مناظرات في العقائد والأحكام المجلد 1

هوية الكتاب

المؤلف : الشيخ عبد اللّه الحسن

الجزء : 1

المجموعة : من مصادر العقائد عند الشيعة الإمامية سنة الطبع : 1421

مناظرات في العقائد و الأحكام

الجزء الأول

تأليف وتحقيق: الشيخ عبد اللّه الحسن

منشورات شركة دار المصطفی لإحياء التراث

ص: 1

اشاره

مناظرات في العقائد

الجزء الأول

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى:

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فصلت: 33 وقال تعالى:

(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) ق: 37

ص: 3

مناظرات في العقائد و الأحكام

الجزء الأول

تأليف وتحقيق: الشيخ عبد اللّه الحسن

منشورات شركة دار المصطفی لإحياء التراث

ص: 4

حقوق الطبع محفوظة

الطبعة الأولی

1428ه - 2007 م

يطلب من:

لبنان - بيروت - جادة السيد هادي - مفرق الرويس - بناية اللؤلؤة ط1 - ص.ب: برج البراجنة - بعبدا - 2020 1017 - هاتف: 009611540672 سوريا - دمشق - ص.ب: 733 - السيدة زينب - تلفاكس: 00963116470124 محمول: 0096394356584

إيران - قم - خ سمية - 16 متری عباس آباد بلاك 24 تلفاكس: 7738855 - 0098251

البريد الإلكتروني Email: mnmnmn3@hotmail.com

منشورات شركة دار المصطفی لإحياء التراث

ص: 5

الإهداء

إلى المنتظر لإقامة الأمت والعوج والمرتجى لإزالة الجور والعدوان.

إلى المدخر لتجديد الفرائض والسنن والمتخير لإعادة الملة والشريعة.

إلى معز الأولياء ومذل الأعداء وجامع الكلمة على التقوى وباب اللّه الذي منه يؤتى.

إلى صاحب يوم الفتح وناشر راية الهدى ومؤلف شمل الصلاح والرضا.

إلى الحجة بن الحسن المهدي... الذي يملأ الدنيا قسطا وعدلا بعدما ملئت ظلما وجورا.

بين يديك سيدي هذا المجهود الضئيل راجيا القبول.

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) سورة يوسف 88 آية 18

عبداللّه الحسن

ص: 6

تقديم بقلم المحقق الكبير العلامة الشيخ باقر شريف القرشي

تقديم بقلم فضيلة العلامة المحقق الكبير البحاثة الشيخ باقر شريف القرشي - حفظه اللّه تعالى -

إن الطاقات العلمية الهائلة التي فجرها الرسول الأعظم صلى اللّه عليه وآله قد استوعبت جميع لغات الأرض، وامتدت موجاتها المشرقة إلى جميع مناحي الفكر الإنساني، والتي كان منها المناظرات الواقعة بين العلماء في مختلف القضايا العلمية والمذهبية، وكثير منها لا يخلو من الابداع، وهي تحكي قوة الدليل، وروعة الاحتجاج عند بعض، ووهن الدليل وضعفه عند الطرف الآخر.

وقد كان العصر العباسي مسرحا للاحتجاجات والمناظرات في المسائل الكلامية والفلسفية، وقد شهدت أروقة البلاط العباسي أيام الرشيد والمأمون ألوانا ممتعة من المناظرات التي أقامها الخلفاء ووزراؤهم، وفي طليعتها ما تذهب إليه الشيعة في أمر الإمامة بالنص لا بالانتخاب، وأن الإمام معصوم من الخطأ، ومحيط بجميع ما تحتاج إليه الأمة في شؤونها الإدارية والاقتصادية والسياسية، وأنه لا بد أن يكون أعلم أهل زمانه، وكل هذه الأمور كانت موضع جدل وأخذ ورد بين علماء الشيعة وعلماء السنة.

وكان جمع تلك المناظرات في كتاب أو في موسوعة، ضرورة ملحة لا تستغني عنه المكتبة الإسلامية لأنها تلقي الأضواء على الحياة الفكرية

ص: 7

والمذهبية في تلك العصور... وقد انبرى الأستاذ الفاضل الشيخ عبد اللّه الحسن إلى جمعها وتحقيقها في كتابه (مناظرات في الإمامة).

ومضافا لذلك، فقد عرض المؤلف في كتابه الحديث (مناظرات في العقائد والأحكام) إلى إبراز القيم الأصيلة، والمثل العليا التي تؤمن بها الشيعة، وما أثير حولها من شبه وأوهام، قد فندها علماء الإمامية بصورة موضوعية، وأبرزوا زيفها، وأنها لا ميزان لها في البحوث العلمية.

وإني أثني على هذه الفكرة، وأبارك له هذا الجهد الخلاق متمنيا له التوفيق، وأن يتحف المكتبة الإسلامية بالمزيد من البحوث التي تنفع الناس، والتوفيق بيده تعالى يهبه للصالحين من عباده.

باقر شريف القرشي النجف الأشرف 16 / ربيع الأول 1416 ه

ص: 8

مقدمة الكتاب

الحمد لله رب العالمين، وصلى اللّه على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين وبعد:

قد يحسب المرء أن ما خالف رأيه عقيدة وفكرا - نتيجة لتراكم القناعات الموروثة أو لغيرها من الأسباب - أنه باطل أو شاذ لا يعول عليه، وهذا خطأ محض، إذ يجب (1) أن تمحص آراء الطرف الآخر لاحتمال أن يكون الصواب معه، ولولا ذلك لما عدل أحد إلى الحق بعد الاهتداء إليه.

وإذا كان من الصعب على المرء أن ينسى ما اعتقده أو يتناساه إذا ما ثبت بطلانه، فإن في تاريخ الإسلام العقائدي ما يثبت أن هناك صفوة من رجاله تركوا ما اعتقدوا به بعد انكشاف الحق، إما بدراسة مختلف الآراء والنظريات في بطون الكتب والأسفار وعرضها على المعايير العلمية الدقيقة، أو عن طريق حوار علمي يتناول الموضوع المعني من جميع جوانبه للكشف عن غوامضه ومن ثم اتباع الحق فإنه أحق أن يتبع قال الحق تعالى: * (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) * (2)، ومن هنا تدخل المناظرة كسبيل مختصر يوفر الطريق الآمن للوصول إلى المحجة الواضحة، غير أن هذا منوط بطلب الحق لا الجدل والمراء والمكابرة.

ولما كان للمناظرة مثل هذه الأهمية البالغة لمعرفة الحق، ولما فيها من

ص: 9


1- كما يحكم بذلك العقل وذلك للأمن من الضرر الأخروي، حتى ولو كان محتملا.
2- سورة الزمر: الآية 18.

تأصيل أيضا على صعيد التراث الإسلامي، والذي يمثل أفكار وآراء علماء ورجال الإسلام قديما وحديثا على مختلف مذاهبهم ومشاربهم، وكل منهم يدعم فكرته ورأيه بالدليل والبرهان، وحينها تمحص الآراء وتنقح الأفكار، إذا ما التزم فيها بالموضوعية والصراحة الحقة، وبالتالي تؤدي إلى إظهار الحق واتباعه ونبذ الباطل واجتنابه - فقد وجدت نفسي شغوفا بجمع ما تيسر منها، وتحقيقها تحقيقا علميا معضدا بمصادر المتناظرين، وهذا ما سيجده القارئ الكريم وشيكا في مناظراتنا هذه التي تناولت جل عقائد الشيعة وأحكامهم.

وحيث إنه قد ثبت عند الشيعة الإمامية بالدليل القطعي - الذي لا شك فيه - وجوب التمسك بأهل البيت (عليهم السلام) ووجوب الاهتداء بهديهم والسير على طريقتهم، كما أمر بذلك النبي (صلى اللّه عليه وآله) إذ هم المنبع الصافي والمعين الذي لا ينضب، والامتداد الطبيعي لرسالته - لهذا أخذت الشيعة الإمامية عقائدها وأحكامها الشرعية منهم، واستمدت من فكرهم الثقافة الإسلامية، وقد انعكس ذلك في مؤلفاتهم ومقالاتهم، وظهر بشكل واضح على سلوكهم، وتناولوا بالبحث كل ما يتصل بالأصول والفروع والتفسير والأخلاق، كبحثهم في مسائل التوحيد والنبوة والإمامة وشؤونها ونحو ذلك، كما بحثوا أيضا مسائل الأحكام الشرعية، والمختلف فيها كمسألة الجمع بين الصلاتين، والسجود على التربة الحسينية، وزيارة القبور، والمتعة، وعشرات غيرها من المسائل التي أثبتوا شرعيتها بالأدلة الشرعية والعقلية.

ومن البداهة أن يرى كل من المتناظرين صحة ما يعتقده أصولا وفروعا، ولما كان الحق واحدا فلا بد حينئذ أن يكون حليفا لأحدهما دون الآخر، ومن هنا فالعقل يحكم بضرورة مقابلة ما اختلفت فيه المذاهب الإسلامية، لتنقيح

ص: 10

الصحيح من غيره، والتعرف على الحق واتباعه، والذي يحقق للعبد الأمن من الضرر الأخروي، ولذلك كانت المسائل الخلافية محط نظر جميع علماء المذاهب الإسلامية ومفكريهم للتعرف عليها، ومن ثم مناقشتها والمناظرة فيها، ثم الحكم عليها بعد ذلك إما بالتأييد - وإن كان على خلاف ما يراه سابقا - إذا ما اقتنع بالدليل كما تسنى ذلك لبعضهم -، وإما بالتفنيد إذا استطاع أن يقيم الدليل والبرهان على بطلانها وفسادها.

ومن هنا قلما تجد مسألة لم تقع عرضة للأخذ والرد، في ما بين المذاهب الإسلامية، وحتى في المذهب الواحد أيضا، حرصا منهم على معرفة ما هو الصحيح من الباطل، ولذا شكلت هذه المناظرات والمحاورات موسوعة علمية خصبة ينبغي الاهتمام والاعتناء بها، إذ هي غنية بالأدلة العلمية والحقائق التاريخية، التي لا يزال بعضها مجهولا عند كثير من الباحثين فضلا عن غيرهم، أضف إلى ذلك أن كثيرا منها يعد من التراث الإسلامي الذي ينبغي المحافظة عليه وإعداده في المكتبة الإسلامية.

وامتدادا لموسوعة المناظرات التي ابتدأتها بإعداد وتحقيق ما تعلق منها بالإمامة والخلافة بعنوان (مناظرات في الإمامة) فقد أعددت في هذا الكتاب المناظرات التي جرت في العقائد والأحكام الشرعية وغيرها من المسائل المهمة، التي دارت بين علماء الشيعة الإمامية وسائر علماء المذاهب الإسلامية الأخرى، كما حوت أيضا جملة من مناظرات أئمة أهل البيت - صلوات اللّه عليهم - القيمة والتي ينبغي النظر فيها بتأمل للاستفادة منها بالشكل المناسب ولا أدعي استيفاء كل ما صدر من المناظرات في هذا الموضوع، إذ ربما فاتني منها الكثير، غير أني آمل أن يكون عملي هذا قد شغل فراغا في المكتبة الإسلامية.

ص: 11

وقد جعلت هذه المناظرات في جزئين، فقد حوى الجزء الأول المناظرات في العقائد وما يرتبط بها من المعارف الإسلامية، كما حوى الجزء الثاني المناظرات في الأحكام الشرعية وما يرتبط بها من المسائل الأخرى.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض المناظرات قد تتداخل في كلا الأمرين، إذ قد تلحظ تارة من ناحية عقائدية وأخرى من ناحية شرعية، فإذا لوحظت المسألة من ناحية الاعتقاد بها وكانت من الضروريات أو المسلمات التي قام الدليل عليها فهي من العقائد التي يجب عقد القلب عليها، وتارة تلحظ من حيث ارتباطها بأحد الأحكام الخمسة الشرعية فتكون مسألة فرعية مرتبطة بفعل المكلف نفسه، وقد ألحقت كل مناظرة بما يناسبها ويغلب عليها في أحد القسمين، إذ أن بعضها لا يخلو من تشابه ومفارقات، كما إني قدمت مناظرات الأئمة المعصومين (عليهم السلام) على غيرهم في كل باب.

ومما أود التنبيه عليه، هو أن الاستفادة من هذه المناظرات، وما يتعلق بها من مسائل تخص الشيعة الإمامية، إنما تتم بالوجه الأكمل بربطها بما زخرت به المكتبة الشيعية من ذخائر التراث الإسلامي الخاص بمسائل العقائد والكلام، المبسوطة في ذلك أو المختصرة ك: الشافي، وتلخيصه، وكشف المراد، ونهج الحق، وحق اليقين في معرفة أصول الدين، وأصل الشيعة وأصولها، وعقائد الإمامية، وغيرها من عشرات الكتب التي لا يستغني عنها كل باحث في خصوص هذا الموضوع، أو في ما يتعلق بمسائل الأحكام الشرعية الرجوع إلى ما في المكتبة الشيعية من الكتب المبسوطة في الفقه، ك: كتاب المبسوط للشيخ الطوسي، والتذكرة، وشرائع الإسلام، وجواهر الكلام، ومستمسك العروة الوثقى، وكتاب مسائل فقهية للسيد شرف الدين، حيث اعتنى فيه بوجه خاص

ص: 12

لمعالجة بعض الفروع الفقهية الخلافية بين الطائفة الإمامية وغيرها من المذاهب الإسلامية.

كما أنه من الضروري بمكان لكل باحث عن الحقيقة والمعرفة في خصوص التعرف على عقائد وأفكار الشيعة الإمامية أن يبحثها بنفسه، ويطلع عليها من كتب ومصادر الإمامية المعتمدة الموثوقة عندهم، لا من كتب ومصادر غيرهم أو ما كتبه عنهم خصومهم، كما هو الظاهر في أكثر ما تناولته الأقلام الحديثة من بعض الكتاب والباحثين، إذ من الضروري أن يتحلى الباحث بأمانة النقل والتثبت التام قبل الحكم في أي مسألة والتأكد من فهمها فهما صحيحا، فإن مما منيت به الشيعة الإمامية أنهم أسئ فهمهم واستغل الحاقدون ذلك في الكيد بهم والوقيعة فيهم على غير بينة وبرهان، إذ ليس كل ما ينسب إليهم هو من معتقدهم ومعتبرا عندهم، وليس من الحق والإنصاف أن تدان طائفة بما ينسبه إليها غيرها، ولا بما يقوله الشواذ الذين لا وزن لكلمتهم ولا حيثية لهم، بل الصحيح أن تؤاخذ بما هو متفق عليه عند علمائهم، أو ما هو متسالم عليه عندهم.

ولذا خفيت على كثير من الباحثين والمحققين فضلا عن غيرهم حقيقة مبادئ وفكر المذهب الشيعي، وما ذلك إلا لعدم التثبت التام الدقيق والدراسة المستوعبة، وقد حذر القرآن الكريم من مغبة اتباع هذا النحو، قال تعالى: * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) * (1)، كما حذرنا من الاعتماد على الظن فقال

ص: 13


1- سورة الحجرات: الآية 6.

تعالى: * (إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) * (1)، والعاقل المنصف لا يأنف من اتباع الحق، فإن الحكمة ضالة المؤمن، * (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) * (2)، وأملي أن يتابع القارئ الكريم معي هذه المناظرات ففيها من الحق ما يسمع الصم، ومن النور ما يراه البصير، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه، والصلاة على نبيه المختار وآله الأطهار، ما طلع بدر الدجى، وسطعت شمس النهار، إنه نعم المولى ونعم النصير.

في يوم الجمعة المصادف ميلاد الإمام الحجة بن الحسن (عليه السلام) 15 / 8 / 1414 ه

ص: 14


1- سورة يونس: الآية 36.
2- سورة يوسف: الآية 108.

المشيئة - القضاء والقدر

اشارة

ص: 15

ص: 16

المناظرة الأولى: مناظرة أمير المؤمنين (عليه السلام) مع رجل قدري في المشيئة

روى ابن عساكر - بسنده - عن الحرث، قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر؟

قال (عليه السلام): طريق مظلم لا تسلكه!!

قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر؟

قال (عليه السلام): بحر عميق لا تلجه.

قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر؟

قال (عليه السلام): سر اللّه قد خفي عليك فلا تلجه.

قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر؟

قال (عليه السلام): سر اللّه قد خفي عليك فلا تفشه.

قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر؟

قال (عليه السلام): أيها السائل إذا اللّه خلقك لما شاء أو لما شئت؟

قال: بل لما شاء.

قال: فيستعملك كما شاء أو كما شئت؟

قال: بل كما شاء.

قال (عليه السلام): فيبعثك يوم القيامة كما شاء أو كما شئت؟

ص: 17

قال: بل كما شاء.

قال (عليه السلام): أيها السائل ألست تسأل ربك العافية؟

قال: نعم.

قال (عليه السلام): فمن أي شئ تسأله العافية، أمن البلاء الذي ابتلاك به غيره؟

قال: من البلاء الذي ابتلاني به.

قال (عليه السلام): أيها السائل تقول: لا حول ولا قوة إلا بمن؟

قال: إلا باللّه العلي العظيم.

قال (عليه السلام): أفتعلم ما تفسيرها؟

قال: تعلمني مما علمك اللّه يا أمير المؤمنين؟

قال (عليه السلام): إن تفسيرها، لا تقدر على طاعة اللّه، ولا يكون له قوة في معصية في الأمرين جميعا إلا باللّه.

أيها السائل ألك مع اللّه مشيئة (1) أو فوق اللّه مشيئة، أو دون اللّه مشيئة؟ فإن قلت، إن لك دون اللّه مشيئة فقد اكتفيت بها عن مشيئة اللّه، وإن زعمت أن لك فوق اللّه مشيئة فقد ادعيت أن قوتك ومشيئتك غالبتان على قوة اللّه ومشيئته، وإن زعمت أن لك مع اللّه مشيئة فقد ادعيت مع اللّه شركا في مشيئته.

أيها السائل إن اللّه يشج ويداوي، فمنه الداء ومنه الدواء (2)، أعقلت عن اللّه أمره.

ص: 18


1- أي ليس للعبد مشيئة مستقلة دون مشيئة اللّه تعالى، قال تعالى: * (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) *.
2- قال تعالى: * (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) *.

قال: نعم.

قال علي (عليه السلام): الآن أسلم أخوكم، فقوموا فصافحوه.

ثم قال علي (عليه السلام): لو أن عندي رجلا من القدرية لأخذت برقبته ثم لا أزال أجأها حتى أقطعها، فإنهم يهود هذه الأمة ونصاراها ومجوسها. (1)

ص: 19


1- ترجمة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) من تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 3 ص 285 - 286، ح 1307، العقد الفريد للأندلسي: ج 2 ص 218 - 219، دستور معالم الحكم من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) للقضاعي: ص 107 - 109، تذكرة الخواص لابن الجوزي: ص 144، بتفاوت.

المناظرة الثانية: مناظرة أمير المؤمنين (عليه السلام) مع رجل من أهل الشام في القضاء والقدر

قال الشيخ الصدوق - عليه الرحمة -: وأخبرني الشيخ أدام اللّه عزه مرسلا عن عمرو بن وهب اليماني قال: حدثني عمرو بن سعد عن محمد بن جابر عن أبي إسحاق السبيعي قال: قال شيخ من أهل الشام حضر صفين مع أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد انصرافهم من صفين: أخبرنا يا أمير المؤمنين عن مسيرنا إلى الشام، أكان بقضاء من اللّه وقدر؟ قال: نعم يا أخا أهل الشام، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما وطئنا موطئا، ولا هبطنا واديا، ولا علونا تلعة، إلا بقضاء من اللّه وقدر. (1)

ص: 20


1- قيل إن القضاء والقدر هو: الأمر من اللّه تعالى والحكم بمعنى أنه تعالى بين ذلك وكتبه وأعلم أنهم سيفعلون ذلك في اللوح المحفوظ وبينه لملائكته، وقدر ذلك في سابق علمه وقد اشتهر في الحديث النبوي الشريف إن كل شئ بقضاء وقدر، وإنه يجب الإيمان بالقدر خيره وشره، وأن أفعال العباد واقعة بقضاء اللّه وقدره، لا بمعنى أنه تعالى خلق أفعالهم وأوجدها - كي ينسب فعل العباد له - إذ لو كان بهذا المعنى لسقط اللوم عن العاصي وعقابه، ولم يستحق المطيع الثواب على عمله، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا. فالأفعال الصادرة من العبد كلها واقعة بقدرته واختياره غير مجبور على فعله، بل له أن يفعل غير مضطر، وله أن لا يفعل غير مكره. وهذا ما جاء عن أئمة الهدى - صلوات اللّه وسلامه عليهم -، قال إمامنا الصادق (عليه السلام): لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين. وهذا ما ذهبت إليه الإمامية ومن حذا حذوهم. فأفعال العباد واقعة تحت قدرتهم واختيارهم، ولكن غير خارجة عن قدرة اللّه تعالى، إذ هو المفيض على الخلق، فليست أفعالهم واقعة تحت الجبر بتمكينه لهم، ولم يفوض لهم خلق الأفعال فتكون خارجة عن قدرته وسلطانه، بل له الحكم والأمر، وهو على كل شئ قدير. وهناك من ذهب إلى أن الفاعل لأفعال المخلوقين من المعاصي هو اللّه تعالى ومع ذلك يعاقبهم عليها وهو الفاعل للطاعة ومع ذلك يثيبهم عليها، وأنه لا فعل للعبد أصلا - وهم المجبرة - ولا فاعل سواه ولا شريك له في ذلك فنسبوا إلى اللّه الظلم بمقالتهم هذه، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا، وقد فند أمير المؤمنين (عليه السلام) مقالتهم هذه وزعمهم الباطل قال (عليه السلام): (لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب) إذ كيف يجبرهم على الطاعة ثم يثيبهم على عمل لم يصدر منهم، وكيف يجبرهم على المعصية ثم يعاقبهم عليها إذ لا عقاب على عمل لم يفعله العبد (وسقط الوعد والوعيد) الوعد على الطاعة بالثواب، والوعيد على المعصية بالعقاب حيث إنه تعالى وعد المطيعين بالثواب الجزيل، وأوعد العاصين بالعقاب، ولا يكون ذلك إلا باختيارهم وإرادتهم، ولذا أمرهم تعالى ونهاهم وأرسل الرسل لهم وأنزل الكتب عليهم وكلفهم، ومع الجبر لا قدرة لهم فلا تكليف فيبطل كل ذلك ما داموا مجبورين على أفعالهم. وليس هناك أدل من الوجدان على قدرة العبد واختياره وإنه غير مجبور على فعله فله أن يفعل وله أن لا يفعل وهو الصواب، ولذا نجد القرآن الكريم ينسب الأفعال إلى أصحابها ويحملهم مسؤولية أفعالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر. فمن تلك الآيات الشريفة قوله تعالى: (مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) ، (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) ، (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) ، (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) إلى غير ذلك من آيات الوعد والوعيد والذم والمدح. وقد سئل الإمام أبو الحسن الهادي - صلوات اللّه عليه - عن أفعال العباد، فقيل له: هل هي مخلوقة لله تعالى؟ فقال (عليه السلام) لو كان خالقا لها لما تبرأ منها وقد قال سبحانه: (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) التوبة / 3. راجع: كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: ص 315، تصحيح الاعتقاد - من مصنفات الشيخ المفيد -: ج 5 ص 43، الباب الحادي عشر للعلامة الحلي: ص 59، حق اليقين في معرفة أصول الدين لشبر: ج 1 ص 60، عقائد الإمامية للمظفر: ص 267.

فقال الشامي: عند اللّه تعالى أحتسب عنائي إذا يا أمير المؤمنين، وما أظن

ص: 21

أن لي أجرا في سعيي إذا كان اللّه قضاه علي وقدره لي.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن اللّه قد أعظم لكم الأجر على مسيركم وأنتم سائرون، وعلى مقامكم وأنتم مقيمون، ولم تكونوا في شئ من حالاتكم مكرهين، ولا إليها مضطرين، ولا عليها مجبرين.

فقال الشامي: فكيف يكون ذلك والقضاء والقدر ساقانا، وعنهما كان مسيرنا وانصرافنا؟! فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): ويحك يا أخا أهل الشام! لعلك ظننت قضاء لازما وقدرا حتما، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، والأمر من اللّه عز وجل والنهي منه، وما كان المحسن أولى بثواب الإحسان من المسئ، ولا المسئ أولى بعقوبة المذنب من المحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان وحزب الشيطان وخصماء الرحمن وشهداء الزور وقدرية (1) هذه الأمة

ص: 22


1- القدرية قيل: هم جاحدوا القدر القائلون بنفي كون الخير والشر كله بتقدير اللّه ومشيئته، وسموا بذلك لمبالغتهم في نفيه. وقالت المعتزلة: القدرية هم القائلون بأن الخير والشر كله من اللّه وبتقديره ومشيئته لأن الشائع نسبة الشخص إلى ما يثبته، وقال أبو سعيد الحميري: وسميت القدرية: قدرية لكثرة ذكرهم القدر، وقولهم في كل ما يفعلونه قدره اللّه عليهم، والقدرية يسمون: العدلية، بهذا الاسم، والصحيح ما قلناه لأن من أكثر من ذكر شئ نسب إليه، مثل من أكثر من رواية النحو، نسب إليه، فقيل: نحوي، ومن أكثر من رواية اللغة نسب إليها، فقيل: لغوي، وكذلك من أكثر من ذكر القدر، وقال في كل فعل يفعله: قدره اللّه عليه، قيل: قدري، والقياس في ذلك مطرد. وأما في أخبار أهل البيت (عليهم السلام) فقد يطلق القدري على الجبري والتفويضي، كما عن حريز، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: الناس في القدر على ثلاثة أوجه: رجل زعم أن اللّه عز وجل أجبر الناس على المعاصي فهذا قد ظلم اللّه عز وجل في حكمه وهو كافر، ورجل يزعم أن الأمر مفوض إليهم فهذا وهن اللّه في سلطانه فهو كافر، ورجل يقول: إن اللّه عز وجل كلف العباد ما يطيقون، ولم يكلفهم ما لا يطيقون، فإذا أحسن حمد اللّه، وإذا أساء استغفر اللّه فهذا مسلم بالغ. راجع: معجم الفرق الإسلامية للأمين: ص 190، الحور العين أبو سعيد الحميري: ص 204، بحار الأنوار: ج 5 ص 9 ح 14، سفينة البحار: ج 2 ص 409.

ومجوسها (1) إن اللّه أمر عباده تخييرا، ونهاهم تحذيرا، وكلف يسيرا، وأعطى على القليل كثيرا، ولم يطع مكرها، ولم يعص مغلوبا، ولم يكلف عسيرا، ولم يرسل الأنبياء لعبا، ولم ينزل الكتب على العباد عبثا * (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) * (2).

قال الشامي: فما القضاء والقدر اللذان كان مسيرنا بهما وعنهما؟ قال: الأمر من اللّه تعالى في ذلك والحكم منه ثم تلا: (وكان أمر اللّه قدرا مقدورا) (3).

فقام الشامي مسرورا فرحا لما سمع هذا المقال وقال: فرجت عني يا أمير المؤمنين، فرج اللّه عنك وأنشأ يقول:

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته *** يوم النشور من الرحمن رضوانا

أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا *** جزاك ربك عنا فيه إحسانا

نفى الشكوك مقال منك متضح *** وزاد ذا العلم والإيمان إيقانا

فلن أرى عاذرا في فعل فاحشة *** ما كنت راكبها ظلما وعدوانا

ص: 23


1- جاء في كنز العمال ج 1 ص 121، ح 2677: إن لكل أمة مجوس ومجوس أمتي هذه القدرية الخ، وجاء في سفينة البحار ج 2 ص 409، وقد ورد في صحاح الأحاديث: لعن اللّه القدرية على لسان سبعين نبيا.
2- سورة ص: الآية 27.
3- سورة الأحزاب: الآية 38.

كلا ولا قائلا يوما لداهية *** أرداه فيها لدينا غير شيطانا

ولا أراد ولا شاء الفسوق لنا *** قبل البيان لنا ظلما وعدوانا

نفسي الفداء لخير الخلق كلهم *** بعد النبي علي الخير مولانا

أخي النبي ومولى المؤمنين معا *** وأول الناس تصديقا وإيمانا

وبعل بنت رسول اللّه سيدنا *** أكرم به وبها سرا وإعلانا (1)

ص: 24


1- الفصول المختارة للشيخ المفيد: ص 42 - 43، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للصدوق: ج 2 ص 127 - 128 ح 38، كنز الفوائد للكراجكي: ج 1 ص 363 - 364، الإحتجاج للطبرسي: ج 1 ص 208 - 209، ترجمة الإمام علي (عليه السلام) من تاريخ مدينة دمشق: ج 3 ص 284 - 285 ح

المعصية

اشارة

ص: 25

ص: 26

المناظرة الثالثة: مناظرة الإمام الكاظم (عليه السلام) مع أبي حنيفة في أن المعصية من فعل العبد

المناظرة الثالثة: مناظرة الإمام الكاظم (عليه السلام) مع أبي حنيفة (1) في أن المعصية من فعل العبد

قال الشيخ الصدوق - عليه الرحمة -: وأخبرني الشيخ أيده اللّه أيضا قال: قال أبو حنيفة: دخلت المدينة فأتيت جعفر بن محمد (عليه السلام) فسلمت عليه وخرجت من عنده فرأيت ابنه موسى (عليه السلام) في دهليز قاعدا في مكتب له وهو صبي صغير السن فقلت له: يا غلام، أين يحدث الغريب عندكم إذا أراد ذلك؟ فنظر إلي ثم قال: يا شيخ اجتنب شطوط الأنهار، ومسقط الثمار، وفيئ النزال، وأفنية الدور، والطرق النافذة، والمساجد، وارفع وضع بعد ذلك

ص: 27


1- هو: النعمان بن ثابت بن زوطي بن ماه الفقيه الكوفي، مولى تيم اللّه ابن ثعلبة وقيل: أصله من أبناء فارس، أحد الأئمة الأربعة، وإمام أصحاب الرأي والقياس، ولد بالكوفة سنة 80 ه، عاصر بعض الصحابة أمثال أنس بن مالك، وله: مسند في الحديث، المخارج في الفقه، الفقه الأكبر. نقله أبو جعفر المنصور من الكوفة إلى بغداد، فأراده على أن يوليه القضاء فأبى، فأمر به إلى الحبس فكان يساط في كل يوم مائة سوط حتى توفي في السجن سنة 150 ه، ودفن بمقبرة الخيزران. راجع ترجمته في: تاريخ بغداد للخطيب: ج 13 ص 323 ترجمة رقم: 7297، وفيات الأعيان لابن خلكان: ج 5 ص 405، ترجمة رقم: 765، الأعلام للزركلي: ج 9 ص 4، سير أعلام النبلاء: ج 6 ص 390 ترجمة رقم: 163.

حيث شئت.

قال: فلما سمعت هذا القول منه، نبل في عيني وعظم في قلبي، فقلت له:

جعلت فداك، ممن المعصية؟ فنظر إلي نظرا ازدراني به ثم قال: اجلس حتى أخبرك، فجلست بين يديه.

فقال: إن المعصية لا بد من أن تكون من العبد أو من خالقه أو منهما جميعا، فإن كانت من اللّه تعالى فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده ويأخذه بما لم يفعله، وإن كانت منهما فهو شريكه والقوي أولى بإنصاف عبده الضعيف، وإن كانت من العبد وحده فعليه وقع الأمر، وإليه توجه النهي، وله حق الثواب، وعليه العقاب، ووجبت له الجنة والنار.

قال أبو حنيفة: فلما سمعت ذلك، قلت: * (ذرية بعضها من بعض واللّه سميع عليم) * (1).

قال الشيخ أيده اللّه: وفي ذلك يقول الشاعر:

لم تخل أفعالنا اللاتي يذم بها *** إحدى ثلاث معان حين نأتيها

إما تفرد بارينا بصنعتها *** فيسقط اللوم عنا حين ننشيها

أو كان يشركنا فيها فيلحقه *** ما سوف يلحقنا من لائم فيها

أو لم يكن لإلهي في جنايتها *** ذنب فما الذنب إلا ذنب جانيها (2)

ص: 28


1- سورة آل عمران: الآية 34.
2- الفصول المختارة للمفيد: ص 43 - 44، كنز الفوائد للكراجكي: ج 1 ص 366، بحار الأنوار للمجلسي: ج 10 ص 247 - 248 ح 16 و 17 بتفاوت.

المناظرة الرابعة: مناظرة الكراجكي مع بعضهم في المعصية

المناظرة الرابعة مناظرة الكراجكي (1) مع بعضهم في المعصية

قال الشيخ الكراجكي - أعلى اللّه مقامه -: وقد كنت أوردت هذه المسألة في مجلس بعض الرؤساء مستظرفا له بها، وعنده جمع من الناس، فقال رجل ممن كان في المجلس يميل إلى الجبر: إن كان هذه المسألة لا حيلة للمجبرة فيها، فعليكم أنتم أيضا مسألة لهم أخرى، لا خلاص لكم مما يلزمكم منها.

فقلت: وما هي؟

قال: يقال لكم إذا كان اللّه تعالى لا يشاء المعصية، وإبليس يشاؤها، ثم وقعت معصية من المعاصي، فقد لزم من هذا أن تكون مشيئة إبليس غلبت مشيئة

ص: 29


1- هو: أبو الفتح محمد بن علي بن عثمان المعروف بالكراجكي نسبة إلى كراجك قرية على باب واسط، من أجلاء علماء وفقهاء ورؤساء الشيعة، والكراجكي من أئمة عصره في الفقه والكلام والفلسفة والطب والفلك والرياضيات وغيرها من العلوم، وقد أطراه عدد من مترجميه، فوصفوه بالشيخ المحدث الفقيه المتكلم المتبحر الرفيع الشأن من أكابر تلامذة المرتضى والشيخ المفيد والديلمي والواسطي، وسلار وأبي الحسن ابن شاذان القمي، ويعبر عنه الشهيد الأول العاملي كثيرا في كتبه بالعلامة مع تعبيره عن العلامة الحلي بالفاضل، ومصنفاته كثيرة جدا منها: 1 - روضة العابدين، 2 - الرسالة الناصرية، 3 - الاستنصار، 4 - كنز الفوائد وغيرها. توفي في سنة 449 ه، راجع ترجمته في: سير أعلام النبلاء: ج 18، ص 121، لسان الميزان: ج 5، ص 300، مرآة الجنان: ج 3، ص 70، تنقيح المقال، للمامقاني: ج 3، ص 159 ترجمة رقم: 11134، كنز الفوائد: ج 1، ص 11.

رب العالمين.

فقلت: إنما تصح الغلبة عند الضعف وعدم القدرة، ولو كنا نقول: إن اللّه تعالى لا يقدر أن يجبر العبد على الطاعة، ويضطره إليها، ويحيل بينه وبين المعصية بالقسر والإلجاء إلى غيرها، لزمنا ما ذكرت، وإلا بخلاف ذلك، وعندنا أن اللّه تعالى يقدر أن يجبر عباده، ويضطرهم، ويحيل بينهم وبين ما اختاروه، فليس يلزمنا ما ذكرتم من الغلبة.

وقد أبان اللّه تعالى فقال: * (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً) * (1)، وقال تعالى: * (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا) * (2)، وإنما لم يفعل ذلك، لما فيه من الخروج عن سنن التكليف، وبطلان استحقاق العباد للمدح والذم، فتأمل ما ذكرت تجده صحيحا.

فلم يأت بحرف بعد هذا (3).

ص: 30


1- سورة هود: الآية 118
2- سورة السجدة: الآية 13
3- كنز الفوائد للكراجكي: ج 1، ص 115.

البداء والإرادة

اشارة

ص: 31

ص: 32

المناظرة الخامسة: مناظرة الإمام الرضا (عليه السلام) مع سليمان المروزي في البداء وإرادة اللّه تعالى

روي عن الحسن بن محمد النوفلي أنه قال: قدم سليمان المروزي (1)

ص: 33


1- سليمان المروزي، متكلم خراسان، مشتبه فيه، ولم يميز على وجه الدقة، إذ احتمل بعضهم أنه سليمان بن حفص المروزي الذي نقل المحقق الداماد عن الشيخ أنه من أصحاب الهادي (عليه السلام)، واحتمل أخر أيضا أنه سليمان بن داوود المروزي المعدود من أصحاب الهادي (عليه السلام)، وقول لثالث: أنه سليمان بن جعفر المروزي من أصحاب الكاظم والرضا (عليهما السلام)، ومنشأ هذه الاختلاف، إن سليمان المروزي الذي ذكر في مناظرة الإمام الرضا (عليه السلام) لم يذكر اسم أبيه، فمن هنا نشأ هذا الاختلاف في ما بينهم، ولذا صعب تمييزه، وخصوصا إنه يوجد بهذا الاسم أكثر من واحد في زمن واحد، فإن كانت هناك قرائن تميزه عن غيره وإلا يبقى مجهولا، قال الشيخ علي النمازي: والأظهر أن سليمان المروزي المتكلم الباحث مع الرضا (عليه السلام) ليس أحد هؤلاء الثلاثة، ولا يجري ما قيل فيهم عليه، فراجع كتاب العلامة المامقاني في ترجمة هؤلاء الثلاثة حتى يتضح لك الحال والإشكال فيما توهموه وبطلان تطبيق ما ذكر في الروايات من دون ذكر اسم الأب على المعنون في أول الترجمة حتى تقوم حجة على التطبيق، ومما ذكرنا ظهر عدم الاطمئنان في تطبيق المضمر في الروايات على المعنون، وقال أيضا - عليه الرحمة -: ومن هذه المحاجة يظهر ذمه ولجاجه، فراجع حتى ترى ذمه، وتعرف فساد توهم من زعم حسنه، وأنه ما رجع إلى الحق. انتهى كلامه رفع في علو مقامه. أقول: والذي يظهر لكل من يراجع مناظراته مع الإمام (عليه السلام) أن سليمان هذا من أهل العناد، وإلا لم يجلبه المأمون لمحاجة الإمام (عليه السلام)، إذ أن المأمون العباسي كان يجلب العلماء لمناظرة الإمام (عليه السلام) ليظهروا عليه. ويريد أن يبين للناس عجزه: (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) ولذا قال المأمون لسليمان: وليس مرادي إلا أن تقطعه عن حجة واحدة فقط، فهذا ما كان يسعى إليه المأمون ومن مشى في ركابه واستجاب له. وبما أن سليمان المروزي الواقع بهذا الاسم قد ترجم له في كتب رجال السنة ولم يغفلوه، كما تدل فحوى ترجمتهم له على رقعته عندهم وأنه من أهل الحديث الذين حفظوا أحاديث لم تقع في الكتب، كما أن هذا المترجم له كان أيضا في زمان الإمام الرضا (عليه السلام) إذ أن الإمام (عليه السلام) توفي في سنة 203 ه وتوفي سليمان هذا قبل سنة 210 ه، كما أنه لم يذكر بهذا الاسم في كتب الرجال عند السنة غيره، وإلا كيف يغفله أهل السنة في الوقت الذي ذكروا من الرجال من هو أقل منه في نظرهم، فمن المحتمل القريب جدا أن يكون هو نفس المذكور في مناظرة الإمام الرضا (عليه السلام)، واللّه العالم بحقائق الأمور، كما عده أيضا العطاردي من رواة الإمام الرضا (عليه السلام) تحت رقم: 149، وإليك ترجمته كما جاءت في كتب التراجم عندهم هو: سليمان بن صالح، مولاهم، أبو صالح المروزي المعروف بسلمويه، صاحب «وقائع خراسان» ويقال: اسمه سليمان بن داود، قيل إنه سمع من ابن المبارك نحو ثماني مئة حديث مما لم يقع منه في الكتب، مات قبل سنة عشر ومئتين، وكان قد جاوز مئة سنة. راجع ما جاء في هذه الترجمة: تهذيب الكمال: ج 11 ص 453 ترجمة رقم: 2529، تهذيب التهذيب لابن حجر: ج 4 ص 199 ترجمة رقم: 338، مستدركات علم رجال الحديث للشيخ علي النمازي الشاهرودي: ج 4 ص 146 ترجمة رقم: 6608، منتهى المقال في أحوال الرجال للمازندراني: ج 3 ص 387 ترجمة رقم: 1363، مسند الإمام الرضا (عليه السلام) للعطاردي: ج 2 ص 534.

متكلم خراسان على المأمون فأكرمه ووصله ثم قال له: إن ابن عمي علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) قدم علي من الحجاز وهو يحب الكلام وأصحابه فلا عليك أن تصير إلينا يوم التروية لمناظرته.

فقال سليمان: يا أمير المؤمنين، إني أكره أن أسأل مثله في مجلسك في جماعة من بني هاشم فينتقص عند القوم إذا كلمني ولا يجوز الانتقاص عليه.

ص: 34

قال المأمون: إنما وجهت إليه لمعرفتي بقوتك وليس مرادي إلا أن تقطعه عن حجة واحدة فقط.

فقال سليمان: حسبك يا أمير المؤمنين اجمع بيني وبينه وخلني والذم.

فوجه المأمون إلى الرضا (عليه السلام) فقال: إنه قدم إلينا رجل من أهل مرو، وهو واحد خراسان من أصحاب الكلام فإن خف عليك أن تتجشم المصير إلينا فعلت.

فنهض (عليه السلام) للوضوء وقال لنا: تقدموني، وعمران الصابي معنا فصرنا إلى الباب، فأخذ ياسر وخالد بيدي فأدخلاني على المأمون فلما سلمت قال: أين أخي أبو الحسن أبقاه اللّه تعالى؟ قلت: خلفته يلبس ثيابه وأمرنا أن نتقدم ثم قلت: يا أمير المؤمنين، إن عمران مولاك معي وهو على الباب.

فقال: ومن عمران؟

قلت: الصابي الذي أسلم على يدك.

قال: فليدخل فدخل فرحب به المأمون ثم قال له: يا عمران لم تمت حتى صرت من بني هاشم.

قال: الحمد لله الذي شرفني بكم يا أمير المؤمنين.

فقال له المأمون: يا عمران هذا سليمان المروزي متكلم خراسان.

قال عمران: يا أمير المؤمنين، إنه يزعم واحد خراسان في النظر، وينكر البداء.

قال: فلم لا تناظروه؟

ص: 35

قال عمران: ذلك إليه.

فدخل الرضا (عليه السلام) فقال: في أي شئ كنتم؟

قال عمران: يا ابن رسول اللّه هذا سليمان المروزي.

فقال له سليمان: أترضى بأبي الحسن وبقوله فيه؟

فقال عمران: قد رضيت بقول أبي الحسن في البداء على أن يأتيني فيه بحجة أحتج بها على نظرائي من أهل النظر.

قال المأمون: يا أبا الحسن ما تقول فيما تشاجرا فيه؟

قال: وما أنكرت من البداء يا سليمان، واللّه عز وجل يقول: * (أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا) * (1) ويقول عز وجل: * (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) * (2) ويقول: * (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) * (3) ويقول عز وجل: * (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ) * (4) ويقول: * (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ) * (5) ويقول عز وجل: * (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) * (6) ويقول عز وجل: * (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ) * (7).

ص: 36


1- سورة مريم: الآية 67
2- سورة الروم: الآية 27
3- سورة البقرة: الآية 117
4- سورة فاطر: الآية 1
5- سورة السجدة: الآية 7
6- سورة التوبة: الآية 106
7- سورة فاطر: الآية 11.

قال سليمان: هل رويت فيه من آبائك شيئا؟ قال: نعم رويت عن أبي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنه قال: إن لله عز وجل علمين علما مخزونا مكنونا لا يعلمه إلا هو من ذلك يكون البداء، وعلما علمه ملائكته ورسله فالعلماء من أهل بيت نبينا يعلمونه.

قال سليمان: أحب أن تنزعه لي من كتاب اللّه عز وجل.

قال: قول اللّه عز وجل لنبيه (صلى اللّه عليه وآله): * (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ) * (1) أراد هلاكهم، ثم بدا لله تعالى فقال: * (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) * (2).

قال سليمان: زدني جعلت فداك.

قال الرضا: لقد أخبرني أبي عن آبائه (عليهم السلام) عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قال: إن اللّه عز وجل أوحى إلى نبي من أنبيائه أن أخبر فلانا الملك: أني متوفيه إلى كذا وكذا، فأتاه ذلك النبي فأخبره فدعا اللّه الملك وهو على سريره حتى سقط من السرير وقال: يا رب، أجلني حتى يشب طفلي وأقضي أمري، فأوحى اللّه عز وجل إلى ذلك النبي أن أئت فلانا الملك، فأعلمه أني قد أنسيت في أجله وزدت في عمره إلى خمس عشرة سنة، فقال ذلك النبي (عليه السلام): يا رب إنك لتعلم أني لم أكذب قط، فأوحى اللّه عز وجل إليه: إنما أنت عبد مأمور فأبلغه ذلك، واللّه لا يسئل عما يفعل.

ثم التفت إلى سليمان فقال: أحسبك ضاهيت اليهود في هذا الباب.

قال: أعوذ باللّه من ذلك، وما قالت اليهود؟

ص: 37


1- سورة الذاريات: الآية 54
2- سورة الذاريات: الآية 55.

قال: قالت اليهود: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) (1) يعنون أن اللّه تعالى قد فرغ من الأمر فليس يحدث شيئا، فقال اللّه عز وجل: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا) (2) ولقد سمعت قوما سألوا أبي موسى بن جعفر (عليه السلام) عن البداء، فقال: وما ينكر الناس من البداء، وأن يقف اللّه قوما يرجيهم لأمره.

قال سليمان: ألا تخبرني عن (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (3) في أي شئ أنزلت؟ قال: يا سليمان، ليلة القدر يقدر اللّه عز وجل فيها ما يكون من السنة إلى السنة من حياة أو موت أو خير أو شر أو رزق، فما قدره في تلك الليلة فهو من المحتوم.

قال سليمان: الآن قد فهمت جعلت فداك فزدني.

قال الرضا (عليه السلام): إن من الأمور أمورا موقوفة عند اللّه عز وجل يقدم منها ما يشاء ويؤخر ما يشاء، ويمحو ما يشاء، يا سليمان إن عليا (عليه السلام) كان يقول: العلم علمان فعلم علمه اللّه وملائكته ورسله فما علمه ملائكته ورسله فإنه يكون ولا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله، وعلم عنده مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه، يقدم منه ما يشاء ويؤخر منه ما يشاء، ويمحو ما يشاء، ويثبت ما يشاء.

قال سليمان للمأمون: يا أمير المؤمنين، لا أنكر بعد يومي هذا البداء ولا أكذب به إن شاء اللّه.

ص: 38


1- سورة المائدة: الآية 64
2- سورة المائدة: الآية 64
3- سورة القدر: الآية 1.

فقال المأمون: يا سليمان، سل أبا الحسن عما بدا لك، وعليك بحسن الاستماع والإنصاف.

قال سليمان: يا سيدي أسألك؟ قال الرضا (عليه السلام): سل عما بدا لك.

قال: ما تقول فيمن جعل الإرادة اسما وصفة، مثل حي وسميع وبصير وقدير.

قال الرضا (عليه السلام): إنما قلتم: حدثت الأشياء واختلفت لأنه شاء وأراد، ولم تقولوا: حدثت الأشياء واختلفت لأنه سميع بصير، فهذا دليل على أنهما ليستا مثل سميع ولا بصير ولا قدير.

قال سليمان: فإنه لم يزل مريدا.

قال (عليه السلام): يا سليمان فإرادته غيره.

قال: نعم.

قال: فقد أثبت معه شيئا غيره لم يزل.

قال سليمان: ما أثبت.

قال الرضا (عليه السلام): أهي محدثة؟ قال سليمان: لا، ما هي محدثة.

فصاح به المأمون وقال: يا سليمان، مثله يعايى أو يكابر؟ عليك بالإنصاف أما ترى من حولك من أهل النظر؟ ثم قال: كلمه يا أبا الحسن فإنه متكلم خراسان، فأعاد عليه المسألة.

ص: 39

فقال: هي محدثة يا سليمان، فإن الشئ إذا لم يكن أزليا كان محدثا، وإذا لم يكم محدثا كان أزليا.

قال سليمان: إرادته منه كما أن سمعه وبصره وعلمه منه.

قال الرضا (عليه السلام): فأراد نفسه؟ قال: لا.

قال: فليس المريد مثل السميع البصير؟ قال سليمان: إنما أراد نفسه وعلم نفسه.

قال الرضا (عليه السلام): ما معنى أراد نفسه؟ أراد أن يكون شيئا، وأراد أن يكون حيا أو سميعا أو بصيرا أو قديرا؟ قال: نعم.

قال الرضا (عليه السلام): أفبإرادته كان ذلك؟ قال سليمان: نعم.

قال الرضا (عليه السلام): فليس لقولك أراد أن يكون حيا سميعا بصيرا معنى، إذا لم يكن ذلك بإرادته.

قال سليمان: بلى قد كان ذلك بإرادته.

فضحك المأمون ومن حوله، وضحك الرضا (عليه السلام)، ثم قال لهم: ارفقوا بمتكلم خراسان، فقال: يا سليمان فقد حال عندكم عن حاله وتغير عنها، وهذا ما لا يوصف اللّه عز وجل به فانقطع.

ثم قال الرضا (عليه السلام): يا سليمان أسألك عن مسألة.

ص: 40

قال: سل جعلت فداك.

قال: أخبرني عنك وعن أصحابك، تكلمون الناس بما تفقهون وتعرفون، أو بما لا تفقهون ولا تعرفون؟

قال: بل بما نفقه ونعلم.

قال الرضا (عليه السلام): فالذي يعلم الناس أن المريد غير الإرادة، وأن المريد قبل الإرادة، وأن الفاعل قبل المفعول، وهذا يبطل قولكم أن الإرادة والمريد شئ واحد.

قال: جعلت فداك ليس ذلك منه على ما يعرف الناس ولا على ما يفقهون.

قال الرضا (عليه السلام): فأراكم ادعيتم علم ذلك بلا معرفة وقلتم: الإرادة كالسمع والبصر، إذا كان ذلك عندكم على ما لا يعرف ولا يعقل، فلم يحر جوابا.

ثم قال الرضا (عليه السلام): يا سليمان، هل يعلم اللّه جميع ما في الجنة والنار؟

قال سليمان: نعم.

قال: أفيكون ما علم اللّه تعالى أنه يكون من ذلك؟

قال: نعم.

قال: فإذا كان حتى لا يبقى منه شئ إلا كان، أيزيدهم أو يطويه عنهم؟

قال سليمان: بل يزيدهم.

قال: فأراه في قولك قد زادهم ما لم يكن في علمه أنه يكون.

قال: جعلت فداك، فالمريد لا غاية له.

قال: فليس يحيط علمه عندكم بما يكون فيهما، إذا لم يعرف غاية ذلك،

ص: 41

وإذا لم يحط علمه بما يكون فيهما لم يعلم ما يكون فيهما قبل أن يكون تعالى اللّه عز وجل عن ذلك علوا كبيرا.

قال سليمان: إنما قلت: لا يعلمه لأنه لا غاية لهذا لأن اللّه عز وجل وصفهما بالخلود وكرهنا أن نجعل لهما انقطاعا.

قال الرضا (عليه السلام): ليس علمه بذلك بموجب لانقطاعه عنهم لأنه قد يعلم ذلك ثم يزيدهم ثم لا يقطعه عنهم، وكذلك قال اللّه عز وجل في كتابه: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) (1) وقال لأهل الجنة: (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (2) وقال عز وجل: (وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ) (3) فهو عز وجل يعلم ذلك ولا يقطع عنهم الزيادة، أرأيت ما أكل أهل الجنة وما شربوا ليس يخلف مكانه؟

قال: بلى.

قال: أفيكون يقطع ذلك عنهم وقد أخلف مكانه؟

قال سليمان: لا.

قال: فكذلك كلما يكون فيها إذا أخلف مكانه فليس بمقطوع عنهم؟

قال سليمان: بلى يقطعه عنهم ولا يزيدهم.

قال الرضا (عليه السلام): إذا يبيد فيها، وهذا يا سليمان إبطال الخلود وخلاف

ص: 42


1- سوره النساء: الآية 56
2- سورة هود: الآية 108
3- سورة الواقعة: الآية 32 و 33.

الكتاب، لأن اللّه عز وجل يقول: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) (1) ويقول عز وجل: (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (2) ويقول عز وجل: (وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) (3) ويقول عز وجل: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) (4) ويقول عز وجل:

(وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ) (5).

فلم يحر جوابا؟! ثم قال الرضا (عليه السلام): يا سليمان، ألا تخبرني عن الإرادة فعل هي أم غير فعل؟ قال: بلى هي فعل.

قال (عليه السلام): فهي محدثة لأن الفعل كله محدث.

قال: ليست بفعل.

قال: فمعه غيره لم يزل.

قال سليمان: الإرادة هي الإنشاء.

قال: يا سليمان، هذا الذي عبتموه على ضرار وأصحابه من قولهم: إن كل ما خلق اللّه عز وجل في سماء أو أرض أو بحر أو بر من كلب أو خنزير أو قرد أو إنسان أو دابة إرادة اللّه، وإن إرادة اللّه تحيى وتموت وتذهب وتأكل وتشرب

ص: 43


1- سورة ق: الآية 35
2- سورة هود: الآية 108
3- سورة الحجر: الآية 48
4- سورة النساء: الآية 57
5- سورة الواقعة: الآية 32 و 33.

وتنكح وتلد وتظلم وتفعل الفواحش وتكفر وتشرك، فيبرأ منها ويعاد بها، وهذا حدها.

قال سليمان: إنها كالسمع والبصر والعلم.

قال الرضا (عليه السلام): قد رجعت إلى هذا ثانية، فأخبرني عن السمع والبصر والعلم أمصنوع؟

قال سليمان: لا.

قال الرضا (عليه السلام): فكيف نفيتموه؟

قلتم: لم يرد، ومرة قلتم: أراد وليست بمفعول له.

قال سليمان: إنما ذلك كقولنا مرة علم ومرة لم يعلم.

قال الرضا (عليه السلام): ليس ذلك سواء، لأن نفي المعلوم ليس كنفي العلم، ونفي المراد نفي الإرادة أن تكون، لأن الشئ إذا لم يرد لم تكن إرادة، فقد يكون العلم ثابتا، وإن لم يكن المعلوم بمنزلة البصر فقد يكون الإنسان بصيرا وإن لم يكن المبصر، وقد يكون العلم ثابتا وإن لم يكن المعلوم.

قال سليمان: إنها مصنوعة.

قال: فهي محدثة ليست كالسمع والبصر، لأن السمع والبصر ليسا بمصنوعين وهذه مصنوعة.

قال سليمان: إنها صفة من صفاته لم تزل.

قال: فينبغي أن يكون الإنسان لم يزل، لأن صفته لم تزل.

قال سليمان: لا لأنه لم يفعلها.

ص: 44

قال الرضا (عليه السلام): يا خراساني، ما أكثر غلطك! أفليس بإرادته وقوله تكون الأشياء؟

قال سليمان: لا.

قال: فإذا لم تكن بإرادته ولا مشيئته ولا أمره ولا بالمباشرة فكيف يكون ذلك؟ تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.

فلم يحر جوابا؟!

ثم قال الرضا (عليه السلام): ألا تخبرني عن قول اللّه عز وجل: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا) (1).

يعني بذلك أنه يحدث إرادة.

قال له: نعم.

قال (عليه السلام): فإذا حدث إرادة كان قولك إن الإرادة هي هو أو شئ منه باطلا، لأنه لا يكون أن يحدث نفسه، ولا يتغير عن حالة تعالى اللّه عن ذلك.

قال سليمان: إنه لم يكن عنى بذلك أنه يحدث إرادة.

قال: فما عنى به؟

قال: عنى فعل الشئ.

قال الرضا (عليه السلام): ويلك كم تردد في هذه المسألة؟ وقد أخبرتك أن الإرادة محدثة لأن فعل الشئ محدث.

قال: فليس لها معنى.

ص: 45


1- سورة الإسراء: الآية 16.

قال الرضا (عليه السلام): قد وصف نفسه عندكم حتى وصفها بالإرادة بما لا معنى له، فإذا لم يكن لها معنى قديم ولا حديث بطل قولكم إن اللّه عز وجل لم يزل مريدا.

قال سليمان: إنما عنيت أنها فعل من اللّه تعالى لم يزل.

قال: ألا تعلم أن ما لم يزل لا يكون مفعولا وقديما وحديثا في حالة واحدة؟ فلم يحر جوابا؟! قال الرضا (عليه السلام): لا بأس أتمم مسألتك.

قال سليمان: قلت إن الإرادة صفة من صفاته.

قال: كم تردد علي أنها صفة من صفاته فصفته محدثة أو لم تزل؟ قال سليمان: محدثة.

قال الرضا (عليه السلام): اللّه أكبر فالإرادة محدثة وإن كانت صفة من صفاته لم تزل.

فلم يرد شيئا.

قال الرضا (عليه السلام): إنما لم يزل لم يكن مفعولا.

قال سليمان: ليس الأشياء إرادة، ولم يرد شيئا.

قال الرضا (عليه السلام): وسوست يا سليمان، فقد فعل وخلق ما لم يزل خلقه وفعله، وهذه صفة من لا يدري ما فعل، تعالى اللّه عن ذلك.

قال سليمان: يا سيدي فقد أخبرتك أنها كالسمع والبصر والعلم.

قال المأمون: ويلك يا سليمان، كم هذا الغلط والتردد؟ اقطع هذا وخذ في

ص: 46

غيره، إذ لست تقوى على غير هذا الرد.

قال الرضا (عليه السلام): دعه يا أمير المؤمنين، لا تقطع عليه مسألته فيجعلها حجة، تكلم يا سليمان.

قال: قد أخبرتك أنها كالسمع والبصر والعلم.

قال الرضا (عليه السلام): لا بأس أخبرني عن معنى هذه أمعنى واحد أم معان مختلفة؟

قال سليمان: معنى واحد.

قال الرضا (عليه السلام): فمعنى الإرادات كلها معنى واحد؟

قال سليمان: نعم.

قال الرضا (عليه السلام): فإن كان معناها معنى واحدا كانت إرادة القيام إرادة القعود، وإرادة الحياة إرادة الموت، إذا كانت إرادته واحدة لم تتقدم بعضها بعضا ولم يخالف بعضها بعضا وكانت شيئا واحدا.

قال سليمان: إن معناها مختلف.

قال (عليه السلام): فأخبرني عن المريد أهو الإرادة أو غيرها؟

قال سليمان: بل هو الإرادة.

قال الرضا (عليه السلام): فالمريد عندكم مختلف إذا كان هو الإرادة.

قال: يا سيدي ليس الإرادة المريد.

قال: فالإرادة محدثة وإلا فمعه غيره، افهم وزد في مسألتك.

قال سليمان: بل هي اسم من أسمائه.

ص: 47

قال الرضا (عليه السلام): هل سمى نفسه بذلك؟ قال سليمان: لا، لم يسم نفسه بذلك.

قال الرضا (عليه السلام): فليس لك أن تسميه بما لم يسم به نفسه.

قال: قد وصف نفسه بأنه مريد.

قال الرضا (عليه السلام): ليس صفته نفسه أنه مريد إخبار عن أنه إرادة ولا إخبار عن أن الإرادة اسم من أسمائه.

قال سليمان: لأن إرادته علمه.

قال الرضا (عليه السلام): يا جاهل، فإذا علم الشئ فقد أراده؟ قال سليمان: أجل.

فقال: فإذا لم يرده لم يعلمه.

قال سليمان: أجل.

قال: من أين قلت ذاك؟ وما الدليل على إرادته علمه؟ وقد يعلم ما لا يريده أبدا، وذلك قوله عز وجل: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) (1) فهو يعلم كيف يذهب به وهو لا يذهب به أبدا؟

قال سليمان: لأنه قد فرغ من الأمر، فليس يزيد فيه شيئا.

قال الرضا (عليه السلام): هذا قول اليهود، فكيف قال تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (2)؟

ص: 48


1- سورة الإسراء: الآية 86
2- سورة غافر: الآية 60.

قال سليمان: إنما عنى بذلك أنه قادر عليه.

قال: أفيعد ما لا يفي به، فكيف قال: (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ) (1) وقال عز وجل: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) (2) وقد فرغ من الأمر.

فلم يحر جوابا؟!

قال الرضا (عليه السلام): يا سليمان، هل يعلم أن إنسانا يكون، ولا يريد أن يخلق إنسانا أبدا، وأن إنسانا يموت اليوم ولا يريد أن يموت اليوم.

قال سليمان: نعم.

قال الرضا (عليه السلام): فيعلم أنه يكون ما يريد أن يكون، أو يعلم أنه يكون ما لا يريد أن يكون؟

قال: يعلم أنهما يكونان جميعا.

قال الرضا (عليه السلام): إذا يعلم أن إنسانا حي ميت قائم قاعد أعمى بصير في حالة واحدة، وهذا هو المحال.

قال: جعلت فداك، فإنه يعلم أنه يكون أحدهما دون الآخر؟ قال: لا بأس، فأيهما يكون الذي أراد أن يكون أو الذي لم يرد أن يكون؟

قال سليمان: الذي أراد أن يكون.

فضحك الرضا (عليه السلام) والمأمون وأصحاب المقالات.

ص: 49


1- سورة فاطر: الآية 1
2- سورة الرعد: الآية 39.

قال الرضا (عليه السلام): غلطت وتركت قولك: إنه يعلم أن إنسانا يموت اليوم وهو لا يريد أن يموت اليوم، وأنه يخلق خلقا وأنه لا يريد أن يخلقهم، وإذا لم يجز العلم عندكم بما لم يرد أن يكون فإنما يعلم أن يكون ما أراد أن يكون.

قال سليمان: فإنما قولي أن الإرادة ليست هو ولا غيره.

قال الرضا (عليه السلام): يا جاهل، إذا قلت: ليست هو فقد جعلتها غيره وإذا قلت:

ليست هي غيره فقد جعلتها هو.

قال سليمان: فهو يعلم كيف يصنع الشئ؟

قال: نعم.

قال سليمان: فإن ذلك إثبات للشئ.

قال الرضا (عليه السلام): أحلت، لأن الرجل قد يحسن البناء وإن لم يبن، ويحسن الخياطة وإن لم يخط، ويحسن صنعة الشئ وإن لم يصنعه أبدا، ثم قال له (عليه السلام): يا سليمان هل تعلم أنه واحد لا شئ معه؟

قال: نعم.

قال الرضا (عليه السلام): فيكون ذلك إثباتا للشئ؟

قال سليمان: ليس يعلم أنه واحد لا شئ معه.

قال الرضا (عليه السلام): أفتعلم أنت ذاك؟

قال: نعم.

قال: فأنت يا سليمان أعلم منه إذا.

قال: سليمان: المسألة محال.

ص: 50

قال: محال عندك أنه واحد لا شئ معه، وأنه حي سميع بصير حكيم قادر؟

قال: نعم.

قال: فكيف أخبر عز وجل: أنه واحد حي سميع بصير حكيم قادر عليم خبير وهو لا يعلم ذلك، وهذا رد ما قال وتكذيبه، تعالى اللّه عن ذلك.

ثم قال له الرضا (عليه السلام): فكيف يريد صنع ما لا يدري صنعه ولا ما هو؟ وإذا كان الصانع لا يدري كيف يصنع الشئ قبل أن يصنعه فإنما هو متحير، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.

قال سليمان: فإن الإرادة القدرة.

قال الرضا (عليه السلام): وهو عز وجل يقدر على ما لا يريده أبدا ولا بد من ذلك، لأنه قال تبارك وتعالى: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) (1) فلو كانت الإرادة هي القدرة كان قد أراد أن يذهب به لقدرته.

فانقطع سليمان.

فقال المأمون عند ذلك: يا سليمان، هذا أعلم هاشمي، ثم تفرق القوم (2).

ص: 51


1- سورة الإسراء: الآية 86
2- عيون أخبار الرضا (عليهم السلام) للصدوق: ج 2 ص 159 - 168 ب 13، التوحيد للصدوق: ص 441 - 454 ب 66 ح 1، بحار الأنوار للمجلسي: ج 10 ص 329 - 338 ح 2.

المناظرة السادسة: مناظرة الكراجكي مع أحد المعتزلة في مسألة البداء

إعلم - أيدك اللّه تعالى - أن أصحابنا دون المتكلمين يقولون بالبداء، ولهم في نصرة القول به كلام، ومعهم فيه آثار.

وقد استشنع ذلك منهم مخالفوهم، وشنع عليهم به مناظروهم، وإنما استشنعوه لظنهم أنه يؤدي إلى القول بأن اللّه تعالى علم في البداء ما لم يكن يعلم، فإذا قدر الناصر للبداء على الاحتراز من هذا الموضع فقد أحسن، ولم يبق عليه أكثر من إطلاق اللفظ، وقد قلنا إن ذلك قد ورد به السمع، وقد اتفق لي فيه كلام مع أحد المعتزلة بمصر، أنا أحكيه، لتقف عليه.

كنت سألت معتزليا، حضرت معه مجلسا، فيه قوم من أهل العلم، فقلت له: لم أنكرت القول بالبداء؟ وزعمت أنه لا يجوز على اللّه تعالى.

فقال: لأنه يقتضي ظهور أمر لله سبحانه كان عنه مستورا، وفي هذا أنه قد تجدد له العلم بما لم يكن به عالما.

فقلت له: أبن لنا من أين علمت أنه يوجب ذلك، وتقتضيه، ليسع الكلام معك فيه؟ فقال: هذا هو معنى البداء، والتعارف يقضي بيننا، ولسنا نشك أن البداء هو الظهور، ولا يبدو للآمر إلا لظهور شئ تجدد من علم أو ظن لم يكن معه من قبل.

ص: 52

وبيان ذلك: أن طبيبا لو وصف لعليل أن يشرب في وقته شراب الورد، حتى إذا أخذ العليل القدح بيده ليشرب ما أمره به، قال له الطبيب في الحال: صبه ولا تشربه، وعليك بشرب النيلوفر (1) بدله، فلسنا نشك في أن الطبيب قد استدرك الأمر وظهر له من حال العليل ما لم يكن عالما به من قبل، فغير عليه الأمر لما تجدد له من العلم، ولولا ذلك لم يكن معنى لهذا الاختلاف.

فقلت له: هذا مما في الشاهد وهو من البداء، فيجوز عندك أن يكون في البداء قسم غير هذا؟ فقال: لا أعلم في الشاهد غير هذا القسم، ولا أرى أنه يجوز في البداء قسم غيره ولا يعلم.

فقلت له: ما تقول في رجل له عبد، أراد أن يختبر حاله وطاعته من معصيته، ونشاطه من كسله، فقال له في يوم شديد البرد: سر لوقتك هذا إلى مدينة كذا، لتقبض مالا لي بها، فأحسن العبد لسيده الطاعة، وقدم المبادرة، ولم يحتج بحجة، فلما رأى سيده مسارعته، وعرف شهامته ونهضته، شكره على ذلك، وقال له: أقم على حالك، فقد عرفت أنك موضع للصنيعة، وأهل للتعويل عليك في الأمور العظيمة، أيجوز عندك هذا؟ وإن جاز فهل هذا داخل في البداء أم لا؟

فقال: هذا مستعمل ورأينا في الشاهد، وقد بدا فيه للسيد، وليس هو قسما ثانيا، بل هو بعينه الأول، هو الذي لا يجوز على اللّه عز وجل.

ص: 53


1- النيلوفر: نبات مائي من فصيلة النيلوفريات، ورقه كبير مستدير يعوم على صفحة الماء، وأزهاره جميلة كثيرة القعالات، تعوم أيضا، منه أنواع تعيش في مستنقعات وبحيرات القارة القديمة، ومنه نوع جعل منه المصريون الأقدمون موضوعا. المنجد: ص 850.

فقلت له: لم جعلت الجمع بينهما من حيث ذكرت أولى من التفرقة بينهما، من حيث كان أحدهما مريدا لإتمام قبل أن يبدو له فيه فينهى عنه، وهو الطبيب، والآخر غير مريد لإتمامه على كل وجه، وهو سيد العبد، بل كيف لم تفرق بينهما من حيث أن الطبيب لم يجز قط أن يقع منه اختلاف الأمر إلا لتجدد علم له لم يكن، وسيد العبد يجوز أن يقع منه النهي بعد الأمر من غير أن يتجدد له علم، ويكون عالما بنهضته في الحالين، ومسارعته إلى ما أحب، وإنما أمره بذلك ليعلم الحاضرون حسن طاعته، ومبادرته إلى أمره، وأنه ممن يجب اصطفاؤه، والإحسان إليه، والتعويل في الأمور عليه.

قال: فإذا سلمت لك الفرق بينهما، فما تنكر أن يكون دالا على أن مثالك الذي أتيت به غير داخل في البداء؟ قلت: أنكرت ذلك من قبل أن البداء عندنا جميعا نهي الآمر عما أمر به قبل وقوعه في وقته، وإذا كان هذا هو الحد المراعى فهو موجود في مثالنا، وقد أجمع العقلاء أيضا على أن السيد فيه قد بدا له فيما أمر به عبده.

قال: فإذا دخل القسمان في البداء، فما الذي تجيز على اللّه تعالى منهما؟ فقلت أقربهما إلى قصة إبراهيم الخليل (عليه السلام) وأشبههما لما أمر اللّه تعالى في المنام بذبح ولده إسماعيل (عليه السلام)، فلما سارع إلى المأمور راضيا بالمقدور، وأسلما جميعا صابرين، وتله للجبين، نهاه اللّه عن الذبح بعد متقدم الأمر، وأحسن الثناء عليهما، وضاعف لهما الأجر.

وهذا نظير ما مثلت من أمر السيد وعبده، وهو النهي عن المأمور به قبل وقوع فعله.

ص: 54

قال: فمن سلم لك أن إبراهيم (عليه السلام) مأمور بذلك من قبل اللّه سبحانه؟

قلت: سلمه لي من يقر بأن منامات الأنبياء (عليهم السلام) صادقة، ويعترف بأنها وحي اللّه في الحقيقة، وسلمه لي من يؤمن بالقرآن، ويصدق ما فيه من الأخبار.

وقد تضمن الخبر عن إسماعيل أنه قال لأبيه: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) (1)، وقول اللّه تعالى لإبراهيم: (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) وثناؤه عليه، حيث قال: (كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (2). وليس بمحسن من امتثل غير أمر اللّه تعالى في ذبح ولده، وهذا واضح لمن أنصف من نفسه.

قال: فإني لا أسمي هذا بداء.

فقلت له: ما المانع لك من ذلك، أتوجه الحجة عليك به، أم مخالفته للمثال المتقدم ذكره؟ فقال: يمنعني من أن أسميه البداء، أن البداء لا يكشف إلا عن متجدد علم لمن بدا له، وظهوره له بعد ستره، وليس في قصة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) ما يكشف عن تجدد علم اللّه سبحانه، ولا يجوز ذلك عليه، فلهذا قلت إنه ليس ببداء.

فقلت له: هذا خلاف ما سلمته لنا من قبل، وأقررت به، من أن سيد العبد يجوز أن يأمره بما ذكرناه، ثم يمنعه مما أمره به وينهاه، مع علمه بأنه يطيعه في الحالين لغرضه في كشف أمره للحاضرين.

ص: 55


1- سورة الصافات: الآية 102
2- سورة الصافات: الآية 105.

ثم يقال لك: ما تنكر من إطلاق اللفظ بالابتداء في قصة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام)، لأنها كشفت لهما عن علم متجدد، ظهر لهما، كان ظنهما سواه، وهو إزالة هذا التكليف بعد تعلقه، والنهي عن الذبح بعد الأمر به.

قال: أفتقول إن اللّه تعالى أراد الذبح لما أمر به أم لم يرده؟

واعلم أنك إن قلت: إنه لم يرده دخلت في مذاهب المجبرة، لقولك إن اللّه تعالى أمر بما لا يريده.

وكذلك إن قلت: إنه أراده دخلت في مذهبهم أيضا، من حيث أنه نهى عما أراده، فما خلاصك من هذا؟

فقلت له: هذه شبهة يقرب أمرها، والجواب عنها لازم لنا جميعا، لتصديقنا بالقصة، وإقرارنا بها.

وجوابي فيها أن الذبح في الحقيقة هو تفرقة الأجزاء، ثم قد تسمى الأفعال التي في مقدمات الذبح، مثل القصد، والإضجاع، وأخذ الشفرة، ووضعها على الحلق، ونحو ذلك، ذبحا مجازا واتساعا.

ونظير ذلك أن الحاج في الحقيقة هو زائر بيت اللّه تعالى، على منهاج ما قررته الشريعة، من الإحرام، والطواف، والسعي، وقد يقال لمن شرع في حوائجه لسفره في حجة من قبل أن يتوجه إليه، أنه حاج اتساعا ومجازا.

فأقول: إن مراد اللّه تعالى فيما أمر به لخليله إبراهيم (عليه السلام) من ذبح ولده، إنما كان مقدمات الذبح، من الاعتقاد أولا والقصد، ثم الاضطجاع للذبح، ترك الشفرة على الحلق، وهذه الأفعال الشاقة التي ليس بعدها غير الإتمام بتفرقة أجزاء الحلق.

ص: 56

وعبر عن ذلك بلفظ الذبح، ليصح من إبراهيم (عليه السلام) الاعتقاد له، والصبر على المضض فيه، الذي يستحق جزيل الثواب عليه، ولو فسر له في الأمر المراد على التعيين لما صح منه الاعتقاد للذبح، ولا كان ما أمر به شاقا، يستحق عليه الثناء، والمدح، وعظيم الأجر، والذي نهى اللّه تعالى عنه هو الذبح في الحقيقة، وهو الذي لم يبق غيره، ولم تتعلق الإرادة قط به، فقد صح بهذا أن اللّه تعالى لم يأمر بما لا يريد، ولا نهى عما أراد، والحمد لله.

قال الخصم: فقد انتهى قولك إلى أن الذي أمر به غير الذي نهى عنه، وليس هذا هو البداء.

فقلت له: أما في ابتداء الأمر فما ظن إبراهيم (عليه السلام) إلا أن المراد هو الحقيقة، وكذلك كان ظن ولده إسماعيل (عليه السلام)، فلما انكشفت بالنهي لهما ما علماه مما كان ظنهما سواه، كان ظاهره بداء، لمشابهته لحال من يأمر بالشئ، وينهى عنه بعينه في وقته، وليستسلمه على ظاهر الأمر دون باطنه.

فلم يرد على ما ذكرت شيئا، وهذا الذي اتفق لي من الكلام في البداء (1).

ص: 57


1- كنز الفوائد للكراجكي: ج 1 ص 227 - 232.

ص: 58

الجبر والتفويض

اشارة

ص: 59

ص: 60

المناظرة السابعة: مناظرة البهلول مع أبي حنيفة في ثلاث مسائل

المناظرة السابعة مناظرة البهلول (1) مع أبي حنيفة في ثلاث مسائل

روي في بعض الكتب إن البهلول أتى إلى المسجد يوما وأبو حنيفة يقرر

ص: 61


1- هو: أبو وهيب بهلول بن عمر الصيرفي الكوفي، ولد بالكوفة وعن مجالس المؤمنين، أن بهلولا كان من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) وأنه كان يستعمل التقية، وإن الرشيد كان يسعى في قتل الإمام الكاظم (عليه السلام)، ويحتال في ذلك، فأرسل إلى حملة الفتوى يستفتيهم في إباحة دمه متهما إياه بإرادة الخروج عليه، ومنهم البهلول، فخاف من هذا واستشار الكاظم (عليه السلام) فأمره بإظهار الجنون ليسلم، وفي روضات الجنات: إن الرشيد أراد منه أن يتولى القضاء، فأبى ذلك، وأراد أن يتخلص منه فأظهر الجنون، فلما أصبح تجانن وركب قصبة ودخل السوق وكان يقول: طرقوا خلوا الطريق لا يطأكم فرسي، فقال الناس: جن بهلول، فقال هارون: ما جن ولكن فر بدينه منا، وبقي على ذلك إلى أن مات، ويظهر من أخباره ومناظراته إنه كان من أهل الموالاة والتشيع لأهل البيت (عليه السلام) عن بصيرة نافذة، وله كلمات حسنة ومواعظ بليغة وأشعار رائقة منها قوله: يا من تمتع بالدنيا وزينتها *** ولا تنام عن اللذات عيناه شغلت نفسك فيما ليس تدركه *** تقول لله ماذا حين تلقاه وقال للرشيد يوما: هب أنك قد ملكت الأرض يوما *** ودان لك العباد فكان ماذا ألست تصير في قبر ويحثو *** عليك ترابه هذا وهذا قيل توفي سنة 190 ه، وقبره ببغداد. راجع ترجمته وأخباره في: أعيان الشيعة للأمين: ج 3 ص 617 - 623، فوات الوفيات للكتبي: ج 1 ص 228 ترجمة رقم: 84، المستفاد من ذيل تاريخ بغداد: ج 19 ص 91 ترجمة رقم: 60، الطبقات الكبرى للشعراني: ج 1 ص 68 رقم: 138، البدايظ والنهاية : ج 10 ص 200 ، عقلاء المجانين للنيسابوري: ص 100.

للناس علومه، فقال في جملة كلامه: أن جعفر بن محمد (الصادق (عليه السلام)) تكلم في مسائل، ما يعجبني كلامه فيها:

الأولى، يقول: إن اللّه سبحانه موجود، لكنه لا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهل يكون موجود لا يرى؟ ما هذه إلا تناقض.

الثانية، إنه قال: إن الشيطان يعذب في النار مع أن الشيطان خلق من النار، فكيف يعذب الشئ بما خلق منه؟!

الثالثة، إنه يقول: إن أفعال العباد مستندة إليهم مع أن الآيات دالة على أنه تعالى فاعل كل شئ!

فلما سمعه بهلول أخذ مداة وضرب بها رأسه وشجه، وصار الدم يسيل على وجهه ولحيته، فبادر إلى الخليفة يشكو من بهلول!!

فلما أحضر بهلول وسئل عن السبب؟ قال للخليفة: إن هذا الرجل غلط جعفر بن محمد (عليهما السلام) في ثلاث مسائل:

الأولى: إن أبا حنيفة يزعم أن الأفعال كلها لا فاعل لها إلا اللّه، فهذه الشجة من اللّه تعالى، وما تقصيري؟!

الثانية: إنه يقول: كل شئ موجود لا بد أن يرى؟! فهذا الوجع في رأسه موجود، مع أنه لا يرى؟!

الثالثة: إنه مخلوق من التراب، وهذه المداة من التراب، وهو يقول: إن الجنس لا يعذب بجنسه، فكيف يتألم من هذه المداة؟

فأعجب الخليفة كلامه، وتخلص من شجة أبي حنيفة (1).

ص: 62


1- شجرة طوبى للحائري: ج 1 ص 48 - 49 (المجلس العشرون)، أعيان الشيعة للأمين: ج 3 ص 618، عن مجالس المؤمنين.

المناظرة الثامنة: مناظرة التيجاني مع أحد العلماء في الجبر

المناظرة الثامنة مناظرة التيجاني (1) مع أحد العلماء في الجبر

قلت لبعض علمائنا بعد استعراض كل هذه المسائل (2): إن القرآن يكذب هذه المزاعم، ولا يمكن للحديث أن يناقض القرآن! قال تعالى في شأن الزواج:

(فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) (3) فهذا يدل على حرية الاختيار، وفي شأن الطلاق: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) (4) وهو أيضا اختيار، وفي الزنا قال: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) (5) وهو أيضا دليل الاختيار، وفي الخمر قال: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ

ص: 63


1- هو: الدكتور محمد التيجاني السماوي التونسي، حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون - باريس، وكان على مذهب الإمام مالك بن أنس، وأخيرا اعتنق المذهب الشيعي بعد بحث طويل في تحقيق مسائل الخلاف بين المذاهب الإسلامية وقد جرت بينه وبين العلماء مناظرات كثيرة في المسائل الخلافية وقد شرح كيفية استبصاره، والأسباب التي دعته إلى الأخذ بمذهب أهل البيت (عليهم السلام) في كتابه الشهير (ثم اهتديت)
2- يعني المسائل المرتبطة بمسائل الجبر
3- سورة النساء: الآية 3
4- سورة البقرة: الآية 229
5- سورة الإسراء: الآية 32.

فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (1) وهي أيضا تنهى بمعنى الاختيار.

أما قتل النفس فقد قال فيها: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) (2) وقال: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (3) فهذه أيضا تفيد الاختيار في القتل.

وحتى بخصوص الأكل والشرب فقد رسم لنا حدودا فقال: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (4) فهذه أيضا بالاختيار.

فكيف يا سيدي بعد هذه الأدلة القرآنية تقولون بأن كل شئ من اللّه، والعبد مسير في كل أفعاله؟؟.

أجابني: بأن اللّه سبحانه هو وحده الذي يتصرف في الكون واستدل بقوله:

(قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (5).

قلت: لا خلاف بيننا في مشيئة اللّه سبحانه، وإذا شاء اللّه أن يفعل شيئا، فليس بإمكان الإنس والجن ولا سائر المخلوقات أن يعارضوا مشيئته! وإنما اختلافنا في أفعال العباد هل هي منهم أم من اللّه؟؟ أجابني: لكم دينكم ولي ديني، وأغلق باب النقاش بذلك، هذه هي في أغلب الأحيان حجة علمائنا.

ص: 64


1- سورة المائدة: الآية 91
2- سورة الأنعام: الآية 151
3- سورة النساء: الآية 93
4- سورة الأعراف: الآية 31
5- سورة آل عمران: الآية 26.

وأذكر أني رجعت إليه بعد يومين وقلت له: إذا كان اعتقادك أن اللّه هو الذي يفعل كل شئ، وليس للعباد أن يختاروا أي شئ، فلماذا لا تقول في الخلافة نفس القول، وأن اللّه سبحانه هو الذي يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة؟

فقال: نعم أقول بذلك، لأن اللّه هو الذي اختار أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي (عليه السلام)، ولو شاء اللّه أن يكون علي هو الخليفة الأول ما كان الجن والإنس بقادرين على منع ذلك. (1)

ص: 65


1- من الواضح أنه خلط بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية، ولم يفرق بينهما - حتى لجأ للقول بمقالة المجبرة - والفرق بينهما إن متعلق الإرادة التكوينية لا يتخلف عنها في الخارج أبدا، قال تعالى: (وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) البقرة / 117، وقال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا) يونس / 99، فلا يتخلف المراد فيها عن الإرادة، أما الإرادة أو المشيئة التشريعية فهي تتعلق بالمكلفين وأفعالهم، فليست خارجة عن إرادتهم واختيارهم، فبقدرتهم إطاعة اللّه تعالى غير ملجئين عليها فيثيبهم اللّه، وبإمكانهم معصيته باختيارهم غير مجبرين عليها فيعاقبهم اللّه، ولو أن اللّه تعالى أجبر العباد على الطاعة أو على المعصية - تعالى اللّه عن ذلك - لبطل الثواب والعقاب، بل أمرهم ونهاهم تشريعا لا تكوينا. أما بالنسبة للمثال المذكور في المناظرة، فنقول: إن اللّه تعالى أراد أن يكون الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو الخليفة الشرعي للنبي (صلى اللّه عليه وآله) تكوينا، فلا بد أن يكون الإمام بإرادة اللّه تعالى ومشيئته، رضي الناس بذلك أم لم يرضوا! وأما اتباع الناس له وطاعتهم له فهو متعلق بالإرادة التشريعية (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) فلا جبر فيها، فشأن أولئك الذين خالفوا أمر اللّه تعالى في أوليائه وأوصيائه، شأن تلك الأمم السالفة التي عصت الرسل وكذبوهم بل هناك من الأمم من قتلت أنبياءها، كما حصل في بني إسرائيل الذين قتلوا سبعين نبيا في ساعة واحدة، فهل يقال: إن اللّه تعالى أراد من بني إسرائيل قتل الأنبياء تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا، هذا وكل شئ بمشيئته غير خارج عنها بمعنى أنه لو أراد تكوينا عدم وقوعها في الخارج لما وقعت، وجرت حكمته تعالى في خلقه أن يمتحنهم بعدما هداهم السبيل (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) غير مكرهين على الفعل ولا مجبورين على عدمه، بل هو أمر بين أمرين كما في الأخبار.

قلت: الآن وقعت.

قال: كيف وقعت؟

قلت: إما أن تقول بأن اللّه اختار الخلفاء الراشدين الأربعة، ثم بعد ذلك ترك الأمر للناس يختارون من شاؤوا.

وإما أن تقول: بأن اللّه لم يترك للناس الاختيار، وإنما يختار هو كل الخلفاء من وفاة الرسول إلى قيام الساعة؟

أجاب: أقول بالثاني (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ...) (1).

قلت: إذا فكل انحراف وكل ضلالة وكل جريمة وقعت في الإسلام بسبب الملوك والأمراء فهي من اللّه، لأنه هو الذي أمر هؤلاء على رقاب المسلمين؟

أجاب: وهو كذلك، ومن الصالحين من قرأ: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) (2) أي جعلناهم أمراء.

قلت متعجبا: إذا فقتل علي (عليه السلام) على يد ابن ملجم، وقتل الحسين بن علي (عليه السلام) أراده اللّه؟؟

فقال منتصرا: نعم طبعا - ألم تسمع قول الرسول لعلي: «أشقى الآخرين الذي يضربك على هذه حتى تبتل هذه، وأشار إلى رأسه ولحيته (3) كرم اللّه

ص: 66


1- سورة آل عمران: الآية 26
2- سورة الإسراء: الآية 16
3- ترجمة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) من تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 3 ص 342 ح 1389 - 1392، بحار الأنوار للمجلسي: ج 42 ص 195 ح 13.

وجهه».

وكذلك سيدنا الحسين (عليه السلام) قد علم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بمقتله في كربلاء، وحدث أم سلمة بذلك (1)، كما علم بأن سيدنا الحسن سيصلح اللّه به فرقتين عظيمتين من المسلمين (2)، فكل شئ مسطر ومكتوب في الأزل، وليس للإنسان مفر، وبهذا أنت الذي وقعت لا أنا.

سكت قليلا أنظر إليه وهو مزهو بهذا الكلام، وظن أنه أفحمني بالدليل، كيف لي أن أقنعه بأن علم اللّه بالشئ لا يفيد حتما بأنه هو الذي قدره وأجبر الناس عليه، وأنا أعلم مسبقا بأن فكره لا يستوعب مثل هذه النظرية.

وسألته من جديد: إذا فكل الرؤساء والملوك قديما وحديثا والذين يحاربون الإسلام والمسلمين نصبهم اللّه؟!

قال: نعم بدون شك.

قلت: حتى الاستعمار الفرنسي على تونس والجزائر والمغرب هو من اللّه!؟

قال: بلى، لما جاء الوقت المعلوم خرجت فرنسا من تلك الأقطار.

قلت: سبحان اللّه! فكيف كنت تدافع سابقا عن نظرية أهل السنة بأن

ص: 67


1- راجع: مقتل الحسين للخوارزمي: ج 1 ص 159 - 163، ترجمة الإمام الحسين (عليه السلام) من تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ص 247 - 259 ح 221 - 228 و ص 270 ح 236
2- راجع: بحار الأنوار: ج 43 ص 293 ح 54، فرائد السمطين للجويني: ج 2 ص 115 ح 418، ترجمة الإمام الحسن (عليه السلام) من تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ص 83 ح 143 و ص 125 - 134 ح 200 - 223.

رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) مات وترك الأمر شورى بين المسلمين ليختاروا من يشاؤون؟ قال: نعم، ولا زلت على ذلك، وسأبقى على ذلك إن شاء اللّه! قلت: فكيف توفق بين القولين: اختيار اللّه واختيار الناس بالشورى؟

قال: بما أن المسلمين اختاروا أبا بكر فقد اختاره اللّه! قلت: أنزل عليهم الوحي في السقيفة يدلهم على اختيار الخليفة؟

قال: أستغفر اللّه، ليس هناك وحي بعد محمد (صلى اللّه عليه وآله) (والشيعة كما هو معروف لا يعتقدون بهذا وإنما هي تهمة ألصقها بهم أعداؤهم).

قلت: دعنا من الشيعة، وأقنعنا بما عندك! كيف علمت بأن اللّه اختار أبا بكر؟

قال: لو أراد اللّه خلاف ذلك لما تمكن المسلمون، ولا العالمون خلاف ما يريده اللّه تعالى.

عرفت حينئذ أن هؤلاء لا يفكرون، ولا يتدبرون القرآن، وعلى رأيهم سوف لن تستقيم أية نظرية فلسفية أو علمية (1).

ص: 68


1- مع الصادقين للدكتور التيجاني السماوي: ص 133 و 138.

الصفات المنافية لجلال اللّه تعالى

اشارة

ص: 69

ص: 70

المناظرة التاسعة: مناظرة السيد محمد جواد المهري مع بعضهم في نفي الصفات المنافية لجلال اللّه، والصفات المنافية لشخصية النبي (صلى اللّه عليه وآله)

اشارة

دخلت غرفة المعلمين في ساعة محددة، ووجدت أن الوضع قد اختلف هذه المرة، فقد كان ثلاثة من مدرسي الدين واللغة العربية جالسين إلى جانب مدرسنا، وقد أضفت الوجوه العابسة والملامح الغاضبة صمتا مطلقا، زاد من الرهبة التي تسود جو الغرفة.

دخلت الغرفة متوكلا على اللّه وواثقا بنصرة أهل البيت (عليهم السلام).

قدم لي الأستاذ سائر المدرسين وابتسم قائلا: لقد أطلعتهم على قضية نقاشنا، ورأوا من المصلحة المشاركة في هذا اللقاء.

واصلت حديث الأسبوع الماضي بتقديم مسرد يتضمن أسماء التفاسير والمفسرين الذين ذكروا أن الآية المذكورة نزلت بشأن علي (عليه السلام).

فجأة صاح أحد المدرسين بحدة وقد بدأ الغضب ظاهرا عليه: لكن العلامة الكبير ابن تيمية لا يقر بمثل هذا التفسير للآية على الإطلاق، وهو يخطئ الشيعة!

قلت: إن لم تكن له نوايا سيئة، ولا يضمر العداء لأهل البيت (عليهم السلام)، فهو

ص: 71

مخطئ في هذا المجال قطعا، فهل من الممكن أن يكون جميع العلماء الكبار والمحققون المتعمقون وأكابر مفسري القرآن الكريم الذين يجمعون كلهم على قضية واحدة مخطئين، وابن تيمية وحده على صواب؟ ثم إننا نرد على كل اعتراض من خلال الاستدلال بالقرآن والسنة، وأنتم أيضا اعرضوا مؤاخذاتكم فإن عجزت عن الإجابة عليها يحق لكم حينئذ إدخال ابن تيمية في الحديث، فما معنى أن تحشره في الحديث بدون أي مقدمات؟ دهش من شدة جرأتي، والتفت إلى أستاذنا وهو مضطرب وقال: أنا أتعجب منك كيف تصغي لكلام طفل؟! وتجعل اعتقادك ألعوبة بيد الشيعة؟ أحب أن أنبهك إلى أن هؤلاء لديهم مصحف خاص اسمه «مصحف فاطمة (عليها السلام)» (1)، وهم لا يعترفون بالخلفاء، وحتى أن لهم رأي آخر في

ص: 72


1- روي عن حماد بن عثمان أنه سأل الإمام الصادق (عليه السلام) عن مصحف فاطمة (عليها السلام)؟ فقال (عليه السلام): إن اللّه تبارك وتعالى لما قبض نبيه (صلى اللّه عليه وآله) دخل على فاطمة (عليها السلام) من وفاته من الحزن ما لا يعلمه إلا اللّه عز وجل، فأرسل إليها ملكا يسلي عنها غمها ويحدثها، فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال لها: إذا أحسست بذلك وسمعت الصوت قولي لي، فأعلمته فجعل يكتب كلما سمع حتى أثبت من ذلك مصحفا، ثم قال: أما إنه ليس من الحلال والحرام، ولكن فيه علم ما يكون. بصائر الدرجات: ج 3 ص 177 ح 18 ب 14، وعنه بحار الأنوار: ج 43 ص 80 ح 68. وقد صرح أهل البيت (عليهم السلام) بأنه لا يوجد فيه شئ من القرآن الكريم، وإنما فيه ما يخصهم من الأخبار وما يجري عليهم، وعلم ما كان وما يكون. فلاحظ ما رواه أبو جعفر محمد بن الحسن الصفار (المتوفى سنة 290 ه) في البصائر عن بعض الرواة، وإليك بعضها على سبيل المثال: ح 1 - الحسين بن أبي العلاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: عندي الجفر الأبيض - إلى أن قال -: ومصحف فاطمة ما أزعم أن فيه قرآنا... ح 2 - عن محمد بن عبد الملك عن الإمام الصادق (عليه السلام)... وعندنا مصحف فاطمة أما واللّه ما هو بالقرآن... ح 3 - عن أبي بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام)... وإن عندنا لمصحف فاطمة (عليها السلام) وما يدريهم ما مصحف فاطمة، قال: مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات واللّه ما فيه من قرآنكم حرف واحد. راجع: بصائر الدرجات: ج 3 ص 170 الخ (باب في أن الأئمة أعطوا الجفر والجامعة ومصحف فاطمة).

الرسول (صلى اللّه عليه وآله) نفسه، فهم يعتقدون أن جبرائيل أخطأ - والعياذ باللّه - حين نزل على الرسول (صلى اللّه عليه وآله) وإنما كان يجب أن ينزل على علي (1)، وهم يرفعون عليا إلى مرتبة الألوهية، وهم... وأخذ ينسب التهم والأكاذيب والافتراءات إلى الشيعة.

أيد الشخصان الآخران كلامه، وأخذا يرددان أقواله بأسلوب أهدأ.

لم يداخلني أي ذعر من هذا الموقف، لأنهم لم يكونوا قادرين على إبداء أي رد فعل سوى الكلام، وشعرت من جانب آخر بالبهجة لأنهم لم يدخلوا في النقاش بالمنطق والاستدلال، وإنما انتهجوا أسلوب العربدة والصياح للتغلب علي، ولهذا أصغيت لثرثرته وكلامه الفارغ، وبقيت أتربص الفرصة لأهجم.

كان أستاذنا في غاية الاستياء والقلق كما يبدو على ظاهره، والتفت إليهم قائلا: لم تخبروني أنكم تبغون العراك وإلا لما دعوتكم، فما الداعي للصياح؟ أنظروا ولاحظوا كيف أن هذا الطفل، وهو في نظري أستاذ، كيف يرد عليكم؟ فلماذا تريدون إسكاته بالإهانة والاستخفاف؟ هذا الأسلوب غير صائب للبحث والنقاش، كان من المقرر أن تدخلوا هذا اللقاء بمودة وأن تناقشوا برزانة وبرهان، ولكن مع الأسف هاجمتموه بشراسة، وتريدون الاستيلاء على زمام الموقف بدون استثمار الوقت.

ص: 73


1- سوف يأتي الحديث عن هذه الفرية وإنها لا أساس لها من الصحة.

قلت: يا أستاذ دعهم يتحدثون فإني أراهم محقين في بعض أقوالهم.

أخذتهم الدهشة بغته وظلوا يترقبون مني مواصلة الحديث.

استأنفت حديثي قائلا: الحق معه، فإن إلهنا غير إلهكم!! ونبينا غير نبيكم!! وقرآننا غير قرآنكم!! وإمامنا وخليفتنا غير خليفتكم!! التفت المعلم - الذي لم أكن أعرف اسمه وقد بان على وجهه الغضب - إلى أستاذنا وقال: ألم أقل لكم أن لهؤلاء دينا آخر، وحتى عقيدتهم باللّه تختلف عن عقيدتنا!! ها هو قد اعترف بلسانه.

هؤلاء - وبطبيعة الحال - لا يزيلون اللثام عن واقع معتقداتهم بهذه السهولة بل يتمسكون بالتقية، ولكن يبدو أنه قد وضع التقية جانبا.

قلت: نلتزم التقية في المواطن التي تتعرض فيها النفس للخطر، وهي أمر مرغوب فيه من وجهة نظر القرآن والعقل والنقل، وليس الآن مجال الخوض فيها، ولكنني سأبرهن لكم في محله أن التقية حكم إسلامي صحيح تماما ويتطابق مع موازين القرآن والسنة والعقل، ولكننا الآن بصدد موضوع آخر.

قال لي الأستاذ: واصل حديثك الأصلي، ماذا تقول في اللّه والقرآن والرسول؟

عقيدتنا في اللّه

قلت: ربنا اللّه الذي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (1)، وليس له شبيه، ولا هو بجسم، ولا تدركه الأبصار (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ) (2)

ص: 74


1- سورة الشورى: الآية 11
2- سورة الأنعام: الآية 103.

ونعتقد أنه لا يراه أحد لا في الدنيا ولا في الآخرة، لأنه لا هيئة له ولا شكل.

قال موسى (عليه السلام): رب أرني أنظر إليك، (قَالَ لَنْ تَرَانِي) (1)، و «لن» هنا تفيد التأبيد، ثم أوحى إليه: (وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي) (2).

فدك الجبل لما تجلى ربه، وخر موسى على الأرض صعقا، إننا نعتقد أنه لا يتسنى لأحد الوقوف على حقيقة اللّه حتى وأن جمع علوم الأولين والآخرين، وأن اللّه تعالى لا يحده شئ فهو الأول والآخر، والظاهر والباطن، وأن كل من يبغي إدراكه - تعالى - بوهمه وخياله، فهو لا يدرك سواهما شئ.

عقيدة أبناء السنة في اللّه

أما أنتم أيها الإخوة الأعزاء من أبناء السنة، فعقيدتكم في هذا المجال تغاير نص القرآن تماما، لأنه تعالى ينفي إمكان رؤيته بالمرة، ولكنكم تعتقدون أنه يكشف عن ساقه للمؤمنين يوم القيامة، وأن فيها علامة خاصة (3).

أنتم تصورتم أن اللّه جسم (4)، وأي جسم! يضحك ويمشي (5)، وله يدان

ص: 75


1- سورة الأعراف: الآية 143
2- سورة الأعراف: الآية 143
3- صحيح البخاري ج 9: ص 159
4- وفي مسند أحمد بن حنبل: ج 2 ص 323: عن عبد اللّه عن أبيه بسنده عن أبي هريرة عن النبي (صلى اللّه عليه وآله): إن اللّه عز وجل خلق آدم على صورته، وفي كتاب أبي: وطوله ستون ذراعا فلا أدري حدثنا به أم لا
5- صحيح البخاري ج 9: ص 158.

ورجلان (1)!! وينزل كل ليلة من السماء إلى الدنيا (2)!! وفي يوم القيامة حين تطلب جهنم من اللّه ملأها، لأن فيها متسعا من المكان، يضع رجله فيها فتمتلئ وتقول: قط قط قط » (3).

باللّه عليكم ما هذه الجرأة على اللّه، وما بذاك تريدون؟ فهل تجوز مثل هذه السخرية باللّه جلت عظمته؟! ما بالكم لو سمعت الأمم الأخرى بمثل هذا الكلام، ألا يمقتون اللّه ورسوله والإسلام؟! ما الذي يدفعكم إلى وصف اللّه بأنه جسم متحرك له عواطف ذاتية وصفات مادية؟! فإن كان هذا تصوركم عن اللّه، سوف لا يكون رأيكم بالرسول (صلى اللّه عليه وآله) والقرآن أحسن حالا مما وصفتم به اللّه تعالى.

وخلاصة القول: هو إني واصلت الحديث وبكل جرأة وإقدام، حتى أني تعجبت لذلك فيما بعد، وأيقنت أن ذلك كان مني بإلهام وتسديد من اللّه تعالى.

وفجأة قطع أحد الحاضرين من هؤلاء - وكان كلامي قد بهته - قائلا لي: هل أنت تمزح عندما تنسب ذلك إلينا؟

قلت: عذرا، إن كل ما ذكرته مسطور في صحيح البخاري، وهو الكتاب الذي ترون له المنزلة بعد القرآن، ولا يأتيه الخطأ والباطل وتحسبونه سند السنة،

ص: 76


1- صحيح البخاري ج 9: ص 152 و 164، وقد جاء في كتاب التوحيد لأبي بكر بن خزيمة (المتوفى سنة 311 ه) ص 159 قال: تبين وتوضح أن لخالقنا - جلا وعلا - يدين كلتاهما يمينان، لا يسار لخالقنا عز وجل إذ اليسار من صفة المخلوقين، فجل ربنا عن أن يكون له يسار. أقول: تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا من أن يشابه المخلوقين وأيضا إن إثبات له يمين فهو أيضا قد شابه المخلوقين ومن صفتهم
2- صحيح البخاري 9: 175
3- صحيح البخاري ج 9: ص 164.

وتأخذون عنه الأحكام، وتعتقدون أن كل ما بين دفتيه صحيح مائة بالمائة بلا زيادة أو نقصان! وأنا الآن لا أستحضر أرقام تلك الصفحات، ولكني سأتيكم غدا بتفاصيل ذلك مع أرقام صفحاتها.

قال آخر: كيف لنا أن نعلم بأن كلامك ينطبق على ما في صحيح البخاري؟ فربما إنك لم تستوعب ما فيه بنحو صحيح، أو لعلك تسخر منا!

قال الأستاذ: كونوا على ثقة بأن كلامه صحيح من غير شك، وأن ما قاله موجود قطعا في صحيح البخاري، لقد كان كلامه حتى الآن قائما على الاستدلال والمنطق، وهو اليوم لا يقول هذا اعتباطا.

قلت: يا أستاذ، أرجو السماح لي بمواصلة كلامي لأجل استثمار الوقت على أفضل ما يكون.

قال: تفضل تكلم.

قلت: لقد تحدثت عن اللّه تعالى بإشارة إجمالية، وإلا فكل واحدة من هذه النقاط وردت في رواية مفصلة وطويلة في صحيح البخاري، مما لا يحضرني الآن رواية جميعها، لكن أشير إلى رواية واحدة منها فقط على سبيل المثال، وليعلم الإخوة إنني لم آت بهذا الكلام من عندي، بل ورد كل ما أقوله في صحيح البخاري والصحاح الأخرى عند أبناء السنة.

نقل أبو سعيد الخدري رواية طويلة عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يقول فيها:

«... سمعنا مناديا ينادي ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون وإنما ننتظر ربنا، قال: فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة فيقول أنا ربكم، فيقولون أنت ربنا، فلا يكلمه إلا الأنبياء، فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه!

ص: 77

فيقولون: الساق، فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ». (1) أليس هذا هو اللّه الذي يصف ذاته في القرآن الكريم بالقول: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) (2).

كلا، قسما باللّه، هذا إله غيره صاغته أوهام وتصورات الرواة الكاذبين، ولا يمت إلى الحقيقة بصلة، وفي صحيح البخاري رواية منكرة منقولة عن أبي هريرة، تثير الدهشة والسخرية حقا، ولا أدري كيف تعولون على صحيح البخاري مع وجود هذه الروايات فيه؟ ينقل بشأن النبي موسى (عليه السلام) رواية عجيبة فيها إهانة له بل وفيها أكبر استهانة باللّه عز شأنه.

يقول أبو هريرة: قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): «كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى يغتسل وحده، فقالوا: واللّه ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه أدر فذهب مرة يغتسل، فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، فخرج موسى في إثره، يقول: ثوبي يا حجر! حتى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى فقال: واللّه ما بموسى من بأس وأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربا، فقال أبو هريرة: واللّه إنه لندب بالحجر ستة أو سبعة ضربا بالحجر» (3).

وأنا هنا لا أبغي التعليق على هذا الخبر ولكن أيها السادة المحترمون! هل حقا أن هذا الكتاب هو الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟ وعلى كل حال فإن المواضيع في هذا المجال كثيرة، وبما أن الوقت لا يسمح، فإني أود تناول موضوعين أو ثلاثة مواضيع أخرى.

ص: 78


1- صحيح البخاري ج 9: ص 159
2- سورة الشورى: الآية 51
3- صحيح البخاري: ج 1 ص 78 (ك الغسل ب من اغتسل عريانا وحده).

هذه عقيدتنا باللّه تعالى، ولا بأس بعقد مقارنة بين نبينا ونبيكم في الفصل اللاحق!.

عقيدتنا في النبي (صلى اللّه عليه وآله)

نبينا محمد بن عبد اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أفضل وأسمى وأكمل إنسان خلقه اللّه تعالى، هو خيرة الأنبياء وسيدهم، وقدوة الأولين والآخرين، وأشرف الخلائق والكائنات أجمعين، فهو العبد الذي اصطفاه اللّه وخلق لأجله جميع الكائنات، وقال عنه كما ورد في الحديث القدسي: «لولاك ما خلقت الأفلاك» (1)، وهو الذي بلغ مرتبة (دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) (2) وهي المرتبة التي لم يبلغها نبي مرسل ولا ملك مقرب، وهي المرتبة التي تركه جبرئيل الأمين مع علو منزلته في هذا «الدنو» لوحده ولم يستطع مرافقته، وقال: إنه لو اقترب قيد أنملة لاحترق، وهو من وصفه اللّه بأنه (رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (3)، وقال فيه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (4).

ص: 79


1- بحار الأنوار: ج 15 ص 28 ح 48 و ج 54 ص 199 ح 145، الفوائد المجموعة للشوكاني: ص 326 ح 18، تذكرة الموضوعات للهندي: ص 86، سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني: ج 1 ص 299 ح 282، وجاء في السيرة الحلبية: ج 1 ص 357 ما هذا نصه: ذكر صاحب كتاب شفاء الصدور في مختصره عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) أنه قال: يا محمد وعزتي وجلالي لولاك ما خلقت أرضي ولا سمائي، ولا رفعت هذه الخضراء، ولا بسطت هذه الغبراء، وفي رواية عنه (صلى اللّه عليه وآله): ولا خلقت سماء ولا أرضا ولا طولا ولا عرضا. وبهذا يرد على من رد على القائل في مدحه (صلى اللّه عليه وآله): لولاه ما كان لا فلك ولا فلك *** كلا ولا بان تحريم وتحليل
2- سورة النجم: الآية 8، 9
3- سورة الأنبياء: الآية 107
4- سورة القلم: الآية 4.

هو النور الساطع في عالم الوجود الذي أرسل بشيرا للصالحين ونذيرا للمفسدين: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا) (1).

ونحن نذهب إلى أبعد من ذلك حيث نعتقد بأنه النبي الذي جعلت له النبوة من يوم خلقة آدم، بل أول ما خلق اللّه نوره، وأنه كان نبيا في وقت كان فيه آدم بين الماء والطين، فقد ورد عنه صلوات اللّه عليه وآله أنه قال: «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» (2)، وهو معصوم من جميع الأخطاء والذنوب صغيرها وكبيرها، ومن الزلل والنسيان، ومن ينسب إليه الهذيان والنسيان خصمه القرآن، وقوله مخالف لكلام اللّه الذي وصف به الرسول (صلى اللّه عليه وآله): (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (3).

وإذا اعتبرناه كسائر من يخطأ وينسى من الناس نكون قد أسأنا إليه أيما إساءة، إذ لم نعرفه حق معرفته، وإن اعتبرنا أنفسنا أتباعا له، فهل يمكن أن يكون مبعوثا عن اللّه ثم يسهو أو يهذي، نعوذ باللّه؟ إن الحديث عن رسول اللّه ليس بالأمر اليسير، وهو الذي خضعت له رقاب الملائكة المقربين، وباهى خالق الكون بخلقه العظيم، فإن كل ما نقوله في وصفه ليس إلا بمثابة القطرة في البحر، وإننا لم نعرفه قط كما ينبغي.

ص: 80


1- سورة الأحزاب: الآية 45، 46
2- بحار الأنوار ج 16: ص 402 ح 1، كشف الخفاء للعجلوني: ج 2 ص 173 ح 2017، تنزيه الشريعة لابن عراف: ج 1 ص 341، تذكرة الموضوعات للفتني: ص 86، الأسرار المرفوعة للقاري: 178 و 179، التذكرة في الأحاديث المشتهرة للزركشي: 172 ح 16
3- سورة النجم: الآية 3، 4.

قال علي (عليه السلام) في وصف هذا الإنسان الفذ، وصفوة الوجود، ووسيط رب العالمين: «إن اللّه تبارك وتعالى خلق نور محمد (صلى اللّه عليه وآله) قبل أن يخلق السماوات والأرض والعرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار، وقبل أن يخلق آدم ونوحا وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى وداود وسليمان... وقبل أن يخلق الأنبياء كلهم» (1).

عقيدة بعضهم في النبي (صلى اللّه عليه وآله)

هذه هي عقيدتنا بالنبي الكريم، وأما عقيدة البعض فهي الهبوط به إلى أدنى من مستوى الإنسان العادي، والاستهانة به ونسبة الكذب واللّهو والنسيان والهذيان إليه، وهذا واللّه لا ينطبق على نبينا، الذي: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) (2)، والذي وجوده رحمة إلاهية ممتدة ظلالها على الخلائق إلى يوم الحشر.

قال أحد الحاضرين - وكان شخصا هادئا نسبيا - بلهجة تنم عن الشكوى والتذمر: نحن أيضا نعتقد بمثل هذه الصفات للرسول (صلى اللّه عليه وآله)، ولا نقول في وصفه بهذا الهراء أبدا، ولكن هل لك أن تخبرنا من أين جئت بهذا الكلام؟ فمن ذا الذي يصف الرسول (صلى اللّه عليه وآله) - والعياذ باللّه - بالجهل؟ قلت: من المؤسف أن الوقت ضيق، وليس أمامي سوى الإشارة إلى بعض الموارد، إن النبي عندكم يأتيه النسيان أثناء الصلاة فيصلي ركعتين بدل الأربع! (3) وينام في المسجد، وبعد الاستيقاظ يصلي بلا وضوء (4).

ص: 81


1- بحار الأنوار ج 15: ص 4 ح 4
2- سورة النجم: الآية 3
3- صحيح البخاري: ج 8 ص 2 (ك الأدب ب ما يجوز من ذكر الناس)
4- صحيح البخاري: ج 1 ص 47 (ك الوضوء ب التخفيف في الوضوء).

ويسب شخصا من غير ذنب أو جريرة ارتكبها (1). ويجنب في شهر رمضان، ويقضي صلاة الفجر (2)، وأن النسيان يستولي عليه إلى حد ينسى حتى القرآن، وأنه سمع في أحد الأيام رجلا يقرأ القرآن في المسجد، فيقول: رحمه اللّه ذكرني بآيات كنت قد حذفتها من هذه السورة وتلك!!

(ورويتم أنه) يهذي من شدة المرض إلى حد يقول فيه عمر بن الخطاب: إنه يهجر، فقد قال ابن عباس: قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): «إئتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا، فقالوا: إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يهجر» (3).

والأكثر من هذا أنكم تصفون النبي بأنه شخص لا يمنعه الحياء من أن يقول لرجل سأله عمن يجامع ثم يكسل هل عليهما الغسل؟ -: إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل (4).

قسما باللّه نحن لا نرتضي لمثل الرسول (صلى اللّه عليه وآله) أن يكون إنسانا عاديا، فما بالك بتلك المرتبة الرفيعة.

فجأة تعالت صيحات الاحتجاج: ما هذا الكلام الذي تقوله؟ ومتى كانت لنا مثل هذه المعتقدات؟ إنك بقولك هذا تسئ إلى الرسول (صلى اللّه عليه وآله) و...؟

ص: 82


1- صحيح مسلم: ج 4 ص 207 ح 88 (ك البر والصلة والآداب ب 25، والجدير بالذكر أنه أورد مسلم في نفس المصدر حديثا عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) (ح 87) مفاده أن اللعن والسب ليسا من خلق النبي (صلى اللّه عليه وآله) وهو: عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول اللّه، ادع على المشركين، قال: إني لم أبعث لعانا، وإنما بعثت رحمة
2- صحيح البخاري: ج 1 ص 154 (ك مواقيت الصلاة ب الأذان بعد ذهاب الوقت)
3- صحيح مسلم: ج 3 ص 1259 ح 21 و 22 (ك الوصية ب 5)
4- صحيح مسلم: ج 1 ص 272 ح 89 (ك الطهارة ب 22).

قلت: إهدأوا، فإني لا أسئ إلى الرسول، بل إن عمر بن الخطاب خليفة المسلمين هو الذي وصفه بالهجر، أن صحيحي مسلم والبخاري هما اللذان يتحدثان عنه بمثل هذا الكلام، فأمامكم خياران إما التخلي عن صحاحكم وإما الاعتراف بسوء موقفكم إزاء الرسول (صلى اللّه عليه وآله).

أليس هذا البخاري هو الذي نقل عن عائشة أنها قالت: «إن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدففان وتضربان، والنبي (صلى اللّه عليه وآله) متغش بثوبه فانتهرهما أبو بكر، فكشف النبي (صلى اللّه عليه وآله) عن وجهه وقال: دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد....» (1).

أنتم تصفون الرسول - والعياذ باللّه - بعدم الحياء، فقد ورد عن عائشة أنها قالت: «كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في بيتي، كاشفا عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال، فتحدث ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك، فتحدث ثم استأذن عثمان فجلس رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وسوى ثيابه، فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك، فقال: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة» (2).

وكتبكم حافلة بمثل هذه الافتراءات على الرسول! فهل تريدون دعوة الناس إلى الإسلام وإلى القرآن بمثل هذا الرسول؟ أي تفكير هذا؟ وما هذا السلوك الخاطئ حيال أكمل إنسان على الأرض؟

ص: 83


1- صحيح البخاري: ج 2 ص 20 و 29 (ك العيدين) و ج 4 ص 47 و 225، إتحاف السادة المتقين للزبيدي: ج 6 ص 490
2- صحيح مسلم: ج 4: ص 1866 ح 36 (ك الصحابة ب من فضائل عثمان).

دق جرس الدرس - وللأسف - قبل أن أنهي كلامي، وقد رأيتهم بهتوا والكلمات قد جفت على شفاههم فصاروا يتمنون من اللّه أن ينتهي كلامي بأي نحو ممكن وينفض اللقاء، ولكن بقي في نفسي شئ إلى اليوم وهو أنني لم أستطع التنفيس أكثر عما في قلبي (1).

ص: 84


1- مذكرات المدرسة للمهري: ص 47 - 58.

المناظرة العاشرة: مناظرة التيجاني مع أحد العلماء في مسألة التجسيم

وأهم ما يذكر في هذا الموضوع عند الطرفين هي رؤية اللّه تعالى، فقد أثبتها أهل السنة والجماعة لكل المؤمنين في الآخرة، وعندما نقرأ صحاح السنة والجماعة كالبخاري ومسلم مثلا نجد روايات كثيرة تؤكد الرؤية حقيقة لا مجازا (1)، بل نجد فيها تشبيها لله سبحانه، وأنه يضحك (2) ويأتي ويمشي وينزل إلى سماء الدنيا (3) بل ويكشف عن ساقه التي بها علامة يعرف بها (4) ويضع رجله في جهنم فتمتلئ وتقول قط قط (5) إلى غير ذلك من الأشياء والأوصاف التي يتنزه اللّه جل وعلا عن أمثالها.

وأذكر أنني مررت بمدينة لامو في كينيا (6) بشرق إفريقيا، ووجدت إماما من الوهابية يحاضر المصلين داخل المسجد ويقول لهم: بأن لله يدين ورجلين

ص: 85


1- صحيح البخاري: ج 9 ص 156 و ج 6 ص 157 - 158
2- صحيح مسلم: ج 1 ص 166 ح 299 (ك الإيمان ب 81)
3- صحيح البخاري: ج 2 ص 66، و ج 9 ص 175، صحيح مسلم: ج 1 ص 168 ح 302
4- صحيح البخاري: ج 9 ص 159
5- صحيح البخاري: ج 9 ص 164
6- كينيا: جمهورية في شرق إفريقيا الاستوائية على المحيط الهندي عاصمتها نيروبي. المنجد - قسم الأعلام - ص 605.

وعينين ووجها، ولما استنكرت عليه ذلك! قام يستدل بآيات من القرآن قائلا:

(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ...) (1) وقال أيضا: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا...) (2) وقال: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ...) (3) قلت: يا أخي، كل هذه الآيات التي أدليت بها وغيرها إنما هي مجاز وليست حقيقة!

أجاب قائلا: كل القرآن حقيقة وليس فيه مجاز!!

قلت: إذن ما هو تفسيركم للآية التي تقول: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى...) (4)، فهل تحملون هذه الآية على المعنى الحقيقي؟ فكل أعمى في الدنيا يكون أعمى في الآخرة؟

أجاب الشيخ: نحن نتكلم عن يد اللّه وعين اللّه ووجه اللّه، ولا دخل لنا في العميان!

قلت: دعنا من العميان، فما هو تفسيركم في الآية التي ذكرتها: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ...) ؟

التفت إلى الحاضرين وقال لهم: هل فيكم من لم يفهم هذه الآية، إنها واضحة جلية كقوله سبحانه: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (5).

ص: 86


1- سورة المائدة: الآية 64
2- سورة هود: الآية 37
3- سورة الرحمن: الآية 26 و 27
4- سورة الإسراء: الآية 72
5- سورة القصص: الآية 88.

قلت: أنت زدت الطين بلة! يا أخي نحن إنما اختلفنا في القرآن، ادعيت أنت بأن القرآن ليس فيه مجاز وكله حقيقة! وادعيت أنا بأن في القرآن مجازا وبالخصوص الآيات التي فيها تجسيم لله تعالى أو تشبيه، وإذا أصررت على رأيك فيلزمك أن تقول، بأن كل شئ هالك إلا وجهه، معناه يداه ورجلاه وكل جسمه يفنى ويهلك ولا يبقى منه إلا الوجه، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا! ثم التفت إلى الحاضرين قائلا: فهل ترضون بهذا التفسير؟

سكت الجميع ولم يتكلم شيخهم المحاضر بكلمة فودعتهم وخرجت داعيا لهم بالهداية والتوفيق.

نعم هذه عقيدتهم في اللّه في صحاحهم وفي محاضراتهم، ولأقول إن بعض علمائنا ينكر ذلك ولكن الأغلبية يؤمنون برؤية اللّه سبحانه في الآخرة، وأنهم سوف يرونه كما يرون القمر ليلة البدر ليس دونها سحاب، ويستدلون بالآية (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (1). (2)

وبمجرد اطلاعك على عقيدة الشيعة الإمامية في هذا الصدد (3) يرتاح ضميرك، ويسلم عقلك بقبول تأويل الآيات القرآنية التي فيها تجسيم أو تشبيه لله تعالى وحملها على المجاز والاستعارة، لا على الحقيقة ولا على ظواهر الألفاظ، كما توهمه البعض.

ص: 87


1- سورة القيامة: الآية 22 و 23
2- روي عن عبد العظيم الحسني، عن إبراهيم بن أبي محمود، قال: قال علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في قول اللّه عز وجل: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) قال: يعني مشرقة تنتظر ثواب ربها (بحار الأنوار: ج 4 ص 28)
3- راجع: كشف المراد للعلامة الحلي: ص 296، حق اليقين في معرفة أصول الدين: ج 1 ص 39، بحار الأنوار: ج 4 ص 16 (كتاب التوحيد).

يقول الإمام علي (عليه السلام) في هذا الصدد: «لا يدركه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن، الذي ليس لصفته حد محدود، ولا نعت موجود، ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود...» (1).

ويقول الإمام محمد الباقر (عليه السلام) في الرد على المشبهة: «وكل ما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم...» (2).

ويكفينا في هذا رد اللّه سبحانه في محكم كتابه قوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (3) وقوله: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) (4) وقوله لرسوله وكليمه موسى (عليه السلام) لما طلب رؤيته: (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي) (5) ولن «الزمخشرية» (6) تفيد التأبيد كما يقول النحاة.

كل ذلك دليل قاطع على صحة أقوال الشيعة الذين يعتمدون فيها على

ص: 88


1- نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح: خطبة رقم 1 ص 39
2- بحار الأنوار للمجلسي: ج 69 ص 293 ح 23، المحجة البيضاء: ج 1 ص 219
3- سورة الشورى: الآية 11
4- سورة الأنعام: الآية 103
5- سورة الأعراف: الآية 143
6- إذ أن الزمخشري من القائلين باستحالة رؤية اللّه تعالى - كما عليه الإمامية - إذ أن الرؤية تستلزم التشبيه والتجسيم تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا - ولن عند الزمخشري - إنها تشعر باستحالة المنفي بها عقلا - إلا إذا قامت على تخصيصها قرينة متصلة أو منفصلة أو قرينة عقلية - إذ أن نسبة جواز الرؤية إلى اللّه تعالى كنسبة الولد إليه كما صرح بذلك الزمخشري وأن حالها في النفي هو تأكيد النفي الذي تعطيه «لا» وذلك أن «لا» تنفي المستقبل، تقول: لا أفعل غدا، فإذا أكدت نفيها قلت: لن أفعل غدا، والمعنى أن فعله نفي حالي، كقوله: (لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) فقوله: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) نفي للرؤية فيما يستقبل ولن تراني تأكيد وبيان الخ راجع: الكشاف للزمخشري: ج 2 ص 154.

أقوال الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) معدن العلم وموضع الرسالة، ومن أورثهم اللّه علم الكتاب.

ومن أراد التوسع في هذا البحث فما عليه إلا الرجوع إلى الكتب المفصلة لهذا الموضوع ككتاب «كلمة حول الرؤية» للسيد شرف الدين صاحب المراجعات (1).

ص: 89


1- مع الصادقين للدكتور التيجاني: ص 25 - 28.

المناظرة الحادية: عشر مناظرة أحد العلماء مع بعض الجامعيين في مسألة رؤية اللّه تعالى

الجامعي: في موارد عديدة من القرآن، منها الآية 143 من سورة الأعراف، إذ دعى موسى ربه قائلا: (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ، وخاطبه اللّه قائلا: (لَنْ تَرَانِي) .

فالسؤال: إن الذات المقدسة لله تعالى، ليست بجسم، ولا مكان لها، وغير قابلة للرؤية، فلماذا سأل النبي موسى (عليه السلام) هذا السؤال، مع أنه كان من أنبياء أولي العزم؟ فضلا عن قبح هذا السؤال لو صدر من إنسان عادي.

عالم الدين: يحتمل أن يكون طلب موسى (عليه السلام)، مشاهدة اللّه بعين القلب، لا المشاهدة بالعين، وكان الغرض من طلبه هذا، الحضور والشهود الكامل الفكري والروحي، فيعني إلهي اجعل قلبي مملوءا باليقين، حتى كأني أراك، وكثيرا ما يستعمل لفظ الرؤية في هذا السياق، كقولنا: إني أرى في نفسي القدرة على فعل ذلك العمل، مع أن القدرة، ليست قابلة للرؤية، فالمراد أن هذه الحالة واضحة في نفسي.

الجامعي: هذا التفسير خلاف ظاهر الآية، لأن الظاهر من لفظ «أرني» هو الرؤية بالعين، كما أن جواب اللّه سبحانه قائلا: (لَنْ تَرَانِي) ، يفهم منه أن طلب موسى (عليه السلام) كان المشاهدة بالعين، ولو كان المشاهدة الباطنية، بالشهود الكامل

ص: 90

الروحي والفكري، لما كان جواب اللّه لطلب موسى (عليه السلام) بالنفي، لأن اللّه يهدي هذا النوع من الشهود لأوليائه المرسلين.

عالم الدين: لو فرضنا أن طلب موسى (عليه السلام) هو رؤية الذات الإلهية المقدسة، حسب ما يقتضيه ظاهر العبارة، ولو أخذنا بنظر الاعتبار تاريخ هذه الحادثة، لتبين أن طلب موسى (عليه السلام) كان من لسان قومه، بعد أن تعرض للضغوط من قبلهم.

وتوضيحه: أنه بعد هلاك فرعون ومن اتبعه ونجاة بني إسرائيل، ظهرت مواقف أخرى بين موسى (عليه السلام) وبني إسرائيل، منها أن جماعة من بني إسرائيل أصروا على موسى (عليه السلام) برؤية اللّه سبحانه، وإلا فلن يؤمنوا به، وأخيرا اضطر موسى أن يختار سبعين نفرا من بني إسرائيل، وأخذهم إلى الوادي المقدس (طور) (1)، وهناك طلب من الحضرة الربوبية هذا الطلب.

فأوحى اللّه إلى موسى (عليه السلام): (لَنْ تَرَانِي) (2) وبهذا الجواب اتضح لبني

ص: 91


1- الطور: جبل بيت المقدس، ممتد ما بين مصر وأيلة، وعن بعض أهل السير أنه: سمي بطور بن إسماعيل بن إبراهيم (عليهما السلام)، قال تعالى: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا) وهو طور سيناء، قال اللّه سبحانه: (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ) ، وقال في موضع آخر من كتابه المجيد: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ) ومعناهما واحد، وقال ابن أبي نجيح: الطور: الجبل، وسيناء: الحجارة أضيف إليها، وقال بعض أهل اللغة: لا يسمى الجبل طورا حتى يكون ذا شجر ولا يقال للأجرد طور، وبالقرب من مصر عند موضع يسمى مدين جبل يسمى الطور، ولا يخلو من الصالحين، وحجارته كيف كسرت خرج منها صورة شجرة العليق، وعليه كان الخطاب الثاني لموسى (عليه السلام) عند خروجه من مصر ببني إسرائيل، والطور أيضا: يسمى عند كورة تشتمل على عدة قرى تعرف بهذا الاسم بأرض مصر القبلية، وبالقرب منها جبل فاران. راجع: معجم ما استعجم للأندلسي: ج 3 ص 897، معجم البلدان للحموي: ج 4 ص 47
2- سورة الأعراف: الآية 143.

إسرائيل كل شئ، لذلك يكون طلب موسى (عليه السلام) من لسان قومه نتيجة لإصرارهم وضغطهم عليه، وحينما أرسل اللّه الزلزلة والصاعقة إلى المرافقين لموسى والبالغ عددهم سبعين نفرا وهلاكهم، قال موسى (عليه السلام) مخاطبا ربه: (أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا) (1).

فأجابه اللّه تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (2).

فالتجلي الإلهي على الجبل، لأجل رؤية الآثار الإلهية، كأمواج الصاعقة الشديدة، التي أدت إلى تلاشي الجبل، مما أدى إلى دهشة موسى (عليه السلام) وأصحابه، فاللّه سبحانه بهذه القدرة، أراد أن يفهم أصحاب موسى بعجزهم عن تحمل إحدى آثاره، فكيف النظر إلى الذات الإلهية المقدسة؟ فأنتم أعجز من رؤيته بالعين، التي هي جسم مادي، في حين أن اللّه مجرد مطلق.

وبهذا التجلي الإلهي، رأى أصحاب موسى (عليه السلام) اللّه تعالى بعين القلب، وأدركوا عدم قابليتهم على رؤيته بالعين المادية، وكانت توبة موسى (عليه السلام)، كطلبه الرؤية نيابة عن قومه، ولأجل رفع الشبهة، كان من اللازم على موسى (عليه السلام) أن يظهر إيمانه ليعلم أصحابه أنه لم يطلب طلبا مخالفا لإيمانه مطلقا، بل عرض هذا الطلب كممثل عنهم.

الجامعي: أشكرك على توضيحاتك، لقد اقتنعت، وأرجو بهذه

ص: 92


1- سورة الأعراف: الآية 143
2- سورة الأعراف: الآية 143.

التوضيحات المنطقية، أن تحل بقية الشبهات، لدي هناك شبهة أخرى وبعون اللّه سوف أطرحها عليكم في الجلسة القادمة.

عالم الدين: من اللطيف، أن أغلب مفسري السنة، في ذيل تفسير «آية الكرسي» 255 من سورة البقرة، قد ذكروا طلبا لموسى (عليه السلام) شبيها بهذا الطلب، وإليك خلاصته: رأى موسى (عليه السلام) الملائكة في عالم النوم، فسألهم، هل اللّه ينام؟ فأوحى اللّه لملائكته، بأن لا تجعلوا موسى (عليه السلام) ينام، فأيقظت الملائكة موسى (عليه السلام) ثلاث مرات من نومه وكانوا يراقبوه حتى لا ينام، فحينما أحس موسى بالتعب الشديد والاحتياج المبرم للنوم، أعطي بيد موسى قنينتين مملوءتين بالماء على أن يحمل في كل يد قنينة مملوءة بالماء طبقا للوحي الإلهي، فلما تركوه ولم يراقبوه سقطت القنينتين من يديه وانكسرتا.

فأوحى اللّه إلى موسى (عليه السلام): بقدرتي جعلت السماوات والأرض، فلو أخذني نوم أو نعاس لزالتا (1).

وهنا يطرح هذا السؤال، كيف يسأل موسى (عليه السلام) الملائكة هذا السؤال مع أنه رسول اللّه، ويعلم أن اللّه لا يكون في معرض العوارض الجسمية، كالنوم.

فأجاب الفخر الرازي عن هذا السؤال: « على فرض صحة الرواية، لا بد من القول أن سؤال موسى (عليه السلام) كان من لسان قومه الجهلة (2).

وبعبارة أوضح: تعرض موسى (عليه السلام) تحت ضغط وإصرار قومه الجهلة،

ص: 93


1- تفسير روح البيان: ج 1 ص 400، الجامع لأحكام القرآن القرطبي: ج 3 ص 273، التفسير الكبير للرازي: ج 7 ص 9
2- التفسير الكبير للرازي: ج 7 ص 9

وسأل اللّه هذا السؤال، حتى أظهر اللّه آثارا أدت إلى هداية قومه، وكسر القناني من يد موسى (عليه السلام)، وإن كانت حادثة بسيطة، ولكن لأجل تفهيم العوام، فهي حادثة عميقة وجالبة وكاملة.

ويمكن القول أيضا، عن وجود أفراد من قوم موسى (عليه السلام) أبرزوا هذا النوع من التشكيك والسؤال، وقام موسى (عليه السلام) لأجل هدايتهم، أن يطرح تلك الأسئلة على اللّه سبحانه وتعالى، ليكون جواب اللّه سبحانه منقذا قومه من الضلالة. (1)

ص: 94


1- أجود المناظرات للاشتهاردي: ص 370 - 374.

الناس يوم القيامة والخلود في الآخرة

اشارة

ص: 95

ص: 96

المناظرة الثانية عشر: مناظرة الإمام الباقر (عليه السلام) مع هشام بن عبد الملك في حال الناس يوم القيامة

المناظرة الثانية عشر: مناظرة الإمام الباقر (عليه السلام) مع هشام بن عبد الملك (1) في حال الناس يوم القيامة

روي عن عبد الرحمن بن عبد الزهري قال: حج هشام بن عبد الملك، فدخل المسجد الحرام متكيا على يد سالم مولاه، ومحمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) جالس في المسجد فقال له سالم: يا أمير المؤمنين! هذا محمد بن علي بن الحسين.

فقال له هشام: المفتون به أهل العراق؟

قال: نعم.

قال: إذهب إليه فقل له: يقول لك أمير المؤمنين: ما الذي يأكل الناس ويشربون إلى أن يفصل بينهم يوم القيامة؟

فقال أبو جعفر (عليه السلام): يحشر الناس على مثل قرصة البر النقي، فيها أنهار متفجرة يأكلون ويشربون حتى يفرغ من الحساب.

ص: 97


1- هو: هشام بن عبد الملك بن مروان الأموي من أشد الناس عداوة لأهل البيت (عليهم السلام) ولي الخلافة بعد أخيه يزيد بن عبد الملك سنة 105 ه وكانت ولايته تسع عشرة سنة وسبعة أشهر، توفي بالرصافة من أرض قنسرين سنة 125 ه، وله ثلاث وخمسون سنة. الملل والنحل للشهرستاني: ص 279.

قال: فرأى هشام أنه قد ظفر به، فقال: اللّه أكبر اذهب إليه فقل له: ما أشغلهم عن الأكل والشرب يومئذ؟! فقال له أبو جعفر (عليه السلام): فهم في النار أشغل، ولم يشغلوا عن أن قالوا:

(أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) (1).

فسكت هشام لا يرجع كلاما (2).

ص: 98


1- سورة الأعراف: الآية 50
2- الإرشاد للمفيد: ص 264 - 265، الروضة من الكافي للكليني: ج 8 ص 121 - 122 ح 93، الإحتجاج للطبرسي: ج 2 ص 323 - 324، المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 198، بحار الأنوار: ج 7 ص 105 - 106 ح 21.

المناظرة الثالثة عشر: مناظرة هشام بن الحكم مع النظام في بقاء أهل الجنة إلى الأبد

روى علي بن محمد بن قتيبة، عن يحيى بن أبي بكر قال: قال النظام (1) لهشام بن الحكم (2): إن أهل الجنة لا يبقون في الجنة بقاء الأبد، فيكون بقاؤهم

ص: 99


1- هو: أبو إسحاق إبراهيم بن سيار بن هاني البصري المعروف بالنظام ابن أخت أبي الهذيل العلاف شيخ المعتزلة، وكان النظام أستاذ الجاحظ، قالت المعتزلة: إنما سمي بذلك لحسن كلامه نظما ونثرا، وقال غيرهم: إنما سمي بذلك لأنه كان ينظم الخرز في سوق البصرة ويبيعها، قيل: وإليه تنسب الطائفة النظامية، ووافق المعتزلة في مسائلهم وانفرد عنهم بمسائل أخرى، وقد ذكر الصفدي في الوافي جملة منها، والتي منها: عدم إمكان خروج أحد من الجنة ولو بالقدرة، وأن الإجماع ليس بحجة في الشرع، وكذلك القياس ليس بحجة، وإنما الحجة قول الإمام المعصوم، وإن النبي (صلى اللّه عليه وآله) نص على أن الإمام علي (عليه السلام) وعينه، وعرفت الصحابة ذلك... الخ، وأن الثاني ضرب بطن فاطمة (عليها السلام) يوم البيعة حتى ألقت المحسن من بطنها، توفي النظام في سنة 230 ه تقريبا. راجع ترجمته في: سفينة البحار: ج 2 ص 597، الوافي بالوفيات للصفدي: ج 6 ص 14 - 18، الملل والنحل للشهرستاني: ج 1 ص 59
2- هو هشام بن الحكم، أبو محمد، مولى كندة، ولد بالكوفة ونشأ في واسط، وتجارته ببغداد، عين الطائفة ووجهها ومتكلمها وناصرها، له نوادر وحكايات ومناظرات، ممن اتفق علمائنا على وثاقته ورفعة شأنه ومنزلته عند أئمتنا المعصومين - صلوات اللّه وسلامه عليهم - وقد قال في حقه الإمام الصادق (عليه السلام): هذا ناصرنا بقلبه ولسانه ويده، وكان هشام من الحاذقين بصناعة الكلام، والمدافعين عن إمامة أهل البيت (عليهم السلام) ولذا له مناظرات كثيرة مع المخالفين في هذا الشأن، عد من أصحاب الإمامين الصادق والكاظم (عليهما السلام)، توفي بعد نكبة البرامكة بمدة يسيرة. وقيل في خلافة المأمون العباسي سنة 199 ه، راجع ترجمته في: رجال النجاشي: ج 2 ص 397 رقم: 1165، سفينة البحار: ج 2 ص 719، سير أعلام النبلاء: ج 10 ص 543 ترجمة رقم: 174، تنقيح المقال للمامقاني: ج 3 ص 294.

كبقاء اللّه، ومحال أن يبقوا كذلك؟ فقال هشام: إن أهل الجنة يبقون بمبق لهم، واللّه يبقى بلا مبق، وليس هو كذلك.

فقال: محال أن يبقوا للأبد.

قال: قال: ما يصيرون؟

قال: يدركهم الخمود.

قال: فبلغك أن في الجنة ما تشتهي الأنفس (1)

2 - قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) فصلت: 31(2)؟

قال: نعم.

قال: فإن اشتهوا أو سألوا ربهم بقاء الأبد.

قال: إن اللّه تعالى لا يلهمهم ذلك.

قال: فلو أن رجلا من أهل الجنة نظر إلى ثمرة على شجرة، فمد يده ليأخذها فتدلت إليه الشجرة والثمار، ثم حانت منه لفتة فنظر إلى ثمرة أخرى أحسن منها، فمد يده اليسرى ليأخذها فأدركه الخمود، ويداه متعلقتان بشجرتين، فارتفعت الأشجار وبقي هو مصلوبا، فبلغك أن في الجنة

ص: 100


1- جاء ذلك في بعض الآيات الشريفة وهي: 1 - قوله تعالى: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) الزخرف: 71
2- 3 - قوله تعالى: (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ) الأنبياء: 102

مصلوبين؟!

قال: هذا محال!

قال: فالذي أتيت به أمحل منه، أن يكون قوم قد خلقوا وعاشوا، فأدخلوا الجنان، تموتهم فيها يا جاهل (1).

ص: 101


1- إختيار معرفة الرجال للطوسي: ج 2 ص 552 ح 593، بحار الأنوار: ج 8 ص 143 ح 66.

المناظرة الرابعة عشر: مناظرة الكراجكي مع بعض أهل الكلام في عذاب الكافر يوم القيامة إلى الأبد

قال الشيخ الكراجكي - أعلى اللّه مقامه -: حضرت في سنة ثماني عشرة وأربعمائة مجلسا، فيه جماعة ممن يحب استماع الكلام، ومطلع نفسه فيه إلى السؤال، فسألني أحدهم، فقال: كيف يصح لكم القول بالعدل، والاعتقاد بأن اللّه تعالى لا يجوز عليه الظلم؟ مع قولكم أنه سبحانه يعذب الكافر في يوم القيامة بنار الأبد، عذابا متصلا غير منقطع، وما وجه الحكمة والعدل في ذلك؟

وقد علمنا أن هذا الكافر وقع منه كفره في مدة متناهية، وأوقات محصورة، وهي مائة سنة في المثل، وأقل وأكثر، فكيف جاز في العدل عذابه أكثر من زمان كفره؟

وألا زعمتم أن عذابه متناه كعمره، ليستمر القول بالعدل، وتزول مناقضتكم لما تنفون عن اللّه تعالى من الظلم.

الجواب:

فقلت له: سألت فافهم الجواب، اعلم أن الحكمة لما اقتضت الخلق والتكليف، وجب أن يرغب العبد فيما أمره به من الإيمان بغاية الترغيب، ويزجره عما نهى عنه في الكفر بغاية التخويف والترهيب، ليكون ذلك أدعى له

ص: 102

إلى فعل المأمور به، وأزجر له عن ارتكاب المنهي عنه.

وليس غاية الترغيب إلا الوعد بالنعيم الدائم المقيم، ولا يكون غاية التخويف والترهيب، إلا التوعيد بالعذاب الخالد الأليم، وخلف الخبر كذب، والكذب لا يجوز على الحكيم، فبان بهذا الوجه، أن تخليد الكافر في العذاب الدائم، ليس بخارج عن الحكمة، والقول به مناقض للأدلة.

فقال صاحب المجلس: قد أتيت في جوابك بالصحيح الواضح، غير أنا نظن بقية في السؤال، تطلع نفوسنا إلى أن نسمع عنها الجواب، وهي: أن الحال أفضت إلى ما ينفر منه العقل، وهو أن عذاب أوقات غير محصورة، يكون مستحقا على ذنوب مدة متناهية محصورة.

فقلت له: أجل، إن الحال قد أفضت إلى أن الهالك على كفره، يعذب بعذاب تقدير زمانه أضعاف زمان عمره، وهذا هو السؤال بعينه، وفي مراعاة ما أجبت به عنه بيان أن العقل لا يشهد به، ولا ينفر منه، على أنني آت بزيادة في الجواب مقنعة في هذا الباب.

فأقول: إن المعاصي تتعاظم في نفوسنا على قدر نعم المعصي بها، ولذلك عظم عقوق الولد لوالده لعظم إحسان الوالد عليه، وجلت جناية العبد على سيده، لجليل إنعام السيد عليه، فلما كانت نعم اللّه تعالى أعظم قدرا، وأجل أثرا من أن توفى بشكر، أو تحصى بحصر، وهي الغاية في الإنعام، الموافق لمصالح الأنفس والأجسام، كان المستحق على الكفر به، وجحده إحسانه ونعمه، هو غاية الآلام، وغايتها هو الخلود في النار.

فقال رجل ينتمي إلى الفقه كان حاضرا: قد أجاب صاحبنا الشافعي عن هذه المسألة بجوابين، هما أجلى وأبين مما ذكرت.

ص: 103

قال له السائل: وما هما؟

قال: أما أحدهما فهو أن اللّه سبحانه، كما ينعم في القيامة على من وقعت منه الطاعة في مدة متناهية بنعيم لا آخر له ولا غاية، وجب قياسا على ذلك أن يعذب من وقعت منه المعصية في زمان محصور متناه، بعذاب دائم غير منقض ولا متناه.

قال: والجواب الآخر، أنه خلد الكفار في النار لعلمه أنهم لو بقوا أبدا لكانوا كفارا. (1)

فاستحسن السائل هذين الجوابين منه استحسانا مفرطا، إما لمغايظتي بذلك، أو لمطابقتهما ركاكة فهمه.

فقال صاحب المجلس: ما تقول في هذين الجوابين؟

فقلت: اعفني من الكلام، فقد مضى في هذه المسألة ما فيه كفاية.

فأقسم علي وناشدني.

فقلت: إن المعهود من الشافعي والمحفوظ منه كلامه في الفقه وقياسه في الشرع، أما أصول العبادات والكلام في العقليات فلم تكن من صناعته، ولو كانت له في ذلك بضاعة لاشتهرت، إذ لم يكن خامل الذكر، فمن نسب إليه الكلام فيما لا يعلمه على طريق القياس والجواب، فقد سبه، من حيث أن فساد هذين

ص: 104


1- سوف يأتي إن مفاد بعض الروايات إنما خلد أهل النار فيها لنياتهم العصيان (الكفر به تعالى) وهذا غير القول أنه يعذبهم لعلمه بعصيانهم لو بقوا أبدا، فهل يمكن القول: بأنه لو مات إنسان مؤمن صالح، وكان في علم اللّه تعالى أن هذا الرجل لو بقي في الحياة حينا لكان عاصيا فاسقا، كان يعذبه اللّه تعالى على ما علم منه ذلك، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا، إن اللّه لا يظلم أحدا مثقال ذرة، فكيف يعذبه على أمر لم يفعله!

الجوابين لا يكاد يخفى عمن له أدنى تحصيل.

أما الأول منهما وهو: مماثلته بيت إدامة الثواب والعقاب، فإنه خطأ في العقل والقياس، وذلك أن مبتدئ النعم المتصلة في تقدير زمان أكثر من زمان الطاعة، إن لم يكن ما يفعله مستحقا، كان تفضلا، ولا يقال للمتفضل المحسن: لم تفضلت وأحسنت، ولا للجواد المنعم، لم جدت وأنعمت.

وليس كذلك المعذب على المعصية في تقدير زمان زائد على زمانها، لأن ذلك إن لم يكن مستحقا كان ظلما، تعالى اللّه عن الظلم، فالمطالبة بعلة المماثلة بين الموضعين لازمة، والمسألة مع هذا الجواب عما يوجب التخليد قائمة. والعقلاء مجمعون على أن من أعطى زيدا على فعله أكثر من مقدار أجره، فليس له - قياسا على ذلك - أن يعاقب عمرا على ذنبه بأضعاف ما يجب في جرمه.

وأما جوابه الثاني فهو وإن كان ذكره بعض الناس، لاحق بالأول في السقوط، لأنه لو كان تعذيب اللّه عز وجل للكافر بعذاب الأبد، إنما هو لأنه علم منه أنه لو بقي أبدا كافرا، لكان إنما عذبه على تقدير كفر لم يفعله، وهذا هو الظلم في الحقيقة، الذي يجب تنزيه اللّه تعالى عنه، لأن العبد لم يفعل الكفر إلا مدة محصورة (1).

ص: 105


1- وقد جاء مفاد بعض الروايات، إنما خلد أهل النار في النار لنيتهم العصيان الأبدي لو خلدوا في الدنيا، لاحظ ما رواه الشيخ الصدوق (رحمه اللّه) في العلل عن أبيه عن سعد، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داوود الشاذكوني عن أحمد بن يوسف، عن أبي هاشم قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الخلود في الجنة والنار، فقال: إنما خلد أهل النار في النار لأن نياتهم كانت في الدنيا لو خلدوا فيها أن يعصوا اللّه أبدا، وإنما خلد أهل الجنة في الجنة لأن نياتهم كانت في الدنيا لو بقوا أن يطيعوا اللّه أبدا ما بقوا، فالنيات تخلد هؤلاء وهؤلاء، ثم تلى قوله تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) قال: على نيته. علل الشرائع: ج 2 ص 523 ب 299 ح 1 وعنه بحار الأنوار: ج 8 ص 347 ح 5. وعلى ضوء هذه الرواية واللّه العالم أن أهل النار إنما خلدوا لنيتهم الكفر الأبدي، فعذابه الأبدي ليس زائدا على مدة كفره بل مؤاخذ عليه، إذ عقد قلبه على الكفر باللّه تعالى لو بقي مخلدا في الحياة، فيكون عذابه الأبدي في الآخرة على أمر فعله في الدنيا.

وقد اقتضى هذا الجواب أن تعذيبه الزائد على مدة كفره هو عذاب على ما لم يفعله، ولو جاز ذلك لجاز أن يبتدئ خلقا، ثم يعذبه من غير أن يبقيه ويقدره، ويكلفه، إذا علم منه أنه إذا أبقاه، وأقدره، وكلفه، كان كافرا جاحدا لأنعمه، وقد أجمع أهل العدل على أن ذلك لا يجوز منه سبحانه، وهو كالأول بعينه في العذاب، للعلم بالكفر قبل وجوده، لا على ما فعله وأحدثه، وقبحها يشهد العقل به ويدل عليه، تعالى اللّه عن إضافة القبيح إليه.

فعلم أنه لا يعتبر في الجواب عن هذا السؤال بما أورده هذا الحاكي عن الشافعي، وأن المصير إلى ما قدمناه من الجواب عنه أولى، والحمد لله.

فلما سمع المتفقه طعني فيما أورده، وقولي إن الشافعي ليس من أهل العلم بهذه الصناعة، ولا له فيها بضاعة، ظهرت إمارات الغضب في وجهه، وتعذر عليه نصرة ما جاء به، كما تعذر عليه وعلى غيره ممن حضر القدح فيما كنت أجبت به، فتعمد لقطع ما كنا فيه بحديث ابتداه لا يليق بالمجلس ولا يقتضيه.

فبينا نحن كذلك إذ حضر رجل، كانوا يصفونه بالمعرفة، وينسبونه إلى الاصطلاح بالفلسفة، فلما استقر به المجلس، حكوا له السؤال، وبعض ما جرى فيه من الكلام.

فقال الرجل: هذا سؤال يلزم الكلام فيه، ويجب على من أقر بالشريعة، طلب جواب صحيح عنه، يعتمد عليه.

ص: 106

ثم سألوني الرجوع إلى الكلام والإعادة لما سلف لي من الجواب، ليسمع ذلك الرجل الحاضر.

فقلت له: ألا سألتم الفقيه إعادة ما كان أورده لعله أن يرضى هذا الشيخ إذا سمعه، وعنيت بالفقيه، الحاكي عن الشافعي؟

قالوا: قد تبين لنا فساد ما أجاب به، ولا حاجة بنا إلى إشغال الزمان بإعادته.

قلت: فأنا مجيبكم إلى الكلام، وسالك غير الطريقة الأولى في الجواب، لعل ذلك أن يكون أسرع لزوال اللبس، وأقرب إلى سكون النفس، إن وجدت منكم مع الاستماع حسن إنصاف.

قالوا: نحن مستمعون لك غير جاحدين لحق يظهر في كلامك.

فقلت: كان السؤال عن وجه العدل والحكمة في تعذيب اللّه عز وجل لمن مات وهو كافر بالعذاب الدائم، الذي تقدير زمانه لا ينحصر، وقد وقع من العبد كفره في مبلغ عمره المتناهي.

والجواب عن ذلك:

أن العذاب المجازى به على المعصية، كائنة ما كانت، لا كلام بيننا في استحقاقه، وإنما الكلام في اتصاله وانقطاعه، فلا يخلو المعتبر في ذلك أن يكون هو الزمان الذي وقعت المعصية فيه ومقداره وتناهيه، أو المعصية في نفسها وعظمها من صغرها.

فلو كانت مدة هي المعتبرة، وكانت يجب تناهي العذاب لأجل تناهيها في نفسها، لوجب أن يكون تقدير زمان العقاب عليها بحسبها وقدرها، حتى لا

ص: 107

يتجاوزها ولا يزيد عليها.

وهذا حكم يقضي الشاهد بخلافه، ويجمع العقلاء على فساده، فكم قد رأينا فيما بيننا معصية قد وقعت في مدة قصيرة، كان المستحق من العقاب عليها يحتاج إلى أضعاف تلك المدة، ورأينا معصيتين، تماثل في القدر زمانهما، واختلف زمان العقاب المستحق عليهما، كعبد شتم سيده، فاستحق من الأدب على ذلك أضعاف ما يستحقه إذا شتم عبدا مثله، وإن كان زمان الشتمين متماثلا.

فالمستحق عليهما من الأدب والعقاب يقع في زمان غير متماثل، ولو لم يكن في هذا حجة إلا ما نشاهده من هجران الوالد أياما كثيرة لولده على فعل، وقع في ساعة واحدة منه، مع تصويب كافة العقلاء للوالد في فعله، بل لو لم يكن فيه إلا جواز حبس السيد فيما بيننا لعبده زمانا طويلا على خطيئته.

وكذلك الإمام العادل لمن يرى من رعيته، لكان فيه كفاية في وضح الدلالة، وليس يدفع الشاهد إلا مكابر معاند، فعلم مما ذكرناه أنه لا يعتبر فيما يستحق على المعصية بقدر زمانها، ولا يجب أن يماثل وقت الجزاء عليها لوقتها، ووجب أن يكون المرجع إليها نفسها، فبعظمها يعظم المستحق عليها، سواء أطال الزمان أو قصر، اتصل أم انقطع، وجد فكان محققا، أو عدم فكان مقدرا، والحمد لله.

فلما سمع القوم مني هذا الكلام، وتأملوا ما تضمنه من الإفصاح والبيان، وتمثيلي بالمتعارف من الشاهد والعيان، لم يسعهم غير الإقرار للحق والإذعان والتسليم في جواب السؤال لما أوجبه الدليل والبرهان، والحمد لله الموفق للصواب، وصلواته على سيدنا محمد خاتم النبيين وآله الطاهرين.

زيادة في المسألة:

ص: 108

وقد احتج من نصر الجواب الثاني المنسوب إلى الشافعي بقول اللّه تعالى:

(وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) (1)، وجعل ذلك دلالة على أنه عذبهم بعذاب الأبد، لعلمه بذلك من حالهم، وليس في هذه الآية دلالة على ما ظن، وإنما هي مبنية على باطن أمرهم، ومكذبة لهم فيما يكون في القيامة من قولهم، وما قبل الآية تتضمن وصف ذلك من حالهم، وهو قوله تعالى سبحانه:

(إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (2)، فقال اللّه سبحانه: (بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (3).

هذا: لما تمنوا الرجوع إلى دار التكليف، وليس فيه إخبار بأنه عذبهم لما علمه منهم أن لو أعادهم، حسبنا اللّه ونعم الوكيل (4).

ص: 109


1- سورة الأنعام: الآية 28
2- سورة الأنعام: الآية 27
3- سورة الأنعام: الآية 28
4- كنز الفوائد للكراجكي: ج 1، ص 308 - 314.

ص: 110

القرآن الكريم

اشارة

ص: 111

ص: 112

المناظرة الخامسة عشر مناظرة ابن حازم

المناظرة الخامسة عشر مناظرة ابن حازم (1) مع بعضهم في أن القرآن لا يكون حجة إلا بقيم روي عن صفوان بن يحيى عن أبي حازم قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): إني ناظرت قوما (2) فقلت: ألستم تعلمون أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) هو الحجة من اللّه على الخلق، فحين ذهب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) من كان الحجة بعده؟

ص: 113


1- هو: منصور بن حازم أبو أيوب البجلي الكوفي عده الشيخ في رجاله من أصحاب الصادق (عليه السلام)، وقال النجاشي عنه: ثقة عين صدوق من جملة أصحابنا وفقهائهم، روى عن أبي عبد اللّه عليه السلام وأبي الحسن عليه السلام ، له كتب منها أصول الشرائع ، كتاب الحج ، وعده بعضهم من فقهاء الصادقين عليهما السلام والأعلام والرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام والفتيا والأحكام الذين لا يطعن عليهم ولا طريق إلى ذم واحد منهم . راجع ترجمته في تنقيح المقال للمامقاني : ج 3 ص 249 ترجمة رقم : 12166 ، معجم رجال الحديث للسيد الخوئي : ج 18 ترجمة رقم : 12672.
2- وفي رجال الكشي: ج 2 ص 718، هكذا: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): إن اللّه أجل وأكرم من أن يعرف بخلقه، بل الخلق يعرفون باللّه، قال: صدقت. قال: قلت: إن من عرف أن له ربا فقد ينبغي أن يعرف أن لذلك الرب رضا وسخطا، وأنه لا يعرف رضاه وسخطه إلا برسول لمن لم يأته الوصي، فينبغي أن يطلب الرسل، فإذا لقيهم عرف أنه الحجة، وأن لهم الطاعة المفترضة، فقلت للناس: أليس يعلمون أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) كان هو الحجة من اللّه على الخلق؟ قالوا: بلى... الخ.

فقالوا: القرآن.

فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم فيها المرجي والحروري والزنديق الذي لا يؤمن حتى يغلب الرجل خصمه، فعرفت أن القرآن لا يكون حجة إلا بقيم، ما قال فيه من شئ كان حقا.

قلت: فمن قيم القرآن؟

قالوا: قد كان عبد اللّه بن مسعود وفلان وفلان وفلان يعلم.

قلت: كله؟

قالوا: لا.

فلم أجد أحدا يقال: إنه يعرف ذلك كله إلا علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وإذا كان الشئ بين القوم، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، فأشهد أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان قيم القرآن، وكانت طاعته مفروضة، وكان حجة بعد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) على الناس كلهم، وإنه (عليه السلام) ما قال في القرآن فهو حق.

فقال - يعني الإمام الصادق (عليه السلام) -: رحمك اللّه.

فقبلت رأسه، وقلت: إن علي بن أبي طالب (عليه السلام) لم يذهب حتى ترك حجة من بعده كما ترك رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) حجة من بعده، وإن الحجة من بعد علي (عليه السلام) الحسن بن علي (عليه السلام)، وأشهد على الحسن بن علي (عليه السلام) أنه كان الحجة وأن طاعته مفترضة.

فقال: رحمك اللّه.

فقبلت رأسه، وقلت: أشهد على الحسن بن علي (عليه السلام) إنه لم يذهب حتى ترك حجة من بعده، كما ترك رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وأبوه، وأن الحجة بعد الحسن (عليه السلام)

ص: 114

الحسين بن علي (عليه السلام)، وكانت طاعته مفترضة.

فقال: رحمك اللّه.

فقبلت رأسه، وقلت: وأشهد على الحسين بن علي (عليه السلام) إنه لم يذهب حتى ترك حجة من بعده، وأن الحجة من بعد علي بن الحسين (عليه السلام)، وكانت طاعته مفترضة.

فقال: رحمك اللّه.

فقبلت رأسه، وقلت: وأشهد على علي بن الحسين (عليه السلام) إنه لم يذهب حتى ترك حجة من بعده، وأن الحجة من بعد محمد بن علي أبو جعفر (عليه السلام)، وكانت طاعته مفترضة.

فقال: رحمك اللّه.

قلت: أصلحك اللّه أعطني رأسك، فقبلت رأسه، فضحك.

فقلت: أصلحك اللّه قد علمت أن أباك (عليه السلام) لم يذهب حتى ترك من بعده كما ترك أبوه، فأشهد باللّه أنك أنت الحجة من بعده، وأن طاعتك مفترضة.

فقال: كف رحمك اللّه.

قلت: أعطني رأسك أقبله، فضحك!

قال (عليه السلام) سلني عما شئت؟ فلا أنكرك بعد اليوم أبدا (1).

ص: 115


1- علل الشرائع للصدوق: ج 1 ص 192 - 193 ب 152، وعنه بحار الأنوار: ج 23 ص 17 - 18 ح 13، رجال الكشي: ج 2 ص 718 - 719، تنقيح المقال للمامقاني: ج 3 ص 249.

المناظرة السادسة عشر: مناظرة الشيخ معتصم سيد أحمد السوداني مع الشيخ أحمد الأمين في صيانة القرآن عن التحريف

المناظرة السادسة عشر: مناظرة الشيخ معتصم سيد أحمد السوداني مع الشيخ أحمد الأمين في صيانة القرآن عن التحريف (1) قال الشيخ معتصم السوداني - في معرض كلامه عما جرى له مع بعض أولئك الذين ينالون من الشيعة -: وجرى حوار بيني وبين شيخهم - أحمد الأمين - وطلبت منه العقلانية وترك الاستهتار والتهجم دون جدوى، وبعدما طفح الكيل وازداد تعنتهم وتعصبهم ذهبت إلى مسجدهم وصليت خلفه صلاة الظهر، وبعد الانتهاء من الصلاة سألته: هل تعرضت لك يوما طوال هذه المدة، التي تسب فيها الشيعة وتكفرهم بمكبرات الصوت؟!

قال: لا.

قلت: أو تدري ما السبب؟!

قال: لا أدري.

قلت: إن كلامك تهجم وجهل، وتعرض لشخصيتي، فخفت أن أعترض

ص: 116


1- من أراد الاطلاع الواسع على رأي الشيعة الإمامية واعتقادهم بصيانة القرآن الكريم عن التحريف فليراجع: 1 - البيان في تفسير القرآن للسيد الخوئي (قدس سره): ص 197 - 272. 2 - التحقيق في نفي التحريف للسيد علي الميلاني. 3 - سلامة القرآن من التحريف ، نشر و إصدار مؤسسة الإمام عليّ عليه السلام وغيرها الكثير.

عليك فيكون ذلك دفاعا عن نفسي، وليس دفاعا عن الحق، والآن أطلب منك مناظرة علمية ومنهجية أمام الجميع حتى ينكشف الحق.

قال: لا مانع عندي.

قلت: إذا حدد محاور المناظرة.

قال: تحريف القرآن، وعدالة الصحابة.

قلت: حسنا، ولكن هناك أمران ضروريان لا بد من مناقشتهما، وهما صفات اللّه، والنبوة في اعتقادكم ورواياتكم.

قال: لا.

قلت: ولم؟

قال: أنا أحدد المحاور، فإذا طلبت منك - أنا - المناظرة، يكون الحق لك في تحديد المحاور.

قلت: لا خلاف... متى موعدنا؟

قال: اليوم، بعد صلاة المغرب - ظنا منه أنه سيرهبني بهذا الموعد القريب - فأظهرت موافقتي بكل سرور، وخرجت من المسجد.

وبعد أداء صلاة المغرب، بدأت المناظرة، فبدأ شيخهم - أحمد الأمين - الحديث كعادته يتهجم ويتهم الشيعة بالقول بتحريف القرآن، وكان يمسك في يده كتاب (الخطوط العريضة لمحب الدين).

وبعد الفراغ من حديثه، ابتدأت حديثي، وقمت بالرد على كل ما افتراه من اتهامات بالتفصيل، وبرأت الشيعة تماما من القول بتحريف القرآن، وبعد ذلك، قلت له كما قيل: ترون التبنة في أعين غيركم، ولا ترون الخشبة في أعينكم، فإن الروايات التي احتوتها كتب الحديث عند السنة ظاهرة في اتهام القرآن الكريم

ص: 117

بالتحريف، فنسبة القول بالتحريف إلى السنة أقرب منها إلى الشيعة. وذكرت ما يقارب عشرين رواية مع ذكر المصدر ورقم الصفحة من صحيح البخاري ومسلم ومسند أحمد والإتقان في علوم القرآن للسيوطي، مثال:

أخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، عن أبي بن كعب قال: كم تقرأون سورة الأحزاب؟ قال: بضعا وسبعين آية، قال: لقد قرأتها مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) مثل البقرة أو أكثر منها، وإن فيها آية الرجم (1).

وأخرج البخاري في صحيحه بسنده عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب، قال: إن اللّه بعث محمدا (صلى اللّه عليه وآله) بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل اللّه آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، فلذا رجم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: واللّه ما نجد آية الرجم في كتاب اللّه، فيضلوا بترك فريضة أنزلها اللّه... إلى أن يقول: ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب اللّه: (أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم، أو إن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم) (2).

وروى مسلم في صحيحه، قال: بعث أبو موسى إلى قراء أهل البصرة، فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن، فقال: أنتم خيار أهل البصرة، وقراؤهم، فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمر، فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم، وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها، غير أني قد حفظت منها لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات

ص: 118


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 5 ص 132
2- صحيح البخاري: ج 8 ص 209 - 210 (ك المحاربين، ب رجم الحبلى إذا زنت).

فأنسيتها، غير أني حفظت منها: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة) (1).

وفي أثناء ذكري لهذه الروايات، لاحظت أن الشيخ حملق عينيه وفتح فاه وظهرت الحيرة والدهشة على وجهه، فما أن توقفت عن الكلام حتى أخذ يقول:

أنا لم أسمع بذلك وأنا لم أر ذلك، وأطالبك أن تحضر هذه المصادر أمامي.

قلت: قبل قليل كنت تتهجم على الشيعة وتتهمهم بالتحريف، فلماذا لم تحضر كتبهم التي لم ترها في حياتك كلها، فأنت ملزم بإحضار مصادرك وهذه مكتبتك، فيها البخاري ومسلم وكتب الحديث، أحضرها حتى أخرج لك هذه الروايات منها، وعندما لم يجد مخرجا قفز إلى موضوع آخر، وهو أن الشيعة تقول بالتقية فكيف نصدق كلامهم؟!

وهرج ومرج، حتى قام أحدهم وأذن لصلاة العشاء، وبعد الصلاة تواعدنا أن نكمل المناظرة في الأيام القادمة، على أن نختار في كل يوم موضوعا نتناظر حوله... ولما جاء الغد كنت جالسا أمام منزلنا في الصباح فمر الشيخ وسلم علي بكل احترام وقال: إن هذه المباحث لا يفهمها العامة، فمن الأفضل أن نتحاور ونتناظر أنا وأنت على انفراد.

قلت: أوافق، لكن بشرط أن تترك التهجم على الشيعة، وفيما بعد لم نسمع له تهجما على الشيعة.. (2)

ص: 119


1- صحيح مسلم: ج 2 ص 726 ح 119 (ك الزكاة ب 39)
2- الحقيقة الضائعة للشيخ معتصم السوداني: ص 26 - 29.

المناظرة السابعة عشر: مناظرة أمير المؤمنين (عليه السلام) مع الزبير في حديث العشرة المبشرة بالجنة

المناظرة السابعة عشر مناظرة أمير المؤمنين (عليه السلام) مع الزبير (1) في حديث العشرة المبشرة بالجنة عن سليم بن قيس الهلالي قال: لما التقى أمير المؤمنين (عليه السلام) أهل البصرة

ص: 120


1- هو: الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد القرشي، كنيته أبو عبد اللّه وأمه صفية بنت عبد المطلب، فهو ابن عمة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وابن أخي خديجة الكبرى، كان من ناصري أمير المؤمنين (عليه السلام) وشيعته قبل أن ينحرف عنه ويعاديه، فهو أحد الأربعة الذين استجابوا لأمير المؤمنين (عليه السلام) لما دعاهم بعد وفاة النبي (صلى اللّه عليه وآله) لأخذ حقه، روي عن سلمان أنه قال فيه: وكان الزبير أشدنا بصيرة في نصرته، كما أنه وهب حقه يوم الشورى لأمير المؤمنين (عليه السلام) لما دخلته من حمية النسب، وهو أحد الذين شهدوا على وصية فاطمة (عليها السلام) كما شهد دفنها ليلا، وهو الذي اخترط سيفه دفاعا عن أمير المؤمنين (عليه السلام) لما أخرج من منزله ملببا حتى رموه بصخرة فأصابت قفاه، وسقط السيف من يده، فأخذوه وكسروه، هذا مع ما عرف عنه من الشجاعة التي ظهرت في أيام النبي (صلى اللّه عليه وآله) واشتراكه في الغزوات معه، وروي أن الزبير كان ممن أعير الإيمان وكان إيمانه مستودعا، فمشى في ضوء نوره ثم سلبه اللّه إياه، وقد سعى ابنه عبد اللّه في عدول أبيه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) فكان سببا في انحرافه عن ناحية أهل البيت (عليهم السلام)، وجاء عنه (عليه السلام) أنه قال: لا زال الزبير منا حتى أدرك فرخه، وفي رواية أخرى: ما زال الزبير منا أهل البيت حتى شب ابنه عبد اللّه، قتله ابن جرموز غدرا في وادي السباع، وله خمس وسبعون سنة، وأتى عمرو عليا بسيف الزبير وخاتمه، فقال علي (عليه السلام): سيف طالما جلا الكرب عن وجه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله). راجع ترجمته في: سفينة البحار للقمي: ج 1 ص 543 - 545، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 1 ص 231 - 236 و ج 2 ص 167، سير أعلام النبلاء: ج 1 ص 41 ترجمة رقم: 3، الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 3 ص 100، تهذيب الكمال للمزي: ج 9 ص 319 ترجمة رقم: 1971.

يوم الجمل نادى الزبير: يا أبا عبد اللّه أخرج إلي؟ فخرج الزبير ومعه طلحة، فقال لهما: واللّه إنكما لتعلمان، وأولوا العلم من آل محمد، وعائشة بنت أبي بكر، أن كل أصحاب الجمل ملعونون على لسان محمد (صلى اللّه عليه وآله)، وقد خاب من افترى!! قالا له: كيف نكون ملعونين، ونحن أصحاب بدر وأهل الجنة؟! فقال لهما علي (عليه السلام): لو علمت أنكم من أهل الجنة لما استحللت قتالكم؟! فقال له الزبير: أما سمعت حديث سعيد بن عمرو بن نفيل وهو يروي: أنه سمع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يقول: «عشرة من قريش في الجنة» (1) فقال له علي (عليه السلام): سمعته يحدث بذلك عثمان في خلافته؟

فقال له الزبير: أفتراه كذب على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)؟

فقال له علي (عليه السلام): لست أخبرك بشئ حتى تسميهم؟!

ص: 121


1- راجع: مسند أحمد بن حنبل: ج 1 ص 193، الجامع الصحيح للترمذي: ج 5 ص 605 ح 3747 و ص 606 ح 3748، سنن أبي داود: ج 4 ص 212 ح 4649، الرياض النضرة لمحب الدين: ج 1 ص 34 - 35، المستدرك للحاكم: ج 3 ص 316 - 317 و 440، كنز العمال: ج 11 ص 638 ح 33105 و 33106 و ص 646 ح 33137، سلسلة الأحاديث الصحيحة: ج 3 ص 419 ح 1435. وقد فند المأمون العباسي هذا الحديث كما جاء في مناظرته مع العامة . وقد قال له أحدهم : إن النبي صلی اللّه عليه وآله شهد لعمر بالجنة في عشرة من الصحابة ؟ فقال له المأمون : لو كان هذا كما زعمتم ، لكان عمر لا يقول لحذيفة : نشدتك باللّه أمن المنافقين أنا ؟ فإن كان قد قال له النبي صلی اللّه عليه وآله : أنت من أهل الجنة ولم يصدقه حتى زكّاه حذيفة فصدق حذيفة ولم يصدق النبي صلی اللّه عليه وآله فهذا على غير الاسلام ، وإن كان قد صدق النبي صلی اللّه عليه وآله فلم سأل حذيفة ؟ وهذان الخيران متناقضان في أنفسهما . راجع عيون أخبار الرضا عليه السلام : ج 1 ص 203 ، مناظرات في الإمامة : ص 227 المناظرة الأربعون . وراجع كلام العلامة الأميني حول الحديث المذكور في كتابه الغدير : ج 10 ص 118 - 131 ح 37 فقد استوفى البحث حوله دلالة وسنداً .

قال الزبير: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعيد بن عمرو بن نفيل.

فقال له علي (عليه السلام): عددت تسعة فمن العاشر؟

قال له: أنت.

فقال له علي (عليه السلام): قد أقررت أني من أهل الجنة، وأما ما ادعيت لنفسك وأصحابك فأنا به من الجاحدين الكافرين.

قال له الزبير: أفتراه كذب على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)؟ قال (عليه السلام): ما أراه كذب، ولكنه واللّه، اليقين... الخ (1).

ومما روي في محاورتهما أيضا يوم الجمل ما ذكره أبو الفرج بن الجوزي بسنده عن عبد السلام - رجل من حية - قال: خلا علي (عليه السلام) بالزبير يوم الجمل فقال: أنشدك اللّه؟ هل سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، وأنت لاوي يدي سقيفة بني فلان: لتقاتلنه وأنت ظالم له؟ ثم لينصرن عليك؟!

ثم قال: قد سمعته لا جرم، لا أقاتلك!

ومن طريق آخر بسنده عن أبي جرو المازني قال: سمعت عليا (عليه السلام) وهو ناشد الزبير، فقال: أنشدك اللّه يا زبير، أما سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يقول: إنك تقاتلني وأنت ظالم؟!

قال: بلى، ولكني نسيت (2).

ص: 122


1- الإحتجاج للطبرسي: ج 1 ص 162، بحار الأنوار: ج 32 ص 197 ح 147 و ص 216 ح 171 و ج 36 ص 324 ح 182
2- العلل المتناهية لابن الجوزي: ج 2 ص 847 - 848 ح 1417 و 1418، تاريخ الأمم والملوك: ج 4 ص 509، الكامل في التاريخ: ج 3 ص 240.

وفي رواية أخرى قال له: نشدتك اللّه! أتذكر يوم مررت بي ورسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) متكئ على يدك، وهو جاء من بني عوف، فسلم علي وضحك في وجهي، فضحكت إليه، لم أزده على ذلك، فقلت: لا يترك ابن أبي طالب يا رسول اللّه زهوه! فقال لك: مه إنه ليس بذي زهو، أما إنك ستقاتله وأنت له ظالم!!

فاسترجع الزبير وقال: لقد كان ذلك، ولكن الدهر أنسانيه، ولأنصرفن عنك، فرجع. (1)

وفي رواية ثالثة عن أبي مخنف في كتاب الجمل، قال: برز علي (عليه السلام) يوم الجمل، ونادى بالزبير: يا أبا عبد اللّه، مرارا، فخرج الزبير فتقاربا حتى اختلفت أعناق خيلهما، فقال له علي (عليه السلام): إنما دعوتك لأذكرك حديثا قاله لي ولك رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): أتذكر يوم رآك وأنت معتنقي، فقال لك: أتحبه؟ قلت: وما لي لا أحبه وهو أخي وابن خالي! فقال: أما إنك ستحاربه وأنت ظالم له!

فاسترجع الزبير، وقال: أذكرتني ما أنسانيه الدهر، ورجع إلى صفوفه.

فقال له عبد اللّه ابنه: لقد رجعت إلينا بغير الوجه الذي فارقتنا به!

فقال: أذكرني علي (عليه السلام) حديثا أنسانيه الدهر، فلا أحاربه أبدا، وإني لراجع وتارككم منذ اليوم.

فقال له عبد اللّه: ما أراك إلا جبنت عن سيوف بني عبد المطلب، إنها لسيوف حداد، تحملها فتية أنجاد.

ص: 123


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 2 ص 167.

فقال الزبير: ويلك! أتهيجني على حربه، أما إني قد حلفت ألا أحاربه!

قال: كفر عن يمينك، لا تتحدث نساء قريش أنك جبنت، وما كنت جبانا؟!

فقال الزبير: غلامي مكحول حر، كفارة عن يميني (1) ثم انصل سنان رمحه، وحمل على عسكر علي (عليه السلام) برمح لا سنان له.

فقال علي (عليه السلام): أفرجوا له، فإنه مخرج، ثم عاد إلى أصحابه، ثم حمل ثانية، ثم ثالثة، ثم قال لابنه: أجبنا ويلك ترى!

فقال: لقد أعذرت.

قال أبو مخنف: لما أذكر علي (عليه السلام) الزبير بما أذكره به ورجع الزبير، قال:

نادى علي بأمر لست أنكره *** وكان عمر أبيك الخير مذ حين

فقلت حسبك من عذل أبا حسن *** بعض الذي قلت منذ اليوم يكفيني

ترك الأمور التي تخشى مغبتها *** واللّه أمثل في الدنيا وفي الدين

فاخترت عارا على نار مؤججة *** أنى يقوم لها خلق من الطين

قال: لما خرج علي (عليه السلام) لطلب الزبير، خرج حاسرا، وخرج إليه الزبير

ص: 124


1- قال همام الثقفي في فعل الزبير وما فعل وعتقه عبده في قتال علي (عليه السلام): أيعتق مكحولا ويعصي نبيه *** لقد تاه عن قصد الهدى ثم عوق أينوي بهذا الصدق والبر والتقى *** سيعلم يوما من يبر ويصدق لشتان ما بين الضلال والهدى *** وشتان من يعصي النبي (صلى اللّه عليه وآله) ويعتق ومن هو في ذات الإله مشمر *** يكبر برا ربه ويصدق أخي الحق أن يعصى النبي (صلى اللّه عليه وآله) سفاهة *** ويعتق من عصيانه ويطلق كدافق ماء للسراب يؤمه *** ألا في ضلال ما يصب ويدفق بحار الأنوار: ج 32 ص 204 ح 158.

دارعا مدججا، فقال للزبير: يا أبا عبد اللّه، قد لعمري أعددت سلاحا، وحبذا! فهل أعددت عند اللّه عذرا؟!

فقال الزبير: إن مردنا إلى اللّه؟

قال علي (عليه السلام): (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (1)، ثم أذكره الخبر، فلما كر الزبير راجعا إلى أصحابه نادما واجما، رجع علي (عليه السلام) إلى أصحابه جدلا مسرورا، فقال له أصحابه: يا أمير المؤمنين، تبرز إلى الزبير حاسرا، وهو شاك في السلاح، وأنت تعرف شجاعته!

قال: إنه ليس بقاتلي، إنما يقتلني رجل خامل الذكر، ضئيل النسب غيلة في غير مأقط (2) حرب، ولا معركة رجال، ويل أمه أشقى البشر، ليودن أن أمه هبلت به! أما إنه وأحمر ثمود لمقرونان في قرن (3).

ص: 125


1- سورة النور: الآية 25
2- المأقط: ساحة القتال
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 1 ص 233 - 235، البداية والنهاية: ج 7 ص 240 - 241، الفتوح لابن أعثم: ج 2 ص 309 - 312، بحار الأنوار: ج 32 ص 189 ح 140.

المناظرة الثامنة عشر: مناظرة الإمام الجواد (عليه السلام) مع يحيى بن أكثم في بعض الأحاديث الموضوعة

روي أن المأمون بعدما تزوج ابنته أم الفضل أبا جعفر (عليه السلام)، كان في مجلس وعنده أبو جعفر (عليه السلام) ويحيى بن أكثم وجماعة كثيرة.

فقال له يحيى بن أكثم: ما تقول يا بن رسول اللّه في الخبر الذي روي: أنه نزل جبرئيل (عليه السلام) على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وقال: يا محمد! إن اللّه عز وجل يقرؤك السلام ويقول لك: سل أبا بكر هل هو عني راض فإني عنه راض. (1)

فقال أبو جعفر (عليه السلام): لست بمنكر فضل أبي بكر، ولكن يجب على صاحب هذا الخبر أن يأخذ مثال الخبر الذي قاله رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في حجة الوداع: قد كثرت علي الكذابة وستكثر بعدي فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، فإذا أتاكم الحديث عني فاعرضوه على كتاب اللّه عز وجل وسنتي، فما

ص: 126


1- ذكره الأميني عليه الرحمة في الغدير: ج 5 ص 321 في سلسلة الموضوعات رقم: 65، قال: أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد: ج 2 ص 106 من طريق محمد بن بابشاد صاحب الطامات، ساكتا عن بطلانه جريا على عادته، وذكره الذهبي في ميزان الاعتدال: ج 2 ص 302 فقال: كذب، أقول: وقد نص ابن أبي الحديد في شرح النهج: ج 11 ص 49 على أنه من وضع البكرية.

وافق كتاب اللّه وسنتي فخذوا به، وما خالف كتاب اللّه وسنتي فلا تأخذوا به (1) وليس يوافق هذا الخبر كتاب اللّه، قال اللّه تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (2) فاللّه عز وجل خفي عليه رضاء أبي بكر من سخطه حتى سأل عن مكنون سره؟ هذا مستحيل في العقول!

ثم قال يحيى بن أكثم: وقد روي: أن مثل أبي بكر وعمر في الأرض كمثل جبرئيل وميكائيل في السماء (3).

فقال (عليه السلام): وهذا أيضا يجب أن ينظر فيه، لأن جبرئيل وميكائيل ملكان لله مقربان لم يعصيا اللّه قط، ولم يفارقا طاعته لحظة واحدة، وهما قد أشركا باللّه عز وجل وإن أسلما بعد الشرك، فكان أكثر أيامهما الشرك باللّه فمحال أن يشبههما بهما.

قال يحيى: وقد روي أيضا: أنهما سيدا كهول أهل الجنة (4) فما تقول فيه؟

ص: 127


1- وعنه بحار الأنوار: ج 2 ص 225 ح 2، (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) راجع: صحيح البخاري: ج 1 ص 38، مسند أحمد بن حنبل: ج 1 ص 78، مجمع الزوائد: ج 1 ص 142، إتحاف السادة المتقين: ج 1 ص 258، كنز العمال: ج 10 ص 297 ح 29498.
2- سورة ق: الآية 16
3- الدر المنثور للسيوطي: ج 4 ص 107، كنز العمال: ج 11 ص 569 ح 32695 و ج 13 ص 18 ح 36134 و ص 19 ح 26137، وذكره الأصبهاني في حلية الأولياء: ج 4 ص 304 وقال عنه: غريب من حديث سعيد بن جبير تفرد به رباح عن ابن عجلان.
4- صحيح الترمذي: ج 5 ص 570، سنن ابن ماجة: ج 1 ص 36 و 38، مجمع الزوائد: ج 1 ص 89، الإمامة والسياسة: ج 1 ص 9 - 10، كنز العمال: ج 11 ص 573 ح 32712 و 32713، وجميع أسانيد هذا الحديث ساقطة عن الاعتبار بشهادة علماء الحديث لوقوع من لا يحتج بقوله في أسانيدها أو لضعفه وعدم وثاقته، والمتأمل في هذا الحديث إنه وضع من قبل الأمويين في قبال حديث النبي (صلى اللّه عليه وآله) في الحسن والحسين (عليهما السلام): إنهما سيدا شباب أهل الجنة. ومن أراد التوسع والاطلاع على طبيعة هذا الحديث ووضعه وسقوطه فليراجع ما كتبه المحقق العلامة السيد علي الميلاني في كتابه (الإمامة في أهم الكتب الكلامية): ص 451 تحت عنوان رسالة في حديث سيدا كهول أهل الجنة، فإنه أشبع الموضوع وناقشه سندا ودلالة. وراجع: كلام الشيخ الطوسي عليه الرحمة حول الحديث المذكور في تلخيص الشافي: ج 3 ص 219. وذكره الحجة الأميني عليه الرحمة: في سلسلة الموضوعات: ج 5 ص 322 رقم: 71 ، قال عنه: من موضوعات يحيی بن عنبسة، و هو ذلك الدجال الوضاع، ذكره الذهبي في الميزان : ج 3 ص 126. الخ.

فقال (عليه السلام): وهذا الخبر محال أيضا، لأن أهل الجنة كلهم يكونون شبانا ولا يكون فيهم كهل، وهذا الخبر وضعه بنو أمية لمضادة الخبر الذي قاله رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في الحسن والحسين (عليهما السلام) بأنهما سيدا شباب أهل الجنة. (1)

فقال يحيى بن أكثم: وروي: أن عمر بن الخطاب سراج أهل الجنة. (2)

فقال (عليه السلام): وهذا أيضا محال، لأن في الجنة ملائكة اللّه المقربين، وآدم ومحمد (صلى اللّه عليه وآله) وجميع الأنبياء والمرسلين، لا تضئ الجنة بأنوارهم حتى تضئ

ص: 128


1- راجع: المعجم الكبير للطبراني: ج 3 ص 25 - 30 ح 2598 - 2618، مجمع الزوائد: ج 9 ص 182 - 184، حلية الأولياء للأصبهاني: ج 5 ص 71، مقتل الحسين للخوارزمي: ج 1 ص 92، ترجمة الإمام الحسين (عليه السلام) من تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ص 72 ح 129 و ص 74 ح 132 وص 76 ح 133 وص 77 ح 134 وص 79 ح 138 وص 80 - 83 - 139 - 143 ، فرائد السمطين للجويني : ج 2 ص 41 ح 374، وص 98 - 99 ح 409 و 410 و ص 129 ح 28 4 . بحار الأنوار: ج 11 ص 164 ح 9 وج 16 ص 362 ح 62 وج 22 ص 280 ح 33 وج 25 ص360 ح 18 .
2- الرياض النضرة لمحب الدين: ج 2 ص 311، كنز العمال: ج 11 ص 577 ح 32734، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 12 ص 178، وذكر في ص 180 ما ذكر من الاعتراض على الحديث المذكور، قال: قالوا: وأما كونه سراج أهل الجنة، فيقتضي أنه لو لم يكن تجلى عمر لكانت الجنة مظلمة لا سراج لها.

بنور عمر؟! فقال يحيى بن أكثم: وقد روي: أن السكينة تنطق على لسان عمر. (1)

فقال (عليه السلام): لست بمنكر فضل عمر، ولكن أبا بكر أفضل من عمر، فقال - على رأس المنبر -: «إن لي شيطانا يعتريني، فإذا ملت فسددوني» (2).

فقال يحيى: قد روي أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) قال: «لو لم أبعث لبعث عمر». (3)

ص: 129


1- ورووا في بعض الأخبار بما نصه: إن اللّه جعل الحق على لسان عمر، إن اللّه نزل الحق على قلب عمر ولسانه، إن السكينة تنطق على لسان عمر. راجع: الرياض النضرة لمحب الدين: ج 2 ص 298 - 299، المستدرك للحاكم: ج 3 ص 87، كنز العمال: ج 11 ص 573 ح 32714 - 32718. قال الشيخ الطوسي عليه الرحمة في تلخيص الشافي : ج 2 ص 347 : وأما ما روي من قوله : الحق ينطق على لسان عمر ، فإن كان صحيحاً فانه يقتضي عصمة عمر ، والقطع على أن أقواله كلها حجة ، وليس هذا مذهب أحد فيه ، لأنه لا خلاف في أنه ليس بمعصوم ، وأن خلافه سائغ ، وكيف يكون الحق ناطقاً على لسان من يرجع في الأحكام من قول إلى قول ، وشهد لنفسه بالخطأ ، ويخالف بالشيء ثم يعود إلى قول من خالفه ويوافقه عليه ، ويقول : لولا على لهلك عمر . ولولا معاد لهلك عمر ، وكيف لا يحتج بهذا الخبر هو لنفسه في بعض المقامات التي احتاج إلى الاحتجاج فيها . الخ . وراجع كلام العلّامة الأميني عليه الرحمة حول الحديث في الغدير : ج 8 ص 92 - 93 ، وما أورد على الحديث من الاعتراضات راجع : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 12 ص 178 - 188.
2- راجع: تاريخ الأمم والملوك للطبري: ج 3 ص 224، مجمع الزوائد ج 5 ص 183، البداية والنهاية: ج 6 ص 303، الإمامة والسياسة: ج 1 ص 22، كنز العمال: ج 5 ص 587 - 588 ح 14050، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 6 ص 20، تاريخ الخلفاء للسيوطي: ص 54
3- راجع: فضائل الصحابة لابن حنبل: ج 6 ص 356 ح 519 و ص 428 ح 676، ضعفاء الرجال للجرجاني: ج 4 ص 1511، كنز العمال: ج 11 ص 581 ح 32761 - 32763، مجمع الزوائد: ج 9 ص 68، اللآلئ المصنوعة: ج 1 ص 302، بتفاوت. ويعد هذا الحديث من الموضوعات، ذكره العلامة الأميني في كتابه الغدير: ج 5 ص 312 (في سلسلة الموضوعات) رقم: 30 - عن بلال بن رباح: لو لم أبعث فيكم لبعث عمر. وأخرجه ابن عدي بطريقين، وقال: لا يصح، زكريا كذاب يضع، وابن واقد (عبد اللّه) متروك، ومشرح بن عاهان لا يحتج به. وأورده بالطريقين ابن الجوزي في الموضوعات: ج 1 ص 320 (ب فضل عمر بن الخطاب)، فقال: هذان حديثان لا يصحان عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، أما الأول، فإن زكريا بن يحيى كان من الكذابين الكبار، قال ابن عدي: كان يضع الحديث. وأما الثاني، فقال أحمد: ويحيى بن عبد اللّه بن واقد ليس بشئ، وقال النسائي: متروك الحديث. وقال ابن حبان: انقلبت على مشرح صحائفه، فبطل الاحتجاج به. وأخرجه ابن عساكر في تاريخه: ج 44 ص 114 - 115 من طريق مشرح بن عاهان، تارة بلفظ: لو لم أبعث فيكم لبعث عمر، وتارة بلفظ: لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب. وذكره ابن أبي الحديد في شرح النهج: ج 12 ص 178، وذكر في ص 180: ما ذكر من الاعتراض على الحديث المذكور، قال: وقالوا: والحديث الذي مضمونه: لو لم أبعث فيكم لبعث عمر، فيلزم أن يكون رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) عذابا على عمر، وأذى شديدا له، لأنه لو لم يبعث لبعث عمر نبيا ورسولا، ولم نعلم مرتبة أجل من رتبة الرسالة، فالمزيل لعمر عن هذه الرتبة التي ليس وراءها رتبة، ينبغي ألا يكون في الأرض أحد أبغض إليه منه.

فقال (عليه السلام): كتاب اللّه أصدق من هذا الحديث، يقول اللّه في كتابه: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) (1) فقد أخذ اللّه ميثاق النبيين فكيف يمكن أن يبدل ميثاقه، وكل الأنبياء (عليهم السلام) لم يشركوا باللّه طرفة عين، فكيف يبعث بالنبوة من أشرك وكان أكثر أيامه مع الشرك باللّه، وقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): بعثت وآدم بين الروح والجسد (2).

فقال يحيى بن أكثم: وقد روي أيضا أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) قال: ما احتبس عني

ص: 130


1- سورة الأحزاب: الآية 7
2- الأسرار المرفوعة للقاري: ص 179 ح 697، كشف الخفاء للعجلوني: ج 2 ص 191، تذكرة الموضوعات للفتني: ص 86، تنزيه الشريعة لابن عراق: ج 2 ص 341، الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة للسيوطي: ص 126، بحار الأنوار: ج 15 ص 353 ح 13.

الوحي قط إلا ظننته قد نزل على آل الخطاب. (1) فقال (عليه السلام): وهذا محال أيضا، لأنه لا يجوز أن يشك النبي (صلى اللّه عليه وآله) في نبوته، قال اللّه تعالى: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) (2) فكيف يمكن أن تنتقل النبوة مما اصطفاه اللّه تعالى إلى من أشرك به.

قال يحيى: روي أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) قال: لو نزل العذاب لما نجى منه إلا عمر (3).

فقال (عليه السلام) وهذا محال أيضا، لأن اللّه تعالى يقول: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (4) فأخبر سبحانه أنه لا يعذب أحدا ما دام فيهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وما داموا يستغفرون اللّه (5).

ص: 131


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 12 ص 178
2- سورة النساء: الآية 77
3- الشفاء بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض: ج 2 ص 364، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: ج 8 ص 47، الدر المنثور للسيوطي: ج 4 ص 108، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 12 ص 178 وقد ذكر ابن أبي الحديد الاعتراض المذكور على الحديث، قال - في ص 180 -: قالوا: وكيف يجوز أن يقال: لو نزل العذاب لم ينج منه إلا عمر، واللّه تعالى يقول: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)
4- سورة الأنفال: الآية 33
5- الإحتجاج للطبرسي: ج 2 ص 446 - 449، وعنه بحار الأنوار: ج 50 ص 80 ح 6.

ص: 132

مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) وفضل العترة (عليهم السلام)

اشارة

ص: 133

ص: 134

المناظرة التاسعة عشر: مناظرة الإمامين زين العابدين والباقر (عليهما السلام) مع بعضهم حول مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) وعدم إنصاف بعض الناس له

روي عن أبي محمد الحسن العسكري (عليهما السلام) أنه قال: كان علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) جالسا في مجلسه، فقال يوما في مجلسه: إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لما أمر بالمسير إلى تبوك، أمر بأن يخلف عليا بالمدينة، فقال علي (عليه السلام): يا رسول اللّه! ما كنت أحب أن أتخلف عنك في شئ من أمورك، وأن أغيب عن مشاهدتك والنظر إلى هديك وسمتك.

فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): يا علي! أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي (1)، تقيم يا علي وإن لك في مقامك من الأجر مثل الذي يكون لك لو خرجت مع رسول اللّه، ولك مثل أجور كل من خرج مع رسول اللّه موقنا طائعا، وإن لك على اللّه يا علي لمحبتك أن تشاهد من محمد سمته في سائر أحواله، بأن يأمر جبرئيل في جميع مسيرنا هذا أن يرفع الأض التي نسير عليها، والأرض التي تكون أنت عليها، ويقوي بصرك حتى تشاهد محمدا وأصحابه في سائر أحوالك وأحوالهم، فلا يفوتك الأنس من رؤيته ورؤية أصحابه، ويغنيك ذلك عن المكاتبة والمراسلة.

ص: 135


1- مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) لابن المغازلي: ص 27 - 37 ح 40 - 56، بحار الأنوار: ج 2 ص 226 ح 3، و ج 5 ص 21 ح 30.

فقام رجل من مجلس زين العابدين (عليه السلام) لما ذكر هذا، وقال له: يا بن رسول اللّه! كيف يكون هذا لعلي؟ إنما يكون هذا للأنبياء لا لغيرهم.

فقال زين العابدين (عليه السلام): هذا هو معجزة لمحمد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لا لغيره، لأن اللّه تعالى إنما رفعه بدعاء محمد، وزاد في نور بصره أيضا بدعاء محمد، حتى شاهد ما شاهد وأدرك ما أدرك.

ثم قال له الباقر (عليه السلام): يا عبد اللّه! ما أكثر ظلم كثير من هذه الأمة لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، وأقل إنصافهم له؟! يمنعون عليا ما يعطونه ساير الصحابة، وعلي أفضلهم، فكيف يمنع منزلة يعطونها غيره؟!

قيل: وكيف ذاك يا بن رسول اللّه؟

قال: لأنكم تتولون محبي أبي بكر بن أبي قحافة، وتبرؤون من أعدائه كائنا من كان، وكذلك تتولون عمر بن الخطاب، وتتبرؤون من أعادئه كائنا من كان، وتتولون عثمان بن عفان، وتتبرؤون من أعادئه كائنا من كان، حتى إذا صار إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قالوا: نتولى محبيه، ولا نتبرأ من أعدائه بل نحبهم!! فكيف يجوز هذا لهم، ورسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يقول في علي (عليه السلام): اللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله » (1) أفترونه لا يعادي من عاداه؟! ولا يخذل من يخذله؟! ليس هذا بإنصاف (2)!!

ص: 136


1- راجع: مسند أحمد بن حنبل: ج 1 ص 219، و ج 4 ص 281 و ج 5 ص 370، مجمع الزوائد: ج 9 ص 107، كنز العمال: ج 13 ص 104 ح 36342 و ص 138 ح 36437 و ص 170 ح 36515، البداية والنهاية: ج 5 ص 211 و ص 212 و ج 7 ص 335، وغيرها الكثير
2- إذ أن مقتضى المحبة ومن لوازمها أيضا هو محبة محب المحبوب - كما قيل: ألف عين لأجل عين تكرم - ومعاداة عدو المحبوب، فإن محبة المحبوب وموالاة أعدائه لا تجتمعان، قال الشاعر: تود عدوي ثم تزعم أنني *** صديقك، إن الرأي عنك لعازب وقال شاعر آخر: صديق صديقي داخل في صداقتي *** صديق عدوي ليس لي بصديق فإذا كان هذا هو مقتضى الصداقة والأخوة، فكيف بمن هم ولاة الدين وحماته، ومن كان أخا لرسول اللّه (عليه السلام) ونفسه بنص الآية الشريفة (وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ) ذلك هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، أضف إلى ذلك نص الأدلة الآمرة بولايته ومعاداة أعدائه، والبراءة منهم، وأن المحب له (عليه السلام) محبا لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، وأن مبغضه مبغضا له (صلى اللّه عليه وآله) وأن بغض أمير المؤمنين (عليه السلام) ومحبة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لا يجتمعان، وإليك بعض الأحاديث في ذلك على سبيل المثال: 1 - قوله (صلى اللّه عليه وآله): محبك محبي ومبغضك مبغضي. (كنز العمال: ج 11 ص 622 ح 33023) 2 - قوله (صلى اللّه عليه وآله) : يا علي كذب من زعم أنه يحبني ويبغضك . (ميزان الاعتدال : ج 3 ص 596 ترجمة رقم : 7707 ، لسان المیزان : ج 5 ص 206 ترجمة رقم : 722، كتاب المجروحين لابن حيان : ج 2 ص 310). 3 - قوله (صلى اللّه عليه وآله): من أحب علياً فقد أحبني ، ومن أبغض علياً فقد أبغضني ، ومن أبغضني فقد أبغض اللّه . (سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني : ج 3 ص 288 ، كنز العمال : ج 11 ص 601 ح 32902 وص 622 ح 33024 ، مجمع الزوائد : ج 1 ص 132) . 4 - قوله (صلى اللّه عليه وآله) : هذا ولتي وأنا وليه ، عاديت من عاداه وسالمت من سالمه . 5 - قوله (صلى اللّه عليه وآله) : عدوك عدوي ، وعدوي عدو اللّه عزّ وجلّ . 6 - قول أمير المؤمنين عليه السلام : يهلك في ثلاثة : اللاعن والمستمع المقر ، وحامل الوزر ، وهو الملك المترف ، الذي يُتقرب إليه بلعنتي، ويُبرأ عنده من ديني ، وينتقص عنده حسبي ، وإنما حسبي حسب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ، وديني دينه ، وينجو في ثلاثة : من أحبني ، ومن أحب محبي . ومن عادى عدوي ، فمن أشرب قلبه بغضي أو ألب على بغضي ، أو انتقصني ، فليعلم أنَّ اللّه عدوه وخصمه (وجبرئيل) واللّه عدو للكافرين (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 4 ص 105 - 107).

ثم أخرى: أنهم إذا ذكر لهم ما اختص اللّه به عليا (عليه السلام) بدعاء رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، وكرامته على ربه تعالى جحدوه، وهم يقبلون ما يذكر لهم في غيره من الصحابة،

ص: 137

فما الذي منع عليا (عليه السلام) ما جعله لسائر أصحاب رسول اللّه؟ هذا عمر بن الخطاب، إذا قيل لهم: إنه كان على المنبر بالمدينة يخطب إذ نادى في خلال خطبته: يا سارية (1) الجبل! عجبت الصحابة وقالوا: ما هذا الكلام الذي في هذه الخطبة؟ فلما قضى الخطبة والصلاة قالوا: ما قولك في خطبتك يا سارية الجبل؟

فقال: اعلموا أني وأنا أخطب إذ رميت ببصري نحو الناحية التي خرج فيها إخوانكم إلى غزو الكافرين بنهاوند، وعليهم سعد بن أبي وقاص، ففتح اللّه لي الأستار والحجب، وقوي بصري حتى رأيتهم وقد اصطفوا بين يدي جبل هناك، وقد جاء بعض الكفار ليدور خلف سارية، وسائر من معه من المسلمين، فيحيطوا بهم فيقتلوهم، فقلت: يا سارية الجبل، ليلتجئ إليه، فيمنعهم ذلك من أن يحيطوا به، ثم يقاتلوا، ومنح اللّه إخوانكم المؤمنين أكناف الكافرين، وفتح اللّه عليهم بلادهم، فاحفظوا هذا الوقت، فسيرد عليكم الخبر بذلك، وكان بين المدينة ونهاوند مسيرة أكثر من خمسين يوما.

قال الباقر (عليه السلام): فإذا كان مثل هذا لعمر، فكيف لا يكون مثل هذا لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)؟! ولكنهم قوم لا ينصفون بل يكابرون (2).

ص: 138


1- هو سارية بن زنيم الدئلي، والقصة مذكورة في الكامل لابن الأثير: ج 3 ص 42 عند ذكره (فتح فسا ودار ابجرد)، تاريخ الأمم والملوك للطبري: ج 4 ص 178، تاريخ الخلفاء للسيوطي: ص 125 (فصل في كراماته)، دلائل النبوة لأبي نعيم: ج 2 ص 578 - 581 ح 525 - 528، تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي: ص 155 - 156، الرياض النضرة لمحب الدين: ج 2 ص 326 - 327
2- تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): ص 561 - 563 ح 331، الإحتجاج للطبرسي: ج 2 ص 330 - 331، بحار الأنوار: ج 21 ص 238 - 240 ح 24.

المناظرة العشرون: مناظرة الإمام الكاظم (عليه السلام) مع عبد اللّه بن نافع في مسألة قتال أمير المؤمنين (عليه السلام) لأهل النهروان

الكليني: عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن الحسين بن يزيد النوفلي، عن علي بن داود اليعقوبي، عن عيسى بن عبد اللّه العلوي، قال:

وحدثني الأسيدي ومحمد بن مبشر أن عبد اللّه بن نافع الأزرق كان يقول: لو أني علمت أن بين قطريها أحدا تبلغني إليه المطايا، يخصمني أن عليا قتل أهل النهروان وهو لهم غير ظالم، لرحلت إليه.

فقيل له: ولا ولده؟

فقال: أفي ولده عالم؟

فقيل له: هذا أول جهلك، وهم يخلون من عالم؟!

قال: فمن عالمهم اليوم؟

قيل: محمد بن علي بن الحسين بن علي (عليهم السلام).

قال: فرحل إليه في صناديد أصحابه حتى أتى المدينة، فاستأذن على أبي جعفر (عليه السلام).

فقيل له: هذا عبد اللّه بن نافع.

فقال: وما يصنع بي وهو يبرء مني ومن أبي طرفي النهار.

ص: 139

فقال له أبو بصير الكوفي: جعلت فداك إن هذا يزعم أنه لو علم أن بين قطريها أحدا تبلغه المطايا إليه يخصمه أن عليا (عليه السلام) قتل أهل النهروان وهو لهم غير ظالم لرحل إليه.

فقال له أبو جعفر (عليه السلام): أتراه جاءني مناظرا؟ قال: نعم.

قال: يا غلام اخرج فحط رحله وقل له: إذا كان الغد فأتنا.

قال: فلما أصبح عبد اللّه بن نافع غدا في صناديد أصحابه، وبعث أبو جعفر (عليه السلام) إلى جميع أبناء المهاجرين والأنصار فجمعهم، ثم خرج إلى الناس في ثوبين ممغرين، وأقبل على الناس كأنه فلقة قمر، فقال: الحمد لله محيث الحيث، ومكيف الكيف، ومؤين الأين، الحمد لله الذي (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) إلى آخر الآية (1) - وأشهد أن لا إله إلا اللّه [وحده لا شريك له] وأشهد أن محمدا (صلى اللّه عليه وآله) عبده ورسوله، اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم، الحمد لله الذي أكرمنا بنبوته، واختصنا بولايته، يا معشر أبناء المهاجرين والأنصار من كانت عنده منقبة في علي بن أبي طالب (عليه السلام) فليقم وليتحدث؟

قال: فقام الناس فسردوا تلك المناقب.

فقال عبد اللّه: أنا أروي لهذه المناقب من هؤلاء، وإنما أحدث علي الكفر بعد تحكيمه الحكمين - حتى انتهوا في المناقب إلى حديث خيبر لأعطين الراية غدا رجلا يحب اللّه ورسوله، ويحبه اللّه ورسوله، كرارا غير فرار، لا يرجع حتى

ص: 140


1- سورة البقرة: الآية 255.

يفتح اللّه على يديه (1).

فقال أبو جعفر (عليه السلام): ما تقول في هذا الحديث؟

فقال: هو حق لا شك فيه، ولكن أحدث الكفر بعد.

فقال له أبو جعفر (عليه السلام): أخبرني عن اللّه عز وجل أحب علي بن أبي طالب يوم أحبه وهو يعلم أنه يقتل أهل النهروان أم لم يعلم؟ قال ابن ناقع: أعد علي؟! فقال له أبو جعفر (عليه السلام): أخبرني عن اللّه جل ذكره أحب علي بن أبي طالب (عليه السلام) يوم أحبه، وهو يعلم أنه يقتل أهل النهروان أم لم يعلم؟ قال: إن قلت: لا، كفرت. قال: فقال: قد علم.

قال: فأحبه اللّه على أن يعمل بطاعته أو على أن يعمل بمعصيته؟ فقال: على أن يعمل بطاعته.

فقال له أبو جعفر (عليه السلام): فقم مخصوما.

فقام وهو يقول: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) (2)، واللّه أعلم حيث يجعل رسالته. (3)

ص: 141


1- يعد هذا الحديث من المتواترات، فقد رواه الجمهور في الصحاح والسنن، فراجع على سبيل المثال: مسند أحمد بن حنبل: ج 1 ص 99، مجمع الزوائد للهيثمي: ج 6 ص 150 و ج 9 ص 124، المعجم الكبير للطبراني: ج 18 ص 237 - 238 ح 594 - 598، إتحاف السادة المتقين للزبيدي: ج 1 ص 106 و ج 7 ص 188، البداية والنهاية لابن كثير: ح 7 ص 225 و 338 و
2- سورة البقرة: الآية 187
3- الروضة من الكافي للكليني: ج 8 ص 349 - 351 ح 548.

المناظرة الحادية والعشرون: مناظرة الإمام الرضا (عليه السلام) مع علماء أهل العراق وخراسان في فضل العترة على الأمة

عن الريان بن الصلت (1) قال: حضر الرضا (عليه السلام) مجلس المأمون بمرو (2) وقد اجتمع في مجلسه جماعة من علماء أهل العراق وخراسان.

فقال المأمون: أخبروني عن معنى هذه الآية: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) (3).

فقالت العلماء: أراد اللّه عز وجل بذلك الأمة كلها.

ص: 142


1- هو: الريان أبو علي بن الصلت البغدادي الأشعري القمي من أصحاب الإمام الرضا (عليه السلام) وروى عنه، كان ثقة صدوقا، له كتاب جمع فيه كلام الرضا (عليه السلام) في الفرق بين الآل والأئمة (عليهم السلام)، وله روايات نافعة في الأحكام وفي أحوال الرضا (عليه السلام) مذكورة في كتب الفروع والأصول كما له رواية مفصلة حاكية لبيانات من الرضا (عليه السلام) في فضل أهل البيت (عليهم السلام) أذعن بها المأمون والحاضرون في مجلسه من علماء أهل العراق وخراسان. أنظر ترجمته في: تنقيح المقال للعلامة المامقاني: ج 1 ص 436 ترجمة رقم: 4183.
2- مرو الشاهجان: هي أشهر مدن خراسان، وقصبتها وهي العظمى، بينها وبين نيسابور سبعون فرسخا، وإلى سرخس ثلاثون فرسخا، وبها نهر الرزيق والشاهجان، وهما نهران كبيران يخترقان شوارعها، ومنها يسقي أكثر ضياعها. مراصد الاطلاع: ج 3 ص 1262.
3- سورة فاطر: الآية 32.

فقال المأمون: ما تقول يا أبا الحسن؟

فقال الرضا (عليه السلام): لا أقول كما قالوا ولكني أقول: أراد اللّه عز وجل بذلك العترة الطاهرة (1).

فقال المأمون: وكيف عنى العترة من دون الأمة؟

فقال الرضا (عليه السلام): إنه لو أراد الأمة لكانت أجمعها في الجنة لقول اللّه عز وجل: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (2)، ثم جمعهم كلهم في الجنة فقال عز وجل: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) (3) الآية، فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم.

فقال المأمون: من العترة الطاهرة؟

فقال الرضا (عليه السلام): الذين وصفهم اللّه في كتابه فقال عز وجل: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (4) وهم الذين قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): إني مخلف فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، أيها الناس لا تعلموهم

ص: 143


1- قد جاء في الأخبار أن هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين (عليه السلام)، راجع: شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي: ج 2 ص 155 - 157 ح 782 - 783، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي: ب 30 ص 104، غاية المرام للبحراني: ب 51 و 52 ص 351
2- سورة فاطر: الآية 32
3- سورة فاطر: الآية 33
4- سورة الأحزاب: الآية 33.

فإنهم أعلم منكم (1).

قالت العلماء: أخبرنا يا أبا الحسن عن العترة أهم الآل أم غير الآل؟

فقال الرضا (عليه السلام): هم الآل.

فقالت العلماء: فهذا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يؤثر عنه أنه قال: أمتي آلي وهؤلاء أصحابه يقولون بالخبر المستفاض الذي لا يمكن دفعه، (آل محمد أمته).

فقال أبو الحسن (عليه السلام): أخبروني فهل تحرم الصدقة على الآل؟

فقالوا: نعم.

قال: فتحرم على الأمة.

قالوا: لا.

قال: هذا فرق بين الآل والأمة، ويحكم أين يذهب بكم؟ أضربتم عن الذكر صفحا أم أنتم قوم مسرفون؟ أما علمتم أنه وقعت الوراثة والطهارة على المصطفين المهتدين دون سائرهم؟

قالوا: ومن أين يا أبا الحسن؟

فقال من قول اللّه عز وجل: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي

ص: 144


1- حديث الثقلين من الأحاديث المتواترة وقد أخرجه علماء السنة في كتبهم من الصحاح والسنن منها: مسند أحمد بن حنبل: ج 3 ص 14 و 17، صحيح مسلم: ج 4 ص 1874 ح 37، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي: ب 4 ص 30، فرائد السمطين: ج 2 ص 142 ح 436 - 441، الصواعق المحرقة لابن حجر: ص 149 و 228، بحار الأنوار للمجلسي: ج 23 ص 108 ح 11 و 12 و ص 134 ح 72، و ص 147 ح 109.

ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (1) فصارت وراثة النبوة والكتاب للمهتدين دون الفاسقين، أما علمتم أن نوحا حين سأل ربه عز وجل: (فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) (2) وذلك - أن اللّه عز وجل وعده أن ينجيه وأهله فقال ربه عز وجل:

(قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (3).

فقال المأمون: هل فضل اللّه العترة على سائر الناس؟

فقال أبو الحسن: إن اللّه عز وجل أبان فضل العترة على سائر الناس في محكم كتابه.

فقال له المأمون: وأين ذلك من كتاب اللّه؟

فقال له الرضا (عليه السلام): في قول اللّه عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (4).

وقال عز وجل في موضع آخر: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) (5) ثم

ص: 145


1- سورة الحديد: الآية 26
2- سورة هود: الآية 45
3- سورة هود: الآية 46
4- سورة آل عمران: الآية 33 و 34
5- سورة النساء: الآية 54. فقد روي أن هذه الآية الشريفة نزلت في أهل البيت (عليهم السلام) وأنهم هم المحسودون، كما ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنه قال: نحن الناس المحسودون واللّه. راجع: ينابيع المودة للقندوزي الحنفي: ب 59 ص 298، الصواعق المحرقة لابن حجر الشافعي: ص 152، نور الأبصار للشبلنجي: ص 102 ط السعيدية و ص 124 نشر دار الفكر، شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني الحنفي: ج 1 ص 183 - 185 ح 195 - 198، مناقب الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لابن المغازلي الشافعي: ص 267 ح 314، الغدير للأميني: ج 3 ص 61.

رد المخاطبة في أثر هذه إلى سائر المؤمنين فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (1) يعني الذي قرنهم بالكتاب والحكمة وحسدوا عليهما فقوله عز وجل: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) يعني الطاعة للمصطفين الطاهرين فالملك هنا هو الطاعة لهم.

فقالت العلماء: فأخبرنا هل فسر اللّه عز وجل الاصطفاء في الكتاب؟

فقال الرضا - عليه السلام -: فسر الاصطفاء في الظاهر سوى الباطن في اثني عشر موطنا وموضعا.

فأول ذلك قوله عز وجل: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (2) ورهطك

ص: 146


1- سورة النساء: الآية 59. فقد ذكر المفسرون وغيرهم أن المراد ب (أولي الأمر) هم علي (عليه السلام) والأئمة من ولده. راجع: شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني الحنفي: ج 1 ص 189 ح 202 - 203، التفسير الكبير للرازي: ج 10 ص 144، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي: ص 134 و 137 ط الحيدرية و ص 114 و 117 ط إسلامبول، فرائد السمطين: ج 1 ص 314 ح 250، إحقاق الحق للتستري : ج 3 ص 424.
2- سورة الشعراء: الآية 214. فقد روي أنه لما نزلت هذه الآية جمع النبي (صلى اللّه عليه وآله) عشيرته وكانوا أربعين رجلا ووضع لهم طعاما وبعد أن فرغوا قال لهم (صلى اللّه عليه وآله): يا بني هاشم من منكم يؤازرني على أمري هذا؟ فلم يجبه أحد فقال علي (عليه السلام): أنا يا رسول اللّه أؤازرك، قالها ثلاثا، وفي كل مرة يجيب علي أنا يا رسول اللّه فأخذ برقبته وقال: أنت وصيي وخليفتي من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا. وهذا الحديث من الأحاديث المتواترة فقد رواه جل الحفاظ والعلماء. راجع: شواهد التنزيل للحسكاني: ج 1 ص 485 ح 514 و 580، ترجمة الإمام علي ابن أبي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي: ج 1 ص 97 - 105 ح 133 - 140، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 13 ص 210 و 244، تاريخ الطبري: ج 2 ص 319 - 321.

المخلصين هكذا في قراءة أبي بن كعب وهي ثابتة في مصحف عبد اللّه بن مسعود، وهذه منزلة رفيعة وفضل عظيم وشرف عال حين عنى اللّه عز وجل بذلك الإنذار فذكره لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فهذه واحدة.

والآية الثانية في الاصطفاء قوله عز وجل: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (1) وهذا الفضل الذي لا يجهله أحد إلا معاند ضال لأنه فضل بعد طهارة تنتظر، فهذه الثانية.

وأما الثالثة فحين ميز اللّه الطاهرين من خلقه فأمر نبيه بالمباهلة بهم في آية الابتهال فقال عز وجل: يا محمد (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) (2) فبرز النبي (صلى اللّه عليه وآله) عليا والحسن

ص: 147


1- سورة الأحزاب: الآية 33
2- سورة آل عمران: الآية 61. فقد أجمع الجمهور على أن هذه الآية الشريفة نزلت في النبي (صلى اللّه عليه وآله) وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وذلك لما أراد المباهلة مع نصارى نجران. راجع: شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني الحنفي: ج 1 ص 155 - 166 ح 168 - 176، المستدرك للحاكم: ج 3 ص 150، أسباب النزول للواحدي: ص 58 - 59، صحيح مسلم: ج 4 ص 1871 ح 32، سنن الترمذي: ج 5 ص 210 ح 2999، إحقاق الحق للتستري: ج 3 ص 46 - 62.

والحسين وفاطمة - صلوات اللّه عليهم - وقرن أنفسهم بنفسه فهل تدرون ما معنى قوله: (وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ) ؟

قالت العلماء: عنى به نفسه.

فقال أبو الحسن (عليه السلام): لقد غلطتم إنما عنى بها علي بن أبي طالب (عليه السلام) ومما يدل على ذلك قول النبي (صلى اللّه عليه وآله) حين قال: لينتهين بنو وليعة أو لأبعثن إليهم رجلا كنفسي (1) يعني علي بن أبي طالب - عليه السلام - وعنى بالأبناء الحسن والحسين (عليهما السلام) وعنى بالنساء فاطمة (عليها السلام) فهذه خصوصية لا يتقدمهم فيها أحد، وفضل لا يلحقهم فيه بشر، وشرف لا يسبقهم إليه خلق، إذ جعل نفس علي (عليه السلام) كنفسه، فهذه الثالثة.

وأما الرابعة فإخراجه (صلى اللّه عليه وآله) الناس من مسجده ما خلا العترة حتى تكلم الناس في ذلك، وتكلم العباس فقال: يا رسول اللّه تركت عليا وأخرجتنا، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): ما أنا تركته وأخرجتكم ولكن اللّه عز وجل تركه وأخرجكم (2) وفي هذا تبيان قوله (صلى اللّه عليه وآله) لعلي (عليه السلام): أنت مني بمنزلة هارون من موسى (3).

ص: 148


1- راجع: مجمع الزوائد: ج 7 ص 110، فضائل الصحابة لابن حنبل: ج 2 ص 571 ح 966 و ص 593 ح 1008، الكتاب المصنف لابن أبي شيبة: ج 12 ص 85 ح 12186، المطالب العلية لابن حجر: ج 4 ص 56 ح 3949
2- راجع: المستدرك للحاكم: ج 3 ص 125، كفاية الطالب للكنجي الشافعي: ص 203، ينابيع المودة للقندوزي: ص 87، ترجمة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي: ج 1 ص 279 ح 324، إحقاق الحق: ج 5 ص 546 - 585، الغدير للأميني: ج 3 ص 202
3- راجع: صحيح البخاري: ج 5 ص 24، صحيح مسلم: ب من فضائل علي بن أبي طالب (عليه السلام) ج 4 ص 1870 ح 30، سنن الترمذي: ج 5 ص 596 ح 3724 و ص 598 ح 3730، مسند أحمد بن حنبل: ج 1 ص 179 و ج 3 ص 32، المستدرك للحاكم: ج 3 ص 109، ترجمة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) من تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 1 ص 125 ح 150 وغيرها الكثير.

قالت العلماء: وأين هذا من القرآن؟

قال أبو الحسن: أوجدكم في ذلك قرآنا وأقرأه عليكم.

قالوا: هات.

قال: قول اللّه عز وجل: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) (1) ففي هذه الآية منزلة هارون من موسى وفيها أيضا منزلة علي (عليه السلام) من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ومع هذا دليل واضح في قول رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) حين قال: ألا إن هذا المسجد لا يحل لجنب إلا لمحمد (صلى اللّه عليه وآله) (2).

قالت العلماء: يا أبا الحسن هذا الشرح وهذا البيان لا يوجد إلا عندكم معاشر أهل بيت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فقال: ومن ينكر لنا ذلك ورسول اللّه يقول: أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها (3)؟ ففيما أوضحنا وشرحنا من الفضل والشرف والتقدمة والاصطفاء والطهارة ما لا ينكره إلا معاند والحمد لله عز وجل على ذلك، فهذه الرابعة.

ص: 149


1- سورة يونس: الآية 87
2- راجع: ينابيع المودة للقندوزي الحنفي: ب 17 ص 87 - 88
3- راجع: المستدرك للحاكم: ج 3 ص 127، مجمع الزوائد: ج 9 ص 114، المعجم الكبير للطبراني: ج 11 ص 65 - 66، تاريخ بغداد: ج 4 ص 348، كنز العمال: ج 11 ص 614 ح 32979، ذخائر العقبى: ص 77، وقد أفردت لهذا الحديث كتب مستقلة، مثل كتاب فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي للمغربي.

والآية الخامسة قول اللّه عز وجل: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) (1) خصوصية خصهم اللّه العزيز الجبار بها واصطفاهم على الأمة فلما نزلت هذه الآية على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قال: ادعوا لي فاطمة، فدعيت له فقال: يا فاطمة قالت: لبيك يا رسول اللّه فقال: هذه فدك مما هي لم يوجف عليه بالخيل ولا ركاب وهي لي خاصة دون المسلمين وقد جعلتها لك لما أمرني اللّه تعالى به فخذيها لك ولولدك (2)، فهذه الخامسة.

والآية السادسة قول اللّه عز وجل: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (3) وهذه خصوصية للنبي (صلى اللّه عليه وآله) إلى يوم القيامة وخصوصية للآل دون غيرهم وذلك أن اللّه عز وجل حكى في ذكر نوح في كتابه: (وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ

ص: 150


1- سورة الإسراء: الآية 26
2- راجع: الدر المنثور للسيوطي: ج 5 ص 273 في تفسير قوله تعالى: (وآت ذا القربى حقه) ، شواهد التنزيل للحسكاني: ج 1 ص 438 - 442 ح 467 - 473، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي: ص 49 و 140 ط الحيدرية و ص 119 ط إسلامبول، إحقاق الحق للتستري: ج 3 ص 549، فضائل الخمسة من الصحاح الستة: ج 3 ص 136 وغيرها.
3- سورة الشورى : الآية 23. فقد روى الجمهور أنّ هذه الآية نزلت في قربى النبي صلی اللّه عليه وآله أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام . راجع : شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني الحنفي : ج 2 ص 189 - 211 ح 822 - 844 . الصواعق المحرقة لابن حجر الشافعي : ص 169 ، كفاية الطالب للكنجي الشافعي : ص 91 و 93 و 313 ط الفارابي و ص 31 و 32 و 175 و 178 ط الغري، التفسير الكبير للرازي : ج 27 ص 166 ، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي : ص 106 و 194 و 261 ط إسلامبول وص 123 و 229 و 311 ط الحيدرية ، فرائد السمطين : ج 1 ص 20 وج 2 ص 13 ح 359 ، إحقاق الحق للتستري : ج 3 ص 2 - 22 .

وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ) (1) وحكى عز وجل عن هود أنه قال: (يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (1) وقال عز وجل لنبيه محمد (صلى اللّه عليه وآله): قل: يا محمد (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) ولم يفرض اللّه تعالى مودتهم إلا وقد علم أنهم لا يرتدون عن الدين أبدا ولا يرجعون إلى ضلال أبدا.

وأخرى أن يكون الرجل وادا للرجل فيكون بعض أهل بيته عدوا له فلا يسلم له قلب الرجل، فأحب اللّه عز وجل أن لا يكون في قلب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) على المؤمنين شئ ففرض عليهم اللّه مودة ذوي القربى، فمن أخذ بها أحب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وأحب أهل بيته لم يستطع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أن يبغضه، ومن تركها ولم يأخذ بها وأبغض أهل بيته فعلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أن يبغضه، لأنه قد ترك فريضة من فرائض اللّه عز وجل فأي فضيلة وأي شرف يتقدم هذا أو يدانيه؟ فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية على نبيه (صلى اللّه عليه وآله): (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (2)، فقام رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في أصحابه فحمد اللّه وأثنى عليه وقال: يا أيها الناس إن اللّه عز وجل قد فرض لي عليكم فرضا فهل أنتم مؤدوه؟ فلم يجبه أحد فقال: يا أيها الناس إنه ليس بذهب ولا فضة ولا مأكول ولا مشروب فقالوا: هات إذا فتلا عليهم هذه الآية فقالوا: أما هذه فنعم فما وفى بها أكثرهم.

وما بعث اللّه عز وجل نبيا إلا أوحى إليه أن لا يسأل قومه أجرا لأن اللّه عز وجل يوفيه أجر الأنبياء ومحمد (صلى اللّه عليه وآله) فرض اللّه عز وجل مودة طاعته ومودة قرابته

ص: 151


1- سورة هود: الآية 29
2- سورة الشورى: الآية 23.

على أمته وأمره أن يجعل أجره فيهم ليؤدوه في قرابته بمعرفة فضلهم الذي أوجب اللّه عز وجل لهم فإن المودة إنما تكون على قدر معرفة الفضل، فلما أوجب اللّه تعالى ثقل ذلك لثقل وجوب الطاعة فتمسك بها قوم قد أخذ اللّه ميثاقهم على الوفا وعاند أهل الشقاق والنفاق وألحدوا في ذلك فصرفوه عن حده الذي حده اللّه عز وجل فقالوا: القرابة هم العرب كلهم وأهل دعوته.

فعلى أي الحالتين كان فقد علمنا أن المودة هي القرابة فأقربهم من النبي (صلى اللّه عليه وآله) أولاهم بالمودة وكلما قربت القرابة كانت المودة على قدرها، وما أنصفوا نبي اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في حيطته ورأفته وما من اللّه به على أمته مما تعجز الألسن عن وصف الشكر عليه: أن لا يؤذوه في ذريته وأهل بيته وأن يجعلوهم فيهم بمنزلة العين من الرأس حفظا لرسول اللّه فيهم، والذين فرض اللّه تعالى مودتهم ووعد الجزاء عليها، فما وفى أحد بها فهذه المودة لا يأتي بها أحد مؤمنا مخلصا إلا استوجب الجنة لقول اللّه عز وجل في هذه الآية: (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ، ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) (1) مفسرا ومبينا (2).

ثم قال أبو الحسن (عليه السلام): حدثني أبي عن جدي عن آبائه عن الحسين بن علي (عليهم السلام) قال: اجتمع المهاجرون والأنصار إلى رسول اللّه فقالوا: إن لك يا رسول اللّه مؤنة في نفقتك وفيمن يأتيك من الوفود وهذه أموالنا مع دمائنا فاحكم فيها بارا مأجورا، أعط ما شئت وأمسك ما شئت من غير حرج قال: فأنزل اللّه عز

ص: 152


1- سورة الشورى: الآية 22 و 23
2- هكذا في الأصل.

وجل عليه الروح الأمين فقال: يا محمد (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) يعني أن تودوا قرابتي من بعدي، فخرجوا فقال المنافقون: ما حمل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) على ترك ما عرضنا عليه إلا ليحثنا على قرابته من بعده إن هو إلا شئ افتراه في مجلسه! وكان ذلك من قولهم عظيما فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (1) فبعث عليهم النبي (صلى اللّه عليه وآله) فقال: هل من حدث؟ فقالوا: إي واللّه يا رسول اللّه لقد قال بعضنا كلاما غليظا كرهناه، فتلا عليهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) الآية، فبكوا واشتد بكاؤهم فأنزل عز وجل: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (2) فهذه السادسة.

وأما الآية السابعة فقول اللّه عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (3) قالوا: يا رسول اللّه قد عرفنا التسليم عليك فكيف الصلاة عليك؟ فقال: تقولون: اللّهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد (4).

ص: 153


1- سورة الأحقاف: الآية 8
2- سورة الشورى: الآية 25
3- سورة الأحزاب: الآية 56
4- راجع: صحيح البخاري كتاب التفسير ب قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ...) ج 6 ص 151، صحيح مسلم كتاب الصلاة ب الصلاة على النبي (صلى اللّه عليه وآله): ج 1 ص 305 ح 65 و 66، الصواعق المحرقة لابن حجر: ص 146، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي: ص 295 ط إسلامبول و ص 354 ط الحيدرية، فرائد السمطين ج 1 ص 31 - 34 ح 9، وغيرها الكثير.

فهل بينكم معاشر الناس في هذا خلاف؟

فقالوا: لا.

فقال المأمون: هذا مما لا خلاف فيه أصلا وعليه إجماع الأمة فهل عندك في الآل شئ أوضح من هذا في القرآن؟ فقال أبو الحسن: نعم، أخبروني عن قول اللّه عز وجل: (يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ، عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (1) فمن عنى بقوله يس؟

قالت العلماء: يس محمد (صلى اللّه عليه وآله) لم يشك فيه أحد قال أبو الحسن: فإن اللّه عز وجل أعطى محمدا وآل محمد من ذلك فضلا لا يبلغ أحد كنه وصفه إلا من عقله، وذلك أن اللّه عز وجل لم يسلم على أحد إلا على الأنبياء - صلوات اللّه عليهم - فقال تبارك وتعالى: (سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ) (2) وقال: (سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (3) وقال: (سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ) (4) ولم يقل: سلام على آل نوح ولم يقل: سلام على آل إبراهيم ولا قال: سلام على آل موسى وهارون وقال عز وجل: (سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ) (5) يعني آل محمد (6) - صلوات اللّه عليهم -.

فقال المأمون: لقد علمت أن في معدن النبوة شرح هذا وبيانه فهذه السابعة.

ص: 154


1- سورة يس: الآية 1 - 4
2- سورة الصافات: الآية 79
3- سورة الصافات: الآية 109
4- سورة الصافات الآية 120
5- سورة الصافات: الآية 130
6- راجع: نظم درر السمطين: ص 94، تفسير القرآن العظيم لابن كثير: ج 4 ص 22، الدر المنثور للسيوطي: ج 7 ص 120، ينابيع المودة للقندوزي: ب 29 ص 295.

وأما الثامنة فقول اللّه عز وجل: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى) (1) فقرن سهم ذي القربى بسهمه وبسهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فهذا فضل أيضا بين الآل والأمة لأن اللّه تعالى جعلهم في حيز وجعل الناس في حيز دون ذلك، ورضي لهم ما رضي لنفسه واصطفاهم فيه فبدأ بنفسه ثم ثنى برسوله ثم بذي القربى فكل ما كان من الفئ والغنيمة وغير ذلك مما رضيه عز وجل لنفسه فرضيه لهم فقال وقوله الحق: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى) فهذا تأكيد مؤكد وأثر قائم لهم إلى يوم القيامة في كتاب اللّه الناطق الذي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (2).

وأما قوله (وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ) (3) فإن اليتيم إذا انقطع يتمه خرج من الغنائم ولم يكن له فيها نصيب، وكذلك المسكين إذا انقطعت مسكنته لم يكن له نصيب من المغنم ولا يحل له أخذه، وسهم ذي القربى قائم إلى يوم القيامة فيهم للغني والفقير منهم لأنه لا أحد أغنى من اللّه عز وجل ولا من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فجعل لنفسه منها سهما ولرسوله (صلى اللّه عليه وآله) فما رضيه لنفسه ولرسوله (صلى اللّه عليه وآله) رضيه لهم، وكذلك الفئ ما رضيه منه لنفسه ولنبيه (صلى اللّه عليه وآله) رضيه لذي القربى كما أجراهم في الغنيمة،

ص: 155


1- سورة الأنفال: الآية 41. فقد روي أن المقصود من (ذي القربى) هم: أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام). راجع: شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي: ج 1 ص 285 - 289 ح 292 - 298، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي: ص 50 ط الحيدرية و ص 45 ط إسلامبول، جامع البيان للطبري: ج 10 ص 5
2- سورة فصلت: الآية 42
3- سورة الأنفال: الآية 41.

فبدأ بنفسه جل جلاله ثم برسوله ثم بهم، وقرن سهمهم بسهم اللّه وسهم رسوله (صلى اللّه عليه وآله) وكذلك في الطاعة قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (1) فبدأ بنفسه ثم برسوله ثم بأهل بيته، كذلك آية الولاية:

(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (2) فجعل طاعتهم مع طاعة الرسول مقرونة بطاعته، كذلك ولا يتهم مع ولاية الرسول مقرونة بطاعته كما جعل سهمهم مع سهم الرسول مقرونا بسهمه في الغنيمة والفئ فتبارك اللّه وتعالى ما أعظم نعمته على أهل هذا البيت، فلما جاءت قصة الصدقة نزه نفسه ورسوله ونزه أهل بيته فقال: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ) (3) فهل تجد في شئ من ذلك أنه سمى لنفسه أو لرسوله أو لذي القربى لأنه لما نزه نفسه عن الصدقة ونزه رسوله ونزه أهل بيته لا بل حرم عليهم لأن الصدقة محرمة على محمد وآله وهي أوساخ أيدي الناس لا يحل لهم لأنهم طهروا من كل دنس ووسخ فلما طهرهم اللّه عز

ص: 156


1- سورة النساء: الآية 59
2- سورة المائدة: الآية 55. نزول هذه الآية في أمير المؤمنين (عليه السلام) مما اتفق عليه المفسرون والمحدثون. راجع: شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي: ج 1 ص 209 - 239 ح 216 - 240، ترجمة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي: ج 2 ص 409 ح 915 و 916، كفاية الطالب للكنجي الشافعي: ص 228 و 250 و 251 ط الفارابي و ص 106 و 122 و 123 ط الغري، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي: ص 115 ط إسلامبول و ص 135 ط الحيدرية، التفسير الكبير للرازي: ج 12 ص 20 و 26، إحقاق الحق: ج 2 ص 399، الغدير للأميني: ج 2 ص 52 و ج 3 ص 156، وغيرها الكثير
3- سورة التوبة: الآية 60.

وجل واصطفاهم رضي لهم ما رضي لنفسه وكره لهم ما كره لنفسه عز وجل فهذه الثامنة.

وأما التاسعة فنحن أهل الذكر الذين قال اللّه عز وجل: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (1) فنحن أهل الذكر فاسألونا إن كنتم لا تعلمون.

فقالت العلماء: إنما عنى اللّه بذلك اليهود والنصارى.

فقال أبو الحسن (عليه السلام): سبحان اللّه! وهل يجوز ذلك؟ إذا يدعونا إلى دينهم ويقولون: إنه أفضل من دين الإسلام. فقال المأمون: فهل عندك في ذلك شرح بخلاف ما قالوه يا أبا الحسن؟

فقال أبو الحسن (عليه السلام): نعم، الذكر رسول اللّه ونحن أهله وذلك بين في كتاب اللّه عز وجل حيث يقول في سورة الطلاق: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ) (2) فالذكر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) (3) ونحن أهله فهذه التاسعة.

وأما العاشرة فقول اللّه عز وجل في آية التحريم: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ

ص: 157


1- سورة النحل: الآية 43. فقد روى الجمهور أن هذه الآية نزلت في أهل البيت (عليهم السلام). راجع: شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني الحنفي: ج 1 ص 432 - 437 ح 459 - 466، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي: ص 51 و 140 ط الحيدرية و ص 46 و 119 ط إسلامبول، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: ج 11 ص 272، جامع البيان للطبري: ج 14 ص 75، تفسير القرآن العظيم لابن كثير: ج 2 ص 591، روح المعاني للآلوسي: ج 14 ص 147، إحقاق الحق للتستري: ج 3 ص 482
2- سورة الطلاق: الآية 10 و 11
3- راجع: الدر المنثور للسيوطي: ج 8 ص 209.

وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ) (1) فأخبروني هل تصلح ابنتي وابنة ابني وما تناسل من صلبي لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أن يتزوجها لو كان حيا؟

قالوا: لا.

قال: فأخبروني هل كانت ابنة أحدكم تصلح له أن يتزوجها لو كان حيا؟

قالوا: نعم.

قال: ففي هذا بيان لأني أنا من آله، ولستم من آله، ولو كنتم من آله لحرم عليه بناتكم كما حرم عليه بناتي لأني من آله وأنتم من أمته، فهذا فرق بين الآل والأمة لأن الآل منه، والأمة إذا لم تكن من الآل فليست منه فهذه العاشرة.

وأما الحادية عشرة فقول اللّه عز وجل في سورة المؤمن حكاية عن قول رجل مؤمن من آل فرعون: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ) (2) إلى تمام الآية، فكان ابن خال فرعون فنسبه إلى فرعون بنسبه ولم يضفه إليه بدينه، وكذلك خصصنا نحن إذ كنا من آل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بولادتنا منه وعممنا الناس بالدين فهذا فرق بين الآل والأمة فهذه الحادية عشرة.

وأما الثانية عشرة فقوله عز وجل: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) (3) فخصنا اللّه تبارك وتعالى بهذه الخصوصية إذ أمرنا مع الأمة بإقامة الصلاة ثم خصصنا من دون الأمة فكان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يجئ إلى باب علي

ص: 158


1- سورة النساء: الآية 23
2- سورة غافر (المؤمن): الآية 28
3- سورة طه: الآية 132.

وفاطمة (عليهما السلام) بعد نزول هذه الآية تسعة أشهر كل يوم عند حضور كل صلاة خمس مرات فيقول: الصلاة رحمكم اللّه، وما أكرم اللّه أحدا من ذراري الأنبياء بمثل هذه الكرامة التي أكرمنا بها وخصصنا من دون جميع أهل بيتهم.

فقال المأمون والعلماء: جزاكم اللّه أهل بيت نبيكم عن هذه الأمة خيرا فما نجد الشرح والبيان فيما اشتبه علينا إلا عندكم (1).

ص: 159


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للصدوق: ج 2 ص 207 - 217 ب 23.

المناظرة الثانية والعشرون: مناظرة الإمام الرضا (عليه السلام) مع المأمون العباسي في أكبر فضيلة لأمير المؤمنين (عليه السلام)

قال الشيخ الصدوق - عليه الرحمة -: وحدثني الشيخ أدام اللّه عزه أيضا قال المأمون للرضا (عليه السلام): أخبرني بأكبر فضيلة لأمير المؤمنين (عليه السلام) يدل عليها القرآن.

قال: فقال له الرضا (عليه السلام): فضيلته في المباهلة قال اللّه جل جلاله: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) (1) فدعا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) الحسن والحسين (عليهما السلام) فكانا ابنيه ودعا فاطمة (عليها السلام) فكانت في هذا الموضع نساءه، ودعا أمير المؤمنين (عليه السلام) فكان نفسه بحكم اللّه عز وجل وقد ثبت أنه ليس أحد من خلق اللّه سبحانه أجل من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وأفضل فوجب أن لا يكون أحد أفضل من نفس رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بحكم اللّه عز وجل.

قال: فقال له المأمون: أليس قد ذكر اللّه الأبناء بلفظ الجمع وإنما دعا رسول

ص: 160


1- سورة آل عمران: الآية 61.

اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ابنيه خاصة وذكر النساء بلفظ الجمع وإنما دعا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ابنته وحدها فلم لا جاز أن يذكر الدعاء لمن هو نفسه ويكون المراد نفسه في الحقيقة دون غيره فلا يكون لأمير المؤمنين (عليه السلام) ما ذكرت من الفضل.

قال: فقال له الرضا (عليه السلام): ليس بصحيح ما ذكرت يا أمير المؤمنين، وذلك أن الداعي إنما يكون داعيا لغيره، كما يكون الآمر آمرا لغيره، ولا يصح أن يكون داعيا لنفسه في الحقيقة، كما لا يكون آمرا لها في الحقيقة، وإذا لم يدع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) رجلا في المباهلة إلا أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد ثبت أنه نفسه التي عناها اللّه تعالى في كتابه، وجعل حكمه ذلك في تنزيله.

قال: فقال المأمون: إذا ورد الجواب سقط السؤال (1).

ص: 161


1- الفصول المختارة للمفيد: ص 17 - 18، بحار الأنوار للمجلسي: ج 10 ص 350 - 351 ح 10.

المناظرة الثالثة والعشرون: مناظرة البهلول مع عمرو بن عطاء في فضل أهل البيت (عليهم السلام)

حكى صاحب المجالس عن الشيخ الأجل المتكلم محمد بن جرير بن رستم الطبري إنه روى في كتاب الإيضاح أن البهلول كان مارا في بعض أزقة البصرة فرأى جماعة يسرعون في المشي أمامه فقال لرجل منهم: هؤلاء البهائم الشاردون بلا راع إلى أين يذهبون؟!

فقال له ذلك الرجل من باب المزاح: يطلبون الماء والكلأ!!

فقال له البهلول: كيف ذلك مع قلة الحمى والمنع الشديد، واللّه لقد كان العلف كثيرا رخيصا ولكنهم أحرقوه بالنار، ثم أنشد هذه الأبيات:

برئت إلى اللّه من ظالم *** لسبط النبي أبي القاسم

ودنت إلهي بحب الوصي *** وحب النبي أبي فاطم

وذلك حرز من النائبات *** ومن كل متهم غاشم

بهم أرتجي الفوز يوم المعاد * وأنجو غدا من لظى ضارم

فلما سمعوا كلامه رجعوا إليه، وقالوا له: إنهم ذاهبون إلى مجلس والي البصرة محمد بن سليمان ابن عم الرشيد.

فقال: لأي شئ تذهبون إليه؟

فقالوا: إن عمرو بن عطاء العدوي من أولاد عمر بن الخطاب، ومن علماء

ص: 162

الزمان حضر مجلسه، ونريد تحقيق حاله ومعرفة مبلغ فضله وكماله، وإن كنت تذهب معنا لتناظره كان ذلك حسنا!

فقال لهم بهلول: ويلكم، مجادلة العاصي توجب زيادة جرأته على العصيان، ويمكن أن توقع أصحاب البصيرة في الشبهة، ولا شك في وجود اللّه تعالى، ولا شبهة في الحق ولا التباس، فإذا كنتم من أهل المعرفة تقنعون بما أخذتم من أهل العرفان.

فلما يئسوا منه ذهبوا إلى مجلس محمد بن سليمان، وحكوا له ما جرى لهم مع البهلول، فأمر غلمانه بإحضاره فأحضروه، فلما وصل إلى قرب دار محمد بن سليمان، قام عمرو بن عطاء العدوي واستأذن محمد بن سليمان في مناظرة بهلول؟ فإذن له.

فلما وصل بهلول إلى الدار قال: السلام على من اتبع الهدى وتجنب الضلالة والغوى.

فقال عمرو بن عطاء: السلام على المسلمين، إجلس يا بهلول؟

فقال بهلول: أتأمرني بشئ لا مدخل لك فيه، وتتقدم فيه على رجل فضله عليك ظاهر، ومثلك في هذا الباب مثل رجل طفيلي على خوان رجل آخر ويريد أن يمتن على الناس ويعطيهم من هذا الخوان!!

فبقي عمرو بن عطاء مبهوتا لا يحير جوابا!!

فحينئذ قال محمد بن سليمان لعمرو بن عطاء: كنت تريد أن تناظره، وهو في حديث الورود جعلك ساكتا مبهوتا!

فقال بهلول: أيها الأمير هذا الأمر ليس صعبا عند اللّه تعالى، أما قرأت قوله

ص: 163

تعالى: (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (1).

ثم قال محمد بن سليمان للبهلول: المجلس مجلسي وقد أذنت لك في الجلوس!

فدعا له بهلول فقال: عمر اللّه مجلسك، وأسبغ نعمه عليك، وأوضح برهان الحق لديك، وأراك الحق حقا، وأعانك على اتباعه، وأراك الباطل باطلا، وأعانك على اجتنابه.

فقال عمرو بن عطاء: يا بهلول التزم طريق الحق وابتعد عن الهزل، وتكلم كلاما حسنا!؟

فقال بهلول: ويلك! هل يوجد كلام أحسن من هذا الكلام الإلهي؟ وهل يوجد كلام جدي غيره؟ فأنت تكلم كلاما تقيا، ولا تشر إلى عيوب الناس قبل أن تنظر في عيب نفسك!

فقال عمرو بن عطاء: أنت ترى نفسك من مشهوري زمانك، وتدعي الاطلاع على المعارف، فأريد إما أن تسألني أو أسألك؟

فقال بهلول: لا أحب أن أكون سائلا ولا مسؤولا!!

فقال العدوي: لماذا؟

قال: لأني إذا سألتك عن شئ لا تعلمه؟ لا تقدر أن تجيبني عنه، وإذا سألتني تسألني بطريق أهل التعنت والعناد؟ فيختلط الحق بالباطل، والذين هم كذلك نهى اللّه تعالى عن مجالستهم بقوله تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ

ص: 164


1- سورة البقرة: الآية 258.

فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (1).

فقال العدوي: إن كنت من أهل الإيمان، فقل لي ما هو الإيمان؟

فقال بهلول: قال مولاي جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): الإيمان عقد بالقلب، وقول باللسان، وعمل الجوارح والأركان. (2)

فقال العدوي: تقول إن إمامك الصادق! فيظهر من هذا إنه في زمانه لم يكن صادق غيره؟

فقال بهلول: هو كذلك (3)، ومع ذلك فهذا يجري عليك فإن سمي أبا بكر الصديق، فهل في زمانه لم يكن صديق غيره؟!

فقال العدوي: بلى، لم يكن غيره؟

فقال بهلول: كلامك هذا رد على الكتاب والسنة، أما الكتاب: فلأن اللّه تعالى جعل من آمن باللّه ورسوله صديقا، فقال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ

ص: 165


1- سورة الأنعام: الآية 68
2- راجع بحار الأنوار: ج 69 ص 65 ح 13 و ص 69 ح 24 و 25 و ج 77 ص 162 ح 1
3- فقد جاء في سبب تسمية الإمام الصادق (عليه السلام) بالصادق: عن أبي خالد الكابلي عن الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) في حديث له... إلى أن قال (عليه السلام): ومن بعد محمد ابنه جعفر واسمه عند أهل السماء الصادق، فقلت له: يا سيدي كيف صار اسمه الصادق وكلهم صادقون؟ قال: حدثني أبي عن أبيه (عليهما السلام) إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قال: إذا ولد ابني جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فسموه الصادق فإن الخامس الذي من ولده الذي اسمه جعفر يدعي الإمامة اجتراء على اللّه وكذبا عليه وهو عند اللّه جعفر الكذاب المفتري على اللّه الخ، (راجع: بحار الأنوار: ج 36 ص 386 ح 1، علل الشرائع: ج 1 ص 234 ب 169).

أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) (1)، وأما السنة فلأن الرسول (صلى اللّه عليه وآله) قال لبعض أصحابه: إذا فعلت الخير كنت صديقا (2).

فقال العدوي: إن أبا بكر سمي صديقا لأنه أول رجل صدق الرسول (صلى اللّه عليه وآله).

فقال بهلول: مع أن الأولوية ممنوعة، تخصيصه بذلك خطأ في اللغة، وردا على الآية المذكورة؟!

فترك العدوي هذه الجهة وجعل ينتقل معه من غصن إلى غصن إلى أن قال لبهلول: من إمامك؟

قال: إمامي من أوجب الرسول (صلى اللّه عليه وآله) له على الخلق الولاء، وتكاملت فيه الخيرات، وتنزه عن الأخلاق الدنيات، ذلك إمامي وإمام البريات.

فقال له العدوي: ويلك إذا لا ترى أن إمامك هارون الرشيد؟

فقال البهلول: أنت لأي شئ ترى أن أمير المؤمنين خال من هذه الصفات والمحامد، واللّه إني لا أظن إلا أنك عدو لأمير المؤمنين، مخالف له في الباطن وتظهر الاعتقاد بخلافته، وأقسم باللّه لو بلغه هذا الخبر لأدبك تأديبا بليغا.

فضحك عند ذلك محمد بن سليمان! وقال لعمرو بن عطاء: واللّه لقد ضيعك بهلول، وجعلك لا شئ، وأوقعك في الورطة التي أردت أن توقعه فيها، وما أحسن بالإنسان أن يبتعد عما لا يحسنه، وما أقبح به أن يدخل في شئ يعلم أنه

ص: 166


1- سورة الحديد: الآية 19
2- روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) عن الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قال: ما يزال العبد يصدق حتى يكتبه اللّه صديقا، وما يزال العبد يكذب حتى يكتبه اللّه كذابا. (راجع: بحار الأنوار: ج 72 ص 235 ح 2).

ليس من أهله، ثم أمر بعض غلمانه فأخذ بيد عمرو بن عطاء وأخرجه من المجلس!

وقال لبهلول: ما الفضل إلا فيك، وما العقل إلا عندك، والمجنون من سماك مجنونا، يا بهلول، أخبرني: أيهما أفضل علي بن أبي طالب (عليه السلام) أو أبو بكر؟

فقال بهلول: أصلح اللّه الأمير: إن عليا من النبي (صلى اللّه عليه وآله) كالصنو من الصنو، والعضد من الذراع، وأبو بكر ليس منه، ولا يوازيه في فضله إلا مثله، ولكل فاضل فضله!

ثم قال محمد بن سليمان لبهلول: أخبرني أولاد علي أحق بالخلافة أو أولاد العباس؟

فرأى بهلول أن المقام حرج! فسكت خوفا من محمد!

فقال له محمد: لم لا تتكلم؟

فقال بهلول: أين للمجانين قوة تمييز وتحقيق هذه الأمور (1)؟!

ص: 167


1- أعيان الشيعة للأمين: ج 3 ص 618 - 619.

المناظرة الرابعة والعشرون: مناظرة الصاحب بن عباد وفي مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام)

المناظرة الرابعة والعشرون: مناظرة الصاحب بن عباد (1) وفي مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام)

ص: 168


1- هو: أبو القاسم، إسماعيل بن عباد بن العباس، بن أحمد بن إدريس الملقب بالصاحب (الإصفهاني) ولد سنة 326 ه، أحد أقطاب الأدب العربي، له منهج خاص في الأدب، وأسلوبه المتميز في نثره وشعره، وقد ترك أثرا كبيرا في دنيا العلم والأدب في ذلك العصر الزاهر، والذي حفظ إلينا بعض الشئ منه، وسماه بالصاحب الأمير أبو منصور بويه ركن الدولة لما صحبه إلى بغداد سنة 347 ه، وأنس منه مؤيد الدولة كفاية وشهامة ولما تولى الحكومة استدعى الصاحب من أصفهان وولاه الوزارة، ودبرها برأي وثيق، وقد نال من الهيبة والمقام السامي أيام وزارته ما لم ينل مثله أحد من أمثاله، قرأ الصاحب على الكثير من علماء عصره وأدباءه وروى عنهم، أمثال العميد، وبن فارس، والسيرافي، وابن كامل وغيرهم، وقد كانت له مكتبة حافلة بأنفس الكتب، وقيل إن عنده من الكتب ما يحمل على أربعمائة جمل أو أكثر، فكانت من منابع ثقافته وأدبه. وقد أخذ من كل فن بالنصيب الوافر، وما أوتيه من الفصاحة والاطلاع الواسع بالتفسير والحديث والكلام واللغة والنحو والعروض والنقد الأدبي، والتاريخ، والطب، وقد عد له بعضهم سبعا وثلاثين مؤلفا وقد طبع منها اثني عشر كتابا، وقد أثنى عليه علماء السلف. قال عنه المجلسي: إنه من أفقه فقهاء الشيعة، وعده القاضي في مجالسه من وزراء الشيعة، وعده ابن شهرآشوب من شعراء أهل البيت المجاهرين، وقال الرافعي: وكتبه ورسائله ومناظراته دالة على قدره، وكان يناظر ويدرس ويصنف ويملي الحديث، ومن اطلع على أدبه أذعن بولائه الصادق لأهل البيت (عليهم السلام) والذي انعكس في شعره والذي لا يخلو أكثره - تصريحا أو تلويحا - مما يرتبط بالنبوة والإمامة وفضائل أهل البيت (عليهم السلام) ومناقبهم، كما ضمنها أيضا بعض مسائل التوحيد والعدل - انطلاقا من واجبه الديني الذي يملي عليه، كما هو شأن الموالي صادق العقيدة ، والذي يسخر كل طاقاته في الدفاع عنهم، وإظهار فضلهم، وعدم الاكتراث بما يسمعه من جاحدي حقهم كابن عباد الذي يقول: فكم دعوني رافضيا لحبكم *** فلم ينثني عنكم طويل عوائهم ولذا ضمن قصائده الحوادث والمناظرات والمحاورات التي تتضمن الأخذ والرد في مجال العقيدة، فجزى اللّه الصاحب بن عباد جزاء المحسنين الذي ما فتئ مدافعا عن عقيدته الصادقة حيا وميتا، توفي عليه الرحمة عام 385 ه ودفن في داره بالري، ثم نقل إلى تربة له بأصفهان. راجع ترجمته في: ديوان الصاحب بن عباد: ص 6 - 18، الغدير للأميني: ج 4 ص 42 - 81 ، أعيان الشيعة للأمين: ج 3 ص 328، معجم الأدباء: ج 6 ص 168، يتيمة الدهر: ج 3 ص 188، وفيات الأعيان: ج 1 ص 228 لسان المیزان: ج 1 ص 413، البداية والنهاية: ج11 ص 314، المنتظم: ج 14 ص 375 ترجمة رقم (2911)، سير أعلام النبلاء: ج 16 ص 511.

1 قالت: أبا القاسم استخففت بالغزل *** فقلت: ما ذاك من همي ولا شغلي

2 قالت: أريد اعتذارا منك تظهره *** فقلت: عذرا وما أخشى من العذل

3 قالت: ألح على تكرير مسألتي *** فقلت: ما أنا عن رأيي بذي حول

4 قالت: أريد رشادا منك أتبعه *** فقلت: سمعا فإن الرشد من قبلي

5 قالت: ابنه فإني جد سامعة *** فقلت: كيف اجتماع الشيب والغزل

6 قالت: وكيف اقتضاك الشيب ترك هوى *** فقلت: في الشيب إدناء من الأجل

ص: 169

7 قالت: فما اخترت من دين تفوز به *** فقلت: إني شيعي ومعتزلي (1)

8 قالت: أقلدت أم قد دنت عن نظر *** فقلت: كلا فإني واحد الجدل

9 قالت: فكيف عرفت الحق هات به *** فقلت: بالفكر في الأقوال والعلل

10 قالت: فهل هذه الأجسام محدثة *** فقلت: جدا وإن رمت الدليل سلي

11 قالت: أريد دليلا فيه مختصرا *** فقلت: أن ليس فيها غير منتقل

(في صفات الباري عز وجل)

12 قالت: فهل صانع تدعو إليه أجب *** فقلت: لا بد قولا غير ذي ميل

ص: 170


1- لا مذهبا، بل في بعض الآراء التي وافقوا فيها الإمامية في بعض مسائل الاعتقاد والتي منها على سبيل المثال، كمسألة عدم التجسيم ومسألة نفي الرؤية عنه تعالى، ومسألة القبح والحسن العقليين، ومسألة وجوب اللطف، وغيرها. قال ابن حجر في لسان الميزان: ج 1 ص 416 في ترجمة الصاحب -: قال ابن أبي طي: كان إمامي الرأي، وأخطأ من زعم أنه كان معتزليا، وقد قال عبد الجبار القاضي لما تقدم للصلاة عليه : ما أدري كيف أصلي على هذا الرافضي، وعن ابن أبي طي: أن الشيخ المفيد شهد بأن الكتاب الذي نسب إلى الصاحب في الاعتزال وضع على لسانه، ونسب إليه، وليس هو له. وقال العلامة الأميني في الغدير: ج 4 ص 62: وهناك نقول متهافتة يبطل بعضها بعضا تفيد اعتناق الصاحب مذهب الاعتزال تارة، وتمذهبه بالشافعية أخرى، وبالحنفية طورا، وبالزيدية مرة، وفي القاذفين من يحمل عليه حقدا يريد تشويه سمعته بكل ما توحي إليه ضغاينه... الخ.

13 قالت: فهل من دليل فيه تذكره *** فقلت: بيت بلا بان من الخطل

14 قالت: فهل هو ذو شبه وذو مثل *** فقلت: قد جل عن شبه وعن مثل

15 قالت: أبن لي أجسم ذاك أم عرض *** فقلت: بل خالق الجنسين فانتقلي

16 قالت: وما ضر لو أثبته جسدا *** فقلت: لا توجد الأجسام في الأزل

17 قالت: فقل لي أبالأبصار ندركه *** فقلت: جل عن الإدراك بالمقل

18 قالت: ولم ذا وهل شئ يغيبه *** فقلت: ما هو محجوب فيظهر لي

19 قالت: لعل حجابا عنك يستره *** فقلت: أخبرت عن شخص وعن طلل

20 قالت: فما القول في القرآن سقه لنا *** فقلت: ذاك كلام اللّه أين تلي

21 قالت: فأين دليل الخلق فيه أبن *** فقلت: تركيبه من أحرف الجمل

22 قالت: فأعمالنا من ذا يكونها *** فقلت: نحن مقالا صين عن خلل

23 قالت: ولم لا يكون اللّه خالقها *** فقلت: لو كن خلقا لم يكن عملي

ص: 171

24 قالت: أيلزم نفسا فوق طاقتها *** فقلت: حاشاه هذا فعل ذي خبل

25 قالت: يشاء معاصينا ويؤثرها *** فقلت: لو شاءها لم نخش من زلل

(في مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام))

26 قالت: فمن صاحب الدين الحنيف أجب *** فقلت: أحمد خير السادة الرسل

27 قالت: فهل معجز وافى الرسول به *** فقلت: القرآن وقد أعيا على الأول

28 قالت: فمن بعده يصفى الولاء له *** فقلت: الوصي الذي أربى على زحل

29 قالت: فهل أحد في الفضل يقدمه *** فقلت: هل هضبة ترقى على جبل

30 قالت: فمن أول الأقوام صدقه *** فقلت: من لم يصر يوما إلى هبل

31 قالت: فمن بات من فوق الفراش فدى *** فقلت: أثبت خلق اللّه في الوهل

32 قالت: فمن ذا الذي أخاه عن مقة *** فقلت: من حاز رد الشمس في الطفل

33 قالت: فمن زوج الزهراء فاطمة *** فقلت: أفضل من حاف ومنتعل

ص: 172

34 قالت: فمن والد السبطين إذ فرعا *** فقلت: سابق أهل السبق في مهل

35 قالت: فمن فاز في بدر بمفخرها *** فقلت: أضرب خلق اللّه للقلل

36 قالت: فمن ساد يوم الروع في أحد *** فقلت: من هالهم بأسا ولم يهل

37 قالت: فمن فارس الأحزاب يفرسها *** فقلت: قاتل عمرو الضيغم البطل

38 قالت: فخيبر من ذا هد معقلها *** فقلت: سائق أهل الكفر في عقل

39 قالت: فيوم حنين من برى وفرى *** فقلت: حاصد أهل الشرك في عجل

40 قالت: فمن صاحب الرايات يحملها *** فقلت: من حيط عن غش وعن وغل

41 قالت: براءة من أدى قوارعها *** فقلت: من صين عن ختل وعن دغل

42 قالت: فمن ذا دعي للطير يأكله *** فقلت: أقرب مرضي ومنتحل

43 قالت: فمن راكع زكى بخاتمه *** فقلت: أطعنهم مذ كان بالأسل

44 قالت: ففيمن أتى في (هل أتى) شرف *** فقلت: أبذل خلق اللّه للنفل

ص: 173

45 قالت: فمن تلوه يوم الكساء أجب *** فقلت: أنجب مكسو ومشتمل

46 قالت: فمن باهل الطهر النبي به *** فقلت: تاليه في حل ومرتحل

47 قالت: فمن ذا قسيم النار يسهمها *** فقلت: من رأيه أذكى من الشعل

48 قالت: فمن شبه هارون لنعرفه *** فقلت: من لم يحل يوما ولم يزل

49 قالت: فمن ذا غدا باب المدينة قل *** فقلت: من سألوه العلم لم يسل

50 قالت: فمن ساد في يوم الغدير أبن *** فقلت: من صار للإسلام خير ولي

51 قالت: فمن قاتل الأقوام إذ نكثوا *** فقلت: تفسيره في وقعة الجمل

52 قالت: فمن حارب الأنجاس إذ قسطوا *** فقلت: صفين تبدي صفحة العمل

53 قالت: فمن قارع الأرجاس إذ مرقوا *** فقلت: معناه يوم النهروان جلي

54 قالت: فمن صاحب الحوض الشريف غدا *** فقلت: من بيته في أشرف الحلل

ص: 174

55 قالت: فمن ذا لواء الحمد يحمله *** فقلت: من لم يكن في الروع بالوكل (1)

56 قالت: أكل الذي قد قلت في رجل *** فقلت: كل الذي قد قلت في رجل

57 قالت: ومن هو هذا المرء (2) سم (3) لنا * فقلت: ذاك أمير المؤمنين علي

58 قالت: معاوية الطاغي أتلعنه *** فقلت: لعنته أحلى من العسل

59 قالت: تكفره فيما أتى وعتا *** فقلت: أي وإله السهل والجبل

60 قالت: أهل لك من نظم لنرويه *** فقلت: إن جوابي فيه حي هل

61 قالت: فأمل على هذا الفتى عجلا *** فقلت: هذا ولم ألبث ولم أتل

62 قالت: أمبتدها في القول مرتجلا *** فقلت: ما قلت شعرا غير مرتجل

63 قالت: أتيت ابن عباد بمعجزة *** فقلت: لا تعجبي فالشعر من خولي

ص: 175


1- ورد عجزه في بعض النسخ: فقلت خير الملأ الاتين والأول
2- في بعض النسخ: هذا القرم، وفي المناقب: الفرد
3- في المناقب وبعض النسخ: سمه، وفي بعضها: صفه.

64 قالت: فهل منشد ترضى لينشدها *** فقلت: ابن صالح النحرير ينشد لي (1)

ص: 176


1- ديوان الصاحب بن عباد تحقيق الشيخ محمد حسن آل ياسين، ص 38 - 47، الغدير للأميني: ج 4 ص 40 - 41، بتفاوت، كما ورد منها البيتان 26 و 27 في المناقب لابن شهر أشوب: ج 1 ص 99، والأبيات 26 و 28 - 43 و 45 - 57 في المناقب: ج 2 ص 68 - 69. والجدير بالذكر أنه يوجد للامية الصاحب بن عباد عدة نسخ خطية - كما ذكر ذلك العلامة المحقق الشيخ محمد حسن آل ياسين محقق ديوان الصاحب بن عباد في ص 16 - 17 جزاه اللّه خير الجزاء، ولا بأس بالإشارة إليها، وهي: 1 - نسخة دار الكتب المصرية في القاهرة، برقم (16 ش تاريخ) وتقع في ثلاث صفحات، وأسماها مفهرس دار الكتب (المنظومة الفريدة) وجاء في آخرها تمت وبالخير عمت، الفريدة المشتملة على أفضل كل عقيدة، رحم اللّه منشئها، وغفر لكاتبها، وكان الفراغ من زبرها ليلة الأحد عاشور محرم الحرام سنة تسع وثمانين [وألف]. 2 - نسخة إيطاليا المحفوظة بالمكتبة الأمبروزيانية في ميلانو، ضمن مجموعة برقم (74 ب) وآثار القدم بارزة عليها. 3 - شرح هذه القصيدة للقاضي شمس الدين جعفر بن أحمد البهلولي اليماني ، وقد عُثر منها على نسختين: الأولى ، نسخة المكتبة الامبروزيانية بميلانو - ايطاليا تحت رقم (205 س) في (21) ورقة ، وعليها تملك تاريخ 1113 ه. الثانية ، نسخة الخزانة التيمورية بالقاهرة، تحت رقم ( 380 مجاميع) في (14) ورقة ، وليس في آخرها تاريخ .

المناظرة الخامسة والعشرون: مناظرة الشيخ الكراجكي مع بعضهم في القول بأن أمير المؤمنين (عليه السلام) أسلم

اعلموا - أيدكم اللّه - أن المخالفين لشدة عداوتهم لأمير المؤمنين ألقوا شبهة موهوا بها على المستضعفين، وجعلوا لها طريقا، يسلكها من يروم نفي الإسلام عن أمير المؤمنين (عليه السلام).

وذلك أنهم قالوا: إنما يصح الإسلام ممن كان كافرا، فأما من لم يك قط ذا كفر ولا ضلال، فلا يجوز أن يقال أنه أسلم، وإذا كان علي بن أبي طالب (عليه السلام) لم يكفر قط، فلا يصح القول بأنه أسلم.

وهذا ملعنة من النصاب لا تخفى على أولي الألباب، يتشبثون بها إلى القدح في أمير المؤمنين (عليه السلام)، والراحة من أن يسمعوا القول بأنه أسلم قبل سائر الناس، وقد تعدتهم هذه الشبهة، فصارت في مستضعفي الشيعة، ومن لا خبرة له بالنظر والأدلة، حتى إني رأيت جماعة منهم يقولون هذا المقال، ويستعظمون القول بأن أمير المؤمنين (عليه السلام) أسلم أتم استعظام.

وقد نبهتهم على أن هذه الشبهة مدسوسة عليهم، وأن أعداءهم ألقوها بينهم، فمنهم من قبل ما أقول، ومنهم من أصر على ما يقول.

وقد كنت اجتمعت بأحد الناصرين لهذه الشبهة من الشيعة، فقلت له:

ص: 177

أتقول إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) مسلم؟

فقال: لا يسعني غير ذلك.

فقلت له: أفتقول إنه يكون مسلما من لم يسلم؟

فقال: إن قلت بأنه أسلم، لزمني الإقرار بأنه قبل إسلامه لم يكن مسلما، ولكني أقول: إنه ولد مسلما مؤمنا.

فقلت: هذا كقولك إنه ولد حيا قادرا، وهو يؤديك إلى أن اللّه تعالى خلق فيه الإسلام والإيمان، كما خلق فيه القدرة والحياة، ويدخل بك في مذهب أهل الجبر، ويبطل عليك القول بفضيلة أمير المؤمنين (عليه السلام) في الإسلام، وما يستحق عليه من الأجر.

فاختر لنفسك: إما القول بأن إسلامه وإيمانه فعل اللّه سبحانه، وأنه ولد مسلما ومؤمنا، وإن ساقك إلى ما ذكرناه.

وإما القول بأن اللّه تعالى أوجده حيا قادرا ثم آتاه عقلا، وكلفه بعد هذا، فأطاع، وفعل ما أمر به مما يستحق جزيل الأجر على فعله، فإسلامه وإيمانه من أفعاله الواقعة بحسب قصده وإيثاره، وإن أدراك في وجوده قبل فعله إلى ما وصفناه.

فحيره هذا الكلام، ولم يجد فيه حيلة من جواب.

ومما يجب أن يكلم به في هذه المسألة أهل الخلاف، أن يقال لهم: لم زعمتم أنه لم يسلم إلا من كان كافرا؟

فإن قالوا: لأن من صح منه وقوع الإسلام فهو قبله عار منه، وإذا عري منه كان على ضده، وضده الكفر.

ص: 178

قيل لهم: لم زعمتم أنه إذا عري منه كان على ضده؟ وما أنكرتم من أن يخلو منهما، فلا يكون على أحدهما؟

فإن قالوا: إن ترك الدخول في الإسلام هو ضده، لأنه لا يصح اجتماع الترك والدخول، فمتى كان تاركا كان كافرا، لأن معه الضد.

قيل لهم: إنما يلزم ما ذكرتم، متى وجدت شريعة الإسلام، ولزم العمل بها، وعلم العبد وجوبها عليه بعد وجودها، فأما إذا لم يكن نزل به الوحي، ولا لزم المكلف منها أمر ولا نهي، فإلزامكم الكفر جهل وغي.

فإن قالوا: قد سمعناكم تقولون: إن الوحي لما نزل على النبي (صلى اللّه عليه وآله) بتبليغ الإسلام دعا إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) فلم يجبه عند الدعاء، وقال له: أجلني الليلة، وتعدون هذا له فضيلة، وفيه أنه قد ترك الدخول في الإسلام بعد وجوده.

قلنا: هو كذلك، لكنه قبل علمه بوجوبه، وهذه المدة التي سأل فيها الإنظار هي زمان مهلة النظر، التي أباحها اللّه تعالى للمستدل، ولو مات قبل اعتقاد الحق لم يكن على غلط، وهكذا رأيناكم تفسرون قول إبراهيم (عليه السلام) لما (رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) (1)، إلى تمام قصته (عليه السلام).

وقوله: (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (2)، وتقولون: إن هذا منه كان استدلالا، وهي في زمان مهلة النظر التي وقع عقيبها العلم بالحق.

فإن قالوا: فما تقولون في أمير المؤمنين (عليه السلام) قبل الإسلام؟ وهل كان على

ص: 179


1- سورة الأنعام: الآية 76
2- سورة الأنعام: الآية 78 و 79.

شئ من الاعتقادات؟

قيل لهم: الذي نقول فيه أنه كان في صغره عاقلا مميزا، وكان في الاعتقاد على مثل ما كان عليه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قبل الإسلام، من استعماله عقله، والمعرفة باللّه تعالى وحده، وإن ذلك حصل من تنبيه الرسول (صلى اللّه عليه وآله)، وتحريك خاطره إليه، وحصل للرسول من ألطاف اللّه تعالى، التي حركت خواطره إلى الإسلام والاعتبار، ولم يكن منهما من سجد لوثن، ولا دان بشرع متقدم.

فأما الأمور الشرعية فلم تكن حاصلة لهما، فلما بعث رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لزم أمير المؤمنين (عليه السلام) الإقرار به، والتصديق له، وأخذ الشرع منه.

وإنما قال له: أجلني الليلة ليعتبر فيقع له العلم واليقين مع اعتقاد التصديق لرسول رب العالمين، فلما ثبت له ذلك أقر بالشهادتين، مجددا للإقرار باللّه سبحانه، وشاهدا ببعثة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله).

فإن قالوا: فأنتم إذا تقولون إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أسلم؟ وهذا أعظم من الأولى.

قيل لهم: إن العظيم في العقول هو الانصراف من هذا القول، فإن لم تفهموا فيه حجة العقل فما تصنعون في دليل السمع، وقد قال اللّه عز وجل لنبيه (صلى اللّه عليه وآله): (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (1) وقوله سبحانه:

(قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (2)، وقوله: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ

ص: 180


1- سورة الأنعام: الآية 14
2- سورة الأنعام: الآية 71.

وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (1).

ونظير ذلك كثير في القرآن، فكيف يصح هذا الإسلام من الرسول ولم يكن قط كافرا، وهل بعد هذا البيان شك يعترض عاقلا؟؟

ثم يقال لهم: إذا كان لا يسلم إلا من كان كافرا، فما تقولون في إسلام إبراهيم الخليل (عليه السلام) ولم يكن قط كافرا، ولا عبد وثنا، حين (قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (2).

فقد تبين لكم - أيها الأخوة ثبتكم اللّه على الإيمان - ما تضمنه هذا الفصل من البيان عن صحة إسلام أمير المؤمنين (عليه السلام).

وأنا أتكلم بعد هذا على الذين قالوا إنه (عليه السلام) قد أسلم، ولكن لم يكن السابق الأول، وزعمهم أن المتقدم على جميع الناس أبو بكر (3).

ص: 181


1- سورة آل عمران: الآية 20
2- سورة البقرة: الآية 131 و 132
3- كنز الفوائد للكراجكي: ج 1 ص 257 - 261.

ص: 182

فاطمة الزهراء (عليها السلام) وفدك

اشارة

ص: 183

ص: 184

المناظرة السادسة والعشرون: مناظرة أمير المؤمنين (عليه السلام) مع أبي بكر في شأن فدك

عن حماد بن عثمان، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: لما بويع أبو بكر واستقام له الأمر على جميع المهاجرين والأنصار بعث إلى فدك (1) من أخرج وكيل فاطمة (عليها السلام) بنت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) منها.

ص: 185


1- فدك: هي: قرية بالحجاز، بينها وبين المدينة يومان، وقيل ثلاثة، أفاءها اللّه تعالى على رسوله (صلى اللّه عليه وآله) صلحا، فيها عين فوارة ونخل، وقد كانت ملكا لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) خالصة، لأنها لم يوجب عليها بخيل ولا ركاب، وقد أعطاها ابنته الزهراء (عليها السلام) فكانت بيدها في عهده (صلى اللّه عليه وآله)، وروي أنه (صلى اللّه عليه وآله) قال لفاطمة عليهاالسلام : قد كان لأمك خديجة على أبيك محمد (صلى اللّه عليه وآله) مهراً ، وأن أباك قد جعلها لك بذلك ، وانحلتكها تكون لك ولولدك بعدك ، وكتب كتاب النحلة علي عليه السلام في أديم ، وشهد عليه السلام على ذلك وأم أيمن ومولى لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) . وجاء في الأخبار كما في رواية الشيخ عبداللّه بن حماد الأنصاري - أن واردها - أربعة وعشرون ألف دينار في كل سنة ، وفي رواية غيره سبعون ألف دينار ، وجاء في نهج البلاغة من كلام أمير المؤمنين عليه السلام في أمر فدك قال عليه السلام : بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء فشحت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس قوم آخرين ، ونعم الحكم اللّه وما أصنع بفدك وغير فدك ، والنفس مظانّها في غدٍ جدث ، تنقطع في ظلمته آثارها وتغيب أخبارها . راجع : بحار الأنوار : ج 17 ص 378 و ج 21 ص 23 وج 33 ص 474 ، سفينة البحار للقمي : ج 2 ص 351 ، نهج البلاغة لأمير المؤمنين عليه السلام ، تحقيق الدكتور صبحي الصالح : 417 كتاب رقم : 45 ، معجم البلدان للحموي : ج 4 ص ... .

فجاءت فاطمة الزهراء (عليها السلام) إلى أبي بكر ثم قالت: لم تمنعني ميراثي من أبي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، وأخرجت وكيلي من فدك، وقد جعلها لي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بأمر اللّه تعالى؟

فقال: هاتي على ذلك بشهود، فجاءت بأم أيمن (1)، فقالت له أم أيمن: لا أشهد يا أبا بكر حتى احتج عليك بما قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، أنشدك باللّه ألست تعلم أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قال: «أم أيمن امرأة من أهل الجنة» (2).

فقال: بلى.

ص: 186


1- أم أيمن هي: بركة بنت ثعلبة كنيت بابنها أيمن بن عبيد، مولاة النبي (صلى اللّه عليه وآله) وحاضنته، ورثها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) من أمه، ولما تزوج خديجة (عليها السلام) أعتقها، وهي من المهاجرات الأوائل، هاجرت الهجرتين إلى أرض الحبشة وإلى المدينة، وقد شهدت حنينا واحدا وخيبر، وكانت في أحد تسقي الماء وتداوي الجرحى، وكان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يزورها وكان يقول لها: يا أمه، وإذا نظر إليها قال: هذه بقية أهل بيتي، وروي عنه (صلى اللّه عليه وآله) أنه قال: من أراد أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن، فتزوجها زيد بن حارثة - بعد عبيد الحبشي - فولدت له أسامة بن زيد، وكانت أم أيمن على درجة كبيرة من الفضل والولاء لأهل البيت (عليهم السلام)، وذكر الشيخ المفيد عليه الرحمة في خبر فدك: إن النبي (صلى اللّه عليه وآله) لما أعطى فدكا لفاطمة (عليها السلام) قال لها ولعلي (عليه السلام): يا أم أيمن اشهدي ويا علي اشهد، ومن شدة حب أم أيمن لفاطمة (عليها السلام) كما رواه في الخرائج أنها لما توفيت فاطمة (عليها السلام) حلفت أم أيمن أن لا تكون بالمدينة إذ لا تطيق أن تنظر إلى مواضع كانت بها، فخرجت إلى مكة الخ، توفيت أم أيمن - رضي اللّه عنها - بعد النبي (صلى اللّه عليه وآله) بخمسة أشهر وقيل توفيت في خلافة عثمان. راجع: تهذيب التهذيب لابن حجر: ج 12 ص 459، أعلام النساء: ج 1 ص 127، سفينة البحار: ج 2 ص 736، الإختصاص للمفيد: ص 184، تنقيح المقال للمامقاني: ج 3 ص 70 فصل النساء
2- جاء في كنز العمال: ج 12 ص 146 ح 34416، من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن، و ح 34417 عنه (صلى اللّه عليه وآله): أم أيمن أمي بعد أمي.

قالت: « فاشهد: أن اللّه عز وجل أوحى إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله):

(فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) (1) فجعل فدكا لها طعمة بأمر اللّه (2).

فجاء علي (عليه السلام) فشهد بمثل ذلك، فكتب لها كتابا ودفعه إليها، فدخل عمر فقال: ما هذا الكتاب؟ فقال: إن فاطمة (عليها السلام) ادعت في فدك، وشهدت لها أم أيمن وعلي (عليه السلام)، فكتبته لها، فأخذ عمر الكتاب من فاطمة فتفل فيه ومزقه (3)، فخرجت فاطمة (عليها السلام) تبكي.

فلما كان بعد ذلك جاء علي (عليه السلام) إلى أبي بكر وهو في المسجد وحوله المهاجرون والأنصار فقال: يا أبا بكر لم منعت فاطمة ميراثها من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)؟ وقد ملكته في حياة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله).

فقال أبو بكر: هذا فئ للمسلمين، فإن أقامت شهودا أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) جعله لها وإلا فلا حق لها فيه.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): يا أبا بكر تحكم فينا بخلاف حكم اللّه في المسلمين.

قال: لا.

ص: 187


1- سورة الروم: الآية 38
2- روى السيوطي في الدر المنثور: ج 5 ص 273 في تفسير قوله تعالى: (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) قال: أخرج البزاز، وأبو يعلى وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري (رضي اللّه عنه) قال: لما نزلت هذه الآية دعا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فاطمة (عليها السلام) فأعطاها فدكا. وأخرج نحوه عن ابن مردويه عن ابن عباس - رضي اللّه عنهما - قال: لما نزلت: (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) أقطع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فاطمة فدكا.
3- إلى هنا ذكر الخبر الشيخ المفيد - عليه الرحمة - في الإختصاص: ص 183 - 185، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 16 ص 274 و ص 235.

قال: فإن كان في يد المسلمين شئ يملكونه، ثم ادعيت أنا فيه من تسأل البينة؟

قال: إياك أسأل البينة.

قال: فما بال فاطمة سألتها البينة على ما في يديها؟ وقد ملكته في حياة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وبعده، ولم تسأل المسلمين بينة على ما ادعوها شهودا، كما سألتني على ما ادعيت عليهم؟

فسكت أبو بكر فقال عمر: يا علي دعنا من كلامك، فإنا لا نقوى على حجتك، فإن أتيت بشهود عدول، وإلا فهو فئ للمسلمين، لا حق لك ولا لفاطمة (عليها السلام) فيه.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): يا أبا بكر تقرأ كتاب اللّه؟

قال: نعم.

قال: أخبرني عن قول اللّه عز وجل: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (1) فيمن نزلت (2)؟ فينا أم في غيرنا؟

ص: 188


1- سورة الأحزاب: الآية 33
2- روى محب الدين الطبري في ذخائر العقبى ص 21، عن عمر بن أبي سلمة ربيب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قال نزلت هذه الآية على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) في بيت أم سلمة رضي اللّه عنها فدعى النبي (صلى اللّه عليه وآله) فاطمة وحسنا وحسينا فجللهم بكساء وعلي خلف ظهره ثم قال: «اللّهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا»، قالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول اللّه؟ قال: «أنت على مكانك وأنت على خير»، ومن المصادر التي ذكرت ذلك، راجع: صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة، ب فضائل أهل بيت النبي (صلى اللّه عليه وآله): ج 4 ص 1883 ح 61، سنن الترمذي: ج 5 ص 327 ح 3205، المستدرك للحاكم: ج 3 ص 133، شواهد التنزيل للحسكاني: ج 2 ص 18 - 139 ح 638 - 774، أسباب النزول للواحدي: ص 203، فرائد السمطين: ج 2 ص 9 ح 356، وغيرها الكثير من المصادر المعتمدة عند الجمهور.

قال: بل فيكم.

قال: فلو أن شهودا شهدوا على فاطمة (عليها السلام) بنت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بفاحشة ما كنت صانعا؟

قال: كنت أقيم عليها الحد، كما أقيمه على نساء المسلمين.

قال: إذن كنت عند اللّه من الكافرين.

قال: ولم؟

قال: لأنك كنت رددت شهادة اللّه لها بالطهارة، وقبلت شهادة الناس عليها، كما رددت حكم اللّه وحكم رسوله، أن جعل لها فدكا قد قبضته في حياته، ثم قبلت شهادة إعرابي بائل على عقبيه، عليها، وأخذت منها فدكا، وزعمت أنه فئ للمسلمين، وقد قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» (1) فرددت قول رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): البينة على من ادعى، واليمين على من ادعى عليه!

قال: فدمدم الناس وأنكروا، ونظر بعضهم إلى بعض، وقالوا: صدق واللّه علي بن أبي طالب (عليه السلام)! ورجع إلى منزله.

قال: ثم دخلت فاطمة المسجد وطافت بقبر أبيها وهي تقول:

ص: 189


1- كنز العمال: ج 6 ص 187 ح 187 ح 15282 و 15283 (كتاب الدعوى)، سنن الترمذي: ج 3 ص 626 ح 1341، السنن الكبرى للبيهقي: ج 8 ص 279، وسائل الشيعة للحر العاملي: ج

قد كان بعدك أنباء وهنبثة *** لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

إنا فقدناك فقد الأرض وابلها *** واختل قومك فاشهدهم ولا تغب

قد كان جبريل بالآيات يؤنسنا *** فغاب عنا فكل الخير محتجب

وكنت بدرا ونورا يستضاء به *** عليك ينزل من ذي العزة الكتب

تجهمتنا رجال واستخف بنا *** إذ غبت عنا فنحن اليوم نغتصب

فسوف نبكيك ما عشنا وما بقيت *** منا العيون بتهمال لها سكب (1)

ص: 190


1- الإحتجاج للطبرسي: ج 1 ص 90 - 93، علل الشرائع للصدوق: ج 1 ص 191، ب 151 ح 1 ، تفسير القمي: ج 2 ص 155 - 157.

المناظرة السابعة والعشرون: مناظرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) مع أبي بكر في أمر فدك لما استولى عليها

قال أبو زيد عمر بن شبه النميري البصري (المتوفى سنة 262 ه) في كتابه تأريخ المدينة المنورة: حدثنا سويد بن سعيد، والحسن بن عثمان، قالا: حدثنا الوليد بن محمد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: أن فاطمة (عليها السلام) بنت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) مما أفاء اللّه على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، وفاطمة (عليها السلام) حينئذ تطلب صدقة النبي (صلى اللّه عليه وآله) بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر.

فقال أبو بكر: إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قال: لا نورث، ما تركناه صدقة (1)، إنما يأكل آل محمد في هذا المال، وإني لا أغير شيئا من صدقة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ولأعملن فيها بما عمل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة (عليها السلام) منها شيئا.

فوجدت فاطمة (عليها السلام) على أبي بكر في ذلك، فهجرته، فلم تكلمه حتى

ص: 191


1- راجع: زاد المسير لابن الجوزي: ج 5 ص 209، صحيح البخاري: ج 5 ص 114 - 115، البداية والنهاية لابن كثير: ج 5 ص 285 و 290، اللآلئ المصنوعة للسيوطي: ج 2 ص 442، الرياض النضرة للطبري: ج 1 ص 190 - 192، فتح الباري لابن حجر: ج 12 ص 6 - 7.

توفيت، وعاشت بعد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ستة أشهر، فلما توفيت دفنها زوجها علي (عليه السلام) ليلا، ولم يؤذن بها أبا بكر، وصلى عليها علي (عليه السلام). (1)

وفي رواية، إنها (عليها السلام) قالت له: يا أبا بكر أترثك بناتك، ولا ترث رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بناته؟

فقال لها: هو ذاك.

وفي أخرى، إنها (عليها السلام) قالت له: من يرثك إذا مت؟

قال: ولدي وأهلي.

قالت: فما لك ترث رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) دوننا؟

قال: يا بنت رسول اللّه! ما ورثت أباك دارا ولا مالا ولا ذهبا ولا فضة.

قالت: بلى، سهم اللّه الذي جعله لنا، وصافيتنا التي بفدك.

فقال أبو بكر: سمعت النبي (صلى اللّه عليه وآله) يقول: إنما هي طعمة أطعمنا اللّه، فإذا مت كانت بين المسلمين.

وفي رابعة، إنها قالت (عليها السلام): إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أعطاني فدك.

فقال لها: هل لك على هذا بينة؟

فجاءت بعلي (عليه السلام) فشهد لها، ثم جاءت بأم أيمن فقالت: أليس تشهد أني من أهل الجنة؟

ص: 192


1- وممن ذكر هذا الخبر أيضا: السمهودي في وفاء الوفاء: ج 3 ص 995، السقيفة وفدك، لأبي بكر الجوهري: ص 105 (وقد روى الخبر عن أبي زيد عمر بن شبه راوي الحديث) وعنه أيضا شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 16 ص 217، كشف الغمة للأربلي: ج 1 ص 477.

قال: بلى.

قالت: فأشهد أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) أعطاها فدك.

فقال أبو بكر: فبرجل وامرأة تستحقينها أو تستحقين بها القضية. (1) وفي رواية خامسة - كما عن أبي جعفر (الباقر) (عليه السلام) قال: قال علي (عليه السلام) لفاطمة (عليها السلام): انطلقي فاطلبي ميراثك من أبيك رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، فجاءت إلى أبي بكر، فقالت: أعطني ميراثي من أبي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)؟ (قال): قال: النبي (صلى اللّه عليه وآله) لا يورث.

فقالت: ألم يرث سليمان داود؟ فغضب وقال: النبي (صلى اللّه عليه وآله) لا يورث.

فقالت (عليها السلام): ألم يقل زكريا: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) (2).

فقال: النبي (صلى اللّه عليه وآله) لا يورث.

فقالت (عليها السلام): ألم يقل: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) (3).

ص: 193


1- تاريخ المدينة المنورة لابن شبه: ج 1 ص 196 - 200، وفاء الوفاء للسمهودي: ج 3 ص 999 - 1001، السقيفة وفدك لأبي بكر الجوهري: ص 105 و 107 (وقد رواه أيضا عن أبي زيد راوي الحديث) وعنه أيضا شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 16 ص 219، فتوح البلدان للبلاذري: ص 44 - 45
2- سورة مريم: الآية 5
3- سورة النساء: الآية 11.

فقال: النبي لا يورث. (1)

وفي رواية سليم بن قيس عن ابن عياش في حديث له... قال: ثم إن فاطمة (عليها السلام) بلغها أن أبا بكر قبض فدكا فخرجت في نساء بني هاشم حتى دخلت على أبي بكر، فقالت: يا أبا بكر تريد أن تأخذ مني أرضا جعلها لي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وتصدق بها علي من الوجيف الذي لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب؟ أما كان قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): المرء يحفظ في ولده؟ وقد علمت أنه (صلى اللّه عليه وآله) لم يترك لولده شيئا غيرها؟!

فلما سمع أبو بكر مقالتها والنسوة معها دعى بدواة ليكتب به لها، فدخل عمر، فقال: يا خليفة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لا تكتب لها حتى تقيم البينة بما تدعي؟!

فقالت فاطمة (عليها السلام): نعم، أقيم البينة.

قال: من؟

قالت: علي وأم أيمن.

فقال عمر: ولا تقبل شهادة امرأة أعجمية لا تفصح، وأما علي فيجر النار إلى قرصه؟!

فرجعت فاطمة (عليها السلام) وقد دخلها من الغيظ ما لا يوصف (2).

وفي رواية الثقفي قال: جاءت فاطمة (عليها السلام) إلى أبي بكر فقالت: إن أبي أعطاني فدك، وعلي يشهد لي وأم أيمن.

قال: ما كنت لتقولين على أبيك إلا الحق، قد أعطيتكها، ودعى بصحيفة من

ص: 194


1- كشف الغمة في معرفة الأئمة: ج 1 ص 478
2- بحار الأنوار: ج 28 ص 302 - 303 ح 48 و ج 43 ص 198 ح 29.

أدم فكتب لها فيها.

فخرجت فلقيت عمر، فقال: من أين جئت يا فاطمة؟

قالت: جئت من عند أبي بكر، أخبرته أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أعطاني فدك وأن عليا وأم أيمن يشهدان لي بذلك فأعطانيها وكتب بها لي، فأخذ عمر منها الكتاب، ثم رجع إلى أبي بكر فقال: أعطيت فاطمة فدك وكتبت بها لها؟

قال: نعم.

فقال: إن عليا يجر إلى نفسه وأم أيمن امرأة!! وبصق في الكتاب فمحاه وخرقه (1).

وفي رواية ابن طيفور (المتوفى سنة 380 ه) قال: وحدثني عبد اللّه بن أحمد العبدي عن الحسين بن علوان عن عطية العوفي أنه سمع أبا بكر يومئذ يقول لفاطمة (عليها السلام): يا ابنة رسول اللّه لقد كان صلى اللّه عليه وآله وسلم بالمؤمنين رؤوفا رحيما وعلى الكافرين عذابا أليما، وإذا عزوناه كان أباك دون النساء، وأخا ابن عمك دون الرجال، أثره على كل حميم، وساعده على الأمر العظيم، لا يحبكم إلا العظيم السعادة، ولا يبغضكم إلا الردي الولادة، وأنتم عترة اللّه الطيبون، وخيرة اللّه المنتجبون على الآخرة أدلتنا، وباب الجنة لسالكنا.

وأما منعك ما سألت فلا ذلك لي؟! وأما فدك وما جعل لك أبوك، فإن منعتك فأنا ظالم!

وأما الميراث فقد تعلمين أنه صلى اللّه عليه وآله قال: لا نورث ما أبقيناه صدقة؟

ص: 195


1- تلخيص الشافي للطوسي: ج 3 ص 124 - 125، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 16 ص 274.

قالت (عليها السلام): إن اللّه يقول عن نبي من أنبيائه: (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) (1) وقال: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ) (2) فهذان نبيان؟ وقد علمت أن النبوة لا تورث، وإنما يورث ما دونها؟!

فما لي أمنع إرث أبي؟ أأنزل اللّه في الكتاب إلا فاطمة بنت محمد (صلى اللّه عليه وآله)، فتدلني عليه!

قفال: يا بنت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أنت عين الحجة، ومنطق الرسالة، لا يد لي بجوابك ولا أدفعك عن صوابك!.. (3)

وذكر ابن قتيبة خبر دخول الشيخين على فاطمة (عليها السلام) وذلك بعد تفاقم الأمر، قال: فقال عمر لأبي بكر: انطلق بنا إلى فاطمة (عليها السلام) فإنا قد أغضبناها، فانطلقا جميعا، فاستأذنا على فاطمة (عليها السلام) فلم تأذن لهما، فأتيا عليا (عليه السلام) فكلماه، فأدخلهما عليها، فلما قعدا عندها، حولت وجهها إلى الحائط! فسلما عليها فلم ترد عليهما السلام.

فتكلم أبو بكر فقال: يا حبيبة رسول اللّه، واللّه إن قرابة رسول اللّه أحب إلي من قرابتي، وإنك لأحب إلي من عائشة ابنتي، ولوددت يوم مات أبوك أني مت، ولا أبقى بعده، أفتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقك وميراثك من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، إلا أني سمعت أباك رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يقول: لا نورث، ما تركناه فهو صدقة.

فقالت: أرايتكما إن حدثتكما حديثا عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) تعرفانه وتفعلان

ص: 196


1- سورة مريم: الآية 5
2- سورة النمل: الآية 16
3- بلاغات النساء لابن طيفور: ص 18 - 19، أعلام النساء لكحالة: ج 4 ص 118 - 119.

به؟

قالا: نعم.

فقالت: نشدتكما اللّه ألم تسمعا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يقول: رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني، ومن أرض فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني.

قالا: نعم، سمعناه من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله).

قالت: فإني أشهد اللّه وملائكته أنكما أسخطتماني، وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبي (صلى اللّه عليه وآله) لأشكونكما إليه.

فقال أبو بكر: أنا عائذ باللّه تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة، ثم انتحب أبو بكر يبكي، حتى كادت نفسه أن تزهق، وهي تقول: واللّه، لأدعون اللّه عليك في كل صلاة أصليها.

ثم خرج باكيا فاجتمع إليه الناس، فقال لهم: يبيت كل رجل منكم معانقا حليلته، مسرورا بأهله، وتركتموني وما أنا فيه، لا حاجة لي في بيعتكم، أقيلوني بيعتي...

قال: فلم يبايع علي كرم اللّه وجهه حتى ماتت فاطمة (عليها السلام)، ولم تمكث بعد أبيها إلا خمسا وسبعين ليلة. (1)

ص: 197


1- الإمامة والسياسة لابن قتيبة: ج 1 ص 20، أعلام النساء لكحالة: ج 4 ص 123 - 124، وقد ذكر نتفا ومقاطع من هذه المناظرات التي جرت بين فاطمة الزهراء (عليها السلام) والخليفة كل من: الذهبي في تاريخ الإسلام: ج 3 ص 23 - 24، والحموي في معجم البلدان: ج 4 ص 239 (عند ذكره فدكا) وكحالة في أعلام النساء: ج 4 ص 1224، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: ج 16 ص 214 - 220 و ص 230 و 232.

المناظرة الثامنة والعشرون: مناظرة عائشة وحفصة مع عثمان في مسألة توريث النبي (صلى اللّه عليه وآله) وميراث الزهراء (عليها السلام) منه

قال ابن شاذان في الإيضاح: وروى شريك بن عبد اللّه في حديث رفعه: إن عائشة وحفصة أتتا عثمان حين نقص أمهات المؤمنين ما كان يعطيهن عمر، فسألتاه أن يعطيهما ما فرض لهما عمر! فقال: لا واللّه ما ذاك لكما عندي.

فقالتا له: فأتنا ميراثنا من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) من حيطانه (1)؟

ص: 198


1- وليست هذه المطالبة الأولى لهن بميراثهن من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بل سبق وأن طالبن بميراثهن في زمن الخليفة الأول، وممن روى ذلك: أبو زيد البصري (ت 262 ه) في كتابه تاريخ المدينة المنورة: ج 1 ص 205، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: ج 16 ص 210، عن كتاب السقيفة وفدك لأبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: قال أبو بكر - بسنده - عن عائشة أن أزواج النبي (صلى اللّه عليه وآله) أردن لما توفي أن يبعثن عثمان بن عفان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن - أو قال: ثمنهن - قالت: فقلت لهن: أليس قد قال النبي (صلى اللّه عليه وآله): لا نورث، ما تركناه صدقة. ومثله أيضا في ص 223، عن عائشة قالت: أرسل أزواج النبي (صلى اللّه عليه وآله) عثمان بن عفان إلى أبي بكر يسأل لهن ميراثهن من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) مما أفاء اللّه عليه... الخ. وأيضا رواه البخاري في صحيحه في (كتاب المغازي ب حديث بني النضير) ج 5 ص 115 أقول: والذي يظهر من هذه الأخبار، أن قبول عثمان للذهاب إلى الخليفة في المطالبة بميراثهن، وعدم ردعه لهن، صريح في عدم تعويله وتصديقه للخبر المروي، نحن معاشر الأنبياء لا نورث، وإلا لاحتج عليهن به، ويكفيه عذرا في عدم الذهاب. إلا أن يقال لم يكن على دراية بالخبر ولم يعلم به بعد، وذلك بعيد إذ من المقطوع به أنه كان مطلعا بما جرى بين الخليفة والزهراء (عليها السلام) في مطالبتها بفدك، واحتجاج الخليفة بهذا الحديث الذي تفرد به، وعلى رواية أخرى رواه معه مالك بن أوس بن الحدثان. كما نص على ذلك أيضا ابن أبي الحديد في شرح النهج: ج 16 ص 245.

وكان عثمان متكئا، فجلس، وكان علي بن أبي طالب (عليه السلام) جالسا عنده، فقال: ستعلم فاطمة (عليها السلام) أنى ابن عم لها اليوم، ثم قال: ألستما اللتين شهدتما عند أبي بكر، ولفقتما معكما أعرابيا يتطهر ببوله، مالك بن الحويرث بن الحدثان (1)، فشهدتم أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) قال: إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة (2)، (حتى منعتما فاطمة ميراثها، وأبطلتما حقها، فكيف تطلبين اليوم ميراثا من النبي (صلى اللّه عليه وآله))؟!

فإن كنتما شهدتما بحق فقد أجزت شهادتكما على أنفسكما، وإن كنتما شهدتما بباطل، فعلى من شهد بالباطل لعنه اللّه والملائكة والناس أجمعين.

فقالتا: يا نعثل (3)، واللّه لقد شبهك رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بنعثل اليهودي!!

ص: 199


1- روي عن حنان بن سدير قال: سأل صدقة بن مسلم أبا عبد اللّه (عليه السلام) - وأنا عنده - فقال: من الشاهد على فاطمة (عليها السلام) بإنها لا ترث أباها فقال: شهدت عليها عائشة وحفصة ورجل من العرب، يقال له: أوس بن الحدثان، من بني النضير، شهدوا عند أبي بكر بأن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، قال : لا أورث، فمنعوا فاطمة (عليها السلام) ميراثها من أبيها (صلى اللّه عليه وآله)، عن قرب الإسناد للحميري: ص 99 ح 335، وعنه بحار الأنوار: ج 22 ص 101 ح 59
2- تقدمت تخريجاته
3- فقد روى المؤرخون أن عائشة كانت من أشد الناس على عثمان، وكانت تسميه نعثلا. راجع في ذلك: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 6 ص 215 - 217، تاريخ الأمم والملوك للطبري: ج 4 ص 459، الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 3 ص 206.

فقال لهما: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ) (1) فخرجتا من عنده... (2)

ص: 200


1- سورة التحريم: الآية 10
2- الإيضاح لابن شاذان: ص 139 - 142، الأمالي للشيخ المفيد: ص 125 م 15 ح 3، كشف الغمة في معرفة الأئمة للأربلي: ج 1 ص 478 - 479.

المناظرة التاسعة والعشرون: مناظرة عمر بن عبد العزيز مع مشائخ أهل الشام في أمر فدك

روي أنه لما رد عمر بن عبد العزيز (1) فدكا على ولد فاطمة (عليها السلام) اجتمع عنده

ص: 201


1- هو: عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، أبو حفص الأموي القرشي، وهو خير بني مروان، يعرف بأشجع بني أمية ضربته دابة في وجهه، وكانت أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب واسمها ليلى. قال العلامة المامقاني: لا نشكر منه إلا رفعه السب عن أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد ابتداع معاوية عليه لعائن اللّه تعالى، ولذا قال السيد الرضي رضي اللّه عنه: يا بن عبد العزيز لو بكت العين *** فتى من أمية لبكيتك أنت نزهتنا عن السب والشتم *** فلو أمكن الجزاء جزيتك دير سمعان لا أغبك غيث *** خير ميت من آل مروان ميتك وقد روي في سبب رفعه سب أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: كنت أحضر تحت منبر المدينة وأبي يخطب يوم الجمعة، وهو حينئذ أمير المدينة، فكنت أسمع أبي يمر في خطبه تهدر شقائقه، حتى يأتي إلى لعن علي (عليه السلام) فيجمجم، ويعرض له من الفهاهة والحصر ما اللّه عالم به، فكنت أعجب من ذلك، فقلت له يوما: يا أبت، أنت أفصح الناس وأخطبهم، فما بالي أراك أفصح خطيب يوم حفلك، حتى إذا مررت بلعن هذا الرجل، صرت ألكن عييا، فقال: يا بني، إن من ترى تحت منبرنا من أهل الشام وغيرهم، لو علموا من فضل هذا الرجل ما يعلمه أبوك لم يتبعنا أحد، فوقرت كلمته في صدري، مع ما كان قاله لي معلمي أيام صغري، فأعطيت اللّه عهدا، لئن كان لي في هذا الأمر نصيب لأغيرنه، فلما من اللّه علي بالخلافة أسقطت ذلك، وجعلت مكانه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) وكتبت في الآفاق فصار سنة، توفي بدير سمعان من أرض حمص يوم الجمعة لخمس ليال بقين من رجب سنة 101 ه وكان له يوم توفي إحدى وأربعون سنة. وكانت خلافته سنتين وخمس ليال. راجع ترجمته في: تنقيح المقال للمامقاني: ج 2 ص 345 ترجمة رقم: 9016، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4 ص 58 - 60، سير أعلام النبلاء: ج 5 ص 114.

قريش ومشايخ أهل الشام من علماء السوء، وقالوا له: نقمت على الرجلين فعلهما، وطعنت عليهما، ونسبتهما إلى الظلم والغصب؟!

فقال: قد صح عندي وعندكم، إن فاطمة بنت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ادعت فدكا، وكانت في يدها، وما كانت لتكذب على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، مع شهادة علي (عليه السلام) (1) وأم أيمن وأم سلمة، وفاطمة (عليها السلام) عندي صادقة فيما تدعي، وإن لم تقم البينة، وهي سيدة نساء الجنة، فأنا اليوم أرد على ورثتها، وأتقرب بذلك إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله).

وأرجو أن تكون فاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) يشفعون لي يوم القيامة، ولو كنت بدل أبي بكر وادعت فاطمة (عليها السلام) كنت أصدقها على دعوتها، فسلمها إلى الباقر (عليه السلام) (2).

ص: 202


1- وهل تصح دعوى أن فاطمة (عليها السلام) ادعت ما ليس لها فيه حق، وإنها لم تكن تعلم بأن الأنبياء لا يورثون حتى أخبرها أبو بكر بذلك عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، ولو افترضنا صحة ذلك، أفترى إن فاطمة (عليها السلام) لم تكن تعلم من الشريعة هذا المقدار، هذا مع ملازمة النبي (صلى اللّه عليه وآله) لها ليلا ونهارا، إذ كان يحوطها برعايته وعنايته، فهل يا ترى تقنع بأنه (صلى اللّه عليه وآله) يخبر الناس بذلك، ويخفي على ابنته مع كونها أولى الناس بمعرفة هذا الأمر لو كان صحيحا، فيكون النبي (صلى اللّه عليه وآله) - وحاشاه - قد ترك ما ينبغي فعله، ولم يقل ما ينبغي قوله. وثانيا: إنها - صلوات اللّه عليها - لو لم تكن على حق، أفترى أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو أعلم الناس بالشريعة وأقضاهم يوافقها على ما ادعت، ويشهد لها بذلك، وقد قال فيه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): علي مع الحق والحق مع علي، ألا ترى أن رد شهادة هؤلاء طعنا فيهم وفي عصمتهم التي نص عليها القرآن في قوله تعالى: (إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) أفما كان من الإنصاف منهم أن تصدق فيما ادعت وهي ابنة نبيهم (صلى اللّه عليه وآله) الوحيدة، أفما كان من حق رسول اللّه عليهم عدم إيذائها وإسخاطها
2- بحار الأنوار للمجلسي: ج 29 ص 209، سفينة البحار للقمي: ج 2 ص 272، كشف الغمة في معرفة الأئمة للأربلي: ج 1 ص 495، تاريخ الخلفاء للسيوطي: ص 231 - 232، السقيفة وفدك لأبي بكر الجوهري: ص 145 - 146.

وذكر ابن أبي الحديد المعتزلي رواية أخرى تناسب المقام في رد عمر بن عبد العزيز فدكا، وهي: قال: قال أبو المقدام - هشام ابن زياد مولى آل عثمان -:

فنقمت بنو أمية ذلك على عمر بن عبد العزيز، وعاتبوه فيه، وقالوا له: هجنت فعل الشيخين؟!

وخرج إليه عمر بن قيس في جماعة من أهل الكوفة، فلما عاتبوه على فعله!!

قال: إنكم جهلتم وعلمت، ونسيتم وذكرت، إن أبا بكر محمد بن عمرو بن حزم، حدثني عن أبيه، عن جده أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قال: فاطمة بضعة مني يسخطها ما يسخطني، ويرضيني ما أرضاها (1)، وإن فدك كانت صافية على عهد أبي بكر وعمر، ثم صار أمرها إلى مروان، فوهبها لعبد العزيز أبي، فورثتها أنا وإخوتي عنه، فسألتهم أن يبيعوني حصتهم منها، فمن بائع وواهب حتى استجمعت لي، فرأيت أن أردها على ولد فاطمة (عليها السلام).

قالوا: فإن أبيت إلا هذا فامسك الأصل، واقسم الغلة، ففعل (2).

ص: 203


1- راجع: صحيح البخاري: ج 5 ص 26 و 36، السنن الكبرى للبيهقي: ج 7 ص 64 و ج 10 ص 201، مستدرك الحاكم: ج 3 ص 158، كنز العمال: ج 12 ص 108 ح 34222 و 34223، إتحاف السادة المتقين للزبيدي: ج 6 ص 244 و ج 7 ص 281، فتح الباري لابن حجر: ج 7 ص 78 و 105، مشكاة المصابيح للتبريزي: ج 3 ص 1732 ح 6130، شرح السنة للبغوي: ج
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 16 ص 278، الشافي في الإمامة للمرتضى: ج 4 ص 103 - 104، بحار الأنوار للمجلسي: ج 29 ص 212 - 213.

المناظرة الثلاثون: مناظرة فضال بن الحسن مع أبي حنيفة في مسألة الدفن عند النبي (صلى اللّه عليه وآله) وميراث الزهراء (عليها السلام)

المناظرة الثلاثون: مناظرة فضال بن الحسن (1) مع أبي حنيفة في مسألة الدفن عند النبي (صلى اللّه عليه وآله) وميراث الزهراء (عليها السلام)

روي أنه مر فضال بن الحسن بن فضال الكوفي بأبي حنيفة وهو في جمع كثير، يملي عليهم شيئا من فقهه وحديثه.

فقال - لصاحب كان معه -: واللّه لا أبرح حتى أخجل أبا حنيفة.

فقال صاحبه الذي كان معه: إن أبا حنيفة ممن قد علمت حاله، وظهرت حجته.

قال: مه! هل رأيت حجة ضال علت على حجة مؤمن؟! ثم دنا منه فسلم عليه، فردها، ورد القوم السلام بأجمعهم.

فقال: يا أبا حنيفة! إن أخا لي يقول: إن خير الناس بعد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وأنا أقول: أبو بكر خير الناس وبعده عمر، فما تقول أنت رحمك اللّه؟

ص: 204


1- هو: فضال بن الحسن بن فضال الكوفي، حكي عن المولى الوحيد أنه قال: يظهر من معارضته مع أبي حنيفة المذكورة في البحار كونه من فضلاء الشيعة، واحتمل الحائري كونه أخا لعلي بن الحسن بن فضال. راجع تنقيح المقال للمامقاني: ج 2 ص 5 ترجمة رقم: 9442، (من أبواب الفاء).

فأطرق مليا ثم رفع رأسه فقال: كفى بمكانهما من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) كرما وفخرا، أما علمت أنهما ضجيعاه في قبره، فأي حجة تريد أوضح من هذا؟

فقال له فضال: إني قلت ذلك لأخي، فقال: واللّه لئن كان الموضع لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) دونهما فقد ظلما بدفنهما في موضع ليس لهما فيه حق، وإن كان الموضع لهما فوهباه لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لقد أساءا وما أحسنا، إذ رجعا في هبتهما ونسيا عهدهما.

فأطرق أبو حنيفة ساعة ثم قال له: لم يكن له ولا لهما خاصة، ولكنهما نظرا في حق عائشة وحفصة فاستحقا الدفن في ذلك الموضع بحقوق ابنتيهما.

فقال له فضال: قد قلت له ذلك فقال: أنت تعلم أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) مات عن تسع نساء، ونظرنا فإذا لكل واحدة منهن تسع الثمن، ثم نظرنا في تسع الثمن، فإذا هو شبر في شبر، فكيف يستحق الرجلان أكثر من ذلك، وبعد فما بال عائشة وحفصة ترثان رسول اللّه وفاطمة بنته تمنع الميراث؟!

فقال أبو حنيفة: يا قوم! نحوه عني فإنه رافضي (1) خبيث (2).

ص: 205


1- كان على أبي حنيفة أن يقرع الحجة بالحجة والدليل بالدليل لا أن يستخدم أسلوب العنف والتهويل في مقاطعة خصمه إذ أن ذلك قبيح صدوره ممن له أدنى دراية ومعرفة فكيف بمن في مقام عالم بالفقه والحديث - كأبي حنيفة، فكان عليه في منطق البحث وميزان المناظرة أن يتلطف في جواب مناظره ورده بما يناسب حجته لا أن يشتمه ويطرده إذ أن ذلك مما ينافي المجلس العلمي وعدم مراعاة لآداب المناظرة، والحق ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها
2- الإحتجاج للطبرسي: ج 2 ص 382، الفصول المختارة: ج 1 ص 44 - 45، كنز الفوائد للكراجكي: ج 1 ص 294 - 295، الخرائج والجرائح للراوندي: ج 1 ص 243 - 244، بحار الأنوار: ج 10 ص 231 ح 2 و ج 47 ص 400 ح 2.

المناظرة الحادية والثلاثون: مناظرة الشيخ المفيد مع علي بن عيسى الرماني في أمر فدك

المناظرة الحادية والثلاثون: مناظرة الشيخ المفيد (1) مع علي بن عيسى الرماني (2) في أمر فدك

قال الشريف المرتضى - أعلى اللّه مقامه -: ومن حكايات الشيخ - المفيد - وكلامه، قال الشيخ أيده اللّه: حضرت مجلسا لبعض الرؤساء، وكان فيه جمع كثير من المتكلمين والفقهاء، فالتفت أبو الحسن علي بن عيسى الرماني يكلم رجلا

ص: 206


1- هو: محمد بن محمد بن النعمان البغدادي الملقب بالشيخ المفيد من أعاظم علماء الإمامية، انتهت إليه رئاسة متكلمي الشيعة في عصره، وكان فقيها متقدما فيه، حسن الخاطر، دقيق الفطنة، حاضر الجواب، له قريب من مائتي مصنف، ولد سنة 338 ه وتوفي سنة 413 ه وكان يوم وفاته يوما لم ير أعظم منه من كثرة الناس للصلاة عليه وكثرة البكاء من المخالف والموافق، وقيل شيعه ثمانون ألفا من الناس وصلى عليه الشريف المرتضى ودفن بجوار الإمامين الكاظم والجواد (عليهما السلام). راجع ترجمته في: أوائل المقالات في المذاهب والمختارات للشيخ المفيد في المقدمة ص 16، ميزان الاعتدال ج 4 ص 30، الفهرست للشيخ الطوسي ص 157 ترجمة رقم: 696
2- الرماني: أبو الحسن علي بن عيسى بن علي بن عبد اللّه الرماني نحوي لغوي وفقيه مفسر ومتكلم معتزلي، ولد في بغداد 296 ه، وأصله من سر من رأى، أخذ عن ابن السراج وابن دريد ، له الجامع في علم القرآن، وكتاب الألفاظ المتقاربة والمترادفة المعنى، وشرح كتاب سيبويه، قيل في أسلوب الرماني إنه كان يمزج النحو بالمنطق، توفي ببغداد سنة 384 ه. راجع ترجمته في وفيات الأعيان لابن خلكان: ج 3 ص 299 ترجمة رقم: 435، تاريخ بغداد للخطيب: ج 12 ص 16 ترجمة رقم: 6377، الأعلام للزركلي: ج 5 ص 134.

من الشيعة يعرف بأبي الصقر الموصلي في شئ يتعلق بالحكم في فدك ووجدته قد انتهى في كلامه إلى أن قال له: قد علمنا باضطرار أن أبا بكر قال لفاطمة (عليها السلام) عند مطالبتها له بالميراث:

سمعت رسول اللّه يقول: نحن معاشر الأنبياء لا نورث (1) فسلمت (عليها السلام) لقوله ولم ترده عليه، وليس يجوز على فاطمة (عليها السلام) أن تصبر على المنكر وتترك المعروف وتسلم الباطل، لا سيما وأنتم تقولون إن عليا (عليه السلام) كان حاضرا في المجلس، ولا شك أن جماعة من المسلمين حضروه واتصل خبره بالباقين فلم ينكره أحد من الأمة ولا علمنا أن واحدا رد على أبي بكر وأكذبه في الخبر، فلولا أنه كان محقا فيما رواه من ذلك لما سلمت الجماعة له ذلك.

فاعترضه الرجل الإمامي بما روي عن فاطمة (عليها السلام) من ردها عليه وإنكارها لروايته وخطبتها في ذلك واستشهادها على بطلان خبره بظاهر القرآن وأورد كلاما في هذا المعنى على حسب ما يقتضيه واتسعت له الحال.

فقال علي بن عيسى: هذا الذي ذكرته شئ تختص أنت وأصحابك به، والذي ذكرته من الحكم عليها شئ عليه الإجماع وبه حاصل علم الاضطرار، فلو كان ما تدعونه من خلافه حقا لارتفع معه الخلاف وحصل عليه الإجماع كما حصل على ما ذكرت لك من رواية أبي بكر وحكمه، فلما لم يكن الأمر كذلك دل على بطلانه، فكلمه الإمامي بكلام لم أرتضه، وتكرر منهما جميعا.

فأشار صاحب المجلس إلي لأخذ الكلام فأحس بذلك علي بن عيسى فقال لي: إنني قد جعلت نفسي أن لا أتكلم في مسألة واحدة مع نفسين في

ص: 207


1- تقدمت تخريجاته.

مجلس واحد، فأمسكت عنه وتركته حتى انقطع الكلام بينه وبين الرجل.

ثم قلت له: خبرني عن المختلف فيه هل يدل الاختلاف على بطلانه؟ فظن أنني أريد شيئا غير المسألة الماضية وأنني لا أكسر شرطه.

فقال: لست أدري أي شئ تريد بهذا الكلام، فأبن لي عن غرضك لأتكلم عليه.

فقلت: لم آتك بكلام مشكل ولا خاطبتك بغير العربية! وغرضي في نفس هذا السؤال مفهوم لكل ذي سمع من العرب إذا أصغى إليه ولم يله عنه، اللّهم إلا أن تريد أن أبين لك عن غرضي فيما أجري بهذه المسألة إليه فلست أفعل ذلك بأول وهلة إلا أن يلزمني في حكم النظر والذي استخبرتك عنه معروف صحته وأنا أكرره، أتقول إن الشئ إذا اختلف العقلاء في وجوده أو صحته وفساده كان اختلافهم دليلا على بطلانه، أو قد يكون حقا وإن اختلفت العقلاء فيه.

فقال: ليس يكون الشئ باطلا من حيث اختلف الناس فيه، ولا يذهب إلى ذلك عاقل.

فقلت له: فما أنكرت إلا أن تكون فاطمة (عليها السلام) قد أنكرت على أبي بكر حكمه وردت عليه في خبره واحتجت عليه في بطلان قضائه واستشهدت بالقرآن (1) على ما جاء الأثر به ولا يجب أن يقع الاتفاق على ذلك وإن كان حقا

ص: 208


1- وقد احتجت (عليها السلام) بالقرآن في خطبتها التي خطبتها بمحضر من الخليفة الأول وحشد من المهاجرين والأنصار لما منعوها فدكا ومما احتجت به (عليها السلام) قالت: أيها المسلمون أأغلب على إرثي؟ يا ابن أبي قحافة أفي كتاب اللّه ترث أباك ولا أرث أبي، لقد جئت شيئا فريا! أفعلى عمد تركتم كتاب اللّه ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ) ، وقال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا إذ قال: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) وقال: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) وقال: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) وقال: (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) وزعمتم: أن لا حظوة لي ولا إرث من أبي ولا رحم بيننا، أفخصكم اللّه بآية أخرج أبي منها؟ أم تقولون: إنا أهل ملتين لا يتوارثان؟ أولست أنا وأبي من أهل ملة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟ فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم اللّه، والزعيم محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولا ينفعكم إذ تندمون، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم.. الخ. راجع هذه الخطبة الشريفة في: الإحتجاج للطبرسي: ج 1 ص 97 - 107، بلاغات النساء لابن طيفور - المتوفى سنة 380 ه: ص 12 - 19، أعلام النساء لعمر كحالة: ج 4 ص 116 - 119، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 16 ص 211 - 213 و ص 249 - 251.

ولا يكون الخلاف فيه علامة على كذب مدعاه بل قد يكون صدقا وإن اختلف فيه على ما أعطيت في الفتيا التي قررناك عليها.

فقال: أنا لا أعتمد على ما سمعت مني من الكلام مع الرجل على الاختلاف فيما ادعاه إلا بعد أن قدمت معه مقدمات لم تحصرها، والذي أعتمد عليه الآن معك أن الذي يدل على صدق أبي بكر فيما رواه عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) من أنه لا يورث (1)، وصوابه فيما حكم به ما جاء به الخبر عن علي (عليه السلام) أنه قال: ما حدثني أحد بحديث إلا استحلفته، ولقد حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر، ولو لم يكن صادقا أمينا عادلا لما عدل عن استحلافه ولا صدقه في روايته ولا ميز بينه وبين الكافة في خبره، وهذا يدل على أن ما يدعونه على أبي بكر من تخرص الخبر فاسد محال.

فقلت له: أول ما في هذا الباب أنك قد تركت الاعتلال الذي اعتمدته بدأ

ص: 209


1- تقدمت تخريجاته.

ورغبت عنه بعد أن كنت راغبا فيه وأحلتنا على شئ لا نعرفه ولا سمعناه وإنما بينا الكلام على الاعتلال الذي حضرناه ولسنا نشاحك في هذا الباب لكنا نكلمك على استينافه من الكلام، وأنت تعلم وكل عاقل عرف المذاهب وسمع الأخبار أن الشيعة لا تروي هذا الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ولا تصححه بل تشهد بفساده وكذب رواته وإنما يرويه آحاد من العامة ويسلمه من دان بأبي بكر خاصة فإن لزم الشيعة أمرا بحديث تفرد به خصومهم لزم المخالفين ما تفردت الشيعة بروايته، هذا على شرط الإنصاف وحقيقة النظر والعدل فيه فيجب أن يصير إلى اعتقاد ضلالة كل ما روت الشيعة عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) وعن علي والأئمة من ذريته (عليهم السلام) ما يوجب ضلالتهم فإن لم تقبل ذلك ولم تلتزمه لتفرد القوم بنقله دونك، فكيف استجزت إلزامهم الإقرار برواية ما تفردت به دونهم لولا التحكم دون الإنصاف، على أن أقرب الأمور في هذا الكلام أن تتكافأ الروايات ولا يلزم أحد الفريقين منهما إلا ما حصل عليه الإجماع أو يضم إليه دليل يقوم مقام الإجماع في الحجة والبيان، وفي هذا إسقاط الاحتجاج بالخبر من أصله.

مع أني أسلمه لك تسليم جدل وأبين لك أنك لم توف الدليل حقه ولا اعتمدت على برهان، وذلك أنه ليس من شرط الكاذب في خبر أن يكون كاذبا في جميع الأخبار، ولا من شرط من صدق في شئ أن يصدق في كل الأخبار، وقد وجدنا اليهود والنصارى والملحدين يكذبون في أشياء ويصدقون في غيرها، فلا يجب لصدقهم فيما صدقوا فيه أن نصدقهم فيما كذبوا فيه ولا نكذبهم فيما صدقوا فيه لأجل كذبهم في الأمور الأخر، ولا نعلم أن أحدا من العقلاء جعل التصديق لزيد في مقالة واحدة دليلا على صدقه في كل أخباره، وإذا كان ذلك كذلك فما أنكرت أن يكون الرجل مخطئا فيما رواه عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) في

ص: 210

الميراث، وأن أمير المؤمنين (عليه السلام) قد صدقه فيما رواه من الحديث الذي لم يستحلفه فيه فيكون وجه تصديقه له وعلة ذلك أنه (عليه السلام) شاركه في سماعه من النبي (صلى اللّه عليه وآله) فكان حفظه له عينه يغنيه عن استحلافه ويدله على صدقه فيما أخبر به ولا يكون ذلك من حيث التعديل له والحكم على ظاهره، على أن الذي رواه أبو بكر عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) شئ يدل على صحته العقل ويشهد بصوابه القرآن فكان تصديق أمير المؤمنين (عليه السلام) له من حيث العقل والقرآن لا من جهة روايته عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) ولا لحسن ظاهر له على ما قدمناه، وذلك أن الخبر الذي رواه أبو بكر هو أن قال: سمعت رسول اللّه يقول: ما من عبد يذنب ذنبا فيندم عليه ويخرج إلى صحراء فلاة فيصلي ركعتين ثم يعترف به ويستغفر اللّه عز وجل منه إلا غفر اللّه له (1) وهذا شئ نطق به القرآن، قال اللّه تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (2) وقال: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (3) والعقل يدل على قبول التوبة، وإذا كان الأمر على ما وصفناه بطل ما تعلقت به وكان ذكره لأبي بكر خاصة لأنه لم يحدثه بحديث غير هذا فصدقه لما ذكرناه وأخبر عن تصديقه بما وصفناه ولم يكن ذلك لتعديله على ما ظننت ولا لتصويبه في الأحكام كلها على ما قدمت بما شرحناه.

فقال عند سماع هذا الكلام: أنا لم أعتمد في عدالة أبي بكر وصحة حكمه على الخبر وإنما جعلته توطئة للاعتماد وطولت الكلام فيه وأطنبت في معناه، والذي أعتمده في هذا الباب أني وجدت أمير المؤمنين (عليه السلام) قد بايع أبا بكر وأخذ

ص: 211


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 1 ص 10، كنز العمال: ج 4 ص 206 ح 10168
2- سورة الشورى: الآية 25
3- سورة البقرة: الآية 222.

عطاءه وصلى خلفه ولم ينكر عليه بيد ولا لسان، فلو كان أبو بكر ظالما لفاطمة (عليها السلام) لما جاز أن يرضى به أمير المؤمنين (عليه السلام) إماما ينتهي في طاعته إلى ما وصفت.

فقلت له: هذا انتقال ثان بعد انتقال أول وتدارك فائت وتلاف فارط وتذكر ما كان منسيا وإن عملنا على هذا انقطع المجلس بنشر المسائل والتنقل فيها والتحير وخرج الأمر عن حده وصار مجلس مذاكرة دون تحقيق جدل ومناظرة وأنت لا تزال تعتذر في كل دفعه عندما يظهر من وهن معتمداتك بأنك لم تردها ولكنك وطأت بها، فخبرني الآن هل هذا الذي ذكرته أخيرا هو توطئة أو عماد، فإن كان توطئة عدلنا عن الكلام فيه وسألناك عن المعتمد، وإن كان أصلا كلمناك عليه، مع أني لست أفهم منك معنى التوطئة لأن كل كلام اعتل به معتل ففسد فقد انهدم ما بناه عليه، ووضح فساد مبناه إن بناه عليه، فاعتذارك في فساد ما تقدم بأنه توطئة لا معنى له، ولكننا نتجاوز هذا الباب ونقول لك ما أنكرت على من قال لك إن ما ادعيته من أن أمير المؤمنين (عليه السلام) بايع الرجل دعوى عرية عن برهان لا فرق بينها وبين قولك إنه كان مصيبا فيما حكم به على فاطمة (عليها السلام) فدل على أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قد بايع على ما ادعيت ثم ابن عليه.

فإما أن تعتمد على الدعوى المحضة فإنها تضر ولا تنفع، وقولك إنه (عليه السلام) صلى خلف الرجل، فإن كنت تريد أنه صلى متأخرا عن مقامه فلسنا ننكر ذلك وليس فيه دلالة على رضاه به، وإن أردت أنه صلى مقتديا به ومؤتما فما الدليل على ذلك؟ فإنا نخالفك فيه وعنه ندفعك، وهذه دعوى كالأولى تضر من اعتمد عليها أيضا ولا تنفع.

وأما قولك إنه أخذ العطاء فالأمر كما وصفت، ولكن لم زعمت أن في ذلك

ص: 212

دلالة على رضاه بإمامته والتسليم له في حكمه؟ أوليس تعلم أن خصومك يقولون في ذلك إنه أخذ بعض حقه ولم يحل له الامتناع من أخذه لأن في ذلك تضييعا لماله وقد نهى اللّه تعالى عن التضييع وأكل الأموال بالباطل، وبعد فما الفصل بينك وبين من جعل هذا الذي اعتمدت بعينه حجة في إمامة معاوية.

فقال: وجدت الحسن والحسين (عليهما السلام) وعبد اللّه بن عباس وعبد اللّه بن جعفر وغيرهم من المهاجرين والأنصار قد بايعوا معاوية بن أبي سفيان بعد صلح الحسن (عليه السلام) وأخذوا منه العطاء وصلوا خلفه الفرائض ولم ينكروا عليه بيد ولا لسان، فكلما جعلته إسقاطا لهذا الاعتماد فهو بعينه دليل على فساد ما اعتمدته حذو النعل بالنعل.

فلم يأت بشئ تجب حكايته. (1)

ص: 213


1- الفصول المختارة للشيخ المفيد: ص 269 - 274.

المناظرة الثانية والثلاثون: مناظرة ابن أبي الحديد المعتزلي مع علي بن الفارقي وبعضهم في أمر فدك

المناظرة الثانية والثلاثون مناظرة ابن أبي الحديد المعتزلي (1) مع علي بن الفارقي وبعضهم في أمر فدك

يقول ابن أبي الحديد المعتزلي في أمر فدك: وسألت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد، فقلت له: أكانت فاطمة (عليها السلام) صادقة؟

قال: نعم.

قلت: فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟

فتبسم، ثم قال كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته، قال:

لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها لجاءت إليه غدا وادعت لزوجها الخلافة، وزحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشئ، لأنه يكون قد أسجل على نفسه أنها صادقة فيما تدعي كائنا ما كان من غير حاجة إلى بينة ولا شهود.

ص: 214


1- هو: عبد الحميد بن هبة اللّه بن محمد بن محمد بن الحسين بن أبي الحديد عز الدين المدائني، ولد بالمدائن سنة 586 ه ونشأ بها وتلقى عن شيوخها، ودرس المذاهب الكلامية فيها، ثم مال إلى مذهب الاعتزال منها، وعلى أساسه جادل وناظر، وكان متضلعا في فنون الأدب، عارفا بأخبار العرب، وله عدة مصنفات أشهرها شرح نهج البلاغة، توفي سنة 655 ه، وقيل 656 ه ، راجع ترجمته في: مقدمة شرح نهج البلاغة تحقيق محمد أبو الفضل، وفيات الأعيان لابن خلكان: ج 5 ص 391 - 392، البداية والنهاية: ج 13 ص 199.

وهذا كلام صحيح، وإن كان أخرجه مخرج الدعابة والهزل (1).

وقال لي علوي من الحلة (2) يعرف بعلي بن مهنأ، ذكي ذو فضائل: ما تظن قصد أبي بكر وعمر بمنع فاطمة (عليها السلام) فدك؟

قلت: ما قصدا؟

قال: أرادا ألا يظهرا لعلي (عليه السلام) - وقد اغتصباه الخلافة - رقة ولينا وخذلانا، ولا يرى عندهما خورا، فأتبعا القرح بالقرح.

وقلت لمتكلم من متكلمي الإمامية يعرف بعلي بن تقي من بلدة النيل (3):

وهل كانت فدك إلا نخلا يسيرا وعقارا ليس بذلك الخطير!

فقال لي: ليس الأمر كذلك، بل كانت جليلة جدا، وكان فيها من النخل نحو ما بالكوفة الآن من النخل، وما قصد أبو بكر وعمر بمنع فاطمة (عليها السلام) عنها إلا ألا يتقوى علي (عليه السلام) بحاصلها وغلتها على المنازعة في الخلافة، ولهذا أتبعا ذلك

ص: 215


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 16 ص 284
2- الحلة: مدينة كبيرة بين الكوفة وبغداد، كانت تسمى الجامعين، وكان أول من عمرها ونزلها سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس بن علي بن مزيد الأسدي، وذلك في محرم سنة (495 ه )، وكانت أجمة تأوي إليها السباع، فنزل بها بأهله وعساكره وبنى بها المساكن الجليلة والدور الفاخرة، وتأنق أصحابه في مثل ذلك فصارت ملجأ، وقد قصدها التجار فصارت أفخر بلاد العراق وأحسنها مدة حياة سيف الدولة، وفي الحلة مسجد الإمام الصادق (عليه السلام) وفيها أيضا مسجد رد الشمس ومسجد جمجمة. سفينة البحار: ج 1 ص 299، مراصد الاطلاع: ج 1 ص 419
3- النيل: بليدة في سواد الكوفة، قرب حلة بني مزيد يخترقها نهر يتخلج من الفرات العظمى، حفره الحجاج بن يوسف وسماه نيل مصر، وهو عمود عمل قوسان يصب فاضله إلى دجلة تحت النعمانية، مراصد الاطلاع: ج 3 ص 1413.

بمنع فاطمة وعلي (عليهما السلام) وسائر بني هاشم وبني المطلب حقهم في الخمس، فإن الفقير الذي لا مال له تضعف همته ويتصاغر عند نفسه، ويكون مشغولا بالاحتراف والاكتساب عن طلب الملك والرياسة (1).

ص: 216


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 16 ص 236 - 237.

المناظرة الثالثة والثلاثون: مناظرة ابن أبي الحديد المعتزلي مع النقيب أبي جعفر البصري العلوي في أمر فدك

قال ابن أبي الحديد: قرأت على النقيب أبي جعفر يحيى بن أبي زيد البصري العلوي رحمه اللّه، هذا الخبر (1) فقال: أترى أبا بكر وعمر لم يشهدا هذا المشهد! أما كان يقتضي التكريم والإحسان أن يطيب قلب فاطمة (عليها السلام) بفدك، ويستوهب لها من المسلمين، أتقصر منزلتها عند رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) عن منزلة زينب أختها، وهي سيدة نساء العالمين! هذا إذا لم يثبت لها حق، لا بالنحلة ولا بالإرث؟

فقلت له: فدك بموجب الخبر الذي رواه أبو بكر قد صار حقا من حقوق

ص: 217


1- وهو خبر فداء زينب - أخت فاطمة الزهراء (عليها السلام) لأبي العاص زوجها، وذلك لما يروى إنه لما بعث أهل مكة في فداء أساراهم في يوم بدر - وكان معهم أبو العاص ابن الربيع - بعثت زينب في فداء أبي العاص بمال، وكان فيما بعث به قلادة كانت خديجة أمها أدخلتها بها على أبي العاص ليلة زفافها عليه، فلما رآها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) رق لها رقة شديدة، وقال للمسلمين: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها ما بعثت به من الفداء فافعلوا، فقالوا: نعم يا رسول اللّه، نفديك بأنفسنا وأموالنا فردوا عليها ما بعثت به، وأطلقوا لها أبا العاص بغير فداء. راجع: شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 14 ص 190، السيرة النبوية لابن هشام: ج 2 ص 296 - 297.

المسلمين، فلم يجز له أن يأخذه منهم.

فقال: وفداء أبي العاص بن الربيع قد صار حقا من حقوق المسلمين، وقد أخذه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) منهم.

فقلت: رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) صاحب الشريعة، والحكم حكمه، وليس أبو بكر كذلك.

فقال: ما قلت: هلا أخذه أبو بكر من المسلمين قهرا فدفعه إلى فاطمة (عليها السلام)، وإنما قلت: هلا استنزل المسلمين عنه واستوهبه منهم لها، كما استوهب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) المسلمين فداء أبي العاص!

أتراه لو قال: هذه بنت نبيكم قد حضرت تطلب هذه النخلات، أفتطيبون عنها نفسا، أكانوا منعوها ذلك؟

فقلت له: قد قال قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد نحو هذا، قال: إنهما لم يأتيا بحسن في شرع التكرم، وإن كان ما أتياه حسنا في الدين! (1)

قال ابن أبي الحديد: وهذا الخبر أيضا قرأته (2) على النقيب أبي جعفر (رحمه اللّه).

فقال: إذا كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أباح دم هبار بن الأسود لأنه روع زينب

ص: 218


1- شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 14 ص 190 - 191
2- وهو خبر خروج زينب من مكة إلى المدينة، وذلك لما خرجت خرج بعضهم في طلبها سراعا حتى أدركوها بذي طوى، فكان أول من سبق إليها هبار بن الأسود، ونافع بن عبد القيس الفهري، فروعها هبار بالرمح وهي في الهودج، وكانت حاملا، فلما رجعت طرحت ما في بطنها، وقد كانت من خوفها رأت دما وهي في الهودج، فلذلك أباح رسول اللّه (عليها السلام) يوم فتح مكة دم هبار بن الأسود. راجع: شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 14 ص 192، السيرة النبوية لابن هشام: ج 2 ص 298 - 299.

فألقت ذا بطنها، فظهر الحال أنه لو كان حيا لأباح دم من روع فاطمة (عليها السلام) حتى ألقت ذا بطنها.

فقلت: أروي عنك ما يقوله قوم أن فاطمة (عليها السلام) روعت فألقت المحسن.

فقال: لا تروه عني، ولا ترو عني بطلانه، فإني متوقف في هذا الموضع لتعارض الأخبار عندي فيه. (1)

ص: 219


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 14 ص 193.

المناظرة الرابعة والثلاثون: مناظرة نظام العلماء التبريزي مع بعض المدنيين في علة دفن الزهراء (عليها السلام) ليلا

المناظرة الرابعة والثلاثون: مناظرة نظام العلماء التبريزي (1) مع بعض المدنيين في علة دفن الزهراء (عليها السلام) ليلا

قال نظام العلماء التبريزي في كتابه الشهاب الثاقب: إني تحدثت مع رجل من إخواننا السنة في المدينة المنورة، فسألته قائلا: لما دفنت الزهراء (عليها السلام) ليلا، ولم يعملوا لها تشييعا عظيما، وهي ابنة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)؟

فقال لي المدني: لقد صار للزهراء (عليها السلام) يوم وفاتها تشييع عظيم!

قال: فقلت له: أسألك عن نافع (2) - وهو - من القراء، كم حضر تشييعه يوم وفاته.

قال: لا أدري؟ ولكن ما يزيد على خمسمائة إنسان.

ص: 220


1- هو: المولى محمود بن محمد (نظام العلماء) التبريزي - عليه الرحمة - المتوفى سنة 1271 ه تقريبا، كان جامعا للمعقول والمنقول، وكان معلما للسلطان ناصر الدين شاه، ومن آثاره: كتاب الأخلاق، المطبوع سنة 1264 ه، الشهاب الثاقب في رد النواصب، وقد طبع باللغة الفارسية، كما أوقفت مكتبته بعد موته في سنة 1272 ه، راجع: الذريعة لآغا بزرك الطهراني: ج 1 ص 381 و ج 14 ص 253
2- هو: نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المدني، أحد القراء السبعة، أصله من أصبهان، أخذ القراءة عرضا عن جماعة من تابعي أهل المدينة، توفي سنة 169 ه، راجع: طبقات القراء: ج 2 ص 330، تهذيب التهذيب: ج 10 ص 407 رقم: 732.

قال: فقلت له: وهل معروف موضع قبره أم لا؟

قال: نعم، مدفون في البقيع، وقبره معلوم.

فقلت له: فإذا كانت الزهراء (عليها السلام) قد صار لها تشييع عظيم، وحضرها الآلاف من أهل المدينة، فكيف لم يعلموا موضع قبرها ومحل دفنها؟

قال: لا أدري، بل أنت قل لي ما السبب؟

قال نظام العلماء: فقلت له: إن سببه، لأنها هي أوصت بدفنها ليلا، وعدم إخبار الناس بوفاتها.

قال المدني: وما سبب ذلك؟

قلت: لأن الرجلين كانا قد ظلماها بعد أبيها وأغضباها، فسخطت عليهما، فأوصت بعدم إخبارهما بوفاتها، لئلا يحضرا تشييعها ودفنها والصلاة عليها (1)،

ص: 221


1- وهذا متفق عليه عند كبار المحدثين، بلا نكير يذكر، وما ينكر ذلك إلا متعنت وإليك جملة مما ذكرها أكابرهم في أن فاطمة (عليها السلام) هجرت الخليفة الأول فلم تكلمه حتى ماتت، وأوصت أن تدفن ليلا. أ - صحيح البخاري: ج 5 ص 177، قال في ذلك: فوجدت فاطمة (عليها السلام) على أبي بكر في ذلك، فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت، وعاشت بعد النبي (صلى اللّه عليه وآله) ستة أشهر، فلما توفيت دفنها علي (عليه السلام) ليلا، ولو يؤذن بها أبا بكر. ب - السنن الكبرى للبيهقي: ج 4 ص 29 (ب الوالي أحق بالصلاة على الميت من الولي من كتاب الجنائز) قال: والصحيح عن ابن شهاب الزهري عن عروة عن عائشة، في قصة الميراث أن فاطمة بنت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) عاشت بعد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ستة أشهر فلما توفيت دفنها علي بن أبي طالب (عليه السلام) ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر، وصلى عليها علي (عليه السلام). وذكر ذلك أيضا في ج 6 ص 300 عن عائشة في حديث مطالبة فاطمة (عليها السلام) ميراثها من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) - إلى أن قالت -: فغضبت فاطمة (عليها السلام) وهجرته فلم تكلمه حتى ماتت فدفنها علي (عليه السلام) ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر... الخ ج - تاريخ الأمم والملوك للطبري: ج 2 ص 448، عن عائشة فهجرته فاطمة ولم تكلمه في ذلك حتى ماتت، ودفنها علي ليلا، ولم يؤذن بها أبا بكر. د - شرح النهج لابن أبي الحديد: ج 16 ص 280، فقد ذكر جملة من تلك الأحاديث والتي منها، ما جاء عن القاضي في كتابه: أن عليا (عليه السلام) والحسن والحسين (عليهما السلام) دفنوها ليلا، وغيبوا قبرها. ه - التنبيه والأشراف للمسعودي: ص 250 قال: وتولى غسلها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ودفنها ليلا بالبقيع وقيل غيره، ولم يؤذن بها أبو بكر، وكانت مهاجرة له منذ طالبته بإرثها من أبيها (صلى اللّه عليه وآله) من فدك وغيرها وما كان بينهما من النزاع في ذلك إلى أن ماتت. وأما من طرق الإمامية فكثيرة جدا، فمنها على سبيل المثال: أ - روى الأصبغ بن نباتة، قال سئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن علة دفنه فاطمة (عليها السلام) بنت رسول اللّه (عليه السلام) ليلا فقال (عليه السلام): إنها كانت ساخطة على قوم كرهت حضورهم جنازتها، وحرام على من يتولاهم أن يصلي على أحد من ولدها. (الأمالي للصدوق: ص 523 ح 9، بحار الأنوار: ج 43 ص 209 ح 37. ب - جاء عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في حديث - قالت فاطمة (عليها السلام) لأمير المؤمنين (عليه السلام): سألتك بحق رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) إذا أنا مت ألا يشهداني ولا يصليا علي. قال: فلك ذلك. عن الإختصاص للمفيد: ص 183. ج - جاء عن ابن البطائني عن أبيه قال: سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام): لأي علة دفنت فاطمة (عليها السلام) بالليل ولم تدفن بالنهار؟ قال (عليه السلام): لأنها أوصت أن لا يصلي عليها الرجلان الأعرابيان. عن علل الشرائع للصدوق: ج 1 ص 185 ح 1، عنه بحار الأنوار: ج 43 ص 306 ح 34.

ولا يمكن منع الرجلين وحدهما من حضورهما، فأوصت بدفنها ليلا، وإخفاء قبرها، احتجاجا على موقفهما منها بعد أبيها (صلى اللّه عليه وآله). (1)

ص: 222


1- هدي الملة إلى أن فدك نحلة، للشيخ باقر المقدسي: ص 178 - 179.

المناظرة الخامسة والثلاثون: مناظرة السيد علي البطحائي مع الشيخ عبد العزيز بن صالح في مسألة إرث الزهراء (عليها السلام)

ذهبت في عام ألف وثلاثمائة واثنين وتسعين للتسليم على إمام الحرم النبوي الشيخ عبد العزيز بن صالح في بيته، فقلت له بعد التسليم والتحيات اللازمة: ما يقول شيخنا في معنى الرواية الواردة في صحيح البخاري في المجلد الخامس عن عائشة، جاءت فاطمة بنت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) عند أبي بكر فطلبت منه ميراث أبيها فمنعها ميراث أبيها فقال: أنا سمعت من أبيك قال (صلى اللّه عليه وآله): نحن معاشر الأنبياء ما تركناه صدقة، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئا من فدك، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك، فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت، وعاشت بعد النبي (صلى اللّه عليه وآله) ستة أشهر فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلا، ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها، وكان لعلي من الناس وجهة في حياة فاطمة (عليها السلام)، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس (1)... إلخ.

فقلت للشيخ: قبل مجئ فاطمة (عليها السلام) عند أبي بكر هل كانت عالمة بأنها لم ترث من أبيها، فلم جاءت عند أبي بكر، وإن كانت لم تعلم برأي أبيها بأنها لم ترث لم لم تقبل قول أبي بكر بعدما قال أبو بكر: أن الرسول (صلى اللّه عليه وآله) قال: نحن

ص: 223


1- صحيح البخاري: ج 5 ص 177 (ك المغازي ب غزوة خيبر).

معاشر الأنبياء لا نورث (1) بل كذبته عملا حيث أنها هجرته فلم تكلمه حتى ماتت، فإن كان أبو بكر صادقا في نسبة الرواية إلى الرسول (صلى اللّه عليه وآله) فلازمه رد الصديقة الطاهرة التي شهد القرآن بتطهيرها من الأرجاس في آية: (إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) (2) قول أبيها الرسول الأعظم (صلى اللّه عليه وآله)، فهل ترضى نفس المسلم نسبة رد قول الرسول (صلى اللّه عليه وآله) أبي الصديقة الطاهرة، فلازم عدم قبول الصديقة الطاهرة قول أبي بكر في نسبة الرواية إلى الرسول (صلى اللّه عليه وآله) عدم صدور الكلام، أعني نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة من الرسول (صلى اللّه عليه وآله).

وأيضا حينما اشتد مرض الرسول (صلى اللّه عليه وآله) قال عمر: حسبنا كتاب اللّه (3) ولا نحتاج إلى كتابة الرسول (صلى اللّه عليه وآله) الوصية، من جهة أن الرسول أراد تعيين أوصيائه كما في فتح الباري (4) في شرح صحيح البخاري، لكن حينما تطالب الصديقة

ص: 224


1- تقدمت تخريجاته
2- سورة الأحزاب: الآية 33
3- راجع: صحيح البخاري: ج 1 ص 39 (ك العلم ب كتابة العلم) و ج 6 ص 12 (ك الغزوات ب مرض النبي (صلى اللّه عليه وآله)) و ج 7 ص 156 (ك المرض ب قول المريض قوموا عني)، و ح 9 ص 137 (ك الاعتصام بالكتاب والسنة ب كراهية الخلاف).
4- فقد ذكر هذا الرأي - كما هو رأي الإمامية - ابن حجر العسقلاني في فتح الباري بشرح صحيح البخاري: ج 1 ص 169، وإليك نص كلامه في شرحه لقول النبي (صلى اللّه عليه وآله): (أتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده. قال عمر: إن النبي (صلى اللّه عليه وآله) غلبه الوجع وعندنا كتاب اللّه حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط، قال: قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع، فخرج ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وبين كتابه) قال ابن حجر: وقيل بل أراد أن ينص على أسامي الخلفاء بعده حتى لا يقع بينهم الاختلاف قاله سفيان بن عيينة. انتهى موضع الحاجة، أقول: والذي يؤيد ذلك أيضا تصريح الخليفة عمر بذلك في قوله: ولقد أراد في مرضه أن يصرح - يعني رسول اللّه - باسمه - يعني باسم علي بن أبي طالب (عليه السلام) - فمنعت من ذلك... الخ. راجع: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 12. ص 21 و 79.

بإرث أبيها مع أنها تحتج بآيات الإرث مثل آية (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ) (1) وآية (رب هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (2)، أبو بكر يستدل على عدم الإرث بقول الرسول، مع أن عمر قال: حسبنا كتاب اللّه، أي لا نحتاج إلى قول الرسول.

وقلت للشيخ: لازم هذا الكلام أعني (فوجدت فاطمة على أبي بكر فهجرته) غضب فاطمة (عليها السلام) على أبي بكر، وأيضا لأي علة دفنها علي بالليل، ولم يؤذن بها أبا بكر يصلي عليها؟

فقال الشيخ: يمكن أن يكون لأجل تعجيل تجهيز الميت.

قلت: إن بيت أبي بكر كان قريبا من بيت فاطمة (عليها السلام) لكنها ما طابت نفسها حضوره لدفن جثمانها، ولازم الجمع بين هذه الرواية، والرواية التي وردت في فضيلة فاطمة (عليها السلام) في باب فضائل الصحابة من المجلد الخامس من صحيح البخاري عن مسور بن مخرمة أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قال: فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني (3)، هو أنه أغضب أبو بكر الرسول الأعظم من جهة أنه أغضب فاطمة (عليها السلام) من جهة منع ميراث أبيها، وغضب الرسول (صلى اللّه عليه وآله) غضب اللّه، لأن القرآن يقول (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا) (4). (5)

ص: 225


1- سورة النمل: الآية 16
2- سورة مريم: الآية 6
3- صحيح البخاري: ج 5 ص 26
4- سورة الأحزاب: الآية 57
5- مناظرات في الحرمين الشريفين للبطحائي: ص 25 - 27.

المناظرة السادسة والثلاثون: مناظرة السيد علي البطحائي مع بعض أعضاء هيئة الأمر بالمعروف في مسألة ظلامة الزهراء (عليها السلام)

قال الشيخ: لأي علة تجيئون إلى قبر الرسول (صلى اللّه عليه وآله) وفاطمة الزهراء (عليها السلام) وتقولون: السلام عليك أيتها المظلومة، من ظلم فاطمة الزهراء (عليها السلام) بنت الرسول (صلى اللّه عليه وآله)؟!

قلت: قضية الظلم على فاطمة الزهراء (عليها السلام) مذكورة في كتبكم!!

قال: أي كتاب؟

قلت: كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري، راجع الورقة الثالثة عشر من الكتاب.

قال: غير موجود عندي.

قلت: أشتري لك من السوق، فذهبت إلى السوق واشتريت الكتاب وجئت إلى الهيئة، وقلت للشيخ: طالع الورثة الثالثة عشر، وفيها يذكر كيف كانت بيعة علي كرم اللّه وجهه، ثم يقول: إن أبا بكر تفقد قوما تخلفوا عن بيعته، وهم مجتمعون في دار علي، فبعث عمر وقنفذ مرات إلى بيت علي (عليه السلام) فقال: أجب خليفة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، قال علي (عليه السلام): لا أعلم لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) خليفة غيري! قالوا:

ص: 226

لتخرجن للبيعة وإلا أحرقنا البيت ومن فيه، قيل له: يا أبا حفص إن فيها فاطمة! قال: وإن (1)، وفي ذيل الورقة يقول: لما اشتد مرض أبي بكر قال: يا ليتني لم أفعل أشياء، وذكر منها التعرض لبيت علي، ولو أعلن علي الحرب. (2)

قلت: يا شيخ، انظر إلى كلام أبي بكر وإنه كيف يتأسف للتعرض لبيت علي (عليه السلام) عند الموت.

قال الشيخ: لكن صاحب هذا الكتاب يميل إلى الشيعة.

قلت: كل من يقول الحق فهو يميل إلى الشيعة. (3)

ص: 227


1- الإمامة والسياسة لابن قتيبة: ج 1 ص 19 عند قوله: (كيف كانت بيعة علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه)
2- الإمامة والسياسة لابن قتيبة: ص 24، فقد ذكر أن أبا بكر قال في مرضه: واللّه ما أسى إلا على ثلاث فعلتهن، ليتني كنت تركتهن، وثلاث تركتهن ليتني فعلتهن، وثلاث ليتني سألت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) عنهن، فأما اللاتي فعلتهن وليتني لم أفعلهن، فليتني تركت بيت علي (عليه السلام) وإن أعلن علي الحرب، وليتني يوم سقيفة بني ساعدة كنت ضربت على يد أحد الرجلين... الخ، وذكرها أيضا اليعقوبي في تاريخه: ج 2 ص 137، والمسعودي في مروج الذهب: ج 2 ص 308
3- مناظرات في الحرمين الشريفين للبطحائي: ص 13 - 14.

المناظرة السابعة والثلاثون: مناظرة السيد مصطفى مرتضى العاملي مع بعضهم في تفضيل الزهراء (عليها السلام) على مريم

سألني سائل فقال: من أفضل فاطمة (عليها السلام) بنت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أم مريم بنت عمران (عليها السلام)؟ قلت: وما يعنيك من هذا، وماذا يفيدك، فإن لكل فضلها - صلوات اللّه وسلامه عليها -.

قال: أحب أن أعلم ذلك، لأن اللّه ذكر مريم في القرآن، ولم يذكر فاطمة (عليها السلام).

قلت: إن اللّه قص في القرآن أخبار الماضين، فذكر الأنبياء، وبعض الصلحاء، وذكر الملوك وذكر بعض من هم على شاكلتهم من المتمردين.

كذلك ذكر من النساء الصالحات امرأة إبراهيم، وامرأة فرعون، ومريم بنت عمران، ولم يذكر أحدا ممن كان في عصر النبي (صلى اللّه عليه وآله) إلا ما ذكره من قصة زيد بن حارثة مع زوجته، وذلك لحكم شرعي كان (صلى اللّه عليه وآله) مكلفا بتطبيقه عمليا بنفسه.

قال: وهل تظن أني أقنع منك بهذا، وألتزم السكوت عما سألتك عنه، إنني أحمق لو فعلت ذلك.

قلت: أنت أحمق بسؤالك، ولأنك أحمق لست تقتنع بما قلته لك، ولكن

ص: 228

قبل الشروع في أيهما أفضل، لا بد من تقديم مقدمة تمهيدا للبحث.

قال: فهات.

قلت: إن الرسول الأعظم (صلى اللّه عليه وآله) بعثه اللّه تعالى لهداية الناس إلى الصراط المستقيم، وليعرفهم ما كانوا يجهلون، فأورد فيه من الأمثال والقصص ما فيه معتبر للعاقل، فيتحصل بذلك فوائد:

منها: الدلالة على صحة الرسالة المحمدية، حيث إنه (صلى اللّه عليه وآله) لم يقرأ كتابا، ولم يختلف إلى معلم، بل كان أجيرا راعيا، فمن أين له معرفة هذه القصص التي يجهلها أهل التاريخ؟ ومن أين له بهذه القوانين والنظم الأخلاقية والاجتماعية التي قلبت العالم رأسا على عقب، وحولت الناس من همجية الجاهلية، ووحشية العصبية، إلى سعة العدل والإنصاف والمساواة، وجعلتهم بعد العداوة والبغضاء إخوانا.

ومنها: الترغيب في الأعمال الصالحة والصبر عليها مهما كان العمل فيها شاقا، والعناء شديدا، فإن من نظر في أحوال الأنبياء والصلحاء، وما عانوا من المشقات، وقاسوا من المحن، ليجد أن النصر والفلاح كان لهم أخيرا، وآبوا بحسن العاقبة، وباء غيرهم بالخسران.

ومنها: التحذير من بأس اللّه وانتقامه، وتأييد ذلك بما حصل في الأمم السالفة من أنواع العقوبات.

والذي يبعث إلى الناس إنما يخبر عمن تقدمه قبلا، وعن قصصهم وأخبارهم، لا أن يحدث عن تاريخ ولادته وقصة حياته، وأحوال أهله وأولاده، فإن ذلك معلوم عند المعاصرين له، فحديثه عن كل هذا إنما يكون من قبيل تحصيل الحاصل، فلا معنى له إذا.

ص: 229

ومريم كانت ممن تقدم البعثة، وفي قصتها شبه وأحوال غريبة، فيحسن الحديث عنها لإزالة الشبهة، ورد الأمر إلى حقيقته، وفاطمة (عليها السلام) لم تكن كذلك، ولا حصلت معها أي شبهة.

وقد ذكر في مجمع البيان في تفسير قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ، يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (1)، «اصطفاك»: أي اختارك، وألطف لك، حتى تفرغت لعبادته واتباع مرضاته، وقيل: اصطفاك لولادة المسيح.. عن الزجاج، «وطهرك»، بالإيمان عن الكفر، وبالطاعة عن المعصية.. عن الحسن وسعيد بن جبير، وقيل: طهرك من الأدناس والأقذار التي تعرض للنساء من الحيض والنفاس، حتى صرت صالحة لخدمة المسجد، عن الزجاج.

وقيل: طهرك من الأخلاق الذميمة، والطبائع الردية، (وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) ، أي على نساء زمانك، لأن فاطمة بنت رسول اللّه - صلى اللّه عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها - سيدة نساء العالمين، وهو قول أبي جعفر (عليه السلام).

وروي عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) أنه قال: فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين، وقال أبو جعفر (عليه السلام): معنى الآية: اصطفاك من ذرية الأنبياء، وطهرك من السفاح، واصطفاك لولادة عيسى (عليه السلام) من غير فحل، وخرج بهذا من أن يكون تكريرا، إذ يكون الاصطفاء على معنيين مختلفين، (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) أي اعبديه، وأخلصي له العبادة... عن سعيد بن جبير، وقيل: معناه: أديمي الطاعة له... عن قتادة، وقيل: أطيلي القيام في الصلاة.. عن مجاهد، (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) ، أي كما يعمل الساجدون والراكعون، لا أن

ص: 230


1- سورة آل عمران: الآية 42 - 43.

يكون ذلك أمرا لها بأن تعمل السجود والركوع معهم في الجماعة، وقدم السجود على الركوع، لأن الواو لا توجب الترتيب، فإنها في الأشياء المتغايرة نظيرة التثنية في المتماثلة، وإنما توجب الجمع والاشتراك، وقيل: معناه: واسجدي لله شكرا واركعي، أي وصلي مع المصلين، وقيل: معناه: صلي في الجماعة... عن الجبائي (1).

قال الرجل: أليس إطلاق «العالمين» يدفع كونها مصطفاة على نساء عالم عصرها.

قلت: الظاهر ما ذكرت، ولكن قد تقدم - عن مجمع البيان - أن الاصطفاء يكون على معنيين مختلفين، فالاصطفاء المطلق: معناه الاختيار، وهو يفيد معنى التسليم، والاصطفاء المتعدي بعلى أيضا معناه الاختيار ولكنه يفيد معنى التقديم، إذا نستطيع القول بأن اصطفاءها على نساء العالمين هو تقديم لها عليهن.

ولكن هذا التقديم هل هو من جميع الجهات، أو من بعضها، فإن كان من جميع الجهات فلا مشاحة في فضلها، هي أفضل من الجميع، فاطمة فمن دونها، وإن كان هذا التقديم من بعض الجهات، فلنا فيه نظر.

ظاهر الآيات التي تتعرض لقصة مريم تفيد التبعيض، فبعد آية بعد هذه الآية يقول: (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ، وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ...) (2) الخ، وفي سورة الأنبياء: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا

ص: 231


1- مجمع البيان للطبرسي: ج 2 ص 745 - 746، بحار الأنوار للمجلسي: ج 14 ص 193
2- سورة آل عمران: الآية 45 - 46.

فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) (1)، وفي سورة التحريم:

(وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا...) (2) الخ، ونصوص هذه الآيات لم تشتمل إلا على شئ واحد، اختصت به من بين سائر النساء، وهو ولادة المسيح العجيبة منها من غير ملامسة ذكر، فإذا لا وجه لاصطفائها وتقديمها على نساء العالمين إلا هذا الوجه.

وأما غير ذلك مما اشتملت عليه الآيات، كالتطهير والتصديق بكلمات اللّه وكتبه، وكلام الملائكة معها والقنوت وغير ذلك، فلا يختص فيها، بل يوجد عند غيرها كما يوجد عندها.

وكذلك نداء الملائكة، وأمرهم لها بالقنوت والسجود والركوع، إنما هو أمر لها بالشكر وتعليم لها إياه، وتوجيه كيف تكون العبادة.

فمريم مصطفاة على نساء العالمين لأمر خاص، وهذا الأمر الخاص إنما كان لإزالة شبهة كانت في عصر مريم (عليها السلام) وهو رد دعوى الماديين بقدم العالم، وإنكارهم بدء الخليقة.

وإن لفاطمة (عليها السلام) من الفضل عليها استعانة النبي (صلى اللّه عليه وآله) بها لدفع الشبهة الحاصلة، من جراء ولادتها للمسيح، وقولهم إنه ابن اللّه، فقد جعلوها زوجة لله، تعالى اللّه عن ذلك، ومريم اتهمت بالسوء، فوجب حينئذ ذكر اسمها، والشهادة لها بالبراءة والطهارة والعصمة، ولولا شهادة القرآن لها بذلك لما استطاع أحد إثبات براءتها وطهارة نفسها.

قال: إني مقتنع بهذا الذي ذكرت، ولكن هل من دليل غير هذا يكون

ص: 232


1- سورة الأنبياء: الآية 91
2- سورة التحريم: الآية 12.

كالشاهد له.

قلت: إن في قوله عز وجل: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (1)، ما يعطي أن اللّه عز وجل لا يختار لرسالته إلا من علم منه الإخلاص له والاجتهاد في مرضاته، وعدم الهم بمعصيته كما ورد في بعض الأخبار أنه أوحى إلى موسى (عليه السلام): يا موسى أتدري لماذا اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي؟ فقال: لا يا رب، فقال: إني نظرت في قلوب عبادي فلم أجد أحدا أذل إلي نفسا منك (2)، وعلى هذا فالأنبياء هم أفضل الخلق وأشرفهم، وكل نبي فلا بد أن يكون أشرف أهل زمانه، فهو سيد أهل زمانه، وحيث إن محمدا (صلى اللّه عليه وآله) هو سيد النبيين، فذريته أشرف من ذراري الأنبياء السابقين، وأمته من الأمم الماضين.

وإن اللّه عز وجل اختار مريم ليجعلها وابنها آية، وإن الذي حصلت لتصديقه الآية أو حصلت على يده الآية، لهو أفضل من الآية، فإن كانت المعجزات آيات، فأصحاب المعجزات آيات أعظم من الآيات، وإذا كان محمد (صلى اللّه عليه وآله) أشرف من أولي العزم، ومنهم عيسى (عليه السلام) ففاطمة (عليها السلام) أشرف من جميع نساء الأمم، ومنهم مريم (عليها السلام)، ومريم شرفت بعيسى، ففاطمة محاطة بالشرف من جميع نواحيها، أبوها النبي الأعظم، وأمها ساعدت ذلك النبي الأكبر، والإسلام لم يقم إلا بمال خديجة (عليها السلام) وسيف علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وبعلها سيد الوصيين، وولداها سيدا شباب أهل الجنة، وهي سيدة نساء العالمين، وأم الأئمة الميامين.

إن في قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ

ص: 233


1- سورة الأنعام: الآية 124
2- بحار الأنوار: ج 13 ص 8 ح 8.

وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)») (1)، دلالة هي أعظم الدلالات على شرفها العظيم وفضلها العميم، فالرجس، معناه: كل نجاسة حسية ومعنوية فهو يشمل كل ما يتعلق بذلك، ولو أنها باطلة، وإن ما اتهمت به مريم وإن كان كذبا وإفكا وزورا ولكن الناس قالوا: وإن الشاعر العربي يقول:

قد قيل ذلك إن صدقا وإن كذبا *** فما اعتذارك من قول إذا قيلا (2)

وإن مريم طهرها اللّه، ولكن لم يذكر المصدر مؤكدا له، كما أكد التطهير بالمصدر في الآية الكريمة.

ولو أكد ذلك لمريم، بأن يقول: وطهرك تطهيرا، لما استطاع أحد أن ينسب إليها شيئا من القبيح.

وفي حديث عن النبي (صلى اللّه عليه وآله): علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل (3)، وفي رواية أفضل من أنبياء بني إسرائيل، فإذا كان العلماء في هذه الأمة أفضل من الأنبياء وليس العلماء بالمعصومين، فلم لا تكون فاطمة (عليها السلام) أفضل، وهي الطاهرة الزكية النقية المعصومة، وفي هذا كفاية لمن تدبر، والحمد لله رب العالمين (4).

ص: 234


1- سورة الأحزاب: الآية 33
2- البيت للنعمان بن المنذر ضمن أبيات بعث بها إلى الربيع جوابا عن أبيات كتبها إليه، مشهورة أولها: شمر برحلك عني حيث شئت ولا *** تكثر علي ودع عنك الأقاويلا راجع: خزانة الأدب للبغدادي: ج 4 ص 10 و ج 9 ص 552، شرح أبيات مغني اللبيب للبغدادي أيضا: ج 2 ص 8
3- بحار الأنوار: ج 2 ص 22 ح 67، كشف الخفاء ومزيل الإلباس للعجلوني: ج 2 ص 83 ح 1744، التذكرة في الأحاديث المشتهرة للزركشي: ص 167 ح 8، الأسرار المرفوعة للقاري: ص 247 ح 298، الفوائد المجموعة للشوكاني: ص 286 ح 47
4- الحقيبة، مناظرات ومحاورات للسيد مصطفى العاملي: ص 245 - 251.

الحسن والحسين (عليهما السلام) ابنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وذريته

اشارة

ص: 235

ص: 236

المناظرة الثامنة والثلاثون: مناظرة أبي الجارود مع بعضهم في أن الحسن والحسين (عليهما السلام) ابنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وكلام الإمام الباقر (عليه السلام) له في ذلك

المناظرة الثامنة والثلاثون: مناظرة أبي الجارود مع بعضهم في أن الحسن والحسين (عليهما السلام) ابنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وكلام الإمام الباقر (عليه السلام) له في ذلك (1)

روي عن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): يا أبا الجارود!

ما يقولون في الحسن والحسين (عليهما السلام)؟

قلت: ينكرون علينا أنهما ابنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله).

قال: فبأي شئ احتججتم عليهم؟

ص: 237


1- طالما أوضح أئمة الحق - صلوات اللّه عليهم - هذا الأمر - إنهم أبناء رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) حقيقة - بما لا مزيد عليه، بالأدلة الواضحة والحجة البالغة من القرآن الشريف والتي لا ريب فيها، والبراهين الأخرى تأكيدا على ذلك، والذي لا سبيل لإنكاره، حتى أخذوا ينبهون أصحابهم وشيعتهم بذلك، ويلقنونهم الحجة لمقارعة خصومهم - إذا ما اضطروا إليها - أمثال بني أمية وبني العباس ومن حذى حذوهم، والذين جدوا في إنكار هذه الحقيقة - في نسبتهم إلى جدهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) - والتي لا تخفى على من له أدنى بصيرة، عنادا لأهل البيت وحسدا لمقامهم وقربهم من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، وإبعادا لهم عن مناصبهم التي نصبهم اللّه تعالى فيها، مع علمهم الأكيد بذلك (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) ولم يقتصروا على ذلك حتى أخذوا يسخرون تلك الأبواق المأجورة والأقلام المزيفة وبعض الشعراء المرتزقة أمثال مروان بن أبي حفصة وسوف تأتي بعض أشعارهم وما جاء في ردها من القصائد في هامش مناظرة الإمام الكاظم (عليه السلام) مع هارون الرشيد ، فراجع.

قال: قلت: بقول اللّه في عيسى بن مريم (عليهما السلام): (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) (1) فجعل عيسى من ذرية إبراهيم.

قال: فأي شئ قالوا لكم؟

قلت: قالوا: قد يكون ولد الابنة من الولد ولا يكون من الصلب.

قال: فبأي شئ احتججتم عليهم؟

قال: قلت: احتججنا عليهم بقوله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ) (2).

ثم قال: فأي شئ قالوا؟

قال: قلت: قالوا: قد يكون في كلام العرب ابني رجل من واحد، فيقول أبناءنا وإنما هما ابن واحد.

قال: فقال أبو جعفر (عليه السلام): واللّه يا أبا الجارود! لأعطينكها من كتاب اللّه آية تسميهما أنهما لصلب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لا يردها إلا كافر.

قال: قلت: جعلت فداك وأين؟

قال: قال: حيث قال اللّه تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ - إلى قوله - وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ) (3) فسلهم يا

ص: 238


1- سورة الأنعام: الآية 84 - 85
2- سورة آل عمران: الآية 61
3- سورة النساء: الآية 23.

أبا الجارود هل يحل لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) نكاح حليلتيهما؟ فإن قالوا: نعم، فكذبوا واللّه، وإن قالوا: لا، فهما واللّه ابنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لصلبه، وما حرمن عليه إلا للصلب. (1)

ص: 239


1- راجع: تفسير القمي: ج 1 ص 209، الإحتجاج للطبرسي: ج 2 ص 324 - 325، الروضة من الكافي للكليني: ج 8 ص 317 - 318 ح 501، بحار الأنوار: ج 43 ص 232 ح 8، و ج 96 ص 95 - 96 ح 3.

المناظرة التاسعة والثلاثون: مناظرة الإمام الكاظم (عليه السلام) مع هارون الرشيد في أنهم ورثة النبي (صلى اللّه عليه وآله) وأولاده

قال الشيخ الطبرسي عليه الرحمة: وحدث أبو أحمد هاني بن محمد العبدي، قال: حدثني أبو محمد، رفعه إلى موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: لما أدخلت على الرشيد سلمت عليه فرد علي السلام ثم قال: يا موسى بن جعفر، خليفتان يجبى إليهما الخراج؟

فقلت: يا أمير المؤمنين! أعيذك باللّه أن تبوء بإثمي وإثمك، وتقبل الباطل من أعدائنا علينا، فقد علمت بأنه قد كذب علينا منذ قبض رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، كما علم ذلك عندك، فإن رأيت بقرابتك من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أن تأذن لي أحدثك بحديث أخبرني به أبي عن آبائه عن جدي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)؟

فقال: قد أذنت لك.

فقلت: أخبرني أبي عن آبائه عن جدي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أنه قال: إن الرحم إذا مست الرحم تحركت واضطربت، فناولني يدك جعلني اللّه فداك.

قال: ادن مني! فدنوت منه، فأخذ بيدي ثم جذبني إلى نفسه وعانقني طويلا ثم تركني وقال: إجلس يا موسى! فليس عليك بأس، فنظرت إليه فإذا به قد دمعت عيناه، فرجعت إلي نفسي، فقال: صدقت وصدق جدك (صلى اللّه عليه وآله) لقد تحرك

ص: 240

دمي واضطربت عروقي حتى غلبت علي الرقة وفاضت عيناي، وأنا أريد أن أسألك عن أشياء تتلجلج في صدري منذ حين، لم أسأل عنها أحدا، فإن أنت أجبتني عنها خليت عنك ولم أقبل قول أحد فيك، وقد بلغني عنك أنك لم تكذب قط، فأصدقني فيما أسألك مما في قلبي.

فقلت: ما كان علمه عندي فإني مخبرك به إن أنت أمنتني.

قال: لك الأمان إن أصدقتني، وتركت التقية التي تعرفون بها معشر بني فاطمة.

فقلت: ليسأل أمير المؤمنين عما يشاء.

قال: أخبرني لم فضلتم علينا، ونحن وأنتم من شجرة واحدة، وبنو عبد المطلب ونحن وأنت واحد، إنا بنو عباس وأنتم ولد أبي طالب، وهما عما رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وقرابتهما منه سواء؟

فقلت: نحن أقرب.

قال: وكيف ذلك؟

قلت: لأن عبد اللّه وأبا طالب لأب وأم، وأبوكم العباس ليس هو من أم عبد اللّه ولا من أم أبي طالب.

قال: فلم ادعيتم أنكم ورثتم النبي (صلى اللّه عليه وآله) والعم يحجب ابن العم (1)، وقبض

ص: 241


1- أقول: طالما أخذ بنو العباس أمثال هذه الدعاوى دليلا على أولوية العباس - بميراث النبي (صلى اللّه عليه وآله) وخلافته - من أمير المؤمنين باعتبار أن العم أقرب من ابن العم وقد أغفلوا وتناسوا ابنته فاطمة (عليها السلام) التي تحجب العم، وراحوا يضللون الناس بدعاواهم المزيفة ليعموا الناس عن الحقيقة، مسخرين في ذلك الشعراء المرتزقة ذلك الأعلام المضلل الزائغ عن الحق، فضمنوا ذلك في الأشعار محتجين بآية: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) الأنفال / 75، ومن أولئك الشعراء الذين استخدموهم في ذلك مروان بن أبي حفصة الذي لم يذخر وسعاً في هجاء الطالبيين ومقدساتهم وذم محبّيهم ، فأخذ ينفث حقده الدفين عليهم متبجحاً بدعاواه الباطلة ، مردداً : أنى يكون وليس ذاك بكائن *** لبني البنات وراثة الأعمام (راجع : تاریخ بغداد : ج 13 ص 143 ، الأغاني للأصفهاني : ج 10 ص 94 .) ليغيض به رسول اللّه صلی اللّه عليه وآله في ذريته بدل أن يتقرب إليه بحبهم ومدحهم ، لم يبق شيء لم يفعلوه تجاه ذريته كأنه لم يوص بهم ولم يكن أبوهم - فراحوا قتلاً وتشريداً وحبساً في السجون والمطامير ، ولم يبق سوى إنكار نسبتهم لرسول اللّه صلی اللّه عليه وآله وقد فعلوها . والجدير بالذكر هنا هو ما روي عن عبد العظيم بن عبداللّه الحسني رضي اللّه عنه عن عبدالسلام بن صالح الهروي ، قال : حدثني معمر بن خلاد وجماعة ، قالوا : دخلنا على الرضا عليه السلام ، فقال له بعضنا : جعلنا اللّه فداك ! ما لي أراك متغير الوجه ؟ ! فقال عليه السلام : إني بقيت ليلتي ساهراً متفكراً في قول مروان بن أبي حفصة : اني يكون وليس ذاك بكائن *** لبني البنات وراثة الأعمام ثم نمت فإذا أنا بقائل قد أخذ بعضادة الباب وهو يقول : اني يكون وليس ذاك بكائن *** للمشركين دعائم الإسلام لبني البنات نصيبهم من جدهم *** والعم متروك بغير سهام ما للطليق وللتراث ؟ وإنما *** سجد الطليق مخافة الصمصام قد كان أخبرك القرآن بفضله *** فمضى القضاء به من الحكام إنَّ ابن فاطمة المنوه باسمه *** حاز الوراثة عن بني الأعمام وبقي ابن نثلة واقفاً متردداً *** يبكي ويسعده ذووا الأرحام راجع : عيون أخبار الرضا عليه السلام للصدوق : ج 1 ص 188 - 1899 ح 2 (ب 43) ، الإحتجاج للطبرسي : ج 2 ص 393 - 394 وقد نسب هذه الحادثة إلى الإمام الكاظم عليه السلام ، بحار الأنوار : ج 10 ص 391 عن الفصول المختارة للمفيد : ج 1 ص 65 ، وقد روى وقوع هذه ا هذه الحادثة لأبي الحسن العسكري عليه السلام ، ولا يمنع تكرر وقوع هذه الحادثة لبعض الأئمة عليهم السلام ، وقد ذكر بعض هذه الأبيات أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني : ج 10 ص 95 ، وقد نسبها إلى محمد بن يحيى بن أبي مرة التغلبي . وقد تناول هذه الدعوى أيضاً مروان نفسه في بعض قصائده فنال بذلك إعجاب المهدي العباسي ، متزلفاً إليه ، فكانت جائزته منه ثمانين ألف درهم، فأصبحت أنشودتهم المفضلة ، وقد غناها لهم إبراهيم بن المهدي ، وإليكها : هل تطمسون من السماء نجومها *** بأكفكم أو تسترون هلالها أو تجحدون مقالة عن ربكم *** جبريل بلغها النبي فقالها شهدت من الأنفال آخر آية *** بتراثهم فأردتم إبطالها فذروا الأسود خوادراً في غيلها *** لا تولفن دماءكم أشبالها (راجع : الأغاني للأصفهاني : ج 10 ص 70 و 87، تاریخ بغداد : ج 13 ص 143 - 144 ) . وقد أجاد الشاعر المبدع فرات الأسدي في رده على مروان بن أبي حفصة - حيث يقول : ومقالة عجب أثرت عجاجها *** وحجب عن وجه الحقيقة حالها وتخبطت قدماك تهوي سادراً *** لا تستبين رشادها وضلاها فطمست من فلك السماء نجومها *** وسترت بالملق الرخيص هلالها لو كنت تعلم ما تقول إذن هوت *** شمس وزلزلت الدنى زلزالها لكن - ويأبى اللّه إلا نورهم *** بتمامه - ما إن وردت وبالها هم آل بيت المصطفى ورّاتُه *** وبهم أبان حرامها وحلالها فاربع على الزيغ القديم وهاكه *** كل بما كسبت يداه -- نوالها ومن سار على منوال مروان بن أبي حفصة أبان بن عبد الحميد ، الذي أراد أن يحضى بالقرب من الرشيد كمروان ، فقالوا له : إن لمروان مذهباً في هجاء آل أبي طالب به يحضى . وعليه يعطى ، فاسلكه ؟ فقال : لا أستحل ذلك ، فقالوا له : لا تجيء أمور الدنيا إلا بفعل ما لا يحل ؟ ! ثم نظم قصيدة في مدح العباس وأنه أقرب إلى رسول اللّه من علي بن أبي طالب اللّه وأولى منه بميراثه ، فنال بذلك إعجاب الرشيد، فأمر له بعشرين ألف درهم ، ثم أصبح من المقربين إليه ، وإليك بعض أبياته التي قالها في قصيدته الطويلة : نشدت بحق اللّه من كان مسلماً *** أعُمُّ بما قد قلته العجم والعرب أعم رسول اللّه أقرب زلفة *** لديه، أم ابن العم في رتبة النسب وأيهما أولى به وبعهده *** ومَنْ ذاله حق التراث بما وجب فإن كان عباس أحق بتلكم *** وكان علي بعد ذلك على سبب فأبناء عباس هم يرثونه *** كما العم لابن العم في الأرث قد حجب (راجع : خزانة الأدب للبغدادي : ج 8 ص 176) . ويقول أيضاً الأستاذ فرات الأسدي في جوابه له : أتمت إذ استنشدت من كان مسلماً *** تعمُّ بما قد قلته العجم والعرب وحدت عن الحق الصراح ولم تكن *** لتدفع عنك الزي--غ في الرأي والعطب أنفس رسول اللّه حيدرة الذي *** له دون كل الناس حق العلى وجب تحيد بك الأهواء عنه وغيره *** له تبع وهو المقدم في الرتب أخوه وأبناه من الطهر نسله *** فكيف لع---م قبله الأرث والنسب فأيهما أولى ولم يك مُشرعاً *** سوى بابه ما سد قط ولا حجب لأن علياً باب علم محمد *** ووارثه والمرتضى والأخ الأحب ومن الشعراء الذين بالغوا أيضاً في تنقيص أهل البيت حقهم ، وإثبات أن الحق للعباس وبنيه هو عبد اللّه بن المعتز العباسي ، الذي يقول في بعض قصائده : ألا من لعين وتسكابها *** تشكي القذى وبكاها بها ومنها : نحن ورثنا ثياب النبي *** تجذبون بأهدابها لكم رحم يابني بغتة *** ولكن بو العم أولى بها فمهلاً بني عمنا إنها *** عطية رب حبانا بها راجع : دیوان ابن المعتز : ص 30 - 33 . واللّه در صفي الدين الحلّي الشاعر المجاهد حيث يقول في جوابه : ألا قل لشر عبيد الإله *** وطاغي قريش وكذابها وباغي العاد وباغي العناد *** وهاجي الكرام ومغتابها أأنت تفاخر آل النبي *** وتجحدها فضل أحسابها بكم بأهل المصطفى أم بهم *** فردّ العداة بأوصابها أعنكم نفي الرجس أم عنهم *** لطُهر النفوس وألبابها وقد ورثنا ثياب النبي *** فكم تجذبون بأهدابها وعندك لا يورث الأنبياء *** فكيف ظيتم بأنوابها فكذبت نفسك في الحالتين *** ولم تعلم الشهد من صابها وقولك أنتم بنو بنته *** (ولكن بنو العم أولى بها) بنو البنت أيضاً بنو عمه *** وذلك أدنى لأنسابها فدع في الخلافة فصل الخلاف *** فليست ذلولاً لركابها وما أنت والفحص عن شأنها *** وما قمصوك بأثوابها راجع : ديوان صفي الدين الحلي : ص 192.

ص: 242

ص: 243

ص: 244

رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وقد توفي أبو طالب قبله والعباس عمه حي؟ فقلت له: إن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني عن هذه المسألة، ويسألني عن كل باب سواه يريده.

فقال: لا، أو تجيب.

فقلت: فآمني.

قال: قد آمنتك قبل الكلام.

فقلت: إن في قول علي بن أبي طالب (عليه السلام): إنه ليس مع ولد الصلب ذكرا كان أو أنثى لأحد سهم إلا الأبوين والزوج والزوجة، ولم يثبت للعم مع ولد الصلب ميراث، ولم ينطق به الكتاب العزيز والسنة، إلا أن تيما وعديا وبني أمية قالوا: العم والد، رأيا منهم بلا حقيقة ولا أثر عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، ومن قال بقول علي (عليه السلام) من العلماء قضاياهم خلاف قضايا هؤلاء، هذا نوح بن دراج يقول في هذه المسألة بقول علي (عليه السلام)، وقد حكم به، وقد ولاه أمير المؤمنين فأمر بإحضاره

ص: 245

وإحضار من يقول بخلاف قوله، منهم: سفيان الثوري، وإبراهيم المدني، والفضيل بن عياض، فشهدوا أنه قول علي (عليه السلام) في هذه المسألة، فقال لهم فيما أبلغني بعض العلماء من أهل الحجاز: لم لا تفتون وقد قضى به نوح بن دراج؟ فقالوا: جسر وجبنا، وقد أمضى أمير المؤمنين (عليه السلام) قضيته بقول قدماء العامة عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) أنه قال: أقضاكم علي (1) وكذلك عمر بن الخطاب قال: علي أقضانا (2) وهو اسم جامع، لأن جميع ما مدح به النبي (صلى اللّه عليه وآله) أصحابه من القرابة والفرائض والعلم داخل في القضاء.

قال: زدني يا موسى!

قلت: المجالس بالأمانات وخاصة مجلسك؟

فقال: لا بأس به.

فقلت: إن النبي (صلى اللّه عليه وآله) لم يورث من لم يهاجر، ولا أثبت له ولاية حتى يهاجر.

فقال: ما حجتك فيه؟

قلت: قول اللّه تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا) (3) وإن عمي العباس لم يهاجر.

ص: 246


1- الرياض النضرة: ج 3 ص 167، كشف الخفاء للعجلوني: ج 1 ص 184 ح 489، ذخائر العقبى: ص 83، المناقب للخوارزمي: ص 81 ح 66، بحار الأنوار: ج 40 ص 277 ح 41
2- كشف الخفاء ومزيل الإلباس للعجلوني: ج 1 ص 185، مسند أحمد بن حنبل: ج 5 ص 113 ، الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 2 ص 339، الرياض النضرة: ج 3 ص 167
3- سورة الأنفال: الآية 72.

فقال لي: إني أسألك يا موسى هل أفتيت بذلك أحدا من أعدائنا، أم أخبرت أحدا من الفقهاء في هذه المسألة بشئ؟

فقلت: اللّهم لا، وما سألني عنها إلا أمير المؤمنين.

ثم قال لي: لم جوزتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ويقولوا لكم: يا بني رسول اللّه! وأنتم بنو علي، وإنما ينسب المرء إلى أبيه، وفاطمة إنما هي وعاء، والنبي (صلى اللّه عليه وآله) جدكم من قبل أمكم؟ (1)

فقلت: يا أمير المؤمنين! لو أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) نشر فخطب إليك كريمتك هل كنت تجيبه؟

ص: 247


1- فالعجب كل العجب من هؤلاء الزمرة الفاسدة التي تصر على أن ذرية فاطمة الزهراء (عليها السلام) ليسوا بأولاد لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وإنما هم أولاد علي (عليه السلام) وذلك لأن ابن البنت ليس بولد ويستشهدون لذلك بقول الشاعر: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا *** بنوهن أبناء الرجال الأباعد هذا مع نصوص النبي (صلى اللّه عليه وآله) الكثيرة الدالة على صحة النسبة حقيقة وأنهم أبناءه وهو أبوهم، والتي منها على سبيل المثال: 1 - قوله (صلى اللّه عليه وآله) في الحسن والحسين (عليهما السلام): إن ابني هذين ريحانتاي من الدنيا (راجع: كنز العمال: ج 13 ص 667 ح 37699، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 4 ص 207) 2 - ما روي عنه (صلى اللّه عليه وآله): كل بني أنثى فإن عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة عليهاالسلام فإني أنا عصبتهم وأنا أبوهم (راجع : كنز العمال : ج 12 ص 116 ح 34267 ، مجمع الزوائد : ج 4 ص 224 وج 6 ص 301) . 3 - ما روي عن فاطمة بنت الحسين عليه السلام عن فاطمة الزهراء عليهاالسلام قالت : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): كل بني آدم ينتمون إلى عصبتهم إلا ولد فاطمة ، فإنّي أنا أبوهم وأنا عصبتهم (راجع : تاریخ بغداد : ج 11 ص 285) .

فقال: سبحان اللّه! ولم لا أجيبه بل أفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك.

فقلت له: لكنه لا يخطب إلي ولا أزوجه.

فقال: ولم؟

فقلت: لأنه ولدني ولم يلدك. (1) فقال: أحسنت يا موسى! ثم قال: كيف قلتم إنا ذرية النبي (صلى اللّه عليه وآله) والنبي لم يعقب، وإنما العقب للذكر لا للأنثى، وأنت ولد الابنة ولا يكون لها عقب له.

قلت: أسألك بحق القرابة والقبر ومن فيه، إلا أعفيتني عن هذه المسألة.

فقال: لا، أو تخبرني بحجتكم فيه يا ولد علي! وأنت يا موسى يعسوبهم وإمام زمانهم، كذا أنهي إلي، ولست أعفيك في كل ما أسألك عنه حتى تأتيني فيه

ص: 248


1- وفي التذكرة الحمدونية: ج 7 ص 180 رقم: 835، قال: وروي أنه قال - الإمام الكاظم (عليه السلام) لهارون -: هل كان يجوز أن يدخل على حرمك وهن متكشفات؟ فقال: لا. قال: لكنه كان يدخل على حرمي كذلك، وكان يجوز له. أقول: فقد أوضح أهل البيت (عليهم السلام) بما لا مزيد عليه لوازم قربهم من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) باعتباره أولدهم فهم ذريته وهو أبوهم، فمن تلك اللوازم التي أشاروا إليها أنه لا يحل لذريته نكاح زوجاته على فرض لو لم يحرم اللّه على الناس نكاح زوجات النبي (صلى اللّه عليه وآله) فلا يجوز لهم ذلك باعتباره جدهم وأبوهم، وإليك نص الرواية في ذلك: الكليني بسنده عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: لو لم يحرم على الناس أزواج النبي (صلى اللّه عليه وآله) لقول اللّه عز وجل: (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ) حرم على الحسن والحسين عليهما السلام يقول اللّه تبارك وتعالى اسمه: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) ولا يصلح للرجل أن ينكح امرأة جده. راجع الفروع من الكافي: ج 5 ص 565 ح 41، بحار الأنوار: ج 2 ص 279 ح 42.

بحجة من كتاب اللّه، وأنتم تدعون معشر ولد علي أنه لا يسقط عنكم منه شئ ألف ولا واو إلا تأويله عندكم، واحتججتم بقوله عز وجل: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (1) واستغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم.

فقلت: تأذن لي في الجواب؟

قال: هات.

فقلت: أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم بسم اللّه الرحمن الرحيم (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) (2) من أبو عيسى يا أمير المؤمنين؟

فقال: ليس لعيسى أب.

فقلت: إنما ألحقناه بذراري الأنبياء (عليهم السلام) من طريق مريم (عليها السلام)، وكذلك الحقنا بذراري النبي (صلى اللّه عليه وآله) من قبل أمنا فاطمة (عليها السلام)، أزيدك يا أمير المؤمنين؟

قال: هات.

قلت: قول اللّه عز وجل: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) (3) ولم يدع أحد أنه أدخل النبي (صلى اللّه عليه وآله) تحت الكساء عند مباهلة النصارى إلا علي بن أبي طالب، وفاطمة، والحسن

ص: 249


1- سورة الأنعام: الآية 38
2- سورة الأنعام: الآية 84 و 85
3- سورة آل عمران: الآية 61.

والحسين، فأبناءنا الحسن والحسين، ونساءنا فاطمة، وأنفسنا علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، على أن العلماء قد أجمعوا على أن جبرئيل قال يوم أحد: يا محمد! إن هذه لهي المواساة من علي قال: لأنه مني وأنا منه.

فقال جبرئيل: «وأنا منكما يا رسول اللّه» ثم قال:

لا سيف إلا ذو الفقار *** ولا فتى إلا علي (1) فكان كما مدح اللّه عز وجل به خليله (عليه السلام) إذ يقول: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) (2) إنا نفتخر بقول جبرئيل أنه منا.

فقال: أحسنت يا موسى! إرفع إلينا حوائجك.

فقلت له: إن أول حاجة لي أن تأذن لابن عمك أن يرجع إلى حرم جده (صلى اللّه عليه وآله) وإلى عياله.

فقال: ننظر إن شاء اللّه. (3)

وروي أنه لما حج الرشيد ونزل في المدينة، اجتمع إليه بنو هاشم وبقايا

ص: 250


1- المناقب للخوارزمي: ص 167 ح 200، مناقب علي بن أبي طالب (عليه السلام) لابن المغازلي: ص 197 ح 234 و ص 199 ح 235، تاريخ الأمم والملوك للطبري: ج 2 ص 514، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 1 ص 29، ذخائر العقبى: ص 68 و 74، بحار الأنوار: ج 41 ص
2- 83. (2) سورة الأنبياء: الآية 60
3- الإحتجاج للطبرسي: ج 2 ص 389 - 392، عيون أخبار الإمام الرضا (عليه السلام): ج 2 ص 78 - 82 ب 7 ح 9، تحف العقول: ص 404 - 405، بحار الأنوار للمجلسي: ج 10 ص 241 - 242 ح 2 و ج 48 ص 125 ح 1 و ج 93 ص 240 و ج 101 ص 334، التذكرة الحمدونية لابن حمدون: ج 7 ص 180، بتفاوت.

المهاجرين والأنصار ووجوه الناس، وكان في الناس الإمام أبو الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام).

فقال لهم الرشيد: قوموا إلى زيارة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، قال: ثم نهض معتمدا على يد أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) حتى انتهى إلى قبر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فوقف ثم قال: السلام عليك يا رسول اللّه، السلام عليك يا بن عم، افتخارا! على قبائل العرب الذين حضروا معه، واستطالة عليهم بالنسب؟!

قال: فنزع أبو الحسن موسى (عليه السلام) يده من يده ثم تقدم، فقال: السلام عليك يا رسول اللّه، السلام عليك يا أبة.

قال: فتغير لون الرشيد ثم قال: يا أبا الحسن، إن هذا لهو الفخر الجسيم. (1)

ص: 251


1- الفصول المختارة للمفيد: ج 1 ص 16، كنز الفوائد للكراجكي: ج 1 ص 356 - 357، الإحتجاج للطبرسي: ج 2 ص 393، تذكرة الخواص لابن الجوزي: ص 350، بحار الأنوار: ج 25 ص 243 ح 25.

المناظرة الأربعون: مناظرة الإمام الرضا (عليه السلام) مع المأمون والرشيد في أقرب الناس لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)

قال السيد المرتضى (1) - عليه الرحمة - وحدثني الشيخ - المفيد - أدام اللّه

ص: 252


1- هو: علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن جعفر (عليه السلام)، ويلقب بعلم الهدى والشريف المرتضى، ولد سنة 355 ه في بغداد، أكثر أهل زمانه أدبا وفضلا وفقها، متوحد في علوم كثيرة مجمع على فضله، مقدم في العلوم مثل علم الكلام والفقه وأصول الفقه والأدب والنحو والشعر ومعاني الشعر واللغة وغير ذلك، وله من الكتب - كما قيل - ثمانون ألف مجلد، وله مصنفات كثيرة منها كتاب الشافي في الإمامة، تنزيه الأنبياء، الفصول المختارة من كلام الشيخ المفيد، ونكتا من كتابه المعروف ب «العيون والمحاسن»، والجدير بالذكر أن الشيخ المفيد - أعلى اللّه مقامه - من شيوخ وأساتذة الشريف المرتضى، فقد لازمه وحضر عنده منذ صغره ومما يروى في هذا الصدد عن الشيخ المفيد: أنه رأى في منامه فاطمة بنت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) دخلت عليه وهو في مسجده بالكرخ ومعها ولداها الحسن والحسين (عليهما السلام) فسلمتهما له وقالت: علمهما الفقه فانتبه متعجبا من ذلك، فلما تعالى النهار في صبيحة الليلة التي رأى فيها الرؤيا دخلت عليه فاطمة بنت الناصر وحولها جواريها وبين يديها ابناها محمد الرضي وعلي المرتضى - رحمهما اللّه - فقام إليها وسلم عليها فقالت: أيها الشيخ هذان ولداي قد أحضرتهما إليك لتعلمهما الفقه فبكى الشيخ المفيد وقص عليها المنام، وتولى تعليمهما وأنعم اللّه عليهما وفتح لهما أبواب العلوم والفضائل ما اشتهر عنهما في آفاق الدنيا وهو باق ما بقي الدهر، وتوفي الشريف المرتضى - أعلى اللّه مقامه - في شهر ربيع الأول لخمس بقين منه سنة 436 ه في بغداد وصلى عليه ابنه في داره ودفن فيها، وقيل إنه دفن مع أخيه الشريف الرضي عند الحسين (عليه السلام) في كربلاء كما ذكر ذلك الشهيد الثاني، واستظهر العلامة الطباطبائي (رحمه اللّه) كون قبره وقبر أبيه وأخيه إلى جنب قبر السيد إبراهيم المجاب ابن الإمام الكاظم (عليه السلام) وكان من أجدادهم فدفنوا عنده - أعلى اللّه درجاتهم -. راجع: تنقيح المقال للعلامة المامقاني: ج 2 ص 284 - 285 ترجمة رقم: 8247، سير أعلام النبلاء: ج 17 ص 588، تاريخ بغداد: ج 11 ص 402 - 403 ترجمة رقم: 6288.

عزه، قال: روي أنه لما سار المأمون إلى خراسان وكان معه الإمام الرضا علي بن موسى (عليهما السلام)، فبينا هما يسيران، إذ قال له المأمون: يا أبا الحسن إني فكرت في شئ، فسنح لي الفكر الصواب فيه، إني فكرت في أ مرنا وأمركم، ونسبنا ونسبكم، فوجدت الفضيلة فيه واحدة، ورأيت اختلاف شيعتنا في ذلك محمولا على الهوى والعصبية.

فقال له أبو الحسن الرضا (عليه السلام): إن لهذا الكلام جوابا، فإن شئت ذكرته لك وإن شئت أمسكت.

فقال له المأمون: لم أقله إلا لأعلم ما عندك فيه.

قال له الرضا (عليه السلام): أنشدك اللّه يا أمير المؤمنين، لو أن اللّه تعالى بعث محمدا (صلى اللّه عليه وآله) فخرج علينا من وراء أكمة من هذه الآكام، فخطب إليك ابنتك أكنت تزوجه إياها؟

فقال: يا سبحان اللّه، وهل أحد يرغب عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)؟

فقال له الرضا (عليه السلام): أفتراه كان يحل له أن يخطب ابنتي (1)؟

قال: فسكت المأمون هنيئة، ثم قال: أنتم واللّه أمس برسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) رحما.

ص: 253


1- وقد مر عليك عين هذا الاستدلال في مناظرة الإمام الكاظم (عليه السلام) مع الرشيد، وقد استخدمه الإمام الرضا مع المأمون لأنه أقوى في الحجة وغير قابل للإنكار.

قال الشيخ - أدام اللّه عزه -: وإنما المعنى لهذا الكلام أن ولد العباس يحلون لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) كما يحل له البعداء في النسب منه، وأن ولد أمير المؤمنين (عليه السلام) من فاطمة (عليها السلام) ومن أمامة بنت زينب ابنة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يحرمن عليه، لأنهن من ولده في الحقيقة فالولد ألصق بالوالد وأقرب وأحرز للفضل من ولد العم بلا ارتياب بين أهل الدين، فكيف يصح مع ذلك أن يتساووا في الفضل بقرابة الرسول (صلى اللّه عليه وآله) فنبهه الرضا (عليه السلام) على هذا المعنى وأوضحه له (1).

ص: 254


1- الفصول المختارة للشيخ المفيد: ج 1 ص 16 - 17، كنز الفوائد للكراجكي: ج 1 ص 356، بحار الأنوار للمجلسي: ج 10 ص 349 - 350.

المناظرة الحادية والأربعون: مناظرة يحيى بن يعمر مع الحجاج في أن الحسن والحسين (عليهما السلام) أولاد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)

قال الشعبي: كنت بواسط (1)، وكان يوم أضحى، فحضرت صلاة العيد مع الحجاج (2)، فخطب خطبة بليغة، فلما انصرف جائني رسوله فأتيته، فوجدته

ص: 255


1- مدينة بناها الحجاج في العراق عام 83 / 84 ه، وسميت واسطا لتوسطها بين البصرة والكوفة والأهواز وبغداد، فإن بينها وبين كل واحدة من هذه المدن مقدارا واحدا وهو خمسون فرسخا. التنبيه والأشراف: ص 311، وفيات الأعيان لابن خلكان: ج 2 ص 50
2- هو: الحجاج بن يوسف الثقفي، اشتهر بولائه للبيت الأموي، وبعدائه ونصبه للبيت العلوي، ولد في الطائف سنة 40 ه ونشأ فيها، كان واليا من قبل عبد الملك بن مروان وقد أولع في قتل شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) وأخذهم بكل ظنة وتهمة أمثال قنبر غلام أمير المؤمنين (عليه السلام) وكميل بن زياد وسعيد بن جبير وأمثالهم، قال ابن خلكان عنه: وكان للحجاج في القتل وسفك الدماء والعقوبات غرائب لم يسمع بمثلها، وكان الحجاج يخبر عن نفسه أن أكبر لذاته سفك الدماء وارتكاب أمور لا يقدم عليها غيره. وكان مرضه بالأكلة وقعت في بطنه، ودعا الطبيب لينظر إليها، فأخذ لحما وعلقه في خيط وسرحه في حلقه وتركه ساعة ثم أخرجه وقد لصق به دود كثير، وسلط اللّه عليه الزمهرير، فكانت الكوانين تجعل حوله مملؤة نارا وتدنى منه حتى تحرق جلده وهو لا يحس بها، وشكى ما يجده إلى الحسن البصري فقال له: قد كنت نهيتك ألا تتعرض إلى الصالحين فلحجت، فقال له: يا حسن، لا أسألك أن تسأل أن يفرج عني، ولكني أسألك أن تسأله أن يعجل قبض روحي ولا يطيل عذابي، وأقام الحجاج على هذه الحالة بهذه العلة خمسة عشر يوما، توفي في شهر رمضان سنة 95 ه في مدينة واسط ودفن بها وعفي قبره. راجع: وفيات الأعيان لابن خلكان: ج 2 ص 29 ترجمة رقم: 149، سفينة البحار: ج 1 ص 221 - 222.

جالسا مستوفزا، قال: يا شعبي هذا يوم أضحى، وقد أردت أن أضحي برجل من أهل العراق، وأحببت أن تسمع قوله، فتعلم أني قد أصبت الرأي فيما أفعل به.

فقلت: أيها الأمير، لو ترى أن تستن بسنة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، وتضحي بما أمر أن يضحي به، وتفعل فعله، وتدع ما أردت أن تفعله به في هذا اليوم العظيم إلى غيره.

فقال: يا شعبي، إنك إذا سمعت ما يقول صوبت رأيي فيه، لكذبه على اللّه وعلى رسوله، وإدخاله الشبهة في الإسلام.

قلت: أفيرى الأمير أن يعفيني من ذلك؟

قال: لا بد منه.

ثم أمر بنطع فبسط، وبالسياف فأحضر، وقال: أحضروا الشيخ، فأتوه به، فإذا هو يحيى بن يعمر (1)، فأغممت غما شديدا، فقلت في نفسي: وأي شئ

ص: 256


1- هو: أبو سليمان يحيى بن يعمر العامري البصري، ولد في البصرة، وهو أحد قرائها وفقهائها، كان عالما بالقرآن الكريم والفقه والحديث والنحو ولغات العرب، وكان من أوعية العلم وحملة الحجة، أخذ النحو عن أبي الأسود الدؤلي، وحدث عن أبي ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، وابن عباس وغيرهم، كما حدث عنه جماعة أيضا، وكان من الشيعة الأولى القائلين بتفضيل أهل البيت - صلوات اللّه وسلامه عليهم -، وقيل: هو أول من نقط القرآن قبل أن توجد تشكيل الكتابة بمدة طويلة، وكان ينطق بالعربية المحضة واللغة الفصحى طبيعة فيه غير متكلف، طلبه الحجاج من والي خراسان قتيبة بن مسلم فجئ به إليه، لأنه يقول أن الحسن والحسين (عليهما السلام) ذرية رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، وقد أذهل الحجاج بصراحته وجرأته في إقامة الحق وإزهاق الباطل حتى نصره اللّه عليه، كما نفاه الحجاج في سنة 84 ه لأنه قال له: هل ألحن؟ فقال: تلحن لحنا خفيا، فقال: أجلتك ثلاثا، فإن وجدتك بعد بأرض العراق قتلتك؟! فخرج، وأخباره ونوادره كثيرة، توفي - رحمة اللّه عليه - سنة 129 ه. راجع ترجمته في: وفيات الأعيان لابن خلكان: ج 6 ص 173 - 176، ترجمة رقم: 797، معجم الأدباء للحموي: ج 20 ص 42 - 43، ترجمة رقم: 23، سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 4 ص 441 - 443، الأعلام للزركلي: ج 9 ص 225، مستدركات علم رجال الحديث للشاهرودي: ج 8 ص 242 ترجمة رقم: 16298.

يقوله يحيى مما يوجب قتله؟

فقال له الحجاج: أنت تزعم أنك زعيم أهل العراق؟

قال يحيى: أنا فقيه من فقهاء أهل العراق.

قال: فمن أي فقهك زعمت أن الحسن والحسين (عليهما السلام) من ذرية رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)

قال: ما أنا زاعم ذلك، بل قائل بحق.

قال: وبأي حق قلت؟

قال: بكتاب اللّه عز وجل.

فنظر إلي الحجاج، وقال: إسمع ما يقول، فإن هذا مما لم أكن سمعته عنه، أتعرف أنت في كتاب اللّه عز وجل أن الحسن والحسين من ذرية محمد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)؟ فجعلت أفكر في ذلك، فلم أجد في القرآن شيئا يدل على ذلك.

وفكر الحجاج مليا ثم قال ليحيى: لعلك تريد قول اللّه عز وجل: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) (1) وأن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) خرج للمباهلة ومعه علي وفاطمة والحسن

ص: 257


1- سورة آل عمران: الآية 61.

والحسين (1) (عليهم السلام).

قال الشعبي: فكأنما أهدى لقلبي سرورا، وقلت في نفسي: قد خلص يحيى، وكان الحجاج حافظا للقرآن.

فقال له يحيى: واللّه، إنها لحجة في ذلك بليغة، ولكن ليس منها أحتج لما قلت.

فاصفر وجه الحجاج، وأطرق مليا ثم رفع رأسه إلى يحيى وقال: إن جئت من كتاب اللّه بغيرها في ذلك، فلك عشرة آلاف درهم، وإن لم تأت بها فأنا في حل من دمك.

قال: نعم.

قال الشعبي: فغمني قوله فقلت: أما كان في الذي نزع به الحجاج ما يحتج به يحيى ويرضيه بأنه قد عرفه وسبقه إليه، ويتخلص منه حتى رد عليه وأفحمه، فإن جاءه بعد هذا بشئ لم آمن أن يدخل عليه فيه من القول ما يبطل حجته لئلا يدعي أنه قد علم ما جهله هو.

فقال يحيى للحجاج: قول اللّه عز وجل (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ) (2) من عنى بذلك؟

قال الحجاج: إبراهيم (عليه السلام).

قال: فداود وسليمان من ذريته؟

ص: 258


1- تقدمت تخريجاته
2- سورة الأنعام: الآية 84.

قال: نعم.

قال يحيى: ومن نص اللّه عليه بعد هذا أنه من ذريته؟

فقرأ يحيى: (وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (1).

قال يحيى: ومن؟

قال: (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى) (2).

قال يحيى: ومن أين كان عيسى من ذرية إبراهيم (عليه السلام)، ولا أب له؟

قال: من قبل أمه مريم (عليها السلام).

قال يحيى: فمن أقرب: مريم من إبراهيم (عليه السلام) أم فاطمة (عليها السلام) من محمد (صلى اللّه عليه وآله)؟ وعيسى من إبراهيم، أم الحسن والحسين (عليهما السلام) من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)؟

قال الشعبي: فكأنما ألقمه حجرا.

فقال: أطلقوه قبحه اللّه، وادفعوا إليه عشرة آلاف درهم لا بارك اللّه له فيها.

ثم أقبل علي فقال: قد كان رأيك صوابا ولكنا أبيناه، ودعا بجزور فنحره وقام فدعا بالطعام فأكل وأكلنا معه، وما تكلم بكلمة حتى افترقنا ولم يزل مما احتج به يحيى بن يعمر واجما (3).

ص: 259


1- سورة الأنعام: الآية 84
2- سورة الأنعام: الآية 85
3- كنز الفوائد للكراجكي: ج 1 ص 357 - 360، بحار الأنوار للمجلسي: ج 10 ص 147 - 149 ح 1، و ج 25 ص 243 - 246 ح 26، وفيات الأعيان لابن خلكان: ج 6 ص 174، العقد الفريد للأندلسي: ج 2 ص 48 - 49، و ج 5 ص 281، بتفاوت.

ص: 260

النص على الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)

اشارة

ص: 261

ص: 262

المناظرة الثانية والأربعون: مناظرة السيد محمد جواد المهري مع الأستاذ عمر الشريف في النص على الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)

يقول السيد محمد جواد المهري في مذكراته المدرسية: بعد بضع ساعات وعندما حان وقت لقائنا، دخلت غرفة المعلمين بهلع وحذر، فلما وجدت الأستاذ في مكانه كالمعتاد شعرت بالارتياح، وبعد ما حييته رد الجواب وحدثته بما دار بيني وبين المدير، فبدأ عليه الاستياء والضجر، وقال بدهشة وحيرة:

كنت راغبا بالحوار والحديث أكثر من هذا، وأود معرفة رأيكم بشأن عدة قضايا فقهية مختلف فيها، وأريد معرفة آراء علماء وفقهاء الشيعة في ما يخص التقية، ومصحف فاطمة، والسجود على التربة، والجمع بين الصلاتين، والكثير من المواضيع الأخرى، ولكن من الأفضل في ظل هذا الوضع الذي استجد أن نطوي ملف المواضيع السابقة، إلى حين توفر الفرصة المناسبة في المستقبل لنواصل الحوار الممتع بإذن اللّه، وإلا فأنني آمل الاطلاع على آراء الشيعة بشأن القضايا المختلفة من خلال التحقيق في كتبهم.

عبرت له عن أسفي عما حصل ووعدته عقد لقاء أو لقائين آخرين لمواصلة حوارنا من أجل إنهاء موضوع الخلافة وأوصياء الرسول (صلى اللّه عليه وآله) فوافق على هذا الرأي. واصلت بحثنا السابق على الرغم من استيائنا لما حصل.

ص: 263

فقلت: كان موضوعنا يدور حول أهل البيت (عليهم السلام) الذين أوصى بهم الرسول (صلى اللّه عليه وآله) في مواقف شتى، وأمر أمته بالرجوع إليهم واتباعهم وطاعتهم، وأن لا يتخلفوا عنهم فيهلكوا، وتبين أن أهل البيت هم علي وفاطمة والحسنان (عليهم السلام)، وليس المراد زوجات الرسول (صلى اللّه عليه وآله) ولا غيرهن.

وهنا سأل الأستاذ: أليس سائر أئمتكم من أهل البيت (عليهم السلام)؟

قلت: إنهم ليسوا سوى أهل البيت (عليهم السلام)، هم آل الرسول (صلى اللّه عليه وآله) وأوصياؤه وخلفاؤه بالحق، لهم الحكومة والإمامة على أمة محمد إلى يوم القيامة، وهم وإن كانوا في الظاهر تحت كبت الحكومات الغاصبة الجائرة في عهودهم، إلا أنهم كانوا أئمة عصرهم وخلفاءه، وكان يجب على الناس - استنادا إلى أمر الرسول (صلى اللّه عليه وآله) - طاعتهم واتباعهم والانصياع لأوامرهم كالانصياع لأمر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، وقد كان لهم بطبيعة الحال أتباع أوفياء في كل عصر، لم يتخلفوا عنهم لحظة تحت أسوء الظروف السياسية، ويتمسكون بأوامرهم الشرعية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية.

وقد حدد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أهل بيته بعلي وفاطمة والحسنين (عليهم السلام) لأن هؤلاء فقط هم الذين كانوا في زمنه، وإلا فإن أهل البيت أو آل محمد يشمل جميع الأئمة الذين يفتخر الشيعة بالانتماء إليهم، ولم يتخلفوا لحظة عن اتباعهم امتثالا لأمر الرسول (صلى اللّه عليه وآله) فيهم.

ومثلما أوصى الرسول لعلي (عليه السلام)، فقد أوصى لأبناء علي أيضا، وهذا ما لم يشر إليه أبناء العامة في هذه الروايات بالكامل إلا بعض المنصفين منهم، مثل مؤلف كتاب «ينابيع المودة» (رحمه اللّه)، لقد حدد الرسول الأئمة والأوصياء بعده بإثني عشر خليفة وإماما، وهذا ما بلغ حد التواتر في كتب الفريقين، فإن فكرة الأئمة أو

ص: 264

الخلفاء الاثني عشر لا تنطبق إلا على عقيدة الشيعة، الذين يعتقدون باثني عشر إماما.

الأستاذ: هل يمكنك ذكر الروايات التي تصفها بالمتواترة؟

قلت: لقد دونت بعض هذه الروايات احتياطا مع اختلافها في الألفاظ وجلبتها معي، لأني كنت أعلم أن بحثنا سيتناول أوصياء الرسول (صلى اللّه عليه وآله)، وهي كالتالي:

1 - «الأئمة من بعدي اثنا عشر، من أهل بيتي» (1).

تلاحظ في هذا الحديث أن الرسول جاء بكلمة «الأئمة» وبعبارة «أهل بيتي»، حيث يتبين أن الأئمة من بعده هم أهل بيته، وأهل بيته كما ثبت لدينا هم علي وفاطمة وابناهما (عليهم السلام).

2 - «يملك هذه الأمة اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل» (2).

وردت أكثر روايات السنة في هذا الموضوع تحت عنوان: «نقباء بني إسرائيل»، ووردت في بعضها عبارة: «عدة أصحاب موسى»، وهي إشارة إلى الآية الشريفة: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا) (3).

ويفهم من هذه الآية - كما تلاحظون - أن اللّه هو الذي بعث النقباء الاثنا عشر إلى بني إسرائيل، ومن الطبيعي أن أولئك النقباء كانوا أنبياء، ولكن بما أن

ص: 265


1- ينابيع المودة للقندوزي: ص 258 (ب 56)
2- كنز العمال: ج 12 ص 33 ح 33857، تفسير القرآن العظيم لابن كثير: ج 2 ص 34
3- سورة المائدة: الآية 12.

نبينا (صلى اللّه عليه وآله) هو خاتم الأنبياء، لهذا فإن النقباء - الأئمة (عليهم السلام) - من بعده ليسوا أنبياء، وإن كانوا في مصاف الأنبياء، بل ويفوقونهم من حيث الفضيلة والعصمة ووجوب الاتباع.

الأستاذ: في الحقيقة كنت أرغب خوض البحث في قضية الغلو والمبالغة عندكم أنتم الشيعة (1) بشأن علي وأبنائه، فكيف تعتبرون أئمتكم أفضل من الأنبياء؟ (2)

ص: 266


1- وخير من تصدى لرد هذه الفرية الحجة الأميني عليه الرحمة في كتاب الغدير كما ذكر نماذج من الغلو عند بعض الفرق من مصادرهم، راجع: ج 3 ص 291 و ج 7 ص 34 و ص 69 - 200 و ج 11 ص 76 الخ
2- من تمعن بعين البصيرة والإنصاف في الآيات الشريفة والأحاديث والأخبار الخاصة بأهل البيت (عليهم السلام) لا يعدو هذا الرأي، وإليك على سبيل المثال بعض الأدلة والتي يستفاد منها تفضيل أمير المؤمنين (عليه السلام) على الخلق بعد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فمنها: 1 - قوله تعالى (وأنفسنا وأنفسكم) من آية المباهلة، إذ المقصود باتفاق المفسرين هو أمير المؤمنين (عليه السلام) إذ حكمت الآية بأنه نفس النبي (صلى اللّه عليه وآله)، إذ لم يرد نفس ذاته، كما لا يصح دعاء الإنسان نفسه إلى نفسه ولا إلى غيره، فلم يبق إلا أنه أراد عليا (عليه السلام) فإذا كان علي (عليه السلام) بمثابة نفس الرسول (صلى اللّه عليه وآله) والرسول أفضل الخلق فكذا هو (عليه السلام) أفضل الخلق بعده. 2 - قوله (صلى اللّه عليه وآله) : اللّهم إنتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر ، فجاء أمير المؤمنين وأكل معه ، ولا يكون أحب الخلق إليه إلا لكونه أعظمهم ثواباً عنده تعالى، وأكرمهم عليه ، وذلك لا يكون إلا بكونه أفضلهم عملاً ، وأرضاهم فعلاً ، وأجلهم في مراتب العابدين ، راجع : مجمع الزوائد : ج 9 ص 125 - 126 ، تاریخ بغداد : ج 3 ص 171 وج 8 ص 382 وج 9 ص 369 ، العلل المتناهية لابن الجوزي : ج 1 ص 228 - 235 . - قوله (صلى اللّه عليه وآله) : هم شر الخلق والخليقة - يعني الخوارج - يقتلهم خير الخلق والخليقة . راجع : المناقب لابن المغازلي : ص 56 ح 79 تذكرة الخواص : ص 105 ، مجمع الزوائد : ج 6 ص 239 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 2 ص 267 . 4 - قوله (صلى اللّه عليه وآله) : علي خير البشر ومن أبى فقد كفر . راجع : ينابيع المودة : ص 180 ب 56 ، الرياض النضرة : ج 3 ص 198 ، تاریخ بغداد : ج 7 ص 421 ، فضائل الصحابة : ج 2 ص 564 ح 949 ، مجمع الزوائد : ج 9 ص 131 . 5 - ما روي عنه (صلى اللّه عليه وآله) : لولا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وعلي بن أبي طالب عليه السلام لم بخلق اللّه سماءً ولا أرضاً ولا جنةٌ ولا ناراً . (فرائد السمطين : ج 1 ص 36 ، ينابيع المودة للقندوزي : ص 485). 6 - ما روي عنه (صلى اللّه عليه وآله) : أنه لا يجوز أحد الصراط يوم القيامة إلا من معه براءة من علي بن أبي طالب عليه السلام من النار ، المناقب لابن المغازلي : ص 131 ح 172 ، وص 242 ح 289 . الرياض النضرة : ج 3 ص 137 ، ذخائر العقبي : ص 71 ، فرائد السمطين : ج 1 ص 292 ح 230). 7 - ما روي عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): لما أسرى بي في ليلة المعراج فاجتمع على الأنبياء في السماء فأوحى اللّه تعالى إليَّ سلهم يا محمد بماذا بعثتم ؟ فقالوا : بعثنا على شهادة أن لا إله إلا اللّه وحده وعلى الإقرار بنبوّتك والولاية لعلي بن أبي طالب عليه السلام ، رواه الحافظ أبو نعيم . (ينابيع المودة : ص 238 ح 49 في المناقب السبعين) . 8- ما روي عن عمر بن الخطاب انه قال : هذا علي بن أبي طالب عليه السلام أشهد اني سمعت رسول اللّه يقول : لو أن إيمان أهل السماوات والأرض وضع في كفة ووضع إيمان علي في كفة لرجح إيمان علي بن أبي طالب (ينابيع المودة : ص 254) . 9 - قول جبرئيل لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): لو اجتمع امتك على حب علي بن أبي طالب عليه السلام ما خلق اللّه النار (ينابيع المودة : ص 251) . 10 - ما روي عن محمد بن أبي عمير الكوفي عن عبد اللّه بن الوليد بن السمان قال : قال أبو عبداللّه عليه السلام : ما يقول الناس في أولي العزم وصاحبكم أمير المؤمنين عليه السلام؟ قال : قلت : ما يقدمون على أولي العزم أحداً . قال : فقال أبو عبد اللّه عليه السلام : إن اللّه تبارك وتعالى قال لموسى عليه السلام (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً) ولم يقل كل شيء موعظة ، وقال لعيسى عليه السلام : ﴿وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) ولم يقل كلّ شيء ، وقال لصاحبكم أمير المؤمنين عليه السلام : (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) وقال اللّه عزّ وجلّ (وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) وقال : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) ، وعلم هذا الكتاب عنده . (بصائر الدرجات للصفار : ص 229 ج 5 ب 5 ح 6 ، الاحتجاج للطبرسي : ج 2 ص 375) . 11 - ما روي عن الصادق عليه السلام : أما واللّه لو لم يخلق اللّه علي بن أبي طالب صلوات اللّه عليه ، لما كان لفاطمة بنت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) كفو من الخلق ، آدم فمن دونه (الكافي : ج 1 ص 461 ح 10، المناقب لابن شهر أشوب : ج 2 ص 181 ، مقتل الحسين للخوارزمي : ج 1 ص 66 . الفردوس : ج 3 ص 418 ح 5170 . إلى غير ذلك من الأدلة التي سيقت في المقام ولا يحصرها عد ، ومن أراد التوسع ف--ي ذلك فليراجع : رسالة تفضيل أمير المؤمنين عليه السلام للمفيد ، ج 7 من مصنفات الشيخ المفيد عليه الرحمة .

ص: 267

قلت: لو أنك قرأت الروايات الواردة عن الرسول (صلى اللّه عليه وآله) بحقهم، واعتقدت بهم لوصلت إلى النتيجة نفسها، فثمة موارد يعتبر فيها الرسول (صلى اللّه عليه وآله) علماء أمته أفضل من أنبياء بني إسرائيل، ولا شك أن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) الذين اصطفاهم اللّه لخلافة الرسول (صلى اللّه عليه وآله)، أفضل من العلماء (1).

3 - «لا تزال أمتي على الحق ظاهرين، حتى يكون عليهم اثنا عشر أميرا كلهم من قريش» (2).

4 - «لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة، ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش» (3).

ص: 268


1- لا يخفى أن الكثير من العلماء يعتقدون بأن مراد الرسول من العلماء في مثل هذه الروايات - وهي روايات كثيرة - هم الأئمة لا أحد سواهم
2- المعجم الكبير للطبراني: ج 2 ص 253 ح 1061
3- المعجم الكبير للطبراني ج 2: ص 199 ح 1808 و 1809، المستدرك للحاكم: ج 4 ص 501، مسند أحمد بن حنبل: ج 5: ص 86 و 89 و 90 و 93، الصواعق المحرقة لابن حجر: ص 20، مسند أبي يعلى: ج 8 ص 444 ح 5031، كنز العمال: ج 6 ص 89 ح 14971، فتح الباري: ج 13 ص 181، البداية والنهاية لابن كثير، (باب ذكر الأئمة الاثني عشر): ج 6 ص 248، مجمع الزوائد للهيثمي: ج 5 ص 190، (ب الخلفاء الاثني عشر)، تفسير القرآن العظيم لابن كثير: ج 2 ص 34.

وقد وردت نظير هذه العبارات التي سقناها في أكثر من أربعين سندا معتبرا في كتب السنة، وهي تدلل في جميع الأحوال على امتداد خط النبوة على يد اثني عشر إماما من قريش إلى يوم القيامة، وهذا الامتداد في خط النبوة والإمامة باق إلى يوم القيامة، ولا ينطبق مطلقا إلا على عقيدة الشيعة.

وورد في كتاب «ينابيع المودة» صراحة، أن هؤلاء الخلفاء الاثني عشر هم من بني هاشم، «بعدي اثنا عشر خليفة كلهم من بني هاشم» (1)، وجاءت في بعض المصادر كما نقل، عبارة «من أهل بيتي»، روى الحافظ إبراهيم الحمويني عن ابن عباس أن الرسول الكريم (صلى اللّه عليه وآله) قال: « إن خلفائي وأوصيائي وحجج اللّه على الخلق بعدي لاثنا عشر، أولهم أخي وآخرهم ولدي.

قيل: يا رسول اللّه، ومن أخوك؟

قال: علي بن أبي طالب.

قيل: فمن ولدك؟

قال: المهدي، الذي يملؤها قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما » (2).

ومن جهة أخرى نقل الخطيب الخوارزمي عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أنه قال: « من أحب أن يحيى حياتي ويموت مماتي ويدخل الجنة التي وعدني ربي، فليتول علي بن أبي طالب، وذريته الطاهرين، أئمة الهدى ومصابيح الدجى من بعده،

ص: 269


1- ينابيع المودة للقندوزي: ص 258 ب (56)
2- فرائد السمطين للجويني: ج 2 ص 312 ح 562، ينابيع المودة للقندوزي: ص 487 (ب 94).

فإنهم لن يخرجوكم من باب الهدى إلى باب الضلالة » (1).

وجاء في روايات كثيرة في كتب السنة أن الرسول (صلى اللّه عليه وآله) وصف وبين الأئمة بعد علي بن أبي طالب (عليه السلام) بصفة «خلفائي» أو «أوصيائي» أو «سادات أمتي» أو «حجج اللّه على خلقه بعدي» أو «الأئمة الراشدين من ذريتي» وتدل بأجمعها على إمامة وخلافة هؤلاء الاثني عشر، الذين أولهم علي وآخرهم المهدي صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين.

الأستاذ: ذكرت مصادر الروايات التي تبين عدد خلفاء الرسول (صلى اللّه عليه وآله) ولم يأت ذكر لصحيح البخاري وصحيح مسلم، فهل يحتوي هذان الكتابان على مثل هذه الروايات أو لا؟

قلت: أولا: ليس من الضروري أن تكون جميع الروايات في هذين الكتابين، ألا تكفي كل كتب الحديث والتفسير التي ذكرت؟ ثم إنه قد يكون للشك في مثل هذه الرواية - إذا كانت في كتاب أو كتابين ولها سند واحد أو سندان لا أكثر - مجال، لكنها وردت في كتب كثيرة وبأكثر من أربعين سندا، ونقلت بعبارات مختلفة، فهي إذن في حد التواتر وفي الحد القطعي، ولا يبقى مجال للشك فيها.

ثانيا: إن هذه الروايات وردت أيضا في صحيحي البخاري ومسلم، وقد دونتها وسأشير إليها الآن، ويبدو أن سؤالك قد جاء في محله.

نقل البخاري في صحيحه عن جابر بن سمرة أنه قال: سمعت رسول

ص: 270


1- المناقب للخوارزمي: ص 75 ح 55، تاريخ الأمم والملوك للطبري: ج 11 ص 589، المعجم الكبير للطبراني: ج 5 ص 194 ح 5067، ينابيع المودة للقندوزي: ص 127 (ب 43).

اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يقول: «يكون اثنا عشر أميرا»، فقال: كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنه قال:

«كلهم من قريش» (1).

وجاءت في صحيح مسلم، كتاب الإمارة، روايتان بهذا المضمون:

1 - «لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثني عشر خليفة كلهم من قريش».

2 - «لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثني عشر رجلا» (2).

الأستاذ: لم يأت شئ في هذين الكتابين يشير إلى أنهم من أهل البيت، أو من أبناء علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه، فمن أين تستدل على أنهم هم أئمة الشيعة الاثني عشر لا غيرهم؟ قلت: إذن من يكونوا؟ الأستاذ: لا أدري ماذا قال علماء السنة الكبار في هذه الآية؟ فهل تعاملوا معها كتعاملهم مع سائر الأحاديث الأخرى التي نقلوها بأنفسهم ومروا عليها مرور الكرام، أم أنهم عرضوا رأيهم فيها؟ وعلى كل حال فبعد الخلفاء الراشدين، والحسن والحسين، عرف بعض خلفاء بني أمية كعمر بن عبد العزيز، وبعض خلفاء بني العباس بالعدالة، فلعلهم هم المقصودون.

قلت: أولا: إن كان الأمر كما ذكرت لانقطع تسلسل الخلفاء، فهل يمكن احتساب شخصين من البداية، وشخصين من الوسط، وشخصين من النهاية، وإهمال الآخرين؟ ثم إنه باستثناء عمر بن عبد العزيز الذي كان أفضل نسبيا من

ص: 271


1- صحيح البخاري: ج 9 ص 101، (ك الأحكام ب الاستخلاف)
2- صحيح مسلم: ج 3 ص 1452 ح 6 (ك الإمارة ب 1).

سائر خلفاء بني أمية، ماذا يمكن أن يشاهد في هؤلاء الخلفاء سوى الظلم والجور على عباد اللّه، والتبذير في بيت المال، وارتكاب المحرمات، وشرب الخمر، والمجاهرة بالفساد؟

والتأريخ حافل بشتى صور الظلم والاضطهاد والقتل والتعذيب والفساد الذي ارتكبه خلفاء بني أمية وبني العباس، ويؤسفني أن الوقت لا يسمح لي بالحديث عن هذا الموضوع أكثر، وإلا فإن أمثلة ظلمهم وجورهم بحد من الكثرة، بحيث سودت صفحات كتب السنة كما سودت صفحات التاريخ.

ثانيا: من الجدير بالذكر أن الكثير من علماء السنة الذين أوردوا هذه الروايات سعوا إلى جعلها تتطابق بشكل أو بآخر على حكام بني أمية وبني العباس، بل وذهبوا إلى أبعد من ذلك حتى جعلوها تنطبق على السلاطين العثمانيين، فأصبحت عارية عن الحقيقة، بل وتثير السخرية والاستهزاء.

ويكفي أن نشير على سبيل المثال إلى ما قاله المفكر السني الكبير جلال الدين السيوطي في هذا الصدد: «وجد من الاثني عشر خليفة الخلفاء الأربعة، والحسن، ومعاوية، وابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، هؤلاء ثمانية، ويحتمل أن يضم إليهم المهتدي من العباسيين لأنه فيهم كعمر بن عبد العزيز في بني أمية، وكذلك الظاهر لما أوتيه من العدل، وبقي الاثنان المنتظران أحدهما المهدي لأنه من آل بيت محمد (صلى اللّه عليه وآله)» (1).

هل يمكن العثور على تحليل يثير السخرية أكثر من هذا؟ وكيف ذكر الحسن (عليه السلام) ولم يذكر الحسين (عليه السلام)؟ ثم كيف أن الرسول (صلى اللّه عليه وآله) يجعل عليا (عليه السلام) خليفة

ص: 272


1- تاريخ الخلفاء للسيوطي: ص 10.

له، ويجعل العدو اللدود - أعني معاوية - في قبال علي (عليه السلام)، ومعاوية هو الذي أراق كل تلك الدماء ظلما، وارتكب كل تلك الجرائم، خليفة له؟

لا ينقضي تعجبي من السيوطي مع سعة علمه كيف يعتبر معاوية من خلفاء الرسول، ويتجاهل سبط رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) مع علو مقامه ومرتبته؟

وكيف يعد معاوية من الخلفاء وهو الذي فرض سب علي (عليه السلام) علنا، وقتل أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) الأوفياء، ونصب ابنه شارب الخمر خليفة على المسلمين، ولا يعد الحسين بن علي (عليه السلام) خليفة، وهو الذي قال الرسول (صلى اللّه عليه وآله) عنه وعن أخيه: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة» (1)، «الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا» (2)؟

ويكون معاوية الذي لعنه الرسول (صلى اللّه عليه وآله) عدة مرات علانية (3) وأمر بقتله، خليفة، ولا يحسب لأبناء علي (عليه السلام) الذين أذعن العالم بأسره لعظمتهم، وإيمانهم وتقواهم ومكانتهم، وأرغموا الصديق والعدو على تقديرهم وإجلالهم، أي حساب!

الأستاذ: ومتى أمر الرسول بقتل معاوية؟

قلت: في قوله (صلى اللّه عليه وآله): «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه» (4).

ص: 273


1- تقدمت تخريجاته
2- بحار الأنوار: ج 43 ص 291 ح 5 و ج 44 ص 1 ح 2
3- راجع: تاريخ الأمم والملوك للطبري: ج 10: ص 58، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4 ص 79 و ج 6 ص 289، وقعة صفين: ص 216 - 217، الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 7 ص 78 (في ترجمة عاصم بن عاصم الليثي)
4- جاء في روايات أخرى: «إذا رأيتموه يخطب على منبري فاقتلوه»، وورد في أخرى: «إذا رأيتموه جالسا على منبري يخطب فاضربوا عنقه»، راجع: تاريخ الأمم والملوك للطبري: ج 1 ص 58، تاريخ بغداد للخطيب: ج 12 ص 181، اللئالئ المصنوعة: ج 1 ص 424، تهذيب التهذيب: ج 2 ص 428، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4 ص 32.

يا أستاذ، إن مساوئ ومثالب ومفاسد معاوية بحد من الكثرة بحيث لا تستلزم البيان، ويكفي أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لما رآه مقبلا هو وعمرو بن العاص رفع يديه إلى السماء وقال: «اللّهم أركسهما ركسا ودعهما إلى النار دعا» (1).

هذا مضافا إلى ما أشار الرسول (صلى اللّه عليه وآله) إليه في بعض المواقف إلى الفتن التي ستقوم بعده، وأمر الناس صراحة في مثل هذه الموارد بالتمسك بعلي وأبنائه (عليهم السلام).

قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): « ستكون من بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فالزموا علي بن أبي طالب (2) فإنه أول من يراني، وأول من يصافحني يوم القيامة، وهو الصديق الأكبر، وفاروق هذه الأمة، يفرق بين الحق والباطل » (3).

واستجابة لأمر الرسول (صلى اللّه عليه وآله) فقد تمسكنا في جميع الفتن بعلي وآل علي، الذين تخلفوا عنه، ونحن على ثقة أن النجاة والفلاح لأتباع وشيعة علي (عليه السلام)، لكن

ص: 274


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 4 ص 421، وقعة صفين: ص 219
2- وفي ذلك يقول خزيمة بن ثابت - كما جاء في المستدرك للحاكم: ج 3 ص 114 - 115: إذا نحن بايعنا عليا فحسبنا *** أبو حسن مما نخاف من الفتن وجدناه أولى الناس بالناس أنه *** أطب قريش بالكتاب وبالسنن وإن قريشا ما تشق غباره *** إذا ما جرى يوما على الضمر البدن وفيه الذي فيهم من الخير كله *** وما فيهم كل الذي فيه من حسن
3- ترجمة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) من تاريخ دمشق، لابن عساكر: ج 3 ص 157، كنز العمال: ج 11 ص 612 ح 32964، الإستيعاب، لابن عبد البر: ج 3 ص 1091، المناقب للخوارزمي: ص 105 ح 108، الإصابة، لابن حجر العسقلاني: ج 4 ص 170 ترجمة رقم: 994.

ولم يرجعوا إليه - وهو فاروق الأمة بالنص الصريح الوارد عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) - ماذا سيكون جوابهم غدا أمام اللّه؟

إن من يعتبر معاوية خليفة لا بد وأن يطيعه، ومن يطيعه يسب عليا بالنتيجة، وهو من قال عنه الرسول (صلى اللّه عليه وآله): «من سب عليا فقد سبني، ومن سبني فقد سب اللّه» (1).

فكيف يوالي إخواننا السنة معاوية، ويدعون في الوقت نفسه موالاة علي (عليه السلام)؟ أليس من المحال الجمع بين النقيضين؟

وإذا ما تجاوزنا هذا، فما هو قولكم في سائر الخلفاء الاثني عشر؟ كيف يمكن تحديد الخلفاء الحقيقيين الاثني عشر للرسول (صلى اللّه عليه وآله) من بين كل هؤلاء الذين هم في الظاهر خلفاء للرسول (عليه السلام)؟ وهنا يجب الرجوع إلى صديق الأمة الأكبر وفاروق الحق من الباطل ألا وهو علي (عليه السلام).

وعلى كل حال فإذا كانت الكتب الروائية السنية قد ذكرت عدد الأئمة فقط، أو نقلت في بعض الموارد أسماءهم بالتفصيل أو بالإيجاز، فإن كتبنا نحن الشيعة قد ذكرت الأسماء المباركة للأئمة الاثني عشر نقلا عن لسان الرسول (صلى اللّه عليه وآله) وعن لسان أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو مما لا شك فيه.

أنا آسف لأن الوقت قد انتهى وإلا لقرأت لك آية من القرآن تبين الأئمة الاثني عشر، ولكن نتركها إلى اللقاء القادم الذي سيكون آخر لقاء بيننا.

ص: 275


1- راجع: مسند أحمد بن حنبل: ج 6 ص 323، مجمع الزوائد: ج 9 ص 130، المستدرك للحاكم: ج 3 ص 121، كنز العمال: ج 11 ص 602 ح 32903، مشكاة المصابيح: ج 3 ص 1722 ح 6092، بحار الأنوار: ج 27 ص 227 ح 26 و ج 39 ص 311 ح 1.

الأستاذ: تقول آية من القرآن؟!

قلت: نعم، وهل هذا أمر عجيب؟

الأستاذ: لا بد أنك تقصد قرآن الشيعة، لا القرآن المتداول؟

قلت: يا أستاذ، نحن لا نقبل بغير القرآن الموجود الذي: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ) (1)، ومثل هذه القضايا لم تأت في القرآن بوضوح وصراحة، وتستلزم مزيدا من الدراسة الجادة والدقيقة، وكن على ثقة حتى لو أن أسماء الأئمة الاثني عشر وردت في القرآن صراحة لتجاهلوها، ولأنكروها كما فعلوا مع سنة الرسول (عليه السلام).

الأستاذ: إذن فأنتم تأولونه؟

قلت: بل هو تصريح أوضح من التأويل، انتظر هنيهة ليتضح لك ذلك في اللقاء القادم بإذن اللّه.

الأستاذ: إلى اللقاء.

قلت: في أمان اللّه حتى اللقاء القادم (2).

ص: 276


1- سورة فصلت: الآية 42
2- مذكرات المدرسة للسيد محمد جواد المهري: 147 - 157.

المناظرة الثالثة والأربعون: مناظرة الطالب مع الأستاذ في النص على الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)

اشارة

الطالب: جاء أحد أساتذة الشريعة في الأردن واسمه الدكتور خالد نوفل إلى الكلية للتدريس، وإني كنت من طلاب هذه الكلية، ومعتقدا بمذهب الشيعة، وأحضر درسه، فأراه يستغل الفرص المناسبة للطعن في الشيعة وينسب إليهم أمورا لا أساس لها، فوقع يوما حوار بيني وبينه حول خلفاء النبي (صلى اللّه عليه وآله) الذي جاء عدد من الروايات إنهم اثني عشر خليفة، فاسمعوا حوارنا ثم اقضوا بيننا، ثم انظروا أينا أقوى حجة، إليكم الحوار:

الأستاذ: لا يوجد في كتب الحديث مثل هذا الحديث قاله النبي (صلى اللّه عليه وآله) إن عدد الخلفاء اثني عشر خليفة، بل إن هذا الحديث اختلقته أنت من نفسك.

الطالب: بل جاء هذا الحديث في الكتب المعتمدة لأهل السنة وصحاحهم وفي مواضيع عديدة، وبتعابير مختلفة وعلى سبيل المثال.

ورد في كتب الحديث عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) قال: «الخلفاء بعدي اثنا عشر بعدد نقباء بني إسرائيل كلهم من قريش» (1).

ص: 277


1- مسند أحمد: ج 1 ص 398، المستدرك للحاكم: ج 4 ص 501، مجمع الزوائد للهيثمي: ج 5 ص 190 (ب الخلفاء الاثني عشر).

فعليه جاء هذا الحديث في مستنداتكم وكتبكم، التي هي موضع اعتمادكم وثقتكم.

الأستاذ: لو سلمنا بصحة هذا الحديث فمن هم هؤلاء الاثني عشرة نفر في رأيكم:

الطالب: هناك عشرات بل مئات الروايات التي تذكر أسماءهم، وهم عبارة عن: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الحسن بن علي (عليه السلام)، الحسين بن علي (عليه السلام)، علي بن الحسين «زين العابدين» (عليه السلام)، محمد بن علي «الباقر» (عليه السلام)، جعفر بن محمد «الصادق» (عليه السلام)، موسى بن جعفر «الكاظم» (عليه السلام)، علي بن موسى «الرضا» (عليه السلام)، محمد بن علي «الجواد» (عليه السلام)، علي بن محمد «الهادي» (عليه السلام)، الحسن بن علي «العسكري» (عليه السلام)، الحجة بن الحسن، إمام الزمان المهدي (عليه السلام).

الأستاذ: هل إن المهدي لا زال حيا؟

الطالب: نعم، إنه حي، ولأجل أمور لا نعلمها فهو غائب عن أنظارنا، وعندما تتوفر الأرضية الصالحة في العالم يخرج من وراء ستار الغيب، ويمسك بزمام قيادة العالم.

الأستاذ: متى ولد المهدي (عليه السلام)؟

الطالب: ولد الإمام المهدي (عليه السلام) في سنة 255 هجري قمري، وقد مضى من عمره الشريف حتى الآن 1158 ه ق.

الأستاذ: كيف يمكن للإنسان أن يعمر أكثر من ألف سنة، والحد الطبيعي لعمر الإنسان هو مأة سنة.

الطالب: نحن مسلمون ونعتقد بالقدرة الإلهية، وليس هناك مانع مع اقتضاء مشيئة اللّه، أن يعمر ألف سنة.

ص: 278

الأستاذ: آمنا بقدرة اللّه، ولكن هذا شئ خارج عن سنة اللّه في الخلق.

الطالب: أنتم تصدقون بالقرآن كما نحن نصدق، قول اللّه في الآية 14 من سورة العنكبوت: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا) ، ويستفاد من الآية الكريمة أن نوحا (عليه السلام) لبث في قومه 950 سنة قبل الطوفان، فعليه، إنه سبحانه وتعالى قادر أن يمن على الإنسان بهذا العمر وأكثر منه.

وأخبر النبي الأكرم (صلى اللّه عليه وآله) في موارد عديدة عن مجئ الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) بعنوان إمام وحجة لله يملأ الأرض قسطا وعدلا، وبهذا المعنى جاءت مئات بل أكثر من ألف رواية عن طريق الشيعة والسنة لا يعتريها الشك والشبهة ولا يمكن لأحد أن ينكرها، إليك نموذجا منها: قال النبي (صلى اللّه عليه وآله): «المهدي من أهل بيتي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا» (1).

وعندما وصل الحديث هاهنا بين الأستاذ والأدلة المنطقية للطالب، وكونها من مستندات وصحاح أهل السنة، أختار الأستاذ السكوت، فاستغل الطالب الفرصة فقال: نرجع إلى صلب الموضوع، هل صدقتم أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قال: «الخلفاء بعدي اثنا عشر...»؟ وسألتني عنهم فذكرتهم لكم، والآن إني أسألك من هم في رأيكم؟

الأستاذ: إن هؤلاء الخلفاء الذين ذكرهم النبي (صلى اللّه عليه وآله) أربعة منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي (عليه السلام)، ثم الحسن (عليه السلام) ومعاوية وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز، ويحتمل المهدي العباسي ثالث خلفاء بني العباس، وكذا يحتمل الطاهر العباسي، الخلاصة في رأينا إن هؤلاء اثني عشرة خليفة غير معنونين،

ص: 279


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 3 ص 27، الصواعق المحرقة: ص 161.

وأقوال علمائنا في هذه المسألة مختلفة ومتضاربة.

الطالب: قال النبي (صلى اللّه عليه وآله) في حديث الثقلين الذي يرويه الفريقان وجميع المسلمين: «إني تركت فيكم الثقلين: كتاب اللّه، وعترتي أهل بيتي...» (1).

ومن الواضح، أن أبا بكر وعمر وعثمان وأمثال ابن الزبير وعمر بن عبد العزيز والمهدي العباسي ليسوا من عترة وأهل بيت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، فعليه لماذا نغدو في تشخيص الخلفاء الاثني عشر بعد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) حيارى، وحديث الثقلين يصرح أنهم عترة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، ويصدق في عقيدة الشيعة من الإمام علي (عليه السلام) إلى الإمام المهدي (عليه السلام).

الأستاذ: أمهلني لكي أطالع أكثر في هذه المسألة، والآن لا أجد جوابا قانعا وشافيا لك.

الطالب: حسنا، أرجو لك أن تتوفق بمطالعاتك وتحقيقاتك، وأن تتعرف على الخلفاء بعد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، ولكن بعد فترة التقى الطالب بالأستاذ، فأعلن الأستاذ أنه لم يستطع أن يعثر على شئ دقيق حول هؤلاء الخلفاء في عقيدة أهل السنة.

وفي مناظرة أخرى:

سأل أحد الطلبة أستاذ المعارف الإسلامية لأهل السنة قائلا: هل تؤمن بأن خلفاء رسول اللّه (عليهم السلام) اثنا عشرة نفرا وكلهم من قريش.

الأستاذ: نعم، لقد وردت روايات معتبرة في كتبنا تدل على ذلك.

ص: 280


1- مسند أحمد: ج 4 ص 367، صحيح مسلم: ج 4 ص 1874 ح 37، (ك فضائل الصحابة ب 4 من فضائل علي بن أبي طالب (عليه السلام))، الجامع الصحيح للترمذي: ج 5 ص 621 ح 3786، كنز العمال: ج 1 ص 172 - 173 ح 870 - 873.

الطالب: من هم هؤلاء الخلفاء؟

الأستاذ: عبارة عن: 1 - أبو بكر 2 - عمر 3 - عثمان 4 - علي (عليه السلام) 5 - معاوية 6 - يزيد بن معاوية.

الطالب: كيف يمكن اعتبار يزيد خليفة لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، مع كونه شاربا للخمر، والسبب في إيجاد واقعة كربلاء الدموية، وقتل الحسين (عليه السلام) مع أصحابه وأهل بيته؟!

ثم قال الطالب للأستاذ: اذكر بقية الخلفاء.

فبقي الأستاذ حائرا لا يستطيع الجواب، وقد بدل موضوع الكلام وقال: أنتم الشيعة تسبون أصحاب النبي (صلى اللّه عليه وآله) وتذكرونهم بسوء.

الطالب: نحن لا نذكر جميع أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بالسوء، فأنتم تقولون بعدالة الأصحاب قاطبة، ونحن نقول ليس كذلك، وقد جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم تتحدث عن المنافقين في عصر النبي (صلى اللّه عليه وآله) فإذا قلنا بعدالة جميع الصحابة، فعلينا أن نطرح شطرا مهما من القرآن الكريم الذي نزل في المنافقين.

الأستاذ: هل أنت تشهد بإنك راضي عن أبي بكر وعمر وعثمان.

الطالب: إني أشهد بأني راض عن كل من رضى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وفاطمة الزهراء (عليها السلام) عنه، وكل من سخط عليه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وفاطمة الزهراء (عليها السلام) إني ساخط عليه (1).

ص: 281


1- أجود المناظرات للاشتهاردي: 169 - 276.

المناظرة الرابعة والأربعون: مناظرة السيد علي البطحائي مع بعض الأساتذة في النص على الأئمة (عليهم السلام)

المناظرة التي وقعت بيننا مع عدة من العلماء والمدرسين في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، قلت: ورد في صحيح مسلم في أول المجلد السادس باب (إن الناس تبع لقريش والخلافة في قريش) يذكر عدة من الروايات إن الخلافة تكون في قريش ما بقي من الناس اثنان (1)، ومضمون هذه الروايات لا ينطبق إلا على مذهب الإمامية الجعفرية لأنهم يقولون: إن الإمامة والوصاية بعد الرسول (صلى اللّه عليه وآله) إلى يوم القيامة تكون في قريش، وهم أوصياء الرسول المعنيين على لسانه كما في الروايات الواردة في صحيح مسلم.

وقلت للشيخ عبد اللّه وعدة من المدرسين في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة: ما تقولون في معنى الروايات الواردة في الجزء السادس من صحيح مسلم في أول الجزء: الناس تبع لقريش والخلافة في قريش (2)؟

حدثنا أحمد بن عبد اللّه بن يونس، حدثنا عاصم بن محمد بن زيد عن أبيه قال: قال عبد اللّه: قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): لا يزال هذا الأمر في قريش، ما بقي من الناس اثنان (3)، وكذا رواه في البخاري (4).

ص: 282


1- صحيح مسلم: ج 3 ص 1451 ح 1 - 3
2- صحيح مسلم: ج 3 ص 1451 ح 1 - 3
3- نفس المصدر: ص 1452 ح 4
4- صحيح البخاري: ج 9 ص 78 (ك الأحكام ب الأمراء من قريش).

وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن حصين عن جابر بن سمرة قال: دخلت مع أبي على النبي (صلى اللّه عليه وآله) فسمعته يقول: إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة، قال: ثم تكلم بكلام خفي علي، قال: فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش (1).

وحدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال: سمعت النبي (صلى اللّه عليه وآله) يقول: لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا، ثم تكلم النبي (صلى اللّه عليه وآله) بكلمة خفيت علي، فسألت أبي: ماذا قال الرسول (صلى اللّه عليه وآله) ؟ فقال: كلهم من قريش. (2)

حدثنا هداب بن خالد الأزدي، حدثنا حماد بن سلمة عن سماك بن حرب قال: سمعت جابر بن سمرة يقول: سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يقول: لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة، ثم قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: كلهم من قريش (3)، وبمضمونها روايات أخرى. (4)

حدثنا قتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة قالا: حدثنا حاتم عن المهاجر بن مسمار عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: كتبت إلى جابر بن سمرة مع غلامي نافع أن أخبرني بشئ سمعته من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، قال: فكتب إلي: سمعت من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يوم جمعة، عشية رجم الأسلمي يقول: لا يزال الدين قائما

ص: 283


1- صحيح مسلم: ج 3 ص 1452 ح 5، بحار الأنوار: ج 36 ص 266 ح 87 و ص 362 ح 233
2- صحيح مسلم: ج 3 ص 1452 ح 6
3- نفس المصدر: ص 1453 ح 7
4- نفس المصدر: ح 8 و 9.

حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة، كلهم من قريش. (1)

قلت للعلماء بعد ذكر الروايات: ما معنى هذه الروايات؟ وما معنى الرواية الأولى: لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان؟

إن هذا الباب والروايات لا ينطبق إلا على مذهب الشيعة الجعفرية، فإنهم يقولون بإمامة علي بن أبي طالب (عليه السلام) بعد الرسول (صلى اللّه عليه وآله) وهو من قريش، ثم بعده ابنه الحسن (عليه السلام)، وهو من قريش، ثم بعده ابنه الثاني الحسين (عليه السلام)، وهو من قريش، ثم بعده علي بن الحسين (عليه السلام)، وهو من قريش، ثم بعده محمد بن علي الباقر (عليه السلام)، وهو من قريش، ثم بعده جعفر بن المحمد الصادق (عليه السلام)، وهو من قريش، ثم بعده موسى بن جعفر (عليه السلام)، وهو من قريش، ثم بعده علي بن موسى (عليه السلام)، وهو من قريش، ثم بعده محمد بن علي الجواد (عليه السلام)، وهو من قريش، ثم بعده علي بن محمد النقي (عليه السلام)، وهو من قريش، ثم بعده الحسن العسكري (عليه السلام)، وهو من قريش، ثم بعده محمد بن الحسن صاحب الزمان (عليه السلام)، وهو من قريش، وهو الآن حي مرزوق... وهم الاثنا عشر المعنيون بقول الرسول (صلى اللّه عليه وآله)، وإن كان المراد غير هذا فبينوا معنى الروايات الواردة في هذا الباب.

فقال واحد من المدرسين: الأول منهم أبو بكر، الثاني عمر، الثالث عثمان، الرابع علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الخامس معاوية، السادس يزيد بن معاوية.

قلت: يزيد بن معاوية شارب الخمر جهرا، ثم قلت: فمن الباقي الوارد في الرواية، فما استطاعوا عد البقية. (2)

ص: 284


1- نفس المصدر: ح 10
2- مناظرات في الحرمين للبطحائي: ص 27 - 30.

في عصمة الأنبياء وأهل البيت (عليهم السلام)

اشارة

ص: 285

ص: 286

المناظرة الخامسة والأربعون: مناظرة الإمام الرضا (عليه السلام) مع المأمون العباسي في عصمة الأنبياء (عليهم السلام)

عن علي بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا علي بن موسى (عليهما السلام) فقال له المأمون: يا بن رسول اللّه أليس من قولك: إن الأنبياء معصومون؟

قال: بلى.

قال: فما معنى قول اللّه عز وجل: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) (1).

فقال (عليه السلام): إن اللّه تبارك وتعالى قال لآدم: (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ - وأشار لهما إلى شجرة الحنطة - فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) (2) ولم يقل لهما: لا تأكلا من هذه الشجرة ولا مما كان من جنسها فلم يقربا تلك الشجرة ولم يأكلا منها وإنما أكلا من غيرها، لما أن وسوس لهما الشيطان وقال: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ) (3) وإنما ينهاكما أن تقربا غيرها ولم ينهكما عن الأكل منها (إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا

ص: 287


1- سورة طه: الآية 121
2- سورة البقرة: الآية 35
3- سورة الأعراف: الآية 20.

مِنَ الْخَالِدِينَ ، وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (1) ولم يكن آدم وحواء شاهدا قبل ذلك من يحلف باللّه كاذبا (فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ) (2) فأكلا منها ثقة بيمينه باللّه وكان ذلك من آدم قبل النبوة ولم يكن ذلك بذنب كبير استحق به دخول النار وإنما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي عليهم فلما اجتباه اللّه تعالى وجعله نبيا كان معصوما لا يذنب صغيرة ولا كبيرة قال اللّه عز وجل: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ، ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) (3) وقال عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) (4).

فقال له المأمون: فما معنى قول اللّه عز وجل: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا) (5)؟

فقال له الرضا (عليه السلام): إن حواء ولدت لآدم خمسمائة بطن ذكرا وأنثى وإن آدم (عليه السلام) وحواء عاهدا اللّه عز وجل ودعواه وقالا: (لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ، فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا) (6) من النسل خلقا سويا بريا من الزمانة والتامة وكان ما آتاهما صنفين صنفا ذكرانا وصنفا إناثا، فجعل الصنفان لله تعالى ذكره شركاء فيما آتاهما ولم يشكراه كشكر أبويهما له عز وجل، قال اللّه تبارك

ص: 288


1- سورة الأعراف: الآية 20 و 21
2- سورة الأعراف: الآية 22
3- سورة طه: الآية 121 و 122
4- سورة آل عمران: الآية 33
5- سورة الأعراف: الآية 190
6- سورة الأعراف: الآية 189 و 190.

وتعالى: (فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (1).

فقال المأمون: أشهد أنك ابن رسول اللّه حقا فأخبرني عن قول اللّه عز وجل في حق إبراهيم (عليه السلام): (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي) (2).

فقال الرضا (عليه السلام): إن إبراهيم (عليه السلام) وقع إلى ثلاثة أصناف صنف يعبد الزهرة وصنف يعبد القمر وصنف يعبد الشمس وذلك حين خرج من السرب الذي أخفي فيه (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) فرأى الزهرة، قال: (هَذَا رَبِّي) على الإنكار والاستخبار (فَلَمَّا أَفَلَ) الكوكب (قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) (3) لأن الأفول من صفات المحدث لا من صفات القدم (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي) (4) على الإنكار والاستخبار (فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) (5) يقول: لو لم يهدني ربي لكنت من القوم الضالين فلما أصبح و (رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ) من الزهرة والقمر على الإنكار والاستخبار لا على الإخبار والإقرار (فَلَمَّا أَفَلَتْ) قال للأصناف الثلاثة من عبدة الزهرة والقمر والشمس: (يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (6) وإنما أراد إبراهيم (عليه السلام) بما قال أن يبين لهم بطلان دينهم ويثبت عندهم أن العبادة لا تحق لمن كان بصفة الزهرة والقمر والشمس وإنما تحق العبادة لخالقها وخالق

ص: 289


1- سورة الأعراف: الآية 190
2- سورة الأنعام: الآية 76
3- سورة الأنعام: الآية 76
4- سورة الأنعام: الآية 77
5- سورة الأنعام: الآية 77
6- سورة الأنعام: الآية 78 و 79.

السماوات والأرض، وكان ما احتج به على قومه مما ألهمه اللّه تعالى وآتاه كما قال اللّه عز وجل: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) (1).

فقال المأمون: لله درك يا بن رسول اللّه فأخبرني عن قول إبراهيم (عليه السلام):

(رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (2).

قال الرضا (عليه السلام): إن اللّه تبارك وتعالى كان أوحى إلى إبراهيم (عليه السلام) إني متخذ من عبادي خليلا إن سألني إحياء الموتى أجبته، فوقع في نفس إبراهيم أنه ذلك الخليل فقال: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) على الخلة (قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (3) فأخذ إبراهيم (عليه السلام) نسرا وطاووسا وبطا وديكا، فقطعهن وخلطهن ثم جعل على كل جبل من الجبال التي حوله وكانت عشرة منهن جزء وجعل مناقيرهن بين أصابعه ثم دعاهن بأسمائهن ووضع عنده حبا وماء فتطايرت تلك الأجزاء بعضها إلى بعض حتى استوت الأبدان، وجاء كل بدن حتى انضم إلى رقبته ورأسه فخلى إبراهيم (عليه السلام) عن مناقيرهن فطرن ثم وقعن فشربن من ذلك الماء والتقطن من ذلك الحب، وقلن: يا نبي اللّه أحييتنا أحياك اللّه، فقال إبراهيم: بل اللّه يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير.

قال المأمون: بارك اللّه فيك يا أبا الحسن فأخبرني عن قول اللّه عز وجل:

ص: 290


1- سورة الأنعام: الآية 83
2- سورة البقرة: الآية 260
3- سورة البقرة: الآية 260.

(فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) (1).

قال الرضا (عليه السلام): إن موسى دخل مدينة من مدائن فرعون على حين غفلة من أهلها وذلك بين المغرب والعشاء (فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ) (2) فقضى موسى على العدو، وبحكم اللّه تعالى ذكره فوكزه فمات (قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) يعني الاقتتال الذي كان وقع بين الرجلين لا ما فعل موسى (عليه السلام) من قتله، إنه - يعني الشيطان - عدو مضل مبين.

فقال المأمون: فما معنى قول موسى: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) (3).

قال: يقول: إني وضعت نفسي غير موضعها بدخولي هذه المدينة فاغفر لي أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلونني (فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (4) قال موسى (عليه السلام): (رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ) من القوة حتى قتلت رجلا بوكزة (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ) (5) بل أجاهد في سبيلك بهذه القوة حتى رضى فأصبح موسى (عليه السلام) في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه على آخر قال له موسى إنك لغوي مبين قتلت رجلا بالأمس وتقاتل هذا اليوم لأودبنك وأراد أن يبطش به (فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ

ص: 291


1- سورة القصص: الآية 15
2- سورة القصص: الآية 15
3- سورة القصص: الآية 16
4- سورة القصص: الآية 15
5- سورة القصص: الآية 17.

لَهُمَا) وهو من شيعته (قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) (1).

قال المأمون: جزاك اللّه عن أنبيائه خيرا يا أبا الحسن فما معنى قول موسى لفرعون: (فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) (2).

قال الرضا (عليه السلام): إن فرعون قال لموسى لما أتاه: (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (3) بي، قال موسى: (فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) عن الطريق بوقوعي إلى مدينة من مدائنك (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (4) وقد قال اللّه عز وجل لنبيه محمد (صلى اللّه عليه وآله):

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) (5) يقول: ألم يجدك وحيدا فآوى إليك الناس (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) (6) يعني عند قومك فهدى، أي هداهم إلى معرفتك (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) (7) يقول: أغناك بأن جعل دعاءك مستجابا.

قال المأمون: بارك اللّه فيك يا بن رسول اللّه فما معنى قول اللّه عز وجل: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي) (8) كيف يجوز أن يكون كلم اللّه موسى بن عمران (عليه السلام) لا يعلم أن اللّه تبارك

ص: 292


1- سورة القصص: الآية 19
2- سورة الشعراء: الآية 20
3- سورة الشعراء: الآية 19
4- سورة الشعراء: الآية 21
5- سورة الضحى: الآية 6
6- سورة الضحى: الآية 7
7- سورة الضحى: الآية 8
8- سورة الأعراف: الآية 143.

وتعالى ذكره لا يجوز عليه الرؤية حتى يسأله هذا السؤال؟

فقال الرضا (عليه السلام): إن كليم اللّه موسى بن عمران (عليه السلام) علم أن اللّه تعالى أعز أن يرى بالأبصار، ولكنه لما كلمه اللّه عز وجل وقربه نجيا رجع إلى قومه فأخبرهم أن اللّه عز وجل كلمه وقربه وناجاه، فقالوا (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) حتى نستمع كلامه كما سمعت، وكان القوم سبعمأة ألف رجل، فاختار منهم سبعين ألفا، ثم اختار منهم سبعة آلاف، ثم اختار منهم سبعين رجلا لميقات ربهم فخرج بهم إلى طور سيناء فأقامهم في سفح الجبل وصعد موسى إلى الطور وسأل اللّه تعالى أن يكلمه ويسمعهم كلامه، فكلمه اللّه تعالى ذكره وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام، لأن اللّه عز وجل أحدثه في الشجرة وجعله منبعثا منها حتى سمعوه من جميع الوجوه، فقالوا: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) بأن هذا الذي سمعناه كلام اللّه (حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا بعث اللّه عز وجل عليهم صاعقة، فأخذتهم بظلمهم فماتوا.

فقال موسى: يا رب ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا: إنك ذهبت به فقتلتهم لأنك لم تكن صادقا فيما ادعيت من مناجاة اللّه عز وجل إياك، فأحياهم اللّه وبعثهم معه، فقالوا: إنك لو سألت اللّه أن يريك ننظر إليه لأجابك وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حق معرفته، فقال موسى: يا قوم إن اللّه تعالى لا يرى بالأبصار ولا كيفية له، وإنما يعرف بآياته ويعلم بأعلامه، فقالوا: لن نؤمن لك حتى تسأله، فقال موسى: يا رب إنك قد سمعت مقالة بني إسرائيل، وأنت أعلم بصلاحهم، فأوصى اللّه تعالى إليه يا موسى سلني ما سألوك فلن أؤاخذك بجهلهم فعند ذلك قال موسى (عليه السلام): (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ) وهو يهوي (فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ

ص: 293

لِلْجَبَلِ) بآية من آياته (جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (1) يقول: رجعت إلى معرفتي بك عن جهل قومي وأنا أول المؤمنين منهم بأنك لا ترى.

فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن فأخبرني عن قول اللّه عز وجل: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) (2).

فقال الرضا (عليه السلام): لقد همت به، ولولا أن رأى برهان ربه لهم لها كما همت به، لكنه كان معصوما والمعصوم لا يهم بذنب ولا يأتيه، وقد حدثني أبي عن أبيه الصادق (عليه السلام) أنه قال: همت بأن تفعل وهم بأن لا يفعل.

فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن فأخبرني عن قول اللّه عز وجل: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) (3).

فقال الرضا (عليه السلام): ذاك يونس بن متى (عليه السلام) ذهب مغاضبا لقومه، فظن بمعنى استيقن أن لن نقدر عليه، أي لن نضيق عليه رزقه، ومنه قوله عز وجل: (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) (4) أي ضيق وقتر (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ) أي ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت: (أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (5) بتركي مثل هذه العبادة التي قد فرغتني لها في بطن الحوت، فاستجاب اللّه له وقال عز وجل: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي

ص: 294


1- سورة الأعراف: الآية 143
2- سورة يوسف: الآية 24
3- سورة الأنبياء: الآية 87
4- سورة الفجر: الآية 16
5- سورة الأنبياء: الآية 87.

بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (1).

فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن، فأخبرني عن قول اللّه عز وجل: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا) (2).

فقال الرضا (عليه السلام): يقول اللّه عز وجل: حتى إذا استيأس الرسل من قومهم، وظن قومهم، أن الرسل قد كذبوا جاء الرسل نصرنا.

فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن، فأخبرني عن قول اللّه عز وجل:

(لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) (3).

قال الرضا (عليه السلام): لم يكن أحد عند مشركي أهل مكة أعظم ذنبا من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لأنهم كانوا يعبدون من دون اللّه ثلاثمائة وستين صنما، فلما جاءهم (صلى اللّه عليه وآله) بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم وقالوا: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ، وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ) (4) فلما فتح اللّه عز وجل على نبيه (صلى اللّه عليه وآله) مكة قال له: يا محمد (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ) - مكة - (فَتْحًا مُبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) (5) عند مشركي أهل مكة بدعائك إلى توحيد اللّه فيما تقدم وما تأخر، لأن مشركي مكة أسلم بعضهم، وخرج بعضهم عن مكة، ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد

ص: 295


1- سورة الصافات: الآية 143 و 144
2- سورة يوسف: الآية 110
3- سورة الفتح: الآية 2
4- سورة ص: الآية 5 - 7
5- سورة الفتح: الآية 1 و 2.

عليه إذا دعا الناس إليه، فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفورا بظهوره عليهم.

فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن، فأخبرني عن قول اللّه عز وجل:

(عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) (1)؟ فقال الرضا (عليه السلام): هذا ما نزل بإياك أعني واسمعي يا جارة، خاطب اللّه عز وجل بذلك نبيه وأراد به أمته، وكذلك قوله تعالى: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (2) وقوله عز وجل: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا) (3).

قال: صدقت يا بن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فأخبرني عن قول اللّه عز وجل: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) (4).

قال الرضا (عليه السلام): إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قصد دار زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي في أمر أراده، فرأى امرأته تغتسل فقال لها: سبحان الذي خلقك، وإنما أراد بذلك تنزيه الباري عز وجل عن قول من زعم أن الملائكة بنات اللّه فقال اللّه عز وجل: (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا) (5) فقال النبي (صلى اللّه عليه وآله) لما رآها تغتسل: سبحان الذي خلقك أن يتخذ له ولدا يحتاج إلى هذا التطهير والاغتسال، فلما عاد زيد إلى منزله أخبرته امرأته

ص: 296


1- سورة التوبة: الآية 43
2- سورة الزمر: الآية 65
3- سورة الإسراء: الآية 74
4- سورة الأحزاب: الآية 37
5- سورة الإسراء: الآية 40.

بمجئ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وقوله لها: سبحان الذي خلقك، فلم يعلم زيد ما أراد بذلك، وظن أنه قال ذلك لما أعجبه من حسنها فجاء إلى النبي (صلى اللّه عليه وآله) وقال له: يا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) إن امرأتي في خلقها سوء وإني أريد طلاقها، فقال له النبي (صلى اللّه عليه وآله):

(أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ) (1) وقد كان اللّه عز وجل عرفه عدد أزواجه وأن تلك المرأة منهن فأخفى ذلك في نفسه ولم يبده لزيد، وخشي الناس أن يقولوا: إن محمدا يقول لمولاه: إن امرأتك ستكون لي زوجة يعيبونه بذلك، فأنزل اللّه عز وجل: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ) يعني بالإسلام وأنعمت عليه يعني بالعتق (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) (2) ثم إن زيد بن حارثة طلقها واعتدت منه، فزوجها اللّه عز وجل من نبيه محمد (صلى اللّه عليه وآله) وأنزل بذلك قرآنا فقال عز وجل: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) (3) ثم علم اللّه عز وجل أن المنافقين سيعيبونه بتزوجها فأنزل اللّه تعالى: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ ) (4).

فقال المأمون: لقد شفيت صدري يا بن رسول اللّه، وأوضحت لي ما كان ملتبسا علي، فجزاك اللّه عن أنبيائه وعن الإسلام خيرا (5).

ص: 297


1- سورة الأحزاب: الآية 37
2- سورة الأحزاب: الآية 37
3- سورة الأحزاب: الآية 37
4- سورة الأحزاب: الآية 38
5- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج 2 ص 174 - 182 ب 15.

المناظرة السادسة والأربعون: مناظرة الإمام الرضا (عليه السلام) مع أهل الملل في العصمة

قال أبو الصلت الهروي: لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا (عليه السلام) أهل المقالات من أهل الإسلام والديانات من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين وسائر أهل المقالات، فلم يقم أحد إلا وقد ألزمه حجته كأنه ألقم حجرا، قام إليه علي بن محمد بن الجهم فقال له: يا بن رسول اللّه أتقول بعصمة الأنبياء؟

قال: نعم

قال: فما تعمل في قول اللّه عز وجل: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) (1) وفي قوله عز وجل: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) (2) وفي قوله عز وجل في يوسف (عليه السلام): (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا) (3) وفي قوله عز وجل في داود (عليه السلام): (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ) (4) وقوله تعالى في نبيه محمد (صلى اللّه عليه وآله): (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ) (5)

فقال الرضا (عليه السلام): ويحك يا علي اتق اللّه ولا تنسب إلى أنبياء اللّه الفواحش،

ص: 298


1- سورة طه: الآية 121
2- سورة الأنبياء: الآية 87
3- سورة يوسف: الآية 24
4- سورة ص: الآية 24
5- سورة الأحزاب: الآية 37.

ولا تتأول كتاب اللّه برأيك فإن اللّه عز وجل قد قال: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ) (1).

وأما قوله عز وجل في آدم: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) فإن اللّه عز وجل خلق آدم حجة في أرضه وخليفة في بلاده لم يخلقه للجنة وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض، وعصمته تجب أن تكون في الأرض ليتم مقادير أمر اللّه، فلما أهبط إلى الأرض وجعل حجة وخليفة عصم بقوله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) (2).

وأما قوله عز وجل: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) إنما ظن بمعنى استيقن أن اللّه لن يضيق عليه رزقه، ألا تسمع قول اللّه عز وجل: (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) (3) أي ضيق عليه رزقه، ولو ظن أن اللّه لا يقدر عليه لكان قد كفر.

وأما قوله عز وجل في يوسف: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا) فإنها همت بالمعصية وهم يوسف بقتلها إن أجبرته لعظم ما تداخله فصرف اللّه عنه قتلها والفاحشة، وهو قوله عز وجل: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ) (4) يعني القتل والزنا.

وأما داود (عليه السلام) فما يقول من قبلكم فيه؟

فقال علي بن محمد بن الجهم يقولون: إن داود (عليه السلام) كان في محرابه يصلي

ص: 299


1- سورة آل عمران: الآية 7
2- سورة آل عمران: الآية 33
3- سورة الفجر: الآية 16
4- سورة يوسف: الآية 24.

فتصور له إبليس على صورة طير أحسن ما يكون من طيور فقطع داود صلاته وقام ليأخذ الطير فخرج الطير إلى الدار فخرج الطير إلى السطح فصعد في طلبه فسقط الطير في دار أوريا بن حنان فاطلع داود في أثر الطير فإذا بامرأة أوريا تغتسل فلما نظر إليها هواها وكان قد أخرج أوريا في بعض غزواته فكتب إلى صاحبه أن قدم أوريا أمام التابوت فقدم فظفر أوريا بالمشركين فصعب ذلك على داود، فكتب إليه ثانية أن قدمه أمام التابوت فقدم فقتل أوريا فتزوج داود بامرأته.

قال: فضرب الرضا (عليه السلام) بيده على جبهته وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، لقد نسبتم نبيا من أنبياء اللّه إلى التهاون بصلاته حين خرج في أثر الطير ثم بالفاحشة ثم بالقتل.

فقال: يا بن رسول اللّه فما كان خطيئته؟

فقال: ويحك إن داود إنما ظن أن ما خلق اللّه عز وجل خلقا هو أعلم منه، فبعث اللّه عز وجل إليه الملكين فتسورا في المحراب فقالا: (خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ، إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) (1) فعجل داود (عليه السلام) على المدعى عليه فقال: (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ) (2) فلم يسأل المدعي البينة على ذلك ولم يقبل على المدعى عليه فيقول له: ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه، ألا تسمع اللّه عز وجل يقول: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ

ص: 300


1- سورة ص: الآية 22 و 23
2- سورة ص: الآية 24.

فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى) (1) إلى آخر الآية.

فقال: يا بن رسول اللّه فما قصته مع أوريا؟

فقال الرضا - عليه السلام -: إن المرأة في أيام داود (عليه السلام) كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوج بعده أبدا وأول من أباح اللّه له أن يتزوج بامرأة قتل بعلها كان داود (عليه السلام) فتزوج بامرأة أوريا لما قتل وانقضت عدتها منه فذلك الذي شق على الناس من قبل أوريا.

وأما محمد (صلى اللّه عليه وآله) وقول اللّه عز وجل: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) (2) فإن اللّه عز وجل عرف نبيه (صلى اللّه عليه وآله) أسماء أزواجه في دار الدنيا وأسماء أزواجه في دار الآخرة وأنهن أمهات المؤمنين، وإحداهن من سمى له زينب بنت جحش، وهي يومئذ تحت زيد بن حارثة فأخفى اسمها في نفسه ولم يبده لكيلا يقول أحد من المنافقين: إنه قال في امرأة في بيت رجل إنها إحدى أزواجه من أمهات المؤمنين، وخشي قول المنافقين، فقال اللّه عز وجل: (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) يعني في نفسك وإن اللّه عز وجل ما تولى تزويج أحد من خلقه إلا تزويج حواء من آدم (عليه السلام) وزينب من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بقوله: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا) الآية، وفاطمة من علي (عليهما السلام).

قال: فبكى علي بن محمد بن الجهم فقال: يا بن رسول اللّه، أنا تائب إلى اللّه عز وجل من أن أنطق في أنبياء اللّه (عليهم السلام) بعد يومي هذا إلا بما ذكرته (3).

ص: 301


1- سورة ص: الآية 26
2- سورة الأحزاب: الآية 37
3- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للصدوق: ج 2 ص 170 - 173 ب 14.

المناظرة السابعة والأربعون: مناظرة ابن أبي عمير مع هشام بن الحكم في العصمة

المناظرة السابعة والأربعون: مناظرة ابن أبي عمير (1) مع هشام بن الحكم في العصمة

قال الشيخ الصدوق - عليه الرحمة -: حدثنا محمد بن علي بن ماجيلويه قال: حدثني علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير قال: ما سمعت ولا استفدت من هشام بن الحكم في طول صحبتي له شيئا أحسن من هذا الكلام في صفة عصمة الإمام (عليه السلام)، فإني سألته يوما عن الإمام أهو معصوم؟

فقال: نعم.

قلت له: فما صفة العصمة فيه وبأي شئ تعرف؟

ص: 302


1- هو: محمد بن أبي عمير زياد بن عيسى الأزدي، الذي أجمع الأصحاب على تصحيح ما يصح عنه، وعد مراسيله مسانيد، ومن الذين أقروا له بالفقه والعلم، عاصر الكاظم والرضا والجواد (عليهم السلام) بغدادي الأصل، جليل القدر عظيم المنزلة، وقد حبس في أيام الرشيد ليدل على مواضع الشيعة وأصحاب موسى بن جعفر (عليهما السلام) وقيل إنه ضرب أسواطا بلغت منه فكاد أن يقر لعظيم الألم فسمع محمد بن يونس بن عبد الرحمن وهو يقول: اتق اللّه يا محمد بن أبي عمير، فصبر ففرج اللّه عنه، وقيل إن أخته دفنت كتبه في حال استتاره وكونه في الحبس أربع سنين فهلكت الكتب، وقيل تركها في غرفة فسال عليها المطر فحدث من حفظه، ومما كان سلف له في أيدي الناس، وبهذا سكن إليه بعض الأصحاب في مراسيله، وقيل إنه صنف أربعة وتسعين كتابا، توفي سنة 217 ه. راجع: تنقيح المقال للمامقاني: ج 2 ص 61 - 64 ترجمة رقم: 10272، معجم رجال الحديث للسيد الخوئي (قدس سره): ج 14 ص 279، ترجمة رقم: 10018.

فقال: إن جميع الذنوب لها أربعة أوجه ولا خامس لها: الحرص والحسد والغضب والشهوة، فهذه منفية عنه لا يجوز أن يكون حريصا على هذه الدنيا، وهي تحت خاتمه لأنه خازن المسلمين فعلى ماذا يحرص، ولا يجوز أن يكون حسودا لأن الإنسان إنما يحسد من فوقه وليس فوقه أحد فكيف يحسد من دونه، ولا يجوز أن يغضب لشئ من أمور الدنيا إلا أن يكون غضبه لله عز وجل، فإن اللّه فرض عليه إقامة الحدود، وأن لا تأخذه في اللّه لومة لائم، ولا رأفة في دينه حتى يقيم حدود اللّه، ولا يجوز له أن يتبع الشهوات ويؤثر الدنيا على الآخرة لأن اللّه عز وجل قد حبب إليه الآخرة كما حبب إلينا الدنيا، فهو ينظر إلى الآخرة كما ننظر إلى الدنيا.

فهل رأيت أحدا ترك وجها حسنا لوجه قبيح، وطعاما طيبا لطعام مر، وثوبا لينا لثوب خشن، ونعمة دائمة باقية لدنيا زائلة فانية (1)؟

ص: 303


1- علل الشرائع للصدوق: ج 1 ص 204 - 205.

المناظرة الثامنة والأربعون: مناظرة الشيخ المفيد مع رجل من أصحاب الحديث في آية التطهير ونزولها في أهل البيت (عليهم السلام)

قال الشيخ الصدوق (رحمه اللّه): ومن كلام الشيخ - أدام اللّه عزه -: قال له رجل من أصحاب الحديث ممن يذهب إلى مذهب الكرابيسي: ما رأيت أجسر من الشيعة فيما يدعونه من المحال، وذلك أنهم زعموا أن قول اللّه سبحانه: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (1) نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) مع ما في ظاهر الآية من أنها نزلت في أزواج رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وذلك أنك إذا تأملت الآية من أولها إلى آخرها وجدتها منتظمة لذكر الأزواج خاصة، ولم نجد لمن ادعوها له ذكرا.

فقال الشيخ - أيده اللّه - له: أجسر الناس على ارتكاب الباطل وأبهتهم وأشدهم إنكارا للحق وأجهلهم من قام مقامك في هذا الاحتجاج ودفع ما عليه الإجماع والاتفاق، وذلك أنه لا خلاف بين الأمة أن الآية من القرآن قد يأتي أولها في شئ وآخرها في غيره، ووسطها في معنى وأولها في سواه، وليس

ص: 304


1- سورة الأحزاب: الآية 33.

طريق الاتفاق في معنى إحاطة وصف الكلام بالآي وقد نقل المخالف (1) والموافق أن هذه الآية نزلت في بيت أم سلمة - رضي اللّه تعالى عنها - ورسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في البيت ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وقد جللهم بعباءة خيبرية وقال: اللّهم هؤلاء أهل بيتي فأنزل اللّه عز وجل: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (2) فتلاها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فقالت أم سلمة - رضي اللّه عنها -: يا رسول اللّه، ألست من أهل بيتك؟ فقال لها: إنك إلى خير، ولم يقل إنك من أهل بيتي.

حتى روى أصحاب الحديث أن عمر سئل عن هذه الآية فقال: سلوا عنها عائشة، فقالت عائشة: إنها نزلت في بيت أختي أم سلمة فاسألوها عنها فإنها أعلم بها مني، فلم يختلف أصحاب الحديث من الناصبة ولا أصحاب الحديث من الشيعة في خصوصها فيمن عددناه، وحمل القرآن في التأويل على ما جاء به الأثر أولى من حمله على الظن والترجيم، مع أن اللّه سبحانه قد دل على صحة ذلك بمتضمن الآية حيث يقو جل وعلا: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) وإذهاب الرجس لا يكون إلا بالعصمة من الذنوب لأن الذنوب من أرجس الرجس، والخبر عن الإرادة هنا إنما هو خبر عن وقوع الفعل خاصة دون الإرادة التي يكون بها لفظ الأمر لا سيما على ما أذهب إليه في وصف القديم بالإرادة، وأفرق بين الخبر عن الإرادة هاهنا والخبر عن الإرادة في قوله: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) (3) وقوله: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا

ص: 305


1- وقد تقدمت تخريجات نزول الآية فيهم (عليهم السلام) من كتب الجمهور
2- سورة الأحزاب: الآية 33
3- سورة النساء: الآية 26.

يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (1) إذ لو جرت مجرى واحدا لم يكن لتخصيص أهل البيت بها معنى، إذ الإرادة التي يقتضي الخبر والبيان يعم الخلق كلهم على وجهها في التفسير ومعناها فلما خص اللّه أهل البيت (عليهم السلام) بإرادة إذهاب الرجس عنهم دل على ما وصفناه من وقوع إذهابه عنهم وذلك موجب للعصمة على ما ذكرناه.

وفي الاتفاق على ارتفاع العصمة عن الأزواج دليل على بطلان مقال من زعم أنها فيهن، مع أن من عرف شيئا من اللسان وأصله لا يرتكب هذا القول ولا توهم صحته وذلك أنه لا خلاف بين أهل العربية أن جمع المذكر بالميم وجمع المؤنث بالنون وأن الفصل بينهما بهاتين العلامتين، ولا يجوز في لغة القوم وضع علامة المؤنث على المذكر ولا وضع علامة المذكر على المؤنث ولا استعملوا ذلك في حقيقة ولا مجاز، ولما وجدنا اللّه سبحانه قد بدأ في هذه الآية بخطاب النساء فأورد علامة جمعهن من النون في خطابهن فقال: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) إلى قوله: (وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (2) ثم عدل بالكلام عنهن بعد هذا الفصل إلى جمع المذكر فقال: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) فلما جاء بالميم وأسقط النون علمنا أنه لم يتوجه هذا القول إلى المذكور الأول بما بيناه من أصل العربية وحقيقتها ثم رجع بعد ذلك إلى الأزواج، فقال: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا) (3) فدل ذلك على إفراد من ذكرناه من آل محمد (عليهم السلام) بما علقه عليهم من حكم الطهارة الموجبة للعصمة

ص: 306


1- سورة البقرة: الآية 185
2- سورة الأحزاب: الآية 33
3- سورة الأحزاب: الآية 34.

وجليل الفضيلة، وليس يمكنكم معشر المخالفين أن تدعوا أنه كان في الأزواج مذكورا رجل غير النساء وذكر ليس برجل فيصح التعلق منكم بتغليب المذكر على المؤنث إذا كان في الجمع ذكر، وإذا لم يمكن ادعاء ذلك وبطل أن يتوجه إلى الأزواج فلا غير لهن توجهت إليه إلا من ذكرناه فمن جاء فيه الأثر على ما بيناه (1).

ص: 307


1- الفصول المختارة للمفيد: ص 29 - 31.

المناظرة التاسعة الأربعون: مناظرة السيد محمد تقي الحكيم مع أكابر علماء مؤتمر البحوث الإسلامية في عصمة أهل البيت (عليهم السلام)

اشارة

المناظرة التاسعة الأربعون: مناظرة السيد محمد تقي الحكيم (1) مع أكابر علماء مؤتمر البحوث الإسلامية في عصمة أهل البيت (عليهم السلام) الحديث الذي أداره مندوب الإيمان مع سماحة العلامة الكبير السيد محمد تقي الحكيم عميد كلية الفقه بالوكالة، على أثر عودته من القاهرة بعد حضوره مؤتمر البحوث الإسلامية.

س - في الندوات التي حضرتموها في مصر وأثيرت معكم، فيها أحاديث

ص: 308


1- هو: العلامة الكبير الحجة المحقق السيد محمد تقي بن السيد محمد سعيد الحكيم رعاه اللّه وسدده، ولد في النجف الأشرف سنة 1341 ه - 1922 م درس الفقه والأصول عند كبار الفقهاء والأساتذة في النجف أمثال: السيد الحكيم، والسيد الخوئي، والشيخ حسين الحلي قدس اللّه أسرارهم، ومن خدماته، سعيه الدؤوب في تطوير جامعة النجف الدينية، وإنجاح مشروع منتدى النشر الإسلامي آنذاك، ومراكز الدراسات العليا آنذاك، كما عنى بالدراسات الحديثة والعلوم المختلفة، وساهم في المؤتمرات العلمية الإسلامية بشكل ملحوظ مما أعطى فيها دورا هاما في التعريف بالفكر الشيعي، كما تولى أيضا مهمة التدريس في كلية الفقه وعمادتها، ومن مؤلفاته القيمة: 1 - الأصول العامة للفقه المقارن 2 - دراسة عن الزواج المؤقت 3 - كتاب سنة أهل البيت (عليهم السلام) ومواضيع أخرى 4 - كتاب شاعر العقيدة 5 - مالك الأشتر 6 - الترادف والاشتراك. استفدنا هذه الترجمة من كتاب (ثمرات النجف، القسم الأول السيد محمد تقي الحكيم في حياته وعطائه ج 3).

حول التشيع، ذكرتم عدة مواضيع أحب الكثير من قراء (الإيمان) الوقوف على طبيعة ما أثير حولها من حديث، ومنها ما يتصل بعصمة أهل البيت فهل تتذكرون أين دار الحديث عنها وكيف؟

ج - إن الذي أتذكره أن أهم الأحاديث التي دارت حولها كانت في الإسكندرية (1)، وفي ندوة الأمناء في القاهرة (2)، في الأمسية التي اعتادت إحياءها في ليلة الأحد من كل أسبوع، حيث يحضرها شيخ الأمناء الأستاذ أمين الخولي وتلامذته لمناقشة بعض القضايا، وقد دعينا من قبل بعض الإخوان المصريين لحضورها، واقتصر الحديث عند حضورنا أو كاد على قضايا التشيع، وأخذ منها حديث العصمة وقتا كبيرا، وقد صحبنا إليها من الإخوان المصريين واللبنانيين العلامة الكبير الشيخ محمود أبو رية، والدكتور حامد حفني داود، والأستاذ الشيخ عبد الفتاح بركة، والأستاذ الشيخ عبد الحميد الحر.

ص: 309


1- الإسكندرية: مدينة في مصر، وميناء على المتوسط، مركز تجاري وثقافي، نقطة مواصلات بحرية وبرية، ومركز صناعي هام، قيل أسسها الإسكندر الكبير (332 ق. م) فهي إحدى ثلاث عشرة مدينة بناها الإسكندر وسماها باسمه وهي أشهرها، اشتهرت بمكتبتها ومنارتها (132 م) كما اشتهرت بمدرستها الفلسفية بين أوائل القرن الثالث، فتحها العرب (642) واستولى عليها الأتراك (1516) راجع: مراصد الاطلاع: ج 1 ص 76، المنجد (قسم الأعلام)
2- القاهرة: عاصمة جمهورية مصر العربية، أكبر مدينة في إفريقيا والعالم العربي، مركز ثقافي وحضاري هام فيها: الجامع الأزهر، وجامعة القاهرة، وجامعة عين شمس، والمتحف المصري (آثار الحضارة الفرعونية) المتحف القطبي والمتحف الإسلامي، وقلعة محمد علي، كما تعد مركزا صناعيا وتجاريا هاما، وقيل إن الذي أسسها هو جوهر الصقلي القائد الفاطمي، كما زينها الفاطميون بالمباني الفخمة من قلاع وجوامع ومدارس ومقامات، والتي منها مقام السيدة زينب بنت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) والذي يقصده إلى الآن محبوا آل البيت (عليهم السلام) من شتى الأقطار، راجع: المنجد (قسم الأعلام).

وطبيعة الحديث الذي دار في الإسكندرية وفي ندوة الأمناء وغيرها كان متشابه الخطوط بحكم وحدة الموضوع وتشابه الأسئلة، لذلك أوثر أن أعطي خلاصة لكل ما دار فيها، مع ضم بعضه إلى بعض، دون حاجة إلى تكرار الحديث بعد ذلك عنها.

وكان ممن حضر ندوة الإسكندرية من أعضاء المؤتمر بعض العلماء الجزائريين والسودانيين والليبيين والمصريين والأردنيين والصوماليين.

وكان مبعث الحديث عنها، السؤال الذي وجهه فضيلة الشيخ الجيلالي الفارسي مندوب الجزائر، وهو من أكابر العلماء الذين التقيتهم في المؤتمر، ومن أوسعهم معرفة في الشؤون العقائدية، وقد وهب ملكة بيانية قل نظيرها فيمن رأيت.

قال الشيخ الجزائري - وهو يمهد للسؤال -: يسرني أن أحظى بشرف التعرف على إخوان من علماء الشيعة، طالما تشوقت إلى لقاء أمثالهم للاتصال بهم، ومعرفة واقع ما يبلغنا عن عقائدهم، فإذا سمحتم بتوجيه بعض الأسئلة عن جملة مما يبلغنا عن الشيعة لإقرارها، أو تصحيح أفكارنا عنها أكون شاكرا.

قلت: يسرني ذلك، وأرجو أن أكون صريحا في الجواب عليها، ولك علي أن لا أتطفل على الدخول فيما لا أملك القول فيه، وأرجع معك - إذا شئت - فيما أجهله إلى من هم أكثر مني تخصصا في مبادئ التشيع، من أساتذة معاهد النجف ومراجع الأمة فيها.

فأومأ برأسه - شاكرا - ثم بدأ الحديث بهذا السؤال: هل من الصحيح ما يبلغنا عن إخواننا الشيعة من أنهم ينسبون العصمة إلى أهل البيت (عليهم السلام) كالنبي (صلى اللّه عليه وآله) على حد سواء.

ص: 310

قلت - وقد تركزت علي عيون الملتفين حول مائدة الطعام، وكنا على المائدة، وقد أهمهم فيما يبدو هذا السؤال، وربما كان فيهم من يحاول توجيهه ويتحاشى الإحراج -: نعم نؤمن بذلك.

قال: وقد بدا على صوته شئ من التهدج والاستنكار: وكيف وما هي أدلتكم على ذلك؟!

قلت - مبتسما، وقد أوشكنا على الانتهاء من الطعام -: لا أظنك يا سيدي تكتفي مني بالجواب الإجمالي على مثل هذه المسألة الدقيقة، ومثلك من لا يكتفي بهذا الجواب، أفلا ترى أن نؤجل الحديث عنها إلى جلسة أطول، ليتسع فيها مجال الحديث.

قال: معك حق.

ونهضنا عن المائدة، وقبل أن نتفرق قال: ألا نذهب إلى (كافتريا) الفندق لنأخذ كوبا من الشاي، ونتمتع بمنظر البحر الجميل؟ وكانت المقهى مطلة عليه وجميلة جدا، وقبل أن يسمع الجواب أخذ بيدي وتبعنا بقية الإخوان، وتحلقنا حول مائدة مستديرة فيها، وطلبوا لنا الشاي، ثم التفت إلي وقال: إن في هذا المكان الهادئ الجميل متسعا للحديث، وبخاصة وأن أمامنا من الوقت عدة ساعات لم يسبق أن شغلت بموعد من قبل إخواننا المضيفين، وإنما تركوا لنا فيها حرية قضائها كيف نشاء.

قلت - وقد رفعت كوب الشاي إلى فمي -: إن الاستدلال على عصمة أهل البيت (عليهم السلام) لا يمكن أن يستوفى بجلسة واحدة، مهما طال أمدها، لكثرة ما ساقوه عليها من الأدلة التي استغرق بحثها لدى بعض المؤلفين مئات الصفحات، وكتب فيها عشرات المؤلفات، ولكن نأخذ منها ما يتسع له الوقت أخذا بقاعدة الميسور،

ص: 311

ولكم جميعا حرية المناقشة فيما نعرضه من أدلة، وأظن أن صدورنا جميعا مما تتسع لها للموضوعية التي أعهدها في إخواني العلماء.

وإذا سمحت - يا سيدي السائل - وجهت إليك ببعض الأسئلة تمهيدا للجواب - عسى أن نتفق على الأوليات - ماذا تريد من كلمة العصمة التي أثبتها للنبي (صلى اللّه عليه وآله) واستكثرتها على أهل البيت (عليهم السلام) كما تنطوي عليه صيغة سؤالك؟

قال: أريد بالعصمة استحالة صدور الخطأ أو السهو أو النسيان أو الكذب أو أي ذنب عليه ما دام في مقام التبليغ.

قلت: طبعا تريد بالاستحالة هنا الاستحالة العادية لا العقلية.

قال: طبعا.

قلت: ولكن الشيعة يا سيدي - أو جل علمائهم على الأقل - يوسعون في مفهومها إلى غير مقام التشريع، وربما أوضحنا وجهة نظرهم في ثنايا الحديث، ولا يهم الفصل فعلا في هذه التوسعة، إذ يكفينا لسد حاجتنا الفعلية أن نؤمن بها في خصوص مقام التبليغ.

ولكن، هل تسمح لي بسؤال آخر: ما هي الضرورة التي تدعو إلى الإيمان بعصمة النبي (صلى اللّه عليه وآله) حتى بهذا المقدار؟ قال: الإيمان بالعصمة هو الذي يولد اليقين بكون ما يأتي به إنما هو من عند اللّه عز وجل، ومع تجويز الكذب والسهو والنسيان والغفلة عليه لا يبقى موضع ليقين في حكاية ما يبلغه عن الواقع، ومع دخول التشكيك يسقط اعتبار النبوة من الأساس.

قلت - واسمحوا لي أن استطرد قليلا بهذا السؤال -: وهل كان يفرق الرأي

ص: 312

العام في صدر الإسلام بين نوعين من السهو والكذب، مثلا أحدهما يقع في غير مجالات التشريع فيسوغونه، والآخر في مجالاته فيحضرونه عليه، وهل كان حكم العقل لديهم واضحا في التفرقة إلى هذه الدرجة؟!

قال أحدهم: وماذا تريد بهذا الكلام؟!

قلت: أريد أن أكتشف - من اطمئنانهم - وهو ما كان واقعا فعلا - إلى جميع ما يبلغه النبي (صلى اللّه عليه وآله) انسجام واقعه السلوكي في مختلف مجالاته - تشريعية وغير تشريعية - فهو لا يكذب ولا يسهو ولا يغفل ولا ينسى في جميع المجالات، وإلا لما أمكن اطمئنانهم إليه في مقام التشريع، وهم يرونه عرضة لجميع هذه المفارقات في غير مقامه، فالاطمئنان - وهو حالة نفسية - لا يمكن أن يفرق بين نوعين من الأحداث المتشابهة، فينبعث عن أحدهما ولا ينبعث عن الآخر، وكذلك العلم واليقين، فإيمان الشيعة بتعميم مفهوم العصمة إلى مختلف المجالات هو الذي ينسجم مع الواقع النفسي لنوع الناس، وعلى هذا الواقع يبتني حكم العقل بلزوم العصمة، لأن الغرض منها تحصيل اليقين بكل ما يأتي به، ولا يحصل اليقين من شخص يراه مجتمعه عرضة للوقوع في أمثال تلكم المفارقات، على أن إثبات ذلك كما قلنا ليس له تلك الأهمية بالنسبة إلينا فعلا، وحسبنا أن نتفق على هذا الجزء من العصمة - أعني امتناع صدور الكذب والسهو والغفلة وغيرها من منافيات العصمة عليه في مقام التشريع - فهو يكفينا في مجال التمهيد للجواب عن عصمة أهل البيت.

وسؤال آخر: ما هي مصادر التشريع التي تؤمنون بها؟

قال: كثيرة وأهمها الكتاب والسنة.

قلت: أما الكتاب فهو ليس موضعا لحديث، لأنه جمع ودون وحفظ على

ص: 313

عهد النبي (صلى اللّه عليه وآله) وعقيدة المسلمين جميعا أن ما بين الدفتين هو الكتاب المنزل قرآنا لم يزد ولم ينقص فيه، فجعله مصدرا تشريعيا يرجع إليه في كل زمان ومكان أمر طبيعي جدا، ولكن ماذا يراد بالسنة؟

قال: السنة هي قول النبي (صلى اللّه عليه وآله) وفعله وتقريره.

قلت: وهذا ما تعتقده الشيعة أيضا، ولكن هل أستطيع أن أسألك عن أسلوبه (صلى اللّه عليه وآله) في التبليغ كيف كان، وهل كان يعتمد القرائن المنفصلة، كاستعمال المخصصات والمقيدات لعموماته ومطلقاته، والناسخ لبعض ما انتهى أمد مصلحته من أحكامه.

قال: طبعا: وما أكثر ما يأتي العام في الشريعة، ثم يأتي بعد ذلك مخصصه ويأتي المطلق ثم يقيد بعد ذلك، وهكذا.

قلت: وهذا ما نعتقده أيضا، وهي الطريقة التي يعتمدها الناس في أساليب تفاهمهم، ولو كانت له طريقة خاصة تخالف ما ألفوه لوصلت إلينا عادته وطريقته في التبليغ كيف كانت؟ أكان يجمع الناس جميعا عندما يريد أن يقول أو يفعل أو يقر أمرا يتصل بشؤون التشريع؟ وهل من الممكن له ذلك؟ وإذا أمكن أن نتصوره عندما يريد أن يبلغ من طريق القول، فهل يمكننا تصوره عند الفعل أو الإقرار؟ أي إذا أراد أن يفعل شيئا، أو يقر جمع الناس كلهم، ففعل ما يريد فعله أو أقر ما يريد إقراره أمام الجميع، ستقول بالطبع: لا، وإنما كان يبلغ على الطرق المتعارفة، كأن يصدر الحكم أمام فرد أو فردين، وهؤلاء يكونون الواسطة في التبليغ، وعلى من لم يحضر أن يفحص عما يجد من الأحكام.

وهنا ذكرت مضمون كلام لابن حزم، أوثر الآن أن أنقله هنا بنصه لقيمته يقول ابن حزم وهو يتناول هذه الناحية من التشريع: ولا خلاف بين كل ذي علم

ص: 314

بشئ من أخبار الدنيا، مؤمنهم وكافرهم، أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) كان بالمدينة وأصحابه رضي اللّه عنهم مشاغيل في المعاش، وتعذر القوت عليهم لجهد العيش بالحجاز، وأنه (صلى اللّه عليه وآله) كان يفتي بالفتيا ويحكم بالحكم بحضرة من حضره من أصحابه فقط، وأن الحجة إنما قامت على سائر من لم يحضره (صلى اللّه عليه وآله) بنقل من حضره، وهم واحد أو اثنان ويقول أيضا: «وبالضرورة نعلم أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) لم يكن إذا أفتى بالفتيا أو إذا حكم حكم بالحكم يجمع لذلك جميع من بالمدينة هذا ما لا شك فيه، لكنه (صلى اللّه عليه وآله) كان يقتصر على من بحضرته ويرى أن الحجة بمن يحضره قائمة على من غاب، هذا ما لا يقدر على دفعه ذو حس سليم» (1).

ثم قلت: وإذا كان حساب السنة هو هذا، سواء من حيث الاعتماد على القرائن المنفصلة، أو من حيث أسلوب تبليغها، وهي لم تدون على عهده أو عهود الخلفاء من بعده، فهل يمكن اعتبارها مصدرا تشريعيا يجب الرجوع إليه؟

قال أحدهم: ولم، ألم يجعلها القرآن من مصادر التشريع؟ (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (2) (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) (3) الآية.

قلت: لا أشك في ذلك، ومن ينكر حجيتها فهو ليس بمسلم، لإنكاره أهم الضروريات الإسلامية، ولكن أسألك ماذا يصنع من يحتاج إلى معرفة حكم لم يجده في كتاب اللّه.

قال: يرجع إلى النبي (صلى اللّه عليه وآله) لاستفساره عنه.

قلت: وبعد وفاته.

ص: 315


1- الأحكام في أصول الأحكام لابن حزم، ج 1 ص 111
2- سورة الحشر: الآية 7
3- سورة النجم: الآية 3.

قال: يرجع إلى صحابته.

قلت: هب أنه وجد عاما عند أحد الصحابة، واحتمل أن يكون له مخصص عند غيره، أو وجد حكما واحتمل نسخه، أو مطلقا واحتمل تقييده، فماذا يصنع إذ ذاك؟

قال: عليه الفحص من قبل بقية الصحابة.

قلت: كيف؟ والصحابة مشتتون أيظل هذا السائل - وافترضه ممن دخل الإسلام جديدا - يبحث عنهم حتى يستوعبهم فحصا، وفيهم من هو في الحدود يحمي الثغور، وفيهم الحكام والولاة في البلاد المفتوحة بعيدا عن الحجاز، وفيهم المشتتون في قرى الحجاز وأريافها، وربما أنهى عمره قبل أن يصل إلى ما يريد؟!

وبعد عصر الصحابة ماذا يصنع الناس.

قال: يرجعون إلى من أخذ عن الصحابة من التابعين!

قلت: إذا امتنع استيعاب الفحص عن الصحابة مع قلتهم نسبيا، فهل يمكن ذلك بالنسبة إلى من أخذ عنهم، وهم أضعاف مضاعفة، وكثير منهم مجهول، وإذا جاز ذلك في عصر التابعين، فهل يجوز في العصور المتأخرة عنهم وكيف؟

ألا ترى معي - يا سيدي - أنه ليس من الطبيعي أن يفرض على الأمة - أية أمة - مصدر تشريعي يلزمون بالأخذ به، وهو غير مجموع ومدون ومحدد المفاهيم ليمكن أن تقوم الحجة به عليهم.

ثم هل يمكن لأية دولة متحضرة أن تعتبر تصرفات أحد حكامها قولا وفعلا وتقريرا في مدى حياته قانونا يجب الرجوع إليه إلى جنب أحد قوانينها المدونة، مع أن هذه الأقوال والأفعال والتقريرات لا تقع إلا أمام أفراد محدودين وغير معروفين تفصيلا، ولا الأحاديث التي جرت أمامهم معروفة، وهم لم

ص: 316

يجمعوها بدورهم ولم ينسقوها، كأن يضعوا إلى جنب العمومات قرائن التخصيص مثلا وهكذا.

قال: وكيف نلائم إذن، بين اعتقادنا بلزوم الرجوع إليها، وبين الواقع الذي تذكره؟

قلت: الصور المتصورة في المسألة أربعة، نعرضها ونختار أكثرها ملاءمة للواقع العقلي والتأريخي.

الأولى: أن نسقط السنة عن الحجية ونكتفي بالكتاب، وفي هذا محق للإسلام من أساسه، وأظن أن إخواني العلماء يؤمنون معي أن الكتاب وحده لا ينهض ببيان حكم واحد بجميع ما له من خصوصيات، فضلا على استيعاب جميع الأحكام، بكل ما لها من أجزاء وشرائط.

الثانية: أن نحمل النبي (صلى اللّه عليه وآله) - وحاشاه - مسؤولية التفريط برسالته بتعريضها للضياع عندما لم يدونها، أو يأمر الصحابة بالتدوين والتنسيق.

الثالثة: أن نحاشي النبي (صلى اللّه عليه وآله) عن تعمد التفريط ونرميه بعدم العلم، وحاشاه بما ينتج عن إهماله التدوين من مفارقات، أيسرها ضياع كثير من الأحكام الشرعية، نتيجة موت قسم من الصحابة حملة السنة، أو نسيانهم أو غفلتهم - وهم غير معصومين بالاتفاق - وهكذا، هذا بالإضافة إلى ما يسببه الفحص عن الأحكام من قبل المحتاجين إليها من المكلفين، من عسر وحرج بسبب تشتت الصحابة وتشتت رواتهم بعد ذلك، إن لم يكن متعذرا أحيانا.

الرابعة: أن نفترض له جمعها وتنسيقها وإيداعها عند شخص مسؤول عنها، عالم بجميع خصائصها ليسلمها إلى من يحتاج إليها من المسلمين، ثم يورثها من بعده لمن يقوى على القيام بها من بعده، كما ورثها هو، حتى تستوعب من قبل

ص: 317

المسلمين تدوينا، ويسهل الاعتماد عليها من قبلهم، ولو بالطرق الاجتهادية.

فإذا اعتبرنا السنة - بحكم الضرورة - من مصادر التشريع، ونزهنا النبي (صلى اللّه عليه وآله) عن الجهل والتفريط برسالته، تعين الأخذ بالفرض الرابع.

ومن هنا نعلم أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) ما كان مسوقا بدوافع عاطفية، وهو يؤكد ويحث ويلزم بالرجوع إلى أهل بيته، بأمثال هذه النصوص، «إنما مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق» (1). «إن مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل، من دخله غفر له» (2) «إني تركت فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفونني فيهما» (3).

وقوله في تحذيرهم، وهو يمهد لإعلان النص على الإمام يوم الغدير: «كأني دعيت فأجبت إني قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب اللّه وعترتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، ثم قال: إن اللّه عز وجل مولاي، وأنا مولى كل مؤمن، ثم أخذ بيد علي (عليه السلام) فقال: من كنت مولاه فهذا وليه، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه» (4).

وقوله - (صلى اللّه عليه وآله) في خصوص الإمام علي (عليه السلام) -: «علي باب علمي، ومبين لأمتي ما أرسلت به من بعدي» (5).

ص: 318


1- مجمع الزوائد: ج 9 ص 168، الصواعق المحرقة: ص 152
2- مجمع الزوائد: ج 9 ص 168، الصواعق المحرقة: ص 152
3- تقدمت تخريجاته
4- تقدمت تخريجاته
5- كنز العمال: ج 11 ص 614 ح 32981، كشف الخفاء للعجلوني: ج 1 ص 236.

وقال له: «أنت أخي ووارثي، قال: وما أرث منك؟ قال (صلى اللّه عليه وآله): ما ورث الأنبياء من قبلي» (1).

وفي رواية كنز العمال «ما ورث الأنبياء من قبلي، كتاب ربهم وسنة نبيهم» (2).

قال أحدهم - وقد قطع علي سلسلة الكلام والتوسع برواية الأحاديث -: نحن لا ننكر علم أهل البيت أو الإمام علي، ولا لزوم محبتهم والتمسك بهم، بل نحن أكثر تمسكا بهم منكم، وإنما حديثنا في ثبوت العصمة لهم!!

قلت: صحيح أن حديثنا كان عن العصمة وليس عن العلم، وما أظن أننا بعدنا عن الحديث لو تركتموني أتم الكلام وأربط بين حلقاته وما أدري ما دخل المفاضلة هنا، والتماس أكثرنا تمسكا بأهل البيت، والحديث ليس مسوقا لهذه الناحية العاطفية!

وهنا التفت أكثرهم إلى القائل بنظرة عتب، ثم التفتوا إلي وقالوا: تفضل فاستمر بالحديث.

قلت: فإذا كنتم قد اكتفيتم بهذا المقدار من الأحاديث - وفيها فعلا بعض الكفاية لما نريد - فإني أحب أن أعود إلى السؤال الأول الذي وجهناه في بداية الحديث ما هو السر في التزامنا بعصمة النبي (صلى اللّه عليه وآله)

قال: أحدهم: سد فجوات الشك في أن ما يأتي به النبي (صلى اللّه عليه وآله) من قول أو فعل أو تقرير فإنما هو من اللّه عز وجل، لا مجال فيه لرأي أو شبهة أو سهو أو

ص: 319


1- كنز العمال: ج 9 ص 167 ح 25554، العلل المتناهية لابن الجوزي: ج 1 ص 219، تهذيب تاريخ دمشق الكبير لابن عساكر: ج 6 ص 203
2- كنز العمال: ج 9 ص 617 ح 25554 و ص 170 ح 25555.

غفلة أو تعمد كذب.

قلت: فإذا افترضنا أن أهل البيت (عليه السلام) كانوا هم الأمناء على السنة وهم ورثتها بمقتضى هذه الأحاديث، ونحن مأمورون بالرجوع إليهم باعتبارهم الورثة لها، أفلا ترون أن الباعث الذي دعانا إلى الالتزام بعصمة النبي (صلى اللّه عليه وآله) ما يزال قائما بالنسبة إليهم، وهو سد فجوات الشك في أن ما يؤدون إنما هو السنة الموروثة، لا آراؤهم الخاصة، ولا ما ينتجه الخطأ والنسيان والسهو وتعمد الكذب.

وإن شئتم أن تقولوا: إن فكرة الإمامة امتدادا لفكرة النبوة وبقاء لها باستثناء ما يتصل بعوالم الاتصال بالسماء من طريق الوحي، فإذا احتاجت النبوة لأداء أغراضها - بحكم العقل - إلى تحصينها بالعصمة، احتاجتها الإمامة لنفس السبب ما دامت الإمامة امتدادا لها من حيث أداء الوظائف العامة كاملة، وأهمها تبليغ السنة وإيصالها إلى الناس.

على أنا في غنى عن هذا النوع من الاستدلال بالعودة بكم إلى مضمون نفس هذه الأحاديث، ليكون استدلالنا بالسنة نفسها على عصمة أهل البيت (عليهم السلام) بدلا من دليل العقل، ولنختر من هذه الأحاديث ما فيه تعميم لجميع أهل البيت (عليهم السلام) كحديث السفينة أو الثقلين، والأفضل أن نتحدث عن:

حديث الثقلين

للتسالم على صحته عند جل المسلمين، ولوفرة رواته بل ثبوت تواتره، وحسبه أن تصل طرقه لدى الشيعة إلى اثنين وثمانين طريقا، ولدى السنة إلى تسعة وثلاثين (1) وما أظن أن حديثا من الأحاديث التي ادعي تواترها بلغ من

ص: 320


1- راجع: إحقاق الحق وإزهاق الباطل للتستري: ج 9 ص 309 - 375.

وفرة الرواة ما بلغه هذا الحديث.

ثم ما أظن أن كتب الحديث والتأريخ والتفسير على اختلافها قد عنيت بمثل ما عنيت بهذا الحديث، حتى بلغت الكتب التي روته في مختلف العصور المئات وألفت فيه رسائل مستقلة (1).

والظاهر أن سر هذه العناية البالغة بهذا الحديث هو عناية النبي (صلى اللّه عليه وآله) واهتمامه البالغ به، فقد صدع به في حجة الوداع بعرفة، وفي غدير خم، وبعد انصرافه من الطائف، وفي الحجرة قبيل وفاته، وهكذا.

قال أحدهم: وما نصنع بحديث (وسنتي) لو أخذنا بحديث الثقلين، ولماذا تقدم حديث الثقلين عليه، وهو معارض له.

قلت: إنما نقدم حديث الثقلين لأنه حديث متواتر، ولا أقل من شهرته وصحة طرقه، وعناية الصحاح والمسانيد به، بينما لم يرو حديث وسنتي إلا أفراد محدودون، ورواياتهم لم تخضع لشرائط الاعتبار، لوقوع الإرسال فيها.

وعلى فرض صحتها، فأين موقع المعارضة بين الحديثين، وليس لها منشأ إلا توهم التدافع بين مفهوميهما، وهما لا يخرجان على كونهما من مفهومي العدد واللقب، وكلاهما ليسا بحجة في دفع الزائد، فأي محذور في أن يخلف الكتاب والسنة والعترة، وهو ما يقتضيه الجمع العرفي بينهما. على أن أحدهما يرجع إلى الآخر، لما سبق أن قلنا من أن أهل البيت لا

ص: 321


1- من الرسائل التي ألفت فيه رسالة أصدرتها دار التقريب بين المذاهب الإسلامية بمصر، وفيها عرض لطرقه وأسانيده على اختلافها، ومنها رسالة للمرحوم الحجة (الشيخ محمد حسين المظفر) باسم (الثقلان).

يأتون بغير السنة، لأنهم ورثتها والمسؤولون عن تبليغها، وكلام أئمة أهل البيت (عليهم السلام) صريح في ذلك، وما أكثر ما تردد مضمون هذا الكلام على السنة قائلهم: حديثي هو حديث أبي، وحديث أبي هو حديث جدي رسول اللّه، فحديثنا واحد (1).

ورواية السنة لا يمكن الأخذ بها على ظاهرها، لامتناع جعل مصدر تشريعي تسأل الأمة على اختلاف عصورها عن العمل به، وهو لم يدون ولم ينسق على عهده، ولا العهود القريبة منه، لما في ذلك من التفريط بالرسالة وتعجيز المكلفين دون أداء وظائفها كما سبق شرحه.

فالظاهر أن الحديثين يعضد بعضهما بعضا، ويؤديان - بعد الجمع بينهما - وظيفة واحدة، مرجعها إلزام المسلمين بالرجع إلى السنة المودعة لدى أهل البيت (عليهم السلام)، وعدم جواز إغفالهم لها.

قال أحدهم: ومعنى ذلك أنكم لا تأخذون بغير روايات أهل البيت (عليهم السلام)، وتلقون بأحاديث أهل السنة، ولا تعتمدونها؟!

قلت: يا أخي ومن قال ذلك؟! إن السنة حجة على كل حال، ثبتت من طريق أهل البيت (عليهم السلام) أو من طرق غيرهم، شريطة أن تشتمل على ما يوجب الاطمئنان بالصدور، ولكن أهل البيت (عليهم السلام) معصومون عن الخطأ في أدائها،

ص: 322


1- روي عن هشام بن سالم وحماد بن عثمان وغيرهما قالوا: سمعنا أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، وحديث رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قول اللّه عز وجل. راجع: بحار الأنوار: ج 2 ص 178 ح 28.

ومستوعبون لكل ما يتصل بها، بحكم هذه الأحاديث التي مرت عليك.

قال: المعروف عنكم أنكم لا تأخذون بأحاديث غير الإمامية، ولا تعتمدونها!!

قلت: لا أعرف مصدرا لهذا القول، كيف وفي كتب الدراية ما يسمى بالحديث الموثق (1) وهو ما كان في طريقه غير إمامي، واعتماد الموثقات عندنا أشهر من أن يتحدث عنه، وحسبك أن تفتح أي كتاب فقهي شيعي لترى مدى الاعتماد عليه، وما أكثر ما اعتمد فقهاء الشيعة على الأحاديث النبوية التي لم يقع في طريقها إمامي واحد إذا ثبتت لديهم وثاقتها، والمقياس في الاعتماد على الحديث عندهم حصول الاطمئنان لديهم بصدوره عن المعصوم نبيا كان أو إماما، من أي طريق حصل، ومزية أهل البيت (عليهم السلام) - كما قلنا - استيعابهم لكل ما يتصل بالسنة وعصمتهم في أدائها.

وبتعبير أدل إن الرجوع إلى أهل البيت (عليهم السلام) قاطع للعذر وموقر للحجة، فإذا حصلت الحجة من غير طريقهم لزم الأخذ بها، نعم إذا تعارض كلام أهل البيت (عليهم السلام) مع غيرهم قدم كلام أهل البيت (عليهم السلام)، نقدم كلام المعصوم على غيره للقطع بحجتيه بحكم أدلة العصمة، والشك - على الأقل - في حجية معارضه،

ص: 323


1- وقد عرفه علماء الدراية بما إذا كان راويه قد نص على توثيقه، وإن كان مخالفا في عقيدته للإمامية، وإن كان من الشيعة الواقفة، وقد عرفه بعضهم هو: ما رواه العدل غير الإمامي، الموثوق بنقله، المعلوم من حاله التحرز عن الكذب، والمواظبة على الحديث على ما هو عليه، وقال الشهيد الثاني: سمي بذلك - أي الموثق - لأن راويه ثقة، وإن كان مخالفا، وبهذا فارق الصحيح، مع اشتراكهما في الثقة، ويقال له: القوي أيضا لقوة الظن بجانبه بسبب توثيقه. راجع: الرعاية في علم الدراية للشهيد الثاني: ص 84، نهاية الدراية في شرح الوجيزة للسيد حسن الصدر: 264.

والشك في الحجية من أسباب القطع بعدمها، لما ذكر وقرب في الأصول من أن القطع مقوم للحجية، فمع الشك فيها يقطع بعدمها، لعدم توفر عنصر العلم فيها.

قال: وحديث الثقلين أين موقع دلالته من العصمة، وفي أي موقع من فقراته وجدتم ذلك؟

قلت: إن جل فقرات الحديث تدل عليها.

منها: اعتبارهم في الحديث قرناء للكتاب «إني قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب اللّه وعترتي» (1) وحيث أن الكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكذلك قرناؤه.

ومنها: جعل العصمة للأمة بالتمسك بهم عن الضلالة «ما أن تمسكتم به لن تضلوا بعدي» وفاقد الشئ لا يعطيه، بداهة، وهنا أحب أن أقف قليلا عند هذه الفقرة، لأنبه على ما سبق أن أشرنا إليه من أن الاكتفاء بأحدهما عن الآخر - أعني الكتاب والعترة - لا يكفي في توفير الحجة القاطعة غالبا، حيث اعتبرت العاصمية على الإطلاق للتمسك بهما معا لا بأحدهما، بل وجدت في الضمير العائد على الموصول فيما إن تمسكتم كناية عن تكوينهما وحدة، لا تتحقق المعذرية أو المنجزية في الجميع إلا بها.

والفقرة الثالثة وهي قوله: «ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض» فإنها من أدل ما يمكن أن يساق في هذا المجال عن العصمة.

قال: أحدهم وكيف؟

قلت: أسألك إذا صدر الذنب من العبد، أو سها عن أحد الأحكام، مثلا،

ص: 324


1- تقدمت تخريجاته.

فهل هو متفق في حالة سهوه أو عصيانه مع الكتاب، أو مفترق عنه.

قال: بل هو مفترق، لأن الالتقاء لا يكون إلا مع التوافق والانسجام بين الحكم المتبني في الكتاب، والسلوك الذي صدر عنه، ومع المخالفة - مهما كان شأنها - لانسجام بينها ولا وفاق.

قلت: وأضيف إلى ما تفضلتم به أن السهو والغفلة وإن أوجبا لأصحابهما المعذرية شرعا، إلا أنهما لا يمنعاه من صدق الافتراق، لأن الافتراق المعنوي كالافتراق الحسي، مداره ابتعاد أحدهما عن الآخر، فالشخص الذي يقسر على ترك صديقه والابتعاد عنه يصدق عليه الافتراق عنه، وإن كان معذورا في مفارقته، وهكذا من يخالف الكتاب.

وإذا صح هذا، عدنا إلى تذكر ما سبق أن اتفقنا عليه، من مفهوم العصمة التي أوجبناها للنبي (صلى اللّه عليه وآله) بحكم العقل، وهي استحالة صدور الكذب أو الخطأ أو السهو عليه، في مقام التبليغ، لنسأل على ضوئه هل يجوز وقوع افتراق العترة عن الكتاب لأي سبب كان، وقد أخبر النبي (صلى اللّه عليه وآله) عن عدم وقوعه بمفاد لن التأبيدية «لن يفترقا حتى يردا علي الحوض».

قال: أحدهم وما في ذلك من محذور؟ قلت: أليس في تجويز وقوع الافتراق عليهما تجويز للكذب أو السهو على الرسول (صلى اللّه عليه وآله) الذي أخبر عن عدم الافتراق - وهو في معرض التبليغ لإلزامه (صلى اللّه عليه وآله) بالتمسك بهما، وهو ما سبق أن اتفقنا على منافاته لعصمة النبي (صلى اللّه عليه وآله)، فأهل البيت (عليهم السلام) إذن بمقتضى هذا الحديث معصومون، وبخاصة فقرته الأخيرة.

ص: 325

وما يقال عن هذا الحديث يقال عن حديث السفينة (1) وباب حطة (2) والكثير من نظائرهما.

والواقع يا سيدي أن هذه الأحاديث وأمثالها مما ورد في أهل البيت (عليهم السلام) كانت مبعث حيرة ومعاناة لي في التماس بواعثها، عندما حاولت أكثر من مرة أن أتحلل من رواسب العقيدة، التي درجت عليها في أهل البيت (عليهم السلام)، وأخضعها للمقاييس المنطقية التي أفهمها.

وكان أكثر ما يقف أمامي ويلح علي في طلب التفسير هو اختصاص النبي (صلى اللّه عليه وآله) هذه اللمة من بين أمته، بل من بين أهل بيته بالذات، وفيهم أعمامه وأولاد عمه، ليؤكد كل هذا التأكيد على لزوم اتباعهم والتمسك بهم بالخصوص، ويعتبرهم أعدال الكتاب تارة، وسفن النجاة أخرى، والعروة الوثقى (3) ثالثة، والأمان لأهل الأرض من الاختلاف (4) رابعة، ويختصهم بالتطهير من الرجس، ولا يكتفي دون أن يؤكد ذلك بمختلف صور التأكيد، ويتخذ شتى المحاولات لإبعاد كل من يحتمل في حقه شبهة المشاركة، حتى يبلغ به الحال أن يبعد زوجته أم سلمة - وهي من هي في مقامها من الإيمان والتقوى - عن المشاركة في الدخول تحت الكساء الذي طرحه عليهم، وهو يتلو: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (5) ثم لا يكتفي أيضا دون أن يقف

ص: 326


1- تقدمت تخريجاته
2- تقدمت تخريجاته
3- بحار الأنوار: ج 10 ص 353 ح 1 و ص 361 ح 2، و ج 16 ص 130 ح 64
4- فقد روي عنه (صلى اللّه عليه وآله) أنه قال: النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يكرهون، وإذا ذهب أهل بيتي أتى أهل الأرض ما يكرهون، بحار الأنوار: ج 23 ص 19 ح 14
5- سورة الأحزاب: الآية 33.

في كل يوم على باب علي وفاطمة (عليهما السلام) في أوقات الصلوات، ليرفع صوته بتلاوته لهذه الآية، وقد أحصيت عليه تسعة أشهر (1) وهو يكررها دون انقطاع.

إلى عشرات، بل مئات، من أمثال هذه الأحاديث التي ينهى بعضها عن مخالفتهم، ويحذر من عدائهم وبغضهم، ويلزم باتباعهم وأخذ العلم عنهم، « فلا تقدموهم فتهلكوا، ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم (2).

والصور العقلية التي تصورتها في مجالات التفسير ثلاثة، نعرضها لنختار أمثلها وأكثرها اتساقا، مع ما اتفقنا عليه من إثبات العصمة للنبي (صلى اللّه عليه وآله) بالمفهوم الذي حررناه في بداية الحديث.

أولاها: الإجمال في كلامه وعدم إعطائه أية دلالة تشريعية، وهذا ما تأباه صراحة النصوص بلزوم اتباعهم والتمسك بهم، والتعلم منهم وإثبات العصمة لهم، وقد مرت نماذج منها قبل قليل، وهي ليست موضعا لنقاش.

الثانية: أن نسلم الدلالة التشريعية، إلا أننا لا نسلم صدورها عن اللّه عز وجل، بل نعتبرها صادرة عن النبي (صلى اللّه عليه وآله)، لأسباب عاطفية محضة اقتضتها علقته القريبة بهذا النفر من أهل بيته (عليهم السلام).

وهذا النوع من الحمل مما تأباه أدلة العصمة، لأن دخول العاطفة وتحكمها في مجالات التشريع مما يهير فكرة العصمة من أساسها، وأي ذنب أعظم من أن يفتري على اللّه عز وجل ما لم يقله، مجاراة لعواطفه وميوله وحاشاه.

ص: 327


1- بحار الأنوار: ج 25 ص 233 ح 20، و ج 35 ص 207 ح 2
2- مجمع الزوائد: ج 9 ص 164، بحار الأنوار ك ج 66 ص 17 ح 3 و ج 24 ص 465 ح 16.

على أن هذا النوع من الإغراق في العاطفة تجاه نفر معين، مع وجود غيرهم من أهل بيته (عليهم السلام) لو كان له ما يبرره في الواقع النفسي، فليس هناك ما يبرر التعبير عنه - بهذه الأساليب - لمجافاته، لما عرف به النبي (صلى اللّه عليه وآله) من الخلق العظيم، وهل من الخلق أن يجحف في إبراز عاطفته تجاه نفر معين، ليس فيهم ما يميزهم عن سائر أقربائه، وفيهم من هو أكبر منهم، كالعباس مثلا، أليس في هذا النوع من إبراز العاطفة تحد لهم لا مبرر له، وهو لا يصدر من أقل الناس عادة.

الثالثة: أن نسلم دلالتها التشريعية ونعود بها إلى أسبابها المنطقية، وأهمها ما توقروا عليه من العلم والعصمة، وهذه المحاولات التأكيدية كان مبعثها تركيز هذا المعنى في النفوس وترويضها لتقبله...

فإذا امتنع الفرض الأول لصراحة النصوص، وامتنع الثاني لأدلة العصمة في النبي (صلى اللّه عليه وآله) تعين الأخذ بالفرض الثالث والتعبد به.

قال أحدهم: وهل كانت هذه الصفات - أعني العلم والعصمة - واضحة لدى معاصريهم، أي أن واقعهم التأريخي هل ينسجم مع ما يفهم من هذه النصوص.

قلت: هذا أهم سؤال يمكن أن يوجه - يا أخي - لأنه يفتح أمامنا مجال التطوير في الإجابة على أمثال هذا النوع من الاستدلال.

فقد كان نوع الباحثين في الشؤون العقائدية، عندما يريدون أن يتحدثوا أو يستدلوا على أية مسألة من مسائل الفكر التي ترتبط بشؤون العقيدة فإنما يتحدثون عما يجب أن يكون ولا يفكرون فيما هو كائن، وإذا فكروا فيه فإنما يفكرون في إخضاع ما هو كائن لما يجب أن يكون.

ولست أعرف فيهم من حاول تقييم أدلته على أساس من عرضها على

ص: 328

الواقع المحسوس - فيما يكون له واقع محسوس منها، ويلتمسون مدى انسجامها معه، ثم ينطلقون من وراء ما ينتهون إليه إلى الحكم على صحة الدليل وعدمه.

وقد كانت لي محاولة - عندما كنت مدرسا لمادة التأريخ الإسلامي - في كلية الفقه - أن أجعل من وسائل النقد المضموني لبعض الأحاديث عرضها على طبيعة زمنها، ثم بيئتها، ثم الشخص الذي قيلت فيه، فإن انسجمت معها جميعا أمنت بصحتها، إذا لم يكن في أسانيدها ما يوجب التوقف.

وكأنك - يا أخي - تريد أن تشير إلى نفس هذا المقياس في إيمانك بهذه الأحاديث.

ومثل أدلة عصمة أهل البيت (عليهم السلام) آيات وأحاديث إذا كان فيها مجال لتردد ما من قبل بعض من عاصروا ولادتها، حيث أنها افترضت في الأئمة واقعا لم يخضع إذ ذاك لتجربة كاملة، فهي أشبه بالتحدث عن عوالم الغيب، فلا يقتضي أن يظل التردد قائما بعد أن أخذ الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) واقعا تاريخيا عرضهم في مختلف مجالات السلوك والمعرفة، وبوسع الباحث أن يقطع تردده بدراسة سيرهم، والحكم لهم أو عليهم، على ضوء ما ينتهي إليه.

والشئ الذي وددت التنبيه عليه أن التأريخ لم يكن في يوم ما ملكا لهم ولشيعتهم وأتباعهم يسيرونه كيفما يريدون، وإنما كان - كشأنه في أي عصر - ملكا للفئة الحاكمة تسيره كيف ما تريد.

ونحن نعلم أن أهل البيت (عليهم السلام) كانوا يشكلون في جميع أدوار حياتهم جبهة المعارضة للسلطة الزمنية، المعارضة الشريفة التي لا يمكن أن تهادن على منكر تراه، كما لا تبخل في إرسال كلمة معروف في مشورة أو سلوك.

ص: 329

وكانت السلطة تعلم منهم ذلك وتحسب له حسابه وربما حسبت له أكثر من حسابه، فاتخذت له الحيطة الكاملة، وكثيرا ما تستبد بها الأوهام والظنون فتوسع في تخيلاتها إلى أن هذا البيت ما يزال يعد عدته للعمل على الاستيلاء على السلطة والنهوض بالحكم، وهم يعلمون أن الحكم حق من حقوقه المفروضة.

وكان من وسائل الحيطة التي اتخذتها السلطات على اختلافها محاربة شيعتهم وأتباعهم، وضرب نطاق الحصار الاقتصادي عليهم، ومنع وصول الحقوق والأموال إليهم جهد ما يستطيعون، وجعل العيون والرقباء لإحصاء حتى عدد أنفاسهم، وربما توسعوا فحملوا أئمة أهل البيت (عليهم السلام) إلى عواصمهم ليكونوا تحت الرقابة المباشرة، وقد يدخلونهم السجن، ليحولوا بينهم وبين ما يتخيلونه من نشاط وقد أنهت حياة أكثرهم بالاغتيال والقتل.

وبالبداهة إن فكرة العصمة والأعلمية كانتا من أهم الركائز لفكرة التشيع منذ وجد التشيع لأهل البيت (عليهم السلام) وكان أهل البيت أنفسهم يصرحون بذلك، ومن الطبيعي أن يبعث هذا النوع من التصريح الحزم واليقظة في مدوني التأريخ لتسليط الأضواء على كل ما يتصل بحياتهم الخاصة أو العامة، العثور على شئ من التناقضات بين واقعهم، وما يدعون، لتكون أهم وثيقة بيد السلطة للإجهاز بها على جبهة المعارضة والقضاء عليها بسهولة، وما أيسر الاختلاق لو كان هناك مجال لتزيد واختلاق، ولكن التأريخ - وهو ملك أيديكم فعلا وبوسعكم تتبع أحداثه لم يحتفل - فيما قرأت منه - بتسجيل حادثة واحدة على أحد من أئمة أهل البيت «الاثني عشر (عليهم السلام)» تتنافى مع دعوى العصمة أو الأعلمية.

وهناك شئ - وددت التنبيه عليه - وقد سبق أن نبهت عليه في مبحث سنة

ص: 330

أهل البيت (عليهم السلام) من كتاب «الأصول العامة للفقه المقارن» (1) التمست تفسيره الطبيعي فلم أعثر عليه، وعسى أن يعثر سادتي على تفسير طبيعي له - وهو تولي بعض الأئمة منصب الإمامة وهم صغار السن، بل كان بعضهم لا يزيد على العشر سنوات حين توليه لمنصبها الخطير.

ونحن نعلم أن ابن ثمان أو عشر مثلا مهما بالغنا في إعطائه صفة النبوغ والعبقرية، وأحطناه بالبيئة الصالحة والتربية السليمة، فإننا لا نستطيع أن نوفر له صفة الاستيعاب لمختلف مجالات المعرفة، وهي المدعاة لأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، أو صفة العصمة عن ارتكاب كل ما يتنافى مع أحكام الشريعة مهما كانت المغريات، لاستحالة أن يتسع الوقت لذلك، ولقصورنا نحن عن مجالات الاستيعاب.

وقد تولى الإمامان الجواد والهادي (عليهما السلام) الإمامة وهما ابنا ثمان، وكانت المعارضة في عهدهما للحكم على أشدها، حتى اضطرت المأمون أن يظهر التنازل عن الحكم للإمام الرضا (عليه السلام) والد الجواد، حتى إذا أبى عليه ألزمه بقبول ولاية العهد كسبا لعواطف الملايين من شيعته، ثم عمد إليه بعد ذلك فقتله بالسم لئلا ينتهي الحكم إليه.

وكانت أقصر الطرق وأيسرها للقضاء على المعارضة لو كان هناك مجال أن يعمد الحكام إلى هذين الإمامين الصغيرين فيعرضونهما إلى شئ من الامتحان العسير في بعض وسائل المعرفة أو السلوك، ثم يعلنون أمام الرأي العام عن سخف الشيعة التي ما تزال تؤمن بفكرة الإمام المعصوم، وقد ولت عليها أئمة صغارا هم

ص: 331


1- راجع: الأصول العامة للفقه المقارن للسيد محمد تقي الحكيم: ص 181 - 189.

بهذا المستوى من المعرفة (1) أو الانحراف والعياذ باللّه.

ص: 332


1- وقد شهد لهم حتى أعدائهم بأنهم من أهل بيت زقوا العلم زقا ولم يخف عليهم علم من العلوم كما شهد لهم بجدارتهم وأهليتهم لإمامة الناس كل من ناظرهم وحاورهم مستفهما كان أو متعنتا حتى الخلفاء والحكام شهدوا لهم بذلك، فهذا المأمون العباسي بعدما قرب الإمام الجواد (عليه السلام) إليه واختاره على كافة أهل الفضل مع صغر سنه جاء إليه جماعة من العباسيين وقد غاضهم أمر الجواد (عليه السلام) فأنكروا على المأمون فعله وأشاروا عليه بتبعيده وصرف النظر عنه، واحتجوا بأنه صبي لا معرفة له ولا فقه، حتى آل أمرهم إلى امتحانه واختباره، وعمدوا إلى عالمهم يحيى بن أكثم كي يلقي إليه مسألة من فقه الشريعة لا يهتدي إلى جوابها!! ووعدوه بأموال نفيسة في ذلك إن انتصر عليه، فاجتمعوا في مجلس المأمون، وكانوا لا يشكون في انتصار يحيى بن أكثم على الإمام الجواد (عليه السلام) لجهلهم به، فما كان من أمر يحيى في ذلك المجلس أن ألقى إلى الإمام (عليه السلام) سؤالا زاعما أنه ملجمه به قائلا: ما تقول في محرم قتل صيدا؟ فما كان من جواب الإمام له أن ابتداءه قائلا (عليه السلام): قتله في حل أو حرم؟ عالما كان المحرم أو جاهلا؟ قتله عمدا أو خطأ؟ حرا كان المحرم أو عبدا؟ صغيرا كان أم كبيرا؟ فراح يعدد عليه الإمام فروض المسألة، فتحير يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع، وتلجلج حتى عرف أهل المجلس عجزه وانكساره أمام هذا الصبي الذي يزعمون أنه لا معرفة له بالفقه، حتى أخذ يبين لهم ما جهلوه من فروض هذه المسألة ولما انتهى من الجواب طلب منه المأمون العباسي أن يسأل يحيى عن مسألة كما سأله، فأخذ يسأله ويحيى يقول: ذلك إليك جعلت فداك! فإن عرفت جواب ما تسألني عنه وإلا استفدته منك؟ فألقى إليه مسألة لم يهتد ولن يهتد إلى جوابها! فطلب من الإمام أن يبين له ويشرح ما خفي عليهم من مسألته، ولما انتهى الإمام (عليه السلام) من كلامه وكلهم إذن صاغية لمتكلم هو أصغر منهم سنا، التفت إليهم المأمون قائلا لهم: ويحكم! إن أهل هذا البيت خصوا من الخلق بما ترون من الفضل، وإن صغر السن فيهم لا يمنعهم من الكمال، أما علمتم أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو ابن عشر سنين، وقبل منه الإسلام وحكم له به، ولم يدع أحدا في سنه غيره، وبايع الحسن والحسين (عليهما السلام) وهما دون الست سنين، ولم يبايع صبيا غيرهما؟ أولا تعلمون الآن ما اختص اللّه به هؤلاء القوم؟ وأنهم ذرية بعضها من بعض، يجري لآخرهم ما يجري لأولهم؟! فقالوا: صدقت. (راجع: الإحتجاج للطبرسي: ج 2 ص 469 - 476، نور الأبصار للشبلنجي: ص 177 - 178، تذكرة الخواص لسبط بن الجوزي: ص 359، الإرشاد للمفيد: 319 - 323.

وأظن أن القضاء على فكرة التشيع بإعلان فضيحتهم من هذه الطريق أجدى على الحكام من تعريض أنفسهم لحرب قد يكونون هم من ضحاياها.

وهؤلاء الأئمة لو كانوا في زوايا تحجبهم عن أعين النظار، وكان لا يمكن الوصول إليهم إلا من طريق أتباعهم لأمكن أن يبالغوا في إضفاء المناقبية عليهم، كما هو الشأن في بعض أئمة الإسماعيلية والباطنية، فكيف وهم مصرحون بعقائدهم ومبادئهم وسلوكهم أمام الرأي العام، وبمرأى من السلطة ومسمعها، وما لنا نطيل ونحن نعلم أن دعوى استيعاب المعرفة لا يمكن أن يثبت عليها إنسان متعارف مهما كان له من العلم والسن، لأن مجالاتها أوسع من أن يحيط بها عمرنا الطبيعي، والامتحان كفيل بإحباط كل دعوى من هذا القبيل، ومثلها دعوى العصمة بل أشد منها لتحكم كثير من العوامل اللاشعورية - وهي غير منطقية في سلوك الإنسان.

وهاتان الدعويان كانتا شعارا لأهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم منذ عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، ولم نسمع بتسجيل حادثة واحدة تتعارض مع طبيعة ما ادعياه فيهما.

وما أكثر ما حفل التأريخ بتعريض هؤلاء الأئمة كبارا وصغارا لأشق أنواع الامتحان من قبل السلطة وأقطاب مخالفيهم من العلماء، وبخاصة مع الإمام الجواد مستغلين صغر سنه.

وما رأيك بأمثال يحيى بن أكثم - ومن هو من أكابر علماء عصره - عندما

ص: 333

يأمره الخليفة بإعداد أعقد المسائل وأخفاها، ثم يتعرض بها لطفل لا يتجاوز عمره العشر، فهل ينتظر أن يخرج الطفل معافى من هذا الامتحان؟ إقرأ بعض هذه المحاورات في الصواعق المحرقة (1) لابن حجر وغيرها (2)، وانظر تصاغر السائل فيها أمام هذا الطفل الصغير والتماس تفسيرها الطبيعي.

قال أحدهم: أتظن أن هذا غير طبيعي، وعيسى بن مريم (عليه السلام) كان أصغر منه عندما بعث نبيا، والقرآن صريح في ذلك؟!

قلت: يا سيدي وهذا ما تقول به الشيعة، ولكن بعثة عيسى (عليه السلام) وهو بهذه السن هل تملك تفسيرها الطبيعي.

الحقيقة يا سيدي - أن قضايا الدين لا تخضع دائما للمتعارف من المقاييس، فمن آمن بالدين آمن بكل ما يأتي به من شؤون الغيب، وإن خرج على ما لديه من تجارب ومقاييس.

وأخبار العصمة والأعلمية - بعد ثبوتها بالضرورة عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) فإنها تصلح أن تكون من أعظم دلائل النبوة لصدقها في الأخبار عن عوالم الغيب، وبخاصة لأمثالنا من الناس الذين أدركوا صدقها وتحققت لديهم مضامينها، بعد أن أخذ أهل البيت (عليهم السلام) واقعا تاريخيا محسا لدى الجميع، رسمت أمثال هذه الأحاديث أهم خطوطه عندما قالت: « إني تركت فيكم الثقلين ما أن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتى يردا على الحوض » (3).

ص: 334


1- الصواعق المحرقة لابن حجر: ص 206
2- الإحتجاج للطبرسي: ج 2 ص 443 - 444، بحار الأنوار: ج 5 ص 73
3- تقدمت تخريجاته.

ثم قلت - وقد أوشكت الشمس أن تغرب -: لقد أخذت من أوقاتكم كثيرا، وأفسدت عليكم نزهتكم في الإسكندرية لكثرة كلامي، فاسمحوا لي أن نؤجل الحديث في بقية الأدلة على العصمة إلى جلسة أخرى إن أمرتم.

قال أحدهم: بالعكس، لقد كانت هذه الجلسة من أثرى ما مر علينا من جلسات، لما دار فيها من حوار علمي مفيد.

قلت: ولكن لي سؤال أحببت أن أوجهه إلى الأخوين الجزائري والصومالي، هل فيما سمعتم من عقائد إخوانكم ما لا يسر سماعه، أو قل ما يتنافى من مبادئ الإسلام؟

قالوا: كلا، إنما هو من الإسلام وضمن إطاره العام، والخلاف فيه لا يتجاوز الخلاف في كل مسألة اجتهادية تقع ضمن نطاق تعاليمه المقدسة.

قلت: هذا يكفينا فعلا، ولا يضرنا بعد ذلك أن نختلف، ولكم بعد هذا أن تتأملوا في نتائج ما انتهى إليه الحديث وتواجهونا بملاحظاتكم عليه في جلسة أخرى إن رأيتم فيه ما يوجب ذلك.

قال أحدهم: دعنا نتأمل.

وافترقنا ونحن أكثر إلفة واحتراما لبعضنا من ذي قبل (1).

ص: 335


1- ثمرات النجف للسيد محمد تقي الحكيم: ج 3 ص 169 - 190، عن مجلة الأيمان السنة الأولى، عدد 9 و 10، محرم وصفر لعام 1384 ه 1964 م.

المناظرة الخمسون: مناظرة السيد محمد تقي الحكيم مع أكابر علماء المؤتمر الإسلامي في مصر حول عصمة أهل البيت (عليهم السلام) وخلافتهم

مندوب الإيمان.

س - في المواضيع التي ذكرتم أنها أثيرت معكم من قبل العلماء الذين التقيتموهم هناك ما يتعلق بالشيعة والخلافة، وبما أن لهذا الموضوع ارتباطا قويا بما نشر في العدد السابق عن الشيعة والعصمة، فهل ترون أن نثير التحدث فيه لنربط بين حلقات هذه الأحاديث الحساسة.

ج - لا مانع لدي شريطة أن لا نثقل على القراء، كما أثقلنا عليهم في الحديث الماضي.

مندوب الإيمان.

س - بالعكس إن القراء رحبوا بهذه الأحاديث ترحيبا منقطع النظير، ولدينا كتب تشكر المجلة على اهتمامها باستقصاء كل ما دار في الندوات من أحاديث، وهم في أشد الشوق لمواصلة نشرها، وما أكثر ما تلقيت كلمات الحث والمطالبة والتشجيع من قبلهم، والآن هل تتذكرون أين جرى الحديث حول الشيعة والخلافة ومع من من أعلام الفكر هناك؟

ص: 336

ج - جرى هذا الحديث في أكثر من ندوة - وكان له في ندوتي الإسكندرية والقاهرة - وهما اللتان سبق التحدث عنهما في موضوعنا السابق - مجال واسع.

وهناك جملة من الأعلام شاركوا في الحديث عنهما، وبخاصة بعض من شهدوا الندوتين، ونحن نجمع - كما صنعنا في الحديث الماضي - جملة ما دار من أحاديث عنها سواء ما وقع منها في الندوتين المذكورتين، أم غيرهما ملتزمين نفس الخطة التي سلكناها في الحديث الماضي.

س - هل تتذكرون كيف بدأ الحديث عن هذا الموضوع؟!

ج - بدأ الحديث فيما أتذكر في بعض الندوات عندما وجه إلي أحد الأعلام هذا السؤال الهام: إذا كان في الأدلة التي ذكرتموها ما ينهض بإثبات العصمة لأهل البيت (عليهم السلام)، فليس فيها ما يثبت الإمامة بمفهومها العام الذي يتسع لخلافة الرسول (صلى اللّه عليه وآله) وتخطئة من لم يعطهم هذا الحق، وأي محذور في أن نؤمن بالفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، فنعطي حق التشريع للأئمة المعصومين (عليهم السلام) مثلا، وحق التنفيذ لغيرهم، ممن تختارهم الأمة لإدارة شؤونها العامة.

س - وماذا كان جوابكم على هذا السؤال؟

ج - قلت للسائل: إن سؤالك هذا مما يثير أمامنا عدة تساؤلات، أظن أننا إذا قدر لنا أن نوفق للإجابة عليها فستتضح وجهة نظر الشيعة في هذه المسألة، وربما تجمعت هذه الأسئلة حول سؤالين رئيسين:

يتعلق أولهما في طبيعة الحكم في الإسلام، وهل فيها ما يسيغ الفصل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية؟ وعلى تقدير الفصل في هذه المسألة فهل هناك ما يلزم بإضفاء صفة العصمة على رأس الحكم، وما هي الأسباب الداعية إلى ذلك؟ وهذه الأسئلة كما ترون إنما تتعلق فيما يجب أن تكون عليه طبيعة الحكم

ص: 337

من وجهة عقلية في التشريعات الإسلامية.

وثانيهما: يتعلق في طبيعة ما هو كائن وهو التساؤل عن واقع ما صدر عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) وهل كان منسجما مع ما ننتهي إليه في الإجابة على الأسئلة السابقة؟ ولماذا لم يتقبله كثير من المسلمين إذ ذاك؟

أما الجواب على السؤال الأول: فإن الذي أعتقده أن طبيعة الحكم في الإسلام تختلف جذريا عما عليه طبيعة الحكم في الأنظمة الأخرى غير السماوية.

فإذا أمكن فصل السلطتين عن بعضهما في الأنظمة الحديثة وبخاصة الديمقراطية منها، فإن ذلك غير ممكن بالنسبة إلى الإسلام، بل إذا أمكن تصوره في الإسلام نفسه - بعد استكمال تشريعاته وتدوينها - فإن ذلك لا يمكن تصوره بالنسبة إليه في الفترة التي نؤرخ لها، وهي أشبه بما يسمى في عرف الثورات الحديثة بفترات الانتقال.

قال أحدهم: وكيف؟

قلت: هذا واضح، لأن الإسلام لا يعترف بوجود شخصية فردية أو جماعية لها حق التشريع في مقابل ما تأتي به السماء من أنظمة وقوانين لاستئثار السماء في ذلك كله، وحضرها ذلك على البشر جمعاء (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) (1).

وإذا عرفنا أن اللّه جعل لكل حادثة حكما ولم يغفل في تشريعاته شيئا مما يحتاج إلى حكم من أفعال العباد إلا وشرع له حكمه الخاص، كما هو فحوى ما

ص: 338


1- سورة الأحزاب: الآية 36.

ورد في ذلك من حديث، اتضح لنا انعدام السلطة التشريعية في الدستور الإسلامي وحصرها في اللّه عز وجل، والاقتصار على السلطة التنفيذية لتلكم الأنظمة والقوانين السماوية فيمن يدرك هذه الأنظمة ويعرفها معرفة تامة من رسول وغيره.

وهذا بخلاف الدساتير الوضعية، لإمكان فصلهما فيها، وذلك بإعطاء حق التشريع، مثلا للبرلمانات أو مجالس الثورة، وحق التنفيذ لمجلس الوزراء، وعلى أن رأس الحكم فيها لا بد وأن يستقطب السلطتين معا، برجوعهما إليه لتوقف تحقيقهما على مصادقته وإقراره.

وهنا أود أن أسأل: ألا تعتقدون معي أن وظيفة رأس الدولة هي حماية الدستور وما يتفرع عليه، من أنظمة دولته وقوانينها الخاصة، والعمل على سلامة تطبيقها على جميع المواطنين؟

قال أحدهم: طبعا.

قلت: ألا ترون أن طبيعة الحماية تستدعي إحاطة الحامي بواقع ما يحميه، والتوفر على معرفة كل ما يتصل به، وإلا لما أمكن تصور معنى للحماية بدون ذلك، إذ لا معنى لحماية المجهول من التجاوز عليه، وهو غير محدد له، فحامي الدستور مثلا كيف يمكن له حمايته ككل إذا كان يجهله كلا أو بعضا، وما يدريه تجاوز بعضهم على بعض، ما يجهل منه ما دام مجهولا لديه.

قال: بالطبع.

قلت: فحامي الإسلام إذن يجب أن يكون محيطا بكل ما يتصل بأنظمته وقوانينه.

قال: وما يمنع أن يكون ذلك متوفرا في غير أئمة أهل البيت (عليهم السلام)؟

ص: 339

قلت: إن الذي يمنع عنه هو ما سبق التحدث فيه مفصلا في المحاورة السابقة، حيث تساءلنا - ونحن نتحدث عن عصمة أهل البيت (عليهم السلام) - عن مصادر المعرفة لحقائق الإسلام في عصر الصحابة، وانتهينا إلى أنهما الكتاب والسنة، وقلنا: إن الكتاب - وإن دون على عهد الرسول (صلى اللّه عليه وآله) وحفظ - إلا أنه لم يحط بجميع خصائص التشريع، ومن هنا احتجنا إلى السنة لبيان ما أجمل فيه، والتعرض لمختلف القيود والشرائط والموانع المعتبرة في أحكامه، مما لم يتعرض لها بشئ من التفصيل ثم التعرف على الأحكام التي لم يذكرها الكتاب العزيز.

وقلنا: إن السنة لم تدون على عهده ولم يلزم هو بتدوينها وتنسيقها بضم القيود إلى مطلقاتها والمخصصات إلى عموماتها، فالإحاطة بها وبكل ما يتصل في شؤونها تكاد تكون ممتنعة لدى غير أهل البيت (عليهم السلام) حيث أودعها (صلى اللّه عليه وآله) لديهم وألزم بالرجوع إليهم بأمثال أحاديث الباب والثقلين كما سبقت الإشارة إليه.

على أني لا أعرف أحدا من الصحابة قد ادعى لنفسه المعرفة المستوعبة سواء منهم الخلفاء أم غيرهم، بل رأيت فيهم من يحتاج إلى أن يدل على معنى آية في كتاب اللّه، ومن يجمع الصحابة لاستشارتهم في حكم من الأحكام يجهل واقعه، وما أكثر ما أرسل الخليفة عمر قولته المشهورة لا أبقاني اللّه لمعضلة ليس لها أبو الحسن. (1)

قال أحدهم: ألا ترى أن هذا منتهى الحرص والمحافظة على أحكام الشريعة من قبل هؤلاء الخلفاء، وإلا لما كانت أية ضرورة للاستفسار من قبل الإمام والصحابة عما يجهلون من أحكام.

ص: 340


1- ذخائر العقبى للطبري: ص 82، كتاب فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل: ج 2 ص 647 ح 1100، بحار الأنوار: ج 40 ص 149 ح 54 و ص 226 ح 6.

قلت: إن الذي يبدو لي أننا نسينا مواقع النقض من كلامنا، فالفحص والحرص على تطبيق ما يعلم من الأحكام بعد العثور عليها لا ينافيان الجهل أحيانا، وقد قلنا إن حماية المجهول لا يمكن تصورها مطلقا.

والسؤال في بعض الأحيان عما يجهل من الأحكام لا يعني السؤال في جميع الأحيان، ولا استيعاب كل ما يتصل بأحكام الشريعة، وكيف ندفع احتمال السهو والغفلة، وحمل الصحة لتصرفات الآخرين، مما يوجب عدم الفحص عنها.

ومن أراد من السادة الأعلام أن يتتبع ما صدر عن الخلفاء من الأحكام التي لا تلتقي مع النصوص - كتابا وسنة - فليرجع إلى أمثال كتاب الحجة شرف الدين (النص والاجتهاد) و (الغدير) للحجة الأميني ليعرف مدى ما استدرك عليهم المعاصرون لهم من الصحابة وغيرهم في ذلك كله.

قال أحدهم: إن ما ذكرتموه لا يفرض أكثر من ضرورة توفر صفة العلم في الحماة، لا العصمة كما افترضتموها لهم.

قلت: هذا صحيح، لو كان عنصر الحماية لا يحتاج إلى أكثر من العلم، أما إذا ضممنا إليه - لضمان وجودها واستمرارها - ضرورة تمثل المسؤول لواقعها تمثلا نفسيا يأبى عليه التنكر لها مهما كانت البواعث له، احتجنا إلى العصمة.

قال أحدهم: وماذا يعني هذا الكلام؟

قلت: إن الذي أعنيه أن لا يختلف الشخص - الذي يقوم بدور الحماية - في واقعه النفسي عنه في واقعه العقلي، أي أن لا يحمل في أعماقه من الرواسب ما يتنافى مع طبيعة الرسالة التي آمن بها عقليا، لئلا تستأثر بعض الرواسب في توجيهه الوجهة المعاكسة في حالات غفلة الرقيب، أو تخديره بغضب أو غيره.

وأنتم ولا شك تعلمون أن الإسلام جاء بثورة مستوعبة لمختلف أبعاد

ص: 341

الإنسان، وقد شنها حربا لا هوادة فيها على جملة ما كان سائدا في عصره من مفارقات، وإن الكثير ممن عاشوا تلكم المفارقات هم الذين اعتنقوا الإسلام وناضلوا ودافعوا عنه، وأكثرهم كانوا قد اعتنقوه ببواعث عقلية لا تمت إلى الواقع النفسي بصلة.

ولكن الرسالة - أية رسالة - لا يمكن أن تأتي من بداية ثورتها على جذور ما قامت عليه من مفارقات، وبخاصة ما ترسب منها في أعماق الإنسان، بل هي تحتاج إلى أن تمر بأجيال يتخفف كل جيل لاحق من رواسب جيله السابق، بعد تعويضه بماجد من قيم ومفاهيم نتيجة لقيام الثورة الرسالية الجديدة، ووظيفة الرسالة في بداية أمرها كبت تلكم الرواسب المعاكسة بإعطاء طاقة جديدة للضمير، أو الأنا ليمنع من تسربها إلى الشعور، والاستئثار بكل مجالات السلوك، وإلا فإن استئصالها لا يمكن أن يتم بعد أن أخذت مكانها بين عوالم اللا شعور.

ومن هنا كنا نرى بروز الكثير من الرواسب إذا تخدر الضمير، أو وقف تأثيره بفعل من بعض العوامل النفسية كالغضب مثلا، وهنا ذكرت مضمون كلام لأحمد أمين يحسن أن نرجع إلى نصه في فجر الإسلام.

مندوب الإيمان - ثم تناول السيد كتاب فجر الإسلام من أحد رفوف المكتبة واستخرج منه ص 97 وقرأ فيها ما يلي «وبعد فإلى أي حد تأثر العرب بالإسلام، وهل أمحت تعاليم الجاهلية ونزعات الجاهلية بمجرد دخولهم في الإسلام، ألحق أن ليس كذلك، وتاريخ الأديان والآراء يأبى ذلك كل الإباء».

«فالنزاع بين القديم والجديد والدين الموروث والحديث يستمر طويلا، ويحل الجديد محل القديم تدريجا، وقل أن يتلاشى بتاتا».

« وهذا ما كان بين الجاهلية والإسلام فقد كانت النزعات الجاهلية تظهر

ص: 342

من حين إلى حين، وتحارب نزعات الإسلام، وظل الشأن كذلك أمدا بعيدا ولنقص طرفا من مظاهر هذا النزاع ».

«جاء الإسلام يدعو إلى محو التعصب للقبيلة والتعصب للجنس، ويدعو إلى أن الناس جميعا سواء (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (1) وفي الحديث» المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم «(2)، وخطب النبي (صلى اللّه عليه وآله) في خطبة الوداع» يا أيها الناس إن اللّه تعالى أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وفخرها بالآباء، كلكم لآدم وآدم من تراب، ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى (3)، وروى مسلم أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) قال: «من قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبية، أو يدعو إلى عصبية، أو ينصر عصبية، فقتل قتل قتلة جاهلية» (4) وآخى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بين المهاجرين والأنصار بعد ما كان بين المكيين والمدنيين من عداء ».

« ومع كل هذه التعاليم لم تمت نزعة العصبية، وكانت تظهر بقوة إذا بدا ما يهيجها، أنظر إلى ما روي في غزوة بني المصطلق أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) خرج في جماعة من المهاجرين والأنصار فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فكان بينهما قتال إلى أن صرخ يا معشر الأنصار، وصرخ المهاجر يا معشر المهاجرين، فبلغ ذلك النبي (صلى اللّه عليه وآله) فقال: ما لكم ولدعوة الجاهلية، فقالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): دعوها فإنها منتنة، فقال عبد اللّه بن أبي ابن سلول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها

ص: 343


1- سورة الحجرات: الآية 13
2- بحار الأنوار: ج 2 ص 148 ح 22 و ج 21 ص 138 ح 33
3- بحار الأنوار: ج 21 ص 137 ح 31 و ح 67 ص 278، و ج 73 ص 348 ح 13
4- صحيح مسلم: ج 3 ص 1478 ح 1850، مسند أحمد بن حنبل: ج 2 ص 296، فتح الباري لابن حجر: ج 13 ص 34، سلسلة الأحاديث الصحيحة: ج 2 ص 715 ح 983.

الأذل «(1).» أفلست ترى أن نزاعا تافها، لسبب تافه هيج النفوس ودعاهم إلى النزعة الجاهلية وتذكر العصبية المكية والمدينة ».

ومن يتصفح التأريخ يجد المئات من الشواهد أمثال ما ذكره الدكتور أحمد أمين، ولعل أهم نقاط الضعف التي أجهز بها الخليفة أبو بكر على الأنصار في سقيفة بني ساعدة هو إثارة هذه النزعة في أعماقهم، عندما ذكرهم بالقتلى والجراح التي لا تداوى ما بينهم في الجاهلية، وكان قد خدرها الإسلام عندما ألف بين قلوبهم، ولقد ذكرت هنا مضمون حديث رواه الجاحظ يحسن أن نعود إلى نصه ففيه أعظم الدلالة على صدق ما ذكره الدكتور أحمد أمين.

وهنا تناول السيد كتاب البيان والتبيين واستخرج ص 181 من جزئه الثالث وقرأ فيها عيسى بن نذير قال: قال أبو بكر: نحن أهل اللّه، وأقرب الناس بيتا من بيت اللّه: وأمسهم رحما برسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) إن هذا الأمر إن تطاولت إليه الخزرج لم تقصر عنه الأوس، وإن تطاولت إليه الأوس لم تقصر عند الخزرج، وقد كان بين الحيين قتلى لا تنسى، وجراح لا تداوى، فإن نعق منكم ناعق فقد جلس بين لحيي أسد يضغمه المهاجري ويجرحه الأنصاري ».

قال ابن دأب فرماهم واللّه بالمسكتة. (2)

وكان من نتائج تأثير هذه الخطبة التي دللت على مدى ما يملكه الخليفة من خبرة بالواقع النفسي أن حولت ذلك الواقع الذي أبعده الإسلام إلى أعماق

ص: 344


1- بحار الأنوار: ج 17 ص 184
2- البيان والتبيين للجاحظ: ج 3 ص 528 ط سنة 1968 م نشر الشركة اللبنانية للكتاب، بيروت .

اللا شعور، بفضل تأليفه بينهم إلى واقع شعوري متجسد يعمل عمله في الفرقة بينهم، وهكذا أجهز عليهم من أقرب نقطة ضعف، وحملهم على التسابق إلى بيعته خشية أن يستأثر بالخلافة أحد الفريقين، وكان أسرع الفريقين إليها أبناء الأوس لأن المرشح الوحيد للأنصار إذ ذاك كان سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج كما تعلمون.

فإذا صح هذا من وجهة نفسية عدنا إلى ما سبق أن قلناه من أن عنصر الحماية الذي يجب توفره في رأس الدولة يستدعي أن لا يحمل رأس الدولة في أعماقه أية رأسية على خلاف المفاهيم الثورية الحديثة، وإلا لكانت الرسالة هي أو بعض مفاهيمها عرضة للتصدع متى استأثر الباعث اللاشعوري في توجيه صاحبه الوجهة المعاكسة.

وضمان هذه الناحية موقوف على أن يتولى دور الحماية شخص لا يملك أية راسبة في أعماقه على خلاف هذه المفاهيم الثورية، بالإضافة إلى إيمانه العقلي بكل ما صدعت به من أفكار وأحكام.

قال أحدهم: وكيف يتهيأ مثل ذلك الشخص ليقوم بهذا الدور، وهل في المسلمين إذ ذاك شخص لم يعش فترة من حياته في الجاهلية ليتولى دور الحماية كما تريدون.

قلت: يا سيدي - إذا كانت الفكرة سليمة فإن على الإسلام أن يهئ مثل ذلك الشخص إذا كان يريد لنفسه ضمان التطبيق السليم، وأنتم تعلمون أن قيمة الرسالة لا تبرز بمجرد التشريع، وما قيمة تشريع لا يضمن له تطبيق سليم يتمشى مع الأهداف الأساسية التي تبرر وجوده، وتقديم آلاف الضحايا في سبيل تركيز ذلك الوجود.

ص: 345

قال أحدهم: إن هذا صحيح جدا ولكن على الصعيد النظري فحسب، لما فيه من طوبائية تتجافى مع الواقع العملي لنوع الناس.

قلت: قد يكون ذلك كما تقولون لو كانت الرسالة غير سماوية، وكانت المخططات لها من صنع بشر عادي يكون معرضا للخضوع للعوامل الذاتية في تصرفاته ولا أقل من خطئه واشتباهه.

أما وأن الرسالة سماوية ومخططها هو اللّه عز وجل فليس هناك ما يمنع من وضع مخطط لتهيئة مثل أولئك الأشخاص وإيداع ذلك إلى النبي لتنشئتهم وفق ذلك المخطط.

على أن دعوى الطوبائية لا أفهم لها دلالة في أمثال هذه المواضع مع إدراكنا لدور التربية السليمة في بناء الأشخاص وفق المفاهيم التي يراد لها التطبيق، ونحن نعرف أن الشخص الذي يربى على أسس معينة لمفاهيم وقيم خاصة، إذا أبعد عن كل ما يتجافى مع تلكم المفاهيم منذ صغره يكاد يستحيل عليه أن يصدر في تصرفاته عما يخالفها، وأمامنا في واقعنا المعاش كثير من القيم الحضارية السائدة في بعض البلدان المتحضرة كالدول الأسكندنافية مثلا لا يمكن لأهلها أن يخرجوا عليها، وبعض هذه القيم انتزعت من واقع مفاهيمنا الإسلامية كالصدق والأمانة وغيرهما.

على أن الذي يكفينا الآن - ونحن نتحدث عما يجب أن يكون - هو اعترافنا بصحة هذه الفكرة على الصعيد النظري لننتقل بعد ذلك إلى دراسة ما هو كائن ثم نرى مدى انسجامه مع هذا الواقع الذي انتهينا إليه.

وأول ما يلفت نظرنا ونحن نستعرض هذا الجانب أن نرى في بعض تصرفات النبي (صلى اللّه عليه وآله) ما يبحث عن تفسير ما دامت تصرفاته - بحكم رسالته -

ص: 346

تصرفات كلها هادفة.

وأول ما يبحث عن التفسير احتضانه للإمام علي (عليه السلام) من بداية حياته والإشراف على تربيته بنفسه وهو صبي، ثم وضع مخطط لإبعاده عن جميع الأجواء المعاشة إذ ذاك لأمثاله من صبيان قريش، يقول الإمام علي (عليه السلام) وهو يتحدث في نهجه الخالد عن لون تربيته في هذه الفترة: «وضعني في حجره - يعني رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) - وأنا ولد، يضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده، ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشئ ثم يلقمنيه، ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة حراء (1)، فأراه ولا يراه غيري» (2).

وهذه الخطوط التي رسمها الإمام لأسلوب تربيته على يد النبي (صلى اللّه عليه وآله) ليست طبيعية لو لم يكن الهدف منها أسمى من وجهها البارز، فهي تريد له الإبعاد عن جميع الأجواء التي كانت سائدة إذ ذاك، مع بنائه على لون من السلوك يختلف عنها في جملة ما له من خطوط، فهو (صلى اللّه عليه وآله) يرفع في كل يوم من أخلاقه علما ويأمره بالاقتداء به، ولا يكتفي بذلك دون أن يصحبه حتى لمواقع تحنثه وعبادته في غار

ص: 347


1- حراء: جبل من جبال مكة، على ثلاثة أميال، كان يأنس به رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ويعتزل للعبادة فيه، وكان يغدو إليه كل يوم يصعده وينظر من قلله إلى آثار رحمة اللّه وبدايع حكمته، إن أن نزل عليه جبرئيل (عليه السلام) وقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) ، وجاء في كتاب (الأنوار) للشيخ البكري في ذكر مقدمات تزويج رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بخديجة (عليه السلام): سار إليه العباس في جبل حراء فإذا هو فيه نائما في مرقد إبراهيم الخليل (عليه السلام) ملتفا ببردة وعند رأسه ثعبان عظيم في قمه طاقة ريحان يروحه بها. راجع: سفينة البحار للقمي: ج 1 ص 246 - 247، مراصد الاطلاع: ج 1 ص 388، بحار الأنوار: ج 16 ص 26
2- نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح: ص 299 - 300 رقم الخطبة: 192، بحار الأنوار: ج 14 ص 475 ح 37 و ج 38 ص 320.

حراء، فليس غريبا بعد ذلك أن لا يكون لهذا الصبي من الرواسب الجاهلية ما يتجافى مع الأسس الجديدة التي رسمها النبي (صلى اللّه عليه وآله) للسلوك، وأكد منها الإسلام بعد ذلك في جملة ما جاء به من تشريعات.

ومن هنا كان من الطبيعي جدا أن يكون هذا الصبي أسرع الناس إلى الإيمان بالرسالة التي أرسل بها صاحبه لملاءمتها لواقعه النفسي، ولقد تظافرت جملة من الروايات على تسجيل هذا الواقع ومنها ما أثر عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) أنه قال: «لقد صلت الملائكة علي وعلى علي سبع سنين وذلك أنه لم يصل معي غيره» (1) ومن مأثور ما نقل عن الإمام نفسه قوله في إحدى خطبه: «اللّهم لا أعرف أن عبدا لك من هذه الأمة عبدك قبلي غير نبيك ثلاث مرات، لقد صليت قبل أن يصلي الناس سبعا» (2) ثم شده النبي (صلى اللّه عليه وآله) إلى هذه الرسالة شدا، ومكنها من نفسه عقيدة، يفنى من أجلها ويعيش.

وفناؤه في الدفاع عنها وعن صاحبها وهو في مكة أشهر من أن يتحدث عنه.

والعقيدة متى تمكنت من أعماق صاحبها ولم يكن لها في نفسه ما يزاحمها من الرواسب المعاكسة استحال عليه عادة الخروج على تعاليمها، أو التخلف عما تدعو إليه وتتطلبه من تضحيات، وهو معنى العصمة الذي نريده ونذهب إليه.

ونجاح هذا الجانب من الإعداد على يد النبي (صلى اللّه عليه وآله) هو الذي أوجب أن يؤهله (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) (1) للخلافة من عبده ويعد النفوس لتقبل ذلك

ص: 348


1- بحار الأنوار: ج 22 ص 302 و ج 38 ص 226 ح 31
2- بحار الأنوار: ج 38 ص 241 ح 40.

مبكرا، وأول نص وصل إلينا في هذا الشأن ما روي على لسان غير واحد من المؤرخين قوله (صلى اللّه عليه وآله) لعشيرته الأقربين وقد أمر بإنذارهم، وقد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني اللّه أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على أمري هذا قال علي (عليه السلام): فقلت: أنا يا نبي اللّه أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي فقال: إن هذا أخي ووصي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا «يقول الراوي» فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع وتطيع لعلي « (1).

ثم توالت بعد ذلك التصريحات منه (صلى اللّه عليه وآله): «لكل نبي وصي ووارث، وإن وصيي ووارثي علي بن أبي طالب» (2) وقوله لعلي «ما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» (3) إلى عشرات أمثالها بالإضافة إلى نوع من التصريحات يتخذ طابع الملاشاة لجميع الفوارق بينه وبين الإمام، إلا ما يتصل بالنبوة فهو نفسه في آية المباهلة، وهو الذي يؤدي عنه، لأنه منه كما في حديث براءة، وحديث «إن عليا مني وأنا من علي، وهو ولي كل مؤمن بعدي، لا يؤدي عني إلا أنا أو علي» (4).

والنص الذي اتخذ طابع البلاغ العام هو نص الغدير، وكان بعد عودته من

ص: 349


1- تاريخ الأمم والملوك للطبري: ج 2 ص 321، بحار الأنوار: ج 18 ص 178 ح 7 و ج 38 ص 224 ح 24
2- مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) لابن المغازلي: ص 201 ح 238، بحار الأنوار: ج 38 ص 147 ح 115، و ص 154 ح 127
3- تقدمت تخريجاته
4- مناقب علي بن أبي طالب (عليه السلام) لابن المغازلي: ص 221 - 230 ح 267 - 276، تاريخ الأمم والملوك للطبري: ج 11 ص 570، بحار الأنوار: ج 38 ص 149 ح 118، و ص 325 ح 37.

حجة الوداع وقد صوره ابن عباس ورسم أجواءه بقوله «لما أمر اللّه رسوله أن يقوم بعلي فيقول له ما قال» فقال: يا ربي إن قومي حديثو عهد بجاهلية، ثم مضى بحجه فلما أقبل راجعا ونزل بغدير خم أنزل عليه (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ...) (1) الآية فأخذ بعضد علي فقال: أيها الناس ألست أولى بكم من أنفسكم، قالوا: بلى يا رسول اللّه قال: اللّهم من كنت مولاه، فعلي مولاه، اللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأعن من أعانه، واخذل من خذله، وانصر من نصره، وأحب من أحبه، وأبغض من أبغضه » (2).

ومن هنا يتضح أن اختيار النبي (صلى اللّه عليه وآله) لعلي ما كان وليد الصدفة، وإنما كان وليد إعداد وتهيئة ذات جذور عميقة، تقتضيها طبيعة الحماية للمبادئ الثورية التي أنزلت من السماء لهدم أمة وبنائها من جديد، وعلي هو الوحيد الذي كان إذ ذاك لا يحمل في رواسبه مخلفات الجاهلية بفضل احتضان النبي (صلى اللّه عليه وآله) له من صغره، وإبعاده عن جميع أجوائها المعاكسة، بما هيأ له من وسائل التربية السليمة.

فالفكرة إذن سليمة وليس فيها شئ من الطوبائية كما نتخيل، ويصدقها واقع الإمام علي (عليه السلام) وسلوكه المنسجم معها داخل الحكم وخارجه، كما يصدقها واقع خلفائه من أهل البيت الذين أعد لهم الإمام نفس الأسلوب الذي اتخذه النبي (صلى اللّه عليه وآله) في تربيته الخاصة، وقد سبق في أحاديثنا عن العصمة والتماسها في واقعهم التأريخي ما يلقي الأضواء على ذلك.

قال أحدهم: إن الذي يقف دون تقبل هذه الفكرة وما اعتضدت به من

ص: 350


1- سورة المائدة: الآية 67
2- بحار الأنوار: ج 23 ص 103 ح 11، و ج 37 ص 115 ح 6، وقد تقدم المزيد من تخريجات حديث الغدير المتواتر.

نصوص هو موقف الصحابة منها ومن نظائرها، أتراهم لم يدركوا هذا الواقع الذي تقوله الشيعة أم أدركوه ولم يتقيدوا بالأخذ بمدلوله مع شدة علاقتهم به (صلى اللّه عليه وآله) وحرصهم على الأخذ بتعاليمه أليس في هذا الكلام شئ من الطعن في الصحابة.

قلت: إذا سمحت لي يا سيدي أن أتحدث بشئ من الصراحة سألتك عن رأيك في الصحابة، وهل إنكم تنسبونهم إلى العصمة كما يعتقد الشيعة في أئمتهم.

قال: لا، إنهم ليسوا بمعصومين ولكنهم لا يتعمدون المعصية لأنهم عدول، والمسألة هنا لا تحتمل الخطأ مع هذه النصوص.

قلت: ورأيك هذا هل ينطبق على الجميع أم أنهم يختلفون من حيث المستوى الإيماني باختلاف مدة الصحبة، وشدة الارتباط بالمفاهيم الجديدة وعدمه.

قال: ماذا تقصد بهذا الكلام؟

قلت: أقصد التساؤل عما إذا كان اعتقادكم قائما على التساوي بين من دخل الإسلام من بداية البعثة واعتنق مبادئه ودافع عنها، وبين من أسلم عام الفتح مثلا.

قال: أما من حيث عدم تعمد المعصية فنعم، وأما من حيث التفاوت في المنازل القريبة فلا.

قلت: إذن تعتقدون أن الصحبة ولو كانت لفترة يسيرة كافية لإحداث ملكة العدالة في نفوس أصحابها.

قال: نعم.

قلت: ولكن النصوص صريحة في خلاف ذلك، فإن كثيرا من آيات الكتاب العزيز نسبت النفاق إلى بعضهم أمثال قوله تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ

ص: 351

مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) (1) وقوله عز اسمه: (وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا، وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا) (2) إلى أمثالها من الآيات.

فهل كان هؤلاء من الصحابة أو من غيرهم، وأين ذهبوا بعد وفاته (صلى اللّه عليه وآله) وهل عينهم التاريخ بأسمائهم لنخرجهم من قائمة الحساب! على أن التاريخ حافل بتجاوز بعض الصحابة على البعض، ونيل بعضهم من البعض، فهل كان هؤلاء كلهم على حق.

قال أحدهم: ما بال الشيعة لا يتركون الطعن في الصحابة، والتجاوز عليهم أحيانا.

قلت: يا أخي لا تقل هكذا، فنحن لسنا في موضع استفزاز أو إثارة عواطف، وليست المسألة مسألة شيعة وسنة، وإنما هي مسألة واقع تترتب عليه ممرات في مجالات العمل والسلوك.

إن عيب الشيعة يا سيدي أنهم لا يستطيعون أن يجمعوا الصيف والشتاء على سطح واحد، فالصحابة لديهم مختلفون في المستوى، وفي أعمال بعضهم ما لا يعرفون له وجها، وهم وإن وجدوا في الصحبة فضلا لأصحابها لا يعادله فضل، إلا أنه الفضل الذي لا يعفي صاحبه من المسؤولية.

ولكن ما رأيك لو قال لك أحد الشيعة - ولو على طريق الاستفزاز أو الدعابة -: إن أول من فتح باب الطعن في الصحابة هم السنة لا الشيعة، فماذا

ص: 352


1- سورة التوبة: الآية 101
2- سورة الأحزاب: الآية 10 - 12.

يكون جوابك على هذا الأمر؟

قال: وكيف.

قلت: أسألك: هل هناك أعظم من رمي المسلم بالارتداد؟

قال: لا.

قلت: إن البخاري - وهو من أقدم من ألفوا في الحديث - عقد بابا في صحيحه لأخبار الحوض، حشده بالكثير من الروايات التي تنسب إليهم أو إلى بعضهم الارتداد اقرأها مفصلة في هذا الباب. (1)

قال: إنا لا نمنع وجود مرتدين أمثال من حاربهم أبو بكر لردتهم.

قلت: ولكن بعض هذه الروايات لا تستثني منهم إلا مثل همل النعم، كناية عن القلة وتنسب الارتداد إلى الأكثر، ثم ذكرت مضمون رواية لأبي هريرة ويحسن أن نعود إلى نصها.

مندوب الإيمان: وهنا أخرج الجزء الثامن من البخاري وقرأ فيه « حدثني إبراهيم بن المنذر حدثنا محمد بن فليح حدثنا أبي قال: حدثني هلال عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) قال: بينا أنا قائم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم فقلت: أين قال: إلى النار واللّه قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم قلت: أين قال: إلى النار واللّه، قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم » (2).

ص: 353


1- صحيح البخاري: ج 8 ص 148 - 152 (ب الحوض)
2- صحيح البخاري: ج 8 ص 150 - 151 (ب الحوض)

إن الذي يبدو لي يا سيدي أن أسلافنا كانوا أوسع أفقا منا وأقرب إلى الموضوعية عندما حشدوا كل ما عثروا عليه من الأحاديث التي اطمأنوا إلى صدورها وتركوا للباحثين أمر تمحيصها، ولم يجعلوا رواسبهم مقياسا لما يروون وما يتركون، وكان محدثوا الشيعة والسنة سواء من هذه الناحية، فليس من الإنصاف أن نحمل الجميع مسؤولية رأي لم يصرحوا جميعا بتبنيه، وحجتنا في ذلك مجرد العثور على رواية في كتاب للسنة أو الشيعة تتعلق في الصحابة أو غيرهم ويستشم منها الطعن مثلا.

قال أحدهم: وقد وجه بنظرة عتاب إلى المعترض - لقد أبعدتنا عن صميم الموضوع، فالسؤال الذي سبق أن أثرناه حول موقف الصحابة من هذه النصوص ما يزال قائما، أترى أن الصحابة وفيهم مثل أبي بكر وعمر لم يدركوا هذا الواقع الذي أدركه الشيعة، وفهموه من هذه النصوص أم أدركوه وانحرفوا عنه جميعا.

قلت: إن الذي أدعيه - يا سيدي - إن الصحابة جميعا فهموه - كنص - بالمستوى الذي فهمه الشيعة، إلا أن موقفهم منه كان مختلفا جدا، وهم ينقسمون في هذا الأمر إلى أقسام ثلاثة، وليس في أحد هذه المواقف تشكيك بالنص.

القسم الأول: وهو الذي يشكل الأكثرية وقوامه مسلمة الفتح من قريش وبعض المنافقين الذين أشارت إليهم الآيات السالفة، كان للرواسب التي عرضها الدكتور أحمد أمين في حديثه السابق موقع كبير من نفوسهم، ومثل هؤلاء لا يسهل عليهم تقبل خلافة الإمام علي (عليه السلام) بالذات، لأمور عدة أهمها اعتقادهم أن الخلافة إذا دخلت هذا البيت فلن تخرج منه بعد ذلك، وفي هذا ما فيه من قتل لطموح من يرى لنفسه أهلية الحكم، وبخاصة من زعماء القبائل الذين كانوا ينفسون على هذا البيت مكانته الجديدة التي ارتفع رصيدها بالإسلام، والنزعة

ص: 354

القبيلية ما تزال متحكمة في أعماق الأكثر، وقد رأيتم فيما سبق أن حادثة بسيطة كادت أن تثير حربا بين المهاجرين والأنصار بباعث من هذه النزعة، ومن هنا انطلق شعار «وسعوها في قريش تتسع» (1) وقد عكست هذا الواقع محاورة للخليفة عمر مع عبد اللّه بن عباس يذكرها ابن الأثير في جزئه الثاني، ويحسن أن نقف على ما يتصل منها بطبيعة موضوعنا.

يقول ابن عباس - من حديث فقال يعني عمر: « يا ابن عباس أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمد (صلى اللّه عليه وآله): فكرهت أن أجيبه، فقلت: إن لم أدر فأمير المؤمنين يدريني.

فقال: عمر كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتبجحوا على قومكم بجحا بجحا، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت.

فقلت له: يا أمير المؤمنين، إن تأذن لي بالكلام، وتمط عني الغضب تكلمت؟

قال: تكلم.

قلت: أما قولك يا أمير المؤمنين: اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت، فلو أن قريشا اختارت لأنفسها حين اختار اللّه لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود.

وأما قولك: إنهم أبوا أن تكون لنا النبوة والخلافة، فإن اللّه عز وجل وصف قوما بالكراهة فقال (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) (2) . (3)

ص: 355


1- راجع: السقيفة وفدك، لأبي بكر البغدادي: ص 68، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 6 ص 43.
2- سورة محمد: الآية 9.
3- راجع: الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج3 ص 63 - 64، تاريخ الأمم والملوك للطبري: ج4 ص 223، مناظرات في الإمامة للمؤلف: ص 71 - 74 المناظرة السادسة.

فهذه المحاورة - ولها نظائر - تعكس موقف قريش من النص وتخوفها من تطبيقه، ووقوفها دون ذلك رغم علمهم بأنه مما أنزله اللّه كما يبدو من حديث ابن عباس.

وهذا الإصرار من قبل قريش على الوقوف دونه هو الذي فتح منفذ الاجتهاد أمام الخليفتين أبي بكر وعمر وسعد بن عبادة وأضرابهم، وهم الذين يشكلون (القسم الثاني) في أن يتداركوا الأمر كل من زاويته، فسعد جمع الأنصار لترشيح نفسه، أو التماس مرشح للخلافة منهم - بعد أن أحس بخطر ما تريده قريش - وقد خشي من تغلبهم على الأمر، وعداؤهم لواتريهم من الأنصار معروف.

وعمر أصر على اختيار أبي بكر، لاعتقاده بأنه أفضل العناصر التي لا يمكن أن تجمع الكلمة إلا عليه ما دامت قريش لا تجتمع على علي (عليه السلام).

أما القسم الثالث ويتمثل بأمثال سلمان وعمار وأبي ذر والزبير والمقداد وبني هاشم، فقد ظلوا مصرين على ضرورة تطبيق النص واختيار علي (عليه السلام) للخلافة إلى اللحظة الأخيرة، فالمسلمون إذن ما كانوا ليشكوا في النص على علي (عليه السلام) أو لا يرونه، إلا أن قريشا لا تريد أن تجمع النبوة والخلافة في بيت، والأنصار يخشون من تمرد قريش وغلبتهم، والخليفتين وجملة من الصحابة كانوا يخشون من تفرق الكلمة عن الإمام وهكذا.

قال أستاذ كبير في الندوة: إن الذي أراه أن الحق في الخلافة إنما هو للإمام علي (عليه السلام) والأئمة (عليهم السلام) من بعده، وأن الخلافة لو وصلت إلى الإمام بعد النبي بلا

ص: 356

فصل لما انتهت بعد ذلك إلى أمثال يزيد بن معاوية والوليد من الأمويين.

ولانتهى الإسلام إلى غير ما انتهى إليه اليوم، ولكن ما رأيكم وقد انتهى عصر الأئمة، ولم يعد فعلا مجال لعودتهم للحكم أن نسدل الستار على الماضي ونتناساه، ونعود إخوانا يجمعنا كتاب اللّه وسنة نبيه (صلى اللّه عليه وآله) دون أن نسمع كلمة تفرقة أو خصام من أجل عقيدة.

قلت: إن هذه الدعوة هادفة وسليمة جدا، ولكن لمن لم يكن للماضي علاقة بحاضره، أما والشيعة تعتقد بضرورة الرجوع إلى الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ورثة السنة النبوية فإن حاضرها لم ينقطع عن ماضيها، بل هي مضطرة للتشبث به وعلى الأخص فيما يتعلق بإمامة أهل البيت (عليهم السلام) ولكن ما رأيكم أن نضيف إلى ما ذكرتم ضرورة الرجوع إلى السنة الموروثة لدى أهل البيت (عليهم السلام) والتي ألزم بها النبي (صلى اللّه عليه وآله) بحديث الثقلين بالإضافة إلى ما صح من غير طريقهم، ويكون ذلك موضعا لاتفاق الكلمة ووحدتها، مع ما في ذلك من الحيطة للدين كما تعلمون.

قال أحدهم: وكيف يمكن الاتفاق مع الشيعة، وهم يؤمنون بأن لهم قرآنا يختلف عن قرآن أهل السنة.

مندوب الإيمان: وبماذا أجبتم على هذا الاستفزاز؟

ج - إن جوابي عليه مما لا يتسع له الحديث في جلستنا هذه ولعلنا نتحدث عنه في جلسة قادمة إن شاء اللّه. (1)

ص: 357


1- ثمرات النجف للسيد محمد تقي الحكيم: ج 3 ص 193 - 211، عن مجلة الإيمان السنة الثانية، عدد 3 و 4، لعام 1385 ه 1965 م.

ص: 358

أبو طالب (عليه السلام) مؤمن قريش

اشارة

ص: 359

ص: 360

المناظرة الحادية والخمسون: مناظرة عبد اللّه بن عباس مع بعضهم في إيمان أبي طالب (عليه السلام)

روي عن ثابت بن دينار الثمالي، عن سعيد بن جبير، عن عبد اللّه بن عباس، أنه سأله رجل فقال له: يا بن عم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، أخبرني عن أبي طالب، هل كان مسلما؟

فقال: وكيف لم يكن مسلما، وهو القائل:

وقد علموا أن ابننا لا مكذب *** لدينا ولا يعبأ بقيل الأباطل (1)

إن أبا طالب كان مثله كمثل أصحاب الكهف (2) حين أسروا الإيمان، وأظهروا الشرك، فآتاهم اللّه أجرهم مرتين (3).

ص: 361


1- راجع: السيرة النبوية لابن هشام: ج 1 ص 299، البداية والنهاية لابن كثير: ج 3 ص 57، السيرة النبوية لابن كثير: ج 1 ص 491
2- روي عن عبد اللّه بن الفضل الهاشمي، عن الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) أنه قال: إن مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف حين أسروا الإيمان وأظهروا الشرك، فآتاهم اللّه أجرهم مرتين. راجع: أصول الكافي: ج 1 ص 373 ح 28، أمالي الصدوق: ص 492 ح 12، بحار الأنوار: ج 72 ص 72 ح 7
3- الأمالي للصدوق: 491 - 492 ح 11 (المجلس: 89)، بحار الأنوار: ج 35 ص 72 ح 6.

المناظرة الثانية والخمسون: مناظرة السيد محمد جواد المهري مع الأستاذ عمر الشريف في مسألة إيمان أبي طالب (عليه السلام)

اشارة

يقول السيد محمد جواد المهري في معرض حديثه عن أيام دراسته في مدرسة الدعية بالكويت في عام 1968 م: في الصف الأول الثانوي كانت لي نقاشات مع معلم مادة الدين، ولكن بما أنني كنت قد دخلت ذلك الجو توا إضافة إلى كون المعلم شيخا حاد الطباع لم تتمخض عن نقاشاتنا المتفرقة أية نتيجة إيجابية ناهيك عن امتناعه عن الخوض في المواضيع المثيرة للاختلاف بعد التفاته إلى وجودي، ومع هذا كانت لي معه أحيانا نقاشات غلبته فيها.

مثلا سأله أحد التلاميذ يوما: لماذا تأخذ الماء في كفك عند الوضوء وتسكبه من الرسغ إلى المرفق بينما يسكبه أتباع أحد المذاهب الإسلامية من المرفق إلى الأسفل؟

نفخ الأستاذ لغديه متظاهرا أنه صاحب الحق وقال: الأيدي عادة مليئة بالشعر، وإذا سكب الماء من الأعلى إلى الأسفل قد لا يصل إلى ما تحت الشعر، ولكن إذا سكب من الرسغ إلى الأعلى فالماء يصل إلى ما تحت الشعر قطعا، وهذا أقرب إلى الاحتياط.

نهضت على الفور وقلت: اسمح لي يا سيدي! إذن إذا أردت الغسل وجب وضع الرأس على الأرض ورفع الأرجل في الهواء لأن جسم الإنسان ملئ بالشعر، واستنادا إلى الرأي الذي عرضته يجب أن يصل الماء إلى تحت الشعر!!

ص: 362

ارتفع فجأة صوت ضحكات الطلاب، فقال الأستاذ الذي وجد نفسه في وضع محرج للغاية بلهجة عنيفة: لا تناقش عبثا!! فأنت لا زلت أصغر من أن تعطي رأيك في القضايا الفقهية!! وأجلسني بكلامه هذا! إلا أن الطلاب لم يقنعوا أبدا.

وعلى كل حال انقضت السنة الأولى من الثانوية ودخلت في السنة الثانية، كان سني قد ازداد ومطالعتي قد كثرت في هذا المجال خلال العطلة الصيفية، فأصبحت أكثر استعدادا للمواجهة.

ومن حسن الصدف أن مدرس مادة الدين كان شابا إلى حد ما وحسن الأخلاق، كنا في أول درس من مادة الدين حين دخل الأستاذ وكان شابا يدعى «عمر الشريف».

وبدأ الحديث عن موضوع الهداية في الإسلام، وضمن حديثه تفسير الآية الشريفة: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (1)، قال: إن هذه الآية نزلت في أبي طالب عم الرسول (صلى اللّه عليه وآله) حيث حضر عند رأسه وهو في اللحظات الأخيرة من حياته وكلما طلب منه التلفظ بالشهادتين، أبى حتى مات كافرا!! فتأثر النبي (صلى اللّه عليه وآله) لأن عمه الذي يحبه يموت كافرا، لكن اللّه تعالى أوحى إليه هذه الآية.

الهداية هبة إلهية يمنحها اللّه لمن يشاء ويسلبها ممن يشاء، فلا تحاول هداية عمك!

اضطرم الغضب في نفسي وما عادت لي طاقة على الصبر، فنهضت بغضب وبدون استئذان وصحت: أستاذ! لا بد وأنكم تعتبرون أبا طالب، هذا الرجل المؤمن، كافرا وتأولون بشأنه هذه الآية لأنه والد علي (عليه السلام)، ليس من الإنصاف اتهام شخص قضى عمره في خدمة الإسلام وقدم كل هذا العون للنبي (صلى اللّه عليه وآله)

ص: 363


1- سورة القصص: الآية 56.

وللمسلمين بمثل هذه التهمة، واعتباره كافرا مع كونه موحدا حقيقيا وإنسانا كاملا، فمن ذا الذي دافع عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) يوم هب جميع كفار قريش لمحاربته ومحاصرته اقتصاديا، غير أبي طالب (عليه السلام)؟

ابتسم الأستاذ قائلا:

أولا: ليس من الصحيح اتهامنا بمثل هذه التهمة، فنحن نرى عليا من أفضل الناس وأخلصهم، ونعتبره على كل حال أحد خلفاء الرسول (صلى اللّه عليه وآله)، فنحن إذن لا عداوة لنا معه حتى نعتبر أباه كافرا، ثم إنه كان شخصا عطوفا وكثير المحبة لمحمد (صلى اللّه عليه وآله)، ولهذا السبب كان يدافع عنه حتى وإن لم يؤمن بدينه، وهذا الطرح لا ينطوي على أية مشكلة.

قلت: بل ينطوي على مشكلة كبرى، فالرسول (صلى اللّه عليه وآله) أساسا لا يمكنه التعويل على كافر، أو أن يحظى بحمايته على ذلك النطاق الواسع، ألم تقرأوا قوله تعالى في القرآن الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (1).

قال: هذه الآية تعني اليهود والنصارى.

قلت: الواقع أن اليهود والنصارى أهل كتاب، فإن لم يكن تعالى قد أباح له موالاة أهل الكتاب والاستعانة بهم، فهو لا يجيز قطعا اتخاذ مشركي قريش حماة لنا، فضلا عن هذا فقد جاءت في القرآن آية أخرى تنهى عن هذه العلاقات العائلية، وتحذر من موالاة الآباء والإخوة - فما بالك بالأعمام - إذا كانوا كفارا، أو إيجاد صلات وثيقة معهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ

ص: 364


1- سورة المائدة: الآية 51.

أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (1).

بل إن اللّه عز وجل قد نهى المسلمين في ما يربو على الثلاثين موضع عن إيجاد علاقات مع الكفار، فما بالك باتخاذهم حماة وأنصارا، هل يجوز أن يعصي الرسول - وهو مبلغ آيات اللّه - أوضح أحكام اللّه ويعصي ربه جهارا؟

إيمان أبي طالب

وإذا ما تجاوزنا هذا فثمة أدلة جمة على إيمان أبي طالب، ولعلي لا أستطيع الآن إحصاءها بأجمعها، ولكن حسبنا ما جاء في الكثير من أشعاره، التي يقر فيها برسول اللّه ونبوته، ويصرح بإيمانه باللّه على الرغم من أنه كان يعيش في وضع لا يسمح له بالتجاهر برأيه إلى هذا الحد.

دهش الأستاذ من هذه الآيات القرآنية التي بدا وكأنها لم تطرق سمعه من قبل وتقلب لون وجهه من حال إلى حال وقال:

إذا كنت تبغي النقاش فالصف ليس موضعا للنقاش، والصف لا يختص بك حتى تكون أنت المتحدث الوحيد فيه وتستحوذ على وقت نيف وثلاثين من الطلاب! تعال إلى غرفتنا (غرفة المعلمين) للمناظرة في وقت الفرصة.

قلت: لا ينبغي هذا! فإما أنك لا تتحدث في القضايا التي تثير الاختلاف، وإما أنك إذا تحدثت بها ينبغي أن تتوقع ردا عليها، فأنا اليوم إن لم أدافع عن أبي طالب، هذا الإنسان الموحد الطاهر فسيعتقد هؤلاء الطلاب فيه كعقيدتك فيه، وسأخزى يوم القيامة أمام اللّه ورسوله.

إنني مستعد لمناظرتك حيثما شئت وفي أي موضوع من المواضيع

ص: 365


1- سورة التوبة: الآية 23.

العقائدية، ولكن إذا سمح لي الطلاب اليوم بقراءة بيتين من الشعر لأبي طالب (عليه السلام) لكي لا تهتز عقيدتهم فيه.

وفي الحال أيدني الطلاب، وقالوا: يا أستاذ! الحق معه، دعه يدافع عما يعتقد به.

اضطر الأستاذ للصمت وبقي ينتظر.

كنت متجها بكل مشاعري إلى أبي طالب، فاستعنت به وبربه لأكون قادرا على أداء حق سيد مكة ومولاها في أول اجتماع عام وبحضور الكثير من المستمعين، وليتسنى لي الدفاع عن هذه الشخصية المفترى عليها في تاريخ الرسالة.

فقلت: يا أستاذي! ويا أصدقائي! لم يكن أبو طالب بالذي يعتريه أدنى شك بنبوة الرسول (صلى اللّه عليه وآله)، إذ أن له قصائد كثيرة يمدح فيها الرسول ويشهد برسالته فهو بعد أن أخبر قريش بأن صحيفتكم قد أكلتها الديدان ولم يبق منها سوى اسم اللّه، وهذا ما أخبرني به ابن أخي محمد، وإذا لم تصدقوا فاذهبوا واستخرجوها من داخل الكعبة، فإن كان قول محمد هذا صحيحا عودوا إلى رشدكم وآمنوا له، وإن يك كاذبا أسلمته لكم فإن شئتم عاقبتموه أو قتلتموه.

قالوا: رضينا بهذا! فذهبوا وجاءوا بالصحيفة ووجدوا كلام رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) صدق.

لكن من ختم اللّه على قلبه وألقى على بصره وعلى سمعه غشاوة لا يعي الحق، ومن الطبيعي أن يتجاهل هذه المعجزة الكبرى، ومن هنا قالوا لأبي طالب: هذا أيضا سحر آخر مما يأتيه ابن أخيك، وهكذا انغمسوا في ضلالهم.

دنا أبو طالب من بيت اللّه وتعلق بأستار الكعبة وقال: « اللّهم انصرنا على القوم الظالمين فقد قطعوا رحمنا وانتهكوا حرمتنا ».

ص: 366

ثم أنشد قصيدة طويلة غراء لا أستظهر منها حاليا - وللأسف - سوى بيتين، وأنصح الأخوة بالذهاب إلى مكتبة المدرسة بعد انتهاء هذا الدرس واستخراجها من كتب التاريخ ومطالعتها.

نهض أحدهم قائلا: في أي كتاب وردت مثل هذه القصة؟ قلت: قصة الصحيفة معروفة وذكرتها كل كتب التاريخ ويمكنك مراجعة تاريخ اليعقوبي، وسيرة ابن هشام، وتاريخ ابن كثير، وطبقات ابن سعد، وعيون الأخبار لابن قتيبة، وهي بأجمعها من الكتب المعتبرة عند أبناء السنة، وعلى كل حال فقد قال أبو طالب في تلك القصيدة الغراء:

ألا أن خير الناس نفسا ووالدا *** إذا عد سادات البرية أحمد

نبي الإله والكريم بأصله *** وأخلاقه وهو الرشيد المؤيد

ألا يكفي أن أبا طالب يعتبر الرسول «نبي الإله»؟ أليست هذه شهادة برسالة ونبوة محمد (صلى اللّه عليه وآله)؟ هذا فضلا عن بيتين من الشعر يصرح فيهما بنبوة محمد (صلى اللّه عليه وآله) وقد أوردهما البخاري في «التاريخ الصغير»، وابن عساكر في تاريخه، وابن حجر في «الإصابة» وفيهما يمدح رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بالقول:

لقد أكرم اللّه النبي محمدا *** فأكرم خلق اللّه في الناس أحمد

وشق له من اسمه ليجله * فذو العرش محمود وهذا محمد (1) * ظاهر هذين البيتين وباطنهما واضح وصريح، وفيهما دلالة على عظمة شأن أبي طالب ووفرة علمه وعلو منزلته.

قال الأستاذ: هذا البيت ينسب لحسان بن ثابت.

ص: 367


1- التاريخ الصغير للبخاري: ج 1 ص 38، البداية والنهاية لابن كثير: ج 2 ص 266، الإصابة لابن حجر العسقلاني: ج 4 ص 115، دلائل النبوة لأبي نعيم: ج 1 ص 41.

قلت: إنه أخذ هذا البيت عن أبي طالب وضمنه في قصيدته في مدح الرسول، وإذا ما تجاوزنا كل هذا، هناك أيضا قصة استسقاء أبي طالب وعبد المطلب واستعانتهما بالرسول وهو لا زال طفلا، وهي قصة مشهورة، وهذا دليل واضح على إيمانهما له بالنبوة والرسالة الخاتمة من قبل أن تعرض قضية رسالته، فهما كانا يعلمان منذ اليوم الأول ما لهذا الطفل من منزلة وقرب عند اللّه. كانت قد مرت على الناس سنتان لا ينزل عليهم الغيث، وأتت عليهم مجاعة، فأخذ أبو طالب هذا الطفل وتوجه به إلى الكعبة وقسم على اللّه به وقال: «اللّهم بحق هذا الطفل أنزل علينا غيث رحمتك».

لم تمض ساعة إلا وغمامة سوداء قد غطت سماء مكة وأمطرت عليهم مطرا غزيرا حتى خافوا أن يجرف السيل بيت اللّه.

لما تذكر أبو طالب هذه القصة، قال في مدح الرسول:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه *** ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهلاك من آل هاشم *** فهم عنده في نعمة وفواضل

وميزان عدل لا يخيس شعيرة *** ووزان صدق وزنه غير هائل (1) لم أكن قد أتممت كلامي حتى وجدت الصف كله مصغيا لأشعار أبي طالب ذات المغزى العميق، وهناك رن الجرس فجأة معلنا انتهاء الدرس، وتنفس المدرس الصعداء، ومع هذا فحينما خرجت من الصف التفت إلي باحترام وقال:

إنني لأشعر بالارتياح لوجود طالب مثلك بين طلابي له مثل هذه المعرفة بمواضيع العقيدة والتاريخ ويستدل بهذه الطريقة الحسنة، وإني لأفتخر بطالب

ص: 368


1- إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري للقسطلاني: ج 2 ص 237 - 238، الخصائص الكبرى : ج 1 ص 86، السيرة الحلبية: ج 1 ص 190.

مثلك، ولكن اعلم إن لجميع هذا الكلام ردود.

قلت: إني على استعداد لمواجهة أي رد أو انتقاد، ولدي جواب على جميع الاعتراضات، وإذا لم تقنع فإني مستعد للكلام معك ثانية.

قال: طبعا كلامك عن أبي طالب شيق جدا وينطوي على أمور جديدة بالنسبة لي، ولكن نفس أولئك الذين نقلت عنهم تلك الأبيات لأبي طالب يعتبرونه كافرا!

قلت: إن كان هناك من يرى الحق ويدوس عليه، فلا يعني هذا إنك تتبعه على باطله.

قال: تريد أن تقول إن هؤلاء جميعا حاربوا الحق، وأنتم وحدكم دافعتهم عنه؟ ما هذا الكلام يا عزيزي!

قلت: يا أستاذ! إن قول الحق مر، وليس بإمكان كل واحد تحمل هذه المرارة، ثم إنني لا شأن لي بما في كلامهم من تناقضات، بل كنت أبغي فقط الاستشهاد من كتبكم على إيمان أبي طالب ليتضح إنه كان مؤمنا تمام الإيمان، وإذا بقي هناك من ينكر إيمانه يتبين أيضا أنه مخدوع!!

قال: تقول إن فيها تناقضات، هل يمكنك البرهنة على ذلك؟

قلت: الأدلة على ذلك كثيرة! وهذا الدليل كاف بحد ذاته، فأنت تلاحظ مع كثرة الأشعار التي ينقلونها عن أبي طالب في مدح الرسول (صلى اللّه عليه وآله)، يصورون وبكل جرأة أن هذا الرجل الإلهي كافر، أليس هذا تناقضا؟

قال: أنت تعلم طبعا أن أبا طالب كان يحب محمدا كثيرا، وكان يدافع عنه طوال مدة حياته معه، فما هو المانع في أن يبعث البهجة في نفس ابن أخيه بالأشعار ليقلل إلى حد ما من ألم المصائب التي كانت تترى عليه؟

قلت: يا أستاذ إن المدح والثناء شئ آخر غير الشهادة بالنبوة، فهو هنا

ص: 369

لا يثني عليه وكفى! وإنما يشهد له بالنبوة أيضا في مواقف مختلفة، وليس ثمة مجال للكناية والتورية، وفضلا عن هذا ألم يعلن النبي (صلى اللّه عليه وآله) حرمة زواج المسلمات بالكفار؟ والكل يعلم أن فاطمة بنت أسد كانت من أوائل المسلمات، ومع هذا بقيت مع أبي طالب حتى النهاية ولم يفرقها الرسول عن زوجها.

قال: إن لديك اطلاعا واسعا، ولدي عدة قضايا أود معرفة رأيك فيها، لكن الوقت لا يسمح الآن، أرجو أن يكون لنا من بعد هذا لقاءات منفصلة نتباحث فيها بشكل مفصل، إلى اللقاء.

- في أمان اللّه.

انقضى ذلك اليوم وعدت إلى الدار وحدثت والدي المرحوم بما جرى، فابتهج ودعا لي ثم قال: يا بني إن إيمان أبي طالب كإيمان مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه في عهد النبي موسى (عليه السلام).

أبو طالب كان قد آمن بالرسول منذ البداية وإلا لم يكن ليدافع عنه إلى هذا الحد، بيد أن الرسول ما كان مباحا له وفقا لأمر اللّه باتخاذه نصيرا له، ولا حتى أن يلقي إليه بالمحبة.

أما أشعار أبي طالب في مدح الرسول صراحة واعترافه بنبوته فكثيرة، وهي منقولة في كتب السنة، ويمكنك مراجعة كتاب «أبو طالب مؤمن قريش» من تأليف الشيخ عبد اللّه الخنيزي، واكتب شيئا من تلك الأشعار وخذها إلى أستاذك، ويكفي أبا طالب أنه كان يذب عن الرسول علانية في جميع المواقف والمراحل منذ بداية الدعوة حين جمع الرسول أقرباءه (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (1) وحتى آخر حياته، وكان يقف بوجه كفار قريش ويحامي عن

ص: 370


1- سورة الشعراء: الآية 214.

الرسول بكل ما أوتي من قوة، فإن لم يكن قد آمن برسالة الرسول فما كان الدافع من وراء حمايته له بهذه الصورة؟ ألم يكن أبو لهب عم الرسول وكان يحاربه؟ ومنذ الاجتماع الأول الذي جمع فيه الرسول أقاربه ودعاهم - بعد تناول الطعام - إلى الإسلام نهض أبو لهب مستنكرا دعوته فصاح به أبو طالب غاضبا: «أسكت يا أعور ما أنت وهذا، ثم قال: لا يقومن أحد، قال: فجلسوا ثم قال للنبي (صلى اللّه عليه وآله): قم يا سيدي فتكلم بما تحب، وبلغ رسالة ربك، فإنك الصادق المصدق» (1).

أي كافر هذا الذي يدافع عن الإسلام بكل ما أوتي من قوة وينبري للذود عن ابن أخيه بيده ولسانه ويحميه من قرابته الكافر، حتى يبلغ رسالة ربه بسهولة، وناصره في شعبه، هو وكل أتباعه يوم كانت كل قريش تحاربه؟! فإن كان شخص كهذا كافرا فأنا أيضا كافر.

شكرت أبي وذهبت لمطالعة كتاب «أبو طالب مؤمن قريش» ووجدت أن المؤلف قد بذل جهدا شاقا ودافع عن أبي طالب حق الدفاع، ولكن العلامة الأميني كان قد سبقه إلى البحث في سيرة ومواقف أبي طالب على امتداد سبعين صفحة من المجلد السابع من كتابه «الغدير»، وهو بحث شيق وثمين.

وعلى كل حال لا بأس بذكر عدة أبيات شعرية أخرى له لغرض إكمال هذه المقالة إلى حد ما، ولكي لا تبقى لدى القارئ أدنى شبهة وليبلغ كل ذي حق حقه.

نقل الحاكم في «المستدرك» أن أبا طالب بعث أبياتا من الشعر للنجاشي حاكم الحبشة يدعوه فيها إلى الإحسان إلى مهاجري الحبشة، وجاء فيها:

ليعلم خيار الناس أن محمدا *** وزير لموسى والمسيح بن مريم

ص: 371


1- الغدير للأميني: ج 7 ص 355.

أتانا بالهدى مثل ما أتيا به *** فكل بأمر اللّه يهدي ويعصم (1) وجاء في أبيات أخرى يخاطب بها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله):

واللّه لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أوسد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة *** وأبشر بذاك وقر منك عيونا

ودعوتني وعلمت أنك ناصحي *** ولقد دعوت وكنت ثم أمينا

ولقد علمت بأن دين محمد *** من خير أديان البرية دينا (2) وله أيضا قصيدة لامية طويلة في مدح رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يقر في عدة أبيات منها بنبوته ورسالته، نقل منها ابن هشام أربعة وتسعين بيتا (3)، وابن كثير اثنين وتسعين بيتا (4)، وصيغت هذه القصيدة على غرار المعلقات السبعة، وهي في غاية البلاغة والفصاحة ونظمها في وقت هبت فيه قريش كلها لمحاربة الرسول (صلى اللّه عليه وآله)، وكانوا يطردون عنه المسلمين بقوة الحراب.

وقد أشاد القسطلاني بفصاحة وبلاغة هذه القصيدة وذكر أنها تضم مائة وعشرة أبيات (5)، ولو لم يكن منهجنا الاختصار لنقلنا هذه القصيدة هنا، ولكن تكفي الإشارة إليها ليرتدع أصحاب الآراء المنحرفة الباطلة عن انتهاك قدسية هذه الشخصية الجليلة، ولكي لا يتهموا هذا المؤمن - الطاهر السريرة وأول

ص: 372


1- المستدرك للحكام النيسابوري: ج 2 ص 623،
2- خزانة الأدب للبغدادي: ج 2 ص 76 و ج 9 ص 397، البداية والنهاية لابن كثير: ج 3 ص 42، الإصابة لابن حجر العسقلاني: ج 4 ص 116، تذكرة الخواص لابن الجوزي: ص 7، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 14 ص 55
3- السيرة النبوية لابن هشام: ج 1 ص 291 - 299
4- البداية والنهاية لابن كثير: ج 3 ص 53 - 57
5- إرشاد الساري للقسطلاني: ج 2 ص 238.

المدافعين عن الإسلام - بالكفر، وأن يتوبوا إلى اللّه من سوء القول فيه.

كان أبو طالب سباقا في ميدان الجهاد والاستقامة في عهد الجاهلية الأسود وفي ظلمات أبناء قريش.

كان أبو طالب كوكبا زاهرا يقتبس نوره الساطع من الشمس المحمدية المتألقة، وكان صوته المدوي في البطحاء صدى لصيحة النبي في نداء «لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه».

كان أبو طالب شخصية انطلقت عقيدة الإسلام التحررية تحت ظل بريق سيفه البتار، وصدى أشعاره المثيرة ودفاعه المتواصل، فأضاء ظلمة مكة بنوره الباهر.

كان أبو طالب تابعا مطيعا لمحمد (صلى اللّه عليه وآله)، وكان حبه لصاحب الرسالة يسري في أعماق روحه وجسده، وظل يسير في طريق المحبة حتى اللحظة التي بلغ فيها مرحلة اليقين، ورفعته يد الغيب الإلهية إلى أعلى عليين، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) باكيا في رثائه: «يا عم ربيت صغيرا وكفلت يتيما ونصرت كبيرا فجزاك اللّه عني خيرا» (1).

قال اليعقوبي في تاريخه: « ولما قيل لرسول اللّه إن أبا طالب قد مات عظم ذلك في قلبه واشتد له جزعه، ثم دخل فمسح جبينه الأيمن أربع مرات وجبينه الأيسر ثلاث مرات » (2) ثم دعا له بالخير، وعظم موت أبي طالب على ابن أخيه حتى سمى ذلك العام عام الحزن، فهل يبكي الرسول هكذا على موت

ص: 373


1- تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 35، تذكرة الخواص لابن الجوزي: ص 9، الغدير للأميني: ج 7 ص 373.
2- تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 35.

كافر - والعياذ باللّه -؟

وهل يعطف رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) على كافر، ويبدي له المحبة أكثر من سائر المؤمنين، ويجزع على فقده مع ما أمر به من الغلظة مع الكفار والرأفة بالمؤمنين؟

أعيدوا كتابة التأريخ وامحوا هذه البقع المخزية من صفحاته، كفى انسياقا وراء الأسلاف الأراذل الذين دفعهم بغض وصي رسول اللّه إلى اتهام أبيه الجليل بتهمة الإلحاد، فيما تاريخ الإسلام حافل بنداءاته الإسلامية، وكان ناصرا مخلصا للرسول سلام اللّه وصلواته عليه وعلى محبيه، واللعن الدائم على أعدائه إلا من انساقوا في هذا الطريق جهلا، وإذا أدركوا الحق اتبعوه، وعوضوا عما سلف منهم بالتوبة والإنابة إلى سبيل الهداية وإلى الصراط المستقيم. (1)

ص: 374


1- مذكرات المدرسة، للمهري: ص 18 - 30.

المناظرة الثالثة والخمسون: مناظرة الشيخ محمد الإشتهاردي مع بعضهم في إيمان أبي طالب

قال أحد أبناء أهل السنة في شأن إيمان أبي طالب (عليه السلام) الأب الكريم لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): اختلفت الروايات في كتبنا الرئيسية حول إيمان أبي طالب (عليه السلام)، فطائفة من الروايات وردت في تعظيمه ومدحه، وطائفة أخرى وردت في ذمه والطعن به.

فقلت: اتفق علماء الشيعة، تبعا لأئمتهم المعصومين (عليهم السلام)، والذين هم عترة النبي (صلى اللّه عليه وآله) على أن أبا طالب (عليه السلام) كان شخصا لائقا مؤمنا ومجاهدا في سبيل اللّه.

- فقال -: إذا كان كذلك، فلماذا وردت روايات كثيرة في عدم إيمانه؟

- فقلت -: ذنب أبي طالب هو أنه والد علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقد بذل الأعداء الحاقدون على ابنه الوصي (عليه السلام)، وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان مبالغ طائلة من بيت مال المسلمين، لعناصر باعوا دينهم بدنياهم وضمائرهم لأهوائهم، لافتعال الأحاديث والروايات المجعولة الكاذبة لتشويه شخصية الإمام علي (عليه السلام) (1)، حتى وصل بهم الحد إلى أنهم نقلوا عن أبي هريرة أنه قال: « إنه

ص: 375


1- قال ابن أبي الحديد في شرح النهج: ج 4 ص 63: وذكر شيخنا أبو جعفر الإسكافي رحمه اللّه تعالى... أن معاوية وضع قوما من الصحابة وقوما من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي (عليه السلام)، تقتضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله، فاختلقوا ما أرضاه، منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عروة بن الزبير.

يشهد باللّه أن عليا أحدث بعد الرسول فاستوجب لعن الملائكة والناس أجمعين » (1).

فمع وجود هؤلاء الأراذل في عصر معاوية والخلفاء الأخرين من بني أمية، فمن الطبيعي أن تظهر روايات مفتعلة كثيرة في شرك أبي طالب (عليه السلام) حتى بذلوا الكثير من الجهود والطاقات في ذمه، ولم يبذلوا واحدا من ألف منها في أبي سفيان الذي كان يمثل رأس الشرك، ويمتلك طينة خبيثة، وصفحات سوداء في التأريخ.

فعليه، نشأت جذور تهمة الشرك لأبي طالب (عليه السلام) من دافع سياسي استغلها معاوية لمصالحه الشخصية.

- فقال -: نقرأ في الآية 26 من سورة الأنعام قوله تعالى: (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) قال بعض المفسرين: إن المراد من الآية المباركة: «إن طائفة من الناس كانوا يدافعون عن النبي (صلى اللّه عليه وآله)، وفي نفس الوقت يرفضون الإيمان به ويبتعدون عنه»، فهذه الآية نزلت في شأن أبي طالب (عليه السلام) لأنه دافع عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) في مقابل المشركين، مع تحاشيه عن الإيمان به.

- فقلت -: أولا، أن معنى الآية مخالف لما قلتم تماما.

ثانيا: لو سلمنا لقولكم، فما هو الدليل على أن المراد منها أو شمولها لأبي طالب؟!

- فقال -: حجتنا هي رواية سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عمن سمع ابن عباس، أنه قال: « هذه الآية، نزلت في شأن أبي طالب (عليه السلام) إذ منع الناس عن التعرض عن التعرض للرسول الأكرم صلى اللّه عليه وآله مع عدم اتباعه له صلى اللّه عليه وآله (2).

ص: 376


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4 ص 67
2- تفسير القرآن العظيم لابن كثير: ج 2 ص 132.

- فقلت -: أضطر في جوابكم أن أشير إلى أمور:

1 - أن معنى الآية ليس كما فسرتم، بل مع الأخذ بنظر الاعتبار ما قبل الآية وما بعدها، فقد نزلت في شأن الكفار المعاندين، ظاهر معنى الآية هكذا، «أن الكفار كانوا ينهون الناس عن اتباع الرسول (صلى اللّه عليه وآله) في حين أنهم كانوا يعرضون عنه» (1) ولم تتطرق الآية إلى مسألة الدفاع عن النبي (صلى اللّه عليه وآله).

2 - جملة «ينئون» بمعنى الابتعاد، والحال كان أبو طالب من أقرب الناس إلى النبي (صلى اللّه عليه وآله) ولم يبتعد عنه طرفة عين.

3 - أما رواية سفيان الثوري التي نقلها ابن عباس وأنه قال أن الآية نازلة في شأن أبي طالب (عليه السلام) مخدوشة من عدة جهات:

ألف - إن سفيان الثوري من الكذابين وغير الموثقين بإقرار الكبار من علماء أهل السنة (2).

نقل عن «ابن المبارك» أن سفيان كان يدلس، أي كان يظهر الحق باطلا، والباطل حقا (3) زورا وبهتانا، والراوي الأخر لهذه الرواية هو «حبيب بن أبي ثابت» الذي كان يدلس أيضا، طبقا لقول ابن حيان (4)، إضافة إلى أن هذه الرواية مرسلة، بمعنى أن سلسلة الرواة بين حبيب وابن عباس محذوفة غير متصلة.

ب - كان ابن عباس من الشخصيات الإسلامية المرموقة والمعروفة التي تعتقد بإيمان أبي طالب فكيف يمكن أن ينقل مثل هذه الرواية؟! عندئذ يمكن أن

ص: 377


1- وقد فسر ابن عباس الآية بهذا التفسير، ولمزيد البحث والتحقيق في تفسير هذه الآية راجع: الغدير للأميني: ج 8 ص 3 - 8
2- ميزان الاعتدال للذهبي: ج 2 ص 165
3- تهذيب التهذيب: ج 4 ص 115
4- تهذيب التهذيب: ج 2 ص 179.

نفسر الآية بهذا النحو: «إن الكفار كان يمنعون الناس من اتباع النبي (صلى اللّه عليه وآله)، وهم أيضا كانوا يبتعدون عنه».

ج - الرواية المذكورة تقول: أن هذه الآية نزلت في شأن أبي طالب (عليه السلام) فحسب، مع أن كلمة «ينهون» و «ينئون» جاءت بصيغة الجمع.

فطبقا لتفسير البعض، إن الآية المذكورة تشمل أعمام النبي (صلى اللّه عليه وآله) حيث كانوا عشرة منهم مؤمنين، وهم الحمزة والعباس وأبو طالب، فلا يشملهم مراد الآية المذكورة.

وبعبارة أوضح: كان النبي (صلى اللّه عليه وآله) يبتعد عن المشركين أمثال: أبي لهب الذي كان أحد أعمامه (صلى اللّه عليه وآله)، وأما أبو طالب فكان يرتبط بالنبي (صلى اللّه عليه وآله) بصلة وثيقة إلى آخر لحظة من حياته الشريفة، وسمى (صلى اللّه عليه وآله) سنة وفاته «عام الحزن» وقال في تشييع جثمانه الطاهر: «وا أبتاه، واحزناه عليك كنت عندك بمنزلة العين من الحدقة، والروح من الجسد» (1)، فهل من الإنصاف أن يقال في حق النبي (صلى اللّه عليه وآله) أنه كان يمدح ويعظم المشرك، ويظهر الحزن لوفاته، مع أن كثيرا من الآيات القرآنية تذم المشركين وتأمر بالإعراض عنهم؟! (2)

ص: 378


1- منية الراغب في إيمان أبي طالب للطبسي: ص 205 عن البكري في كتاب مولد علي
2- أجود المناظرات للأشتهاردي: ص 326 - 331.

المناظرة الرابعة والخمسون: مناظرة السيد علي البطحائي مع الشيخ عبد اللّه بن جحش في مسألة إيمان أبي طالب (عليه السلام)

المناظرة التي وقعت بيني وبين الشيخ عبد اللّه بن جحش رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمكة المكرمة فقال: لأي جهة تروحون لزيارة عبد المطلب (1)، مع أنه مات في زمن الفترة قبل بعثة الرسول (صلى اللّه عليه وآله)، ولأي علة

ص: 379


1- هو: عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، جد النبي (صلى اللّه عليه وآله) ويسمى بشيبة الحمد لشيبة كانت في رأسه حين ولد كان عبد المطلب ذا جلالة ظاهرة ومناقب وافرة وآيات باهرة ويظهر ذلك من انحناء سرير أبرهة له، ومن انفجار الماء تحت خف راحلته في مفازة لا ماء فيها، وتظهر جلالته وكثرة إيقانه من قصة أصحاب الفيل واحترام الفيلة له وقوله لبعض ولده: أعل أبا قبيس فانظر ماذا يأتي من قبل البحر، فيظهر أنه كان عالما بأنه يأتي الطير لاستئصال أصحاب أبرهة، وتظهر أيضا جلالته من حفرة زمزم ومن دخوله على سيف بن ذي يزن، وعن ابن عباس قال: كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة لا يجلس عليه أحد إلا هو، إجلالا له، وكان بنوه يجلسون حوله حتى يخرج عبد المطلب فكان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) يخرج وهو غلام صبي فيجئ حتى يجلس على الفراش فيعظم ذلك أعمامه ويأخذونه ليؤخروه، فيقول لهم عبد المطلب: دعوا ابني فواللّه إن له لشأنا عظيما، إني أرى أنه سيأتي عليكم يوم وهو سيدكم، ثم يحمله فيجلسه معه ويمسح ظهره ويقبله ويوصيه إلى أبي طالب. وجاء في الروايات أنه كان على دين إبراهيم الخليل (عليه السلام)، وعن أبي طالب (عليه السلام): ولقد كان أبي يقرأ الكتاب جميعا، ولقد قال: إن من صلبي لنبيا لوددت أني أدركت ذلك الزمان فآمنت به، فمن أدركه من ولدي فليؤمن به، وجاء عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: يحشر عبد المطلب يوم القيامة أمة واحدة عليه سيماء الأنبياء وهيبة الملوك، وقال: إن عبد المطلب حجة وأبو طالب وصيه، وقيل إن عبد المطلب عاش مائة وأربعين سنة، وتوفي عبد المطلب وللنبي (صلى اللّه عليه وآله) ثمان سنين، وكان خلف جنازة عبد المط لب يبكي حتى دفن بالحجون، ويعرف أيضا بالمعلاة. راجع ترجمته في: سفينة البحار للقمي: ج 2 ص 139 - 140.

تذهبون لزيارة أبي طالب مع أنه كان مشركا، ولا تجوز زيارة المشرك؟

قلت له: هل ترضى لنفسك أن تنسب عبد المطلب الذي دعا على قوم أبرهة حينما جاؤوا مع الفيل لهدم الكعبة فدعا عبد المطلب عليهم حتى أرسل اللّه بسبب دعائه طيرا أبابيل فأهلكهم في وادي محسر (1) قريبا من منى، فإذا كان عبد المطلب على رأيكم مشركا كيف يدعو على قوم أبرهة وكيف يستجيب دعائه في هلاكهم، مع أن سورة الفيل في القرآن الكريم وشأن نزولها في قوم أبرهة ودعاء عبد المطلب يعرفه كل واحد، وكذلك فهناك أحاديث كثيرة وردت في إسلام عبد المطلب وأبي طالب (عليهما السلام).

فمنها: عن مولانا أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنه قال: واللّه ما عبد أبي وجدي عبد المطلب ولا هاشم ولا عبد مناف صنما قط، قيل له: فما كانوا يعبدون؟ قال: كانوا يصلون إلى البيت على دين إبراهيم متمسكين به (2). (3)

ص: 380


1- محسر: هو واد بين منى ومزدلفة، ليس من منى ولا من مزدلفة، هذا هو المشهور، وقيل: موضع بين مكة وعرفة، وقيل بين منى وعرفة، راجع: مراصد الاطلاع: ج 2 ص 1224
2- كمال الدين وتمام النعمة للصدوق: ج 1 ص 175 ح 32، الغدير للأميني: ج 7 ص 387، بحار الأنوار: ج 15 ص 144 ح 76 و ج 35 ص 81 ح 22
3- والجدير بالذكر هنا هو ما روي في هذا المقام عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد جاء عن الكراجكي بسنده عن جعفر بن محمد (الصادق) (عليه السلام) عن أبيه، عن علي بن الحسين (عليه السلام)، عن أبيه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه كان جالسا في الرحبة والناس حوله، فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إنك بالمكان الذي انظر لك اللّه وأبوك معذب في النار، فقال: مه، فض اللّه فاك؟ والذي بعث محمدا بالحق لو شفع أبي في كل مذنب على وجه الأرض لشفعه اللّه فيهم، أبي معذب في النار وابنه قسيم الجنة والنار؟ والذي بعث محمدا بالحق إن نور أبي طالب ليطفئ أنوار الخلائق إلا خمسة أنوار: نور محمد ونور فاطمة ونور الحسن ونور الحسين ونور ولده من الأئمة إلا إن نوره من نورنا، خلقه اللّه من قبل خلق آدم بألفي عام. كنز الفوائد للكراجكي: ج 1 ص 183، وعنه بحار الأنوار: ج 35 ص 110 ح 39 و ص 69 ح 3 عن الإحتجاج للطبرسي: ج 1 ص 229 - 230.

وأما إسلام أبي طالب (عليه السلام) مجمع عليه بين الإمامية، وقد قال الشيخ المفيد (رحمه اللّه) في أوائل المقالات: اتفقت الإمامية على أن آباء رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) من لدن آدم إلى عبد اللّه بن عبد المطلب مؤمنون باللّه عز وجل وأجمعوا على أن أبا طالب مات مؤمنا، وأن آمنة بنت وهب كانت على التوحيد. (1)

وقال شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي في التبيان عن أبي عبد اللّه وأبي جعفر (عليهما السلام) إن أبا طالب كان مسلما، وعليه إجماع الإمامية (2)، وادعى الإجماع على إسلامه جمع كثير من علماء الشيعة.

وروى المفيد (قدس سره) بإسناد يرفعه لما مات أبو طالب أتى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فآذنه بموته فتوجع توجعا عظيما وحزن حزنا شديدا، ثم قال لأمير المؤمنين: إمض يا علي، فتول غسله وتحنيطه وتكفينه، فإذا رفعته على سريره فأعلمني، ففعل ذلك أمير المؤمنين، فلما رفعه على السرير اعترضه النبي (صلى اللّه عليه وآله) فرق وحزن فقال: وصلت رحما وجزيت خيرا يا عم، فلقد ربيت وكفلت صغيرا، ونصرت وآزرت كبيرا، ثم أقبل على الناس وقال: أما واللّه لاشفعن لعمي شفاعة يعجب منها أهل الثقلين. (3)

ص: 381


1- أوائل المقالات، للشيخ المفيد: ص 45 - 46 (مقالة رقم 9) (المجلد الرابع من مصنفات الشيخ المفيد)
2- التبيان في تفسير القرآن للطوسي: ج 8 ص 164، ذكر ذلك (قدس سره الشريف) عند تفسيره الآية 56 من سورة القصص. (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ...)
3- إيمان أبي طالب للمفيد: ص 25 - 26 (المجلد العاشر من مصنفات الشيخ المفيد)، السيرة الحلبية: ج 2 ص 47.

وعن الإمام السجاد زين العابدين (عليه السلام) أنه سئل عن أبي طالب أكان مؤمنا؟ فقال: نعم، فقيل له: إن هاهنا قوما يزعمون أنه كان كافرا؟ فقال (عليه السلام): واعجبا كل العجب أيطعنون على أبي طالب أو على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وقد نهاه اللّه تعالى أن يقر مؤمنة مع كافر في غير آية من القرآن، ولا يشك أحد أن فاطمة بنت أسد رضي اللّه تعالى عنها من المؤمنات السابقات، فإنها لم تزل تحت أبي طالب حتى مات أبو طالب (رضي اللّه عنه). (1)

وقال عبد الرحمن بن كثير: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): إن الناس يزعمون أن أبا طالب في ضحضاح من نار! فقال: كذبوا، ما بهذا نزل جبرئيل على النبي (صلى اللّه عليه وآله)، قلت: وبما نزل؟ قال: أتى جبرئيل في بعض ما كان عليه فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول لك: إن أصحاب الكهف أسروا الإيمان وأظهروا الشرك فآتاهم اللّه أجرهم مرتين، وإن أبا طالب أسر الإيمان وأظهر الشرك فآتاه اللّه أجره مرتين، وما خرج من الدنيا حتى أتته البشارة من اللّه تعالى بالجنة، ثم قال: كيف يصفونه بهذا وقد نزل جبرئيل ليلة مات أبو طالب، فقال: يا محمد أخرج من مكة فما لك بها ناصر بعد أبي طالب (2).

والأشعار الدالة على إسلام أبي طالب - التي قالها في مدح الرسول (صلى اللّه عليه وآله) - كثيرة منها:

ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا *** نبيا كموسى خط في أول الكتب

ومنها:

ص: 382


1- بحار الأنوار: ج 35 ص 115 ح 35، الغدير للأميني: ج 7 ص 389، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 14 ص 69
2- بحار الأنوار: ج 35 ص 111 - 112، الغدير للأميني: ج 7 ص 390.

ولقد علمت بأن دين محمد *** من خير أديان البرية دينا (1)

وأخرج ابن سعد في طبقاته (2) عن عبد اللّه بن أبي رافع عن علي (عليه السلام) قال: أخبرت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بموت أبي طالب فبكى، ثم قال: إذهب فغسله وكفنه وواره، غفر اللّه له ورحمه.

وقال اليعقوبي في تاريخه (3) قيل لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) إن أبا طالب قد مات! عظم ذلك في قلبه واشتد له جزعه، ثم دخل فمسح جبينه الأيمن أربع مرات وجبينه الأيسر ثلاث مرات، ثم قال: يا عم ربيت صغيرا وكفلت يتيما ونصرت كبيرا، فجزاك اللّه عني خيرا، ومشى بين يدي سريره وجعل يعرضه ويقول: وصلت رحما وجزيت خيرا.

فبعد ما ورد من الأخبار والآثار الكثيرة التي يعجز الإنسان عن إحصائها، هل يرضى المسلم نسبة الكفر والشرك إلى أبي طالب الذي حامى عن الرسول في جميع الأحوال، ولولاه لقتله المشركون، وكان هو الحامي للرسول (صلى اللّه عليه وآله)، وحين مات أبو طالب بكى عليه الرسول (صلى اللّه عليه وآله) (4)، وصلى عليه ودفنه عند قبر جده

ص: 383


1- تقدمت تخريجاته
2- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1 ص 123، السيرة الحلبية: ج 2 ص 47
3- تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 35
4- كما رثاه ابنه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: أبا طالب عصمة المستجير *** وغيث المحول ونور الظلم لقد هد فقدك أهل الحفاظ *** فصلى عليك ولي النعم ولقاك ربك رضوانه *** فقد كنت للطهر من خير عم وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يعجبه أن يروي شعر أبي طالب (عليه السلام) وأن يدون وقال: تعلموه وعلموه أولادكم فإنه كان على دين اللّه وفيه علم كثير، وروي عن أبي بصير عن الباقر (عليه السلام) قال: مات أبو طالب بن عبد المطلب مسلما مؤمنا، وشعره في ديوانه يدل على إيمانه ثم محبته وتربيته ونصرته ومعاداة أعداء رسول اللّه وموالاة أوليائه وتصديقه إياه بما جاء من ربه وأمره لولديه علي وجعفر بأن يسلما ويؤمنا بما يدعو إليه الخ (راجع بحار الأنوار: ج 35 ص 114 - 117، سفينة البحار: ج 2 ص 88، وقد روى الأبيات ابن الجوزي في تذكرة الخواص: ص 9.

عبد المطلب، وجاء إلى زيارة قبره مكررا حينما كان في مكة، وهل يجوز على رأيكم أن يفعل النبي (صلى اللّه عليه وآله) كل هذا لإنسان مشرك؟ حاشاه وظني أن نسبة الشرك إلى أبي طالب (عليه السلام) جاءت من جهة المعاندة لابنه علي بن أبي طالب (عليه السلام) حيث أنهم ما وجدوا منقصة لعلي (عليه السلام) إلا نسبة الشرك إلى أبيه أبي طالب (عليه السلام). (1)

ص: 384


1- مناظرات في الحرمين الشريفين للبطحائي: 41 - 45.

حديث الثقلين

اشارة

ص: 385

ص: 386

المناظرة الخامسة والخمسون: مناظرة الشيخ معتصم سيد أحمد السوداني مع الشيخ عبد القادر الأرنؤوطي في حديث الثقلين

حدث لي أثناء إقامتي في الشام لقاء مع الشيخ عبد القادر الأرنؤوطي، وهو من علماء الشام، وله إجازة في علم الحديث.

وقد تم هذا اللقاء من غير إعداد مني، وإنما كان من طريق الصدفة..

كان لي أحد الأصدقاء السودانيين اسمه عادل، تعرفت عليه في منطقة السيدة زينب (عليها السلام) وقد أنار اللّه قلبه بنور أهل البيت (عليهم السلام) وتشيع لهم، وامتاز هذا الأخ بصفات حميدة قل ما تجدها في غيره، فكان خلوقا متدينا ورعا، وقد أجبرته الظروف على العمل في إحدى المزارع في منطقة تسمى العادلية - 9 كم تقريبا جنوب السيدة زينب (عليها السلام)، وكان بجوار المزرعة التي يعمل بها مزرعة أخرى لرجل كبير السن متدين يكنى بأبي سليمان.

فعندما عرف هذا الجار أن السوداني الذي يعمل بجواره شيعي، جاء إليه وتحدث معه، قال: يا أخي، السودانيون سنة طيبون... من أين لك بالتشيع؟! هل في أسرتك أحد شيعي؟

قال عادل: لا، ولكن الدين والقناعة لا تبتني على تقليد المجتمع والأسرة.

قال: إن الشيعة يكذبون ويخدعون العامة.

قال عادل: أنا لم أر منهم ذلك.

قال: بلى نحن نعرفهم جيدا.

ص: 387

قال عادل: يا حاج، هل تؤمن بالبخاري ومسلم وصحاح السنة؟

قال: نعم.

قال عادل: إن الشيعة يستدلون على أي عقيدة يؤمنون بها من هذه المصادر، فضلا عن مصادرهم.

قال: إنهم يكذبون، ولهم بخاري ومسلم محرف.

قال عادل: إنهم لم يلزموني بكتاب مخصص، بل طلبوا مني أن أبحث في أي مكتبة في العالم العربي.

قال: هذا كذب، وأنا من واجبي أن أردك مرة أخرى إلى السنة، «وإن يهدي بك اللّه رجل واحد خير لك مما طلعت عليه الشمس» (1).

قال عادل: نحن طالبي حق وهدى، نميل مع الدليل حيثما مال.

قال: إني سأحضر لك أكبر عالم في دمشق، وهو العلامة عبد القادر الأرنؤوطي، عالم جليل، ومحدث حافظ، وقد حاول الشيعة إغراءه بالملايين حتى يصبح معهم، لكنه رفض...

وافق - الأخ - عادل على هذا الطرح، وقال له أبو سليمان: موعدنا يوم الاثنين أنت وكل السودانيين الذين تأثروا بالفكر الشيعي.

جاء إلي عادل، وأخبرني بما حدث، وطلب مني أن أذهب معه... وبفرحة شديدة قبلت هذا العرض، وتواعدت معه يوم الاثنين بتاريخ 8 صفر 1417 من الهجرة على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم، في تمام الساعة 12 ظهرا.

وكان يوما شديد الحر، تقابلنا في الموعد، وانطلقنا إلى المزرعة مع ثلاثة

ص: 388


1- بحار الأنوار: ج 1 ص 215 ح 26، و ج 2 ص 146 ح 15.

من السودانيين، وبعد وصولنا كان الأخ عادل في استقبالنا في مزرعة خضراء تحفها الأشجار المثمرة من الخوخ والتفاح والتوت وغيرها من الفواكه التي لا توجد عندنا في السودان.

وبعدها أخذنا نحث الخطى إلى مزرعة جاره السني، فاستقبلنا بحفاوة بالغة، وبعد قليل من الاستجمام في ذلك المكان الذي تحيط به الخضرة من كل حدب، قمت إلى صلاة الظهر، وفي أثناء الصلاة، جاءت قافلة في مقدمتها سيارة تحمل الشيخ الأرنؤوطي، وقد امتلأ المكان بالناس وخارج المبنى بالسيارات، وعلت الدهشة وجوه أصحابي السودانيين من هيبة هذا المقام، لأنهم لم يتصوروا أن الأمر بهذا الحجم، وبعدما استقر كل واحد في مكانه، اخترت مكانا بجوار الشيخ.

وبعد إجراء التعريف بين الجميع، تحدث صاحب المزرعة مع الشيخ قائلا: إن هؤلاء إخواننا من السودان، وقد تأثروا بالتشيع في السيدة زينب (عليها السلام)، وبينهم واحد شيعي يعمل في المزرعة التي بجوارنا.

قال الشيخ: أين هذا الشيعي؟ قالوا له: ذهب إلى مزرعته وسيرجع بعد قليل.

قال: إذن نؤخر الحديث إلى رجوعه..

... ذهب إليه أحد السودانيين وأحضره إلى المجلس، وقد استغل الشيخ هذه الفرصة، بقراءة أحاديث كثيرة يحفظها عن ظهر قلب، وكان موضوعها أفضلية بعض البلدان على بعض، وخاصة الشام ودمشق، وقد أخذ هذا الموضوع حوالي نصف ساعة - وهو موضوع لا جدوى فيه -، وقد تعجبت منه كثيرا كيف لا يستغل هذا الظرف، وقد أعاره الجميع عقولهم بحديث يستفيدون منه في دينهم ودنياهم،

ص: 389

ثم قال: إن دين اللّه لا يؤخذ بالحسب والنسب، وقد جعل اللّه شرعه لكل الناس، فبأي حق نأخذ ديننا من أهل البيت (عليهم السلام)؟! وقد أمرنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بالتمسك بكتاب اللّه وسنته، وهو حديث صحيح لا يستطيع أحد تضعيفه، ولا يوجد عندنا طريق آخر غير هذا الطريق وضرب بيده على ظهر عادل وقال له: يا ابني، لا يغرنك كلام الشيعة.

استوقفته قائلا: سماحة الشيخ، نحن باحثون عن الحق، وقد اختلط علينا الأمر، وجئنا كي نستفيد منك عندما عرفنا أنك عالم جليل ومحدث وحافظ.

قال: نعم.

قلت: من البديهيات، التي لا يتغافل عنها إلا أعمى أن المسلمين قد تقسموا إلى طوائف ومذاهب متعددة، وكل فرقة تدعي أنها الحق وغيرها باطل، فكيف يتسنى لي، وأنا مكلف بشرع اللّه أن أعرف الحق من بين هذه الخطوط المتناقضة؟! هل أراد اللّه لنا أن نكون متفرقين، أم أراد أن نكون على ملة واحدة، ندين اللّه بتشريع واحد؟! وإذا كان نعم، ما هي الضمانة التي تركها اللّه ورسوله (صلى اللّه عليه وآله) لنا لكي تحصن الأمة من الضلالة؟

مع العلم أن أول ما وقع الخلاف بين المسلمين كان بعد وفاة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) مباشرة، فليس جائز في حق الرسول أن يترك أمته من غير هدى يسترشدون به.

قال الشيخ: إن الضمانة التي تركها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لتمنع الأمة من الاختلاف قوله (صلى اللّه عليه وآله): إني تارك فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب اللّه وسنتي (1).

ص: 390


1- كنز العمال: ج 1 ص 186 ح 948.

قلت: لقد ذكرت قبل قليل، في معرض كلامك قد يكون هناك حديث لا أصل له، أي غير مذكور في كتب الحديث.

قال: نعم.

قلت له: هذا الحديث لا أصل له في الصحاح الستة، فكيف تقول به، وأنت رجل محدث؟

.... هنا، شبت ناره، وأخذ يصرخ قائلا: ماذا تقصد، هل تريد أن تضعف هذا الحديث.

تعجبت من هذه الطريقة، وعن سبب هيجانه مع أنني لم أقل شيئا.

فقلت: مهلا، إن سؤالي واحد ومحدد، هل يوجد هذا الحديث في الصحاح الستة؟

قال: الصحاح ليست ستة، وكتب الحديث كثيرة، وإن هذا الحديث يوجد في كتاب الموطأ للإمام مالك (1).

قلت - متوجها إلى الحضور -: حسنا، قد اعترف الشيخ أن هذا الحديث، لا وجود له في الصحاح الستة، ويوجد في موطأ مالك..

فقاطعني - بلهجة شديدة - قائلا: شو، الموطأ مو كتاب حديث؟

قلت: الموطأ كتاب حديث، ولكن حديث: كتاب اللّه وسنتي مرفوع في الموطأ من غير سند، مع العلم أن كل أحاديث الموطأ مسندة.

ص: 391


1- الموطأ لمالك بن أنس: ج 2 ص 899 ح 3 (كتاب القدر) وإليك نص الحديث كما جاء في الموطأ، قال: وحدثني عن مالك، أنه بلغه أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قال: تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما مسكتم بهما: كتاب اللّه وسنة نبيه.

هنا صرخ الشيخ بعدما سقطت حجته، وأخذ يضربني بيده ويهزني شمالا ويمينا: أنت تريد أن تضعف الحديث، وأنت من حتى تضعفه... حتى خرج عن حدود المعقول، وأخذ الجميع يندهش من حركاته وتصرفه هذا.

قلت: يا شيخ! هنا مقام مناقشة ودليل، وهذا الأسلوب الغريب الذي تتبعه لا يجدي، وقد جلست أنا مع الكثير من علماء الشيعة، ولم أر مثل هذا الأسلوب أبدا، قال تعالى: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) (1)... وبعد هذا، هدأ قليلا من ثورته.

قلت: أسألك يا شيخ: هل رواية مالك لحديث كتاب اللّه وسنتي، في الموطأ، ضعيفة أم صحيحة؟!

قال - بتحسر شديد -: ضعيفة.

قلت: فلماذا إذن، قلت: أن الحديث في الموطأ، وأنت تعلم أنه ضعيف؟ قال - رافعا صوته -: إن للحديث طرق أخرى.

قلت للحضور: قد تنازل الشيخ عن رواية الموطأ، وقال: إن للحديث طرق أخرى، فلنسمع منه هذه الطرق.

... هنا أحس الشيخ بالهزيمة والخجل، لأن ليس للحديث طرق صحيحة، وفي هذه الأثناء، تحدث أحد الجلوس، فوكزني الشيخ بيده، وقال لي وهو مشيرا إلى المتحدث: إسمع له والتفت، يريد بذلك الهروب من السؤال المحرج الذي وجهته له.

أحسست منه هذا، ولكني أصررت وقلت: أسمعنا يا شيخ الطرق الأخرى

ص: 392


1- سورة آل عمران: الآية 159.

للحديث؟؟

قال - بلهجة منكسرة -: لا أحفظها، وسوف أكتبها لك.

قلت: سبحان اللّه!، أنت تحفظ كل هذه الأحاديث، في فضل البلدان والمناطق، ولا تحفظ طريق أهم الأحاديث، وهو مرتكز أهل السنة والجماعة، والذي يعصم الأمة عن الضلالة كما قلت... فظل ساكتا.

وعندما أحس الحضور بخجله، قال لي أحدهم: ماذا تريد من الشيخ وقد وعدك أن يكتبها لك، قلت: أنا أقرب لك الطريق، إن هذا الحديث يوجد أيضا في سيرة ابن هشام (1) من غير سند.

قال الشيخ الأرنؤوطي: إن سيرة ابن هشام، كتاب سيرة وليس حديث.

قلت: إذن تضعف هذه الرواية.

قال: نعم.

قلت: كفيتني مؤونة النقاش فيها.

وواصلت كلامي قائلا: ويوجد أيضا في كتاب الإلماع للقاضي عياض (2)، وفي كتاب الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (3)... هل تأخذ بهذه الروايات؟

قال: لا.

قلت: إذن، حديث كتاب اللّه وسنتي، ضعيف بشهادة الشيخ، ولم يبقى أمامنا إلا ضمانة واحدة تمنع الأمة من الاختلاف، وهي حديث متواتر عن رسول

ص: 393


1- السيرة النبوية لابن هشام: ج 4 ص 251
2- الإلماع إلى معرفة الرواية وتقييد السماع للقاضي: ص 9
3- كتاب الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي: ج 1 ص 94.

اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وقد روته كتب الحديث السنية، والصحاح الستة ما عدا البخاري وهو قول رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ، كتاب اللّه حبل ممدود ما بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي، فإن العليم الخبير، أنبئني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. كما في رواية أحمد بن حنبل (1)، ولا مناص لمؤمن يريد الإسلام الذي أمر اللّه به ورسوله (صلى اللّه عليه وآله) غير هذا الطريق، وهو طريق أهل البيت المطهرين في القرآن الكريم من الرجس والمعاصي، وذكرت مجموعة من فضائل أهل البيت (عليهم السلام)، والشيخ ساكت لم يتفوه بكلمة طوال هذه المدة - على غير عادته - فقد كان يقاطع حديثي بين كلمة وأخرى.

وعندما رأى مريدوه الانكسار في شيخهم، أصبحوا يهرجون ويمرجون.

قلت: كفى دجلا ونفاقا، ومراوغة عن الحق، إلى متى هذا التنكر؟!! والحق واضحة آياته، ظاهرة بيناته، وقد أقمت عليكم الحجة، بأن لا دين من غير الكتاب والعترة الطاهرة من آل محمد (صلى اللّه عليه وآله).

وظل الشيخ ساكتا ولم يرد علي كلمة واحدة. فقام منتفضا قائلا: أنا أريد أن أذهب، وأنني مرتبط بدرس، مع العلم أنه كان مدعوا لطعام الغذاء!!.

أصر عليه صاحب المنزل بالبقاء، وبعد إحضار طعام الغداء، هدأ المجلس، ولم يتفوه الشيخ بكلمة واحدة في أي موضوع كان، طيلة جلسة الغداء، وقد كان فيما سبق هو صاحب المجلس والحديث أولا!...

هكذا مصير كل من يراوغ ويخفي الحقائق، فلا بد أن ينكشف أمام الملأ.. (2)

ص: 394


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 3 ص 17، كنز العمال: ج 1 ص 173 ح 873 و 943 - 945
2- الحقيقة الضائعة، للشيخ معتصم السوداني: ص 49 - 56.

المناظرة السادسة والخمسون: مناظرة السيد محمد جواد المهري مع الأستاذ عمر الشريف في حديث الثقلين

بعد تبادل التحية والسلام مع الأستاذ، بدأت الحديث بالشكل التالي:

يا حضرة الأستاذ، كنا قد اتفقنا على مطالعة ودراسة الآيات النازلة في ولاية علي وأهل بيته (عليهم السلام)، وقد بحثنا في ما سبق آية منها، وهي آية الولاية، وأريد الآن أن أنقل لك حديثا مشهورا ومتواترا جدا، يكفي لوحده لإثبات خلافة علي (عليه السلام) بلا منازع.

هذا الحديث الشريف هو الذي أشرنا إليه في ما سبق مرة أو مرتين أثناء حوارنا، ويعرف بحديث الثقلين، وهو موضع إجماع العلماء والأكابر من السنة والشيعة، ونقله أكابر السنة في صحاحهم ومسانيدهم، قال ابن حجر في الصواعق المحرقة: «ولهذا الحديث طرق كثيرة عن نيف وعشرين صحابيا» (1).

ونقل أحمد بن حنبل في مسنده ما يلي: « قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): إني أوشك أن أدعى فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين، كتاب اللّه عز وجل وعترتي، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وأن اللطيف الخبير

ص: 395


1- الصواعق المحرقة لابن حجر: ص 150.

أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروني بم تخلفوني فيهما » (1).

وأورده مسلم أيضا في صحيحه. (2) دهش الأستاذ وقطع حديثي بغتة وقال: تمهل! هذه الرواية التي تقول أنها مشهورة ومتواترة جدا لم نسمع بها بهذه الصورة، بل سمعنا أنه قال: «كتاب اللّه وسنتي». نعم! هذه الرواية مشهورة بكلمة «سنتي» لا «عترتي»!

قلت: يا أستاذ، وهل لديك ما يثبت صحة هذا الكلام أو لا؟ فأنا كنت أترقب مثل هذا الاعتراض، لأن هذه الرواية:

أولا: جاءت في المسانيد والصحاح المختلفة - كما ذكرت آنفا - بعبارة «عترتي أهل بيتي»، إلا أن الأيدي الخفية برزت هنا مرة أخرى وحرفت هذه الرواية، ووضعت كلمة السنة بدل أهل البيت (عليهم السلام)، ولا أدري هل هذا عداء لأهل البيت أو هو شئ آخر لا أفقه اسمه، ولا أدري ما أسميه!؟ هب أن شخصا أو شخصين أو عشرة أشخاص نقلوا هذه الرواية بكلمة «سنتي» ولكن ماذا عساها أن تكون في قبالة سيل الروايات التي جاءت بصيغة «عترتي أهل بيتي»؟

ولو أنك صبرت حتى أنقل لك نص الرواية مع عدد من الأسانيد الصحيحة والقطعية لكان أفضل، وأنا أعطيك الحق في هذا لأنك لم تنقل هذه الرواية من المسانيد الأصلية بل من الكتب المطبوعة حديثا، والتي تدرس حتى في المدارس، فإن رأيت هذا الاعتراض في موضعه فمن الأفضل - مع فائق الاعتذار - بحث الروايات المختلفة لكتبكم من مصادرها الأصلية حتى تقف على هذه التحريفات.

ص: 396


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 3 ص 17
2- صحيح مسلم: ج 4 ص 1873 ح 36، الصواعق المحرقة لابن حجر: ص 149 - 150.

وقد سمعت أن الجامع الأزهر استحدث مؤخرا قسما خصصه لدراسة التحريف والتلاعب في المصادر الأصلية للحديث والسنة، ولعلهم يوقعون التحريف حتى في صحيحي البخاري ومسلم مع ما لهما من شهرة.

الأستاذ: لا علم لي بالقسم المذكور في الجامع الأزهر، ولعل هذا نوع من الافتراء والتهمة لا أكثر، هذا مع أنا لا نجهل كتبنا إلى هذا الحد الذي تقوله فإن هذه الرواية منقولة في مستدرك الحاكم، وقد نصت صراحة على «كتاب اللّه وسنتي»، وأنت تعلم أن كتاب المستدرك للحاكم من الكتب الصحيحة والمعتبرة عند السنة، وإن نقل الآخرون فإنما نقلوا عنه، لا بمعنى أنهم حرفوا.

قلت: أعتذر إن كنت قد أغضبتك، فقضية جامع الأزهر مثلما ذكرتها لك سماعية، وليس لدي معلومات دقيقة عنها، طبعا أحد علماء الأزهر واسمه «محمود أبو ريه» هو من كبار علماء السنة في مصر، وله كتب تحقيقية كثيرة، وهو الذي ذكر هذا الموضوع لأحد أقاربي، وأرجو أن لا يكون صحيحا، وإنه لمن دواعي السرور أن تعرف سند هذه الرواية.

طبعا أنا أدرك سعة معلوماتك وعمق معرفتك، ومن الطبيعي إننا ننقب في الكتب السنية أكثر منكم بحثا عن الروايات، لأننا مضطرون لأجل مناظرة أهل السنة للبحث في كتبهم، ولكننا مع هذا نعتقد بوجوب بذلكم المزيد من الدراسة والدقة في كتبكم، فالرواية التي نتحدث عنها قد رأيت (متنها) في المستدرك بلفظة «سنتي» (1).

ووردت في صحيح مسلم (2) الذي يعد أكثر اعتبارا وأهمية من مستدرك

ص: 397


1- المستدرك للحاكم: ج 1 ص 93
2- صحيح مسلم: ج 4 ص 1873 ح 36.

الحاكم بعبارة «أهل بيتي»، وهذه العبارة وردت في مصادر أخرى أيضا، ولم ترد كلمة «سنتي» إلا في مستدرك الحاكم، إذن فالإجماع على «أهل بيتي» وهذه الرواية يجب أن تذكر وتطبع في الكتب بدلا من الرواية التي وردت فيها كلمة سنتي.

أؤكد هنا ثانية، أن بعض الأيدي تستهدف حذف الروايات المتعلقة بأهل البيت (عليهم السلام) ولكنها لم تحقق هدفها طبعا، لأن العصر عصر التقدم والدراسة ولا يمكن إرغام الناس على اتباع هذا الدين أو ذلك المذهب: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (1).

نعود إلى ذكر الرواية وسندها القطعي في الكتب المعتبرة جهد الإمكان جاء في صحيح مسلم - كما ذكرنا - عن زيد بن أرقم أنه قال: « قام رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة، فحمد اللّه وأثنى عليه ووعظ وذكر، ثم قال: أما بعد، ألا يا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين كتاب اللّه فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب اللّه واستمسكوا به، فحث على كتاب اللّه ورغب فيه، ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم اللّه في أهل بيتي (2)، أذكركم اللّه في أهل بيتي » (3).

ص: 398


1- سورة البقرة: الآية 256
2- وذكر ابن حجر في الصواعق المحرقة: ص 65 عن مسلم - كما في مسنده: ج 4 ص 1874 ح 37 - عن زيد بن أرقم الحديث... وزاد أذكركم اللّه في أهل بيتي قلنا لزيد من أهل بيته؟ نساؤه؟ قال: لا أيم اللّه إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها، أهل بيته أهله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده
3- صحيح مسلم: ج 4 ص 1873 ح 36 (ك الصحابة ب 4 من فضائل علي بن أبي طالب)، السنن الكبرى للبيهقي: ج 2 ص 148 كتاب فضائل الصحابة (44) (ب من فضائل علي) ح 36 / 2408، مصابيح السنة للبغوي: ج 4 ص 185 ح 4800.

وجاء في سنن الترمذي بسنده الصحيح عن جابر بن عبد اللّه أنه قال: رأيت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في حجته يوم عرفة، وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: « يا أيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي » (1).

ونقل الترمذي بعد هذه الرواية عن زيد بن أرقم رواية بالنص التالي: « إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروني كيف تخلفوني فيهما » (2).

وفي الصواعق المحرقة لابن حجر أضيفت الجملة التالية - عن الطبراني -: « فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم » (3).

ونقل الحاكم في الجزء الثالث من المستدرك هذه الرواية نفسها بمزيد من التفصيل، وقال في ختامها أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قال ثلاث مرات: « أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ «قالوا: نعم، يا رسول اللّه، قال:» فمن كنت مولاه فعلي مولاه » (4)، وجاءت أيضا في كنز العمال نقلا عن ابن جرير وبسنده عن أبي الطفيل (5)، ونقل النسائي في خصائصه هذا الحديث نفسه ضمن حديث غدير خم

ص: 399


1- الجامع الصحيح للترمذي: ج 5 ص 621 ح 3786
2- الجامع الصحيح للترمذي: ج 5 ص 622 ح 3788
3- الصواعق المحرقة لابن حجر: ص 150
4- المستدرك للحاكم: ج 3 ص 109
5- كنز العمال: ج 13 ص 104 ح 36340.

عن زيد بن أرقم (1).

كانت هذه بعض الأسانيد المعروفة لهذا الحديث الذي ورد أيضا في مواضع متعددة من كتب الحديث الأخرى التي ليس الآن وقت بحثها، وعلى العموم بلغت هذه الرواية حد التواتر عند السنة والشيعة، وأعتقد أن هذا الحديث كاف وحده لإثبات أحقية اتباع أهل البيت (عليهم السلام)، ويضئ كالشمس الساطعة في ظلمة العالم المعاصر، ويفتح سبيل الهداية أمام الباحثين عن الحقيقة، ويجلي الحق ويظهره.

تعالوا وانظروا إلى هذه الرواية بقلب نقي، على أن تحرروا أنفسكم مسبقا من كل ألوان التعصب المذهبي وغير المذهبي، وتغاضوا عن معتقدات الآباء والأجداد، ولا تأخذوها بنظر الاعتبار في إزاء الحق، وتأملوا هذا الحديث المقدس بنظرة عميقة وفكروا فيه حتى تصلوا إلى النتيجة التي تخرجكم من التيه والضياع، وترشدكم إلى الطريق الذي اختاره لكم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وأمركم به.

لم يشأ رسول اللّه الذي شملت رأفته ورحمته الأمة أن يرحل عنها إلا وقد هداها إلى سبيل الحق، وكيف له أن يتركهم بلا وصية، وبدون تعيين الخليفة والوصي؟

أراد الرسول في هذه الوصية أن يبين لأصحابه أنهم إذا شاءوا مواصلة السير على طريق الهداية فعليهم بالتمسك بميراثيه، وهما القرآن والعترة لكي لا يضلوا بعده أبدا، وأراد أن يوضح للأجيال القادمة أن الحق لا يمكن بلوغه إلا عبر هذين الثقلين.

فإذا شئتم النجاة في منعطفات هذه الحياة الحافلة بالفتن فاعتصموا بهذه

ص: 400


1- خصائص أمير المؤمنين (عليه السلام) للنسائي: ص 100 ح 84.

التركة، التي خلفها لكم الرسول وهي القرآن والعترة، وإذا أردتم إرتقاء البناء الشامخ للحق والحقيقة، وصعود قمة الإيمان فلا بد لكم ومن غير شك بسلم متين يمكن التعويل عليه، وإلا فسوف تزل أقدامكم في الخطوة الأولى وتسقطون في وادي الهلكة وهاوية الضلالة.

نعم، إذا أردتم معرفة الأحكام الإلهية بكل اطمئنان، وإدراك معاني القرآن فاستعينوا بمفسريه الحقيقيين، وبأهل الذكر، وبالخلفاء الحقيقيين للرسول وتمسكوا بهم، ولا تسلكوا وديان الضلالة من غير دليل.

وإذا أردتم أن تبقوا إلى الأبد في مأمن من الانحراف والزيغ، فعليكم بمعرفة كنه كتاب اللّه، وتوجهوا إلى من لديهم علم الكتاب وهم سفينة النجاة، وإياكم والإعراض عنهم أو التقدم عليهم أو الانفصال عنهم، فهم عدل القرآن والمعصومون عن الخطأ والنسيان.

ألم يذكرهم الرسول إلى جانب القرآن؟ ألم يطهرهم الرحمن من كل رجس ونجس؟ أليسوا هم أجر الرسول (صلى اللّه عليه وآله) قبال مشقة إبلاغ الرسالة؟ ألم يعلن الرسول إلى الناس ما جاء من الوحي بحقهم، وهو قوله تعالى: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) ؟ (1)

وهل تصدق المودة بمجرد الادعاء؟ وهل المودة إلا الاتباع الصادق؟ ولم لا؟ وهل هناك ثقل ثالث؟ إذن ليس من خليفة للرسول إلا القرآن وأهل البيت (عليهم السلام)، ولو تمسكنا بهما فهو الفلاح، وإلا فإن أي طريق آخر لا يقود سوى إلى الهاوية، الكتاب والعترة محك التمييز بين الأنصار الأوفياء والمنافقين.

ص: 401


1- سورة الشورى: الآية 23.

ولم يكن اعتباطا قول الرسول (صلى اللّه عليه وآله) لعلي (عليه السلام): «لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق» (1).

الكتاب والعترة مع بعضهما مفتاح الفلاح، لأن العترة هم اللسان الناطق للقرآن، وأنى لنا لولاها من إدراك معاني القرآن العميقة وتشخيص محكمه من متشابهه، ومعرفة الناسخ والمنسوخ؟

إن الكتاب والعترة يستطيعان سوية إنقاذنا من الضلالة في هذا العالم المتلاطم الذي يعرض كل شخص فيه رأيا واجتهادا، ويعتبر نفسه مبينا للقرآن، وهم في ما بينهم مختلفون، وكل هؤلاء الأئمة الذين ناصروا خلفاء الجور من بني أمية وبني العباس لأجل أهوائهم ونزواتهم، ودسوا كل هذه الروايات الكاذبة والإسرائيليات في السنة النبوية المطهرة إرضاء للحكام، كيف يمكن التعويل عليهم؟ فحينما يكون عليا (عليه السلام) كيف يمكن الانقياد لمعاوية؟ وعندما يكون هناك حق، كيف يجوز التمسك بالباطل؟

كفى غفلة! وكفى غيابا عن الذات! وكفى تجاهلا لوصية الرسول (عليه السلام)! كيف ندعي اتباع الرسول محمد (صلى اللّه عليه وآله) ونحن نأتي ما تأمر به أهواؤنا النفسية؟ فنقبل بعض الأحكام وننكر بعضها، عسى اللّه أن لا يشملنا بمفاد الآية الشريفة التي تقول: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا) (2).

ص: 402


1- الجامع الصحيح للترمذي: ج 5 ص 601 ح 3736، وكنز العمال: ج 11 ص 598 ح 32878
2- سورة النساء: الآية 150 و 151.

فالكفار كانوا يفرقون بين الرسل، ونحن نفرق بين أقوال رسولنا، ومع أن اللّه ورسوله إذا أرادا أمرا، فلا مجال للتأخير والتأويل، بل تجب الطاعة التامة ولا ينبغي أن نأتي برأي من عندنا، ولكن مع كل الأسف نلاحظ أن كلام الرسول يعارض أحيانا إلى حد اتهامه بأنه يهجر.

دققوا النظر في هذه الرواية التي نتحدث عنها، فقد وردت في أكثر المصادر عبارة «وعترتي أهل بيتي»، ومع هذا لا نجد اليوم في كتب السنة سوى «وسنتي».

وهذا ليس تناقضا بل تحريفا، وهذه معارضة واضحة وصريحة من أهل السنة لإجماع علماء الحديث.

غط الأستاذ في تفكير عميق، ثم رفع رأسه وقال: مع كل هذه المصادر التي ذكرتها لا يبقى ثمة مجال للتأويل، فإنه من الواضح أن هناك غرضا وراء استبدال كلمة «عترتي» بكلمة «سنتي». وربما يكون هناك شخص اقترف مثل هذا العمل عمدا أو جهلا، ثم تابعه آلاف الناس على ذلك.

وعلى كل حال فالحق معك، ولكن يتبادر هنا سؤال إلى الذهن وهو: من هم أهل بيت الرسول؟ هل هم الأئمة الذين تعتقدون بهم، أم يشمل هذا المفهوم آخرين غيرهم؟ ولا يفوتني التذكير هنا بأن الآية الشريفة: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (1) قد وردت بين الآيات التي تتحدث عن نساء النبي، فهل نساء النبي من أهل البيت أم لا؟

أوكلت الإجابة عن هذه الأسئلة إلى اللقاء التالي بسبب تأخر الوقت (2).

ص: 403


1- سورة الأحزاب: الآية 33
2- مذكرات المدرسة للسيد محمد جواد المهري: 119 - 127.

ص: 404

الرجعة

اشارة

ص: 405

ص: 406

المناظرة السابعة والخمسون: مناظرة الإمام الرضا (عليه السلام) مع الفقهاء وأهل الكلام في الإمامة والمغالاة والرجعة والتناسخ

عن الحسن بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون يوما وعنده علي بن موسى الرضا (عليه السلام) وقد اجتمع الفقهاء وأهل الكلام من الفرق المختلفة.

فسأله بعضهم فقال له: يا بن رسول اللّه بأي شئ تصح الإمامة لمدعيها؟

قال: بالنص والدليل.

قال له: فدلالة الإمام فيم هي؟

قال: في العلم واستجابة الدعوة.

قال: فما وجه إخباركم بما يكون؟

قال: ذلك بعهد معهود إلينا من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله).

قال: فما وجه إخباركم بما في قلوب الناس.

قال (عليه السلام) له: أما بلغك قول الرسول (صلى اللّه عليه وآله) «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه» (1).

قال: بلى.

قال: وما من مؤمن إلا وله فراسة ينظر بنور اللّه على قدر إيمانه ومبلغ

ص: 407


1- سنن الترمذي: ج 5 ص 278 ح 3127، حلية الأولياء: ج 4 ص 94، المعجم الكبير للطبراني: ج 8 ص 121 ح 7497، مجمع الزوائد: ج 10 ص 268.

استبصاره وعلمه وقد جمع اللّه في الأئمة منا ما فرقه في جميع المؤمنين.

وقال عز وجل في محكم كتابه: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) (1) فأول المتوسمين رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ثم أمير المؤمنين (عليه السلام) من بعده ثم الحسن والحسين والأئمة من ولد الحسين (عليهم السلام) إلى يوم القيامة.

قال: فنظر إليه المأمون فقال له: يا أبا الحسن زدنا ما جعل اللّه لكم أهل البيت.

فقال الرضا (عليه السلام): إن اللّه عز وجل قد أيدنا بروح منه مقدسة مطهرة ليست بملك لم تكن مع أحد ممن كان مضى إلا مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وهي مع الأئمة منا تسددهم وتوفقهم وهو عمود من نور بيننا وبين اللّه عز وجل.

قال له المأمون: يا أبا الحسن، بلغني أن قوما يغلون فيكم ويتجاوزون فيكم الحد؟ فقال الرضا (عليه السلام): حدثني أبي موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب (عليهم السلام) قال: قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لا ترفعوني فوق حقي فإن اللّه تبارك وتعالى اتخذني عبدا قبل أن يتخذني نبيا (2).

قال اللّه تبارك وتعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ، وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (3).

ص: 408


1- سورة الحجر: الآية 75
2- المعجم الكبير للطبراني: ج 3 ص 138 - 139 ح 2889، مجمع الزوائد ج 9 ص 21
3- سورة آل عمران: الآية 79 و 80.

قال علي (عليه السلام): يهلك في اثنان ولا ذنب لي، محب مفرط ومبغض مفرط، وأنا أبرأ إلى اللّه تبارك وتعالى ممن يغلو فينا ويرفعنا فوق حدنا كبراءة عيسى بن مريم (عليه السلام) من النصارى (1).

قال اللّه تعالى: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (2). وقال عز وجل: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) (3). وقال عز وجل: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ) (4). ومعناه أنهما كانا يتغوطان، فمن ادعى للأنبياء ربوبية وادعى للأئمة ربوبية أو نبوة أو لغير الأئمة إمامة فنحن منه براء في الدنيا والآخرة.

فقال المأمون: يا أبا الحسن فما تقول في الرجعة؟

فقال الرضا (عليه السلام): إنها لحق كانت في الأمم السالفة ونطق بها القرآن (5)، وقد

ص: 409


1- ورد هذا الحديث بتفاوت أنظر: مسند أحمد: ج 1 ص 160، المستدرك للحاكم: ج 3 ص 123، ذخائر العقبى: ص 92، نظم درر السمطين: ص 104، مجمع الزوائد: ج 9 ص 133
2- سورة المائدة: الآية 116 و 117
3- سورة النساء: الآية 172
4- سورة المائدة: الآية 75
5- كما في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) البقرة / 243. كما يدل على وقوع الرجعة مستقبلا قوله تعالى: (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ) النمل / 83.

قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): يكون في هذه الأمة كل ما كان في الأمم السالفة حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة (1).

قال (عليه السلام): إذا خرج المهدي من ولدي نزل عيسى بن مريم (عليه السلام) فصلى خلفه، وقال (صلى اللّه عليه وآله): إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا (2)، فطوبى للغرباء (3) قيل: يا رسول اللّه ثم يكون ماذا؟ قال: ثم يرجع الحق إلى أهله.

فقال المأمون: يا أبا الحسن فما تقول في القائلين بالتناسخ (4)؟

ص: 410


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 5 ص 340، كنز العمال: ج 11 ص 134 ح 30924، كمال الدين وتمام النعمة للصدوق: ج 2 ص 576، عنه بحار الأنوار: ج 28 ص 10 ح 15، مجمع البيان للطبرسي: ج 7 ص 367
2- قال الجزري: أي أنه كان في أول أمره كالغريب الوحيد الذي لا أهل له عنده لقلة المسلمين يومئذ، وسيعود غريبا كما كان أي يقل المسلمون في آخر الزمان فيصيرون كالغرباء فطوبى للغرباء أي الجنة لأولئك المسلمين الذين كانوا في أول الإسلام ويكونون في آخره، وإنما خصهم بها لصبرهم على أذى الكفار أولا وآخرا ولزومهم دين الإسلام. (بحار الأنوار: ج 8 ص 12)
3- صحيح مسلم: ج 1 ص 130 ح 232 - (145)، مسند أحمد: ج 4 ص 73، تاريخ بغداد للخطيب: ج 3 ص 272، مجمع الزوائد: ج 7 ص 278، مشكل الآثار للطحاوي: ج 1 ص 297
4- وهناك من التبس عليه الحق فخلط بين الرجعة والتناسخ ولم يفهم الفرق بينهما وادعى أن الرجعة نوع من التناسخ، وكما لا يخفى أن التناسخ كما يعتقد أصحابه هو: انتقال النفس الناطقة من بدن إلى بدن آخر غير الأول، والذين يعتقدون ذلك يسمون (التناسخية)، وهؤلاء من جملة اعتقاداتهم كما روي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) (البحار ج 4 ص 320 ح 3):... والقيامة عندهم خروج الروح من قالبه وولوجه في قالب آخر، إن كان محسنا في القالب الأول أعيد في قالب أفضل منه حسنا في أعلى درجة الدنيا، وإن كان مسيئا أو غير عارف صار في بعض الدواب المتعبة في الدنيا، أو هوام مشوهة الخلقة الخ. وأما الرجعة فهو رجوع النفس إلى البدن الأول بمشخصاته النفسية لا أنها تحل في بدن آخر غير الأول.

فقال الرضا (عليه السلام): من قال بالتناسخ فهو كافر باللّه العظيم مكذب بالجنة والنار (1).

قال المأمون: ما تقول في المسوخ؟

قال الرضا (عليه السلام): إن أولئك قوم غضب اللّه عليهم فمسخهم فعاشوا ثلاثة أيام ثم ماتوا ولم يتناسلوا، فما يوجد في الدنيا من القردة والخنازير وغير ذلك مما وقع عليهم اسم المسوخية فهو مثل ما لا يحل أكلها والانتفاع بها.

قال المأمون: لا أبقاني اللّه بعدك يا أبا الحسن فواللّه ما يوجد العلم الصحيح إلا عند أهل البيت وإليك انتهت علوم آبائك فجزاك اللّه عن الإسلام وأهله خيرا.

قال الحسن بن الجهم: فلما قام الرضا (عليه السلام) تبعته فانصرف إلى منزله فدخلت عليه وقلت له: يا بن رسول اللّه الحمد لله الذي وهب لك من جميل رأي أمير المؤمنين ما حمله على ما أرى من إكرامه لك وقبوله لقولك.

فقال (عليه السلام): يا بن الجهم لا يغرنك ما ألفيته عليه من إكرامي والاستماع مني، فإنه سيقتلني بالسم، وهو ظالم لي، إني أعرف ذلك بعهد معهود إلي من آبائي عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فاكتم هذا ما دمت حيا.

قال الحسن بن الجهم: فما حدثت أحدا بهذا الحديث إلى أن مضى (عليه السلام) بطوس مقتولا بالسم ودفن في دار حميد بن قحطبة الطائي في القبة التي فيها قبر هارون الرشيد إلى جانبه (2).

ص: 411


1- بحار الأنوار للمجلسي: ج 4 ص 320 ح 1
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للصدوق: ج 1 ص 216 - 218 ب 46.

المناظرة الثامنة والخمسون: مناظرة السيد الحميري مع سوار القاضي في الرجعة

المناظرة الثامنة والخمسون: مناظرة السيد الحميري (1) مع سوار القاضي (2) في الرجعة

قال الحرث بن عبيد اللّه الربعي: كنت جالسا في مجلس المنصور وهو بالجسر الأكبر، وسوار - بن عبد اللّه القاضي - عنده، والسيد ينشده:

ص: 412


1- هو: إسماعيل بن محمد الحميري، الشاعر الطائر الصيت المولود سنة 105 والمتوفى سنة 173 أو سنة 179 في بغداد، صاحب القصيدة المشهورة: لأم عمرو باللوى مربع *** طامسة أعلامها بلقع ولقبه السيد ولم يكن علويا ولا هاشميا وإنما السيد لقب له، من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام ومن شعراء أهل البيت عليهم السلام المجاهرين، حاله في الجلالة ظاهر، ومجده باهر، قال العلّامة في حقه : ثقة جليل القدر عظيم الشأن والمنزلة، وكان في بدء الأمر كيسانياً ثمّ إمامياً ، وقيل له : كيف تشيعت وأنت شامي حميري ؟ فقال : صبّت عليَّ الرحمة صباً فكنت كمؤمن آل فرعون، وروي أن الإمام الصادق عليه السلام لقاء، فقال : سمتك أمك سيداً ووفقت في ذلك ، أنت سيد الشعراء، وقيل : إن له في أهل البيت عليهم السلام نحو ألفين وثلاثمائة قصيدة . انظر ترجمته في : تنقيح المقال للمامقاني : ج 1 ص 142 - 144 ترجمة رقم : 878، سفينة البحار : ج 1 ص 335 - 337 ، ديوان السيد الحميري : ص 5 - 39 ، الأعلام للزركلي : ج 320 - 321، فوات الوفيات : ج 1 ص 188 ، الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني : ج 7 ص 229 .
2- هو سوار بن عبد اللّه بن سوار بن عبد اللّه بن قدامة، من بني العنبر، من تميم، أبو عبد اللّه العنبري، من أهل البصرة، نزل بغداد وولي بها قضاء الرصافة، له علم بالفقه والحديث، وكف بصره في أواخر أعوامه، توفي ببغداد سنة 245. أنظر ترجمته في: تاريخ بغداد: ج 9 ص 210، الأعلام للزركلي: ج 3 ص 213.

إن الإله الذي لا شئ يشبهه *** آتاكم الملك للدنيا وللدين

آتاكم اللّه ملكا لا زوال له *** حتى يقاد إليكم صاحب الصين

وصاحب الهند مأخوذ برمته *** وصاحب الترك محبوس على هون (1) حتى أتى على القصيدة والمنصور مسرور، فقال سوار: هذا واللّه يا أمير المؤمنين يعطيك بلسانه ما ليس في قلبه، واللّه إن القوم الذين يدين بحبهم لغيركم، وإنه لينطوي في عداوتكم.

فقال السيد: واللّه إنه لكاذب، وإنني في مديحك لصادق، ولكنه حمله الحسد إذ رآك على هذه الحال، وإن انقطاعي ومودتي لكم أهل البيت لمعرق لي فيها عن أبوي، وإن هذا وقومه لأعداؤكم في الجاهلية والإسلام، وقد أنزل اللّه عز وجل على نبيه - عليه وآله السلام - في أهل بيت هذا: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (2). (3)

فقال المنصور: صدقت.

فقال سوار: يا أمير المؤمنين إنه يقول بالرجعة، ويتناول الشيخين بالسب والوقيعة فيهما.

فقال السيد: أما قوله بأني أقول بالرجعة فإن قولي في ذلك على ما قال اللّه

ص: 413


1- ديوان السيد الحميري: ص 444، قصيدة رقم: 187، الغدير للأميني: ج 2 ص 233
2- سورة الحجرات: الآية 4
3- جاء في أسباب النزول للواحدي: 219 - 220 إن هذه الآية الشريفة نزلت في جفاة بني تميم، قدم وفد منهم على النبي (صلى اللّه عليه وآله) فدخلوا المسجد، فنادوا النبي (صلى اللّه عليه وآله) من وراء حجرته أن أخرج إلينا يا محمد... فأنزل اللّه تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) .

تعالى: (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ) (1)، وقد قال في موضع آخر: (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا) (2)، فعلمت أن هاهنا حشرين (3) أحدهما عام والآخر خاص، وقال سبحانه : (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) (4)، (5) وقال اللّه تعالى: (فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) (6) وقال اللّه تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) (7).

ص: 414


1- سورة النمل: الآية 83
2- سورة الكهف: الآية 47
3- ويدل على ذلك ما روي عن ابن أبي عمير عن حماد، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)، قال: ما يقول الناس في هذه الآية: (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا) ؟ قلت: يقولون: إنها في القيامة، قال: ليس كما يقولون، إن ذلك في الرجعة أيحشر اللّه في القيامة من كل أمة فوجا، ويدع الباقين؟! إنما أية يوم القيامة قوله: (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا) . وما روي عن ابن أبي عمير - أيضا - عن المفضل، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى: (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا) ، قال: ليس أحد من المؤمنين قتل إلا ويرجع حتى يموت، ولا يرجع إلا من محض الإيمان محضا، ومن محض الكفر محضا. راجع: تفسير القمي: ج 1 ص 24، و ج 2 ص 131، البرهان في تفسير القرآن للبحراني: ج 4 ص 228
4- سورة غافر: الآية 11
5- روي عن محمد بن سلام، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) ، قال: هو خاص لأقوام في الرجعة بعد الموت، فتجري في القيامة، فبعدا للقوم الظالمين. راجع: البرهان في تفسير القرآن للبحراني: ج 4 ص 749
6- سورة البقرة: الآية 259
7- سورة البقرة: الآية 243.

فهذا كتاب اللّه عز وجل، وقد قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) «يحشر المتكبرون في صور الذر يوم القيامة» (1)، وقال (صلى اللّه عليه وآله): «لم يجر في بني إسرائيل شئ إلا ويكون في أمتي مثله حتى المسخ والخسف والقذف» (2)، وقال حذيفة: «واللّه ما أبعد أن يمسخ اللّه كثيرا من هذه الأمة قردة وخنازير» (3).

فالرجعة التي نذهب إليها هي ما نطق به القرآن وجاءت به السنة، وإنني لأعتقد أن اللّه تعالى يرد هذا - يعني سوارا - إلى الدنيا كلبا، أو قردا أو خنزيرا، أو ذرة، فإنه واللّه متجبر متكبر كافر.

قال: فضحك المنصور وأنشد السيد يقول:

جاثيت سوارا أبا شملة *** عند الإمام الحاكم العادل

فقال قولا خطلا كله *** عند الورى الحافي والناعل

ما ذب عما قلت من وصمة *** في أهله بل لج في الباطل

وبان للمنصور صدقي كما *** قد بان كذب الأنوك الجاهل

يبغض ذا العرش ومن يصطفي *** من رسله بالنير الفاضل

ويشنأ الحبر الجواد الذي *** فضل بالفضل على الفاضل

ويعتدي بالحكم في معشر *** أدوا حقوق الرسل للراسل

ص: 415


1- مسند أحمد: ج 2 ص 179، سنن الترمذي: ج 4 ص 565 ح 2492، الترغيب والترهيب للمنذري: ج 4 ص 388 ح 23، إتحاف السادة المتقين للزبيدي: ج 8 ص 343، بحار الأنوار: ج 7 ص 50 ح 31 و ج 73 ص 219 ح 11
2- كنز العمال: ج 5 ص 447 ح 13168، و ج 14 ص 281 ح 38732 - 38734، بحار الأنوار: ج 22 ص 452 ح 10 و ج 79 ص 244 ح 18
3- كنز العمال: ج 5 ص 447 ح 13169، و ج 14 ص 281 ح 38735.

فبين اللّه تزاويقه *** فصار مثل الهائم الهائل (1) قال: فقال المنصور: كف عنه.

فقال السيد: يا أمير المؤمنين، البادي أظلم، يكف عني حتى أكف عنه.

فقال المنصور لسوار: تكلم بكلام فيه نصفة، كف عنه حتى لا يهجوك (2).

ص: 416


1- ديوان السيد الحميري: ص 342 - 343، قصيدة رقم: 141
2- الفصول المختارة للشيخ المفيد: ص 61 - 63، بحار الأنوار للمجلسي: ج 10 ص 232 - 234 ح 3 و ج 53 ص 131 ح 161، ديوان الحميري: ص 443، الأغاني لأبي فرج الأصفهاني: ج 7 ص 260 - 261.

المناظرة التاسعة والخمسون: مناظرة شيخ من الإمامية مع بعض المعتزلة في الرجعة وكلام الشيخ المفيد في ذلك

ومن كلام الشيخ أدام اللّه عزه في الرجعة وجواب سؤال فيها سأله المخالفون.

قال الشيخ: سأل بعض المعتزلة شيخا من أصحابنا الإمامية وأنا حاضر في مجلس قد ضم جماعة كثيرة من أهل النظر والمتفقهة فقال له: إذا كان من قولك أن اللّه جل اسمه يرد الأموات إلى دار الدنيا قبل الآخرة عند قيام القائم (1) (عليه السلام) ليشفي

ص: 417


1- كما أفصحت بذلك الأخبار المتواترة، وأن الرجعة ليست بعامة وهي خاصة، لا يرجع إلا من محض الإيمان محضا أو محض الشرك محضا، وإليك كلمات بعض الأعلام في هذه المسألة: قال السيد المرتضى (رحمه اللّه): إن الذي تذهب الشيعة الإمامية إليه إن اللّه تعالى يعيد عند ظهور إمام الزمان المهدي (عليه السلام) قوما ممن كان قد تقدم موته من شيعته ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته ومشاهدة دولته، ويعيد أيضا قوما من أعدائه لينتقم منهم فيلتذوا بما يشاهدون من ظهور الحق، وعلو كلمة أهله، والدلالة على صحة هذا المذهب أن الذي ذهبوا إليه مما لا شبهة على عاقل في أنه مقدور لله تعالى غير مستحيل في نفسه، فإنا نرى كثيرا من مخالفينا ينكرون الرجعة إنكار من يراها مستحيلة غير مقدورة، وإذا ثبت جواز الرجعة ودخولها تحت المقدور فالطريق إلى إثباتها إجماع الإمامية على وقوعها، فإنهم لا يختلفون في ذلك، وإجماعهم قد بينا في مواضع من كتبنا أنه حجة لدخول قول الإمام (عليه السلام) فيه. وقال العلامة المجلسي (رحمه اللّه): إعلم يا أخي إني لا أظنك ترتاب بعدما شهدت وأوضحت لك في القول بالرجعة التي أجمعت الشيعة عليها في جميع الأعصار، واشتهرت بينهم كالشمس في رائعة النهار حتى نظموها في أشعارهم واحتجوا بها على المخالفين في جميع أعصارهم، وشنع المخالفون عليهم في ذلك وأثبتوه في كتبهم وأسفارهم، منهم الرازي والنيسابوري وغيرهما، ولولا مخافة التطويل من غير طائل لأوردت كثيرا من كلامهم في ذلك، وكيف يشك مؤمن بحقيقة الأئمة الأطهار (عليهم السلام) فيما تواتر عنهم في قريب من مائتي حديث صريح رواها نيف وأربعون من الثقات العظام والعلماء الأعلام في أزيد من خمسين من مؤلفاتهم، ثم عد منهم المشايخ الثلاثة، والمفيد والمرتضى والنجاشي والكشي والعياشي والقمي وابن قولويه والكراجكي والصفار والفضل بن شاذان والنعماني وابن شهرآشوب والراوندي والطبرسي والعلامة والشيخ الشهيد وغير ذلك - رضوان اللّه عليهم أجمعين - ثم قال: وإذا لم يكن مثل هذا متواترا ففي أي شئ يمكن دعوى التواتر مع ما روته كافة الشيعة خلفا عن سلف؟! وظني أن من يشك في أمثالها فهو شاك في أئمة الدين ولا يمكنه إظهار ذلك من بين المؤمنين فيحتال في تخريب الملة القويمة بإلقاء ما يتسارع إليه عقول المستضعفين وتشكيكات الملحدين: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) الصف / 8. راجع: سفينة البحار للقمي: ج 1 ص 511 - 512. وقال الشيخ الطبرسي (رحمه اللّه): وقد تظافرت الأخبار عن أئمة الهدى من آل محمد (صلى اللّه عليه وآله) في أن اللّه تعالى سيعيد عند قيام المهدي قوما ممن تقدم موتهم من أوليائه وشيعته ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته، ويبتهجوا بظهور دولته، ويعيد أيضا قوما من أعدائه لينتقم منهم وينالوا بعض ما يستحقونه من العذاب في القتل على أيدي شيعته والذل والخزي بما يشاهدون من علو كلمته، ولا يشك عاقل أن هذا مقدور لله تعالى غير مستحيل في نفسه وقد فعل اللّه ذلك في الأمم الخالية ، ونطق القرآن بذلك في عدة مواضع مثل: قصة عزير وغيره على ما فسرناه في موضعه، وصح عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) قوله: سيكون في أمتي كل ما كان في بني إسرائيل حذوا النعل بالنعل والقذة بالقذة حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتموه. على أن جماعة من الإمامية تأولوا ما ورد من الأخبار في الرجعة على رجوع الدولة والأمر والنهي دون رجوع الأشخاص وإحياء الأموات، وأولوا الأخبار الواردة في ذلك لما ظنوا أن الرجعة تنافي التكليف، وليس كذلك لأنه ليس فيها ما يلجئ إلى فعل الواجب، والامتناع من القبيح والتكليف يصح معها كما يصح مع ظهور المعجزات الباهرة والآيات القاهرة كفلق البحر، وقلب العصا ثعبانا، وما أشبه ذلك، ولأن الرجعة لم تثبت بظواهر الأخبار المنقولة فيتطرق التأويل عليها، وإنما المعول في ذلك على إجماع الشيعة الإمامية، وإن كانت الأخبار تعضده وتؤيده. راجع: مجمع البيان للطبرسي: ج 7 ص 367. وقال الشيخ المظفر (رحمه اللّه) في كتابه عقائد الإمامية: ص 338: إن الذي تذهب إليه الإمامية - أخذا بما جاء عن آل البيت (عليهم السلام) إن اللّه تعالى يعيد قوما من الأموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها، فيعز فريقا ويذل فريقا آخر، ويديل المحقين من المبطلين والمظلومين منهم من الظالمين، وذلك عند قيام مهدي آل محمد (صلى اللّه عليه وآله)، ولا يرجع إلا من علت درجته في الإيمان، أو من بلغ الغاية من الفساد، ثم يصيرون بعد ذلك إلى الموت، ومن بعده إلى النشور وما يستحقونه من الثواب أو العقاب، كما حكى اللّه تعالى في قرآنه الكريم تمني هؤلاء المرتجعين - الذين لم يصلحوا بالارتجاع فنالوا مقت اللّه - أن يخرجوا ثالثا لعلهم يصلحون: (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) ، المؤمن / 11.

ص: 418

المؤمنين كما زعمتم من الكافرين وينتقم لهم منهم، كما فعل ببني إسرائيل فيما ذكرتم، حتى تتعلقون بقوله تعالى: (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا) (1) فخبرني ما الذي يؤمنك أن يتوب يزيد وشمر وعبد الرحمان بن ملجم ويرجعوا عن كفرهم وضلالهم، ويصيروا في تلك الحال إلى طاعة الإمام (عليه السلام)، فيجب عليك ولايتهم، والقطع بالثواب لهم؟ وهذا نقض مذاهب الشيعة.

فقال الشيخ المسؤول: القول في الرجعة إنما قبلته من طريق التوقيف وليس للنظر فيه مجال، وأنا لا أجيب عن هذا السؤال، لأنه لا نص عندي فيه، وليس يجوز أن أتكلف من غير جهة النص الجواب، فشنع السائل وجماعة المعتزلة عليه بالعجز والانقطاع.

ص: 419


1- سورة الإسراء: الآية 11.

وقال الشيخ أدام اللّه عزه: فأقول أنا أبين في هذا السؤال جوابين:

أحدهما: أن العقل لا يمنع من وقوع الإيمان ممن ذكره السائل، لأنه يكون إذ ذاك قادرا عليه ومتمكنا منه، لكن السمع الوارد عن أئمة الهدى (عليهم السلام) بالقطع عليهم بالخلود في النار، والتدين بلعنهم، والبراءة منهم إلى آخر الزمان منع من الشك في حالهم، وأوجب القطع على سوء اختيارهم، فجروا في هذا الباب مجرى فرعون وهامان وقارون، ومجرى من قطع اللّه عز اسمه على خلوده في النار، ودل بالقطع على أنهم لا يختارون أبدا الإيمان ممن قال اللّه تعالى في جملتهم: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) (1) يريد إلا أن يلجئهم اللّه، والذين قال اللّه تعالى فيهم: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ، وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (2) ثم قال جل من قائل في تفصيلهم وهو يوجه القول إلى إبليس: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) (3).

وقوله: (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) (4) وقوله: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ، مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ، سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ) (5) فقطع عليه بالنار، وأمن من انتقاله إلى ما يوجب له الثواب، وإذا كان الأمر على ما وصفناه بطل ما توهموه على هذا الجواب.

ص: 420


1- سورة الأنعام: الآية 111
2- سورة الأنفال: الآية 22 - 23
3- سورة ص: الآية 85
4- سورة ص: الآية 78
5- سورة المسد: الآية 1 - 3.

والجواب الآخر: أن اللّه سبحانه إذا رد الكافرين في الرجعة لينتقم منهم لم يقبل لهم توبة، وجروا في ذلك مجرى فرعون لما أدركه الغرق (قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (1)، قال اللّه سبحانه:

(آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (2) فرد اللّه عليه إيمانه، ولم ينفعه في تلك الحال ندمه وإقلاعه (3)، وكأهل الآخرة الذين لا تقبل لهم توبة ولا ينفعهم ندم، لأنهم كالملجئين إذ ذاك إلى الفعل، ولأن الحكمة تمنع من قبول التوبة أبدا، وتوجب اختصاص بعض الأوقات بقبولها دون بعض.

ص: 421


1- سورة يونس: الآية 90
2- سورة يونس: الآية 91
3- روي عن إبراهيم بن محمد الهمداني، قال: قلت للرضا (عليه السلام): لأي علة أغرق اللّه فرعون وقد آمن به وأقر بتوحيده؟ قال: لأنه آمن عند رؤية البأس، والإيمان عند رؤية البأس غير مقبول، وذلك حكم اللّه تعالى ذكره في السلف والخلف، قال اللّه عز وجل: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا) وقال عز وجل: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) وهكذا فرعون لما أدركه الغرق قال: (آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فقيل له: (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) . بحار الأنوار: ج 6 ص 23 ح 25. ومما يدل أيضا على عدم قبول التوبة ممن رأى البأس - كفرعون الذي آمن حينما عاين العذاب - هو ما روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) وذلك أنه أتي المأمون بنصراني قد فجر بهاشمية فلما رآه أسلم فغاظه ذلك، وسأل الفقهاء فقالوا: هدر الإسلام ما قبله فسأل الرضا (عليه السلام) فقال: اقتله لأنه أسلم حين رأى البأس، قال اللّه عز وجل: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ....) (بحار الأنوار: ج 49 ص 172 ح 9)، ومثل هذه الواقعة حصلت أيضا في زمن الإمام الهادي (عليه السلام) فأجاب بنفس الجواب السابق. راجع: بحار الأنوار: ج 50 ص 172 ح 51.

وهذا هو الجواب الصحيح على مذهب أهل الإمامة، وقد جاءت به آثار متظاهرة عن آل محمد (عليهم السلام) حتى روي عنهم في قوله سبحانه: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (1) فقالوا: إن هذه الآية هو القائم (2) (عليه السلام)، فإذا ظهر لن تقبل توبة المخالف، وهذا يسقط ما اعتمده السائل.

سؤال - فإن قالوا في هذا الجواب: ما أنكرتم أن يكون اللّه سبحانه على ما أصلتموه قد أغرى عباده بالعصيان، وأباحهم الهرج والمرج والطغيان، لأنهم إذا

ص: 422


1- سورة الأنعام: الآية 158
2- كما جاء في رواية ابن رئاب، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنه قال: في قول اللّه عز وجل: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) فقال: الآيات هم الأئمة (عليهم السلام) والآية المنتظر هو القائم (عليه السلام) فيومئذ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل قيامه بالسيف وإن آمنت بمن تقدمه من آبائه (عليهم السلام) (بحار الأنوار: ج 51 ص 51 ح 25). ومثله أيضا جاء عن أبي بصير قال: قال الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) في قول اللّه عز وجل: (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا) قال (عليه السلام): يعني يوم خروج القائم المنتظر منا (بحار الأنوار: ج 52 ص 149 ح 76). وجاء أيضا عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) قال: نزل (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) (قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) قال: إذا طلعت الشمس من مغربها فكل من آمن في ذلك اليوم لا ينفعه إيمانه. (بحار الأنوار: ج 6 ص 313 ح 18). وجاء أيضا في كنز العمال: ج 6 ص 153 - 154 ح 15203: من حديث روي عنه (صلى اللّه عليه وآله) - إلى أن قال -: فيقال لها: ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك فتصبح طالعة من مغربها، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): أتدرون متى ذاكم؟ ذاك حين (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) .

كانوا يقدرون على الكفر وأنواع الضلال وقد يئسوا من قبول التوبة، لم يدعهم داع إلى الكف عما في طباعهم، ولا انزجروا عن فعل قبيح يصلون به إلى النفع العاجل، ومن وصف اللّه سبحانه بإغراء خلقه بالمعاصي وإباحتهم الذنوب فقد أعظم الفرية عليه؟

جواب - قيل لهم: ليس الأمر على ما ظننتموه، وذلك أن الدواعي لهم إلى المعاصي ترتفع إذ ذاك ولا يحصل لهم داع إلى قبيح على وجه من الوجوه، ولا سبب من الأسباب، لأنهم يكونون قد علموا بما سلف لهم من العذاب إلى وقت الرجعة على خلاف أئمتهم (عليهم السلام)، ويعلمون في الحال أنهم معذبون على ما سبق لهم من العصيان، وأنهم إن راموا فعل قبيح تزايد عليهم العقاب، ولا يكون لهم عند ذلك طبع يدعوهم إلى ما يتزايد عليهم به العذاب، بل تتوفر لهم دواعي الطباع والخواطر كلها إلى إظهار الطاعة والانتقال عن العصيان، وإن لزمنا هذا السؤال لزم جميع أهل الإسلام مثله في أهل الآخرة، وحالهم في إبطال توبتهم وكون توبتهم غير مقبولة منهم، فمهما أجاب به الموحدون لمن ألزمهم ذلك، فهو جوابنا بعينه.

سؤال آخر - وإن سألوا على المذهب الأول والجواب المتقدم فقالوا: كيف يتوهم من القوم الإقامة على العناد، والإصرار على الخلاف، وقد عاينوا فيما يزعمون عقاب القبور، وحل بهم عند الرجعة العذاب على ما يعلمون مما زعمتم أنهم مقيمون عليه، وكيف يصح أن تدعوهم الدواعي إلى ذلك، ويخطر لهم في فعله الخواطر، وما أنكرتم أن تكونوا في هذه الدعوى مكابرين؟

الجواب - قيل لهم: يصح ذلك على مذهب من أجاب بما حكيناه من أصحابنا بأن نقول: إن جميع ما عددتموه لا يمنع من دخول الشبهة عليهم في

ص: 423

استحسان الخلاف، لأن القوم يظنون أنهم إنما بعثوا بعد الموت تكرمة لهم، وليلوا الدنيا كما كانوا يظنون أن ما اعتقدوه في العذاب السالف لهم كان غلطا منهم، وإذا حل بهم العقاب ثانية توهموا قبل مفارقة أرواحهم أجسادهم أن ذلك ليس من طريق الاستحقاق، وأنه من اللّه تعالى، لكنه كما تكون الدول وكما حل بالأنبياء.

ولأصحاب هذا الجواب أن يقولوا: ليس ما ذكرناه في هذا الباب بأعجب من كفر قوم موسى وعبادتهم العجل، وقد شاهدوا منه الآيات، وعاينوا ما حل بفرعون وملئه على الخلاف، ولا هو بأعجب من إقامة أهل الشرك على خلاف رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وهم يعلمون عجزهم عن مثل ما أتى به القرآن، ويشهدون معجزاته وآياته - عليه وآله السلام -، ويجدون مخبرات أخباره على حقائقها من قوله تعالى: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (1) وقوله: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) (2)، وقوله: (ألم، غُلِبَتِ الرُّومُ ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) (3) وما حل بهم من العقاب بسيفه - عليه وآله السلام - وهلاك كل من توعده بالهلاك، هذا وفيمن أظهر الإيمان به المنافقون ينضافون في خلافه إلى أهل الشرك والضلال.

على أن هذا السؤال لا يسوغ لأصحاب المعارف من المعتزلة، لأنهم يزعمون أن أكثر المخالفين على الأنبياء كانوا من أهل العناد، وأن جمهور المظهرين للجهل باللّه يعرفونه على الحقيقة ويعرفون أنبياءه وصدقهم، ولكنهم في

ص: 424


1- سورة القمر: الآية 45
2- سورة الفتح: الآية 27
3- سورة الروم: الآية 1 - 3.

الخلاف على اللجاجة والعناد، فلا يمنع أن يكون الحكم في الرجعة وأهلها على هذا الوصف الذي حكيناه، وقد قال اللّه تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (1).

فأخبر سبحانه أن أهل العقاب لو ردهم اللّه تعالى إلى الدنيا لعادوا إلى الكفر والعناد، مع ما شاهدوا في القبور وفي المحشر من الأهوال، وما ذاقوا من أليم العذاب (2).

ص: 425


1- سورة الأنعام: الآية 27 - 28
2- الفصول المختارة للمفيد: ص 153 - 157.

ص: 426

الإمام الحجة (عليه السلام) والحكمة من الغيبة

اشارة

ص: 427

ص: 428

المناظرة الستون: مناظرة الإمام الصادق (عليه السلام) مع عبد اللّه بن الفضل الهاشمي في الحكمة من غيبة الإمام المهدي (عليه السلام)

روي عن عبد اللّه بن الفضل الهاشمي قال: سمعت الصادق (عليه السلام) يقول: إن لصاحب هذا الأمر غيبة لا بد منها، يرتاب فيها كل مبطل.

قلت له: ولم جعلت فداك؟

قال: لأمر لا يؤذن لي في كشفه لكم.

قلت: فما وجه الحكمة في غيبته؟

قال: وجه الحكمة في غيبته، وجه الحكمة في غيبات من تقدمه من حجج اللّه (1) تعالى ذكره، إن وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلا بعد ظهوره (2)، كما لم

ص: 429


1- راجع: كمال الدين وتمام النعمة للصدوق: ج 1 ص 127 - 153 (في الحكمة من غيبات بعض الأنبياء (عليهم السلام))
2- إن مفاد هذه الرواية الشريفة هو عدم معرفة وجه الحكمة من غيبته الشريفة حتى يظهر عجل اللّه فرجه الشريف، فحينئذ يتبين للناس وجه الحكمة من غيبته، إلا أن هناك مجموعة من الروايات الشريفة والتي ذكرها الشيخ الصدوق عليه الرحمة في كمال الدين: ج 1 ص 479 - 482 (ب علة الغيبة) قد أفصحت عن بعض أوجه الحكمة من غيبته: وهي على طوائف خمس على حسب ما تتبعته عاجلا وهي: الطائفة الأولى: كرواية علي بن الحسن بن علي بن فضال، عن أبيه، عن أبي الحسن بن موسى الرضا (عليه السلام) أنه قال: كأني بالشيعة عند فقدهم الثالث (الرابع ن ل) من ولدي كالنعم يطلبون المرعى فلا يجدونه، قلت له: ولم ذاك يا بن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)؟ قال: لأن إمامهم يغيب عنهم، فقلت: ولم؟ قال: لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا قام بالسيف. الطائفة الثانية (وهي رواية واحدة): ما روي عن حنان بن سدير، عن أبيه، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : إنَّ للقائم منا غيبة يطول أمدها ، فقلت له : يا بن رسول اللّه ولم ذلك ؟ قال : لأن اللّه عزّ وجل أبي إلا أن تجري فيه سنن الأنبياء عليهم السلام في غيباتهم ، وإنه لا بد له يا سدير من استيفاء مدد غيباتهم ، قال اللّه تعالى : ( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ) - الانشقاق : 9 - أي سنن من كان قبلكم . الطائفة الثالثة : كرواية زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : للقائم غيبة قبل قيامه ، قلت : ولم ؟ قال : يخاف على نفسه الذبح . الطائفة الرابعة : (وهي التي ذكرها أيضاً الشيخ الصدوق عليه الرحمة في كمال الدين : ج 2 ص 641 ب 54) عن إبراهيم الكرخي قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : أصلحك اللّه ألم يكن علي عليه السلام قوياً في دين اللّه عزّ وجلّ ؟ قال : بلى . قال : فكيف ظهر عليه القوم ، وكيف لم يدفعهم وما يمنعه من ذلك ؟ قال : أيةً في كتاب اللّه عز وجل منعته قال : قلت وأية آية هي ؟ قال : قوله عزّ وجل : (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) إنه كان اللّه عزّ وجلّ ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين ومنافقين ، فلم يكن علي عليه السلام ليقتل الآباء حتى يخرج الودائع فلما خرجت الودائع ظهر على من ظهر فقاتله ، وكذلك قائمنا أهل البيت عليهم السلام لن يظهر أبداً حتى تظهر ودائع اللّه عزّ وجلّ فإذا ظهرت ظهر على من يظهر فقتله . الطائفة الخامسة : وهي ما روي عن أبي جعفر عليهم السلام محمد بن علي أنه قال : إذا اجتمع للإمام عدة أهل بدر ثلاث مائة وثلاثة عشر وجب عليه القيام والتغيير. (بحار الأنوار : ج 10 ص 49 ح 18). فمفاد هذه الطوائف الخمس هي أن أوجه الحكمة خمسة أمور في عدم ظهوره حتى يأذن اللّه له بالخروج صلوات اللّه عليه وهي : 1 - لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا قام بالسيف . 2 - لكي تجري فيه سنن الأنبياء السابقين في غيباتهم واستيفائها . 3 - أنه لا يخاف على نفسه الذبح لو خرج قبل أوان خروجه المناسب . 4 - أنه لن يظهر حتى تظهر ودائع اللّه (كما في رواية أخرى : ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرین) . 5 - إنه لا يظهر حتى تتكامل عدة أصحابه عدة أهل بدر ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً . وهم أصحاب الألوية ، وهم حكام اللّه في أرضه على خلفه .. الخ كما في رواية المفضل بن عمر عن الإمام الصادق ال (بحار الأنوار: ج 52 ص 326 ح 42) . فما هو وجه الجمع بين رواية الهاشمي التي مفادها عدم معرفة الحكمة من غيبته حتى يظهر ، وبين تلك الطوائف الخمس في بيان الحكمة من الغيبة ؟ نقول : لعل الرواية الأولى ناظرة إلى عدم انكشاف تمام العلة من غيبته لا بعضها ، ولا مانع من بيان بعض وجوه الحكمة كما في الطوائف الخمس ، وتبقى الحكمة الأصل خافية علينا في غيبته حتى يظهر عجل اللّه فرجه ، فلا تنافي بين الروايات واللّه العالم .

ص: 430

ينكشف وجه الحكمة لما أتاه الخضر (عليه السلام)، من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار لموسى (عليه السلام) إلى وقت افتراقهما.

يا بن الفضل! إن هذا الأمر أمر من اللّه، وسر من سر اللّه، وغيب من غيب اللّه، ومتى علمنا أنه عز وجل حكيم صدقنا بأن أفعاله كلها حكمة، وإن كان وجهها غير منكشف (1).

ص: 431


1- الإحتجاج للطبرسي: ج 2 ص 376، كمال الدين وتمام النعمة: ج 2 ص 482 ح 11، حلية الأبرار: ج 2 ص 589 - 590.

المناظرة الحادية والستون: مناظرة الشيخ المفيد (رحمه اللّه) مع رجل من المعتزلة في علة غيبة الإمام المهدي (عليه السلام)

قال الشريف المرتضى عليه الرحمة: ومن حكايات الشيخ أدام اللّه عزه وكلامه في الغيبة - قال الشيخ أيده اللّه: قال لي شيخ من حذاق المعتزلة وأهل التدين بمذهبه منهم: أريد أن أسألك عن مسألة كانت خطرت ببالي، وسألت عنها جماعة ممن لقيت من متكلمي الإمامية بخراسان وفارس والعراق فلم يجيبوا فيها بجواب مقنع!

فقلت: سل على اسم اللّه إن شئت.

فقال: خبرني عن الإمام الغائب عندكم أهو في تقية منك؟ كما هو في تقية من أعدائه؟ أم هو في تقية من أعدائه خاصة؟

فقلت له: الإمام عندي في تقية من أعدائه لا محالة، وهو أيضا في تقية من كثير من الجاهلين به، ممن لا يعرفه ولا سمع به فيعاديه أو يواليه، هذا على غالب الظن والعرف، ولست أنكر أن يكون في تقية من جماعة ممن يعتقد إمامته الآن، فأما أنا فإنه لا تقية عليه مني بعد معرفته بي على حقيقة المعرفة والحمد لله.

فقال: هذا واللّه جواب طريف لم أسمعه من أحد قبلك، فأحب أن تفصل لي وجوهه وكيف صار في تقية ممن لا يعرفه، وفي تقية من جماعة تعتقد إمامته

ص: 432

الآن، وليس هو في تقية منك إذ عرفك؟

فقلت له: أما تقيته من أعدائه فلا حاجة لي إلى الكلام فيها لظهور ذلك، وأما تقيته ممن لا يعرفه فإنما قلت ذلك على غالب الظن وظاهر الحال، وذلك أنه ليس يبعد أن لو ظهر لهم لكانوا بين أمور:

إما أن يسفكوا دمه بأنفسهم لينالوا بذلك المنزلة عند المتغلب على الزمان ويحوزوا به المال والرئاسة، أو يسعوا به إلى من يحل هذا الفعل به، أو يقبضوا عليه ويسلموه إليه، فيكون في ذلك عطبه وفي عطبه وهلاكه عظيم الفساد، وإنما غلب في الظن ذلك لأن الجاهل لحقه ليس يكون معه المعرفة التي تمنعه من السعي على دمه، ولا يعتقد في الكف عنه ما يعتقده المتدين بولايته، وهو يرى الدنيا مقبلة إلى من أوقع الضرر به، فلم يبعد منه ما وصفناه بل قرب وبعد منه خلافه.

وأما وجه تقيته من بعض من يعتقد إمامته الآن، فإن المعتقدين بذلك ليسوا بمعصومين من الغلط ولا مأمونا عليهم الخطأ، بل ليس مأمونا عليهم العناد والارتداد، فلا ينكر أن يكون المعلوم منهم أنه لو ظهر لهم الإمام (عليه السلام) أو عرفوا مكانه أن تدعوهم دواعي الشيطان إلى الإغراء به والسعي عليه والإخبار بمكانه، طمعا في العاجلة ورغبة فيها وإيثارا لها على الآجلة، كما دعت دواعي الشيطان أمم الأنبياء إلى الارتداد عن شرائعهم حتى غيرها جماعة منهم وبدلها أكثرهم، كما عاند قوم موسى نبيهم وإمامهم هارون وارتدوا عن شرعه الذي جاء به هو وأخوه موسى (عليهما السلام) واتبعوا السامري، فلم يلتفتوا إلى أمر هارون ونهيه، ولا فكروا في وعظه وزجره، وإذا كان ذلك على ما وصفت لم ينكر أن تكون هذه حال جماعة من منتحلي الحق في هذا الزمان لارتفاع العصمة عنهم.

وأما حكمي لنفسي فإنه ليس يخصني، لأنه يعم كل من شاركني في المعنى

ص: 433

الذي من أجله حكمت، وإنما خصصت نفسي بالذكر لأنني لا أعرف غيري عينا على اليقين مشاركا لي في الباطن فادخله معي في الذكر، والمعنى الذي من أجله نفيت أن يكون صاحب الأمر (عليه السلام) متقيا مني عند المعرفة بحالي لأنني أعلم أنني عارف باللّه عز وجل وبرسوله (صلى اللّه عليه وآله) وبالأئمة أجمعين (عليهم السلام)، وهذه المعرفة تمنعني من إيقاع كفر غير مغفور والسعي على دم الإمام (عليه السلام)، بل إخافته عندي كفر غير مغفور، وإذا كنت على ثقة تعصمني من ذلك إلى ما أذهب إليه في الموافاة فقد أمنت أن يكون الإمام في تقية مني أو ممن شاركني فيما وصفت من إخواني، وإذا تحقق أمورنا على ما ذكرت فلا يكون في تقية مني بعد معرفته أني على حقيقة المعرفة، إذ التقية إنما هي الخوف على نفس والإخافة للإمام لا تقع من عارف باللّه عز وجل على ما قدمت

فقال: فكأنك إنما جوزت تقية الإمام من أهل النفاق من الشيعة، فأما المعتقدون للتشيع ظاهرا وباطنا فحالهم كحالك، وهذا يؤدي إلى المناقضة لأن المنافق ليس بمعتقد للتشيع في الحقيقة، وأنت قد أجزت ذلك على بعض الشيعة في الحقيقة فكيف يكون هذا؟

فقلت له: ليس الأمر كما ظننت، وذلك أن جماعة من معتقدي التشيع عندي غير عارفين في الحقيقة، وإنما يعتقدون الديانة على ظاهر القول بالتقليد والاسترسال دون النظر في الأدلة والعمل على الحجة، ومن كان بهذه المنزلة لم يحصل له الثواب الدائم المستحق للمعرفة المانع بدلالة الخبر به عن إيقاع كفر من صاحبه فيستحق به الخلود في الجحيم فتأمل ذلك.

قال: فقد اعترض الآن ها هنا سؤال في غير الغيبة احتاج إلى معرفة جوابك عنه ثم أرجع إلى المسألة في الغيبة، خبرني عن هؤلاء المقلدين من الشيعة

ص: 434

الإمامية أنهم كفار يستحقون الخلود بالنار؟ فإن قلت ذلك فليس في الجنة من الشيعة الإمامية إذا غيرك لأنا لا نعرف أحدا منهم على تحقيق النظر سواك، بل إن كان فيهم فلعلهم لا يكونون عشرين نفسا في الدنيا كلها، وهذا ما أظنك تذهب إليه، وإن قلت: إنهم ليسوا بكفار وهم يعتقدون التشيع ظاهرا وباطنا فهم مثلك، وهذا مبطل لما قدمت؟!

فقلت له: لست أقول إن جميع المقلدة كفار، لأن فيهم جماعة لم يكلفوا المعرفة ولا النظر في الأدلة، لنقصان عقولهم عن الحد الذي به يجب تكليف ذلك، وإن كانوا مكلفين عندي للقول والعمل، وهذا مذهبي في جماعة من أهل السواد والنواحي الغامضة والبوادي والأعراب والعجم والعامة، فهؤلاء إذا قالوا وعملوا كان ثوابهم على ذلك كعوض الأطفال والبهائم والمجانين، وكان ما يقع منهم من عصيان يستحقون عليه العقاب في الدنيا وفي يوم المآب طول زمان الحساب، أو في النار أحقابا، ثم يخرجون إلى محل الثواب، وجماعة من المقلدة عندي كفار لأن فيهم من القوة على الاستدلال ما يصلون به إلى المعارف فإذا انصرفوا عن النظر في طرقها فقد استحقوا الخلود في النار.

فأما قولك: إنه ليس في الدنيا أحد من الشيعة ينظر حق النظر إلا عشرون نفسا أو نحوهم، فإنه لو كنت صادقا في هذا المقال ما منع أن يكون جمهور الشيعة عارفين، لأن طرق المعرفة قريبة يصل إليها كل من استعمل عقله وإن لم يكن يتمكن من العبارة عن ذلك ويسهل عليه الجدل ويكون من أهل التحقيق في النظر، وليس عدم الحذق في الجدل وإحاطة العلم بحدوده، والمعرفة بغوامض الكلام ودقيقه، ولطيف القول في المسألة دليلا على الجهل باللّه عز وجل.

فقال: ليس أرى أن أصل معك الكلام في هذا الباب الآن، لأن الغرض هو

ص: 435

القول في الغيبة، ولكن لما تعلق بمذهب غريب أحببت أن أقف عليه وأنا أعود إلى مسألتي الأولى وأكلمك في هذا المذهب بعد هذا يوما آخر، أخبرني الآن إذا لم يكن الإمام في تقية منك فما باله لا يظهر لك فيعرفك نفسه بالمشاهدة، ويريك معجزة، ويبين لك كثيرا من المشكلات، ويؤنسك بقربه ويعظم قدرك بقصده ويشرفك بمكانه، إذا كان قد أمن منك الإغراء به وتيقن ولايتك له ظاهرة وباطنة؟

فقلت له: أول ما في هذا الباب أنني لا أقول لك إن الإمام (عليه السلام) يعلم السرائر وإنه مما لا يخفى عليه الضمائر، فتكون قد أخذت رهني، أنه يعلم من ما أعرفه من نفسي، وإذا لم يكن ذلك مذهبي، وكنت أقول إنه يعلم الظواهر كما يعلم البشر، وإن علم باطنا فبإعلام اللّه عز وجل له خاصة على لسان نبيه (صلى اللّه عليه وآله) بما أودعه آباؤه (عليهم السلام) من النصوص على ذلك أو بالمنام الذي يصدق ولا يخلف أبدا، أو لسبب أذكره غير هذا، فقد سقط سؤالك من أصله لأن الإمام إذا فقد علم ذلك من جهة اللّه عز وجل أجاز علي ما يجيزه على غيري ممن ذكرت، فأوجبت الحكمة تقيته مني - وإنما تقيته مني - على الشرط الذي ذكرت آنفا، ولم أقطع على حصوله لا محالة، ولم أقل إن اللّه عز وجل قد اطلع الإمام على باطني وعرفه حقيقة حالي قطعا فتفرع الكلام عليه، على أنني لو قطعت على ذلك لكان لترك ظهوره لي وتعرفه إلي وجه واضح غير التقية.

وهو أنه (عليه السلام) قد علم أنني وجميع من شاركني في المعرفة لا يزول عن معرفته، ولا يرجع عن اعتقاد إمامته، ولا يرتاب في أمره ما دام غائبا وعلم أن اعتقادنا ذلك من جهة الاستدلال، ومع عدم ظهوره لحواسنا أصلح لنا في تعاظم الثواب وعلو المنزلة باكتساب الأعمال، إذ كان ما يقع من العمل بالمشاق الشديدة

ص: 436

أعظم ثوابا مما يقع بالسهولة مع الراحة، فلما علم (عليه السلام) ذلك من حالنا وجب عليه الاستتار عنا، لنصل إلى معرفته وطاعته على حد يكسبنا من المثوبة أكثر مما يكسبنا العلم به والطاعة له مع المشاهدة وارتفاع الشبهة التي تكون في حالة الغيبة والخواطر، وهذا ضد ما ظننت، مع أن أصلك في اللطف يؤيد ما ذكرناه ويوجب ذلك، وإن علم أن الكفر يكون مع الغيبة والإيمان مع الظهور، لأنك تقول: إنه لا يجب على اللّه تعالى فعل اللطف الذي يعلم أن العبد إن فعل الطاعة مع عدمه كانت أشرف منها إذا فعلها معه، فكذلك يمنع الإمام من الظهور إذا علم أن الطاعة للإمام تكون غيبته أشرف منها عند ظهوره، وليس يكفر القوم به في كلا الحالين، وهذا بين لا إشكال فيه، فلما ورد عليه الجواب سكت هنيئة.

ثم قال: هذا لعمري جواب يستمر على الأصول التي ذكرتها والحق أولى ما استعمل.

فقلت له: أنا أجيبك بعد هذا الجواب بجواب آخر أظنه مما قد سمعته لأنظر كلامك عليه.

فقال: هات ذلك، فإني أحب أن أستوف ما في هذه المسألة.

فقلت له: إن قلت إن الإمام في تقية مني وفي تقية ممن خالفني ما يكون كلامك عليه؟ قال: أفتطلق أنه في تقية منك كما هو في تقية ممن خالفك.

قلت: لا.

قال: فما الفرق بين القولين؟

قلت: الفرق بينهما أنني إذا قلت إنه في تقية مني كما هو في تقية ممن

ص: 437

خالفني، أو همت أن خوفه مني على حد خوفه من عدوه، وأن الذي يحذره مني هو الذي يحذره منه أو مثله في القبح، فإذا قلت: إنه يتقي مني وممن خالفني ارتفع هذا الإيهام.

قال: فمن أي وجه أتقى منك؟ ومن أي وجه أتقى من عدوه فصل لي الأمرين حتى أعرفهما.

فقلت له: تقيته من عدوه هي لأجل خوفه من ظلمه له وقصده الإضرار به وحذره من سعيه على دمه، وتقيته مني لأجل خوفه من إذاعتي على سبيل السهو أو للتجمل والتشرف بمعرفته بالمشاهدة، أو على التقية مني بمن أوعزه إليه من إخواني في الظاهر فيعقبه ذلك ضررا عليه، فبان الفرق بين الأمرين.

فقال: ما أنكرت أن يكون هذا يوجب المساواة بينك وبين عدوه، لأنه ليس يثق بك كما لا يثق بعدوه.

فقلت له: قد بينت الفرق وأوضحته، وهذا سؤال بين قد سلف جوابه وتكراره لا فائدة فيه على أنني أقلبه عليك.

فأقول لك: أليس قد هرب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) من أعدائه واستتر عنهم في الغار خوفا على نفسه منهم.

قال: بلى.

قلت له: فهل عرف عمر بن الخطاب حال هربه ومستقره ومكانه كما عرف ذلك أبو بكر لكونه معه.

قال: لا أدري.

قلت: فهب عرف عمر ذلك، أعرف ذلك جميع أصحابه والمؤمنين به؟

ص: 438

قال: لا.

قلت: فأي فرق كان بين أصحابه الذين لم يعلموا بهربه ولا عرفوا بمكانه وبين أعدائه الذين هرب منهم، وهلا أبانهم من المشركين بإيقافهم على أمره؟ ولم ستر ذلك عنهم كما ستره عن أعدائه؟ وما أنكرت أن يكون لا فرق بين أوليائه وأعدائه وأن يكون قد سوى بينهم في الخوف منهم والتقية، وإلا فما الفضل بين الأمرين، فلم يأت بشئ أكثر من أنه جعل يومي إلى معتمدي في الفرق بينما الزم ولم يأت به على وجهه، وعلم من نفسه العجز عن ذلك.

قال الشريف أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي واستزدت الشيخ - أدام اللّه عزه - على هذا الفصل من هذا المجلس حيث اعتل بأن غيبة الإمام (عليه السلام) عن أوليائه إنما هي لطف لهم في وقوع الطاعة منه على وجه يكون به أشرف منها عند مشاهدته.

فقلت له: فكيف يكون حال هؤلاء الأولياء عند ظهوره (عليه السلام) أليس يجب أن يكون القديم تعالى قد منعهم اللطف في شرف طاعاتهم وزيادة ثوابهم؟

فقال الشيخ - أدام اللّه عزه -: ليس في ذلك منع لهم من اللطف على ما ذكرت، من قبل أنه لا ينكر أن يعلم اللّه سبحانه وتعالى منهم أنه لو أدام ستره عنهم وإباحة الغيبة في ذلك الزمان بدلا من الظهور لفسق هؤلاء الأولياء فسقا يستحقون به من العقاب ما لا يفي أضعاف ما يفوتهم من الثواب فأظهره سبحانه لهذه العلة، وكان ما يقتطعهم به عنه من العذاب أرد عليهم وأنفع لهم مما كانوا يكتسبونه من فضل الثواب على ما تقدم به الكلام.

قال الشيخ أيده اللّه: ووجه آخر وهو: أنه لا يستحيل أن يكون اللّه تعالى قد علم من حال كثير من أعداء الإمام (عليه السلام) أنهم يؤمنون عند ظهوره ويعترفون بالحق

ص: 439

عند مشاهدته ويسلمون له الأمر، وأنه إن لم يظهر في ذلك الزمان أقاموا على كفرهم، وازدادوا طغيانا بزيادة الشبهة عليهم فوجب في حكمته تعالى إظهاره لعموم الصلاح، ولو أباحه الغيبة لكان قد خص بالصلاح ومنع من اللطف في ترك الكفر، وليس يجوز على مذهبنا في الأصلح أن يخص اللّه تعالى بالصلاح، ولا يجوز أيضا أن يفعل لطفا في اكتساب بعض خلقه منافع تزيد على منافعه إذ كان في فعل ذلك اللطف رفع لطفه لجماعة في ترك القبح والانصراف عن الكفر به سبحانه، والاستخفاف بحقوق أوليائه (عليهم السلام)، لأن الأصل والمدار على إنقاذ العباد من المهالك وزجرهم من القبائح، وليس الغرض زيادتهم في المنافع خاصة إذ كان الاقتطاع بالألطاف عما يوجب دوام العقاب أولى من فعل اللطف فيما يستزاد به من الثواب، لأنه ليس يجب على اللّه تعالى أن يفعل بعبده ما يصل معه إلى نفع يمنعه من أضعافه من النفع، وكذلك لا يجب عليه أن يفعل اللطف له في النفع بما يمنع غيره من أضعاف ذلك النفع، وهو إذا سلبه هذا اللطف لم يستدرجه به إلى فعل القبيح، ومتى فعله حال بين غيره وبين منافعه ومنعه من لطف ما ينصرف به عن القبيح، وإذا كان الأمر على ما بيناه كان هذان الفصلان يسقطان هذه الزيادة (1).

ص: 440


1- الفصول المختارة للشيخ المفيد: ص 76 - 83.

المناظرة الثانية والستون: مناظرة الشيخ المفيد مع بعضهم في علة استتار الإمام المهدي (عليه السلام)

قال الشريف المرتضى عليه الرحمة: سئل الشيخ - أيده اللّه - فقيل له: أليس رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قد ظهر قبل استتاره ودعا إلى نفسه قبل هجرته، وكانت ولادته معروفة ونسبه مشهورا وداره معلومة، هذا مع الخبر عنه في الكتب الأولى والبشارة به في صحف إبراهيم وموسى (عليهما السلام) وإدراك قريش وأهل الكتاب علاماته ومشاهداتهم لدلائل نبوته وأعلام عواقبه، فكيف لم يخف مع ذلك على نفسه ولا أمر اللّه أباه بستر ولادته، وفرض عليه إخفاء أمره كما زعمتم أنه فرض ذلك على أبي الإمام لما كان المنتظر عندكم من بين الأئمة والمشار إليه بالقيام بالسيف دون آبائه، فأوجب ذلك على ما ادعيتموه واعتللتم به في الفرق بين آبائه وبينه في الظهور على خبره وكتم ولادته والستر عن الأنام شخصه، وهل قولكم في الغيبة مع ما وصفناه من حال النبي (صلى اللّه عليه وآله) إلا فاسد متناقض؟

جواب: - يقال إن المصلحة لا تكون من جهة القياس، ولا تعرف أيضا بالتوهم، ولا يتوصل إليها بالنظائر والأمثال، وإنما تعلم من جهة علام الغيوب المطلع على الضمائر العالم بالعواقب الذي لا تخفى عليه السرائر، فليس ننكر أن يكون اللّه سبحانه قد علم من حال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، مع جميع ما شرحتم أنه لا يقدم

ص: 441

عليه أحد ولا يؤثر ذلك منه، إما لخوف من الإقدام على ذلك، أو لشك فيما قد سمعوه من وصفه، أو لشبهة عرضت لهم في الرأي فيه، فتدبير اللّه سبحانه له في الظهور على خلاف تدبير الإمام المنتظر لاختلاف الحالين.

ويدل على ما بيناه ويوضح عما ذكرناه أنه لم يتعرض أحد من عبدة الأوثان، ولا أهل الكتاب ولا أحد من ملوك العرب والفرس مع ما قد اتصل بهم من البشارة بالنبي (صلى اللّه عليه وآله) لأحد من آباء الرسول (صلى اللّه عليه وآله) بالإخافة، ولا لاستبراء واحدة من أمهاته لمعرفة الحمل به، ولا قصدوا الإضرار به في حال الولادة ولا طول زمانه إلى أن صدع بالرسالة.

ولا خلاف أن الملوك من ولد العباس لم يزالوا على الإخافة لآباء الإمام وخاصة ما جرى من أبي جعفر المنصور مع الصادق (عليه السلام)، وما صنعه هارون بأبي الحسن موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) حتى هلك في حبسه ببغداد، وما قصد المتوكل بأبي الحسن العسكري (عليه السلام) جد الإمام حتى أشخصه من الحجاز فحبسه عنده بسر من رأى، وكذلك جرى أمر أبي محمد الحسن (عليه السلام) بعد أبيه إلى أن قبضه اللّه تعالى.

ثم كان من أمر المعتمد بعد وفاة أبي محمد (عليه السلام) ما لم يخف على أحد من حبسه لجواريه والمسائلة عن حالهن في الحمل، واستبراء أمرهن عندما اتفقت كلمة الإمامية على أن القائم هو ابن الحسن (عليه السلام) فظن المعتمد أنه يظفر به فيقتله ويزيل طمعهم في ذلك، فلم يتمكن من مراده وبقي بعض جواري أبي محمد (عليه السلام) في الحبس أشهرا كثيرة، فدل بذلك على الفرق بين حال النبي (صلى اللّه عليه وآله) في مولده وبين الإمام (عليه السلام) على ما قدمناه بما ذكرناه وشرحناه.

وشئ آخر وهو أن الخوف قد كان مأمونا على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) من بني هاشم وبني عبد المطلب وجميع أهل بيته وأقاربه، لأن الشرف المتوقع له بالنبوة

ص: 442

كان شرفهم والمنزلة التي تحصل له بذلك فهي تختص بهم، وعلمهم بهذه الحال يبعثهم على صيانته وحفظه وكلائته ليبلغ الرتبة التي يرجونها له فينالون بها أعلى المنازل ويملكون بها جميع العالم.

وأما البعداء منهم في النسب فيعجزون عن إيقاع الضرر به لموضع أهل بيته ومنعهم منه وعلمهم بحالهم وأنهم أمنع العرب جانبا وأشدهم بأسا وأعزهم عشيرة، فيصدهم ذلك عن التعرض له ويمنع من خطوره ببالهم، وهذا فصل بين حال النبي (صلى اللّه عليه وآله) فيما يوجب ظهوره مع انتشار ذكره والبشارة به، وبين الإمام فيما يجوز استتاره وكتم أمر ولادته، وهذا بين لمن تدبره.

وشئ آخر وهو أن ملوك العجم في زمان مولد النبي (صلى اللّه عليه وآله) لم يكونوا يكرهون مجئ نبي يدعو إلى شرع مستأنف، ولا يخافون بمجيئه على أنفسهم ولا على ملكهم، لأنهم كانوا ينوون الإيمان به والاتباع له، وقد كانت اليهود تستفتح به على العرب وترجو ظهوره كما قال اللّه عز وجل: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) (1) وإنما حصل للقوم الخلاف عليه والإباء له بنية تجددت لهم عند مبعثه.

ولم يجر أمر الإمام المنتظر (عليه السلام) هذا المجرى بل المعلوم من حال جميع ملوك زمان مولده ومولد آبائه، خلاف ذلك من اعتقادهم فيمن ظهر منهم يدعو إلى إمامة نفسه أو يدعو إليه داع سفك دمه واستئصال أهله وعشيرته، وهذا أيضا فرق بين الأمرين.

وشئ آخر وهو أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) مكث ثلاث عشرة سنة يدعو بمكة إلى دينه والاعتراف بالوحدانية وبنبوته، ويسفه من خالفه ويضللهم ويسب آلهتهم،

ص: 443


1- سورة البقرة: الآية 89.

فلم يقدم أحد منهم على قتله ولا رام ذلك ولا استقام لهم نفيه عن بلادهم ولا حبسه ولا منعه من دعوته، ونحن نعلم علما يقينا لا يتخالجنا فيه الشك بأنه لو ظن أحد من ملوك هذه الأزمان ببعض آل أبي طالب أنه يحدث نفسه بادعاء الإمامة بعد مدة طويلة، لسفك دمه دون أن يعلم ذلك ويتحققه فضلا عن أن يراه ويجده.

وقد علم أهل العلم كافة أن أكثر من حبس في السجون من ولد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وقتل بالغيلة إنما فعل به ذلك على الظنة والتهمة دون اليقين والحقيقة، ولو لم يكن أحد منهم حل به ذلك إلا موسى بن جعفر (عليهما السلام) لكان كافيا، ومن تأمل هذه الأمور وعرفها وفكر فيما ذكرناه وتبينه انكشف له الفرق بين النبي وبين الإمام فيما سأل عنه هؤلاء القوم ولم يتخالجه فيه ارتياب واللّه الموفق للصواب.

وبهذا النحو يجب أن يجاب من سأل فقال: أليس الرسول (صلى اللّه عليه وآله) قد ظهر في أول أمره وعرفت العامة والخاصة وجوده ثم استتر بعد ذلك عند الخوف على نفسه، فقد كان يجب أن يكون تدبير الإمام في ظهوره واستتاره كذلك، مع أن الاتفاقات ليس عليها قياس، والألطاف والمصالح تختلف في أنفسها ولا تدرك حقائقها إلا بسمع يرد عن عالم الخفيات، جلت عظمته فلا يجب أن نسلك في معرفتها طريق الاعتبار.

وليس يستتر هذا الباب إلا على من قل علمه بالنظر وبعد عنه الصواب واللّه نستهدي إلى سبيل الرشاد (1).

ص: 444


1- الفصول المختارة للمفيد: ص 266 - 269.

المناظرة الثالثة والستون: مناظرة الشيخ المفيد مع بعضهم في الدليل على وجود الإمام المهدي (عليه السلام)

بسم اللّه الرحمن الرحيم

وصلى اللّه على محمد وآله وسلم تسليما.

سأل سائل الشيخ المفيد (رحمه اللّه) فقال: ما الدليل على وجود الإمام صاحب الغيبة (عليه السلام)، فقد اختلف الناس في وجوده اختلافا ظاهرا؟ فقال له الشيخ: الدليل على ذلك إنا وجدنا الشيعة الإمامية فرقة قد طبقت الأرض شرقا وغربا، مختلفي الآراء والهمم، متباعدي الديار لا يتعارفون، متدينين بتحريم الكذب، عالمين بقبحه، ينقلون نقلا متواترا عن أئمتهم (عليهم السلام) عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: إن الثاني عشر يغيب غيبة يرتاب فيها المبطلون (1) ويحكون أن الغيبة تقع على ما هي عليه، فليس تخلوا هذه الأخبار أن تكون صدقا أو كذبا، فإن كانت صدقا فقد صح ما نقول، وإن كانت كذبا استحال ذلك، لأنه لو جاز على الإمامية وهم على ما هم عليه، لجاز على سائر المسلمين في نقلهم معجزات النبي (صلى اللّه عليه وآله) مثل ذلك، ولجاز على سائر الأمم والفرق مثله، حتى

ص: 445


1- راجع: أصول الكافي: ج 1 ص 338 ح 7، كمال الدين وتمام النعمة للصدوق: ج 1 ص 288 ح 1 و ص 302 ح 9 و ص 303 ح 14 - 16، عيون أخبار الرضا للصدوق: ج 2 ص 69 ح 36، بحار الأنوار: ج 51 ص 146 ح 14 و ص 160 ح 6 (بما مضمون الخبر).

لا يصح خبر في الدنيا، وكان ذلك إبطال الشرائع كلها.

قال السائل: فلعل قوما تواطئوا في الأصل فوضعوا هذه الأخبار ونقلتها الشيعة وتدينت بها، وهي غير عالمة بالأصل كيف كان.

قال له الشيخ رضي اللّه عنه: أول ما في هذا إنه طعن في جميع الأخبار، لأن قائلا لو قال للمسلمين في نقلهم لمعجزات النبي (صلى اللّه عليه وآله): لعلها في الأصل موضوعة، ولعل قوما تواطئوا عليها فنقلها من لا يعلم حالها في الأصل، وهذا طريق إلى إبطال الشرائع، وأيضا فلو كان الأمر على ما ذكره السائل لظهر وانتشر على ألسن المخالفين - مع طلبهم لعيوبهم وطلب الحيلة في كسر مذاهبهم - وكان ذلك أظهر وأشهر مما يخفى، وفي عدم العلم بذلك ما يدل على بطلان هذه المعارضة.

قال: فأرنا طرق هذه الأخبار، وما وجهها ووجه دلالتها؟

قال: الأول ما في هذا الخبر الذي روته العامة والخاصة، وهو خبر كميل ابن زياد قال: دخلت على أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه وهو ينكث في الأرض فقلت له: يا مولاي ما لك تنكث الأرض أرغبة فيها؟

فقال: واللّه ما رغبت فيها ساعة قط، ولكني أفكر في التاسع من ولد الحسين (عليه السلام)، هو الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا، كما ملأت ظلما وجورا، تكون له غيبة يرتاب فيها المبطلون، يا كميل بن زياد، لا بد لله في أرضه من حجة، إما ظاهر مشهور شخصه، وإما باطن مغمور لكيلا تبطل حجج اللّه (1). والخبر طويل وإنما اقتصرنا على موضع الدلالة.

ص: 446


1- كمال الدين وتمام النعمة للصدوق: ج 1 ص 289 ح 1، الأصول من الكافي: ج 1 ص 338 ح 7 (ب في الغيبة)، كتاب الغيبة للطوسي: ص 104 و 204، وفي الأخيرين: عن الأصبغ بن نباتة بدلا من كميل بن زياد.

وما روي عن الباقر (عليه السلام): إن الشيعة قالت له يوما: أنت صاحبنا الذي يقوم بالسيف؟

قال: ليست بصاحبكم، انظروا من خفيت ولادته فيقول قوم: ولد، ويقول قوم: ما ولد، فهو صاحبكم (1).

وما روي عن الصادق (عليه السلام) إنه قال: كيف بكم إذا التفتم يمينا فلم تروا أحدا، والتفتم شمالا فلم تروا أحدا، واستولت أقوام بني عبد المطلب، ورجع عن هذا الأمر كثير ممن يعتقده، يمسي أحدكم مؤمنا ويصبح كافرا، فاللّه اللّه في أديانكم هناك فانتظروا الفرج.

وما روي عن موسى بن جعفر (عليهما السلام)، إنه قال: إذا توالت ثلاثة أسماء محمد وعلي والحسن فالرابع هو القائم صلوات اللّه عليه وعليهم (2).

ولو ذهبنا إلى ما روي في هذا المعنى لطال به الشرح، وهذا السيد ابن محمد الحميري يقول في قصيدة له قبل الغيبة بخمسين ومائة سنة:

وكذا روينا عن وصي محمد *** وما كان فيما قاله بالمتكذب

بأن ولي الأمر يفقد لا يرى *** ستيرا كفعل الخائف المترقب

فيقسم أموال الفقيد كأنما *** تغيبه تحت الصفيح المنصب

فيمكث حينا ثم ينبع نبعة *** كنبعة درى من الأرض يوهب

له غيبة لا بد من أن يغيبها *** فصلى عليه اللّه من متغيب (3)

ص: 447


1- كمال الدين وتمام النعمة للصدوق: ج 1 ص 325 ح 2، كتاب الغيبة للنعماني: ص 179 ح 126 (وفيهما عن أبي عبد اللّه (عليه السلام))
2- كمال الدين وتمام النعمة للصدوق: ج 1 ص 334 ح 3
3- راجع: الغدير للأميني: ج 2 ص 246 - 247، ديوان السيد الحميري لشاكر هادي: ص 116 - 117 رقم القصيدة: 20.

فانظروا رحمكم اللّه قول السيد هذا القول وهو (الغيبة) كيف وقع له أن يقوله لولا أن سمعه من أئمته، وأئمته سمعوه من النبي (صلى اللّه عليه وآله)، وإلا فهل يجوز لقائل أن يقول قولا فيقع كما قال ما يخرم منه حرف؟! عصمنا اللّه وإياكم من الهوى، وبه نستعين، وعليه نتوكل (1).

قال السائل: فقد كان يجب أن ينقل هذه الأخبار مع الشيعة غيرهم.

فقال له: هذا غير لازم ولا واجب، ولو وجب وجب أن لا يصح خبر لا ينقله المؤالف والمخالف وبطلت الأخبار كلها.

فقال السائل: فإذا كان الإمام (عليه السلام) غائبا طول هذه المدة لا ينتفع به، فما الفرق بين وجوده وعدمه (2).

قال له: إن اللّه سبحانه إذا نصب دليلا وحجة على سائر خلقه فأخافه الظالمون كانت الحجة على من أخافه لا على اللّه سبحانه، ولو أعدمه اللّه كانت الحجة على اللّه لا على الظالمين، وهذا الفرق بين جوده وعدمه.

قال السائل: ألا رفعه اللّه إلى السماء فإذا آن قيامه أنزله؟

فقال له: ليس هو حجة على أهل السماء، إنما هو حجة على أهل الأرض، والحجة لا تكون إلا بين المحجوجين به، وأيضا فقد كان هذا لا يمتنع في العقل لولا الأخبار الواردة أن الأرض لا تخلو من حجة، فلهذا لم يجز كونه في السماء وأوجبنا كونه في الأرض وباللّه التوفيق.

ص: 448


1- كمال الدين وتمام النعمة للصدوق: ج 1 ص 34 - 35، الغدير للأميني: ج 2 ص 246 - 247
2- روي عن الأعمش عن الصادق (عليه السلام) قال: لم تخلو الأرض منذ خلق اللّه آدم من حجة لله فيها ظاهر مشهور أو غائب مستور ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجة لله فيها ولو لم يعبد اللّه، قال سليمان: فقلت للصادق (عليه السلام): فكيف ينتفع الناس بالحجة الغائب المستور؟ قال: كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب. (بحار الأنوار: ج 52 ص 92 ح 6 وراجع: ح 7 و 8).

فقام إنسان من المعتزلة وقال للشيخ المفيد: كيف يجوز ذلك منك وأنت نظار منهم قائل بالعدل والتوحيد، وقائل بأحكام العقول، تعتقد إمامة رجل ما صحت ولادته دون إمامته، ولا وجوده دون عدمه، وقد تطاولت السنون حتى أن المعتقد منكم يقول إن له مند ولد خمسا وأربعين ومائة سنة (1)، فهل يجوز هذا في عقل أو سمع؟

قال له الشيخ: قد قلت فافهم، اعلم: إن الدلالة عندنا قامت على أن الأرض لا تخلو من حجة. (2)

قال السائل: مسلم لك ذلك ثم آيش؟

قال له الشيخ: ثم إن الحجة على صفات، ومن لا يكون عليها لم تكن فيه.

قال له السائل: هذا عندي، ولم أر في ولد العباس، ولا في ولد علي، ولا في قريش قاطبة من هو بتلك الصفات، فعلمت بدليل العقل أن الحجة غيرهم، ولو غاب ألف سنة، وهذا كلام جيد في معناه إذا تفكرت فيه، لأنه إذا قامت الدلالة بأن الأرض لا تخلو من حجة، وإن الحجة لا يكون إلا معصوما من الخطأ والزلل، لا يجوز عليه ما يجوز على الأمة، وكانت المنازعة فيه لا في الغيبة، فإذا سلم ذلك كانت الحجة لازمة في الغيبة (3).

ص: 449


1- الذي يبدو أن هذه المناظرة وقعت في سنة 400 ه
2- راجع: بحار الأنوار: ج 23 ص 37 ح 65 و ح 67
3- مصنفات الشيخ المفيد عليه الرحمة المجلد السابع (ص 11 - 16) (الرسالة الثانية).

المناظرة الرابعة والستون: مناظرة الشيخ المفيد مع بعضهم في حديث لو اجتمع للإمام (عليه السلام) عدة أهل بدر

بسم اللّه الرحمن الرحيم

قال الشيخ المفيد رضي اللّه عنه: حضرت مجلس رئيس من الرؤساء، فجرى كلام في الإمامة، فانتهى إلى القول في الغيبة.

فقال صاحب المجلس: أليست الشيعة تروي عن جعفر بن محمد (عليه السلام): أنه لو اجتمع للإمام عدة أهل بدر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا لوجب عليه الخروج بالسيف (1)؟

فقلت: قد روي هذا الحديث.

قال: أولسنا نعلم يقينا أن الشيعة في هذا الوقت أضعاف عدة أهل بدر، فكيف يجوز للإمام الغيبة مع الرواية التي ذكرناها؟

ص: 450


1- فقد روي عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) أنه قال: إذا اجتمع للإمام عدة أهل بدر ثلاث مائة وثلاثة عشر وجب عليه القيام والتغيير (بحار الأنوار: ج 100 ص 49 ح 18) وبمضمون هذا الحديث بتفاوت، راجع: عيون أخبار الرضا للصدوق: ج 2 ص 64 - 65 ح 29، كمال الدين وتمام النعمة للصدوق: ج 2 ص 654 ح 20 و 21 ب 57 و ص 672 ح 25 ب 58، تفسير علي بن إبراهيم: ج 1 ص 323، كتاب الغيبة للنعماني: ص 315 ح 9.

فقلت له: إن الشيعة وإن كانت في وقتنا كثيرا عددها، حتى تزيد على عدة أهل بدر أضعافا مضاعفة، فإن الجماعة التي عدتهم عدة أهل بدر إذا اجتمعت، فلم يسع الإمام التقية ووجب عليه الظهور، لم تجتمع في هذا الوقت، ولا حصلت في هذا الزمان بصفتها وشروطها، وذلك إنه يجب أن يكون هؤلاء القوم معلوم من حالهم الشجاعة، والصبر على اللقاء، والإخلاص في الجهاد، إيثار الآخرة على الدنيا، ونقاء السرائر من العيوب، وصحة العقول، وإنهم لا يهنون ولا ينتظرون عند اللقاء، ويكون العلم من اللّه تعالى بعموم المصلحة في ظهورهم بالسيف، وليس كل الشيعة بهذه الصفة، ولو علم اللّه تعالى أن في جملتهم العدد المذكور على ما شرطناه لظهر الإمام (عليه السلام) لا محالة، ولم يغب بعد اجتماعهم طرفة عين، لكن المعلوم خلاف ما وصفناه، فلذلك ساغ للإمام الغيبة على ما ذكرناه.

قال: ومن أين لنا أن شروط القوم على ما ذكرت، وإن كانت شروطهم هذه، فمن أين لنا أن الأمر كما وصفت؟

فقلت: إذا ثبت وجوب الإمامة وصحت الغيبة لم يكن لنا طريق إلى تصحيح الخبر إلا بما شرحناه، فمن حيث قامت دلائل الإمامة والعصمة وصدق الخبر حكمنا بما ذكرناه.

ثم قلت: ونظير هذا الأمر ومثاله ما علمناه من جهاد النبي (صلى اللّه عليه وآله) أهل بدر بالعدد اليسير الذين كانوا معه، وأكثرهم أعزل راجل، ثم قعد عليه وآله السلام في عام الحديبية ومعه من أصحابه أضعاف أهل بدر في العدد، وقد علمنا أنه (صلى اللّه عليه وآله) مصيبا في الأمرين جميعا، وأنه لو كان المعلوم من أصحابه في عام الحديبية ما كان المعلوم منهم في حال بدر لما وسعه القعود والمهادنة، ولوجب عليه الجهاد كما وجب عليه قبل ذلك، ولو وجب عليه ما تركه لما ذكرناه من العلم بصوابه

ص: 451

وعصمته على ما بيناه.

فقال: إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) كان يوحى إليه فيعلم بالوحي العواقب، ويعرف الفرق من صواب التدبير وخطأه بمعرفة ما يكون، فمن قال في علم الإمام بما ذكرت؟ وما طريق معرفته بذلك؟

فقلت له: الإمام عندنا معهود إليه، موقف على ما يأتي وما يذكر، منصوب له أمارات تدله على العواقب في التدبيرات والصالح في الأفعال، وإنما حصل له العهد بذلك عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) الذي يوحى إليه ويطلع على علم السماء، ولو لم نذكر هذا الباب واقتصرنا على أنه متعبد في ذلك بغلبة الظن وما يظهر له من الصلاح لكفى وأغنى، وقام مقام الإظهار على التحقيق كائنا ما كان بلا ارتياب، لا سيما على مذهب المخالفين في الاجتهاد. وقولهم في رأي النبي (صلى اللّه عليه وآله) وإن كان المذهب ما قدمناه.

فقال: لم لا يظهر الإمام وإن أدى ظهوره إلى قتله فيكون البرهان له والحجة في إمامته أوضح، ويزول الشك في وجوده بلا ارتياب؟

فقلت: إنه لا يجب ذلك عليه (عليه السلام)، كما لا يجب على اللّه تعالى معاجلة العصاة بالنقمات وإظهار الآيات في كل وقت متتابعات، وإن كنا نعلم أنه لو عاجل العصاة لكان البرهان على قدرته أوضح، والأمر في نهيه أوكد، والحجة في قبح خلافه أبين، ولكان بذلك الخلق عن معاصيه أزجر، وإن لم يجب ذلك عليه ولا في حكمته وتدبيره لعلمه بالمصلحة فيه على التفضيل، فالقول في الباب الأول مثله على أنه لا معنى لظهور الإمام في وقت يحيط العلم فيه بأن ظهوره منه فساد، وإنه لا يؤول إلى إصلاح، وإنما يكون ذلك حكمة وصوابا إذا كانت عاقبته الصلاح، ولو علم (عليه السلام) إن في ظهوره صلاحا في الدين مع مقامه في العالم أو هلاكه

ص: 452

وهلاك جميع شيعته وأنصاره لما أبقاه طرفة عين، ولا فتر عن المسارعة إلى مرضاة اللّه جل اسمه، لكن الدليل على عصمته كاشف عن معرفته لرد هذه الحال عند ظهوره في هذا الزمان بما قدمناه من ذكر العهد إليه، ونصب الدلائل والحد والرسم المذكورين له في الأفعال.

فقال: لعمري، إن هذه الأجوبة على الأصول المقررة لأهل الإمامة مستمرة، والمنازع فيها - بعد تسليم الأصول - لا ينال شيئا ولا يظفر بطائل.

فقلت: من العجب إنا والمعتزلة نوجب الإمامة، ونحكم بالحاجة إليها في كل زمان، ونقطع بخطأ من أوجب الاستغناء عنها في حال بعد النبي (صلى اللّه عليه وآله)، وهم دائما يشنعون علينا بالقول في الغيبة، ومرور الزمان بغير ظهور إمام، وهم أنفسهم يعترفون بأنهم لا إمام لهم بعد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى هذا الزمان، ولا يرجون إقامة إمام في قرب هذا من الأوان، فعلى كل حال نحن أعذر في القول بالغيبة، وأولى بالصواب عند الموازنة للأصل الثابت من وجوب الإمام، ولدفع الحاجة إليها في كل أوان.

فقال: هؤلاء القوم وإن قالوا بالحاجة إلى الإمام فعذرهم واضح في بطلان الأحكام لعدم غيبة الإمام الذي يقوم بالأحكام، وأنتم تقولون أن أئمتكم (عليهم السلام) قد كانوا ظاهرين إلى وقت زمان الغيبة عندكم، فما عذركم في ترك إقامة الحدود وتنفيذ الأحكام.

فقلت له: إن هؤلاء القوم وإن اعتصموا في تضييع الحدود والأحكام بعد الأئمة الذين يقومون بها في الزمان، فإنهم يعترفون بأن في كل زمان طائفة منهم من أهل الحل والعقد قد جعل إليهم إقامة الإمام الذي يقوم بالحدود وتنفيذ الأحكام، فما عذرهم عن كفهم عن إقامة الإمام وهم موجودون معروفو الأعيان،

ص: 453

فإن وجب عليهم لوجودهم ظاهرين في كل زمان إقامة الإمام المنفذ للأحكام، وعانوا ترك ذلك في طول هذه المدة عاصين ضالين عن طريق الرشاد كان لنا بذلك عليهم ولن يقولوا بهذا أبدا، وإن كان لهم عذر في ترك إقامة الإمام، وإن كانوا في كل وقت موجودين، فذلك العذر لأئمتنا (عليهم السلام) في ترك إقامة الحدود وإن كانوا موجودين في كل زمان، على أن عذر أئمتنا (عليهم السلام) في ترك إقامة الأحكام أوضح وأظهر من عذر المعتزلة في ترك نصب الإمام، لأنا نعلم يقينا بلا ارتياب أن كثيرا من أهل بيت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قد شردوا عن أوطانهم، وسفكت دماؤهم، والزم الباقون منهم الخوف على التوهم عليهم أنهم يرون الخروج بالسيف، وأنهم ممن (ترجع) إليهم الأحكام، ولم ير أحد من المعتزلة ولا الحشوية سفك دمه، ولا شرد عن وطنه، ولا خيف على التوهم عليه، والتحقيق منه أنه يرى في قعود الأئمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل هؤلاء القوم يصرحون في المجالس بأنهم أصحاب الاختيار، وإن إليهم الحل والعقد والإنكار على الطاعة، وإن من مذهبهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضا لازما على اعتقادهم، وهم مع ذلك آمنون من السلطان، غير خائفين من نكيره عليهم من هذا المقال.

فبان بذلك أنه لا عذر لهم في ترك إقامة الإمام، وإن العذر الواضح الذي لا شبهة فيه، حاصل لأئمتنا (عليهم السلام) من ترك إقامة الحدود وتنفيذ الأحكام، لما بيناه من حالهم ووصفناه، وهذا واضح، فلم يأت بشئ، ولله الحمد ولرسوله وآله الصلاة والسلام واللّه الموفق للصواب. (1)

ص: 454


1- مصنفات الشيخ المفيد رحمه اللّه المجلد السابع (ص 11 - 12) (الرسالة الثالثة).

المناظرة الخامسة والستون: مناظرة الشيخ الصدوق مع ملحد عند ركن الدولة في غيبة الإمام المهدي (عليه السلام)

المناظرة الخامسة والستون مناظرة الشيخ الصدوق (1) مع ملحد عند ركن الدولة في غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) ولقد كلمني بعض الملحدين في مجلس الأمير السعيد ركن الدولة (رضي اللّه عنه) فقال لي: وجب على إمامكم أن يخرج فقد كاد أهل الروم يغلبون المسلمين.

فقلت له: إن أهل الكفر كانوا في أيام نبينا (صلى اللّه عليه وآله) أكثر عددا منهم اليوم، وقد

ص: 455


1- هو: الشيخ الأجل أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي المشتهر بالصدوق - رضي اللّه تعالى عنه وأعلى مقامه - شيخ من مشائخ الشيعة، وركن من أركان الشريعة، رئيس المحدثين، ولد في قم حدود سنة 306 ه بدعاء الإمام الثاني عشر الحجة بن الحسن - عجل اللّه تعالى فرجه الشريف -، ونال بذلك عظيم الفضل والفخر، ووصفه الإمام (عليه السلام) في التوقيع الخارج من ناحيته المقدسة بأنه: فقيه خير مبارك ينفع اللّه به، فعمت بركته ببركة الإمام (عليه السلام) وانتفع به الخاص والعام، وبقيت آثاره ومصنفاته مدى الأيام، وعم الانتفاع بفقهه وحديثه الفقهاء الأعلام، وكان جليلا حافظا للأحاديث بصيرا بالرجال ناقلا للأخبار لم ير في القميين مثله في حفظه وكثرة علمه، له نحو ثلاثمائة مصنف في شتى فنون العلم وأنواعه، وأشهرها: كتاب من لا يحضره الفقيه، عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، علل الشرائع، إكمال الدين وإتمام النعمة، أمالي الصدوق، معاني الأخبار، توفي - عليه الرحمة - في بلدة الري سنة 381 ه، وقبره بالقرب من قبر السيد عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني (رضي اللّه عنه). راجع ترجمته في: تنقيح المقال للعلامة المامقاني: ج 3 ص 154 ترجمة رقم: 11104، الفهرست للشيخ الطوسي: ص 156 ترجمة رقم: 695، روضات الجنات: ج 6 ص 132 ترجمة رقم: 574، وفي أكثر كتبه في المقدمة وفي العديد من الكتب الرجالية.

أسر (صلى اللّه عليه وآله) أمره وكتمه أربعين سنة بأمر اللّه جل ذكره، وبعد ذلك أظهره لمن وثق به وكتمه ثلاث سنين عمن لم يثق به، ثم آل الأمر إلى أن تعاقدوا على هجرانه وهجران جميع بني هاشم والمحامين عليه لأجله، فخرجوا إلى الشعب وبقوا فيه ثلاث سنين فلو أن قائلا قال في تلك السنين: لم لا يخرج محمد (صلى اللّه عليه وآله) فإنه واجب عليه الخروج لغلبة المشركين على المسلمين؟ ما كان يكون جوابنا له إلا أنه (صلى اللّه عليه وآله) بأمر اللّه تعالى ذكره خرج إلى الشعب حين خرج وبإذنه غاب ومتى أمره بالظهور والخروج خرج وظهر.

لأن النبي (صلى اللّه عليه وآله) بقي في الشعب هذه المدة حتى أوحى عز وجل إليه أنه قد بعث أرضة على الصحيفة المكتوبة بين قريش في هجران النبي (صلى اللّه عليه وآله) وجميع بني هاشم، المختومة بأربعين خاتما، المعدلة عند زمعة بن الأسود فأكلت ما كان فيها من قطيعة رحم وتركت ما كان فيها اسم اللّه عز وجل، فقام أبو طالب فدخل مكة، فلما رأته قريش قدروا أنه قد جاء ليسلم إليهم النبي (صلى اللّه عليه وآله) حتى يقتلوه أو يرجعوه عن نبوته، فاستقبلوه وعظموه فلما جلس قال لهم: يا معشر قريش إن ابن أخي محمد لم أجرب عليه كذبا قط، وإنه قد أخبرني أن ربه أوحى إليه أنه قد بعث على الصحيفة المكتوبة بينكم الأرضة، فأكلت ما كان فيها من قطيعة رحم وتركت ما كان فيها من أسماء اللّه عز وجل، فأخرجوا الصحيفة وفكوها فوجدوها كما قال، فآمن بعض وبقي بعض على كفره، ورجع النبي (صلى اللّه عليه وآله) وبنو هاشم إلى مكة (1)، هكذا الإمام (عليه السلام) إذا أذن اللّه له في الخروج خرج.

ص: 456


1- راجع قصة الصحيفة في: البداية والنهاية لابن كثير: ج 2 ص 95 - 97، دلائل النبوة لأبي نعيم : ج 1 ص 272 - 275 ح 272، الكامل في التأريخ لابن الأثير: ج 2 ص 87 - 90، بحار الأنوار : ج 19 ص 1 - 4 ح 1.

وشئ آخر وهو أن اللّه تعالى ذكره أقدر على أعدائه الكفار من الإمام، فلو أن قائلا قال: لم يمهل اللّه أعداءه ولا يبيدهم وهم يكفرون به ويشركون؟ لكان جوابنا له أن اللّه تعالى ذكره لا يخاف الفوت فيعاجلهم بالعقوبة، و (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (1). ولا يقال له: لم ولا وكيف، وهكذا إظهار الإمام إلى اللّه الذي غيبه فمتى أراده أذن فيه فظهر.

فقال الملحد: لست أؤمن بإمام لا أراه، ولا تلزمني حجته ما لم أره.

فقلت له: يجب أن تقول: إنه لا تلزمك حجة اللّه تعالى ذكره لأنك لا تراه، ولا تلزمك حجة الرسول (صلى اللّه عليه وآله) لأنك لم تره.

فقال للأمير السعيد ركن الدولة (رضي اللّه عنه): أيها الأمير راع ما يقول هذا الشيخ فإنه يقول: إن الإمام إنما غاب ولا يرى لأن اللّه عز وجل لا يرى.

فقال له الأمير (رحمه اللّه): لقد وضعت كلامه غير موضعه وتقولت عليه، وهذا انقطاع منك وإقرار بالعجز.

وهذا سبيل جميع المجادلين لنا في أمر صاحب زماننا (عليه السلام) ما يلفظون في دفع ذلك وجحوده إلا بالهذيان والوساوس والخرافات المموهة (2).

ص: 457


1- سورة الأنبياء: الآية 23
2- كمال الدين وتمام النعمة للصدوق: ج 1 ص 87 - 88.

المناظرة السادسة والستون: مناظرة ابن طاووس مع بعض أهل الخلاف في أمر بعض الصحابة والرجعة والمتعة وغيبة الإمام المهدي (عليه السلام)

المناظرة السادسة والستون مناظرة ابن طاووس (1) مع بعض أهل الخلاف في أمر بعض الصحابة والرجعة والمتعة وغيبة الإمام المهدي (عليه السلام)

يقول ابن طاووس - عليه الرحمة -: ولقد جمعني وبعض أهل الخلاف مجلس منفرد فقلت لهم: ما الذي تأخذون على الإمامية، عرفوني به بغير تقية

ص: 458


1- هو: رضي الدين أبو القاسم علي بن السيد سعد الدين بن موسى بن جعفر بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أبي عبد اللّه محمد الطاووس بن إسحاق بن الحسن بن محمد ابن سليمان بن داود بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام)، ولد في سنة 589 ه بالحلة ونشأ بها وترعرع، ثم هاجر إلى بغداد وأقام بها نحوا من خمس عشرة سنة، وأسكنه المستنصر العباسي دارا في الجانب الشرقي من بغداد، ثم رجع إلى الحلة، ثم انتقل إلى النجف ثم كربلاء ثم عاد إلى بغداد، ولي نقابة الطالبيين وبقي فيها إلى أن توفي سنة 664 ه، نشأ وسط أسرة علمية عريقة، وتتلمذ على أيدي علماء أعلام منهم: الشيخ ورام والشيخ نجيب الدين محمد بن نما وغيرهم الكثير، وروى عنه الكثير منهم: الأربلي صاحب كشف الغمة، وسديد الدين والد العلامة الحلي وغيرهم، ترك ثروة ضخمة من التآليف القيمة منها: أسرار الصلاة، الإقبال، التحصين، كشف المحجة إلى ثمرة المهجة، اليقين. أنظر ترجمته في: مقدمة اليقين وجمال الأسبوع، أمل الآمل: ج 2 ص 205 ترجمة رقم: 622، معجم رجال الحديث للسيد الخوئي (قدس سره): ج 12 ص 188 ترجمة رقم: 8532، سفينة البحار: ج 2 ص 96.

لأذكر ما عندي، وفيه غلقنا باب الموضع الذي كنا ساكنيه؟ فقالوا: نأخذ عليهم تعرضهم بالصحابة، ونأخذ عليهم القول بالرجعة، والقول بالمتعة، ونأخذ عليهم حديث المهدي (عليه السلام) وأنه حي مع تطاول زمان غيبته؟ فقلت لهم: أما ما ذكرتم من تعرض من أشرتم إليه بذم بعض الصحابة، فأنتم تعلمون أن كثيرا من الصحابة استحل بعضهم دماء بعض في حرب طلحة والزبير وعائشة لمولانا علي (عليه السلام) وفي حرب معاوية له أيضا، واستباحوا أعراض بعضهم لبعض حتى لعن بعضهم بعضا على منابر الإسلام، فأولئك هم الذين طرقوا سبيل الناس للطعن عليهم، وبهم اقتدى من ذمهم ونسب القبيح إليهم، فإن كان لهم عذر في الذي عملوه من استحلال الدماء وإباحة الأعراض، فالذين اقتدوا بهم أعذر وأبعد من أن تنسبوهم إلى سوء التعصب والإعراض، فوافقوا على ذلك.

وقلت لهم: وأما حديث ما أخذتم عليه من القول بالرجعة، فأنتم تروون أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) قال: إنه يجري في أمته ما جرى في الأمم السابقة (1) وهذا القرآن يتضمن (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) (2) فشهد جل جلاله أنه قد أحيا الموتى في الدنيا وهي رجعة، فينبغي أن يكون في هذه الأمة مثل ذلك، فوافقوا على ذلك.

فقلت لهم: وأما أخذكم عليهم بالقول بالمتعة فأنتم أحوجتم الشيعة إلى

ص: 459


1- إشارة إلى حديث النبي (صلى اللّه عليه وآله) المروي عنه: يكون في هذه الأمة كل ما كان في الأمم السالفة حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة. والمروي عنه أيضا: لم يجر في بني إسرائيل شئ إلا ويكون في أمتي مثله حتى المسخ والخسف والقذف. وقد تقدمت تخريجاته فيما سبق
2- سورة البقرة: الآية 243.

صحة الحكم بها، لأنكم رويتم في صحاحكم عن جابر (1) بن عبد اللّه الأنصاري، وعبد اللّه بن عباس (2)، وعبد اللّه بن مسعود (3)، وسلمة بن الأكوع (4)، وعمران بن الحصين (5) وأنس بن مالك، وهم من أعيان الصحابة (6) أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) مات ولم يحرمها، فلما رأت الشيعة أن رجالكم وصحاح كتبكم قد صدقت رجالكم، ورواتهم أخذوا بالمجمع عليه وتركوا ما انفردتم به، فوافقوا على ذلك.

ص: 460


1- راجع: كنز العمال: ج 16 ص 520 ح 45719 و ح 45720، وروي عن جابر من طريق قال: كنا نستمتع بالقبضة من التمر، والدقيق، على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، وأبي بكر، حتى نهى عمر بن الخطاب، لأجل عمرو بن حريث لما استمتع. صحيح مسلم: النكاح ب نكاح المتعة: ج 2 ص 1023 ح 16، فتح الباري للعسقلاني: ج 9 ص 141، نهج الحق وكشف الصدق: ص 283
2- راجع: صحيح البخاري: ج 6 ص 66، كنز العمال: ج 16 ص 521 ح 45725، الدر المنثور للسيوطي: ج 2 ص 483 - 484
3- راجع: كنز العمال: ج 16 ص 527 ح 45748، الدر المنثور للسيوطي: ج 2 ص 485
4- فتح الباري للعسقلاني: ج 9 ص 141، صحيح مسلم: ج 2 ص 1022 ح 13 و 14، كنز العمال: ج 16 ص 526 ح 45740 و 45741
5- وروي عن عمران بن حصين، قال: نزلت متعة النساء في كتاب اللّه تعالى، وعملنا مع النبي (صلى اللّه عليه وآله) ولم ينزل القرآن بحرمتها، ولم ينه عنها حتى مات. راجع: صحيح البخاري: ج 2 ص 176 و ج 6 ص 33، مسند أحمد بن حنبل: ج 4 ص 436، التفسير الكبير للرازي: ج 10 ص 49 - 50، نهج الحق وكشف الصدق: ص 283
6- وهناك الكثير من الصحابة والتابعين (وسوف يأتي ذكرهم تفصيلا في هامش مناظرة ابن عباس مع الزبير) من يرى حلية المتعة راجع: المحلى لابن حزم: ج 9 ص 519، الجامع لأحكام القرآن للطبري: ج 5 ص 133، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 12 ص 254، الغدير للأميني: ج 6 ص 220 - 222، النص والاجتهاد للسيد شرف الدين: ص 212 - 218، المتعة وأثرها في الإصلاح الاجتماعي: ص 44 و 64.

وقلت لهم: وأما ما أخذتم عليهم من طول غيبة المهدي (عليه السلام) فأنتم تعلمون، أنه لو حضر رجل وقال: أنا أمشي على الماء ببغداد فإنه يجتمع لمشاهدته، لعل من يقدر على ذلك منهم فإذا مشى على الماء وتعجب الناس منه فجاء آخر قبل أن يتفرقوا، وقال أيضا: أنا أمشي على الماء فإن التعجب منه يكون أقل من ذلك فمشى على الماء فإن بعض الحاضرين ربما يتفرقون ويقل تعجبهم، فإذا جاء ثالث وقال: أنا أيضا أمشي على الماء فربما لا يقف للنظر إليه إلا قليل فإذا مشى على الماء سقط التعجب من ذلك، فإن جاء رابع وذكر أنه يمشي أيضا على الماء فربما لا يبقى أحد ينظر إليه ولا يتعجب منه وهذه حالة المهدي (عليه السلام) لأنكم رويتم أن إدريس (عليه السلام) حي (1) موجود في السماء منذ زمانه إلى الآن، ورويتم أن الخضر (عليه السلام) حي موجود منذ زمان موسى (عليه السلام) أو قبله إلى الآن (2) ورويتم أن عيسى حي موجود (3) في السماء وأنه يرجع إلى الأرض (4) مع المهدي (عليه السلام) فهذه ثلاثة نفر من البشر قد طالت أعمارهم، وسقط التعجب بهم من طول أعمارهم، فهلا كان لمحمد بن عبد اللّه - صلوات اللّه عليه وآله - أسوة بواحد منهم أن يكون من عترته

ص: 461


1- راجع: قصص الأنبياء (عليهم السلام)، لابن كثير: ج 1 ص 101 - 102، أخبار الدول للقرماني: ص 22
2- راجع: قصص الأنبياء (عليهم السلام)، لابن كثير: ج 2 ص 200، أخبار الدول للقرماني: ص 44
3- راجع: قصص الأنبياء (عليهم السلام)، لابن كثير: ج 2 ص 436 و 442، أخبار الدول للقرماني: ص 76
4- راجع: صحيح البخاري: ج 4 ص 205، ب نزول عيسى بن مريم (عليه السلام)، المصنف لعبد الرزاق الصنعاني: ج 11 ص 400 ح 20841، مسند أحمد: ج 2 ص 272، مصابيح السنة للبغوي: ج 3 ص 516 ح 4261، فردوس الأخبار للديلمي: ج 3 ص 342 ح 4916، جامع الأصول لابن الأثير: ج 10 ص 327 ح 7831، معجم أحاديث الإمام المهدي (عليه السلام): ج 1 ص 518 - 537.

آية لله جل جلاله في أمته بطول عمر واحد من ذريته فقد ذكرتم ورويتم في صفته: أنه يملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت جورا وظلما (1)، ولو فكرتم (لعرفتم أن تصديقكم وشهادتكم أنه يملأ الأرض بالعدل شرقا وغربا وبعدا وقربا أعجب من طول بقائه، وأقرب إلى أن يكون ملحوظا بكرامات اللّه (2) جل جلاله لأوليائه، وقد شهدتم أيضا له أن عيسى بن مريم النبي المعظم (عليهما السلام) يصلي خلفه (3) مقتديا به في صلواته وتبعا له ومنصورا به في حروبه وغزواته، وهذا أيضا أعظم مقاما مما استبعدتموه من طول حياته فوافقوا على ذلك، وفي حكاية الكلام زيادة فاطلب من الطرائف وغيرها (4).

ص: 462


1- راجع: الكتاب المصنف لابن أبي شيبة: ج 15 ص 198 ح 19494، جامع الأصول لابن الأثير : ج 10 ص 330 ح 7833 و 7834 و 7836 و 7837، ينابيع المودة: ص 448، غاية المرام للبحراني: ص 704 ح 162، كنز العمال: ج 14 ص 264 ح 38665 و ص 265 ح 38667 و ص 266 ح 38669 و ح 38670 و ص 267 ح 38675 و 38676، كشف الغمة للأربلي: ج 2 ص 468 - 476، معجم أحاديث الإمام المهدي (عليه السلام): ج 1 ص 104
2- جاء في الكتاب المصنف: ج 15 ص 199 ح 19499 عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) أن المهدي لا يخرج حتى تقتل النفس الزكية، فإذا قتلت النفس الزكية غضب عليهم من في السماء ومن في الأرض، فأتى الناس المهدي، فزفوه كما تزف العروس إلى زوجها ليلة عرسها، وهو يملأ الأرض قسطا وعدلا، وتخرج الأرض نباتها، وتمطر السماء مطرها، وتنعم أمتي في ولايته نعمة لم تنعمها قط
3- راجع: الكتاب المصنف لابن أبي شيبة: ج 15 ص 198 ح 19495، كنز العمال: ج 14 ص 266 ح 38673، الجامع الصغير للسيوطي: ج 2 ص 546 ح 8262، كشف الغمة للأربلي: ج 2 ص 479 - 480، معجم أحاديث الإمام المهدي (عليه السلام): ج 1 ص 528
4- كشف المحجة لابن طاووس: ص 54 - 56.

المناظرة السابعة والستون: مناظرة ابن طاووس مع بعضهم في غيبة الإمام المهدي (عليه السلام)

وقد كان سألني بعض من يذكر أنه معتقد لإمامته فقال: قد عرضت لي شبهة في غيبته.

فقلت: ما هي؟

فقال: أما كان يمكن أن يلقى أحدا من شيعته ويزيل الخلاف عنهم في العقائد، ويتعلق بدين جده محمد (صلى اللّه عليه وآله) وشريعته، واشترط علي أن لا أجيبه بالأجوبة المسطورة في الكتب، وذكر أنه ما أزال الشبهة منه ما وقف عليه، ولا ما سمعه من الأعذار المذكورة.

فقلت له: أيهما أقدر على إزالة الخلاف بين العباد، وأيما أعظم وأبلغ في الرحمة والعدل والإرفاد، أليس اللّه جل جلاله؟

فقال: بلى.

فقلت له: فما منع اللّه جل جلاله أن يزيل الخلاف بين الأمم أجمعين، وهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، وهو أقدر على تدبير ذلك بطرق لا يحيط بها علم الآدميين، أفليس أن ذلك لعذر يقتضيه عدله وفضله على اليقين؟

فقال: بلى.

ص: 463

فقلت له: فعذر نائبه (عليه السلام) هو عذره على التفصيل، لأنه ما يفعل فعلا إلا ما يوافق رضاه على التمام.

فوافق وزالت الشبهة، وعرف صدق ما أورده اللّه جل جلاله على لساني من الكلام (1).

ص: 464


1- كشف المحجة لابن طاووس: ص 150 - 151.

المناظرة الثامنة والستون: مناظرة السيد علي البطحائي مع الشيخ سيف في غيبة الإمام المهدي (عليه السلام)

ذهبت إلى دائرة الأمر بالمعروف عند الشيخ سيف رئيس الهيئة وقلت:

مكتوب بمسجد الرسول (صلى اللّه عليه وآله) المهدي محمد (عليه السلام)، فقلت: من محمد المهدي؟ قال: مكتوب بالأحجار؟

قلت: نعم مكتوب بالأحجار وسط المسجد قبال باب المجيدي.

فقال: يقولون صاحب الزمان.

قلت: وأنت ما تقول في حقه؟

قال: أنا ما أعرفه.

قلت: مذكور في كتبكم نحوا من خمسين رواية أنه هو الثاني عشر من أوصياء الرسول (صلى اللّه عليه وآله)، وأنه هو الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا بعدما ملئت ظلما وجورا.

قال: ليست الروايات في الكتب المعتبرة.

قلت: أنا أحضرها لك.

قال: ليس بلازم.

قلت: أنا أستدل بالآيات الشريفة من القرآن.

ص: 465

قال: أية آية؟

قلت: آية أربع وخمسين من سورة النور: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) . فالآية تدل على أن الخلافة ستكون للذين آمنوا وعملوا الصالحات، والخلافة تكون في جميع الأرض لمن كان خائفا، ويمكن الخلافة والدين لشخص تكون هذه صفته.

فقال الشيخ: هذه الآية بالنسبة إلى الرسول (صلى اللّه عليه وآله) حيث كان خائفا بمكة، ثم جاء المدينة فصار مستقرا.

قلت: أنا أستدل بآية أخرى.

قال: أية آية؟

قلت: آية مائة وأربعة من سورة الأنبياء: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) . والمهدي الحجة بن الحسن من أحد عباد اللّه الصالحين الذين يرثون الأرض.

قال: الشيعة تقول أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو النبي (صلى اللّه عليه وآله).

قلت: لعن اللّه كل شيعي يعتقد ذلك، وكل من يفتري على الشيعة بالقول بأن علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو النبي (صلى اللّه عليه وآله)، لأن الشيعة تقرأ في كل يوم هذه الآية من سورة الأحزاب آية تسع وثلاثين: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) ويعلم بأن الرسول (صلى اللّه عليه وآله) خاتم النبيين، لكن الشيعة تقول بأن الرسول (صلى اللّه عليه وآله) بعد رجوعه من مكة في عام حجة الوداع أقام بالجمعة وصرح بأن علي بن أبي طالب (عليه السلام) وصيه ووارثه

ص: 466

ومولى كل مؤمن ومؤمنة في يوم الغدير، ومسجد الغدير الآن معروف عندكم مذكور في كتبكم مثل: وفاء الوفاء (1) وتاريخ المدينة المنورة.

ثم قال: أنتم تقولون: المهدي هو الغائب في السرداب.

قلت: إنا لا نقول أنه غائب في السرداب، بل نقول غائب عن الأنظار، وهو حي مرزوق.

قال: كيف يكون طول عمره؟

قلت: أما قرأت القرآن حيث يقول بالنسبة لنوح (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا) (2) وبالنسبة إلى عيسى بن مريم يقول: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) (3).

قال: أنتم تقولون المهدي هو المرفوع إلى السماء.

قلت: لا، لكن نقول اللّه الذي هو قادر على أن يبقي عيسى بن مريم مدة طويلة، قادر على أن يبقى المهدي الحجة بن الحسن (عليه السلام) مدة طويلة.

قال الشيخ رئيس الهيئة: لا تتكلم معي، لا تتباحث معي، فلقد تزلزلت عقيدتي (4).

ص: 467


1- وفاء الوفاء للسمهودي: ج 3 ص 1018
2- سورة العنكبوت: الآية 14
3- سورة النساء: الآية 157
4- مناظرات في الحرمين للبطحائي: ص 37 - 39.

المناظرة التاسعة والستون: مناظرة أحد المحققين مع أحد الباحثين في مسألة أصحاب الإمام الحجة (عليه السلام)

وردت روايات مختلفة وبعبارات شتى في شأن القضايا التي تتعلق بالإمام المهدي (عليه السلام)، والتحاق 313 نفر من أصحابه إليه عند ظهوره من مكة المكرمة، إمام العصر (عليه السلام) أيضا في انتظار تكامل عدتهم، وهؤلاء الأصحاب هم السابقون الأولون لبيعة الإمام (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)، وبحضورهم يعلن الإمام (عليه السلام) عن الخروج، ويبدأ الخروج بشكل مراحل، فهؤلاء الأصحاب هم حملة ألوية الإمام (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)، وولاته على الكرة الأرضية بأسرها.

وهذه المناظرة حدثت بين أحد الباحثين عن الحقيقة مع أحد المحققين الإسلاميين في شأن هذه المسألة.

الباحث: تفضل علينا بذكر حديث ورد في عدد أصحاب الإمام المهدي (عليه السلام)، وأنهم 313 نفر.

المحقق: ورد هذا الحديث بعبارات مختلفة، بل لا ينحصر بحديث واحد، هناك عدة أحاديث واردة في هذا الشأن، تحكي عن (313) نفر من أصحاب الإمام (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)، بل يدعي التواتر المعنوي لهذا الحديث، وبعبارة أخرى، إن أصل المعنى في شأن أصحاب الإمام (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) إلى حد يوجب العلم والقطع به، لأنه لا يمكن تواطؤ هذا العدد الهائل من الرواة على الكذب فيه.

ص: 468

الباحث: فأرجو من سماحتكم أن تذكروا لنا حديثا أو حديثين من تلك الأحاديث الكثيرة المتواترة في أصحاب إمام العصر (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)، وكما يقول المثل: ما لا يدرك كله لا يترك كله.

المحقق: ورد في تفسير الآية 80 من سورة هود (عليه السلام) قال لوط لقومه المعاندين: (قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) ، عن صالح بن سعيد عن أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: (قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) قال (عليه السلام): القوة القائم (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)، والركن الشديد ثلاثمائة وثلاثة عشر أصحابه » (1).

وفي رواية عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «لكأني أنظر إليهم مصعدين من نجف الكوفة ثلاث مأة وبضعة عشر رجلا كأن قلوبهم زبر الحديد...» (2).

الباحث: هل، لم يتكامل هذا العدد من أصحاب الإمام (عليه السلام) حتى الآن ليلتحقوا به، ويحل زمن ظهور إمام العصر (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) وتنجو البشرية من هذه الويلات؟

المحقق: تذكر لنا الروايات إن لهؤلاء الأصحاب مميزات، فمع التأمل في هذه المميزات يتضح لنا أن البشرية في عصر الغيبة تفتقد لمثل هؤلاء الأفراد.

الباحث: ما هي هذه المميزات؟

المحقق: على سبيل المثال: نقرأ في رواية عن الإمام السجاد (عليه السلام)، يذكر القائم في خبر طويل إلى أن يقول: « ثم يخرج إلى مكة والناس يجتمعون بها، فيقوم رجل منه فينادي: أيها الناس هذا طلبتكم قد جاءكم، يدعوكم إلى ما دعاكم إليه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، قال: فيقومون، ثم يقوم هو بنفسه، فيقول (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف): أيها

ص: 469


1- تفسير القمي: ج 1 ص 336، تفسير البرهان: ج 3 ص 127 ح 5154، إثبات الهداة: ج 3 ص 551 ح 564، كمال الدين وتمام النعمة للصدوق: ج 2 ص 673 ح 26
2- بحار الأنوار: ج 52 ص 343 ح 91.

الناس أنا فلان بن فلان أنا ابن نبي اللّه، أدعوكم إلى ما دعاكم إليه نبي اللّه (صلى اللّه عليه وآله).

فيقومون إليه ليقتلوه، فيقوم ثلاثمائة أو ينيف ثلاثمأة فيمنعونه منه خمسون من أهل الكوفة، وسائرهم من أفناء الناس لا يعرف بعضهم بعضا، اجتمعوا على غير ميعاد » (1).

ووردت روايات عديدة في أوصافهم منها: «يجمعهم اللّه بمكة قزعا كقزع الخريف» (2).

بمعنى: أنهم يحضرون عند القائم (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) في مكة كالبرق الخاطف، وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «وكأني أنظر إلى القائم على منبر الكوفة، وحوله أصحابه ثلاثمائة وثلاث عشر رجلا عدة أهل بدر، وهم أصحاب الأولوية، وهم حكام اللّه في أرضه على خلقه» (3).

نفهم من هذا الحديث، يجب أن يكون أصحاب الإمام القائم (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) على مستوى عال من العلم والكمال والشجاعة وسائر القيم والفضائل والصفات الإسلامية الحميدة، مثلا لو قسمنا الكرة الأرضية إلى 313 ولاية، فيكون كل واحد منهم لائقا وكفوء وقائدا لرفع راية هذه الولاية، وهل تملك اليوم الكرة الأرضية هذا العدد من القواد، وبهذه الخصوصيات والمميزات حتى يستطيع كل واحد منهم أن يتولى ولاية في حكومة الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف).

الباحث: الآن فهمت الموضوع، ليس اليوم على الكرة الأرضية بأسرها 313 رجلا بهذه المميزات، فيجب أن نسعى لإيجاد الأرضية الصالحة الصلبة، تمد جذورها القوية إلى جميع الجهات حتى تستعد الدنيا لاستقبال الإمام

ص: 470


1- بحار الأنوار: ج 52 ص 306 ح 79
2- بحار الأنوار: ج 52 ص 239 ح 105 و ج 51 ص 55 ح 42
3- بحار الأنوار: ج 52 ص 326 ح 42.

المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) عند ظهوره كما احتاج النبي (صلى اللّه عليه وآله) لتحقيق أهداف رسالته المقدسة إلى تربية الكوادر المؤمنة والعالمة والشجاعة والمدبرة في الأمور السياسية، وكذلك الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) بحاجة إلى هذه الكوادر الرسالية وبهذه المميزات، فأود أن أسمع أيضا من مميزات هؤلاء الأصحاب.

المحقق: نقرأ في الآية 148 من سورة البقرة: (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا) ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال بعد ذكر الآية الشريفة: «يعني أصحاب القائم الثلاثمائة والبضعة عشر رجلا، وهم واللّه الأمة المعدودة، يجتمعون واللّه عن ساعة واحدة قزعا كقزع الخريف» (1).

ومن مميزاتهم: أنهم يأتون من البلاد النائية إلى مكة، كما جاء في الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث طويل إلى أن قال: «فيجمع اللّه تعالى عسكره في ليلة واحدة وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا من أقاص الأرض» (2).

وينتظرهم الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) في «ذي طوى» (3) يبعد عن مكة فرسخا واحدا، حتى يلتحقون به في جانب الكعبة، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «إن القائم يهبط من ثنية ذي طوى في عدة أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، حتى يسند ظهره إلى الحجر ويهز الراية الغالبة» (4).

ص: 471


1- إثبات الهداة: ج 3 ص 451 ح 62 ب 32، بحار الأنوار: ج 52 ص 368
2- إثبات الهداة: ج 3 ص 578 ح 804، بحار الأنوار: ج 51 ص 157 ح 4
3- ذو طوى: واد بمكة المكرمة، ويروى أن النبي (ص) لما انتهى إلى ذي طوى عام الفتح، وقف على راحلته معتجرا بشقة برد حبرة حمراء، وإنه ليضع رأسه تواضعا لله، حين رأى ما أكرمه اللّه به من الفتح، حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل. معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع للأندلسي: ج 3 ص 896
4- إثبات الهداة: ج 3 ص 547 ح 541، بحار الأنوار: ج 52 ص 370 ح 158.

وهؤلاء الأصحاب أول من يبايعه (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف)، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال:

«فيكون أول من يبايعه جبرئيل، ثم الثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا» (1).

فترعاهم الإمدادات الغيبية العظيمة، ويد اللّه وعنايته فوق رأس الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) وأصحابه كما ورد حديث في هذا الشأن عن الإمام السجاد (عليه السلام)، عن أبي خالد الكابلي قال: قال لي علي بن الحسين (عليه السلام): «يا أبا خالد لتأتين فتن إلي...» إلى أن قال: «كأني بصاحبكم قد علا فوق نجفكم بظهر كوفان في ثلاثمائة وبضعه عشر رجلا، جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن شماله، وإسرافيل أمامه، معه راية رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قد نشرها لا يهوي بها إلى قوم إلا أهلكهم اللّه» (2).

الباحث: لماذا تنطق الأحاديث عن الرجال فقط في ركب الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) دون النساء؟

المحقق: علة ذكر الرجال دون النساء يرجع إلى بداية ظهور الإمام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) وهي مرحلة عصيبة فيها الجهاد والحرب والدفاع عن الإسلام، فتقتضي حضور الرجال في هذه الميادين، وللنساء دور خلف ميادين الجهاد والدفاع عن الإمام المهدي (عليه السلام).

وأشارت بعض الروايات الواردة في موضوع 313 رجلا من خواص الإمام (عليه السلام) إلى دور النساء وحضورهن أيضا، منها:

عن الإمام الباقر (عليه السلام): «ويجئ واللّه ثلاث مائة وبضعة عشر رجلا فيهم خمسون امرأة، يجتمعون بمكة على غير ميعاد قزعا كقزع الخريف» (3).

وعن المفضل، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: « يكن مع القائم (عليه السلام) ثلاث عشرة

ص: 472


1- بحار الأنوار: ج 52 ص 315 ح 10
2- إثبات الهداة: ج 3 ص 556 ح 602، بحار الأنوار: ج 51 ص 135 ح 3
3- بحار الأنوار: ج 52 ص 223 ح 87.

امرأة «قلت: وما يصنع بهن؟ قال (عليه السلام):» يداوين الجرحى، ويقمن على المرضى كما كان مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) » (1).

الباحث: فهذه العدة من الرجال والنساء، مع عظمة قيام المهدي (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) العالمية، أليس قليلا؟ المحقق: هؤلاء الركب الأول الذين يلتحقون بالإمام (عجل اللّه تعالی فرجه الشريف) عند ظهوره، ثم مع مرور الزمن يتكاثر المؤمنون حوله ويزدادون عددا وقوة، وبعبارة أخرى: يعتبر هؤلاء خواص الإمام (عليه السلام)، ويشكلون النواة المركزية لمقر حكومته العالمية كما ورد في الرواية.

جاء في فصل الخطاب عن الشيخ محي الدين بن العربي في ذكر المهدي (عليه السلام) قال: «يكون معه ثلاثمائة وستون رجلا من رجال اللّه الكاملين يبايعونه بين الركن والمقام... وله رجال يقيمون دعوته وينصرونه، هم الوزراء يحملون أثقال المملكة» (2).

وأيضا قال: «يفتحون مدينة الروم بالتكبير، فيكبرون التكبيرة الأولى فيسقط ثلثها، ويكبرون التكبيرة الثانية فيسقط الثلث الثاني من السور، ويكبرون التكبيرة الثالثة فيسقط الثالث فيفتحونها من غير سيف» (3).

وفي رواية أخرى: عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «إذا ظهر القائم ودخل الكوفة بعث اللّه تعالى من ظهر الكوفة سبعين ألف صديق، فيكونون من أصحابه وأنصاره ويرد السواد إلى أهله، وهم أهله» (4).

ص: 473


1- إثبات الهداة: ج 3 ص 575 ح 725 (ب 32 فصل 38)
2- المجالس السنية للأمين: ج 5 ص 711
3- المجالس السنية للأمين: ج 5 ص 724
4- بحار الأنوار: ج 52 ص 390 ح 212.

ولإتمام هذه المناظرة، وبما أنه خاتمة الكتاب ألفت أنظاركم إلى مطالب لطيفة وأزينها بهذه الأحاديث:

1 - عن أبي بصير قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «ينادى باسم القائم - صلوات اللّه عليه - في ليلة ثلاث وعشرين، ويقوم في يوم عاشوراء وهو اليوم الذي قتل فيه الحسين بن علي (عليه السلام)» (1).

2 - عن علي بن الحسين السجاد (عليه السلام) قال: «إذا قام قائمنا أذهب اللّه عز وجل عن شيعتنا العاهة، وجعل قلوبهم كزبر الحديد، وجعل قوة الرجل منهم قوة أربعين رجلا، ويكونون حكام الأرض وسنامها» (2).

3 - عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام): «فإذا وقع أمرنا وخرج مهدينا (عليه السلام) كان أحدهم أجرى من الليث، وأمضى من السنان، ويطأ عدونا بقدميه، ويقتله بكفيه» (3).

4 - عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «ليعدن أحدكم لخروج القائم ولو سهما» (4).

5 - عن عبد العظيم الحسني قال: قلت لمحمد بن علي بن موسى (عليه السلام): من حديث طويل قال (عليه السلام): «ويذل له كل صعب» (5). (6)

ص: 474


1- الإرشاد للمفيد ص 361، بحار الأنوار: ج 52 ص 290 ح 29
2- بحار الأنوار: ج 52 ص 316 ح 12
3- بحار الأنوار: ج 52 ص 372 ح 164
4- بحار الأنوار: ج 52 ص 366 ح 146
5- بحار الأنوار: ج 51 ص 157 ح 4
6- أجود المناظرات، للاشتهاردي: ص 417 - 425.

حديث الصحابة

اشارة

ص: 475

ص: 476

المناظرة السبعون: مناظرة الشيخ المفيد مع الورثاني في مسألة شورى النبي (صلى اللّه عليه وآله) لأصحابه

ومن كلام الشيخ - أدام اللّه عزه - أيضا في دار الشريف أبي عبد اللّه محمد بن محمد بن طاهر (رحمه اللّه)، وحضر رجل من المتفقهة يعرف بالورثاني وهو من فهمائهم، فقال له الورثاني: أليس من مذهبك أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) كان معصوما من الخطأ، مبرأ من الزلل، مأمونا عليه من السهو والغلط، كاملا بنفسه غنيا عن رعيته.

فقال له الشيخ - أيده اللّه -: بلى كذلك كان (صلى اللّه عليه وآله).

قال له: فما تصنع في قول اللّه جل جلاله: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) (1) أليس قد أمره اللّه بالاستعانة بهم في الرأي وأفقره إليهم، فكيف يصح لك ما ادعيت مع ظاهر القرآن وما فعل النبي (صلى اللّه عليه وآله).

فقال له الشيخ - أدام اللّه عزه -: إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لم يشاور أصحابه لفقر منه إلى آرائهم ولحاجة دعته إلى مشورتهم من حيث ظننت وتوهمت، بل لأمر آخر أنا أذكره لك بعد الإيضاح عما أخبرتك به، وذلك أنا قد علمنا أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) كان معصوما من الكبائر والصغائر وإن خالفت أنت في عصمته من الصغائر، وكان أكمل الخلق باتفاق أهل الملة وأحسنهم رأيا وأوفرهم عقلا وأكملهم تدبيرا، وكانت المواد بينه وبين اللّه سبحانه متصلة والملائكة تتواتر عليه بالتوفيق

ص: 477


1- سورة آل عمران: الآية 159.

من اللّه عز وجل، والتهذيب والإنباء له عن المصالح، وإذا كان بهذه الصفات لم يصح أن يدعو داع إلى اقتباس الرأي من رعيته، لأنه ليس أحد منهم إلا وهو دونه في سائر ما عددناه، وإنما يستشير الحكيم غيره على طريق الاستفادة والاستعانة برأيه إذا تيقن أنه أحسن رأيا منه وأجود تدبيرا وأكمل عقلا أو ظن ذلك، فأما إذا أحاط علما بأنه دونه فيما وصفناه لم يكن للاستعانة في تدبيره برأيه معنى، لأن الكامل لا يفتقر إلى الناقص فيما يحتاج فيه إلى الكمال، كما لا يفتقر العالم إلى الجاهل فيما يحتاج فيه إلى العلم، والآية بينة يدل متضمنها على ذلك، ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) (1) فعلق وقوع الفعل بعزمه دون رأيهم ومشورتهم، ولو كان إنما أمره بمشورتهم للاستقفاء برأيهم لقال له: فإذا شاروا عليك فاعمل، وإذا اجتمع رأيهم على شئ فأمضه، فكان تعلق فعله بالمشورة دون العزم الذي يختص به، فلما جاء الذكر بما تلوناه سقط ما توهمته، فأما وجه دعائهم إلى المشورة عليه (صلى اللّه عليه وآله) فإن اللّه أمره أن يتألفهم بمشورتهم، ويعلمهم بما يصنعونه عند عزماتهم، ليتأدبوا بآداب اللّه عز وجل، فاستشارهم لذلك لا للحاجة إلى آرائهم، على أن ها هنا وجها آخر بينا وهو:

إن اللّه سبحانه أعلمه أن في أمته من يبتغي له الغوائل ويتربص به الدوائر، ويسر خلافه ويبطن مقته ويسعى في هدم أمره ويناقضه في دينه، ولم يعرفه بأعيانهم ولا دله عليهم بأسمائهم، فقال عز اسمه: (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ) (2) وقال جل اسمه: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ

ص: 478


1- سورة آل عمران: الآية 159
2- سورة التوبة: الآية 101.

يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) (1) وقال تبارك اسمه: (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (2) وقال: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) (3) وقال عز من قائل: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (4) وقال جل جلاله: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) (5) وقال تعالى: (وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) (6) ثم قال سبحانه بعد أن أنبأه عنهم في الجملة: (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) (7) فدله عليهم بمقالهم وجعل الطريق إلى معرفتهم ما يظهر من نفاقهم في لحن قولهم.

ثم أمره بمشورتهم ليصل بما يظهر منهم إلى علم باطنهم، فإن الناصح تبدو نصيحته في مشورته، والغاش المنافق يظهر ذلك في مقاله، فاستشارهم (صلى اللّه عليه وآله) لذلك، ولأن اللّه جل جلاله جعل مشورتهم الطريق إلى معرفتهم، ألا ترى أنهم لما أشاروا ببدر عليه (صلى اللّه عليه وآله) في الأسرى فصدرت مشورتهم عن نيات مشوبة في نصيحته فكشف اللّه تعالى ذلك له وذمهم عليه وأبان عن إدغالهم فيه، فقال جل

ص: 479


1- سورة التوبة: الآية 127
2- سورة التوبة: الآية 96
3- سورة التوبة: الآية 56
4- سورة المنافقون: الآية 4
5- سورة النساء: الآية 142
6- سورة التوبة: الآية 54
7- سورة محمد: الآية 30.

وتعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (1) فوجه التوبيخ إليهم والتعنيف على رأيهم وأبان لرسوله (صلى اللّه عليه وآله) عن حالهم، فيعلم أن المشورة لهم لم تكن للفقر إلى آرائهم وإنما كانت لما ذكرناه.

فقال شيخ من القوم يعرف بالجراحي وكان حاضرا: يا سبحان اللّه! أترى أن أبا بكر وعمر كانا من أهل النفاق؟ كلا ما نظن أنك أيدك اللّه تطلق هذا، وما رأينا أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) استشار ببدر غيرهما، فإن كانا هما من المنافقين فهذا ما لا نصبر عليه ولا نقوى على استماعه، وإن لم يكونا من جملة أهل النفاق فاعتمد على الوجه الأول، وهو أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) أراد أن يتألفهم بالمشورة ويعلمهم كيف يصنعون في أمورهم.

فقال له الشيخ - أدام اللّه عزه -: ليس هذا من الحجاج أيها الشيخ في شئ وإنما هو استكبار واستعظام معدول به عن الحجة والبرهان، ولم نذكر إنسانا بعينه وإنما أتينا بمجمل من القول ففصله الشيخ وكان غنيا عن تفصيله.

فصاح الورثاني وأعلى صوته بالصياح يقول: الصحابة أجل قدرا من أن يكونوا من أهل النفاق وسيما الصديق والفاروق، وأخذ في كلام نحو هذا من كلام السوقة والعامة وأهل الشغب والفتن.

فقال الشيخ - أدام اللّه عزه -: دع عنك الضجيج وتخلص مما أوردته عليه من البرهان واحتل لنفسك وللقوم فقد بان الحق وزهق الباطل بأهون سعي والحمد لله (2).

ص: 480


1- سورة الأنفال: الآية 67 - 68
2- الفصول المختارة: ج 1 ص 11 - 14، بحار الأنوار للمجلسي: ج 10 ص 414 - 417 ح 6.

المناظرة الحادية والسبعون: مناظرة مع بعض فضلاء حلب في أمر الصحابة

المناظرة الحادية والسبعون مناظرة (1) مع بعض فضلاء حلب في أمر الصحابة

تكميل جميل وقد بحثت نحو هذا البحث مع بعض فضلاء حلب فتشيع وكان في دغدغة من سب الشيعة بعض الصحابة.

فقلت له: إني لا أسب أحدا منهم ولا أجوزه، والذين يسبون بعضهم ليس السب عندهم من شروط الإيمان، ولو أن مؤمنا لم يسب إبليس والكفار والمنافقين لم يكن ذلك نقصا في إيمانه، نعم لعن أعداء أهل البيت (عليهم السلام) عندهم من مكملات الإيمان ولو بسبيل الإجمال، فلعن أعداءهم وتبرأ منهم واستمرت دغدغته في تخصيص السب.

فقلت له: أنا أبين لك عذرهم ودليلهم الذي يعتمدونه في جواز سب من يسبونه، ما تقول في الذين قتلوا عثمان؟ وما تقول في طلحة والزبير وعائشة الذين خرجوا على علي وقتل في حربهم نحو ستة عشر ألفا كلهم من الأنصار والمهاجرين وتابعيهم؟

وكذا معاوية لما خرج على علي (عليه السلام) قتل في حربه نحو سبعين ألفا من الأنصار والمهاجرين والتابعين.

ص: 481


1- وجدنا مخطوطة هذه المناظرة ضمن مجموعة تحت رقم: 6896 في مكتبة آية اللّه العظمى المرعشي النجفي (قدس سره).

فقال: مذهبنا أن ذلك كله كان بالاجتهاد، وهم غير مؤاخذين بل يثابون.

فقلت: إذا جاز الاجتهاد في قتال أخي النبي (صلى اللّه عليه وآله) ووصيه خليفة المسلمين إجماعا، وجاز في قتل عثمان والأنصار والمهاجرين والتابعين جاز في سب بعضهم، مع أن السب إنما هو دعاء والباري إن شاء اللّه لم يقبله، وليس مثل سفك دماء الأنصار والمهاجرين وتابعيهم، وهذا معاوية سفك دماء الأنصار والمهاجرين وسن السب على علي (عليه السلام) وأهل بيته الممدوحين بنص القرآن ونص الرسول (صلى اللّه عليه وآله)، واستمر ذلك في زمن بني أمية ثمانين سنة، ولم ينقص ذلك من شأنه عندكم، وكذا الشيعة اجتهدوا في سب من اعتقدوا ضلاله لأمور رووها من طرق مخالفيهم وطرقهم، بحيث أفادهم علما يقينا في جواز سبهم فهؤلاء غير مأثومين وإن فرضنا أنهم مخطئون.

فقال: ماذا يروون من ذلك؟

قلت: أشياء كثيرة لا يمكن إنكارها نقلها الفريقان منها تخلف أبي بكر وعمر عن جيش أسامة وقد قال النبي (صلى اللّه عليه وآله): لعن اللّه من تخلف عن جيش أسامة (1).

فقال: إنما تخلف باجتهاد وشفقة على المسلمين.

فقلت: يقولون هذا خطأ محض لأن الاجتهاد إنما يجوز فيما لا نص فيه وقد قال تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (2)

ص: 482


1- راجع: كنز العمال: ج 10 ص 572 ح 30266، الملل والنحل: ج 1 ص 29، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 6 ص 52، بحار الأنوار: ج 22 ص 466، بتفاوت
2- سورة النجم: الآية 3 و 4.

فاجتهادهما رد على اللّه ورسوله (صلى اللّه عليه وآله) وهل يتصور عاقل أنهما كانا أعلم من اللّه ورسوله بصلاح المسلمين؟ هذا عمى عن الحق وتلبيس بالشبهات!!

ومنها: منع أبي بكر فاطمة (عليها السلام) من إرثها بحديث تفرد بروايته وليس صريحا بمدعاه، وهو مخالف للقرآن، وقالت له: أفي كتاب اللّه ترث أباك ولا أرث أبي لقد جئتم شيئا إدا (1)، وإن صح ما رواه يكون النبي (صلى اللّه عليه وآله) قد قصر في تبليغ الرسالة حيث لم ينذر إلا أبا بكر فقط، ولم ينذر أهل بيته وعشيرته كالعباس وولده عبد اللّه، وعلي وفاطمة (عليهما السلام) وهما أولى بالإنذار لقوله تعالى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (2) ومنعها فدك التي أنحلها إياها أبوها وتصرفت فيها في حياته، وشهد لها علي والحسنان وأم أيمن، فرد شهادتهم (3) وهم مطهرون بنص القرآن، فماتت مغضبة عليه (4) وعلى عمر، وأوصت ألا يصليا عليها، وأن تدفن ليلا (5)، وقد قال أبوها (صلى اللّه عليه وآله): فاطمة بضعة مني، من آذاها فقد آذاني (6) ومن آذى رسول اللّه فقد آذى اللّه وقد قال تعالى: (الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ

ص: 483


1- تقدمت تخريجاته
2- سورة الشعراء: الآية 214
3- راجع: الإحتجاج للطبرسي: ج 1 ص 91 - 92، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 16 ص 274، فتوح البلدان للبلاذري: ص 44، بحار الأنوار: ج 85 ص 266
4- صحيح البخاري: ج 5 ص 177، الإمامة والسياسة لابن قتيبة: ج 1 ص 19 - 20
5- راجع: صحيح البخاري: ج 5 ص 177، أسد الغابة: ج 5 ص 524، الإستيعاب: ج 4 ص 1898، الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر: ج 8 ص 268، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 16 ص 214
6- راجع: صحيح البخاري: ج 5 ص 26، شرح السنة للبغوي: ج 8 ص 120 ح 3956، السنن الكبرى للبيهقي: ج 10 ص 201 - 202 (كتاب الشهادات)، فضائل الصحابة لابن حنبل: ج 2 ص 755 ح 1324، كشف الغمة للأربلي: ج 1 ص 466.

فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا) (1).

ومنها: منع عمر النبي (صلى اللّه عليه وآله) من الكتاب الذي أراد أن يكتبه قبل موته وأخبر أننا لا نضل بعده أبدا، - وقال -: دعوه فإنه يهجر (2) حسبنا كتاب ربنا، وهذا رد على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) الذي لا ينطق عن الهوى، ولو خاطب أحدنا مثله بذاك لعد مسيئا للأدب فما ظنك بسيد المرسلين ومنعه من هذا الكتاب الذي كان فيه هداية أمته إلى يوم القيامة.

ومن المشهور وصرح عمر به في بعض مجالسه أنه ما منعه من مكاتبته وساعده بعضهم، إلا خوفا من أن ينص على ابن عمه (3) فيزول عنه ما كان قرره

ص: 484


1- سورة الأحزاب: الآية 57
2- راجع: صحيح مسلم: ج 3 ص 1259 ح 21 و 22، الملل والنحل للشهرستاني: ج 1 ص 29، مسند أحمد بن حنبل: ج 1 ص 222 و 293 و 355، صحيح البخاري: ج 1 ص 39 و ج 4 ص 85 و 121، الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 2 ص 320، الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 2 ص 242 - 245، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2 ص 55 و ج 6 ص 51، بحار الأنوار للمجلسي: ج 22 ص 468
3- راجع: كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين للحلي: ص 462 - 463 ح 562، كشف الغمة: ج 2 ص 46، بحار الأنوار: ج 38 ص 156 - 157. وممن روى ذلك أيضا ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج: ج 12 ص 21 و ص 78 - 79: في قول الخليفة لابن عباس عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أظنه لا يزال كئيبا لفوت الخلافة، فقال له ابن عباس: هو ذاك، إنه يزعم أن رسول اللّه أراد الأمر له! فقال: يا بن عباس وأراد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) الأمر له فكان ماذا؟ إذا لم يرد اللّه تعالى ذلك، إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أراد أمرا وأراد اللّه غيره، فنفذ مراد اللّه تعالى ولم ينفذ مراد رسوله، أو كلما أراد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) كان؟!! أقول: كيف ينسب إلى رسول اللّه مخالفته لإرادة اللّه تعالى، والحال أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) نفسه يدعو الناس إلى عدم مخالفة أمر اللّه وإرادته، فكيف يعمل على خلاف إرادة اللّه، فعلى هذا يكون الخليفة أحرص من النبي (صلى اللّه عليه وآله) على تحقيق مراد اللّه تعالى في الأمة، وهل يلتزم بذلك أحد، هذا والقرآن ينص صريحا في رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) النجم / 3 ، وقال تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) الحاقة / 46 . قال ابن أبي الحديد : وقد روي معنى هذا الخبر بغير هذا اللفظ ، وهو قوله : إن رسول اللّه من أراد أن يذكره للأمر في مرضه - يعني عليا عليه السلام - فصددته عنه خوفاً من الفتنة ، وانتشار أم--ر اللّه الإسلام، فعلم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ما في نفسي وأمسك ، وأبى اللّه إلا إمضاء ما حتم !! وهذا أيضاً مثل سابقه إن لم يكن أعظم فهل كان رسول اللّه لا يعلم بما يصلح المسلمين ، بحيث كان يعين لهم خليفة يكون في تنصيبه لهم فتنة تضر بالإسلام والمسلمين، مع أن أمر الخلافة والإمامة بيد اللّه تعالى والنبي (صلى اللّه عليه وآله) ليس هو إلا مبلغ كما في قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ، وثانياً من أين علم أن اللّه تعالى أمضى ما حتم ؟ فإن كان يقصد بالإمضاء الإمضاء التكويني فاللّه تعالى لا يجبر العباد على أفعالهم ، وإن كان ذلك في علمه تعالى وعلى خلاف أمره وإن كان مراده بالإمضاء الإمضاء التشريعي فهذا يحتاج إلى علم الغيب والإطلاع على ما في اللوح المحفوظ ، وثانياً كيف يمضي اللّه تعالى أمراً هو على خلاف أمره ويُعد عصياناً في حقه ، تعالى اللّه عن ذلك ، فيكون الإمام مأموماً والمأموم إماماً بين عشية وضحاها .

من الطمع في الملك، وكان عبد اللّه بن عباس يقول: الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين كتاب نبينا (1).

ومنها أنه كان يقول: متعتان كانتا على عهد رسول اللّه أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما (2) وهذا رد صريح على اللّه ورسوله، روى البخاري في صحيحه

ص: 485


1- راجع: صحيح مسلم (في آخر كتاب الوصية): ج 3 ص 1259 ح 22، الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 2 ص 244، صحيح البخاري: ج 1 ص 39، و ج 7 ص 155 - 156 (ك المرض ب قول المريض قوموا عني)، الملل والنحل للشهرستاني: ج 1 ص 29، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2 ص 55 و ج 6 ص 51، بحار الأنوار للمجلسي: ج 22 ص 473 - 474
2- راجع: التفسير الكبير للرازي: ج 10 ص 50، كنز العمال: ج 16 ص 519 ح 45715 و ص 521 ح 45722، المحلى لابن حزم: ج 7 ص 107، أحكام القرآن للجصاص: ج 2 ص 152، الدر المنثور للسيوطي: ج 2 ص 487، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 1 ص 182 و ج 12 ص 251، نهج الحق وكشف الصدق: ص 281، الغدير للأميني: ج 6 ص 211.

عن عمران بن حصين قال: أنزلت آية المتعة في كتاب اللّه ففعلناها مع رسول اللّه ولم ينزل قرآن بحرمتها ولم ينه عنها حتى مات، قال رجل برأيه ما شاء قال أبو عبد اللّه البخاري: يعني عمر. (1) ومنها: أن عثمان ولى أمر المسلمين أقاربه من بني أمية الفساق لمحض القرابة بعد أن نهاه الصحابة حتى أظهروا القتل وشرب الخمر (2) وأنواع المناكير

ص: 486


1- راجع: صحيح البخاري: ج 2 ص 176، مسند أحمد بن حنبل: ج 4 ص 438، نهج الحق وكشف الصدق: ص 283
2- راجع: مروج الذهب للمسعودي: ج 2 ص 334 - 336، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2 ص 129. ذكر المسعودي في مروج الذهب ج 2 ص 334: كان السبب في صرف الوليد بن عقبة وولاية سعيد - على ما روي - أن الوليد بن عقبة كان يشرب مع ندمائه ومغنيه من أول الليل إلى الصباح، فلما أذنه المؤذنون بالصلاة خرج متفضلا في غلائله، فتقدم إلى المحراب في صلاة الصبح، فصلى بهم أربعا، وقال: أتريدون أن أزيدكم؟ وقيل: إنه قال في سجوده وقد أطال، إشرب واسقني، فقال له بعض من كان خلفه في الصف الأول: ما تزيد لا زادك اللّه من الخير، واللّه لأعجب إلا ممن بعثك إلينا واليا وعلينا أميرا، وكان هذا القائل عتاب بن عيلان الثقفي. وخطب الناس الوليد فحصبه الناس بحصباء المسجد، فدخل قصره يترنح، ويتمثل بأبيات لتأبط شرا: ولست بعيدا عن مدام وقينة *** ولا بصفا صلد عن الخير معزل ولكنني أروي من الخمر هامتي *** وأمشي الملا بالساحب المتسلسل وفي ذلك يقول الحطيئة: شهد الحطيئة يوم يلقى ربه *** إن الوليد أحق بالعذر نادى وقد تمت صلاتهم *** أأزيدكم؟! ثملا وما يدري ليزيدهم أخرى، ولو قبلوا *** لقرنت بين الشفع والوتر حبسوا عنانك في الصلاة، ولو *** خلوا عنانك لم تزل تجري وأشاعوا بالكوفة فعله، وظهر فسقه ومداومته شرب الخمر... الخ.

وضرب عبد اللّه بن مسعود (1) شيخ القراء حتى كسر بعض أضلاعه، وضرب عمار (2) بن ياسر حتى حدث به فتق، ونفى أبا ذر (3) مع عظم شأنهم وتقدمهم في الإسلام، وما ذاك إلا أنهم كانوا ينكرون عليه (4) بعض منكراته، ورد طريد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) الحكم (5) وابنه إلى المدينة وكان النبي (صلى اللّه عليه وآله) قد أخرجهما منها، وكان قد سأل أبا بكر وعمر في أيام خلافتهما بردهما فلم يقبلا، وكانت عائشة من أكبر الباعثين على قتله وتقول: اقتلوا نعثلا قتل اللّه نعثلا (6)، ونعثل اسم يهودي كانت

ص: 487


1- العقد الفريد للأندلسي: ج 5 ص 39، نهج الحق وكشف الصدق: ص 295
2- راجع: تاريخ الخميس: ج 2 ص 271، مروج الذهب للمسعودي: ج 2 ص 338، نهج الحق وكشف الصدق: ص 296، شرح نهج البلاغة لأبي أبي الحديد: ج 20 ص 36
3- راجع: تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 172، تاريخ الطبري: ج 4 ص 283، الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 3 ص 113، مروج الذهب للمسعودي: ج 2 ص 341، الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 4 ص 232، فتح الباري: ج 3 ص 212 - 213، أنساب الأشراف للبلاذري: ج 5 ص 52 - 55، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 3 ص 52 و ج 8 ص 252 - 262، نهج الحق وكشف الصدق: ص 298، الغدير للأميني: ج 8 ص 292 - 386
4- العقد الفريد للأندلسي: ج 5 ص 39
5- راجع: مجمع الزوائد: ج 5 ص 241 - 243، أسد الغابة: ج 2 ص 34 - 35، سير أعلام النبلاء: ج 2 ص 107 - 108، العقد الفريد للأندلسي: ج 5 ص 35، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 1 ص 198، الغدير للأميني: ج 8 ص 244، الملل والنحل للشهرستاني: ج 1 ص 32
6- راجع: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 6 ص 215، العقد الفريد للأندلسي: ج 5 ص 40 و 43، تاريخ الطبري: ج 4 ص 459، الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 3 ص 206.

تشبهه به، وكانت تخرج قميص رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) - وتقول: هذا قميص رسول اللّه - لم يبل وقد أبلى نعثل سنته (1)، فعند ذلك ثار الصحابة وغيرهم عليه وقتلوه.

.... والعجب أن عائشة كانت من أكبر الباعثين على قتله، ولما قتل وصار الأمر إلى علي (عليه السلام) خرجت تطالب بدمه (2) ولما قدمت البصرة خرج إليها أبو الأسود الدؤلي (3) فقال: يا أم المؤمنين، لم جئت؟ قالت: أطالب بدم عثمان،

ص: 488


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 6 ص 215
2- جاء في الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 3 ص 206، وتاريخ الطبري: ج 4 ص 459: أن عائشة لما خرجت من مكة تريد المدينة، وقد كانت بسرف لقيها رجل من أخوالها من بني ليث يقال له عبيد بن أبي سلمة، فقالت له: مهيم؟ قال: قتل عثمان وبقوا ثمانيا، قالت: ثم صنعوا ماذا ؟ قال: اجتمعوا على بيعة علي (عليه السلام)، فقالت: ليت هذه انطبقت على هذه إن تم الأمر لصاحبك! ردوني ردوني! فانصرفت إلى مكة وهي تقول: قتل واللّه عثمان مظلوما، واللّه لأطلبن بدمه! فقال لها: ولم؟ واللّه إن أول من أمال حرفه لأنت، ولقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلا فقد كفر! قالت: إنهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا، وقولي الأخير خير من قولي الأول، فقال لها ابن أم كلاب: فمنك البداء ومنك الغير *** ومنك الرياح ومنك المطر وأنت أمرت بقتل الإمام *** وقلت لنا إنه قد كفر فهبنا أطعناك في قتله *** وقاتله عندنا من أمر ولم يسقط السقف من فوقنا *** ولم ينكسف شمسنا والقمر وقد بايع الناس ذا تدارء *** يزيل الشبا ويقيم الصعر ويلبس للحرب أثوابها *** وما من وفى مثل من قد غدر
3- اسمه: ظالم بن عمرو، قاضي البصرة، قاتل يوم الجمل مع علي بن أبي طالب (عليه السلام) وشهد معه وقعة صفين وكان من وجوه الشيعة، وقد أمره أمير المؤمنين (عليه السلام) بوضع شئ في النحو لما سمع اللحن، فكان أول من وضع النحو، وكان معدودا في الفقهاء والشعراء والنحاة، وكان من أجملهم رأيا وعقلا، ويعد من الطبقة الأولى من شعراء الإسلام، وشيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) وأصحابه، مات سنة 69 وقيل سنة 99. راجع: تنقيح المقال للمامقاني: ج 2 ص 111 ترجمة رقم: 5979 ، سير أعلام النبلاء: ج 4 ص 81 ترجمة رقم: 28، تهذيب التهذيب: ج 12 ص 10 ترجمة رقم: 52.

فقال: أنت لست ولية دمه، أولياء دمه في الشام (1)، وأيضا الذين قتلوه ليسوا في البصرة، وإنما هم في المدينة، وأمثال ذلك مما ورد في كل واحد بخصوصه مما نقله أهل السنة وغيرهم لو ذكرناه لطال.

وأما ما ورد في الصحاح الستة وغيرها من قبائح الصحابة بقول مطلق فكثير جدا، فمنه حديث الحوض، وهو ما رواه في الجمع بين الصحيحين يعني مسلم والبخاري في الحديث الحادي والثلاثين بعد المائة من المتفق عليه من مسند أنس بن مالك قال: إن النبي (صلى اللّه عليه وآله) قال: ليردن علي الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا رأيتهم ورفعوا إلي رؤوسهم اختلجوا فأقول أي رب أصحابي أصحابي فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، ورواه أيضا في الجمع بين الصحيحين من مسند ابن عباس بلفظ آخر والمعنى متفق وفي آخره إنه لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم (2).

ورواه أيضا في الجمع بين الصحيحين من مسند سهل بن سعد في الحديث الثامن والعشرين من المتفق عليه وفي آخره زيادة (فأقول: سحقا لمن غير

ص: 489


1- راجع: الجمل والنصرة لسيد العترة في حرب البصرة للمفيد: ص 274، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 6 ص 226 و ج 9 ص 313.
2- راجع: صحيح البخاري: ج 8 ص 150 - 151، مسند أحمد: ج 5 ص 50، المصنف لعبد الرزاق الصنعاني: ج 11 ص 406 - 407 ح 20854 و ح 20855، صحيح مسلم: ج 4 ص 1800 ح 40، جامع الأصول لابن الأثير: ج 10 ص 468 - 470، بحارالأنوار للمجلسي: ج 28 ص 18 وص 22 - 29، كفاية الطالب للكنجي الشافعي: ص 87 - 88 بتفاوت.

بعدي).

ورواه أيضا في الحديث السابع والستين بعد المائتين من مسند أبي هريرة وفي آخره زيادة (فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم)، وروي مثل ذلك في مسند عائشة بعدة طرق، ومن مسند أسماء بنت أبي بكر من عدة طرق، ومن مسند أم سلمة من عدة طرق، ومن مسند سعيد بن المسيب من عدة طرق، فهذا وأمثاله كثير، ذم من الرسول لهم ثابت في صحاحكم قد بلغ حد التواتر، وهو غير ما يدعونه من ميل كثير منهم إلى الحياة الدنيا وطلب الملك والرئاسة، وبسبب ذلك أظهروا العداوة لأهل البيت (عليهم السلام) وآذوهم، وقد ورد في قتل الملوك أبناءهم وقتل أبنائهم لهم ما يقرب من ذلك، وأظهر من ذلك القرآن فقد أخبر بفرارهم (1) من الزحف وهو من أكبر الكبائر قال اللّه تعالى: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) إلى قوله: (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) (2) كانوا أكثر من عشرة آلاف فلم يتخلف معه إلا علي والعباس وابنه الفضل وربيعة وأبو سفيان وهما ابنا الحرث بن عبد المطلب وأسامة بن زيد وعبيدة بن أم أيمن (3) والباقون كلهم أسلموا نبيهم إلى القتل، ولم يخشوا العار ولا النار، ولم يستحيوا من اللّه ولا من رسوله، وهما يشاهدانهم فكيف يستبعد منهم ميلهم إلى الدنيا بعده وطلب الملك، وقد أخبر

ص: 490


1- فرارهم يوم حنين: راجع: صحيح البخاري: ج 5 ص 194 ب قوله تعالى: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ...) ، الصحيح من سيرة النبي (صلى اللّه عليه وآله): ج 3 ص 282، سيرة المصطفى لهاشم معروف: ص 617 - 618
2- سورة التوبة: الآية 25
3- راجع: تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 62، السيرة الحلبية: ج 3 ص 109، الإفصاح للمفيد: ص 25، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 13 ص 278، الإرشاد للمفيد: ص 74، غزوات أمير المؤمنين (عليه السلام) للنقدي ص 151.

النبي (صلى اللّه عليه وآله) بذلك في حديث الحوض.

وقد فر أبو بكر وعمر في عدة مواطن أخر مثل أحد (1) وخيبر (2) كلها متفق عليها بين أهل النقل، ومثل ذلك في القبح بل أقبح ما أخبر عنه بقوله تعالى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) (3)، روى البخاري (4) بسنده إلى جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: أقبلت عير يوم الجمعة ونحن مع النبي (صلى اللّه عليه وآله) فثار الناس إلا اثني عشر رجلا، فأنزل اللّه: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا) ففي رواية أن النبي (صلى اللّه عليه وآله) كان يخطب، وفي أخرى أنه كان قائما في الصلاة، وكانوا إذا أقبلت عير استقبلوها بالطبل والتصفيق وهو المراد باللّهو.

فهذا نص القرآن الذي لا يمكن إنكاره، فإذا كان هذا حالهم وسوء أدبهم

ص: 491


1- فرار أبي بكر يوم أحد، راجع: الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 2 ص 46 - 47، السيرة النبوية لابن كثير: ج 3 ص 58، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 13 ص 293. فرار عمر يوم أحد، راجع: حياة الصحابة: ج 1 ص 501 - 503، كتاب المغازي للواقدي: ج 1 ص 237، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 15 ص 2 و ص 22، بحار الأنوار: ج 20 ص 141، وجاء في تأريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي: ص 96: أن عمر أعطى رجلا عطاءه أربعة آلاف درهم وزاده ألفا، فقيل له: ألا تزيد ابنك كما زدت هذا؟ قال: إن أبا هذا ثبت يوم أحد ولم يثبت أبو هذا!!
2- فرار أبي بكر وعمر يوم خيبر، راجع: أسد الغابة: ج 4 ص 21، البداية والنهاية: ج 4 ص 186 ، حلية الأولياء للإصفهاني: ج 1 ص 62، مجمع الزوائد: ج 9 ص 124، المستدرك للحاكم: ج 3 ص 37 - 38
3- سورة الجمعة: الآية 11
4- راجع: صحيح البخاري: ج 6 ص 189 (كتاب التفسير)، مسند أحمد بن حنبل: ج 3 ص 313 و 370، سنن الترمذي: ج 5 ص 386 ح 3311، الدر المنثور للسيوطي: ج 8 ص 165 - 167، جامع البيان للطبري: ج 28 ص 67 - 68، مجمع البيان: ج 10 ص 433، الإفصاح للمفيد: ص 26.

وعدم اعتنائهم بنبيهم وبسماع خطبته وصلاة الجمعة معه، وهما واجبان وهو يشاهدهم ويعلم بهم لأجل تفرج على عير وسماع الطبل ولهو، فهل يبعد منهم أن يخالفوا أمره طلبا للملك والرئاسة بعد وفاته، فليعتبر العاقل فإن في ذلك معتبرا، وأيم اللّه إن بعض المشايخ والوعاظ لو كان مقبلا على أصحابه يعظهم ويخوفهم فسمعوا بلهو أو طبل لاستحوا وهابوا أن يخرجوا لأجل أمر مباح، وإن لم يكن في خروجهم ترك واجب، فما ظنك بمثل سيد المرسلين وسماع خطبته وصلاة الجمعة معه والخروج وهو يشاهدهم أو في الصلاة لأجل تفرج على عير وسماع لهو؟ وعند التحقيق هذا أقبح من فرارهم من الزحف لأن الفرار وإن كان كبيرة، لكن فيه بقاء نفس وأما هذا ففيه من قلة الحياء الجرأة على اللّه وعلى رسوله ما لا يمكن حده ويكفي من ذلك ترجيح التفرج على العير وسماع الطبل واللّهو على سماع خطبة النبي وصلاة الجمعة معه الواجبين فاعتبروا يا أولي الأبصار.

فهل يستبعد ممن هذا شأنه في حياة نبيه وهو يشاهده ميله بعد ذلك إلى الملك والرئاسة وارتكاب إثم لذلك، فهذا وأمثاله وهي كثيرة، عذر الشيعة في سبهم بعض الصحابة الذي ثبت عندهم أنهم فعلوا مثل ذلك وهو عندهم عذر واضح، ولهم مع ذلك كتب مدونة مطولة مشهورة تحتوي على أدلة كثيرة من الكتاب والسنة تجوز لهم سب من يسبونه، وقد نقل جميع ذلك أهل السنة ولكن يغمضون العين عنه أو يتأولونه بما لا يفيد، ويقولون إنه ما ذكرناه وأمثاله فإن كان كافيا في جواز سبهم فلا لوم، وإلا فغاية الأمر أن يكونوا مجتهدين مخطئين مثل بعض الصحابة والتابعين.

وهذا معاوية وبنو أمية لعنوا عليا (1) ثمانين سنة (2) ولم يفعل شيئا من ذلك،

ص: 492


1- راجع: العقد الفريد للأندلسي: ج 4 ص 113 - 114 و ج 5 ص 114 - 115، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4 ص 56 و ج 11 ص 44 و ج 13 ص 220، كفاية الطالب للكنجي الشافعي: ص 82 - 85 ط الفارابي و ص 28 ط الغري، ترجمة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) من تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 1 ص 225 ح 271 و 272، الإصابة لابن حجر: ج 4 ص 465، نهج الحق وكشف الصدق: ص 310 - 311، إحقاق الحق للتستري: ج 3 ص 407 - 409
2- ومع كل هذه المحاولات اليائسة والتي بذلوا في سبيلها النفس والنفيس وسخروا كل طاقاتهم في محاربة أخي رسول اللّه ووصيه، ومحو ذكره، وشتمه على المنابر نحو ثمانين عاما فإنها أبت بالفشل الذريع، وذهبت أدراج الرياح، وتلاشت كتلاشي الهشيم في الهواء، وبقي ذكر علي خالدا في شرق الدنيا وغربها كالشمس التي تشرق على الأنام في كل يوم، لأنه ما كان لله لم تهدمه الدنيا ولو اجتمع الخافقان على إزالته ما استطاعوا إليه سبيلا، وعدا حقا في كتابه قال تعالى: (يريدون ليطفئوا نور اللّه بأفواههم ويأبى اللّه إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) وإليك بعض الكلمات التاريخية التي أشارت إلى هذا المعنى: 1 - روي عن محمد بن أبي الموج بن الحسين الرازي، قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: الحمد لله الذي حفظ منا ما ضيع الناس، ورفع منا ما وضعوه حتى لقد لعنا على منابر الكفر ثمانين عاما، وكتمت فضائلنا وبذلت الأموال في الكذب علينا، واللّه تعالى يأبى لنا إلا أن يعلى ذكرنا ويبين فضلنا واللّه ما هذا بنا، وإنما هو برسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وقرابتنا منه حتى صار أمرنا وما يروي عنه أنه سيكون بعدنا من أعظم آياته ودلالات نبوته. (عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للصدوق: ج 1 ص 175 ح 26). 2 - روي عن عامر بن عبد اللّه بن الزبير أنه سمع ابنا له ينتقص عليا (عليه السلام) فقال: إياك والعودة إلى ذلك، فإن بني مروان شتموه ستين سنة، فلم يزده اللّه بذلك إلا رفعة، وإن الدين لم يبن شيئا فهدمته الدنيا، وإن الدنيا لم تبن شيئا إلا عاودت على ما بنته فهدمته. (الإستيعاب: ج 3 ص 1118. 3 - أخرج السلفي في الطيوريات عن عبدد اللّه بن أحمد بن أحمد بن حنبل قال : سألت أبي عن علي و معاوية؟ فقال: اعلم أن علياً عليه السلام كان كثير الأعداء ففتش له أعداؤه شيئاً فلم يجدوه، فجاؤا إلی رجل قد حاربه وقاتله فأطروه كيداً منهم له (الصواعق المحرقة لابن حجر : ص 127).

فلا لوم علينا في السب بعد أن رأينا مثل هذه الأمور بعضها في القرآن، وبعضها في كتب أهل السنة منقولة مصححة، وأما حقائق الأمور فهي موكولة إلى اللّه تعالى وهو يحكم بين عباده يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون.

ص: 493

تنبيه نبيه يقضي على جملة ما تكلمنا فيه، لا شك ولا ريب أن لنا مرجعا إلى اللّه وأننا هنا مسؤولون كما ذكر في كتابه المجيد، فإذا قال الباري جل وعز: لم اتبعتم أهل البيت (عليهم السلام) ولم تتبعوا أبا حنيفة؟ قلنا: لأنك طهرتهم في كتابك وجعلت ودهم أجر الرسالة، وأمرنا رسولك المبلغ عنك الذي لا ينطق عن الهوى باتباعهم، وهم أقرب الناس إليه وأعلمهم بسنته وفي بيوتهم نزل الوحي، وقد أجمع الكل على علمهم وطهارتهم، ولم تأمرنا في كتابك ولا على لسان نبيك ولا قام الدليل على وجوب اتباع غيرهم.

وليت شعري إذا سألكم الباري بمثل ذلك هل يكون جوابكم سوى أنه مجتهد؟ فيقول الباري: أهل بيت نبيي أيضا كانوا مجتهدين، فما وجه العدول عنهم بعدما أخبرتكم أنهم مطهرون، وخبركم رسولي أن المتمسك بهم وبكتابي لن يضل أبدا، ولم آمركم ولا رسولي باتباع غيرهم، فلا يكون العدول عنهم إلا للتعصب من أوائلكم واتباع للهوى وميل إلى الحياة، وركون منكم إلى التقليد المألوف، ولا شبهة أن الحق ثقيل، واتباعه يحتاج إلى مزيد إنصاف وترك للهوى والتقليد المألوفين، اللّهم اكفنا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ووفقنا للعلم والعمل بما تحبه وترضاه إنك قريب مجيب.

تمت في سنة خمس وتسعين وتسعمائة على يد أفقر عباد اللّه صالح بن محمد بن عبد الإله السلامي غفر اللّه ذنوبهما آمين رب العالمين.

ص: 494

المناظرة الثانية والسبعون: مناظرة أبي جعفر العلوي البصري مع أحد الفقهاء في إيراده لكلام الجويني

المناظرة الثانية والسبعون: مناظرة أبي جعفر العلوي البصري مع أحد الفقهاء في إيراده لكلام الجويني (1) في أمر الصحابة بكتاب كتبه أحد الزيدية قال ابن أبي الحديد المعتزلي: وحضرت عند النقيب أبي جعفر يحيى بن محمد العلوي البصري في سنة إحدى عشرة وستمائة ببغداد، وعنده جماعة، وأحدهم يقرأ في الأغاني لأبي الفرج، فمر ذكر المغيرة بن شعبة (2) وخاض القوم، فذمه بعضهم، وأثنى عليه بعضهم، وأمسك عنه آخرون.

فقال بعض فقهاء الشيعة ممن كان يشتغل بطرف من علم الكلام على رأي

ص: 495


1- هو: عبد الملك بن عبد اللّه بن يوسف بن محمد الجويني، أبو المعالي، ركن الدين، الملقب بإمام الحرمين، أعلم المتأخرين من أصحاب الإمام الشافعي، ولد في جوين - من نواحي نيسابور - سنة 419 ه، سافر إلى بغداد ولقي بها جماعة من العلماء ثم خرج إلى الحجاز، وجاور بمكة أربع سنين وكان بالمدينة يدرس ويفتي، ولهذا سمي إمام الحرمين، ثم عاد إلى نيسابور، وبنى له الوزير نظام الملك المدرسة النظامية فيها، له مصنفات كثيرة، توفي سنة 478 ه، وقيل: إنه بعد وفاته حزن الناس عليه حتى كسروا منبره، وقعد الناس لعزائه حتى أن تلامذته كسروا محابرهم وأقلامهم حزنا عليه وأقاموا على ذلك عاما كاملا. راجع ترجمته في: وفيات الأعيان لابن خلكان: ج 3 ص 167 - 170 ترجمة رقم: 378، الأعلام للزركلي: ج 4 ص 306
2- الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني: ج 16 ص 79.

الأشعري: الواجب الكف والإمساك عن الصحابة، وعما شجر بينهم، فقد قال أبو المعالي الجويني: إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) نهى عن ذلك، وقال: «إياكم وما شجر بين صحابتي»، وقال: «دعوا لي أصحابي، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا لما بلغ مد أحدهم ولا نصفيه» (1)، وقال: «أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم» (2) (3)،

ص: 496


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 3 ص 266، تاريخ بغداد: ج 1 ص 209، مجمع الزوائد: ج 10 ص 15
2- ميزان الاعتدال: ج 1 ص 413، إتحاف السادة المتقين: ج 2 ص 223، كشف الخفاء: ج 1 ص 147 ح 381، لسان الميزان: ج 2 ص 118، التفسير الكبير للرازي: ج 27 ص 167
3- هذا الحديث على فرض صحته لا يمكن أن يكون المقصود به هم عامة الصحابة، إذ لا يمكن أن يتحقق الاهتداء بكل واحد منهم لا على التعيين، إذ نقطع بوجود الخلاف والنزاع فيما بينهم حتى حصل في ما بين بعضهم القتل والقتال، وقد شتم بعضهم بعضا، وحيث أن الحق واحد فكيف يتحقق الاهتداء بالاقتداء بكل واحد منهم، والذي يؤيد هذا ما ورد عن محمد بن موسى بن نصر الرازي عن أبيه، قال: سئل الرضا (عليه السلام) عن قول النبي (صلى اللّه عليه وآله): أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، وعن قوله (صلى اللّه عليه وآله): دعوا لي أصحابي، فقال (عليه السلام): هذا صحيح يريد من لم يغير بعده ولم يبدل، قيل: وكيف يعلم أنهم قد غيروا وبدلوا؟ قال: لما يروونه: من أنه (صلى اللّه عليه وآله) قال: ليذادن برجال من أصحابي يوم القيامة عن حوضي كما تذاد غرائب الإبل عن الماء، فأقول: يا رب أصحابي أصحابي؟ فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك؟ فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: بعدا لهم وسحقا لهم، أفترى هذا لمن لم يغير ولم يبدل - عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 1 ص 93، والجدير بالذكر هو إنه قد ورد عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) التعبير عن أهل البيت (عليهم السلام) بالأصحاب أيضا كما عن بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار: ص 31 ح 2، بسنده عن إسحاق بن عمار عن - أبي عبد اللّه - جعفر عن أبيه (عليهما السلام) أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قال: ما وجدتم في كتاب اللّه فالعمل به لازم لا عذر لكم في تركه، وما لم يكن فيه سنة مني فما قال أصحابي فخذوه ، فإنما مثل أصحابي فيكم كمثل النجوم فبأيها أخذ اهتدى، وبأي أقاويل أصحابي أخذتم اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة، قيل: يا رسول اللّه ومن أصحابك قال: أهل بيتي. فهم الذين بلا شك من اتبعهم اهتدى ونجا ومن تخلف عنهم غرق وهوى، كما هو صريح حديث السفينة، وبعض الأخبار مثل قوله (صلى اللّه عليه وآله): ألا أن أبرار عترتي وأطايب أرومتي أحلم الناس صغارا، وأعلم الناس كبارا، فلا تعلموهم فإنهم أعلم منكم، لا يخرجونكم من باب هدى ولا يدخلونكم في باب ضلالة. عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 1 ص 182. وحديث الثقلين أيضا الذي هو أشهر من أن يذكر - أوصيكم بالثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي... لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما الخ فهو واضح الدلالة وصريح العبارة كالشمس التي لا تخفى - في دلالته على أن الاهتداء لا يتم إلا عن هذين الطريقين ويكون في مأمن من الضلالة بلا ريب بخلاف اتباع غيرهما فبعد هذا كله فهل يمكن الجزم بحصول الهداية من غير هذين الطريقين، الكتاب والعترة؟!

وقال: «خيركم القرن الذي أنا فيه ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه» (1)، وقد ورد في القرآن الثناء على الصحابة وعلى التابعين، وقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): «وما يدريك لعل اللّه اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (2)، وقد روي عن الحسن البصري أنه ذكر عنده الجمل وصفين، فقال: تلك دماء طهر اللّه منها أسيافنا، فلا نلطخ بها ألسنتنا.

ثم إن تلك الأحوال قد غابت عنا وبعدت أخبارها على حقائقها، فلا يليق بنا أن نخوض فيها، ولو كان واحد من هؤلاء قد أخطأ لوجب أن يحفظ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فيه، ومن المروءة أن يحفظ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في عائشة زوجته، وفي الزبير ابن عمته، وفي طلحة الذي وقاه بيده.

ص: 497


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 1 ص 438، صحيح البخاري: ج 3 ص 224 و ج 8 ص 113، حلية الأولياء للإصفهاني: ج 8 ص 391، السنن الكبرى للبيهقي: ج 10 ص 74، الترهيب والترغيب للمنذري: ج 4 ص 8 ح 11
2- الكتاب المصنف لابن أبي شيبة: ج 14 ص 384 ح 18573، مسند أحمد بن حنبل: ج 1 ص 80، صحيح البخاري: ج 8 ص 32، المعجم الكبير للطبراني: ج 12 ص 99 ح 12592.

ثم ما الذي ألزمنا وأوجب علينا أن نلعن أحدا من المسلمين أو نبرأ منه! وأي ثواب في اللعنة والبراءة! إن اللّه تعالى لا يقول يوم القيامة للمكلف: لم لم تلعن؟ بل قد يقول له: لم لعنت؟ ولو أن إنسانا عاش عمره كله لم يلعن إبليس لم يكن عاصيا ولا آثما، وإذا جعل الإنسان عوض اللعنة أستغفر اللّه كان خيرا له.

ثم كيف يجوز للعامة أن تدخل أنفسها في أمور الخاصة، وأولئك قوم كانوا أمراء هذه الأمة وقادتها، ونحن اليوم في طبقة سافلة جدا عنهم، فكيف يحسن بنا التعرض لذكرهم! أليس يقبح من الرعية أن تخوض في دقائق أمور الملك وأحواله وشؤونه التي تجري بينه وبين أهله وبني عمه ونسائه وسراريه! وقد كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) صهرا لمعاوية، وأخته أم حبيبة تحته، فالأدب أن تحفظ أم حبيبة وهي أم المؤمنين في أخيها.

وكيف يجوز أن يلعن من جعل اللّه تعالى بينه وبين رسوله مودة! أليس المفسرون كلهم قالوا: هذه الآية أنزلت في أبي سفيان وآله، وهي قوله تعالى: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) (1)! فكان ذلك مصاهرة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أبا سفيان وتزويجه ابنته، على أن جميع ما تنقله الشيعة من الاختلاف بينهم والمشاجرة لم يثبت، وما كان القوم إلا كبني أم واحدة، ولم يتكدر باطن أحد منهم على صاحبه قط ولا وقع بينهم اختلاف ولا نزاع.

فقال أبو جعفر (رحمه اللّه): قد كنت منذ أيام علقت بخطي كلاما وجدته لبعض الزيدية في هذا المعنى نقضا وردا على أبي المعالي الجويني فيما اختاره لنفسه من هذا الرأي، وأنا أخرجه إليكم لأستغني بتأمله عن الحديث على ما قاله هذا

ص: 498


1- سورة الممتحنة: الآية 7.

الفقيه، إني أجد ألما يمنعني من الإطالة في الحديث، لا سيما إذا خرج مخرج الجدل ومقاومة الخصوم.

ثم أخرج من بين كتبه كراسا قرأناه في ذلك المجلس واستحسنه الحاضرون، وأنا أذكر ها هنا خلاصته.

قال: لولا أن اللّه تعالى أوجب معاداة أعدائه، كما أوجب موالاة أوليائه، وضيق على المسلمين تركها إذا دل العقل عليها، أو صح الخبر عنها بقوله سبحانه:

(لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) (1)، وبقوله تعالى: (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ) (2) وبقوله سبحانه: (لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) (3) ولإجماع المسلمين على أن اللّه تعالى فرض عداوة أعدائه، وولاية أوليائه، وعلى أن البغض في اللّه واجب، والحب في اللّه واجب - لما تعرضنا لمعاداة أحد من الناس في الدين، ولا البراءة منه، ولكانت عداوتنا للقوم تكلفا.

ولو ظننا أن اللّه عز وجل يعذرنا إذا قلنا: يا رب غاب أمرهم عنا، فلم يكن لخوضنا في أمر قد غاب عنا معنى، لاعتمدنا على هذا العذر، وواليناهم، ولكنا نخاف أن يقول سبحانه لنا: إن كان أمرهم قد غاب عن أبصاركم، فلم يغب عن قلوبكم وأسماعكم، قد أتتكم به الأخبار الصحيحة التي بمثلها ألزمتم أنفسكم الإقرار بالنبي - صلى اللّه عليه وآله - وموالاة من صدقه، ومعاداة من عصاه

ص: 499


1- سورة المجادلة: الآية 22
2- سورة المائدة: الآية 81
3- سورة الممتحنة: الآية 13.

وجحده، وأمرتم بتدبر القرآن وما جاء به الرسول، فهلا حذرتم من أن تكونوا من أهل هذه الآية غدا: (رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) (1)! فأما لفظة اللعن فقد أمر اللّه تعالى بها، وأوجبها، ألا ترى إلى قوله: (أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (2)، فهو إخبار معناه الأمر، كقوله: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) (3)، وقد لعن اللّه تعالى العاصين بقوله: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ) (4)، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا) (5)، وقوله: (مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا) (6)، وقال اللّه تعالى لإبليس: (وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين) (7) وقال: (إن اللّه لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا) (8).

فأما قول من يقول: «أي ثواب في اللعن! وإن اللّه تعالى لا يقول للمكلف لم لم تلعن؟ بل قد يقول له: لم لعنت؟ وأنه لو جعل مكان لعن اللّه فلانا، اللّهم اغفر لي لكان خيرا له، ولو أن إنسانا عاش عمره كله لم يلعن إبليس لم يؤاخذ بذلك»، فكلام جاهل لا يدري ما يقول، اللعن طاعة، ويستحق عليها الثواب إذا فعلت

ص: 500


1- سورة الأحزاب: الآية 67
2- سورة البقرة: الآية 159
3- سورة البقرة: الآية 228
4- سورة المائدة: الآية 78
5- سورة الأحزاب: الآية 57
6- سورة الأحزاب: الآية 61
7- سورة ص: الآية 78
8- سورة الأحزاب: الآية 64.

على وجهها، وهو أن يلعن مستحق اللعن لله وفي اللّه، لا في العصبية والهوى، ألا ترى أن الشرع قد ورد بها في نفي الولد، ونطق بها القرآن، وهو أن يقول الزوج في الخامسة: (أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) (1) فلو لم يكن اللّه تعالى يريد أن يتلفظ عباده بهذه اللفظة وأنه قد تعبدهم بها، لما جعلها من معالم الشرع، ولما كررها في كثير من كتابه العزيز، ولما قال في حق القائل: (وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ) (2)، وليس المراد من قوله: «ولعنه» إلا الأمر لنا بأن نلعنه، ولو لم يكن المراد بها ذلك لكان لنا أن نلعنه، لأن اللّه تعالى لعنه، أفيلعن اللّه تعالى إنسانا ولا يكون لنا أن نلعنه! هذا ما لا يسوغ في العقل، كما لا يجوز أن يمدح اللّه إنسانا إلا ولنا أن نمدحه، ولا يذمه إلا ولنا أن نذمه، وقال تعالى: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ) (3) وقال: (رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) (4)، وقال عز وجل: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا) (5).

وكيف يقول القائل: إن اللّه تعالى لا يقول للمكلف: لم لم تلعن؟ ألا يعلم هذا القائل أن اللّه تعالى أمر بولاية أوليائه، وأمر بعداوة أعدائه، فكما يسأل عن التولي يسأل عن التبري! ألا ترى أن اليهودي إذا أسلم يطالب بأن يقال له: تلفظ بكلمة الشهادتين، ثم قل: برئت من كل دين يخالف دين الإسلام، فلا بد من البراءة، لأن بها يتم العمل! ألم يسمع هذا القائل قول الشاعر:

ص: 501


1- سورة النور: الآية 7
2- سورة النساء: الآية 93
3- سورة المائدة: الآية 60
4- سورة الأحزاب: الآية 68
5- سورة المائدة: الآية 64.

تود عدوي ثم تزعم أنني *** صديقك، إن الرأي عنك لعازب

فمودة العدو خروج عن ولاية الولي، وإذا بطلت المودة لم يبق إلا البراءة، لأنه لا يجوز أن يكون الإنسان في درجة متوسطة مع أعداء اللّه تعالى وعصاته بألا يودهم ولا يبرأ منهم بإجماع المسلمين على نفي هذه الواسطة.

وأما قوله: لو جعل عوض اللعنة أستغفر اللّه لكان خيرا له، فإنه لو استغفر من غير أن يلعن أو يعتقد وجوب اللعن لما نفعه استغفاره ولا قبل منه، لأنه يكون عاصيا لله تعالى، مخالفا أمره في إمساكه عمن أوجب اللّه تعالى عليه البراءة منه، وإظهار البراءة، والمصر على بعض المعاصي لا تقبل توبته واستغفاره عن البعض الآخر، وأما من يعيش عمره ولا يلعن إبليس، فإن كان لا يعتقد وجوب لعنه فهو كافر، وإن كان يعتقد وجوب لعنه ولا يلعنه فهو مخطئ، على أن الفرق بينه وبين ترك لعنه رؤوس الضلال في هذه الأمة كمعاوية والمغيرة وأمثالهما، أن أحدا من المسلمين لا يورث عنده الإمساك عن لعن إبليس شبهة في أمر إبليس، والإمساك عن لعن هؤلاء وأضرابهم يثير شبهة عند كثير من المسلمين في أمرهم، وتجنب ما يورث الشبهة في الدين واجب، فلهذا لم يكن الإمساك عن لعن إبليس نظيرا للإمساك عن أمر هؤلاء.

قال: ثم يقال للمخالفين: أرأيتم لو قال قائل: قد غاب عنا أمر يزيد بن معاوية والحجاج بن يوسف، فليس ينبغي أن نخوض في قصتهما، ولا أن نلعنهما ونعاديهما ونبرأ منهما، هل كان هذا إلا كقولكم: قد غاب عنا أمر معاوية والمغيرة ابن شعبة وأضرابهما، فليس لخوضنا في قصتهم معنى!

ص: 502

وبعد، فكيف أدخلتم أيها العامة والحشوية (1) وأهل الحديث أنفسكم في أمر عثمان وخضتم فيه، وقد غاب عنكم! وبرئتم من قتله، ولعنتموهم! وكيف لم تحفظوا أبا بكر الصديق في محمد ابنه فإنكم لعنتموه وفسقتموه، ولا حفظتم عائشة أم المؤمنين في أخيها محمد المذكور، ومنعتمونا أن نخوض وندخل أنفسنا في أمر علي والحسن والحسين (عليهم السلام) ومعاوية الظالم له ولهما، المتغلب على حقه وحقوقهما! وكيف صار لعن ظالم عثمان من السنة عندكم، ولعن ظالم علي والحسن والحسين (عليهم السلام) تكلفا! وكيف أدخلت العامة أنفسها في أمر عائشة وبرئت ممن نظر إليها، ومن القائل لها: يا حميراء، أو إنما هي حميراء، ولعنته بكشفه سترها، ومنعتنا نحن عن الحديث في أمر فاطمة (عليها السلام) وما جرى لها بعد وفاة أبيها (صلى اللّه عليه وآله).

فإن قلتم: إن بيت فاطمة (عليها السلام) إنما دخل، وسترها إنما كشف، حفظا لنظام الإسلام، وكيلا ينتشر الأمر ويخرج قوم من المسلمين أعناقهم من ربقة الطاعة ولزوم الجماعة.

قيل لكم: وكذلك ستر عائشة إنما كشف، وهودجها إنما هتك، لأنها نشرت حبل الطاعة، وشقت عصا المسلمين، وأراقت دماء المسلمين من قبل وصول

ص: 503


1- الحشوية: هم طائفة من أصحاب الحديث تمسكوا بالظواهر، لقبوا بهذا اللقب لاحتمالهم كل حشو روي من الأحاديث المتناقضة، أو لأنهم قالوا بحشوا الكلام مثل قولهم في الإمامة: خرج رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ولم يستخلف على دينه من يقوم مقامه في لم الشعث ولم الكلمة في أمور الملك والرعية، كما ذهبوا إلى أن طريق معرفة الحق هو التقليد، وإن البحث والنظر حرام، ولم يعثر على أصل مبناهم في حظر الاجتهاد ولا على أصل التوجيه بهذا الحظر، فهم يمنعون من تأويل الآيات الواردة في الصفات، ويقولون بالجمود على الظواهر. راجع: معجم الفرق الإسلامية للأمين: ص 97 - 98.

علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى البصرة، وجرى لها مع عثمان بن حنيف وحكيم بن جبلة ومن كان معهما من المسلمين الصالحين من القتل وسفك الدماء ما تنطق به كتب التواريخ والسير (1)، فإذا جاز دخول بيت فاطمة (عليها السلام) لأمر لم يقع بعد جاز كشف ستر عائشة على ما قد وقع وتحقق، فكيف صار هتك ستر عائشة من الكبائر التي يجب معها التخليد في النار، والبراءة من فاعله، ومن أوكد عرا الإيمان، وصار كشف بيت فاطمة (عليها السلام) والدخول عليها منزلها وجمع حطب ببابها، وتهددها بالتحريق (2) من أوكد عرا الدين، وأثبت دعائم الإسلام، ومما أعز اللّه به المسلمين وأطفأ به نار الفتنة، والحرمتان واحدة، والستران واحد، وما نحب أن نقول لكم: إن حرمة فاطمة أعظم، ومكانها أرفع، وصيانتها لأجل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أولى، فإنها بضعة (3) منه، وجزء من لحمه ودمه، وليست كالزوجة الأجنبية التي لا نسب بينها وبين الزوج، وإنما هي وصلة مستعارة، وعقد يجري مجرى إجارة المنفعة، وكما يملك رق الأمة بالبيع والشراء، ولهذا قال الفرضيون: أسباب التوارث ثلاثة: سبب، ونسب، وولاء، فالنسب القرابة، والسبب النكاح، والولاء: ولاء العتق، فجعلوا النكاح خارجا عن النسب، ولو كانت الزوجة ذات نسب لجعلوا الأقسام الثلاثة قسمين.

وكيف تكون عائشة أو غيرها في منزلة فاطمة (عليها السلام)، وقد أجمع المسلمون كلهم - من يحبها ومن لا يحبها منهم - أنها سيدة نساء العالمين (4).

ص: 504


1- راجع: مروج الذهب للمسعودي: ج 2 ص 358، تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 181، تاريخ الطبري: ج 4 ص 469
2- راجع: الإمامة والسياسة لابن قتيبة: ج 1 ص 19
3- إشارة إلى حديث رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): فاطمة بضعة مني... الخ وقد تقدمت تخريجاته
4- راجع: فضائل فاطمة الزهراء (عليها السلام) لابن شاهين: ص 34 - 35 ح 13، مشكل الآثار: ج 1 ص 50، حلية الأولياء: ج 2 ص 42، ذخائر العقبى: ص 43.

قال: وكيف يلزمنا اليوم حفظ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في زوجته، وحفظ أم حبيبة في أخيها، ولم تلزم الصحابة أنفسها حفظ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في أهل بيته (عليهم السلام)، ولا ألزمت الصحابة أنفسها حفظ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في صهره وابن عمه عثمان بن عفان، وقد قتلوهم ولعنوهم، ولقد كان كثير من الصحابة يلعن عثمان وهو خليفة، منهم عائشة كانت تقول: اقتلوا نعثلا، لعن اللّه نعثلا (1)، ومنهم عبد اللّه بن مسعود، وقد لعن معاوية علي بن أبي طالب (2) وابنيه حسنا وحسينا (عليهم السلام) وهم أحياء يرزقون بالعراق، وهو يلعنهم بالشام على المنابر، ويقنت عليهم في الصلوات، وقد لعن أبو بكر وعمر سعد بن عبادة (3) وهو حي، وبرئا منه، وأخرجاه من المدينة إلى الشام، ولعن عمر خالد بن الوليد (4) لما قتل مالك بن نويرة، وما زال اللعن فاشيا في المسلمين إذا عرفوا من الإنسان معصية تقتضي اللعن والبراءة.

قال: ولو كان هذا أمرا معتبرا وهو أن يحفظ زيد لأجل عمرو فلا يلعن، لوجب أن تحفظ الصحابة في أولادهم، فلا يلعنوا لأجل آبائهم، فكان يجب أن يحفظ سعد بن أبي وقاص فلا يلعن ابنه عمر بن سعد قاتل الحسين (عليه السلام)، وأن يحفظ معاوية فلا يلعن يزيد صاحب وقعة الحرة (5) وقاتل الحسين، ومخيف المسجد الحرام بمكة، وأن يحفظ عمر بن الخطاب في عبيد اللّه ابنه قاتل

ص: 505


1- تقدمت تخريجاته
2- تقدمت تخريجاته
3- راجع: الإمامة والسياسة: ج 1 ص 17، تاريخ الطبري: ج 3 ص 222
4- راجع: تاريخ الطبري: ج 3 ص 278، الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 2 ص 358 - 359
5- راجع: تاريخ الطبري: ج 5 ص 482، الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 4 ص 111.

الهرمزان، والمحارب عليا (عليه السلام) في صفين.

قال: على أنه لو كان الإمساك عن عداوة من عادى اللّه من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) من حفظ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في أصحابه ورعاية عهده وعقده لم نعادهم ولو ضربت رقابنا بالسيوف، ولكن محبة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لأصحابه ليست كمحبة الجهال الذين يضع أحدهم محبته لصاحبه موضع العصبية، وإنما أوجب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) محبة أصحابه لطاعتهم لله، فإذا عصوا اللّه وتركوا ما أوجب محبتهم، فليس عند رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) محاباة في ترك لزوم ما كان عليه من محبتهم، ولا تغطرس في العدول عن التمسك بموالاتهم، فلقد كان (صلى اللّه عليه وآله) يحب أن يعادي أعداء اللّه ولو كانوا عترته، كما يحب أن يوالي أولياء اللّه ولو كانوا أبعد الخلق نسبا منه.

والشاهد على ذلك إجماع الأمة على أن اللّه تعالى قد أوجب عداوة من ارتد بعد الإسلام، وعداوة من نافق وإن كان من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، وإن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله وسلم - هو الذي أمر بذلك ودعا إليه وذلك أنه (صلى اللّه عليه وآله) قد أوجب قطع يد السارق وضرب القاذف، وجلد البكر إذا زنى، وإن كان من المهاجرين أو الأنصار، ألا ترى أنه قال: لو سرقت فاطمة لقطعتها (1)، فهذه ابنته، الجارية مجرى نفسه، لم يحابها في دين اللّه، ولا راقبها في حدود اللّه، وقد جلد أصحاب الإفك (2)، ومنهم مسطح بن أثاثة، وكان من أهل بدر.

قال: وبعد، فلو كان محل أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) محل من لا يعادى إذا عصى اللّه سبحانه ولا يذكر بالقبيح، بل يجب أن يراقب لأجل اسم الصحبة، ويغضى عن عيوبه وذنوبه، لكان كذلك صاحب موسى المسطور ثناؤه في القرآن

ص: 506


1- صحيح مسلم: ج 3 ص 1316 ح 11 - (1689)، السنن الكبرى للبيهقي: ج 8 ص 281
2- تاريخ الطبري: ج 2 ص 610 - 619، الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 2 ص 195 - 199.

لما اتبع هواه، فانسلخ مما أوتي من الآيات وغوى، قال سبحانه: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) (1)، ولكان ينبغي أن يكون محل عبدة العجل من أصحاب موسى هذا المحل، لأن هؤلاء كلهم قد صحبوا رسولا جليلا من رسل اللّه سبحانه.

قال: ولو كانت الصحابة عند أنفسها بهذه المنزلة، لعلمت ذلك من حال أنفسها، لأنهم أعرف بمحلهم من عوام أهل دهرنا، وإذا قدرت أفعال بعضهم ببعض دلتك على أن القصة كانت على خلاف ما قد سبق إلى قلوب الناس اليوم، هذا علي وعمار وأبو الهيثم بن التيهان، وخزيمة بن ثابت، وجميع من كان مع علي (عليه السلام) من المهاجرين والأنصار، لم يروا أن يتغافلوا عن طلحة والزبير وعائشة ومن كان معهم وفي جانبهم، لم يروا أن يمسكوا عن علي (عليه السلام) حتى قصدوا له كما يقصد للمتغلبين في زماننا.

وهذا معاوية وعمرو لم يريا عليا بالعين التي يرى بها العامي صديقه أو جاره، ولم يقصرا دون ضرب وجهه بالسيف ولعنه ولعن أولاده وكل من كان حيا من أهله، وقتل أصحابه، وقد لعنهما هو أيضا في الصلوات المفروضات، ولعن معهما أبا الأعور السلمي، وأبا موسى الأشعري، وكلاهما من الصحابة، وهذا سعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة، وأسامة بن زيد، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وعبد اللّه بن عمر، وحسان بن ثابت، وأنس بن مالك، لم يروا أن يقلدوا عليا (عليه السلام) في حرب طلحة، ولا طلحة في حرب علي، وطلحة والزبير بإجماع المسلمين أفضل من هؤلاء المعدودين، لأنهم زعموا أنهم قد خافوا أن يكون علي قد غلط وزل في حربهما، وخافوا أن يكونا قد غلطا وزلا في حرب علي (عليه السلام).

ص: 507


1- سورة الأعراف: الآية 175.

وهذا عثمان قد نفى أبا ذر (1) إلى الربذة (2) كما يفعل بأهل الخنا والريب، وهذا عمار وابن مسعود تلقيا عثمان بما تلقياه به لما ظهر لهما - بزعمهما - منه ما وعظاه لأجله، ثم فعل بهما عثمان ما تناهى إليكم، ثم فعل القوم بعثمان ما قد علمتم وعلم الناس كلهم.

وهذا عمر يقول في قصة الزبير بن العوام لما استأذنه في الغزو: ها إني ممسك بباب هذا الشعب أن يتفرق أصحاب محمد في الناس فيضلوهم، وزعم أنه وأبو بكر كانا يقولان: إن عليا والعباس في قصة الميراث زعما هما كاذبين ظالمين فاجرين، وما رأينا عليا والعباس اعتذرا ولا تنصلا، ولا نقل أحد من أصحاب الحديث ذلك، ولا رأينا أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أنكروا عليهما ما حكاه عمر عنهما، ونسبه إليهما، ولا أنكروا أيضا على عمر قوله في أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): إنهم يريدون إضلال الناس ويهمون به، ولا أنكروا على عثمان دوس بطن عمار (3) ولا كسر ضلع ابن مسعود (4)، ولا على عمار وابن مسعود ما تلقيا به عثمان، كإنكار العامة اليوم الخوض في حديث الصحابة، ولا اعتقدت الصحابة في أنفسها ما يعتقده العامة فيها، اللّهم إلا أن يزعموا أنهم أعرف بحق القوم منهم،

ص: 508


1- تقدمت تخريجاته
2- الربذة: من قرى المدينة على ثلاثة أميال منها قريبة من ذات عرق، على طريق الحجاز إذا رحلت من فيد تريد مكة، خربت في سنة تسع عشرة وثلاثمائة على يد القرامطة، وبهذا الموضع قبر أبي ذر الغفاري - رضي اللّه عنه - واسمه جندب بن جنادة، وكان قد خرج إليها مغاضبا لعثمان بن عفان فأقام بها إلى أن مات في سنة 32. راجع: مراصد الاطلاع: ج 2 ص 601، سفينة البحار للقمي: ج 1 ص 500
3- تقدمت تخريجاته
4- تقدمت تخريجاته.

وهذا علي وفاطمة والعباس ما زالوا على كلمة واحدة يكذبون الرواية: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» (1)، ويقولون، إنها مختلقة.

قالوا: وكيف كان النبي (صلى اللّه عليه وآله) يعرف هذا الحكم غيرنا ويكتمه عنا ونحن الورثة، ونحن أولى الناس بأن يؤدى هذا الحكم إليه، وهذا عمر بن الخطاب يشهد لأهل الشورى أنهم النفر الذين توفي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وهو عنهم راض، ثم يأمر بضرب أعناقهم (2) إن أخروا فصل حال الإمامة، هذا بعد أن ثلبهم، وقال في حقهم ما لو سمعته العامة اليوم من قائل لوضعت ثوبه في عنقه سحبا إلى السلطان، ثم شهدت عليه بالرفض واستحلت دمه، فإن كان الطعن على بعض الصحابة رفضا فعمر بن الخطاب أرفض الناس وإمام الروافض كلهم، ثم ما شاع واشتهر من قول عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة، وقى اللّه شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه (3)، وهذا طعن في العقد، وقدح في البيعة الأصلية.

ثم ما نقل عنه من ذكر أبي بكر في صلاته، وقوله عن عبد الرحمن ابنه: دويبة سوء ولهو خير من أبيه، ثم عمر القائل في سعد بن عبادة، وهو رئيس الأنصار وسيدها: اقتلوا سعدا، قتل اللّه سعدا (4)، اقتلوه فإنه منافق. وقد شتم أبا

ص: 509


1- تقدمت تخريجاته
2- الإمامة والسياسة لابن قتيبة: ج 1 ص 28 - 29، تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 160، نهج الحق وكشف الصدق: ص 286، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 1 ص 187
3- صحيح البخاري: ج 8 ص 208 - 210، الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 2 ص 326 - 327، نهج الحق ص 264، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 51
4- راجع: الإمامة والسياسة لابن قتيبة: ج 1 ص 17، تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 124، الرياض النضرة: ج 1 ص 237.

هريرة وطعن في روايته (1)، وشتم خالد بن الوليد (2) وطعن في دينه، وحكم بفسقه وبوجوب قتله، وخون عمرو بن العاص (3) ومعاوية بن أبي سفيان ونسبهما إلى سرقة مال الفئ واقتطاعه، وكان سريعا إلى المساءة، كثير الجبه والشتم والسب لكل أحد، وقل أن يكون في الصحابة من سلم من معرة لسانه أو يده، ولذلك أبغضوه وملوا أيامه مع كثرة الفتوح فيها، فهلا احترم عمر الصحابة كما تحترمهم العامة! إما أن يكون عمر مخطئا، وإما أن تكون العامة على الخطأ!

فإن قالوا: عمر ما شتم ولا ضرب، ولا أساء إلا إلى عاص مستحق لذلك، قيل لهم: فكأنا نحن نقول: إنا نريد أن نبرأ ونعادي من لا يستحق البراءة والمعاداة، كلا ما قلنا هذا ولا يقول هذا مسلم ولا عاقل.

وإنما غرضنا الذي إليه نجري بكلامنا هذا أن نوضح أن الصحابة قوم من الناس لهم ما للناس، وعليهم ما عليهم، من أساء منهم ذممناه، ومن أحسن منهم حمدناه، وليس لهم على غيرهم من المسلمين كبير فضل إلا بمشاهدة الرسول ومعاصرته لا غير، بل ربما كانت ذنوبهم أفحش من ذنوب غيرهم، لأنهم شاهدوا الأعلام والمعجزات، فقربت اعتقاداتهم من الضرورة، ونحن لم نشاهد ذلك، فكانت عقائدنا محض النظر والفكر، وبعرضية الشبه والشكوك، فمعاصينا أخف لأنا أعذر.

ثم نعود إلى ما كنا فيه فنقول: وهذه عائشة أم المؤمنين، خرجت بقميص

ص: 510


1- البداية والنهاية لابن كثير: ج 8 ص 106، سير أعلام النبلاء: ج 2 ص 600
2- تقدمت تخريجاته
3- راجع، تخوين الخليفة لبعض عماله أمثال أبي هريرة وأبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص: في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 12 ص 42 - 43.

رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فقالت للناس: هذا قميص رسول اللّه لم يبل، وعثمان قد أبلى سنته (1)، ثم تقول: اقتلوا نعثلا، قتل اللّه نعثلا، ثم لم ترض بذلك حتى قالت: أشهد أن عثمان جيفة على الصراط غدا. فمن الناس من يقول: روت في ذلك خبرا، ومن الناس من يقول: هو موقوف عليها، وبدون هذا لو قاله إنسان اليوم يكون عند العامة زنديقا. ثم قد حصر عثمان، حصرته أعيان الصحابة، فما كان أحد ينكر ذلك، ولا يعظمه ولا يسعى في إزالته، وإنما أنكروا على ما أنكر على المحاصرين له، وهو رجل كما علمتم من وجوه أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ثم من أشرافهم، ثم هو أقرب إليه من أبي بكر وعمر، وهو مع ذلك إمام المسلمين، والمختار منهم للخلافة، وللإمام حق على رعيته عظيم، فإن كان القوم قد أصابوا فإذن ليست الصحابة في الموضع الذي وضعتها به العامة، وإن كانوا ما أصابوا فهذا هو الذي نقول، من أن الخطأ جائز على آحاد الصحابة، كما يجوز على آحادنا اليوم. ولسنا نقدح في الإجماع، ولا ندعي إجماعا حقيقيا على قتل عثمان، وإنما نقول: إن كثيرا من المسلمين فعلوا ذلك والخصم يسلم أن ذلك كان خطأ ومعصية، فقد سلم أن الصحابي يجوز أن يخطئ ويعصي، وهو المطلوب.

وهذا المغيرة بن شعبة وهو من الصحابة، ادعي عليه الزنا، وشهد عليه قوم بذلك (2)، فلم ينكر ذلك عمر، ولا قال: هذا محال وباطل لأن هذا صحابي من صحابة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لا يجوز عليه الزنا، وهلا أنكر عمر على الشهود وقال لهم:

ص: 511


1- تقدمت تخريجاته
2- راجع: وفيات الأعيان لابن خلكان: ج 6 ص 364 - 367، الأغاني لأبي فرج الإصفهاني: ج 16 ص 95 - 99، فتوح البلدان للبلاذري: ص 339 - 340، البداية والنهاية لابن كثير: ج 7 ص 81، تاريخ الطبري: ج 4 ص 69 - 72، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 12 ص 231 - 239، الغدير للأميني: ج 6 ص 137 - 143.

ويحكم هلا تغافلتم عنه لما رأيتموه يفعل ذلك، فإن اللّه تعالى قد أوجب الإمساك عن مساوئ أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وأوجب الستر عليهم! وهلا تركتموه لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) في قوله «دعوا لي أصحابي»، ما رأينا عمر إلا قد انتصب لسماع الدعوى، وإقامة الشهادة، وأقبل يقول للمغيرة: يا مغيرة، ذهب ربعك، يا مغيرة، ذهب نصفك، يا مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك، حتى اضطرب الرابع، فجلد الثلاثة. وهلا قال المغيرة لعمر: كيف تسمع في قول هؤلاء، وليسوا من الصحابة، وأنا من الصحابة، ورسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قال: «أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم» (1)! ما رأيناه قال ذلك، بل استسلم لحكم اللّه تعالى. وها هنا من هو أمثل من المغيرة وأفضل، قدامة بن مظعون، لما شرب الخمر في أيام عمر، فأقام عليه الحد، وهو رجل من علية الصحابة ومن أهل بدر، والمشهود لهم بالجنة، فلم يرد عمر الشهادة، ولا درأ عنه الحد لعلة أنه بدري، ولا قال: قد نهى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ذكر مساوئ الصحابة، وقد ضرب عمر أيضا ابنه حدا فمات (2)، وكان ممن عاصر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ولم تمنعه معاصرته له من إقامة الحد عليه.

وهذا علي (عليه السلام) يقول: ما حدثني أحد بحديث عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) إلا استحلفته عليه (3)، أليس هذا اتهاما لهم بالكذب! وما استثنى أحدا من المسلمين إلا أبا بكر على ما ورد في الخبر، وقد صرح غير مرة بتكذيب أبي هريرة، وقال: لا أحد أكذب من هذا الدوسي على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وقال أبو بكر في مرضه الذي

ص: 512


1- تقدمت تخريجاته
2- راجع: السنن الكبرى للبيهقي: ج 8 ص 312 - 313، تاريخ بغداد للخطيب: ج 5 ص 455 - 456، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 12 ص 105 - 106، الغدير للأميني: ج 6 ص 316
3- تقدمت تخريجاته.

مات فيه: وددت أني لم أكشف بيت فاطمة ولو كان أعلن علي الحرب (1) فندم، والندم لا يكون إلا عن ذنب.

ثم ينبغي للعاقل أن يفكر في تأخر علي (عليه السلام) عن بيعة أبي بكر ستة أشهر إلى أن ماتت فاطمة، فإن كان مصيبا فأبو بكر على الخطأ في انتصابه في الخلافة، وإن كان أبو بكر مصيبا فعلي على الخطأ في تأخره عن البيعة وحضور المسجد.

ثم قال أبو بكر في مرض موته أيضا للصحابة: فلما استخلفت عليكم خيركم في نفسي - يعني عمر - فكلكم ورم لذلك أنفه، يريد أن يكون الأمر له، لما رأيتم الدنيا قد جاءت، أما واللّه لتتخذن ستائر الديباج، ونضائد الحرير (2).

أليس هذا طعنا في الصحابة، وتصريحا بأنه قد نسبهم إلى الحسد لعمر، لما نص عليه بالعهد! ولقد قال له طلحة لما ذكر عمر الأمر: ماذا تقول لربك إذا سألك عن عباده، وقد وليت عليهم فظا غليظا! فقال أبو بكر: أجلسوني، باللّه تخوفني! إذا سألني قلت: وليت عليهم خير أهلك (3)، ثم شتمه بكلام كثير منقول، فهل قول طلحة إلا طعن في عمر، وهل قول أبي بكر إلا طعن في طلحة!

ثم الذي كان بين أبي بن كعب وعبد اللّه بن مسعود من السباب حتى نفى كل واحد منهما الآخر عن أبيه، وكلمة أبي بن كعب مشهورة منقولة: ما زالت هذه الأمة مكبوبة على وجهها منذ فقدوا نبيهم، وقوله: ألا هلك أهل العقيدة، واللّه ما آسى عليهم إنما آسى على من يضلون من الناس.

ص: 513


1- راجع: الإمامة والسياسة لابن قتيبة: ج 1 ص 24، مروج الذهب للمسعودي: ج 2 ص 301، نهج الحق وكشف الصدق: ص 265
2- العقد الفريد للأندلسي: ج 5 ص 20
3- الرياض النضرة للطبري: ج 1 ص 260.

ثم قول عبد الرحمن بن عوف: ما كنت أرى أن أعيش حتى يقول لي عثمان: يا منافق، وقوله: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما وليت عثمان شسع نعلي: وقوله: اللّهم إن عثمان قد أبى أن يقيم كتابك فافعل به وافعل.

وقال عثمان لعلي (عليه السلام) في كلام دار بينهما: أبو بكر وعمر خير منك، فقال علي: كذبت، أنا خير منك ومنهما، عبدت اللّه قبلهما، وعبدته بعدهما (1).

وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، قال: كنت عند عروة بن الزبير، فتذاكرنا كم أقام النبي بمكة بعد الوحي؟ فقال عروة: أقام عشرا، فقلت: كان ابن عباس يقول: ثلاث عشرة، فقال: كذب ابن عباس.

وقال ابن عباس: المتعة حلال، فقال له جبير بن مطعم: كان عمر ينهى عنها، فقال: يا عدي نفسه، من ها هنا ضللتم، أحدثكم عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وتحدثني عن عمر!

وجاء في الخبر عن علي (عليه السلام)، لولا ما فعل عمر بن الخطاب في المتعة ما زنى إلا شقي (2)، وقيل: ما زنى إلا شفا، أي قليلا.

فأما سب بعضهم بعضا وقدح بعضهم في بعض في المسائل الفقهية فأكثر من

ص: 514


1- ورد هذا الحديث بألفاظ متفاوتة، راجع: الإحتجاج للطبرسي: ج 1 ص 157، ذخائر العقبى: ص 58 - 60، الرياض النضرة: ج 3 ص 111، بناء المقالة الفاطمية: ص 327، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 3 ص 251، الإستيعاب: ج 3 ص 1095
2- راجع: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 12 ص 253، التفسير الكبير للرازي: ج 10 ص 50، الدر المنثور للسيوطي: ج 2 ص 486، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: ج 5 ص 130 وفيه أيضا روى عن عطاء عن ابن عباس قال: ما كانت المتعة إلا رحمة من اللّه تعالى رحم بها عباده.

أن يحصى، مثل قول ابن عباس وهو يرد على زيد مذهبه القول في الفرائض: إن شاء - أو قال: من شاء - باهلته إن الذي أحصى رمل عالج عددا أعدل من أن يجعل في مال نصفا ونصفا وثلثا، هذان النصفان قد ذهبا بالمال، فأين موضع الثلث!

ومثل قول أبي بن كعب في القرآن: لقد قرأت القرآن وزيد هذا غلام ذو ذؤابتين يلعب بين صبيان اليهود في المكتب.

وقال علي (عليه السلام) في أمهات الأولاد وهو على المنبر: كان رأيي ورأي عمر ألا يبعن، وأنا أرى الآن بيعهن، فقام إليه عبيدة السلماني، فقال: رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك في الفرقة، وكان أبو بكر يرى التسوية في قسم الغنائم، وخالفه عمر وأنكر فعله.

وأنكرت عائشة على أبي سلمة بن عبد الرحمن خلافه على ابن عباس في عدة المتوفى عنها زوجها وهي حامل، وقالت: فروج يصقع مع الديكة.

وأنكرت الصحابة على ابن عباس قوله في الصرف، وسفهوا رأيه حتى قيل: إنه تاب من ذلك عند موته، واختلفوا في حد شارب الخمر حتى خطأ بعضهم بعضا.

وروى بعض الصحابة عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) أنه قال: الشؤم في ثلاثة: المرأة والدار، والفرس (1)، فأنكرت عائشة ذلك، وكذبت الراوي وقالت: إنه إنما قال (صلى اللّه عليه وآله) ذلك حكاية عن غيره (2).

ص: 515


1- الموطأ لمالك بن أنس: ج 2 ص 972 ح 22
2- مجمع الزوائد: ج 5 ص 104.

وروى بعض الصحابة عنه (صلى اللّه عليه وآله) أنه قال: التاجر فاجر، فأنكرت عائشة ذلك، وكذبت الراوي وقالت: إنما قاله (عليه السلام) في تاجر دلس.

وأنكر قوم من الأنصار رواية أبي بكر: «الأئمة من قريش» (1) ونسبوه إلى افتعال هذه الكلمة.

وكان أبو بكر يقضي بالقضاء فينقضه عليه أصاغر الصحابة كبلال وصهيب ونحوهما، قد روي ذلك في عدة قضايا.

وقيل لابن عباس: إن عبد اللّه بن الزبير يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى بني إسرائيل، فقال: كذب عدو اللّه! أخبرني أبي بن كعب، قال: خطبنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وذكر كذا، بكلام يدل على أن موسى صاحب الخضر هو موسى بني إسرائيل.

وباع معاوية أواني ذهب وفضة بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء: سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ينهى عن ذلك، فقال معاوية: أما أنا فلا أرى به بأسا، فقال أبو الدرداء: من عذيري من معاوية! أخبره عن الرسول (صلى اللّه عليه وآله) وهو يخبرني عن رأيه! واللّه لا أساكنك بأرض أبدا.

وطعن ابن عباس في أبي هريرة، عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخلن يده في الإناء حتى يتوضأ»، وقال: فما نصنع بالمهراس (2)! وقال علي (عليه السلام) لعمر وقد أفتاه الصحابة في مسألة وأجمعوا عليها: إن كانوا راقبوك فقد غشوك، وإن كان هذا جهد رأيهم فقد أخطأوا.

ص: 516


1- الملل والنحل للشهرستاني: ج 1 ص 31
2- المهراس: إناء مستطيل منقور يتوضأ فيه.

وقال ابن عباس: ألا يتقي اللّه زيد بن ثابت، يجعل ابن الابن ابنا، ولا يجعل أب الأب أبا! وقالت عائشة: أخبروا زيد بن أرقم أنه قد أحبط جهاده مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله).

وأنكرت الصحابة على أبي موسى قوله: إن النوم لا ينقض الوضوء، ونسبته إلى الغفلة وقلة التحصيل، وكذلك أنكرت على أبي طلحة الأنصاري قوله: إن أكل البرد لا يفطر، وهزئت به ونسبته إلى الجهل.

وسمع عمر، عبد اللّه بن مسعود وأبي بن كعب يختلفان في صلاة الرجل في الثوب الواحد، فصعد المنبر وقال: إذا اختلف اثنان من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فعن أي فتياكم يصدر المسلمون؟ لا أسمع رجلين يختلفان بعد مقامي هذا إلا فعلت وصنعت.

وقال جرير بن كليب: رأيت عمر ينهى عن المتعة، وعلي (عليه السلام) يأمر بها، فقلت: إن بينكما لشرا، فقال علي (عليه السلام): ليس بيننا إلا الخير، ولكن خيرنا أتبعنا لهذا الدين.

قال هذا المتكلم: وكيف يصح أن يقول رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» (1)، لا شبهة أن هذا يوجب أن يكون أهل الشام في صفين على هدى، وأن يكون أهل العراق أيضا على هدى، وأن يكون قاتل عمار بن ياسر مهتديا، وقد صح الخبر الصحيح أنه قال له: «تقتلك الفئة الباغية» (2)، وقال

ص: 517


1- تقدمت تخريجاته
2- مسند أحمد: ج 2 ص 161 و ج 5 ص 306، تاريخ بغداد للخطيب: ج 3 ص 243 و ج 7 ص 414 و ج 11 ص 218 و ج 13 ص 187، حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني: ج 4 ص 172، مجمع الزوائد: ج 7 ص 242، البداية والنهاية لابن كثير: ج 2 ص 217، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 20 ص 38.

في القرآن: (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) (1)، فدل على أنها ما دامت موصوفة بالمقام على البغي، مفارقة لأمر اللّه، ومن يفارق أمر اللّه لا يكون مهتديا.

وكان يجب أن يكون بسر بن أرطأة الذي ذبح ولدي عبيد اللّه بن عباس الصغيرين (2) مهتديا، لأن بسرا من الصحابة أيضا، وكان يجب أن يكون عمرو بن العاص ومعاوية اللذان كانا يلعنان عليا أدبار الصلاة وولديه مهتديين، وقد كان في الصحابة من يزني ومن يشرب الخمر كأبي محجن الثقفي، ومن يرتد عن الإسلام كطليحة ابن خويلد، فيجب أن يكون كل من اقتدى بهؤلاء في أفعالهم مهتديا.

ص: 518


1- سورة الحجرات: الآية 9
2- راجع: تاريخ الطبري: ج 5 ص 140، الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 3 ص 383 - 385. قال المسعودي في هذه الحادثة الأليمة في مروج الذهب: ج 3 ص 21 - 22: وقد كان معاوية في سنة أربعين بعث بسر بن أرطأة في ثلاثة آلاف حتى قدم المدينة وعليها أبو أيوب الأنصاري فتنحى، وجاء بسر حتى صعد المنبر وتهدد أهل المدينة بالقتل، فأجابوه إلى بيعة معاوية، وبلغ الخبر عليا فأنفذ حارثة بن قدامة السعدي في ألفين ووهب بن مسعود في ألفين، ومضى بسر إلى مكة، ثم سار إلى اليمن، وكان عبيد اللّه بن العباس بها، فخرج عنها ولحق بعلي واستخلف عليها عبد اللّه بن عبد المدان الحارثي، وخلف ابنيه عبد الرحمن وقثم عند أمهما جويرية بنت قارض الكناني، فقتلهما بسر وقتل معهما خالا لهما من ثقيف... وكانت جويرية أم ابني عبيد اللّه بن العباس اللذين قتلهما بسر تدور حول البيت ناشرة شعرها... وهي تقول ترثيهما: ها من أحس من ابني اللذين هما *** كالدرتين تشظى عنهما الصدف ها من أحس من ابني اللذين هما *** سمعي وقلبي، فعقلي اليوم مختطف ها من أحس من ابني اللذين هما *** مخ العظام فمخي اليوم مزدهف نبئت بسرا، وما صدقت ما زعموا *** من قولهم ومن الإفك الذي وصفوا أنحى على ودجي ابني مرهفة *** مشحوذة، وكذاك الإثم يقترف

قال: وإنما هذا من موضوعات متعصبة الأموية، فإن لهم من ينصرهم بلسانه، وبوضعه الأحاديث إذا عجز عن نصرهم بالسيف.

وكذا القول في الحديث الآخر، وهو قوله: «القرن الذي أنا فيه»، ومما يدل على بطلانه أن القرن الذي جاء بعده بخمسين سنة شر قرون الدنيا، وهو أحد القرون التي ذكرها في النص، وكان ذلك القرن هو القرن الذي قتل فيه الحسين، وأوقع بالمدينة، وحوصرت مكة، ونقضت الكعبة، وشربت خلفاؤه والقائمون مقامه والمنتصبون في منصب النبوة الخمور، وارتكبوا الفجور، كما جرى ليزيد بن معاوية وليزيد بن عاتكة وللوليد بن يزيد، وأريقت الدماء الحرام، وقتل المسلمون، وسبي الحريم، واستعبد أبناء المهاجرين والأنصار، ونقش على أيديهم كما ينقش على أيدي الروم، وذلك في خلافة عبد الملك وإمرة الحجاج. وإذا تأملت كتب التواريخ وجدت الخمسين الثانية شرا كلها لا خير فيها، ولا في رؤسائها وأمرائها، والناس برؤسائهم وأمرائهم، والقرن خمسون سنة، فكيف يصح هذا الخبر.

قال: فأما ما ورد في القرآن من قوله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) (1)، وقوله: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ) (2).

وقول النبي (صلى اللّه عليه وآله): إن اللّه اطلع على أهل بدر، إن كان الخبر صحيحا فكله مشروط بسلامة العاقبة، ولا يجوز أن يخبر الحكيم مكلفا غير معصوم بأنه لا عقاب عليه، فليفعل ما شاء.

قال هذا المتكلم: ومن أنصف وتأمل أحوال الصحابة وجدهم مثلنا، يجوز

ص: 519


1- سورة الفتح: الآية 18
2- سورة الفتح: الآية 29.

عليهم ما يجوز علينا، ولا فرق بيننا وبينهم إلا بالصحبة لا غير، فإن لها منزلة وشرفا ولكن لا إلى حد يمتنع على كل من رأى الرسول أو صحبه يوما أو شهرا أو أكثر من ذلك أن يخطئ ويزل، ولو كان هذا صحيحا ما احتاجت عائشة إلى نزول براءتها من السماء، بل كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) من أول يوم يعلم كذب أهل الإفك، لأنها زوجته، وصحبتها له آكد من صحبة غيرها، وصفوان بن المعطل أيضا كان من الصحابة، فكان ينبغي ألا يضيق صدر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ولا يحمل ذلك الهم والغم الشديدين اللذين حملهما ويقول: صفوان من الصحابة، وعائشة من الصحابة، والمعصية عليهما ممتنعة.

وأمثال هذا كثير، وأكثر من الكثير، لمن أراد أن يستقرئ أحوال القوم، وقد كان التابعون يسلكون بالصحابة هذا المسلك، ويقولون في العصاة منهم مثل هذا القول، وإنما اتخذهم العامة أربابا بعد ذلك.

قال: ومن الذي يجترئ على القول بأن أصحاب محمد لا تجوز البراءة من أحد منهم وإن أساء وعصى بعد قول اللّه تعالى للذي شرفوا برؤيته: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (1) بعد قوله: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (2) وبعد قوله: (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) (3)، إلا من لا فهم له ولا نظر معه، ولا تمييز عنده.

قال: ومن أحب أن ينظر إلى اختلاف الصحابة، وطعن بعضهم في بعض

ص: 520


1- سورة الزمر: الآية 65
2- سورة الزمر: الآية 13
3- سورة ص: الآية 26.

ورد بعضهم على بعض، وما رد به التابعون عليهم واعترضوا به أقوالهم، واختلاف التابعين أيضا فيما بينهم، وقدح بعضهم في بعض، فلينظر في كتاب النظام (1)، قال الجاحظ: كان النظام أشد الناس إنكارا على الرافضة، لطعنهم على الصحابة، حتى إذا ذكر الفتيا وتنقل الصحابة فيها، وقضاياهم بالأمور المختلفة، وقول من استعمل الرأي في دين اللّه، انتظم مطاعن الرافضة وغيرها، وزاد عليها، وقال في الصحابة أضعاف قولها.

قال: وقال بعض رؤساء المعتزلة: غلط أبي حنيفة في الأحكام عظيم، لأنه أضل خلقا، وغلط حماد (2) أعظم من غلط أبي حنيفة، لأن حمادا أصل أبي حنيفة الذي منه تفرع، وغلط إبراهيم أغلظ وأعظم من غلط حماد، لأنه أصل حماد وغلط علقمة (3) والأسود (4) أعظم من غلط إبراهيم لأنهما أصله الذي عليه اعتمد، وغلط ابن مسعود أعظم من غلط هؤلاء جميعا، لأنه أول من بدر إلى وضع الأديان برأيه، وهو الذي قال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن اللّه، وإن يكن خطأ فمني.

قال: واستأذن أصحاب الحديث على ثمامة (5) بخراسان حيث كان مع الرشيد بن المهدي، فسألوه كتابه الذي صنفه على أبي حنيفة في اجتهاد الرأي، فقال: لست على أبي حنيفة كتبت ذلك الكتاب، وإنما كتبته على علقمة والأسود وعبد اللّه بن مسعود لأنهم الذين قالوا بالرأي قبل أبي حنيفة.

ص: 521


1- راجع آراء النظام في بعض الصحابة في: الملل والنحل للشهرستاني: ج 1 ص 59
2- هو: حماد بن أبي سليمان
3- علقمة بن قيس
4- الأسود بن يزيد
5- ثمامة بن أشرس.

قال: وكان بعض المعتزلة أيضا إذا ذكر ابن عباس استصغره وقال: صاحب الذؤابة يقول في دين اللّه برأيه.

وذكر الجاحظ في كتابه المعروف «بكتاب التوحيد» أن أبا هريرة ليس بثقة في الرواية عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) قال: ولم يكن علي (عليه السلام) يوثقه في الرواية، بل يتهمه، ويقدح فيه، وكذلك عمر وعائشة (1).

وكان الجاحظ يفسق عمر بن عبد العزيز ويستهزئ به ويكفره، وعمر بن عبد العزيز وإن لم يكن من الصحابة فأكثر العامة يرى له من الفضل ما يراه لواحد من الصحابة.

وكيف يجوز أن نحكم حكما جزما أن كل واحد من الصحابة عدل، ومن جملة الصحابة الحكم بن أبي العاص! وكفاك به عدوا مبغضا لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)! ومن الصحابة الوليد بن عقبة الفاسق بنص الكتاب، ومنهم حبيب بن مسلمة الذي فعل ما فعل بالمسلمين في دولة معاوية، وبسر بن أبي أرطأة عدو اللّه وعدو رسوله، وفي الصحابة كثير من المنافقين لا يعرفهم الناس، وقال كثير من المسلمين: مات رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) ولم يعرفه اللّه سبحانه كل المنافقين بأعيانهم، وإنما كان يعرف قوما منهم، ولم يعلم بهم أحدا إلا حذيفة فيما زعموا، فكيف يجوز أن نحكم حكما جزما أن كل واحد ممن صحب رسول اللّه أو رآه أو عاصره عدل مأمون، لا يقع منه خطأ ولا معصية، ومن الذي يمكنه أن يتحجر واسعا كهذا التحجر، أو يحكم هذا الحكم!

قال: والعجب من الحشوية وأصحاب الحديث إذ يجادلون على معاصي الأنبياء، ويثبتون أنهم عصوا اللّه تعالى، وينكرون على من ينكر ذلك، ويطعنون

ص: 522


1- راجع: كتاب (أبو هريرة) للسيد شرف الدين: ص 188، وما بعدها.

فيه، ويقولون: قدري معتزلي، وربما قالوا: ملحد مخالف لنص الكتاب، وقد رأينا منهم الواحد والمائة والألف يجادل في هذا الباب، فتارة يقولون: إن يوسف قعد من امرأة العزيز مقعد الرجل من المرأة، وتارة يقولون: إن داود قتل أوريا لينكح امرأته، وتارة يقولون: إن رسول اللّه كان كافرا ضالا قبل النبوة، وربما ذكروا زينب بنت جحش وقصة الفداء يوم بدر.

فأما قدحهم في آدم (عليه السلام)، وإثباتهم معصيته ومناظرتهم من يذكر ذلك فهو دأبهم وديدنهم، فإذا تكلم واحد في عمرو بن العاص أو في معاوية وأمثالهما ونسبهم إلى المعصية وفعل القبيح، احمرت وجوههم، وطالت أعناقهم، وتخازرت أعينهم، وقالوا: مبتدع رافضي، يسب الصحابة، ويشتم السلف، فإن قالوا: إنما اتبعنا في ذكر معاصي الأنبياء نصوص الكتاب، قيل لهم: فاتبعوا في البراءة من جميع العصاة نصوص الكتاب، فإنه تعالى قال: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (1)، وقال: (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) (2)، وقال: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (3).

ثم يسألون عن بيعة علي (عليه السلام) هل هي صحيحة لازمة لكل الناس؟ فلا بد من «بلى»، فيقال لهم: فإذا خرج على الإمام الحق خارج أليس يجب على المسلمين قتاله حتى يعود إلى الطاعة؟ فهل يكون هذا القتال إلا البراءة التي نذكرها لأنه لا فرق بين الأمرين، وإنما برئنا منهم لأنا لسنا في زمانهم، فيمكننا أن

ص: 523


1- سورة المجادلة: الآية 22
2- سورة الحجرات: الآية 9
3- سورة النساء: الآية 59.

نقاتل بأيدينا، فقصارى أمرنا الآن أن نبرأ منهم ونلعنهم، وليكون ذلك عوضا عن القتال الذي لا سبيل لنا إليه.

قال هذا المتكلم: على أن النظام وأصحابه ذهبوا إلى أنه لا حجة في الإجماع، وأنه يجوز أن تجتمع الأمة على الخطأ والمعصية، وعلى الفسق، بل على الردة، وله كتاب موضوع في الإجماع يطعن فيه في أدلة الفقهاء، ويقول: إنها ألفاظ غير صريحة في كون الإجماع حجة، نحو قوله: (جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (1) وقوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) (2) وقوله: (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) (3).

وأما الخبر الذي صورته: «لا تجتمع أمتي على الخطأ» (4) فخبر واحد، وأمثل دليل للفقهاء قولهم: إن الهمم المختلفة، والآراء المتباينة، إذا كان أربابها كثيرة عظيمة، فإنه يستحيل اجتماعهم على الخطأ، وهذا باطل باليهود والنصارى وغيرهم من فرق الضلال.

هذه خلاصة ما كان النقيب أبو جعفر علقه بخطه من الجزء الذي أقرأناه (5).

ص: 524


1- سورة البقرة: الآية 143
2- سورة آل عمران: الآية 110
3- سورة النساء: الآية 115
4- المروي هكذا: (لا تجتمع أمتي على ضلالة) راجع: الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة للسيوطي: ص 143 ح 459، كشف الخفاء للعجلوني: ج 2 ص 470 ح 2999، الأسرار المرفوعة للقساري: ص 52 ح 163، بحار الأنوار: ج 2 ص 225 ح 3 و ج 5 ص 20 ح 30 و ص 68 ح 1، و ج 28 ص 104 ح 3
5- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 20 ص 10 - 34.

المناظرة الثالثة والسبعون: مناظرة الشيخ محمد الاشتهاردي مع أحد علماء الشافعية في أمر بعض الصحابة

قال الشيخ محمد الاشتهاردي: أذكر التقيت مرة بأحد علماء الشافعية، وكان ضليعا في فهم الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، فبدأ اعتراضه على الشيعة بهذا السؤال:

إن الشيعة يطعنون ويسبون أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، وهذا خلاف ما نص به القرآن الكريم، لأن بنص القرآن الكريم أن اللّه سبحانه راض عنهم، فالذي يقع مورد رضى اللّه لا يجوز لعنه وسبه، والآية التي نزلت بهذا الشأن هي الآية 18 من سورة الفتح حيث يقول اللّه سبحانه (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ، فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) .

نزلت هذه الآية الشريفة في شهر ذي الحجة من السنة السادسة من الهجرة عندما أراد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أن يخرج من المدينة إلى مكة معتمرا مع ألفي وأربعمائة من المسلمين فيهم أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير و...

ولما بلغ بعسفان قرب مكة، علمت قريش بمسيرة النبي (صلى اللّه عليه وآله) فخرجوا ليمنعوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) والمسلمين من الدخول إلى مكة، فأمر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) أن

ص: 525

يسلكوا طريقا يوصلهم إلى الحديبية لاحتواءها على الماء والأشجار ويهبطوا فيها، وكانت الحديبية تبعد عن مكة عشرون كيلومترا، وليعلم ما يكون أمره مع قريش.

ثم أرسل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) عثمانا إلى مكة وأشراف قريش فيذاكرهم حول مجئ النبي (صلى اللّه عليه وآله)، وبعد فترة بلغ أن عثمان قد قتل، قال (صلى اللّه عليه وآله): لا نبرح حتى نناجز القوم، ودعا الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة. (1)

وبايع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) المسلمين، أن يدافعوا عن الإسلام إلى آخر لحظة، ولم يمضي وقت حتى رجع عثمان سالما، وأرعبت هذه البيعة قريشا فأرسلوا سهيل بن عمرو إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وقالوا له: أئت محمدا فصالحه، فكان صلح الحديبية، وقالوا: أنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة (2).

فعندها نزلت الآية 181 من سورة الفتح، ورضى اللّه عن الذين بايعوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، إذا فالأصحاب الذين رضي اللّه عنهم لا يجوز الطعن فيهم!! فقلت: أولا: إن هذه الآية المباركة تنحصر بالذين بايعوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، ولا تشمل الآخرين.

ثانيا: إن هذه الآية لا تشمل المنافقين الذين حضروا البيعة أمثال: عبد اللّه بن أبي، وأوس بن خولي و... لأن جملة «رضى اللّه عن المؤمنين» أخرجتهم عن كونهم مؤمنين.

ثالثا: الآية المذكورة تشير إلى الذين كانوا في زمن البيعة ورضي اللّه عنهم،

ص: 526


1- تاريخ الأمم والملوك للطبري: ج 2 ص 631 - 632
2- تاريخ الأمم والملوك للطبري: ج 2 ص 633.

وليس معناها أن اللّه رضي عنهم إلى الأبد.

وبهذا الدليل نقرأ في الآية العاشرة من هذه السورة المباركة: (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) ، فدلت الآية على احتمال أن ينكث بعض الصحابة الحاضرين للبيعة بيعتهم، كما حصل بعد ذلك من قبل بعضهم، فعليه إن آية الرضوان لا تدل على الرضا الأبدي عن الذين بايعوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)، بل يحتمل أمران، فريق يبقي بيعته، وفريق ينكث بيعته. (1)

ص: 527


1- أجود المناظرات، الشيخ محمد الاشتهاردي: ص 292 - 294.

المناظرة الرابعة والسبعون: مناظرة السيد علي البطحائي مع بعضهم في مسألة عدالة الصحابة

قال السيد علي البطحائي: ذهبت مع عدد من الأصدقاء إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وأهدينا لعلمائها عدة من كتب الشيعة، واتصلنا بعميد الجامعة الشيخ عبد العزيز بن باز ثم بعد السلام وإهداء التحيات قال الشيخ: صحابة الرسول (صلى اللّه عليه وآله) كلهم عدول وجاهدوا في سبيل اللّه.

قلت: على ما تقول، لا يبقى مورد لثلث القرآن، لأن الآيات الراجعة إلى المنافقين كثيرة، إن صحابة الرسول (صلى اللّه عليه وآله) مثل سائر الناس، فيهم الطيب وغير الطيب والعادل والفاسق.

ثم ذهب الشيخ، وجاء عدد من العلماء والمدرسين من الجامعة الإسلامية للبحث والمناظرة، فسألت عن واحد منهم - اسمه الشيخ عبد اللّه - ما تقولون في هذه الرواية الواردة في صحيح البخاري في المجلد الأول وفي المجلد التاسع عن ابن عباس لما اشتد بالنبي (صلى اللّه عليه وآله) وجعه، قال: إئتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، قال عمر: إن النبي (صلى اللّه عليه وآله) غلبه الوجع، وعندنا كتاب اللّه حسبنا، وكثر اللغط فقال الرسول (صلى اللّه عليه وآله): قوموا عني لا ينبغي عند نبي تنازع، فخرج ابن عباس

ص: 528

يقول: إن الرزية كل الرزية مال حال بين رسول اللّه وبين كتابته. (1)

قلت للعلماء: أي شئ يريد أن يكتب نبي الرحمة، وما معنى قول عمر: إن النبي (صلى اللّه عليه وآله) غلبه الوجع، هل معناه أن الرسول (صلى اللّه عليه وآله) ليست له مشاعر ولا يفهم شيئا، وإذا كان كذلك، هل تطيب نفس إنسان أن يقول في شخص الرسول الأعظم الذي يقول القرآن في حقه: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (2) أنه غلبه الوجع وليست له مشاعر.

قال الشيخ عبد اللّه - واحد من المدرسين في الجامعة الإسلامية -: أن معنى قول عمر أن الرسول (صلى اللّه عليه وآله) في شدة المرض لا تزاحموه حتى يصحو ويكتب الوصية.

قلت: هذا المعنى ينافي كلمة (فاختلفوا) في الرواية، وكلمة (وكثر اللغط) وقول الرسول (صلى اللّه عليه وآله): (قوموا عني ولا ينبغي عند نبي تنازع)، لأن الظاهر أنه وقع النزاع في محضر الرسول وإذا كان معنى قوله: إن النبي (صلى اللّه عليه وآله) في شدة المرض لا تزاحموه ما كان يقع التنازع والقيل والقال والاختلاف في محضر الرسول، وأيضا فما معنى قول ابن عباس (رضي اللّه عنه): إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول اللّه وبين كتابته، وما معنى تأسف ابن عباس إلا من جهة حيلولة عمر بين الرسول والكتابة.

ثم قلت للشيخ عبد اللّه: أنا وأنت جئنا من لندن؟! لا نعرف معاني اللغة

ص: 529


1- صحيح البخاري: ج 1 ص 39 (ك العلم ب كتابة العلم) و ج 6 ص 11 - 12 (ك الغزوات ب مرض النبي (صلى اللّه عليه وآله)) ج 7 ص 156 (ك المرض ب قول المريض قوموا عني)، و ج 9 ص 137 (ك الاعتصام بالكتاب والسنة ب كراهية الخلاف)
2- سورة النجم: الآية 3 - 4.

العربية فلنذهب عند الحمالين والبقالين من أهل المدينة نسأل معنى الرواية منهم.

قال: بحمد اللّه أنت عالم ديني تعرف كل شئ، ثم قال لي: أنت أكملت إيمانك من أصول الكافي؟

قلت: أنا أكملت إيماني من صحيح البخاري من أمثال هذه الرواية، مضافا إلى أن الرسول (صلى اللّه عليه وآله) طلب منهم الإتيان بكتاب يكتب لهم، لا أن الناس طلبوا منه (صلى اللّه عليه وآله) الكتابة. (1)

ص: 530


1- مناظرات في الحرمين للبطحائي: ص 22 - 24.

المناظرة الخامسة والسبعون: مناظرة في حديث «أصحابي كالنجوم»

الأستاذ الشيعي: نحن نعتقد، أن الإمامة والخلافة هي نيابة عن النبي (صلى اللّه عليه وآله) في زعامة ورئاسة الدين والدنيا، لأن خليفة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) والقائم بمقامه لا بد أن يسعى نحو ترسيخ ونشر أحكام الإسلام وصيانته للشريعة المقدسة، والقضاء على شتى أنواع الفتن والمفاسد، وإقامة حدود اللّه، ولا يليق هذا المقام الشريف لكل أحد، سوى الذين يمتلكون القيم الإسلامية العالية، من التقوى، والجهاد والعلم والهجرة والزهد، والسيرة الحسنة، والحنكة السياسية، والعدالة والشجاعة، وسعة الصدر، وعلو الهمة، والأخلاق الفاضلة، وهذه الفضائل لا يمتلكها سوى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وبشهادة التاريخ والروايات المستفيضة من علماء الفريقين.

الأستاذ السني: قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم» (1).

إذن بأي فرد من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) اقتدينا فقد اهتدينا.

الأستاذ الشيعي: مع غض النظر عن سند هذا الحديث، فهو مجعول وساقط عن الاعتبار، لوجود عدة أدلة قاطعة وأن النبي (صلى اللّه عليه وآله) لم ينطق به، ولم يتفوه به.

ص: 531


1- تقدمت تخريجاته.

الأستاذ السني: بأي دليل؟

الأستاذ الشيعي: أدلة نفي هذا الحديث كثيرة. منها:

1 - عندما يضل المسافرون في الليل جادتهم الأصلية، فهناك ملايين من النجوم من السماء، ولو اختاروا أيا منها حسب أهوائهم لما اهتدوا أبدا، بل إن النجوم التي تهدي إلى جادة الصواب هي نجوم خاصة، ومعروفة تتميز عن بقية النجوم، وعلى ضوئها يعثر المسافرون في الليل على مرادهم وطريقهم.

2 - هذا الحديث يتناقض مع عشرات الأحاديث، مثل حديث الثقلين، وحديث الخلفاء الاثني عشر من قريش، وحديث «عليكم بالأئمة من أهل بيتي»، وحديث «أهل بيتي كالنجوم»، وحديث السفينة: «مثل أهل بيتي كسفينة نوح...»، وحديث «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف» (1).

فضلا عن أن الحديث المذكور أعلاه قد نقلته طائفة خاصة من المسلمين، أما الأحاديث المخالفة له فقد نقلتها جميع طوائف المسلمين.

3 - الحوادث الواقعة بعد رحلة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) بين الأصحاب واختلافهم، لا تتلائم مع الحديث المذكور، لأن ارتداد بعض الأصحاب، وطعن بعضهم البعض كطعن أكثر الصحابة في خلافة عثمان الذي انتهى إلى قتله.

كما أن هذا الحديث لا يتلائم مع لعن بعض الصحابة بعضا، كأمر معاوية بسب علي (عليه السلام) (2)، وكذلك لا يتلائم مع قتال الصحابة بعضهم بعضا، كما حارب

ص: 532


1- المستدرك للحاكم: ج 3 ص 149
2- وقد قال في حقه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): من سب عليا فقد سبني ومن سبني فقد سب اللّه، راجع: كنز العمال: ج 11 ص 602 ح 32903.

طلحة والزبير أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في حرب الجمل، ومعاوية في صفين، وكما لا يتلائم بصدور بعض الذنوب الكبيرة من الصحابة مثل الزنا وشرب الخمر والسرقة حيث أقيمت حدود على بعضهم، أمثال (الوليد بن عقبة، والمغيرة بن شعبة...).

وعلى سبيل المثال: إن عليا (عليه السلام) ومعاوية كانا من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وقاتل بعضهم بعضا، ولعن بعضهم بعضا، فكيف يمكن مع اعتبار الحديث المذكور، إذا اقتدينا بأيهما اهتدينا؟

وهل الاقتداء ب «بسر بن أرطأة» الذي كان من أصحاب النبي (صلى اللّه عليه وآله)، والذي سفك دماء الآلاف من الأبرياء من المسلمين، سبب الهداية؟، وهل الاقتداء بالمنافقين الذين عاصروا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) مع كثرتهم في المدينة سبب الهداية؟ وهل الاقتداء بمروان بن الحكم الذي قتل طلحة سبب الهداية؟ وهل الاقتداء بالحكم أبي مروان الذي كان من الأصحاب، وكان يستهزء بالنبي (صلى اللّه عليه وآله) سبب الهداية؟

فالعمل بالحديث المذكور المختلق «أصحابي كالنجوم» مع ما نلمسه من الواقع الخارجي، ويحكيه التاريخ لنا أمر مضحك وغريب!!

الأستاذ السني: المقصود من الأصحاب، الأصحاب الحقيقيين المخلصين للنبي (صلى اللّه عليه وآله)، لا المنافقين والكاذبين.

الأستاذ الشيعي: إن كنت تقصد أمثال: سلمان وأبو ذر، ومقداد، وعمار دون سواهم، مع اعتبارك غيرهم، بقي الأشكال والاختلاف بيننا مستحكما،

ص: 533

والأفضل التمسك بتلك الأحاديث التي تخلو من الإشكال، والواضحة كحديث الثقلين، وحديث السفينة، الواردة في إمامة وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).

وعلى هذا الأساس جاء في الروايات: أنه عندما قصد سلمان المدائن التقى بالأشعث وجرير، وكانا يجهلانه، لكن سرعان ما عرف نفسه، قائلا: «أنا سلمان، من صحابة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله)»، ثم قال: «إعلما، إنما صاحبه من دخل معه الجنة» (1)، وبعبارة أوضح: إن الصحابي هو الذي يسير على نهج النبي (صلى اللّه عليه وآله) إلى آخر لحظة من حياته الإيمانية، ولا يستبدله بمنهج آخر، ولا ينحرف عن الأحكام الإلهية قط (2).

ص: 534


1- فتاوى الصحابي الكبير: ص 677
2- أجود المناظرات للاشتهاردي: ص 350 - 353.

المناظرة السادسة والسبعون: مناظرة الدكتور التيجاني مع بعض أهل السنة في أمر بعض الصحابة

قال الدكتور التيجاني: كنت يوما في العاصمة التونسية (1) داخل مسجد عظيم من مساجدها، وبعد أداء فريضة الصلاة جلس الإمام وسط حلقة من المصلين وبدأ درسه بالتنديد والتكفير لأولئك الذين يشتمون أصحاب النبي (صلى اللّه عليه وآله) واسترسل في حديثه قائلا:

إياكم من الذين يتكلمون في أعراض الصحابة بدعوى البحث العلمي والوصول لمعرفة الحق، فأولئك عليهم لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين، إنهم يريدون تشكيك الناس في دينهم، وقد قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله): «إذا وصل بكم الحديث إلى أصحابي فأمسكوا، فواللّه لو أنفقتم مثل أحد ذهبا لما بلغتم معشار أحدهم» (2).

وقاطعه أحد المستبصرين كان يصحبني قائلا: هذا الحديث غير صحيح وهو مكذوب على رسول اللّه!

ص: 535


1- تونس: عاصمة الجمهورية التونسية، وعاصمة البلاد السياسية والاقتصادية والثقافية، وهي أهم مدينة وميناء فيها ومركز صناعي في البلاد. (المنجد - قسم الإعلام - ص 197)
2- تقدمت تخريجاته.

وثارت ثائرة الإمام وبعض الحاضرين والتفتوا إلينا منكرين مشمئزين، فتداركت الموقف متلطفا مع الإمام وقلت له: يا سيدي الشيخ الجليل، ما هو ذنب المسلم الذي يقرأ في القرآن قوله: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (1).

وما هو ذنب المسلم الذي يقرأ في صحيح البخاري (2) وفي صحيح مسلم (3) قول رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) لأصحابه: « سيؤخذ بكم يوم القيامة إلى ذات الشمال، فأقول: إلى أين؟ فيقال: إلى النار واللّه، فأقول: يا رب هؤلاء أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا من بعدك إنهم لم يزالوا مرتدين منذ فارقتهم، فأقول: سحقا سحقا لمن بدل بعدي، ولا أرى يخلص منهم إلا مثل همل النعم » (4).

وكان الجميع يستمعون إلي في صمت رهيب، وسألني بعضهم: إن كنت واثقا من وجود هذا الحديث في صحيح البخاري؟

وأجبتهم: نعم كوثوقي بأن اللّه واحد لا شريك له، ومحمدا عبده ورسوله.

ولما عرف الإمام تأثيري في الحاضرين من خلال حفظي للأحاديث التي رويتها قال في هدوء: نحن قرأنا على مشايخنا رحمهم اللّه تعالى بأن الفتنة نائمة فلعن اللّه من أيقظها.

فقلت: يا سيدي الفتنة عمرها ما نامت، ولكنا نحن النائمون، والذي

ص: 536


1- سورة آل عمران: الآية 144
2- صحيح البخاري: ج 8 ص 150 - 151، (باب في الحوض)
3- صحيح مسلم: ج 4 ص 1800 ح 40 (باب إثبات حوض نبينا (صلى اللّه عليه وآله))
4- وقد تقدم المزيد من تخريجاته.

يستيقظ منا ويفتح عينيه ليعرف الحق تتهمونه بأنه أيقظ الفتنة، وعلى كل حال فإن المسلمين مطالبون باتباع كتاب اللّه وسنة رسوله (صلى اللّه عليه وآله)، لا بما يقوله مشايخنا الذين يترضون على معاوية ويزيد وابن العاص.

وقاطعني الإمام قائلا: وهل أنت لا تترضى عن سيدنا معاوية، كاتب الوحي؟

قلت: هذا موضوع يطول شرحه، وإذا أردت معرفة رأيي في ذلك، فأنا أهديك كتابي «ثم اهتديت» (1) لعله يوقظك من نومك ويفتح عينيك على بعض الحقائق وتقبل الإمام كلامي وهديتي بشئ من التردد، ولكنه وبعد شهر واحد كتب إلي رسالة لطيفة يحمد اللّه فيها أن هداه إلى صراطه المستقيم وأظهر ولاء وتعلقا بأهل البيت (عليهم السلام) وطلبت منه نشر رسالته في الطبعة الثالثة لما فيها من معاني الود وصفاء الروح التي متى ما عرفت الحق تعلقت به وهي تعبر عن حقيقة أكثر أهل السنة الذين يميلون إلى الحق بمجرد رفع الستار.

ولكنه طلب مني كتم الرسالة وعدم نشرها، لأنه لا بد له من الوقت الكافي حتى يقنع المجموعة التي تصلي خلفه، وهو يحبذ أن تكون دعوته سلمية بدون هرج ومرج حسب تعبيره (2).

ص: 537


1- وقد شرح فيه كيفية استبصاره والأسباب التي دعته للأخذ بمذهب أهل البيت (عليهم السلام) وذلك بعد مسيرة - ليست قصيرة - من البحث والمناظرة في شتى مسائل الخلاف مع الأعلام والمحققين في النجف الأشرف وغيره
2- كتاب فاسألوا أهل الذكر للدكتور التيجاني السماوي: ص 115 - 117.

ص: 538

مفتريات

اشارة

ص: 539

ص: 540

المناظرة السابعة والسبعون: مناظرة الدكتور التيجاني مع بعض علماء العامة في بعض المفتريات على الشيعة

قال الدكتور التيجاني في رسالته التي أرسلها إلى السيد أبي الحسن الندوي العالم الهندي - معتذرا له عن عدم زيارته له في الهند -:

سيدي العزيز قدمت إلى الهند في زيارة قصيرة، وكان أملي أن التقي بحضرتكم لما أسمعه عنكم، ولما أعلمه بأنكم المشار إليه بين أهل السنة والجماعة عندكم، ولكن عاقني عن ذلك بعد المسافة وضيق الوقت، واكتفيت بزيارة مدينة بومباي وبونة وجبل بور وبعض المدن الأخرى في كوجراتي، وتألمت كثيرا لما شاهدته في الهند من عداوة وبغضاء بين أهل السنة والجماعة وإخوانهم المسلمين من الشيعة.

وقد كنت أسمع بأنهم يتحاربون ويتقاتلون أحيانا، وتسفك دماء بريئة من الطرفين باسم الإسلام، ولم أكن أصدق، معتقدا بأنه مبالغة في التشويه، ولكن ما شاهدته وما سمعته خلال زيارتي يبعث حقا على الحيرة والاستغراب، وأيقنت بأن هناك نوايا خسيسة ومؤامرات خطيرة تحاك ضد الإسلام والمسلمين، للقضاء عليهم جميعا سنة وشيعة، ومما زاد يقيني وضوحا وعلمي رسوخا تلك المقابلة التي دارت بيني وبين مجموعة من علماء أهل السنة يتقدمهم الشيخ

ص: 541

عزيز الرحمن مفتي الجماعة الإسلامية، وكان اللقاء في مسجدهم ب «بومباي» وبدعوة منهم.

وما أن حللت بينهم حتى بدأ الازدراء والتهكم والسب واللعن لشيعة آل البيت (عليهم السلام) وقد أرادوا بذلك استفزازي وإثارتي، لعلمهم مسبقا بأني قد ألفت كتابا يدعو للتمسك بمذهب أهل البيت - سلام اللّه عليهم - ولكني فهمت قصدهم، وتمالكت أعصابي وابتسمت لهم قائلا: أنا ضيف عندكم وأنتم الذين دعوتموني فجئتكم مسرعا ملبيا، فهل دعوتموني لتسبوني وتشتموني، وهل هذه هي الأخلاق التي علمكم إياها الإسلام؟؟

فأجابوني بكل صلافة، بأني لم أكن يوما في حياتي مسلما لأنني شيعي، والشيعة ليسوا من الإسلام في شئ، وأقسموا على ذلك.

قلت: اتقوا اللّه يا إخوتي، فربنا واحد ونبينا واحد وكتابنا واحد وقبلتنا واحدة، والشيعة يوحدون اللّه ويعملون بالإسلام اقتداءا بالنبي (صلى اللّه عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، وهم يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويحجون بيت اللّه الحرام، فكيف يجوز لكم تكفيرهم؟؟

أجابوني: أنتم لا تؤمنون بالقرآن، أنتم منافقون تعملون بالتقية، وإمامكم قال: التقية ديني ودين آبائي (1)، وأنتم فرقة يهودية أسسها عبد اللّه بن سبأ اليهودي (2).

ص: 542


1- تقدمت تخريجاته
2- هذه الفرية.. ألصقها أعداء الشيعة فيهم ليخرجوهم عن الإسلام ويكرهوا الناس فيهم!! ومما لا مرية فيه أنهم يعلمون جزما براءة الشيعة من هذه الدعوى الكاذبة المزيفة، والتي لا أساس لها إلا كراهيتهم لهذا المبدأ القويم الذي أسس مبادئه النبي الكريم صلى اللّه عليه وآله، وهو الذي دعى إليه وشيد أركانه، وإن شئت فأقرأ ما جاء عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فيهم، ومن ذلك قوله لأمير المؤمنين: 1 - إنك ستقدم على اللّه أنت وشيعتك راضين مرضيين. (مجمع الزوائد: ج 9 ص 131، النهاية لابن الأثير ج 4 ص 106) . 2 - أنت أول داخل الجنة من أمتي ، وأن شيعتك على منابر م--ن ن--ور مسرورون مبيضة وجوههم حولي ، أشفع لهم فيكونون غداً في الجنة جيراني (مجمع الزوائد : ج 1 ص 131 ، كفاية الطالب : ص 135) . 3 - يا علي ، إن اللّه قد غفر لك ولذريتك ولولدك ولأهلك ولشيعتك ولمحبي شيعتك (الصواعق : 161، 232 ، 235). 4 - أنت وشيعتك في الجنة (تاریخ بغداد : ج 1 ص 289) . 5 - إذا كان يوم القيامة دعي الناس بأسمائهم، وأسماء أمهاتهم ستراً من اللّه عليهم إلا هذا - يعني علياً عليه السلام - وشيعته فإنّهم يُدعون بأسمائهم وأسماء آبائهم لصحة ولادتهم (مروج الذهب : ج 2 ص 448 دار الأندلس ، وج 3 ص 6 ط السعادة بمصر ) . وإن أردت المزيد في ذلك فراجع ما رواه المفسرون في قوله تعالى : (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية) فقد رووا قول النبي صلى اللّه عليه وآله لعلي عليه السلام : هم أنت وشيعتك . (راجع : الدر المنثور في تفسير الآية الكريمة) . فبعد هذا كله هل تجد مسوغاً لأحد أن يتفوه بالزور والباطل في حق من امتدحهم النبي صلى اللّه عليه وآله وبشرهم بموالاتهم أمير المؤمنين عليه السلام ، ودعاهم للتمسك به والاعتصام بحبل ولائه ، إذن ما هو ذنبهم بعدما قامت عندهم الحجة البالغة التي تأخذ بإعناقهم حتى يتفوه عليهم كل أفاك أثيم بالقول الباطل والبهتان ؟ كأن لم يكن عندهم شغل شاغل في الحياة الدنيا إلا أن التعرض للفرقة الناجية بالسوء والقدح فيهم . وهنا أترك للقارىء الكريم أن يقرأ مقالة الحق التي جاءت على لسان واحد من ناصريه وهو العلامة الأميني عليه الرحمة في رده على ابن حزم الذي كال التهم إلى الشيعة الإمامية بلا تثبت فيما كتبه عنهم ! قال عليه الرحمة : نعم ذنبهم الوحيد الذي لا يغفر عند ابن حزم أنهم يوالون علياً أمير المؤمنين له وأولاده الأئمة الأمناء صلوات اللّه عليهم إقتداء بالكتاب والسنة ، ومن جزاء ذلك يستبيح صاحب الفصل من أعراضهم ما لا يُستباح من مسلم ، واللّه هو الحكم الفاصل . وأما ما حسبه من أن مبدء التشيع كان إجابةً ممّن خذله اللّه لدعوة من كاد الإسلام، وهو يريد عبداللّه بن سبأ الذي قتله أمير المؤمنين عليه السلام إحراقاً بالنار على مقالته الإلحادية وتبعته شيعته على لعنه والبراءة منه . فمتى كان هذا الرجس من الحزب العلوي حتى تأخذ الشيعة منه مبدءها القديم ؟! وهل تجد شيعياً في غضون أجيالها وأدوارها ينتمي إلى هذا المخذول ويمت به ؟ ! لكن الرجل أبي إلا أن يقذفهم بكل مائنة وشائنة ، ولو استشف الحقيقة لعلم بحق اليقين أن ملقي هذه البذرة - التشيع هو مشرع الإسلام صلى اللّه عليه وآله يوكن كان يُسمّى من يوالي عليا عليه السلام بشيعته ويضيفهم إليه ويطريهم ويدعو أمته إلى موالاته واتباعه . ولتفاهة هذه الكلمة لا نسهب الأفاضة في ردّه ونقتصر على كلمة ذهبية للاستاذ محمد كرد علي في خطط الشام : ج 1 ص 246 قال : أما ما ذهب إليه بعض الكتاب من أنَّ أصل مذهب التشيع من بدعة عبداللّه بن سبأ المعروف بابن السوداء فهو وهم !! وقلة علم بتحقيق مذهبهم ! ومن علم منزلة هذا الرجل عند الشيعة وبراءتهم منه ومن أقواله وأعماله وكلام علمائهم في الطعن فيه بلا خلاف بينهم في ذلك ، علم مبلغ هذا القول من الصواب . الغدير : ج 3 ص 94 - 95 ، ولتقف أيضاً على المزيد من حقيقة هذا الإفتراء راجع : ج 8 ص 380 - 382 ، وج 9 ص 218 - 222 .

ص: 543

قلت لهم مبتسما: دعونا من الشيعة، وتكلموا معي أنا شخصيا، فقد كنت مالكيا مثلكم، واقتنعت بعد بحث طويل بأن أهل البيت (عليهم السلام) هم أحق وأولى بالاتباع، فهل عندكم حجة تجادلوني بها، أو تسألوني ما هو دليلي وحجتي عسى أن نفهم بعضنا بعضا؟

قالوا: أهل البيت هم نساء النبي (صلى اللّه عليه وآله) وأنت لا تعرف من القرآن شيئا

قلت: فإن صحيح البخاري وصحيح مسلم يفيدان غير ما ذكرتم!

قالوا: كل ما في البخاري ومسلم، وكتب السنة الأخرى من حجج تحتجون بها هي من وضع الشيعة دسوها في كتبنا.

ص: 544

أجبتهم ضاحكا: إذا كان الشيعة وصلوا للدس في كتبكم وفي صحاحكم فلا عبرة ولا قيمة لها ولا لمذهبكم القائم عليها!!

فسكتوا وأفحموا، ولكن أحدهم عمد إلى التهريج والإثارة من جديد فقال: من لا يؤمن بخلافة الخلفاء الراشدين سيدنا أبي بكر وسيدنا عمر وسيدنا عثمان وسيدنا علي (عليه السلام) وسيدنا معاوية وسيدنا يزيد فليس بمسلم!

ودهشت لهذا الكلام، الذي ما سمعت مثله في حياتي، وهو تكفير من لا يعتقد بخلافة معاوية وابنه يزيد، وقلت في نفسي: معقول أن يترضى المسلمون على أبي بكر وعمر وعثمان فهذا أمر طبيعي، أما على يزيد فلم أسمع ذلك إلا في الهند، والتفت إليهم جميعا أسألهم: أتوافقون هذا على رأيه! فأجابوا كلهم: نعم.

وعند ذلك عرفت بأن لا فائدة في مواصلة الكلام، وفهمت بأنهم إنما يريدون إثارتي حتى ينتقموا مني، وربما يقتلوني بدعوى سب الصحابة فمن يدري؟

ورأيت في أعينهم شرا، وطلبت من مرافقي الذي جاء بي إليهم أن يخرجني فورا، فأخرجني وهو يتحسر ويعتذر إلي على ما وقع، وهذا الشخص البرئ الذي كان يرمي من وراء هذا اللقاء أن يتعرف على الحقيقة هو الشاب المهذب شرف الدين صاحب المكتبة والمطبعة الإسلامية في «بومباي» فهو شاهد على كل ما دار بيننا من هذه المحاورة المذكورة، ولم يخف استياءه من هؤلاء الذين كان يعتقد بأنهم من أكبر العلماء (1).

ص: 545


1- كتاب: فاسألوا أهل الذكر للدكتور التيجاني: ص 11 - 13.

المناظرة الثامنة والسبعون: مناظرة الدكتور التيجاني مع السيد الخوئي (قدس سره) في الافتراء المنسوب إلى الشيعة أن جبرئيل أعطى الرسالة النبي (صلى اللّه عليه وآله) بدل علي (عليه السلام)

المناظرة الثامنة والسبعون: مناظرة الدكتور التيجاني مع السيد الخوئي (قدس سره) في الافتراء المنسوب إلى الشيعة أن جبرئيل أعطى الرسالة النبي (صلى اللّه عليه وآله) بدل علي (1) (عليه السلام)

ص: 546


1- هذه الفرية على ما يبدو إنها ظهرت من قبل أكثر من ألف سنة، فقد نسبها إلينا كل من ابن عبد ربه الأندلسي (ت 328 ه) في العقد الفريد : ج 2 ص 250، بلا تورع ولا تثبت فيما ينقل عن الشيعة الإمامية، وأبو القاسم النيسابوري (ت 406 ه) في كتابه عقلاء المجانين ص 184 ح 322 بسنده عن بكار بن علي عن أبي سعيد الضبعي، الذي يزعم أن الشيعة تقول: إن اللّه بعث جبرئيل إلى علي عليه السلام فغلط فأتى محمدا صلى اللّه عليه وآله!! وتكفي شهادة راوي الحديث - بكار بن علي - في المروي عنه - وهو أبو سعيد الضبعي - أنه قد خولط في عقله. هذا في نفس الكتاب المطبوع في بيروت نشر دار النفائس تحقيق الدكتور عمر الأسعد، أما في الكتاب المطبوع في القاهرة نشر مكتبة ابن سينا تحقيق مصطفى عاشور ص 119 - 120 فقد حذفت منه شهادة الراوي في المروي عنه (إنه قد خولط في عقله) ولا أدري كيف حذفت منه، أهو من أجل دفع شبهة الجنون عن الراوي لتزكيته لتثبيت التهمة، أو لخطأ من الناسخ أو غيرهما اللّه العالم راجع تعلم، كما ذكر هذه الفرية أيضا ابن أبي الحديد في شرح النهج: ج 10 ص 13 إلا أنه لم ينسبها إلى فئة معينة، قال: وادعوا فيه - أي الإمام علي عليه السلام - أنه كان الرسول صلى اللّه عليه وآله ولكن الملك غلط فيه. وبسبب هؤلاء غير المتثبتين الذين ألصقوا هذه الفرية على الشيعة الإمامية انطوت على أولئك الذي لا يتورعون عن بث الفرقة والخلاف في أوساط المسلمين، وراحوا يبثونها ما وجدوا إليها من سبيل حتى عول عليها من لا تثبت عنده، ولم يسأل نفسه عن مصدرها وحقيقتها، فهل وجد هذه الفرية في كتاب من كتب الشيعة مثبتة، أو سمع أحدا منهم تفوه بها ولو كان شاذا، والعجب كل العجب من بعض الكتاب الذي يعيشون في عصر الثقافة والعلم، أمثال الشرقاوي الذي انطوت عليه مثل هذه الأكذوبة التي لا أصل لها، فقد ذكر في مقال كتبه عن (زيد الشهيد) نشرته جريدة الأهرام بتاريخ 4 / 8 / 1978 م، ص 10، قال فيه: وفي العراق جماعات مختلفة متطرفة من شيعة آل بيته، اضطرهم جو الحكام وظلمهم لآل البيت عليهم السلام إلى المبالغة والتطرف والتفوا حوله، منهم جماعة تدعي أن الوحي كان سينزل على الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ولكنه أخطأ. انتهى. ولنا أن نحاسب الشرقاوي في ما كتبه، فمن أين جاء بهذه المعلومة فهل سمع من هؤلاء الجماعة التي تزعم ذلك بنفسه أن لقفها من الأبواق المأجورة، ومن هؤلاء أيضا عبد الرحمن الجزيري في كتابه الفقه على المذاهب الأربعة: ج 4 ص 75، في باب النكاح في مبحث الكفاءة، حيث يقول في صدد استعراض من يختلف مع المسلمين بالدين، قال: المخالفون للمسلمين في العقيدة ثلاثة أنواع: الأول، الذين لا كتاب لهم سماوي، ولا شبهة كتاب، إلى أن قال: ويلحق بهؤلاء المرتدون الذين ينكرون المعلوم من الدين الإسلامي بالضرورة، كالرافضة الذين يعتقدون أن جبرئيل غلط في الوحي، فأوحى إلى محمد مع أن اللّه أمره بالإيحاء إلى علي عليه السلام... إلى آخر كلامه الذي سوف يؤاخذ عليه في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى اللّه بقلب سليم، وبعد هذا كله هل تجد مسوغا لأمثال هؤلاء الذين لا يتورعون عن الافتراء على أمة بكاملها، ولم يحاسبوا أنفسهم، ولم يكلفوها عناء البحث والتحقيق والتثبت.؟!

يقول الدكتور التيجاني في لقائه مع السيد الخوئي (قدس سره): ودخل السيد الخوئي ومعه كوكبة من العلماء عليهم هيبة ووقار، وقام الصبيان وقمت معهم، وتقدموا من «السيد» يقبلون يده، وبقيت مستمرا في مكاني، ما إن جلس «السيد» حتى جلس الجميع وبدأ يحييهم بقوله: «مساكم اللّه بالخير» يقولها لكل واحد منهم، فيجيبه بالمثل حتى وصل دوري فأجبت كما سمعت، بعدها أشار علي صديقي الذي تكلم مع «السيد» همسا، بأن أدنو من «السيد» وأجلسني على يمينه وبعد التحية قال لي صديقي: احك للسيد ماذا تسمعون عن الشيعة في تونس.

فقلت: يا أخي، كفانا من الحكايات التي نسمعها من هنا وهناك، والمهم هو أن أعرف بنفسي ماذا يقول الشيعة، وعندي بعض الأسئلة أريد الجواب عنها

ص: 547

بصراحة.

فألح علي صديق وأصر على أن أروي «للسيد» ما هو اعتقادنا في الشيعة، قلت: الشيعة عندنا هم أشد على الإسلام من اليهود والنصارى، لأن هؤلاء يعبدون اللّه ويؤمنون برسالة موسى (عليه السلام)، بينما نسمع عن الشيعة أنهم يعبدون عليا ويقدسونه، ومنهم فرقة يعبدون اللّه ولكنهم ينزلون عليا بمنزلة رسول اللّه، ورويت قصة جبريل كيف أنه خان الأمانة حسب ما يقولون، وبدلا من أداء الرسالة إلى علي، أداها إلى محمد (صلى اللّه عليه وآله).

أطرق «السيد» رأسه هنيئة، ثم نظر إلي وقال: نحن نشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه - صلى اللّه عليه وآله الطيبين الطاهرين -، وما علي إلا عبد من عبيد اللّه، والتفت إلى بقية الجالسين قائلا ومشيرا إلي: انظروا إلى هؤلاء الأبرياء كيف تغلطهم الإشاعات الكاذبة، وهذا ليس بغريب فقد سمعت أكثر من ذلك من أشخاص آخرين، فلا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم، ثم التفت إلي وقال: هل قرأت القرآن؟

قلت: حفظت نصفه ولم أتخط العاشرة من عمري.

قال: هل تعرف أن كل الفرق الإسلامية على اختلاف مذاهبها متفقة على القرآن الكريم، فالقرآن الموجود عندنا هو نفسه موجود عندكم.

قلت: نعم هذا أعرفه.

قال: إذا، ألم تقرأ قول اللّه سبحانه وتعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) (1).

ص: 548


1- سورة آل عمران: الآية 144.

وقوله أيضا: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) (1).

وقوله: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) (2)

قلت: بلى أعرف هذه الآيات

قال: فأين هو علي (عليه السلام)؟ إذا كان قرآننا يقول بأن محمدا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) فمن أين جاءت هذه الفرية؟ سكت ولم أجد جوابا.

وأضاف يقول: وأما خيانة جبرئيل «حاشاه» فهذه أقبح من الأولى، لأن محمدا كان عمره أربعين سنة عندما أرسل اللّه سبحانه إليه جبرئيل (عليه السلام)، ولم يكن علي (عليه السلام) إلا صبيا صغيرا عمره ست أو سبع سنوات، فكيف يا ترى يخطئ جبرئيل ولا يفرق بين محمد الرجل وعلي الصبي؟.

ثم سكت طويلا، بينما بقيت أفكر في أقواله وأنا مطرق أحلل وأتذوق هذا الحديث المنطقي الذي نفذ إلى أعماقي وأزال غشاوة عن بصري، وتساءلت في داخلي كيف لم نحلل نحن بهذا المنطق.

أضاف «السيد الخوئي» يقول: وأزيدك بأن الشيعة هي الفرقة الوحيدة من بين كل الفرق الإسلامية الأخرى التي تقول بعصمة الأنبياء والأئمة، فإذا كان أئمتنا - سلام اللّه عليهم - معصومين عن الخطأ وهم بشر مثلنا، فكيف بجبرئيل وهو ملك مقرب سماه رب العزة ب «الروح الأمين».

قلت: فمن أين جاءت هذه الدعايات؟!

ص: 549


1- سورة الفتح: الآية 29
2- سورة الأحزاب: الآية 40.

قال: من أعداء الإسلام، الذين يريدون تفريق المسلمين وتمزيقهم وضرب بعضهم ببعض، وإلا فالمسلمون إخوة سواء كانوا شيعة أم سنة، فهم يعبدون اللّه وحده لا يشركون به شيئا وقرآنهم واحد، ونبيهم واحد، وقبلتهم واحدة، ولا يختلف الشيعة عن السنة، إلا في الأمور الفقهية، كما يختلف أئمة المذاهب السنية أنفسهم في ما بينهم، فمالك يخالف أبا حنيفة، وهذا يخالف الشافعي وهكذا...

قلت: إذا كل ما يحكى عنكم هو محض افتراء؟

قال: أنت بحمد اللّه عاقل، وتفهم الأمور وقد رأيت بلاد الشيعة وتجولت في أوساطهم فهل رأيت أو سمعت شيئا من تلك الأكاذيب؟

قلت: لا، لم أسمع ولم أر إلا الخير (1).

ص: 550


1- كتاب: ثم اهتديت للدكتور التيجاني ص 55 - 57.

فهرس الجزء الأوّل

الصورة

ص: 551

الصورة

ص: 552

الصورة

ص: 553

الصورة

ص: 554

الصورة

ص: 555

الصورة

ص: 556

الصورة

ص: 557

الصورة

ص: 558

الصورة

ص: 559

الصورة

ص: 560

الصورة

ص: 561

الصورة

ص: 562

الصورة

ص: 563

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.