المؤلف: الشيخ عبد اللّه الحسن
المحقق: الشيخ عبد اللّه الحسن
الناشر: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: 1
الموضوع : العقائد والكلام
تاريخ النشر : 1428 ه.ق
الصفحات: 584
نسخة غير مصححة
المكتبة الإسلامية
مناظرات في الإمامة
الجزء الثالث
ص: 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ
صَدَقَ اللَّهُ العَلِيُّ العَظِيم
ص: 2
مناظرات في الإمامة
الجزء الثالث
تأليف و تحقيق: الشيخ عبداللّه الحسن
منشورات شركة دار المصطفی لإحياء التراث
ص: 3
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولی
1428ه - 2007 م
يطلب من:
لبنان - بيروت - جادة السيد هادي - مفرق الرويس - بناية اللؤلؤة ط1 - ص.ب: برج البراجنة - بعبدا - 2020 1017 - هاتف: 009611540672 سوريا - دمشق - ص.ب: 733 - السيدة زينب - تلفاكس: 00963116470124 محمول: 0096394356584
إيران - قم - خ سمية - 16 متری عباس آباد بلاك 24 تلفاكس: 7738855 - 0098251
البريد الإلكتروني Email: mnmnmn3@hotmail.com
منشورات شركة دار المصطفی لإحياء التراث
ص: 4
إِلَى مَنْ قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ - يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ ، اَللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ وَانصُر مَنْ نَصَرَهُ وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ.
اِلَى مَنْ أَحَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ - مَحَلَّ هَارُونَ مِن مُوسَى ، فَقَالَ : أَنتَ مِنِّى بِمَنزَلَةِ هَارُونَ مِن مُوسَى ، اِلَّا اَنَّهُ لَا نَبِّيَّ بَعدِي. إِلَى مَنْ زَوَّجَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلهِ - ابْنَتَهُ سَيِّدَةَ نِسَاءِ العَالَمِينَ ، وَأَحَلَّ لَهُ مِن مَسجِدِهِ مَا حَلَّ لَهُ ، وَسَدَّ الْأَبْوَابَ اِلَّا بَابَهُ وَاَودَعَهُ عِلمَهُ وَحِكمَتَهُ ، فَقَالَ : أَنَا مَدْيَنَةُ العِلمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا ، فَمَنْ أَرَادَ الحِكَمَةَ فَلْيَأتِهَا مِنْ بَابِهَا .
إِلَيكَ يَا سَيِّدِي اَمِيرَ المُؤمِنِينَ أُهدِي هَذَا المَجهُودَ المُتَواضِعَ رَاجِياً القَبُولَ وَالشَّفَاعَةَ فِي يَوْمٍ لَا يَنْفَعُ فِيهِ مَالٌ وَلَا بَنُونَ اِلَّا مَن اَتَى اللَّهَ بِقَلبٍ سَلِيمٍ.
«يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ» سورة يوسف 88.
عبد اللّه الحسين
ص: 5
ص: 6
لقد أتحفنا الأديب اللامع والشاعر المبدع الأخ الأستاذ فرات الأسدي بهذه القصيدة ومؤرخا لصدور كتابنا فشكرا له على ما جادت به قريحته.
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الأخ العزيز الحسن - رعاه اللّه -.
السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته
أقدم لكم مع الاعتذار ، الأبيات التي كنت وعدتكم بها لكتابكم الكريم ، وقد تطرقت فيها إلى القطيف وبعض مناطقها ثم إلى كتابكم فأرجو القبول.
أخوكم : فرات الأسدي
لأفق به ناعسات الضفاف *** يهدهدها البحر .. حسرى غوافي
يمد إلى حسنها كفه *** فتشهق بالوجد سمر المرافي
ويهتز نخل الهوى والشراع *** ما مل من لجة في الطواف
- كأن لم أطرز على مثله *** دموعي ذاهلة في المنافي
ولم أتذكر بهن الفرات *** مناديل دامعة الارتجاف
ترد إلى فرحتي لونها .. *** وتحملني عبر ذكرى زفاف
زفاف الدم المر في كربلاء *** وزغردة الجرح رهن انتزاف
ونخل الجنوب بأعذاقه *** تدلى الردى ، رائع الاصطفاف! -
... وتصدح أغنية حلوة *** يرقرقها لهب في الشغاف
فتصبو القلوب إلى جمرها *** وتهوي عليها سكارى سلاف
ويندى على كأسها دمها *** وما دمها غير خمر القطاف
به روحها ثمر والدنان *** مفاتنها .. نهبا لارتشافي!
* * *
لأفق به ناعسات الضفاف *** كتبت ، وحبر الوريد القوافي
إلى اليوم في جانحيه النبوغ *** ترف قوادمه والخوافي
ص: 7
ويصطاف بالشمس نوتيها *** وباللؤلؤ الرطب أي اصطياف
تحضنه للوصي الولاء *** وللناكثين القلا والتجافي
وما راعه أن هوج الرياح *** ستأتي له بالسنين العجاف
وأن اللظى شجر علقم *** ستورقه عاقرات الفيافي
بل انثال للنبع يروي الظماء *** وينهل سلساله وهو صافي
* * *
وحيث رعى وده ماجد *** بآبائه ، طاهر في النطاف
على العلم معتكف لا يحول *** فبورك منه طويل اعتكاف
وبورك في يده مزبر *** أبان من الحق أجلى صحاف
وسطر في حيدر مصحفا *** سيطرب سمع الموالي المصافي
ويقرع سمع الخصوم اللدود *** بصوت جرئ جهير الهتاف
يناظر بالحجج الدامغات *** ويروي عن القوم كل اعتراف
بأن الأمامة نص جلي *** وحق علي بها غير خافي
وأبناءه الطاهرين الهداة *** ليس بتفضيلهم من خلاف
إليهم يشير الدليل الصريح *** وعنهم بكل (صحيح) يوافي
فيارب بارك بهم علقتي *** وأحسن لهم أوبتي وانصرافي
وأما تاريخ طبع الكتاب فهو :
أيها الكاتب الذي *** هو للمرتضى ولي
لك فيما جمعته *** خير نص به جلي
ناظر الخصم واثقا *** بكتاب ومقول
وإذا ما ظفرت في *** الرأي منه بمقتل
قل له الحق تاريخه : - *** سل بخ بخ يا علي
1415 ه-
فرات الأسدي
6/ جمادى الثانية / 1415
ص: 8
ولقد أتحفنا كذلك الأديب خادم أهل البيت الخطيب الشيخ محمد باقر الأيرواني النجفي دام عزه بهذه القصيدة ومؤرخا لصدور الكتاب فشكراً له على ما تفضل به.
في كتاب المناظرات نظرنا *** نظرة الشوق بدءه وختامه
فوجدناه جامعا للمغازي *** من بحوث دقيقة باستدامه
وعن السنة المصادر تبدو *** واضحات صريحة بصرامه
ذاك أن النبي لم يوص إلا *** لعلي واللّه أعلى مقامه
وإذا الخصم قد تجاوز ظلما *** فلقد باء وزره وأثامه
إنما الأمر والخلافة خصت *** لقرين الزهراء رمز الكرامة
هل سواه قد كان آمن قبلا *** أسبق الناس معلنا إسلامه
هل أتى (هل أتى) لشخص سواه *** ومن الرب قد حباه وسامه
حبه واجب وفرض أكيد *** وهو للمؤمنين أجلى علامه
حربه حرب أحمد ويقينا *** سلمه سلمه ليوم القيامة
قل لمن أنكر الحقيقة زورا *** وإلى الحق قد ألد خصامه
لا تكن حاقدا على الحق واتبع *** منهج الحق كي تنال السلامه
إن تجاهلت فالحساب عسير *** لك ويل الوبال ثم الملامة
هذه كتبكم تصرح جهرا *** فلراوي الحديث فافهم كلامه
لا تكن كالذي عنادا وبغضا *** ضد آل الرسول سل حسامه
ودعاه نكران فضل علي *** دون جدوى فجد يرمي سهامه
ألزم النفس بالخلاف جحودا *** ليس للجاحدين إلا الندامة
فاقبل النصح من وفي نصوح *** إنما النصح من وفاء الشهامه
كن مع المرتضى بقلب سليم *** وعن الفكر فاطرح أوهامه
فاز بالنصر من يعي ويراعي *** سر إرشاد نفسه اللوامه
دربنا المستقيم للحق يهدي *** وعلى الحق والهدى الاستقامة
من كتاب المناظرات تزود *** تجد الرشد إن أردت اغتنامه
هو نعم الكتاب أقسمت حقا *** وبه الكاتب استثار اهتمامه
فاز في النشأتين وعيا وسعيا *** وبحبل الولاء نال اعتصامه
وسيحظى بالخير والنصر دوما *** كلما للوصي أبدى التزامه
ولمن رام خير دنيا وأخرى *** فبنهج الهدى ينال مرامه
ويقينا أرخت : يبقى بطيب *** لعلي إثبات حق الأمامة
1415 ه-
محمد باقر الايرواني النجفي
ص: 9
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى اللّه على سيد خلقه وخاتم أنبيائه محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم.
1 - طلب إلي أن أقدم لكتاب (مناظرات في الأمامة) في ظروف لم تكن تحملني على هذا النوع من العمل الفكري إن لم تكن تعوقني ، واللّه سبحانه هو المرجو في السراء والضراء وبه المعاذ والملاذ في الشدة والرخاء ، قلت هذا كي يغفر لي القارئ الكريم إن لم يجد في تقديمي هذا كل ما كان يأمل أن يقرأ حول الكتاب وموضوعه.
ولا يعنيني هنا أن أتكلم عن مدلول (المناظرة) لغويا بعد أن اصطلح عليها على أن تؤدي معنى الجدل الكلامي المباشر ، القائم على المواجهة واستماع كل من المتجادلين كلام الاخر والرد عليه في محضر المواجهة ، فتكون قسما من أقسام (الرد) و (النقض).
2 - وإذا كان أول خلاف وقع بين الأمة الخلاف في الأمامة والأمام ، وإذا كان الجدل والنقاش وعرض وجهات النظر ، والرد على الرأي المخالف من طريق الكلام والمواجهة أسبق وقوعا من الرد كتابة وتأليفا - وهذا واضح - فبهذا تكون (المناظرة) والجدل عن طريق الحوار قد سبقت سائر أنواع الجدل والنقاش الفكري سبقا زمنيا ، فلابد لنا من القول بأن المناظرة حول الأمامة قد سبقت كل مناظرة كلامية تدور حول الصراع الفكري الذي حدث بين المسلمين في شتى نقاط الخلاف العقائدي والمذهبي بينهم.
وإن كانت المناظرة حول الأمامة والخلافة في أشكالها الأول قد تأطرت بإطار (الاحتجاج) من المعارضين على الفائزين في الصراع السياسي حول قيادة الأمة ، وقد أعطي لها هذا العنوان : (الاحتجاج) إلا أنه لا يخرجها عن شمول عنوان (المناظرة) لها ، فإن الاحتجاج في نفسه هو نوع من أنواع المناظرة ، ويعتمد على إدلاء الحجج واعتماد الأدلة والاعتبارات المناسبة لتصحيح المعارضة وعدم الخضوع لموقف الفئة الحاكمة أو التي تحاول أن تكسب الحكم ، ولا تسلب من الخصم إمكانية الدفاع عن نفسه وعن وجهات نظره ونقض حجج من يحتج عليه.
بل وإن الغلبة في الحجة والفوز في الخصومة الكلامية إن كانتا في جانب المعارضين ، فإن ذلك يدل دلالة أقوى وآكد على أن الحق معهم ، إذ أن خصومهم الذين يعتزون عليهم بما كسبوه من القدرة السياسية والعسكرية لا يأنفون أن يدلوا بحججهم ونقض حجج معارضيهم ، فإن سكتوا هنا أمام معارضيهم ، فستكون له دلالة أقوى من سكوت أحد المتناظرين.
ومن الواضح الذي لا يخفى على أحد ، لا هو ولا الأسباب والعوامل الموجبة له ، أن المناظرات
ص: 10
حول الأمامة تشكل القسم الأكبر والأوسع من المناظرات الكلامية لعلماء الأمامية ومتكلميهم أعلى اللّه درجتهم ورضي عنهم وأرضاهم.
3 - وهذا الكتاب أول محاولة مستوعبة تجمع كل صورة من صور المناظرة حول الأمامة ، أمكن للمؤلف - حفظه اللّه - أن يصل إليها ، وشيخنا الطبرسي رحمه اللّه وإن كان قد سبقه إليه في كتابه الشهير (الاحتجاج) لكنه لم يخص موضوع كتابه بالأمامة وحدها ، وقد انتهى به إلى عصره وهو القرن السادس ، وقد نظم المؤلف مادة الكتاب حسب التسلسل الزمني ، وهذه حسنة أخرى.
والمناظرة حيث أنها تقوم على الحوار المباشر بين المتناظرين وجها لوجه ، فلا يكون أحدهما هو المدلي بحجته والداخل إلى مجلس القضاء وحده كي يقال : من كان في مثل حاله سيكون هو الفائز بحجته والمنتصر على خصمه الغائب عنه ، وهذه بعض السمات الخاصة للمناظرات والتي تمتاز بها عن بقية أنواع النقاش والرد.
هناك شكل آخر من أشكال المناظرة اصطلح عليه بعنوان (الرد) و (النقض) ويقوم على الاستعانة بالكتابة وتأليف الرسائل والكتب ، وإن كان هذا العنوان لا يختص به من حيث المدلول اللغوي ، وقد أكثر منه عماؤنا الأبرار أيضا وحسبك أن ترجع إلى الذريعة ج 10 ص 174 - 27 ، 354 - 751 فيما جاء بعنوان (الرد) وج 24 ص 283 - 292 ، 459 - 56 فيما جاء بعنوان : (النقض) عدا ماكان له اسم خاص ، فلم يذكر إلا حب وقوع اسمه في موقعه الخاص من سلسلة الحروف العربية.
وذا أضفنا إلى هذين القسمين قسما ثالثا لم يظهر إلا في العصور احديثة وهو المقالات التي لا تنشر إلا في الصحف والمجلات والدوريات ، ويشكل كمية ضخمة لا يستهان بها حجما وعطاء ، وأرجو أن يقيض اللّه سبحانه من يتولى جمعها أو فهرستها ، لأدركنا مدى غزارة هذا التراث الثر المعطاء الذي لا يسعنا أن نفرط به.
وقد أحسن المؤلف صنعا حينما نظم هذه المناظرات حسب التسلسل الزمني لوقوعها ، وبهذا مكن الدارسين من متابعة دراستها للكشف عن نقاط القوة والضعف فيها وفي خلفياتها من حيث قدرة المتناظرين وضعفهما ، وازدهار الثقافة الدينية والتمكن العلمي وضمورهما ، حسب مختلف العصور ، واللّه سبحانه أسأل أن يجعل عمله هذا خالصا لوجهه الكريم وأن يوفقه إلى أن تكون أعماله الاتية - سواء التي ترجع إلى كتابه هذا أو إلى غيره - أوسع وأكمل ، إنه نعم المولى ونعم النصير.
محمد رضا الجعفري
3 / 11 / 1414 ه
ص: 11
تفضل علينا المحقق الكبير آية اللّه الشيخ محمد الغروي دامت تأييداته بهذه الكلمة القيمة بمناسبة صدور كتابنا هذا ، فجزاه اللّه خير الجزاء وشكر اللّه سعيه الدؤوب لإحياءه مآثر أهل البيت عليهم السّلام الخالدة :
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد للّه ، والصلاة والسّلام على محمد رسول اللّه وآله آل اللّه. واللعن الدائم على أعدائهم أعداء اللّه إلى يوم لقاء اللّه.
أمامك عزيزي القارىء الكريم كتاب كريم لو وزن بأوزان ثقيلة لرجح عليها ، ألا وهو : (مناظرات في الإمامة) محاورات فكريّة حرّة في حديث الإمامة من صدر الإسلام إلى يومنا هذا.
بهذا الاسم المبارك أسماه مؤلّفه ومحقّقه أحد حسنات العصر الشيخ عبد اللّه الحسن ، وإذ أبارك له هذه الحسنة الجارية أشعر أنّها نور في الدرب لمن حضر ، وللأجيال القادمة عبر العصور.
قد يقال : ليس من الجميل المناظرة في الإمامة بعد أن أصبحت في ذمّة التأريخ ، ومسألة تاريخية بحتة ، فترى مؤلّف كتاب (فجر الإسلام) في مقدمة (تاريخ القرآن) لأبي عبد اللّه الزنجاني يناقش ، ويرشد إلى حلّ له ، أو لغيره ممّن تسمعه.
يقول في المقدمة مقرّضا ، مناقشا : (... ويعجب المؤرخ أن يرى النزاع يبلغ هذا المبلغ بين فئتين يجمعهما الإعتقاد بأن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمدا رسول اللّه ، وأن المؤمنين إخوة ، ولئن ساغ في العقل أن يقتتلوا أيّام كان هناك نزاع ، فعلى الخلافة من هو أحق [بها] منها ومن يتولاّها ، فليس يسوغ بحال من الأحوال أن يقتتلوا على خلاف أصبح في ذمة التأريخ ، لا يستطيع القتال والنزاع أن يعيده إلى الوجود ، بل أن أصبحت الخلافة نفسها مسألة تاريخية بحتة ، وليس للمسلمين خليفة فعليّ يضم كلمتهم ويجمع شتاتهم ، وأصبح الخلاف خلافا في التاريخ وخلافا في الإجتهاد ، ولو لا ألاعيب السياسة واستغفال الماكرين لعقول العامة ، واحتفاظ أرباب الشهوات والمطامع تجاههم وسلطانهم لا نمحى الخلاف بين الشيعي والسنّي ، ولأصبحوا بنعمة اللّه إخوانا ولتعاونوا على جلب المصالح ودرء المفاسد لجميعهم ، ولنظر بعضهم إلى بعض كما ينظر حنفي إلى مالكي ومالكي إلى شافعي.
وأظنّ أنّ الوقت قد حان لأن يفكّر عقلاء الطائفتين في سبيل الوئام ويعملوا على إحياء عوامل الألفة ، وإماتة الخصام ، ويتركوا للعلماء البحث حرّا في التأريخ ،
ص: 12
ويتلقوا النتائج بصدر رحب كما يتلقّون النتائج في أي بحث علميّ وتاريخيّ ، وتبعة هذا الخلاف تقع على رؤساء الطائفتين ، ففي يدهم تقليله كما في يدهم إشعاله وإنماؤه) المصدر ص 9 - 10.
وفي كتاب السيد مرتضى العسكري المسمّى (أحاديث أمّ المؤمنين عائشة) ص 5 - 6 ، ما يلي بهذا الشأن :
(... ثانيا : يعترض الباحث فيما إذا وفّق إلى ترويض نفسه ، وتذليل العقبة الآنفة الذكر عقبة أخرى بعدها ، وهي الخوف من تأثير نشر هذه الدراسات على وحدة كلمة المسلمين ...
وهل يجوز لمن يغار على مصالح المسلمين أن يبحث اليوم في الماضي السحيق ، وينشر منه ما يوجب النقد والرد ، ويثير الحفيظة وينتج النفرة؟! وإذا كان ذلك مما لا يستسيغه أحد فليمتنع الجميع عن البحث والتحقيق كي لا يسبّب ذلك عقم جهود المصلحين ، ويؤدي بالمسلمين إلى ما لا يحمد عقباه؟!
أمّا نحن فلا نرى هذا ، فإنّنا حين ندعوا اللّه مخلصين أن يوفّق المسلمين لتلبية نداء المصلحين بنبذ الحزازات وتوحيد الكلمة ، لا نريد ذلك على حساب العلم والمعرفة ، ونعتقد أنّ المصلحين أنفسهم أيضا لا يريدونها كذلك ؛ فإنّ المصلحين الغيارى يدعون الى الاجتماع حول صعيد الإسلام ، والإسلام ليس برأي سياسي دولي ، وإنّما هو إيمان وعقيدة ، وهما لا يتأتّيان من كتم الحقيقة ، بل إنّهما ينتجان من بحث وتحقيق ونقد علميّ خالص ، على أن لا ينبعث ذلك من هوى النفس بدافع الحب والبغض ، وإنّ هذا لهو ما يدعو إليه المصلحون ، ونسأل اللّه تعالى أن يوفّقنا إلى الإلتزام بهذا الطريق السّوي ، وهو الموفق إلى الصواب ...
والحق الصحيح أنّ السعي لتقريب المسلمين بعضهم من بعض ، والجهاد في سبيل إعادة حياة إسلاميّة ، والقيام بالبحث والتحقيق في تاريخ الإسلام ، وحديث نبيّه صلّى اللّه عليه وآله لا ينافي بعضهم الآخر ، وإنّما يتمّم بعضهم بعضا ؛ فإنّه لا يتمكن من إقامة مجتمع اسلامي دون جمع الكلمة ، وبلا فهم لقرآنه وحديث نبيّه وتأريخه ، كما لا يتأتى التآخي الصحيح دون الإيمان بوجوب إعادة حياة إسلامية ، وإلاّ فعلى م يجتمع المسلمون؟ وما الذي يوحّد كلمتهم؟ ولا يتأتّى التآخي أيضا دون ترويض المسلمين أنفسهم على سماع آرآء بعضهم ومناقشاتها مناقشة من يطلب الحق ليتبعه ، ليصدق عليهم قول اللّه سبحانه : ( فَبَشِّرْ عِبٰادِ * اَلَّذِينَ
ص: 13
يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) (1) وهذا ما ندعوا إليه ، ونسأل اللّه أن يوفّقنا وجميع إخواننا المسلمين إلى الإهتداء بهذا القول الكريم).
ولو لا الحسن والقبح العقليّان ، وأنّهما أصلان ثابتان في العقول ، لما كان لمدح اللّه وتبشيره العباد المستمعين القول المتّبعين أحسنه موضع ، وليس استماع القول واتباع أحسنه ، ومنه الإمامة مسألة تاريخية ، أو هي في ذمّة التأريخ على حدّ تعبير أحمد أمين ، وهو بين أمرين :
إمّا أن يردّ رغبة القرآن حسن الاستماع واتباع الأحسن إطلاقا ، ومنه المناظرة حول الإمامة ولا سبيل إليه ، وإمّا القبول ، فهلم واستمع قول أوّل واضع للغة العربية والعروض الخليل بن أحمد في عليّ عليه السّلام : (استغناؤه عن الكل واحتياج الكل إليه دليل أنه إمام الكل - كتاب التأسيس ص 150) (جاء العيان فألوى بالأسانيد - مجمع الأمثال 1 / 19 ، حرف الجيم) وكفى بالقرآن والعيان سندا وبيانا ، وقول ابن أبي الحديد المعتزلي في فضائله ، قال :
فأمّا فضائله عليه السّلام ؛ فإنّها قد بلغت من العظم والجلالة والانتشار والاشتهار مبلغا يسمج معه التعرض لذكرها ، والتصدي لتفصيلها ، فصارت كما قال أبو العيناء لعبيد اللّه بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل والمعتمد : رأيتني فيما أتعاطى من وصف فضلك كالمخبر عن ضوء النهار الباهر ، والقمر الزاهر الذي لا يخفى على الناظر ، فأيقنت أنّي حيث انتهى بي القول منسوب إلى العجز ، مقصّر عن الغاية ، فانصرفت عن الثناء عليك إلى الدعاء لك ، ووكلت الإخبار عنك إلى علم الناس بك... شرح النهج 1 / 16 - 30.
الحمد للّه الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لو لا أن هدانا اللّه.
2 جمادى الأولى 1416 ه
محمد الغروي
ص: 14
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم الى يوم الدين.
وبعد :
فإن مسألة الخلافة بعد الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - هي أهم المسائل التي دارت عليها رحى الخلاف بين المسلمين قديما «وحديثا» ، واحتدم فيها الصراع الفكري بينهم وكانت النتيجة الطبيعية لذلك الصراع انقسام الأمة الأسلامية إلى فرق متعددة (1) إلا أن أبرز هذه الفرق فرقتان :
السنة الأشاعرة والشيعة الأمامية وإن كانت هناك فرق أخرى برزت في فترات من التاريخ كالمعتزلة وغيرها ولسنا في مقام التصدي لاستعراض أدلة كل فريق وتقييمها فإن مجاله علم الكلام وإنما نشير إجمالا إلى رأي ذينك الفريقين :
فذهبت العامة إلى أن الخلافة لا نص عليها بل هي موكولة إلى الأمة ، فهي التي تختار الخليفة بعد الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، واختلفوا في كيفية انعقادها بين قائل بالبيعة ، وقائل بالشورى ، وآخر بالأجماع حتى صرح بعضهم بانعقادها بشخصين (2)
ص: 15
وبعضهم صرّح أنها تنعقد أيضاً بالقهر والغلبة (1).
وأما الأمامية فذهبت إلى أن الخلافة لا تكون إلا بالنص انطلاقا من نظرتها الخاصة في مسألة الخلافة باعتبارها منصبا إلهيا وأمره ليس بيد البشر ، وترى لزوم توفر مواصفات معينة في خليفة النبي - صلى اللّه عليه وآله - من قبيل نزاهة الباطن ، التي لا يطلع عليها إلا علام الغيوب.
فتؤكد من هذا المنطلق أنه يجب (2) على اللّه تعالى أن يختار للأمة خليفة للنبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لتناط به مسؤولية الأمة بعده مباشرة ، ويعينه من خلال نص النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - عليه بكل صراحة ووضوح.
ومن هذا المنطلق تحركت الشيعة الأمامية لأثبات نظريتها في الأمامة ووضعت النقاط على الحروف وساقت الكثير من الأدلة والبراهين العقلية والنقلية من خلال الايات القرآنية والأحاديث النبوية المتفق عليها عند جمهور المسلمين لأثبات الأمرين معا :
الأمر الاول : أن الخلافة والأمامة منصب إلهي وعهد رباني لا يناله إلا ذو حظ عظيم يمتاز عن سائر أفراد الأمة بعلمه الجم وفضائله الفائقة وعصمته ونزاهة باطنه. الأمر الثاني : أنه بالفعل تم التعيين بأمر من اللّه تعالى ، وبنص صريح وواضح جلي في مواقف عديدة ومناسبات كثيرة من النبي - صلى اللّه عليه
ص: 16
وآله وسلم - على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - ابتداء بالأنذار يوم الدار وانتهاء بالساعات الأخيرة من حياة النبي - صلى اللّه عليه وآله - فكان لا يدع فرصة يمكنه الأشارة فيها أو التصريح بإمامة علي - عليه السلام - من بعده إلا وبين فيها أمر الأمامة والأمام من بعده ، ولعل أبرز تلك المناسبات قضية الغدير وهي أشهر من أن تذكر ، ولا يختلف في تواترها أحد من المسلمين وإن اختلفوا في دلالة الولاية المنصوص عليها في هذا الحديث المتواتر ، وقد أثبت علماؤنا دلالتها على الأولى بالتصرف.
وانطلاقا من هذا الامر أخذت الشيعة الأمامية تحتج لأحقية أمير المؤمنين - عليه السلام - وأبنائه الأحد عشر - عليهم السلام - في الخلافة ، - مستخدمين في ذلك البراهين النقلية والعقلية - وأثبتوا ذلك في مؤلفاتهم الكثيرة (1) في هذا الشأن قديما وحديثا ، وفي خطبهم وشعرهم وأدبهم فإن أدب الغدير ، وأدب الأمامة والخلافة يحتل جانبا كبيرا من الأدب الاسلامي خصوصا في القرون الأولى.
ومن أقدم تلك الاحتجاجات التي بدأت منذ الساعات الأولى من ارتحال النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - إلى الرفيق الأعلى ، المحاورات والمناظرات حول هذه المسألة التي كانت تدور بين الحين والاخر واستمرت مع التأريخ وتطورت فيها أساليب النقاش ووسائل الأثبات مع اختلاف المناسبات.
ومما لا يخفى أن أسلوب المناظرة من أحسن الأساليب إقناعا ، ومن أسهلها استيعابا ، وأوقعها في النفس ، حيث يتفاعل معها الأدراك من خلال
ص: 17
الأخذ والرد ، ويستفيد منها عامة الناس مع اختلاف مستوياتهم الفكرية.
ومن ناحية أخرى ان طرح موضوع الخلافة كمسألة علمية في اطار المناظرات والتي احتوت على كثير من الحقائق التاريخية والعلمية مما يؤدي الى عمق اكثر في التعرف على نظريات وادلة كل من المذاهب الاسلامية في شؤون الخلافة الاسلامية وخصوصا الشيعة الأمامية والوقوف على نظرياتها في هذه المسألة.
ومن هنا رأيت ان أجمع بعض تلك المحاورات والمناظرات التي جرت في مسألة الخلافة بالذات ، والتي أثبتوا فيها بالأدلة دلالة النصوص المتظافرة على خلافة أمير المؤمنين - عليه السلام - ، مع احتوائها لكثير من الاستدلالات المختلفة المتنوعة ، كما أضفت إليها بعض المناظرات المخطوطة في هذا الباب وقد اعتمدت في إخراجها على المصادر الموثوقة والمعتمدة مع تخريج مصادرها من كتب الجمهور.
وسيلاحظ القارئ الكريم لهذه المناظرات أن وسائل الأثبات في بعضها مرتكزة على الايات الشريفة ، والنصوص المأثورة عن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - المتفق عليها بين الفريقين ، وأخرى على الشواهد والوقائع التاريخية ، وتارة يستدل من خلال بعض الممارسات والمقارنة بينها وبين ممارسات النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في نظائر تلك الوقائع ، كما أن للأدلة العقلية دورا كبيرا في هذا المجال.
وسيلاحظ أيضا أن بعض الاستدلالات بالايات أو الأحاديث أو غيرهما قد تكررت في بعض المناظرات ، إلا أن المتأمل فيها يجد أن كل مناظر له أسلوبه الخاص المتميز في الاستدلال ، وربما تناول فيها جانبا أغفله الاخر ، وإن تكررت فيها نفس النصوص.
ص: 18
وقد آثرنا في فهرسة وترتيب المناظرات الاعتماد على التسلسل التاريخي لوقوعها ، ليتسنى للقارئ الكريم الاطلاع على سيرها في حقل الأمامة في أحقاب زمنية متوالية ، ابتداء من الصدر الأول وإلى وقتنا الحاضر.
وبالأمكان الوقوف - من خلال هذا التسلسل لهذه المناظرات - على وسائل الاستدلال لدى الطرفين عبر عصورها المختلفة ، ومدى تطورها.
وهذا الكتاب ليس هو الأول في هذا الباب بل هناك الكتب الكثيرة التي حوت مثل هذه المناظرات والمحاورات مثل : كتاب الفصول المختارة للشيخ المفيد - أعلى اللّه مقامه - وكتاب الاحتجاج للشيخ الطبرسي - أعلى اللّه مقامه - ، فقد جمع فيه مناظرات واحتجاجات النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - والزهراء والأئمة - عليهم السلام - مع اليهود والنصارى والزنادقة والملاحدة ومع مختلف المذاهب ، والبحار للشيخ المجلسي - أعلى اللّه مقامه - في بعض أجزائه ، والمراجعات للسيد شرف الدين - قدس اللّه سره - ، والغدير للأميني - طاب ثراه - في الجزء الأول ، وغيرها.
إلا أننا اقتصرنا في هذا الكتاب على المناظرات التي جرت بشأن الخلافة والأمامة فقط ، كما مرت الأشارة إليه آنفا.
هذا وباب المناظرات في الخلافة باب لا يسع استيفاؤه ولا يمكن استيعابه ، وعسى أن يكون فيما ذكرناه كفاية لمن طلب الحق في هذا المجال.
وقد رأيت من الضرورة بمكان أن أصدر الكتاب - بمناسبة موضوعه - ببيان لحكم المناظرة في الشريعة الأسلامية وآدابها وتاريخها
ص: 19
في الخلافة ومتى بدأت.
وأخيراً أرجو من القارئ الكريم أن تكون قراءته بدقة وتمعن بالغين ، وبكل موضوعية بعيداً عن التعصب ، ومما لا يخفى على كل باحث أن ترك التعصب وتحكيم العقل يؤدي إلى رؤية الحقيقة بأجلى مظاهرها وأصدق معانيها ، هذا والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها.
واللّه تعالى أسأل في هذه الظروف العصيبة أن يلم شمل المسلمين جميعا ويوحد كلمتهم على الحق ليكونوا يدا» واحدة على أعدائهم قال تعالى : ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (1) وقال تعالى : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) (2) ولا يفوتني أن أقدم جزيل الشكر والامتنان لكل من ساهم في مراجعة وإبراز هذا الكتاب راجياً لهم التوفيق ، وإياه تعالى أسأل أن ينفع بهذه المناظرات إخواني المؤمنين ويجعلها ذخرا ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى اللّه بقلب سليم ، واللّه من وراء القصد والهادي الى سواء السبيل ، وصلى اللّه على محمد واله الطيبين الطاهرين.
عبد اللّه الحسن
يوم الجمعة 29 / 11 / 1413 ه
ص: 20
عرفت المناظرة أو المجادلة في الفلسفة اليونانية باسم : (طوبيقا) ، وهي إحدى الصناعات الخمس المهمة التي ينقسم إليها القياس المنطقي ، ويتوقف فهم هذه الصناعة على مقدمات ومبادئ أساسية لاغنى عنها من يروم الدفاع عما يراه جديراً بالدفاع عنه لشتى الأغراض ، سواء أكان ذلك في مجال العقيدة أم لم يكن.
على أن رجوع طالب المناظرة أو الجدل إلى المصادر الأولية للوقوف على مقدمات ومبادئ هذه الصناعة قد لا يخلو من صعوبة ، لما اكتنف تلك المصادر من غموض في العبارة ، وإجمال يتيه معه المبتدئ في خضم الأساليب المنطقية التي لم يعتدها من قبل ، ولهذا ننصح بالرجوع إلى ما كتبه الشيخ محمد رضا المظفر - رحمه اللّه - في كتابه المنطق ، إذ فيه مادة غنية مبسطة تغني عن الرجوع إلى غيره في تحصيل أوليات المناظرة فيما يتعلق بصناعة الجدل.
ومن المهم أن نشير في هذا التمهيد إلى أن القياسات الجدلية ، - التي ينبغي معرفتها في مقام المناظرة أو المجادلة - تهدف بالدرجة الأساس إلى تحصيل ما يفحم به الخصم عند المناظرة ، وقطع حجته والظهور عليه بين السامعين ، سواء أكان ذلك حقاً أم باطلاً ، إذ ليس الغرض من القياسات الجدلية هو الحق أو الباطل ، وإن كان أحدهما داخلا في طلب ما يفحم به
ص: 21
الخصم ، إلا أنه لم يكن مراداً ومقصوداً بعينه (1).
وهذا ما يفهم من تعريف الجدل أيضاً ، إذ لم يذكر في التعريف أي شرط يقيد معناه بالدفاع عن الحق مثلاً ، ولهذا قالوا : الجدل (صناعة علمية يقتدر معها على إقامة الحجة من المقدمات المسلمة على أي مطلوب يراد ، وعلى محافظة أي وضع يتفق ، على وجه لا تتوجه عليه مناقضة بحسب الأمكان) (2).
ومن هنا كان لا بد من بيان رأي شريعتنا الغراء في المناظرة ما دامت رحاها تدور على إثبات صحة الاراء والأفكار التي يدعيها كل من الطرفين المتناظرين بغض النظر عن موافقة تلك الاراء أو مخالفتها لشريعة الأسلام ، وذلك بحسب التقسيم التالي للمناظرة.
ص: 22
تناول القرآن الكريم في العديد من الايات الشريفة ، وكذلك السنة المطهرة في جملة من الأحاديث ، موضوع المناظرة والجدل تارة بالتأييد وأخرى بالتفنيد ومن هنا يمكن القول بأن المناظرة بحسب نظرة الشريعة الإسلامية تنقسم إلى قسمين وهما :
القسم الأول : المناظرة المشروعة.
القسم الثاني : المناظرة غير المشروعة.
لقد شرع القرآن الكريم المناظرة وجعل لها حدود وضوابط وأكد على ضرورتها وأهميتها ، وذلك في كثير من آيات الذكر الحكيم ، وهذا ما يصور لقارئ القرآن الكريم احتلال المناظرة جانبا «حيويا» في حياة سائر الأديان ، إذ ما من رسول أو نبي إلا وقد ناظر قومه وحاججهم وجادلهم في إثبات صحة ما يدعوهم إليه.
ومما يزيد الأمر وضوحاً هو أن اللّه تعالى قد أمر رسوله الكريم - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بمجادلة المشركين ودعوتهم إلى الحق ، بالحكمة والموعظة الحسنة ، فقال تعالى : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) (1).
ص: 23
كما أمر تعالى بمجادلة أهل الكتاب عن طريق الحكمة والموعظة لما في ذلك من إلانة قلوبهم وانصياعهم إلى الحق ، فقال تعالى : ( وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ .. ) (1).
لأن الغلظة في المناظرة والجدل لا تزيد الطرف الاخر إلا نفوراً ، وعناداً ، وتعصباً ، وتمسكاً بالباطل كما أوضحه تعالى في قوله الكريم : ( وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ .. ) (2).
وهذا ما يكشف عن أسلوب المناظرة النبوية ، فهو الأسلوب الأمثل الذي يجب مراعاته بين المتناظرين.
ومن الأدلة والشواهد القرآنية التي تبين مشروعية المناظرة في الأسلام ، قوله تعالى : ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ، أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ، فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (3).
وهنا يلاحظ ما في جواب من أنكر الأحياء بعد الأماتة ، وما فيه من أدلة عظيمة ، وأسلوب رائع يأخذ بمجامع القلوب ويسوقها طوعا إلى الأذعان والتصديق ، ومنه ينكشف مدى تأثير الدليل وطريقة عرضه ، إذ بهما يخلق من الطرف الاخر إنسانا سلس الانقياد.
ص: 24
ولم يقتصر هذا الأمر على مناظرات نبينا - صلى اللّه عليه وآله - مع مشركي مكة ومجادلتهم بالتي هي أحسن ، وإنما كان ذلك الأسلوب من المناظرة والجدل متبعا من قبل الأنبياء - عليهم السلام - مع مشركي أقوامهم كما في قصة إبراهيم - عليه السلام - مع نمرود كما في قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (1).
ومثله أيضاً ما جاء في محاجة قومه له - عليه السلام - وجوابه لهم كما في قوله تعالى : ( وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ - إلى قوله - فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (2).
ومثله أيضاً ما جاء في محاجته - عليه السلام - لقومه حينما كسر أصنامهم وقد ألزمهم بالحجة والعقل والرجوع إلى وجدانهم وعقولهم ، كما في قوله تعالى : ( قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ، قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ، فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ ، قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ ، أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) (3).
ومنها مجادلة نوح - عليه السلام - لقومه الذين ركبوا رؤوسهم عنادا وازدادوا غيا وفسادا ، حيث قالوا له وهو يجادلهم في اللّه تعالى : ( يَا نُوحُ
ص: 25
قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ) (1).
ومن هنا يتبين أن المناظرة أو الجدل لو لم تكن مشروعة لما أمر اللّه تعالى بها أنبياءه - عليهم السلام - ، في حين أن القرآن الكريم يزخر بمحاججات الأنبياء لأقوامهم لا سيما نبينا - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، وهو القدوة الحسنة والمثل الأعلى الذي لا ينتهي حديث عظمته ، ولا تزيده الدهور إلا سناءا وعلوا.
هذا هو موقف القرآن الكريم من المناظرة المشروعة بشكل موجز ، والذي يمكن أن تكون خلاصته : أن ينظر كل من المتناظرين بعين الاعتبار إلى الاخر ، ولا يستهين بآرائه وإن كانت مخالفة للحق في بداية الأمر وان لا ينسب أراءه الى محض الباطل حتى ولو كان كذلك في نظره لاحظ قوله تبارك وتعالى : ( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ) (2) حيث ان النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، يجمل اجمالا الضلالة بين الفريقين تمهيدا للجو الملائم للمناظرة الصحيحة بهدف الوصول الى الحقيقة ولا يفاجأهم مباشرة بتفنيد مزاعمهم جملة وتفصيلا رغم انها كانت محض الباطل في اعتقاده - صلى اللّه عليه وآله - ، ثم عليه أن يسوق الدليل الذي يعرفه المقابل نفسه ، وأن يعرض الدليل بالطريقة الهادئة مقرونا بالحكمة والموعظة الحسنة ، على أن يكون مراده تحصيل الحق ، وإلا ستكون المناظرة غير مشروعة كما سيأتي الحديث عنها في محله.
أما موقف السنة المطهرة من المناظرة ، فهو لا يختلف عن حكم القرآن ، فكلاهما - القرآن والسنة - صنوان لمشرع واحد ، قال تعالى : ( وَمَا
ص: 26
يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) (1).
ومما ورد من الأدلة والشواهد على مشروعية المناظرة من السنة الشريفة :
منها : ما روي عن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أنه قال : (نحن المجادلون في دين اللّه على لسان سبعين نبيا) (2).
ومنها : ما روي من مناظرات النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - مع أهل الاديان وغيرهم ، ومما يروى بهذا الصدد من اجتماع أهل خمسة أديان وفرق - وهم اليهود - والنصارى ، والدهرية ، والثنوية ، ومشركوا العرب - عند النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، واحتجاج كل فريق منهم لدعواه وجواب النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لهم وإبطاله لمزاعمهم. (3)
كما أن المتتبع لسيرة الأئمة - عليهم السلام - يجد أمثلة كثيرة جدا في مناظراتهم واحتجاجاتهم مع خصومهم ، كما وردت عنهم - عليهم السلام - أخبار كثيرة بشأن مجادلة الخصوم وإقناعهم ، وكانوا - عليهم السلام - يأمرون بعض أصحابهم بذلك ممن يتوسمون فيه القدرة على مقارعة الحجة بالحجة ، كما هو المشهور في موقف الأمام الصادق - عليه السلام - من هشام بن الحكم وثلة من أصحابه الذين كانوا بالمرصاد في تصديهم للزنادقة والملحدين والمخالفين في المسائل الاعتقادية كالمجبرة والمفوضة والمجسمة وغيرها من المذاهب الأخرى.
كما كانت لمسائل الأمامة الحصة الكبرى في مناظرات هؤلاء
ص: 27
الأصحاب وغيرهم مع خصومهم ، كما سيبينه كتابنا هذا : مناظرات في الأمامة.
وفيما يلي نذكر بعض الروايات عن أهل بيت النبوة - عليهم السلام - الدالة على ما أسلفناه :
منها : رواية الشيخ المفيد بإسناده عن الأمام جعفر بن محمد الصادق عن أبيه الباقر - عليهما السلام - قال : من أعاننا بلسانه على عدونا أنطقه اللّه بحجته يوم موقفه بين يديه عز وجل (1).
ومنها : قول الصادق - عليه السلام - : حاجوا الناس بكلامي ، فإن حاجوكم فأنا المحجوج (2).
ومنها : ما رواه ثقة الأسلام في الكافي (3) من مناظرة هشام بن الحكم مع عمرو بن عبيد ، حتى أن الأمام الصادق - عليه السلام - أحب أن يسمع من هشام نفسه ما جرى بينه وبين عمرو بن عبيد ، كما ستأتي مفصلة في هذا الكتاب.
ومع هذا كله فقد تخيل بعض المخالفين أن المناظرة محرمة في رأي أهل البيت - عليهم السلام - ، وأن ما يفعله الشيعة يخالف أمر أئمتهم.
يقول الشريف المرتضى (رحمه اللّه) : قلت للشيخ أبي عبد اللّه أدام اللّه عزه : إن المعتزلة والحشوية يزعمون أن الذي نستعمله من المناظرة شئ يخالف أصول الأمامية ويخرج عن إجماعهم لأن القوم لا يرون المناظرة دينا وينهون عنها ويروون عن أئمتهم تبديع فاعلها وذم مستعملها ، فهل معك رواية عن أهل البيت - عليهم السلام - في صحتها أم تعتمد على
ص: 28
حجج العقول ولا تلتفت إلى من خالفها وإن كان عليه إجماع العصابة؟
فقال : أخطأت المعتزلة والحشوية فيما ادعوه علينا من خلاف جماعة أهل مذهبنا في استعمال المناظرة وأخطأ من ادعى ذلك من الأمامية أيضا وتجاهل ، لأن فقهاء الامامية ورؤساءهم في علم الدين كانوا يستعملون المناظرة ويدينون بصحتها وتلقى ذلك عنهم الخلف ودانوا به ، وقد أشبعت القول في هذا الباب وذكرت أسماء المعروفين بالنظر وكتبهم ومدائح الأئمة لهم في كتابي الكامل في علوم الدين ، وكتاب الأركان في دعائم الدين ، وأنا أروي لك في هذا الوقت حديثا من جملة ما أوردت في ذلك إن شاء اللّه.
أخبرني أبو الحسن أحمد بن محمد (بسنده) عن أبي عبد اللّه الصادق جعفر بن محمد - عليهما السلام - قال : قال لي : خاصموهم وبينوا لهم الهدى الذي أنتم عليه ، وبينوا لهم ضلالهم وباهلوهم في علي - عليه السلام - (1).
إلى غير ذلك من الأدلة والشواهد التي تنص على مشروعية المناظرة على أن التوسع في إيراد الشواهد والأدلة على مشروعية المناظرة قد يكون على حساب مادة الكتاب ، إذ فيه الشئ الكثير الذي لا يمكن بموجبه إنكار مشروعية المناظرة في الإسلام ، زيادة على ما كتب من كتب إسلامية في هذا المجال بعض المناظرات التي وقعت بين علماء المسلمين في جوانب شتى من العقيدة وغيرها ، ولعل في كتاب الاحتجاج للشيخ الطبرسي - أعلى اللّه مقامه - خير دليل على ذلك.
ص: 29
وأما ما هو غير مشروع من المناظرة فقد سبق وأن ألمحنا الى أن القرآن الكريم بين ضوابط المناظرة المشروعة وحدد معالمها ، ووضعها في إطارها الصحيح ، وذلك بعبارة جامعة مانعة وهي أن تكون الدعوة فيها إلى الحق وهو ما عبر عنه تعالى ب (سبيل اللّه) وأن تكون بالحكمة والموعظة والمجادلة الحسنة كما في قوله عز شأنه : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (1).
وحيث إن القرآن الكريم وضع الضوابط والمقاييس للمناظرة المشروعة فإذا تخلف عنها ما هو شرط أو شطر خرجت المناظرة عن كونها مشروعة وذلك فيما إذا كانت لأثبات باطل أو للغلبة على الحق أو كانت عن غير علم ، ونحو ذلك فهذه المناظرة هي التي لا يرضاها اللّه تعالى ولا يقرها حتى لأنبيائه ومن هذه المناظرات غير المشروعة مناظرات ومجادلات أهل الكتاب والمشركين والمنافقين مع نبينا محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وكذا مجادلات الأمم السابقة مع أنبيائهم - عليهم السلام - وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا النحو من المناظرات والمجادلات غير المشروعة في مواضع شتى منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي :
1 - قوله تعالى : ( وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ) (2).
2 - قوله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ
ص: 30
شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ) (1).
3 - قوله تعالى : ( يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ ) (2).
4 - قوله تعالى : ( وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ) (3).
5 - قوله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ) (4).
6 - قوله تعالى : ( فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) (5).
إلى غير ذلك من الايات الكثيرة الأخرى الناهية عن مثل هذه المجادلات التي لا يبتغى من ورائها إلا الباطل.
فهي إما أن تكون مجادلة في حق قد تبين ، وإما أن تكون لأماتة الحق ونصرة الباطل ، وإما أن تكون عن جهل وما يستتبعه من عناد وإصرار على الباطل ، وإما أن تكون بغير هذا وذاك من الدواعي الأخرى التي لا يقرها دين ولا يؤيدها وجدان ، وحري بالمسلم أن يتبع الحق فالحق أحق بأن يتبع من أي طريق كان.
ص: 31
لكي تكون المناظرة ناجحة وبناءة هادفة ، ولكي يخرج الطرفان منها بفائدة ونتيجة مثمرة ، يحسن بهما أن يتبعا آداب المناظرة التي تشير إليها الاية الكريمة : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (1) وفيما يلي نذكر أهم الاداب التي ينبغي مراعاتها في المناظرة وهي :
1 - أن يكون (المناظر) في طلب الحق كمنشد ضالة يكون شاكرا متى وجدها ، ولا يفرق بين أن يظهر على يده أو على يد غيره ، فيرى رفيقه معينا لا خصيما ويشكره إذا عرفه الخطأ وأظهر له الحق ، كما لو أخذ طريقا في طلب ضالة فنبهه غيره على ضالته في طريق آخر ، والحق ضالة المؤمن يطلبه كذلك ، فحقه إذا ظهر الحق على لسان خصمه أن يفرح به ويشكره ، لا أنه يخجله ويسود وجهه ويزيل لونه ، ويجتهد في مجاهدته ومدافعته جهده.
2 - أن لا يمنع معينه من الانتقال من دليل إلى دليل ، ومن سؤال إلى سؤال ، بل يمكنه من إيراد ما يحضره ويخرج من كلامه ما يحتاج إليه في إصابة الحق ، فإن وجده في جملته أو استلزمه وإن كان غافلا عن اللزوم فليقبله ويحمد اللّه تعالى ، فإن الغرض إصابة الحق ، وإن كان في كلام متهافت إذا حصل منه المطلوب.
ص: 32
فأما قوله : «هذا لا يلزمني فقد تركت كلامك الأول وليس لك ذلك» ونحو ذلك من أراجيف المناظرين ، فهو محض العناد والخروج عن نهج السداد.
وكثيراً ما ترى المناظرات في المحافل تنقضي بمحض المجادلات حتى يطلب المعترض الدليل عليه ويمنع المدعي ما هو عالم به ، وينقضي المجلس على ذلك الأنكار والأصرار على العناد ، وذلك عين الفساد ، والخيانة للشرع المطهر ، والدخول في ذم من كتم علمه.
3 - أن يقصد بها إصابة الحق وطلب ظهوره كيف اتفق لا ظهور صوابه وغزارة علمه ، وصحة نظره ، فإن ذلك مراء قد عرفت ما فيه من القبائح والنهي الأكيد.
ومن آيات هذا القصد أن لا يوقعها إلا مع رجاء التأثير ، فأما إذا علم عدم قبول المناظر للحق وأنه لا يرجع عن رأيه وإن تبين له خطأه فمناظرته غير جائزة لترتب الافات وعدم حصول الغاية المطلوبة منها.
4 - أن يناظر في واقعة مهمة ، أو في مسألة قريبة من الوقوع ، وأن يهتم بمثل ذلك ، والمهم أن يبين الحق ولا يطول الكلام زيادة عما يحتاج إليه في تحقيق الحق.
ولا يغتر بأن المناظرة في تلك المسائل النادرة توجب رياضة الفكر وملكة الاستدلال والتحقيق ، كما يتفق ذلك كثيرا لقاصدي حظ النفوس من إظهار المعرفة فيتناظرون في التعريفات وما تشتمل عليه من النقوض والتزييفات وفي المغالطات ونحوها ، ولو اختبر حالهم حق الاختبار
ص: 33
لوجد مقصدهم على غير ذلك الاعتبار (1).
5 - أن يتخير الألفاظ الجزلة الفخمة ، ويتجنب العبارات الركيكة العامية ، ويتقي التمتمة والغلط في الألفاظ والأسلوب.
6 - أن يكون متمكنا من إيراد الأمثال والشواهد من الشعر ، والنصوص الدينية ، والفلسفية ، والعلمية ، وكلمات العظماء ، والحوادث الصغيرة الملائمة - وذلك عند الحاجة طبعا - بل ينبغي أن يكثر من ذلك ما وجد إليه سبيلا وذلك يعينه على تحقيق مقصوده وهدفه ، والمثل الواحد قد يفعل في النفوس ما لا تفعله الحجج المنطقية من الانصياع إليه والتسليم به.
7 - أن يتجنب عبارة الشتم واللعن ، والسخرية والاستهزاء ، ونحو ذلك مما يثير عواطف الغير ويوقظ الحقد والشحناء ، فإن هذا يفسد الغرض من المجادلة التي يجب أن تكون بالتي هي أحسن.
8 - ألا يرفع صوته فوق المألوف المتعارف ، فإن هذا لا يكسبه إلا ضعفا ، ولا يكون إلا دليلا على الشعور بالمغلوبية ، بل يجب عليه أن يلقي الكلام قوي الأداء لا يشعر بالتردد والارتباك والضعف والانهيار ، وإن أداه بصوت منخفض هادئ فإن تأثير هذا الأسلوب أعظم بكثير من تأثير أسلوب الصياح والصراخ.
9 - أن يتواضع في خطاب خصمه ، ويتجنب عبارات الكبرياء والتعاظم ، والكلمات النابية القبيحة.
10 - أن يتظاهر بالأصغاء الكامل لخصمه ، ولا يبدأ بالكلام إلا من حيث ينتهي من بيان مقصوده ، فإن الاستباق إلى الكلام سوالا وجوابا قبل
ص: 34
أن يتم خصمه كلامه يربك على الطرفين سير المحادثة ، ويعقد البحث من جهة ، ويثير غضب الخصم من جهة أخرى.
11 - أن يتجنب - حد الأمكان - مجادلة طالب الرياء والسمعة ومؤثر الغلبة والعناد ومدعي القوة والعظمة فإن هذا من جهة يعديه بمرضه فينساق بالأخير مقهورا إلى أن يكون شبيها به في هذا المرض ، ومن جهة أخرى لا يستطيع مع مثل هذا الشخص أن يتوصل إلى نتيجة مرضية في المجادلة (1).
12 - أن يكون مطلعا على أفكار وآراء خصمه من كتبه ومصادره لا من كتبه ومصادره هو.
13 - أن يكون هاضما للفكرة التي يريد طرحها ومحيطا بها تماما ، ومقتنعا بها ، لكي يتمكن من إقناع خصمه.
14 - وينبغي أن يختار الكلام المناسب للزمان والمكان فإن لهما تأثيرا كبيرا في النفوس ، ومن هنا قيل في المثل المشهور : لكل مقام مقال.
15 - أن يخاطب خصمه بكلام مفهوم مراعيا مقدار فهمه ، ومستواه الفكري ، بأسلوب حسن ومنطق سديد.
ص: 35
قد يتصور البعض أن تاريخ الاحتجاج والمناظرة في الأمامة وإثبات حق أمير المؤمنين - عليه السلام - يعود إلى زمان متأخر ، وبالتحديد إلى ظهور علم الكلام بين الشيعة ، وهذا ما دعاني لأثبات ما يؤكد أن تلك المناظرات والاحتجاجات كانت منذ اليوم الأول لتسلم الخلافة بعد النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - مباشرة إثر أحداث السقيفة التي غيرت مجرى التاريخ ، كما اعتبر ذلك النزاع أول نزاع حدث بين المسلمين بعد النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - (1) في الإمامة.
وأول من فتح باب الاحتجاج والمناظرة - في هذا الأمر - هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - صاحب الحق الذي ثبت له بالنصوص الشرعية ، كما أن للزهراء والحسن والحسين - عليهم السلام - وبني هاشم وجملة من الصحابة الدور الكبير في ذلك ، وكتب التاريخ والحديث والسيرة زاخرة باحتجاجاتهم ومناظراتهم في هذا الأمر ، وفيما يلي نذكر بعضا من احتجاجاتهم :
الذي يراجع كتب الحديث والسيرة - في خصوص هذا الشأن - يجد كثيرا من احتجاجاته ومناشداته - عليه السلام - في الخلافة ، وكذلك من
ص: 36
يراجع نهج البلاغة يجد كثيرا من الخطب والكلمات التي تكشف عن مدى تأثره - عليه السلام - ، ويجد تلك النفس التي ملؤها الحسرة والتأسف كل ذلك بسبب ما حصل من القوم في حقه.
فقد روى كثير من المحدثين أنه عقيب يوم السقيفة تألم وتظلم ، واستنجد واستصرخ ، حيث ساموه الحضور والبيعة ، وأنه قال وهو يشير إلى القبر : ( ياابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ) (1) ، وأنه قال : واجعفراه! ولا جعفر لي اليوم! واحمزتاه ولا حمزة لي اليوم! (2)
وفيما يلي نذكر بعض خطبه واحتجاجاته في الخلافة ، وبعض النصوص التي تكشف عن موقفه تجاههم :
1 - روي أن عليا - عليه السلام - أتي به إلى أبي بكر وهو يقول :
أنا عبد اللّه ، وأخو رسوله ، فقيل له بايع أبا بكر.
فقال : أنا أحق بهذا الأمر منكم ، لا أبايعكم ، وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الأنصار ، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وتأخذونه منا أهل البيت غصبا؟ ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمد منكم ، فأعطوكم المقادة ، وسلموا إليكم الأمارة ، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار ، نحن أولى برسول اللّه حيا وميتا ، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون ، وإلا فبوؤا بالظلم وأنتم تعلمون.
فقال عمر : إنك لست متروكا حتى تبايع.
فقال له علي : احلب حلبا لك شطره ، واشدد له اليوم أمره يردد عليك
ص: 37
غداً ، ثم قال : واللّه يا عمر لا أقبل قولك ولا أبايعه. - إلى أن قال لهم - :
اللّه اللّه يا معشر المهاجرين ، لا تخرجوا سلطان محمد في العرب عن داره وقعر بيته ، إلى دوركم وقعر بيوتكم ، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه ، فو اللّه يا معشر المهاجرين لنحن أحق الناس به ، لأنا أهل البيت ، ونحن أحق بهذا الأمر منكم ، أما كان فينا القارئ لكتاب اللّه ، الفقيه في دين اللّه ، العالم بسنن رسول اللّه ، المضطلع بأمر الرعية ، المدافع عنهم الأمور السيئة ، القاسم بينهم بالسوية ، واللّه إنه لفينا ، فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل اللّه ، فتزدادوا من الحق بعدا (1).
2 - لما بويع أبو بكر في يوم السقيفة وجددت البيعة له يوم الثلاثاء على العامة ، خرج علي - عليه السلام - فقال : أفسدت علينا أمورنا ، ولم تستشر ، ولم ترع لنا حقا.
فقال أبو بكر : بلى ، ولكني خشيت الفتنة (2).
3 - قوله - عليه السلام - : واعجبا أن تكون الخلافة بالصحابة ولا تكون بالصحابة والقرابة.
قال الشريف الرضي - رحمه اللّه - : وقد روي له شعر قريب من هذا المعنى وهو :
ص: 38
فإن كنت باشورى ملكت امورهم *** فكيف بهذا والمسشيرون غيب
وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم *** فغيرك اولى بالنبي واقرب (1)
4 - قوله - عليه السلام : اللّهم إني استعديك على قريش ومن أعانهم ، فإنهم قد قطعوا رحمي ، وأكفئوا إنائي ، واجمعوا على منازعتي حقا كنت أولى من غيري ، وقالوا : ألا أن في الحق أن في الحق أن تأخذه وفي الحق أن تمنعه ، فاصبر مغموما ، أو مت متاسفا.
فنطرت فإذا ليس لي رافد ، ولا داب ولا داب ولا مساعد ، إلا مساعد ، الا أهل بيتي ، فضننت بهم عن المنية ، فأغضيت على القذى ، وجرعت ريقي على الشجا ، وصبرت من كظم الغيظ على امر من العلقم ، والم للقلب من وخز
ص: 39
الشفار (1).
5 - قوله - عليه السلام - : أما بعد ، فإن اللّه سبحانه بعث محمدا - صلى اللّه عليه وآله وسلم - نذيرا للعالمين ، ومهيمنا على المرسلين ، فلما مضى - صلى اللّه عليه وآله وسلم - تنازع المسلمون الأمر من بعده ، فو اللّه ما كان يلقى في روعي ، ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده - صلى اللّه عليه وآله وسلم - عن أهل بيته ، ولا أنهم منحوه عني من بعده ، فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه ، فأمسكت بيدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الأسلام يدعون إلى محق دين محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فخشيت إن لم أنصر الأسلام وأهله أن أرى فيه ثلما أو هدما ، تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل ، يزول منها ما كان كما يزول السراب ، أو كما يتقشع السحاب ، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق ، واطمأن الدين وتنهنه (2).
6 - قال - عليه السلام - في خطبته الشقشقية :
أما واللّه لقد تقمصها فلان ، وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ، ينحدر عني السيل ، ولا يرقى إلي الطير ، فسدلت دونها ثوبا ، وطويت عنها كشحا ، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن
ص: 40
حتى يلقى ربه ، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا أرى تراثي نهبا ، حتى مضى الأول لسبيله ، فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده ثم تمثل بقول الاعشى :
شتان ما يومي على كورها *** ويوم حيان أخي جابر
فيا عجباً! بينا هو يستقيلها في حياته ، إذ عقدها لاخر بعد وفاته ، لشدما تشطرا ضرعيها! فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ، ويخشن مسها ، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصعبة ، إن أشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحم ، فمني الناس لعمر اللّه بخبطٍ وشماسٍ ، وتلوّنٍ واعتراض ، فصبرت على طول المدة ، وشدة المحنة ، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم ، فيا لله وللشورى متى اعترض الريب في مع الأول منهم ، حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر! لكني أسففت إذ أسفوا ، وطرت إذ طاروا ، فصغا رجل منهم لضغنه ، ومال الاخر لصهره ، مع هن وهن إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه ، بين نثيله ومعتلفه وقام معه بنو أبيه يخضمون مال اللّه خضمة الأبل نبتة الربيع إلى أن انتكث عليه فتله ، وأجهز عليه عمله ، وكبت به بطنته! .... الخ الخطبة (1).
7 - ومن خطبة له - عليه السلام - يقول : وقدر قال قائل : انك على هذا
ص: 41
الأمر يا بن أبي طالب لحريص ، فقلت : بل أنتم واللّه لأحرص وأبعد ، وأنا أخص وأقرب ، وإنما طلبت حقا لي ، وأنتم تحولون بيني وبينه ، وتضربون وجهي دونه ، فلما قرعته بالحجة في الملأ الحاضرين هب كأنه بهت لا يدري ما يجيبني به؟
اللّهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم! فإنهم قطعوا رحمي ، وصغروا عظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي أمرا هولي ، ثم قالوا : ألا إن في الحق أن تأخذه وفي الحق أن تتركه ... الخ الخطبة (1).
8 - سأله بعض أصحابه : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به؟
فقال - عليه السلام - : يا أخا بني أسد إنك لقلق الوضين ، ترسل في غير سدد ، ولك بعد ذمامة الصهر وحق المسألة ، وقد استعلمت فاعلم :
أما الاستبداد علينا بهذا المقام ، ونحن الأعلون نسبا ، والأشدون برسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - نوطا ، فإنها كانت أثرة (2) شحت
ص: 42
عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس آخرين ، والحكم اللّه والمعود إليه يوم القيامة.
ودع عنك نهبا صيح في حجراته *** ولكن حديثا ما حديث الرواحل (1)
9 - ومن خطبة له - عليه السلام - قال : حتى إذا قبض اللّه رسوله - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، رجع قوم على الأعقاب (2) ، وغالتهم السبل ، واتكلوا على الولائج (3) ، ووصلوا غير الرحم ، وهجروا السبب (4) الذي أمروا بمودته ، ونقلوا البناء عن رص (5) أساسه ، فبنوه في غير موضعه ، معادن كل خطيئة ، وأبواب كل ضارب في غمرة ، قد ماروا في الحيرة ، وذهلوا في السكرة ، على سنة من آل فرعون ، من منقطع إلى الدنيا راكن ، أو مفارق للدين مباين (6).
ص: 43
10 - ومن خطبة له - عليه السلام - قال : أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا (1)؟ كذبا وبغيا علينا أن رفعنا اللّه ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم ، بنا يستعطى الهدى ، ويستجلى العمى ، إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ولا تصلح الولاة من غيرهم ... الخ (2).
11 - قوله - عليه السلام - : اللّهم فاجز قريشا عني الجوازي فقد قطعت رحمي ، وتظاهرت علي ، ودفعتني عن حقي ، وسلبتني سلطان ابن أمي ، وسلمت ذلك إلى من ليس مثلي في قرابتي من الرسول ، وسابقتي في الأسلام إلا أن يدعي مدع ما لا أعرفه ، ولا أظن اللّه يعرفه ، والحمد لله على كل حال (3).
12 - قوله - عليه السلام - : إن لنا حقا إن نعطه نأخذه وإن نمنعه نركب أعجاز الأبل وإن طال السرى.
13 - قوله - عليه السلام - : مازلت مظلوما منذ قبض اللّه رسوله حتى يوم الناس هذا.
14 - قوله - عليه السلام - : اللّهم أخز قريشا فإنها منعتني حقي ، وغصبتني أمري.
15 - قوله - عليه السلام - : فجزى قريشا عني الجوازي ، فإنهم
ص: 44
ظلموني حقي ، واغتصبوني سلطان ابن أمي.
16 - قوله - عليه السلام - وقد سمع صارخا ينادي : أنا مظلوم ، فقال : هلم فلنصرخ معا ، فإني مازلت مظلوما.
17 - قوله عليه السلام : اللّهم إني استعديك على قريش فإنهم ظلموني حقي وغصبوني إرثي.
18 - قوله - عليه السلام - : مازلت مستأثرا علي ، مدفوعا عما أستحقه وأستوجبه.
19 - قوله - عليه السلام - : لقد ظلمت (1) عدد الحجر والمدر (2).
20 - ومن خطبة له - عليه السلام - بعد البيعة له قال : لا يقاس بآل محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - من هذه الأمة أحد ، ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا ، هم أساس الدين ، وعماد اليقين ، إليهم يفئ الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حق الولاية ، وفيهم الوصية والوراثة ، الان إذ رجع الحق إلى أهله (3) ، ونقل إلى منتقله (4).
21 - قوله - عليه السلام - : فنظرت فإذا ليس لي معين إلا أهل بيتي
ص: 45
فضننت بهم عن الموت ، واغطيت على القذى ، وشربت على الشجى ، وصبرت على أخذ الكظم وعلي أمر من طعم العلقم (1).
22 - قوله - عليه السلام - : اللّهم إني أستعديك على قريش ، فإنهم أضمروا لرسولك - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ضروبا من الشر والغدر ، فعجزوا عنها ، وحلت بينهم وبينها ، فكانت الوجبة بي والدائرة علي ، اللّهم احفظ حسنا وحسينا ، ولا تمكن فجرة قريش منهما ما دمت حيا ، فإذا توفيتني فأنت الرقيب عليهم ، وأنت على كل شئ شهيد (2).
23 - قوله - عليه السلام - : أما والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، إنه لعهد النبي الأمي إلي أن الأمة ستغدر بك من بعدي (3).
24 - قوله - عليه السلام - : قال لي رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : إن اجتمعوا عليك فاصنع ما أمرتك ، وإلا فألصق كلكلك بالأرض ، فلما تفرقوا عني جررت على المكروه ذيلي ، وأغضيت على القذى جفني ، وألصقت بالأرض كلكلي (4).
25 - عن أنس بن مالك ، قال : كنا مع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله
ص: 46
وسلم - ، وعلي بن ابي طالب معنا ، فمررنا بحديقة ، فقال علي : يا رسول اللّه ، ألا ترى ما أحسن هذه الحديقة!.
فقال : إن حديقتك في الجنة أحسن منها ، حتى مررنا بسبع حدائق ، يقول علي ما قال : ويجيبه رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بما أجابه ، ثم إن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وقف ، فوقفنا ، فوضع رأسه على رأس علي وبكى.
فقال علي - عليه السلام - : ما يبكيك يا رسول اللّه؟
قال : ضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك حتى يفقدوني.
فقال : يا رسول اللّه ، أفلا أضع سيفي على عاتقي فأبيد خضراءهم.
قال : بل تصبر.
قال : فإن صبرت؟
قال : تلاقي جهدا.
قال : أفي سلامة من ديني؟
قال : نعم.
قال : فإذا لا أبالي (1).
26 - ومن احتجاجاته الشديدة قوله - عليه السلام - : لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم (2).
27 - قوله - عليه السلام - : لما عزموا على بيعة عثمان : لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري ، وواللّه لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا علي خاصة ، التماسا لأجر ذلك وفضله ، وزهدا فيما
ص: 47
تنافستموه من زخرفه وزبرجه (1).
28 - قوله - عليه السلام - : فإنه لما قبض اللّه نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، قلنا : نحن أهله وورثته وعترته ، وأولياؤه دون الناس ، لا ينازعنا سلطانه أحد ، ولا يطمع في حقنا طامع ، إذ انبرى لنا قومنا فغصبونا سلطان نبينا ، فصارت الأمرة لغيرنا وصرنا سوقة ، يطمع فينا الضعيف ، ويتعزز علينا الذليل ، فبكت الأعين منا لذلك ، وخشيت الصدور ، وجزعت النفوس ، وأيم اللّه لو لا مخافة الفرقة بين المسلمين ، وأن يعود الكفر ، ويبور الدين ، لكنا على غير ما كنا لهم عليه ... الخ (2).
29 - قوله - عليه السلام - في خطبته عند مسيره للبصرة :
إن اللّه لما قبض نبيه ، استأثرت علينا قريش بالأمر ، ودفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة ، فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين ، وسفك دمائهم ، والناس حديثوا عهد بالأسلام ، والدين يمخض مخض الوطب ، يفسده أدنى وهن ، ويعكسه أقل خلف ، فولي الأمر قوم لم يألوا في أمرهم اجتهادا ، ثم انتقلوا إلى دار الجزاء ، واللّه ولي تمحيص سيئاتهم ، والعفو عن هفواتهم ... الخ (3).
30 - قوله - عليه السلام - : لا يعاب المرء بتأخير حقه ، إنما يعاب من أخذ ما ليس له. (4)
ص: 48
31 - قوله - عليه السلام - : كنت في أيام رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - كجزء من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ينظر إلي كما ينظر إلى الكواكب في أفق السماء ، ثم غض الدهر مني ، فقرن بي فلان وفلان ، ثم قرنت بخمسة أمثلهم عثمان ، فقلت : واذ فراه! ثم لم يرض الدهر لي بذلك ، حتى أرذلني ، فجعلني نظيرا لابن هند وابن النابغة! لقد استنت الفصال حتى القرعى (1).
32 - قوله - عليه السلام - : كل حقد حقدته قريش على رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أظهرته في وستظهره في ولدي من بعدي ، مالي ولقريش! إنما وترتهم بأمر اللّه وأمر رسوله ، أفهذا جزاء من أطاع اللّه ورسوله إن كانوا مسلمين (2).
33 - قال له قائل : يا أمير المؤمنين ، أرأيت لو كان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - ترك ولدا ذكرا قد بلغ الحلم ، وآنس منه الرشد ، أكانت
ص: 49
العرب تسلم إليه أمرها؟
قال : لا ، بل كانت تقتله إن لم يفعل ما فعلت ، إن العرب كرهت أمر محمد - صلى اللّه عليه وآله - وحسدته على ما آتاه اللّه من فضله ، واستطالت أيامه حتى قذفت زوجته ، ونفرت به ناقته ، مع عظيم إحسانه إليها ، وجسيم مننه عندها وأجمعت مذ كان حيا على صرف الأمر عن أهل بيته بعد موته ... إلى آخر كلامه - عليه السلام - (1).
34 - قال محمد بن حرب : لما توفي النبي - صلى اللّه عليه وآله - ، وجرى في السقيفة ما جرى تمثل علي - عليه السلام - :
وأصبح أقوام يقولون ما اشتهوا *** ويطغون لما غال زيدا غوائله (2)
35 - قال عاصم بن قتادة : لقي علي - عليه السلام - عمر ، فقال له علي : أنشدك اللّه هل استخلفك رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم -؟
قال : لا.
قال : فكيف تصنع أنت وصاحبك؟!!
قال : أما صاحبي فقد مضى لسبيله ، وأما أنا فسأخلعها من عنقي إلى عنقك.
فقال : جذع اللّه أنف من ينقذك منها! لا ولكن جعلني اللّه علما فإذا قمت فمن خالفني ضل. (3)
36 - عن أبي الطفيل عامر بن واثلة قال : كنت على الباب يوم الشورى فارتفعت الأصوات بينهم فسمعت عليا - عليه السلام - يقول :
ص: 50
بايع الناس أبا بكر وأنا واللّه أولى بالأمر منه وأحق به منه ، فسمعت وأطعت مخافة أن يرجع الناس كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض بالسيف ، ثم بايع الناس عمر وأنا واللّه أولى بالأمر منه وأحق به منه ، فسمعت وأطعت مخافة أن يرجع الناس كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض بالسيف ، ثم أنتم تريدون أن تبايعوا عثمان؟!!! إذا لا أسمع ولا أطيع وإن عمر جعلني من خمسة نفر أنا سادسهم لا يعرف لي فضلا عليهم في الصلاح ولا يعرفونه لي كلنا فيه شرع سواء وأيم اللّه لو أشاء أن أتكلم ثم لا يستطيع عربيهم ولا عجميهم ولا معاهد منهم ولا المشرك رد خصلة منها لفعلت (1).
إلى غير ذلك من احتجاجاته - عليه السلام - في شأن الخلافة ، وناهيك عن احتجاجاته ومناشداته بحديث الغدير في مواطن كثيرة منها في مسجد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بعد وفاته ، ويوم الشورى ، وأيام عثمان ، ويوم الرحبة ، ويوم الجمل ، وفي الكوفة ، ويوم صفين ، ومواطن أخرى (2).
1 - فمن خطبة لها حينما عدنها نساء المهاجرين والأنصار ، قالت : ويحهم أنى زحزحوها - أي الخلافة - عن رواسي الرسالة؟! وقواعد النبوة ، ومهبط الروح الأمين ، الطبن بأمور الدنيا والدين ، ألا ذلك الخسران المبين ، وما الذي نقموا من أبي الحسن؟ نقموا واللّه نكير سيفه ، وشدة
ص: 51
وطأته ، ونكال وقعته ، وتنمره في ذات اللّه ، وتاللّه لو تكافأ واعلى زمام نبذه إليه رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لاعتقله وسار بهم سيرا سجحا لا يكلم خشاشه ، ولا يتتعتع راكبه ، ولأوردهم منهلا رويا فضفاضا تطفح ضفتاه ، ولا يترنم جانباه ، ولأصدرهم بطانة ونصح لهم سرا وإعلانا ، غير متحل منهم بطائل إلا بغمر الناهل ، وردعة سورة الساغب ، ولفتحت عليهم بركات من السماء والأرض ، وسيأخذهم اللّه بما كانوا يكسبون ، ألا هلم واستمع وما عشت أراك الدهر عجبا ، وإن تعجب ، فقد أعجبك الحادث ، إلى أي لجأ لجأوا؟ وبأي عروة تمسكوا ، لبئس المولى ولبئس العشير ، بئس للظالمين بدلا ، استبدلوا واللّه الذنابا بالقوادم ، والعجز بالكاهل ، فرغما لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ، ويحهم ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (1) ... إلى آخر الخطبة (2).
2 - ومن خطبة لها - عليها السلام - لما منعوها فدكا قالت :
فلما اختار اللّه لنبيه دار أنبيائه ، ومأوى أصفيائه ، ظهر فيكم حسكة النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الأقلين ، وهدر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم ، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفا بكم فألفاكم لدعوته مستجيبين ، وللعزة فيه ملاحظين ، ثم
ص: 52
استنهضكم فوجدكم خفافا ، وأحمشكم فألفاكم غضابا فوسمتم غير إبلكم ، ووردتم غير مشربكم ، هذا والعهد قريب والكلم رحيب ، والجرح لما يندمل ، والرسول لما يقبر ، ابتدارا زعمتم خوف الفتنة (1) ( أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) (2) فهيهات منكم ، وكيف بكم ، وأنى تؤفكون! وكتاب اللّه بين أظهركم ، أموره ظاهرة وأحكامه زاهرة وأعلامه باهرة ، وزواجره لائحة ، وأوامره واضحة ، وقد خلفتموه وراء ظهوركم أرغبة عنه تريدون أم بغيره تحكمون؟ بئس للظالمين بدلا ، ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (3) ... إلى آخر الخطبة (4).
1 - لما رأى الحسن - عليه السلام - أبا بكر وهو يخطب على المنبر قال له : انزل عن منبر أبي.
فقال أبو بكر : صدقت واللّه إنه لمنبر أبيك لا منبر أبي (5).
ص: 53
2 - احتجاجه على معاوية في الأمامة قال - عليه السلام - :
نحن نقول أهل البيت : إن الأئمة منا ، وإن الخلافة لا تصلح إلا فينا ، وإن اللّه جعلنا أهلها في كتابه وسنة نبيه ، وإن العلم فينا ونحن أهله ، وهو عندنا مجموع كله بحذافيره ، وإنه لا يحدث شئ إلى يوم القيامة حتى أرش الخدش إلا وهو عندنا مكتوب بإملاء رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وبخط علي - عليه السلام - بيده وزعم قوم : أنهم أولى بذلك منا حتى أنت يا بن هند تدعي ذلك ... إلى آخر احتجاجه عليه السلام (1).
1 - روي أن عمر بن الخطاب كان يخطب الناس على منبر رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فذكر في خطبته أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فقال له الحسين - عليه السلام - من ناحية المسجد : انزل عن منبر أبي رسول اللّه ، لا منبر أبيك ، فقال له عمر : فمنبر أبيك لعمري يا حسين لا منبر أبي (2).
1 - احتج على أبي بكر إذ قال له في كلام دار بينهما (3) :
فإن كنت برسول اللّه طلبت ، فحقنا أخذت ، وإن كنت بالمؤمنين
ص: 54
طلبت ، فنحن منهم متقدمون فيهم ، وإن كان هذا الأمر إنما يجب لك ، فما وجب إذ كنا كارهين ... إلى آخر احتجاجه (1).
2 - قال اليعقوبي في تاريخه في خبر سقيفة بني ساعدة : وجاء البراء بن عازب ، فضرب الباب على بني هاشم وقال : يا معشر بني هاشم ، بويع أبو بكر. فقال بعضهم : ما كان المسلمون يحدثون حدثا نغيب عنه ، ونحن أولى بمحمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم -.
فقال العباس : فعلوها ، ورب الكعبة (2)؟!!
1 - فمن احتجاج له على قريش قال فيه : يا معشر قريش ، وخصوصا يا بني تيم ، إنكم إنما أخذتم الخلافة بالنبوة ، ونحن أهلها دونكم ، ولو طلبنا هذا الأمر الذي نحن أهله لكانت كراهة الناس لنا أعظم من كراهتهم لغيرنا ، حسدا منهم لنا ، وحقدا علينا ، وإنا لنعلم أن عند صاحبنا عهدا هو ينتهي إليه (3).
2 - وقال أيضا لما بلغه نبأ بيعة أبي بكر : يا معشر قريش إنه ما حقت لكم الخلافة بالتمويه ، ونحن أهلها دونكم وصاحبنا أولى بها منكم (4).
ص: 55
لابن عباس - رضي اللّه عنه - الكثير من الاحتجاجات والمناظرات في أحقية أمير المؤمنين - عليه السلام - بالخلافة ، سوف تأتي في طيات هذا الكتاب إن شاء اللّه تعالى.
1 - احتجاج سلمان المحمدي - يوم بويع أبو بكر - قال - رضي اللّه عنه - :
أصبتم ذا السن منكم وأخطأتم أهل بيت نبيكم ، لو جعلتموها فيهم ما اختلف عليكم اثنان ولأكلتموها رغدا (1).
2 - احتجاج سلمان المحمدي - رضي اللّه عنه - بعد وفاة النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لما ترك القوم أمير المؤمنين - عليه السلام -.
ومن جملة ما قال في احتجاجه : أما واللّه لتركبن طبقا عن طبق ، حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة (2) ، أما والذي نفس سلمان بيده ، لو وليتموها عليا لأكلتم من فوقكم ، ومن تحت أقدامكم (3) ، ولو دعوتم
ص: 56
الطير لأجابتكم في جو السماء ، ولو دعوتم الحيتان من البحار لأتتكم ، ولما عال ولي اللّه ، ولا طاش لكم سهم من فرائض اللّه ، ولا اختلف اثنان في حكم اللّه ، ولكن أبيتم فوليتموها غيره ، فأبشروا بالبلايا واقنطوا من الرخاء ، وقد نابذتكم على سواء ، فانقطعت العصمة فيما بيني وبينكم من الولاء.
عليكم بآل محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، فإنهم القادة إلى الجنة ، والدعاة إليها يوم القيامة ، عليكم بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - فواللّه لقد سلمنا عليه بالولاية وإمرة المؤمنين ، مرارا جمة مع نبينا ، كل ذلك يأمرنا به ، ويؤكده علينا ، فما بال القوم عرفوا فضله فحسدوه؟! وقد حسد هابيل قابيل فقتله ... إلى آخر احتجاجه (1).
1 - قال ابن لهيعة : لما مات رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وأبو ذر غائب ، وقدم وقد ولي أبو بكر ، فقال : أصبتم قناعه ، وتركتم قرابه ، لو جعلتم هذا الأمر في أهل بيت نبيكم لما اختلف عليكم اثنان (2).
2 - روي أن أبا ذر كان يقول في عهد عثمان وقد كان واقفا بباب المسجد : وعلي بن أبي طالب وصي محمد ووارث علمه ، أيتها الأمة المتحيرة بعد نبيها أما لو قدمتم من قدم اللّه وأخرتم من أخر اللّه ، وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيكم ، لأكلتم من فوق رؤوسكم ومن تحت أقدامكم ، ولما عال ولي اللّه ولاطاش سهم من فرائض اللّه ، ولا اختلف
ص: 57
اثنان في حكم اللّه إلا وجدتم علم ذلك عندهم من كتاب اللّه وسنة نبيه ، فأما إذا فعلتم ما فعلتم فذوقوا وبال أمركم ، ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) (1) ، (2).
احتجاج المقداد :
1 - من احتجاج له لما بويع عثمان ، روى بعضهم قال : دخلت مسجد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فرأيت رجلا جاثيا على ركبتيه يتلهف تلهف من كانت الدنيا له فسلبها ، وهو يقول : واعجبا لقريش ودفعهم هذا الأمر عن أهل بيت نبيهم وفيهم أول المؤمنين ... (3).
2 - عن المعروف بن سويد ، قال : كنت بالمدينة أيام بويع عثمان ، فرأيت رجلا في المسجد جالسا وهو يصفق بإحدى يديه على الأخرى ، والناس حوله ويقول : واعجبا من قريش واستئثارهم بهذا الأمر على أهل هذا البيت ، معدن الفضل ، ونجوم الأرض ونور البلاد ، واللّه إن فيهم لرجلا ما رأيت رجلا بعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أولى منه بالحق ، ولا أقضى بالعدل ، ولا آمر بالمعروف ، ولا أنهى عن المنكر.
فسألت عنه فقيل : هذا المقداد ، فتقدمت إليه وقلت : أصلحك اللّه من الرجل الذي تذكره؟ فقال : ابن عم نبيك رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - علي بن أبي طالب - عليه السلام -.
قال : فلبثت ما شاء اللّه ، ثم أني لقيت أبا ذر - رحمه اللّه - فحدثته ما قال
ص: 58
المقداد.
فقال : صدق.
قلت : فما يمنعكم أن تجعلوا هذا الأمر فيهم؟
قال : أبى ذلك قومهم.
قلت : فما يمنعكم أن تعينوهم؟
قال : مه لا تقل هذا ، إياكم والفرقة والاختلاف.
قال : فسكت عنه ثم كان من الأمر بعد ما كان (1).
قال علي بن سليمان النوفلي : سمعت أبيا يقول : ذكر سعد بن عبادة يوما عليا بعد يوم السقيفة ، فذكر أمرا من أمره نسيه أبو الحسن ، يوجب ولايته ، فقال له ابنه قيس بن سعد : أنت سمعت رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - يقول هذا الكلام في علي بن أبي طالب - عليه السلام - ثم تطلب الخلافة ، ويقول أصحابك منا أمير ومنكم أمير! لاكلمتك واللّه من رأسي بعد هذا كلمة أبدا. (2)
وسوف يأتي احتجاجه على معاوية في شأن الخلافة ودفاعه عن أمير المؤمنين - عليه السلام -.
لما اجتمع المهاجرون على بيعة أبي بكر ، أقبل أبو سفيان وهو
ص: 59
يقول : أما واللّه إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم ، يالعبد مناف ، فيم أبو بكر من أمركم! أين المستضاف؟ أين الأذلان! - يعني عليا والعباس - ، ما بال هذا في أقل حي من قريش ، ثم قال لعلي : ابسط يدك أبايعك ، فو اللّه إن شئت لأملأنها على أبي فضيل - يعني أبا بكر - خيلا ورجالا ، فامتنع عليه علي - عليه السلام - ، فلما يئس منه قام عنه وهو ينشد شعر المتلمس :
ولا يقيم على ضيم يراد به *** إلا الأذلان ، عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته *** وذا يشج فلا يرثي له أحد (1).
ونكتفي بهذا القدر من الاحتجاجات مع الأحالة إلى بقية المناظرات الأخرى في أصل هذا الكتاب لما في بعضها من السبق الزماني الذي يعود إلى عصر صدر الأسلام.
وبعد كل هذه الشواهد والبراهين التي مرت عليك نستكشف أن مسألة الاحتجاج والمناظرة في أحقية أمير المؤمنين - عليه السلام - وإثبات ذلك بالنصوص الشرعية وغيرها تعود إلى الصدر الأول من الإسلام ، وهكذا استمرت عبر العصور المختلفة وإلى يومنا هذا.
ص: 60
مناظرة العباس (1) بن عبد المطلب (رحمه اللّه) مع أبي بكر وعمر
قال البراء بن عازب من حديث له في أمر الخلافة :
فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح ، حتى دخلوا على العباس بن عبد المطلب في الليلة الثانية من وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله.
قال : فتكلم أبو بكر فحمد اللّه جل وعز وأثنى عليه ثم قال : إن اللّه بعث لكم محمدا نبيا ، وللمؤمنين وليا ، فمن اللّه عليهم بكونه بين ظهرانيهم ، حتى اختار له ما عنده ، وترك للناس أمرهم ليختاروا لأنفسهم مصلحتهم متفقين لا مختلفين ، فاختاروني عليهم واليا ، ولأمورهم راعيا ، فتوليت ذلك وما أخاف بعون اللّه وهنا ولا حيرة ولا جبنا ، وما توفيقي إلا باللّه ، غير أني لا أنفك من طاعن يبلغني فيقول بخلاف قول العامة ، فيتخذكم لجأ فتكونوا حصنه المنيع ، وخطبه البديع ، فإما دخلتم مع فيما اجتمعوا عليه ، أو صرفتموهم عما مالوا إليه ، فقد
ص: 61
جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيبا يكون لك ولعقبك من بعدك ، إذ كنت عم رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وإن كان الناس أيضا قد رأوا مكانك ومكان صاحبك فعدلوا بهذا الأمر عنكما.
فقال عمر (1) : إي واللّه ، واخرى ، يا بني هاشم على رسلكم فإن رسول اللّه منا ومنكم ، ولم نأتكم لحاجة منا إليكم ولكن كرهنا أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون ، فيتفاقم الخطب بكم فانظروا لأنفسكم وللعامة.
فتكلم العباس فقال : إن اللّه ابتعث محمدا - صلى عليه وآله وسلم - كما وصفت نبيا وللمؤمنين وليا ، فإن كنت برسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - طلبت هذا الأمر فحقنا أخذت ، وإن كنت بالمؤمنين طلبت فنحن منهم ، ما تقدمنا في أمرك ولا تشاورنا ولا تؤامرنا ، ولا نحب لك ذلك إذ كنا من المؤمنين وكنا لك من الكارهين!!
وأما قولك أن تجعل لي في هذا الأمر نصيبا ، فإن كان هذا الأمر لك خاصة ، فأمسك عليك فلسنا محتاجين إليك ، وإن كان حق المؤمنين فليس لك أن تحكم في حقهم ، وإن كان حقنا فإنا لا نرضى منك ببعضه دون بعض ، وأما قولك يا عمر إن رسول اللّه منا ومنكم ، فإن رسول اللّه شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها فنحن أولى به منكم؟!
وأما قولك إنا نخاف تفاقم الخي ب بلكم بهذا الذي فعلتموه أوائل
ص: 62
ذلك واللّه المستعان (1). فخرجوا من عنده وأنشأ العباس يقول (2) :
ما كنت أحسب هذا الأمر منحرفاً *** عن هاشم ثم منهم عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم *** وأعلم الناس بالاثار والسنن
وأقرب الناس عهدا بالنبي ومن *** جبريل عون له بالغسل والكفن
من فيه ما في جميع الناس كلهم *** وليس في الناس ما فيه من الحسن
من ذا الذي ردكم عنه فنعرفه *** ها أن بيعتكم من أول الفتن (3)
ص: 63
عن طارق بن شهاب قال : لما قدم عمر الشام لقيه أساقفتها ورؤساؤها وقد تقدمه العباس بن عبد المطلب على فرس ، وكان العباس جميلا بهيا فجعلوا يقولون : هذا أمير المؤمنين ، ويقولون له : السلام عليك يا أمير المؤمنين فيقول : لست بأمير المؤمنين وأمير المؤمنين ورائي وأنا واللّه أولى بالأمر منه ، فسمعه عمر فقال : ما هذا يا أبا الفضل؟
قال : هو الذي سمعت.
فقال : لكن أنا وإياك قد خلفنا بالمدينة من هو أولى بها مني ومنك.
قال العباس : ومن هو؟
فقال : على بن أبي طالب.
قال : فما الذي منعك وصاحبك أن تقدماه؟
فقال : خشية أن يتوارثها عقبكم إلى يوم القيامة ، وكرهنا أن تجتمع لكم النبوة والخلافة.
قال له العباس : من حسدنا فاءنما يحسد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - (1).
ص: 64
عليه ، ثم شرب من جر (1) كان عنده ، واستلقى على مرفقة له ، وطفق يحمد اللّه ، يكرر ذلك ، ثم قال : من أين جئت يا عبد اللّه؟
قلت : من المسجد.
قال : كيف خلفت ابن عمك؟ فظننته يعني عبد اللّه بن جعفر.
قلت : خلفته يلعب مع أترابه.
قال : لم أعن ذلك ، إنما عنيت عظيمكم أهل البيت.
قلت : خلفته يمتح بالغرب (2) على نخيلات من فلان ، وهو يقرأ القرآن.
قال : عبد اللّه ، عليك دماء البدن إن كتمتنيها؟ هل بقي في نفسه شئ من أمر الخلافة؟
قلت : نعم.
قال : أيزعم أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - نص عليه؟
قلت : نعم وأزيدك ، سألت أبي عما يدعيه ، فقال : صدق.
فقال عمر : لقد كان من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - في أمره ذرو (3) من قول لا يثبت حجة ، ولا يقطع عذرا ، ولقد كان يربع في أمره وقتا ما ، ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه (4) فمنعت من ذلك (5) إشفاقا
ص: 66
وحيطة على الأسلام! لا ورب هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبدا؟
ولو وليها لا نتقضت عليه العرب من أقطارها ، فعلم رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - أني علمت ما في نفسه ، فأمسك ، وأبى اللّه إلا إمضاء ما حتم (1).
ص: 67
يقول ابن عباس :
إني لأماشي عمر في سكة من سكك المدينة ، يده في يدي.
فقال : يابن عباس ، ما أظن صاحبك إلا مظلوما ، فقلت في نفسي : واللّه لا يسبقني بها.
فقلت : يا أمير المؤمنين ، فاردد إليه ظلامته ، فانتزع يده من يدي ، ثم مر يهمهم ساعة ثم وقف ، فلحقته.
فقال لي : يابن عباس ، ما أظن القوم منعهم من صاحبك إلا أنهم استصغروه.
فقلت في نفسي : هذه شر من الأولى ، فقلت : واللّه ما استصغره اللّه حين أمره أن يأخذ سورة براءة من أبي بكر (1).
ص: 68
قال : فأعرض عني وأسرع ، فرجعت عنه (1).
ص: 69
قال ابن عباس :
كنت أسير مع عمر بن الخطاب في ليلة وعمر على بغل وأنا على فرس فقرأ آية فيها ذكر علي بن أبي طالب - عليه السلام -.
فقال : أما واللّه يا بني عبد المطلب؟ لقد كان علي فيكم أولى بهذا الأمر مني ومن أبي بكر. فقلت في نفسي : لا أقالني اللّه إن أقلته.
فقلت : أنت تقول ذلك يا أمير المؤمنين؟ وأنت وصاحبك وثبتما وأفرغتما الأمر منا دون الناس.
فقال : إليكم يا بني عبد المطلب؟ أما إنكم أصحاب عمر بن الخطاب.
فتأخرت وتقدم هنيهة.
فقال : سر لا سرت ، وقال : أعد على كلامك.
فقلت : إنما ذكرت شيئا فرددت عليه جوابه ولو سكت سكتنا.
فقال : إنا واللّه ما فعلنا الذي فعلنا عن عداوة ولكن استصغرناه ، وخشينا أن لا يجتمع عليه العرب وقريش لما قد وترها.
قال : فأردت أن أقول : كان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - يبعثه فينطح كبشها فلم يستصغره ، أفتستصغره أنت وصاحبك؟
فقال : لا جرم ، فكيف ترى؟ واللّه ما نقطع أمرا دونه ، ولا نعمل شيئا حتى نستأذنه (1).
ص: 70
قال عبد اللّه بن عمر :
كنت عند أبي يوما ، وعنده نفر من الناس ، فجرى ذكر الشعر ، فقال : من أشعر العرب؟
فقالوا : فلان وفلان ، فطلع عبد اللّه بن عباس ، فسلم وجلس ، فقال عمر : قد جاءكم الخبير ، من أشعر الناس يا عبد اللّه؟
قال : زهير بن أبى سلمى.
قال : فأنشدني مما تستجيده له.
فقال : يا أمير المؤمنين ، إنه مدح قوما من غطفان ، يقال لهم بنو سنان ، فقال :
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم *** قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
قوم أبوهم سنان حين تنسبهم *** طابوا وطاب من الاولاد ما ولدوا
إنس إذا أمنوا ، جن إذا فزعوا *** مرزؤون بها ليل إذ جهدوا
محسدون على ما كان من نعم *** لا ينزع اللّه منهم ماله حسدوا
فقال عمر : واللّه لقد أحسن ، وما أرى هذا المدح يصلح إلا لهذا البيت من هاشم ، لقرابتهم من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله -.
فقال ابن عباس : وفقك اللّه يا أمير المؤمنين ، فلم تزل موفقا.
فقال : يابن عباس ، أتدري ما منع الناس منكم؟
ص: 71
قال : لا يا أمير المؤمنين.
قال : لكني أدري.
قال : ما هو يا أمير المؤمنين؟
قال : كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة ، فيجخفوا جخفا (1) ، فنظرت قريش لنفسها فاختارت ووفقت فأصابت.
فقال ابن عباس : أيميط أمير المؤمنين عني غضبه فيسمع؟
قال : قل ما تشاء.
قال : أما قول أمير المؤمنين : إن قريشا كرهت ، فإن اللّه تعالى قال لقوم : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) (2).
واما قولك : (إنا كنا نجخف) ، فلو جخفنا بالخلافة جخفنا بالقرابة ، ولكنا قوم أخلاقنا مشتقة من خلق رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - الذي قال اللّه تعالى : ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (3) ، وقال له : ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (4).
وأما قولك : «فإن قريشا اختارت» ، فإن اللّه تعالى يقول : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) (5) وقد علمت يا أمير المؤمنين أن اللّه اختار من خلقه لذلك من اختار (6) ، فلو نظرت قريش من حيث نظر
ص: 72
اللّه لها لوفقت وأصابت قريش.
فقال عمر : على رسلك يابن عباس ، أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا غشا في أمر قريش لا يزول ، وحقدا عليها لا يحول. فقال ابن عباس : مهلا يا أمير المؤمنين؟ لا تنسب هاشما إلى الغش ، فإن قلوبهم من قلب رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - الذي طهره اللّه وزكاه ، وهم أهل البيت الذين قال اللّه تعالى لهم : ( إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) (1).
وأما قولك : (حقدا) فكيف لا يحقد من غصب شيئه ، ويراه في يد غيره.
فقال عمر : أما أنت يا بن عباس ، فقد بلغني عنك كلام أكره أن
ص: 73
أخبرك به ، فتزول منزلتك عندي.
قال : وما هو يا أمير المؤمنين؟ أخبرني به ، فإن يك باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه ، وإن يك حقا فإن منزلتي لا تزول به.
قال : بلغني أنك لا تزال تقول : أخذ هذا الأمر منك حسدا وظلما.
قال : أما قولك يا أمير المؤمنين : (حسدا) ، فقد حسد إبليس آدم ، فأخرجه من الجنة ، فنحن بنو آدم المحسود.
وأما قولك : (ظلما) فأمير المؤمنين يعلم صاحب الحق من هو!
ثم قال : يأمير المؤمنين ، ألم تحتج العرب على العجم بحق رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - ، واحتجت قريش على سائر العرب بحق رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله -! فنحن أحق برسول اللّه من سائر قريش.
فقال له عمر : قم الان فارجع إلى منزلك ، فقام ، فلما ولى هتف به عمر : أيها المنصرف ، إني على ما كان منك لراع حقك!
فالتفت ابن عباس فقال : إن لي عليك يا أمير المؤمنين وعلى كل المسلمين حقا برسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - ، فمن حفظه فحق نفسه حفظ ، ومن أضاعه فحق نفسه أضاع ، ثم مضى.
فقال عمر لجلسائه : واها لا بن عباس ، ما رأيته لاحى أحدا قط إلا خصمه! (1).
ص: 74
عن ابن عباس قال :
مرّ عمر بعلى - عليه السلام - ، وأنا معه بفناء داره فسلم عليه.
فقال له على - عليه السلام - : أين تريد؟
قال : البقيع.
قال : أفلا تصل صاحبك ويقوم معك.
قال : بلى.
فقال لي علي - عليه السلام - : قم معه ، فقمت فمشيت إلى جانبه ، فشبك أصابعه في أصابعي ، ومشينا قليلا ، حتى إذا خلفنا البقيع.
قال لي : يابن عباس ، أما واللّه إن صاحبك هذا لأولى الناس بالأمر بعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - إلا أنا خفناه على اثنين.
قال ابن عباس : فجاء بكلام لم أجد بدا من مسألته عنه.
فقلت : ما هما يا أمير المؤمنين؟
قال : خفناه على حداثة سنه ، وحبه بني عبد المطلب (1).
ص: 75
قال ابن عباس :
كنت عند عمر ، فتنفس نفسا ظننت أن أضلاعه قد انفرجت.
فقلت : ما أخرج هذا النفس منك يا أمير المؤمنين إلا هم شديد!
قال : إي واللّه يا بن عباس! إني فكرت فلم أدر فيمن أجعل هذا الامر بعدي ، ثم قال : لعلك ترى صاحبك لها أهلا!
قلت : وما يمنعه من ذلك مع جهاده وسابقته وقرابته وعلمه!
قال : صدقت ، ولكنه امرؤ فيه دعابة.
قلت : فأين أنت عن طلحة!
قال : ذو البأو (1) وبإصبعه المقطوعة!
قلت : فعبد الرحمن؟
قال : رجل ضعيف لو صار الأمر إليه لوضع خاتمه في يد امرأته.
قلت : فالزبير؟
قال : شكس لقس (2) يلاطم في النقيع في صاع من بر!
قلت : فسعد بن أبي وقاص؟
ص: 76
قال : صاحب سلاح ومقنب (1).
قلت : فعثمان؟
قال : أوه! ثلاثا ، واللّه لئن وليها ليحملن بني أبي معيط على رقاب الناس ، ثم لتنهض العرب إليه.
ثم قال : يا بن عباس ، إنه لا يصلح لهذا الاءمر إلا خصف العقدة ، قليل الغرة ، لا تأخذه في اللّه لومة لائم ، ثم يكون شديدا من غير عنف ، لينا من غير ضعف ، سخيا من غير سرف ، ممسكا من غير وكف (2).
قال : ثم أقبل علي بعد أن سكت هنيئة ، وقال : أجرؤهم واللّه إن وليها أن يحملهم على كتاب ربهم وسنة نبيهم لصاحبك! أما إن ولي أمرهم حملهم على المحجة البيضاء والصراط المستقيم (3).
ص: 77
ومن كلام دار بينهما ، قال له عثمان : إني أنشدك يا بن عباس الأسلام والرحم ، فقد واللّه غلبت وابتليت بكم ، واللّه لوددت أن هذا الأمر كان صار إليكم دوني فحملتموه عني ، وكنت أحد أعوانكم عليه ، إذا واللّه لوجدتموني لكم خيرا مما وجدتكم لي ، ولقد علمت أن الأمر لكم ، ولكن قومكم دفعوكم عنه واختزلوه دونكم ، فو اللّه ما أدري أدفعوه عنكم أم دفعوكم عنه؟!
قال ابن عباس : مهلا يا أمير المؤمنين ، فإنا ننشدك اللّه والأسلام والرحم ، مثل ما نشدتنا ، أن تطمع فينا وفيك عدوا ، وتشمت بنا وبك حسودا! إن أمرك إليك ما كان قولا ، فإذا صار فعلا فليس إليك ولا في يديك ، وإنا واللّه لنخالفن إن خولفنا ، ولننازعن إن نوزعنا ، وما تمنيك أن يكون الأمر صار إلينا دونك إلا أن يقول قائل منا ما يقوله الناس ويعيب كما عابوا!
فأما صرف قومنا عنا الأمر فعن حسد قد واللّه عرفته ، وبغي قد واللّه علمته ، فاللّه بيننا وبين قومنا!
وأما قولك : إنك لا تدري أدفعوه عنا أم دفعونا عنه؟ فلعمري إنك لتعرف أنه لو صار إلينا هذا الأمر ما زدنا به فضلا إلى فضلنا ولا قدرا إلى قدرنا وإنا لأهل الفضل وأهل القدر ، وما فضل فاضل إلا بفضلنا ، ولا سبق سابق إلا بسبقنا ، ولولا هدينا ما اهتدى أحد ولا أبصروا من عمى ، ولا قصدوا من جور ... الخ (1).
ص: 78
مناظرة عبد اللّه بن عباس - رضي اللّه عنهما - مع الحرورية (1)
قال عبد اللّه بن عباس : لما خرجت الحرورية اعتزلوا في دارهم وكانوا ستة آلاف.
فقلت لعلي - عليه السلام - : يا أمير المؤمنين أبرد بالظهر ، لعلي آتي هؤلاء القوم فأكلمهم.
قال : إني أخاف عليك.
قلت : كلا.
قال : فقمت وخرجت ودخلت عليهم في نصف النهار وهم قائلون ، فسلمت عليهم.
فقالوا : مرحبا بك يابن عباس ، فما جاء بك؟
ص: 79
قلت لهم : أتيتكم من عند أصحاب النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وصهره ، وعليهم نزل القرآن ، وهم أعلم بتأويله منكم ، وليس فيكم منهم أحد ، لأبلغكم ما يقولون ، وأخبرهم بما تقولون.
قلت : أخبروني ماذا نقمتم على أصحاب رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وابن عمه؟
قالوا : ثلاث.
قلت : ما هن؟
قالوا : أما إحداهن ، فإنه حكم الرجال في أمر اللّه ، وقال اللّه تعالى : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) (1) ، ما شأن الرجال والحكم؟!
فقلت : هذه واحدة.
قالوا : وأما الثانية ، فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم ، فإن كانوا كفارا سلبهم ، وإن كانوا مؤمنين ما أحل قتالهم (2).
قلت : هذه اثنتان ، فما الثالثة؟
قالوا : إنه محى نفسه عن أمير المؤمنين ، فهو أمير الكافرين.
قلت : هل عندكم شئ غير هذا؟
قالوا : حسبنا هذا.
قلت : أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب اللّه ومن سنة نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ما يرد قولكم ، أترضون؟
قالوا : نعم.
ص: 80
قلت : أما قولكم حكم الرجال في أمر اللّه ، فأنا أقرأ عليكم في كتاب اللّه أن قد صير اللّه حكمه إلى الرجال في ثمن ربع درهم ، فأمر اللّه الرجال أن يحكموا فيه ، قال اللّه تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (1) الاية ، فأنشدتكم باللّه تعالى : أحكم الرجال في أرنب ونحوها من الصيد أفضل؟ أم حكمهم في دمائهم وصلاح ذات بينهم ، وأنت تعلمون أن اللّه تعالى لو شاء لحكم ولم يصير ذلك إلى الرجال؟
قالوا : بل هذا أفضل.
وفي المرأة وزوجها قال اللّه عزوجل : ( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ) (2) الاية ، فنشدتكم باللّه حكم الرجال في صلاح ذات بينهم وحقن دمائهم أفضل من حكمهم في امرأة؟ أخرجت من هذه؟
قالوا : نعم.
قلت : وأما قولكم : قاتل ولم يسب ولم يغنم ، أفتسبون أمكم عائشة ، وتستحلون منها ما تستحلون من غيرها ، وهي أمكم؟ فإن قلتم : إنا نستحل منها ما نستحل من غيرها ، فقد كفرتم ، ولأن قلتم : ليست بأمنا ، فقد كفرتم ، لأن اللّه تعالى يقول : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ) (3). فأنتم تدورون بين ضلالتين ، فأتوا منهما بمخرج؟
قلت : فخرجت من هذه؟
ص: 81
قالوا : نعم.
وأما قولكم : محى اسمه من أمير المؤمنين ، فأنا آتيكم بمن ترضون ، وأراكم قد سمعتم أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - يوم الحديبية صالح المشركين ، فقال لعلي - عليه السلام - : اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، فقال المشركون : لا واللّه ، ما نعلم أنك رسول اللّه ، لو نعلم أنك رسول اللّه لأطعناك ، فاكتب محمد بن عبد اللّه ، فقال رسول - اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم - : امح يا علي (رسول اللّه) اللّهم إنك تعلم أني رسولك ، امح يا علي واكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد اللّه. فواللّه لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - خير من علي ، وقد محا نفسه ، ولم يكن محوه ذلك يمحاه من النبوة؟ (1).
خرجت من هذه؟
قالوا : نعم.
فرجع منهم ألفان ، وخرج سائرهم ، فقتلوا على ضلالتهم ، فقتلهم المهاجرون والأنصار (2).
ص: 82
حضر عبد اللّه بن عباس مجلس معاوية بن أبي سفيان فأقبل عليه معاوية.
فقال : يابن عباس إنكم تريدون أن تحرزوا الأمامة كما اختصصتم بالنبوة ، واللّه لا يجتمعان أبدا ، إن حجتكم في الخلافة مشتبهة على الناس ، إنكم تقولون : نحن أهل بيت النبي - صلى اللّه عليه وآله - فما بال خلافة النبوة في غيرنا؟
وهذه شبهة لأنها تشبه الحق وبها مسحة من العدل ، وليس الأمر كما تظنون ، إن الخلافة تتقلب في أحياء قريش برضا العامة ، وشورى الخاصة ولسنا نجد الناس يقولون : ليت بني هاشم ولونا ، ولو ولونا كان خيرا لنا في دنيانا وأخرانا ، ولو كنتم زهدتم فيها أمس كما تقولون ، ما قاتلتم عليها اليوم ، واللّه لو ملكتموها يا بني هاشم لما كانت ريح عاد ولا صاعقة ثمود بأهلك للناس منكم.
فقال ابن عباس - رحمه اللّه - : أما قولك يا معاوية : إنا نحتج بالنبوة في استحقاق الخلافة ، فهو واللّه كذلك ، فإن لم تستحق الخلافة بالنبوة ، فبم تستحق؟
وأما قولك : إن الخلافة والنبوة لا يجتمعان لأحد ، فأين قول اللّه عزوجل : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَقَدْ آتَيْنَا آلَ
ص: 83
إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ) (1) فالكتاب هو النبوة ، والحكمة هي السنة ، والملك هو الخلافة ، فنحن آل إبراهيم ، والحكم بذلك جار فينا إلى يوم القيامة.
وأما دعواك على حجتنا أنها مشتبهة ، فليس كذلك ، وحجتنا أضوأ من الشمس وأنور من القمر ، كتاب اللّه معنا ، وسنة نبيه - صلى اللّه عليه وآله - فينا ، وإنك لتعلم ذلك ، ولكن ثنى عطفك وصعرك (2) قتلنا أخاك وجدك وخالك وعمك ، فلا تبك على أعظم حائلة وأرواح في النار هالكة ، ولا تغضبوا لدماء أراقها الشرك ، وأحلها الكفر ، ووضعها الدين.
وأما ترك تقديم الناس لنا فيما خلا ، وعدولهم عن الأجماع علينا ، فما حرموا منا أعظم مما حرمنا منهم ، وكل أمر إذا حصل حاصله ثبت حقه ، وزال باطله.
وأما افتخارك بالملك الزائل ، الذي توصلت إليه بالمحال الباطل ، فقد ملك فرعون من قبلك فأهلكه اللّه ، وما تملكون يوما يا بني أمية الا
ص: 84
ونملك بعدكم يومين ، ولا شهرا إلا شهرين ، ولا حولا إلا ملكنا حولين.
وأما قولك : إنا لو ملكنا كان ملكنا أهلك للناس من ريح عاد وصاعقة ثمود ، فقول اللّه يكذبك في ذلك قال اللّه عزوجل : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) (1) فنحن أهل بيته الأدنون ، وظاهر العذاب بتملكك رقاب المسلمين ظاهر للعيان ، وسيكون من بعدك تملك ولدك وولد أبيك أهلك للخلق من الريح العقيم ، ثم ينتقم اللّه بأوليائه ، وتكون العاقبة للمتقين (2).
ص: 85
مناظرة محمد بن أبي بكر (1) مع معاوية
لما صرف علي - عليه السلام - قيس بن سعد بن عبادة عن مصر ، وجه مكانه محمد بن أبي بكر ، فلما وصل إليها كتب إلى معاوية كتابا فيه : من محمد بن أبي بكر ، إلى الغاوي معاوية بن صخر ، أما بعد ، فإن اللّه بعظمته وسلطانه خلق خلقه بلا عبث منه ، ولا ضعف في قوته ، ولا حاجة به إلى خلقهم ، ولكنه خلقهم عبيداً ، وجعل منهم غويّاً ورشيداً ، وشقيّاً
ص: 86
وسعيدا ، ثم اختار على علم واصطفى وانتخب منهم محمدا - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، فانتخبه بعلمه ، واصطفاه برسالته ، وائتمنه على وحيه ، وبعثه رسولا ومبشرا ونذيرا ووكيلا فكان أول من أجاب وأناب وآمن وصدق وأسلم وسلم أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب - عليه السلام - صدقه بالغيب المكتوم ، وآثره على كل حميم ، ووقاه بنفسه كل هول ، وحارب حربه ، وسالم سلمه ، فلم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات الليل والنهار والخوف والجوع والخضوع ، حتى برز سابقا لا نظير له فيمن اتبعه ، ولا مقارب له في فعله ، وقد رأيتك تساميه وأنت أنت ، وهو هو ، أصدق الناس نية ، وأفضل الناس ذرية ، وخير الناس زوجة ، وأفضل الناس ابن عم ، أخوه الشاري بنفسه يوم مؤتة ، وعمه سيد الشهداء يوم أحد ، وأبوه (1) الذاب عن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وعن حوزته ،
ص: 87
ص: 88
وأنت اللعين ابن اللعين ، لم تزل أنت وأبوك تبغيان لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - الغوائل ، وتجهدان في إطفاء نور اللّه ، تجمعان على ذلك الجموع ، وتبذلان فيه المال ، وتؤلبان عليه القبائل ، وعلى ذلك مات أبوك ، وعليه خلفته ، والشهيد عليك من تدني ويلجأ إليك من بقية الأحزاب ورؤساء النفاق ، والشاهد لعلي - مع فضله المبين القديم - أنصاره الذين معه وهم الذين ذكرهم اللّه بفضلهم ، وأثنى عليهم من المهاجرين والأنصار ، وهم معه كتائب وعصائب ، يرون الحق في اتباعه ، والشقاء في خلافه ، فكيف يالك الويل! تعدل نفسك بعلي وهو وارث رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ووصيه وأبو ولده ، أول الناس له اتباعا ، وأقربهم به عهدا ، يخبره بسره ، ويطلعه على أمره ، وأنت عدوه وابن
ص: 89
عدوه ، فتمتع في دنياك ما استطعت بباطلك ، وليمددك ابن العاص في غوايتك ، فكأن أجلك قد انقضى ، وكيدك قد وهى ، ثم يتبين لك لمن تكون العاقبة العليا ، واعلم أنك إنما تكايد ربك الذي أمنت كيده ، ويئست من روحه ، فهو لك بالمرصاد ، وأنت منه في غرور ، والسلام على من اتبع الهدى.
فكتب إليه معاوية : من معاوية بن صخر ، إلى الزاري على أبيه محمد ابن أبي بكر ، أما بعد : فقد أتاني كتابك تذكر فيه ما اللّه أهله في عظمته وقدرته وسلطانه ، وما اصطفى به رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، مع كلام كثير لك فيه تضعيف ، ولأبيك فيه تعنيف ، ذكرت فيه فضل ابن أبي طالب ، وقديم سوابقه ، وقرابته إلى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، ومواساته إياه في كل هول وخوف ، فكان احتجاجك علي وعيبك لي بفضل غيرك لا بفضلك ، فأحمد ربا صرف هذا الفضل عنك ، وجعله لغيرك ، فقد كنا وأبوك فينا نعرف فضل ابن أبي طالب وحقه لازما لنا مبرورا علينا ، فلما اختار اللّه لنبيه - عليه الصلاة والسلام - ما عنده ، وأتم له ما وعده ، وأظهر دعوته ، وأبلج حجته ، وقبضه اللّه إليه - صلوات اللّه عليه - ، فكان أبوك وفاروقه أول من ابتزه حقه ، وخالفه على أمره ، على ذلك اتفقا واتسقا.
ثم إنهما دعواه إلى بيعتهما فأبطأ عنهما ، وتلكأ عليهما ، فهما به الهموم ، وأرادا به العظيم ، ثم إنه بايع لهما وسلم لهما ، وأقاما لا يشركانه في أمرهما ، ولا يطلعانه على سرهما ، حتى قبضهما اللّه.
ثم قام ثالثهما عثمان فهدى بهديهما وسار بسيرهما ، فعبته أنت وصاحبك حتى طمع فيه الأقاصى من أهل المعاصي ، فطلبتما له الغوائل ،
ص: 90
وأظهرتما عداوتكما فيه حتى بلغتما فيه منا كما ، فخذ حذرك يابن أبي بكر ، وقس شبرك بفترك ، يقصر عن أن توازي أو تساوي من يزن الجبال بحلمه ، لا يلين عن قسر قناته ، ولا يدرك ذو مقال أناته أبوك مهدمهاده ، وبنى لملكه وساده ، فإن يك ما نحن فيه صوابا فأبوك استبد به ونحن شركاؤه ، ولو لا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب ، ولسلمنا إليه ، ولكنا رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا فأخذنا بمثله ، فعب أباك بما بدا لك أودع ذلك ، والسلام على من أناب (1).
ص: 91
مناظرة عبد اللّه بن جعفر (1) مع معاوية بن أبي سفيان
قال عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب : كنت عند معاوية ومعنا الحسن والحسين - عليهما السلام - وعنده عبد اللّه بن عباس فالتفت إلي معاوية فقال : يا عبد اللّه ما أشد تعظيمك للحسن والحسين - عليهما السلام -؟! وما هما بخير منك ولا أبوهما خير من أبيك ، ولو لا أن فاطمة بنت رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لقلت ما أمك أسماء بنت عميس بدونها.
فقلت : واللّه إنك لقليل العلم بهما وبأبيهما وبامهما ، بل واللّه لهما خير مني ، وأبوهما خير من أبي ، وأمهما خير من أمي.
ص: 92
يا معاوية ، إنك لغافل عما سمعته أنا من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - يقول فيهما وفي أبيهما وأمهما ، قد حفظته ووعيته ورويته.
قال : هات يا ابن جعفر فو اللّه ما أنت بكذاب ولا متهم؟
فقلت : إنه أعظم مما في نفسك.
قال : وإن كان أعظم من أحد وحراء جميعا ، فلست أبالي إذا قتل اللّه صاحبك ، وفرق جمعكم وصار الأمر في أهله ، فحدثنا فما نبالي بما قلتم ولا يضرنا ما عدمتم.
قلت : سمعت رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - وقد سئل عن هذه الاية : ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) (1).
فقال : إني رأيت اثني عشر رجلا من أئمة الضلالة يصعدون منبري وينزلون ، يردون أمتي على أدبارهم القهقرى (2) وسمعته يقول : إن بني
ص: 93
أبي العاص إذا بلغوا خمسة عشر رجلا جعلوا كتاب اللّه دخلا ، وعباد اللّه خولا ، ومال اللّه دولا (1).
يا معاوية إني سمعت رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - يقول على المنبر وأنا بين يديه وعمر بن أبي سلمة ، وأسامة بن زيد ، وسعد بن أبي وقاص ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر ، والمقداد ، والزبير بن العوام ، وهو يقول : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ فقلنا : بلى. يا رسول اللّه ، قال : أليس أزواجي أمهاتكم؟!
قلنا : بلى يا رسول اللّه.
قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، أولى به من نفسه ، وضرب بيده على منكب علي فقال : اللّهم وال من والاه ، وعاد من عاداه (2) ، أيها الناس ،
ص: 94
أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، ليس لهم معي أمر ، وعلي من بعدي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، ليس لهم معه أمر ، ثم ابني الحسن أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، ليس لهم معه أمر ، ثم عاد فقال : أيها الناس ، إذا أنا استشهدت فعلي أولى بكم من أنفسكم ، فإذا استشهد علي فابني الحسن أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم ، فإذا استشهد الحسن فابني الحسين أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم ، فإذا استشهد الحسين فابني علي بن الحسين أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم ليس لهم معه أمر ، ثم أقبل علي - عليه السلام - فقال : يا علي ، إنك ستدركه فأقرأه مني السلام ، فإذا استشهد فابني محمد أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم ، وستدركه أنت يا حسين فأقرأه مني السلام ، ثم يكون في عقب محمد رجال ، واحد بعد واحد ، وليس منهم أحد إلا وهو أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم ليس لهم معه أمر ، كلهم هادون مهتدون (1).
ص: 95
ص: 96
(الى أن قال) : فقال معاوية : يابن جعفر ، لقد تكلمت بعظيم ولئن كان ما تقول حقا لقد هلكت أمة محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - من المهاجرين والأنصار غيركم أهل البيت وأولياءكم وأنصاركم؟
فقلت : واللّه إن الذي قلت حق سمعته من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم -.
قال معاوية : يا حسن ويا حسين ويا بن عباس ما يقول ابن جعفر؟!
فقال ابن عباس : إن كنت لا تؤمن بالذي قال فأرسل إلى الذين
ص: 97
سماهم فاسألهم عن ذلك.
فأرسل معاوية إلى عمر بن أبي سلمة ، وإلى أسامة بن زيد فسألهما ، فشهدا أن الذي قال ابن جعفر قد سمعناه من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - كما سمعه.
فقال معاوية : يابن جعفر قد سمعناه في الحسن والحسين وفي أبيهما ، فما سمعت في أمهما؟! - ومعاوية كالمستهزئ والمنكر!
فقلت : سمعت من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - يقول : ليس في جنة عدن منزل أشرف ولا أفضل ولا أقرب إلى عرش ربي من منزلي ، ومعي ثلاثة عشر من أهل بيتي أخي علي وابنتي فاطمه وأبناي الحسن والحسين ، وتسعة من ولد الحسين ، الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، هداة مهتدون ، وأنا المبلغ عن اللّه ، وهم المبلغون عني ، وهم حجج اللّه على خلقه ، وشهداؤه في أرضه ، وخزانه على علمه ، ومعادن حكمته ، من أطاعهم أطاع اللّه ، ومن عصاهم عصى اللّه ، لا تبقى الأرض طرفة عين (إلا) ببقائهم ، ولا تصلح إلا بهم ، يخبرون الأمة بأمر دينهم ، حلالهم وحرامهم ، يدلونهم على رضا ربهم ، وينهونهم عن سخطه ، بأمر واحد ونهي واحد ، ليس فيهم اختلاف ولا فرقة ولا تنازع ، يأخذ آخرهم عن أولهم إملائي وخط أخي علي بيده ، يتوارثونه إلى يوم القيامة ، أهل الأرض كلهم في غمرة وغفلة وتيهة وحيرة غيرهم وغير شيعتهم وأوليائهم ، لا يحتاجون إلى أحد من الأمة في شئ من أمر دينهم ، والأمة تحتاج إليهم ، هم الذين عنى اللّه في كتابه وقرن طاعتهم بطاعته وطاعة رسول اللّه ، فقال : ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ
ص: 98
مِنْكُمْ ) (1).
فأقبل معاوية على الحسن والحسين وابن عباس والفضل بن عباس وعمر بن أبي سلمة وأسامة بن زيد ، فقال : كلكم على ما قال ابن جعفر؟!
قالوا : نعم.
قال : يا بني عبد المطلب إنكم لتدعون أمرا عظيما وتحتجون بحجج قوية ، إن كانت حقا! وإنكم لتضمرون على أمر تسرونه والناس عنه في غفلة عمياء ، ولئن كان ما يقولون حقا لقد هلكت الأمة ، وارتدت عن دينها ، وتركت عهد نبينا غيركم أهل البيت ، ومن قال بقولكم ، فأولئك في الناس قليل.
فقلت : يا معاوية إن اللّه تبارك وتعالى يقول : ( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (2).
ويقول : ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (3). ويقول : ( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ) (4). ويقول لنوح - عليه السلام - : ( وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ) (5).
ص: 99
يا معاوية ، المؤمنون في الناس قليل ، وإن أمر بني اسرائيل أعجب حيث قالت السحرة لفرعون : ( فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ، إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا ) (1). فآمنوا بموسى وصدقوه واتبعوه ، فسار بهم وبمن تبعه من بني اسرائيل ، فأقطعهم البحر وأراهم الأعاجيب ، وهم يصدقون به وبالتوراة ، يقرون له بدينه ، فمر بهم على قوم يعبدون أصناما لهم فقالوا : ( يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ) (2). ثم اتخذوا العجل فعكفوا عليه جميعا غير هارون وأهل بيته.
وقال لهم السامري : ( هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ) (3). وقال لهم بعد ذلك : ( ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ) (4). فكان من جوابهم ما قص اللّه في كتابه : ( إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ) (5) قال موسى عليه السلام : ( رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) (6).
فاحتذت هذه الأمة ذلك المثال سواء ، وقد كانت فضائل وسوابق مع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، ومنازل منه قريبة ، مقرين بدين محمد والقرآن ، حتى فارقهم نبيهم - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فاختلفوا وتفرقوا وتحاسدوا وخالفوا إمامهم ووليهم ، حتى لم يبق منهم على ما عاهدوا عليه نبيهم ، غير صاحبنا الذي هو من نبينا - صلى اللّه عليه وآله
ص: 100
وسلم - بمنزلة هارون من موسى ، ونفر قليل لقوا اللّه عزوجل على دينهم وإيمانهم ، ورجع الاخرون القهقرى على أدبارهم كما فعل أصحاب موسى - عليه السلام - باتخاذهم العجل وعبادتهم إياه ، وزعمهم أنه ربهم ، وإجماعهم عليه غير هارون وولده ونفر قليل من أهل بيته.
ونبينا - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قد نصب لأمته أفضل الناس وأولاهم وخيرهم بغدير خم (1) وفي غير موطن ، واحتج عليهم به وأمرهم بطاعته ، وأخبرهم أنه منه بمنزلة هارون من موسى (2) ، وأنه ولي كل مؤمن بعده ، وأنه كل من كان وليه ، فعلي وليه ، ومن كان أولى به من نفسه فعلي أولي به ، وأنه خليفته فيهم ووصيه ، وأن من أطاعه أطاع اللّه ومن عصاه عصى اللّه ، ومن والاه والى اللّه ، ومن عاداه عادى اللّه ، فأنكروه
ص: 101
وجهلوه وتولوا غيره!!
يا معاوية أما علمت أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - حين بعث إلى مؤتة أمر عليهم جعفر بن أبي طالب ، ثم قال إن هلك جعفر فزيد ابن حارثة ، فإن هلك زيد فعبد اللّه بن رواحة ، ولم يرض لهم أن يختاروا لأنفسهم.
أفكان يترك أمته لا يبين لهم خليفته فيهم؟! بلى واللّه ، ما تركهم في عمياء ولا شبهة ، بل ركب القوم ما ركبوا بعد نبيهم ، وكذبوا على رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فهلكوا وهلك من شايعهم ، وضلوا وضل من تابعهم ، فبعدا للقوم الظالمين.
فقال معاوية : يابن عباس إنك لتتفوه بعظيم! والاجتماع عندنا خير من الاختلاف ، وقد علمت أن الأمة لم تستقم على صاحبك.
فقال ابن عباس : إني سمعت رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - يقول : ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها (1) ، وإن هذه الأمة اجتمعت على أمور كثيرة ليس بينها اختلاف ولا منازعة ولا فرقة شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه ، والصلوات الخمس ، وصوم شهر رمضان ، وحج البيت ، وأشياء كثيرة من طاعة اللّه ونهي اللّه ، مثل : تحريم الزنا ، والسرقة ، وقطع الأرحام ، والكذب ، والخيانة ، واختلفت في شيئين :
أحدهما : اقتتلت عليه وتفرقت فيه وصارت فرقا ، يلعن بعضها بعضاً ويبرأ بعضها من بعض.
ص: 102
والثاني : لم تقتتل عليه ولم تتفرق فيه ، ووسع بعضهم فيه لبعض ، وهو كتاب اللّه وسنة نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وما يحدث زعمت أنه ليس في كتاب اللّه ولا سنة نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم -.
وأما الذي اختلفت فيه وتفرقت وتبرأت بعضها من بعض ، فالملك والخلافة ، زعمت أنها أحق بهما من أهل بيت نبي اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فمن أخذ بما ليس فيه - بين أهل القبلة - أختلاف ورد علم ما اختلفوا فيه إلى اللّه سلم ونجا من النار ، ولم يسأله اللّه عما أشكل عليه من الخصلتين اللتين اختلف فيهما ، ومن وفقه اللّه ومن عليه ونور قلبه وعرفه ولاة الأمر ومعدن العلم أين هو ، فعرف ذلك كان سعيدا ولله وليا ، وكان نبي اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - يقول : رحم اللّه عبدا قال حقا فغنم أو سكت فلم يتكلم (1).
فالأئمة من أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومنزل الكتاب ، ومهبط الوحي ومختلف الملائكة ، لا تصلح إلا فيها ، لأن اللّه خصها وجعلها أهلا في كتابه على لسان نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، فالعلم فيهم وهم أهله وهو عندهم كله بحذافيره ، باطنه وظاهره ، ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه.
يا معاوية إن عمر بن الخطاب أرسلني في إمرته إلى علي بن أبي طالب - عليه السلام - أني أريد أن أكتب القرآن في مصحف فابعث الينا ما كتبت من القرآن.
فقال : تضرب واللّه عنقي قبل أن تصل إليه.
ص: 103
قلت : ولم؟!
قال : إن اللّه يقول : ( لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) (1). يعني لا يناله كله إلا المطهرون ، إيانا عنى ، نحن الذين أذهب اللّه عنا الرجس وطهرنا تطهيرا (2) ، وقال : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) (3).
ص: 104
فنحن الذين اصطفانا اللّه من عباده ، ونحن صفوة اللّه ولنا ضرب الامثال وعلينا نزل الوحي.
فغضب عمر وقال : ان إبن أبي طالب يحسب أنه ليس عند أحد علم غيره ، فمن كان يقرأ من القرآن شيئا فليأتنا به ، فكان إذا جاء رجل بقرآن فقرأه ومعه آخر كتبه ، وإلا لم يكتبه.
فمن قال - يا معاوية - : إنه ضاع من القرآن شئ فقد كذب ، هو عند أهله مجموع.
ثم أمر عمر قضاته وولاته فقال : اجتهدوا رأيكم ، واتبعوا ما ترون أنه الحق ، فلم يزل هو وبعض ولاته قد وقعوا في عظيمة فكان علي بن أبي طالب - عليه السلام - يخبرهم بما يحتج به عليهم ، وكان عماله وقضاته يحكمون في شئ واحد بقضايا مختلفة فيجيزها لهم ، لأن اللّه لم يؤته الحكمة وفصل الخطاب ، وزعم كل صنف من أهل القبلة أنهم معدن العلم والخلافة دونهم ، فباللّه نستعين على من جحدهم حقهم ، وسن للناس ما يحتج به مثلك عليهم ، ثم قاموا فخرجوا (1).
ص: 105
مناظرة قيس بن سعد (1) وابن عباس مع معاوية بن أبي سفيان
قدم معاوية حاجا في خلافته المدينة بعد ما قتل أمير المؤمنين - صلوات اللّه عليه - وبعد ما مات الحسن - عليه السلام - ، فاستقبله أهل المدينة ، فنظر فإذا الذي استقبله من قريش أكثر من الأنصار ، فسأل عن
ص: 106
ذلك فقيل : إنهم محتاجون ليست لهم دواب.
فالتفت معاوية إلى قيس بن سعد بن عبادة فقال : يا معشر الأنصار ما لكم لا تستقبلوني مع إخوانكم من قريش؟
فقال قيس وكان سيد الأنصار وابن سيدهم : أقعدنا يا أمير المؤمنين أن لم تكن لنا دواب.
قال معاوية فأين النواضح؟
فقال قيس : أفنيناها يوم بدر ويوم أحد وما بعدهما في مشاهد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - حين ضربناك وأباك على الأسلام حتى ظهر أمر اللّه وأنتم كارهون.
قال معاوية : اللّهم غفرا.
قال قيس : أما إن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - قال : سترون بعدي أثرة (1).
ثم قال : يا معاوية تعيرنا بنواضحنا ، واللّه لقد لقيناكم عليها يوم بدر وأنتم جاهدون على إطفاء نور اللّه ، وأن تكون كلمة الشيطان هي العليا ، ثم دخلت أنت وأبوك كرها في الأسلام الذي ضربناكم عليه.
فقال معاوية : كأنك تمن علينا بنصرتك إيانا ، فلله ولقريش بذلك المن والطول ، ألستم تمنون علينا يا معشر الأنصار بنصرتكم رسول اللّه
ص: 107
وهو من قريش ، وهو ابن عمنا ومنا ، فلنا المن والطول أن جعلكم اللّه أنصارنا وأتباعنا فهداكم بنا.
فقال قيس : إن اللّه بعث محمدا - صلى اللّه عليه وآله وسلم - رحمة للعالمين ، فبعثه إلى الناس كافة ، وإلى الجن والأنس ، والأحمر والأسود والأبيض ، اختاره لنبوته واختصه برسالته ، فكان أول من صدقه وآمن به ابن عمه علي بن أبي طالب - عليه السلام - وأبو طالب يذب عنه ، ويمنعه ويحول بين كفار قريش وبين أن يردعوه أو يؤذوه ، فأمره أن يبلغ رسالة ربه ، فلم يزل ممنوعا من الضيم والأذى ، حتى مات عمه أبو طالب وأمر ابنه بمؤازرته ، فآزره ونصره وجعل نفسه دونه في كل شديدة ، وكل ضيق ، وكل خوف ، واختص اللّه بذلك عليا - عليه السلام - من بين قريش ، وأكرمه من بين جميع العرب والعجم.
فجمع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - جميع بني عبد المطلب ، فيهم أبو طالب ، وأبو لهب وهم يومئذ أربعون رجلا ، فدعاهم رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وخادمه علي - عليه السلام - ورسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في حجر عمه أبي طالب.
فقال أيكم ينتدب أن يكون أخي ووزيري ووصيي وخليفتي في أمتي ، وولي كل مؤمن بعدي؟ فسكت القوم حتى أعادها ثلاثا.
فقال علي - عليه السلام - : أنا يا رسول اللّه عليك - فوضع رأسه في حجره وتفل في فيه.
وقال : اللّهم املا جوفه علما وفهما وحكما ، ثم قال لأبي طالب : يا أبا
ص: 108
طالب اسمع الان لابنك وأطع (1) ، فقد جعله اللّه من نبيه بمنزلة هارون من موسى واخى - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بين علي وبين نفسه (2).
فلم يدع قيس شيئا من مناقبه الا ذكرها واحتج بها.
وقال : منهم جعفر بن أبي طالب الطيار في الجنة بجناحين ، اختصه اللّه بذلك من بين الناس ، ومنهم حمزة سيد الشهداء ، ومنهم فاطمة سيدة نساء اهل الجنة ، فإذا وضعت من قريش رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وأهل بيته منكم.
لقد قبض رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فاجتمعت الأنصار إلى أبي ، ثم قالوا نبايع سعدا (3) فجاءت قريش فخاصمونا بحجة علي وأهل بيته - عليهم السلام - وخاصومنا بحقه وقرابته ، فما يعدوا قريش أن يكونوا ظلموا الانصار وظلموا آل محمد - عليهم السلام - ولعمري ما لأحد من الأنصار ولا لقريش ولا لأحد من العرب والعجم في الخلافة حق مع علي - عليه السلام - وولده من بعده.
فغضب معاوية وقال : يا بن سعد عمن أخذت هذا ، وعمن رويته ،
ص: 109
وعمّن سمعته ، أبوك أخبرك بذلك وعنه أخذته؟!
فقال قيس : سمعته وأخذته ممن هو خير من أبي ، وأعظم عليَّ حقاً من أبي.
قال : مَن؟
قال : علي بن أبي طالب - عليه السلام - عالم هذه الامة وصدّيقها الّذي أنزل اللّه فيه : ( قُل كفى باللّه شهيداً بيني وبينكم ومَن عنده علم الكتاب ) (1) فلم يدع آية نزلت في عليّ إلّا ذكرها.
ص: 110
قال معاوية : فإن صديقها أبو بكر ، وفاروقها عمر ، والذي عنده علم الكتاب عبد اللّه بن سلام.
قال قيس : أحق هذه الاسماء وأولى بها الذي أنزل اللّه فيه : ( أفمن كان علي بينه من ربه ويتوله شاهد منه ) (1) والذي نصبه رسول اللّه - صلى
ص: 111
اللّه عليه وآله وسلم - بغدير خم فقال : من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه (1) وفي غزوة تبوك أنت مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي (2).
وكان معاوية يومئذ بالمدينة ، فعند ذلك نادى مناديه وكتب بذلك نسخة إلى عماله ، إلا برئت الذمة ممن روى حديثا في مناقب علي وأهل بيته ، وقامت الخطباء في كل كورة (3) ومكان على المنابر بلعن علي بن أبي طالب - عليه السلام - والبراءة منه والوقيعة في أهل بيته - عليهم السلام - واللعن لهم بما ليس فيهم (4) - عليهم السلام -.
ثم إن معاوية مر بحلقة من قريش فلما رأوه قاموا إليه غير عبد اللّه ابن العباس.
فقال له : يا بن عباس ما منعك من القيام كما قام أصحابك إلا لموجدة علي بقتالي اياكم يوم صفين ، يابن عباس إن عمي عثمان قتل مظلوما.
قال ابن عباس : فعمر بن الخطاب قد قتل مظلوما (5) فسلم الأمر إلى
ص: 112
ولده وهذا ابنه.
قال : إن عمر قتله مشرك.
قال ابن عباس : فمن قتل عثمان؟
قال : قتله المسلمون.
قال : فذلك أدحض لحجتك وأحل لدمه ، إن كان المسلمون قتلوه وخذلوه فليس إلا بحق.
قال : فإنا كتبنا في الآفاق ننهى عن ذكر مناقب علي وأهل بيته ، فكف لسانك يابن عباس وأربع على نفسك (1).
قال : فتنهانا عن قراءة القرآن؟
قال : لا.
قال : فتنهانا عن تأويله؟
قال : نعم.
قال : فنقرأه ولا نسأل عما عنى اللّه به؟
قال : نعم.
قال : فأيما أوجب علينا قراءته أو العمل به؟
قال : العمل به.
قال : فكيف نعمل به حتى نعلم ما عنى اللّه بما أنزل علينا؟
قال : سل عن ذلك من يتأوله على غير ما تتأوله أنت وأهل بيتك.
قال : أنما أنزل القرآن على أهل بيتي فأسأل عنه آل أبي سفيان وآل أبي معيط واليهود والنصارى والمجوس؟!!
ص: 113
قال : فقد عدلتنا بهم.
قال : لعمري ما أعدلك بهم ، إلا إذا نهيت الأمة أن يعبدو اللّه بالقرآن وبما فيه من أمر ونهي ، أو حلال وحرام ، أو ناسخ أو منسوخ ، أو عام أو خاص ، أو معكم أو متشابه ، وإن لم تسأل الأمة عن ذلك هلكوا واختلفوا وتاهوا.
قال معاوية : فاقرؤا القرآن ولا ترووا شيئا مما أنزل اللّه فيكم وما قال رسول اللّه وارووا ما سوى ذلك.
قال ابن عباس : قال اللّه تعالي في القرآن ( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (1).
قال معاوية : يابن عباس اكفني نفسك وكف عني لسانك وإن كنت لا بد فاعلا فليكن سرا ولا تسمعه أحدا علانية ثم رجع الى منزله (2)
ص: 114
مناظرة أروى (1) بنت الحارث بن عبد المطلب
مع معاوية روى ابن عائشة عن حماد بن سلمة عن حميد الطويل عن أنس بن مالك ، قال : دخلت أروى بنت الحارث بن عبد المطلب على معاوية بن أبي سفيان بالموسم وهي عجوز كبيرة ، فلما راها قال : مرحبا بك يا عمه.
ص: 115
قالت : كيف أنت يا بن أخي ، لقد كفرت بعدي بالنعمة إسأت لابن عمك الصحبة ، وتسميت بغير اسمك ، وأخذت غير حقك ، بغير بلاء كان منك ، ولا من آبائك في الاسلام ، ولقد كفرتم بما جاء به محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فأتعس اللّه منكم الجدود ، وأصعر منكم الخدود حتى رد اللّه الحق إلى أهله ، وكانت كلمة اللّه هي العليا ، ونبينا محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - هو المنصور على من ناواه ولو كره المشركون ، فكنا أهل البيت أعظم الناس في الدين حظا ونصيبا وقدرا ، حتى قبض اللّه نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - مغفورا ذنبه مرفوعا درجته ، شريفا عند اللّه مرضيا ، فصرنا أهل البيت منكم بمنزلة قوم موسى من آل فرعون ، يذبحون أبناءهم ، يستحيون نساءهم ، وصار ابن عم سيد المرسلين فيكم بعد نبينا بمنزلة هارون من موسى (1) ، حيث يقول : ( أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ) (2) ولم يجمع بعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لنا شمل ولم يسهل لنا وعر وغايتنا الجنة وغايتكم النار.
ص: 116
قال عمرو بن العاص : أيتها العجوز الضالة ، أقصري من قولك ، وغضي من طرفك.
قالت : ومن أنت لا أم لك؟
قال : عمرو بن العاص.
قالت : يا بن اللخناء النابغة ، أتكلمني أربع على ظلعك ، واعن بشأن نفسك فواللّه ما أنت من قريش في اللباب من حسبها ، ولا كريم منصبها ، ولقد ادعاك ستة من قريش ، كل يزعم أنه أبوك ولقد رأيت أمك أيام منى بمكة مع كل عبد عاهر (أي فاجر) فأتم بهم فإنك بهم أشبه.
فقال مروان الحكم : أيتها العجوز الضاله ، ساخ بصرك مع ذهاب عقلك ، فلا يجوز شهادتك.
قالت : يا بني ، أتتكلم فواللّه لأنت إلى سفيان بن الحارث بن كلدة أشبه منك بالحكم وإنك لشبهه في رزقه عينيك وحمرة شعرك مع قصر قامته وظاهر دمامته ، ولقد رأيت الحكم ماد القامة ، طاهر الأمة سبط الشعر ، وما بينكما قرابة ألا كقرابة الفرس الضامر من الاتان المقرب ، فاسأل أمك عما ذكرك لك فإنها تخبرك بشأن أبيك إن صدقت.
ثم التفتت إلى معاوية فقالت : واللّه ما عرضني لهؤلاء غيرك وإن أمك للقائلة في يوم أحد في قتل حمزة - رحمة اللّه عليه - :
نحن جزيناكم بيوم بدر *** والحرب يوم الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لي من صبر *** أبي وعمي وأخي وصهري
شفيت وحشي غليل صدري *** شفيت نفسي وقضيت نذري
فشكر وحشي علي عمري *** حتى تغيب أعظمي في قبري
فأجبتها :
ص: 117
يا بنت رقاع عظيم الكفر *** خزيت في بدر وغير بدر
صبحك اللّه قبيل الفجر *** بالهاشميين الطول الزهر
بكل قطاع حسام يفري *** حمزة ليثي وعلي صقري
إذ رام شبيب وابوك غدري *** أعطيت وحشي ضمير الصدر
هتك وحشي حجاب الستر *** ما للبغايا بعدها من فخر
فقال معاوية لمروان وعمرو ويلكما أنتما عرضتماني لها واسمعتماني ما أكره ، ثم قال لها : يا عمة اقصدي قصد حاجتك ودعي عنك أساطير النساء.
قالت : تأمر لي بألفي دينار وألفي دينار والفي دينار.
قال : ما تصنعين يا عمة بألفي دينار؟
قالت : أشتري بها عينا خرخارة في أرض خوارة تكون لولد الحارث بن المطلب.
قال : نعم الموضع وضعتها ، فما تضيعين بألفي دينار؟
قالت : أزوج بها فتيان عبد المطلب من أكفائهم.
قال : نعم الموضع وضعتها ، فما تصنعين بألفي دينار؟
قالت : أستعين بها على عسر المدينة وزيارة بيت اللّه الحرام.
قال : نعم الموضع وضعتها ، هي لك نعم وكرامة ، ثم قال : أما واللّه لو كان علي ما أمر لك بها.
قالت : صدقت إن عليا أدى الامانة ، وعمل بأمر اللّه ، وأخذ به ، وأنت ضيعت أمانتك ، وخنت اللله في ماله ، فأعطيت مال اللّه من لا يستحقه ، وقد فرض اللّه في كتابه الحقوق لأهلها وبيئها ، فلم تأخذ بها ودعانا (أي علي) إلى أخذ حقنا الذي فرض اللّه لنا فشغل بحر بك عن وضع الأمور
ص: 118
مواضعها ، وما سألتك من ما لك شيئا فتمن به إنما سألتك من حقنا ولا نرى أخذ شئ وغير حقنا ، أتذكر عليا فض اللّه فاك وأجهد بلاءك ، ثم علا يكاؤها وقالت :
ألا يا عين ويحك أسعدينا *** ألا وابكي أمير المومنينا
رزينا خير من ركب المطايا *** وفارسها ومن ركب السفينا
ومن لبس النعال أو احتذاها *** ومن قرأ المثاني والمثينا
إذا استقبلت وجه أبي حسن *** رأيت البدر راع الناظرينا
ولا واللّه لا أنسي عليا *** وحسن صلاته في الراكعينا
أفي الشهر الحرام فجعتمونا *** بخير الناس طرا أجمعينا
فأمر معاوية لها بستة آلاف ، وقال لها : يا عمة أنفقي هذه في ما تحبين ، فإذا احتجتيني فاكتبي إلى ابن أخيك يحسن صفدك ومعونتك إن شاء اللّه (1).
ص: 119
مناظرة دارمية الحجونية (1) مع معاوية
روى سهل بن أبي سهل التميمي عن أبيه ، قال :
حج معاوية ، فسأل عن امرأة من بني كنانة تنزل بالحجون (2) ، يقال لها : دارمية الحجونية ، وكانت سوداء كثيرة اللحم ، فاخبر بسلامتها ، فبعث إليها فجئ بها.
فقال : ما حالك يا ابنة حام؟
فقالت : لست لحام إن عبتني ، أنا امرأة من بني كنانة.
قال : صدقت ، أتدرين لِمَ بعثت إليك؟
قال : لا يعلم الغيب إلا اللّه.
قال : بعثت إليك لأسألك علام أحببت عليا وأبغضتني ، وواليته وعاديتني؟
قالت : أو تعفيني؟
قال : لا إعفيك.
قالت : أما إذ أبيت ، فإني أحببت عليا على عدله في الرعية ، وقسمه
ص: 120
بالسوية ، وأبغضتك على قتالك من هو أولى منك بالأمر ، وطلبتك (1) ما ليس لك بحق وواليت عليا على ما عقد له رسولا اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - من الولاء (2) ، وحبه المساكين وإعظامه لأهل الدين ، وعاديتك على سفكك الدماء ، وجورك في القضاء ، وحكمك بالهوى.
قال : فلذلك انتفخ بطنك ، وعطم ثدياك ، وربت عجيزتك.
قالت : يا هذا ، بهند (3) واللّه كان يضرب المثل في ذلك لابي.
قال يا معاوية : يا هذه أربعي (4) ، فإنا لم نقل إلا خيرا ، إنه إذا انتفخ بطن المرأة تم خلق ولدها ، وإذا عظم ثدياها تروى (5) رضيعها وإذا عظمت عجيزتها رزن مجلسها فرجعت وسكنت.
قال لها : يا هذه هل رأيت عليا؟
قالت : إي واللّه.
قال : فكيف رأيته؟
قالت : رأيته واللّه لم يفتنه الملك الذي فتنك ، ولم تشغله النعمة التي شغلتك.
قال : فهل سمعت كلامه؟
قالت : نعم واللّه ، فكان يجلو القلب من الغمى ، كما يجلو الزيت صدأ الطست.
ص: 121
قال : صدقت ، فهل لك من حاجة؟
قالت : أو نفعل إذا سألتك؟
قال : نعم.
قالت : تُعطيني مائة ناقة حمراء فيها فحلها وراعيها.
قال : تصنعين بها ماذا؟
قالت : أغذوا بإلبانها الصغار ، وأستحيي بها الكبار ، وأكتسب بها المكارم ، وأصلح بها بين العشائر.
قال : فإن أعطيتك ذلك ، فهل أحُلّ عندك محلّ عليّ بن أبي طالب؟
قال : ماء ولا كصداء ، ومرعى ولا كالسعدان ، وفتى ولا كمالك (1) ، يا سبحان اللّه ، أو دونه (2) فأنشأ معاوية يقول :
إذا لم أعد بالحلم مني عليكم *** فمن ذا الذي بعدي يؤمل للحلم
خذيها هنيئا واذكري فعل ماجد *** جزاك على حرب العداوة بالسلم
ثم قال : أما واللّه لو كان علي حيا ما أعطاك منها شيئا.
قالت : لا واللّه ، ولا وبرة واحدة من مال المسلمين (3).
ص: 122
ذكروا أن رجلا من همذان يقال له برد قدم على معاوية ، فسمع عمرا يقع في علي - عليه السلام - ، فقال له : يا عمرو ، إن أشياخنا سمعوا رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - يقول : من كنت مولاه فعلي مولاه (1) ، فحق ذلك أم باطل؟
فقال عمرو : حق ، وأنا أزيدك أنه ليس أحد من صحابة رسول اللّه له مناقب مثل مناقب علي (2) ، ففزع الفتي؟!
ص: 123
فقال عمرو : إنه أفسدها بأمره في عثمان.
فقال برد : هل أمر أو قتل؟
قال : لا ، ولكنه آوي ومنع.
قال : فهل بايعه الناس عليها؟
قال : نعم.
قال : فما أخرجك من بيعته؟
قال : اتهامي إياه في عثمان (1).
قال له : وأنت أيضا قد اتهمت.
قال : صدقت ، فيها خرجت إلى فلسطين.
فرجع الفتي إلي قومه ، فقال : إنا أتينا قوما أخذنا الحجة عليهم من أفواههم ، علي على الحق فاتبعوه (2).
ص: 124
مناظرة حرة (1) بنت حليمة السعدية مع الحجاج بن يوسف الثقفي
لما وردت حرة بنت حليمة السعدية على الحجاج بن يوسف الثقفي ، فمثلت بين يديه.
قال لها : أنت حرة بنت حليمة السعدية؟
قالت له : فراسة من غير مؤمن!
فقال لها : اللّه جاء بك فقد قيل عنك : إنك تفضلين عليا على أبي بكر وعمر وعثمان.
فقالت : لقد كذب الذي قال : إني أفضله على هؤلاء خاصة.
قال : وعلى من غير هؤلاء؟
قالت : أفضله على آدم ونوع ولوط وإبراهيم وداود وسليمان وعيسى بن مريم - عليهم السلام -
فقال لها : ويلك إنك تفضلينه على الصحابة وتزيدين عليهم سبعة من الانبياء من أولي العزم من الرسل؟ إن لم تأتيني ببيان ما قالت ، ضربت عنقك.
فقالت : ما أنا مفضلته على هؤلاء الانبياء ، ولكن اللّه عزوجل فضله عليهم في القرآن بقوله عزوجل في حق آدم : ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ
ص: 125
فَغَوَى ) (1) ، وقال في حق علي : ( وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا ) (2).
فقال : أحسن ت يا حرة ، فبم تفضلينه على نوح ولوط؟
فقالت : اللّه عزوجل فضله عليهما بقوله : ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) (3) وعلي بن أبي طالب كان ملاكه تحت سدرة المنتهى (4). زوجته بنت محمد فاطمة الزهراء التي يرضي اللّه تعالى لرضاها ويسخط لسخطها (5).
فقال الحجاج : أحسنت يا حرة فبم تفضلينه على أبي الانبياء إبراهيم
ص: 126
خليل اللّه؟
فقالت : اللّه عزوجل فضله بقوله : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (1) ومؤلاى أمير المؤمنين قال قولا لا يختلف فيه أحد من المسلمين : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا (2) ، وهذه كلمة ما قالها أحد قبله ولا بعده.
فقال : أحسنت يا حرة فبم تفضلينه على موسى كليم اللّه؟
قالت : يقول اللّه عزوجل : ( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ) (3) وعلي بن أبي طالب - عليه السلام - بات على فراش رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لم يخف حتى أنزل اللّه تعالى في حقه : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ) (4).
قال الحجاج : أحسنت يا حرة فبم تفضلينه على داود وسليمان - عليهما السلام -؟
قالت : اللّه تعالى فضله عليهما بقوله عزوجل : ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) (5).
ص: 127
قال لها : في أي شئ كانت حكومته؟
قالت : في رجلين رجل كان له كرم والاخر له غنم ، فنفشت الغنم بالكرم فرعته فاحتكما إلى داود - عليه السلام - فقال : تباع الغنم وينفق ثمنها على الكرم حتى يعود إلى ما كان عليه ، فقال له ولده : لا يا أبة بل يؤخذ من لبنها وصوفها ، قال اللّه تعالى : ( فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ) (1).
وإنَّ مولانا أمير المؤمنين عليا - عليه السلام - قال : سلوني عما فوق العرش ، سلوني عما تحت العرش (2) ، سلوني قبل أن تفقدوني (3) ، وإنه - عليه السلام - دخل على رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - يوم فتح خيبر فقال النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - للحاضرين : أفضلكم وأعلمكم وأقضاكم علي (4).
فقال لها : أحسنت فبم تفضلينه على سليمان؟
فقالت : اللّه تعالى فضله عليه بقوله تعالى : ( رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) (5) ومولانا أمير المؤمنين علي - عليه السلام -
ص: 128
قال : طلقتك يا دنيا ثلاثا لا حاجة لي فيك (1) ، فعند ذلك أنزل اللّه تعالى فيه : ( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ) (2).
فقال : أحسنت يا حرة فبم تفضلينه على عيسى بن مريم - عليه السلام -؟
قالت : اللّه تعالى عزوجل فضله بقوله تعالى : ( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ ) (3) الاية. فأخر الحكومة إلى يوم القيامة ، وعلي ابن أبي طالب لما ادعوا النصيرية (4) فيه ما ادعوه ، قتلهم (5) ولم يؤخر حكومتهم ، فهذه كانت فضائله لم تعد بفضائل غيره.
قال : أحسنت يا حرة خرجت من جوابك ، ولو لا ذلك لكان ذلك ، ثم أجازها وأعطاها وسرحها سراحا حسنا رحمة اللّه عليها (6).
ص: 129
مناظرة الحسن البصري (1) مع الحجاج
قال عامر الشعبي : قدمنا على الحجاج البصرة ، وقدم عليه قراء أهل المدينة ، فدخلنا عليه في يوم صائف شديد الحر ، فقال للحسن : مرحبا بأبي سعيد ، إلي - وذكر كلاما - ثم ذكر الحجاج عليا - عليه السلام - فنال منه ، وقلنا قولا مقاربا له فرقا من شره ، والحسن ساكت عاض على إبهامه ، فقال : يا أبا سعيد مالي أراك ساكتا؟
فقال : ما عسيت أن أقول.
قال : أخبرني برأيك في أبي تراب؟
قال : أفي علي؟ سمعت اللّه يقول : ( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ) (2) فعلي ممن هدى اللّه ، ومن أهل الأيمان.
وأقول : إنه ابن عم رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - وختنه على ابنته ،
ص: 130
أحب الناس إليه (1) ، وصاحب سوابق مباركات سبقت له من اللّه ، ولا تستطيع أنت ولا أحد من الناس أن يحصرها عنه ، ولا يحول بينها وبينه.
ونقول : إنه إن كانت لعلي ذنوب فاللّه حسيبه واللّه ما أجد قولا أعدل فيه من هذا القول.
قال الشعبي : فبسر الحجاج وجهه ، وقام عن السرير مغضبا ، وخرجنا (2).
ص: 131
مناظرة أبان بن عياش (1) مع الحسن البصري
روى أبان بن عياش ، قال : سألت الحسن البصري عن علي - عليه السلام -.
فقال : ما أقول فيه! كانت له السابقة ، والفضل والعلم والحكمة والفقه والرأي والصحبة والنجدة والبلاء والزهد والقضاء والقرابة ، إن عليا كان في أمره عليا ، رحم اللّه عليا ، وصلى عليه!
فقلت : يا أبا سعيد ، أتقول : (صلى عليه) لغير النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم!
فقال : ترحم على المسلمين إذا ذكروا ، وصل على النبي وآله وعلى خير آله.
ص: 132
فقلت : أهو خير من حمزة وجعفر؟
قال : نعم.
قلت : وخير من فاطمة وابنيها؟
قال : نعم ، واللّه إنه خير آل محمد كلهم ، ومن يشك أنه خير منهم ، وقد قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : (وأبوهما خير منهما) (1)! ولم يجر عليه اسم شرك ، ولا شرب خمر ، وقد قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لفاطمة - عليها السلام - : (زوجتك خير أمتي) (2) ، فلو كان في أمته خير منه لاستثناه ، ولقد آخى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بين أصحابه ، فآخى بين علي ونفسه ، فرسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - خير الناس نفسا ، وخيرهم أخا.
فقلت : يا أبا سعيد ، فما هذا الذي يقال عنك إنك قلته في علي؟
فقال : يا بن أخي ، أحقن دمي من هؤلاء الجبابرة ، ولو لا ذلك لسالت بي الخشب (3).
ص: 133
مناظرة رجل من بني هاشم مع عمر بن عبد العزيز الأموي (1)
بينا عمر بن عبد العزيز جالسا في مجلسه ، دخل حاجبه ومعه امرأة أدماء (2) طويلة حسنة الجسم والقامة ، ورجلان متعلقان بها ، ومعهم كتاب من ميمون بن مهران إلى عمر ، فدفعوا إليه الكتاب ، ففضه فإذا فيه :
بسم اللّه الرحمن الرحيم : إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ، من ميمون بن مهران ، سلام عليك ورحمة اللّه وبركاته ، أما بعد ، فإنه ورد علينا أمر ضاقت به الصدور ، وعجزت عنه الأوساع (3) ، وهربنا بأنفسنا عنه ، ووكلناه إلى عالمه ، لقول اللّه عز وجل : ( ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) (4) وهذه المرأة والرجلان أحدهما زوجها والاخر أبوها ، وإن أباها يا أمير المؤمنين زعم أن زوجها حلف بطلاقها أن علي بن أبي طالب - عليه السلام - خير
ص: 134
هذه (1) الامة وأولاها برسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، وإنه يزعم أن ابنته طلقت منه ، وأنه لا يجوز له في دينه أن يتخذه صهرا ، وهو يعلم أنها حرام عليه كأمه ، وإن الزوج يقول له : كذبت وأثمت ، لقد بر قسمي ، وصدقت مقالتي ، وإنها امرأتي على رغم أنفك ، وغيظ قلبك ، فاجتمعوا إلي يختصمون في ذلك.
فسألت الرجل عن يمينه ، فقال : نعم ، قد كان ذلك ، وقد حلفت بطلاقها أن عليا خير هذه الأمة وأولاها برسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، عرفه من عرفه ، وأنكره من أنكره ، فليغضب من غضب ، وليرض من رضي ، وتسامع الناس بذلك ، فاجتمعوا له ، وإن كانت الألسن مجتمعة فالقلوب شتى ، وقد علمت يا أمير المؤمنين اختلاف الناس في أهوائهم ، وتسرعهم إلى ما فيه الفتنة ، فأحجمنا عن الحكم لتحكم بما أراك اللّه وإنهما تعلقا بها ، وأقسم أبوها ألا يدعها معه ، وأقسم زوجها ألا يفارقها ولو ضربت عنقه إلا أن يحكم عليه بذلك حاكم لا يستطيع مخالفته والامتناع منه ، فرفعناهم إليك يا أمير المؤمنين ، أحسن اللّه توفيقك
ص: 135
وأرشدك!
وكتب في أسفل الكتاب :
إذا ما المشكلات وردن يوما *** فحارت في تأملها العيون
وضاق القوم ذرعا عن نباها *** فأنت لها أبا حفص أمين
لأنك قد حويت العلم طرا *** وأحكمك التجارب والشئون
وخلفك الإله على الرعايا *** فحظك فيهم الحظ الثمين
قال : فجمع عمر بن عبد العزيز بني هاشم وبني أمية وأفخاذ قريش ، ثم قال لأبي المرأة : ما تقول أيها الشيخ؟
قال : يا أمير المؤمنين ، هذا الرجل زوجته ابنتي ، وجهزتها إليه بأحسن ما يجهز به مثلها ، حتى إذا أملت خيره ، ورجوت صلاحه ، حلف بطلاقها كاذبا ، ثم أراد الأقامة معها.
فقال له عمر : يا شيخ ، لعله لم يطلق امرأته ، فكيف حلف؟
قال الشيخ : سبحان اللّه! الذي حلف عليه لأبين حنثا وأوضح كذبا من أن يختلج في صدري منه شك ، مع سني وعلمي ، لأنه زعم أن عليا خير هذه الأمة وإلا فامرأته طالق ثلاثا.
فقال للزوج : ما تقول؟ أهكذا حلفت؟
قال : نعم.
فقيل : إنه لما قال : نعم ، كاد المجلس يرتج بأهله ، وبنو أمية ينظرون إليه شزرا ، إلا أنهم لم ينطقوا بشئ ، كل ينظر إلى وجه عمر.
فأكبَّ عمر مليا ينكت الأرض بيده والقوم صامتون ينظرون ما يقوله ، ثم رفع رأسه وقال :
إذا ولي الحكومة بين قوم *** أصاب الحق والتمس السدادا
ص: 136
وما خير الإمام إذا تعدى *** خلاف الحق واجتنب الرشادا
ثم قال للقوم : ما تقولون في يمين هذا الرجل؟ فسكتوا.
فقال : سبحان اللّه! قولوا.
فقال رجل من بني أمية : هذا حكم في فرج ، ولسنا نجترئ على القول فيه ، وأنت عالم بالقول ، مؤتمن لهم وعليهم ، قل ما عندك ، فإن القول ما لم يكن يحق باطلا ويبطل حقا جائز علي في مجلسي.
قال : لا أقول شيئا ، فالتفت إلى رجل من بني هاشم من ولد عقيل بن أبي طالب ، فقال له : ما تقول فيما حلف به هذا الرجل يا عقيلي؟
فاغتنمها ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن جعلت قولي حكما ، أو حكمي جائزا قلت ، وإن لم يكن ذلك فالسكوت أوسع لي ، وأبقى للمودة. قال : قل وقولك حكم ، وحكمك ماض.
فلما سمع ذلك بنو أمية قالوا : ما أنصفتنا يا أمير المؤمنين إذ جعلت الحكم إلى غيرنا ، ونحن من لحمتك وأولي رحمك!
فقال عمر : اسكتوا أعجزا ولؤما! عرضت ذلك عليكم آنفا فما انتدبتم له.
قالوا : لأنك لم تعطنا ما أعطيت العقيلي ، ولا حكمتنا كما حكمته.
فقال عمر : إن كان أصاب وأخطأتم ، وحزم وعجزتم ، وأبصر وعميتم ، فما ذنب عمر ، لا أبا لكم! أتدرون ما مثلكم؟
قالوا : لا ندري.
قال : ليكن العقيلي يدري ، ثم قال : ما تقول يارجل؟
قال : نعم يا أمير المؤمنين ، كما قال الأول :
دعيتم إلى أمر فلما عجزتم *** تناوله من لا يداخله عجز
ص: 137
فلما رأيتم ذاك أبدت نفوسكم *** نداما وهل يغني من الحذر الحرز
فقال عمر : أحسنت وأصبت ، فقل ما سألتك عنه.
قال : يا أمير المؤمنين ، بر قسمه ، ولم تطلق امرأته. قال : وأنى علمت ذاك؟
قال : نشدتك اللّه يا أمير المؤمنين ، ألم تعلم أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - قال لفاطمة - عليها السلام - وهو عندها في بيتها عائد لها : يا بنية ، ما علتك؟
قالت : الوعك يا أبتاه - وكان علي - عليه السلام - غائبا في بعض حوائج النبي - صلى اللّه عليه وآله -.
فقال لها : أتشتهين شيئا؟
قالت : نعم أشتهي عنبا ، وأنا أعلم أنه عزيز ، وليس وقت عنب.
فقال - صلى اللّه عليه وآله - : إن اللّه قادر على أن يجيئنا به ، ثم قال : اللّهم ائتنا به مع أفضل أمتي عندك منزلة.
فطرق علي الباب ، ودخل ومعه مكتل قد ألقى عليه طرف ردائه.
فقال له النبي - صلى اللّه عليه وآله - : ما هذا يا علي؟
قال : عنب التمسته لفاطمة - عليها السلام -.
فقال : اللّه أكبر اللّه أكبر ، اللّهم كما سررتني بأن خصصت عليا بدعوتي فاجعل فيه شفاء بنيتي ، ثم قال : كلي على اسم اللّه يا بنية.
فأكلت ، وما خرج رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - حتى استقلت وبرأت.
فقال عمر : صدقت وبررت ، أشهد لقد سمعته ووعيته ، يا رجل ، خذ بيد امرأتك فإن عرض بك أبوها فاهشم أنفه. ثم قال : يا بني عبد
ص: 138
مناف ، واللّه ما نجهل ما يعلم غيرنا ، ولا بنا عمى في ديننا ، ولكنا كما قال الأول :
تصيدت الدنيا رجا لابفخها *** فلم يدركوا خيرا بل استقبحوا الشرا
وأعماهم حب الغنى وأصمهم *** فلم يدركوا إلا الخسارة والوزرا
قيل : فكأنما ألقم بني أمية حجرا ، ومضى الرجل بامرأته.
وكتب عمر إلى ميمون بن مهران :
عليك سلام ، فإني أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلا هو ، أما بعد ، فإني قد فهمت كتابك ، وورد الرجلان والمرأة ، وقد صدق اللّه يمين الزوج ، وأبر قسمه ، وأثبته على نكاحه ، فاستيقن ذلك ، واعمل عليه ، والسلام عليك ورحمة اللّه وبركاته (1).
ص: 139
مناظرة هشام بن الحكم (1) مع بعض المتكلمين في مجلس الرشيد
قال هارون الرشيد لجعفر بن يحيى البرمكي : إني أحب أن أسمع كلام المتكلمين من حيث لا يعلمون بمكاني فيحتجون عن بعض ما يريدون ، فأمر جعفر المتكلمين فأحضروا داره ، وصار هارون في مجلس
ص: 140
يسمع كلامهم ، وأرخى بينه وبين المتكلّمين ستراً ، فاجتمع المتكلّمون وغص المجلس بأهله ينتظرون هشام بن الحكم ، فدخل عليهم هشام وعليه قميص إلى الركبة وسراويل إلى نصف الساق ، فسلم على الجميع ولم يخص جعفرا بشئ.
فقال له رجل من القوم : لم فضلت عليا على أبي بكر ، واللّه يقول : ( ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) (1).
فقال هشام : فأخبرني عن حزنه في ذلك الوقت أكان لله رضا أم غير رضا؟ فسكت!
فقال هشام : إن زعمت أنه كان لله رضا فلم نهاه رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - فقال : (لا تحزن)؟ أنهاه عن طاعة اللّه ورضاه؟ وإن زعمت أنه كان لله غير رضا فلم تفتخر بشئ كان لله غير رضا؟ وقد علمت ما قال اللّه تبارك وتعالى حين قال : ( فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (2).
ولكنّكم قلتم وقلنا وقالت العامة : الجنة اشتاقت إلى أربعة نفر : إلى علي بن أبي طالب - عليه السلام - ، والمقداد بن الأسود ، وعمار بن ياسر ، وأبي ذر الغفاري (3). فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة ، وتخلف عنها صاحبكم ، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة.
وقلتم وقلنا وقالت العامة : إن الذبين عن الاسلام أربعة نفر : علي بن
ص: 141
أبي طالب - عليه السلام - ، والزبير بن العوام ، وأبو دجانة الأنصاري ، وسلمان الفارسي ، فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة وتخلف عنها صاحبكم ، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة.
وقلتم وقلنا وقالت العامة : إن القراء أربعة نفر : علي بن أبي طالب - عليه السلام - ، وعبد اللّه بن مسعود ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة ، وتخلف عنها صاحبكم ، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة.
وقلتم وقلنا وقالت العامة : إن المطهرين من السماء أربعة نفر : علي ابن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين - عليهم السلام - ، فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة وتخلف عنها صاحبكم ، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة.
وقلتم وقلنا وقالت العامة : إن الأبرار أربعة : علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين - عليهم السلام - ، فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة وتخلف عنها صاحبكم ، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة. وقلتم وقلنا وقالت العامة : إن الشهداء أربعة نفر : علي بن أبي طالب - عليه السلام - وجعفر وحمزة وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ، فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة ، وتخلف عنها صاحبكم ، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة.
قال : فحرك هارون الستر وأمر جعفر الناس بالخروج ، فخرجوا مرعوبين ، وخرج هارون إلى المجلس.
فقال : من هذا فواللّه لقد هممت بقتله وإحراقه بالنار (1).
ص: 142
مناظرة هشام بن الحكم مع يحيى بن خالد البرمكي (1)
سأل يحيى بن خالد البرمكي بحضرة الرشيد هشام بن الحكم فقال له : أخبرني يا هشام عن الحق هل يكون في جهتين مختلفتين؟
قال هشام : لا.
قال يحيى : فأخبرني عن نفسين اختصما في حكم الدين ، وتنازعا واختلفا ، هل يخلو من أن يكونا محقين أو مبطلين أو يكون أحدهما مبطلا والاخر محقا؟؟
قال هشام : لا يخلوان من ذلك ، وليس يجوز أن يكونا محقين على ما قدمت من الجواب.
قال يحيى : فخبرني عن علي والعباس لما اختصما إلى أبي بكر في الميراث ، أيهما كان المحق من المبطل؟ إذا كنت لا تقول إنهما كانا محقين ولا مبطلين.
ص: 143
قال هشام : قال فنظرت فإذا أنني قلت : بأن عليا - عليه السلام - كان مبطلا كفرت وخرجت عن مذهبي ، وإن قلت : أن العباس كان مبطلا ضرب الرشيد عنقي ، ووردت علي مسألة لم أكن سئلت عنها قبل ذلك ، ولا أعددت لها جوابا ، فذكرت قول أبي عبد اللّه الصادق - عليه السلام - وهو يقول لي : (يا هشام لا تزال مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك) (1). فعلمت أني لا أخذل ، وعن لي الجواب.
فقلت له : لم يكن من أحدهما خطأ ، وكانا جميعا محقين ، ولهذا نظير قد نطق به القرآن في قصة داود - عليه السلام - ، حيث يقول اللّه جل اسمه : ( وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ) الى قوله : ( خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ ) (2). فأي الملكين كان مخطأ وأيهما كان مصيبا؟ أم تقول إنهما كانا مخطئين ، فجوابك في ذلك جوابي بعينه.
قال يحيى : لست أقول : إن الملكين أخطأ ، بل أقول : إنهما أصابا وذلك أنهما لم يختصما في الحقيقة ، ولا اختلفا في الحكم ، وإنما أظهرا ذلك ، لينبها داود - عليه السلام - على الخطيئة ويعرفاه الحكم ويوقفاه عليه.
قال هشام : كذلك علي والعباس لم يختلفا في الحكم ولا اختصما في الحقيقة ، وإنما أظهرا الاختلاف والخصومة لينبها أبا بكر على غلطه ويوقفاه على خطيئته ، ويدلاه على ظلمه لهما في الميراث ، ولم يكونا في ريب من أمرهما ، وإنما ذلك منهما على ما كان من الملكين.
فلم يحر يحيى جوابا ، واستحسن ذلك الرشيد (3).
ص: 144
كان ليحيى بن خالد مجلس في داره يحضره المتكلمون من كل فرقة وملة ، يوم الأحد ، فيتناظرون في أديانهم ، ويحتج بعضهم على بعض.
فبلغ ذلك الرشيد ، فقال ليحيى بن خالد : يا عباسي ما هذا المجلس الذي بلغني في منزلك يحضره المتكلمون؟
فقال : يا أمير المؤمنين ما شئ مما رفعني به أمير المؤمنين وبلغ من الكرامة والرفعة أحسن موقعا عندي من هذا المجلس ، فإنه يحضره كل قوم مع اختلاف مذاهبهم ، فيحتج بعضهم على بعض ، ويعرف المحق منهم ، ويتبين لنا فساد كل مذهب من مذاهبهم.
قال له الرشيد : فأنا أحب أن أحضر هذا المجلس ، وأسمع كلامهم من غير أن يعلموا بحضوري ، فيحتشمون ولا يظهرون مذاهبهم.
قال : ذلك إلى أمير المؤمنين متى شاء.
قال : فضع يدك على رأسي ولا تعلمهم بحضوري ، ففعل ، وبلغ الخبر المعتزلة فتشاوروا فيما بينهم ، وعزموا أن لا يكلموا هشاما إلا في الأمامة لعلمهم بمذهب الرشيد وإنكاره على من قال بالأمامة.
قال : فحضروا وحضر هشام ، وحضر عبد اللّه بن يزيد الأباضي
ص: 145
- وكان من أصدق الناس لهشام بن الحكم ، وكان يشاركه في التجارة - فلما دخل هشام سلم على عبد اللّه بن يزيد من بينهم.
فقال يحيى بن خالد لعبداللّه بن يزيد : يا عبد اللّه كلم هشاما فيما اختلفتم فيه من الأمامة.
فقال هشام : أيها الوزير ليس لهم علينا جواب ولا مسألة ، هؤلاء قوم كانوا مجتمعين معنا على إمامة رجل ثم فارقونا بلا علم ولا معرفة ، فلاحين كانوا معنا عرفوا الحق ، ولا حين فارقونا علموا على ما فارقونا؟ فليس لهم علينا مسألة ولا جواب.
فقال بيان وكان من الحرورية : أنا أسألك يا هشام ، أخبرني عن أصحاب علي يوم حكموا الحكمين أكانوا مؤمنين أم كافرين؟
قال هشام : كانوا ثلاثة أصناف ، صنف مؤمنون ، وصنف مشركون ، وصنف ضلال.
فأما المؤمنون : فمن قال مثل قولي ، الذين قالوا : إن عليا إمام من عند اللّه ومعاوية لا يصلح لها ، فآمنوا بما قال اللّه عزوجل في علي وأقروا به.
وأما المشركون : فقوم قالوا : علي إمام ، ومعاوية يصلح لها ، فأشركوا إذ أدخلوا معاوية مع علي.
وأما الضلال : فقوم خرجوا على الحمية والعصبية للقبائل والعشائر ، لم يعرفوا شيئا من هذا ، وهم جهال.
قال : وأصحاب معاوية ما كانوا؟
قال : كانوا ثلاثة أصناف : صنف كافرون ، وصنف مشركون ، وصنف ضلال.
فأما الكافرون : فالذين قالوا : إن معاوية إمام ، وعلي لا يصلح لها ،
ص: 146
فكفروا من جهتين أن جحدوا إماما من اللّه ، ونصبوا إماما ليس من اللّه.
وأما المشركون فقوم قالوا : معاوية إمام ، وعلي يصلح لها ، فأشركوإ معاوية مع علي - عليه السلام -.
وأما الضلال فعلى سبيل أولئك خرجوا للحمية والعصبية للقبائل والعشائر. فانقطع بيان عند ذلك.
فقال ضرار : فأنا أسألك يا هشام في هذا؟
فقال هشام : أخطأت.
قال : ولم؟
قال : لأنكم مجتمعون على دفع إمامة صاحبي ، وقد سألني هذا عن مسألة وليس لكم أن تثنوا بالمسألة علي حتى أسألك يا ضرار عن مذهب في هذا الباب.
قال ضرار : فسل.
قال : أتقول إن اللّه عدل لا يجور؟
قال : نعم ، هو عدل لا يجور ، تبارك وتعالى.
قال : فلو كلف اللّه المقعد المشي إلى المساجد ، والجهاد في سبيل اللّه ، وكلف الأعمى قراءة المصاحف والكتب ، أتراه كان عادلا أم جائرا؟
قال ضرار : ما كان اللّه ليفعل ذلك.
قال هشام : قد علمنا أن اللّه لا يفعل ذلك ، ولكن على سبيل الجدل والخصومة ، أن لو فعل ذلك أليس كان في فعله جائرا؟ وكلفه تكليفا لا يكون له السبيل إلى إقامته وأدائه.
قال : لو فعل ذلك لكان جائرا.
قال : فأخبرني عن اللّه عزوجل كلف العباد دينا واحدا لا اختلاف فيه
ص: 147
لا يقبل منهم إلا أن يأتوا به كما كلفهم؟
قال : بلى.
قال : فجعل لهم دليلا على وجود ذلك الدين؟ وكلفهم ما لا دليل على وجوده؟ فيكون بمنزلة من كلف الأعمى قراءة الكتب ، والمقعد المشي إلى المساجد والجهاد؟
قال : فسكت ضرار ساعة ثم قال : لا بد من دليل ، وليس بصاحبك.
قال : فضحك هشام وقال : تشيع شطرك وصرت إلى الحق ضرورة ، ولا خلاف بيني وبينك إلا في التسمية.
قال ضرار : فإني أرجع إليك في هذا القول.
قال : هات.
قال ضرار : كيف تعقد الامامة؟
قال هشام : كما عقد اللّه النبوة.
قال : فإذا هو نبي؟
قال هشام : لا لأن النبوة يعقدها أهل السماء ، والأمامة يعقدها أهل الأرض ، فعقد النبوة بالملائكة ، وعقد الأمامة بالنبي ، والعقدان جميعا بإذن اللّه عزوجل.
قال : فما الدليل على ذلك؟
قال هشام : الاضطرار في هذا.
قال ضرار : وكيف ذلك؟
قال هشام : لا يخلو الكلام في هذا من أحد ثلاثة وجوه :
إما أن يكون اللّه عزوجل رفع التكليف عن الخلق بعد الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فلم يكلفهم ولم يأمرهم ، ولم ينههم ، وصاروا
ص: 148
بمنزلة السباع والبهائم التي لا تكليف عليها ، أفتقول هذا يا ضرار أن التكليف عن الناس مرفوع بعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله -؟
قال : لا أقول هذا.
قال هشام : فالوجه الثاني ينبغي أن يكون الناس المكلفون قد استحالوا بعد الرسول علماء ، في مثل حد الرسول في العلم ، حتى لا يحتاج أحد إلى أحد فيكونوا كلهم قد استغنوا بأنفسهم ، وأصابوا الحق الذي لا اختلاف فيه أفتقول هذا ، أن الناس قد استحالوا علماء ، حتى صاروا في مثل حد الرسول في العلم حتى لا يحتاج أحد إلى أحد ، مستغنين بأنفسهم عن غيرهم في إصابة الحق؟
قال : لا أقول هذا ، ولكنهم يحتاجون إلى غيرهم.
قال : فبقي الوجه الثالث لأنه لا بد لهم من علم يقيمه الرسول لهم لا يسهو ولا يغلط ، ولا يحيف (1) ، معصوم من الذنوب ، مبرأ من الخطايا ، يحتاج إليه ولا يحتاج إلى أحد.
قال : فما الدليل عليه؟
قال هشام : ثمان دلالات أربع في نعت نسبه ، وأربع في نعت نفسه.
فأما الأربع التي في نعت نسبه : بأن يكون معروف الجنس ، معروف القبيلة ، معروف البيت ، وأن يكون من صاحب الملة والدعوة إليه إشارة ، فلم يرجنس من هذا الخلق أشهر من جنس العرب ، الذين منهم صاحب الملة والدعوة ، الذي ينادى باسمه في كل يوم خمس مرات على الصوامع ، أشهد أن لا إله إلا اللّه ، وأن محمدا رسول اللّه ، فتصل دعوته إلى كل بر
ص: 149
فتصل دعوته إلى بر وفاجر ، وعالم وجاهل ، ومقر ومنكر ، في شرق الأرض وغربها ، ولو جاز أن يكون الحجة من اللّه على هذا الخلق في غير هذا الجنس لأتى علي الطالب المرتاد دهر من عصره لا يجده ، ولو جاز أن يطلبه في أجناس هذا الخلق من العجم وغيرهم لكان من حيث أراد اللّه أن يكون صلاحا يكون فسادا ، ولا يجوز هذا في حكم اللّه تبارك وتعالى وعدله ، أن يفرض على الناس فريضة لا توجد.
فلما لم يجز ذلك لم يجز إلا أن يكون إلا في هذا الجنس لاتصاله بصاحب الملة والدعوة ، ولم يجز أن يكون من هذا الجنس إلا في هذه القبيلة لقرب نسبها من صاحب الملة وهي قريش ، ولما لم يجز أن يكون من هذا الجنس إلا في هذه القبيلة لم يجز أن يكون من هذه القبيلة إلا في هذا البيت لقرب نسبه من صاحب الملة والدعوة ، ولما كثر أهل هذا البيت ، وتشاجروا في الامامة لعلوها وشرفها ادعاها كل واحد منهم ، فلم يجز إلا أن يكون من صاحب الملة والدعوة إليه إشارة بعينه واسمه ونسبه لئلا يطمع فيها غيره.
وأما الأربع التي في نعت نفسه : أن يكون أعلم الناس كلهم بفرائض اللّه وسننه ، وأحكامه ، حتى لا يخفى عليه منها دقيق ولا جليل ، وأن يكون معصوما من الذنوب كلها وأن يكون أشجع الناس ، وأن يكون أسخى الناس.
قال : من أين قلت : إنه أعلم الناس؟
قال : لأنه إن لم يكن عالما بجميع حدود اللّه وأحكامه وشرائعه وسننه ، لم يؤمن عليه أن يقلب الحدود ، فمن وجب عليه القطع حده ، ومن وجب عليه الحد قطعه ، فلا يقيم لله حدا على ما أمر به ، فيكون من حيث أراد اللّه صلاحا يقع فسادا.
ص: 150
قال : فمن أين قلت : إنه معصوم من الذنوب؟
قال : لأنه إن لم يكن معصوما من الذنوب ، دخل في الخطأ فلا يؤمن أن يكتم على نفسه ، ويكتم على حميمه وقريبه ، ولا يحتج اللّه عزوجل بمثل هذا على خلقه.
قال : فمن أين قلت : إنه أشجع الناس؟
قال : لأنه فئة للمسلمين الذين يرجعون إليه في الحروب ، وقال اللّه عزوجل : ( وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ) (1) فإن لم يكن شجاعا فر فيبوء بغضب من اللّه ، فلا يجوز أن يكون من يبوء بغضب من اللّه حجة لله على خلقه.
قال : فمن أين قلت : إنه أسخى الناس؟
قال : لأنه خازن المسلمين ، فإن لم يكن سخيا تاقت نفسه إلى أموالهم فأخذها ، فكان خائنا ، ولا يجوز أن يحتج اللّه على خلقه بخائن. فقال عند ذلك ضرار : فمن هذا بهذه الصفة في هذا الوقت؟
فقال : صاحب العصر أمير المؤمنين - وكان هارون الرشيد قد سمع الكلام كله -.
فقال عند ذلك : أعطانا واللّه من جراب النورة ، ويحك يا جعفر - وكان جعفر بن يحيى جالسا معه في الستر - من يعني بهذا؟
قال : يا أمير المؤمنين يعني موسى بن جعفر.
قال : ما عنى بها غير أهلها ، ثم عض على شفته ، وقال : مثل هذا حي ويبقى لي ملكي ساعة واحدة؟! فو اللّه للسان هذا أبلغ في قلوب الناس من مائة ألف سيف (2).
ص: 151
عن يونس بن يعقوب قال : كنت عند أبي عبد اللّه - عليه السلام - فورد عليه رجل من أهل الشام فقال : إني رجل صاحب كلام وفقه وفرائض ، وقد جئت لمناظرة أصحابك.
فقال له أبو عبد اللّه - عليه السلام - : كلامك هذا من كلام رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - أو من عندك؟
فقال : من كلام رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - بعضه ، ومن عندي بعضه.
فقال أبو عبد اللّه : فأنت إذا شريك رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله -؟
قال : لا.
قال : فسمعت الوحي من اللّه تعالى؟
قال : لا.
قال : فتجب طاعتك كما تجب طاعة رسول اللّه؟
قال : لا.
قال : فالتفت إلي أبو عبد اللّه - عليه السلام - فقال : يا يونس هذا خصم نفسه قبل أن يتكلم.
(الى أن قال يونس) : وكنا في خيمة لأبي عبد اللّه - عليه السلام - في طرف جبل في طريق الحرم ، وذلك قبل الحج بأيام ، فأخرج أبو عبد اللّه
ص: 152
- عليه السلام - رأسه من الخيمة فإذا هو ببعير يخب ، قال : هشام ورب الكعبة.
قال : وكان شديد المحبة لأبي عبد اللّه ، فإذا هشام بن الحكم ، وهو أول ما اختطت لحيته ، وليس فينا إلا من هو أكبر منه سنا ، فوسع له أبو عبد اللّه وقال : ناصرنا بقلبه ولسانه ويده.
ثم قال للشامي : كلم هذا الغلام! يعني : هشام بن الحكم.
فقال : نعم ، ثم قال الشامي لهشام : يا غلام سلني في إمامة هذا يعني : أبا عبد اللّه - عليه السلام -؟
فغضب هشام حتى ارتعد ، ثم قال له : أخبرني يا هذا أربك أنظر لخلقه ، أم خلقه لأنفسهم؟
فقال الشامي : بل ربي أنظر لخلقه!
قال : ففعل بنظره لهم في دينهم ماذا؟
قال : كلفهم ، وأقام لهم حجة ودليلا على ما كلفهم به ، وأزاح في ذلك عللهم.
فقال له هشام : فما هذا الدليل الذي نصبه لهم؟
قال الشامي : هو رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله -.
قال هشام : فبعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - من؟
قال : الكتاب والسنة.
فقال هشام : فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنة فيما اختلفنا فيه ، حتى رفع عنا الاختلاف ، ومكننا من الاتفاق؟
فقال الشامي : نعم.
قال هشام : فلم اختلفنا نحن وأنت ، جئتنا من الشام تخالفنا ، وتزعم
ص: 153
أن الرأي طريق الدين ، وأنت مقربان الرأي لا يجمع على القول الواحد المختلفين؟
فسكت الشامي كالمفكر.
فقال أبو عبد اللّه - عليه السلام - : مالك لا تتكلم؟
قال : إن قلت : إنا ما اختلفنا كابرت.
وإن قلت : إن الكتاب والسنة يرفعان عنا الاختلاف ، أبطلت (1) ،
ص: 154
لأنهما يحتملان الوجوه (1) ، ولكن لي عليه مثل ذلك.
فقال له أبو عبد اللّه : سله تجده مليا!
فقال الشامي لهشام : من أنظر للخلق ربهم أم أنفسهم؟
فقال : بل ربهم أنظر لهم.
فقال الشامي : فهل أقام لهم من يجمع كلمتهم ، ويرفع اختلافهم ، ويبين لهم حقهم من باطلهم؟
فقال هشام : نعم.
فقال الشامي : من هو؟
قال هشام : أما في ابتداء الشريعة ، فرسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله -
ص: 155
اما بعد النبي فعترته.
قال الشامي : من هو عترة النبي القائم مقامه قي حجته؟
قال هشام : في وقتنا هذا أم قبله؟
قال الشامي : بل في وقتنا هذا.
قال هشام : هذا الجالس يعني : أبا عبد اللّه - عليه السلام - ، الذي تشد إليه الرحال ويخبرنا بأخبار السماء وراثة عن جده.
قال الشامي : وكيف لي بعلم ذلك؟
فقال هشام : سله عما بدا لك.
قال الشامي : قطعت عذري ، فعلي السؤال.
فقال أبو عبد اللّه - عليه السلام - : أنا أكفيك المسألة يا شامي أخبرك عن مسيرك وسفرك ، خرجت يوم كذا ، وكان طريقك كذا ، ومررت على كذا ، ومر بك كذا ، فأقبل الشامي كلما وصف شيئا من أمره يقول : (صدقت واللّه).
فقال الشامي : أسلمت لله الساعة!
فقال له أبو عبد اللّه - عليه السلام - : بل امنت باللّه الساعة ، إن الأسلام قبل الأيمان وعليه يتوارثون ، ويتناكحون ، والأيمان عليه يثابون.
قال : صدقت ، فأنا الساعة أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه وأنك وصي الأنبياء (1)
ص: 156
مناظرة (1) هشام مع عمرو بن عبيد (2) في مسجد البصرة
عن يونس بن يعقوب قال : كان عند أبي عبد اللّه - عليه السلام - جماعة من أصحابه فيهم حمران بن أعين ، ومؤمن الطاق ، وهشام بن سالم ، والطيار ، وجماعة من أصحابه ، فيهم هشام بن الحكم ، وهو شاب.
فقال أبو عبد اللّه - عليه السلام - : يا هشام!
قال : لبيك يابن رسول اللّه!
قال : ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد وكيف سألته؟
قال هشام : جعلت فداك يابن رسول اللّه ، اني أجلك وأستحييك ، ولا يعمل لساني بين يديك.
فقال إبو عبد اللّه - عليه السلام - : إذا أمرتكم بشئ فافعلوه!
ص: 157
قال هشام : بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد ، وجلوسه في مسجد البصرة ، وعظم ذلك علي ، فخرجت إليه ، ودخلت البصرة يوم الجمعة ، وأتيت مسجد البصرة فإذا أنا بحلقة كبيرة ، وإذا بعمرو بن عبيد عليه شملة سوداء مؤتز بها من صوف وشملة مرتد بها ، والناس يسألونه ، فاستفرجت الناس فأفرجوا لي ، ثم قعدت في آخر القوم على ركبتي ، ثم قلت : أيها العالم أنا رجل غريب ، أتأذن لي فأسألك عن مسألة؟
قال : اسأل!
قلت له : ألك عين؟
قال يا بني أي شئ هذا من السؤال ، إذا كيف تسأل عنه؟
فقلت : هذه مسألتي.
فقال : يا بني! سل وإن كانت مسألتك حمقى.
قلت : أجبني فيها.
قال : فقال لي : سل!
فقلت : ألك عين؟
قال : نعم.
قلت : قال : فما تصنع بها؟
قال : أرى بها الألوان والأشخاص.
قال : قلت : ألك أنف؟
قال : نعم.
قال : قلت : فما تصنع به؟
قال : أشم به الرائحة.
قال : قلت : ألك لسان؟
قال : نعم.
ص: 158
قال : قلت : فما تصنع به؟
قال : أتكلم به.
قال : قلت : ألك أذن؟
قال : نعم.
قلت : فما تصنع بها؟
قال : أسمع بها الأصوات.
قال : قلت : ألك يدان؟
قال : نعم. قلت : فما تصنع بهما؟
قال : أبطش بهما ، وأعرف بهما اللين من الخشن.
قال : قلت : ألك رجلان؟
قال : نعم.
قال : قلت : فما تصنع بهما؟
قال : أنتقل بهما من مكان إلى مكان.
قال : قلت : ألك فم؟ قال : نعم.
قال : قلت : فما تصنع به؟
قال : أعرف به المطاعم والمشارب على اختلافها.
قال : قلت : ألك قلب؟
قال : نعم.
قال : قلت : فما تصنع به؟
قال : أميز به كلما ورد على هذه الجوارح.
قال : قلت : إفليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟
ص: 159
قال : لا.
قال : قلت : أفليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟
قال : يا بني إن الجوارح إذا شكت في شئ شمته أو رأته أو ذاقته ، ردته إلى القلب ، فتيقن بها اليقين ، وأبطل الشك.
قال : فقلت : فإنما أقام اللّه عز وجل القلب لشك الجوارح؟
قال : نعم.
قلت : لابد من القلب وإلا لم يستيقن الجوارح.
قال : نعم.
قلت : يا أبا مروان ، إن اللّه تبارك وتعالى لم يترك جوارحكم حتى جعل لها إماما ، يصحح لها الصحيح ، وينفي ما شكت فيه ، ويترك هذا الخلق كله في حيرتهم ، وشكهم ، واختلافهم ، لا يقيم لهم إماما يردون إليه شكهم وحيرتهم ، ويقيم لك إماما لجوارحك ، ترد إليه حيرتك وشكك؟!.
قال : فسكت ولم يقل لي شيئا.
قال : ثم التفت إلي فقال لي : أنت هشام؟
قال : قلت : لا.
فقال لي : أجالسته؟
فقلت : لا.
قال : فمن أين أنت؟ قلت : من أهل الكوفة.
قال : فأنت إذا هو. ثم ضمني إليه ، وأقعدني في مجلسه ، وما نطق حتى قمت ، فضحك أبو عبد اللّه - عليه السلام - ، ثم قال : يا هشام ، من علمك هذا؟ قلت : يابن رسول اللّه جرى على لساني.
قال : يا هشام هذا واللّه مكتوب في صحف إبراهيم وموسى (1).
ص: 160
وادعائهم.
فقال هشام : لست إيانا أردت بهذا القول إنما أردت الطعن على نوح - عليه السلام - حيث لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى النجاة ليلا ونهارا ، ما آمن معه إلا قليل (1).
ص: 162
وسأل هشام بن الحكم جماعة من المتكلمين فقال : أخبروني حين بعث اللّه محمدا - صلى اللّه عليه وآله - بعثه بنعمة تامة أو بنعمة ناقصة؟
قالوا : بنعمة تامة.
قال : فأيما أتم أن يكون في أهل بيت واحد نبوة وخلافة؟ أو يكون نبوة بلا خلافة؟
قالوا : بل يكون نبوة وخلافة.
قال : فلماذا جعلتموها في غيرها ، فإذا صارت في بني هاشم ضربتم وجوههم بالسيوف ، فأفحموا (1).
ص: 163
مناظرة هشام بن الحكم مع ضرار بن عمرو الضبي (1)
دخل ضرار بن عمرو الضبي على يحيى بن خالد البرمكي فقال له : يا أبا عمرو هل لك في مناظرة رجل هو ركن الشيعة؟
فقال ضرار : هلم من شئت.
فبعث إلى هشام بن الحكم ، فأحضره.
فقال : يا أبا محمد ، هذا ضرار ، وهو من قد علمت في الكلام والخلاف لك فكلمه في الأمامة.
فقال : نعم ، ثم أقبل على ضرار فقال : يا أبا عمرو : خبرني على ما تجب الولاية والبراءة أعلى الظاهر أم على الباطن؟
فقال ضرار : بل على الظاهر فإن الباطن لا يدرك إلا بالوحي.
قال هشام : صدقت ، فأخبرني الان أي الرجلين كان أذب عن وجه
ص: 164
رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - بالسيف وأقتل لأعداء اللّه بين يديه وأكثر آثارا في الجهاد أعلي بن أبي طالب أو أبو بكر؟
فقال : بل علي بن أبي طالب - عليه السلام - ولكن أبا بكر كان أشد يقينا.
فقال هشام : هذا هو الباطن الذي قد تركنا الكلام فيه وقد اعترفت لعلي - عليه السلام - بظاهر عمله من الولاية ، وأنه يستحق بها من الولاية ما لم يجب لأبي بكر.
فقال ضرار : هذا هو الظاهر نعم. قال له هشام : أفليس إذا كان الباطن مع الظاهر فهو الفضل الذي لا يدفع؟!
فقال له ضرار : بلى.
فقال له هشام : ألست تعلم أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - قال لعلي : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي (1).
قال ضرار : نعم.
قال هشام : أفيجوز أن يقول هذا القول إلا وعنده في الباطن مؤمن؟ قال : لا.
قال هشام : فقد صح لعلي - عليه السلام - ظاهره وباطنه ولم يصح لصاحبك لا ظاهر ولا باطن والحمد لله (2).
ص: 165
قال ضرار لهشام بن الحكم : ألا دعا علي - عليه السلام - الناس عند وفاة النبي - صلى اللّه عليه وآله - إلى الائتمام به إن كان وصيا؟
قال : لم يكن واجبا عليه ، لأنه قد دعاهم إلى موالاته والائتمام به النبي - صلى اللّه عليه وآله - يوم الغدير (1) ويوم تبوك (2) وغيرهما فلم يقبلوا منه ، ولو كان ذلك جائزا لجاز على آدم أن يدعو إبليس إلى السجود له بعد إذ دعاه ربه إلى ذلك ، ثم إنه صبر كما صبر أولوا العزم من الرسل (3).
ص: 166
مناظرة مؤمن الطاق (1) مع ابن أبي خدرة
عن الأعمش قال : اجتمعت الشيعة والمحكمة (2) عند أبي نعيم النخعي بالكوفة ، وأبو جعفر محمد بن النعمان مؤمن الطاق حاضر.
فقال ابن أبي خدرة : أنا أقرر معكم - أيتها الشيعة - أن أبا بكر أفضل من علي وجميع أصحاب النبي - صلى اللّه عليه وآله - بأربع خصال لا يقدر على دفعها أحد من الناس ، هو ثان مع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - في بيته مدفون ، وهو ثاني اثنين معه في الغار ، وهو ثاني اثنين صلى بالناس آخر صلاة قبض بعدها رسول اللّه - ، صلى اللّه عليه وآله - ، وهو ثاني اثنين الصّديق من الأمّة.
ص: 167
قال أبو جعفر مؤمن الطاق (رحمة اللّه عليه) : يابن أبي خدرة وأنا أقرر معك أن عليا - عليه السلام - أفضل من أبي بكر وجميع أصحاب النبي - صلى اللّه عليه وآله - بهذه الخصال التي وصفتها ، وأنها مثلبة لصاحبك وألزمك طاعة علي - عليه السلام - من ثلاث جهات ، من القرآن وصفا ، ومن خبر رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - نصا ، ومن حجة العقل اعتبارا ، ووقع الاتفاق على ابراهيم النخعي ، وعلى أبي اسحاق السبيعي ، وعلى سليمان بن مهران الأعمش.
فقال أبو جعفر مؤمن الطاق : أخبرني يابن أبي خدرة ، عن النبي - صلى اللّه عليه وآله - أترك بيوته التي أضافها اللّه إليه ، ونهى الناس عن دخولها إلا بإذنه (1) ميراثا لأهله وولده؟ أو تركها صدقة على جميع المسلمين؟ قل ما شئت؟ فانقطع أبن أبي خدرة لما أورد عليه ذلك ، وعرف خطأ ما فيه.
فقال أبو جعفر مؤمن الطاق : إن تركها ميراثا لولده وأزواجه فإنه قبض عن تسع نسوة ، وإنما لعائشة بنت أبي بكر تسع ثمن هذا البيت الذي دفن فيه صاحبك ، ولم يصبها من البيت ذراع في ذراع ، وإن كان صدقة فالبلية أطم وأعظم فإنه لم يصب له من البيت إلا ما لأدنى رجل من المسلمين ، فدخول بيت النبي - صلى اللّه عليه وآله - بغير إذنه في حياته وبعد وفاته معصية إلا لعلي بن أبي طالب - عليه السلام - وولده ، فإن اللّه أحل لهم ما أحل للنبي - صلى اللّه عليه وآله -.
ثم قال : إنكم تعلمون أن النبي - صلى اللّه عليه وآله - أمر بسد أبواب
ص: 168
جميع الناس التي كانت مشرعة إلى المسجد ما خلا باب علي (1) - عليه السلام - فسأله أبو بكر أن يترك له كوة لينظر منها إلى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - فأبى عليه ، وغضب عمه العباس من ذلك (2) فخطب النبي - صلى اللّه عليه وآله - خطبة ، وقال : إن اللّه تبارك وتعالى أمر لموسى وهارون أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا وأمرهما أن لا يبيت في مسجدهما جنب ولا يقرب فيه النساء إلا موسى وهارون وذريتهما ، وإن عليا مني هو بمنزلة هارون من موسى (3) ، وذريته كذرية هارون ، ولا يحل لأحد أن يقرب النساء في مسجد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - ولا يبيت فيه جنبا إلا علي وذريته - عليهم السلام - ، فقالوا بأجمعهم : كذلك كان (4).
ص: 169
قال أبو جعفر : ذهب ربع دينك يابن أبي خدرة وهذه منقبة لصاحبي ليس لأحد مثلها ومثلبة لصاحبك ، وأما قولك : ( ثاني اثنين إذ هما في الغار ) (1) أخبرني هل أنزل اللّه سكينته على رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - وعلى المؤمنين في غير الغار؟
قال : ابن أبي خدرة : نعم.
قال أبو جعفر : فقد خرج صاحبك في الغار من السكينة وخصه بالحزن ومكان علي - عليه السلام - في هذه الليلة (2) على فراش النبي - صلى اللّه عليه وآله - وبذل مهجته دونه أفضل من مكان صاحبك في الغار.
ص: 170
فقال الناس : صدقت.
فقال أبو جعفر : يابن أبي خدرة ، ذهب نصف دينك ، وأما قولك ثاني اثنين الصديق من الأمة أوجب اللّه على صاحبك الاستغفار لعلي بن أبي طالب - عليه السلام - في قوله عز وجل : ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ) (1) إلى آخر الاية ، والذي ادعيت إنما هو شئ سماه الناس ، وقد قال علي - عليه السلام - على منبر البصرة : أنا الصديق الأكبر (2) آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر وصدقت قبله.
قال الناس : صدقت.
قال أبو جعفر مؤمن الطاق : يا بن أبي خدرة ، ذهب ثلاثة أرباع دينك ، وأما قولك في الصلاة بالناس ، كنت ادعيت لصاحبك فضيلة لم تقم له ، وإنها إلى التهمة أقرب منها إلى الفضيلة ، فلو كان ذلك بأمر رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - لما عزله عن تلك الصلاة بعينها ، أما علمت أنه لما تقدم أبو بكر ليصلي بالناس خرج رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - فتقدم وصلى بالناس وعزله عنها ، ولا تخلو هذه الصلاة من أحد وجهين ، إما أن تكون حيلة وقعت منه فلما أحس النبي - صلى اللّه عليه وآله - بذلك خرج مبادرا مع علته فنحاه عنها لكي لا يحتج بعده على أمته فيكونوا في ذلك معذورين ، وإما أن يكون هو الذي أمره بذلك وكان ذلك مفوضا إليه كما
ص: 171
في قصة تبليغ براءة (1) فنزل جبرائيل - عليه السلام - وقال : لا يؤديها ألا أنت أو رجل منك ، فبعث عليا - عليه السلام - في طلبه وأخذها منه وعزله عنها وعن تبليغها ، فكذلك كانت قصة الصلاة ، وفي الحالتين هو مذموم لأنه كشف عنه ما كان مستورا عليه ، وذلك دليل واضح لأنه لا يصلح للاستخلاف بعده ، ولا هو مأمون على شئ من أمر الدين.
فقال الناس : صدقت.
قال أبو جعفر مؤمن الطاق : يابن أبي خدرة ذهب دينك كله وفضحت حيث مدحت.
فقال الناس لأبي جعفر : هات حجتك فيما ادعيت من طاعة علي - عليه السلام -.
فقال أبو جعفر مؤمن الطاق : أما من القرآن وصفا فقوله عز وجل : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) (2) فوجدنا عليا - عليه السلام - بهذه الصفة في القرآن في قوله عز وجل : ( وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ) - يعني في الحرب والتعب - ( أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) (3) فوقع الأجماع من الأمة بأن عليا - عليه السلام - أولى بهذا الأمر من غيره لأنه لم يفر عن زحف قط كما فر غيره في غير موضع.
فقال الناس : صدقت.
وأما الخبر عن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - نصا فقال : إني تارك
ص: 172
فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض (1) وقوله - صلى اللّه عليه وآله - مثل أهل بيتى فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ، ومن تقدمها مرق ، ومن لزمها لحق (2) فالمتمسك بأهل بيت
ص: 173
رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - هاد مهتد بشاهدة من الرسول - صلى اللّه عليه وآله - ، والمتمسك بغيرهم ضال مضل.
قال الناس : صدقت يا أبا جعفر.
وأما من حجة العقل : فإن الناس كلهم يستعبدون بطاعة العالم ووجدنا الأجماع قد وقع على علي - عليه السلام - أنه كان أعلم أصحاب رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - وكان جميع الناس يسألونه ويحتاجون إليه ، وكان علي - عليه السلام - مستغنيا عنهم (1) هذا من الشاهد والدليل عليه من القرآن قوله عز وجل ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (2) فما اتفق يوم أحسن منه ودخل في هذا الأمر عالم كثير (3).
ص: 174
مناظرة مؤمن الطاق مع أبي حنيفة (1)
قال أبو حنيفة لمؤمن الطاق يوما من الأيام :
لم لم يطالب علي بن أبي طالب - عليه السلام - بحقه بعد وفاة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - إن كان له حق؟
فأجابه مؤمن الطاق فقال : خاف أن تقتله الجن كما قتلوا سعد بن عبادة (2) بسهم المغيرة بن شعبة ، وفي رواية بسهم خالد بن الوليد (3).
ص: 175
مر الفضال بن الحسن بن فضال الكوفي بأبي حنيفة ، وهو في جمع كثير يملي عليهم شيئا من فقهه وحديثه.
فقال لصاحب كان معه : واللّه لا أبرح أو أخجل أبا حنيفة.
فقال صاحبه الذي كان معه : إن أبا حنيفة ممن قد علت حالته وظهرت حجته.
ص: 176
قال : مه هل رأيت حجة ضال علت على حجة مؤمن! ثم دنا منه فسلم عليه فردها ، ورد القوم السلام بأجمعهم.
فقال : يا أبا حنيفة ، إن أخا لي يقول : إن خير الناس بعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - علي (1) بن أبي طالب - عليه السلام - وأنا أقول : أبو بكر خير الناس وبعده عمر فما تقول أنت رحمك اللّه؟ فأطرق مليا ثم رفع رأسه.
فقال : كفى بمكانهما من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - كرما وفخرا أما علمت أنهما ضجيعاه في قبره ، فأي حجة تريد أوضح من هذا!.
فقال له فضال : إني قد قلت ذلك لأخي ، فقال : واللّه لئن كان الموضع لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - دونهما فقد ظلما بدفنهما في موضع ليس لهما فيه حق ، وإن كان الموضع لهما فوهباه لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - لقد أساءا وما أحسنا إذ رجعا في هبتهما ونسيا عهدهما.
فأطرق أبو حنيفة ساعة ، ثم قال له : لم يكن له ولا لهما خاصة ، ولكنهما نظرا في حق عائشة وحفصة فاستحقا الدفن في ذلك الموضع بحقوق ابنتيهما.
فقال له فضال : قد قلت له ذلك ، فقال : أنت تعلم أن النبي - صلى اللّه
ص: 177
عليه وآله - مات عن تسع نساء ونظرنا فإذا لكل واحدة منهن تسع الثمن ، ثم نظرنا في تسع الثمن فإذا هو شبر في شبر ، فكيف يستحق الرجلان أكثر من ذلك؟ وبعد ذلك فما بال عائشة وحفصة ترثان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - وفاطمة ابنته تمنع الميراث؟
فقال أبو حنيفة : يا قوم نحوه عني فإنه رافضي خبيث (1)
ص: 178
مناظرة رجل مع أبي الهذيل العلاف (1)
حكي عن أبي الهذيل العلاف ، قال : دخلت الرقة فذكر لي أن بدير زكن رجلا مجنونا حسن الكلام ، فأتيته فإذا أنا بشيخ حسن الهيئة جالس على وسادة يسرح رأسه ولحيته ، فسلمت عليه ، فرد السلام وقال : ممن يكون الرجل؟
قال : قلت : من أهل العراق.
قال : نعم ، أهل الظرف والأدب.
قال : من أيها أنت؟
قلت : من أهل البصرة.
قال : أهل التجارب والعلم.
قال : فمن أيهم أنت؟
قلت : أبو الهذيل العلاف.
قال : المتكلم؟
ص: 179
قلت : بلى.
فوثب عن وسادته وأجلسني عليها ، ثم قال - بعد كلام جرى بيننا - : ما تقولون في الأمامة؟
قلت : أي الأمامة تريد؟
قال : من تقدمون بعد النبي - صلى اللّه عليه وآله -؟
قلت : من قدم رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله -.
قال : ومن هو؟
قلت : أبا بكر.
قال لي : يا أبا الهذيل ولم قد متم أبا بكر؟
قال : قلت : لأن النبي - صلى اللّه عليه وآله - قال : (قدموا خيركم وولوا أفضلكم) وتراضي الناس به جميعا (1).
ص: 180
قال : يا أبا الهذيل ، هاهنا وقعت.
أما قولك : إن النبي - صلى اللّه عليه وآله - قال : (قدموا خيركم وولوا أفضلكم) ، فإني أوجدك أن أبا بكر صعد المنبر وقال : (وليتكم ولست بخيركم وعلي فيكم) (1) فإن كانوا كذبوا عليه فقد خالفوا أمر النبي - صلى اللّه عليه وآله - ، وإن كان هو الكاذب على نفسه فمنبر رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - لا يصعده الكاذبون.
وأما قولك : أن الناس تراضوا به ، فإن أكثر الأنصار قالوا منا أمير ومنكم أمير ، وأما المهاجرون فإن الزبير بن العوام قال : لا أبايع إلا عليا ، فأمر به فكسر سيفه ، وجاء أبو سفيان بن حرب وقال : يا أبا الحسن ، لو شئت لأملأنها خيلا ورجالا (2) يعني (المدينة) ، وخرج سلمان فقال بالفارسي : (كرديد ونكرديد ، وندانيد كه چه كرديد) (3) ، والمقداد وأبو ذر ، فهؤلاء المهاجرون والأنصار.
أخبرني يا أبا الهذيل عن قيام أبي بكر على المنبر وقوله :
إن لي شيطانا يعتريني (4) ، فإذا رأيتموني مغضبا فاحذروني ، لا أقع في أشعاركم وأبشاركم ، فهو يخبركم على المنبر أني مجنون ، فو كيف يحل
ص: 181
لكم أن تولوا مجنونا؟!
وأخبرني يا أبا الهذيل ، عن قيام عمر وقوله : وددت أني شعرة في صدر أبي بكر ، ثم قام بعدها بجمعة فقال : (إن بيعة أبي بكر كانت فلتة (1) وقى اللّه شرها ، فمن دعاكم إلى مثلها فاقتلوه) (2) فبينما هو يود أن يكون شعرة في صدره ، وبينما هو يأمر بقتل من بايع مثله.
فأخبرني يا أبا الهذيل عن الذي زعم أن النبي - صلى اللّه عليه وآله - لم يستخلف (3) ، وأن أبا بكر استخلف عمر ، وأن عمر لم يستخلف ، فأرى
ص: 182
أمركم بينكم متناقضا.
وأخبرني يا أبا الهذيل عن عمر حين صير هاشورى بين ستة ، وزعم أنهم من أهل الجنة فقال : (إن خالف اثنان لأربعة فاقتلوا الاثنين ، وإن خالف ثلاثة لثلاثة ، فاقتلوا الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن عوف) (1).
فهذه ديانة أن يأمر بقتل أهل الجنه (2)؟!!!
ص: 183
وأخبرني يا أبا الهذيل ، عن عمر لما طعين ، دخل عليه عبد اللّه بن عباس ، قال : فرأيته جزعا.
فقلت : يا أمير ، ما هذا الجزع؟
قال : يا بن عباس ، ما جزعي لأجلي ولكن جزعي لهذا الأمر من يليه بعدي.
قال : قلت : ولها طلحة بن عبيد اللّه.
قال : رجل له حدة ، كان النبي - صلى اللّه عليه وآله - يعرفه فلا أولي أمر المسلمين حديدا.
قال : قلت : ولها زبير بن العوام.
قال : رجل بخيل ، رأيته يماكس امرأته في كبة من غزل ، فلا أولي أمور المسلمين بخيلا.
قال : قلت : ولها سعد بن أبي وقاص. قال : رجل صاحب فرس وقوس ، وليس من أحلاس الخلافة.
قال : قلت : ولها عبد الرحمن بن عوف.
قال : رجل ليس يحسن ان يكفي عياله.
قال : قلت : ولها عبد اللّه بن عمر.
فاستوى جالسا ، ثم قال : يا بن عباس! ما اللّه أردت بهذا أولي رجلا لم يحسن أن يطلق امرأته؟!
ص: 184
قال ، قلت : ولّها عثمان بن عفان.
قال : واللّه لئن وليته ليحملن بني أبي معيط على رقاب المسلمين (1) ، ويوشك أن يقتلوه (2). قالها ثلاثا.
قال : ثم سكت لما أعرف من مغائرته لأمير المؤمنين علي بن ابي طالب - عليه السلام -.
فقال : يا بن عباس اذكر صاحبك.
قال : قلت : فولها عليا.
قال : فواللّه ما جزعي إلا لما أخذنا الحق من أربابه ، واللّه لئن وليته
ص: 185
ليحملنهم على المحجة العظمى (1) ، وإن يطيعوه يدخلهم الجنة(2) ، فهو يقول هذا ثم صيرها شورى بين ستة فويل له من ربه!!!
قال أبو الهذيل : فو اللّه بينما هو يكلمني إذ اختلط ، وذهب عقله.
فأخبرت المأمون بقصته ، وكان من قصته أن ذهب بماله وضياعه حيلة وغدرا ، فبعث إليه المأمون ، فجاء به وعالجه وكان قد ذهب عقله بما صنع به ، فرد عليه ماله وضياعه وصيره نديما ، فكان المأمون يتشيع لذلك ، والحمد لله على كل حال(3) .
ص: 186
مناظرة الهيثم بن حبيب الصيرفي (1) مع ابي حنيفه
عن محمد بن نوفل قال : كنت عند الهيثم بن حبيب الصيرفي فدخل علينا أبو حنيفة النعمان بن ثابت ، فذكرنا أمير المؤمنين - عليه السلام - ، ودار بيننا كلام فيه.
فقال أبو حنيفة : قد قلت لأصحابنا : لا تقروا لهم بحديث غدير خم (2) فيخصموكم!!
فتغير وجه الهيثم بن حبيب الصيرفي وقال له : لم لا يقرون به أما هو عندك يا نعمان؟
قال : هو عندي وقد رويته.
قال : فلم لا يقرون به ، وقد حدثنا به حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل (3)
ص: 187
عن زيد بن أرقم (1) أن عليا - عليه السلام - نشد اللّه في الرحبة من سمعه؟
فقال أبو حنيفة : أفلا ترون أنه قد جرى في ذلك خوض حتى نشد علي الناس لذلك؟
فقال الهيثم : فنحن نكذب عليا أو نرد قوله؟
فقال أبو حنيفة : ما نكذب عليا ولا نرد قولا قاله ، ولكنك تعلم أن الناس قد غلا فيهم قوم.
فقال الهيثم : يقوله رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - ويخطب به ونشفق نحن منه ونتقيه لغلو غال أو قول قائل؟! ثم جاء من قطع الكلام بمسألة سأل عنها ... الحديث (2).
ص: 188
مناظرة أبي الحسن علي بن ميثم (1) مع ضرار
قال جاء ضرار إلى أبي الحسن علي ابن ميثم - رحمه اللّه - فقال له : يا أبا الحسن ، قد جئتك مناظرا.
فقال له أبو الحسن : وفيم تناظرني؟
فقال : في الإمامة.
فقال : ما جئتني واللّه مناظرا ولكنك جئت متحكما.
قال له ضرار : ومن أين لك ذلك؟
قال أبو الحسن : علي البيان عنه ، أنت تعلم أن المناظرة ربما انتهت إلى حد يغمض فيه الكلام فتتوجه الحجة على الخصم فيجهل ذلك أو يعاند ، وإن لم يشعر بذلك أكثر مستمعيه بل كلهم ، ولكني أدعوك إلى
ص: 189
مصنفة من القول ، وهو أن تختار أحد أمرين إما أن تقبل قولي في صاحبي وأقبل قولك في صاحبك فهذه واحدة.
قال ضرار : لا أفعل ذلك.
قال له أبو الحسن : ولم لا تفعله؟
قال : لأنني إذا قبلت قولك في صاحبك قلت لي : إنه كان وصي رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - وأفضل من خلفه وخليفته على قومه وسيد المرسلين فلا ينفعني بعد أن قبلت ذلك منك أن صاحبي كان صديقا واختاره المسلمون إماما ، لأن الذي قبلته منك يفسد هذا علي.
قال له أبو الحسن : فاقبل قولي في صاحبك وأقبل قولك في صاحبي.
قال ضرار : وهذا لا يمكن أيضا لأني إذا قبلت قولك في صاحبي قلت لي : كان ضالا مضلا ظالما لال محمد - عليهم السلام - قعد في غير مجلسه ودفع الأمام عن حقه وكان في عصر النبي - صلى اللّه عليه وآله - منافقا فلا ينفعني قبولك قولي فيه إنه كان خيرا صالحا ، وصاحبا أمينا لأنه قد انتقض بقبولي قولك فيه بعد ذلك إنه كان ضالا مضلا.
فقال له أبو الحسن - رحمه اللّه - : فإذا كنت لا تقبل قولك في صاحبك ولا قولي فيه ولاقولك في صاحبي ، فما جئتني إلا متحكما ولم تأتني مباحثا مناظرا (1).
ص: 190
قيل لعلي بن ميثم : لم قعد علي - عليه السلام - عن قتالهم؟
قال : كما قعد هارون عن السامري وقد عبدوا العجل.
قيل : أفكان ضعيفا؟
قال : كان كهارون حيث يقول : ( ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي ) (1) ، وكنوح إذ قال : ( أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ) (2) ، وكلوط إذ قال : ( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) (3) ، وكموسى وهارون إذ قال موسى : ( رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ) (4).
وهذا المعنى قد أخذه من قول أمير المؤمنين لما اتصل به الخبر أنه لم ينازع الأولين.
فقال - عليه السلام - : لي بستة من الأنبياء أسوة :
اولهم خليل الرحمن إذ قال : ( وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) (5).
فإن قلتم : إنه اعتزلهم من غير مكروه فقد كفرتم ، وإن قلتم : إنه
ص: 191
اعتزلهم لما رأى المكروه منهم ، فالوصي أعذر.
وبلوط إذ قال : ( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) (1).
فإن قلتم : إن لوطا كانت له بهم قوة ، فقد كفرتم ، وإن قلتم : لم يكن له بهم قوة ، فالوصي أعذر.
وبيوسف إذ قال : ( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) (2).
فإن قلتم : طالب بالسجن بغير مكروه يسخط اللّه فقد كفرتم ، وإن قلتم : إنه دعي إلى ما يسخط اللّه ، فالوصي أعذر.
وبموسى إذ قال : ( فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ ) (3).
فإن قلتم : إنه فر من غير خوف فقد كفرتم ، وإن قلتم : فر منهم لسوء أرادوه به ، فالوصي أعذر.
وبهارون إذ قال لأخيه : ( ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ) (4).
فإن قلتم : لم يستضعفوه ولم يشرفوا على قتله فقد كفرتم ، وإن قلتم : استضعفوه وأشرفوا على قتله فلذلك سكت عنهم ، فالوصي أعذر.
وبمحمد إذ هرب إلى الغار وخلفني على فراشه ووهبت مهجتي لله.
فان قلتم : إنه هرب من غير خوف أخافوه فقد كفرتم ، وإن قلتم : إنهم أخافوه فلم يسعه إلا الهرب إلى الغار ، فالوصي أعذر.
فقال الناس : صدقت يا أمير المؤمنين (5).
ص: 192
سئل أبو الحسن علي بن إسماعيل بن ميثم - رحمه اللّه - فقيل له : لم صلى أمير المؤمنين - عليه السلام - خلف القوم؟
قال : جعلهم بمنزلة السواري (بمثل سواري المسجد).
قال السائل : فلم ضرب الوليد بن عقبة الحد بين يدي عثمان؟
قال لأن الحد له وإليه فإذا أمكنه إقامته أقامه بكل حيلة.
قال : فلم أشار على أبى بكر وعمر؟
قال : طلبا منه أن يحيى أحكام اللّه عز وجل ويكون دينه القيم كما أشار يوسف - عليه السلام - على ملك مصر نطرا منه للخلق ، ولأن الفرض والحكم فيها إليه فإذا أمكنه أن يظهر مصالح الخلق فعل ، وأذا لم يمكنه ذلك بنفسه توصل إليه على يدي من يمكنه طلبا منه لإحياء أمر اللّه تعالى.
قال : فلم قعد عن قتالهم؟
قال : كما قعد هارون بن عمران عن السامري وأصحابه ، وقد عبدوا العجل.
قال : أفكان ضعيفا؟
قال : كان كهارون - عليه السلام - حيث يقول : ( ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ
ص: 193
اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ) (1) وكان كنوح - عليه السلام - ، إذ قال : ( أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ) (2) ، وكان كلوط - عليه السلام - إذ قال ( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) (3) وكان كموسى وهارون - عليهما السلام - إذ قال موسى : ( رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ) (4).
قال : فلم قعد في الشورى (5)؟
ص: 194
قال : اقتداراً منه على الحجة (1) ، وعلماً منه بأن القوم إن ناظروه
ص: 195
وأنصفوه كان كان هو الغالب ، ولو لم يفعل وجبت الحجة عليه لأنه من كان له حق فدعي إلى أن يناظر فيه أجاب ، فإن ثبت له الحجة سلم الحق إليه وأعطيه فإن لم يفعل بطل حقه وأدخل بذلك الشبهة على الخلق ، وقد قال - عليه السلام - يومئذ : اليوم أدخلت في باب إنصفت فيه وصلت إلى حقي ، يعني أن أبا بكر استبد بها يوم السقيفة ولم يشاوره.
قال : فلم زوج عمر بن الخطاب ابنته؟
قال : لإظهار الشهادتين وإقراره بفضل رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وأراد بذلك استصلاحه وكفه عنه ، وقد عرض لوط - عليه السلام - بناته على قومه وهم كفا ليردهم عن ضلالتهم ، فقال : ( هولاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا اللّه ولا تخزوني في ضيفي أليس منكم رجل رشيد ) (1) (2)
ص: 196
مناظرة المأمون (1) مع الفقهاء
عن حماد بن زيد قال : بعث إلي يحيى بن أكثم وإلى عدة من أصحابي ، وهو يومئد قاضى القضاة ، فقال : إن أمير المؤمنين أمرني أن أحضر معي غدا مع الفجر أربعين رجلا كلهم فقيه يفقه (2) ما يقال له ويحسن الجواب ، فسموا من تظنونه يصلح لما يطلب أمير المؤمنين. فسمينا له عدة ، وذكر هو عدة ، حتي تم العدد الذي أراد ، وكتب تسمية القوم ، وأمر بالبكور (3) في السحر ، وبعث إلى من لم يحضر ، فأمره بذلك فغدونا عليه قبل طلوع الفجر ، فوجدناه قد لبس ثيابه وهو جالس ينطرنا ، فركب وركبنا معه حتى صرا إلى الباب ، فأدخلنا ، فأمرنا باصلاة فأخذنا فيها ، فلم نستتم حتى خرج الرسول ، فقال : ادخلوا فدخلنا فإذا أمير
ص: 197
المؤمنين جالس على فراشه ، وعليه سواده وطيلسانه (1) والطويلة وعمامته ، فوقفنا وسلمنا ، فرد السلام وأمر لنا بالجلوس ، فلما استقربنا المجلس انحد عن فاشه ونزع عمامته وطيلسانه ووضع قلنسوته (2) ثم أقبل علينا ، فقال : إنما فعلت ما رأيتم لتفعلوا مثل ذلك ، وأما الخف فمنع من خلعه علة ، من قد عرفها منكم فقد عرفها ، ومن لم يعرفها فسأعرفه بها ، ومد رجله ، وقال : انزعوا قلانسكم وخفافكم وطيالستكم.
قال : فأمسكنا فقال لنا يحيى : انتهوا إلي ما أمركم به أمير المؤمنين فتنحينا فنزعنا أخفافنا وطيالستنا وقلانستنا ورجعنا ، فلما استقر بنا المجلس قال : إنما بعثت إليكم معشر القوم في المناظرة ، فمن كان به شئ من الأخبثين (3) لم ينفع بنفسه ولم يفقه ما يقول فمن أراد منكم الخلاء فهناك ، وأشار بيده ، فدعونا له ، ثم ألقى مسألة من الفقه.
فقال : يا محمد ، قل ، وليقل القوم من بعدك ، فأجابه يحيى ، ثم الذي يلي يحيى ، ثم الذي يليه ، حتي أجاب آخرنا ، في العلة وعلة وهو مطرق لا يتكلم ، حتى إذا انقطع الكلام التفت إلى يحيى.
فقال : يا أبا محمد ، أصبت الجواب وتركت الصواب في العلة. ثم لم يزل يرد على كل واحد منا مقالته ، ويخطئ بعضنا ويصوب بعضنا ، حتى إتى على آخرنا.
ثم قال : إني لم أبعث فيكم لهذا ، ولكنني أحببت إن أنبئكم أن أمير
ص: 198
المؤمنين أراد مناظرتكم في مذهبه الذي هو عليه والذي يدين اللّه به.
قلنا : فليعمل أمير المؤمنين وفقه اللّه.
فقال : إن أمير المؤمنين يدين اللّه على أن علي بن أبي طالب - عليه السلام - خير خلق اللّه بعد رسوله - صلى اللّه عليه وآله - وأولى الناس باخلافة (1) له.
قال إسحاق : فقلت : يا أمير المؤمنين فينا من لا يعرف ما ذكر أمير المؤمنين في علي ، وقد دعانا أمير المؤمنين للمناظرة.
فقال : يا إسحاق ، اختر ، إن شئت سألتك أسالك ، وإن شئت أن تسأل فقل.
قال : يا إسحاق : فاغتنمتها منه ، فقلت : بل أسألك يا أمير المؤمنين.
قال : سل.
قلت : من أين؟
قال أمير المؤمنين : إن علي بن أبي طالب أفضل الناس بعد رسول اللّه وأحقهم بالخلافة بعده؟
قال : يا أسحاق ، خبرني عن الناس بم يتفاضلون حتى يقال فلان أفضل من فلان؟
قلت : بالأعمال الصالحة.
قال : صدقت.
قال : فأخبرني عمن فضل صاحبه على عهد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - ثم إن المفضول عمل بعد وفاة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله -
ص: 199
بأفضل من علم الفاضل على عهد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - ، أيلحق به؟
قال : فأطرقت.
فقال لي : يا إسحاق ، لا تقل نعم ، فإنك إن قلت نعم أوجدتك في دهرنا هذا من هو أكثر منه جهادا وحجا وصياما وصلاة وصدقة.
فقلت : أجل يا إمير المؤمنين ، لا يلحق المفضول على عهد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - الفاضل أبدا.
قال : يا إسحاق ، فانظر ما رواه لك أصحابك ومن أخذت عنهم دينك وجعلتهم قدوتك من فضائل علي بن أبي طالب ، فقس عليها ما أتوك به من فضائل أبي بكر ، فإن وجدت لهما من الضائل ما لعلي وحده ، فقل إنهما أفضل منه ولا واللّه ، ولكن قس إلى فضائله فضائل أبي بكر وعمر وعثمان ، فإن وجدتها مثل فضائل علي ، فقل إنهم أفضل منه ، لا واللّه ، ولكن قس بفضائل العشرة الذين شهد لهم رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - بالجنة ، فإن وجدتها تشاكل فضائله فقل إنهم أفضل منه.
قال : يا إسحاق ، أي الاعمال كانت أفضل ، يوم بعث اللّه رسوله؟
قلت : الإخلاص بالشهادة.
قال : أليس السبق إلى الإسلام؟
قلت : نعم.
قال : اقرأ ذلك في كتاب اللّه تعالى يقول : ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ،
ص: 200
أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) (1) ، إنما عنى من سبق إلى الإسلام ، فهل علمت أحدا سبق عليا إلى الإسلام (2)؟
قلت : يا أمير المؤمنين ، إن عليا أسلم وهو حديث السن لا يجوز عليه الحكم ، وأبو بكر أسلم وهو مستكمل يجوز عليه الحكم.
قال : أخبرني إيهما أسلم قبل ، ثم أناظرك من بعده في الحداثة والكمال.
قلت : علي أسلم قبل أبي بكر على هذه الشريطة.
فقال : نعم ، فأخبرني عن إسلام علي حين إسلم : لا يخلو من أن يكون رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - دعاه إلى الإسلام ، أو يكون إلهاما من اللّه.
قال : فأطرقت.
فقال لي : يا إسحاق ، لا تقل إلهاما فتقدمه على رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - لأن رسول اللّه لم يعرف الاسلام حتى إتاه جبرئيل عن اللّه تعالى.
قلت : أجل ، بل دعاه رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - إلى الإسلام.
ص: 201
قال : يا إسحاق فهل يخلو رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - حين دعاه إلى الإسلام من إن يكون دعاه بإمر اللّه أو تكلف ذلك من نفسه؟
قال : فأطرقت.
فقال : يا إسحاق ، لا تنسب رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - إلى التكلف ، فإن اللّه يقول : ( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) (1).
قلت : أجل يا أمير المؤمنين ، بل دعاه بأمر اللّه.
قال : فهل من صفة الجبار جل ثناؤه أن يكلف رسله دعاء من لا يجوز عليه حكم؟
قلت : أعوذ باللّه!
فقال : أفتراه في قياس قولك يا إسحاق : (إن عليا أسلم صبيا لا يجوز عليه الحكم) ، قد كلف رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - من دعاء الصبيان ما لا يطيقون ، فهو يدعوهم الساعة ويرتدون بع ساعة ، فلا يجب عليهم في ارتدادهم شئ ولايجوز عليهم الحكم الرسول - صلى اللّه عليه وآله - أترى هذا جائزا عندك أن تنسبه إلى اللّه عز وجل؟
قلت : أعوذ باللّه.
قال : يا إسحاق ، فأراك إنما قصدت لفضيلة فضل بها رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - عليا هذ الخلق ، أبانه بها منهم ليعرف مكانه وفضله ، ولو كان اللّه تبارك وتعالى أمره بدعاء الصبيان لدعاهم كما دعا عليا؟
قلت : بلى.
قال : فهل بلغك أن الرسول - صلى اللّه عليه وآله - دعا أحدا من
ص: 202
الصبيان من أهله وقرابته - لئلا تقول إن عليا ابن عمه -؟
قلت : لا أعلم ولا أدري فعل أو لم يفعل.
قال : يا إسحاق ، أرأيت ما لم تدره ولم تعلمه هل تسأل عنه؟
قلت : لا.
قال : فدع ما قد وضعه اللّه عنّا وعنك.
قال : ثم أيّ الأعمال كانت أفضل بعد السبق إلى الإسلام؟
قلت : الجهاد في سبيل اللّه.
قال : صدقت ، فهل تجد لأحد من أصحاب رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - ما تجد لعلي في الجهاد؟
قال : في أي وقت؟
قال : في إي الأوقات شئت!
قلت : بدر؟
قال : لا أريد غيرها ، فهل تجد لأحد إلّا دون ما تجد لعليّ يوم بدر؟ أخبرني : كم قتلي بدر؟
قلت : نيف وستون رجلاً من المشركين.
قال : فكم قتل عليّ وحده؟
قلت : لا أدرى.
قال : ثلاثة وعشرين ، أو اثنين وعشرين (1) ، والأربعون لسائر
ص: 203
الناس.
قلت : يا أمير المؤمنين كان أبو بكر مع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - في عريشه (1).
قال : يصنع ماذا؟
قلت : يُدبّر.
قال : ويحك! يدبر دون رسول اللّه أو معه شريكا ، أو افتقارا من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - إلى رأيه؟ أي الثلاث أحب اليك؟
قلت : أعوذ باللّه أن يدبر أبو بكر دون رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - أو يكون معه شريكا ، أو أن يكون برسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - افتقار إلى رأيه.
قال : فما الفضيلة بالعريش أذا كان الأمر كذلك؟ أليس من ضرب بسيفه بين يدي رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - أفضل ممن هو جالس؟
قلت : يا أمير المؤمنين ، كل الجيش كان مجاهداً.
قال : صدقت ، كل مجاهد ، ولكن الضارب بالسيف المحامي عن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - وعن الجالس ، أفضل من الجالس ، أما قرأت كتاب اللّه : ( لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ) (2).
قلت : وكان أبوبكر وعمر مجاهدين.
ص: 204
قال : فهل كان لأبي بكر وعمر فضل على من لم يشهد ذلك المشهد؟
قلت : نعم.
قال : فكذلك سبق الباذل نفسه فضل أبي بكر وعمر.
قلت : أجل.
قال : يا اسحاق ، هل تقرأ القرآن؟
قلت : نعم.
قال : اقرأ علي ( هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ) (1) فقرأت منها حتى بلغت : ( يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ) (2) إلى قوله : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ) (3).
قال : على رسلك ، فيمن أنزلت هذه الآيات؟
قلت : في علي (4).
ص: 205
قال : فهل بلغك أن عليا حين أطعم المسكين واليتيم والاسير.
قال : إنما نطعمكم لوجه اللّه؟ وهل سمعت اللّه وصف في كتابه أحدا بمثل ما وصف به عليه؟
قلت : لا.
قال : صدقت ، لان اللّه جل ثناؤه عرف سيرته يا اسحاق ، ألست تشهد أن العشرة في الجنة؟
قلت : بلى يا أمير المؤمنين.
قال : أرأيت لو أن رجلا قال : واللّه ما أدري هذا الحديث صحيح أم لا ، ولا أدري إن كان رسول اللّه قاله أم لم يقله ، أكان عندك كافرا؟ قلت : أعوذ باللّه!
ص: 206
قال : أرأيت لو أنه قال : ما أدري هذه السورة من كتاب اللّه أم لا ، كان كافرا؟
قلت : نعم.
قال : يا اسحاق ، أرى بينهما فرقا يا إسحاق ، أتروي الحديث؟
قلت : نعم.
قال : فهل تعرف حديث الطير (1)؟
قلت : نعم.
قال : فحدثني به قال : فحدثته الحديث.
فقال : يا إسحاق ، إني كنت أكلمك وأنا أظنك غير معاند للحق ، فأما
ص: 207
الان فقد بان لي عنادك ، إنك توقن أن هذا الحديث صحيح.
قلت : نعم ، رواه من لا يمكنيي رده.
قال : أفرأيت من أيقن أن هذا الحديث صحيح ، ثم زعم أن أحدا أفضل من علي لا يخلو من إحدى ثلاثة : من أن تكون دعوة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - عنده مردودة عليه ، أو أن يقول عرف الفاضل من خلقه وكان المفضول أحب إليه ، أو أن يقول إن اللّه عز وجل لم يعرف الفاضل من المفضول ، فأي الثلاثة احب إليك أن تقول؟ فأطرقت ... ثم قال : يا اسحاق ، لا تقل منها شيئاً ، فإنّك إن قلت منها شيئاً استنبك (1) ، وإن كان للحديث عندك تأويل غير هذه الثلاثة الأوجه فقله.
قلت : لا أعلم وإن لأبي بكر فضلاً.
قال : أجل ، لو لا أن له فضلا لما قيل إن عليا أفضل منه ، فما فضله الذي قصدت له الساعة؟
قلت : قول اللّه عز وجل : ( ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) (2) فنسبه إلى صحبته.
قال : يا إسحاق ، أما لا أحملك على الوعر من طريقك ، إني وجدت اللّه تعلى نسب إلى صاحبه من رضيه ورضي عنه كافرا ، وهو قوله : ( فقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ، لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ) . (3)
قلت : إن ذلك صاحب كان كافرا ، وأبو بكر مؤمن.
ص: 208
قال : فإذا جازان ينسب إلي صحبة من رضيه كافرا ، جاز أن ينسب إلى صحبة نبيه مؤمنا ، وليس بأفضل المؤمنين ولا الثاني ولا الثالث.
قلت : يا أمير المؤمنين ، إن قدر الاية عظيم ، إن اللّه يقول : ( ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) (1)!
قال : يا إسحاق ، تأبي الان الا أن أخرج إلى الاستقصاء عليك! أخبرني عن حزن أبي بكر : أكان رضا أم سخطا؟
قلت : إن ابا بكر إنما حزن من أجل رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - خوفاً عليه وغماً ، أن يصل إلى رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وآله - شئ من المكروه.
قال : ليس هذا جوابي ، إنما كان جوابي أن تقول : رضا ، أم سخط.
ص: 209
قلت : بل كان رضا لله.
قال : فكان اللّه جل ذكره بعث إلينا رسولا ينهي عن رضا اللّه عز وجل وعن طاعته!
قلت : أعوذ باللّه!
قال : أو ليس قد زعمت أن حزن أبي بكر رضا اللّه؟
قلت : لله بلى.
قال : أو لم تجد أن القرآن يشهد أن رسول اللّه على وآله - قال : (لا تحزن) نهيا له عن الحزن؟
قلت : أعوذ باللّه!
قال : يا إسحاق ، إن مذهبي الرفق بك ، لعل اللّه يردك إلى الحق ويعدل بك عن الباطل ، لكثرة ما تسعيذ به ، وحدثني عن قول اللّه : ( فأنزل اللّه سكينته عليه ) (1) من عنى بذلك ، رسول اللّه أم ابا بكر؟
قلت : بل رسول اللّه.
قال : صدقت.
قال : حدثنى عن قول اللّه عز وجل : ( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ) (2) إلى قوله : ( ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (3).
أتعلم من المؤمنون الذين أراد اللّه في هذا الموضع؟
قلت : لا أدري يا أمير المؤمنين.
ص: 210
قال : الناس جميعا انهزموا يوما حنين ، فلم يبق مع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - الا سبعة نفر من بني هاشم : علي يضرب بسيفه بنى يدي رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - والعباس (1) أخذ بلجام بغلة رسول اللّه ، والخمسة محدقون به خوفا من أن يناله في هذا الموضع علي خاصة ، ثم من حضره من بني هاشم.
قال : فمن أفضل ، من كان مع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - في ذلك الوقت ، أم من انهزم عنه ولم يره اللّه موضع لينزلها عليه؟
قلت : بل من أنزلت عليه السكينة.
قال : يا إسحاق ، من أفضل ، من كان معه في الغار ، أم من نام على فراشه (2) ووقاه بنفسه ، حتى تم لرسول اللّه - صلى اللّه على هو آله - ما أراد من الهجرة؟ إن اللّه تبارك وتعالى أمر روله أن يأمر عليا بالنوم على فراشه ، وأن يقي رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - بنفسه ، فأمره رسول اللّه - صلى اللّه - عليه وآله - بذلك ، فبكى علي - عليه السلام - فقال له رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - : ما يبكيك يا علي ، أجزعا من الموت؟
قال : لا ، والذي بعثك بالحق يا رسول اللّه ، ولكن خوفا عليك ، أفتسلم يا رسول اللّه؟
قال : نعم.
قال : سمعا وطاعة وطيبة نفسي بالفداء لك يا رسول اللّه - ثم أتى
ص: 211
مضجعه واضطجع ، وتسجى (1) بثوبه ، وجاء المشركون من قريش فحفوا (2) به لا يشكون أنه رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - وقد أجمعوا أن يضربه من كل بطن من بطون قريش رجل ضربة بالسيف ، لئلا يطلب الهاشميون من البطون بطنا بدمه ، وعلي يسمع ما القوم فيه من إتلاف نفسه ، ولم يدعه ذلك إلى اجرع كما جزع صاحبه في الغار ، ولم يزل علي صابرا محتسبا ، فبعث اللّه ملائكته فمنعته من مشركي قريش حتى أصبح ، فملما أصبح قام فنظر القوم إليه فقالوا : أين محمد؟
قال : وما علمي بمحمد أين هو؟ قالوا : فلا نراك إلا مغررا بنفسك منذ ليلتنا ، فلم يزل على أفضل ما بدأ به يزيد ولا ينقص ، حتى قبصه اللّه إليه.
يا إسحاق ، هل تروي حديث الولاية؟
قلت : نعم يا أمير المؤمنين.
قال : أروه ، ففعلت.
قال : يا إسحاق ، أرأيت هذا الحديث هل أوجب على أبي بكر وعمر ما لم يو جب لهما عليه؟
قلت : إن الناس ذكروا أن الحديث إنما كان بسبب زيد بن حارثه لشئ جرى بينه وبنى علي ، وأنكر ولاء على ، فقال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - : (من كنت مولاه لعلي مولاه ، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه) (3).
ص: 212
قال : في أي موضع قال هذا ، أليس بعد متصرفه من حجة الوداع؟
قلت : إجل.
قال : فإن قتل زيد بن حارثة قبل الغدير (1) كيف رضيت لنفسك بهذا؟ أخبرني : لو رأيت ابنا لك قد أتت عليه خمس عشرة سنة يقول : مولاي مولى ابن عمي ، أيها الناس فاعلموا ذلك ، أكنت منكرا ذلك عليه تعريفه الناس ما لا ينكرون ولا يجهلون؟
فقلت : اللّهم نعم.
قال : يا إسحاق ، أفتنزه ابنك عما لا تنزه عنه رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله -؟ ويحكم! لا تجعلو فقهاءكم اربابكم (2) إن اللّه جل ذكره قال في كتابه : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ) (3) ولم يصلوا لهم ولا صاموا ولا زعموا أنهم أرباب ، ولكن أمروهم فأطاعوا أمرهم ، يا إسحاق ، أتروي حديث : (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) (4)؟
قلت : نعم يا أمير المؤمنين ، قد سمعته من صححه وجحده.
ص: 213
قال : فمن أوثق عندك ، من سمعت منه فصححه ، أو من جحده؟
قلت : من صححه.
قال : فهل يمكن أن يكون الرسول - صلى اللّه عليه وآله - مزح بهذا
قلت : اعوذ باللّه!
قال : فقال قولاً لا معنى له فلا يوقف عليه؟
قلت : أعوذ باللّه!
قال : أفما تعلم أن هارون كان أخا موسى لأبيه وأمه؟
قلت : بلى.
قال : فعليٌّ أخورسول اللّه لأبيه وأمّه؟
قلت : لا.
قال : أو ليس هارون كان نبيّاً وعليُّ غير نبيّ؟
قال : بلى.
قال : فهذا ن الحالان معدومان في عليي وقد كانا في هارون ، فما معنى قوله : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى»؟
قلت له : أنما أراد أن يطلب بذلك نفس علي لما قال المنافقون : انه خلفه استثقالا له.
قال : فأراد أن يطيب نفسه بقول لا معنى له؟
قال : فأطرقت.
قال : يا إسحاق ، له معنى في كتاب اللّه بين.
قلت : ما هو يا أمير المؤمنين؟
قال : قوله عز وجل حكاية عن موسى أنه قال لأخيه هارون :
ص: 214
( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) (1).
قلت : يا أمير المؤمنين إن موسى خلف هارون في قومه وهو حي ، ومضى الى ربه ، وإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله - خلف عليا كذلك حين خرج إلى غزاته.
قال : كلا ، ليس كما قلت ، أخبرني عن موسى حين خلف هارون هل كان معه حين ذهب إلى ربه أحد من أصحابه أو احد من بني إسرائيل؟
قلت : لا.
قال : أو ليس استخلفه على جماعتهم؟
قلت : نعم.
قال : فأخبرني عن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - حين خرج إلى غزاته ، هل خلف إلا الضعفاء والنساء والصبيان ، فأنى يكون مثل ذلك؟ وله عندي تأويل آخر من كتاب اللّه يدل على استخلافه إياه ، لا يقدر أحد أن يحتج فيه ، ولا أعلم أحدا احتج به وأرجو أن يكون توفيقا من اللّه.
قلت : وما هو يا أمير المؤمنين؟
قال : قوله عز وجل حين حكى عن موسى قوله : ( وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا ) (2) (فأنت مني يا علي بمنزلة هارون من موسى ، وزيري من أهلي ، وأخي ، شد اللّه به أزري ، وأشركه في أمري ، كي نسبح اللّه كثيرا ، ونذكره كثيرا) ، فهل يقدر أحد يدخل في هذا شيئا غير هذا ولم يكن ليبطل قول النبي -
ص: 215
صلى اللّه عليه وآله - وأن يكون لا معنى له؟
قال : فطال المجلس وارتفع النهار.
فقال : يحيى بن أكثم القاضي : يا أمير المؤمنين ، قد أوضحت الحق لكم أراد اللّه به الخير ، وأثبت ما يقدر أحدا أن يدفعه.
قال إسحاق : فأقبل علينا وقال : ما تقولون؟
فقلنا : كلنا نقول بقول أمير المؤمنين أعزه اللّه.
فقال : واللّه لو لا أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - قال اقبلوا القول من الناس ، ما كنت لأقبل منكم القول ، اللّهم قد نصحت لهم القول ، اللّهم إني قد أخرجت الأمر من عنقي : اللّهم أني أدينك بالتقريب إليك بحب علي وولايته! (1).
ص: 216
مناظرة المأمون مع علماء العامة (1)
عن اسحاق بن حماد بن زيد ، قال : جمعنا يحيى بن أكثم القاضي ، قال : أمرني المأمون بأحضار جماعة من أهل الحديث ، وجماعة من أهل الكلام والنظر ، فجمعت له من الصنفين زهاء أربعين رجلا ، ثم مضيت بهم فأمرتهم بالكينونة في مجلس الحاجب لأعلمه بمكانهم ففعلوا ، فأعلمته فأمرني بإدخالهم فدخلوا فسلموا ، فحدثهم ساعة وآنسهم.
ثم قال : إني أريد ان أجعلكم بيني وبين اللّه تبارك وتعالى في يومي هذا حجة ، فمن كان حاقنا (2) ، أو له حاجة فليقم إلى قضاء حاجته وانبسطوا وسلوا خفافكم ، وضعوا أرديتكم ، ففعلوا ما أمروا به.
فقال : أيها القوم إنما استحضرتكم لأحتج بكم عند اللّه تعالى ، فاتقوا اللّه وانظروا لأنفسكم وإمامكم ، ولا يمنعكم جلالتي ومكاني من قول الحق حيث كان ، ورد الباطل على من أتى به ، وأشفقوا على أنفسكم من النار ، وتقربوا إلى اللّه تعالى برضوانه وإيثار طاعته ، فما أحد تقرب إلى مخلوق بمعصية الخالق إلا سلطه اللّه عليه.
ص: 217
فناظروني بجميع عقولكم إني رجل أزعم : أن عليا - عليه السلام - خير البشر بعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، فإن كنت مصيبا فصوبوا قولي ، وإن كنت مخطئا فردوا علي ، وهلموا فإن شئتم سألتكم وإن شئتم سألتموني.
فقال له الذين يقولون بالحديث : بل نسألك.
فقال : هاتوا وقلدوا كلامكم رجلا واحدا منكم ، فإذا تكلم ، فإن كان عند أحدكم زيادة فليزد ، وإن أتى بخلل فسددوه.
فقال قائل منهم : إنما نحن نزعم أن خير الناس بعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أبو بكر ، من قبل أن الرواية المجمع عليها جاءت عن الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أنه قال : اقتدوا بالذين من بعدي أبو بكر وعمر (1) فلما أمر نبي الرحمة بالاقتداء بهما ، علمنا أنه لم
ص: 218
يأمر بالاقتداء إلا بخير الناس.
فقال المأمون : الروايات كثيرة ولابد من أن تكون كلها حقا ، أو كلها باطلا ، أو بعضها حقا وبعضها باطلا ، فلو كانت كلها حقا كانت كلها باطلا من قبل أن بعضها ينقض بعضا ، ولو كانت كلها باطلا كان في بطلانها بطلان الدين ودروس الشريعة ، فلما بطل الوجهان ثبت الثالث بالاضطرار.
وهو أن بعضها حق وبعضها باطل ، فإذا كان كذلك فلابد من دليل على ما يحق منها ليعتقد وينفي خلافه ، فإذا كان دليل الخبر في نفسه حقا كان أولى ما أعتقده وأخذ به ، وروايتك هذه من الأخبار التي أدلتها باطلة في نفسها.
وذلك أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أحكم الحكماء ، وأولى الخلق بالصدق ، وأبعد الناس من الأمر بالمحال ، وحمل الناس على التدين بالخلاف ، وذلك أن هذين الرجلين لا يخلو من أن يكونا متفقين من كل جهة أو مختلفين؟
فإن كانا متفقين من كل جهة كانا واحدا في العدد والصفة والصورة والجسم وهذا معدوم أن يكون اثنان بمعنى واحد من كل جهة.
وإن كانا مختلفين فكيف يجوز الاقتداء بهما ، وهذا تكليف ما لا يطاق ، لأنك إذا اقتديت بواحد خالفت الاخر.
والدليل على اختلافهما : أن أبا بكر سبا أهل الردة ، وردهم عمر أحرارا (1) ، وأشار عمر إلى أبي بكر بعزل خالد وبقتله لمالك بن
ص: 219
نويرة (1) ، فأبى أبو بكر عليه.
ص: 220
وحرم عمر المتعتين (1). ولم يفعل ذلك أبو بكر ووضع عمر ديوان العطية (2) ، ولم يفعله أبو بكر ، واستخلف أبو بكر ولم يفعل ذلك عمر (3) ، ولهذا نظائر كثيرة.
فقال آخر من أصحاب الحديث : فإن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا (4).
ص: 221
فقال المأمون : هذا مستحيل من قبل أن رواياتكم أنه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - آخى بين أصحابه وأخر عليا ، فقال له في ذلك ، فقال : وما أخرتك إلا لنفسي (1) ، فأي الروايتين ثبتت بطلت الأخرى.
قال الاخر : إن عليا - عليه السلام - قال على المنبر : خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر (2).
قال المأمون : هذا مستحيل من قبل أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لو علم أنهما أفضل ما ولى عليهما مرة عمرو بن العاص (3) ، ومرة أسامة بن زيد (4).
ومما يكذب هذه الرواية قول علي - عليه السلام - لما قبض النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : وأنا أولى بمجلسه وهو مني بقميصي ، ولكني أشفقت أن يرجع الناس كفارا (5) ، وقوله - عليه السلام - : أنى يكونان خيرا مني وقد عبدت اللّه تعالى قبلهما وعبدته بعدهما (6).
قال آخر : فإن أبا بكر أغلق بابه ، وقال : هل من مستقبل فأقيله؟ فقال
ص: 222
علي - عليه السلام - : قدمك رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فمن ذا يؤخرك (1)؟
فقال المأمون : هذا باطل من قبل أن عليا - عليه السلام - قعد عن بيعة أبي بكر (2) ، ورويتم أنه قعد عنها حتى قبضت فاطمة - عليها السلام - وأنها أوصت أن تدفن ليلا لئلا يشهدا جنازتها (3).
ووجه آخر وهو أنه ان كان النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - استخلفه ، فكيف كان له أن يستقيل وهو يقول للأنصار : قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أبا عبيدة وعمر (4).
قال آخر : إن عمرو بن العاص قال : يا نبي اللّه من أحب الناس إليك من النساء؟ قال : عايشة ، فقال : من الرجال؟ فقال : أبوها (5).
فقال المأمون : هذا باطل ، من قبل أنكم رويتم : أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وضع بين يديه طائر مشوي ، فقال : اللّهم ائتني بأحب خلقك إليك فكان عليا - عليه السلام - (6) ، فأي رواياتكم تقبل؟
فقال آخر : فإن عليا - عليه السلام - قال : من فضلني على أبي بكر وعمر جلدته حد المفتري (7).
ص: 223
قال المأمون : كيف يجوز أن يقول علي - عليه السلام - : أجلد الحد على من لا يجب حد عليه؟ فيكون متعديا لحدود اللّه عز وجل ، عاملا بخلاف أمره ، وليس تفضيل من فضله عليهما فرية.
وقد رويتم عن إمامكم أنه قال : وليتكم ولست بخيركم (1) ، فأي الرجلين أصدق عندكم أبو بكر على نفسه ، أو علي - عليه السلام - على أبي بكر مع تناقض الحديث في نفسه؟ ولابد له في قوله من أن يكون صادقا أو كاذبا ، فإن كان صادقا فأنى عرف ذلك؟
أبوحي؟ فالوحي منقطع ، أو بالتظني؟ فالمتظني متحير ، أو بالنظر فالنظر مبحث ، وإن كان غير صادق فمن المحال أن يلي أمر المسلمين ويقوم بأحكامهم ، ويقيم حدودهم كذاب!
قال آخر : فقد جاء أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة (2).
قال المأمون : هذا الحديث محال ، لأنه لا يكون في الجنة كهل ، ويروى أن أشجعية كانت عند النبي - صلى اللّه عليه وآله - فقال : لا يدخل الجنة عجوز (3) فبكت ، فقال لها - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : إن اللّه تعالى يقول : ( إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً ، فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا ، عُرُبًا أَتْرَابًا ) (4).
ص: 224
فان زعمتم أن أبا بكر ينشأ شابا إذا دخل الجنة ، فقد رويتم أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال للحسن والحسين : إنهما سيدا شباب أهل الجنة من الأولين والاخرين وأبوهما خير منهما (1).
قال آخر : فقد جاء أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : لو لم أكن أبعث فيكم لبعث عمر (2).
قال المأمون : هذا محال لأن اللّه تعالى يقول : ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) (3) ، وقال تعالى : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) (4) ، فهل يجوز أن يكون من لم يؤخذ منه ميثاقه على النبوة مبعوثا؟ ومن أخذ ميثاقا على النبوة مؤخرا؟
قال آخر : إن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - نظر إلى عمر يوم عرفة فتبسم.
فقال : إن اللّه تبارك وتعالى باهى بعباده عامة وبعمر خاصة (5).
فقال المأمون : هذا مستحيل من قبل أن اللّه تبارك وتعالى لم يكن ليباهي بعمر ويدع نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فيكون عمر في
ص: 225
الخاصة ، والنبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في العامة.
وليست هذه الروايات باعجب من روايتكم : أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : دخلت الجنة فسمعت خفق نعلين ، فإذا بلال مولى أبي بكر سبقني إلى الجنة (1).
وإنما قالت الشيعة : علي - عليه السلام - خير من أبي بكر ، فقلتم : عبد أبي بكر خير من الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لان السابق أفضل من المسبوق ، وكما رويتم أن الشيطان يفر من ظل عمر (2) ، وألقى على لسان نبي اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وإنهن الغرانيق العلى (3) ، ففر من عمر وألقى على لسان النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بزعمكم الكفار.
قال آخر : قد قال النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : لو نزل العذاب ما
ص: 226
نجا إلا عمر بن الخطاب (1)!!
قال المأمون : هذا خلاف الكتاب أيضا ، لأن اللّه تعالى يقول لنبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) (2) فجعلتم عمر مثل الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم -.
قال آخر : فقد شهد النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لعمر بالجنة في عشرة من الصحابة (3).
فقال المأمون : لو كان هذا كما زعمتم لكان عمر لا يقول لحذيفة : نشدتك باللّه أمن المنافقين أنا؟
فإن كان قد قال له النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : أنت من أهل الجنة ولم يصدقه حتى زكاه حذيفة فصدق حذيفة ولم يصدق النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، فهذا على غير الأسلام.
وإن كان قد صدق النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فلم سأل حذيفة؟ وهذان الخبران متناقضان في أنفسهما؟
قال الاخر : فقد قال النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : وضعت في كفة الميزان ووضعت أمتي في كفة أخرى فرجحت بهم ، ثم وضع مكاني أبو بكر فرجح بهم ، ثم عمر فرجح بهم ، ثم رفع الميزان (4).
فقال المأمون : هذا محال ، من قبل أنه لا يخلو من أن يكون أجسامهما أو أعمالهما ، فان كانت الأجسام فلا يخفى على ذي روح أنه
ص: 227
محال ، لأنه لا يرجح أجسامهما بأجسام الامة ، وإن كانت أفعالها فلم تكن بعد فكيف ترجح بما ليس ، فأخبروني بما يتفاضل الناس؟
فقال بعضهم : بالأعمال الصالحة.
قال : فأخبروني ، فمن فضل صاحبه على عهد النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم -؟ ثم إن المفضول عمل بعد وفاة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بأكثر من عمل الفاضل على عهد النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أيلحق به؟
فإن قلتم : نعم ، أوجدتكم في عصرنا هذا من هو أكثر جهادا وحجا ، وصوما وصلاة وصدقة من أحدهم!
قالوا : صدقت لا يلحق فاضل دهرنا لفاضل عصر النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم -.
قال المأمون : فانظروا فيما روت أئمتكم الذين أخذتم عنهم اديانكم في فضائل علي - عليه السلام - ، وقيسوا إليها ما رووا في فضائل تمام العشرة الذين شهدوا لهم بالجنة ، فإن كانت جزءا من أجزاء كثيرة فالقول قولكم ، وإن كانوا قد رووا في فضائل علي - عليه السلام - أكثر فخذوا عن أئمتكم ما رووا ولا تعدوه.
قال : فأطرق القوم جميعا.
فقال المأمون : ما لكم سكتم؟
قالوا : قد استقصينا.
قال المأمون : فإني أسألكم ، خبروني أي الاعمال كان أفضل يوم بعث اللّه نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم -.
قالوا : السبق إلى الأسلام لأن اللّه تعالى يقول : ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ،
ص: 228
أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) (1).
قال : فهل علمتم أحدا أسبق من علي - عليه السلام - إلى الأسلام؟
قالوا : إنه سبق حدثا لم يجر عليه حكم ، وأبو بكر أسلم كهلا قد جرى عليه الحكم ، وبين هاتين الحالتين فرق.
قال المأمون : فخبروني عن إسلام علي - عليه السلام - أبإلهام من قبل اللّه تعالى أم بدعاء النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم -؟
فإن قلتم : بإلهام فقد فضلتموه على النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لأن النبي لم يلهم بل أتاه جبرئيل عن اللّه تعالى داعيا ومعرفا.
فإن قلتم : بدعاء النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فهل دعاه من قبل نفسه أو بأمر اللّه تعالى؟
فان قلتم : من قبل نفسه فهذا خلاف ما وصف اللّه تعالى به نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في قوله تعالى : ( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) (2) وفي قوله تعالى : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) (3).
ص: 229
وإن كان من قبل اللّه تعالى فقد أمر اللّه تعالى نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بدعاء علي - عليه السلام - من بين صبيان الناس ، وإيثاره عليهم فدعاه ثقة به ، وعلما بتأييد اللّه تعالى ، وخلة أخرى ، خبروني عن الحكيم هل يجوز أن يكلف خلقه ما لا يطيقون؟
فإن قلتم : نعم ، فقد كفرتم ، وإن قلتم : لا ، فكيف يجوز أن يأمر نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بدعاء من لا يمكنه قبول ما يؤمر به لصغره وحداثة سنه وضعفه عن القبول؟!
وخلة أخرى ، هل رأيتم النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - دعا أحدا من صبيان أهله وغيرهم فيكونوا أسوة علي - عليه السلام -؟ فإن زعمتم أنه لم يدع غيره فهذه فضيلة لعلي - عليه السلام - على جميع صبيان الناس.
ثم قال : أي الاعمال بعد السبق إلى الأيمان؟
قالوا : الجهاد في سبيل اللّه.
قال : فهل تجدون لأحد من العشرة في الجهاد ما لعلي في جميع مواقف النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم - من الأثر؟ هذه بدر قتل من المشركين فيها نيف وستون رجلا قتل علي - عليه السلام - منهم نيفا وعشرين (1) وأربعون لسائر الناس.
فقال قائل : كان أبو بكر مع النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في عريشة يدبرها.
فقال المأمون : لقد جئت بها عجيبة ، أكان يدبر دون النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلّم - أو معه فيشركه ، أو لحاجة النبي - صلّى اللّه عليه وآله
ص: 230
وسلم - إلى رأي أبي بكر ، أي الثلاث إحب إليك أن تقول؟
فقال : أعوذ باللّه من أن أزعم أنه يدبر دون النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أو يشركه ، أو بافتقار من النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - إليه.
قال : فما الفضيلة في العريش؟ فإن كانت فضيلة أبي بكر بتخلفه عن الحرب ، فيجب أن يكون كل متخلف فاضلا أفضل من المجاهدين ، واللّه عز وجل يقول : ( لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ) (1) الاية.
قال إسحق بن حماد بن زيد ، ثم قال لي اقرأ : ( هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ) (2) ، فقرأت حتى بلغت : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ) (3) ، إلى قوله : ( وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا ) (4).
فقال : فيمن نزلت هذه الايات؟
فقلت : في علي - عليه السلام - (5).
قال : فهل بلغك أن عليا - عليه السلام - قال : حين أطعم المسكين واليتيم والاسير : ( إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ) (6) ، على ما وصف اللّه عز وجل في كتابه؟
ص: 231
فقلت : لا.
قال فإن اللّه تعالى عرف سريرة على - عليه السلام - ونيته فأظهر ذلك في كتابه تعريفا لخلقه أمره ، فهل علمت أن اللّه تعالى وصف في شئ مما وصف في الجنة ما في هذه السورة ( قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ ) (1).
قلت : لا.
قال : فهذه فضيلة أخرى ، فكيف تكون القوارير من فضة؟
فقلت : لا أدري.
قال : يريد كأنها من صفائها من فضة يرى داخلها كما يرى خارجها ، وهذا مثل قوله - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : يا اسحاق رويدا شوقك بالقوارير (2) ، وعنى به نساء كأنها القوارير رقة ، وقوله - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : ركبت فرس أبي طلحة فوجدته بحرا - أي كأنه بحر من كثرة جريه وعدوه - وكقول اللّه تعالى : ( يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ) (3) - أي كأنه يأتيه الموت ولو أتاه من مكان واحد مات -.
ثم قال : يا إسحاق ألست ممن يشهد أن العشرة في الجنة؟
فقلت : بلى.
قال : أرأيت لو أن رجلا. قال : ما أدري أصحيح هذا الحديث أم لا أكان عندك كافرا؟
قلت : لا.
ص: 232
قال أفرأيت لو قال ما أدري هذه السورة من القرآن أم لا أكان عندك كافرا؟
قلت : بلى.
قال : أرى فضل الرجل يتأكد ، خبروني يا إسحاق عن حديث الطائر المشوي (1) أصحيح عندك؟
قلت : بلى.
قال : بان واللّه عنادك ، لا يخلو هذا من أن يكون كما دعاه النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أو يكون مردودا أو عرف اللّه الفاضل من خلقه ، وكان المفضول أحب إليه ، أو تزعم أن اللّه لم يعرف الفاضل من المفضول ، فأي الثلاث أحب إليك أن تقول به؟
قال إسحاق : فأطرقت ساعة ، ثم قلت : يا أمير المؤمنين إن اللّه تعالى يقول في أبي بكر : ( ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) (2) ، فنسبه اللّه عز وجل إلى صحبة نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم -.
فقال المأمون : سبحان اللّه ما أقل علمك باللغة والكتاب! أما يكون الكافر صاحبا للمؤمن؟ فأي فضيلة في هذا ، أما سمعت قول اللّه تعالى : ( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ) (3) ، فقد جعله اللّه له صاحبا ، وقال الهذلي شعرا :
ولقد غدوت وصاحبي وحشية *** تحت الرداء بصيرة بالمشرق
ص: 233
وقال الأزدي شعرا :
ولقد ذعرت الوحش فيه وصاحبي *** محض القوائم من هجان هيكل
فصير فرسه صاحبه.
وأما قوله : إن اللّه معنا ، فإن اللّه تبارك وتعالى مع البر والفاجر ، أما سمعت قوله تعالى : ( مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ) (1). وأما قوله : (لَا تَحْزَنْ) فأخبرني من حزن أبي بكر ، أكان طاعة أو معصية؟ فإن زعمت أنه طاعة ، فقد جعلت النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ينهى عن الطاعة وهذا خلاف صفة الحكيم ، وإن زعمت أنه معصية فأي فضيلة للعاصي؟
وخبرني عن قوله تعالى : ( فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ) (2) ، على من؟
قال إسحاق : فقلت : على أبي بكر ، لأن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - كان مستغنيا عن صفة السكينة. قال : فخبرني عن قوله عز وجل : ( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (3) ، أتدري من المؤمنون الذين أراد اللّه تعالى في هذا الموضع؟
قال : فقلت : لا.
فقال : إن الناس انهزموا يوم حنين فلم يبق مع النبي - صلى اللّه عليه
ص: 234
وآله وسلم - إلا سبعة من بني هاشم علي - عليه السلام - يضرب بسيفه ، والعباس (1) آخذ بلجام بغلة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، والخمسة يحدقون بالنبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - خوفا من أن يناله سلاح الكفار ، حتى أعطى اللّه تبارك وتعالى رسوله - صلى اللّه عليه وآله وسلم - الظفر ، وعنى بالمؤمنين في هذا الموضع عليا - عليه السلام - (2) ومن حضر من بني هاشم.
فمن كان أفضل ، أمن كان مع النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فنزلت السكينة على النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وعليه ، أم من كان في الغار مع النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ولم يكن أهلا لنزولها عليه ، يا إسحاق من أفضل؟ من كان مع النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في الغار أو من نام على مهاده وفراشه ووقاه بنفسه حتى تم للنبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ما عزم عليه من الهجرة؟
إن اللّه تبارك وتعالى أمر نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أن يأمر عليا - عليه السلام - بالنوم على فراشه ووقايته بنفسه ، فأمره بذلك ، فقال علي - عليه السلام - : أتسلم يا نبي اللّه؟
قال : سمعا وطاعة ، ثم أتى مضجعه وتسجى بثوبه (3) ، وأحدق المشركون به لا يشكون في أنه النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، وقد أجمعوا على أن يضربه من كل بطن من قريش رجل ضربة لئلا يطلب
ص: 235
الهاشميون بدمه ، وعلي - عليه السلام - يسمع بأمر القوم فيه من التدبير في تلف نفسه ، فلم يدعه ذلك إلى الجزع كما جزع أبو بكر في الغار وهو مع النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وعلي - عليه السلام - وحده فلم يزل صابرا محتسبا فبعث اللّه تعالى ملائكته تمنعه من مشركي قريش فلما أصبح قام فنظر القوم إليه ، فقالوا : أين محمد؟
قال : وما علمي به.
قالوا : فأنت غررتنا ، ثم لحق بالنبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، فلم يزل علي - عليه السلام - أفضل لما بدا منه إلا ما يزيد خيرا حتى قبضه اللّه تعالى إليه وهو محمود مغفور له.
يا إسحاق أما تروي حديث الولاية (1)؟
فقلت : نعم.
قال : اروه فرويته.
فقال : أما ترى أنه أوجب لعلي - عليه السلام - على أبي بكر وعمر من الحق ما لم يوجب لهما عليه؟
قلت : إن الناس يقولون إن هذا قاله بسبب زيد بن حارثة.
فقال : وأين قال النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - هذا؟
قلت : بغدير خم بعد منصرفه من حجة الوداع.
قال : فمتى قتل زيد بن حارثة؟
قلت : بمؤتة.
قال : أفليس قد كان قتل زيد بن حارثة قبل غدير خم؟
ص: 236
قلت : بلى.
قال : أخبرني لو رأيت ابنا لك أتت عليه خمس عشرة سنة يقول : مولاي مولى ابن عمي أيها الناس فاقبلوا ، أكنت تكره له ذلك؟
فقلت : بلى.
قال : أفتنزه ابنك عما لا يتنزه النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - عنه ويحكم! أجعلتم فقهاءكم أربابكم ، إن اللّه تعالى يقول : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ) (1) ، واللّه ما صاموا لهم ولا صلوا لهم ، ولكنهم امروا لهم فأطيعوا.
ثم قال : أتروي قول النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لعلي - عليه السلام - : أنت مني بمنزلة هارون من موسى (2).
قلت : نعم.
قال : أما تعلم أن هارون أخو موسى لأبيه وأمه؟
قلت : بلى.
قال : فعلي - عليه السلام - كذلك؟
قلت : لا.
قال : وهارون نبي وليس علي كذلك ، فما المنزلة الثالثة إلا الخلافة ، وهذا كما قال المنافقون : إنه استخلفه استثقالا له ، فأراد أن يطيب نفسه.
وهذا كما حكى اللّه تعالى عن موسى - عليه السلام - حيث يقول لهارون : ( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ ، وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) (3).
ص: 237
فقلت : أن موسى خلف هارون في قومه وهو حي ، ثم مضى إلى ميقات ربه تعالى ، وإن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - خلف عليا - عليه السلام - حين خرج إلى غزاته.
فقال : أخبرني عن موسى حين خلف هارون ، أكان معه حيث مضى إلى ميقات ربه عز وجل أحد من أصحابه؟
فقلت : نعم.
قال : أو ليس قد استخلفه على جميعهم؟
قلت : بلى.
قال : فكذلك علي - عليه السلام - خلفه النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - حين خرج إلى غزاته في الضعفاء والنساء والصبيان ، إذ كان أكثر قومه معه وإن كان قد جعله خليفة على جميعهم.
والدليل على أنه جعله خليفة عليهم في حياته إذا غاب وبعد موته قوله - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : على مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ، وهو وزير النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أيضا بهذا القول لأن موسى - عليه السلام - قد دعا اللّه تعالى ، وقال فيما دعا : ( وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي ، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (1) ، فإذا كان علي - عليه السلام - منه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بمنزلة هارون من موسى ، فهو وزيره كما كان هارون وزير موسى وهو خليفته كما كان هارون خليفة موسى - عليه السلام -.
ثم اقبل على أصحاب النظر والكلام ، فقال : أسألكم أو تسألوني؟
ص: 238
فقالوا : بل نسألك.
قال : قولوا.
فقال قائل منهم : أليست إمامة علي - عليه السلام - من قبل اللّه عز وجل ، نقل ذلك عن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - من نقل الفرض مثل ، الظهر أربع ركعات ، وفي مأتي درهم خمسة دراهم ، والحج إلى مكة؟
فقال : بلى.
قال : فما بالهم لم يختلفو في جميع الفروض واختلفوا في خلافة علي - عليه السلام - وحدها؟
قال المأمون : لأن جميع الفروض لا يقع فيه من التنافس والرغبة ما يقع في الخلافة.
فقال آخر : ما أنكرت أن يكون النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أمرهم باختيار رجل منهم يقوم مقامه رأفة بهم ورقة عليهم من غير أن يستخلف هو بنفسه ، فيعصى خليفته فينزل بهم العذاب؟
فقال : أنكرت ذلك من قبل أن اللّه تعالى أرأف بخلقه من النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وقد بعث نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - إليهم وهو يعلم أن فيهم عاص ومطيع ، فلم يمنعه تعالى ذلك من إرساله.
وعلة أخرى : ولو أمرهم باختيار رجل منهم كان لا يخلو من أن يأمرهم كلهم أو بعضهم فلو أمر الكل من كان المختار؟ ولو أمر بعضنا دون بعض كان لا يخلو من أن يكون على هذا البعض علامة ، فإن قلت : الفقهاء ، فلابد من تحديد الفقيه وسمته.
قال آخر : فقد روي أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : ما رآه المسلمون حسنا فهو عند اللّه تعالى حسن ، وما رأوه قبيحا فهو عند اللّه قبيح.
ص: 239
فقال : هذا القول لابد من أن يكئون يريد كل المؤمنين أو البعض ، فإن اراد الكل فهذا مفقود ، لأن الكل لا يمكن اجتماعهم ، وإن كان البعض ، فقد روى كل في صاحبه حسنا ، مثل رواية الشيعة في علي ، ورواية الحشوية (1) في غيره ، فمتى يثبت ما تريدون من الأمامة؟
قال آخر : فيجوز أن تزعم ان أصحاب محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - اخطأوا؟
قال : كيف تزعم أنهم اخطأوا واجتمعوا على ضلالة وهم لم يعلموا فرضا ولا سنة ، لأنك تزعم ان الأمامة لا فرض من اللّه تعالى ولا سنة من الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فكيف يكون فيما ليس عندك بفرض ولا سنة خطأ؟
قال آخر : إن كنت تدعي لعلي - عليه السلام - من الأمامة دون غيره فهات بينتك على ما تدعي؟
فقال : ما أنا بمدع ولكني مقر ولابينة على مقر والمدعي من يزعم أن إليه التولية والعزل وأن إليه الاختيار والبينة لا تعري من أن تكون من شركائه فهم خصماء أو تكون من غيرهم ، والغير معدوم فكيف يؤتى بالبينة على هذا؟
ص: 240
قال آخر : فما كان الواجب على علي - عليه السلام - بعد مضي رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم -.
قال : ما فعله؟
قال : إنما وجب عليه أن يعلم الناس أنه إمام.
فقال : إن الأمامة لا تكون بفعل منه في نفسه ، ولا بفعل من الناس فيه من اختيار أو تفضيل أو غير ذلك ، وإنما تكون بفعل من اللّه تعالى فيه كما قال لإبراهيم - عليه السلام - : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) (1) ، وكما قال تعالى لداود - عليه السلام - : ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ) (2) ، وكما قال عز وجل للملائكة في آدم : ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) (3).
فالأمام إنما يكون إماما من قبل اللّه تعالى وباختياره إياه في بدء الصنيعة ، والتشريف في النسب ، والطهارة في المنشأ ، والعصمة في المستقبل ، ولو كانت بفعل منه في نفسه كان من فعل ذلك الفعل مستحقا للأمامة ، وإذا عمل خلافها اعتزل فيكون خليفة من قبل أفعاله.
قال آخر : فلم أوجبت الأمامة لعلي - عليه السلام - بعد الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم -؟
فقال : لخروجه من الطفولية إلى الأيمان كخروج النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - من الطفولية إلى الأيمان ، والبراءة من ضلالة قومه عن الحجة واجتنابه للشرك ، كبراءة النبي من الضلالة واجتنابه للشرك لأن الشرك ظلم ، ولا يكون الظالم أماما ولا من عبد وثنا بإجماع ، ومن شرك فقد
ص: 241
حل من اللّه تعالى محل أعدائه ، فالحكم فيه الشهادة عليه بما اجتمعت عليه الأمة حتى يجئ إجماع آخر مثله ، ولأن من حكم عليه مرة ، فلا يجوز أن يكون حاكما ، فيكون الحاكم محكوما عليه ، فلا يكون حينئذ فرق بين الحاكم والمحكوم عليه.
قال آخر : فلم لم يقاتل علي - عليه السلام - أبا بكر وعمر كما قاتل معاوية؟
فقال : المسألة محال لأن (لم) اقتضاء ، ولم يفعل نفي ، والنفي لا تكون له علة ، إنما العلة للأثبات ، وإنما يجب أن ينظر في أمر علي - عليه السلام - أمن قبل اللّه أم من قبل غيره فإن صح أنه من قبل اللّه تعالى فالشك في تدبيره كفر لقوله تعالى : ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (1) ، فأفعال الفاعل تبع لأصله ، فإن كان قيامه عن اللّه تعالى فأفعاله عنه وعلى الناس الرضا والتسليم ، وقد ترك رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - القتال يوم الحديبية ، يوم صد المشركون هديه عن البيت ، فلما وجد الأعوان وقوي حارب كما قال اللّه تعالى في الأول : ( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) (2) ، ثم قال عز وجل : ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ) (3).
قال آخر : إذا زعمت أن إمامة علي - عليه السلام - من قبل اللّه تعالى وأنه مفترض الطاعة ، فلم لم يجز إلا التبليغ والدعاء للانبياء - عليهم
ص: 242
السلام - وجاز لعلي أن يترك ما أمر به من دعوة الناس إلى طاعته؟
فقال : من قبل إنا لم نزعم أن عليا - عليه السلام - أمر بالتبليغ فيكون رسولا ولكنه - عليه السلام - وضع علما بين اللّه تعالى وبين خلقه ، فمن تبعه كان مطيعا ومن خالفه كان عاصيا ، فإن وجد أعوانا يتقوى بهم جاهد ، وإن لم يجد أعوانا فاللوم عليهم لا عليه ، لأنهم أمروا بطاعته على كل حال ولم يؤمر هو بمجاهدتهم إلا بقوة وهو بمنزلة البيت على الناس الحج إليه ، فإذا حجوا أدوا ما عليهم ، وإذا لم يفعلوا كانت للائمة عليهم لا على البيت.
وقال آخر : إذا وجب أنه لابد من إمام مفترض الطاعة بالاضطرار ، كيف يجب بالاضطرار أنه علي - عليه السلام - دون غيره؟
فقال : من قبل أن اللّه تعالى لا يفرض مجهولا ، ولا يكون المفروض ممتنعا ، إذ المجهول ممتنع فلابد من دلالة الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - على الفرض ، ليقطع العذر بين اللّه عز وجل وبين عباده ، أرأيت لو فرض اللّه تعالى على الناس صوم شهر فلم يعلم الناس أي شهر هو؟ ولم يوسم بوسم ، وكان على الناس استخراج ذلك بعقولهم حتى يصيبوا ما أراد اللّه تعالى ، فيكون الناس حينئذ مستغنين عن الرسول المبين لهم وعن الأمام الناقل خبر الرسول إليهم.
وقال آخر : من أين أوجبت أن عليا - عليه السلام - كان بالغا حين دعاه النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فإن الناس يزعمون أنه كان صبيا حين دعي ولم يكن جاز عليه الحكم ولا بلغ مبلغ الرجال.
فقال : من قبل أنه لا يعرى في ذلك الوقت من أن يكون ممن أرسل إليه النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ليدعوه ، فإن كان كذلك فهو محتمل التكليف قوي على أداء الفرائض ، وإن كان ممن لم يرسل إليه ، فقد لزم
ص: 243
النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قول اللّه عز وجل ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ) (1) ، وكان مع ذلك فقد كلف النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - عباد اللّه ما لا يطيقون عن اللّه تبارك وتعالى ، وهذا من المحال الذي يمتنع كونه ولا يأمر به حكيم ، ولا يدل عليه الرسول تعالى اللّه عن أن يأمر بالمحال ، وجل الرسول من أن يأمر بخلاف ما يمكن كونه في حكمة الحكيم ، فسكت القوم عند ذلك جميعا.
فقال المأمون : قد سألتموني ونقضتم علي ، أفاسألكم؟
قالوا : نعم.
قال : أليس قد روت الأمة بإجماع منها أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (2).
قالوا : بلى.
قال : ورووا عنه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أنه قال : من عصى اللّه بمعصية صغرت أو كبرت ثم اتخذها دينا ومضى مصرا عليها ، فهو مخلد بين أطباق الجحيم؟
قالوا : بلى.
قال : فخبروني عن رجل تختاره الأمة فتنصبه خليفة ، هل يجوز أن يقال له خليفة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، ومن قبل اللّه عز وجل ، ولم يستخلفه الرسول؟
فإن قلتم : نعم فقد كابرتم ، وإن قلتم : لا ، وجب أن أبا بكر لم يكن
ص: 244
خليفة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ولا كان من قبل اللّه عز وجل ، وأنكم تكذبون على نبي اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فإنكم متعرضون لأن تكونوا ممن وسمه النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بدخول النار.
وخبروني : في أي قوليكم صدقتم ، أفي قولكم مضى - صلى اللّه عليه وآله - ولم يستخلف ، أو في قولكم لأبي بكر ، يا خليفة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم -؟ فإن كنتم صدقتم في القولين فهذا ما لا يمكن كونه ، إذ كان متناقضا ، وإن كنتم صدقتم في أحدهما بطل الاخر ، فاتقوا اللّه وانظروا لأنفسكم ودعوا التقليد وتجنبوا الشبهات ، فواللّه ما يقبل اللّه تعالى إلا من عبد لا يأتي إلا بما يعقل ولا يدخل إلا فيما يعلم أنه حق والريب شك وإدمان الشك كفر باللّه تعالى وصاحبه في النار.
وخبروني : هل يجوز أن يبتاع أحدكم عبدا فإذا ابتاعه صار مولاه وصار المشتري عبده؟
قالوا : لا.
قال : فكيف جاز أن يكون من اجتمعتم عليه أنتم لهواكم واستخلفتموه صار خليفة عليكم وأنتم وليتموه ألا كنتم أنتم الخلفاء عليه ، بل تأتون خليفة وتقولون إنه خليفة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ثم إذا سخطتم عليه قتلتموه كما فعل بعثمان بن عفان؟
فقال قائل منهم : لأن الأمام وكيل المسلمين إذا رضوا عنه ولوه وإذا سخطوا عليه عزلوه.
قال : فلمن المسلمون والعباد والبلاد؟
قالوا : لله تعالى.
قال : فواللّه أولى أن يوكل على عباده وبلاده من غيره لأن من إجماع الامة أنه من أحدث حدثا في ملك غيره فهو ضامن وليس له أن يحدث ،
ص: 245
فإن فعل فآثم غارم.
ثم قال خبروني عن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - هل استخلف حين مضى أم لا؟
فقالوا : لم يستخلف.
قال : فتركه ذلك هدى أم ضلال؟
قالوا : هدى.
قال : فعلى الناس أن يتبعوا الهدى ويتركوا الباطل ويتنكبوا الضلال؟
قالوا : قد فعلوا ذلك.
قال : فلم استخلف الناس بعده وقد تركه هو فترك فعله ضلال ، ومحال أن يكون خلاف الهدى هدى ، وإذا كان ترك الاستخلاف هدى ، فلم استخلف أبو بكر ولم يفعله النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، ولم جعل عمر الأمر من بعده شورى بين المسلمين خلافا على صاحبه؟ لأنكم زعمتم أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لم يستخلف وأن أبا بكر استخلف وعمر لم يترك الاستخلاف كما تركه النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بزعمكم ولم يستخلف كما فعل ، أبو بكر وجاء بمعنى ثالث ، فخبروني : أي ذلك ترونه صوابا؟ فإن رأيتم فعل النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - صوابا فقد خطأتم أبا بكر ، وكذلك القول في بقية الأقاويل.
وخبروني : أيهما أفضل ما فعله النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بزعمكم من ترك الاستخلاف أو ما صنعت طائفة من الاستخلاف؟
وخبروني : هل يجوز أن يكون تركه من الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - هدى ، وفعله من غيره هدى فيكون هدى ضد هدى؟ فأين الضلال حينئذ؟
وخبروني : هل ولي أحد بعد النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم -
ص: 246
باختيار الصحابة منذ قبض النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - إلى اليوم؟ فإن قلتم : لا ، فقد أوجبتم أن الناس كلهم عملوا ضلالة بعد النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وإن قلتم : نعم ، كذبتم الأمة وأبطل قولكم الوجود الذي لا يدفع ، وخبروني : عن قول اللّه عز وجل : ( قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ ) (1) ، أصدق هذا أم كذب؟
قالوا : صدق.
قال : أفليس ما سوى اللّه لله إذ كان محدثه ومالكه؟
قالوا : نعم.
قال : ففي هذا بطلان ما أوجبتم من اختياركم خليفة تفترضون طاعته وتسمونه خليفة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وأنتم استخلفتموه وهو معزول عنكم إذا غضبتم عليه وعمل بخلاف محبتكم ومقتول إذا أبى الاعتزال ، ويلكم لا تفتروا على اللّه كذبا ، فتلقوا وبال ذلك غدا إذا قمتم بين يدي اللّه تعالى ، وإذا وردتم على رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وقد كذبتم عليه متعمدين ، وقد قال : من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (2) ، ثم استقبل القبلة ورفع يديه ، وقال : اللّهم إني قد أرشدتهم ، اللّهم إني قد أخرجت ما وجب علي إخراجه من عنقي ، اللّهم إني لم أدعهم في ريب ، ولا في شك ، اللّهم إني أدين بالتقرب إليك بتقديم علي - عليه السلام - على الخلق بعد نبيك محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - كما أمرنا به رسولك - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : ثم افترقنا فلم نجتمع بعد ذلك حتى قبض المأمون (3).
ص: 247
مناظرة ابن شاذان النيسابوري (1) مع بعضهم
قيل لأبي محمد الفضل بن شاذان النيسابوري - رحمه اللّه - ما الدليل على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام -؟
فقال : الدليل على ذلك من كتاب اللّه عز وجل ، ومن سنة نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، ومن إجماع المسلمين.
فأما كتاب اللّه سبحانه وتعالى ، قوله عز وجل : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (2) ، فدعانا سبحانه وتعالى
ص: 248
إلى إطاعة إولى الأمر كما دعانا إلى طاعة نفسه وطاعة رسوله - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فاحتجنا إلى معرفة أولي الأمر كما وجبت علينا معرفة اللّه ومعرفة رسوله - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، فنظرنا في أقاويل الأمة فوجدناهم قد اختلفوا في أولي الأمر وأجمعوا في الاية على ما يوجب كونها في علي بن أبي طالب - عليه السلام -.
فقال بعضهم : أولوا الأمر هم أمراء السرايا ، وقال بعضهم : هم العلماء ، وقال بعضهم : هم القوام على الناس والامرون بالمعروف والناهون عن المنكر ، وقال بعضهم : هم علي بن أبي طالب والأئمة من ذريته - عليهم السلام -.
فسألنا الفرقة الأولى ، فقلنا لهم : أليس علي بن أبي طالب من أمراء السرايا؟
فقالوا : بلى.
فقلنا للثانية : ألم يكن علي - عليه السلام - من العلماء؟
قالوا : بلى.
وقلنا للثالثة : أليس علي - عليه السلام - قد كان من القوام على الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
فقالوا : بلى ، فصار أمير المؤمنين - عليه السلام - معنيا بالاية باتفاق الأمة وإجماعها ، وتيقنا ذلك بإقرار المخالف لنا في إمامته - عليه السلام - والموافق عليها ، فوجب أن يكون إماما بهذه الاية لوجود الاتفاق على أنه
ص: 249
معني بها ، ولم يجب العدول إلى غيره والاعتراف بإمامته لوجود الاختلاف في ذلك ، وعدم الاتفاق وما يقوم مقامه في البرهان.
وأما السنة : فإنا وجدنا النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - استقضى عليا - عليه السلام - على اليمن ، وأمره على الجيوش ، وولاه الأموال ، وأمره بأدائها إلى بني جذيمة الذين قتلهم خالد بن الوليد ظلما ، واختاره - عليه السلام - لأداء رسالات اللّه عز وجل والأبلاغ عنه في سورة البراءة (1) ، واستخلفه عند غيبته على من خلف ، ولم نجد النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - سن هذه السنن في غيره ولا اجتمعت هذه السنن في أحد بعد النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - كما اجتمعت في علي - عليه السلام - ، وسنة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بعد موته واجبة كوجوبها في حياته.
وإنما تحتاج الأمة إلى الأمام لهذه الخصال التي ذكرناها فإذا وجدناها في رجل قد سنها الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فيه كان أولى بالأمامة ممن لم يسن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فيه شيئا من ذلك.
وأما الأجماع : فإن إمامته تثبت من جهته من وجوه :
منها : أنهم قد أجمعوا جميعا على أن عليا - عليه السلام - قد كان إماما ولو يوما واحدا ، ولم يختلف في ذلك أصناف أهل الملة ثم اختلفوا.
فقالت طائفة : كان إماما في وقت كذا دون وقت كذا ، وقالت طائفة : كان إماما بعد النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في جميع أوقاته ، ولم تجتمع الإمة على غيره أنه كان أماما في الحقيقة عين ، والإجماع أحق
ص: 250
أن يتبع من الخلاف.
ومنها : أنهم إجمعوا جميعا على أن عليا - عليه السلام - كان يصلح للأمامة وأن الأمامة تصلح لبني هاشم ، واختلفوا في غيره ، وقالت طائفة : لم تكن تصلح لغير علي بن أبي طالب - عليه السلام - ولا تصلح لغير بني هاشم ، والأجماع حق لا شبهة فيه ، والاختلاف لا حجة فيه.
ومنها : أنهم أجمعوا على أن عليا - عليه السلام - كان بعد النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ظاهر العدالة واجبة له الولاية ، ثم اختلفوا فقال قوم : إنه كان مع ذلك معصوما من الكبائر والضلال.
وقال آخرون : لم يك معصوما ، ولكن كان عدلا برا تقيا على الظاهر لا يشوب ظاهره الشوائب ، فحصل الأجماع على عدالته ، واختلفوا في نفي العصمة عنه.
ثم أجمعوا كلهم جميعا على أن أبا بكر لم يك معصوما واختلفوا في عدالته ، فقالت طائفة : كان عدلا ، وقالت أخرى : لم يكن عدلا لأنه أخذ ما ليس له ، فمن أجمعوا على عدالته واختلفوا في عصمته أولى بالأمامة ممن اختلفوا في عدالته وأجمعوا على نفي العصمة عنه. (1)
ص: 251
مناظرة الشيخ الصدوق (1) (رحمه اللّه) مع الملك ركن الدولة بن بابويه
لقد ذكر في المجلس الذي جرى بين الشيخ الأمام أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي مع الملك ركن الدولة أبي علي الحسين بن بابويه الديلمي ، قيل : إنه وصف للملك المذكور حال أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي ، وما يقعده في المجالس وما عليه م الآثار وما يجيب عنه من المسائلو الأخبار ورجوع الإمامية
ص: 252
إليه وإلى أقواله في البلدان والأمصار.
فأحب لقاءه ومسألته فقدم إلى حاجبه البرمكي إحضاره ، فركب الحاجب إليه وأحضره إلى مجلس السلطان ، فلما دخل عليه قربه وأدناه وأكرمه ورفع مجلسه ، فلما استقر به المجلس.
قال له السلطان : أيها الشيخ الفقيه العالم ، اختلف الحاضرون في القوم الذين طعنوا فيهم الشيعة ، فقال بعضهم : يجب الطعن ، وقال بعضهم : لا يجب ولا يجوز ، فما عندك في هذا؟
فقال الشيخ (رحمه اللّه) : أيها الملك ، إن اللّه تعالى لم يقبل من عباده الأقرار بتوحيده حتى ينفوا كل إله سواه ، وكل صنم عبد من دون اللّه ، ألم تر أنا أمرنا أن نقول : (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) ، فلا إله نفي كل إله عبد من دونه.
وقوله : إلا ، إثبات اللّه عز وجل ، وكذلك لم يقبل الأقرار بنبوة محمد نبينا - صلى اللّه عليه وآله وسلم - حتى ينفوا كل متنبئ كان في وقته ، مثل مسيلمة الكذاب ، وسجاح بنت الأسود العنسي وأشباههم ، وهكذا لا يقبل القول بإمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - إلا بعد نفي كل ضد نصب للأمامة دونه.
قال الملك : هذا هو الحق ، وأخبرني أيها الشيخ بشئ جلي واضح من أمر من انتصب للأمامة دونه؟
قال الشيخ : أيها الملك ، اجتمعت الأمة على نقل خبر سورة براءة (1) ، وفيه خروج أبي بكر من الأسلام ، وفيه نزول ولاية أمير المؤمنين - عليه السلام - من السماء وعزل أبي بكر ، وفيه أنه لم يكن من النبين.
ص: 253
قال الملك : وكيف ذلك؟
فقال الشيخ - رحمه اللّه - : روى جميع أهل النقل منا ومن مخالفينا أنه لما نزلت سورة براءة على رسوله - صلى اللّه عليه وآله وسلم - دعا أبا بكر فقال : يا أبا بكر خذ هذه السورة فأدها عني بالموسم بمكة ، فأخذها أبو بكر وسار ، فلما بلغ بعض الطريق هبط جبرئيل - عليه السلام - فقال : يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول لك : لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك ، فدعا رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أمير المؤمنين - عليه السلام - وأمره أن يلحق أبا بكر ويأخذ منه سورة براءة ويؤديها عن اللّه تعالى أيام الموسم بمكة ، فلحقه أمير المؤمنين - عليه السلام - وأخذ منه سورة براءة وأداها عن اللّه تعالى.
حيث أنهم أخروا من قدمه اللّه تعالى وقدموا من أخره اللّه استهانة باللّه سبحانه ، وقد صح أن أبا بكر ليس من النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لقول جبرئيل - عليه السلام - : لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك ، فإذا لم يكن من النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لم يكن تابعا له ، قال اللّه تعالى : ( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ) (1) ، وإن لم يكن متبعا للنبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لم يكن محبا لله عز وجل لقوله تعالى ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) (2) ، وإذا لم يكن محبا كان مبغضا وبغض النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - كفر.
وقد صح بنفس هذا الخبر أن عليا - عليه السلام - من النبي ، هذا مع ما رواه المخالف في تفسير قوله : ( أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ
ص: 254
مِنْهُ ) (1) أن الذي على بينة من ربه رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - والشاهد الذي يتلوه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام -.
وما رواه عن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أنه قال : علي مني وأنا من علي (2) ، وما رواه عن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : لينتهين أو لأبعثن عليه رجلا نفسه نفسي وطاعته كطاعتي ومعصيته كمعصيتي (3).
ومما روي عن جبرئيل - عليه السلام - في غزوة أحد أنه نزل على النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فنظر إلى علي - عليه السلام - وجهاده بين يدي رسول اللّه ، فقال جبرئيل : هذه المواساة ، فقال : يا جبرئيل لأنه مني وأنا
ص: 255
منه ، فقال جبرئيل : وأنا منكما (1).
فكيف يصلح أيها الملك للأمامة رجل لم يأتمنه اللّه تعالى على تبليغ آيات من كتابه أن يؤديها إلى الناس أيام الموسم ، فكيف يجوز أن يكون مؤتمنا على أن يؤدي جميع دين اللّه عز وجل بعد النبي ويكون واليا عليهم وعزله اللّه عز وجل وولى عليا - عليه السلام -؟
وكيف لا يكون علي مظلوما وقد أخذوا ولايته وقد نزل بها جبرئيل من السماء؟
فقال الملك : هذا بين واضح. وكان رجل واقفا على رأس الملك يقال له : (أبو القاسم) فاستأذنه في كلامه ، فأذن له.
فقال : أيها الشيخ كيف يجوز أن تجتمع هذه الأمة على خطأ مع قول رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : لا تجتمع أمتي على ضلالة (2)؟
فقال الشيخ : إن صح هذا الحديث فيجب أن تعرفه الأمة ، ومعناها أن الأمة في اللغة هي الجماعة وأقل الجماعة رجل وامرأة ، وقد قال اللّه تعالى : ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا ) (3) ، فسمى واحدا أمة ، قال النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : رحم اللّه قسا يحشر يوم القيامة أمة واحدة (4) ، فما ينكر
ص: 256
أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أن كان قال هذا الحديث - عنى به عليا - عليه السلام - ومن تبعه.
فقال : عنى به الأعظم ومن هو كان أكثر عددا.
فقال الشيخ (رحمه اللّه) : وجدنا الكثرة في كتاب اللّه عز وجل مذمومة والقلة مرحومة محمودة في قوله عز وجل : ( لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ ) (1) ، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ) (2) ، ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) (3) ، ( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) (4) ، ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ) (5) ، ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) (6) ، ( وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ) (7) ، ( وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ) (8) ، وقال اللّه تعالى في مدح القلة : ( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ) (9) ، ( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (10) ، ( وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ) (11). وذكر اللّه في قول موسى : ( وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) (12).
قال الملك : كيف يجوز الارتداد على العدد الكثير مع قرب العهد
ص: 257
بموت صاحب الشريعة؟
فقال الشيخ (رحمه اللّه) : كيف لا يجوز الارتداد عليهم مع قوله تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ) (1) ، وليس ارتدادهم ذلك بأعجب من ارتداد بني إسرائيل حين مضى موسى - عليه السلام - لميقات ربه واستخلف عليهم أخاه هارون وقال : ( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) (2) ووعد قومه بأنه يعود إليهم بعد ثلاثين ليلة وأتمها اللّه بعشر ، فتم ميقات ربه أربعين ليلة ، فلم يصبر قومه إلى أن خرج فيهم السامري وصنع لهم من حليهم عجلا جسدا له خوار ، فقال لهم : هذا إلهكم وإله موسى ، واستضعفوا هارون خليفة موسى وأطاعوا السامري في عبادة العجل ، ولم يحفظوا في هارون وصية موسى به ولا خلافته عليهم ، ( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (3).
هذا مما قص اللّه تعالى من تمام هذه القصة ، وإذا جاز على بني إسرائيل - وهم من أمة أولي العزم - أن يرتدوا بغيبة موسى - عليه السلام - بزيادة عشر ليال حتى خالفوا وصيته وأطاعوا السامري في عبادة العجل ،
ص: 258
فكيف لا يجوز على هذه الأمة بعد موت النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أن تخالف وصيه وخليفته وخير الخلق بعده وتطيع سامري هذه الأمة؟ وإنما علي - عليه السلام - بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبى بعد محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لما روي عن جميع أهل النقل.
فقال الملك للشيخ الفاضل : ما سمعت في المعنى كلاما أحسن من هذا ولا أبين.
فقال الشيخ (رحمه اللّه) : أيها الملك زعم القائلون بإمامة سامري هذه الأمة أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - مضى ولم يستخلف واستخلفوا رجلا وأقاموه ، فإن كان ما فعله النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - على زعمهم من ترك الاستخلاف حقا فالذي أثبته القوم من الاستخلاف باطل ، وإن كان الذي أثبته الأمة من الاستخلاف صوابا فالذي فعله النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - خطأ ، فمن لم يحكم بالخطأ عليه يحكم به على النبي - صلى اللّه عليه وآله - وعليهم.
فقال الملك : بل عليهم.
قال الشيخ (رحمه اللّه) : فكيف يجوز أن يخرج النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - من الدنيا ولا يوصي بأمر الأمة الى أحد ، ونحن لا نرضى من عقل أكار (1) في قرية إذا مات وخلف مسحاة وفأسا لا يوصي به إلى أحد من بعده (2)؟
ص: 259
فقال الملك : القول كما يقوله المخالفون.
فقال الشيخ : وهنا حكاية أخرى ، وهي أنهم زعموا أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لم يستخلف فخالفوه باستخلافهم من أقاموه وخالف النبي من أقامه بالأمر ، فلما حضرته الوفاة لم يعتد بالنبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في ترك الاستخلاف على رغمه واستخلف بعده الثاني ، والثاني لم يعتدوا به ولا بالنبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - حتى جعل الأمر شورى في قوم معدودين ، وأي بيان أوضح من هذا؟
فقال الملك : هذا بين واضح ، فأي شبهة ولدوها في إمامة هذا الرجل وإقامته؟
فقال الشيخ : إنهم زعموا أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : قدمه للصلاة ، وهذا خير لا يضر ، وقد اختلفوا فيه ، فمنهم من روى أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال لعائشة : أمرت أباك أن يصلي بالناس ، وأن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لما عرف تقدم أبي بكر خرج متكئا على علي - عليه السلام - وعلى الفضل بن العباس حتى دخل المسجد ، فنحى أبا بكر وصلى بالناس قاعدا وأبو بكر خلفه والناس كانت خلف أبي بكر (1).
ص: 260
ومنهم من روى أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - امر حفصة أن تأمر أباها أن يصلي بالناس (1) ، وهذا الخبر لا يصح لأن المهاجرين والأنصار لم يحتجوا به ولا ذكروه يوم السقيفة ، ولو صح هذا الخبر لما وجبت إمامة أبي بكر ، ولو وجبت الأمامة بالتقديم إلى الصلاة لوجب أن يكون عبد الرحمن بن عوف أولى بالأمامة ، لأنهم رووا عن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أنه صلى خلفه ولم يختلفوا في ذلك (2) ، وكيف يلزمنا أيها الملك قبول خبر عائشة وحفصة بجرهما النفع إلى أبيهما وإلى أنفسهما ، ولا يلزمهم قبول قول فاطمة - عليها السلام - وهي سيدة نساء العالمين فيما ادعته من أمر فدك (3) ، وأن أباها نحلها إياها (4) ، مع كون فدك في يدها سنين من حياته - صلى اللّه عليه وآله وسلم - مع شهادة علي والحسن والحسين - عليهم السلام - وشهادة أم أيمن لها (5)؟ وكيف يصح
ص: 261
هذا الخبر عندهم وقد رووا أن شهادة لأبيها غير جائزة (1)؟
وقولهم : إن شهادة النساء لا تجوز في عشرة دراهم ولا أقل إذا لم يكن معهن رجل (2) ، ومع قولهم : إن شهادة النساء على النصف من شهادة الرجال.
فقال الملك : قولهم في هذا غير صحيح ، والحق والصدق فيما قاله الشيخ الفاضل.
ثم قال الملك : أيها الشيخ ، لم قلت : إن الأئمة أثنا عشر ولله عز وجل مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي؟
فقال الشيخ : أيها الملك ، إن الأمامة فريضة من فرائض اللّه وما أوجب اللّه فريضة غير معدودة ، ألا ترى أن فرض الصلاة في اليوم والليلة سبع عشرة ركعة ، وفرض الزكاة معلوم وهي عندنا على تسعة أشياء ، ووجوب الصوم معلوم وهو ثلاثون يوما ، وبين مناسك الحج وهي معدودة ، وكذلك تكون الأئمة عددا لا يجوز أن يقال بأكثر ولا أقل.
فقال الملك : فهل بين اللّه لذلك مجملا ، والنبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بين عددها في سننه لأن السنن إلى النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم -؟
فقال الشيخ : نعم قد بين الفرائض والسنن كلها بأمر اللّه تعالى ، قال اللّه
ص: 262
تعالى : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (1) وإن اللّه تعالى قال : ( وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ) (2) ، ولم يبين عدد ركعاتها وبينها النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، وقال تعالى : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ) (3) ، ولم يبين عدد الأصناف التي تجب عليها الزكاة ، وقال اللّه تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) (4) ، ولم يبين حدوده وهيئته وبينها النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وقال اللّه تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ) (5) ، ولم يبين مناسك الحج فبينها النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، كذلك قال اللّه تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (6) ، ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (7) ، ولم يبين عدد الأئمة فبينها النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في سننه (8) كما بين سائر الفرائض.
فقال الملك : إن أمر الأمامة لم يوافقكم عليه مخالفوكم كما وافقوكم على عدد الفرائض.
فقال الشيخ (رحمه اللّه) : ليس يبطل قولنا في الأمامة بمخالفة مخالفينا ، كمإ
ص: 263
لا يبطل الاسلام ومعجزات النبي بمخالفه اليهود والنصارى والمجوس والبراهمة (1) ، ولو بطل بشئ من مخالفة المخالفين لم يثبت في العالم شئ ، لأن مامن شئ إلا وفيه خلاف.
فقال الملك : صدقت هذا هو الحق وأنتم عليه. وأولى الملك في تلك الساعة لأمير المؤمنين - عليه السلام - وسب أعداءه ومن شايعهم على ذلك ، والحمد لله رب العالمين وسلم تسليما كثيرا (2).
ص: 264
مناظرة المفيد (1) مع عمر في المنام
عن الشيخ المفيد أبي عبد اللّه محمد بن محمد النعمان - رضى اللّه عنه - قال : رأيت في المنام سنة من السنين كأني قد اجتزت في بعض الطرق فرأيت حلقة دائرة فيها أناس كثيرة ، فقلت : ما هذا؟
فقالوا : هذه حلقة فيها رجل يعظ.
قلت : ومن هو؟
ص: 265
قالوا : عمر بن الخطاب ، ففرقت الناس ودخلت الحلقة فإذا أنا برجل يتكلم على الناس بشئ لم أحصله فقطعت عليه الكلام.
وقلت : أيها الشيخ أخبرني ما وجه الدلالة على فضل صاحبك أبي بكر عتيق بن ابي قحافة من قول اللّه تعالى : ( ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ ) (1).
فقال : وجه الدلالة على فضل أبي بكر في هذه الاية على ستة مواضع :
الأول : أن اللّه تعالى ذكر النبي - صلى اللّه عليه وآله - وذكر أبا بكر وجعله ثانيه ، فقال : ( ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ ) .
والثاني : وصفهما بالاجتماع في مكان واحد لتأليفه بينهما فقال : ( إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ ) .
والثالث : أنه اضافه إليه بذكر الصحبة فجمع بينهما بما تقتضي الرتبة فقال : ( إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ ) .
والرابع : أنه أخبر عن شفقة النبي - صلى اللّه عليه وآله - ورفقه به لموضعه عنده فقال : ( لَا تَحْزَنْ ) .
والخامس : أخبر أن اللّه معهما على حد سواء ، ناصرا لهما ودافعا عنهما فقال : ( إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) .
والسادس : أنه أخبر عن نزول السكينة على أبي بكر لأن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - لم تفارقه سكينته قط ، قال : ( فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ) (2).
ص: 266
فهذه ستة مواضع تدل على فضل ابى بكر من آية الغار ، حيث لا يمكنك ولا غيرك الطعن فيها.
فقلت له : خبرتك بكلامك في الاحتجاج لصاحبك عنه وإني بعون اللّه سأجعل ما أتيت به كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف.
اما قولك : إن اللّه تعالى ذكر النبي - صلى اللّه عليه وآله - وجعل ابا بكر معه ثانيه ، فهو إخبار عن العدد ، ولعمري لقد كانا اثنين ، فما في ذلك من الفضل؟! فنحن نعلم ضرورة أن مؤمنا ومؤمنا ، أو مؤمنا وكافرا ، اثنان فما أرى لك في ذلك العد طائلا تعتمده.
وأما قولك : إنه وصفهما بالاجتماع في المكان ، فإنه كالاول لأن المكان يجمع الكافر والمؤمن كما يجمع العدد المؤمنين والكفار ، وأيضا : فإن مسجد النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أشرف من الغار ، وقد جمع المؤمنين والمنافقين والكفار ، وفي ذلك يقول اللّه عز وجل : ( فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ) (1) ، وأيضا : فإن سفينة نوح - عليه السلام - قد جمعت النبي ، والشيطان ، والبهيمة ، والكلب ، والمكان لا يدل على ما أوجبت من الفضيلة ، فبطل فضلان.
وأما قولك : إنه أضافه إليه بذكر الصحبة ، فإنه أضعف من الفضلين الأولين لأن اسم الصحبة تجمع المؤمن والكافر ، والدليل على ذلك قوله تعالى : ( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ) (2) وأيضا : فإن اسم الصحبة يطلق على العاقل والبهيمة ، والدليل على ذلك من كلام العرب الذي نزل بلسانهم ، فقال اللّه
ص: 267
عز وجل : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ ) (1) أنه قد سموا الحمار صاحبا فقال الشاعر (2) :
إن الحمار مع الحمير مطية *** فإذا خلوت به فبئس الصاحب
وأيضا : قد سموا الجماد مع الحي صاحبا ، فقالوا ذلك في السيف وقالوا شعرا :
زرت هندا وكان غير اختيان *** ومعي صاحب كتوم اللسان (3)
يعني : السيف ، فإذا كان اسم الصحبة يقع بين المؤمن والكافر ، وبين العاقل والبهيمة ، وبين الحيوان والجماد ، فأي حجة لصاحبك فيه؟!
وأما قولك : إنه قال : ( لَا تَحْزَنْ ) فإنه وبال عليه ومنقصة له ، ودليل على خطئه لأن قوله : ( لَا تَحْزَنْ ) ، نهي وصورة النهي قول القائل : لا تفعل فلا يخلو أن يكون الحزن قد وقع من أبي بكر طاعة أو معصية ، فإن كان طاعة فالنبي - صلى اللّه عليه وآله - لا ينهى عن الطاعات بل يأمر بها ويدعو إليها ، وإن كانت معصية فقد نهاه النبي عنها ، وقد شهدت الاية بعصيانه بدليل أنه نهاه.
واما قولك : إنه قال : ( إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) فإن النبي - صلى اللّه عليه وآله - قد أخبر أن اللّه معه ، وعبر عن نفسه بلفظ الجمع ، كقوله تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (4) وقد قيل أيضا إن أبا بكر ، قال : يا رسول اللّه حزني على علي بن ابي طالب - عليه السلام - ما كان منه ، فقال له النبي
ص: 268
- صلى اللّه عليه وآله - : ( لَا تَحْزَنْ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) أي معي ومع أخي علي بن أبي طالب - عليه السلام -.
وأما قولك : إن السكينة نزلت على أبي بكر ، فإنه ترك للظاهر ، لأن الذي نزلت عليه السكينة هو الذي أيده اللّه بالجنود ، وكذا يشهد ظاهر القرآن في قوله : ( فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ) (1). فإن كان أبو بكر هو صاحب السكينة فهو صاحب الجنود ، وفي هذا اخراج للنبي - صلى اللّه عليه وآله - من النبوة على أن هذا الموضع لو كتمته عن صاحبك كان خيرا ، لأن اللّه تعالى انزل السكينة على النبي في موضعين كان معه قوم مؤمنون فشركهم فيها ، فقال في أحد الموضعين :
( فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ) (2) وقال في الموضع الاخر : ( ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا ) (3) ولما كان في هذا الموضع خصه وحده بالسكينة ، فقال : ( فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ) فلو كان معه مؤمن لشركه معه في السكينة كما شرك من ذكرنا قبل هذا من المؤمنين ، فدل إخراجه من السكينة على خروجه من الأيمان ، فلم يحر جوابا وتفرق الناس واستيقظت من نومي (4).
ص: 269
قال السيد المرتضى - رضي اللّه عنه - في كتاب الفصول : اتفق للشيخ أبي عبد اللّه المفيد - رحمة اللّه عليه - اتفاق مع القاضي أبي بكر أحمد بن سيار في دار الشريف أبي عبد اللّه محمد بن محمد بن طاهر الموسوي - رضي اللّه عنه - ، وكان بالحضرة جمع كثير يزيد عددهم على مائة إنسان ، وفيهم أشراف من بني علي وبني العباس ومن وجوه الناس والتجار حضروا في قضاء حق الشريف - رحمه اللّه - ، فجرى من جماعة من القوم خوض في ذكر النص على أمير المؤمنين - عليه السلام - ، وتكلم الشيخ أبو عبد اللّه - أيده اللّه - في ذلك بكلام يسير على ما اقتضته الحال.
فقال له القاضي أبو بكر ابن سيار : خبرني ما النص في الحقيقة؟ وما معنى هذه اللفظة؟
فقال الشيخ : أيده اللّه - : النص هو الاظهار والأبانة ، من ذلك قولهم : فلان قد نص قلوصه (1) : إذا أبانها بالسير ، وأبرزها من جملة الأبل ، ولذلك سمي المفرش العالي (منصة) لأن الجالس عليه يبين بالظهور من الجماعة ، فلما أظهره المفرش سمي منصة على ما ذكرناه ، ومن ذلك أيضا قولهم : قد نصّ فلان مذهبه : إذا أظهره وأبانه ، ومنه قول الشاعر :
ص: 270
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش (1) *** إذا هي نصته ولا بمعطل
يريد إذا هي أظهرته ، وقد قيل : نصبته ، والمعنى في هذا يرجع إلى الأظهار ، فأما هذه اللفظة فإنها قد جعلت مستعملة في الشريعة على المعنى الذي قدمت ، ومتى أردت حد المعنى منها قلت : حقيقة النص هو القول المنبئ عن المقول فيه على سبيل الأظهار.
فقال القاضي : ما أحسن ما قلت! ولقد أصبت فيما أوضحت وكشفت ، فخبرني الان إذا كان النبي - صلى اللّه عليه وآله - قد نص على إمامة أمير المؤمنين - عليه السلام - فقد أظهر فرض طاعته ، وإذا أظهره استحال أن يكون مخفيا ، فما بالنا لا نعلمه إن كان الأمر على ما ذكرت في حد النص وحقيقته؟
فقال الشيخ - أيده اللّه - : أما الأظهار من النبي - صلى اللّه عليه وآله - فقد وقع ولم يك خافيا في حال ظهوره ، وكل من حضره فقد علمه ولم يرتب فيه ولا اشتبه عليه ، وأما سؤالك عن علة فقدك العلم به الان وفي هذا الزمان فإن كنت لا تعلمه على ما أخبرت به عن نفسك فذلك لدخول الشبهة عليك في طريقه ، لعدولك عن وجه النظر في الدليل المفضي بك إلى حقيقته ، ولو تأملت الحجة فيه بعين الأنصاف لعلمته ، ولو كنت حاضرا في وقت إظهار النبي - صلى اللّه عليه وآله - له لما أخللت بعلمه ، ولكن العلة في ذهابك عن اليقين فيه ما وصفناه.
فقال : وهل يجوز أن يظهر النبي - صلى اللّه عليه وآله - شيئا في زمانه فيخفى عمن ينشأ بعد وفاته حتى لا يعلمه الا بنظر ثاقب واستدلال عليه ؟
ص: 271
فقال الشيخ - أيده اللّه تعالى - : نعم يجوز ذلك ، بل لا منه لمن غاب عن المقام في علم ما كان منه إلى النظر والاستدلال ، وليس يجوز أن يقع له به علم الاضطرار لأنه من جملة الغائبات ، غير أن الاستدلال في هذا الباب يختلف في الغموض والظهور والصعوبة والسهولة على حسب الأسباب المعترضات في طرقه ، وربما عرى طريق ذلك من سبب فيعلم بيسير من الاستدلال على وجه يشبه الاضطرار (1) ، إلا أن طريق النص حصل فيه من الشبهات للأسباب التي اعترضته ما يتعذر معها العلم به إلا بعد نظر ثاقب وطول زمان في الاستدلال (2).
فقال : فإذا كان الأمر على ما وصفت فما أنكرت أن يكون النبي - صلى اللّه عليه وآله - قد نص على نبي آخر معه في زمانه ، أو نبي يقوم من بعده مقامه ، وأظهر ذلك وشهره على حد ما أظهر به إمامة أمير المؤمنين - عليه السلام - فذهب عنا علم ذلك كما ذهب عنا علم النص وأسبابه؟
فقال له الشيخ - أيده اللّه - : أنكرت ذلك من قبل أن العلم حاصل لي ولكل مقر بالشرع ومنكر له بكذب من ادعى ذلك على رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، ولو كان ذلك حقا لما عم الجميع على بطلانه وكذب مدعيه ومضيفه إلى النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - (3) ، ولو تعرى بعض
ص: 272
العقلاء من سامعي الأخبار عن علم ذلك لا حتجت في إفساده إلى تكلف دليل غير ما وصفت ، لكن الذي ذكرت يغنيني عن اعتماد غيره فإن كان النص على الأمامة نظيره فيجب أن يعم العلم ببطلانه جميع سامعي الأخبار حتى لا يختلف في اعتقاد ذلك اثنان ، وفي تنازع الأمة فيه واعتقاد جماعة صحته والعلم به ، واعتقاد جماعة بطلانه دليل على فرق ما بينه وبين ما عارضت به.
ثم قال له الشيخ - أدام اللّه حراسته - : ألا أنصف القاضي من نفسه والتزم ما ألزمه خصومه فيما شاركهم فيه من نفي ما تفردوا به؟ ففصل بينه وبين خصومه في قوله : إن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قد نص على رجم الزاني وفعله ، وموضع قطع السارق وفعله ، وعلى صفة الطهارة والصلاة وحدود الصوم والحج والزكاة وفعل ذلك وبينه وكرره وشهره ، ثم التنازع موجود في ذلك ، وإنما يعلم الحق فيه وما عليه العمل من غيره بضرب من الاستدلال ، بل في قوله : إن انشقاق القمر لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - كان ظاهرا في حياته ومشهورا في عصره وزمانه ، وقد أنكر ذلك جماعة من المعتزلة وغيرهم من أهل الملل والملحدة ، وزعموا أن ذلك من توليد أصحاب السير ومؤلفي المغازي وناقلي الاثار ، وليس يمكننا أن ندعي على من خالفنا فيما ذكرنا علم الاضطرار وإنما نعتمد على غلطهم في الاستدلال ، فما يؤمنه أن يكون النبي - صلى اللّه عليه وآله - قد نص على نبي من بعده وإن عرى من العلم بذلك على سبيل الاضطرار ، وبم يدفع أن يكون قد حصلت شبهات حالت بينه وبين العلم بذلك كما حصل لخصومه فيما عددناه ووصفناه ، وهذا ما لا فصل فيه.
فقال له : ليس يشبه النص على أمير المؤمنين - عليه السلام - جميع
ص: 273
ما ذكرت ، لأن فرض النص عندك فرض عام ، وما وقع فيه الاختلاف فيما قدمت فروض خاصة ، ولو كانت في العموم كهو لما وقع فيها الاختلاف.
فقال الشيخ - أيده اللّه - : فقد انتقض الان جميع ما اعتمدته ، وبان فساده ، واحتجت في الاعتماد إلى غيره ، وذلك أنك جعلت موجب العلم وسبب ارتفاع الخلاف ظهور الشئ في زمان ما واشتهاره بين الملا ، ولم تضم إلى ذلك غيره ولا شرطت فيه موصوفا سواه ، فلما نقضناه عليك ووضح عندك دماره عدلت إلى التعلق بعموم الفرض وخصوصه ، ولم يك هذا جاريا فيما سلف ، والزيادة في الاعتلال انقطاع ، والانتقال من اعتماد إلى اعتماد أيضا انقطاع ، على أنه ما الذي يؤمنك أن ينص على نبي يحفظ شرعه فيكون فرض العمل به خاصا في العبادة كما كان الفرض فيما عددناه خاصا ، فهل فيها من فصل يعقل؟ فلم يأت بشئ تجب حكايته (1).
ص: 274
سأله المعروف بالكتبي فقال له : ما الدليل على فساد إمامة أبي بكر؟
فقال له : الأدلة على ذلك كثيرة ، فأنا أذكر لك منها دليلا يقرب من فهمك ، وهو أن الأمة مجتمعة على أن الأمام لا يحتاج إلى إمام ، وقد أجمعت الأمة على أن أبا بكر قال على المنبر : (وليتكم ولست بخيركم ، فإن استقمت فاتبعوني ، وإن اعوججت فقوموني) (1) ، فاعترف بحاجته إلى رعيته وفقره إليهم في تدبيره ، ولا خلاف بين ذوي العقول أن من احتاج إلى رعيته فهو إلى الأمام أحوج (2) ، وإذا ثبتت حاجة أبي بكر إلى الامام بطلت إمامته بالإجماع المنعقد على أن الإمام لا يحتاج إلى الإمام ،
ص: 275
فلم يدر الكتبي بم يعترض ، وكان بالحضره من المعتزلة رجل يعرف بعرزالة.
فقال : ما أنكرت على من قال لك : إن الأمة أيضا مجتمعة على أن القاضي لا يحتاج إلى قاض ، والأمير لا يحتاج إلى أمير ، فيجب على هذا الأصل أن يوجب عصمة الامراء ، أو يخرج من الأجماع.
فقال له الشيخ : إن سكوت الأول أحسن من كلامك هذا ، وما كنت أظن أنه يذهب عليك الخطأ في هذا الفصل ، أو تحمل نفسك عليه مع العلم بوهنه ، وذلك أنه لا إجماع في ما ذكرت ، بل الأجماع في ضده ، لأن الأمة متفقة على أن القاضي الذي هو دون الأمام يحتاج إلى قاض هو الأمام ، وذلك يسقط ما تعلقت به ، اللّهم إلا أن تكون أشرت بالأمير والقاضي إلى نفس الأمام ، فهو كما وصفت غير محتاج إلى قاض يتقدمه أو أمير عليه ، وإنما استغنى عن ذلك لعصمته وكماله ، فأين موضوع إلزامك عافاك اللّه؟ فلم يأت بشيء (1).
ص: 276
قال له رجل من أصحاب الحديث ممن يذهب إلى مذهب الكرابيسي (1) ما رأيت أجسر من الشيعة فيما يدعونه من المحال ، وذلك أنهم زعموا أن قول اللّه عز وجل : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (2) نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين - عليهم السلام - (3) ، مع ما في ظاهر الاية أنها نزلت في أزواج النبي - صلى اللّه عليه وآله - ، وذلك أنك إذا تأملت الاية من أولها إلى آخرها وجدتها منتظمة لذكر الأزواج خاصة ، ولن تجد لمن ادعوها له ذكرا.
قال الشيخ - أدام اللّه عزه - : أجسر الناس على ارتكاب الباطل وأبهتهم وأشدهم إنكارا للحق وأجهلهم من قام مقامك في هذا الاحتجاج ، ودفع مإ عليه الأجماع والاتفاق ، وذلك أنه لا خلاف بين الأمة أن الاية من القرآن قد
ص: 277
عليه الاجماع والاتفاق ، وذلك أنه لا خلاف بين الأمة أن الاية من القرآن قد تأتي وأولها في شئ وآخرها في غيره ، ووسطها في معنى وأولها في سواه ، وليس طريق الاتفاق في المعنى إحاطة وصف الكلام في الائي ، فقد نقل الموافق والمخالف أن هذه الاية نزلت في بيت أم سلمة - رضي اللّه عنها - ، ورسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - في البيت ، ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين - عليهم السلام - وقد جللهم بعباء خيبرية ، وقال : اللّهم هؤلاء أهل بيتي ، فأنزل اللّه عز وجل عليه : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (1) فتلاها رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله -.
فقالت أم سلمة - رضي اللّه عنها - : يا رسول اللّه ألست من أهل بيتك؟
فقال لها : إنك إلى خير ، ولم يقل لها : إنك من أهل بيتي ، حتى روى أصحاب الحديث أن عمر سئل عن هذه الاية ، قال : سلوا عنها عائشة ، فقالت عائشة : إنها نزلت في بيت أختي أم سلمة فسلوها عنها فإنها أعلم بها مني ، فلم يختلف أصحاب الحديث من الناصبة وأصحاب الحديث من الشيعة في خصوصها فيمن عددناه ، وحمل القرآن في التأويل على ما جاء به الأثر أولى من حمله على الظن والترجيم ، مع أن اللّه سبحانه قد دل على صحة ذلك بمتضمن هذه الاية حيث يقول : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) وإذهاب الرجس لا يكون إلا بالعصمة من الذنوب ، لأن الذنوب من أرجس الرجس ، والخبر عن الإرادة ههنا إنما هو خبر عن وقوع الفعل خاصة ، دون الإرادة التي يكون
ص: 278
بها لفظ الأمر أمرا ، لاسيما على ما أذهب إليه في وصف القديم بالإرادة ، وأفرق بين الخبر عن الأرادة ههنا والخبر عن الأرادة في قوله سبحانه : ( يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ) (1) وقوله : ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (2) إذ لو جرت مجرى واحدا لم يكن لتخصيص أهل البيت بها معنى ، إذ الأرادة التي يقتضي الخبر والبيان يعم الخلق كلهم على وجهها في التفسير ومعناها ، فلما خص اللّه تبارك وتعالى أهل البيت - عليهم السلام - بإرادة إذهاب الرجس عنهم دل على ما وصفناه من وقوع إذهابه عنهم ، وذلك موجب للعصمة على ما ذكرناه ، وفي الاتفاق على ارتفاع العصمة عن الأزواج دليل على بطلان مقال من زعم أنها فيهن ، مع أن من عرف شيئا من اللسان وأصله لم يرتكب هذا القول ولا توهم صحته ، وذلك أنه لا خلاف بين أهل العربية أن جمع المذكر بالميم ، وجمع المؤنث بالنون ، وأن الفصل بينهما بهاتين العلامتين ، ولا يجوز في لغة القوم وضع علامة المؤنث على المذكر ، ولا وضع علامة المذكر على المؤنث ، ولا استعملوا ذلك في الحقيقة ولا المجاز ، ولما وجدنا اللّه سبحانه قد بدأ في هذه الاية بخطاب النساء وأورد علامة جمعهن من النون في خطابهن فقال : ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) الى قوله : ( وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) ثم عدل بالكلام عنهن بعد هذا الفصل إلى جمع المذكر فقال : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (3) فلما جاء بالميم وأسقط النون
ص: 279
علمنا أنه لم يتوجه هذا القول إلى المذكور الإول بما بيناه من أصل العربية وحقيقتها ، ثم رجع بعد ذلك إلى الأزواج فقال : ( وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ) (1) فدل بذلك على إفراد من ذكرناه من آل محمد - عليهم السلام - بما علقه عليهم من حكم الطهارة الموجبة للعصمة وجليل الفضيلة ، وليس يمكنكم معشر المخالفين أن تدعوا أنه كان في الأزواج مذكورا رجل غير النساء ، أو ذكر ليس برجل ، فيصح التعلق منكم بتغليب المذكر على المؤنث إذ كان في الجمع ذكر ، وإذا لم يمكن ادعاء ذلك وبطل أن يتوجه إلى الأزواج فلا غير لهن توجهت إليه إلا من ذكرناه ممن جاء فيه الأثر على ما بيناه (2).
ص: 280
سئل (الشيخ المفيد عليه الرحمة) في مجلس الشريف أبي الحسن أحمد بن القاسم العلوي المحمدي ، فقيل له : ما الدليل على أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - كان أفضل الصحابة؟
فقال : الدليل على ذلك قول النبي - صلى اللّه عليه وآله - : اللّهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر ، فجاء أمير المؤمنين - عليه السلام - (1) ، وقد ثبت أن أحب الخلق إلى اللّه عز وجل أعظمهم ثوابا عند اللّه تعالى ، وأن أعظم الناس ثوابا لا يكون إلا لأنه أشرفهم أعمالا وأكثرهم عبادة لله تعالى ، وفي ذلك برهان على فضل أمير المؤمنين - عليه السلام - على الخلق كلهم سوى الرسول - صلى اللّه عليه وآله -.
فقال له السائل : ما الدليل على صحة هذا الخبر ، وما أنكرت أن يكون غير معتمد ، لأنه إنما رواه أنس بن مالك وحده ، وأخبار الاحاد ليست بحجة فيما يقطع على اللّه عز وجل بصوابه؟
فقال الشيخ - آدام اللّه عزه - : هذا الخبر وإن كان من أخبار الاحاد على ما ذكرت ، من أن أنس بن مالك رواه وحده فإن الأمة بأجمعها قد تلقته بالقبول ، ولم يروا أن أحدا رده على أنس ولا أنكر صحته عند روايته ،
ص: 281
فصار الاجماع عليه وهو الحجة في صوابه ، ولم يخل ببرهانه كونه من أخبار الاحاد بما شرحناه ، مع أن التواتر قد ورد بأن أمير المؤمنين - عليه السلام - احتج به في مناقبه يوم الدار (1) ، فقال : أنشدكم اللّه هل فيكم أحد قال له رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - : اللّهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر فجاء أحد غيري؟
قالوا : اللّهم لا.
قال : اللّهم اشهد ، فاعترف الجميع بصحته ، ولم يك أمير المؤمنين - عليه السلام - ليحتج بباطل ، لاسيما وهو في مقام المنازعة والتوصل بفضائله إلى أعلى الرتب التي هي الأمامة والخلافة للرسول - صلى اللّه عليه وآله - ، وإحاطة علمه بأن الحاضرين معه في الشورى يريدون الامر دونه ، مع قول النبي - صلى اللّه عليه وآله - : (علي مع الحق والحق مع علي يدور حيثما دار) (2) وإذا كان الأمر على ما وصفناه دل على صحة الخبر حسبما بيناه.
فاعترض بعض المجبرة ، فقال : إن احتجاج الشيعة برواية إنس من
ص: 282
أطرف الأشياء وذلك إنهم يعتقدون تفسيق إنس بل تكفيره ، فيقولون : إنه كتم الشهادة في النص حتى دعا عليه أمير المؤمنين - عليه السلام - ببلاء لا يواريه الثياب ، فبرص (1) على كبر السن ومات وهو أبرص ، فكيف يستشهد برواية الكافرين؟ (2)
فقالت المعتزلة : قد أسقط هذا الكلام الرجل ولم يجعل الحجة في الرواية أنسا ، وإنما جعلها الأجماع ، فهذا الذي أوردته هذيان وقد تقدم ابطاله.
فقال السائل : هب أنا سلمنا صحة الخبر ما أنكرت أن لا يفيد مإ
ص: 283
ادعيت من فضل أمير المؤمنين - عليه السلام - على الجماعة؟ وذلك أن المعنى فيه : اللّهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي ، يريد أحب الخلق إلى اللّه عز وجل في الأكل معه ، دون أن يكون أراد أحب الخلق إليه في نفسه لكثرة أعماله ، إذ قد يجوز أن يكون اللّه سبحانه يحب أن يأكل مع نبيه من غيره أفضل منه ، ويكون ذلك أحب إليه للمصلحة.
فقال الشيخ - أدام اللّه عزه - : هذا الذي اعترضت به ساقط ، وذلك أن محبة اللّه تعالى ليست ميل الطباع ، وإنما هي الثواب ، كما أن بغضه وغضبه ليسا باهتياج الطباع ، وإنما هما العقاب ولفظ أفعل في أحب وابغض لا يتوجه إلا إلى معناهما من الثواب والعقاب ، ولا معنى على هذا الأصل لقول من زعم أن أحب الخلق إلى اللّه عز وجل يأكل مع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - توجه إلى محبة الأكل والمبالغة في ذلك بلفظ أفعل ، لأنه يخرج اللفظ عما ذكرناه من الثواب إلى ميل الطباع ، وذلك محال في صفة اللّه سبحانه.
وشئ آخر : وهو أن ظاهر الخطاب يدل على ما ذكرناه دون ما عارضت به أن لو كانت المحبة على غير معنى الثواب ، لأنه - صلى اللّه عليه وآله - قال : اللّهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر ، وقوله : بأحب خلقك إليك كلام تام ، وبعده : يأكل معي من هذا الطائر كلام مستأنف ولا يفتقر الأول إليه ، ولو كان أراد ما ذكرت لقال : اللّهم ائتني بأحب خلقك إليك في الأكل معي ، فلما كان اللفظ على خلاف هذا وكان على ما ذكرناه لم يجز العدول عن الظاهر إلى محتمل على المجاز.
وشئ آخر : وهو أنه لو تساوى المعنيان في ظاهر الكلام لكان الواجب عليك تحميلهما اللفظ معا دون الاقتصار على أحدهما إلا بدليل ،
ص: 284
لانه لا يتنافي الجمع بينهما فيكون إراد بقوله : (أحب خلقك إليك) في نفسه وللأكل معي ، وإذا كان الأمر على ما بيناه سقط اعتراضك.
فقال رجل من الزيدية - كان حاضرا - للسائل : هذا الاعتراض ساقط على أصلك وأصلنا ، لانا نقول جميعا إن اللّه تعالى لا يريد المباح ، والأكل مع النبي - صلى اللّه عليه وآله - مباح وليس بفرض ولا نفل ، فيكون اللّه يحبه فضلا عن أن يكون بعضه أحب إليه من بعض ، وهذا السائل من أصحاب أبي هاشم فلذلك أسقط الزيدي كلامه على اصله ، إذ كان يوافقه في الأصول على مذهب أبي هاشم.
فخلط السائل هنيئة ثم قال للشيخ - أدام اللّه عزه - : فأنا أعترض باعتراض آخر وهو : أن أقول ما أنكرت أن يكون هذا القول إنما أفاد أن عليا - عليه السلام - كان أفضل الخلق في يوم الطائر ، ولكن بم تدفع أن يكون قد فضله قوم من الصحابة عند اللّه تعالى بكثرة الأعمال والمعارف بعد ذلك؟ وهذا الأمر لا يعلم بالعقل ، وليس معك سمع في نفس الخبر يمنع من ذلك ، فدل على أنه - عليه السلام - أفضل من الصحابة كلهم إلى وقتنا هذا ، فإنا لم نسألك عن فضله عليهم وقتا بعينه.
فقال الشيخ - أدام اللّه عزه - : هذا السؤال أوهن مما تقدم ، والجواب عنه أيسر ، وذلك أن الأمة مجمعة على إبطال قول من زعم أن أحدا اكتسب أعمالا زادت على الفضل الذي حصل لأمير المؤمنين - عليه السلام - على الجماعة ، من قبل أنهم بين قائلين :
فقائل يقول : إن أمير المؤمنين - عليه السلام - كان أفضل من الكل في وقت الرسول - صلى اللّه عليه وآله - لم يساوه أحد بعد ذلك ، وهم : الشيعة الأمامية ، والزيدية ، وجماعة من شيوخ المعتزلة ، وجماعة من أصحاب
ص: 285
الحديث.
وقائل يقول : إنه لم يبن لأمير المؤمنين - عليه السلام - في وقت من الأوقات فضل على سائر الصحابة يقطع به على اللّه تعالى ويجزم الشهادة بصحته ، ولا بان لأحد منهم فضل عليه ، وهم : الواقفة في الأربعة من المعتزلة ، منهم : أبو علي وأبو هاشم وأتباعهما.
وقائل يقول : إن أبا بكر كان أفضل من أمير المؤمنين - عليه والسلام - في وقت الرسول - صلى اللّه عليه وآله - وبعده ، وهم : جماعة من المعتزلة ، وبعض المرجئة ، وطوائف من أصحاب الحديث.
وقائل يقول : إن أمير المؤمنين - عليه السلام - خرج عن فضله بحوادث كانت منه فساواه غيره ، وفضل عليه من أجل ذلك من لم يكن له فضل عليه ، وهم : الخوارج وجماعة من المعتزلة ، منهم : الأصم والجاحظ وجماعة من أصحاب الحديث أنكروا قتال أهل القبلة ، ولم يقل أحد من الأمة إن أمير المؤمنين - عليه السلام - كان أفضل عند اللّه سبحانه من الصحابة كلهم ولم يخرج عن ولاية اللّه عز وجل ولا أحدث معصية اللّه تعالى ثم فضل عليه غيره بعمل زاد به ثوابه على ثوابه ، ولا جوز ذلك فيكون معتبرا ، فإذا بطل الاعتبار به للاتفاق على خلافه سقط ، وكان الأجماع حجة يقوم مقام قول اللّه تعالى في صحة ما ذهبنا إليه ، فلم يأت بشئ.
وذاكرني الشيخ - أدام اللّه عزه - هذه المسألة بعد ذلك فزادني فيها زيادة ألحقتها ، وهي أن قال : إن الذي يسقط ما اعترض به السائل من تأويل قول النبي - صلى اللّه عليه وآله - (اللّهم ائتني بأحب خلقك اليك) على المحبة للأكل معه دون محبته في نفسه بإعظام ثوابه بعد الذي ذكرناه في
ص: 286
إسقاطه : أن الرواية جاءت عن أنس بن مالك أنه قال :
لما دعا رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - أن يأتيه اللّه تعالى بأحب الخلق إليه ، قلت : اللّهم اجعله رجلا من الأنصار ليكون لي الفضل بذلك ، فجاء علي - عليه السلام - فرددته ، وقلت له : رسول اللّه على شغل ، فمضى ثم عاد ثانية فقال لي : استأذن على رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - ، فقلت له : إنه على شغل ، فجاء ثالثة فاستأذنت له ودخل ، فقال له النبي - صلى اللّه عليه وآله - : قد كنت سألت اللّه تعالى أن يأتيني بك دفعتين ، ولو أبطأت علي الثالثة لأقسمت على اللّه عز وجل أن يأتيني بك.
فلو لا أن النبي - صلى اللّه عليه وآله - سأل اللّه عز وجل أن يأتيه بأحب خلقه إليه في نفسه وأعظمهم ثوابا عنده ، وكانت هذه من أجل الفضائل لما آثر أنس أن يختص بها قومه ، ولو لا أن أنسا فهم ذلك من معنى كلام الرسول - صلى اللّه عليه وآله - لما دافع أمير المؤمنين - عليه السلام - عن الدخول ، ليكون ذلك الفضل لرجل من الأنصار فيحصل له جزء منه.
وشي آخر : وهو أنه لو احتمل معنى لا يقتضي الفضيلة لأمير المؤمنين - عليه السلام - لما احتج به أمير المؤمنين - عليه السلام - يوم الدار ، ولا جعله شاهدا على أنه أفضل من الجماعة ، وذلك أنه لو لم يكن الأمر على ما وصفناه وكان محتملا لما ظنه المخالفون من أنه سأل ربه تعالى أن يأتيه بأحب الخلق إليه في الأكل معه لما أمن أمير المؤمنين - عليه السلام - من أن يتعلق بذلك بعض خصومه في الحال ، أو يشتبه ذلك على إنسان ، فلما احتج به - عليه السلام - على القوم واعتمده في البرهان دل على أنه لم يك مفهوما منه إلا فضله ، وكان إعراض الجماعة أيضا عن دفاعه عن ذلك بتسليم ما ادعى دليلا على صحة ما ذكرناه ، وهذا بعينه
ص: 287
يسقط قول من زعم أنه يجوز مع إطلاق النبي - صلى اللّه عليه وآله - في أمير المؤمنين - عليه السلام - ما يقتضي فضله عند اللّه تعالى على الكافة وجود من هو أفضل منه في المستقبل ، لأنه لو جاز ذلك لما عدل القوم عن الاعتماد عليه ، ولجعلوه شبهة في منعه مما ادعاه من القطع على نقصانهم عنه في الفضل ، وفي عدول القوم عن ذلك دليل على أن القول مفيد بإطلاقه فضله - عليه السلام - ، ومؤمن من بلوغ أحد منزلته في الثواب بشئ من الأعمال ، وهذا بين لمن تدبره (1).
ص: 288
حضر الشيخ المفيد مجلس أبي منصور بن المرزبان وكان بالحضرة جماعة من متكلمي المعتزلة ، فجرى كلام وخوض في شجاعة الأمام - عليه السلام -.
فقال أبو بكر بن صراما : عندي أن أبا بكر الصديق كان من شجعان العرب ومتقدميهم في الشجاعة!
فقال الشيخ - أدام اللّه عزه - : من أين حصل ذلك عندك؟ وبأي وجه عرفته؟
فقال : الدليل على ذلك أنه رأى قتال أهل الردة وحده في نفر معه ، وخالفه على رأيه في ذلك جمهور الصحابة وتقاعدوا عن نصرته. فقال : أما واللّه لو منعوني عقالا لقاتلتهم ، ولم يستوحش من اعتزال القوم له ، ولا ضعف ذلك نفسه ، ولا منعه من التصميم على حربهم ، فلولا أنه كان من الشجاعة على حد يقصر الشجعان عنه لما أظهر هذا القول عند خذلان القوم له!
فقال الشيخ - أدام اللّه عزه - : ما أنكرت على من قال لك : إنك لم تلجأ إلى معتمد عليه في هذا الباب ، وذلك أن الشجاعة لا تعرف بالحس لصاحبها فقط ولا بادعائها ، وإنما هي شئ في الطبع يمده الاكتساب ، والطريق إليها أحد الأمرين : إما الخبر عنها من جهة علام الغيوب المطلع
ص: 289
على الضمائر جلت عظمته ، فيعلم خلقه حال الشجاع وإن لم يبد منه فعل يستدل به عليها.
والوجه الاخر : أن يظهر منه أفعال يعلم بها حاله كمبارزة الأقران ، ومقاومة الشجعان ، ومنازلة الأبطال ، والصبر عند اللقاء ، وترك الفرار عند تحقق القتال ، ولا يعلم ذلك أيضا بأول وهلة (1) ، ولا بواحدة من الفعل حتى يتكرر ذلك على حد يتميز به صاحبه ممن حصل له ذلك اتفاقا ، أو على سبيل الهوج (2) والجهل بالتدبير ، وإذا كان الخبر عن اللّه سبحانه بشجاعة أبي بكر معدوما وكان هذا الفعل الدال على الشجاعة غير موجود للرجل فكيف يجوز لعاقل أن يدعي له الشجاعة بقول قاله ليس من دلالتها في شئ عند أحد من أهل النظر والتحصيل؟ لاسيما ودلائل جبنه وهلعه (3) وخوفه وضعفه أظهر من أن يحتاج فيها إلى التأمل ، وذلك أنه لم يبارز قط قرنا (4) ولا قاوم بطلا ولا سفك بيده دما ، وقد شهد مع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - مشاهده ، فكان لكل أحد من الصحابة أثر في الجهاد إلا له ، وفر في يوم أحد ، وانهزم في يوم خيبر ، وولى الدبر يوم التقى الجمعان ، وأسلم رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - في هذه المواطن مع ما كتب اللّه عز وجل عليه من الجهاد! فكيف تجتمع دلائل الجبن ودلائل الشجاعة لرجل واحد في وقت واحد لو لا أن العصبية تميل بالعبد إلى الهوى؟
ص: 290
وقال رجل من طياب الشيعة كان حاضرا : عافاك اللّه أي دليل هذا؟ وكيف يعتمد عليه وأنت تعلم أن الأنسان قد يغضب فيقول : لو سامني السلطان هذا الأمر ما قبلته ، وإن عندنا لشيخا ضعيف الجسم ، ظاهر الجبن ، يصلي بنا في مسجدنا فما يحدث أمر يضجره وينكره إلا قال : واللّه لأصبرن على هذا أو لأجاهدن فيه ولو اجتمعت فيه ربيعة ومضر!. فقال : ليس الدليل على الشجاعة ما ذكرت دون غيره ، والذي اعتمدنا عليه يدل كما يدل الفعل والخبر ، ووجه الدلالة فيه أن أبا بكر باتفاق لم يكن مؤوف العقل ، ولا غبيا ناقصا ، بل كان بالأجماع من العقلاء ، وكان بالاتفاق جيد الاراء ، فلو لا أنه كان واثقا من نفسه عالما بصبره وشجاعته لما قال هذا القول بحضرة المهاجرين والأنصار وهو لا يأمن أن يقيم القوم على خلافه فيخذلونه ، ويتأخرون عنه ويعجز هو لجبنه أن لو كان الأمر على ما ادعيتموه عليه فيظهر منه الخلف في قوله ، وليس يقع هذا من عاقل حكيم ، فلما ثبتت حكمة أبي بكر دل مقاله الذي حكيناه على شجاعته كما وصفناه.
فقال الشيخ - أدام اللّه عزه - : ليس تسليمنا لعقل أبي بكر وجودة رأيه تسليما لما ادعيت من شجاعته بما رويت عنه من القول ، ولا يوجب ذلك في عرف ولا عقل ولا سنة ولا كتاب ، وذلك أنه وإن كان ما ذكرت من الحكمة فليس يمنع أن يأتي بهذا القول من جبنه وخوفه وهلعه ليشجع أصحابه ، ويحض (1) المتأخرين عنه على نصرته ، ويحثهم على جهاد عدوه ، ويقوي عزمهم في معونته ، ويصرفهم عن رأيهم خذلانه ،
ص: 291
وهكذا تصنع الحكماء في تدبيراتهم ، فيظهرون من الصبر ما ليس عندهم ، ومن الشجاعة ما ليس في طبائعهم حتى يمتحنوا الأمر وينظروا عواقبه ، فإن استجاب المتأخرون عنهم ونصرهم الخاذلون لهم وكلوا الحرب إليهم وعقلوا الكلفة بهم ، وإن أقاموا على الخذلان واتفقوا على ترك النصرة لهم والعدول عن معونتهم أظهروا من الرأي خلاف ما سلف ، وقالوا : قد كانت الحال موجبة للقتال ، وكان عزمنا على ذلك تاما فلما رأينا أشياعنا وعامة أتباعنا يكرهون ذلك أوجبت الضرورة إعفاءهم مما يكرهون ، والتدبير لهم بما يؤثرون ، وهذا أمر قد جرت به عادة الرؤساء في كل زمان ، ولم يك تنقلهم من رأي إلى رأي مسقطا لأقدارهم عند الأنام ، فلا ينكر أن يكون أبو بكر إنما أظهر التصميم على الحرب لحث القوم على موافقته في ذلك ، ولم يبد لهم جزعه لئلا يزيد ذلك في فشلهم ، ويقوي به رأيهم ، واعتمد على أنهم إن صاروا إلى أمره ونجع هذا التدبير في تمام غرضه فقد بلغ المراد ، وإن لم ينجع ذلك عدل عن الرأي الأول! كما وصفناه من حال الرؤساء في تدبيراتهم ، على أن أبا بكر لم يقسم باللّه تعالى في قتال أهل الردة بنفسه ، وإنما أقسم بأنصاره الذين اتبعوه على رأيه ، وليس في يمينه باللّه سبحانه لينفذن خالدا وأصحابه ليصلوا بالحرب دليل على شجاعته في نفسه.
وشئ آخر : وهو أن أبا بكر قال هذا القول عند غضبه لمباينة القوم له ، ولا خلاف بين ذوي العقول أن الغضبان يعتريه عند غضبه من هيجان الطباع ما يفسد عليه رأيه حتى يقدم من القول على مالا يفي به عند سكون نفسه ، ويعمل من الأعمال ما يندم عليه عند زوال الغضب عنه ، ولا يكون وقوع ذلك منه دليلا على فساد عقله ، ووجوب إخراجه عن جملة أهل
ص: 292
التدبير ، وقد صرح بذلك الرجل في خطبة المشهورة عنه التي لا يختلف اثنان فيها ، وأصحابه خاصة يصولون بها ، ويجعلونها من مفاخره ، حيث يقول : إن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - خرج من الدنيا وليس أحد يطالبه بضربة سوط فما فوقها وكان - صلى اللّه عليه وآله - معصوما من الخطأ ، يأتيه الملائكة بالوحي ، فلا تكلفوني ما كنتم تكلفونه فإن لي شيطانا يعتريني عند غضبي ، فإذا رأيتموني مغضبا فاجتنبوني ، لا أوثر في أشعاركم وأبشاركم (1) فقد أعذر هذا الرجل إلى القوم فيما يأتيه عند غضبه من قول وفعل ، ودلهم على الحال فيه ، فلذلك أمن من نكير المهاجرين والأنصار عليه مقاله عند غضبه مع إحاطة العلم منهم بما لحقه في الحال من خلاف المخالفين عليه حتى بعثه على ذلك المقال ، فلم يأت بشئ (2).
ص: 293
سأله بعض أصحابه فقال له : إن المعتزلة والحشوية يدعون أن جلوس أبي بكر وعمر مع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في العريش كان أفضل من جهاد أمير المؤمنين - عليه السلام - (1) بالسيف
ص: 294
لأنهما كانا مع النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في مستقره يدبران الأمر معه ولو لا أنهما أفضل الخلق عنده لما اختصهما بالجلوس معه ، فبأي شئ يدفع هذا؟
فقال له الشيخ - ادام اللّه عزه - : سبيل هذا القول أن يعكس وهذه القصة أن تقلب وذلك أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لو علم أنهما لو كانا في جملة المجاهدين بأنفسهما يبارزان الأقران ويقتلان الأبطال ويحصل لهما جهاد يستحقان به الثواب ، لما حال بينهما وبين هذه المنزلة التي هي أجل وأشرف وأعلى وأسنى من القعود على كل حال بنص الكتاب حيث يقول اللّه سبحانه : ( لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ) (1).
فلما رأينا الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قد منعهما هذه
ص: 295
الفضيلة وإجلسهما معه ، علمنا أن ذلك لعلمه بأنهما لو تعرضا للقتال أو عرضا له لأفسدا ، إما بأن ينهزما أو يوليا الدبر ، كما صنعا في يوم أحد (1) ، وخيبر (2) ، وحنين (3) ، فكان يكون في ذلك عظيم الضرر على المسلمين ولا يؤمن وقوع الوهن فيهم بهزيمة شيخين من جملتهم ، أو كانا لفرط ما
ص: 296
يلحقهما من الخوف والجزع يصيران إلى أهل الشرك مستأمنين أو غير ذلك من الفساد الذي يعلمه اللّه تعالى ، ولعله لطف للأمة بأن أمر نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بحبسهما عن القتال.
فأما ما توهموه من أنه حبسهما للاستعانة برأيهما فقد ثبت أنه كان كاملا وأنهما كانا ناقصين عن كماله ، وكان معصوما وكانا غير معصومين ، وكان مؤيدا بالملائكة وكانا غير مؤيدين ، وكان يوحى إليه وينزل القرآن عليه ولم يكونا كذلك ، فأي فقر يحصل له مع ما وصفناه إليهما لو لا عمى القلوب وضعف الرأي وقلة الدين ، والذي يكشف لك عن صحة ما ذكرناه آنفا في وجه إجلاسهما معه في العريش قول اللّه سبحانه : ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ) (1).
فلا يخلو الرجلان من أن يكونا مؤمنين أو غير مؤمنين ، فإن كانا مؤمنين ، فقد اشترى اللّه أنفسهما منهما بالجنة ، على شرط القتال المؤدي إلى القتل منهما لغيرهما أو قتل غيرهما لهما ، ولو كانا كذلك لما حال النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بينهما وبين الوفاء بشرط اللّه عليهما من القتل ، وفي منعهما من ذلك دليل على أنهما بغير الصفة التي يعتقدها فيهما الجاهلون ، فقد وضح بما بيناه أن العريش وبال عليهما ودليل على نقصهما وأنه بالضد مما توهموه لهما والمنة لله (2).
ص: 297
وذكرت بحضرة الشيخ أبي عبد اللّه - أدام اللّه عزه - ما ذكره أبو جعفر محمد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي - رحمه اللّه - في كتاب (الأنصاف) حيث ذكر أن شيخا من المعتزلة أنكر أن تكون العرب تعرف المولى سيدا وإماما ، قال : فأنشدته قول الأخطل (1) :
فما وجدت فيها قريش لأمرها *** أعف وأولى من أبيك وأمجدا
وأورى بزنديه ولو كان غيره *** غداة اختلاف الناس أكدى وأصلدا
فأصبحت مولاها من الناس كلهم *** وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا
قال أبو جعفر : فأسكت الشيخ كأنما ألقم حجرا ، وجعلت أستحسن ذلك.
فقال لي الشيخ أبو عبد اللّه - أدام اللّه عزه - : قد قال لي أيضا شيخ من المعتزلة : إن الذي تدعونه من النص الجلي على أمير المؤمنين - عليه السلام - شئ حادث ، ولم يك معروفا عند متقدمي الشيعة ولا اعتمده أحد منهم وإنما بدأ به وادعاه ابن الراوندي في كتابه في الأمامة ، وناضل عليه ولم يسبقه إليه أحد ، ولو كان معروفا فيما سلف لما أخل السيد إسماعيل بن محمد (2) - رحمه اللّه - به في شعره ولا ترك ذكره في نظمه مع
ص: 298
إغراقه في ذكر فضائل أمير المؤمنين - عليه السلام - ومناقبه حتى تعلق بشاذ الحديث وأورد من الفضائل ما لا نسمع به إلا منه ، فما باله إن كنتم صادقين لم يذكر النص الجلي ولا اعتمده في شئ من مقاله وهو الأصل المعول عليه لو ثبت.
فقلت له : قد ذهب عنك أيها الشيخ مواضع مقاله في ذلك لعدولك عن العناية برواية شعر هذا الرجل ، ولو كنت ممن صرف همته إلى تصفح قصائده لعرفت ما ذهب عليك من ذلك ، وأسكنتك المعرفة به عن الاعتماد على ما اعتمدته من خلو شعره على ما وصفت في استدلالك بذلك ، وقد قال السيد إسماعيل بن محمد - رحمه اللّه - في قصيدته الرائية التي يقول في أولها :
ألا الحمد لله حمدا كثيرا *** ولي المحامد ربا غفورا
حتى انتهى إلى قوله :
وفيهم علي وصي النبي *** بمحضرهم قد دعاه أميرا
وكان الخصيص به في الحياة *** وصاهره واجتباه عشيرا (1).
ص: 299
أفلا ترى أنه قد أخبر في نظمه أن رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وآله وسلّم - دعا علياً - عليه السلام - في حياته بإمرة المؤمنين واحتج بذلك فيما ذكره من مناقبه - عليه السلام - فسكت الشيخ وكان منصفاً (1).
ص: 300
مناظرة الشيخ المفيد (رحمه اللّه) مع الرماني (1)
يروى : أنه حضر لأول مرة درس أستاذه علي بن عيسى الرماني ، فقام رجل من البصرة وسأل الرماني عن خبر الغدير والغار.
فقال له الرماني : إن حديث الغار دراية ، وخبر الغدير رواية ، والرواية لا توجب ما توجبه الدراية ، فسكت البصري ولم يكن عنده شئ.
فلما خف المجلس تقدم المفيد إلى الرماني ، ولم يكن يعرفه قبل هذا ، وسأله عمن قاتل الأمام العادل.
فقال الرماني : إنه كافر (2) ، ثم استدرك ، فقال : إنه فاسق.
ص: 301
فقال المفيد : ما تقول في علي بن ابي طالب - عليه السلام - ويوم الجمل وطلحة والزبير؟
فقال الرماني : إنهما تابا.
فقال : أما خبر الجمل فدراية ، وخبر التوبة فرواية ، فأفحم الرماني ، ولم يأت بشئ ، غير أنه قال له : كنت حاضرا عند سؤال البصري؟
قال : نعم.
ثم دخل الرماني المنزل ، وجاء برقعة مختومة ، وقال له : أوصلها إلى من اتصلت به ، وهو أبو عبد اللّه البصري المعروف (بجعل) فلما وقف عليها جعل يبتسم ، وسأل المفيد عما جرى بينهما فأعاد عليه القصة ، فقال : إنه كتب إلي بذلك وقد لقبك بالمفيد (1).
ص: 302
مناظرة الشيخ المفيد (رحمه اللّه) مع بعض مشايخ العباسيين في سامراء (1)
حضر الشيخ أبو عبد اللّه المفيد - أيده اللّه - بسر من رأى ، واحتج عليه من العباسيين وغيرهم جمع كثير.
فقال له بعض مشايخ العباسيين : أخبرني من كان الأمام بعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم -؟
فقال له : كان الأمام من دعاه العباس إلى أن يمد يده لبيعته على حرب من حارب وسلم من سالم.
فقال له العباسي : ومن هذا الذي دعاه العباس إلى ذلك؟
فقال له الشيخ : هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام -
ص: 303
حيث قال له العباس في اليوم الذي قبض فيه رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بما اتفق عليه أهل النقل : ابسط يدك يابن أخ أبايعك فيقول الناس : عم رسول اللّه بايع ابن أخيه فلا يختلف عليك اثنان (1).
فقال له شيخ من فقهاء أهل البلد : فما كان الجواب من علي؟ فقال : كان الجواب أن قال : إن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - عهد إلي أن لا أدعو أحدا حتى يأتوني ، ولا أجرد سيفا حتى يبايعوني ، ومع هذا فلي برسول اللّه شغل.
فقال العباسي : فقد كان العباس - رحمه اللّه - إذن على خطأ في دعائه له إلى البيعة.
فقال له الشيخ : لم يخطئ العباس فيما قصد لأنه عمل على الظاهر وكان عمل أمير المؤمنين - عليه السلام - على الباطن وكلاهما أصاب الحق ولم يخطئه والحمد لله رب العالمين.
فقال له العباسي : فإن كان علي بن أبي طالب هو الأمام بعد النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فقد أخطأ أبو بكر وعمر ومن اتبعهما وهذا أعظم في الدين.
فقال له الشيخ : لست أنشط الساعة للفتيا بتخطئة أحد ، وإنما أجبتك عن شئ سألت عنه ، فإن كان صوابا وضمن تخطئة إنسان فلا تستوحش من اتباع الصواب ، وإن كان باطلا فتكلم على إبطاله فهو أولى من التشنيع بما لا يجدي نفعا ، مع أنه إن استعظمت تخطئة من ذكرت فلا بد لك من تخطئة علي والعباس من قبل أنهما قد تأخرا عن بيعة أبي بكر ولم يرضيا
ص: 304
بتقدمه عليهما ، ولا عملا له ولصاحبه عملا ولا تقلدا لهما ولاية ولا راهما أبو بكر ولا عمر أهلا أن يشركاهما في شئ من أمورهما ، وخاصة ما صنعه عمر بن الخطاب فإنه ذكر من يصلح للأمامة في الشورى ومن يصلح للنظر في الاختيار فلم يذكر العباس من إحدى الطائفتين ، ولما ذكر عليا - عليه السلام - عابه ووصفه بالدعابة تارة وبالحرص على الدنيا أخرى وأمر بقتله إن خالف عبد الرحمن بن عوف وجعل الحق ، في حين عبد الرحمن دونه وفضله عليه.
هذا وقد أخذ منه ومن العباس ومن جميع بني هاشم الخمس الذي جعله اللّه تعالى لهم وأرغمهم فيه وحال بينهم وبينه ، وجعله في السلاح والكراع ، فإن كنت أيها الشريف تنشط للطعن على علي والعباس بخلافهما الشيخين بكراهتهما لأمامتهما وتأخرهما عن بيعتهما وترى من العقد فيهما ماسنه الشيخان من أمرهما في التأخير لهما عن شريف المنازل والغض منهما والحط من أقدارهما فصر إلى ذلك فإنه الضلال بغير شبهة ، وإن كنت ترى ولايتهما والتعظيم لهما والاقتداء بهما فاسلك سبيلهما ولا تستوحش من تخطئة من خالفهما ، وليس ها هنا منزلة ثالثة.
فقال العباسي عند سماع هذا الكلام : اللّهم أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون (1).
ص: 305
قال الشيخ الكراجكي (1) - اعلى اللّه مقامه - :
سألني رجل من أهل الخلاف فقال : إنا نراكم معشر الشيعة تكثرون القول بأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان ، وتناظرون على ذلك ، وترددون هذا الكلام ، وإطلاق هذا اللفظ منكم يضاد مذهبكم ، ويناقض معتقدكم ، ولستم تعلمون أن التفضيل بين الشيئين لا يكون إلا وقد شمل الفضل لهما ، ثم زاد في الفضل أحدهما على صاحبه ، وأن ذلك لا يجوز مع تعري أحدهما من خلال الفضل على كل حال ، لم جهلتم ذلك من معنى الكلام؟ فإن زعمتم أن لأبي
ص: 306
بكر وعمر وعثمان قسطا من الفضل يشملهم به ، يصح به القول أن أمير المؤمنين - عليه السلام - أفضلهم ، تركتم مذهبكم وخالفتم سلفكم ، وإن مضيتم على أصلكم ونفيتم عنهم جميع خلال الفضل على ما عهد من قولكم لم يصح القول بأن أمير المؤمنين - عليه السلام - أفضل منهم.
فقلت له : ليس في إطلاق أن القول بأن أمير المؤمنين - عليه السلام - أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان ما يوجب على قائله ما ذكرتم في السؤال.
والشيعة أعرف من خصومهم بمواقع الألفاظ ومعاني الكلام ، وذلك : أن التفضيل ، وإن كان كما وصفت يكون بين الشيئين إذا اشتركا في الفضل وزاد أحدهما على الاخر فيه ، فقد يصح أيضا فيهما إذا اختص بالفضل أحدهما ، وعرى الاخر منه ، ويكون معنى قول القائل : هذا أفضل من هذا ، أنه الفاضل دونه ، وأن الاخر لا فضل له ، وليس في هذا خروج عن لسان العرب ، ولا مخالفة لكلامها ، وكتاب اللّه تعالى يشهد به ، وأن أشعار المتقدمين يتضمنه ، قال اللّه جل اسمه : ( أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ) (1).
يعني أنهم خير من أصحاب النار ، وقد علم أن أصحاب النار أصحاب شر ، ولا خير فيهم. ووصف النار في آية أخرى فقال : ( بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا ، إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ) إلى قوله ( وَادْعُوا ثُبُورًا ) (2) ثم قال : ( قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً
ص: 307
وَمَصِيرًا ) (1) فذكر سبحانه أن الجنة وما أعد فيها خير من النار ، ونحن نعلم أنه لا خير في النار.
وقال تعالى في آية أخرى : ( قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) (2). وقال : ( وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) (3).
والمعنى في ذلك هين ، لأن شيئا لا يكون أهون على اللّه من شئ ، فكذلك قولنا : هذا أفضل ، يكون المراد به هذا الفاضل.
وليس بعد إيراد هذه الايات لبس في السؤال يعترض العاقل ، وقد قال حسان بن ثابت في رجل هجا سيدنا رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - من المشركين :
هجوت محمدا برا تقيا *** وعند اللّه في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفؤ *** فشركما لخيركما فداء (4).
وقد علمنا أنه لا شر في النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، ولا خير فيمن هجاه.
وقال غيره من الجاهلية :
خالي بنو أنس وخال سراتهم *** أوس ، فأيهما أدق وألأم
يريد فأيهما الدقيق واللئيم ، وليس المعنى فيه أن الدقة واللؤم قد اشتملا عليهما ثم زاد أحدهما على صاحبه فيهما.
ص: 308
وعلى هذا المعنى فسر عثمان بن الجني (1) قول المتنبي :
أعق خليليه الصفيين لائمه.
وأنهما لم يشتركا في العقوق ثم زاد أحدهما على الاخر صاحبه فيه ، مع كونهما خليلين صفيين ، وإنما المراد إن الذي يستحيل منهما عن الصفا ، فيصير عاقا لائمه.
والشواهد في ذلك كثيرة ، وفيما أوردته منها كفاية في إبطال ما ألزمت ، ودلالة على أن الشيعة في قولها إن أمير المؤمنين - عليه السلام - أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان ، لم تناقض لها مذهبا ، ولا خالفت معتقدا ، وإن المراد بذلك أنه الفاضل دونهم ، والمختص بهذا الوصف عنهم ، فتأمل ذلك تجده صحيحا ، والحمد لله.
على أن من الشيعة من امتنع من إطلاق هذا المقال عند تحقيق الكلام ، ويقول في الجملة : إنه - عليه السلام - بعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أفضل الناس ، فسؤالك ساقط عنه ، إذ كان لا يلفظ بما ذكرته إلا على المجاز.
فلما سمع السائل الجواب اعترف بأنه الصواب ، ولم يزد حرفا في هذا الباب ، والحمد لله على خيرته من خلقه سيدنا محمد رسوله وآله الطيبين الطاهرين وسلامه وبركاته (2).
ص: 309
مناظرة ابن أبي الحديد المعتزلي (1) مع أبي جعفر يحيى بن محمد العلوي
قال بن أبي الحديد :
سألت أبا جعفر يحيى بن محمد العلوي نقيب البصرة ، وقت قراءتي عليه ، عن هذا الكلام ، وكان - رحمه اللّه - على ما يذهب إليه من مذهب العلوية منصفا وافر العقل ، فقلت له : من يعني - عليه السذم - بقوله :
ص: 310
كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس آخرين)؟ (1) ومن القوم الذين عناهم الأسدي بقوله : (كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به)؟ هل المراد يوم السقيفة أو يوم الشورى؟
فقال : يوم السقيفة.
فقلت : إن نفسي لا تسامحني أن أنسب إلى الصحابة عصيان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ودفع النص.
فقال : وأنا فلا تسامحني أيضا نفسي أن أنسب الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - إلى إهمال أمر الأمامة ، وأن يترك الناس فوضى سدى مهملين ، وقد كان لا يغيب عن المدينة إلا ويؤمر عليها أميرا وهو حي ليس بالبعيدعنها ، فكيف لا يؤمر وهو ميت لا يقدر على استدراك ما يحدث!
ثم قال : ليس يشك أحد من الناس أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - كان عاقلا كامل العقل ، أما المسلمون فاعتقادهم فيه معلوم ، وأما اليهود والنصارى والفلاسفة فيزعمون أنه حكيم تام الحكمة (2) ، سديد الرأي ، أقام ملة ، وشرع شريعة ، فاستجد ملكا عظيما بعقله وتدبيره ، وهذا
ص: 311
الرجل العاقل الكامل يعرف طباع العرب وغرائزهم وطلبهم بالثارات والذحول ولو بعد الأزمان المتطاولة ، ويقتل الرجل من القبيلة رجلا من بيت آخر ، فلا يزال أهل ذلك المقتول وأقاربه يتطلبون القاتل ليقتلوه ، حتى يدركوا ثأرهم منه ، فإن لم يظفروا به قتلوا بعض أقاربه وأهله ، فإن لم يظفروا بأحدهم قتلوا واحدا أو جماعة من تلك القبيلة به وإن لم يكونوا رهطه الأدنين ، والأسلام لم يحل طبائعهم ، ولا غير هذه السجية المركوزة في أخلاقهم ، والغرائز بحالها ، فكيف يتوهم لبيب أن هذا العاقل الكامل وتر العرب ، وعلى الخصوص قريشا ، وساعده على سفك الدماء وإزهاق الأنفس وتقلد الضغائن ابن عمه الأدنى وصهره ، وهو يعلم أنه سيموت كما يموت الناس ، ويتركه بعده وعنده ابنته ، وله منها ابنان يجريان عنده مجرى ابنين من ظهره حنوا عليهما ، ومحبة لهما ، ويعدل عنه في الأمر بعده ، ولا ينص عليه ولا يستخلفه ، فيحقن دمه ودم بنيه وأهله باستخلافه! ألا يعلم هذا العاقل الكامل ، أنه إذا تركه وترك بنيه وأهله سوقة ورعية ، فقد عرض دماءهم للأراقة بعده ، بل يكون هو - صلى اللّه عليه وآله وسلم - هو الذي قتله ، وأشاط (1) بدمائهم ، لأنهم لا يعتصمون بعده بأمر يحميهم ، وإنما يكونون مضغة للاكل ، وفريسة للمفترس ، يتخطفهم الناس ، وتبلغ فيهم الأغراض!
فأمّا إذا جعل السلطان فيهم ، والأمر إليهم ، فإنّه يكون قد عصمهم وحقن دماءهم بالرّياسة التي يصولون بها ، ويرتدع الناس عنهم لأجلها ومثل هذا معلوم بالتجربة ، ألا ترى أن ملك بغداد أو غيرها من البلاد لو قتل الناس ووترهم ، وأبقي في نفوسهم الأحقاد العظيمة عليه ، ثم أهمل
ص: 312
أمر ولده وذريته من بعده ، وفسح للناس أن يقيموا ملكا من عرضهم ، وواحدا منهم ، وجعل بنيه سوقة كبعض العامة ، لكان بنوه بعده قليلا بقاؤهم ، سريعا هلاكهم ، ولوثب عليهم الناس ذوو الأحقاد والترات من كل جهة ، يقتلونهم ويشردونهم كل مشرد ، ولو أنه عين ولدا من أولاده للملك ، وقام خواصه وخدمه وخوله بأمره بعده ، لحقنت دماء أهل بيته ، ولم تطل يد أحد من الناس إليهم لناموس الملك ، وأبهة السلطنة ، وقوة الرئاسة ، وحرمة الأمارة!
أفترى ذهب عن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - هذا المعنى ، أم أحب أن يستأصل أهله وذريته من بعده! وأين موضع الشفقة على فاطمة العزيزة عنده ، الحبيبة إلى قلبه!
أتقول : إنه أحب أن يجعلها كواحدة من فقراء المدينة ، تتكفف الناس ، وأن يجعل عليا ، المكرم المعظم عنده ، الذي كانت حاله معه معلومة ، كأبى هريرة الدوسي ، وأنس ابن مالك الأنصاري ، يحكم الأمراء في دمه وعرضه ونفسه وولده ، فلا يستطيع الامتناع ، وعلى رأسه مائة ألف سيف مسلول ، تتلظى أكباد أصحابها عليه ، ويودون أن يشربوا دمه بأفواههم ، ويأكلوا لحمه بأسنانهم ، قد قتل أبناءهم وإخوانهم وآباءهم وأعمامهم ، والعهد لم يطل ، والقروح لم تتقرف (1) ، والجروح لم تندمل (2)!
ص: 313
فقلت له : لقد أحسنت فيما قلت ، إلا أن لفظه - عليه السلام - يدل على أنه لم يكن نص عليه ، ألا تراه يقول : (ونحن الأعلون نسبا ، والأشدون بالرسول نوطا) ، فجعل الاحتجاج بالنسب وشدة القرب ، فلو
ص: 314
كان عليه نص ، لقال عوض ذلك : (وأنا المنصوص علي ، المخطوب باسمي).
فقال - رحمه اللّه - : إنما أتاه من حيث يعلم ، لا من حيث يجهل ، ألا ترى أنه سأله ، فقال : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام ، وأنتم أحق به؟ فهو إنما سأل عن دفعهم عنه ، وهم أحق به من جهة اللحمة والعترة ، ولم يكن الأسدي يتصور النص ولا يعتقده ، ولا يخطر بباله ، لأنه لو كان هذا في نفسه ، لقال له : لم دفعك الناس عن هذا المقام ، وقد نص عليك رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم -؟ ولم يقل له هذا ، وإنما قال كلاما عاما لبني هاشم كافة : كيف دفعكم قومكم عن هذا وأنتم أحق به! أي باعتبار الهاشمية والقربى.
فأجابه بجواب أعاد قبله المعنى الذي تعلق به الأسدي بعينه ، تمهيدا للجواب ، فقال : إنما فعلوا ذلك مع أنا أقرب إلى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - من غيرنا لأنهم استأثروا علينا ، ولو قال له : أنا المنصوص علي ، والمخطوب باسمي في حياة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - لما كان قد أجابه ، لأنه ما سأله هل أنت منصوص عليك أم لا؟ ولا : هل نص رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - بالخلافة على أحد أم لا؟ وإنما قال : لم دفعكم قومكم عن الأمر وأنتم أقرب إلى ينبوعه ومعدنه منهم؟ فأجابه جوابا ينطبق على السؤال ويلائمه أيضا ، فلو أخذ يصرح له بالنص ، ويعرفه تفاصيل باطن الأمر لنفر عنه ، واتهمه ولم يقبل قوله ، ولم ينجذب إلى تصديقه ، فكان أولى الأمور في حكم السياسة وتدبير الناس ، أن يجيب بما لا نفرة منه ، ولا مطعن عليه فيه (1).
ص: 315
مناظرة ابن طاووس (1) مع رجل حنبلي
قال ابن طاووس في وصاياه لولده : حضرني يا ولدي محمد حفظك اللّه جل جلاله لصلاح آبائك وأطال في بقائك نقيبا ، وأتى رجلا حنبليا ، وقال : هذا صديقنا ويحب أن يكون على مذهبنا فحدثه.
فقلت له : ما تقول إذا حضرت القيامة ، وقال لك محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : لأي حال تركت كافة علماء الأسلام ، واخترت أحمد ابن حنبل أماما من دونهم ، هل معك آية من كتاب بذلك أو خبر عني
ص: 316
بذالك ، فإن كان المسلمون ما كانوا يعرفون الصحيح حتى جاء أحمد ابن حنبل وصار إماما فعمن روى أحمد بن حنبل عقيدته وعلمه وإن كانوا يعرفون الصحيح وهم أصل عقيدة أحمد بن حنبل فهلا كان السلف قبله أئمة لك وله.
فقال : هذا لا جواب لي عنه لمحمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم -.
فقلت له : إذا كان لا بد لك من عالم من الأمة تقلده فالزم أهل بيت نبيك - عليهم السلام - فإن أهل كل أحد أعرف بعقيدته وأسراره من الأجانب فتاب ورجع.
وقلت لبعض الحنابلة : أيما أفضل آباؤك وسلفك الذين كانوا قبل أحمد بن حنبل إلى عهد النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، أو آباؤك وسلفك الذين كانوا بعد أحمد بن حنبل فإنه لا بد أن يقول إن سلفه المتقدمين على أحمد بن حنبل أفضل لأجل قربهم إلى الصدر الأول ومن عهد النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم -.
فقلت : إذا كان سلفك الذين كانوا قبل أحمد بن حنبل أفضل فلأي حال عدلت عن عقائدهم وعوائدهم إلى سلفك المتأخرين عن أحمد بن حنبل وما كان الأوائل حنابلة لأن أحمد بن حنبل ما كان قد ولد ولا كان مذكورا عندهم فلزمته الحجة وانكشفت له المحجة والحمد لله رب العالمين (1).
ص: 317
قال ابن طاووس في وصاياه لولده :
وحضر عندي - يا ولدي محمد رعاك اللّه جل جلاله بعنايته الألهية - بعض الزيدية وقد قال : لي إن جماعة من الأمامية يريدون مني الرجوع عن مذهبي بغير حجة وأريد أن تكشف لي عن حقيقة الأمر بما يثبت في عقلي.
قلت له : أول ما أقول أنني علوي حسني وحالي معلوم ولو وجدت طريقا إلى ثبوت عقيدة الزيدية كان ذلك نفعا ورئاسة لي دينية ودنيوية ، وأنا أكشف لك بوجه لطيف عن ضعف مذهبك بعض التكشف.
هل يقبل عقل عاقل فاضل أن سلطان العالمين ينفذ رسولا أفضل من الأولين والاخرين إلى الخلائق في المشارق والمغارب ويصدقه بالمعجزات القاهرة والايات الباهرة ثم يعكس هذا الاهتمام الهائل والتدبير الكامل ويجعل عيار اعتماد الأسلام والمسلمين على ظن ضعيف يمكن ظهور فساده وبطلانه للعارفين.
فقال : كيف هذا؟
فقلت : لأنكم إذا بنيتم أمر الامامة أنتم ومن وافقكم أو وافقتموه على الاختيار من الأمة للأمام على ظاهر عدالته وشجاعته وأمانته وسيرته وليس معكم في الاختيار له إلا غلبة الظن الذي يمكن أن يظهر خلافه لكل
ص: 318
من عمل عليه كما جرى للملائكة وهم أفضل اختيارا من بني آدم لما عارضوا اللّه جل جلاله في أنه جعل آدم خليفة وقالوا : ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) (1) ، فلما كشف لهم حال آدم - عليه السلام - رجعوا عن اختيارهم لعزل آدم ، وقالوا : ( سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ) (2) ، وكما جرى لادم الأكل من الشجرة ، وكما جرى لموسى في اختياره سبعين رجلا من خيار قومه للميقات ، ثم قال عنهم بعد ذلك : ( أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا ) (3) ، حيث قالوا : ( أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ) (4).
وكما جرى ليعقوب - عليه السلام - في اختياره أولاده لحفظ ولده يوسف ، وغيره من اختيار الأنبياء والأوصياء والأولياء وظهر لهم بعد ذلك الاختيار ضعف تلك الاراء ، فإذا كان هؤلاء المعصومون قد دخل عليهم في اختيارهم ما قد شهد به القرآن والأجماع من المسلمين فكيف يكون اختيار غيرهم ممن يعرف من نفسه أنه ما مارس أبدا خلافة ولا أمارة ولا رياسة حتى يعرف شروطها وتفصيل مباشرتها فيستصلح لها من يقوم لها وما معه إلا ظن ضعيف بصلاح ظاهر من يختاره.
وهل يقبل عقل عاقل وفضل فاضل أن قوما ما يعرفون مباشرة ولا مكاشفة تفصيل ما يحتاج إليه من يختارونه فيكون اختيارهم لأمر لا يعرفونه حجة على من حضر وعلى من لم يحضر ، أما هذا من الغلط
ص: 319
المستنكر؟
ومن أين للذين يختارون إمامهم معرفة بتدبير الجيوش والعساكر وتدبير البلاد وعمارة الأرضين والأصلاح لاختلاف إرادات العالمين حتى يختاروا واحدا يقوم بما يجهلونه ، إنا لله وإنا إليه راجعون ممن قلدهم في ذلك أو يقلدونه.
ومما يقال لهم : إن هؤلاء الذين يختارون الأمام للمسلمين من الذي يختارهم لهم لتعيين الأمام ومن أي المذاهب يكونون فإن مذاهب الذين يذهبون إلى اختيار الأمام مختلفة ، وكم يكون مقدار ما بلغوا إليه من العلوم حتى يختاروا عندها الأمام وكم يكون عددهم وهل يكونون من بلد واحد أو من بلاد متفرقة ، وهل يحتاجون قبل اختيارهم للأمام أن يسافروا إلى البلاد يستعلمون من فيها ممن يصلح للأمامة أو لا يصلح أو هل يحتاجون أن يراسلوا من بعد عنهم من البلاد ويعرفونهم أنهم يريدون اختيار الأمام للمسلمين فإن كان في بلد غير بلدهم من يصلح أو يرجح ممن هو في بلادهم يعرفونهم أم يختارون من غير كشف لما في البلاد ومن غير مراسلة لعلماء بلاد الأسلام فإن كان سؤال من هذه السؤالات يتعذر قيام الحجة على صحته وعلى لزومه لله جل جلاله ولزومه لرسوله - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ولزومه لمن لا يكون مختارا لمن يختارونه من علماء الأسلام أفلا ترى تعذر ما ادعوه من اختيار الامام؟!
ولقد سمع مني بعض هذا الكلام شخص من أهل العلم من علم الكلام.
فقال : إن الناس ما زالوا يعملون في مصالحهم على الظنون.
فقلت له : هب أنهم يعملون في مصالحهم في نفوسهم بظنونهم
ص: 320
فكيف تجاوزوا ذلك إلى التحكم على تدبير اللّه جل جلاله في عباده وبلاده والأقدام بظنونهم الضعيفة على هدم الاهتمام بثبوت أقدام النبوة الشريفة ونقل تدبيرها عن اليقين الشريف إلى الظن الضعيف ومن جعل لهم ولاية على كل من في الدنيا والدين وما حضروا معهم في اختيار الأمام ولا شاركوهم ولا أذنوا لهم من سائر بلاد الأسلام ومن وليهم علي وأنا غافل بعيد عنهم حتى يختاروا لي بظنهم الضعيف إماما ما وكلتهم فيه ولا أرضى أبدا بالاختيار منهم فهل هذا إلا ظلم هائل وجور شامل من غير رضى من يدعي وكالته ونيابة ما استنابه فيها من غير رضى من يدعي نيابته؟!
ثم قلت لهم : أنتم ما كنتم تتفكرون فساده في أول مرة لما أظهر العدل واجتمعتم عليه فلما تمكن منكم قتلكم وأخذ أموالكم وقد رأيتم ورأينا وسمعتم وسمعنا من اختيار الملوك والخلفاء والاطلاع على الغلط في الاختيار لهم وقتلهم وعزلهم وفساد تلك الاراء.
وقلت لهم : أنتم تعلمون أنه يمكن أن يكون عند وقت اختياركم لواحد من ولد فاطمة - عليها السلام - غير معصوم ولا منصوص عليه أن يكون في ذلك البلد وغيره من هو مثله أو أرجح منه ولا تعرفونه فكيف تبايعون رجلا وتقتلون أنفسكم بين يديه ولعل غيره أرجح منه وأقوم بما تريدون.
وقلت له : أنتم يا بني الحسن لعل ما منعكم من القول بإمامة أئمة بني الحسين إلا أنكم ولد الأمام الأكبر ولعلكم أبيتم أن تكونوا تبعا لولد الأمام الأصغر وما أراكم خلصتم من هذا العار لأنكم قلدتم زيدا وهو حسني فنسبتم مذهبكم إليه وفي بني الحسن والحسين - عليهما السلام - من هو
ص: 321
أفضل منه ، قبله كان عبد اللّه بن الحسن وولداه والباقر والصادق - عليهما السلام - ما يقصرون عنه ، ثم إنكم ما وجدتم له فقها أو مذهبا يقوم بالشريعة فتممتم مذهبكم بمذهب أبي حنيفة وأبو حنيفة من العوام والغلمان لجدكم ولكم ، فإذا رضيتم إماما زيديا وهو حسني مرقع مذهبه بمذهب أبي حنيفة فأنا أدلكم على الباقر والصادق وغيرهما - عليهم السلام - من بني الحسين - عليه السلام - من غير مرقعين وعلومهم كافية في أمور الدنيا والدين.
ثم قلت له : الناس يعرفون أنا كنا معشر بني هاشم رؤساء في الجاهلية والأسلام وما كنا أبدا تبعا ولا أذنابا للعوام ، فلما بعث محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وشرفنا بنبوته وشريعته نصير تبعا لغلمانه وللعوام من أمته وتعجز عناية اللّه جل جلاله به أن يكون لنا رئيس منا أي مصيبة حملتكم على ذلك وفينا من لا يحسن أبو حنيفة يجلس بين يديه ويحتاج أبو حنيفة وغيره من العلماء أن يقرؤا عليه فعرف الزيدي الحق ورجع عن مذهبه في الحال ، وقد اختصرت في المقال (1).
ص: 322
مناظرة ابن طاووس مع فقيه من المستنصرية (1)
قال ابن طاووس - عليه الرحمة - :
إني كنت في حضرة مولانا الكاظم والجواد - عليهما السلام - فحضر فقيه من المستنصرية ، كان يتردد علي قبل ذلك اليوم ، فلما رأيت وقت حضوره يحتمل المعارضة له في مذهبه ، قلت له : يا فلان ما تقول لو أن فرسا لك ضاعت منك وتوصلت في ردها إلي أو فرسا لي ضاعت مني وتوصلت في ردها إليك أما كان ذلك حسنا أو واجبا؟
فقال : بلى.
فقلت له : قد ضاع الهدى ، إما مني واما منك والمصلحة أن ننصف من أنفسنا وننظر ممن ضاع الهدى فنرده عليه.
فقال : نعم.
فقلت له : لا أحتج بما ينقله أصحابي لأنهم متهمون عندك ، ولا تحتج بما ينقله أصحابك لأنهم متهمون عندي أو على عقيدتي ، ولكن نحتج بالقرآن ، أو بالمجمع عليه من أصحابي وأصحابك ، أو بما رواه أصحابي لك وبما رواه أصحابك لي.
فقال : هذا إنصاف.
ص: 323
فقلت له : ما تقول فيما رواه البخاري ومسلم في صحيحها؟
فقال : حق بغير شك.
فقلت : فهل تعرف أن مسلما روى في صحيحه عن زيد بن أرقم أنه قال ما معناه : إن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - خطبنا في (خم) فقال : أيها الناس إني بشر يوشك أن أدعى فأجيب ، وإني مخلف فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي أذكركم اللّه في أهل بيتي أذكركم اللّه في أهل بيتي (1).
فقال : هذا صحيح.
فقلت : وتعرف أن مسلما روى في صحيحه (2) في مسند عائشة أنها روت عن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أنه لما نزلت آية ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (3) جمع عليا وفاطمة والحسن والحسين - عليهم السلام - فقال : هؤلاء أهل بيتي.
فقال : نعم هذا صحيح.
فقلت له : تعرف أن البخاري ومسلما رويا في صحيحيهما ، أن الأنصار اجتمعت في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة وأنهم ما نفذوا إلى أبي بكر ولا عمر ولا إلى أحد من المهاجرين حتى جاء أبو بكر وعمر وأبو عبيدة لما بلغهم في اجتماعهم ، فقال لهم أبو بكر : قد رضيت لكم إحد هذين الرجلين ، يعني عمر وأبا عبيدة ، فقال عمر : ما أتقدم عليك
ص: 324
فبايعه عمر وبايعه من الأنصار (1) وأن عليا - عليه السلام - وبني هاشم امتنعوا من المبايعة ستة أشهر (2) ، وأن البخاري ومسلما قالا فيما جمعه الحميدي من صحيحيهما : وكان لعلي - عليه السلام - وجه بين الناس في حياة فاطمة - عليها السلام - فلما ماتت فاطمة - عليها السلام - بعد ستة أشهر من وفاة النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - انصرفت وجوه الناس عن علي - عليه السلام - فلما رأى علي انصراف وجوه الناس عنه خرج إلى مصالحة أبي بكر (3).
فقال : هذا صحيح.
فقلت له : ما تقول في بيعة تخلف عنها أهل بيت رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - الذين قال عنهم : أنهم الخلف من بعده وكتاب اللّه جل جلاله ، وقال - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فيهم : أذكركم اللّه في أهل بيتي (4).
وقال عنهم : انهم الذين نزلت فيهم آية الطهارة (5) ، وإنهم ما تأخروا مدة يسيرة حتى يقال : إنهم تأخروا لبعض الاشتغال ، وإنما كان التأخر للطعن في خلافة أبي بكر بغير إشكال في مدة ستة أشهر ، ولو كان الأنسان تأخر عن غضب يرد غضبه أو عن شبهة زالت شبهته بدون هذه المدة ، وإنه ما صالح أبا بكر على مقتضى حديث البخاري ومسلم إلا لما ماتت
ص: 325
فاطمة - عليها السلام - ورأى انصراف وجوه الناس عنه خرج عند ذلك الى المصالحة.
وهذه صورة حال تدل على أنه ما بايع مختارا ، وأن البخاري ومسلما رويا في هذا الحديث أنه ما بايع أحد من بني هاشم حتى بايع علي - عليه السلام -.
فقال : ما أقدم على الطعن في شئ قد عمله السلف والصحابة.
فقلت له : فهذا القرآن يشهد بأنهم عملوا في حياة النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وهو يرجى ويخاف والوحي ينزل عليه بأسرارهم في حال الخوف وفي حال الأمن وحال الصحة وإلايثار عليه ما لا يقدروا ان يجحدوا الطعن عليهم به ، وإذا جاز منهم مخالفته في حياته وهو يرجى ويخاف فقد صاروا أقرب إلى مخالفته بعد وفاته وقد انقطع الرجاء والخوف منه وزال الوحي عنه.
فقال : في أي موضع من القرآن؟
فقلت : قال اللّه جل جلاله في مخالفتهم في الخوف : ( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ) (1) ، فروى أصحاب التواريخ أنه لم يبق معه إلا ثمانية أنفس ، علي - عليه السلام - والعباس ، والفضل بن العباس ، وربيعة ، وأبو سفيان ، ابنا الحارث بن عبد المطلب ، وأسامة بن زيد ، وعبيدة بن أم أيمن وروي أيمن بن أم أيمن (2).
ص: 326
وقال اللّه جل جلاله في مخالفتهم له في الأمن : ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) (1) ، فذكر جماعة من المؤرخين أنه كان يخطب يوم الجمعة فبلغهم أن جمالا جاءت لبعض الصحابة مزينة فسارعوا إلى مشاهدتها وتركوه قائما ، وما كان عند الجمال شئ يرجون الانتفاع به (2).
فما ظنك بهم إذا حصلت خلافة يرجون نفعها ورئاستها ، وقال اللّه تعالى في سوء صحبتهم ما قال اللّه جل جلاله : ( وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) (3) ، ولو كانوا معذورين في سوء صحبتهم ما قال اللّه جل جلاله ( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ) ، وقد عرفت في صحيحي مسلم والبخاري معارضتهم للنبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في غنيمة هو أذن لما أعطى المؤلفة قلوبهم أكثر منهم ، ومعارضتهم له لما عفى عن أهل مكة ، وتركه تغيير الكعبة وإعادتها إلى ما كانت في زمن ابراهيم - عليه السلام - خوفا من معارضتهم له (4) ومعارضتهم له لما خطب في تنزيه صفوان بن المعطل لما
ص: 327
قذف عائشة ، وأنه ما قدر أن يتم الخطبة ، أتعرف هذا جميعه في صحيحي مسلم والبخاري؟
فقال : هذا صحيح.
فقلت : وقال اللّه جل جلاله في إيثارهم عليه القليل من الدنيا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ) (1) ، وقد عرفت أنهم امتنعوا من مناجاته ومحادثته لأجل التصدق برغيف وما دونه حتى تصدق علي بن أبي طالب - عليه السلام - بعشرة دراهم عن عشر دفعات ناجاه فيها ثم نسخت الاية بعد أن صارت عارا عليهم وفضيحة إلى يوم القيامة بقوله جل جلاله : ( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ) (2)
ص: 328
فإذا حضرت يوم القيامة بين يدي اللّه جل جلاله وبين يدي رسوله - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وقالا لك : كيف جاز لك أن تقلد قوما في عملهم وفعلهم وقد عرفت منهم مثل هذه الأمور الهائلة ، فأي عذر وأي حجة تبقى لك عند اللّه وعند رسوله في تقليدهم فبهت وحارحيرة عظيمة.
فقلت له : أما تعرف في صحيحي البخاري ومسلم في مسند جابر ابن سمرة وغيره أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال في عدة أحاديث : لا يزال هذا الدين عزيزا ماوليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش ، وفي بعض أحاديثه - عليه وآله والسلام - من الصحيحين : لايزال امر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش (1).
وأمثال هذه الألفاظ كلها تتضمن هذا العدد الاثنا عشر فهل تعرف في الأسلام فرقة تعتقد هذا العدد غير الأمامية الاثني عشرية فإن كانت هذه أحاديث صحيحة كما شرطت على نفسك في تصحيح ما نقله البخاري ومسلم ، فهذه مصححة لعقيدة الأمامية وشاهدة بصدق ما رواه سلفهم وإن كانت كذبا فلأي حال رويتموها في صحاحكم.
فقال : ما أصنع بمارواه البخاري ومسلم من تزكية أبي بكر وعمر
ص: 329
وعثمان وتزكيه من تابعهم؟
فقلت له : أنت تعرف أنني شرطت عليك أن لا تحتج علي بما ينفرد به أصحابك ، وأنت أعرف أن الأنسان ولو كان من أعظم أهل العدالة وشهد لنفسه بدرهم وما دونه ما قبلت شهادته ، ولو شهد في الحال على أعظم أهل العدالة بمهما شهد من الأمور مما يقبل فيه شهادة أمثاله قبلت شهادته والبخاري ومسلم يعتقدان إمامة هؤلاء القوم ، فشهادتهم لهم شهادة بعقيدة نفوسهم ونصرة لرئاستهم ومنزلتهم.
فقال : واللّه ما بيني وبين الحق عداوة ، ما هذا إلا واضح لا شبهة فيه ، وأنا أتوب إلى اللّه تعالى بما كنت عليه من الاعتقاد ، فلما فرغ من شروط التوبة ، إذا رجل من ورائي قد أكب على يدي يقبلها ويبكي.
فقلت : من أنت؟
فقال : ما عليك اسمي ، فاجتهدت به حتى قلت : فأنت الان صديق أو صاحب حق ، فكيف يحسن لي أن لا أعرف صديقي وصاحب حق علي لأكافئه فامتنع من تعريفي اسمه.
فسألت الفقيه الذي من المستنصرية.
فقال : هذا فلان بن فلان من فقهاء النظامية (1) سهوت عن اسمه الان (2).
ص: 330
مناظرة العلامة الحلي (1) مع علماء المذاهب الأربعة بمحضر الشاه خدا بنده (2)
يقال : إن الشاه خدابنده غضب يوما على امرأته فقال لها : أنت طالق ثلاثا ، ثم ندم وجمع العلماء.
فقالوا : لابد من المحلل.
فقال : عندكم في كل مسألة أقاويل مختلفة أو ليس لكم هنا
ص: 331
اختلاف؟
فقالوا : لا.
فقال أحد وزرائه : إن عالما بالحلة وهو يقول ببطلان هذا الطلاق. فبعث كتابه إلى العلامة ، وأحضره ، فلما بعث إليه.
قال علماء العامة : إن له مذهبا باطلا ، ولا عقل للروافض (1) ، ولا يليق
ص: 332
بالملك أن يبعث إلى طلب رجل خفيف العقل.
قال الملك : حتى يحضر.
فلما حضر العلامة بعث الملك إلى جميع علماء المذاهب الأربعة ، وجمعهم. فلما دخل العلامة أخذ نعليه بيده ، ودخل المجلس ، وقال : السلام عليكم ، وجلس عند الملك.
فقالوا للملك : ألم نقل لك إنهم ضعفاء العقول.
قال الملك : اسألوا عنه في كل ما فعل.
ص: 333
فقالوا له : لم ما سجدت للملك وتركت الآداب؟
فقال : إن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - كان ملكا وكان يسلم عليه ، وقال اللّه تعالى : ( فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً ) (1) ، ولا خلاف بيننا وبينكم أنه لا يجوز السجود لغير اللّه.
ثم قال له : لم جلست عند الملك؟
قال : لم يكن مكان غيره ، وكلما يقوله العلامة بالعربي كان المترجم يترجم للملك.
قالوا له : لأي شئ أخذت نعلك معك ، وهذا مما لا يليق بعاقل بل إنسان؟
قال : خفت أن يسرقه الحنفية كما سرق أبو حنيفة نعل رسول اللّه!!
فصاحت الحنفية : حاشا وكلا ، متى كان أبو حنيفة في زمان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - بل كان تولده بعد المأة من وفاته - صلى اللّه عليه وآله وسلم -.
فقال : فنسيت فلعله كان السارق الشافعي!!
فصاحت الشافعية كذلك ، وقالوا : كان تولد الشافعي في يوم وفاة أبي حنيفة ، وكانت نشوءه في المأتين من وفاة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم -.
وقال : لعله كان مالك!!
فصاحت المالكية كالأولين.
فقال : لعله كان أحمد ففعلت الحنبلية كذلك.
ص: 334
فأقبل العلامة إلى الملك ، وقال : أيها الملك علمت أن رؤساء المذاهب الأربعة لم يكن أحدهم في زمن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ولا الصحابة ، فهذا أحد بدعهم أنهم اختاروا من مجتهديهم هذه الأربعة ، ولو كان فيهم من كان أفضل منهم بمراتب لا يجوزون أن يجتهد بخلاف ما أفتى واحد منهم.
فقال الملك : ما كان واحد منهم في زمان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - والصحابة؟!
فقال الجميع : لا.
فقال العلامة : ونحن معاشر الشيعة تابعون لأمير المؤمنين - عليه السلام - نفس رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وأخيه وابن عمه ووصيه ، وعلى أي حال فالطلاق الذي أوقعه الملك باطل لأنة لم يتحقق شروطه ، ومنها العدلان فهل قال الملك بمحضرهما؟
قال : لا.
ثم شرع في البحث مع العلماء حتى ألزمهم جميعا ، فتشيع الملك ، وبعث إلى البلاد والأقاليم حتى يخطبوا بالأئمة الأثني عشر - عليهم السلام - ، ويضربوا السكك على أسمائهم وينقشوها على أطراف المساجد والمشاهد منهم (1).
ومن لطائفه أنه بعد إتمام المناظرة وبيان احقية مذهب الأمامية الاثنى عشرية ، خطب الشيخ - قدس اللّه لطيفه - خطبة بليغة مشتملة على حمد اللّه والصلاة على رسوله - صلى اللّه عليه وآله وسلم - والأئمة - عليهم
ص: 335
السلام - فلما استمع ذلك السيد الموصلي الذي هو من جملة المسكوتين بالمناظرة.
قال : مالدليل على جواز توجيه الصلاة على غير الأنبياء - عليهم السلام -؟
فقرأ الشيخ في جوابه - بلا انقطاع الكلام - : ( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (1).
فقال الموصلي على طريق المكابرة : ما المصيبة التي أصاب آله حتى أنهم يستوجبون لها الصلاة؟
فقال الشيخ - رحمه اللّه - : من أشنع المصائب وأشدها أن حصل من ذراريهم مثلك الذي يرجح المنافقين الجهال المستوجبين اللعنة والنكال على آل رسول الملك المتعال.
فاستضحك الحاضرون ، وتعجبوا من بداهة جواب آية اللّه في العالمين ، وقد انشد بعض الشعراء :
إذا العلوي تابع ناصبيا *** بمذهبه فما هو من أبيه
وكان الكلب خيرا منه حقا *** لأن الكلب طبع أبيه فيه (2)
ص: 336
مناظرة أبي القاسم بن محمد الحاسمي (1) مع رفيع الدين حسين
قال الأمير السيد حسين العاملي - المعروف بالمجتهد المعاصر للسلطان شاه عباس الماضي الصفوي - في أواخر رسالته المعمولة في أحوال أهل الخلاف في النشأتين ، عند ذكر بعض المناظرات الواقعة بين الشيعة وأهل السنة هكذا :
وثانيهما : حكاية غريبة وقعت في بلدة طيبة همذان (2) بين شيعي اثنى عشري وبين سني ، رأيت في كتاب قديم يحتمل أن يمضي من تاريخ كتابته ثلاثمائة سنة نظرا إلى العادة ، وكان المسطور في الكتاب المذكور أنه وقع بين بعض من علماء الشيعة الاثنى عشرية اسمه : أبو القاسم بن محمد بن أبي القاسم الحاسمي وبين بعض من علماء أهل السنة : رفيع
ص: 337
الدين حسين ، مصادقة ومصاحبة قديمة ، ومشاركة في الأموال ، ويتخالطان في أكثر الأحوال والأسفار ، وكل واحد منهما لا يخفي مذهبه وعقيدته عن الاخر ، وعلى سبيل الهزل ينسب أبو القاسم رفيع الدين إلى الناصبي ، وينسب رفيع الدين أبا القاسم إلى الرافضي ، وبينهما في هذه المصاحبة لا يقع مباحثة في المذهب ، إلى أن وقع الاتفاق في مسجد بلدة طيبة همذان يسمى ذلك المسجد بالمسجد العتيق ، وفي أثناء المكالمة فضل رفيع الدين حسين أبا بكر وعمر على أمير المؤمنين علي - عليه السلام - ، ورد أبو القاسم على رفيع الدين وفضل عليا - عليه السلام - على أبي بكر وعمر ، وأبو القاسم استدل على مدعاه بآيات عظيمة وأحاديث منزلة وذكر كرامات ومقامات ومعجزات وقعت منه - عليه السلام -.
ورفيع الدين يعكس القضية واستدل على تفضيل أبي بكر على علي - عليه السلام - بمخالطته ومصاحبته في الغار ، ومخاطبته بخطاب الصديق الأكبر من بين المهاجرين والأنصار ، وأيضا قال : إن أبا بكر مخصوص من بين المهاجرين والأنصار بالمصاهرة والخلافة والأمامة ، وأيضا قال رفيع الدين : الحديثان عن النبي واقعان في شأن أبي بكر أحدهما (أنت بمنزلة القميص) - الحديث ، وثانيهما (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) (1).
وأبو القاسم الشيعي بعد استماع هذا المقال من رفيع الدين ، قال لرفيع الدين : لأي وجه وسبب تفضل أبا بكر على سيد الأوصياء وسند الأولياء وحامل اللواء (2) ، وعلي إمام الأنس والجان ، وقسيم
ص: 338
الأكبر (1) ، والفاروق الأزهر (2) ، أخو رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وزوج البتول ، وتعلم أيضا أنه - عليه السلام - وقت فرار الرسول إلى الغار من الظلمة وفجرة الكفار ضاجع على فراشه (3) ، وشاركه علي في حال العسر والفقر ، وسد رسول اللّه أبواب الصحابة من المسجد إلا بابه (4) ، وحمل عليا على كتفه لأجل كسر الأصنام (5) في أول الأسلام ، وزوج الحق
ص: 340
جل وعلا فاطمة بعلي في الملأ الأعلى (1) ، وقاتل - عليه السلام - مع عمرو ابن عبدود (2) ، وفتح خيبر (3) ، ولا أشرك باللّه تعالى طرفة عين بخلاف
ص: 341
ص: 342
الثلاثة ، وشبه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - عليا بالأنبياء الأربعة ، حيث قال : (من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في فهمه وإلى موسى في بطشه وإلى عيسى في زهده فلينظر إلى علي بن أبي طالب) (1) ، ومع وجود هذه الفضائل والكمالات الظاهرة الباهرة ومع قرابته - عليه السلام - للرسول - صلى اللّه عليه وآله - ، ورد الشمس له (2) ، كيف يعقل ويجوز
ص: 343
تفضيل أبي بكر على علي - عليه السلام -.
ولما سمع رفيع الدين هذه المقالة من أبي القاسم من تفضيله عليا - عليه السلام - على أبي بكر ، انهدم بناء خصوصيته لأبي القاسم ، وبعد اللتيا والتي قال رفيع الدين لأبي القاسم : كل رجل يجئ إلى المسجد فأي شئ يحكم من مذهبي أو مذهبك نطيع ، ولما كان عقيدة أهل همذان على أبي القاسم ظاهرا كان خائفا من هذا الشرط الذي وقع بينه وبين رفيع الدين ، لكن لكثرة المجادلة والمباحثة قبل أبو القاسم الشرط المذكور ورضي به كرها.
وبعد قرار الشرط المذكور بلا فصل جاء إلى المسجد فتى ظهر من بشرته آثار الجلالة والنجابة ومن أحواله لاح المجئ من السفر ودخل في المسجد وطاف ، ولما جاء بعد الطواف عندهما قام رفيع الدين على كمال الاضطراب والسرعة ، وبعد السلام للفتى المذكور سأله وعرض الأمر المقرر بينه وبين أبي القاسم وبالغ مبالغة كثيرة في إظهار عقيدة الفتى وأكد بالقسم وأقسمه بأن يظهر عقيدته على ما هو الواقع ، والفتى المذكور بلا توقف أنشأ هذين البيتين :
ص: 344
متى أقل مولاي أفضل منهما *** أكن للذي فضلته متنقصا
ألم ترأن السيف يزري بحده *** مقالك هذا السيف أحدى من العصا
ولما فرغ الفتى من إنشاء هذين البيتين كان أبو القاسم مع رفيع الدين قد تحيرا من فصاحته وبلاغته ، ولما أرادا تفتيش حال الفتى غاب عن نظرهما ولم يظهر أثره ، ورفيع الدين لما شاهد هذا الأمر الغريب العجيب ترك مذهبه ... واعتقد المذهب الحق الاثنى عشري.
أقول : الظاهر أن ذلك الفتى هو القائم - عليه السلام - ، وأما البيتان فهما المادة للأبيات التي قد أوردها في مثل هذا المقام الشيخ إبراهيم القطيفي (1) - المعاصر للشيخ علي
ص: 345
الكركي (1) - في أوائل إجازته (2) للسيد شريف بن السيد جمال الدين نور اللّه ابن شمس الدين محمد شاه الحسيني التستري ، إذ الظاهر أنه قد أخذها من ذينك البيتين في كلامه - عليه السلام - في تلك المحاكمة ، فتأمل والذي أورده في تلك الأجازة هكذا :
يقولون لي فضل عليا عليهم *** فلست أقول التبر أعلى من الحصا
إذا أنا فضلت الأمام عليهم *** أكن بالذي فضلته متنقصا
ألم ترأن السيف يزرى بحده *** مقالة هذا السيف أمضى من العصا (3)
ص: 346
مناظرة ابن أبي جمهور الأحسائي (1) مع الهروي في خراسان
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمدلله حق حمده ، والصلوة على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كثيرا.
وبعد فقد سألتني أطال اللّه بقاءك عما كان بيني وبين الهروي في بلاد خراسان من المجادلات في المذهب ، وما ألزمته من الحجة.
ص: 347
فاعلم أني كنت في سنة ثمان وسبعين وثمانمائة مجاورا في مشهد الرضا - عليه السلام - ، وكان منزلي السيد الأجل ، والكهف الأظل وسيد محسن بن محمد الرضوي القمي ، وكان من أعيان أهل المشهد وساداتهم ، بارزا على أقرانه بالعلم والعمل ، وكان هو وكثير من أهل المشهد يشتغلون معي في علم الكلام والفقه ، فأقمنا على ذلك مدة ، فورد علينا من الهراة (1) خال السيد محسن ، وكان مهاجرا فيها لتحصيل العلم.
فقال : إن السبب في ورودي عليكم ما ظهر عندنا بالهراة من اسم هذا الشيخ العربي المجاور بالمشهد ، وظهور فضله بالعلم والأدب ، فقدمت لأستفيد من فوائده شيئا ، وخلفي رجل من أهل كيج ومكران (2) ولكنه من قريب سنتين متوطن الهراة ، مصاحب لعلمائها يطلبون منه فنون العلم ، وقد صار الان مبرزا في كثير من الفنون ، مثل علم النحو ، والصرف ، والمنطق ، والكلام ، والمعاني ، والبيان ، والأصول ، والفقه ، وغير ذلك ، وهو عامي المذهب.
ص: 348
وله مجادلات مع أهل المذاهب ، وقوة إلزام الخصوم في الجدل ، وقد سمع يذكر هذا الشيخ العربي فجاء لقصد زيارة الامام الرضا - عليه السلام - ، وقصد ملاقاة هذا الشيخ والجدل معه ، وها هو على الأثر يقدم غدا أو بعد غد فما أنتم قائلون؟
فأشار إلي السيد بما قال خاله مستطلعا لرأيي ، وقال : إذا قدم هذا الرجل فبالضرورة يكون ضيفا لنا لأنه قدم مع خالي وخالي ضيف لنا ، وما يحسن منا تضييف أحد المتصاحبين وترك الاخر ، فإن حصلت الضيافة التقى معك بالضرورة ، وتحصل المجادلة بينكما ، لأنه إنما أتى لهذا الغرض فما أنت قائل؟ أتحب أن تلاقيه وتجادله ، أو لا تحب ذلك فتحتال في رده عنا.
فقلت : إني أستعين باللّه على جداله ، وأرجو أن يقهره الحق بفالجه ، ويغلبه بنوره ، وقال السيد : ذلك هو مراد الأصحاب ، فلما كان بعد يوم من مجئ خال السيد قدم الهروي إلى المدرسة ، وعلم السيد وخاله بوصوله فمضينا إليه وجاء به إلى المنزل وأضافوه وعملوا وليمة احضروا فيها جميع الطلبة وجماعة من الأشراف والسادة وحصل بيني وبينه الملاقاة في منزل السيد فجادلت معه في ثلاثة مجالس :
(المجلس) الأول : كان في منزل السيد يوم الضيافة بحضور الطلبة والأشراف فكان أول ما تكلم به معي قبل البحث أن قال : يا شيخ ، ما اسمك؟
فقلت : محمد.
فقال : من أي بلاد العرب؟
ص: 349
فقلت : من بلاد هجر الموسومة بالأحساء (1) أهل العلم والدين.
فقال : أي شئ مذهبك؟
فقلت : سألتني عن الأصول أو الفروع؟
فقال : عن كليهما.
فقلت : مذهبي في الأصول كل ما قام الدليل عليه ، وأما في الفروع فلي فقه منسوب إلى أهل البيت - عليهم السلام -.
فقال : أراك أمامي المذهب.
ص: 350
فقلت : نعم ، أنا إمامي المذهب ، فما تقول؟
فقال : إن المامي يقول : إن علي بن ابي طالب - عليه السلام - إمام بعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بلا فصل.
فقلت : نعم ، وأنا أقول ذلك.
فقال : أقم الدليل على دعواك.
فقلت : لا أحتاج الى إقامة دليل على ذلك.
فقال : ولم؟
فقلت : لأنك لا تنكر إمامة علي - عليه السلام - أصلا ، أنا وأنت متفقان على أنه إمام بعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، ولكنك أنت تدعي الواسطة بينه وبين الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، وأنا أنفي الواسطة ، فأنا ناف وأنت مثبت ، فإقامة الدليل عليك اللّهم إلا أن تنكر إمامة علي - عليه السلام - أصلا وتقول : إنه ليس إماما أصلا ورأسا ، فتخرق الأجماع وتلزمني إقامة الدليل حينئذ.
فقال : أعوذ باللّه ما أنكر إمامة علي - عليه السلام - ، ولكني أقول : هو الرابع بعد الثلاثة قبله.
فقلت : إذن أنت المحتاج إلى إقامة الدليل على دعواك لأني لا أوافقك على إثبات هذه الوسائط ، فضحك الأشراف والحاضرون من الطلبة ، وقالوا : إن العربي لمصيب ، والحق أحق بالا تباع ، إنك أنت المدعي وهو المنكر ، والمدعي محتاج إلى إثبات دعواه إلى البينة فألزمته الحجة.
قال : الدليل على مدعاي كثير.
فقلت : أريد واحدا لا غير.
ص: 351
فقال : الإجماع من الأمة على إمامة أبي بكر بعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - بلا فصل وأنت لا تنكر حجة الاجماع.
فقلت : ما تريد بالأجماع ، الأجماع الحاصل من كثرة القائل بذلك في ذلك الوقت ، أو الأجماع الحاصل من أهل الحل والعقد من يوم موت النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم -؟ إن أردت الأول فلا حجة فيه ، لأن المخالف موجود ولا حجة فيها بنص القرآن لأنه تعالى يقول : ( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (1) ، ولم تزل الكثرة مذمومة في جميع الأمور حتى في القتال ، قال تعالى : ( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (2) وإن أردت الثاني فلي في إبطاله طريقان ، طريقة على مذهبي ولا تلزمك ، وهي أن الاجماع عندنا إنما يكون حجة مع دخول المعصوم فيه (3) ، فكل إجماع خال منه لا حجة فيه عندنا لجواز الخطأ على كل واحد واحد فهكذا على الكل لتركبه من الاحاد ، وأنت لا تقول بدخول المعصوم ، فالاجماع الذي تدعيه لا يكون عندنا صحيحا فلا يكون حجة وطريقة على مذهبك ، وهو أن الإجماع هو : اتفاق أهل والعقد من أمة النبي - صلى اللّه عليه وآله - على أمر من الأمور.
وهذا المعنى لا يحصل لأبي بكر يوم السقيفة ، بل كان فضلاء العرب وعلماؤهم وزهادهم وذو والأقدار أولوا الأيدي والأبصار منهم وأهل الحل والعقد غيابا لم يحضروا معهم السقيفة بالاتفاق كعلي بن أبي طالب ،
ص: 352
والعباس ، وابنه عبد اللّه بن العباس ، والزبير ، والمقداد ، وعمار ، وأبي ذر ، وسلمان الفارسي ، وجماعة من بني هاشم ، وغيرهم من الصحابة لأنهم كانوا مشتغلين بتجهيز النبي - صلى اللّه عليه وآله - فرأى الأنصار فرصة باشتغال بني هاشم ، فاجتمعوا إلى سقيفة بني ساعدة لأجالة الرأي ، وعلم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح وجماعة من الطلقاء باجتماع الأنصار في السقيفة واختلافهم في الأمامة ، فحضروا معهم ، وكانت بينهم مجادلات ومخاصمات في الخلافة حتى قال الأنصار : منا أمير ، ومنكم أمير ، فغلبهم أبو بكر بحديث رواه فقال : إن النبي - صلى اللّه عليه وآله - قال : الأئمة من قريش (1) ، فخصم الأنصار بذلك.
فقام عمر وأبو عبيدة فسبقا الأنصار على البيعة ، وصفقا على يد أبي بكر وقالا : السلام عليك يا خليفة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - فكانت البيعة الخاطئة لأبي بكر يومئذ في السقيفة (2) بالخديعة والحيلة والعجلة والغلبة والقهر ، ولهذا قال عمر : كانت بيعتي لأبي بكر فلتة وقى اللّه المسلمين شرها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه (3) ، فأين الأجماع المدعى حصوله ، وقد عرفت أن فضلاء الأصحاب وزهادهم وذدوي الأقدار والمهاجرين والأنصار لم يحضروا معهم ، ولم يبايعوا ولم يستطلعوا رأيهم ، وهل يصح من هؤلاء الأدنون من الصحابة الذين كان أكثرهم طلقا ومنافقين ومؤلفه أن يعقدوا الخلافة التي هي قائمة مقام النبوة بغير حضور
ص: 353
أولئك المشتهرين في الفضل والعلم والشرف والزهد مع أن الأجماع لا ينعقد عند الكل إلا باتفاق أهل الحل والعقد فدعوى الأجماع حينئذ على خلافته بعيدة.
فقال : ما ذكرته مسلم ، ولكن من ذكرت من الأصحاب وغيرهم بعد ذلك بايعوا ورضوا فحصل الأجماع من الكل بحيث لا يخالف في ذلك أحد وإن لم يكن إيقاعهم دفعة فإن ذلك غير شرط في الأجماع.
فقلت : إن اتفاقهم وحصول رضاهم بعد ذلك كما زعمت لا يقوم حجة لتطرق الاحتمال فيه بالأجبار والأكراه والتقية ، فإنهم لما رأوا هؤلاء العامة والرعاع الذين يميلون عند كل ناعق ولا يستضيئون بضوء العلم قد استمالهم الرجل وخدعهم وصاروا أتباعا له ، وقلدوه في أمورهم ، وقلدوا كبراءهم في اتباعه لم يمكن لهؤلاء الباقين المخالفة لهذه العوام وخافوا على أنفسهم من الخلاف عليهم والقتل فانقادوا كرها ، فلا يكون انقيادهم الحاصل بالأكراه مصححا للأجماع بل دل على عدم صحته.
فقال : ومن أين عرفت ذلك منهم حتى يكون ما ذكرت حقا؟
فقلت : قد تقرر في علم الميزان أن الاحتمال إذا قام على الدليل بطل ، واحتمال الأكراه قد قام في هذا الاجماع فيكون باطلا مع أنه قد ظهرت إمارات الأكراه في روايات كثيرة وأنا أورد لك بعضها ، منها :
الأول : ما ورد من ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (1) مع أنه عامي المذهب ، فقال : في باب فضائل عمر : إن عمر هو الذي وطأ الأمر لأبي بكر ، وقام فيه حتى أنه دفع في صدر المقداد ، وكسر سيف الزبير ،
ص: 354
وكان قد شهره عليهم وهذا غاية الأكراه.
الثاني : ما رواه أيضا (1) عن البراء بن عازب ، قال : لم أزل محبا لأهل البيت ، ولما مات النبي - صلى اللّه عليه وآله - أخذني ما يأخذ الواله من الحزن ، وخرجت لأنظر ما يكون من الناس فإذا أنا بأبي بكر وعمر وأبي عبيدة سائرين ومعهم جماعة من الطلقاء وعمر شاهر سيفه ، وكلما مر رجل من المسلمين قال له : بايع أبا بكر كما بايعه الناس فيبايع له إن شاء ذلك أو لم يشأ فأنكر عقلي ذلك الأمر فحيث اشتد الأمر جئت حتى أتيت عليا - عليه السلام - فأخبرته بخبر القوم ، وكان يسوى قبر رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - بمسحاته فوضع المسحاة من يده ثم قرأ : ( آلم ، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ) (2).
فقال العباس : تربت أيديكم بني هاشم إلى آخر الدهر ، وهذا دليل الأكراه بترجع علي والعباس له ، وما ظنك بامرء يدفع صدور المهاجرين ، ويكسر سيوفهم ويشهر فيه السيوف على رؤوس المسلمين كيف لا يكون إكراها لو لا عمى أفئدة! : ( فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) (3).
ومنها : قول عمر لسعد بن عبادة الخزرجي سيد الأنصار وأميرهم لما امتنع من البيعة وهم في السقيفة لأنه كان حاضرا معهم ولم يبايع ، قال : أوطئوا سعدا واقتلوا سعدا ، قتل اللّه سعدا (4) ، وهذا عين الأكراه.
ص: 355
ومنها : ما رواه أهل الحديث ، ورواه عدة من أصحابنا ممن يوثق بنقلهم ، وتعرف عدالتهم أن أبا بكر لما صعد المنبر أول يوم جمعة قام إليه اثنا عشر رجلا ، ستة من المهاجرين ، وستة من الأنصار ، فأنكروا عليه قيامه ذلك المقام حتى أفحموه على المنبر ولم يرد جوابا ، فقام عمر ، وقال : يا ... ، إن كنت لا تقوم بحجة فلم أقمت نفسك هذا المقام ، وأخذ بيده وأنزله عن المنبر (1).
ولما كان الأسبوع الثاني جاءوا في جمع وجاء خالد بن الوليد معهم في مائة رجل وجاء معاذ بن جبل في مائة رجل شاهرين سيوفهم حتى دخلوا المسجد وكان علي - عليه السلام - فيه وجماعة من أصحابه معه ومعهم سلمان.
فقال عمر : واللّه يا أصحاب علي ، لئن ذهب رجل منكم يتكلم بالذي تكلم بالأمس لاخذن الذي فيه عيناه ، فقام سلمان الفارسي ، فقال : صدق رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - إنه قال : بينما أخي وابن عمي جالس في مسجدي إذ وثب عليه طائفة من كلاب أهل النار يريدون قتله ولا شك أنتم هم ، فأهوى إليه عمر بالسيف ليضربه ، فأخذ علي - عليه السلام - بمجامع ثوبه وجذبه إلى الأرض ، وقال : يابن صهاك الحبشية أبأسيافكم تهددونا ، وبأجمعكم تكاثرونا؟! واللّه لولا كتاب من اللّه سبق ، وعهد من رسول اللّه تقدم لأريتكم أينا أقل عددا وأضعف ناصرا ، ثم قال لأصحابه : تفرقوا (2).
وإذا كانت الأحوال الجارية بينهم على مثل هذه الروايات دلت على
ص: 356
وقوع الكراهة وعدم تمكن هؤلاء المتخلفين عن السقيفة من ترك المبايعة ، فلا تكون بالموافقة الحاصلة منهم وإنما هي بالكراهة ، فلا تكون حجة بالأجماع.
فقال : هذه الروايات من طرقكم ، فلا تكون حجة علينا.
فقلت : سلمنا ، ولكن منها ما يكون من طرقكم كرواية ابن أبي الحديد مع أن احتمال الأكراه غير مندفع بحجة من عندكم ، والدليل قاطع فيبقى احتمال الكراهة بحاله فحينئذ لا يحصل الأجماع المدعى حصوله فلا تقوم لك الدلالة على الواسطة فأت بغيرها إن كان لك حجة قاطعة على مدعاك وإلا فاعترف ببطلانها.
فقال : هاهنا حجة.
فقلت : وما هي؟
فقال : أمر النبي - صلى اللّه عليه وآله - بالصلاة خلف أبي بكر في مرض موته (1) وذلك دليل على تقديمه له على سائر أصحابه لأن المقدم في الصلاة يقدم في غيرها إذ لا قائل بالفرق.
فقلت : هذه حجة ضعيفة جدا.
أما أولا : فلأنه لو كان التقديم صحيحا كما زعمت وكان مع صحته دالا على إمامته لكان ذلك نصا من النبي صلى اللّه عليه وآله بالأمامة ، ومتى حصل النص لا يحتاج معه إلى غيره فكيف وأبو بكر وأصحاب السقيفة لم يجعلوا ذلك دليلا على إمامته ، وكيف أبو بكر وعمر لم يحتجوا به على الأنصار وكيف توقفت الخلافة على المبايعة التي حصل عليهم فيها
ص: 357
الاختلاف والاحتياج إلى إشهار السيوف مع أن هذه الواقعة كانت أثبت دليلا ، وأقوى حجة لأنها نص النبي - صلى اللّه عليه وآله - ، فكيف عدلوا إلى الأضعف الذي هو أحد الأمرين الأعسر ، والعاقل لا يختار الأصعب مع إنجاح الأسهل إلا لعجزه عنه.
فعلم أن ذلك ليس فيه حجة أصلا ، فكيف ما لا يكون حجة عندهم ولا عند أحد من الصحابة تجعله أنت حجة ، ومن ذلك يعلم أن قصدك المغالطة.
وأما ثانيا : فلأن التقديم في الصلاة لا يدل على الأمامة العامة لأن الخاص لا يدل على العام خصوصا على مذهبكم من جواز إمامة الفاسق في الصلاة ، وعدم اشتراط العدالة في التقديم بها ، والأمامة العامة يشترط فيها العدالة بالأجماع وأن الأمام لو فسق عندكم وجب على الامة عزله ، فكيف تجعلون ما لا يحتاج إلى العدالة حجة فيما يحتاج إليها إن هذا الاحتجاج واهي الدليل غير مسموع ولا مقبول عند العقلاء ومن له أدنى روية.
وأما ثالثا : إن هذا التقديم غير صحيح عند الكل أما عندنا فلأن المنقول أن بلالا لما جاء يعلم بوقت الصلاة كان النبي - صلى اللّه عليه وآله - مغمورا بالمرض ، وكان علي - عليه السلام - مشتغلا بالرسول - صلى اللّه عليه وآله - ، فقال بعضهم : علي يصلي بالناس فقالت عائشة (1) : مروا أبا بكر يصلي بالناس فظن بلال أن ذلك من أمر النبي - صلى اللّه عليه وآله - فجاء وأعلم أبا بكر بذلك فتقدم ، فلما كبر أفاق النبي - صلى اللّه عليه وآله -
ص: 358
فسمع التكبير ، فقال : من يصلي بالناس؟
فقيل له : أبو بكر.
فقال : أخرجوني إلى المسجد ، فقد حدثت في الأسلام فتنة ليست بهينة ، فخرج - صلى اللّه عليه وآله - يتهادى بين علي والفضل بن العباس حتى وصل إلى المحراب ، ونحى أبا بكر ، وصلى بالناس ، وأما عندكم فتدعون أن ذلك كان بأمر رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - وهي دعوى باطلة من وجوه.
الأول : أن الاتفاق واقع على أن الأمر الذي خرج إلى بلال لم يكن مشافهة من النبي - صلى اللّه عليه وآله - فقيل له : يا بلال ، قل لأبي بكر يصلي بالناس ، أو قل للناس يصلون خلف أبي بكر ، بل كان بواسطة بينهما لأن بلالا لم يحصل له الأذن في تلك الحالة بالدخول على النبي - صلى اللّه عليه وآله - لاشتغال النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بالمرض وإذا كان بواسطة احتمل كذب الواسطة لأنه غير معصوم ، وإذا احتمل كذبه لم يبق في هذا الوجه حجة لاحتمال أن يكون بغير أمر النبي - صلى اللّه عليه وآله - ولا علمه ، ويدل على ذلك خروجه عليهم في الحال لما علم وعزل أبي بكر وتوليته الصلاة بنفسه.
الثاني : أنه لو كان ذلك بأمر النبي - صلى اللّه عليه وآله - كما زعمتم لكان خروجه في الحال مع ضعفه بالمرض وتنحيته أبا بكر عن المحراب وتوليه الصلاة بنفسه مع صدور الأمر منه أولا مناقضة صريحة لا تليق بمن لا ينطق عن الهوى لأن الاتفاق واقع على أن أبا بكر لم يتم الصلاة بالناس بل خرج النبي - صلى اللّه عليه وآله - ونحى أبا بكر عنها وأتم الصلاة بالناس رواه أهل السنة في جملة مصنفاتهم.
ص: 359
الثالث : لو سلمنا جميع ذلك لكان خروج النبي - صلى اللّه عليه وآله - وعزله له مبطلا لهذه الأمارة لأنه - عليه السلام - نسخها بعزله عنها فكيف يكون ما نسخه النبي - صلى اللّه عليه وآله - بنفسه حجة على ثبوته إن هذا لعجب بل أقول : إن عزل النبي - صلى اللّه عليه وآله - له بعد تقديمه كما زعمتم إنما كان لأظهار نقصه عند الأمة وعدم صلاحيته في التقدم في شئ فإن من لا يصلح أن يكون إماما في الصلاة مع أنها أقل المراتب عندكم لصحة تقديم الفاسق فيها كيف يصح أن يكون إماما عاما ، ورئيسا مطاعا لجميع الخلق ، وإنما كان قصده - صلى اللّه عليه وآله - إن كان هذا الأمر وقع منه - إظهار نقصه وعدم صلاحيته للتقديم على الناس ليكون حجة عليهم.
وما أشبه هذه القصة بقصة براءة (1) وعزله عنها ، وإنفاذه بالراية يوم خيبر (2) فإن ذلك كله بيان لأظهار نقصه وعدم صلاحيته لشئ من الأمور البينة وإظهار ذلك للناس يعرف ذلك من له أدنى روية ، والعجب منكم كيف تستدلون بالأمر بالصلاة التي عزل عنها ولم يتمها بالأجماع على إمامته؟ وكيف لا تستدلون على إمامة علي - عليه السلام - باستخلافه النبي - صلى اللّه عليه وآله - على المدينة في غزوة تبوك المتفق على نقلها وحصوله منه - صلى اللّه عليه وآله - لعلي - عليه السلام - وعدم عزله عنها بالاتفاق؟! فإن الاستخلاف على المدينة التي هي دار الهجرة ، وعدم الوثوق عليها لأحد إلا علي - عليه السلام - دليل على أنه القائم بالأمر بعده في جميع غيباته ومهماته وإذا ثبت استخلافه على المدينة وعدم عزله
ص: 360
عنها ثبت استخلافه على غيرها إذ لا قائل بالفرق.
ولما وصلنا في المجادلة في ذلك المجلس إلى هذا الحد حضرت مائدة السيد فانقطعت بحضورها المجادلة واشتغل جميع الحاضرين بالأكل والملا أيضا معهم واشتغلت به في جملتهم ، وعرضت لي فكرة حال الأكل في الحديث المروي عن النبي - صلى اللّه عليه وآله - وهو قوله - عليه السلام - : من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية (1).
فقلت : يا ملا إجازة.
قال : نعم.
قلت : ما تقول في هذا الحديث المروي عن النبي - صلى اللّه عليه وآله - أهو حديث صحيح أم لا؟ وأوردت الحديث.
فقال : بل حديث صحيح متفق على صحته.
فقلت : من إمامك؟
فقال : ليس الحديث على ظاهره ، بل المراد بالأمام في الحديث القرآن ، وتقديره من مات ولم يعرف إمام زمانه الذي هو القرآن مات ميتة جاهلية.
فقلت : إذن يلزم أن يكون العلم بالقرآن واجبا عينا على كل مكلف مع أن ذلك لم يقل به أحد من العلماء.
فقال : ليس المراد القرآن كله ، بل المراد الفاتحة والسورة لأنهما
ص: 361
شرطان في صحة الصلاة ، فإنهما واجبان عينا بالإجماع فمن جهلهما يكون جاهليا.
فقلت : إن النبي - صلى اللّه عليه وآله - أضاف الإمام إلى الزمان في الحديث وهو دليل على اختصاص أهل كل زمان بإمام يجب عليهم معرفته. ومع القول بيالفاتحة والسورة لا فائدة في هذا التخصيص حينئذ فلا يكون هذا تأويلا مطابقا لمقتضى الحديث.
فقال الأشراف والحاضرون من الطلبة : صدق الشيخ ، إن هذه الأضافة في الحديث تقتضي تخصيص أهل كل زمان بإمام يجب عليهم معرفته ، وأن من مات قبل معرفته مات جاهليا ، والتأويل بالفاتحة ينافي ذلك ، لوجوب الفاتحة على أهل كل زمان ، فانقطع ورجع.
فقال : إذن أنا وأنت سواء في ذلك في هذا الزمان.
فقلت : حاش لله ، ليس الأمر كما زعمت ، بل أنا لي إمام في زماني هذا أعتقد إمامته ، وأعرفه حق معرفته ، قامت لي الدلائل على ذلك ولست أنت كذلك فما أنا وأنت سواء.
فقال : إن إمامك الذي تعتقده أنت ونحن لا نشاهده ولا نعرف مكانه ، ولا تنتفع به في دينك ، ولا تأخذ عنه فتاويك فكان الأمر في وفيك سواء.
قلت : كلا إن الحديث لم يتضمن وجوب معرفة مكان الأمام ووجوب أخذ الفتاوى عنه ، وإنما تضمن وجوب معرفته وأنا الحمد لله قد عرفته وقامت لي الدلائل القاطعة على وجوده ووجوب إمامته واتباعه ، وأرجو في كل وقت ظهوره وملاقاته لي ولسائر الأمة وهذا هو الذي وجب علي بمقتضى الحديث لأنه لم يقل : من لم يأخذ عن إمام زمانه الفتاوى ولا قال : من لا يعرف مكان إمامه بل قال : من لا يعرف إمامه ، وأنا
ص: 362
بحمد اللّه قد عرفته ، وأنت تعتقد أن الأمام لك وأن الزمان الذي أنت فيه خال من الأمام فلست أنا وأنت سواء والحمد لله.
فقال : أنا في طلبه وتحصيل معرفته ، وقد ذكر لي أن باليمن رجلا يدعي الأمامة وأنا أريد الوصول إليه لأعرف صحة إمامته ودعواه فأتبعه.
فقلت له : إذن أنت في هذا الوقت لا إمام لك فأنت في هذا الوقت جاهل ، ثم قلت : ولا يصح لك ذلك إلا أن تترك مذهبك وترجع إلى غيره لأن هذا المدعي ليس من أهل السنة بل هو من الزيدية فإن كنت منهم صح لك ذلك وإن كنت من السنة فالسنة لا يعتقدون ذلك لأنهم لا يعتقدون وجود الأمام في كل وقت ، ولا يرجون وجوده على كل حال ، فسكت ولم يرد جوابا ، وفرغ الحاضرون من الأكل ورفعت المائدة وودعنا الحاضرون وخرجوا وتفرق أهل المجلس ، وخرج الملا في جملتهم.
المجلس الثاني :
كان يوم العيد العاشر من ذي الحجة اتفق أن السيد محسن بن محمد خرج من المنزل وكنت معه فقصدنا زيارة الأمام الرضا - عليه السلام - والأخوان في ذلك اليوم الشريف فجئنا وزرنا الأمام - عليه السلام - ، وبعد الفراغ دخلنا مدرسة السلطان شاهرخ التي هي بجنب حضرة الأمام - عليه السلام - وكان فيها جماعة من الطلبة ساكنين ، فقصدناهم فيها للسلام عليهم وزيارتهم وكان فيها رجل مدرس اسمه ملا غانم فوجدناه جالسا في المدرسة ومعه جماعة من أهل العلم والعوام من أهل المشهد وغيرهم ووجدنا الملا الهروي معهم فسلمنا على الحاضرين وجلسنا معهم فتخاوضوا في الأحاديث والحكايات والمذاكرة في العلم ، فجرى بينهم أشياء كثيرة ثم إن الملا الهروي أشار إلى بمسألة.
ص: 363
فقال : ما تقول في ولد الزنا هل تنسبه الى أبيه وأمه أم لا؟
فقلت : الذي عليه علماء أهل البيت - عليهم السلام - أنه لا يصح نسبته إلى أبيه ولا إلى أمه لأنه عندهم أنه ليس ولدا شرعيا والنسب عندهم إنما يثبت بالنكاح الصحيح ، والشبهة دون الزنا.
فقال : فيلزمكم عند انتفاء النسبة الشرعية أن لا يكون محرما فيحل له وطئ أمه وأخواته ويحل للأب وطئ ابنته وهذا لا يقول به أحد من أهل الأسلام.
فقلت : إنه ولد لغة لا شرعا ، ونحن نقول : بالتحريم المذكور من حيث اللغة ، فالتحريم عندنا يتبع اللغة وغيره من الأحكام يتبع الشرع.
فقال : هذا خبط في البحث لأنكم مرة تقولون : إنه ولد وتحكمون له بأحكام الأولاد ، ومرة تقولون : إنه غير ولد وتحكمون له بأحكام الأجانب ، وهذه مناقضة وخبط في الفتوى.
فقلت : ليس ذلك مناقضة بل أثبت له أحكام الأولاد من حيثية ، والأجانب من حيثية ، ولا استحالة في اختلاف الأحكام باختلاف الحيثيات.
فقال : وأي حاجة لكم إلى هذه التمحلات ولم تتبعوا اللغة دائما لأنه عند أهل اللغة ولد حقيقة وإنما جاء الشرع تابعا للغة.
قلت : ليس الشرع تابعا للغة دائما لأنه عند أهل اللغة ولد حقيقة كما ذكرت ، والشرع إنما جاء تابعا للغة دائما فإن الألفاظ اللغوية وإن كانت على لفظها في الاصطلاح الشرعي إلا أنها في المعاني مغايرة لها فإن الصلاة لغة الدعاء ، والزكاة لغة النمو ، وفي الشرع وإن كانت تسميتها كذلك إلا أن المعني منها غير المعنى اللغوي ، فإن الصلاة والزكاة شرعا غير الدعاء
ص: 364
والنمو ومع ذلك فإن مذهبنا مبني على الاحتياط فإن التحريم في الوطئ والنظر وما يتبع النسب من الأحكام نظرا إلى اللغة أخذا بالأحوط وموضع الوفاق وهي في النسب تتبع الشرع لأنه عين الموافق لمراد الشارع ، فلو جعلناه منتفيا في كل الأحكام لاحتمل أن يكون غير مراد الشارع فيحصل حينئذ العقاب أيضا باعتبار التولد اللغوي ، فالاحتياط التام مذهبنا والشارع قد نفاه في قوله - عليه السلام - : الولد للفراش ، وللعاهر الحجر (1) ، فلو لا إسقاط حكم الزنا في ذلك لم يصح نفيه لاحتمال حصوله من الزنا دون الفراش ، فأعرض عن المجادلة في هذه المسألة ، ثم أقبل ينظر إلى كتاب كان معي ، وقال : ما هذا الكتاب الذي معك.
فقلت : هذا مصنف للشيخ جمال الدين الحسن بن المطهر الحلي من مشائخ الأمامية وعلمائهم ، يسمى بكتاب نهج الحق وكشف الصدق (2) ، يبحث فيه عن أحوال الخلاف بين الأمامية وأهل السنة ، وقد ذكر فيه حديثا ينقله عن صحيح مسلم أتحب أن أحكيه لك.
فقال : وما هذا الحديث؟
فقلت : ما تقول فيما اشتمل عليه صحيح مسلم أتنكره؟
فقال : لا بل جميع ما اشتمل عليه صحيح مسلم من الأحاديث فإني معترف بصحته.
فقلت : روى مسلم في صحيحه ، والحميدي في الجمع بين
ص: 365
الصحيحين في مسند عبد اللّه بن العباس ، قال : لما احتضر النبي - صلى اللّه عليه وآله - كان في بيته رجال ، منهم : عمر بن الخطاب ، فقال النبي - صلى اللّه عليه وآله - : هلموا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا.
فقال عمر بن الخطاب : إن النبي - صلى اللّه عليه وآله - قد غلب عليه الوجع ، وإن الرجل ليهجر ، فاختلف الحاضرون عند النبي - صلى اللّه عليه وآله - ، فبعضهم يقول : القول ما قاله النبي - صلى اللّه عليه وآله - ، وبعضهم يقول : القول ما قاله عمر ، فلما كثر اللغط والاختلاف قال النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع (1).
فقال : هذا حديث صحيح ، ولكن أي طعن على عمر فيه؟
فقلت : الطعن من وجهين :
الأول : أنه سوء أدب منه ومن الجماعة في حق النبي - صلى اللّه عليه وآله - في ردهم عليه مراده ، وعدم قبولهم أوامره ، رفع أصواتهم فوق صوت النبي - صلى اللّه عليه وآله - حتى تأذى بذلك وقال لهم : قوموا عني تبرئا منهم ، وقد قال اللّه تعالى : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
ص: 366
فَانْتَهُوا ) (1) وقال تعالى : ( لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) (2) ، وقال تعالى : ( لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ) (3) ، ومع ذلك لم يقتصر عمر على هذه الوجوه بل قابله بالشتم في وجهه وقال : بأن نبيكم ليهجر ، أي يهذي وقال تعالى : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) (4).
الثاني : إن النبي - صلى اللّه عليه وآله - لما أراد إرشادهم وحصول الألف بينهم وعدم وقوع الاختلاف والعداوة والبغضاء بكتب الكتاب الذي يكون نافيا لضلالهم أبدا بنص الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - منعه عمر وحال بينه وبين مراده وهو مأمور بتوقيره ، واتباع أوامره ، وقد قال اللّه تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) (5) ، فكيف ساغ لعمر أن يختار منع النبي - صلى اللّه عليه وآله - عن مراده مقابلا له في وجهه بحضرة أصحابه ولهذا كان عبد اللّه ابن عباس إذا ذكر هذا الحديث يبكي حتى تبل دموعه الحصى ويقول : يوم الخميس وما يوم الخميس (6) ، وكان يقول دائما : الرزية كل الرزية ما حال
ص: 367
بين رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - وبين كتابه (1).
فقال : أما قولكم إن قوله : إن نبيكم ليهجر شتم ، فغير مسلم ، أما الأول فلأنه لم يقصد بهذه اللفظة ظاهرها فإن في جلالة عمر ، وعظم شأنه ما يمنعه من ذلك ولكن إنما أخرجها على مقتضى خشونة غريزته ، وكان موصوفا بالخشانة وإباءة الطبع.
وأما ثانيا : فلأن قوله : إن نبيكم ليهجر ، مشتق من هجر مهاجرة ، فتكون معناه ان نبيكم ليهاجر ، وأما قولكم إنه منع النبي - صلى اللّه عليه وآله - عن كتابه ، وتقدم بين يديه ، ورده عن مراده ، فإنه اجتهاد رأيه فسوغ لمثله العمل باجتهاده فإنه لما رأى في اجتهاده أن ترك هذا الكتاب أصلح ، ساغ له المنع منه على مقتضى اجتهاده وإن كان مخطئا في ذلك الاجتهاد فإن الخطأ في ذلك غير معاقب عليه ، ولا يصح ذم فاعله لأنه أقصى تكليفه.
فقلت : هذا الجواب غير مسموع.
أما الأول : فإن قولك : إنه غير شتم ، دليل على قلة معرفتك بلغة العرب ، وعدم علمك باصطلاحاتهم في المخاطبات فإن ما هو دون هذه اللفظة عندهم شتم يقاتلون عليه ويتخاصمون ، فكيف بهذه اللفظة ، ولا ألومك على قلة معرفتك بذلك لأنك لست بعربي.
وأما قولك : فإنه لم يقصد بها ظاهرها إلى آخر الكلام ، فهو اعتراف منك بأن ظاهرها منكر وزور ونزهته عن ذلك فمن اين عرفت عدم قصده مع أنه تلفظ بها متعمدا واللفظ إذا وقع عن عمد وإرادة دل بظاهره على أنه
ص: 368
مراد المتكلم وظاهر الكلام دل على أنه منكر فادعاؤك عدم قصده يحتاج إلى دليل.
وأما قولك : إنما أخرجها على مقتضى خشونة غريزته ، فإن ذلك ليس بعذر يسقط التكليف ، لأن كل مكلف فطبعه يقتضي الميل إلى الشهوة والنفور عن الحسن مع أنه مكلف بكسر الشهوة فالواجب عليه حينئذ كسر هذه الغريزية وقطع هذه العادة والأصغاء والاستماع إلى قول النبي - صلى اللّه عليه وآله - والاتباع له في جميع الأحوال لأنه مكلف بذلك ، فبأي دليل ساغ له ترك ما كلف به والتنازع والرد على النبي - صلى اللّه عليه وآله - والتهجم عليه بالكلام المنكر على مقتضى طبعه ، إن ذلك لم يقع منه إلا لعدم علمه بالتكاليف ، وشدة سرعة نكرها.
وأما قولك : إن قوله إن نبيكم ليهجر مشتق من هجر مهاجرة معناه أن نبيكم يهاجر ، فقول مردود من جهة اللفظ والمعنى ، أما من جهة اللفظ فإن الاشتقاق الذي ذكرته لم يقل به أحد ، ولما وصلت في اعتراضي عليه إلى هذا الموضع أنكر عليه ذلك الملا المدرس؟
وقال : هذه اللفظة ليست من هذا الاشتقاق بل هو من هجر يهجر هجرا لا مهاجرة فإن ذلك على غير القياس ، وإذا كان معناها ذلك ما احتملت إلا الهجر الذي هو الهذيان ويرد عليك ما قاله الشيخ.
فاعترف بالخطأ في ذلك ، ثم عدت فقلت : وأما غلطك من جهة المعنى ، فإن قولك إن النبي - صلى اللّه عليه وآله - ليهاجر كلام لا فائدة له لأن المهاجرة من النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في تلك الحالة غير متصورة لأنه في حالة الاحتضار ولأن الهجرة قدانقطعت ومع ذلك فهو غير مطابق لمقتضى الحال.
ص: 369
وأما الثاني : فإن قولك : إنه إنما منع منه على مقتضى اجتهاده قول ضعيف جدا ، أما أولا : فلأن الاجتهاد غير سائغ في هذه المسألة.
وأما ثانيا : فلأن الاجتهاد لا يجوز مع وجود صاحب الشريعة ، فإن فرض الجميع في زمانه مع الحضور عنده التقليد لقوله تعالى : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) (1).
وأما ثالثا : فلأن الاجتهاد لا يعارض النص كما تقرر في الأصول ، وهذا الكلام من النبي - صلى اللّه عليه وآله - نص يقتضي وجوب اتباع أمره في الأتيان بالكتاب ، فكيف يصح أن يخالف نصه وأمره ويعارض بالاجتهاد ، فإن النص يفيد القطع ، والاجتهاد لا يفيد إلا الظن ، والظن لا يعارض اليقين ، فكيف يسوغ لعمر أن يترك اليقين القطعي المتلقى ممن لا ينطق عن الهوى بوحي اللّه تعالى ويرده ويهمله ويمنع منه ، ويعمل باجتهاده إن ذلك لضلال وقلة احترام للشرع ، وهتك للتكاليف ، ومع ذلك لم يقتصر على المنع والرد حتى تكلم بالشتم وتوصل إلى المنع من أقبح الجهات بلفظ منكر صريح المنكر بظاهره وباطنه ومع ذلك تقول إن ذلك اجتهاد ، أي اجتهاد يسوغ في هذا الموضع؟ وأي قول يسمع في رد كتاب النبي - صلى اللّه عليه وآله - يحصل بذلك صلاح الأمة ، وعدم وقوع الاختلاف بينهم؟
وأما قولك : إنه رأى ترك هذا الكتاب أصلح للدين ، فقول مخالف للمعقول والمنقول لأن ما أمر به النبي - صلى اللّه عليه وآله - إما أن يكون فيه فساد أو صلاح ، ولا سبيل إلى الأول لأحد لاستلزامه الكفر ، وإذا كان
ص: 370
صلاحا علمه النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - عن اللّه تعالى وعلم عمر أن الترك أصلح فهل كان النبي - صلى اللّه عليه وآله - واللّه تعالى يعلمان ما علمه عمر أم لا؟
فإن قلت : إنهما كانا يعلمان ما علم ، فكان الواجب عليهما العمل بالأصلح لأن فعل الأصلح واجب في الحكمة ، فكيف تركا العمل بالأصلح وعلمه عمر ، وهل كان ألطف بالخلق منهما؟
وإن قلت : إنهما لا يعلمان ، فقد أبطلت وأحلت فاختر أيهما فإنها لا تخالف المعقول والمنقول.
فقال : الذي ينبغي لذوي العقول أن لا يحملوا هذه الأشياء الواقعة بين هؤلاء الذين هم في محل التعظيم والشرف على مثل ما ذكرت ، بل ينبغي حملها على الوجه الجميل ، كما قيل إن بعض الناس سمع أعرابيا يقول مخاطبا لله عزوجل في سنة جدب :
قد كنت تسقي الغيث ما بدا لك *** أنزل علينا الغيث لا أبالك
فقال الشاهد : أشهد أنه لا أبا له ولا ولد ، فأخرجها على أحسن مخرج (1).
فينبغي لمن سمع هذه اللفظة من هذا القائل وأمثاله أن يحملها على مثل ما حمل عليه لفظ الأعرابي.
وأما قولك : إن الاجتهاد لا يعارض النص ، وإن عمر لا يسوغ له الاجتهاد في هذا المحل ، فإن ذلك على حالة غير هذه الحالة فإن هذه الحالة كانت حالة الاحتضار ، والنبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - مغلوب
ص: 371
بالمرض حتى أنه كان يغمى عليه مرة ويفيق اخرى ، فاحتمل أن يكون أمره في حال غير حالة الصحة ، فساغ له الاجتهاد والنظر حينئذ فأداه الاجتهاد إلى الحكم بأن ذلك منه حال كونه مغلوبا بالمرض.
فقلت : والذي ينبغي لأهل الدين والصلاح أن لا يحرفوا الكلم عن مواضعه ، وهذه الكلمة الخارجة من هذا القائل ليس لها محمل غير ظاهرها ، فلا يمكن حملها على غيره ، وأما حمل كلام الأعرابي على ما حمل عليه فإنه حمل ظاهر يعرفه من له أدنى روية ، ولفظة عمر لا تلقى أنت ولا غيرك لها محملا غير ظاهرها الذي شتم الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، فإن كان لها محمل فاذكره ، ولكنك تقول : ينبغي أن تحمل على غير ظاهرها مع عدم وجود محمل ، كيف يتصور ذلك! فالعجب منكم كيف تحملون ظواهر الايات التي فيها عقاب الأنبياء - عليهم السلام - على ترك الأولى على ظواهرها ، وتحكمون عليهم بالمعاصي والخطأ مع دلالة العقل على وجوب تنزههم عن ذلك مع وجود المحامل لظواهر تلك الايات ، وتتركون ذلك وتحملون كلام عمر الذي ظاهره المنكر ومرتبته أقل من مراتب الأنبياء بأضعاف على غير ظواهرها ، وتمنعون من جواز حمله على ظاهره مع أنه كلام لا محمل له ، وتتركون العمل بظاهرها بغير تأويل واضح ، ولا دليل لائح ، وهلا ساويتم بينه وبين الأنبياء الذين هم في محل التعظيم ، وما ذاك إلا من قلة إنصافكم ، وكثرة تستركم للحق ، وشدة تسرعكم إلى التعمية بإيراد الشبه.
وأما قولك : إن عمر إنما عارض أمر النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لأنه في حالة غير حالة الصحة ، ولو كان في حال الصحة لما عارضه ، فإنه كلام ردئ جدا لأن النبي - صلى اللّه عليه وآله - أمره بالكتاب
ص: 372
لا يخلو إما أن يكون متصفا بالعقل وأن أمره صدر عن إرادة جازمة أو غير ذلك ، ولا سبيل لك إلى الثاني لقوله تعالى : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ) (1) ، ولكن كلمة صاحبك تدل على ذلك وهي المنكر الذي نحن بصدد الاعتراض عليه ، ومن الأول يلزم وجوب اتباع أوامره ، والانقياد إلى إرادته ، وقبول أقواله لأنه واجب الطاعة في جميع الأحوال فلا يسوغ الاجتهاد حينئذ لأن الأمر الواقع عنه إيجاب لما أمر به فيكون أيضا يقتضي وجوب العمل به فالراد عليه يكون رادا لجميع الأوامر الشرعية ، وذلك على حد الشرك نعوذ باللّه.
وما أعجب حالكم تستدلون على إمامة أبي بكر بتقديم النبي - صلى اللّه عليه وآله - في مرض الموت في الصلاة وتجعلون ذلك حجة لكم في وجوب اتباعه ، وتجعلون الأمر منه بالكتاب الذي فيه هدي الأمة وعدم حصول الاختلاف بينهم محل الهذيان والهذر وتسوغون لعمر أن يمنع منه بالاجتهاد لجواز أن يكون هذرا وهذيانا في اجتهاده ، فكيف لا يحتمل الأمر في ذلك مثله ، إن هذا إلا قلة الأنصاف والخبط ، وأعجب من هذا أنكم تستدلون على خلافة عمر بأن أبا بكر نص عليه بها مع أن ذلك وقع منه في حال المرض بإجماع الكل ، فكيف لم تحمل كلام أبي بكر على الهذيان وتحمل كلام النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - على ذلك؟ فهل كان أبو بكر أكمل من النبي - صلى اللّه عليه وآله - وأتم؟! وما أحسن قول بعضهم في هذا المعنى شعرا :
أوصى النبي فقال قائلهم *** قد ضل يهجر سيد البشر
ص: 373
وأرى أبا بكر أصاب فلم *** يهجر وقد أوصى إلى عمر
(الى آخر المجلس الثاني)
المجلس الثالث : يوم الجمعة يوم آخر أتى المنزل لغرض له مع السيد محسن وكنت مع السيد ولم يكن معنا أحد فخلوت معه فجلس ، وقال : إن هذا اليوم المجلس خال من الناس وأريد أن أبحث معك في هذه الخلوة.
فقلت : تكلم بما تريد.
فقال : ابحث لي عن حال الخلفاء ، وما كانت صفتهم ، وما تعتقده منهم لأناظرك في ذلك.
فقلت : أما الخليفة الأول فقد ظهر من طريقته وصفته أن توصل إلى التقديم على المسلمين ، وأخذ الخلافة من آل الرسول - صلى اللّه عليه وآله - ، والتسارع إلى ذلك ، والتوصل إليه بما عرفت من الخدع والمكر والتحيل والتغلب وتحلى بحلية لم يحله اللّه بها ولا رسوله ، ويكفيك في ذلك تركه النبي - صلى اللّه عليه وآله - في حال مصيبة الموت لم يحضره ولا اشتغل بتجهيزه ، ولا عظمت عنده تلك المصيبة ، ولا جلت لديه تلك الرزية ، ولا التفت إلى ما أصاب الأسلام من الفادح العظيم ، والخطب الجسيم بموت النبي الكريم بل استغنم الفرصة باشتغال على - عليه السلام - وبني هاشم بمصيبتهم بالنبي - صلى اللّه عليه وآله - وولى هو تلك المصيبة العظيمة دبره ، ومضى إلى السقيفة لتحصيل الأمارة والمنازعة عليها ، وترك الحضور في عزاء نبيه وغسله ودفنه والصلاة عليه وتعزية أهله ، ولم يحضر هو ولا صاحبه شيئا من ذلك ، ووقوع ذلك منهم دليل على قلة احترامهم وعدم مبالاتهم بالأسلام ، وإنهم إنما ابتغوا بذلك نيل
ص: 374
الرئاسات والولايات لا للدين لأنهما ومن كان معهما في السقيفة من الأنصار وغيرهم لم يكن لهم قوة في الدين ولا عقيدة في الأسلام ، فإن كل من لم تدخل مصيبة النبي - صلى اللّه عليه وآله - في قلبه ، ولم تخشع لها جوارحه ، ولا اشتغل بها عن جميع مهماته فإنه ناقص الدين ، ضعيف الاعتقاد ، بل غير مسلم فكيف يليق بحال من هو متأهل لخلافة المسلمين والقيام مقام نبيهم أن يترك نبيه ميتا لا يحضره ولا يقوم بشئ من مهماته ، وحرمته ميتا كحرمته حيا بنص الشرع ، فالواجب عليه وعلى جميع أهل الأسلام الحضور لتلك المصيبة والاشتغال بها وتعزية بعضهم بعضا عليها حتى ينقضي عزاؤه ، ثم بعد ذلك يقومون في مهماتهم ، فلما علموا ذلك أهملوه غاية الأهمال وتسارعوا إلى المنازعة في سلطانه ، والقيام في مقامه قبل دفنه بل قبل غسله وقع ذلك منهم على ما ذكرناه مع أنه صهرهم ، ولا يليق بأحد من الناس أن يترك زوج ابنته بغير غسل ولا تكفين ولا دفن ، بل يعلم منه أنه كاره له غاية الأكراه وهذا واضح بحمد اللّه على ما هو عادة خلق اللّه ، بل يعلم منه الفرح والسرور بموته لا يشك فيه ذو لب ، ولا يحيد عنه إلا جاحد للرسول والرب ، بل وانهم شامتون بموته ومن له أدنى إنصاف يعرف ذلك.
ثم إنه لم يكفه ذلك حتى شرع في الظلم والجور فأول ظلم سنه ظلم البتول فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين التي هي من أولي القربى الذين أمر اللّه بمودتهم في محكم كتابه وجعله أجر الرسالة فقال تعالى : ( قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (1) ، وأى قرابة أبلغ من البنوة ،
ص: 375
وقد قال في حقها رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - : فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى اللّه ، ومن آذى اللّه فقد دخل النار (1). حديث اتفق عليه الفريقان.
منعها من إرث أبيها بخبر رواه وحده ولم ينقله أحد ، وهو قوله إن النبي - صلى اللّه عليه وآله - قال : نحن معاشر الأنبياء لا نورث (2) وهذا الحديث كذب لأن اللّه تعالى يقول : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ) (3) وقال : حاكيا عن زكريا : ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) (4) ، وأراد إرث المال لأنه تعالى قال بعده : ( وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) (5) لأنه لو أراد إرث النبوة لم يحتج إلى طلب كونه رضيا لأن الوارث لها لا يكون إلا كذلك ، وقال اللّه تعالى : ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) (6) ، وهو عام في حق النبي - صلى اللّه عليه وآله - وغيره ثم لم يقنعه ذلك حتى منعها من فدك والعوالي وقد كان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - قد أعطاها فاطمة - عليها السلام - لما نزل قوله تعالى : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) (7) واستغلتها فاطمة - عليها السلام - في حياة أبيها فرفع يدها عنها ،
ص: 376
فكلمته في الإرث وفيها ، فقلت : كيف ترث أباك ولا أرث أبي ، ثم قالت : وهذه نحلتي من أبي كيف تأخذها وتمنعني منها ، فطالبها بالبينة وهو غير المشروع لأن القابض منكر والبينة على المدعي ، ثم إنها أتت بعلي والحسن والحسين - صلوات اللّه وسلامه عليهم - وأم أيمن شهودا على النحلة ، فرد شهادتهم عنادا للشرع ، وتبطيلا للأحكام ، وبغضا لأهل البيت - عليهم السلام - ، كل ذلك ثبت بالروايات الصحيحة لا يسع أحد إنكارها لأن ذلك قد اتفق على نقله الفريقان ، ولهذا ما ماتت إلا وهي ساخطة على صاحبيك وحلفت ألا تكلمهما ، وأوصت ألا يصليا عليها (1) ، مع قول
ص: 377
النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : يا فاطمة ، إن اللّه يسخط لسخطك ، ويرضى لرضاك (1) ومن هذا حاله مع أهل بيت - عليهم السلام - كيف يؤمن على غيرهم؟ وكيف يصح اتباعه وتقليده؟ كيف تجعله واسطة بينك وبين خالقك؟ وله احوال غير ذلك لو نروم تعدادها لا تسع الخطاب ، قل منك الجواب.
وأمّا الخليفة الثاني : فقد عرفت ما كان عليه في حياة النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، ثم لما ولي الخلافة أظهر البدع ، وعمل بضد الصواب ، فمنع المتعة الثابت حلها في الشرع المحمدي ، وقد أمر اللّه بها ورسوله واتفق الكل على نقلها في زمن النبي - صلى اللّه عليه وآله - وزمن أبي بكر وبرهة من خلافته ، ثم منع منها مخالفا للكتاب والسنة والأجماع ، وقام وقعد في توطئة الأمر لأبي بكر حتى توعد الناس ممن تأخر عن بيعته بالضرب والقتل ، وأراد حرق بيت فاطمة لما امتنع علي - عليه السلام - وبعض بني هاشم من البيعة (2) ، وضغطها بالباب حتى أجهضت جنينها ، وضربها قنفذ بالسوط (3) عن أمره حتى أنها ماتت وألم السياط في جسمها ، وغير ذلك من الأشياء المنكرة.
فقال : إن ذلك من روايتكم وطريقكم فلا تقوم حجة على غيركم.
ص: 378
فقلت : أما الحديث الإرث والعوالي وفدك ، فقد رواه منكم الواقدي ، وموفق بن أحمد المكي.
وأما حديث المتعة ومنع عمر لها فمشهور عندكم ، وأما حديث الإحراق وإجهاض اجنين فبعضه مروي عنكم وهو العزم على الإحراق ، رواه الطبري والواقدي.
ثم عدت فقلت : وأما الخليفة الثالث فما كان عليه من المنكرات وعمل المقبحات فمشهور ، لا يحتاج إلى بيان ، فإنه ضرب ابن مسعود ، وأحرق مصفحه (1) ونفى أبا ذر إلى الربذة (2) ، ورد الحكم بن العاص بعد نفي النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - (3) وقوله - صلى اللّه عليه وآله - : لا يجاورني حيا ولا ميتا ، فمن خالف فعليه لعنة اللّه ، ثم آواه وقربه وأدناه ، ولم يكفه ذلك حتى طعن على النبي - صلى اللّه عليه وآله - في نفيه الحكم ، فقال عند وصوله المدينة : ما نفيت إلا بغيا وعدوانا ، واستعمل في ولايته أقرباءه بني أمية الفسقة المتظاهرين بالفسق وشرب الخمور ، ويكفيك في ذلك أن المسلمين أجمعوا على قتله لما أبدع في الدين وخالف ما عليه الخلفاء المتقدمين ، فقتلوه في بيته بين أهله ولم ينكر عليهم ذلك أحد من الصحابة وكان علي - عليه السلام - حاضرا في المدينة يشهد الواقعة ولو كان قتله غير جائز لوجب على علي - عليه السلام - الدفع عنه ومن حيث جاز قتله لم يصح الدفاع عنه فهو غير ... فاختر أيها شئت ، إما أن يكون علي - عليه السلام - ترك الدفع عنه مع وجوبه أو تركه لعدم جوازه.
ص: 379
فقال : يمكن أن يكون ترك الدفع تقية.
فقلت : هذا الكلام غير مسموع ، أما أولا فلأنه - عليه السلام - في تلك الحالة كثير الأتباع ، قليل الأعداء ، وجميع المسلمين يستطلعون رأيه ، ولم يكن هناك أحد ممن يعدلونه به وكان قوله مسموعا عندهم.
وأما ثانيا : فلأنه ترك بعد قتله ثلاثة أيام لم يدفن فهلا كان أمر بدفنه في تلك المدة ، وما ذاك إلا أنه غير مستحق للدفن.
وأما ثالثا : فلأنه كان الخليفة بعد قتله ، فلم لا أقاد قاتليه لوارثه ، وقتلهم به مع تمكنه من ذلك.
فقال : إني أحب أن تترك البحث في هؤلاء الثلاثة إلى غيرهم من بقية الخلفاء.
فقلت له : إنهم الأساس ، فلا يصح العدول عنهم حتى يتحقق عندك ما كانوا عليه وقد أوضحت لك طريقتهم ، ثم إني أسهل عليك الطريق ، ألم تعتقد أن عليا - عليه السلام - في غاية ما يكون من الصفات المحمودة ، والعدالة المطلقة ، وأنه ليس لطاعن عليه سبيل.
فقال : بلى أعتقد ذلك وأدين اللّه به.
فقلت : ما تقول في شكايته منهم وتظلمه ونسبتهم إلى غصب حقه (1) ، والتغلب عليه ، أليس يكون قادحا لعدالتهم ، ومبطلا لخلافتهم إذ لا يصح التظلم والشكاية ممن لم يفعل معه ما يوجب ذلك.
فقال : بلى إن ثبت ذلك.
فقلت : قد نقل ذلك عن علي - عليه السلام - نقلا متواترا لا يختلف
ص: 380
فيه يكفيك فيه الوقوف على كتاب نهج البلاغة الذي شاع ذكره عند جميع العلماء والمدرسين في الخطبة الموسومة الشقشقية (1) برواية ابن عباس وغيره.
فقال : إني لم أسمعها!!
فقلت : أتحب أن أسمعها لك؟
فقال : نعم.
فقلت : ذكر السيد الرضي - رحمه اللّه - في نهج البلاغة مرفوعا إلى ابن عباس أنه قال : كنت مع علي - عليه السلام - برحبة الجامع في الكوفة ، فتذاكرنا الخلافة وتقدم من تقدم عليه فيها ، فتنفس الصعداء.
فقال : أما واللّه لقد تقمصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ، ينحدر عني السيل ، ولا يرقى إلي الطير ، فسدلت دونها ثوبا ، وطويت عنها كشحا ، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير ، ويشيب منها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه ، فعلمت أن الصبر على هاتي أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجى ، أرى تراثي نهبا ، وحكيتها له إلى آخرها.
فقال : فمن يعرف من أصحابنا أن هذه الخطبة من لفظ علي - عليه السلام -؟
فقلت : هذا عبد الحميد بن أبي الحديد قد شرح نهج البلاغة وصحح هذه الخطبة وروى أنها من كلام علي - عليه السلام - وشرحها ، (2)
ص: 381
وتكلّم على من أنكر أنها من كلام غير علي - عليه السلام - ، أو قال : إنها من لفظ السيد الرضي بكلام يعلم منه أنه من كلام علي - عليه السلام - ، وقال : إن كلام الرضي لا يقع هذا الموقع ، ولا يبلغ هذا الحد.
وقال : إن مشايخنا من المعتزلة وغيرهم قد رووا هذه الخطبة عن علي - عليه السلام - وأثبتوها في مصنفاتهم قبل أن يكون الرضي موجودا بمدة (1) ، ثم إنه لم يسعه إنكارها واعترف بصحتها ، وأنه من كلام علي - عليه السلام - ، وحمل الشكايات الواردة فيها منه - عليه السلام - من الصحابة على انه إنما شكا على ترك الأولى لأنه كان - عليه السلام - الأولى والأحق بالخلافة منهم لفضله عليهم ، فلما عدلوا عن الأفضل الأحق إلى من لا يساويه في فضل ، ولا يوازنه في شرف ، ولا يقاربه في سؤدد وعلم ، صح له أن يبث بالشكوى والتظلم على هذا الوجه لا أنه على وجه الغصب والجور.
واعترضت عليه بأن ذلك غير مسموع لأنه نسبهم إلى أخذ حقه ، وسمى فعلهم نهبا ، قال : أرى تراثي نهبا ، وعنى بتراثه الخلافة لأنها إرثه من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، وهكذا شرح ابن أبي الحديد هذا اللفظ ، فقال : وعنى بالأرث هنا الخلافة لأنها إرث من النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، ثم إن كان العدول عن الأولى لمصلحة لم يصح من علي - عليه السلام - الشكاية منهم فيما عملوه مصلحة للمسلمين ، وإن كان لا لمصلحة كان عدولا عن الأولى لمجرد التشهي فيكون مردودا ، هذا مع أن العذر إنما يتصور على رأي من يقول بتفضيل علي - عليه السلام - على
ص: 382
الخلفاء الثلاثة وهم الأقل ، وأما المشايخ القائلون بتفضيل الثلاثة فما عذرهم مع أنهم الأكثر ، والسواد الأعظم فأحد الأمرين لازم ، إما الطعن على علي - عليه السلام - بتظلمه ممن ليس ظالما له ، وإما الطعن عليهم بأنهم أخذوا حقه ظلما.
فقال : ابن أبي الحديد ليس منا بل من الشيعة!!
فقلت له : هذا يدل على عدم اطلاعك بأحوال الرجال ، فإن ابن أبي الحديد مشهور بالاعتزال ، وهو من مشايخ المعتزلة ومشاهيرهم وله مصنفات حكى فيها مذهبه وأشعار (1) وكذلك ، فاعترف بذلك أنه معتزلي.
ثم قال : دعني حتى أتروى في هذه الخطبة ، فأخذت له نهج البلاغة وأخرجت له الخطبة منه ، فأخذ نهج البلاغة مني فطالع فيها ساعة ، ثم قال : إني لا أترك مذهبي واعتقادي في هؤلاء الثلاثة بمجرد هذه الخطبة.
فقلت : إذن أنت مكابر الحق!!
ثمّ إنه قال : فما ظنك في مثل الشيخ فخر الدين الرازي ، وأثير الدين الأبهري ، وجار اللّه العلامة الزمخشري ، وسعد الدين التفتازاني ، والسمرقندي ، والأصفهاني ، وغيرهم من العلماء المدرسين ملأت مصنفاتهم الافاق ، وشاع ذكرهم في جميع الأمصار كلهم على ضلال ، لو لا أن لهم على ما ذهبوا إليه دلائل ثابتة ، وبراهين واضحة لما ثبتوا على هذا المذهب ، ولا اعتقدوا خلافة هؤلاء الثلاثة ولكن لما ثبت عندهم بالأدلة القاطعة ، والبراهين الساطعة اعتقدوا ذلك وأثبتوه في مصنفاتهم وقرّروه
ص: 383
لأتّباعهم وتلاميذهم ، وإنما أخذت العلم عن مصنفاتهم فأنا لا أترك طريقهم مع اعتقادي صدقهم وعدالتهم ، واستفادتي من علومهم ، وأسلك طريق من لا أعرف صحة قوله ، ولا أعتقد عدالته ، ولا ثبت عندي علمه.
فقلت : إذن أنت مقلد لهم ، فقد خرجت عن حيز الاستدلال الذي حث اللّه عليه بقوله تعالى : ( ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (1) ، وقال تعالى : ( انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (2) إلى حيز التقليد الذي ذم اللّه فاعله ووبخه بقوله : ( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) (3) ، وقال تعالى : ( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ) (4) فكيف تترك الاستدلال المأمور به وترجع إلى التقليد المنهي عنه المذموم فاعله بنص الكتاب أم كيف يسوغ لك التقليد في مثل ما نحن فيه؟!
فقال : نعم ، التقليد في مثل هذه المسألة جائز لأن مسألة الأمامة ليست من أصول الدين ، بل هي عندنا من الفروع ، والفروع يصح التقليد فيها ، وأنا أقلد فيها وأترك الاستدلال.
فقلت : لا يصح ذلك ، أما أولا فلأن مسألة الأمامة ليست من الفروع ، بل هي من أعظم أصول الدين ، وأحد أركان الأيمان ، لأنها قائمة مقام النبوة في حفظ الشريعة ، وانتظام أمور العالم ، وبقاء نوع الأنسان في معاشه ومعاده ، والنبوة من الأصول اتفاقا ، فكذا القائم مقامه من غير فرق.
ص: 384
وأمّا ثانيا : فلأنا لو سلمنا أنها من الفروع لم يصح لك التقليد أيضا ، لأن التقليد في الفروع إنما يسوغ لمن لم يقدر على الاجتهاد ، ولا يتمكن من إقامة الدليل فيسوغ له التقليد حينئذ لعجزه عن الاستدلال لأن التكليف بغير المقدور قبيح ، وأما مع قدرة المكلف على الاستدلال وتمكنه منه لا يسوغ له التقليد لا في الأصول ولا في الفروع ، بل يجب عليه النظر والاستدلال بالبراهين والأمارات وأنت قادر على الاجتهاد ، متمكن من إقامة الدليل ، فلا يسوغ لك التقليد بل يجب عليك الاجتهاد والنظر في الأدلة والأمارات ، ومع ذلك فقد قام لك الدليل على بطلان خلافة هؤلاء الثلاثة فيجب عليك المصير إليه لأنه لم يعرض لك ما ينقضه أو يعارضه فكيف يسوغ لك التقليد بعد قيام الدليل ومعرفتك به وعدم حصول ما ينقضه أو يعارضه فكيف تتركه وترجع إلى التقليد.
وهذا شيء لم يقله أحد ، ولم يسوغه عالم مع أني أقول : إن كنت من المقلدين فلم رجحت تقليد هؤلاء المشائخ دون غيرهم من أمثالهم ، فإن في مذهبنا من العلماء والمصنفين والمدرسين مثل ما ذكرت وأزيد ، كالأمام المحقق نصير الدين الطوسي الذي سمي في المعقول المحقق ، وسمي فخر الدين بالمشكك ، وكذلك السيد مرتضى الموسوي الذي أفحم كل من ناظره وألزمه في جميع العلوم ، والشيخ المفيد محمد بن النعمان البغدادي الذي سمي به لكثرة استفادة الخلق من علومه ، والشيخ أبو الفضائل الطبرسي الذي أحيا علوم القرآن في جميع البلدان ، والشيخ أبو جعفر الطوسي الذي اشتهر عند العامة والخاصة ، والشيخ جمال الدين الحلي الذي سارت مصنفاته في جميع الأمصار ، والسيد شريف الحسني الذي درس في جميع بلاد العجم ، وركن الدين الجرجاني ، ونصير الدين
ص: 385
القاشي ، وغيرهم من علماء العرب والعجم فإن مصنفاتهم قد ملأت البلدان ، وذكرهم قد شاع في جميع الأمصار ، وقد أبطلوا في مصنفاتهم جميع الأدلة التي ذكرها علماؤكم وقابلوها بالأجوبة المسكتة ، وصنفوا في الأمامة كتبا ومصنفات ضخمة وذكروا فيها أدلة كثيرة على صحة إمامة علي عليه السلام بعد النبي - صلى اللّه عليه وآله - بلا فصل ، وأبطلوا إمامة غيره ، حتى أن الشيخ جمال الدين بن المطهر - قدس اللّه روحه - وضع كتابا سماه بكتاب الألفين (1) ذكر فيه ألف دليل على إمامة علي - عليه السلام - وألف دليل على إبطال إمامة غيره ، فما وجه الترجيح في تقليدك أولئك دون هؤلاء؟ فسكت ولم يجبني بشئ.
ثم قال : ابحث لي عن سيرة باقي الخلفاء من بعد علي ، واترك البحث عن المتقدمين.
فقلت : أول ما أبحث لك في معاوية وأسألك عما تعتقد به.
فقال : أعتقد أنه موحد مسلم سادس الأسلام ، وخال المؤمنين ، وأنه خليفة من خلفاء المسلمين ، لا يجوز وصمه ولا الطعن عليه بحال.
فقلت : وكيف تعتقد هذا الاعتقاد فيه مع أنه حارب عليا - عليه السلام - وقالته ، وخالف بين المسلمين حتى قتل كثيرا منهم ، وقد قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - : يا علي ، حربك حربي ، وسلمك سلمي (2) ، وهذا حديث اتفق عليه الكل أو تنكره أنت؟
ص: 386
فقال : لست أنكره.
فقلت : إذن حرب علي حرب رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، كفر بالأجماع ، فحرب معاوية عليا كذلك بمقتضى الحديث.
فقال : إن حربه كان باجتهاده والعمل بالاجتهاد جائز بل واجب وقد أداه اجتهاده إلى المحاربة وإن كان مخطئا في اجتهاده والخطأ في الاجتهاد لا لوم على صاحبه.
فقلت : لقد أبطلت وأحلت ، كيف أنت تترك الاجتهاد في الاستدلال على إثبات الخليفة بعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - وترجع إلى التقليد ، وتقول : إن مسألة الأمامة من الفروع التي يكفي فيها التقليد وتسوغ لمعاوية الاجتهاد في محاربة من نص النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - على أن حربه مثل حربه على الأمامة مع أنه في تلك الحالة إمام واجب الاتباع بالأجماع إن هذا إلا خبط وقلة حياء في إيراد الشبهة التي تعلم أنها ليست حجة.
ثمّ قلت له : أليس علي - عليه السلام - خليفة ثابت الخلافة بعد عثمان بما عندكم بالأجماع من أهل الحل والعقد؟
فقال : بلى.
فقلت : أليس معاوية قد خالف الأجماع ، ومخالف الأجماع كافر؟ وهل يصح الاجتهاد في مسألة بعد حصول الأجماع من الأمة على خلافه وقد تقرر في الأصول أن الاجتهاد لا يعارض الأجماع فكيف ساغ لمعاوية
ص: 387
الاجتهاد المؤدي إلى الفساد والاختلاف بين أمة محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، وحصول القتل العظيم ، ونهب الأموال حتى قتل في تلك الحرب عمار بن ياسر ، وقد قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في حقه : عمار جلدة بين عيني تقتله الفئة الباغية (1) ، هذا حديث نقله كل الأمة ولما قتل قال أهل الشام : نحن الفئة الباغية بنص الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لأنا القاتلون لعمار.
فقال معاوية مجيبا لهم بالتمويه وستر الحق : إنما قتله من جاء به إلينا فأوهمهم بهذه الشبهة أن الفرقة الباغية أهل العراق ، ولما سمع ابن عباس اعتذار معاوية بما ذكره ، قال : قاتل اللّه معاوية وأبعده يلزم أن يكون رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - قاتل حمزة وعبيدة وغيرهما من شهداء بدر وأحد ، لأنه هو الذي جاء بهم إلى الكفار (2) ، وكيف يعتذر لهم بهذا الاعتذار ومع ذلك فكيف يسوغ له سب علي - عليه السلام - ، وشتمه على المنابر وعلى رؤوس الأشهاد (3) ، حتى استمر على ذلك بنو أمية برهة من الزمان إلى وقت خلافة عمر بن عبد العزيز فرفعه (4) ، وكيف يسوغ له ذلك مع أن النبي - صلى اللّه عليه وآله - يقول : من سب عليا فقد سبني ، ومن
ص: 388
سبّني فقد سب اللّه (1) الحديث ، وهل يصح أن يجتهد في ذلك ، فما عذره وعذر من يعتذر له عند اللّه إذا سب من مدحه اللّه تعالى.
وأوجب حقه ، ونزهه عن الخطأ ، وفضله وكان أساس الأسلام بسيفه ونظام الأمة بتدبيره ، وأحكام الشريعة بعلومه ، وقد قال فيه رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : علي مع الحق والحق مع على يدور حيثما دار (2) ، حديث اتفق على نقله الكل ، ثم إني قلت : ما أظن عالما مثلك يقف على مثل هذه الأحوال ثم يتوقف ويخالطه شك في معاوية ، أليس مولانا
ص: 389
سعد الدين التفتازاني لما وقف على هذه الأحوال وتحققها تبرأ منه وسبه حتى اشتهر ذلك عنه في جميع بلاد خراسان ، فكيف تمدحه أنت أو تتوقف في وصمه؟
ثم قلت : ما تقول في يزيد؟
فقال : لا أشك أنه ملعون يجب على كل مسلم التبري منه لقتله الحسين - عليه السلام - ، بل وقتل الأنصار يوم الحرة (1) ، وضرب الكعبة بالمجانيق حتى هدمها (2) ، وحكيت له القصص.
فقال : إني لا أشك في لعنه.
فقلت : فإن خلافته مسببة من أبيه فكان العصيان والفسوق والفساد الحاصل منه كله مسببا عن أبيه فكانا نظيرين ، فإن الأب سم الحسن (3) - عليه السلام - ، والابن قتل الحسين - عليه السلام - ، فتعجب من قصة سم الحسن - عليه السلام -.
فقلت : إنها قصة ثابتة عند أهل السير والأحاديث وحكيتها له وما كان السبب فيها ، فوافق على التبري منه ولعنه.
فقلت : إن خلافته مسببة عن عثمان لأنه هو الذي استعمله على الشام فبقي متغلبا عليها ، مانعا لعلي - عليه السلام - عن التصرف فيها ، والسبب في ذلك عثمان حيث استعمل على بلاد الأسلام من يعلم فسقه
ص: 390
بل كفره حتى حصل منه الفساد ، وهتك الأسلام والمسلمين وخراب الدنيا والدين بما قد حصل بل أقول : إن قتل الحسين - عليه السلام - مسبب عن عمر بن الخطاب.
فقال : أقم لي الدليل على ذلك؟!
فقلت : الدليل واضح لأن الحق لائح فإنه لولا قصة الشورى التي ابتدعها عمر ، وتعدى في ابتداعها ، وأدخل عثمان فيها ، وجعل الأمر إلى عبد الرحمان بن عوف ، وأمر بقتل من يخالف الفريق الذي فيه عبد الرحمان لم يتوصل عثمان إلى الخلافة أصلا ولا كانت الأمة عدلت به عن علي - عليه السلام - لأنه لا يوازنه في الفضل ، ولا يماثله في سبق ، ولا يضاهيه في علم ، ولا يقاربه في سؤدد وشرف ، فكانت خلافته مسببة عن الشورى التي هي بنص عمر ، وخلافة معاوية مسببة عن عثمان لأنه جعله واليا على الشام (1) ولو لا عثمان لم يحصل لمعاوية ولاية الشام لخموله في الأسلام وكونه من الطلقاء والمؤلفة قلوبهم يعرف ذلك أهل السير فخلافة يزيد التي حصل بها قتل الحسين - عليه السلام - والأنصار وهدم الكعبة بنص معاوية ومتابعة أهل الشام ، وبذله عليها الأموال فكان قتل الحسين - عليه السلام - عن عمر وأنا أروي لك حديثا يعرف منه صحة ذلك.
فقال : وما هو؟
فقلت : إن عبد اللّه بن عمر لما قتل الحسين - عليه السلام - أنكر ذلك على يزيد واستعظمه ، فكتب عبد اللّه بن عمر إلى يزيد - لعنه اللّه - :
أما بعد فقد عظمت الرزية ، وجلت المصيبة ، وحدث في الأسلام
ص: 391
حدث عظيم ، ولا يوم كيوم الحسين - عليه السلام - (1).
فكتب إليه يزيد : أما بعد ، يا أحمق فإنا جئنا إلى بيوت مجددة ، وفرش ممهدة ، ووسائد منضدة ، فقاتلنا عليها ، فإن يكن الحق لنا فعن حقنا قاتلنا ، وإن يكن الحق لغيرنا فأبوك أول من سن هذا ، وأستأثر بالحق على أهله ، والسلام.
فسكت عبد اللّه بن عمر عن جوابه ، وأظهر للناس عذر يزيد فيما فعله.
فقال : هذا أظلم من يزيد - يعني عبد اللّه بن عمر - فإن عمر لم يأمر بذلك ولم يعلم ان الأمر يصل إلى يزيد ولو وصل إليه لم يعلم أنه يعمل مثل هذه المناكير ، فأي ذنب كان لعمر لأنه لم ينصب معاوية ولا نص عليه فضلا عن يزيد؟
فقلت : فإن عمر وإن لم يكن قد نص على معاوية فإنه نص على الشورى (2) التي كانت سبب خلافة عثمان ، وعثمان كان سببا في تولية معاوية ، ومعاوية كان سببا في خلافة يزيد ، فيكون عمر سببا في خلافة يزيد لأن سبب السبب سبب بالضرورة.
فقال : إنه لم يكن سببا تاما بل جزء السبب.
فقلت : الحمد لله قد اعترفت أنه جزء العلة ، وجزء العلة علة لتوقف التأثير عليه ، فقد صار عمر جزء العلة التامة في قتل الحسين - عليه السلام - باعترافك ، فاعترف وسكت.
وقال : ابحث لي عن باقي الخلفاء من بني العباس.
ص: 392
فقلت له : إن البحث عن أولئك الفروع لا فائدة فيه ، بل البحث عن هذه الأصول لأن خلافة اولئك مسببة عن هؤلاء ومع ذلك فإني أقول ما تقول في هذا الأمام المدفون في أرض خراسان الذي اسمه علي بن موسى الرضا - عليه السلام - الذي أنت تزوره وتتبرك بساحته صباحا ومساء ، وتتقرب إلى اللّه بزيارته؟
فقال : وما أقول فيه إلا أنه من ذرية الرسول واجب المحبة والمودة من جميع أهل الأسلام ، وأنه من أهل اللّه وخاصته وخالصته الذين صفاهم اللّه واصطفاهم بالعلم والعمل والزهد والفضل والشرف.
فقلت : وما تقول في أبيه الأمام موسى بن جعفر - عليه السلام -؟
فقال : أقول فيه : كما قلت في ابنه.
فقلت : وما تقول في خليفة حبس الأب ودس إليه السم حتى قتله ، وخليفة قتل الابن أيضا بالسم بعد الاعتراف بفضله؟!
فقال : ومن ذاك؟
فقلت : الخليفة الأول هارون الرشيد ، حبس الأمام موسى بن جعفر - عليه السلام - في حبس السندي بن شاهك مدة من الزمان ، وأعطاه السم فدسه إليه في الحبس حتى قتله ، وقد ثبت ذلك في الأخبار الصحيحة ، والخليفة الثاني ولده المأمون قد اشتهر عند الكل أنه كان يفضل الرضا عليه السلام وعقد له ولاية العهد بعده ثم أنه بعد ذلك قتله بالسم ، ثبت ذلك عند أكثر أهل العلم ولم يخالف فيه إلا القليل.
فقال : أريد أن تريني ذلك في مصنفات العلماء.
فقلت : تريد من علمائنا أو علمائكم.
فقال : اريد من الطرفين.
ص: 393
فقلت : أما من طرقنا فكثير ، مثل : كتاب إرشاد المفيد (1) ، وكتاب عيون الأخبار لابن بابويه (2) ، وكتاب كشف الغمة للأربلي (3) وغيرها ، وبالاتفاق في بيت السيد محسن كتاب (عيون الأخبار) فأوقفته على قصة الأمام موسى الكاظم - عليه السلام - مع الرشيد وما جرى عليه من الأمور المنكرة وما قتل من بني هاشم وما خاف منهم حتى تفرقوا في البلاد ، وما حبس منهم حتى ماتوا في الحبس والأغلال ، فأنكر عليه غاية الأنكار ، وبكى لما جرى على بني هاشم واعترف بصحة قولي.
ثم قلت : فأما طرقكم فلم يحضرني الان شئ من كتبكم.
فقال السيد : بلى عندي هنا كتاب يسمى كتاب العاقبة مصنف لبعض الشافعية فلعل فيه شئ من ذلك.
فقلت : هات الكتاب ، فجاء به ففتشناه فوجدناه مشتملا على ذكر عواقب الأمور ، فجرى فيه فصل يذكر فيه عواقب الخلفاء فوقفناه على ذلك الفصل فوجدناه قد اشتمل على ذكر عواقب ذميمة وأخلاق ردية كانت لهم حتى أنه ذكر أن منهم من مات مخمورا ، ومنهم من تعشق جارية ، ومنهم من مات تحت الغناء وضرب الأوتار ، وأمثال ذلك.
فلما وقف الملا على ذلك وتحقق صحته قال : اللّهم إني أشهدك أني أتبرأ إليك من جملة هؤلاء الخلفاء من بني أمية وبني العباس وأدينك بالبراءة منهم واللعن عليهم ومن أتباعهم ، فظهر عليه الغلب.
ثم إنّا وجدنا في كتاب العاقبة حديثا يسنده إلى علي - عليه السلام -
ص: 394
وهو أنّه قال يوما وهو جالس في نفر من أصحابه : أنا أول من يجلس بين يدي اللّه يوم القيامة للخصومة مع الثلاثة (1) ، فلما رأيت هذا الحديث مسندا إلى علي - عليه السلام - قلت له : إن هذا الحديث حجة عليك.
فقال : إن صاحب الكتاب قد حمله على غير الثلاثة الذين تدعونهم ، فإنه قال : المراد بالثلاثة عتبة وشيبة والوليد الذين برزوا إلى حمزة وعبيدة يوم بدر.
فقلتُ : هذا الحمل بعيد لأن الشكوى من قبلهم بل ظاهر الحديث يقتضي أنه يشتكي من ظلامته من الثلاثة ولا يعرف له ظلامة من ثلاثة يشتكي منهم عند اللّه إلا من الثلاثة الذين أخذوا حقه ، واستأثروا بالأمر من دونه مع أن الاستحقاق كان له دونهم ، وذلك لا ئح ، ثم إني قلت : ما تقول في الحديث المروي عن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وهو قوله لعلي - عليه السلام - : يا أبا الحسن ، إن أمة موسى افترقت إحدى وسبعين فرقة ، فرقة ناجية ، والباقون في النار ، وإن أمة عيسى - عليه السلام - افترقت اثنين وسبعين فرقة ، فرقة ناجية ، والباقي أهل النار ، وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة ناجية ، والباقي أهل النار (2)؟
فقال : حديث صحيح.
ص: 395
فقلت : من الفرقة الناجية ، إن هي إلا أهل البيت الذين شهد اللّه لهم بالتطهير من الرجس بحكم الكتاب العزيز في قوله تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (1). فإن هذه الاية نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين - عليهم السلام - باتفاق الكل لما ألحفهم النبي - صلى اللّه عليه وآله - بكسائه وقال : ( اللّهم أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ) (2).
إن اللّه أمره في الاستعانة بهم في الدعاء في مباهلة النصارى بنص القرآن قال اللّه تعالى : ( قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (3). ولما خرج النبي - صلى اللّه عليه وآله - للمباهلة لم يخرج بأحد غيرهم باتفاق الكل فعلم أنهم المعنيون في الاية دون غيرهم.
وقال النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : مثل أهل بيتي كمثل سفينة
ص: 396
نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق (1) فأيما الأولى بالاقتداء والاتباع؟ هل هؤلاء وأتباعهم السالكين آثارهم ، والمقتدين بأقوالهم وأفعالهم أو الجاحدين لهم الضالين عن طريقهم ، المقتدين لمن لم ينص اللّه تعالى على طهارته ولا حض على اتباعه ولا أمر نبيه بالاستعانة بدعائه ، بل أقول : الأحق بالاتباع ، والأولى بالاقتداء مذهب الأمامية ، ويدل على ذلك وجوه.
الأول : أنهم أخذوا مذهبهم عن الأئمة الذين يعتقدون عصمتهم وفضلهم وعلمهم وزهدهم وشرفهم على أهل زمانهم فوافقهم الخصم على ذلك فاعترف بفضلهم وعدالتهم وعلمهم وزهدهم وشرفهم على أهل زمانهم حتى أنهم صنفوا في فضائلهم وتعداد مناقبهم كتبا مثل كتاب ابن طلحة (2) ، وكتاب غاية السؤول في مناقب آل الرسول لابن المغازلي ، وكتاب أبي بكر محمد بن مؤمن الشيرازي المستخرج من التفاسير الاثني عشر ، وكتاب موفق بن محمد المكي ، وغيرها من الكتب ، وإذا كان الخصم مساعدا على مدح هؤلاء الأئمة الذين اعتقدوا الأمامة فيهم وليس لطاعن إليه سبيل كانوا بالاتباع أولى ممن لا يساعد الخصم على مدح أئمتهم بل طعن فيهم ببعض المثالب الشينة ، وظهرت عنهم الأعمال القبيحة رواها مجموع الأمة من يعتقد إمامتهم وغيرهم فأي الفريقين
ص: 397
حينئذ أولى بالاقتداء وأحق بالاتباع هؤلاء الذين اتفق الكل على مدح أئمتهم وتعظيمهم أو أولئك الطاعنون في أئمتهم المقدوح في عدالتهم من أتباعهم وغيرهم ، ومع ذلك مشاهدهم اليوم من تعظيم الناس كقبور هؤلاء الأئمة واجتماع العام والخاص عليها وزيارتهم لها وتبركهم بقصدها من جميع الأقطار وكونها في غاية التعظيم في قلوب جميع الخلق دليل واضح على عظم شأنهم عند اللّه تعالى ، وأنهم الأئمة الذين أوجب اللّه حقهم على خلقه ، وجعلهم حجة عليهم ، ان النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - نص على وجوب اتباع أهل بيته وسلوك آثارهم والاقتداء بهم وحض الناس على ذلك في روايات كثيرة من الطرفين ، ولا حاجة في إيراد الروايات الواردة في ذلك من طرق الأمامية لشهرتها عندهم.
وأمّا ما ورد من طرق الجمهور فكثير نورد بعضها من جملته في الجمع بين الصحاح الستة عنه - عليه السلام - قال : رحم اللّه عليا ، اللّهم أدر الحق معه حيثما دار (1).
وروى أحمد بن موسى بن مردويه من عدة طرق أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : الحق مع علي ، وعلي مع الحق ، لن يفترقا حتى يردا على الحوض (2).
وفي مسند أحمد بن حنبل ، عن جابر قال : قال رسول اللّه - صلى اللّه
ص: 398
عليه وآله وسلم - : يا علي ، خلقت أنا وأنت من شجرة أنا أصلها ، وأنت فرعها ، والحسن والحسين أغصانها ، فمن تعلق بغصن من أغصانها أدخله اللّه تعالى الجنة (1).
وروى عنه سعيد قال : قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : إني قد تركت فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا ، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، إلا وانهما لا يفترقان حتى يردا على الحوض (2).
وفي صحيح مسلم في موضعين ، عن زيد بن أرقم قال : خطب بنا رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - بين مكة والمدينة ، ثم قال بعد الوعظ : أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول اللّه ربي فأجيبه فإني تارك فيكم الثقلين ، أولهما كتاب اللّه تعالى ، والثاني أهل بيتي.
وروى جار اللّه العلامة الزمخشري بإسناده قال : قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : فاطمة مهجة قلبي ، وابناها ثمرة فؤادي ، وبعلها نور بصري ، والأئمة من ولدها أمناء ربي ، حبل ممدود بينه وبين خلقه من اعتصم به نجا ، ومن تخلف عنه هوى (3).
وروى الثعلبي (4) في تفسيره بأسانيد متعددة أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : أيها الناس قد تركت فيكم الثقلين إن أخذتم بهما لن
ص: 399
تضلّوا ، كتاب اللّه حبل ممدود بين السماء والأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض.
وفي الجمع بين الصحيحين للحميدي : إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم الثقلين ، كتاب اللّه فيه الهدى والنور ، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض.
وكذلك في رواية موفق بن أحمد المكي وفي صحيح البخاري في موضعين بطريقين عن جابر ، وعن عيينة قال : قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - : ما يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش.
وفي رواية أُخرى : لا يزال الأسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة كلهم من قريش.
وفي صحيح مسلم (1) : لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش.
وفي صحيح أبي داود ، والجمع بين الصحيحين ، وتفسير الترمذي ، قال : لما كرهت سارة مكان هاجر أمر اللّه إبراهيم - عليه السلام - فقال : انطلق بإسماعيل وأمه حتى تنزله البيت التهامي - يعني مكة - فإني ناشر ذريته وجاعلهم ثقلا على من كفر بي ، وجاعل منهم نبيا عظيما ومظهره على الأديان وجاعل من ذريته اثني عشر إماما عظيما.
وعن مسروق ، قال : سألت عبد اللّه بن مسعود ، فقلت له : كم عهد
ص: 400
إليكم نبيكم يكون بعده خليفة؟
فقال : إنك لحدث السن وهذا شئ ما سألني عنه أحد ، نعم عهد إلينا نبينا يكون بعده اثنا عشر خليفة عدد نقباء بني إسرائيل ، والروايات في هذا المعنى كثيرة من طرق الجمهور لو أردنا الاستقصاء لطال علينا الأمر واتسع ، وقد دلت هذه الأحاديث على الحث والأمر بالاقتداء بأهل البيت ، ووجوب اتباعهم ، والتمسك بطريقهم ، فإنهم اثنا عشر خليفة من ذرية الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ولا قائل بالحصر في الاثني عشر سوى الأمامية القائلين بإمامة هؤلاء المشهورين بالفضل والعلم والزهد عند أهل الاسلام فوجب الاقتداء بهم والانحياز إلى فريقهم ، وظهر أن مذهب القائل بإمامتهم واجب الاتباع.
إنّ أحسن الاعتقادات ، وخير المقالات ما اشتمل عليه مذهب الأمامية أصولا وفروعا ، يعرف ذلك من اطلع على أصول المذاهب ، ونظر في فروع الاعتقادات ، فإنه بعد النظر الخالي عن مخالطة الشبه والتقليد يتحقق أن مذهب الامامية من بينهم أولى بالاتباع ، وأحق بالاقتداء وقد صدق فيهم قوله تعالى : ( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) (1) ، فإن في أصولهم من تنزيه اللّه تعالى وتعظيمه وتنزيه الأنبياء والأئمة وتعظيمهم ما لا يكون في أصول غيرهم فإنهم نزهوا اللّه عن التشبيه ، والرؤية ، والاتحاد ، والحلول ، والمعاني القديمة ، وخلق أفعال العباد ، والرضى بالكفر والفسوق ، ونسبة القبائح والسرقة إليه وكون أفعاله لا لغرض وأنه كلف ما لا يطاق.
ص: 401
واعتقدوا في الأنبياء أنهم معصومون عن الخطأ والمعاصي ، الصغائر والكبائر ، والنسيان والسهو ، من أول أعمارهم إلى آخرها ، وأن أئمتهم أيضا معصومون عن الخطايا والمعاصي ، وأنهم أعلم الخلق بعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - وأفضلهم ، وأكرمهم نفسا ، وأشرفهم نسبا (1).
وفي مذاهب السنة ما يخالف ذلك وينافيه فجوزوا التشبيه (2) والجهة (3) والاتحاد (4) والحلول (5) والتجسيم (6) والرؤية (7) ، والمعاني الزائدة القديمة ، وقالوا : إنه لا فاعل في الوجود إلا اللّه ، وإن جميع المعاصي والقبائح والشرور كلها بخلق اللّه وإرادته (8) وإن العباد
ص: 402
مجبورون (1) وأنه راض بالكفر والمعاصي وان أفعاله لا لغرض ، وان القبائح بخلقه وانه كلف عباده فوق ما يطيقون ، وان الأنبياء يجوز عليهم الكفر والمعاصي والخطأ والنسيان (2) ورووا في نبيهم روايات تقتضي الدناءة والخسة ورووا أنه نسي فصلى الظهر ركعتين ولم يذكر حتى ذكره بعض أصحابه (3) ، وأنه دخل المحراب للصلاة بالناس جنبا ، وأنه يستمع إلى اللعب بالدفوف وغناء البغات (4) ، وأنه بال قائما (5) ... ، وغير ذلك من الأشياء القبيحة التي لا تليق بأدنى الناس.
وقالوا : إن الخلفاء الذين تجب طاعتهم جائزوا الخطأ والمعاصي والكبائر ، وأنهم غير عالمين بما تحتاج إليه الأمة ، بل لهم الرجوع إلى الأمة والاحتياج في الفتاوى والأحكام إليهم ، وأنهم لا يحتاج إلى أن يكونوا أفضل الخلق ، ولا أشرفهم نسبا ، ولا أعلاهم محلا في الأسلام.
وأمّا الفروع فإن الأمامية لم يأخذوا بالقياس ، ولا بالرأي ، ولا بالاستحسان ، ولا اضطربوا في الفتاوى ، ولا اختلفوا في المسائل ، ولا كفر بعضهم بعضا ، ولا حرم بعضهم الاقتداء بالاخر ، لأنهم أخذوا فتاواهم وأحكامهم عن أئمتهم الذين هم ذرية الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - الذين يعتقدون عصمتهم ، وأنهم أخذوا علومهم واحدا عن واحد ، وكابرا عن كابر ، وآخر عن أول إلى جدهم ، فكانت فروعهم أوثق الفروع ،
ص: 403
وشرعهم أحسن الشرائع ، ودينهم أتم الأديان فإن غيرهم أخذوا بالقياس والاستحسان والرأي ، وأسندوا رواياتهم عن الفسقة والمتعمدين للكذب ، وافترقوا أربع فرق ، كل فرقة تطعن على الأخرى ، وتتبرأ منها (1) ، ويكفرون بعضهم بعضا ، ويحللون ويحرمون عمن هو جائز الخطأ والمعاصي والكبائر.
وانقطعت عنهم مواد الأخذ عن النبي - صلى اللّه عليه وآله - لأنهم لم يرضوا بالاتباع لأهل بيته ووضعوا الشرع على مقتضى رأيهم وزادوا فيه ونقصوا وحرفوا وغيروا ، فأحلوا ما حرم اللّه ، وحرموا ما أحل اللّه لأنهم لم يأخذوا الحلال والحرام عن من لا يجوز عندهم كذبه وخطاؤه كالأمامية فكان حينئذ حلالهم وحرامهم وفرائضهم وأحكام شرعهم معرضة للخطأ والكذب لأنها ليست عن اللّه تعالى ، ولا عن رسوله ، يعرف ذلك من اطلع على أصولهم وفروعهم ، فإنا نجد في فتاويهم الأشياء المنكرة التي تخالف المعقول والمنقول ومن له أدنى إنصاف واطلاع بأحوال المذاهب يعرف ذلك ويتحققه ، ومصنفات الفريقين تدل على صحة ذلك ، وإذا نظر العاقل المنصف في المقالتين ، ولمح المذهبين عرف موقع مذهب الإمامية في الأسلام وأنهم أولى بالاتباع ، وأحق بالاقتداء لأنهم الفرقة الناجية بنص الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم -.
وقد روى أبو بكر محمد بن موسى الشيرازي في كتابه المستخرج من التفاسير الاثني عشر في إتمام الحديث المتقدم بعدما قال النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : ستفترق أمتي بعدي على ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة
ص: 404
ناجية ، والباقون في النار (1).
قال علي - عليه السلام - : يا رسول اللّه من الفرقة الناجية؟ قال : المتمسكون بما أنت عليه وأصحابك.
وفي الأحاديث المذكورة آنفا ما يدل على أن المتبعين لأهل البيت - عليهم السلام - ، والمقتدين بهم هم الفرقة الناجية بحث الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - على الاقتداء بهم ، والتمسك بما هم عليه ، وإيجاب ذلك على جميع الخلق بروايات الكل فعلمنا علما ضروريا أن أهل البيت هم الفرقة الناجية ، فكل من اقتدى بهم ، وسلك آثارهم فقد نجا ، ومن تخلف عنهم وزاغ عن طريقهم فقد هوى ، ويدل عليه الحديث المشهور المتفق على نقله : مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ، وهذا حديث نقله الفريقان وصححه القبيلان لا يمكن لطاعن أن يطعن فيه وأمثاله في الأحاديث كثيرة.
فقال الملا الهروي : ما ذكرته في وجوه هذه الدلالات على أن مذهب الأمامية واجب الاتباع ، وأنهم هم الفرقة الناجية يكثر على السامع بروايات الاحاد ، وأيضا فإن أهل السنة يقولون في مذهبهم من المدائح مثل ما ذكرت وأكثر ما يذمون مذاهب غيرهم بأقبح الذمائم وقد قال تعالى : ( كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) (2).
وقال الشاعر :
كل بما عنده مستبشر فرح *** يرى السعادة فيما قال واعتقدا
وفي المثل : الكل في ريقه في فيه حلق ، ولكن الذي ينبغي لذوي
ص: 405
العقول والعلم والإنصاف في المجادلة قلة الانشغال في المدح والذم فإنه باب واسع يطول فيه المجال ، ويكثر فيه من الطرفين التعداد والمقال.
فقلت : أنت محق في ذلك ، وقد قلت الأنصاف ، ولكن ما تقول في هذه الأحاديث المروية في كتبكم التي تشتمل على حصر الخلفاء في اثني عشر من قريش أليس هي دالة على صحة مذهب الأمامية لأنهم قائلون بتخصيصها في اثني عشر من ذرية الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - دون غيرهم من الفرق؟
فقال : هذه الأحاديث معارضة بأمثالها والذنب فيها على الرواة.
فقلت : إن الروايات إذا وردت من الطرفين ، وتظافرت من رجال الفريقين ، وساعد على إيرادها الخصمان صارت متواترة عند الأمة فيجب المصير إليه والترك لما ورد من الطرف الواحد وهذه الأحاديث المعارضة لهذه الأخبار المروية من الطرفين لم تروها الكل ولم يتفق على نقلها الفريقان ، بل ردها الخصم وأنكرها ، فكان حينئذ الأولى في الترجيح الواجب على السامع العمل بما اتفق على نقله ، وطرح ما اختلف فيه من المعارضة لأنه الاحتياط التام ، والأخذ بالحزم من الرأي.
ثم قلت : ومع هذا فهنا برهان واضح ، ودليل لائح موجود الان مشاهد بالأبصار ، وقد شاع في جميع الأمصار.
فقال : وما هو؟
فقلت : هذا مشهد الحسين - عليه السلام - يزوره الزوار من كل البلاد في ميقات ، وله في كل سنة ميقات ، هو أول ليلة من شهر رجب يجتمع عنده عالم كثير من الأمامية وأهل السنة وغيرهم بعمي وصم ويأتون أهل السنة يرونهم مقعدين ويضعونهم على ساحته - عليه السلام - تلك الليلة
ص: 406
فكل من خرج من أولئك العمي والصم والمقعدين من دين السنة ، وتبرأ منهم ، ونظف قلبه ، وخلص اعتقاده برئ من علته ، وصار بصيرا ماشيا بعد العمى والإقعاد ، ومن بقي على حالته فلم يبرأ مما به ، فما تقول في هذه المعجزة؟
فهل عندك في هذا طعن ، أو لك إلى القدح فيه سبيل؟ وهل ذلك دال على أن مذهب أهل السنة على الخطأ والباطل وأنه يجب على كل مكلف الخروج منه والدخول في مذهب الأمامية ، وهذا دليل واضح وبرهان لائح مشاهد بالأبصار ، لا يمكن لأحد رده ، ولا الطعن فيه.
فقال : ومن شاهد هذا ، ومن عرف صحته؟
فقال السيد محسن : إن هذا ثابت بالتواتر من الأمة إن ذلك يقع عند الحسين - عليه السلام - في كل عام ، لا ينكره إلا مكابر ولو شئت لأسمعتك هذه المعجزة ممن شاهدها ورآها أربعون رجلا وخمسون ، وأكثر من أهل الصلاح والدين.
فقال : إن صح ما ذكرتم فهو حجة قاطعة ، ودليل ظاهر ، ولما وصلت المجادلة إلى هذا الحد أذن المؤذن للصلاة ، فقمنا لصلاة الجمعة ، وتفرق المجلس ولم ألقه بعد ذلك ، وقد حكى لي السيد محسن أنه لقيه بعد مفارقته لنا بأيام وسأله عن حاله فظهر له منه أنه بقي مترددا لا مذهب له ، وأنه قال : أريد أمضي إلى الحسين - عليه السلام - لأنظر ما حكيتموه من المقعد والأعمى إذا خرجا من مذهب أهل السنة ودخلا في مذهب الأمامية.
وبعد ذلك لا نعرف ما صار إليه أمره ، وهذا ما كان بيني وبينه من المجادلة في المجالس الثلاثة التي ذكرت ، ومن المجادلة على الاستقصاء.
والحمد لله على ظهور الحق ، وزهوق الباطل ، إن الباطل كان زهوقا ،
ص: 407
ونستغفر اللّه عن الزيادة والنقصان فإنه هو الغفور الرحيم المستعان.
تمت الرسالة يوم الثلاثاء حادي عشر من شهر جمادى الاخرة من سنين خمس وتسعين وتسعمائة من الهجرة النبوية حرره الفقير الحقير المذنب الجاني ، المحتاج إلى رحمة اللّه صالح بن محمد بن عبد الأله السلامي في بلدة إصفهان ، رحم اللّه من دعا لمالكها ولكاتبها بالغفران آمين رب العالمين ، والحمد لله رب العالمين (1).
ص: 408
مناظرة (1) مع قطب الدين عيسى
قد ورد علينا قديما إلى الشام ، سيد من سادات شيراز الصفوية ، اسمه قطب الدين عيسى ، كان قد هرب قديما مع أبيه من الشاه إسماعيل إلى الهند وكان في الطبقة العليا من الفضل ، وله مصنفات وتحقيقات شتى ، قرأت عليه جانبا من شرح التجريد وكان لقنا منصفا ، وعلم مني الميل إلى أهل البيت - عليهم السلام - وشيعتهم ، وكان يميل إلى البحث معي في المذهب ويقول : قل كل ما تعلمه من جهتهم.
فقلت له يوما : هل أوجب اللّه في كتابه أو نص رسوله - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أو أجمع أهل الأسلام أو قام دليل عقلي على وجوب اتباع الشافعي بخصوصه؟
قال : لا.
قلت : فلم اتبعته؟
قال : لأنه مجتهد وأنا مقلد! فيجب علي اتباع مجتهد.
قلت : فما تقول في الأمام جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - عليهم السلام - هل كان مجتهدا؟
ص: 409
فقال : كيف لا يكون ذلك وتلاميذه المجتهدون كانوا نحو أربعمائة مجتهد ، أحدهم أبو حنيفه.
قلت : فما تقول فيمن تبعه؟
قال : هو على الحق بغير شبهة ، ولكن مذهبه لم ينقل كما نقل مذهب أبي حنيفة.
فقلت له : تعني أنه لم ينقله أحد أصلا أم أهل السنة لم ينقلوه ، فإن أردت الأول لم يتمش أما أولا ، فلأنه شهادة على نفي فلا تسمع ، لأن مضمونها أني لا أعلم أن أحدا نقله ، وأما ثانيا ، فلأنه مكابرة على المتواترات المشتهرة لأن نقل أحاديثهم وآدابهم وعباداتهم ومذهبهم في فروع الفقه ومعتقداتهم بين شيعتهم أظهر من الشمس ، وقد نقلوا من ذلك ما يزيد على ما في الصحاح الست بأسانيد معتبرة ، ونقحوا رجال الأسانيد بالجرح والتعديل غاية التنقيح ، ولم يقبلوا رواية إلا من ثبت توثيقه ، ويقولون إن أئمتهم ومجتهديهم في كل عصر من لدن علي بن أبي طالب - عليه السلام - إلى يومنا هذا لا يقصرون عن علماء فرقة من الفرق ، بل هم في كل زمان أعلم وأكثر مما في زمن أئمتهم الاثني عشر - صلوات اللّه وسلامه عليهم - فواضح أنه لم يماثلهم أحد في علم ولا عمل ، لأن قولهم لم يكن بظن واجتهاد وإنما كان بالعلم الحقيقي اما بنقل كل واحد عن أبيه إلى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وإما بالكشف والألهام ، بحيث يتساوى صغيرهم وكبيرهم ، ولهذا ما روي أن أحدا منهم في صغره ولا في كبره تردد الى معلم أو استفاد من أستاذ ، ولا سئل أحدهم عن سؤال فتوقف أو تعلم أو رجع إلى كتاب أو احتاج إلى فكر ، ومن وقف على سيرهم التي نقلها مخالفوهم فضلا عن مناقبهم وفضائلهم كتبا لا تدخل
ص: 410
تحت الحصر.
وأما تلاميذهم كمحمد بن مسلم (1) وهشام بن الحكم ، وزرارة بن أعين (2) ، وجميل بن دراج (3) ، وأشباههم ، فإنهم يزيدون عن الحصر حتى كان بيت جعفر الصادق - عليه السلام - كالتجار أو السوق يزدحم حتى المستفيدون منه والاخذون عنه من كل الفرق ، وأكثر هم كانوا مجتهدين أصحاب مذاهب ، ذكرهم علماء السنة وأثنوا عليهم بالعلم والعمل بما لا مزيد عليه ، ومن طالع كتب الرجال لأهل السنة علم صدق ذلك.
وأما بعدهم فإن لهم من العلماء من لا يقصر عنهم مثل الشيخ محمد
ص: 411
الطائفة محمد بن النعمان المفيد (1) ، والشيخ أبي جعفر الطوسي (2) ، وابن البراج (3) ، والسيد المرتضى علم الهدى (4) ، وأبي القاسم جعفر بن سعيد الحلي (5) ، والشيخ سديد الدين الحلي (6) ، وولده الشيخ جمال الدين (7) ،
ص: 413
وولده فخر المحققين (1) ، ومولانا نصير الدين الطوسي (2) ، والشيخ. الشهيد (3) ، وأمثالهم ممن لا يحصرهم حد ولا عد ، ومصنفاتهم وتحقيقاتهم في العلوم العقلية والنقلية قد ملأت الخافقين ، ونقلها أهل السنة في مصنفاتهم كما لا يخفى ، ولا يدعون أن الشيعة أكثر من أهل السنة بل ولا يرضون ذلك ويجدونه نقصا في شأنهم لأنه قد صح عن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أنه قال لأمته : لتركبن سنة من قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة (4) وهو كما قال.
والباري عزوجل قد أخبر في كتابه العزيز أن الفرقة القليلة من كل الأمم كانت هي المحقة الناجية كقوله تعالى : ( وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا
ص: 414
قَلِيلٌ ) (1) ، ( وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) (2) ( وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ ) (3) ( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ ) (4) وأمثال ذلك كثير ، وعلى هذا القياس كلما كان في الدنيا أقل فهو أعز ، كالأنبياء في نوع والمعادن وهلم جرا ويقولون لا يضرنا قلتنا بل هي دليل احقيتنا.
والذي أوجب خمولنا في الجملة استيلاء أعدائنا على أئمتنا - عليهم السلام - وعلى شيعتهم لأن أعداءنا كانوا ملوك الأرض الناس على دين ملوكهم إما ظاهرا فقط ، وإما ظاهرا وباطنا ، وأكثر أئمتنا - عليهم السلام - مات قتلا بالسيف أو سما في الحبس ، وأكابر علمائنا في أكثر الأوقات كانوا خائفين مستترين بالتقية ، والملوك إنما يقبلون ويرفعون من يوافقهم في العقيدة ويعظمون محله ليضعوا من أهل البيت - عليهم السلام - وشيعتهم ، ومع كثرة أعدائنا وعظمتهم في الدنيا لم يمكنهم إخفاء نور الحق ، بل ظهر من علمائنا وشيعتهم ومصنفاتهم ما قد اشتهر وبهر ولم يضمحل نور الحق كما اضمحل باطل الخوارج والمجبرة والمعتزلة والمرجئة وأمثالهم من الفرق الكثيرة.
رجعنا إلى ما كنا بصدده ، وإن أردت أن أهل السنة لم ينقلوا مذهب جعفر الصادق - عليه السلام - فهذا ليس نقصا ولا طعنا فيما نقل عن شيعتهم ، كما أنه لا يقتضي عدم نقل الشيعة مذهب الشافعي نقصا فيه ، ولا
ص: 415
يقتضي عدم نقل الشافعية مذهب أبي حنيفة نقصا فيه ، وبالعكس.
ثم إنهم يتنزلون بالبحث ويقولون : سلمنا أن أئمتنا لم يكونوا معصومين كما ندعيه فقد كانوا مجتهدين ، لم يخالف في ذلك أحد وسلمنا أن أئمتكم الأربعة كانوا مجتهدين أيضا أبرارا ولكن لم يقم لنا دليل عقلي ولا نقلي من اللّه ولا من رسوله على وجوب التمسك بواحد منهم كما قام ذلك في أهل البيت - عليهم السلام - كما سمعته من أن المتمسك بهم وبكتاب اللّه لن يضل أبدا (1).
سلمنا أن الباري لم ينص في كتابه على طهارتهم ، ولا أمر النبي بالتمسك بهم ، فالمزية التي في أئمتكم المجوزة لاتباعكم لهم وهو الاجتهاد حاصل فيهم ، مع زيادة أخرى وهي اتفاق جميع الفرق على طهارتهم وتعففهم وغزارة علمهم ، بحيث لا يشك فيه أحد ولم يتمكن أحد من أعدائهم من الطعن عليهم بما ينقصهم ولا بطريق الكذب تقربا إلى أعدائهم مع كثرتهم وعلو شأنهم في الدنيا ، كخلفاء بني أمية وبني العباس.
وما ذاك إلا لعلم جميع الناس بطهارتهم والكاذب عليهم يعلم أنه يكذبه كل من يسمعه ، وهذه المزية لم تحصل لغيرهم ، فإن من سواهم قد طعن بعضهم على بعض ، حتى صنف بعض الشافعية كتابا سماه النكت الشريفة في الرد على أبي حنيفة ، وأثبت كفره بمخالفة السنة المطهرة بما يطول شرحه.
والحنفية والمالكية وأكثر الطوائف ويكفرون الحنابلة لقولهم
ص: 416
بالتجسيم ، ولا ريب في وجوب اتباع المتفق على عدالته وعلمه ولا يجوز العمل بالمرجوح مع إمكان العمل بالراجح ، فقد لزمكم القول بصحة مذهبنا لأرجحية أهل البيت - عليهم السلام - على غيرهم ، بل يلزم ذلك كل من وقف نفسه على جادة الأنصاف ولم يغلب عليه الهوى ، لأن المقتضي للنجاة عندكم تقليد المجتهد ، وهذا حاصل لنا باعترافكم ، مع ما في أهل البيت - عليهم السلام - من المرجحات التي لا يمكن إنكارها وقد بيناها ، ولا يلزمنا القول بصحة مذهبكم لأنا شرطنا في المتبع العصمة حتى يؤمن من الخطأ منه.
فنكون نحن الفرقة الناجية اجماعا ، بالدليل المسلم المقدمات عندكم ، فأي مسلم يخاف اللّه واليوم الاخر يحكم بخطأ متبع أهل البيت - عليهم السلام - لولا ظلمة اتباع الهوى والتعصب.
وكان هذا السيد لا يبعد عن الأنصاف وإنما كان يمسك عن المكابرة ويتأمل ، وكان يقول إذا كان هذا حالهم فالباري ثبتهم لأنه لا يكلف بما لا يطاق ، وقد جعل لكل مجتهد نصيبا من كرمه.
ص: 417
مناظرة يوحنا (1) مع علماء المذاهب الأربعة في بغداد
يقول يوحنا بن إسرائيل الذمي : إني كنت رجلا ذميا (2) ، متقنا للفنون العقلية ، ممتعا من العلوم النقلية ، لا يحيدني عن الحق مموهات الدلائل ، ولا يلقيني في الباطل مزخرفات العبارات ، ومنمقات الرسائل ، أنجر ينابيع التحقيق من أطواد الحلوم ، وأستخرج بالفكر الدقيق المجهول من العلوم ، أتصفح بنظر الاعتبار ومعتقد فريق فريق ، وأميز بين ذلك سواء الطريق ، والناس إذ ذاك قد مزقوا دينهم وكانوا شيعا وتمزقوا كل ممزق وتبروا قطعا ، فلهم قلوب لا يفقهون ، بها ولهم أعين لابيبصون بها ، ولهم
ص: 418
آذان لايسعمون بها ، يخبطون خبط عشواء فهم لا يبصرون ويتعسفون مهامة الضلالة فهم في ريبهم يترددون ، فبعضهم دينه صابئي ، وغيرهم مجوسي ، وهذا يهودي ، وهذا نصراني ، وآخر محمدي ، وبعض عبدوا الكواكب ، وبعض عبدوا الشمس ، وطائفة عبدوا النار ، وقوم عبدوا العجل ، وكل فرقة من هؤلاء صاروا فرقا لا تحصى.
فلما رأيت تشعب القول ، وشاهدت تناقض النقول ، طابقت المعقول بالمنقول ، وميزت الصحيح من المعلول ، وأقمت الدليل على وجوب اتباع ملة الأسلام ، والاقتداء بها إلى يوم الحساب والقيام ، فأظهرت كلمة الشهادة ، وألزمت نفسي بما فيه من العبادة ، وجمعت الكتب الأسلامية من التفاسير والأحاديث والأصول والفروع من جميع الفرق المختلفة ، وجعلت أطالعها ليلا ونهارا وأتفكر في المناقضات التي وقعت في دين الأسلام.
فقال بعضهم : إن صفات اللّه تعالى عين ذاته ، وبعض قال : لا عين ذاته ولا زائدة ، وبعض قال : إن اللّه عز وجل أراد الشر وخلقه ، وبعض نزهه عن ذلك ، وبعض جوز على الأنبياء الصغائر ، وبعض جوز الكبائر ، وبعض جوز الكفر (1) ، وبعض أوجب عصمتهم ، وبعض أوجب النص بالأمامة (2) ، وبعض أنكره ، وبعض قال : بإمامة أبي بكر وأنه أفضل ، وبعض كفره ، وبعض قال : بإمامة علي ، وبعض قال : بإلهيته ، وبعض ساق الأمامة في أولاد الحسن ، وبعض ساقها في أولاد الحسين ، وبعض وقف على
ص: 419
موسى الكاظم (1) ، وبعضهم قال : باثنى عشر إماما ، إلى غير ذلك من الأقوال التي لا تحصى.
وكل هذه الاختلافات إنما نشأت من استبدادهم بالرأي في مقابلة النص ، واختيارهم الهوى في معارضة النفس وتحكيم العقل على من لا يحكم عليه العقل وكان الأصل فيما اختلف فيه جميع الأمم السالفة واللاحقة من الأصول شبهة إبليس ، وكان الأصل في جميع ما اختلف فيه المسلمون من الفروع مخالفة وقعت من عمر بن الخطاب لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - واستبداده برأي منه في مقابلة الأمر النبوي ، فصارت تلك الشبهة والمخالفة مبدأ كل بدعة ، ومنبع كل ضلالة.
أما شبهة إبليس فتشعبت منها سبع شبه ، فصارت في الخلائق ، وفتنت العقلاء ، وتلك الشبهات السبع مسطورة في شرح الأناجيل ، مذكورة في التوارة ، متفرقة على شكل مناظرة بين إبليس وبين الملائكة بعد الأمر بالسجود والامتناع منه.
فقال إبليس للملائكة : إني سلمت أن الباري تعالى إلهي وإله الخلق ، عالم قادر ، ولا يسأل عن قدرته ومشيئته ، وإنه مهما أراد شيئا قال له : كن فيكون ، وهو حكيم إلا أنه يتوجه على مساق حكمته أسئلة.
قالت الملائكة : وما هي؟ وكم هي؟
قال إبليس : سبع.
الأول : أنه قد علم قبل خلقي أي شئ يصدر عني ، ويحصل مني ، فلم خلقني أولا؟ وما الحكمة في خلقه إياي؟
ص: 420
الثاني : إذا خلقني على مقتضي إرادته ومشيئته فلم كلفني بطاعته وأماط الحكمة في التكليف بعد أن لا ينتفع بطاعته ، ولا يتضرر بمعصيته؟
الثالث : إذ خلقني وكلفني فالتزمت تكليفه بالمعرفة والطاعة ، فعرفت وأطعت ، فلم كلفني بطاعة آدم والسجود له؟ وما الحكمة في هذا التكليف على الخصوص بعد أن لا يزيد ذلك في طاعتي ومعرفتي؟
الرابع : إذ خلقني وكلفني بهذا التكليف على الخصوص فإذ لم أسجد لعنني وأخرجني من الجنة ، ما الحكمة في ذلك بعد إذ لم أرتكب قبيحا إلا قولي لا أسجد إلا لك؟
الخامس : إذ خلقني وكلفني مطلقا وخصوصا ، فلما لم أطع في السجود فلعنني وطردني ، فلم طرقني إلى آدم حتى دخلت الجنة وغررته بوسوستي ، فأكل من الشجرة المنهي عنها؟ ولم أخرجه معي؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو منعني من دخول الجنة امتنع استخراجي لادم وبقي في الجنة؟
السادس : إذ خلقني وكلفني عموما وخصوصا ولعنني ثم طرقني إلى الجنة وكانت الخصومة بيني وبين آدم ، فلم سلطني على أولاده حتى أراهم من حيث لا يروني ، وتؤثر فيهم وسوستي ، ولا يؤثر في حولهم ولا قوتهم ولا استطاعتهم؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو خلاهم على الفطرة دون من يغتالهم عنها فيعيشون طاهرين سالمين مطيعين كان أليق وأحرى بالحكمة؟
السابع : سلمت لهذا كله خلقني وكلفني مطلقا ومقيدا وإذ لم أطع طردني ولعنني وإذا أردت دخول الجنة مكنني وطرقني وإذ عملت عملي أخرجني ثم سلطني على بني آدم ، فلم إذ استمهلته أمهلني ، فقلت : (
ص: 421
فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ، قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) (1)؟ وما الحكمة في ذلك بعد إذ لو أهلكني في الحال استراح الخلق مني ، وما بقي شر في العالم ، أليس ببقاء العالم على نظام الخير خير من امتزاجه بالشر؟
قال : فهذه الحجة حجتي على ما ادعيته من كل مسألة.
قال شارح الأنجيل : فأوحى اللّه تعالى إلى الملائكة قولوا له : أما تسليمك الأولى أني إلهك وإله الخلق فإنك غير صادق فيه ولا مخلص ، إذ لو صدقت أني إله العالمين لما احتكمت علي بلم وأنا اللّه الذي لا إله إلا هو لا أسأل عما أفعل والخلق يسألون.
قال يوحنا : وهذا الذي ذكرته من التوراة في الأنجيل مسطور على الوجه الذي ذكرته (2).
وأما المخالفة التي وقعت من عمر بن الخطاب : أنه لما مرض رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - مرضه الذي توفي فيه دخل عليه جماعة من الصحابة ، وفيهم : عمر بن الخطاب ، وعرف رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - رحلته من الدنيا واختلاف أمته بعده ، وضلال كثير منهم ، فقال للحاضرين : (ائتوني بدواة وبيضاء لأكتب لكم كتابا لن تضلوا بعدي.
قال عمر بن الخطاب : إن النبي قد غلب عليه الوجع ، وإن الرجل ليهجر ، وعندكم القرآن حسبكم كتاب اللّه (3).
ص: 422
فلو أن عمر لم يحل بينه وبين الكتاب لكتب الكتاب ، ولو كتبه لارتفع الضلال عن الأمة ، لكن عمر منعه من الكتابة ، فكان هو السبب في وقوع الضلال ، وأنا واللّه لا أقول هذا تعصبا للرافضة ولكني أقول ما وجدته في كتب أهل السنة الصحيحة ، وهو مصرح في صحيح مسلم الذي يعتمدون عليه.
ومن الخلاف الذي جرى بين عمر وبعض الصحابة : أنه لما مرض رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - مرضه الذي توفي فيه جهز جيشا إلى الروم إلى موضع يقال له : مؤتة ، وبعث فيه وجوه الصحابة مثل أبي بكر وعمر وغيرهما ، فأمر عليهم أسامة بن زيد فولاه وبرزوا عن المدينة ، فلما ثقل المرض برسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - تثاقل الصحابة عن السير وتسللوا ، وبقي أبو بكر وعمر يجيئان ويتجسسان أحوال صحة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - ومرضه ليلا ويذهبان إلى المعسكر نهارا ، ورسول اللّه يصيح بهم : (جهزوا جيش أسامة ، لعن اللّه المتخلف عنه) حتى قالها ثلاثا.
فقال قوم : يجب علينا امتثال أمره ، وقال قوم : لا تسع قلوبنا المفارقة (1).
ولا يخفى على العاقل قصد النبي - صلى اللّه عليه وآله - في بعث أبي
ص: 423
بكر وعمر تحت ولاية أسامة في مرضه وحثهم على المسير ، ولا يخفى أيضا مخالفتهم ورجوعهم من غير إذنه لما كان ذلك ، ولا يخفى لعن النبي - صلى اللّه عليه وآله - المتخلف عن جيش أسامة فلماذا كان؟ ( فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) (1).
ومن الخلاف : أنه لما مات النبي - صلى اللّه عليه وآله - قال عمر : (واللّه ما مات محمد ، ولن يموت ، ومن قال إن محمدا مات قتلته بسيفي هذا ، وإنما رفع إلى السماء كما رفع عيسى بن مريم) ، فلما تلا عليه أبو بكر : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) (2) رجع عمر وقال : كأني لم أسمع بهذه حتى قرأها أبو بكر (3).
ومن الخلاف الواقع في الأمامة : أنه ما سل سيف في الأسلام على قاعدة دينية مثلما سل على الأمامة ، وهو أنه لما مات النبي - صلى اللّه عليه وآله - اشتغل علي - عليه السلام - بتجهيزه ودفنه وملازمته ذلك ومضى أبو بكر وعمر إلى سقيفة بني ساعدة ، فمد عمر يده فبايع أبا بكر وبايعه الناس ، وتخلف علي - عليه السلام - عن البيعة وعمه العباس والزبير وبنو هاشم وسعد بن عبادة الأنصاري ، ووقع الخلاف الذي سفك فيه الدماء ، ولو ترك عمر بن الخطاب الاستعجال وصبر حتى يجتمع أهل الحل والعقد ويبايعوا الأول لكان أولى ولم يحصل الخلاف لمن بعدهم في
ص: 424
الاستخلاف (1).
ومن الخلاف : أنه لما مات النبي - صلى اللّه عليه وآله - وفي يد فاطمة - عليها السلام - فدك متصرفة فيها من عند أبيها (2) فرفع أبو بكر يدها عنها وعزل وكلاءها ، فأتت إلى أبي بكر وطلبت ميراثها من أبيها ، فمنعها واحتج بأن النبي - صلى اللّه عليه وآله - قال : ما تركناه يكون صدقة (3) ، واحتجت فاطمة فلم يجبها ، فولت غضبانة عليه (4) ، وهجرته فلم تكلمه
ص: 425
حتى ماتت (1) ، وفي أثنا المحاجة أذعن أبو بكر لقولها ، فكتب لها بفدك كتابا ، فلما رآه عمر مزق الكتاب (2) وكان هذا هو السبب الأعظم في الاعتراض على الصحابة والتشنيع عليهم بإيذاء فاطمة - عليها السلام - مع روايتهم أن من آذاها فقد آذى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - (3) ، وفي الحقيقة ما كان لائقا من الصحابة أن يعطي رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - ابنته مما أفاء اللّه عليه فينزعه أبو بكر وعمر منها مع علمهم أنها كانت تطحن الشعير بيدها ، وإنما كانت تريد بالذي ادعته من فدك صرفه للحسن والحسين - عليهما السلام - فيحرمونها ذلك ويتركونها محتاجة كئيبة حزينة ، وعثمان بن عفان يعطي مروان بن الحكم (4) طريد رسول اللّه
ص: 426
- صلى اللّه عليه وآله - مائتي مثقال من الذهب من بيت مال المسليمن ولا ينكرون عليه ولا على أبي بكر ، ولو أن عمر لم يمزق الكتاب أو انه ساعد فاطمة في دعواها ، لكان لهم أحمد عاقبة ولم تبلغ الشنيعة ما بلغت.
قال يوحنّا : ومن الخلاف الذي وقع وكان سببه عمر : الشورى (1) ، فإنه جعلها في ستة وقال : إذا افترقوا فريقين فالذي فيهم عبد الرحمن بن عوف فهم على الحق ، وعبد الرحمن لا يترك جانب عثمان كما هو معلوم حتى قال علي - عليه السلام - للعباس : يا عم عدل بها عني فياليته تركها هملا كما يزعم أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - تركها ، أو كان ينص بها كما نص أبو بكر فخالف الأمرين حتى أفضت الخلافة إلى عثمان ، فطرد من آواه (2) رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - ، وآوى من طرده (3) رسول اللّه -
ص: 427
صلّى اللّه عليه وآله - وأحدث أمورا قتل بها وفتح بها با القتال الى يوم القيامة ، وأفضت الخلافة إلى معاوية الذي ألب عائشة وطلحة والزبير على حرب علي - عليه السلام - حتى قتل يوم الجمل ستون ألفا ، ثم حارب عليا - عليه السلام - ثمانية عشر شهرا وقتل في حربه مائة وخمسون ألفا ، وأفضت الخلافة إلى ولده يزيد فقتل الحسين - عليه السلام - بتلك الشناعة ، وحاصر عبد اللّه بن الزبير في مكة فلجأ إلى الكعبة فنصب بمكة المنجنيق ، وهدم الكعبة ، ونهب المدينة ، وأباحها لعسكره ثلاثة أيام (1).
وقد روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن النبي - صلى اللّه عليه وآله - أنه قال : (المدينة حرم ما بين عاير إلى وعير ، من أحدث فيه حدثا فعليه لعنة اللّه) (2) ، فما ظنك بمن يقتل أولاده ، ويرفع رؤوسهم على الرماح ، ويطوف بها في البلاد جهرا ، وأفضى الأمر الى أنهم أمروا بسب علي على المنابر ألف شهر ، وطلبوا العلويين فقتلوهم وشردوهم (3) ، وأفضى الأمر إلى الوليد بن عبد الملك الذي تفأل يوما بالمصحف فظهر له قوله تعالى : ( واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد ) (4) فنصب المصحف
ص: 428
يوما فرماه بالنشاب وأنشد شعرا :
تهددني بجبار عنيد *** فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر *** فقل يا رب مزقني الوليد (1)
فإذا نظر العاقل إلى هذه امفاسد كلها لرأى أن أصلها منع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - عن كتابة الكتاب ، وجعل الخل فة باختيار الناس من غير نص ممن له انص فكل اسبب من عمر بن الخطاب.
ولا يظن أحمد أني أقول هذا بعضا لعمر لا واللّه وإنما هو مسطور في كتبهم والحال كذلك فما يسعني أن أنكر شيئا مما وقع ومضى.
قال يوحنا : فلما رأيت هذه الاختلافات من كبار الصحابة الذين يذكرون مع رسول اله صلى اللّه عليه وآله - فوق المنابر عطم علي الأمر وغم علي الحال وكدت أفتتن في ديني ، فقصدت بغداد وهي قبة الإسلام لأفارض فيما رأيت من اختلاف علماء المسلمين لأنظر الحق واتبعه ، فلما اجتمعت بعلماء المذاهب الأربعة ، قلت لهم : إني رجل ذمي ، وقد هداني اللّه إلى الإسلام فأسلمت وقد أتيت إليكم لأنقل عنم معالم الدين ، وشرائع الإسلام ، والحديث ، لازداد بصيرة في ديني.
فقال كبير هم وكان حنفيا : يا يوحنا ، مذاهب الإسلام أربعة فاختر واحدا منهما ، ثم اشرع في قراءة ما تريد.
فقلت له : إني رأيت تخلفا وعلمت أن الحق منها واحد فاختارو الي ما تعلمون أنه الحق الذي كان عليه نبيكم.
قال الحنفي : إنا نعلم يقينا ما كان عليه نبيا بل نعلم أن طريقته
ص: 429
ليست خارجة من الفرق الإسلامية وكل من أربعتنا يقول إنه محق ، لكن يمكن أن مذهب أبي حنيفة أنسب المذاهب ، وأطبقها للسنة ، وأوفقها بالعقل ، وأرفعها عند الناس ، إن مذهب مختار أكثر اأمة بل مختر سلاطينها ، فعليك به تنجي.
قال يوحنّا : فصاح به إمام الشافعية وأطن أنه كان بين الشافعي واحنفي منازعات.
فقال له : اسكت لا نطقت ، واللّه لقد كذبت وتقولت ، ومن أين أنت والتمييز بين المذاهب ، وترجيح المجتهدين؟ ويلك ثكلتك أمك وأين لك وقوفا على ما قال أبو حنيفة ، وما قاسه برأيه ، فإنه المسمي بصاحب الرأي يجتهد في مقالة النص ويستحسن في دين اللّه ويعمل به حتى أوقعه رأيه الواهي في أن قال : لو عقد رجل في بلا د الهند على امرأة كانت في الروم عقدا شرعيا ، ثم أتاها بعد سنين فوجدها حاملة وبين يديها صبيان يمشون ويقول لها : ما هؤلاء؟ وتقول له : أولادك فيرافعها في ذلك ألى القاضي الحنفي فيحكم أن الأولاد من صلبه ، ويلحقونه طاهرا وباطنا ، يرثهم ويرثونه ، فيقول ذلك الرجل : وكيف هذا ولم أقربها قط؟ فيقول القاضي : يحتمل أنك أجنبت أو أن تكون أمنيت فطار منيك في قطعة فقوعت في فرج هذه المرأة(1) ، وهل هذا يا حنفي مطابق للكتاب والسنة؟
قال الحنفي : نعم إنما يلحق به لأنها فراشه والفراش يلحق ويلتحق بالعقد ولا يشترط فيه الوطي ، وقال النبي - صلى اللّه عليه وآله - : (الولد
ص: 430
للفراش وللعاهر الحجر) (1) فمنع الشالعي أن يصير فراشا بدون الوطي ، وغلب الشافعي الحنفي بالحجة.
ثم قال الشافعي : وقال أبو حنيفة : لو أن امرأة زوفت إلى زوجها فعشقها رجل فادعى عند قاضي الحنيفة أنه عقد عليها قبل الرجل الذي زفت إليه ، وأرشى المدعى فاسقين حتى شهدا له كذبا بدعواه ، فحكم القاضي له تحرم على زوجها الأول طاهرا وباطنا وثبتت زوجية تلك المرأة للثاني وأنها تحل عليه ظاهرا وباطنا ، وتحل منها على الشهود الذين تعمدوا الكذب في الشهادة (2)! فانظروا ايها الناس هل هذا مذهب من عرف قواعد الإسلام؟
قال الحنفي : لا اعتراض لك عندنا إن حكم القاضي ينفذ ظاهرا وباطنا وهذا متفرع عليه فخصمه الشافعي ومنع أن ينفذ حكم القاضي ظاهرا وباطنا بقوله تعالى : ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ) (3) ولم ينزل اللّه ذلك.
ثم قال الشافعي : وقال أبو حنيفة : لو أن امرأة غاب عنها زوجها فانقطع خبره ، فجاء رجل فقال لها : إن زوجك قد مات فاعتدس ، فاعتدت ، ثم بعد العدة عقد عليها آخر ودخل عليها ، وجاءت منه بالأولاد ، ثم غاب الرجل الثاني وظهر حياة الرجل الأول وحضر عندها فإن جميع أولاد الرجل الثاني أولاد للرجل الأول يرثهم ويرثونه (4).
ص: 431
فيا أولي العقول ، فهل يذهب إلى هذا القول من له دراية وفطنة؟
فقال الحنفي : إنما أخذ أبو حنيفة هذا من قول النبي - صلى اللّه عليه وآله - : (الولد للفراش وللعاهر الجر) فاتج عليه الشافعي بكون الفراض مشروطا بالدخول ، فغلبه.
ثم قال الشافعي : وإمامك أبو حنيفة قال : أيما رجل رأى امرأة مسلمة فادعى عند القاضي بأن زوجها طلقها ، وجاء بشاهدين ، شهدا له كذبا ، فحكم القاضي بطلاقها ، حرمت على زوجها ، وجاز للمدعي نكاحها ، وللشهود أيضا (1) ، وزعم أن حكم القاضي ينفذ ظاهرا وباطنا.
ثم قال الشافعي : وقال إمامك أبو حنيفة : إذا شهد أربعة رجال على رجل بالزنا ، فإن صدقهم سقط عنه الحدّ ، وإن كذبهم لزمه ، وثبت الحدّ (2) فاعتبروا يا اُولي الأبصار.
ثم قال الشافعي : وقال أبو حنيفة : لو لاط رجل بصبي وأوقبه فلا حد عليه بل بعزر (3).
وقال رسول لله - صلى اللّه عليه وآله - (من عمل عمل قوم لوط فاقتلوا فاعل والمفعول) (4).
وقال أبو حنيفة : لو غصب أحد حنطة فطحنها ملكها بطحنها ، فلو أراد أن يأخذ صاحب الحنطة طحينها ويعطي الغاصب الأجرة لم يجب
ص: 432
على الغاصب إجابته وله منعه ، فإن قتل صاحب الحنطة كان دمه هدرا ، ولو قتل الغاصب قتل صاحب الحنطة به (1).
وقال أبو حنيفة : لو سرق سارق ألف دينار وسرق أخر ألفا اخر من آخر ومزجها ملك الجميع ولزمه البدل.
وقال أبو حنيفة : لو قتل المسلم والتقي العالم كافرا جاهلا قتل المسلم به واللّه يقول : ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ) (2).
وقال أبو حنيفة : لو اشترى أحد أمه أو أخته ونكحهما لم يكن عليه حد وإن علم وتعمد (3).
قال أبوحنيفة : لو عقد أحد على أمّه أو أخته عالماً بها أنّها أُمّه أو أخته ودخل بها لم يكن عليه حدّ لأنّ العقد شبهة (4).
وقال أبوحنيفة : لو نام جنب على طرف حوض من نبيذ فانقلب في نومه ، ووقع في الحوض ارتفعت جنابته وطهر.
قال أبو حنيفة : لا تجب النية في الوضوء (5) ، ولا في الغسل (6) ، وفي الصحيح : ( إنما الأعمال بالنيات ) (7).
ص: 433
وقال أبو حنيفة : لا تجب البسملة في الفاتحة (1) وأخرجها منها مع أن الخلفاء كتبوها في المصاحف بعد تحرير القرآن.
وقال أبو حنيفة : لو سلخ جلد الكلب الميت ودبغ طهر وإن له الشراب فيه ولبسه في الصلاة (2) ، وهذدا مخالف للنص بتنجيس العين المقتضي لتحريم الانفتاع به.
ثم قال : يا حنفي ، يجوز في مذهبك للمسلم إذا أراد الصلاة أن يتوضأ بنبيذ ، وبيدأ بغسل رجليه ، ويختم بيديه (3) ، ويلبس جلد كلب ميت مدبوغ (4) ، ويسجد علي عذرة يابسة ، ويكبر بالهندية ، ويقرأ فاتحة الكتاب بالعبرانية (5) ، ويقول بعد الفاتحة ، دو بر سبز - يعني مدهامتان - ثم يركع ولا يرفع رأسه ، ثم يسجد ويفصل بين السجدتين بمثل حد السيف وقبل السلام يتعمد خروج الريح ، فإن صلاته صحيحة ، وأن أخرج الريح ناسيا بطلت صلاته (6).
ص: 434
ثم قال : نعم يجوز هذا ، فاعتبروا يا أولي الأبصار ، هل يجوز التعبد بمثل هذه العبادة؟ أم يجوز لنبي أن يأمر أمته بمثل هذه العبادة افتراء على اللّه ورسوله؟!
فأفحم الحنفي وامتلأ غيظا وقال : يا شافعي اقصر فض اللّه فاك ، وأين أنت عن الأخذ على أبي حنيفة وأين مذهبك من مذهبه؟ فإنما مذهبك بمذهب المجوس أليق لأن في مذهبك يجوز للرجل أن ينكح ابنته من الزنا وأخته ، ويجوز أن يجمع بين الأختين من الزنا ويجوز أن ينكح أمه من الزنا ، وكذا عمته وخالته من الزنا (1) ، واللّه يقول : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ ) (2) وهذه صفات حقيقية لا تتغير بتغير الشرائع والأديان ، ولا تظن بيا شافعي يا أحمق أن منعهم من التوريث يخرجهم من هذه الصفات الذاتية الحقيقية ولذا تضاف إليه ، فيقال : بنته وأخته من الزنا ، وليس هذا التقييد موجبا لمجازيته كما في قولنا أخته من النسب بل لتفصيله ، وإنما التحريم شالم للذي
ص: 435
يصدق عليه الألفاظ حقيقة ومجازا اجتماعا ، فإن الجدة داخلة تحت الأم اجماعا ، وكذا بنت البنت ، ولا خلاف في تحريمها بهذه الآية ، فانظروا يا أولي الألباب هل هذا إلا مذهب المجوس ، يا خارجي.
وأما يا شافعي إمامك أباح للناس لعب الشطرنج (1) مع أن النبي - صلى اللّه عليه وآله - قال : (لا يحب الشطرنج الا عابد وثن).
ص: 436
وأما يا شافعي ، إمامك أباح للناس الرقص والدف والقصب (1) ، فقبح اللّه مذهبك مذهبا ينكح فيه الرجل أمه وأخته ويلعب بالشطرنج ، ويرقص ، ويدف ، فهل هذا الظاهر الافتراء على اللّه والرسول ، وهل يلزم بهذا المذهب إلا أعمى القب واعمى عن الحق.
قال يوحنا : وطال بينهما الجدال واحتمى الحنبلي للشافعي ، واحتمى المالكي للحنفي ، ووقع النزاع بين المالكي والحنبلي ، وكان فيما وقع بينهم أن الحنبلي قال : إن مالكا أبدع في الدين بدعا أهلك اللّه عليها أمما وهو أباحها ، وهو لواط الغلام ، وأباح لواط المملوك وقد صح أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - قال : (من لاط بغلام فاقتلوا الفاعل والمفعول) (2).
وأنا رأيت مالكيا ادعي عند القاط على آخر أنه باعه مملوكا والمملوك لا يمكنه من وطئه ، فأثبت القاضي أنه عيب في المملوك ويجوز له رده ، أفلا تستحي من اللّه يا مالكي يكون لك مذهب مثل هذا وأنت تقول مذهبي خير من مذهبك؟ وإمامك أباح لحم الكلاب فقبح اللّه مذهبك واعتقادك.
فرجع المالكي عليه وصاح به : اسكت يا مجسم يا حلولي ، يا حلولي ، يا فاسق ، بل مذهبك أولى بالقبح ، وإحرى بالتعبير ، إذ عندك إمامك أحمد بن حنبل أن اللّه جسم يجلس على العرش ، ويفضل عن العرش بأربع اصابع ، وأنه ينزل كل ليلة جمعة من سماء الدنيا على سطوح المساجد في صورة أمرد ، قطط الشعر ، له نعلان شراكهما من اللؤلؤ
ص: 437
الرطب ، راكبا على حمار له ذوائب (1).
قال يوحنا : فوقع بين الحنبلي والمالكي والشافعي والحنفي النزاع ، فعلت أصواتهم وأظهروا قبائحهم ومعايبهم حتى ساء كل من حضر كلامهم الذي بدا منهم ، وعاب العامة عليهم.
فقلت لهم : على رسلكم ، فواللّه قسما إني نفرت من اعتقاداتكم ، فإن كان الإسلام هذا فياويلاه ، واسوأتاه ، لكني أقسم عليكم باللّه الذي لا إله إلا هو أن تقطعوا هذا البحث وتذهبوا فإن العوام قد أنكروا عليكم.
قال يوحنا : فقاموا وتفرقوا وسكتوا أسبوعا لا يخرجون من بيوتهم ، فإذا خرجوا أنكر الناس عليهم ، ثم بعد أيام اصطلحوا واجتمعوا في المستنصرية فجلست غدا إليهم وفاوضتهم فكان فيما جرى أن قلت لهم : كنت أريد عالما من علماء الرافضة نناظره في مذهبه ، فهل عليكم أن تأتونا بواحد منهم فنبحث معه؟
فقال العماء : يا يوحنا ، الرافضة فرقة قليلة لا يستطيعون أن يتظاهروا بين المسلمين لقلتهم ، وكثرة مخالفيهم ، ولا يتظاهرون فضلا أن يستطيعوا المحاجة عندنا على مذهبهم ، فهم الأرذلون الأقلون ، ومخالفوهم الأكثرون ، فهذا مدح لهم لأن اللّه سبحانه وتعالى مدح القليل ، وذم الكثير بقوله : ( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (2) ، ( وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ) (3) ، ( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) (4) ، (
ص: 438
وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) (1) ، ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ) (2) ، ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) (3) ، ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ) (4) إلى غير ذلك من الآيات.
قالت العلماء : يا يوحنا حالهم أعطم من أن يوصف لأنهم لو علمنا بأحد منهم فلا نزال نتربص به الدوائر حتى نقتله لأنهم عندنا كفرة تحل عليبنا دماؤهم ، وفي علمائنا من يفتي بحل أموالهم ونسائهم.
قال يوحنا : اللّه أكبر هذا أمر عظيم ، أتراهم بما استحقوا هذا فهم ينكرون الشهادتين؟
قالوا : لا.
قال : أفهم لا يتوجهون إلى قبلة الاسلام؟
قالوا : لا.
قال : إنهم ينكرون الصلاة أم الصيام أم الحج أم الزكاة أم الجهاد؟
قالوا : لا ، بل هم يصلون ويصومون ويزكون ويحجون ويجاهدون.
قال : إنّهم ينكرون الحشر والنشر والصراط والميزان والشفاعة؟
قالوا : لا ، بل مقرون بذلك بأبلغ وجه.
قال : أفهم يبيحيون الزنا واللواط وشرب الخمر والربا والمزامر وأنواع الملاهي؟
ص: 439
قالوا : بل يجتنبون عنها ويحرمونها.
قال يوحنا : فياللّه والعجب قوم يشهدون الشهادتين ، ويصلون إلى القبلة ، ويصومون شهر رمضان ، ويحجون البيت الحرام ، ويقولون بالحشر والنشر وتفاصيل الحساب ، كيف تباح أموالهم ودماؤهم ونساؤهم ونبيكم يقول : (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله الا اللّه ، وأن محمدا رسولا اللّه ، فإذا قالوها عصموا مني دماء هم وأموالهم ونساءهم إلا بحق وحسابهم على اللّه) (1).
قال العلماء : يا يوحنا إنهم أبدعوا في الدين بدعا فمنها : إنهم يدعون أن عليا - عليه السلام - أفضل الناس بعد الرسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - ويفضلونه على الخلفاء الثلاثة (2) ، والصدر الأول أجمعوا على أن أفضل
ص: 440
الخلفاء كبيرتيم (1) قال يوحنا : أفترى إذا قال أحد : إن عليا يكون خيرا من أبي بكر وأفضل منه تكفرونه؟
قالوا : نعم لأنه خالف الإجماع.
قال يوحنا : فا تقولون في محدثكم الحافظ أبي بكر أحمد بن موسى بن مردويه؟
قال العلماء : هو ثقة مقبول الرواية صحيح المثل.
قال يوحنا : هذا كتاب المسمى بكتاب المناقب روى فيه أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - قال : (علي خير البشر ، ومن أبى فقد كفر) (2).
و في كتابه أيضاً يسأل حذيفة عن علي - عليه السلام - قال: «أنا خير هذه الأمة بعد نبيها، ولا يشك في ذلك إلا منافق» (3).
وفي كتابه أيضا عن سلمان ، عن النبي - صلى اللّه عليه وآله - أنه قال : (علي ابن أبي طالب خير من أخلفه بعدي) (4).
وفي كتابه أيضا عن أنس بن مالك أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - قال : (اخي ووزيري وخير من أخلفه بعدي علي بن أبي
ص: 441
طالب) (1).
وعن إمامكم أحمد بن حنبل روى في مسنده أن النبي - صلى اللّه عليه وآله - قال لفاطمة : (أما ترضين أني زوجتك أقدم أمتي سلما ، وأكثرهم علما ، وإعظمهم حلما) (2).
وروي في مسند أحمد بن حنبل أيضا أن النبي - صلى اللّه عليه وآله - قال : (اللّهم ائتني بأحب خلقك إليك) (3) فجاء علي بن أبي طالب في حديث الطائر ، وذكر هذا الحديث النسائي والترمذي في صحيحهما (4) وهما من علماتكم.
وروى أخطب خوارزم في كتاب المناقب وهو من علمائكم عن معاذ بن جبل قال : قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - : (يا علي أخصمك بالنبوة ولا بنوة بعدي وتخصم الناس بسبع فلا يحاجك أحد من قريش :
ص: 442
أنت أولهم إيمانا باللّه وأوفاهم بأمر اللّه وبعهده ، وأقسمهم بالسوية ، وأعدلهم بالرعية ، وأبصرهم بالقضية ، وأعظمهم يوم القيامة عند اللّه عز وجل في المزية) (1).
وقال صاحب كفاية الطالب من علمائكم : هذا حديث حسن عال رواه الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء (2).
قال يوحنا : فيا أئمة الإسلام فهذه أحاديث صحاح روتها أئمتكم وهي مصرحة بأفضلية علي وخيرته على جميع الناس ، فما ذنب الرافضة؟ وإنما الذنب لعلمائكم والذين يروون ما ليس بحق ، ويفترون الكذب على اللّه ورسوله.
قالوا : يا يوحنا ، إنهم لم يرووا غير الحق ، ولم يفتروا بل الأحاديث لها تأويلات ومعارضات.
قال يوحنا : فأي تأويل تقبل هذه الأحاديث بالتخصيص على البشر ، فإنه نص في أنه خير من أبي بكر إلا أن تخرجوا أبا بكر من البشر ، سلمنا أن الأحاديث لا تدل ذلك فأخبروني أيهم إكثر جهادا؟
فقالوا : علي.
قال يوحنا : قال اللّه تعالى : ( وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ) (3) وهذا نص صريح.
قالوا : أبو بكر أيضا مجاهد فلا يلزم تفضيله عليه.
قال يوحنا : الجهاد الأقل إذا نسب إلى الجهاد الأكثر بالنسبة إليه
ص: 443
قعود ، وهب أنه كذلك فما مراد كم بالأفضل؟
قالوا : الذي تجتمع فيه الكمالات والفضائل الجبلية والكسبية كشرف الأصل والعلم والزهد والشجاعة والكرم وما يتفرع عليها.
قال يوحنا : فهذه الفضائل كلها لعلي - عليه السلام - بوجه هو أبلغ من حصولها لغيره.
قال يوحنا : أما شرف الأصل فهو ابن عم النبي - صلى اللّه عليه وآله - ، وزوج ابنته ، وأبو سبطيه.
وأما العم فقال النبي - صلى اللّه عليه وآله - : (أنا مدينة العلم وعلي بابها) (1) وقد تقرر في العقل أن أحدا لا يستفيد من المدينة شيئا إلا إذا أخذ من الباب ، فانحصر طريق الاستفادة من النبي - صلى اللّه عليه وآله - في علي - عليه السلام - ، وهذه مرتبة عالية ، وقال - صلى اللّه عليه وآله - (أقضاكم علي) (2) وإليه تعزى كل قضية وتنتهي كل فرقة ، وتنحاد إليه كل طائفة ، فهو رئيس الفضائل وينبوعها ، وأبو عذرها ، وسابق مضمارها ، ومجلي حلبتها ، كل من برع فيها فمنه أخذ ، وبه اقتفى ، وعلى مثاله احتذى ، وقد عرفتم أن أشرف العلوم العلم الإلهي ، ومن كلامه اقتبس ، وعنه نقل ، ومنه ابتدأ.
ص: 444
فإن المعتزلة الذين هم أهل النظر ومنهم تعلم الناس هذا الفن هم تلامذته ، فإن كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبد اللّه بن محمد ابن الحنفية (1) ، وأبو هاشم عبد اللّه تلميذ أبيه ، وأبوه تلميذ علي بن أبى طالب - عليه السلام -.
وأما الاء شعريون فإنهم ينتهون إلى أبي الحسن الاءشعري وهو تلميذ أبي علي الجبائي ، وهو تلميذ واصل ابن عطاء (2).
وأما الإمامية والزيدية فانتهاؤ هم إليه ظاهر.
وأما علم الفقه فهو أصله وأساسه ، وكل فقيه في الاسلام فإليه يعزي نفسه.
أما مالك فأخذ الفقه عن ربيعة الرأي ، وهو أخذ عن عكرمة ، وهو أخذ عن عبد اللّه ، وهو أخذ عن علي.
وأما أبو حنيفة فعن الصادق - عليه السلام -.
وأما الشافعي فهو تلميذ مالك ، والحنبلي تلميذ الشافعي (3) ، وأما فقهاء الشيعة فرجو عهم إليه ظاهر ، وأما فقهاء الصحابة فرجو عهم إليه ظاهر كابن عباس وغيره ، وناهيكم قول عمر غير مرة : (لا يفتين أحد في المسجد وعلي حاضر) وقوله : (لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن) (4) ، وقوله : (لو لا علي لهلك عمر) (5).
ص: 445
وقال الترمذي في صحيحه والبغوي عن أبي بكر قال : قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - : (من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في فهمه ، وإلى يحيى بن زكريا في زهده ، وإلى موسى بن عمران في بطشه فلينظر إلى علي بن ابي طالب) (1).
وقال البيهقي بإسناده إلى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - (من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في تقواه ، وإلى إبراهيم في حلمه ، وإلى موسى في هيبته ، وإلى عيسى في عبادته ، فلينظر إلى على بن ابي طالب) (2) وهو الذي بين حد الشرب (3) ، وهو الذي أفتى في المرأة التي وضت لستة أشهر (4) ، وبقسمة الدارهم على صاحب الأرغفة (5) والأمر بشق الولد نصفى (6) ، والأمر بضرب عنق العبد ، والحاكم في ذي الرأسين (7) مبين أحكام البغاة (8) ، وهو الذي أفتى في الحامل
ص: 446
الزانية (1).
ومن العلوم علم التفسير ، وقد علم الناس حال ابن عباس فيه وكان تلميذ علي - عليه السلام - وسئل فقيل له : أين علمك من علم اين عمك؟
فقال : كبشة مطر في البحر المحيط (2).
ومن العلوم علم الطريقة والحقيقة ، وعلم التصوف ، وقد علمتم أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الاسلام إليه ينتهون ، وعنده يفقون ، وقد صرح بذلك الشبلي والحنبلي وسرى السقطي وأبو زيد البسطامي وأبو محفوظ معروف الكرخي وغيرهم ، ويكفيكم دلالة على ذلك الخرقة التي هي شعارهم وكونهم يسدونها بإسناد معنعن إليه أنه واضعها (3).
ومن العلوم علم النحو والعربية ، وقد علم الناس كافة أنه هو الذي ابتدعه وأنشأه ، وأملى على أبي الأسود الدؤلي جوامع تكاد تلحق بالمعجزات ، لأن القوة البشرية لا نفي بمثل هذا الاستنباط.
فأين من هو بهذه الصفة من رجل يسألونه ما معنا (أبا) فيقول : لا أقول في كتاب اللّه برأيي ، ويقضي في ميراث بمائة قضية يغاير
ص: 447
بعضها بعضا ، ويقول : إن زغت فقوموني وإن استقمت فاتبعوني (1). وهل يقيس عاقل مثل هذا إلى من قال : سلونى قبل أن تفقدوني (2) ، سلوني عن طرق السماء فواللّه اني لأعلم لها منكم من طرق الأرض؟ وقال إن هاهنا لعلما جما ، وضرب بيده على صدره ، وقال : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا فقد ظهر أنه أعلم (3).
وأما الزهد فإنه سيد الزهاد ، وبد الأبدال ، وإليه تشد الرحال ، وتنقص الأحلاس ، وما شبع من طعام قط ، وكان أخشن الناس لبسا ومأكلا.
قال عبد اللّه بن أبي رافع : دخلت على علي - عليه السلام - يوم عيد فقدم جرابا مختوما فوجد فيه خبزا شعيرا يابسا مرضوضا فتقدم فأكل.
فقلت : يا أمير المؤمنين فكيف تختمه وأنما هو خبز شعير؟
فقال : خفت هذين الولدين يلتانه بزيت أو سمن (4). وكان ثوبه مرقوعا بجلد تارة وبليف أخرى ، ونعلاه من ليف ، وكان يلبس الكرباس الغليظ فإن وجد كمه طويلا قطعه بشفرة ولم يخيطه ، وكان يلبس الكرباس على ذراعيه حتى يبقى سدى بلا لحمة ، وكان يأتدم إذا إئتدم بالخل والملح فإن ترقى عن ذلك فبعض نبات الأرض ، فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان لإبل ، ولا يأكل اللحم إلا قليلا ويقول : لا تجلعوا بطونكم مقابر الحيوانات ، وكان مع ذلك أشد الناس قوة ، وأعظمهم يدا (5).
ص: 448
وأما العبادة فمنه تعلم الناس صلاة الليل ، وملازمة الأوراد ، وقيام النافلة ، وما ظنك برجل كانت جبهته كثفنة البعير ، ومن محافظته على ورده أن بسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير ليلة الهرير فيصلي عليه والسهام تقع عليه وتمر على صماخيه يمينا وشمالا فلا يرتاع لذلك ولا يقوم حتى يفرغ من وظيفته.
فأنت إذا تأملت دعواته ومناجاته ووقفت على ما فيها من تعظيم اللّه سبحانه وتعالى وإجلاله وما تضمنته من الخضوع لهيبته والخشوع لعزته عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص.
وكان زين العابدين - عليه السلام - يصلي في كل ليلة ألف ركعة ويقول : أني لي بعبادة علي - عليه السلام - (1).
وأما الشجاعة فهو ابن جلاها وطلاع ثناهايا ، نسى الناس فيها ذكر من قبله ، ومحى اسم من يأتي بعده ، ومقاماته في الحروب مشهورة تضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة ، وهو الشجاع الذي ما فرقط ولا ارتاع من كتبية ، ولا بارز أحدا إلا قتله ، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت إلى ثانية.
وجاء في الحديث إذا ضرب واعتلا قد ، وإذا ضرب واعترض قط ، وفي الحديث : كانت ضرباته وترا (2) ، وكان المشركون إذا أبصروه في الحرب عهد بعضهم إلى بعض ، وبسيفه شيدت مباني الدين ، وثبتت دعائمه ، وتعجبت الملائكة من شدة ضرباته وحملاته.
وفي غزوة بدر الداهية العظمى على المسلمين قتل فيها صناديد قريش كالوليد بن عتبة والعاص بن سعيد ونوفل بن خويلد الذي قرن
ص: 449
أبا بكر وطلحة قبل الهجرة وعذبهما ، وقال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - : (الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه) (1) ولم يزل في ذلك يصرع صنديدا بعد صنديد حتى قتل نصف المقتولين فكان سبعين ، وقتل المسلمون كافة مع ثلاثة الآف من الملائكة مسومين النصف الآخر (2). وفيه نادى جبرئيل :
(لا سيف إلا ذو الفقار *** ولا فتى الا علي) (3)
ويوم أحد لما انهزم المسلمون عن النبي - صلى اللّه عليه وآله - ورمي رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - إلى الأرض وضربه المشركون بالسيوف والرماح وعلي - عليه السلام - مصلت سيفه قدامه ، ونظر النبي - صلى اللّه عليه وآله - بعد إفاقته من غشوته فقال : يا علي ما فعل المسلمون؟
فقال : نقضوا العهود وولوا الدبر.
فقال : اكفني هؤلاء ، فكشفهم عنه ولم يزل يصادم كتبية بعد كتيبة وهو ينادي المسلمين حتى تجمعوا وقال جبرئيل - عليه السلام - : إن هذه لهي الموساة ، لقد عجبت الملائكة من حسن موالاة علي لك بنفسه.
فقال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - : وما يمنعه من ذلك وهو مني
ص: 450
وأنا منه (1). ولثبات علي - عليه السلام - رجع بعض المسلمين ورجع عثمان بعد ثلاثة أيام ، فقال له النبي - صلى اللّه عليه وآله - : فقد ذهبت بها عريضة (2).
وفي غزاة الخندق إذ أحدق المشركون بالمدينة كما قال اللّه تعالى : ( إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ) (3) ، ودخل عمرو بن عبدود الخندق على المسلمين ونادى بالبراز فأحجم عنه المسلمون وبرز علي - عليه السلام - متعمما بعمامة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - وبيده سيف فضربه ضربة كانت توازن عمل الثقلين إلى يوم القيامة (4) ، وأين هناك أبو بكر وعمر وعثمان.
ومن نظر غزوات الواقدي وتاريخ البلازري علم محله من رسول اللّه من الجهاد وبلاء يوم الأحزاب ، وهو يوم بني المصطلق ، ويوم قلع باب خيبر ، وفي غزاه خيبر ، وهذا باب لا يغني الإطناب فيه لشهرته.
وروى أبو بكر الأنبازي في أماليه أن عليا - عليه السلام - جلس إلى عمر في المسجد وعنده اناس ، فلما قام عرض واحد بذكره ونسبه إلى التيه والعجب.
فقال عمر : لمثله أن يتيه واللّه لولا سيفه لما قام عمود الدين ، وهو
ص: 451
بعد أقضي الأمة وذو سابقتها ، وذو شأنها.
فقال له ذلك القائل : فما منعكم يا أمير المؤمنين منه؟
فقال : ما كرهناه إلا على حداثة سنه ، وحبه لبني عبد المطلب ، وحمله سورة براءة إلى مكة.
ولما دعا معاوية إلى البراز لتسريح الناس من الحرب بقتل أحدهما فقال له عمرو : قد أنصفك الرجل.
فقال له معاوية : ما غششتني كلما نصحتني إلا اليوم ، أتأمرني بمبارزة أبي الحسن وأنت تعلم أنه الشجاع المطوق؟ أراك طمعت في إمارة الشام بعدي (1).
وكانت العرب تفتخر لوقوعها في الحرب في مقابلة ، فأما قتلاه فافتخر رهطهم لأنه - عليه السلام - قتلهم وأظهر وأكثر من أن يحصى وقالت (2) في عمر بن عبدود ترثيه :
لو كان قاتل عمر وغير قاتله
بكيته أبداً ما عشت في الأبد
لكن قاتله من لا نظير له
قد كان يدعى أبوه بيضة البلد (3)
وجملة الأمر أن كل شجاع في الدنيا إليه ينتمي ، وباسمه من مشارق الأرض ومغاربها.
وأما كرمه وسخاؤه فهو الذي كان يطوي في صيامه حتى صام طاوياً ثلاثة أيام يؤثر السؤال كل ليلة بطعامه حتى أنزل اللّه فيه : ( هَلْ أَتَى عَلَى
ص: 452
الْإِنْسَانِ ) (1) وتصدق بخاتمه في الركوع فنزلت الآية : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (2) ، وتصدق بأربعة دراهم فأنزل اللّه فيه الآية : ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً ) (3) وتصدق بعشرة دراهم يوم
ص: 453
النجوى (1) فخفف اللّه سبحانه عن سائر الأمة بها ، وهو الذي كان يستسقي للنخل بيده ويتصدق بأجرته ، وفيه قال معاوية بن أبي سفيان الذي كان عدوه لمحفن الضبي لما قال له : جئتك من عند أبخل الناس فقال ، ويحك كيف قلت؟ تقول له أبخل الناس ولو ملك بيتا من بتر وبيتا من تبن لأنفق تبره قبل تبنه (2) ، وهو الذي يقول : يا صفراء ويا بيضاء غري غيري ، بى تعرضت أم لي تشوقت ، هيهات هيهات قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها (3) ، وهو الذي جاد بنفسه ليلة الفراش وفدى النبي صلى اللّه عليه وآله - حتى نزل في حقه : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ) (4).
قال يوحنّا : فلما سمعوا هذا الكلام لم ينكره أحد منهم ، وقالوا : صدقت إن هذا الذي قلت قرأناه من كتبنا ونقلناه عن أئمتنا لكن محبة اللّه
ص: 454
ورسوله وعنايتهما أمر وراء هذا كله ، فعسى اللّه أن يكون له عناية بأبي بكر اكثر من على فيفضله عليه.
قال يوحنا. إنا نعلم الغيب ، ولا يعلم الغيب إلا اللّه تعالى ، وهذا الذي قلتموه تخرص ، وقال اللّه تعالى : ( قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ) (1) ونحن إنما نحكم بالشواهد التي لعلي - عليه السلام - على أفضليته فذكرناها.
وأما عناية اللّه به فتحصل من هذه الكمالات دليل قاطع عليها ، فأي عناية خير من أن يجعل بعد نبيه أشرف الناس نسبا ، وأعظمها حلما ، وإشجعهم قلبا ، واكثر هم جهادا وزهدا وعبادة وكرما وورعا ، وغير ذلك من الكمالات القديمية ، هذا هو العناية.
وأما محبة اللّه ورسوله فقد شهد بها رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - في مواضع ، منها : الموقف الذي لم ينكر وهو يوم خبير ، إذ قال النبي - صلى اللّه عليه وآله - : (لأعطين الراية غدا رجلا يحب اللّه ورسوله ويحبه اللّه ورسوله) (2) فأعطاها عليا.
ص: 455
وروى عالمكم أخطب خوارزهم في كتاب المناقب أن النبي - صلى اللّه عليه وآله - قال : «يا علي لو أن عبدا عبد اللّه عزوجل مثلما قام نوح في قومه ، وكان له مثل جبل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل اللّه ، ومد في عمره حتى حج ألف حجة على قدميه ، ثم قتل ما بين الصفا والمروة مظلوما ثم لم يوالك يا علي لم يشم رائحة الجنة ولم يدخلها» (1).
ص: 456
وفي الكتاب المذكور قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - : (لو اجتمع الناس على حب علي بن أبي طالب لم يخلق اللّه النار) (1) وفي كتاب الفردوس : حب علي حسنتة لا تضر معها سيئة ، وبغضه سيئة لا تنفع معها حسنة (2).
وفي كتاب ابن خالويه عن حذيقة بن اليمان قال ، قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - : (من أراد أن يتصدق بفصه الياقوت التي خلق اللّه بيده ثم قال لها : كوني فكانت فليتول علي بن أبي طالب بعدي).
وفي مسند أحمد بن حنبل في المجلد الاول : أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - أخذ بيد حسن وحسين وقال : (أحبني وأحب هذين وأحب أبا هما كان معي في درجتي يوم القيامة (3).
قال يوحنا : يا أئمة الإسلام هل بعد هذا كلام في قول اللّه تعالى ورسوله في محبته وفي تفضيله على من هو عاطل عن هذه الفضائل؟
قالت الأئمة : يا يوحنا ، الرافضة يزعمون أن النبي - صلى اللّه عليه وآله - أوصى باالخلافة إلي علي - عليه السلام - ونص عليه بها ، وعندنا أن النبي - صلى اللّه عليه وآله - لم يوص إلى أحد بالخلافة.
قال يوحنا : هذا كتابكم فيه : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ) (4).
وفي بخاريكم يقول : قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - : (ما من
ص: 457
حق امرئ مسلم أن يبيت إلا وصيته تحت رأسه) (1) أفتصدقون أن نبيكم يأمر بما لا يفعل مع أن في كتابكم تقريعا للذي يأمر بما لا يفعل من قوله : ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) (2) فواللّه إن كان نبيكم قد مات بغير وصية فقد خالف أمر ربه ، وناقض قول نفسه ، ولم يقتد بالأنبياء الماضية من أيصائهم ألى من يقوم بالأمر من بعدهم ، على أن اللّه تعالى يقول : ( فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) (3) لكنه حاشاه من ذلك وإنما تقولون هذا لعدم علم منكم وعناد ، فإن إمامكم أحمد بن حنبل روى في مسنده أن سلمان قال : يا رسول اللّه فمن وصيك؟
قال : يا سلمان من كان وصي أخي موسى - عليه السلام -؟
قال : يوشع بن نون! قال : فإن وصيي ووارثي بإسناده علي بن أبي طالب.
وفي كتاب ابن المغازلي الشافعي بإسناده عن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - قال : لكل نبي وصي ووارث ، وأنا وصيي ووارثي علي بن ابي طالب (4).
وهذا الإمام البغوي محيي سنة الدين ، وهو من أعاظم محدثيكم م مفسر يكم ، وقدر روى في تفسيره المسمى بمعالم التنزيل عند قوله تعالى : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (5) ، عن علي - عليه السلام - أنه قال : لما نزلت هذه الاية أمرني رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أن أجمع
ص: 458
له بني عبد المطلب فجمعتهم وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون ، فقال لهم بعد أن أضافهم برجل شاة وعس من لبن شبعا وريا وأنه كان أحدهم ليأكله ويشربه : يا بني عبد المطلب إني قد جئتكم بخير الدنيا والأخرة ، وقد أمرني ربي أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني عليه ، ويكون أخي ووصيي وخليفتي من بعدي؟ فلم يجبه أحد.
قال علي : فقمت إليه ، وقلت : أنا أجيبك يار رسول اللّه.
فقال لي : أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي ، فاسمعوا له وأطيعوا ، فقاموا يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع (1).
وهذه الرواية قد رواها أيضا أمامكم أحمد بن حنبل في مسنده (2) ومحمد بن إسحاق الطبري في تاريخه (3) والخركوشي أيضا رواها ، فإن كانت كذبا فقد شهدتم على أئمتكم بأنهم يروون الكذب على اللّه ورسوله ، واللّه تعالى يقول : ( أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (4) ( الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ) (5) ، قال اللّه تعالى في كتابه : ( فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (6) وإن كان لم يكذبوا وكان الأمر على ذلك فما ذنب الرافضة؟ إذن فاتقوا اللّه يا أئمة الإسلام ، باللّه عليكم ما ذا تقولون في خبر الغدير الذي تدعيه الشيعة؟
ص: 459
قال الائمة : أجمع علماؤنا على أنه كذب مفترى.
قال يوحنا : اللّه اكبر ، فهذا إمامكم ومحدثكم أحمد بن حنبل روى في مسنده إلى البراء بن عازب قال : كنا مع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في سفر فنزلنا بغدير خم (1) فنودي فينا الصلاة جامعة وكشح
ص: 460
لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - تحت شجرتين ، وصلى الظهر ، وأخذ بيد على - عليه السلام - فقال : ألستم أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟
قالوا : بلى فأخذ بيد علي ورفعها حتى بان بياض إبطيهما وقال لهم : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللّهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من من نصره ، واخذل من خذله.
فقال له عمر بن الخطاب : هنيئا يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.
ورواه في مسنده بطريق آخر وأسنده إلى أبي الطفيل ، ورواه بطريق آخر وأسنده إلى زيد بن أرقم (1) ، ورواه ابن عبد ربه في كتاب العقد (2) ، ورواه سعيد بن وهب ، وكذا الثعالبي في تفسيره (3) وأكد الخبر مما رواه من تفسير ( سأل سائل ) أن حارث بن النعمان الفهري أتى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في ملأمن من أصحابه فقال : يا محمد أمرتنا أن
ص: 461
نشهد أن لا إله إلا اللّه ، وأنك محمد رسول اللّه فقبلنا ، وأمرتنا أن نصلي خمسا فقبلنا منك ، وأمرتنا أن نصوم شهر رمضان فقبلنا ، وأمرتنا أن نحج البيت فقبلنا ، ثم لم ترض حتى رفعت بضبعي ابن عمك ففضلته علينا وقلت (من كنت مولاه فعلي مولاه) فهذا شئ منك أم من اللّه؟
فقال : واللّه الذي لا إله إلا هو ، إنه أمر من اللّه تعالى ، فولى الحارث بن النعمان وهو يقول : اللّه مأن كان ما يقول محمد - صلى اللّه عليه وآله - حقا فأمطر علينا حجارة من السماء فما وصل إلى راحلته حتى رمى اللّه بحجر فسقي على رأسه وخرج من دبره فخر صريعا ، فنزل : ( سأل سائل بعذاب واقع ) (1) ، فكيف يجوز منكم أن يروي أئمتكم وأنتم تقولون : إنه مكذوب غير صحيح؟
قال الأئمة : يا يوحنا قد روت أئمتنا ذلك لكن إذا رجعت إلى عقلك وفكرك علمت أنه من المحال أن ينص رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - على علي بن ابي طالب الذي هو كما وصفتم م يتفق كل الصحابة على كتمان هذا النص ويتراخون عنه ، ويتفقون على إخفائه ، ويعدلون إلى أبي بكر التيمي الضعيف القليل العشيرة ، مع أن الصحابة كانوا إذا أمرهم رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بقلت أنفسهم فعلوا ، فكيف يصدق عاقل هذا الحال من المحال؟
قال يوحنا : لا تعجبوا من ذلك فأمه موسى - عليه السلام - كانوا ستة أضعاف أمة محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، واستخلف عليهم أخاه هارون وكان نبيهم أيضا وكانوا يحبونه أكثر من موسى ، فعدلوا عنه إلى
ص: 462
السامري ، وعكفوا على عبادة عجل جسد له خوار ، فلا يبعد من أمه محمد أن يعدلوا عن وصيه بعد موته إلى شيخ كان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - تزوج ابنته ، ولعله لو لم يرد القرآن بقصه عبادة اعجل لما صدقتموها.
قال الأئمة : يا يوحنا فلم لا ينازعم بل سكت عنهم وبايعهم؟
قال يوحنا : لا شك أنه لما مات رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وكان المسلمون قليلا ، واليمامة فيها مسيلمة الكذاب وتبعه ثمانون ألفا والمسلمون الذين في المدينة حشوهم منافقون ، فلو أظهر النزاع بالسيف لكان كل م نقتل علي بن أبي طالب بنيه أو أخاته كان عليه وكان الناس يومئذ قليل من لم يقتل علي من قبيلته وأصحابه وأنسابه قتيلا أو أشهر بلا خلاف بين أهل السنة ، ثم بعد جرى من طلب البيعة منهم فعند أهل السنة أنه بايع ، وعند الرافضة أنه لم يبايع ، وتاريخ الطبري (1) يدل على أنه لم يبايع ، وأنما العباس لما شاهد الفتنة صاح : بايع ابن أخي.
وأنتم تعلمون أن الخلافة لو لم تكن لعلي لما ادعاها ، ولو ادعاها بغير حق لكان مبطلا ، وانتم تروون عن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أنه قال : (علي مع الحق والحق مع علي) (2) ، فكيف يجوز منه أن يدعي ما ليس بحق فيكذب نبيكم يومئذ ما هذا بصحيح.
وأما تعجبكم من مخالفة بني إسرائيل نبيهم في خليفته وعدولهم إلى العجل والسامري ففيه سر عجيب إنكم رويتم أن نبيكم قال : (ستحذو
ص: 463
أمتي حذو النعل ، والقذة ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتم فيه) (1) وقد ثبت في كتابكم أن بني إسرائيل خالفت نبيها في خليفه ، وعدلوا عنه إلى ما لا يصلح لها.
قال العلماء : يا يوحنا أفتدري أنت أن أبا بكر لا يصلح للخلافة؟
قال يوحنا : أما أنا فواللّه لم أر أبا بكر يصلح للخلافة ، ولا أنا متعصب للرافضة ، لكني نظرت الكتب الإسلامية فرأيت أن أئمتكم أعلمونا أن اللّه ورسوله أخبرني أن ابا بكر لا يصلح للخلافة.
قال الائمة : وأين ذلك؟
قال يوحنّا : رأيت في بخاريكم (2) ، وفي الجميع بين الصحاح الستة ، وفي صحيح أبي داود ، وصحيح الترمذي (3) ، ومسند أحمد بن حنبل (4) أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بعث سروة براءه مع أبي بكر إلى أهل مكة ، فلما بلغ ذي الحليفة (5) دعا عليا - عليه السلام - ، ثم قال له : أدرك أبا بكر وخذ الكتاب منه فاقرأه عليه م ، فلحقه بالجحفة (6) فأخذ الكتاب
ص: 464
منه ورجع أبو بكر إلى النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فقال : يا رسول اللّه أنزل في شئ؟
قال : لا ولكن جاء ني جبرئيل - عليه السلام - ، وقال : لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك.
فإذا كان الأمر هكذا وأبو بكر لا يصلح لأداء آيات يسيرة عن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في حياته ، فكيف يصلح أن يكون خليفته بعد مماته ويؤدي عنه كله وعلمنا من ذها أن عليا - عليه السلام - يصلح أن يؤدي عن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم -.
فيا أيها المسلمون لم تتعامون عن الحق الصريح؟ ولم تركنون إلى هؤلاء وكم ترهبون الأهوال؟
قال الحنفي منهم : يا يوحنا واللّه انك لتنظر بعين الإنصاف ، وإن الحق لكما تقول ، وأزيدك في معنى هذا الحديث ، وهو أن اللّه تعالى أراد أن يبين للناس أن أبا بكر لا يصلح للخلافة ، فترك رسول اللّه حتى أخرج أبا بكر بسورة براءة على رؤوس الأشهاد ، ثم أمر رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أن يخرج عليا وراءه ويعزله عن هذا المنصب العظيم ليعلم الناس أن أبا بكر لا يصلح لها ، وأن الصالح لها علي - عليه السلام - ، فقال لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : واللّه يبلغ عنك إلا أنت أو رجل منك (1) ، فما تقول أنت يا مالكي؟
قال المالكي : واللّه فإنه لم يزل يختلج في خاطري أن عليا نازع أبا بكر في خلافته مدة ستة أشهر ، وكل متنازعين في الامر لا بد وأن يكون
ص: 465
أحدهما محقا ، فإن قلنا إن أبا بكر كان محقا فقد خالفنا مدلول قول النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : (علي مع الحق والحق مع على) (1). وهذا حديث صحيح لا خلاف فيه ، فما تقول يا حنبلي؟
قال الحنبلي : يا أصحابنا كم نتعامى عن الحق؟ واللّه أن اليقين أن أبا بكر وعمر غصبا حق علي - عليه السلام - فكانا ... الخ.
فقال له الحنفي : ولا بهذه العبارة.
فقال الحنبلي : يا حنفي تيقظ لأمرك فإن البخاري ومسلم أورادا في صحيحهما أنه لما توفي أبو بكر وجلس عمر مكانه أتى العباس وعلي إلى عمر وطلبا ميراثهما من رسول اللّه ، فغضب عمر وقال كلام يقول فيه : فلما توفي رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال أبو بكر أنا ولي رسول اللّه ، فجثت أنت تطلب ميراثك من ابن أخيك ، ويطلب علي هذا ميراث امرأته من أبيها.
فقال لكما أبو بكر : أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه يكون صدقة) (2) ، فرأيتماه كاذبا أثما غادرا خائنا ، ثم توفي أبو بكر فقلت : أنا ولي رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - من بعده وولي أبو بكر ، فجئت أنت وعلي وأنتما جميعا أمركما واحد فقلتم : الأمر لنا دونكم فقلت لكما مقالة أبي بكر فرأيتماني كاذبا آثما غادرا خائنا ، وقول عمر هذا لعلي - عليه السلام - كان بمحضر أنس بن مالك وعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد ، ولم يعتذر أمير المؤمنين علي ولا العباس عما نسب إليهما من الاعتقاد
ص: 466
الذي ذكره عمر ولا أحد من الحاضرين اعتذر إلى أبي بكر ، فيا حنفي أن كان عمر صدق فيما نسب إلى أبي بكر وإلى نفسه فمن يعتقد فيه العباس وعلي أنه كاذب آثم خائن غادر فكيف يصلح للخلافة؟ وإن عمر كان كاذبا في ذلك فكفاه ذلك.
قال يوحنا : يا أئمة الإسلام هذه الرواية هي سبب تجري الناس على أبي بكر في الطعن عليه وعلى عمر ، فإذا سمعت الرافضة أن في بخاريكم أن عمر قد شهد على نفسه أن عليا هو الذي رويتم فيه أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال في حقه : (علي مع الحق والحق مع علي) والعباس عم رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - شهد على أبى بكر وعمر أنهما كاذبان آثمان خائنان فكيف لايتجرثون عليهم ويجعلون هذا مبدأ أشياء أخر.
قالت العلماء : يل يئختل إن الرافضة يطعنون في أكثر الصحابة ، وهذا هو الذي أوجب قتلهم ، إن الرافضة يطعنون في أكثر الصحابة ، وهذا هو الذي أوجب قتلهم ، إن رسول اللّه مدح الصحابة وقال : (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديم اهتديتم) (1) فكيف يصح للرافضة أن يطعنوا فيهم؟
قال يوحنا : علماء الاسلام لا تقولوا هذا فمن الجائز أن يطعنوا فيهم؟ المدح لهم في زمن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وبعد رسول اللّه حصل لبعضهم الارتداد ، فإن إمامكم ومحدثكم الحميدي روى في الجمع بين الصحيحين من المتفق عليه عندكم من الحديث الستين من مسند عبد اللّه بن العباس ، قال : إن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : ألا إنه سيجئ برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : يا رب أصحابي
ص: 467
أصحابي ، فيقال لي : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول لهم كما قال العبد الصالح : ( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ، إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (1) فيقال : إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم (2).
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند عائشة عن عبد اللّه ، الحديث الحادي عشر من افراد مسلم قال : إن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم أي قوم أنتم؟
قال عبد الرحمن : نكون كما أمرنا رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم -.
فقال رسول اللّه : بل تتنافسون وتتحاسدون ، ثم تتدابرون ، ثم تتباغضون وتنطلقون إلى مساكن المهاجرين فتحملون المهاجرين فتحملون بعضهم على رقاب بعض (3).
أليس هذدا وعد بارتدادهم ، وناهيك بقوله تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ) (4).
قالت العلماء : يا يوحنا ، هذا الذي ذكرته يدل على أن ذلك البعض أبو بكر وعمر وأتباعهما وما ندري ما الذي جرأهم على ذلك؟ ومن أين
ص: 468
جاز لهم ذلك؟
قال يوحنا : جرأهم على ذلك أئمتكم وعلماؤكم كالبخاري (1) ومسلم ، فإنهم أوردوا أنه لما مات رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - أرسلت فاطمة - صلوات اللّه عليها - إلى أبي بكر تسأله ميراثها من أبيها - صلى اللّه عليه وآله وسلم - مما إفاء اللّه عليه بالمدينة من فدك وما بقي من خمس خيبر ، فأبي أبو بكر مما أقلقها وأحزنها فهجرته ولم تكلم مما وقع عليها منه من الأزدي وما زالت تتنفس حتى ماتت ، وإنها عاشت بعد أبيها ستة أشهر ، فلما توفيت دفنها علي - عليه السلام - ليال سرا ولم يؤذن بها أبا بكر ، ومع هذه الشناعة روى أئمتكم في الصحيحين أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : (فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني ، ويؤذني ما آذاها) (2) ، فأخذ الرافضة هذين الحديثين وركبوا منهما مقدمتين وهو : أبو بكر آذى فاطمة ، ومن آذى فاطمة فقد آذى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، ولا شك أن اللّه سبحانه يقول : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ) (3) ، ولو إنكار نتيجتها.
وقال يوحنا : فاختبط القوم ، وكثر بينهم النزاع لكن كان مآل كلامهم ، أن الحق في طرف الرافضة ، وكان أقربهم إلى الحق إذن إمام الشافعية ، فقال
ص: 469
لهم : أراكم تشكون أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : من مات ولم يعرف إمام زمانه (1) فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا.
فما المراد بإمام الزمان؟ ومن هو؟
قالوا : إمام زماننا القرآن فإنا به نقتدي.
فقال الشافعي : أخطأتم لأن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : الأئمة من قريش (2) ولايقال للقرآن أنه قريشي.
فقالوا : النبي إمامنا.
فقال الشافعي : أخطأتم ، لأن علماءنا لما اعترض عليهم بأن كيف يجوز لأبي بكر وعمر أن يتركا رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - مسجي غير مغسل ويذهبا لطلب الخلافة ، وهذا دليل على حرصهم عليها ، وهو قادح في صحة خلافتهما.
أجاب علماؤنا إنهم لمحوا أقوال النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) ولم يجوز واعلى أنفسهم الموت قبل تعيين الإمام ، فبادروا لتعيينه هربا من ذلك الوعيد ، فعلمنا أن ليس المراد بالإمام هنا النبي.
فقالوا للشافعي : فأنت يا شافعي؟
قال : إن كنت من قبيلتكم فلا إمام لي ، وإن كنت من قبيلة الاثني عشرية فإيامي محمد بن الحسن - عليه السلام -.
فقال العلماء : هذا واللّه أمر بعيد كيف يجوز أن يكون واحد من مدة
ص: 470
لا يعيش أحد مثله ، ولا يراه أحد هذا بعيد جدا.
فقال الشافعي : هذا الدجال من الكفرة تقولون : إنه حي وموجود ، وهو قبل المهدي والسامري كذلك ووجود إبليس لا تكرونه ، وهذا الخضر ، وهذا عيسى تقولون : إنهما حيان ، وقد رود عندكم ما يدل على التعمير في حق السعداء والأشقياء ، وهذا القرآن ينطق أن أهل الكهف نامو ثلاث مائة سنة وتسع سنين لا يأكلون ولا يشربون ، أفبعيد أن يعيش من ذرية محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - واحد مدة طويلة يأكل ويشرب إلا أنه لا يخبرنا أحد أنه رآه ، واستبعادكم هذا بعيد جدا.
قال يوحنا : إن نبيكم قال : ستفترق أمتي من بعدي ثلاث وسبعين ، واحدة ناجية ، واثنتان وسبعون في النار فهل تعرف الناجية من هي؟
قالوا : إنهم أهل السنة والجماعة لقول النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لما سئل عن الفرقة الناجية من هم؟ فقال : (الذين هم على ما أنا عليه اليوم وأصحابي) (1).
قال يوحنا : فمن أين لكم أنكم أنتم اليوم على ما كان عليه النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم -؟
قالوا : ينقل ذالك الخلف عن السلف.
فقال يوحنا : فمن الذي يعتمد على نقلكم؟
قالوا : وكيف ذالك؟
ص: 471
قال : لوجهين :
الأول : أن علماءكم نقلوا كثيرا من الأحاديث التي تدل على إمامة علي - عليه السلام - وأفضليته ، وأنتم تقولون إنه مكذوب عليه ، وشهدتم على علمائكم أنهم ينقلو الكذب فربما بكون هذا يتفق أيضا كذبا ولا مرجح لكم.
الثاني : أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - كان يصلي كل يوم الصلوات الخمس في المسجد ولم يضبط له أنه هل كان يبسمل للحمد أم لا؟ وهل كان يعتقد وجوبها أم لا؟ وهل كان يسبل يديه أم لا؟ ولو كان يعقدهما فهل يعقدهما تحت اسره أو فوقها؟ وهل كان يمسح في الوضوء ثلاث شعرات أو ربع الرأس أم جميع الرأس؟ حتي إن أئمتكم اختلفوا ، فبعض أوجب البسملة ، وبعض استحبها ، وبعض كرهها ، وبعض أسبل يديه ، وبعض عقدها تحت السرة ، وبعض فوقها ، وبعض أوجب مسح ثلاث شعرات ، وبعض ربع الرأس ، وبعض جميعه ، فإذا كان سلفكم لم يضبط شيئا كان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - يفعله في اليوم والليلة مرارا متعددة ، فكيف يضبطون شيئا لم يفعله في العمر إلا مرة واحدة أو مرتين ، هذا بعيد! وكيف تقولون إن أهل السنة هم على ما كان عليه النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - والحال أنهم يناقض بعضهم بعضا في اعتقاداتهم ، واجتماع النقيض محال.
قال يوحنا : فأطرقوا جميعيا ، ودار الكلام بينهم ، وارتفعت الأصوات بينهم ، وقالوا : الصحيح أنا لا نعرف الفرقة الناجية من هي ، وكل منا يزعم أنه هو الناجي ، وأن غيره هو الهالك ، ويمكن أن يكون هو الهالك ، وغيره الناجي.
ص: 472
قال يوحنا هذه الرافضة الذين تزعمون أنهم ضالون يجزمون بنجاتهم ، وهلاك من سواهم ، ويستدلون على ذلك بأن اعتقادهم أوفى للحق ، وأبعد عن الشك.
قالت العلماء : يا يوحنا ، قل وأنا واللّه لا نتهمك لعلمنا أنك تجادلنا على إظهار الحق.
قال يوحنا : أنا أقول باعتقاد الشيعة أن اللّه قديم ولاقديم سواه ، وأنه واجب الوجود ، وأنه ليس بجسم. ولا في محل وهو منزه عن الحلول ، واعتقادكم أنكم تثبتون معه ثمانية قدماء هي الصفات حتى أن إمامكم الفخر الرازي شنع عليكم ، وقال : إن النصارى واليهود كفروا حيث جعلوا مع اللّه إلهين اثنين قديمين وأصحابنا أثبتوا قدماء تسعة ، وابن حنبل أحد أئمتكم قال : إن اللّه على العرش ، وإنه ينزل في صورة أمرد ، فباللّه عليكم أليس الحال كما قلت؟
قالوا : نعم.
قال يوحنا : فاعتقادهم إذا خير من اعتقادكم ، واعتقاد الشيعة إن اللّه سبحانه لا يفعل قبيحا ، ولا يخل بواجب ، وليس في فعله ظلم ، ويرضون بقضاء اللّه لأنه لا يقضي إلا بالخير ، ويعتقدون أن فعله لغرض لا لعبث ، وأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها ، ولا يضل أحدا من عباده ، ولا يحيل بينهم وبين عبادته ، وأنه أراد الطاعة ، ونهى عن المعصية ، وأنهم مختارون في أفعال أنفسهم ، واعتقادكم أنتم أن الفواحش كلها من اللّه - تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا - وأنه كل ما يقع في الوجود من الكفر والفسوق والمعصية والقتل والسرقة والزنا فإنه خلقه اللّه تعالى في فاعليه وأراده منهم وقضى عليهم به ورفع اختيارهم ، ثم يعذبهم عليه ، وأنتم لا ترضون بقضاء اللّه بل
ص: 473
إنّ اللّه تعالى لا يرضى بقضاء نفسه ، وإنه هو الذي أضل العباد وحال بينهم وبين العبادة والايمان ، وإن اللّه تعالى يقول : ( وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) (1) ، فاعتبروا هل اعتقادكم خير من اعتقادهم أو اعتقادهم خير من اعتقادكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون؟!
وقالت الشيعة : أنبياء اللّه معصومون من أول عمرهم إلى آخره عن الصغائر والكبائر فيما يتعلق بالوحي وغيره عمدا وخطا ، واعتقادكم انه يجوز عليهم الخطأ والنسيان ، ونسبتم ان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - سهى في القرآن بما يوجب الكفر فقلتم : إنه صلى الصبح فقرأ في سورة النجم ( أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى ) (2) تلك الغرانين العلى ، منها الشفاعة ترتجى (3) ، وهذا كفر وشرك جلي ، حتي ان بعض علماءكم صنف كتابا فيه تعداد ذنوب نسبها للأنبياء - عليهم السلام - فأجابته الشيعة عن ذلك الكتاب بكتاب سموه بتنزيه الأنبياء (4) ، فماذا تقولون أي الاعتقادين أقرب إلى الصواب ، وأدنى من الفوز؟
واعتقاد الشيعة ان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لم يقبض حتى أوصي إلى من يقوم بأمره بعده ، وانه لم يترك أمته هملا ولم يخالف قوله تعالى ، واعتقادكم انه ترك أمته خملا ، ولم يوص إلى من يقوم بالأمر بعده ، ومن كتابكم الذي أنزل عليكم فيه وجوب الوصية ، وفي حديث
ص: 474
نبيكم وجوب الوصية ، فلزم على اعتقادكم أن يكون النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أمر الناس بما لا يفعله ، فأي الاعتقادين أولى بالنجاة.
واعتقاد الشيعة ان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لم يخرج من الدنيا حتى نص بالخلافة على علي بن أبي طالب - عليه السلام - ولم يترك أمته هملا فقال له يوم الدار : (أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا أمره (1) وأنتم نقلتموه ونقله إمام القزاء والطبري والخركوشي وابن اسحاق.
وقال فيه يوم غدير خم : (من كنت مولاه فهذا علي مولاه) حتى قال له عمر : بخ بخ لك يا علي ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة ، نقله إمامكم أحمد بن حنبل في مسنده (2). قال فيه لسلمان : (إن وصييي ووارثي علي بن ابي طالب) رواه إمامكم أحمد بن حنبل (3). قال فيه (إن الأنبياء ليلة المعراج قالوا لي : بعثنا على الإقرار بنبوتك ، والولاية لعلي بن أبي طالب) ورويتموه في الثعلبي والبيان وقال فيه : (إنه يحب اللّه ورسوله) ، ورويتموه في البخاري والمسلم (4). وقال فيه (لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني) ، وعنى به علي بن ابي طالب ، وريتموه في الجمع بين الصحيحين ، وقال فيه : (أنت بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) ، ورويتموه في البخاري (5). وأنزل اللّه فيه : ( هَلْ أَتَى عَلَى
ص: 475
الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ) (1) وأنزل فيه : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (2) وإنه صاحب آية الصدقة (3) ، وضربته لعمر وبن عبد ود العامري أفضل من عمل الأمة إلى يوم القيامة (4) ، وهو أخو رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وزوج ابنته ، وباب المدينة ، إمام المتقين ، ويعسوب الدين ، وقائد الغر المحجلين (5) ، حلال المشكلات ، وفكاك المعضلات ، هو الإمام بالنص الإلهي ، ثم من بعده الحسن والحسين اللذان قال فيهما النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : (هذان إمامان قاما أو قعدا ، وأبو هما خير منهما) (6).
وقال النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) (7) ، ثم علي زين العابدين ، ثم أولاد المعصومين الذين
ص: 476
خاتمهم الحجة القائم المهدي إمام الزمان - عليه السلام - الذي من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية (1) ، وأنتم رويتهم في صحاحكم عن جابر بن سمرة أنه قال : سمعت رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - يقول : (يكون بعدي اثنا عشر أميرا) وقال كلمة لم أسمعها (2) وفي بخاريكم (3) قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - يقول : (لا يزال امر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا) ثم تكلم بكلمة خفيفة خفيت على.
وفي صحيح مسلم (لا يزال امر الدين قائما حتى تقوم الساعة ، ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش) (4) ، وفي الجمع بين الصحيحين والصحاح الستة ان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : (إن الأمر لا ينقضي حتى يمضي اثنا عشر خليفه كلهم من قريش) (5).
وروى عالمكم ومحدثكم وثقتكم صاحب كفاية الطالب عن انس ابن مالك ، قال : كنت انا وابوذر وسلمان وزيد بن ثابت وزيد بن أرقم عند النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - إذ دخل الحسن والحسين - عليهما لسلام - فقبلهما رسول اللّه ، وقام أبو ذر فانكب عليهما ، وقبل أيديهما ، ورجع فقعد معنا ، فقلنا له سرا : يا أبا ذر رأيت شيخا من أصحاب رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - يقوم إلى صبيين من بني هاشم فينكب عليهما ويقبلهما ويقبل أيديهما؟
ص: 477
فقال : نعم ، لو سمعتم ما سمعت لفعلتم بهما أكثر مما فعلت.
فقلنا : وما سمعت فيهما عن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - يا أبا ذر؟
فقال : سمعته لعلي ولهما : (واللّه لو أن عبدا صلى وصام حتى يصير كالشن البالي إذا ما نفعه صل ته ولا صومه إلا بحبكم والبراءة من عدوكم.
يا علي ، من توصل إلى اللّه بحقكم فحق على اللّه أن ل يرده خائبا.
يا علي ، من أحبكم وتمسك بكم فقد تمسك بالعروة الوثقى).
قال : ثم قام أبو ذر وخرج فتقدمنا إلى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فقلنا : يارسول اللّه أخبرنا أبو ذر بكيت وكيت.
فقال : صدق أبو ذر ، واللّه ما أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر(1) .
ثم قال - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : خلقني اللّه تعالى وأهل بيتي من نور واحد قبل أن يخلق اللّه آدم بسبعة آلاف عام ، ثم نقلنا من صلبه في أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات.
قلت يا رسول اللّه : وأين كنتم؟ وعلى أي شئ شأن كنتم؟
فقال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : كنا أشباحا من نور تحت العرش نسبح اللّه ونقدسه.
ثم قال - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : لما عرج بي إلى السماء وبلغت
ص: 478
إلى سدرة المنتهى ودعني جبرئيل.
فقلت : يا حبيبي جبرئيل في مثل هذا المقام تفارقني؟
فقال : يا محمد إني لا أجوز هذدا الموضع فتحترق أجنحتي ، ثمن زج بي من النور إلى النور ما شاء اللّه تعالى ، فأوحى اللّه تعالى إلى محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : إني اطلعت إلى الأرض اطلاعة فاخترتك منها وجعلتك نبيا ، ثم اطلعت ثانيا فاخترت منها عليا وجعلته وصيك ووارث علمك وإماما منبعدك ، وأخرج من أصلابكم الذرية الطاهرة والأئمة المعصومين خزان علمي ، ولولا هم ما خلقت الدنيا ولا الآخرة ، ولا الجنة ولا النار ، أتحب أن تراهم؟
فقلت : نعم يا رب ، فنوديت : يا محمد ارفع رأسك ، فرفعت رأسي فإدا أنا بأنوار علي ، والحسن ، والحسن ، وعلي بن الحسين ، ومحمد بن علي ، وعلي بن محمد ، والحسن بن علي ، والحجة بن الحسن يتلألأ من بينهم كأنه كوكب دري - عليهم افضل الصلاة والسلام -.
فقلت : يا رب من هؤلاء ومن هذا؟
فقال سبحانه وتعالى : هؤلاء الأئمة من بعدك المطهرون من صلبك ، وهذا هو الحجة الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا ويشفي صدور قوم مؤمنين.
فقلنا : بآبائنا وأمهاتنا أنت يا رسول اللّه لقد قلت عجبا.
فقال - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : وأعجب من هذا أن أقواما يسمعون هذا مني ثم يرجعون على أعقابهم بعد إذ هداهم اللّه ويؤذونني
ص: 479
فيهم لا أنا لهم اللّه شفاعتي (1).
قال يوحنا : واعتقادكم أنتم أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لما مات مات على غير وصية ، ولمم ينص على خليفته ، وأن عمر بن الخطاب اختار أبا بكر وبايعه وتبعته الأمة ، وأنتم تعلمون كلكم أن أبا بكر وعمر لما مات رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - تركوه بغير غسل ولا كفن وذهبا إلى سقيفة بني ساعدة فنازعا الأنصار في الخلافة ، وولي أبو بكر الخلافة ورسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - مسجى ، ولا شك أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لم يستخلفه ، وأنه كان يعبد الأصنام قبل أن يسلم أربعين سنة ، واللّه تعالى يقول : ( لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (2) ومنع فاطمة إرثها من أبيها رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بخبر (رواه).
قالت فاطمة : يا أبا بكر ترث أباك ولا أرث أبي ، لقد جئت شيئا فريا ، وعارضته بقول اللّه : ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) (3). ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ) (4) ، وقال اللّه تعالى : ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ) (5) ولو كان حديث أبي بكر صحيحا لم يمسك علي بن ابي طالب - عليه السلام - سيف رسولا اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بغلته وعمامته ونازع العباس عليا بعد موته فاطمة - عليها السلام - في ذلك ، ولو كان هذا
ص: 480
الحديث معروفا لم يجز لهم ذلك ، وأبو بكر منع فاطمة - عليها السلام - فدكا لأنها ادعت ذلك ، وذكرت أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - نحلها إيا فلم يصدقها في ذلك مع أنها من أهل الجنة ، وأن اللّه تعالى أذهب عنها ارجس الذي هو أعم من الكذب وغيره ، واستشهدت عليا - عليه السلام - وام أيمن مع شهادة النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لها بالجنة ، فقال : رجل مع رجل وامرأة ، وصدق الأزواج في ادعاء الحجرة ، ولم يجعل الحجرة صدقة فأوصت فاطمة وصية مؤكدة أن يدفنها علي ليلا حتى لا يصلي عليها أبو بكر (1).
وأبو بكر قال : أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم (2) ، فإن صدق فلا يصح له التقدم على علي بن أبي طالب - عليه السلام - ، وأن كذب فلا يصلح للإمامة ، ولا يحمل هذا على التواضع لجعله شيئا موجبا لفسخ الإمامة ، وحاملا له عليه.
ص: 481
وأبو بكر قال : إن لي شيطانا يعتريني ، فإذا زغت فقوموني (1). ومن يعتريه الشيطان فلا يصلح للإمامة!!
وأبو بكر قال في حقه عمر : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة ، ووقى اللّه المسلمين شرها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه (2) ، فتبين أن بيعته كانت خطا على غير الصواب ، وأن مثلها مما يجب المقاتلة عليها.
وأبوبكر تخلّف عن جيش أسامة وولّاه عليه، ولم يولّ النبي - صلی اللّه عليه وآله - علی علي أحداً(3).
وأبو بكر لم يوله رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - عملا في زمانه قط إلا سورة براءة ، وحين ما خرج أمر اللّه تعالى رسوله بعزله وإعطاها عليا(4) .
وأبو بكر لم يكن عالما بالأحكام الشرعية ، حتى قطع يسار سارق ، وأحرق بالنار الفجأة السلمي التيمي (5) ، وقد قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : (لا يعذب بالنار إلا رب النار)(6) .
ولما سئل عن الكلالة لم يعرف ما يقول فيها فقال : أقول برأيي فإن كان صوابا فمن اللّه ، وإن كان خطأ فمن الشيطان.
وسألته جدة عن ميراثها ، فقال : لا أجد لك في كتاب اللّه شيئا ولا في
ص: 482
سنة محمد ، ارجعي حتى أسأل فأخبره المغيرة بن شعبة أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أعطاها السدس وكان يستفي الصحابة في كثير من الأحكام.
وأبو بكر لم يكر على خالد بن الوليد في قتل مالك بن نويرة ، ولا في تزويج امرأته ليلة قتله من غير عدة (1).
وأبو بكر بعث إلى بيت أمير المؤمنين - عليه السلام - لما امتنع من البيعة فأضرم فيه النار (2) وفيه فاطمة - عليها السلام - وجماعة من بني هاشم وغيرهم فأنكروا عليه.
وأبو بكر لما صعد المنبر جاء الحسن والحسن وجماعة من بني هاشم وغيرهم وأنكروا عليه وقال له الحسن والحسين - عليها السلام - : هذا مقام جدنا ولست أهلاله (3).
وأبو بكر لما حضرته الوفاة ، قال : ياليتني تركت بيت فاطمة لم أكشفه ، وليتني كنت سألت رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : هل للأنصار في هذا الأمر حق؟
وقال : ليتني في ظلة بني ساعدة ضربت على يد أحد الرجلين ، وكان هو الأمير وأنا الوزير (4).
ص: 483
وأبو بكر عندكم أنه خالف رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في الاستخلاف ، لأنه استخلف عمر بن الخطاب ولم يكن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ولاه قط عملا إلا غزوة خيبر فرجع منهزما ، وولاه الصدقات فشا العباس فعزله النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، وأنكر الصحابة على أبي بكر تولية عمر حتى قال طلحة : وليت عمر فطا غليظا.
وأما عمر ، فإنه أتي إليه بامرأة زنت وهي حامل فأمر برجمها ، فقال علي - عليه السلام - : إن كان لك عليها سبيل فليس لك على حملها من سبيل ، فأمسك وقال : لو لا علي لهلك عمر (1).
وعمر شك في موت النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : ما مات محمد ولا يموت حتى تلا عليه أبو بكر الاية : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) (2) فقال : صدقت ، وقال : كأني لم أسمعها (3).
ص: 484
وجاءوا إلى عمر بأمرة مجنونة قد زنت فأمر برجمها ، فقال له علي - عليه السلام - القلم مرفوع عن المجنون حتى يفيق ، فأمسك ، فقال : لو لا علي لهللك عمر (1).
وقال في خطبة له : من غالي في مهر امرأته جعلته في بيت مال المسلمين ، فقالت له امرأة : تمنعا ما أحل اللّه لنا حيث يقول : ( وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا إتاخذونه بهتانا وإثما مبينا ) (2) فقال : كل الناس أفقه من عمر حتى المخدرات في البيوت (3).
وكان يعطي حفصة وعائشة كل واحدة منهما مائتي ألف درهم ، وأخذ مائتي ألف درهم من بيت المال فأنكر عليه السملمون فقال : أخذته على وجه القرض (4).
ومنع الحسن والحسين - عليهما السلام - إرثهما من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم ، ومنعهما الخمس (5).
وعمر قضي في الحد بسعبين قضية وفضل في العطاء والقسمة ومنع المتعتين وقال : متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم - حلالتان وأنا محرمها ، ومعاقب من فعلهما (6).
ص: 485
وخالف النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وأبا بكر في النص وعدمه ، وجعل الخلافة في ستة نفر ، ثم ناقض نفسه وجعلها في أربعة نفر ، ثم في الثلاثة ، ثم في واحد ، فجعل إلى عبد الرحمن بن عوف الاختيار بعد أن وصفه بالضعف والقصور ، ثم قال : إن اجتمع علي وعثمان فالقول ما قالا ، وإن صاروا ثلاثة فالقول للذين فيهم عبد الرحمن بن عوف ، لعلمه أن عليا وعثمان لا يجتمعان على أمر ، وأن عبد الرحمن بن عوف لا يدل بالامر عن ابن أخته وهو عثمان ، ثم أمر بضرب عنق من تأخر عن البيعة ثلاثة أيام (1).
وعمر أيضا مزق الكتاب كتاب فاطمة - عليها السلام - وهو أنه لما طالت المنازلة بين فاطمة وأبي بكر ، رد عليها فدك والعوالي ، وكتب لها كتابا فخرجت والكتاب في يدها فلقيها عمر فسألها عن شأنها ، فقصت قصتها ، فأخذ منها الكتاب وخرقة (2) ، ودعت عليه فاطمة ، فدخل ، فدخل على أبي بكر ولامه على ذلك ، وأنفقا على منعها.
وأما عثمان بن عفان فجعل الولايات بين أقاربه ، فاستعمل الوليد أخاه لامه على الكوفة ، فشرب الخمر ، وصلى بالناس وهو سكران (3). فطرده أهل الكوفة ، فظهر منه ما ظهر.
وأعطى الاموال العظيمة أزواج بناته الاربع ، فأعطى كل واحد من أزواجهن مائة ألف مثقال من الذهب من بيت مال المسلمين ، وأعطى
ص: 486
مروان ألف ألف درهم من خمس افريقية (1).
وعثمان حمى لنفسه عن المسلمين ومنعهم عنه (2) ، ووقع منه أشياء منكرة في حق الصحابة.
وضرب ابن مسعود (3) حتى مات وأحرق مصحفه وكان ابن مسعود يطعن في عثمان ويكفره.
وضرب عمار بن ياسر صاحب رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - حتى صار به فتق (4).
واستحضر أبا ذر من الشام لهوي معاوية وضربه ونفاه إلى الربذة (5) ، مع أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - كان يقرب هولاء الثلاثة.
وعثمان أسقط القود - عن ابن عمر - لما قتل النوار بعد الاسلام.
وأراد أن يسقط حد الشراب عن الوليدبن عتبة الفاسق ، فاستوفى منه علي - عليه السلام - وخذلته الصحابة حتى قتل ولم يدفن إلا بعد ثلاثة أيام ودفنونه في حش كوكب.
ص: 487
وغاب عن المسلمين يوم بدر ويوم أحد ، وعن بيعة الرضوان.
وهو كان السبب في أن معاوية حارب عليا - عليه السلام - على الخلافة ، ثم آل الامر إلى أن سب بنو أمية عليا - عليه السلام - على المنبر ، وسموا الحسن ، وقتلوا الحسين ، وشهروا أولاد النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وذريته في البلاد يطاف بهم على المطايا (1) ، فآل الامر إلى الحجاج حتى إنه قتل من آل محمد اثني عشر ألفا وبني كثيرا منهم في الحيطان وهم أحياء ، وكل السبب في هذا أنهم جعلوا الامامة بالاختيار والارادة ، ولو أنهم اتبعوا النص في ذلك ولم يخالف عمربن الخطاب النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في قوله : «آتوني بدواة وبيضاء لاكتب لكم كتابا لن تضلوا بعدي أبدا»(2) ، لما حصل الخلاف وهذا الضلال.
قال يوحنا : يا علماء الدين هؤلاء الفرقة الذين يسمون الرافضة هذا اعتقادهم الذي ذكرنا ، وأنتم هذا اعتقادكم الذي قررناه ، ودلائلهم هذه التي سمعتموها ، ودلائل هذه التي نقلتموها.
فباللّه عليكم أي الفريقين أحق بالامر إن كنتم تعلمون؟
فقالوا بلسان واحد : واللّه إن الرافضة على الحق ، وإنهم المصدقون على أقوالهم ، لكن الامر جرى على ما جرى فإنه لم يزل أصحاب الحق مقهورين ، واشهد علينا يا يوحنا إنا على موالاة آل محمد ، ونتبرأ من أعدائهم ، إلا أنا نستدعي منك أن تكتم علينا أمرنا لان الناس على دين ملوكهم.
قال يوحنا : فقمت عنهم وأنا عارف بدليلي ، واثق باعتقادي بيقين
ص: 488
فلله الحمد والمنة ، ومن يهد اللّه فهو الهتد.
فسطرت هذه الرسالة لتكون هداية لمن طلب سبيل النجاة ، فمن نظر فيها بعين الانصاف أرشد إلى الصواب ، وكان بذلك مأجورا ، ومن ختم على قلبه ولسانه فلا سبيل إلى هدايته كما قال اللّه تعالى : ( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) (1) فإن أكثر المتعصبين ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ، خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (2).
اللّهم إنا نحمدك على نعمك الجسام ، ونصلي على محمد وآله المطهرين من الاثام ، مدي الايام ، على الدوام ، إلى يوم القيامة.
إلى هنا ما وقفنا عليه من الكتاب المذكور ، ولله سبحانه الحمد والمنة (3).
ص: 489
يقول - رحمه اللّه - : حين أويت لحرارة الصيف إلى الفئ ، في مسجد من مساجد الري ، رأيت واحدا من أهل سنة (1).
وكان من دهاة أهل السنة وجدته شابا عاقلا فطنا ، ومتكلما كيسا لسنا ، فسلم علي ، وجلس لدي وتكلمنا معا فصار معي مأنوسا ، بعد ما كان من الرفضة باعتقاد مأيوسا ، حتى ما انفك مني لحظة ، ولاغفل عني نوما ولايقظة ، وكنت أنا معه كذلك ، في كل المواقف والمساك.
وقلت له ذات يوم : ايها الشاب العاقل ، والحبيب الفطن الكامل ، انت طالبي وانا مطلبوك ، وحبيبي وانا محبوبك ، لا ينبغي ان تكون في مذهب واكون انا في مذهب سواه ، مع إنا من أولى الالباب بلا اشتباه ، فلا بد أن نتكلم في المذاهب بالانصاف ولا نسلك سبيل التعصب وطريق الاعتساف ، حتى نرى بلا تعصب ونزاع ، أن مذهب أينا أحق بالاتباع ، فيصير الوداد بيننا باطنيا ومعنويا ، بعد ما كان ظاهريا ولفظيا.
فقبل وتبسم ، وقال : ما شئت تكلم.
فقلت له : أخبرني عن رجل اتفق الفريقان على اتصافه بجميع الصفات الكاملة ، واستجماعه بتمام المحاسن الفاضلة ، ما من نعوت محمودة إلا وهو مجمعها ، وما من شموس محمودة إلا وهو مطلعها ، وما من مناقب إلا وهو أبو عذرها ، وما فضائل إلا وهو مجلي مضمارها
ص: 490
وابن بجدتها ، ومن رجل اتفق فريق على اتصافه بالمحامد لكن لا بهذه الدرجة العظمى والمرتبة العليا.
واتفق فريق آخر على كونه منبع الكفر والعصيان ، ومجمع الشرك والطغيان ، أيهما أحق بكونه متبوعا في البين؟
قال : من وقع عليه الاتفاق من الفريقين.
قلت : إن كنت لابد أن ترد زوجتك وبنتك المحبوبتين إلى بلدك ودارك ، ولا يمكنك الذهاب معهما لاضطرارك ، والمفروض أن هذين الرجلين المذكورين يريدان السفر إلى بلدك ، وكل منهما يقبل ان يوصلهما إلى مقامك ومقعدك فأنت أيهما تختار لذلك؟
قال : أختار من وقع إجماع الفريقين على محاسنة في جميع المسالك.
قلت : أترضي أن تفوضهما إلى من وقع الاتفاق على محامده من فريق وعلى مثالبه من آخر ، وترفض من وقع الاجماع على فضائله من الفريقين؟
قال : كلا وحاشا إلا أن أكون معدوم العقل والفطانة ، ومسلوب البصيرة في والكياسة.
قال : لانه لو وقع الفساد من هذا الرجل الممدوح من الفريقين بالنسبة إلى أهلي لم أكن أخجل عند نفسي ولا عند العقلاء ملوما ، بل لم أكن عند أحد مذموما ، بخلاف ما لو فوضت أمرهما إلى من وقع اتفاق فريق على مدحه وإجماع آخر على ذمه فإن وقع منه فساد بالنسبة إليها ذمني العقلاء بل الجهلاء أشد الذم ، ولاموني أتم الملام ، واكون عند نفسي خجلا ، وكلما دار ذلك في خلدي أكون متحسرا ومنفعلا.
ص: 491
قال : ومن شك في ذلك فهو ممن سلب عنه المشاعر والمدارك؟!
ثم قلت : إن كنت سلطانا وغرضك إعلاء الدين نظما وبرهانا وإيصال المنافع إلى الغير وامتياز الشر من الخير ، والفساد من الصلاح ، والنكاح من السفاح ، والجائر من العادل ، والعالم من الجاهل والرفيع من الوضيع والفطيم من الرضيع والعابد من العاصي ، والأذناب من النواصي ، والأداني من الأقاصي ، والحمار من الفرس الشناصي (1) ، والبيوت من الشعر من الصياصي والعاتي من الخاشع ، والطامع من القانع ، أيمكن ذلك بلا نزاع وجدال وتسلط وقهر وغلبة وقتال؟
قال : لا!
قلت : هل يحصل التسلط والقهر والغلبة وتفريق الصفوف ، بدون مد الرماح وإشهار السيوف وإطارة السهام الثواقب وتجهيز العساكر والمقانب ، وإجالة السبوح أو البعير ، وتسديد الرأي والتدبير؟
قال : لا.
قلت : هل يحصل ذلك بلا قائد للفيالق وبدون رئيس راتق وفاتق ، وغطريف ذي كياسة ، وبطريق عارف بقواعد الرئاسة ، وأمير ذي سياسة ، وشجاع صاحب رأي متين ، ومنظم لأمور المجاهدين؟
قال : لا.
قلت : فإذا كان لك ابن متصف بسداد الرأي والتدبير ، وكان شجاعا مقداما وصاحب فطانة وكياسة ، وعارفا بقواعد السياسة ، ومستحقا للرئاسة ، ومفرقا للكتائب ، وممزقا للمقانب ، ومفينا للأعداء والأبطال ،
ص: 492
ومجدلا للأقران والأمثال ، وعالما بقواعد الحرب ، وضوابط القتل والضرب.
وكان ممن يبتغي مرضاتك ولا يتساهل في خدماتك ، ويقول بساستك ويعترف برئاستك ، لا يقول إلا ما قلت ، ولا يحكم إلا ما حكمت ولا يسلك إلا سبيلك ، ولا يرى إلا دليلك بل قد جربته في الغزوات ، ودريت أنه لا يخاف المهلكات ورأيته بذل لك الروح ، وأظهر لك الظفر والفتوح ، وعلمت أنه صاحب العزم ، وتيقنت أنه ثابت الجزم ، وعاينت استقرار سلطنتك من عضده واهتمامه ، وشاهدت جلالتك من ساعده ويده وصمصامه ، هل تجعله أميرا لعسكرك ، وأمينا لضبط أمرك؟
قال : لا شك في ذلك ، بل أجعله صاحب اختيار رعيتي وأهلي وأقاربي في كل المواقف والمسالك.
قلت : هل يمكن أن تدعه مهملا ، وتجعله عن السلطنة عاطلا ، إذا ظهرت آثار موتك ، وبلغ زمان فوتك ، ولا تجعله نائبك وخليفتك ولا تشيد أركان نيابته ، وصرح خلافته ، ما دام لك شعور ، ولا تهوى أن تكون السلطنة في سلالتك ، ولا تشتهي أن تكون الرئاسة في أعقابك؟
قال : كلا وحاشا إلا ان أكون سفيها أو مجنونا!!
قال : بل أجعله نائبي ووصيي وخليفتي ، وألتزم من أهل مملكتي ، أن يصدقوا نيابته ويعترفوا برئاسته ، ويقروا بعد وفاتي سلطته ، بل في حال حياتي لأني مأمون من مخالفته من جميع الوجوه وقاطع باستحقاقه إياها وأظهر جلالته عند العباد وأبدي سلطنته ، في البلاد ، وأسعى في إعلائه وارتفاعه ووجوب رئاسته وقبول اتباعه ، من الأداني والأقاصي ، ومن الأذناب والنواصي ، ومن المطيع والعاصي.
ص: 493
وأفوض إليه الكنوز والصياصي ، لأنه قاتل الأعداء وأهل الشقاق ، ودمر الأشقياء وأصحاب النفاق واستأصل القبائل ، وضيق على الأوغاد والأراذل ، وبذل جهده في إنجاح مأمولي ، وإسعاف مسئولي ، وأوقع نفسه في المعارك ، وصيرها معرضا للمهالك ، واختار نفسي على ذاته ، وآثر حياتي على حياته ، فإن لم أجعله وصيي ووليي وخليفتي وصفيي ، لكنت من أبخل الناس وأسفههم ، وأجهل الخلق وأبلههم ، وأرذل البرايا وأسفلهم وأحط العباد وأكسلهم.
بل إن لم أفعل ذلك لكنت أجعل أهلي وأولادي معرضا للقتل والسبي والاستيصال وأقاربي وعشائري موردا للأفناء والأعدام والاختلال ، وكنوزي عرضة للنهب ، وقصوري منصة للهدم ، لا سيما ابني الذي بذل سعيه في إعانتي ، واهتم في إعلاء درجتي ومرتبتي ، وما قصر في حمايتي ، وما أهمل في كل ما فيه إرادتي ، لأن أعقاب المقتولين ، وعشائر المستأصلين ، ينتهزون الفرصة في الكمين حتى يطلبوا الثارات والدخول ، لما ارتكز في النفوس والعقول ، من طلب ثار المقتول ، ولو بعد أزمنة طويلة وعهود متطاولة فيجعلوه عرضة للأسياف والرماح ، ويعضوه كالكلب النباح ، في الصباح والرواح فيصير مضغة للأكل وفريسة للمفترس الصائل.
قلت : فإذا كان لك خدام أجانب ، ولهم عندك منازل ومراتب فإذا حدث لك أمر من هجوم الأعداء ، وتحتاج إلى المقاتلة في الهيجاء وجهزت العساكر وأردت الجهاد ، وأقبلت على الأعادي وأهل الفساد.
فإذا احتدمت الحرب ، ووقعت صدمات الكسر والضرب ، وظهرت السيوف تعلو وترسب وتجيئ وتذهب ، والرماح تتصعد وتتصوب ،
ص: 494
والسهام تطير يمينا وشمالا وخلفا وقداما ورأوا العثير مثارا ، والجواد صاهلا ، والعسكر صائلا ، والبطل راجزا ، والمضمار متزلزلا ، والدماء فائضة ، والأبدان فيها خائضة ، والرؤوس كالحباب ، والدروع كالسحاب.
تراهم يفرون عن أعادي القتال ويجعلونك معرضا للقتل والنهب والاستئصال ويسعون في نجاتهم حبا لحياتهم ، وابنك الموصوف بين الأبطال والصفوف ، يغزو ويجعله مضربا للسيوف ، ومعرضا للسهام والحتوف ، لا يخاف من الفوت ولا يبالي بالموت ويسعى في طرد الأعداء عنك محصورا ، حتى لا تصير مقتولا أو مأسورا ، ولم يكن هذا العمل ظهر منه في واقعة واحدة ، بل في وقائع متعددة.
وفي كل هذه الوقائع أيضا فر سواه ، ولم تكن ترى في الحرب أحدا عداه ، حتى استقام أمرك بسعيه ، وقام لك عمود السلطنة بوعيه ، وكنت في مدة رئاستك ، وأزمنة سياستك ، من فرارهم في الهيجاء محروق السويدا ، ومن حينهم شديد الألم ، وعظيم الكربة والغم.
فإذا اتفق موتك ، وظهر فوتك مدوا أعناقهم نحو السلطنة وادعوا الرئاسة ، واستحقاق السياسة ، وأمروا ابنك المقدام إلى متابعتهم حتى يجعلوه من رعاياهم ، وقالوا : نحن نشيد صرح السلطنة ونحفظ المملكة ونجعل اسم السلطان مبسوطا ونراعي أولاده ، أترى إن صرت حيا أنهم صادقون في هذا القول والكلام ، بعدما ظهر منهم عدم الاهتمام ، في حال حياتك وعدم الرعاية في نجاتك ، مع كون تنظيم الأمر في ذلك الوقت أصعب وأشكل وفي هذا الزمان أسهل.
قال : لا أصدقهم في هذا القول ، بل أقول بالتسوية بين هذا القول والبول ، لأنهم في زمان كانت الأعادي أقوياء ونحن أضعف من جميع
ص: 495
الوجوه ، وكدت في أكثر الغزوات والوقائع أتوه ، ما اهتموا في تشييد صرح السلطنة ، وتعمير قصر المملكة وتنظيم أمور العباد في الأمكنة والأزمنة ، وما راعو ما يجب رعايته ، وما حفظوا ما يلزم حمايته.
فإذا انتظمت الأمور ، وعمرت البلاد والقصور ، ومن الأعادي خلت الأمكنة ، وقام عمود السلطنة انتهزوا الفرصة ليصيروا ملوكا ، ورام كل واحد منهم أن لا يسمى صعلوكا ، وذلك يدل على متابعتهم الأهواء وابتغاء الرئاسة ، وحبهم صوت النعلين واشتهائهم السياسة ، وإلا لكان ظهر منهم ما ظهر من ابني الباسل المقدام ، وقت هجوم الأعداء اللئام ، ولو ظفروا في تلك الأيام ، لما بقى لنا عين ولا أثر في الأشهر والأعوام ، ولا يستقر أمر السلطنة كما استقر بعد قمعهم ، ولا تنتظم أمور الأبرار كما انتظم بعد جمعهم ، بل استقامة أمور الدين من الجماعة والجمع بمعونة هذا الهزبر المدرع والكمي المقنع.
ثم قال : واللّه لا شك أن هذا بناء على فرضك يدل على متابعتهم الأهواء ، ومن أنكر ذلك معدود من المجانين والسفهاء!!
ثم قلت : أكان علي - عليه السلام - بين الفريقين مجمع المناقب؟
قال : كيف لا ، وهو أسد اللّه الغالب.
قلت : أكان أبو بكر ممدوحا بين أهل السنة؟
قال : نعم.
قلت : أكان محمودا عند الشيعة؟
قال : لا.
قلت : أيكون الدين أعز من الزوجة والبنت أم لا؟
قال : الدين أعز.
ص: 496
قلت : فلم فوضت دينك إلى أبي بكر ورضيت أن تفوض أهلك إلى من لا يكون ممدوح الفريقين؟ فأطرق إلى الأرض مليا.
ثم قلت : ألم يك أمير المؤمنين - عليه السلام - في غزوات المشركين فعل ما فعل كما هو مشهور ، وفي كتب الفريقين مسطور ، وألم يك أبو بكر وعمر فرا كما هو في الألسنة مذكور وفي التواريخ (1) مزبور؟
قال : نعم.
قلت : لم يسعيا في غزوات النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - مع كونهما مبشرين بالنعيم إن صارا مقتولين ومعززين عند اللّه ورسوله إن كانا حيين ، وحيث لم يسعيا في ذلك الزمان ، أوان ضعف الأسلام والأيمان ، وحين شوكة الشرك والكفر ، بل فرا في كل الغزوات وما خجلا عن رسول الكائنات ، علم أن طلبهم الرئاسة وابتغائهم السياسة ، كان لأجل الغرض ، بل في قلوبهم مرض ، فأطرق أيضا إلى الأرض مليا.
ثم قلت : أنت ما رضيت بأن تترك الوصية لابنك وأهلك وأولادك لئلا تخرج السلطنة عنهم ، ولا يصيرون معرضا للقتل والنهب والأسر والذلة ، فكيف يرضى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ان يموت ولا ينصب عليا - عليه السلام - خليفته وقاضي دينه ومنجز وعده ولا يجعله إمام العباد ، وسلطان البلاد ، مع علمه بغرائز العرب ، وكثرة إفسادهم في حالة الغضب.
حيث يقتلون القبائل ، لطلبهم ثارا واحدا من الأراذل ، ولا ينتهون
ص: 497
عن ابتغائهم الذحول ولو كانوا في ضنك المحول (1) ، وقد زوجه من فلذة كبده ومهجة خلده فاطمة البتول - عليها السلام - ، أيصدر ذلك من الظلوم الجهول ، فضلا عن الرسول سلطان أهل العدل والعقول ، ضرورة أن ذلك موجب لأراقة دمائهم واستئصالهم وسبب لاختلالهم وفساد أحوالهم.
مع أن اللّه تعالى أوجب مودتهم وفرض محبتهم للخلق عجما وعربا وقال : ( قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (2) وأنزل في
ص: 498
حقهم آية التطهير (1) ، فأطرق إلى الأرض مليا.
قلت له : أيها الشاب الكامل والحبيب الفطن العاقل إن اللّه تعالى نهى عن أخذ التعصب والمراء ، واتباع الأمهات والاباء.
أطلب منك الأنصاف والانحراف عن مسلك الاعتساف ، أو ما قرع سمعك أن من تعود أن يصدق من غير دليل فقد انسلخ عن الفطرة الأنسانية؟
قال : واللّه ما قلت : حق وما نطقت : صدق ، يطابقه النقل ويحكم به بديهة العقل.
فقلت له : إن العقل شاهد صدق ودليل حق ، واللّه تعالى أنعمك به خذ ما يقتضيه ودع متابعة أبيك وأبيه لئلا تصير مستحقا للعقاب ، في يوم الحساب ، لو كان متابعة الأباء حقا والعقل معزولا لما كان أحد معذبا ومسئولا ، مع علمك بأن أمير المؤمنين - عليه السلام - ما كان مسبوقا بالكفر ، وما عبد الأوثان والأصنام ، وما شرب الخمر ، وما أكل الميتة في الأيام ، وما ذبح على النصب والأزلام ، دون أبي بكر.
وما أخرج النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بابه عن المسجد (2)
ص: 499
وأدخله تحت العباء وأثبت له منزلة هارون من موسى (1).
وقال - صلى اللّه عليه وآله وسلم - يوم خيبر : لأعطين الراية غدا رجلا يحب اللّه ورسوله ويحبه اللّه ورسوله (2) ، وأرسله لتبليغ سورة برائة (3).
وقال - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : أنا مدينة العلم وعلي بابها (4) وزوج فاطمة - عليها السلام - منه ، وسماه أمير المؤمنين (5) ويعسوب المؤمنين (6) ، وأبا تراب (7).
ص: 500
وقال له : أنت سيد العرب (1).
وقال - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : علي خير البشر فمن أبى فقد كفر (2).
وقال - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : لضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين (3) ، وجعله أحد الثقلين.
وقال - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : إنه مع الحق والحق معه كيفما دار ، وجعل له خمس ذي القربى وما كان لأبي بكر شئ منها ، ونص عليه يوم الغدير ودعا له وقال : اللّهم وال من والاه ، وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله (4) ، ونزلت فيه آية التطهير (5) ، وظهر للمباهلة (6).
ص: 501
وأكل الطائر المشوي (1) ، وسقط النجم في داره (2) ، وحرمت الصدقة عليه وعلى أهل بيته (3) ، وفرضت مودته ومودة أهل بيته (4) ، وكان ولداهما سيدي شباب أهل الجنة (5) ، وقال النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - له : أنت قسيم الجنة والنار (6).
وقال : لحمك لحمي (7) الخ ، وما أمر اسامة عليه (8) ، وعلمه ألف باب
ص: 502
من العلم ينفتح له من كل باب ألف باب (1) ، وآخاه وواساه بنفسه ونام على فراشه ليفديه بنفسه (2) ، وتصدق بخاتمه ونزلت فيه الاية (3) ، وتصدق بأربعة دراهم في الليل والنهار سرا وعلانية (4) ، وتصدق على المسكين والأسير واليتيم (5) ، ونزل فيه ( وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) (6) وأكل مع النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - طعام الجنة.
وكان حامل لواء الحمد (7) دون أبي بكر ، وكتب في العرش
ص: 503
اسمه (1) - عليه السلام - وكان أستاذا لجبرئيل ، وصعد على منكب خير الأنام لكسر الأصنام (2) ، وكان نفس الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بآية أنفسنا (3) ، ورد الشمس (4) ، وأخبر بالغيب (5).
ص: 504
وكان نوره موجودا قبل ايجاد آدم (1) - عليه السلام - ، واستشفع آدم باسمه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - (2).
وذكرت له الشواهد والدلائل ، فلما لقيني في الصباح ، قال : رأيت في الرؤيا كأنك كسوتني شملة بيضاء.
قلت : الحمد لله أهل العظمة والكبرياء ، جزم في اعتقاده ، ورسخ الحق في فؤاده ، ... هذه خلاصة ما جرى بيني وبينه وأقر اللّه تعالى عيني وعينه. (3)
ص: 505
هذا العظيم يعتنق الدين الاسلامي الحنيف وبالخصوص مذهب الشيعة مذهب أهل البيت - عليهم السلام - وذلك عام 1353 ه.
ولد أبوان عام 1330 ه في المملكة الهستانية من أبوين مسيحيين وبعد بضع سنين دخل إحدى المدارس هناك ودام فيها ثلاث سنين ، تاقت نفسه يوما لمغادرة بلاده فقصد روسيا ، وفيها واصل دراسته ستة أعوام أخرى فلم يشاهد ثمة في المدرسة إلا المعارضة ضد الدين ، وهذا ما أوجب تركه المدرسة فعزم على مغادرة روسيا فغادرها ، فقبض عليه في الحدود الروسية الأيرانية ، وسجن تسعة عشر يوما ، فاتفق أن وجد في السجن مسلمين أحدهما شيعي فارسي ، والاخر سني تركماني. فجرى حديث إسلامي بينهم فاطلع على شئ من معتقدات الشيعة والسنة حول خلافة الأمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب - عليه السلام - فمال من حينه إلى مذهب الشيعة.
ولنستمع إليه كيف يحدثنا بما جرى له في أيام سجنه مع الرجلين المسلمين :
قال : لما كنت سجينا في روسيا مع المسلمين المذكورين ، رأيت
ص: 506
المسلم السني يتحامل على المسلم الشيعي وينسبه إلى المروق من الدين ، عجبت من ذلك وقلت في نفسي : كيف ينسبه إلى ذلك وهما سيان في العقيدة. سألت الشيعي عن سبب ذلك.
قال : إننا معاشر الأمامية نقول : بخلافة رجل - هو صهر نبينا وابن عمه - من بعد النبي محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بلا فصل وهو الأمام علي بن أبي طالب - عليه السلام -.
وهذا ينفي خلافته كذلك ، وهو السبب في تحامله علي ونسبته لي إلى المروق من الدين.
قال : فتوجهت إلى السني ، وقلت له : إننا في السجن الان ثمانية رجال ولو فرضنا أن لك بنتا واحدة فخطبها منك كل منا كنت تزوج أينا منها؟
أجاب : كنت أزوج أعلمكم وأكرمكم وعدد خصالا حميدة.
فأجبته : فقد أثبت بنفسك أفضلية علي - عليه السلام - على غيره من الصحابة ، إذ لم يزوج النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ابنته فاطمة - عليها السلام - إلا إلى علي (1) - عليه السلام - ، مع تقدم غيره من الصحابة عليه في خطبتها (2) منه ، فلم يرد علي جوابا ، انتهى.
ص: 507
فمن ذلك الوقت عاهد ربه في نفسه ، إن خرج من السجن في يوم أضمره في نفسه أن يدخل إيران ويعتنق الدين الأسلامي وبالخصوص مذهب الشيعة مذهب أهل البيت - عليهم السلام - ، وما إن حل ذلك اليوم وإذا بالأمر يصدر بإطلاق سراحه بلا سؤال ولا تحقيق.
فدخل إيران وأم خراسان مشهد الأمام الرضا - عليه السلام - وبقي شهرين أو ثلاثة أشهر أظهر فيها رغبته في اعتناق الدين الأسلامي رسميا وبالخصوص مذهب الشيعة مذهب أهل البيت - عليهم السلام - وفاء بعهده ، فدخل على العلامة الحجة المغفور له الشيخ مرتضى الأشتياني واعتنق الأسلام على يديه وبالخصوص المذهب الجعفري وسماه أبا ذر كنية الصحابي الجليل جندب بن جنادة أبي ذر الغفاري - رضوان اللّه عليه - الذي ثبت حين انقلب الناس أجمع مع رفاقه الثلاثة سلمان مقداد وعمار.
وأبو ذر (أبوان) يجيد اللغة الفارسية ويتكلم باللغتين الهستانية والروسية كما أنه يقرأ ويكتب فيهما (1).
ص: 508
لطف لماذا أخذتم بمذهب الشيعة وتركتم مذهبكم وما هو السبب الداعي لكم واعتمادكم عليه وما هو دليلكم على أحقية علي - عليه السلام - من أبي بكر؟
فناظرته كثيرا ، وقد وقعت المناظرة فيما بيننا مرارا وأخيرا اقتنع الرجل.
ومن جملة المناظرة أنه سألني عن بيان الأحقية في أمر الخلافة هل أبو بكر أحق أم علي؟
فأجبته إن هذا شئ واضح جدا بأن الخلافة الحقة لأمير المؤمنين علي - عليه السلام - فور وفاة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ثم من بعده إلى الحسن المجتبى - عليه السلام - ثم إلى الحسين الشهيد بكربلاء - عليه السلام - ثم إلى علي بن الحسين زين العابدين - عليه السلا م - ، ثم إلى محمد بن علي الباقر - عليهما السلام - ، ثم إلى جعفر بن محمد الصادق - عليهما السلام - ، ثم إلى موسى بن جعفر الكاظم - عليهما السلام - ثم إلى علي بن موسى الرضا - عليهما السلام - ، ثم إلى محمد بن علي الجواد - عليهما السلام - ثم إلى علي بن محمد الهادي - عليهما السلام - ، ثم إلى الحسن بن علي العسكري - عليهما السلام - ، ثم إلى الحجة بن الحسن المهدي الأمام الغائب المنتظر - عجل اللّه فرجه - (1).
ص: 510
ودليل الشيعة على ذلك الكتاب الكريم ، والسنة الثابتة عن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - من الطرفين ، وكتبهم مليئة من الحجج والبراهين الرصينة ، ويثبتون مدعاهم من كتبكم ومؤلفاتكم ، إلا أنكم أعرضتم عن الرجوع إلى مؤلفات الشيعة والوقوف على ما فيها ، وهذا نوع من التعصب الأعمى؟
أما الكتاب :
فقوله تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (1).
وأن هذه الاية نزلت في ولاية علي بلا ريب ، بأجماع الشيعة وأكثر علماء السنة في كتب التفسير كالطبري (2) ، والرازي (3) ، وابن كثير (4) ، وغيرهم (5) ، فإنهم قالوا بنزولها في علي بن أبي طالب - عليه السلام -.
ومما لا يخفى على ذي مسكة بأن اللّه جل وعلا هو الذي يرسل الرسل إلى الأمم لا يتوقف أمرهم على إرضاء الناس وكذلك أمر الوصاية تكون من اللّه لا بالشورى ولا بأهل الحل والعقد ولا بالانتخاب أبدا ، لأن الوصاية ركن من أركان الدين واللّه جل وعلا لا يدع ركنا من أركان الدين إلى الامة تتجاذ به أهواؤهم كل يجر إلى قرصه.
بل لابد من أن يكون القائم بأمر اللّه بعده وفاة النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - منصوصا عليه من اللّه لا ينقص عن الرسل ولا يزيد ، معصوما
ص: 511
عن الخطأ.
فالاية نص صريح في ولاية علي (1) ، وقد أجمعت الشيعة وأكثر المفسرين من السنة أيضا أن الذي أعطى الزكاة حال الركوع هو علي بلا خلال ، فتثبت ولايته - عليه السلام - أي خلاته بعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بهذه الاية.
فأورد علي حجة يدعي بها تدعيم خلافة أبي بكر.
فقال : إن أبا بكر أحق بالاخلافة ، إذ أنه أنفق أموالا كثيرة قدمها إلى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، وزوجه ابنته ، وقام إماما في الجماعة أيام مرض النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم.
فأجبته قائلا : أما إنفاق أمواله ، دعوي تحتاج إلى دليل يثبتها ، ونحن لا نعترف بهذا الانفاق ، ولا نقر به ، ثم نقول : من أين اكتسب هذه الاموال الطائلة ، ومن الذي أمره به ، ولنا أن نسألك : هل الانفاق كان في مكة أم المدينة؟ (2)
ص: 512
فإن قلت : في مكة فالنبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لم يجهز جيشا ولم يبن مسجدا ، ومن يسلم من القوم يهاجره إلى الحبشة والنبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - غني بمال خديجة كما يروون.
وإن قلت : بالمدينة فأبو بكر هاجر ولم يملك من المال سوى (600) درهم فترك لعياله شيئا وحمل معه ما بقي ونزل على الانصار ، فكان هو وكل من يهاجر عالة على الانصار ، ثم إن أبا بكر لم يكن من التجار بل كان تارة بزازا يبيع يوم اجتماع الناس أمتعته يحملها على كتفه ، وتارة معلم الاولاد وأخرى نجارا يصلح لمن يحتاج بابا أو مثله.
ص: 513
وأما تزويجه ابنته لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فهذا لا يلزم منه تولي أمور المسلمين به.
وأما صلاته في الجماعة إن صحت - فلا يلزم منها تولي الامامة الكبري والخلافة العظمى فصلاة الجماعة غير الخلافة.
وقد ورد أن الصحابة كان يؤم بعضهم بعضا حضرا وسفرا ، فلو كانت هذه تثبت دعواكم لصح أن يكون منهم حقيق بالخلافة ، ولو صحت لادعاها يوم السقيفة لنفسه لكنها لم تكن آنذاك بل وجدت أيام الطاغية معاوية لما صار الحديث متبحرا.
ثم حديث الجماعة جاء عن ابنته عائشة فقط ، ولا تنسى لما سمع النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - تكبيرة الصلاة قال : من يؤم الجماعة؟
فقالوا : أبوبكر.
قال : احملوني ، فحملوه بأبي وأمي معصبا مدثرا يتهادي بين رجلين علي والفضل حتى دخل المسجد ، فعزل أبا بكر وأم الجماعة بنفسه ، ولم يدع إبا بكر يكمل الصلاة (1) ، فلو كانت صلاة أبي بكر بإذن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسمل ، أو برضاه فلمذا خرج بنفسه - صلى اللّه عليه واله وسلم - وهو مريض وأم القوم؟
والعجب كل العجب من إخواننا أنهم يقيمون الحجة بهذه الاشياء التي لا تنهض بالدليل ، ويتناسون ما ورد في علي - عليه السلام - من الادلة التي لا يمكن عدها ، كحديث يوم الانذار إذ جمع رسول اللّه - صلى اللّه عليه واله وسلم - عشيرته الاقربين بأمر من اللّه : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ
ص: 514
الْأَقْرَبِينَ ) (1) ، فجمعهم الرسو - صلى اللّه عليه وآله وسمل - وكانوا آنذاك أربعين رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون ، ووضع لهم طعاما يكفي الواحد منهم فأكلوا جميعهم حتى شبعوا وبعد أن فرغوا.
قال النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : يا بني هاشم من منكم يؤازرني على أمري هذا فلم يجبه أحد.
فقال علي - عليه السلام. ، أن ا يا رسو لالهل اؤازرك ، قالها ثلاثا ، وفي كل مرة يجيب علي أنا يا رسول اللّه ، فأخذ برقبته وقال : أنت وصيي وخليفتي من بعدي فاسمعواله وأطيعوا (2).
ص: 515
وحديث يوم الغدير المشهور (1). وحديث الثقلين (2) وحديث المنزلة (3) وحديث السفينة (4) وحديث باب حطة (5) ، وحديث أنا مدينة العلم وعلي بابها (6) وحديث المؤاخاة (7) وحديث تبليغ سورة براءة (8).
ص: 516
وسد الابواب (1) ، وقلع باب خيبر (2) ، وقتل عمر بن ود (3) ، وزوج بضعة الرسول فاطمة الزهراء - عليها السلام - ، إلى كثير وكثير من ذلك النمط مما لو أردنا جمعها لملانا المجلدات الضخمة.
أفكل هذه الروايات المتفق عليها لا تثبت خلافة علي - عليه السلام - وتلك الروايات المختلف فيها المفتعلة تثبت لابي بكر تولي منصب الرسالة وهذا شئ عجاب؟!
ثم قال لي : أنتم لا تعترفون بخلافة أبي بكر.
قلت : هذا لا نزاع فيه عندنا ، ولكن ننازع في الاحقية والاولوية ، هل كان أبو بكر أحق بها أم المؤمنين؟ هاهنا النزاع ، ولنا عندئذ نظر في هذا الامر العظيم الذي جر على الامة بلاء وفرق الامة ابتداء يوم السقيفة إلى فرقتين بل إلى أربع فرق ، فالانصار انقسموا على أنفسهم قسمين ، قسم يريد عليا - عليه السلام - وذلك بعد خراب البصرة ، والاخر استسلم وسلم الامر إلى أبي بكر ، وكذلك المهاجرون منهم من يريد أبا بكر والاخر عليا ، ثم إلى فرق تبلغ الثالثة والسبعين كل فرقة تحمل على من سواها من الفرق حملة شعواء لاهوادة فيها ، فجر الامة الاسلامية إلى نزاع دائم عنيف فكفر بعضهم بعضا ولا زالت الامة تخمر في بحور من الدماء من ذلك اليوم المشؤوم إلى يوم الناس هذا ، ثم إلى يوم يأتي اللّه بالفرج.
فالشيعة بر متهم يحكمون بما ثبت عندهم من الادلة قرآنا وسنة وتاريخا ويحتجون من كتب خصومهم السنة فضلا عن كتبهم بالخلافة
ص: 517
لعلي ولبنيه الائمة الاحد عشر - عليهم السلام - الذين تمسكت الشعية بإمامتهم.
إلى غير ذلك من الا دلت أوردتها على فضيلة فسمع واقتنع وخرج من عندنا وهو في ريب من مذهبه ، وشاكرا لنا على ما قدمناه له من الادلة ، وقد طلب مني بعض كتب الشيعة ومؤلفاتهم فأعطيته جملة منها وفيها من كتب الامام الحجة المجاهد السيد عبد الحسين شرف الدين (1).
ص: 518
مناظرة الشيخ الاناطكي مع رجل من أهل حمص (1)
دخل علي يوما في حلب نفران من أهل حمص أحدهما شيعي مستبصر ، والاخر سني مستهتر ، وكانت بينهما مناقشة أولوية علي - عليه السلام - بالاخلافة.
فقال لي الشيعي : يقول صاحبي هذا وهو من أهل السنة ليس هناك نص على علي - عليه السلام ، بأنه الخليفة بعد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بلا فصل؟!
فسألني السني : هل هناك نص صريح؟
فأجبته : نعم ، بل نصوصو صريحة في كتبكم ومصادركم ، وأحلته على تاريخ الطبري ، وابن الاثير والتفاسير أجمع وذكرت له تفسير آية ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (2) ، من تاريخ الكامل لابن الاثير (3) والحديث بطوله ، وقدر رواه ابن الاثير بزيادة ألفاظ على ما رواه الطبري (4) إلى أن انتهيت إلى قول النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم : أيكم يا بني عبد
ص: 519
المطلب يؤازرني على هذا الامر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي من بعدي ، وأجابه علي لما لم يجبه أحد منهم ، فقال رسول اللّه - صلى اللّه عليه واله وسلم - : هذا أخي ووزيري ووصيي وخليفتي من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا (1).
ثم قلت له : أيها المحترم أتطلب نصا أصرح من هذا النص؟
فقال : إذا ما صنعوا؟!.
فقهمت من قوله : ما صنعوا ، يشير إلى اجتماعهم في السقيفة وتنازعهم فيمن يختلف رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أمهاجرون أم أنصار.
فقلت له : هذا ما وقع؟
فقال : عجبا عجبا وانتهى الامر.
وقال قولا في هذا المقام ولا أريد ذكره ، ثم استبصر وذهب حامدا شاكرا (2).
ص: 520
في يوم السابع من شهر ذي القعدة الحرام عام 1371 ه قبيل الظهر أخبرني أحد وجهاء حلب وهو الاستاذ شعبان أبو رسول بإن أحد مشايخ الازهر (1) ، وهو علامة كبير ، ومؤلف شهير يقصد زيارتكم فمتى يأتكم؟
فقلت : يا أهلا وسهلا ، فليشرف في هذا اليوم فجائني بعد العصر ، وبعد أن أخذ بنا المجلس ، ورحبت به.
سألني قائلا : إنني قصدتك للاستفسار عن السبب الذي دعاكم على الاخذ بالمذهب الشيعي وتككم المذهب السني الشافعي؟
فأجبته بكل لطف : الدواعي كثيرة جدا ، منها : رأيت اختلاف المذاهب الاربعة فيما بينهم ، ومنها ، ومنها ، وقد أخذت أعدد له الاسباب
ص: 521
التي دعتني إلى الاخذ بالمذهب الشيعي.
ثم قلت : وأهمها أمر الخلافة العظمى التي هي السبب الاعظم في وقوع الخلاف بين المسلمين إذ لا يعقل أن الرسول الاعظم - صلى اللّه عليه وآله وسلم - يدع أمته بلا وصي عليهم يقوم بأمر الشريعة التي جاء بها عن اللّه كسائر الانبياء ، إذ ما من نبي إلا وله وصي أو أوصياء معصومون يقومون بشريفعته وقد ثبت عندي أن الحق مع الشيعة إذ معتقدهم أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قد أوصى لعلي - عليه السلام - قبل وفاته بل من بدء الدعوة وبعد أولاده الائمة الاحد عشر ، وأنهم يأخذون أحكام دينهم عنهم ، وهم أئمة معصومون في معتقدهم بأدلة خاصة بهم.
لهذا وأمثاله أخذت بهذا المذهب الشريف ، ثم أنا لم نعثر على دليل يوجب علينا الأخذ بأحد المذاهب الأربعة بل ولا مرجح أيضا غير أننا عثرنا على أدلة كثيرة توجب الأخذ بمذهب أهل البيت - عليهم السلام - وتقود المسلم إلى سواء السبيل.
ثم عرضت له كثيرا من الأدلة القطعية الصريحة بوجوب الأخذ بمذهب أهل البيت - عليهم السلام - وكله سمع يصغي إلي ، إلى أن قلت : يا فضيلة الشيخ أنت من العلماء الأفاضل فهل وجدت في كتاب اللّه وسنة الرسول دليلا ترشدك إلى الاخذ بأحد المذاهب الأربعة ، فأجابني : كلا.
ثم قلت له : ألا تعرف أن المذاهب الأربعة كل واحد منهم يخالف الاخر في كثير من المسائل ولم يقيموا دليلا قويا وبرهانا جليا واضحا على أنه الحق دون غيره وإنما يذكر الملتزم بأحد المذاهب أدلة لاقوام لها إذ ليس لها معضد من كتاب أو سنة فهى : ( كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ
ص: 522
الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ ) (1).
مثلا لو سألت الحنفي : لم اخترت مذهب الحنفية دون غيره ، ولم اخترت أبا حنيفة إماما لنفسك بعد ألف عام من موته ، ولم تختر المالكي أو الشافعي ، أو أحمد بن حنبل مع بعض مزاياهم التي يذكرونها فلم يجبك بجواب تطمئن إليه النفس.
والسر في ذلك أن كل واحد منهم لم يكن نبي أو وصي نبي وما كان يوحى إليهم ، ولم يكونوا ملهمين بل أنهم كسائر من ينتسب إلى العلم وأمثالهم كثير وكثير من العلماء.
ثم أنهم لم يكونوا من أصحاب النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وأكثرهم أو كلهم لم يدركوا النبي ولا أصحاب النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فاتخاذ مذهب واحد منهم وجعله مذهبا لنفسه ، والالتزام به وبآرائه التي يمكن فيه الخطأ والسهو .... وكل واحد منهم ذوي آراء متشتتة يخالف بعضها بعضا لا يقره العقل ولا البرهان ولا تصدقه الفطرة السليمة ولا الكتاب ولا السنة ولا حجة لأحد على اللّه في يوم الحساب ، بل لله الحجة البالغة عليها حتى أنه لو سأل اللّه من التزم بأحد المذاهب الأربعة في يوم القيامة بأي دليل أخذت بمذهبك هذا لم يكن له جواب سوى قوله : ( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) (2).
أو يقول : ( إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ) (3) ، فباللّه عليك يا فضيلة الشيخ هل يكون لملتزمي أحد المذاهب الأربعة يوم
ص: 523
القيامة أمام اللّه الواحد القهار جوابا.
فأطرق رأسه مليا ثم رفع رأسه وقال : لا.
فقلت : هل يكون أحد معذورا بذاك الجواب؟
أجابني : كلا.
ثم قلت : وأما نحن المتمسكين بولاء العترة الطاهرة آل بيت الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - العاملين بالفقه الجعفري فنقول في يوم الحساب عند وقوفنا أمام اللّه العزيز الجبار : ربنا إنك أمرتنا بذلك لأنك قلت في كتابك : ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (1).
وقال نبيك محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - باتفاق المسلمين (أني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) (2). وقال - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : (مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق) (3).
ولا ريب لأحد أن الأمام الصادق جعفر بن محمد - عليهما السلام - من العترة الطاهرة وعلمه علم أبيه وعلم أبيه علم جده رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وعلم رسول اللّه من علم اللّه (4) ، هذا مضافا إلى أن الأمام
ص: 524
الصادق قد اتفق جميع المسلمين على صدقه ووثاقته ، وهناك طائفة كبيرة من المسلمين من يقول بعصمته وإمامته وأنه الوصي السادس لرسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وإنه حجة اللّه على البرية ، وان الأمام الصادق - عليه السلام - كان يروي عن آبائه الطيبين الطاهرين ولا يفتي برأيه ولا يقول بما يستحسنه فحديثه حديث أبيه وجده ، إذ أنهم منابع العلم والحكمة ، ومعادن الوحي والتنزيل.
فمذهب الأمام الصادق - عليه السلام - هو مذهب أبيه وجده المأخوذ عن الوحي لا يحيد عنه قيد شعرة ، لا بالاجتهاد كغيره ممن اجتهد فالاخذ بمذهب جعفر بن محمد - عليهما السلام - ومذهب أجداده آخذ بالصواب ومتمسك بالكتاب والسنة.
وبعد أن أوردت عليه ما سمعت من الأدلة أكبرني وفخم مقامي وشكرني فأجبته : أن الشيعة لا يطعنون على الصحابة جميعا ، بل إن الشيعة يعطون لكل منهم حقهم لأن فيهم العدل وغير العدل ، وفيهم العالم والجاهل ، وفيهم الأخيار والأشرار ، وهكذا ألا ترى ما أحدثوه يوم السقيفة تركوا نبيهم مسجى على فراشه وأخذوا يتراكضون على الخلافة كل يراها لنفسه كأنها سلعة ينالها من سبق إليها مع ما رأوا بأعينهم ، وسمعوا بآذانهم من النصوص الثابتة الصارخة عن الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - من يوم الذي أعلن الدعوة إلى اليوم الذي احتضر فيه.
مع أن القيام بتجهيز الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أهم من أمر الخلافة على فرض أن النبي لم يوص فكان الواجب عليهم أن يقوموا بشأن الرسول وبعد الفراغ يعزون آله وأنفسهم ، لو كانوا ذوي إنصاف فأين
ص: 525
العدالة والوجدان ، وأين مكارم الأخلاق ، وأين الصدق والمحبة؟!
ومما يزيد في النفوس حزازة تهجمهم على بيت بضعته فاطمة الزهراء - عليها السلام - نحوا من خمسين رجلا ، وجمعهم الحطب ليحرقوا الدار على من فيها حتى قال قائل لعمر : إن فيها الحسن والحسين وفاطمة ، قال : وإن. ذكر هذا الحادث كثير من مؤرخي السنة (1) فضلا عن إجماع الشيعة.
وقد علم البر والفاجر وجميع من كتب في التأريخ أن النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال : (فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني ومن أغضبها فقد أغضبني ومن أغضبني فقد أغضب اللّه ومن أغضب اللّه أكبه اللّه على منخريه في النار (2).
ووقائع الصحابة الدالة على عدم القول بعدالة الجميع كثيرة ، راجع البخاري ومسلم في ما جاء عن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في حديث الحوض تعلم صحة ما ذهب إليه الشيعة ومن نحا نحوهم من
ص: 526
السنة ، فأي ذنب لهم إذا قالوا بعدم عدالة كثير منهم؟ وهم الذين دلوا على أنفسهم ، وحرب الجمل وصفين أكبر دليل على إثبات مدعاهم ، والقرآن الكريم كشف عن سوء أحوال كثير منهم وكفانا سورة براءة دليلا ، ونحن ما أتينا شيئا إذا؟
ألا ترى إلى ما أحدثه الطاغية معاوية ، وعمرو بن العاص ، ومروان وزياد ، وابن زياد ، ومغيرة بن شعبة ، وعمر بن سعد ، الذي أبوه من العشرة المبشرة في الجنة على ما زعموا ، وطلحة ، والزبير ، اللذان بايعا عليا ونقضا البيعة وحاربا إمامهما مع عائشة في البصرة ، وأحدثوا فيها من الجرائم التي لا يأتي بها ذو مروءة.
فليت شعري هل كان وجود النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بينهم موجبا لنفاق كثير منهم ، ثم بعد لحوقه بالرفيق الأعلى بأبي وأمي صار كلهم عدولا.
ونحن لم نسمع قط بأن نبيا من الأنبياء أتى قومه وصاروا كلهم عدولا ، بل الأمر في ذلك بالعكس ، والكتاب والسنة بينتنا على ذلك ، فماذا أنت قائل أيها الأخ المحترم؟
فأجابني : حقا لقد أتيت بما فيه المقنع فجزاك اللّه عني خيرا.
ثم قلت : جاء في كتاب الجوهرة في العقائد للشيخ إبراهيم اللوقاني المالكي :
فتابع الصالح ممن سلفا *** وجانب البدعة ممن خلفا
قال : نعم هكذا موجود.
قلت : أرشدني من هم السلف الذين يجب علينا اتباعهم؟ ومن الخلف الذين يجب علينا مخالفتهم؟
قال : السلف هم صحابة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم -.
ص: 527
قلت : إن الصحابة عارض بعضهم بعضا ، وجرى ما جرى بينهم مما لا يخفى على مثلكم.
فتوقف برهة ثم قال : هم أصحاب القرون الثلاثة.
قلت له : إذا أنت في جوابك هذا قضيت على المذاهب الأربعة لأنهم خارجون عن القرون الثلاثة.
فتوقف أيضا ، ثم قال : ماذا أنت تريد بهذا السؤال؟
قلت : الأمر ظاهر وهو يجب علينا أن نتبع الذين نص عليهم رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بأن يكونوا قدوة للأمة.
قال : ومن هم؟
قلت : علي بن أبي طالب وبنيه الحسن والحسين وأبناء الحسين التسعة - عليهم السلام - آخرهم المهدي - عجل اللّه فرجه الشريف -.
قال : والخلفاء الثلاثة؟
قلت : الخلاف واقع فيهم فالأمة لم تجتمع عليهم وحدث منهم أعمال توجه عليهم النقد.
قال عجبا : وهذا من رأي الشيعة؟
قلت : وإن يكن ، هل وقع في الصحابة ما ذكرت لكم أم لا.
قال : بلى.
قلت : إذا يجب علينا أن نأخذ بمن اتفقت عليهم الأمة وندع المختلف فيهم ، فالشيعة وهم طائفة كبيرة من الأسلام يكثر عددهم عن مائة مليون وهم منتشرون في الدنيا كما تقدم وفيهم العلماء الأعاظم والفقهاء الأكابر والمحدثين الأفاضل .... فلم يعترفوا بخلافة الثلاثة.
ولكن أهل السنة والجماعة اعترفوا بخلافة أمير المؤمنين - عليه السلام - ، فخلافة أمير المؤمنين مجمع عليه عند المسلمين عامة وخلافة
ص: 528
الثلاثة ليس بمجمع عليه.
والخلافة بعد أمير المؤمنين علي إلى ولده الحسن ثم إلى الحسين ثم إلى ولده الأئمة التسعة خاتمهم قائمهم - عجل اللّه تعالى فرجه الشريف - والنصوص في ذلك من كتبكم بكثرة وجاءت الروايات من طرقكم بفضل أهل البيت وتقدمهم على غيرهم وأهمها العصمة.
قال : نحن لا نقول بالعصمة.
قلت : أعلم ذلك ، ولكن الدليل قائم عند الشيعة على ما قلت وسأقدم لك كتابا يقنعك ويرضيك.
قال : إذا ثبت لدي عصمتهم انحل الأشكال بيني وبينك ، فقدمت له الكتاب ، وهو كتاب (الألفين) لأحد أعاظم مجتهدي الشيعة الأمام الأعظم (العلامة الحلي ره) (1) ، فأخذ الكتاب يتصفحه في مجلسه فأكبره وأعجبه هذا السفر العظيم.
ثم قال لي : هل تعلم أن فضيلتك أدخلت علي الريب في المذاهب الأربعة وملت إلى مذهب أهل البيت - عليهم السلام - لكن أريد منك تزويدي ببعض كتب الشيعة.
فقدمت جملة منها له ، ومنها كتب الأمام شرف الدين ودلائل الصدق ، والغدير وأمثالها وأرشدته إلى سائر كتب الشيعة.
ثم ودعني وقام شاكرا حامدا قاصدا إلى محله وهو متزلزل العقيدة وذهب ، ثم بعد أيام أتتني رسالة شكر منه من الأزهر الشريف وأخبرني فيها بأنه قد اعتنق بمذهب أهل البيت - عليهم السلام - وصار شيعيا ، ووعدني أن يكتب رسالة في أحقية مذهب الشيعة (2).
ص: 529
مناظرة الشيخ مغنية (1) مع الشيخ عبد العزيز بن صالح
يقول الشيخ محمد جواد مغنية رحمه اللّه تعالى :
ذهبت الى المحكمة الشرعية بالمدينة المنورة ، وفيها جميع قضاتها وهم خمسة ، وعليهم رئيس ، كما هي الحال بمكة المكرمة ، دخلت غرفة
ص: 530
أحدهم ، وجلست على بعض مقاعدها ، فنظر إلى القاضي ، وقال : هل من حاجة؟
قلت له : هل أنت قاض؟
قال : نعم ، ونائب الرئيس.
سألته عن اسمه؟
قال : عبد المجيد بن حسن.
قلت : هل تسمح بالاطلاع على سجل الأحكام ، فإني أحب أن أقارن بينها وبين الأحكام في لبنان؟
قال : هل أنت قاض؟
قلت : أجل.
قال : في المحاكم الحنفية ، أو الجعفرية؟
قلت : أنا جعفري ، وشرعت بالحديث عن الأسلام والمسلمين ، وبأي شئ يؤكدون أنفسهم ، ويطورون قواهم اجتماعيا وسياسيا ، وكان يردد قول طيب طيب ، ولا يزيد ، وحين هممت بوداعه قال : إلى أين؟.
قلت : إلى الرئيس الشيخ عبد العزيز بن صالح ، فأرسل معي شرطيا أرشدني إلى غرفته ، فتحت الباب ، ودخلت ، فأهل ورحب.
وابتدأت الحديث بهذا السؤال : كيف تفسرون قول الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : اختلاف أمتي رحمة (1)؟
قال : اختلافهم في الفروع ، لا في الأصول.
قلت : إذن جميع الطوائف الأسلامية من أمة محمد ، لأن الأصول هي
ص: 531
الأيمان باللّه ، والرسول ، واليوم الاخر ، والكل يؤمنون بذلك دون استثناء.
قال : وهناك أصل آخر.
قلت : ما هو؟
قال : خلافة أبي بكر ، وأنها حق له بعد الرسول بلا فاصل.
قلت : الخلافة من الأصول؟!
قال : نعم.
قلت : لقد نفى السنة عنهم هذا القول ، ونسبوه إلى الشيعة الأمامية ، وأنكروه عليهم.
قال : أجمع أهل السنة على أن خلافة أبي بكر من الأصول ، وأصر!!
قلت : لا يثبت أصل من أصول الدين إلا ببديهة العقل ، أو بنص الكتاب نصا صريحا ، أو بسنة تكون بقوة القرآن ثبوتا ، وبدلالة لا اله الا اللّه وضوحا ، أما أخبار الاحاد فليست بشئ في باب الأصول ، وإن كانت حجة في الفروع.
قال : هذا صحيح ، وقد تواتر عن الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - إنه قال : يأبى اللّه ورسوله إلا أبا بكر (1).
قلت : كيف يكون هذا متواترا ، ولم يروه البخاري ، ولا احتج به أبو بكر ، ولا عمر ، ولا أحد يوم السقيفة حين رأى الأنصار أنهم أولى من أبي بكر بالخلافة؟
ص: 532
فشرع يتكلم عن الحديث وأقسامه ، ثم أكد مصرا على تواتره ، وأنه لم يخالف في ذلك إلا الشيعة.
ولما لم أجد وسيلة لأقناعه ، قلت له : هل من شرط صحة الحديث أن يثبت عند الجميع ، أو عند من يعمل به فقط؟
قال : بل عند من يعمل به.
قلت : هذا الحديث لم يثبت عند الشيعة لا بطريق التواتر ، ولا بطريق الاحاد ، ولذا لم تكن خلافة أبي بكر عندهم من الأصول ، ولا من الفروع (1).
ص: 533
مناظرة الشيخ القبيسي (1) مع الدكتور الشيخ محمد الزعبي
ص: 534
لقاء سعيد بدون ميعاد.
في يوم من أيام الجمعة المباركة سنة 1967 م بعد فراغنا من صلاة الظهر وقبل مغادرتنا لمكان الصلاة في مسجد الشياح ، بيروت لبنان ، وإذا بدخول شيخ من مشايخ أهل السنة ، من خريجي الأزهر وحملة شهادة الدكتوراه ، وهو من المعاصرين فعلا في بيروت ويصحب الشيخ المذكور بعض الرفقاء من الشباب ، منهم من عرفناه ومنهم من لم تسبق لنا معرفة به ، وبالخصوص فضيلة الشيخ الذي لم يسبق لنا به رؤية قبل لقائنا هذا.
وبعد التحية والسلام والتعارف التام بفضيلة الشيخ مع رفقائه الكرام ، أظهروا الرغبة في الاجتماع معنا ، فرحبنا بهم وشكرناهم على اللقاء الميمون ، فدعوناهم إلى منزلنا الموجود فعلا في محلة الشياح ، وخرجنا من المسجد قاصدين المنزل المذكور وعندما استقر بنا المقام دار بيننا الكلام في جهات شتى ، وكان من جملة الجهات التي طرقها فضيلة الشيخ أن قال - ما يقرب لفظه من هذا مع الحفاظ على حقيقة المعنى - :.
نحن الان في عصر حرج وزمان فاسد ، فينبغي لنا أن نتآلف ونتكاتف لنكافح بعض ما يدهمنا من هذه المفاسد والمصاعب.
أجبته بكل سرور وترحاب قائلا له : هذا ما نحبه ونبتغيه ونتمنى حصوله ، ولو كلفنا ذلك إلى التضحية بكل غال ونفيس ، ولكن يا أخي التآلف والتكاتف يحتاج إلى منهاج ونظام ، وإلا غمرته الفوضى وعمه الفساد والضلال بقدر عدده وكثرة أفراده.
فهل يجوز للعقلاء أن يبذلوا جهدهم ويتعبوا أنفسهم في زيادة الفساد والإفساد بين أهلهم وإخوانهم ومن يعز عليهم؟!
ص: 535
أجاب الشيخ : المنهاج والنظام موجودان وهما القرآن وسنة النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، وعليهما يكون السير وبهما الالتزام وعليهما المعول في حل جميع المشاكل التي تحدث أو تصير بين أفراد المجتمع ، وعليه فلا يبقى أدنى توقف في هذا المجال الذي ادعيتم عسره وصعوبته.
قلنا له : يا فضيلة الشيخ ، هل القرآن ينظم أمورنا ويحل مشاكلنا؟ فلو صح هذا لوجب أن لا يكون هناك أدنى خلاف أو نزاع بين أفراد المسلمين مع أنه توجد ثلاث وسبعون فرقة (1) ، كلهم يدعي الأسلام ويدعي التمسك بالقرآن والسير على وفق أوامره ونواهيه ، وأكثرهم يتبرأ بعضهم من بعض ويضلل بعضهم بعضا وينسب إلى نفسه الحق والصواب وينسب لغيره الخروج والانحراف.
وهذا أمر لا يمكن لكل مدرك رشيد جحوده أو إنكاره ، سواء كان مسلما أو غير مسلم ، لأن القرآن له وجوه متعددة وفيه الناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه ، والعام والخاص ، والمطلق والمقيد ، والمجمل والمبين ، ولذا ترى جميع الفئات يخاصمون به ويستدلون به على صحة عملهم وحسن عقائدهم ، حتى المفوضة (2) ، والمجبرة (3) ، والمجسمة (4) ، والملحدة والزنادقة ولذا نطق بذلك القرآن المجيد نفسه
ص: 536
فقال عزوجل : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) (1).
وقال تعالى : ( وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ) (2) وقال تعالى : ( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ) (3).
إذن فالقرآن لا يمكن أن نتمسك به لحل مشاكلنا في كل شئ حتى يوجد من يعرف منه كل شئ ، لأنه هو يخبرنا أنه يوجد فيه كل شئ فاستمع إليه حيث يقول تعالى : ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ) (4) ، وقال تعالى : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) (5) ، وقال تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) (6) ، وقال تعالى : ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) (7) ، وقال تعالى : ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ
ص: 537
أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) (1) ، وقال تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (2).
إذن فهنا آيات عديدة توجد في هذا القرآن المجيد ، بعضها تخبر أن في هذا القرآن آيات محكمات ، وهي التي يفهم معناها من ظاهرها كل عربي بدون أدنى توقف أو تردد ولا يختلف في فهمها اثنان من العرب ، وفيه آيات متشابهات يستحيل أن يفهم معناها والمراد منها إلا اللّه والراسخون في العلم ، وهم الأنبياء والأوصياء ومن أخذوا عنهم بحق ، وهناك جماعة إذا سمعوا بعض آيات القرآن زادتهم إيمانا وهم يستبشرون وهناك جماعة إذا سمعوا تلك الايات نفسها زادتهم رجسا إلى رجسهم ، وهناك جماعة تزيدهم آيات اللّه نورا وشفاء ، وهناك جماعة تكون عليهم عمى وخسرانا ، وهناك آيات تثبت لنا أن هذا القرآن جامع مانع لم ينقص منه شئ ولم يخل منه شئ مما يحتاجه العباد إلى يوم الميعاد ، وفيه تبيانا وبيانا لكل شئ.
وهناك آيات تخبرنا أن هذا القرآن قد أخبر اللّه به عن تمام النعمة وكمال الدين بكمال الشريعة بالضرورة ، والحق واضح لكل من طلبه وأراد الالتزام به والسير عليه ، والباطل فاضح لكل من اتبع هواه وأسخط سيده ومولاه.
فإن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قد انتقل إلى جوار ربه قبل أن يبلغ عشر معشار ما يحتاج إليه الخلق الموجود في عصره ، فضلا عن الأجيال المتتالية إلى منتهى الأبد ، والمفروض والمقرر بين كافة
ص: 538
المسلمين أنه ليس بعد محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أنبياء ولا شرائع ، وحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة.
إذن فمتى يصح لأحد من المسلمين أن يقول بحق وعدل : أن شريعة الأسلام قد كملت قبل موت الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، إذا اقتصرنا على ما نفهم من هذا القرآن المجيد.
إذن فقد ظهر أيضا أن الأحكام التي ينسبها بعض فرق المسلمين إلى رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لا تفي في حل مشاكل المجتمع وما يحتاج إليه ولذا بعض الفئات اضطرهم الأمر إلى الرجوع إلى القياس والاستحسان ، اللذين ما أنزل اللّه بهما من سلطان ، واللذان يمحقان الدين والشريعة إذا تمسك أهل التدين بهما.
وهنا يحدثنا التاريخ عما جرى لأبي حنيفة مع الأمام الصادق - عليه السلام - قال : دخل أبو حنيفة على الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين - عليهم السلام - ، فقال له : يا أبا حنيفة أنت مفتي أهل العراق؟ قال : نعم.
قال : بم تفتيهم؟ قال : بكتاب اللّه ، قال : أفأنت عالم بكتاب اللّه عزوجل ، ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه؟ قال : نعم.
قال : فأخبرني عن قوله تعالى : ( وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ) (1) أي موضع هو؟
قال أبو حنيفة : هو بين مكة والمدينة ، فالتفت الصادق - عليه السلام - إلى جلسائه ، فقال : نشدتكم باللّه هل تسيرون بين مكة والمدينة
ص: 539
ولا تأمنون على دمائكم من القتل وعلى أموالكم من السرقة فقالوا : اللّهم نعم.
قال : ويحك يا أبا حنيفة إن اللّه لا يقول إلا حقا ، ثم قال - عليه السلام - : أخبرني عن قوله تعالى : ( وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ) (1) ، أي موضع هو؟
قال أبو حنيفة : ذلك البيت الحرام ، فالتفت الصادق - عليه السلام - إلى جلسائه ، فقال لهم : نشدتكم باللّه هل تعلمون أن عبد اللّه بن الزبير وسعيد بن جبير دخلاه فلم يأمنا القتل؟ قالوا : اللّهم نعم ، فقال - عليه السلام - : ويحك يا أبا حنيفة إن اللّه لا يقول إلا حقا.
فقال أبو حنيفة : ليس لي علم بكتاب اللّه عزوجل ، أنا صاحب قياس قال الصادق - عليه السلام - : فانظر في قياسك إن كنت مقيسا ، أيها أعظم عند اللّه القتل أم الزنا؟
قال : بل القتل.
قال الصادق - عليه السلام - ، فكيف رضي اللّه في القتل بشاهدين ولم يرض في الزنا إلا بأربعة؟
ثم قال - عليه السلام - : الصلاة أفضل أم الصيام.
قال : الصلاة أفضل.
قال - عليه السلام - : فيجب على قياسك على الحائض قضاء ما فاتها من الصلاة في حال حيضها دون الصيام ، وقد أوجب اللّه عليها قضاء الصوم دون الصلاة.
ص: 540
ثم قال - عليه السلام - : البول أقذر أم المني؟
قال : البول أقذر.
قال - عليه السلام - : يجب على قياسك أنه يجب الغسل من البول دون المني ، وقد أوجب اللّه الغسل عن المني دون البول.
قال أبو حنيفة : إنما أنا صاحب حدود.
فقال - عليه السلام - : فما ترى في رجل أعمى فقأ عين صحيح ، وأقطع قطع يد رجل ، كيف يقام عليه الحد؟ قال أبو حنيفة : أنا صاحب رأي. قال - عليه السلام - : فما ترى في رجل كان له عبد فتزوج وزوج عبده في ليلة واحدة ، ثم سافرا وجعلا المرأتين في بيت واحد فولدتا غلامين ، فسقط البيت عليهم فقتل المرأتين وبقي الغلامان أيهما في رأيك المالك ، وأيهما المملوك وأيهما الوارث وأيهما الموروث؟
قال أبو حنيفة : إنما أنا رجل عالم بمباحث الأنبياء.
قال - عليه السلام - : فأخبرني عن قوله تعالى لموسى وهارون حين بعثهما إلى دعوة فرعون : ( لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) (1) فلعل ، منك شك؟
قال : نعم.
قال - عليه السلام - : ذلك من اللّه شك إذ قال : لعله.
قال أبو حنيفة : لا أعلم.
قال الصادق - عليه السلام - : يا أبا حنيفة لا تقس فإن أول من قاس إبليس فقال : ( خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) (2) ، فقاس ما بين النار
ص: 541
والطين ، ولو قاس نورية آدم بنورية النار لعرف فضل ما بين النورين وصفاء أحدهما على الاخر.
يا أبا حنيفة : إنك تفتي بكتاب اللّه ولست ممن ورثه ، وتزعم أنك صاحب قياس وأول من قاس إبليس ، ولم يبن دين الأسلام على القياس ، وتزعم أنك صاحب رأي وكان الرأي من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - صوابا ومن دونه خطأ لأن اللّه تعالى قال : ( لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ) (1) ، ولم يقل لغيره ، وتزعم أنك صاحب حدود ومن أنزلت عليه أولى بعلمها منك ، ولو لا أن يقال : دخل على ابن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فلم يسأله عن شئ ما سألتك عن شئ فقس إن كنت قياسا!!
قال أبو حنيفة : لا تكلمت بالرأي والقياس في دين اللّه بعد هذا المجلس.
قال الصادق - عليه السلام - : كلا إن حب الرئاسة غير تاركك كما لم يترك غيرك من كان قبلك (2).
ثم يأتينا كلام أمير المؤمنين وسيد الوصيين - عليه السلام - فيفند لنا أسباب اختلاف السنة الواردة من رسول - اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم - وما كان يعتريها من المصائب والبلايا ، فاستمع إليه أيها القارئ الكريم وهو يحدثنا عن ذلك في نهجه القويم (3) ، وقد سأله سائل عن سبب اختلاف الأخبار التي في أيدي الناس فقال - عليه السلام - : إن في أيدي الناس حقا وباطلا ، وصدقا وكذبا وناسخا ومنسوخا وعاما وخاصا ،
ص: 542
ومحكما ومتشابها ، وحفظا ووهما ، ولقد كذب على رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - على عهده حتى قام خطيبا فقال : من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (1) وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس.
رجل منافق مظهر للأيمان ، متصنع بالأسلام لا يتأثم ولا يتحرج يكذب على رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - متعمدا ، فلو علم الناس أنه منافق كاذب لم يقبلوا منه ولم يصدقوا قوله ، ولكنهم قالوا : صاحب رسول اللّه رأى وسمع منه ولقف عنه فيأخذون بقوله ، وقد أخبرك اللّه عن المنافقين بما أخبرك ووصفهم بما وصفهم به لك ، ثم بقوا بعده - عليه وآله السلام - فتقربوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والبهتان فولوهم الأعمال وجعلوهم حكاما على رقاب الناس وأكلوا بهم الدنيا ، وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم اللّه ، فهو أحد الأربعة.
ورجل سمع من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - شيئا لم يحفظه على وجهه فوهم فيه ولم يتعمد كذبا فهو في يديه ويرويه ويعمل به ويقول : أنا سمعته من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فلو علم المسلمون أنه وهم فيه لم يقبلوه منه ولو علم هو أنه كذلك لرفضه.
ورجل ثالث سمع من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - شيئا يأمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم ، أو سمعه ينهى عن شئ ثم أمر به ، وهو لا يعلم فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ ، فلو علم أنه منسوخ لرفضه
ص: 543
ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه.
وآخر رابع لم يكذب على اللّه ولا على رسوله ، مبغض للكذب خوفا من اللّه وتعظيما لرسوله ، ولم يتوهم بل حفظ ما سمع على وجهه ، فجاء به على ما سمعه لم يزد فيه ولم ينقص منه ، فحفظ الناسخ فعمل به ، وحفظ المنسوخ فتجنب عنه ، وعرف الخاص والعام فوضع كل شئ موضعه ، وعرف المتشابه ومحكمه.
وقد كان يكون من رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - الكلام له وجهان : فكلام خاص وكلام عام فيسمعه من لا يعرف ما عنى اللّه به ولا ما عنى رسول اللّه ، فيحمله السامع ويوجهه على غير وجهه ومعناه ، وما قصد به وما خرج من أجله ، وليس كل أصحاب رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، من كان يسأله ويستفهمه حتى أنهم كانوا ليحبون أن يجئ الأعرابي والطارئ فيسأله - صلى اللّه عليه وآله وسلم - حتى يسمعوا ، وكان لا يمر بي من ذلك شئ إلا سألت عنه وحفظته فهذه وجوه ما عليه الناس في اختلافهم وعللهم في رواياتهم.
هذا هو مفسر القرآن وهذا هو الرجل الرابع من هؤلاء الرواة الذي عرف الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والعام والخاص والمجمل والمبين والمطلق والمقيد ، ولم يغب عنه شئ ولم تخف عليه خافية ولم يشتبه عليه أمر ، وهذا هو كتاب اللّه الناطق العالم بجميع حقائق كتاب اللّه الصامت وهذا هو الذي غذاه رسول اللّه بكل ما نزل عليه من ربه وزقه العلم زقا وعلمه من العلم ألف باب ينفتح له من كل باب ألف باب (1).
ص: 544
وهذا هو الذي بولايته كمل الدين والشرع المبين وتمت بولايته وخلافته النعمة وبإمامته وفرض طاعته على الخلائق أجمع رضي الرحمان وفاض الأحسان ، وهذا هو الذي نطق بولايته كتاب رب العالمين وقرن طاعته بطاعته وطاعة رسوله بدون أدنى تفاوت ، فقال عز من قائل : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (1) ، ثم يزداد في البيان والأيضاح فيقول عزوجل : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) (2).
هذا الذي كمل بولايته الدين وتمت بخلافته النعمة ورضي بإمامته رب العالمين ، يوم نصبه رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وفرض طاعته المطلقة على كل رجل وأنثى وأبيض وأسود وعربي وأعجمي ، وذلك في غدير خم عند رجوعه من حجة الوداع التي شهدها مائة ألف أو يزيدون (3).
ثم انقلب فريق منهم يوم السقيفة ، وأسكر فريقا آخر منهم حب الرئاسة وغنائم الأموال ، وأرهب فريقا آخر التهديد والتنكيل بسيوف أهل السقيفة ، وإرهابهم الأثيم الذين خرجوا شاهرين سيوفهم لم يمر بهم أحد أو لم يمروا بأحد إلا خبطوه ومسحوا يده بيد خليفتهم (4) الجديد ، الذي
ص: 545
ترك رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله - على فراشه بلا غسل ولا كفن ولا دفن وأسرع لعقد الخلافة وتتميم الأمر قبل الفوات وذهاب الرئاسة من أيديهم التي طالما انتظروها بفارغ الصبر وتعاقدوا عليها وعلقوا صحيفتهم في جوف الكعبة ، وستشهد عليهم يوم تشهد عليهم أيديهم وأرجلهم وأفئدتهم بما كانوا يعملون.
هذا هو صاحب الحق والأولى بالأمر بعد الرسول بلا فصل بأمر من اللّه ورسوله ، وهو ولي كل مؤمن ومؤمنة بإجماع المفسرين لهذه الاية الكريمة وأنها نزلت في علي بن أبي طالب - عليه السلام - حينما تصدق بخاتمه على السائل وهو في صلاته في حال ركوعه حتى نزلت الاية تصفه كما هو عليه.
ولنستمع الان إلى ما يحدثنا عنه من شهد له رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بأنه : ( ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق منه ) (1) ، وهو من حواري رسول اللّه الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري - رضوان اللّه عليه -.
عن الأعمش بن غيابة بن ربعي ، قال : بينا عبد اللّه بن عباس جالس
ص: 546
على شفير زمزم : قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، إذ أقبل رجل متعمم بعمامة فجعل ابن عباس لا يقول : قال رسول اللّه. إلا قال الرجل : قال رسول اللّه ، فقال ابن عباس : سألتك باللّه من أنت؟ فكشف العمامة عن وجهه ، وقال : يا أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي أنا جندب بن جنادة ، البدري أبو ذر الغفاري سمعت رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - بهاتين وإلا صمتا ورأيته بهاتين وإلا عميتا يقول :
علي - عليه السلام - قائد البررة وقاتل الكفرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله ، أما إني صليت مع رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - يوما من الأيام صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئا فرفع السائل يده إلى السماء وقال : اللّهم اشهد أني سألت في مسجد رسول اللّه فلم يعطني أحد شيئا وكان علي - عليه السلام - راكعا.
فأومأ بخنصره اليمنى إليه وكان يتختم فيها ، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره ، وذلك بعين رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - فلما فرغ النبي من صلاته رفع إلى السماء رأسه وقال : اللّهم إن أخي موسى سألك فقال ( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ) (1) ، فأنزلت عليه قرآنا ناطقا : ( سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ) (2) ، اللّهم وأنا محمد نبيك وصفيك اللّهم فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيرا
ص: 547
من أهلي عليا أخي اشدد به أزري - ظهري -.
قال أبو ذر : فو اللّه ما استتم رسول اللّه الكلمة حتى نزل جبرئيل من عند اللّه ، فقال : يا محمد اقرأ ، قال وما أقرأ قال أقرأ : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (1) فكبر رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وقال : ( وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) (2).
وروى هذا الخبر أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره ، والطبري (3) ، وأبو بكر الرازي في كتاب أحكام القرآن ، وحكاه المغربي والرماني ، وهو قول مجاهد والسدي وهو المروي عن الأمام الباقر والصادق - عليهما السلام - وجميع علماء أهل البيت - عليهم السلام - ورواه السيد أبو الحمد عن أبي القاسم الحسكاني (4) وكثير من ذلك عن مجمع البيان (5) ، فراجع.
ونظم ذلك حسان بن ثابت فقال شعرا (6) :
أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي *** وكل بطئ في الهدى ومسارع
فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعا *** زكاة فدتك النفس يا خير راكع
فأنزل فيك اللّه خير ولاية *** وأثبتها مثنى كتاب الشرائع
ص: 548
ويحدث الأصبغ بن نباتة فيقول : لما بويع أمير المؤمنين - عليه السلام - خرج إلى المسجد متعمما بعمامة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لا بسا بردته منتعلا بنعله ومتقلدا بسيفه ، فصد المنبر فجلس متمكنا ثم شبك بين أصابعه فوضعها أسفل بطنه.
ثم قال : يا معشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني : هذا سفط العلم ، هذا لعاب رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، هذا ما زقني رسول اللّه زقازقا.
سلوني قبل أن تفقدوني ، فإن عندي علم الأولين والاخرين أما واللّه لو ثنيت لي الوسادة فجلست عليها ، لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم وأهل الأنجيل بانجيلهم ، وأهل الزبور بزبورهم ، وأهل القرآن بقرآنهم ، حتى ينطق كل كتاب من كتب اللّه فيقول : صدق علي لقد أفتاكم بما أنزل اللّه فيه ، ولو لا آية في كتاب اللّه لأخبرتكم بما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة ، وهي قوله تعالى : ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (1).
ثم قال - عليه السلام - : سلوني قبل أن تفقدوني ، فو الذي فلق الحبة وبرئ النسمة لو سألتموني عن آية آية في ليل نزلت أم في نهار مكيتها ومدنيها ناسخها ومنسوخها ، محكمها ومتشابهها ، وتأويلها وتنزيلها لأنبأتكم (2).
هذا هو حجة اللّه على الخلائق أجمعين ومن أنكر خلافته وولايته بعد رسول اللّه فمصيره إلى جهنم وبئس المصير ، وهذا الذي يقول : أنا
ص: 549
كتاب اللّه الناطق والقرآن كتاب اللّه الصامت وأنا أفيد لكم من القرآن ، كما في نهجه القويم.
فظهر أن القرآن والسنة إنما ينفعان إذا رجعنا في أصولنا وفروعنا إلى أهل بيت النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - الذين نزل عليهم القرآن واستقر في قلوبهم وعرفوا جميع ما يهدف إليه وورثوا علم الرسول ، جدهم - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وعندهم المنهج الصحيح والنظام علم الرسول وأبناء البتول الذين عصمهم اللّه وطهرهم من الرجس تطهيرا ، لم يشركوا باللّه ولم يشكوا فيه طرفة عين ولم يهموا بما يخالف أمر اللّه ونهيه ، وعندهم علم الأولين والاخرين ولم يترددوا في جواب شئ سئلوا عنه أبدا وعلمهم بتعليم اللّه لهم كابر عن كابر حتى ينتهي أمرهم إلى جدهم رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وجميع أهل العلم والمعرفة عيال عليهم وهم أغنياء عن جميع الخلق بما منحهم اللّه وفضلهم على كافة الخلق تفضيلا.
فهل عندكم يا فضيلة الشيخ مثيل هؤلاء أم يعتريكم في ذلك شك أو ارتياب؟ ألم ترد الأخبار الصحيحة من جميع حفاظكم عن أعلمكم وأفضلكم ومصدر حقائقكم (عمر بن الخطاب) أنه قال بكل صراحة : لو لا علي لهلك عمر ولا أبقاني اللّه لمعضلة ليس لها أبو الحسن علي - عليه السلام - (1) فإذا كان عظيمكم هكذا حاله فما حالة من هو لا يساويه ولا يدانيه بعشر معشاره.
ص: 550
وهنا يتوقف الشيخ ويحتار في الجواب وكأنه صار في عالم غير هذا العالم ولكني هونت عليه واختصرت له الكلام بأشد الأيجاز.
فقلت له : يا فضيلة الشيخ لندع الكلام في المواضيع الواسعة المطولة ، ولنقتصر على مسألة واحدة لا غير وعليها يبنى كل شئ ومنها تتفرع الأشياء ، وهنا نسأل فضيلة الشيخ فنقول له : ما تقولون بيوم الشورى ألم تعرض الخلافة على علي بن أبي طالب - عليه السلام - من قبل عبد الرحمن بن عوف قبل أن يعرضها على عثمان بن عفان ، فلماذا نبذها رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - دونه؟!
أليس لأن عبد الرحمن بن عوف اشترط عليه أن يعمل بسيرة الشيخين أبي بكر وعمر فكان جواب علي - عليه السلام - لعبد الرحمن ، بل أعمل بكتاب اللّه وسنة رسوله ، فذهب إلى عثمان فقال : نعم فرجع إلى علي - عليه السلام - وقال له : ابسط يدك لأبايعك على أن تعمل بكتاب اللّه وسنة رسوله وسيرة الشيخين ، فكرر ذلك ثلاثا وفي الجميع يأبي علي - عليه السلام - أن يلتزم بسيرة الشيخين حتى صفق عبد الرحمن على يد عثمان وبارك له بالخلافة (1) تنفيذا لوصية عمر بن الخطاب التي لم تخف على أدنى فاهم رشيد.
فإذا سألنا : لماذا ترك علي بن أبي طالب الخلافة ونبذها حينما أراد عبد الرحمن أن يقيده بسيرة الشيخين؟ ونقول : هل كانت سيرة الشيخين مأخوذة من كتاب اللّه وسنة رسوله ونبذها علي ، ولم يلتزم بهما؟ فإذا كان الأمر كذلك أليس الالتزام بكتاب اللّه وسنة رسوله التزام بسيرة الشيخين
ص: 551
على فرض أنها مأخوذة منهما حتما وضرورة؟!
وما الداعي لعلي أن لا يقبل تقيد الخلافة بسيرة الشيخين إذا فرضنا أنهما مأخوذة منهما أو موافقة لهما على أقل الاحتمالات وأضعفها؟
إذن فترك علي - عليه السلام - للخلافة التي يراها أنها من حقه الخاص دون سواه وهو يعلم جيدا أنه إذا لم يقبلها سيقبلها عثمان وهو يسمع ويرى تنعيمه لعبد الرحمن في كل مرة يعرضها عليه ، ويعلم حقيقة أنه إن أخذها عثمان سيؤول أمرها إلى صبيان وغلمان بني أمية يلعبون بها كما يلعبون بالكرة.
وهو يعلم بدون شك وارتياب أن بني أمية وسيدهم أبو سفيان لم يؤمنوا باللّه ولا برسوله ، وإنما استسلموا للأسلام لتسلم رؤوسهم من القطع ونفوسهم من الأعدام.
فبأي شرع أو نظام يجوز لعلي - عليه السلام - الذي هو نبراس العدل والحنان ومتراس التضحية والجهاد أن يدع حوزة الأسلام ودين اللّه القويم أن يصل لصبيان بني أمية فتلعب به غلمانهم كيفما يشاؤون وهم أعداء الأسلام من أول يوم وجد فيه الأسلام؟!
أيجوز لعلي بن أبي طالب - عليه السلام - الذي غرس الأسلام بيده وسقاه بدماء أحبائه وأعزائه وضحى في حفظه وصيانته بكل غال ونفيس ، أن يتركه لتترأس على منابره الغلمان وتلعب به الصبيان من بني أمية وبني مروان وهو على يقين من هذا كله؟ لا باللّه هذا لا يقبله عقل ولا وجدان ولا يقوله مخلوق مدى الأجيال والأزمان!!
إذن فلا بد أن يكون الأمر أعظم من هذا وأضخم فلا بد من أن يكون الالتزام بسيرة الشيخين سيكلف عليا خسرانا ووبالا أشد من فقدان الخلافة وخسرانها ولم يوجد شئ في جميع ما نتصور وجوده واحتماله
ص: 552
أنه سيوقع الخسران على علي بن أبي طالب - عليه السلام - إلا فقدان الدين وخسران العقيدة ورضا الخالق القهار ، وهنا لا بد لعلي ولكل من عرف عليا - عليه السلام - وعرف دين علي وعقيدة علي ورب علي أن يعذر عليا ولا ينسب إليه أدنى لوم أو عتاب لتركه هذه الخلافة إذا كانت تسبب له ذهاب دينه وفقدان عقيدته وسخط سيده وخالقه.
ولا شك ولا ارتياب بأن الذي دعا عليا إلى التوقف عن قبول شرط وعقيدته ورضا خالقه وما أعطاه علي بن أبي طالب من العهد والميثاق لله ولرسوله أنه سيحافظ على هذا الدين ويصون هذه الشريعة الغراء ويبذل في سبيل الحفاظ عليها كل غال ونفيس حتى ولو أدى إلى التضحية بنفسه وولده وجميع عشيرته.
إذن فقد ظهر سبب امتناع علي عن قبوله سيرة الشيخين والعمل بهما حفاظا على دينه وعقيدته ومبدئه ورضا خالقه ومبدعه.
إذن فنحن نكون قد وصلنا إلى النتيجة المتوخاة ، والغاية المطلوبة ، فكيف يا فضيلة الشيخ نتفق وإياكم ونضع يدنا بأيديكم؟
فهل أنتم تتركون التمسك بسيرة الشيخين وتتركون العمل بموجبها؟ أم نحن ندع ديننا وعقيدتنا ورضا خالقنا ونبينا ونتبعكم على سيرة الشيخين ، وبطبيعة الحال سيكلفنا هذا أن ندع إمامنا علي بن أبي طالب - عليه السلام - الذي ترك الخلافة العظمى ولم يقبل الالتزام بتلك السيرة التي أنتم ملتزمون بها من آبائكم وأجدادكم ، ومن زمن ما تبعتم الشيخين ونحن تبعنا شيخنا وسيدنا وعميدنا وإمامنا علي بن أبي طالب وأبناءه الغر الميامين الذين اصطفاهم اللّه وزكاهم وعصمهم وطهرهم من الرجس تطهيرا.
ص: 553
أم نضع أيدينا بأيديكم وأنتم تبقون متمسكين بسيرة الشيخين ، ونحن نبقى نتبع عليا الذي هو نفس الرسول بنص القرآن والسنة ، ولا شك أنا إذا فارقنا عليا يلزمنا أن نفارق ابن عمه محمد - صلى اللّه عليه وآله - ودينهما وعقيدتهما ورضا خالقهما الذين يتنافون مع سيرة الشيخين بنص أبي الحسنين وسيد الكونين.
أتباع كتاب اللّه وسنة رسوله نكون كمن يطلب المحال وكمن يطلب اجتماع الضدين واجتماع المشرق والمغرب والليل والنهار في مكان واحد وأوان واحد!
وهذا ما نراه السبب في عدم اجتماع السنة والشيعة اجتماعا حقيقيا مع تمسك السنة بسيرة الشيخين ، وتمسك الشيعة بكتاب اللّه وسنة نبيه الذين يستحيل اجتماعهما بنص إمام الحق وعدل القرآن علي بن أبي طالب - عليه السلام -.
فدعونا متمسكين بكتاب اللّه وسنة نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ولا تلزمونا بما يتنافى معهما ، ونحن معكم على طول الخط بدون أدنى توقف أو تردد ، أجيبونا مأجورين ولكم الفضل العميم والثواب الجزيل والشكر الكثير.
وهنا انتهى المقام وقام فضيلة الشيخ للوداع بعد مضي ما يقارب من أربع ساعات ، فودعناه بأمان وحملناه مزيد الكرامة والسلام ، ولحد الان لم نر له بعد ذلك شخصا أو خيالا فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ) (1). (2)
ص: 554
قال السني للشيعي : أنتم معشر الشيعة روافض ، والروافض في الدنيا يشملهم العار ، وفي الاخرة مقرهم النار وبئس القرار.
أجاب الشيعي بكل هدوء وسكون : عافاك اللّه يا أخي أليس من العدل والأنصاف أن لا يحكم العاقل على غيره بدون دليل ولا برهان ، فما دليلك على أننا روافض؟ وعلى تقدير صحة ما تقول ، ما هو برهانك على أن علينا في الدنيا العار ، ومصيرنا في الاخرة إلى النار وبئس القرار؟
قال السني : أما كونكم معشر الشيعة روافض لأنكم ترفضون خلافة خلفاء رسول اللّه الراشدين ، وهذا أمر لا يمكن لكل شيعي إنكاره ، وهذا من أكبر العار عليكم.
وأما كونكم مقركم النار وبئس القرار ، لأنه قد قام الأجماع على أن كل من امتنع عن الأقرار بخلفاء رسول اللّه الراشدين ، فهو بمثابة الخروج من الدين ، وهذا أيضا لا يتمكن كل شيعي من إنكاره.
فقال الشيعي : عافاك اللّه يا أخي ، ها أنا شيعي وأنا أتبرؤ من كل من رفض خلفاء رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، وأنا أشهد على كل شيعي قد فهم حقيقة التشيع أنه أيضا يتبرء مثلي من كل من رفض خلفاء رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، فدعواك هذه على الشيعة ظلم وافتراء ، وعار على أمثالك من أهل العلم والفضل أن يتصفوا بهذه الصفات
ص: 555
الذميمة التي قد يتحاشاها أبسط الجهال والعوام ، وحينئذ لا يبقى لحكمك يا أخي على الشيعة بالنار وبئس القرار أدنى قيمة أو اعتبار.
فأين دليلك وبرهانك اللذان قد اعتمدت عليهما في حكمك هذا الجائر الباطل ، وأرجو المسامحة فأنت أحوجتني لهذا المقال؟!
قال السني - وقد استشاط غضبا وغيظا - : ألستم معشر الشيعة ترفضون خلافة أبي بكر وعمر وعثمان أصحاب رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وخلفائه الراشدين ، وكيف يمكنك أو يمكن لكل شيعي أن ينكر هذا الأمر الذي هو أشهر من نور الشمس عند كل من عرف الشيعة حتى من غير المسلمين ، فما جوابك إن كنت من المنصفين؟
فقال الشيعي : عافاك اللّه يا أخي ما ذكرت غير الذي به حكمت ، وبين الموضوعين بون بعيد وفارق عظيم قد كان حكمك السابق مستندا إلى أن الشيعة ترفض خلفاء رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، والان تثبت لهم رفضهم لخلافة أبي بكر وعمر وعثمان ، وهذا موضع آخر غير ما ذكرته سابقا.
لأن نفس هؤلاء الخلفاء الثلاثة وجميع أتباعهم وأشياعهم يستنكرون على كل من يقول : إن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، قد استخلف وعين له خليفة من بعده أو نص عليه وأخذ له على الناس الخلافة والولاية ، وكلهم يشهدون ويجزمون على أن رسول اللّه قد مات ولم يعين له خليفة ، وهذا شئ كاد أن يكون من خصائص أبي بكر وعمر وعثمان وأشباههم في ذلك العصر ، والباقي أتباع لهم وعنهم قد أخذوا بهذا القول والدعوة التي يدعونها حتى عصرنا الحاضر.
فقولك : إن الشيعة ترفض أو رفضت خلفاء رسول اللّه - صلى اللّه
ص: 556
عليه وآله وسلم - ، هذا قد تسالم جميع السنة على إنكاره ورفضه ، فمتى صار أبو بكر وعمر وعثمان خلفاء لرسول اللّه وهم أشد المنكرين على الشيعة الذين يدعون أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، قد أوصى في حياته ونص على خليفته وعينه بشخصه وذاته وأخذ له من جميع المسلمين على مشهد مائة ألف أو يزيدون يوم غدير خم بعد رجوعه من حجة الوداع.
ولو نظرت يا أخي بعين الأنصاف لكان عنوان الرافضة يصدق على جماعة السنة بالخصوص دون سواهم ، لأنهم هم رفضوا وصية رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وخالفوه مخالفة صريحة ، وهذه كتبهم وصحاحهم تشهد بذلك بأوضح ما يكون ، وإذا أردت فهم ذلك جليا فعليك بكتاب الغدير للشيخ النجفي حتى تعرف الحقيقة إذا كنت تجهلها ، وأبو بكر وعمر هما أول من بايع خليفة رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في غدير خم وعمر هو الذي أعلنها صرخة مدوية في ذلك المكان وهو يقول : بخ بخ لك يابن أبي طالب لقد أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة (1) ، حتى قام حسان بن ثابت وأنشد في ذلك الموقف أبياته التي قل أن يخلو منها كتاب مؤرخ من محدثيهم وصحاحهم وإليك بها :
ص: 557
يناديهم يوم الغدير نبيهم *** بخم وأسمع بالرسول مناديا
يقول فمن مولاكم ووليكم *** فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنت ولينا *** ولم ترمنا في الولاية عاصيا
فقال له : قم يا علي فإنني *** رضيتك من بعدي إماما وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليه *** فكونوا له أنصار صدق مواليا
هناك دعا : اللّهم وال وليه *** وكن للذي عادى عليا معاديا (1)
وقد أخرج الطبري محمد بن جرير في كتاب الولاية عن زيد بن أرقم أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - جعل يقول في ذلك الموقف الرهيب ويخاطب الجموع الغفيرة المتراصة حوله :
معاشر الناس قولوا أعطيناك على ذلك عهدا عن أنفسنا وميثاقا بألسنتنا وصفقة بأيدينا نؤديه إلى أولادنا وأهالينا ، لا نبغي بذلك بدلا وأنت شهيد علينا وكفى باللّه شهيدا ، قال زيد بن أرقم : فعند ذلك بادر الناس يقولون : نعم نعم سمعنا وأطعنا ، وكان أبو بكر وعمر أول من صافق وتداكوا على رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - وعلى علي - عليه السلام -.
وخصوص حديث تهنئة الشيخين رواه من أئمة الحديث والتفسير ما يزيد على ستين محدثا وراويا ومؤرخا وكاتبا راجع الغدير الجزء الأول ص 272 ترى العجب العجيب.
وأما قولك الأخير إن الشيعة ترفض خلافة أبي بكر وعمر وعثمان
ص: 558
فهذا شئ صحيح لا ينكره ولا واحد من الشيعة وقوام الشيعة على هذا الإنكار واستنكار ، وهذا فخر وشرف للشيعة لأن الذي دعاها لإنكار ذلك هو نفس إطاعتها وإذعانها لأمر نبيها محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - والثبات على عهده الذي أعطوه إياه في غدير خم بأمر من اللّه تعالى حينما أنزل على نبيه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في ذلك الموضع وألزمه بالتبليغ وهدده إذا هو لم يبادر ويعلن خلافة علي - عليه السلام - من بعده قبل أن تتفرق الجموع الهائلة وتذهب جهوده أدراج الرياح ، فأنزل عليه قوله عزوجل : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (1) ، فلم يكتف بالتهديد حتى أخبره أنك إن لم تفعل فجميع جهادك وجهودك يذهب هباء منثورا ، ولا يترتب عليه أدنى أثر أو نفع ، ولذا تراه بعد قيامه بواجب التبليغ والأعلان نزل قوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) (2) فجعل النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - يقول : الحمد لله على إكمال الدين وإتمام النعمة من اللّه بولاية أخي وابن عمي وخليفتي من بعدي علي بن أبي طالب - عليه السلام - (3).
وإذا الشيعة رفضت كل من خالف اللّه ورسوله لا خصوص أبي بكر وعمر وعثمان ، وتمسكت بأمر اللّه ورسوله تكون مذمومة ومستحقة لعذاب النار كيف يكون ذلك (4)؟!
ص: 559
مناظرة الدكتور التيجاني (1) مع أحد علماء الزيتونة (2)
يقول الدكتور التيجاني :
والعجيب والغريب أن أغلب المسلمين عندما تذكر له حديث الغدير ، لا يعرفه أو قل لم يسمع به والأعجب من هذا كيف يدعي علماء أهل السنة بعد هذا الحديث المجمع على صحته ، بأن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لم يستخلف وترك الأمر شورى بين المسلمين.
فهل هناك للخلافة حديث أبلغ من هذا وأصرح يا عباد اللّه؟؟ وإني لأذكر مناقشتي مع أحد علماء الزيتونية في بلادنا عندهما ذكرت له حديث
ص: 560
الغدير محتجا به على خلافة الأمام علي - عليه السلام - فاعترف بصحته ، بل وزاد في الحبل وصلة فأطلعني على تفسيره للقرآن الذي ألفه بنفسه ، والذي يذكر فيه حديث الغدير ويصححه ، ويقول بعد ذلك :
(وتزعم الشيعة بأن هذا الحديث هو نص على خلافة سيدنا علي - كرم اللّه وجهه - ، وهو باطل عند أهل السنة والجماعة لأنه يتنافى مع خلافة سيدنا أبي بكر الصديق وسيدنا عمر الفاروق وسيدنا عثمان ذي النورين ، فلا بد من تأويل لفظ المولى الوارد في الحديث على معنى المحب والناصر ، كما ورد ذلك في الذكر الحكيم ، وهذا ما فهمه الخلفاء الراشدون والصحابة الكرام - رضي اللّه تعالى عليهم أجمعين - ، وهذا ما أخذه عنهم التابعون وعلماء المسلمين ، فلا عبرة لتأويل الرافضة لهذا الحديث لأنهم لا يعترفون بخلافة الخلفاء ويطعنون في صحابة الرسول وهذا وحده كاف لرد أكاذيبهم وإبطال مزاعمهم) انتهى كلامه في الكتاب.
سألته : هل الحادثة وقعت بالفعل في غدير خم (1)؟
أجاب : لو لم تكن وقعت ما كان ليرويها العلماء والمحدثون!
قلت : فهل يليق برسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - أن يجمع أصحابه في حر الشمس المحرقة ويخطب لهم خطبة طويلة ليقول لهم : بأن علي محبكم وناصركم؟ فهل ترضون بهذا التأويل؟
أجاب : إن بعض الصحابة اشتكى عليا وكان فيهم من يحقد عليه ويبغضه ، فأراد الرسول أن يزيل حقدهم ، فقال لهم : بأن عليا محبكم وناصركم ، لكي يحبوه ولا يبغضوه.
ص: 561
قلت : هذا لا يتطلب إيقافهم جميعا والصلاة بهم وبدأ الخطبة بقوله : ألست أولى بكم من أنفسكم ، لتوضيح معنى المولى ، وإذا كان الأمر كما تقول فكان بإمكانه أن يقول لمن اشتكى منهم عليا : (إنه محبكم وناصركم) ، وينتهي الأمر بدون أن يحبس في الشمس ، تلك الحشود الهائلة وهي أكثر من مائة ألف فيهم الشيوخ والنساء ، فالعاقل لا يقنع بذلك أبدا!
فقال : وهل العاقل يصدق بأن مائة ألف صحابي لم يفهموا ما فهمت أنت والشيعة؟؟
قلت : أولا لم يكن يسكن المدينة المنورة إلا قليل منهم.
وثانيا : إنهم فهموا بالضبط ما فهمته أنا والشيعة ، ولذلك روى العلماء بأن أبا بكر وعمر كانا من المهنئين لعلي بقولهم : بخ بخ لك يابن أبي طالب أمسيت وأصبحت مولى كل مؤمن (1).
قال : فلماذا لم يبايعوه إذا بعد وفاة النبي؟ أتراهم عصوا وخالفوا أمر النبي؟ أستغفر اللّه من هذا القول!
قلت : إذا كان العلماء من أهل السنة يشهدون في كتبهم بأن بعضهم - أعني من الصحابة - كانوا يخالفون أوامر النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - في حياته وبحضرته (2) ، فلا غرابة في ترك أوامره بعد وفاته ، وإذا كان أغلبهم يطعن في تأميره أسامة بن زيد لصغر سنه رغم أنها سرية محدودة ولمدة قصيرة فكيف يقبلون تأمير علي على صغر سنه ولمدة الحياة ،
ص: 562
وللخلافة المطلقة؟ ولقد شهدت أنت بنفسك بأن بعضهم كان يبغض عليا ويحقد عليه!!
أجابني متحرجا : لو كان الأمام علي - كرم اللّه وجهه ورضي اللّه عنه - يعلم أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - استخلفه ، ما كان ليسكت عن حقه وهو الشجاع الذي لا يخشى أحدا ويهابه كل الصحابة.
قلت : سيدي هذا موضوع آخر لا أريد الخوض فيه لأنك لم تقتنع بالأحاديث النبوية الصحيحة ، وتحاول تأويلها وصرفها عن معناها حفاظا على كرامة السلف الصالح ، فكيف أقنعك بسكوت الأمام علي أو باحتجاجه عليهم بحقه في الخلافة؟
ابتسم الرجل قائلا : أنا واللّه من الذين يفضلون سيدنا عليا - كرم اللّه وجهه - على غيره ، ولو كان الأمر بيدي لما قدمت عليه أحدا من الصحابة ، لأنه باب مدينة العلم وهو أسد اللّه الغالب ، ولكن مشيئة اللّه سبحانه هو الذي يقدم من يشاء ويؤخر من يشاء ، ( لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) (1).
ابتسمت بدوري له ، وقلت : وهذا أيضا موضوع آخر يجرنا للحديث عن القضاء والقدر ، وقد سبق لنا أن تحدثنا فيه وبقي كل منا على رأيه ، وإني لأعجب يا سيدي لماذا كلما تحدثت مع عالم من علماء أهل السنة وأفحمته بالحجة سرعان ما يتهرب من الموضوع إلى موضوع آخر لا علاقة له بالبحث الذي نحن بصدده.
قال : وأنا باق على رأيي لا أغيره.
ص: 563
ودعته وانصرفت. بقيت أفكر مليا لماذا لا أجد واحدا من علمائنا يكمل معي هذا المشوار ويوقف الباب على رجله ، كما يقول المثل الشائع عندنا.
فالبعض يبدأ الحديث ، وعندما يجد نفسه عاجزا عن إقامة الدليل على أقواله يتملص بقوله : ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ ) (1) والبعض يقول ما لنا ولأثارة الفتن والأحقاد فالمهم أن السنة والشيعة يؤمنون بإله واحد ورسول واحد وهذا يكفي ، والبعض يقول بإيجاز : يا أخي اتق اللّه في الصحابة ، فهل يبقى مع هؤلاء مجال للبحث العلمي وإنارة السبيل والرجوع للحق الذي ليس بعده إلا الضلال؟ وأين هؤلاء من أسلوب القرآن الذي يدعو الناس لأقامة الدليل : ( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (2) مع العلم بأنهم لو يتوقفون عن طعنهم وتهجمهم على الشيعة لما ألجأونا للجدال معهم حتى بالتي هي أحسن (3).
ص: 564
قلت لأحد علمائنا : إذا كان معاوية قتل الأبرياء وهتك الأعراض وتحكمون بأنه اجتهد وأخطأ وله أجر واحد.
وإذا كان يزيد قتل أبناء الرسول وأباح المدينة (1) لجيشه وتحكمون بأنه اجتهد وأخطأ وله أجر واحد ، حتى قال بعضكم : (قتل الحسين بسيف جده) (2) لتبرير فعل يزيد.
فلماذا لا أجتهد أنا في البحث ، وهو ما يجرني للشك في الصحابة وتعرية البعض منهم وهذا لا يقاس بالنسبة للقتل الذي فعله معاوية وابنه يزيد في العترة الطاهرة ، فإن أصبت فلي أجران وإن أخطأت فلي أجر (واحد) ، على أن انتقاصي لبعض الصحابة لا أريد منه السب والشتم واللعن ، وإنما أريد الوصول إلى الحقيقة لمعرفة الفرقة الناجية من بين الفرق الضالة.
وهذا واجبي وواجب كل مسلم ، واللّه سبحانه يعلم السرائر وما تخفي الصدور.
أجابني العالم قائلا : يا بني لقد أغلق باب الاجتهاد من زمان.
ص: 565
فقلت : ومن أغلقه؟
قال : الأئمة الأربعة.
فقلت متحررا : الحمد لله إذ لم يكن اللّه هو الذي أغلقه ولا رسول اللّه ولا الخلفاء الراشدون الذين (أمرنا بالاقتداء بهم) فليس علي حرج إذا اجتهدت كما اجتهدوا.
فقال : لا يمكنك الاجتهاد إلا إذا عرفت سبعة عشر علما ، منها علم التفسير واللغة والنحو والصرف والبلاغة والأحاديث والتاريخ وغير ذلك.
وقاطعته قائلا : أنا لن أجتهد لأبين للناس أحكام القرآن والسنة أو لأكون صاحب مذهب في الأسلام ، كلا ، ولكن لأعرف من على الحق ومن على الباطل ، ولمعرفة إن كان الأمام علي على الحق ، أو معاوية مثلا ، ولا يتطلب ذلك الأحاطة بسبعة عشر علما ، ويكفي أن أدرس حياة كل منهما وما فعلاه حتى أتبين الحقيقة.
قال : وما يهمك أن تعرف ذلك : ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (1).
قلت : أتقرأ (ولا تسألون) بفتح التاء أم بضمها؟
قال : تسألون بالضم.
قلت : الحمد لله لو كانت بالفتح لامتنع البحث ، وما دامت بالضم فمعناها أن اللّه سبحانه سوف لن يحاسبنا عما فعلوا وذلك كقوله تعالى : ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) (2) ، و ( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا
ص: 566
سَعَى ) (1).
وقد حثنا القرآن الكريم على استطلاع أخبار الأمم السابقة ولنستخلص منها العبرة ، وقد حكى اللّه لنا عن فرعون وهامان ونمرود وقارون وعن الأنبياء السابقين وشعوبهم ، لا للتسلية ولكن ليعرفنا الحق من الباطل.
أما قولك : (وما يهمني من هذا البحث)؟
فأجيب عليه بقولي : يهمني :
أولا : لكي أعرف ولي اللّه فأواليه ، وأعرف عدو اللّه فأعاديه ، وهذا ما طلبه مني القرآن بل أوجبه علي.
ثانيا : يهمني أن أعرف كيف أعبد اللّه وأتقرب إليه بالفرائض التي افترضها وكما يريدها هو جل وعلا ، لا كما يريدها مالك أو أبو حنيفة أو غيرهم من المجتهدين لأني وجدت مالكا يقول بكراهة البسملة في الصلاة (2) بينما يقول أبو حنيفة بوجوبها (3) ، ويقول غيره ببطلان الصلاة بدونها!
وبما أن الصلاة هي عمود الدين إن قبلت قبل ما سواها وإن ردت رد ما سواها ، فلا أريد أن تكون صلاتي باطلة ، كما أن الشيعة يقولون بمسح الرجلين في الوضوء ويقول السنة بغسلهما بينما نقرأ في القرآن ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) (4) وهي صريحة في المسح ، فيكف
ص: 567
تريد يا سيدي أن يقبل المسلم العاقل قول هذا ويرد قول ذاك بدون بحث ودليل.
قال : بإمكانك أن تأخذ من كل مذهب ما يعجبك لأنها مذاهب إسلامية وكلهم من رسول اللّه ملتمس.
قلت : أخاف أن أكون ممن قال اللّه فيهم : ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ) (1). يا سيدي أنا لا أعتقد بأن المذاهب كلها على حق ما دام الواحد منهم يبيح الشئ ويحرمه الاخر ، فلا يمكن أن يكون الشئ حراما وحلالا في آن واحد والرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لم يتناقض في أحكامه لأنه (وحي من القرآن) ، ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) (2). وبما أن المذاهب الأربعة فيها اختلاف كثير فليست من عند اللّه ولا من عند رسوله لأن الرسول لا يناقض القرآن.
ولما رأى الشيخ العالم كلامي منطقيا وحجتي مقبولة.
قال : أنصحك لوجه اللّه تعالى مهما شككت فلا تشك في الخلفاء الراشدين ، فهم أعمدة الأسلام الأربعة إذا هدمت عمودا منها سقط البناء!!
قلت : استغفر اللّه يا سيدي فأين رسول اللّه إذن إذا كان هؤلاء هم أعمدة الأسلام؟
أجاب : رسول اللّه هو ذاك البناء! هو الأسلام كله.
ابتسمت من هذا التحليل وقلت : استغفر اللّه مرة أخرى يا سيدي
ص: 568
الشيخ فأنت تقول من حيث لا تشعر : بأن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لم يكن ليستقيم إلا بهؤلاء الأربعة بينما يقول اللّه تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ) (1).
فقد أرسل محمدا بالرسالة ولم يشركه فيها أحدا من هؤلاء الأربعة ولا من غيرهم ، وقد قال اللّه تعالى في هذا الصدد : ( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) (2).
قال : هذا ما تعلمناه نحن من مشايخنا وأئمتنا ، ولم نكن نحن في جيلنا نناقش ولا نجادل العلماء مثلكم اليوم الجيل الجديد أصبحتم تشكون في كل شئ وتشككون في الدين ، وهذه من علامات الساعة فقد قال - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : لن تقوم الساعة إلا على شرار الخلق (3).
فقلت : يا سيدي لماذا هذا التهويل ، أعوذ باللّه أن أشك في الدين أو أشكك فيه ، فقد آمنت باللّه وحده لا شريك له وملائكته وكتبه ورسله ، وآمنت بأن سيدنا محمدا عبده ورسوله وهو أفضل الأنبياء والمرسلين وخاتمهم وأنا من المسلمين ، فكيف تتهمني بهذا؟
قال : أتهمك بأكثر من هذا لأنك تشكك في سيدنا أبي بكر وسيدنا عمر وقد قال - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : لو وزن إيمان أمتي بإيمان أبي
ص: 569
بكر لرجح إيمان أبي بكر (1).
وقال في حق سيدنا عمر : عرضت علي أمتي وهي ترتدي قمصا لم تبلغ الثدي وعرض علي عمر وهو يجر قميصه ، قالوا : ما أولته يا رسول اللّه؟ قال : الدين (2).
وتأتي أنت اليوم في القرن الرابع عشر لتشكك في عدالة الصحابة وبالخصوص أبي بكر وعمر ، ألم تعلم بأن أهل العراق هم أهل الشقاق ، هم أهل الكفر والنفاق!!
ماذا أقول لهذا العالم المدعي العلم الذي أخذته العزة بالأثم ، فتحول من الجدال بالتي هي أحسن إلى التهريج والافتراء وبث الأشاعات أمام مجموعة من الناس المعجبين به والذين احمرت أعينهم وانتفخت أوداجهم ولاحظت في وجوههم الشر.
فما كان مني إلا أن أسرعت إلى البيت وأتيتهم بكتاب الموطأ للأمام مالك وصحيح البخاري ، وقلت : يا سيدي إن الذي بعثني على هذا الشك
ص: 570
هو رسول اللّه نفسه ، وفتحت كتاب الموطأ وفيه روى مالك أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قال لشهداء أحد : هؤلاء أشهد عليهم ، فقال أبو بكر الصديق : ألسنا يا رسول اللّه إخوانهم أسلمنا كما أسلموا ، وجاهدنا كما جاهدوا ، فقال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - : بلى ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي! فبكى أبو بكر ثم بكى ثم قال : (إننا لكائنون بعدك (1).
ثم فتحت صحيح البخاري وفيه : دخل عمر بن الخطاب على حفصة وعندها أسماء بنت عميس فقال - حين رآها - : من هذه؟ قالت : أسماء بنت عميس ، قال عمر : الحبشية هذه ، البحرية هذه ، قالت أسماء : نعم ، قال : سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول اللّه منكم ، فغضبت وقالت : كلا واللّه ، كنتم مع رسول اللّه يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم وكنا في دار أو في أرض البعداء البغضاء بالحبشة وذلك في اللّه وفي رسوله ، وأيم اللّه لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ونحن كنا نؤذى ونخاف وسأذكر ذلك للنبي أسأله واللّه لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه ، فلما جاء النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - قالت : يا نبي اللّه ، عمر قال : كذا وكذا.
قال : فما قلت له. قالت : كذا وكذا.
قال : ليس بأحق بي منكم ، وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان ، قالت : فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتونني أرسالا يسألونني عن هذا الحديث ما من الدنيا شئ هم به أفرح ولا أعظم ما في أنفسهم مما قال لهم النبي - صلى اللّه عليه وآله وسلم - (2).
ص: 571
وبعد ما قرأ الشيخ العالم والحاضرون معه الأحاديث تغيرت وجوههم وبدأوا ينظرون بعضهم إلى بعض ينتظرون رد العالم الذي صدم فما كان منه إلا أن رفع حاجبيه علامة التعجب وقال : ( وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ) (1).
فقلت : إذا كان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - هو أول من شك في أبي بكر ولم يشهد عليه لأنه لا يدري ماذا سوف يحدث من بعده ، وإذا كان رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لم يقر بتفضيل عمر بن الخطاب على أسماء بنت عميس بل فضلها عليه ، فمن حقي أن أشك وأن لا أفضل أحدا حتى أتبين وأعرف الحقيقة ومن المعلوم أن هذين الحديثين يناقضان كل الأحاديث الواردة في فضل أبي بكر وعمر ويبطلانها ، لأنهما أقرب إلى الواقع المعقول من أحاديث الفضائل المزعومة.
قال الحاضرون : وكيف ذلك؟
قلت : إن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - لم يشهد على أبي بكر ، وقال له إنني لا أدري ماذا تحدثون بعدي! فهذا معقول جدا وقد قرر ذلك القرآن الكريم والتاريخ يشهد أنهم بدلوا بعده ولذلك بكى أبو بكر ، وقد بدل وأغضب فاطمة الزهراء بنت الرسول ، وقد بدل حتى ندم قبل وفاته (2) وتمنى أن لا يكون بشرا.
أما الحديث الذي يقول : لو وزن إيمان أمتي بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر (3) ، فهو باطل وغير معقول ، ولا يمكن أن يكون رجل
ص: 572
قضى أربعين سنة من عمره يشرك باللّه ويعبد الأصنام أرجح إيمانا من أمة محمد بأسرها ، وفيها أولياء اللّه الصالحين والشهداء والأئمة الذين قضوا أعمارهم كلها جهادا في سبيل اللّه ، ثم أين أبو بكر من هذا الحديث؟ لو كان صحيحا لما كان في آخر حياته يتمنى أن لا يكون بشرا.
ولو كان إيمانه يفوق إيمان الأمة ما كانت سيدة النساء فاطمة بنت الرسول - صلى اللّه عليه وآله وسلم - ، تغضب عليه وتدعو اللّه عليه في كل صلاه تصليها (1).
ولم يرد العالم بشئ ، ولكن بعض المجالسين قالوا : لقد بعث واللّه هذا الحديث الشك فينا ، عند ذلك تكلم العالم ليقول لي : أهذا ما تريده؟ لقد شككت هؤلاء في دينهم!!
وكفاني أحدهم الرد عليه ، إذ قال : كلا ، إن الحق معه ، نحن لم نقرأ في حياتنا كتابا كاملا ، واتبعناكم واقتدينا بكم في ثقة عمياء بدون نقاش ، وقد تبين لنا الان أن ما يقوله الحاج صحيح ، فمن واجبنا أن نقرأ ونبحث!! ووافقه على رأيه بعض الحاضرين ، وكان ذلك انتصارا للحق والحقيقة ، ولم يكن انتصارا بالقوة والقهر ولكنه انتصار العقل والحجة والبرهان ( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (2).
ذلك ما دفعني وشجعني على الدخول في البحث وفتح الباب على مصراعيه فدخلته باسم اللّه وباللّه وعلى ملة رسول اللّه ، راجيا منه سبحانه وتعالى التوفيق والهداية فهو الذي وعد بهداية كل باحث عن الحق وهو لا يخلف وعده (3).
ص: 573
الصورة
ص: 574
الصورة
ص: 575
الصورة
ص: 576
الصورة
ص: 577
(1) فهرس الآيات
(2) فهرس احاديث المعصومين (عليهم السلام)
(3) فهرس الآثار والأقوال
(4) فهرس اسماء المعصومين (عليهم السلام)
(5) فهرس الأعلام
(6) فهرس أعلام النساء
(7) فهرس الكنى
(8) فهرس الألقاب
(9) فهرس الأشعار
(10) فهرس الوقائع والأحداث
(11) فهرس الأماكن والبقاع
(12) فهرس الملل والنحل والقبائل
(13) فهرس مصادر الكتاب
(14) الفهرس الموضوعي التفصيلي العام للكتاب
(15) الفهرس الاجمالي للكتاب
ص: 578
الموضوع / الصفحة
الإهداء... 5
تقريض الاستاذ فرات الأسدي (قصيدة) (1)... 7
تقريض الشيخ محمدباقر الأيرواني (قصيدة) (2)... 9
تقديم... 10
المقدمة... 15
حكم المناظرة في الشريعة الأسلامية... 21
تمهيد :... 21
أقسام المناظرة... 23
المناظرة المشروعة... 23
المناظرة غير المشروعة... 30
آداب المناظرة... 32
تاريخ الاحتجاج والمناظرة في الخلافة الاسلامية... 36
احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام في الخلافة ومطالبته بحقه... 36
احتجاج فاطمة الزهراء - عليها السلام - في الخلافة... 51
احتجاج الأمام الحسين بن علي - عليه السلام -... 54
احتجاج العباس بن عبد المطلب... 54
ص: 579
احتجاج الفضل بن العباس... 55
احتجاج ابن عباس... 56
احتجاج سلمان المحمدي... 56
احتجاج أبي ذر... 57
احتجاج المقداد... 58
احتجاج قيس بن سعد بن عبادة... 59
احتجاج أبي سفيان... 59
المناظرة الأولى : مناظرة العباس بن عبد المطلب (رحمه اللّه) مع أبي بكر وعمر... 61
المناظرة الثانية : مناظرة العباس بن عبد المطلب مع عمر... 64
المناظرة الثالثة : مناظرة ابن عباس مع عمر بن الخطاب... 65
المناظرة الرابعة : مناظرة ابن عباس مع عمر... 68
المناظرة الخامسة : مناظرة ابن عباس مع عمر... 70
المناظرة السادسة : مناظرة ابن عباس مع عمر بن الخطاب... 71
المناظرة السابعة : مناظرة ابن عباس مع عمر... 75
المناظرة الثامنة : مناظرة ابن عباس مع عمر... 76
المناظرة التاسعة : مناظرة ابن عباس مع عثمان... 78
المناظرة العاشرة : مناظرة عبد اللّه بن عباس - رضي اللّه عنهما - مع الحرورية... 79
المناظرة الحادية عشر : مناظرة ابن عباس مع معاوية بن ابي سفيان... 83
المناظرة الثانية عشر : مناظرة محمد بن أبي بكر مع معاوية... 86
المناظرة الثالثة عشرة : مناظرة عبد اللّه بن جعفر مع معاوية بن أبي سفيان... 92
المناظرة الرابعة عشرة : مناظرة قيس بن سعد وابن عباس مع معاوية بن أبي سفيان... 106
المناظرة الخامسة عشرة : مناظرة أروى بنت الحارث بن عبد المطلب... 115
ص: 580
المناظرة السادسة عشرة : مناظرة دارمية الحجونية مع معاوية... 120
المناظرة السابعة عشرة : مناظرة برد الهمداني مع عمرو بن العاص... 123
المناظرة الثامنة عشرة : مناظرة حرة بنت حليمة السعدية مع الحجاج... 125
المناظرة التاسعة عشرة : مناظرة الحسن البصري مع الحجاج... 130
المناظرة العشرون : مناظرة أبان بن عياش مع الحسن البصري... 132
المناظرة الحادية والعشرون : مناظرة رجل من بني هاشم مع عمر بن عبد العزيز... 134
المناظرة الثانية والعشرون : مناظرة هشام بن الحكم مع بعض المتكلمين في مجلس الرشيد 140
المناظرة الثالثة والعشرون : مناظرة هشام بن الحكم مع يحيى بن خالد البرمكي... 143
مناظرة الرابعة والعشرون : مناظرة هشام بن الحكم مع بيان وضرار في مجلس يحيى بن خالد 145
المناظرة الخامسة والعشرون : مناظرة هشام بن الحكم مع عالم شامي بمحضر الصادق - عليه السلام - 152
المناظرة السادسة والعشرون : مناظرة هشام مع عمرو بن عبيد في مسجد البصرة... 157
المناظرة السابعة والعشرون : مناظرة هشام مع أبي عبيدة المعتزلي... 161
المناظرة الثامنة والعشرون : مناظرة هشام مع بعض المتكلمين... 163
المناظرة التاسعة والعشرون : مناظرة هشام بن الحكم مع ضرار بن عمرو الضبي... 164
المناظرة الثلاثون : أيضا مناظرة هشام مع ضرار... 166
المناظرة الحادية والثلاثون : مناظرة مؤمن الطاق مع ابن أبي خدرة... 167
ص: 581
المناظرة الثانية والثلاثون : مناظرة مؤمن الطاق مع أبي حنيفة... 175
المناظرة الثالثة الثلاثون : مناظرة فضال بن الحسن مع أبي حنيفة... 176
المناظرة الرابعة والثلاثون : مناظرة رجل مع أبي الهذيل العلاف... 179
المناظرة الخامسة والثلاثون : مناظرة الهيثم بن حبيب الصيرفي مع ابي حنيفه... 187
المناظرة السادسة والثلاثون : مناظرة أبي الحسن علي بن ميثم مع ضرار... 189
المناظرة السابعة والثلاثون : مناظرة علي بن ميثم مع بعضهم... 191
المناظرة الثامنة والثلاثون : مناظرة أبي الحسن علي بن ميثم مع بعضهم... 193
المناظرة التاسعة والثلاثون : مناظرة المأمون مع الفقهاء... 197
المناظرة الاربعون : مناظرة المأمون مع علماء العامة... 217
المناظرة الحادية والأربعون : مناظرة ابن شاذان النيسابوري مع بعضهم... 248
المناظرة الثانية والأربعون : مناظرة الشيخ الصدوق (رحمه اللّه) مع ركن الدولة... 252
المناظرة الثالثة والاربعون : مناظرة المفيد مع عمر في المنام... 265
المناظرة الرابعة والأربعون : مناظرة الشيخ المفيد (رحمه اللّه) مع القاضي أبي بكر بن سيار... 270
المناظرة الخامسة والأربعون : مناظرة الشيخ المفيد مع الكتبي ورجل من المعتزلة... 275
المناظرة السادسة والأربعون : مناظرة الشيخ المفيد مع رجل من أصحاب الحديث... 277
المناظرة السابعة والأربعون : مناظرة الشيخ المفيد (رحمه اللّه) مع بعضهم... 281
المناظرة الثامنة والأربعون : مناظرة الشيخ المفيد مع أبي بكر بن صراما... 289
المناظرة التاسعة والأربعون : مناظرة الشيخ المفيد مع بعضهم ردا على الحشوية والمعتزلة 294
المناظرة الخمسون : مناظرة المفيد (رحمه اللّه) مع شيخ من المعتزلة... 298
ص: 582
المناظرة الحادية والخمسون : مناظرة الشيخ المفيد (رحمه اللّه) مع الرماني... 301
المناظرة الثانية والخمسون : مناظرة الشيخ المفيد (رحمه اللّه) مع بعض مشايخ العباسيين في سامراء 303
المناظرة الثالثة والخمسون : مناظرة الكراجكي مع رجل من العامة... 306
المناطرة الرابعة والخمسون : مناظرة ابن أبي الحديد المعتزلي مع أبي جعفر يحيى بن محمد العلوي 310
المناظرة الخامسة والخمسون : مناظرة ابن طاووس مع رجل حنبلي... 316
المناظرة السادسة والخمسون : مناظرة ابن طاووس مع رجل من الزيدية... 318
المناظرة السابعة والخمسون : مناظرة ابن طاووس مع فقيه من المستنصرية... 323
المناظرة الثامنة والخمسون : مناظرة العلامة الحلي مع علماء المذاهب الأربعة... 331
المناظرة التاسعة والخمسون : مناظرة أبي القاسم بن محمد الحاسمي مع رفيع الدين حسين 337
المناظرة الستون : مناظرة ابن أبي جمهور الأحسائي مع الهروي في خراسان... 347
المناظرة الحادية والستون : مناظرة مع قطب الدين عيسى... 409
المناظرة الثانية والستون : مناظرة يوحنا مع علماء المذاهب الأربعة في بغداد... 418
المناظرة الثالثة والستون : مناظرة الشيخ محمد باقر المازندراني مع رجل من العامة... 490
ص: 583
المناظرة الرابعة والستون : مناظرة أبوان المسيحي الكاثوليكي مع رجل تركماني في السجن 506
المناظرة الخامسة والستون : مناظرة الأنطاكي مع عالم شافعي من الشام... 509
المناظرة السادسة والستون : مناظرة الشيخ الاناطكي مع رجل من أهل حمص... 519
المناظرة السابعة والستون : مناظرة الشيخ الانطاكي مع أحد مشايخ الازهر... 521
المناظرة الثامنة والستون : مناظرة الشيخ مغنية مع الشيخ عبد العزيز بن صالح... 530
المناظرة التاسعة والستون : مناظرة الشيخ القبيسي مع الدكتور الشيخ محمد الزعبي... 534
المناظرة السبعون : مناظرة بين شيعي وسني... 555
المناظرة الحادية والسبعون : مناظرة الدكتور التيجاني مع أحد علماء الزيتونة... 560
المناظرة الثانية والسبعون : مناظرة الدكتور التيجاني مع أحد العلماء... 565
ص: 584