أبي حنيفة في حقِّ الإمام الصادق علیه السلام : تهذيب الكمال ، المزي : 5 / 79 - 80 ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 6 / 258. إذ قال : ما رأيت أفقه من جعفر بن محمّد علیه السلام .
2- قال الجاحظ : جعفر بن محمّد الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه. رسائل الجاحظ ، السندوبي : 2. وراجع أيضاً قول بعضهم مثل هذه الكلمة في حقِّ الإمام علیه السلام في : شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 15 / 274.

ثمَّ قلت : ما رأيكم حول التقريب بين المذاهب الإسلاميّة؟

قال : الدعوة إلى التقريب بين المذاهب مطلوب من كل مسلم ; لكون المسلم أيّاً كان مذهبه أخوه ، يحرم عليه عرضه ودمه وماله ، والمسلم أخو المسلم ، لا يخذله ولا يهجره ، ولا يبغضه ، والحبُّ في اللّه والبغض في اللّه من الدين.

ومن الأسف الشديد أن أكثر علماء السنّة يجهلون حقيقة المذهب الإماميّ ، ويتناقلون دائماً عمّا سمعوه من تقوُّلات حول الشيعة ، وورثوه جهلا عن آبائهم وأجدادهم ، من تفشّي زواج المتعة بينهم ، وتأليههم للإمام عليٍّ علیه السلام ، الأمر الذي ليس له وجود بينهم اليوم ، رغم أن زواج المتعة لو طبِّق اليوم لما وصل التفسُّخ بشباب المسلمين إلى ما وصل إليه الآن.

إن علماء السنة كثيراً ما ينسبون إلى الشيعة كافة - بما فيهم الإماميّة - قولا لغلاة الشيعة ، أو لفقيه من الإماميّة خالف علماءهم جميعاً ، أو قولا لجاهل لا يفهم عن التشيُّع شيئاً ، والشيعة الإماميَّة أنفسهم لا يقرُّون به ; لأنه قول فرد أو أفراد خالفهم فيه أكثر فقهاء المذهب نفسه ، وقول مجتهد أو جماعة من المجتهدين لا يكون حجّة على الآخرين.

ومن الخطأ أن ينسب إلى مذهب الإماميّة قول وجد في كتاب عالم منهم ، ومن عرف طريقتهم ، وتتبَّع كلمات علمائهم تجلَّت له هذه الحقيقة بأوضح معانيها ، وما أحوج علماء الشيعة والسنّة اليوم إلى التزاور والتآلف ليعرف بعضهم بعضاً على حقيقته ، وليقطعوا دابر الساسة الذين فرَّقوا المسلمين إلى مذاهب.

ثمَّ قمت بعد أن انتهت الجلسة ، فاستأذنته وانصرفت (1).

ص: 254


1- مع رجال الفكر في القاهرة ، السيد مرتضى الرضوي : 2 / 199 - 214.

المناظرة الخامسة والخمسون: مناظرة الشيخ محمّد الشيعي والأستاذ عادل فيصل السوري في إسلام آباد في عدالة الصحابة

اشارة

قال الشيخ محمّد الشيعي في كتيِّبه ( مناظرة لطيفة ) : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، الحمد لله ربِّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف خلقه ، وأفضل بريَّته محمَّد وعلى آله الطاهرين ، واللعنة على أعدائهم أجمعين من الآن إلى يوم الدين.

الساعة تشير إلى الرابعة والنصف بتوقيت الإمارات العربيّة المتّحدة ، وأنا في مطار دبي الدولي ، وفجأة أذيع من مكبِّرات الصوت : على المسافرين إلى إسلام آباد على متن الخطوط الجوّيّة البريطانيّة التوجُّه إلى البوابة رقم : 4 ، وذهبت أنا وبقيَّة المسافرين ، وبعد أن عبرنا العوائق الإداريّة دخلنا الطائرة ، وجلست على المقعد المقرَّر سلفاً ، وجلس إلى جنبي شابٌّ مهذَّب وسيم متديِّن ، عرَّف فيما بعد نفسه باسم : عادل عبد العزيز فيصل ، من أهل حلب - الجمهوريّة العربيّة السوريّة (1) ، وأقلعت الطائرة من أرض المطار ، وبدأ الحديث والتعارف ،

ص: 255


1- خريج جامعة دمشق - كلّيّة الشريعة.

فعرَّفت نفسي بأني محمّد ، فصلَّى على الرسول الكريم صلی اللّه علیه و آله قائلا : اللّهم صلِّ وسلِّم عليه.

فهاجسني حسُّ الفضول ، وقلت : إن هذه الصلاة بتراء.

قال : وما معنى ما تقول؟

قلت له : وقد جاء في الحديث المرويِّ عن النبيِّ صلی اللّه علیه و آله : إن من صلَّى عليه ولم يذكر آله فإن صلاته بتراء (1) ، فنظر إليَّ بنظرات تنطوي على كلمات وكلمات ، وبعد هنيئة فتح فاه ، وقال : إنّك شيعيٌّ؟

قلت : نعم ، فاستوى جالساً كأنّه استنكر ، وأراد أن يقول شيئاً لكنّة نكل ،

ص: 256


1- أخرج الشعراني حديث الصلاة البتراء عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لا تصلُّوا عليَّ الصلاة البتراء ، قالوا : وما الصلاة البتراء؟ قال : تقولون اللّهم صلِّ على محمّد وتمسكون ، بل قولوا : اللّهم صلِّ على محمّد وآل محمّد ، فقيل : من أهلك يا رسول اللّه؟ قال صلی اللّه علیه و آله : علي وفاطمة والحسن والحسين. كشف الغمّة ، الشعراني : 1 / 219 فصل في الأمر بالصلاة على النبي ، ط. مصر 1327 ، المطبعة الميمنية ، فضل آل البيت ، المقريزي : 43 ، الصواعق المحرقة ، ابن حجر : 225 في الآيات النازلة في أهل البيت علیهم السلام ، الآية الثانية ، ينابيع المودّة ، القندوزي : 1 / 37 ح 14 و 12 / 434. قال ابن حجر في الصواعق : 349 ، في مشروعية الصلاة عليهم علیهم السلام : أخرج الدار قطني والبيهقي حديث : من صلَّى صلاة ولم يصلِّ فيها عليَّ وعلى أهل بيتي لم تقبل منه. وروى الطبراني في المعجم : 17 / 251 - 252 عن عقبة بن عمرو قال : أتى رجل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتى جلس بين يديه ، فقال : يا رسول اللّه! أمَّا السلام عليك فقد عرفناه ، وأمَّا الصلاة عليك فأخبرنا بها كيف نصلّي عليك؟ فقال : إذا صلَّيتم عليَّ فقولوا : اللّهم صلِّ على محمّد النبيِّ الأمّيِّ وعلى آل محمّد كما صلَّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد. وقال الشافعي في وصفهم ، ومنبِّهاً على هذا المعنى في فضلهم : يا أهل بيت رسول اللّه حبُّكم *** فرض من اللّه في القرآن أنزله كفاكم من عظيم القدر أنكم *** من لم يصلِّ عليكم لا صلاة له الصواعق المحرقة ، ابن حجر : 228 ، نظم درر السمطين ، الزرندي الحنفي : 18.

وأراد أن يبطش لكنّه امتنع ، وتمالك أعصابه ، ثمَّ قال : أنتم تُكفرون وتَلعنون وتسبُّون أصحاب الرسول صلی اللّه علیه و آله وأنصاره ، وهم أمان أهل الأرض ، ومن شهد لهم بالجنة ، فهم النجوم ، ومن سبَّهم فهو زنديق.

وأراد أن يضيف لكنَّه أمسك ، وكأنّه ندم من سرعة انفعاله ، وحدّة مواجهته ، فسكت ، وأضاف قائلا : معذرة.

قلت وفي نفسي حزازة : لا عليك يا حبيبي ، ربما قرأت أو سمعت أو نُقل إليك ممّا حدا بك أن تنفعل ، رغم أنّك مؤمن مهذَّب مثقَّف ، وتتقوَّل علينا ما ليس فينا ، وقبل الخوض في البحث حول هذا الموضوع أذكر لك حادثة لطيفة ، أهدِّئ روعك وأسكِّن غضبك؟

فابتسم وضحكت أنا ..

كنت أدرس عند أستاذ بليغ - وساق قصة ترتبط بأستاذه إلى أن قال : فيا أخي عادل! دع عنك كلمات الانتهازيّين الذين بينهم وبين الحقّ هوَّات وفواصل ، ولكنّهم تستَّروا بالحقِّ والدين لأجل مناصبهم ومصالحهم وراحتهم ووجاهتهم على حساب الدين والمتديِّنين ، كما أوضحت لك ، والعاقل تكفيه الإشارة ، ولله درُّ أميرالمؤمنين علیه السلام حيث قال : الحق لا يعرف بالرجال ، اعرف الحق تعرف أهله (1).

فشاهدت صديقي يومي إليَّ بالتصديق ، وكأنه يقول : هذا قطرة من بحر.

وقال عادل : أودُّ أن أذكر أفضح من هذا ، وأنا أدرس في جامعة دمشق كلّيّة الشريعة ...

ص: 257


1- روضة الواعظين ، الفتال النيسابوري : 31 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 40 / 126.

وفجأة قاطعته المضيِّفة معلنة شدَّ الأحزمة للهبوط في مطار إسلام آباد.

فقال : يا أخي! ولو لم نصل إلى جواب ، ولكن كانت فرصة سعيدة ووقتاً طيّباً ، أثَّرت في نفسي ، وأودُّ زيارتك ، أو أن تزورني.

قلت : نعم ، وهذا يسعدني ، وإني سأنزل في فندق كلف.

وقدَّمت له العنوان ، ووعدني بالزيارة ، وهبطت الطائرة ، وتابع كل واحد منّا سفره ، وفي الساعة 53 / 11 مساء وصلت الفندق المذكور ، وحللت في الغرفة المخصَّصة مسبقاً ، وقضيت ليلة هادئة ، وفي الصباح الباكر بعد أداء الفريضة عاودت النوم ، فما استيقظت إلاَّ أثر جرس الهاتف ، فرفعت السماعة فإذا هو صديقي قد اتصل بي ، وطلب زيارتي ، فحدَّدت له الساعة الخامسة مساء وقتاً للقاء ..

في الوقت المقرَّر ذهبت إلى الصالة منتظراً صديقي ، فإذا هو جالس أمامي ، وبمجرَّد أن رآني قام وأخذ يدي بقوَّة ، وحيَّاني بحرارة ، وضمَّني إليه ، وبعد المجاملة وكلام قصير حول السفر دخلنا في صلب الموضوع الذي شرعناه في الطائرة.

فقلت له : سيِّدي! ذكرت حول الصحابة من كلام الحبيب المختار وسيِّد الأبرار صلی اللّه علیه و آله ، وحان الآن الوقت والمجال لنبحث عن حقيقة هذا المقام بالشكل الموضوعيِّ المناسب ، بما لا يوجب الإسهاب والتضجُّر ، وبالاختصار ، مدعَّماً بالأدلة المقنعة إن شاء اللّه تعالى.

فأجابني بما فيه الرضا والقبول ، وتوجَّه إليَّ بشره عجيب ، ودقّة متناهية مما دعاني إلى الحيطة والحذر في الكلام.

فقلت : الصحابة من الصحبة ، والصحبة في اللغة : المعاشرة أو الملازمة ،

ص: 258

يقال : صحبته أصحبه صحبة ، فأنا صاحب ، والجمع صحب وأصحاب وصحابة.

وفي الاصطلاح : قال ابن حجر العسقلاني : وأصلح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي من لقي النبيَّ صلی اللّه علیه و آله مؤمناً به ، ومات على الإسلام ، فيدخل فيه من لقيه ، طالت مجالسته أو قصرت ، أو من روى عنه أو لم يرو ، ومن غزا أو لم يغز ، ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه ، ومن لم يره لعارض. انتهى كلامه (1).

نظريَّات حول الصحابة

وهناك نظريّات مختلفة حول الصحابة.

1 - الكامليّة :

وهذه الفرقة كفَّرت جميع الصحابة.

فغضب عادل.

قلت : مهلا يا حبيبي! فإن هذا القول بدرجة من السخافة بحيث لا ييستحقُّ البحث ; لعدم الجدوى.

2 - جمهور العامة :

قائلين : بأن الصحابة عدول ثقات ، لا ينالهم الجرح ولا التعديل ، ولا يجوز توجيه الكذب إلى رواياتهم ، والردُّ على أقوالهم.

قال ابن حزم : الصحابة كلُّهم من أهل الجنة قطعاً (2).

والحاصل : أنّهم معصومون من الخطأ.

ص: 259


1- الإصابة ، ابن حجر : 1 / 158 ، معرفة الثقات ، العجلي : 1 / 95.
2- الإصابة ، ابن حجر : 1 / 163.

3 - الحدّ الوسط

لا هذا ولا ذاك ، بأن الصحابة غير معصومين ، ولو كان أكثرهم عدولا ثقاتاً ، ولكن فيهم من ليس كذلك.

وهذا يظهر من كلام ابن العماد الحنبلي والشوكاني والمارزي والرافعي وغيرهم (1) ، وجميع علماء الشيعة.

وخلاصة قولهم : أن في الصحابة منافقين ، وهم الذين جرَّعوا النبيَّ صلی اللّه علیه و آله غصصاً ومآسي ، كما يشهد عليهم القرآن المجيد - سورة المنافقين.

أدلة الطرفين :

1 - قول جمهور العامة :

واستدلَّ جمهور العامة بالحديث النبويِّ الشريف : لا تؤذوني في أصحابي (2) ، وحديث : لا يدخل النار مسلم رآني ، ولا رأى من رآني .. (3).

فقاطعني عادل : صحيح هذا ، ومنقول بالتواتر.

قلت : طيِّب ، ولكن الحديث الشريف يشمل أبا جهل وأبا لهب والحكم بن العاص وعبيد اللّه قاتل هرمزان المسلم المؤمن ، وقد قال تعالى : ( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ ) (4).

والسؤال الذي يطرح نفسه : هل أن الحديث يشمل هؤلاء أيضاً أم لا؟ أمَّا

ص: 260


1- راجع : النصائح الكافية ، ابن عقيل : 162 ، الإصابة ، ابن حجر : 1 / 163.
2- تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 21 / 83 ، الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلی اللّه علیه و آله ، القاضي عياض : 2 / 308.
3- كتاب السنة ، ابن أبي عاصم : 616 ح 1485 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 17 / 357 ، الإصابة ، ابن حجر : 4 / 436 ح 5635.
4- سورة النساء ، الآية : 93.

شموله لهم فإنه ينافي حكم المنطق والعقل ، وقد قيل : ما حكم به الشرع حكم به العقل.

وعدم شمولهم يؤدي إلى الإذعان بأن التعريف ناقص يحتاج إلى تكميل وترميم.

فابتسم عادل على مضض.

فقلت له : السكوت علامة الرضا.

قال عادل : سيدي! هذا يقال للبنت الباكر إذا عرض عليها الخطوبة فسكتت.

قلت : نعم ، ولكن المورد لا يخصِّص الوارد.

وضحكنا معاً ، ثم طلبنا من الموظَّف المسؤول الشاي الهندي المركَّب من الشاي مع الحليب ، وتسامرنا ، ثمَّ عرض عليَّ السؤال التالي :

ما تقول في هذا الحديث : لا تسبُّوا أصحابي ، ومن سبَّ أصحابي فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين؟ (1)

قلت : سبحان اللّه العظيم! إني أردت أن أذكر لك هذا ، ولكن كنت أتأمَّل في ذهني : هل أن الحديث مختصٌ بالمخاطبين ، أي الذين كانوا مع الرسول الكريم صلی اللّه علیه و آله في صدر الإسلام من الصحابة ، أو أنّه عام يشمل جميع المسلمين طرّاً كما تقتضيه الأحكام الشرعية في الإسلام ، حيث تطبَّق على جميع المسلمين من صدر الإسلام إلى قيام الساعة؟

قال عادل : لا ، بل شامل لجميع المسلمين.

ص: 261


1- المعجم الأوسط ، الطبراني : 5 / 95 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 11 / 543 ح 32545.

قلت : طيِّب ، فهل خصِّص ، أي أخرج الرسول الكريم صلی اللّه علیه و آله بعض الصحابة منهم ، أو هو عام يشمل جميع الصحابة؟

قال عادل : كلا ، بل عام يشمل جميع المسلمين ، حيث صرَّح بحرمة سبِّ أحدهم.

قلت : وأزيدك علماً أن الخليفة عمر بن عبد العزيز كان يجلد من يسبُّ عثمان ومعاوية (1) ، ولكن ما يوجب التعجُّب والذهول أن عمل بعض الأصحاب خلاف الشمول والعموم المدّعى ، فقد أخرجوا من تحت هذا الحديث بعض الصحابة وأهل البيت علیهم السلام الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً.

قال عادل : كيف؟

قلت : أما سمعت أو قرأت أن علي بن أبي طالب علیه السلام كان يُسَبُّ ويلعن على منابر المسلمين أربعين عاماً (2)؟ ألم يكن صحابيّاً يشمله الحديث النبويُّ؟ وأبا ذر الغفاري طرد ونفي ، وقد قال فيه الحبيب المصطفى صلی اللّه علیه و آله : ما أظلَّت الخضراء ، وما أقلَّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر (3).

وما المبرِّر لمعاوية في تشريعه لعن وسبّ صحابيٍّ في الخطب وعلى

ص: 262


1- الغدير ، الأميني : 10 / 266 ، عن كتاب الصارم المسلول لابن تيمية : 272.
2- بل روي ثمانين عاماً ، فقد روى عبد اللّه بن عثمان الثقفي ، قال : حدَّثنا ابن أبي سيف ، قال : قال ابن لعامر بن عبد اللّه بن الزبير لولده : لا تذكر - يا بنيَّ - عليّاً إلاَّ بخير ، فإن بني أميَّة لعنوه على منابرهم ثمانين سنة ، فلم يزده اللّه بذلك إلاَّ رفعة ، إن الدنيا لم تبنِ شيئاً قط إلاَّ رجعت على ما بنت فهدمته ، وإن الدين لم يبنِ شيئاً قط وهدمه. شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 13 / 221، الجوهرة في نسب الإمام علي وآله علیهم السلام ، البري : 94 ، جواهر المطالب في مناقب الإمام علي علیه السلام ، ابن الدمشقي : 2 / 230.
3- تقدَّمت تخريجاته.

المنابر؟ وهل سمعت أن عمر بن عبد العزيز جلد أحداً لسبِّه علي بن أبي طالب علیه السلام ؟ وما الفرق بين عليٍّ وعثمان؟ أضف إلى ذلك اختصاص عليٍّ بآية التطهير دون عثمان.

قال عادل : إن معاوية يحظى بشرف الخؤولة ، فهو خال المؤمنين من جهة أم حبيبة أمِّ المؤمنين.

قلت : نعم ، ولكن للمصاهرة والقرابة شرف ومنزلة الصحبة ، ولماذا حرم علي علیه السلام منها؟ ولماذا انحصرت الخؤولة في معاوية ولم تشمل غيره؟ ألم يكن لمحمّد بن أبي بكر شرف الخؤولة؟ مع العلم أنه أفضل سيرة من معاوية ، فلو ذكر بسوء رضوا وأمسكوا ومالوا مع ذاكره ، ولو كان ذلك في معاوية غضبوا وأنكروا ولعنوا من ذكره بسوء ، وأردت الزيادة فسكتُّ خوفاً من صديقي أن ينزعج منّي.

قال عادل : نعم ، وهنا حديث متواتر مشهور ، وهو : أصحابي كالنجوم بأيِّهم اقتديتم اهتديتم (1).

قلت : هذا الحديث يتنافي مع روح الإسلام وعظمته ، وحكمة الباري وعدالته (2).

ص: 263


1- ميزان الاعتدال ، الذهبي : 1 / 82 ، رقم : 296 ، لسان الميزان ، ابن حجر : 1 / 136 ، رقم : 425 ، تحفة الأحوذي ، المباركفوري : 10 / 155 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 20 / 11 ، فيض القدير ، المناوي : 6 / 386 ، المغني ، عبد اللّه بن قدامة : 3 / 535.
2- 2 - قال بعضهم : وكيف يصح أن يقول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ( أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم )؟ لا شبهة أن هذا يوجب أن يكون أهل الشام في صفين على هدى ، وأن يكون أهل العراق أيضاً على هدى ، وأن يكون قاتل عمّار بن ياسر مهتدياً ، وقد صحَّ الخبر الصحيح أنه قال له : ( تقتلك الفئة الباغية ) ، وقال في القرآن : ( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ) ، فدلَّ على أنها ما دامت موصوفة بالمقام على البقي ، مفارقة لأمر اللّه ، ومن يفارق أمر اللّه لا يكون مهتدياً. راجع : شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 20 / 28 الجزء الأول من هذا الكتاب : 517 المناظرة الثانية والسبعون. وقال الحجّة السيِّد محمّد تقي الحكيم عليه الرحمة : والجواب عن هذه الأحاديث ونظائرها - بعد التغافل عن أسانيدها ، وحساب ما جاء في بعضها من الطعون ، أمثال ما ذكره ابن حزم عن حديث : أصحابي كالنجوم من أنه حديث موضوع مكذوب باطل ، وقال أحمد : حديث لا يصح ، وقال البزار : لا يصحُّ هذا الكلام عن النبيِّ صلی اللّه علیه و آله - أن هذه الروايات لا يمكن الأخذ بظاهر بعضها ، ولا دلالة للبعض الآخر على المدّعى. وأوَّل ما يرد على الرواية الأولى ونظائرها من الروايات الآمرة بالاقتداء بهم استحالة صدور مضمونها من المعصوم ; لاستحالة أن يعبِّدنا الشارع بالمتناقضين ، وتناقض سيرة الخلفاء في نفسها من أوضح الأمور لمن قرأ تأريخهم ، واستقرأ ما صدر عنهم من أحداث ، وحسبك أن سيرة الشيخين مما عرضت على الإمام علي علیه السلام يوم الشورى ، فأبى التقيُّد بها ، ولم يقبل الخلافة لذلك ، وقبلها عثمان وخرج عليها بإجماع المؤرِّخين ، وفي أيام خلافة الإمام نقض كل ما أبرمه الخليفة عثمان ، وخرج على سيرته ، سواء في توزيع الأموال أم المناصب أم أسلوب الحكم ، والشيخان نفسهما مختلفا السيرة ، فأبو بكر ساوى في توزيع الأموال الخراجيّة ، وعمر فاوت فيها ، وأبو بكر كان يرى طلاق الثلاث واحداً ، وعمر شرَّعه ثلاثاً ، وعمر منع عن المتعتين ، ولم يمنع عنهما الخليفة الأول ، ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى. وعلى هذا ، فأيَّة هذه السير هي السنّة؟ وهل يمكن أن تكون كلُّها سنَّة حاكية عن الواقع، وهل يتقبَّل الواقع الواحد حكمين متناقضين؟! وما أحسن ما ناقش الغزالي ( المستصفى : 1 / 135 ) أمثال هذه الروايات بقوله : ( فإن من يجوز عليه الغلط والسهو ، ولم تثبت عصمته عنه فلا حجَّة في قوله ، فكيف يحتجُّ بقولهم مع جواز الخطأ؟ وكيف تدَّعى عصمتهم من غير حجّة متواترة؟ وكيف يتصوَّر عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف؟ وكيف يختلف المعصومان؟ كيف وقد اتفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة ، فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد ، بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كل مجتهد أن يتبع اجتهاد نفسه ، فانتفاء الدليل على العصمة ، ووقوع الاختلاف بينهم ، وتصريحهم بجواز مخالفتهم فيه ثلاثة أدلة قاطعة ). راجع : الأصول العامة للفقه المقارن ، السيِّد محمّد تقي الحكيم :138- 139.

قال : كلا.

ص: 264

قلت : مهلا يا أخي عادل! على فرض التسليم بصحّة الحديث سنداً ونصّاً ، ففيه أمرٌ بالأخذ ممن يصدر عليه الخطأ والجهل ، وهو غير معصوم ، ويجعل الكذب والافتراء والاختلاف هدى ، هذا صحيح؟

قال عادل : كلا ، ليس كما تقول.

قلت : لقد روي عن المصطفى صلی اللّه علیه و آله عدّة أحاديث مفادها : أنه سيكون بعدي أمور منكرة عن فتن مظلمة كقطع الليل ، وأمراء ضلال لا يستنّون بسنّته ، ويستأثرون بالفيء ، وأن جماعة من أصحابه يرتدُّون على أعقابهم ، ويؤمر بهم يوم القيامة ذات الشمال ، فهل هذا هدى أم ضلال؟ أيجوز الاقتداء بهم أم لا؟

قال عادل : إنهم مجتهدون ، وقال المصطفى صلی اللّه علیه و آله : المجتهد إن أصاب فله أجران ، وإن لم يصب فله أجر واحد.

قلت : أولا : بعض الأصحاب اجتهدوا وقتلوا لاجتهادهم ، كما هو المعروف عن مالك بن نويرة الذي قتله خالد بن الوليد ، ونزا على امرأته لمَّا امتنع من إعطاء الزكاة إلاَّ لمن أمره الرسول صلی اللّه علیه و آله بإعطائه له ، وهو علي بن أبي طالب علیه السلام .

وثانياً : ليس كل الصحابة مجتهدين ، بل فيهم أهل البادية ، ومنهم الأمّيُّون ، ومنهم من لم يسمع إلاَّ حكماً أو حكمين من الرسول الكريم صلی اللّه علیه و آله .

وفجأة نظرت إلى ساعتي ، وإذا هي قد تجاوزت الثانية عشر منتصف الليل ، وشعرت من الأخ عادل ميله إلى الراحة ، وأن التعب أرهقني طول النهار ، فقلت : أستميحك عذراً ، تكلَّمت كثيراً ، وربما جرحت شعورك ، عفواً ، لا قصد لي في ذلك ، واللّه شاهد وهو خير شاهد.

فقال عادل : لا واللّه بالعكس ، إن الحبيب المختار صلی اللّه علیه و آله يقول : الحكمة

ص: 265

ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها ، وقد استفدت الكثير ، وظهرت لي أمور كنت أجهلها ، وربما تصوَّرت خلاف الحقيقة والواقع عنها ، والحمد لله ، على كل حال كانت فرصة سعيدة.

وأخذ بيدي واحتضنني ، وأضاف قائلا : أزعجتك هذه الأمسية ، وإن شاء اللّه غداً أزورك في نفسك الموعد الذي التقينا فيه في هذا اليوم.

فقلت : نعم ، وأنا في خدمتك ، ولحظات من حياتي لن تنسى.

وودَّعني شاكراً ، وانصرف إلى مكان إقامته.

اللقاء الثاني :

وفي اليوم التالي قبل الموعد المقرَّر بساعة تركت حجرتي ، وذهبت إلى الصالة منتظراً قدوم صديقي ، ولمَّا شاهدته قادماً قمت إليه مستقبلا ، وحيَّيته بحرارة ، وتبادلنا الكلمات المتعارفة والتحيَّات المتداولة ، وجلسنا على الطاولة في آخر الصالة لكي نتمتَّع بحرّيَّة أكثر في المحاورة ، ثمَّ بدأنا الحديث.

القول الثالث : الحد الوسط.

فقد قلنا سابقاً إن الصحبة لا تمنح الفرد تلك المناعة المسمَّاة بالعصمة ; لأن الملاك والمقياس للعلوِّ والمنزلة في الإسلام التقوى لا الصحبة ، بمفاد الآية الكريمة : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) وقول الحبيب صلی اللّه علیه و آله : لا فضل لعربي على أعجميٍّ إلاَّ بالتقوى (1) ، ولأجل توضيح أكثر وبيان أوسع نستدل بالأدلّة التالية :

1 - الكتاب الكريم

لقد ورد في الكتاب العزيز عدّة آيات ، بل سور تدلُّ على عدم صدق نيَّة

ص: 266


1- مسند أحمد بن حنبل : 5 / 411 ، المعجم الأوسط ، الطبراني : 5 / 86.

كلِّ الصحابة ، ونتعرَّض إلى بعضها :

قال تعالى : ( الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ ) (1) وقال تعالى : ( وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) (2) ، وقال تعالى : ( لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ) (3) ، وقال تعالى : ( وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ) (4) وقال تعالى : ( أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً ) (5).

2 - السنّة الشريفة

روي عن علي أميرالمؤمنين علیه السلام أنه قال : بينا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله آخذ بيدي ، ونحن نمشي في بعض سكك المدينة فمررنا بحديقة ، فقلت : يا رسول اللّه! ما أحسنها من حديقة! قال : لك في الجنّة أحسن منها ، حتى مررنا بسبع حدائق ، كل ذلك أقول : ما أحسنها! ويقول : لك في الجنّة أحسن منها ، فلمّا خلا الطريق اعتنقني ، ثمَّ أجهش باكياً ، قلت : يا رسول اللّه! ما يبكيك؟ قال : ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها لك إلاَّ من بعدي ، قلت : يا رسول اللّه! أفي سلامة من ديني؟ قال : في سلامة من دينك (6).

ص: 267


1- سورة التوبة ، الآية : 97.
2- سورة التوبة ، الآية : 101.
3- سورة التوبة ، الآية : 48.
4- سورة التوبة ، الآية : 74.
5- سورة آل عمران ، الآية : 144.
6- 6 - مسند أبي يعلى الموصلي : 1 / 426 ح 565 ، تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : 12 / 394 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 4 / 107، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42 / 323 ، تهذيب الكمال ، المزي : 23 / 239 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 9 / 118.

وقال علي علیه السلام للزبير يوم الجمل : أما تذكر يوم كنت أنا وأنت في سقيفة قوم من الأنصار ، فقال لك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أتحبُّه؟ فقلت : ما يمنعني؟ قال : أما إنّك ستخرج عليه وتقاتله ، وأنت ظالم (1).

وروى سهل بن سعد ، قال : قال النبي صلی اللّه علیه و آله : إني فرطكم على الحوض ، من مرَّ عليَّ شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً ، ليردن عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثمَّ يحال بيني وبينهم.

قال أبو حازم : فسمعني النعمان بن أبي عياش ، فقال : هكذا سمعت من سهل؟ فقلت : نعم ، فقال : أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها : فأقول : إنهم منّي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سحقاً سحقاً لمن غيَّر بعدي.

وروى أبو هريرة أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : يرد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي ، فيجلون عن الحوض ، فأقول : يا ربِّ! أصحابي ، فيقول : إنَّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنهم ارتدُّوا على أدبارهم القهقرى (2).

وغيرها من الروايات (3) التي تدلُّ على أن الصحبة ليست موجبة للعصمة

ص: 268


1- المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 3 / 366 ، الأخبار الطوال ، الدينوري : 147 ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : 1 / 92 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 2 / 167 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 11 / 196 ح 31202.
2- صحيح البخاري : 7 / 207 - 208.
3- والتي منها أيضاً ما روي عن ابن المسيب أن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : يرد عليَّ الحوض رجال من أصحابي ، فيحلَّؤون عنه ، فأقول : يا ربِّ! أصحابي ، فيقول : إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنهم ارتدُّوا على أدبارهم القهقرى. صحيح البخاري : 7 / 208.

في نفس الصحابي.

3 - ولا إجماع على عصمتهم

وقد ذكرت لك سابقاً قول بعض العلماء في عدم صحّة نسبة العصمة إلى الصحابة.

4 - العقل يرفض عصمتهم بلا ملاك

العقل يرفض أن يمنح مقام العصمة الذي هو أعلى مرتبة من مراتب القرب والمنزلة للعبد عند اللّه جلَّ جلاله ، والكرامة لديه سبحانه بلا ذريعة ولا عمل مبرِّر إلاَّ أن له صحبة مع الرسول صلی اللّه علیه و آله لا غير ، وهل هذا يكفي كمبرِّر وعذر لئلا يحترق بنار جهنم مهما فعل؟ ولماذا نحن نحترق بنارها التي لا تمسُّ الصحابة دوننا لأننا حرمنا من الصحبة لا غير؟

وهل العدل يذعن إلى هذا الملاك والمقياس ، أو أن العقل والمنطق يقبله؟ كيف وهو أحكم الحاكمين يحكم حكماً لا يستسيغه العقل والحكمة؟ تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً ، وهو القائل : ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) (1).

عود على أدلة الجمهور

وأمَّا الروايات التي ذكرتها حول الصحابة فقد ذكر العلماء فيها ما يوجب قدحاً ، إضافة إلى بعدها عن المقاييس والموازين والمعايير الشرعيّة.

قال : كيف ، وقد قال العظيم في كتابه : ( أُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ

ص: 269


1- سورة النجم ، الآية : 31.

الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (1)؟

قلت : نعم ، هذه هي صفة بعض الصحابة ، وهم دعامة الإسلام وقوامه ، وبتضحياتهم ارتوت شجرة الدين ، وبسيوفهم ساد الحقُّ والعدل ، وزال الظلم والجور والشرك والكفر ، فهم اللبنة الأساسيّة في نشر هذا الدين القويم ، ولسنا بمنكرين لفضلهم ، وقد أمرنا جلَّ جلاله في كتابه الكريم بالدعاء لهم ، حيث قال : ( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلاِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالاِْيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) (2) ، صدق اللّه العليُّ العظيم.

ولكن الكلام ليس في هؤلاء ، بل إسداء عنوان العصمة لجميع الصحابة بلا استثناء أصلا حتى المرتكب منهم للجرائم ، ومن لعنهم الرسول صلی اللّه علیه و آله بلسانه كما يظهر من تعريف ابن حجر وابن حزم.

كيف يعقل هذا من الدين ، وقد نقل المؤرِّخون حوادث وحوادث استحقَّ مرتكبها الضرب والقتل واللعن؟ بل الأصحاب فيما بينهم كانوا يتنازعون ويتشاتمون ، وهذا هو معنى قولنا بعدم عصمة جميع الصحابة ، وأين هذا من كلام الشيخ جار اللّه الذي ادّعى فيه أننا نكفِّر عامة الصحابة؟ وهل يتناسب هذا مع الذوق السليم والمسلك القويم ، إذا حملنا كلامه على صدق النيّة ومحدوديَّة الاطلاع؟ أمَّا لو كان عالماً عامداً في نسبة هذا الكلام إلينا مع علمه لما نقول وندّعي فعلى اللّه جزاؤه ، وهو أحكم الحاكمين.

وأمَّا مسألة السبِّ واللعن ...

ص: 270


1- سورة التوبة ، الآية 88 - 89.
2- سورة الحشر ، الآية : 10.

قال عادل : توجد روايات عديدة تحرِّم لعن وسبَّ المسلم ، فقد روي عن علي علیه السلام أنه منع أصحابه من أهل الشام ، وقال : لا تكونوا لعَّانين (1).

قلت : نعم ، كما للعصمة ملاك ومقياس ومعيار وهو التقوى ، كذلك جواز اللعن أيضاً له ملاك ، وعليه لعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أبا سفيان بن حرب حين هجاه بأبيات ، حيث قال صلی اللّه علیه و آله ، اللّهم إنّي لا أحسن الشعر ، ولا ينبغي لي ، اللّهم العنه بكلِّ حرف ألف لعنة (2).

وقد روي عن أميرالمؤمنين علیه السلام أنه لعن في قنوت صلاته معاوية ، وعمرو بن العاص ، وأبا موسى الأشعري ، وأبا الأعور السلمي (3).

وقد ورد أن عائشة لعنت عثمان ولعنها ، وخرجت غضبى عليه إلى مكة (4).

ص: 271


1- الذي وردت به الرواية الآتية هو السبّ ، وليس فيها ذكرٌ للّعن ، وهناك فرق بين اللعن والسبِّ ، فقد جاء في نهج البلاغة لأميرالمؤمنين علیه السلام : 2 / 185 ، رقم : 206 : ومن كلام له علیه السلام وقد سمع قوماً من أصحابه يسبُّون أهل الشام أيام حربهم بصفين : إنّي أكره لكم أن تكونوا سبَّابين ، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم ، وذكرتم حالهم كان أصوب في القول ، وأبلغ في العذر ، وقلتم مكان سبِّكم إياهم : اللّهم احقن دماءنا ودماءهم ، وأصلح ذات بيننا وبينهم ، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحقَّ من جهله ، ويرعوي عن الغيِّ والعدوان من لهج به.
2- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 6 / 291.
3- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 16 / 137. وجاء في مسند زيد بن علي علیه السلام : 131 عن أميرالمؤمنين علیه السلام أنه كان يقنت بالمدينة بعد الركوع، ثم قنت بالكوفة وهو يحارب معاوية قبل الركوع ، وكان يدعو في قنوته على معاوية وأشياعه.
4- روى الشيخ المفيد عليه الرحمة في كتاب الجمل : 76 عن الحسن بن سعد قال : رفعت عائشة ورقة من المصحف بين عودتين من وراء حجلها وعثمان قائم ، ثمَّ قالت : يا عثمان! أقم ما في هذا الكتاب ، فقال : لتنتهين عمّا أنت عليه أو لأدخلن عليك جمر النار ، فقالت له عائشة : أما واللّه لئن فعلت ذلك بنساء النبي صلی اللّه علیه و آله يلعنك اللّه ورسوله ، وهذا قميص رسول اللّه لم يتغيَّر ، وقد غيَّرت سنّته يا نعثل. وقال اليعقوبي في تأريخه : 2 / 175 : كان بين عثمان وعائشة منافرة ، وذلك أنه نقصها مما كان يعطيها عمر بن الخطاب ، وصيَّرها أسوة غيرها من نساء رسول اللّه ، فإن عثمان يوماً ليخطب إذ دلَّت عائشة قميص رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ونادت : يا معشر المسلمين! هذا جلباب رسول اللّه لم يبل ، وقد أبلى عثمان سنّته! فقال عثمان : ربِّ اصرف عنّي كيدهن إن كيدهن عظيم. وجاء في كتاب المحصول ، الرازي : 4 / 343، قال : إن عثمان أخَّر عن عائشة بعض أرزاقها فغضبت ، ثمَّ قالت : يا عثمان! أكلت أمانتك ، وضيَّعت الرعيّة ، وسلَّطت عليهم الأشرار من أهل بيتك ، واللّه لو لا الصلوات الخمس لمشى إليك أقوام ذوو بصائر يذبحونك كما يذبح الجمل. وجاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 6 / 215 عن بعضهم أنَّ كل من صنَّف في السير والأخبار قال : إن عائشة كانت من أشدِّ الناس على عثمان ، حتى إنها أخرجت ثوباً من ثياب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فنصبته في منزلها ، وكانت تقول للداخلين إليها : هذا ثوب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يبل ، وعثمان قد أبلى سنّته ، قالوا : أول من سمَّى عثمان نعثلا عائشة ، والنعثل : الكثير شعر اللحية والجسد ، وكانت تقول : اقتلوا نعثلا ، قتل اللّه نعثلا! وجاء في نفس المصدر : 20 / 17 : ولقد كان كثير من الصحابة يلعن عثمان وهو خليفة ، منهم عائشة ، كانت تقول : اقتلوا نعثلا ، لعن اللّه نعثلا. وراجع رأي عائشة في عثمان وقولها فيه : هذا قميص رسول اللّه لم يبل ، وعثمان قد أبلى سنَّته ، وقولها : اقتلوا نعثلا ، قتل اللّه نعثلا - في المصادر التالية : شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 20 / 22 المحصول ، الرازي : 4 / 343 ، تاريخ الطبري : 3 / 477 ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة الدينوري : 1 / 72 ، لسان العرب ، ابن منظور : 11 / 670.

وأتذكَّر رواية لابن البطريق في كتاب العمدة ، عن عمرو بن يحيى ، عن جدِّه قال : كنت جالساً مع أبي هريرة في مسجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوماً بالمدينة ، ومعنا مروان ، فقال أبو هريرة : سمعت الصادق المصدَّق صلی اللّه علیه و آله يقول : هلاك أمتي على يدي غلمة من قريش ، فقال مروان : لعنة اللّه عليهم غلمة .. الحديث (1).

ص: 272


1- العمدة ، ابن البطريق : 451 - 452 ح 940 ، عن صحيح البخاري : 8 / 88 ، مسند أحمد بن حنبل : 2 / 324 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 46 / 455.

وروى الإربلي في كشف الغمّة ، عن أبي محمّد الغمام ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعلي علیه السلام : اتق الضغائن التي في صدور قوم لا يظهرونها إلاَّ بعد موتي ، أولئك يلعنهم اللّه ويلعنهم اللاعنون .. الحديث (1).

وقبل التعرُّض إلى الملاك والمعيار لجواز اللعن في الشريعة المقدَّسة نقول : إن كلام الإمام علیه السلام في مورد لعن ( سبِّ ) أهل الشام معناه : نهى الإمام علیه السلام عن التعوُّد على السبِّ واللعن ، بحيث لو رأى شيئاً لا يلائم ذوقه فتح فاه باللعن والسبِّ ، وهذا مما لاغبار عليه ، وظاهر من لفظ لعَّانين (2) ، وليس معناه أن الإمام علیه السلام يمنع لعن من استحقَّ اللعن ، ولو أراد هذا المعنى لقال : لا تكونوا لا عنين ، وبين الكلمتين فرق كبير يعلمه من له إحاطة بدقائق اللغة.

وحان الوقت - يا أخي عادل - لنبحث عن ملاك اللعن في الكتاب العزيز.

قال عادل : هل في القرآن ما يشير إلى جواز اللعن؟

قلت : نعم ، ففي سورة الأعراف : ( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (3) ، وفي سورة هود : ( هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (4) ، وفي سورة غافر : ( يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) (5).

ومع ملاحظة هذه الموارد ندرك أن العلّة في مشروعيّة اللعن ، وأبرز مصداق لموضوعه : الظلم.

ص: 273


1- كشف الغمّة ، الإربلي : 2 / 25 ، المناقب ، الخوارزمي : 62 ح 31 ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : 1 / 405 ح 4.
2- قد تقدم أن الذي جاءت به الرواية : إني أكره لكم أن تكونوا سبَّابين.
3- سوره الأعراف ، الآية : 44.
4- سورة هود ، الآية : 18.
5- سورة غافر ، الآية : 52.

قال عادل : وما علاقة موضوع الظلم في بحثنا؟

قلت : نعم ، سأوضح لك ، ولكن اسمح لي أن أذكر لك هذه الرواية : عن شدّاد أبي عمار قال : دخلت على واثلة وعنده قوم ، فذكروا عليّاً فشتموه ، فشتمته معهم ، فلمَّا قاموا قال : شتمت هذا الرجل؟ قلت : رأيت القوم شتموه فشتمته معهم ، قال : ألا أخبرك بما رأيت من رسول اللّه؟ قلت : بلى ، قال : أتيت فاطمة أسألها عن عليٍّ فقالت : توجَّه إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فجلست أنتظره حتى جاء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومعه عليٌّ وحسن وحسين ، أخذ كل واحد منهما بيده حتى دخل ، فأدنى عليّاً وفاطمة فأجلسهما بين يديه ، وأجلس حسناً وحسيناً كل واحد منهما على فخذه ، ثمَّ لفَّ عليهم ثوبه أو كساء ، ثمَّ تلاهذه الآية : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) (1) ثم قال : اللّهمَّ هؤلاء أهل بيتي ، وأهل بيتي أحقُّ (2).

وهذا الرجل - أعني أميرالمؤمنين علیه السلام - في هذه المرتبة والمنزلة التي طهَّره اللّه من كل رجس ، ومن كل الدنس ، ومن كل رذيلة ، أليس من الظلم شتمه ولعنه وسبُّه يا أخي عادل؟

أتعلم أنه شتم ولعن على منابر المسلمين ، وفرض على الناس لعنه وسبُّه ظلماً وعدواناً؟

والسؤال الوارد هنا ، هل يستحقُّ ظالمه اللعن حسب ما استفدت من الآيات التي سبق ذكرها؟

ص: 274


1- سورة الأحزاب ، الآية : 33.
2- شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : 2 / 67 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 22 / 65 ، تفسير ابن كثير : 3 / 492 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 9 / 167.

جواب هذا السؤال إليك ، ولكن عليَّ أن أدلَّك على بعض الموارد التي توضح لك الحقيقة.

روى المسعودي ، عن الطبري ، عن ابن أبي نجيح قال : لمَّا حجَّ معاوية طاف بالبيت ومعه سعد بن أبي وقاص ، فلمَّا فرغ انصرف معاوية إلى دار الندوة ، وأجلسه معه على سريره ، ووقع في علي علیه السلام وشرع في سبِّه ، فزحف سعد ، ثمَّ قال : أجلستني معك على سريرك ، ثمَّ شرعت في سبِّ عليٍّ ، واللّه لأن تكون لي خصلة واحدة من خصال كانت لعليٍّ أحبُّ إليَّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ... الحديث (1).

وروي أن المغيرة بن شعبة لمَّا ولي الكوفة كان يقوم على المنبر ويخطب ، وينال من عليٍّ علیه السلام ويلعنه (2).

ص: 275


1- وتكملة الحديث قال : واللّه لأن أكون صهر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأن لي من الولد ما لعليٍّ أحبُّ إليَّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ، واللّه لأن يكون رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال لي ما قال له يوم خيبر : لأعطينَّ الراية رجلا يحبُّه اللّه ورسوله ، ويحبُّ اللّه ورسوله ، كراراً ليس بفرار ، يفتح اللّه على يديه ، أحبُّ إليَّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ، واللّه لأن يكون صلی اللّه علیه و آله قال لي ما قال له في غزوة تبوك : ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنّه لا نبيَّ بعدي ، أحبُّ إليَّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ، وأيم اللّه لا دخلت لك داراً ما بقيت ، ثمَّ نهض. مروج الذهب ، المسعودي : 3 /1. 15.
2- روى الحاكم في المستدرك ، عن زياد بن علاقة ، عن عمِّه أن المغيرة بن شعبة سبَّ علي بن أبي طالب ، فقام إليه زيد بن أرقم فقال : يا مغيرة! ألم تعلم أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نهى عن سبِّ الأموات ، فلم تسبُّ عليّاً وقد مات؟ قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 1 /3. 385 ، مسند أحمد بن حنبل : 4 / 369 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 5 / 168 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 8 / 76 ، وقال : رواه الطبراني بإسنادين ، ورجال أحد أسانيد الطبراني ثقات. قال ابن أبي الحديد في شرح النهج : 4 / 70 - 71 : قال أبو جعفر رحمه اللّه : وكان المغيرة بن شعبة صاحب دنيا ، يبيع دينه بالقليل النزر منها ، ويرضي معاوية بذكر عليِّ بن أبي طالب علیه السلام ، قال يوماً في مجلس معاوية : إن عليّاً لم ينكحه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ابنته حبّاً ، ولكنّه أراد أن يكافئ بذلك إحسان أبي طالب إليه. قال : وقد صحَّ عندنا أن المغيرة لعنه على منبر العراق مرَّات لا تحصى.

وروي أن مروان كان يسبُّ عليّاً علیه السلام كل جمعة على المنبر ، وكان مروان أميراً علينا (1).

أخي عادل! أنشدك اللّه ، أليس هذا ظلم؟ فإن كان فما جزاء الظالم؟

وقد ذكر العلاّمة الأميني عليه الرحمة في كتابه القيِّم المعروف بالغدير ، الذي لا يستغني عنه طالب الحقيقة : قد صار لعن أميرالمؤمنين علیه السلام سنّة جارية في أيام الأمويين ، فكان أكثر من سبعين ألف منبر يلعن عليها عليٌّ علیه السلام (2).

ص: 276


1- العلل ، أحمد بن حنبل : 3 / 176 ح 4781 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 57 / 243 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 8 / 284.
2- قال العلاّمة الحجّة الشيخ الأميني في كتابه القيِّم الغدير : 2 / 101 : لم يزل معاوية دائباً على ذلك ، متهالكاً فيه ، حتى كبر عليه الصغير ، وشاخ الكهل ، وهرم الكبير ، فتداخل بغض أهل البيت علیهم السلام في قلوب ران عليها ذلك التمويه ، فتسنَّى له لعن أميرالمؤمنين علیه السلام وسبُّه في أعقاب الصلوات في الجمعة والجماعات ، وعلى صهوات المنابر في شرق الأرض وغربها ، حتى في مهبط وحي اللّه ( المدينة المنورة ). قال الحموي في معجم البلدان : 3 / 191 : قال الرهني : لعن علي بن أبي طالب علیه السلام على منابر الشرق والغرب ، ولم يلعن على منبر سجستان إلاَّ مرّة ، وامتنعوا على بني أميَّة ، حتى زادوا في عهدهم : وأن لا يلعن على منبرهم أحد ، وأيُّ شرف أعظم من امتناعهم من لعن أخي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على منبرهم وهو يلعن على منابر الحرمين مكة والمدينة؟ ا ه. وذكر الأميني عليه الرحمة عن العقد الفريد : 2 / 300 : لمَّا مات الحسن بن علي علیهماالسلام حجَّ معاوية ، فدخل المدينة ، وأراد أن يلعن عليّاً على منبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فقيل له : إن ههنا سعد بن أبي وقاص ، ولا نراه يرضى بهذا ، فابعث إليه وخذ رأيه ، فأرسل إليه وذكر له ذلك ، فقال : إن فعلت لأخرجنَّ من المسجد ثمَّ لا أعود إليه ، فأمسك معاوية عن لعنه حتى مات سعد ، فلمَّا مات لعنه على المنبر ، وكتب إلى عماله أن يلعنوه على المنابر ، ففعلوا ، فكتبت أم سلمة زوج النبي صلی اللّه علیه و آله إلى معاوية : إنكم تلعنون اللّه ورسوله على منابركم ، وذلك أنكم تلعنون عليَّ بن أبي طالب ومن أحبَّه ، وأنا أشهد أن اللّه أحبَّه ورسوله ، فلم يلتفت إلى كلامها. وقال الجاحظ في كتاب الردّ على الإماميّة : إن معاوية كان يقول في آخر خطبته : اللّهم إن أبا تراب .. إلخ ، وكتب ذلك إلى الآفاق ، فكانت هذه الكلمات يشاد بها على المنابر إلى أيام عمر بن عبد العزيز. وإن قوماً من بني أميَّة قالوا لمعاوية : يا أميرالمؤمنين! إنّك قد بلغت ما أمَّلت ، فلو كففت عن هذا الرجل ، فقال : لا واللّه حتى يربو عليه الصغير ، ويهرم عليه الكبير ، ولا يذكر له ذاكر فضلا. وذكره ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : 4 / 57 و 13 / 222. وقال عليه الرحمة : قال الزمخشري في ربيع الأبرار على ما يعلق بالخاطر ، والحافظ السيوطي : إنه كان في أيام بني أمية أكثر من سبعين ألف منبر يلعن عليها علي بن أبي طالب علیه السلام بما سنَّه لهم معاوية من ذلك.

فشاهدت الدموع كالدرر تتساقط بسرعة ولهفة مذهلة .. لو قدِّر لها أن تعبِّر لفظاً لقالت : رحمك اللّه يا أبا الحسن ، يا أميرالمؤمنين ، يا علي بن أبي طالب ، فأنت حقّاً المظلوم الذي جهلناه ، وما عرفنا قدره ومظلوميَّته ..

وخنقتني العبرة ، فأهملت دموعي بلا مشاحة ، وبعد هنيئة خيَّم علينا صمت رهيب ، وطلبت أقداحاً من الشاي ، فأحضرت بين أيدينا ...

إلى أن قال بعدما ذكر كلاماً جرى بينهما لا يتعلَّق بالمناظرة : وحان وقت الفراق بعد أن طاب لنا المقام ، وسبحان اللّه الذي هو لا غيره مفرِّق الأحباب ، وتعانقنا طويلا ، وعزَّ علينا الانفصال ، ولكن الدهر ذو أحوال ، وافترقنا بعدما تعاهدنا على أن نجتمع في القريب العاجل.

وبعد أيام رجعت إلى إيران ، ودوَّنت ما دار بيننا من مقال ، وإلى حديث قادم إن شاء اللّه تعالى ، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته (1).

ص: 277


1- وجدنا هذه المناظرة مطبوعة في كتيِّب صغير باسم : مناظرة لطيفة ، في اثنين وثلاثين صفحة ، نشر مؤسَّسة : في طريق الحق ، مطبعة سلمان الفارسي سنة 1418 ه.

المناظرة السادسة والخمسون: مناظرة الشيخ العاملي مع صارم الوهابي في مشروعيَّة زيارة النبي صلی اللّه علیه و آله ، والتوسُّل به إلى اللّه تعالى

اشارة

مناظرة الشيخ العاملي مع صارم الوهابي في مشروعيَّة زيارة النبي صلی اللّه علیه و آله ، والتوسُّل به إلى اللّه تعالى (1)

العاملي : من مختصَّات ابن تيميّة وبدعه : تحريمه التوسُّل والاستشفاع والاستغاثة بالنبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، فقد قال السبكي في كتابه ( شفاء السقام في زيارة خير الأنام صلی اللّه علیه و آله ) ص 291 : اعلم أنه يجوز ويحسن التوسُّل والاستغاثة والتشفُّع بالنبيِّ صلی اللّه علیه و آله إلى ربِّه سبحانه وتعالى ، وجواز ذلك وحسنه من الأمور المعلومة لكل ذي دين ، المعروفة من فعل الأنبياء والمرسلين علیهم السلام ، وسير السلف الصالحين ، والعلماء والعوام من المسلمين.

ولم ينكر أحد ذلك من أهل الأديان ، ولا سمع به في زمن من الأزمان ، حتى جاء ابن تيميَّة فتكلَّم في ذلك بكلام يلبِّس فيه على الضعفاء الأغمار ، وابتدع ما لم يسبق إليه في سائر الأعصار!! انتهى.

ص: 278


1- جرت هذه المناظرة في ( الانترنيت ) في ساحة النقاش الإسلامية - شبكة هجر ، في شهر جمادى الأولى من سنة 1420. وقد ذكرها العلامة العاملي في كتابه الانتصار : 5 /1. الخ.

صارم : سؤالي : لماذا تدعون إلى شدِّ الرحال وزيارة القبور ، والتبرُّك بها؟

العاملي : حديث شدِّ الرحال لم يصحَّ عند أهل البيت علیهم السلام ، وقد صحَّ عند بقيَّة المذاهب ، وفهموا منه عدم شموله لشدِّ الرحال إلى زيارة قبر النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، بدليل أنهم كانوا يفعلون ذلك ، وما رووه في بعض صيغه : ( لا تشدُّ الرحال إلى مسجد ) وفهم هؤلاء حجَّة على من يعتقد بالحديث ، ويعتقد بحجّيّة فهم الصحابة والتابعين وأئمّة المذاهب ، لأنهم أقرب إلى عصر النصّ ومعناه ، وقد ألَّف عدد من العلماء قبل ابن تيميّة رسائل في تفسير الحديث ، وعندما جاء ابن تيميَّة ببدعته ردَّ عليه عدد آخر منهم ، واتفقوا على أن فهمه للحديث مخالف لإجماع علماء المسلمين وسيرتهم لمدّة ثمانية قرون ، بل هو مخالف لفهم عامّة علمائهم إلى يومنا هذا!!

فنحن نشدُّ الرحال إلى زيارة قبر النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، وقبور الأئمة المعصومين علیهم السلام ، لأن زيارة قبورهم مستحبّة عندنا ، ومن أفضل القربات إلى اللّه تعالى ، ولم يثبت عندنا أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله نهى عن ذلك ، بل ثبت أنه دعا إليه وحثَّ عليه ، وكان يزور القبور المباركة لتكون سنَّة من بعده ، وكذلك كانت سيرة علي وفاطمة والأئمَّة علیهم السلام ، ولزيارة القبور عندنا أحكام وشروط وآداب شرعيَّة ، وليس فيها شيء ينافي التوحيد أبداً ، بل فيها ما يؤكِّد التوحيد ، وأن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله وآله لا يملكون من عندهم شيئاً ، بل هم عباد مكرمون ، نزورهم ونستشفع بهم إلى اللّه تعالى كما أمرنا.

صارم : أحسنت ، وهذا ما أريده منك بالضبط ، فقد شفيت غليلي بهذه الإجابة الشافية الكافية ، ولعلَّ صدرك يتّسع لأسئلتي ، وسؤالي الآن : لماذا تستشفع بهم؟ لم لا تتّجه في طلبك إلى اللّه مباشرة؟

ص: 279

لماذا تجعلهم واسطة بينك وبين اللّه؟ ألم تعلم أن الجاهليّين كانوا يعبدون الأصنام ، يستشفعون بها ، ويجعلونها واسطة بينهم وبين اللّه؟! وقد ناقضت نفسك حينما قلت : ( وأن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله وآله لا يملكون من عندهم شيئاً ، بل هم عباد مكرمون ، نزورهم ونستشفع بهم إلى اللّه تعالى كما أمرنا ) كيف تستشفع بهم وهم ( لا يملكون من عندهم شيئاً بل هم عباد مكرمون ) لقد خالفت المنهج الربَّانيَّ وسنَّة المصطفى صلی اللّه علیه و آله من وجهين :

الوجه الأول : من مخالفة السنّة ; لأن الأموات لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً ، فما بالك بامتلاك النفع لغيرهم؟!

الوجه الثاني : مشابهة الكفار ، وقد نهينا عن مشابهتهم ، فهل بعد هذا تستشفع بهم؟ أرجو للجميع الهداية.

العاملي : سؤالك في أصله وجيه ، فلو كان الأمر لنا لقلنا : فلنطلب كل شيء من اللّه تعالى مباشرة ، ولا نجعل بيننا وبينه واسطة من المخلوقين ، ولكنَّ الأمر له عزَّ وجلَّ وليس لنا ، وقد قال لنا : ( اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ ) (1) ، وقال : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ) (2) ، وقال : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ) (3) ولا حاجة إلى مجيئهم واستغفارهم عند الرسول صلی اللّه علیه و آله ، واستغفار الرسول لهم .. وهذا يعني أنَّه تعالى قال لرسوله صلی اللّه علیه و آله كن موحِّداً بلا شرط ، ومهما قلت لك فأطعني ، وحتى لو قلت لك عندي ولد فاعبده فافعل وقل لهم : ( قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ

ص: 280


1- سورة المائدة ، الآية 35.
2- سورة الإسراء ، الآية : 57.
3- سورة النساء الآية : 64.

الْعَابِدِينَ ) (1)! ولكنَّه سبحانه أخبرنا أنه لم يتّخذ صاحبة ولا ولداً.

فالمسألة إذن ، ثبوت مبدأ التوسُّل في الإسلام في حدوده التي أمر بها اللّه تعالى أو سمح بها ، وهو يختلف عن زعم التوسُّل عند المشركين ، سواء في طبيعته أم في نيّته ، فهل تقبل أصل مبدأ التوسّل عند المشركين ، سواء في طبيعته أم في نيّته ، فهل تقبل أصل مبدأ التوسُّل والاستشفاع الذي قبله إمامك ابن تيمية؟ أم أنك أشدُّ في هذا الأمر من إمامك؟!

صارم : قلت عن التوسُّل : ( ثبوت مبدأ التوسُّل في الإسلام في حدوده التي أمر بها اللّه تعالى أو سمح بها ) هل لي أن أعرف هذه الحدود التي أمر أو سمح بها؟ أرجو أن تجيبني باختصار ، وفي حدود السؤال ، هديت للصواب.

العاملي : الظاهر أن السبب فيما أثاره بعضهم إشكالا على مبدأ التوسُّل ، أنهم يرون الشفاعات والوساطات والمحسوبيَّات السيئة عند الرؤساء والمسؤولين في دار الدنيا ، وما فيها من محاباة وإعطاء بغير حقّ ولا جهد من المشفوع لهم أو المتوسَّط لهم ، وبما أن اللّه تعالى يستحيل عليه أن يحابي كما يحابي حكَّام الدنيا ، وإنَّما يعطي جنَّته وثوابه بالإيمان والعمل الصالح .. فلذلك صعب علهيم قبول الشفاعة والوساطة والوسيلة إلى اللّه تعالى ، ولكنَّه فات هؤلاء أن الحكمة من جعله تعالى الأنبياء والأوصياء الوسيلة إليه تعالى :

أوَّلا : أن يعالج مشكلة التكبُّر في البشر ; لأن البشر لا يمكنهم الانتصار على تكبُّرهم والخضوع لعبوديَّة اللّه تعالى إلاَّ إذا انتصروا على ذاتيّتهم في مقابل الأنبياء والأوصياء ، واعترفوا لهم بالفضل والمكانة المميَّزة والاختيار الإلهيّ ،

ص: 281


1- سورة الزخرف ، الآية : 81.

وأنّهم المبلِّغون عن اللّه تعالى .. وفاتهم أن جعل الأنبياء والأوصياء وسيلة إلى اللّه تعالى ضرورة ذهنيّة للبشر ، ذلك أن الفاصلة بين ذهن الإنسان المحدود الميَّال إلى الماديّة والمحدوديّة ، وبين التوحيد المطلق المطلوب والضروريّ ، فاصلة كبيرة ، فهي تحتاج إلى نموذج ذهنيٍّ حاضر من نوع الإنسان ، يمارس التوحيد أمامه ، ويكون قدوة له.

وبدون هذا النموذج القدوة ، يبقى الإنسان في معرض الجنوح في تصوُّره للتوحيد وممارسته ، والجنوح في هذا الموضوع الخطير أخطر أنواع جنوح الضلال ، وهذا هو السبب - في اعتقادي - في أن اللّه تعالى جعل أنبياءه وأوصياءهم علیهم السلام حججاً على العباد ، وهو السبب في أنه جعلهم من نوع أنفسهم ، وليس من نوع آخر كالملائكة مثلا.

والنتيجة : أن وجود الوسيلة بين العباد واللّه تعالى لو كان يرجع إلينا لصحَّ لنا أن نقول : يا ربَّنا! نريد أن تجعل ارتباطنا بك مباشراً ، ولا تجعل بيننا وبينك واسطة في شيء ، وهذا ما يميل إليه أهل الإشكال على الشفاعة والتوسّل! ولكن الأمر ليس بيدنا ، فالأفضل أن يكون منطقنا أرقى من ذلك ، فنقول : اللّهم لا نقترح عليك ، فأنت أعلم بما يصلحنا ، وإن أردت أن تجعل أنبياءك وأوصياءك واسطة بيننا وبينك ، وحججاً علينا عندك ، فنحن مطيعون لك ولهم ، ولا اعتراض عندنا.

وهذا هو التسليم المطلق لإرادته تعالى ، وقد عبَّر عنه سبحانه بقوله لرسوله صلی اللّه علیه و آله في سورة الزخرف : ( قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ) .

صارم : كلامك طويل ، وفيه نسبة من الصحّة ، إضافة إلى بعض الشبه التي تحتاج إلى ردّ ، فلو كان مقالك قصيراً لرددت على كل نقطة تذكرها وتخالف ما أعتقده ، لذا أرجو مرَّة أخرى أن يكون جوابك مختصراً دقيقاً ، وعموماً فأجيبك

ص: 282

باختصار :

الآيات التي استدللت بها في الأمر بطاعة الرسول صلی اللّه علیه و آله عليك لا لك ; لأنَّه أمرنا بالتوحيد الخالص النقيِّ من شوائب الشرك ، ومن طاعته تنقية التوحيد مما يفضي إلى الشرك ، أعاذنا اللّه وإيَّاك من مضلاَّت الفتن.

ثمَّ إنك استدللت في الاستشفاع بدعاء النبي صلی اللّه علیه و آله للأعمى (1) ، وهذا لا إشكال فيه ; لأنه طلب من حيٍّ فيما يستطيعه ، لذا لجأ عمر إلى عمِّ النبي صلی اللّه علیه و آله ، ولو كان الاستشفاع فيما ذكرته صحيحاً للجأ الناس إلى النبي صلی اللّه علیه و آله وهو في قبره ، وهذا ما لم يحصل إطلاقاً (2) ، وأعود وأسأل مرَّة أخرى : ما الذي يستطيع عمله الميِّت حينما تستشفع به؟

العاملي : من أسباب الخطأ عند المخالف للتوسُّل : أنه يتصوَّر أن المتوسِّل يطلب من النبيِّ صلی اللّه علیه و آله أو من الولي .. بينما هو يطلب من اللّه تعالى ، ويتوسَّل إليه بمقام النبيِّ ، أو يطلب من النبيِّ التوسُّط له عند اللّه تعالى ، فلا طلب إلاَّ من اللّه تعالى.

وأمَّا شبهة أن الرسول صلی اللّه علیه و آله ميِّتٌ فكيف تصحُّ مخاطبته؟ فجوابها : أنه حيٌّ عند ربِّه ، ولذلك تسلِّم عليه في صلاتك : ( السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته ) ، وإذا قبلت حديث تعليم النبي صلی اللّه علیه و آله للأعمى أن يتوسَّل به ، فقد صحَّ عندكم أن عثمان بن حنيف طبَّقه بعد وفاة النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، وعلَّمه لشخص كان عنده

ص: 283


1- راجع : سنن الترمذي : 5 / 229 ح 3649 ، المستدرك ، الحاكم : 1 / 313 ، وسوف يأتي الحديث أيضاً في مناظرة الدكتور التيجاني مع بعض السلفيين في التوسل.
2- راجع تعليقتنا على هذه الدعوى الكاذبة في آخر المناظرة ، تحت عنوان : الردّ الصارم على مزاعم صارم.

مشكلة عند الخليفة عثمان ، فاستجاب اللّه له ، وتغيَّرت معاملة عثمان معه ، وتطبيق الصحابي الثقة حجَّة ; لأنه معاصر للنصّ.

وقد أجاز ابن تيمية التوسُّل بالنبيِّ صلی اللّه علیه و آله بعد موته ، فلا تكن ملكياً أكثر من الملك! بل ورد عندكم التوسُّل إلى اللّه تعالى بالممشى إلى الصلاة والحجِّ ( أتوسَّل إليك بممشاي )!

صارم : قلت لك : نحن نحرِّم شدَّ الرحال إلى زيارة القبور منعاً لجناب التوحيد أن تشوبه شوائب الشرك ، ثمَّ سألتك : لم تشدّون الرحال؟ فقلت : للاستشفاع!! فإن أردت أن تجيبني على قدر السؤال فهذا سؤالي : لماذا تستشفعون بالأموات؟ وكيف؟

العاملي : إلى الآن ما زلت تتصوَّر أن الزيارة لابدَّ أن يرافقها استشفاع ، فمن أين جئت بهذا؟! فقد يزور مسلم نبيَّه ويؤدّي واجب احترامه ولا يتوسَّل ولا يستشفع به ، وقد يتوسَّل المسلم بنبيِّه في بيته ولا يذهب لزيارته ، فالزيارة شيء ، والتوسُّل شيء آخر ، وإلى الآن تتصوّر أن شدَّ الرحال لا يكون إلاّ للاستشفاع! مع أن شدَّ الرحال قد يكون للزيارة وحدها ، أو مع نيّة الاستشفاع والتوسل ، وقد أجبتك بأن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله حيٌّ عند ربِّه ، وأنك تسلِّم عليه في صلاتك ، فلا مانع أن يخاطبه المتوسِّل ، على أن المتوسِّل لا يطلب من النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، بل من اللّه ، ولا يحتاج إلى مخاطبة النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، بل يخاطب ربَّه ، ويسأله بحقِّ رسوله ومقامه ومعزَّته عنده ، وقلت لك : لقد أجاز ابن تيمية التوسُّل والاستشفاع بالنبيِّ حتى لو كان صلی اللّه علیه و آله ميِّتاً ، فهل تريد نصَّ كلامه؟ وتعود وتسألني : لماذا تشدّون الرحال للاستشفاع ، ولماذا تستشفعون بالميِّت؟ أرجو أن تتأمَّل في كلامي أكثر.

صارم : لقد تأمَّلت في كلامك جيّداً ، إلى أن قال : وسؤالي : كيف يتوسَّل

ص: 284

به؟ وسؤالي الثاني : كيف يستشفع به؟ هل أجد عندك إجابة مختصرة في حدود السؤالين السابقين؟

العاملي : توسَّل به إلى اللّه ، واستشفع به ، وتوجَّه به ، وسأله به ، واستغاث به ، وأقسم عليه به .. كلّها بمعنى واحد ، أي توسَّط به إلى اللّه تعالى ، ومعنى توسُّلنا واستشفاعنا بالرسول صلی اللّه علیه و آله أننا نقول : اللّهم إن كنت أنا غير مرضيٍّ عندك ، ولا تسمع دعائي بسبب ذنوبي ، فإني أسألك بحرمة عبدك ورسولك محمّد صلی اللّه علیه و آله ، الذي هو نبيّي ومبلِّغي أحكامك ، وخير خلقك ، وصاحب المقام الأوَّل عندك .. أن تقبل دعائي وتستجيبه.

وهذا يا أخ .. أمر طبيعيٌّ صحيح ، ليس فيه عبادة للنبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، ولا ادّعاء شراكة له مع اللّه تعالى ، بل فيه تأكيد لمقام عبوديّته وإطاعته لربِّه ، الذي وصل به إلى مقامه المحمود عند اللّه تعالى ، وهو مشروع لورود النصّ به.

صارم : أعوذ باللّه من غضب اللّه ، ما هذه الجرأة على اللّه؟ كيف تقول : ( ولا تسمع دعائي بسبب ذنوبي )؟! هل تعتقد أن اللّه لا يسمع نعوذ باللّه من الخذلان ، هل تعتقد أن اللّه يخفى عليه شيء في الأرض وفي السماء؟ سبحانك! هذا بهتان عظيم ، أفق يا رجل! فواللّه إن الذي قلته ليزلزل الجبال ، هداك اللّه ، أرجو أن تستغفر اللّه بلا واسطة عن هذا الذنب العظيم ، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ باللّه.

العاملي : عبارة : ( إن كنت لا تسمع دعائي بسبب ذنوبي ) تعني لا تستجيب .. وسماع الدعاء بمعنى استجابته عربيٌّ فصيح أيُّها العربي!!

صارم : هل لك أن تدلَّني على أن السماع بمعنى الاستجابة من لغة العرب ، وقبل ذلك القرآن؟

العاملي : يستحبُّ للمصلّي أن يقول : سمع اللّه لمن حمده ، ومعناها

ص: 285

استجاب ، وليس مجرَّد السماع ، ويكفي استعمالها عند العرب بقولهم : هل يسمع فلان منك أم لا؟ وهو ليس سؤالا عن حالة أذنيه وطرشه!!

وفي سنن النسائي : 8 / 263 : عن أبي هريرة يقول : كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : اللّهم إني أعوذ بك من الأربع : من علم لا ينفع ، ومن قلب لا يخشع ، ومن نفس لا تشبع ، ومن دعاء لا يسمع. انتهى.

وفي هذا كفاية ، فأجب على ما ذكرته في موضوعنا.

صارم : أشكرك على إحالتك وبيانك ، وسؤالي - وأرجو ألا تتذمَّر : لم تلجأون إلى الواسطة بينكم وبين اللّه؟ ألم يخلقنا؟ ألم يرزقنا؟ أليس سبحانه هو المتكفِّل بنا؟ ألم يقل لنا : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) (1) بلا واسطة؟ ألا تعلم أن العبد أقرب ما يكون من ربِّه وهو ساجد؟ ألا تعلم أن كل وازرة لا تزر وزر أخرى؟ ألا تعلم أن الإنسان مهما بلغ من الكمال فهو عبد ضعيف مربوب لله تعالى ، لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً؟ فأيُّ فرق بيننا وبين الأموات؟ وقد ذكرت لك أن عمر استشفع بعمِّ النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ولم يلجأ إلى قبر النبي صلی اللّه علیه و آله ! فلم لم يفعل ذلك؟ أتراه غفل عما تدعون إليه؟! نعم للإنسان أن يطلب من آخر حيٍّ أن يدعو له ، أمَّا من الميِّت فإن الميِّت لا حول له ولا قوَّة!! ولو كان بيده شيء لدفع الموت عن نفسه ، وسؤالي مرَّة أخرى : لم تجعلون الميِّت واسطة؟

العاملي : حسب فهمنا المحدود ، وإدراك عقولنا القاصرة ، الأمر كما تقول ، فالإنسان يعبد اللّه تعالى مباشرة ، فينبغي أن يطلب منه مباشرة ، واللّه تعالى سميع بصير عليم ، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد ، فلا يحتاج إلى واسطة من شخص

ص: 286


1- سورة غافر ، الآية : 60.

حيٍّ ولا ميِّت ، ولا أيِّ مخلوق .. هذا حسب إدراك عقولنا ، ولكنَّه سبحانه بنى هذا الكون ، وخلق الإنسان ، وأقام حياته في الأرض على أساس الأسباب والمسبَّبات في أمور الطبيعة ، وأخبرنا أن عبادته والطلب منه لها أصول وأسباب ، وأن علينا أن نتعامل معه حسب هذه الأصول.

مثلا : لماذا يجب الإيمان بالرسول؟ فإذا أردنا أن ننفي الواسطة نقول : إن المطلوب هو الإيمان باللّه وحده ، والرسول مبلِّغ ، وقد بلَّغ ذلك وانتهى الأمر ، فلماذا نجعل الإيمان به مقروناً بالإيمان باللّه تعالى؟! لماذا قال اللّه تعالى : ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ) (1) ، ولم يقل : أطيعوني فقط كما بلَّغكم الرسول صلی اللّه علیه و آله ؟!! وهذا المثل قد يكون صعباً.

مثال آخر : الكعبة .. لماذا أمر اللّه تعالى ببناء غرفة ، وقال توجَّهوا إليها ، وحجُّوا إليها ، وتمسَّحوا بها؟ هل يفرق عليه في عبادتنا له أن نصلّي له إلى هذه الجهة أو تلك؟ أو تحجّ تلك المنطقة أو لا تحجّ؟ فلماذا جعلها واسطة بيننا وبينه؟! بل .. إن الصلاة أيضاً نوع من التوسُّل ، وقد يسأل إنسان : هل تحتاج عبادة اللّه إلى صلاة له؟ بل إن الدعاء أيضاً توسُّل ، فاللّه تعالى مطّلع على الضمائر والحاجات ، فلماذا يطلب أن نقول له؟ بل يمكن لهذا التفكير العقلي أن يوصل الإنسان إلى القول : لماذا خلق اللّه الإنسان بحيث تكون له حاجات ، وقال له ادعني حتى أستجيب لك؟

إنّا جميعاً - يا صارم - أفكار العقل القاصر أمام حكمة اللّه تعالى ، وحكمته تعرف بالشرع والعقل معاً ، وليس بظنون العقل واحتمالاته!! وما دام مبدأ التوسُّل

ص: 287


1- سورة النساء ، الآية : 59.

ثبت في الشرع ، فإن العقل لا يعترض عليه ، بل هو ( العقنقل ) كما عبَّر عنه بعضهم ، والتوسُّل بالنبيِّ صلی اللّه علیه و آله ثابت في حياته وبعد موته بدون فرق ; لأنه حيٌّ عند ربِّه ، وحياته أقوى من حياة أحدنا ، وقد قلت لك إن التوسُّل لا يحتاج إلى مخاطبة ، فهو سؤال لله تعالى بمقام النبيِّ صلی اللّه علیه و آله وجهاده في سبيله وشفاعته عنده ، وأخبرتك أن ابن تيمية أجاز التوسُّل بالأموات ، ولعلّه حصره بالنبي صلی اللّه علیه و آله .

صارم : أولا : أوافقك القول على أن العقل قاصر ، وهذا لا مرية فيه ، أمَّا تمثيلك بالكعبة فقياس مع الفارق ; لوجود الدليل الذي أمرنا اللّه من خلاله أن نتوجَّه إلى الكعبة ; إذ الكعبة ليست واسطة ، ولك أن تتصوَّر أن شخصاً يتحدَّث معك وقد التفت عنك وأعطاك ظهره! هل تقبل عليه وتتحدَّث معه؟

وكذلك وضعت الكعبة ليتَّجه إليها المسلمون جميعاً في صلاتهم ، لا أنها واسطة ... إلى غير ذلك من الحكم.

ثانياً : قلت : إن ابن تيميّة أجاز التوسُّل بالأموات ، ولعلَّه حصره بالنبي صلی اللّه علیه و آله ، كلامك متناقض ، كيف تقول : أجاز ، ثمَّ ترجع وتقول : لعلّه؟! هذا لا يستقيم ، فإمَّا أنه أجاز التوسُّل بالأموات ، وهذا محال ، أو أنه أجاز التوسُّل بالنبيِّ صلی اللّه علیه و آله ؟ فهل لك أن تدلَّني على كلام شيخ الإسلام في التوسُّل بالنبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، مع ذكر المرجع؟

ثالثاً : أريد الدليل من القرآن - ومن القرآن - على قولك ، راجياً الاختصار ما أمكن ، وشكراً لك.

العاملي : قال ابن تيمية في رسالة لشيخ الإسلام من سجنه ص 16 : وكذلك مما يشرع التوسُّل به في الدعاء ، كما في الحديث الذي رواه الترمذي وصحَّحه (1) : أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله علَّم شخصاً أن يقول : اللّهم إني أسألك وأتوسَّل إليك

ص: 288


1- سنن الترمذي : 5 / 229 ح 3649.

بنبيِّك محمَّد نبيِّ الرحمة ، يا محمَّد! يا رسول اللّه! إني أتوسَّل بك إلى ربّي في حاجتي ليقضيها ، اللّهم فشفِّعه فيَّ ، فهذا التوسّل به حسن ، وأمَّا دعاؤه والاستغاثة به فحرام! والفرق بين هذين متفق عليه بين المسلمين.

المتوسِّل إنما يدعو اللّه ويخاطبه ويطلب منه ، لا يدعو غيره إلاَّ على سبيل استحضاره ، لا على سبيل الطلب منه ، وأمَّا الداعي والمستغيث فهو الذي يسأل المدعوَّ ويطلب منه ، ويستغيثه ويتوكَّل عليه. انتهى.

فقد أفتى ابن تيميَّة بجواز العمل بحديث الضرير ، وفيه خطاب للنبيِّ صلی اللّه علیه و آله وهو ميِّت! ولاحظ - يا صارم - أن الميزان عند ابن تيميّة أن تطلب من اللّه أو من المتوسَّل به ، وهذا هو كلام علماء المسلمين كلّهم ، وتفريقه بين المتوسِّل والداعي والمستغيث غير صحيح ; لأنه لا يوجد مسلم يدعو النبيَّ صلی اللّه علیه و آله ويطلب منه من دون اللّه ، أو يستغيث به من دون اللّه!!

وأزيدك حديثاً آخر صحَّحه الطبراني ، يفسِّر حديث الضرير ، قال في المعجم الكبير : ج 9 ص 31 : عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، عن عمِّه عثمان بن حنيف : أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له ، فكان عثمان لا يلتفت إليه ، ولا ينظر في حاجته ، فلقي عثمان بن حنيف فشكا إليه ذلك ، فقال له عثمان بن حنيف : ائت الميضأة فتوضَّأ ، ثمَّ ائت المسجد فصلِّ فيه ركعتين ، ثمَّ قل : اللّهم إني أسألك وأتوجَّه إليك بنبيِّك محمَّد صلی اللّه علیه و آله نبيِّ الرحمة ، يا محمّد! إني أتوجَّه بك إلى ربّي فتقضي لي حاجتي ، وتذكر حاجتك ، ورح إليَّ حتى أروح معك.

فانطلق الرجل فصنع ما قال له ، ثمَّ أتى باب عثمان بن عفان ، فجاء البواب حتى أخذ بيده ، فأدخله على عثمان بن عفان ، فأجلسه معه على الطنفسة ، وقال

ص: 289

له : ما حاجتك؟ فذكر حاجته ، فقضاها له ، ثمَّ قال : ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة ، وقال : ما كانت لك من حاجة فائتنا ، ثمَّ إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له : جزاك اللّه خيراً ، ما كان ينظر في حاجتي ، ولا يلتفت إليَّ حتى كلَّمته فيَّ!

فقال عثمان بن حنيف : واللّه ما كلَّمته ، ولكن شهدت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأتاه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره ، فقال له النبيُّ صلی اللّه علیه و آله : أو تصبر؟ فقال : يا رسول اللّه! إنه ليس لي قائد ، وقد شقَّ علي ، فقال له النبي صلی اللّه علیه و آله : ائت الميضأة فتوضَّأ ، ثمَّ صلِّ ركعتين ، ثمَّ ادع بهذه الدعوات.

قال عثمان بن حنيف : فواللّه ما تفرَّقنا ، وطال بنا الحديث ، حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضرّ قط!

صارم : إليك الجواب عمَّا أثرته - وأعتذر عن الإطالة - :

أوّلا : لم تحلني على مرجع ، وقولك : قال ابن تيمية في رسالة لشيخ الإسلام من سجنه ص 16 ، أتعدّ هذا إحالة؟! ما رأيك لو قلت لك : قال صاحب الكافي في رسالة له ، أتقبل ذلك مني؟!

ثانياً : إمَّا أنك لا تجيد النقل وتأخذ ما يوافق هواك ، وأعيذك باللّه أن تكون كذلك ، وإمَّا أنك أسأت فهم كلام ابن تيمية ، أو نقلت شبهة كان يريد الردَّ عليها ; لأن أقواله في هذه المسألة - التوسُّل بالنبيِّ صلی اللّه علیه و آله - مشهورة مبثوثة في ثنايا كتبه.

ثالثاً : قلت - يا عاملي - : فقد أفتى ابن تيمية بجواز العمل بحديث الضرير ، وفيه خطاب للنبيِّ صلی اللّه علیه و آله وهو ميِّت! ولا أدري من أين استنبطت قولك : وهو ميِّت؟!

رابعاً : قلت : لا يوجد مسلم يدعو النبيَّ صلی اللّه علیه و آله ويطلب منه من دون اللّه ، أو

ص: 290

يستغيث به من دون اللّه!! فباللّه عليك ، لم يشدُّ الناس رحالهم إلى القبور؟ إن قلت : من أجل الدعاء عندها دون أن يكون للميِّت تأثير ، قلنا لك : فلا فائدة من شدِّ الرحال ، والإجابة حاصلة في مكانك الذي أنت فيه ، دون أن تشدَّ الرحل ، وإن قلت : إن للميِّت تأثيراً ، أو من أجل حصول البركة ، قلنا : كيف يؤثِّر وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً؟ ومن هنا جاء النهي عن شدِّ الرحال للقبور ، منعاً لجناب التوحيد من شوائب الشرك.

ولو تنزَّلنا معك ، ووافقناك في قولك : أنا لا أستغيث بها ، قلنا لك : لكن عوام الناس ممَّن لا فقه عنده سيظنُّ أن للميِّت تأثيراً ، وإلاّ لما شدَّت إليه الرحال ، فيلجأ في دعائه إلى الميِّت ، وهذا ما يحصل عند غالب القبوريّين ، فلمَّا كانت هنالك مفسدة مترتِّبة على ذلك وقع النهي.

خامساً : أمَّا حديث الطبراني فيحتاج إلى مراجعة ، فلم يستعفني الوقت للوقوف عليه وعلى صحّته آمل أن تتأمَّل جوابي جيّداً ليتضح لك الحقّ بإذن اللّه.

العاملي : أرجو أن تصحِّح ما هو المركوز في ذهنك من أن الزيارة تلازم التوسُّل والاستغاثة ، وأن شدَّ الرحال يكون للاستغاثة ، فلا تلازم بينها أبداً ، وإذا أكملنا البحث في التوسُّل آتي لك بنصوص الزيارة بلا توسُّل ، وهذا اليوم قرأت لإمامك ابن تيمية مجدَّداً كل مقولاته حول التوسُّل ، وعن حديث عثمان بن حنيف عن الضرير ، وعن حديث عثمان بن حنيف الآخر الذي صحَّحه الطبراني .. فقد تعرَّض لذلك في كتبه وكتيِّباته التالية : العبادات عند القبور ، وزيارة القبور ، والتوسُّل والوسيلة ، واقتضاء الصراط المستقيم ، ورسالة من سجنه ، وخلاصة رأيه أنه يفسِّر حديث الأعمى بأنَّه توسُّل بدعاء الرسول صلی اللّه علیه و آله لا بذاته ، ويحصره في حياته لا بعد مماته.

ص: 291

قال في التوسُّل والوسيلة ص 265 : وفي الجملة فقد نقل عن بعض السلف والعلماء السؤال به ، بخلاف دعاء الموتى والغائبين من الأنبياء والملائكة والصالحين ، والاستغاثة بهم ، والشكوى إليهم ، فهذا مما لم يفعله أحد من السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، ولا رخَّص فيه أحد من أئمّة المسلمين. وحديث الأعمى الذي رواه الترمذي هو من القسم الثاني من التوسُّل بدعائه.

وقال في ص 268 : وفيه قصة قد يحتجّ بها من توسَّل به بعد موته إن كانت صحيحة ، رواه من حديث إسماعيل ابن شبيب بن سعيد الحبطي ، عن شبيب بن سعيد ، عن روح بن القاسم ، عن أبي جعفر المديني ، عن أبي أمامة سهل بن حنيف : أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له ، وكان عثمان لا يلتفت إليه ، ولا ينظر في حاجته ، فلقي الرجل عثمان بن حنيف فشكا إليه ذلك ، فقال له عثمان ابن حنيف : ائت الميضأة فتوضَّأ ، ثمَّ ائت المسجد فصلِّ ركعتين ، ثمَّ قل : اللّهم إني أسألك وأتوجَّه إليك بنبيِّنا محمَّد نبيِّ الرحمة ، يا محمّد! إني أتوجَّه بك إلى ربي ... إلخ.

قال البيهقي : ورواه أحمد بن شبيب بن سعيد عن أبيه بطوله ، وساقه من رواية يعقوب بن سفيان عن أحمد بن شبيب بن سعيد ، قال : ورواه أيضاً هشام الدستوائي عن أبي جعفر ... إلخ (1). انتهى.

ثمَّ ناقش ابن تيمية في سند الحديث ، ولم يفتِ بالتوسُّل بالنبيِّ صلی اللّه علیه و آله بعد وفاته .. إلخ.

وقال - يعني ابن تيمية - في ص 276 : وأمَّا حقوق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - بأبي

ص: 292


1- راجع : المعجم الكبير ، الطبراني : 9 / 31 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 2 / 279.

هو وأمي - مثل تقديم محبّته على النفس والأهل والمال ، وتعزيره وتوقيره وإجلاله ، وطاعته واتّباع سنته ، وغير ذلك ، فعظيمة جداً ، وكذلك مما يشرع التوسُّل به في الدعاء ، كما في الحديث الذي رواه الترمذي وصحَّحه : أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله علَّم شخصاً أن يقول : اللّهم إني أسألك وأتوسَّل إليك بنبيِّك محمَّد نبيِّ الرحمة ، يا محمّد! يا رسول اللّه! إني أتوسّل بك إلى ربّي في حاجتي ليقضيها ، اللّهم فشفِّعه فيَّ. فهذا التوسُّل به حسن.

وأمَّا دعاؤه والاستغاثة به فحرام ، والفرق بين هذين متفق عليه بين المسلمين المتوسِّل إنّما يدعو اللّه ويخاطبه ويطلب منه ، لا يدعو غيره إلاَّ على سبيل استحضاره ، لا على سبيل الطلب منه ، وأمَّا الداعي والمستغيث فهو الذي يسأل المدعوَّ ويطلب منه ، ويستغيثه ويتوكَّل عليه ، واللّه هو ربُّ العالمين. انتهى.

وأنت تلاحظ أنه عبَّر هنا بالتوسُّل به ، وليس بدعائه ، كما أنه لم يخصِّصه بحال حياته ، بل ذكر ذلك من حقوقه والاعتقاد به فعلا!!

العاملي : لقد تشعَّب الموضوع بمداخلات الآخرين ... وقد سألتك عن شدِّ الرحال لأثبت لك تناقض فتاوى ابن تيمية فيها ، وسأترك مطالبتك بالجواب فعلا ، وأجيبك عن التوسُّل والاستشفاع ، ومعناهما عندنا وعندكم واحد ، فالتوسُّل الجائز عند إمامكم هو التوسُّل بدعاء النبيِّ صلی اللّه علیه و آله في حياته فقط ، ومعناه أنه الآن لا يجوز حتى بدعائه ، كما لا تجوز مخاطبته ; لأنه ميِّت.

أمَّا عندنا فالتوسُّل جائز ومستحب بالنبيِّ وآله صلی اللّه علیه و آله ، بذاته الشريفة ، وكل صفاته الربَّانية ، ومقامه المحمود ، وكذا مخاطبته والطلب منه أن يدعو ربَّه ، أو يشفع إلى ربِّه في الحاجة أو الجنّة ... كل ذلك جائز ، وبعضه مستحب ، ولا فرق عندنا في ذلك بين حياته وبعد وفاته ; لأنه حيٌّ عند ربِّه ، يسمع كلامنا بإذن ربِّه ،

ص: 293

إلاَّ أن يحجب اللّه كلام من لا يحبُّه عنه.

وهذا التوسُّل ليس فيه أيُّ شائبة شرك ; لأنَّا نعتقد أنه عبد اللّه ورسوله ، ليس له من الأمر شيء إلاَّ ما أعطاه اللّه ، ولا يملك شياً من دون اللّه ، بل كل ما يملكه فهو من اللّه تعالى ، وطلبنا منه وتوسُّلنا به ليس دعاء له من دون اللّه ، بل هو دعاء اللّه وطلب من اللّه وحده ، والطلب من الرسول أن يكون واسطة وشفيعاً إلى ربِّه.

ودليلنا على ذلك : الآيات والأحاديث الصحيحة التي أجازته وحثَّت عليه .. وقد أشرت لك إلى أننا لم نخترع ذلك من عندنا ، ولا عندنا هواية لأن نضمَّ إلى الطلب من اللّه مباشرة الطلب منه تعالى بواسطة ، ولا الأمر إلينا حتى نختار هذا الأسلوب في دعائنا وعبادتنا أو ذاك ... بل الأمر كلُّه له عزَّ وجلَّ ، وقد قال لنا : ( اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ ) (1) ، وقال : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ) (2) ، وقال : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ) (3) ، وقال عن أبناء يعقوب : ( يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ) (4) ، كما روينا ورويتم الأحاديث الصحيحة الدالّة في رأي علماء المذاهب ومذهبنا.

فهل إشكالكم علينا لأنا نطيع ربَّنا ، ونتّبع الواسطة والوسيلة التي أمرنا بها ، ولا نتفلسف عليه ونقول له : نريد أن ندعوك مباشرة ، فلا تجعل بيننا وبينك واسطة؟! لقد أمر عزَّ وجلَّ رسوله صلی اللّه علیه و آله أن يكون موحِّداً بلا شروط ، ويطيعه

ص: 294


1- سورة المائدة ، الآية : 35.
2- سورة الإسراء ، الآية : 57.
3- سورة النساء ، الآية : 64.
4- سورة يوسف ، الآية : 97.

مهما أمره حتى لو قال له : لقد اتَّخدت ولداً لي فاعبده!!

( قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ) (1).

ولكنه سبحانه أخبرنا أنه لم يتّخذ صاحبة ولا ولداً ، لكن أخبرنا أنه جعل رسوله صلی اللّه علیه و آله وآله شفعاء إليه ، وأمرنا أن نتوسَّل بهم ونستشفع بهم في الدنيا والآخرة.

أمَّا نسبتي إلى ابن تيمية تجويز التوسُّل في سجنه ، فلم تكن افتراء والعياذ باللّه ، بل اعتمدت على عبارته المتقدِّمة في سجنه ، وكذلك اعتمد عليها السبكي في كتابه ( شفاء السقام في زيارة خير الأنام ) ، وأبو حامد المرزوق في كتابه ( التوسل بالرسول صلی اللّه علیه و آله وجهلة الوهابية ) .. وغيرهما كثير ، وذكر عنه ابن كثير أصرح منهما ، ولا أقول إن هؤلاء العلماء قد افتروا عليه ، فهم من أهل البحث والدقّة .. ولكنّهم اعتمدوا على تلك العبارات المجملة التي كتبها! ونحن الشيعة حسَّاسون من كل ما يكتب بالإكراه أو شبه الإكراه ، ولا نقول بصحّة نسبة الرأي الصادر من صاحبه في ظروف الإكراه وشبهه .. ونفتي ببطلان البيع المكره عليه ، وكذا البيعة.

لذلك بعد قراءتي الشاملة لما كتبه في الموضوع قلت : إن ابن تيمية لم يجوِّز التوسُّل ، رغم عبارته المذكورة. ولكني لا أوافقه على رأيه ; لأن دليل علماء المذاهب أقوى من دليله .. ثمَّ دليلنا في اعتقادي أقوى من أدلّة علماء المذاهب .. وشكراً.

صارم : سؤالي : لماذا تشدُّ الرحال إلى القبور؟ فأجبت للاستشفاع! لماذا

ص: 295


1- سورة الزخرف ، الآية : 81.

تستشفع بهم؟ فأجبت لأن لي ذنوباً!! ما الذي يعمله الميِّت لك أرجو أن تجيب بصراحة عن هذا السؤال وبلا إطالة.

العاملي : كان سؤالك : لماذا تشدُّ الرحال إلى القبور؟ وجوابه : أننا نشدُّ الرحال لزيارة من ثبت عندنا استحباب زيارته كالنبيِّ وأهل بيته صلَّى اللّه عليه وعليهم .. فالغرض لنا ولكل المسلمين من شدِّ الرحال والسفر هو الزيارة ، وقد لا يعرف بعضهم الاستشفاع أبداً ، بل يقول : أنا ذاهب لزيارة النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، وقد يستشفع بهم الزائر وقد لا يستشفع ، بل يسلِّم عليه ويصلّي عنده ويدعو اللّه تعالى بدون استشفاع.

وسألتني : لماذا تستشفع بهم؟ فضربت لك مثلا في طلب شفاعتهم بالمغفرة ، وأضيف هنا : أن النبيَّ صلوات اللّه عليه وآله له مقام عظيم ، أكرمه به ربُّه في الدنيا والآخرة ، ومن إكرامه له أن المسلم إذا طلب من ربِّه حاجة مستشفعاً به ، وكانت مستجمعة للشروط الأخرى قضاها له.

فالتوسّل والاستشفاع طلب من اللّه تعالى وحده بجاه نبيِّه ، وليس طلباً من النبيِّ الذي هو مخلوق مثلنا ، ليس له من الأمر شيء إلاَّ ما أعطاه اللّه.

وسألت : ما الذي يعمله الميِّت لك؟ وجوابه أن النافع الضارَّ هو اللّه تعالى وحده لا شريك له ، والميِّت والحيُّ وكل المخلوقات لا تملك لي ولا لأنفسها نفعاً ولا ضرّاً ، إلاَّ ما ملَّكها اللّه تعالى .. ومن اعتقد بأن أحداً له بنفسه ذرّة من ذلك فهو مشرك باللّه تعالى.

ولكن اللّه تعالى هو الذي جعل هذا المقام لنبيِّه صلی اللّه علیه و آله ، وأمرنا بأن نبتغي إليه الوسيلة بالعمل ، وبتشفيع رسوله صلی اللّه علیه و آله في حاجاتنا في الدنيا والآخرة.

ومع الأسف إن بعضكم ما زال يتصوَّر أن شدَّ الرحال إنما تكون بنيَّة

ص: 296

الاستشفاع والتوسُّل ، وأن الاستشفاع والتوسُّل طلب من النبيِّ ودعاء له بدل اللّه تعالى!! ونعوذ باللّه من ذلك ، ونعوذ به ممن يتّهم المسلمين بذلك بدون دليل!!

صارم : معذرة لتأخُّري ، وأعود مرّة أخرى لموضوعنا وأقول : هل لك أن تفرِّق بين فعل الشيعة وبين فعل المشركين في جاهليّتهم عند قبورهم؟

فالمشركون يقرُّون بالربوبيَّة ، وإنما كفروا بتعلُّقهم بالملائكة والأنبياء لأنهم يقولون : ( هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ) (1) ، أرجو أن تفرِّق لي باختصار ، تحيَّاتي لك.

العاملي : الكفَّار والمشركون اتّخذوا آلهة وأولياء من دون اللّه تعالى ، والضالّون اتّخذوا إليه وسيلة من دونه ، لم يأمر بها ولم ينزِّل بها سلطاناً ، أمَّا نحن فنوحِّده ونطيعه ، ونبتغي إليه الوسيلة التي أمرنا بها وهي محمّد وآل محمّد صلوات اللّه عليهم ، والذين ينتقدوننا لم يفرِّقوا في موضوع التوسُّل والشفاعة بين ما هو من اللّه تعالى وما هو من دونه!! وفي الفرق بينهما يكمن الكفر والإيمان والهدى والضلال.

انتهت المناقشة ، ولم يجب بعد ذلك المدعوُّ صارم (2).

الردّ الصارم على مزاعم صارم

قال صارم في ردّه على العاملي حفظه اللّه تعالى في حرمة الاستشفاع : ولو كان الاستشفاع فيما ذكرته صحيحاً للجأ الناس إلى النبيِّ صلی اللّه علیه و آله وهو في قبره ، وهذا ما لم يحصل إطلاقاً ، وأعود وأسأل مرَّة أخرى : ما الذي يستطيع عمله

ص: 297


1- سورة يونس ، الآية : 18.
2- العقائد الإسلامية ، مركز المصطفى : 4 / 481 - 505.

الميِّت حينما تستشفع به؟

أقول : هذه الدعوى من المدعو صارم غير صحيحة ، وقد ثبت من الأحاديث والروايات أن جملة من الصحابة وغيرهم كانوا يفدون على قبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ويستشفعون به إلى اللّه تعالى ، ويتبرَّكون بترابه الطاهر ، فقد كان بعض الصحابة يأتي قبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ويضع وجهه على القبر الشريف ، وهو نوع من الاستشفاع والتبرك بصاحب القبر ، وإلاَّ لما كان لهذا الفعل وجهٌ. وبعضهم يحثو على رأسه من تراب القبر ، وقد كانت فاطمة الزهراء علیهاالسلام تزوره ، وتبكي عنده ، وتشمُّ ترابه الطاهر ، وقد كان بعض التابعين يدعو اللّه وهو مستقبل لقبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وإليك جملة من هذه النصوص وبعض أقوال علمائهم في ذلك :

1 - روى ابن السمعاني في الذيل ، بالإسناد عن أبي صادق ، عن علي ابن أبي طالب علیه السلام قال : قدم علينا أعرابي بعد ما دفنّا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بثلاثة أيام ، فرمى بنفسه على قبر النبي صلی اللّه علیه و آله ، وحثا من ترابه على رأسه ، وقال : يا رسول اللّه! قلت فسمعنا قولك ، ووعيت عن اللّه فوعينا عنك ، وكان فيما أنزل اللّه عليك : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رحِيماً ) (1) ، وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي ، فنودي من القبر : إنه قد غفر لك (2).

ص: 298


1- سورة النساء ، الآية : 64.
2- 2 - كنز العمال ، المتقي الهندي : 2 / 385 - 386 ح 4322 و 4 / 258 - 259 ح 10422 ، قال الشيخ الأميني عليه الرحمة عن هذا الحديث في كتابه القيِّم الغدير : 5 / 148 : أخرجه : 1. الحافظ أبو سعيد عبدالكريم السمعاني المتوفَّى 573. 2. الحافظ أبو عبداللّه بن نعمان المالكي المتوفَّى 683 في مصباح الظلام. 3. أبو الحسن علي بن إبراهيم بن عبداللّه الكرخي. 4. الشيخ شعيب الحريفيش المتوفّى 801 في « الروض الفائق » 2 ص 5137. 5. السيِّد نور الدين السمهودي المتوفَّى 911 في « وفاء الوفاء » 2 ص 412.

2 - روى الحاكم بالإسناد عن داود بن أبي صالح ، قال : أقبل مروان يوماً فوجد رجلا واضعاً وجهه على القبر ، فأخذ برقبته وقال : أتدري ما تصنع؟ قال : نعم ، فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب الأنصاري ( رضي اللّه عنه ) ، فقال : جئت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولم آت الحجر ، سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ، ولكن أبكوا عليه إذا وليه غير أهله. قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (1).

3 - أخرج القاضي عياض بإسناده عن ابن حميد ، قال : ناظر أبو جعفر أميرالمؤمنين مالكاً في مسجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فقال له مالك : يا أميرالمؤمنين! لا ترفع صوتك في هذا المسجد ، فإن المسجد ، فإن اللّه تعالى أدَّب قوماً فقال : ( لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) الآية (2) ، ومدح قوماً فقال : ( إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ ) الآية (3) ، وذمَّ قوماً فقال : ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ) الآية (4) ، وإن حرمته ميِّتاً كحرمته حيّاً.

فاستكان لها أبو جعفر وقال : يا أبا عبداللّه! أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟ فقال : ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك

ص: 299


1- المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 4 / 515 ، مسند أحمد بن حنبل : 5 / 422 ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 57 / 249 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 5 / 245 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 6 / 88 ح 14967.
2- سورة الحجرات ، الآية : 2.
3- سورة الحجرات ، الآية : 3.
4- سورة الحجرات ، الآية : 4.

آدم علیه السلام إلى اللّه تعالى يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعك اللّه تعالى ، قال اللّه تعالى : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ ) الآية (1).

4 - قال العزّ بن جماعة الحموي الشافعي ( المتوفَّى 819 ) في كتاب العلل والسؤالات لعبد اللّه بن أحمد بن حنبل عن أبيه ، رواية أبي علي بن الصوف عنه ، قال عبداللّه : سألت أبي عن الرجل يمسُّ منبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ويتبَّرك بمسِّه ، ويقبِّله ، ويفعل بالقبر مثل ذلك رجاء ثواب اللّه تعالى ، قال : لا بأس به (2).

قال الشيخ الأميني عليه الرحمة : قال الإمام القدوة ابن الحاج محمّد بن محمّد العبدري القيرواني المالكي ( المتوفَّى 737 ) في المدخل في فضل زيارة القبور ج 1 ص 257 : وأمَّا عظيم جناب الأنبياء والرسل - صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين - فيأتي إليهم الزائر ، ويتعيَّن عليه قصدهم من الأماكن البعيدة ، فإذا جاء إليهم فليتّصف بالذلّ والانكسار والمسكنة والفقر والفاقة والحاجة والاضطرار والخضوع ، ويحضر قلبه وخاطره إليهم ، وإلى مشاهدتهم بعين قلبه لا بعين بصره.

إلى أن قال : فالتوسُّل به - عليه وآله الصلاة والسلام - هو محلُّ حطِّ أحمال الأوزار ، وأثقال الذنوب والخطايا ; لأن بركة شفاعته - عليه وآله الصلاة والسلام - وعظمها عند ربِّه لا يتعاظمها ذنب ; إذ أنها أعظم من الجميع ، فليستبشر من زاره ، وليلجأ إلى اللّه تعالى بشفاعة نبيِّه صلی اللّه علیه و آله من لم يزره ، اللّهم لا تحرمنا من شفاعته بحرمته عندك ، آمين ربَّ العالمين ، ومن اعتقد خلاف هذا فهو المحروم ،

ص: 300


1- الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلی اللّه علیه و آله ، القاضي عياض : 2 / 41 ، الغدير ، الأميني : 5 / 135.
2- الغدير ، الأميني : 5 / 150 ، عن كتاب وفاء الوفاء ، السمهودي : 2 / 443.

ألم يسمع قول اللّه عزَّ وجلَّ : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ) الآية؟ فمن جاءه ووقف ببابه وتوسَّل به وجد اللّه توَّاباً رحيماً ، لأن اللّه منزَّه عن خلف الميعاد ، وقد وعد سبحانه وتعالى بالتوبة لمن جاءه ووقف ببابه ، وسأله واستغفر ربَّه ، فهذا لا يشك فيه ولا يرتاب إلاَّ جاحد للدين ، معاند لله ولرسوله صلی اللّه علیه و آله ، ونعوذ باللّه من الحرمان (1).

كلام الصالحي الشامي في مشروعيَّة زيارة النبيِّ صلی اللّه علیه و آله

قال الصالحي الشامي في كتابه سبل الهدى والرشاد : الباب الثاني في الدليل على مشروعيَّة السفر وشدِّ الرحل لزيارة سيِّدنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، استدلَّ العلماء على مشروعيَّة زيارته وشدِّ الرحل لذلك بالكتاب ، والسنَّة ، والإجماع ، والقياس.

أما الكتاب فقوله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رحِيماً ) (2) ، وجه الدلالة من هذه الآية مبنيٌّ على شيئين :

أحدهما : أن نبيَّنا صلی اللّه علیه و آله حيٌّ كما يثبت ذلك في بابه.

الثاني : أن أعمال أمته معروضة عليه كما يثبت ذلك في بابه.

فإذا عرف ذلك فوجه الاحتجاج بها حينئذ أن اللّه تعالى أخبر أن من ظلم نفسه ، ثمَّ جاء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فاستغفر اللّه تعالى ، واستغفر له الرسول صلی اللّه علیه و آله فإنه

ص: 301


1- الغدير ، الشيخ الأميني : 5 / 111 - 112.
2- سورة النساء ، الآية : 64.

يجد اللّه تواباً رحيماً ، وهذا عام في الأحوال والأزمان ; للتعليق على الشرط ، وبعد تقرير أن نبيِّنا صلی اللّه علیه و آله بعد موته عارف بمن يجيء إليه ، سامع الصلاة ممن يصلي عليه ، وسلام من يسلِّم عليه ، ويردُّ علیه السلام ، فهذه حالة الحياة ، فإذا سأله العبد استغفر له ; لأن هذه الحالة ثابتة له في الدنيا والآخرة ، فإنه شفيع المذنبين ، وموجبها في الدارين الحياة والإدراك مع النبوَّة.

وهذه الأمور ثابتة له في البرزخ أيضاً ، فتصحُّ الدلالة حينئذ وفاء بمقتضى الشرط.

وقد استدلَّ الإمام مالك على ذلك بهذه الآية كما ذكرته في باب مشروعيّة التوسُّل به صلی اللّه علیه و آله .

وحكى المصنِّفون في المناسك من أرباب المذاهب عن أبي عبد الرحمن محمّد بن عبيد اللّه بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب العتبي ، أحد أصحاب سفيان بن عيينة ، قال : دخلت المدينة ، فأتيت قبر النبيِّ صلی اللّه علیه و آله فزرته وجلست بحذائه ، فجاء أعرابي فزاره ، ثمَّ قال : يا خير الرسل ; إن اللّه تعالى أنزل عليك كتاباً صادقاً قال فيه : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رحِيماً ) وإني جئتك مستغفراً من ذنبي ، مستشفعاً بك إلى ربّي ، ثمَّ بكى وأنشد :

يَا خَيْرَ مَنْ دفِنَتْ بِالْقَاع أَعْظُمُهُ *** فَطَابَ مِنْ طِيْبِهِنَّ الْقَاعُ وَالأُكُمُ

نَفْسِي الفِدَاءُ لِقَبر أَنْتَ سَاكِنُهُ *** فِهِ العَفَافُ وَفِيهِ الجُودُ وَالْكَرَمُ

ثمَّ استغفر وانصرف.

قال العتبي : فرقدت فرأيت النبيَّ صلی اللّه علیه و آله في النوم وهو يقول : الحق الأعرابي ، وبشِّره بأن اللّه غفر له بشفاعتي ، فأستيقظت فخرجت أطلبه فلم أجده.

ص: 302

ورويت هذه القصة من غير طريق العتبي ، رواها ابن عساكر في ( تأريخه ) وابن الجوزي في ( الوفاء ) عن محمّد بن حرب الهلالي.

وقد خمَّس هذه الأبيات جماعة منهم الشيخ أبو عبداللّه محمّد بن أحمد الأقفسهي.

وروى الحافظ ابن النعمان في ( مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام ) من طريق الحافظ ابن السمعاني ، بسنده عن علي علیه السلام قال : قدم علينا أعرابي بعدما دفنّا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بثلاثة أيام ، فرمى نفسه على القبر الشريف ، وحثا من ترابه على رأسه ، وقال : يا رسول اللّه! قلت فسمعنا قولك ، ووعيت عن اللّه تعالى ووعينا عنك ، وكان فيما أنزل عليك ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رحِيماً ) وقد ظلمت نفسي ، وجئتك تستغفر لي ، فنودي من القبر : إنه قد غفر لك.

والآية دالّة على الحثّ على المجيء إلى الرسول صلی اللّه علیه و آله ، والاستغفار عنده ، واستغفاره لهم ، وهذه رتبة لا تنقطع بموته صلی اللّه علیه و آله ، والعلماء ( رضي اللّه عنه ) فهموا من الآية العموم بحالتي الموت والحياة ، واستحبُّوا لمن أتى القبر الشريف أن يتلوها ويستغفر اللّه تعالى.

وأمَّا السنة فما ذكر في الكتب وما ثبت من خروج النبي صلی اللّه علیه و آله من المدينة لزيارة قبر الشهداء ، وإذا ثبت أن الزيارة قربة فالسفر كذلك ، وإذا جاز الخروج للقريب جاز للبعيد ، وحينئذ فقبره صلی اللّه علیه و آله أولى.

وقد وقع الإجماع على ذلك ; لإطباق السلف والخلف ، قال القاضي عياض : زيارة قبر النبيّ صلی اللّه علیه و آله سنَّة بين المسلمين ، ومجمع عليها ، وفضيلة مرغَّب فيها ، وأجمع العلماء على زيارة القبور للرجال والنساء كما حكاه النووي ، بل

ص: 303

قال بعض الظاهريَّة بوجوبه ، واختلفوا في النساء ، وقد امتاز القبر الشريف بالأدلّة الخاصة به كما سبق.

قال السبكي : ولهذا أقول : لا فرق بين الرجال والنساء وأمّا القياس فعلى ما ثبت من زيارته صلی اللّه علیه و آله لأهل البقيع وشهداء أحد ، وإذا استحب زيارة قبر غيره فقبره صلی اللّه علیه و آله أولى ; لما له من الحقّ ووجوب التعظيم ، وليست زيارته إلاَّ لتعظيمه والتبرُّك به ، ولتنالنا الرحمة بصلاتنا وسلامنا عليه عند قبره بحضرة الملائكة الحافّين به ، وذلك من الدعاء المشروع له .. إلخ.

وقال : الباب الثالث في الردّ على من زعم أن شدَّ الرحل لزيارته صلی اللّه علیه و آله معصية ، قد تقدَّم أنه انعقد الإجماع على تأكُّد زيارته.

إلى أن قال : قال العلامة زين الدين المراغي : وينبغي لكل مسلم اعتقاد كون زيارته صلی اللّه علیه و آله قربة ; للأحاديث الواردة في ذلك ، ولقوله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ) الآية ، لأن تعظيمه صلی اللّه علیه و آله لا ينقطع بموته ، ولا يقال إن استغفار الرسول صلی اللّه علیه و آله لهم إنما هو في حال حياته ، وليست الزيارة كذلك ; لما قد أجاب به بعض أئمّة المحقِّقين من أن الآية دلَّت على تعليق وجدان اللّه توّاباً رحيماً بثلاثة أمور : المجيء ، واستغفارهم ، واستغفار الرسول صلی اللّه علیه و آله لهم ، وقد حصل استغفار الرسول لجميع المؤمنين ; لأنه صلی اللّه علیه و آله قد استغفر للجميع ، قال اللّه تعالى : ( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) (1) فإذا وجد مجيئهم واستغفارهم تكاملت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة اللّه تعالى ورحمته.

ومشروعيَّة السفر لزيارة قبر النبيِّ صلی اللّه علیه و آله قد ألَّف فيها الشيخ تقي الدين

ص: 304


1- سورة محمّد ، الآية : 19.

السبكي ، والشيخ جمال الدين بن الزملكاني ، والشيخ داود أبو سليمان المالكي ، وابن جملة ، وغيرهم من الأئمّة ، وردُّوا على عصريِّهم الشيخ تقي الدين بن تيمية ، فإنه قد أتى في ذلك بشيء منكر لا تغسله البحار ، واللّه وليُّ التوفيق ، ربُّ السماوات والأرض وما بينهما ، العزيز الغفَّار (1).

قول صارم : وأسأل مرَّة أخرى : ما الذي يستطيع عمله الميِّت حينما تستشفع به؟

أقول : ( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ) (2) ، أيقال في حق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هذه الكلمة ، وهو الذي يسلِّم عليه كل مسلم في صلاته خمس مرَّات في اليوم والليلة؟! فإذا كان بموته لا ينتفع منه فلماذا إذن نسلِّم عليه ونصلّي عليه؟ وصارم يعلم جيِّداً نحن لا نستشفع إلاَّ بالأنبياء والأولياء ، وحتى لو كانوا موتى فإنهم مقرَّبون عند اللّه تعالى ولهم شأن عظيم ، وبموتهم لا ينقطع هذا الشأن وهذا القرب من اللّه تعالى ، فليست منزلة الشهداء عند اللّه تعالى بأرفع مقاماً عند اللّه منهم ، أو أكثر جاهاً منهم ، وقد أثبت لهم الحياة عنده تعالى.

وقد درج هذا الفكر المتخلِّف على الاستهانة بالأنبياء والأولياء ، وأنهم إذا ماتوا لا ينتفع أحد منهم لابدعاء ولا استشفاع وما شاكل ذلك ، وما هذا إلاَّ استخفافاً بالدين باسم التوحيد ، وتنقيته من شائبة الشرك ، ولعمري إذا جاز التوسُّل بالحيِّ جاز أيضاً بالنسبة للميِّت ; إذ أنه يتوسَّل به لشأنه وجاهه ومنزلته عند اللّه تعالى ، وهي حاصلة عنده أيضاً بعد الموت بلا فرق.

ص: 305


1- سبل الهدى والرشاد ، الصالحي الشامي : 12 / 380 - 384.
2- سورة الكهف ، الآية : 5.

فما تمثَّل به صارم من فعل الخليفة عمر بن الخطاب ، وأنه توسَّل بالعباس عمِّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأنه لم يتوسّل بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله لأنه ميِّت ، واستدلَّ به على عدم جواز التوسُّل بالموتى فنقول :

أولا : عدم فعل الخليفة عمر أو فعله للشيء ليس بحجَّة شرعيّة.

ثانياً : سيرة المسلمين - إلاَّ من شذ منهم - قائمة على عدم التفريق في التوسّل والاستشفاع بالأنبياء ، سواء في حال حياتهم أو بعد موتهم ، بلا فرق في ذلك عندهم ، وإلاَّ لو كانوا يفرِّقون بين الموت والحياة لظهر ذلك في كلمات الأعلام وغيرهم ، وما يدَّعى أن التوسُّل بهم كان جائزاً في حياتهم ، وما بعد موتهم يكون شركاً فهذا خطل في القول ; إذ لو كان التوسُّل بهم شركاً في حال موتهم فلا يفرَّق بين الحياة والموت ; إذ الشيء لا ينقلب عمَّا هو عليه.

ص: 306

من مناظرات المستبصرين

المناظرة السابعة والخمسون: مناظرة الشيخ محمّد مرعي الأنطاكي مع جماعة من أهل السنّة

قال الشيخ محمّد مرعي الأنطاكي رحمه اللّه : وفي الليلة الخامسة من شهر رمضان المبارك سنة 1371 ه- ، بينما أنا مشتغل في مكتبتي بكتابة كتاب : ( الشيعة وحجّتهم في التشيُّع ) إذ وفد عليَّ جماعة يبلغ عددهم نحو خمسة عشر شخصاً ، أو أكثر ، وفيهم العلماء وغير العلماء ، فتلقَّيتهم بالترحاب ، وبصدر رحب ، وقلب ملؤه السرور ، وما إن اطمأنَّ بهم الجلوس حتى فاتحوني بالبحث العلميّ ، يريدون الإيضاح عن مذهب الشيعة ، وعن اعتقادهم في الخلافة ، وما يدور حولها.

فبادرت إلى الجواب ، وهم صامتون يصغون إلى ما أورد عليهم من الأدلّة الواضحة ، والحجج القاطعة ، والبراهين الساطعة ، القائمة لدينا ولديهم حتى مضى علينا أكثر من ثلثي الليل ، وبعد انتهائنا من البحث قاموا ، فمنهم الشاكر ،

ص: 307

ومنهم المنكر.

ومن جملة ما أفدت عليهم ، قلت : لا شك في أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله كان يعلم أن أمّته الجديدة القريبة العهد بالإسلام ، وما هي عليه من الرغبة في الخلافة ، ويعلم أنه سينقلب الكثير منهم على الأعقاب (1) ، ولا يسلم منهم إلاَّ مثل همل النعم (2) عند ورودهم على الحوض - كما جاء في البخاري في حديث الحوض (3) ، ويعلم علم اليقين أن أصحابه كانوا يضمرون الشرَّ لوصيِّه وخليفته من بعده علي علیه السلام ، وأنهم فور موته يحدثون حدثاً.

إذن ، فلابد أن يكون قد وضع للخلافة حلاًّ لها ، يوقف من تدعوه نفسه إلى الخلافة ، ولا يخفى عليه أمر أصحابه ، إذ أنه قد سبرهم ، وعرف المستقيم منهم والملتوي ، وهو القائل لهم : ستتبعون سنن من قبلكم شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه (4) ، وكان شيخنا العلامة الشيخ ( أحمد أفندي الطويل الأنطاكي ) يرويه لنا في أثناء الدرس ، وعلى المنبر ، ويقول في ختام الحديث : ولو جامع أحدهم امرأته في السوق لفعلتموه!! وهو القائل : من

ص: 308


1- قال تعالى في سورة آل عمران ، الآية : 144 : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ) .
2- قال ابن الأثير في النهاية : 5 / 274 : في حديث الحوض : ( فلا يخلص منهم إلاَّ مثل همل النعم ) الهمل : ضوالّ الإبل ، واحدها هامل ; أي إن الناجي منهم قليل في قلّة النعم الضالّة.
3- صحيح البخاري : 7 / 208 - 209.
4- صحيح البخاري : 4 / 144 - 145 و 8 / 151 ، صحيح مسلم : 8 / 57 ، صحيح ابن حبان : 15 / 95 ، مسند أحمد بن حنبل : 2 / 327 و 511 ، المستدرك ، الحاكم : 4 / 455 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 7 / 261.

لم يعرف إمام زمانه ، مات ميتة جاهلية (1) أي كفر.

إذن ، فلابد أن يضع للخلافة حلاًّ يوقفهم عند حدِّهم ، ونحن ما دمنا نعتقد أنه نبيٌّ مرسل من اللّه ، ويعلم أنه الذي ختم الرسل ، وأن رسالته مستمرة إلى آخر الدنيا ، فلا يبقى له أن يترك أمّته فوضى مع علمه أنها ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كما في الحديث (2).

هذا ودعوى إيكال أمر الخلافة إلى الأمة باطلة لأمور :

أوّلا : إن أهل الحلِّ والعقد ، أو الانتخاب ، أو ذوي الشورى لا يتمُّ الأمر بما أوكل إليهم إلى مدى الدهر ، بل هو عين إيقاع الأمة في الفوضى التي توقع الأمة في هوَّة ساحقة لا حدَّ لها ولا قرار ، لهذا نرى الأمّة لا زالت تمخر في بحور من الدماء من ذلك اليوم إلى يومنا هذا ، ثمَّ إلى انتهاء حياة البشر يوم البعث والنشور.

ثانياً : مما لا خفاء فيه أن الناس مختلفون في معتقداتهم ، ومتباينون في آرائهم ، ونرى أنه لا يتفق اثنان في الرأي ، بل الانسان نفسه لا يتفق له أن يستمرَّ على رأي دائم ، بل يتقلَّب رأيه في كل لحظة ، فكيف يمكن أن يكون الأمر موكولا إلى أهل الحلِّ والعقد؟! وهذا يأباه العقل والوجدان.

ثالثاً : يستحيل أن يحصل الاتفاق بإيكال الأمر إلى أهل الحلِّ والعقد ، فلابدَّ من وقوع اضطراب شديد بين الشعوب والقبائل ، ووقوع القتل والسلب والنهب ، وغيرها ممّا هو موجود ، كما هو موجود في كل عصر ومصر ، ولم يمكن لرئيس أن يتمَّ على يده نظام حياة الإنسان إلاَّ بالقوَّة القاهرة ، وهذه مؤقَّتة زائلة ،

ص: 309


1- راجع : شرح النهج لابن أبي الحديد : 9 / 155 و 13 / 242. وسوف يأتي الحديث نفسه أيضاً مع مصادر أخرى.
2- سوف يأتي مع تخريجاته.

ومتى زالت رجع كل واحد إلى ما كان عليه من الأعمال الضارّة بالسكان.

لهذا قلنا مكرَّراً : إن اللّه لا يدع أمراً من أمور الدين للأمَّة تتجاذبه أهواؤهم ، بل لابدَّ من أن يوكل الأمر إلى أربابه ممن له أهليّة كاملة في العلم الغزير الذي كان عند الرسول صلی اللّه علیه و آله (1) ، والشجاعة ، والحكم ، والكرم ، والزهد ، والتقى ، والفراسة ، والإعجاز ، وأهمُّها العصمة ، وغير ذلك مما يكون الوصيُّ الذي يقوم مقام الرسول في حاجة إليه في إدارة دفّة الحكم ، وهذا لا يمكن أن يتمكَّن منه أحد إلاَّ اللّه العالم بما تكنُّه الصدور ، ويعلم السرَّ وأخفى ، والرسول صلی اللّه علیه و آله قد بيَّن بصراحة في كل مناسبة أن الوصيَّ والخليفة من بعده : علي علیه السلام .

كما وإن هناك أدلّة كثيرة أخرى ترشدك إلى ما تقوم به الحجة ، زيادة على ما قدَّمنا ، مما هو ثابت لدنيا معاشر الشيعة ، والكتاب والسنة بُنيتا على ذلك.

ثمَّ استحسن جميعهم ما أفدت عليهم ، وطلبوا مني بعض مؤلَّفات الشيعة ، فأعطيتهم بعض ما كانت عندي ، فقاموا وحمدوا اللّه تعالى على هذه النعمة (2).

ص: 310


1- قال الأنطاكي في الهامش : كحديث : أنا مدينة العلم وعلي بابها.
2- لماذا اخترت مذهب أهل البيت علیهم السلام ، الأنطاكي : 450 - 453.

المناظرة الثامنة والخمسون: مناظرة الدكتور التيجاني مع طه المصري

مناظرة الدكتور التيجاني مع طه المصري (1) في حديث الثقلين

يقول الدكتور التيجاني في رحلته إلى مصر : وصادف ذات يوم أن دخلنا إلى مسجد سيِّدنا الحسين علیه السلام لأداء صلاة الظهر ، وما أنهيت الصلاة ورفعت رأسي أقرأ الكتابات والنقوش الدائرة على جدران المسجد حتى شدَّني حديث الثقلين المكتوب قرب المحراب ، وفيه إضاءة كهربائيّة ، ناديت طه وطلبت منه قراءة الحديث ، قرأ : إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلُّوا بعدي أبداً : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي (2) ، فصاح يقول : مش معقول ، أنت - يا تيجاني - جئت بهذا الحديث وعلَّقته هنا؟!

وزادني استغراب طه فرحاً وسروراً ; لأنه طالما جادلني في مضمون هذا الحديث ، وأنكر أن يقول الرسول صلی اللّه علیه و آله : كتاب اللّه وعترتي ، بل كان دائماً يردِّد : كتاب اللّه وسنّتي ، وادّعى أنه ما سمع طيلة عمره أحداً يحدِّث بحديث : كتاب اللّه

ص: 311


1- أكمل دراسته في النمسا ، وهو شابٌّ له اطّلاع وثقافة واسعة ، وقد تبع التيجاني في تجولاته في مصر وقت زيارته لها سنة 1985 م.
2- تقدمت تخريجاته.

وعترتي ..

أخرجته من المسجد ، ثمَّ اتّجهت به إلى الأزهر الشريف حيث كان هناك معرض للكتاب ، قلت له : يا طه! اتق اللّه ولا تتكبَّر ، فأنا ما جئت بشيء من عندي ، وإن كان الحديث المكتوب في المسجد قد علَّقته أنا في هذه الأيام ، فما هو ردُّك على صحيح مسلم الذي بين يديك الآن ، وهو يباع في معرض الكتاب ، وهو من أقدم الكتب الإسلاميّة؟

قال : وهل فيه حديث : عترتي؟

فتحت له باب فضائل أهل البيت علیهم السلام وأطلعته على الحديث (1) ، فقرأه مرَّتين أو ثلاثاً ، فسكت طويلا وكأنه يفكِّر ، مصفرّاً وجهه ، وكأنه يعيد أنفاسه.

قلت : هذا غيض من فيض ، فلو أردت سأطلعك على عشرات الأحاديث التي تؤيِّد هذا المعنى ، وكلها من صحاح السنة.

قال بصوت خافت : الآن تشيَّعت ، واقتنعت بكل أقوالك في حقّ أهل البيت علیهم السلام .

وعمل طه في السهرات المتتالية على إقناع من تبقَّى من المجموعة ، وكان يؤيِّد كل ما أقول بالشواهد والأدلّة ، ويتحمَّس لها ، فتشيَّع بقية الشبّان ، وعددهم ثمانية (2).

ص: 312


1- جاء في صحيح مسلم : 7 / 122 - 123 عن زيد بن أرقم قال : قام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوماً فينا خطيباً ، بماء يدعى خمّاً ، بين مكة والمدينة ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، ووعظ وذكَّر ، ثمَّ قال : أمَّا بعد ، ألا أيُّها الناس! فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أولهما كتاب اللّه ، فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب اللّه واستمسكوا به ، فحثَّ على كتاب اللّه ورغَّب فيه ، ثمَّ قال : وأهل بيتي ، أذكِّركم اللّه في أهل بيتي ، أذكركِّم اللّه في أهل بيتي ، أذكركِّم اللّه في أهل بيتي.
2- كتاب : فسيروا في الأرض فانظروا ، التيجاني السماوي : 18 - 19.

المناظرة التاسعة والخمسون: مناظرة الدكتور التيجاني التونسي مع بعض مرافقيه في تايلاند فيما جرى للأمّة بعد النبيِّ صلی اللّه علیه و آله

اشارة

يقول الدكتور التيجاني في حديثه عن زيارته إلى تايلاند - بعد أن ذكر زيارته لمفتي جمهورية تايلاند - : وخرجت من عنده ، وركبت السيارة مع الأخ عبد اللّه النجفي ، وأنا أنظر إلى البنايات العالية وناطحات السحاب ، وأستحضر في خاطري عدد السكان في تايلاند ، الذي يتعدَّى الستين مليون نسمة ، منهم أكثر من أربعين مليون يعبدون الأصنام ، ويقيمون في كل مكان تمثالا لبوذا ، وما عبد فيها من الأصنام ، ثمَّ أستحضر عدد البوذيين في العالم ، وعدد الملحدين ، وعدد النصارى واليهود ، ثمَّ أستعرض عدد المظلَّلين من أمَّة محمّد صلی اللّه علیه و آله ، فأقول بصوت باك : ماذا ستلقى عند ربِّك يابن الخطاب؟

قال أحد المرافقين : وما دخل ابن الخطاب في هذا؟

قلت : إنّه هو المسؤول عن كل ضلالة حدثت بعد وفاة الرسول صلی اللّه علیه و آله .

قال : عجيب! بشر واحد يتسبَّب في ضلالة أمَّة كاملة؟

قلت : وما العجيب في ذلك؟ لقد حكى لنا القرآن الكريم أن رجلا واحداً

ص: 313

اسمه السامري تسبَّب في ضلالة بني إسرائيل إلاَّ القليل القليل ، وهي أمَّة بأسرها ، كل ذلك مع وجود رسول اللّه موسى علیه السلام ، وفيهم هارون علیه السلام ، وغياب موسى علیه السلام ، فما بالك بأمَّة توفِّي نبيُّها ، وأبعد وليُّها وصيُّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عنها حتى كادوا يقتلونه لو لا سكوته؟

فأنا أؤمن متيقِّناً أنه لو لا وقوف عمر تلك الوقفة الجريئة على اللّه ورسوله ، ومنعه الناس أن يدخلوا بيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وادّعائه أن محمّداً لم يمت ، وتهديده بالقتل من يقول بذلك.

أقول : لولا الوقفتان لما اختلف الناس ووقعوا في الضلالة.

قال مرافقي : فهمنا موقفه من رزيَّة يوم الخميس (1) ، وأنه لو كتب ذلك الكتاب لما اختلف من الأمَّة اثنان كما قال ابن عباس (2) ، ولكن لم نفهم موقفه من

====

ص: 314


1- والذي سمَّاها رزيّة هو ابن عباس ، وذلك لمَّا منع عمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من كتابة الكتاب ، وقد رواها البخاري ، فقد روى أنَّ عبيد اللّه قال : وكان ابن عباس يقول : إن الرزيّة كل الرزيّة ما حال بين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. صحيح البخاري : 7 / 9 و 8 / 1. صحيح مسلم : 5 / 76 وقد تقدَّم المزيد من تخريجات هذا الحديث في مناظرة السيِّد الرضوي مع الدكتور طه حسين.
2- روى أبان بن أبي عياش ، عن سليم بن قيس قال : إنّي كنت عند عبد اللّه بن عباس في بيته ، وعنده رهط من الشيعة ، قال : فذكروا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وموته ، فبكى ابن عباس ، وقال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم الاثنين - وهو اليوم الذي قبض فيه - وحوله أهل بيته وثلاثون رجلا من أصحابه : ايتوني بكتف أكتب لكم فيه كتاباً لن تضلُّوا بعدي ، ولن تختلفوا بعدي ، فمنعهم ( فلان ) فقال : إن رسول اللّه يهجر ، فغضب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال : إني أراكم تخالفوني وأنا حيٌّ ، فكيف بعد موتي؟ فترك الكتف. قال سليم : ثمَّ أقبل عليَّ ابن عباس فقال : يا سليم! لو لا ما قال ذلك الرجل لكتب لنا كتاباً لا يضلُّ أحد ولا يختلف ، فقال رجل من القوم : ومن ذلك الرجل؟ فقال : ليس إلى ذلك سبيل ، فخلوت بابن عباس بعد ما قام القوم ، فقال : هو عمر ، فقلت : صدقت ، قد سمعت عليّاً علیه السلام وسلمان وأبا ذر والمقداد يقولون : إنه عمر ، فقال : يا سليم! اكتم إلاَّ ممن تثق بهم من إخوانك ، فإن قلوب هذه الأمَّة .. إلخ. كتاب سليم بن قيس، تحقيق محمّد باقر الأنصاري : 324 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 22 / 497 - 498 ح 44.

منع الناس أن يدخلوا بيت النبيِّ صلی اللّه علیه و آله بعد وفاته ، وقوله : بأنه لم يمت ، فهل عندك تفسير لذلك؟

قلت : طبعاً ، الأمر واضح وضوح الشمس ، لأن عمر أدرك بدهائه أن الصحابة إذا ما دخلوا إلى البيت النبويِّ ، ورأوه ميِّتاً وإلى جانبه الإمام علي علیه السلام فسيبايعونه على الفور ، وإذا ما بايع جمع من الصحابة عليّاً علیه السلام فسيكون من المستحيل بعدها مبايعة خليفة ثان.

قال مرافقي عند سماعه هذا التحليل : اللّه أكبر! من يفكر بهذا التفكير؟ .. إلخ (1).

لماذا لم يدعُ أميرالمؤمنين علیه السلام الناس إلى بيعته ولم يغتنم الفرصة؟

ولعلّه يقول قائل : إذا كان الخليفة إنّما فعل ما فعل ليحول بين الناس وبين بيعة أميرالمؤمنين علیه السلام فهذه الخطّة إذن لم تكن لتخفى على أميرالمؤمنين علیه السلام ، فلماذا لم يخرج إلى الناس ويخبرهم بحقيقة الأمر ، ويدعوهم للبيعة لنفسه؟

والجواب على ذلك نفهمه من خلال كلام أميرالمؤمنين علیه السلام مع عمِّه العباس ابن عبد المطلب ، فقد روى الشيخ المفيد عليه الرحمة أن العباس قال لعلي علیه السلام في اليوم الذي قبض فيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بما اتفق عليه أهل النقل : ابسط يدك - يا

ص: 315


1- فسيروا في الأرض فانظروا ، الدكتور محمّد التيجاني : 313 - 315.

بن أخ - أبايعك ، فيقول الناس : عمُّ رسول اللّه بايع ابن أخيه ، فلا يختلف عليك اثنان ، فقال له علي علیه السلام : إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عهد إليَّ أن لا أدعو أحداً حتى يأتوني ، ولا أجرِّد سيفاً حتى يبايعوني ، ومع هذا فلي برسول اللّه شغل (1).

وفي رواية الجوهري : قال العباس بن عبد المطلب لعليٍّ علیه السلام في حوار له معه : فلمَّا قبض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أتانا أبو سفيان بن حرب تلك الساعة ، فدعوناك إلى أن نبايعك ، وقلت لك : ابسط يدك أبايعك ، ويبايعك هذا الشيخ ، فإنّا إن بايعناك لم يختلف عليك أحد من بني عبد مناف ، وإذا بايعك بنو عبد مناف لم يختلف عليك أحد من قريش ، وإذا بايعتك قريش لم يختلف عليك أحد من العرب ، فقلت : لنا بجهاز رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله شغل ، وهذا الأمر فليس نخشى عليه ، فلم نلبث أن سمعنا التكبير من سقيفة بني ساعدة .. (2).

وقال المقريزي : وفي رواية : أن العباس قال لعلي علیه السلام : هلمَّ يدك أبايعك ، فقال : إن لي برسول اللّه شغلا ، ومن ذاك الذي ينازعنا هذا الأمر؟ (3).

وقال ابن قتيبة الدينورى : فلمَّا قبض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال العباس لعلي بن أبي طالب كرَّم اللّه وجهه : ابسط يدك أبايعك ، فيقال : عمُّ رسول اللّه بايع ابن عمِّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ويبايعك أهل بيتك ، فإن هذا الأمر إذا كان لم يقل ، فقال له عليٌّ كرَّم اللّه وجهه : ومن يطلب هذا الأمر غيرنا؟ (4).

وعن أبي جعفر محمّد بن علي علیهماالسلام أن عليّاً حمل فاطمة علیهاالسلام على حمار ،

ص: 316


1- الفصول المختارة ، المفيد : 341.
2- السقيفة وفدك ، الجوهري : 44 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 2 / 48.
3- النزاع والتخاصم ، المقريزي : 78.
4- الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة الدينوري : 21.

وسار بها ليلا إلى بيوت الأنصار ، يسألهم النصرة ، وتسألهم فاطمة الانتصار له ، فكانوا يقولون : يا بنت رسول اللّه! قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، لو كان ابن عمِّك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به ، فقال علي : أكنت أترك رسول اللّه ميّتاً في بيته لا أجهِّزه پ (1) ، وأخرج إلى الناس أنازعهم في سلطانه؟ وقالت فاطمة : ما صنع أبو حسن إلاَّ ما كان ينبغي له ، وصنعوا هم ما اللّه حسبهم عليه (2).

والأمر واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان ، فحاش أميرالمؤمنين علياً علیه السلام أن يترك النبيَّ صلی اللّه علیه و آله جنازة ، ويخرج في طلب الخلافة ، فهو ليس بحاجة لها ولا للناس ، بل الناس في حاجة إليه ، فجلس إلى جانب أخيه وابن عمِّه باكي العين حزين القلب ، وقد هدَّ ركنه هذا المصاب الجلل ..

وقد جاء هذا المعنى أيضاً في احتجاجات فاطمة الزهراء علیهاالسلام ، فقد قالت للقوم : لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم ، تركتم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جنازة بين أيدينا ، وقطعتم أمركم بينكم ، لم تستأمرونا ، ولم تردُّوا لنا حقّاً (3).

ثمَّ إن عليّاً علیه السلام هو خليفة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بما عقد له من الولاية والخلافة والطاعة يوم غدير خمٍّ وغيره ، وهو إمام بايعه الناس أو لم يبايعه ، وليس على الإمام أن يذهب إلى الناس ليبايعوه ، بل على الناس أن يأتوه للبيعة طائعين ، ولا يبايعوا غيره ، فهو علیه السلام كالكعبة تؤتى ولا تأتي (4) وهذا - طبعاً - لا يعني أن يسكت

ص: 317


1- 1 - في رواية ابن قتيبة : أفكنت أدع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في بيته لم أدفنه؟
2- السقيفة وفدك ، الجوهري : 63 - 64 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 6 / 13 ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : 1 / 29 - 30.
3- الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة الدينوري : 1 / 30.
4- 4 - روي عن أبي الحسن موسى ، عن أبيه علیهماالسلام أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال لعلي علیه السلام : إنما مثلك في الأمة مثل الكعبة التي نصبها اللّه علماً ، وإنما تؤتى من كل فجٍّ عميق ونأي سحيق ، ولا تأتي ... الحديث. وسائل الشيعة ، الحرّ العاملي : 4 / 302. وفي تفسير الثعلبي بسنده ، قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : مثل عليٍّ فيكم - أو قال : في هذه الأمّة - مثل الكعبة المستورة أو المشهورة ، النظر إليها عبادة ، والحجُّ إليها فريضة. المناقب ، ابن المغازلي : 107، رقم : 149.

أميرالمؤمنين علیه السلام عن حقِّه ، أو يترك الاحتجاج ولا يعلن ظلامته.

هذا والمتتبِّع لكلمات أميرالمؤمنين علیه السلام يجد الكثير من هذه الاحتجاجات الصريحة في ذلك (1) ، وهي كفيلة أن توقف كل من قرأها على الحقيقة ، ومن هو صاحب الخلافة والذي تجب له البيعة والطاعة. كلام فاطمة الزهراء علیهاالسلام في النصِّ على أميرالمؤمنين علیه السلام بالخلافة ولماذا قعد عن حقّه

قال محمود بن لبيد : لمَّا قبض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كانت فاطمة تأتي قبور الشهداء ، وتأتي قبر حمزة ، وتبكي هناك ، فلمَّا كان في بعض الأيام أتيت قبر حمزة رضي اللّه عنه ، فوجدتها - صلوات اللّه عليها - تبكي هناك ، فأمهلتها حتى سكتت ، فأتيتها وسلَّمت عليها ، وقلت : يا سيِّدة النسوان! قد واللّه قطَّعتِ أنياط قلبي من بكائك.

فقالت : يا أبا عمر! يحقُّ لي البكاء ، ولقد أصبت بخير الآباء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، واشوقاه إلى رسول اللّه ، ثمَّ أنشأت علیهاالسلام تقول :

ص: 318


1- راجع الجزء الثالث من هذا الكتاب في احتجاجات أميرالمؤمنين علیه السلام ، والتي منها قوله علیه السلام : يا معشر المهاجرين! اللّه اللّه ، لا تخرجوا سلطان محمّد عن داره وبيته إلى بيوتكم ودوركم ، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقّه ، فواللّه - يا معشر المهاجرين - لنحن أهل البيت أحقُّ بهذا الأمر منكم .. إلخ. السقيفة وفدك ، الجوهري : 63.

إذا مات يوماً ميِّت قلَّ ذكره

وذكر أبي مذ مات واللّه أكثر

قلت : يا سيِّدتي! إني سائلك عن مسألة تلجلج في صدري.

قالت : سل.

قلت : هل نصَّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قبل وفاته على عليٍّ بالإمامة؟

قالت : واعجباه! أنسيتم يوم غدير خمّ؟!

قلت : قد كان ذلك ، ولكن أخبريني بما أسرَّ إليك.

قالت : أشهد اللّه تعالى لقد سمعته يقول : عليٌّ خير من أخلِّفه فيكم ، وهو الإمام والخليفة بعدي ، وسبطاي وتسعة من صلب الحسين أئمة أبرار ، لئن اتبعتموهم وجدتموهم هادين مهديين ، ولئن خالفتموهم ليكون الاختلاف فيكم إلى يوم القيامة.

قلت : يا سيِّدتي! فما باله قعد عن حقه؟

قالت : يا أبا عمر! لقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : مثل الإمام مثل الكعبة ; إذ تؤتى ولا تأتي ، أو قالت : مثل عليٍّ علیه السلام - ثمَّ قالت : أما واللّه لو تركوا الحقَّ على أهله ، واتبعوا عترة نبيِّه لما اختلف في اللّه تعالى اثنان ، ولورثها سلف عن سلف ، وخلف بعد خلف حتى يقوم قائمنا ، التاسع من ولد الحسين ، ولكن قدَّموا من أخَّره اللّه ، وأخَّروا من قدَّمه اللّه ، حتى إذا ألحد المبعوث ، وأودعوه الجدث المجدوث ، واختاروا بشهوتهم ، وعملوا بآرائهم ، تبّاً لهم أو لم يسمعوا اللّه يقول : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) (1) ، بل سمعوا ، ولكنّهم كما قال اللّه سبحانه : ( فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاَْبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) (2) ،

ص: 319


1- سورة القصص ، الآية : 68.
2- سورة الحج ، الآية : 46.

هيهات ، بسطوا في الدنيا آمالهم ، ونسوا آجالهم ، فتعساً لهم وأضلَّ أعمالهم ، أعوذ بك - يا ربِّ - من الحور بعد الكور (1).

قال كليب بن معاوية الصيداوي : قال أبو عبد اللّه جعفر بن محمّد علیه السلام : ما يمنعكم إذا كلَّمكم الناس أن تقولوا : ذهبنا من حيث ذهب اللّه ، واخترنا من حيث اختار اللّه ، إن اللّه سبحانه اختار محمّداً ، واختار لنا آل محمّد ، فنحن متمسِّكون بالخيرة من اللّه عزّوجل (2).

كلام الشيخ المفيد عليه الرحمة في حديث العباس لأمير المؤمنين علیه السلام

قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : وما رأيت أوهن ولا أضعف من تعلُّق المعتزلة ومتكلِّمي المجبِّرة بقول العباس بن عبد المطلب رحمه اللّه لأميرالمؤمنين علیه السلام بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : امدد يدك - يا بن أخ - أبايعك ، فيقول الناس : عمُّ رسول اللّه بايع ابن أخيه ، فلا يختلف عليك اثنان ، وقد ادّعوا أن في هذا دليلا على أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم ينصَّ على أميرالمؤمنين علیه السلام ، وقولهم : إنَّه لو كان نصَّ عليه لم يدعه العباس إلى البيعة ; لأن المنصوص عليه لا يفتقر في إمامته وكمالها إلى البيعة ، فلمَّا دعاه العباس إلى عقد إمامته من حيث تنعقد الإمامة التي تكون بالاختيار دلَّ على بطلان النصِّ.

وهذا الكلام مع وهنه فقد حار قوم من الشيعة عن فهم الغرض فيه ، وعدلوا عن نقضه من وجهه ، وقد كنت قلت لمناظر اعتمد عليه في حجاجه في الإمامة ، ورام به مناقضتي في مجلس من مجالس النظر أقوالا ، أنا أورد مختصراً منها ،

ص: 320


1- كفاية الأثر ، الخزاز القمي : 198 - 200.
2- الأمالي ، الطوسي : 227 ح 47 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 27 / 326 ح 5.

وأعتمد على بعضها ، إذ كان شرح ذلك يطول.

وهو أن يقال لهم : إن كان دعاء العباس أميرالمؤمنين علیه السلام إلى البيعة يدلُّ على ما زعمتم من بطلان النصِّ وثبوت الإمامة من جهة الاختيار فيجب أن يكون دعاء النبي صلی اللّه علیه و آله الأنصار إلى بيعته في ليلة العقبة ، ودعاؤه المسلمين من المهاجرين والأنصار تحت شجرة الرضوان ، دليلا على أن نبوَّته صلی اللّه علیه و آله إنما ثبتت له من جهة الاختيار ، فإنّه لو كان ثابت الطاعة من قبل اللّه عزَّ وجلَّ وإرساله له ، وكان المعجز دليل نبوَّته ، لا ستغنى عن البيعة له تارة بعد أخرى ، فإن قلتم ذلك خرجتم عن الملّة ، وإن أثبتموه نقضتم العلّة عليكم.

فإن قالوا : إنّ بيعة الناس لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم تك لإثبات نبوَّته ، وإنما كانت للعهد في نصرته ، بعد معرفة حقِّه وصدقه فيما أتى به عن اللّه عزَّ وجلَّ من رسالته.

قيل لهم : أحسنتم في هذا القول ، وكذلك كان دعاء العباس أميرالمؤمنين علیه السلام إلى بسط اليد إلى البيعة ، فإنما كان بعد ثبوت إمامته بتجديد العهد في نصرته ، والحرب لمخالفيه وأهل مضادّته ، ولم يحتج علیه السلام إليها في إثبات إمامته.

ويدلُّ على ما ذكرناه قول العباس : يقول الناس : عمُّ رسول اللّه بايع ابن أخيه ، فلا يختلف عليك إثنان ، فعلَّق الاتفاق بوقوع البيعة ، ولم يكن لتعلُّقه بها إلاَّ وهي بيعة الحرب التي يرهب عندها الأعداء ، ويحذرون من الخلاف ، ولو كانت بيعة الاختيار من جهة الشورى والاجتهاد لما منع ذلك من الاختلاف ، بل كانت نفسها الطريق إلى تشتُّت الرأي ، وتعلُّق كل قبيل باجتهاده واختياره.

أو لا ترى إلى جواب أميرالمؤمنين علیه السلام بقوله : يا عمّ! إن لي برسول

ص: 321

اللّه صلی اللّه علیه و آله أعظم شغل عن ذلك ، ولو كانت بيعته عقد الإمامة لما شغله عنها شاغل ، ولما كانت قاطعة له عن مراده في القيام برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

أو لا ترى أنه لما ألحَّ عليه العباس في هذا الباب قال : يا عمّ! إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أوصى إليَّ ، وأوصاني أن لا أجرِّد سيفاً بعده حتى يأتيني الناس طوعاً ، وأمرني بجمع القرآن والصمت حتى يجعل اللّه عزَّ وجلَّ لي مخرجاً ، فدلَّ ذلك أيضاً على أن البيعة إنّما دعا إليها للنصرة والحرب ، وأنّه لا تعلُّق لثبوت الإمامة بها ، وأن الاختيار ليس منها في قبيل ولا دبير على ما وصفناه.

ووجه آخر وهو : أنَّ القوم لمَّا أنكروا النصَّ ، وأظهروا أن الإمامة تثبت لهم من طريق الاختيار ، أراد العباس أن يكيدهم من حيث ذهبوا إليه ، ويبطل أمرهم بنفس ما جعلوه طريقاً لهم إلى الظلم ، وجحد النصِّ ، فقال لأميرالمؤمنين علیه السلام : ابسط يدك أبايعك ، فإن سلَّموا الحقَّ لأهله لم تضرَّك البيعة ، وإن ادّعوا الشورى والاختيار ، وأنكروا حقَّك كان لك من البيعة والاختيار والعقد مثل ما لهم ، فلم يمكنهم الاستبداد بالأمر دونك ، فأبى أميرالمؤمنين علیه السلام ذلك ، وكره أن يتوصَّل إلى حقِّه بباطل لا يوصل إليه ، وبرهان أمره يقهر القلوب بظهور النصِّ عليه ، ولأنّه كره أن يبسط يده للبيعة فيلزمه بعد ذلك تجريد السيف على دافعيه الأمر ، فلا يستقيم له - مع الاختيار وعقد القوم له - أن يلزم التقيّة ، وقد تقدَّمت الوصيَّة له من النبيِّ صلی اللّه علیه و آله بالكفِّ عن الحرب مخافة بطلان الدين ودرس الإسلام.

وقد بيَّن ذلك في مقاله علیه السلام ، حيث يقول : أما واللّه ، لو لا قرب عهد الناس بالكفر لجاهدتهم ، فعدل عن قبول البيعة لما ذكرناه.

فإن قال بعضهم في هذا الجواب : قد وصل إلى حقِّه كما زعمتم بعد عثمان بالاختيار ، ودخل في الشورى ، فكيف استجاز التوصُّل إلى الحقِّ بالباطل على

ص: 322

ما فهمناه عنكم من الجواب؟

قيل له : يقول القوم : إنّما ساغ له ذلك في الشورى وبعد عثمان لخفاء النصِّ عليه في تلك الأحوال ، واندراس أمره بمرور الزمان على دفعه عن حقِّه ، فلم يجد إذ ذاك من ظهور فرض طاعته ما كان عند وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فاضطرَّ إلى التوصُّل إلى حقِّه من حيث جعلوه طريقاً إلى التأمير على الناس ، على أن القوم جمعوا بين علّتين : إحداهما ما ذكرناه ، والأخرى ما أردفناه المذكور من وجوب الجهاد عليه بعد قبول البيعة ، ولم يكن في الأول يجوز له ذلك ; للوصيَّة المتقدِّمة من النبيِّ صلی اللّه علیه و آله في الكفِّ عن السيف ، ولما رآه في ذلك من الاستصلاح ، وكانت الحال بعد عمر وبعد عثمان على خلاف ما ذكرناه ، وهذا يبطل ما تعلَّقتم به.

ووجه آخر - وهو المعتمد عندي في هذا الجواب عن هذا السؤال ، والمعوَّل عليه دون ما سواه - وهو : أن أميرالمؤمنين علیه السلام لم يتوصَّل إلى حقِّه في حال من الأحوال بما يوصل إليه من اختيار الناس له على ما ظنَّه الخصوم.

وذلك أنّه علیه السلام احتجَّ في يوم الشورى بنصوص رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الموجبة له فرض الطاعة ، كقوله : أفيكم أحد قال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، غيري؟ أفيكم أحد قال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنه لا نبيَّ بعدي ، غيري؟

وأشباه هذا من الكلام الموجب لإمامة صاحبه ، بدليله المغني له عن اختيار العباد ، ولمَّا قتل عثمان لم يدع أحداً إلى اختياره ، لكنَّه دعاهم إلى بيعته على النصرة له ، والإقرار بالطاعة ، وليس في هذا من معنى الاختيار الذي يذهب إليه المخالفون شيء على كل حال ، والجواب الأول لي خاصة ، والثاني لأصحابنا ، وقد نصرته بموجز من الكلام ... (1).

ص: 323


1- الفصول المختارة ، المفيد : 249 - 252.

المناظرة الستون: مناظرة الدكتور التيجاني مع الشيخ علي في كينيا في أمر الصحابة واجتهاداتهم

يقول الدكتور التيجاني السماوي في حديثه عن رحلته إلى كينيا ، وتعرُّفه على الشيخ علي في كينيا ، وكان هو إمام الجماعة هناك ، وله شعبيَّة واسعة ، ويحفُّ به طلاب العلم وعامة الناس ، وكان على مذهب السنة :

وفي الصباح جاء الأصدقاء مهنئين ومباركين ليتناولوا فطور الصباح عندي ، وكان من بينهم الشيخ علي ، وقد حمل كل منهم إليَّ هديَّة بسيطة ، واغتنمتها فرصة ، فأهديت لكل واحد منهم نسخة من كتاب : ثم اهتديت ، وطلبت من الشيخ علي أن يقرأه ويعطيني رأيه ، وأشعرته بأن مكانته العلميَّة ، وكثرة اطلاعاته تبوِّئه رئاسة الجميع ، وإنّي شخصيّاً مهتمٌّ بأفكاره وكل ما يصدر عنه.

وبعد أسبوع دعاني وزوجتي للعشاء عنده في بيته ، وجلست معه وبعض الأصدقاء على الطعام ، بينما دخلت الزوجة مع النساء حسب الأصول والعادات العربيّة.

ص: 324

سألت خلال السهرة الشيخ علي وبعدما أراني مكتبته القيِّمة ، سألته عن رأيه في كتابي : ثم اهتديت.

قال : من حيث الأسلوب فهو رائع ، يشدُّ القارئ شدّاً عجيباً ، ولكن من حيث الموضوع فهو جدّاً خطير.

قلت : أين يكمن الخطر ، فرأيك يهمُّني؟

قال : في نقد الصحابة وقدحهم ، فنحن ما عرفنا الإسلام الذي جاء به محمَّد صلی اللّه علیه و آله إلاَّ من خلالهم.

قلت : هذا صحيح لو كان الأمر يتعلَّق بجميعهم ، ولكن الحمد لله لم يمسَّ القدح والنقد إلاَّ البعض منهم ، الذين شهد التأريخ بانحرافهم ، والبعد عن سنَّة نبيهم صلی اللّه علیه و آله ، وأنت بحمد اللّه ممن عرف التأريخ وأحداثه ، وعرف اختلافهم ، وما سبَّبوه لنا من مشاكل وانقسامات داخل الأمَّة الواحدة.

قال باعتزاز : أنا أعلم كل ذلك ، ولكن الذين قسموا الأمَّة هم بنو أميَّة ، وعلى رأسهم معاوية ، وقد نصَّ على ذلك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حياته عندما قال : الخلافة من بعدي ثلاثون سنة ثمَّ ملك عضوض (1) ، واسترسل يسبُّ بني أميَّة ويشتمهم ، ويمدح الخلفاء الراشدين ، وهو يحاول بذلك إقناع الحاضرين بأفكاره ، فتركته يتكلَّم حتى سكت.

قلت : اتق اللّه يا شيخ علي ، فاللّه سبحانه وتعالى لا يحبُّ العلماء الذين يعرفون الحقَّ ويكتمونه ، فقد قال جلَّ من قائل : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ

ص: 325


1- راجع : المعجم الكبير ، الطبراني : 7 / 83 - 84 ، أسد الغابة ، ابن الأثير : 2 / 324.

اللاَّعِنُونَ ) (1).

فهل اغتصب بنو أميَّة خلافة علي بن أبي طالب علیه السلام التي نصَّ عليها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في غدير خم (2)؟

هل اغتصب بنو أميَّة حقَّ الزهراء سلام اللّه عليها في النحلة والخمس والميراث ، حتى ماتت غاضبة تدعو اللّه عليهم في كل صلاة؟

هل أحرق بنو أميَّة ما جمع من سنَّة النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، ومنعوا الناس من التحدُّث بها (3)؟

ص: 326


1- سورة البقرة ، الآية : 159.
2- لا شكَّ أن بني أميَّة من الغاصبين لخلافة أميرالمؤمنين علیه السلام وأولاده الطاهرين علیهم السلام ، ولكنَّ مقصود الدكتور التيجاني اغتصاب الخلافة بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله مباشرة ، والإقصاء الذي تمَّ على أيدي القوم لعترة النبي صلی اللّه علیه و آله .
3- إحراق أبي بكر خمس مائة حديث. روى الذهبي في تذكرة الحفاظ : 1 / 5 عن القاسم بن محمّد قال : قالت عائشة : جمع أبي الحديث عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وكانت خمسمائة حديث ، فبات ليلته يتقلَّب كثيراً ، قالت : فغمَّني ، فقلت : أتتقلَّب لشكوى أو لشيء بلغك؟ فلمَّا أصبح قال : أي بنيَّة! هلمّي الأحاديث التي عندك ، فجئته بها ، فدعا بنار فحرقها ، فقلت : لم أحرقتها؟ قال : خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت ولم يكن كما حدَّثني فأكون قد نقلت ذاك. أقول : كان على الخليفة حينما خشي هذا الأمر أن يُرجع الأحاديث إلى أصحابها ، لا أن يحرقها ويتلفها ، ولو كان هذا الخوف أمراً عقلائيّاً لما وصلنا شيء من كتب السنن والحديث ، لأن كل كتاب يحوي جملة من الأحاديث الشريفة يحتمل فيها هذا الاحتمال ، وأنت ترى أنَّ سيرة المسلمين قامت على اقتناء كتب الحديث والسنن ، ويرون إتلافها أمراً قبيحاً مستهجناً ، فلو أن أحداً جمع كتب السنن والحديث وأحرقها بذريعة هذا العذر لما كان مقبولا منه ، وحتى الراوي نفسه الذي سمع آلاف الأحاديث النبويّة وجمعها ثمَّ أحرقها بهذه الحجّة ليس معذوراً. وجاء أيضاً في تذكرة الحفاظ : 1 / 2 - 3 قال : عن ابن أبي مليكة أن الصدّيق جمع الناس بعد وفاة نبيِّهم صلی اللّه علیه و آله ، فقال : إنكم تحدِّثون عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشدُّ اختلافاً ، فلا تحدِّثوا عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله شيئاً ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب اللّه ، فاستحلُّوا حلاله وحرَّموا حرامه. حرق عمر للأحاديث الشريفة وجاء في الطبقات الكبرى ، لابن سعد : 5 / 188 عن عبد اللّه بن العلاء قال : سألت القاسم يملي عليَّ أحاديث ، فقال : إن الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب ، فأنشد الناس أن يأتوه بها ، فلمَّا أتوه بها أمر بتحريقها ، ثمَّ قال : مثناة كمثناة أهل الكتاب. وجاء في كتاب حجّيّة السنة : 395 : عن القاسم بن محمّد بن أبي بكر : أن عمر بن الخطاب بلغه أنه قد ظهرت في أيدي الناس كتب ، فاستنكرها وكرهها ، وقال : أيُّها الناس! إنّه قد بلغني أنه قد ظهرت في أيديكم كتب ، فأحبُّها إلى اللّه أعدلها وأقومها ، فلا يبقين أحد عنده كتاباً إلاَّ أتاني به ، فأرى فيه رأيي ، قال : فظنُّوا أنه يريد أن ينظر فيها ، ويقوِّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف ، فأتوه بكتبهم ، فأحرقها بالنار ، ثمَّ قال : أمنية كأمنية أهل الكتاب.

هل غيَّر بنو أميَّة أحكام القرآن ، وأحكام السنّة النبويّة ، وأبدلوها باجتهادات غيَّرت مسار الإسلام والمسلمين (1)؟

أنت تعلم أنّه لم يفعل كل ذلك غير الخلفاء الذين تسميهم الراشدين ، عندما لم يكن لبني أميَّة دولة ولا نفوذ ، ولم يكن لمعاوية ولا لأبيه وزن عند المسلمين ، والذي كبَّر معاوية ، وجعله إمبراطور الإسلام هم : أبو بكر وعمر وعثمان ، الذين تحاول أنت بكل جهودك أن تسدل عليهم ستار الهالة والتقديس ، وتجعلهم من طراز الأنبياء والمرسلين.

قال مبتسماً أمام الحاضرين وهو يحاول المراوغة : نحن ما قلنا إن الخلفاء من طراز الأنبياء ، وما قلنا بأنهم معصومون عن الخطأ ، فهم كسائر البشر ، يخطئون ويصيبون ، وقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : كل ابن آدم خطَّاء ، وخير الخطَّائين

ص: 327


1- وبنو أميَّة أيضاً لم يذخروا وسعاً في تغيير أحكام اللّه ، وتحريف حديث رسوله صلی اللّه علیه و آله ، وقلب الحقائق ، وتضليل الناس ، وآثار ذلك إلى يومنا هذا.

التوَّابون (1) ، فنحن مسلمون بأن أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً كلهم أخطأ ، وكلهم مأجورون ، لقول الرسول صلی اللّه علیه و آله : من اجتهد وأصاب فله أجران ، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد (2).

قلت : يا شيخ علي! أقول لك مرَّة ثانية : اتق اللّه ، ولا تلذ بالأوهام الواهية كبيت العنكبوت ، وتترك الحقائق الدامغة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء ، وأنا أتحدَّاك أمام الحاضرين أن تأتيني بخطأ واحد للإمام عليٍّ علیه السلام ، فسوف لن تجد إلاَّ ما يردِّده أسلاف النواصب الذين أعيتهم الحيلة ليجدوا خطأ واحداً لعليٍّ علیه السلام ، فقالوا بأنه بعد تولّيه الخلافة أخطأ في عزل معاوية ، ولو أنّه صبر حتى استتبَّ له الأمر ثمَّ عزله بعد ذلك لكان أحسن (3) ، أو أنّه أخطأ في واقعة التحكيم في حرب صفين ، وهو قول الخوارج.

ص: 328


1- مسند أحمد بن حنبل : 3 / 198 ، سنن ابن ماجة : 2 / 1420 ح 4251 ، سنن الترمذي : 4 / 70 ح 2616.
2- مسند أحمد بن حنبل : 4 / 198 ، سنن ابن ماجة : 2 / 776 ح 2314 ، سنن الترمذي : 2 / 393 ح 1341 ، ولفظه : إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر.
3- روي عن جبلة بن سحيم ، عن أبيه ، قال : لمَّا بويع أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام بلغه أن معاوية قد توقَّف عن إظهار البيعة له ، وقال : إن أقرَّني على الشام وأعمالي التي ولاَّنيها عثمان بايعته ، فجاء المغيرة إلى أميرالمؤمنين علیه السلام فقال له : يا أميرالمؤمنين! إن معاوية من قد عرفت ، وقد ولاَّه الشام من قد كان قبلك ، فولِّه أنت كيما تتَّسق عرى الأمور ، ثمَّ اعزله إن بدا لك ، فقال أميرالمؤمنين علیه السلام : أتضمن لي عمري - يا مغيرة - فيما بين توليته إلى خلعه؟ قال : لا ، قال : لا يسألني اللّه عزَّوجلَّ عن توليته على رجلين من المسلمين ليلة سوداء أبداً ( وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) لكن أبعث إليه ، وأدعوه إلى ما في يدي من الحقِّ ، فإن أجاب فرجل من المسلمين ، له ما لهم ، وعليه ما عليهم ، وإن أبى حاكمته إلى اللّه ، فولَّى المغيرة وهو يقول : فحاكمه إذن .. الأمالي ، الطوسي : 87 ح 42، مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 2 / 375.

فهل تجدون لعليٍّ علیه السلام أكثر من هذين الخطأين المزعومين ، وكلُّها لا تعدو الآراء السياسيّة التي يختلف فيها الناس ، فتظهر للبعض بأنها خطأ ، وتظهر للبعض الآخر بأنها عين الصواب ، وهي من باب قول اللّه سبحانه وتعالى : ( عَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) (1).

هذا على افتراض أن علياً علیه السلام شخص عاديٌّ ، ليست له ميزة ولا علم ..

إلى أن قال : وإذا كان الأمر كما تقول - يا شيخ علي - فلماذا لا تلتمس عذراً لإبليس لعنه اللّه الذي اجتهد في قوله : ( أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّار وَخَلَقْتَهُ مِن طِين ) (2)؟ فاجتهاده أو صله إلى نتيجة أن النار هي خير من الطين ، أو كما قال بعض المتصوِّفة : إن إبليس هو أكبر الموحِّدين ; لأن اجتهاده منعه أن يسجد لغير اللّه تعالى.

ألا ترى معي أن الموازين كذلك المقاييس العقليّة يجب أن تتوقَّف عن الاجتهاد عند صدور الحكم الإلهيّ ، انظر إلى قوله تعالى : ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ ) (3) ، فكل الملائكة قالوا : سمعاً وطاعة ، ولم يجتهدوا بآرائهم في هذا الحكم الصادر من الخالق إلى المخلوق ، إلاَّ إبليس أبى أن يكون من الساجدين ، لماذا؟ لأنه اجتهد برأيه مقابل هذا الحكم الإلهيِّ ، فرأى أنّه أفضل من آدم ، فعصى وتمرَّد.

وإذا كان الأمر كذلك فكلُّ المجرمين والفاسقين مأجورون على

ص: 329


1- سورة البقرة ، الآية : 216.
2- سورة الأعراف ، الآية : 12.
3- سورة الحجر : 29 - 31.

اجتهادهم ، فهذا فرعون اجتهد في تكذيب موسى علیه السلام ; لأنه كان يظنُّ أن كل الآيات التي جاء بها موسى علیه السلام هي من قبيل السحر ، ولذلك جمع له السحرة ، واعتقد بأنّه كبيرهم الذي علَّمهم السحر ، وهذا السامريُّ الذي اجتهد فأخذ قبضة من أثر الرسول صلی اللّه علیه و آله ، فتسبَّب في ضلالة بني إسرائيل ، وهذا أبو لهب عمُّ النبي صلی اللّه علیه و آله اجتهد أيضاً ; لأنه ظنَّ أن ابن أخيه يريد الدعوة لنفسه مقابل الآلهة التي يعبدونها.

وهذه عائشة اجتهدت في قتل الآلاف من المسلمين الأبرياء ; لأنها كانت لا ترى مصلحة في خلافة عليٍّ علیه السلام ، وهذا يزيد اللعين اجتهد هو الآخر في قتل سيِّد شباب أهل الجنة الحسين علیه السلام ; لأنه كان يرى جميع الناس على طاعة الخليفة وعدم الخروج عليه.

وهذا هتلر الذي اجتهد ورأى بأن الألمان - وهم الجنس السامي - هم أسياد العالم ، وكل الناس هم عبيد ، لهم ويجب محقهم ، وهذا صدّام اجتهد الآخر في قتل الملايين .. وهو بطل القادسيَّة ، وقد اجتهد في احتلال الكويت ; لأنه يرى بأنها جزء من العراق ...

وما أظنُّك - يا شيخ علي - توافق على أن كل هذا هو الاجتهاد الذي يستوجب الأجر من عند اللّه.

قال وهو يتنهَّد : لا طبعاً ، أنا أعرف الفرق بين الاجتهاد والعصيان وهو كما قدَّمت ، إلاَّ أنه عندي تعليق على ذكرك أمَّ المؤمنين السيِّدة عائشة ، فهي التي قال فيها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء (1) ، ويقصد بذلك

ص: 330


1- 1 - والمروي عندهم : خذوا شطر دينكم عن الحميراء ، راجع : النهاية في غريب الحديث ، ابن الأثير : 1 / 421، إرواء الغليل ، الألباني : 1 / 10 ، وقال في الهامش عن الحديث : حديث موضوع ، انظر : المنار المنيف لابن القيِّم. وهذا الحديث عندهم ضعيف لا يؤخذ به ، وإن كان مشهوراً بينهم ، فليس له إسناد ولا أصل ، قال ابن كثير في البداية والنهاية : 8 / 100 : فأمَّا ما يلهج به كثير من الفقهاء وعلماء الأصول من إيراد حديث : خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء ، فإنه ليس له أصل ، ولا هو مثبت في شيء من أصول الإسلام ، وسألت عنه شيخنا أبا الحجاج المزي فقال : لا أصل له. وقال العجلوني في كشف الخفاء : 1 /374 - 375 ح 1198 : ( خذوا شطر دينكم عن الحميراء ) قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث ابن الحاجب من إملائه : لا أعرف له إسناداً ، ولا رأيته في شيء من كتب الحديث إلاَّ في النهاية لابن الأثير ، ذكره في مادة ح م ر ، ولم يذكر من خرَّجه ، ورأيته في الفردوس بغير لفظه ، وذكره عن أنس بغير إسناد بلفظ : خذوا ثلث دينكم من بيت الحميراء ، وذكر ابن كثير أنّه سأل الحافظين : المزي والذهبي عنه فلم يعرفاه ، وقال السيوطي في الدرر : لم أقف عليه ، لكن في الفردوس عن أنس : خذوا ثلث دينكم من بيت عائشة ، انتهى ، وقال الحافظ عماد الدين في تخريج أحاديث مختصر ابن الحاجب : هو حديث غريب جدا ، بل هو منكر ، سألت عنه شيخنا المزي فلم يعرفه ، وقال : لم أقف له على سند إلى الآن ، وقال شيخنا الذهبي : هو من الأحاديث الواهية التي لا يعرف لها سند. انتهى.

عائشة.

وحاولت إقناعه بأن هذه الأحاديث وأمثالها موضوعة في عهد بني أميَّة ، فقد أكثروا من إطراء الخلفاء الثلاثة : أبي بكر وعمر وعثمان من الرجال ، وعائشة من النساء ; للدور الذي قامت به بعد وفاة النبيِّ صلی اللّه علیه و آله .

فكان يوافقني تارة ، ويتردَّد ويشكِّك أحياناً في بعض الأحداث التأريخيّة ، وهو يريد رغم محاولاتي أن يضفي على عائشة هالة من التقديس ، حتى جعلها أعلم الصحابة ; لأن نصف الدين عندها وحدها ، وكل الباقين عندهم النصف الثاني.

وضحكت لهذا الاعتقاد ، وقلت له : ما رأيك لو أوقفتك على دليل ملموس

ص: 331

بأن ما تقوله لا يصحُّ؟

قال : هات نسمع منك.

قلت : هل تعرف رضاعة الكبير؟

قال : وما هي رضاعة الكبير؟

قلت : باختصار أنّه يمكن لزوجتك أن ترضعني أنا فأصبح بعد تلك الرضاعة ربيبك ، ويمكن لي أن أستحلَّ منها ما يستحلُّ الولد من والدته.

فضحك عند سماعه هذه الأطروحة ، وقال مستغرباً : كيف؟ أنت ترضع من زوجتي أنا؟ لا يحقُّ لك ذلك.

قلت : هذا من نصف دينك الذي تقول به أمُّ المؤمنين عائشة.

قال : لا ، لا ، ما سمعت بهذا أبداً ، لعلّك تمزح.

قلت : أنا لا أمزح في مثل هذه الأبحاث العلميّة ، وكيف أمزح باتهام أم المؤمنين عائشة؟ ولكن أنا قدمت من باريس ، وليس معي إلاَّ كتاب : ثم اهتديت ، وأنت - ما شاء اللّه - عندك هنا مكتبة ضخمة ، وبالتأكيد إن فيها صحيح مسلم ، وموطأ الإمام مالك.

قال : نعم ، عندي هذه الكتب ، وهل فيها هذا الحديث؟

قلت : نعم ، سأترك لك المجال لتقرأ بنفسك على راحة البال ، وتعطيني بعد ذلك رأيك.

قال : دلَّني على الحديث في أيِّ موضع من الكتاب؟

قلت : اقرأ باب رضاعة الكبير في الكتابين (1) ، وغداً أعطني النتيجة ،

ص: 332


1- 1 - جاء في كتاب الموطأ لمالك : 2 / 605 ح 12 عن ابن شهاب ، أنه سئل عن رضاعة الكبير فقال : أخبرني عروة بن الزبير ، أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة ... كان تبنَّى سالماً الذي يقال له : سالم مولى أبي حذيفة ، كما تبنَّى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله زيد بن حارثة ، وأنكح أبو حذيفة سالماً ، وهو يرى أنه ابنه ، فلمَّا أنزل اللّه تعالى في كتابه في زيد بن حارثة ما أنزل ... ردَّ كل واحد من أولئك إلى أبيه .. فجاءت سهلة بنت سهيل ، وهي امرأة أبي حذيفة - إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقالت : يا رسول اللّه! كنّا نرى سالماً ولداً ، وكان يدخل عليَّ وأنا فضل ، وليس لنا إلاَّ بيت واحد ، فماذاترى في شأنه؟ فقال لها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ( أرضعيه خمس رضعات فيحرم بلبنها ) وكانت تراه ابناً من الرضاعة ، فأخذت بذلك عائشة أم المؤمنين فيمن كانت تحبُّ أن يدخل عليها من الرجال ، فكانت تأمر أختها أمَّ كلثوم بنت أبي بكر الصديق ، وبنات أخيها أن يرضعن من أحبَّت أن يدخل عليها من الرجال. وأبى سائر أزواج النبيِّ صلی اللّه علیه و آله أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحد من الناس، وقلن : واللّه ، ما نرى الذي أمر به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سهلة بنت سهيل إلاَّ رخصة من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في رضاعة سالم وحده ، لا واللّه ، لا يدخل علينا بهذه الرضاعة أحد ، فعلى هذا كان أزواج النبي صلی اللّه علیه و آله في رضاعة الكبير. وجاء في صحيح مسلم : 4 / 169 : عن زينب بنت أم سلمة ، قالت : قالت أم سلمة لعائشة : إنّه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحبُّ أن يدخل عليَّ ، قال : فقالت عائشة : أما لك في رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أسوة .. إلخ. وعن زينب بنت أبي سلمة تقول : سمعت أم سلمة زوج النبي صلی اللّه علیه و آله تقول لعائشة : واللّه ما تطيب نفسي أن يراني الغلام قد استغنى عن الرضاعة ، فقالت : لم؟ قد جاءت سهلة بنت سهيل إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقالت : يا رسول اللّه! واللّه إني لأرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم ، قالت : فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أرضعيه ، فقالت : إنه ذو لحية ، فقال : أرضعيه يذهب ما في وجه أبي حذيفة ، فقالت : واللّه ما عرفته في وجه أبي حذيفة. وروي عن أم سلمة رضي اللّه عنها أنها كانت تقول : أبى سائر أزواج النبي صلی اللّه علیه و آله أن يدخلن عليهن أحداً بتلك الرضاعة .. إلخ.

وقمت أعتدر للخروج فقد مضى نصف الليل أو أكثر.

قال : وفي صباح اليوم التالي جاء الجامعة كالعادة لفطور الصباح ، وتأخَّر الشيخ علي أكثر من ساعة ، وكدنا نكمل الإفطار وإذا به يدخل علينا ، ويبدِّد حيرتنا ، وعندما وصل إليَّ مسلِّماً ضحك ، وقال : أرضعيه ولو كان ذا لحية.

ص: 333

وفهمت أنه اطّلع على الموضوع من شتّى جوانبه ، وفرحت لذلك ، ودعوناه للجلوس وتناول الإفطار متسائلين : ما الذي أبطأه عن الموعد المعتاد؟

قال : لم أنم إلاَّ قليلا ، فقد سهرت بعدكم ، واطّلعت على قصة رضاعة الكبير في كل من صحيح مسلم وموطأ مالك ، فحيَّرتني وطار النوم من عيني ، فلم أنم إلاَّ بعد صلاة الفجر.

قلت : فهل ما زلت على رأيك في أخذك نصف الدين عن الحميراء؟

قال : أعوذ باللّه ، هذا لا يجوز أبداً ، أنا من اليوم شيعيٌّ ، لا أتّبع إلاَّ عليّاً علیه السلام .

قال أخوه الشيخ محمّد : أتدري - يا دكتور - أننا من سلالة عليٍّ كرَّم اللّه وجهه؟

قلت : إذن فأنتم أحقُّ بجدِّكم من غيركم ، قال اللّه تعالى : ( وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِي كِتَابِ اللّهِ ) (1).

وفرح الإخوة الكويتيون بهذا الاستبصار المفاجئ ، وكذلك الدكتور الخطيب ، وأخرج الشيخ علي الكتب إلى الطلبة ، وبدأ الدكتور الخطيب وأخوه عثمان ينشطان بحرّيّة ، ويعملان بكل جهودهم ، ولم يمض أسبوع واحد حتى استبصر أكثر من مائتين من الطلبة.

وجاء يوم الفراق للرجوع إلى باريس ، وخرج أكثرهم يودِّعونني ، وفي مقدِّمتهم الشيخ علي وأخوه الشيخ محمّد ، وقبل دخولي الطائرة عانقت الشيخ ، وقلت له أمام الجميع : سامحني إن كنت أسأت لك ، أو صدر مني شيءٌ تكرهه ، فأنا أرجوك العفو.

ص: 334


1- سورة الأنفال ، الآية : 75.

قال : العفو العفو ، أنت سيِّدنا ، وقد هديتنا إلى صراط اللّه المستقيم ، فجزاك اللّه عنّا خيراً ، ونتمنَّى أن لا تنسانا من زيارتك.

قلت : أتشهد أمام الحاضرين أنّك استبصرت للحقِّ وغيَّرت عقيدتك؟

قال بصوت عال : أشهد أنني تشيَّعت ، وإمامي هو عليُّ بن أبي طالب علیه السلام ، واللّه على ما أقول شهيد.

عانقته مرَّة أخرى بحرارة أكثر ، وقبَّلت رأسه ، وفاضت أعيننا وأعين الحاضرين من الدمع ، وهم يكبِّرون صائحين : اللّهمَّ صلِّ على محمّد وآل محمّد (1).

ص: 335


1- كتاب فسيروا في الأرض ، الدكتور التيجاني السماوي : 253 - 261.

المناظرة الحادية والستون: مناظرة الدكتور التيجاني مع الشيخ المفتي عزيز الرحمان في بومباي

قال الدكتور التيجاني في رحلته إلى الهند : طلب مني - أي السيد شرف الدين صاحب دار النشر للمنشورات الإسلامية - إن كان بإمكاني زيارة مفتي الجماعة الإسلامية في بومباي فهو سني وله أتباع كثيرون يأتمرون بكل أوامره ، ولوا أقنعته هو فسيكون فتح عظيم لكل المسلمين في الهند. قلت : ما اسمه؟ أليس هو أبو الحسن الندوي؟

قال : لا ، أبو الحسن الندوي يقيم الآن في دلهي ، أما هذا فاسمه عزيز الرحمن ، وهو الكل هنا.

قلت : أنا لا أرى مانعاً في لقائه إن كان يرغب في ذلك طبعاً.

قال : لا عليك أنا عندي معه علاقة وديّة وسأرتّب الأمور ، فأين أتّصل بك؟

قلت : عند السيّد محمّد الموسوي.

قال : عندي رقم تليفونه فأتّصل بك حالماً أتفاهم وأتفق مع الجماعة - إلى أن قال : وبعد يومين فقط ، جاءني السيد محمّد الموسوي إلى مقرّ إقامتي

ص: 336

وأعلمني بأن الجماعة في انتظاري وأن السيد شرف الدين قادم ليأخذني عندهم ، فهيأت نفسي للخروج ووقف السيّد الموسوي يقرأ على رأسي بعض الأدعية المأثورة عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام ، وفهمت بأنه متخوّف عليّ ، وخصوصاً بعدما قدم السيّد شرف الدين فحذّره السيّد الموسوي وأوصاه بي قائلا : لولاك أنت وثقتي فيك لما تركت السيّد التيجاني يذهب إليهم ، فطمنه السيد شرف الدين قائلا : يحصل خير إن شاء اللّه.

وذهبت بصحبة السيد شرف الدين إلى الجامع الكبير في مدينة بومباي ودخلنا من باب صغير خلف الجامع وصعدنا طابقين ومشينا كثيراً حتى وصلنا إلى مقرّ الجماعة.

سلّمنا عليهم وكانوا خمسة يحيطون بالشيخ المفتي عزيز الرحمان وكلّهم يلبسون اللّباس السعودي ولحاهم تكشف هويّتهم السلفية ، وكان في أفواههم ورق أو حشيش يلوكونه بأسنانهم ويمتصوّن عصارته ثم يبصقون من حين لآخر في أواني وضعت إلى جانب كلّ واحد منهم.

واشمأزت نفسي لأول وهلة رأيتهم فيها وما شعرت إلاّ بالنّفور وفهمت بأن الجماعة يبادلوني نفس الشعور ، وزيادة خصوصاً وأنا أشاهدهم يبصقون لونا أحمر ظننت أنه دم ، وعرفت فيما بعد بأنه عصير الورق الذي يمضغونه.

وقلت في نفسي : هذا يذكّرني بالحشّاشين وبالغلابة الذين شاهدتهم في اليمن وفي موريطانيا والمغرب وفي كينيا الذين يخدّرون عقولهم بهذا النّوع من « القات » ليسبحوا في بحر النسيان والخيال فهل هؤلاء العلماء الذين دعوني للنّقاش العلميّ يخدّرون عقولهم أيضاً فكيف سأناقشهم وموازينهم العقليّة مختلّة؟

ص: 337

جلست معهم وأنا أبتسم لكل واحد منهم فلا أرى إلاّ وجوها كالحة تنظر إليّ شزرا وكأنها حيوانات مفترسة تريد أن تنقضّ عليّ وتفتك بي.

دعوت السيّد شرف الدين للجلوس بجانبي فأسرع وأخذ بيدي وقدّمني للجماعة وهو يقول : السيد الدكتور التيجاني صاحب كتاب « ثم اهتديت ».

ضحك أحدهم قائلا : ثم اهتدى إلى ماذا؟ إلى الضلالة بلا شك.

وقلت في نفسي : هذه أول لكمة ، فما عليك يا تيجاني إلاّ بالصبر وتحمّل الأذى ما دمت ورطّت نفسك وجئت إليهم تمشي على قدميك.

قلت : سامحك اللّه ، أنا اهتديت لأهل البيت ، العترة الطاهرة علیهم السلام فإذا كان أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً هم ضلالة ، فقولك هذا لا يغضبني بل يزيدني شرفا وافتخارا.

تكلّم الثاني قائلا : هكذا الشيعة دائماً يكذبون على اللّه ويؤولون القرآن على حسب مزاجهم ، فالقرآن يقول صراحة بأن أهل البيت هم نساء النبي صلی اللّه علیه و آله ، وهم يقولون : أهل البيت هم أئمّة الشيّعة.

قلت : نساء النبي صلی اللّه علیه و آله أصدق منا جميعاً فهنّ اللائي قلن صراحة بأن أهل البيت هم أئمّة الشيعة.

ضحك شيخهم الكبير عزيز الرحمان حتى بدت نواجذه وهو يقول : في زمن النبي صلی اللّه علیه و آله ونزول القرآن ما كان هناك شيعة فضلا عن أئمّتهم ، فكيف يقول نساء النبي صلی اللّه علیه و آله بأن أهل البيت هم أئمّة الشيعة؟

فرحت في داخلي وقلت : الحمد لله إن الجماعة لم تغب عقولهم بعد بهذا الحشيش الذي يملأ أفواههم فقلت : لا يا سيّدي الشيخ أنا لم أقصد اللّفظ ولكنّي قصدت المعنى.

ص: 338

فزاد ضحكه واستعجابه وقال : وهل عند الشيعة أن اللّفظ يخالف المعنى؟

قال الذي بجانبه : إنه النّفاق الذي يسمونه التقية.

بدأت أملّ هذا النقاش الذي لا زال في بدايته ، ولكنّي تجلّدت ولم أبالي بالمتكلّم الجديد وتوجهت لشيخهم الكبير ظنّا منّي بأنه أذكاهم وأعلمهم ، وإذا قدرّ له أن يقتنع بكلامي فسيكون فتحاً كبيراً.

قلت : يا سيدي الشيخ دعني أشرح الموضوع بطريقة أخرى ، إن عائشة وأم سلمة أمهات المؤمنين وهنّ نساء النبي صلی اللّه علیه و آله قالتا بأن الآية لم تنزل فينا بل نزلت في محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين علیهم السلام وهؤلاء الأشخاص اتّخذهم الشيعة أئمّة لهم ، فلا يتّقون إلا فيهم ولا يقتدون إلاّ بهم ، وهذا هو قصدي من اللّفظ الذي لا يخالف المعنى.

فضحك بقهقهة حتى شرق بالسّعال وقال : فاطمة علیهاالسلام إمام الشيعة؟ قال رسول اللّه : « لا أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة » فكيف تكون فاطمة أميرالمؤمنين علیه السلام ؟

وضحك هو وكلّ الحاضرين ، وغمزني السيّد شرف الدين أن اصبر على استهزائهم.

التفت إلي أحدهم وقال : الشيعة كلّهم منافقون ويتستّرون بمحبّة أهل البيت علیهم السلام لهدم الإسلام وتخريبه ، ولذلك كان أهل البيت يلعنون الشيعة ويحذّرون المسلمين منهم ومن دسائسهم.

قلت : متى وأين وجدت أهل البيت علیهم السلام يلعنون الشيّعة؟

قال : في نهج البلاغة سيّدنا علي كرّم اللّه وجهه يلعنهم ويشتمهم.

قلت : أو لا سيّدنا علي علیه السلام لم يلعن شيعته ولكن ذمّ الذين تخاذلوا عن

ص: 339

الجهاد في سبيل اللّه ، فهذا هو الموجود في نهج البلاغة ، أمّا ثانياً فأنا أطلب منكم أن تتفاهموا فيما بينكم على أهل البيت ، وتشخّصوهم هل هم نساء النبي صلی اللّه علیه و آله كما ادعيتم منذ قليل أم هو سيّدنا علي علیه السلام كما تقولون الآن؟

فتكلّم أحدهم وكأنه أراد أن ينقذهم من الورطة التي وقعوا فيها فقال : العجيب في الأمر أن الشيعة من حماقتهم يحتجّون بنهج البلاغة ، وهو عندهم كالقرآن الكريم ، وهذا الكتاب يلعنهم ويشتمهم ويكشف كلّ فضائحهم.

وتكلّم الذي بجانبه يؤيّده فقال : الشيعة هم المجوس الذين دخلوا في الإسلام ليتآمروا على المسلمين ، وهم الذين قتلوا سيّدنا عمر وسيّدنا عثمان وسيّدنا علي علیه السلام .

قلت : دعونا من الشيعة فأنا لست لسان الدّفاع عنهم ، وناقشوني أنا فأنا لا أمثل إلاّ نفسي ، وقد كنت مالكيّا ولكن بعد البحث والتنقيب اكتشفت بأني كنت مضلّلا ، وبأن أهل البيت علیه السلام هم أحقّ بالاتباع من غيرهم وقد سمّاهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سفينة النّجاة من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق ، فإن كانت لكم حجّة غير هذه فأقنعوني بها وأعطوني الأدلّة كي اتّبعكم ، وأكن لكم من الشّاكرين ، وإن لم تكن عندكم حجّة ولا دليل ، فاسمعوني واسألوني عسى أن تهتدوا.

قالوا : كيف نستمع إليك وأنت جاهل لا تعرف آيات القرآن ولا أحكامه؟

قلت : فلنحتكم إلى البخاري ومسلم وهما أصحّ الكتب عندكم بعد كتاب اللّه ، وسأعطيكم الأدلّة من البخاري ومسلم على أن أهل البيت علیهم السلام ليسوا نساء النبي صلی اللّه علیه و آله وإنما هم أئمّة الشيعة.

قالوا : كلّ حديث تحتجّون به في البخاري ومسلم هو مدسوس من الشيعة.

ص: 340

ضحكت لهذا القول الرّخيص وقلت : إذا ، ما بقي لكم شيء تعتمدون عليه ما دام الشيعة قد دسوّا في كتبكم وفي صحاحكم ، فلا عبرة لها ولا لمذهبكم القائم عليها.

واستحسن السيّد شرف الدين هذا المنطق فلم يملك نفسه أن ضحك وضحكت معه.

وتكلّم أحدهم وتعمّد التهريج والاستفزاز فقال : من لا يؤمن بخلافة الرّاشدين سيّدنا أبو بكر وسيّدنا عمر وسيّدنا عثمان وسيّدنا علي علیه السلام وسيّدنا معاوية وسيّدنا يزيد رضي اللّه عنهم فليس بمسلم وإنما هو شيعيّ رافضي عليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين.

استغربت لهذا المنطق المتناقض وقلت : معقول أن يترضى أهل السنة على أبي بكر وعمر وعثمان ولكن على يزيد وأبيه معاوية ، فهذا أمر غريب لم أسمع به إلاّ في الهند ، ففي كل بقعة من الدنيا أهل السنّة يقولون قولتهم الشهيرة « العن يزيد ولا تزيد » ، فكيف يترضى المسلمون في الهند عن يزيد.

التفت إلى الشيخ الكبير عزيز الرحمان وسألته أتوافقون هذا على ما قاله؟

فقالوا جميعاً : بأنهم متّفقون على ذلك لأنهم صحابة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومن يسبّ الصّحابة فهو من الزّنادقة الذين يجب قتلهم.

وعرفت وقتها بأن لا فائدة من مواصلة الحديث معهم وفهمت بأنهم يريدون استفزازي وإثارتي لكي ينتقموا منّي ، ويقتلوني بدعوى سبّ الصحابة إذا أقاموا عليّ شاهدين منهم.

ورأيت في أعينهم شرّاً ، وخفت على نفسي وطلبت من مرافقي السيّد شرف الدين أن يرجعني إلى السيّد الموسوي الذي ينتظرنا مدّعيا أنه سيأتي

ص: 341

بنفسه إلينا إذا ما تأخرنا عنه ، وأخرجني السيّد شرف الدين بسرعة وهو يقول إليّ على الدّرج : أسرع يا دكتور قبل أن تحل بنا مصيبة ، وأسرعت مهرولا وراءه وأنا لا أصدّق النّجاة.

ولمّا خرجنا خارج المسجد تنفّس وتنفّست معه ، فاعتذر إليّ على ما وقع وتحسّر كثيراً على هؤلاء الذين كان يعتقد بصلاحهم وغزارة علومهم ، وحمد اللّه مرّة أخرى على سلامتي منهم ، خرجت من عندهم فرحا بنجاتي وأحسست في داخلي بأني ولدت من جديد ، ولكنّي ساخط متأسف على ما وصلت إليه حالة المسلمين في الهند ، وخصوصاً الذين يتزعّمون مراكز الصّدارة ويتسمّون بالعلماء ، وقلت في نفسي : إذا كان العلماء بهذه الدّرجة من التعصّب الأعمى والجهل المركّب ، فكيف تكون حالة عامّة الناس وجهّالهم الذين لا يعرفون غير لغة الخناجر والسّكاكين (1).

ص: 342


1- كتاب فسيروا في الأرض ، الدكتور التيجاني : 269 - 273.

المناظرة الثانية والستون: مناظرة الدكتور التيجاني مع أبي ياسين في طهران

قال الدكتور التيجاني : في إحدى المؤتمرات الإسلامية التي حضرتها في طهران تعرّفت على الأخ محمود الطّاهري الذي يقيم في السويّد وهو تونسي.

كنّا في ليلة الجمعة نقرأ دعاء كميل ولاحظت كثرة البكاء وشدة التّأثر على الأخ محمود ورق له قلبي ، واختليت به بعد الدّعاء فعرّفني على نفسه وأنه من جهة صفاقس كما عبّر عن إعجابه بهذا الدعاء الذي سمعه لأول مرّة ، وأخذ ( يناقشني في ) عدّة مسائل ، ولم يفارقني تلك اللّيلة حتى استبصر قبل الفجر فعلّمته وضوء أهل البيت علیه السلام وصلّيت أمامه وهو يصلّي خلفي ، ونمنا بعدها في الغرفة نفسها.

أعلمني بأنه قدم من السويد بصحبة مجموعة تضمّ تونسيّين ومعهم جزائري واحد ، وألحّ عليّ أن أسهر في الليلة التالية مع المجموعة وافتح لهم موضوع التشيع لعلّهم يهتدون ، اتّفقنا على أن يعمل هو على جمعهم في غرفته ثم يدعوني لأتعرّف عليهم خلال سهرة علميّة.

واجتمعنا وتعارفنا ، عرفوا بأني تونسيّ متشيّع فالبعض يسمع عنّي وكان

ص: 343

يتمنّى رؤيتي ، وتعرّفت عليهم فمنهم الأخ عبد الرحمان الشطّي الذي يدير رابطة المسلمين في ستوكهولم العاصمة السويدية ، ومعه بعض أعضائها ومنهم الأخ الجزائري رشيد بدرة وبدران غزال وكمال مبذر والأخ الأمين بن سعيد ، وكذلك السيد أبو حيدر ، والذين لم يحضر منهم إلاّ رشيد بدرة والأمين بن سعيد.

بدأنا نتحدّث عن الشيعة والفرق بينها وبين أهل السنّة والجماعة ، واستعرضت معهم تاريخ المسلمين باختصار ، كما استعرضت معهم الأحاديث النبوية الصحيحة الدّاعية للتمسّك بأهل البيت علیهم السلام .

كان الحاضرون كلّهم منسجمون يصغون إليّ بإعجاب عدا واحد منهم يكنّى أبو يس ويقول بأنه أمير الجماعة ، يفهم من حديثه واعتراضاته بأنه متأثر بكتب إحسان إلهي ظهير الباكستاني الذي يتحامل على الشيعة ، فكان ينتقد الشيعة ، ولكن بدهاء واضح يحاول تغطيته من حين لآخر بقوله : نحن دعاة الوحدة الإسلامية التي ينادي بها الإمام الخميني ولا نحبّ إثارة الفتن بين المسلمين خصوصاً في هذا الوقت الذي تكالب فيه الشرق والغرب على محق الإسلام.

فأرجوك وأطلب من فضلك أن توقف الحديث ولا تواصل فنحن في غنى عن هذا ونعمل بقوله تعالى : ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (1).

واعتذرت للحاضرين إن كنت أسأت إليهم في شيء لأني ما كنت لأتكلّم في مثل هذا لولا دعوتهم لي وسؤالهم إيّاي.

ص: 344


1- سورة البقرة ، الآية : 141.

وتدخل بعض الحاضرين بالخصوص محمود الطاهري الذي ألح على مواصلة البحث حتى يتجلى الحق ونفهم الواقع الذي نعيشه.

فقال له أبو يس : أي حق وأي واقع ، هو يريد ( مشيرا إلي ) هدم عقيدتنا من الأساس ، أنا أعرف سياسته إنه بدأ كلامه بالطعن في المنافقين وسينتهي بكم بعد ذلك في طعن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وفي أكبر راوية للإسلام أبي هريرة وعائشة أم المؤمنين ، وكان يتكلّم بحدّة ووجهه مصفرّ اللّون.

قلت : سامحك اللّه يا أخي نحن نريد بحثا علميا ولا نريد ملاكمة ، ولماذا أنت تحكم على الإسلام من خلال هؤلاء الرّجال ، والمفروض أنك تحكم على هؤلاء الرجال من خلال الإسلام ، وهذا عين ما قاله الإمام علي علیه السلام : لا يعرف الحق بالرجال إعرف الحق تعرف أهله (1) ، فماذا علينا لو حكمنا على هؤلاء النّاس بأحكام القرآن والسنّة.

قال : أيّ سنّة ، أنت ترفض السنّة ولا تأخذ منها إلاّ ما يعجبك وأنا قرأت ما يقوله الشيعة في أبي هريرة يقولون عنه : كذّاب والعياذ باللّه.

قلت : لا تتسرّع ، وإذا أردت أن تعرف قول السنّة في أبي هريرة فهو كقول الشيعة تماما لا يختلف بعضهم عن بعض ، ولو صبرت قليلا وسمحت لنا بإخراج الأدلة فسوف تغيّر رأيك في الرجل.

قال ضاحكا : هذا أمر غريب كيف يطعن أهل السنة في أبي هريرة ويعدّونه راوية الإسلام ، ويأخذون عنه أكثر الأحاديث؟ هذا عجيب.

استغرب الحاضرون أيضاً وقالوا : لأول مرّة نسمع بمثل هذا.

ص: 345


1- روضة الواعظين ، الفتال النيسابوري : 31 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 40 / 126.

قلت : إذاً موعدنا في الليلة القادمة إن شاء اللّه بعد صلاة العشاء وسآتيكم ( بالأدلة ) المقنعة.

والتقينا في الليلة الثانية وقد جلبت معي من مكتبة المؤتمر التي تعرض الكتب الإسلامية للبيع بأثمان رمزية ، جلبت كتاب الموطّأ للإمام مالك وكتاب صحيح البخاري ، وكان محمود الطاهري فرحا مسرورا منتظرا المفاجأة وقد نقل إليّ قول أمير الجماعة أبو يس الذي حاول أن يثبّط همّتهم ويحلّ عزيمتهم لإلغاء اللّقاء ، ولكن الجماعة أصرّوا على الحضور لكي يعرفوا الأدلّة التي وعدتهم بها ، واضطرّ أبو يس للحضور معهم خوفا عليهم أن يتشيّعوا.

بدأت السهرة بافتتاح قصير من الأخ محمود الطاهري الذي عبّر عن تمسّك الجماعة بمواصلة البحث للوصول إلى الحقيقة ، فهذه الفرصة التي أتاحها اللّه لهم لزيارة إيران الإسلام لعلّها تكون ابتلاءً لهم ، وبدأت كلامي بحمد اللّه والثّناء الذي بشّر عباده الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه ، وقلت لهم : لا شكّ أنكم متشوقون لمطالعة الأدلّة التي وعدتكم بها ، ولكنّي وكما تعلمون أني عابر سبيل مثلكم وليست مكتبتي تحت يدي ، ومع ذلك فقد جئتكم بكتابين وجدتهما هنا وهما لإمامين جليلين من أئمّة أهل السنّة والجماعة ، أما الأول فهو موطّأ الإمام مالك الذي يقولون عنه - رواية عن الشافعي - : ما ظهر على الأرض كتاب بعد كتاب اللّه أصحّ من كتاب مالك (1).

أمّا الثاني فهو صحيح البخاري وهو غنيّ عن التعريف فهو عمدة أهل السنّة والجماعة ، وسوف أطلب أحد المتطوّعين منكم للقراءة ، فتطوّع أحدهم

ص: 346


1- كتاب الموطأ ، الإمام مالك : 1 / 3 ، تنوير الحوالك ، السيوطي : 7.

وأعطيته موطّأ مالك مفتوحا على الصفحة المعنيّة فأخذ يقرأ والكل يستمعون قال :

وحدّثني عن مالك ، عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمان بن الحارث ابن هشام ، أنه سمع أبا بكر بن عبد الرحمان بن الحارث بن هشام يقول : كنت أنا وأبي عند مروان بن الحكم وهو أميرالمدينة فذكر له أن أبا هريرة يقول : من أصبح جنبا أفطر ذلك اليوم فقال مروان : أقسمت عليك يا عبد الرحمان لتذهبنّ إلى أم المؤمنين عائشة وأم سلمة فلتسألنّهما عن ذلك ، فذهب عبد الرحمان وذهبت معه حتى دخلنا على عائشة فسلّم عليها ثم قال : يا أم المؤمنين إنا كنّا عند مروان بن الحكم فذكر له أن أبا هريرة يقول : من أصبح جنباً أفطر ذلك اليوم ، قالت عائشة : ليس كما قال أبو هريرة يا عبد الرحمان أترغب عمّا كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يصنع ، فقال عبد الرحمان : لا واللّه ، قالت عائشة : فاشهد على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنه كان يصبح جنباً من جماع غير احتلام ثم يصوم ذلك اليوم.

قال : ثم خرجنا حتى دخلنا على أم سلمة فسألها عن ذلك فقالت مثل ما قالت عائشة ، قال : فخرجنا حتى جئنا مروان بن الحكم فذكر له عبد الرحمن ما قالتا ، فقال مروان : أقسمت عليك يا أبا محمّد لتركبنّ دابّتي فإنها بالباب فلتذهبن إلى أبي هريرة فإنه بأرضه بالعقيق فلتخبرنّه ذلك ، فركب عبد الرحمان وركبت معه حتى أتينا أبا هريرة ، فتحدّث معه عبد الرحمان ساعة ثم ذكر له ذلك.

فقال أبو هريرة : لا علم لي بذلك إنما أخبرنيه مخبر (1).

ضحك الأخ الجزائري عند سماع هذه العبارة وهو يقول بلهجته : اشنيّة؟

ص: 347


1- كتاب الموطأ ، الإمام مالك : 1 / 290 ح 11.

صار هي وكالة أنباء « متاع قيل وقالوا »؟

قلت : اصبر قليلا وأعطيت الكتاب الثاني وهو صحيح البخاري للمتطوع فأخذ يقرأ : حدّثنا عمر بن حفص حدّثنا أبي حدّثنا الأعمش حدّثنا أبو صالح قال : حدّثني أبو هريرة قال : قال النبي صلی اللّه علیه و آله : أفضل الصدّقة ما ترك غنى ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعوّل ، تقول المرأة : إمّا أن تطعمني وإمّا أن تطلّقني ، ويقول العبد : أطعمني واستعملني ، ويقول الابن : أطعمني إلى من تدعني ، فقالوا : يا أبا هريرة سمعت هذا من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟

قال : لا ، هذا من كيس أبي هريرة (1).

قال محمود الطّاهري وهو يضحك : كلّنا مشينا في كيس أبي هريرة ، وحاول أمير الجماعة أبو يس أن يتفلسف في الحديثين ويجد لهما مخرجا فقال : سبحان اللّه الذي لا ينسى ، أبو هريرة كسائر البشر نسي أو اشتبه عليه الأمر في حديث الجنب الذي يفطر ذلك اليوم فذكّرته أم المؤمنين عائشة فرجع عن رأيه.

أمّا في حديث البخاري الذي يقول : المرأة تقول أطعمني أو طلّقني الخ ...

واعترض عليه بعض الحاضرين الذين لم يقتنعوا بكلامه وقالوا : ليس من حقّ أبي هريرة أن يزيد في الحديث من كيسه ، فمرّة يقول : لا علم لي وإنما أخبرنيه مخبر ، ومرّة يقول : هذا من كيس أبي هريرة ، ومع ذلك فهو يبدأ الحديث بقوله : قال النبي صلی اللّه علیه و آله فهذا كذب صريح على النبي صلی اللّه علیه و آله .

ولمّا كثر الجدال حول هذا واختلف الحاضرون كلّهم يدينون أبا هريرة إلاّ أبو يس بقي المدافع الوحيد الذي حاول تأويل الكلام على غير واقعه.

ص: 348


1- صحيح البخاري : 6 / 190 باب وجوب النفقة على الأهل والعيال.

فتدخلّت بلطف لأحسم هذا النزاع فقلت : يا أخي العزيز سأعطيك دليلا أوضح كي لا يبقى بعده عندك عذر مقبول ، وإن شئت بعده أن تبقى على رأيك فأنت حرّ ، ورأيك محترم.

أعطيته صحيح البخاري وقلت : اقرأ وحدك بصوت عال حتى يسمع الجميع ، وأخذ الكتاب وقرأ : حدّثني عبد اللّه بن محمّد ، حدّثنا هشام بن يوسف ، أخبرنا معز بن الزّهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال النبي صلی اللّه علیه و آله : لا عدوى ولا صفر ولا هامّة ، فقال أعرابي : يا رسول اللّه فما بال الإبل تكون في الرمّل كأنها الطباء فيخالطها البعير الأجرب فيجربها ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لا يوردن ممرّض على مصح.

وأنكر أبو هريرة الحديث الأوقات : قلنا ألم تحدّث أنه لا عدوى ، فرطن بالحبشيّة ، قال أبو سلمة : فما رأيته نسي حديثاً غيره (1).

وصاح فرحا ألم أقل لكم أنه نسي ، ودار الجدال من جديد بينه وبين رفاقه يحاول هو إقناعهم بنزاهة أبي هريرة ملتمسا له عذر السّهو والنسيان والغلط ، وهم لا يقبلون منه هذا الاعتذار ولكنّهم يردّدون : ما كنّا نعرف هذا عن أبي هريرة.

قلت : لو كانت المسألة تتعلّق بالسّهو والنسيان لهانت ، ولكن المسألة غير ذلك تماما لأن أبا هريرة اتّهمه كثير من الصحابة من أجل كثرة الحديث ، وعمر بن الخطّاب نفسه كذّبه في حديث خلق اللّه السماوات والانتشار في سبعة أيّام ، وكذّبته عائشة كما كذّبه أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام ، وحسبكم قراءة

ص: 349


1- صحيح البخاري : 7 / 31 ، باب لاهامة ولا عدوى.

كتاب « شيخ المضيرة » لمؤلفّه الشيخ محمود أبو ريّة العالم المصري الذي كشف عن أكاذيب أبي هريرة وهو سنيّ.

تكلّم الأخ الجزائري فقال : الشيعة يقولون : إن أبا هريرة كذّاب ، ولا يعطون الدليل على كذبه ، والسنّة يقولون بأنه ثقة ولكنّهم يعطون مائة دليل على كذبه.

انفعل أبو يس أمير الجماعة واصفرّ لون وجهه والتفت إليّ ليقول : أنت تستغلّ بسطاء العقول للتأثير عليهم ، أمّا أنا فإني حائز على دكتوراه دولة ولا يمكن أن تؤثّر عليّ.

غضب الأخوة من كلامه وكيف ينتقص من شأنهم ويقول عنهم بسطاء العقول.

فتكلّم الأخ الشطّي رئيس الرّابطة وقال : يا أخ التيجاني نحن معك إلى الصباح وسنستمع لكلّ ما تقوله ، ومن كان عقله بسيطاً فالباب مفتوح ، وما عليه إلاّ الخروج ومغادرة المكان.

وفهم أبو يس أنه المقصود ، لكنّه فهم أيضاً بأنه احترق عندما احتقرهم وسمّاهم بسطاء العقول.

وتدّخلت أنا لتهدئة الجوّ فقلت : يا أخ أبو يس أنا أحترم رأيك ولو لم تكن حائزاً على دكتوراه دولة فأنا لا أريد أنّ أقول لك بأني أنا أيضاً دكتور ، ولكن هذه الشهادات وهذه الألقاب لا تعني بالنسبة إليّ شيئاً لأني تعلّمت من أميرالمؤمنين علیه السلام قوله الحكيم : « قيمة كل امرئ ما يحسنه (1) ، المرء مخبوء تحت

ص: 350


1- نهج البلاغة : 4 / 18 ، رقم : 81 ، روضة الواعظين ، النيسابوري : 109 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 18 / 230.

طيّ لسانه لا تحت طيلسانه » (1).

فقام أبو يس غاضبا وغادر الغرفة وكنت أحاول إبقاءه معنا ولكن الجماعة غمزوني لأدعه يخرج كي يستفيدوا من الجلسة ، ولمّا خلا المكان منه طلبوا منّي تعليمهم كيفيّة الوضوء والصلاة على طريقة أهل البيت علیهم السلام ، ففعلت ، ونزلوا من الغد إلى غرفتي وطلبوا منّي مصاحبتهم إلى معرض الكتاب كي أشير عليهم بالكتب التي تفيدهم ، واشتروا من المعرض كل كتب الشيعة المعروضة ، ولمّا كان يوم المغادرة بعد انتهاء المؤتمر وجّهوا إليّ الدّعوة لزيارتهم في السويد عسى أن أقنع المزيد من رفاقهم ، وأعلموني بأن رابطتهم الإسلامية تنتمي إلى السعوديّة ، وأن الفكر الوهابي انتشر بين المصلّين ، لأن أغلب المسؤولين عن الرابطة يتقاضون مرتّبات شهريّة بالإضافة إلى المبالغ المخصّصة لإحياء شؤون الرّابطة (2).

ص: 351


1- راجع : نهج البلاغة 4 / 38 ، رقم : 148 ، الإرشاد ، المفيد : 300.
2- كتاب فسيروا في الأرض ، الدكتور التيجاني : 281 - 287.

المناظرة الثالثة والستون: مناظرة الدكتور التيجاني مع أبي لبن متعهد الرابطة الإسلامية في استكهولم

قال الدكتور التيجاني : كانت فرحة الإخوان المستبصرين كبيرة خصوصاً الأخ محمود الطّاهري الذي ألحّ عليّ في السّفر معه إلى مدينة قوتو بورق حيث يقيم هناك مع جالية إسلامية كبيرة أغلبها من الأتراك ، واستشرت الإخوة فاستحسنوا ذلك ، وسافرت معه ليلة كاملة في القطار السريع ، وقضيت في بيته يومين نسهر في الليل في المسجد مع المصلين وإمامهم من الأتراك الناطقين بالعربيّة ، وقد استهواه البحث ومال إلى التشيع ، ولكنّه فضل الكتمان على حاله حتى يتكاثر المستبصرون ، ولمّا كان اليوم الثالث اتّصل بنا جماعة استكهولم طالبين منّي القدوم على جناح السرعة ، لأن الجماعة المناوئين استنجدوا بأحد العلماء الكبار الذي قدم من النروج خصيصا لإبطال دعوتي وهو في انتظاري.

وركبت قطار اللّيل ووصلت يوم الجمعة صباحاً ، وكان في انتظاري بالمحطّة ثلاثة من الإخوة ، فأعطوني بعض الإرشادات عن العالم الذي يسمّى أبو لبن ، وهو متخرّج من جامعة الملك عبد العزيز بالسّعوديّة ، وهو الذي يتعهدّ

ص: 352

الرّابطة من حين لآخر ، ويبدو أن السعودية أسّست رابطة إسلامية لنشر الوهابية في كل بلد من البلد الاسكندنافيّة التي تقطنها جاليات إسلامية لا بأس بها.

تركوني لأخذ نصيباً من الرّاحة والنوم لأني قضيت ليلة بيضاء بالقطار ، ولمّا استيقظت كان أحد المستبصرين يروي لنا بأن أبو لبن هو الذي صلّى بالناس صلاة الجمعة ، وقد اكتظّ المسجد بالنّاس فخطبهم خطبة كلّها تكفير للشيعة ، وتحقير لهم ولعقائدهم الزّائفة المزيفة حسب تعبيره ، وكان الغذاء والدّعوة للمناظرة في بيت أحد الإخوة المستبصرين ، وهو من أمثلة العرائس من ولاية قفصة اسمه أحمد العيساوي ، وكان يحبّني كثيرا ، وهو صاحب نكتة وطرافة ، فكان يقول للجماعة : أنا لا أخاف على ولد بلادي.

وجاء أبو لبن ووراءه رجل سوداني يحمل حقيبته اليدويّة ، وهو رجل طويل القامة بلباس عربيّ ، ولحيته تتدلّى على صدره ، وعلى عينيه نظّارات ، قام الجميع يسلّمون عليه وقمت معهم ، قدّموني إليه فكأنه احتقرني ولم يعبأ بوجودي ، وتقدّم صاحب البيت باقتراح طلب فيه تسجيل ما يدور بيننا من جدال ، ووافقت أنا ولكن أبو لبن رفض التسجيل ، وبدأنا الحوار.

قلت : قبل كلّ شيء ما رأيك بالشيّعة؟

وأردت بهذا السؤال أن أحرجه أمام الحاضرين الذين صلّوا معه وسمعوا قوله.

وأراد التخلّص من هذا السؤال ولكنّي أصررت على الإجابة فقال : نحن نكفّر الشيعة لأنهم لا يؤمنون بقرآننا ، وعندهم قرآن خاصّ بهم يسمّونه ، مصحف فاطمة علیهاالسلام ، ضحكت لهذه المعلومات ، وعرفت قيمة مجادلي ، وما مبلغه من

ص: 353

العلم ، فقلت : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً ) (1).

أنت تكفّرنا ، أمّا نحن فلا نكفّرك ، إنما نقول : بأن الدّعايات الأموية ضلّلتك ، ونطلب من اللّه أن يهديك إلى الحق ، وأنا سوف لن أجادلك في قضايا وهميّة ترددونها كالببغاء خلفا عن السلف بدون تحقيق ولا تمحيص ، ولكنّي سوف أجادلك في قضيّة اعتقد أنها من أهم القضايا التي تجمع المسلمين وتنقذهم من النّار ليفوزوا بالجنّة.

قال : هات ما عندك فما هي القضيّة؟

قلت : قضيّة أهل البيت علیهم السلام ووجوب الاقتداء بهم لعصمتهم.

قال : لنبدأ بأهل البيت ، من هم أهل البيت؟ أليست عائشة منهم؟

قلت : لا ، لأن عائشة نفسها ما ادّعت يوما أنها منهم.

قال مستغربا وهو يكلّم الحاضرين : أعندكم مصحف قرآن في البيت؟

قلت : أتريد أن تقرا قوله تعالى : ( يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَد مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ... ) إلى قوله تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) (2).

قال : نعم ، هي هذه.

قلت : هذه لا تقصد نساء النبي صلی اللّه علیه و آله لأن اللّه سبحانه عندما خاطب نساء النبي صلی اللّه علیه و آله خاطبهم بنون النسوة ، فقال لستن ، إن اتقيتنّ ، فلا تخضعن ، وقلن قولا معروفا ، وقرن في بيوتكنّ ولا تبرّجن ، وأقمن الصلاة ، وآتين الزكاة ،

ص: 354


1- سورة المائدة ، الآية : 27.
2- سورة الأحزاب ، الآية : 32 - 33.

وأطعن اللّه ورسوله ، فكلّ هذا خطاب لنساء النبي صلی اللّه علیه و آله لكنّ قوله سبحانه : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) خارج عليهنّ ، ولو كان المقصود بها نساء النبي صلی اللّه علیه و آله لتواصل السياق نفسه وقال : إنما يريد اللّه ليذهب عنكنّ ويطهّركن.

فقال أبو لبن مستهزئا : يبدو أنك لا تعرف اللّغة العربيّة وتجهل قواعدها ، وإلاّ ما وقعت في هذا الخطأ الفاحش.

قلت : لماذا علّمني.

قال : لأن اللغة العربيّة تأتي بنون النّسوة عندما يكون نسوة فقط ، ولو كان عددهنّ ألف امرأة ، أمّا إذا كان بينهنّ رجل واحد فتأتي اللّغة بجمع المذكّر.

قلت : أنا أعرف ذلك ، وهذه من القواعد الابتدائيّة التي نعرفها.

قال : فلماذا تحتجّ عليّ بأنها لا تخصّ نساء النبي صلی اللّه علیه و آله ؟

قلت : لعدّة أسباب وعدّة وجوه سوف أوقفك عليها فيما بعد ، ولكن سلّمت لك جدلا بصحّة ما تذهب إليه ، فسؤالي إليك من هو الرّجل الذي قصده اللّه ودخل مع نساء النبي صلی اللّه علیه و آله في هذه الآية؟

قال بدون تردد : هو سيّدنا علي كرّم اللّه وجهه.

قلت : الحمد لله رب العالمين فهذا يكفيني حجّة ودليلا ، فأنت تقول بأن اللّه أذهب الرّجس وطهّر نساء النبي صلی اللّه علیه و آله جميعاً ومعهنّ الإمام عليّ علیه السلام .

قال : أقول بذلك ، وهذا هو الردّ المناسب لمزاعم الشيعة الذين يريدون إسقاط نساء النبي صلی اللّه علیه و آله من العصمة لأنهم لا يحبّون أم المؤمنين عائشة.

قلت : دعنا من الهروب إلى الهامشيّات ، وخلّنا في صلب الموضوع ، فأنا أعيد عليك أمام الحاضرين لتتأكد ممّا تقول ، فقد قلت : بأن الآية نزلت في نساء

ص: 355

النبي صلی اللّه علیه و آله ومعهم رجل واحد هو علي علیه السلام .

قال : نعم.

قلت : تثبّت لعلّه أبو بكر.

قال : لا.

قلت : لعلّه عمر؟

قال : لا ،

قلت : لعلّه عثمان؟

قال : إنها لم تخصّ من الرّجال إلاّ علي فقط ، فلماذا أنت تكرّر ما نقول؟

قلت : لأن العصمة لم تثبت إلاّ لرجل واحد هو علي بن أبي طالب علیه السلام حسب شهادتك ، وهو دليل قاطع على صحّة عقيدة الشيعة لأن المسلمين مطالبون بالاقتداء بالرّجال دون النّساء ، والمسلمون اتّفقوا كلّهم على أميرالمؤمنين علیه السلام ولم نسمع بأميرة المؤمنين.

فكبّر لذلك الحاضرون وقالوا : إنها حجّة قاطعة يا أبا لبن.

قال : نحن علماؤنا كلّهم متّفقون على نزول الآية في نساء النبي صلی اللّه علیه و آله .

قلت : اتّق اللّه يا رجل ، أنا أقول قال اللّه ، وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأنت تقول : قال العلماء ، أفتقدّم قول العلماء على قول الرّسول صلی اللّه علیه و آله .

قال : ماذا قال الرّسول صلی اللّه علیه و آله .

قلت : جمع تحت كساء : نفسه وعليّاً وفاطمة والحسن والحسين علیهم السلام ثم قال : « اللّهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرّجس » فنزلت الآية (1).

ص: 356


1- 1 - سنن الترمذي : 5 / 30 - 31 ح 3258 ، أسباب النزول ، الواحدي : 239 ، مسند أحمد بن حنبل : 6 / 292، مناقب أميرالمؤمنين علیه السلام ، الكوفي : 1 / 157 ح 92 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 3 / 54 ح 2666 ، تاريخ دمشق ، ابن عساكر : 14 / 141 ، الدر المنثور ، السيوطي : 5 / 198 ، ذخائر العقبى ، الطبري : 21.

قال : هذا ما يقوله الشيعة.

قلت : اتّق اللّه في الشيعة فإنهم لا يقولون إلاّ قول اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله ، وهذا الذي تنكره أنت ذكره صحاح السنّه.

قال : ما رأيت عند علماء السنّة وفي صحاحهم هذا أبدأ.

قلت لصاحب البيت : هل لك أن تأتينا بصحيح مسلم؟ فأحضره فناولته لأبي لبن ليقرأ في فضائل أهل البيت علیهم السلام أن عائشة هي التي روت رواية الكساء ونزول الآية في هؤلاء الخمسة المذكورين (1) ، فلمّا قرأ ذلك في صحيح مسلم تغيّر لونه وتلعثم في الكلام.

وظهر عجزه قلت : أعرفت لماذا نحن نخصّ هؤلاء بنزول الآية ، لأن عائشة التي تريدون إلصاقها بالآية لا توافقكم هي نفسها على ذلك ، وكذلك أم سلمة من نساء النبي صلی اللّه علیه و آله قالت : أردت الدّخول معهم تحت الكساء فمنعني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال : أنت إلى خير (2).

ص: 357


1- صحيح مسلم : 7 / 130 ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 147 ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نزلت هذه الآية في خمسة ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) في وفي علي وفاطمة وحسن وحسين. تاريخ دمشق ، ابن عساكر : 13 / 206، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 9 / 167 ، نظم درر المسطين ، الزرندي : 238 ، جامع البيان ، ابن جرير الطبري : 22 / 9 ح 21727 ، الدر المنثور ، السيوطي : 5 / 198 ، تفسير ابن كثير : 3 / 494.
2- راجع : المعجم الكبير ، الطبراني : 3 / 52 - 53 ح 2662 ، تاريخ دمشق ، ابن عساكر : 14 / 139 ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 346 - 347.

وقام الأخ رشيد الجزائري وقال متوجّها إلى أبي لبن وهو يضحك : أنا من اليوم سأسميك أبا لهب ، لأنك تترك قول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وتتبع قول العلماء الذين علّموك ..

وانتهت الجلسة على أحسن ما يرام وازداد المستبصرون بذلك فرحا وابتهاجا.

وما خرجت من السويد حتى انقلبت الرّابطة إلى شبه حسينيّة.

واستقدموا بعد ذلك شيخا معمّما من قم المقدّسة ، وأسسوا مسجداً للشيعة هناك يديره جماعة المستبصرين بمعيّة مجموعة من العراقيّين على رأسهم السيد أبو حيدر الذي ساهم بكل جهوده وأمواله في إنجاح المشروع (1).

ص: 358


1- كتاب فسيروا في الأرض ، الدكتور التيجاني : 291 - 295.

المناظرة الرابعة والستون: مناظرة الدكتور التيجاني مع شرف الدين المصري إمام الرابطة في السويد

قال الدكتور التيجاني : وجاء اليوم الموعود واستقبلني الأخوة بالمطار في العاصمة السوّيدية ستوكهولم ، ونزلت ضيفا عند الأخ الشّطي رئيس الرّابطة وفي يومين وخلال محاضرتين انقسمت الرّابطة إلى قسمين وتشيّع أغلبهم بإعانة الإخوة الذين عرفتهم خلال المؤتمر ، وكان أشدّ النّاس حماسا للتشيّع الأخ محمود الطّاهري والأخ الجزائري رشيد بدرة ، ولكن إمام الرّابطة شرف الدين المصري ومعاونه حسين التونسي بقيا معادين ومعاندين.

وبدأ الإمام يحسّ بالعزلة شيئاً فشيئا فلجأ إلى المواجهة والهجوم العنيف على الشيعة وقال فيما قال : أنا أعرف أن علماء الشيعة كذّابين ومنافقين ، وأن أعظم كتاب عندهم هو كتاب المراجعات الذي يفتخر به الدكتور التيجاني نفسه ، هذا الكتاب كلّه كذب ونفاق.

استفزّني كلامه الذي قاله بمحضر أكثر من عشرين رجلا فقلت : اتّق اللّه فأنت إمام الجماعة والمفروض أن الإمام يكون مثال الصدّق والأمانة ، ولا يقول

ص: 359

بما لا يعلم ، فكيف لو طالبتك بالدليل على ادّعائك.

قال : عندي دليل على ما أقول وأنا لا أتكلم إلاّ بما أعلم.

استغربت منه هذه الجرأة وتحدّيته أمام الحاضرين قائلا : إن هذا الكتاب هو بالفعل من أعظم الكتب التي أثّرت فيّ شخصيّاً ، وقد تتبّعته بالبحث فوجدته ينقل بدقّة ، أعني مؤلّفه وهو السيد شرف الدين الموسوي ينقل بدقّة وأمانة فلا يزيد ولا ينقص ، فأنا أتحدّاك أمام الحاضرين إن جئتني بكذبة واحدة في كتابه فسوف ألعنه أمام الجميع وألعن الشيعة معه.

قال : أتشهدون عليه يا جماعة؟

قالوا : لقد حكم على نفسه بنفسه.

قلت : وهو كذلك.

قال : موعدنا الليلة وسآتيكم بالدليل القاطع ، إن شاء اللّه.

قال الأخ الجزائري : السهرة الليلة في بيتي فأنتم كلّكم مدعوّون للعشاء عندي ، وبعد العشاء نبحث في الموضوع ، وكان الاتّفاق على ذلك.

بقي الأخ محمود الطاهري متخوّفاً ويحذّرني من الإمام على أنه مثقّف ، ومطّلع على أمور كثيرة ، وأغلب النّاس يثقون بعلمه فلو انتصر عليك ، لاقدّر اللّه فستكون ردّة لكلّ من تشيّعوا ، فهدّأت من روعه وطمأنته بأن شرف الدين الشيعي أعلم من شرف الدين السنّي.

وكان اللقاء ، الإمام المصري يتبعه معاونه حسين التونسي ويحمل حقيبته ، وبعد تناول العشاء وقضاء فريضة الصّلاة ، افتتح صاحب البيت الأخ رشيد بدرة الجلسة بكلمة وجيزة دعا فيها الحاضرين ، وكانوا يزيدون على الثلاثين رجلا ، ونساءهم في الغرفة المجاورة ، دعاهم كلّهم لاحترام المجالس العلميّة ولزوم

ص: 360

الصمت ، وقال : كلّنا نستمع للدكتور التيجاني والإمام شرف الدّين ، فلسنا هنا للخصام ولا للملاكمة ، وإنما نحن نريد الوصول إلى الحقيقة ، وهذه الحقيقة قد تكون مع التيجاني وقد تكون من شرف الدين ، فنحن يجب أن نكون مع الحقّ لا مع الأشخاص.

أخرج الإمام شرف الدين المصري من حقيبته كتاب النصّ والاجتهاد ، ثم أخرج معه صحيح البخاري وفتح كتاب النص والاجتهاد وأعطاني إيّاه ، وطلب مني قراءة الصفحة المسطرة ، وقرأتها وأنا أعرفها فهي تتعلّق باجتهاد عمر بن الخطّاب عندما جذب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من قميصه وهو يصلّي على عبد اللّه ابن أبي المنافق وقال له : إن اللّه نهاك أن تصلي على المنافقين (1).

قلت : وماذا فيها فالقضيّة معروفة ولا ينكرها أيّ باحث.

قال : نعم أنا لا أجادل في القضيّة ، وإنما في العالم الشيعي الذي يكذب ويقلّب الحقائق.

قلت : وكيف ذلك ، ما وجدت في القصّة كذبا ولا تقليباً للحقيقة أعدت القراءة ، خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يصلّى على عبداللّه بن أبي ، فجاء عمر فجذبه من قميصه.

قال : قف هنا واقرأ التعليق الذي كتبته أنا ، فقرأت على الحاشية وقد سطّر كلمة فجذبه بسطرين ، قوله : انظروا إلى هذا الكذّاب الدجّال الذي يحرّف الكلام عن مواضعه ، ثم أولغ سباً وشتماً في المؤلّف وفي الشيعة عامّة.

فقلت مستغرباً : ما فهمت حتى الآن قصدك ، وأين الكذب والتحريف أنا ما

ص: 361


1- صحيح البخاري : 7 / 36 ، سنن النسائي : 4 / 36 - 37.

رأيته.

قال : إنه هنا يستشهد بالبخاري وها هو البخاري أمامنا ، خذ اقرأ بنفسك ما ذكره البخاري ، وناولني كتاب البخاري فقرأت : فجاء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليصلّي عليه ، فمسكه عمر (1).

قلت : ما هو الفرق بين هذا وذاك المهمّ أن عمر منع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من الصلاة وأنا لا أرى فرقا بين جذبه أو مسكه.

فصاح قائلا : وهذه مصيبتك ، أنت جاهل باللّغة العربيّة ، ولا تفرّق بين جذبه ومسكه ، فلفظ مسكه تعني اللين واللّطف ، وجذبه تعني الشدّة والعنف ، وسيّدنا عمر كما يقول البخاري : مسك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله برفق ولطف ، وليس كما يقول عالم الشيعة : جذبه ، وهو يوحي بتحريفه ، هذا على أن سيّدنا عمر كان يستعمل الشدّة والعنف مع حضرة الرسول صلی اللّه علیه و آله .

ونظرت حولي إلى الحاضرين وقد انتكست رؤوسهم ، وأوجست في نفسي خيفة أمام شرف الدين الذي أخذ يصول ويجول بنخوة الانتصار عليّ أمام الجموع الحاضرة ، لأني تحديته أمامهم إن جاءني بكذبة واحدة فسألعن الشيعة وعلى رأسهم صاحب المراجعات ، وها هي الكذبة واضحة في نظر الحاضرين لأن شرف الدين الموسوي أبدل كلمة مسكه بكلمة جذبه ، وهذه خيانة علميّة.

وفجأة جاءني الجواب وقرأت من جديد ما كتبه شرف الدين قائلا : وإليك منه ما أخرجه البخاري في كتاب اللباس من صحيحه ، وراجعت كتاب البخاري الذي جاء به الإمام معه فوجدته يستدلّ بغير الكتاب الذي ذكره شرف الدين

ص: 362


1- راجع : صحيح البخاري : 2 / 100 ، وجاء في ص 206 : فقام عمر فأخذ بثوب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .. الخ.

الموسوي ، عند ذلك ، فهمت وقلت لشرف الدين المصري : لا تتسرّع بفرحة الانتصار ، وأنا أتّهمك أنت الآن بالدّس ، فلماذا لم تأت بالجزء المذكور ، والذي فيه كتاب اللباس ، فإن كنت تعلم فتلك مصيبة ، وإن كنت لا تعلم فالمصيبة أعظم.

قال صائحا يسأل الحاضرين : أهناك كتاب آخر للبخاري غير هذا؟

قلت : لا ، أنا أقصد لماذا لم تأت بالأجزاء كلّها وجئت بهذا الجزء فقط؟ لأني أعرف أن البخاري ينقل الحادثة في عدّة أبواب من صحيحه ، ويتصرّف في الحديث فيغيّر هو معانيه حفاظاً على كرامة الصّحابة ، ولو كان ذلك على حساب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فتهلّل وجه صاحب البيت رشيد بدرة وقال : أنا عندي صحيح البخاري هنا بكل أجزائه.

فقلت : هلم به إلينا ، وفي لحظة جاء الكتاب وأخرجت كتاب اللباس الذي استدلّ به شرف الدين الموسوي وإذا فيه : فجاء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليصلّي عليه فجذبه عمر ، فصاح رشيد بدرة : اللّه أكبر وتهلل الحاضرون كلّهم ، وانتكس الإمام المصري لأنه أصيب بذهول وتبيّن لي أنه ما كان يعرف بوجود هذا الحديث ، ولكنّه لمجرّد ما فتح البخاري ووجد كلمة مسكه عوضاً عن جذبه ظنّ المسكين أنه اكتشف زيف الشيعة وأكاذيبهم فطأطأ برأسه إلى الأرض ، ولم يزد شيئاً رغم الكلمات النابية التي وجّهها إليه الأخ رشيد بدرة الذي قال له فيها : يا شرف الدين كنّا نظنّك عالما متبحّرا فإذا بك فارغ ، وتتّهم العلماء الأجلاء بالكذب والدّجل ، وتسبّ وتشتم أناساً أبرياء أفضوا أمرهم إلى اللّه.

فقام معاونه حسين التونسي لينقذ الموقف ، ويخرج زميله من الورطة التي وقع فيها ، فقال موجّها كلامه إليّ : إن إمامك الذي تدعو إليه عنده شذوذ فهو يجيز

ص: 363

نكاح المرأة من دبرها ، استغربت منه هذا القول ، وهو الذي لم يتكلّم أبداً ، وكان يمتاز بالسّكوت والاستماع.

قلت : أي إمام دعوتك إليه؟

قال : الإمام الخميني.

التفت للحاضرين وسألتهم : هل كلّمتكم منذ قدمت إليكم عن الإمام الخميني؟

قالوا : ما سمعنا منك إلاّ الكلام عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام ولم نسمعك أبدأ تتكلّم عن الإمام الخميني.

قلت له : لماذا تتّهمني بشيء لم يقع أبدأ هذا أولا ، أمّا ثانياً فلماذا تنكر على الإمام الخميني ، وتتّهمه بالشّذوذ في مسألة فقهيّة اختلف فيها الصّحابة أنفسهم بين مانع ومكره ومجيز ، وإذا استنكرت ذلك على الإمام الخميني ، الذي قال : بالكراهة ، لماذا لم تستنكره على البخاري الذي قال بجوازه قبل ألف عام.

فقال : حاشى البخاري من هذه السّفاسف.

قلت : البخاري بين أيدينا ، وفي لحظة وجيزة أخرجت له وللحاضرين قول البخاري عن عبداللّه بن عمر في تفسير قوله تعالى : ( نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ) (1) قال يأتيها في ... (2) واستفظع الكلمة فلم يكتبها (3).

ص: 364


1- سورة البقرة ، الآية : 223.
2- صحيح البخاري : 5 / 160.
3- جاء في كتاب جامع البيان لابن جرير الطبري : 2 / 535 : بإسناده عن نافع قال : كنت أمسك على ابن عمر المصحف ، اذتلا هذه الآية : ( نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ) فقال : أن يأتيها في دبرها. وعن نافع أيضاً عن ابن عمر أن هذه الآية نزلت في إتيان النساء في أدبارهن.

فلمّا قرأ الأخ رشيد بدرة هذا الحديث غضب وقال للتّونسي : أنت أيضاً تريد طمس الحقيقة ونصرة الباطل ، غداً خذ أدباشك ، وارجع من حيث أتيت ، فأنا لا أكفلك أبداً ، وانتهى كل شيء بيننا.

وتبيّن لي أن التّونسي جيء به من باريس ليؤمّ المصلّين في غياب الإمام المصري الذي يتغيّب شهورا عندما يسافر إلى مصر ، ووعد الأخ رشيد بدرة أن يزوّجه من سوّيدية ، ويحضرّ له أوراق الإقامة والمعاملات القانونيّة.

وحاولت إقناع الأخ الجزائري بإتمام ما وعده به فرفض قائلا : أنا لا أعين الباطل ، ولا أكون للظّالمين ناصرا ، وقد تبيّن لي أن هؤلاء فارغين ونحن كنّا غافلين (1).

ص: 365


1- كتاب فسيروا في الأرض ، الدكتور التيجاني : 287 - 291.

المناظرة الخامسة والستون: مناظرة الدكتور التيجاني مع بعض السلفيين في مسألة التوسّل والاستشفاع بالنبي صلی اللّه علیه و آله

قال الدكتور التيجاني : أعلمني صديقي الأستاذ التونسي بأنّ صديقه السعودي سيأتي في الغد لإجراء محاورة علمية معي ، وقال : بأنه استدعى لذلك مجموعة من الأساتذة ليشاركوا في الحوار ليستفيد الجميع ، وقال : بأنّه هيأ الغداء ، فاليوم هو يوم عطلة الأسبوع ، وعندنا الوقت الكافي ، وكم نحن مشتاقون لمثل هذه المجالس ، ثم أضاف : ونحن نريدك منتصراً فلا تخجّلنا ، لأنّ هذا السعودي « ما كِلْنَا بقرعة » (1).

وفي الساعة الموعودة توافد على البيت الأساتذة ومعهم العالم الوهّابي ، وكان مجموعهم سبعة ، أضف إليهم صاحب البيت ، وشخصي الحقير ، فصار المجلس يضمّ تسعة أشخاص.

بعد أكل سريع ودردشة أثناء الأكل ، قد لا يخلو منها مجلس بدأنا الحوار ،

ص: 366


1- جاء في الهامش : هو تعبير شائع عند العامة في تونس ومعناه يتكلم وحده ولا يترك لنا فرصة للكلام.

وكان موضوعه المطروح التوسّل والوساطة بين العبد وربّه.

كنت من القائلين بالتوسّل إليه سبحانه وتعالى بأنبيائه ورسله وأوليائه الصّالحين ، وأن الإنسان قد يحجب دعاءه كثرة الذنوب والإنشغال بالدنيا فيستشفع إلى اللّه سبحانه بأوليائه وأحبابه.

قال : هذا شرك ، وأن اللّه لا يغفر أن يشرك به ..

قلت : وما دليلك على أنه شركٌ باللّه؟

قال : ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً ) (1) ، هذه آية صريحة في تحريم الدعاء لغير اللّه ، فمن دعا غير اللّه فقد جعل له شريكاً ينفع ويضرّ ، والنّافع والضّار هو اللّه وحده.

إستحسن بعض الحاضرين كلامه وأراد تأييده فاستوقفه صاحب البيت قائلا : مهلا ، مهلا ، لقد دعوتكم لا للجدال ولا للمباراة ، وإنّما دعوتكم للإستماع لهذين العالمين ، فهذا التونسي عرفته من قديم ولكنّي فوجئت بأنه شيعي يتبع أهل البيت ، علیهم السلام وهذا صديقنا السعودي ، وكلّكم تعرفونه وتعرفون عقيدته ، فما علينا إلاّ الاستماع إليهما ، وإلى ما يدليان به من حجج إلى أن يفرغا من بحثهما ويستوفيا ما عندهما ، بعد ذلك نفسح المجال للنقاش ليشارك فيه كل من أراد.

شكرناه على هذا الأسلوب وهذا اللطف ، وواصلنا الحديث فقلت : أنا أوافقك على أنّ اللّه سبحانه هو وحده النّافع والضارّ ولا أحد غيره ، ولا يخالفك أحدٌ من المسلمين في ذلك ، إنّما اختلافنا في التوسّل ، فالذي يتوسّل برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مثلا يعرف أنّ محمّداً لا ينفع ولا يضرّ ، ولكنّ دعاءه مستجاب عند اللّه ،

ص: 367


1- سورة الجن ، الآية : 18.

فإذا سأل محمّدٌ ربّه قائلا : اللّهم ارحم هذا العبد ، أو اغفر لهذا العبد ، أو اغني هذا العبد ، فإنّ اللّه سبحانه يستجيبُ له ، والرّوايات الصحيحة الواردة في هذا المعنى كثيرة جداً ، منها : أنّ أحد الصحابة كان أعمى فجاء إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وطلب منه أن يدعو اللّه له ليفتح بصره ، فأمره الرسول صلی اللّه علیه و آله بأن يتوضّأ ويصلّي لله ركعتين ، ثم يقول : اللّهم إني أتوسّل إليك بحبيبك محمّد إلاّ ما فتحت بصري ففتح اللّه بصرهُ (1).

وكذلك ثعلبة ذلك الصحابي الفقير المعدوم الذي جاء للنبي صلی اللّه علیه و آله وطلب منه أن يسأل اللّه له الغنى لأنه يحبّ أن يتصدّق ، ويكون من المحسنين ، وسأل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ربّهُ فاستجاب له ، وأغنى ثعلبة ، فأصبح من الأغنياء حتّى ضاقت بأنعامه أرجاء المدينة فلم يعد يحضر الصّلاة ، ومنع إعطاء الزكاة. والقصة

ص: 368


1- روى الترمذي في السنن : 5 / 229 ح 3649 بالإسناد عن عثمان بن حنيف : أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلی اللّه علیه و آله فقال : ادع اللّه أن يعافيني ، قال : إن شئت دعوت ، وإن شئت صبرت فهو خير لك ، قال : فادعه ، قال : فأمره أن يتوضأ فيحسن وضؤه ويدعوه بهذا الدعاء : اللّهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمّد نبي الرحمة ، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي لي ، اللّهم فشفعه في. قال : هذا حديث حسن صحيح. ورواه ابن ماجة في السنن : 1 / 441 ح 1385 وقال : قال أبو إسحاق : هذا حديث صحيح ، ومسند أحمد بن حنبل : 4 / 138، السنن الكبرى ، النسائي : 6 / 169 ح 10494 - 10496 ، أسد الغابة ، ابن الأثير : 3 / 371 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 6 / 24 ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 1 / 313 ، وقال : هذا صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، ورواه أيضاً في ص 519. ورواه في ص 526 وجاء في الحديث بعد الدعاء : فدعا بهذا الدعاء فقام وقد أبصر ، ورواه أيضاً ثانية في نفس الصفحة وجاء في آخره : قال عثمان : فو اللّه ما تفرقنا ولا طال بنا الحديث حتى دخل الرجل وكأنه لم يكن به ضر قط ، ثم قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه.

معروفة ومشهورة عند النّاس كافة (1).

كذلك كان النبي صلی اللّه علیه و آله يوماً يصف لأصحابه نعيم الجنّة ، وما أعدّه اللّه سبحانه لسكّانها ، فقام عكاشة فقال : يا رسول اللّه أدعو اللّه أن يجعلني منهم ، فقال رسول اللّه : اللّهمّ اجعله منهم ، فقام آخر فقال : وأنا يا رسول اللّه ، فقال : لقد سبقك بها عكاشة (2).

ففي الرّوايات الثلاثة دليل قاطع على أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جعل نفسه واسطة بين اللّه والعباد.

قاطعني الوهابيّ بقوله : أنا أستدل عليه بالقرآن الكريم ، وهو يستدل عليَّ بالأحاديث الضعيفة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

قلت : القرآن الكريم يقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ ) (3).

قال : الوسيلة هي العمل الصالح!

قلت : آيات العمل الصالح كثيرة ومحكمة ففيها يقول سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) (4) ولكن في هذه الآية قال : ( وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ )

ص: 369


1- أسباب النزول ، الواحدي : 170 - 172 ، تفسير القرطبي : 8 / 209 ، الدر المنثور ، السيوطي : 260 - 261 ، تفسير ابن كثير : 2 / 388 ، في تفسير قوله تعالى : ( وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ) سورة التوبة ، الآية : 75 ، أسد الغاية ، ابن الأثير : 1 / 237.
2- مسند أحمد بن حنبل : 1 / 420 ، صحيح البخاري : 7 / 40 ، صحيح مسلم : 1 / 136 ، المستدرك ، الحاكم : 3 / 228.
3- سورة المائدة ، الآية 35.
4- سورة البقرة ، الآية : 25.

وفي آية أخرى قال : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) (1).

وهاتان الآيتان تفيدان البحث عن وسيلة يتوسل بها إليه سبحانه ، وذلك مع التقوى والعمل الصالح ألم تر أن اللّه قال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ ) (2) فقدّم الإيمان والتقوى على ابتغاء الوسيلة؟

قال : أكثر العلماء يفسّرون الوسيلة بالعمل الصالح.

قلت : دعنا من التفسير وأقوال العلماء ، ما رأيك لو أثبت لك الوساطة من القرآن نفسه؟

قال : مستحيل إلاّ أن يكون قرآن لا نعرفه!

قلت : أعرف ماذا تقصد ، سامحك اللّه ، ولكنّي سوف أثبت ذلك من القرآن الذي نعرفه جميعاً ، ثم قرأتُ ( قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (3) فلماذا لم يقل سيدنا يعقوب نبي اللّه علیه السلام لأولاده : استغفروا اللّه وحدكم ، ولا تجعلوني وسيطاً بينكم وبين خالقكم ، بل أقرّهم على تلك الوساطة فقال : ( سوف أستغفر لكم ربّي ) فجعل نفسه بذلك وسيلة إلى اللّه لأولاده؟!

أحسّ الوهّابي بحرج لدفع هذه الآيات البيّنات التي لا مجال للتشكيك فيها ، ولا لتأويلها فقال : ما لنا وليعقوب علیه السلام وهو من بني إسرائيل ، وقد نُسخت شريعته بشريعة الإسلام.

قلت : سأعطيك الدليل من شريعة الإسلام ، من شريعة نبي الإسلام محمّد

ص: 370


1- سورة الإسراء ، الآية : 57.
2- سورة المائدة ، الآية : 278.
3- سورة يوسف ، الآية : 97 و 98.

رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

قال : نستمع إليك.

فقلت : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رحِيماً ) (1).

فلماذا يأمرهم اللّه بالمجيء إلى الرّسول صلی اللّه علیه و آله ليستغفروا عنده ، ثم يستغفر لهم الرّسول صلی اللّه علیه و آله فهذا دليل قاطع على أنّه صلی اللّه علیه و آله هو واسطتهم إلى اللّه ولا يغفر اللّه لهم إلاّ به.

فقال الحاضرون : هذا دليل ما بعده دليل ، وأحسّ الوهابيّ بالهزيمة فاستطرد يقول : ذاك صحيح عندما كان حيّاً ، ولكن الرّجال مات منذ أربعة عشر قرناً.

قلت مستغرباً : كيف تقول عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله رجّال مات؟! رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حيّ وليس بميّت.

فضحك من قولي مستهزءاً قائلا : القرآن قال له : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ) (2).

قلت : والقرآن نفسه يقول : ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (3) وقال : ( وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ ) (4).

ص: 371


1- سورة النساء ، الآية : 64.
2- سورة الزمر ، الآية : 30.
3- سورة آل عمران ، الآية : 169.
4- سورة البقرة ، الآية : 154.

قال : هذه الآيات تتكلّم عن الشهداء الذين يقتلون في سبيل اللّه ، ولا علاقة لها بمحمّد.

قلت : سبحان اللّه ، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه ، أأنت تنزل بمرتبة النبي محمّد حبيب اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى درجة هي أقل من رتبة الشهيد ، وكأنّك تريد أن تقول بأن أحمد بن حنبل مات شهيداً ، فهو حيّ عند ربّه يرزق ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ميّتٌ كسائر الأموات؟!

قال : هذا ما يقوله القرآن الكريم.

قلت : الحمد لله أن كشف لنا عن هويّتكم ، وعرّفنا على حقيقتكم بألسنتكم ، وقد حاولتم جهودكم طمس آثار الرسول صلی اللّه علیه و آله ووصل الأمر بكم أن حاولتم إعفاء قبره ، كما أعفيتم البيت الذي ولد فيه.

وهنا تدخَّل صاحب البيت ليقول لي : لا نخرج عن دائرة القرآن والسنّة وهذا ما اتفقنا عليه.

اعتذرت وقلت : المهمّ أنّ صاحبنا اعترف بالوسيلة في حياة النبي صلی اللّه علیه و آله ونفاها بعد وفاته.

فقال الحاضرون جميعاً : وهو كذلك ، وسألوه من جديد : أنت وافقت بأنّ الوساطة كانت جائزة في حياة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؟

أجاب : كانت جائزة في حياته وهي غير جائزة الآن بعد وفاته صلی اللّه علیه و آله .

فقلت : الحمد لله ، لأول مرّة تعترف الوهابيّة بالوسيلة وهذا فتح كبير.

واسمحوا لي بأن أضيف أنّ الوسيلة جائزة حتى بعد وفاة الرسول صلی اللّه علیه و آله .

قال الوهّابي : واللّه لا يجوز ، ذلك من الشرك.

فقلت : مهلا ، ولا تتسرّع وتقسم فتندم على ذلك.

ص: 372

قال : هات الدليل من القرآن.

قلت : أنت تطلب المستحيل لأنّ نزول الوحي انقطع بوفاة محمّد صلی اللّه علیه و آله ، فلا بد من الإستدلال من كتب الحديث.

فقال : نحن لا نقبل الحديث إلاّ إذا كان صحيحاً ، أمّا ما يقوله الشيعة فلا نعتبره شيئاً.

قلتُ : هل تثق في صحيح البخاري ، وهو أصح الكتب عندكم بعد كتاب اللّه؟

قال مستغرباً : البخاري يقول بجواز الوسيلة؟!

قلتُ : نعم يقول بذلك ، ولكن مع الأسف لا تقرأون ما في صحاحكم ، ورغم ذلك تعاندون تعصّباً لأرائكم فقد أخرج البخاري في صحيحه أنّ عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعبّاس بن عبد المطّلب فقال : اللّهمّ إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا صلی اللّه علیه و آله فتسقينا وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا ، قال : فيسقون » (1).

ثم قلت له : هذا عمر بن الخطّاب وهو عندكم أعظم الصّحابة ولا شك عندك في إخلاصه ، وقوة إيمانه ، وحسن عقيدته ، فإنكم تقولون : لو كان نبي بعد محمّد لكان عمر بن الخطاب (2) ، وأنت الآن بين أمرين لا ثالث لهما ، إمّا أن

ص: 373


1- صحيح البخاري : 2 / 16 ، 4 / 209 ، السنن الكبرى ، البيهقي : 3 / 352 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 1 / 72 ح 84 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد 4 / 28 - 29 ، تاريخ دمشق ، ابن عساكر : 26 / 355 ، ذخائر العقبى ، الطبري : 198 - 199.
2- راجع : مسند أحمد بن حنبل : 4 / 154 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 17 / 180 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 12 / 178 ، تذكرة الموضوعات ، الفتني ، 94 ، فيض القدير ، المناوي : 5 / 414 ح 7469 ، كشف الخفاء ، العجلوني : 2 / 154 ح 2094.

تعترف بأنّ التوسل هو من صميم الدين الإسلامي ، وقول عمر بن الخطّاب : إنّا كنا نتوسل إليك بنبيّنا ، وإنا نتوسل إليك بعمّ نبيّنا ، هو إقرارٌ بالتوسّل في حياة النبي صلی اللّه علیه و آله وبعد حياة النبيّ ، وإمّا أن تقول : بأنّ عمر بن الخطاب مشرك ، لأنه جعل العبّاس بن عبد المطلب وسيلته إلى اللّه ، والعبّاس كما هو معلوم ليس بنبيّ ولا إمام ، وليس هو من أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً.

أضف إلى ذلك أنّ البخاري وهو إمام المحدّثين عندكم الذي أخرج هذه القصة معترفاً بصحّتها ، ثم أضاف بقوله : كانوا إذا قحطوا استسقوا بالعبّاس فيسقون ، ويعني بذلك أن اللّه يستجيب لهم.

فالبخاري والمحدّثين من الصحابة الذين رووا هذا وكل أهل السنة والجماعة الذين يعتقدون صحة البخاري كلّهم عندكم مشركون؟!

قال الوهّابي : لو صحّ هذا الحديث فهو حجّة عليك.

قلت : وكيف يكون حجّةً عليَّ؟!

قال : لأن سيدنا عمر لم يتوسّل بالنبيّ صلی اللّه علیه و آله لأنه ميّتٌ ، وتوسل بالعباس لأنه حيّ.

قلت : إنّ عمل وقول عمر بن الخطّاب ليس عندي بحجة ، ولا أقيم له وزناً ، وإنّما استعرضت هذه الرواية للإستدلال بها على موضوع البحث ، وهو إنكارك وإنكار كل علمائكم التوسّل ، واعتباره شركاً باللّه.

وإني أتساءل لماذا لم يتوسّل عمر بن الخطاب أثناء القحط بعلي بن أبي طالب علیه السلام الذي هو من محمّد كمنزلة هارون من موسى ، ولم يقل أحدٌ من المسلمين بأنّ العبّاس أفضل من عليّ ، ولكن هذا موضوع آخر لا يهمّنا في هذا

ص: 374

البحث ، ونكتفي بالقول : بأنكم الآن تعترفون بالوسيلة بالأحياء ، فهذا بالنسبة إليَّ انتصارٌ كبير أحمد اللّه عليه أن جعل حجتنا هي البالغة ، وجعل حجتكم هي الباطلة (1).

ص: 375


1- كل الحلول عند آل الرسول صلی اللّه علیه و آله ، الدكتور التيجاني : 229 - 237.

المناظرة السادسة والستون: مناظرة لدكتور التيجاني مع بعض السلفيّة في مشروعيّة زيارة القبور

قال الدكتور التيجاني : والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدّاً ملأت كتب الصحاح عند أهل السنّة وعند الشيعة (1).

ولكن الوهابيّة تنكرها ولا تقيم لها وزناً وقد قال لي بعضهم عندما حاججتهم بهذه الأحاديث فقال : أنَّها نسخت.

فقلت : بالعكس التحريم هو المنسوخ ، لأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، الآن فزوروها فإنها تذكّركم بالموت (2).

قال : هذا الحديث يعني به الرّجال دون النساء.

قلت : قد ثبت في التأريخ وعند المحققين من أهل السنّة بأنّ فاطمة الزهراء سلام اللّه عليها كانت في كل يوم تزور قبر أبيها فتبكي وتقول :

ص: 376


1- يعني الأحاديث المصرحة بجواز زيارة القبور.
2- مسند أحمد بن حنبل : 1 / 145 ، صحيح مسلم : 3 / 65 ، سنن ابن ماجة : 1 / 501 ح 1571 ، سنن الترمذي : 2 / 259 ح 1060 ، المستدرك ، الحاكم : 1 / 374 - 376 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 5 / 82 ح 4648.

صُبَّت عليّ مصائبٌ لو أنها *** صُبّت على الأيام صرن لياليا (1)

والمعروف بأن عليّاً علیه السلام بنى لها بيتاً يسمى بيت الأحزان فكانت تقضي جلّ أوقاتها في البقيع (2).

قال : وعلى فرض صحة الرّواية فهي تخص فاطمة علیهاالسلام وحدها.

إنّه التعصّب الأعمى مع الأسف ، وإلاّ كيف يتصوّر مسلمٌ أن يمنع اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله المرأة المسلمة من زيارة قبر أبيها ، أو قبر أخيها ، أو قبر ولدها ، أو قبر أمّها ، أو قبر زوجها ، فتترحّم عليهم وتستغفر لهم ، وتسيل عليهم دموع الرّحمة ، وتتذكر هي الأخرى الموت والآخرة ، كما يتذكر الرّجل ، إنّه ظلمٌ للمرأة المسلمة المسكينة ، ولا يرضاه اللّه ، ولا يرضاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولا يرضاه أهل العقول السليمة (3).

ص: 377


1- مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 1 / 208 ، نظم درر المسطين ، الزرندي : 181 ، أعلام النبلاء ، الذهبي : 2 / 134.
2- بحار الأنوار ، المجلسي : 43 / 177 - 178.
3- كل الحلول عند آل الرسول صلی اللّه علیه و آله ، الدكتور التيجاني : 266 - 267.

المناظرة السابعة والستون: مناظرة الدكتور أسعد القاسم الفلسطيني مع دكتور أردني

يقول الدكتور أسعد القاسم (1) : من الحوادث أذكر منها مناقشتي لدكتور معروف في كليَّة الشريعة بالجامعة الأردنية ، لا داعي لذكر اسمه ، حيث زار مانيلا قبل عشر سنوات ، وألقى محاضرة للطلبة العرب ، تعرَّض فيها لأحوال المسلمين عموماً ، وكان مما قاله : أن معركة المسلمين مع الشيعة معركة عقيدة.

وبعد انتهاء المحاضرة طلبت مناقشته فيما قال ، فكان همُّه معرفة إن كنت شيعيّاً أم سنّياً ، وعندما حاصرته بالأدلّة القويّة حاول في البداية تبريرها بقوله : ومن منّا لا يحب أهل البيت علیهم السلام .

وعندما واجهته بالأحاديث التي توجب اتّباعهم بالعمل ، وليس بمجرِّد

ص: 378


1- هو : الدكتور أسعد وحيد القاسم ، من مواليد فلسطين 1965 م ، حاصل على بكالوريوس في الهندسة المدنيَّة ، وما جستير في إدارة الإنشاءات ، ودكتوراة في الإدارة العامة ، دفعه اطّلاعه على بعض كتب السلفيّة التي تهاجم مذهب أهل البيت علیهم السلام إلى قراءة كتاب المراجعات وكتباً أخرى ، ثمَّ تحقَّق مما جاء فيها من صحاح السنة ، وهو الأمر الذي قاده إلى إعلان تشيُّعه بعد بحث مستفيض طال سنتين ، له كتاب : تحليل نظم الإدارة العامة في الإسلام ، وهي رسالة الدكتوراة ، وكتاب : حقيقة الشيعة الاثني عشرية ، وكتاب : أزمة الخلافة والإمامة وآثارها المعاصرة. عن كتاب : المتحوِّلون : 485.

الادّعاء حاول أن ينهي النقاش ، وعندما ذكرت له الأحاديث الدالّة على عدد الأئمة الاثني عشر علیهم السلام ، وسألته : من هم هؤلاء الأئمَّة أو الأمراء كما ذكر البخاري؟ كان جوابه :

هذا الحديث من عقلك ، وليس له وجود عندنا ، ثمَّ سحب نفسه من المناقشة تاركاً الطلبة يهزّوا رؤوسهم استغراباً.

وكان لهذه الحادثة الأثر الكبير في تحفيزي للمزيد من البحث ما دامت المسألة على هذه الدرجة من الخطورة (1).

ويقول الدكتور أسعد في بيان السبب الذي دعاه إلى التشيُّع : إن الدافع كان واحداً ليس له ثاني ، وهو رؤيتي - بما لا يقبل الشك ، والدليل والبرهان القاطع - وجوب اتّباع أهل البيت علیهم السلام الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً ، فماذا بعد التمعُّن بقوله صلی اللّه علیه و آله في خطبة حجة الوداع : إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي (2).

فهذا القول المعروف بحديث الثقلين يرسم المنهاج بإطاره العام ، ثمَّ يخصّص بقوله صلی اللّه علیه و آله : من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه ، اللّهم والِ من والاه وعادِ من عاداه (3) ، وقوله صلی اللّه علیه و آله : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنه لا نبيَّ

ص: 379


1- المتحولون ، الشيخ هشام آل قطيط : 483 - 484.
2- تقدَّمت تخريجاته.
3- 3 - روى أحمد بن حنبل في مسنده : 4 / 281 : عن البراء بن عازب قال : كنّا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في سفر ، فنزلنا بغدير خمٍّ ، فنودي فينا : الصلاة جامعة ، وكسح لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تحت شجرتين ، فصلَّى الظهر ، وأخذ بيد علي علیه السلام فقال : ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا : بلى ، قال : ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا : بلى ، قال : فأخذ بيد علي ، فقال : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، اللّهم والِ من والاه ، وعادِ من عاداه. قال : فلقيه عمر بعد ذلك فقال له : هنيئاً يا ابن أبي طالب! أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة. ورواه أيضاً الحاكم النيسابوري في المستدرك : 3 / 109 عن زيد بن أرقم مثله ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بطوله. وروى أحمد بن حنبل أيضاً في مسنده : 1 / 118 عن سعيد بن وهب ، وعن زيد بن يثيع قالا : نشد علي علیه السلام الناس في الرحبة : من سمع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول يوم غدير خم إلاَّ قام ، قال : فقام من قبل سعيد ستة ، ومن قبل زيد ستة ، فشهدوا أنهم سمعوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول لعلي علیه السلام يوم غدير خم : أليس اللّه أولى بالمؤمنين؟ قالوا : بلى ، قال : اللّهم من كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، اللّهم وال من والاه ، وعاد من عاداه. وهذا الحديث من المتواترات ، وقد ذكرته جلَّ المصادر ، ونذكر منها ما يلي : فضائل الصحابة ، أحمد بن حنبل : 15، المصنّف ، ابن أبي شيبة الكوفي : 7 / 499 ح 28 و 503 ح 55 ، السنن الكبرى ، النسائي : 5 / 45 ح 8148 و 134 ح 8478 ، مسند أبي يعلى الموصلي : 1 / 429 ، صحيح ابن حبان : 15 / 376 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 2 / 357 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 2 / 289 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 1 / 9 ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبداللّه الطبري : 67.

بعدي (1) ، وغير ذلك الكثير من التوجيهات النبويّة التي تضع النقاط على الحروف ، فكلمة « بعدي » توضح أن علياً علیه السلام كان وصيّاً للرسول صلی اللّه علیه و آله كما كان هارون ليكون خليفة له وإماماً على الأمة بعده.

وهناك العديد من الروايات الموثَّقة أيضاً في الصحاح ، تشير إلى أن عدد الأئمة علیهم السلام اثنا عشر ، وكان علماء أهل السنة على مرّ التأريخ مازالوا في حيرة أمام هذا الرقم الصعب دون أن يجدوا له تفسيراً (2).

ص: 380


1- تقدَّمت تخريجاته.
2- المتحوِّلون ، الشيخ هشام آل قطيط : 472 - 473.

المناظرة الثامنة والستون: مناظرة السيّد حسين الرجا السوري مع بعض علماء العامّة

قال السيِّد حسين الرجا (1) : أبلغني ذات يوم أحد المحبّين الغيارى أنّه يعتزم عقد لقاء بيني وبين أحد العلماء ، فقلت له : ياليت ، فإن وضح الحق وشفيت نفسي لك الأجر والثواب ، وإنني خائف من زلّة القدم ، ولكنني أطلب منك أن يحضر ندوة الحوار بعض المثقَّفين ; لأنهم أقدر على الفهم فيحكموا لي أو عليَّ.

وبعد أيام أبلغني بأنَّه عيَّن العالم والزمان والمكان ، فذهبنا في الوقت المحدَّد ، ووجدنا الشيخ بالانتظار ، وقد حضر أحد المثقَّفين ، وكان عدد الحضور سبعة رجال ، وما أن استقرَّ بنا المجلس إلاَّ ونطق أحدهم قائلا : شيخنا! هذا السيِّد الذي كلَّمناك بشأنه ، وعندها بدأنا الكلام ، وإليك عزيزي القارئ نصَّ الحوار بكامله.

أشاح الشيخ بوجهه ناظراً إلى وجهي فقال : ( هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (2).

ص: 381


1- من منطقة دير الزور حطلة ، ومؤلِّف كتاب : دفاع من وحي الشريعة ضمن دائرة السنة والشيعة.
2- سورة البقرة ، الآية : 111.

فقلت له : شيخنا! أصحيح أن عمر بن الخطاب دخل على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فوجده ميِّتاً مسجَّى ببردته ، فأغلق الباب عليه ، وشهر سيفه ، يهدِّد الناس ، ويمنعهم من القول بأن محمّداً قد مات ، ويقول : من قال إن محمّداً قد مات ضربته بسيفي هذا ، محمّد لم يمت ، إنما ذهب إلى ميقات ربِّه كموسى بن عمران ، وسيرجع بعد أربعين يوماً ، فيقطع أيدي رجال وأرجلهم؟ (1)

فقال : نعم ، هذا الحديث صحيح لا غبار عليه.

فقلت له : شيخنا! هل اللّه قال : إن محمَّداً لم يمت؟

قال : لا.

قلت : فهل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : إني لم أمت؟

قال : لا.

ص: 382


1- جاء في صحيح البخاري : 4 / 193 : قال عمر : واللّه ما مات رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وليبعثنَّه اللّه ، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم. وفي رواية تاريخ اليعقوبي : 2 / 114 : قال : وخرج عمر فقال : واللّه ما مات رسول اللّه ولا يموت ، وإنما تغيَّب كما غاب موسى بن عمران أربعين ليلة ، ثمَّ يعود ، واللّه ليقطعن أيدي قوم وأرجلهم ، وقال أبو بكر : بل قد نعاه اللّه إلينا فقال : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ) فقال عمر : واللّه لكأني ما قرأتها. وفي رواية الآحاد والمثاني للضحاك : 3 / 13، قال : ثمَّ إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قبض ، فقال عمر : واللّه لا أسمع أحداً يذكر أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قبض إلاَّ ضربته بسيفي هذا. وراجع أيضاً : السنن الكبرى ، النسائي : 4 / 263، أسد الغابة ، ابن الأثير : 2 / 248 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 2 / 40. وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 1 / 178 : لمَّا مات رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وشاع بين الناس موته ، طاف عمر على الناس قائلا : إنه لم يمت ، ولكنه غاب عنّا كما غاب موسى عن قومه ، وليرجعن فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم ، يزعمون أنه مات ، فجعل لا يمرُّ بأحد يقول إنه مات إلا ويخبطه ويتوعَّده ، حتى جاء أبو بكر ، فقال : أيُّها الناس! من كان يعبد محمّداً فإن محمّداً قد مات ، ومن كان يعبد ربَّ محمّد ، فإنه حيٌّ لم يمت .. إلخ.

قلت : فهل جبرئيل نزل على عمر فقال له : إن محمَّداً لم يمت؟

قال : لا.

قلت : أما كان عمر يقرأ قول اللّه : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ) (1) معنى ذلك أن عمر تكلَّم بما لا يتطابق مع الواقع ، بل تكلَّم ضدَّ اللّه ورسوله وجبرئيل والقرآن.

ثمَّ سكتُّ قليلا أنتظر الجواب ، ووجه الشيخ يتغيَّر ، وقبل أن يتكلَّم قلت : اللّهم إلاَّ أن يقال : إن عمر كان يهجر ، وحتى هذا الاعتذار ساقط من الحسبان ; لأن الرجل عندما يهجر يختلُّ كلامه لفظاً ومعنى ; لأنه فاقد الشعور ، لا يدرك ما يقول ، وعلى عكس ما يقوله عمر ، حيث تكلَّم بكلام فصيح ، فلا ركّة في المعنى ، ولا هجر في القول.

ثمَّ سكتُّ قليلا أنتظر الجواب ، وإذا بالشيخ ينظر إلى الساعة في يده قائلا : عندي موعد ، يا اللّه ، فنهض قائماً فتفرَّقنا بلا عودة.

ثمَّ التقيت بالرجل المثقَّف ، فقلت له : بماذا حكمت؟

فقال : إذا كان دليل الشيعة هكذا ، وعلماء السنة هكذا ، فعلى هذا الأساس اعتبرني شيعيّاً ، وبعد مدّة استبصر ذلك المثقَّف ، والحمد لله (2).

ص: 383


1- سورة الزمر ، الآية : 30.
2- المتحولون ، الشيخ هشام آل قطيط : 365 - 366.

المناظرة التاسعة والستون: مناظرة السيّد حسين الرجا مع بعض مشايخ السنّة

قال السيِّد حسين الرجا : اصطحبني ذات ليلة أحد المحبّين إلى بيت أحد المشايخ لغرض الاستشفاء ، فاستقبلنا ورحَّب بنا ، فقبَّلت يده ، ولمَّا استقرَّ بنا المجلس قال الشيخ : يا حاج حسين! أصحيح ما سمعناه عنك؟

فقلت له : نعم شيخنا.

فقال : تكلَّم لنا كيف استحوذ عليك الشيعة بأعظم مصيبة ، هي المصيبة في الدين؟

فقلت له : شيخنا! لقد قرأت بعض كتبهم العقيديّة والجدليّة والتأريخيّة وسيرة الصحابة وغيرها ، فوجدتهم يثبتون صحّة مذهبهم من كتب أهل السنة ، وبالأخصّ صحيحي مسلم والبخاري وسائر الكتب الستة. وكذلك يثبتون غلط مذاهب أهل السنة من كتبهم.

ولقد راجعت الكثير فوجدته كما يقولون ، وكلَّما يزداد شكّي في التسنُّن يزداد يقيني في التشيُّع ، وفي مثل هذه القضايا تزلُّ الأقدام ، فخفت على نفسي من زلَّة القدم ، وأصبحت مريضاً ولا علاج لي إلاَّ عند العلماء ، وإلاَّ فمرضي لا

ص: 384

ترجى براءته.

فأطرق الشيخ دقيقة صمت ، ثمَّ نظر إليَّ نظر العالم المتمكِّن والمتحدّي ، فقال : يا حاج حسين! لا يمكن أن الصحابة يغلطون أو يزلّون ، وإذا الصحابة يغلطون أو يزلّون ، أو يأثمون ويجرمون ، أو يتعاطون المعاصي فأنا أشرط عمامتي وأضعها في بيت الماء - يعني يمزِّقها ويضعها في المرحاض.

ولمَّا أنهى الشيخ كلامه أطرقت رأسي ، ولم أردَّ جواباً ، وشرع ذهني يتجوَّل بين ثلاثة محاور ، تارة في مكتبة الشيخ التي تضمُّ صحيحي مسلم والبخاري ، وتارة في عمامته التي أصيغت على طراز أبدع ما تصاغ به العمائم ، وثالثة أفكِّر في المرحاض الذي لا يبعد كثيراً عن مجلس الحوار ، فأخذني صراع داخلي ، فتارة تحمل عليَّ نفسي فأكاد أن أقول للشيخ : آتني بمجلَّد كذا ورقم كذا وباب كذا وكذا في مسلم والبخاري ، وتارة أحمل عليها فأسكتها ، فو اللّه ما منعني عن ردّ التحدّي إلاَّ شيمي وأخلاقي ، ولأن الردَّ خطير.

وبعد الحوار الذي هو أقرب إلى كونه صبياني تفرَّقنا ، ولمَّا دخلت بيتي وأخذت مضجعي أدركتني بركة الشيخ ، فاستفدت كثيراً ، غير أنها من نوع سلبي ونتيجة عكسيَّة ، حيث قرَّرت أن لا أموت إلاَّ شيعيّاً على طريق محمَّد صلی اللّه علیه و آله .

وعلمت أن الشيخ مأسور الفكر والدراسة ، وأدركت أن كثيراً ما يوجد في العالم الإسلامي من عالم بلا علم ، وعمامة بلا معمَّم ، وأيقنت أن طلب العلم للعلم هو غيره عن طلب العلم للوظيفة والاكتساب (1).

ص: 385


1- المتحوِّلون ، الشيخ هشام آل قطيط : 366 - 367.

المناظرة السبعون: مناظرة الكاتب الأستاذ إدريس الحسني المغربي مع بعضهم في معاوية والحجّاج

اشارة

قال الأستاذ إدريس الحسيني (1) : جاءني يوماً أحد أصدقائي الطلبة ، يسألني عن معاوية وقتاله لعلي علیه السلام في صفين ، وقبل أن أباشر في الجواب نطق أحد الحاضرين قائلا : اللعنة عليه ، فخزرت فيه ، ثم قلت : أعوذ باللّه ، لماذا تلعنه؟

قال : لأنه قاتل علياً علیه السلام (2).

ص: 386


1- هو : الأستاذ الكاتب والصحافي السيّد إدريس بن محمّد بن أحمد العشاقي المغربي الحسيني الإسماعيلي ، من نسل إسماعيل ابن الإمام جعفر الصادق علیه السلام ، من مواليد نكسة 1967 ، بمدينة مولاي إدريس ، ويحضر حالياً بحوث الخارج في الحوزة العلميّة في منطقة السيِّدة زينب علیهاالسلام في الشام ، وله عدة مؤلَّفات منها : كتاب لقد شيَّعني الحسين علیه السلام ، وكتاب الخلافة المغتصبة ، وله كتاب رد على أحمد الكاتب ( المتحوِّلون : 265 - 266 ).
2- 2 - قال ابن أبي الحديد : وكان معاوية على أسّ الدهر مبغضاً لعلي علیه السلام ، شديد الانحراف عنه ، وكيف لا يبغضه ، وقد قتل أخاه حنظلة يوم بدر ، وخاله الوليد بن عتبة ، وشرك عمَّه في جدِّه وهو عتبة ، أو في عمِّه وهو شيبة ، على اختلاف الرواية ، وقتل من نبي عمِّه عبد شمس نفراً كثيراً من أعيانهم وأماثلهم ، ثمَّ جاءت الطامة الكبرى واقعة عثمان ، فنسبها كلها إليه بشبهة إمساكه عنه ، وانضواء كثير من قتلته إليه علیه السلام ، فتأكَّدت البغضة ، وثارت الأحقاد ، وتذكرت تلك الترات الأولى ، حتى أفضى الأمر إلى ما أفضى إليه. وقد كان معاوية مع عظم قدر علي علیه السلام في النفوس، واعتراف العرب بشجاعته ، وأنه البطل الذي لا يقام له يتهدَّده - وعثمان بعد حيٌّ - بالحرب والمنابذة ، ويراسله من الشام رسائل خشنة. إلى أن قال : ومعاوية مطعون في دينه عند شيوخنا ، يرمى بالزندقة ، وقد ذكرنا في نقض السفيانية على شيخنا أبي عثمان الجاحظ ما رواه أصحابنا في كتبهم الكلاميّة عنه من الإلحاد والتعرُّض لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وما تظاهر به من الجبر والإرجاء ، ولو لم يكن شيءٌ من ذلك لكان في محاربته الإمام علیه السلام ما يكفي في فساد حاله ، لا سيما على قواعد أصحابنا ، وكونهم بالكبيرة الواحدة يقطعون على المصير إلى النار والخلود فيها ، إن لم تكفِّرها التوبة. شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد 1 /338 - 340.

قلت له : ومع ذلك ، فإن الرسول صلی اللّه علیه و آله يقول : لا تسبّوا أصحابي.

وبهذه الكلمة البائسة الغبيّة المصحوبة بتماوج كاريكاتوري يختزل وقاراً مصطنعاً .. استطعت أن أسكت صديقنا (1).

قال إدريس الحسيني في موضع آخر : وذات مرَّة قلت لأحد المشائخ الكبار : عجباً! لست أدري كيف يقبل المسلمون بأمثال الحجاج بن يوسف الثقفي ، ذلك السفاح ، ما وقَّر عالماً ولا عاميّاً؟ (2)

فقال شيخنا الموقَّر : أعوذ باللّه ، نحن السنة والجماعة نعتقد في إيمانه وإسلامه ، وقد قال فيه العلماء خيراً رغم كل ذلك ، فهو من الصالحين ، لأنه شكل القرآن؟ (3).

ويقول السيد إدريس الحسيني في كتابه القيِّم ( لقد شيَّعني الحسين علیه السلام )

ص: 387


1- كتاب لقد شيعني الحسين علیه السلام ، الكاتب والصحفي إدريس الحسيني : 46.
2- راجع جملة من أخبار الحجاج في التأريخ وموبقاته بعد هذه المناظرة.
3- كتاب لقد شيَّعني الحسين علیه السلام ، الكاتب إدريس الحسيني : 49.

في سبب تشيُّعه وأخذه بمذهب أهل البيت علیهم السلام : ما إن خلصت من قراءة مذبحة كربلاء بتفاصيلها المأساويّة حتى قامت كربلاء في نفسي وفكري ، ومن هنا بدأت نقطة الثورة ; الثورة على كل مفاهيمي ومسلَّماتي الموروثة ; ثورة الحسيني علیه السلام داخل روحي وعقلي ، إلى أن يقول : فكربلاء مدخلي إلى التأريخ ، إلى الحقيقة ، إلى الإسلام ، فكيف لا أجذب إليها جذبة صوفي رقيق القلب ، أو جذبة أديب مرهف الشعور؟! وتلك هي المحطة التي أردت أن أنهي بها كلامي عن مجمل معاناة آل البيت علیهم السلام ، وظروف الجريمة التأريخية ضدَّ نسل النبي صلی اللّه علیه و آله .

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو : من قتل الحسين علیه السلام ؟ أو بتعبير أدقّ من قتل من؟ نحن لا نشك في أن مقتل الحسين علیه السلام هو نتيجة وضع يمتدُّ بجذوره إلى السقيفة ، إلى أخطر قرار صدر بعد وفاة الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وكان ضحيَّته الأولى : آل البيت علیهم السلام ، ونلاحظ من خلال حركة التاريخ الإسلامي أن محاولة تهميش آل البيت ، وقمع رموزهم بدأ منذ السقيفة ، ورأيي لو جازف الإمام علي وفاطمة الزهراء علیهماالسلام لكان فعلا أحرقوا عليهم الدار ، ولكان شيء أشبه بعاشوراء وكربلاء الحسين علیه السلام (1).

والجدير بالذكر هنا هو ما أنشده القاضي أبو بكر بن أبي قريعة ( المتوفَّى 367 ) في هذا المعنى ، حيث يقول :

يَا مَنْ يُسَائِلُ دائباً *** عن كلِّ مُعضِلَة سخيفه

لاَ تَكْشِفَنَّ مُغَطَّأً *** فَلَرَبَّما كَشَّفْتَ جِيْفَه

ص: 388


1- نفس المصدر : 315 و 317.

وَلَرُبَّ مَستُور بَدَا *** كالطبلِ مِنْ تَحْتِ القطيفه

إِنَّ الجَوَابَ لَحَاضِرٌ *** لكنَّني أُخفِيْهِ خِيْفَه (1)

لو لا اعتذارُ رَعِيَّة *** ألغى سِيَاسَتَها الخليفه

وَسُيُوفُ أعْدَاء بها *** هَامَاتُنا أبداً نقيفه

لَنَشَرْتُ مِنْ أَسْرَارِ *** آلِ محمَّد جُمَلا طريفه

تُغنِي بِها عمَّا رَوَاهُ *** مَالِكٌ وأبو حنيفه

وَأَرَيْتُكُمْ أَنَّ الحُسَيْنَ *** أُصيِبَ في يَوْمِ السقيفه

وَلاَِيِّ حَال أُلْحِدَتْ *** باللَّيلِ فَاطِمَةُ الشريفه

وَلِما حَمَتْ شَيْخَيْكُمُ *** عَنْ وَطْيِ حُجْرَتِها المنيفه

آه لِبِنْتِ محمَّد *** ماتت بِغُصَّتِها أسيفه (2)

جملة من أخبار الحجاج في التأريخ

جاء في شرح النهج لابن أبي الحديد : فأمَّا الكعبة فإن الحجاج في أيام عبدالملك هدمها ، وكان الوليد بن يزيد يصلّي إذا صلى أوقات إفاقته من السكر إلى غير القبلة ، فقيل له ، فقرأ : ( فَأَيْنََما تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ) (3).

وخطب الحجاج بالكوفة فذكر الذين يزورون قبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالمدينة ، فقال : تبّاً لهم! إنّما يطوفون بأعواد ورمَّة بالية! هلاّ طافوا بقصر

ص: 389


1- كشف الغمة ، الإربلي : 2 / 127 - 128.
2- كتاب الوافي بالوفيات ، الصفدي : 3 / 227 - 228.
3- سورة البقرة ، الآية : 115.

أميرالمؤمنين عبد الملك! ألا يعلمون أن خليفة المرء خير من رسوله! (1)

وروى أبو داود في سننه بسنده عن المغيرة عن الربيع بن خالد الضبي قال : سمعت الحجاج يخطب ، فقال في خطبته : رسول أحدكم في حاجته أكرم عليه ، أم خليفته في أهله؟ فقلت في نفسي : لله عليَّ ألا أصلِّي خلفك صلاة أبداً ، وإن وجدت قوماً يجاهدونك لأجاهدنَّك معهم (2).

وقال الأوزاعي : قال عمر بن عبد العزيز : لو جاءت كل أمة بخبيثها ، وجئنا بالحجاج لغلبناهم (3).

وقال أبو بكر بن عياش : عن عاصم بن أبي النجود : ما بقيت لله حرمة إلاَّ وقد ارتكبها الحجاج.

وقال عبد الرزاق : عن معمّر ، عن ابن طاووس أن أباه لما تحقَّق موت الحجاج تلا قوله تعالى : ( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (4) (5).

وقال ابن حجر في ترجمته : حجاج بن يوسف بن أبي عقيل الثقفي ، الأمير الشهير ، ولد سنة (45) أو بعدها بيسير ، ونشأ بالطائف ، وكان أبوه من شيعة بني أمية ، وحضر مع مروان حروبه ، ونشأ ابنه مؤدِّب كتّاب ، ثمَّ لحق بعبد الملك بن مروان ، وحضر مع قتل مصعب بن الزبير ، ثمَّ انتدب لقتال عبداللّه بن الزبير بمكة ،

ص: 390


1- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 15 / 242.
2- سنن أبي داود : 2 / 400 ، رقم : 4642 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 9 / 151.
3- تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 12 / 186 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 6 / 267.
4- سورة الأنعام ، الآية : 45.
5- البداية والنهاية ، ابن كثير : 6 / 267.

فجهَّزه أميراً على الجيش ، فحضر مكة ورمى الكعبة بالمنجنيق إلى أن قتل ابن الزبير.

وقال جماعة : إنه دسَّ على ابن عمر من سمَّه في زجّ رمح (1) ، وقد وقع بعض ذلك في صحيح البخاري ، وولاَّه عبدالملك الحرمين مدّة ، ثمَّ استقدمه فولاَّه الكوفة وجمع له العراقين ، فسار بالناس سيرة جائرة واستمرَّ في الولاية نحواً من عشرين سنة ، وكان يزعم أن طاعة الخليفة فرض على الناس في كل ما يرومه ، ويجادل على ذلك ، وخرج عليه ابن الأشعث ومعه أكثر الفقهاء والقرَّاء من أهل البصرة وغيرها ، فحاربه حتى قتله ، وتتبَّع من كان معه فعرضهم على السيف ، فمن أقرَّ له أنه كفر بخروجه عليه أطلقه ، ومن امتنع قتله صبراً ، حتى قال عمر بن عبد العزيز : لو جاءت كل أمة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم.

وأخرج الترمذي من طريق هشام بن حسان : أحصينا من قتله الحجاج صبراً فبلغ مائة ألف وعشرين ألفاً.

وقال زاذان : كان مفلساً من دينه ، وقال طاووس : عجبت لمن يسمّيه مؤمناً ، وكفَّره جماعة منهم سعيد بن جبير ، والنخعي ، ومجاهد ، وعاصم بن أبي النجود ، والشعبي .. وغيرهم.

وقالت له أسماء بنت أبي بكر : أنت المبير الذي أخبرنا به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

وروى ابن أبي الدنيا بسنده ، عن زيد بن أسلم قال : أغمي على المسور بن مخرمة ، ثمَّ أفاق فقال : أشهد أن لا إله إلاَّ اللّه ، وأن محمّداً رسول اللّه أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها ، إلى أن قال : وعبدالملك والحجاج يجرّ ان أمعاء هما في النار.

ص: 391


1- الزُجّ بضمِّ الزاي المعجمة : الحديدة في أسفل الرمح ، ونصل السهم.

قال : قلت : هذا إسناد صحيح ، ولم يكن للحجاج حينئذ ذكر ، ولا كان عبدالملك ولي الخلافة بعد ; لأن المسور مات في اليوم الذي جاء فيه نعي يزيد ابن معاوية من الشام ، وذلك في ربيع الأول سنة (64) من الهجرة.

وقال القاسم بن مخيمرة : كان الحجاج ينقض عرى الإسلام عروة عروة.

وقال موسى بن أبي عبدالرحمن النسائي عن أبيه : ليس بثقة ولا مأمون.

وقال الحاكم أبو أحمد : ليس بأهل أن يروى عنه.

ومما يحكى عنه من الموبقات قوله لأهل السجن : ( اخْسَؤُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ ) مات سنة (1) بواسط وهو الذي بناها ، وقيل إنه لم يعش بعد قتل سعيد بن جبير إلاَّ يسيراً.

وقال الأصمعي : عن أبي عمرو بن العلاء : لمَّا مات الحجاج ، قال الحسن : اللّهم أنت أمته فأمت سنَّته.

وعن أشعث الحداني - وكان يقرأ للحجاج في رمضان - قال : رأيته في منامي بحالة سيئة ، فقلت : يا أبا محمّد! ما صنعت؟ قال : ما قتلت أحداً بقتلة إلاَّ قتلت بها ، قلت : ثمَّ مه؟ قال : ثمَّ أمر به إلى النار .. (1).

ص: 392


1- تهذيب التهذيب ، ابن حجر : 2 / 184 - 187.

المناظرة الحادية والسبعون: مناظرة الشيخ مروان خليفات الأردني مع صديقه الشيعي في حديث رزيّة الخميس وآثارها

قال الشيخ مروان خليفات (1) : في وقت الغروب ، وفي إحدى طرق القرية كنت مع صديقي الشيعي ، كان لا يأتي علينا يوم إلاَّ ويحتدُّ النقاش بيننا ، تمنَّيت في وقتها أن يصبح هذا الصديق سنّيّاً ، وعزمت أن أنقله من مذهبه إلى المذهب الشافعي ، وجرت الأيام ، والتحقت بكليَّة الشريعة ، وفي الدروس كان مشايخنا يتطرَّقون إلى الشيعة ، وكان البعض منهم يكفِّرهم ، ومع أني كنت على المذهب الشافعي إلاَّ أني بدأت أتأثَّر بما يطرحه أساتذتي السلفيَّة خاصة في العقيدة ، فقمت أردِّد معالم العقيدة السلفيَّة وكأني مقتنع بها ، وكنت أعرض هذه العقيدة مع ذكر الأدلّة على صديقي الشيعي ، وكذا ما يقال عن الشيعة في قاعة الدرس ، وذلك كي أبدأ بهدايته ، لكنَّه كان يردُّ عليَّ بكلِّ قوَّة.

ص: 393


1- ولد عام 1973 في كفر جايز من توابع مدينة إربد في الأردن ، تخرَّج من جامعة اليرموك ، وحصل على شهادة البكالوريوس في الشريعة الإسلامية سنة 1995 م ، له كتاب : وركبت السفينة.

وفي أثناء مسيرنا ، وبينما كنت أحدِّثه عن فضائل أبي بكر وعمر قاطعني قائلا كالمنتصر : رزيَّة الخميس.

قلت : خيراً! ماذا تقصد؟

قال : إنها حادثة كانت قبل وفاة النبيِّ صلی اللّه علیه و آله بأيام ، حيث قال النبي صلی اللّه علیه و آله لأصحابه : ائتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتاباً لن تضلُّوا بعده أبداً ، فقال عمر : إن النبيَّ غلبه الوجع أو يهجر ، حسبنا كتاب اللّه.

فقلت له : هل وصل بكم الأمر أن تنسبوا هذا الكلام للفاروق الذي ما عصى النبيَّ صلی اللّه علیه و آله قط؟

قال : تجد هذه الحادثة في صحيح البخاري ومسلم.

عندئذ يئست من جوابه ، وشعرت بالهزيمة ، وقلت فوراً : وإن قال ذلك يبقى صحابيّاً ، أسأل اللّه الغفران ، عبارة لم تأت صدفة ولكنها تعبير عن عقيدة ترسَّخت في أذهاننا ، وأردفت : في أيِّ كتاب قرأت هذه الحادثة؟ لأنني وان وقفت موقف المعاند الذي هزم ولم يعترف ، لكنني كنت أتعصَّر ألماً.

فقال : في كتاب ( ثمَّ اهتديت ) لأحد علمائكم الذين تشيَّعوا.

قلت ساخراً : وهل هناك عالم من علمائنا تشيَّع؟!

قال : نعم ، فالتيجاني صاحب هذا الكتاب يذكر كيف تشيَّع ، وأسباب تشيُّعه وطلبت الكتاب منه ، وبدأت بقراءته فوراً ، ورزيَّة الخميس تدور في ذهني ، وأتوجَّس خيفة لعلي أجدها ، فأخذتني قصَّة الكاتب الممتعة ، وأسلوبه الجذَّاب ، وقرأت نصوص إمامة آل البيت علیهم السلام ، ومخالفات الصحابة للرسول صلی اللّه علیه و آله ، ورزيَّة الخميس ، والمؤلِّف يوثِّق كلَّ قضيَّة من صحاحنا المعتبرة ، فدهشت لما أقرأ ، وشعرت أن كلَّ طموحاتي انهارت وسقطت أرضاً ، وحاولت

ص: 394

إقناع نفسي بأن هذه الحقائق غير موجودة في كتبنا.

وفي اليوم الثاني عزمت على توثيق نصوص الكتاب من مكتبة الجامعة ، وبدأت برزيَّة الخميس فوجدتها مثبتة في صحيح مسلم والبخاري بعدّة طرق ، وكان أمامي احتمالان : إمَّا أن أوافق عمر على قوله فيكون النبي صلی اللّه علیه و آله يهجر والعياذ باللّه ، وبهذا أدفع التهمة عن عمر ، وإمَّا أن أدافع عن النبيِّ صلی اللّه علیه و آله وأقرُّ بأن بعض الصحابة بقيادة عمر ارتكبوا خطأ جسيماً بحقِّ النبيِّ صلی اللّه علیه و آله حتى طردهم ، وهنا أتنازل أمام صديقي عن معتقدات طالما ردَّدتها ، وافتخرت بها أمامه.

وفي نفس اليوم سألني صديقي عن صحّة ما في الكتاب ، فقلت وقلبي يعتصر ألماً : نعم ، صحيح.

بقيت فترة حائراً ، تأخذني الأفكار شرقاً وغرباً ، وعرض عليَّ صديقي كتاب ( لأكون مع الصادقين ) لمؤلِّفه التيجاني ، وكتاب ( فاسألوا أهل الذكر ) وغيرها ، فكشفت هذه الكتب أمامي حقائق كثيرة ، وزادت حيرتي وشكي ، وحاولت إيقاف حيرتي بقراءة ردود علمائنا على هذه الحقائق ، لكنَّها لم تنفعني بل زادتني بصيرة ، وقرأت كتباً كثيرة لا يسعني ذكرها ، فكانت ترسم لي صورة الحقيقة بألوان من الحجج الدامغة التي كان عقلي يقف مبهوراً محتاراً أمامها ، فضلا عن حيرة علمائنا في التعامل معها ، إلى أن اكتملت الصورة في ذهني كالشمس في رابعة النهار ، واعتنقت مذهب آل البيت الأطهار علیهم السلام ، أبناء الرسول صلی اللّه علیه و آله وأشقّاء القرآن ، وأولياء الرحمن ، سفن النجاة ، وأعلام الورى ، ورحمة اللّه للملأ ، بكل قناعة واطمئنان قلب.

وها أنا الآن - وبعد تخرُّجي من كليَّة الشريعة - على يقين تام بصحّة ما أنا عليه ، أقول هذه الكلمات ويمرُّ بذهني كيف عزمت على هداية صديقي الشيعي

ص: 395

وأهله ، وإذا بالصورة قد انعكست فكان هو سبب هدايتي ، وفَّقه اللّه.

ولا أنسى تلك اليد ; يد الرحمة الإلهيَّة ، كانت تعطف عليَّ باستمرار أيَّما عطف ، فلك الحمد ربَّاه حمداً يليق بجلالك العظيم ، ومنِّك الجسيم (1).

ص: 396


1- المتحوِّلون ، الشيخ هشام آل قطيط : 193 - 196.

المناظرة الثانية والسبعون: مناظرة لمياء حمادة السوريَّة مع بتول العراقيَّة في كليَّة الشريعة بدمشق في عقائد الشيعة وشرحها كيفيَّة اعتناقها التشيُّع

تقول الأستاذة لمياء حمادة (1) في بداية اكتشافها للحقيقة : وربَّ صدفة ، ولحسن الحظّ وخير الطالع ، وأثناء دراستي في الجامعة دخلت علينا طالبة جديدة ، وكانت عراقيَّة ، وقد تهجَّرت من بلادها مع ذويها إلى بلدنا طلباً للأمان.

وقد انخرطت في الدراسة بالجامعة ، واختارت كليَّتنا ; لأن طلابها ملتزمون ، مع أنه كان بإمكانها أن تختار كليَّة أعلى من كليَّتنا ; لأنها كانت من المتفوِّقين في كليَّة الطبِّ في بلدها.

وكانت هذه الفتاة واسمها ( بتول ) - تجلس في المقعد الأخير في القاعة ، ودائماً تلبس العباءة السوداء والخمار يغطي رأسها حتى ذقنها وياله من حجاب

ص: 397


1- ولدت سنة 1965 ، اعتنقت مذهب أهل البيت علیهم السلام عام 1985 ، تخرَّجت من كليَّة الشريعة جامعة دمشق عام 1987 م.

يدلُّ على التزامها الدينيّ ، وانتصارها على تقلُّبات العصر ، وهفوات التقدّم والموضة.

ولكن لمَّا عرفنا - نحن طلاب كليَّة الشريعة - بأنها عراقيَّة تيقّنّا بأنّها شيعيَّة ، وكثيراً ما كنَّا نتحرَّش بها قاصدين السخرية والاستهزاء بها ; لأنها - حسب اعتقادنا ومعلوماتنا الخاطئة طبعاً - أنها ومن يتبع هذا المذهب غير مسلمين ، فهم يعبدون عليَّ بن أبي طالب ، والمعتدلون منهم فقط يعبدون اللّه ، ولكنهم لا يؤمنون برسالة محمَّد صلی اللّه علیه و آله ، ويشتمون جبرائيل ويقولون بأنه خان الأمانة ، فبدلا من أداء الرسالة إلى علي علیه السلام أدَّاها إلى محمّد صلی اللّه علیه و آله ، وأنهم ينزِّلون أئمّتهم منزلة الآلهة ، وأنهم يقولون بالحلول ، وأنهم يسجدون للقرص الحجريّ من دون اللّه ، وأنهم أشدُّ على الإسلام من اليهود والنصارى ، لأن هؤلاء يعبدون اللّه ويؤمنون برسالة موسى علیه السلام ، بينما نسمع عن الشيعة أنهم يعبدون علياً ويقدِّسونه.

ومع كل هذا التقريع وهذه السخرية والأخت بتول لا تردُّ علينا ، وتقول في كل مرة : سامحكم اللّه ، هداكم اللّه ، ليتكم تعلمون الحق ، أستغفر اللّه لي ولكم.

وهكذا إلى أن جاء يوم من الأيام - وهو بالنسبة لي يوم التحوُّل الكبير - جئت في هذا اليوم متأخِّرة عن موعد المحاضرة ، فلم أجد مكاناً إلاَّ إلى جانب هذه الفتاة بتول ، وكنت قبلا لا أجلس إلى جانبها أبداً ، تحسُّباً منها على أنها كافرة ، أو أنها جاسوسة تريد أن تعرف تفاصيل مذاهبنا لتنقلها إلى فرقتها.

جلست وأنا مستاءة منها نوعاً ما ، ثمَّ قلت في نفسي : ما لي وما لها؟ كل واحدة منّا في حالها ، وبالصدقة كانت المحاضرة يومذاك عن المذهب الشيعيّ ، وبدأت المحاضرة وكلُّنا مصغون إلى ما يقال عن ذلك المذهب ، وبتول تندهش

ص: 398

وتندهش من كل ما يقال عنهم ، وتتمتم أثناء المحاضرة بأن لعنة اللّه على الظالمين .. سامحكم اللّه .. أذناب بني أمية .. أتباع معاوية ... وهكذا إلى أن انتهت المحاضرة وبتول تكاد تنفجر من الغيظ.

فقلت لها : لماذا أنت مغتاظة ومتضايقة؟ أليس ما قاله الدكتور المحاضر عنكم صحيحاً؟ فابتسمت بتول عندها وقالت : إذا كان الأستاذ يفكِّر بهذا الشكل فلا لوم على الطلاب ، وإذا كان تفكير الطلاب هكذا فلا لوم على عامة الناس الذين لا ثقافة لهم.

قلت : ماذا تقصدين؟

أجابت : عفواً ، ولكن من أين لكم هذه الادّعاءات الكاذبة؟

قلت : من كتب التاريخ ومما هو مشهور عند الناس كافّة.

قالت : هل عندكِ الوقت للمناقشة؟

تردَّدت قليلا ثمَّ أجبت : ربّما بعض الوقت ، وأخذنا نتمشَّى إلى الكافتيريا ، فطلبت القهوة وجلسنا نتحدَّث.

قالت : لنترك الناس كافة ، الذين يعتمدون على الصحاح بالدرجة الأولى ، ولكن أنتِ هل قرأت شيئاً من الكتب عنّا؟

قلت : نعم ، مثل : ظهر الإسلام ، وفجر الإسلام ، وضحى الإسلام لأحمد أمين ، وغيرها كتب كثيرة.

قالت : ومتى كان أحمد أمين حجَّة على الشيعة؟ أليس عليكم أن تتبيَّنوا الأمر من مصادره الأصليّة المعروفة.

قلت : وكيف لنا أن نتبيَّن في أمر كهذا.

ص: 399

قالت : إن أحمد أمين نفسه زار العراق ، وقد التقى بأساتذة عدّة في النجف ، وعاتبوه على كتاباته عن الشيعة ، فاعتذر قائلا : إني لا أعلم عنكم شيئاً ، ولم أتصّل بالشيعة من قبل ، وهذه أول مرَّة ألتقي فيها بالشيعة ، فقلنا له : إذن لم تكتب عنا القبيح؟ قال : هكذا ورثنا عن الناس نظرتهم إليكم.

وتابعت : أرأيتِ هذا الافتراء؟ وهكذا خذي كل ما يقال عنّا على هذا المنوال ، فهو أكاذيب مغرضة حاقدة.

قلت : دعينا من أحمد أمين هذا ، وأخبريني عن حقائق عديدة تقال عنكم.

فقاطعتني قائلة : إذا كنتِ تريدين تمضية الوقت والكلام لمجرَّد الكلام فأنا آسفة ، والأفضل أن أذهب ، وأمَّا إذا أردتِ الاستفادة حقّاً ، والتأكُّد من مظلوميَّتنا فلكِ ما تريدين ، ووقتي لكِ كلُّه.

قلت : لا واللّه ، معاذ اللّه أن أتكلَّم معكِ لمجرَّد الكلام ، ولكني أحببتكِ فعلا ، وأحسست بأنّكِ مظلومة ، وعندكِ حجج كثيرة أردت قولها أثناء المحاضرة ، ولكنَّكِ لم تجرؤي ، فلم يا ترى؟

قالت : الكلام مع هؤلاء الناس كعدمه ، وربَّما جرَّتنا المناقشة أن أضع من شأن مذهبي وديني من جرَّاء مناقشتي مع جهَّال كهؤلاء ، فقد قال الإمام علي علیه السلام : ناقشت جاهلهم فغلبني ، وناقشت عالمهم فغلبته (1).

قلت : فلنبدأ ، فقاطعتني وقالت : إذن صلي على محمَّد وآل محمّد ،

ص: 400


1- لم أعثر على مثل هذا الحديث في هذه العجالة ، وقد روي ما بمضمونه عن أميرالمؤمنين علیه السلام وهو : لا ينتصف عالم من جاهل. عن كتاب عيون الحكم والمواعظ ، الليثي : 534.

فتعجَّبت وقلت في نفسي : هؤلاء الذين نتّهمهم نحن بالخروج عن الدين يحافظون عليه أكثر منّا.

فقلت : اللّهم صلِّ على محمّد وآله وصحبه أجمعين ، فتبسَّمت قليلا وقالت : تابعي ، فقلت لها : لأيِّ المذاهب ينتمي مذهبكم؟

قالت : المذهب الجعفريّ.

قلت : عجباً! ما هذا الاسم الجديد؟! نحن لا نعرف غير المذاهب الأربعة ، وما عداها فليس من الإسلام في شيء.

وابتسمت قائلة : عفواً ، إن المذهب الجعفري هو محض الإسلام المحض ، ألا تعرفين أن الإمام أبا حنيفة تتلمذ على يد الإمام جعفر الصادق علیه السلام ؟ وفي ذلك يقول أبو حنيفة : ( لولا السنتان لهلك النعمان ) (1).

فسكتُّ ولم أردَّ ، وقالت : إن المذاهب الأربعة أخذ بعضهم عن بعض ، فأحمد بن حنبل أخذ عن الشافعي ، والشافعي أخذ عن مالك ، وأخذ مالك عن أبي حنيفة ، وأبو حنيفة أخذ عن جعفر الصادق ، وعلى هذا فكلُّهم تلاميذ لجعفر بن محمّد علیه السلام ، وهو أول من فتح جامعة إسلاميَّة في مسجد جدِّه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وقد تتلمذ على يديه أكثر من أربعة آلاف محدِّث وفقيه.

وسألتني مقاطعة نفسها : أيَّ الأئمَّة تقلدين؟

قلت : الإمام أبا حنيفة!

قالت : كيف تقلِّدين ميِّتاً بينك وبينه قرابة أربعة عشر قرناً ، فإذا أردت أن تسأليه الآن عن مسألة مستحدثة فهل يجيبك؟

ص: 401


1- التحفة الاثني عشرية ، الآلوسي : 8 ، الإمام جعفر الصادق علیه السلام ، عبدالحليم الجندي : 162.

فقلت لها بسرعة البديهة : وأنت إمامك ميِّت ، فكيف تقلِّدينه؟

قالت : إن إمامي حيٌّ غائب ، وفي غيبته نقلِّد أحد المجتهدين الورعين ، ولا يجوز عندنا تقليد الميت.

وأخبرتني عندها كيف على الإنسان أن يعرف إمام زمانه ، فقد قال صلی اللّه علیه و آله : من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية (1) ، وأنا إمام زماني هو صاحب الزمان الإمام المهدي علیه السلام ، وهذا موضوع طويل يحتاج لشرح.

قلت : حسناً ، هذه اقتنعت بها .. لننتقل إلى الثانية : إنكم تعبدون عليّاً وتقدِّسونه ، أليس كذلك؟

قالت : ألم تقرأي قول اللّه سبحانه وتعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) (2) وقوله : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ ) (3) ،

ص: 402


1- روى الشيخ الكليني عليه الرحمة في الكافي : 1 / 377 ح 3 ، بالإسناد عن الحارث بن المغيرة قال : قلت لأبي عبداللّه علیه السلام : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : من مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهليَّة؟ قال : نعم ، قلت : جاهليَّة جهلاء أو جاهليَّة لا يعرف إمامه؟ قال : جاهليَّة كفر ونفاق وضلال. وروى الشيخ الصدوق عليه الرحمة في ثواب الأعمال : 205، عن عيسى بن السري اليسري قال : قلت لأبي عبداللّه علیه السلام : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : من مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهليَّة ، قال أبو عبداللّه علیه السلام : أحوج ما يكون إلى معرفته إذا بلغ نفسه هكذا - وأشار بيده إلى صدره - فقال : لقد كنت على أمر حسن. وجاء في مسند أحمد بن حنبل : 4 / 96 : عن أبي صالح ، عن معاوية قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : من مات بغير إمام مات ميتة جاهليَّة. وراجع : المعجم الكبير ، الطبراني : 19 / 388، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 5 / 218 و 225 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 9 / 155 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 1 / 103 ح 464. وفي رواية الطبراني في المعجم الأوسط : 6 / 70 : من مات وليس عليه إمام مات ميتة جاهليَّة.
2- سورة الفتح ، الآية : 29.
3- سورة الأحزاب ، الآية : 40.

وقوله : ( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَد مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) (1)؟

قلت : بلى ، أعرف هذه الآيات.

قالت : فأين هو علي؟ فالقرآن نفسه عندنا وعندكم ، ويقول بأن محمّداً هو رسول اللّه ، فمن أين جاء هذا الاتّهام الباطل؟

قلت : هذه أقنعتيني بها ، فماذا عن خيانة جبرئيل؟

قالت : حاشاه ، هذه أقبح من الأولى ، لأن محمّداً صلی اللّه علیه و آله كان عمره أربعين سنة عندما أرسل اللّه سبحانه إليه جبرئيل علیه السلام ، ولم يكن عليٌّ إلاَّ صبيّاً صغيراً ، عمره ست أو سبع سنوات ، فكيف يخطئ جبرئيل ، ولا يفرِّق بين محمَّد الرجل وعليٍّ الصبيّ؟!

فقلت : هذا منطقيٌّ جدّاً ، كيف لم نحلِّل نحن بهذا المنطق؟

أضافت : إن الشيعة هي الفرقة الوحيدة من بين كلِّ الفرق الإسلاميَّة الأخرى ، التي تقول بعصمة الأنبياء والأئمّة ، فإذا كان أئمّتنا عليهم سلام اللّه معصومين عن الخطأ وهم بشر مثلنا ، فكيف بجبرائيل وهو ملك مقرَّب ، سمَّاه الربُّ الروح الأمين؟!

فاحترت وتلكَّأت ، وقلت في نفسي : قبل أن نسألهم عن اختلافهم عنّا في اعتقاداتهم ، لنسأل أنفسنا نحن السنة : لماذا تتعدَّد مذاهبنا وتختلف فيما بينها؟

قلت : إذن كل ما يقال عنكم افتراء؟

قالت : سامحكم اللّه.

اعتذرت منها لضيق الوقت ، وودَّعتها طالبة منها زيارتي في القريب

ص: 403


1- سورة آل عمران ، الآية : 144.

العاجل ; لأنني تلهَّفت كثيراً لسماع المزيد من ردود الشيعة على الأقاويل التي يدانون بها.

فشكرتني وتمنَّت هي بدورها لي الخير والهداية ، فقلت في نفسي بعدما مشيت خطوات عدّة : هل سيأتي يوم وأصبح فيه شيعيَّة؟ ثمَّ استبعدت الفكرة ، وقلت : لا ، هكذا كان آباؤنا وأجدادنا ، فهل من المعقول أن يكونوا كلُّهم على ضلال؟ وهل أنا الوحيدة في عائلتي سأكون على نور وبيِّنة؟ لا ، لا .. هذا مستحيل ، أستغفر اللّه وأتوب إليه.

وبعد أيام عدّة جاءت بتول لعيادتي ، فقد كنت متوعِّكة قليلا ، ولم أذهب إلى الكليَّة لأيام عدّة ، فأهدتني طاقة من الورد ومعها مصحف ، ففتحته ووجدته مثل مصحفنا تماماً ، فقلت لها : يقولون إن لكم مصحفاً خاصاً بكم؟

قالت : أشهد أن لا إله إلاَّ اللّه ، وأن محمَّداً رسول اللّه صلى اللّه عليه وعلى آله الطيِّبين الطاهرين ، هؤلاء المفترون أعداء الإسلام يريدون تفريق المسلمين وتمزيقهم وضرب بعضهم ببعض ، فنحن نعبد اللّه وحده لا شريك له ، وقرآننا واحد ، ونبيُّنا واحد ، وقبلتنا واحدة ، نشترك معكم في هذه الأمور ، وربما نختلف عنكم أنتم السنة في بعض الأمور الفقهيَّة وبعض الأمور العقائديَّة.

فقلت لها : زيديني زادك اللّه من علمه.

قالت : عن ماذا تريدين أن تستفسري؟

قلت : حدِّثيني عن أحقّيّة عليٍّ علیه السلام في الخلافة كما تزعمون .. حدِّثيني عن التربة الحسينيّة ( قرص الطين الذي تسجدون عليه ) ، عن الحسين علیه السلام ، ولماذا يبكي الشيعة ويلطمون؟ حدِّثيني عن توسُّلكم وتبُّرككم بأضرحة أئمَّتكم ، حدِّثيني كيف تجعلون من أبي بكر وعمر وعثمان أشخاصاً عاديين ، وأحياناً

ص: 404

تشتمونهم ، وتسبُّون بعض أزواج النبي صلی اللّه علیه و آله الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً ... أخبريني لماذا وضوؤكم غير وضوئنا .. ولماذا صلاتكم غير صلاتنا ، وماذا عن الزواج المؤقَّت ، والتقيَّة ، والرجعة ، والخمس ، وتأويلكم لآيات القرآن في عليٍّ وذرّيّته علیهم السلام آيات لا نعرفها ، وماذا عن مصحف فاطمة علیهاالسلام ؟

ذكرت كل تساؤلاتي ، وكانت هي مبتسمة ، وبدا أنها مستعدّة لكل سؤال يطرح عليها ، وأنها واثقة من نفسها تماماً.

فقالت : هل تريدين الحقَّ؟ لقد أحببتك يا أختي لمياء ، وأتمنَّى منك أن تقبلي هديّتي المقبلة ، كتب عدّة ، اقرأيها ، وسوف تجدين ملاذك عن كل سؤال طرحتيه عليَّ ... فأنا إن أجبتك عن كل سؤال لا يكفينا أيام السنة كلّها ، ونحن نتناقش في صحّة كلامي وعدمه ، أمَّا إذا قرأتِ عن أشخاص عدّة استبصروا ، وعرفوا طريق الحق ، كانوا من أهل السنة وأصبحوا من الشيعة ، لوجدتِ برهاناً دامغاً ساطعاً ، وحجّة عليكِ من كتبكم ، ولن أطلعك على كتبنا حتى تطلبيها أنتِ بعد قراءتك لكتب المتشيِّعين.

شكرتها وتمنَّيت منها أن تزورني وترسل لي الكتب بأسرع وقت ، فأنا شغفة ومتشوِّقة لقراءتها ، عسى ولعلَّ أن أجد فيها شفاء لشكوكي ووساوسي الدفينة حول الاختلاف الدائر بين المذاهب الأربعة المعروفة.

وفعلا ، لم تكذِّب خبراً ، فبعد ثلاثة أيام جائتني بكثير من الكتب ، وقالت لي : سآتي في الأسبوع القادم لأخذك معي لحضور عاشوراء ، فتردَّدت قليلا في قبول الدعوة ، ثمَّ قبلت وأنا حيرانة ، وقلت : حسناً كما تريدين ... ثمَّ انكببت على الكتب ليل نهار وأنا أقرؤها من الجلدة إلى الجلدة - كما يقولون - فقد استهواني

ص: 405

تحليل كل كاتب منهم القضايا العالقة بين السنة والشيعة ، وفاجأني الكل بقصّة لم أسمع بها من قبل ، رزيَّة يوم الخميس ، إنها فضيحة فظيعة لا تصدَّق ، ولكن عندما ذيَّل الكاتب الصفحة بأنها من كتب السنة : صحيح البخاري ، وصحيح مسلم ، ومسند الإمام أحمد ، وتاريخ الطبري ، وتاريخ ابن الأثير.

فكيف بعد هذا الذي قرأته أكذِّب نفسي وأقول : إنه قول جماعة لا يحبُّون الخلفاء الثلاثة ويكرهونهم ، أليس ذلك مذكوراً في الصحاح؟ فخطر لي أن أبحث عن تلك الصفحات في الصحاح لأتأكَّد ، وتمنَّيت أني لو لم أجدها ، لكنَّ البخاري ذكرها ، ومسلم ذكرها ، وكلُّهم ذكروها ، وأمرونا أن نتبع أبا بكر وعمر ، وأخبرونا بأنهم عدول لا يذنبون.

ومن هنا ملت إلى الشيعة أكثر فأكثر ، لأن تحليلهم لكل الأمور منطقيٌّ ، أكملت قراءة كل كتب التيجاني ، والشيخ محمّد مرعي أمين الأنطاكي ، وكتاب ... و ... و ... وكلُّهم سنة تشيَّعوا ، ولم أسمع بحياتي عن شيعيٍّ قد تسنَّن.

إن رزيَّة الخميس وحدها كافية لأن تشيِّعني ، ليتك - يا عزيزي القارئ - تعرفها لتعرف أني على حقّ ، إنها قصّة يندى لها الجبين ، وهي عار على أهل السنة في كتبهم ، فلا نؤاخذ المستشرقين عندما يكتبون عن رسولنا صلی اللّه علیه و آله ما يكتبون ، فهم قد استندوا في دعاويهم على كتبنا المليئة بمثل هذه الروايات عن الرسول صلی اللّه علیه و آله .

لقد قرأت الكتب واقتنعت بها ، وأنا مندهشة حيناً لما أقرأ ، ومستاءة حيناً آخر على الدهر الذي أمضيته وأنا عمياء البصيرة .. فالشيعة على حقٍّ ونحن على باطل ، وهم يتمسَّكون باللبِّ ونحن نتمسَّك بالقشور ، هم الذين يجب أن يُسَمَّوا أهل السنة ; لأنهم لم يغيِّروا ما جاء به محمّد صلی اللّه علیه و آله ، أمَّا نحن فاتّبعنا سنّة أبي بكر

ص: 406

وعمر ومعاوية.

أقولها وبكل صراحة : إن الحقَّ هو اتّباع أهل البيت علیهم السلام ، الذين أوصى النبيُّ صلی اللّه علیه و آله بالتمسُّك بهم فقال : إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلُّوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر ، كتاب اللّه ، حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يتفرَّقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفونني فيهما (1).

وقال صلی اللّه علیه و آله : مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلَّف عنها هلك (2).

آه وا أسفاه على ماض كنت فيه مغمضة العينين ، أمشي مع أقراني وقومي وهم على طريق الضلالة ، ولكن الحمد لله الذي هداني بفضل هذه الفتاة المؤمنة الصادقة النيَّة ، وليهنأ وليعتزَّ بنفسه كل شيعي ، فهو الذي يتمسَّك بالعروة الوثقى ، وهو من الفرقة الناجية التي حدَّث عنها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حديث له.

انتهيت من قراءة الكتب وقد تشيَّعت تماماً ، وطويت صفحة الأيام الماضية ، وقرَّرت أن أبدأ من يومي هذا حياة جديدة.

وفي اليوم الذي وعدتني به صديقتي بتول جزاها اللّه عنّي كل خير ، أتت

ص: 407


1- سنن الترمذي : 5 / 328 - 329 ح 3876 ، مسند أحمد بن حنبل : 3 / 14 و 17 و 26 و 59 ، المصنّف ، ابن أبي شيبة : 7 / 176 ح 5 ، مسند أبي يعلى الموصلي : 2 / 376 ح 166 ، المعجم الصغير ، الطبراني : 1 / 131 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 9 / 163 ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبداللّه الطبري : 16.
2- المستدرك ، الحاكم : 2 / 343 ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، و 150 - 151 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 3 / 45 - 46 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 9 / 168 ، تهذيب الكمال ، المزي : 28 / 411 ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبداللّه الطبري : 2 ، ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : 1 / 93.

إليَّ وقد بدا عليها الحزن قليلا ، فقلت : لم - يا صديقتي - هذا الحزن؟

قالت : إنه يوم عاشوراء ، وقد قال الإمام الصادق علیه السلام - إنه علينا أن لا نبتسم في هذا اليوم ففيه قتل الحسين علیه السلام (1) ، وكانت هذه مصيبة على الأمّة الإسلاميّة كلِّها.

فقلت : لعن اللّه أعداء الإسلام ، وعجِّل فرجك أيُّها الإمام المنتظر لتملأ هذه

ص: 408


1- جاء في كتاب المصباح للشيخ الطوسي عليه الرحمة ، عن عبداللّه بن سنان قال : دخلت على سيدي أبي عبداللّه جعفر بن محمّد علیهماالسلام في يوم عاشوراء ، فألفيته كاسف اللون ، ظاهر الحزن ، ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤلؤ المتساقط ، فقلت : يا ابن رسول اللّه! مم بكاؤك؟ لا أبكى اللّه عينيك ، فقال لي : أو في غفلة أنت؟ أما علمت أن الحسين بن علي أصيب في مثل هذا اليوم؟ إلى أن قال علیه السلام : فإنه في مثل ذلك الوقت من ذلك اليوم تجلَّت الهيجاء عن آل رسول اللّه ، وانكشفت الملحمة عنهم ، وفي الأرض منهم ثلاثون صريعاً في مواليهم ، يعزُّ على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مصرعهم ، ولو كان في الدنيا يومئذ حيّاً لكان صلوات اللّه عليه وآله هو المعزَّى بهم ، قال : وبكى أبو عبداللّه علیه السلام حتى اخضلَّت لحيته بدموعه .. ( مصباح المتهجِّد ، الطوسي : 782، المزار ، محمّد بن المشهدي : 473 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 98 / 303 ح 4 ). وروى ابن قولويه عليه الرحمة ، عن أبي عمارة المنشد قال : ما ذكر الحسين بن علي علیهماالسلام عند أبي عبداللّه جعفر بن محمّد علیهماالسلام في يوم قط فرئي أبو عبداللّه علیه السلام في ذلك اليوم متبسِّماً إلى الليل ( كامل الزيارات ، ابن قولويه : 203 ح 6 ). وروى الشيخ الصدوق عليه الرحمة ، عن إبراهيم بن أبي محمود قال : قال الرضا علیه السلام : إن المحرَّم شهر كان أهل الجاهليَّة يحرِّمون فيه القتال ، فاستحلَّت فيه دماؤنا ، وهتكت فيه حرمتنا ، وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا ، وأضرمت النيران في مضاربنا ، وانتهب ما فيها من ثقلنا ، ولم ترع لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حرمة في أمرنا ، إن يوم الحسين أقرح جفوننا ، وأسبل دموعنا ، وأذلَّ عزيزنا ، بأرض كرب وبلاء ، أورثتنا الكرب والبلاء ، إلى يوم الانقضاء ، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون ، فإن البكاء يحطُّ الذنوب العظام. ثم قال علیه السلام : كان أبي ( صلوات اللّه عليه ) إذا دخل شهر المحرَّم لا يرى ضاحكاً ، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام ، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه ، ويقول : هو اليوم الذي قتل فيه الحسين ( صلوات اللّه عليه ). ( الأمالي ، الصدوق : 190 ح 2 ).

الدنيا قسطاً وعدلا بعدما ملئت ظلماً وجوراً.

فاستغربت صديقتي وقالت : أتهزأين؟ قلت : حاشا وكلاّ ، وقبلَّتها بين عينيها ، وقلت : أشكرك ، أشكرك يا بتول على هذه الهديَّة ، فلقد أنقذتيني من ظلام وجهل كنت أعيشه ، ونقلتيني إلى النور والعلم والنبوَّة والعقائد الصحيحة ، إلى أحضان أئمَّة الهدى أحفاد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فهل من مزيد من هذه الكتب؟

فقالت : إذا كنتِ قد اكتفيتِ ، وصار عندكِ يقين تام فسأعطيكِ بعضاً من كتبنا من المؤلِّفين الشيعة.

فقلت : أتمنَّى هذا ، ودعينا الآن نذهب لحضور عاشوراء ، فذهبت ورأيت الناس في بكاء وعويل ، وكأن الحسين علیه السلام قد استشهد لتوِّه ، فبكيت معهم ، وعشت لحظاتهم المباركة الحزينة ، وأحسست بانجلاء الكروب عن نفسي ، وتنفسَّت الصعداء ، واعتبرت هذا اليوم أول يوم من مسيرة تشيُّعي ، واعتبرت هذا البكاء حزناً على الأيام الماضية ، وعلى الإسلام ، وعلى المآخذ التي كنت أشنُّها ورفاقي على صديقتي الشيعيّة ، وكل من اتّبع هذا المذهب ، والذين أصبحوا أحبّائي من بعد تشيُّعي ، وإخوتي في الدين ، بارك اللّه فيهم.

لقيت في البداية بعض المعارضة من أهلي - سامحهم اللّه - ولكن بصبري وتفوُّقي عليهم ، وحفظي لكل المسائل التي ربَّما أتعرَّض إليها خلال مناقشاتي ومجادلتي مع كل من يسمع بأنّي قد تشيَّعت ، تفوَّقت وتفوَّقت ، واستطعت أن أشيِّع اثنتين من أخواتي ، وذلك بعد اطّلاعي على كل كتب الشيعة تقريباً ، فقد وجدت في عقائدهم وأدعيتهم كنزاً لا يفنى.

وهكذا كانت مسيرة حياتي مع التشيُّع ، بدأتها بشك بيني وبين نفسي عن اختلاف المذاهب ، وأنهيتها بإعلان التشيُّع ، والتمسُّك بالمذهب الحقّ ؛ مذهب

ص: 409

أهل البيت علیهم السلام .

فسلام عليكم يوم ولدتم ، ويوم استشهدتم ، ويوم تبعثون ، وخاسر خاسر من لا يعرفكم ولا يعرف قدركم ، وأنا متأسِّفة جدّاً ، وأعتذر إليكم عني ، وعن المسلمين الذين كانوا يجهلون صلتكم بالنبيِّ صلی اللّه علیه و آله وحديثه عنكم ، وعن حبِّكم ومودَّتكم الواجبة علينا ، وعن بعض من آذاكم ، وحمل الآخرين على القول فيكم وفيمن تمسَّك بكم أقاويل وأكاذيب مغرضة ، لعنهم اللّه وأحرقهم بناره.

وأنت - عزيزي القارئ - إذا أردت الاستبصار أكثر عليك بقراءة كتب التيجاني والأنطاكي وخليفات ... إلخ ، وكل من تشيَّع ; لأنها حجّة علينا يوم الحساب .. وستجد فيها جواباً لكل مسائلي التي لم أورد لك أجوبتها كي تتشجَّع وتبحث بنفسك على طريق النور والحقّ ... وبعدها إذا بقيت على حالك ولم تغيِّر رأيك في موروثك فعلى الدنيا السلام ، وإلاَّ فأنت إنسان راق قد اتّبعت قوله تعالى : ( فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الاَْلْبَابِ ) (1) (2).

ص: 410


1- سورة الزمر ، الآية : 17 - 18.
2- كتاب : أخيراً أشرقت الروح ، لمياء حمادة : 9 - 21 ، المتحوِّلون ، هشام آل قطيط : 330 - 341.

المناظرة الثالثة والسبعون: مناظرة الهاشمي بن علي التونسي مع بعض الشيعة في حديث العشرة المبشَّرة ووصوله إلى الحقيقة

اشارة

قال الهاشمي بن علي التونسي في بداية تعرُّفه على الحقائق : كنت أدرس في الصفِّ مادة التأريخ ، وكان عندنا أستاذ يتبنَّى الفكر القوميّ ، ولمَّا مررنا على معركة صفّين ابتسم الأستاذ وقال : فاقترح الداهية عمرو ابن العاص فكرة رفع المصاحف حتى يخدعوا جيش عليٍّ علیه السلام ، وينجوا من الهزيمة المنكرة التي بدأت تلوح لهم.

صعقني جدّاً هذا الكلام ، فقلت في نفسي : أعمرو بن العاص يفعل هذا؟ هذا الصحابيّ الجليل - الذي عرفناه من أقطاب الصحابة كما قال لنا شيوخنا - يخدع ويمكر؟! إذن أين تقوى الصحابة وإخلاصهم الذي دمغجنا به شيوخنا؟!

شعرت حينها بتمزُّق نفسيٍّ شديد بين ثقافتي الإسلاميّة التي تقدِّم كل الصحابة ، وترفعهم إلى صفوف الملائكة ، وبين حقائق التأريخ إن كانت حقَّه ، رجعت إلى البيت مغموماً ، وسألت أخي عن المسألة فقال لي : إن هذا ليس من شأننا فلا تخض فيه ، وهم - أي الصحابة - أدرى بزمانهم.

ص: 411

ولم يقنعني هذا الكلام البارد الفارغ من كل معنى ، وهل يمكن أن يمارس المؤمن العادي الخداع والمكر؟! فكيف بالصحابة؟!

وتمضي السنوات ، وتبقى في نفسي أشياء وأشياء ، لكنّي لمَّا لم أصل إلى الجواب قفلت عليها في صدري ، وألقيت حبلها على غاربها ومضيت.

وتشاء الأقدار أن تجمعني بصديق قديم ، وزميل دراسة ، كنَّا تفارقنا مدَّة من الزمن ، وإذا بي أسمع أنه شيعي ، لقد كنت أعتقد أن المذهب السنّيّ هو المذهب الصافي ، وخاصّة أتباع الإمام مالك ، إمام دار الهجرة ، حيث إن أكثر إفريقيا مالكيُّون ، وكنت أعتقد أن بقيَّة المذاهب الثلاثة وإن كانت على الحقّ ، لكنَّ المذهب المالكي أصفاها وأحقُّها ، نعم كانت أحياناً تجول في خاطري تساؤلات حول الاختلافات التي ما بين هذه المذاهب الأربعة ، وكنت لا أرى مبرِّراً لاختلافها ، نعم لقد تعلَّمنا منذ صغرنا أن اختلافها رحمة ، وأنهم كلَّهم من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ملتمس ، لكن كان في نفسي من ذلك ما كان ، لكنّي قنعت بحجّة شيوخنا ، أو ربَّما أقنعت بها نفسي.

وكنت قاطعاً ببطلان مذهب الشيعة ، وأنهم متطرِّفون في عقائدهم ، وكنت أسمع ما كان ينقله البعض حول بكائهم على الحسين علیه السلام ، وسبِّهم للصحابة ، فيزداد عجبي ، وكنت أتمنَّى أن ألتقي بواحد منهم لأقنعه ، أو على الأقل لأعرف لماذا هم هكذا؟

كان أوَّل ما ناقشني فيه صديقي الشيعي حديث العشرة المبشَّرين بالجنَّة ، وقال لي : هل يعقل أن يكون طلحة والزبير وعلي علیه السلام في الجنة ، وقد قتل بعضهم بعضاً ، وشتم بعضهم بعضاً؟!

وهل يعقل كذلك أن يكونوا في النار؟! فكان مما أجابني به أن الصحابة

ص: 412

على ثلاثة أقسام : قسم الثابتين بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وقسم المرتدّين ( فعلا لا قولا ) ، وقسم المنافقين ، وعليه لا يمكن أن يكونوا كلُّهم عدولا.

وممّا واجهني به صديقي هذا من الحجج حديث الثقلين ، الذي يقول فيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إني تارك فيكم الثقلين ما ان تمسَّكتم بهما لن تضلّوا أبداً : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، ولن يتفرَّقا حتى يردا عليَّ الحوض (1) ، وقد كفانا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مؤونة إمامة الأمّة السياسيّة والعلميّة بالأئمّة من أهل بيته علیهم السلام .

وخضنا نقاشات عديدة حول تنزيه اللّه تعالى عن الرؤية والحركة والانتقال ، وتنزيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من الذنوب والكبائر والخطأ والنسيان.

وهكذا رأيت أن عائشة وحفصة نزلت فيهما سورة كاملة تهدِّدهما بالطلاق وبعذاب النار .. ورأيت أن كل بناء السنّة العقائديّ متهاو ، بل هو من صنع وبناء حكَّام بني أميَّة أعداء اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله ، وبني العباس ، ومن بعدهم من الظالمين إلى اليوم.

ورأيت أن الشيعة مذهب صاف عقلاني ، مليء بالحجج الدامغة من القرآن الكريم والسنّة المحمديَّة ، ولا مجال للخرافات والتحريفات والأكاذيب فيه ، وهكذا إذ بينما كنت أنسب إلى الشيعة كل قبيح ، استفقت على أن مذهبهم حقٌّ ، ولهذا كثرت حوله الأباطيل والدعايات الباطلة ، التي لم يرم بها حتى دين اليهود والمجوس.

وعرفت حينها معنى قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَة ... ) (2) ، وعرفت الحديث القائل : الناس أعداء ما

ص: 413


1- تقدَّمت تخريجاته.
2- سورة الحجرات ، الآية : 6.

جهلوا.

وأنا من موقعي هذا أدعو كل إنسان حرٍّ أن يطّلع على كتب الشيعة ، وعلى آرائهم دون واسطة ، كما عرفت أنا كتب السنّة كالبخاري والموطَّأ دون واسطة ، وقارنوا بين المذاهب ، فلسنا أقلَّ من معاوية الذي قتل النفوس ، وأحدث الفتن ، ثمَّ يقال عنه : إنّه اجتهد فأخطأ ، فنحن إن وصلنا إلى الحق - إلى دين اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله - فلنا أجران ، وإن لم نتوصَّل إلى ذلك فلعلَّ اللّه يكتب لنا أجراً واحداً ، وذلك لصدق نيَّاتنا وصفاء سرائرنا.

وجرِّبوا أن تطالعوا عن التشيُّع والشيعة الاثني عشريَّة ، فليس في ذلك بأس ولا ضرر ولا فتنة ولا سمٌّ ، كما يدّعي بعض العلماء المتحجِّرين ، بل إن أحدنا يفاخر بأنَّه قرأ مجموعة آثار فيكتور هيجو مثلا ، أو اطّلع على مسرحيَّات شكسبير ، وتجده جاهلا بما يقوله إخوانه وبما يعتقدونه جهلا مطبقاً. أقول قولي هذا ، وأستغفر اللّه العليَّ العظيم ، الهاشمي بن علي ، رمضان قابس - تونس 1 - شوال - 1419 ه- (1).

كلام الأستاذ عبدالمنعم السوداني في حديث العشرة المبشَّرة

قال الأستاذ عبدالمنعم حسن السوداني : حديث العشرة المبشَّرين المزعوم : ما بدأت حواراً مع أحد فيما جرى بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلاَّ وبادرني : إنهم مبشَّرون بالجنَّة ، مستنداً إلى حديث العشرة المبشَّرين بالجنّة كما يزعمون ، وإنه لعمري حديث لا يحتاج منّي إلى كثير عناء لإثبات وهنه ، ومخالفة متنه

ص: 414


1- الصحابة في حجمهم الحقيقي ، الهاشمي بن علي : 9 - 12.

لواقع الأحداث التاريخيّة ، وهو لا يعدو أن يكون إحدى الأكاذيب التي وضعت كغيرها من الفضائل ، وأورده هنا كنموذج لمأساة الأمّة.

العشرة المبشَّرون بالجنّة هم : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، وطلحة والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد ، وأبو عبيدة بن الجرَّاح.

هذا الحديث الضعيف سنداً - كما بيَّن فطاحل العلم - يكذِّبه متنه كذلك ، ولا ندري لماذا اشتهر هؤلاء العشرة بالتبشير بالجنَّة ، وحصرت فيهم مع أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله بشَّر غيرهم ، كآل ياسر والحسن والحسين وأبي ذر ، والقرآن أيضاً يبشِّر كل من آمن وعمل صالحاً ثمَّ اهتدى بالجنّة.

إن هؤلاء الذين يرفعون عقيرتهم بمثل هذه الروايات الموضوعة لم يفطنوا إلى وضوح كذب الأحاديث ، إذ أنها لو كانت وردت عن النبيِّ صلی اللّه علیه و آله حقيقة لسمعنا في التأريخ احتجاج عمر بهاً - مثلا - في السقيفة كدعاية انتخابيّة لأبي بكر ، يسند بها انتخابه له.

وياليتني أجد من يوضح لي : هل من الممكن أن يكون عبد الرحمن بن عوف أحد رواة هذا الحديث معتقداً بصحّته ، ومع ذلك يسلُّ سيفه على عليٍّ علیه السلام يوم شورى الستة قائلا : بايع وإلاَّ تقتل (1)؟!

ويقول لعلي علیه السلام - بعدما انتقضت البلاد على عثمان - : إذا شئت فخذ

ص: 415


1- راجع : شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 6 / 96 ، و 12 / 265 ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : 176 ، الغدير ، الأميني : 5 / 375.

سيفك ، وآخذ سيفي ، إنّه قد خالف ما أعطاني (1).

وهل أبو بكر وعمر المبشَّران بالجنّة هما اللذان ماتت الصدّيقة بضعة المصطفى صلی اللّه علیه و آله وهي واجدة عليهما (2)؟

وهل هما اللذان قالت لهما : إني أشهد اللّه وملائكته أنكما أسخطتماني ، وما أرضيتماني ، ولئن لقيت النبيَّ لأشكونَّكما إليه (3)؟

وهل أبو بكر هذا هو الذي أوصت فاطمة علیهاالسلام أن لا يصلِّي عليها ، وأن لا يحضر جنازتها (4)؟

وهل كان عمر يصدِّق هذه الرواية وله إلمام بها ، وهو يناشد مع ذلك حذيفة بن اليمان العالم بأسماء المنافقين ، ويسأله عن أنه هل هو منهم (5)؟

وهل كان طلحة والزبير يؤمنان بقول الرسول صلی اللّه علیه و آله وهما يؤلِّبان على عثمان ، ويشاركان في قتله؟ وهما اللذان خرجا على إمامهما ، وخليفة المسلمين ، المفروض عليهما طاعته ، بعد أن عقدت له البيعة ، فنكثا بيعته ، وأسعرا عليه نار البغض وقاتلاه وقتلا؟

ص: 416


1- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 3 / 28 ، الغدير ، الأميني : 9 / 86 عن البلاذري.
2- راجع صحيح البخاري : 5 / 82 ، صحيح مسلم : 5 / 154.
3- الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : 1 / 31 ، مناقب أهل البيت علیهم السلام الشيرواني : 402.
4- صحيح البخاري : 5 / 82 ، صحيح مسلم : 5 / 154 ، تأريخ المدينة ، ابن شبة النميري : 1 / 197.
5- 5 - فتح الباري ، ابن حجر : 8 / 487 ، تفسير القرطبي : 1 / 200 ، قال الشيخ علي بن يونس العاملي في ( الصراط المستقيم : 3 / 79 : وفي الإحياء للغزالي : كان عمر لا يحضر جنازة لم يحضرها حذيقة وفي مسند الصحابيات روى أبو وائل عن مسروق عن أم سلمة قالت : قال النبي صلی اللّه علیه و آله : من أصحابي من لا أراه ولا يراني ، فناشدها عمر : هل أنا منهم؟ الخبر ، وكيف يسأل الإمام رعيته عن أحوال إيمانه وقد رويتم أن النبي صلی اللّه علیه و آله شهد له بالجنة ورأى له قصراً فيها فلا يعتمد على قول نبيه صلی اللّه علیه و آله ويعتمد على غيره؟

أو ليس طلحة والزبير هما اللذان ارتكبا من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في هتك حرمته ما لم يرتكبه أحد ، حينما أخرجا زوجته عائشة تسير بين العساكر في البراري والفلوات ، غير مبالين في ذلك ولا متحرِّجين؟!!

وغير ذلك الكثير مما يؤكِّد أن الحديث مكذوب على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من أصله ، ولا تحتاج معرفة ذلك إلى كبير عناء (1).

ص: 417


1- بنور فاطمة علیهاالسلام اهتديت ، عبدالمنعم حسن : 163 - 165.

المناظرة الرابعة والسبعون: مناظرة المحامي محمّد علي المتوكِّل السوداني مع الدكتور الحبر يوسف نور الدائم

يذكر المحامي محمّد علي المتوكِّل السوداني (1) أنه أجرى مع الدكتور الحبر يوسف نور الدائم (2) حواراً في منزله في أحد الأحياء الشعبيَّة في أم درمان ، باقتراح من أحد أصدقائه في معرفة رأي الدكتور في التشيُّع ، وموقفه من تناقضات التأريخ.

ومن هذا الحوار ما يلي :

الدكتور الحبر : على كل حال هم شيعة ، ويكفي أنهم لا يتورَّعون عن القدح في الصحابة والتطاول عليهم.

قال : فقلت : وماذا في ذلك إذا كان الصحابة أنفسهم كان ما بينهم السباب وتبادل الاتّهام ، بل أكثر من ذلك : الاقتتال وإراقة الدماء ، كالذي حدث مباشرة

ص: 418


1- مؤلِّف كتاب : ودخلنا التشيُّع سجَّداً.
2- أستاذ اللغة العربيّة بجامعة الخرطوم ، وأحد أبرز مؤسِّسي حركة الإخوان في السودان.

بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ؟ ويكفي أنهم اقتتلوا في واقعة الجمل ، فكان القتلى من الصحابة والتابعين بالألوف ، فكيف جاز لهم أن يقتتلوا ويتسابّوا ، ولا يجوز لنا أن نعيِّن المخطئ منهم والمصيب؟ (1)

ص: 419


1- والمشكلة عند القوم تكمن في تزكيتهم جميع الصحابة بلا استثناء ، يقول ابن الأثير في مقدِّمة كتابه أسد الغابة في معرفة الصحابة : 1 / 3 : والصحابة يشاركون سائر الرواة في جميع ذلك إلاَّ الجرح والتعديل ، فإنّهم كلّهم عدول ، لا يتطرَّق الجرح إليهم ; لأن اللّه عزَّوجلَّ ورسوله صلی اللّه علیه و آله زكَّياهم وعدَّلاهم ، وذلك مشهور لا نحتاج لذكره. أقول : ليس هناك أيُّ دليل على أن اللّه تعالى ورسوله صلی اللّه علیه و آله زكَّيا جميع الصحابة ، وحاشاهما ، والقرآن الكريم والسنّة فيهما الأدلّة التي تنافي هذه الدعوى ، وذلك من خلال بعض الآيات والأحاديث الشريفة ، وكيف يكونون كلُّهم عدولا ، وفيهم من هو معلوم الحال ، وفيهم المنافقون الذين يتستَّرون تحت شعار الإسلام ، ونزلت آيات من القرآن فيهم ، بل نزلت سورة كاملة باسمهم وهي سورة المنافقون ، وإذا حكمنا بأن جميع الصحابة عدول فقد حكمنا في الضمن أيضاً بعدالة جميع المنافقين ، المندسّين في صفوف الصحابة ، والمتستِّرين باسم الإسلام وباسم صحابة النبي صلی اللّه علیه و آله ، وكانت لهم بعض العلامات التي يعرفون بها ، فقد روى الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين : 3 / 129 وصحَّحه ، عن أبي ذر رضي اللّه عنه قال : ما كنّا نعرف المنافقين إلاَّ بتكذيبهم اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله ، والتخلُّف عن الصلوات ، والبغض لعليِّ بن أبي طالب علیه السلام ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وقد أخبر القرآن عن بعضهم وسمَّاه فاسقاً ، وهو الوليد ، وذلك في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَة فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) سورة الحجرات ، الآية : 3. فانظر قصة الوليد بن عقبة ونزول الآية فيه في الدرّ المنثور للسيوطي : 6 / 88. وقد روى البخاري في صحيحه : 7 / 207 عن أنس، عن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : ليردن عليَّ ناس من أصحابي الحوض ، حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني ، فأقول : أصحابي فيقول : لا تدري ما أحدثوا بعدك. وروى في ص 209 عن أسماء بنت أبي بكر ، قالت : قال النبي صلی اللّه علیه و آله : إني على الحوض حتى أنظر من يرد عليَّ منكم ، وسيؤخذ ناس من دوني ، فأقول : يا ربّ! منّي ومن أمتي ، فيقال : هل شعرت ما عملوا بعدك؟ واللّه ما برحوا يرجعون على أعقابهم. فكيف يكونون كلهم عدولا وفيهم من قد علمت؟ وبعد هذه الروايات وأمثالها ، هل يمكن القول بعدالة جميع الصحابة ، وفيهم سمرة بن جندب ومعاوية بن أبي سفيان وأمثالهما؟ والخلاصة أن الصحابة كغيرهم ، فيهم المؤمن التقيُّ والصفيُّ النقيُّ ، وفيهم غير ذلك ، وكلٌّ يعرف بعمله ، وما ظهر على سلوكه ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشرٌّ.

قال : إن اقتتال الصحابة فيما بينهم لا يخرجهم من دائرة الإيمان ; لقوله تعالى : ( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) (1).

قلت : ولكنه تعالى يقول بعد ذلك : ( فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاُْخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ) أليس لنا أن نحدِّد الفئة الباغية ، وإذا ما كانت قد فاءت إلى أمر اللّه أم لا؟

قال : يا بنيَّ! نحن نقول كما قال أبو زرعة : تلك فتنة وقى اللّه منها سيوفنا ، أفلا نقي منها ألسنتنا؟

عند هذا الحدّ كان صاحبي قد بلغ به الغضب مبلغاً خشيت معه أن يأتي بتصرُّف لا يليق بالمقام ، وفي ذات الوقت بدأ الدكتور غير راغب في المضيِّ في هذا الاتجاه المزعج ، عندئذ أدركت أنه لا جدوى من الإصرار على توجيه الحوار عقائديّاً ، فعدنا إلى الحوار في ساحة العمل الإسلاميّ.

ويقول المحامي محمّد علي : إن الدكتور الحبر ... لم يرضه أن يعلو ذكر أهل البيت علیهم السلام في السودان ، وأن يسارع الشباب إلى الدخول في حصون ولايتهم ، فأخذ يدقُّ نواقيس الخطر ، ويؤلِّب ذوي الشأن ليتصدَّوا لحركة التشيُّع التي عمَّت أرجاء السودان ، وأن على المسؤولين أن يقفوا في وجه هذا المدّ ، وأنه بهذا البيان يكون قد أدَّى ما عليه ; إذ لا يملك أن يفعل بهذا الصدد أكثر من

ص: 420


1- سورة الحجرات ، الآية : 9.

التحذير.

لقد فات على الدكتور أن التشيُّع بما هو جوهر الدين قد صمد عبر التأريخ في وجه أعنف حملات الطمس والتشويه ، واستعصى على كل المؤامرات التي استهدفته منذ وفاة الرسول صلی اللّه علیه و آله وإلى الآن ، وهو المذهب الوحيد الذي ظلَّ أمره في ازدياد ; لما يستبطن من حقّ ، ولتمسُّك أهله به ، ولقدرته على مواكبة العصر ، والوفاء بمتطلَّبات الزمن ، بينما اندثر غيره من المذاهب ، أو كاد ، حتى المذاهب الأربعة لم يعد التمسُّك بها إلاَّ تقليديّاً وشكليّاً ، ولم تعد قادرة على الوقوف أمام دعاوى التجديد الفقهيّ ، وفتح أبواب الاجتهاد التي تنطلق من هنا وهناك ..

والذي لا يعرفه الدكتور أو يتجاهله هو أن الولاء لأهل البيت علیهم السلام أسبق في دخوله إلى السودان من جميع الحركات السلفيَّة بما فيها حركة الإخوان ، وأن السودانيين قد عرفوا لأهل البيت علیهم السلام حقَّهم في ذات الوقت الذي عرفوا فيه الإسلام ، وأن البنية الاجتماعيَّة في السودان لا يهدِّدها انخراط الشباب في سلك التشيُّع لأهل البيت علیهم السلام ، الذين هم قوام الدين ، ونظام الأمّة ، ولكن ما يهدِّد المجتمع في دينه وحضارته هو انتماؤهم إلى تلك الجماعات الموتورة ، التي ورثت الحقد عن الخوارج وأهل الفتن وبني أمية وأئمَّة القشريين من لدن ابن تيمية إلى محمّد بن عبد الوهاب وأتباعه (1).

ص: 421


1- المتحوِّلون ، الشيخ هشام آل قطيط : 663 - 666.

المناظرة الخامسة والسبعون: مناظرة الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني قبل تشيُّعه مع ابن عمِّه المتشيِّع في الإمامة ووجوب البحث عن الحقيقة

قال الأستاذ عبد المنعم حسن تحت عنوان ( حوار في بداية الطريق ) : كنت قلقاً جدّاً وأنا أحاول تجنُّب أيِّ حوار مع ابن عمِّي حول هذا المذهب الجديد الذي تجسَّد في سلوكه أدباً وأخلاقاً ومنطقاً ، مما جعلني أفكِّر في أنه لا غضاضة في النقاش معه حول أصل الفكرة ، رغم قناعتي بأنَّ ما يؤمن به لا يتجاوز أطر الخرافة ، أو ربَّما نزوة عابرة جعلته يتبنَّى هذه الأفكار الغريبه.

قلقي كان نابعاً من تخوُّفي لأن أتأثَّر بفكرته ، أو ربَّما أجد أنها تجبرني على الاعتراف بها ، وبالتالي أخالف ما عليه الناس ، وما وجدت عليه آبائي ، وسأكون شاذّاً في المجتمع ، وربَّما اتُّهمت بأني مارق من الدين كما اتّهم ، ولكني تجاوزت كل ذلك ، وقرَّرت أن أخوض معه حواراً ، لعلّني أجد منفذاً أزعزع من خلاله ثقة هذا الرجل بما يعتنقه ، خصوصاً وأني قرأت كتباً لا بأس بها ضدَّ الشيعة والتشيُّع ، ومنها كان المخزون الذي من خلاله أنطلق لجداله ، فبدأت معه الحوار.

ص: 422

قلت له : الآن أنت تركت ما كان عليه الناس وأصبحت شيعيّاً ، فما هي الضمانات التي تمنعك من أن تغيِّر مذهبك غداً؟

قال : الآية الكريمة تقول : ( قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (1) ، وأنا من أنصار الدليل أينما مال أميل ، وقد أفرغت وسعي ، وتوصَّلت إلى أن الطريق المستقيم هو مذهب أهل البيت علیهم السلام ، والدليل على صحّته أن الأدلّة التي يسوقها أصحابه مما اتّفق عليه جميع المسلمين.

قلت : لكن لماذا لم يكتشف غيرك هذه الحقيقة؟

قال : أوّلا : من قال لك إنه لا يوجد غيري؟!

وثانياً : وصول غيرك للحقيقة أو عدمه ليس دليلا على صحّة أو خطأ ما توصَّلت إليه ، إن المسألة تكمن في نفس وجدان الحقيقة والحقّ ، ومن ثَمَّ اتّباعه ، ولا شأن لي بغيري ، لأن اللّه يقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) (2).

قلت له : لو افترضنا صحّة مذهب الشيعة ذلك يعني أن 90% من المسلمين على خطأ ; لأن كل المسلمين يؤمنون بمذهب أهل السنّة والجماعة ، فأين هذا التشيُّع من عامة الناس؟

قال : الشيعة ليست بهذه القلّة التي تتصوَّرها ، فهم يمثِّلون غالبيَّة في كثير من الدول ، ثمَّ إن الكثرة والقلّة ليست معياراً للحقّ ، بل القرآن كثيراً ما يذمُّ الكثرة ، يقول تعالى : ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) (3) ، ويقول : ( وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ

ص: 423


1- سورة البقرة ، الآية : 111.
2- سورة المائدة ، الآية : 5.
3- سورة الزخرف ، الآية : 78.

شَاكِرِينَ ) (1) ، ( وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (2) ، وبذلك لا تكون الكثرة دليلا على أنهم على حقٍّ.

أمَّا التشيُّع كمنهج سماويٍّ فهو موجود ، بدليل أني شيعيٌّ ، وإذا وجِّه الإشكال إلى عدم انتشار التشيُّع فهذا يتوجَّه أيضاً لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في أوَّل دعوته وحتى وفاته ; إذ أن الإسلام لم يكن منتشراً ، ومع ذلك فهو الحقُّ المنزل من قبل اللّه تعالى.

قلت متعجِّباً : وهل تريدني أن أسلِّم بأن آباءنا وأجدادنا الذين عرفناهم متديِّنين طريقهم غير الذي أمر به اللّه؟!

ابتسم قائلا : أنا لست في مقام بيان وتقييم أحوال الماضين ، فاللّه أعلم بهم ، ولكن أذكِّرك بأن القرآن يرفض أن يكون الأساس في الاعتقاد تقليد الآباء والأجداد ، يقول تعالى : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ) (3).

شعرت بأن الحوار قد أخذ منحىً عاماً ، وأن حجّته بدت في هذا المجال قويَّة ومدعَّمة بآيات قرآنية ، فقرَّرت أن أناقش معه مفردات معتقده التي قرأت نقدها من الكتب ، وتركتها كورقة أخيرة في النهاية ; لأني على ثقة من أنه لا يستطيع الإجابة عليها ، ولقد أضفت إليها رأيي الخاص ، ولأغيِّر مجرى الحديث إلى حيث أريد قلت له : حسناً ، ماذا تقول الشيعة؟!

هنا اعتدل في جلسته وقال : الشيعة يقولون : إن هذا الدين الخاتم لا يجوز

ص: 424


1- سورة الأعراف ، الآية : 17.
2- سورة سبأ ، الآية : 13.
3- سورة البقرة ، الآية : 170.

لنا أخذه إلاَّ عن طريق أئمّة أهل البيت علیهم السلام ، ويعتبرون أن هذا هو عين التمسُّك بسنَّته صلی اللّه علیه و آله ، وهو المطلوب من كل إنسان.

قلت ساخراً : كلُّنا نتّبع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولا أحد يرى أنه خلاف ما جاء به عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام.

قال : الأمر ليس مجرَّد ادّعاء ، إنّما يجب إثبات ذلك بالدليل ، ونحن كشيعة نرى أن المسألة الأساسيّة التي ابتليت بها الأمّة هي مسألة الإمامة والقيادة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، والتي اختصَّ بها عليٌّ علیه السلام كوصيٍّ وخليفة ، ومن بعده أئمَّة أهل البيت علیهم السلام ، وواحدة من مستلزمات هذه الوصاية والإمامة الخلافة السياسيّة ، ومن أهل البيت فقط يصح أخذ الدين ، أمَّا ما أخذ من غيرهم فلا نقول إنه باطل مطلقاً ، ولكنّه حقٌّ مخلوط بباطل ، ونحن مأمورون بأخذ الحقِّ فقط دون غيره.

قلت : وما جدوائيَّة البحث حول قضيَّة مرَّت عليها قرون؟ وهل يفيدونا إذا ما كان عليٌّ علیه السلام هو الخليفة أم أبو بكر؟!

سكت قليلا ثمَّ قال : عندما ننظر - يا أخي - لكل مشكلة ، يجب البحث عن جذور تلك المشكلة حتى نحلِّلها ، وما عليه المسلمون اليوم من فرقة وشتات وضياع إنما هو ناتج عن ذلك اليوم الذي حجبت فيه الخلافة عن علي بن أبي طالب علیه السلام ، وأعطيت لغيره بلا حقٍّ ، ومن هناك ابتدأ افتراق الأمّة ، والآن أنا أمامك أقول لك : إن الشيعة على حقٍّ ، وأنت ترى خلاف ذلك ، من هنا جاءت ضرورة البحث في الماضي لنعرف أين الأصل ، ومن الذي خالف.

هنا أخذتني العزّة ، وقرَّرت الهجوم عليه من كل جانب ، فانهلت عليه بالأسئلة مقاطعاً : إذن أنتم تشكِّكون في الصحابة؟!

أجاب بهدوء : نحن لسنا في مقام التشكيك في أحد ، ما نقوله أن كل من

ص: 425

اتّبع الحق من الصحابة أو غيرهم على رؤوسنا ، نقدِّسهم ، نحترمهم ، وكل من خالف النهج السماويّ القويم فلن نسمح لأنفسنا أخذ معالم ديننا منه.

فقلت له : لا أريدك أن تناقشني في عموميَّات! من غير المعقول أن كل الصحابة الذين بايعوا أبا بكر خالفوا قول الرسول صلی اللّه علیه و آله ! أتدري ماذا يعني ذلك؟ يعني أن نشكِّك في كل ديننا ، فكيف تجوِّزون لأنفسكم ذلك؟ وأرجو ألا تستعمل معي التقيَّة المعروفة عندكم.

أجاب : أولا : التقيَّة شرعيَّة من الكتاب والسنة ، ولها مجالها ، وهي ليست واجبة في كل الأحوال ، إنما لها ظروفها الخاصة ، وأنا لا أمثِّل كل الشيعة ، بإمكانك أن تطّلع على كتب الشيعة ، فلن تجد غير كلامي هذا.

أما بالنسبة للصحابة فالأمر لا يصل إلى مستوى التشكيك في الدين إلاَّ إذا كان الدين عندك ملخَّصاً في الصحابة.

قاطعته : إنهم هم الذين نقلوا لنا الدين.

قال : بحثنا الآن حول نقلهم ، وهذا أوَّل الكلام وبيت القصيد ، أنتم تجرحون الرجال في علم الجرح والتعديل ، وتبدأون عمليَّة معرفة أحوال الرجال من القرون المتأخِّرة بعد عهد النبي صلی اللّه علیه و آله ، ونحن الشيعة نبدأ ممن كان حول الرسول صلی اللّه علیه و آله ; لأن منهم من كان منافقاً ، وآخر كان لا يفقه شيئاً. وهكذا.

أضف إلى ذلك : من الذي قال : إن الجميع قد بايع أبا بكر؟ ارجع لكتب التاريخ ستجد أن أوَّل المعترضين كان علياً علیه السلام ، ومعه مجموعة من الصحابة.

قلت : لو كان الأمر كما تدّعون لنصر اللّه عليّاً وخذل أبا بكر ، وهذا دليل على أن اللّه اختار للأمّة أبا بكر.

قال : بقولك هذا تلغي فلسفة الابتلاء التي يمتحن اللّه بها العباد ، إن اللّه يبيِّن

ص: 426

الطريق للناس فقط ، ثمَّ يدعهم ، فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، واللّه لا يجبر الناس ، وإلاَّ نكون من الذين يقولون بالجبر فنسقط الثواب والعقاب ، ونتيجة كلامك هذا أن أيَّ شخص يتحكَّم في رقابنا يجب أن نهتف له ، ونعتبره تأييداً من اللّه ، وهذا ما لا يعقل.

ورميت آخر سهم في جعبتي قائلا : إنكم تغالون في أهل البيت علیهم السلام ، وتقولون إنهم معصومون ، كما أنكم تبيحون زواج المتعة ، وتجمعون في الصلاة ، وتصلّون للحجر ، والأخير رأيته بعيني ، يعني لم أقرأه في كتاب فقط.

قال : أخي! هذه فروع بإمكاني أن أناقشها معك ، ولكن من المنهجيَّة أن تبحث أولا حول الأصل الذي يتبعه الفرع أوتوماتيكياً ، فأنت عندما تريد أن تدعو شخصاً غير مؤمن باللّه إلى الإسلام لن تبدأ معه بكيفيَّة الوضوء والصلاة ، بل لابدَّ من إقناعه بوجود اللّه تعالى ، ثمَّ النبي صلی اللّه علیه و آله ، ثمَّ تفرِّع على ذلك.

فأطلب منك - أخي - أن تبحث بتجرُّد ، وسترى نور الحقيقة.

انتهينا من جلسة الحوار هذه وأنا متعجِّب من هذه الثقة التي يملكها ، وفكَّرت في البحث ، ولكن ليس لكي أقتنع ، وإنما لأملك أدلّة أقوى أدحض بها حججه ، وبعد فترة قرَّرت ألا أدخل معه في نقاش حتى أكون بعيداً عن المشاكل ، وحتى لا أتأثَّر بهذه الأفكار الغريبة ، والتي أرى شخصاً عن قرب يتبنَّاها.

ثمَّ كانت البداية التي جعلتني أنطلق في البحث ... (1).

ص: 427


1- بنور فاطمة اهتديت ، عبد المنعم حسن : 55 - 59.

المناظرة السادسة والسبعون: مناظرة الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني مع بعض أصدقائه حول العصمة في حديث الثقلين

قال الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني : جرى حوار بيني وبين أحد الأصدقاء حول عصمة الإمام ، قال لي : أنتم مغالون تبالغون في حبِّ أهل البيت علیهم السلام حتى ادّعيتم أنهم معصومون ، ومفوَّضون بالتشريع ، ونحن لا نرى سوى عصمة الرسول صلی اللّه علیه و آله .

قلت : أولا : أهل السنة والجماعة لا يقولون بأن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله معصوم في كل شيء ، بل في أمر التبليغ فقط ، ولا ندري كيف يحدِّدون ويصنّفون الأمور الواردة عن النبيِّ صلی اللّه علیه و آله أيٌّ منها من الدين ، وأيٌّ من غيره ، وذلك بخلاف قول الشيعة الذين يقولون بعصمة النبي صلی اللّه علیه و آله المطلقة ، ولا فرق في ذلك بين أمور التشريع وغيرها.

أمَّا عصمة أهل البيت علیهم السلام فالآية واضحة في دلالتها ، يقول تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) (1) الآية (2).

ص: 428


1- سورة الأحزاب ، الآية : 33.
2- 2 - روى الحاكم النيسابوري ، عن أم سلمة قالت : في بيتي نزلت : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) قالت : فأرسل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى علي وفاطمة والحسن والحسين ، فقال : هؤلاء أهل بيتي. قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 3 / 146.

أضف إلى ذلك مجموعة الأحاديث التي نستشفُّ منها بوضوح دلائل العصمة ، وحسبك في ذلك حديث الثقلين (1) ، بعد أن ثبتت صحّته لدى جمهور المسلمين سنَّةً وشيعةً.

قال : هذا الحديث لا يدلُّ على العصمة ، فهو فقط يخبرنا بالرجوع لأهل البيت علیهم السلام .

قلت : بل الحديث أوضح من أن يبحث فيه عن العصمة ; إذ أن صحّة الحديث يؤكِّد عصمتهم ، وإليك البيان ، وسألته : ما قولك في القرآن؟

قال : ماذا تقصد؟!

قلت : هل يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه؟

قال : لا.

قلت : إن اقتران أهل البيت علیهم السلام بالكتاب ، والتصريح بعدم الافتراق عنه يدلُّ على عصمتهم ; إذ أن صدور أيِّ مخالفة للشريعة منهم سواء كان عمداً أم سهواً أم غفلة يعتبر افتراقاً عن القرآن ، لو قلنا بأنهم يفترقون عنه ولو للحظة فهذا تكذيب للرسول 66 ، الذي أخبر عن اللّه عزَّوجلَّ بعدم وقوع الافتراق ، وتجويز الكذب على النبيِّ صلی اللّه علیه و آله متعمِّداً مناف لعصمته حتى في مجال التبليغ ، وقد أكَّد على الحديث في أكثر من موضع.

ص: 429


1- تقدَّم مع تخريجاته.

أضف إلى ذلك أن الرسول صلی اللّه علیه و آله اعتبر التمسُّك بهم عاصماً من الضلالة دائماً وأبداً ، كما هو مقتضى ما تفيده كلمة لن التأبيديَّة ، فإذا كان هنالك مجال لضلالتهم ولو للحظة فكيف يكون التمسُّك بهم عاصماً؟!

هذا عن العصمة ، أمَّا ما قلته عن التفويض فلا أحد من الشيعة يقول به ، إنما هو قول أعداء الدين الذين حاولوا تشويه الصورة النقيَّة للتشيُّع ، وأنت إذا أردت أن تتعرَّف على معتقدات الشيعة فيجب عليك الاطّلاع عليها من كتبهم وأقوال علمائهم ، لا من كتب وأقوال المناوئين لهم ، الذين لا يتورَّعون عن الكذب والافتراء ، ومعروف عند الشيعة أن الأئمة يقولون بما قاله الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وها هو الإمام أميرالمؤمنين علي علیه السلام يقول : علَّمني رسول اللّه ألف باب من العلم ، يفتح لي من كل باب ألف باب (1).

فهم لا يقولون بالتفويض ، بل أهل السنة والجماعة هم الذين فوَّضوا الصحابة في التشريع ، حتى أمضوا اجتهادات الصحابة الواضحة مقابل النصوص المؤكَّدة.

بعد هذا الحوار أخذ صاحبي يبحث له عن مخرج ، وبدأ يقفز بالحديث هنا وهناك ، ويحاول أن يجد ثغرة يصطادني بها ، وعندما لم يجد قال لي : يا أخي! أنا مفوِّض أمري إلى اللّه ، نحن أهل تسليم.

قلت : التسليم لا يكون إلاَّ للحقِّ ، أمَّا التفويض لله فلا يلغي إرادتك ويجمِّد عقلك ، إذا كنت تصبو إلى الحقيقة واصل بحثك عنها ، ثمَّ فوِّض الأمر إلى اللّه

ص: 430


1- تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 42 / 385 ، ينابيع المودة ، القندوزي : 1 / 231 ح 71 ، نظم درر السمطين ، الزرندي : 113.

يهديك إلى الصراط المستقيم ، أمَّا أن تكون لا تدري أعلى حقٍّ أنت أم على غيره ، ثمَّ تفوِّض الأمر ، هذا تبرير لا يقبل شرعاً ولا عقلا ... وتركته وذهبت (1).

وقال الأستاذ عبد المنعم قبل هذه المناظرة في كتابه : وحديث العترة يثبت فيما يثبت عصمة أهل البيت علیهم السلام ; لأن الذي لا يفارق القرآن ولا يفترق عنه يعني لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه مثل القرآن تماماً ، ولو كان هنالك ثمَّة احتمال - ولو ضئيل جدّاً - بافتراق أهل البيت علیهم السلام عن القرآن لما أكَّد لنا الرسول صلی اللّه علیه و آله في كلامه أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، وبهذا المعنى نفهم آية التطهير التي نزلت في أهل البيت علیهم السلام ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (2).

ولقد أجمعت مصادر التفسير والحديث على نزول هذه الآية في خمسة : النبيُّ صلی اللّه علیه و آله ، وعلي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ، كما جاء في صحيح مسلم ، كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل أهل البيت علیهم السلام (3).

والآية ناطقة بعصمة أهل البيت علیهم السلام ، ممّا يؤهِّلهم دون غيرهم للقيام بدور الإمامة ، لحفظ الشريعة الإسلاميَّة ، وممارسة دور الرسول صلی اللّه علیه و آله القياديّ في الأمّة ، والذي لا يتأتَّى إلاَّ لمعصوم مصطفى من السماء ، وهذا ما لخَّصته آية التطهير ، والتي صدِّرت بأداة الحصر ( إنَّما ) وهي من أقوى أدوات الحصر ، وفيها

ص: 431


1- بنور فاطمة علیهاالسلام اهتديت ، عبد المنعم حسن : 142 - 144.
2- سورة الأحزاب ، الآية : 33.
3- راجع : صحيح مسلم : 7 / 130 ، سنن الترمذي : 50 / 31 ح 3259 ، مسند أحمد بن حنبل : 1 / 331 ، السنن الكبرى ، البيهقي : 2 / 149 ، المصنّف ، ابن أبي شيبة : 7 / 501 ، ح 39 - 41 ، صحيح ابن حبان : 15 / 432 - 433 ، المستدرك ، الحاكم : 3 / 133 و 147 و 148 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 3 / 54 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 7 / 91.

إذهاب الرجس عن أهل البيت علیهم السلام ، والرجس يعني مطلق الذنوب والآثام والأدناس ، والقيام بالتطهير بإرادة اللّه تعالى .. كل ذلك مؤدّاه عصمة أهل البيت علیهم السلام .

ومن أوضح الواضحات التي لا تقبل الجدل عندنا في السودان أن أصحاب الكساء - أو أصحاب العباء - هم الخمسة الذين نزلت فيهم آية التطهير كما تواتر في الأحاديث (1).

ص: 432


1- بنور فاطمة علیهاالسلام اهتديت ، عبد المنعم حسن : 141 - 142.

المناظرة السابعة والسبعون: مناظرة الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني مع بعض السلفيَّة في التوحيد والتوسُّل وصفات اللّه تعالى

قال الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني في حواره مع البعض ، وسبب تأليفه كتابه القيِّم ( بنور فاطمة علیهاالسلام اهتديت ) تحت عنوان ( لماذا هذا الكتاب ) : ذهبت في يوم من الأيام إلى أحد أصدقائي لزيارته ، فأخذنا الحديث إلى حيث الشيعة والتشيُّع ، فتجاذبنا أطراف الحديث حول هذا الموضوع ... وفي أثناء تداولنا للموضوع دخل علينا شابٌّ في مقتبل العمر ... ألقى علينا تحيَّة الإسلام ، ثمَّ جلس وبدأ يستمع ، ونحن نواصل الحوار ، انتبهت إليه وقد بدت عليه علامات الحيرة ، ثمَّ تدخَّل في النقاش بقوله : يبدو أن بعض الفرق الضالّة أثَّرت عليك يا أخي! وأخذ يتفنَّن في المهنة التي يجيدها وأمثاله من توزيع أصناف الكفر والضلال والزندقة على كل الطوائف الإسلاميَّة عدا الوهابيّة ، كنت منذ دخوله قد علمت أنه وهابيٌّ ، وذلك من ثوبه الذي كاد أن يصل إلى ركبتيه من القصر ... قبل أن يتمَّ كلامه ارتفع أذان المغرب ، توقّفنا عن النقاش حتى نصلِّي ثمَّ نعود بعد الصلاة.

ص: 433

بعد الصلاة بادرني قائلا : من أيِّ الفرق أنت؟! يبدو أنك من جماعة الشيعة؟!

قلت : تهمة لا أنكرها ، وشرف لا أدّعيه ، فما كان منه إلاَّ أن أرعد وأزبد وثارت ثائرته.

قلت له - وقد تجمَّع بعض أقارب صديقي حولنا - : إذا كان لديك إشكال تفضَّل بطرحه بأدب ، ولنجعله مناظرة مصغَّرة أو حواراً - وهو سلاحهم الذي يهدِّدون به الآخرين اغتراراً منهم بقوَّة مقدرتهم على الاحتجاج -.

وافق المغرور ، فقلت له : من أين نبدأ؟ ما رأيك أن نبدأ بالتوحيد الذي تتمشدقون به ، وبسبب فهمكم الخاطئ له تضعون كل الناس في جبهة المشركين؟

فوافق أيضاً ، وبدأ الحوار والجميع يستمع ، قلت : ما تقولون في اللّه خالق الكون وصفاته؟

قال : نحن نقول : لا إله إلاَّ اللّه وحده لا شريك له ، ولا تجوز عبادة غيره.

قلت : وهل يختلف اثنان من المسلمين في ذلك؟

قال : الجميع يقول بذلك ، ولكن تطبيقهم خلاف قولهم ; إذ أنهم في الواقع مشركون ; لأنهم يتوسَّلون بالأموات ، ويخضعون لغير اللّه ، ويشركون به في طلب الحاجات ، والخضوع لغير اللّه ، وغيرها من الأشياء التي ذكرتها تعني عبادة غيره تعالى.

قلت : حسناً ، طالما الجميع يقول بأن اللّه واحد أحد فرد صمد ، ولا يجوز عبادة غيره بأيِّ حال من الأحوال فهذا جَيّد ، ويخرج الجميع من دائرة الشرك ، إلاَّإذا ثبت لدينا بالدليل القاطع أنهم يعبدون غير اللّه ، أو يشركون بعبادته أحداً ،

ص: 434

حينها يكونون مشركين.

أمَّا ما يفعلونه من أفعال مثل التوسُّل وتعظيم الأولياء واحترامهم فهذا ليس من الشرك في شيء ; لأن العبادة تعني الخضوع والتذلُّل لمن نعتقد أنه إله مستقلّ في فعله لا يحتاج إلى غيره ، أمَّا مجرَّد الخضوع والتذلُّل والاحترام فلا يعتبر عبادة ، وقد أمرنا به القرآن ; كالتذلُّل للوالدين والمؤمنين ، بل إن اللّه أمر الملائكة بالسجود لآدم علیه السلام ، بناء على ذلك لا يكون احترام الأولياء وزيارة قبورهم والتوسُّل بهم وتعظيمهم شركاً باللّه ; لأنهم لا يرون أن هؤلاء آلهة مستقلّون عن اللّه ، بل هم عباد أكرمهم اللّه بفضله ، فعطاؤهم من اللّه ، وليس لهم قدرة ذاتيّة مستقلّة.

قال : ولماذا لا يسألون اللّه مباشرة؟ هل هناك مانع وهو القائل : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) (1)؟

قلت : أيضاً قال تعالى : ( وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ ) (2) ، ثمَّ إنك عندما تمرض لماذا تذهب إلى الدكتور؟ ألم يقل اللّه تعالى في كتابه : ( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) (3)؟ أليس من أسمائه الشافي؟

قال : هذه ضرورة في الحياة.

قلت : أيضاً تلك سنّة ، وسبب به تبتغى الحاجات ، والتفتُّ إلى الحاضرين وقلت : هل تجدون في كلامي هذا خطأ؟

فأقرُّوا بما قلت ، وزاد أحدهم - وكان صوفيّاً - : هذه الأشياء موجودة من

ص: 435


1- سورة غافر ، الآية : 60.
2- سورة المائدة ، الآية : 35.
3- سورة الشعراء ، الآية : 80.

زمن الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وسار عليها الصحابة والتابعون ، وكل المسلمين إلى أن جاء ابن تيميّة وتلميذه محمّد بن عبد الوهاب ببدعهم الجديدة هذه.

قال الوهابي : إنكم تتحدَّثون بلا علم ، والوقت ضيِّق الآن ، فلنأخذ من الموضوع شيئاً نتناقش حوله ، وفي وقت آخر أكون مستعدّاً لنتحاور أكثر من ذلك.

قلت : عندي سؤال أخير حول التوحيد : ماذا تقولون في صفات اللّه؟

قال : نحن لا نقول ، إنما نصفه بما وصف به نفسه في القرآن.

قلت : وبماذا وصف نفسه؟ هل قال بأنه جسم يتحرَّك؟ أو أن له يداً وساقاً وعينين؟

قال : نحن نقول بما جاء في القرآن ، لقد قال تعالى : ( يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (1) ، وكثير من الآيات الأخرى التي تصف اللّه لنا ، فنقول : إن لله يداً بلا كيف.

قلت : إن قولك هذا يستلزم التجسيم ، واللّه ليس بجسم ، وهو ليس كمخلوقاته ، ثمَّ ما هو الفرق بينكم وبين مشركي مكة؟ أولئك نحتوا أصنامهم بأيديهم وعبدوها ، وأنتم نحتم أصناماً بعقولكم ، وظلَّت في أذهانكم تعبدونها ، لقد جعلتم لله يداً وساقاً وعينين ومساحة يتحرَّك فيها ( مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ) (2) ، وبكلمة : إن الآيات التي ذكرتها مجازيّة ، وترمز لمعان أخرى.

قال : نحن لا نؤمن بالمجازات والتأويلات في القرآن؟

ص: 436


1- سوره الفتح ، الآية : 10.
2- سورة نوح ، الآية : 13.

قلت : ما رأيك فيمن يكون في الدنيا أعمى؟ هل يبعث كذلك أعمى؟

قال : لا!

قلت : كيف وقد قال تعالى : ( وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى ) (1) ، وأنتم تقولون : لا مجاز في القرآن ، ثمَّ إنه بناء على كلامك إن يد اللّه ستهلك ، وساقه ، وكل شيء مما زعمتموه - والعياذ باللّه - عدا وجهه ، ألم يقل البارئ جلَّ وعلا : ( كُلُّ شَيْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) (2) ، و ( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالاِْكْرَامِ ) (3).

قال : هذه الأشياء لا ربط بينها وبين ما نقوله.

قلت : كلام اللّه وحدة واحدة لا تتجزَّأ ، وإذا استدللتم به على صحَّة قولكم يحقُّ لي أن أنطلق منه لتفنيد هذا القول ، وأنتم تستدلّون على مجي اللّه مع الملائكة صفّاً يوم القيامة ، كما فهمتم من القرآن.

قال : ذلك ما قاله اللّه تعالى في القرآن.

قلت : المشكلة تكمن في فهمك للقرآن ، إن في القرآن آيات محكمات وأخر متشابهات ، فلا تتّبع المتشابهات فتزيغ ، وإلاَّ أين كان اللّه حتى يأتي؟

قال : هذه أمور لا يجب أن تسأل عنها.

قلت : دعك من هذا ، ألا تقولون إن اللّه ينزل في الثلث الأخير من الليل ليستجيب الدعاء؟

قال : نعم ، ذلك ما جاءنا عبر الصحابة والتابعين من أحاديث.

ص: 437


1- سورة الإسراء ، الآية : 72.
2- سورة القصص ، الآية : 88.
3- سورة الرحمن ، الآية : 26.

قلت : إذن أين هو اللّه الآن؟!

قال : فوق السماوات.

قلت : وكيف يعلم بنا ونحن في الأرض.

قال : بعلمه.

قلت : إذن الذات الإلهيَّة شيء ، وعلمه شيء آخر.

قال : لا أفهم ماذا تقصد!

قلت : إنك قلت إن اللّه في السماء ، وبعلمه يعلم بنا ونحن في الأرض ، إذن اللّه شيء ، وعلمه شيء آخر.

سكت متحيِّراً ... واصلت حديثي : أو تدري ماذا يعني ذلك؟ إنه يعني الشرك الذي تصفون به الآخرين ; لأن الفصل بين الذات الإلهيَّة والعلم واحد من اثنين ، إمَّا أن العلم صفة حادثة فأصبح اللّه عالماً بعد أن كان جاهلا ، وإمَّا أنها صفة قديمة وهي ليست الذات كما تدّعون فيعني الشرك ; لأنكم جعلتم مع اللّه قديماً ، أو يأخذنا قولكم هذا إلى أن اللّه مركَّب ، والتركيب علامة النقص ، واللّه غنيٌّ كامل ، سبحانه وتعالى عمَّا يصفه الجاهلون.

عندما وصلت إلى هذا الموضع من الكلام قال أحد الحاضرين : إذا كانوا يقولون بذلك فاللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله منهم براء ، ثمَّ التفت إليَّ قائلا : ما تقول أنت حول هذا الموضوع؟ ومن أين لك بذلك؟

بيَّنت لهم أن ما أقوله هو كلام أهل البيت علیهم السلام ، وهو كلام واضح تقبله الفطرة ، ولا يرفضه صاحب العقل السليم ، ويؤكِّد عليه القرآن ، وأتيتهم ببعض خطب الأئمَّة حول التوحيد ، منها خطبة الإمام علي علیه السلام ، يقول : أوَّل الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده

ص: 438

الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كلِّ صفة أنها غير الموصوف ، وشهادة كل موصوف أنّه غير الصفة ، فمن وصف اللّه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنَّاه ومن ثنَّاه فقد جزَّأه ، ومن جزَّأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حدَّه ، ومن حدَّه فقد عدَّه ، ومن قال : فيم فقد ضمَّنه ، ومن قال : علام فقد أخلى منه ... (1).

ثمَّ شرحت لهم مقصود الخطبة ، قال بعض الحاضرين : واللّه إنه كلام بليغ سلس ومحكم.

ثمَّ اتفقت كلمتهم حول هذا الشابِّ المسكين أنه مخطئ في اعتقاده ، ويجب عليه مراجعة حساباته حتى لا يذهب إلى نار جهنم.

ثمَّ دار النقاش حول الرسالة والرسول محمّد صلی اللّه علیه و آله ، والذي يدّعون أنهم أولى الناس به ، وقد ثبت لي أنهم أبعد ما يكون عن نبيِّ الرحمة صلی اللّه علیه و آله ، وعن معرفته ، فكيف يكونون أولى الناس به؟

وبالحوار انقطعت حجّته ، وأصبح محلَّ تهكُّم الآخرين ، وقبل أن نختم الحوار سألني محاولا استفزازي : شيخنا! ما رأيكم في الصحابة الذين نعتبرهم نحن من أولياء اللّه الصالحين؟

فقلت له : يا شيخ! أول الدين معرفته ، وأنت لم تعرف اللّه فكيف تعرف أولياءه؟! وتواعدنا لمواصلة الحوار يوماً آخر.

وفي ذلك اليوم جاء بوجه آخر ، ويبدو أنه أخذ جرعة قويَّة من مشايخه ، وابتدأ هذه المرَّة بالشتم والسبِّ أمام جمع من الحاضرين ، وطالبهم بعدم

ص: 439


1- نهج البلاغة ، خطب أميرالمؤمنين علي علیه السلام : 1 / 15 - 16.

الجلوس معي ، ولا أبالغ إذا قلت إنه ظلَّ ما يقارب الساعتين يسبُّ ويشتم ويصرخ ، ويلوِّح بيده مهدِّداً ومتوعِّداً بقتلي جهاداً في سبيل اللّه ، ولا أدري من أين تعلَّم الجهاد ، وهو عمليّاً محرَّم عندهم ، خصوصاً ضدَّ الطواغيت ، ولعلّه لم يكن ملتفتاً إلى أن دم الحسين علیه السلام ما زال يغلي في عروق الشيعة.

مع ذلك - ويعلم اللّه - فإنني لم أردَّ عليه ; لأنني على بصيرة من ديني ، وتعلَّمت من سيرة النبيّ صلی اللّه علیه و آله كيف أنه صبر على أذى كفار قريش ، وكيف أمروا صبيانهم بملاحقته وإيذائه ، وطلبوا من الناس ألا يستمعوا إليه ، وهكذا التاريخ يعيد نفسه.

لأجل ذلك - عزيزي القارئ - أقدِّم كتابي هذا ، إنه الحق يصرخ لنصرته ، لقد رأيت في عيون الذين حضروا حواري هذا التلهُّف لمعرفة الحقيقة ، وما زلت أراها في عيون كل الأحرار ، الذين يدفعون ثمن التضليل الإعلامي وتزييف الحقائق.

وعندما يشعر الإنسان قبل ذلك بلذَّة الانتصار على النفس الأمَّارة بالسوء ، ويبصر نور الحقّ شعلة برَّاقة أمام ناظريه ... يتمنَّى أن يشاركه الآخرون هذا النور ، فيبيِّن لهم طريق ذلك ... وهذا الكتاب ما هو إلاَّ إثارة لدفائن العقول ، وتحفيز الآخرين للبحث عن الحقيقة ، التي كادت أن تضيع بين مطرقة اقتفاء آثار الآباء والأجداد ، وسندان سياسة التجهيل التي مارسها العلماء في حقّ الأبرياء ، مثل هذا الشابّ الذي أجريت معه الحوار ، إن هنالك الكثير ما يزال على فطرته يريد الحقَّ ، ولكن يلتبس عليه الأمر فيتمسَّك بما اعتقده من باطل ، وأصبح جزء من كيانه يدافع عنه بتعصُّب ، مانعاً الحقيقة أن تتسرَّب إلى عقله.

لقد منَّ اللّه عليَّ بالهداية بفضله ، وأدخلني برحمته إلى حيث نور الحقّ ،

ص: 440

وشكراً لهذه النعمة يجب عليَّ أن أبلغ للناس ما توصَّلت إليه.

لذلك أسطِّر هذه المباحث ، وأكتب هذا الكتاب ، إنه شعلة حقٍّ أخذتها من فاطمة الزهراء عليها ، وأقدِّمها لكل طالب حقٍّ ، ولكل باحث عن الحقيقة ... (1).

ص: 441


1- بنور فاطمة علیهاالسلام اهتديت ، عبد المنعم حسن : 15 - 23.

المناظرة الثامنة والسبعون: مناظرة الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني مع بعض السلفيَّة في حديث أن الأئمة اثنا عشر

قال الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني : عندما كنت أحاور ذلك السلفي الذي أجريت معه المناظرة المذكورة في أوَّل الكتاب ، وفي أثناء حوارنا لمعت عيناه فجأة وكأنه عثر على ضالّته ، وفاجأني بسؤال معتقداً أنه سيضعني في زاوية حرجة .. سؤال من ظنَّ أنه بلغ منتهى العلم والحكمة ، قال : من قال لكم أن الأئمة اثنا عشر؟ ولماذا هذا العدد بالذات؟ وضحك!!

قلت له : يا أخي! بالنسبة للعدد فلو فتحنا هذا الباب لمعرفة الحكمة من العدد سأجرُّ إليك أسئلة لا قبل لك بها ، فلماذا كان الخلفاء أربعة فقط؟ ولماذا اختار موسى سبعين رجلا لميقات ربِّه ولم يكونوا ثمانين؟ ولماذا خلق اللّه سبع سماوات وسبعاً من الأرض ، ولم تكن كل واحدة منهما عشرة مثلا؟ ولماذا كان عدد نقباء بني إسرائيل اثني عشر؟ ولماذا يقول تعالى : ( وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً ) (1) ولم يكونوا خمسة عشر؟ ... وهكذا.

ص: 442


1- سورة الأعراف ، الآية : 158.

أضف إلى ذلك أن الآيات والروايات التي وردت عن أهل البيت علیهم السلام كافية لتوجِّهنا للأخذ منهم ، ونحن لم نجد سوى الشيعة متمسِّكة بهم ، وهنالك تعلم بعدد الأئمة ، ولا ضرورة للاحتجاج عليك بعدد الأئمة من مصادركم ; لأن الموضوع فرعىٌّ ، ومع ذلك - وبلطف من اللّه تعالى لإظهار الحقّ ولإقامة الحجّة - لم تخل مصادر أهل السنة والجماعة من الأحاديث التي تحدِّد عدد الأئمَّة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

وصدفة كنت أحمل أحد مجلَّدات موسوعة تجمع ما جاء في الصحاح الستة من أحاديث ، وفتحت باب الإمارة ، وقرأت عليه : عن جابر بن سمرة قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : يكون بعدي اثنا عشر أميراً كلُّهم من قريش ، وقلت له : هل سمعت؟ فبهت الذي كفر.

وانتفض انتفاضة قويَّة وكأنه قد مسَّ بطائف من الشيطان ، وقال : من أين لك هذا الحديث؟!

فذكرت له المصادر ، وأذكرها هنا تتمَّة للفائدة :

صحيح البخاري ، كتاب الأحكام ، ج 9 ، ص 729.

صحيح مسلم ، ج 3 ، كتاب الإمارة ، باب الناس تبع لقريش.

صحيح الترمذي ، ج 4 ، ص 501.

سنن أبي داوود ، كتاب المهدي ، ص 508.

مسند أحمد بن حنبل ، ج 1 ، ص 398.

وهذا الحديث جعل علماء أهل السنة يعيشون في تخبُّط ومشكلة كبيرة لن يخرجوا منها ، ولن يجدوا لها حلاًّ إلاَّ عند أتباع أهل البيت علیهم السلام ، وهم الشيعة المعروفون ب- : الاثني عشريَّة ... ولقد حاول البعض أن يجد تفسيراً معقولا

ص: 443

للحديث على أرض الواقع ، فمنهم من عدَّ أبا بكر وعمر وعثمان وعليّاً علیه السلام وتوقَّف ، ومنهم من زاد عليهم الحسن بن علي علیهماالسلام ثمَّ تحيَّر ، وبعضهم أضاف إليهم معاوية وبني أمية فلم يوفَّق لضبط العدد ، وآخر أصبح انتقائيّاً يختار كما يتراءى له ... وهكذا.

والأمر لا غموض فيه ولا لبس عند شيعة أهل البيت علیهم السلام ، ذلك بعد أن علمنا حقَّهم في الولاية والخلافة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وليس من المعقول أن يخرج هذا العدد خارج دائرتهم ، وقد جاء في ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ، الباب (94) عن المناقب ، بسنده عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : يا جابر! إن أوصيائي وأئمّة المسلمين من بعدي أوَّلهم عليٌّ ، ثمَّ الحسن ، ثمَّ الحسين ، ثمَّ علي بن الحسين ، ثمَّ محمّد بن علي المعروف بالباقر ، ستدركه يا جابر! فإذا لقيته فأقرئه منّي السلام ، ثمَّ جعفر بن محمّد ، ثمَّ موسى بن جعفر ، ثمَّ عليُّ بن موسى ، ثمَّ محمّد بن علي ، ثمَّ علي بن محمّد ، ثمَّ الحسن بن علي ، ثمَّ القائم ، اسمه اسمي ، وكنيته كنيتي ، محمّد بن الحسن بن علي المهدي ، ذلك الذي يفتح اللّه تبارك وتعالى على يديه مشارق الأرض ومغاربها.

أمَّا النصوص الواردة من مصادر الشيعة عن طريق أهل البيت علیهم السلام فهي متواترة وواضحة بخصوص هذا الشأن ، ولم يدّع أحد من الأمَّة أنه أحد الأئمة الاثني عشر كما قال أهل البيت علیهم السلام عن أنفسهم ... (1).

ص: 444


1- بنور فاطمة علیهاالسلام اهتديت ، عبد المنعم حسن : 147 - 149.

المناظرة التاسعة والسبعون: مناظرة الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني مع بعضهم في حديث أصحابي كالنجوم

قال الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني : قلت لأحدهم وهو يحاورني : إن كان حديث أصحابي كالنجوم صحيحاً أفلا يعتبر علي علیه السلام منهم فيحقّ لي اتبّاعه؟

قال : عليٌّ علیه السلام من أكابر الصحابة!

قلت له : إذن أنا أقتدي بعليٍّ علیه السلام ، الذي رفض بيعة أبي بكر ، وقاتل عائشة وطلحة والزبير ، ولو ظفر بطلحة والزبير أثناء القتال في صفوف أعدائه لقتلهم ، وكنت سأقاتل مع عليٍّ علیه السلام لو كنت حاضراً في حرب صفّين ولو تمكَّنت من معاوية لقتلته ، وكنت سأجهز على عمرو بن العاص وهو يظهر سوأته لعليٍّ علیه السلام حتى لا يقتله! أليس من حقي أن أقتدي بأيِّ صحابيٍّ كما تدّعون؟! ... ألا ساء ما يحكمون (1).

ص: 445


1- بنور فاطمة علیهاالسلام اهتديت ، عبد المنعم حسن : 163.

المناظرة الثمانون: مناظرة الأستاذ عبد المنعم السوداني وبعض الشيعة مع بعض السلفيّة في أمر معاوية ويزيد

قال الأستاذ عبد المنعم السوداني : في إحدى المرَّات التقى بعض الإخوة الشيعة مع مجموعة وهابيّة صدفة ، وكنت موجوداً ، ولم تكن الرؤية واضحة لديَّ وإن كانت ملامح الصواب بدأت تلوح لي ، ويبدو أن هؤلاء الوهابيّة كان لهم حوار سابق مع الشيعة ، فبدأوا معهم النقاش حول قضية الحسين علیه السلام وكربلاء ، ورأيت الوهابيّة وقد احتوشوا الإخوة والشرر يتطاير من أعينهم وكأنهم يريدون القتال.

تحدَّث أحد الشيعة عن عدم أحقّيّة معاوية في تنصيب يزيد خليفة للمسلمين ، فذكر اسم معاوية مجرَّداً من الترضّي عليه ، فصرخ أحدهم في وجهه قائلا : قل : رضي اللّه عنه ، هل هو أخوك حتى تذكره مجرَّداً؟!

فردَّ عليه الشيعي : هل أنت وأنا أفضل من عليٍّ علیه السلام وأكثر فهماً منه؟ فشمَّر أحدهم عن ساعديه ، وكأنه ينوي ضربه ، وهو يقول : اسمعوا ، هذا هو ديدن الشيعة ، يشكِّكون في كل شيء ، وهذا الرجل يسألنا سؤالا بديهياً والإجابة عنه

ص: 446

واضحة ، فلا أحد يرى أن هنا لك أفضل من عليٍّ سوى الخلفاء الثلاثة ، رضي اللّه عنهم جميعاً وأرضاهم.

فالتفت إليه الشيعي وقال : أولا : فليتكلَّم أحدكم ، ثانياً : إذا أردت الحديث فافهم أولا ما أقول ثمَّ تحدَّث ، وثالثاً : إذا كان علي علیه السلام أفضل منّا - وهو كذلك بلا شك - فهو أدرى منا بالأصول ، أليس كذلك؟!

قالوا بحذر : نعم.

فقال لهم : عليٌّ علیه السلام حارب معاوية ، ليس فقط لم يترضَّ عليه كما تطالبوني ، بل قاتله أشدَّ قتال ، ولو ظفر به لألحقه بأجداده.

قال أحدهم وهو يمضغ مسواكاً : نقول كما قال السلف : تلك دماء عصم اللّه منها سيوفنا فلنعصم ألسنتنا ، ونحن نرى معاوية صحابيّاً جليلا ، وأنه فعل خيراً عندما نصب يزيد ، ونرى أن خروج الحسين بن علي علیه السلام كان خطأ منه ، وقد تاب يزيد.

قال الشيعي : قولك : فنعصم منها ألسنتنا ، لا ينطبق عليك ; لأنك الآن تقول إن معاوية صحابيٌّ جليل ، إذن لقد أخطأ عليٌّ في حربه لمعاوية ، ثمَّ من قال لك : إنك لن تسأل عن تلك الدماء؟ لابدّ أن يكون لكم موقف تجاه ما جرى ، فهما جهتان : إحداهما على حقٍّ ، والأخرى على باطل ، ووقوفك الآن في وجهي اشتراك في تلك ( الفتنة ) كما تدّعي.

أمَّا عن الحسين بن علي علیه السلام فهو لم يخطئ كما تقول ، فهو كما قال عنه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : سيِّد شباب أهل الجنة (1) ، وهو من أهل بيت النبوَّة ، وتعلَّم من

ص: 447


1- 1 - روى ابن أبي شيبة الكوفي ، عن علي علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنة. وروى ابن أبي شيبة الكوفي ، عن حذيفة قال : أتيت النبي 6 فصلَّيت معه المغرب ، ثمَّ قام يصلّي حتى صلى العشاء ، ثمَّ خرج فاتبعته ، فقال : ملك عرض لي ، استأذن ربَّه أن يسلِّم عليَّ ، ويبشِّرني أن الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنة. راجع : المصنّف ، ابن أبي شيبة الكوفي : 7 / 512 سنن الترمذي : 5 / 321 ح 3856 ، صحيح ابن حبان : 15 / 413 ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 167 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 3 / 35 - 38 ح 2599 وح 2608 وح 2611 ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبداللّه الطبري : 129.

جدِّه كيف ينصر الحق ، ويزيد تعلَّم من أبيه ما تعلَّم كما نقلت إلينا كتب التأريخ.

قاطعه أحد الوهابيّة ، وساق كلاماً سيّئاً خارجاً عن حدود الأدب في الحوار والمناظرة ، كما هي عادة أمثاله وشاكلته ، بدل أن يدلي بحجّة أو برهان.

فقال له أحد الشيعة وهو يبتسم : هكذا دائماً كان أعداء الشيعة ، باسم الحقّ يقتلون الحقّ ، وباسم الفتنة يحجبون الناس عن الحقائق ، وبالنتيجة أنت لا تفترق عن سلفك كثيراً ، إنك تربية ذلك المنهج الذي تبنَّاه معاوية ويزيد وآل أميَّة ومن إليهم.

وبعد مشادّة كلاميّة عنيفة حصلت بينهم .. يقول الأستاذ عبد المنعم فقال له بعضهم : على كل حال يجب ألا تتأثَّر بكلام هؤلاء ، فإن في حديثهم سحراً يؤثِّر.

ضحكت وقلت له : هذا ما قالته قريش للنبيِّ صلی اللّه علیه و آله عندما جاء بالقرآن ، ورجعت إليه مرَّة أخرى قائلا له : دعنا من كل ذلك ، فأنا أسألك حول قضيّة الحسين بن علي علیهماالسلام كمسألة واضحة ماذا تقولون فيها؟

سكت وكأنه يبحث عن إجابة ، ثمَّ قال : لماذا تبحثون عن هذه الأشياء؟!

قلت : أجب على سؤالي ، ودع عنك السبب.

قال : معاوية صحابيٌّ جليل ، ويزيد كان أميراً على المسلمين ، والحسين

ص: 448

خرج على وليِّ أمر زمانه ، ولو كان يزيد قد أخطأ فربَّما يكون قد تاب ، فلا داعي لأن نتحدَّث حوله ونشهِّر به.

قلت مختتماً هذا الحوار الذي لن يثمر عن شيء : أنت بهذا تلغي الآيات القرآنية التي شهَّرت بقابيل ونمرود وفرعون والسامري .. وغيرهم من الطغاة أعداء الرسالات ، وبقولك هذا تبرِّر لكل مخطئ في هذه الدنيا ; لأنه ربما يتوب ، وبهذه العقليّة تعطِّل الدين ، ويصبح كل التأريخ بلا فائدة.

كلمة أخيرة أقولها لك : أنتم لا ترتقون لمستوى الدفاع عن شريعة السماء ; لأنها لا تحتاج إلى مراوغة وكذب وافتراء ، وحديثي معك الآن إذا لم أصبح بسببه شيعيّاً فهو يبعدني عنكم أكثر فأكثر.

وحاول أن يعتذر قائلا : على كل حال ، نصيحة لك لا تقرأ لهؤلاء ، ونحن سنكون بالمرصاد لهم.

قلت : إذا كانوا على حق فاللّه ناصرهم ، وإن كانوا على باطل فأنتم أكثر بطلاناً منهم.

وتركته وانصرفت راجعاً إلى الإخوة ، فوجدت أن الوهابيّة لم تزل تدافع عن يزيد ومعاوية ، فتركتهم وانصرفت إلى بعض أشغالي أسفاً على حال هؤلاء المساكين الذين يردِّدون ما يقوله أحبارهم بلا وعي ولا فهم (1).

ص: 449


1- بنور فاطمة علیهاالسلام اهتديت ، عبد المنعم حسن السوداني : 189 - 192.

المناظرة الحادية والثمانون: مناظرة الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني مع بعضهم في الافتراء على الشيعة وأثر أدعية أهل البيت علیهم السلام

قال الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني : ولأهل البيت علیهم السلام تراث عظيم ، كان من الممكن أن تستفيد منه الأمَّة ، ولكنها أبت إلاَّ نفوراً ، وإحدى معاجزهم التي بهرتني ذلك المنهج في الدعاء ، وكيفيَّة التقرُّب إلى اللّه تعالى ، والأدب الرفيع في مخاطبة الربِّ سبحانه ، والقارئ للصحيفة السجّاديّة - وهي صحيفة كلُّها أدعية للإمام الرابع علي بن الحسين السجاد علیه السلام - يتعجَّب لماذا لم يهتمَّ علماء السنة بهذه الصحيفة ، هل لأنها واردة عن أحد الأئمَّة أهل البيت؟ أم ماذا؟! (1).

ص: 450


1- يقول الدكتور أسعد الفلسطيني أحد المتشيعين فيما وجده أيضاً ولمسه في أدعية أهل البيت علیهم السلام : وأمَّا على صعيد الأخلاق والتربية الروحيّة فما عليك إلاَّ أن تنظر في مفاتيح الجنان ، والصحيفة السجّاديّة ، وغيرها من كتب الأدعية والزيارات المأثورة لترى سموَّ المستوى الذي أراد أهل البيت علیهم السلام أن يهذِّبوا به نفوس أتباعهم. المتحوِّلون : 476. ويقول الدكتور محمّد المغلي ( النمسا ) - وهو أستاذ علم الاجتماع في جامعة بروكسل في بلجيكا ، وقد تشيَّع وأخذ بمذهب أهل البيت علیهم السلام - : إن أحد الأسباب التي جعلته يتشيَّع هو تأثُّره البالغ بالأدعية المأثورة عن أئمّة أهل البيت علیهم السلام ، وضرب أمثلة على ذلك وقال : مثل دعاء كميل ، ودعاء الافتتاح الذي يقرأ في كل ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك ، ودعاء الصباح للإمام علي علیه السلام ، وأدعية الإمام زين العابدين علیه السلام في الصحيفة السجادية ، وغيرها من الأدعية التي لا مثيل لها عند المذاهب الإسلامية الأخرى. راجع كتاب المتحولون ، هشام آل قطيط :556 - 557.

أحد الإخوة الذين استبصروا كان يميل للوهابيَّة بعد أن عملوا على تزريقه أفكارهم ومعتقداتهم ، وقبل أن ينغمس معهم تماماً منَّ اللّه عليه بأحد الأصدقاء ، والذي أعطاه بعض مؤلَّفات الشيعة ليقرأها ، ولقد سمع من قبل عن الشيعة وحُذِّر منهم ، فطلب منّي ومن بعض الإخوة جلسة حوار حول التشيُّع وما إليه ، فرحَّبنا به وجلسنا ، فدار النقاش حول معتقدات الشيعة ، وبعد نقاش طويل تنفَّس قائلا : هذا الكلام حقٌّ لا لبس فيه ، ولكن لماذا يقولون عن الشيعة كل هذه الأقاويل؟!

قلت له : كما أن للحق أنصاراً يعملون على نصرته ، فإن للباطل جنوداً وشياطين يوحون إليهم ، ولا يمكن أن يعتمد الباطل إلاَّ على باطل.

قال هذا الأخ وعلامات الأسف والتأثُّر واضحة عليه : لقد قالوا لنا إن الشيعة يخالفون المسلمين في كل شيء حتى الصلاة ، كان وقت صلاة المغرب قد حان فقلت : الآن بإمكانك أن تصلّي معنا لترى هل صلاتنا تختلف كما يدّعون.

توضَّأنا وصلَّينا ، وكان اليوم يوم خميس ، وبعد الصلاة - وكما هو معروف عند الشيعة - يستحبُّ قراءة دعاء كميل ، وهو دعاء علَّمه أميرالمؤمنين علي علیه السلام لأحد أصحابه ، وهو كميل بن زياد النخعي ، والشيعة يواظبون على قراءته.

قرأنا ذلك الدعاء ، وأحسست بانفعال هذا الأخ بالدعاء ، حينها تألَّمت لهذه الأمّة المحرومة من هذه الكنوز التي لم يبخل بها أهل البيت علیهم السلام ، خصوصاً

ص: 451

فيما يختصُّ بالأدعية التي تجعل الإنسان في عالم آخر وهو يناجي ربَّه.

بعد الدعاء رأيت الدموع في عينيه ، وهو يقول بحرقة : خدعونا وقالوا لنا : إن الشيعة لا يعرفون الصلاة ، واللّه نحن ما عرفنا الصلاة ولم نفهم الصلاة (1).

ص: 452


1- بنور فاطمة علیهاالسلام اهتديت ، عبد المنعم حسن السوداني : 210 - 211.

المناظرة الثانية والثمانون: مناظرة هشام آل قطيط مع مجموعة من مشايخ السنّة وتساؤلاته حول عقائد الشيعة ورحلته في البحث عن الحقيقة

اشارة

قال الشيخ هشام آل قطيط : عندما كنت في القرية وأنا طالب في الجامعة أتردَّد على بعض المساجد في المنطقة ، فأجد الخطاب عند العلماء متشابهاً تماماً ، بحيث لا يختلف عالم عن آخر بطريقة الخطاب من حيث المقدِّمة والموضوع والخاتمة والدعاء ، أشعر بأن علماءنا يتبعون طريقة روتينية في إلقاء الكلام ، بحيث إذا غاب إمام المسجد لمرض أو لظرف معيَّن يكلّف أحد الإخوة المصلّين بإلقاء الخطبة ، يصعد على المنبر ويقرأ علينا بطريقة الدرج والسرعة ، فأنظر ممن حولي أجد قسماً من الناس نياماً ، والقسم الآخر كأنه مسافر في حافلة.

هذا من جهة الخطاب ، وأمَّآ من جهة الحوار الموضوعي والانفتاح الفكري فهو مفقود تماماً ، لماذا؟ لأننا ترعرعنا على طريقة التفكير التقليدي الموروث غير القابل للتطوُّر ، رغم أن الإسلام دين التطور ، ودين المرونة ، ودين الانفتاح ، ودين المعاملة ، ودين النصيحة ، ودين الأخلاق ، ودين الإنسانيّة ، دين

ص: 453

السماحة والعزّة والكبرياء والأنفة ، هذه هي مبادئ ديننا الحنيف الذي نزل به الوحي على نبيِّنا محمّد صلی اللّه علیه و آله ، بحيث إذا أردت السؤال من أحد العلماء فإجابته على شقّين :

الشقّ الأوّل : إما يجاوبني ، وإمّا يقول لي : ما هذا السؤال الذي تطرح؟ فيسفِّه سؤالي!!

والشقّ الثاني : إذا كان سؤالي عن مذهب معيَّن ، ولم يكن الجواب حاضراً في ذهن الشيخ فيقمعني : ما يجوز تسأل هكذا سؤال ، هذا سؤالك غلط ، لا يجوز أن تجادل ، الجدل فيه إثم ، صوم وصلي وبس ، لماذا تقلق نفسك بهكذا أفكار ، فالشيخ عندنا في البلد ديكتاتور.

فصرت أتساءل في نفسي : يا إلهي! إذا أريد أن أستفسر عن ديني ، وعن بعض الأفكار الصعبة التي تدور في ذهني أواجه بالقمع .. والإرهاب ، وأهل البلد مع الشيخ ، وليسوا معي ، ولا مع أفكاري ، فعشت في حيرة.

مع الشيخ عزّ الدين الخزنوي

فمرَّة من المرّات كنت طالباً في الثانوية ، وقال لي أحد الأصدقاء : ما رأيك في أن نزور الشيخ العلامة الكبير عزّ الدين الخزنوي ، بقرية تل معروف ، شرق مدينة القامشلي؟

فقلت له : حاضر ، وفعلا سافرنا أنا وصديقي ، وكانت في جعبتي مجموعة من الأسئلة ، ففرحت وشعرت بأن صديقي يريد أن ينفِّس عني ، فوصلنا إلى قرية تل معروف ; قرية الشيخ الخزنوي ، فرأيت الناس آلافاً مؤلَّفة تتقدَّم قبل عشرة أمتار من الوصول إلى الشيخ زحفاً على الأيادي والركب ، وبعد الوصول يقبِّلون

ص: 454

أيادي الشيخ وجبهته ، فرأيت صفّاً كبيراً من الناس خلف بعضهم البعض ، بحيث السائل يجلس عند الشيخ دقيقة ويخرج ، فقلت لصديقي : كيف أستطيع أن أسأل وسط هذا الزحام الهائل من البشر؟ وهل أتجرَّأ أن أناقش وسط هذا المعترك؟ فقلت لصديقي : واللّه إن سألت وناقشت ليمزِّقوني هؤلاء الخدم المقيمون عند الشيخ ، فقال لي : نتبارك بالشيخ ، ونسلِّم عليه ونخرج.

وبقينا أكثر من ثلاث ساعات ولم نستطع أن نصل للشيخ ، ورجعنا إلى القرية ولم نستفد شيئاً.

إلى الشيخ محمّد نوري

فصرت أتساءل ، هل الدين ديكتاتورية ، امبراطورية ، تسلط ...؟

فقلت : غداً أذهب إن شاء اللّه تعالى إلى قرية تقع في الجنوب الشرقي من حقول البترول ( رميلان ) لشيخ مشهور هناك يدعى : الشيخ محمّد نوري ، عالم المنطقة ، فعندما ذهبت إليه أسأله ، ودخلت إلى المضافة التي تقع شرق المصلَّى للمسجد ، قالوا لي : الشيخ مريض ولم يستطع الإجابة عن الأسئلة.

ومرَّت الأيّام .. والسنون ... وأنهيت دراستي الجامعيَّة في حلب ، وشاء اللّه والأقدار بأن أخدم خدمة العلم في بيروت ، وكنت بعد الانتهاء من الدوام أقوم بزيارة بعض المكتبات ، وأجلس أقرأ في المكتبة ; لأن الوضع لا يسمح لي في المنطقة أن أقرأ بسبب عدم وجود الفراغ ، وبدأت أستعير بعض الكتب الدينيّة لأقرأها ، عسى أن أجد حلاًّ لأسئلتي التي كانت تدور في ذهني وأنا في الثانويَّة ، بالرغم من أن أسئلتي لم تكن محيِّرة ، مثل : من هي الفرقة الناجية؟ باعتبار أن الرسول صلی اللّه علیه و آله قال : ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، واحدة ناجية ،

ص: 455

والباقون في النار (1).

ومن هذه الأسئلة والسؤال الأكثر إلحاحاً : باعتبار أن اللّه خلق آدم وحوّاء فهل تزوَّج أولاد أدم أخوات بعضهم البعض؟

فاقترحت على بعض الأصدقاء الذهاب إلى الشيخ ونسأل ، وفعلا ذهبنا وسألته عن بعض القضايا العقائديَّة التي تتعلَّق بالكون والإله ، عقل يفكِّر ، فالإنسان بطبعه يحبُّ السؤال ; لأن عمدة العلم كما يقول العلماء في السؤال ، والرسول صلی اللّه علیه و آله يقول : اثنان لا يتعلَّمان : مستح ومتكبِّر (2) ، وكما يقول صلی اللّه علیه و آله : لا حياء في الدين ، واللّه تعالى يقول في محكم كتابه : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ) (3) ويقول تعالى في آية أخرى : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ

ص: 456


1- تقدَّمت تخريجاته. قال الشيخ علي بن يونس العاملي عليه الرحمة في الصراط المستقيم : 2 / 96 : روى أهل الإسلام قول النبي صلی اللّه علیه و آله : ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، واحدة ناجية والباقون في النار ، فهذه شهادة صريحة من النبيِّ المختار صلی اللّه علیه و آله على وصف أكثرهم بالضلال والبوار ، ولا بدَّ أن يكون اللّه ورسوله أوضحا لهم وجوه الضلال ، لئلا يكون لهم الحجّة عليهما يوم الحساب والسؤال ، وبهذا يتّضح وجه إمساك علي علیه السلام وعترته عن الجهاد ، إذ كيف تقوى فرقة على أضعافها من أهل العناد؟ ومن فرَّ عن أكثر من اثنين قد عذره القرآن ، فكيف لا يعذر من أمسك عن أضعافه من أهل الطغيان؟!
2- روى الشيخ الصدوق عليه الرحمة في علل الشرائع : 2 / 606 عن أبي إسحاق الليثي ، عن أبي جعفر محمّد بن علي الباقر علیه السلام ، في حديث له عن المؤمن المستبصر قال علیه السلام : فإن هذا العلم لا يتعلَّمه مستكبر ولا مستحي. وقال الشهيد الثاني عليه الرحمة في منية المريد : 175 : وقيل أيضاً : لا يتعلَّم العلم مستحي ولا مستكبر. وروى العامة عن مجاهد أنه قال : لا يتعلَّم مستحي ولا مستكبر. مقدّمة ابن الصلاح ، عثمان بن عبد الرحمن : 152، فتح الباري ، ابن حجر : 1 / 202.
3- سورة الزمر ، الآية : 9.

الْعُلَمَاء ) (1).

فلهذا كانت طبيعتي منذ نعومة أظفاري التساؤل ، وأسأل بكثرة لأفهم المسألة والموضوع ، وهكذا تعرَّفت على صديق لي في بيروت أثناء فترة خدمة العلم ، اسمه : دخل اللّه ، من الجنوب ، يسكن في منطقة اسمها : حي السلم ، فدعاني مرَّة لزيارته في بيته فلبَّيت الدعوة ، ولأول مرَّة أزوره ، فعندما زرته رأيت عنده مكتبة صغيرة ، فدفعني الفضول وحبُّ المعرفة لأرى هذه الكتب ، وعن ماذا تبحث وتدور ، فوقع نظري على كتاب اسمه ( المراجعات ) ، فسألت صديقي : عن ماذا يبحث هذا الكتاب؟

فقال لي : عبارة عن حوار بين عالم سنّيٍّ وعالم شيعيٍّ ، يتحاورون في قضيَّة الخلافة والإمامة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، قلت له : لطيف ، هل أن العالم السنّيّ غلب الشيعيَّ في الحوار؟

فضحك صديقي ، وقال لي : العالم السنّيُّ يغلب العالم الشيعيَّ؟! هذا مستحيل ، فعرفت منذ تلك اللحظة بأن صديقي شيعي ، حيث إنه كان يجهِّز الطعام ، ففوجئت ، ذلك لأن أحد علمائنا في المنطقة كان يقول لي دائماً : إيّاك ومجالسة الشيعي ، إياك ومحاورة الشيعي ، لا تحاور الشيعي ، ولو كان الجدال عن حقّ ، هؤلاء الشيعة قتلوا إمامنا الحسين علیه السلام ، ولحدّ الآن يبكون ويلطمون ويندبون هم ونساؤهم وأطفالهم ندماً وخوفاً ، عسى اللّه أن يغفر لهم.

هؤلاء الشيعة يعتقدون بأن الرساله نزلت على علىّ ( كرّم اللّه وجهه ) وتاه الوحي جبرائيل ونزل على محمَّد صلی اللّه علیه و آله ، وغير ذلك ، يسجدون للحجر ، ويسبُّون

ص: 457


1- سورة فاطر ، الآية : 28.

الصحابة ، ويعملون بالتقيَّة بينهم سرّاً ، لا يظهرونها لأحد ، وذبيحتهم محرَّمة لا يجوز لنا أن نأكل منها.

فتذكَّرت كلام الشيخ عندنا في المنطقة ، فاعتذرت عن الطعام بطريقة لبقة ، بحيث إني لم أشعر صديقي بشيء ، وشربت عنده القهوة والشاي ، فقال لي صديقي : لماذا لا تأكل؟ أنا أتيت باللحم من أجلك.

فقلت له : لا أستطيع أن آكل اللحم! فصارت الأفكار تتضارب في ذهني وتتصادم وتتصارع ، فقلت : يا إلهي! هذا ما حدَّثنا به الشيخ ، وفعلا شاهدته أمام عيني ، كان يقول لنا الشيخ عندما كنّا في المنطقة : الشيعي يقول آخر الصلاة ثلاث مرَّات : تاه الوحي جبرائيل ..

وفعلا راقبت صديقي وهو يصلّي على الحجر ، وأشار إلى أذنه ثلاث مرَّات دون أن أفهم ما قال ; لأنه كان يتمتم بصوت هادئ ، عندئذ أيقنت تماماً بأن كلام الشيخ صحيح ، وكان يؤكِّد لنا الشيخ : حتى إذا سألته لا يعطيك الحقيقة ; لأنهم يستعملون التقيّة ، والتقية أشدُّ خطراً ، ولا يطلعون أحداً على دينهم ; لأن لديهم الظاهر شيء ، والباطن شيء آخر ، ولا يطلعون أحداً على باطنهم.

فقال لي صديقي : إذا أردت أن تستعير هذا الكتاب فخذه ، وبعد الانتهاء منه أرجعه إليَّ ، فأخذت منه كتاب ( المراجعات ) إعارة لمدّة أسبوع ، وفعلا بدأت بالقراءة في هذا الكتاب ، وكنت واثقاً من نفسي بأنه كتاب ضلال ، سوف أردُّ عليه ، وأفهم الشيعي من هو السني؟!!

فقرأت ترجمة الكتاب ، واستمرّيت بالقراءة ، وقطعت منه تقريباً أكثر من مئتين صفحة ، ففوجئت وتشنَّجت من هذا الكتاب المدسوس ، واستغربت من هذه المعلومات الغريبة التي لأول مرَّة تطرق ذهني ، وخاصة علماؤنا دائماً

ص: 458

يحذِّرونا من قراءة كتب الضلال ، فقلت : إن استمرّيت في القراءة في هذا الكتاب سوف يحرفني ، لا شك في ذلك إطلاقاً ، وإذا أردت أن أتتبَّع الأدلّة ليس لديَّ المصادر ، وليس لديَّ الفراغ الكافي للبحث في هذه القضية الشائكة ، فأغلقت الكتاب لأنه شوَّش تفكيري.

اللقاء مع الدكتور عبد الفتاح صقر المصري

اللقاء مع الدكتور عبد الفتاح صقر المصري (1)

وبعد أسبوع من قراءة كتاب المراجعات وإغلاقه لشدّة ما رأيت فيه من بعض المسائل التي جعلتني أتشنَّج ، فقرَّرت وبدافع قويٍّ أن ألتقي الشيخ عبد الفتاح صقر ، وذهبت أسأل عنه في كليَّة الشريعة ، فقالوا لي : في السكن حالياً ، والسكن بعد منطقة عائشة بكار توجد منطقة اسمها نزلة أبي طالب علیه السلام ، فنزلت فيها وبدأت أسأل إلى أن وصلت موقع السكن ، فصعدت وطرقت الباب ، انتظرت قليلا ، وفتح الباب ، فقلت للذي فتح الباب : أودُّ مقابلة الدكتور الشيخ عبد الفتاح صقر ، وإذا به يقول لي : تفضَّل ، تفضَّل يا بنيَّ ، ودخلت وجلست لحظات ، وقال لي : من أين أنت أيها الأخ؟

قلت له : من سوريا.

فقال : أهلا وسهلا ، أهلا وسهلا ، نحن وسوريا كنّا وحدة ، ولا يزال الشعب المصري والسوري شعباً واحداً.

قلت له : نعم.

ص: 459


1- الدكتور الشيخ عبد الفتاح صقر ، من البعثة الأزهرية في بيروت - عائشة بكار ، أستاذ في كلية الشريعة ، وأحياناً يخطب الجمعة في مسجد دار الفتوى في بيروت.

قال : ما سؤالك أيُّها الأخ؟

قلت له : سؤالي - شيخنا الجليل! - دعاني أحد الأصدقاء ، ولم أعلم أنه شيعيٌّ ، لأني لو كنت أعلم أنه شيعيٌّ بصراحة لم أزره ، لماذا؟ لأن الشيخ عندنا في المنطقة دائماً يحذِّرنا من مجالسة الشيعيِّ ، وعدم محاورته في المجال الديني.

فقال الشيخ عبد الفتاح صقر : الشيعة عندهم مبالغات كثيرة ، وكثير من أقوال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ينسبونها للإمام علي علیه السلام ، وعندهم تحريف في بعض الأحاديث.

فقلت : أيُّها الشيخ! ما رأيكم في كتاب المراجعات؟

الشيخ عبد الفتاح صقر : إيَّاك أن تقرأه يا بنيَّ ، هذا كتاب خياليٌّ ، كتبه عبد الحسين شرف الدين بعد وفاة شيخ الأزهر الشيخ سليم البشري ، أحذِّرك من قراءته ، لا تفرقن بك السبل يا بنيَّ ، مالك ومال الشيعة؟؟ فرقة وضعت مقابل المعتزلة!!

ودَّعت الشيخ عبد الفتاح صقر ، وطلبت منه الدعاء ، وأرجعت كتاب المراجعات لصديقي ، وأوقفت المطالعة طيلة فترة خدمة العلم.

وأخيراً انتهت خدمة العلم في عام تسعين ، وبعد الانتهاء من معركتنا مع ميشيل عون ، حيث لم أسافر إلى البلد مباشرة ، بسبب الفقر المدقع ، والظروف الصعبة التي يمرُّ بها أهلي ، وخاصة الظروف الماديّة ، حيث لم أتمكَّن من الذهاب إلى أهلي بعد التسريح من خدمتي الإلزاميَّة ، فاضطررت إلى المكوث في بيروت ، وأسكن مع الشباب السوريين في منطقة تسمَّى خلدة ( مشروع نائل السكني ) ، فكان هناك شباب من القرية والبلد فسكنت معهم ، وتركت مهنة

ص: 460

التعليم ، وكنت أجد مصلحة شاقّة وصعبة من الإعداديّة والثانويّة ، حيث كنت أسافر مع عمّي ( أبو طلال ) إلى بيروت ، وعلَّمني تجارة الإسمنت والحديد ، إذ أصبحت معلِّماً في هذا المجال ، ومكثت أكثر من شهرين بعد انتهائي من الخدمة.

وبعد فترة من العمل أكثر من أسبوع جاءتنا عطلة ، فتوقَّفت أسبوعاً آخر عن العمل ، وكنت أقف صباحاً مع العمَّال العاطلين في هذا المشروع ; لأن هناك مكاناً يشبه المعرض كنت أقف فيه وأنتظر الساعات الطويلة ، حتى يأتيني إنسان بحاجة إلى عامل أو معلِّم حدّاد أو نجّار ، وهكذا تجري الأَيَّام والليالي ، وإذا بهذا الصديق الشيعي ( دخل اللّه ) يأتي إلى معرض العمَّال ، فينظر في وجوه العاملين ، فيشاهدني من بينهم ، شتان ما بين الموقفين!! موقف كنت أرتدي البزّة العسكريّة ، وموقف حاليّاً أرتدي فيه لباس العمل ، فقال صديقي الشيعي : أتشتغل معي؟ تشغِّلني في مصلحة ( البلاط )؟

فقلت له بعد فترة : نعم ، وبدأنا نشتغل أنا وصديقي الشيعي سويَّة ، وفي اليوم الثاني قال لي : لِمَ لمْ تحدِّثني - يا أخي - إلى أين وصلت في كتاب المراجعات؟

فقلت له : واللّه لم أتمكَّن من قراءته كما يجب ; لأن القراءة - يا صديقي - تحتاج إلى ذهن صاف ; لأن العلم - كما يقال - شديد الانفلات ، إذا أعطيته كلَّك أعطاك بعضه ، وإذا أعطيته نصفك لم يعطك شيئاً ، وأنا كنت مكابراً معه لوصايا علمائنا الحادّة من مجالسة الشيعي والحوار معه.

وبدأ شبح المراجعات يطاردني من جديد ، وشبح صديقي يطاردني في كل مكان ، أفكِّر بكلمات الشيخ عندنا في المنطقة ، أفكِّر بكلمات الدكتور الشيخ عبد الفتاح صقر : يا بنَّي! هذا كتاب خياليٌّ ، كتبه العالم الشيعي بعد وفاة شيخ

ص: 461

الأزهر.

وأحدِّث نفسي وأصارعها ، هل أنا أعقل من هذا الدكتور الذي قضى عمره في الدراسة واختصاصه في الشريعة الإسلاميّة ، ومن الجامع الأزهر العاصمة الإسلاميّة للعالم؟

مع الشيخ عبداللّه الهرري

وذات يوم جاء أخي إلى بيروت ليعمل في العطلة الصيفيّة ، حيث كان طالباً في الثانويّة ، فحدَّثته في الموضوع وقلت له : ما رأيك - يا أخي - تنزل معي إلى بيروت؟

قال لي : لماذا؟

قلت له : عندي بعض الأسئلة عن الشيعة ، وقلت له أيضاً بأني ذهبت فيما سبق إلى دار الفتوى منذ ستة أشهر ، والتقيت بشيخ مصري ، وأريد اليوم الذهاب إلى مسجد برج أبي حيدر ، يقال أن هناك عالماً علامة اسمه : الشيخ عبد اللّه الهرري ، أودُّ اللقاء معه ، وفعلا وصلنا أنا وأخي والصغير ( دحام ) إلى هذا المسجد ، والتقيت بشيخ اسمه : طارق اللحام ، وبعد أن أدَّيت فريضة صلاة المغرب خلف سماحة الشيخ اقتربت منه وصافحته ، وقلت له : تقبَّل اللّه أعمالكم يا شيخ.

فردَّ عليَّ : وأنتم كذلك.

فقلت له : شيخنا! لديَّ بعض الأسئلة.

فقال لي : تفضَّل ، حيث كان يتكلَّم الفصحى.

فقلت له : ما رأيك بكتاب المراجعات عند الشيعة؟

ص: 462

فقال لي الشيخ طارق : من أين أنت؟

قلت له : من سوريا ، وأصلا من ريف حلب ، وأسكن حاليّاً في مدينة القامشلي.

وإذا به يسألني : هل قرأت كتاب ( ثمَّ اهتديت ) للضالّ التونسي؟ إذا قرأته أو موجود عندك فأحرقه!!

قلت له : لأوَّل مرَّة أسمع باسم هذا الكتاب.

فقال لي : مؤلِّفه خياليٌّ غير موجود ، اسمه : التيجاني السماوي ، كتبوه الشيعة باسمه على أنه سنّيٌّ وتشيَّع ، وبدأ يدعو لمذهبهم ، ونحن اتصلنا في تونس ، فقالوا لنا : هذا الاسم غير موجود.

وأمَّا عن كتاب المراجعات أحذِّرك من قراءته ، ولا تأخذ علمك من القراءة والصحف فتسمَّى مصحفياً ; لأن هناك قواعد للقراءة ، فتضلن بك السبل ، إذا عندك فراغ احضر عندنا للدروس ; لأن العلم عندنا بالتلقّي ، ومن ليس له شيخ فشيخه الشيطان ، وقال لي : تفضَّل إلى المكتبة ، وقدَّم لي كتاباً هديَّة اسمه ( المقالات السنيّة في كشف ضلالات ابن تيمية ) للشيخ عبد اللّه الهرري.

فودَّعت سماحة الشيخ طارق ، وقبلت منه الهديَّة ، وذهبت ، وبدأ يراودني الفضول للبحث عن كتاب ( ثمَّ اهتديت ) للتيجاني السماوي ، ورجعت أنا وأخي لمجمع نائل السكني حيث مقرُّنا هناك ، وبعد فترة أسبوع وإذا بصديقي الشيعي يقدِّم لى كتاب ( ثمَّ اهتديت ) هذا ما حدَّثني به سماحة الشيخ طارق وحذَّرني من قراءته ، وأنه شخص لا أصل له.

فأخذت الكتاب وقلت لصديقي بأن هذا الشخص شخص خياليٌّ ، وإذا بالأخ دخل اللّه يقول لي : منذ شهر كان في بيروت ، وأنا رأيته بنفسي ، دعك - يا

ص: 463

أخي - من هذه الأقاويل ، أنت إنسان متعصِّب ، وتفكيرك على الطريقة التقليديّة الموروثة ، دائماً تقول لي : الشيخ عندنا قال كذا ، والشيخ قال كذا ، فكِّر بعقليَّتك لا بعقليَّة الشيخ.

فقلت لصديقي : عفواً ، أنا وأنت نفهم أكثر من العلماء والشيوخ؟

فردَّ عليَّ صديقي الشيعي قائلا : أنتم السنة .. الدين عندكم عادة وليس عبادة.

فقلت له : أفهمني كيف؟

قال لي : الشيوخ عندكم تصلون بهم إلى درجة القداسة ، وبعد قال الشيخ .. لم يبق مجالا إطلاقاً للنقاش والحوار معكم.

قلت : وأنتم الشيعة كيف تتعاملون مع الشيوخ؟

قال : نحن نحترم الشيوخ ، ولكن على الطريقة المألوفة في الوسط الشيعي ، إذا كان هناك خطأ من العالم .. ونبَّهته إليه فإنه يتقبَّل ذلك بكل رحابة صدر.

فقلت له : هل هذا من المعقول؟ عندنا العالم لا يستطيع أحد مناقشته ، حتى إذا أردت أن تسأل سؤالا ولم يعجبه لا يردُّ عليه أصلا.

مع مفتي دمشق في المسجد الأموي

وأعطيك مثالا على ذلك : مرَّة دخلت إلى المسجد الأموي ، وقصدت مفتي دمشق في هذا المسجد ، وكان برفقتي المهندس عبد الحكيم السلوم ، لأسأله عن حديث الفرقة الناجية والخلفاء الاثني عشر من هم؟

فأجابني بكلمة : آسف.

وكرَّرت السؤال ، وقال لي : آسف .. وكرَّرته ثالثاً وقال لي : آسف. بصوت

ص: 464

عال.

فخرجت مخذولا .. لماذا لم يردَّ على أسئلتي؟

صديقي الشيعي : وهل هذا عالم؟ العالم متواضع ، ليِّن ، لا يكون فظّاً غليظ القلب ، يردُّ على أسئلة الناس ، يجب أن يستقطب الناس من حوله .. لأنه إذا صلح العالِم صلح العالَم ، وإذا فسد العالِم فسد العالَم ، هؤلاء علماء الأمّة هم القدوة ، والأسوة الحسنة في المجتمع الإسلاميّ.

ولكن نحن الشيعة عندنا مسألة مهمّة ، وهي الدليل في النقاش والحوار ، والدليل يجب أن يكون من القرآن والسنّة ، ونحن أبناء الدليل ، أينما مال نميل.

فأجبته : هل نحن على الباطل حتى تقول لي : دليلكم القرآن والسنة؟

ونحن ماذا عندنا؟ أليس القرآن والسنة؟

صديقي الشيعي : يا أخي! نفترض جدلا هذا الكتاب كتاب ضلال ، لماذا لا يردُّ عليه علماؤكم السنة؟

قلت له : يردّون على شخصيّة خياليّة موهومة ، مع الأسف عليك أيُّها الصديق ، إذا إنه إنسان خياليٌّ غير موجود فكيف يردُّون عليه؟

صديقي الشيعي : سؤال ، نفترض أن التيجاني شخصيّة خياليّة وهميّة غير موجودة ، فهل الأدلّة الموجودة في كتابه أيضاً خياليّة موهومة وغير موجودة؟ أجبني على ذلك.

فأحرجت أمامه ; لأني لا أعرف مضمون كتاب ( ثم اهتديت ) ، ومن ثمَّ حذَّرني منه الشيخ طارق وقال لي : احرقه ، فوقعت بين نارين ، بين إحراج الصديق الشيعي : لماذا لا يردُّ عليه علماؤكم؟ وبين تحذيرات الشيخ طارق : إيَّاك أن تقرأه ، فأحرقه! يا إلهي! خلِّصني من هذا المأزق الشديد ، اللّه أكبر!

ص: 465

لماذا؟ لماذا البحث والعناء؟ ما هذه القصّة؟ من أين جاءني هذا الشيعي ليشوِّش عليَّ أفكاري ، وينغِّص حياتي ، وأنا رجل الآن أعمل بالإسمنت والأعمال الشاقّة المتعبة المجهدة؟ فعشت في صراع حادٍّ مع عقلي ونفسي ، عقلي يقول لي : اقرأ كتاب ثمَّ اهتديت واعرف ما فيه ، ونفسي قتلها الخوف والتحذير من الشيخ طارق.

نهاراً محرج من الصديق الشيعي ، يقول لي : أنت متعصِّب ، ولا تأتي بالدليل ، ألم تسمع بالبخاري ومسلم؟ فكتاب ثم اهتديت كل أدلّته من البخاري ومسلم.

فقلت له : هناك طبعات للبخاري ومسلم مزوَّرة ومدسوسة ، فما بالك يا صديقي؟ إن التيجاني شخصيّة موهومة كما يقول علماؤنا ، وأتى بأدلّة مزوَّرة من البخاري ومسلم.

فأين أصبح يا صديقي؟! دعني في حالي وعملي ، وكلُّنا إن شاء اللّه مسلمين ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ) (1) ، وكلَّما أصبحنا وأتانا يوم جديد يقول لي : فكِّر بمذهب أهل البيت علیهم السلام ، فكِّر لتنقذ نفسك بموالاة علي بن أبي طالب علیه السلام .

قلت له : أنا وأنت متفقان على حبِّ عليٍّ ( كرَّم اللّه وجهه ) لكن مذهب أهل البيت علیهم السلام هذا مصطلح جديد لأوَّل مرَّة يطرق ذهني ، قلت له : وماذا تقصد من كلمة موالاة علي علیه السلام ؟

سألني الشيعي قائلا : ألم تقل : عندكم سيِّدنا معاوية قتل سيِّدنا

ص: 466


1- سورة البقرة ، الآية : 134.

الحسن علیه السلام ؟

قلت له : نعم ، يقول علماؤنا ذلك ، بأن سيِّدنا معاوية اجتهد فأخطأ فله نصف الأجر.

الشيعي : وما تقول في البخاري؟

المحاور : أصدق كتاب عندنا ، وهو لا يقبل الشك.

الشيعي : ينقل لنا البخاري في صحيحه حديثاً مشهوراً ومتواتراً - اسأل عنه علماؤكم - : يا عمَّار! تقتلك الفئة الباغية ، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار (1).

أليس الفئة الباغية هي فئة معاوية من خلال الحديث؟ وهي التي قتلت عمّاراً ، ألم يقل الرسول صلی اللّه علیه و آله في عمار : إن عمّاراً ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه؟ (2)

ص: 467


1- صحيح البخاري : 3 / 207 ، صحيح مسلم : 8 / 186 ، مسند أحمد بن حنبل : 3 / 91 ، صحيح ابن حبان : 15 / 553 - 555 ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 3 / 149 ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط البخاري ، فتح الباري ، ابن حجر : 1 / 451 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 43 / 46 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 3 / 264.
2- روى الواحدي النيسابوري في أسباب نزول الآيات : 190 عن النبي صلی اللّه علیه و آله : إن عماراً ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه. وروى ابن أبي شيبة بالإسناد عن هانئ بن هانئ ، قال : كنّا جلوساً عند علي علیه السلام ، فدخل عمّار فقال : مرحباً بالطيِّب المطيب ، سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : إن عماراً ملئ إيماناً إلى مشاشه. راجع : المصنّف ، ابن أبي شيبة الكوفي : 7 / 217 ح 7، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 43 / 391 - 392 ، تهذيب الكمال ، المزي : 21 / 222 ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 1 / 413 ، تهذيب التهذيب ، ابن حجر : 7 / 358 ، الإصابة ، ابن حجر : 4 / 473 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 11 / 724 ح 33540. وعن عمرو بن شر حبيل قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إن عماراً ملئ إيماناً إلى مشاشه. المصنف ابن أبي شيبة الكوفي : 7 / 217 ح 6. وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 10 / 103 روى الحديث مثله وقال : ويروى إلى أخمص قدميه. قال ابن حجر في فتح الباري : 7 / 72 : وقد جاء في حديث أن عماراً ملئ إيماناً إلى مشاشه. أخرجه النسائي بسند صحيح ، والمشاش بضمِّ الميم ومعجمتين الأولى خفيفة ، وهذه الصفة لا تقع إلاَّ ممن أجاره اللّه من الشيطان. وقال المناوي في فيض القدير : 4 / 473 ح 5604 : ( عمار ملئ إيماناً إلى مشاشه ) بضمِّ الميم بضبط المصنّف ; أي ملأ اللّه جوفه به حتى تعدَّى الجوف ووصل إلى العظام الظاهرة ، والمشاش رؤوس العظام ، وفي رواية أبي نعيم أيضاً : عمار ملي إيماناً من قرنه إلى قدمه قال : يعني مشاشه. صلی اللّه علیه و آله صلی اللّه علیه و آله

قلت له : نعم.

قال : فمن أين جاء؟ فأين له وجه الاجتهاد كي يحصل على نصف الأجر ، وهو قد قتل الصحابي الجليل عمار بن ياسر الذي قال فيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : صبراً صبراً آل ياسر ، فإن موعدكم الجنة (1)؟ فأين له من عمار بن ياسر؟

وجاء الليل وجاء الصراع ، عقلي يقول : هل علماؤنا مضلَّلون عبر التاريخ؟ هل علماؤنا ضحايا لإعلام مضلِّل؟ تفكيرهم قائم على الطريقة التقليديّة الموروثة ، لا يقبلون الناش والحوار ، ومن خالفهم في الرأي اتهموه بالكفر وفسّقوه وضلَّلوه ، وأقاموا عليه الدنيا وأقعدوها ، لأنه خالفهم في الرأي ، وأخذوا يشهِّرون به في المجالس ، ويحذِّرون الناس منه لمجرد أنه أثار تساؤلا لا يعرفون الإجابة عليه ، أو لا يريدون الخوض فيه.

ص: 468


1- المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 3 / 383 و 388 - 389 ، وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : 1 / 161 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 3 / 249 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 24 / 303 ، المعجم الأوسط : 2 / 141 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 9 / 293 ، وقال : رواه الطبراني ورجاله ثقات ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 13 / 255.

أستاذي العالم! لا تريد أن تبحث فدعني أبحث ، دعني أقرأ .. دعني أفكِّر ، فإلى متى ( ممنوع أن تقرأ ، ممنوع أن تبحث ، ممنوع أن تفكِّر ) إلاّ بإذن من الشيخ ، وإلاَّ فسَّقني ودمَّرني ، وأقام عليَّ أهل البلد.

اللّه أكبر! ما هذه السلطة المستبدّة؟ ما هذه الدكتاتوريَّة؟ نفسي تقول : إيَّاك أن تقرأ! الرعب مسيطر عليها ، تحذيرات الشيخ في المنطقة والشيخ الدكتور عبد الفتاح صقر ، والتحذيرات الحادّة من الشيخ طارق اللحام ، دوَّامة لا أعرف متى الخروج منها؟ فاستيقظت ليلا من شدّة الصراع الذي أرهقني وهدَّ كياني ، أفكار هذا الصديق الشيعي وطريقته في الحوار مقنعة ... إذا كان هذا الكتاب على ضلال فليردَّ عليه علماؤكم ، فليحاوروا هذا الكتاب ، وإلاَّ فإن هذا الكتاب كتاب صحيح.

وكيف تفكِّر وتقول : سيِّدنا معاوية قتل سيِّدنا عمّاراً ( رضي اللّه عنه ) ، وسيِّدنا معاوية سمَّ أو قتل سيِّدنا الحسن علیه السلام ، والحسن معروف بسيِّد شباب أهل الجنة؟ ما هذا التناقض الحادّ؟ هل الدين جاء بالتناقض؟ لا واللّه لم يأتِ بالتناقض.

مع الشيخ صالح عيزوقي

وفي اليوم الثاني وبعد أن انتهينا من العمل قلت لأخي : ما رأيك في أن تنزل معي إلى بيروت؟ قال لي : أنا متعب جدّاً هذا اليوم.

فعزمت أن أنزل لوحدي ، وذهبت إلى مسجد صبرا ، والتقيت بالشيخ صالح عيزوقي ، وبعد أن أدَّيت فريضة صلاة المغرب خلفه قلت له : شيخنا الجليل! لديَّ بعض الأسئلة ، فسألني : من أين الأخ؟

فأجبته : من سوريا.

ص: 469

فقال لي : أنا درست في دمشق ، وتتلمذت على شيوخ دمشق.

فقلت له : سماحة الشيخ! أريدك أن ترشدني إلى كتب الصحاح ، وهل كتب الصحاح كلها صحيحة عندنا أهل السنة؟

فأخذني إلى جانب من الناس ، وقال لي : يا بنيّ! رحم اللّه من قبلنا ، إن الصحاح عندنا مليئة بالمسيحيّات والإسرائيليّات ، وتغيير بعض الحقائق.

فقلت له : البخاري ومسلم هل فيه مسيحيّات وإسرائيليات؟

قال ، نعم ، كلها جاءتنا عن طريق كعب الأحبار اليهودي ، وتميم الداري المسيحي وغيرهما.

قلت له : سماحة الشيخ! ما تنصحني؟ هناك صديق شيعي نعمل أنا وإيّاه في ورشة عمل في خلدة ، وقدَّم لي كتابين للقراءة ( المراجعات ، ثمَّ اهتديت ) وصار له فترة بعد أن امتنعت عن قراءتهما بسبب فتاوى من علمائنا ، أصبحت محرجاً أمامه في بعض الحوارات.

فقال لي : يا أخي! المذهب الخامس لديهم الاجتهاد مفتوح ، أمَّا قصَّة الحوار فهم أذكياء فيه ، بسبب ظلمهم واضطهادهم عبر التأريخ من السلطات ، فاضطرُّوا بكل السبل وأساليب فنّ الكلام للدفاع عن أنفسهم ، ممَّا جعلهم يغربلون الصحاح عندنا وكتب التأريخ ليثبتوا أنفسهم ، لأن علماءنا علماء المذاهب الأربعة لم يعترفوا بهم كمذهب قائم ، لكن أنصحك بعدم الخوض في حوارات مع صديقك هذا ; لأن القضية شائكة ، والبحث طويل ، وطريق صعب ومتعب ، هم لديهم أدلّة مقنعة ، ونحن لدينا أدلّة مقنعة ، فاتركه يا أخي.

فودَّعت الشيخ صالح ، ورجعت إلى مكان عملي ، أفكِّر بكلمات الشيخ صالح ، وجاء الليل ، وجاء التفكير ، لديهم أدلّة مقنعة ، ولدينا أدلّة مقنعة ، فقلت :

ص: 470

ما دام لديهم أدلة مقنعة - كما قال لي الشيخ - ما المانع من أن أقرأ كتاب المراجعات ، وكتاب ثمَّ اهتديت ، وأقف على هذه الأدلّة؟

مع الشيخ إسماعيل عرناسي

وقعت في تناقض حادّ ، الشيخ المصري حذَّرني!! والشيخ طارق حذَّرني!! والشيخ فتح الباب ولكن في مصراع واحد ، لماذا لا أكمل رحلة البحث؟ فسألت أحد أصدقائي من الذين يعملون معنا في الورشة ، فقلت له : من يصلّي عندكم إماماً للجماعة؟

فقال لي : نحن في برج البراجنة عندنا شيخ كبير اسمه : الشيخ إسماعيل عرناسي ( جامع العرب ) ، وفي اليوم الثاني وبعد الانتهاء من العمل ذهبت إليه ، حيث انتظرت في المسجد موعد صلاة المغرب ومجيء الشيخ ، فجاء الشيخ وصلَّينا خلفه جماعة ، وعندما انتهى صافحته واقتربت منه ، فقلت له : سماحة الشيخ! أنا شابٌّ سوريٌّ ، وأعمل في ورشة في منطقة خلدة ، وأشتغل مع صديق شيعيٍّ ، وكل ساعة يحاورني في الدين ، ويسألني ويحرجني ، فما تنصحني باللّه عليك أيُّها الشيخ وتريحني؟!!

فقال لي : يا بنيَّ! صار لي أكثر من أربعين سنة في هذا المسجد ، ولم اختلط مع واحد شيعيٍّ ، والكل يعلم ذلك ، لكن أنصحك هؤلاء الشيعه يقولون في آخر الصلاة : تاه الوحي ثلاث مرَّات ، وينسبون أقوالا للرسول صلی اللّه علیه و آله ويقولون : قال الإمام علي علیه السلام .

فقلت له : شيخنا الجليل! أنا قرأت في كتيِّب لتعليم الصلاة عندهم ، حيث يقولون آخر الصلاة ثلاث مرَّات : اللّه أكبر .. اللّه أكبر .. اللّه أكبر.

ص: 471

فردَّ عليَّ : يا بنيَّ! ماذا تعرف من دهاء هؤلاء الشيعة؟ إنهم يستعملون التقيَّة ، وإمامهم الصادق علیه السلام يقول : ( التقيّة ديني ودين آبائي ).

فرجعت إلى مكاني مخذولا تائها محتاراً ، وأوشكت من أن أصاب بأزمة نفسيَّة ، وسيطر عليَّ القلق ، بحيث لم أعد أستطيع العمل ، أصبت برجفة حادّة وقشعريرة ، فأخذني أخي إلى الدكتور ، وقال لي الدكتور : جسميّاً لا يوجد فيك شيء ، فأنت مرهق نفسيّاً وفكريّاً ، يا أخي! بماذا تفكر؟ هذه الدنيا لا تستحقّ التفكير ، خذ إجازة من العمل وسافر إلى البلد.

فنمت يومين في الفراش ، محاولا التخلُّص من التفكير ، وصرت أجلس مع أصدقائي ، أشاهد برامج التلفزيون والمسلسلات لأروِّح عن نفسي التعب والإرهاق.

وبعدها عزمت أن أكمل قراءة كتاب المراجعات ، وقلت لصديقي الشيعي : إذا سمحت ، غداً اجلب لي معك كتاب المراجعات.

ففرح صديقي وقال : أين أنت هذين اليومين؟

فقلت له مكابراً : واللّه إن أعصابي وجسمي مرهقان ، وأخذني أخي دحام إلى الدكتور ، وقال لي : تحتاج إلى إجازة وراحة من العمل.

وفعلا في اليوم الثاني أتاني صديقي الشيعي بكتاب المراجعات ، وبدأت بالقراءة فيه حتى وصلت إلى ص 71 ، فاستوقفني مقال للشيخ الأنطاكي الحلبي المتشيِّع ( الاختلاف بين المذاهب الأربعة ) ، واستوقفتني أقوال للإمام عليٍّ ( كرَّم اللّه وجهه ) ، ما أقواها وأشدَّها وطأ وأثراً على النفس! في ص 75 قوله : ( نحن الشعار والأصحاب ، والخزنة والأبواب ، ولا تؤتى البيوت إلاَّ من أبوابها ، فمن أتاها من غير أبوابها سمِّي سارقاً ).

ص: 472

ثمَّ قال في ص 82 : وإليك بيان ما أشرنا إليه من كلام النبي صلی اللّه علیه و آله ، إذ أهاب بالجاهلين وصرخ في الغافلين ، فنادى : ( يا أيُّها الناس! إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلُّوا : كتاب اللّه ، وعترتي أهل بيتي ) ، وقال صلی اللّه علیه و آله : ( إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلُّوا بعدي : كتاب اللّه ، حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ).

فسجَّلت مصادر الحديث الذي ينقلها العالم الشيعي في كتابه ( المراجعات ) ، وبعد يومين نزلت إلى مكتبة دار الفتوى ( عائشة بكار ) لأفتِّش عن المصادر ، لأرى مدى صدق الشيعة في أقوالهم ، وفعلا عندما أتيت بسنن الترمذي فوجدت الحديث (1) ، فشعرت بالانتصار النفسي ، وفرحت فرحاً شديداً ، وتابعت المصادر فأنزلت تفسير ابن كثير فوجدت فيه الحديث (2).

اللّه أكبر! اللّه أكبر!! صرت أصيح ما هذا الانتصار؟ اصبر اصبر ، أحدِّث نفسي ، تابع البحث ، لا تيأس ، أشجِّع نفسي ، الآن وليس غداً يجب الذهاب إلى الشيخ عبد الفتاح صقر لأناقشه في هذا الحديث الذي سجَّلت مصادره عندي بورقة وضعتها في جيبي ، وأغلقت عليها كأني عثرت على كنز!! أحدِّث نفسي : اصبر ، تابع البحث ، فصبَّرت نفسي على فرحها الشديد.

ورجعت أتابع القراءة ، وأيُّ شيء كان يثيرني كنت أسجِّله ، وأنزل إلى المكتبة فقط ، أنزل إلى مكتباتنا حذراً من الصحاح الموجودة عند الشيعة ، كما

ص: 473


1- سنن الترمذي : 5 / 329.
2- تفسير ابن كثير : 4 / 123.

يقول علماؤنا السنة : أغلبها مزوَّرة ومحرَّفة!!

وأثارني حديث آخر استغربت منه أشدَّ الاستغراب : عن زيد بن أرقم قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ( من يريد أن يحيى حياتي ، ويموت موتي ، ويسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي ، فليتولَّ عليَّ بن أبي طالب ، فإنه لن يخرجكم من هدى ، ولن يدخلكم في ضلالة ) ، فسجَّلته وسجَّلت مصادره وتابعت القراءة إلى أن وصلت ص 137 ، حيث جاءت آية قرآنية تقول : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (1) (2) ، وأخرج النسائي في صحيحه نزولها في عليٍّ علیه السلام عن طريق رواية عبداللّه ابن سلام ، وأخرج نزولها صاحب الجمع بين الصحاح الستة في تفسير سورة المائدة ، وأخرج الثعلبي في تفسيره الكبير نزولها في أميرالمؤمنين علیه السلام ، فراجعت المصادر ووقفت عليها.

واستدلَّ العالم الشيعي على أن الولاية بعد اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله لعليِّ بن أبي طالب علیه السلام ، وتابع القول في آية أخرى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) (3) ، ويقول : ألم يصدع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بتبليغها عن اللّه يوم الغدير حيث

ص: 474


1- سورة المائدة ، الآية : 55.
2- قال هشام قطيط معلِّقاً في الهامش : وقفت على صحّة هذه الأقوال ، يقول العالم الشيعي : أجمع المفسِّرون - كما اعترف به القوشجي الأشعري ، وهو من فطاحل علماء السنة ، في مبحث الإمامة من شرح التجريد - على أن الآية نزلت في علي علیه السلام عندما تصدَّق بخاتمه وهو راكع.
3- سورة المائدة ، الآية : 67 ، نزلت هذه الآية يوم 18 من ذي الحجة سنة 10 من الهجرة ، في حجّة الوداع ، في رجوع النبي صلی اللّه علیه و آله من مكة إلى المدينة ، في مكان يقال له : غدير خم ، فأمر اللّه نبيَّه صلی اللّه علیه و آله أن ينصب علياً علیه السلام إماماً وخليفة من بعده.

خطب خطابه ، وعبَّ عبابه ، فأنزل اللّه يومئذ : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) (1) ألم تر كيف فعل ربك يومئذ بمن جحد ولايته علانية ، وصادر بها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جهرة ، فقال : اللّهم إن كان هذا هو الحق فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، فرماه اللّه بحجر من سجّيل ، كما فعل من قبل بأصحاب الفيل ، وأنزل في تلك الحالة : ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَاب وَاقِع * لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ) (2).

وهنا جاء التأمُّل والصراع ، والمسألة مع النفس ومع الذات ، فراجعت المصادر ، ووقفت عليها ، ووجدت صدق ما يأتي به العالم الشيعي ، فاستغربت من قوّة استدلال هذا العالم ، وإحاطته الدقيقة بالتأريخ والسيرة والصحاح ، واستهواني الكتاب بأسلوبه الجذّاب ، وثوبه الناعم المزركش ، وصرت أفكِّر ، يا إلهي! أين كنت أنا؟ أين علماؤنا من هذه الكتب؟ فهل يعرف علماؤنا ما في هذه الكتب من أدلّة ويتعمَّدون طمس هذه الحقائق عنّا؟ لأنه ليس من اختصاصنا البحث في الدين وإنما هو حكر على الشيوخ والعلماء فقط ، أم أنهم لا يعلمون حقيقة هذه الكتب؟!

وتابعت القراءة إلى أن وصلت إلى الخطبة الشقشقية : ص 680 من المراجعات ، فاستوقفتني خطب ومناشدات للإمام علي علیه السلام ، وشدَّت انتباهي ، وأسرت تفكيري ; لما فيها من البيان والتصريح عن مظلوميّته بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ،

ص: 475


1- سورة المائدة ، الآية : 3.
2- سورة المعارج ، الآية : 1 - 2 ، نزلت هذه الآيات في النعمان الفهري لمَّا شك في تنصيب النبي لعلي علیهم السلام الخلافة فوقع عليه العذاب. راجع : شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي : ج 2. ص 286 حديث : 1030 - 31 - 32 ، تذكرة الخواص للسبط بن الجوزي الحنفي : ص 30.

حيث كان يبثُّ شكواه من خلال هذه الخطب والمناشدات ، فيقول إمامنا علي علیه السلام أيام خلافته متظلِّماً ، يبثُّ آلامه متألِّما منها ، حتى قال :

أما واللّه لقد تقمَّصها فلان وهو يعلم أن محلّي منها محلُّ القطب من الرحى ، ينحدر عنّي السيل ، ولا يرقى إليَّ الطير ، فسدلت دونها ثوباً ، وطويت عنها كشحاً ، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذَّاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربَّه ، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا ، أرى تراثي نهباً ... إلخ الخطبة (1).

وكم وقف متظلِّماً من القوم ، يبثُّ شكواه قائلا : اللّهم إني أستعينك على قريش ومن أعانهم ، فإنهم قطعوا رحمي ، وصغَّروا عظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي ، ثمَّ قالوا : ألا إن في الحق أن تأخذه ، وفي الحق أن تتركه (2).

يا اللّه!! ما أعظم هذه الكلمات! إنها تخرق الحجر ، وليس الدم واللحم ، فيتابع قوله : فنظرت فإذا ليس لي معين إلاَّ أهل بيتي ، فضننت بهم عن الموت ، أغضيت على القذى ، وشربت على الشجا ، وصبرت على أخذ الكظم ، وعلى أمرَّ من طعم العلقم (3).

ص: 476


1- نهج البلاغة ، خطب الإمام علي علیه السلام : 1 / 30 - 31 ، خطبة رقم : 3.
2- نهج البلاغة ، خطب الإمام علي علیه السلام : 2 / 85 ، خطبة رقم : 172 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 4 / 103 - 104 و 6 / 96 و 9 / 305 ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : 1 / 176.
3- نهج البلاغة ، خطب الإمام علي علیه السلام : 1 / 67 ، خطبة رقم : 26 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 2 / 20 ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : 1 / 176.

فصرت أتساءل : ما ذنب عليٍّ علیه السلام في التاريخ؟ اللّه أكبر! وأتابع البحث من جديد ، وأشحذ همّتي كي أستطيع التأمُّل والتفكُّر في مناشدات وخطابات سيِّدي وإمامي علي علیه السلام روحي فداه .. ما قرأت مقطعاً من كلماته إلاَّ وانهمرت دموعي!!

ومرَّة أخرى يبثُّ شكواه بمرارة : فجزت قريشاً عنّي الجوازي ، فقد قطعوا رحمي ، وسلبوني سلطان ابن أمّي (1).

أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا ، كذباً علينا وبغياً ، أن رفعنا اللّه ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم ، بنا يستعطى الهدى ، ويستجلى العمى ، إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم (2).

وقوله أيضاً في خطبة له خطبها بعد البيعة له : لا يقاس بآل محمّد صلی اللّه علیه و آله من هذه الأمة أحد ، ولا يسوَّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً ، هم أساس الدين ، وعماد اليقين ، إليهم يفيء الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حقّ الولاية ، وفيهم الوصيّة والوراثة ، الآن إذ رجع الحق إلى أهله ، ونقل إلى منتقله (3).

فكلمات الإمام بعد البيعة تؤكِّد على صدق ما ذهبنا إليه ، فكلَّما وصلت

ص: 477


1- نهج البلاغة ، خطب الإمام علي علیه السلام : 3 / 61 ، خطبة رقم : 36 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 16 / 148.
2- نهج البلاغة ، خطب الإمام علي علیه السلام : 2 / 27 ، خطبة رقم : 144 ، مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب 1 / 245 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 9 / 84 ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : 1 / 207 ح 7.
3- نهج البلاغة ، خطب الإمام علي علیه السلام : 1 / 30 ، خطبة رقم : 2 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1 / 138 - 139 ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : 1 / 83 ح 23.

إلى مقطع يزداد ألمي.

هذه الكلمات القويّة لا تخرج من إنسان عاديٍّ ، كلمات بحدِّ ذاتها معجزة ، يتدفَّق الإشعاع منها إلى أعماق قلبي ، عبارات رصينة ، أدلّة قوية تسيطر على القارئ المتدبِّر.

وحسبك قوله في خطبة أخرى : رجع قوم على الأعقاب ، وغالتهم السبل ، واتّكلوا على الولائج ، ووصلوا غير الرحم ، وهجروا السبب الذي أمروا بمودّته ، ونقلوا البناء عن رصّ أساسه ، فبنوه في غير مواضعه ، معادن كل خطيئة ، وأبواب كل ضارب في غمرة ، قد ماروا في الحيرة ، وذهلوا في السكرة ، على سنة من آل فرعون ، من منقطع إلى الدنيا راكن ، أو مفارق للدين مباين (1).

فما تمالكت من نفسي إلاَّ والدموع تعاودني بالانهمار ، فوقفت مبهوتاً من هذه الأمّة ، وهؤلاء القوم الذين يدّعون الإسلام ، ما أقوى هذه الكلمات! تركت نفسي تقرأ بكل ما أمتلك من تركيز ; لأني أقرأ كلمات من سيِّد الوصيين ، وخليفة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وكل ذلك لم أكن أعلم بعد صدق هذه الخطب ، ولكنها هزَّت مشاعري ، وسيطرت عليَّ ، وصرت أتساءل : هل هذه الكلمات تصدر من الإمام علي علیه السلام ؟

هل غصبت الخلافة من عنده؟ هل هذه الكلمات لها سند معتبر؟ فبدأت تنهال عليَّ موجات عارمة من الأسئلة ، وتابعت البحث حتى عثرت على مناشدة للإمام علي علیه السلام يوم الشورى (2) ، وما أدراك ما يوم الشورى؟!!

ص: 478


1- نهج البلاغة ، خطب الإمام علي علیه السلام : 2 / 36 ، خطبة رقم : 150 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 9 / 132.
2- راجع : المناقب ، ابن المغازلي الشافعي : 222.

وساق الحديث إلى أن قال : بداية الحيرة والشك والتساؤل :

بعد تأثّري الشديد بخطب ومناشدات علي علیه السلام الذي أوردها صاحب كتاب المراجعات في الصفحة 680 طبع ( الدار الإسلامية ) عام 1986 ، صحيح أني تأثَّرت وصدمت إثر قراءتها ، ولكن بدأت بالبحث للتأكُّد من صحّة ما يذهب إليه السيِّد الشيعي رحمه اللّه و قدس سره ، فوجدت قسماً للخطب ينقلها ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه لنهج البلاغة ، فقلت في نفسي : إن ابن أبي الحديد معتزليٌّ ، وليس شيعياً حتى ينتصر لمذهبه أو عقيدته ، وكان لديَّ من المسلَّمات أن نهج البلاغة للإمام علي علیه السلام ، وليس للشريف الرضي كما يقول بعض المتقوِّلين والمتعصِّبين ، حيث إنه شرحه وعلَّق عليه أكثر من عالم من علمائنا السنة الكبار ، أمثال الشيخ محمّد عبده شيخ الأزهر ، والدكتور صبحي الصالح الأستاذ في الجامعة اللبنانيّة سابقاً.

وبقي لدي تساؤل واحد ، إذا ثبتت لديَّ خطبة ومناشدة علي علیه السلام يوم الشورى سوف أعلن عن تشيُّعي وولائي واستبصاري لخطّ أهل البيت علیهم السلام ، وعند ما بدأت أقرأ وأحقِّق مصادر هذه الخطبة فعثرت على أكثر من مصدر منهم :

1 - شيخ الإسلام الشافعي الحمويني صاحب كتاب فرائد السمطين.

2 - مناقب علي بن أبي طالب علیه السلام ، ابن المغازلي الشافعي.

ومنها رجعت إلى أمر آخر ، وهو تحليل خطبة الشورى ، والوقوف على مصادر ما قاله الإمام علي علیه السلام من أحاديث وحجج ، فوجدتها بمصادرها ( من حيث الحديث والآية التي استشهد بهما ) حيث كنت أقف على المصدر ونقله من كتاب المراجعات وأراجع في ذلك فأجد كل هذا الكلام موجوداً (1).

ص: 479


1- ومن الحوار اكتشفت الحقيقة ، هشام آل قطيط : 19 - 46.

المناظرة الثالثة والثمانون مناظرة هشام آل قطيط مع الشيخ عبد الأمير الهويدي وغيره وبحثه عن الحقيقة وأشياء يسمعها لأوَّل مرة

اشارة

قال الشيخ هشام آل قطيط تحت عنوان ( لقاء الصدقة ) : كنت أبحث عن بعض المصادر في مدينة بيروت التي تخصُّ بحثي عن الحقيقة ... وإذا بشيخ موجود في دار النشر ، فدفعني الفضول لأتعرَّف عليه ، فقال لي : أنا الشيخ عبد الأمير الهويدي من العراق ، وسألني : من أين أنت؟

فأجبته : من سوريا.

فسألني : ماذا تعمل هنا؟

فأجبته بكل صراحة : لقد أعارني أحد الشباب الشيعة كتاب المراجعات ، ومن هنا كانت بداية البحث والتساؤل والحيرة.

فقال لي : لماذا تتعب نفسك؟ 1 + 1 = 2 ، أسألك سؤال : هل النبي صلی اللّه علیه و آله وصَّى أم لم يوصِّ؟

فقلت له : ماذا تقصد؟

قال : أقصد خلافنا كله قائم على الخلافة من بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله ، إذا وصَّى

ص: 480

الرسول صلی اللّه علیه و آله فالخلافة لعلي علیه السلام ، وإذا لم يوصِّ فالرسول فيه نقص ، وكلامه مخالف للقرآن.

فقلت له : حاشا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يخالف القرآن.

قال لي : أنت متأكِّد أن الرسول صلی اللّه علیه و آله لا يخالف القرآن؟

فقلت له : نعم ، أنا متأكِّد.

فقال : إذن : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ ) (1) لا يعقل أن الرسول صلی اللّه علیه و آله يموت بلا وصيَّة ويخالف القرآن ، والقرآن يقول : ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (2).

وبعدها قال لصاحب دار النشر : أعطيه كتاب الإمام الصادق علیه السلام والمذاهب الأربعة (3) هديَّة ، وأنا أحاسبك به ، واقرأ في الجزء الثاني رسالة للجاحظ ، تأمَّل بها وتدبَّر فسوف تعرف الحقيقة ، وأنا مشغول ، أريد الذهاب ، في أمان اللّه.

فقلت له : أين أراك؟

فقال لي : سجِّل رقم هاتفي في دمشق ، فسجَّلته ، وقلت له : في أمان اللّه .. وخرجت من الدار ذاهباً لزيارة صديق لي ، وبعد أن أنهيت الزيارة رجعت مبكِّراً لقراءة هذه الرسالة التي أشار إليها الشيخ الهويدي ، وهذه هي الرسالة.

رسالة الجاحظ

رسالة الجاحظ (4) التي أرشدني إليها الشيخ الهويدي في تفضيل علي علیه السلام .

ص: 481


1- سورة البقرة ، الآية : 180.
2- سورة الحشر ، الآية : 7.
3- وهو لمؤلِّفه المرحوم المحقِّق الأستاذ الشيخ أسد حيدر النجفي.
4- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ، أسد حيدر : 2 / 94.

قال : هذا كتاب من اعتزل الشك والظنّ ، والدعوى والأهواء ، وأخذ باليقين والثقة من طاعة اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله ، وبإجماع الأمَّة بعد نبيِّها علیه السلام ممَّا يتضمَّنه الكتاب والسنّة ، وترك القول بالآراء ، فإنَّها تخطئ وتصيب ; لأنَّ الأمَّة أجمعت أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله شاور أصحابه في الأسرى ببدر ، واتّفق على قبول الفداء منهم ، فأنزل اللّه تعالى : ( مَا كَانَ لِنَبِيّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ) (1).

فقد بان لك أن الرأي يخطئ ويصيب ، ولا يعطي اليقين ، وإنّما الحجّة لله ورسوله صلی اللّه علیه و آله وما أجمعت عليه الأمّة من كتاب اللّه وسنّة نبيِّها ، ونحن لم ندرك النبيَّ صلی اللّه علیه و آله ، ولا أحداً من أصحابه الذين اختلفت الأمّة في أحقِّهم ، فنعلم أيّهم أولى ونكون معهم ، كما قال تعالى : ( وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ) (2) ، ونعلم أيّهم على الباطل فنجتنبهم وكما قال تعالى : ( وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً ) (3) حتى أدركنا العلم ، فطلبنا معرفة الدين وأهله ، وأهل الصدق والحقّ ، فوجدنا الناس مختلفين ، يبرأ بعضهم من بعض ، ويجمعهم في حال اختلافهم فريقان : أحدهما قالوا : إن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله مات ولم يستخلف أحداً ، وجعل ذلك إلى المسلمين يختارونه ، فاختاروا أبا بكر ، والآخرون قالوا : إن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله استخلف عليّاً ، فجعله إماماً للمسلمين بعده ، وادّعى كل فريق منهم الحقَّ.

فلمَّا رأينا ذلك وقفنا الفريقين لنبحث ونعلم المحقَّ من المبطل ، فسألناهم جميعاً : هل للناس من وال يقيم أعيادهم ، ويجبي زكاتهم ، ويفرِّقها على مستحقيها ، ويقضي بينهم ، ويأخذ لضعيفهم من قويِّهم ، ويقيم حدودهم؟

ص: 482


1- سورة الأنفال ، الآية : 67.
2- سورة التوبة ، الآيه : 119.
3- سورة النحل ، الآية : 78.

فقالوا : لابدَّ من ذلك.

فقلنا : هل لأحد أن يختار أحداً ، فيولّيه بغير نظر من كتاب اللّه وسنّة نبيِّه صلی اللّه علیه و آله ؟

فقالوا : لا يجوز ذلك إلاَّ بالنظر.

فسألناهم جميعاً عن الإسلام الذي أمر اللّه به ، فقالوا : إنه الشهادتان ، والإقرار بما جاء من عند اللّه ، والصلاة ، والصوم ، والحج - بشرط الاستطاعة - والعمل بالقرآن ، يحلُّ حلاله ويحرِّم حرامه ، فقبلنا ذلك منهم لإجماعهم.

ثمَّ سألناهم جميعاً : هل لله خيرة من خلقه ، اصطفاهم واختارهم؟

فقالوا : نعم.

فقلنا : ما برهانكم؟

فقالوا : قوله تعالى : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) (1).

فسألناهم : من الخيرة؟

فقالوا : هم المتقون.

فقلنا : ما برهانكم؟

فقالوا : قوله تعالى : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (2).

فقلنا : هل لله خيرة من المتقين؟

قالوا : نعم ، المجاهدون بأموالهم ، بدليل قوله تعالى : ( فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ) (3).

ص: 483


1- سورة القصص ، الآية : 68.
2- سورة الحجرات ، الآية : 13.
3- سورة النساء ، الآية 95.

فقلنا : هل لله خيرة من المجاهدين؟

قالوا جميعاً : نعم ، السابقون من المهاجرين إلى الجهاد ، بدليل قوله تعالى : ( لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ) (1).

فقبلنا ذلك منهم لإجماعهم عليه ، وعلمنا أن خيرة اللّه من خلقه المجاهدون السابقون إلى الجهاد.

ثم قلنا : هل لله منهم خيرة؟

قالوا : نعم.

قلنا : من هم؟

قالوا : أكثرهم عناء في الجهاد ، وطعناً وحرباً وقتلا في سبيل اللّه ، بدليل قوله تعالى : ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَهُ ) (2) ( وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْر تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ ) (3).

فقبلنا منهم ذلك ، وعلمنا وعرفنا : أن خيرة الخيرة أكثرهم في الجهاد عناء ، وأبذلهم لنفسه في طاعة اللّه ، وأقتلهم لعدوِّه ، فسألناهم عن هذين الرجلين - علي ابن أبي طالب علیه السلام وأبي بكر - أيُّهما كان أكثر عناء في الحرب ، وأحسن بلاء في سبيل اللّه؟

فأجمع الفريقان على أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام أنه كان أكثر طعناً وحرباً ، وأشدَّ قتالا ، وأذبَّ عن دين اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله ، فثبت بما ذكرنا من إجماع الفريقين ، ودلالة الكتاب والسنة أن عليّاً علیه السلام أفضل.

ص: 484


1- سورة الحديد ، الآية : 10.
2- سورة الزلزلة ، الآية : 7.
3- سورة البقرة ، الآية : 110.

وسألناهم - ثانياً - عن خيرته من المتقين ، فقالوا : هم الخاشعون ، بدليل قوله تعالى : ( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيد * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّاب حَفِيظ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْب مُّنِيب ) (1) ، وقال تعالى : ( وَذِكْراً لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم ) (2).

ثم سألناهم : من الخاشعون؟

فقالوا : هم العلماء ، لقوله تعالى : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ) (3).

ثم سألناهم جميعاً : من أعلم الناس؟ قالوا : أعلمهم بالقول ، وأهداهم إلى الحق ، وأحقُّهم أن يكون متبوعاً ولا يكون تابعاً ، بدليل قوله تعالى : ( يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْل مِّنكُمْ ) (4). فجعل الحكومة لأهل العدل.

فقبلنا ذلك منهم ، وسألناهم عن أعلم الناس بالعدل من هو؟

قالوا : أدلُّهم عليه.

قلنا : فمن أدلُّ الناس عليه؟

قالوا : أهداهم إلى الحقِّ ، وأحقُّهم أن يكون متبوعاً ولا يكون تابعاً ، بدليل قوله تعالى : ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى ) (5) ، فدلَّ كتاب اللّه وسنَّة نبيِّه صلی اللّه علیه و آله والإجماع : أن أفضل الأمّة بعد نبيِّها أميرالمؤمنين علي ابن أبي طالب علیه السلام ، لأنه إذا كان أكثرهم جهاداً كان أتقاهم ، وإذا كان أتقاهم كان

ص: 485


1- سورة ق ، الآية : 31 - 33.
2- سورة الأنبياء ، الآية : 48 - 49.
3- سورة فاطر ، الآية : 128.
4- سورة المائدة ، الآية : 95.
5- سورة يونس ، الآية : 35.

أخشاهم ، وإذا كان أخشاهم كان أعلمهم ، وإذا كان أعلمهم كان أدلَّ على العدل ، وإذا كان أدلَّ على العدل كان أهدى الأمّة إلى الحقِّ ، وإذا كان أهدى كان أولى أن يكون متبوعاً ، وأن يكون حاكماً ، لا تابعاً ولا محكوماً.

وأجمعت الأمّة بعد نبيِّها صلی اللّه علیه و آله أنه خلَّف كتاب اللّه تعالى ذكره ، وأمرهم بالرجوع إليه إذا نابهم أمر ، وإلى سنّة نبيِّه صلی اللّه علیه و آله ، فيتدبَّرونهما ، ويستنبطون منهما ما يزول به الاشتباه ، فإذا قرأ قارئكم : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ ) (1) ، فيقال له : أثبتها ، ثمَّ يقرأ : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (2) ، وفي قراءة ابن مسعود : إنَّ خيْرَكُم عِنْدَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ ، ثمَّ يقرأ : ( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيد * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّاب حَفِيظ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ ) (3) فدلَّت هذه الآية على أن المتقين هم الخاشون.

ثمَّ يقرأ فإذا بلغ قوله : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ) (4) فيقال له : اقرأ حتى ننظر هل العلماء أفضل من غيرهم أم لا؟ فإذا بلغ قوله تعالى : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ) (5) علم أن العلماء أفضل من غيرهم.

ثمَّ يقال : اقرأ ، فإذا بلغ إلى قوله : ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات ) (6) قيل : قد دلَّت هذه الآية على أن اللّه قد اختار العلماء ، وفضَّلهم ورفعهم درجات ، وقد أجمعت الأمّة على أن العلماء من أصحاب رسول

ص: 486


1- سورة القصص ، الآية : 68.
2- سورة الحجرات ، الآية : 13.
3- سورة ق ، الآية : 31 - 33.
4- سورة فاطر ، الآية : 28.
5- سورة الزمر ، الآية : 9.
6- سورة المجادلة ، الآية : 11.

اللّه صلی اللّه علیه و آله الذين يؤخذ عنهم العلم كانوا أربعة : علي بن أبي طالب علیه السلام ، وعبد اللّه بن العبّاس ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت.

وقالت طائفة : عمر ، فسألنا الأمّة : من أولى الناس بالتقديم إذا حضرت الصلاة؟

فقالوا : إن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : يؤمُّ القوم أقرؤهم ، ثمَّ أجمعوا على أن الأربعة كانوا أقرأ من عمر فسقط عمر.

ثمَّ سألنا الأمَّة : أيُّ هؤلاء الأربعة أقرأ لكتاب اللّه ، وأفقه لدينه فاختلفوا ، فأوقفناهم حتى نعلم ، ثمَّ سألناهم : أيُّهم أولى بالإمامة؟

فأجمعوا على أن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : إذا كان عالمان فقيهان من قريش فأكبرهما سنّاً وأقدمهما هجرة ، فسقط عبداللّه بن العبّاس ، وبقي علي بن أبي طالب صلوات اللّه عليه ، فيكون أحقَّ بالإمامة ; لما أجمعت عليه الأمّة ، ولدلالة الكتاب والسنة عليه. انتهى (1).

وبعد أن أنهيت هذه الرسالة القيِّمة من القراءة أصبح لديَّ اليقين القاطع بأحقّيّة أهل البيت علیهم السلام ، وبخلافة الإمام علي علیه السلام بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ولكنَّ متابعة البحث ضروريٌّ للردِّ على كلِ التساؤلات التي تثار ، فاتّصلت تلفونياً بالشيخ الهويدي ، وحدَّدنا موعداً بمقام السيِّدة زينب علیهاالسلام .

وجاء الموعد ، واقترب اللقاء ، وبعد أن جلسنا وتحادثنا وتحاورنا قال لي : هل تعرف الحوزة العلميّة الزينبية؟ فقلت له : لا أعرفها ، فقال لي : تخرج من

ص: 487


1- ذكر هذه الرسالة الإربلي في كشف الغمة : 1 / 37 - 40 ، وقال : إنها نسخت عن مجموع للأمير أبي محمّد الحسن بن عيسى المقتدر باللّه.

المقام ، وتمشي مع الطريق الذي يذهب إلى دمشق .. مقابل قسم الأمن الجنائي ، تسأل عن شيخ اسمه ( جلال المعاش ) تقول له : يسلِّم عليك الشيخ الهويدي .. وترشدني إلى منزل الداعية الشيعيِّ السيِّد علي البدري.

وأخذت منه العنوان ، وكتبه لي على قصاصة من ورق .. وودَّعته وخرجت ، وعاودتني دوَّامة التساؤل بعد أن ودَّعت الشيخ الهويدي ، وخرجت من مقام السيِّدة زينب علیهاالسلام ، وأنا في الطريق أسمع سائق ( السرفيس ) يصيح بصوت عال : ( رقيّة رقيّة ).

فلفت نظري تساؤل : هل هناك منطقة في دمشق اسمها ( رقيَّة ) فدفعني الفضول لأسأله : أين تقع هذه المنطقة؟ فسألته .. فقال لي : من أين أنت فأجبته : من القامشلي.

فقال : أوه!! في آخر سوريا .. قال لي : يا أخي! الإيرانيّون واللبنانيّون والخليجيّون يقدِّسون هذه المقامات ، فأنا أصيح حتى أشتغل ، وهذا موسمهم ، لأنّه كل صيفيّة يأتون إلى هنا لزيارة هذه المقامات ، وفعلا عزمت على الذهاب مع السائق لأرى هذه المنطقة التي أجهلها.

ومشت السيارة ، وأنا أتساءل لأوَّل وهلة أسمع هذا النداء وأسمع بهذه المنطقة ، فوصلت إلى هذا المقام الشريف ، ولم أستطع الدخول من شدّة الزحمة ، أمَّة من البشر!! اللّه أكبر! ما هذه الزحمة؟ من أين أتت كل هذه الجموع الغفيرة؟ وبعد انتظار ساعة من الوقت استطعت الدخول ، ورأيت الناس يلطمون على صدورهم ويصيحون يا حسين .. يا حسين ، يا رقية يا رقية .. الظليمة .. الظليمة ..

فدخلت إلى داخل المقام ، ووصلت إلى الضريح ، وقرأت الفاتحة ، وصلَّيت قربة إلى اللّه ركعتين زيارة لهذه السيِّدة ، دون أن أعرفها بنت من؟ لكن

ص: 488

عندما رأيت الناس تدخل وتزور وتقبِّل هذا الضريح فعلت مثلهم ، فعرفت أن هنا مقاماً لسيِّدة فاضلة.

فاقتربت من أحد الشباب الذين يلطمون على رؤوسهم وصدورهم ، حيث يضع شريطاً أسوداً مربوطاً برأسه ، وعلى جبينه مكتوب ( يا حسين ) .. فقلت له : إذا سمحت .. السيِّدة رقيّة بنت من؟

فضحك هذا الشابّ من سؤالي ، واستغرب!! وقال لي : من أين أنت؟

فأجبته : من القامشلي.

فقال لي : أين تقع مدينة القامشلي؟

فقلت له : تبعد من هنا ما يقارب 1000 كم ، وقال : أنت من سوريا ولا تعرف هذا المقام لمن؟

فقال لي : أنت سنّيٌّ؟

فأجبته : نعم.

فقال لي : حقّك لا تعلم ، هذه السيِّدة رقيَّة بنت الإمام الحسين علیه السلام ، عندما جاءوا بأهل البيت سبايا من العراق إلى الشام ، والحسين رأسه محمول على الرمح من هناك إلى هنا ، وعندما وصلوا إلى الجامع الأموي وضعوا رأس الحسين علیه السلام في المسجد أمام اللعين يزيد ، وبدأ يزيد يرغي ويزبد ويصيح : أتينا برأس زعيم الخوارج الحسين بن علي بن أبي طالب.

فقاطعته الحديث ، الحسين سيِّد شباب أهل الجنّة يحملون رأسه على الرمح ويأتون به إلى الشام؟ ماذا تقول يا أخي؟ أليس الشيعة هم الذين قتلوه ، وهم الآن يبكون ويندبون ويلطمون ندماً وحزناً لأنهم هم الذين قتلوه؟

قاطعني الشابُّ بحماس ، وقال لي : أنت متعلِّم؟

ص: 489

فقلت له : نعم .. وأنهيت الدراسة الجامعيّة ، لكن واللّه العظيم لم أسمع بهذه الأحداث ; لأن هذه القضايا ليست من اختصاصي ، فالصدفة أتت بي إلى هنا.

فقال لي : يا أخي! أعذرك كلَّ العذر ; لأن الإنسان عدوُّ ما يجهل ، وأنا لم أفرض عليك اعتقاداتي وقناعاتي .. ولكن أنت ابحث بنفسك عن هذه الحقائق ، وقال لي : إذا أردت أن تزور رأس الحسين علیه السلام مقامه في الجامع الأموي.

وشطَّ بنا الحديث وتفرَّع ، ورجعنا في الحديث عن السيِّدة رقية ، فقال لي : هذه السيِّدة بنت الإمام الحسين علیه السلام ، وعندما توفِّيت كان عمرها ثلاث سنوات تقريباً .. أهل البيت علیهم السلام عندما جاءوا بهم إلى الشام كانت هذه الطفلة مع عمّتها زينب علیهاالسلام ، أتعرف مقام السيِّدة زينب علیهاالسلام أخت الإمام الحسين علیه السلام ؟

فأجبته : نعم ، الآن جئت من هناك.

فقال : عندما وضعوا رأس الحسين علیه السلام في طشت كانت هذه الطفلة تصيح وتبكي ، طفلة تبكي تريد أباها ، فقال يزيد اللعين : خذوا هذا الرأس ، وضعوه أمام الطفلة لكي ترى أباها ، فعندما شاهدت الطفلة رأس والدها انكبَّت على وجهها ، فلم تطق الطفلة ذلك الموقف إلى أن فارقت الحياة فوق رأس والدها.

ماذا تحكي يا أخي؟ ماذا تقول؟ هل هذا صحيح؟ فضيَّعني كلام هذا الشابّ الشيعيّ.

وسألت آخر وآخر .. وكنت في كلِّ مرّة أحصل على نفس الجواب ، فرجعت مرَّة أخرى إلى القفص ، ففاضت دموعي بالبكاء ، وصرت أصيح وأسأل. : بنت الحسين سيِّد شباب أهل الجنة هكذا قتلت؟ هكذا ماتت؟ فصرت أردِّد بدون شعور كما تردِّد الشيعة : الظليمة الظليمة ، يا رقيّة! يا رقية! ثمَّ بعد هذا ودَّعتها متّجهاً إلى الجامع الأمويّ ، وشاهدت الحشود والجموع تتّجه باتّجاه

ص: 490

الشرق ، وتصيح وتلطم : يا حسين! يا حسين! لعن اللّه من ظلمك ، لعن اللّه من قتلك ، لعن اللّه يزيد .. فوصلت إلى الباب ، ودخلت بقوَّة من شدّة الازدحام ، حيث وصلت إلى مكان رأس الحسين علیه السلام فقبَّلته ، وانهارت دموعي بالبكاء ، فصرت أحدِّث نفسي : ما الذي حصل؟ ما الأمر؟ ما القضيَّة؟ ما الذي حدث؟ هذا الأخ الشيعي يقول لي : يزيد الذي قتل الحسين علیه السلام ، وليس الشيعة - كما يقول أحد علمائنا في المنطقة الشرقية!!

فعاودني الصراع السابق الذي عشته ، ورجعت إليَّ دوّامة التساؤل والحيرة ، هل الشيعة بريئون من دم الحسين؟ هل صحيح أن الشيعة لم يقتلوا الحسين؟ فإذن لماذا يلطمون ويبكون ويصيحون يا حسين يا حسين؟ وصرت أفكِّر بكلام الشيخ عندنا عندما كان يحذِّرنا من الجلوس مع الشيعة ، وعدم محاورة الشيعة ، والشيعة هم الذين قتلوا الحسين ، فخرجت من مقام رأس الحسين علیه السلام لزيارة النبيِّ يحيى بن زكريا علیه السلام في قلب الجامع الأمويِّ.

وعندما وصلت الضريح قبَّلته وصلَّيت ركعتين ، ولم أستطع أن أكمل من شدّة الصياح واللطم والبكاء ، فحاولت مرَّة ثانية إعادة صلاتي ، وأنهيتها بعد الجهد ، وشاهدت بعد الصلاة شيخاً يبدو أنه عراقيٌّ من خلال اللّهجة والبحّة ، يصيح ويخطب بالناس : يا موالين! يا شيعة! اليوم قتل إمامكم ، اليوم - الظليمة الظليمة - بقي الحسين ثلاث ساعات ملقياً على وجه الأرض ، قد صنع وسادة من الرمل ، فظنَّ بعض العسكر أن الحسين علیه السلام قد صنع لهم مكيدة ، فقالوا : إن الحسين لا يمكنه فعل شيء ، وقال بعضهم : إنه مثخن بالجراح ، ولا يقوى على القيام ، وقال بعضهم : إن الرجل غيور ، إذا أردتم أن تعرفوا حاله فاهجموا على المخيَّم ، فهجموا على المخيَّم ، وروَّعوا النساء والأطفال ، فخرجت الحوراء

ص: 491

زينب ووقفت على التلّ ، ثمَّ نادت بصوت حزين يقرح القلوب : يا ابن أمي يا حسين! يا حبيبي يا حسين! إن كنت حيّاً فأدركنا ، فهذه الخيل قد هجمت علينا ، وإن كنت ميّتاً فأمرنا وأمرك إلى اللّه ، فلمَّا سمع الحسين صوت أخته قام ووقع على وجهه ، ثمَّ قام ووقع على وجهه ثانية ، ثمَّ قام ثالثة ووقع على وجهه ، عند ذلك صاح : يا شيعة آل أبي سفيان! إن لم يكن لكم دين ، وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم ، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون ، فنادى الشمر : ما تقول يا ابن فاطمة؟ قال : أنا الذي أقاتلكم ، والنساء ليس عليهن جناح ، فامنعوا عتاتكم وأشراركم عن التعرُّض لحرمي ما دمت حيّاً ، قال الشمر : إليكم عن حرم الرجل واقصدوه بنفسه ، فانكفأت الخيل والرجال على أبي عبداللّه الحسين علیه السلام .

وانتهى الشيخ من كلامه وبدأ يخطب ويتكلَّم ، والناس تضجّ وتبكي ، وهو يقول : وهم في طريقهم إلى الشام نزلوا منزلا فيه دير راهب ، فرفعوا الرأس على قناة طويلة ( رأس الحسين ) إلى جانب دير الراهب ، فلمَّا عسعس الليل سمع الراهب للرأس دويّاً كدويِّ النحل ، وتسبيحاً وتقديساً ، فنظر إلى الرأس وإذا هو يسطع نوراً ، قد لحق النور بعنان السماء ، ونظر إلى باب قد فتح من السماء ، والملائكة ينزلون كتائب كتائب ويقولون : السلام عليك يا أبا عبداللّه ، السلام عليك يا ابن رسول اللّه ، فجزع الراهب جزعاً شديداً وقال للعسكر : وما الذي معكم؟ فقالوا : رأس خارجيٍّ خرج بأرض العراق فقتله عبيد اللّه بن زياد ، فقال : ما اسمه؟ قالوا : اسمه الحسين بن علي ، فقال : الراهب : ابن فاطمة بنت نبيّكم وابن عمِّ نبيِّكم؟ قالوا : نعم ، قال : تبّاً لكم!! واللّه لو كان لعيسى ابن مريم ابن لحملناه على أحداقنا ، وأنتم قتلتم ابن بنت نبيِّكم! ثمَّ قال : صدقت الأخبار في

ص: 492

قولها : إذا قتل هذا الرجل تمطر السماء دماً عبيطاً ، ولا يكون هذا إلاَّ في قتل نبيٍّ أو وصيّ نبيٍّ ، ثمَّ قال : لي إليكم حاجة ، قالوا : وما هي؟ قال : قولوا لرئيسكم : عندي عشرة آلاف درهم ، ورثتها عن آبائي ، يأخذها مني ويعطيني الرأس يكون عندي إلى وقت الرحيل ، فإذا رحل رددته إليه ، فوافق عمر بن سعد ، فأخذ الرأس وأعطاهم الدراهم ، وأخذ الرأس فغسله ونظَّفه وطيَّبه بمسك ، ثمَّ جعله في حريرة ووضعه في حجره ، ولم يزل ينوح ويبكي وهو يقول : أيُّها الرأس المبارك! كلِّمني بحقِّ اللّه عليك ، فتكلَّم الرأس وقال : ما تريد مني؟ قال : من أنت؟ قال : أنا ابن محمّد المصطفى ، أنا ابن علي المرتضى ، أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا المقتول بكربلاء ، أنا الغريب العطشان بين الملا ، فبكى الراهب بكاء شديداً ، وقال : سيدي! يعزُّ واللّه أن لا أكون أوَّل قتيل بين يديك ، فلم يزل يبكي حتى نادوه وطلبوا منه الرأس ، فقال : يا رأس! واللّه لا أملك إلاَّ نفسي ، فإذا كان غدا فاشهد لي عند جدِّك محمّد أني أشهد أن لا إله إلاَّ اللّه وأن محمّداً عبده ورسوله ، أسلمت على يدك وأنا مولاك.

فبدأ يصيح الشيخ بصوت حزين يقرح القلوب : مسيحيُّ أسلم ، مسيحىٌّ آوى رأس إمامكم ، وأنتم تدّعون أنكم من الإسلام!!

فأخذني البكاء الشديد ، وصرت أكفكف بدموعي ، وأنظر من حولي لئلا يراني أحد ، وأنا مكابر .. وأسأل : رأس ابن بنت النبيِّ يحمل على الرمح؟ يمثَّل به؟ من بلد إلى بلد؟ ويزيد يدّعي الإسلام!! مسيحيٌّ راهب آمن من وراء معجزة رأس الحسين وأنا مكابر؟ يا إلهي!! السماء تمطر دماً؟ ورأس الحسين يطاف به من بلد إلى بلد؟ فتذكَّرت حديث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لا تمثِّلوا ولو بكلب عقور ، فأين هذه الأمّة من الإسلام؟ فصرت ألعن يزيد ومن عيَّن يزيد.

ص: 493

فصرت أسأل : من الذي عيَّن يزيد؟ معاوية؟ من الذي عيَّن معاوية؟ تساؤلات لا تنتهي.

أثَّرت في نفسي قصّة الراهب ودخوله الإسلام ، أثرت في نفسي الجموع الغفيرة وهي تبكي وتلطم ، يا إلهي! ما الخطب؟ ما الأمر؟ ما الذي جرى على الأمّة؟ فخرجت من المسجد ودوَّامة الصراع لا تتركني.

أين شيخنا في القرية الذي يحذِّرني من هؤلاء الشيعة ، ويقول لي : هم الذين قتلوا الحسين علیه السلام ؟

ما هذه المأساة التي حلَّت بالأمَّة؟ ما هذه الظليمة؟ فخرجت من الجامع الأمويّ متّجهاً باتجاه منطقة السيِّدة زينب علیهاالسلام ، وفي الطريق أفكِّر هل كلام الشيخ عندنا صحيح؟ أم كلام هذا الشابّ الشيعي؟ الراهب يدخل إلى الإسلام؟ ويبكي وينوح؟ ويقول : اشهد لي يا رأس! أسلمت على يدك ، اشهد لي عند جدِّك محمّد؟

كلَّما أهدأ وأتخلَّص من دوَّامة بعض التساؤلات تأتيني عاصفة جديدة من التساؤلات ، يا إلهي!! لماذا لا أعلم كل هذه الأمور؟ يا إلهي! متى أتخلَّص من هذه الدوَّامة التي حيَّرتني؟ فدفعتني هذه الكارثة التي حلَّت بالأمَّة إلى أن أشدَّ الهمّة من جديد دون كلل أو ملل بحثاً عن الحقيقة ، لمعرفة كلام الشابّ الشيعيّ هل هو صحيح أم كلام شيخ البلد؟ فصعدت في ( السرفيس ) متّجهاً إلى منطقة السيِّدة زينب علیهاالسلام ، والأفكار والتساؤلات تعصب بي كالموج ، مرَّة أهدأ ومرَّة أثور ، مرّة أهدأ .. أقول كلام الشيخ عندنا هو الصحيح! ومرَّة أثور عندما أتذكَّر قضيّة الراهب وقضيَّة الرأس!! وقضيّة يزيد!! وماذا فعل بالأمَّة؟ حتى أخذتني الأفكار ونسيت أن أنزل في منطقة السيِّدة زينب ، فتجاوزتها ووصلت إلى منطقة

ص: 494

الذيابيّة ، فهدأت من التفكير ، وإذا بالسائق يصيح : ذيابيّة ذيابيّة ، من هو نازل؟

فقلت له : على مهلك ، أنزلني ، فنزلت وعدت مرّة أخرى إلى منطقة السيِّدة زينب علیهاالسلام ، أسأل عن الحوزة العلميّة الزينبيّة ، وأخيراً وصلت إلى الحوزة ، فصعدت أسأل عن الشيخ جلال المعاش ، فقال لي شابٌّ : بعد صلاة المغرب يأتي.

ورجعت بعد صلاة المغرب ، وصعدت أسأل عن الشيخ ، فوجدت مكتبة في الطابق الأوّل ، فقرعت الباب ، وسألت عن الشيخ ، فقال لي شاب : تفضّل اجلس ، الآن يأتي الشيخ ، وهذه غرفته ( بجوار المكتبة ).

فجلست وأنا في دوَّامة ، أخمد وأثور ، وإذا بشابٍّ يفاجئني بقوله : هذا هو الشيخ جلال الذي تبحث عنه ، فصافحت الشيخ بحرارة ، وشرحت له موقفي ، ومن أرسلني إليه ، فحيَّاني ورحَّب بي ذلك الترحاب الشديد ، وأدخلني إلى غرفته ، ومن ثمَّ أدخلني إلى المكتبة ، فصرت أحادث نفسي وكأنه عرف مشكلتي .. الحمد لله.

فدخلت معه إلى المكتبة ، وبدأ يجوِّلني في المكتبة ، وأنا أنظر إلى أسماء الكتب فشاهدت مباشرة صحيح البخاري ، فقرأت الطبعة وإلاَّ نفس الطبعة الموجودة عند شيخنا في البلد .. صحيح مسلم ، الترمذي ، صحيح النسائي ، كتب السنن والسيرة كلّها .. تفسير ابن كثير ، تفسير الجلالين ، تفسير القرطبي ، تفسير الفخر الرازي ، يا إلهي! هذه مكتبة سنّيّة وليست شيعيّة ، كل كتب السنّة موجودة بالإضافة إلى كتب الشيعة!! يا إلهي! ما هذه الحواجز؟ ما هذه الإشاعات؟

هل علماؤنا يعمدون التجهيل بنا؟ هل علماؤنا مضللون؟ هل علماؤنا لا يعرفون الحقيقة؟ يا إلهي! كيف كان يقول لي أحد علماؤنا : كتبهم محرَّفة ومزوَّرة

ص: 495

ومدسوسة؟ ومن هنا كانت انطلاقة البحث ، والثورة في عالم العقائد والإلهيّات ، والانفتاح على القراءة ، ومتابعة البحث دون تردّد ، فودَّعت الشيخ ، وشكرته على ما أطلعني عليه في هذه المكتبة من كتب ، وقلت له : أُريد منك عنوان العالم العراقي الذي كان سنّيّاً وتشيَّع حتى ألتقي به ، فأعطاني العنوان وخرجت (1).

ص: 496


1- ومن الحوار اكتشفت الحقيقة ، هشام آل قطيط : 47 - 62.

المناظرة الرابعة والثمانون: مناظرة الشيخ هشام آل قطيط مع العلامة السيِّد علي البدري رحمه اللّه

اللقاء الأول : لقاء وتعارف

قال الشيخ هشام آل قطيط : اللقاء الأول مع الداعية الشيعيِّ الكبير ، العلامة البدري.

وفي اليوم الثاني بعد صلاة الظهر ذهبت إلى منزل السيِّد البدري ، وصعدت إلى الطابق الأوَّل ، أنظر إلى الجرس مكتوباً عليه منزل السيِّد علي البدري ، فقرعت الجرس وقلبي يخفق فرحاً ، يا إلهي! يا سيِّدتي زينب! الخلاص الخلاص من هذه الدوَّامة والقلق المستمرّ ، الغوث الغوث ، أدركيني يا بنت علي بن أبي طالب ، وعند وصولي إلى كلمة علي انفتح الباب ، وإذ برجل طويل ، عريض المنكبين ، ذي لحية كثّة طويلة ، وجهه كالنور المشعّ ، تعلوه الهيبة والوقار ، فقال لي : تفضَّل يا ابن الجزيرة ، فدخلت ، وأصبت بقشعريرة حلَّت في جسدي ، يا إلهي! من أين له العلم أني من الجزيرة؟ اللّه أكبر! اللّه أكبر! اللّهم صلِّ على محمّد وآل محمّد!!

فأدخلني وأجلسني في صدر المكتبة ، وقال لي : أنت مريض وقلق ،

ص: 497

مرضك ليس جسديّاً وليس نفسيّاً ، وإنما تعيش في دوَّامة ، بالتأكيد إنك التقيت في حياتك بشيعة ، تحاورت معهم فغلبوك في الحوار ، ورجعت إلى علمائكم السنّة ، فغيَّروا أفكارك ، فأصبحت تائهاً ومحتاراً في أفكارك ، وهذا أشدُّ مرضاً وحيرةً ، هنيئاً لك ، هنيئاً لك متابعة البحث ، فالكثير من الشباب سقطوا في البحث ، نتيجة لقائهم مع أخ شيعيٍّ يحاوره ، فيرجع إلى العالم هناك في المنطقة أو في أيِّ مسجد يحذِّره من الشيعة ، فيقف عن متابعة البحث ويصبح أشدَّ عداء للشيعة ، فمتابعة البحث ضرورية.

إلى أن قال السيِّد البدري : أنا من منطقة الكرَّادة الشرقيَّة ( بغداد ) ، كنت سنّيّاً ، وعائلة البدري معروفة في العراق سنّيّة ، فهناك عالم مهمٌّ إذا تسمع به ، الباحث الكبير والدكتور عبد العزيز البدري ، الذي اغتاله صدام لأنّه كان معارضاً له.

نشأت وترعرت في بيئة سنّيّة إلى أن حصلت على الجامعة كليّة الشريعة الإسلاميّة من العراق ، وبعدها التقيت بكثير من الشيعة في العراق ، وأنت تعلم أن نسبة الشيعة في العراق حوالي 65% تقريباً ، أكبر طائفة في العراق ، وبدأت أبحث وألتقي مع علماء الشيعة ، فأحرج أمامهم بالنقاش وأنا خريج جامعة - كليَّة الشريعة -.

فتابعت البحث بكل ما يستدلُّ به الشيعة على السنّة من خلال الصحاح ، وبعد سبع سنوات من البحث أعلنت عن تشيُّعي ، وبدأت أدعو للمذهب الشيعيِّ الذي اخترته بقناعة ، فحوربت من قبل أهلي وتركت المنطقة.

وكلِّفت من قبل زعيم الطائفة الشيعيَّة في العراق ، المرجع الكبير ، آية اللّه العظمى السيِّد أبو القاسم الخوئي ، وكيلا عنه للشيعة في مصر ، وتركت زوجتي

ص: 498

في العراق ، وتزوَّجت دكتورة مصرية خلال الخمس سنوات من إقامتي في القاهرة ، حيث تشيَّعت وهداها اللّه إلى مذهب أهل البيت علیهم السلام ، والآن تسكن هي وأولادها في إيران ، ومن مصر رجعت إلى إيران ، ومن إيران إلى بلدكم الطيِّبة التي احتضنتنا سوريا ، بقيادة هذا الرجل الطيِّب السيِّد الرئيس حافظ الأسد ، يحترم رجال الدين ويقدِّرهم.

وصار لي أكثر من سنة في سوريا ، وتجربتي في الدعوة من فضل اللّه كبيرة ، حيث أسَّست مراكز للشيعة في السودان (1) ، وفي تنزانيا ، وفي ساحل العاج ، وفي بومباي والباكستان ، وفي مصر .. رموز الشيعة هناك أمثال الشيخ حسن شحاتة من قرية أبو كبير ، والسيِّد حسين الضرغامي وكيل الشيعة في مصر حاليّاً في القاهرة ، والأستاذ محمّد عبد الحفيظ المصري ، ودكاترة من الأزهر أعلنوا عن تشيُّعهم على يدي بفضل اللّه وبركاته.

وسوف أقدِّم لك كتاباً يفيدك في هذا المجال ، اسمه : ثمَّ اهتديت ، لدكتور تونسيٍّ تشيَّع ، وكتاب اسمه : الحقيقة الضائعة ، لكاتب سودانيٍّ اسمه : الشيخ معتصم سيِّد أحمد ، يكتب قصَّته ، وكيف انتقل من السنة إلى الشيعة بالأدلّة والبراهين ، وكتب أخرى في هذا المجال.

ص: 499


1- والجدير بالذكر هنا هو ما قاله الشيخ معتصم سيِّد أحمد السوداني في حق هذا السيِّد الجليل في تجوُّله في البلدان ، واهتمامه الشديد ، وعمله الدؤوب في نشر التشيُّع ، والدعوة والإرشاد إلى ولاية أهل البيت علیهم السلام ، قال : وبعد وصولي إلى مدينة الخرطوم وجدت سماحة العلامة السيِّد علي البدري يعقد المحاضرات والمناظرات تثبيتاً لمذهب أهل البيت علیهم السلام رغم سنّه ، وكثرة الأمراض التي تعجزه عن الحركة ، ولكنه كان ذا روح عاليه تغلَّبت على ألام المرض وضعف الكبر ، فقلت في نفسي : مثل هذا السيِّد وفي بلد غير بلده يقوم بخدمة مذهب أهل البيت علیهم السلام أكثر منّا نحن الشباب ، فقرَّرت تأجيل سفري إلى أهلي في شمال السودان ، وأن أقوم بمساعدته. حوارات ، الشيخ معتصم السوداني : 18.

وسوف أصوِّر لك حواريَّة إنسان مسيحيٍّ كان قسّيساً عند المسيحيّة ، وجاء إلى قبَّة الإسلام في بغداد ، وحاور علماء السنّة في المذاهب الأربعة ، واهتدى إلى الإسلام بعد كشفه التناقض في المذاهب الأربعة وأعلن عن تشيُّعه.

وسوف أقدِّم لك كتاباً يشفي غليلك إن شاء اللّه تعالى ، اسمه : لماذا اخترت مذهب الشيعة مذهب أهل البيت علیهم السلام ؟ للشيخ محمّد مرعي الأنطاكي ، وهو أزهريٌّ تخرَّج من الأزهر منذ ثلاثين سنة ، وأعلن عن تشيُّعه ، وهو من مدينة حلب ، وكان قاضياً للقضاء في حلب ، وتشيَّع عن طريقه أخوه الشيخ أحمد مرعي الأنطاكي ، وكتب كتاباً في هذا الخصوص اسمه : في طريقي إلى التشيع.

وهنالك محامي أردني تشيَّع أخيراً ، وألَّف كتاباً اسمه : نظرية عدالة الصحابة والمواجهة مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

قال هشام قطيط بعدما أهداه فضيلة السيِّد البدري مجموعة من الكتب القيِّمة : فودَّعته شاكراً ، وقبَّلت جبينه ، وطلبت منه الدعاء ، وخرجت.

اللقاء الثاني : تحديد موعد للمناظرة والمحاورة

قال الشيخ هشام آل قطيط : اللقاء الثاني.

قرعت جرس الباب في تمام الساعة العاشرة صباحاً ، ففتح لي سماحة السيِّد البدري ، وأدخلني بيته ، وأجلسني في صدر المكتبة ، إلى أن قال :

سيِّدنا الجليل! بكل صراحة لا أخفيك الأمر ، أنا لديَّ مجموعة كبيرة من الأسئلة ، فجمعت كل ما يطرحه عندنا العالم السنّيّ لأسأله ، لأني محتاج ومتعطِّش للاطّلاع ، فأريد منك أن تحدِّد لي جلسة للبدء في الحوار.

فقال لي : بعد أسبوع تجهِّز ما عندك من أسئلة ، وتأتيني بعد صلاة المغرب

ص: 500

مباشرة لنبدأ بالحوار ، فودَّعت سماحة السيِّد ، وشكرته على رحابة صدره وتواضعه ، والقبول بكل ما أسأل ، يا إلهي! ما أعظم هذا الرجل!!

اللقاء الثالث : ( بداية البحث الفعلي والحوار )

اشارة

حضرت بعد صلاة المغرب مباشرة وأنا أحضر أسئلتي للحوار الذي لا يرحم ، حيث فيه تقرير المصير والوصول إلى النهاية بعد بحث ونظر.

هشام آل قطيط : سماحة السيِّد البدري! إذا كنتم أهل الشيعة تعتقدون بأن علياً علیه السلام هو الإمام بعد النبيِّ صلی اللّه علیه و آله والخليفة دون غيره ، وأنَّه أحقُّ بها وأهلها ، فما الوجه في تقدُّم الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان ، وادّعائهم الإمامة دونه ، وإظهارهم أنهم أحقُّ بها منه؟

السيِّد البدري : إني عندما بدأت بالبحث كان أوَّل سؤال يخطر في ذهني هو هذا التساؤل ، ويسأله كل سنّيٍّ ، والإجابة عليه يا بني : إن ذلك ليس مما أعتقده أنا وأريد إقناعك به ، وإنما أراده اللّه تعالى ورسوله صلی اللّه علیه و آله وجماعة المؤمنين أجمعين ، بحكم ما جاء من أدلّة ونصوص تثبت خلافة علي علیه السلام في الأحاديث الصحيحة والمتواترة عند جميع المسلمين ، والآيات الكريمة المتّفق عليها من الفريقين السنّيِّ والشيعيِّ ، فمن الأدلّة القرآنيّة التي تثبت أحقّيّة علي علیه السلام بالخلافة :

أولا : ( آية التبليغ ) وهي قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (1).

ص: 501


1- سورة المائدة ، الآية : 67.

يأمر اللّه تعالى نبيَّه محمّد صلی اللّه علیه و آله في واقعة غدير خم في تبليغ هذه الآية الكريمة ، وقد أجمع المفسِّرون من السنّة والشيعة على أنها نزلت في غدير خم ، في شأن علي علیه السلام ، في تحقيق أمر الخلافة والإمامة ، وأنها نصٌّ من اللّه سبحانه وتعالى.

هشام آل قطيط : سماحة العلامة البدري! بعد ذكرك لهذه الأدلّة القيِّمة التي أثبتَّ من خلالها أحقّيّة علي علیه السلام بالخلافة ، لكن لم أسمع الجواب على سؤالي بالتحديد ، وخاصّة أن الأكثريّة أجمعوا على خلافة أبي بكر.

السيِّد البدري : أنا ذكرت لك هذا الدليل من القرآن لكي تأخذه بالاعتبار ; لأن مصدرنا التشريعي الأوَّل هو القرآن ، والثاني هو السنة النبويّة ، والآن أعطيك الجواب ، وأبيِّن لك على أن رأي الأكثريَّة ليس بحجَّة ، ولو أنك - يا بني - وقفت قليلا على ما سجَّله التاريخ الصحيح لعلمت أن عليّاً علیه السلام لم يقرَّهم على ذلك ، أو أنه رضي بذلك إلاَّ أن رضا أكثرهم لا يكون دليلا علميّاً على صوابهم وأن الحق في جانبهم ، كما صرَّحت بذلك الكثير من آيات الكتاب العزيز.

فعل الأكثرين لا يكون دليلا على الصواب ، فمن ذلك قوله تعالى : ( وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ) (1) ، وقال تعالى : ( وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (2) ، وقال تعالى : ( وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْد وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ) (3) ، وقال تعالى : ( فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً ) (4) ، وقال تعالى : ( إِنَّ اللّهَ

ص: 502


1- سورة ص ، الآية : 24.
2- سورة سبأ ، الآية : 17.
3- سورة الأعراف ، الآية : 102.
4- سورة الفرقان ، الآية : 50.

لَذُو فَضْل عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ) (1) ، وقال تعالى : ( يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ) (2) ، وقال تعالى : ( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ ) (3).

وكل هذه الآيات تدلُّ على أن الحقَّ لا يكون دائماً بجانب الكثرة ، وإنما يكون غالباً بجانب القلّة ، ولو أنك تدبَّرت - يا أخي - لوجدت على مرّ التاريخ أن الأغلبيّة عصاة ، والمخلص المطيع منهم قليل ، والأكثر منهم جهَّال ، والعلماء منهم قليلون ، وأهل المروءة والشجاعة فيهم أقلّ ، وأهل الفضائل والمناقب أفراد ، وأن المدار في معرفة الحقّ والوقوف عليه يعتمد على الدليل والبرهان.

أميرالمؤمنين علي علیه السلام له أسوة بسبعة من الأنبياء ، وأمَّا ترك علي علیه السلام جهاد المتقدِّمين بالسيف والسنان فحسبك في جوابه قوله علیه السلام فيما تضافر عنه نقله ، وحكاه ابن أبي الحديد في شرح النهج ، وغيره من مؤرِّخيكم ، حيث يقول : لو لا حضور الحاضر ، وقيام الحجّة بوجود الناصر ، وما أخذ اللّه تعالى على أولياء الأمر ، أن لا يقارُّوا على كظَّة ظالم ، أو سغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أولها .. (4).

وأنت ترى - يا أخي - أن قول علي علیه السلام هذا صريح كل الصراحة في أنه علیه السلام إنما ترك جهاد وقتال الخلفاء الثلاثة لعدم وجود الناصر ، وجاهد الناكثين أيام

ص: 503


1- سورة يونس ، الآية 62.
2- سورة النحل ، الآية : 83.
3- سورة الأنبياء ، الآية : 24.
4- نهج البلاغة ، خطب أميرالمؤمنين علیه السلام : 1 / 36 - 37 ، خطبة رقم : 3 ، علل الشرائع ، الصدوق : 1 / 151 ح 12 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1 / 202.

حرب الجمل ، والقاسطين أيام معاوية ، والمارقين ( أي الخوارج ) لوجود الأنصار معه ، ولأنه في قتاله المتقدِّمين عليه ذهاب الدين بأصوله وفروعه ; لأن الناس جديدو عهد بالإسلام كما لا يخفى عليك ، وعلى من له أدنى فطنة بخلاف الطوائف الثلاث.

ولقد قال علي علیه السلام في جواب من قال : لم لم ينازع علي الخلفاء الثلاثة كما نازع طلحة والزبير ومعاوية؟ إليك قوله علیه السلام : إن لي بسبعة من الأنبياء أسوة :

الأوَّل : نوح علیه السلام ، قال اللّه تعالى مخبراً عنه في سورة القمر : ( أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ) (1) ، فإن قلت لي : لم يكن مغلوباً فقد كذَّبت القرآن ، وإن قلت لي كذلك فعلي علیه السلام أعذر.

الثاني : إبراهيم الخليل علیه السلام ، حيث حكى اللّه تعالى عنه قوله في سورة مريم : ( وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ) (2) ، فإن قلت لي : اعتزلهم من غير مكروه فقد كفرت ، وإن قلت لي : رأى المكروه فاعتزلهم فعليٌّ علیه السلام أعذر.

الثالث : ابن خالة إبراهيم ، نبي اللّه تعالى لوط علیه السلام ، إذ قال لقومه على ما حكاه اللّه تعالى في سورة هود علیه السلام : ( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْن شَدِيد ) (3) ، فإن قلت لي : كان له بهم قوَّة فقد كذَّبت القرآن ، وإن قلت لي : إنه ما كان له بهم قوَّة فعليٌّ علیه السلام أعذر.

الرابع : نبي اللّه يوسف علیه السلام ، فقد أخبرنا اللّه تعالى عنه في قوله في سورة

ص: 504


1- سوره القمر ، الآية : 10.
2- سورة مريم ، الآية : 48.
3- سورة هود ، الآية : 81.

يوسف : ( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) (1) ، فإن قلت لي : إنه دعي إلى غير مكروه يسخط اللّه تعالى فقد كفرت ، وإن قلت لي : إنه دعي إلى ما يسخط اللّه فاختار السجن فعلي علیه السلام أعذر.

الخامس : نبي اللّه هارون بن عمران علیه السلام ، إذ يقول على ما أخبرنا اللّه تعالى عنه في قوله : ( ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي ) (2) فإن قلت لي : إنهم ما استضعفوه فقد كذَّبت القرآن ، وإن قلت لي : إنهم استضعفوه ، وأشرفوا على قتله فعليٌّ أعذر.

السادس : كليم اللّه موسى بن عمران علیه السلام ، إذ يقول على ما ذكره اللّه تعالى عنه : ( فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) (3) ، فإن قلت لي : إنه فرَّ منهم من غير خوف فقد كذَّبت القرآن ، وإن قلت لي : فرَّ منهم خوفاً فعلي علیه السلام أعذر.

السابع : سيدنا محمّد صلی اللّه علیه و آله ، حيث هرب إلى الغار ، فإن قلت لي : إنه صلی اللّه علیه و آله هرب من غير خوف فقد كفرت ، وإن قلت لي : إنهم أخافوه وطلبوا دمه وحاولوا قتله فلم يسعه غير الهرب فعلي علیه السلام أعذر (4).

هشام آل قطيط : سماحة السيِّد! من المعلوم لدى جميع الطوائف الإسلاميَّة وغير الإسلاميّة أن علياً علیه السلام أشجع الناس ، وتدّعون أنتم الشيعة أن

ص: 505


1- سورة يوسف ، الآية : 22.
2- سورة الأعراف ، الآية : 150.
3- سورة الشعراء ، الآية : 21.
4- هذا الاحتجاج الذي ساقه السيِّد البدري مأخوذ من احتجاج علي بن ميثم في مناظرته مع بعضهم ، وهي المناظرة السابعة والثلاثون ، وقد تقدَّمت في الجزء الثالث ص 191.

عليّاً معصوم ليّاً معصوم ، فلو لم تكن خلافة أبي بكر حقّة لنازعه في ذلك ، وترك المنازعة - سماحة السيد - مخلٌّ بالعصمة ، وأنتم الشيعة توجبونها في الإمام ، وتعتبرونها شرطاً في الصحّة.

السيِّد البدري : أولا : إن ترك علي علیه السلام منازعة أبي بكر بالحرب والقتال لا يكون مخّلا بعصمته ولا بأشجعيّته ، ولا يدلُّ على صحَّة ما قام به أقوامهم ، وبطلانه واضح لا يشكُّ فيه من له عقل أو شيء من الدين.

ثانياً : كان في توقُّف الإمام علي علیه السلام عن حربهم وقتالهم منافع عظيمة ، وفوائد جليلة ، حصرت المدارك والأفهام عن الوصول إليها ، منها : أنه لو قاتلهم لتولَّد الشك من النائين عن المدينة وغيرها من البلدان الإسلاميّة بنبَّوة النبِّي محمّد صلی اللّه علیه و آله ، وذلك لعلمهم بأن القتل والقتال لا يقع إلاَّ على طلب الملك والزعامة الدنيويّة ، لا على النبوَّة والإمامة والخلافة ، فيوجب ذلك وقوع الشك في صحّة نبوَّة سيِّدنا محمّد صلی اللّه علیه و آله ، لا سيّما وهم جديدو عهد بالإسلام ، خاصّة إذا لاحظت وجود من يتربَّص الدوائر بالإسلام من المنافقين ، ويريد الوقيعة فيه ، فهل تجد حينئذ فساداً أعظم من أن يخرج عن الإسلام من دخل فيه بفعل المنافقين ، وتلبيسهم ذلك الأمر على البله المغفلين؟!

ومنها : أن ترك قتالهم يومئذ كان سبباً لأن يكثر فيهم التشيُّع ، وفي التابعين إلى يومنا هذا.

والدليل على ذلك يا أخي ، انظر إلى ( ميزان الذهبي ) عند ترجمته لأبان بن تغلب من جزئه الأول ، فإنكم ترونه يقول : فهذا كثير - يعني التشيُّع - في التابعين وتابعيهم ، مع الدين والورع والصدق ، فلو ردَّ حديث هؤلاء لذهبت جملة من

ص: 506

الآثار النبوّيّة ; وهذه مفسدة بيِّنة (1).

هشام آل قطيط مقاطعاً السيّد : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ) (2) أين نذهب بمفاد هذه الآية؟

السيِّد البدري : على كيفك - ( رويداً ) - على كيفك يا أخي ، أنتهي من إثبات الأدلّة ، وأبيِّن لك توجيه ومفاد الآية الكريمة.

ومنها : ذهاب السنن الدالّة على إمامة الإمام علي علیه السلام ، إن هو قاتلهم وقتلهم يختفي الحقّ ملتبساً ، لا يعرف أين هو ، ولذلك ترونه قد رضي علیه السلام بالهدنة عندما رفع أهل الشام المصاحف في صفّين ، فانخدع بذلك جمٌّ غفير من أهل العراق ، فكان علیه السلام بإمكانه أن يقلب الصفَّ على الصفِّ ، لكنَّه علیه السلام آثر ذلك لأنه أهون الضررين ; لعلمه علیه السلام برجوع الكثير منهم إلى الحقِّ بعد خروجهم عليه ، فمثل هذه النتائج القيِّمة والغايات الحسنة أوجب ترك قتالهم وأوجب مهادنتهم.

ومنها : أن ترك علي علیه السلام قتال القوم لا يوجب الرضا بتقدُّمهم عليه ، ولا يقتضي سقوط حقِّه في الخلافة بعد النبي صلی اللّه علیه و آله ، وإلاَّ لزم أن يكون النبيُّ صلی اللّه علیه و آله بتركه قتال المشركين عام الحديبية ، ومحو اسمه من النبوّة معزولا عن النبوَّة ، وراضياً بما ارتكبه المشركون ، وكان يومئذ أربعمائة وألف رجل - على ما أخرجه البخاري في صحيحه في غزوة الحديبية - على قتالهم ، فإذا صحَّ لديكم هذا ، وقلتم بسقوط حقِّ النبوَّة من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله صحَّ لكم ذاك ، وهذا معلوم البطلان ، وذاك منه باطل ، نعم إنما قبل صلی اللّه علیه و آله ورضي به صلی اللّه علیه و آله لحكم وغايات

ص: 507


1- ميزان الاعتدال ، الذهبي : 1 / 5 ، رقم : 2 ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 1 / 59.
2- سورة الفتح ، الآية : 29.

جليلة ، غابت عن ذهن الكثيرين ، ولم يهتدوا لها.

ومنها : كراهته صلی اللّه علیه و آله للقتل والقتال وحرصه على صون الدماء ما استطاع إليه سبيلا ، وليس في محو لاسمه الشريف من الرسالة ما يوجب الوهن فيها ; لثبوتها بآياتها البيّنات ومعجزاتها النيِّرات.

مقارنات بين محمَّد صلی اللّه علیه و آله وبين ما اتّبعه علي علیه السلام

علم سيِّدنا محمّد صلی اللّه علیه و آله بأن أكثر هؤلاء سوف يسلمون بعد فتح مكة.

محافظته على حياة أصحابه ولو رجل منهم من غير ضرورة تدعو إلى قتالهم ; لعلمه صلی اللّه علیه و آله بأنه سيدخل مكة المكرمة مع أصحابه في العام القادم من غير سلاح وقتال.

إنه لو قاتلهم في عام الحديبية لم يتيسَّر له فتحها بتلك السهولة ، بل تنكَّر منه القوم ، ولجعل دعاتهم العيون في الطريق خوفاً من صولته صلی اللّه علیه و آله عليهم بغتة وهم لا يشعرون.

إنه صلی اللّه علیه و آله سنَّ بذلك دستوراً جميلا ، ومنهاجاً عالياً لمن يأتي بعده ليسير عليه كل من عرض له مثل ما عرض له صلی اللّه علیه و آله .

ولهذا وأضعاف أمثاله جنح للسلم والمصالحة ، ويقول القرآن في سورة الأنفال : ( وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ) (1) ، لذا ترون عليّاً علیه السلام ترك قتلهم وقتالهم مقتدياً بالنبي صلی اللّه علیه و آله ، ومتّبعاً له في شرعه ومنهاجه ، فلم يقاتل دافعيه عن حقِّه لمقاصد سامية ، أعظمها - كما ذكرت - حفظ الدين بأصوله وفروعه وقوانينه

ص: 508


1- سورة الأنفال ، الآية : 61.

وآثاره ، الأمر الذي كان يدعوه كثيراً إلى أن يقدِّم نفسه الزكيَّة قرباناً في سبيل حفظه وبقائه واستمراره وانتشاره ، فضلا عن حقّه وتراثه.

وجملة القول : كانت رعايته علیه السلام لصيانة الدين وحفظه أكثر من رعايته لحقّه ، وكان ضياع حقِّه عنده أهون عليه من ذهاب الدين وزواله ، وما فعله علیه السلام هو الواجب عقلا وشرعاً ; إذ أن مراعاة الأهمّ - وهو احتفاظه بالأمّة ، وحياطته على الملّة - وتقديمه على المهمّ - وهو احتفاظه بحقّه - عند التعارض من الواجب الضروريِّ في الدين الإسلاميِّ ، وميله للسلم والموادعة كان هو الأفضل في الصواب.

هشام آل قطيط : سماحة السيد! أدلّتك مقنعة وقويّة ، ولكن أين نذهب بقوله تعالى : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ) (1).

السيِّد البدري : لماذا أنت متمسِّك بهذه الآية؟ اتركني أنتهي من الأدلّة وأردُّ عليك إن شاء اللّه تعالى ، اصبر ، اصبر يا أخي .. ألم تسمع بكتاب نهج البلاغة للإمام علي علیه السلام ، إذ قال في خطبته المشهورة بالشقشقيّة :

أما واللّه لقد تقمَّصها ابن أبي قحافة ، وإنه ليعلم أن محلّي منها محلُّ القطب من الرحى ، ينحدر عنّي السيل ، ولا يرقى إليَّ الطير ، فسدلت دونها ثوباً ، وطويت عنها كشحاً ، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذّاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب منها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربَّه ، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجى ، أرى تراثي نهباً ، حتى مضى الأوَّل لسبيله ، فأدلى بها إلى ابن

ص: 509


1- سورة الفتح ، الآية : 29.

الخطاب بعده ... (1).

ونقل ابن أبي الحديد أيضاً في شرح نهج البلاغة في 308 تحت عنوان ( خطبته عند مسيره للبصرة ) قال : روى الكلبي أنّه لمَّا أراد عليٌّ علیه السلام المسير إلى البصرة قام فخطب الناس ، فقال بعد أن حمد اللّه وصلَّى على رسوله صلی اللّه علیه و آله : إن اللّه لمَّا قبض نبيَّه استأثرت علينا قريش بالأمر ، ودفعتنا عن حقٍّ نحن أحقُّ به من الناس كافّة ، فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين ، وسفك دمائهم ، والناس حديثو عهد بالإسلام ، والدين يمخض مخض الوطب ، يفسده أدنى وهن ، ويعكسه أقلُّ خلف (2).

ولعليٍّ علیه السلام في نهج البلاغة كتاب إلى أهل مصر ، بعثه مع مالك الأشتر رحمه اللّه ، جاء فيه : أمَّا بعد ، فإن اللّه سبحانه بعث محمّداً صلی اللّه علیه و آله نذيراً للعالمين ، ومهيمناً على المرسلين ، فلمَّا مضى صلی اللّه علیه و آله تنازع المسلمون الأمر من بعده ، فو اللّه ما كان يلقى في روعي ، ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلی اللّه علیه و آله عن أهل بيته ، ولا أنه نحوَّه عنّي من بعده صلی اللّه علیه و آله ، فما راعني إلاَّ انثيال الناس على فلان يبايعونه ، فأمسكت بيدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين محمَّد صلی اللّه علیه و آله ، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً وهدماً ، تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي

ص: 510


1- نهج البلاغة ; خطب أميرالمؤمنين علیه السلام : 1 / 30 - 32 ، رقم : 3 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1 / 151 ، الإرشاد ، المفيد : 1 / 287 - 288 ، الأمالي ، الطوسي : 372 - 373 ح 54 ، علل الشرائع ، الصدوق : 150 - 151 ح 12 ، معاني الأخبار ، الصدوق : 360 - 361 ح 1 ، مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 2 / 48.
2- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1 / 308 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 32 / 62.

متاع أيام قلائل ، يزول منها ما كان ، كما يزول السراب ، وكما ينسطع السحاب ، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق واطمأنّ الدين وتنهنه (1).

ونقل ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة تحت عنوان ( خطبة الإمام علي علیه السلام بعد قتل محمّد بن أبي بكر ) قال : روى إبراهيم - صاحب كتاب الغارات - عن رجاله ، عن عبد الرحمن بن جندب ، عن أبيه قال : خطب علي علیه السلام بعد فتح مصر ، وقتل محمّد بن أبي بكر ، فنقل خطبة بليغة ذكر فيها وقائع أليمة وقعت بعد وفاة النبي صلی اللّه علیه و آله ، وذكر بعض ما كتبه لأهل مصر ، وأشار في خطبته إلى الشورى التي أمر بها عمر بن الخطاب وخرج بالنتيجة قائلا :

فصرفوا الولاية إلى عثمان ، وأخرجوني منها ، ثمَّ قالوا : هلمَّ فبايع وإلاَّ جاهدناك ، فبايعت مستكرهاً ، وصبرت محتسباً ، فقال قائلهم : يا بن أبي طالب! إنك على هذا الأمر لحريص ، فقلت : أنتم أحرص منّي وأبعد ، أيُّنا أحرص أنا الذي طلبت ميراثي وحقّي الذي جعلني اللّه ورسوله أولى به ، أم أنتم إذ تضربون وجهي دونه ، وتحولون بيني وبينه؟ فبهتوا ، واللّه لا يهدي القوم الظالمين (2).

ولا أطيل عليك بعدِّ هذه الأدلّة من كلمات الإمام علیه السلام وخطبه المشهورة التي تبيِّن مظلوميَّته وسكوته عن حقّه وقعوده.

هشام آل قطيط : هل الخطبة الشقشقيّة للإمام علي علیه السلام أم من إنشاء وأقوال الشريف الرضي الذي جمع نهج البلاغة؟ وقد ثبت في التأريخ أنه لم يكن ناقماً على خلافة الخلفاء الراشدين قبله ، بل كان راضياً منهم ، ومن آمن لهم.

ص: 511


1- نهج البلاغة ، خطب الإمام علي علیه السلام : 3 / 118 - 119 ، رقم الكتاب : 62 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 17 / 151.
2- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 6 / 96 ، الغارات ، الثقفي : 1 / 308.

سماحة السيد! إعطني دليلا على أن نهج البلاغة من أقوال الإمام علي علیه السلام وكرَّم اللّه وجهه ، وإلاَّ هذه الأقوال والخطب مردودة.

السيِّد البدري : الشارحون لنهج البلاغة من علمائكم يا أستاذ ، ابن أبي الحديد المعتزلي لم يكن شيعيّاً ، هذا أوّلا.

ثانياً : الشيخ محمّد عبده مفتي الديار المصرية له شرح على نهج البلاغة ، ويثبت أنه من أقوال الإمام علي علیه السلام .

ثالثاً : الشيخ محمّد الخضري من أعلام السنة ، وله كتاب بعنوان ، محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية ، صفحة : 27 ، وقد صرَّح أن الخطبة الشقشقيّة من بيان الإمام علي علیه السلام ، وهناك أكثر من أربعين عالماً من الفريقين السني والشيعي قد صرَّحوا بأن الخطبة الشقشقيّة من كلام الإمام علي علیه السلام ; لأنها على نسق خطبه الأخرى في النهج.

وقد نقل لنا ابن أبي الحديد في آخر شرحه للخطبة الشقشقيَّة عن ابن الخشاب قال : أنّى للرضيِّ ولغير الرضيِّ هذا النفس وهذا الأسلوب ، قد وقفنا على رسائل الرضيِّ وعرفنا طريقته وفنَّه في الكلام المنثور.

الخطبة الشقشقيّة موجودة قبل ولادة الرضي ، وقد ذكر ابن الخشاب وغيره أنهم وجدوا هذه الخطبة في الكتب منتشرة قبل أن يولد الشريف الرضيّ ، وقبل أن يولد أبوه أبو أحمد النقيب - نقيب الطالبيين ، فقد نقل ابن أبي الحديد في آخر شرحه للخطبة ، عن الشيخ عبداللّه بن أحمد المعروف بابن الخشاب أنه قال : في كتب صنِّفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة ، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها ، أعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي.

ص: 512

ثمَّ قال ابن أبي الحديد : وقد وجدت أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي ، إمام البغداديين من المعتزلة ، وكان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدّة طويلة.

ووجدت أيضاً كثيراً منها في كتاب أبي جعفر بن قبه - أحد متكلِّمي الإماميّة - المشهور المعروف بكتاب ( الإنصاف ) وكان أبو جعفر هذا من تلاميذ الشيخ أبي القاسم البلخي رحمه اللّه ومات في ذلك العصر قبل أن يولد الشريف الرضي (1).

وجدتها أيضاً بخط الوزير ابن فرات ، كان قد كتبها قبل ميلاد الرضي بستين سنة.

وقال كمال الدين ابن ميثم البحراني الحكيم المحقِّق في كتابه شرح نهج البلاغة في الخطبة : إنّي وجدت هذه الخطبة في كتاب الإنصاف لابن قبه ، وهو متوفَّى قبل أن يولد الشريف الرضي.

اللقاء الرابع : في قضايا الخلاف وما يتعلَّق بالصحابة

اشارة

كان اللقاء الرابع محدَّداً من قبل السيِّد لتكملة الحوار والمناظرة في قضايا الخلاف ، ومعرفة الحقيقة ، حيث كنت ألحُّ على السيِّد بالنقاش.

هشام آل قطيط : سماحة السيِّد! أريد جواباً منكم لقوله تعالى : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ) (2) ، أليس الخلفاء ممن تحدَّثت الآن عنهم من الذين كانوا أشدّاء على الكفار ، وكانوا مع رسول

ص: 513


1- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1 / 205 - 206.
2- سورة الفتح ، الآية : 29.

اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟ فهذا توجيه الآية الكريمة ومفادها ، فما هو جوابكم؟ وما تقولون في أن الخلفاء : أبا بكر وعمر وعثمان من وجوه أصحاب الرسول صلی اللّه علیه و آله وزعماء من كان معه ، وإذا كان كذلك فهم أحقُّ الناس بما دلَّت عليه الآية من وصف المؤمنين ، والمدح لهم والثناء عليهم ، وذلك يمنع الحكم عليهم بالانحراف والخطأ.

السيِّد البدري : أقول : أولا - يا أستاذ - إن الآية بعمومها الإطلاقي شاملة لطلحة والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبي هريرة ، وأبي عبيدة عامر ابن الجرّاح ، وأبي الدرداء ، وسعد ، وسعيد ، وأبي موسى الأشعري ، وأبي سفيان ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومعاوية ، ومالك بن نويرة ، وأبي معيط ، ويزيد ، والوليد بن عقبة ، وعبد اللّه بن سلول ، وغيرهم من الناس ; لأن هؤلاء كلهم كانوا مع النبي صلی اللّه علیه و آله ، لا خصوص الخلفاء الثلاثة فقط الذين ذكرتهم يا أستاذ ; لأن الآية الكريمة جاءت على صيغة الإطلاق العمومي لكل من كان مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) لم تحدِّد أو تخصِّص الآية فقط الخلفاء الثلاثة.

وذلك فإن كل ما أوجب دخول الخلفاء : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان في القرآن وثنائه ، فهو يقتضي بوجوب دخول كل من ذكرنا في الآية ; لأن هؤلاء كلهم من أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وكانوا جميعاً من الذين معه ، وكان لأكثرهم من الجهاد بين يدي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والنصرة للإسلام ما لم يكن شيء منه للخلفاء : أبي بكر وعمر وعثمان ، فكيف يتسنَّى لأحد تخصيص الآية بالخلفاء وحدهم؟

وبماذا ياترى اختصَّ الخلفاء الثلاثة بما خرج عنه أولئك ، والجميع بمستوى واحد ، وفي ميزان واحد؟ وهل تجد لذلك - يا أخي - وجهاً إلاَّ

ص: 514

التخصيص بلا مخصِّص ، والترجيح بلا مرجِّح ، الباطلين عقلا؟!

فإن قلت لي : إن الآية تريد كل من كان مع النبيِّ صلی اللّه علیه و آله في الزمان أو المكان ، أو بظاهر الإسلام فقد صرت إلى أمر كبير ، وهو مدح الكافرين والمنافقين الذين ( معه ) صلی اللّه علیه و آله في المكان ، وكانوا يتظاهرون له صلی اللّه علیه و آله بالإسلام ، ويبطنون النفاق كما نطق به القرآن.

هشام آل قطيط مقاطعاً السيد : نحن لا نريد أن ننتقص الصحابة ، ولكن أقبل الدليل من القرآن أو من السنة.

السيِّد البدري : فهاك نماذج من مخالفات الصحابة لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من القرآن والسنة.

نماذج من مخالفات الصحابة للرسول صلی اللّه علیه و آله

منها : أنهم أنكروا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله صلح الحديبيّة ، وتكلَّموا بكلمات مزعجة على ما حكاه البخاري في صحيحه (1).

منها : أنهم أسرعوا إلى رمي عفاف أمِّ المؤمنين عائشه لمَّا تأخَّرت وصفوان بن المعطل في غزوة بني المصطلق (2) حتى نزل فيهم قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالاِْفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الاِْثْمِ ) (3) (4).

ص: 515


1- صحيح البخاري : 2 / 974 ح 2581 و 2582 ، باب الشروط في الجهاد.
2- صحيح البخاري : 4 / 1517 ح 3910 ، باب حديث الإفك.
3- سوره النور ، الآية : 11.
4- جاء في تفسير القمي عليه الرحمة : 2 / 99 في تفسير هذه الآية الشريفة : فإن العامة رووا أنها نزلت في عائشة وما رميت به في غزوة بني المصطلق من خزاعة ، وأما الخاصة فإنهم رووا أنها نزلت في مارية القبطية وما رمتها به عائشة.

منها : أنهم تجرَّؤوا على النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، وأنكروا عليه صلاته على ابن أبي ( المنافق ) حتى جذبوه من ردائه وهو واقف للصلاة عليه (1).

منها : أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يخطب على المنبر يوم الجمعة إذ جاءت عير لقريش قد أقبلت من الشام ، ومعها من يضرب الدفّ ، ويستعمل ما حرمه الإسلام ، فتركوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قائماً على المنبر ، وانفضُّوا عنه إلى اللّهو واللعب رغبة فيه ، وزهداً في استماع مواعظه ، وما يتلو عليهم من آيات القرآن الكريم ، حتى أنزل اللّه تعالى فيهم : ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) (2).

ومنها : أنهم قد تشاتموا مرَّة على عهد النبي صلی اللّه علیه و آله ، وتضاربوا بالنعال بحضرته ، على ما أخرجه البخاري في صحيحه (3).

وتقاتل الأوس والخزرج على عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأخذوا السلاح واصطفّوا للقتال - كما ذكره الحلبي الشافعي في سيرته الحلبية (4) ، مع علمهم بقول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ( سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر ) على ما حكاه البخاري في صحيحه (5) ، وعلمهم بما أوجبه اللّه تعالى عليهم من التأدُّب بحضرته صلی اللّه علیه و آله ، وأن لا يرفعوا أصواتهم فوق صوته ، فقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ

ص: 516


1- صحيح البخاري : 5 / 2184 ح 5460 ، باب لبس القميص.
2- سورة الحجر ، الآية : 11.
3- صحيح البخاري : 2 / 958 ح 48 ، باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر.
4- راجع : صحيح البخاري : 2 / 107.
5- صحيح البخاري : 2 / 958 ح 48 ، باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر.

فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ) (1).

وهناك مخالفات كثيرة وقعوا فيها مما يضيق المجال لذكرها الآن.

هشام آل قطيط : سماحة السيِّد! لماذا لم تذكر فضيلة الخليفة أبي بكر عندما كان مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الغار لتحقيق معنى الآية؟ ولماذا تنكرون ذلك أنتم الشيعة؟ ألم يكن له شرف الهجرة مع الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وهذه من أكبر الفضائل للخليفة الأول؟ ألم تنزل عليه السكينة في الآية؟ لماذا تغفل هذه الأمور ولم تناقشها؟ ألم يكن تعصُّباً ودفاعاً عن الشيعة؟

السيِّد البدري : إن ما ذكره الطبري في تأريخه : إن أبا بكر ما كان يعلم بهجرة النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، فجاء عند علي بن أبي طالب علیه السلام وسأله عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فأخبره بأنه هاجر نحو المدينة ، فأسرع أبو بكر ليلتقي بالنبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، فرآه في الطريق ، فأخذه النبيُّ صلی اللّه علیه و آله معه ، فالنبيُّ صلی اللّه علیه و آله إنما أخذ معه أبا بكر على غير ميعاد ، لا كما تقول.

وقال بعض المحقِّقين : إن أبا بكر بعدما التقى بالنبيِّ صلی اللّه علیه و آله في الطريق اقتضت الحكمة النبويَّة أن يأخذه معه ولا يفارقه ; لأنه كان من الممكن أن يفشي أمر الهجرة ، وكان المفروض أن يكون سرّاً ، كما نوَّه به الشيخ أبو القاسم ابن الصبَّاغ ، وهو من كبار علمائكم ، قال في كتابه ( النور والبرهان ) : إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمر عليّاً فنام على فراشه ، وخشي من أبي بكر أن يدلَّهم عليه فأخذه معه ومضى إلى الغار.

ص: 517


1- سوره الحجرات ، الآية : 2.

السيِّد البدري : أسألك - يا أستاذ - أن تبيِّن لي محلَّ الشاهد من الآية الكريمة ، وتوضح الفضيلة التي سجَّلتها الآية لأبي بكر!

هشام آل قطيط : الآية تبدأ من قوله تعالى : ( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُود لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (1) ، محلُّ الشاهد ظاهر ، والفضيلة أظهر ، وهي :

أوّلا : صحبة النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ; فإن اللّه تعالى يعبِّر عن الصدّيق بصاحب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ثانياً : جمله : ( إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ) .

ثالثاً : نزول السكينة من عند اللّه سبحانه وتعالى على سيِّدنا أبي بكر. ومجموعها تثبت أفضليّة سيِّدنا الصدّيق وأحقّيّته بالخلافة ، وأنت صرَّحت - أيُّها السيِّد - لا أحد ينكر أن أبا بكر كان من كبار الصحابة ، ومن شيوخ المسلمين ، وأنه زوَّج ابنته من النبي صلی اللّه علیه و آله .

السيِّد البدري : ولكن كل هذه الأمور لا تدلّ على أحقّيتّه بالخلافة ، وكذلك كل ما ذكرت من شواهد ودلائل من الآية الكريمة لا تكون فضائل خاصة بأبي بكر ، بل لقائل أن يقول : إن صحبة الأخيار والأبرار لا تكون دليلا على البرّ والخير ، فكم من كفار كانوا في صحبة بعض المؤمنين والأنبياء وخاصة في الأسفار.

الصحبة ليست فضيلة ، فإنّا نقرأ في سورة يوسف الصدّيق علیه السلام أنه قال : ( يَا

ص: 518


1- سورة التوبة ، الآية : 40.

صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) (1).

لقد اتّفق المفسِّرون أن صاحبي يوسف الصدَّيق علیه السلام هما ساقي الملك وطبَّاخه ، وكانا كافرين ، ودخلا معه السجن ، ولبثا خمس سنين في صحبة النبيِّ يوسف الصديق علیه السلام ، ولم يؤمنا باللّه ، حتى أنهما خرجا من السجن كافرين ، فهل صحبة هذين الكافرين لنبيِّ اللّه يوسف علیه السلام تعدُّ منقبة وفضيلة لهما؟!

ثانياً : ونقرأ في سورة الكهف : ( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَاب ثُمَّ مِن نُّطْفَة ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ) (2).

ذكر المفسِّرون أن المؤمن - كان اسمه : يهودا - قال لصاحبه - واسمه براطوس - وكان كافراً ، وقد نقل المفسِّرون منهم الفخر الرازي - محاورات هذين الصاحبين ، ولا مجال لنفيها.

سؤال : فهل تعدُّ صحبة براطوس ليهودا فضيلة أو شرفاً يقدِّمه على أقرانه؟! أو هل تكون دليلا على إيمان براطوس ، مع تصريح الآية : ( أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَاب ) ؟! فالمصاحبة وحدها لا تدلُّ على فضيلة وشرف يميِّز صاحبها ويقدِّمه على الآخرين.

وأمَّا استدلالك على أفضليّة أبي بكر بالجملة المحكية عن النبي صلی اللّه علیه و آله : ( إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ) فلا أجد فيها فضيلة وميزة لأحد ; لأن اللّه تعالى لا يكون مع المؤمنين فحسب ، بل يكون مع غير المؤمنين أيضاً ; لقوله تعالى : ( مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَة إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ

ص: 519


1- سورة يوسف ، الآية : 39.
2- سورة الكهف ، الآية : 2.

مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ... ) (1) ، فبحكم هذه الآية الكريمة فإن اللّه عزَّوجلَّ يكون مع المؤمن والكافر والمنافق.

هشام آل قطيط : عفواً سماحة السيِّد! المقصود ( إن اللّه شاء ) أي أن اللّه مع الذين يعملون لطاعته وعبادته ، والألطاف والعناية ، أي تشملنا ، هذا هو المراد ، وإلاَّ في الحقيقة والواقع اللّه سبحانه وتعالى مع الجميع ، ويعلم ما في قلوب الجميع ، وإلاَّ هذا الاستدلال الذي أتيت به غير مقنع.

حقائق لا بد من توضيحها وكشفها

السيِّد البدري : أقول لك : لا مناقشة في الأمثال ; لأن الأمثال تضرب ولا تقاس ، أعطيك أمثلة على ذلك.

1 - إبليس ، فإنه عبد اللّه تعالى عبادة قلَّ نظيرها من الملائكة ، وقد شملته الألطاف الإلهيّة والعناية الربّانيّة ، ولكن لما تمرَّد عن أمر خالقه واتّبع هواه واغتر خاطبه اللّه تعالى قائلا : ( قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ) (2).

2 - وبرصيصا في بني إسرائيل ، كان مجدّاً في عبادة اللّه سبحانه وتعالى حتى أصبح مع المقرَّبين ، وكانت دعوته مستجابة ، ولكن عند الامتحان أصيب بسوء العاقبة ، فترك عبادة ربِّ العالمين ، وسجد لإبليس اللعين ، وأمسى من الخاسرين ، فقال اللّه تعالى فيه : ( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلاِْنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي

ص: 520


1- سورة المجادلة ، الآية : 7.
2- سورة الحجر ، الآية : 24 - 25.

بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ) (1).

فإذا صدر عمل حسن من إنسان فلا يدلُّ على أن ذلك الإنسان يكون حسناً إلى آخر عمره ، وأن عاقبة أمره تكون خيراً ، ولذا ورد في أدعية أهل البيت علیهم السلام : اللّهم اجعل عواقب أمورنا خيراً.

3 - ومثله في البشر : بلعم بن باعورا ، فإنه كما ذكر المفسِّرون في تفسير قوله تعالى : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ) (2) ، قالوا : إنه تقرَّب إلى اللّه تعالى بعبادته له إلى أن أعطاه الاسم الأعظم ، وأصبح ببركة اسم اللّه سبحانه دعاؤه مستجاباً ، وعلى أثر دعائه تاه موسى وبني إسرائيل وأممٌ كثيرة في الوادي ، ولكن على أثر طلبه للرئاسة والدنيا سقط في الامتحان ، واتّبع الشيطان ، وخالف الرحمن ، وسلك سبيل البغي والطغيان ، وصار في المخلَّدين في النيران ، ومن أحبَّ تفصيل قصّته فليراجع تفسير الفخر الرازي : 4 / 462 ، فإنه يروي ( قصته ) عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد بالتفصيل.

هشام آل قطيط : استأذنت بالخروج من الجلسة ، وما عدت أتحمَّل الحوار ، ولا الإصغاء إلى هذا الكلام القاسي بحقّ تشبيهه الخلفاء وأصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بإبليس وبرصيصا وبلعم بن باعورا ، ووقفت ووصلت إلى الباب ، فركض سماحة السيِّد خلفي ، وقال : ألم أقل لك : اصبر ، اصبر يا أخي.

فقلت له : من فضلك تغيِّر محور النقاش سماحة السيِّد الجليل.

ص: 521


1- سوره الحشر ، الآية : 16.
2- سورة الأعراف ، الآية : 175.

السيِّد البدري : أنا انتهيت من هذه القصص ، ألم أقل لك في بداية الجلسة على أن الأمثال تضرب ولا تقاس ، ولا مناقشة في الأمثال؟ ولكن يا أخي! إن الأمثلة تضرب لتقريب موضوع الحوار إلى الأذهان ، وليس المقصود من المثل تشابه المتماثلين من جميع الجهات ، بل يكفي تشابههما من جهة واحدة ، وهي التي يرتكز عليها موضوع الحوار ، وإني أشهد اللّه - يا أخي! - بأني ما قصدت بالأمثال التي ذكرتها إهانة أحد ، بل البحث والحوار يقتضي في بعض المواقع أن أذكر شاهداً لكلامي ، وأبيِّن المطلب والمراد والمقصود.

هشام آل قطيط : إذا كنت - سماحة السيد! - قد بيَّنت لي في قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ) وشرحت أن المقصود من أن اللّه سبحانه تعالى مع الكافر والمؤمن والمنافق فأين تذهب بهذا الدليل القاطع الذي يعدُّ منقبة وفضيلة عظيمة لسيِّدنا أبي بكر ، ألا وهو قوله تعالى : ( فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ) فإن الضمير في ( عليه ) يرجع لأبي بكر الصدّيق ، وهذا شرف من اللّه ، ومقام عظيم قد كرَّمه به ، فلماذا تحاول طمس هذه الحقيقة؟

السيّد البدري : الضمير التي ذكرته في هذه الكلمة يرجع إلى النبي صلی اللّه علیه و آله ، وليس لأبي بكر ، وبقرينة الجملة التالية في الآية : ( وَأَيَّدَهُ بِجُنُود لَّمْ تَرَوْهَا ) وقد صرَّح جميع المفسرين : أن المؤيَّد بجنود اللّه سبحانه هو النبي صلی اللّه علیه و آله .

هشام آل قطيط : ونحن نقول : إن المؤيَّد بالجنود النبي صلی اللّه علیه و آله ، لا شك بذلك ، ولكن أبا بكر كان مؤيَّداً مع النبيِّ صلی اللّه علیه و آله لمصاحبته في الغار.

السيِّد البدري : إذا كان الأمر كما تقول يا أستاذ ، وقلت لي في أول الجلسة بأنك تدرس اللغة العربيّة ، لجاءت الضمائر في الآية الكريمة بالتثنية ، بينما الضمائر كلُّها جاءت مفردة ، فحينئذ لا يجوز لأحد أن يقول : إن الألطاف

ص: 522

والعنايات الإلهيّة - كالنصرة والسكينة - شملت أبا بكر دون رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فينحصر القول بأنها شملت رسول اللّه دون صاحبه.

هشام آل قطيط : سماحة السيِّد! إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليس بحاجة إلى السكينة ; لأن السكينة موجودة معه ولا تفارقه ، ولكنَّ سيِّدنا أبا بكر كان بحاجة ماسّة إلى السكينة فأنزلها اللّه عليه.

السيِّد البدري : يا أخي! لماذا تضيع الوقت بتكرار الكلام؟ وبأيِّ دليل تقول : إن النبي صلی اللّه علیه و آله لا يحتاج إلى السكينة الإلهيّة؟! بينما اللّه سبحانه وتعالى يقول : ( ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا ) (1) وذلك في غزوة حنين ، ويقول اللّه تعالى في آية أخرى : ( فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ) (2) وذلك في فتح مكة المكرمة.

لاحظ - أيُّها الأستاذ الكريم - أن اللّه تعالى في الآيتين الكريمتين يذكر النبي صلی اللّه علیه و آله ويذكر بعده المؤمنين ، فلو كان أبو بكر في آية الغار من المؤمنين الذين تشملهم السكينة الإلهيّة لكان اللّه عزَّوجلَّ قد ذكره بعد ذكر النبي صلی اللّه علیه و آله ، أو قال تعالى : فأنزل اللّه سكينته عليهما.

هذا وقد صرَّح كثير من كبار علمائكم بأن ضمير ( عليه ) في الآية الكريمة يرجع إلى النبي صلی اللّه علیه و آله ، لا إلى أبي بكر ، راجع كتاب : ( نقض العثمانيّة ) للعلامة الشيخ أبي جعفر الإسكافي ، وهو أستاذ ابن أبي الحديد ، وقد كتب ذلك الكتاب القيِّم في ردِّ وجواب أباطيل أبي عثمان الجاحظ.

ص: 523


1- سورة التوبة ، الآية : 26.
2- سوره الفتح ، الآية : 26.

وأزيدك أدلّة أخرى أيُّها الأستاذ المحاور ، إنا نجد في الآية الكريمة جملة تناقض قولك!

سؤال : قال تعالى في محكم كتابه : ( إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ ) (1) فالنبي صلی اللّه علیه و آله هنا ينهى صاحبه عن الحزن ، فالسؤال الذي أوجِّهه إليك أيُّها المحاور : هل أن حزن أبي بكر كان طاعة لله ولرسوله أم معصية؟!

هشام آل قطيط : طبعاً حزن سيِّدنا أبي بكر كان طاعة لله فكيف يكون معصية؟ معاذ اللّه!

السيِّد البدري : ما دام حزن الخليفة أبي بكر طاعة لله كما ذكرت فلماذا نهاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن هذه الطاعة وقال له : لا تحزن؟ و ( لا ) هنا للنهي ، والنهي يأتي عن المعصية وليس عن الطاعة ، فالآية لم تكن في فضل أبي بكر ومدحه ، بل تكون في ذمِّه وقدحه! وصاحب السوء لا تشمله العناية والسكينة الإلهيَّة ; لأنهما تختصَّان بالنبيِّ صلی اللّه علیه و آله والمؤمنين ، وهم أولياء اللّه الذين لا يخشون أحداً إلاَّ اللّه سبحانه ، ومن أهم علامات الأولياء كما في قوله تعالى : ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) (2).

ولمَّا وصلنا إلى هذه النقطة كان الوقت ما يقرب من أذان صلاة المغرب ، وأجِّلت الجلسة بسبب تعب الطرفين ; لأن هناك تكملة لبحوث أخرى.

ص: 524


1- سورة التوبة ، الآية : 40.
2- سورة يونس ، الآية : 62.

اللقاء الخامس : مناقشة الأدلّة التي يستدلّ بها على خلافة أبي بكر

اشارة

هشام آل قطيط : بعد أن ذكرت وبيَّنت - سماحة السيِّد! - موضوع آية : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) وآية الغار ، لديَّ أدلّة جديدة ، ونصوص صريحة ، أثبت من خلالها أحقّيّة سيِّدنا أبي بكر بالخلافة من بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وهي :

أولا : مروا أبا بكر فليصلِّ بالمسلمين ( حديث رواه البخاري ) (1).

ثانياً : لو كنت متّخذاً من أهل الأرض خليلا غير ربّي لا تخذت أبا بكر خليلا ، لا يبقين في المسجد خوخة إلاَّ سدَّت إلاَّ خوخة أبي بكر ( حديث رواه البخاري ) (2).

ثالثاً : عن عائشة قالت : دخل عليَّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في اليوم الذي بدأ فيه فقال : ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتاباً ، ثمَّ قال : يأبى اللّه والمسلمون إلاَّ أبا بكر (3).

حوار في النصوص المدعاة على أحقّيّة الخليفة أبي بكر بالخلافة

السيِّد البدري : أقول : لو سلَّمت لك جدلا أن النبي صلی اللّه علیه و آله أمر أبا بكر أن يصلّي بالناس في مرضه الذي توفِّي فيه صلی اللّه علیه و آله ، ولكن ماذا تقول لو قال قائل ممن لا يقول بقولك : ألم يقل جمهور الصحابة لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في مرضه : هجر رسول

ص: 525


1- سوف يأتي قريباً مع مصادره.
2- سوف يأتي قريباً أيضاً مع مصادره.
3- راجع مسند أحمد بن حنبل : 6 / 144 ، السنن الكبرى ، البيهقي : 8 / 153.

اللّه صلی اللّه علیه و آله على ما أخرجه البخاري في صحيحه (1) عن ابن عباس أنه قال : يوم الخميس وما يوم الخميس ، ثمَّ بكى حتى خضب دمعه الحصباء ، قال : اشتدّ برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وجعه يوم الخميس ، فقال : ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً ، فتنازعوا ، ولا ينبغي عند نبيٍّ تنازع ، فقالوا : هجر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ! قال : دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه.

هشام آل قطيط : عفواً سماحة السيِّد! أراك خرجت عن موضوع الدليل والنصّ الذي طرحته.

السيّد البدري : يا أستاذ! تعلَّم الصبر والنفس الطويل في الحوار ، ولا تكن سريعاً ، مهلا! سأورد لك بعض المخالفات لأنتقل إلى تحليل هذا النصّ الذي أنت تحتجُّ به وتعتبره دليلا مقنعاً.

سؤال موجَّه لك : ألم يقل الخليفة عمر بن الخطاب للصحابة في مرض النبي صلی اللّه علیه و آله : إن النبي قد غلبه الوجع ، وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب اللّه؟ والرواية الأولى قال عن الرسول صلی اللّه علیه و آله : إنه هجر ; أي بمعنى يهذي (2).

هشام آل قطيط : سيِّدنا عمر بن الخطاب الفاروق يقول لسيِّدنا محمّد صلی اللّه علیه و آله : إنّه هجر؟ من أين لك هذا الحديث؟ ومن أين أتيت به أيها السيِّد؟ كلام غريب ( معاذ اللّه من ذلك ).

السيِّد البدري : لا تغضب يا أخي ، هدِّئ من روعك واصبر.

هشام آل قطيط : كيف أهدأ وأنت تتهجَّم على سيِّدنا عمر وتتّهمه هذا

ص: 526


1- صحيح البخاري : 7 / 9 ، 5 / 137 ، 2 / 132 ، 4 / 65 - 66 ، صحيح مسلم : 2 / 16 ، 5 / 75 ، 11 / 94 - 95 ، بشرح النووي ، مسند أحمد بن حنبل : 1 / 955.
2- سرّ العالمين وكشف ما في الدارين ، أبو حامد الغزالي : 21.

الاتّهام؟

السيِّد البدري : ما رأيك في صحيح البخاري يا أستاذ؟

هشام آل قطيط : صحيح البخاري أصدق صحيح عندنا بعد القرآن.

السيِّد البدري : راجع صحيح البخاري في أواخر ص 118 الجزء الثاني في باب ( هل يستشفع إلى أهل الذمّة ومعاملتهم ) وحتى أربط كل هذا الاستدلال لك يقول : عن ابن عباس قال : لمَّا حضر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، قال النبي صلی اللّه علیه و آله : هلمّ أكتب لكم كتاباً لا تضلُّوا بعده ، فقال عمر : إن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب اللّه ، فاختلف أهل البيت فاختصموا ، منهم من يقول : قرِّبوا يكتب لكم النبي صلی اللّه علیه و آله كتاباً لنا تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلمَّا أكثروا اللغو واللغط والاختلاف عند النبي صلی اللّه علیه و آله قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : قوموا. قال عبيداللّه : فكان ابن عباس يقول : الرزيّة كل الرزيَّة ما حال بين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم (1) ، وهذا مشهور برزيَّة يوم الخميس.

الوجه الصحيح في حديث صلاة الخليفة أبي بكر

السيِّد البدري : أقول : إن الصحيح المتواتر بين الفريقين : السنّي والشيعيّ معاً أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله أخَّر الخليفة أبا بكر من تلك الصلاة ، وصرفه عن إمامة المسلمين ; لأنه خرج بعد سماعه بتقدُّم أبي بكر يتهادى بين علي والعبّاس ، مع ما فيه من ضعف الجسم بالمرض ، الأمر الذي لا يتحرَّك معه العاقل إلاَّ في حال

ص: 527


1- صحيح البخاري ، الجزء الثاني ، باب ( يستشفع إلى أهل الذمّة ومعاملتهم ) ص 118.

الاضطرار ، لتدارك ما يخاف بفوته حدوث أعظم فتنة ، فعزل النبيُّ صلی اللّه علیه و آله أبا بكر عمّا كان تولاَّه من تلك الصلاة كما نطقت به صحاحكم ، ويدلُّك على أن تقدُّمه للصلاة لم يكن بأمر من النبي صلی اللّه علیه و آله في شيء ، وإنما كان الأمر صادراً من ابنته السيّدة عائشة ، ولم تكن تلك الصلاة إلاَّ صلاة الصبح لا غيرها.

ويرشدك ويدلُّك على ذلك - يا أخي - ما أخرجه الحافظ الكبير الإمام مسلم في صحيحه (1).

وأنقل لك هذه الرواية عن عائشة : قالت : لمَّا ثقل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جاء بلال يؤذنه بالصلاة ، فقال : مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس ، قالت : فقلت : يا رسول اللّه! إن أبا بكر رجل أسيف ، وإنه متى يقم مقامك لم يسمع الناس فلو أمرت عمر ، فقال : مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس ، قالت : فقلت لحفصة : قولي له : إن أبا بكر رجل أسيف ، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس فلو أمرت عمر ، فقالت له ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنكن لأنتن صويحبات يوسف ، مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس! قالت : فأمروا أبا بكر يصلّي بالناس.

ثمَّ - أخي الكريم - لماذا تحاول ربط مسألة الصلاة بمسألة الخلافة؟ لو فرضنا جدلا صحّة حديث عائشة أم المؤمنين ، وغضضنا النظر عن تلك الوجوه التي ناقشتها الآن ، ومع كل ذلك فإن الأمر بالصلاة خلفه لا يوجب للخليفة أبي بكر الإمامة العامة على المسلمين ; لعدة أسباب ، منها :

أولا : لقد اتّفق أئمّة السنة والحفّاظ عندكم على أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله صلَّى

ص: 528


1- صحيح مسلم ، 2 / 22 - 23 باب ( استخلاف الإمام إذا عرض له عذر ) كتاب الصلاة ، صحيح البخاري : 1 / 165 ، مسند أحمد بن حنبل : 6 / 96 ، سنن الترمذي : 5 / 275 ح 3754.

خلف عبد الرحمن بن عوف ، على ما نقله لنا ابن كثير في تأريخه (1) وهذا شيء لا يختلف فيه أحد ، فلم يوجب فضلا لعبد الرحمن بن عوف على النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، ولا يقتضي ذلك أن يكون إماماً واجب الطاعة عليه صلی اللّه علیه و آله وعلى غيره من أصحابه ، فكما أن صلاة النبيِّ صلی اللّه علیه و آله خلف عبد الرحمن بن عوف لم توجب له الإمامة على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولا على غيره من الناس ، فكذلك لم توجب صلاة أبي بكر بالمسلمين إمامته عليهم.

ثانياً : لا خلاف بين الفريقين : السنّي والشيعيّ في أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد استعمل عمرو بن العاص على الخليفتين أبي بكر وعمر وجماعة المهاجرين والأنصار ، وكان يؤمُّهم في الصلاة مدّة إمارته عليهم في واقعة ذات السلاسل ، على ما نقله لنا ابن كثير في تاريخه (2) ، فلم توجب صلاته فيهم (3) إمامته عليهم ، ولا فضلا عليهم ، لا في الظاهر ، ولا عند اللّه تعالى على حال من الأحوال ، فكذلك الحال في صلاة أبي بكر فيهم ، لا توجب إمامته عليهم ، ولا فضلا عليهم.

ثالثاً : وهذا البخاري أصدق صحيح عندكم يحدِّثنا في صحيحه (4) عن ابن عمر قال : لمَّا قدم المهاجرون الأوّلون العصبة ( موضع بقبا ) قبل مقدم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يؤمُّهم سالم مولى أبي حذيفة ، وكان أكثرهم قرآناً.

فكما أن إمامة سالم مولى أبي حذيفة للمهاجرين الأوّلين لم توجب له

ص: 529


1- البداية والنهاية ، ابن كثير : 5 / 22.
2- البداية والنهاية ، ابن كثير : 4 / 273.
3- راجع في إمامة عمرو بن العاص في الخليفتين أبي بكر وعمر هذه المصادر : السيرة الحلبيّة ، الشافعي : 3 / 19 ، تاريخ الخميس : 2 / 82 ، والدحلاني في ص 11 من سيرته بهامش الجزء الثاني من السيرة الحلبية.
4- صحيح البخاري : 1 / 89 ، باب ( إمامة العبد من أبواب صلاة الجماعة من كتاب الأذان ).

فضلا ، ولا الإمامة العامّة عليهم ، ولم تقض له بخلافة الرسالة المحمديَّة ، فكذلك إمامة أبي بكر للصلاة بالمسلمين لم توجب له فضلا ، ولا الإمامة العامّة عليهم ، ولم تقض له بخلافة الرسول صلی اللّه علیه و آله .

رابعاً : عتاب بن أسيد أحقُّ بالخلافة من الخليفة أبي بكر ، لماذا؟ لأنه الذي قدَّمه الرسول صلی اللّه علیه و آله يصلّي بالناس حين فتح رسول اللّه مكة ، والرسول مقيم في مكة ، وأبو بكر معه يصلّي خلف عتاب بن أسيد ، فقدَّمه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يصلّي بالناس في المسجد الحرام من غير علّة ، ولا ضرورة دعته إلى ذلك.

وهذا بإجماع الأمّة ، فكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يصلّي بالناس الظهر والعصر ، وعتاب بن أسيد يصلّي بالناس الثلاث صلوات بإجماع الأمّة ، وبإجماع الأمّة أن المسجد الحرام أفضل من مسجد المدينة ، ومكة أفضل من المدينة ، ويلزم في النظر أن من قدَّمه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المواطن الأفضل من غير علّة أفضل ممن قدَّمه في مسجد هو دونه في الفضل مع ضرورة العلة ، فتأمَّل يا أخي.

تجويزكم للصلاة خلف البرّ والفاجر

السيِّد البدري : ثمَّ إنكم متّفقون على أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أرشدكم إلى الصلاة خلف كل برٍّ وفاجر (1) ، فإذا كانت الصلاة تجوز عندكم خلف كل فاسق وفاجر ، والاقتداء بكل ظالم وعاص ، بإجماع علماء السنة نصّاً وفتوى وعملا ، وكانت صلاة الخليفة أبي بكر بالمسلمين دليلا على خلافة النبيِّ صلی اللّه علیه و آله وإمامة الأمّة ، كان ذلك دليلا أيضاً على إمامة هؤلاء جميعاً ، ولكان كلُّهم خلفاء النبي صلی اللّه علیه و آله من بعده ، وكأن قوله تعالى : ( وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ

ص: 530


1- سنن البيهقي : 4 / 19 ، الفتح الكبير : 2 / 190.

النَّارُ ) (1) باطلا لا معنى له (2).

حوار في حديث خوخة أبي بكر

هشام آل قطيط : بعدما ذكرت الأدلّة الكثيرة حول صلاة الخليفة أبي بكر وإبطالها ، فما رأي سماحتكم بقوله صلی اللّه علیه و آله : لو كنت متّخذاً من أهل الأرض خليلا غير ربّي لا تخّذت أبا بكر خليلا ، لا يبقين في المسجد خوخة إلاَّ سدَّت إلاَّ خوخة أبي بكر (3)؟ أليس هذا الحديث دليلا قاطعاً على خلافة سيدنا أبي بكر (4).

====

4 -

ص: 531


1- سورة هود ، الآية : 113.
2- قال الشيخ المظفر عليه الرحمة في دعوى تقديم أبي بكر في الصلاة : فليس فيها أيَّة إشارة إلى تعيينه للخلافة ، فضلا عن النصّ ; لأن الإمامة في الصلاة ليست بالأمر الخطير الشأن الذي لا يكون إلاَّ لمن له الإمامة ، ولا سيّما على مذهب أهل السنّة ، وكان ائتمام المسلمين بعضهم ببعض مما اعتادوا عليه ، وشاع يومئذ بينهم بترغيب النبي صلی اللّه علیه و آله فيه .. ولا أعتقد بصحّة ما يروى أن النبي صلی اللّه علیه و آله هو الذي قدَّمه للصلاة ، وأنه صلَّى أياماً ; لأن أبا بكر كان من جيش أسامة من غير شك ، وقد نهى النبي صلی اللّه علیه و آله عن التخلُّف عنه ، وشدَّد في الإسراع بإنفاذه ، فكيف يجتمع هذا مع تقديم النبيِّ له للصلاة مدّة مرضه؟ نعم ، الثابت أنه صلَّى صلاة واحدة .. يوم الإثنين ، يوم وفاة النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، وقبل أن يتمَّها خرج صاحب الرسالة يتهادى بين رجلين ، ورجلاه تخطّان الأرض من الوجع، فصلَّى بالناس صلاتهم ، وتأخَّر أبو بكر ، فإن عائشة هي التي روت أمر النبي صلی اللّه علیه و آله بتقديمه لا غيرها ، وأنها راجعته في ذلك حتى قال لها غاضباً : إنكن لأنتن صواحب يوسف ، وهي نفسها تروي خروجه في نفس تلك الصلاة ، وكان خروجه بهذه الحال إلى الصلاة يوم وفاته وهو يوم الإثنين ، ولو أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله كان قدَّمه للصلاة إشارة إلى خلافته ، فلماذا خرج بهذه الحال المؤلمة ، وصلَّى بالناس صلاة المضطرين جالساً؟ ولا معنى لما يقال : إنّه صلَّى أبو بكر بصلاة النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، وصلَّى الناس بصلاة أبي بكر ، فمن هو الإمام إذن؟ إن كان أبا بكر فلم يكن قد صلَّى بصلاة النبيِّ صلی اللّه علیه و آله وإن كان النبي فلم تكن الناس قد صلَّت بصلاة أبي بكر .. السقيفة ، الشيخ محمّد رضا المظفر : 54.
3- صحيح البخاري : 4 / 254 ، فضائل الصحابة ، أحمد بن حنبل : 3 ، مسند أحمد بن حنبل : 1 / 434 ، سنن الترمذي : 5 / 270 ح 3740 ، صحيح مسلم : 7 / 109 ، السنن الكبرى ، البيهقي : 6 / 246.
4- قال ابن أبي الحديد في شرح النهج : 11 / 49 : إن البكرية وضعت لأبي بكر أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث نحو ( لو كنت متخذاً خليلا ... ) فإنهم وضعوه في مقابلة حديث الإخاء ، ونحو سد الأبواب ، فإنه كان لعلي علیه السلام فقلبته البكرية إلى أبي بكر.

السيِّد البدري : إن هذا الحديث رواية آحاد ، هذا أوَّلا.

وثانياً : إن هذا الحديث معارض بحديث أقوى منه سنداً ، وتنقله أحاديثكم ، وهو قوله صلی اللّه علیه و آله : لا تقل : لو أني فعلت كذا كان كذا ، ولكن قل : قدَّر اللّه وما شاء فعل ، فإن كلمة ( لو ) تفتح عمل الشيطان ( حديث شريف ) (1) ، فكيف برسول الأمّة وإمامها ينهانا عن القول بكلمة ( لو ) ويقول لنا إنها تفتح عمل الشيطان ، وهو يبدأ بها؟! هل يعقل هذا الأمر بأن هذا الحديث يصدر من النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ؟ فتأمَّل.

ثالثاً : إن هذا الحديث موضوع لدينا ، ووضع مقابل حديث المؤاخاة المشهور والمتواتر ، وهو قول النبي صلی اللّه علیه و آله لعلي علیه السلام : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنه لا نبيَّ بعدي (2).

رابعاً : الشطر الثاني من الحديث ( لا يبقين في المسجد خوخة إلاَّ سدَّت إلاَّ خوخة أبي بكر ) وضع مقابل الحديث المشهور والمتواتر ( سدُّوا هذه الأبواب إلاَّ باب علي ) (3) فوضع أصحاب الأقلام المأجورة كلمة ( خوخة ) بدل ( باب )

ص: 532


1- سنن ابن ماجة : 5 / 31 ح 79 ، صحيح مسلم : 8 / 56 ، السنن الكبرى ، البيهقي : 10 / 89 ، السنن الكبرى ، النسائي : 6 / 159 ح 10475.
2- تقدَّمت تخريجاته.
3- فضائل الصحابة ، أحمد بن حنبل : 13 - 14 ، صحيح مسلم : 7 / 120 - 121 ، سنن الترمذي : 5 / 302 ح 3808 و 304 ح 3813 ، المستدرك ، الحاكم : 2 / 337 - 338 ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، و 3 / 108 - 109 ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة ، وص 133 أيضاً ، السنن الكبرى ، البيهقي : 9 / 40 ، المصنّف ، عبد الرزاق : 5 / 405 - 406 ح 9745 ، وغير ذلك من المصادر الكثيرة ، كما أن هذا الحديث يعدُّ من المتواترات.

للتغيير والتحريف.

هشام آل قطيط : عفواً سماحة السيِّد! الرسول صلی اللّه علیه و آله ترك خوخة مفتوحة لسيِّدنا أبي بكر ، ومعنى كلمة الخوخة أي ( الباب الصغير ).

السيِّد البدري : لو أن الرسول صلی اللّه علیه و آله أراد إكرامه لفتح له باباً كبير ، لماذا باب صغير؟ وحتى أثبت لك بالأدلّة والبراهين القاطعة بأن هذا الحديث وضع مقابل حديث ( سدُّوا كل الأبواب إلاَّ باب علي ) فتفضَّل يا أخي :

أوّلا : أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بسدِّ أبواب الصحابة من المسجد تنزيهاً له عن الجنب والجنابة ، ولكنَّه أبقى باب علي علیه السلام ، وأباح له عن اللّه تعالى أن يجنب في المسجد ، كما كان هذا مباحاً لهارون ، فدلَّنا على ذلك عموم المشابهة كما كان هذا مباحا لهارون علیه السلام .

الحديث : قال ابن عباس حبر الأمّة : وسدَّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أبواب المسجد غير باب عليٍّ ، فكان يدخل المسجد جنباً ، وهو طريقه ليس له طريق غيره (1).

الحديث : كان لنفر من أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أبواب شارعة في المسجد ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : سدُّوا هذه الأبواب إلاَّ باب عليٍّ ، فتكلَّم الناس في ذلك ، فقام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثمَّ قال : أمَّا بعد ، فإني أمرت بسدِّ هذه الأبواب إلاَّ باب علي ، فقال فيه قائلكم ، وإنّي واللّه ما سددت شيئاً ولا فتحته ، ولكني أمرت بشيء فاتبعته (2).

ص: 533


1- المستدرك ، الحاكم : 3 / 134 ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة ، السنن الكبرى ، النسائي : 5 / 112 - 113 ح 8409 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 12 / 78 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 42 / 99 - 102 ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبد اللّه الطبري : 87 - 88.
2- السنن الكبرى ، النسائي : 5 / 118 ح 8423 ، فتح الباري ، ابن حجر : 7 / 12 - 13 ، فيض القدير ، المناوي : 1 / 120.

وأخرج الطبراني في الكبير ، عن ابن عباس أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قام يومئذ فقال : ما أنا أخرجتكم من قبل نفسي ، ولا أنا تركته ، ولكن اللّه أخرجكم وتركه ، إنما أنا عبد مأمور ، ما أمرت به فعلت ، إن أتَّبِعُ إلاَّ ما يوحى إليَّ (1).

يا عليُّ! لا يحلُّ لأحد أن يجنب في المسجد غيري وغيرك (2).

وعن سعد بن أبي وقاص ، والبرّاء بن عازب ، وابن عباس ، وابن عمر وحذيفة بن أسيد الغفاري ، قالوا كلُّهم : خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى المسجد فقال : إن اللّه تعالى أوحى إلى نبيِّه موسى أن ابن لي مسجداً طاهراً لا يسكنه إلاَّ أنت وهارون ، وإن اللّه أوحى إليَّ أن ابنِ مسجداً طاهراً لا يسكنه إلاَّ أنا وأخي علي (3)

حديث المنزلة ومنازل هارون من موسى علیه السلام

السيِّد البدري : وحتى أثبت لك بأن حديث الخلّة وضع مقابل حديث المنزلة ، حتى تكون على بصيرة من أمرك أيُّها الأستاذ الباحث عن الحقيقة ، فالواجب الشرعي يفرض عليَّ أن أبيِّن لك الحقائق لتنقذ نفسك من الصراع الذي تعيشه ، والتناقض والحيرة ، فهذا الإمام البخاري يحدِّثنا في صحيحه (4) في مناقب علي بن أبي طالب علیه السلام ، وذاك الإمام مسلم في صحيحه يحدِّثنا عن

ص: 534


1- المعجم الكبير ، الطبراني : 12 / 114 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 9 / 115 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 11 / 600 ح 32887.
2- سنن الترمذي : 5 / 303 ح 3811 ، السنن الكبرى ، البيهقي : 7 / 66 ، فتح الملك العلي ، المغربي : 46 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 42 / 140 ، تهذيب الكمال ، المزي : 26 / 252 ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 13 / 272 ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبد اللّه الطبري : 77.
3- المناقب ، ابن المغازلي : 252 ح 301 ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : 1 / 258 ح 6.
4- صحيح البخاري : 4 / 208 و 5 / 129 ، التأريخ الكبير ، البخاري : 1 / 115 ، رقم : 333.

النبي صلی اللّه علیه و آله أنه قال لعلي علیه السلام : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنّه لا نبيَّ بعدي (1).

وفي القرآن العربي المبين يقول اللّه تعالى في سورة طه : آية 25 وما بعدها ، حكاية عن كليمه موسى علیه السلام : ( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) إلى قوله تعالى : ( قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ) وأنت تعلم - يا أخي المحاور - أن منازل هارون علیه السلام من موسى علیه السلام كثيرة ومتعدِّدة ، وسأورد لك بعض المقارنات بين هارون ومنزلته من موسى لتعلم أن علياً هو الخليفة الحق بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

الأوَّل : إن هارون علیه السلام كان وزيراً لموسى علیه السلام ، فكذلك علي علیه السلام وزير رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

الثاني : إن هارون علیه السلام كان شريكاً لموسى علیه السلام في أمره ، فكذلك علي علیه السلام شريك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في أمره على الخلافة والإمامة ، إلاّ النبوَّة ، والمستثناة من عموم المنازل في الحديث الشريف.

الثالث : إن هارون علیه السلام كان ثاني موسى علیه السلام في قومه ، فكذلك علي علیه السلام ثاني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في أمته.

الرابع : إن هارون علیه السلام كان أخاً لموسى علیه السلام ، فكذلك علي علیه السلام كان أخاً لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، بدليل حديث المؤاخاة المتواتر نقله في كتب السنة والشيعة ، وعدم استثناء النبيِّ صلی اللّه علیه و آله من حديثه إلاَّ النبوة ، وقد أخرج ذلك أحد علمائكم -

ص: 535


1- صحيح مسلم : 7 / 120 - 121.

أحمد بن حنبل في مسنده - عن عمرو بن ميمون ، عن ابن عباس في حديث : بضع عشرة فضيلة كانت لعلي علیه السلام لم تكن لغيره من الصحابة (1).

الخامس : إن هارون علیه السلام كان أفضل قوم موسى علیه السلام عند اللّه تعالى وعند نبيِّه موسى علیه السلام ، فكذلك علي علیه السلام أفضل أمّة النبي صلی اللّه علیه و آله عند اللّه تعالى وعند رسوله محمّد صلی اللّه علیه و آله .

السادس : إن هارون علیه السلام كان هو القائم مقام موسى علیه السلام في غيبته مطلقاً ، فكذلك علي علیه السلام هو الذىِّ يقوم مقام النبيِّ صلی اللّه علیه و آله في غيبته مطلقاً ، وقد جاء التنصيص عليه جليّاً واضحاً ، لا يرتاب فيه اثنان من أهل الإيمان ، بقوله صلی اللّه علیه و آله : لا ينبغي أن أذهب إلاَّ وأنت خليفتي (2).

ص: 536


1- مسند أحمد بن حنبل : 1 / 331 ، السنن الكبرى ، النسائي : 5 / 113 ، خصائص أميرالمؤمنين علیه السلام ، النسائي : 62 ، وقال محقِّق الكتاب في الهامش : في نسخة : فضائل ليست لأحد غيره ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42 / 99 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 7 / 374 ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبداللّه الطبري : 87. وروى الموفق الخوارزمي بالإسناد عن عبد اللّه بن أحمد بن حنبل ، عن أبيه بإسناده عن ابن عباس : وقعوا في رجل له بضع عشرة فضائل ليست لأحد غيره ( المناقب ، الموفق الخوارزمي : 125 ح 140، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 3 / 132 ). وفي رواية النعمان المغربي : عن عمرو بن ميمون ، عبداللّه بن عبّاس : وقعوا في رجل قال فيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عشر خلال ، كل خلّة منها خير من الدنيا وما فيها ، وقعوا في علي أميرالمؤمنين. ( شرح الأخبار ، القاضي النعمان المغربي : 2 / 209 ح 541 ).
2- مسند أحمد بن حنبل : 1 / 331 ، كتاب السنّة ، عمرو بن أبي عاصم : 551 ، خصائص أميرالمؤمنين علیه السلام ، النسائي : 64 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 12 / 78 ، المناقب ، الموفق الخوارزمي : 127 ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42 / 102 ، الإصابة ، ابن حجر : 4 / 467 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 7 / 374 ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبداللّه الطبري : 87 ، كنز العمال ، المتقى الهندي : 11 / 606 ح 32931 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 9 / 120 ، ينابيع المودة ، القندوزي : 1 / 112.

السابع : إن هارون علیه السلام كان أعلم قوم موسى علیه السلام فكذلك علي علیه السلام أعلم أمة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وقد صرَّح النبيُّ صلی اللّه علیه و آله بذلك فقال : أعلم أمّتي من بعدي علي بن أبي طالب (1).

الثامن : إن هارون علیه السلام كان واجب الطاعة على يوشع بن نون وصيِّ موسى علیه السلام وغيره من أمّته ، فكذلك علي علیه السلام واجب الطاعة على الخلفاء : أبي بكر وعمر وعثمان ، وغيرهم من أمّة النبي صلی اللّه علیه و آله .

التاسع : إن هارون علیه السلام كان أحبَّ الناس إلى اللّه تعالى وإلى كليمه موسى علیه السلام ، فكذلك عليٌّ أحبُّ الناس إلى اللّه تعالى وإلى رسوله محمّد صلی اللّه علیه و آله .

العاشر : إن اللّه تعالى قد شدَّ أزر نبيِّه موسى علیه السلام بأخيه هارون علیه السلام ، فكذلك شدَّ أزر نبيِّه محمّد صلی اللّه علیه و آله بأخيه علي علیه السلام .

الحادي عشر : إن هارون علیه السلام كان معصوماً من الخطأ والنسيان ، والزلل والعصيان ، فكذلك علي علیه السلام يكون معصوماً من الخطأ والنسيان ، والزلل والعصيان.

هشام آل قطيط : سماحة السيِّد! هل لديك أدلّة أخرى في عليٍّ كرَّم اللّه وجهه ، وفي إثبات أحقّيّته بالخلافه؟ زدني من فضلك.

السيِّد البدري : وما أزيدك؟ ما هذا الذي ذكرته إلاَّ غيض من فيض من

ص: 537


1- روى الموفق الخوارزمي بالإسناد عن سلمان ، عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنه قال : أعلم أمتي من بعدي علي بن أبي طالب علیه السلام . راجع : المناقب ، الموفق الخوارزمي : 82، فتح الملك العلي ، أحمد بن الصديق المغربي : 70 عن مسند الفردوس ، ينابيع المودة ، القندوزي : 2 / 70 ح 6 و 239 ح 669 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 11 / 614 ح 32977.

فضائل علي بن أبي طالب علیه السلام ، إذا قلت لك إن عليّاً جامع لفضائل الأنبياء هل تقنع؟

هشام آل قطيط : إذا كان هناك أدلّة وبراهين تقنعني لماذا لا أقنع؟ الإمام علي علیه السلام جامع فضائل الأنبياء.

السيِّد البدري : وقد شهد بذلك سيِّد الرسل ، وخاتم النبيين محمّد ، الصادق الأمين علیه السلام ، كما جاء في مناقب الخوارزمي : ص 49 - 245 والرياض النضرة : 2 - 217 ، وذخائر العقبى : 93 ، وغيرها أنه قال صلی اللّه علیه و آله مع بعض الاختلافات اللفظيّة : ( من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في فهمه ، وإلى يحيى بن زكريا في زهده ، وإلى موسى بن عمران في بطشه فلينظر إلى علي بن أبي طالب ).

ونقل لنا ابن الصبّاغ المالكي في كتابه ( الفصول المهمة ) : من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في عزمه ، وإلى إبراهيم في حلمه ، وإلى موسى في هيبته ، وإلى عيسى في زهده فلينظر إلى علي بن أبي طالب.

وفي الرياض النضرة : 2 - 202 قال : أخرج الملا عمر بن خضر في سيرته : قيل : يا رسول اللّه! وكيف يستطيع علي علیه السلام أن يحمل لواء الحمد؟ فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : وكيف لا يستطيع ذلك وقد أعطي خصالا شتّى ; صبراً كصبري ، وحسناً كحسن يوسف ، وقوّة كقوّة جبريل علیه السلام ؟!

وروى السيِّد مير علي الهمداني في كتابه ( مودّة القربى ) المودة الثامنة ، قال : عن جابر قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : من أراد أن ينظر إلى إسرافيل في هيبته ، وإلى ميكائيل في رتبته ، وإلى جبرائيل في جلالته ، وإلى آدم في علمه ، وإلى نوح في خشيته ، وإلى إبراهيم في خلّته ، وإلى يعقوب في حزنه ، وإلى

ص: 538

يوسف في جماله ، وإلى موسى في مناجاته ، وإلى أيوب في صبره ، وإلى يحيى في زهده ، وإلى عيسى في عبادته ، وإلى يونس في ورعه ، وإلى محمّد في حسبه وخلقه ، فلينظر إلى عليٍّ ، فإن فيه تسعين خصلة من خصال الأنبياء جمعها اللّه فيه ، ولم يجمعها في أحد غيره (1).

هشام آل قطيط : عفواً سماحة السيد! أنت هنا وصلت بي إلى مقايسة عليٍّ - كرَّم اللّه وجهه - بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وهذا مشكل منكم؟

السيِّد البدري : اسمع - يا أخي - لأروي لك ما نقله بعض من المؤرِّخين ، إذا الأدلّة لم تقنع فناقشني وحاورني.

مقايسة علي علیه السلام بالأنبياء علیهم السلام

لقد حدَّثنا المؤرِّخون والمحدِّثون أنه علیه السلام في آخر يوم من حياته الكريمة ، حينما كان على فراش الموت والشهادة حضر عنده جماعة من أصحابه لعيادته ، وكان ممَّن حضر صعصعة بن صوحان ، وهو من كبار الشيعة في الكوفة ، وكان خطيباً بارعاً ، ومتكلِّماً لامعاً ، وهو من الرواة الثقات حتى عند أصحاب الصحاح الستة عندكم وأصحاب المسانيد ، فإنّهم يروون عنه ما ينقله عن الإمام علي علیه السلام ، وقد ترجم له كثير من أعلامكم مثل : ابن عبد البرّ في الاستيعاب ، وابن سعد في الطبقات الكبرى ، وابن قتيبة في المعارف ، وغيرهم ، فكتبوا أنه كان عالماً صادقاً ، وملتزماً بالدين ، ومن خاصة أصحاب أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام ، في ذلك اليوم سأل صعصعة الإمام عليّاً علیه السلام قائلا : يا أميرالمؤمنين!

ص: 539


1- ينابيع المودة ، القندوزي : 2 / 306 - 307 ح 874.

أخبرني أنت أفضل أم آدم علیه السلام ؟

فقال الإمام علیه السلام : يا صعصعة! تزكية المرء نفسه قبيح ، ولو لا قول اللّه عزَّ وجلَّ : ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) (1) ما أجبت ، يا صعصعة! أنا أفضل من آدم ; لأن اللّه تعالى أباح لآدم كلَّ الطيِّبات المتوفِّرة في الجنة ، ونهاه عن أكل الحنطة فحسب ، ولكنَّه عصى ربَّه وأكل منها! وأنا لم يمنعني ربّي من الطيِّبات ، وما نهاني عن أكل الحنطة ، فأعرضت عنها رغبة وطوعاً.

فقال صعصعة : أنت أفضل أم نوح؟

فقال علیه السلام : أنا أفضل من نوح ; لأنه تحمَّل ما تحمَّل من قومه ، ولمَّا رأى منهم العناد دعا عليهم ، وما صبر على أذاهم ، فقال : ( رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاَْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ) (2) ، ولكنّي بعد حبيبي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تحمَّلت أذى قومي وعنادهم ، فظلموني كثيراً ، فصبرت وما دعوت عليهم (3).

فقال صعصعة : أنت أفضل أم إبراهيم؟

فقال علیه السلام : أنا أفضل ، لأن إبراهيم قال : ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (4) ، ولكنّي قلت وأقول : لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً.

قال صعصعة : أنت أفضل أم موسى؟

قال علیه السلام : أنا أفضل من موسى ; لأن اللّه تعالى لمَّا أمره أن يذهب إلى فرعون

ص: 540


1- سورة الضحى ، الآية : 11.
2- سورة نوح ، الآية : 26.
3- راجع : نهج البلاغة - الخطبة الشقشقية حيث يصف علیه السلام فيها جانباً من الوضع الذي قاساه فصبر.
4- سورة البقرة ، الآية : 260.

ويبلِّغ رسالته قال : ( رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ) (1) ، ولكنّي حين أمرني حبيبي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأمر اللّه عزَّوجلَّ حتى أبلِّغ أهل مكة المشركين سورة براءة ، وأنا قاتل كثير من رجالهم وأعيانهم! مع ذلك أسرعت غير مكترث ، وذهبت وحدي بلا خوف ولا وجل ، فوقفت في جمعهم رافعاً صوتي ، وتلوت الآيات من سورة براءة وهم يسمعون!!

قال صعصعة : أنت أفضل أم عيسى؟

قال علیه السلام : أنا أفضل ; لأن مريم بنت عمران لمَّا أرادت أن تضع عيسى كانت في بيت المقدس ، جاءها النداء : يا مريم! اخرجي من البيت ، هاهنا محلُّ عبادة ، لا محلُّ ولادة ، فخرجت ( فَأَجَاءهَا الَْمخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ ) (2) ، ولكنَّ أمّي فاطمة بنت أسد لمَّا قرب مولدي جاءت إلى بيت اللّه الحرام ، والتجأت إلى الكعبة ، وسألت ربَّها أن يسهِّل عليها الولادة ، فانشقَّ لها جدار البيت الحرام ، وسمعت النداء : يا فاطمة! ادخلي ، فدخلت وردَّ الجدار على حاله ، فولدتني في حرم اللّه وبيته (3).

وانتهى اللقاء ، وعشت في دوَّامة أكثر ، وأحدِّث نفسي : تابع البحث ، إياك والملل!!

اللقاء السادس : خبر منع عمر النبيَّ صلی اللّه علیه و آله من كتابة الكتاب

اشارة

هشام آل قطيط : لقد فاتنا - سماحة السيِّد البدري! - المناقشة في الحديث

ص: 541


1- سورة القصص ، الآية : 33.
2- سورة مريم ، الآية : 23.
3- راجع : الأنوار النعمانية : 1 / 27.

الشريف الذي يقول : عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتاباً ، ثمَّ قال : يأبى اللّه والمسلمون إلاَّ أبا بكر (1).

فهذا الحديث أفهم منه أن هناك عزيمة وتصميم من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله للتوصية بالخليفة أبي بكر من بعده ، والذي يدلّني أكثر أن الرسول صلی اللّه علیه و آله يريد أن يكتب كتاباً ، ويؤكِّد من خلال فعل الأمر الذي يبدأ به الحديث.

السيِّد البدري : ألم يكن الرسول صلی اللّه علیه و آله عازماً على أن يكتب كتاباً ومنعه الخليفة عمر بن الخطاب ، وقال : إن رسول اللّه غلبه الوجع ، وإنَّه هجر ، أي بمعنى يهذي ، والرسول المعصوم لا يمكن أن يهجر أو يهذي أيُّها الأستاذ ، وقول الرسول صلی اللّه علیه و آله : قوموا عنّي ، لا ينبغي عند نبيٍّ تنازع (2) ; لأنه لو أصرَّ الرسول صلی اللّه علیه و آله على كتابة الكتاب لقالوا : إنه هجر؟

ثمَّ إن هذا الحديث وضع مقابل الحديث المشهور ، عندما أراد الرسول صلی اللّه علیه و آله أن يكتب الكتاب ، حيث قال : أعطوني دواة وكتف أكتب لكم كتاباً لن تضلُّوا بعدي - ولمَّا واجهه القوم بتلك الكلمة القارصة والعبارة الجارحة - خاصّة وهو في آخر أيامه من الدنيا - رأى أن من الحكمة والمصلحة أن يعدل عن كتابته حفاظاً على الدين ، وقياماً بما أوجبه صلی اللّه علیه و آله من تقديمه الأهمَّ على

ص: 542


1- قال ابن أبي الحديد في شرح النهج : إن البكريّة وضعت لأبي بكر أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث نحو : ائتوني بدواة وبياض أكتب فيه لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه اثنان ، ثمَّ قال : يأبى اللّه تعالى والمسلمون إلاَّ أبا بكر ; فإنهم وضعوه في مقابلة الحديث المرويِّ عنه في مرضه : ائتوني بدواة وبياض أكتب لكم ما لا تضلُّون بعده ابداً ، فاختلفوا عنده ( شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 11 / 49 ).
2- صحيح البخاري : 4 / 31 ، المصنّف ، عبد الرزاق الصنعاني : 6 / 57 ح 9992 ، مسند أبي يعلى الموصلي : 4 / 298 ح 2409 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 2 / 242 ، فتح الباري ، ابن حجر : 8 / 101 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 5 / 247.

المهمِّ.

وأنقل لك ما سجَّله ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة ، عن أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب تأريخ بغداد ، مسنداً عن ابن عباس أنه قال - في حديث طويل جرى بينه وبين الخليفة عمر بن الخطاب - قال عمر في بعض ما أجاب به ابن عبّاس ما ملخَّصه : إني لمَّا علمت أن النبيَّ صلی اللّه علیه و آله أراد في مرضه أن يكتب لعلي علیه السلام بالخلافة ويعهد بها إليه ، فمنعته من ذلك ، لعلمي بأن العرب تنقض عليه لبغضها له (1).

وهذا القول - يا أستاذ - يرشدك إلى أنهم كانوا يعلمون مسبقاً بالنصِّ على علي علیه السلام ، ولكنّهم يرون أن مصلحة الأمّة ، وانتقاض العرب ، وعدم رغبتهم في اجتماع النبوّة والإمامة في أهل بيت النبيِّ صلی اللّه علیه و آله .

المحاورة بين عمر وابن عباس تكشف عن لثام الحقيقة

السيِّد البدري يتابع الحديث قائلا : هذه المحاورة تكشف لك - يا أخي - عن المؤامرة التي حصلت من الخليفة عمر بن الخطاب عمَّا كان يريده رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من كتابة الكتاب ، كما وردت في تأريخ الطبري ، والكامل لابن الأثير ، فاسمع أيها المحاور ...

قال عمر بن الخطاب لابن عباس : يا بن عباس! أتدري ما منع قومكم منهم بعد محمّد صلی اللّه علیه و آله ؟

فكرهت أن أجيبه ، فقلت : إن لم أكن أدري فإن أميرالمؤمنين يدريني.

ص: 543


1- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 12 / 21.

فقال عمر : كرهوا أن يجمعوا لكم النبوَّة والخلافة ، فتبجَّحوا على قومكم بجحاً بجحاً ، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفِّقت.

فقلت : يا أميرالمؤمنين! إن تأذن لي في الكلام ، وتمط عني الغضب تكلَّمت.

قال : تكلَّم ، قلت : أمَّا قولك يا أميرالمؤمنين : اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفِّقت ، فلو أن قريشاً اختارت لأنفسها حيث اختار اللّه لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود ، وأمَّا قولك : إنهم أبوا أن تكون لنا النبوَّة والخلافة ، فإن اللّه عزَّوجلَّ وصف قوماً بالكراهة ، فقال : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) (1).

فقال عمر : هيهات واللّه يا ابن عباس ، قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت أكره أن أقرَّك عليها فتزيل منزلتك مني (2).

ولهذا يقول عمر بن الخطاب : لقد كان - أي النبي صلی اللّه علیه و آله - يربع في أمره ، ولقد أراد في مرضه أن يصرِّح باسمه فمنعته من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام ، لا وربِّ هذه البنيَّة! لا تجتمع عليه قريش أبداً ، ولو وليها لانتفضت عليه العرب في أقطارها ، فعلم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنني علمت ما في نفسه فأمسك (3).

هشام آل قطيط : بعد كلِّ ما طرحناه من تساؤلات ومناقشات وردود من

ص: 544


1- سورة محمّد ، الآية : 9.
2- تاريخ الطبري : 3 / 289 ، السقيفة وفدك ، الجوهري : 131 ، الكامل ، ابن الأثير : 3 / 62 في حوادث سنة 23 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 12 / 53.
3- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 12 / 21.

قبل سماحتكم ، إلى أين تريد أن توصلني؟

السيِّد البدري : يا أخي! نحن لسنا بحاجة ، إن تشيعت أم لم تتشيَّع لدينا أكثر من 300 مليون شيعي في العالم ، ولكن الواجب الشرعي يفرض عليَّ أن أبيِّن لك بالأدلّة والبراهين أين هو الحق ، فالمسلم الواثق من عقيدته لا يهاب الحوار ، ولا تخيفه المناقشات ، لماذا الخوف من الحوار؟ فأعطيك مثالا : أنا السيِّد علي البدري ، من سكَّان بغداد ( الكرَّادة الشرقية ) ، نشأت في بيئة سنّية ، ودرجت كما درج أهلي ( الدين عندنا عادة وليس عبادة ).

وبعد أن أنهيت دراساتي الشرعيَّة من جامعة بغداد ، وذهبت إلى الأزهر لإكمال الدراسات العليا ، فبدأت من هناك أجري مقارنات بين العقيدة السنّيّة والعقيدة الشيعيّة ، فتوصَّلت بعد بحوث مجهدة ومعاناة طويلة إلى أن اخترت مذهب أهل البيت علیهم السلام ، أو مذهب الإمام جعفر الصادق علیه السلام ، أو ما يسمُّونه اليوم بالشيعة ، أو المذهب الشيعيّ ، فأعلنت عن تشيُّعي ، وكنت وكيل زعيم الطائفة الشيعيّة السيِّد أبو القاسم الخوئي في مصر ، وحتى أصبحت داعية التشيُّع في كلِّ أقطار العالم الإسلاميّ وغير الإسلاميّ.

وأنا أتكلَّم من منطق الواثق من نفسه ، حيث إني درست واطّلعت على كتب الفريقين : السنّيّ والشيعيّ ، حتى توصَّلت إلى حفظ صحيح البخاري وأرقام الصفحات المهمّة بالحوار والاحتجاج ، وغيره من الصحاح وكتب التاريخ.

كل ممنوع مرغوب

أحكي لك هذه القصَّة : عندما كنت صغيراً في العشرينات كان أحد أساتذني يحذِّرني من قراءة كتب الشيعة.

ص: 545

فقلت له : يا أستاذ! ما دمتم تحذِّرونا من كتب الشيعة أسألك هذا السؤال : هذه الكتب المخيفة إمَّا أنها تحتوي على الحقيقة أو على الباطل ، فإن كانت الأولى فلماذا تحذِّرون من اتّباع الحقيقة؟ وإمَّا على الباطل فلماذا لا تردُّون عليها - يا أستاذ - وتبيِّنوا لنا الشبهات التي فيها حتى لا نقع في الشبهات؟

فضحك الأستاذ ، وقال لي : كان والدي يحذِّرني منها.

فقلت له : يا أستاذ! وإلى متى نبقى على هذا الخوف والتحذير؟

فكان الأستاذ من خلال تحذيره لي ، تولَّد عندي نزعة شديدة لقراءة هذه الكتب ، ووصلت بحمد اللّه تعالى إلى ما وصلت ، فأشجِّعك - يا أخي - قربة إلى اللّه ، وأنا رجل مريض ، وأصبحت في آخر العمر ، ولا أعرف أكمل هذه السنة أم لا ، فتابع البحث والسؤال يا بنيَّ ; لأن عمدة العلم في السؤال ، ووفَّقك اللّه.

وانتهت هذه الجلسة بسبب مرض السيِّد البدري.

اللقاء السابع : المناقشة في بيعة أبي بكر وحديث الثقلين

اشارة

ذهبت في تمام الساعة العاشرة صباحاً إلى منزل الداعية الشيعيِّ السيِّد علي البدري ، فطرقت الباب ، ففوجئت بحرمه الموقَّرة تبلغني نبأ مرضه الشديد ، وقالت : حصل معه ألم في القلب ، وهو في مشفى المجتهد ، في قسم العناية القلبيّة المشددة.

فنزلت على الدرج بسرعة هائلة ، وقطعت الشارع ركضاً ، وأقلَّتني سيَّارة إلى مشفى المجتهد ، فدخلت إلى المشفى ، وأدعو له طول الطريق بطول العمر ; لأنه الإنسان الوحيد الذي وجدت فيه الصدق في القول والإخلاص في العمل ، رجل شيبة في الثمانينات ، ويحاور ويسافر ، ويحمل أكداس من الكتب بيده

ص: 546

الشريفة لينير الدرب أمام الشباب ، وسألت البوَّاب الذي يقف على باب قسم العناية القلبيّة المشدَّدة فأدخلني ، فسرت في الممرّ ، فسألت إحدى الممرِّضات عن غرفة السيِّد علي البدري ، فقالت لي : الشيخ الشيبة؟ قلت لها : نعم ، قالت : هو في الغرفة الثالثة.

فدخلت وقبَّلت جبينه ، وقال لي : يا بنيَّ! لقد أتيت ، فقلت له : نعم ، فقال لي : أطلب من اللّه أن يطيل بعمري فقط ولو سنة حتى أوضح لك كل الشبهات التي في ذهنك ، فقلت له : عمرك طويل إن شاء اللّه تعالى يا سماحة السيِّد.

السيِّد : هل تريد منّي أيَّ خدمة؟ قال لي : اجلس هنا ، هذا السرير فارغ ، فجلست ، ورفع رأسه عن الوسادة.

حوار في مشفى المجتهد لمدة نصف ساعة!!

هشام آل قطيط : سماحة السيِّد الجليل! أستطيع أن أتكلَّم معك وأسألك؟

السيِّد البدري : اسأل يا أخي! ما دام فيَّ عرق ينبض سأردُّ عليك ، ويساعدني الإمام علي والزهراء علیهماالسلام ، والحجّة القائم الإمام المهدي عجَّل اللّه فرجه الشريف.

هشام آل قطيط : ألم يكن هناك إجماع وشورى على خلافة سيِّدنا أبي بكر بعد النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ؟

السيِّد البدري : أرجو أن تبيِّن لي أدلّتك على صحة الإجماع والشورى.

هشام آل قطيط : أولا : إجماع الأمّة على خلافته.

ثانياً : كبر سنّه وشيخوخته ، والأمّة لا تقبل أن يكون الخليفة من هو أصغر سنّاً مثل الإمام علي ( كرَّم اللّه وجهه ) وأنتم لو أنصفتم - سماحة السيِّد - لأعطيتم

ص: 547

الحقَّ للمسلمين ، فلا يجوز عقلا أن يتقدَّم في هذا الأمر العظيم شابٌّ حدث السن مع وجود شيوخ قومه وكبراء أهله ، وإن تأخَّر سيِّدنا علي ( كرَّم اللّه وجهه ) لا يكون نقصاً له بل كمالا له ، وإن أفضليته على أقرانه ثابتة ولا ننكرها.

ثمَّ إنني أسمع حديثاً دائماً يردِّده علماؤنا السنّة ; قول سيِّدنا عمر : لا تجتمع النبوَّة والملك في أهل بيت واحد.

هذه أسباب تقدُّم أبي بكر وتأخُّر عليٍّ علیه السلام في أمر الخلافة ( ولا تجتمع أمّتي على ضلال أو على خطأ ).

السيِّد البدري : إن أدلَّتك - يا أخي - تضحك الثكلى ، وإن مثلك كمثل الذي يغمض عينيه فيصبح كالأعمى ، فلا يرى الشمس الطالعة في الضحى ، وينكر ضوء النهار إذا تجلَّى ، فافتح عينيك ، وانظر إلى منار الهدى ، واسلك طريق الحقّ ، ولا تتّبع الهوى ، ولا تغرّنّك الدنيا ، وإن الآخرة خير وأبقى.

وأرجو منك أن تقرأ كتب الشيعة بدقّة ، وتعمِّق الفكر في أدلّتنا وبراهيننا ، أقول هذا لأني فتَّشت أسواق القاهرة والحجاز والخليج والأردن ، وأسواق الشام وأندونيسيا وتنزانيا وبومباي ، وغيرها من البلاد الإسلاميّة التي غالب سكَّانها أهل السنة ، أو حكَّامها من أهل السنّة والجماعة ، فما وجدت كتب الشيعة في مكتباتها ، فكأنكم - مع الأسف - آليتم أن لا تطالعوا كتب الشيعة ، فلا أدري هل حكمتم عليها بأنها كتب ضلال فحرَّمتم قراءتها؟!!

وإنّي دخلت بيوت كثير من إخواننا أهل السنّة ، علماء وغير علماء ، وخاصة الذين يهوون مطالعة الكتب ، ويملكون مكتبات شخصيّة في بيوتهم ، فوجدت فيها كتب مختلفة حتى كتب غير المسلمين من الشرقيّين والغربيّين ، ولم أجد كتاباً واحداً من كتب الشيعة!!

ص: 548

بينما نحن في بلادنا نطبع كتب السنّة وننشرها ، وندعو أهل العلم والمثَّقفين من شبابنا لمطالعتها ، فهذه مدينة النجف الأشرف ، وكربلاء المقدَّسة في العراق ، وهذه مدينة مشهد ، ومدينة قم المقدسة ، وكذلك شيراز وطهران وإصفهان ، التي فيها حوزاتنا العلميّة ومراجعنا العظام ، ولا أجد مكتبة واحدة من مكتباتنا العامّة والخاصّة تخلو من صحاحكم وكتبكم ومسانيدكم وتواريخكم وتفاسيركم ، لا لحاجة منّا إليها ; لأن مدرسة أهل البيت علیهم السلام غنيّة ، والأخبار المرويَّة عن العترة الطاهرة تناولت جميع جوانب الحياة ، وكل ما يحتاجه الإنسان في أمر الدين والدنيا.

وعلاوة على ذلك ألفت نظرك إلى مسألة مهمّة جدّاً ، خذها بعين الاعتبار يا أخي ، أعطني دليلا واحداً أن هناك عالم شيعي انتقل من التشيُّع إلى التسنُّن ، لا يوجد .. أتحدَّاك ، بينما العشرات والمئات من علماء السنة ومثقَّفيهم انتقلوا من التسنُّن إلى التشيُّع .. لماذا؟!! فكِّر في ذلك وأنصف.

لا إجماع على خلافة أبي بكر ..

ويتابع سماحة السيِّد إجابته قائلا : أيُّها الأخ! لو فكَّرت قليلا وأنصفت ، ثمَّ نظرت نظرة الباحث المدقِّق المتأمِّل بأحداث السقيفة وما نجم منها لأذعنت أن خلافة أبي بكر ما كانت بموافقة أهل الحلِّ والعقد ، ولم يحصل الإجماع عليها ، ولو أنك تدبَّرت قول عمر بن الخطاب في صحيح البخاري - أصدق صحيح عندكم - ما قاله بعد هذا الإجماع والبيعة في السقيفة قوله : إنّما كانت بيعة أبي بكر

ص: 549

فلتة ، وتمَّت ، ولكن اللّه وقى شرَّها (1) ، إلى أن قال : من بايع منكم رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ، ولا الذي بايعه تغرَّة أن يقتلا ، إلى قوله : إلاَّ أن الأنصار خالفوا ، واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة ، وخالف عنّا علي علیه السلام والزبير ومن معهما.

وأزيدك أدلّة أخرى يا أستاذ ، فالإجماع الذي تزعمه نفاه كثير من علمائكم ، منهم : صاحب كتاب ( المواقف ) ، والفخر الرازي ، وجلال الدين السيوطي ، وابن أبي الحديد ، والطبري ، والبخاري ، ومسلم بن الحجاج ، وغيرهم.

وقد ذكر العسقلاني ، والبلاذري في تأريخه ، وابن عبد البرّ في الاستيعاب ، وغير هؤلاء أيضاً ، ذكروا : أن سعد بن عبادة وطائفة من الخزرج وجماعة من قريش ما بايعوا أبا بكر ، وثمانية عشر من كبار الصحابة رفضوا أيضاً أن يبايعوه ، وهم شيعة علي بن أبي طالب علیه السلام وأنصاره ، ذكروا أسماءهم كمايلي :

1 - سلمان الفارسي

2 - أبو ذر الغفاري.

3 - المقداد بن الأسود الكندي.

4 - أُبي بن كعب.

5 - عمار بن ياسر.

6 - خالد بن سعيد بن العاص.

7 - بريدة الأسلمي.

8 - خزيمة بن ثابت ذوالشهادتين.

9 - أبو الهيثم بن التيهان.

10 - سهل بن حنيف.

ص: 550


1- صحيح البخاري : 8 / 26 ، المعيار والموازنة ، أبو جعفر الإسكافي : 38 ، المصنّف ، ابن أبي شيبة : 8 / 615 - 616 ، تأريخ اليعقوبي : 2 / 158 ، كتاب الثقات ، ابن حبان : 2 / 156 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 9 / 31 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 6 / 5.

11 - عثمان بن حنيف.

12 - أبو أيوب الأنصاري.

13 - جابر بن عبد اللّه الأنصاري.

14 - حذيفة بن اليمان.

15 - سعد بن عبادة.

16 - قيس بن سعد.

17 - عبد اللّه بن عبّاس.

18 - زيد بن أرقم.

وذكر اليعقوبي في تأريخه فقال : تخلَّف قوم من المهاجرين والأنصار عن بيعة أبي بكر ، ومالوا مع علي بن أبي طالب ، منهم : العباس بن عبد المطلب ، والفضل بن العباس ، والزبير بن العوام ، وخالد بن سعيد بن العاص ، والمقداد ، وسلمان ، وأبو ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر ، والبراء بن عازب ، وأُبي بن كعب (1).

أقول : ألم يكن هؤلاء من صفوة أصحاب النبي صلی اللّه علیه و آله ، ومن المقرَّبين إليه والمكرَّمين لديه؟! فلماذا لم يشاورهم؟ فإن لم يكن هؤلاء الأخيار من أهل الحلِّ والعقد ، ومن ذوي البصيرة والرأي في المشورة والاختيار ، فمن يكون إذن؟!! وإذا لم يعبأ برأي أولئك الذين كانوا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يشاورهم الأمور ويعتمد عليهم ، فبرأي من يعبأ؟ ورأي من يكون ميزاناً ومعياراً لإبرام الأمور المهمّة ، وحسم قضايا الأمة؟!

مخالفة أهل البيت علیهم السلام لخلافة أبي بكر

ويتابع السيِّد البدري استدلاله قائلا : أوَّل من خالف أبا بكر هم أهل البيت علیهم السلام ، وهم بإجماع الأمة أفضل الصحابة ، وهم في الصفّ الأول والمتقدِّمين

ص: 551


1- تاريخ اليعقوبي : 2 / 124.

على أهل الحلّ والعقد ، وإن إجماع أهل البيت علیهم السلام حجّة لازمة على الأمّة ، بدليل قوله صلی اللّه علیه و آله : إني تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلُّوا بعدي أبداً (1).

هشام آل قطيط : عفواً ، عفواً سماحة السيِّد! أنت ذكرت : إني تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، لماذا لم تذكر حديث : كتاب اللّه وسنّة نبيِّه؟ من أين أتيت بحديث : عترتي أهل بيتي؟

السيِّد البدري : أعطني دليلا على صحّة ما قلت أيُّها الأستاذ.

هشام آل قطيط : وقفت محتاراً عن عدم الدليل ( فاقد الشيء لا يعطيه ) ، إن شاء اللّه في جلسة أخرى سأحضر الدليل.

السيِّد البدري : لا تعذِّب نفسك يا أخي ، راجع : مسند أحمد بن حنبل ، الجزء الثالث : ص 17 ، وأخرجه أيضاً في نفس المصدر عن أبي سعيد الخدري ص 26 ، وص 59 عن أبي سعيد الخدري حديثاً آخر ، وأخرج في الجزء الرابع ص 267 عن زيد بن أرقم حديثاً آخر ، وفي صحيح مسلم ذكره في الجزء الثاني ص 238.

وأمَّا حديث : كتاب اللّه وسنَّة نبيِّه ، رواه الإمام مالك في موطَّئه ، الجزء الثاني : ص 899 ، ط دار إحياء التراث العربي ، تحقيق الدكتور محمّد فؤاد عبد الباقي المصري. وصيغة الحديث على الشكل التالي : حدَّثنا مالك أنه بلغه : ما إن تمسَّكتم بأمرين : كتاب اللّه وسنّة نبيِّه.

فهذا الحديث عند علماء الجرح والتعديل عندكم والحفَّاظ حديث مرسل

ص: 552


1- تقدَّمت تخريجاته.

ولا يؤخذ به ، فاشتهر عندكم ( وكم من شهير ليس له أصل ) والصحاح الحاكمة بوجوب التمسُّك بالثقلين متواترة ، وطرقها عن بضع وعشرين صحابيّاً متظافرة ، وقد صدع بها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في مواقف له شتّى : تارة يوم غدير خمّ ، وتارة يوم عرفة في حجّة الوداع ، وتارة بعد انصرافه من الطائف ، ومرَّة على منبره في المدينة ، وأخرى في حجرته المباركة في مرضه ، والحجرة غاصَّة بأصحابه ، إذ قال : أيُّها الناس! يوشك أن أقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي ، وقد قدَّمت إليكم القول معذرة إليكم ، ألا إنّي مخلِّف فيكم كتاب اللّه عزَّوجلَّ وعترتي أهل بيتي ، ثمَّ أخذ بيد علي علیه السلام فرفعها ، فقال : هذا علي مع القرآن ، والقرآن مع علي ، لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض .. الحديث (1).

ثمَّ قال : أخرجه الطبراني كما في أربعين الأربعين ، وكتاب ( إحياء الميت في فضائل أهل البيت علیهم السلام ) للشيخ جلال الدين السيوطي.

وانتهى الحوار في مشفى المجتهد بدمشق.

اللقاء الثامن : تأجيل المناظرة

ذهبت إلى منزل السيِّد البدري صباحاً ، وهنَّأته بالسلامة بعد خروجه من المشفى ، وقال لي : الآن عندي موعد مع جماعة من لبنان ، وبعد صلاة المغرب تفضَّل - يا أخي - لنكمل البحث والحوار.

ص: 553


1- مناقب أهل البيت علیهم السلام ، الشيرواني : 174 ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : 1 / 124 ح 56 و 2 / 403 ح 54 ، الصواعق المحرقة ، ابن حجر : 124 ط المحمدية بمصر و 75 ط الميمنية.

اللقاء التاسع : مسألة كبر السنّ في الخليفة ، وظلامة علي وفاطمة علیهماالسلام

اشارة

وبعد صلاة المغرب حضرت لإكمال البحث والحوار.

مناقشة الأدلّة وتفنيدها

السيِّد البدري : أمَّا دليلك كبر سنّ الخليفة أبي بكر ، فقدَّموه لأنه أكبر سنّاً من علي بن أبي طالب علیه السلام ، صحيح أن أصحاب السقيفة استدلُّوا بهذا الدليل لإقناع الإمام علي علیه السلام ليبايع أبا بكر (1) ، ولكنه دليل ضعيف ، وكلام سخيف ، فلو كان كبر السنّ ملحوظاً في المنصوب للخلافة فقد كان في المسلمين والصحابة من هو أكبر سنّاً من أبي بكر ، حتى إن والده أبا قحافة كان حيّاً في ذلك اليوم ، فلم أخَّروه وقدَّموا ابنه؟!!

هشام آل قطيط : عفواً سماحة السيّد! إن الملاحظ عندنا والمعروف هو كبر السنّ والسابقة في الإسلام ، وقد كان سيِّدنا أبو بكر محنَّكاً في الأمور ، ومحبوباً عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، بينما سيِّدنا علي ( كرَّم اللّه وجهه ) كان حدث السنّ ، وغير محنَّك في مجرَّبات الأمور.

السيِّد البدري : إذا كان كذلك - يا أستاذ - فلماذا قدَّم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليّاً علیه السلام في كثير من الأمور والقضايا؟!

ص: 554


1- قال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة 1 / 29 : قال أبو عبيدة بن الجرَّاح لعليٍّ كرَّم اللّه وجهه : يا بن عمّ! إنك حديث السنّ ، وهؤلاء مشيخة قومك ، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور ، ولا أرى أبا بكر إلاَّ أقوى على هذا الأمر منك ، وأشدّ احتمالا واستطلاعاً ، فسلِّم لأبي بكر هذا الأمر ، فإنك إن تعش ويطل بك بقاء فأنت بهذا الأمر خليق ، وبه حقيق ، في فضلك ودينك ، وعلمك وفهمك ، وسابقتك ، ونسبك وصهرك.

أولا : أروي لك هذه النكتة التي وردت في شرح ابن أبي الحديد ، قال : قيل لأبي قحافة والد الخليفة أبي بكر يوم ولي الأمر ابنه : قد ولي ابنك الخلافة ، فقرأ : ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء ) (1) ، ثمَّ قال : لم ولَّوه؟ قالوا : لسنِّه! قال : أنا أسنُّ منه!! (2).

ثانياً : في غزوة تبوك ، حينما عزم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يخرج مع المسلمين إلى تبوك ، وكان يخشى تحرُّك المنافقين في المدينة وتخريبهم خلَّف عليّاً علیه السلام ليدير أمور المدينة المنوَّرة ، دينيّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً ، وقال له : أنت خليفتي في أهل بيتي ، ودار هجرتي ، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلاَّ أنه لا نبيَّ بعدي (3).

ثالثاً : تبليغ آيات من سورة براءة لأهل مكة حين كانوا مشركين ، فقد عيَّن النبي صلی اللّه علیه و آله أبا بكر لهذه المهمّة وأرسله إلى مكة ، وقطع مسافة نحوها ، ولكنَّ اللّه عزَّوجلَّ أمر النبيَّ صلی اللّه علیه و آله أن يعزل أبا بكر ويعيِّن عليّاً علیه السلام لتبليغ الرسالة ، ففعل النبي صلی اللّه علیه و آله وأرسل عليّاً علیه السلام ، فأخذ الرسالة من أبي بكر ، فرجع إلى المدينة ، وذهب علي علیه السلام إلى مكة ، فوقف في الملأ العام من قريش ، ورفع صوته بتلاوة الآيات من سورة براءة ، وأدَّى تبليغ الرسالة ، ونفَّذ الأمر ، ورجع إلى المدينة (4).

ص: 555


1- سورة آل عمران ، الآية : 26.
2- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1 / 222.
3- الإرشاد ، المفيد : 1 / 156 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 21 / 208 ، مسند أحمد بن حنبل : 1 / 331 ، كتاب السنة ، ابن أبي عاصم : 551 ح 1188 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 12 / 78 ، المناقب ، الموفق الخوارزمي : 126 - 127 ح 140 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 42 / 102 ، الإصابة ، ابن حجر : 4 / 467 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 7 / 374 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 11 / 606 ح 32931.
4- 4 - قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : 6 / 45 و 12 / 46 : روى الزبير بن بكار في كتاب ( الموفقيات ) عن عبداللّه بن عباس، قال : إني لأماشي عمر بن الخطاب في سكَّة من سكك المدينة ، إذ قال لي : يا ابن عباس! ما أرى صاحبك إلاَّ مظلوماً! فقلت في نفسي : واللّه لا يسبقني بها ، فقلت : يا أميرالمؤمنين! فاردد إليه ظلامته ، فانتزع يده من يدي ، ومضى يهمهم ساعة ، ثمَّ وقف فلحقته ، فقال : يا ابن عباس! ما أظنُّ منعهم عنه إلاَّ أنه استصغره قومه! فقلت في نفسي : هذه شرٌّ من الأولى! فقلت : واللّه ما استصغره اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله حين أمراه أن يأخذ براءة من صاحبك! فأعرض عني وأسرع ، فرجعت عنه. وروي أيضاً : في السقيفة وفدك ، الجوهري : 2. والرياض النضرة ، الطبري : 2 / 173.

رابعاً : أنه صلی اللّه علیه و آله بعثه إلى اليمن ليهدي أهلها إلى الإسلام ، ويبلغهم الدين ، ويقضي بين المتخاصمين ، وقد أدَّى هذا الأمر على أحسن وجه.

هشام آل قطيط : وما جوابكم - سماحة السيِّد - عن قول سيِّدنا عمر بأن النبوَّة والحكم لا تجتمعان في أهل بيت واحد؟

السيِّد البدري : أيُّها الأستاذ! قول عمر باطل ، وزيفه واضح ، بدليل قوله تعالى : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً ) (1).

فهذا الكلام إن كان ينسب إلى عمر فهو دليل على عدم إحاطته بالآيات القرآنيّة ومفاهيمها ، وإن كان عمر يرويه عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فهو حديث مجعول ;لأنه مخالف لكتاب اللّه العظيم.

ثمَّ - أيُّها الأخ المحاور - إن خلافة النبوَّة عندنا كخلافة هارون لأخيه موسى بن عمران ، حيث قال سبحانه وتعالى في كتابه : ( وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ ) (2) ، فإن يكن عندكم أنه يحقُّ للمسلم أن ينفي

ص: 556


1- سورة النساء ، الآية : 54.
2- سورة الأعراف ، الآية : 142.

خلافة هارون لموسى ، فإنه يحقُّ له أيضاً عزل علي علیه السلام من خلافة خاتم النبيين صلی اللّه علیه و آله ، فكما أن النبوَّة والخلافة اجتمعتا في أهل بيت عمران والد موسى وهارون كما ينصُّ القرآن فيه ، كذلك اجتمعتا للنبيِّ صلی اللّه علیه و آله وعلي علیه السلام في بيت عبد المطلب بالنصوص الكثيرة.

هشام آل قطيط : سماحة السيِّد! إن الكلام والنقاش حول هذه المواضيع لا يزيد المسلمين إلاَّ تنافراً وحقداً وابتعاداً ، كيفما كان الأمر فنحن ما كنّا في ذلك اليوم ، ولم نحضر السقيفة حتى نلمس الأمر ، ونتحسَّس الأحداث ، فأقول لك : ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ) (1) ، فنحن لا نحاسب عنهم إن أخطأوا.

السيِّد البدري : هذا جواب من لا يملك الحجّة والدليل الشرعيّ ، فيقول : ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ) يجب على كل مسلم أن يتبع الحق ، لا أنه يستسلم للأمر الواقع فكم من ضلال وباطل قائم في الدنيا ، فهل يجوز للمسلم أن يتبعه ويتقبَّله ثمَّ يقول : إنه أمر واقع ، وليس لنا إلاَّ أن نستسلم للأمر الواقع؟! فالإسلام دين تحقيق لا دين تقليد ، قال سبحانه وتعالى : ( فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) (2) ، فهل قول عمر أحسن أم قول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟! فهل يجوز للمسلم أن يترك هذه النصوص الجليَّة والأحاديث النبويَّة المرويَّة عن صحاحكم وتواريخكم؟

هشام آل قطيط : لقد كرَّرت الكلام بأن عليّاً كرَّم اللّه وجهه وبني هاشم وكثير من الصحابة لم يرضوا بخلافة أبي بكر ولم يبايعوه ، ونحن نرى التواريخ

ص: 557


1- سورة البقرة ، الآية : 134.
2- سورة الزمر ، الآية : 17 - 18.

كلها اتّفقت على أن سيِّدنا عليّاً وبني هاشم وجميع أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بايعوا أبا بكر.

السيِّد البدري : نعم بايعوا ، ولكن أسألك كيف تمَّت هذه البيعة؟ أما قرأت في كتب التأريخ والحديث أن عليّاً علیه السلام وبني هاشم وكثيراً من كبار الصحابة ما بايعوا إلاَّ بعد ستة أشهر بالتهديد والجبر ، إذ جردوا السيف على رأس الإمام علي علیه السلام ، وهدَّدوه بالقتل إن لم يبايع!

هشام آل قطيط : إني أعجب من سماحتك أيُّها السيِّد ، كيف تتفوَّه بهذا الكلام؟! ما هو إلاَّ من أساطير عوام الشيعة وجهلتهم ، وقد أكَّد المؤرِّخون أن سيِّدنا عليّاً ( كرَّم اللّه وجهه ) بايع أبا بكر في لحظة استلامه للخلافة طوعاً ورغبة ، وأعلن موافقته لخلافة سيِّدنا أبي بكر.

السيِّد البدري : ألم تقرأ كتب الصحاح والتاريخ أيُّها المحاور ، إرجع إلى صحيح البخاري : 3 - 37 باب غزوة خيبر لترى ما ترى .. راجع صحيح مسلم : 5 - 154 باب قول النبيِّ صلی اللّه علیه و آله : لا نورث ، وراجع كتاب الإمامة والسياسة : ص 14 ، وراجع مروج الذهب للمسعودي : 1 - 414 ، وابن أعثم الكوفي في الفتوح ، والحميدي في الجمع بين الصحيحين ، كل هؤلاء أخرجوا أن عليّاً علیه السلام وبني هاشم لم يبايعوا إلاَّ بعد ستة أشهر.

وروى ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة عن الصحيحين ، عن الزهري ، عن عائشة : فهجرته - يعني أبا بكر - فاطمة ولم تكلِّمه في ذلك حتى ماتت ، فدفنها عليٌّ ليلا ، ولم يؤذن بها أبا بكر ، وفي الخبر : فمكثت فاطمة علیهاالسلام ستة أشهر ثمَّ توفِّيت ، فقال رجل للزهري : فلم يبايعه عليٌّ ستة أشهر؟! قال : ولا

ص: 558

أحد من بني هاشم ، حتى بايعه علي (1).

وذكر ابن قتيبة في الإمامة والسياسة : ص 13 (2) ، تحت عنوان : ( كيف كانت بيعة علي بن أبي طالب كرَّم اللّه وجهه ) قال : وإن أبا بكر تفقَّد قوماً تخلَّفوا عن بيعته عند علي ( كرَّم اللّه وجهه ) فبعث إليهم عمر فجاء فناداهم وهم في دار عليٍّ ، فأبوا أن يخرجوا ، فدعا بالحطب وقال : والذي نفس عمر بيده! لتخرجن أو لأحرقها على من فيها! فقيل له : يا أبا حفص! إن فيها فاطمة! فقال : وإن ... وبعد عدّة أسطر في نفس المصدر السابق له ، يقول : فدقُّوا الباب ، فلمَّا سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها : يا أبت يا رسول اللّه! ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة؟ فلمَّا سمع القوم صوتها وبكاءها انصرفوا باكين.

وبقي عمر ومعه قوم فأخرجوا عليّاً ، فمضوا به إلى أبي بكر ، فقالوا له : بايع ، فقال : إن أنا لم أبايع فمه؟! قالوا : إذن واللّه الذي لا إله إلاَّ هو! نضرب عنقك! قال : إذن تقتلون عبد اللّه وأخا رسوله ، قال عمر : أمَّا عبد اللّه فنعم ، وأمَّا أخو رسوله فلا ، وأبو بكر ساكت لا يتكلَّم ، فقال له عمر : ألا تأمر فيه بأمرك؟! فقال : لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه.

فلحق عليٌّ بقبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، يصيح ويبكي وينادي : ( ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي ) (3) (4).

ص: 559


1- راجع أيضاً : السنن الكبرى ، البيهقي : 6 / 300 ، المصنّف ، عبد الرزاق الصنعاني : 5 / 472 ح 9774 ، تاريخ الطبري : 2 / 448 ، فتح الباري ، ابن حجر : 7 / 379 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 6 / 46.
2- وفي الطبعة الأولى : ص 30 وفي طبعة مؤسَّسة الحلبي : ص 19.
3- سورة الأعراف ، الآية : 150.
4- 4 - قال قطب الدين اليونيني : وحكى لي نجم الدين موسى الشقراوي ما معناه : أن العزّ الضرير - وكان العز يصرح بتفضيل علي عليه السلام على الثلاثة الخلفاء - حدَّثه أنه كان في مجلس سيف الدين الآمدي ، وهناك جماعة من العلماء منهم الشيخ عز الدين بن عبد السلام، فجرى البحث في الإمامة ، ومن الخليفة بعد رسول اللّه صلی اللّه عليه وآله وسلم ؟ فقال بعض الحاضرين : قد روي أن علي بن أبي طالب عليه السلام بايع لأبي بكر مكرهاً ، وأن أبا عبيدة بن الجراح قال له : بايع وإلا قتلت ، فالتفت علي عليه السلام إلى قبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وقال : (ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ) . ( ذيل مرآة الزمان ، قطب الدين اليونيني ، المجلد الأول : ج 2 ص 169).

واعلم - أيُّها الأخ المحاور - أن مسؤوليتك خطيرة تجاه الجهلة والعوام ; لأنهم يأخذون منكم أنتم المثقَّفون - وأيضاً العلماء - ولقد قيل : إذا فسد العالِم فسد العالَم ، أنتم الشباب الواعي المثقَّف يجب عليكم أن تقرؤوا صحاحكم وتاريخكم ، ولا تتّبعون أسلافكم المتعصِّبين وأتباعهم ، فلِم تصدِّقون كل ما تسمعونه عن الشيعة المظلومين عبر التاريخ؟ بينما كل الأخبار التي تتحدَّث بها الشيعة هي من كتبكم ، فراجع واقرأ بعين الإنصاف ; لأنك مسؤول غداً أمام اللّه عن هذه الأدلّة ، ولا تقل إن أبي وجدّي كانوا كذا ... الدين ليس بالوراثة ، والدين ليس عادات وتقاليد ورثناها عن آبائنا وأجدادنا ، فالدين علم ، وفكر ، ومنطق ، واحتجاج ، وبيِّنة.

حتى لو اصطدمت مع والدك ، حتى لو اصطدمت مع أستاذك ، أو مع شيخك الذي تصلّي خلفه ، أو اختلفت فعليك اتّباع البيِّنة والحجَّة والبرهان ، واللّه الموفِّق إلى سبيل الرشاد.

وثائق تاريخيَّة

لقد نقل لنا المحدِّثون والمؤرِّخون هذه الحوادث الأليمة في التاريخ ، وإليك - أيُّها المحاور - بعض الوثائق التاريخية التي تكون عندكم محلَّ الوثوق

ص: 560

والاعتبار.

1 - غضب السيِّدة فاطمة الزهراء علیهاالسلام ، ويذكره البخاري في صحيحه قائلا : ( فوجدت فاطمة علیهاالسلام على أبي بكر في ذلك ، فهجرته فلم تكلَّمه حتى توفِّيت ) (1) ، وأخذنا بحديث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ( فاطمة سيِّدة نساء العالمين ) (2).

فنستنتج بأن إمام زمان فاطمة علیهاالسلام هو علي بن أبي طالب علیه السلام ، الواجب الطاعة ، وهو الخليفة بعد رسول الأمَّة ، ألم يبادر إلى ذهنك - أيُّها المحاور - أين قبر فاطمة؟ فخذ الجواب من شاعر أهل البيت علیهم السلام الأزري :

فَلأَيِّ الأُمُورِ تُدْفَنُ لَيْلا *** بَضْعَةُ الْمُصْطَفَى وَيُعْفَى ثَرَاهَا

فَمَضَتْ وَهيَ أَعْظَمُ الناسِ وَجْداً *** في فَمِ الدهرِ غُصَّةٌ مِنْ جَوَاهَا

وَثَوَتْ لاَ يَرَى لَهَا النّاسُ مثوىً *** أيُّ قُدّس يَضُمُّهُ مَثْوَاها (3)

ثمَّ أُضيف لك - أيُّها الأخ - أنهم اغتصبوا حقَّ فاطمة علیهاالسلام ، واحتجُّوا عليها بحديث : النبيُّ لا يورِّث.

المحاور : عفواً سماحة السيِّد! : النبيُّ صلی اللّه علیه و آله قال : نحن معاشر الأنبياء لا نوِّرث ، فالوراثة هي العلم والحكمة.

ص: 561


1- صحيح البخاري : 5 / 82 و 8 / 3 ، صحيح مسلم : 5 / 154 ، السنن الكبرى ، البيهقي : 6 / 300 ، المصنّف ، عبد الرزاق الصنعاني : 5 / 472 ح 9774 ، صحيح ابن حبان : 11 / 153 ، تأريخ المدينة ، ابن شبة : 1 / 196.
2- السنن الكبرى ، النسائي : 4 / 252 ، ح 7078 ، المصنّف ، ابن أبي شيبة : 7 / 527 ح 5 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 42 / 134 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 10 / 265 ، أسد الغابة ، ابن الأثير : 4 / 16 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 12 / 110 ح 34233 ، فيض القدير ، المناوي : 3 / 139 ، الدرّ المنثور ، السيوطي : 2 / 23 ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبداللّه الطبري : 43.
3- الأزريّة ، الشيخ الأزري : 143.

السيِّد البدري : أولا : هذا الحديث هو رواية آحاد ، وتفرَّد به الخليفة أبو بكر ثمَّ قال الرسول صلی اللّه علیه و آله : ( ستكثر من بعدي الكذَّابة ) (1) ( فاعرضوا كلامنا على القرآن ، فإن وافق القرآن فخذوا به ، وإن خالف القرآن فاضربوا به عرض الحائط ) (2) فليكن رجوعنا إلى الميزان وهو القرآن ، لنرى هل هذا الحديث الذي استشهدت به يخالف القرآن أم يوافقه.

الزهراء علیهاالسلام تخاطب الخليفة أبابكر

فاسمع قوله تعالى : ( وَوَرِثَ سُلَيَْمانُ دَاوُودَ ) (3) ، فإن قلت لي : إن الميراث المطلوب في هذه الآية هو العلم والحكمة فاسمع قول الزهراء علیهاالسلام في خطبتها

ص: 562


1- روي عن النبي صلی اللّه علیه و آله : أيُّها الناس! قد كثرت عليَّ الكذَّابة. راجع : الكافي ، الكليني : 1 / 62 ح 1 تحف العقول ، ابن شعبة الحراني : 193. صلی اللّه علیه و آله
2- روى الشيخ الطبرسي عليه الرحمة في كتاب الاحتجاج : 2 / 246 قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حجّة الوداع : قد كثرت عليَّ الكذّابة وستكثر بعدي ، فمن كذب عليَّ متعمِّداً فليتبوَّأ مقعده من النار ، فإذا أتاكم الحديث عنّي فاعرضوه على كتاب اللّه وسنّتي ، فما وافق كتاب اللّه وسنّتي فخذوا به ، وما خالف كتاب اللّه وسنّتي فلا تأخذوا به. وروى الشيخ الطبرسي عليه الرحمة في تفسير مجمع البيان 1 / 39 قال : قال النبي صلی اللّه علیه و آله : إذا جاءكم عنّي حديث فاعرضوه على كتاب اللّه ، فما وافقه فاقبلوه ، وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط. وروى الشيخ الطوسي عليه الرحمة في الاستبصار : 1 / 190 ح 9668 : وقد روي عنهم علیهم السلام أنهم قالوا : إذا جاءكم عنّا حديثان فاعرضوهما على كتاب اللّه ، فما وافق كتاب اللّه فخذوه ، وما خالفه فاطرحوه. وروى العامّة أيضاً عن النبي صلی اللّه علیه و آله : ما أتاكم عنّي فاعرضوه على كتاب اللّه ، فما وافق كتاب اللّه فهو منّي ، وما خالفه فليس منّي. راجع : أحكام القرآن ، الجصاص : 1 / 692، المحصول ، الرازي : 4 / 438.
3- سورة النمل ، الآية : 16.

المشهورة للخليفة أبي بكر : يا ابن أبي قحافة! أفي كتاب اللّه أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فريّاً!! أفعلى عمد تركتم كتاب اللّه ، ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول : ( وَوَرِثَ سُلَيَْمانُ دَاوُودَ ) وقال فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريا إذ قال : ( فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) (1) ، وقال : ( وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِي كِتَابِ اللّهِ ) (2) ، وقال : ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ) (3) ، وقال : ( إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ ) (4) ، وزعمتم أن لا حظوة لي ، ولا إرث من أبي ، ولا رحم بيننا ، أفخصَّكم اللّه بآية أخرج أبي منها؟ أم تقولون : أهل ملّتين لا يتوارثان؟ أو لست أنا وأبي من ملّة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي؟! فدونكها مخطومة مرحولة ، تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم اللّه ، والزعيم محمّد ، والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون ، ولا ينفعكم إذ تندمون و ( لِّكُلِّ نَبَإ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) (5) ( مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ) (6). الخطبة (7).

ألم يكفِك جواباً قول الزهراء علیهاالسلام ؟

ص: 563


1- سورة مريم ، الآية : 5 - 6.
2- سورة الأنفال ، الآية : 75.
3- سورة النساء ، الآية : 11.
4- سورة البقرة ، الآية : 180.
5- سورة الأنعام ، الآية : 67.
6- سورة هود ، الآية : 39.
7- بلاغات النساء ، ابن طيفور : 14 ، السقيفة وفدك ، الجوهري : 101 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 16 / 212 ، جواهر المطالب ، ابن الدمشقي : 160 - 161.

المحاور : سماحة السيِّد! الكلام قويٌّ وبليغ ، ولكن أين دليل وسند هذه الخطبة؟

السيِّد البدري : راجع نهج البلاغة ، شرح ابن أبي الحديد المعتزلي : الجزء الرابع ، ص 193 ، وبلاغات النساء لابن أبي طيفور.

الإمام علي علیه السلام يذكر فدك في خطبته.

السيِّد البدري يتابع الحديث .. ينقل لنا كلاماً للإمام علي علیه السلام في نهج البلاغة بمناسبة أرض فدك : ( .. فو اللّه ما كنزت من دنياكم تبراً ، ولا ادّخرت من غنائمها وفراً ، ولا حزت من أرضها شبراً ، بلى كانت في أيدينا فدك من كلِّ ما أظلَّته السماء ، فشحَّت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس قوم آخرين ، ونعم الحكم اللّه .. ) (1).

فهذا كلام الإمام علي علیه السلام ، يقول : ( ونعم الحكم اللّه ) ومعناه : أني سوف أطالبهم حقّي يوم الحساب .. يوم لا تظلم نفس شيئاً .. والحكم يومئذ لله.

الزهراء علیهاالسلام تشكو اهتضامها لأبيها

وأمَّآ سيِّدتنا فاطمة علیهاالسلام فقد قالت لأبي بكر وعمر : فإني أشهد اللّه وملائكته أنّكما أسخطتماني فما أرضيتماني ، ولئن لقيت النبيَّ علیهاالسلام لأشكونَّكما إليه. الإمامة والسياسة لابن قتيبة (2) عليك مراجعته.

وكما نقل بعض المؤرِّخين كانت في أواخر أيَّام حياتها تخرج إلى قبر أبيها

ص: 564


1- نهج البلاغة ، خطب الإمام علي علیه السلام : 3 / 70 - 71 ، كتاب رقم : 45 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 16 / 208.
2- الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : 1 / 31.

رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وهناك تشكو اهتضامها وتقول : أبتاه! أمسينا بعدك من المستضعفين ، وأصبحت الناس عنّا معرضين!! ثمَّ تأخذ تراب القبر فتشمُّه وتنشد :

مَاذَا علَى مَنْ شَمَّ تُرْبَةَ أَحْمَد *** أَنْ لاَ يَشَمَّ مَدَى الزَّمَان غَوَالِيَا

صُبَّتْ عَلَيَّ مَصَائِبٌ لَوْ أَنَّها *** صبَّتْ عَلَى الأيَّامِ صِرْنَ لَيَالِيَا (1)

فماتت مقهورة مظلومة ، في ربيع العمر وعنفوان الشباب ، وأوصت إلى علي علیه السلام أن يغسِّلها ويجهِّزها ليلا ، ويدفنها ليلا إذا هدأت الأصوات ونامت العيون ، وأوصت أن لا يشهد جنازتها أحد ممن ظلمها وآذاها (2).

ولمَّا وضعها في لحدها وأهال عليها التراب هاج به الحزن فتوجَّه إلى قبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : السلام عليك يا رسول اللّه عنّي وعن ابنتك النازلة في جوارك ، والسريعة اللحاق بك ، إلى أن يقول علیه السلام : فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فلقد استرجعت الوديعة ، وأخذت الرهينة! أمَّا حزني فسرمد ، وأمَّا ليلي فمسهَّد ، إلى أن يختار اللّه لي دارك التي أنت بها مقيم ، وستنبئك ابنتك بتضافر أمَّتك على هضمها ، فأحفها السؤال ، واستخبرها الحال ، هذا ولم يطل العهد ، ولم يخل منك الذكر ، والسلام عليكما سلام مودِّع ، لا قال ولا سئم .. (3).

ص: 565


1- مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 1 / 208 ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 2 / 134 ، نظم درر السمطين ، الزرندي الحنفي : 181 ، سبل الهدى والرشاد ، الصالحي الشامي : 12 / 337 ، المغني ، عبداللّه بن قدامة : 2 / 411.
2- مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 3 / 137 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 31 / 619 ح 97 و 43 / 182 ح 16.
3- نهج البلاغة ، خطب الإمام علي علیه السلام : 2 / 182 ، رقم : 202 ، الكافي ، الكليني : 1 / 458 - 459 ح 3 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 10 / 265.

المحاور : كفى .. كفى .. رحم اللّه والديك ، لقد مزَّقتني من الداخل ، حيث كانت دموعي تجري على تلك المظلوميَّة ، لا حول ولا قوَّة إلاَّ باللّه العليِّ العظيم ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، فلذة كبد النبي صلی اللّه علیه و آله وريحانته ، وسيِّدة نساء العالمين ، وسيِّدة نساء أهل الجنة ، وأمّ الحسن والحسين ، وزوجة الإمام علي ( كرَّم اللّه وجهه ) بطل الإسلام ، تموت مظلومة ، لم تعش بعد والدها سوى بضعة أشهر ... تدفن ليلا ، يهضم حقّها ، وممَّن؟ من الخلفاء أبي بكر وعمر!!

يا للهول ويا للعجب! فكانت أكبر نقاط الحوار تأثيراً في نفسي وفي كياني ، فتركت الجلسة ولم أستطع أن أكمل الحوار ، فاعتذرت من سماحة السيِّد وخرجت.

في المنزل

خرجت من منزل السيِّد البدري والوقت ما يقارب الساعة العاشرة ليلا ، ووصلت إلى البيت حيث كنت منهكاً ، فقالت لي زوجتي : يبدو عليك الأرق والتعب!

فقلت لها : وأيُّ تعب؟

فقالت لي : وجهك مقلوب ومتغيِّر .. عندما ذهبت وجهك كان أفضل.

فقلت لها : نعم صحيح .. إن مظلوميّة السيِّدة فاطمة الزهراء علیهاالسلام قد هدَّت كياني ، ولم أكن أعلم كل هذا العمر الذي قضيته في المطالعة وقراءة الكتب والجامعة بهذه المصيبة والفاجعة والمظلوميّة.

مراجعة صحيح البخاري للوصول إلى الحقيقة

تناولت من مكتبتي المتواضعة صحيح البخاري لأرى صدق كلام السيِّد

ص: 566

البدري بأن فاطمة علیهاالسلام ماتت وهي غاضبة عليهم ، وفي رواية أخرى قال لي : ( ماتت وهي واجدة عليهم ) كما ذكر لي في صحيح البخاري كتاب المغازي ، باب غزوة خيبر ، ج 5 ، ص 77 ، مطابع دار الشعب ، وصحيح البخاري ، كتاب الجهاد والسير ، باب فرض الخمس ، ج 4 ، ص 42 ، دار الفكر.

والحديث في هذا مسند إلى عائشة ، وقد صرَّحت فيه أن الزهراء علیهاالسلام هجرت أبا بكر ، فلم تكلِّمه بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتى ماتت فعندما وجدت الحديث ووقفت عليه متأمِّلا ، فصرت أحدِّث نفسي : لماذا علماؤنا علماء السنة لايصرِّحون لنا بالحقيقة؟!! هل الدين جاء لكتمان الحقائق أم للتصريح بها؟! فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

اللقاء الأخير : ودخل النور إلى قلبي بمظلوميَّة فاطمة علیهاالسلام

بعد وقوفي على حادثة ومظلوميَّة الزهراء علیهاالسلام ، وتأمَّلتها في صحيح البخاري ، رجعت إلى منزل السيِّد البدري بعد ثلاث أيام لأشكره على ما قدَّم لي من كتب ، وأعطاني من وقته للبحث ، وقال لي : يا بنيَّ! اللّهمَّ اشهد أني قد بلَّغتك على مذهب الحقّ مذهب أهل البيت علیهم السلام ، وأقام عليَّ الحجّة بعد هذه اللقاءات ، وأصبحت هذه الحوارات أمانة في عنقك وحجَّة عليك ، فالويل ثمَّ الويل لمن بان له الحقُّ وكتمه ، فالويل ثمَّ الويل لمن تجلَّت له الحقيقة وسكت عنها ، ولم يدافع عنها ولم يدعُ لها.

وقال لي : يا بنيَّ! أنا كبرت وتعبت ، وأتعبني قلبي ، وغداً سأسافر إلى بيروت ، إلى الجامعة الأمريكيّة لأعمل عمليّة للقلب ، وفقرات الظهر.

وفعلا سافر السيِّد البدري ، وتمَّ الرفض من قبل الجامعة الأمريكيّة لإجراء

ص: 567

أيِّ عمل جراحيٍّ له ، بسبب عدم تحمُّل القلب ، وصمَّم أن يعمل فقط عمل جراحي لظهره في مشفى صيدا ، وسافر بعدها إلى إيران.

وكان يقول لي : مسؤوليتك كبيرة أمام اللّه ، ومعرفتك الحق أمانة ، وأنت تسأل غداً عن هذه الأمانة.

فعاهدت السيِّد البدري على حفظ الأمانة ، ومتابعة البحث والطريق إن شاء اللّه تعالى ، وأسألك الدعاء سيِّدي ، فودَّعته وقبَّلت جبينه وخرجت.

وبعد ذلك وصلني نبأ وفاته في مدينة قم المقدسة بعد شهر ، فبكيت عليه بكاء شديداً ، وسافرت إلى مدينة قم حيث لم أحضر جنازته ، فزرته وقرأت الفاتحة على ضريحه المقدَّس ، وعاهدته بمواصلة البحث ، والسير في الدعوة إلى طريق أهل البيت علیهم السلام حتى ألقى ربّي وأنا في هذا الطريق إن شاء اللّه تعالى (1).

ص: 568


1- ومن الحوار اكتشفت الحقيقة ، هشام آل قطيط : 65 - 138.

المناظرة الخامسة والثمانون: مناظرة الشيخ معتصم السوداني مع الأستاذ عبد المنعم في أن كتب السنّة فيها دلائل على التشيُّع وبداية تحوُّله وبحثه عن الحقيقة

يقول الشيخ معتصم سيِّد أحمد السوداني : انطلقت إلى المكتبة التي حوت كثيراً من الكتب والموسوعات الضخمة ، فأصبحت ملازماً لها ، ولكنَّ المشكلة التي واجهتني هي : من أين أبدأ؟ وأيَّ شيء أقرأ؟

وبقيت على هذه الحال أنتقل من كتاب إلى آخر ، وقبل أن أضع لنفسي برنامجاً فتح لي أحد أقاربنا باباً واسعاً ومهمّاً في البحث والتنقيب ، وهو دراسة التاريخ وتتبُّع المذاهب الإسلاميّة لمعرفة الحقِّ من بينها ، وكان الفتح توفيقاً إلهيّاً لم يكن في حسباني عندما التقيت بقريبي عبد المنعم - وهو خريج كلية القانون - في منزل ابن عمّي في مدينة عطبرة ، وقبل غروب الشمس رأيته في ساحة المنزل يتحاور مع أحد من الإخوان المسلمين الذي كان ضيفاً في البيت ، فأرهفت السمع لأرى فيم يتحادثان ، وأسرعت إليهم عندما علمت بطبيعة النقاش ، وهو في الأمور الدينيّة ، فجلست بالقرب منهم أراقب تطوُّرات

ص: 569

المحاورة التي امتاز فيها عبد المنعم بالهدوء التامّ ، رغم استفزازات الطرف الآخر وتهجُّمه ، ولم أعرف طبيعة النقاش بتمامه إلى أن قال الأخ المسلم : الشيعة كفَّار زنادقة.

هنا انتهيت وأمعنت النظر ، ودار في ذهني استفهام حائر : من هم الشيعة؟ ولماذا هم كفَّار؟ وهل عبد المنعم شيعيٌّ؟ وما يقوله من غريب الحديث هل هو كلام الشيعة؟

وللإنصاف إن عبد المنعم أفحم خصمه في كلِّ مسألة طرحت في النقاش ، بالإضافة إلى لبقة منطقه وقوَّة حجَّته.

وبعد الانتهاء من الحوار وأداء صلاة المغرب انفردت بقريبي عبد المنعم ، وسألته بكلِّ احترام : هل أنت شيعيٌّ؟ ومن هم الشيعة؟ ومن أين تعرَّفت عليهم؟

قال : مهلا .. مهلا ، سؤال بعد سؤال.

قلت له : عفواً ، وأنا ما زلت مذهولا ممَّا سمعته منك.

قال : هذا بحث طويل ، ومجهود أربع سنوات من العناء والتعب ، مع الأسف لم تكن النتيجة متوقَّعة.

فقاطعته : أيُّ نتيجة هذه؟

قال : ركام من الجهل والتجهيل عشناه طوال حياتنا ، نركض خلف مجتمعاتنا من غير أن نسأل : هل ما عندنا من دين هو مراد اللّه تعالى وهو الإسلام؟ وبعد البحث اتّضح أن الحقَّ كان مع أبعد الطرق تصوُّراً في نظري وهم الشيعة.

قلت له : لعلّك تعجَّلت .. أو اشتبهت.

فابتسم في وجهي قائلا : لماذا لا تبحث أنت بتأمُّل وصبر؟ وخاصة أن

ص: 570

لكم مكتبة في الجامعة تفيدك في هذا الأمر كثيراً.

قلت متعجِّباً : مكتبتنا سنّيّة ، فكيف أبحث فيها عن الشيعة؟

قال : من دلائل صدق التشيُّع أنه يستدلُّ على صحّته من كتب وروايات علماء السنة ، فإن فيها ما يظهر حقَّهم بأجلى الصور (1).

قلت : إذن مصادر الشيعة هي نفس مصادر أهل السنة؟

قال : لا ، فإن للشيعة مصادر خاصّة تفوق أضعافاً مضاعفة مصادر السنة ، كلّها مرويَّة عن أهل البيت علیهم السلام عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولكنّهم لا يحتجُّون على أهل السنة بروايات مصادرهم ; لأنها غير ملزمة لهم ، فلابد أن يحتجُّوا عليهم بما يثقون به ; أي ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم.

سرَّني كلامه ، وزاد تفاعلي للبحث ، قلت له : إذن كيف أبدأ؟

قال : هل يوجد في مكتبتكم صحيح البخاري وصحيح مسلم ومسند أحمد والترمذي والنسائي؟

قلت : نعم ، عندنا قسم ضخم لمصادر الحديث.

قال : من هذه ابدأ ، ثمَّ تأتي بعد ذلك التفاسير وكتب التأريخ ، فإن في هذه الكتب أحاديث دالّة على وجوب اتّباع مدرسة أهل البيت علیهم السلام .

ص: 571


1- وهذه الشهادة من الأستاذ عبد المنعم شهادة حقٍّ ، وقد سمعناها كثيراً ، وإليك كلام بعض المستبصرين الفضلاء ، وهو السيد حسين الرجاء ، إذ يقول عن الشيعة الإماميّة : لقد قرأت بعض كتبهم العقيديّة والجدليّة والتأريخيّة وسيرة الصحابة وغيرها ، فوجدتهم يثبتون صحّة مذهبهم من كتب أهل السنّة ، وبالأخصّ وغيرها ، فوجدتهم يثبتون صحّة مذهبهم من كتب أهل السنّة ، وبالأخص صحيحي مسلم والبخاري وسائر الكتب الستة ، وكذلك يثبتون غلط مذاهب أهل السنّة من كتبهم ، ولقد راجعت الكثير فوجدته كما يقولون ، وكلَّما يزداد شكي في التسنُّن يزداد يقيني في التشيع. راجع كتاب المتحوِّلون ، هشام آل قطيط : 367.

وبدأ يسرد لي أمثلة منها ، مع ذكر المصدر ورقم المجلَّد والصفحة ، توقَّفت حائراً أسمع إلى هذه الأحاديث التي لم أسمع بها من قبل ، ممَّا جعلني أشكُّ في كتب السنّة ، ولكن سرعان ما قطع عنّي هذا الشكَّ بقوله : سجِّل هذه الأحاديث عندك ، ثمَّ ابحثها في المكتبة ، ونلتقي يوم الخميس القادم بإذن اللّه.

في الجامعة :

بعد مراجعة تلك الأحاديث في البخاري ومسلم والترمذي في مكتبة جامعتنا تأكَّد لي صدق مقالته ، وفوجئت بأحاديث أخرى أكثر منها دلالة على وجوب اتّباع أهل البيت علیهم السلام ، ممَّا جعلني أعيش في حالة من الصدمة ، لم نسمع بهذه الأحاديث من قبل.

فعرضتها على زملائي في الكلّيّة حتى يشاركوني في هذه الأزمة ، فتفاعل البعض ، ولم يكترث لها البعض الآخر ، ولكنّني صمَّمت على مواصلة البحث ولو كلَّفني ذلك كل عمري ، وعندما جاء يوم الخميس انطلقت لعبد المنعم ، فاستقبلني بكل ترحاب وهدوء ، وقال : يجب عليك ألا تتعجَّل ، وأن تواصل البحث بكل وعي.

ثمَّ بدأنا في بحوث أخرى لم أكن أعرفها ، وقبل رجوعي إلى الجامعة طلب منّي عدّة أمور أبحثها ، وهكذا دواليك إلى مدّة من الزمن ، وكانت طبيعة النقاش بيني وبينه تتغيَّر من فترة إلى أخرى ، فأحياناً أحتدُّ معه في الكلام ، وأحياناً أكابر في الحقائق الواضحة ، فكنت - مثلا - عندما أراجع بعض المصادر وأتأكَّد من وجودها أقول له : إن هذه الأحاديث غير موجودة ، ولست أعلم إلى الآن ما الذي كان يدفعني إلى ذلك سوى الشعور بالانهزام وحبِّ الانتصار.

وبهذه الصورة وبمزيد من البحث انكشفت أمامي كثير من الحقائق لم أكن

ص: 572

أتوقَّعها ، وكنت في طوال هذه الفترة كثير النقاش مع زملائي.

إلى أن يقول الشيخ معتصم : وبعد قراءتي لكتاب المراجعات ومعالم المدرستين وبعض الكتب الأخرى اتّضح لي الحقُّ وانكشف الباطل ; لما في هذين السفرين من أدلّة واضحة ، وبراهين ساطعة بأحقّيّة مذهب أهل البيت علیهم السلام ، وازدادت قوَّتي في النقاش والبحث حتى كشف اللّه نور الحق في قلبي ، وأعلنت تشيعي (1).

ص: 573


1- المتحوِّلون ، الشيخ هشام آل قطيط : 274 - 279.

المناظرة السادسة والثمانون: مناظرة الشيخ معتصم السوداني مع الدكتور عمر مسعود في علم الأصول عند الشيعة

الجلسة الأولى

قال الشيخ معتصم السوداني : الدكتور عمر مسعود من البارزين في الساحة السودانيّة ، وخاصة في ولاية نهر النيل في شمال السودان ، وهو يحمل مجموعة من الشهادات في الاقتصاد ، وعلوم الحديث ، ومقارنة الأديان ، بالإضافة إلى تتلمذه على يد مجموعة من المشايخ وعلماء الطرق الصوفيّة ، كما أنّه يمتاز باطّلاعه الواسع في شتّى المجالات ، فله مكتبة ضخمة تحتوي على ( 11 ألف كتاب ) ، وهو يعمل الآن محاضراً في جامعة وادي النيل في كلّيّات متعدِّدة ، مثل : كلية الدراسات الإسلاميّة ، وكلية التربية ، وكلية التجارة ، فهو مدير لقسم التجارة بهذه الكلية.

هذا الدكتور تربطني به علاقة شخصيَّة ، علاوة على أنَّه أستأذي ثلاث سنوات تقريباً ، ودارت بيني وبينه مجموعة من الجلسات والحوارات الإيجابيّة الهادفة ، في شتّى المجالات التأريخيّة والأصوليّة والعقائديّة ، أسفرت عن

ص: 574

احترام الطرفين ، وتقدير وجهات النظر.

وأحبُّ أن أسجِّل هنا بعض هذه الجلسات حتى تعمَّ الفائدة ، لم أتمكَّن من إلحاقها في الكتاب ، ممَّا دفعني أن أقوم بكتابة هذا الكتيِّب حتى يكون مكمِّلا للحقيقة الضائعة ، وأسال اللّه أن يوفِّقني في تحرّي الدقّة ونقل الواقع كما هو.

بعد أن دخلت الحرم الجامعي رأيت الدكتور يلقي محاضرة لطلاب قسم التجارة ، وما إن رآني حتى خرج واستقبلني بحفاوة ، ثمَّ طلب منّي أن أحضر إلى مكتبه بعد المحاضرة.

وبعد المحاضرة ذهبت إليه ، وبعد السلام والسؤال عن الأخبار.

قال الدكتور : أين كنت خلال هذه الفترة؟

الشيخ معتصم : في سوريا عند مقام السيِّدة زينب علیهاالسلام .

الدكتور : ماذا كنت تفعل؟

الشيخ معتصم : أدرس في الحوزة العلميّة.

الدكتور : وماذا تدرس؟

الشيخ معتصم : فقه ، أصول ، منطق ، عقائد ، نحو ، وغيرها ، فالحوزة هي عبارة عن مقدِّمة للطالب حتى يجتهد في استنباط الأحكام الشرعيَّة ، فباب الفقه عند الشيعة ما زال حيويّاً ومتحرِّكاً ، وهم يعتمدون في ذلك على أصول منضبطة ومحكمة.

الدكتور : إن أهل السنّة أول من ابتدع علم الأصول ، وتجربتهم أنضج وأكمل ، أمَّا تاريخ علم الأصول عند الشيعة فهو حديث مقارنة بالأصول عند السنّة.

الشيخ معتصم : هذا اشتباه.

ص: 575

أولا : إن الأصول هي عبارة عن قواعد وكلّيّات يستنبط منها المجتهد الجزئيَّات ، وهذه الكلّيّات واضحة في روايات أهل البيت علیهم السلام ، فالإمام الرضا علیه السلام كان يقول : علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع (1) ، هذا من ناحية البعد التاريخيِّ ، أمَّا إذا قصدت بلورة الأصول بهذه الصورة الحاليّة ، والكتابة في هذه المباحث ، فإن السنّة يختلفون تماماً عن الشيعة ، ولا وجه هناك للمقارنة ، فمصادر التشريع عند السنّة انقطعت بعد موت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولذلك الحاجة التأريخيَّة ألحَّت لتكوين علم أصول يتكفَّل باستخراج الأحكام الشرعيّة ، فالأصول السنّيّة مقارنة مع هذه الحاجة الحتميّة جاءت متأخِّرة جداً ، أمَّا الشيعة فهم ينظرون إلى أهل البيت علیهم السلام باعتبارهم أنهم الامتداد الطبيعيُّ لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فكلامهم حجّة ، فلا توجد هناك حاجة لاستنباط الأحكام الشرعيّة مع وجود الأئمّة المصطفين من قبل اللّه سبحانه وتعالى ، وبعد مضيِّ أحد عشر إماماً وغياب الحجّة المهديِّ علیه السلام تولَّدت الحاجة لبلورة الأصول بهذه الصورة الحاليّة ، فالنظرة لابد أن تكون نسبيَّة.

الدكتور : إنّ علم الأصول عند السنّة يمتاز بأنه أكثر مرونة من الأصول عند الشيعة ، فإنّها جامدة ، يصعب على الإنسان أن يستنبط حكماً من خلالها ، فالأصول عند السنّة أبوابها كثيرة ومتعدِّدة ; من قرآن وسنّة وإجماع وقياس وغيرها ، تساعد المجتهد على تتبُّع الحوادث في أيِّ زمن ، واستنباط الحكم الشرعيِّ لأيِّ موضع.

الشيخ معتصم : هذا الكلام لا يمكن أن يقبل ، أمَّا أنها جامدة فهذا ادّعاء لا

ص: 576


1- وسائل الشيعة ، الحرّ العاملي : 27 / 62 ح 52 عن السرائر.

يمكن أن يصدِّقه الواقع ، فالفقه الشيعيُّ الذي يرتكز على هذه الأصول التي تسمِّيها جامدة في غاية الدقّة ; لتتبُّعه للحوادث المتغيِّرة ، وتوضيح الحكم الشرعيِّ فيها ، كما أن الموسوعات الفقهيَّة الاستدلاليّة عند الشيعة تفوق بكثير - من غير مقارنة - الكتب الاستدلاليّة الفقهيّة عند السنّة ، هذا أولا.

أمَّا ثانياً ، فالأصول التي ذكرتها هي مشتركة بين الشيعة والسنّة ، وإذا كان هنا مرونة لأصول السنّة فهي راجعة للقياس ، والقياس عندنا لا يعوَّل عليه في استنباط أحكام الشريعة.

ثالثاً : إن الشيعة ليسوا بحاجة لإعمال القياس ، وذلك لكثرة النصِّ الفقهيِّ ، المرويِّ عن الرسول صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته علیهم السلام ، فالوسائل للحرِّ العاملي يتكوَّن من عشرين مجلداً (1) كلُّه أحاديث فقهية ، وكتاب مستدرك الوسائل ثمانية عشر مجلَّداً في نفس الإطار للميرزا النورىِّ ، فليس هناك من داع لهذه الظنّيّات التي اعتمد عليها السنّة لقلّة النص الدينيِّ من روايات وأحاديث في جانب الفقه.

الدكتور : هذا كلام سطحيٌّ ، إنّ الأصول لم تكن بداعي قلّة النصِّ الدينيِّ كما زعمت ، وما هذه الأصول إلاَّ بمثابة تعليل لهذه النصوص ، فالقياس مثلا لم يكن خارجاً عن إطار النص ، وإنّما هو الطريق الذي من خلاله ينزل النصُّ للحوادث المتغيِّرة ; لأنّ لكل حكم علة ، بعد اكتشاف هذه العلّة تكون بمثابة قاعدة تنطبق على حوادث متعدِّدة ، وهذا هو علم الأصول بعينه.

الشيخ معتصم : هذا الكلام بصورته العامّة يبدو وجيهاً ، ولكن عندما نفصل المسألة ، وندقِّق أكثر يظهر لنا ضعفه ، وذلك أن القياس كما تفضَّلت هو إرجاع

ص: 577


1- طُبعت محقَّقة في 30 مجلَّداً برعاية مؤسَّسة آل البيت علیهم السلام في قم المقدَّسة.

الفرع إلى الأصل إذا اشتركت العلّة بين الأصل والفرع ، وكما هو واضح أن الحكم يدور مدار العلّة وجوداً وعدماً ، ولكن الإشكال كيف تكشف علّة الحكم؟

فإذا كانت العلّة منصوصاً عليها من قبل الشارع نفسه ، فمثلا يقول : إنّ الخمر حرام لأنه مُسكر ، فيمكن أن أقيس النبيذ على الخمر إذا كان النبيذ مسكراً ، فأقول : الخمر حرام لأنه مسكر ، والنبيذ مسكر ، إذن النبيذ حرام ، هذا لا إشكال فيه ، رغم أن هذا نفسه لا يسمّى قياساً ; بمعنى أننا لم نقس حكم النبيذ على حكم الخمر ، وإنما اكتشفنا حكم النبيذ من النص مباشرةً ، أي أنّ الخمر والنّبيذ كلاهما يرجعان إلى نصّ واحد ، وهو أنّ كل مسكر حرام.

أمَّا إذا لم تكن العلّة منصوصاً عليها من قبل الشارع فكيف لنا معرفتها؟ فكل ما نتوقَّعه لا يخرج عن إطار الظنّيّة ، ولعل الشارع لم يرتِّب الحكم على هذه العلّة التي اكتشفناها ، وإنما لعلّة أخرى باطنيّة ، مثلا : في حكم الصيام في السفر يقول الشارع : ( وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّام أُخَرَ ) (1) ، فالظاهر من هذه الآية هو عدم الصيام في حالة السفر ، فيقول مجتهد : إن العلّة من عدم الصيام في السفر هو الإرهاق والتعب ، وخاصة أنّ السفر في القديم كان عبر الدوابِّ ، والآن اختلف الوضع ، وأصبح السفر مريحاً ، فارتفعت العلّة التي تمنع الصيام في السفر ، فيرتفع معها الحكم ، وعلى هذا الاجتهاد كثير من المسلمين يصومون في حالة السفر ، فهذه مخالفة للنصِّ ، من الذي يقول : إنّ العلة هي التّعب؟ هل الشارع نصَّ على ذلك؟! وإن لم ينصَّ فتكون هذه العلّة ظنّيّة ، لا يعوَّل عليها في استخراج الحكم ، وإنما الآية في مقام التشريع ; فكما أنّ اللّه شرَّع الصيام في شهر

ص: 578


1- سورة البقرة ، الآية : 185.

رمضان كذلك هو الذي منعه في السفر ، فلا تعارض بين الحكمين ، كما لا تلازم بينهما ، فهذا القياس مرفوض بحكم الشرع والعقل.

الدكتور : إنّ البحث عن الحكم القطعيِّ من الصعوبة بمكان ، ولو كانت الشريعة تطالبنا بالحكم القطعيِّ لكل واقعة لأصبح الأمر عسيراً ، كما أنّ هذه العلل التي تسمِّيها ظنّيّة هي الطريق الوحيد ، مع أني لا أقول ظنّيّة.

الشيخ معتصم : عفواً أستاذي! إنّ الشريعة صالحة لكل زمان ومكان ، ولا يمكن أن تكون الشريعة في زمن الرسول صلی اللّه علیه و آله كل أحكامها قطعيَّة وواقعيّة ، والآن تكون أحكامها ظنّيّة ، إلاَّ إذا كنت تعتقد أن أحكام الرسول صلی اللّه علیه و آله أيضاً ظنّيّة.

وإنما المسألة محلولة داخل الشريعة نفسها ، فالأحكام حسب التقسيم الأصوليّ الشيعيّ أحكام واقعيّة وأحكام ظاهريّة ، فالحكم الواقعيُّ هو الذي يستنبط من دليل قطعيٍّ من القرآن والسنّة والعقل ، والدليل القطعيُّ هو الكاشف عن حكم الواقعة.

أمَّا إذا طرأت علينا حادثة لم نجد لها حكماً في القرآن والسنّة والعقل فهناك أصول ليست أدلّة واقعيّة ، فبالتالي تكون أحكامها ظاهريَّة ، أمَّا حجّيّة هذه الأصول فهي حجج مجعولة ; بمعنى أنّ الشارع جعل لنا هذه الأصول حجّة ، فالحجّة نابعة من نفس هذا الطريق ، وليست ناظرة للحكم بما هو واقعيٌّ أو غير ذلك ، فالاستصحاب مثلا لا يكشف الواقع ، ولكن عندما قال الشارع : لا ينقض اليقين السابق الشك اللاحق ، فيكون بذلك جعل لنا الشارع حجّيّة الاستصحاب رغم أنه لا يكشف الواقع.

وكل هذا يدلُّ على مرونة الشريعة وتساهلها ، كما يدلُّ على أن الشارع

ص: 579

جعل لنا طرقاً نلجأ إليها عندما يتعسَّر الدليل الواقعيُّ.

أمَّا إذا كنت تقصد أن اكتشاف العلل وتوضيحها يجعل الفقه أكثر مرونة وتطوُّراً ، فإن هنالك نظريات شيعيّة عميقة في هذا الجانب ، تنطلق من مفهوم أن الدين ثابت ومتغيِّر ، وقد فصلَّ آية اللّه محمّد تقي المدرّسي في كتابه التشريع الإسلامي هذا الأمر ، وهو يبني نظريَّته على أن كل النصوص (1) الدينيّة تبيِّن الحكم مع الحكمة ، فيتتبَّع الفقيه هذه الحكم من خلال نصوص القرآن والسنة ، فتشكِّل هذه الحكم مجموعة قواعد كلّيّة يمكن للفقيه أن يرجع إليها الحوادث الجزئيَّة.

الدكتور : ما أنكرته في أول حديثك أقررت به في هذا الكلام ، فهذه النظريّة التي ذكرتها مؤخَّراً تدلُّ على أن الأصول الشيعيَّة جامدة ، ممَّا دفع المدرِّسي أن ينتهج هذا النهج ، الذي هو أقرب إلى الطرح السنّيِّ ، كما أن المدرِّسي من العلماء المعاصرين ، فتجربته ما زالت حديثة ، لا تحسب ضمن تاريخ المدرسة الأصوليّة الشيعيّة ، بخلاف الأصول عند أهل السنّة ، الذين هم أول من طرق هذا الباب الذي اكتشفه المدرسي مؤخَّراً ، ولعلّه استفاد من الطرح السنّيِّ.

الشيخ معتصم : إن كلامي غير متناقض ، فإنه يصبُّ في نفس المنحى ، ويؤكِّد أن الأصول الشيعيّة متطوِّرة ، فإن كل فترة زمنيّة لها من الظروف والدواعي التي تحتِّم على الأصول انتهاج نهج جديد ، وهو بالطبع لا يخالف القديم ، وإنما الطرح وبلورة النظريّة وتنقيح الأفكار عادةً ما يضيفان نوعاً من الحداثة ، وإلاَّ

ص: 580


1- النصوص وليست الأحكام ، والفرق كبير. ( الشيخ معتصم ).

فالكلام عن علل الشرائع قديم عند علماء الشيعة ، فالشيخ الصدوق مثلا عنده كتاب « علل الشرائع » وهو من الكتب القديمة.

كما أنَّ السيِّد المدرّسي لم يبتدع شيئاً ، وإنّما قام بعمليّة جمع واستخراج القيم والحكم المبثوثة في القرآن والروايات ، وسوف أحضر لك كتاب التشريع الذي طبع منه إلى الآن أربع مجلَّدات (1) حتى تعرف الفرق بين الطرح السنّي وطرح السيِّد المدرسي ، فالفرق عميق بين الطرحين ، فالقياس يعتمد على استخراج علّة الحكم من نفس الحكم ، ثمَّ يقيس عليها الفروع التي تشابهها في العلّة.

أمَّا الطرح الآخر فهو يبنى على أنّ الآيات القرآنيّة والأحاديث الشريفة تطرح مجموعة من الحكم والقيم ، وبعد استخلاصها بطرق قطعيَّة تورث اليقين والاطمئنان تكون هذه الحكم حاكمة على مجموعة من الأحكام التي ترجع إلى هذه الحكم بصورة مستقلّة (2) ، وهذا الطرح لا يوجد له أثر في المدرسة السنّيّة ،

====

ص: 581


1- طبع الآن الجزء الخامس والسادس والسابع والثامن من التشريع ( الشيخ معتصم ).
2- 2 - وليس هذا الاستنباط من نوع القياس الذي يرفضه مذهب أهل البيت علیهم السلام ، والسبب هو : أولا : أن القياس منهج يختلف جذريّاً مع المنهج القرآني ، وقد ناقشنا ذلك في مناسبة سبقت ... ثانياً : أن القياس في المصطلح التعرُّف على حكم النظير من خلال علّة مظنونة في نظيره ، بينما هنا نحن نريد استنباط حكم الفرع من الأصل ، وعلى هذا فإن أساس البصيرة القرآنيّة التي عرفناها بفضل أحاديث أهل البيت علیهم السلام هو السعي لفهم الحكم العامة في الشريعة عبر التدبُّر في آيات الذكر ، والسلوك عبر المنهج الإلهيِّ الذي بشرَّ به الدين وسبق الحديث عنه ، وإذا تبصَّرنا هذا الحكم جيِّداً ، وعرفناه يقيناً فإننا نستنبط منها حكم المسألة الفرعيّة بلا تردُّد ، ويكون علمنا به علماً يقينياً ، أو على الأقل تطمئنُّ نفوسنا إليه ممّا يكفينا حجّة شرعيّة ، كما سنتحدَّث عنه في مناسبة أخرى. وهكذا يرى هذا المنهج أنه لا يجوز الأخذ بالحكمة المظنونة ، ولكن يوصينا بضرورة البحث الجدّيِّ لمعرفة حكمة كل حكم شرعيٍّ من خلال التدبُّر في النصوص ( الآيات والروايات ) فنحن ندعو إلى الحصول على العلم بالحكمة الإلهيّة الموجودة في كل حكم شرعيٍّ ، ولا ندعو إلى العمل بالحكم المستنبطة بالقياس الظنّي ، والفرق بينهما هو الفرق بين العمل بالاستنباط العملي وبين العمل بالقياس الظنّي واللّه الموفق ... التشريع الإسلامي ، ج 1، ص 52. ( الشيخ معتصم ).

هذا من جهة القياس.

أمَّا الأصول الأخرى مثل الاستحسان وسدّ الذرايع وفقه الصحابي وغيرها ، فإن إثبات حجّيّة هذه الأصول من البعد بمكان ، فالطرح الشيعيُّ في الأصول مغاير للطرح السنّيِّ إجمالا وتفصيلا.

الدكتور : إنّ هذه الأصول التي ذكرتها ليست العُمدة عند أهل السنة ، وإنّما عمدتهم هو القرآن والسنة والإجماع والقياس ، ثمَّ بعد ذلك الأصول الأخرى ، وفي هذه الأصول لا خلاف بين السنّة والشيعة ، فالخلاف ليس إجمالا ، وإنّما تفصيلا.

الشيخ معتصم : أمَّا القرآن والسنّة فنعم ، رغم أن الخلاف فيهما موجود ، فبأيِّ كيفية نتعامل مع القرآن؟ وكيف نفسّره ونستنبط منه الحكم الشرعي؟ والسنّة هل هي رواياتكم أم رواياتنا؟ وهل كلام أهل البيت علیهم السلام حجَّة أم قول الصحابي؟ فهذه الأسئلة تباعد بيننا وبينكم ، أمَّا بخصوص الإجماع فهو غير حجّة ، فقد ناقشت الكتب الأصوليّة الشيعيّة الإجماع ، وأثبتت عدم حجّيّته ، فالإجماع حجّة إذا كان كاشفاً عن رأي المعصوم ، أو عن دليل شرعيٍّ ، فالحجّيّة لا تكون لذات الإجماع ، وإنّما تكون لرأي المعصوم أو الدليل الشرعيِّ.

الدكتور : إنكار حجّيّة الإجماع أمر غريب ، فقد تعارف على حجّيّته قديماً وحديثاً ، وبنيت على أساسه كثير من الأبواب الفقهيّة ، بل حتى أن الشيعة

ص: 582

يستدلّون بالإجماع في مسائل فقهيَّة ، فلماذا هذا التناقض؟!

الشيخ معتصم : أولا : إن بحثنا عن حجّيّة الإجماع كان في إطار الحجج القطعيّة الذاتيّة التي تولِّد حكماً واقعيّاً ، فعدم حجّيّة الإجماع بهذا المنظور من البديهيّات ; لأنه ليس كاشفاً عن الواقع (1) ، إلى أن قال : هذا بالإضافة إلى أن معظم المسائل التي استشهد الفقهاء فيها بالإجماع إنما بقصد تعضيد الفتوى ، لا من باب توليدها.

وعندما وصلنا إلى هذه النقطة اعتذر الدكتور لضيق وقته.

ص: 583


1- فالإجماع بما هو إجماع ليس بحجة ، وإنما يكون حجة إذا كان كاشفا عن رأي المعصوم علیه السلام فَبالنتيجة تكون الحجية لقول المعصوم علیه السلام ، وهذا أمر واضح لأنه قام عليه الدليل القطعي.

المناظرة السابعة والثمانون: مناظرة الشيخ معتصم السوداني مع بعض السلفيين في وجوب اتّباع أهل البيت علیهم السلام والأدلّة على إمامة أميرالمؤمنين علیه السلام

اشارة

قال الشيخ معتصم السوداني تحت عنوان ( الوهّابيّة في أركان النقاش ) : دارت في الساحة الفكريّة في مدينة عطبره أحداث ساخنة ، بعد أن سيطر الطرح الشيعيُّ على مستوى المناظرات وأركان النقاش ، خاصة بين طلبة جامعة وادي النيل ، فكان حديث الساعة : الشيعة والتشيُّع حتى في الأماكن العامة ، هذا ممَّا أشعل نار الحقد الوهّابيّ ، فكثّفوا هجومهم على الشيعة في كل منابرهم ، وعندما علموا أن مصدر التشيّع في المدينة هو جامعة وادي النيل ، عملوا على حجز دار الطلاب ، وهي دار كبيرة تقام فيها نشاطات الطلاب الثقافيّة والسياسيّة ، لمدّة يومين وهما : الخميس والجمعة ، وكان برنامجهم يشتمل على معرض كتاب وملصقات وعرض فيديو ، كلُّها تعرِّض بالشيعة ، بالإضافة إلى محاضرة في اليوم الأول بعنوان : « وجاء دور المجوس » وكان المحاضر مستعاراً من مدينة أخرى وهي ( مدني ) جنوب الخرطوم ، وفي اليوم التالي كان ركن النقاش بعنوان : ( هذا أو الطوفان ) ويختلف ركن النقاش عن المحاضرة بأنّه يغلب عليه طابع النقاش

ص: 584

والجدال والحدّيّة أكثر من المحاضرة.

وكان قصدهم من هذا الجهد هو تشديد الضربة على الشيعة ، حتى ينتهي وجودهم في المدينة ، أو على الأقل يحدثوا قطيعة بين الشيعة والمجتمع ، ولذلك عندما فشلوا في الردّ على الشيعة رفعوا شعارات الولاء والبراءة ، وأمروا الناس بمقاطعة الشيعة في كل أمور الحياة.

وعندما اكتشفنا نواياهم قرّرنا أن يكون ردّنا عليهم وعلى افتراءاتهم قويّاً ومحكماً ، وأن يكون أكثر علميّة ، ولا ننصاع لتهكُّماتهم ومهاتراتهم ، وخاصة أن الجوَّ الذي سوف يكون فيه الحوار هو جوٌّ مثقَّف وواعي بأهمّيّة البرهان والدليل.

وعندما جاء يوم الخميس زرنا الدار في الساعة الخامسة مساءً حتى نقف على آخر التطوُّرات ، فوجدنا أن الدار كلَّها معدّة لذلك ، فقد حشدوا فيها المعارض والملصقات ومكبّرات الصوت وكراسي ، ولحى طويلة تملأ الدار ، وقد كان الجوُّ مهيباً ، وهم ينظرون إلينا ويتهامزون ويتغازون ، ولكنّا كسرنا حاجز الهيبة ، وتجوّلنا في أجنحته ، نتصفّح عناوين الكتب ، ونقرأ شعاراتهم التي كتبت بخط عريض في كفر الشيعة وبعدهم عن الدين ، فهي تحكم في الواقع على جهالة الوهابيّة ، وبعدهم عن الإسلام الصحيح ، فكان الأصدقاء يضحكون على هذه العقول السخيفة التي سطَّرت هذه الكلمات ، وعندما حان وقت المغرب ذهبنا لنصلّي جماعة ، ثمَّ نأخذ احتياطاتنا اللازمة في تأمين أنفسنا من اعتداءاتهم ، وتوزيع برامج النقاش بيننا ، وكيفيَّة الانتشار ، واتّخاذ المناطق المهمّة في الجلوس وغيرها ، وبالفعل تمَّ ذلك ، واتخذت أنا أول مقعد في مقابل المتحدِّث الوهابي مباشرةً.

وبعد تلاوة آيات من القرآن الحكيم وتقديم المتحدِّث ، شرع المحاضر في

ص: 585

حديثه وكان يحتوي على الآتي :

اختلف المسلمون إلى مذاهب عديدة ، وهذا مصداق لحديث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى إلى اثني وسبعين فرقة ، وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلاَّ واحدة ، وقيل : من هم يا رسول اللّه؟ قال : ما كنت عليه أنا وأصحابي (1).

وهذا الحديث نصّ صريح على أن طريق النجاة هو الأخذ بمنهج السلف الصالح ، فهم الذين فهموا الدين ونقلوه ، وحفظوا القرآن وفسرّوه ، ولا يجوز أن نقدِّم رأينا على كلامهم ، بل نتمسّك بهم ، ونعضُّ على سنّتهم بالنواجذ.

إنّ الشيعة عندما أرادوا أن يطعنوا في الدين طعنوا في الصحابة ، والطعن في الناقل هو الطعن في المنقول ، فشكّكوا في عدالة الصحابة وجرحوهم ، مع أنّ الجرح والتعديل لا يجوز في حقّهم ; لأنّهم وثَّقهم اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله (2).

ص: 586


1- تذكرة الموضوعات ، الفتني : 15 ، كشف الخفاء ، العجلوني : 1 / 150 ، فتح القدير ، الشوكاني : 1 / 371.
2- وهذا ما يروِّج له كبار القوم أمثال : ابن الأثير وابن حجر والنووي وابن حزم ومن تبعهم على ذلك ، وقد تقدَّم قول ابن الأثير أنه قال في مقدِّمة كتابه أسد الغابة في معرفة الصحابة : 1 / 3 : والصحابة يشاركون سائر الرواة في جميع ذلك إلاَّ الجرح والتعديل ، فإنهم كلهم عدول لا يتطرَّق الجرح إليهم ; لأن اللّه عزَّوجلَّ ورسوله صلی اللّه علیه و آله زكَّياهم وعدَّلاهم ... وقال ابن حجر في الإصابة : 1 / 22 : قال الإمام النووي : الصحابة كلهم عدول ، من لابس الفتن وغيرهم ، بإجماع من يعتدُّ به ، وقال إمام الحرمين : والسبب في عدم الفحص عن عدالتهم أنّهم حملة الشريعة ، فلو ثبت توقُّف في روايتهم لانحصرت الشريعة على عصره صلی اللّه علیه و آله ، ولما استرسلت سائر الأعصار. وقال الخطيب البغدادي في الكفاية : ص 64 مبوِّباً على عدالتهم : ما جاء في تعديل اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله للصحابة ، وأنّه لا يحتاج إلى سؤال عنهم ، وإنما يجب فيمن دونهم : كل حديث اتصل إسناده بين من رواه وبين النبيِّ صلی اللّه علیه و آله لم يلزم العمل به إلاَّ بعد ثبوت عدالة رجاله ، ويجب النظر في أحوالهم سوى الصحابي الذي رفعه إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ; لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل اللّه لهم ، وإخباره عن طهارتهم ، واختياره لهم في نصّ القرآن. وقال ابن حزم في المحلّى : 9 / 362 : فالصحابة كلهم عدول ، فإذا ثبتت صحة صحبته فهو عدل مقطوع بعدالته ; لقول اللّه تعالى : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ ) الآية. سورة الفتح ، الآية : 29. وأمَّا أبو حنيفة فله رأي في ذلك ، قال ابن أبي الحديد في شرح النهج : 4 / 68 : روى أبو يوسف أنَّه قال أبو حنيفة : الصحابة كلُّهم عدول ما عدا رجالا ، ثمَّ عدَّ منهم أبا هريرة وأنس بن مالك. أقول : لو كان كل الصحابة عدولا كما يزعم هؤلاء ، وقد زكَّاهم اللّه تعالى لما رمى بعضهم بعضاً بالكذب والافتراء ، ولما قاتل بعضهم بعضاً ، ولما اعتدى بعضهم على بعض ، ولصدَّق بعضهم بعضاً ، هذا ولم تكن الصحابة في يوم ما يعتقدون في أنفسهم هذا الاعتقاد من النزاهة والطهارة ، كيف وحال الصحابة يشهد بعدم ذلك؟ فلو كانت الصحابة كلهم عدولا لما خفي عليهم هذا الأمر ، ولا حتجّوا بالآية الشريفة على هذه الدعوى ، ولاحتجَّ بعضهم على بعض دفاعاً عن نفسه بما زعمه هؤلاء من التزكية ، وهذا لم يحصل إطلاقاً ، والآية الشريفة ليست مطلقة كي تشمل جميع الصحابة فراجع سبب نزولها. وأمَّا قول إمام الحرمين : والسبب في عدم الفحص عن عدالتهم أنهم حملة الشريعة ، فلو ثبت توقُّف في روايتهم لانحصرت الشريعة على عصره صلی اللّه علیه و آله ولما استرسلت سائر الأعصار. فهو أول الكلام ; فإنّا لا نسلِّم انحصار الشريعة بهم ومن طريقهم ، وذلك لوجود عترة النبيِّ صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته علیهم السلام الذين أمرنا بالتمسُّك بهم في حديث السفينة وحديث الثقلين وغيرهما ، وثانياً : لو سلَّمنا توقُّفها فهي لا تتوقَّف على جميع الصحابة ، بل من ثبتت وثاقته وتزكيته. قال العلاّمة المجلسي عليه الرحمة في البحار : 28 / 36 : اعلم أن أكثر العامة على أن الصحابة كلهم عدول ، وقيل : هم كغيرهم مطلقاً ، وقيل : هم كغيرهم إلى حين ظهور الفتن بين علي علیه السلام ومعاوية ، وأمَّا بعدها فلا يقبل الداخلون فيها مطلقاً ، وقالت المعتزلة : هم عدول إلاَّ من علم أنه قاتل علياً علیه السلام فإنه مردود ، وذهبت الإمامية إلى أنهم كسائر الناس من أن فيهم المنافق والفاسق والضال .. إلخ. وقال العلاّمة الأميني عليه الرحمة في كتابه الغدير : 10 / 96 ، في حال أبي محجن الثقفي : وما أدراك ما الثقفي؟! كان يدمن الخمر ، منهمكاً في الشراب ، حدَّه عمر في سبع مرَّات ، ونفاه إلى جزيرة في البحر ، وبعث معه رجلا فهرب منه ، وهو صاحب الشعر الدائر السائر : إذا متُّ فادفنّي إلى جنب كرمة *** تروِّي عظامي بعد موتي عروقها ولا تدفنَّني بالفلاة فإني *** أخاف إذا ما متُّ أن لا أذوقها هذا أبو محجن فانظر ماذاترى ، وأنت بين أمرين : إمَّا أن تأخذ بكتاب اللّه وفيه قوله تعالى : ( إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا ) وإمَّا أن تجنح إلى ما جاء به القوم من خرافة : الصحابة كلهم عدول ، لا يستوي الحسنة ولا السيئة ، لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة ، لا يستوي الخبيث والطيب ( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ ) سورة السجدة ، الآية : 18. وقال الأستاذ محمود أبو ريّة رحمه اللّه في كتابه أضواء على السنّة المحمديّة : 353 : وإذا كان الجمهور على أن الصحابة كلهم عدول ، ولم يقبلوا الجرح والتعديل فيهم كما قبلوه في سائر الرواة ، واعتبروهم جميعاً معصومين عن الخطأ والسهو والنسيان ، فإن هناك كثيراً من المحقِّقين لم يأخذوا بهذه العدالة المطلقة لجميع الصحابة ، وإنما قالوا كما قال العلامة المقبلي : إنها أغلبيّة لا عامة ، وإنه يجوز عليهم ما يجوز على غيرهم من الغلط والنسيان والسهو والهوى ، ويؤيِّدون رأيهم بأن الصحابة إن هم إلاَّ بشر ، يقع منهم ما يقع من غيرهم ، مما يرجع إلى الطبيعة البشرية ، ويعزِّزون حكمهم بما وقع في عهده من المنافقين والكذَّابين ، وبما وقع بعده من الحروب والفتن والخصومات التي لا تزال آثارها إلى اليوم ، وستبقى إلى ما بعد هذا اليوم.

ص: 587

إنّ فرقة الشيعة ابتكرتها اليهوديَّة ، ولذلك نجد أن مؤسّسها يهوديٌّ اسمه عبداللّه بن سبأ ، وهو دخيل على الإسلام وما كان يقصد إلاَّ الفتنة ، فغلوا جماعته في عليٍّ علیه السلام وألّهوه حتى أحرقهم بالنار ، وهذا دليل كاف على أن علياً بريءٌ منهم.

إنّ الشيعة دخيلة على السودان ، وهو شعب سنّي أصيل ، وهذا من مساوئ الحكومة الحاكمة ، فإنها فتحت المجال لهم ، وكان من المفترض أن تقف في وجوههم وتردَّ كيدهم.

ومن مساوئ الشيعة أيضاً أنهم يؤمنون بزواج المتعة ، وهو زواج جاهليٌّ

ص: 588

أبطله الإسلام ، ولكنهم يدّعون أنّه لم يحرّمه الرسول صلی اللّه علیه و آله ، ولكن حرَّمه عمر بن الخطاب.

ولم يخرج كلامه من هذه النقاط ، وبعد أن ختم حديثه ، وزَّع جماعته قطعاً ورقيّةً حتى تكتب فيها الأسئلة ، ولكنّها طريقة غير مجدية في حقّنا ، فرفعت يدي ، وطلبت أن أسأل مباشرةً ، فوافق على ذلك.

وبعد أن أمسكت بلاقطة الصوت ، شكرته على إتاحته الفرصة لنا ، وقلت له : إنّ لي ملاحظات على كل كلامك ، ولكن أن أسألك وأنت تجيب فهذه مسألة غير منصفة ، فأخيّرك بين أمرين : إمّا تعقد معي مناظرة ، وإمّا أن تسمح لي بالكلام حتى أعقّب على كل المحاضرة ، فأيَّهما تختار؟ سكت مدّة من الزمن ، وقال : أسمح لك بخمس دقائق.

قلت : لا تكفي.

قال : عشر دقائق.

قلت : أيضاً لا تكفي ، وأنا أرى أن تكون مناظرة ، حتى لا تكون محدّدة بزمن ، ونحن مستعدُّون أن نجلس معك أسبوعاً كاملا ، ونطرح كل العقائد الشيعيّة من الألف إلى الياء.

قال : إن المناظرة لابدَّ أن تنسَّق مع جماعة أنصار السنّة المحمديَّة في الجامعة.

قلت : أنا أريدها معك أنت شخصيّاً ، فلا تحتاج إلى تنسيق.

قال : تكلَّم براحتك .. وكأنه هاربٌ من المناظرة.

وبعدما فسح لي المجال للتحدّث ، رأيت أنّه من الأنسب أن لا أعتمد على منهجيّة الردِّ وحسب ، وإنما أقوم بتوضيح عام لمفهوم التشيُّع ونشوئه التاريخي

ص: 589

ومصادره ، بمثابة مقدّمة تأصيليّة.

فقلت : إنّ التشيُّع ليس وليد اللحظة ، ولا وليد حالة تأريخيّة معيَّنة كما يقول البعض : إنّ التشيّع نشأ بعد حرب الجمل ، أو كما يقال : التشيّع أصبح خطّاً في الأمّة الإسلاميّة بعد حادثة كربلاء الأليمة التي ولَّدت تيَّاراً عاطفيَّاً عنيفاً في نفوس المسلمين ، ممَّا جعلهم يتبنّون أهل البيت علیهم السلام باعتبارهم قيادةً للمسلمين ، وليس كما يقول المجحفون إنّ التشيُّع وليد الذهنيّة اليهوديَّة التي تمثَّلت في شخصيَّة عبداللّه بن سبأ.

إن الناظر إلى التشيُّع بروح موضوعيَّة ، يرى أنه ضارب جذوره في عمق الرسالة المحمديَّة ، فهو كمفهوم واضح من خلال النصّ القرآني ، والأحاديث النبويّة ، فإنّه لا يتجاوز أن يكون نظرة عميقة في سنن اللّه سبحانه وتعالى ، التي نستخلص منها ضرورة اصطفاء أئمّة وقادة ربانيين ، يتكفَّلون بقيادة البشريّة إلى نور الهداية ، فالضرورة العقليّة تحتّم وجود إمام من قبل اللّه ليقود هذه الأمة ، وتؤيِّد هذه الضرورة العقليّة النصوص الشرعيّة التي نجدها ظاهره في تنصيب الأئمة واصطفاء القادة ، فما من مجتمع بشريٍّ مرَّ على تأريخ الإنسانية إلاّ وكان فيه قيادة إلهيَّة تمثِّل حجّة اللّه على العباد ، فقد أرسل اللّه مائة وأربعة وعشرين ألف نبيٍّ كما في بعض الروايات ، ولكل نبيٍّ وصيّ يحفظ خطَّ الرسالة من بعد النبيِّ.

وما لاقته الأمّة الإسلاميَّة من تمذهب وفرقة ما كان إلاَّ لفقدان المرجعيَّة الواحدة ، المصطفاة من قبل اللّه ، وممّا ثبت بالضرورة أنّ فترة وجود الرسول صلی اللّه علیه و آله كان المسلمون كياناً واحداً ; لوجود رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بينهم ، وكذلك إذا فرضنا وجوده صلی اللّه علیه و آله إلى اليوم لكانت الأمّة الإسلاميّة جسداً واحداً ، فيتّضح

ص: 590

بذلك أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يمثّل صمّام أمان لهذه الأمّة ، فمجرَّد ما انفلت صمَّام الأمان انفلت الوضع من بعده ، فماذا كان يمثّل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟!

كان يمثّل المرجعيّة المعصومة والقيادة الواحدة ، فيثبت من ذلك أنّ الطريق الوحيد لعصمة الأمّة هو وجود قيادة إلهيَّة معصومة ، وهذا ما تتبنّاه الشّيعة ، ومن هنا كان من الضروريِّ أن ينصب اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله إماماً لقيادة المسلمين ، والذي ينكر التنصيب - بمعنى أنّ اللّه لم يعيِّن إماماً - يكون بذلك نسب سبب الضلالة إلى اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله .

فهذا هو مفهوم الإمامة ، ولا أتصوَّر أنّ أحداً من المسلمين ينكر الإمامة كضرورة ومفهوم ، ولكنّ الخلاف كل الخلاف في مصاديق الإمامة الخارجيَّة ، فإنّ الشيعة تعتقد أنّ الإمامة جارية في ذرية رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته علیهم السلام ، ولم يكن هذا مجرّد افتراض جادت به قريحة الشيعة ، وإنما هو نص قرآني وحديث نبوي ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كما جاء في الحاكم : أوحى إليَّ في عليٍّ ثلاثة : أنّه سيِّد المسلمين ، وإمام المتقين ، وقائد الغرِّ المحجَّلين (1) ، وحديث جابر بن عبداللّه قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو آخذٌ بضبع علي بن أبي طالب علیه السلام وهو يقول : هذا إمام البررة ، وقاتل الفجرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله (2) ،

ص: 591


1- المستدرك ، الحاكم : 3 / 137 - 138 ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، المناقب ، الخوارزمي : 328 ح 340 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 42 / 302 ، أسد الغابة ، ابن الأثير : 1 / 69 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 1 / 78 و 9 / 121 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 9 / 169 ، الدرّ المنثور ، السيوطي : 4 / 153.
2- 2 - المستدرك ، الحاكم : 3 / 129 ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، تأريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : 3 / 181 ، رقم : 1203 و 4 / 441 ، رقم : 2231 ، فتح الملك العلي ، المغربي : 57 ، المناقب ، الخوارزمي : 177 ح 1. تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 42 / 226 و 383 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 11 / 602 ح 32909 ، فيض القدير ، المناوي : 4 / 469 ح 5591.

وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : مرحباً بسيِّد الموحِّدين ، وإمام المتقين ، وعن علي بن أبي طالب علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : الأئمة من ولدي ، فمن أطاعهم فقد أطاع اللّه ، ومن عصاهم فقد عصى اللّه ، هم العروة الوثقى ، والوسيلة إلى اللّه جلَّ وعلا (1) ، ومئات الأحاديث.

فما ذنب الشيعة بعد ذلك إذا والوا علي بن أبي طالب علیه السلام ، وأخذوا دينهم منه ، فهو المسار الطبيعي للرسالة ، ولو لاه لم يعرف للدين معنى.

ولذلك نجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أكّد كثيراً على ضرورة الإمامة ، وإمامة عليِّ بن أبي طالب علیه السلام بالذات ، وهذا هو التشيُّع ، فهل لكم معنى آخر للتشيُّع حتى تنسبوه إلى عبداللّه بن سبأ؟! بل كلمة الشيعة نفسها لم تكن مصطلحاً غريباً على الأمّة الإسلاميّة ، فقد عمل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على تثبيت هذا المصطلح وتأصيله في ذهنيَّة الأمّة الإسلاميّة ، كما جاء في حديث جابر قال : كنّا عند النبيِّ صلی اللّه علیه و آله فأقبل عليٌّ علیه السلام ، فقال النبي صلی اللّه علیه و آله : « والذي نفسي بيده ، إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة » فأنزل قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) (2) ، وكما جاء عن ابن عباس قال : لمَّا أنزل اللّه تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعلي علیه السلام : هم أنت وشيعتك ، تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيَّين ، ويأتي عدوُّك

ص: 592


1- ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : 2 / 318 ح 918.
2- سورة البيِّنة ، الآية : 7.

غضاباً مقمحين (1).

وغير هذه الروايات الواضحة في تحديد مسار الأمَّة بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، لذلك نجد أنّ لهذه الروايات مصاديق وترجمة خارجيَّة من مجموعة من الصحابة كسلمان الفارسي ، وأبي ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر ، والمقداد ، حتى أصبح لفظ الشيعة لقباً لهم. ذكر أبو حاتم في كتابه الزينة : إنّ أوّل اسم لمذهب ظهر في الإسلام هو الشيعة ، وكان هذا لقب أربعة من الصحابة : أبو ذر ، وعمار ، والمقداد ، وسلمان الفارسي (2).

هذا بالإضافة لوجود كثير من الآيات والأحاديث التي توجب اتّباع أهل البيت علیهم السلام خاصّة ، وأخذ الدين عنهم ، كقوله تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (3).

من الضروريِّ أن لا يكون اللّه طهّرهم من الذنوب عبثاً ، وإنّما تطهيرهم مقدِّمة لاتّباعهم وأخذ الدين منهم ، كما جاء في الحديث : إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلُّوا بعدي أبداً ، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، إن العليم الخبير أنبأني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض (4).

وهذا يدلُّ على أن البعد عن الضلالة لا يتحقّق إلاَّ باتّباعهم وأخذ الدين

ص: 593


1- شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : 2 / 460 - 461 ح 1126 ، النهاية في غريب الحديث ، ابن الأثير : 4 / 106 ، الدرّ المنثور ، السيوطي : 6 / 379 ، نظم درر السمطين ، الزرندي الحنفي : 92 ، ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : 2 / 452 ح 254 ، الصواعق المحرقة ، ابن حجر : 246 ، الآية الحادية عشرة.
2- ذكره في باب الألفاظ المتداولة بين أهل العلم.
3- سورة الأحزاب ، الآية : 33.
4- تقدَّمت تخريجاته.

منهم ، حتى السلف الصالح لا يسمّى صالحاً إلاَّ إذا أخذ دينه عن أهل البيت علیهم السلام ، فبأيِّ حجّة بعد ذلك تقول : إن أخذ الدين لابد أن يكون عن طريق السلف؟ وأيَّ سلف تقصد؟ هل الذين لم يتفقوا في أبسط الأحكام الفقهيّة كاختلافهم في قطع يد السارق ، فهل تقطع من أصل الأصابع كما قال بعض الصحابة أو من الكفّ ، أو من المرفق ، أو من الكتف كما قال آخرون (1)؟

فمن الضروريِّ أن يكون رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد بلَّغ حكماً واحداً لا أحكاماً متعدّدةً ، وهذا يدلُّ على أن الصحابة هم الذين أخطأوا ، فكيف نعتمد على قولهم ، وندين اللّه تعالى باتّباعهم؟

فإذن ليس كما ذهبت أنّ الطريق هو متابعة كل السلف الذين اقتتلوا ، وكفَّروا بعضهم ، وإنّما يؤخذ الدين عن شريحة خاصة كفل اللّه عصمتهم من الاختلاف ، وهم أهل البيت علیهم السلام الذين تواترت الروايات في حقِّهم ، ووجوب اتباعهم.

أسألك باللّه إن كنت صادقاً فيما تقول ، أن تثبت لي دليلا واحداً يقتضي بوجوب اتباع السلف؟! واستدلالك ببعض الآيات كقوله تعالى : ( وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ) (2) فإنها لا يمكن أن تحمل على مطلق السلف ، وإنّما هي عامّة ، وتخصيصها يحتاج إلى دليل ، ولا توجد قرائن تخصّصها إلاَّ ما جاء في حقِّ أهل البيت علیهم السلام ، ولا يمكن أن تحملها على مطلق السلف كما ثبت من وقوع الاختلاف بينهم.

ص: 594


1- راجع : بداية المجتهد ونهاية المقتصد ، وتفسير الفخر الرازي في تفسير الآية الشريفة : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ) سورة المائدة ، الآية : 38.
2- سورة النساء ، الآية : 115.

ولا نقبل استدلالك بقوله تعالى : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) (1) فإنّها لا تتجاوز أن تكون مدحاً ، وإن تنازلنا وسلّمنا بظهورها فيما تدّعي فإن الظهور لا يقابل النصوص الواضحة القاطعة بوجوب اتّباع أهل البيت علیهم السلام .

ونحن ندري أنّ مشكلتكم ليست الأدلّة والبراهين الواضحة في وجوب اتّباع أهل البيت علیهم السلام ، وأنكم لم تكونوا سلفيين بمحض إرادتكم ، وإنَّما هذا ما ورثتموه من التاريخ الجائر للحكمين الأموي والعباسي ، الذي عمل جهده حتى يورث الأمَّة تيَّاراً يواجه أهل البيت علیهم السلام ، وإلاّ ما كرّرت أنت نفس مالاكه علماؤك الأقدمون ، الذين صنعتهم السلطات الجائرة ، ليشوِّهوا صورة التشيُّع.

باللّه عليك ، هل هناك عاقل له قليل اطّلاع بالمذهب الشيعيِّ يكون صادقاً مع نفسه إذا نسبه إلى عبداللّه بن سبأ؟ نعم قد يكون الجاهل معذوراً ، ولكن ما عذر من يكرّر الجهل ويتبنّاه من غير دراية وتحقيق ، ونحن على مشارف القرن الحادي والعشرين ، فكيف تتحدَّثون عن الشيعة وكأنهم مخلوق غريب لا ارتباط لهم بالإنسانيّة ، ويعيشون في كوكب غير كوكبنا؟

عزيزي! إنّ الوسائل قد تغيَّرت ، فاتركوا ما ورثتموه عن سلفكم ، ابحثوا عن وسائل جديدة في الردِّ على الشيعة ، فزمنهم غير زمنكم ، فقد تعدَّدت وسائل المعارف ، فهذه الكتب الشيعيّة متوفِّرة في كل مكان فاطّلعوا على براهينهم ، وهذه البلاد الشيعيّة زوروها ، وقفوا على أحوالهم.

وكان بإمكاني أن لا أردّ على ما ذكرت ; لأنه لا يرقى إلى مستوى الفكر والنقاش ، ولكن تنازلا أعقّب على ما ذكرته في حديثك.

ص: 595


1- سورة الفتح ، الآية : 29.

أولا : إنّ نسبة الشيعة إلى عبداللّه بن سبأ ، يرجع إلى ما رواه الطبري ، وهو أول راوي لذلك ، أمَّا بقية المؤرِّخين فإنهم أخذوا منه ، وروى الطبري ذلك عن سيف بن عمر ، وسيف معروف قدره عند علماء الجرح والتعديل (1) ، فإنه رجل كاذب ومدلِّس ، ولا يؤخذ برواياته ، وللمزيد ارجع إلى كتاب عبداللّه بن سبأ وأساطير أخرى للعلامة السيد مرتضى العسكري.

ثانياً : حتى لو سلّمنا بهذه الروايات فإنها لا تقول بأن عبداللّه بن سبأ هو مؤسّس الشيعة ، فكل ما فيها أنّ هذا الرجل ادّعى أنّ لكل نبيٍّ وصيّاً ، وأنّ وصيَّ محمَّد صلی اللّه علیه و آله هو عليٌّ علیه السلام ، وهذا ليس من مبتكرات عبداللّه بن سبأ ، وإنما صرَّح به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من قبل ، فإذا كان قول الشيعة مطابقاً لقول ابن سبأ ، فما هو وجه الملازمة بين هذا وبين أن يكون هو مؤسّس الشيعة؟ فما هو وجه الشبه حتى تربط بين الأمرين؟ ولعمري إنها لسخافة في الرأي.

أمَّا تأليه عليٍّ علیه السلام وأنّ عليّاً علیه السلام أحرق أتباعه بالنار ، فإن الشيعة لا تؤمن بذلك ، وإنما نعتقد أن عليّاً علیه السلام عبدٌ صالح من عباد اللّه الصالحين ، اختاره اللّه لحمل رسالته من بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله .

ص: 596


1- قال يحيى بن معين - ت 233 ه - : ضعيف الحديث ، فلسٌ خير منه ، وقال أبو داوود - ت 275 ه- - : ليس بشيء كذّاب ، وقال النسائيي صاحب الصحيح - ت 303 ه- - : ضعيف ومتروك الحديث ، ليس بثقة ولا مأمون ، وقال ابن حاتم - ت 327 ه- - : متروك الحديث ، وقال ابن عدي - ت 365 - : يروي الموضوعات اُتهم بالزندقة ، وقال : قالوا : كان يضع الحديث ، وقال الحاكم - ت405 ه- - : متروك ، وقد اتهم بالزندقة ، وهاهُ الخطيب البغدادي ، ونقل ابن عبد البرّ عن ابن حيان أنه قال فيه : سيف متروك ، وإنّما ذكرنا حديثه للمعرفة ، ولم يعقِّب ابن عبد البرِّ عليه ، وقال الفيروز آبادي : صاحب توالف ، وذكره مع غيره وقال عنهم : ضعفاء ، وقال ابن حجر بعد إيراد حديث ورد في سنده اسمه : فيه ضعفاء أشدُّهم سيف ، وقال صفي الدين : ضعَّفوه ، وروى له الترمذي فرد حديث.

ثالثاً : ما كانت هذه الفرية إلاَّ حلقة من مسلسل الوضع على الشيعة ، كما قال طه حسين : ( ابن سبأ شخص ادّخره خصوم الشيعة للشيعة ، ولا وجود له في الخارج ) وتستهدف هذه المحاولة تشويه عقائد الشيعة التي تنبع من القرآن والسنة ، مثل الوصيَّة والعصمة ، فلم يجد أعداؤهم طريقاً إلاَّ ربط هذه العقائد بجذر يهوديٍّ ، يكون بطلها شخصاً خياليّاً اسمه عبداللّه ابن سبأ ، فيلقى اللوم بذلك عليه وعلى الذين أخذوا منه ، وهذا بالإضافة إلى تعديل صورة الصحابة وتنزيههم عن اللوم والعتاب ، بما جرى بينهم من فرقة واختلاف انتهت بقتل عثمان ، وحرب الجمل التي تعتبر أكبر فاجعة بعد حادثة السقيفة ، حيث راح ضحيَّتها آلاف من الصحابة ، وما هذه القصة المفتعلة عن ابن سبأ إلاَّ تغطية على تلك الفترة الزمنيّة الحرجة ، فألقوا مسؤوليَّة ما حدث على هذه الشخصيّة الوهميّة وأسدلوا الستار ، ومن غير ذلك يكون الصحابة أنفسهم مسؤولين عمَّا حدث ، من انشقاق الأمَّة ، وتفرّقهم إلى مذاهب ومعتقدات شتى ، ولكن هيهات يتسنَّى لهذا الدخيل أن يعبث حتى غيَّر تاريخ الإسلام العقائدي ، والصحابة شهود على ذلك!! فإذا لم يكن الصحابة قادرين على قيادة الأمّة إلى برِّ الأمان في حياتهم ، فكيف يقودون الأمَّة بعد وفاتهم ، فالذي فشل في حياته كيف ينجح بعد مماته؟!

وعندما كنت أتحدَّث كان بعض الوهابيّة يصيحون : الزمن ، الزمن ، ولكن المحاضر صامت وكأنّ على رأسه الطير ، ولم يتفوّه بكلمة واحدة ، وشعرت بأنه يطلب المزيد ، ولذلك ما إن وضعت لاقطة الصوت وقلت : لنا عودة ، قال : أسألك سؤالا ، هل عندك دليل على ولاية علي بن أبي طالب علیه السلام وخلافته؟

قلت : من القرآن والسنة ، والعقل ، والتاريخ ، فأيّها تحبُّ؟

ص: 597

قال : من القرآن.

فحمدت اللّه في سرّي على هذه الفرصة الجديدة ، وقلت : إنّ الآيات كثيرة في ذلك ، وسوف أذكر لك بعضها مع التوضيح :

أولا : قوله تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (1).

هذه الآية تطرح نفس ما قلناه ، وتؤكِّد أولا : ضرورة الولاية في الدين ،

وثانياً : استمراريّة ولاية اللّه ، وهي السلطة والحاكميّة للرسول صلی اللّه علیه و آله ، ثمَّ من بعده الذين آمنوا الذين يؤتون الزكاة وهم راكعون.

أمَّا ولاية اللّه فهي ثابتة بالذات ، وأمَّا ولاية الرسول صلی اللّه علیه و آله والذين آمنوا فهي بالتبع ، فولاية اللّه في الأرض وحكومته لا تتمُّ إلاَّ باصطفاء بشر أعطاهم اللّه القدرة التي تؤهّلهم على أن يكونوا امتداداً لحكومة اللّه في الأرض ، فلا يحقُّ للإنسان ، مطلق الإنسان ، أن يتصرَّف في إدارة البلاد والعباد من غير إذن اللّه ; لأنّ اللّه هو الحاكم ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ) (2) ولا تتمُّ حكومته في الأرض إلاّ إذا اصطفى اللّه حاكماً من عباده ، ولذلك جاءت هذه الآية القرآنيّة صريحة في هذا المجال ، فأثبتت أولا : ولاية اللّه ، ثمَّ أجرت هذه الولاية على الرسول صلی اللّه علیه و آله ، ثمَّ صرَّحت أن الولاية من بعد الرسول تكون مستمرَّة في الذين آمنوا وآتوا الزكاة في حال الركوع.

فدلالة هذه الآية على ولاية علي بن أبي طالب علیه السلام تكون واضحة إذا

ص: 598


1- سورة المائدة ، الآية : 55.
2- سورة الأنعام ، الآية : 57.

اتضح أنّ المراد من قوله تعالى ( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) هو علي بن أبي طالب علیه السلام ، والحمد لله إنّ هذا المعنى ثابت ; لما تواتر من الأخبار في نزول هذه الآية بخصوص علي بن أبي طالب علیه السلام ، وأذكر لكم هنا ما جاء عن أبي ذر الغفاري في رواية طويلة أخرجها عنه الحاكم الحسكاني ( ج 1 ص 177 ط. بيروت ) بسنده.

قال أبو ذر الغفاري : أيُّها الناس! من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدري أبو ذرٍّ الغفاري ، سمعت النبي صلی اللّه علیه و آله بهاتين وإلاَّ فصمَّتا ، ورأيته بهاتين وإلاَّ فعميتا ، وهو يقول : عليٌّ قائد البررة ، قاتل الكفرة ، منصور من نصره ، ومخذول من خذله ، أما إني صلّيت مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوماً من الأيام صلاة الظهر ، فسأل سائل في المسجد ، فلم يعطه أحد ، فرفع السائل يده إلى السماء ، وقال : اللّهم اشهد أنّي سألت في مسجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلم يعطني أحدٌ شيئاً ، وكان علي علیه السلام راكعاً فأومأ إليه بخنصره اليمنى ، وكان يتختّم فيها ، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره ، وذلك بعين النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، فلمَّا فرغ النبي من صلاته رفع رأسه إلى السماء ، وقال : اللّهمّ إنّ أخي موسى سألك فقال : ( قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (1) ، فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً : ( سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ) (2) ، اللّهم وأنا محمّد نبيُّك وصفيُّك ، اللّهم فاشرح صدري ، ويسرّ لي أمري ، وجعل لي وزيراً

ص: 599


1- سورة طه ، الآية : 25 - 32.
2- سورة القصص ، الآية : 35.

من أهلي ، عليّاً أخي ، اشدد به أزري.

قال : فواللّه ما استتمّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الكلام حتى نزل عليه جبرئيل علیه السلام من عند اللّه ، وقال : يا محمّد! هنيئاً ما وهب لك في أخيك ، قال صلی اللّه علیه و آله : وما ذاك يا جبرئيل؟ قال : أمر اللّه أمّتك بموالاته إلى يوم القيامة ، وأنزل عليك ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ) ... إلى آخر الآية (1).

فيكون معنى الآية بعد ذلك : إنما وليُّكم اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله وعلي بن أبي طالب علیه السلام . ولا يستشكل أحد ، كيف خاطب اللّه الفرد بصيغة الجمع؟ لأنه أمر جائز في لغة العرب ، وهو ضرب من ضروب التعظيم ، والشواهد على ذلك كثيرة ، كقوله تعالى : ( الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء ) (2). فالقائل هو حيي بن أخطب ، وقوله تعالى : ( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ) (3) ، وهذه الآية نزلت في رجل من المنافقين ، إما في الجلاس بن سويد ، أو نبتل بن الحرث ، أو عتاب بن قشيرة (4).

ولا يستشكل أيضاً بأنّ معنى الوليّ هو المحبُّ والناصر ، وإنما هو الأولى بالتصرُّف ، والذي يدلُّ على ذلك هو أن اللّه تعالى نفى أن يكون لنا وليٌّ غيره وغير رسوله صلی اللّه علیه و آله وغير ( وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) بلفظة ( إِنَّمَا ) ، ولو كان المقصود الموالاة في الدين ما خصّ بها

ص: 600


1- شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : 1 / 229 - 231 ح 235 ، نظم درر السمطين ، الزرندي الحنفي : 87.
2- سورة آل عمران ، الآية : 181.
3- سورة التوبة ، الآية : 61.
4- تفسير الطبري : 8 / 198.

المذكورين ، لأن الموالاة في الدين عامة للمؤمنين جميعاً ، قال تعالى : ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْض ) (1) فالتخصيص يدلُّ على أنّ نوع الولاية يختلف عن ولاية المؤمنين لبعضهم البعض ، فلا يكون المراد من قوله : ( وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ ... ) مجمل ومطلق المؤمنين ، وإنّما تكون خاصّة بعلي علیه السلام بدليل ( إنّما ) التي تفيد التخصيص فتنفي جملة المؤمنين ، وهذا بالإضافة للأحاديث التي أثبتت أن هذا الوصف ( وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) لم ينطبق على أحد ، ولم يدّعه أحد غير أميرالمؤمنين علیه السلام ، وهو كونه أتى الزكاة وهو راكع.

ثانياً : قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (2).

تعالوا لنتدبَّر في هذه الآية المباركة ، فإننا نلاحظ أنّ هذه الآية خاطبت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بلهجة غريبة : « وإن لم تفعل » فمتى توانى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في أمر تبليغ الرسالة حتى يخاطبه اللّه بقوله : ( وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ ) فنستظهر من ذلك أن هذا الأمر الذي يأمر المولى بتبليغه في غاية الأهمّيّة والشأن ، هذا أولا.

وثانياً : صعوبة تبليغ هذا الأمر من قبل الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وهذه الصعوبة تتحتَّم أن تكون من باب عدم قبول سائر الناس لهذا الأمر ، وإلاَّ لم تكن لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مصلحة في عدم تبليغه لهذا الأمر ، ويؤكِّد ذلك ذيل الآية ( وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) أي بمعنى أنك ستواجه معارضة عنيفة في تبليغ هذا الأمر لدرجة أنه

ص: 601


1- سورة التوبة ، الآية : 71.
2- سورة المائدة ، الآية : 67.

يمكن أن يلحق الأذى برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وهنا كفل اللّه له العصمة والضمانة.

وقوله تعالى : ( وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) إنّ هذا الأمر بلغ من الأهمّيّة جعلته يوضع في كفّة قبال كل الرسالة بما فيها من صبر على العناء والجهاد ودماء الشهداء ، وما لاقاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من أذى ، حتى قال : ما أوذي نبيٌّ كما أوذيت ، يكون كل هذا لا اعتبار له إلاَّ بتبليغ هذا الأمر.

فياترى ماذا يكون؟ هل الصيام ، أم الزكاة ، أم الحج ، أو التوحيد وسائر المفردات العقائدية؟ لا يمكن أن يكون ذلك ; لأنّ هذه الآية في سورة المائدة ، وهي مدنيَّة ، كما أنّها من أواخر سور القرآن كما جاء في مستدرك الحاكم ، هذا بالإضافة إلى نزول هذه الآية بالذات بعد حجّة الوداع ، وهي آخر حجّة في الإسلام ، وكانت كل أحكام الدين مبلَّغةً وواضحةً ، فيكون الأمر خلاف ذلك ، وإنّما له ربط بوفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فهل هنالك أمر غير تعيين الإمام والخليفة بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله ، أمرٌ يكون بقاء الرسالة منوطاً به ، حيث لو لاه لما كانت رسالة ، وهل هنالك أمرٌ وقع الخلاف فيه بين المسلمين غير الخلافة والولاية كما قال الشهرستاني : ( ما سُلّ سيف في الإسلام كما سلّ في الخلافة ) (1) ، هذا بالإضافة لما أوضحناه في بداية حديثنا أن الإمامة والمرجعيّة الواحدة هي كفيلة بعصمة الأمّة من الضلال ، فيتحتَّم أن يكون الأمر المراد تبليغه هو ذلك.

وهذا ما أثبته المفسِّرون ، وأصحاب السير ، ورواة الأحاديث بأن هذه الآية نزلت بخصوص علي بن أبي طالب علیه السلام ، في غدير خم ، ذكر السيوطي في تفسيره

ص: 602


1- الملل والنحل ، الشهرستاني : 1 / 30.

( الدرّ المنثور ) في تفسير الآية عن ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر ، بأسانيدهم عن أبي سعيد قال : ( نزلت على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم غدير خم في علي علیه السلام ) ونقل أيضاً عن ابن مردويه بإسناده إلى ابن مسعود قوله : كنّا نقرأ على عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ - أن عليّاً مولى المؤمنين - وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (1).

وروى الواحدي في أسباب النزول : ص 150 عن أبي سعيد قال : ( نزلت في غدير خم في علي علیه السلام ) (2) ، وروى الحافظ ابن عساكر الشافعي بإسناده عن أبي سعيد الخدري أنها نزلت يوم غدير خم في علي بن أبي طالب (3).

فقد جاء عن زيد بن أرقم أنه قال : لمَّا نزل النبيُّ صلی اللّه علیه و آله بغدير خم ، في رجوعه من حجّة الوداع ، وكان في وقت الضحى والحرّ شديد ، أمر بالدوحات فقمِّمن ، ونادى : الصلاة جامعة فاجتمعنا ، فخطب خطبة بليغة ، ثمَّ قال : إنّ اللّه تعالى أنزل إليَّ : ( بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) وقد أمرني جبرائيل عن ربي أن أقوم في هذا المشهد ، وأعلم كل أبيض وأسود أن علي بن أبي طالب علیه السلام أخي ووصيّي وخليفتي والإمام من بعدي .. فاعلموا معاشر الناس ذلك ، فإنّ اللّه قد نصبه لكم وليّاً وإماماً ، وفرض طاعته على كل أحد ، ماض حكمه ، جائز قوله ، ملعون من خالفه ، مرحوم من صدَّقه ، اسمعوا وأطيعوا ، فإنّ اللّه مولاكم ، وعليٌّ إمامكم ، ثمَّ الإمامة في ولده من

ص: 603


1- الدرّ المنثور ، السيوطي : 2 / 298 ، فتح القدير ، الشوكاني : 2 / 60.
2- أسباب نزول الآيات ، الواحدي : 135.
3- تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 42 / 237.

صلبه إلى يوم القيامة ... (1).

وبعدما بلَّغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولاية علي علیه السلام التي لو لاها لم يكتمل الدين ، كما هو واضح من منطوق الآية : ( وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) أمَّا مفهومها ( إذا بلغت أكملت الرساله ) ومن هنا نزل قوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) (2) فإكمال الدين وإتمام النعمة بولاية عليٍّ علیه السلام (3).

الآية الثالثة : ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) (4).

هذه الآية تلخِّص ما أوضحناه بأن استمراريّة الرسالة منوطة بطاعة اللّه ورسوله وطاعة أولي الأمر من بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله ، ونجد هنا أن مفهوم الولاية وكأنه ثابت في فطرة الإنسان ، ولذلك تتَّكي الآية عليه لإثبات حكم آخر ، وهو الملاك والمناط الذي من خلاله نتعرَّف على وليِّ الأمر ، وهو العصمة.

إنّ العصمة للوالي ثابتة بالضرورة العقليّة ، ولكن هذا ليس موضع حديثنا ، ويكفي في هذا المقام أنّ الآية ظاهرة ، بل نصٌّ صريح في المدَّعى وهو العصمة ،

ص: 604


1- راجع : الغدير ، الأميني : 1 / 214 - 215 ، روضة الواعظين ، الفتال النيسابوري : 92 - 93.
2- سورة المائدة ، الآية : 3 ، وقد صرَّح بنزول هذه الآية في علي علیه السلام كثيرٌ من المحدِّثين ، وذكر منهم الأميني في كتابه الغدير : 1 / 230 - 237 ستة عشر مصدراً ، فراجع.
3- روى ابن عساكر ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي هريرة قال : لمَّا أخذ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بيد علي بن أبي طالب فقال : ألست وليَّ المؤمنين؟ قالوا : بلى يا رسول اللّه ، قال : فأخذ بيد علي بن أبي طالب ، فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فقال له عمر بن الخطاب : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كل مسلم ، قال : فأنزل اللّه عزَّوجلَّ : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) قال أبو هريرة : وهو يوم غدير خم ، من صام ثماني عشرة من ذي الحجّة كتب اللّه له صيام ستين شهراً - تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42 / 233.
4- سورة النساء ، الآية : 59.

فإنّ اللّه سبحانه وتعالى أمر بطاعة وليِّ الأمر على سبيل الجزم ، وكل من يأمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم لابد أن يكون معصوماً ، وإلاّ اجتمع الأمر والنهي في موضع واحد ، وهذا محال ; لأنه لا يأمر بالمعصية وينهى عنها.

وتقرير ذلك : إذا أمرنا اللّه بالطاعة الحتميّة لوليِّ الأمر ، مع افتراض المعصية والخطأ منه ، فنقع بالتبع في المعصية والخطأ منّا لطاعتنا له ، فيكون بذلك قد أمرنا اللّه بالمعصية والخطأ بطريقة غير مباشرة ، وفي الوقت نفسه قد نهانا اللّه عن الخطأ والمعصية ، وهذا تناقض ومحال ، فتتحتَّم وتتعيَّن العصمة للإمام ، وهذا هو المقياس الذي جعله اللّه لنا لنكتشف من خلاله المصداق الخارجي للإمام ، وهذا يعني الكفر بكل وال ادّعى خلافة المسلمين وهو غير معصوم ، فضلا على أن يكون فاسقاً مجاهراً بالفجور.

وياترى من الذين كفل اللّه عصمتهم وطهارتهم حتى يكونوا ولاة أمورنا؟ لم نجد في آيات الذكر الحكيم ، ولا أحاديث النبيِّ الأمين صلی اللّه علیه و آله ، ولا من بين دفّات التاريخ جماعة طهّرهم اللّه وأذهب عنهم الرجس غير أهل بيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، قال تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (1).

وإفادة العصمة واضحة من هذه الآية ، وذلك لاستحالة تخلُّف المراد ، إذا كان المريد هو اللّه سبحانه ، وهي تطهير أهل البيت علیهم السلام خاصة ، وأداة الحصر ( إنّما ) شاهدةٌ على ذلك ، وهذا بالإضافة لتأكيدات رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على تعضيد هذا المعنى ، كما في حديث الثقلين : إنّي أوشك أن أُدعى فأجيب ، وإنّي تاركٌ

ص: 605


1- سورة الأحزاب ، الآية : 33.

فيكم الثقلين : كتاب اللّه وعترتي ، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وإنّ اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، فانظروا بم تخلِّفوني فيهما ، ومن المعلوم أنّ القرآن معصوم ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأهل البيت متلازمون معه إلى الحوض ، فإن كان يأتيهم الباطل كانوا حتماً يفترقون عن القرآن ، وهذا ما أكَّد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على عدمه ب- ( لن ) التي تفيد التأبيد ( لن يفترقا ) وغيره من النصوص الدالّة على ذلك مثل قوله : عليٌّ مع الحقِّ والحقُّ مع عليٍّ ، يدور معه حيثما دار (1) ، وبذلك تكون الآية نصّاً في ولاية أهل البيت علیهم السلام ، وعلى رأسهم عليٌّ بن أبي طالب علیه السلام ، فيكون معنى الآية : أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وعليَّ بن أبي طالب ، وأولاده الأحد عشر (2) ، وغيرها من الآيات الدالّة على ذلك ، فبعضها نصٌّ في الأمر ، وبعضها ظاهر الدلالة ، ويمكنك أن تراجع في ذلك كتاب ابن حجر ( الصواعق المحرقة ) باب ما نزل في أهل البيت علیهم السلام من القرآن (3).

وبعدما وضعت لاقطة الصوت وانصرفت ، لم يعقّب الوهابي المتحدِّث

ص: 606


1- تقدَّمت تخريجاته.
2- روى القندوزي الحنفي في ينابيع المودة : 104 ، منشورات مؤسَّسة الأعلمي للمطبوعات ، بيروت ، و 3 / 289 ط. أسوة عام 2. قال ذكر يحيى بن الحسن في كتاب العمدة من عشرين طريقاً أن الخلفاء من بعد النبي صلی اللّه علیه و آله اثنا عشر خليفة ، كلهم من قريش ، وفي البخاري من ثلاثة طرق ، وفي مسلم من تسعة طرق ، وفي أبي داود من ثلاثة طرق ، وفي الترمذي من طريق واحد ، وفي الحميدي من ثلاثة طرق. ففي البخاري عن جابر رفعه : يكون من بعدي اثنا عشر أميراً ، فقال كلمة لم أسمعها ، فسألت أبي : ماذا قال؟ قال : قال كلهم من قريش ، وفي مسلم عن عامر بن سعد ، قال : كتبتُ إلى ابن سمرة : أخبرني بشيء سمعته من النبي صلی اللّه علیه و آله ، فكتبت إليَّ : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم عشية رجم الأسلمي يقول : لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش.
3- ص 220.

على كلامي ولو بنصف كلمة ، وبينما هو في سكوته رفع أحد إخواننا يده - وهو طالب في الجامعة - فأذن له المحاضر ، وكان يظنُّ أنه وهابي أتى لنجدته.

وبعد أن حمد اللّه وأثنى عليه قال : لي نقطة ، أودّ أن أقرّها قبل أن أورد ملاحظاتي على الشيخ ، وهي عندما يتحدَّث الشيخ عن السودان ، وكأنه مستعمرة لمحمّد بن عبد الوهاب ، وأنّ دخول التشيُّع يُعدُّ أمراً شاذّاً إلى هذا البلد الطيِّب ، وأقول له من باب ردَّ الحجر من حيث أتى : وأنت من الذي أدخلك إلى السودان ، فهل تظنُّه مقاطعة من صحارى نجد؟! إن السودان بلد فطر على حبّ محمّد وآل محمّد صلی اللّه علیه و آله ، وأنتم الغرباء لا نحن (1).

أمَّا النقطة الثانية : هي مسألة الارتداد في عصر النبيِّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله والتي لم يبتدعها الشيعة من عند أنفسهم ، بل طفحت بها الكتب المعتمدة لديكم ، كالبخاري ومسلم وغيرهما ، وهي واضحة بحيث لا يشك فيها أحد ، هذا إذا لم نأخذ بالاعتبار الآيات القرآنية المتحدِّثة في هذا المجال ، إنّ الردّة - يا شيخ - قد حدثت ، ولم تقدر أنت ، ولا من معك ، ولا من كان قبلك ، ولا من سيأتي بعدك على إنكارها ، وحروب الردّة التي قامت في صدر الإسلام فهي تؤكِّد أن هناك حقاً ارتدّ عنه ، ولذا نشب القتال ، فحاصل الأمر أن هناك ارتداداً ، أم تقول : إن الذين قاتلهم أبو بكر كانوا أمريكان ولم يكونوا مسلمين؟

وأمَّا النقطة الثالثة : هل فات الشيخ أنه يخاطب عقولا ناضجة وصلت إلى هذه المرحلة ، أم أنه يستهزئ بها ، إنّ وصف الشيعة باليهوديّة أمرٌ لا يقبله العقل ، والدليل على ذلك - أيُّها الشيخ - من الذي يدافع عن الإسلام اليوم ضدَّ الزحف

ص: 607


1- قال في الهامش : مع العلم أنّ المتحدِّث كان وهابياً متشدِّداً ، هداه اللّه إلى التشيُّع.

اليهودي؟ إلى من ينتمي حزب اللّه في لبنان ، وحركة المقاومة الإسلاميَّة؟ إنّ وصفاً كهذا يسفِّه قائله قبل أيّ شخص آخر ، فنرجوا احترام العقول هنا.

وبعد أن أكمل الطالب حديثه قال له الوهابي : لي سؤال واحد ، فقد ذكرت في حديثك أنّ مجموعة من الصحابة ارتدّوا ، فهل تستطيع أن تذكر لي أسماءهم؟

فردَّ عليه قائلا : لا أذكر.

فقال الشيخ : أتخاف أن تكشف عقيدتك.

وفي هذه اللحظة طلبت من الوهابي أن أجيب أنا على هذا السؤال ، ولكنه رفض ، وقال : لماذا لا يجيب هو؟

فقال الطالب : الأسود العنسي.

فقال الشيخ : فيك الخير سمِّ واحداً غيره.

فقلت لصديقنا : قل : لا أعلم ، وبعد إصرار منّي سمح الوهابي لي بالإجابة على هذا السؤال.

فقلت : إن القضية لا تثبت موضوعها ، ونقاشنا الآن في مجمل القضيّة ، وهي : هل كان هناك ارتداد بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟

وقد أثبتت ذلك الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة ، فقد أثبت القرآن وجود المنافقين ، ولم يذكر أسماءهم ، وذكر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ذلك ولم يحدّد أسماءهم ، فكيف تطالبني بشيء سكت عنه اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله ، ونحن نلتزم بقولهم ، فعندما يقول تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ

ص: 608

قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ) (1) فنقول نحن كما قال اللّه سبحانه وتعالى : إنّ بعض الصحابة انقلبوا ، وهم الأكثريّة ، ولا نزيد على ذلك ، وكذلك نقول عندما يقول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كما جاء في البخاري ومسلم.

روى البخاري في تفسير سورة المائدة ، باب ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ) وتفسير سورة الأنبياء ، كما رواه الترمذي في أبواب صفة القيامة ، باب ما جاء في شأن الحشر ، وتفسير سورة طه : ( وإنه يجاء برجال من أمتي ، فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : يا ربّ! أصحابي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول كما قال العبد الصالح : ( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) (2) ، فيقال : إنّ هؤلاء لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم ، مذ فارقتهم ) (3).

وروى البخاري في كتاب الدعوات ، باب الحوض ، وابن ماجة في كتاب المناسك ، باب الخطبة يوم النحر ، كما أورده أحمد بن حنبل بطرق متعدّدة : ( ليردنّ عليَّ ناس من أصحابي الحوض ، حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني ، فأقول : أصحابي ، فيقال : لا تدري ما أحدثوا بعدك ) كما رواه مسلم أيضاً في كتاب الفضائل ، باب إثبات حوض نبينا صلی اللّه علیه و آله ، الحديث أربعين (4).

وهنا قاطعني الوهابي قائلا : إنّ سؤالي محدّد ، فما رأيك مثلا في السيِّدة

ص: 609


1- سورة آل عمران ، الآية : 144.
2- سورة المائدة ، الآية : 117.
3- صحيح البخاري : 4 / 110 و 5 / 191 - 192 ، صحيح مسلم : 8 / 157 ، مسند أحمد ابن حنبل : 1 / 235.
4- صحيح البخاري : 7 / 207 ، سنن ابن ماجة : 2 / 1016 ، مسند أحمد بن حنبل : 1 / 439 ، صحيح مسلم : 7 / 70 - 71.

عائشة؟

قلت : أنا وأنت لم نزامن السيِّدة عائشة ، وكل ما نعرفه عنها هو عبر مصادر التاريخ ، وأنا مستعدٌّ أن نجمع كل المصادر ونبحث في شخصيتها ، وما نخرج منه من البحث النزيه يكون ملزماً لنا ، فالسؤال في هذه الأمور لا يجاب عنه ارتجالا.

فقال الوهابي : هكذا دائماً يراوغ الشيعة ، ويستخدمون التقيّة في إخفاء عقائدهم ، فإنهم يكفّرون الصحابة ومن بينهم أبو بكر وعمر ، ويكفّرون أمّهات المؤمنين ، وهنا تعالت الأصوات بالصراخ من قبل الوهابيَّة الجلوس ، تندّد بالشيّعة وتصرّح بكفرهم.

وبعد أن توتَّر الجوُّ فضَّلنا الانسحاب ; لأنه لا يسمح بالحوار والبرهان.

أحداث يوم الجمعة والحوار في التوحيد والتوسل

وهو يوم اللقاء الثاني مع الوهابيّة ، وكان برنامجهم المعدّ في هذا اليوم ركن النقاش بعنوان ( هذا أو الطوفان ).

بعد انتشار أنباء يوم الخميس ، والهزيمة النكراء التي أثبتت ضحالتهم الفكريّة ، اكتظَّ المكان بالروّاد ، حتى من بعض المدن المجاورة ، لأنّ موضوع الشيعة أصبح الحدث الفريد الذي كسب اهتمامات الناس ، ومن الطريف في هذا المقام أنّ كثيراً من النّاس في بادئ الأمر كانوا يتوقَّعون أن الشيعة سوف يهربون من المناقشة والمواجهة ، ولكن بعد يوم الخميس انعكست الصورة ، فكان الكثير يراهن على أنّ الوهابيَّة سوف ينسحبون من يوم الجمعة.

بدأ ركن النقاش بآيات من الذكر الحكيم ، ثمَّ بدأ الوهابي حديثه ، وهو أيضاً مستعار من مدينة ( مدني ) ومتخصّص في إدارة أركان النقاش ، كما يقول

ص: 610

هو عن نفسه أنه عشر سنوات خلف لاقطة الصوت من ركن إلى ركن ، وهذا إن دلّ إنما يدلّ على عظيم الفجيعة التي ألمَّت بالوهابيَّة مما جعلهم يرسلون استغاثاتهم إلى جنوب الخرطوم.

ثمَّ بدأ حديثه بالتأصيل للخطِّ الوهابي السلفي ، الذي كاد أن ينحسر وجوده في المدينة ، فتلخّص حديثه في موضوع التوحيد والشرك ، وصفات اللّه ، وعدالة الصحابة ، والبدعة ، ولم يذكر حرف الشين من الشيعة ، مع أن المعلوم هو مواصلة الحديث عن التشيُّع ، فهذا التصرُّف دلَّ عند الجميع على انسحاب الوهابيّة من حلبة النقاش ، فصمَّمت بيني وبين نفسي أن أستغلّ هذه الفرصة ، وأوجّه الضربة الفاصلة بفضح هذه العقائد ، وتوضيح فسادها بالتفصيل.

وبعد أن أتمّ حديثه في التوحيد ، مركِّزاً فيه على أنّ التوسّل وزيارة القبور والأضرحة من أنواع الشرك الجلي ، تحدَّث عن الصفات قائلا : إنّ منهج السلف هو إمرار كل الصفات التي جاء بها القرآن كما هي من غير تأويل وتشبيه ، وإنّ كل منهج غير هذا هو بدعة ، مخالف لما نقل عن الصحابة الأبرار.

وبعد أن أتيحت الفرصة للمشاركة والنقاش سمح لي بالحديث ، فقلت : أرجو منك أن تمنحني الفرصة الكافية لأتناول بالتفصيل التوحيد والشرك وصفات اللّه ومفهوم البدعة.

أولا : إنّ توحيد اللّه سبحانه وتعالى من أشرف ما يتّصف به الإنسان ، ومعارفه من أشرف المعارف ، ولذلك نجد كل الرسالات السماويَّة كان جلُّ اهتمامها هو نشر التوحيد ، بل كان هو الحدّ الفاصل بين أتباع الرسالة وغيرهم ، ومن هنا كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقاتل الكفار حتى يقولوا : ( لا إله إلاَّ اللّه ، محمّد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ) فإذا قالوا عصموا بها دماءهم وأعراضهم وأموالهم ، وهذا ممَّا

ص: 611

لا يختلف فيه مسلمان على وجه هذه الأرض منذ البعثة إلى أن جاء محمّد بن عبدالوهاب ، فقتل المؤمنين الموحِّدين تحت راية التوحيد ، وهذا مما أكَّده أخوه سليمان بن عبدالوهاب في كتابه : ( الصواعق الإلهيَّة في الردّ على الوهابيَّة ) ثمَّ قرأت له مقطعاً من كلامه :

( من قبل زمان الإمام أحمد في زمن أئمّة الإسلام حتى مليت بلاد الإسلام كلّها ، ولم يرو عن أحد من أئمة المسلمين أنهم كفروا بذلك ، ولا قالوا : هؤلاء مرتدّون ، ولا أمروا بجهادهم ، ولا سمَّوا بلاد المسلمين بلاد شرك وحرب كما قلتم أنتم ، بل كفَّرتم من لم يكفر بهذه الأفاعيل وإن لم يفعلها ، وتمضي القرون على الأئمة بعد زمان أحمد علماؤها وأمراؤها وعامتها كلهم كفَّار مرتدُّون.

فإنّا لله وإنّا إليه راجعون : واغوثاه إلى اللّه! ثمَّ واغوثاه أن تقولوا كما يقول بعض عامتكم : إن الحجّة ما قامت إلاَّ بكم ).

ويقول أيضاً : ( فإنّ اليوم ابتلي الناس بمن ينتسب إلى الكتاب والسنّة ، ويستنبط من علومها ، ولا يبالي من خالفه وإذا طلبت منه أن يعرض كلامه على أهل العلم لم يفعل ، بل يوجب على الناس الأخذ بقوله وبمفهومه ، ومن خالفه فهو عنده كافر ، هذا وهو لم تكن فيه خصلة واحدة من فعال أهل الاجتهاد ، لا واللّه ، ولا عشر واحد ، مع هذا فراح كلامه ينطلي على كثير من الجهَّال ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، الأمَّة كلها تصيح بلسان واحد - ومع هذا لا يردّ لهم في كلمة ، بل كلّهم كفّار وجهَّال - : اللّهمّ اهد هذا الضال وردّه إلى الحق ).

هذا ما يدعو إليه الوهابيّة من التوحيد ، وهو في الواقع تكفير كل المسلمين ، ووصفهم بالشرك ، كما يقول محمّد بن عبدالوهاب : ( إنّ مشركي زماننا - أي المسلمين - أغلظ شركاً من الأوَّلين ، لأنّ أولئك يشركون في الرخاء

ص: 612

ويوحِّدون في الشدّة ، وهؤلاء شركهم في الحالتين ، لقوله تعالى : ( فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ) (1).

ونحن عادةً نناقش الوهابيَّة في أمور فرعيَّة تتفرَّع من مفهومهم العام للتوحيد والشرك ، وأنا هنا أريد أن أحوِّل مسار النقاش من الفروع إلى الأصول ، والمفاهيم العامة في تحديد مناط العبادة.

إن مفهوم العبادة عند الوهابيَّة هو مطلق الخضوع والتذلّل وتكريم وتعظيم غير اللّه.

إذا سلّمنا مع الوهابية ... بصحّة هذا المفهوم فإننا لا يمكن أن نعاتبهم على النتائج التي يمكن الوصول إليها ، فعندما نرى مسلماً يتمسّح ويتبرّك بضريح فإن مفهوم العبادة الذي سلَّمنا به سوف ينطبق عليه ; لأنه بتذلّل لغير اللّه فيكون بذلك عابداً للضريح ، وبالتالي يكون مشركاً ، وهذا استنتاج منطقيٌّ صحيح وفقاً للقاعدة التي تقول : ( كل متذلّل لغير اللّه مشرك ، وهذا متذلّل ، إذن هذا مشرك ).

ولكن الحقيقة والواقع أن الكبرى غير مسلَّم بها (2) ، فكل متذلّل لغير اللّه مشرك ، كاذب ، وهذه بديهة عقليّة وعقلائيّة ، ويمكن معرفة ذلك من الواقع الذي يعيشه أيُّ إنسان ، فإن من طبيعة البشر الاحترام ، بل من الأخلاق في بعض الأحيان التذلّل لبعضنا البعض ، كتذلّل التلميذ للمؤمن ( أَذِلَّة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة عَلَى الْكَافِرِينَ ) (3) ، كما أمرنا اللّه سبحانه وتعالى بتعظيم الوالدين والتذُّلل لهم :

ص: 613


1- سورة العنكبوت ، الآية : 65.
2- أي كبرى القياس ، فالقياس ينقسم إلى كبرى ، وصغرى ، ونتيجة ، فالكبرى هنا : كل متذلل .. والصغرى : هذا متذلل ، والنتيجة : هذا مشرك.
3- سورة المائدة ، الآية : 54.

( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) (1) ، وأكثر من ذلك أنّ اللّه أمر الملائكة بالسجود لآدم ، والسجود - كما تعلمون - أكمل مرتبة في الخضوع والتذلّل.

فإذا كان كما تدّعي الوهابيَّة فتكون كل الملائكة مشركة ، وإبليس هو الموحِّد الوحيد لأنه رفض السجود ..

إلى أن يقول : فإذن لا يمكن أن يكون أيُّ خضوع أو تذلّل عبادة ، ولابد أن يكون هناك ملاكٌ آخر أكثر دقّة ، وهو مسألة الاعتقاد ، فإنّ الخضوع إذا كان مقترناً بالاعتقاد بألوهيَّة المخضوع له ، فيكون هذا الخضوع عبادة ، بل إن أيَّ تصرُّف يكون بدافع الاعتقاد لغير اللّه فهو مصداقٌ للشرك ، فالخضوع والتذلّل بمعزله ليس شركاً ، والاعتقاد في غير اللّه شرك ، وإن كان من غير خضوع أو تذلّل.

فيتّضح من ذلك أنّ العبادة هي خضوع مقترن بالاعتقاد في غير اللّه تعالى ، أمَّا الخضوع والتذلّل من غير اعتقاد يمكن أن يناقش من جهة الحسن والقبح ، وهذا دائر مدار العناوين التي تطرأ على التذلُّل ، فمثلا يكون تذلُّل المؤمن لغير المؤمن قبيحاً ، ونفس هذا التذلُّل عندما يكون من المؤمن للمؤمنين يكون حسناً ، بل هو مستحب ، فإذن هو خارج تخصّصاً عن مبحث التوحيد والشرك ، وسحبه على هذا البحث يكون مقدِّمة فاسدة تؤدِّي إلى نتائج حتماً فاسدة.

أمَّا قولك : إن هؤلاء الجهَّال يطلبون من الميِّت ويتوسّلون به ، وهو لا ينفع ولا يضرُّ ، أو يطلبون حتى من الحيِّ طلباً لا يقدر على فعله فهو شرك.

هذا الكلام لا يقبله جاهل فضلا عن عالم ، لأن هذا بعيدٌ كلَّ البعد عن مورد

ص: 614


1- سورة الإسراء ، الآية : 24.

الشرك ، فإن معنى : الميِّت لا ينفع ولا يضرّ غير تام ; لأنّ الحيّ بهذا المعنى لا ينفع ولا يضرّ أيضاً ، وبما أنّ الحيّ يضرُّ بإذن اللّه كذلك الميِّت ، فليس هناك استقلاليَّة بالفعل سواء من الحيِّ أو الميِّت ، وبذلك لا يكون هنالك غرابة في الطلب من الميِّت ; لأنه كالطلب من الحيِّ ، وإنما يكون البحث كل البحث عن جدوى الطلب أو عدم جدواه ، وهذا خارج جملةً وتفصيلا عن مسار البحث ، ولتوضيح الصورة أضرب لكم مثالا : إذا طلبت من شخص أن يحضر لي كأساً من الماء هل في هذا شرك؟

قال الجميع : لا.

وفي نفس الوقت إذا طلبت هذا الطلب من نفس هذا الإنسان ، ولكنه كان نائماً ، فهو في الواقع لا يقدر على فعل هذا الأمر ، ولكن هل يمكن أن تقول إنك مشرك لأنه لا يقدر؟

قالوا بكلمة واحدة : لا.

بل أكثر ما يمكن أن يقال في حقي أن طلبك طلب عبثيُّ لا جدوى منه ، أو سميني حتى مجنوناً ، ولكن لا تصفني بالشرك.

وبهذا عرفنا أن عدم القدرة على الفعل ليست ملاكاً في التوحيد والشرك.

أمَّا كلامك : إن طلب الأمور الماديّة لا إشكال فيها ، وإنّما الشرك هو طلب الأمور الغيبيّة التي لا يقدر عليها إلاَّ اللّه.

فإنَّ في هذا الكلام مغالطة ; لأنّ السنن الماديّة أو الغيبيّة ليس لها دخل في ملاك التوحيد والشرك ، وأنا بدوري أسأل : هل هذه السنن هي مستقلّة عن اللّه ، بمعنى أنها تعمل بقدرة ذاتيّة منفصلة عن اللّه ، أم أنها بإذن اللّه وإرادته؟

وهنا المحور ، فإذا تعامل معها الإنسان باعتبار أنها مستقلة فهو مشرك ،

ص: 615

سواءً كانت ماديّة أو غيبيّة ، أمَّا إذا كان باعتبار أنها قائمة باللّه تعالى وبإذنه فهذا هو عين التوحيد ، وأقرِّب لكم هذه الصورة بمثال : إذا مرض إنسان فمن الطبيعي أنه سيذهب إلى الطبيب ، فإذا كان ينظر له بأنه قادر على شفائه بقدرة ذاتيّة منفصلة عن اللّه كان مشركاً ، ولا يشك في ذلك اثنان ، أمَّا أنه يشفي المريض بقدرة اللّه وإرادته فلا إشكال في ذلك ، بل هو عين التوحيد.

فمن هنا نعرف أن السنة والسبب ليس لها اعتبار بعنوان أنه ماديّ أو غيبيّ ، وأن مدار الكلام هو الاعتقاد باستقلاليّة هذه الأسباب أو عدم استقلاليّتها ، وتحت هذه القاعدة يمكن أن نقيس كل موضوع ، سواء كان طلب إحضار كأس من الماء ، أو طلب الذرِّيَّة والولد من وليٍّ من أولياء اللّه ، وكلاهما محكومٌ بالقاعدة.

أمَّا قولك : لا يقدر عليها إلاَّ اللّه ، بهذا المعنى الذي أطلقته لا يوجد شيء في صفحة الوجود يقدر على فعل شيء ، وإنّما القادر الحقيقيُّ هو اللّه ، ولكنَّ المسألة لا تؤخذ بهذا الإطلاق ، كما أنّ اللّه أعطى الإنسان القدرة على فعل بعض الأشياء بإذنه ومشيئته ، أعطى عباداً من عباده أسراراً وقدرات لم يعطها لغيرهم ، مثلما كان عند الأنبياء من إحياء الموتى ، وشفاء المرضى ، بل حتى ما كان عند أتباع الأنبياء مثل إحضار عرش بلقيس ، والأمثلة كثيرة في القرآن الكريم.

وقبل أن أبدأ بالكلام في مسألة الصفات الإلهيّة وبعد الوهابيَّة عن معرفتها ، جاء المتحدِّث الوهابي وأخذ منّي لاقطة الصوت بقوَّة ، فلم أستجب لاستفزازه ، وسلَّمتها له بكل هدوء حتى أضمن لنفسي فرصة جديدة ، وأنا أعلم يقيناً أنه لا يستطيع أن يردَّ على كلمة واحدة ممَّا ذكرت.

فبدأ حديثه قائلا : شيعة أم شيوعيّة! آه تذكَّرت ، قد كان لي صديق في

ص: 616

الجامعة في نفس الغرفة التي أسكن فيها ، وكان شيعيّاً متعصّباً ، يؤمن بأنّ القرآن محرّف ، وكان عنده مصحف اسمه مصحف فاطمة علیهاالسلام ، وكانت طبعته أجمل من طبعة الملك فهد ، والذي يعجبني فيه أنه يعلن كل عقائده بصراحة ، فهو يعتقد بكفر كل الصحابة ، وأنّ مؤسّسهم هو عبداللّه بن سبأ ، وإنّه يعبد الحجر.

هؤلاء سذَّج لا يعرفون التشيُّع ، قد خدعهم الشيعة ، ولم يعرّفوهم على العقائد الحقيقيّة ، والشيعة لا يعرفون إلاَّ السفسطة والفلسفة ، وبدأ بالسبِّ والشتم.

أمَّا كلامي فردَّ عليه بكلمة واحدة وكأنه أبطل كل حججي : أمَّا المتحدِّث الشيعي فننصحه بأن يتصفَّح أيَّ كتاب في أصول الفقه ، حتى يجد أن شرع من كان قبلنا ليس واجباً علينا ، فلا يستدلُّ بسجود إخوة يوسف علیه السلام .

رفعت يدي مصرّاً لتتاح لي الفرصة ، حتى أتحدَّث عن أساليب الحوار ، والتعاطي مع الطرف الآخر ، وعن أهمّيّة البرهان ، على ضوء المنهج القرآني ، الذي فتح الباب على مصراعيه للحرّيّة الفكريَّة التي عبَّر عنها بقوله : ( قل هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (1).

وأردت أبيّن أنّ كلامه خارج - تخصصّاً - عن محل البحث ، فما دخل هذا الكلام فيما طرحته من أدلّة على بطلان نظرة الوهابيَّة للتوحيد؟!! فهو كالذي يقول : أحلى العسل أم أطول الشجر؟

وكان كل خوفي أن ننزل نحن إلى مستواهم من سبّ وشتم وتشتيت المواضيع ، ولكن للأسف لم تتح لي فرصة إلى آخر ركن النقاش ، بل لم تتح

ص: 617


1- سورة البقرة ، الآية : 111.

الفرصة لأيِّ شيعي ، وفي المقابل كان الباب مفتوحاً للوهابيّة الذين لم يزيدوا غير السباب.

وعندما أتيحت الفرصة لأحد الطلبة - وهو من جماعة الإخوان المسلمين - استبشرنا بذلك ، فلعلّه يكون منصفاً ، ولكنه لم يختلف عنهم كثيراً.

فبدأ حديثه قائلا : إنّنا لا نستطيع أن نكفّر أحداً بعينه ، ولكن يمكننا أن نكفّر منهجاً ، ورفع صوته صارخاً : فالتشيُّع كفر في منهجه وتوجّهه وكل تعليماته ، فأشعل بذلك حماس الوهابيّة ، فتعالت صرخاتهم بالتكبير وبشعارات البراءة من الشيعة ، فقرّروا وجوب مقاطعتهم في الجامعة ، فلا يجوز لأيِّ مسلم سنّي أن يتعامل معهم أياً كان نوع التعامل ، فلا يجوز السلام عليهم ، كما لا يجب ردّ سلامهم ، فتوتَّر الجوُّ إلى أبعد الحدود.

ولكن - وبحمد اللّه - لم ينجحوا في ذلك ، فإنّ طلبة الجامعة كانوا أكثر تحرُّراً وعقلانية ، فلم يستجيبوا لمحظوراتهم التي شرعوها ، وكأنهم مراجع الأمَّة الإسلاميَّة ، وإن كان هنالك نجاح ، فإنني منعت من الدخول إلى الجامعة بعد تلك الأحداث بداعي أمن الجامعة.

الجلسة الثانية مع الدكتور عمر مسعود

يقول الشيخ معتصم السوداني : وبعد هذه الأحداث الساخنة زرت الدكتور في مكتبه في كلّيّة التجارة ، وسألني ما دار بيننا وبين الوهابيَّة ، وقد كانت الأخبار عنده بالتفصيل.

قال : إنّ المشكلة التي تعيشها الوهابيّة هي الجهل المركَّب من مصادرة للآراء والاتهام بالباطل ، فنحن كنّا نسمع أنّ الشيعة يقولون : إنّ الرسالة كانت

ص: 618

يفترض أن تأتي لعليِّ بن أبي طالب علیه السلام ، ولكن عندما بحثنا لم نجد لذلك أثراً ، وكنا نسمع أنّ للشيعة مصحفاً اسمه ( مصحف فاطمة علیهاالسلام ) ولكن لا واقع له ، وكنّا نسمع أنّ عبداللّه بن سبأ هو مؤسّس الشيعة ، فبحثنا فوجدنا أنه شخصيّة خرافيّة ، فما بال الوهابيَّة يردّدون هذه الاتّهامات الباطلة؟ وبأيِّ حق يتحدَّثون عن الشيعة؟!

فقد طلب منّي قبل أيام أنا والدكتور علوان والدكتور أبشر وأحد مشايخ الوهابيّة ، إقامة ندوة عن الشيعة في الجامعة ، ولكنّي اعتذرت ، وعلى ما يبدو اعتذر الدكتور علوان ، والدكتور أبشر ، وقلت لهم : بأيِّ حق أتحدَّث عن الشيعة فأكون الحاكم والقاضي والجلاَّد ، فأقول : الشيعة يقولون كذا ، وحكمهم كذا؟ فهذه مصادرة ، فكل صاحب مذهب يجب أن يسأل عن مذهبه ، هذه هي المنهجيّة العلميّة ، فلا يمكن بداعي خلافي مع الوهابيَّة ألصق بهم ما ليس فيهم.

فمثلا : كنّا نسمع أن محمّد بن عبدالوهاب ، كان يقول : إنّ عصاي أفضل من محمّد صلی اللّه علیه و آله ، ولكن عند البحث العلمي تبيَّن أن هذه المقولة ليست ثابتة ، فلا يجوز أن أنسبها له ، وكثير من الكتب التي ألَّفت ضدَّهم ، فليس كل ما فيها حقاً وصواباً.

وأذكر أنّي كنت في سفرة إلى الخرطوم ، فجاءني أحد الإخوان الأعزّاء بكتاب ، وقال : إن هذا الكتاب يردُّ كيد الوهابيَّة ، وإذا هو كتاب ( مذكِّرات مستر همفر ) وبعد قراءته قلت له : إنّ هذا الكتاب لا يمكن أن أستفيد منه شيئاً ، فهو خارج عن المنهج العلميِّ ، وهو أقرب للافتراء من الحقِّ.

وأيضاً ليس ما يقوله الوهابيّة في جماعتنا التيجانيّة بحق ، وأذكر أنّ أحد مشايخنا وعلماءنا الكبار - وهو الحافظ المصري - التقى بأحد الوهابيّة ، فسأله

ص: 619

الوهابي عند مذهبه ، فقال : تيجاني.

فقال الوهابي : أعوذ باللّه.

فقال له : إنّ الذي استعذت منه ليس نحن.

قال : كيف؟ ألستم تقولون : إنّ صلاة الفاتح أفضل من القرآن.

قال : لا.

قال : ألستم تقولون كذا؟

قال : لا.

قال : ألستم تقولون كذا وكذا وكذا؟

قال : لا.

فتعجَّب ، فقال له : إنكم تحملون صورة في أذهانكم لا تمتُّ إلى الواقع بصلة.

كما أنّه ذكر لي قصّة مفصَّلة من لقاءاته مع المسيحيّة ، وقال : إنه استدعي إلى الخرطوم لمناقشة مجموعة من علماء المسيحيّة ، الذين حضروا من الغرب ، وأنه كيف عجز الآخرون عن ردِّهم ، لأنهم لم يسألوهم عن اعتقاداتهم ، بل كانوا يهاجمونهم وهم ينفون الاتهام ، ولم يفحموا إلاَّ بعد ما طلبت منهم أن يتحدَّثوا عن أنفسهم.

وقد فصَّل كثيراً في منهجيَّة التعامل مع الأطراف المخالفة ، ولم يطرح في هذه الجلسة موضوع للنقاش بيننا رغم أنها طالت أربع ساعات ، وقد سررت بكلامه ; لأننا بهذا الحديث أمنّا هجومه علينا ، وخاصة أنه شخصيّة مرموقة اجتماعياً ، وله أتباع ومريدون ، وكلمته مسموعة ، فحرصت أن لا أثيره بأيِّ موضوع.

ص: 620

وبعد هذه الجلسة ، ذهبت معه في سيارته إلى مدينة عطبره ، حيث يوجد مجموعة من إخواننا الشيعة ، حتى أنقل لهم هذه الأخبار السارّة.

ولكن سرعان ما صدمت عندما أخبروني أن هنالك مناظرة بينهم وبين الدكتور عمر مسعود ، موضوع المناظرة : عصمة الأئمة علیهم السلام .

قلت : نحن مستعدُّون أن نناظر في أيِّ مبحث من عقائدنا ، ونفحم أيَّ طرف بالدليل ، ولكن الذي يحيِّرني أنه مضت ساعات من لقائي مع الدكتور ولم يذكر لي هذا الأمر ، فلعله لا يدري!

قالوا : لا ، بل هو الذي دعا ، وقد وزِّعت الإعلانات في كل مكان ، ومكتوب عليها ( حوار ساخن بين الشيعة والدكتور عمر مسعود ).

فصمَّمنا أن نستوفي كل الأدلة عن عصمة الأئمة علیهم السلام ، ونردُّ على كل الإشكاليّات ، ورشَّحني الإخوة على أن أدير النقاش معه.

وبعدما حان وقت الموعد انطلقنا إلى دار التيجانيّة ، وقد اكتظَّت بالحضور ، وما إن رآني الدكتور حتى بدت علامات التردُّد عليه ، فقال لي : هل جاء الإخوة الذين سوف يحاوروني ، وكأنه لا يريدني أن أتدخَّل ، بل هو كذلك.

والدليل عليه أننا أول ما جلسنا كنّا بمحاذاته من الجهة اليمنى ، فقال : لا يمكن أن ألتفت على يميني دائماً ، فالذي يريد مناقشتي فليجلس أمامي ، فقمنا ، ولكنه أمسك بيدي ، وقال : اجلس أنت بالقرب منّي ، وكأنني لم أكن مقصوداً بالنقاش.

وبعد تلاوة من آيات الذكر الحكيم ، قدَّموا ممثِّل الشيعة للحديث عن عصمة الأئمة علیهم السلام .

فحمدت اللّه ، وصلّيت على خاتم الأنبياء ، وأهل بيته الطاهرين علیهم السلام ،

ص: 621

فأظهر الدكتور عدم ارتياحه من تدخُّلي.

قلت : قبل أن أبدأ حديثي عن مسألة العصمة وأدلّتها من القرآن والسنّة والعقل ، أحبُّ أن أبدي هذه الملاحظة ، وهي : من الذي دعا إلى هذا الحوار؟ إذا كان إخواننا الشيعة فعلى الدكتور أن يحدِّد محاور النقاش ، ولا غضاضة في ذلك ، أمَّا إذا كان هو الداعي فعلينا تحديد محاور النقاش ; لأنّ مسألة العصمة ليست عقيدة مجرَّدة ، وإنما ترتبط بواقع عقائديٍّ متكامل ، فالمسألة التي يجب أن تناقش هي الإمامة ، وضرورتها ، وشروطها ، على ضوء المنهج القرآني والعقلي ، فتأتي تبعاً لذلك مسألة العصمة ، فأنا أسأل أستاذي الدكتور ، هل كان هو الذي دعا الشيعة للحوار؟

بدأ حديثه بعد الحمد والصلاة قائلا : أنا من طبيعتي الذاتيّة وتكوين شخصيتي ، إنسان يمكن أن تسمِّيني منعزل ومنطوي ، فليس أنا من دعاة المناظرات ، ولا الحوارات والمحاضرات (1) ، والدليل على ذلك أن الأستاذ معتصم جلس معي هذا اليوم أربع ساعات ، ثمَّ ذكر ما دار بيننا ، وقال : إني لم أتخيَّل أنّ الأستاذ معتصم سيتدخَّل في هذا الحوار ; لأنه لا توجد بيننا حواجز ، ومكتبي مفتوحٌ له طول اليوم ، وهذا هو أمامكم ، اسألوه عن العلاقة التي بيننا ، فالمفروض منه أن يختبر في مثل هذه الجلسة جماعته من الشيعة ، وهل هم استوعبوا الدروس التي تلقَّوها منه ، ثمَّ قال : أدعو لرفع هذه الجلسة.

فشكرته ، وقلت : نحن أيضاً ليس من عادتنا أن نطرق الأبواب ، وندعو

ص: 622


1- جاء في الهامش : مع العلم أنه في نفس تلك الأيام دارت بينه وبين الوهابيّة مجموعة من المناظرات بعنوان ( ابن تيمية صوفي ).

أهلها للمناظرات ، وما دمت دعوت لرفع الجلسة فنحن لا نصرّ عليها.

وفي هذا الحين تدخَّل أحد الحضور ، ووجه لي سؤالا قائلا : أسألك سؤال مستفهم مستفسر ، وليس مناظر عن رأي الشيعة في مسألة العصمة وأدلّتهم على ذلك.

قلت له : إنّ الأدلة متعدِّدة ، ولكن ليس المكان مكاني ، ولا المجلس مجلسي ، فإذا أذن لي الدكتور .. فقاطعني الدكتور قائلا : لقد دعوتكم لرفع هذه الجلسة.

وبهذا انتهت المناظرة ورفعت الجلسة.

ص: 623

المناظرة الثامنة والثمانون: مناظرة الشيخ معتصم السوداني مع شيخ السلفيّة في صفات اللّه تعالى والطريق الذي يجب أن تسلكه الأمّة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله

يقول الشيخ معتصم السوداني : وبعد تلك الأحداث مباشرةً ، سافرت إلى شمال السودان ، مدينة ( مروي ) وأول ما لاحظته في تلك المنطقة النشاط الوهابي المتزايد ، وبعد ما استطلعت الأمر وجدت أنّ المؤثِّر الأول في ذلك النشاط هو شيخ يسمّى ( مصطفى دنقلا ) ، وهو يسكن في منطقة بالقرب من مروي تسمّى ( الدبيبة ) فسعيت للوصول إليه ، وذات مرَّة ذهبت إلى سوق شعبيٍّ في منطقة تسمّى ( تنقاسي ) فأشار لي أحد الإخوان - وكان مرافقاً لي - أن ذلك الرجل هو ( مصطفى دنقلا ) الذي تسأل عنه ، فأسرعت إليه ، وبعد السلام قلت له : أنا شخص غريب عن هذه المنطقة ، وهدفي الوحيد في هذه الحياة هو البحث عن الحقيقة ، وسمعت أنك من أكبر المشايخ في المنطقة ، فأحببت أن أستفيد من علمك.

فاستبشر بذلك ، وأمسك يدي وقال : تعال ولا داعي للمواعيد ، وجلسنا في منطقة هادئة من السوق.

ص: 624

فقلت له قبل الدخول في البحث : في أيِّ موضوع يجب أن نتفق على أساليب الحوار ، والأخذ والعطاء ، فإن أسلوب التلقين ليس مجدياً في حقي ، فإنّ العقيدة التي تقوم على الحوار والنقاش ، والدليل والبرهان ، عقيدة صلبة لا تزلزلها العواصب.

قاطعني قائلا : وهذا ما ندعو إليه.

فقلت : إذن ، ما هي نظرة الإنسان الباحث للإسلام؟

هل يعتبر أنّ الإسلام هو ذلك الذي يكون في بيئته ومجتمعه ، أم أنه أوسع من ذلك فيشمل الإسلام بشتّى مدارسه ومذاهبه الحاضرة أو التي كانت في التاريخ؟

وهذه النظرة الشاملة ، هي التي تكسب الإنسان نوعاً من الحرّيّة ، تمكِّنه من معرفة الطائفة المحقّة ; لأنها المقدِّمة للتحرّر من كل قيود البيئة والمجتمع ، كما أن هذه النظرة تكسب الإنسان نوعاً من الإنصاف ، في التعاطي مع الأطراف المتعدِّدة ، ومن هنا أطلب منك أن لا تحاكمني بمسلَّماتك باعتبار أنها حقيقة ; لأنّها لابد أن تثبت بالدليل أوَّلا ، ثمَّ تكون صالحة للمحاكمة ، كما يقولون ( ثبِّت العرش ، ثم انقش عليه ) كما أنني لا أقبل منك أن تجعل الموروث الديني والحالة الدينيّة في المجتمع هي الحاكم بيننا ; لأن المجتمع السوداني وإن كان مجتمعاً متدِّيناً ، إلاَّ أنه لا يكون ممثِّلا لكل المذاهب الإسلاميّة ، فما هو إلاَّ حالة واحدة من تلك الحالات المتعدِّدة ، وهي نفسها لا تدّعي أن مجتمعنا قد استوعبها بشكل كامل.

إذن لابد أن نحدِّد مقاييس ثابتة تكون هي مدار حجّتنا ، وملزمة للطرفين ، وعلى ما يبدو أنّنا يمكن أن نتفق على القرآن والسنّة والعقل ، رغم أنّ السنّة

ص: 625

حجّيّتها ليست مكتملة ; لأننا سوف نعتمد على مرويَّات مدرسة واحدة ، وهم أهل السنّة ، مع العلم أنّ هناك مدارس أخرى لها مرويَّاتها الخاصة ، ولكن من أجل الوصول إلى الفائدة يمكن أن نعتمد على مصادرهم.

استغرب الوهابي كثيراً من هذا الكلام ، وهو لا يدري إلى أيِّ طريق أسلك به ، ولكنه وافق على ما قلت ، مع علمي الكامل أنه لا يلتزم به.

فقلت له : إذن نبدأ البحث ، وسوف ينحصر في التوحيد وصفات اللّه ، ثمَّ في الطريق الذي يجب أن تسلكه الأمَّة من بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فإذا تكرّمت شيخنا ، وبدأت بالكلام.

فابتدأ الشيخ قائلا : إنّ الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستهديه ، ونستغفره ، وإنّ شرّ الأمور محدثاتها ، وكلّ محدثة بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة في النار ، وأصلّي وأسلّم على سيِّدنا محمّد ، وعلى أهله ، وأصحابه أجمعين ، وبعد ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلاَّ واحدة ، فقيل : ما هي يا رسول اللّه؟ قال : ما كنت عليه أنا وأصحابي (1).

وقد بيّن الرسول صلی اللّه علیه و آله بهذا الحديث أنّ الفرقة الناجية هي واحدة ، وباقي الفرق كلُّها في ضلال ، وإلى النار ، وكما بيّن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّ الفرقة الناجية هي ما كان عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه ، وهذا بيان صريح من الرسول صلی اللّه علیه و آله على أن الفرقة الناجية هم السلف الصالح ومن تبع نهجهم ، وهذا كاف لنا كمكلَّفين أن

ص: 626


1- تقدَّمت تخريجاته.

نتبع منهج السلف ، ولا نهتمُّ بمذاهب الضلال ، فالطائفة المحقّة هم أهل السنّة والجماعة ، وهم أكثلسنّة والجماعة ، وهم أكثر الطوائف اعتدالا ; لأنها سلّمت بما جاء به الرّسول صلی اللّه علیه و آله وصحابته الكرام ، ولا نريد أن نخوض في الطوائف الأخرى ، ونوضح مدى ضلالها ، فمجرَّد معرفة الطائفة المحقّة كاف للحكم على البقيَّة بالضلالة.

أمَّا صفات اللّه سبحانه وتعالى ، فعلى حسب قول الطائفة المحقّة ، إنّ هذه الصفّات التي أخبر بها القرآن ، نجريها كما جاءت من غير تأويل ، فمثلا قوله تعالى : ( يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (1) فلا يمكن أن نؤوِّل معنى اليد ، وفي الوقت نفسه لا نثبت لها معنى خاصاً ، فلا نقول إنّ يد اللّه تعني قدرته ; لأنه لا دليل على ذلك ، وإنما نثبت لله يداً من غير كف ، وهذا ما قال به السلف الصالح ، فلم يرو منهم على الإطلاق رأي مخالف لما قلناه ، وهذا دليل على صواب هذا الرأي ; لأن السلف أقرب الناس إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأعلم الناس بالقرآن ، وعدم اختلافهم دليل على صدق قولهم ، أمَّا الطوائف الأخرى فقد ذهبت بعيداً في آيات الصفات ، فكل طائفة تؤوِّلها على حسب هواها ، فالقائلون بالتأويل لم يتفقوا على معنى معيَّن ، وهذا وحده دليل على البطلان ، فيتحتَّم أن يكون الطريق أمامنا هو إجراء هذه الصفات كما جاءت من غير تأويل ، وكما قال السلف في مثل هذا المقام : ( الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والسؤال عنه بدعة ) ولا أعتقد أن إنساناً يخاف اللّه ويطلب الحق يجادل في هذه المسألة.

استفزّتني هذه الكلمة ، فقاطعته قائلا :

أولا : إنّ الطائفة المحقّة هم أهل السنّة ; لأنهم ساروا على منهج السلف ،

ص: 627


1- سوره الفتح ، الآية : 10.

وذلك لقول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إنّ الفرقة الناجية « ما كنت عليه أنا وأصحابي » ، فإنّ الموضوع أوسع من المدّعى ، وبصورة أخرى : إن الصغرى غير تامّة ، فمن الذي يقول : إنّ الذي عليه أنتم هو نفس ما كان عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه؟!

وكون أهل السنة هم الطائفة الوحيدة ، التي جسَّدت ما كان عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه ، هذه مصادرة من غير دليل ; لأن كل الطوائف تدّعي وصلا بليلى.

وثانياً : الاختلافات الكبيرة جدّاً بين أهل السنّة هي دليل على بطلان ما تدّعي ، فليس هناك في الواقع مذهب واحد متكامل يسمَّى أهل السنّة ، وكل ما هنالك عنوان يسمّى أهل السنة ، تنطوي تحته مجموعة من المدارس ، التي تختلف في أبسط المسائل الفقهيّة ، بل حتى في طريقة التعامل مع السلف ، فأيّ أهل السنّة والجماعة تقصد؟ هل هم الوهابية؟ ويوجد هنالك من يدّعون أنهم أهل السنّة ويكفِّرون الوهابيِّة ، فلا تعمّم الكلام ، ولا تحاول أن تلزمني بالعناوين الفضفاضة.

أمَّا كلامك في الصفات الإلهيَّة فيكتنفه نوع من الغموض ، فما معنى أن نثبت لله ما أثبته لنفسه من غير كيف؟! فهذا التبرير لا يقبله صاحب عقل سليم ; لأنّ الجهل بالكيفيّة لا يغيّر عنوان القضيّة ، وهو لا يتعدَّى أنّ يكون إبهاماً وألغازاً ; لأنّ إثبات هذه الألفاظ هو عين إثبات معانيها الحقيقيّة ، وصرفها عن معناها الحقيقي هو عين التأويل الذي أنكرته ، وإثبات المعنى الحقيقي لها لا ينسجم مع عدم الكيفيّة ; لأن الألفاظ قائمة بمعانيها ، والمعاني قائمة بالكيفيّة ، وإجراء هذه الصفات بمعانيها المتعارفة هو عين التجسيم والتشبيه ، والاعتذار بقولك : ( بلا كيف ) لا يتعدّى أن يكون لقلقة لسان ، وإذا كانت هذه الألفاظ الجوفاء تكفي

ص: 628

لإثبات التنزيه لله عزّ وجلَّ فلا إشكال على من يقول : إن لله : جسماً بلا كيف ، ولا كالأجسام ، وله دم بلا كيف ، ولحم وشعر و ... بلا كيف ، كما قال أحد الحشوية : ( إنما استحييت عن إثبات الفرج واللحية ، واعفوني عنهما ، واسألوني عمَّا وراء ذلك ) كما ذكرها الشهرستاني في الملل والنحل.

وإنَّما مشكلتكم هي التقليد في العقائد من غير تفكير ، مع أن التقليد في باب العقائد لا يجوز ، فإذا فكَّرت جيِّداً فيما نسبته للسلف من قولهم : ( الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والسؤال عنه بدعة ) تجد أنّ هذا الكلام متهافت لأبعد الحدود ; لأنّ الاستواء إذا كان معلوماً فالكيف بالتالي يكون معلوماً ، وإذا كان الكيف مجهولا فكذلك الاستواء يكون مجهولا ، ولا ينفصل عنه ، فالعلم بالاستواء هو عين العلم بالكيفيّة ، والعقل لا يفرِّق بين وصف الشيء وبين كيفيّته ; لأنهما شيء واحد ، فإذا قلت : فلان جالس فعلمك بجلوسه هو علمك بكيفيّته ، فعندما تقول : الاستواء معلوم فنفس العلم بالاستواء هو العلم بالكيفيّة ، وإلاَّ فيكون في كلامك تناقض ، بل هو التناقض بعينه ، فكل تبرير بعدم الكيف مع إجراء المعاني الحقيقيَّة للألفاظ هو تناقض وتهافت ، فقولك : إن لله يداً بلا كيف ، كلام ينقض آخره أوَّله ، والعكس ; لأن اليد بالمعنى الحقيقي لها تلك الكيفيّة المعلومة ، ونفي الكيفيّة منها هو نفي لحقيقتها.

قاطعني قائلا : ماذا نفهم من هذا الكلام؟ هل تخالف السلف الصالح ، وتؤوِّل هذه الآيات؟

قلت : أولا : إنّ مجرَّد نسبة هذه الأفكار إلى السلف لا يكسبها قدسيّة يمنعها من النقاش.

ثانياً : إن السلف الذين تدّعي اتباعهم لم يقولوا ما قلت ، بل كانوا يوجِّهون

ص: 629

تلك الآيات القرآنيّة التي جاءت في باب الصفات غير توجيهكم ، وفي الواقع إن نسبة هذه الأفكار إلى ابن تيمية وابن عبد الوهاب أقرب وأصدق من نسبتها إلى السلف ، وحتى تتأكَّد من ذلك ارجع إلى أيِّ تفسير من التفاسير المأثورة في باب الصفات ، لتجد تأويلات السلف واضحة لهذه الآيات.

جاء في تفسير الطبري ، في تفسر قوله تعالى : ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ) (1) التي اعتبرها ابن تيمية من أعظم آيات الصفات ، نجد أن الطبري يروي حديثين بإسناد إلى ابن عباس قال : اختلف أهل التأويل في معنى الكرسي ، فقال بعضهم : هو علم اللّه تعالى ذكره ، وذكر من قال ذلك بإسناده أن ابن عباس قال : كرسيُّه علمه ، ورواية أخرى بإسناده عن ابن عباس قال : كرسيُّه علمه ، ألا ترى : ( وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا ) (2).

وفي تفسير الطبري نفسه ، ينقل في تفسر قوله تعالى : ( وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) يقول : اختلف أهل البحث في معنى قوله : وهو العليُّ العظيم ، فقال بعضهم : يعني بذلك هو عليٌّ عن النظير والأشباه ، وأنكروا أن يكون معنى ذلك هو : العلي المكان ، وقالوا : غير جائز أن يخلو منه مكان ، ولا يعني بوصفه بعلوِّ المكان ; لأن ذلك وصف بأنه في مكان دون مكان.

وإليك شاهداً آخر في تفسير قوله تعالى : ( كُلُّ شَيْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) (3) وقوله : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالاِكْرَامِ ) (4).

ص: 630


1- سورة البقرة ، الآية : 255.
2- تفسير الطبري : 3 / 927.
3- سورة القصص ، الآية : 88.
4- سورة الرحمن ، الآية : 27.

قال الطبري : واختلف في معنى قوله : ( إلاَّ وجهه ) ، فقال بعضهم : كل شيء هالك إلاَّ هو ، وقال آخرون : معنى ذلك : إلاَّ ما أريد به وجهه ، واستشهدوا بقول الشاعر :

أستغفر اللّه ذنباً لست محصيه *** ربّ العباد إليه الوجه والعمل

وقال أبو البغوي : إلاّ وجهه ; أي إلاَّ هو ، وقيل : إلاَّ ملكه ، قال أبو العالية : إلاَّ ما أريد به وجهه.

وفي الدرّ المنثور للسيوطي عن ابن عباس قال : المعنى : إلاّ ما يريد به وجهه ، وعن مجاهد : إلاّ ما أريد به وجهه ، وعن سفيان : إلاَّ ما أريد به وجهه من الأعمال الصالحة (1).

هذا قول السلف ، وأنا لم أخالف قولهم ، بل أنتم الذين تخالفونهم ، وتنسبون لهم ما ليس فيهم.

ثالثاً : نحن لا ندعو إلى التأويل في مثل هذه الآيات ، فلا يجوز صرف ظاهر الكتاب والسنّة بحجّة أنها تخالف العقل ، فلا يوجد في القرآن والسنّة ما يخالف العقل ، وما يتبادر من الظاهر أنه مخالف ليس بظاهر ، وإنما يتخيَّلونه ظاهراً.

ولتوضيح ذلك لابد أنّ تفهم أن اللغة في مدلولها تنقسم إلى قسمين :

1 - دلالة إفراديّة.

2 - دلاله تركيبيّة.

أو كما يسمّيها علماء المنطق والأصول دلالة تصوُّريَّة ودلالة تصديقيّة.

ص: 631


1- الدرّ المنثور ، السيوطي : 5 / 140.

فقد يختلف المعنى الإفرادي عن المعنى التركيبي في الكلمة الواحدة ، إذا وجدت قرائن في الجملة تصرفها عن معناها الإفرادي ، فمثلا : عندما أقول : ( أسد ) ينصرف الذهن إلى الحيوان ، ولكن عندما أقول : أسد يقود سيارة فإن الذهن سينصرف إلى الرجل الشجاع ، فمعنى أيِّ كلمة لابد أن يلاحظ فيه السياق والقرائن المتصلة والمنفصلة ، وهذا هو ديدن العرب في فهم الكلام ، ولذلك الذي يفهم بهذه الطريقة لا يسمَّى مؤوِّلا للنصّ ، خارجاً عن الظاهر ، وهكذا الحال في مثل هذه الآيات ، ففي قوله تعالى : ( يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) فيكون المعنى الظاهر من اليد هي القدرة والتأييد الإلهي من غير تأويل ، كالذي يقول : البلد في يد السلطان ، أي تحت تصرفه وإدارته ، ويصح هذا القول وإن كان السلطان مقطوع اليد ، وكذلك في بقيَّة الآيات فلا يمكن أن تثبت معنى الكلمة من غير ملاحظة السياق ، وهذا هو الأخذ بالظاهر بعينه.

بدأت الحيرة على وجه الوهابي ، وهو لا يدري ماذا يقول ، إلاَّ أنه قاطعني قائلا : هذا الكلام فيه تكلُّف ومراوغة ، فالإسلام دين يسر ، ولا يحتمل هذه السفسطة ، فقد خاطب علماؤنا المسلمين بأبسط الكلمات من غير تعقيد وتكلُّف ، وقد أجمع المسلمون على فضلهم وأعلميَّتهم ، مثل : الإمام أحمد بن حنبل ، وشيخ الإسلام ابن تيميّة ، فإنهم بتوفيق اللّه ردُّوا على أصحاب المذاهب الباطلة بأوضح البراهين ، ولم يقولوا كلمة واحدة مما قلت ، مع أنهم لا يجرأ على مخالفتهم أحد.

فمن أنت؟ وما هو مذهبك؟ فإنّي لا أراك إلاَّ من المعتزلة الذين يتمنطقون بالكلام.

يا شيخنا! ألم أقل لك إنّك تجترُّ ما قاله ابن تيميّة ، وابن عبد الوهاب ، من

ص: 632

غير تدبر؟ فإن هؤلاء كلامهم لا يتجاوزهم ، وهو حجّة عليهم لا علينا ، وخصَّ اللّه سبحانه كل إنسان بعقل ، ولا يحاكمنا بعقولهم ، هذا بالإضافة إلى أن هؤلاء لم يكونوا موضع إجماع الأمّة ، فقد خالفهم جلُّ علماء المسلمين ، وكان أكثر مخالفيهم من علماء أهل السنّة والجماعة.

قال الذهبي في رسالته لابن تيمية : يا خيبة من اتّبعك ، فإنه معرَّض للزندقة والانحلال ، ولا سيَّما إذا كان قليل العلم والدين ، باطنيّاً شهوانيّاً ، فهل أتباعك إلاَّ قعيد مربوط خفيف العقل ، أو عاميٌّ كذَّاب بليد الذهن ، أو غريب واجم قويُّ المكر ، أو ناشف طالح عديم الفهم؟ فإن لم تصدِّقني ففتِّشهم وزنهم بالعدل ) (1).

وجاء في الدرر الكامنة لابن حجر العسقلاني : ج 1 ص 141 : ( فمن هنا وهناك ردوّا عليه - يعني ابن تيمية - ما ابتدعته يده الأثيمة من المخاريق التافهة ، والآراء المحدثة الشاذّة عن الكتاب والسنة والإجماع والقياس ، ونودي عليه بدمشق : ممن اعتقد عقيدة ابن تيمية حلَّ دمه وماله ).

هذا ، غير عشرات الكتب التي ردَّت على ابن تيميَّة وكشفت عقائده الباطلة ، مثل كتاب ( الدرر المضيّة في الردِّ على ابن تيمية ) للحافظ عبدالكافي السبكي.

ويكفيك في هذا المقام ما قاله الحافظ شهاب الدين ابن حجر الهيثمي في ترجمته لابن تيمية : ( ابن تيمية عبدٌ خذله اللّه ، وأضلّه ، وأعماه وأصمّه وأذلّه ،

ص: 633


1- السيف الصقيل ، السبكي : 218 ، التوفيق الرباني : 206 ، ذيل تذكرة الحفاظ ، الذهبي : 320 ( في الهامش ).

بذلك صرَّح الأئمة الذين بيَّنوا فساد أحواله ، وكذّبوا أقواله ).

هذا غيضٌ من فيض من علماء أهل السنة في ابن تيمية ، أمَّا الطوائف الأخرى فمجمعون على ضلاله وسخافة رأيه.

أمَّا ابن عبد الوهاب فإنه لا يمثّل شيئاً حتى يخصّ بالكلام.

وهنا رفع صوته صارخاً : من أين تأتي بهذا الكلام؟! ... وأنا لا أسمح لك أبداً أن تتحدَّث بهذه الطريقة عن علمائنا العظام ، وما أنت إلاَّ رجل مجادل تماري العلماء ، فمن تكون أنت مقابل شيخ الإسلام ابن تيمية؟!

فاسمع : إذا كنت صادقاً فيما تقول تعال لنتباهل ، وانتصب واقفاً وقال : قم أيُّها المفتري ، قم حتى تباهلني ، واللّه إني أراك وقد خسف اللّه بك الأرض.

وهو على هذا الصراخ حتى اجتمع الناس حولنا ، وهو يقول : إنّه رافضيٌ ، إنّه شيعيٌّ ، وقد خدعني بعدما ظننت فيه الخير.

قلت : اهدأ أيُّها الشيخ ، واللّه إنّي لا أراك إلاَّ هارباً من الحوار ، فلم نتحدَّث بعد عن عدالة الصحابة.

قال : اسكت ، إنّ الصحابة عدالتهم أوضح وأكبر من أن نختلف فيها ، وإن كنت تؤمن بما تقول قم وباهلني.

قلت : أنا موافق على المباهلة ، ولكن قبلها أريد أن أطلب منك طلباً أمام كل الحضور ، وهو أن تقيم معي مناظرة علنيّة أمام جميع أهل هذه البلد ، حتى لا يبقى لوجودك ولا لوجود أمثالك أثر.

أمَّا المباهلة ، أتهدّدني أنت بالمباهلة وقد باهل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأئمتي نصارى نجران؟ واللّه لو أقسمت على اللّه بحقّهم لمسخت قرداً يلعب بك الصبيان ، ولكن نحن لا نختبر ربَّنا ، إنما اللّه هو الذي يختبرنا.

ص: 634

ووقفت قائماً وقلت : هيَّا ابدأ بالمباهلة ، فبدأ الخوف على وجهه.

ابدأ ، لماذا سكتَّ؟

قال : أباهلك على البخاري ومسلم ، فضحكت ، وانتهرته .. يا أحمق ، ما البخاري ومسلم ، حتى نتباهل حولهم؟ وإنما أباهلك بأن مذهب التشيُّع - مذهب أهل البيت ، الأئمة الاثني عشر علیه السلام - هو الحق ، وما غيره باطل.

فسكت ثمَّ قال : أنا لا أباهلك في أهل البيت علیهم السلام .

وعلى أيِّ شيء نتحدّث؟ أعلى غير إمامة أهل البيت علیه السلام ؟

قال : أنا لا أباهلك رحمةً بك ، وانصرف.

قلت : سبحان اللّه! فإن الراحم هو اللّه ، كيف ترحمني وعندكم هذا من مصاديق الشرك؟

ص: 635

المناظرة التاسعة والثمانون: مناظرة الشيخ معتصم السوداني مع الدكتور عمر مسعود في صلح الإمام الحسن علیه السلام وحديث الثقلين

اشارة

قال الشيخ معتصم السوداني : بعد رجوعي من مدينة ( مروي ) وأنا في طريقي إلى الخرطوم ، مررت بجامعة وادي النيل ، كلّيّة التجارة ، فالتقيت بالدكتور عمر مسعود ، ودار بيني وبينه حوار حول صلح الإمام الحسن علیه السلام مع معاوية.

الدكتور : أنتم تقولون : إنّ الإمام الحسن علیه السلام معصوم ، ونحن نقول : إنه من الصحابة العظام ، ومرتبته عالية عند كل المسلمين ، ولكنه غير معصوم ، وهذه هي النظرة الصحيحة ; لأنّ القول بعصمة الإمام الحسن علیه السلام مع أنه صالح معاوية فيكون هذا الصلح أعطى الشرعيّة لمعاوية .. أمَّا إذا قلنا - على حسب ما نرى - إنه رجلٌ مجتهد اجتهد وأخطأ ، فله أجر الاجتهاد ، ولا يستلزم ذلك أن نحمِّله ما جرى ، وهذا يدلُّ على أن أهل السنّة تقدِّس الإمام الحسن علیه السلام أكثر من الشيعة ..

قال الشيخ معتصم : لم أفهم ما هو وجه الملازمة بين أن يكون الإنسان معصوماً ، وبين أن نحمِّله ذنب الآخرين.

ص: 636

قال الدكتور عمر مسعود : أنا لم أقل ذلك على إطلاقه ، وإنما بخصوص حادثة محدودة ، وهذه الحادثة غيَّرت مسار الأمّة الإسلاميّة ، فالملازمة موجودة ، فإذا لم يصالح الإمام الحسن علیه السلام وثار كما ثار أخوه الحسين علیه السلام لكان مصير الأمَّة غير الذي كانت عليه ، بل كان بإمكانه أن يجلس في بيته كما فعل عبداللّه بن عمر وغيره ، ولا يصالح ولا يبايع.

قال الشيخ معتصم : أولا : هذا الكلام خلاف الفرض ، فإذا ثبتت عصمته فيكون كل ما يفعله هو عين الصواب ، سواء صالح أو حارب ، والمعصوم لا يحاسب.

ثانياً : هناك مهم وأهم ، وتزاحم في المصالح ، فحكم الإمام الحسن علیه السلام مصلحة ، والحفاظ على بيضة الإسلام مصلحة ، فصلح الإمام علیه السلام هو تقديم مصلحة الحفاظ على بيضة الإسلام على مصلحة حكمه (1) ، خاصة أن الظروف كانت تعاكسه تماماً بعد أن خذله جماعته ، وهرب منه قادة جيشه ، كما حدث لنبيِّ اللّه هارون علیه السلام عندما جعله موسى علیه السلام خليفة على بني إسرائيل ، فأضلّهم السامريُّ ، وعبدوا العجل ، فصبر هارون على ذلك لمصلحة عدم التفريق بين بني إسرائيل ، قال تعالى : ( قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) (2).

ص: 637


1- روى أبو الحسن المدائني ، قال : خرج على معاوية قوم من الخوارج بعد دخوله الكوفة وصلح الحسن علیه السلام له ، فأرسل معاوية إلى الحسن علیه السلام يسأله أن يخرج فيقاتل الخوارج ، فقال الحسن : سبحان اللّه! تركت قتالك وهو لي حلال لصلاح الأمَّة وألفتهم ، أفتراني أقاتل معك! راجع : شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 16 / 14.
2- سورة طه ، الآية : 94.

قال الدكتور : هذا الكلام ضعيف جداً ، ويمكن أن يقال كتبرير لاجتهاده الخاطئ إذا قلنا بالرأي الثاني ، إنّه اجتهد وأخطأ ، وسبب اجتهاده وخطأه هو ما ذكرته ، فكلامك ينسجم مع القول الثاني لا القول بالعصمة.

قال الشيخ معصتم : .. ولكن هذا لا ينفي أن يكون معصوماً ، خاصة أنّ عصمته ثابتة بالقرآن والسنة وبحكم العقل ، وبعد ثبوت العصمة لا يمكن أن يقدح فيها لوجود حادثة لم تفهم مقاصدها ، وإلاَّ يعتبر خلفاً.

قال الدكتور : خُلف بالنسبة لكم ، أمَّا نحن فلا نسلِّم بالعصمة.

قال الشيخ معتصم : إذن يتحدَّد النقاش ويتعيَّن في مسألة العصمة والأدلّة عليها ، أمَّا صلح الإمام الحسن علیه السلام فلا يكون كافياً لإثبات العصمة أو نفيها ، وخاصَّة أنه كان صلح المغلوب على أمره ، وليس هو كعبد اللّه بن عمر ، فإنّ عبداللّه لا يشكِّل خطراً على الدولة الأمويّة كالإمام الحسن علیه السلام ، ولذلك كان أخذ البيعة منه من أهمِّ الأمور ، حتى وإن لم يبايع كل المسلمين ، فبالتالي لا يكون هنالك ملازمة بين صلحه وما جرى على المسلمين في العهد الأموي ; لأنه لا خيار غيره.

قال الدكتور : هذا الكلام غير مقنع وكاف ، وكل الشيعة يقولون بالظروف.

وفي هذه الأثناء دخل عينا الدكتور أبشر العوض ، وهو متخصِّص في علم الحديث ، وقد كان أستاذي في الجامعة في علم مصطلح الحديث ، فما إن رآني حتى سلَّم عليَّ ببشاشة ، وقال : أين هذه الغيبة الطويلة؟

وقبل أن أجيب تدخَّل الدكتور عمر قائلا : معتصم الآن صار من الشيعة الكبار ، وقد درس في الحوزة العلميّة ، وله كتاب اسمه « الحقيقة الضائعة ».

قال الدكتور أبشر : وما هي المواضيع التي تناقشها في هذا الكتاب؟

ص: 638

قلت : موضوعه هو الخلاف بين السنّة والشيعة ، وقد أثبتُّ فيه ممَّا لا يدع مجالا للشك أن الشيعة هي الطائفة المحقّة ، وغيرها باطل وضلال.

وهنا تدخَّل الدكتور عمر قائلا : أيّ فرقة في الشيعة تقصد؟ الزيديّة ، أم الإماميّة ، أم الإسماعيليّة؟ فالفرق الشيعيّة متعدِّدة ، فأيُّها الحقُّ؟

قال الشيخ معتصم : سماحة الدكتور! بغضّ النظر عن هذه التفاصيل ، فنحن الآن أمام إطار عام وعناوين مجرّدة ، وبعد تجاوزها يكون المجال مفتوحاً لمناقشة التفاصيل ، والإطار العام هو وجوب اتّباع أهل البيت علیهم السلام والأخذ عنهم ، ويمكننا أن نثبت هذا الإطار بشتّى الطرق ، سواء كان قرآناً أو سنّة ، ويكفيك مفارقة واحدة بين السنّة والشيعة ، وهو أخذ الشيعة بحديث : إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلُّوا بعدي أبداً ، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي (1) ، وتمسّك أهل السنة بحديث « كتاب اللّه وسنّتي » وهذا الشاهد كاف في الحكم بأحقّيّة الشيعة ، وبطلان أهل السنّة في هذه الحيثيّة ، وهكذا يمكن أن نتدرَّج في بقيَّة المسائل.

وهنا واصل الدكتور عمر قائلا : إنّ حديث العترة نؤمن به ، ولكن لا نفهم منه ما فهمته الشيعة ، فإنّ الحديث يدلّ على التمسُّك بالقرآن فحسب.

قال الشيخ معتصم : قلت : سبحان اللّه! إنّ واو العطف في الحديث واضحة « كتاب اللّه وعترتي » هذا بالإضافة إلى قول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « الثقلين » ، « ما إن تمسَّكتم بهما ».

عارضني قائلا : ليس كل واو دالة على العطف ، فإن للواو معاني عدَّة ، ولقد

ص: 639


1- تقدَّمت تخريجاته.

كتبت رسالة خاصة في هذا المورد.

قال الشيخ معتصم : لا خلاف في ذلك ، ولكن معنى كل حرف يعرف من خلال السياق العام للجملة ، فسياق الحديث واضح في العطف في قوله « الثقلين » ، و « ما إن تمسَّكتم بهما » كافية لإثبات المدّعى ، وهو وجوب اتباع أهل البيت علیهم السلام .

قال الدكتور : على العموم ، ليس لنا اعتراض على مذهب أهل البيت علیهم السلام ، ونحن نعتقد أنّه الحقُّ ، ولكنّه لم يتعيَّن لنا ، ولو تعيَّن لكنت أول الناس اتّباعاً له.

قال الشيخ معتصم : قلت : لماذا تتبعه؟

قال الدكتور : لأنّه الحقُّ.

قال الشيخ معتصم : قلت : وما عليه أنت الآن؟! فإذا كان مذهب أهل البيت علیهم السلام فقد تعيَّن لك ، وإن كان لا ، فإذن أنت على ضلالة ، بحكمك على نفسك.

قال : هذه سفسطة!

وفي هذه الأثناء استأذن الدكتور أبشر ، وأخذ يتحدَّث مع الدكتور عمر في موضوع جانبيٍّ ، فاستأذنته وخرجت ; لعلمي أنّه ليس هناك فائدة (1).

كلمة في صلح الإمام الحسن علیه السلام وشروطه

قال العلاّمة الأميني عليه الرحمة : وأمَّا جنايات معاوية على ذلك الإمام

ص: 640


1- هذه المناظرات أخذناها من كتاب ( حوارات ) للكاتب السوداني المستبصر ، الفاضل الشيخ معتصم السيّد أحمد السوداني.

المطهَّر فقد سارت بها الركبان ، وحفظ التاريخ له منها صحائف مشوّهة المجلى ، مسودّة الهندام ، فهو الذي باينه وحاربه ، وانتزع حقَّه الثابت له بالنصِّ والجدارة ، وخان عهوده التي اعترف بها عندما تنازل الإمام علیه السلام له بالصلح حقناً لدماء شيعته ، وحرصاً على كرامة أهل بيته ، وصوناً لشرفه الذي هو شرف الدين. إلى أن قال :

فعهد إليه علیه السلام أن لا يسبَّ أباه علیه السلام على منابر المسلمين ، وقد سبَّه وجعله سنّة متبعة في الحواضر الإسلاميّة كلِّها ، وعهد إليه أن لا يتعرَّض بشيعة أبيه الطاهر بسوء ، وقد قتلهم تقتيلا ، واستقرأهم في البلاد تحت كل حجر ومدر ، فطنَّب عليهم الخوف في كل النواحي ، بحيث لو كان يقذف الشيعيُّ باليهوديَّة لكان أسلم له من انتسابه إلى أبي تراب سلام اللّه عليه.أبي تراب سلام اللّه عليه.

وعهد إليه أن لا يعهد إلى أحد بعده ...

ولمَّا تصالحا كتب به الحسن علیه السلام كتاباً لمعاوية صورته : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، هذا ما صالح عليه الحسن بن علي علیهماالسلام معاوية بن أبي سفيان ، صالحه على أن يسلِّم إليه ولاية المسلمين ، على أن يعمل فيها بكتاب اللّه تعالى وسنَّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين ، وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً ، إلى أن قال : وعلى أنَّ الناس آمنون حيث كانوا من أرض اللّه تعالى ، في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم ، وعلى أن أصحاب عليٍّ وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم حيث كانوا ، وعلى معاوية بن أبي سفيان بذلك عهد اللّه وميثاقه ، وأن لا يبتغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من بيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله غائلة سرّاً وجهراً ، ولا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق ، أشهد عليه فلان ابن فلان وكفى باللّه

ص: 641

شهيداً (1).

فلمَّا استقرَّ له الأمر ودخل الكوفة وخطب أهلها فقال : يا أهل الكوفة! أتراني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج؟ وقد علمت أنكم تصلُّون وتزكُّون وتحجُّون ، ولكنني قاتلتكم لأتأمَّر عليكم وعلى رقابكم ( إلى أن قال ) : وكل شرط شرطته فتحت قدميَّ هاتين (2) (3).

ص: 642


1- الصواعق المحرقة ، ابن حجر : 209 - 210 ، ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : 2 / 425 - 426 ح 193 ، كشف الغمّة ، الإربلي : 2 / 193.
2- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 16 / 14 - 15 ، مقاتل الطالبيين ، الإصبهاني : 45.
3- الغدير : الأميني : 11 / 5.

المناظرة التسعون مناظرة: أم محمّد علي المعتصم السودانيّة مع خالها وقصّة تشيُّعها

وطرق التشيُّع بابنا

الأستاذة السيِّدة أم محمّد علي المعتصم السودانيّة تحكي عبر هذا الحوار العلميِّ والموضوعيِّ والشيِّق مع خالها الشيعي قصة تشيُّعها وأخذها بمذهب أهل البيت علیهم السلام ، حاكية في بداية البحث ما انتابها من الهواجس والتفكير والحيرة في شأن التعرُّف على العقيدة الحقّة واتّخاذ القرار.

قالت في كتابها القيِّم ( من حقّي أن أكون شيعيّة ) : وفي غمرة تلك الهواجس التي تتزاحم على خاطري كان في بيتنا ازدحام من نوع آخر ، فقد بدأ الأهل بحزم أغراضهم بقصد السفر إلى قريتنا في شمال السودان ، فهناك مناسبة زواج ابن عمّي ، وفي تلك المناسبة تجتمع كل العائلة قادمة من كل مدن السودان ، فظروف العمل تفرّق البيت الواحد ، وتفصل الأحبّة عن الأحبّة ، خاصّة أن المسافات في السودان بين المدن كبيرة ، ويتعسّر على الأهل مقابلة بعضهم إلاَّ في بعض المناسبات.

ص: 643

ففرحة اللقاء بالأهل والأقارب أسكنت ذلك البركان الذي يتنفّس في أعماقي ، وأزهرت الحياة من جديد في ناظري ، وفي طول الطريق لم أفكِّر إلاَّ في أخوالي وأعمامي وخالاتي وعمَّاتي ، لعلَّ بين أحضانهم الدافئة أطفي آلام الألم والشك والحيرة ، ولعلَّ ذكريات الطفولة بين بيوتات القرية االقديمة الواقعة بين ضفاف النيل وخضرة النخيل ، وبين السلسلة الجبليّة كأنه عقد التفَّ حول عنقها ليجعل منها عروساً للنيل ، أو يجعلها آية لسحر الطبيعة الفاتنة التي تجلَّى الباري في صنعها ، فلعل روحي تعشق جمال الخالق ، وتسرح به بعيداً فتنتابها جذبة صوفيٍّ تنكشف معه الحقيقة.

ثمَّ جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن ، وانكسرت تلك الريشة التي كادت أن ترسم لي عطلة بعيدة عن كل ما يهيج نفسي ، فصراع الأديان وصراع النفس مع الاختيار لم أكن أتوقَّع أن يلحقني في تلك القرية النائية ويطرق باب بيتنا ، ومن الطارق ياترى؟ شيء غير مألوف .. وشخص غير معروف .. من ..؟ الشيعة .. نحن في السودان ، ليس في النجف أو طهران ... أم مع تغيُّر الزمان تتغيَّر أيضاً البلدان؟

لا .. لم تتغيَّر البلدان ، والطارق من السودان ، فهو خالي ، ومجموعة أخرى من أقاربي ، فقد كان صادق إحساسي ، فالتغيُّر الذي لا حظته في خالي في سلوكه وكلامه لم يكن معهوداً ، فقد كان شابّاً عصريّاً منفتحاً على الحياة ، كل ما كان يشغله دراسته الجامعيّة ، فتبدّلت تلك الصورة بهذه الصورة ناسكاً عابداً ، لا يتحدَّث إلاَّ في أمر الدين.

فقلت : أصدقني القول يا خالي ، أهو الدين الذي غيَّر ذاك الحال؟

قال : الشيعة.

قلت : ماذا؟

ص: 644

قال : الشيعة.

نعم. الشيعة .. فكانت تلك الكلمات هي صوت دقَّات الباب.

من هم الشيعة

استرسل خالي في الحديث مبِّيناً من هم الشيعة ، واضعاً إصبعه على أسس الخلاف بينهم وبين أهل السنّة ، ومدى أحقّيّتهم في هذا الخلاف ، فقد كنت لا أعرف عنهم إلاَّ أنهم هم الذين يدّعون بأن الرسول صلی اللّه علیه و آله بعد وفاته لم يترك الأمر شورى ، وإنّما قام بتعيين الإمام علي علیه السلام الشرعي.

فقد أكَّد خالي أنّ الخلاف المذهبي هو خلاف في عمق آليات الفهم الدينيِّ ، ولذا كان إيمان الشيعة بأهل البيت علیهم السلام كمرجعيَّة معصومة لقطع الطريق أمام دواعي الخلاف الدينيِّ ، فالضرورة العقليّة قاضية بأن وحدة المرجعيَّة هي كفيلة بجمع الصفوف وحلِّ التباين ، فإذا كان اللّه حريصاً على هداية الناس - وهو كذلك - فقد أرسل الأنبياء والرسل وأيَّدهم بمعجزاته حرصاً على هداية الناس ، فلمَّا تجاهل هذه الحقيقة العقليَّة الحاكمة بضرورة وجود مرجعيَّة معصومة ، ألا يكون لنا حجَّة يوم القيامة إذا سألنا عن سبب تفرُّقنا إلى مذاهب ; بأن نقول : لم تجعل لنا علماً هادياً نقتدي به ونلجأ إليه ، كما كان يفعل الصحابة في عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟

فجوهر الخلاف بين السنّة والشيعة في هذه النقطة المحوريّة ، حيث يدّعي الشيعة أن حكمة اللّه تقتضي أن ينصب لنا اللّه إماماً من بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله .

ألا تجدين في نفسك إن كان هناك - مثلا - عشرة أشخاص ينوون القيام بعمل ما ، فإن كان هناك قائد من بينهم يلجأون إليه ، ويأتمرون بأمره ، ألا يكفل

ص: 645

ذلك وحدتهم ، وجمع صفِّهم؟ أمَّا إذا كان كل واحد منهم يعمل برأيه فسوف ينقلب جميعهم إلى عشرة طرق ، كل فريق بما لديه فرح.

فنقطة بداية الخلاف بين السنّة والشيعة في هذا الأمر تمسُّك الشيعة بضرورة حكم العقل ، ولم يعترف السنّة بذلك الحكم.

ولا تعتقدي أن هذا الحكم العقليَّ بعيد عن الحكم الشرعيِّ ، فالقرآن قاض بهذا الحكم ، ألا يكفيك في هذا الأمر أن اللّه لم يوكل للبشر اختيار أنبيائهم ، بل هو الذي ينتجب ويصطفي من عباده ما يشاء ، فإن لم يكن للبشر خيرة في تنصيب من يخصّة اللّه بالنبوَّة والرسالة ، كذلك ليس لهم الخيرة في تعيين من يقوم بأمر دينه ، ألم يقل تعالى : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (1)؟ فالجاعل هو اللّه ، فهذه هي سنَّة اللّه ولن تجد لسنّته تحويلا.

ثم إنّ أساس الخلاف في هذه الأمَّة هو فيما بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله ، فأهل السنّة والشيعة متفقون بشكل ما على الإيمان باللّه والرسول ، والخلاف كل الخلاف فيما بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وقد ذكرت لك أن الضرورة العقليَّة حاكمة في هذا الحال بأن يكون لنا إمام من بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وقد حكم القرآن أيضاً بهذه الضرورة في قوله تعالى ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ) (2) ، فقد بيّنت هذه الآية ثلاثة محاور أساسيَّة وهي : اللّه ، والرسول صلی اللّه علیه و آله ، ووليُّ الأمر ، فلم تستثنِ هذه الآية موضوع الإمامة ، ممّا يعني أن الدين لا يكتمل إلاَّ بهذه المحاور الأساسيَّة ، وإذا تدبّرت في هذه الآية بشكل أعمق تكتشفين حقائق أكثر بعداً.

ص: 646


1- سورة الأنبياء ، الآية : 73.
2- سورة النساء ، الآية : 59.

فإذا نظرنا إلى لفظة ( أَطِيعُواْ ) نجد أنها تكرَّرت في الآية مرَّتين ; المرَّة الأولى توجب الطاعة ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ) من غير لفظة ( طاعة ) جديدة ، ويتحقّق بذلك المعنى ، ولكن هذه دلالة على الفرق بين الطاعتين ، فطاعة اللّه عبادة ، وطاعة الرسول صلی اللّه علیه و آله امتثال لأوامره ، هذا ما يقودنا إلى الاستفسار عن عدم تكرار لفظة الطاعة مرَّة ثالثة في أولى الأمر ، فلو استخدم القرآن لفظة ثالثة ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ( وأَطِيعُواْ ) أُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) لدلّل على الفرق بين الطاعتين ، وحين لم يستخدم ذلك بل عطف طاعة أولي الأمر على طاعة الرسول علمنا أن طاعة أولي الأمر هي عين طاعة الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وهي طاعة على سبيل الجزم ، والحتم ، هذا ما يقودنا إلى حقيقة عميقة وهي عصمة أولي الأمر ، وإلاَّ كيف يأمرنا اللّه بالطاعة المطلقة لمن هو يرتكب المعاصي فيكون أمراً من اللّه بالمعصية التي نهى عنها ، فيجتمع بذلك الأمر والنهي في موضع واحد وهو محال؟

فتعيَّن بذلك عصمة أولي الأمر ، وبذلك يكون رسم اللّه لنا معياراً نتعرَّف به على ولاة أمورنا وهو العصمة ، وبهذا تسقط خلافة كل إمام ادّعى الخلافة وهو غير معصوم ، فالخلفاء الراشدون لم يدّعوا العصمة لأنفسهم فضلا على ادّعاء الآخرين ، فمن هذه النقطة الجوهرية انطلق الفهم الشيعيُّ يبحث عن ولاة الأمر الذين عصمهم اللّه من الخطأ ، ولم يجد الشيعة بنص القرآن غير أهل البيت علیهم السلام الذين طهّرهم اللّه من الرجس ، وقال تعالى في حقّهم : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ ) (1) فقد حصر اللّه في هذه الآية أهل البيت علیهم السلام وخصّهم بالطهارة من كل

ص: 647


1- سورة الأحزاب ، الآية : 33.

رجس ودنس ، أو بمعنى آخر عصمهم من الخطأ.

وبمعرفة المعصومين نكون قد عرفنا من هم أئمتنا ، وولاة أمورنا في تلك الآية ، فتكون الطاعة واجبة على كل مسلم لله تعالى وللرسول صلی اللّه علیه و آله ولأهل البيت علیهم السلام ، وبذلك رسم لنا القرآن طريقنا من بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وهو موالاة أهل البيت علیهم السلام ومودّتهم كما أمر اللّه بقوله : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (1) ، ومن هنا جاءت الأحاديث متواترة عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله توجب اتّباع أهل البيت علیهم السلام ، كقوله صلی اللّه علیه و آله : إنّي تارك فيكم ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً ، كتاب اللّه حبل ممدود ما بين السماء والأرض ، وعترتي أهل بيتي ، إنّ العليم الخبير أنبأني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض .. (2) فحصر هذا الحديث مسار الأمَّة من بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وهو في اتّباع الكتاب والعترة ، فعندما رأى الشيعة هذه النصوص تشيَّعوا لأهل البيت علیهم السلام وتابعوهم ، فالتشيُّع يعني اتّباع أهل البيت علیهم السلام .

ولا تتصوَّري أن الفكر الشيعي وليد ذهنيّة ابتكرت فكرة الإمامة في ظروف تأريخيّة معيَّنة ، وإنّما هو امتداد طبيعيٌّ لحركة الرسالة الإسلاميَّة ، وقد كان الصحابة الذين يوالون الإمام عليّاً علیه السلام - أمثال : أبي ذر وسلمان والمقداد رضي اللّه تعالى عنهم - يسمُّونهم بشيعة عليٍّ علیه السلام ، كما أكَّد الرسول صلی اللّه علیه و آله هذا المفهوم ، وجذّر هذا المصطلح في عقليَّة الأمَّة الإسلاميَّة بمجموعة أحاديث بشّر بها شيعة عليٍّ علیه السلام بالفوز بالجنّة ، وأكَّدت أنّهم هم الفرقة الناجية ، كقول رسول

ص: 648


1- سورة الشورى ، الآية : 23.
2- المستدرك ، الحاكم : 3 / 109 ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وقد تقدَّم المزيد من تخريجات الحديث الشريف.

اللّه صلی اللّه علیه و آله : من أراد أن يحيى حياتي ، ويموت مماتي ، ويدخل جنَّة عدن التي وعدني ربّي ، فليوال عليَّ بن أبي طالب من بعدي ، ويوال وليَّه ، ويقتدِ بأهل بيتي ، فإنّهم خلقوا من طينتي ، ورزقوا فهمي وعلمي ، ويل للقاطعين فيهم صلتي ، لا أنالهم اللّه شفاعتي (1) ، وقول الرسول صلی اللّه علیه و آله : يا علي! أنت وشيعتك على منابر من نور ، مبيضّة وجوههم حولي في الجنّة ، يا علي! أنت وشيعتك هم الفائزون (2).

وغيرها من الأحاديث التي رسمت للأمَّة طريقها.

فهذا هو التشيُّع باختصار ، وأنا أدعوك إلى التأمُّل فيما قلته لك ، ويكون الحوار بيننا ممتدّاً.

توقَّف الزمن أمامي وأنا أستمع إلى هذا الكلام .. ارتسمت على محيَّاي الدهشة .. وبدا عليَّ السّكون .. ولكنّه في الواقع هزّ نفسي بعنف ، وكأنّه اقترب بأنامله حول عنقي ليحبس بكلماته أنفاسي ، فهل سحب خالي بهذا الكلام البساط من تحت أقدام كلِّ المذاهب ... لكنّه بدأ من النقطة التي وقفت عندها في مفترق الطريق ، فلعله هو العابر الذي كنت أنتظره ليسلّي وحدتي ، ويربط على قلبي لكي أقتحم تلك الصفحات التي ختمت بحبر التقديس.

ولكن سرعان ما لملمت أشتات ذهني ، وحزمت أمر نفسي قائلة : لا

ص: 649


1- تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 42 / 240 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 9 / 170 ، عن حلية الأولياء لأبي نعيم الإصبهاني ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 12 / 103 ح 94198 ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : 1 / 379 - 380 ح 2.
2- راجع : مناقب أميرالمؤمنين علیه السلام ، الكوفي : 249 - 250 ح 167 ، المناقب ، الخوارزمي : 129 ح 143 ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : 391 - 392 ح 4.

يمكن تجاوز كل ذلك الزخم الفكريّ في الموروث الإسلاميِّ ، وما أبدعت فيه عبقريَّات العقل المسلم بهذه الكلمات ، فالأمر موقوف على كثير من البحث والنقاش.

قاطعني قائلا : أنا لم أطلب منك تحديد موقف بهذا الكلام ، كما أنني لا أؤمن بسياسة التلقين وتمرير الأفكار ، فكل ما ذكرته توضيح عام ، وما زال البحث والنقاش بيننا.

قلت : الأمر بحاجة إلى تركيز أكثر ، وأنا لا أجد أنّ المكان مناسب في وسط هذه الضجّة وزغاريد الفرحة ، فمن المناسب أن ننتظر بعد أن تهدأ الأمور ، وأجد الفرصة الكافية لاستجماع نفسي لطرح الحوار نقطة بعد نقطة.

قال : لا بأس بهذا الاقتراح ، فأنا موجود متى طلبتِ منّي الحوار.

ودّعت خالي بعد تلك الجلسة العابرة ، ودخلت مع النساء في معمعة الزواج ، بين ضجيج النسوة ، وصراخ الأطفال ، ولكنّها لم تحجب عن سمعي تلك الكلمات التي سمعتها من خالي ، فما زالت تتردّد في أذني ، فعزمت على إعداد العدّة ، فلا يمكن الاستهانة بهذا الكلام ، كما لا يمكن الاستهانة بمقدرة خالي العلميَّة ، فقد أدهشني فعلا بتلك الكلمات التي كانت تنساب على لسانه من غير جهد وتكلُّف.

الخلافة بين النص والشورى

بعد الانتهاء من مراسيم الزواج وفي مساء يوم من الأيام دعوت خالي لإكمال الحوار ، وقد سجّلت مجموعة أدلّة تنقض ما قاله خالي ، فوافق بترحاب ، بشرط أن يكون النقاش مع مجموعة لتعمَّ الفائدة.

ص: 650

وفي جوٍّ من الهدوء والسكينة وتحت ضوء القمر اجتمعنا أنا وأخواتي وبنات خالتي ، وبدأ الحوار مع خالي ..

قلت : أولا ، وقبل كل شيء تعلم أن كل من لا يؤمن بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان فهو كافر ، والشيعة لا يؤمنون بذلك ، ويعتبرون أنّ الخليفة من بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله هو عليٌّ علیه السلام فحسب ، وفي هذا الكلام تجاوز على الخلفاء ، وكذبٌ وافتراء على اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله وطعن في الصحابة ، وتسقيط لمكانة أبي بكر وعمر وعثمان.

خالي : لعلَّ اللّه منَّ عليَّ بكِ حتى أهتدي على يديكِ إن كنت ضالا ، فقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : وأيم اللّه لئن يهدي اللّه على يديك رجلا خير لك ممَّا طلعت الشمس عليه وغربت (1) ، وقال تعالى : ( وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) (2).

فتعالي ، اكشفي لي المستور ، وأنيري دربي للحقيقة ، ولكن أرجو منك - يا بنت أختي - بأن تنتهجي طريق الحكمة والدليل ، فنحن قوم نميل مع الدليل أينما مال ، قال تعالى : ( قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (3) ، وقال تعالى : ( ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) (4) وقال أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام : رحم اللّه امرأ سمع حكماً فوعى ، ودعي إلى رشاد فدنا ، وأخذ بحجزة هاد فنجا (5).

ص: 651


1- المستدرك ، الحاكم : 3 / 598 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 1 / 315 ح 930 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 5 / 334.
2- سورة المائدة ، الآية : 32.
3- سورة البقرة ، الآية : 111.
4- سورة النحل ، الآية : 125.
5- نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1 / 125 - من 126 خطبة له علیه السلام رقم : 76 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 66 / 310 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 6 / 172.

وعندها أطرقت رأسي خجلا ، وقلت : سامحني يا خالي ، ولكنَّ الحوار ليست فيه اعتبارات ، وأنت صادق فيما قلت ، وما عليك إلاَّ مواصلة النقاش ، وعليك ذكر دليل الشيعة على أن الإمام علياً علیه السلام قد نصّ عليه من قبل اللّه تعالى.

خالي : إذا كنت مديرة مدرسة أو شركة وطرأ عليك سفر ، فهل تغادرين هذه المدرسة أو تلك الشركة بدون تعيين أيِّ وكيل؟

قلت : طبعاً لا ، وليست هذه صفة أيِّ إداريٍّ عاقل.

خالي : إذن فهل خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من هذه الدنيا بدون وضع أيِّ حلٍّ لأمّته؟ فهل كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يجهل بما سيقع من بعده من حروب وفتن واختلافات؟ وهل يعقل أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - هذه الشخصيَّة العملاقة التي بنت أعظم حضارة في تأريخ الإنسانيَّة - يترك هذه الحضارة من غير تعيين من يرعى شؤونها؟

أو ليس من الواجب على الرسول صلی اللّه علیه و آله أن يكون حريصاً على العباد ، فيختار إليهم من يكون إمامهم في أمور الدين والشريعة؟ أو ليس هو القائل : ستفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة ، كلُّها في النار إلاّ واحدة (1).

حاشا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يترك أمَّته سدىً ، وهو العالم بما سيجري بعده ، وقد أثبت التاريخ أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان إذا أراد أن يخرج من المدينة إلى غزوة كان لا يخرج حتى يجعل خليفة ، وقد ذكر البخاري في صحيحه أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عندما خرج لغزوة تبوك خلَّف علي بن أبي طالب علیه السلام على المدينة ، وقال له : يا علي! ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيَّ

ص: 652


1- مسند أحمد بن حنبل : 3 / 120 ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 1 / 128 ، وقد تقدَّمت تخريجاته.

بعدي (1) ، فيتضح من ذلك أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد وضع حلاًّ لأمّته .. أليس كذلك؟

قلت : أنا لا أعترض على شيء ممّا قلت ، فإن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يخرج من هذه الدنيا حتى وضع حلاًّ .. ولكن لا يعني هذا أن يكون الحلّ الذي وضعه هو النصّ على الإمامة.

خالي : إذن ما هو الحل؟

قلت : الحل هو الشورى بين المسلمين.

خالي : إذن خلاصة هذا الكلام أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يعلم بما سيجري من بعده ، وأنه قد وضع حلاًّ لأمَّته .. ولكن اختلفنا في نوعيَّة ذلك الحل ، فأنتم تقولون : إن الحل الذي وضعه الرسول صلی اللّه علیه و آله هو الشورى بين المسلمين .. أمَّا الشيعة فقد ذهبت إلى أن الحلَّ هو النص والتعيين من قبل اللّه تعالى ورسوله صلی اللّه علیه و آله ، وقد أثبتوا بما لا يدع مجالا للشك أنّ الرسول عيّن من بعده علياً وأهل بيته علیهم السلام .

قلت : إنّ الأدلة على الشورى واضحة في آيات اللّه تعالى ، ولا أدري كيف تغافل عنها الشيعة ، فهل هناك نص أوضح من قوله تعالى : ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) (2) ، وقوله : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) (3)؟!

فإنّ الظاهر من هذه الآيات هو إعطاء الشرعيَّة للأمَّة في انتخاب خليفتها ، وليست لك حجّة ممّا ينتج من هذا الانتخاب من اختلاف ; لأنّ من ميزات

ص: 653


1- سنن الترمذي : 5 / 301 - 302 ح 3808 ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 2 / 337 ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وتقدَّم المزيد من تخريجات هذا الحديث الشريف المتواتر.
2- سورة الشورى ، الآية : 38.
3- سورة آل عمران ، الآية : 159.

شريعتنا الغرّاء أنّ الاختلاف مسموح به ، بل هو رحمة كما قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : اختلاف أمَّتي رحمة (1) ، هذه من أعظم القيم الإسلاميّة وهو إقرار مبدأ الديمقراطية.

كما أن الواقع العملي لسيرة المسلمين وخاصة سيرة السلف الصالح قد أجمعوا على هذا المبدأ ، وأنّ أول شورى حدثت في التاريخ أسفرت عن أعظم حضارة بقيادة الخلفاء كانت نتاج مبدأ الشورى ، وهذا ما أراده رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وهو القائل : لا تجتمع أمَّتي على ضلال (2) ، وهذا للأمَّة فماذا يكون الحال إذا كان المجمعون هم الصحابة الذين زكَّاهم اللّه عزّوجل ومدحهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فلم تكن - يا خالي - خلافة أبي بكر خارجة عن الدين ، بل هي الدين بعينه.

ص: 654


1- شرح مسلم ، النووي : 11 / 91 ، الجامع الصغير ، السيوطي : 1 / 48 ح 288 ، كشف الخفاء ، العجلوني : 1 / 64 ح 153. قال المتقي الهندي في كنز العمال : 10 / 136 ح 28686 : اختلاف أمَّتي رحمة ( نصر المقدسي في الحجة ، والبيهقي في الرسالة الأشعرية بغير سند ، وأورده الحليمي والقاضي حسين وإمام الحرمين وغيرهم ، ولعلّه خرِّج في بعض كتب الحفّاظ التي لم تصل إلينا ). وقال الفتني في تذكرة الموضوعات :90 - 91 : في المقاصد اختلاف أمتي رحمة للبيهقي عن الضحاك عن ابن عباس رفعه في حديث طويل بلفظ : واختلاف أصحابي لكم رحمة ، وكذا للطبراني والديلمي والضحاك عن ابن عباس منقطع ، وقال العراقي : مرسل ضعيف ، وقال شيخنا : هذا الحديث مشهور على الألسنة ، وقد أورده ابن الحاجب في المختصر في القياس ، وكثر السؤال عنه ، وزعم كثير من الأئمة أنَّه لا أصل له ، لكن ذكره الخطابي وقال : اعترض على الحديث رجلان ; أحدهما ماجن ، والآخر ملحد ، وهما : إسحاق الموصلي والجاحظ ، وقالا : لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذاباً ، ثمَّ ردَّ الخطابي عليهما ، ولم يقع في كلامه شفاء في عزو الحديث ، ولكنه أشعر بأن له أصلا عنده ، وفي حاشية البيضاوي ذكر هذا الحديث السبكي وغيره وليس بمعروف عند المحدِّثين.
2- أحكام القرآن ، الجصاص : 2 / 37 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 8 / 123 ، وقد تقدَّم هذا الحديث في مناظرة أميرالمؤمنين علیه السلام مع أبي بكر.

وإذا كنت في شك ممَّا قلت لك تكون قد خالفت أهل البيت علیهم السلام الذين تدّعون التمسُّك بهم ; لأنّ علي بن أبي طالب علیه السلام بنفسه بايع أبا بكر ولم يخالفه ، وإذا كانت الخلافة له لم سكت وبايع أبا بكر ، وكان على الأقل احتجّ عليهم وذكَّرهم بأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد نصَّ عليه ، ولكن حدث عكس ذلك ، فقد أقرَّ عليٌّ علیه السلام مبدأ الشورى كما جاء في هذا النص - كتبته من كتاب يرجعه إلى نهج البلاغة - : وإنَّما الشورى للمهاجرين والأنصار ، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضاً ، فإن خرج من أمرهم بطعن أو بدعة ردّوه إلى ما خرج منهم ، فإن أبى قاتلوه على اتّباعه غير سبيل المؤمنين (1) ، ولعلّ عليّاً علیه السلام كان يدري أنَّ أناساً يأتون من بعده يدّعون أن الإمامة حقٌّ له دون غيره ، ولذلك سطَّر هذه الكلمات حتى تكون حجّة عليهم مدى الدهر.

هذا من جهة عليٍّ علیه السلام ، أمَّا من جهة الصحابة فالأمر أوضح ، لأنهم لم يبايعوا علياً ، ولو كان هناك نص عليه لم يتخذوا دونه بدلا ، ولا يمكن أن يقبل أن كل الصحابة قد تواطؤا على عليٍّ ، وهم الذين مدحهم اللّه في كتابه : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً ) (2) ، وكما قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أصحابي كالنجوم بأيِّهم اقتديتم اهتديتم (3) (4).

ص: 655


1- نهج البلاغة ، 3 / 7 ، من كتاب له علیه السلام لمعاوية ، رقم : 6 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 3 / 75 و 14 / 35 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 59 / 128 ، المناقب ، الخوارزمي : 202.
2- سورة الفتح ، الآية : 29.
3- تقدَّمت تخريجاته.
4- 4 - قال محمّد بن عقيل في النصائح الكافية : 181 - بعدما ساق حديث : أصحابي كالنجوم - : قال ابن عبد البرّ : هذا إسناد لا تقوم به حجَّة ; لأن الحرث بن غصين مجهول ، وقال أيضاً عن محمّد بن أيوب الرقي قال : قال لنا أبو بكر أحمد بن عمر بن عبد الخالق البزار : سألتهم عمَّا يروى عن النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ممَّا في أيدي العامّة يروونه عن النبيِّ صلی اللّه علیه و آله أنه قال : إنّما مثل أصحابي كمثل النجوم ، أو أصحابي كالنجوم فبأيِّها اقتدوا اهتدوا ، قالوا : هذا الكلام لا يصحُّ عن النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ، وربَّما رواه عبدالرحيم عن أبيه عن ابن عمر ، وإنّما ضعف هذا الحديث من قبل عبدالرحيم بن زيد ; لأن أهل العلم قد سكتوا عن الرواية لحديثه .. وقال الحجّة العلم آغا بزرك الطهراني عليه الرحمة في الذريعة : 13 / 188 تحت رقم : 651 : ( شرح حديث أصحابي كالنجوم بأيِّهم اقتديتم اهتديتم ) لبعض الأصحاب ، استدلَّ به من وجوه على وضع هذا الحديث وكذبه وبطلانه ، وهو في أربعمائة بيت ، أوَّله : الحمد لله الذي جعل مقام شيعة عليٍّ عليّاً ، وصيَّرهم مع خليله إبراهيم في ذلك الاسم سميّاً .. إلخ ، وعلى فرض صحّة هذا الحديث وصدوره عنه صلی اللّه علیه و آله فليس المراد به كافّة الأصحاب ، بل هم أهل البيت المعصومون علیهم السلام ، وآخره : الحمد لله الذي جعل الحقَّ ممّا يعلو ولا يعلى ، والنسخة في مكتبتي المسمَّاة ب- : ( مكتبة صاحب الذريعة العامّة ) في النجف الأشرف ، وورقها سميك ، لكنَّه ليس بأقدم من القرن الماضي أو قبله بقليل ، والظاهر أنَّه ألفِّ جواباً على بعض العامة المستدلين بالحديث على صحّة مذهبهم.

فإذا كان الصحابة لم يبايعوا عليّاً فهذا دليل قويٌّ على أنَّه لا يوجد أيُّ نص ; إذ لو كان هناك ثمَّة نصٌّ لالتزم به الصحابة الكرام.

ثمَّ باللّه عليك ، إذا كانت الإمامة نصّاً إلهيّاً ، وهي بهذه الدرجة من الخطورة كما تدّعون وتطبِّلون على ذلك ، لماذا لم تذكر في القرآن الكريم؟ لماذا لم يذكر اسم عليٍّ علیه السلام كما ذكر اسم محمّد صلی اللّه علیه و آله ، بل لم يترك حتى إشارة واضحة محكمة في ذلك الخصوص؟

فهذا يدلُّ على أنّ القضيَّة هي قضيّة شورى بين المسلمين ، وليست القضيّة نصاً كما تدّعي وتذهب.

وإن تنازلنا وسلّمنا للشيعة أنّ الخليفة لابد أن يكون منصوصاً عليه فحينها تكون الكفّة مع أبي بكر الصديق.

ص: 656

خالي متعجِّباً : ... أبو بكر؟

قلت : أجل ، الصدّيق ..

خالي : نوِّرينا ، كيف ذلك؟؟

قلت : عن عليٍّ علیه السلام قال : دخلنا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقلنا : يا رسول اللّه! استخلف علينا ، قال : إن يعلم اللّه فيكم خيراً يولِّ عليكم خيركم ، فقال علي ( رضي اللّه عنه ) : فعلم اللّه فينا خيراً فولَّى علينا خيرنا أبا بكر (1).

وعن عليِّ بن أبي طالب علیه السلام أيضاً : أتت امرأة إلى النبيِّ صلی اللّه علیه و آله فأمر أن ترجع إليه ، فقالت : إن جئت ولم أجدك ; كأنها تقول الموت ، قال : إن لم تجديني فأتي أبا بكر (2).

وعن ابن عمر قال : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : يكون خلفي اثنا عشر خليفة ; أبو بكر لا يلبث إلاَّ قليلا .. (3).

وعن حذيفة رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : اقتدوا بالذين بعدي ; أبي بكر وعمر (4).

هذا بالإضافة إلى قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ

ص: 657


1- المستدرك ، الحاكم : 3 / 145 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 30 / 289 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 13 / 189 ح 36562.
2- صحيح البخاري : 4 / 191 ، فتح الباري ، ابن حجر : 7 / 16 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 5 / 248.
3- المعجم الكبير ، الطبراني : 1 / 90 ح 142 ، الكامل ، ابن عدي : 208 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 30 / 229.
4- سنن الترمذي : 5 / 271 ح 3742 ، مسند الحميدي : 1 / 214 ح 449 ، المستدرك ، الحاكم 3 / 75 ، المعجم الأوسط ، الطبراني : 4 / 140 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 9 / 53 ، قال : رواه الطبراني وفيه من لم أعرفهم.

فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (1) ، فإن هذه الآية نازلة في حق أبي بكر الصدّيق ، فكانت النتيجة طبيعيَّة أن يعيِّن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أبا بكر كما عيّنه إماماً ليصلّي بالمسلمين.

الاستدلال بآيات الشورى باطل

خالي : انتهيت؟

قلت : أجل ، وهل بعد هذا الكلام من زيادة ، وابتسمت قائلةً : قطعت جهيزة قول كل خطيب ، ولو كان للشيعة ربع هذه الأدلة لقلنا إنهم تأوّلوا ، ولوجدنا لهم عذراً.

خالي : هوِّني عليك يا بنت أختي ، زادني اللّه وإياك بصيرة في الحق .. وهدانا اللّه إلى طريق الهدى والصراط المستقيم.

حججك - يا عزيزتي - قويّة ومنطقيّة ، ولكن عندي عدّة أسئلة وبعض الشبهات حول ذلك ، فإن أجبت عنها كان الصواب معك.

قلت بوجه مستبشر وبلهفة : تفضَّل .. تفضَّل.

خالي : ذكرت أنّ الحل والمنهجيّة التي وضعها الرسول صلی اللّه علیه و آله لأمَّته بعد وفاته هي الشورى بين المسلمين ، واستدليت بالآيتين المباركتين : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) (2) ، ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) (3).

قلت : أجل ، هو ذلك.

ص: 658


1- سورة المائدة ، الآية : 54.
2- سورة آل عمران ، الآية : 159.
3- سورة الشورى ، الآية : 38.

خالي : حسناً! من هو المخاطب بقوله تعالى : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) (1)؟

قلت : المخاطب هو الرسول صلی اللّه علیه و آله .

خالي : إذن فالخطاب في الآية متوجِّهٌ إلى الحاكم الذي استقرّت حكومته ، أليس كذلك؟

قلت وبعد ثوان من الصمت : لم أفهم ذلك.

خالي : بما أنّ الرسول صلی اللّه علیه و آله كان هو الحاكم الشرعي ، وخطاب الآية متوجّهٌ له ، فلا يمكن أن تكون الآية مؤسِّسة لنظريَّة الحكم ، وإلاّ يكون في الأمر خلف وتحصيل حاصل ; لأنّ الرسول صلی اللّه علیه و آله هو الحاكم حين ذاك ، فكيف تكون الشورى لتنصيب الحاكم والحاكم موجود؟! فأقصى ما نفهمه من الآية أنّ من وظائف الحاكم الشرعيِّ هو الشورى مع رعيّته ، هذا ما أكَّده أميرالمؤمنين علیه السلام : من استبدّ برأيه هلك ، ومن شاور الرجال في أمورها شاركها في عقولها (2) ، هذا أوَّلا.

وثانياً : إنّ مشورة الحاكم للرعيَّة ليست على وجه الإلزام ; أي ليس واجباً على الحاكم الأخذ برأيهم ، والدليل على ذلك قوله تعالى : ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) (3) ، فالأمر أوَّلا وأخيراً منوط بالحاكم.

هذه هي الشورى الشرعيَّة التي أمر بها الإسلام ، وهي لا تنعقد إلاّ بوجود

ص: 659


1- سورة الشورى ، الآية : 38.
2- نهج البلاغة ، خطب الإمام علي علیه السلام : 4 / 41 ح 161 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 72 / 104 ح 38 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 18 / 382.
3- سورة آل عمران ، الآية : 159.

الحاكم والقيّم على الشورى ، فأركان الشورى في الإسلام ، أوَّلا : المتشاورون ، وهذا من قوله تعالى : ( وَشَاوِرْهُمْ ) ، وثانياً : موضوع للشورى ، والدليل عليه : ( فِي الأَمْرِ ) .

وثالثاً : وليٌّ وقيّم على الشورى ، حيث ترجع إليه الآراء ، وهو الذي يحكم فيها : ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) ، فبهذا لا يمكن أن تنعقد الشورى بكيفيَّتها الإسلاميَّة إلاّ بحاكم ، وأنتم تزعمون أنّ الحاكم لا يأتي إلاَّ عن طريق الشورى ، وهذا دور ، والدور باطل كما تعلم ، أي - بمعنى آخر - إن الحاكم لا يأتي إلاّ بالشورى ، والشورى لا تقوم إلاَّ بالحاكم ، فإذا حذفنا المتكرِّر تكون المحصَّلة : الحاكم لا يقوم إلاَّ بالحاكم ، أو الشورى لا تقوم إلاّ بالشورى ، وهذا باطل بإجماع العقلاء ، فتكون الآية خارجة عن موضوع تعيين الحاكم ، ولأجل ذلك لم نر أحداً من [ أهل ] السقيفة احتجّ بهذه الآية.

فالمتعمعِّن في الآية يتضح له أنّ الأمر بالمشاورة كان بقصد الملاينة معهم والرحمة بهم ، ومن سبل الترابط الذي يجمع بين القائد وأمَّته ، قال تعالى : ( فَبِما رَحْمَة مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ ) (1).

أمَّا قوله تعالى : ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) (2) فالكلام فيها بنفس ما تقدَّم ; لأن الخطاب كان شاملا للرسول صلی اللّه علیه و آله أيضاً ، فمن الممنوع عقلا وشرعاً أن يعقد الصحابة مشورة من دون الرسول صلی اللّه علیه و آله وهو بينهم ، فإذا

ص: 660


1- سورة آل عمران ، الآية : 159.
2- سورة الشورى ، الآية : 38.

تحتّم دخول الرسول معهم - وهو الحاكم المطاع - فتخرج الشورى حينها عن موضوع تعيين الحاكم كما تقدَّم في الآية الأولى ، فتكون الآية حثَّت على الشورى فيما يمتُّ إلى شؤون المؤمنين بصلة ، لا فيما هو خارج عن حوزة أمرهم.

أمَّا كون تعيين الإمام داخلا في أمورهم فهذا هو أوَّل الكلام ، وعلى أقل تقدير إذ لا ندري هل أن أمر الإمام هو من شؤون المؤمنين أم من شؤون اللّه سبحانه ، ومع هذا الترديد لا يصحُّ التمسُّك بالآية.

فهذه الآيات التي ذكرتيها لا يستفاد منها أكثر من رجحان التشاور بين المؤمنين في أمورهم ، كما أن التشاور لا يمكن أن يكون في القضايا التي ورد فيها تحديد شرعيٌّ ، فليس لأحد صلاحيَّة في قبالة تشريعات اللّه ، قال تعالى : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) (1) ، وقال : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلاَ مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً ) (2).

... فالآيتان أجنبيَّتان تماماً عن موضوع القيادة ، وبالتالي دليلك هذا ساقط ، ولا ينهض بأيِّ حال من الأحوال لإثبات المدَّعى .. أليس كذلك؟!

قلت : هذا الكلام يبدو في ظاهره وجيهاً ، مع أنّه يشوبه نوع من الغرابة ، فلم أسمع من قبل بمثل هذا الاستدلال ، ولكن كل ما أفهمه أنّ اختلاف أمَّة محمّد صلی اللّه علیه و آله رحمة.

ص: 661


1- سورة القصص ، الآية : 67.
2- سورة الأحزاب ، الآية : 36.

حديث اختلاف أمَّتي رحمة

عذراً يا عزيزتي! إنّ الحديث الذي ذكرتيه ليس بهذا الفهم ، والوارد في تفسيره عند أهل البيت علیهم السلام - كما جاء في كتاب اسمه علل الشرائع - أنه قيل للإمام الصادق علیه السلام : إن قوماً يروون أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : اختلاف أمَّتي رحمة ، فقال : صدقوا ، فقيل : إذا كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب؟ قال علیه السلام : ليس حيث تذهب وذهبوا ، إنما أراد قول اللّه عزَّ وجلَّ : ( فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَة مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (1) واختلاف أهل البلدان إلى نبيِّهم صلی اللّه علیه و آله ثمَّ من عنده إلى بلادهم رحمة .. فالاختلاف في البلدان لا في الدين ، لأن الدين واحد (2).

وهذا ما تؤكِّده كتب اللغة ، فقد جاء في المنجد : اختلف إلى المكان : تردّد ; أي جاء المرَّة بعد الأخرى ، وهذا ما يقبله العقل والشرع ، قال تعالى : ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ) (3) ، وقوله تعالى : ( وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) (4) ، وقال : ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ ) (5) ، وقال تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) (6).

ص: 662


1- سورة التوبة ، الآية : 122.
2- علل الشرائع ، الصدوق : 1 / 85 ح 4 ، معاني الأخبار ، الصدوق : 157 ح 1.
3- سورة آل عمران ، الآية : 103.
4- سورة الأنفال ، الآية : 46.
5- سورة الصف ، الآية : 4.
6- سورة الحجرات ، الآية : 4.

الديمقراطيَّة مبدأ إسلاميٌّ وعقلائيٌّ

قلت : حسناً يا خالي! إذاً أنتم الشيعة الإماميّة لا تعترفون بمبدأ الشورى في الفكر الإسلاميِّ ، وإذا كان الأمر كذلك فلم المصلحون والمجدِّدون يقولون : إن بنيان الحكم في الإسلام مبنيٌّ على أسس الديمقراطيَّة ، وحريَّة الرأي والتعبير ، ولم يكن ذلك من فراغ ، وإنما استناداً للطريق الذي شرَّعه الإسلام لانتخاب الحاكم بالشورى والاختيار الحرِّ ، وهذا ما أجمع عليه كل العقلاء ، مسلمون وغير مسلمين؟

خالي : أوَّلا : إنّ الديمقراطية بصورتها الحاليَّة لم تكن هي المبدأ الذي اتفق عليه كل العقلاء.

وثانياً : إنّ الديمقراطيَّة بالفهم الإسلاميِّ هي رقابة مشتركة بين الحاكم والرعيَّة من أجل تطبيق قيم ومبادئ سامية ، وليست هي الفوضى التي تنتج من الاتباع المطلق لرغبات الشعب ، وإنما هي مساعي مشتركة بين الحاكم والرعيَّة لتطبيق شرع اللّه.

ثالثاً : إنّ الديمقراطية يمكن أن تقبل في إطار خاص وليس مطلقاً ، أي في الأمور التي تعتبر من اختصاصات البشر ، لا في الأمور التي هي من شأن اللّه سبحانه وتعالى ، فالحاكميَّة الحقيقيَّة لله تعالى ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ) (1) ، واللّه هو الخالق ، والخالق مالك ، والمالك هو الحاكم ، ولا يجوز للمملوك أن يتصرَّف في حقِّ المالك إلاّ بإذن المالك ، وقد جرت سنّة اللّه سبحانه وتعالى باصطفاء الخلفاء

ص: 663


1- سورة الأنعام ، الآية : 57.

والحكّام الذين يمثلِّون حكومته في الأرض ، قال تعالى : ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) (1) وقال تعالى : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (2) وقال : ( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (3) وهذا غير الآيات التي تحدَّثت عن اصطفاء اللّه للخلفاء ، فأمر الحكم هو من اختصاص اللّه عزّ وجلَّ ، فلا تجري فيه الديمقراطيَّة.

الديمقراطيَّة لا تصلح في المجتمع القبلي

رابعاً : ولو سلّمنا جدلا أنّ الديمقراطيَّة يمكن أن تكون طريقاً لاختيار الحاكم ، لكنّها لا تفيد مع ذلك المجتمع الجاهلي الذي لم يعرف في طول تأريخه معنى الشورى ، فإنّ الأنظمة التي كانت سائدة هي الأنظمة القبليّة ، والتقسيمات العشائريّة ، التي لا تعترف إلاَّ بقانون القوَّة.

قلت : لكنَّ النبيَّ صلی اللّه علیه و آله سعى سعياً حثيثاً لمحو الروح القبليّة ، وإذابة الفوارق العشائريّة ، وجمع ذلك الشتات في بوتقة الإيمان الموحّد.

خالي : نعم هذا صحيح ، ولكن ليس من الممكن أن ينقلب النظام القبلي في مدّة ثلاثة وعشرين عاماً إلى نظام موحَّد إسلاميٍّ ، فقد كان لا يرى إلاّ الانتساب إلى القبليَّة فخراً له ، والأدلة على ذلك كثيرة ، فقد نقل البخاري في صحيحه : ( تنازع مهاجريٌّ مع أنصاريٍّ ، فصرخ الأنصاري : يا معشر الأنصار! وصرخ المهاجري : يا معشر المهاجرين! ولمَّا سمع النبيُّ صلی اللّه علیه و آله قال : دعوها فإنّها

ص: 664


1- سورة البقرة ، الآية : 30.
2- سورة الأنبياء ، الآية : 73.
3- سورة البقرة ، الآية : 124.

منتنة (1).

ولولا قيادته الحكيمة صلی اللّه علیه و آله لخضّب وجه الأرض بدماء المسلمين من المهاجرين والأنصار ، وكم حدثت أمثال تلك الحوادث ، حتى قال فيهم النبي صلی اللّه علیه و آله : يا معشر المسلمين! أبدعوى الجاهليّة وأنا بين أظهركم (2) وحتّى تتأكَّد ممَّا قلته لك ارجع إلى أيِّ كتاب في التأريخ ، لترى الصورة الحقيقيَّة للمجتمع الأول ، ولا تفهم من ذلك أنّي أشكِّك في مجتمع الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وكل ما أقصده أنّ النظرة المثاليّة ليست واقعيّة.

قلت : ليس كلّ ما جاء في كتب التأريخ حقيقة.

خالي : عفواً! لا تعتمدي على الكلمات المطلقة ، ليس كل ما في التأريخ حقيقة ، هذا الكلام عليك وليس معك ; لأنّ السلف الذين تدافعين عنهم أنتِ لم تعيشىِّ معهم ، وكل ما تعرفينه عنهم هو عبر التأريخ ، هذا أوَّلا.

وثانياً : إنّ هنالك روايات في الصحاح التي تعترفون بصحّتها تكشف أن المجتمع الأول لم يكن مثاليّاً كما تتخيَّلين ، وإليك هذه الحادثة التي جاءت في صحيح البخاري في قصة الإفك كمثال وليس حصراً :

قال النبي صلی اللّه علیه و آله وهو على المنبر : يا معشر المسلمين! من يعذرني في رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي ، واللّه ما علمت على أهلي إلاَّ خيراً ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت منه إلاَّ خيراً ، وما يدخل على أهلي إلاَّ معي.

قالت عائشة : فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل ، فقال : أنا - يا

ص: 665


1- صحيح البخاري : 4 / 160 و 6 / 65 -66.
2- أسد الغابة ، ابن الأثير : 1 / 149 ، سيرة النبي صلی اللّه علیه و آله ، ابن هشام : 2 / 397 ، فتح القدير ، الشوكاني : 1 / 368.

رسول اللّه - أعذرك ، فإن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا.

قالت عائشة : فقام رجل من الخزرج ، وهو سعد بن عبادة ، وهو سيِّد الخزرج ، وكان قبل ذلك رجلا صالحاً ولكن احتملته الحميَّة ، فقال سعد بن عبادة : كذبت لعمر اللّه ، لا تقتله ولا تقدر على قتله ، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل.

فقال أسيد بن حضير - وهو ابن عم سعد بن معاذ - لسعد بن عبادة : كذبت لعمر اللّه ، لتقتلنّه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين.

قالت عائشة : فصار الحيَّان ( الأوس والخزرج ) حتى همُّوا أن يقتتلا ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قائم على المنبر ، ولم يزل رسول اللّه يخفضهم ( أي يهدِّئهم ) حتى سكتوا (1).

فعليك أن تتدبَّر ، هذا هو الحال ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بينهم ، فكيف الحال بعد وفاته؟!

واسمحي لىِّ أن أتجاسر قليلا وأقول لك : إنّ فرض الديمقراطية في مثل هذا المجتمع هرطقة فاضحة.

وذلك لأنَّ العمليّات الانتخابيّة التي يفترض إجراؤها تحت مظلّة الديمقراطيَّة تستلزم وعياً ، ونظراً للمصالح والمفاسد ، وتقويماً للطرق السليمة التي تفيد المجتمع في ارتقائه وتكامله ، وتجربة في الحياة السياسيّة ، وهذا كلُّه يستدعي أرضيَّة ثقافيَّة وفكريَّة نشطة لدى أبناء الشعب ، وفي غير تلك الصورة

ص: 666


1- صحيح البخاري : 5 / 58 و 6 / 7 - 8.

يكون فرض الديمقراطيَّة ضرباً من اللاواقعيَّة.

قلت : بقدر ما أنك تجد شواهد على بدويَّة ذلك المجتمع ، فإنّ الشواهد على وجود نماذج طيِّبة كثيرة جداً في التأريخ ، وليس من الإنصاف أن تتمسَّك بالشواهد السلبيَّة دون الإيجابيَّة ، فمجرَّد وجود تلك النماذج الإيجابيَّة كاف لصيرورة نظام الشورى.

خالي : أنا لا أنكر تلك النماذج الإيجابيَّة ، بل أفتخر بها ، ولكن ليس هذا مربط الفرس ، فإن القضيَّة تدور مدار الشرعيَّة للشورى ، والمدَّعى قائم على نفي الشرعيَّة عنها ; إذ لا يعقل أن تكون الشورى هي الطريق الذي حدَّده الشرع ، في حين أنه لا توجد رواية واحدة عن الرسول صلی اللّه علیه و آله يتحدَّث فيها عن الشورى ، وهذا خلاف المفترض ، حيث كان من اللازم أن يبيّن الرسول صلی اللّه علیه و آله كيفيَّة الشورى وحدودها وآلياتها ، في حين أنّ الأحاديث التي تتحدَّث عن السواك وفوائده لا تقلُّ عن الخمسة والثلاثين حديثاً.

خلافة أبي بكر والإجماع

قلت : في كلامك نسبة كبيرة من الوجاهة ، وقد يصل إلى حدِّ الإقناع لو لا أنه معارض بإجماع الصحابة الذين استقرَّ رأيهم على خلافة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة ، وقد أعطى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هذا الإجماع الشرعيَّة بقوله صلی اللّه علیه و آله : لا تجتمع أمَّتي على الخطأ (1).

خالي : بغضّ النّظر عن الكلام حول حجّيّة الإجماع والنقاش الدائر حوله ،

ص: 667


1- تقدمت تخريجاته.

فإن إجماع الصحابة على خلافة أبي بكر لا يخلو من إشكال ; لأنّ القدر المتيقّن من حجّيّة الإجماع هو الإجماع غير المخروق ; أي الإجماع الذي لم يخالفه مخالف ، وهذا غير متحقّق.

قلت : إنّ الإجماع ينعقد برؤوس القوم وزعمائهم ، وهذا متحقِّق ، ولا عبرة بغيرهم.

خالي : إنّ الذين تخلَّفوا عن بيعة أبي بكر لم يكونوا من صغار القوم كما زعمت ، بل هم أعاظم الصحابة (1) ، وإليك منهم على سبيل المثال لا الحصر :

__________________

1 - قال اليعقوبي في تأريخه : 2 / 124 في الأحداث التي جرت بعدما بويع لأبي بكر : وجاء البراء بن عازب ، فضرب الباب على بني هاشم وقال : يا معشر بني هاشم! بويع أبو بكر ، فقال بعضهم : ما كان المسلمون يحدثون حدثاً نغيب عنه ، ونحن أولى بمحمّد ، فقال العباس : فعلوها وربِّ الكعبة.

وكان المهاجرون والأنصار لا يشكّون في عليٍّ ، فلمَّا خرجوا من الدار قام الفضل بن العباس - وكان لسان قريش - فقال : يا معشر قريش! إنه ما حقَّت لكم الخلافة بالتمويه ، ونحن أهلها دونكم ، وصاحبنا أولى بها منكم. وقام عتبة بن أبي لهب فقال :

ما كنت أحسب أن الأمر منصرف *** عن هاشم ثم منها عن أبي الحسن

عن أوَّل الناس إيماناً وسابقة *** وأعلم الناس بالقرآن والسنن

وآخر الناس عهداً بالنبيِّ ومن *** جبريل عون له في الغسل والكفن

من فيه ما فيهم لا يمترون به *** وليس في القوم ما فيه من الحسن

وتخلَّف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار ، ومالوا مع علي بن أبي طالب ، منهم : العباس بن عبد المطلب ، والفضل بن العباس ، والزبير بن العوام بن العاص ، وخالد بن سعيد ، والمقداد ابن عمرو ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ، وعمّار بن ياسر ، والبراء بن عازب ، وأبي بن كعب.

فأرسل أبو بكر إلى عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة ، فقال : ما الرأي؟ قالوا : الرأي أن تلقى العباس بن عبد المطلب ، فتجعل له في هذا الأمر نصيباً يكون له ولعقبه من بعده ، فتقطعون به ناحية علي بن أبي طالب حجة لكم على علي ، إذا مال معكم ، فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح والمغيرة حتى دخلوا على العباس ليلا ، فحمد أبو بكر اللّه وأثنى عليه ، إلى أن قال :

فاختاروني عليهم والياً ولأمورهم راعياً ، فوليت ذلك .. ولقد جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيباً يكون لك ، ويكون لمن بعدك من عقبك إذ كنت عمَّ رسول اللّه .. وقال عمر بن الخطاب : إي واللّه ، وأخرى أنا لم نأتكم لحاجة إليكم ، ولكن كرهاً أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون منكم ، فيتفاقم الخطب بكم وبهم ، فانظروا لأنفسكم.

فردَّ عليه العباس، فكان من كلامه له : فإن كنت برسول اللّه فحقاً أخذت ، وإن كنت بالمؤمنين فنحن منهم ، فما تقدمنا في أمرك ، ولا حللنا وسطاً ، ولا برحنا سخطاً ، وإن كان هذا الأمر إنَّما وجب لك بالمؤمنين ، فما وجب إذ كنا كارهين ، إلى أن قال : فأمَّا ما قلت إنّك تجعله لي ، فإن كان حقاً للمؤمنين فليس لك أن تحكم فيه ، وإن كان لنا فلم نرض ببعضه دون بعض ، وعلى رسلك ، فإن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من شجرة نحن أغصانها ، وأنتم جيرانها ، فخرجوا من عنده.

ص: 668

فروة بن عمرو ، وهو ممّن تخلّف عن بيعة أبي بكر ، وكان ممّن جاهد مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وكان يتصدّق من نخله بألف ساق كل عام ، وكان سيِّداً ، وهو من أصحاب علي ، وممّن شهد معه يوم الجمل .. (1) ، وجاء في أسد الغابة : شهد العقبة وبدراً وما بعدهما (2).

وممّن تخلّف أيضاً خالد بن سعيد الأموي ، وهو ممَّن أسلم قديماً فكان ثالثاً أو رابعاً ، وقيل : خامس من أسلم ، وقال ابن قتيبة في المعارف : أسلم قبل إسلام أبي بكر (3) .. وسعد بن عبادة ، وحذيفة بن اليمان ، وخزيمة بن ثابت ، وأبو بريدة الأسلمي ، وسهل بن حنيف ، وقيس بن سعد ، وأبو أيوب الأنصاري ، وجابر بن عبداللّه .. وغيرهم ، وكل هؤلاء من الصحابة العظماء كما تعلم ، هذا بالإضافة إلى أبي ذر وسلمان والزبير وأبيّ بن كعب والمقداد بن الأسود (4).

ص: 669


1- وقد ذكر ذلك الزبير بن بكار في الموفقيات : 590.
2- أسد الغابة ، ابن الأثير : 4 / 178.
3- المعارف ، ابن قتيبة : 128.
4- قال اليعقوبي في تأريخه : 126 : وكان فيمن تخلَّف عن بيعة أبي بكر أبو سفيان بن حرب ، وقال : أرضيتم - يا بني عبد مناف - أن يلي هذا الأمر عليكم غيركم؟ وقال لعلي بن أبي طالب : امدد يدك أبايعك ، وعلي معه قصي ، وقال : بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم *** ولا سيما تيم بن مرة أو عدي فما الأمر إلاَّ فيكم وإليكم *** وليس لها إلاَّ أبو حسن علي أبا حسن فاشدد بها كف حازم *** فإنك بالأمر الذي يرتجى ملي وإن امراً يرمي قصي وراءه *** عزيز الحمى والناس من غالب قصي وكان خالد بن سعيد غائباً ، فقدم فأتى علياً فقال : هلمَّ أبايعك ، فواللّه ما في الناس أحد أولى بمقام محمّد منك. واجتمع جماعة إلى علي بن أبي طالب يدعونه إلى البيعة له ، فقال لهم : اغدوا محلِّقين الرؤوس ، فلم يغد عليه إلاَّ ثلاثة نفر.

بيعة علي علیه السلام لأبي بكر قلت : كلامك مقنع ، وقد تفاجأت فعلا بهذه الأسماء ، ولكنه معارض بمبايعة علي علیه السلام لأبي بكر ، وهذا كاف ; لأنه مدار الخلاف.

خالي : لم تكن مبايعة علي علیه السلام لأبي بكر متفق عليها ، فقد تواتر في كتب التأريخ والصحاح والمسانيد تخلُّف علي علیه السلام ومن معه عن بيعة أبي بكر ، وتحصُّنهم بدار فاطمة علیهاالسلام (1).

ومن ذلك ما رواه البلاذري ، قال : بعث أبو بكر عمر بن الخطاب إلى علي علیه السلام حين قعد عن بيعته ، وقال : ائتني به بأعنف العنف ، فلمَّا أتاه جرى بينهم كلام ، فقال عليٌّ علیه السلام لعمر : احلب حلباً لك شطره ، واللّه ما حرصك على إمارته

ص: 670


1- قال اليعقوبي في تأريخه : 126 : وبلغ أبا بكر وعمر أن جماعة من المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا مع علي بن أبي طالب في منزل فاطمة بنت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فأتوا في جماعة حتى هجموا الدار ، وخرج عليٌّ علیه السلام ومعه السيف ، فلقيه عمر ، ودخلوا الدار ، فخرجت فاطمة فقالت : واللّه لتخرجنَّ أو لأكشفنَّ شعري ولأعجّنَّ إلى اللّه! فخرجوا وخرج من كان في الدار.

اليوم إلاَّ ليؤثرك غداً (1).

لذلك قال أبو بكر في مرض موته : أما إني لا آسى على شيء من الدنيا إلاَّ على ثلاث فعلتهن وددت أنّي تركتهن ، إلى قوله : فأمّا الثالثة التي فعلتها فوددت أنّي لم أكشف بيت فاطمة عن شيء ، وإن كانوا قد أغلقوه على حرب (2).

وقد ذكر المؤرِّخون ممَّن دخل في دار فاطمة علیهاالسلام :

1 - عمر بن الخطاب.

2 - خالد بن الوليد.

3 - عبدالرحمن بن عوف.

4 - ثابت بن قيس.

5 - زياد بن لبيد.

6 - محمّد بن مسلمة.

7 - زيد بن ثابت.

8 - سلمة بن أسلم.

9 - أسيد بن حضير.

وقد ذكروا في كيفيَّة كشف بيت فاطمة علیهاالسلام أنه : غضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر ، منهم علي بن أبي طالب علیه السلام والزبير ، فدخلا بيت

ص: 671


1- أنساب الأشراف ، البلاذري : 1 / 587.
2- السقيفة وفدك ، الجوهري : 75 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 20 / 24 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 1 / 62 ، ح 43 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 30 / 418 - 422 ، تأريخ الطبري : 2 / 619 ، ميزان الاعتدال ، الذهبي : 3 / 109 ، لسان الميزان ، ابن حجر : 4 / 189 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 5 / 631 - 632 ح 14113.

فاطمة علیهاالسلام ومعهما السلاح .. (1).

وذكر المؤرِّخون أيضاً : قد بلغ أبا بكر وعمر أنّ جماعة من المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا مع علي بن أبي طالب في منزل فاطمة بنت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأنهم اجتمعوا على أن يبايعوا عليّاً علیه السلام ، فبعث إليهم أبو بكر عمر ليخرجهم من بيت فاطمة ، وقال له : إن أبوا فقاتلهم.

فأقبل عمر بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار ، فلقيتهم فاطمة فقالت : يا بن الخطاب! أجئت لتحرق دارنا؟!

قال عمر : نعم ، أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمَّة (2).

وفي أنساب الأشراف : فتلقّته فاطمة علیهاالسلام على الباب ، فقالت : يا ابن الخطاب! أتراك محرِّقاً عليَّ بابي؟! قال عمر : نعم (3).

وعلى ذلك أنشد حافظ إبراهيم شاعر النيل قائلا :

وقولة لعليٍّ قالها عمر *** أكرم بسامعها أعظم بملقيها

حرَّقتُ دارك لا أبقي عليك بها *** إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها

ما كان غير أبي حفص يفوه بها *** أمام فارس عدنان وحاميها (4)

قلت وأنا مندهشة : لم أسمع بهذا من قبل ، فهل يمكن أن تنقلب الأمَّة حتى على بنت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولكن - يا خالي - إذا تجاوزت هذه الحادثة - مع أنه ممّا لا يمكن تجاوزه ، وإنّما لفتح الباب أمام الحوار - وسلَّمتُ بما حدث ، فإنه لا

ص: 672


1- السقيفة وفدك ، الجوهري : 46 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 2 / 50 و 6 / 47.
2- العقد الفريد ، ابن عبد ربِّه الأندلسي : 3 / 63 - 64 ط. الثانية ، وفي ط. أخرى : 5 / 13.
3- أنساب الأشراف : 1 / 586.
4- ديوان حافظ إبراهيم : 1 / 82 ، تحت عنوان : عمر وعلي علیه السلام .

يتجاوز أن يكون موقفاً مخالفاً لموقف الصحابة الذين اجتمعوا في السقيفة ، وارتأوا الشورى حلاًّ ، وهذا ليس كافياً لسلب صحّة الشورى ، وأهل السنّة على هذا الرأي.

أحداث السقيفة

خالي : إن الكلام كان عن الإجماع ، وما ذكرته لك كاف لإبطاله ، هذا أوَّلا.

وثانياً : إنّ الشورى بما هي شورى ليست حجّةً وغير ملزمة ، كما أثبتنا ذلك في أول الكلام.

وثالثاً : إن الشورى لم تكن موجودة على المستوى العملي : فإنّ مجريات الأحداث لا توحي بوجود شورى.

وإليك ما جاء في السقيفة من رواية عمر بن الخطاب ، قال : إنّه كان من خبرنا حين توفِّي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّ الأنصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة ، وخالف عنّا عليٌّ علیه السلام والزبير ومن معهما ، فقلتُ لأبي بكر : انطلق بنا إلى إخواننا الأنصار ، فانطلقنا حتى أتيناهم ، فإذا رجل مزمّل ، فقالوا : هذا سعد بن عبادة يوعك .. فلمَّا جلسنا قليلا تشهّد خطيبهم فأثنى على اللّه ، ثمَّ قال : أمَّا بعد ، فنحن أنصار اللّه وكتيبة الإسلام ، وأنتم معشر المهاجرين رهط ..

فأراد عمر أن يتكلَّم عند ما سمع خطيب سعد بن عبادة ، لكنَّ أبا بكر منعه ، فتكلَّم هو ، يقول عمر : واللّه ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلاَّ قال في بديهته مثلها أو أفضل ، حيث قال : ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ، ولن يصرف عنكم هذا الأمر لهذا الحيِّ من قريش ، هم أوسط العرب نسباً وداراً ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ; أي عمر وأبي عبيدة ، فبايعوا أيَّهما شئتم.

ص: 673

وأخذ أبو بكر بيد عمر وبيد أبي عبيدة ، فقال قائلٌ من الأنصار : أنا جذيلها المحكّك وعذيقها المرجَّب .. منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ..

فكثر اللغط وارتفعت الأصوات.

فخاف عمر من الاختلاف ، فقال لأبي بكر : ابسط يدك يا أبا بكر ، فبسط يده فبايعته ، وبايعه المهاجرون ، ثمَّ بايعته الأنصار (1) ، وهذا مختصر ما جرى في السقيفة (2).

عليٌّ مع الحقِّ والحقُّ مع عليٍّ

والأمر الأهمُّ من ذلك أنّ علياً علیه السلام لم يكن طرفاً في قبالة أهل الشورى كما زعمتِ ; لأنّ علياً علیه السلام ركن الحق والحقيقة ، والحق يدور معه حيثما دار.

قلت : ولماذا الحق يدور مع علي حيثما دار؟ هذا الكلام في غاية التهافت ، ولا يمكن أن يقبله جاهل فضلا عن عالم ، كيف يدور الحق مدار إنسان ، فإذا قبل هذا الكلام يمكن أن يقبل للرسل الذين عصمهم اللّه ، أمَّا في غيرهم فمخالف للشرع ، كما قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : كل ابن آدم خطّاء ، وخير الخطّائين التوابون (3) ،

ص: 674


1- راجع : صحيح البخاري : 8 / 26 - 27 ، السنن الكبرى ، البيهقي : 8 / 142 ، مسند أحمد بن حنبل : 1 / 55 - 56 ، صحيح ابن حبان : 2 / 155 - 157 ، البداية والنهاية ، ابن كثير ، 15 / 266 - 267 ، سيرة النبي صلی اللّه علیه و آله ، ابن هشام : 4 / 1073 - 1074 ، تأريخ الطبري : 2 / 446 - 447 ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : 1 / 26 - 28 ، تأريخ اليعقوبي : 123.
2- جاء في الهامش : وللتفصيل ارجعي إلى كتب التاريخ ، مثل الطبري في ذكره حوادث بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وابن الأثير ، ج 2 ، ص 125 ، وتاريخ الخلفاء لابن قتيبة ، ج 1 ، ص 5 ، وسيرة ابن هشام ، ج 4 ، ص 336 ، وغيرها مثل : الطبقات ، وكنز العمال ، والعقد الفريد ، وتاريخ الذهبي ، واليعقوبي ، والموفقيات للزبير بن بكار ، وكتاب السقيفة لأبي بكر الجوهري ، وشرح نهج البلاغة.
3- تقدَّمت تخريجاته.

وهذا من المسلّمات العقليَّة قبل الشرعيّة ، فإنّ العقلاء يجوِّزون الخطأ حتى على الرجال الذين بلغوا مستوى من الكمال البشرى.

خالي : أولا : يا عزيزتي! إنّ هذا الكلام ليس متهافتاً كما تفضّلت ; لأن العقل لا يمانع أن يكون الحق يدور مدار إنسان ، بل حتى الإمكان العلمي والعملي لا يخالف ذلك ، أمَّا على المستوى العقلي فإن العقل لا يحكم باستحالة شيء إلاَّ إذا رجع لمبدأ التناقض ، وهذه منتفية بالضرورة ، وأمَّا على المستوى العلمي فالعلم يقول إنّ في الإنسان قوَّة عقليَّة تدلّه للصواب ، وغرائز وشهوات تجرُّه للخطأ ، فإذا غلّب الإنسان قوَّته العقليَّة لا يمكن أن يرتكب الخطأ ، وأمَّا من الناحية العمليَّة يكفيك الأنبياء والرسل ( صلوات اللّه عليهم أجمعين ) ، فليس في الأمر تهافت.

وثانياً : إنّ هذا الكلام لا يخالف الشرع كما تفضَّلت ، قال تعالى : ( وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة شَرّاً يَرَهُ ) (1) فإنّ اللّه يحاسب الإنسان على مثقال ذرة - وهي أصغر ما يمكن أن يعبَّر بها - من الشرّ ، فإذا كان الإنسان ليس قادراً على أن لا يرتكب مثقال ذرَّه فلماذا يحاسبه اللّه؟ قال تعالى : ( لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وسَعَها ) (2).

فمعنى ذلك أن عدم ارتكاب الذرّة من الخطأ هي من سعة الإنسان واستطاعته ، وهذا دليل على أن كل إنسان يمكن أن يكون معصوماً ، وإذا سلَّمت بذلك كما هو واضح ، فهل ياترى لم يتحقَّق ذلك أبداً في طول التأريخ الإسلامي؟

ص: 675


1- سورة الزلزلة ، الآية : 8.
2- سورة البقرة ، الآية : 286.

وهو بالتأكيد تحقَّق ; لأن اللّه لم يضع هذا الأمر عبثاً ، وإنما واقعاً ; لأن هذه الآية ليست مثاليَّة ، وإنما لها نماذج واقعيَّة تكون حجَّة على البشر ، فهل ياترى هنالك نموذج يكون مصداقاً لهذه الآية غير علي بن أبي طالب علیه السلام الذي اتّفق على فضله جميع المسلمين؟!

وثالثاً قال تعالى : ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) (1) ، جاء في تفسير الرازي لهذه الآية أنّ اللّه أوجب طاعة أولي الأمر على سبيل الجزم ، وكل من يأمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم لابدَّ أن يكون معصوماً ، وإلاَّ يجتمع الأمر والنهي في موضع واحد ، وهذا محال.

وبتقرير آخر : إنّ اللّه أمر بالطاعة المطلقة لأولي الأمر من غير تخصيص ، فإذا كان يتصوَّر منهم الخطأ فإننا بطريقة غير مباشرة نرتكب الخطأ ، فنكون أمرنا بارتكاب الخطأ ، وقد نهانا اللّه عنه ، فيكون بذلك اجتمع الأمر والنهي في موضع واحد ، وهذا محال ، فإذاً لابد أن يكون أولو الأمر معصومين ، فياترى من هم المعصومون الذين أمرنا اللّه بطاعتهم؟

قلت لكي أقطع عليه الطريق : ... الرسول صلی اللّه علیه و آله طبعاً.

خالي مبتسماً : مهلا يا بنة أختي ، لا تتعجَّلي ..

قلت : نعم ، نعم أنا آسفة .. واصل كلامك.

خالي : والإجابة على ذلك هو قوله تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (2) إنّ في هذه الآية تأكيداً من اللّه عزّوجلَّ

ص: 676


1- سورة النساء ، الآية : 59.
2- سورة الأحزاب ، الآية : 33.

على تطهير أهل البيت علیهم السلام من الرجس ، وهو كل ذنب صغيراً كان أم كبيراً ، وهذه هي العصمة بعينها ، فيكون معنى الآية : أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأهل البيت علیهم السلام ، وقد ذكرت لك ذلك من قبل ولكن لتأكيد الفائدة وتعميمها.

رابعاً : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : عليٌّ مع الحق والحق مع علي ، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض (1) ، وقال صلی اللّه علیه و آله مشيراً إلى علي علیه السلام : الحق مع ذا ، الحق مع ذا .. (2) ، وقد روى الترمذي في فضائل علي علیه السلام ، والحاكم أيضاً في فضائله من المستدرك ، ونقل هذا الحديث أيضاً في الصواعق في الفصل الخامس في الباب الأول ، وعن الذهبي أنه صحّح طرقاً كثيرة لدعاء النبيِّ صلی اللّه علیه و آله لعليٍّ علیه السلام في غدير خم المشتمل على قوله : وأدر الحقَّ معه حيث دار.

وحكى ابن أبي الحديد قول الشيخ أبي القاسم البلخي وتلامذته لو نازع عليٌّ علیه السلام عقيب وفاة الرسول صلی اللّه علیه و آله وسلَّ سيفه لحكمنا بهلاك كل من خالفه وتقدَّم عليه ، كما حكمنا بهلاك من نازعه حين أظهر نفسه ... إلى أن قال : وحكمه حكم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ; لأنه قد ثبت عنه في الأخبار الصحيحة أنه قال صلی اللّه علیه و آله : عليٌّ مع الحق والحق مع عليٍّ يدور حيثما دار (3).

وجاء في كنز العمال : الحقُّ مع ذا ، الحقُّ مع ذا (4) ، وروى أيضاً : يا عمار! إن رأيت عليّاً قد سلك وادياً وسلك الناس وادياً غيره فاسلك مع عليٍّ ودع

ص: 677


1- تأريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : 14 / 322 ، رقم : 7643 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 42 / 449 ، مناقب علي بن أبي طالب علیه السلام للفقيه الحافظ أبي الحسن الواسطي الشافعي : 244.
2- مسند أبي يعلى الموصلي : 2 / 318 ح 1052 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 7 / 235 ، وقال : رواه أبو يعلى ورجاله ثقات ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 42 / 449.
3- شرح نهج البلاغة : 2 / 296 - 297.
4- كنز العمال ، المتقي الهندي : 11 / 613 - 614 ح 32972.

الناس ، فإنه لن يدلَّك على ردى ، ولن يخرجك من الهدى (1).

الشورى في الواقع العملي

هذا من جهة ، ومن جهة أخرى إننا إذا تنازلنا عن كل ما قلناه في علي علیه السلام ، ونظرنا إلى الشورى والإجماع الذي تحتجّين به ، فهنالك عدّة إشكاليّات على أهل السقيفة ، وهي تتمثَّل في الريبة التي تلفُّ زمان السقيفة ومكانها ، حيث السقيفة لم تكن هي المكان الذي يصلح لا نعقاد مثل هذا الأمر الهامّ جداً ، وكان من الممكن أن ينعقد في مسجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وثانياً الزمان الذي انعقدت فيه الشورى ; فإنه لا يخلو من خبث واضح ، فإن الرسول صلی اللّه علیه و آله ما زال مسجّى لم يدفن بعد ، فأيُّ مسلم له غيرة على الإسلام يقبل ذلك؟

والإشكال الآخر : إذا سلّمنا أنّ للإجماع حجّة فإن هذا الإجماع لم ينعقد ; لعدم حضور كل الصحابة ، وعلى الأقل أهل المدينة ، وكان فيهم كبار الصحابة ، ثم إن الطريقة التي جرت بها الشورى خالية حتى من أبسط الأخلاقيَّات ; لشدَّة المهاترات التي جرت بينهم ، كقول عمر لسعد عندما اجتمع الناس لمبايعة أبي بكر ، وكادوا يطؤون سعد بن عبادة ، فقال أناس من أصحاب سعد : اتّقوا سعداً لا تطؤوه ، فقال عمر : اقتلوه قتله اللّه ، إنه صاحب فتنة ، ثمَّ قام على رأس سعد وقال له : لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك ، فأقبل عليه قيس بن سعد وأخذ بلحيِّة عمر قائلا : واللّه لو حصحصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة ، ثم تكلَّم سعد بن عبادة منادياً ، وخاطب عمر : أما واللّه لو أنّ بي قوَّة ما أقوى على

ص: 678


1- كنز العمال ، المتقي الهندي : 11 / 621 ح 33018.

النهوض لسمعت منّي في أقطارها وسككها زئيراً يحجرك وأصحابك ، أما واللّه لألحقنّك بقوم كنت فيهم تابعاً غير متبوع (1).

فباللّه عليك ، لأيِّ شيء استحقَّ سعد القتل ، ولم يكن يدعو إلاّ إلى نفسه كما دعا غيره؟

ولماذا كان صاحب فتنة وقد دعا للشورى التي أمر بها الإسلام كما تدّعون؟

عدالة الصحابة

قلت : للإنصاف - يا خالي - قد أدهشني هذا الكلام ، ولكنني لا يمكن أن أصدّق ذلك على الصحابة ، وكأنّي أراك متحاملا عليهم ، وإلاّ ما حفظت كل هذه الشواهد في مثالبهم ، وممَّا يجعلني أشكِّك في كلامك أنّ مثل هذه الأفعال كيف تصدر من الصحابة الذين ربّاهم الرسول الأكرم صلی اللّه علیه و آله .

خالي : لا يا عزيزتي ، لم يكن في الأمر تحامل ، وما أنا إلاّ دارس للتأريخ ، وقد سجّل لنا التأريخ أنّ الصحّابة فعلوا ما فعلوا.

ثمَّ من قال : إنّ مجرَّد الصحبة عاصمة من الخطأ؟ فالصحابة هم مجتمع بشريٌّ يحمل الصالح والطالح ، وكون هنالك رسول اتفق وجوده مع وجودهم هذا ليس كافياً أن ينقل كل ذلك المجتمع من قمّة الجاهليّة إلى قمّة العدالة ، وكم هنالك مجتمعات عاش بينها عشرات الأنبياء لم يمنعهم ذلك من عذاب اللّه ، فبنو

ص: 679


1- ذكرها الطبري : 2 / 459 ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : 1 / 17 ، المصنف ، ابن أبي شيبة : 8 / 571 - 572 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 2 / 25.

إسرائيل كانوا يقتلون في اليوم والليلة سبعين نبيّاً (1) ، قال تعالى : ( كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ ) (2) ، أمّا لماذا فعلوا ، فهذا بحث آخر.

قلت : ما هي نظرتكم إلى الصحابة بكل أمانة؟

خالي : ننظر إليهم كما نظر إليهم القرآن والأحاديث الشريفة.

قلت : وكذلك أهل السنّة يقولون : إنّ القرآن نزَّههم من كل سوء ، وبايعوه على الموت ، وصاحبوه بصدق في القول والعمل ، وهي أحد الأصول التي ندين بها.

خالي : هذه نظرتهم لا نظرة القرآن ; لأنّ القرآن قسّم الصحابة إلى ثلاثة أقسام ...

الأول : الصحابة الأخيار الذين عرفوا اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله حق المعرفة ، ولم ينقلبوا بعده ، بل ثبتوا على العهد ، وقد مدحهم اللّه جلّ جلاله في كتابه العزيز ، وقد أثنى عليهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في العديد من المواقع ، ونحن الشيعة نذكرهم باحترام وتقديس ونترضَّى عليهم.

القسم الثاني : هم الصحابة الذين اعتنقوا الإسلام واتّبعوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إمّا رغبة أو رهبة ، وهؤلاء كانوا يمنُّون إسلامهم على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وكانوا يؤذونه في بعض الأوقات ، ولا يمتثلون لأوامره ونواهيه ، بل يجعلون لآرائهم مجالا في مقابل الرسول صلی اللّه علیه و آله ، حتى نزل القرآن بتوبيخهم مرّة وتهديدهم

ص: 680


1- راجع : اللّهوف في قتلى الطفوف ، ابن طاووس : 22 ، تفسير الثعالبي : 1 / 277.
2- سورة المائدة ، الآية : 70.

أخرى ، وقد فضحهم اللّه في عديد من الآيات ، وحذَّرهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في عديد من الأحاديث النبويَّة ، ونحن الشيعة لا نذكر هؤلاء إلاَّ بأفعالهم.

القسم الثالث : فهم المنافقون الذين صحبوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نفاقاً ، وقد أنزل اللّه فيهم سورة كاملة ، وذكرهم في العديد من المواقع ، وتوعَّدهم بالدرك الأسفل من النار ، وهؤلاء يتفق الشيعة والسنة على لعنهم والبراءة منهم.

قلت : من أين أتيت بهذا التقسيم ، وقد قال تعالى : ( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ) (1) ، فهذه الآية تفيد الإطلاق على كل من تبع الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وتصفهم بالإيمان وإنزال السكينة ، ما عدا المنافقين فهم خارجون تخصُّصاً.

خالي : أولا : إنّ ( المؤمنين ) هنا ليست لفظاً قصد منه الإطلاق ; أي مطلق المؤمنين ، وإنّما صفة مخصّصة ومقيِّدة لكل من تبع الرسول صلی اللّه علیه و آله ; أي ليس كل من تبع الرسول صلی اللّه علیه و آله وإنما المؤمنون منهم.

ثانياً : لو رجعت إلى الآية الأخرى التي تحدَّثت عن بيعة الشجرة في نفس السورة وبالتحديد الآية رقم 10 ، تجدين أنّ اللّه لم يجعل رضاه مطلقاً ، وإنما جعله مرهوناً ومشروطاً بعدم النكث ، قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) (2) ، والآية أوضح من أيِّ تفسير ، فهذه الآية تبيِّن أنّ هناك قسمين من الصحابة :

ص: 681


1- سورة الفتح ، الآية : 18.
2- سورة الفتح ، الآية : 10.

قسم نكث ولم ينل رضا اللّه.

وقسم أوفى بما عاهد اللّه فنال رضاه.

قلت : تحليلك للأمور رائع ، ولكن ماذا تقول في قوله تعالى : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيَماهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الاِْنجِيلِ كَزَرْع أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) (1) ، فما رأيك في هذه الآية الصريحة في عدالة الصحابة؟ وقد فسّر بعضهم قوله : ( يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ) يعجب المؤمنين ويغيظ الشيعة ، لأنهم يعادون الصحابة.

خالي وهو مبتسم : أوّلا : كون بعض من ارتأى وقالوا ما قالوا فإنّ هذا ليس ملزماً لنا ، كما أنه افتراء على اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله ; لأنه لا يتعدَّى كونه تفسيراً بالرأي.

وثانياً : أنا أسألك ، ما معنى المعيَّة هنا؟ هل هي معيَّة الزمان؟ أم معيَّة المكان؟ أم معيَّة من نوع آخر؟

إن كان المقصود بهذه المعيَّة هو معيَّة الزمان والمكان ، فأبو جهل وسجاح والأسود العنسي والمنافقون كانوا معه ، وكذلك المشركون ، من الواضح أن لا يكون المقصود ذلك ، وإنّما معيَّة من نوع آخر ، وهي من كان معه على المنهج ، ومؤيِّداً وثابتاً على ما عاهد اللّه عليه ، والدليل على ذلك ذيل الآية : ( وَعَدَ اللَّهُ

ص: 682


1- سورة الفتح ، الآية : 29.

الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم ) (1) فمنهم تفيد التبعيض ، وهذا هو عين الصواب ، وإلاَّ دخل في المعيّة أولئك المنافقون الذين مردوا على النفاق كما جاء في قوله تعالى : ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) (2).

كما أن الحديث عن المنافقين يفتح أمامنا سؤالا عريضاً ، كيف انقطع النفاق بمجرَّد انقطاع الوحي؟ فهل كانت حياة النبيِّ صلی اللّه علیه و آله سبباً في نفاق المنافقين؟ أو موته صلی اللّه علیه و آله سبباً في إيمانهم وعدالتهم؟ كل هذه الأسئلة يدعو إليها الواقع التأريخيِّ الذي لم يذكر لنا شيئاً عنهم بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، مع أنهم كانوا يشكِّلون خطراً على الأمَّة الإسلاميَّة ، قال تعالى : ( جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) (3) ، ولم يثبت لنا التأريخ أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قاتل المنافقين ، فهل ياترى من الذي قاتل المنافقين ، غير علي علیه السلام ؟! وخاصة أن الكتاب والسنّة أثبتا بقاء المنافقين على نفاقهم ، بل هم الأكثريّة الذين شكَّلوا تيَّار الانقلاب بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، قال تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ) (4) ولا يخفى عليك أن قوله : ( الشَّاكِرِينَ ) دلالة على الأقلّيّة ; لقوله تعالى : ( وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) (5) ، ( وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (6).

ص: 683


1- سورة الفتح ، الآية : 29.
2- سورة التوبة ، الآية : 110.
3- سورة التحريم ، الآية : 9.
4- سورة آل عمران ، الآية : 144.
5- سورة المؤمنون ، الآية : 70.
6- سورة سبأ ، الآية : 13.

قلت : قد زدتني حيرة على حيرتي ، كيف يكون كل هذا في الصحابة؟ فكيف تفسّر تلك الحروب التي قدَّم فيها الصحابة أرواحهم ، وضربوا لنا أروع الأمثال في التضحية؟ فيمكن أن ينافق الإنسان في كل شيء إلاَّ في هلاك نفسه.

خالي : لا تحتاري ، فإنَّ مجتمع الرسول صلی اللّه علیه و آله كان مجتمعاً بشريّاً فيه الصالح والطالح ، ولا يمكن أن يكون مجرَّد وجود الرسول صلی اللّه علیه و آله بينهم كافياً لعصمة مجتمع بأكمله ، والآيات القرآنيّة حاكمة بذلك كما تقدَّم ، وغيرها كقوله تعالى : ( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً ) (1) ، والعطف في الآية دال على أنّ الذين في قلوبهم مرض غير المنافقين.

وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا ... ) (2).

ومن المعلوم أنّ الفاسق المقصود كان من الصحابة (3).

أمَّا قولك كيف ضحّوا بأنفسهم ، فإن مثل هذا السؤال لا تتوقَّف الإجابة عليه على كونهم مؤمنين ، والتأريخ والواقع خير شاهد على ما قلت ، فكم من حروب دارت ، وكم من جماعات ضحّوا ، فهل نحكم على الجميع بالإيمان ، فهناك المكره ، وهناك من فرض عليه الواقع أمراً محكوماً ، والحروب التي كانت قبل الإسلام خير دليل ، ومع ذلك أنا أرمي ( بعض ) الذين حاربوا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأنهم كانوا مجبرين ، مع أنه كان هناك المجبور والمنافق كشهيد الحمار ، إنَّما أقول حتى المؤمن حقّاً لا تعني حربه مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عاصمة له من

ص: 684


1- سورة الأحزاب ، الآية : 12.
2- سورة الحجرات ، الآية : 6.
3- وهو الوليد بن عقبة ، راجع : أسباب النزول ، الواحدي : 261 - 262 ، تفسير ابن كثير : 4 / 224 ، تفسير الدرّ المنثور ، السيوطي : 6 / 88 - 89.

الانحراف بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فإنّ مجموعة كبيرة من الصحابة كانت تحارب مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهم يستلهمون الطاقة والحماس منه.

وبمعنى آخر كانوا يعملون بالطاقة التي كانوا يكسبونها من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأضرب لك مثالا على ذلك : عندما يستمع الإنسان لخطيب بارع يتحدَّث عن الجهاد والتضحية فسوف تنتاب المستمعين حالة روحيّة عالية ، بحيث لو طلب من كل واحد منهم أن يضحّي بنفسه فإنّه لا يمانع ، ولكن مجرَّد أن يغادر المكان ويبتعد عن الخطيب ، تضعف تلك الطاقة ، هذا بخلاف الذي يكون له وعي كامل بالقضية ، فإنه يولِّد تلك الطاقة من نفسه ، وكثير من الثورات الإصلاحيّة تحوَّل الداعون لها إلى مفسدين بعد أن فقدوا قائدهم الروحي ، وهذا أمر طبيعي ينتاب كل البشر.

ولك في الثورة المهديّة في السودان خير مثال ، فبموت محمّد أحمد المهدي انشقَّت صفوف الأنصار ، ووقع الخلاف بينهم ، وهكذا الصحابة بشر فإنهم معرَّضون لذلك ، قال تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ) (1) ، وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - كما جاء في البخاري وصحيح مسلم - : بينما أنا قائم فإذا زمرة ، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال : هلم ، فقلت : إلى أين؟ فقال : إلى النار واللّه ، قلت : ما شأنهم؟ قال : إنهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، فلا أرى يخلص منهم إلاَّ كهمل ، النعم (2).

ص: 685


1- سورة آل عمران ، الآية : 144.
2- صحيح البخاري : 7 / 208 - 209 ، كتاب الدعوات ، باب في الحوض ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 11 / 132 - 133 ح 30918.

وقال صلی اللّه علیه و آله : إنّي فرطكم على الحوض ، من مرَّ عليَّ شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً ، ليردنَّ عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ، ثمَّ يحال بيني وبينهم ، فأقول : أصحابي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سحقاً سحقاً لمن غيَّر بعدي (1).

بيعة علي علیه السلام لأبي بكر

طأطأت رأسي غارقة في تفكير عميق ومردِّدة .. عجيب ، عجيب ، عجيب.

خالي : ممَ تعجُّبكِ؟

قلت : وفق ما ذكرت من هذه الأدلّة القاطعة ، وخاصة في مورد الإمامة ، فلماذا لم يعترض عليٌّ كرَّم اللّه وجهه على القوم ، بل أكَّد على موقف الشورى ، حيث قال في النص الذي سجَّلته لك : وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار ، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضى ، فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردُّوه إلى ما خرج منهم ، فإن أبى قاتلوه على اتّباعه غير سبيل المؤمنين.

خالي : كما أثبتُّ لك أن الشورى باطلة ، وأن النص والتعيين هو المتحقِّق ، وهذا هو مبحثنا ، أمَّا أن عليّاً علیه السلام لماذا سكت فهذا بحث آخر.

قلت مقاطعة : هذا الكلام لا أقبله منك ، أليست الخلافة حقاً لعليٍّ؟ فسكوت الإمام علي علیه السلام هو سكوت عن حقِّه.

ص: 686


1- صحيح البخاري : 7 / 207 - 208 ، صحيح مسلم : 7 / 66 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 6 / 143.

خالي : أجمعت الأمَّة على أنّ علياً علیه السلام وسائر بني هاشم لم يشهدوا البيعة ، ولا دخلوا السقيفة يومئذ ، كانوا منشغلين بتجهيز رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، حتى أكمل أهل السقيفة أمرهم ، وعقدوا البيعة لأبي بكر ، فأين كان الإمام علیه السلام عن السقيفة ، وعن بيعة أبي بكر ليحتجّ عليهم؟

وقد أجاب الإمام عليٌّ علیه السلام عن هذا الإشكال عندما سأله الأشعث ابن قيس ، عندما قال للإمام علي علیه السلام : ما منعك - يا ابن أبي طالب - حين بويع أخو بني تيم ، وأخو بني عدي ، وأخو بني أمية - أن تقاتل وتضرب بسيفك وأنت لم تخطبنا مذ قدمت العراق إلاَّ قلت قبل أن تنزل عن المنبر : واللّه إنّي لأوّل الناس ، وما زلت مظلوماً مذ قبض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فقال علیه السلام : يا ابن قيس! لم يمنعني من ذلك الجبن ، ولا كراهية لقاء ربّي ، ولكن منعني من ذلك أمر النبيِّ صلی اللّه علیه و آله وعهده إليّ .. أخبرني بما الأمّة صانعة بعده ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : يا عليُّ! ستغدر بك الأمّة من بعدي ، فقلت : يا رسول اللّه! فما تعهد إليّ إذا كان كذلك؟ فقال الرسول صلی اللّه علیه و آله : إن وجدت أعواناً فانبذ إليهم وجاهدهم ، وإن لم تجد أعواناً فكفَّ يدك ، واحقن دمك حتى تجد على إقامة الدين وكتاب اللّه وسنّتي أعواناً (1).

وفي رواية الخطيب البغدادي ، عن أبي عثمان النهدي ، عن علي علیه السلام قال : أخذ عليٌّ يحدِّثنا إلى أن قال : « جذبني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبكى ، فقلت : يا رسول اللّه! ما يبكيك؟ قال : ضغائن في صدور قوم لن يبدوها لك إلاَّ بعدي ... فقلت : بسلامة من ديني؟ قال : نعم بسلامة من دينك (2).

ص: 687


1- الاحتجاج ، الطبرسي : 1 / 280 - 281 ، كتاب سليم بن قيس ، 214 - 215 ، بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة ، التستري : 4 / 519.
2- تأريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : 12 / 394 ، رقم : 6859 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 42 / 323.

كما سئل هذا السؤال الإمام الرضا علیه السلام ، وهو الإمام الثامن من أهل البيت علیهم السلام ، فأجاب : لأنّه - أي أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام - اقتدى برسول صلی اللّه علیه و آله في تركه جهاد المشركين بمكة بعد النبوَّة ثلاث عشرة سنة ، وبالمدينة تسعة عشر شهراً (1).

وجاء في كتاب معاوية إلى عليٍّ علیه السلام : وأعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلا على حمار ، ويداك في يدي ابنيك الحسن والحسين يوم بويع أبو بكر ، فلم تدع أحداً من أهل بدر والسوابق إلاَّ دعوتهم إلى نفسك ، ومشيت إليهم بامرأتك ، وأدليت إليهم بابنيك ، فلم يجبك منهم إلاَّ أربعة أو خمسة ... مهما نسيت فلا أنسى قولك لأبي سفيان لمَّا حرّكك وهيّجك : لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم (2).

فأمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام ترك جهاد القوم ، لقلّة ناصريه ، فصبر وفي العين قذى ، وفي الحلق شجى ، يرى تراثه ينهب ، ويعلِّل ذلك بأنّه لم يسكت إلاَّ تأسِّياً بالأنبياء علیهم السلام ، حيث قال : إنّ لي بسبعة من الأنبياء أسوة :

ص: 688


1- والرواية هي عن الصدوق عليه الرحمة ، عن الهيثم بن عبد اللّه الرماني قال : سألت علي بن موسى الرضا علیه السلام ، فقلت له : يابن رسول اللّه! أخبرني عن علي بن أبي طالب لم لم يجاهد أعدائه خمساً وعشرين سنة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ثمَّ جاهد في أيام ولايته؟ فقال : لأنَّه اقتدى برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في تركه جهاد المشركين بمكة ثلاث عشرة سنة بعد النبوَّة ، وبالمدينة تسعة عشر شهراً ، وذلك لقلّة أعوانه عليهم ، وكذلك علي علیه السلام ترك مجاهدة أعدائه لقلّة أعوانه عليهم ، فلمَّا لم تبطل نبوَّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مع تركه الجهاد ثلاث عشرة سنة وتسعة عشر شهراً ، كذلك لم تبطل إمامة علي علیه السلام مع تركه الجهاد خمساً وعشرين سنة ; إذ كانت العلّة المانعة لهما من الجهاد واحدة. علل الشرائع، الصدوق : 1 / 148 ح 5 ، عيون أخبار الرضا علیه السلام ، الصدوق : 1 / 87 - 88 ح 16.
2- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 2 / 47.

الأول : نوح علیه السلام ، قال اللّه تعالى مخبراً عنه في سورة القمر ( فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ) (1) فإن قلت : لم يكن مغلوباً فقد كذَّبت القرآن ، وإن قلت : كان مغلوباً فعليٌّ أعذر.

الثاني : إبراهيم الخليل علیه السلام ، حيث حكى اللّه تعالى عنه قوله : ( وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ) (2) فإن قلت : اعتزلهم من غير مكروه فقد كفرت ، وإن قلت : رأى المكروه فاعتزلهم فعليٌّ أعذر.

الثالث : نبيُّ اللّه لوط علیه السلام ، إذ قال لقومه على ما حكاه اللّه تعالى : ( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْن شَدِيد ) (3) فإن قلت : كان له بهم قوَّة كذّبت القرآن ، وإن قلت : إنه ما كان له بهم قوَّة فعليٌّ أعذر.

الرابع : نبيُّ اللّه يوسف علیه السلام ، فقد حكى اللّه تعالى عنه : ( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) (4) فإن قلت : إنّه دعي إلى غير مكروه يسخط اللّه تعالى فقد كفرت ، وإن قلت : إنه دعي إلى ما يسخط اللّه فاختار السجن فعليٌّ أعذر.

الخامس : كليم اللّه موسى بن عمران علیه السلام ، إذ يقول ما ذكره اللّه تعالى عنه : ( فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) (5) ، فإن قلت : إنه فرَّ منهم من غير خوف فقد كذَّبت القرآن ، وإن قلت : فرَّ منهم خوفاً فعليٌّ أعذر.

ص: 689


1- سورة القمر ، الآية : 10.
2- سورة مريم ، الآية : 48.
3- سورة هود ، الآية : 8.
4- سورة يوسف ، الآية : 33.
5- سورة الشعراء ، الآية : 21.

السادس : نبيُّ اللّه هارون بن عمران علیه السلام ، إذ يقول على ما حكاه اللّه تعالى عنه : ( قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي ) (1) فإن قلت : إنهم ما استضعفوه فقد كذَّبت القرآن ، وإن قلت : إنهم استضعفوه وأشرفوا على قتله فعليٌّ أعذر.

السابع : محمّد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، حيث هرب إلى الغار ، فإن قلت : إنَّه صلی اللّه علیه و آله هرب من غير خوف فقد كفرت ، وإن قلت : أخافوه وطلبوا دمه وحاولوا قتله فلم يسعه غير الهرب فعليٌّ أعذر (2).

إمامة عليٍّ علیه السلام على نحو الاختيار وليس الجبر

إنّ الأحكام الشرعيّة - يا عزيزتي - معلَّقة على حرِّيَّة المكلَّف واختياره ، فإنّ اللّه لا يجبر عباده على طاعته ، فكون علي علیه السلام إماماً من قبل اللّه تعالى لا يعني أن تجبر الخلائق على اتباعه ( مَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ) (3) وهذا ما جرى على الأنبياء جميعهم ، وقال تعالى : ( أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ ) (4) ، فالبيعة لعليٍّ لا يفرضها اللّه على عباده (5) كما لم يفرض بيعة الرسول صلی اللّه علیه و آله ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ

ص: 690


1- سورة الأعراف ، الآية : 150.
2- راجع : مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 1 / 232 - 233.
3- سورة الكهف ، الآية : 29.
4- سورة البقرة ، الآية : 87.
5- يعني بالجبر والإكراه ، قال تعالى : ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) البقرة ، الآية : 256.

الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ ) (1) والمجيء دالٌ على أنّ الأمر بالبيعة معلَّق على مجيء المؤمنات طائعات.

لذلك قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حق علي علیه السلام - كما أخرجه الطبري في الرياض النضرة - : يا علي! إني أعلم ضغائن في صدور قوم سوف يخرجونها لك من بعدي ، أنت كالبيت تؤتى ولا تأتي ، إن جاءوك وبايعوك فاقبل منهم ، وإلاَّ فاصبر حتى تلقاني مظلوماً.

فإذا كان هنالك قصور فهو من الذين لم يبايعوه ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن في الأمر تزاحم مصالح ، فولاية علي علیه السلام مصلحة ، والحفاظ على بيضة الإسلام مصلحة أخرى (2) ، فقدَّم عليٌّ مصلحة الحفاظ على بيضة الإسلام على مصلحة إمامته ، كما فعل نبيُّ اللّه هارون عندما عبد قومه العجل ، فلم يمنعهم حفاظاً على وحدة بني إسرائيل ، قال تعالى : ( إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) (3).

قلت : إذاً بماذا تفسّر كلمة الإمام ( كرَّم اللّه وجهه ) التي جاءت في نهج البلاغة : وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسمَّوه إماماً كان ذلك لله رضى؟

خالي : باختصار شديد أجيبك قائلا : إن ابن أبي الحديد المعتزلي هو أول من احتجّ بهذه الكلمة ، على أن صيغة الحكومة بعد وفاة النبي صلی اللّه علیه و آله مستندة إلى

ص: 691


1- سورة الممتحنة ، الآية : 12.
2- إن الدولة الإسلاميّة كانت مهدَّدة من المنافقين من جهة ، ودولة فارس والروم من جهة أخرى ، وهذا بالإضافة لما أخبر به القرآن الكريم من حوادث تقع بعد وفاة الرسول صلی اللّه علیه و آله كاية الانقلاب.
3- سورة طه ، الآية : 94.

الاختيار ونظام الشورى ، وتبعه من تبعه ، ولكنّه غفل - أو بالأصحِّ تغافل - عن صدر الكلمة التي تعرب عن أن الاستدلال بالشورى من باب الجدل ، خضوعاً لقوله تعالى : ( وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (1) فإن الإمام علياً علیه السلام بدأ كلمته - مخاطباً معاوية بن أبي سفيان - بقوله : أمَّا بعد ، فإنَّ بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام ، لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه فلم يكن للشاهد أن يختار ، ولا للغائب أن يردَّ ... إلى قوله : وإن طلحة والزبير بايعاني ثمَّ نقضا بيعتي ، وكان نقضهما كردِّهما ، فجاهدتهما على ذلك حتى جاء الحق ، ظهر أمر اللّه وهم كارهون .. فادخل فيما دخل فيه المسلمون (2).

فقد ابتدأ أميرالمؤمنين علیه السلام بخلافة الشيخين ، وذلك يعرب على أنه في مقام إسكات معاوية الذي خرج على إمام زمانه ، وقد أتمَّ علیه السلام كلمته بقوله : فإن اجتمعوا على رجل .. احتجاجاً بمعتقد معاوية ، بمعنى : ألزموهم ما ألزموا به أنفسهم.

وهذه هي الخطبة الشقشقية في نهج البلاغة عن أميرالمؤمنين علیه السلام : « أما واللّه لقد تقمَّصها (3) ابن أبي قحافة ، وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحى ، ينحدر عنّي السيّل ، ولا يرقى إليّ الطَّير (4) ، فسدلت (5) دونها ثوباً ،

ص: 692


1- سورة النحل ، الآية : 125.
2- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 3 / 75 ، و 14 / 36 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 59 / 128 ، المناقب ، الخوارزمي : 202.
3- الضمير عائد على الخلافة ، فهنا شبَّه الإمام علي علیه السلام خلافة أبي بكر كالذي لبس قميصاً ليس قميصه.
4- تمثيل لسمو قدره علیه السلام ، وقربه من مهبط الوحي ، وأن ما يصل إلى غيره من فيض الفضل فإنما يتدفَّق من حوضه ، ثمَّ ينحدر عن مقامه العالي ، فيصيب منه من شاء اللّه.
5- كناية عن غضّ نظره عن الخلافة ، وسدل الثوب : أرخاه.

وطويت عنها كشحاً (1) ، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذّاء (2) ، أو أصبر على طخية عمياء (3) ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربَّه ، فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجى ، أرى تراثي نهباً (4) ، حتى مضى الأوَّل لسبيله فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده ، ثم تمثّل بقول الأعشى :

شتّان ما يومي على كورها *** ويوم حيّان أخي جابر

فيا عجباً! بينا هو يستقيلها في حياته (5) إذ عقدها لآخر بعد وفاته ، لشدّ ما تشطّرا ضرعيها (6) ، فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ويخشن مسُّها .. إلى أن يقول علیه السلام : فصبرت على طول المدّة وشدّة المحنة ، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم ، فياللّه وللشورى! متى اعترض الرّيب فيَّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر ، لكنّي أسففت إذ أسفُّوا ، وطرت إذ طاروا ، فصغى رجل منهم لضغنه (7) ، ومال الآخر لصهره (8) ، مع هن وهن (9) ، إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه .. (10).

ص: 693


1- مال عن الخلافة ، وهو مثل لمن جاع ، فمن جاع طوى كشحه ، ومن شبع فقد ملأه.
2- الجذّاء : المقطوعة ، ومراده علیه السلام هنا قلّة الناصر والمعين.
3- الطخية : الظلمة ، ونسبة العمى إليها مجاز عقليٌّ ، وهو تأكيد لظلام الحال واسودادها.
4- وهذا تأكيد منه علیه السلام بأنّ الخلافة حق ثابت له.
5- إشارة لقول أبي بكر : أقيلوني فلست بخيركم.
6- وهي إشارة منه علیه السلام إلى تقسيم الخلافة بين أبي بكر وعمر.
7- يشير علیه السلام إلى سعد بن أبي وقاص الذي صغى إلى ضغنه وهو عبد الرحمن بن عوف.
8- يشير علیه السلام إلى عبد الرحمن بن عوف الذي مال إلى صهره وهو عثمان بن عفان.
9- إشارة منه علیه السلام إلى أغراض أخر يكره ذكرها.
10- 10 - يشير علیه السلام إلى عثمان وكان ثالثاً بعد انضمام كل من طلحة والزبير وسعد إلى صاحبه ، ونافجاً حضنيه : رافعاً لهما ، والحضن : ما بين الابط والكشح ، يقال للمتكبِّر : جاء نافجاً حضنيه ، والنثيل : الروث ، والمعتلف : موضع العلف ، أي أراد علیه السلام بقوله : لا همَّ له إلاَّ ما ذكره.

إلى أن ختمها بقوله علیه السلام : أما والذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة ، لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجّة بوجود الناصر ، وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارُّوا على كظّة ظالم ، ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ، ولألفيتُم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز (1).

احتجاج السيدة فاطمة الزهراء علیهاالسلام

تجمَّد فكري ، وعقدت الحيرة لساني ، فوضعت كلتا يديّ على رأسي ، ثمَّ قلت : كل هذا ونحن لا ندري ، أمرٌ لا يصدَّق.

فلم يدعني خالي أرتاح قليلا ... حتى أنعش أعصابي فبادرني قائلا : هذا فيما يتعلّق باحتجاج أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام ، ودعيني أقرأ عليك ممّا جاء عن احتجاج الزهراء علیهاالسلام .

خالي : بغضّ النّظر عمَّا جاء في المصادر الشيعيّة من استنكار أهل بيت العصمة والطهارة علیه السلام ، فقد ذكر أبو الفضل أحمد بن طيفور (2) ، وجاء في شرح ابن أبي الحديد في المجلَّد الرابع (3) ، وفي أعلام النساء لعمر رضا كحالة (4) ، قالت علیهاالسلام في خطبتها - التي كان أهل البيت علیهم السلام يلزمون أولادهم بحفظها كما يلزمونهم

ص: 694


1- نهج البلاغة : 1 / 30 ، رقم الخطبة : 3 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1 / 162.
2- بلاغات النساء ، ابن طيفور : 20 ، السقيفة وفدك ، الجوهري : 120.
3- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 16 / 233.
4- ج 3 ، ص 1208.

بحفظ القرآن - :

« ويحهم ، أنّى زحزحوها (1) عن رواسي الرسالة ، وقواعد النبوَّة ، ومهبط الروح الأمين ، والطبين (2) بأمور الدنيا والدين ، ألا ذلك هو الخسران المبين .. ومانقموا من أبي الحسن؟! نقموا واللّه منه نكير سيفه ، وشدّة وطأته ، ونكال وقعته ، وتنمّره في ذات اللّه ، وتاللّه لو تكافأوا (3) على زمام نبذه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إليه لاعتلقه ، لسار بهم سيراً سجحاً لا يكلم خشاشه (4) ولا يتعتع راكبه ، ولأوردهم منهلا رويّاً فضفاضاً (5) تطفح ضفّتاه ، ولا يترنّم جانباه ، ولأصدرهم بطاناً (6) ونصح لهم سرّاً وإعلاناً ، غير متحلٍّ منهم بطائل ، إلاَّ بغمر الناهل (7) ، وردعه سورة الساغب (8) ، ولفتحت عليهم بركات من السماء والأرض ، وسيأخذهم اللّه بما كانوا يكسبون ، ألا هلمَّ فاستمع ، وما عشت أراك الدهر عجباً ، وإن تعجب فقد أعجبك الحادث ، إلى أيِّ لجأ استندوا؟! وبأيِّ عروة تمسَّكوا ، لبئس المولى ولبئس العشير ، بئس للظالمين بدلا ، استبدلوا واللّه

ص: 695


1- أي الخلافة.
2- أي الخبير.
3- التكافؤ : التساوي ، والزمام الذي نبذه إليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - أي ألقاه إليه - في أمور دينها ودنياها ، والمعنى أنهم لو تساووا جميعاً في الانقياد بذلك الزمام والاستسلام إلى ذلك القائد العام ، لا عتلقه أي وضعه بين ركابه ، وساقه كما يعتقل الرمح.
4- سار بهم سيراً سجحاً أي سيراً سهلا ; ولا يكلم خشاشة أي لا يجرح أنف البعير ، والخشاش : عود يجعل في أنف البعير يشدُّ به الزمام ، ولا يتعتع راكبه ، أي لا يصيبه أذى.
5- أي يفيض منه الماء.
6- أي شبعانين.
7- أي ريّ الظمآن.
8- أي كسر شدّة الجوع.

الذنابى بالقوادم ، والعجز بالكاهل ، فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، ألا إنّهم المفسدون ولكن لا يشعرون ، ويحهم ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (1) ... إلى آخر الخطبة.

بينما هو يقرأ أحسست برعشة تسري إلى جميع أجزاء بدني ، وجرت دمعة على خدّي .. وكيف لا أبكي وقد أحسست بأنفاس الزهراء الطاهرة علیهاالسلام تتسرَّب مع أنفاسي إلى أعماق نفسي ، فكانت تلك الكلمات حروفاً من نور تشعُّ في وجداني ، وربّ السماء والأرض لو أنكر أهل الدنيا جميعاً هذه الكلمات لعشت بها وحيدة في فيافي الأرض وقفارها ، أترنّم بأجراس كلماتها ، وترقص نفسي طرباً بأزيز أنغامها ، وهنا يكون العشق والحبُّ ، وتهيم الروح سكراً بلبِّ معناها.

كفكفت دمعي ، وتوسَّلت بخالي أن لا يقطع الحوار بسبب اضطرابي ... دعاني إلى النوم لكي تهدأ أعصابي ، قلت : كم هي الليالي التي لم نستفد منها إلاَّ النوم ، فإن كانت ليلة القدر خيراً من ألف شهر فهذه الليلة خير من ألف يوم ، فتلك الليلة تكتب فيها الأقدار ، وهذه الليلة تبعث فيها الأرواح.

وبعد إلحاح قال خالي : أختم لك هذه الليلة بحوار عمر مع جدِّنا عبد اللّه بن العباس - الذي نتشرَّف بالانتساب إليه - كما جاء في الكامل لابن الأثير (2) ، وشرح النهج لابن أبي الحديد (3) ، وتاريخ الطبري (4).

ص: 696


1- سورة يونس ، الآية : 35.
2- ج 3 ، ص 63.
3- شرح نهج البلاغة : 12 / 53.
4- تأريخ الطبري : 3 / 289.

قال عمر : أتدري ما منع قومكم بعد محمّد صلی اللّه علیه و آله ؟

قال ابن عباس : فكرهت أن أجيبه ، فقلت له : إن لم أكن أدري فإن أميرالمؤمنين يدري!

فقال عمر : كرهوا أن يجمعوا لكم النبوَّة والخلافة فتبجحوا على قومكم بجحاً بجحاً (1) ، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت.

عندها قال ابن عباس : يا أميرالمؤمنين! إن تأذن لي في الكلام وتمط عنّي الغضب ، تكلَّمت ..

قال : تكلَّم.

فقال ابن عباس : أمَّا قولك - يا أمير المؤمنين - : اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت ، فلو أنّ قريشاً اختارت لأنفسها من حيث اختار اللّه لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود ، وأمَّا قولك : إنهم أبوا أن تكون لنا النبوّة والخلافة فإنّ اللّه عزّ وجلَّ وصف قوماً بالكراهة ، فقال : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) (2).

قال عمر : هيهات يا ابن عباس! قد كانت تبلغني عنك أشياء أكره أن أقرّك عليها فتزيل منزلتك منّي.

فقال ابن عباس : ما هي يا أميرالمؤمنين؟ فإن كانت حقاً فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك ، وإن كانت باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه.

قال عمر : بلغني أنك تقول : إنّما صرفوها عنّا حسداً وبغياً وظلماً.

ص: 697


1- التبجُّح بالشي ، أي الفرح به.
2- سورة محمّد صلی اللّه علیه و آله ، الآية : 47.

فقال ابن عباس : أمَّا قولك - يا أميرالمؤمنين - : ظلماً ، فقد تبيَّن للجاهل والحليم ، وأمَّا قولك : حسداً ، فإن آدم حُسدَ ، ونحن ولده المحسودون.

فقال عمر : هيهات ، هيهات ، أبت واللّه قلوبكم - يا بني هاشم - إلاَّ حسداً لا يزول.

فقال ابن عباس : مهلا يا أميرالمؤمنين! لا تصف بهذا قلوب قوم أذهب اللّه عنهم الرِّجس وطهَّرهم تطهيراً.

خالي : والدليل على أنّ أهل البيت علیهم السلام محسودون على المكانة التي خصّهم بها اللّه قوله تعالى : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً ) (1) ، والتدبُّر في هذه الآية يكشف لنا أنّ الحسد وقع على هؤلاء الناس بسبب عطاء ربِّك لهم ( الكتاب والحكمة والملك العظيم ) لأنّ المعلوم والمحكم في هذه الآية أنّ اللّه أعطى آل إبراهيم الكتاب والحكمة والملك العظيم ، والمتشابه علينا في هذه الآية هو من المقصود بالناس في هذه الآية؟ وما هو الفضل الذي أُعطي لهم؟ ولاستجلاء المعنى المقصود لابد من إجراء المقابلة ، فالناس يقابلهم آل إبراهيم ، والفضل يقابله الكتاب والحكمة والملك العظيم ، فهل ياترى من هؤلاء الناس في أمَّة محمّد يقابلون آل إبراهيم؟ هل تجدين غير آل محمّد كفؤاً ونظيراً لآل إبراهيم؟ فيتضح بذلك أنّ الناس المقصودين في هذه الآية هم آل محمّد صلی اللّه علیه و آله (2).

ص: 698


1- سورة النساء ، الآية : 54.
2- روى الحاكم الحسكاني ، عن أبان بن تغلب ، عن جعفر بن محمّد علیه السلام في قوله تعالى : ( أم يحسدون الناس على ما آتاهم اللّه من فضله ) قال : نحن المحسودون. شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : 1 / 183 ح 195، ينابيع المودة ، القندوزي : 2 / 369 ح 52 ، عن المناقب لابن المغازلي : 267 حديث 314.

أمَّا الفضل الذي أُعطي لهم فهو الكتاب والحكمة والملك العظيم ، فيكون معنى الآية : أم يحسدون آل محمّد على ما آتاهم اللّه من الكتاب والحكمة والملك العظيم ، ولقد آتينا آل إبراهيم مثل ما أعطيناهم من الكتاب والملك العظيم ، فهل عرفت بذلك السبب الذي جعلهم يزيلون آل محمّد عن مراتبهم التي رتبهم اللّه بها؟.

يا عزيزتي! قد تبيَّن للجاهل قبل العالم ، وإياك أن تحيدي عن قوم أذهب اللّه عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً.

قلت : كل ما ذكرته مقنع ، ومستند على الأدلّة والبراهين الساطعة ، وهذا خلاف ما كنّا نعرفه عن الشيعة الذين كانوا في تصوُّرنا أبعد الناس عن الحقِّ ، وكل ما يمكن أن أجزم به الآن - حتى لا أكون متعجِّلة بالحكم بأحقّيّة مذهبكم - أنَّ الشيعة طائفة إسلاميَّة يجب أن تحترم ، وإن كانوا يختلفون مع عامّة المسلمين من أهل السنّة في بعض الأمور التي يمكن تجاوزها في سبيل الوحدة الإسلاميّة ، وللإنصاف - يا خالي - لقد سررت جداً بهذا الحوار ، وقد تعلَّمت منه درساً لن أنساه أبداً ، وهو عدم الحكم على الآخرين بالأفكار المسبقة ، والرجوع إليهم لا إلى من يخالفهم ، وأنا أعتقد أنّ من أعظم المصائب التي تعيشها أمتنا هي فقدانها لأرضيَّة الحوار.

ولكن عفواً يا خالي! ما زال هناك سؤال يراودني ، هل غاب هذا عن العلماء؟ ولماذا لم يتوصَّل أحد منهم لما ذكرت؟

ص: 699

خالي : لقد أثلجت صدري بهذا الكلام الذي ينمُّ عن وعي وشعور كاملين بالمسؤولية ، التي أمرنا القرآن الكريم أن نتحلّى بها من معرفة المنهج القرآنيِّ في المباحثة والمناظرة العلميّة الذي يعترف بالطرفين ، قال تعالى معلِّماً رسوله صلی اللّه علیه و آله مخاطبة الكفار والمشركين : ( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَل مُّبِين ) (1) ، فانظري إلى هذا التعامل الأخلاقي النبيل ، فلم يقل لهم : إني على حق وأنتم على ضلال ، بل قال : إمَّا نحن أو أنتم على حق أو على باطل .. فهذا هو منهج القرآن عندما طرح للجميع حرّيّة المناقشة قائلا : ( قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (2) ، فكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يسمع براهينهم ويردُّها بالتي هي أحسن ، وقد سجَّل القرآن نماذج كثيرةً سواء كانت مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أو مع الأنبياء السابقين ، ففي قصّة إبراهيم ونمرود ، وموسى وفرعون ، خير عبر ، وقد أثبت اللّه سبحانه وتعالى حجج وبراهين الكافرين في قرآنه ، وأعطاها من القداسة ما أعطى غيرها من الآيات ، ولم يجوّز لمسلم أن يمسَّها من غير وضوء بناء على الفقه الشيعي ، فأين هؤلاء الذين يشنِّعون ويفترون على الشيعة بكل ما هو باطل من هذا المنهج القرآني الأصيل (3)؟

أمَّا قولك : لماذا لم يتوصَّل أحد لما ذكرت؟

قال تعالى : ( وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) (4) ، وقال : ( أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ

ص: 700


1- سورة سبأ ، الآية : 24.
2- سورة النمل ، الآية : 64.
3- راجع كتاب الحقيقة الضائعة ، لمعتصم سيد أحمد ، ص 30 تحت عنوان : ملاحظات للباحث لابد منها ، وص 218 مع إحسان إلهي ظهير.
4- سورة المؤمنون ، الآية : 70.

يَعْلَمُونَ ) (1) ، ( أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ) (2) ، ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (3) ، ( فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً ) (4) ، ( أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ) (5) .. هذا أوَّلا.

ثانياً : هناك من هو مصداق قوله تعالى : ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ) (6).

ثالثاً : هنالك مجموعة من نخبة السنّة وعلمائها من كسر الأغلال ، وتعدَّى حواجز الكبت الإعلامي ، والتحقوا بركب التشيٌّع في كل أنحاء العالم ، فتمسُّك بعض العلماء بموقفهم ليس دليلا على بطلان مذهب آل البيت علیهم السلام وإلاَّ حكمنا ببطلان مذهب أهل السنّة أيضاً لتمسّك علماء الطوائف الأخرى بعقيدتهم.

مسح الأرجل في الوضوء

لو سمحت لي - يا خالي - بآخر سؤال : لقد رأيتك تمسح على رجليك في الوضوء بدلا عن الغسل ، فما هو السبب؟ أليس الغسل أنظف وآمن للنجاسة من المسح؟

خالي وهو مستغرب لهذا الانتقال المفاجئ : نعم الغسل أنظف ، ولكن اللّه أعرف ، ثم ابتسم.

ص: 701


1- سورة الأعراف ، الآية : 187.
2- سورة يوسف ، الآية : 38.
3- سورة يوسف ، الآية : 103.
4- سورة الإسراء ، الآية : 89.
5- سورة الرعد ، الآية : 1.
6- سورة النمل ، الآية : 14.

قلت : ولكن لم يأمر اللّه بالمسح؟

خالي : صبراً عليَّ : قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ ) (1) ، فقوله : ( وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) دال على وجوب المسح بكلتا القراءتين : بالكسر أو بالفتح ، أمَّا الكسر فواضح ; لأنها معطوفة على الرأس ، وأمَّا النصب فإنه يدل على المسح أيضاً ، وذلك لأنه معطوف على موضع الرؤوس لوقوع المسح عليهما ، ولا يمكن العطف على الأيدي ، وذلك لوجود فاصل أجنبيٍّ وهو المسح ، فلا يجوز العطف على البعيد مع إمكانيَّة العطف على القريب.

وهذا ما أكَّدت عليه روايات أهل بيت العصمة والطهارة علیهم السلام ، بل هنالك أحاديث من مصادر أهل السنة تؤيِّد المسح ، وممَّن قال بالمسح ابن عباس والحسن البصري والجبائي والطبري وغيرهم ، قال ابن عباس وأنس : الوضوء غسلتان ومسحتان ، كما جاء في الدر المنثور (2) ، وقال عكرمة : ليس على الرجلين غسل ، إنما فيهما المسح ، وبه قال الشعبي : ألا ترى أن التيمم أن يمسح ما كان غسلا ، ويلغي ما كان مسحاً (3) ، وروى أوس بن أوس ، قال : رأيت النبي صلی اللّه علیه و آله توضَّأ ومسح على رجليه (4) ، ووصف ابن عباس وضوء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأنّه مسح على رجليه ، وقال : إنّ في كتاب اللّه المسح ، ويأبى الناس إلاَّ

ص: 702


1- سورة المائدة ، الآية : 6.
2- الدر المنثور : 2 / 262.
3- نفس المصدر : 262.
4- أسد الغابة ، ابن الأثير : 1 / 217.

الغسل (1).

وجاء أيضاً في كنز العمال عن حمران قال : دعا عثمان بماء فتوضَّأ ، ثم ضحك فقال : ألا تسألوني ممَّ أضحك؟ قالوا : يا أميرالمؤمنين! ما أضحكك؟ قال : رأيتُ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله توضَّأ كما توضَّأت ، فمضمض واستنشق وغسل وجهه ثلاثاً ويديه ثلاثاً ومسح برأسه وظهر قدميه (2).

وفي سنن ابن ماجة فقال : إنّها لا تتُّم صلاة لأحد حتى يسبغ الوضوء كما أمره اللّه تعالى ، يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ، ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين (3).

ألا يكفي هذه دلالة على وجوب المسح؟

قلت : عجيب! ولماذا يغسل أهل السنّة إذاً؟

خالي : أنت سألتيني لماذا يمسح الشيعة فأجبتك ، وبقي عليك أن تجيبي على سؤالك لماذا يغسل أهل السنّة؟

ثمَّ اعتذر وانصرف لنومه.

أكذوبة المذاهب الأربعة

وبعد ذلك الحوار وجلسات أخرى متفرِّقة مع خالي ، اهتزّت كل قناعاتي بالموروث الديني السنّي ، وتكشَّفت أمام ناظري مجموعة من الحقائق ، بعدما

ص: 703


1- مجمع البيان ، الطبرسي : 3 / 284 ، الدرّ المنثور ، السيوطي : 2 / 262 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 9 / 432 ح 26837.
2- كنز العمال : 436 ح 26863.
3- سنن ابن ماجة : 1 / 156 ح 469.

وقفت على عمق الخلافات المذهبيَّة ، وعندما أتى خالي لزيارتنا في بيتنا عاجلته بالسؤال : وما هو رأيكم في المذاهب الأربعة؟

فتبسّم خالي قائلا : أما زلت في حيرة من أمرك ، فإنّ اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله لم يكلِّفاك باتّباع أحد منهم ، وأنا أتحدَّى كل علماء السنة الماضين منهم والباقين أن يستدلُّوا بدليل واحد على وجوب تقليدهم ، فدعي عنك تلك الوساوس ، وتوجَّهي إلى أئمّة الهدى من آل البيت علیهم السلام ، فهم موضع الحكمة والرسالة ، جعلهم اللّه لنا عصمة وملاذاً ، ألم يقل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً ; كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي (1) .. ولم يقل : كتاب اللّه وأئمَّة المذاهب الأربعة.

فقاطعته قائلة : ولكن قال : ( كتاب اللّه وسنّتي ) ممَّا يفتح الباب واسعاً أمام اجتهاد الأمة.

خالي : أوَّلا : إنّ حديث : كتاب اللّه وسنّتي غير صحيح فلم يروه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة والترمذي وكل الصحاح الستة ، فكيف نرتكز على حديث غير ثابت عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فهذا الحديث لم يروه إلاَّ مالك في الموطأ من غير سند ، فقد جاء في الموطأ أن مالك بلغه أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : ( تركت فيكم كتاب اللّه وسنّتي ) (2) ، فكيف ياترى بلغ مالكاً هذا الحديث عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟!! ومن المعلوم أن الفاصل بين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومالك يحتاج فيه الحديث إلى سند طويل ، يعني : حدَّثني فلان عن فلان عن فلان عن الصحابي

ص: 704


1- تقدَّمت تخريجاته.
2- كتاب الموطأ ، مالك : 2 / 899 ح 3 ، ولفظ الحديث : وحدَّثني عن مالك أنّه بلغه أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : تركت فيكم أمرين لن تضلُّوا ما مسكتم بهما : كتاب اللّه وسنّة نبيِّه صلی اللّه علیه و آله .

عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وهذا الحديث من غير سند ، ممَّا يعني أنه حديث في غاية الضعف.

أمَّا حديث : تركت فيكم كتاب اللّه وعترتي فقد رواه مسلم في صحيحه بعدّة طرق (1) ، وروته كل الصحاح الستة ما عدا البخاري ، وعدد الرواة الذين نقلوا الحديث من الصحابة يتجاوز الثلاثين راوياً ، ممَّا يعني أنّه حديث متواتر مقطوع الصدور عند السنّة والشيعة ، فكيف نتنازل عنه من أجل حديث لا سند له؟ ومن هنا كان من الواجب على كل مسلم أن يتبع أهل البيت علیهم السلام في كل أمور دينه.

قلت : هناك حديث آخر يقول : عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي ، عضّوا عليها بالنواجذ (2) ، فنستفيد من هذا الحديث أوَّلا التمسُّك بسنّة الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وسنَّة الخلفاء ثانياً.

خالي : هذه إسقاطات لا يقبلها النص ، أولا - بعيداً عن مناقشة سند الحديث الذي استفرد بنقله أبو داود وابن ماجة والترمذي ، وتجاوزنا عن تضعيف بعض الرواة في أسانيده - فإنّ هذا الحديث لا يتحمَّل أكثر من دعم رأي الشيعة ، وذلك أنّ كلمة الخلفاء هنا لا تعني الخلفاء الأربعة ، أو الذين حكموا في التأريخ ; لأن هذا إسقاط تأويلي متأخِّر عن النص ، فتسمية الخلفاء الراشدين للأربعة الذين حكموا ليست هي تسمية شرعيّة ، وإنّما تسمية المؤرِّخين الذين حكموا على فترة حكم الخلفاء بالرشد ، فبالتالي لا يكون الخلفاء مصداقاً لهذا الحديث لمجَّرد اشتراك التسمية ، فيكون التفسير الأقرب أن الخلفاء المقصودين

ص: 705


1- صحيح مسلم : 7 / 123. وقد تقدَّم المزيد من تخريجات هذا الحديث المتواتر.
2- سنن ابن ماجة : 1 / 16 ح 42 ، شرح معاني الآثار ، ابن سلمة : 1 / 81 ، أحكام القرآن ، الجصاص : 1 / 530.

هم أئمة أهل البيت الاثنا عشر علیهم السلام ، وذلك لقول الرسول صلی اللّه علیه و آله في البخاري في باب الخلافة ، ومسلم وغيرهما من الصحاح عشرين رواية - كما جعلها القندوزي الحنفي في ينابيع المودة - أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : إن الخلفاء من بعدي اثنا عشر خليفة (1).

فجاء في رواية : كلهم من قريش ، وفي رواية : كلهم من بني هاشم ، وهذا الترديد في نقل الراوي لا يؤثِّر في الاستدلال بهذا الحديث على إمامة أهل البيت علیهم السلام ، وذلك بأن الفرقة الإسلاميّة الوحيدة التي توالي اثني عشر إماماً هم الشيعة الإماميّة الاثنا عشريّة ، كلهم من أهل البيت علیهم السلام ، فإذا ثبت - وهو كذلك - حديث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : عليكم بكتاب اللّه وعترتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، ثمَّ جاء حديث آخر يقول : الخلفاء من بعدي اثنا عشر خليفة ، تعيَّن أن يكون هؤلاء من أهل البيت علیهم السلام ; لأنه يستحيل عقلا أن يأمرنا الرسول صلی اللّه علیه و آله باتّباع أهل البيت ، وفي نفس الوقت يأمرنا باتّباع خلفاء من غير أهل البيت ، ممَّا يحدث تناقضاً وتضارباً ، فتعيَّن أن يكون الخلفاء المقصودون في الحديث هم الأئمة من آل البيت علیهم السلام ، وللأسف لم يكن الخلفاء الذين حكموا في التأريخ ولا أئمّة المذاهب الأربعة من آل البيت علیهم السلام ، وهذا كاف في إبعادهم عن ساحة الحوار.

قلت : ولكن من أين جاءت فكرة المذاهب الأربعة؟

خالي : فكرة المذاهب الأربعة خدعة نسجت خيوطها سياسات الكبت

ص: 706


1- راجع : صحيح البخاري : 8 / 127 ، صحيح مسلم : 6 / 3 ، مسند أحمد بن حنبل : 5 / 86 - 93 ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 3 / 617 - 618.

الأمويّة والعباسيّة ، وإلاَّ لم يكن الفقهاء الأربعة هم أعلم أهل زمانهم ، فهناك من كان أكثر علماً منهم ، وكان لهم مذاهبهم الخاصة ، كسفيان الثوري وابن عيينة والأوزاعي وغيرهم ، انقرضت مذاهبهم عندما لم تجد دعماً سياسيّاً من السلطة ، ممَّا يعني أن للسلطة مآرب معيَّنة لتمرير أسماء الأربعة ، ومن ثمَّ سدّ الطريق عن غيرهم ، والأمر واضح وهو خلق قيادات فقهيّة بديلة عن أهل البيت علیهم السلام لكي يلتفَّ حولها عامة المسلمين.

أو ليس من العجيب فعلا أن كل ما جاء في أهل البيت علیهم السلام من آيات قرآنيّة وأحاديث نبويّة كاشفة عن مكانة عظيمة ومرتبة رفيعة إذا لم نقل بالعصمة ، ألا تؤهِّلهم في نظر أهل السنّة ليتسلَّم أهل البيت علیهم السلام زمام الفتيا ، أو على أقل تقدير يختارون واحداً من أهل البيت ليكون من بين الأئمّة الأربعة ، حتى يأتي شيخ الأزهر شلتوت ليتصدَّق على أهل البيت علیهم السلام في القرن العشرين بأن يجعل الإمام الصادق علیه السلام إماماً خامساً مع الأئمة الأربعة ، مع أن أهل البيت علیهم السلام لا يقبلون الصدقة.

لقد تعجَّبت فعلا عندما ردَّدت أسماءهم في نفسي ( مالك ، أبو حنيفة ، الشافعي ، أحمد بن حنبل ) فمعظمهم مشكوك في عروبته ، ناهيك عن كونه من آل البيت ، ثمَّ نتباهى بحبِّ ذرِّيَّة الرسول صلی اللّه علیه و آله ، أيُّ حب هذا الذي لم يورثنا الثقة في علمهم وجدارتهم؟ ومن الغريب أيضاً أننا لم نقبل حقَّ أهل البيت علیهم السلام في الخلافة ، متمسِّكين بأنّ الحق لا يثبت بمجرِّد القرابة ، فإن كان الحق لا يثبت بالقرابة فالحبُّ لا يكون أيضاً لمجرِّد القرابة ، إلاَّ إذا كان حبُّنا مجرَّد ادّعاء أجوف ، أمَّا إذا اعترفنا بأن هنالك مكانة خاصة ومرتبة رفيعة تؤهِّلهم للحبِّ غير قرابتهم من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فهو نفسه يؤهّلهم إلى مرتبة الإمامة ، هذا مع أنّ الواقع

ص: 707

التأريخي يثبت أنّ أئمة المذاهب الأربعة - بدءاً من مالك وانتهاءاً بابن حنبل - يدينون بالفضل والأعلميّة لأهل البيت علیهم السلام ، فإن كان للأربعة علم فهو من نفحات أهل البيت علیهم السلام ، ممَّا يكشف لنا مأساة التأريخ الأعمى الذي لا ينظر إلاَّ بعيون السلطة ، فإن كان بنظر أهل السنّة لا يوجد في أهل البيت فقهاء ، ألا يوجد فيهم علماء في العقائد والحديث ومعارف القرآن؟ فمن أئمّة العقائد والتفسير والحديث عندنا؟ ... لا يوجد من بينهم واحد من أهل البيت علیهم السلام ، فهل يحقُّ لأهل السنّة بعد ذلك أن يدّعوا أنهم محبُّون لأهل البيت علیهم السلام ؟

الشعائر الحسينيّة

حسمت لي تلك النقاشات مع بعض الاطلاع أحقّيّة المذهب الشيعي بجدارة ، ولم يكن بيني وبين الالتزام الكامل إلاَّ بعض الإشكالات الطفيفة التي لا تمسُّ بالجوهر ، مثل بعض الممارسات الشيعيّة في شهر محرَّم ; من اللطم على الصدور ، وضرب الرؤوس بالسيوف ، فسألت خالي وأنا مستنكرة لهذا الأمر : كيف يجوِّز الشيعة فعل ذلك ، ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : ليس منّا من شقّ الجيوب ولطم الخدود ودعا بدعوة الجاهلية (1)؟

خالي : أولا : هذا نقاش فقهيٌّ داخل الدائرة الشيعيّة ، ممَّا يعني أن الشيعة ملزمون باستنباط أحكامهم الشرعيّة فيما ورد عندهم من الأحاديث المرويَّة عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأهل البيت علیهم السلام ، والحديث الذي ذكرته هو من أحاديث أهل السنة ، فهو ملزم لهم وليس للشيعة ، كما تقول القاعدة : ألزموهم بما ألزموا به

ص: 708


1- مسند أحمد بن حنبل : 1 / 432.

أنفسهم.

وثانياً : إذا سلَّمنا بهذا الحديث فهو بعيد كلَّ البعد عن مورد الاستدلال والاعتراض ، فالحديث يتكوَّن من ثلاثة محاور أساسية ، فإن اجتمعت في موضوع واحد تتعلَّق به الحرمة والنهي ، وهي : شقُّ الجيوب ، ولطم الخدود ، ودعوة الجاهلية ، والدليل على الاقتران هو حرف العطف ، فإن كان شقُّ الجيب لوحده حراماً ، وكذا لطم الخد لكان من المفترض استخدام حرف ( أو ) فيكون الحديث ( .. من شقّ الجيوب أو لطم الخدود أو دعا بدعوة الجاهلية ) فبالتالي لا تنصبُّ الحرمة على شقِّ الجيب إلاَّ بعنوان دعوة الجاهلية ، أمَّا من شقَّ جيبه بل شقَّ كل ملابسه ولطم خدَّه لأيِّ سبب يراه أو مصلحة يجلبها لنفسه أو حتى عبثاً ، ولم يدع بدعوة الجاهليّة ، لا يكون ملاماً أو معاتباً ، وأكثر ما يقال فيه إذا لم يكن هناك حكمة عقلائيَّة : إنّه مجنون ، فإذاً ليس شقُّ الجيب ولطم الخدِّ بمعزل عن دعاء الجاهليّة ، وهو الذي تدور عليه الحرمة ، وإنما تتحقَّق الحرمة ، ويتعلَّق النهي عن هذه التصرُّفات مع الدعاء بدعوة الجاهليّة ، وكذلك لا يكون الأمر محصوراً في شقِّ الجيب ولطم الخدِّ ، فالذي يضرب رأسه ويشدُّ شعره ويدعو بدعوة الجاهليَّة كذلك يشمله الحديث ، ومن هنا كان محور الحرمة ومناط الحكم هو دعوة الجاهليّة مع شقِّ الجيب أو ضرب الرأس أو أيِّ تصرُّف آخر ، وإلاَّ حكمنا بجواز من يحثو التراب على رأسه ويدعو بدعوة الجاهليّة.

فالحديث بعيد عن تصرُّفات الشيعة أيام محرَّم ; لأنهم لا يدعون بدعوة الجاهليّة ، فهم لا يدعون اللاّت والعزّى ومناة وهُبل ، ولا يدعون باسم العصبيّة القبليّة ، ولا كل العادات التي ذمّها الإسلام ، وإنما يدعون بدعوة الإسلام ، ودعوة التوحيد ، ويبكون على مصائب أهل البيت علیهم السلام التي هي مصائب الإسلام ،

ص: 709

فالحديث بعيد عنهم.

قلت : ولكن ليس هناك أحد من كل العقلاء يستحسن ما يفعله الشيعة ، بل يستقبحونه ، ألا يكفي حكم العقلاء لتحريمه؟

خالي : أولا : إذا نظرنا إلى حكم العقل بعيداً عن العقلاء فإن العقل لا يرى فيه قبحاً ; لأن العقل إذا نظر إلى أمر نظر له وهو مجرَّد عن كل العناوين وكل الاعتبارات ، فإذا جرَّدنا هذه التصرُّفات من كل عناوينها لا يتمكَّن العقل من الحكم عليها ; لأنها من الأمور غير الذاتيّة القبح أو الحسن كالعدل والظلم ، وإنما من الأمور التي يدور حكم العقل فيها مع العنوان ، فمثلا : الضرب كموضوع إذا نظرنا له بعيداً عن أيِّ اعتبار ليس قبيحاً ، وليس هو حسناً ، فإذا كان الضرب مع عنوان التأديب فهو حسن ، والضرب نفسه مع عنوان الإيذاء والظلم فهو قبيح ، فبالتالي الحسن والقبح يدوران مدار العنوان ، كذلك بعض الشعائر الحسينيّة ، فهي إمَّا أن تكون بعنوان إحياء أمر أهل البيت علیهم السلام وبالتالي إحياء الإسلام ، وإمَّا بأيِّ عنوان سلبيٍّ آخر ، فإن كانت بالأول فهي حسنة ، وإن كانت بالثاني فهي قبيحة ، وأظنُّ أنّ الأمر واضح أن هذه الشعائر بالقصد الأوَّل.

أمَّا حكم العقلاء فهو دائر مدار المصلحة العامة من الفعل أو المفسدة ، ولا يرى العقلاء أيَّ مفسدة في أن يقوم مجموعة من الناس بشعيرة معيَّنة لمصلحة تخصُّهم ، كما لا يرى مانع أن يخترع مجموعة من الناس احتفالا يعظِّمون فيه أمراً ما ، مثلا : كأس العالم في كرة القدم الذي يقوم كل أربع سنوات بإجراء منافسات دوليّة ينشغل بها كل العالم ، فلا يستقبح العقلاء هذا الأمر.

أمَّا حكم العرف والذوق والميل والحب والكراهية كلها عناوين لا يمكنها تشكيل معيار لمحاكمة أيِّ قضية ، فإذا كان هناك عرف لا يحبِّذ الشعائر الحسينيّة

ص: 710

فهناك عرف آخر يحبِّذها بل يحترمها ، وكذا الحب والكراهية ، فما تحبينه أنت يكرهه الآخر ، فمن الخطأ أن نحاكم الشيعة برغباتنا الخاصة.

قلت : ولكنَّ الأمر يصل إلى حدِّ الضرر كضرب الرؤوس بالسيوف ، وهذه مفسدة واضحة ; لأن فيها ضرراً ، وقد نهى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عنه وقال : لا ضرر ولا ضرار في الإسلام (1).

خالي : إذا نظرنا إلى هذا الحديث وأمعنّا فيه النظر نجد أنّ الاستدلال بهذا الحديث يكون كالتالي : كل ضرر حرام ، وضرب الرأس بالسيف ضرر ، إذاً هو حرام ، وهذا قياس منطقيٌّ واضح ، فإذا كان كل إنسان يموت ، وزيد إنسان ، إذاً زيد حتماً يموت ، أليس كذلك؟

قلت : نعم ، فكيف تجوِّزونه إذاً؟

خالي : مهلا ولا تتعجّلي ، حتى يكون هذا الأمر صحيحاً والقياس تاماً لابد أن تكون الكبرى سليمة كما يسمُّونها في المنطق ، وهي : كل ضرر حرام ، فهل كل ضرر على إطلاقه حرام ، فإذا كان كذلك لتوقَّفت كل الحياة ، وليست الشعائر الحسينيّة لوحدها ; لأن الضرر نسبيٌّ ، فكل فعل يفعله الإنسان فيه ضرر ، ففي الأكل ضرر كما قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ما ملأ ابن آدم وعاء شرّاً من بطنه (2) ، وفي عدمه ضرر ، والنوم الكثير ضرر ، والقليل كذلك ، في القراءة ضرر ، وفي عدمها

ص: 711


1- الكافي ، الكليني : 5 / 292 - 293 ح 2 ، تهذيب الأحكام ، الطوسي : 7 / 146 - 147 ح 35 ، مسند أحمد بن حنبل : 5 / 327 ، سنن ابن ماجة : 2 / 784 ح 2340 و 2341 ، المستدرك ، الحاكم : 2 / 57 - 58.
2- روي عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه ، فإن كان لابد فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه. راجع : مشكاة الأنوار ، الشيخ علي الطبرسي : 2. سنن الترمذي : 4 / 18.

ضرر ، كذلك هناك أفعال في فعلها ضرر وفي تركها منفعة ، ولكنّها ليست حراماً بإجماع الأمّة ، مثل أكل بعض المأكولات الضارّة كالشحوم ، والفلفل الحار ، والسكر الأبيض ، وعشرات الأسماء ، فمع إمكان الإنسان التخلّي عنها إلاَّ أنه ليس ملزماً ، وباختصار ليس هنالك فعل إلاَّ فيه ضرر ، ممَّا يدعونا إلى التفكير في معنى الضرر المقصود في الحديث.

وهنا نتعرَّف على أنّ الضرر نوعان : ضرر حتميٌّ ، وضرر غير حتميٍّ ، أو بمعنى : ضرر مسموح به ، وضرر غير مسموح به ، فالضرر الحرام المقصود في الحديث هو الضرر الحتمي ، بمعنى حتماً يؤدِّي إلى هلاك الإنسان ، مثل أن يشرب الانسان كأساً من السمِّ ، أمَّا الضرر غير الحتمي هو أن يشرب الإنسان مثلا كأساً من القهوة ، فمع أنه فيه نسبة من الضرر إلاَّ أنه ضرر مأذون به.

قاطعته قائلة : ولكن في ضرب الرأس بالسيف ضرر حتمي ، فمن الممكن أن تصادف الضربة شرياناً ، ممَّا يؤدِّي إلى النزف المتواصل ، فيؤدِّي إلى موته.

خالي : هذا الاحتمال غير وارد ولا يعوَّل عليه ; لأن الاحتمال نوعان : احتمال عقلائي ، واحتمال غير عقلائي ، والفرق بين الاثنين أنّ الأول احتمال قائم على مجموعة من المبادئ العلمية ، والثاني عكسه ، فمن المحتمل أن يقع هذا البيت على رؤوسنا ، فهل نركض خارج الغرفة؟!

قلت : لا - وأنا ضاحكة - لأن هذا مجرَّد احتمال سخيف.

خالي : وإذا قال لك مهندس مختص : بأن أعمدة البيت لا يمكنها حمل هذه الغرفة أكثر من يوم مثلا فهل تغادرينها؟

قلت : نعم ، وإذا بقيت أكون رميت بنفسي في التهلكة!

خالي : هذا هو بالضبط الفرق بين الاحتمالين ، فقولك : من المحتمل أن

ص: 712

تقطع الضربة شرياناً ، هو كالقول : من المحتمل أن تصدمك سيارة إذا عبرت الشارع ، فهل تتوقَّفين عن العبور؟

قلت : لكن يا خالي ، إذا نظر إنسان إلى منظرهم وهم مضرّجون بالدماء في منظر تشمئزّ منه القلوب وخاصة غير المسلم ، ممَّا يجعله يستهجن هذا الدين الذي يجعل أتباعه غارقين في الدماء.

خالي : نعم معك حق ، إن هذا المنظر الذي يخرج به المطبّرون كما يسمّونهم منظر ( قد ) تشمئزُّ منه القلوب ، ولكن ليس عليهم عتاب ، ولكي تعرفي ذلك لابدَّ لنا من النظر في الجذر الثقافي الذي يرتكز عليه التطبير ، فهو لا يعدو كونه عملا فنّياً ولوحةً إبداعيةً تحاول أن تقترب من مأساة كربلاء ، فإذا أحضرنا مجموعة من الرسَّامين وكلَّفناهم برسم واقعة كربلاء فما هي اللوحات التي تتوقَّعين أن يرسموها ، غير رؤوس مقطَّعة ، وأياد مبتورة ، وخيام محروقة ، ونساء مفجوعة ، فهل يحقُّ لنا أن نعاتبهم على تلك الرسومات ونقول : كان أجدر بكم أن ترسموا لنا حدائق ومياهاً وزهوراً ، فالقبح إذاً ليس في اللوحة ، وإنما القبح في الواقع الذي حاولت أن تجسِّده اللوحة ، وإن صدق ذلك على اللوحة الورقيَّة يصدق أيضاً على اللوحة التي يشترك مجموعة من الناس في إخراجها كالعمل الدرامي مثلا ، فهذا الموكب الدرامي الذي يتكوَّن من مجموعة من الناس لابسين الأكفان وهي ملطَّخة بالدماء ، وحاملين السيوف ، حقاً منظر تشمئزُّ منه النفوس ، ولكن ليس القبح فيه ، وإنما القبح في ذلك الواقع التأريخي ، وفي تلك المعركة المفجعة ، فالمأساة ليست في التطبير ، وإنما هي في كربلاء ، فهل نغيِّر حقيقة كربلاء أيضاً؟!

قلت : هذا الكلام بصورته النظريّة مقنع ، ولكن عملياً أرى أنه بعيد ، فأنا لا

ص: 713

أتصوَّر أن يدفعني أمر للقيام بضرب رأسي بالسيف.

خالي : الفعل يصدر من الإنسان عندما تكون هناك تهيئة نفسيَّة تناسب الفعل ، فإذا لم تتحقَّق فإن الدوافع النظريَّة ليست كافية ، فكثير من الأمور نعتقد بها نظريّاً ولكن لا نمارسها إلاَّ إذا كانت هناك تهيئة نفسيّة ، فمثلا ضرورة الأكل مقدِّمة نظريَّة ، ولكن لا يقدم الإنسان على الأكل إلاَّ إذا كان جائعاً ممَّا تستعدُّ نفسه للقيام بالأكل ، وكذا الأمثلة كثيرة ، فنحن خلافنا مع الذين يستنكرون هذه الشعائر خلاف نظريٌّ وليس عمليّاً ، فلم نطلب منهم المشاركة ، ومن هنا كان النقاش النظري ضرورياً معهم ، أمَّا التهيئة النفسيَّة فتحتاج إلى مقدِّمات من نوع آخر ، فمثلا الصوت الجميل في تلاوة القرآن يخلق جوّاً تهيج معه النفس ممَّا يجعلها تبكي ، وكذا الأغاني ، فإنّها تطرب النفس فتكون مقدِّمة للرقص ، وكذلك في محرَّم عندما يعيش الإنسان أجزاء كربلاء ، ويستنشق روائح تلك الدماء الزاكيات ، وتعلو النداءات بثارات الحسين علیه السلام ، وتدقُّ طبول الحرب ، تهيِّئ الإنسان نفسيّاً للقيام بتلك الشعائر التي تكون تعبيراً صادقاً لما يجول في نفسه من حبٍّ للإمام الحسين علیه السلام .

الحسين علیه السلام الدمعة الجارية

تردَّدت كثيراً في تسجيل تجرتبي الأولى مع الإمام الحسين علیه السلام ، وكلَّما أبدأ بالكتابة تهرب الكلمات من تحت سنان قلمي ، وتبقى المأساة مكتومة في داخل نفسي ، فلا معين أطيل معه العويل والبكاء ، ولا جزوع فأساعد جزعه إذا خلا ، فتمتزج البسمة عندي بالدمعة ، ويحلُّ الحزن مكان الفرحة ، وتتبدَّل كل أهازيج البشرى بأنين الحزن الدائم ، ففي ميلاده سكبت عبرة ... وما زالت تلك

ص: 714

العبرة .. وفي استشهاده وفي ذكراه تعلو العبرة .. فللحسين مجد مكتوب من الأزل الأبديّ لا ينال إلاَّ بالدمع الأحمر : يا حسين! اعلم أن لك عند اللّه أجراً لا تبلغه إلاَّ بالشهادة.

قبل أن أعيش في رحاب التشيُّع ، وأهتدي إلى مذهب أهل البيت علیهم السلام لم أكن أعرف عن الحسين علیه السلام إلاَّ ما درسناه في المدارس ، وهي قصة مجتزأة تعبِّر عن الكبت الدائم لقضيَّة كربلاء ، أذكر أنّني كنت في الرابع الابتدائي ، فحاول الأستاذ - تبعاً للمنهج - أن يطوي كل ذلك التأريخ في قوله : إن يزيد قتل الإمام الحسين علیه السلام وأولاده وسبى نساءه ، في معركة تسمَّى كربلاء ، فسألت طالبة مسيحيَّة بدهشة : كيف تجوِّزون قتل ابن بنت نبيِّكم؟ فدمعت عيناي دون أن أشعر ، فكانت تلك أول دمعة في مصاب الإمام الحسين علیه السلام ، فقال الأستاذ : ذلك قدر اللّه على هذه الأمة.

قدر اللّه أم غدر الأمة التي لم تحفظ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في ذرِّيَّته وهو

القائل : أذكِّركم اللّه في أهل بيتي (1) ، وقال اللّه تعالى في حقِّهم : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (2) ، أيقتل - روحي له الفداء - في أبشع صورة مرَّت على تأريخ البشرية ، وهو الذي قال فيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : حسين منّي وأنا من حسين ، أحبَّ اللّه من أحبّ حسيناً (3) ، وقال : الحسين مصباح الهدى وسفينة

ص: 715


1- راجع : فضائل الصحابة ، أحمد بن حنبل : 22 ، مسند أحمد بن حنبل : 4 / 367 ، السنن الكبرى ، النسائي : 5 / 15 ح 8175 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 5 / 182 - 183 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 41 / 19 ، الدرّ المنثور ، السيوطي : 5 / 199.
2- سورة الشورى ، الآية : 23.
3- 3 - وهو من الأحاديث المتواترة جداً ، راجع : الإرشاد ، المفيد : 2 / 127 ، مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 3 / 226 مسند أحمد بن حنبل : 4 / 172 ، سنن ابن ماجة : 1 / 51 ح 144 ، سنن الترمذي : 5 / 324 ح 3864 ، المصنف ، ابن أبي شيبة الكوفي : 7 / 515 ح 22 ، الأدب المفرد ، البخاري : 85 ح 364 ، صحيح ابن حبان : 15 / 428 ، المستدرك على الصحيحين ، الحاكم : 3 / 177 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 3 / 33 ح 2589 ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 64 / 35 ، أسد الغابة ، ابن الأثير : 2 / 19 ، تهذيب الكمال ، المزي : 6 / 402 ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 3 / 283 ، تهذيب التهذيب ، ابن حجر : 2 / 299 ، الجامع الصغير ، السيوطي : 1 / 575 ح 3727 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 12 / 115 ح 34264 ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبداللّه الطبري : 133.

النجاة (1) ، والحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنة (2) ، وعندما قال رجل للحسين علیه السلام وهو راكب على ظهر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : نعم المركب ركبت ، فقال رسول اللّه : ونعم الراكب هو (3) ، فالأمَّة التي تجرَّأت على قتل الحسين علیه السلام هي نفسها يمكنها قتل الرسول صلی اللّه علیه و آله .

فبقيت تلك الدمعة وحيدة حتى جاء اليوم الذي عشت فيه مأساة كربلاء بتفاصيلها ، حيث ما تزال ظلالها الحزينة ترافق ظلّي إلى اليوم ، تاركة آثاراً

ص: 716


1- كمال الدين وتمام النعمة ، الصدوق : 265 ح 11 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 36 / 205 ح 7.
2- صحيح ابن حبان : 15 / 413 ، فضائل الصحابة ، أحمد بن حنبل : 20 ، مسند أحمد بن حنبل : 3 / 3 ، سنن ابن ماجة : 1 / 44 ح 118 ، سنن الترمذي : 5 / 321 ح 3856 ، المصنف ، ابن أبي شيبة الكوفي : 7 / 512 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 3 / 35 - 36 ح 2599 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 9 / 165.
3- نظم درر السمطين ، الزرندي الحنفي : 212 ، وفي سائر المصادر بدل الحسين علیه السلام الحسن علیه السلام ، راجع : سنن الترمذي : 5 / 327 ح 3872 ، المستدرك ، الحاكم : 3 / 170 ، أسد الغابة ، ابن الأثير : 2 / 12. وروى ابن عساكر في تأريخ دمشق : 13 / 216، بالإسناد عن جابر بن عبد اللّه قال : دخلت على النبي صلی اللّه علیه و آله وهو حامل الحسن والحسين على ظهره ، وهو يمشي بهما ، فقلت : نعم الجمل جملكما ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : نعم الراكبان هما. وراجع أيضاً في حديث آخر وفيه أن القائل هو أبو بكر : المعجم الكبير ، الطبراني : 3 / 65 ح 2677، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبداللّه الطبري : 130 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 9 / 182.

عميقة في نفسي.

كنّا في شهر محرَّم الحرام في منطقة السيِّدة زينب علیهاالسلام بدمشق ، والسواد يغطّي الساحات ، والكل حزين يهتف : يا لثارات الحسين ، فانتقل بي الزمان حتى كأنّي أرى كربلاء بأمِّ عيني ، صورة لا تحكى ومنظر لا يصوَّر ، عشت لحظات في فيافي دمائها الحمراء ، أواسي النساء الهاشميّات ، فبكيت معهن حتى نبض الدمع مني ، وحينها رجع صدى النفس يردِّد : يا ليتنا كنّا معك فنفوز فوزاً عظيماً.

فعاشوراء لم تمت ، بل هي حاضرة في وجدان هذه الأمَّة ، يلوح من أريج دمائها الذاكية الصمود والإباء ، وفي أعتابها شموخ الإيمان على الكفر ، وفي لهواتها انتصار الحق على الباطل ، وعلى أشراف أبوابها كان نهج الحق وراية العدل ترفرف مدى الأزمان ، فكل أيامنا عاشوراء ، وكل بقعة من بقاع الأرض كربلاء ، فهي أعظم من أن تكون حبيسة التأريخ ، وأكبر من أن يكون الزمان قيداً على عنفوان تحدّيها ، فهي شاهد حيٌّ على كل العصور.

فعام 61 للهجرة هو بداية المأساة ، ولكن لم يكن هو النهاية ، فلم تزل حاضرة بكل مأساتها عبر السنين ، ففي كربلاء يتجلَّى الإسلام بأسمى معانيه ، وتضيق عندها المسافة بين الإنسان والقيم ، وتقترب فيها السماء من الأرض ، فكانت تضحيات الحسين جسراً يقرِّب الإنسان من العالم المعنويِّ والأفق الأعلى بما لا يقرِّب به شيء آخر.

فللحسين قضيَّتان : قضيَّة الجسد المقطَّع ، وقضيَّة الحقِّ المضيَّع ، وفي كربلاء اختلطت القيم بالدماء ، والعدل بالشهادة ، ولكي يرفع الحق رفعت هامة الحسين على سنان الرماح ، فلا وجود للمسيرة من غير الوقوف على أشلاء

ص: 717

كربلاء ، وليس هناك مأساة تبكي من غير تلك المسيرة التي كان الحسين قرباناً لها : ( اللّهمّ تقبل هذا القربان من آل محمّد ) فكانت المأساة بحجم المسيرة ، وكانت التضحية بقدر المنهج.

فأصبح الحسين علیه السلام هو نهجي .. وعاشوراء هي شعاري ، وتربته الطاهرة أضعها تحت جبيني في سجودي ، لكي أبقى دوماً مع الحسين وألقى اللّه مع الحسين علیه السلام (1).

ص: 718


1- كتاب : من حقّي أن أكون شيعية ، أم محمّد علي المعتصم.

الخاتمة: حوارات ومواقف

الضبّي وعائشة

جاء في كتاب المحاسن والمساوئ : لمَّا كان حرب الجمل أقبلت عائشة في هودج من حديد ، وهي تنظر من منظر قد صيِّر لها في هودج ، فقالت لرجل من ضبَّة وهو آخذ بخطام جملها أو بعيرها : أين ترى علي بن أبي طالب علیه السلام ؟

قال : ها هو ذا واقف ، رافع يده إلى السماء.

فنظرت فقالت : ما أشبهه بأخيه!

قال الضبّي : ومن أخوه؟

قالت : رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

قال : فلا أراني أقاتل رجلا هو أخو رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فنبذ خطام راحلتها من يده ومال إليه (1).

الأحنف بن قيس وعائشة

عن الحسن البصري أن الأحنف بن قيس قال لعائشة يوم الجمل : يا أم

ص: 719


1- المحاسن والمساوئ ، البيهقي : 49.

المؤمنين! هل عهد عليك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هذا المسير؟!

قالت : اللّهم لا.

قال : فهل وجدته في شيء من كتاب اللّه جلّ ذكره؟

قالت : ما نقرأ إلاّ ما تقرأون.

قال : فهل رأيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله استعان بشيء من نسائه إذا كان في قلّة والمشركون في كثرة؟

قالت : اللّهم لا.

قال الأحنف : فإذن ما هو ذنبنا؟

الأحنف والحسن البصري

قال : وقال الحسن البصري : تقلَّدت سيفي ، وذهبت لأنصر أم المؤمنين! فلقيني الأحنف ... فقال : إلى أين تريد؟

فقلت : أنصر أمّ المؤمنين!

فقال : واللّه ما قاتلت مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المشركين ، فكيف نقاتل معها المؤمنين؟! قال : فرجعت إلى منزلي ووضعت سيفي! (1)

قال الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني : إن أحد الأصدقاء كان يحاور بعض الوهّابيّة عن جهاد المرأة ، فاحتدم النقاش بينهما ، وتعصَّب الوهابي في وجه هذا الأخ صارخاً : الجهاد للمرأة غير جائز ، ويعتبر تبُّرجاً ، وهو حرام ، فقال له : إذن لماذا خرجت أمّكم يوم الجمل (2).

ص: 720


1- المحاسن والمساوئ ، البيهقي : 2 / 49 - 50.
2- بنور فاطمة اهتديت ، عبد المنعم حسن السوداني : 177.

زيد بن صوحان وعائشة

لمَّا نزل عليٌّ علیه السلام بالبصرة كتبت عائشة إلى زيد بن صوحان العبدي : من عائشة بنت أبي بكر الصديق زوج النبيِّ صلی اللّه علیه و آله إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان ; أمَّا بعد : فأقم في بيتك ، وخذِّل الناس عن عليٍّ ، وليبلغني عنك ما أحبُّ ; فإنك أوثق أهلي عندي ، والسلام.

فكتب إليها : من زيد بن صوحان إلى عائشه بنت أبي بكر ; أمَّا بعد : فإن اللّه أمرك بأمر وأمرنا بأمر ; أمرك أن تقري في بيتك ، وأمرنا أن نجاهد ، وقد أتاني كتابك ، فأمرتني أن أصنع خلاف ما أمرني اللّه ، فأكون قد صنعتُ ما أمرك اللّه به ، وصنعت ما أمرني اللّه به ، فأمرك عندي غير مطاع ، وكتابك غير مجاب ، والسلام (1).

معاوية مع ابن أحور التميمي

عن أبي إسحاق قال : جاء ابن أحور التميمي إلى معاوية فقال : يا أميرالمؤمنين! جئتك من عند ألأم الناس ، وأبخل الناس ، وأعيى الناس ، وأجبن الناس.

فقال : ويلك! وأنّى أتاه اللؤم؟! ولكنَّا نتحدَّث أن لو كان لعليٍّ بيت من تبن وآخر من تبر لأنفد التبر قبل التبن ، وأنّى أتاه العىُّ؟! وإن كنا لنتحدَّث أنه ما جرت المواسي على رأس رجل من قريش أفصح من علي ، ويلك! وأنّى أتاه

ص: 721


1- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1 / 226 - 227.

الجبن وما برز له رجل قطّ إلاَّ صرعه؟! واللّه يا ابن أحور! لو لا أن الحرب خدعة لضربت عنقك ، اخرج فلا تقيمن في بلدي.

قال عطاء : وإن كان يقاتله فإنه كان يعرف فضله (1).

معاوية مع أبي الأسود الدؤلي في قصّة الحكمين

روى ابن عبد ربِّه الأندلسي ، قال : لمَّا قدم أبو الأسود الدؤلي على معاوية عام الجماعة قال له معاوية : بلغني - يا أبا الأسود - أن علي بن أبي طالب أراد أن يجعلك أحد الحكمين ، فما كنت تحكم به؟

قال : لو جعلني أحدهما لجمعت ألفاً من المهاجرين وأبناء المهاجرين ، وألفاً من الأنصار وأبناء الأنصار ، ثمَّ ناشدتهم اللّه : المهاجرون وأبناء المهاجرين أولى بهذا الأمر أم الطلقاء؟ (2).

قال له معاوية : لله أبوك ، أيَّ حكم كنت تكون لو حكمت (3).

معاوية مع رجل يسأله فيرشده إلى أميرالمؤمنين علیه السلام

عن قيس بن أبي حازم قال : سأل رجل معاوية عن مسألة ، فقال : سل

ص: 722


1- تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 42 / 414 - 415.
2- ومما قاله ابن عباس في كتابه لمعاوية في كلام بينهما في الخلافة : وما أنت وذكر الخلافة يا معاوية؟ وإنما أنت طليق وابن طليق ، والخلافة للمهاجرين الأولين ، وليس الطلقاء منها في شيء والسلام. شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 8 / 66 وجاء في رواية ابن قتيبة : فما أنت والخلافة؟ وأنت طليق الإسلام ، وابن رأس الأحزاب ، وابن آكلة الأكباد من قتلى بدر. راجع : الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : 1 / 134.
3- العقد الفريد ، ابن عبد ربِّه الأندلسي : 4 / 349.

عنها علي بن أبي طالب ، فهو أعلم مني؟

قال : قولك - يا أميرالمؤمنين - أحبُّ إليَّ من قول علي.

قال : بئس ما قلت ، ولؤم ما جئت به ، لقد كرهتَ رجلا كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يغرُّه بالعلم غرّاً ، ولقد قال له : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنه لا نبيَّ بعدي (1).

وكان عمر بن الخطاب يسأله ويأخذ عنه ، ولقد شهدت عمر إذا أشكل عليه أمر قال : ها هنا علي بن أبي طالب.

ثمَّ قال للرجل : قم لا أقام اللّه رجليك ، ومحا اسمه من الديوان (2).

وَمَنَاقِب شَهِدَ العَدُوُّ بِفَضْلِهَا *** وَالْفَضْلُ مَا شَهِدَتْ بِهِ الأَعْدَاءُ

معاوية مع محفن بن أبي محفن

قال ابن أبي الحديد : قال عدوُّه ومبغضه الذي يجتهد في وصمه وعيبه معاوية بن أبي سفيان لمحفن بن أبي محفن الضبّي لمَّا قال له : جئتك من عند أبخل الناس ، فقال : ويحك! كيف تقول إنّه أبخل الناس؟! لو ملك بيتاً من تبر وبيتاً من تبن لأنفد تبره قبل تبنه (3).

ولمَّا قال محفن بن أبي محفن لمعاوية : جئتك من عند أعيى الناس.

ص: 723


1- تقدَّمت تخريجاته.
2- تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 42 / 170 - 171 ، ذخائر العقبى ، محب الدين الطبري : 79 ، الرياض النضرة ، محب الدين الطبري : 2 / 195 ، نظم درر السمطين ، الزرندي : 134 ، فيض القدير ، المناوي : 3 / 61.
3- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1 / 22.

قال له : ويحك! كيف يكون أعيى الناس؟! فو اللّه ما سنَّ الفصاحة لقريش غيره (1) (2).

عدي ومعاوية

قال معاوية لعديِّ بن حاتم : ما فعلت الطرفات يا أبا طريف؟

قال : قُتلوا!

قال : ما أنصفك ابن أبي طالب ; إذ قتل بنوك معه وبقي له بنوه.

قال : لئن كان ذلك لقد قتل هو وبقيت أنا بعده.

قال له معاوية : ألم تزعم أنَّه لا يخنق في قتل عثمان عنز؟ قد واللّه خنق فيه التيس الأكبر.

ثمَّ قال معاوية : أما إنه قد بقيت من دمه قطرة ولابد أن أتبعها.

قال عدي : لا أبا لك! شم السيف ، فإن سلَّ السيف يسلُّ السيف.

فالتفت معاوية إلى حبيب بن مسلمة ، فقال : اجعلها في كتابك فإنها حكمة (3).

وقال المسعودي : وذكر أن عدي بن حاتم الطائي دخل على معاوية ، فقال له معاوية : ما فعلت الطرفات يعني أولاده.

ص: 724


1- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1 / 24 - 25.
2- قال ابن أبي الحديد في شرح النهج : ويكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة على أنه لا يجارى في الفصاحة ، ولا يبارى في البلاغة ، وحسبك أنه لم يدوَّن لأحد من فصحاء الصحابة العشر ، ولا نصف العشر مما دوِّن له ، وكفاك في هذا الباب ما يقوله أبو عثمان الجاحظ في مدحه في كتاب البيان والتبيين وفي غيره من كتبه ( نفس المصدر السابق : 25 ).
3- العقد الفريد ، ابن عبد ربِّه الأندلسي : 1 / 28 ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 40 / 95 - 96.

قال : قتلوا مع عليٍّ!

قال : ما أنصفك عليٌّ ، قتل أولادك وبقي أولاده.

فقال عدي : ما أنصفت علياً إذ قتل وبقيت بعده.

فقال معاوية : أما إنه قد بقيت قطرة من دم عثمان ، ما يمحوها إلاَّ دم شريف من أشراف اليمن.

فقال عدي : واللّه! إن قلوبنا التي أبغضناك بها لفي صدورنا ، وإن أسيافنا التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا ، ولئن أدنيت إلينا من الغدر فتراً لندنيّن إليك من الشرِّ شبراً ، وإن حزَّ الحلقوم وحشرجة الحيزوم لأهون علينا من أن نسمع المساءة في علي ، فسلِّم السيف - يا معاوية - لباعث السيف.

فقال معاوية : هذه كلمات حكم فاكتبوها (1).

وفي رواية البيهقي ، قال : إن عدي بن حاتم دخل على معاوية بن أبي سفيان فقال : يا عدي! أين الطرفات؟ يعني بنيه : طريفاً وطارفاً وطرفة.

قال : قتلوا يوم صفين بين يدي علي بن أبي طالب علیه السلام .

فقال : ما أنصفك ابن أبي طالب ; إذ قدَّم بنيك وأخَّر بنيه.

قال : بل ما أنصفت أنا عليّاً إذ قتل وبقيت.

قال : صف لي عليّاً.

فقال : إن رأيت أن تعفيني.

قال : لا أعفيك.

قال : كان واللّه بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول عدلا ، ويحكم فصلا ،

ص: 725


1- مروج الذهب ، المسعودي : 3 / 13.

تتفجَّر الحكمة من جوانبه ، والعلم من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويستأنس بالليل ووحشته ، وكان واللّه غزير الدمعة ، طويل الفكرة ، يحاسب نفسه إذا خلا ، ويقلِّب كفّيه على ما مضى ، يعجبه من اللباس القصير ، ومن المعاش الخشن ، وكان فينا كأحدنا ، يجيبنا إذا سألناه ، ويدنينا إذا أتيناه ، ونحن مع تقريبه لنا وقربه منّا لا نكلِّمه لهيبته ، ولا نرفع أعيننا إليه لعظمته ، فإن تبسَّم فعن اللؤلؤ المنظوم ، يعظِّم أهل الدين ، ويتحبَّب إلى المساكين ، لا يخاف القويّ ظلمه ، ولا ييأس الضعيف من عدله ، فأقسم لقد رأيته ليلة وقد مثل في محرابه ، وأرخى الليل سرباله ، وغارت نجومه ، ودموعه تتحادر على لحيته ، وهو يتململ تململ السليم ، ويبكي بكاء الحزين ، فكأنّي الآن أسمعه وهو يقول : يا دنيا! إليَّ تعرَّضت؟ أم إليَّ أقبلت؟ غرِّي غيري ، لا حان حينك ، قد طلَّقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك ، فعيشك حقير ، وخطرك يسير ، آه من قلّة الزاد ، وبعد السفر ، وقلّة الأنيس.

قال : فوكفت عينا معاوية ، وجعل ينشِّفها بكمِّه ، ثمَّ قال : يرحم اللّه أبا الحسن ، كان كذلك ، فكيف صبرك عنه؟

قال : كصبر من ذبح ولدها في حجرها ، فهي لا ترقأ دمعتها ، ولا تسكن عبرتها.

قال : فكيف ذكرك له؟

قال : : وهل يتركني الدهر أن أنساه (1).

ص: 726


1- المحاسن والمساوئ ، البيهقي : 46 - 47.

عدي بن حاتم مع عبداللّه بن الزبير

عن أحمد بن إبراهيم الغساني قال : حدَّثني أبي ، عن أبيه ، عن جدِّه قال : استأذن عدي بن حاتم على معاوية وعنده عبد اللّه بن الزبير ، فقال له عبداللّه : بلغني - يا أميرالمؤمنين - أن عند هذا الأعور جواباً ، فلو شئت هجته.

فقال : أمَّا أنا فلا أفعل ، ولكن دونكاه إن بدا لك.

فلمَّا دخل عدي قال له عبد اللّه بن الزبير : في أيِّ يوم فقئت عينك يا أبا طريف؟

فقال له : في اليوم الذي قتل فيه أبوك ، وكشفت فيه إستك ، ولطم فيه على قفاك وأنت منهزم ، يعني ابن الزبير ... وفي رواية : فضحك معاوية (1).

قنبر والحجاج

روى العياشي عن أبي الحسن علي بن محمّد الهادي علیه السلام أن قنبر مولى أميرالمؤمنين علیه السلام دخل على الحجاج بن يوسف ، فقال له : ما الذي كنت تلي من أمر علي بن أبي طالب علیه السلام ؟

قال : كنت أوضّيه.

فقال له : ما كان يقول إذا فرغ من وضوئه؟

قال : كان يتلو هذه الآية : ( فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْء حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ

ص: 727


1- تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 40 / 95 - 96.

وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (1).

فقال الحجاج : كان يتأوَّلها علينا؟

فقال : نعم.

فقال : ما أنت صانع إذا ضربت علاوتك؟ (2)

قال : إذن اُسعد وتُشقى ، فأمر به فقتله (3).

شهر ابن حوشب والحجاج

روى القمي عليه الرحمة ، قال : حدَّثني أبي ، عن القاسم بن محمّد بن سليمان بن داود المنقري ، عن أبي حمزة ، عن شهر بن حوشب قال : قال لي الحجاج : بأن آية في كتاب اللّه قد أعيتني؟

فقلت : أيُّها الأمير! أيَّة آية هي؟

فقال قوله : ( وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) (4) ، واللّه إني لآمر باليهودي والنصراني فيضرب عنقه ، ثمَّ أرمقه بعيني فما أراه يحرِّك شفتيه حتى يخمد ، فقلت : أصلح اللّه الأمير ، ليس على ما تأوَّلت.

قال : كيف هو؟

قلت : إن عيسى ينزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا ، فلا يبقى أهل ملّة يهوديّ

ص: 728


1- سورة الأنعام ، الآية : 44 - 45.
2- العلاوة - بالكسر - أعلى الرأس ، وقيل : أعلى العنق.
3- تفسير العياشي : 1 / 359 ح 22 ، اختيار معرفة الرجال ، الطوسي : 1 / 289 - 290 ح 130 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 42 / 135 - 136 ح 16.
4- سورة النساء ، الآية : 159.

ولا نصرانيّ إلاَّ آمن به قبل موته ، ويصلّي خلف المهدي علیه السلام .

قال : ويحك! أنَّى لك هذا؟ ومن أين جئت به؟

فقلت : حدثني به محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب علیهم السلام .

فقال : جئت بها واللّه من عين صافية (1).

عمر بن عبد العزيز مع معلِّمه ومع أبيه

قال عمر بن عبد العزيز : كنت غلاماً أقرأ القرآن على بعض ولد عتبة ابن مسعود ، فمرَّ بي يوماً وأنا ألعب مع الصبيان ، ونحن نلعن عليّاً ، فكره ذلك ودخل المسجد ، فتركت الصبيان ، وجئت إليه لأدرس عليه وردي ، فلمَّا رآني قام فصلَّى ، وأطال في الصلاة شبه المعرض عنّي حتى أحسست منه بذلك ، فلمَّا انفتل من صلاته كلح في وجهي ، فقلت له : ما بال الشيخ؟

فقال لي : يا بنيّ! أنت اللاعن عليّاً منذ اليوم؟

قلت : نعم.

قال : فمتى علمت أن اللّه سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم؟!

فقلت : يا أبت! وهل كان عليٌّ من أهل بدر؟

فقال : ويحك! وهل كانت بدر كلّها إلاَّ له؟!

فقلت : لا أعود.

فقال : اللّه أنك لا تعود؟

ص: 729


1- تفسير القمي : 1 / 158 ، التبيان ، الطوسي : 3 / 386 ، تفسير مجمع البيان ، الطبرسي : 3 / 236 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 9 / 195 ح 45.

قلت : نعم ، فلم ألعنه بعدها.

ثمَّ كنت أحضر تحت منبر المدينة ، وأبي يخطب يوم الجمعة - وهو حينئذ أمير المدينة - فكنت أسمع أبي يمرُّ في خطبه تهدر شقاشقه ، حتى يأتي إلى لعن علي علیه السلام فيجمجم ، ويعرض له من الفهاهة والحصر ما اللّه عالم به ، فكنت أعجب من ذلك ، فقلت له يوماً : يا أبت! أنت أفصح الناس وأخطبهم ، فما بالي أراك أفصح خطيب يوم حفلك ، حتى إذا مررت بلعن هذا الرجل صرت ألكن عيّياً؟!

فقال : يا بنيَّ! إن من ترى تحت منبرنا من أهل الشام وغيرهم ، لو علموا من فضل هذا الرجل ما يعلمه أبوك لم يتبعنا منهم أحد.

فوقرت كلمته في صدري ، مع ما كان قاله لي معلِّمي أيام صغري ، فأعطيت اللّه عهداً ، لئن كان لي في هذا الأمر نصيب لأغيِّرنّه ، فلمَّا منَّ اللّه عليَّ بالخلافة أسقطت ذلك ، وجعلت مكانه : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (1) ، وكتب به إلى الآفاق فصار سنَّة.

وقال كثير بن عبد الرحمن يمدح عمر ويذكر قطعه السبّ :

وَلَيْتَ فَلَمْ تَشْتم عليّاً وَلَمْ تُخِف *** بَريّاً وَلَمْ تَقْبَلْ إِسَاءَةَ مُجرِم

وَكَفَّرْتَ بِالعَفْوِ الذُنُوبَ مَعَ الَّذِي *** أَتَيْتَ فَأَضْحَى رَاضِياً كُلُّ مُسْلِمِ (2)

عامر بن عبداللّه بن الزبير وابنه

روى ابن وهب ، عن حفص بن ميسرة ، عن عامر بن عبد اللّه بن الزبير أنه

ص: 730


1- سورة النحل ، الآية : 90.
2- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 4 / 58.

سمع ابناً له يتنقَّص عليّاً ، فقال : يا بنيَّ! إياك والعودة إلى ذلك ، فإن بني مروان شتموه ستين سنة ، فلم يزده اللّه بذلك إلاَّ رفعة ، وإن الدين لم يبن شيئاً فهدمته الدنيا ، وإن الدنيا لم تبنِ شيئاً إلاَّ عادت على ما بنت فهدمته (1).

وفي رواية الثقفي ، قال : حدَّثنا ابن أبي سيف ، قال : قال ابن لعامر ابن عبد اللّه بن الزبير لولده : لا تذكر - يا بنيَّ - عليّاً إلاَّ بخير ، فإن بني أمية لعنوه على منابرهم ثمانين سنة ، فلم يزده اللّه بذلك إلاَّ رفعة ، إن الدنيا لم تبنِ شيئاً قط إلاَّ رجعت على ما بنت فهدمته ، وإن الدين لم يبنِ شيئاً قط وهدمه (2).

وقال بعضهم في ذلك :

لَعَنَتْهُ بِالشَّام سِبعينَ عاماً *** لَعَنَ اللّهُ كَهْلَها وَفَتَاهَا

وفي رواية ابن عبد ربِّه الأندلسي : قال الرياشي : انتقص ابن حمزة ابن عبد اللّه بن الزبير عليّاً علیه السلام ، فقال له أبوه : يا بنيّ! إنه واللّه ما بنت الدنيا شيئاً إلاَّ هدمه الدين ، وما بنى الدين شيئاً فهدمته الدنيا ، أما ترى عليّاً وما يظهر بعض الناس من بغضه ولعنه على المنابر ، فكأنما واللّه يأخذون بناصيته رفعاً إلى السماء!! وما ترى بني مروان وما يندبون به موتاهم من المدح بين الناس ، فكأنما يكشفون عن الجيف!! (3).

ص: 731


1- الجوهرة في نسب الإمام علي وآله ، البري : 94 - 95 ، المحاسن والمساوئ ، البيهقي : 40 ، في مساوئ من عادى علي بن أبي طالب علیه السلام ، وفي ط دار إحياء العلوم ببيروت : ص 77.
2- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 13 / 221.
3- العقد الفريد ، ابن عبد ربِّه الأندلسي : 3 / 278 ط الثانية بمصر ، في أوائل فضائل علي علیه السلام من كتاب اليتيمة الثانية ، البيان والتبيين ، الجاحظ : 2 / 173.

أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي وابنه

أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي (1) وابنه وروى العلامة الحلي عليه الرحمة ، قال : كان لأبي دلف ولد ، فتحادث أصحابه في حبِّ علي علیه السلام وبغضه ، فروى بعضهم عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنه قال : يا عليُّ! ما يحبُّك إلاَّ مؤمن تقيٌّ ، ولا يبغضك إلاَّ منافق شقيٌّ ولد زنية أو حيضة.

فقال ولد أبي دلف : ما تقولون في الأمير؟ هل يؤتى في أهله؟

فقالوا : لا.

فقال : واللّه إني أشدُّ الناس بغضاً لعلي بن أبي طالب.

فخرج أبوه وهم في التشاجر فقال : ما تقولون؟

فقالوا : كذا وكذا ، وحكوا كلام ولده.

فقال : واللّه إن هذا الخبر لحقٌّ ، واللّه إنّه لولد زنية وحيضة معاً ، إني كنت مريضاً في دار أخي في حمَّى ثلاث ، فدخلت عليَّ جاريته لقضاء حاجة ، فدعتني نفسي إليها ، فأبت وقالت : إني حائض ، فكابرتها على نفسها فوطأتها فحملت بهذا الولد ، فهو لزنية وحيضة معاً (2).

وجاء في رواية المسعودي ، قال : إن دلفاً كان ينتقص علي بن أبي طالب علیه السلام ، ويضع منه ومن شيعته ، وينسبهم إلى الجهل ، وإنه قال يوماً - وهو في مجلس أبيه ، ولم يكن أبوه حاضراً - : يزعمون أن لا ينتقص علياً أحد إلاَّ لغير رشده ، وأنتم تعلمون غيرة الأمير ، وأنا أبغض علياً.

ص: 732


1- توفي سنة 225 ه.
2- كشف اليقين ، العلامة الحلي : 482.

قال : فما كان بأوشك من أن خرج أبو دلف ، فلمَّا رأيناه قمنا له ، فقال : قد سمعت ما قاله دلف ، والحديث لا يكذب ، والخبر الوارد في هذا المعنى لا يختلق ، هو واللّه لزنية وحيضة! وذلك أني كنت عليلا فبعثت إليَّ أختي جارية لها كنت بها معجباً ، فلم أتمالك أن وقعت عليها ، وكانت حائضاً ، فعلقت به ، فلمَّا ظهر حملها وهبتها لي.

فبلغ من عداوة دلف هذا لأبيه ونصبه ومخالفته له - لأنَّ الغالب على أبيه التشيُّع والميل إلى علي علیه السلام - أن شنَّع عليه بعد وفاته ... (1).

وقال ابن كثير في أبي دلف : وكان فيه تشيُّع ، وكان يقول : من لم يكن متغالياً في التشيُّع فهو ولد زنا ، فقال له ابنه دلف : لست على مذهبك يا أبة ، فقال : واللّه لقد وطأت أمَّك قبل أن أشتريها ، فهذا من ذاك (2).

هشام بن الحكم مع أبي عبيدة المعتزلي

قال أبو عبيدة المعتزلي لهشام بن الحكم : الدليل على صحّة معتقدنا وبطلان معتقدكم كثرتنا وقلّتكم ، مع كثرة أولاد علي علیه السلام وادّعائهم.

فقال هشام : لست إيانا أردت بهذا القول ، انما أردت الطعن على نوح ، حيث لبث في قومه ألف سنة إلاَّ خمسين عاماً ، يدعوهم إلى النجاة ليلا ونهاراً ، وما آمن معه إلاَّ قليل (3).

ص: 733


1- مروج الذهب ، المسعودي : 4 / 62.
2- البداية والنهاية ، ابن كثير : 10 / 323.
3- مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 1 / 236.

مؤمن الطاق مع بعض النواصب

قال بعض النواصب لصاحب الطاق : كان عليٌّ يسلِّم على الشيخين بإمرة المؤمنين ، أفصدق أم كذب؟

قال : أخبرني أنت عن الملكين اللذين دخلا على داود ، فقال أحدهما : ( إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ ) (1) كذب أم صدق؟

فانقطع (2).

شريك ورجل

قال رجل لشريك : أليس قول علي لابنه الحسين يوم الجمل : يا بنيَّ! يودُّ أبوك أنه مات قبل هذا اليوم بثلاثين سنة ، يدلُّ على أن في الأمر شيئاً؟

فقال شريك : ليس كل حق يُشتهى أن يتعب فيه ، قد قالت مريم في حق لا يُشك فيه : ( يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً ) (3) (4).

نصر بن علي والمتوكل

عن نصر بن علي ، عن علي بن جعفر بن محمّد بن علي بن حسين بن علي ، حدَّثني أخي موسى بن جعفر ، عن أبيه جعفر بن محمّد ، عن أبيه علي بن

ص: 734


1- سورة ص ، الآية : 23.
2- مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 1 / 235.
3- سورة مريم ، الآية : 23.
4- مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 1 / 237.

الحسين ، عن أبيه ، عن جدّه أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أخذ بيد حسن وحسين قال : من أحبَّني وأحبَّ هذين وأباهما وأمَّهما كان معي في درجتي يوم القيامة.

قال أبو عبد الرحمن عبداللّه : لمَّا حدَّث بهذا الحديث نصر بن علي (1) أمر المتوكِّل بضربه ألف سوط ، وكلَّمه جعفر بن عبد الواحد ، وجعل يقول له : هذا الرجل من أهل السنّة ، ولم يزل به حتى تركه (2).

ابن السكيت والمتوكِّل

يروى أن المتوكِّل نظر إلى ابنيه المعتزّ والمؤيَّد ، فقال لابن السكّيت (3) : من أحبُّ إليك : هما ، أو الحسن والحسين علیهماالسلام ؟

ص: 735


1- قال الحسين بن إدريس الأنصاري : سئل محمّد بن علي النيسابوري عن نصر بن علي ، فقال : حجّة ، وقال عبداللّه بن أحمد : سألت أبي عنه فقال : ما به بأس ورضيته ، وقال ابن أبي حاتم : سألت أبي عن نصر بن علي وأبي حفص الصيرفي فقال : نصر أحبُّ إليَّ وأوثق وأحفظ من أبي حفص ، قلت : فما تقول في نصر؟ قال : ثقة ، وقال النسائي وابن خراش : ثقة ، وقال عبيد اللّه بن محمّد الفرهياني : نصر عندي من نبلاء الناس. قال ابن حجر : قال البخاري : مات في ربيع الآخر سنة خمسين ومائتين ، وفيها أرَّخه غير واحد ، وقيل : مات سنة إحدى وخمسين ، قلت : هو قول ابن جرير فيما حكاه مسلمة بن قاسم ، وقال : هو ثقة عندهم جميعاً. راجع : تهذيب الكمال ، المزي : 29 / 360 تهذيب التهذيب ، ابن حجر : 10 / 384 - 385.
2- تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : 13 / 289 ، تهذيب الكمال ، المزي : 12 / 359 - 360 ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 12 / 135 ، تهذيب التهذيب ، ابن حجر : 10 / 384 ، وفيات الأعيان ، ابن خلكان : 6 / 397 - 398.
3- ويقال : إنَّ ابن السكيت كان من خاصّة الإمام محمّد الجواد والإمام علي الهادي علیهماالسلام ، ومن محبّي الإمام علي أميرالمؤمنين علیه السلام وأهل بيت النبي صلی اللّه علیه و آله . راجع : ترتيب إصلاح المنطق ، ابن السكيت الأهوازي : 6.

فقال : بل قنبر (1).

فأمر الأتراك ، فداسوا بطنه ، فمات بعد يوم.

وقيل : حمل ميّتاً في بساط.

قال : وكان في المتوكّل نصب ، مات سنة أربع وأربعين ومئتين (2).

وفي النجوم الزاهرة : قال المتوكل : من أحبُّ إليك : أنا وولداي المؤيَّد والمعتزّ ، أم علي والحسن والحسين علیهم السلام ؟ فقال : واللّه ، إن شعرة من قنبر خادم علي خير منك ومن ولديك (3).

النسائي وأهل الشام

قال محمّد بن موسى المأموني صاحب النسائي : سمعت قوماً ينكرون على أبي عبد الرحمن كتاب الخصائص لعلي علیه السلام ، وتركه تصنيف فضائل الشيخين ، فذكرت له ذلك.

فقال : دخلت دمشق والمنحرف عن عليٍّ علیه السلام بها كثير ، فصنَّفت كتاب الخصائص رجوت أن يهديهم اللّه.

وقيل له وأنا أسمع : ألا تُخرِّج فضائل معاوية؟

فقال : أيَّ شيء أُخرِّج؟ حديث : اللّهم لا تشبع بطنه ، فسكت السائل (4).

ص: 736


1- وفي بعض الأخبار قال له : قنبر خيرٌ منهما ، وأثنى على الحسن والحسين علیهماالسلام بما هما أهله ، وقيل : قال : واللّه إن قنبراً خادم علي علیه السلام خير منك ومن ابنيك. راجع : قاموس الرجال : 9 / 1. تاريخ الخلفاء ، السيوطي : 348.
2- سير أعلام النبلا ، الذهبي : 12 / 18.
3- النجوم الزاهرة : 2 / 318.
4- تذكرة الحفاظ ، الذهبي : 2 / 699 ، خصائص أميرالمؤمنين علیه السلام ، النسائي : 23.

وقال محمّد بن إسحاق الإصبهاني : سمعت مشايخنا بمصر يذكرون أن أبا عبدالرحمن فارق مصر في آخر عمره ، وخرج إلى دمشق ، فسئل بها عن معاوية ابن أبي سفيان وما روي من فضائله.

فقال : لا يرضى معاوية رأساً برأس حتى يفضل؟!

قال : فما زالوا يدفعون في حضنيه حتى أخرج من المسجد ، ثمَّ حمل إلى الرملة ، ومات بها سنة ثلاث وثلاث مئة ، وهو مدفون بمكة (1).

قال الحافظ أبو نعيم : مات بسبب ذلك الدوس فهو مقتول (2).

وقال الحاكم أبو عبداللّه بن البيع الحافظ : حدَّثني علي بن عمر الحافظ أنه لما امتحن بدمشق - أعني النسائي - قال : احملوني إلى مكة! فحمل إلى مكة وتوفِّي بها ، وهو مدفون بين الصفا والمروة ، وكانت وفاته في شعبان سنة ثلاث وثلاثمائة (3).

الكنجي الشافعي وبعض المتعصِّبين النواصب

جاء في ترجمة الكنجي هو الحافظ فخر الدين أبو عبداللّه محمّد بن يوسف بن محمّد الكنجي الشافعي ، فقد قتل عام 658 في سبيل نشر فضائل أميرالمؤمنين علیه السلام ، فألَّف كتاباً باسم : كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب علیه السلام ، وكتاباً آخر باسم : البيان في أخبار صاحب الزمان علیه السلام ، فنشرهما في دمشق الشام ، فقتل في جامعه بلا مبرِّر ولا مسوِّغ سوى أنه قام بواجبه في نشر

ص: 737


1- معرفة علوم الحديث ، الحاكم النيسابوري : 83.
2- شذرات الذهب ، ابن عماد الحنبلي : 2 / 240.
3- المستفاد من ذيل تاريخ بغداد ، ابن الدمياطي : 1 / 35.

فضائل الوصيِّ علیه السلام .

قال في أول كتابه : لمَّا جلست يوم الخميس لست بقين من جمادي الآخرة سنة 647 بالمشهد الشريف بالحصباء من مدينة الموصل ودار الحديث المهاجريّة ، حضر المجلس صدور البلد من النقباء والمدرِّسين والفقهاء وأرباب الحديث ، فذكرت بعد الدرس أحاديث ، وختمت المجلس بفصل في مناقب أهل البيت علیهم السلام .

فطعن بعض الحاضرين لعدم معرفته بعلم النقل في حديث زيد بن أرقم في غدير خم ، وفي حديث عمار في قوله صلی اللّه علیه و آله : طوبى لمن أحبَّك ، وصدّق فيك (1).

فدعتني الحميّة لمحبَّتهم على إملاء كتاب يشتمل على بعض ما رويناه من مشايخنا في البلدان من أحاديث صحيحة من كتب الأئمّة والحفّاظ في مناقب أميرالمؤمنين علي كرَّم اللّه وجهه (2).

ص: 738


1- مسند أبي يعلى الموصلي : 3 / 178 - 179 ح 1602 ، الموفَّق الخوارزمي : 116 ح 126 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 42 / 281 ، ذخائر العقبى ، أحمد بن عبداللّه الطبري : 92 ، نظم درر السمطين ، الزرندي : 102 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 11 / 622 ح 33030.
2- المناقب ، الموفق الخوارزمي : 11 - 12 المقدمة ، كفاية الطالب ، الكنجي الشافعي ، طبع النجف الأشرف ، تحقيق الشيخ محمّد هادي الأميني : 12.

مصادر الكتاب

حرف الألف

1 - الآحاد والمثاني : ابن أبي عاصم ( ت 287 ) نشر دار الدراية للطباعة والنشر والتوزيع السعودية الرياض ، الطبعة الأولى 1411 ه- - 1991 م.

2 - الإحتجاج : الشيخ الطبرسي ، أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي تعليقات وملاحظات السيد محمّد باقر الخرسان ، طبع في مطابع النعمان النجف الأشرف حسن الشيخ إبراهيم الكتبي 1386 ه- - 1966 م.

3 - أحكام القرآن : أبو بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص المتوفى سنة 370 ه- ضبط نصه وخرج آياته عبد السلام محمّد علي شاهين ، دار الكتب العلمية بيروت - لبنان الطبعة الأولى 1415 ه- - 1994 م.

4 - الأحكام في أصول الأحكام : علي بن محمّد الآمدي ، نشر المكتب الإسلامي الطبعة الثانية 1402 ه- بيروت - لبنان.

5 - إختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشي : لشيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي تصحيح وتعليق المعلم الثالث ميرداماد الاسترابادي ، نشر مؤسسة آل البيت علیهم السلام طبع : مطبعة بعثت - قم تأريخ الطبع : 1404 ه.

ص: 739

6 - أخيرا أشرقت الروح : الأستاذه لمياء حمادة ، نشر دار الخليج العربي.

7 - الأدب المفرد : محمّد بن إسماعيل البخاري المتوفى سنة 256 ه- ، نشر مؤسسة الكتب الثقافية الطبعة الأولى 1406 ه- - 1986 م تحقيق السيد مهدي الرجائي ، الطبعة الأولى 1418 ه- قم المقدسة.

8 - الأربعين في إمامة الأئمة الطاهرين علیهم السلام : محمّد طاهر بن محمّد حسين الشيرازي النجفي القمي المتوفى سنة ( 1098 ه- ) تحقيق السيد مهدي الرجائي ، الطبعة الأولى 1418 ه- قم المقدسة - إيران.

9 - الإرشاد : الشيخ المفيد ، أبو عبد اللّه محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي ( 336 - 413 ه- ) تحقيق مؤسسة آل البيت علیهم السلام لتحقيق التراث.

10 - أسباب النزول : أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري ، ( ت 468 ه- ) ، نشر مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع 1388 ه- - 1968 م توزيع دار الباز مكه المكرمة.

11 - أسد الغابة في معرفة الصحابة : عز الدين أبو الحسن على بن أبي الكرم محمّد بن محمّد الشيباني المعروف بابن الأثير ، انتشارات اسماعيليان تهران - ناصر خسرو.

12 - أسرار الشهادات : الشيخ آغا بن عابد الشيرواني الحائري المعروف بالفاضل الدربندي ( ت 1285 ) تحقيق الشيخ محمّد جمعة بادي ، والأستاذ عباس ملا عطية الجمري ، نشر ذوي القربى الطبعة الأولى 1420 ه- قم المقدسة - إيران.

13 - الإصابة في تمييز الصحابة : الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 ه- نشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان.

ص: 740

14 - الأصول العامة للفقه المقارن : العلامة السيد محمّد تقي الحكيم. نشر مؤسسة آل البيت علیهم السلام للطباعة والنشر ، الطبعة الثانية 1979 م.

15 - أضواء على السنة المحمدية : الشيخ محمود أبو ريه ، الطبعة الخامسة.

16 - إعلام الورى بأعلام الهدى : أمين الإسلام الشيخ أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي من أعلام القرن السادس الهجري ، تحقيق مؤسسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث.

17 - الأمالي : الشيخ المفيد ، أبو عبد اللّه محمّد بن محمّد بن النعمان العكبرى البغدادي ، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية قم المقدسة.

18 - الأمالي : الشيخ الصدوق أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ، تحقيق : قسم الدراسات الإسلامية - مؤسسة البعثة - قم الطبعة : الأولى 1417 ه.

19 - الإمامة والسياسة المعروف بتأريخ الخلفاء : ابن قتيبة الدينوري الناشر : انتشارات الشريف الرضي سنة الطبع : 1413 ه- الطبعة : الأولى في إيران المطبعة : أمير - قم المقدسة.

20 - أمل الآمل : الشيخ محمّد بن الحسن الحر العاملي المتوفى سنة 1104 ه- تحقيق السيد أحمد الحسيني ، نشر مكتبة الأندلس شارع المتنبي بغداد ، مطبعة الآداب - النجف الأشرف - العراق.

ص: 741

حرف الباء

21 - بحار الأنوار : فخر الأمة المولى الشيخ محمّد باقر المجلسي قدس سره ، الطبعة الثانية 1403 ه- - 1983 م نشر مؤسسة الوفاء - بيروت - لبنان.

22 - بداية المجتهد ونهاية المقتصد : القاضي أبو الوليد محمّد بن أحمد بن رشد القرطبي الأندلسي الشهير ( بابن رشد الحفيد ) المتوفى سنة 595 ه- نشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.

23 - البداية والنهاية : إسماعيل بن كثير الدمشقي المتوفى سنة 774 ه- ، نشر دار إحياء التراث العربي ، الطبعة الأولى 1408 ه. 1988 م.

24 - بلاغات النساء : أبو الفضل بن أبي طاهر المعروف بابن طيفور المتوفى سنة 380 ه- منشورات مكتبة بصيرتي قم - شارع إرم.

25 - بنور فاطمة اهتديت : الكاتب السوداني الأستاذ عبد المنعم حسن ، نشر دار المعروف للطباعة والنشر ، الطبعة الأولى 1419 ه- قم المقدسة - إيران.

حرف التاء

26 - تأريخ بغداد أو مدينة السلام : أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي المتوفى سنة 463 ه- ، نشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان.

27 - تأريخ الطبري ( تأريخ الأمم والملوك ) : أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري ، تصحيح نخبة من العلماء الأجلاء ، نشر مؤسسة الأعلمي ، بيروت - لبنان.

28 - التأريخ الكبير : أبو عبداللّه محمّد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي البخاري المتوفى سنة ( ت 256 ) طبع تحت مراقبة الدكتور محمّد عبد المعيد

ص: 742

خان.

29 - تأريخ المدينة المنورة ( أخبار المدينة النبوية ) : ابن شبه أبو زيد عمر بن شبه النميري البصري 173 ه- - 262 ه- نشر دار الفكر - قم شارع إرم - إيران.

30 - تأريخ مدينة دمشق : الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن ابن هبة اللّه بن عبد اللّه الشافعي المعروف بابن عساكر 571 ه- - نشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع 1415 ه- / 1995 م بيروت - لبنان.

31 - تأريخ اليعقوبي : أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب ابن واضح الكاتب العباسي المعروف باليعقوبي ( ت 284 ه- ) دار صادر ، بيروت - لبنان.

32 - تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة : العلامة المتبحر السيد شرف الدين علي الحسيني الإسترابادي النجفي من مفاخر أعلام القرن العاشر ، تحقيق ونشر مدرسة الامام المهدي علیه السلام ( قم المقدسة - إيران ).

33 - تأويل مختلف الحديث : أبو محمّد عبداللّه بن مسلم بن قتيبة ( ت 276 ه- ) نشر دار الكتب العلمية ، بيروت - لبنان.

34 - التبيان في تفسير القرآن : شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي ( ت 460 ه- ) ، نشر دار إحياء التراث العربي.

35 - تحف العقول عن آل الرسول صلی اللّه علیه و آله : أبو محمّد الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحراني رحمه اللّه من أعلام القرن الرابع نشر مؤسسة النشر الإسلامي قم المشرفة ( إيران ) الطبعة الثانية 1404 ه.

36 - تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي : الحافظ أبو العلاء محمّد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري ت 1353 ه- ، الطبعة الأولى 1410 ه-

ص: 743

1990 م ، نشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان.

37 - تذكرة الحفاظ : أبو عبد اللّه شمس الدين الذهبي المتوفى سنة 748 ه- نشر دار إحياء التراث العربي ، بيروت - لبنان.

38 - تذكرة الموضوعات : محمّد طاهر بن علي الهندي الفتني المتوفى سنة 986 ه.

39 - ترتيب إصلاح المنطق : الشيخ محمّد حسن بكائي ، نشر مجمع البحوث الإسلامية ، إيران - مشهد المقدسة ، الطبعة الأولى : 1412 ه.

40 - تفسير العياشي : أبو النظر محمّد بن مسعود بن عياش السلمي السمرقندي المعروف بالعياشي ، نشر محمود الكتابجي وأولاده ، طهران.

41 - تفسير القرآن العظيم : أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي المتوفى سنة 774 ه- نشر دار المعرفة 1992 م - 1412 ه- بيروت - لبنان.

42 - تفسير القمي : أبو الحسن علي بن إبراهيم القمي ( من أعلام القرن 3 - 4 ه- ( صححه وعلق عليه وقدم له العلامة السيد طيب الموسوي الجزائري ، نشر مؤسسة دار الكتاب للطباعة والنشر قم - إيران الطبعة : الثالثة عام 1404 ه.

43 - تنوير الحوالك شرح على موطأ مالك : جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي الشافعي المتوفى سنة 911 ه- ، نشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان الطبعة الأولى 1418 ه- - 1997 م.

44 - تهذيب الأحكام في شرح المقنعة للشيخ المفيد رضوان اللّه عليه : تألف شيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسى المتوفى سنة 460 ه- ، نشر دار الكتب الإسلامية ، طهران بازار سلطاني.

45 - تهذيب التهذيب : شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني

ص: 744

المتوفى سنة 528 ه- نشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ، الطبعة الأولى 1404 ه- - 1984 م.

46 - تهذيب الكمال في أسماء الرجال : جمال الدين أبي الحجاج يوسف المزي 742 ه- مؤسسة الرسالة ، الطبعة الرابعة 1406 - 1985 م.

47 - تهذيب المقال : الفقيه السيد محمّد علي الموحد الأبطحي الطبعة الثانية ، قم المقدسة 1417 ه- ، نشر ابن المؤلف السيد محمّد حفظه اللّه تعالى.

حرف الجيم

48 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن : أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 ه- تخريج صدقي جميل العطار ، نشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع 1415 ه- - 1995 م.

49 - الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير : جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ( 911 ه- ) ، نشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ، بيروت.

50 - الجامع لأحكام القرآن : أبو عبد اللّه محمّد بن أحمد الأنصاري القرطبي ( ت 671 ه- ) نشر دار إحياء التراث العربي بيروت - لبنان 1405 ه- - 1985 م.

51 - جواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام : شمس الدين أبو البركات محمّد بن أحمد الدمشقي الباعوني الشافعي المتوفى سنة 871 ه- نشر مجمع إحياء الثقافة الإسلامية ، الطبعة : الأولى 1415 ه.

52 - الجوهرة في نسب الإمام علي وآله علیهم السلام : محمّد بن أبي بكر الأنصاري التاهساني المعروف بالبري ، نشر مكتبة النوري دمشق الطبعة

ص: 745

الأولى 1402 ه- - 1982 م.

حرف الحاء

53 - حوارات ، تجربة عملية في الحوار السني الشيعي : الكاتب السوداني الشيخ معتصم السيد أحمد ، نشر مؤسسة البلاغ ، الطبعة الأولى ، 1425 ه- - 2004 م بيروت - لبنان ، التوزيع في سوريا - دمشق - السيدة زينب علیهاالسلام مكتبة دار الحسنيين علیهماالسلام .

حرف الخاء

54 - الخصال : الصدوق أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي المتوفى سنة 381 ه- ، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية ، قم المقدسة.

55 - خصائص الوحي المبين : الحافظ ابن البطريق شمس الدين يحيى بن الحسن الأسدي الربعي الحلي ( ت 600 ه- ) تحقيق الشيخ مالك المحمودي الطبعة الأولى سنة 1417 ه- نشر دار القرآن الكريم قم المقدسة - إيران.

56 - خصائص أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام : الحافظ أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي الشافعي ( ت 303 ) تحقيق محمّد هادي الأميني.

حرف الدال

57 - الدر المنثور في التفسير بالمأثور : جلال الدين عبد الرحمن ابن أبي

ص: 746

بكر السيوطي ( ت 911 ) نشر دار الفكر ، بيروت - لبنان.

58 - الدر النظيم في مناقب الأئمة اللّهاميم علیهم السلام : الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي من أعلام القرن السابع ، تحقيق ونشر مؤسسة النشر الإسلامي الطبعة الأولى 1420 ه.

59 - دعائم الإسلام : القاضي الأجل أبو حنيفة النعمان بن محمّد بن منصور بن أحمد بن حيون التميمي المغربي ، نشر دار المعارف بمصر 1383 ه- - 1963 م.

60 - دلائل الإمامة : المحدّث الشيخ أبو جعفر محمّد بن جرير بن رستم الطبري الصغير من أعلام القرن الخامس الهجري ، تحقيق قسم الدراسات الإسلامية ، مؤسسة البعثة قم المقدسة - إيران ، الطبعة : الأولى 1413 ه.

حرف الذال

61 - ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى : الحافظ محب الدين أحمد بن عبد اللّه الطبري ( ت 694 ) عن نسخة دار الكتب المصرية ، ونسخة الخزانة التيمورية ، نشر مكتبة القدسي ، القاهرة سنة 1356 ه.

62 - الذريعة إلى تصانيف الشيعة : العلامة الشيخ آغا بزرك الطهراني ، نشر دار الأضواء بيروت - لبنان الطبعة الثالثة 1403 ه- 1983 م.

63 - ذيل تأريخ بغداد : الحافظ محب الدين أبو عبد اللّه محمّد بن محمود ابن الحسن بن هبة اللّه بن محاسن المعروف بابن النجار البغدادي المتوفى سنة 643 ه- نشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان.

ص: 747

حرف الراء

64 - ربع قرن مع العلامة الأميني : الحاج حسين الشاكري ، الطبعة الأولى 1417 ه- قم المقدسة - إيران.

65 - رجال النجاشي : أبو العباس أحمد بن علي بن أحمد بن العباس النجاشي الأسدي الكوفي ( ت 450 ) تحقيق الحجة السيد موسى الشبيري الزنجاني ، نشر مؤسسة النشر الإسلامي ( التابعه ) لجماعة المدرسين بقم المشرفة ( إيران ).

66 - روضة الواعظين : زين المحدثين محمّد بن الفتال النيسابوري الشهيد في سنة 508 ه- من أعلام القرنين الخامس والسادس الهجريين ، تقديم العلامة الجليل السيد محمّد مهدى السيد حسن الخرسان ، منشورات الرضي قم المقدسة - إيران.

حرف السين

67 - سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد صلی اللّه علیه و آله : محمّد بن يوسف الصالحي الشامي المتوفى سنة 942 ه- الطبعة الأولى 1414 ه- - 1993 م نشر دار الكتب العلمية ، بيروت - لبنان.

68 - السقيفة وفدك : أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري البصري البغدادي المتوفى سنة 323 ه- تقديم وجمع وتحقيق الدكتور الشيخ محمّد هادي الأميني ، شركة الكتبي للطباعة والنشر الطبعة الثانية 1413 ه- 1993 م ، بيروت - لبنان.

69 - سنن ابن ماجة : الحافظ أبو عبد اللّه محمّد بن يزيد القزويني ابن ماجه

ص: 748

( ت 275 ) ، نشر دار الفكر - للطباعة والنشر والتوزيع.

70 - سنن أبي داود : للحافظ أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني المتوفى سنة 275 ه- نشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.

71 - سنن الترمذي ( الجامع الصحيح ) : أبو عيسى محمّد بن عيسى بن سورة الترمذي ( ت 279 ) ، نشر دار الفكر للطباعة والنشر.

72 - السنن الكبرى : الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي (458) نشر دار الفكر.

73 - السنن الكبرى : أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائيع (303) ، نشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان ، الطبعة الأولى 1411 ه- - 1991 م.

74 - سير أعلام النبلاء : شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبي المتوفى سنة 748 ، الطبعة التاسعة 1413 ه- 1993 م نشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان.

75 - سيرة النبي صلی اللّه علیه و آله : ابن هشام الحميري المتوفى سنة 218 ، نشر مكتبة محمّد علي صبيح وأولاده ، بميدان الأزهر بمصر 1383 ه. 1963 م.

حرف الشين

76 - شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار علیهم السلام : القاضي أبو حنيفة النعمان بن محمّد التميمي المغربي المتوفى سنة 363 ه- ، نشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

77 - شرح صحيح مسلم بشرح النووي : نشر دار الكتاب العربي بيروت - لبنان 1407 ه- - 1987 م.

ص: 749

78 - شرح معاني الآثار : أبو جعفر أحمد بن محمّد بن سلامة المصري الطحاوي المتوفى سنة 312 ه- ، نشر دار الكتب العلمية الطبعة الثالثة 1416 ه- - 1996 م.

79 - شرح نهج البلاغة : عز الدين أبو حامد هبة الدين بن محمّد ابن أبيع الحديد ( ت 656 ) تحيق محمّد أبو الفضل إبراهيم ، نشر دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه ، الطبعة الأولى ( 1378 ه- 1959 م ).

80 - الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلی اللّه علیه و آله : القاضي أبو الفضل عياض اليحصبي 544 ه- نشر دار الفكر الطباعة والنشر والتوزيع 1409 ه- - 1988 م دار الفكر بيروت - لبنان.

81 - شواهد التنزيل لقواعد التفضيل في الآيات النازلة في أهل البيت صلوات اللّه وسلامه عليهم : الحافظ الكبير عبيد اللّه بن أحمد المعروف بالحاكم الحسكاني الحنفي النيسابوري من أعلام القرن الخامس الهجري ، نشر وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي الطبعة الأولى 1411 ه- - 1990 م طهران - إيران.

حرف الصاد

82 - الصحابة في حجمهم الحقيقي : الهاشمي بن علي ، نشر مركز الأبحاث العقائدية ، الطبعة الأولى سنة 1420 ه.

83 - صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان : الأمير علاء الدين علي بن بلبان الفارسي المتوفى سنة 739 ه- ، الطبعة الثانية 1414 ه- - 1993 م.

84 - صحيح البخاري : أبو عبد اللّه محمّد بن إسماعيل البخاري الجعفي ( ت 256 ) طبعة بالأوفست عن طبعة دار الطباعة العامرة باستانبول 1401 ه- -

ص: 750

1981 م ، نشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.

85 - صحيح مسلم ( الجامع الصحيح ) : أبو الحسين مسلم بن الحجاج ابن مسلم القشيري النيسابوري ( ت 261 ) نشر دار الفكر بيروت - لبنان.

86 - الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم : الشيخ زين الدين أبو محمّد علي بن يونس العاملي النباطي البياضي المتوفى سنة 877 ، نشر المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية ، الطبعة الأولى - 1384 ه.

87 - الصواعق المحرقة : أحمد بن حجر الهيثمي المكي ( ت 974 ) نشر دار الكتب العلمية ، بيروت - لبنان الطبعة الثالثة 1414 ه.

حرف الطاء

88 - الطبقات الكبرى : محمّد بن سعد بن منيع الزهري (230) نشر دار صادر بيروت - لبنان.

حرف العين

89 - العلل : ( كتاب العلل ومعرفة الرجال ) : أحمد بن محمّد بن حنبل ( ت 241 ) ، نشر المكتب الإسلامي بيروت - دار الخاني الرياض ، الطبعة الأولى 1408 ه- - 1988 م الرياض - السعودية.

90 - علل الدار قطني ( العلل الواردة في الأحاديث النبوية ) : الحافظ أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي الدار قطني ( ت 385 ه- ) نشر دار طيبة الرياض ، الطبعة الأولى 1405 ه- - 1985 م.

91 - علل الشرايع : الصدوق أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن

ص: 751

موسى بن بابويه القمي المتوفى سنة 381 ه- نشر المكتبة الحيدرية ومطبعتها في النجف 1385 ه- - 1966 م.

92 - عمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار علیه السلام : الحافظ يحيى بن الحسن الأسدي الحلي المعروف بابن البطريق ( ت 600 ) نشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة 1407 ه.

93 - عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية : الشيخ المحقق المتتبع محمّد بن علي بن إبراهيم الأحسائي المعروف بابن أبي جمهور ، نشر مطبعة سيد الشهداء علیه السلام قم المقدسة - إيران ، الطبعة الأولى 1403 ه- - 1983 م.

94 - عيون أخبار الرضا علیه السلام : الصدوق أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي المتوفى سنة 381 ، نشر مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت - لبنان الطبعة الأولى 1404 ه- - 1984 م.

95 - عيون الأخبار : ابن قتيبة ، أبو محمّد عبد اللّه بن مسلم الدينوري ( ت 276 ) طبع دار الكتب المصرية بالقاهرة.

حرف الغين

96 - الغدير في الكتاب والسنة والأدب : الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي ، نشر الحاج حسن إيراني صاحب دار الكتاب العربي بيروت - لبنان الطبعة الرابعة 1397 ه- - 1977 م.

حرف الفاء

97 - الفائق في غريب الحديث : جار اللّه محمود بن عمر الزمخشري

ص: 752

المتوفى سنة 583 ه. نشر دار الكتب العلمية الطبعة الأولى 1417 ه- - 1996 م بيروت - لبنان.

98 - فتح الباري شرح صحيح البخاري : الحافظ أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن محمّد ابن حجر العسقلاني الشافعي نزيل القاهرة ( ت 852 ) ، نشر دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت - لبنان ، الطبعة الثانية.

99 - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير : محمّد بن علي بن محمّد الشوكاني وفاته بصنعاء 1250 ه- ، نشر عالم الكتب.

100 - فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي علیه السلام : المحدّث أحمد بن محمّد بن الصديق الحسني المغربي المتوفى سنة 1380 تحقيق محمّد هادي الأميني ، نشر مكتبة الإمام أميرالمؤمنين علیه السلام العامة ، أصفهان - إيران.

101 - فرائد السمطين : المحدّث الكبير إبراهيم بن محمّد بن المؤيد بن عبد اللّه الجويني الخراساني ( ت 730 ) نشر مؤسسة المحمودي للطباعة والنشر ، بيروت - لبنان ، الطبعة الأولى 1398 ه- - 1978 م.

102 - فسيروا في الأرض فانظروا : الدكتور محمّد التيجاني السماوي ، نشر دار المجتبى ، الطبعة الأولى 1425 ه- مركز التوزيع مكتبة بارسا قم المقدسة - إيران.

103 - الفصول المختارة : أبو عبد اللّه محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي الشيخ المفيد ( 336 - 413 ه- ) الطبعة الثانية 1414 ه- 1993 م نشر دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان.

104 - فضائل الصحابة : أحمد بن محمّد بن حنبل ( ت 241 ) نشر دار الكتب العلمية ، بيروت - لبنان.

ص: 753

105 - الفهرست : شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي ( ت 460 ه- ) طبع ونشر مؤسسة ( نشر الفقاهة ) الطبعة الأولى 1417 ه.

106 - فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير صلی اللّه علیه و آله : محمّد عبد الرؤوف المناوي ، نشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان ، الطبعة الأولى 1415 ه- - 1994 م.

حرف الكاف

107 - الكافي : ثقة الإسلام أبو جعفر محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي رحمه اللّه المتوفى سنة 328 / 329 ه- ، نشر دار الكتب الإسلامية مرتضى آخوندي طهران - بازار سلطاني الطبعة الثالثة (1388).

108 - كامل الزيارات : الشيخ الأقدم أبو القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه القمي المتوفى سنة 368 ه- ، الطبعة : الأولى ، نشر مؤسسة نشر الفقاهة.

109 - الكامل في ضعفاء الرجال : الحافظ أبو أحمد عبد اللّه بن عدي الجرجاني ( ت 365 ه- ) نشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ، الطبعة الثالثة 1409 ه- - 1998 م بيروت - لبنان.

110 - كتاب السنة : أبو بكر عمرو بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني المتوفى سنة 287 ه- نشر المكتب الإسلامي الطبعة الثالثة 1413 ه- - 1993 م بيروت - لبنان.

111 - كتاب الفتوح : أبو محمّد أحمد بن أعثم الكوفي ( ت 314 ) ، نشر دار الأضواء الطبعة الأولى 1411 ه- - 1991 م بيروت - لبنان.

112 - كتاب الفهرست : أبو الفرج محمّد بن أبي يعقوب إسحاق المعروف

ص: 754

بالوراق ابن النديم البغدادي ، تحقيق رضا طبعة مصر.

113 - كتاب الوافي بالوفيات ، صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي ( ت 764 ) الطبعة الثانية 1381 ه.

114 - كتاب سليم بن قيس الهلالي : التابعي الكبير سليم بن قيس الهلالي ( ت 76 هجرية ) تحقيق محمّد باقر الأنصاري الزنجاني.

115 - كشف الحجب والأستار عن أسماء الكتب والأسفار : المحقق السيد إعجاز حسين النيسابوري الكنتوري - 1286 - 1240 ه.

116 - الكشف الحثيث عمن رمي بوضع الحديث : برهان الدين الحلبي المتوفى سنة 841 ه- نشر عالم الكتب - مكتبة النهضة العربية الطبعة الأولى 1407 ه.

117 - كشف الخفاء : إسماعيل بن محمّد العجلوني الجراحي المتوفى سنة 1162 ه- ، نشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان الطبعة الثالثة - 1408 ه.

118 - كشف الغمة في معرفة الأئمة علیهم السلام : الإربلي ، أبو الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح ( ت 693 ) ط سنة 1381 نشر مكتبة بني هاشم ، تبريز - إيران.

119 - كشف المحجة لثمرة المهجة : رضي الدين أبو القاسم علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن طاووس الحسني الحسيني المتوفى سنة 664 ه- منشورات المطبعة الحيدرية في النجف الأشرف 1370 ه.

120 - كشف اليقين في فضائل أميرالمؤمنين علیه السلام : الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي 726 ه- الطبعة الأولى 1411 ه- - 1991 م طهران - إيران.

121 - كفاية الأثر في النص على الأئمة الإثني عشر علیهم السلام : أبو القاسم علي بن محمّد بن علي الخزاز القمي الرازي من علماء القرن الرابع ، انتشارات بيدار

ص: 755

مطبعة الخيام - قم المقدسة 1401 ه.

122 - الكفاية في علم الرواية : أبو أحمد بن علي المعروف بالخطيب البغدادي المتوفى سنة 463 ه- نشر دار الكتاب العربي الطبعة الأولى 1405 ه- - 1985 م بيروت - لبنان.

123 - كمال الدين وتمام النعمة : الصدوق أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي المتوفى سنة 381 صححه وعلق عليه علي أكبر الغفاري ، نشر موسسة النشر الإسلامي ( التابعة ) لجماعة المدرسين بقم المشرفة ( إيران ) 1405 ه.

124 - كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال : علاء الدين علي المتقي بن حسام الدين الهندي البرهان فوري المتوفى سنة 975 ، نشر مؤسسة الرساله 1409 ه- - 1989 م - بيروت - لبنان.

125 - كنز الفوائد : أبو الفتح الشيخ محمّد بن علي بن عثمان الطرابلسي الكراجكي المتوفى سنة 449.

حرف اللام

126 - لسان العرب : أبو الفضل جمال الدين محمّد بن مكرم ابن منظور الأفريقي المصري ، نشر أدب الحوزة 1405 ه- قم المقدسة - إيران.

127 - لسان الميزان : الحافظ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 ه- منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت - لبنان الطبعة الثانية 1971 م - 1390 ه.

128 - لقد شيعني الحسين علیه السلام : الكاتب إدريس الحسيني ، نشر دار

ص: 756

الإعتصام - أنوار الهدى ، الطبعة الأولى 1415 ه- قم المقدسة - إيران.

129 - لماذا اخترت مذهب الشيعة : الشيخ محمّد مرعي الأميني الأنطاكي ( ت 1383 ه- ) ، نشر دفتر تبليغات إسلامي ، الطبعة الأولى سنة 1417 ه.

حرف الميم

130 - المتحولون : الشيخ هشام آل قطيط ، نشر دار المحجة البيضاء ، بيروت لبنان - منشورات ذوي القربى قم المقدسة - إيران الطبعة الأولى 1423 ه.

131 - المحاسن : الشيخ أبو جعفر أحمد بن محمّد بن محمّد بن خالد البرقي ، نشر دار الكتب الإسلامية.

132 - المحاسن والمساوئ : الشيخ إبراهيم بن محمّد البيهقي ، نشر دار صادر ، بيروت - لبنان 1390 ه- - 1970 م.

133 - المحتضر : عز الدين أبو محمّد الحسن بن سليمان بن محمّد الحلي من علماء أوائل القرن التاسع ، منشورات المطبعة الحيدرية في النجف 1370 ه- - 1951 الطبعة الأولى.

134 - المحصول في علم أصول الفقه : فخر الدين محمّد بن عمر بن الحسين الرازي ( ت 606 ه- ) الطبعة الثانية 1412 ه- - 1992 م نشر مؤسسة الرسالة بيروت - لبنان.

135 - المحلى : أبو محمّد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم المتوفى سنة 456 ه- ، نشر دار الفكر.

136 - مجمع البيان في تفسير القرآن : أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي

ص: 757

من أعلام القرن السادس الهجري ، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت - لبنان ، الطبعة الأولى 1415 ه- - 1995 م.

137 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد : الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي المتوفى سنة 807 ، نشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان 1408 ه. - 1988 م.

138 - مختصر أخبار شعراء الشيعة : أبو عبداللّه محمّد بن عمران المرزباني الخراساني ( ت 384 ) ، الطبعة الأولى 1388 ه- ، نشر شركة الكتبي ، بيروت - لبنان.

139 - مراصد الإطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع : البغدادي : صفي الدين عبد المؤمن ابن عبد الحق ( ت 739 ) ، ط الأولى 1373 ه- نشر دار المعرفة ، بيروت - لبنان.

140 - مروج الذهب ومعادن الجوهر : المسعودي أبو الحسن علي بن الحسين بن علي ( ت 346 ه- ) ط الثانية 1409 ه- نشر مؤسسة دار الهجرة ، قم المقدسة - إيران.

141 - المزار الكبير : الشيخ أبو عبد اللّه محمّد بن جعفر المشهدي ، تحقيق جواد القيومي الاصفهاني ، نشر مؤسسة النشر الإسلامي الطبعة الأولى 1419 ه.

142 - مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل : خاتمة المحدثين الحاج ميرزا حسين النوري الطبرسي المتوفى سنة 1320 ه- تحقيق مؤسسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث ، الطبعة الأولى 1408 ه- - 1987 م.

143 - مستدرك سفينة البحار : الشيخ علي النمازي الشاهرودي ، المتوفى

ص: 758

سنة 1405 ه- ، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة - إيران.

144 - المستدرك على الصحيحين : الحافظ أبو عبد اللّه الحاكم النيسابوري ( ت 405 ) ، نشر دار المعرفة بيروت - لبنان.

145 - المسترشد في إمامة أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام : العلامة الحافظ محمّد بن جرير بن رستم الطبري الإمامي المتوفى أوائل القرن الرابع الهجري ، نشر مؤسسة الثقافة الإسلامية ، الطبعة الأولى.

146 - المستصفى في علم الأصول : أبو حامد محمّد بن محمّد بن محمّد الغزالي المتوفى سنة 505 ه- نشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان.

147 - مسند أبي داود الطيالسي : الحافظ سليمان بن داود بن الجارود الفارسي البصري الشهير بأبي داود الطيالسي المتوفى سنة 204 ه- نشر دار الحديث بيروت - لبنان.

148 - مسند أبي يعلى الموصلي : الحافظ أحمد بن علي بن المثنى التميمي ( ت 307 ه- ) نشر دار المأمون للتراث دمشق.

149 - مسند أحمد بن حنبل : أبو عبد اللّه أحمد بن محمّد ( ت 241 ) ، نشر دار صادر ، بيروت - لبنان.

150 - مسند الحميدي : الحافظ أبو بكر عبد اللّه بن الزبير الحميدي المتوفي سنة 219 ، نشر دار الكتب العلمية بيروت - لبنان الطبعة الأولى 1409 ه- 1988 م.

151 - مشكاة الأنوار في غرر الأخبار : أبو الفضل علي الطبرسي المتوفى في أوائل القرن السابع الهجري ، نشر دار الحديث ، الطبعة الأولى.

152 - المصنف : الحافظ أبو بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني ( ت 211 ) ،

ص: 759

نشر المجلس الأعلى.

153 - المصنف : الحافظ عبد اللّه بن محمّد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان ابن أبي بسكر بن أبي شيبة الكوفي العبسي المتوفى سنة 235 ه- ، ضبط وتعليق الأستاذ سعيد اللحام ، مكتب الدراسات والبحوث في دار الفكر.

154 - المعجم الأوسط : الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني نشر دار الحرمين للطباعة والنشر والتوزيع 1415 ه- - 1995 م.

155 - معجم البلدان : شهاب الدين أبو عبد اللّه ياقوت بن عبد اللّه الحموي الرومي البغدادي ( ت 626 ) نشر دار إحياء الثراث العربي ، بيروت - لبنان 1399 ه- - 1979 م.

156 - المعجم الكبير : الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني 360 ه- ، الطبعة الثانية.

157 - معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة : زعيم الحوزات العلمية السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي قدس سره ( ت 1313 ه- ) الطبعة الخامسة سنة 1413 ه- - 1992 م.

158 - مع رجال الفكر في القاهرة : السيد محمّد الرضوي ، طبع في قم المقدسة - إيران.

159 - معرفة الثقات : أبو الحسن أحمد بن عبد اللّه بن صالح العجلي الكوفي نزيل طرابلس الغرب ( ت 261 ه- ) الطبعة الأولى 1405 ه- - 1985 م نشر مكتبة الدار بالمدينة المنورة.

160 - معرفة علوم الحديث : الحاكم أبو عبد اللّه محمّد بن عبداللّه الحافظ النيسابوري منشورات دار الآفاق الحديث ، بيروت - لبنان ، الطبعة الرابعة

ص: 760

1400 ه- / 1980 م.

161 - المعيار والموازنة في فضائل الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ( صلوات اللّه عليه ) : أبو جعفر الأسكافي محمّد بن عبد اللّه المعتزلي المتوفى سنة 220 ه- تحقيق الشيخ محمّد باقر المحمودي.

162 - المغني : أبو محمّد عبد اللّه بن أحمد بن محمّد بن قدامة المتوفى سنة 620 ه- ، نشر دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع.

163 - مقاتل الطالبيين : أبو الفرج الأصفهاني ( ت 356 ) الطبعة الثانية ، نشر المكتبة الحيدرية ومطبعتها في النجف الأشرف 1385 ه- - 1965 م.

164 - الملل والنحل : الشهرستاني أبو الفتح محمّد بن عبد الكريم ( ت 548 ) ط الثانية نشر مكتبة الأنجلو المصرية.

165 - المناقب : الموفق بن أحمد بن محمّد المكي الخوارزمي المتوفى سنة 568 ه- نشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة الطبعة الثانية سنة 1411 ه.

166 - مناقب الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام : الحافظ محمّد بن سليمان الكوفي القاضي من أعلام القرن الثالث ، نشر مجمع إحياء الثقافة الإسلامية الطبعة الأولى ، 1412 ه- إيران - قم المقدسة.

167 - مناقب آل أبي طالب : الحافظ مشير الدين أبو عبد اللّه محمّد بن علي ابن شهر آشوب المازندراني المتوفى سنة 588 ه- طبع محمّد كاظم الكتبي صاحب المكتبة والمطبعة الحيدرية سنة 1376 ه- 1956 م النجف الأشرف - العراق.

168 - مناظرة الشيخ حسين بن عبد الصمد العاملي مع أحد علماء حلب :

ص: 761

تحقيق شاكر شبع ، نشر مؤسسة قائم آل محمّد صلی اللّه علیه و آله ، الطبعة الأولى 1412 قم المقدسة - إيران.

169 - مناظرة لطيفة : نشر مؤسسة في طريق الحق ، مطبعة سلمان الفارسي 1418 ه- قم المقدسة - إيران.

170 - من حقي أن أكون شيعية : الكاتبة السودانية السيدة أم محمّد علي المعتصم ، نشر مؤسسة البلاغ ، الطبعة الأولى ، 1425 ه- - 2004 م بيروت - لبنان ، التوزيع في سوريا - دمشق - السيدة زينب علیهاالسلام مكتبة دار الحسنيين علیهماالسلام .

171 - من لا يحضره الفقيه : الصدوق أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين ابن بابويه القمي المتوفى سنة 381 ، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة ، الطبعة الثانية.

172 - مواقف الشيعة : علي الأحمدي الميانجي ، نشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ، قم المشرفة ، الطبعة : الأولى 1416.

173 - الموطأ : مالك بن أنس ، نشر دار إحياء التراث العربي بيروت - لبنان 1406 ه- - 1985 م.

174 - ميزان الاعتدال في نقد الرجال : أبو عبداللّه محمّد بن أحمد بن عثمان المتوفى سنة 748 ه- ، نشر دار المعرفة للطباعة والنشر ، بيروت - لبنان.

حرف النون

175 - النزاع والتخاصم : تقي الدين أحمد بن علي المقريزي ( ت 845 ه- ) تحقيق السيد علي عاشور.

ص: 762

176 - النصائح الكافية لمن يتولى معاوية : الشريف السيد محمّد بن عقيل بن عبداللّه بن عمر بن يحى العلوي المتوفى سنة 1350 ه- نشر دار الثقافة للطباعة والنشر إيران - قم المقدسة الطبعة الأولى : 1412 ه.

177 - النص والإجتهاد : السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي ، الطبعة الأولى 1404 ه- سيد الشهداء علیه السلام قم المقدسة - إيران.

178 - نظم درر السمطين في فضائل المصطفى والمرتضى والبتول والسبطين علیهم السلام : جمال الدين محمّد بن يوسف بن الحسن بن محمّد الزرندي الحنفي المدني المتوفى عام 750 ه- الطبعة الأولى 1377 ه- - 1958 م.

179 - النهاية في غريب الحديث والأثر : مجد الدين أبو السعادات المبارك ابن محمّد بن الأثير الأجزري المتوفى سنة 606 ه- منشورات محمّد علي بيضون ، دار الكتب العلمية ، بيروت - لبنان الطبعة الأولى 1418 ه- 1997 م.

180 - نهج البلاغة ، خطب الإمام علي علیه السلام نشر : دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت - لبنان.

181 - نهج الحق وكشف الصدق : الحسن بن يوسف المطهر الحلي ( ت 736 ) تعليق الشيخ عين اللّه الأرموي ، نشر دار الهجرة ، قم المقدسة - إيران.

حرف الواو

182 - وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة : المحدّث الشيخ محمّد ابن الحسن الحر العاملي المتوفى سنة 1104 ه- تحقيق مؤسسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث 1414 قم المقدسة - إيران.

ص: 763

حرف الهاء

183 - هشام بن الحكم رائد الحركة الكلامية في الإسلام : الشيخ عبد اللّه نعمة ، الطبعة الثانيه ، 1405 ه- نشر دار الفكر اللبناني ، بيروت - لبنان.

حرف الياء

184 - ينابيع المودة لذوي القربى : الشيخ سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي ( ت 1294 ه- ) ، نشر : دار الأسوة ، الطبعة : الأولى : 1416 ه.

ص: 764

المحتويات

مقدمة الكتاب... 5

بعض المناظرات في الفهارس والكتب... 7

المناظرة الأُولى

مناظرة أميرالمؤمنين علیه السلام مع أبي بكر في الخلافة واحتجاجه عليه بثلاث وأربعين خصلة... 27

المناظرة الثانية

مناظرة الإمام الباقر علیه السلام مع هشام بن عبد الملك... 32

المناظرة الثالثة

مناظرة الإمام الباقر علیه السلام مع عمر بن عبد العزيز في الخلافة... 37

المناظرة الرابعة

مناظرة الإمام الباقر علیه السلام مع الحروري... 38

ص: 765

المناظرة الخامسة

مناظرة الإمام الصادق علیه السلام مع أبي حنيفة في أربعين مسألة... 44

المناظرة السادسة

مناظرة الإمام الصادق علیه السلام مع عمرو بن عبيد في الخلافة وشؤونها... 46

المناظرة السابعة

مناظرة الإمام الصادق علیه السلام مع القاضي ابن أبي ليلى في وجوب متابعة علي بن أبي طالب علیه السلام 52

المناظرة الثامنة

مناظرة الإمام الصادق علیه السلام مع القاضي غيلان بن جامع... 56

المناظرة التاسعة

مناظرة الإمام الصادق علیه السلام وبعض أصحابه مع الشامي... 59

المناظرة العاشرة

مناظرة الإمام الرضا علیه السلام مع يحيى بن الضحاك السمرقندي... 62

المناظرة الحادية عشرة

مناظرة فروة بن عمرو مع قيس بن مخرمة لمَّا بويع أبو بكر... 65

ص: 766

المناظرة الثانية عشرة

مناظرة المقداد مع عبد الرحمن بن عوف بعد تولّي عثمان الخلافة... 66

المناظرة الثالثة عشرة

مناظرة ابن عباس مع عمر... 69

المناظرة الرابعة عشرة

مناظرة سعد بن أبي وقاص مع معاوية في حرمة قتال أميرالمؤمنين علیه السلام ... 71

المناظرة الخامسة عشرة

مناظرة ابن عباس مع عتاب بن الأعور... 75

المناظرة السادسة عشرة

مناظرة ابن عباس مع عائشة في دفن الإمام الحسن علیه السلام عند جدِّه النبي صلی اللّه علیه و آله ومنع مروان بن الحكم من دفنه... 81

المناظرة السابعة عشرة

مناظرة رجل من بني سعد مع طلحة والزبير في خروج عائشة... 87

المناظرة الثامنة عشرة

مناظرة رجل مع عبد الملك بن مروان... 89

ص: 767

المناظرة التاسعة عشرة

مناظرة الأعمش مع أبي حنيفة... 91

المناظرة العشرون

مناظرة أبي الحسن علي بن ميثم رحمه اللّه مع أبي الهذيل العلاف... 93

المناظرة الحادية والعشرون

مناظرة هشام بن الحكم مع حفص بن سالم في الخلافة بعد النبي صلی اللّه علیه و آله ... 94

هشام بن الحكم وروح النقد... 99

المناظرة الثانية والعشرون

مناظرة مؤمن الطاق مع بعض الحروريّة بمحضر أبي حنيفة وسفيان الثوري في الخليفة بعد النبي صلی اللّه علیه و آله... 102

المناظرة الثالثة والعشرون

مناظرة مؤمن الطاق مع أبي حنيفة في حديث ردِّ الشمس... 111

المناظرة الرابعة والعشرون

مناظرة مؤمن الطاق مع أبي حنيفة في حلّيّة المتعة... 112

ص: 768

المناظرة الخامسة والعشرون

مناظرة عمرو بن أذينة مع القاضي عبدالرحمن بن أبي ليلى في وجوب اتّباع أمير المؤمنين علیه السلام... 114

المناظرة السادسة والعشرون

مناظرة شريك مع المهدي العباسي في إمامة أميرالمؤمنين علیه السلام ... 118

المناظرة السابعة والعشرون

مناظرة سعد بن عبداللّه القمي مع بعض النواصب... 120

المناظرة الثامنة والعشرون

مناظرة الشيخ المفيد رحمه اللّه مع القاضي عبد الجبار في حديث الغدير... 125

المناظرة التاسعة والعشرون

مناظرة الشيخ المفيد مع شيخ من المعتزلة في المأثور عن الأئمة علیهم السلام وخلاف العامة لهم... 128

المناظرة الثلاثون

مناظرة الشيخ المفيد رحمه اللّه مع بعض المعتزلة في فقه أهل البيت علیهم السلام ... 133

ص: 769

المناظرة الحادية والثلاثون

مناظرة الشيخ المفيد مع أبي علي بن شاذان في حديث الأنبياء يورِّثون أم لا... 137

المناظرة الثانية والثلاثون

مناظرة الشريف المرتضى مع علماء الجمهور في الإمامة... 138

المناظرة الثالثة والثلاثون

مناظرة إسماعيل بن علي الفقيه مع بعض الحنابلة... 139

المناظرة الرابعة والثلاثون

مناظرة الأمير أبي الفوارس مع الوزير يحيى بن هبيرة في إيمان أبي طالب علیه السلام ... 141

المناظرة الخامسة والثلاثون

مناظرة إمرأة مع ابن الجوزي... 142

المناظرة السادسة والثلاثون

مناظرة رجل مع قاضي بغداد في تصدُّق أميرالمؤمنين علیه السلام بالخاتم... 143

المناظرة السابعة والثلاثون

مناظرة السيِّد الفندرسكي مع سلطان الهند في شتم معاوية... 145

ص: 770

المناظرة الثامنة والثلاثون

مناظرة مع شيخ من أهل الشام جاء لمناظرة العلامة الحلي رحمه اللّه في الفرقة الناجية... 147

المناظرة التاسعة والثلاثون

مناظرة الشيخ حسين بن عبدالصمد الجبعي العاملي مع بعض فضلاء حلب... 150

البحث في عدالة الصحابة... 156

حديث الأئمة إثنى عشر... 167

المناظرة الأربعون

مناظرة الشيخ محمّد طاهر القمّي الشيرازي مع مفتي الحنفية في عدم الدليل على وجوب اتّباع أحد المذاهب الأربعة... 169

المناظرة الحادية والأربعون

مناظرة رجل من عوام الشيعة مع بعض المتعصِّبين... 171

المناظرة الثانية والأربعون

مناظرة الشيخ الكاظمي مع الآلوسي... 174

المناظرة الثالثة والأربعون

مناظرة الشيخ كاشف الغطاء مع أحمد أمين المصري... 176

ص: 771

المناظرة الرابعة والأربعون

مناظرة العلاّمة الشيخ الأميني رحمه اللّه مع الأستاذ حسين الأعظمي وكيل عميد كلّيّة الحقوق ببغداد في الحديث عن أميرالمؤمنين علیه السلام بما وصفه الوحي الإلهيّ... 179

المناظرة الخامسة والأربعون

مناظرة السيِّد محمّد تقي الحكيم مع أمين مكتبة الأزهر وممثِّل الجزائر في فتح باب الاجتهاد والصحابة... 187

المناظرة السادسة والأربعون

مناظرة السيِّد مهدي الروحاني مع بعضهم في حكم مسح الرجلين في الوضوء... 189

مسح القدمين في كتب السنّة... 196

المناظرة السابعة والأربعون

مناظرة السيِّد مهدي الروحاني مع رجلين مصريين في وجوب اتّباع أهل البيت علیه السلام... 203

المناظرة الثامنة والأربعون

مناظرة السيِّد عبد الكريم الأردبيلي مع جمع من طلبة الجامعة في عدالة الصحابة والخلافة بعد النبي صلی اللّه علیه و آله... 206

ص: 772

المناظرة التاسعة والأربعون

مناظرة السيِّد مرتضى الرضوي مع الدكتور طه حسين في النصِّ على الخلافة ورزيّة يوم الخميس... 209

رأي الدكتور طه حسين في حقيقة عبد اللّه بن سبأ... 215

المناظرة الخمسون

مناظرة السيِّد مرتضى الرضوي مع الأستاذ الكبير عبد الفتاح عبدالمقصود في أحقّيّة الإمام علي بالخلافة بعد الرسول صلی اللّه علیه و آله ... 218

رأي الأستاذ عبد الفتاح عبد المقصود في وصيَّة النبيِّ صلی اللّه علیه و آله بالخلافة... 223

كلام الأستاذ عبد الفتاح في عدم معرفة أكثر الناس بحقيقة الشيعة والتشيُّع... 225

المناظرة الحادية والخمسون

مناظرة السيِّد مرتضى الرضوي مع الشيخ عبد الرحيم عرابي في أمر الصحابة وعائشة 228

المناظرة الثانية والخمسون

مناظرة السيِّد مرتضى الرضوي مع الأستاذ عبد الهادي مسعود في مسألة المتعة وظلامة فاطمة علیهاالسلام... 233

في ظلامات فاطمة علیهاالسلام ... 235

ص: 773

المناظرة الثالثة والخمسون

مناظرة السيِّد مرتضى الرضوي مع الأستاذ محمود محمّد شاكر في بعض المسائل وروايات أبي هريرة... 239

المناظرة الرابعة والخمسون

مناظرة السيِّد مرتضى الرضوي مع الأستاذ عبد اللّه يحيى العلوي في النصوص والأحاديث الدالة على إمامة أميرالمؤمنين علیه السلام والمذاهب الأربعة... 243

المناظرة الخامسة والخمسون

مناظرة الشيخ محمّد الشيعي والأستاذ عادل فيصل السوري في إسلام آباد في عدالة الصحابة 255

نظريَّات حول الصحابة... 259

المناظرة السادسة والخمسون

مناظرة الشيخ العاملي مع صارم الوهابي في مشروعيَّة زيارة النبي صلی اللّه علیه و آله ، والتوسُّل به إلى اللّه تعالى... 278

الردّ الصارم على مزاعم صارم... 297

كلام الصالحي الشامي في مشروعيَّة زيارة النبيِّ صلی اللّه علیه و آله ... 301

ص: 774

من مناظرات المستبصرين

المناظرة السابعة والخمسون

مناظرة الشيخ محمّد مرعي الأنطاكي مع جماعة من أهل السنّة... 307

المناظرة الثامنة والخمسون

مناظرة الشيخ التيجاني مع طه المصري في حديث الثقلين... 311

المناظرة التاسعة والخمسون

مناظرة الدكتور التيجاني التونسي مع بعض مرافقيه في تايلاند فيما جرى للأمّة بعد النبيِّ صلی اللّه علیه و آله... 313

لماذا لم يدعُ أميرالمؤمنين علیه السلام الناس إلى بيعته ولم يغتنم الفرصة؟... 315

كلام فاطمة الزهراء علیهاالسلام في النصِّ على أميرالمؤمنين 7 بالخلافة ولماذا قعد عن حقّه... 318

كلام الشيخ المفيد عليه الرحمة في حديث العباس لأمير المؤمنين علیه السلام ... 320

المناظرة الستون

مناظرة الدكتور التيجاني مع الشيخ علي في كينيا في أمر الصحابة واجتهاداتهم... 324

المناظرة الحادية والستون

مناظرة الدكتور التيجاني مع الشيخ المفتي عزيز الرحمان في بومباي... 336

ص: 775

المناظرة الثانية والستون

مناظرة الدكتور التيجاني مع أبي ياسين في طهران... 343

المناظرة الثالثة والستون

مناظرة الدكتور التيجاني مع أبي لبن متعهد الرابطة الإسلامية في استكهولم... 352

المناظرة الرابعة والستون

مناظرة الدكتور التيجاني مع شرف الدين المصري إمام الرابطة في السويد... 359

المناظرة الخامسة والستون

مناظرة الدكتور التيجاني مع بعض السلفيين في مسألة التوسّل والاستشفاع بالنبي صلی اللّه علیه و آله... 366

المناظرة السادسة والستون

مناظرة الدكتور التيجاني مع بعض السلفيّة في مشروعيّة زيارة القبور... 376

المناظرة السابعة والستون

مناظرة الدكتور أسعد القاسم الفلسطيني مع دكتور أردني... 378

المناظرة الثامنة والستون

مناظرة السيّد حسين الرجا السوري مع بعض علماء العامّة... 381

ص: 776

المناظرة التاسعة والستون

مناظرة السيّد حسين الرجا مع بعض مشايخ السنّة... 384

المناظرة السبعون

مناظرة الكاتب الأستاذ إدريس الحسني المغربي مع بعضهم في معاوية والحجّاج... 386

جملة من أخبار الحجاج في التأريخ... 389

المناظرة الحادية والسبعون

مناظرة الشيخ مروان خليفات الأردني مع صديقه الشيعي في حديث رزيّة الخميس وآثارها... 393

المناظرة الثانية والسبعون

مناظرة لمياء حمادة السوريَّة مع بتول العراقيَّة في كليَّة الشريعة بدمشق في عقائد الشيعة وشرحها كيفيَّة اعتناقها التشيُّع... 397

المناظرة الثالثة والسبعون

مناظرة الهاشمي بن علي التونسي مع بعض الشيعة في حديث العشرة المبشَّرة ووصوله إلى الحقيقة... 411

كلام الأستاذ عبدالمنعم السوداني في حديث العشرة المبشَّرة... 414

ص: 777

المناظرة الرابعة والسبعون

مناظرة المحامي محمّد علي المتوكِّل السوداني مع الدكتور الحبر يوسف نور الدائم... 418

المناظرة الخامسة والسبعون

مناظرة الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني قبل تشيُّعه مع ابن عمِّه المتشيِّع في الإمامة ووجوب البحث عن الحقيقة... 422

المناظرة السادسة والسبعون

مناظرة الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني مع بعض أصدقائه حول العصمة في حديث الثقلين... 428

المناظرة السابعة والسبعون

مناظرة الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني مع بعض السلفيَّة في التوحيد والتوسُّل وصفات اللّه تعالى... 433

المناظرة الثامنة والسبعون

مناظرة الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني مع بعض السلفيَّة في حديث أن الأئمة اثنا عشر... 442

المناظرة التاسعة والسبعون

مناظرة الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني مع بعضهم في حديث أصحابي كالنجوم... 445

ص: 778

المناظرة الثمانون

مناظرة الأستاذ عبد المنعم السوداني وبعض الشيعة مع بعض السلفيّة في أمر معاوية ويزيد... 446

المناظرة الحادية والثمانون

مناظرة الأستاذ عبد المنعم حسن السوداني مع بعضهم في الافتراء على الشيعة وأثر أدعية أهل البيت علیهم السلام... 450

المناظرة الثانية والثمانون

مناظرة هشام آل قطيط مع مجموعة من مشايخ السنّة وتساؤلاته حول عقائد الشيعة ورحلته في البحث عن الحقيقة... 453

مع الشيخ عزّ الدين الخزنوي... 454

إلى الشيخ محمّد نوري... 455

اللقاء مع الدكتور عبد الفتاح صقر المصري... 459

مع الشيخ عبداللّه الهرري... 462

مع الشيخ صالح عيزوقي... 469

مع الشيخ إسماعيل عرناسي... 471

المناظرة الثالثة والثمانون

مناظرة هشام آل قطيط مع الشيخ عبد الأمير الهويدي وغيره وبحثه عن الحقيقة وأشياء يسمعها لأوَّل مرة... 480

رسالة الجاحظ... 481

ص: 779

المناظرة الرابعة والثمانون

مناظرة الشيخ هشام آل قطيط مع العلامة السيِّد علي البدري رحمه اللّه ... 497

اللقاء الأول : لقاء وتعارف... 497

اللقاء الثاني : تحديد موعد للمناظرة والمحاورة... 500

اللقاء الثالث : ( بداية البحث الفعلي والحوار )... 501

مقارنات بين محمَّد صلی اللّه علیه و آله وبين ما اتّبعه علي علیه السلام ... 508

اللقاء الرابع : في قضايا الخلاف وما يتعلَّق بالصحابة... 513

نماذج من مخالفات الصحابة للرسول صلی اللّه علیه و آله ... 515

حقائق لا بد من توضيحها وكشفها... 520

اللقاء الخامس : مناقشة الأدلّة التي يستدلّ بها على خلافة أبي بكر... 525

حوار في النصوص... 525

الوجه الصحيح في حديث صلاة الخليفة أبي بكر... 527

حديث المنزلة ومنازل هارون من موسى علیه السلام ... 534

مقايسة علي علیه السلام بالأنبياء... 539

اللقاء السادس : خبر منع عمر النبيَّ صلی اللّه علیه و آله من كتابة الكتاب... 541

المحاورة بين عمر وابن عباس تكشف عن لثام الحقيقة... 543

كل ممنوع مرغوب... 545

اللقاء السابع : المناقشة في بيعة أبي بكر وحديث الثقلين... 546

حوار في مشفى المجتهد لمدة نصف ساعة!!... 547

لا إجماع على خلافة أبي بكر ... 549

مخالفة أهل البيت علیهم السلام لخلافة أبي بكر... 551

ص: 780

اللقاء الثامن : تأجيل المناظرة... 553

اللقاء التاسع : مسألة كبر السنّ في الخليفة ، وظلامة علي وفاطمة علیهماالسلام ... 554

وثائق تاريخيَّة... 560

الزهراء علیهاالسلام تخاطب الخليفة أبابكر... 562

الزهراء علیهاالسلام تشكو اهتضامها لأبيها... 564

مراجعة صحيح البخاري للوصول إلى الحقيقة... 566

اللقاء الأخير : ودخل النور إلى قلبي بمظلوميَّة فاطمة علیهاالسلام ... 567

المناظرة الخامسة والثمانون

مناظرة الشيخ معتصم السوداني مع الأستاذ عبد المنعم في أن كتب السنّة فيها دلائل على التشيُّع وبداية تحوُّله وبحثه عن الحقيقة... 569

المناظرة السادسة والثمانون

مناظرة الشيخ معتصم السوداني مع الدكتور عمر مسعود في علم الأصول عند الشيعة... 574

المناظرة السابعة والثمانون

مناظرة الشيخ معتصم السوداني مع بعض السلفيين في وجوب اتّباع أهل البيت علیهم السلام والأدلّة على إمامة أميرالمؤمنين علیه السلام... 584

أحداث يوم الجمعة والحوار في التوحيد والتوسل... 610

الجلسة الثانية مع الدكتور عمر مسعود... 618

ص: 781

المناظرة الثامنة والثمانون

مناظرة الشيخ معتصم السوداني مع شيخ السلفيّة في صفات اللّه تعالى والطريق الذي يجب أن تسلكه الأمّة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ... 624

المناظرة التاسعة والثمانون

مناظرة الشيخ معتصم السوداني مع الدكتور عمر مسعود في صلح الإمام الحسن علیه السلام وحديث الثقلين... 636

كلمة في صلح الإمام الحسن علیه السلام وشروطه... 640

المناظرة التسعون

مناظرة أم محمّد علي المعتصم السودانيّة مع خالها وقصّة تشيُّعها... 643

وطرق التشيُّع بابنا... 643

من هم الشيعة... 645

الخلافة بين النص والشورى... 650

الاستدلال بآيات الشورى باطل... 658

حديث اختلاف أمَّتي رحمة... 662

الديمقراطيَّة مبدأ إسلاميٌّ وعقلائيٌّ... 663

الديمقراطيَّة لا تصلح في المجتمع القبلي... 664

خلافة أبي بكر والإجماع... 667

بيعة علي علیه السلام لأبي بكر... 670

أحداث السقيفة... 673

ص: 782

عليٌّ مع الحقِّ والحقُّ مع عليٍّ... 674

الشورى في الواقع العملي... 678

عدالة الصحابة... 679

بيعة علي علیه السلام لأبي بكر... 686

إمامة عليٍّ علیه السلام على نحو الاختيار وليس الجبر... 690

احتجاج السيدة فاطمة الزهراء علیهاالسلام ... 694

مسح الأرجل في الوضوء... 701

أكذوبة المذاهب الأربعة... 703

الشعائر الحسينيّة... 708

الحسين علیه السلام الدمعة الجارية... 714

حوارات ومواقف

الضبّي وعائشة... 719

الأحنف بن قيس وعائشة... 719

الأحنف والحسن البصري... 720

زيد بن صوحان وعائشة... 721

معاوية مع ابن أحور التميمي... 721

معاوية مع أبي الأسود الدؤلي في قصّة الحكمين... 722

معاوية مع رجل يسأله فيرشده إلى أميرالمؤمنين علیه السلام ... 722

معاوية مع محفن بن أبي محفن... 723

عدي ومعاوية... 724

ص: 783

عدي بن حاتم مع عبداللّه بن الزبير... 727

قنبر والحجاج... 727

شهر ابن حوشب والحجاج... 728

عمر بن عبد العزيز مع معلِّمه ومع أبيه... 729

عامر بن عبداللّه بن الزبير وابنه... 730

أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي وابنه... 732

هشام بن الحكم مع أبي عبيدة المعتزلي... 733

مؤمن الطاق مع بعض النواصب... 734

شريك ورجل... 734

نصر بن علي والمتوكل... 734

ابن السكيت والمتوكِّل... 735

النسائي وأهل الشام... 736

الكنجي الشافعي وبعض المتعصِّبين النواصب... 737

مصادر الكتاب... 739

المحتويات... 765

* * *

ص: 784

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.