نحن و أزمنة الإستعمار المجلد 4

هوية الکتاب

العتبة العباسية المقدسة

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

الجزء الرابع

نحن وأزمنة الاستعمار

نقد المباني المعرفية للكولونيالية وما بعد الكولونيالية

تحرير وتقديم

محمود حیدر

2018 م

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

نحن وازمنة الاستعمار : نقد المبانى المعرفية للكولونيالية وما بعد الكولونيالية / تحرير وتقديم محمود حيدر - الطبعة الأولى- بيروت [لبنان] : العتبة العباسية المقدسة، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية 1439 ه_ - 2018.

4 مجلد : ايضاحيات ؛ 24 سم

يتضمن ارجاعات ببليوجر.

ISBN: 978-9922-604-11-4

1. ما بعد الاستعمارية 2. الاستعمار 3. الامبريالية .4. العراق الاستعمار الف. حيدر محمود، محرر ومقدم ب العنوان.

JV51.N34 2018

مركز الفهرسة ونظم المعلومات

ص: 3

الفهرس

مقدمة المركز : لماذا هذه السلسلة؟ ...6

نقد مباني العقل الإمبريالي / مدخل تأسيسي

محمود حیدر ...9

الفصل السادس: ما بعد الاستعمار

نظرية ما بعد الاستعمار

جميل حمداوي ...20

تعريف حقبة ما بعد الاستعمار

صامويل هلفونت ...41

فلسفة ما بعد الاستعمار

حازم محفوظ ...53

طبائع الإمبريالية

اغلالو ياسين ...100

الاستغراب القسري

نجلاء مكاوي ...111

ثنائية الوعي بالآخر في ضوء نظرية ما بعد الاستعمار

غيضان السيد علي ...137

ص: 4

الإنتلجنسيا القلقة

محمد عبد الله ...160

ما بعد الكولونيالية وما بعد الحداثة

أحمد عبد الحليم عطية ...175

بين مركزيّة الأنا الغربية وميلاد الأصوليات

نصر الدين بن سراي ...193

نقد الكولونيالية والكولونيالية الحديثة

مجدي عزالدين حسن ...212

في نقد أطروحة التمركز الغربي

سعيد السلماني ...232

التمهيد ل- «ما بعد الاستعمار»

محمد نعمة فقيه ...247

«الثقافة والإمبريالية» لإدوارد سعيد

محمد بن عمارة...295

تهافت ما بعد الاستعمارية

بهاء درويش ...303

ما بعد الكولونيالية

میلود عامر حاج ...320

ص: 5

مقدمة المركز

مقدمة المركز لماذا هذه السلسلة؟

لماذا هذه السلسة؟

هل من حاجة في وقتنا الراهن، مع ما يحدّق بالعالم الإسلامي من مخاطر وصراعات وفوضى عارمة، إلى فتح ملف الاستعمار من جديد؟

تُظهر حالة العالم المعاصر وكأن الاستعمار ولىّ وانقضى.. وأن الدول حازت استقلالها وتحررت من نيره.. حتى ليظن الكثيرون أن الكلام الآن على المسار التاريخي للاستعمار هو بمثابة رجوع إلى الماضي، واستعادة لمفاهيم وأدبيات فات زمانها.. وبإزاء هذه الحالة يُطرح السؤال التالي: أليس من الأولى بمكان الإعراض عن ذلك كله، والاتجاه نحو أفق معرفي جديد لبناء المستقبل؟!

تساؤلات وأسئلة قد تتبادر للوهلة الأولى إلى الذهن لدى تناول هذه السلسلة حول الاستعمار وما بعد الاستعمار كنظرية وتاريخ وتجربة .. ومع هذا فهي تحتاج إلى أجوبة واضحة...

لا نعدم الرأي لو قلنا إنَّ ما يحدث اليوم من صراعات داخلية واستلاب للهوية الوطنية، ومن تخلّف في الميادين كافة، إنّما هو ثمرة ما زرعه الاستعمار بالأمس. صحیح أن حقبة الانتداب بصيغتها الكلاسيكية قد انقضت لكن هذا الانتداب يعود ثانية لينتشر ويسود في لبوس جديد متسلّحاً بالقوة الناعمة حيناً، وأحياناً أخرى بأشكال استعمارية لا حصر لها.

***

ص: 6

فی مشروعنا الهادف إلى إعادة بناء الذات واستنهاضها، يغدو من المستحيل مفارقة ذاكرة التاريخ ونسيان الماضي. ذلك بأنه ماضٍ يمتلئ بفوائد الدروس والعبر، كما يكشف عن كيفية التعامل مع الآخر الاستعماري ثقافة وممارسة لئلا نقع ثانية في فخّة مثلما وقع أسلافنا. كذلك فإنَّ استرجاع بطولات أعلام الأمة في كفاحها ضدّ المستعمر سيكون من شأنه تحقيق اندفاعةٍ معنوية، تستنهض أجيالنا وتبثّ فيها روح العزّة والإباء.

وما من ريب في أن الواقع الذي نعيشه اليوم يفترض بنا - كمسلمين، نعتقد بخاتمية الدين الإسلامي وعالميته - العمل على بلورة استراتيجية معرفية من أجل الوقوف على حقيقة التحولات التي مرت وتمر بها بلادنا ومجتمعاتنا في مواجهة الهيمنة الاستعمارية بوجوهها كافة.

عطفاً على ما تقدم، يسعى المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية إلى رسم

أهداف هذا المشروع وفقاً للمرتكزات التالية:

أولاً: تنمية وتفعيل البنى العلمية والمعرفية، السياسية والاقتصادية والسيادية لبلادنا ومجتمعاتنا. وذلك انطلاقاً من أن نجاح الاستعمار كان بسبب تخلف هذه البلدان والمجتمعات في الميادين كافة. وللتغلّب على هذه الوضعية بات ضرورياً رصد ومعرفة اتجاهات التفكير الاستعماري بصيغتيه التقليدية والمعاصرة والسعي إلى بلورة الأفكار والتصورات التي تساهم في إعادة بناء الذات بناءً أصيلاً يعتمد على التنمية الشاملة للأمة، فضلاً عن الإفادة مما تختزنه من قدرات ذاتية تؤهلها إلى الرقيّ والتقدّم.

ثانياً: استخدام الثورة المعلوماتية وتوظيفها في المشروع النهضوي الإسلامي. إذ إنَّ العقل الاستعماري ما فتئ يستفيد من وسائل الإعلام وتقنيات التواصل، لمواصلة استراتيجيات الهيمنة عبر التضليل وطمس الحقائق.

ثالثاً: السعي نحو توحيد صفوف أبناء الأمة على أساس الموقف الموحّد والقرار الواحد في مواجهة التحديات المصيرية تتضاعف أهمية هذا المسعى التوحيدي تحت وطأة الاختلافات المذهبية والثقافية؛ الأمر الذي يوجب التصدي لمشاريع الفتنة والحروب الأهلية التي يغذيها العقل الاستعماري، لتبرير حضوره تحت ذريعة أنه المنجي والمدافع عن حقوق الإنسان.

ص: 7

رابعاً: لزوم الاهتمام بالجيل الشاب، وتنمية وعيه الثقافي ولا سيما ما يتصل منه بإدراك حقيقة الاستعمار لئلا يقع فريسة الإمبريالية الإعلامية وأضاليلها.

خامساً: كشف حقيقة ازدواجية الغرب في تعاطيه مع مقولات وعناوين معاصرة مثل حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية وحق تقرير المصير. إذ إن هذه المدّعيات تبدو صحيحة بالنسبة إليه ما دامت تتماهى وتخدم مصالحه، إلا أنها سرعان ما تزول وتغيب إذا تضاربت مع هذه المصالح . ولا بد من التنبيه في هذا الصدد إلى أننا عندما ندمّ الغرب فإنا نذمّهُ كنظام ومؤسّسة سياسية إمبريالية لا كشعوب. فأهل الغرب كبقية الشعوب تختزن الإيجابيات والسلبيات وكثيراً ما كانت ضحية التضليل الإعلامي حيث استُدرِجَت لتكون إلى جانب المؤسسة الحاكمة لتبرير احتلال أرض الآخر والاستعلاء عليه. ولكن في مقابل هذا بقي ثمة أصوات حرّة وضمائر يقظة كشفت تهافت النظام الغربي بالنقد والاعتراض والضغط.

سادساً: لزوم الاهتمام بنظريات وأفكار ما بعد الاستعمار، وذلك لمنزلتها النقدية ومساهمتها الفاعلة في تبيين الشواهد على احتضار الحضارة الغربية، وبيان العدّ النزولي لتاريخها الحديث. فهذه النظريات والأفكار التي نعمل على تفعيلها في إطار مشروعنا المعرفي سوف تساهم في نقد البنية الاستعمارية وأسسها المعرفية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهي مصداق قوله تعالى: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) (الحشر - 2).

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وآله الميامين

النجف الأشرف

شهر رمضان 1439ه_ .

ص: 8

مدخل تأسيسي

نقد مباني العقل الإمبريالي

محمود حیدر(1)

لا يجيء الكلام على «ما بعد الاستعمار» من باب الاستيهام بنهاية الأطروحة الاستعمارية. سواءً تعلق الأمر بالاصطلاح والمفهوم، أمّ بالاختبارات التاريخية، فإن المناظرة مع هذه الأطروحة، وخصوصاً في زمن الحداثة الفائضة، باتت تتخذ لها منزلةً استثنائيةً مفهوم «ما بعد الاستعمار» كمثل سواه من المفاهيم الوافدة، يأتينا مكتظًّا بالالتباس والغموض. تعريفاتُه وشروحُه وتأويلاتُه تكثَّرت تبعاً لطبائع البيئات الثقافية والإيديولوجية حيث ولد وذاع أمره. لذا سيكون على كل منشغل بهذا المصطلح أن يتتبَّع سلالته الممتدة عميقاً في التاريخ الحديث، وأن يتعرّف إلى أوروبا بما هي أرض نشأته وفكرته وامتداده عبر الاستيلاء والغزو. ثم عليه من بعد ذلك كله أن يتميَّز لفظة «ما بعد الاستعمار» بين كونها مفهوماً مضاداًّ للاستعمار ودعوة كفاحية للتحرر منه وبين كونها وسيلةً معرفيةً تستعملها السلطة الإيديولوجية الحاكمة في الغرب، لتنتج أنظمة مفاهيم جديدةث تمكّنُها من إدامة الهيمنة على العالم.

ص: 9


1- مفكر وباحث في الفلسفة - لبنان. مدير التحرير المركزي لفصلية الاستغراب

من أجل ذلك وجدنا أن نقارب المفهوم على منحَيَين متوازيين:

الأول: منحى الجغرافيا الأوروبية حيث مسقط رأس المفهوم وظروف ولادته.

الثاني: منحى الجغرافيات المستباحة أي من الأرض التي نشأت فيها الفكرة

ال «الما بعد استعمارية»، كأطروحة مقاومةٍ فكريةٍ وكفاحيةٍ للهيمنة والتوسع.

مما يجوز بيانه أن ثمّة خلطاً مفهومياً يعود إلى سوءِ فهمٍ للمصطلح ولطريقة التعامل معه تاريخياً ومعرفياً. فقد بدا لكثيرين في الأوساط الغربية، وكذا في العالمين العربي والإسلامي، أن «ما بعد الاستعمار» مفهوم ينتسب إلى الجيل الاصطلاحي المستحدث الذي شاع صيته في ما عرف ب- «الما بعديات». فلقد بدا جليّاً أن كل هذه الما بعديات ك-: «ما بعد الحداثة» - «ما بعد العلمانية» - «ما بعد التاريخ»، أو «نهاية التاريخ»، «ما ما بعد الميتافيزيقا»، «ما بعد الإيديولوجيا» .. وأخيراً وليس آخراً ما «بعد الإنسان» أو ما سمي ب- «الإنسان الأخير».. إن هي إلا منحوتاتٌ لفظيةٌ يعاد تدويرها كلما دعت الحاجة. على هذا الأساس أمكن لنا أن نفترض أن السياق «المَابَعْدي» هو تدبيرٌ احترازيٌّ أخذت به المنظومة الحداثية لوقاية نفسها من الخلل والتهافت والاضمحلال. وعليه سنكون هنا بإزاء مهمةِ تفكيكٍ ومعاينةٍ لمصطلح حديثِ العهد وينطوي على شيءٍ من الغموض واللبس، قصد جلاء مراميه وبيان غاياته.

لا مناص من الإلفات ابتداءً، إلى أن مفهوم «ما بعد الاستعمار» ليس جديداً مسرى التاريخ الغربي الحديث. فقد ظهر في سياقٍ تنظيريٍّ بدأت مقدماته مع نقد مسالك الحداثة وعيوبها في منفسح القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ثم ليتحول من بعد ذلك إلى تيَّارِ نقديٍّ عارمٍ بعد الحربين العالميتين في مطلع ومنتصف القرن المنصرم. لذا جاز القول أن النظريات ما بعد الاستعمارية اتصلت اتصالاً نقديّاً بعصر التنوير، ثم تمدَّدت إلى الأحقاب التالية عبر مساراتٍ نقديةٍ للعقل الاستعماري بلغت ذروتها مع اختتام الألفية الميلادية الثانية. مع ذلك، لم يكن لهذه الموجة النقدية أن تتخذ بعداً انعطافيّاً في الثقافة الأوروبية لولا أنها ذهبت إلى المسِّ بالعقل المؤسِّسِ

ص: 10

لتاريخ الغرب وسلوكه. وللبيان، فإن أول ما أُخِذَ على هذا العقل في السياق النقدي، إضفاؤه على الاكتشافات العلمية تبريراً أخلاقيّاً ومعنىً حضاريّاً يؤكد فرادة الغرب واستعلائه على بقية العالم. فازدهار العلم - كما بات معلوماً - لم يكن فقط بسبب فضول العلماء والمفكرين وتوثُّبهم لاستكشاف عالمه الغامض، وإنما أيضاً وأساساً بسبب التوسع الاستعماري الذي أوجبه وأطلق مساره.

***

من هذا المطرح المعرفي بالذات حقَّ لنا أن نبتني رؤيتنا للتفكير «الما بعد استعماري» على ركيزة النقد. تقول الفَرَضِية : إن نظريات وتيارات ما بعد الاستعمار ما كانت لتولد لو لم يكن المستهدَف منها أصلاً، هو العقل الاستعماري نفسه. من أجل ذلك دأب مفكرون وعلماء اجتماع على تعريف نظرية «ما بعد الاستعمار» بأنها نظرية تهدف إلى تحليل كل ما أنتجته الثقافة الغربية باعتبارها خطاباً مقصديّاً يحمل في طياته توجهاتٍ استعمارية إزاء المجتمعات الأخرى. كذلك سنجد في الأدبيات الفكرية الغربية اليوم من يرى أن مصطلحي [«الخطاب الاستعماري» و «نظرية ما بعد الاستعمار»] يشكلان معاً حقلاً من التحليل ليس جديداً بحد ذاته، ولكن معالمه النظرية والمنهجية لم تتضح إلا مؤخراً مع تكثيف الاهتمام به، وازدياد الدراسات حوله.

لننظر في ماهية كل منهما :

المصطلح الأول يشير إلى تحليل ما بلورته الثقافة الغربية في مختلف المجالات من نتاج يعبّر عن توجهات استعمارية إزاء مناطق العالم الواقعة خارج نطاق الغرب، الأمر الذي يشكل في مجمله خطاباً متداخلاً بالمعنى الذي استعمله الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو لمصطلح «الخطاب».

أما الثاني، أي «النظرية ما بعد الاستعمارية»، فيحيل إلى نوعٍ آخرَ من التحليل ينطلق من افتراض أن الاستعمار التقليدي قد انتهى وأن مرحلةً من الهيمنة - تسمى أحياناً المرحلة النيو- إمبريالية - قد حلَّت وأنشأت ظروفاً مختلفةً، تحليلا من

ص: 11

نوعٍ جديدٍ. ولذا، سيظهر لنا أن المصطلحين ناشئان من وجهات نظرٍ متعارضةٍ في ما يتصل بقراءة التاريخ. فبينما يرى بعضهم انتهاء مرحلة الاستعمار التقليدي، وبالتالي انتهاء الخطاب المتصل به وضرورة أن يتركز البحث في ملامح المرحلة التالية، وهي مرحلة ما بعد الاستعمار يرى آخرون أن الخطاب الاستعماري لا يزال قائماً، وأن فَرَضية «المابعدية» لا مبرر لها.

***

لم تخلُ ساحات الغرب من نقدٍ مبيّن للسلطة الاستعمارية. وهذا في تقديرنا يعتبر أساساً مهماً لفهم الأطروحة الما بعد استعمارية وتحرّي مقاصدها ولسوف تصبح العملية النقديّة ذات أهميّة مضاعفةً حين تسلك هذه الأطروحة مسارها التواصلي لتعرب عن علاقةٍ وطيدةٍ بين الثورة النقدية في الغرب الاستعماري، والحركة الفكرية والكفاحية الناشئة في المجتمعات المستعمَرة.

استناداً إلى هذا التلازم بين ثورة النقد في المركز الإمبريالي، واليقظة النقدية لنخب الدول المستباحة من المنطقي أن نحصِّل النتيجة التالية: إن الأطروحة ما بعد الاستعمارية في وجهها الانتقادي هي رؤيةً تتشكل من مضادات معرفيّة متظافرة للاستعمار في الحقول الثقافية والسياسية والسوسيولوجية والتاريخية. وهي إلى ذلك تعتبر في مقدم الأطروحات التي تستكشف عمق العلاقة بين بلدان الشرق والبلدان الاستعمارية في أوروبا. لقد عكف المساهمون على تظهير هذه النظرية عبر كشف ما تختزنه ثقافة وسلوك الحكومات الغربية إزاء الدول والمجتمعات المسيطر عليها. من هذا الفضاء الانتقادي على وجه التعيين يشكل فكر ما بعد الاستعمار مدرسة تفكيرٍ داخل النظام الاستعماري نفسه، من دون أن يعني ذلك حصر المنتمين إلى هذه المدرسة بالإنتلجنسيا الأوروبية. فلنخب الشرق ومفكريه مساهمات معمّقة في وضع الأسس الفكرية التحررية للخطاب ما بعد الاستعماري.

ص: 12

لقد تولت هذه النخب على الجملة مهمة معرفيةً نقديّةً مركبةً : نقد الغازي ونقد التابع ضمن خطبةٍ واحدةٍ. احتل نقد الاستعمار، وكذلك نقد النخب المتماهية معه داخل المجتمعات المستعمَرة، مكانةً محوريةً في تفكيرهم. تركَّزت المسألة الأساسية التي عالجوها على مشكلة الاغتراب بوصف كونها غربة إنسان تلك المجتمعات عن ذاته الحضارية وهويته الوطنية في سياق تماهيه مع ثقافة الغرب ومعارفه هذه الحالة المخصوصة من الاغتراب (alienation) ستجد من يصفها بعبارة موفَّقة- "اقتلاع الذات بواسطة الذات إياها" وشرحها أن الثقافة الاستعمارية تتحول عن طريق الاغتراب إلى ضربٍ من ولاءٍ نفسيٍّ، موصولٍ باستيطانٍ معرفيٍّ عن سابق إرادةٍ ووعي. فالاغتراب في حالته القصوى هو أشبه بانصباب وعي المستعمِر في صميم وعي المستعمَر على النحو الذي يصبح المُهَيْمَنُ عليه غافلاً عن نفسه وعن مصيره وعن المكان الذي هو فيه. وفي هذه الحال يكفّ «المغترِبُ» عن أن يصبحَ سيدَ نفسه ويتحول إلى عبدٍ لآلة العمل وخطاب مالِكيها عليه، يصير المثقف المستعمَر كائناً صاغراً تمَّ انتزاعه من زمانه الخاص ومكانه الخاص؛ حتى أنه يشعر في أحيان شتى كالغريب بين أهله، ناظراً إليهم ككائناتٍ متخلفةٍ وبربريةٍ. وبحسب فرانز فانون صاحب «معذبو الارض» فإن «المثقف المستعمَر يقذف بنفسه وبنهم إلى الثقافة الغربية كما الأطفال المتبنَّين الذين لا يكفُّون عن البحث عن إطارٍ عائليٍّ جديدٍ. لكن هذا المثقف، وهو يسعى ليجعل من الثقافة الأوروبية ثقافته الخاصة، لا يكتفى بمعرفة رابليه، أو ديدارو، أو شكسبير أو إدغار بو وسواهم، بل سيدفع دماغه إلى الحدود القصوى تواطؤاً مع هؤلاء الرجال».. في حقبة تالية من زمن الحداثة سيحتل رهطٌ من فلاسفة الغرب وعلمائه مساحةً بيّنةً من تفكير النخب العربية والإسلامية إلى الدرجة التي جعل هؤلاء من أولئك، أوثاناً يستلهمون أفكارهم وأفهامهم، ويتخذونها مسالك ومناهج عن ظهر قلب.

تلقاء النقد النخبوي «العالم ثالثي» للمنظومة الاستعمارية حفلت الميادين

ص: 13

الغربية بتيارات نقدية استطاعت الانفلات بهذا القدر أو ذاك من الوظائفية الإيديولوجية للسلطة. رؤية هذه التيارات تجاوزت النقد الكلاسيكي لليبرالية ثم لتتضاعف وتتمدد مع ظهور حركات التحرر الوطني في البلدان المستعمرة بعد الحرب العالمية الأولى. في التنظير النقدي الذي قدمته هذه التيارات، أن سيطرة الإنسان على الإنسان لا تزال تمثل في الواقع الاجتماعي، ما يشي بأن استمراراً ،تاريخيّاً، ورابطةً وثقى بين العقل ما قبل التكنولوجي والعقل التكنولوجي. بيد أن المجتمع الذي يضع الخطط ويشرع فعلاً في تحويل الطبيعة عن طريق التكنولوجيا يغير المبادئ الأساسية للسيطرة. فالتبعية الشخصية (تبعية العبد للسيد، والقن لصاحب القصر، والوالي للملك، إلخ) يحل محلها - شيئاً فشيئاً - نوعٌ آخرُ من التبعية : لقد باتت السيطرة الاستعمارية الجديدة تعتمد في أدائها على درجةٍ أكبرَ من العقلانية، عقلانية مجتمعٍ يدافع عن بنيته الهرمية ويستغل في الوقت نفسه وعلى نحوٍ أنجعَ باطِّرادٍ الموارد الطبيعية والفكرية، ويوزع على نطاقٍ متعاظمٍ باستمرارٍ أرباح هذا الاستغلال. وإذا كان الإنسان يجد نفسه مقيداً على نحوٍ متعاظمٍ إلى جهاز الإنتاج، فإن هذه الواقعة تكشف عن حدود العقلانية وعن قوتها المشؤومة: فجهاز الإنتاج يؤبد النضال في سبيل الوجود، ويتجه إلى أن يجعل منه موضوعاً المزاحمةٍ عالميةٍ شاملةٍ تهدد حياة أولئك الذين يبنون ذلك الجهاز ويستخدمونه.

والعقلانية الاستعمارية التي حدَّت وظيفة استعمال العقل بجلب المنافع المحضة، هي عقلانية مجردة من الأخلاقية. ومثل هذه العقلانية الوظائفية راحت تتمظهر مع تعاقب الزمن كسمتٍ تكوينيٍّ للشخصية الاستعمارية. فلقد بيّنت اختبارات التاريخ أن من أميَز طبائع العقل الاستعماري إضفاء صبغة عقلانية على كل فعالية من فعالياته يقطع النظر عن أثرها الأخلاقي. إنّ ما ينتج من هذا في آخر المطاف هو أن تتحول العقلانية إلى ذريعةٍ فادحةٍ للاستخدام الإيديولوجي في الفكر الإمبريالي.

ص: 14

لنقرأ الإشكال بشيءٍ من التأنيّ:

في الفكر الاستعماري الذرائعي يُنظَر إلى كلِّ ممكنٍ وواقعيٍّ بوصفه أمراً عقلانيّاً. يحصل هذا حتى لو كان مقتضى الوصول إلى الهدف إيذاء الغير وانتهاك حياضه السيادية في العقلانية الاستعمارية التي ارتكنت إلى العلوم الطبيعية كمعيارٍ أوحَدٍ لحل مشكلات العالم، تتجرد الذات الإنسانية من كلِّ محتوى أخلاقيٍّ وسياسيٍّ وجماليٍّ. وما ذاك إلا لأن المهمة الجوهرية لهذه العلوم تقتصر في مناهج التفكير الاستعماري على الملاحظة «المحضة» والقياس المحض ذلك بأن تحديد «طبيعة الأشياء» وطبيعة المجتمع جرى على نحوٍ يبرر «عقلانياً» الاضطهاد والاستغلال. هكذا لم تكن خرافة الحروب العادلة التي تحولت إلى مقولةٍ سائدةٍ في العقد الأخير من القرن الماضي، إلا الدليل البيّن على هذا الضَّرب من العقلانية المبتورة. لم تدرك الحداثة بسببٍ من غفلتها ومَيْلها المحموم الى السيطرة، أن المعرفة الحقّة والعقلَ الحقَّ يقتضيان السيطرة على غلواء الحواس والتحرر من قهر الغير والسيطرة عليه . المفارقة في «العقلانية» الما بعد استعمارية، أنها حين تُقِرُّ بالقيم الإنسانية كسبيل للعدل والسلام العالميَين، تعود لتؤكد - وبذريعة العقلانية إياها - أن هذه القيم قابلةٌ لأن تتخذ مكانتها في أسمى منزلة ( أخلاقيّاً وروحيّاً)، ولكنها لا تُعَدُّ حقائق واقعيةً. تلك معادلةٌ أساسيةٌ من معادلات فلسفة الاستعمار التي بناها العقل البراغماتي للحداثة. تقول هذه المعادلة صراحةً : إذا كانت قيم الخير والجمال والسلام والعدالة غير قابلةٍ للاستنباط من الشروط الأنطولوجية أو العلمية، فلا مجال بالتالي لأن نطالب بتحقيقها. فهذه القيم في نظر العقلانية العلمية ليست إلا مشكلاتٍ تتعلق بالتفضيل الشخصي. ولما كانت هذه الأفكار غيرَ علميةٍ، فإنها لا تستطيع أن تواجه الواقع القائم إلا بمعارضةٍ ضعيفةٍ وواهنةٍ.

نضيف: إن العقلانية المنزوعة الأخلاق - بعدما استبدَّ بها جشع الاستيلاء

ص: 15

والسيطرة - هي نفسها العقلانية التي دفعت بالعالم المعاصر إلى الانزياح والضلال وعدم اليقين.

مع استهلال الألفية الميلادية الثالثة سوف يظهر لنا كأن اللحظة لم تَحِنْ بعدُ لكي يختلي العقل الغربي بنفسه ويتأمَّل. المركزية الغربية بصيغها النيوليبرالية لا تنفك تستغرق في غفلتها بسببٍ من عقلانيتها البتراء حتى السؤال الذي أنتجته ليعثر لها على طريقةٍ فضلى لسيادة العقل ما فتئ أن انقلب عليها. صار سؤالاً استجوابيّاً على ما يقدمه المشهد العالمي من تغييبٍ لأحكام العقل وقوانينه، كأنمَّا انقلبت «عقلانية الحداثة» على نفسها، فاستحالت «طوطماً» للخداع والإيهام، بعدما كانت أنجزت فلسفتها «العظمى» في «تأليه» الإنسان.

***

جرى التنظير الفلسفي للعقلانية الاستعلائية مجرى اليقين في غريزة الغرب السياسي. أسس «روحيّاً» لحملات القوة، وسوَّغ لمقولة استعمار الشرق، فجعلها تاريخاً سارياً لا تتوقف أحقابه عند حدٍّ زعمت عقلانية التنوير أنها الروح الذي يسري بلا انقطاع في تاريخ البشرية، وأنه-ا البديل للزمان اللاّعقلاني الذي استولدته جاهلية القرون الوسطى الأوروبية. ولذلك فليس من قبيل التجريد أن يستنتج إيديولوجيو العقلانية الغربية المتأخرة «أنَّ فن تكوين الحقائق أهم من امتلاك الحقائق». لقد انبرى هؤلاء إلى استدعاء هذه المقولة ورفعها إلى مستوىّ متعالٍ. فكان من نتيجة ذلك أن آلت بهم إلى ذروة اللاّعقلانية المتمثلة في الواقع بتسويغ اضطهاد الشعوب كسلوكٍ مقبولٍ ومعقولٍ. لم تعد غاية العقل الإمبريالي المستحدث الكشف عن جوانب اللاّمعقول في الواقع، بل صارت غايته الكبرى البحث عن الصيغة التي يمكن بفضلها تشكيل الواقع طبقاً للمصلحة. كذلك لم تعد الغاية

ص: 16

هی التجاوز والتغيير، بل أصبحت هي التبرير عينهُ. وبدل أن يكون العقل الإنساني موجِّهاً للواقع المعاصر أصبح خاضعاً لأغراض الواقع ولوازمِه...».

استناداً إلى هذا التحويل الذي أجراه العقل الاستعماري في البناء العام لقيم الحرية والعدالة والمساواة، شقَّ الفكر النقدي سبيله الاحتجاجي على هذا النوع من الارتداد الكارثي. لقد اتخذت العقلانية هنا صفة جديدة كل الجدَّة. تحولت إلى إيديولوجيةٍ فضّةٍ تسوِّغ لنفسها كل ما ترسمه من مطامح. عند انتهاء الحرب الباردة (1990) أخذت النيوليبرالية فرصتها لكي «تؤدلج» انتصارها. ولقد تسنَّى لها بوساطة شبكةٍ هائلةٍ من «الميديا البصرية والسمعية»- أن تعيد إنتاج هيمنتها ثقافياً واقتصادياً ونمط حياة على نطاق العالم كله كان على «عقلانية» الليبرالية الجديدة أن تقطع صلتها بالموروث المفاهيمي لحداثة التنوير. وها هي تحسم مدَّعاها بتقريرها أن تداعيات المشهد العالمي لا تعكس فقط نهاية التوازن الدولي بل نهاية التاريخ بالذات: أي نهاية التطور الإيديولوجي للبشرية كلها، وتعميم الديمقراطية الليبرالية كشكلٍ نهائيٍّ للسلطة على البشرية جمعاء.

هل بلغت العقلانية بصيغتها الإمبريالية المستحدثة حدَّ«الجنون» حين جعلت العالم أرضاً منزوعة القيم؟..

ذلكم هو السؤال الذي طفق يشكل الهمَّ الأقصى لنقَّاد السلوك الاستعماري المذاهب النقدية الغربية تنبَّهت إلى مثل هذا المنعطف بصورةٍ مبكرةٍ. لذا أجابت في ما يشبه الفانتازيا الفلسفية أنَّ اللاّعقلانية غالباً ما ترتدي رداء العقل لكي تعيد اكتشاف ذاتها. ربما أدركت براغماتيات السيطرة في الغرب أنها مضطرة إلى الهروب من العقل تحت وطأة المصلحة وغريزة البقاء. لكن سيبدو أنَّ لعبة الهرب من العقل إلى الجنون هي عودةٌ إلى العقل بمخيلةٍ أخرى. وهذه السيرورة لا بد أن تنتج

ص: 17

معرفةً على صورتها .. معرفةً تسعى إلى ملء الخواء، ولو بإيديولوجيات

ثَبُتَ بطلانها ...

في عالما العربي والمشرقي والإسلامي الراهن يصبح من المهم أن يندرج هذا

التفكير التحرري النقدي للاستعمار إلى منظومةٍ معرفيّةٍ تؤسس للإحياء الحضاري في مواجهة الإقصاء الاستعماري المستأنف فلكي يتخذ فكر ما بعد الاستعمار مكانته كواحدٍ من مفاتيح المعرفة في العالم العربي والإسلامي، وَجَبَ أن تتوفر له بيئات راعية ونخب مدركة، ومؤسسات ذات آفاق نهضوية، في إطار مشروعٍ حضاريٍّ متكاملٍ.

***

تتناول هذه السلسلة بأجزائها الأربعة الأطروحة الاستعمارية وما بعد الاستعمارية في إطار تحليليٍّ نظريٍّ، وكذلك من خلال معاينة للتجارب التاريخية في آسيا وأفريقيا بدءاً من القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا.

شارك في هذه السلسلة مجموعة من المفكرين والباحثين وعلماء الاجتماع من أوروبا وأميركا والعالمين العربي والإسلامي، وقد توزعت أبحاثهم وفقاً للترتيب المنهجي على بابين رئيسيين:

- باب المفاهيم وباب السيرة التاريخية لعدد من التجارب الاستعمارية وآليات مواجهتها ثقافياً وكفاحياً.

ص: 18

الفصل السادس:ما بعد الاستعمار

اشارة

ص: 19

نظرية مابعد الاستعمار

مساهمة في التأسيس لعلم الاستغراب

جميل حمداوي(1)

تعد نظرية «ما بعد الاستعمار»، أو النظرية ما بعد الكولونيالية (Colonial Discourses and Post - Colonial Théorie)، من أهم النظريات الأدبية والنقدية ذات الطابع الثقافي والسياسي لكونها تربط الخطاب بالمشاكل السياسية الحقيقية في العالم. ومن ثم تستعرض ثنائية الشرق والغرب في إطار صراعٍ عسكريٍّ وحضاريٍّ وقيميٍّ وثقافيٍّ وعلميٍّ. كما تعمل هذه النظرية الأدبية النقدية على استكشاف مواطن الاختلاف بين الشرق والغرب، وتحديد أنماط التفكير والنظر إلى الشرق والغرب من قبل كتّاب ومبدعي مرحلة ما بعد البنيوية، ومثقفي ما بعد فترة الاحتلال الغربي الذين ينتمون - غالبا - إلى الشعوب المستعمَرة، وأخص بالذكر شعوب أفريقيا وآسيا.

ويعني هذا أن نظرية ما بعد الاستعمار تطرح مجموعة من القضايا الشائكة للدرس والمعالجة والتفكيك ،والتقويض كجدلية الأنا ،والغير وثنائية الشرق والغرب، وتجليات الخطاب الاستعماري، ودور الاستشراق في تزكية المركزية الغربية قوة ،وتفوقاً، والإشارة إلى الصراع الفكري والثقافي المضاد للتمركز العقلي الغربي

ص: 20


1- باحث وأكاديمي من المغرب.

لغة، وكتابة ومقصدية وقضية. إذاً، ما نظرية «ما بعد الاستعمار»؟ وما مفهوم هذه النظرية؟ وما أهم مرتكزاتها القضوية والفنية والنقدية والمنهجية؟ ومن هم أهم روادها الفعليين؟ وما قيمة هذه النظرية تصوراً وتطبيقاً؟ وما علاقتها بعلم الاستغراب؟ هذا ما سنوضِّحه في هذه المباحث التالية:

المبحث الأول : مفهوم نظرية «ما بعد الاستعمار»

تعد نظرية «ما بعد الاستعمار» من أهم النظريات الأدبية والنقدية التي رافقت مرحلة «ما بعد الحداثة»، ولا سيما أن هذه النظرية قد ظهرت بعد سيطرة البنيوية على الحقل الثقافي الغربي، وبعد أن هيمنت الميثولوجيا البيضاء على الفكر العالمي، وأصبح الغرب مصدر العلم والمعرفة والإبداع، وموطن النظريات والمناهج العلمية ومن ثم أصبح الغرب هو المركز. وفي المقابل، تشكّل الدول المستعمرة المحيط التابع على حدِّ تعبير الاقتصادي المصري سمير أمين. ويعني هذا أن نظرية «ما بعد الاستعمار» تعمل على فضح الإيديولوجيبات الغربية، وتقويض مقولاتها المركزية على غرار منهجية التقويض التي تسلَّح بها الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا (J.Derrida)، لتعرية الثقافة المركزية الغربية، ونسف أسسها المتافيزيقية والبنيوية. وإن أكثر اهتمام ذي صلة في فكر «ما بعد الاستعمار» هو تهميش الثقافة الغربية وقيمها للثقافات المختلفة الأخرى. ويتضح من منظور عالم «ما بعد الاستعمار» أن أعمال الفكر الكبرى في غرب أوروبا والثقافة الأميركية قد هيمنت على الفلسفة والنظرية النقدية، وكذلك على أعمال الأدب في جزءٍ واسعٍ من أنحاء العالم، ولا سيما تلك المناطق التي كانت سابقا تحت الحكم الاستعماري إن مفهوم دريدا عن الميثولوجيا البيضاء، الذي حاول أن يفرض نفسه على العالم بأسره، قد قدَّم الدعم لهجوم «مابعد الاستعمار» على هيمنة الإيديولوجيات الغربية. وإن رفض «مابعد الحداثة» للسرديات الكبرى وأنماط الفكر الغربي التي أصبحت عالمية، كان أيضا مؤثراً جداً»(1).

ص: 21


1- - ديفيد كارتر، النظرية الأدبية، ترجمة وتحقيق باسل المسالمة، الكويت للطباعة والنشر والتوزيع، 2010، ص: 125.

وتسمَّى هذه النظرية كذلك بالخطاب الاستعماري، وقد ظهرت هذه النظرية حديثاً مرافقةً لنظرية «ما بعد الحداثة)، وبالضبط في سنوات السبعين إلى غاية سنوات التسعين من القرن العشرين وقد أعطيت لنظرية ما بعد الاستعمار تعريفات عدة، ومن أهم تعاريفها أن مصطلح «ما بعد استعماري» يستخدم ليغطي «كل الثقافات التي تأثرت بالعملية الإمبريالية من لحظة الاستعمار حتى يومنا الحالي؛ ذلك أن هناك خطاً متصلاً من الاهتمامات على مدار العملية التاريخية التي بدأها العدوان الإمبريالي... ونحن نشير كذلك إلى ملاءمة المصطلح للنقد الجديد العابر للثقافات الذي ظهر في السنوات الأخيرة، وللخطاب الذي تكوّن من خلاله ذلك النقد. وبهذا المعنى، فإن كتابنا هذا - كما يقول بعض القائلين بنظرية «ما بعد الاستعمار» - يهتم بالعالم كما كان خلال فترة الهيمنة الإمبريالية الأوروبية ،وبعدها، وتأثير ذلك على الآداب المعاصرة... وعلى هذا النحو، تكون آداب البلاد الأفريقية، واستراليا وبنجلاديش وكندا وبلاد البحر الكاريبي والهند ... كلها آداب «ما بعد الاستعمار» .. وما يجمع بين هذه الآداب - بعد سماتها الإقليمية الخاصة - أنها ظهرت بشكلها الحالي في أعقاب تجربة الاستعمار، وأكّدت نفسها من خلال إبراز التوتر مع القوة الإمبريالية، وبالتركيز على ما يميِّزها عن فرضيات المركز الإمبريالي. وهذا هو ما يجعلها آدابًا ما بعد استعمارية»(1).

وبناءً على ماسبق ، فنظرية «ما بعد الاستعمار» هي التي تهدف إلى تحليل كل ما أنتجته الثقافة الغربية باعتبارها خطاباً مقصدياً، يحمل في طياته توجهاتٍ استعماريةٍ إزاء الشعوب التي تقع خارج المنظومة الغربية. كما يوحي المصطلح بوجود استعمارٍ جديدٍ يخالف الاستعمار القديم. لذا، يتطلب هذا الاستعمار التعامل معه من معه من خلال رؤيةٍ جديدةٍ، تكون رؤيةً موضوعيةً وعلميةً مضادة. ويعرَّف سعد البازعي مصطلحي الخطاب الاستعماري والنظرية «ما بعد الاستعمار» قائلاً :«يشير هذان المصطلحان اللذان يكملان بعضهما بعضاً إلى حقلٍ من التحليل ليس جديداً بحدِّ ذاته، ولكن

ص: 22


1- Ashcroft, Bill, Gareth Griffiths, and Helen Tiffin: The Empire Writes Back: Theory and Practice in Post-Colonial Literatures, Routledge, London and New York, 1989, p: 2.

معالمه النظرية والمنهجية لم تتضح في الغرب إلا مؤخراً مع تكثيف الاهتمام به، وازدياد الدراسات حوله. يشير المصطلح الأول إلى تحليل مابلورته الثقافة الغربية في مختلف المجالات من نتاج يعبِّر عن توجهاتٍ استعماريةٍ إزاء مناطق العالم الواقعة خارج نطاق الغرب على أساس أن ذلك الإنتاج يشكِّل في مجمله خطاباً متداخلاً بالمعنى الذي استعمله فوكو لمصطلح خطاب. أما المصطلح الثاني، «النظرية مابعد الاستعمارية»، فيشير إلى نوع آخر من التحليل ينطلق من فرضيةِ أنَّ الاستعمار التقليدي قد انتهى وأن مرحلةً من الهيمنة - تسمى أحياناً المرحلة الإمبريالية أو الكولونيالية - كما عرَّبها بعضهم - قد حلت وخلقت ظروفاً مختلفةً تستدعي تحليلاً من نوعٍ معيِّنٍ . ولذا، فإن المصطلحين ينطلقان من وجهات نظرٍ متعارضةٍ فيما يتصل بقراءة التاريخ، وإن كان ذلك اختلافا في التفاصيل لا في الجوهر، فبينما يرى بعضهم انتهاء مرحلة الاستعمار التقليدي. وبالتالي انتهاء الخطاب المتصل به، وضرورة أن يتركز البحث في ملامح المرحلة التالية، وهي مرحلة ما بعد الاستعمار ، يرى بعضهم الآخر أن الخطاب الاستعماري مايزال قائماً وأن فرضية «المابعدية» لا مبرر لها»(1).

ولقد طرحت نظرية «ما بعد الاستعمار» مجموعة من الإشكالات الجوهرية التي تتعلق بالاستغراب من جهة، وتتعرض لعلاقة الأنا بالآخر، أو علاقة الشرق بالغرب، أو علاقة الهامش بالمركز، أو علاقة المستعمِر بالشعوب المستعمَرة الضعيفة من جهة أخرى. ومن بين هذه الأسئلة والإشكالات الافتراضات التالية:«كيف أثَّرت تجربة الاستعمار في هؤلاء الذين استُعمِروا من ناحيةٍ، وأولئك الذين قاموا بالاستعمار من ناحيةٍ أخرى؟ كيف تمكَّنت القوى الاستعمارية من التحكم في هذه المساحة الواسعة من العالم غير الغربي ؟ ما الآثار التي تركها التعليم الاستعماري والعلم والتكنولوجيا الاستعمارية في مجتمعات «ما بعد الاستعمار»؟ وكيف أثَّرت النزعة الاستعمارية؟ كيف أثَّر التعليم الاستعماري واللغة المستعمِرة على ثقافة المستعمَرات وهويّتها؟ كيف أدى العلم الغربي والتكنولوجيا والطب الغربي إلى الهيمنة على أنظمة المعرفة التي كانت قائمة ؟ وما أشكال الهوية ما بعد الاستعمارية التي ظهرت بعد رحيل

ص: 23


1- سعد البازعي وميجان الرويلي دليل الناقد العربي المركز الثقافي العربي، ص: 91-92 .

المستعمِر ؟ إلى أي مدى كان التشكّل بعيدًا عن التأثير الاستعماري ممكنًا ؟ هل تُركّز الصياغات الغربية لما بعد الاستعمار على فكرة التهجين أكثر مما تركز على الوقائع الفعلية ؟ هل ينبغي استمرار معاداة الاستعمار عبر العودة الجادة إلى الماضي السابق على فترة الاستعمار ؟ كيف تلعب مسائل الجنس والنوع والطبقة دورًا في الخطاب الاستعماري وما بعد الاستعماري ؟ هل حَلَّت أشكال جديدة من الإمبريالية محل الاستعمار ؟ وكيف ؟»(1)

وعليه، تعد «نظرية ما بعد الاستعمار» في الحقيقة قراءةً للفكر الغربي في تعامله مع الشرق من خلال مقاربةٍ نقديةٍ بأبعادها الثقافية والسياسية والتاريخية. وبتعبير آخر تحلل هذه النظرية الخطاب الاستعماري في جميع مكوناته الذهنية والمنهجية والمقصدية بالتفكيك والتركيب والتقويض بغيةً استكشاف الأنساق الثقافية المؤسساتية المضمرة التي تتحكم في هذا الخطاب المركزي.

المبحث الثاني: مرتكزات نظرية «ما بعد الاستعمار»

تنبني نظرية «ما بعد الاستعمار» في مجال الحقل الثقافي بصفة عامة، وحقل النقد الأدبي بصفة خاصة، على مجموعة من المرتكزات الفكرية والمنهجية، ويمكن حصرها في المكونات والعناصر التالية:

المطلب الأول : فهم ثنائية الشرق والغرب

تحاول نظرية مابعد الاستعمار فهم الشرق والغرب فهماً حقيقياً، برصد العلاقات التفاعلية التي توجد بينهما سواء أكانت تلك العلاقات إيجابية مبنية على التسامح والتفاهم والتعايش أم مبنية على العدوان والصراع الجدلي والصدام الحضاري. كما يذهب إلى ذلك صموئيل هنتنغتون في كتابه (صراع الحضارات). ويتمظهر الشرق،

ص: 24


1- وردت هذه الأسئلة في هذا الكتاب: وذلك على موقع بعنوان . 1996 Deepika Bahri: Introduction to Postcolonial Studies, Fall www.emory.edu/English/faculty/bahri.htm

بشكل جلي، في نصوص وخطابات الاستشراق ومن ثم يتحوَّل هذا الاستشراق من خطاب معرفيٍّ موضوعيٍّ إلى خطاب سياسيٍّ كولونياليٍّ ذاتي ومصلحي. لذا، فقد تسلح مثقفو نظرية «ما بعد الاستعمار» بآليات التفكيك والتقويض لتشتيت المقولات المركزية التي انبنت عليها حضارة الغرب.

المطلب الثاني: مواجهة التغريب

استهدفت نظرية «ما بعد الاستعمار» محاربة سياسة التغريب والتدجين والاستعلاء التي كان ينهجها الغرب في التعامل مع الشرق بالاستعانة بعلم الاستغراب الذي ينصب على فهم الغرب وتعرية تصوراته الفكرية والذهنية والمعتقديَّة والإيديولوجية. ومن ثم شمَّر مثقفو نظرية «ما بعد الاستعمار» عن سواعدهم لفضح الهيمنة الغربية، وتعرية مرتكزاتها السياسية والإيديولوجية، مع تبيان نواياها الاستعمارية القريبة والبعيدة، والتشديد على جشعها المادي لاستنزاف خيرات الشعوب المقابلة الأخرى. لذا، يَتَّسم الخطاب الثقافي الغربي بنزعة التمركز، وتأكيد خاصيات التفوق والتمدن والتحضر مقابل خطاب دوني يتصف بالبدائية والشعوذة، والشهوانية، والسحر الطقوسي الخرافي.

المطلب الثالث : تفكيك الخطاب الاستعماري

تهدف نظرية «ما بعد الاستعمار» إلى فضح الخطاب الاستعماري الغربي، وتفكيك مقولاته المركزية التي تعبِّر عن الغطرسة والهيمنة والاصطفاء اللوني والعرقي والطبقي، باستعمال منهجية التشتيت والفضح والتعرية. لذا، فقد وجد كتاب نظرية «ما بعد الاستعمار» في تفكيكيَّة جاك ديريدا آلية منهجية لإعلان لغة الاختلاف، وتقويض المسلمات الغربية، والطعن في مقولاتهم البيضاء ذات الطابع الحلمي الأسطوري. كما تأثروا في ذلك بميشيل فوكو، وكارل ماركس، وأنطونيو غرامشي، وكان إدوارد سعيد رائدهم في ذلك.

ص: 25

المطلب الرابع: الدفاع عن الهوية الوطنية والقومية

رفض كتاب النظرية الاستعمارية ومثقفوها الاندماج في الحضارة الغربية، وانتقدوا سياسة الإقصاء والتهميش والهيمنة المركزية، ورفضوا كذلك الاستلاب والتدجين. وفي المقابل، دعوا إلى ثقافةٍ وطنيةٍ أصيلةٍ ونادوا بالهوية القومية الجامعة. ومن هؤلاء - مثلا - كتاب الحركة الزنجية الأفريقية ومبدعوها الذين سخَّروا كل مالديهم من آليات ثقافية وعلمية لمواجهة التغريب، فتشبثوا بهويتهم السوداء، ودافعوا عن كينونتهم الزنجية الأفريقية. وقد رأينا كذلك كتاب الفرانكفونية بالمغرب العربي يحاربون المستعمر بلغته، ويقوِّضون حضارته بالنقد والفضح والتعرية، مستخدمين في ذلك لغة فرنسية مختلطة باللغات الوطنية تهجيناً، وأسلبةً، وسخريةً.

المطلب الخامس: علاقة الأنا بالآخر

ترتكز نظرية «ما بعد الاستعمار» على مناقشة علاقة الأنا والغير، في ضوء مقاربات (ما بعد الحداثة) كالمقاربة الثقافية، والمقاربة الماركسية، والمقاربة التاريخية الجديدة والمقاربة السياسية، وذلك كلّه من أجل فهم العلاقة التفاعلية بين الأنا والغير هل هی علاقة جدليّة سلبية قائمة على العدوان والصراع أم هي علاقة إيجابية قائمة على الأخوَّة والصداقة والتعايش والتسامح ؟ وبتعبير آخر، هل هي علاقة قائمة على العدوان والكراهية والإقصاء والصراع الحضاري أم هي علاقة تفاهمٍ وتعاونٍ وتكاملٍ؟

المطلب السادس: الدعوة إلى علم الاستغراب

إذا كان المفكرون الغربيون يتعاملون مع الشرق في ضوء علم الاستشراق باعتباره خطاباً استعمارياً وكولونيالياً من أجل إخضاعه حضارياً، والهيمنة عليه سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً، فإن المثقفين الذين ينتمون إلى نظرية «ما بعد الاستعمار» كحسن حنفي - مثلاً - يدعون إلى استشراقٍ مضادٍ، أو ما يسمى أيضاً بعلم الاستغراب بغية تفكيك الثقافة الغربية تشريحاً وتركيباً، وتقويض خطاب التمركز تشتيتاً وتأجيلاً، وفضح مقصدية الهيمنة على أسس علمية موضوعية.

ص: 26

المطلب السابع: المقاومة المادية والثقافية

لم يكتف مثقفو «نظرية ما بعد الاستعمار» بقراءة الخطاب الاستشراقي الغربي، بل حاولوا مقاومة المستعمِر بكل الوسائل المتاحة، إمَّا عن طريق المقاومة السلميّة أو المسلحة، وإما عن طريق الاستشراق المضاد ، وإما بنشر الكتابات التقويضية لتفكيك المفكرين المتمركزين: الأوروبي والأميركي، وفضحهما بشتى السبل والطرائق، مادام هذان التمركزان مبنيين على اللون والعرق، والجنوسة، والطبقة، والدين.

المطلب الثامن: النقد الذاتي

لم يكتف مثقفو نظرية «ما بعد الاستعمار» أيضا بتوجيه النقد إلى الغرب، بل سعوا إلى نقد ذواتهم ضمن ما يسمى بالنقد الذاتي، كما عند الناقد الكيني الأصل عبد الرحمن جان محمد حينما صرَّح قائلاً: «أعتقد أننا نحتاج إلى الإفصاح بشكل أكثر انتظاما عن الواجبات التي تفرضها علينا هذه الوضعية البينيَّة، وهي واجبات أشعر أنه يمكن استشعارها من وضعية مثقف العالم الثالث» في الأكاديميات الغربية. إننا لا نزال نكافح ضد الهيمنة المعرفية للغرب، لا نزال نحارب «الاستعمار» و«الاستعمار الجديد». ولكن بالمقارنة مع التابع في «العالم الثالث» نحن نعيش في ظروف بالغة الرِّفعة. بعض النقاد يؤكدون أن نوعًا معينًا من نظرية ما بعد الاستعمار يمثّل هو نفسه جزءًا من البنية القائمة على الهيمنة، أي أنه نوعٌ مستمرٌ ومكررٌ من الاستعمار. ولهذا أعتقد أنه لابد لنا أن نستمرَّ على خطى جاياتري سبيفاك وآخرين، فنتفحَّص وضعية ذواتنا في كل هذه النواحي وبشكل أكثر انتظامًا(1).

يعني هذا أن ثمة مفارقة بين القول والفعل، وأن هناك انفصاماً وجوديّاً وحضاريّاً وطبقيّاً بين مفكري نظرية «ما بعد الاستعمار» وواقعهم المتخلف المزري.

ص: 27


1- Theory, Practice and the Intellectual: A Conversation with Abdul R. Jan Mohamed, by S.X. Goudie, Juvert: A Journal of postcolonial Studies, published by The College of Humanities and social sciences, North Carolina State University, Volume 1, Issue 2, 1997.

المطلب التاسع : غربة المنفى

يعيش أغلب المثقفين الذين ينتمون إلى نظرية «ما بعد الاستعمار» في الغرب منفيين، أو لاجئين ، أو محميين أو معارضين. ومن ثم، ينتقدون مرَّة بلدانهم الأصلية وواقعها المتخلف. ومرة أخرى، يرفضون سياسة التغريب والتهميش والتمركز الغربي. ويعني هذا أنهم يعيشون تمزقاً ذاتياً وموضوعياً، وهم دائماً في غربةٍ ذاتيةٍ داخل المنفى المكاني والذاتي والعقلي والنفسي، كما هو حال جوليا كريستيفا وإدوارد سعيد - مثلا. وهكذا، يتحدث إدوارد سعيد - مثلاً - في كتابه (صور المثقف)، عن حالة المنفى اللاذعة، وهي تعبر عن فضاء العتبة فضاء الأزمة والصراع الداخلي. و من هنا،«فالمنفى بالنسبة للمثقف - بهذا المعنى الميتافيزيقي - هو حالة من عدم الراحة، حالة حركة، ألا يستقر أبدا، وألا يدع الآخرين يستقرُّون؛ إذ ليس بإمكانك

أن ترجع إلى حالة من حالات وجودك الأولى في وطنك، ربما تكون الحالة الأكثر استقرارًا، كما أنه ليس بإمكانك أبدًا - ويا للأسف - أن تصل إلى وطنك الجديد أو حالتك الجديدة». ثم يستطرد سعيد في فصول كتابه الصغير، إلى توصيف وضعية ذلك المثقف المأمول الذي يمكنه أن يقول الحقيقة للسلطة في وجهها»(1).

إذاً، تعد الغربة الذاتية والمكانية والحضارية من العوامل الرئيسة التي دفعت مجموعة من باحثي الوطن العربي والإسلامي إلى نقد الذات من جهة، ونقد الهيمنة الغربية من جهة أخرى.

المطلب العاشر : التعددية الثقافية

دافع كثير من مثقفي نظرية «ما بعد الاستعمار» عن التعددية الثقافية ورفضوا التمركز الثقافي الغربي والثقافة الواحدة .المهيمنة كما رفضوا سياسية التدجين والتغريب والإقصاء، ونادوا إلى التنوع الثقافي والانفتاح الثقافي عبر آليات المثاقفة والترجمة والنقد والتفاعل الثقافي. بمعنى أن هناك ثقافات جديدة إلى جانب

ص: 28


1- Said, Edward. Representations of The Intellectual, Vintage Books, New York, 1996,P: 5.

الثقافة الغربية المركزية، كالثقافة العربية والثقافة الآسيوية، والثقافة الأفريقية، والثقافة الأمازيغية ... بمعنى ليس هناك ثقافة مهيمنة واحدة ووحيدة، بل هناك ثقافات هجينة متعددة ومتداخلة ومتلاقحة .

المبحث الثالث: رواد نظرية «ما بعد الاستعمار»

ثمة مجموعة من الكتَّاب والنقَّاد والمثقفين الذي يمثلون نظرية «ما بعد الاستعمار»، سواء أكانوا باحثين ينتمون إلى الغرب أم ينتمون إلى العالم الثالث. ونذكر من الدارسين الشرقيين الأعلام التالية أسماؤهم:

المطلب الأول: إدوارد سعيد

ألف الكاتب الفلسطيني إدوارد سعيد كتاباً قيّماً بعنوان (الاستشراق) سنة 1978م(1)؛ حيث استعرض فيه تاريخ الاستشراق الغربي ومراحله التطوّرية، وكتب مقالةً قيّمةً بعنوان (العالم والنص والنقاد) سنة 1983م، يدعو فيها إلى دراسة النص في علاقة بعالمه الخارجي. بمعنى أن إدوارد سعيد ينتقد «جميع أنماط التحليل النصّي التي عدَّت النصوص على أنها منفصلة عن العالم الموجود فيه . وفكرة أن التحليل النصِّي قد يكون ممكنا من أجل أن يكون هناك قراءات لانهائية وممكنة لأي نص يمكن أن تتحقق من خلال فصل النص عن العالم الحقيقي»(2).

ويعد إدوارد سعيد من رواد علم الاستغراب ومن محللي الخطاب الاستعماري ومن أهم منظري نظرية «ما بعد الاستعمار». لذلك، تُوِّج بكونه مؤسساً لهذا الحقل المعرفي الذي يُعنى بتفكيك الخطاب الاستعماري أو الكولونيالي الجديد. كما يعد أيضا من رواد النقد الثقافي؛ لأنه اهتم كثيراً باستكشاف الأنساق الثقافية المضمرة في المؤسسات المركزية الغربية، بتحليل الخطاب الاستشراقي تفكيكاً وتشريحاً وتقويضاً، متأثرا في ذلك بمنهجية ديريدا، وميشيل فوكو، وأنطونيو غرامشي.

ص: 29


1- إدوارد سعيد: الاستشراق، ترجمة: كمال أبوديب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، لبنان ، الطبعة السابعة سنة 2005م.
2- ديفيد كارتر: مصدر سابق، ص : 127.

وينطلق إدوارد سعيد في كتابه (الاستشراق) من تعريف الشرق، بتحديد مدلولاته الجغرافية والحضارية، وتعريف مصطلح الاستشراق في ضوء المفاهيم اللغوية والعلمية والأكاديمية والتاريخية والمادية وبعد ذلك ينتقل إلى استعراض تاريخ الاستشراق الغربي في مساراته العلميّة والاستعمارية، مركزاً بالخصوص على الاستشراق الفرنسي، والاستشراق الإنجليزي، والاستشراق الأميركي الذي ازدهر بعد الحرب العالمية الثانية ومن ثم تعامل الباحث مع الاستشراق خطابا للتحليل معتمداً في ذلك على نظريات ميشيل فوكو وأنطونيو غرامشي. وفي هذا الصدد، يقول إدوارد سعيد:«إذا اتخذنا من أواخر القرن الثامن عشر نقطة للانطلاق محددة تحديداً تقريبياً، فإن الاستشراق يمكن أن يناقش، ويحلل بوصفه المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق - التعامل معه بإصدار تقريرات حوله، وإجازة الآراء فيه وإقرارها ،وبوصفه وتدريسه، والاستقرار فيه، وحكمه: وبإيجاز، الاستشراق كأسلوبٍ غربيٍّ للسيطرة على الشرق، واستبنائه، وامتلاك السيادة عليه. ولقد وجدت استخدام مفهوم میشیل فوكو للخطاب، كما يصفه في كتابيه (حفريات المعرفة) و(المراقبة والعقاب) ذا فائدةٍ هنا لتحديد هوية الاستشراق وما أطرحه هنا هو أننا مالم نكتنه الاستشراق بوصفه خطاباً، فلن يكون في وسعنا أبدا أن نفهم الفرع المنظم تنظيماً عالياً الذي استطاعت الثقافة الغربية عن طريقه أن تتدبر الشرق - بل حتى أن تنتجه - سياسياً، واجتماعياً، وعسكرياً، وعقائدياً، وتخييلياً، في مرحلة ما بعد عصر التنوير. وعلاوة على ذلك، فقد احتل الاستشراق مركزاً هو من السيادة بحيث أنني أؤمن بأنه ليس في وسع إنسانٍ يكتب عن الشرق، أو يفكر فيه، أو يمارس فعلاً متعلقاً به أن يقوم بذلك دون أن يأخذ بعين الاعتبار الحدود المعوقة التي فرضها الاستشراق على الفكر والفعل. ولا يعني هذا أن الاستشراق بمفرده، يقرر ويحتم ما يمكن أن يقال عن الشرق، بل إنه يشكل شبكة المصالح الكلية التي يستحضر تأثيرها بصورة لامفر منها في كل مناسبة يكون فيها ذلك الكيان العجيب «الشرق» موضعاً للنقاش. أما كيف يحدث ذلك؟ فإنه ما يحاول هذا الكتاب أن يكشفه. كذلك يحاول

ص: 30

هذا الكتاب أن يُظهر أن الثقافة الغربية اكتسبت المزيد من القوة ووضوح الهوية بوضع نفسها موضع التضاد مع الشرق باعتباره ذاتاً بديلة»(1).

ومن الناحية المنهجية، فلقد اعتمد إدوارد سعيد على دراسة الخطاب الاستشراقي بمنهجية فيلولوجية تفكيكية قائمة على دراسة الأفكار والثقافات والتواريخ ليبرهن على أن العلاقة بين الشرق والغرب مبنية على القوة والسيطرة والهيمنة المعقدة المتشابكة. ومن ثم يرى إدوارد سعيد أنه «ينبغي على المرء ألا يفترض أبداً بأن بنية الاستشراق ليست سوى بنية من الأكاذيب أو الأساطير التي ستذهب أدراج الرياح إذا كان للحقيقة المتعلقة بها أن تتجلَّى وأنا نفسي أؤمن بأن الاستشراق أكثر قيمة بشكل خاص كعلامة على القوة الأوروبية - الأطلسية - بإزاء الشرق منه كخطاب حقيقي عن الشرق (وهو ما يدعو إليه الاستشراق في شكله الجامعي أو البحثي). على أي حال، إن ما علينا أن نحترمه ونحاول أن ندركه هو القوّة المتلاحمة للخطاب الاستشراقي، وعلاقاته الوثيقة بالمؤسسات الاجتماعية والسياسية المعززة، وقدرته المهيبة على البقاء»(2).

وعليه، فلقد تمثل إدوارد سعيد منهجية ميشيل فوكو في دراسة الخطاب، ثم استحضر أفكار أنطونيو غرامشي في التمييز بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، والحديث عن التسلط الثقافي. من ثم يمثل الاستشراق الغربي نوعاً من التسلط الثقافي؛ لأنه يؤكد التفوق الأوروبي مقابل التخلف الشرقي، ويبيِّن أيضاً أن للغرب اليد العليا على الشرق تنويراً، وتعليماً، وتثقيفاً، وتمديناً.

وقد استند إدوارد سعيد، في تعامله مع الخطاب الاستشراقي، إلى رؤية ثقافية

سياسية قائمة على ثلاث خطوات منهجية هي:

أولاً، التمييز بين المعرفة الخالصة والمعرفة السياسية.

وثانياً، الاهتمام بالمسألة المنهجية في التعامل مع الأفكار والمؤلفين والمراحل

ص: 31


1- إدوارد سعيد الاستشراق مصدر سابق، ص : 38-39
2- إدوارد سعيد : المصدر نفسه، ص: 41.

التاريخية، بالتركيز على الاستشراق الاستعماري للشرق، سواء أكان فرنسياً، أم بريطانيا، أم أميركياً.

وثالثاً، البعد الشخصي الذي يتمثل في الجمع بين الموضوعية والذاتية القائمة على الوعي النقدي، مع الاستعانة بأدوات البحث التاريخي، والسياسي، والإنساني، والثقافي.

وفي الأخير، يبين إدوارد سعيد أن كتابه (الاستشراق) موجه إلى مجموعة من القراء، بمافهيم طلاب الأدب والنقد لتبيان العلاقات المتداخلة بين المجتمع والتاريخ والنصوص، وفهم الدور الثقافي الذي يقوم به الشرق في الغرب، مع الربط بين الاستشراق وبين العقائدية والسياسة ومنطق القوة. كما يقدم الكتاب إلى القارىء العام وقارىء العالم الثالث؛ حيث تطرح هذه الدراسة بالنسبة له خطوة لانحو فهم السياسة الغربية والعالم الغربي في هذه السياسة، بل نحو فهم قوة الخطاب الثقافي الغربي، وهي قوة كثيراً جداً ما تُفهم خطاً على أنّها زخرفية فقط، أو منتمية إلى البنية الفوقية.«إن أملي هو أن أوضح البنية المتينة الصلبة للسيطرة الثقافية والأخطار والإغراءات الكامنة في استخدام هذه البنية، خصوصاً بالنسبة للشعوب المستعمرة سابقا عليهم أو على الآخرين»(1).

إذا، لقد تأثر إدوارد سعيد بفكر (ما بعد الحداثة) بصفة عامة، وفكر ميشيل فوكو بصفة خاصة، دون أن ننسى تأثَّره بالتاريخ الجديد، وفلسفة جاك ديريدا التفكيكية والتقويضية. وقد ربط إدوارد سعيد خطابه الاستشراقي بنزعة التباين والإختلاف بين الشرق والغرب؛ فقد تسلح الغرب بكل مقولاته المركزية وآلياته البنيوية لإخضاع الشرق والهيمنة عليه سياسياً وعسكرياً، واجتماعياً وثقافياً، وعلمياً. ومن ثم، يقوم الاستشراق بدور هام في عملية الإخضاع والاستيلاء والتغريب، بربط الشرق بأغراض المصلحة الغربية. ومن ثم يتبجح الاستشراق الغربي بالصفات الرشيدة للحضارة الغربية التي تتمثل في الديمقراطية على سبيل الخصوص. بينما يعرّف الشرق

ص: 32


1- إدوارد سعيد الاستشراق ، مصدر سابق، ص 57.

بالصفات الذميمة كالشهوانية والبدائية والاستبدادية. ومن ثم، فالغرب عند إدوارد سعيد هو العقل، والمركز، والاستشراق.

ومن هنا، يطرح إدوارد سعيد سؤالاً هاماً وقيِّماً: هل كتَّاب السكان الأصليين في إطار النظرية الجديدة يتمثلون النظرية الغربية أم يعارضونها؟ بمعنى هل يرفضون الثقافة السائدة؟ أم يخضعونها لمشرح التفكيك والتقويض بالمفهوم الدريدي نسبة إلى تفكيكية جاك ديريدا ؟!!

ویری دیفید کارتر(David Karter) في كتابه (النظرية الأدبية)، إنّ تحليلات إدوارد سعيد» للخطابات الاجتماعية المختلفة هي بشكل أساسي تفكيكية و «ضد التيار» فقد كان هدفه تهميش الوعي للعالم الثالث، وتقديم نقد من شأنه أن يقوض هيمنة خطابات العالم الأول، بالنسبة لسعيد جميع تمثيلات المشرق المقدمة من قبل الغرب تشكل جهداً دؤوباً يهدف إلى الهيمنة والإخضاع. وقد خدم الاستشراق أغراض الهيمنة الغربية (بالمعنى الذي قصده غرامشي): لإضفاء الشرعية على الإمبريالية وإقناع سكان هذه المناطق بأن قبولهم للثقافة الغربية هي عملية تمدين إيجابية. ومن خلال تعريف الاستشراق للشرق ، فإنه يعرف أيضا كيف يتصور الغرب نفسه (وذلك من خلال المعارضات الثنائية). فالتشديد على الشهوانية والبدائية والاستبدادية في الشرق، يؤكد على الصفات الرشيدة والديمقراطية عند الغرب»(1).

وما يلاحظ على إدوارد سعيد أنه قد أهمل الاستشراق الإسباني، على الرغم من طابعه الاستعماري في المغرب على سبيل الخصوص. كما نعتبره المؤسس الحقيقي للنظرية «مابعد الاستعمار» في الحقلين الثقافيين: العربي والغربي على حد سواء. ويعد كذلك الممهِّد الفعلي للنقد الثقافي. ومن هنا «يأتي إدوارد سعيد في طليعة محللي الخطاب الاستعماري، بل ويعده بعضهم رائد الحقل، فقد استطاع بمفرده في كتابه (الاستشراق) كما كتب أحد الدارسين مؤخراً،«أن يفتتح حقلاً من البحث الأكاديمي هو الخطاب الاستعماري» (باتراك ويليامز، 5). ذلك أن دراسة سعيد

ص: 33


1- دافيد كارتر نفسه، ص : 126

للاستشراق دراسة لخطاب ،استعماري، خطاب تلتحم فيه القوة السياسية المهيمنة بالمعرفة والإنتاج الثقافي غير أن تحليل سعيد جاء مرتكزا على سياق معرفيٍّ وبحثيٍّ سابقٍ له يتضمن أعمال اثنين من المفكرين الأوروبيين المعاصرين، هما: الفرنسي ميشيل فوكو والإيطالي أنطونيو غرامشي ومن الممكن والحال كذلك اعتبار هذين المفكرين ممن وضعوا أسس البحث في الخطاب الاستعماري، بالإضافة إلى بعض فلاسفة مدرسة فرانكفورت مثل ثيودور أدورنو، وماكس هوركهايمر، وكذلك والتر بنجامين ، وحاناه أريندت»(1).

ومن هنا، فكتاب (الاستشراق) لإدوارد سعيد خير نموذج يعبر عن نظرية ما بعد الاستعمار، مادام هذا الكتاب خطاباً مضاداً للاستشراق الغربي؛ لكونه يحوي انتقادات واعية ولاذعة لخطاب التمركز الغربي تقويضا وتفكيكا وتشتيتا.«وهناك شبه إجماع بين الدارسين على الدور المؤسس الذي لعبه كتاب إدوارد سعيد «الاستشراق»، في صياغة اللبنات الأولى لنظرية «ما بعد الاستعمار». فقد اِستثار هذا الكتاب بما طرحه من أفكار طائفة أخرى واسعة من الكتابات التي ناقشت هذه الأفكار، أو ردّت عليها ، أو طورتها، سواء كتابات اللاحقين من منظري «ما بعد الاستعمار» مثل: وهومي ،بابا، وجاياتري سبيفاك، أو من تصدّوا للنظرية من منظور مخالف، وكشفوا عن تناقضاتها مثل إعجاز أحمد وعارف ديليرك. وقد شارك إدوارد سعيد بعد ذلك في تطوير النظرية وتأملها من خلال كتاباته ومراجعاته المتعددة التالية لكتاب الاستشراق وخاصة في كتب مثل: «الثقافة والإمبريالية» «وصور المثقف» و «تأملات حول «المنفى» وغيرها. وكان أن انتهت هذه الكتابات جميعًا، وفي زمن قصير نسبيًا، إلى بلورة حقل ثقافي جديد يعرف الآن باسم «ما بعد الاستعمار»(2).

ص: 34


1- سعد البازعي وميجان الرويلي: نفسه، ص:92.
2- خيري دومة: (عَدْوَى الرَّح يل موسم الهجرة إلى الشمال ونظرية ما بعد الاستعمار) http://www.ibn-rushd.org/forum/Adwa-al-Raheel.htm

وعليه، يعد إدوارد سعيد المؤسس الفعلي لنظرية ما بعد الاستعمار في فترة ما بعد الحداثة، ومن الممهدين الفعليين للنقد الثقافي وعلم الاستغراب على حد سواء.

المطلب الثاني: هومي بابا

أما الباحث الهندي هومي بابا (Bhabhaomi)، فقد تأثر كثيرا بإدوارد سعيد، ومشيل فوكو، وجاك ديريدا، وجاك لاكان... فقد اهتم بالنصوص التي تستكشف هامش المجتمع في عالم «ما بعد الاستعمار»(1)، برصد العلاقات الخفية والمتبادلة بين الثقافات المهيمنة والمستعبدة، ولاسيما في مجلده (مركز الثقافة) (1994م). ويرى هومي بابا أن «التفاعل بين المستعمر(بكسر الراء) والمستعمر( بفتح الراء) يؤدي إلى انصهار المعايير الثقافية التي تؤكد السلطة الاستعمارية، بل وتهدد أيضا في محاكاتها بزعزعة استقرارها. وهذا ممكن لأن هوية المستعمر في حد ذاتها غير مستقرة، إذ توجد في وضع معزول ومغترب، كما توجد هوية المستعمر بحكم اختلافها. فهي تتجسد فقط في الاتصال المباشر مع المستعمر. وقبل ذلك فإن حقيقتها الوحيدة موجودة في إيديولوجية الاستشراق كما عرفها سعيد»(2).

ومن هنا، يعد هومي بابا من رواد نظرية ما بعد الاستعمار وعلم الاستغراب على حد سواء؛ حيث واجه الغرب بمنطق الفكر التفكيكي، ومشرح النقد، وسلاح التقويض، ومنهج التشكيك.

المطلب الرابع: جسي سي سبيفاك.

تعدُّ الناقدة الهندية جي سي سبيفاك(3)(Gayatri Chakravorty ,Spivak) من

ص: 35


1- Bhabha, Homi K.: Locations of Culture: Discussing Post-Colonial Culture. London: Routledge, 1996. - Nation and Narration. New York: Routledge, 1990. - Of Mimicry and Man: The Ambivalence of Colonial Discourse, October 28 (1984): 125-33. The Postcolonial Critics Homi Bhabha Interviewed by David Bennett and Terry Collits, Arena 96 (1991): 47-63.
2- ديفيد كارتر : النظرة الأدبية، مصدر سابق، ص: 127-128.
3- Spivak, Gayatri Chakravorty. A Critique of Postcolonial Reason: Toward a History of the Vanishing Present, Cambridge, MA: Harvard UP, 1999.

المؤسسين الفعليين للخطاب الكولونيالي الجديد. وتعد كذلك أول منظِّرة نسويّة بحق وحقيق في مرحلة «ما بعد الاستعمار». فلقد انتقدت الحركة النسوية الغربية انتقاداً عنيفاً بتركيز «اهتماماتها على عالم البيض من الطبقة المتوسطة ومن جنسين مختلفين. وتهتم سبيفاك أيضا بدور الطبقة الاجتماعية، وقد ركزت على ما أصبح يعرف في دراسات «مابعد الاستعمار» بإسم «الأتباع»، وهو في الأصل مصطلح عسكري يشير إلى أولئك الذين هم في مرتبة أو مكانة أدنى. وإن استخدام هذا المصطلح في النظرية النقدية مستمد من كتابات الكاتب غرامشي. وتستخدم سبيفاك هذا المصطلح للإشارة إلى جميع المستويات المتدنية من المجتمع الاستعماري وما بعد الاستعماري: العاطلين عن العمل والمشردين والمزارعين الذين يعيشون من مورد رزقهم وما إلى ذلك» (1).

وتستند سبيفاك إلى منهجية تحليلية نسوية تفكيكية ماركسية ثقافية وخاصة في مقالها (هل يمكن للتابع أن يتحدث ؟) (1988م)، مركزة على وضعية المرأة الهندية، أو ما يسمى بالإناث التابعات فتناقش سيفاك «أنه في الممارسة الهندية التقليدية كحرق الأرامل على محارق أزواجهن الجنائزية لم يسمح الهنود ولا المستعمر البريطاني للنساء بالتعبير عن آرائهن الخاصة»(2).

وعليه، فلقد اهتمت سيباك بالدفاع عن المرأة الشرقية، ومواجهة الهيمنة الغربية، والدفاع عن المهاجر، والاهتمام بالأدب والثقافة.

المطلب الخامس : عبد الوهاب المسيري وحسن حنفي

استهدف كثير من المفكرين العرب تعرية النسق الحضاري الغربي، وتقويض مقولاته المركزية ، وتفكيك مقاصده الإيديولوجية، كما فعل عبد الوهاب المسيري في كتابه (موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري وتصنيفي جديد)، وما فعله في كتابه (الإيديولوجية الصهيونية : دراسة حالة في علم اجتماع المعرفة)

ص: 36


1- ديفيد كارتر ،نفسه ص : 128.
2- ديفيد كارتر نفسه ص : 128.

(1983م)، وما أنجزه حسن حنفي في كتابه (مقدمة في علم الاستغراب) (1981م)؛ حيث حاول «فك عقدة النقص التاريخية في علاقة الأنا بالآخر، والقضاء على مركب العظمة لدى الآخر الغربي بتحويله من ذات دارس إلى موضوع مدروس». غير أننا رأينا هذه العقدة، وقد أخذت طريقها إلى الحل فعلا في دراسات إدوارد سعيد وعبد الوهاب المسيري وغيرهما ولم يكن البحث والتحليل الطريقين الوحيدين اللذين اعتمد عليهما الدارسون لفك العقدة المشار إليها؛ فبالإضافة إلى ذلك لعبت الترجمة دورا حين اعتنت بما يتصل بهذه العقدة، ويؤدي إلى حلها، كما في ترجمة عبد الوهاب المسيري لكتاب المؤرخ الأميركي كيفن رايلي (الغرب والعالم) (1985م) الذي يبرز بعض أوجه الخلل في الثقافة الغربية، فيعريها مما تبدو عليه أحيانا من تفوق مطلق وصلاحية عالمية»(1).

هذا، ويعد حسن حنفي من أهم رواد علم الاستغراب العربي، فقد كان هدفه هو مواجهة الاستشراق بفهمه بشكل جيد واستيعاب منظومته الفكرية والفلسفية والعلمية لتبيان مظاهر قوة الغرب وضعفه.

المطلب السادس: فرانز فانون

لا تقتصر نظرية «ما بعد الاستعمار» على كتاب آسيا وأفريقيا. فهناك باحثون من الغرب مثل: فرانز فانون (Fanon Frantz)، وهو من الكتّاب السابقين الذين ارتبطوا بنظرية «ما بعد الاستعمار» بوجه من الوجوه، كما يظهر ذلك جلياً في كتابه (المعذبون في الأرض) (1961م)؛ حيث يحلل فانون طبيعة الاستعمار الكولونيالي، ويبين طابعه الذاتي والمصلحي على أساس أن الاستعمار مصدرٌ للعنف والإرهاب؛ مما يولد ذلك مقاومة مضادة من قبل الشعوب المستضعفة، أو البلدان المستعمَرة. ومن ثم، ينتقد فرانز فانون الأنظمة الاستعمارية الكولونيالية الغربية. ويثور على المنظومة الغربية التي ينتمي إليها، معتبراً إياها رمزاً للتسلط الثقافي، ومنظومة مركزية مبنية على قوّة العلم والثقافة والتكنولوجيا بغية الهيمنة والسيطرة، وإخضاع الشرق مادياً

ص: 37


1- سعد البازعي وميجان الرويلي نفسه، ص:94.

ومعنوياً. وخير من يمثل الرد الفعلي المباشر على التغريب الاستعماري والتسلّط الثقافي المركزي الغربي الحركات الثقافية المضادة، كالحركة الزنجية التي يتزعمها كتاب أفريقيا، مثل: الشاعر السينيغالي ليوبولد سيدار سينغور، وإيمي سيزير (Aime Césaire في كتابه (خطاب حول الكولونيالية) (1950م)، وكوام نيكروما (Kwame Nkrumah) في كتابه (نظرية الوعي) (1970م)، والمبدعون السودانيون: الشاعر محمد الفيتوري الذي خصص أفريقيا بمجموعة من الدواوين الشعرية الوطنية والقومية كما في ديوان (أغاني أفريقيا)(1)، والروائي الطيب صالح كما في روايته (موسم الهجرة إلى الشمال)...

ويذهب فرانز فانون إلى أن نظرة الغرب إلى أفريقيا قائمةٌ على صورة استعلائية. وفي هذا السياق، يقول:«كانت تلك القارة المترامية الأطراف (يقصد أفريقيا) في نظر الاستعمار مأوى للمتوحشين، موطنا يحفل بالهرطقة والأباطيل، ومكرّساً للازدراء الكبير، للعنة الربانية موطنا لآكلي لحوم البشر، موطنا للزنوج»(2).

ومن هنا، فقد جاءت الحركة الزنجية الأفريقية في الحقيقة لتواجه التغريب والاسترقاق والاستعمار والميز العنصري من جهة والتغني بالحرية والهوية والثورة والإنسان من جهة أخرى.

المطلب السابع: روبرت يونغ

يمكن الحديث أيضا عن الباحث الإنجليزي روبرت يونغ (Robert JC Young)، صاحب کتاب (ميثولوجيات بيضاء: كتابة التاريخ والغرب) (1990م). فلقد استهدف تقويض التمركز الغربي، وتفكيك الفكر الماركسي الغربي، بإعادة كتابة تاريخ الفكر الغربي من هيجل إلى ميشيل فوكو؛ حيث يرى أن التمركز الغربي أسطورة ليس إلا. ويعد روبرت يونغ من رواد الخطاب الكولونيالي الجديد، ومن الفاعلين في مجال النقد والأدب والتاريخ وقد انتقد يونغ الفكر الماركسي باعتباره المبرر والمسوغ

ص: 38


1- محمد الفيتوري: ديوان محمد الفيتوري، المجلد الأول، دار العودة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 1972م.
2- Franz Fanon: Les Damnés de la Terre de la terre,première édition: 1961,p: 145.

الشرعي والفلسفي لدخول بريطانيا للهند؛ إذ اعتبر ذلك ظاهرة إيجابية لإدخال الهند في سياق التمدن والتحضر. ومن ثم، فلقد اتخذ الفكر الماركسي طابعاً هيغيلياً يجعل من الغرب مركزا للقيادة والعلم والمعرفة. كما اعتمد يونغ على التفكيكية في تقويض الماركسية. و«يذكرنا هذا بأن تحليل الخطاب الاستعماري أو نظرية ما بعد الاستعمار» يتقاطع مع العديد من المناهج وحقول البحث الثقافية الغربية المعاصرة، وذلك بوصفه هو الآخر واقعاً تحت مظلة الفكر ما بعد الحداثي ومابعد البنيوي»(1).

إذاً، هؤلاء هم بعض الرواد الذين مثلوا نظرية «ما بعد الاستعمار»، سواء أكان ذلك في الشرق أم في الغرب. وقد بذلوا فعلا جهداً مشكوراً في تعرية الخطاب الاستشراقي المركزي، وفضحه تفكيكاً، وتقويضاً، واستغراباً، وتشتيتاً.

المبحث الرابع: تقويم نظرية «ما بعد الاستعمار»

يتضح لنا، من هذا كله أن نظرية «ما بعد الاستعمار» قد سخّرت كل آلياتها الفكرية والمنهجية والمعرفية لتقويض الرؤية المركزية عند الغربيين، بإعادة النظر في كثيرٍ من الملسمات والمقولات المركزية الغربية بالمراجعة، والدرس، والتحليل، والتقويم في إطار ما يسمى بعلم الاستغراب. وقد أعيد النظر كذلك في خطاب الاستشراق بالتحليل والتفكيك والنقد الواعي. بيد أن هذه النظرية هي خليط من المناهج والتحليلات قائمة على الانتقاء والاصطفاء المنهجي. كما أن عينات البحث محدودة كما عند إدوارد سعيد، ولم تأت هذه النظرية بالجديد مقارنة بنظريات الخطاب الاستعماري الكلاسيكي.

وقد تعرض أصحابها لانتقادات عميقة وواسعة بعضها أخلاقي، وبعضها علمي، واتهموا هذه النظرية بالفشل، كما تنطوي هذه النظرية على مجموعة من التناقضات والمفارقات، وانفصام بين القول والفعل وانفصال شاسع بين النظري والواقعي.

ص: 39


1- سعد البازعي وميجان الرويلي دليل الناقد العربي، مصدر سابق ص: 93.

الخاتمة:

وخلاصة القول نستنتج مما سبق أن نظرية «ما بعد الاستعمار» نظرية تسلَّح بها كتّاب العالم الثالث بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة كتاب آسيا وأفريقيا، لمجابهة التمركز الغربي، وتقويض المقولات الفكرية الأوروبية والأمريكية تقويضاً وتشتيتاً وتأجيلاً، بآليات منهجية متداخلة : تفكيكية وثقافية وسياسية، وتاريخية، ومقارنة...

إنّ نظرية «ما بعد الاستعمار» هي حركة ثقافية مضادة ومقاومة، ظهرت في مرحلة «مابعد الحداثة» للوقوف في وجه التغريب والتهميش والتعالي، والهيمنة الغربية المغلوطة انطلاقا من تصورات علم الاستغراب.

لم تقتصر الكتابة في النظرية الكولونيالية الجديدة على كتَّاب العالم الثالث، فقد توسعت لتضم كتّاباً من المنظومة الغربية الذين ثاروا على الثقافة البيضاء، فاعتبروها ثقافة أسطورية حالمة وخيالية مبنية على خطاب الإخضاع والاستعلاء والهيمنة والاستعمار من جهة، والتمييز اللوني والعرقي والجنسي والديني والطبقي من جهة أخرى.

ص: 40

تعريف حقبة ما بعد الاستعمار

الصراع على الهوية في الشرق الأوسط

صامويل هلفونت(1)

مثّل مصطلح «الحقبة ما بعد الاستعمارية» إشكالية أساسية للمؤرخين المهتمين بالشرق الأوسط في القرن العشرين. وكما ستبين هذه المقالة بالتفصيل، فقد وفَّر الجدل القائم حول المصطلح محوراً مهماً دارت حوله النقاشات في الهوية السياسية. ولقد كان من آثار الحرب العالمية الثانية أن تفتتت القوة الأوروبية في الشرق الأوسط، ونشأ على أنقاضها عدد من الدول التي برَّرت وجودها من حيث إيديولوجيات محددة ترتبط بالهويات الناشئة في حقبة ما بعد الاستعمار وجرت مناقشات لا تنتهي عن مدى تأثير طبيعة هذه الدول، كنتاج للحقبة ما بعد الاستعمارية، على هويتها، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف؟ وما هي تبعات ذلك التأثير؟ كما تتضمن المقالة مناقشة عامة للجدل القائم عن حقبة ما بعد الاستعمار ، يتناول فيها الباحث دراسة حالات ثلاث، وهي: مصر والعراق وإيران.

ص: 41


1- باحث في العلاقات الدولية - جامعة فيلادلفيا - أميركا. - العنوان الأصلي للمقالة : POST-COLONIAL STATES AND THE STRUGGLE FOR IDENTITY IN THE MIDDLE EAST SINCE WORLD WAR TWO المصدر : 2015 Forgeign Policy Research Institute- Footnotes - October - ترجمة: رامي طوقان - مراجعة جاد مقدسي.

تعريف «ما بعد حقبة الاستعمار»

أول مسألة ستتناولها هذه المقالة هي تعريف المصطلح الذي يدور عليه الحديث. يستخدم مصطلح «ما بعد حقبة الاستعمار» بطرائق ثلاث متميزة ولكن مترابطة أولاً، وبشكل أساسي، يمكن استخدام المصطلح كمقولة زمانية؛ فقد ظلت إمبراطوريات متتالية تسيطر على الشرق الأوسط حتى القرن العشرين وخلال القرنين التاسع عشر والعشرين كانت تلك الإمبراطوريات في الغالب أوروبية. انهار الحكم الاستعماري خلال القرن العشرين فنشأت من بعده دول ما بعد حقبة الاستعمار. وبالطبع لا تثير هذه المسألة الكثير من الجدل، ولكنها ليست الطريقة الوحيدة التي يعرف بها ما بعد الاستعمار.

إلى ذلك، يستخدم مصطلح ما بعد الاستعمار لوصف نوع خاص من الدول ونوع خاص من السياسات. فالدول التي نشأت من بعد الإمبراطوريات الاستعمارية غالباً ما توارثت مؤسسات أنشأتها تلك الإمبراطوريات، وكان العديد من قادة تلك الدول الناشئة ضباط في جيوش يقودها البريطانيون أو الفرنسيون أو حتى العثمانيون. وتعود نشأة العديد من أجهزة الأمن في تلك الدول، كما هي الحال في العراق أيام سيطرة صدام حسين وشرطته السرية، إلى أيام القوى الاستعمارية، أي البريطانيين في حالة العراق. وصَمَّمت القوى الاستعمارية تلك المؤسسات للسيطرة على الجماهير من الأعلى، أو بعبارة أخرى : صُمِّمت لحماية الدولة من شعبها وليس لحمايتها من قوى عسكرية خارجية. يقول البعض بأن تلك المؤسسات استمرت في أداء ذلك الدور حتى بعد سقوط القوى الاستعمارية. لقد كان الحكم الاستعماري ظاهرة تعمل من الأعلى إلى الأسفل، أي أنها كانت مفروضة. ولذلك لا يجافي الصواب البعض حين يقولون إن الطبيعة غير الديموقراطية للدول التي نشأت من بعد نهاية الاستعمار ليست ديموقراطية.

ولأن الدول ما بعد الاستعمارية فرضت من الأعلى، فقد كانت ضعيفة أيضاً، حيث واجهت مشاكل في تنفيذ سياساتها. ولكن المجتمعات ما بعد الاستعمارية وُصِفت

ص: 42

بأنها متينة لأن الناس اعتمدوا على شبكات اجتماعية بدلاً من مؤسسات الدولة لتلبية احتياجاتهم. فمثلاً، كان الاعتماد على أعيان القبيلة أو القرية بدلاً من المؤسسات الحكومية، وجاءت النتيجة أن واجهت هذه الدول مصاعب في تنفيذ سياساتها وكثيراً ما اضطرت إلى اللجوء إلى العنف.

كانت تلك الدول عرضة للانقلابات العسكرية، حيث حدث أكثر من عشرين انقلاباً عسكرياً في الشرق الأوسط بعد حقبة الاستعمار. وكثيراً ما جرت هذه الانقلابات في موجات متعاقبة، ففي العقود الثلاثة التي تلت الحرب العالمية الثانية حدثت أربعة انقلابات في سوريا وثلاثة في جارتها العراق. وفي أغلب الأحيان، عقَّدت هذه الانقلابات من مشاكل الدول الضعيفة مقابل المجتمعات القوية. وعلى العموم، كانت هذه الانقلابات تحدث على أيدي مجموعة صغيرة من ضباط الجيش، وبسبب الطبيعة التي قامت عليها لم يثق قادة الانقلابات بمؤسسات الدولة التي تولوا حكمها حيث لم يريدوا أن يَفعل أحدٌ بهم ما فعلوه هم بغيرهم. ولكنهم لم يكونوا قادرين على أن يستبدلوا ببساطة المؤسسات والبيروقراطيات القائمة، فكانت النتيجة أن واجهوا صعوبات في جعل الدولة، ناهيك عن المجتمع، تتصرف كما يودون.

لم تقع بعض دول الشرق الأوسط، على غرار تركيا أو إيران تحت سيطرة الاستعمار رسمياً، ولكنها أنشأت مؤسسات لا تختلف عن تلك القائمة في الدول ما بعد الاستعمارية. وكما سنناقش حالة إيران فيما بعد واجهت هذه الدول مشاكل مماثلة لدول ما بعد الحقبة الاستعمارية. ومن هذه الحيثية، ومع أنها لا تقع ضمن التعريف الأول للدول ما بعد الاستعمارية، يعتبرها البعض كذلك بسبب بنية الدولة وسياساتها في هذه البلدان.

ومن الجدير بالذكر أن هذا التعريف للدولة ما بعد الاستعمارية لا يلقى قبول الجميع، بل في الواقع لا يزال موضع جدل حاد. يمكن للبعض أن يقول إن دور الإمبراطوريات الاستعمارية بولغ في أثره وتأثيره وبأن هذه الدول لا تختلف عن غيرها من الدول الديكتاتورية. وقد واجهت الدول غير الديموقراطية التي لم تكن

ص: 43

مستعمرة مشاكل في إدماج الناس في سياساتها، كما هي الحال في الاتحاد السوفيتي السابق مثلاً. وبعض الدول التي كانت مستعمرة حققت نجاحات أكبر بكثير من غيرها. ففي نهاية المطاف، لقد كانت دول على غرار كوستاريكا وإسرائيل وإيرلندا والولايات المتحدة مستعمرات، ولكن لا يبدو بأنها تندرج تحت هذا النموذج المطروح ضمن هذا التعريف.

ويمكن للبعض القول إن فرض الدولة لنفسها على الشعب لا ينحصر في الدول الديكتاتورية، بل تنطبق هذه الظاهرة على جميع الدول الأممية. وبهذا المعنى، عزى البعض المشاكل التي تواجهها الدول في الشرق الأوسط إلى سوء إدارتها أو ثقافتها السياسية، وليس لطبيعتها ما بعد الاستعمارية.

وطريقة أخرى يُعرَّف بها مصطلح «ما بعد الاستعماري» هو كنقد نشأ فيما بعد الحداثة. ويقول المؤيدون لهذا النوع من التحليل ما بعد الاستعماري بأن ركائز ما نعتبره ظواهر للحداثة (مثل الليبراية والأسواق الحرة والعلمانية إلخ...) ليست مفاهيم عقلانية نشأت من الجدل العلمي والمنطقي، وإنما هي مبانٍ اجتماعيةٍ تطورت من تجربة غربية - وفي الغالب مسيحية - خاصة . ولذلك فالحداثة غربية، والقوى الغربية هي من فرض الطرائق الغربية المرتبطة مع الحداثة في الشرق الأوسط.

فيمكننا وصف العلمانية، مثلاً، بأنها مما تمخضت عنه الديانة المسيحية، حين أمر يسوع تلامذته بإعطاء «ما لقيصر لقيصر وما لله لله» وما ثمة مفهوم مواز لهذا في الإسلام. ولذلك يُعتقد بأن العلمانية ترتبط بالمسيحية ولا يمكن فرضها عالمياً كمعيارٍ شاملٍ وكلي ومن يزعم بأنه ينشر قيماً كلية هو في الواقع يوسّع القوة الغربية إلى الشرق الأوسط، وسواء أحب هؤلاء هذا أم لا، فلطالما كانت هذه الهيمنة على مجتمعات الشرق الأوسط جزءاً من المشروع الاستعماري الغربي.

أثارت انتقاداتٌ كهذه لما بعد الاستعمارية جدلاً، فيمكن للبعض القول بأن المشاكل التي يواجهها الشرق الأوسط كانت موجودة في الغرب أيضاً قبل عصر

ص: 44

التنوير، وأن الفكر التنويري - الذي نشير إليه بالحداثة - إنما انبثق من معارك طويلة مع نظم تقليدية أبويّة تشابه الموجودة اليوم في الشرق الأوسط. ولم تنل المرأة حقوقها إلا بعد نضال شرس امتد في بعض أوجهه لأكثر من قرن من الزمن. ولا شك في أن النزعة الفكرية النسوية لم تكن المعيار السائد في معظم أحقاب التاريخ الغربي فكيف لنا أن نزعم بأنه ظاهرة غربية أصيلة؟ وأن لا يشابه حرمان المرأة من حقوقها في الشرق الأوسط الحرمان الذي كان سائداً في الغرب؟ ويمكننا النقاش بالطريقة نفسها فيما يتعلق بجوانب أخرى من الحداثة؛ فالغرب في معظم أحقابه التاريخية لم يكن علمانياً، والكنيسة المسيحية بكل تأكيد لم تدعُ إلى العلمانية، فكيف لنا أن نزعم بأن العلمانية مندرجة في تعاليم المسيحية أو على الأقل مرتبطة معها؟ وهذا الجدل لا يزال دائراً أيضاً دون التوصل إلى حل له.

ما بعد الاستعمار والهوية السياسية

في معظم الحالات لم تتخل الإمبراطوريات الاستعمارية عن مناطق نفوذها بسهولة، ولطالما سعت الحركات المعادية للإمبريالية بين الشعوب المستعمرة إلى نيل الاستقلال. ولعبت الهوية دوراً رئيسياً في هذه الحركات المعادية للإمبريالية، وكثيراً ما اتخذت هذه الهوية صبغة مقصودة في معاداتها للإمبريالية. وبعبارة أخرى، عرفت الهوية نفسها بالعلاقة مع منظومة إمبريالية ، وهذا وفي كثير من جوانبه لا يجافي المنطق؛ فإذا لم يكن لدى الشعوب هوية سياسية تختلف عن الإمبراطورية الحاكمة، فلماذا تطالب بالاستقلال أصلاً ؟ ولذلك كثيراً ما حاول قادة حركات الاستقلال تأطير نضالهم ضمن حيثيات الهوية السياسية واتخذت هذه الهوية في الشرق الأوسط

وفي أغلب الأحيان منحىّ يمزج بين القومية العرقية، والقومية المناطقية، والدين.

وتجلت هذه الهويات بأشكال مختلفة في مختلف الأماكن؛ ففي بعض الأحيان استخدمت حركات مختتلفة في بلد واحد ركائز متشابهة ولكن شدد كل منها على ركيزة غير الحركات الأخرى. فالإخوان المسلمون في مصر استخدموا النزعة العروبية، والإسلام والهوية المصرية، ولكنهم ركزوا على الإسلام بالدرجة الأولى. أما جمال

ص: 45

عبد الناصر، والذي سنناقشه فيما بعد، فاستخدم أوجه الهوية هذه كلها أيضاً ، ولكنّه ركّز على العروبة أكثر من غيرها. كما كانت هناك حركات اشتراكية ترى الهوية من منظور الطبقة الاجتماعية ويمكننا أن نجد المزج التاريخي والاجتماعي نفسه في تشكيل الهوية في بلدان أخرى؛ فسوريا ولبنان مثلاً لديهما هوية بحر - أوسطية وحتى فينيقية حاول البعض استغلالها، أما العراقيون فيمكنهم اللجوء إلى هوية الرافدين القديمة.

وحين تولَّت الحركات المعادية للإمبريالية السلطة بعد نهاية الإمبراطوريات الاستعمارية، وما تلى ذلك من انقلابات اضطلعوا بذلك باسم ما زعموا بأنه الهوية السياسية الحقيقية والأصيلة في بلدانهم، والتي قمعتها السلطة الاستعمارية وفقاً لتصوير هذه الحركات للتاريخ. وبذلك ارتبطت شرعية الدول التي يحكمونها بهويات سياسية محددة.

إلا أن معظم الدول ما بعد الاستعمارية في بلدان الشرق الأوسط كانت متنوعة إلى حد كبير، واشتملت على أناس لا يندرجون ضمن الهوية السياسية الأصيلة التي عرفتها تلك البلدان لنفسها. وكثيراً ما كانت الهويات السياسية التي شددت عليها الحركات المعادية للإمبريالية تمثل إما الطبقات الدنيا أو المتوسطة الدنيا، ولذلك لم تتوافق النخب والأقليات جيداً مع التصنيف ما بعد الاستعماري للهوية حيث كانت هذه النخب والأقليات تحتل مواقع في السلطة ضمن النظم السياسية القديمة أو ترتبط بشكل أو بآخر مع النظام الإمبريالي القديم.

نُظر إلى أناس كهؤلاء على أنهم غير مريحين، ولكنهم لم يختفوا ببساطة مع الاستقلال. وبهذا المعنى كان على حكام بلدان ما بعد الاستعمار أن يصلوا إلى تعريف واضح لمعنى الاستقلال. فهل كان من الكافي نيل الاستقلال رسمياً؟ أم هل كان عليهم التخلص من المنظومة الإمبريالية القديمة بالكلية، وبما في ذلك الناس الذين مثلتهم تلك المنظومة، واستبدالها بمنظومة جديدة تقوم على هويتهم السياسية الأصيلة المفترضة ؟

وسوف نبحث بشكل أعمق ثلاث حالات لعرض مشاكلنا هذه.

ص: 46

الحالة الأولى: مصر

كان البريطانيون يسيطرون على مصر في مطلع القرن العشرين، وكانت مصر من أكثر بلدان الشرق الأوسط تنوعاً، فشملت أعداداً كبيرة من الأتراك واليونانيين واليهود والإيطاليين والعرب الشاميين. تواجدت بعض هذه المجتمعات في مصر القرون من الزمن ، ونشأت طبقات من الناس لا يتكلمون إلا اللغة الفرنسية أو الإيطالية ولا يكادون يتقنون إلا القليل من اللغة العربية. وكانت الإسكندرية متنوعة السكان بشكل خاص، فموقعها على ساحل المتوسط جعلها موئلاً تاريخياً لأعداد كبيرة من السكان اليونانيين والإيطاليين واليهود كان يشار إلى هؤلاء السكان غير المتكلمين باللغة العربية ب- «المتمصرين»، وكثيراً ما كانت لديهم روابط مع النخب الحاكمة وشبكات الأعمال التجارية الدولية.

وعادة ما يُقدم أدب المذكرات العائد إلى تلك الحقبة تفاصيل ممتازة عن هذا التنوع؛ فوصف آندريه آسيمان في كتابه «خارج مصر» عمه بأنه «يهودي تركي إيطالي مائل إلى الإنجليزية وفاشي مائل إلى الطبقة المخملية، بدأ حياته ببيع الطرابيش التركية في برلين وفيينا، وانتهى به الأمر بأن كان المزاود الأخير على أملاك الملك فاروق حاكم مصر المخلوع». وحتى داخل مصر ، كان يمكن للمرء أن يعيش حياة متنوعة للغاية، فوالد لوتشيتي لانيادو لم يخرج من العالم العربي قط، ولكنه وكما وصفته في كتابها :«الرجل في بدلة جلد سمك القرش الأبيض»:«كان يبدأ نهاره بالصلاة مع غيره من اليهود، ثم يجري الأعمال التجارية مع تجار استعماريين فرنسيين ورواد أعمال يونانيين. وكان يقامر مع مصريين أثرياء، وبما في ذلك الملك نفسه في بعض الأحيان، ويختلط اجتماعياً مع الضباط البريطانيين المقيمين في القاهرة».

حين نالت نالت مصر استقلالها في عام 1922م ، لم يعان هذا الحشد المتنوع من تبعات ذلك أول الأمر. فقد ظل النظام الملكي الحاكم متولياً لأمور مصر، وحافظ على علاقاته الوثيقة مع البريطانيين والشبكات الدولية. ولكن الحركات المعادية للإمبريالية سرعان ما بدأت تتشكل في مصر، ولم تدعُ فقط إلى الاستقلال الرسمي،

ص: 47

بل أيضاً إلى قطع العلاقات مع بريطانيا وإزالة بقايا المنظومة الاستعمارية من مصر. رغب الإسلاميون، مثل الإخوان المسلمين في بناء دولة إسلامية، أما القوميون فرغبوا في إقامة جمهورية.

انتصر القوميون آخر الأمر تحت قيادة جمال عبد الناصر بعد الإطاحة بالملكية في عام 1952م. وعبر نصف العقد التالي، طردوا البريطانيين من مصر وأنشأوا جمهورية. في أول الأمر ، وضع عبد الناصر أيديولوجية تستند إلى دوائر ثلاث من الهوية، وهي الهوية العربية والأفريقية والإسلامية، ولكن النزعة العروبية سرعان ما هيمنت.

وسرعان ما قمع عبد الناصر الإسلاميين الذين تعاونوا معه في الإطاحة بالملكيّة، وإن ظلّوا على غير وفاقٍ معه بسبب اختلاف هويتهم السياسية. وأقر النظام الحاكم الجديد باسم العروبة، قوانين تحد من حقوق المتمصِّرين وغيرهم من النخب المرتبطين مع المنظومة الاستعمارية القديمة في مصر. ففرض استخدام اللغة العربية حصراً في مؤسسات الدولة - كالمدارس والبيروقراطيات. كانت هذه المؤسسات متعددة اللغات سابقاً، وواجه عدد كبير من المنتمين إلى النخب المصرية القديمة مشاكل في التعامل باللغة العربية. كما أمم النظام العديد من الأعمال التجارية التي يملكها المتمصرون. خلال الفترة الاستعمارية، نال العديد من غير العرب المنتمين جنسيات من قوى أجنبية مختلفة كوسيلة لنيل حماية السلطات المحلية ودفع مصالحهم المالية، ولكن معظم من تلقى الجنسية كانوا من تلقى الجنسية كانوا من سكان مصر الأصليين وفي بعض الأحيان لم يزوروا أبداً البلد الذي أعطاهم جواز السفر. وبينما كانت الجنسية الأجنبية مفيدة أثناء حقبة الاستعمار، أصبحت مشكلة تحت حكم عبد الناصر القومي العربي. وفي نهاية المطاف، طرد عبد الناصر أو أجبر على الخروج معظم غير العرب من المصريين (اليهود واليونانيين والإيطاليين إلخ). حدثت أكبر عمليات الإجلاء هذه كردة فعل على أزمة قناة السويس في عام 1956م حين أمم عبد الناصر القناة، فغزاها كل من البريطانيين والفرنسيين والإسرائيليين. في ذلك الوقت، صور عبد الناصر المصريين غير الناطقين بالعربية كعملاء أجانب، وبالتالي غير

ص: 48

مصريين، وأجبرهم على المغادرة. فكانت النتيجة أن مصر أصبحت أكثر عروبة وأقل تنوعاً على مر الستين سنة الماضية.

الحالة الثانية : العراق

الحالة الثانية هي ،العراق، وكانت ولاية عثمانية، ثم وقعت تحت الانتداب البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى. حين سيطر البريطانيون على العراق بعد الحرب، عينوا القومي العربي السني فيصل ملكاً على العراق، مع أنه في الأصل من الحجاز (الواقعة اليوم في المملكة العربية السعودية)، فلم يكن عراقياً في الواقع. ولكنه حارب جنباً إلى جنب مع الضابط البريطاني «لورنس العرب» خلال الحرب، وأعطيت العراق له مكافأة على جهوده. فهو وإن كان قومياً عربياً، إلا أنه كان مديناً لِبريطانيا بعرش العراق.

لم تحظ العراق بقدر التنوع نفسه الذي حظيت به مصر، إذ لم يكن لدى البلد الكثير من الارتباطات الأجنبية. ولكنها كانت أكثر تنوعاً من حيث السكان الأصليين بكثير، ففيها العرب السنة والشيعة والأكراد السنة والشيعة، والتركمان ومختلف الطوائف المسيحية (الأشوريون والكلدانيون والكاثوليك والأرمن والأرثوذكس، بل وحتى البروتستنت)، وكذلك اليهود والبهائيون والأيزديون وغيرهم. وفي العديد من مناطق العراق، شكل هؤلاء السكان نسبة كبيرة . فمثلاً، وإن كان يصعب تصديق هذا اليوم، كان أكبر مجتمع محلي في بغداد خلال حقبة ما بين الحربين العالميتين يتألف من اليهود.

وكما هي الحال في مصر، نظرت الأقليات الدينية واللغوية إلى الإمبراطوريات الحاكمة رغبة في الدعم. وقد فعلوا ذلك تحت حكم العثمانيين، وثانية تحت حكم البريطانيين. وهذا جعل مصالح هذه الفئات تتوافق مع مصالح الحكام الإمبرياليين، وتسبب لهم بالمتاعب حين غادر هؤلاء الحكام.

فالأشوريون مثلاً، خدموا في الجيش البريطاني، وهو ما أبغضه العديد من

ص: 49

المسلمين حين حظي العراق بالاستقلال في عام 1932م، فجرت حوادث انتقام من الأشوريين جراء ذلك. وفي عام 1933م ذُبح عدد كبير من الأشوريين في شمال العراق ودمرت قراهم في شمال العراق.

وكان لدى اليهود أيضاً روابط وثيقة مع البريطانيين، ورأى عدد كبير من اليهود العراقيين في الطبيعة العالمية للإمبراطورية البريطانية فرصة لإنشاء أعمال تجارية كبيرة وناجحة، وامتدت هذه الأنشطة من بغداد إلى مانشستر في إنجلترا إلى الهند. فعائلة ساسون المشهورة مثلاً كانت عراقية ويهودية. ولكن وبعد مغادرة البريطانيين رأى القوميون العراقيون في اليهود جيوباً للنظام الاستعماري القديم، وصُوِّروا كأجانب مع أن بعضهم ظل عراقياً لأكثر من ألفي عام ، أي منذ النفي البابلي الذي وصفه الكتاب المقدس، فغادروا البلاد جماعياً في أوائل خمسينات القرن الماضي ولم يتبق منهم أحد اليوم.

عانت العراق من عدد كبير من الانقلابات في منتصف القرن العشرين، وفي آخر الأمر تولىَّ حزب البعث السلطة في عام 1968م. كان صدام حسين هو القائد في الظل فی حزب البعث حتى تولَّى الرئاسة بنفسه في عام 1979م. كان البعثيون قوميين عرباً متطرفين ورأوا في العراق بلداً ذا هوية عربية خالصة، وهذا جلب لهم النزاع مع مختلف الأنسجة الاجتماعية التي يتألف منها العراق. وضعت مجتمعات الأقليات المختلفة في العراق استراتيجيات مختلفة للتعامل مع البعثيين وفقاً لمختلف الظروف؛ فلم يضطهد الشيعة لكونهم شيعة بل لسبب ما اعتقد بأنّ لهم روابط مع إيران والفرس. فكان الشيعة المنتمون إلى حزب البعث قادرين على الوصول إلى مراتب عالية. أما الأشوريون، وهم مجموعة عرقية ودينية ولغوية مختلفة عن العرب، فظلّوا قادرين على الحفاظ على هويتهم الدينية وواجهوا قدراً أقل من المشاكل مع النظام البعثي حيث مثّلوا أنفسهم كمسيحيين أشوريين عرب وليس كطائفة عرقية منفصلة. ظل البعثيون، ولا سيما تحت حكم صدام حسين ينظرون بعين الشك إلى الأكراد وتعاملوا بقسوة معهم، فنقلوا العرب إلى مناطق كردية استراتيجية وحاولوا تغيير ديموغرافيتها. كانت

ص: 50

أشد التكتيكات قسوة استعمال الغاز الكيميائي ضد الأكراد في أواخر ثمانينات القرن الماضي حول منطقة حلبجة.

وكما هو متوقع، أصبحت العراق أقل تنوعاً مع مرور السنوات، فلم يعد فيه يهود والمجتمعات المسيحية تتضائل ولربما تتلاشى بالكلية وواجهت مجموعات مثل الأيزيديين مشاكل مؤخراً. فإذن، وكما هي الحال في مصر، تحدث عملية توحيد عرقي ولغوي في العراق.

الحالة الثالثة : إيران

آخر حالة تتناولها هذه الدراسة هي إيران. يمكن للبعض أن يتساءل عما إذا كانت حالة إيران مناسبة في هذا السياق، فمن البيِّن أنها ليست «ما بعد استعمارية» بالطريقة التي يمكن بها أن ننظر إلى مصر والعراق حيث لم تستولِ عليها قوة استعمارية قط. في النصف الأول من القرن العشرين قسم البريطانيون والروس إيران إلى مناطق نفوذ، ولكن البلاد لم تصبح قط جزءاً من إمبراطورية أوروبية. ورغم ذلك، برز في إيران القدر نفسه من معاداة الاستعمار والإمبريالية الذي ظهر في غيرها من بلدان الشرق الأوسط. فلقد دعمت القوى الغربية أسرة بهلوي التي تولَّى أفرادها منصب الشاه خلال القرن العشرين وجرت أكثر الحوادث إثارة للجدل في هذا السياق في عام 1953 حين هدد رئيس الوزراء محمد مصدق المصالح الغربية عبر تأميم الصناعة في إيران. دعم كل من الأميركيين والبريطانيين الإطاحة بمصدق، وأعادوا الشاه المحابي للغرب إلى الحكم بعد هروبه في أثناء الأزمة.

تشكل في إيران العديد من الحركات السياسية والدينية المعادية للسيطرة الاستعمارية. وكما هي الحال في العديد من البلدان الأخرى في حقبة ما بعد الاستعمارية، فقد رأت هذه الحركات أن السياسات الغربية عبارة عن إمبريالية جديدة. واجتمعت هذه الحركات في عام 1979م لتتعاون وفقاً لإطارها المعادي للإمبريالية ومقابل نجاح القوميين في مصر الذي تبعه قمع الاشتراكيين

ص: 51

والإسلاميين، نجح الإسلاميون في إيران وقمعوا القوميين والاشتراكيين. إلا أن التشابه بين النمطين واضح.

وبعد تولي السلطة، حكم الإمام الخميني إيران باسم الإسلام الشيعي الممزوج ببعض القومية الفارسية. فقام جدل حاد حول تسمية الخليج بالفارسي أو العربي (والأخير هو الاسم المحبذ لدى البلدان العربية والولايات المتحدة). وظل الجدل قائماً حتى جرى رفض إعادة تسمية الخليج بالخليج الإسلامي، إذ صمم الإيرانيون على أنه الخليج الفارسي وأحدثت النزعة القومية الفارسية مشكلة في إيران نفسها، فمع اعتبار العديد من الناس بأن الإيراني يتماهى مع الفارسي، ولكن هذا بخلاف الواقع. فالفرس طائفة عرقية ولغوية تؤلف 50-60 في المائة من سكان إيران. وكما هی الحال في غيرها من الدول ما بعد الاستعمارية، اعتمدت إيران الإسلامية ما اعتبرته هوية سياسية حقيقية وأصيلة (التشيع الفارسي) كبديل لما رأت فيه المنظومة الاستعمارية القديمة، فارضة هذه الهوية على مجتمع لا يتماهى بمجمله معها. وفي هذه العمليات همشت اللغات الأخرى وحدت حقوق الأقليات والمجموعات الدينية الأخرى. وبهذه الطريقة، ومع أن إيران لم تتعرض للاستعمار قط، فقد واجهت العديد من القضايا التي نشأت مع أفول شمس الإمبراطوريات الاستعمارية.

الخلاصة

كما يظهر في حالة إيران فليست كل الدول التي تظهر عليها نزعات ما بعد استعمارية كانت تحت الحكم الاستعماري. وعلاوة على ذلك، وكما هو مذكور من قبل، فبعض الدول التي استعمرت سابقاً لم تظهر عليها هذه النزعات فلا يزال الجدل دائراً حول مدى فائدة استخدام مصطلح «ما بعد الاستعمار». إلا أن الحجج المؤيدة عن ما بعد الاستعمار والبلدان ما بعد الاستعمارية لا تزال مهمة في تاريخ الشرق الأوسط، وأرجو أن يوضح هذا المقال الجدل الدائر حول هذا الموضوع بشكل أفضل.

ص: 52

فلسفة ما بعد الاستعمار

بين التفكيك وإعادة إنتاج السيطرة

حازم محفوظ(1)

تنتمي نظرية ما بعد الاستعمار إلى النظريات الفلسفية النقدية الحديثة التي تدور رحاها بشكل وثيق في إطار الفلسفة السياسية، وتعد تطوراً طبيعياً وضرورياً لفلسفات ما بعد الحداثة والتفكيك، وقد جعلت جل اهتمامها وآلياتها المنهجيّة والمعرفية تقويض خطاب المركزية الغربية بكل أبعاده السلطوية والاستبداديّة، خاصة في حقل الممارسات السياسية والاقتصادية والثقافية سواء أكان ذلك على مستوى الفكر أو مستوى الفعل.

وإذا كانت نظرية ما بعد الاستعمار - التي توحي بوجود نوع جديد من الاستعمار عن طريق استخدام الأساليب غير التقليدية للسيطرة والهيمنة والذي كانت إحدى تجلياته الإمبريالية - قد شُيّدت عن طريق مفكرين أمثال : إدوارد سعيد، فرانز فانون، هومي بابا جياتري سبيفاك، وجاك دريدا ... وغيرهم بهدف تفكيك خطاب الهيمنة والمركزية والنزعة الذاتية المسيطرة على التفكير الأوروبي؛ فهل يمكن القول أن

ص: 53


1- خبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية - مصر.

التفكيك الذي يهدف إلى خلخلة الذات وإعادة صياغة العلاقة بينها وبين الآخر، بغرض التخلّي عن النزعة الذاتية وخطاب الهيمنة هو شكل آخر من أشكال النزعة الذاتية التي تعطي الذات وضعاً حراً يتيح لها ممارسة سلطة مطلقة في وضع نفسها في الصدارة في كل شيء؟ وبالتالي يعد امتداداً لنظرية الاستعمار الغربية حتى وإن حاول أن ينقضها؛ لأنه ما زال يدور في فلكها.

بمعنى آخر هل ما تقدمه استراتيجية ما بعد الاستعمار والتفكيك يمكن تعريفه على أنه إعادة الذات إلى محور الوجود والهيمنة من حيث حرية كل قارئ في تقديم نصّه عن طريق إعادة كتابتهِ (أي تفسيره) بالطريقة التي يراها؟ وعلى ذلك هل يمكن القول بأن هذا يعني ثقة جديدة في قدرات الذات؟ وهل المركزية الغربية موجودة على المستوى المعرفي فقط أم أنها تتخطى السّياق المعرفي إلى الممارسة الفعلية؟ وعلى هذا النحو كيف يمكن فهم المفاهيم الرئيسية في إطار نظرية ما بعد الاستعمار من قبيل نقد الخطاب المركزي المتمثل في المعرفة (الابستمولوجيا) وتصور التاريخ على أنّه تاريخٌ واحدٌ للإنسانية (التاريخية)، والاقتصاد على أنه اقتصادٌ واحدٌ (اقتصاد السوق الحر) والعولمة التي تهدف إلى إفقار دول العالم الثالث والقضاء عليه، والثقافة على أنها ثقافة واحدة (ثقافة العقلانية الغربية)؟

وكيف يمكن إيجاد علاقة جديدة بين الشرق والغرب تقوم على احترام الخصوصيات والاعتراف بالتعدّدية؟ وكيف يمكن محاربة التغريب هل يكون ذلك بإنشاء علم الاستغراب وجعل الغرب موضوعاً لدراسة موضوعية من قبل الآخر أم بالاعتصام بالأسس والمعايير الموضوعية والتحصّن بميراث التاريخ والوعي ؟

وعلى أيّ نحوٍ يتسنّى لنا الحفاظ على هويتنا المميّزة والوقوف في وجه عمليات التهميش وفرض الهيمنة المركزية للغرب ورفض كل أشكال الاستلاب والتبعيّة؟

ولكي يتسنّى الإجابة على هذه الأسئلة ينبغي عرض الخطوط العامة لنظرية ما بعد الاستعمار والتفكيك مع التركيز على المحور المعرفي والسياسي والاقتصادي والثقافي.

ص: 54

(أولاً): نقد بنية المعرفة الغربية (الابستمولوجيا)

الواقع أن الغرب اعتبر نفسه ممثلاً للوجود الإنساني الحقيقي على الأرض، واعتبر نمط معرفته هو النمط الأمثل للمعرفة، كما اعتبر وجوده هو كل الوجود وتاريخه هو تاريخ العالم وكماله في نفس الوقت، ولعل هذا ما عبّر عنه هيجل بوضوح حين جعل الغرب ممثلاً لقمّةِ وعي الروح المطلق بذاته كما اعتبر العالم الغربي يمثل قمة اكتمال تطور الروح المطلق.

يقول روبرت يانج: «فيما يتعلق بالمعرفة الأوروبية بالمجتمعات الأخرى بصفة عامة كانت التاريخية تعني تاريخاً إنسانياً واحداً يجمع البشرية إما بلغ الذروة أو كان يراقب من مواقع الهيمنة الخاصة بأوروبا أو الغرب(1)

وقد قامت فلسفة التفكيك بدور لا ينكر في التنبيه على مركزيّة الذات. تقوم استراتيجية التفكيك عند «دريدا» على سبيل المثال على رفض المذاهب التقليدية في الفكر الغربي ونقدها إنطلاقاً من رفضها من قِبَل المركزية الغربية، لكنها لا تتوقف عند الجانب السلبي فقط الذي يتمثل في الرفض والنقد، وإنما تقوم بتفكيكها، ولمّا كانت المعرفة في ذاتها كيان متغير دائم التحول لأن العالم الخارجي الذي يرتبط به الوجود في حالة تحول وتغيّر مستمر، فإن تحقيق المعرفة بهذا العالم المتحوّل والمتغير تفترض وجود (مركز ثابت)، يرى «دريدا» أن له أسماء مختلفة عبر تاريخ الفلسفة مثل المركز الثابت والجوهر، والكينونة، والحقيقة، الوعي، الله، الإنسان... الخ. وهي تسميات تشير في رأي دريدا إلى «المدلولات العليا» التي تمثل أرضية ثابتة تقف فوقها متغيّرات العالم الخارجي الذي يمدنا بالمعرفة وهذا المركز الثابت هو ما يرفض المشروع التفكيكي الاعتراف بوجوده فهو ما يحاول التفكيكيون تفكيكه (خلخلته) باتباع منهجهم الذي يتمثل في تحديد الفكرة/ الموضوع وكشفه وفضح أساليب الاستعمار الغربي.

ص: 55


1- يانج، روبرت أساطير بيضاء كتابة تاريخ الغرب؛ ترجمة: أحمد محمود المشروع القومى للترجمة؛ (616)، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2003، ص8.

ويعرّف «دريدا» التفكيك فيقول :«فالتفكيك - إن كان موجوداً، وحتى لو ظل تجربة المستحيل - ليس واحداً.«إن كان موجوداً»، كما اعتقد أنه من الواجب أن نقول دائماً، وبحسب وجهة الممكن غير القابلة للاختزال. إنه (ممكن الممكن المستحيل)، إذ يوجد أكثر من تفكيك واحد، وهو يتكلم أكثر من لغة. هذا هو قدره.. فكان واضحاً أن التفكيكات ينبغي أن تقال بصيغة الجمع . كل لحظة من هذه التجربة ترتبط بأشكال من الفرادة وعلى الخصوص أشكال اللغة المتفردة. وطبعاً، سرعان ما دارت مسألة التفكيكات حول ما يسمى بطريقة ملغزة :اللغة المتفردة، ورهانات اللغة المتفردة. فكان ذلك يمس ألغاز الترجمة ومفارقات البصمة الشخصية(1).

ويعلّق «عبد العزيز حمودة» على منهج التفكيك بشكل عام فيقول:«نعرف أن التفكيك يتحول إن عاجلاً أو آجلاً إلى كل قراءة نقدية أو تركيبة نظرية. حينما يتم اتخاذ قرار تظهر السلطة. حينما تعمل النظرية أو النقد عندئذ يشكك التفكيك بمجرد أن يفعل ذلك يصبح مخربا... وفي نهاية الأمر يحقق التفكيك مراجعة التفكير التقليدي»(2)،ويستطرد مؤكداً على أن التفكيك:«كالثور الهائج أطلقه عصر الشك الشامل من مربطه يحطم كل شيء فلا شيء معتمد ولا شيء موثوق ولا شيء مقدّس»(3). لكن هل يمكن قبول قول الدكتور حمودة على علّاته؟ بمعنى أن التفكيك هنا يقضي على كل شيء أم أن التفكيك ما زال مُبقياً على سيطرة الذات دون أن يكون بوسعه استكشاف مواطن الاختلاف بين الشرق والغرب وتحديد أنماط التفكير المميزة لكلاهما؟ بحيث يمكن القول بأنه يدور في مدار الميثولوجيا البيضاء التي كان لها الغلبة على الفكر العالمي والتي تعتبر أنّ الغرب هو مصدر العلم والمعرفة والإبداع حتى وهو ينتج نظرياته التفكيكية، أما الشرق فهو مصدر الخرافة والأساطير.

ص: 56


1- دريدا، جاك، لغات وتفكيكات فى الثقافة العربية ترجمة : عبد الكبير الشرقاوى (لقاء الرباط مع جاك دريدا) سلسلة معالم ؛ عدد - 239 - ط 1 الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 1998، ص 193. . . -
2- عبد العزيز حمودة المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك، سلسلة عالم المعرفة، عدد 232، الكويت: المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب، 1998، ص 293.
3- المرجع السابق، ص 309.

يقول «أدوارد سعيد» كان الشرق تقريباً اختراعاً غربياً وكان منذ القدم مكاناً للرومانسية والكائنات الغريبة المدهشة والذكريات والمشاهد الشابحة والتجارب الاستثنائية(1).

ومن منطلق سعيه لتفكيك المركزية الغربية عمد «دريدا» - بوصفه أحد فلاسفة التفكيك - إلى اقتحام سكونيّة الميتافيزيقا الغربيّة متسلحاً بمقولة التمركز العقلي لتمييز نزعة التمركز الطبيعية في هذه الميتافيزيقا التي تعد السياسة إحدى تجلياتها، ويخلص دريدا إلى أن أكثر السبل تأثيراً، التي نهض عليها التمركز العقلي (Logocentrisme) في الفلسفة الأوروبية «هو اهتمامها بالكلام على حساب الكتابة، فالتمركز المنطقي هو في حقيقة الأمر تمركز صوتي، ويرجع جذر هذا الاهتمام إلى أفلاطون»(2)، ويمتد متمثلاً في وسائل الإعلام الغربية التي غدت سلطة تعرف بالسلطة الرابعة وقد أجاد الغرب استخدامها.

إذا كان البعض يذهب إلى أن «دريدا» قد انتهى في التفكيك إلى تأكيده على التعدد والاختلاف وإلغاء الحضور والتعالي، وذلك بهدف تقويض ميتافيزيقا الحضور التي تستند إليها الحضارة الغربية، وكذا الهيمنة السياسية الغربية، الأمر الذي يسمح بظهور بدائل حضارية وفكرية وفلسفية تتغاير عما أرسته الميتافيزيقا الغربية(3)، إلا أن هذه قراءة متعجّلة لا تكشف عن الثابت عبر النصوص وإنما تأخذ بظاهر النص.

في الواقع، ربط «دريدا» بين مركز اللوغوس (أو العقل) وبين ميتافيزيقا الحضور؛ حيث يرى أن الفكر الغربي منذ أفلاطون وحتى هيجل كان فكر ميتافيزيقا الحضور، ولذلك فموقف التفكيك معارض لهذا الفكر ومعارض أيضاً لموقف الهيمنة السياسية والاستعمارية.

ص: 57


1- إدوارد سعيد، الاستشراق؛ ترجمة وتحقيق صبحی ،حدیدی بیروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،1996 ص 29.
2- أحمد عبد الحليم عطية دريدا والفكر العربي المعاصر، ضمن أبحاث أوراق فلسفية بعنوان ما بعد الحداثة والاختلاف، مقالات فلسفية، أوراق فلسفية عدد ،3 القاهرة: د.ن، 2000 ، ص 164.
3- المرجع السابق، ص 165.

وإذا كانت المركزية الغربية (1)تستند في تثبيت دعائمها إلى مركزية العقل وميتافيزيقا الحضور في ما يقول «جاك دريدا»، فإن العقل يصبح هو المبدأ الذي يقبل أو يرفض الغرب على أساسه عقيدة ما أو فكرة ما أو ثقافة ما أو ممارسة سياسية ما باعتبار ان كل ما ليس عقلي غير مقبول ويتساوى مع الخرافة رغم أن الغرب يمارس لا معقولية لا تقبل الشك في ما يتعلق ببعض القضايا السياسية التي تقع خارج مجاله الحيوي؛ فعلى سبيل المثال موقف الغرب حتى الآن من القضية الفلسطينية الذي يعبّر عن لا معقولية شديدة؛ إذ تتنافى ممارساته السياسية في الأرض المحتلة أبسط مبادئ حقوق الإنسان ومبادئ القانون الدولي الإنساني.

ويرى «دريدا» أن التراث الفلسفي الغربي (2)ونظرياته المختلفة ما هو إلا صيغ مختلفة (3)من نظام واحد هو «التمركز حول العقل» و «ميتافيزيقا الحضور» فغاية دريدا هو تفكيك كل المراكز الدلالية، وبؤر المعاني التي تشكّلت حولها؛ فالممارسة الفكرية حول «اللوغوس» أنتجت تمركزاً عقلياً أقصى كل ممارسة فكريّة لا تمتثل لشروطه، لأنه ربط بينه ومعنى الحقيقة، وأنتج نظاماً مغلقاً للتفكير. أما فكرة الحضور فتمثّل مبدأ راسخاً مفاده أن الموجود يتجلى بوصفه حضوراً(4). إن الحضور المقصود

ص: 58


1- إن قضية المركزية الأوروبية ليست هي موقف النظريات العالمية فقط بل أيضاً التفسيرات التاريخية، التي تؤكد الاختلاف والنسبية الثقافية كضد للحقيقة الموضوعية والتواصل التاريخي، وضد أحادية المفاهيم اللاهوتية للتاريخ. إلا أن هذه الأوضاع لا تمنع بالضرورة بناء أوروبا بوصفها المركز، والآخر غير الأوروبي بوصفه أدنى وأقل في الإنسانية. فالإنكار المطلق للحقيقة العامة والقيم العالمية يؤدي إلى إنكار الطبيعة المشتركة بين المشتركين في ثقافات مختلفة. وهنا تكون الخطوة للعرقية تأخذ شكل بناء الآخر بوصفه مختلفاً ولديه معايير للإنسانية مختلفة. (لارين، جورج، الإيديولوجيا والهوية الثقافية : الحداثة وحضور العالم الثالث، مرجع سابق، ص29).
2- إن تاريخ الثقافة الغربية هو بالنسبة لدريدا تاريخ كبت، وتأجيل مسألة الحضور من هنا تصبح دلالة الحضور مسألة اكتشاف للسكوت المؤجل فى الخطاب». ويتمر، باربرا، الأنماط الثقافية للعنف؛ ترجمة: ممدوح يوسف، عمران، سلسلة عالم المعرفة، عدد 337 ، الكويت : المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2007، ص205).
3- إن دريدا الذى يقتطع هذه التصورات في بعض الأحيان من نصوص أخرى، يلعب بها... دون تحفظ ف- Le pharmacon... مقتطع من روسو ما هو لا الزائد ولا الناقص ، لا خارج ولا مضاف لداخل ما، لا هو بعرض ولا جوهر...الخ، مقتطع من مالارمى Mallarme ما هو لا الغموض ولا التمييز ، لا الهوية ولا الاختلاف، لا الاستهلاك ولا البكارة، لا الحجاب ولا السفور ، لا الداخل ولا الخارج ... الخ). (كوفمان، سارة و لابورت روجي، مدخل إلى فلسفة جاك دريدا: تفكيك الميتافيزيقا واستحضار الآثر؛ ترجمة إدريس كثير وعزالدين الخطابي . - 2 - الدار البيضاء: أفريقيا الشرق 1994، ص74.
4- عبد الله إبراهيم، المطابقة والاختلاف المركزية الغربية : إشكالية التكون والتمركز حول الذات، الدار البيضاء، بیروت: المركز الثقافي العربي، 1997، ص320.

هنا هو حضور الذات الغربیة فی کافة مجالات الممارسة الفکریة و العلمیة و منها بالضرورة المجال السیاسی الاستعماری.

وهذا ما تؤكده نصوص «دريدا» نفسها؛ إذ يقول:«الحركة المثالية التي تتجلى الذاتية من خلالها، كما يقال، وتتجلى من خلالها روح الجسد الرنان، تدركها الأذن بنفس الطريقة النظرية التي تدرك بها العين اللون أو الشكل. وهكذا تصبح داخلية الموضوع هي داخلية الذات نفسها ... )(1)، ويستطرد قائلاً:«حضور الشيء للنظر بوصفه صورة أو فكرة مدركة الحضور بوصفه جوهر وجود حضور زمني وتحديد للآن أو للحظة، حضور الكوجيتو أمام الذات، وعي، ذاتية، الحضور المشترك للذات وللآخر، والعلاقة بين الذوات كظاهرة قصدية للأنا... إلخ . تؤكد مركزية اللوجوس إذن تحديد وجود الموجود بوصفه حضوراً... إن حقبة اللوجوس تضع الكتابة في منزلة سفلى وتراها واسطة لواسطة وسقوطاً في خارجية المعنى. وإلى هذه الحقبة

ينتمي الاختلاف بين الدال والمدلول»(2). إن الذات هنا والمقصود بها الذات الغربية المهيمنة حاولت وتحاول تحويل كل ذات أخرى مغايرة لها إلى موضوع بحيث تعتبر الذات الغربية نفسها هي الحضور وهي الوجود. ومن هذا المنطلق أسست نظريتها الاستعمارية على أساس أن كل ما ليس غربي فهو موضوع للذات الغربية.

لقد رأى «دريدا» أن الكوجيتو الديكارتي يعد مركز هذا الحضور ولم يستطع ان يفلت من مركزية الكوجيتو حتى ميشيل فوكو رائد الاتجاه التفكيكي، وفي هذا الصدد يقول «دريدا» في (الكوجيتو وتاريخ الجنون) «أن الكوجيتو صحيح حتى ولو كنت مجنوناً أي حتى إذا كانت أفكاري مجنونة تماماً»(3).

ولقد أكد «هيدغر» على أن التاريخ الغربي منذ بدايته، وعلى امتداده، ظل يبرهن

ص: 59


1- دريدا، جاك، في علم الكتابة؛ ترجمة وتقديم: أنور مغيث و منى طلبة المشروع القومى للترجمة؛ عدد950.- ط 1. - القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2005، ص 73.
2- دريدا، جاك، في علم الكتابة، مرجع سابق، ص 74 .
3- Melehy, Hassan; Writing Cogito: Montaigne Descartes, and the Institution of the Modern Subject. New York: State University of New York Press, 1997, p. 36.

على أن الفكر الغربي ذا نزعة ذاتية، وقد برهن على ذلك من خلال تفكيك كل الميتافيزيقا الغربية في كتابه «العدمية الأوروبية» وهو كتاب على الرغم من أهميته الفكرية والسياسية لأنه يفضح أشكال الهيمنة الغربية إلا أنه لم يتم ترجمته إلى العربية حتى الآن.

من مركزية العقل انطلق «دريدا» ورأى أن جميع الفلسفات فلسفة (مركز العقل)، وهذه الفلسفات ما هي سوى نوع من (مركزية أوروبا)، وأعتبر الغرب المحور الرئيسي للفكر والنموذج الذي يجب أن يحتذى في كل المجالات الآخرى بما فيها المجال السياسي؛ إذ غدت الديمقراطية الغربية هي النموذج الأمثل للفكر السياسي وأساليب الحكم. أما التفكيكية بمعنى ما «تقوم على رفض المذاهب السابقة وتخطئ كل المشاريع بل إنها في جوهرها تقوم على رفض التقاليد والسلف التي ترى أنها تحجب المعنى وتكبته»(1). ولذلك يقول «ليتش» في تمهيده لدراسته عن التفكيك:«إن التفكيكية المعاصرة باعتبارها صيغة لنظرية النص والتحليل تخرّب (subverts) كل شيء في التقاليد تقريباً وتشكك في الأفكار الموروثة عن العلامة واللغة والنص والسياق والمؤلف والقارئ ودور التاريخ وعملية التفسير وأشكال الكتابة النقدية. وفي هذا المشروع فإن المادي ينهار ليخرج شيء فظيع»(2). ولكن رغم كل ذلك فإن التفكيكية لم تستطع التخلص كلياً من السياق المعرفي الحاكم للفكر الغربي القائم على السيطرة والهيمنة.

والواقع أن «دريدا» قد ربط بين مركزية العقل، وبين الكلام المسموع والصوت(3)؛ بحيث أن مركزية العقل توظف الكلام المسموع والصوت لتكريس حضور الذات، فهناك تواطؤ بين نزعة العقل المركزية وامتياز السمع والصوت، أي

ص: 60


1- عبد العزيز حمودة، المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك، مرجع سابق، ص165.
2- المرجع السابق، ص291-292.
3- يؤكد دريدا على ارتباط الصوت والكتابة الصوتية بحضور الذات فيقول : إنه الاهتمام البالغ بالصوت والكتابة الصوتية فى علاقتهما بالتاريخ العام للغرب، وكما سيتم تمثلها فى تاريخ الميتافيزيقا في شكلها الأكثر حداثة ونقدية وحذراً، أعنى الفينومينولوجيا المتعالية لهوسرل» دريدا، جاك مواقع حوارات مع جاك دريدا (هنری رونس - جوليا كريسطيفا - جيي سكاربيتا - جان لوى (هودين ؛ ترجمة وتقديم فريد الزاهي سلسلة المعرفة الفلسفية؛ عدد 125.- ط 1-0 الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 1992، ص 11).

ميتافيزيقا الحضور، أي الوجود المدرك كحضور حضور الشيء للرؤية كشكل (eidos) حضور كجوهر، ماهية وجود (ousia)، حضور مؤقت كذروة للآن أو للحال حضور الكوجيتو لذاته ... مقربة الصوت والوجود مقربة الصوت ومعنى الوجود، مقربة الصوت وأمثلة المعنى... تواطؤ نزعة العقل وصوت المركزية (Logophonocentrisme) ... إن صوت الحقيقة هو دائماً صوت القانون، صوت الله، وصوت الأب إنها رجولة أساسية للوجوس (Logos) الميتافيزيقي»(1). ولا نجانب الصواب إن قلنا أن صوت الحقيقة هو دائماً صوت مراكز الأبحاث الغربية التي تريد الهيمنة على الشرق باسم القانون وصوت آلاتها الإعلامية الجبارة التي تقضي على كل ما هو مخالف للغرب.

وإذا كان «دريدا» يقول - منطلقاً اللغة من التي تعد إحدى تجليات الكتابة: «إن السيطرة تبدأ كما نعلم من خلال سلطة التسمية (إطلاق الأسماء)،... وهذا التأسيس للسيادة قد يكون مفتوحاً شرعياً ومسلحاً أو مخادعاً، يختفي تحت زرائع النزعة الإنسانية (أنسنة الكون)، وأحياناً في شكل أكثر أنواع الضيافة كرماً فهو يتبع دوماً أو يستبق الثقافة مثل ظلها»(2)، وبما يعنى أن « دريدا» يرفض مركزيّة ،الذات إلاّ أن أحادية لغة الآخر كما يقول «دريدا» ستكون تلك السيادة، ذلك القانون الناشئ من مکان آخر، بشكل مؤكد.... إن أحادية اللغة التي فرضها الآخر يعمل بالاعتماد على هذه القاعدة، هنا، من خلال سيادة يبقى جوهرها دوماً استعمارياً، وتميل بشكل قمعيٍّ ومؤثرٍ، لاختزال اللغة للذات ،أي لهيمنة المسيطر . وهذا يمكن التحقق منه في كل مكانٍ كل مكانٍ تبقى فيه هذه الهيمنة - المتجانسة تعمل في الثقافة»(3).

ومن ناحية أخرى، فقد طرح «دريدا» مفهوم التسامح في فلسفته؛ حيث يرى «أن التسامح فضيلة مسيحية... (بمعنى) أن يوافق المسلمون التعايش مع اليهود

ص: 61


1- كوفمان، سارة و لابورت روجی، مدخل إلى فلسفة جاك دريدا: تفكيك الميتافيزيقا واستحضار الآثر، مرجع سابق، ص 65 - 66.
2- دريدا، جاك، أحادية لغة الآخر ، فضاءات للفكر والثقافة والنقد، فى 5 إبريل 2001. http://www.fadaat.com/a5/a5p6.htm
3- الموقع السابق

والمسيحيين، وأن يوافق اليهود التعايش مع المسلمين، وأن يتسامح المؤمنون مع غير المؤمنين... ومن ثم يصبح السلام هو التعايش المتسامح»(1).

لقد لاحظ «دريدا» أن التسامح في التراث الغربي لم يكن له أي مدلول سياسي أو اجتماعي، وأنه كان يشير فقط إلى فضيلة دينية، وأكد أن الشخص المتسامح هو صاحب المكانة الاجتماعية الأعلى وأنه الأقوى القادر أيضاً على الإبعاد والنفي، بل إن من حقه أن يستبعد الآخر، الأضعف والأقل مكانة، وأن ينفيه، وأن لا يرى لهذا الآخر أي حقوق، ولكنه بصفته فاضلاً متديناً يتسامح فيمنح الآخر ما يراه من حقوق كما يستطيع ويملك الحق في أن يسحبها في أي وقت. ويضيف «دريدا» «أن التسامح في التراث الغربي بهذا المعنى يصبح مجرد نوع من الإحسان»(2)؛ ومن ثم لا يوجد معيار ثابت يتيح نوعاً من الموضوعيّة في تحقيق التسامح بل يعتبر منّة وفضل من الذات المتسامحة؛ أي الذات الأقوى والمهيمنة على الآخر.

الواقع، أن «دريدا» يرفض في نصوص أخرى الصفح من موقف كلي، ويقره من موقف جزئي؛ إذ يقول :«يصفح الصفح فقط عما لا يقبل الصفح. ليس في وسعنا، أو قل ليس علينا أن نصفح، بل ليس هناك صفح - هذا إذا كان أصلاً موجوداً .... فإنَّ الصفح وجد نفسه بموجب مالا يقبل الصفح ذاته، إذن!»(3).

وقد ضرب «دريدا» مثلاً على عدم إمكانية الصفح بامرأة فقدت زوجها في حرب بين دولتين؛ حيث أن ما أضير من فقد الزوج هو زوجته على حد قول دريدا، ومن ثم فمن يملك الصفح ليس السلطة السيادية، وإنما الفرد ممثلاً في المرأة التي فقدت زوجها.

وفي نص آخر يؤكد على هذا المعنى قائلاً: «ما أحلم به، وما أحاول التفكير فيه

ص: 62


1- Borradori, Giovanna; Philosophy in a time of Terror: Dialogues with Jurgen Habermas and Jacques Derrida, Chicago and London: The University of Chicago Press, 2003, p. 126, 127 and 161.
2- دريدا، جاك، ما الذي حدث في 11 سبتمبر؛ ترجمة صفاء فتحى القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2003، ص 138 ، وأنظر أيضاً: سامى خشبة، نقد الثقافة القاهرة : الهيئة العامة للكتاب، 2004، ص 193.
3- دريدا، جاك ... وآخرون، المصلحة والتسامح وسياسات الذاكرة ترجمة : حسن العمراني - ط1. - الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 2005 ، ص 12-13

كنقاء صفح جدير بهذا الاسم، هو صفح بلا سلطة: لا مشروط ولكنه بلا سيادة. تبقى المهمة الأكثر صعوبة إذن، الضرورية والمستحيلة فيما يبدو لي، هي فك الارتباط بين اللامشروط والسيادة. فهل سننجز ذلك في يوم من الأيام؟ الظاهر أن الأمر يحتاج إلى بعض الوقت. لكن ما دامت فرضية هذه المهمة التي لا تلوح في الأفق تعلن عن نفسها، كما لو كانت حلماً بالنسبة للفكر، فإن هذا الجنون ربما ليس مجنوناً بما فيه الكفاية»(1).

ویری «دريدا» أن التسامح هو نقيض الاستضافة؛ إذ قال عند سؤاله: هل توافق على اعتبار التسامح شرط من شروط الضيافة ؟ كلا، إن التسامح في الحقيقة نقيض الضيافة أو على الأقل يضع حداً لها »(2).

ومن هذا المنحى، ذهبت «جيوفانا بورادورى» إلى أن دريدا في مفهومه للاستضافة «ركز على الالتزام الفريد الذي يحمل كل واحد إزاء الآخر»(3)، حتى لو كان هذا الآخر غريباً غربة كاملة «ولم توجه إليه الدعوة، ولم يكن منتظراً، ولكن ينبغي قبوله قبولاً كاملاً غير مشروط ، باعتباره زائراً ومقيماً، لا ينازعه أحد في أي حق من حقوقه... وبوصفي صاحب البيت والأرض والإقليم... فأنا لا أدعوك ولا أرحب بك في بيتي بشرط أن تستسلم للغتي وتراثي وتقاليدي وذاكرتي... وإنما استقبلك وأستضيفك بشكل مطلق ودون شروط»(4).

في الواقع، لقد طرح «دريدا» مفهوم الاستضافة «بشكل يعبر عن تفكير فلسفي مجرد ، وأنه ليس فكراً سياسياً ولا هو فكر ،اجتماعي، ولا يطرح برنامجاً عملياً للتنفيذ، فهو لا يقدم أكثر من فكرة وعظية، كما أنه في طرحه لهذه الفكرة، زاد كثيراً من قدرات المضيف (المتسامح)، صاحب البيت، بينما أضعف كثيراً من الحقوق المقررة المؤكدة للزائر، الضيف»(5).

ص: 63


1- المرجع السابق، ص 37.
2- Borradori, Giovanna; Philosophy in a time of Terror, Op. Cit., P. 16 and 127.
3- Ibid; P. 17.
4- Ibid; P. 162.
5- سامي خشبة نقد الثقافة، مرجع سابق، ص195.

ولذلك من حقنا أن نتساءل: هل كانت فكرة الاستضافة التي طرحها «دريدا» قد جاءته بتأثير من تاريخ أسلافه اليهود (1)في الغرب،«الذين كانوا يُعتبرون زائرين غرباء غير مرغوب فيهم، ولم يوجِّه الدعوة إليهم أحد، ولم يكن أحد ينتظرهم، ولا يرغب أحد في وصولهم ولا في بقائهم في بيته الغربي الذي أرادهُ صاحبه دائماً نقياً نقاءً عنصرياً ودينياً مطلقاً لا يلوثه أي آخر غريب، حتى ولو كان هذا الآخر أوروبياً يعتنق الدين نفسه ولكنه ينتمي إلى عرق آخر، أو إلى مذهب مختلف»(2).

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق أيضاً، هل تأثر «دريدا» بهذا التاريخ الدامي لأبناء دينه الأصلي في الغرب، فأراد أن يغرس فكرة أو مبدأ استضافتهم دون شروط وحلولهم ضيوفاً لهم كل حقوق أصحاب البيت بعيداً عن مبدأ التسامح؟ ولذلك نجده يقول «بالضيافة اللامشروطة في حقل القانون أو السياسة»(3).

وهل يحق لنا أن نقول ما قاله البعض :«أن انتماء دريدا الديني للديانة اليهودية كان له دور في توجيه اهتماماته الكتابية؟»(4).

وإذا كان البعض قد ذهب إلى أبعد من هذا فرأى أن ظاهرة فهم الآخر عند «دريدا»، تهدف إلى «استسلام المرء للعنف»، أو جعل نفسه شريكاً فيه، أو أنه، بالمعنى النقدي، «يذعن إلى عنف الواقع»(5) ونظراً إلى عدم إمكانية الوصول إلى الآخر، «تبدأ الحرب... وبدخوله الحرب يصل إلى الآخر بوصفه آخر (ذاتا)»(6).

ص: 64


1- يقول أدوارد سعيد أصبت بخيبة كبيرة عندما علمت أن جاك دريدا قبل دكتوراه فخرية من الجامعة العبرية في إسرائيل» (إدوارد سعيد، اللغة الفرنسية عائق أمام العالمية وسارتر من أهم الوجوه في القرن العشرين؛ ترجمة ديما فقيه صحيفة الحياة في 2007/6/30). http://www.daralhayat.com/culture/062007-/Item-20070629 - 78818496 - c0a810-ed-0082- a494879ea694/story.html
2- سامی خشبة، نقد الثقافة مرجع سابق، ص 196
3- Derrida, Jacques; penseur de l'évènement, Entretien par Jérôme-Alexandre Nielsberg. Article paru le 28 janvier 2004. (http://www.humanite.fr/200428-01-_Tribune-libre_-Jacques-Derrida- penseur-de-l-evenement).
4- أميمة الجلاهمة، تدلى بإفادات جريئة حول الصهيونية ومعاداة السامية، الإسلام اليوم، حوار عبد الحي شاهين، في 11 مارس 2004. 3451=http://www.islamtoday.net/print.cfm?artid
5- Derrida, Jacques, Writing and Difference. Chicago: The University of Chicago Press, 1978, P125.
6- Ibid, P.117 and 118.

وبناء على هذا، فإن ما يقوله «دريدا» ينكر ببساطة التفاعل، وهو يبقى علی تجربتنا مع الآخر كأنها تجريد اختلاف إن هذا انحدار في العاطفة الصادقة وتسطيح لما بعد الحداثة»(1).

في الواقع يرفض «دريدا» الحروب الدينية؛ إذ يقول: «هناك بالطبع شيء آخر، ومصالح أخرى (اقتصادية، سياسية وعسكرية...الخ) تقف وراء حروب الدين، وتقبع خلف ما يقدّم باسم الدين فيما وراء المعارك التي تخاض دفاعاً عنه أو هجوماً باسمه موتاً أو قتلاً أو اقتتالاً في سبيله.... وبهذا الصدد لا تشكل الحروب أو التدخلات العسكرية للغرب اليهودي - المسيحي باسم أنبل القضايا (المتعلقة بالقانون الدولي والديمقراطية وبسيادة الشعوب والأمم أو الدول والمرتبطة حتى بالأوامر أو الامتيازات الإنسانية) هي أيضاً، ومن جهة ثانية، حروباً دينية بمعنى من المعاني؟... عندئذ، وبالرغم من الأمور الأخلاقية والسياسية المستعجلة التي قد لا تترك لنا فرصة انتظار الإجابة لن يتم اعتبار التفكير في الاسم اللاتيني للدين تمريناً مدرسياً أو مدخلاً إلى فقه اللغة أو ترفاً وبكلمة نقول : إنه مجرد ذريعة لتعليق الحكم أو القرار، إنه وسيلة لإنجاز إيبوخي آخر ... ما الدين؟ الجواب: الدين هو الإجابة. أليس هذا هو الجواب الذي ينبغي أن نلتزم بتقديمه في البداية. يبقى علينا أن نعرف بالضبط ماذا يعني فعل أجاب، ومعه أيضاً لفظ المسؤولية»(2)

ويرى بعض الباحثين أن التفكيكيين الأميركيين يتجاهلون المصطلح المعرفي الفلسفي للتفكيك نظراً للمزاج الثقافي الأميركي نفسه المتحمّس للحرية الفردية وتأكيد الذات، والذي يصل في إيمانه بالذات إلى إطلاق يد القارئ(3) في تفسير النص، وتحديد معناه باعتبار أنه لا يوجد تفسير نهائي ومغلق لنص ما، وعلى أساس أن التفسير أو تحديد المعنى عملية تحدث في الزمن ومن ثم فهي عملية مؤقتة بصفة مستمرة.

ص: 65


1- ويتمر، باربرا، الأنماط الثقافية للعنف، مرجع سابق، ص 208
2- دريدا، جاك و فاتيمو جياني... مشرفين) الدين في عالمنا ترجمة محمد الهلالى وحسين العمراني (ندوة کابری) . - ط 1 . - الدار البيضاء دار توبقال للنشر، 2004، ص34-35.
3- إن أهم محاور التفكيك يرتكز على الأهمية الجديدة التي يكتسبها القارئ والدور الأساسي الذي يلعبه في تفسير النص.

ومن هذا المنحى يعتبر التفكيك في نسخته الأميركية امتداداً لفلسفة «كانط» التي تتميز بالنزعة الذاتية، وهذا ما أكد عليه «بول بوفيه» في رسالته للدكتوراه عن التفكيك عام 1975 والتي يرى فيها أن التفكيكيين برغم ما يثيرونه من صخب حول رفضهم النقاد الجدد يعتبرون في حقيقة الأمر امتداداً لهم»(1).

وبناء على ذلك فإن ما تقدمه استراتيجية التفكيك ليس إقصاء الذات بل إعادة الذات إلى محور الوجود وحرية كل قارئ في تقديم نصه وفي إعادة كتابة النص - أي تفسيره - بالطريقة التي يراها وعلى ذلك يمكن القول بأن هذا يعني ثقة جديدة في قدرات الذات وأننا نعود بالفعل إلى الذات بمعناها الكانطي.

فعلى الرغم من أن «دريدا» (وغيره من التفكيكيين) ينطلق من موقف فلسفي ونقدي ينادي بنسف التقاليد ورفض أي سلطة مرجعية لكنه لا يقدم بدائل جديدة حقيقية. البدائل الوحيدة التي يقدمها هي بدائل قد تنتمي إلى نفس المذاهب التي يرفضها والتقاليد التي ينسفها وإن كانت تغلف في صياغات براقة، تحقق بعض البريق المؤقت إلى أن تكتشف حقيقتها. فالتفكيكيون أجادوا فنون البيع والتغليف التي جعلتهم يقدمون بضائع سبق تداولها في أغلفة جديدة جذابة، ومن ثم تبدو الدراسات المتصلة غير متصلة.

ووفقاً لما سبق يمكن القول أنه إذا كان «دريدا» يركز على مناقشة تركيب العقل البشري وهو بذلك التركيز لا يتجه إلى تأكيد الذات أو الحفاظ عليها حرة مستقلة بل إنه ينفي وجود الذات كنقطة انطلاق فإنه بمحاولته إلغاء مركزية الذات، أعطى في الوقت ذاته الذات الإنسانية الفردية مشروعية كل قراءة ممكنة للنص، ومن ثم تصبح الذات هي السلطة المرجعية النهائية ولا سلطان عليها إلا ذاتها، وهذا ما هو إلا شكل متطرّف من أشكال النزعة الذاتية؛ فالتفكيكية نزعة ذاتية مثالية مغالية تجعل من الذات مركزاً لكل قراءة.

ص: 66


1- عبد العزيز حمودة المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك، مرجع سابق، ص 168.

وفي السياق نفسه، إذا كان «دريدا» حاول عبر التفكيك إقصاء الذات؛ فإن إقصاء الذات لا يتم إلا بإحلال ذات أخرى مكانها، وهذا ما يمكن أن نستشفه من إدراك ،الهامش، وكذا كل ما تم إقصاؤه، وقد أكد على ذلك «هابرماس» حينما تحدث عن التفكيك بقوله: «لا يفقد نموذج من قوته إلا بمقدار ما يقوم «آخر» بنفيه، بشكل محدد أي بمقدار ما يقوم به آخر بالانتقاص منه بشكل يمكن الحكم عليه بأنه سديد؛ إن نموذج فلسفة الوعي لا يمكنه السقوط لمجرد الانتقاص لرؤية اختفاء الذات لا يمكن لعمل التفكيك - مهما كان مندفعاً - أن يحصل على نتائج قابلة للتحديد إلا بدءاً من اللحظة حيث يحل مكان نموذج وعي الذات، المرجع الذاتي لذات تعرف وتعمل في العزلة (أي التفاهم)(1).

كما يرفض «دريدا» من ناحية أخرى، القول بموت الفلسفة، وهذا يعني ضمناً رفض القول بموت الذات؛ إذ يقول: «إنني أحاول الوقوف عند حد الخطاب الفلسفي. أقول حداً لا موتاً. ذلك أني لا أؤمن مطلقاً بما شاعت تسميته راهناً بموت الفلسفة (بل لا أؤمن بكل بساطة بأي شيء : الكتاب الإنسان أو الله؛ هذا مع الوعي بأن الموت كما نعرف جميعاً يمتلك فعالية ذات خصوصية واضحة)» (2).

ومن كل هذا نخلص إلى أن «بحث دريدا، في نهاية المطاف، يظلّ سجين الميتافيزيقا، سجيناً لميتافيزيقا الحضور هذه التي غالباً ما تفكك، ولكنها لا تهدم أبداً»(3)، وإن كان من الواجب هنا أن نشير إلى أن فلسفة «دريدا» تتضمن الكثير من الجوانب الإيجابية، فهو يدعوا إلى الاختلاف وقبول الآخر، ويرفض الدخول في حروب باسم الدين كما يعتبر التسامح فضيلة دينية.

ص: 67


1- هابرماس، يورجن ، القول الفلسفي للحداثة ترجمة : فاطمة الجيوشی دمشق منشورات وزراة الثقافة، 1995، ص 475 .
2- دريدا، جاك، مواقع حوارات مع جاك دريدا، مرجع سابق، ص.12.
3- كوفمان، سارة و لابورت ،روجی مدخل إلى فلسفة جاك دريدا: تفكيك الميتافيزيقا واستحضار الآثر مرجع سابق، ص 45.

(ثانياً): نقد الهيمنة الثقافية

اعتبرت الدول الغربية ثقافتها هي المعيار الذي يجب أن تقاس وفقاً له جودة الثقافات الأخرى من عدمها، وإن كان ذلك لا ينفي جهود علماء الأنثروبولوجيا في إقرار الثقافات الأخرى، وفي هذا السياق يقول «هانيز جوست» مؤلف مسرحية «شلاتر»:«حين أسمع كلمة الثقافة أتحسس مسدسي»، وثمة قراءة أكثر دقة للنص الألماني كما يلي: حين أسمع كلمة الثقافة أزيح صمام الأمان عن البراوننج، واسم براوننج أصبح مرادفاً للبنادق الآلية ونصف الآلية التي صممها الأميركي جون م. براوننج»(1).

ويرى بعض الباحثين أنه إذا أردنا أن نصف إحدى الثقافات بشكل كامل فيجب علينا أن نتناول الأمور الأتية مستوى تطور التقنية وأسلوب الاقتصاد، ونظام السلطة، والعناصر الاجتماعية والنظام القانوني، ونظام القيم، «ويتحدث ديتر زینجهاز (Dieter Senghas) عن سداسي، أو تمدين مسدس، وهو يدرك ذلك بطريقة معيارية مثل خيط بناء أو مبدأ يحدد المجال الذي ينبغي للمجتمع أن يتحرك فيه. وهذا المسدس (Hexagon) يشمل احتكار الدولة للعنف، والنظام والقانون والمشاركة الديمقراطية وثقافة اختلاف خالية من العنف والعدالة الاجتماعية والسيطرة على الاضطرابات وتشير الأخيرة إلى أن التربية والتكيف الاجتماعي مكونان لا غنى عنهما لأية ثقافة»(2) .

فهذا الرأي يرى أن النظرة السكونية للثقافة التي جرى وصفها كانت تصح ربما على الفترات الماضية التي كان التحول فيها يتم غالباً بإيقاع بطيء، حين كان الاحتكام بين دوائر الثقافة محدوداً، والمسافات بينها مترامية، وكانت وسائل المواصلات والاتصال قليلة علاوة على بطئها، ولذلك فقد توفرت فقط فرص ضئيلة للتأثيرات المتبادلة حدثت عبر الغزو الإيجابي أو السلبي. وتحت هذه الظروف من الاختلافات السكونية نسبياً، وعلى أساس منها، فإن الإقدام على الخروج بنبوءات

ص: 68


1- جاکوبی ،راسل نهاية اليوتوبيا السياسة والثقافة في زمن اللامبالاة ترجمة: فاروق عبد القادر، سلسلة عالم - المعرفة؛ عدد 269 الكويت المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب، 2002، ص 49.
2- موللر هارالد تعايش الثقافات، مرجع سابق، ص 56.

سياسية مستقبلية كان ممكناً ،ربما، ولكن هذه الأزمنة انصرمت، «فالمعالم الثقافية الجوهرية في المجتمعات تتبدل الآن في غضون أجيال قليلة، بل في غضون جيل واحد فقط غالباً. لقد غير الكمبيوتر حياتنا، فهو يتدخل بشكل قوي في روتيننا اليومي ويضع معايير جديدة لمعرفتنا ولاكتساب هذه المعرفة واستدعائها، وعمل في غضون سنوات قليلة على تنوير سلوكنا الاتصالي، وذلك كله يعد علامات ثقافية هامة»(1).

ويقول «فيكتور بورك»:«يتضح لنا من تأمل أعمال سوركن أن التطورات المختلفة ارتبطت بالنتاج الثقافي مثل الديانات والأيديولوجيات ورؤى العالم تظهر داخل هذه الحضارات على المستوى العام والحضاري والمستوى الكبير والصغير وتتفاعل مع الحروب لتشكل الدول»(2).

ويقول هنتنجتون: «في عالم ما بعد الحرب الباردة أصبحت الأعلام تدخل الحساب وتوضع في الاعتبار وكذلك رموز الهوية الأخرى مثل الصليب والهلال حتى غطاء الرأس لأن الثقافة (3)لها أهميتها ولأن الهوية الثقافية هي الأكثر أهمية بالنسبة لمعظم الناس... فالناس يكتشفون هويات جديدة ولكنهم في أحوال كثيرة يكتشفون هويات قديمة، ويسيرون تحت أعلام جديدة ولكنهم في أحوال كثيرة يسيرون تحت أعلام قديمة تؤدي إلى حروب مع أعداء جدد ولكن في أحوال كثيرة مع أعداء قدامى»(4).

وبغض النظر عن عدم الإحكام والدقة في الصياغة والإسهاب في التعبير عن المشكلة التي يريد إثارتها هنتنجتون فإنه يرى أن الثقافة الأصولية تؤدي إلى الحروب والصراعات بين الحضارات لأن الثقافة بشكل عام تقوم بوظيفتين متناقضتين.«فالثقافة والهويات الثقافية التي هي على المستوى العام هويات حضارية هي التي تشكل أنماط التماسك والتفسخ والصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة»(5).

ص: 69


1- المرجع السابق، ص 57.
2- Burke, Victor Lee, The Clash of Civilization, Oxford: Polity Press, 1997, P. 171.
3- كانت المفاجأة الهائلة في أن هنتنجتون قد استخدم مفهوم حضارة كما في المأثور الألمانى للثقافة. وحدد فهمه للحضارة بنظم القيم، وجعل الدين في أثناء ذلك معياراً حاسماً، وفي هذا الاستعمال المحدد يكمن مفتاح لماذا أفلت منه تشابهات وتقاربات كثيرة جداً وخاصة بين آسيا واليابان والغرب.
4- هنتنجتون ،صامويل صدام الحضارات.. إعادة صنع النظام العالمي، مرجع سابق، ص 220
5- محمد عابد الجابري قضايا الفكر المعاصر، مرجع سابق، ص 37.

وهذا يوضح على نحوٍ دقيقٍ لماذا قامت الولايات المتحدة الأميركية عندما احتلت العراق باغتيال هويّته الثقافية فنهبت المكتبات والمتاحف على يد مرتزقة وظفتهم، وهذا عينه هو ما حدث لبغداد عند الغزو التتاري لها؛ إذ وضع التتار الكتب في نهري دجلة والفرات وعبروا عليها. ولهذا يقول «هربرت ماركيوز» : «إن التخريب الثقافي ينطوي عليه كل ممارسة سياسية جذرية»(1).

ونفس الشيء حدث لمكتبة الإسكندرية التي اغُتيلت هي الأخرى - ليتم تحطيم الهوية المصرية - على أيدي الرومان فقد تعرضت للتلف بالحريق مرات عدة أولها عام 47 ق.م عندما أراد يوليوس قيصر نقلها إلى روما، والثانية عام 272 ق.م في حكم الإمبراطور أوريليا، وعام 391 بأمر الراهب ثيوفيل»(2).

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هل بإمكان هذه الكتب أن تناصب أميركا العداء؟ وهل بإمكان مقتنيات المتاحف أن تكون آلات دمار أعتى من الآلة العسكرية الأميركية؟ الذي لا شك فيه أن الكتب بما هي كتب لا يمكنها أن تدفع عن نفسها الأذى ولكن الطاقة الثقافية التي تحويها هذه الكتب والتي تعد بمثابة حصن للذات هی أخشى ما تخشاه أميركا.

الطامة الكبرى في واقعنا العربي أننا ننظر إلى الثقافة والعلم بوجه عام على أنهما أدوات ترفيهية أو إحدى كماليات الحياة العصرية ولم ننظر إلى الثقافة والعلم أبداً على أنهما خط الدفاع الأول ضد كل غزو، ولذلك دعت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الالكسو) إلى ضرورة تكثيف الجهود لتقليص نسب الأميّة التي لا تزال مرتفعة في العالم العربي؛ «حيث يبلغ عدد الأميين 70 مليوناً. ورأت الالكسو أن البيانات الإحصائية حول واقع الأمية في البلاد العربية تشير إلى أن عدد الأميين لدى الفئات العمرية التي تزيد على 15 عاماً، ارتفع عموماً من 50 مليوناً عام 1970م إلى 70 مليوناً في 2005، كما أن معدل الأمية وصل إلى 35.6% وتشكل هذه النسبة ضعف معدل الأمية

ص: 70


1- مارکیوز، هربرت نحو ثورة جديدة، مرجع سابق، ص 27.
2- أميرة حلمى مطر، الفلسفة اليونانية تاريخها ومشكلاتها، القاهرة: دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، 1998، ص17.

في العالم وأعلى من تلك المسجلة بالمناطق الأقل نمواً فيه وتبلغ 23.4 ، وتنتشر الأمية بنسبة مرتفعة بين النساء اللواتي يعاني نصفهن تقريباً منها (46.5 %)»(1).

ومن هذا المنطلق، يبدو لنا أن فكرة الصراع الثقافي بين العالم العربي والغرب بعيدة كل البعد عن الواقع. ولكن من الملاحظ أن بعض المفكرين الغربيين مصممون على فكرة الصراع ؛ بل واختلاقه.

ومن أجل أن تخفي أميركا نزعتها الاستعمارية تختلق صداماً بمسميات متعددة يحدث نتيجة مجابهة القوة الوطنية للغزو الاستعماري «وهكذا يصبح الصدام المختلق واقعاً وحقيقة وهو يحدث عندما تجعل إحدى الثقافات من نفسها الثقافة العظمى، بينما كل الثقافات الأخرى ثقافات صغرى ومن ثم فالعلاقة بينهما هي علاقة ميتافيزيقية علاقة بين الواحد والكثير علاقة ذات صلة بالوجود علاقة بين الإله والمخلوقات، بل إنها علاقة أخلاقية بين ما ينبغي أن يكون وماهو كائن. إن ثقافة واحدة، في سعيها إلى القوة تتجاوز كل الثقافات الأخرى وتتفوق عليها، مثل الإله زیوس على جبال الأوليمب. إن ترتيب الثقافات هو ترتيب للقيم، فالثقافة العظمى أعلى من الثقافات الأخرى، الثقافات الصغرى واحدة في المركز والأخريات في التخوم بعد ذلك، تبدأ عملية التثاقف. وفي ذهن الثقافة العظمى أن التثاقف يعني الإسقاط والإضافة، إسقاط ماهو أصلي وإضافة ماهو خارجي، وهو مسار ضروري من التخلف إلى النمو، من التأخر إلى التقدم من البدائية إلى الحداثة، من الموت إلى الحياة. أما التثاقف في ذهن الثقافات الصغرى فيعني تدمير الثقافات الوطنية الصغرى تنفيذاً للثقافة الإمبريالية العظمى. ولما كانت الثقافة هی المعبرة عن الهوية الوطنية، فإن تدمير الثقافات الوطنية إنما هو تدمير للكيانات الوطنية والمجتمعات والشعوب»(2).

ص: 71


1- حازم محفوظ ، بناء العقل النقدى: محاولة للخروج من دوامة التخلف العربي، جريدة الأهرام، السنة 44042 عدد 131 ، 7 يوليو 2007 ، ص: 11. 7.131
2- حسن حنفى الحضارات في صراع أم حوار نموذجان بديلان، ورقة بحثية ألقيت في مؤتمر : صراع الحضارات أم حوار الثقافات» الذي نظمته منظمة تضامن الشعوب الأفريقية الأسيوية، وصدر في كتاب يحمل نفس عنوان المؤتمر، القاهرة المنظمة 1997، الصفحات من ( ص 54 - ص 59، ص 55.

والواقع أننا قد نتفق مع «هنتنجتون» على أن الثقافة إما أن تؤدي إلى تماسك المجتمع أو تؤدي إلى تفسخه - على نحو ما يثار من جدل حاد في أميركا حالياً عن ثقافة النخبة وثقافة الجماهير - ولكننا لا نتفق معه في أن الثقافة تؤدي إلى الصدام بين الحضارات؛ حيث إن الثقافات لا تعد لاعباً سياسياً، ولا تستطيع أن تكون فاعلةً في السياسة الدولية مباشرة، ولذلك فإن الحديث عن صدام الثقافات لا يعدو عن كونه مجازاً لا يميز واقعاً سياسياً ممكناً، فعالم السياسة له بعد مادي ويتجلى ذلك بأوضح صورة في الحدود التي تعيّن أراضي الدولة، فالدولة توجد بصفتها معطى جغرافياً ويجسدها أشخاص محددون ومن ينس الوجود المادي للدولة، فإن بإمكان البوليس والجيش اللذين تعلن سلطة الدولة عن نفسها فيهما بشكل ملموس تذکیره بذلك بصورة سريعة وموجعة.

(ثالثاً): العولمة والهيمنة

بما أن العولمة تطورٌ طبيعيٌّ ومنتجٌ أصيلٌ لسيادة الرأسمالية، والرأسمالية وفقاً لتعريفها الاصطلاحي هي«النظام الاقتصادي الذي يقوم على الملكية الخاصة لموارد الثروة ويطلق المجال لحريات الأفراد والمشروعات»(1). إذن ، لا يمكن أبداً النظر إلى الرأسمالية على أنها قادرة على تحقيق الفردوس على الأرض بل لن يكون بوسعها إلا إذكاء مزيد من الهيمنة والسيطرة للأنا على الآخر. أضف إلى ذلك «أن الرأسمالية تسير بالعامل إلى منتهى الحرمان، وتحرره تدريجياً من كل العوامل المحددة ... ليس في حوزته شيء... لا ملكية، لا أخلاق، لا أرض. إنه إذاً لا يملك أي شيء»(2).

ومن هذا يمكننا أن نستنتج دون وجل أن التماس خلاص الطبقة العاملة في شيء آخر غير نمو الرأسمالية الضخم، ضرب من التفكير الرجعي»(3).

ص: 72


1- محمد شفيق غربال، الموسوعة العربية الميسرة مادة رأسمالية - 30 - القاهرة: دار الشعب ومؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر 1959، ص853.
2- كامي ألبير الإنسان المتمرد، مرجع سابق، ص.256.
3- المرجع السابق، ص: 258.

من هذا المنظور يمكن قراءة سيطرة الرأسمالية كنسق اقتصادي على اقتصاديات السوق تؤدي في النهاية إلى فرض الهيمنة والسيطرة لصاحب المال.

إن المال كما يقولون يولد القوة ولابد للقوة أن تتخارج، وهذا ما نجد عليه دليلاً واضحاً في حالة الولايات المتحدة الأميركية إن قواتها الاقتصادية تؤدّي بها إلى التخارج الذي قد يبدأ في شكل مساعدات للفقراء ثم سرعان ما يتطور إلى تدخل بالقوة في الشئون الداخلية لبعض الدول.

والواقع أن مصطلح العولمة لم يبرز بصورة متكررة وكثيفة - في الأدبيات الغربية في مجال العلاقات الدولية - إلا منذ بداية التسعينات، أي متزامناً مع أهم حدثين في نهاية القرن العشرين وهما انهيار الاتحاد السوفيتي (1)ونهاية الحرب الباردة؛ حيث أخذ يتبلور الحديث عن النظام العالمى الجديد الذي شغل مساحة هامة من اهتمام منظري العلاقات الدولية وساستها.

فلقد كان المخططون الأميركيون يأملون بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، في تنظيم معظم العالم، إن لم يكن كله وفق الحاجات المتصورة لاقتصاد الولايات المتحدة. وأوضح جورج كينان، رئيس التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأميركية أن المهمة الحقيقية للولايات المتحدة، بما لديها من نصف ثروة العالم وما تتمتع به من مركز في القوة والأمن لا مثيل له في التاريخ، هو الحفاظ على مركز التفاوت هذا، وبالقوة إذا لزم الأمر ؛ يقول جورج كينان»: «إننا نستحوذ على خمسين

ص: 73


1- يقول (بول سالم): قبل إنهيار الاتحاد السوفيتى في أواخر الثمانينات ومع تزايد ديون ميزانية الولايات المتحدة وعجزها في السبعينات، وبتزايد التحديات الاقتصادية من قبل دول شرق آسيا وأوروبا ودول أمريكا الجنوبية والوسطى، ساد رأى مشترك خلال الثمانينات بين كبار الباحثين الغربيين أمثال بول كيندى فى كتابه صعود وهبوط القوى العظمى، ودايفد كاليو في كتابه أبعد من السيطرة الأمريكية، ووالتر روسل ميد فى كتابه الأبهة الفانية شبهوا الولايات المتحدة فيه بإمبراطورية هابسبورغ في أسبانيا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، أو بالإمبراطورية الرومانية في سنواتها الأخيرة حيث استنزفت التزاماتها العسكرية الواسعة اقتصادها وحيويتها، وأدخلتها على طريق التقهقر المؤكد والسريع. ولكن بانهيار الاتحاد السوفيتى وتراجع الاقتصاد اليابانى ونجاح تحول الاقتصاد الأمريكي إلى اقتصاد خدماتی و معلوماتی مرن على نحو عجزت أوروبا عن اقتفاء خطاه، أخذ الاختصاصيون يعيدون النظر في فرضياتهم ويعتبرون أن الولايات المتحدة ربما خرجت من أزمتها وأعادت لنفسها تأمين موقع عالمى مسيطر في القرن الحادي والعشرين». (بول سالم، الولايات المتحدة والعولمة معالم الهيمنة في مطلع القرن الحادي والعشرين، مجلة المستقبل العربي، السنة العشرون عدد ،229 بیروت مركز دراسات الوحدة العربية 1998، ص: (78).

في المائة من ثروات العالم ، ولكن ليس لدينا سوى 56.3% من عدد سكانه. في مثل هذا الموقف، تكون مهمتنا الحقيقية في الفترة القادمة هي الإبقاء على هذا الوضع من التفاوت. وحتى يتسنى لنا ذلك لابد لنا أن نتحلل من كل المشاعر العاطفية، ينبغي أن نتوقف عن التفكير في الحقوق الإنسانية، وفي رفع مستويات المعيشة، وإقرار الديمقراطية»(1)، وقد تحققت هذه الرؤية جزئياً، ولكن مع مرور الزمن، كان لا بد المركز السيادة للولايات المتحدة أن يتأكل ، وحاولت إدارة كينيدي تطبيق (التصميم الأعظم) لمعالجة المشكلة المتنامية، متوقعة أن تنوب بريطانيا منابنا (أي شريكتنا في الكلام الرائج)، على حد تعبير أحد كبار مستشاري كينيدي الذي زل لسانه بالمعنى الحقيقي للعبارات الفخمة بشأن الشراكة»(2).

وقد أصبح من الصعب، بحلول ذلك الوقت، ضبط أوروبا والسيطرة عليها، وهي المنافس المحتمل الرئيسي وتفاقمت المشاكل «إذ كان حلفاء الولايات المتحدة يقومون بإثراء أنفسهم من خلال مشاركتهم في تدمير الهند الصينية، ذلك التدمير الذي كان باهظ الكلفة على الاقتصاد الأميركي»(3)

ومن هنا فالعولمة ليست عملية حديثة أو مقترنة بنهاية القرن العشرين ونهاية الحرب الباردة، بل إنها قديمة ذات جذور تاريخية ترجع إلى بداية الرأسمالية وتطورها منذ عدة قرون، وهذا ما أكد عليه «فيليب ماك مايكل» إذ يقول: «إن مشروع العولمة ليس خاصاً بعصرنا كما قد يظن البعض لكن العولمة كرؤية لتنظيم العالم هي خاصة بعصرنا إنها مشروع تاريخي مثلما كان مشروع التنمية»(4)، وهي من هذا المنحى وحدة تعكس المعنى الحقيقي لها بوصفها شكل من أشكال فرض الهيمنة من قبل المركز على الأطراف.

ص: 74


1- بيلجر، جون، حكام العالم الجدد؛ ترجمة : إسماعيل داود القاهرة دار مصر المحروسة، 2003، ص153.
2- Paterson, Thomas G.; Kennedy's Quest for Victory: American Foreign Policy, 1961 -1963, New York: Oxford University Press, 1989, P.351.
3- تشومسكي نعوم، إعاقة الديمقراطية: الولايات المتحدة والديمقراطية، مرجع سابق، ص 111.
4- مايكل فيليب ماك ، العولمة أساطير وحقائق، ضمن أبحاث كتاب من الحداثة إلى العولمة : رؤى ووجهات نظر في قضية التطور والتغير الاجتماعي، روبيرتس ،تيمونز وهايت إيمى ؛ ترجمة : سمر الشيشكلي مراجعة محمود ماجد عمر، سلسلة عالم المعرفة عدد 310 ، ج2 ، الكويت المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2004، ص 141.

فإذا كانت الحروب الصليبية قد فشلت في تحقيق أهدافها لمدة قرنين، فإن أساليب أخرى أخذت في التطور حتى وصلت إلى مرحلة الاستعمار التقليدي للعالم الإسلامي،«ففي ظل السيطرة التجارية (العولمة) ...كانت تتمدد جذور الفكر عن المركزية الأوروبية من ناحية، كما تتبلور ملامح تفوق المنظومة الرأسمالية الغربية العلمانية من ناحية أخرى»(1).

ويطرح «ليوتار» رؤيته لطبيعة العلاقة الحالية القائمة بين أطراف المنظومة الرأسمالية الحاكمة والمؤسسة للعولمة بقوله :«إنه إذا كان يجب القضاء على الاستغلال والاغتراب الذي يتعرض له النشاط الإنتاجي، فلأنهما يؤديان إلى إبطال قيمة العمل والإنسان العامل إن قيمة العمل هي التي أخذت في الأفول. وفي فرنسا أفضى تحقيق حديث إلى أن نصف الشباب الفرنسي، ممن يمثلون جميع فئات المجتمع، لا يبصر في العمل إلا غاية واحدة هي ضمان البقاء. إنه ينفي عنه كل قيمة خلقية (إنه شيءةٌ حسنٌ أن نعمل) وكل قيمة مثالية للذات (إنني أحقق ذاتي في العمل) وبمعنى أخر، فقدت فكرة العمل وستفقد جزءاً من قوة تحفيزها... والنظام الرأسمالي يدمر قيمةً كانت تبدو أساسيةً له. والحقيقة أن الرأسمالية ليست بحاجة إلى أن يثمن العمل أو يقوم ... وإنما يكفيها أن العمل موجود»(2).

وينظر «ليوتار» - ربما مستمداً من جان جاك روسو فكرته الأولى عن الملكية حين أعلن «أن أول شخص وضع سياجاً حول قطعة من الأرض وقال هذه ملكي أسس البداية الملكية الذاتية»(3)- إلى صراعات الرأسمالية قائلاً: «إنها صراعات مصاحبة - العميلة تعدي الرأسمالية على المجتمعات المدنية التقليدية ... هذه الصراعات دامت أكثر من قرن من التاريخ الاجتماعي، والسياسي، والأيديولوجي... كما أن مصير هذا الصراع قد تحدد: ففي البلدان ذات الإدارة الليبرالية المتقدمة تحولت الصراعات

ص: 75


1- نادية مصطفى، التحديات الحضارية الخارجية للعالم الإسلامى بروز الأبعاد الحضارية الثقافية، مرجع سابق، ص 94.
2- Lyotard, J. F.; Expedient dans la decadence in "Rudiments paiens". Collection 10/ 18 union general d' Editions, Paris, 1977, PP.132-133.
3- روسو، جاك جان، العقد الاجتماعي؛ ترجمة حلمى ،مراد القاهرة : مكتبة نهضة مصر، 1991، ص1.

وأدواتها إلى منظمات للنظام؛ وفي البلدان الشيوعية عاد النموذج ذو الصبغة الكلية وتأثيرات الشمولية تحت اسم الماركسية ذاتها، وحرمت الصراعات موضوع البحث ببساطة من الحق في الوجود»(1)، ولذلك نجد الطبقة الحاكمة الآن وهي طبقة صانعي القرار «لم تعد تتكون من الطبقة السياسية التقليدية، بل من شريحة مركبة من رؤساء الشركات والمديرين رفيعي المستوى، ورؤساء المنظمات الكبرى المهنية»(2).

وإذا حاولنا النظر إلى الرأسمالية التي تمثل الدعامة الأساسية وربما الدعامة الأولى للعولمة من منظور أنثربولوجي، سنجد أن الرأسمالية نظام يقوم على التراكم اللانهائي للرأسمالي. وهي بالتالي؛ نظام يتطلب الامتلاك الأقصى لفائض القيمة.«فثمة طريقتان للرفع من امتلاك فائض القيمة: الأولى وهي أن العمال يبذلون جهداً كبيراً وبفعالية أكبر وبالتالي يخلقون خارجاً أكبر بنفس القدر من الدخول (غير وقت العمل البشري) والثانية هي إرجاع قليل من القيمة التي أنتجت إلى منتجيها المباشرين. وباختصار فالرأسمالية، بالتعريف،«تستلزم الضغط على كل المنتجين المباشرين لكي يعملوا أكثر ويتقاضوا أقل»(3).

فهل بوسع مثل هذا النظام أو هل لطبيعة العلاقة بين صاحب العمل (المالك) والعامل أن تخلق علاقة سوية ؟ كلا، إذ يقول «فالرشتاين» «إن النظام الرأسمالي نظام استقطابي سواء في نموذج المكافأة أو في الدرجة التي يصبح فيها الأشخاص مجبرين باطرادٍ على لعب أدوارٍ اجتماعيةٍ على طرفي نقيض. ثم إنه، مع ذلك، نظام توسعي أيضاً، ومن ثم «فهو نظام اتخذت فيه كل المعالم المطلقة شكل امتداد خطي صاعد في الزمن: مادام الاقتصاد الرأسمالي العالمي تميز دائماً بنشاط إنتاجي، منذ البداية، وأنتج الكثير من القيم بل والكثير من السكان والاختراعات الكثيرة. وبالتالي تميز بالكثير من مظاهر الثراء الفاحشة»(4).

ص: 76


1- ليوتار جان فرانسوا الوضع ما بعد الحداثى تقرير عن المعرفة، مرجع سابق، ص.35.
2- المرجع السابق، ص 37.
3- فالرشتاین عمانويل الثقافة كساحة للصراع الإيديولوجي في النظام الدولي الحديث، مرجع سابق.
4- المرجع السابق.

ومن ناحية أخرى، لما كانت الدولة فكرة كلية تسبق الوجود الجزئي للأفراد فيما يقول (أرسطو)، وتعد الدولة من وجهة نظر الساسة بمثابة الحصن الواقي للجماعة التي تدين لها بوجودها، فإن من شأن تحويل المحدود (الدولة) إلى اللامحدود (العالم) لا يبدو من وجهة نظرنا ذا قصدٍ بريءٍ وإنما هو بالأحرى يخضع لتوجه أيديولوجي ما.

ويمكننا أن نستشف التوجه الأيديولوجي من تعريف العولمة نفسه الذي يركز على جوانبها الاقتصادية ويحيلها إلى اندماج أسواق العالم في مجالات التجارة والاستثمارات المباشرة ولم يمنع هذا أنه يتضمن تعريف العولمة شمولها للجوانب الثقافية.

ومن ثم فالعولمة قد تكون في شكلها الظاهري عملية اقتصادية ولكنها في الواقع عملية أيديولوجية خالصة. من هنا نستطيع أن نستنتج، أن الأمر يتعلق بالدعوة إلى توسيع النموذج الأميركي وإفساح المجال له ليشمل العالم كله. وبعبارة أخرى، فيما أن الدعوة إلى العولمة قد ظهرت فعلاً في الولايات المتحدة الأميركية بهذا المعنى، في أوساط المال والاقتصاد، فإن لنا أن نستنتج أن الأمر يتعلق ليس فقط بآلية من آليات التطور الرأسمالي الحديث، بل أيضاً بالدعوة إلى تبنّي نموذج معين، وبالتالي فالعولمة، إلى جانب كونها نظاماً اقتصادياً، هی أيضاً أيديولوجية تعكس هذا النظام وتخدمه وتكرسه، وهناك من الكتاب من يقرن بينها وبين «الأمركة»، أي نشر وتعميم الطابع الأميركي.

ومن هذا المنطلق، فالعولمة، كما ندركها حالياً ونشهد آثارها، تعمل على تكريس الثنائية والتمزُّق والانشطار في الهُوِيَّات الثقافية الوطنية، ومنها طبعاً هُويتنا العربية الإسلامية. وثمة إجماع من قبل المفكرين المعاصرين العرب على أن العولمة «ليست سوى الثقافة الغربية الظافرة في هذا العصر، بعناصرها ومكوناتها المختلفة، وبروافدِها الأوروبية، وخاصة الأميركية منها. وهي ليست سوى هذه الثقافة وهي تسعى إلى فرض قيمها واختياراتها ومرجعياتها، على سائر الثقافات الإنسانية الأخرى، من أجل

ص: 77

إعادة تشكيلها. وكيف يجوز لنا والحالة هذه، وأمام هذه المعطيات، الأمل في إمكانية قيام حوار حقيقي ومنتج بين الثقافات البشرية المختلفة في عالم اليوم، مؤسس على التكافؤ والعدل، في زمن صارت فيه العولمة، بهذه الصفة والخصائص، تضبط ساعاته ودقائقه، وفي هذه الفترة التاريخية بالذات، التي تتعالى فيها من جديد أصوات مذكّرة بالتفوُّق العرقي والثقافي، ومُنذرة باندلاع حروب الثقافات؟»(1).

وفي هذا الإطار فالثقافة الغربية تطرح نفسها بديلاً لكل الثقافات الأخرى وترى قيمها ممثلة في الديمقراطية هي القيم الوحيدة الحقيقية التي يجب أن تسود، ومن هذا المنظور يحاول «هنتنجتون» خلط الأوراق ، فبدلاً من أن يجعل من العولمة حركة للسيطرة يذهب إلى أن العالم الإسلامي يهاجم العولمة بوصفها قيمة من قيم العالم الحر والحداثة، ومن هنا يشدد على علاقة انبعاث الوعي الإسلامي بالعولمة فيقول:«من أهم التطورات الاجتماعية والثقافية والسياسية ذات الدلالة الخاصة التي حدثت في العقود الأخيرة تتمثل في انبعاث الوعي الإسلامي والحركات المتعلقة به بين المسلمين تقريباً في كل مكان، وهذه الصحوة أو هذا الانبعاث يعود أساساً إلى حالة من رد الفعل تجاه الحداثة والتحديث والعولمة»(2).

قد يعتقد البعض أن مصطلح العولمة مصطلح يقف على النقيض من مصطلح ،الصدام، لأن مفاده أن العالم يجب أن يكون قرية صغير واحدة، غير أن العولمة لیست نظاماً عالمياً أو نموذجاً عالمياً للحياة يرسم حدوداً لعالم مثالي تتكامل فيه الدول وتتوحد - كما يحلو لمروجي العولمة أن يصوره - كما أنها ليست نظاماً عالمياً نشأ نتيجة تفاعل طبيعي للثقافات العالمية، ولكنها نظام جديد من العلاقات بين الثقافات، كما هو الحال بین الجماعات والدول والأسواق، نشأ في سياق صراع التكتلات الرأسمالية الكبرى على الهيمنة العالمية إنه يعكس إذن هذه الهيمنة(3)

ص: 78


1- عبد الرزاق الدواي، الحوار بين الثقافات الأخلاقيات و الشروط الغائبة، موقع سابق
2- هنتنجتون صامويل عصر حروب المسلمين، مرجع سابق
3- ويشير محمد عابد الجابري إلى أن العولمة هي ما بعد الاستعمار، باعتبار أن ال- (مابعد» في مثل هذه التعابير لا يعنى القطيعة مع ال- «ماقبل ، بل يعنى الاستمرار فيه بصورة جديدة... ومن بين أبعاد العولمة التوسع والهيمنة) محمد عابد الجابرى قضايا في الفكر المعاصر ، مرجع سابق، ص 137).

في بنيته العميقة، ويكرس الموقع المتميز للولايات المتحدة فيها، بقدر ما يعكس المشاركة الرئيسية للرأسمالية الأميركية في ثورة المعلومات. وتلعب هذه الهيمنة، بما يلحقها من تطورات تقنية وتبادلات تجارية، تعمل على تقريب المسافات وتوحيد أنماط الحياة المادية والفكرية، دوراً أساسياً في دمج الدوائر الثقافية المختلفة، وإنشاء فضاء ثقافي مشترك، أو قائم فوق الثقافات القومية، يسمح لمنتجات الثقافة الأميركية أن تهيمن وتسود منتجات الثقافات الأخرى إلى حد كبير.

كما أن العولمة ليست نتيجة حتمية خلقتها سياسات معينة بوعي وإرادة الحكومات والبرلمانات التي وقعت على القوانين التي طبقت السياسات الليبرالية الجديدة وألغت الحدود والحواجز أمام حركات تنقل السلع ورؤوس الأموال، وسحبت المكاسب التي حققها العمال والطبقة الوسطى، واعتبرت أن منظمة التجارة العالمية (الجات) ستتولى توقيع العقوبات على من لا يذعن لسياسة حرية التجارة.

فمن الواضح أنه ليس ثمة حتمية في أي من هذه الأمور، وإنما الأمر كله لا يعدو كونه أيديولوجية سياسية تحاول فرض هيمنتها على العالم لتحقيق مركزية القطب الواحد تحت مسميات متعددة. وإذا كان البعض يرى أن العالم صار سوقاً واحدة شئنا أم أبينا وأن التجارة العالمية تبدو وكأنها في نموٍّ مطردٍ يستفيد منه الجميع، فالواقع أن ثمة حقائق مفجعة وتُجافي كل هذه الادعاءات. ولعل من أوضح هذه الحقائق «أن %20% من العاملين ستكفي في القرن القادم للحفاظ على نشاط الاقتصاد الدولي (ومن ثم) لن تكون هناك حاجة إلى أيد عاملة أكثر من هذا»(1).

وهذا يعني أن أحد أشكال العولمة هو تقليل الاعتماد على العنصر البشري، وهذا بطبيعة الحال لن يؤدي إلى إيجاد حلول لمشكلات الإنسان المتعلقة بالعمل، والبطالة بل سيؤدي إلى زيادتها وتفاقمها، إذ يرى بعض الباحثين أنه «إذا لم يكن هناك ما يضمن لنا أننا قادرون على خلق فرص عمل جديدة بنفس القدر الذي سنخسره بفعل عملية

ص: 79


1- مارتين هانز بيتر وشومان هارالد فخ العولمة ترجمة: عدنان عباس على ؛ مراجعة رمزی ،زکی، سلسلة عالم المعرفة عدد 238 ، الكويت : المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1998، ص 9 و 25 - 26

التحرير الاقتصادي على أدنى تقدير فسيكون من الأفضل لنا أن نرجيءَ جميع عمليات فتح الأسواق للمنافسة الدولية إلى حد انخفاض البطالة مجدداً»(1).

فأين إذن ستذهب هذه الأيدي العاملة ؟ بل كيف يمكن استيعاب الأيدي العاملة الجديدة التي يتم الدفع بها إلى السوق ؟ وكيف يمكن خلق توازن بين مستوى الدخول المرتفعة والتي يتقاضاها العاملون في الشركات العالمية وبين هؤلاء المعدمين الذين لا يجدون فرصة عمل ؟

«ففي العقود الأولى من القرن التاسع عشر، كانت النسبة بين متوسط الدخل في إنجلترا، أغنى بلاد العالم في ذلك الوقت، والبلدان العربية لا تزيد على الأرجح على نسبة 3: 1، أما الآن فقد أصبحت النسبة بين متوسط الدخل في والولايات المتحدة ونظيره في البلدان العربية أقرب إلى 15 :1»(2). ومن الحقائق المفزعة في ظلِّ أطروحة العولمة التي بشَّر بها الغرب، أنه بالرغم من وجود العولمة إلا أن البيانات الإحصائية لا تدعم النظرية الزاعمة بأن تحرير التجارة يؤدي حتماً إلى نمو مجمل اقتصاديات العالم، إذ إن:«ربع السكان في العالم الثالث (3)يعيشون تحت خط الفقر، وأن 30 ألف شخص يموتون يومياً بسبب المياه الملوثة والظروف الصحية السيئة، وأن متوسط العمر في تلك البلاد يقل عشرين عاماً عما هو عليه في الولايات المتحدة»(4).

وفي بعض التقارير: أن ثروة ثلاثة أغنياء أمريكيين تعادل أو تزيد ثروات 48 دولة من دول العالم الفقيرة، وأن 255 ثرياً في العالم يمتلكون ألف مليار دولار، وأن 48 شخصاً أميركياً تزيد ثروتهم على ثروة الصين التي يصل عدد سكانها إلى 1. 3 مليار نسمة، وأن أربعين مليار دولار فقط - أي ما يوازي 4% من ثروات ال- 225 شخصاً -

ص: 80


1- المرجع السابق، ص455.
2- جلال ،أمين العولمة والتنمية العربية من حملة نابليون إلى جولة الأوروغواى بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1999، ص 33.
3- العالم الثالث فى رأى فيليب ماك مايكل هو أرض الاختبار». (مايكل، فيليب ماك، العولمة أساطير وحقائق مرجع سابق، ص158
4- هادى المدرسى، لئلا يكون صدام حضارات الطريق الثالث بين الإسلام والغرب مرجع سابق، ص 150.

كافية لكي تؤمن لكل سكان المعمورة الخدمات الاجتماعية الأساسية التي يحتاجون إليها ، أي الغذاء والصحة والمياه والتعليم»(1).

وتأسيساً على هذه الحقائق،«فإن الأمل بأن تؤدي كل جولة من جولات تحرير التجارة الخارجية إلى تنامي نمو الاقتصاد العالمي وخيرات الشعوب المشاركة في هذه التجارة وَهُمٌ وضَلالٌ بيِّن»(2).

كما أن المشكلة أيضاً هى الحصول على عمال يبذلون جهداً كبيراً في العمل

مقابل أجرٍ زهيدٍ، وهذا يعكس طبيعة المصالح الذاتية والاستغلال الرأسمالي. وإذا كان البعض يرى أن فحوى العولمة هو غير المالكين مقصيون.. أدمجوهم! والأقليات مقصيّة .. أدمجوها ! والنساء مقصيات.. أدمجوهن ! ساووا بين الكل . والطبقة السائدة تملك أكثر مما يملك الآخرون. فلتسوَّ الطبقات ببعضها ! لكن إذا ما تساوينا سائداً ومسوداً فلماذا لا تتساوى الأقليات مع الأغلبيات، والنساء مع الرجال؟ فالتساوي عني في الممارسة إخضاع الضعيف لنموذج القوي»(3). التساوي إذن مرفوض من وجهة نظر أنصار العولمة؛ إذ لابد من وجود مهيمن ومهيمن عليه، أنا وآخر، ذات وموضوع.

ومن هذا المنحى تصبح المساواة المنشودة هي اللامساواة، وفي هذا السياق وحده تكون اللامساواة مقبولة من قبل «هنتنجتون» إذ يقبل هذه اللامساواة على أساس أنها نمط طبيعي للحياة؛ إذ يقول: «اللامساواة مقبولة في مجتمع تقليدي كجزء من النمط الطبيعي للحياة... وعلى أيِّ حالٍ فإن الحركة الاجتماعية تزيد الوعي باللامساواة»(4)ويستطرد قائلاً:«النمو الاقتصادي يزيد من اللامساواة الاقتصادية... ويتحدَّ كلا جانبي الحداثة ليسبب اللا استقرار السياسي»(5).

ص: 81


1- الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي فقه العولمة: دراسة إسلامية معاصرة، مرجع سابق، ص194.
2- أفهيلد هورست اقتصاد يغدق فقراً: التحول من دولة التكافل الاجتماعى إلى المجتمع المنقسم على نفسه؛ ترجمة: عدنان عباس على سلسلة عالم المعرفة عدد 335 الكويت المركز الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2007، ص174.
3- فالرشتاین عمانويل، الثقافة كساحة للصراع الإيديولوجي في النظام الدولي الحديث، مرجع سابق.
4- هنتنجتون، صامويل التغير إلى التغير، ضمن أبحاث كتاب من الحداثة إلى العولمة رؤى ووجهات نظر في قضية التطور والتغير الاجتماعی ،روبيرتس ،تیمونز وهايت إيمى ترجمة سمر الشيشكلي مراجعة محمود ماجد عمر، سلسلة عام ،المعرفة، العدد 309 ، ج 1 ، الكويت المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2004، ص 239.
5- هنتنجتون صامويل التغير إلى التغير، مرجع سابق، ص 240.

«هنتنجتون»، إذن، يقرُّ بأن النمو الاقتصادي له آثار يترتب عليها عدم المساواة،لكنه في الوقت الذي يقف فيه على مشارف الحقيقة، يعود فيتقهقر تحت دعوى ان النمو الاقتصادي من متطلبات التقدم، دون أن يطرح سبيلاً معقولاً لمعالجة الآثار السيئة الناجمة عن نمو الاقتصاد.

ويقرُّ أيضاً «عمانويل فالرشتاين» بهذه اللامساواة؛ حيث يحدد المساواة واللامساواة بالفاعلية في العمل، ومن هنا يمكن القول إذا كان «فالرشتاين» يقر بأن اللامساواة لها ما يبررها لأنها نتيجة طبيعية لأخلاق العمل الكونية، إذ يقول:«عندما يصبح الأفراد والجماعات قادرين على «المنافسة» في السوق(1) يمكنهم الحصول على ما حصل عليه الآخرون قبلهم، ومن ثم سوف يحققون المساواة ذات يوم، وحتى ذلك الوقت لا مفرَّ من اللامساواة. وهكذا فأخلاق العمل الكونية تبرر كل هذه التفاوتات الحاصلة ما دامت علّة أصلها نابعة من التفاوت التاريخي... فالدول التي هي أحسن حالاً من أخرى .... حققت هذه الأفضلية من خلال التزام صارم ومبكر وقوي بأخلاق العمل الكونية، وعلى العكس من ذلك، فالذين هم أسوأ حالاً وبالتالي أولئك الذين يتقاضون أجراً أقل يحتلون هذا الوضع لأنهم يستحقونه. ولهذا فوجود تفاوت في الدخول لا يصبح أبداً مثالاً شاهداً على العنصرية، فبالأحرى معياراً عالمياً لمكافأة الفعالية»(2)، إلا أنه نسَي أن هذه القواعد لتقاضي الأجور مفروضة من قبل الأقوى على الأضعف، وإلا كيف نفسّر رخص الأيدي العاملة الماهرة في بعض الدول النامية عنها في الدول المتقدمة، رغم أن ما يقومون به أو ينتجونه يمكن أن يكون أجود وأتقن كما أن أجور بعض المتخصصين في الدول النامية كالهند مثلاً تقل عن مثيلاتها من الأميركيين، كما أن بعض أعضاء هيئة التدريس على سبيل المثال في الجامعة الأميركية بالقاهرة من الأميركيين تزيد أجورهم عن قرناءهم العاملين معهم في نفس الجامعة من المصريين.

ص: 82


1- يقول « هورست أفهيلد»: «يبدو أن ثمة احتمال أن يؤدى انتصار السوق... إلى الإضرار بمصالح السوق نفسها في نهاية المطاف أفهيلد هورست اقتصاد يغدق فقراً: التحول من دولة التكافل الاجتماعى إلى المجتمع المنقسم على ،نفسه مرجع سابق، ص.286
2- فالرشتاین عمانويل، الثقافة كساحة للصراع الإيديولوجي في النظام الدولي الحديث، مرجع سابق.

وإذا كان الغرب يعتبر أن من مظاهر الديمقراطية وإفرازاتها قبول العولمة، فإننا نجد «هنتنجتون» يطرح رؤية في إطار موازٍ فيقرُّ بوجود علاقة طردية بين النمو الاقتصادي والديمقراطية إذ يقول «إن النمو الاقتصادي يجعل من الديمقراطية أمراً ممكناً، والقيادة السياسية تجعل منها أمراً واقعاً»(1). كما يقول في موضع آخر «هناك ارتباط شديد بين مستوى التنمية الاقتصادية وبين قيام الأنظمة الديمقراطية فكلّما زادت درجة التصنيع وحداثة الاقتصاد وتعقيد المجتمع ونسبة التعليم زادت فرصة قیام نظام ديمقراطي»(2)، إلا أن «الواقع المعاش فنَّد مزاعم الليبرالية هذه، فما تحقق على أرض الواقع يخالف زعمها مخالفة النقيض للنقيض»(3).

فالواقع يعكس على نحو لا شك فيه أن ثمة مستويات متدنية للديمقراطية في

البلدان المتقدمة تكنولوجياً وصاحبة المستوى الاقتصادي المرتفع.

ومن الواضح أن «هنتنجتون» استخدم الديمقراطية كمبرر(4) للتدخل في شؤون بلدان العالم الثالث الفقيرة ومن ثم السيطرة عليها.

إن الحقيقة التي يفصح عنها الصراع على لقمة العيش لا شك أنها مفجعة ولعل مقولة «سكوت مك نيلي» مدير مؤسسة «سان» يُعبر عن هذا الصراع على لقمة العيش أدق تعبيرٍ إذ يقول : إن المسألة ستكون في المستقبل هي «إما أن تأكل أو تُؤكل To have Lunch or be lunch و من ثم فإن الحديث عن التكامل والتوحد

ص: 83


1- هنتنجتون، صامويل، الموجة الثالثة، سابق، ص 408.المرجع السابق، ص 408.
2- المرجع السابق، ص 360
3- أفهيلد هورست اقتصاد يغدق فقراً: التحول من دولة التكافل الاجتماعى إلى المجتمع المنقسم على نفسه، مرجع سابق، ص 284.
4- استغلت الحكومات الغربية الحجج القيمية لكسب التأييد الشعبي لمزيد من الأغراض العالمية وكان هذا الأمر صحيحاً في شكل خاص عندما احتاج بلوغ الأهداف العالمية تضحيات مادية وشخصية كبيرة من الشعوب الغربية... ففى خلال الحرب العالمية الأولى ربما لم يكن الجمهور الأمريكى راغباً في تقديم التضحيات التي قام بها لإعادة توازن القوى ال- في أوروبا ولكنه هيئ لها لجعل العالم أمناً للديمقراطية وفى وقت قريب قبيل قرار الذهاب إلى الحرب مع العراق عام 1991 عارض العديد من الأمريكيين العمل العسكرى على الأرض والذى عجلت به الرغبة في حماية حقول النفط العربية وانشدوا ( لا دماء من أجل «النفط» ولم يتحمسوا الضرب العراق إلا بعدما أقنعهم زعماء الولايات المتحدة بأن عملية عاصفة الصحراء ضرورية لردع صدام حسين الديكتاتور المستبد من طراز هتلر ولدعم القانون الدولى ولمنح فرصة للديمقراطية لتنتعش . شيرين) ،هنتر مستقبل الإسلام والغرب، صدام حضارات أم تعايش سلمى؟، مرجع سابق، ص 35 - 36.

والاندماج في ظل محاولات فرض رؤية أحادية وهيمنة المركز على الأطراف تبدو هراء؛ إذ إن «القيم والمباديء الموجهة للسلوك الإنساني تكون عادة في الأوقات التي يسودها الاستقرار، وتكون سلطة وقدرة المؤسسات القائمة قوية وآمنة؛ ومن الأمور المسلم بها. أما في أوقات عدم الاستقرار، فإن الاحتمال الأرجح أن تكون القيم السائدة موضعاً للشك أو الجدل أو التحدي من قبيل التناقض إذن؛ أن تكون القيم في الغالب الأعم أكثر تعرضاً للشك في الوقت الذي تكون فيه الحاجة إليها أشد»(1).

وعلى الرغم من أنه كانت هناك محاولات لأن توضع الظروف الاجتماعية في الاعتبار عند تطبيق اتفاقية «الجات» التي تعدّ حجر الأساس للعولمة فإن هذه المحاولات قد باءت بالفشل. ففي سياق المباحثات الختامية حول إنشاء المنظمة العالمية للتجارة نادى البعض بضرورة إدراج بند خاص بالظروف الاجتماعية للعمل وبحماية البيئة في اتفاقية منظمة التجارة العالمية، وبناء على هذا البند كان المفروض أن يكون في الإمكان تقديم شكوى إلى منظمة التجارة العالمية ضد الدول التي يثبت عليها أن صادراتها تنتج في ظل شروط تخلُّ بالمعايير الدنيا المقررة من قبل منظمة العمل الدولية التابعة للأمم المتحدة... لكن سرعان ما جرى الاعتراض على هذا المسعى ليس من قبل الدول المعنية فحسب بل من قبل دول أخرى... وتصدرت قائمة الحكومات المعترضة الحكومتان الألمانية والبريطانية على وجه الخصوص اللتان تؤمنان بحرية التجارة إيمان الأطفال بالخرافات والأساطير»(2).

وإذا كانت دول المركز أو الدول الغربية هي صاحبة الاعتراض على مراعاة الظروف الاجتماعية عند تطبيق اتفاقية الجات، وهي التي ما فتأت تتشدق بالاهتمام بالنواحي الإنسانية فإن هذا يكشف بوضوح عن محاولات المركز لتمكين وضعه دون أن يضع في اعتباره الدول الأخرى.

وعلى ذلك نستطيع طرح السؤال التالي: هل ستستمر الولايات المتحدة في تبني

ص: 84


1- جيران في عالم واحد نص تقرير لجنة إدارة شئون المجتمع العالمی مرجع سابق، ص 61.
2- مارتین هانز بيتر وشومان، هارالد فخ العولمة، مرجع سابق، ص268.

أطروحات العولمة لو خرجت هذه الأطروحات على مصالحها؟ وماذا لو اتخذت توجهات السوق اتجاهات متعارضة مع مصالح بيوت المالية الأميركية الكبرى؟ ولماذا تخرج الولايات المتحدة على قوانين منظمة التجارة العالمية فتدعم الشركات الأميركية؟ في حين تعرقل أميركا انضمام بلدان مستعدة للخضوع الكلي لشروط هذه المنظمة ؟

لعل ما فعلته أميركا في الفترة ما بين 2002 - 2005 فيما يتعلق باستيرادها للصلب وفرضها رسوم جمركية (1)على ما تستورده من الصلب لحماية منتجاتها المحلية بما يخالف اتفاقيات الجات هو سير في هذا الدرب أيضاً ، «ولحماية الصناعة الأميركية الفتية فرضت الولايات المتحدة الأميركية ضرائب جمركية، وظلت تفرض تلك الضرائب على السلع المستوردة حتى بعدما تطورت الصناعة الأميركية وأصبحت ذات قدرة تنافسية كبيرة ، ولعل الضرائب التي فرضتها عام 2002م على الصلب والحديد خير مثال على هذه الحقيقة أضف إلى هذا أن الضرائب الجمركية قد كانت بمنزلة المصدر المالي الرئيسي لتمويل مشاريع عامة من قبيل الموانىء وطرق النقل السريع. ونحن لا نشط أبداً إذا قلنا إن تطور الولايات المتحدة الأميركية من دولة نامية إلى أكبر أمة صناعية في العالم كان برهاناً ساطعاً على نجاح سياسة الحماية التجارية. ومن هنا، فإنه لأمر يدعو إلى العجب فعلاً أن تعاق الدول النامية منذ عقود كثيرة من الزمن عن منح صناعتها الفتية الحماية التي هي بأمس الحاجة لها. إن هذا الضغط الليبرالي المحدث ساهم بنحو كبير في تفاقم المأساة المخيمة على الدول النامية»(2)، ومن ثم فالولايات المتحدة الأميركية تضرب عرض الحائط بكل ما يتعارض مع مصلحة المركز الذي يريد أن تظل له الهيمنة والسيطرة على الأطراف، ولعل ما يقوم به الرئيس الأميركي ترامب من إجراءات حمائيةٍ لإنقاذ الاقتصاد الأميركي من العولمة يفسر لنا مدى تأثيرها حتى على دولة عظمى كالولايات المتحدة الأميركية.

ص: 85


1- كتبت صحيفة Hamburger Abendblatt في الصفحة رقم 23 من عددها الصادر في السابع من مارس من عام :2002 ضرائب جمركية تأديبية : غضب عالمى من تصرفات الرئيس الأمريكي بوش الاتحاد الأوروبي يحتج أوروبا تخطط لفرض عقوبات مماثلة على الولايات المتحدة الأمريكية. أسباب عملية التصعيد.
2- أفهيلد هورست اقتصاد يغدق فقراً: التحول من دولة التكافل الاجتماعى إلى المجتمع المنقسم على نفسه، مرجع سابق، ص 230 - 231

وفي هذا الإطار يمكن القول إن السلوك الخارجي للولايات المتحدة الأميركية يظهر أن السلطة والهيمنة والمصالح هي العوامل الحاسمة في إدارة سياستها الخارجية،«فالسلطات الغربية قد استعملت حججاً مؤسسة على قيم لتبرير القرارات والأعمال المتولاة لأسباب أخرى وعقلنتها وشرعنتها»(1).

كما يمكن القول مع «آلان تورین» أنه توجد سيطرة لنخبٍ معقلنة ومحدثة على بقية العالم، وذلك بواسطة تنظيم التجارة والمصانع وبواسطة الاستعمار، لقد تجلّى انتصار الحداثة في إلغاء المبادئ الخالدة، وإقصاء كل الماهيات والكيانات المصطنعة مثل الأنا والثقافات»(2).

ومن ناحية أخرى «لا تقف العولمة عند حدود تدعيم سوق عالمية للسلع والخدمات والأموال، بل إن العالم الذي أصبح قريةً كما يقال عادة يقع تحت تأثير الترويج الإعلامي الذي زالت الموانع أمامه، بعد أن أصبحت الأقمار الصناعية وسيلة اتصالٍ واستقبالٍ لا تعترف بالحدود السياسية أو المناطق الثقافية. وتوافق ذلك مع هيمنة تجارة الخدمات والمعرفة، على التبادل بين الأمم، وسيطرة قوة وحيدة في هذا الميدان. وتصادف تاريخياً أن هذه القوة الوحيدة ذات المنعة العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية خالية الوفاض من تراثٍ إنسانيٍّ وثقافيٍّ يعتد به، ولا تحمل رسالة إنسانية ولو من باب التبرير الإعلامي كما فعلت الأمم التي سادت في السابق. ولم تجد هذه الأمة غير نمطٍ في العيش والاستهلاك تحاول التسويق له»(3).

في الواقع، تقوم العولمة على تدشين ثقافة الاستهلاك بحيث يصبح المركز هو المصدر أو المنتج وتصبح الأطراف أو الآخر هو المستهلك؛ إذ يقول البعض«إن ثقافة الاستهلاك والتي كانت ثمرةً عن المجتمع الصناعي أبرزت ملامح العقل الأداتي؛ حيث الذاتية والنفعية في أعلى تقمُّصاتها، بدءاً من عملية التفكير وممارسة إجراءات الاستقراء

ص: 86


1- شیرین ،هنتر مستقبل الإسلام والغرب صدام حضارات أم تعايش سلمی؟ ، مرجع سابق، ص 35
2- Touraine; A.; Critique de la modernite, Paris: Fayard, 1992, p.46. وأنظر أيضاً الترجمة العربية تورين ،ألان نقد الحداثة ترجمة أنور مغيث، مرجع سابق، ص54. (
3- منظمة العمل العربية، العولمة وآثارها الاجتماعية، د.م المنظمة، 1998، د.ت، ص160-161.

والاستنتاج وصولاً إلى العناية بالمنهج على حساب المضمون، حتى أصبح الموضوع مجرد وسيلةٍ يتم من خلالها الوصول إلى المعرفة. وبهذا فإن الذاتية الفردية - الجمعية أصبحت هي الغاية التي يمثلها هذا العقل، وعبر هذا المنظور... تحدد الجانب الأخلاقي في المنفعة الذاتية، ومن خلال هذا العقل الذاتي ثبَّت الغرب خطواته في مجال التقدم الثقافي... وفرض معالم السيطرة وبرزت النزعة الاستعمارية»(1).

ونحن نجد تأكيداً لهذا المنحى في كتاب «رأس المال والرذائل الجديدة»؛ حيث يوضح «أمبيرتو جالمبرتي» إن ما يجعل ثقافة الاستهلاك رذيلة كبرى هو أنها تقوم على شراء الأشياء التي سنرميها بعيداً حين يروق لنا ذلك، ومن خلال ثقافة شراء الحاجات ورميها بعيداً، أقام المجتمع الاستهلاكي هويته الخاصة به وحدد وضعه الاجتماعي، وعرف فكرته الخاصة عن الحرية. ويستطرد «جالمبرتي» مؤكداً أن مبدأ استهلاك المواد وطرحها جانباً لا يمثل النهاية الطبيعية لتلك المواد، إنما بات يحدد الغرض الرئيسي منها.

صحيح أن الاستهلاك موضوعٌ اقتصاديٌّ، ولكن لا أحد ينكر صلته الوثيقة

بالثقافة، فأنت عندما تقرر شراء سلعة معينة تستند إلى مجموعة من القناعات التي تدفعك لانتقائها دون غيرها، وفي عصر العولمة تكاد تتحول المجتمعات ومنها النامية الغارقة في الديون، إلى مجتمعات استهلاكية ليس بمحض المصادفة، ولكن نتيجة مخططاتٍ مدروسةٍ بعنايةٍ ودقة. «فقد ارتبطت معالم الظاهرة الاستعمارية أو لمة القرنين السابع عشر والثامن عشر بالظروف التاريخية لهذين القرنين، وبخاصة الثورة التجارية وقصة البحث عن المعادن النفيسة إلى حدٍ كبير، كما ارتبطت عولمة القرن التاسع عشر بظروف هذا القرن التاريخية، وبخاصة بالثورة الصناعية، حيث سعت الدول القومية الوطنية الحديثة إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من المواد الأولية اللازمة لصناعاتها، وكذلك إلى أوسع الأسواق لتصريف منتجاتها»(2).

ص: 87


1- إسماعيل نوري الربيعي أطياف نيتشه آلان تورین ونقد الحداثة، في 4 إبريل 2002. http://www.azzaman.com/azz/articles/2002677/15-04/04/.htm
2- يحيى أحمد الكعكي، الشرق الأوسط وصراع العولمة - ط 1-0 بيروت - لبنان: دار النهضة العربية، 2000، ص 73.

يضاف إلى ذلك أن التكنولوجيا الحديثة قصّرت من عمر أي منتجٍ، إذ سرعان ما يتحول إلى بضاعة غير مفيدة أو يتجاوزه الزمن في بحر سنوات أو شهور قليلة. عندها يجد المستهلك نفسه (مضطراً) إلى تغيير ما لديه من منتج وشراء الجديد الأكثر كفاءة أو الأفضل نوعية.

ومن هنا فإن «جالمبرتي» يجادل بأن الأشخاص الذين ينشَؤون على قيم المجتمع الاستهلاكي لا يكونون قادرين على اعتناق مجموعة مغايرة من القيم عندما يتعلق الأمر بذواتهم أو بالناس المحيطين بهم.

وبناءً على هذا يقول جلال أمين: «إن هذا التحول الكبير الذي طرأ على طبيعة الاستغلال من استغلال الدولة كمنتج (أو كمصدر للعمالة الرخيصة)، إلى استغلاها كمستهلك، كان له آثار أكبر أهمية بكثير مما قد يبدو لأول وهلة. ذلك أن استغلال العامل يحتاج لتبريره إلى أيديولوجيا مختلفة جداً عن تلك التي يمكن بها تبرير استغلال المستهلك»(1).

ومن صنو ثقافة الاستهلاك أيضاً الاقتناء إن الاقتناء فيما يقوله «هيدجر» لا یتم هنا بناءً على حاجة ملحة أو لتحقيق غرض ما إنك تقتني أثمن أنواع الساعات أو أندر أنواع الكتب أو لوحة لفنان شهير تقدر بالملايين لا لأنك تريد أن تقرأ هذا الكتاب وما فيه أو لحاجتك إلى ساعة تضبط لك الوقت على نحو دقيق ولا لأنك تريد أن ترقى بذوقك الفني إلى درجة عالية، بل إنك تفعل كل هذا لمجرد أن يقال أنك تقتني . إن هذا يدشن عقلية الجهد المبذول والإمكانية المطلقة للتفعيل وتحولها إلى ساكن بحيث يصبح امتلاك القصور والبيوت الفخمة نوعاً من أنواع التباهي في مجتمع الناس هذا المجتمع الذي لا هوية له «إن الناس - فيما يقول هيدجر - هم في الحقيقة كائنٌ وهميٌّ لا وجود له، ومن ثم فإن «الناس ينتمون إلى هذا الآخر ويعززون قوته»(2)، وذلك لأن «مفهوم الناس عبارة عن مفترق للطرق مفتوح لكل قادم»(3).

ص: 88


1- جلال ،أمين العولمة والتنمية العربية : من حملة نابليون إلى جولة الأوروغواي، مرجع سابق، ص 37.
2- Heidegger, M.; Being and time translated by John Macquariie and Edward Robinson. [San Francisco, Calif.]: HarperSan Francisco, c1962, p. 126.
3- جوليفيه ريجيس ، المذاهب الوجودية ( من كيركيغارد إلى سارتر)، مرجع سابق، ص 83

بيد أنَّ هؤلاء الناس الذين لا وجود لهم، هم في الوقت ذاته يملكون طرقاً عدة لكي يمارسون وجودهم الزائف وعندما يتحقق وجودهم بشكل يملي على الموجود كل تصرفاته وأفعاله يصبح الوجود (مع) الآخرين بوصفه كذلك مهموماً بحياة التوسط، وفي مثل هذا النمط من الحياة «كل واحد يكون الآخر ولا أحد يكون نفسه»(1) و هذا هو ما تهدف إليه العولمة على المستوى الجماعي، وإن كان حديث «هيدجر» هنا على المستوى الأنطولوجي الفردي.

ومن ناحية أخرى، فإن شعار العولمة لا يخلو من نفعٍ، ولكن النفع يعود أغلبه على مركز بثِّها ،وإشعاعها، وأغلب أضرارها تعود على الأطراف، ومن بين هذه الأطراف بالطبع المنطقة العربية «ويمكن أن تحقق أمة من أمم الأطراف نهضة تحوّلها من طرف سلبي في التعامل الدولي إلى قوة فاعلة وإيجابية ولا يمكن تصور حدوث هذه النهضة إلا باستعادة الدولة القومية قوتها»(2).

ومما لا شك فيه أن العولمة تهدف بالدرجة الأولى إلى إزاحة سيطرة الدول على شعوبها لفرض هيمنة المركز مباشرة على هذه الشعوب. إذن الواضح «إن حالة الدولة - الوطن - تفقد سيطرتها على المجتمع ، وعلى استقلاليتها كنظام في العالم. وبالتالي فإنه مع انحلال المشروع الحضاري الجديد، بدأ نظام الدولة - الوطن يفقد السيطرة على القوى التي كان يحتويها سابقاً، ذلك أن العولمة، بأبعادها المختلفة تقلل من دور الاستقلالية لنظام الدولة - الوطن، وتؤثر سلباً على قدرتها على اتخاذ القرار»(3).

فهل يعني هذا أن العولمة هي أيديولوجية مناقضة فكرياً وثقافياً واجتماعياً واقتصادياً لفكرة الدولة أو الوطن؟

ص: 89


1- Heidegger, Martin, Being and time. Op. Cit., p. 128.
2- جلال ،أمين العولمة والتنمية العربية من حملة نابليون إلى جولة الأوروغواي مرجع سابق، ص.190.
3- على أحمد الطراح ؛ غسان منير حمزة، العولمة والدولة الأمة والمجتمع العالمى حوليات كلية الآداب جامعة عين شمس؛ مجلد 30 ، إبريل - يونيو 2002 ، الصفحات من ( ص 35 - ص 82، ص 37 .

إذا كانت العولمة تستلزم تحطيم المسافات أو التعامل عن قرب مع الآخرين، فمما لا شك فيه أن العولمة تهدف بالدرجة الأولى إلى إضعاف سلطة الدولة (1)وتفتيت العالم إلى كتل منعزلة لتمكين الشركات العملاقة التي يطلق عليها شركات متعددة الجنسيات من السيطرة والهيمنة على اقتصاديات ومقدرات الدول الأخرى.

ومن ناحية أخرى، فإن توظيف وسائل الإعلام والاتصالات الحديثة كأداة للسيطرة على العقول كما يحدث على شبكة الإنترنت التي يستخدمها البعض لنشر ثقافات هدامة - ولا يمنع هذا من كونها تقوم بدور إيجابي في نشر العلم والثقافة وإحداث التقارب بين الثقافات - تقوم بتخريب عقول الشباب كما حدث مع عبدة الشيطان ومن ثم تحيل هذه العقول إلى توابع تدور في فلكها، وفي هذا الصدد يقول «هيدجر» موضحاً أثر التقنية في إحداث الغربة في الإنسان المعاصر «لكن ما يبعد إنسان الأزمنة الجديدة خاصة عن بداية تاريخه هو الطفرة التي حدثت في طريقة تأويل العالم. إن الوضعية الأساسية للأزمنة المعاصرة هي الوضعية التقنية »(2) أي أن الثمة التكنولوجية هي الغالبة على العالم وهي وإن كانت شكلاً من أشكال الوجود فإنها تبعده عن تاريخه الأصيل الذي يتحد فيه مع الوجود.

وبوسعنا أن نجد في شبكة الإنترنت وسيلة لنشر قيمة العولمة، فمن خلالها تسعى الولايات المتحدة الأميركية بواسطة التدفق الإعلامي والمعلوماتي ومن خلال شبكة واسعة من القنوات الفضائية الأميركية أو المدعومة أميركياً (3)وشبكة المعلومات الدولية ،الإنترنت إلى تذويب الثقافات الرافضة للتهميش والإقصاء ونشر منظومة القيم الأميركية المزعومة عن العلمانية والتعددية، واحترام الإنسان وحقوق الأقليات

ص: 90


1- يقول اللواء وليام لونى، قائد القوات الجوية الأميركية إنهم يعلمون أننا نمتلك بلدهم، إننا نفرض عليهم الطريقة التي يعيشون ويتحدثون بها. وهذا هو الشئ العظيم بالنسبة لأمريكا في الوقت الراهن .. ( بيلجر، جون، حكام العالم الجدد، مرجع سابق، ص75).
2- Heidegger, M.; Concepts fondamentaux, Paris: Gallimard, 1985. p. 31 - 33.
3- مما يدل على أن هذه القنوات مدعومة بشكل أو بأخر إن تاريخ تغطية أحداث العالم الثالث في وسائل الإعلام الغربية يوضح بما لا يدع مجالاً للشك أن إعطاء اهتمام زائد للفوارق والخلافات بين الثقافات والحضارات، بدلاً من إبراز والتركيز على ما هو مشترك فيما بينها .... كما أن وسائل الإعلام تطبق أحياناً خطاباً هرمياً وحصرياً في النظر إلى حضارات الآخرين بما يذكرنا بخطاب استعمارى أو استشراقى المفترض أنه انتهى تاريخياً منذ زمن. وليد عبد الناصر، حوار الحضارات وتحدى العولمة القاهرة: مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 2005، ص176).

رغم تدني احترامها أميركياً وخصوصاً عقب اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، وبما في ذلك تلك القيم المدمِّرة للعلاقات الاجتماعية وفي مقدمتها العلاقات الأسرية على سبيل المثال، ونخلص من ذلك إلى القول بأن حرباً باردة أميركية جديدة لا هوادة فيها تشن على المجتمعات والثقافات الرافضة للهيمنة الأميركية، تهدف إلى تدمير بنياتها الاجتماعية وتقاليدها وعاداتها وأديانها تمهيداً لذوبانها في الثقافة الأميركية الغالبة، والمغلوب مولع بتقليد الغالب كما يرى ابن خلدون.

ومن هذا المنطلق، فعناصر القوة اليوم لا تقف عند حد القوة العسكرية، كما لا تقف عند حد القوة الاقتصادية، وإن كانت أهم عناصر القوة وأشدها تأثيراً وأكثرها مساعدة في فرض الهيمنة على الآخرين، فعناصر القوة قد اتسعت لتشمل قوة المعلومات والإنترنت بما تشتمل عليه من قنواتٍ فضائيةٍ ضخمةٍ ووكالات إخبارية ترصد كل شيء على أرض الغير ، وصحف عابرة للقارات واتسعت لتشمل أيضاً العديد من الاتفاقيات الدولية التي وضعت جميعاً لتسهيل مهمة الهيمنة الغربية على بقية شعوب العالم كاتفاقية الجات الاقتصادية واتفاقيات الحد من الأسلحة النووية والبيولوجية وغيرها.

ومن نفس الزاوية، فوسائل الهيمنة على الآخرين وفرض الرأي الغربي عليهم قد تتغير من عصر إلى عصر لكنها تصب دائماً في تحقيق نفس الهدف «هدف وجود الرأي الواحد والثقافة ذات البعد الواحد والخبرات التي تصب في معين واحد. إنه دائماً الغرب سواء قادته اليونان قديماً أو أوروبا حديثاً أو أميركا في العصر الحالي. ونحن نعيش في أسوأ عصر الهيمنة الغربية لأننا نعيش في عصر تعددت فيه صور القوة الغربية، لدرجة جعلت البعض يتصور أنه إنما يفكر معبراً عن استراتيجية عربية مختلفة وهو في الواقع مجرد آلة في ترس الدعاية للاستراتيجية التي يُريد أن يهاجمهما ويقف ضد مخططاتها»(1)

وهكذا تصبح التقنية الحديثة ممثلة في وسائل الإعلام ووسائل الاتصالات

ص: 91


1- مصطفى النشار، ضد العولمة - 10 - القاهرة: دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، 1999 ، ص54.

الحديثة خادمة لإيديولوجية المركز، ومن خلال هذه المنظومة الأيديولوجية «يتم التعامل مع العالم، مع الإنسان في كل مكان تعاملاً لا إنسانياً يحكمه مبدأ البقاء للأصلح، الأصلح في هذا المجال هو الناجح في كسب الثروة والنفوذ وتحقيق الهيمنة. وفي إطار هذا المبدأ تبدو (الخصخصة) و(المبادرة الحرة) و(المنافسة).. إلخ على حقيقتها كأيديولوجيات للإقصاء والتهميش وتسريح العمال أخذاً بمبدأ: كثير من الربح ، قليل من المأجورين»(1).

وإذا كانت القوى الاقتصادية والاجتماعية المسيطرة على العولمة تنزع إلى محاولة الإيحاء بأن تيارات وآليات العولمة تنشد بالأساس تطوير المبدأ الذي شاع في السبعينات والثمانينات وهو «الاعتماد المتبادل». هذا يعني منطقياً أن تتوافر مجالات التفاعل المشترك بين الشعوب والحضارات تمكنها من الإسهام - وإن كان متفاوتاً - بفعالية في صياغة سياسات وخلق آليات مشتركة للتغلب على المشكلات التي تفوق إمكانيات وقدرات هذه الدول مثل البيئة وأسلحة الدمار الشامل وإحلال السلام في مناطق التوتر العرقي والطائفي والديني والتنمية والديون...إلخ، غير أن الواقع أن اتجاهات العولمة الأميركية تنزع إلى نقل إدارة الأزمات وطرق التغلب عليها من سياقها الوطني إلى سياقها الذي تم عولمته.

إن هذه النظرة تتجاهل في الواقع وضعية عدم التكافؤ في القدرات التكنولوجية والمعلوماتية بين المركز والأطراف أعني بين الغرب والشرق. كما أن كل هذا يتناسى شيئاً مهماً، وهو اختلاف الهوية والثقافة والطابع القومي والتقدم التقني والدين. بمعنى آخر العولمة هي نهاية السياسة وذلك إذا ما وضعنا في اعتبارنا أن السياسة هی تدبير شؤون المدينة أي تدبير الدولة وهكذا نلحظ تكاملاً جوهرياً بين مبدأ الرأسمالية الأساسي «دعه يعمل دعه يمر» وبين تفعيل مكاسب أصحاب رؤوس الأموال على شكل أيديولوجيات مقصودها خدمة القوة الفاعلة في المركز.

«إذن فإن أول مظاهر العولمة هو تركيز النشاط الاقتصادي على الصعيد

ص: 92


1- محمد عابد الجابری، قضايا الفكر المعاصر، مرجع سابق، ص.145.

العالمي في يد مجموعات قليلة العدد، وبالتالي تهميش الباقي أو إقصاءه بالمرة»(1).

ولعل هذا يتضح بجلاء من امتلاك الدول الكبرى للقاسم الأعظم من الشركات العالمية إذ إن بضع الدول هي أمريكا واليابان وفرنسا وألمانيا وبريطانيا تمتلك فيما بينها 172 شركة من إجمالي 200 شركة من أكبر الشركات العالمية «هذه الشركات التي تسيطر عملياً على الاقتصاد العالمي وهي ماضية في إحكام سيطرتها عليه إذ ارتفعت استثماراتها في جميع أنحاء العالم. وفي المدة ما بين 1983 1992م بوتائر سريعة جداً: أربع مرات في مجال الإنتاج وثلاث مرات في مجال المبادلات العالمية. وفي تقرير للأمم المتحدة أن 358 شخصاً من كبار الأثرياء في العالم يساوي حجم مصادر ثروتهم النقدية حجم المصادر التي يعيش منها ملياران وثلاثمائة مليون شخص من فقراء العالم. وبعبارة أخرى، إن عشرين فی المائة من كبار أغنياء العالم يقتسمون فيما بينهم ثمانين في المائة من الإنتاج الداخلي الخام على الصعيد العالمي، وأن الغنى والثروة ارتفعا بنسبة ستين بالمائة في الولايات المتحدة الأميركية بين عامي 1975-1995م، غير أن المستفيدين من هذا الارتفاع الكبير في الغنى والثروة لا يتجاوز عددهم نسبة واحد بالمئة من الشعب الأميركي»(2). وبناءً على ذلك فإن العولمة تهدف إلى تعميق الفوارق وإفشاء الفقر (3)الذي هو نتيجة حتمية لتعميق التفاوت طالما أن القاعدة الاقتصادية التي تحكم اقتصاد العولمة هي إنتاج أكثر ما يمكن من السلع والمصنوعات بأقل ما يمكن من العمل. إنه منطق المنافسة في إطار العولمة، ومن هنا نلاحظ أن الظاهرة الملازمة للعولمة وربيبتها الخصخصة هي تسريح العمال والموظفين»(4).

ص: 93


1- المرجع السابق، ص: 140
2- محمد عابد الجابری، قضايا الفكر المعاصر، مرجع سابق، ص140.
3- وذلك ما جعل بعض الباحثين المرموقين يؤكد على أن النظام الاقتصادى غير المجدى (العولمة)، بحسب الحقائق الملموسة على أرض الواقع، يغدو في يوم من الأيام، عديم الجدوى حتى في منظور أولئك الأفراد الذين لا يزالون يتمتعون بالغنى وينعمون بالرفاهية، فانهيار القوة الشرائية في هذا النظام سيقوض أرباحهم أيضاً». (أفهيلد هورست، اقتصاد يغدق فقراً: التحول من دولة التكافل الاجتماعي إلى المجتمع المنقسم على نفسه، مرجع سابق، ص (291).
4- محمد عابد الجابري قضايا الفكر المعاصر، مرجع سابق، ص141.

ومن هذا المنطلق ، فإن «برامج التقويم الهيكلي القائمة على أساس الخصخصة، والاستدانة، وتدمير الخدمات العامة قد أدت إلى المزيد من الإفقار، وكان لها الأثر السيئ على نسبة ضخمة من سكان العالم... ويكتب ميخائيل ماكنلي إذا كان مائة مليون شخص قد قتلوا خلال الحروب الرسمية التي شهدها القرن العشرون فلماذا يكون لهم فضل التمييز عن الحصيلة السنوية لوفيات الأطفال الناجمة عن برامج التقويم الهيكلي منذ عام 1912؟»(1)، الذي هو أثر من آثار العولمة.

فالعولمة، إذن، ومن منظور فلسفي محض هي محاولة لإدخال الأطراف في تنافس غير متكافئ مع المركز يؤدي في النهاية إلى إعلان الأطراف عجزها عن منافسة المنتجات التي تنتج بتقنيات عالية وبتكلفة أقل ويكون مصيرها إما إلى خصخصة شركاتها وتصفية القطاع العام وتحويله إلى قطاع خاص، ومن ثم زيادة نسبة البطالة وانخفاض مستوى الدخل والإنتاج القومي وإما يؤدي إلى تعرضها للإغراق الناتج عن الاستيراد الذي يؤدي إلى إعلان الشركات إفلاسها وتسريح عمالتها. وفي كلا الحالتين يتحقق للمركز المتقدم تقنياً الهيمنة والسيطرة ومن ثم يجعل من نفسه الذات ويحيل كل ما عداه إلى موضوع، ولعل ما يحدث عبر ترويج العولمة هو أوضح دليل على أن الدخول في منافسة غير متكافئة الأطراف إنما يؤدي بالضرورة إلى فوز الأقوى أو المركز أو العالم الحر على الأطراف أو العالم الثالث أو الأضعف، وهو ما تعرفه دول المركز جيداً إذ إنها تؤمن بأن شركات ومؤسسات العالم الثالث لا يمكنها ولن تستطيع الدخول في منافسة مع مؤسساتها. ومن ثم فهي تعلم نتيجة هذه المنافسة مقدماً وتفرض قيوداً على من لا ينضم إليها، وبالتالي تصبح الأطراف أمام خيارين كلاهما مر ، إما عدم الانضمام وبالتالي تستبعد وتنفي ويفرض عليها القيود، وفقاً لمنطق من ليس معنا فهو ضدنا، وإما أن تنضم فتخضع في النهاية لهيمنة المركز.

وأبلغ دليل على عدم التكافؤ هو ما ساقه «آندريه جونر فرانك» على العالم الثالث إذ يقول:«إنهم لن يتمكنوا من تحقيق هذه الأهداف باستيراد القوالب الكلامية العقيمة

ص: 94


1- بيلجر، جون، حكام العالم الجدد مرجع سابق، ، ص184 - 185.

من المركز والتي لا تتماشى مع حقيقة اقتصادهم التابع ولا تستجيب لاحتياجاتهم الاستقلالية السياسية»(1).

فالعولمة تسعى إلى فرض نموذجها الرأسمالي على العالم من خلال الاقتصاد والسياسة والثقافة وتعميم قيم الليبرالية الجديدة مثل اقتصاد السوق وحرية التجارة وفتح الأسواق الوطنية وإلغاء أو تقليص أنظمة وإجراءات الحماية وإضعاف دور الدولة في الميدانين الاقتصادي والاجتماعي «إلى جانب تسويق مفاهيم الليبرالية السياسية مثل الحريات العامة والديمقراطية وحقوق الإنسان والمرأة والأقليات (الدينية، المذهبية) المختلفة كل تلك القضايا تطرح من منطلق العالمية الجديدة السائدة التي تحجب ما قبلها وما عداها»(2).

والمقصود بالعالمية هنا على وجه التحديد الحضارة الرأسمالية المنتصرة، وهي إذ تعلن نهاية التاريخ وموت الإيديولوجيا تسعى إلى ترسيخ وتأبيد زمانها وإيديولوجيتها، في نزاعها مع الحتميات التاريخية والأيدلوجيات الشمولية، والتي تتمثل في السعي الحثيث إلى تقديس العالمية على صورتها لاغية (الآخر) والأزمنة المحلية الأخرى، وإذ يلغى مفهوم التاريخ والزمن الخاص بها، فهذا يحمل في داخله بالضرورة فرض أيديولوجية ليبرالية شمولية جديدة ناعمة وذات جاذبية في مظهرها، لكنها لا تخلو من نزعات قومية وعنصرية وذرائعية في جوهرها كل ذلك تعبير عن عمق نزعة المركزية الغربية المشبعة بتضخيم الذات (الأنا) إزاء الآخر (المغاير).

ومن هذا المنطلق، فالمركزية الغربية «تعبر عن نفسها في المرحلة التاريخية (القرن الأميركي) المعاصرة من خلال نموذجها الأميركي (وتعمقت مع أيديولوجيا المحافظين الجدد وممارستهم) كأيديولوجيا مشبعة بالاستعلائية والانعزالية والغطرسة والعدوانية والهيمنة تطمس وتلغي مفاهيم وقيم الاختلاف والتباين

ص: 95


1- فرانك، آندريه جوندر تنمية التخلف 1969، ضمن أبحاث كتاب من الحداثة إلى العولمة: رؤى ووجهات نظر في قضية التطور والتغير الاجتماعي، مرجع سابق، ص243.
2- نجيب الخنيزي، جدل الثقافة بين الخصوصية والكونية، جريدة عكاظ، عدد 2210 ، في 6 يوليو 2007. http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20070706/Con20070706123172.htm

والمغايرة والنقد والمساءلة من قبل الآخر؛ بمعنى فرض الاندماج الكامل (من أرضية التبعية) للآخر في منظومة العولمة (الأمركة) من خلال فرض قيمها وثقافتها الاستهلاكية والعمل على تهجين وطمس وإلغاء مقومات الثقافات الوطنية الأخرى من خلال التعميم الكاسح لثقافة وأسلوب الحياة والمعيشة (الأكل والملبس والشراب) وأنماط الدعاية والفنون (موسيقى وأفلام) المبهرة، بكل ما يتضمن تلك الثقافة الاستهلاكية من استلاب وتغريب، ولم يكن مستغرباً أن تثير من هذه النزعة (الأميركية) الاقتصادية والعسكرية والثقافية والسياسية للهيمنة ردود فعل لدى النخب وجماعات متزايدة من الرأي العام في البلدان الرئيسة والمراكز العالمية التقليدية والصاعدة الأخرى مثل اليابان ودول الاتحاد الأوروبي والصين والهند والبرازيل ناهيك عن غالبية بلدان ومجتمعات العالم الثالث وما تفرزه مفاعيل العولمة من انقسام حاد (مع استثناءات قليلة) على صعيد الاقتصاد والثروة والمعرفة بين دول الشمال والجنوب وبين المركز (ونواته الأميركية) والأطراف هي تتناقض مع الدعوات الغربية الداعية للمماثلة والتجانس الحضاري الكوني والإنساني واحترام التعددية الحضارية والثقافية وحقوق الإنسان في العالم»(1).

إذن، فالعولمة الغربية هي طور جديد على طريق النزعة المركزية الغربية والعالمية بمفهومها الغربي، إنها طور الاجتياح الذي يطمع في صب العالم داخل القالب الغربي على مختلف الصعد والميادين الاقتصادية والسياسية والقيمية والثقافية والعسكرية والتشريعية ... إلخ. إنها مرحلة الطوفان الغربي الذي هو - في الدعاوى الغربية - نهاية التاريخ، ومن لم يركب في سفينة النموذج الحضاري الغربي طوعاً، فخطوط الصراع والإكراه معه وضده تحددها خطوط الثقافات والحضارات إن خطورة مثل هذه النظريات العالمية أنه قد ينتج عنها شكل من أشكال العرقية؛ حيث إن «النظريات العالمية لا تقبل الآخر ولا تستطيع الاعتراف باختلافاته أو قبولها»(2).

ويمكن القول استنتاجاً مما سبق، إن النظريات العالمية ومنها العولمة، تبحث

ص: 96


1- نجيب الخنيزي جدل الثقافة بين الخصوصية والكونية، موقع سابق.
2- لارين جورج، الإيديولوجيا والهوية الثقافية : الحداثة وحضور العالم الثالث، مرجع سابق، ص52.

الآخر من منطلق الذات العقلية الأوروبية وتتجه إلى تطبيق نموذج عام يفترض حقيقته المطلقة الخاصة. ولهذا يردُّ كل الاختلافات الثقافية إلى وحدته الخاصة، ولكن تأكيد النظريات العالمية على تلك الحقيقة المطلقة ربما يؤدي إلى اختزال خصوصية الآخر وإهمالها.

ويمكن أن نلمس شكلٌ آخر من أشكال العولمة في التكوكب إذ يقول «جورج لارين» عن التكوكب «في أكثر المصطلحات عمومية يمكن أن يقال إن التكوكب مؤثر في الهويات الثقافية بطريقة مختلفة. ويجب دراسة هذه الهويات في خصوصياتها التاريخية. فيمكن إثبات أنه في الحداثة المتأخرة تفتيت للهوية القومية... فالتكوكب عملية قيادةٍ وسيطرةٍ بواسطة انتشار النماذج الثقافية للبلد العالمي أو القطر الأقوى. وواحد من الصفات أو الصور الجديدة للتكوكب هي أنها عملية يؤدي فيها تأثير الولايات المتحدة وصورها الثقافية دور السيادة والسيطرة»(1).

ومن كل ما سبق يمكن أن نحدد بعض السمات التي يتصف بها النظام الاقتصادي القائم على العولمة ؟

السعي للسيطرة واحتكار ما بقي من موارد طبيعية كانت مشاعاً للبشر من قبل مثل التنوع البيولوجي والماء، ونظم الاقتصاد المحلية التي يعتمد الناس عليها في توفير سبل معيشتهم وتأمين أرزاقهم. أي انتشار الظلم وعدم القابلية للاستدامة.

ضمان تحويل الماء والتنوع البيولوجي إلى سلع عن طريق حقوق ملكيةٍ جديدةٍ تدرج في اتفاقيات تجارية تتبناها منظمة التجارة العالمية التي تنقل ملكية موارد الشعوب إلى امتيازات احتكارية تملكها الشركات الضخمة، ومثال ذلك اتفاقية التجارة في البضائع المستمدة من البيئة وخدماتها.

ضمان تحول الموارد الطبيعية المشاع إلى سلع عن طريق اغتصاب مسؤولية الحكم بانتقال سلطة اتخاذ القرار من يد المجتمعات والبلاد إلى يد مؤسسات عالمية،

ص: 97


1- المرجع السابق، ص 258.

وانتقال الحقوق من يد الشعوب إلى يد الشركات الضخمة من خلال زيادة مركزية الدولة، وزيادة عدم إمكانية إخضاعها للمسائلة عملاً بمبدأ الحق الإلهي في السيادة.

وهذا ما يؤدي بدوره إلى «الإفلاس السياسي والتكتلات والأحلاف غير الديمقراطية. وبدلا من الانصياع إلى مذهب الثقة الشعبية ومبادئ المسائلة والتبعية الديموقراطية تقود العولمة الحكومات إلى اغتصاب السلطة من البرلمانات والحكم المحلي وحكام الأقاليم وقادة المجتمعات المحلية»(1).

وفي هذا الإطار، يمكن القول إن ما يدعوه البعض الآن بالعولمة ليس دعوة نحو عالمية المصالح والأهداف ولا نحو مراعاة الخير للكل، بل هو في واقع الأمر دعوة إلى تكريس الوضع القائم الذي تسود فيه ازدواجية المعايير، وعدم مراعاة مصالح الآخر ولا مشاعره أو خصوصيته.«إنها عولمة غربية المنشأ، غربية الأهداف، غربية الأدوات غربية الثقافة ولذلك فهي العولمة ذات البعد الواحد الذي نرفضه. إنها ليس إلا الوجه الآخر للهيمنة وتكريس تبعية الآخرين لثقافة الغرب وتحقيق مصالح الغرب على حساب ثقافة ومصالح شعوب العالم الآخر»(2).

فبالنسبة للغربيين وخاصة الأميركيين ليس التقريب بين الدول، وليس تبادل المصالح وتحقيق العدالة بين الشعوب على الصعيد السياسي، أقول إن ما يريده الغربيون من هذه الأدوات ليس كل ذلك، وإنما المراد حقاً، هو تحويل اقتصاديات الدول الأخرى إلى اقتصاديات تابعة لا تستطيع تحقيق نموها الذاتي إلا اعتماداً على اقتصاديات الدول الغربية وبالذات الاقتصاد الأميركي، وتحويل شعوب العالم الأخرى إلى شعوب مستهلكة للمنتج الغربي بمختلف أشكاله ونوعياته. وببساطة فالمطلوب هو تحويل شعوب العالم الأخرى إلى شعوب خادمة لا يسمح لها بالمشاركة في الاقتصاد العالمي إلا بما تملكه من أيد عاملة رخيصة ومواد خام بأقل سعر ممكن وفي النهاية كمستهلكين لكل ما تنتجه للمصانع الغربية سواء الموجودة

ص: 98


1- شيفا فاندانا حركة ديمقراطية المعيشة، بدائل إفلاس العولمة؛ ترجمة : أحمد زكي، في 23 فبراير 2002. www.kefaya.org/Translations/0202Shiva.htm
2- مصطفى النشار، ضد العولمة، مرجع سابق، ص 10-11.

في بلادها الأصلية في أوروبا وأميركا أو في الفروع التابعة لها في مختلف بلاد العالم. فلقد «كان السوق دوماً سوق استغلال، وبالتالي سوق سيطرة، مساعداً بذلك على ترسيخ البنيان الطبقى للمجتمع»(1)، ويمكننا أن ننقل هذه القضية أيضاً على السوق العالمية بدلاً من السوق المحلية.

ومن هنا يمكن القول أن العولمة «صورة من صور الهيمنة الغربية التي تتم بلا جيوش أو معدات حربية أو قمع عسكري، وإنما عن طريق الأموال العابرة للحدود والشركات الاحتكارية (2)العملاقة والنفوذ الذي يتلاشى إلى جانبه نفوذ أقوى الحكومات»(3)، إي أن العولمة بذرت خلافاً جديداً تمثله مفاهيم التمركز والتفوق ومحاولة سيطرة نموذج ثقافي على حساب آخر، فصارت تنبعث اليوم المفاهيم التناقضية - السجالية بصورة إشكاليات الهوية والخصوصية والأصالة. «فالعولمة بصيغها المختلفة تجعل العالم أكثر بؤساً وكآبة، وتحمل بداخلها نزعة مركزية غربية تتيح للثقافة الغربية أن تعربد في المحافل الدولية لتفرض سيطرتها دون منازع وتهمش الثقافات الأخرى وتجعلها فنوناً شعبية قديمة»(4).

الخلاصة:

نخلص من كل ذلك أن فلاسفة التفكيك؛ وخاصة دريدا كأحد رواد فلسفة ما بعد الاستعمار؛ لم يستطيعوا أن يتخلصوا كلية من مركزية الذات الغربية؛ بل أنهم بشكل ما أو بآخر أعطوا أوليَّة الذات (الغرب) عن الموضوع (الشرق)؛ حيث إنها ما زالت تمارس نفس الدور من الهيمنة والسيطرة وإن اختلفت الدرجة، كما أن القراءة الصحيحة للعولمة تتيح القول أنها أحد الأشكال السياسية لفرض المركز هيمنته على الآخر؛ فالعولمة هي فرض هيمنة الذات عن طريق استغلال التفوق التقني والاقتصادي والتجاري، وترويجٌ لنموذجه الثقافي بوصفه النموذج الأمثل.

ص: 99


1- مارکیوز ،هربت نحو ثورة جديدة، مرجع سابق، ص 30.
2- يقول هربرت ماركيوز»: إن إمبريالية الاحتكارات تبرر في واقع أمرها، آراء العنصريين حين تصعد الضغط دون ،انقطاع بقنابلها، وسمومها، وأموالها، على السكان غير البيض، وتنمى سطوتها ووحشيتها المرجع السابق، ص 98). ( عمرو عبد الكريم في قضايا العولمة : إشكالات قرن ،قادم القاهرة دار سما للنشر، 1991، ص 59
3- نفسه.
4- رضوان جودت زيادة صدى الحداثة عرض إبراهيم غرايبة، موقع جريدة الجزيرة، في 15 سبتمبر 2003.http://www.azaheer.org/vb/archive/index.php/t-13044.html

طبائع الإمبريالية

عندما يدوم الاستعمار طويلا

اغلالو ياسين(1)

يعتبر الاستعمار شرّ الحضارة ومصدر قلقها المستمر. فأمام واقع التقدم العلمي والصناعي والتكنولوجي... الذي كنا نعتقد أنه سيقود العالم والوجود البشري إلى مزيد من الحرية والأمن والاستقرار، إلا أنه كان يحمل في طياتنا نقيضه. وبهذا قادت القوى العظمى الغربية المهيمنة على مسرح التاريخ الحديث والمعاصر العالم إلى واقعٍ من الاضطهاد والاستعمار والهيمنة والسيطرة على الآخر، وإخضاعه ونهب ثرواته وتبديد أحلامه في مقابل وعودها بمزيد من الحرية والأمن والاستقرار. وقد ذاقت البلدان العربية الإسلامية نصيباً من هذا الشر، خصوصاً بعدما استجاب مناخ البلدان العربية للخمول والانقباض بتعبير ابن خلدون الأمر الذي جعل منها محطة لأطماع استعمارية، لتأتي النهضة والاستفاقة العربية على أصوات الدبابات الأوروبية التي أرست على شواطئها. وكما يقول أحد المفكرين في حديثه عن أشكال الاستعمار الجديدة التي تتربص بالبلدان العربية :«وإن غادرت الدبابات فقد بقيت المطبعة».

ص: 100


1- باحث من المغرب.

غرضنا في هذه الدراسة يتعلق بالتفكير وتفكيك الابعاد الاقتصادية والسياسية والثقافية للإمبريالية التي تتربص بالبلدان العربية، خصوصاً وأن الدراسات العربية عن الإمبريالية نجدها معدودة على رؤوس الأصابع. وإذا استثنينا كتابات سمير أمين عن الموضوع ، ومن بعده رفيقه الهادي التيمومي في كتابه «مفهوم الإمبريالية من عصر الاستعمار العسكري إلى العولمة» والذي قدّم له المفكر سمير أمين نفسه. سنجد أن باقي الكتابات العربية عن الإمبريالية قد اعتنت في جزء كبير منها بالامبريالية وعلاقتها بالثقافة، وهذا ما يجسده عنوان كتاب إدوارد سعيد «الثقافة والإمبريالية»، وبعض مقالات المفكر المغربي عالم المستقبليات المهدي المنجرة خصوصاً في كتابه «الإهانة في عهد الميغا إمبريالية».

إن الإمبريالية الاستعمارية تشكل التجسيد الفعلي للشيطان بتعبير لوك فيري في كتابه «الإنسان المؤلَّه أو معنى الحياة». وواقعنا العربي يقتضي تأمل وتفكيك هذه الشيطنة التي تنطوي عليها الإمبريالية، خصوصاً وأن الحديث عن هذه الأخيرة كما يقول المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد في كتابه »الثقافة والإمبريالية» «هو حديث عن غزو عسكري سياسي وإقتصادي وأخلاقي وثقافي ولغوي وأزيائي وطعمي ..»(1).

أمام هذا الوضع يعتبر التفكير في الاستعمار وآلياته المختلفة الجديدة بالنسبة للباحث العربي والدول العربية، شكلاً من أشكال المقاومة وتأكيد الذات وإعادة رسم الحدود ونمط علاقتنا بالآخر. خصوصاً وأن «تاريخ العالم الثالث في الخمسين سنة الأخيرة عبارة عن سلسلة لا متناهية من المهانات والمذلة» (2)كما كتب المهدي المنجرة متحدثا عن الماضي الاستعماري للبلدان الأوروبية، الذي يقوم على إخضاع الآخر واستغلال خيراته وثرواته اعتماداً على أشكالٍ استعماريةٍ تتجدد باستمرارٍ في إطار تقسيم العالم بين القوى العظمى.

إن البحث في الاستعمار وآلياته الجديدة يعد اليوم ضرورة ملحة، خصوصاً في ظل

ص: 101


1- إدوراد سعيد، الثقافة والإمبريالية، دار الأداب، بيروت - لبنان، ط. الرابعة 2014 ، ص. 31.
2- المهدي المنجرة ، الاهانة في عهد الميغا إمبريالية المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - المغرب، ط. الخامسة ص.8

استمرار فشل المخططات التنموية بالبلدان العربية ووضعيتها التاريخية الموضوعية والذاتية التي تسائل بشكل مباشر التدخل الخارجي، والهيمنة الإمبريالية التي تقودها القوى العظمى. التي تتوجس من قيام دول عربيّة قويةٍ بإمكانها أن تقف عائقاً أمام غطرسة القوى الغربية، وأطماعها الاستعمارية الجديدة. ونظراً للطابع المعقد للإمبريالية بحيث ترتبط من جهة بتكوين إمبراطوريات اقتصادية وسياسية والترويج لعلاقات إنتاج محددة، ومن جهة أخرى نجدها تتأسس وتسلك طريق الغزو الثقافي والأخلاقي مستهدفة الآخر على مستوى هويته ووعيه كل هذا يدفعنا إلى معالجة الموضوع وفق منهجيةٍ ننطلق فيها من معالجة البعد السياسي والاقتصادي للإمبريالية وعلاقتها بالرأسمالية ثم التطرق فيما بعد للثقافة والإمبريالية وأشكال المقاومة وتأكيد الذات التي يسلكها الآخر.

الإمبريالية الاستعمارية شبح الرأسمالية

إذا كانت الإمبريالية «المشتقة من الكلمة اللاتينية Empire (إمبراطورية) كلمة قديمة، وتعني في الأزمنة السابقة لعصرنا إمّا كل سياسة توسعية ترمي إلى إنشاء إمبراطورية أو كل منظومة فكرية تبرر ذلك »(1)، فإن الدول العربية الإسلامية عانت ولا زالت تعاني من هذه السياسة التوسعية الاستعمارية سواء بشكلٍ عسكري مباشر، أو بشكلٍ غير مباشر اعتماداً على طرق مختلفة جديدة تضمن وتكرس هيمنة وسيطرة القوى العظمى على اعتبار أن الأمر لم يعد يتطلب بالضرورة وجود قوة السلاح والدبابات والطائرات.

لقد كان الاستعمار القديم كما يقول الهادي التيمومي «يكتفي بسلب المستعمرات جزءا مما كانت تنتجه من فائض، لكنه يُبقي في الأعم الأغلب على ما بتلك المستعمرات من بنى اقتصادية واجتماعية وثقافية. أما الاستعمار الجديد فهو استعمار نهبٍ ومقوض لما بالمستعمرات من بنى مختلفة»(2)لهذا قبل الخوض في الأبعاد الثقافية والأخلاقية للإمبريالية، تجدر الإشارة إلى أن تاريخ الدراسات والبحوث حول

ص: 102


1- الهادي التيمومي، مفهوم الإمبريالية من عصر الاستعمار إلى العسكري إلى العولمة، دار محمد علي، تونس، ط الأولى، 2004، ص. 71.
2- المرجع نفسه، ص. 7.

الإمبريالية مر بمراحل إذ ركزت الكتابات الأولى التي قد نسميها اليوم كلاسيكية على الإمبريالية في جانبها الاقتصادي. فتم اعتبار الإمبريالية وليدة والابن الشرعي للرأسمالية، وأن الرأسمالية في تطورها تحمل بالقوة مرحلتها المتقدمة والمتجلية في الإمبريالية. ويمكن أن ندرج في هذا الاتجاه من البحث كل الكتابات التي تنخرط في التقليد الماركسي ودليل قولنا كتاب فلاديمير لينين الذي اختار له عنوان «الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية»، مروراً بنكولاي بوخارين (1)وكتابه «الاقتصاد العالمي والإمبريالية»، ومن قبل هذا كله بحوث وكتابات كارل ماركس ورفيقه فريدريك إنجلز عن الاستعمار وأزمات الرأسمالية. لهذا كان من الطبيعي وفق الدراسات والبحوث الماركسية أن ننتظر تطور الرأسمالية حتى تنضج وتبلغ قمتها، لنشهد ولادة عصر الإمبريالية الاستعمارية. ليتوسع شطط هذه الأخيرة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وترسيم القطبية الواحدية بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، وتحالفاتها ذات الهندسة المتنوعة. وبالتالي وكما يذكر الهادي التيمومي «أن كلمة الإمبريالية وإن كانت معروفة منذ العصور القديمة فإنه لم يكتب لها الرواج إلا منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، ويعود ذلك إلى هستيريا التنافس الضاري حول المستعمرات التي استبدت بالدول الرأسمالية الأقوى أنذاك وأفضى إلى اقتسام كل العالم ولأول مرة في التاريخ بين أقطاب النظام الرأسمالي العالمي»(2).

غرضنا لا يتعلق بعرض تصور كارل ماركس أو الماركسية بصفة عامة عن الاستعمار الذي يتخذ أبعاداً معقدةً، خصوصاً في مشروع كارل ماركس الذي رأى فی الاستعمار آلية مساعدة للمجتمعات المستعمرة ما قبل الرأسمالية على الانتقال بسرعة إلى النظام الرأسمالي. وبالتالي تكوين طبقة بروليتاريا عالمية تتحالف ضد البورجوازية . بل ما يهمنا هو البعد المتناقض للنظام الرأسمالي، والذي سينتهي في مرحلة انتعاشه وازدهاره إلى نظام إمبريالي للحفاظ على وجوده وضمان استمراره، على اعتبار أن الإمبريالية هي عجلة ووقود الرأسمالية.

ص: 103


1- نيكولاي ايفانوفيتش بوخارين ( 1888 - 1938 م ) سياسي وماركسي بلشفي نشط في الثورة البلشفية.
2- الهادي التيمومي، مفهوم الإمبريالية من عصر الاستعمار إلى العسكري إلى العولمة، مرجع سابق، ص. 71.

وبهذا لوحظ «أن الدول الرأسمالية الكبرى قادرة على استغلال خيرات بلد معين باللجوء فقط إلى الوسائل الاقتصادية، دون الوسائل العسكرية. وقد أطلق بعض المفكرين تسمية الإمبريالية (Timperialisme) ( على هذه العملية)»(1). هذا التوصيف الذي يقدمه التيمومي للامبريالية ويتخذه كتعريف لها، هو نفس الفهم الذي حرك معظم الدراسات العربية لتطوير تصور عن أشكال الاستعمار الجديدة التي تكرس التبعية للقوى العظمى خصوصاً بعدما وجدت نفسها في علاقةٍ غير متكافئةٍ رغم خروجها من قبضة الاستعمار المباشر وتأخر قطار التنمية بمعظم البلدان العربية الإسلامية رغم إراداتها القوية.

إن الرأسمالية بطبعها لا أخلاقية كما يقول كارل ماركس، هدفها هو الإغتناء وتحصيل المال وبالتالي الاستغلال إنها في جوهرها لا عادلة. لهذا عاشت القارات الثلاث تبعية اقتصادية وسياسية وثقافية للدول العظمى الإمبريالية التي قسمت العالم بعدما استحوذت الدول الرأسمالية على مناطق التأثير والرأسمال الممول لعجلة النظام الرأسمالي. وصار الآخر لا يمثل إلا مصدراً للثروة، أو يد عاملة رخيصة، أو سوق متلهفة للسلعة.

إن ارتفاع مستوى الإنتاج قاد القوى العظمى إلى تقسيم العالم فيما بينها، وقد دفع هذا الأمر فلاديمير لينين في كتابه «الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية» إلى تقديم إحصائيات لأحد الباحثين عن المجال الجغرافي الخاضع للمستعمرات الأوروبية، فيذكر ما مفاده أنه خلال سنة 1900م كانت أكثر من 90 في المئة من بلاد أفريقيا تحت الاستعمار الأوروبي(2). وهذا ما يدفعنا إلى القول أن الاستعمار وإن كان موجوداً قبل المجتمع الرأسمالي، فإن ما يميّز هذا الأخير هو بعده التصنيعي الرأسمالي، فيصبح الآخر مصدراً للمواد الأولية وسوقاً استهلاكية

وبهذا فكل أشكال التدخل الأجنبي تهدف إلى تكريس علاقات إنتاج معينة، التي

ص: 104


1- الهادي التيمومي، مفهوم الإمبريالية من عصر الاستعمار إلى العسكري إلى العولمة، مرجع سابق، ص. 7.
2- V. Lénine, l'impérialisme stade suprême du capitalisme, édition sociale, paris, p. 112.

هي بالطبع علاقات تخدم مصلحة القوى العظمى المسيطرة. فتشييد السكك الحديديّة كما يقول لينين «يبدو عملاً بسيطاً طبيعياً وديمقراطياً ثقافياً وحضارياً : لكنه في أعين خبراء البرجوازية طريقة لإخفاء بشاعة العبودية الرأسمالية.»(1) الأمر الذي يعني أن الإمبريالية تسلك طرق عديدة وذات أبعاد اجتماعية تغطي بها على أهدافها الأصلية. ولم تعد بالضرورة في حاجة إلى القوة العسكرية المباشرة. فبعد مغادرة وإجلاء الدبابات وكل تجليات القوة العسكرية تبقى الشركات العابرة للقارات، والرأسمال التمويلي الأجنبي الذي يكرس الهيمنة والتبعية لأنه كما يقول لينين «إذا أردنا تعريف الإمبريالية بشكل مختصر يمكننا القول إنها مرحلة الرأسمالية عندما تتحول إلى شركات احتكارية.»(2)مما أن القوى العظمى تعمل على تركيز الرأسمال في يد تكتلات وشركات بعينها، الأمر الذي يجعلها مهيمنة وسائدة وتمنع صعود الرأسمال الوطني للبلدان المستهدفة. إنه وجه آخر للاستعمار يقوم على التحكم السياسي والاقتصادي باعتماد وسطاء - شركات ومؤسسات تعمل كطواحن لخدمة النظام الرأسمالي، وتستغل دولاً نائية أقل تقدما وتعتبرها خزاناً للثروة وسوقاً متعطشة ويداً عاملة رخيصة.

إذا كان للإمبريالية كل هذه التجليات والأوجه المتعددة، فإن لينين حاول تحديد خصائصها وجعلها خمسة:

1. تركيز الإنتاج والرأسمال الأمر الذي أنتج الاحتكار

2. ظهور أوليغارشية تمويلية بعد إدماج الرأسمال المالي مع الرأسمال التمويلي.

3. تصدير الرأسمال الذي اصبح مختلف عن تصدير السلع

4. نشأة شركات احتكارية قسمت العالم.

5. تقسيم المجال الجغرافي العالمي بين القوى الكبرى الرأسمالية.(3)

ص: 105


1- ibid, p. 9.
2- Ibid, p. 130.
3- V. Lénine, l'impérialisme stade suprême du capitalisme, édition sociale, paris, p. 131.

تبين هذه الخصائص كيف أن الإمبريالية تهدف إلى ضمان استمرار الهيمنة، وإخضاع الآخر لمنطق علاقات إنتاجية معينة وتدفع القوى العظمى إلى التنافس على المجالات الجغرافية الغنية طبيعياً وبشرياً مما يولد الصراعات والحروب والانقسامات داخل البلدان المستهدفة وتأجيج الهويات القومية. وهي حرب«تقودها مصالح وأطماع معينة على مستوى المنطقة»(1) بتعبير المهدي المنجرة في حديثه عن الحرب على أفغانستان والعراق، والتي اعتبرها حرب من أجل النفط. وبالتالي فالاستعمار وكل تدخل أجنبي بالمنطقة العربية والشرق الأوسط وباقي دول العالم النائية لا ينفك عن هذه القاعدة التي تديرها المصالح والأطماع وتكرس الهيمنة والتبعية.

إذا كنا قد أكدنا سابقاً على الأبعاد المتعددة للإمبريالية، بحيث وراء أطماعها الاقتصادية تقف ترسانة من السرديات الاستعمارية ذات الأبعاد الثقافية، والأخلاقية، والأزيائية... والتي تهيّئ الوعي البشري، وتخلق عنده بالتالي بنيةً إيديولوجيةً تمكِّنه من الانخراط السلس في علاقات الإنتاج التي تقودها وتكرس لها القوى الإمبريالية العالمية التي رأينا كيف أنها تتطاحن لتقسيم العالم جغرافياً، خدمة لمصالحها الرأسمالية. وإذا كنا قد تحدثنا سابقا على البعد الاقتصادي للإمبريالية وعلاقتها المباشرة بالرأسمالية. فإن المهمة المتبقية تتعلق بتسليط الضوء على هذه السرديات الناعمة، التي تغزو العالم ثقافياً وتقوّض بنية وعيه الأصيلة بتعبير الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر وتخلق عنده وعياً مزيفاً يجعله ينخرط في بنية النظام التي تروجه الإمبريالية العالمية وكأنه النظام الواحد الممكن والأصلح وفق سردية نهاية التاريخ التي روج لها فوكوياما.

ص: 106


1- المهدي المنجرة الاهانة في عهد الميغا إمبريالية المركز الثقافي العربي، مرجع سابق، ص. 61.

الإمبريالية والثقافة وأشكال المقاومة المضادة

نصادف في كتاب المفكر الفلسطيني ادوارد سعيد «الثقافة والإمبريالية» مقطع معبر للروائي الإنجليزي جوزيف كونراد من روايته «قلب الظلام»، يعتبر «أن فتح الأرض، الذي غالباً ما يعني انتزاعها من أولئك الذين لهم بشرة مختلفة عن بشرتنا أو أنوفا أكثر تسطيحاً بقليل من أنوفنا، ليس عملاً جميلاً حين نتأمله بإمعان، وليس ثمة ما يشفع له ويمنح الخلاص سوى الفكرة ذاتها: فكرة كامنة وراءه، لا ذريعة عاطفية بل فكرة وإيمان لا تشوبه الأنانية بالفكرة - التي هي شيء بوسعك أن تقيمه نصبا وتنحني أمامه مبجلاً وتقدم له القرابين».(1) إن الأمر لم يعد يتعلق بإدخال الدبابات واحتلال الشواطئ والبراري، بل يتعلق بتمرير وإدخال الفكرة وجعلها مقبولة عند الناس ومتحمسين لها. إنه إقناع للرأي العام بمشروعية التوسع الإمبريالي وببعده الأخلاقي أحياناً وذلك بعرض حجج عبارة عن تبريرات: فالروائي البريطاني روديارد كيبلينغ (2)المناصر للإمبريالية كان يعرض حجج يمكن أن نسميها حضارية تقر بأن الرجل الأبيض يتحمل مسؤولية إدخال الشعوب المتخلفة ولو مرغمة في الحضارة، مروراً بحجج أخرى إنسانية تعتبر «أن الدول المتقدمة لها حق التدخل الإنساني لاستئصال العبودية والاستبداد الشرقي ونشر قيم الحرية والعدالة وحقوق الإنسان داخل البلدان غير الغربية»(3). وحجج أخرى عنصرية تقوم على إرادة القوة والتمييز بين الأجناس النقية والدنيئة، وأخرى إحيائية بتعبير الهادي التيمومي التي تعتبر الإمبريالية ضرورية لإحياء الشعوب وتخليصها من البيروقراطية والعقم، وقد تكون تبريرات ذات مصوغات دينية تعتبر الإمبريالية تخليصاً للعالم من الوثنية وتنصير غير المسحيين. كل هذه التبريرات التي تهدف إلى اقناع وطمأنة شرائح واسعة من الرأي العام الأجنبي، وتبرير غزو بلده للبلدان الأخرى. وهي نفس التبريرات التي قد يطمئِنُ لها الرأي العام المستهدف خصوصاً عندما يتعلق الأمر بمصوغات محاربة التخلف، وتحرير الشعوب من الاستبداد

ص: 107


1- إدوراد سعيد، الثقافة والإمبريالية ، دار الأداب، مرجع سابق، ص. 53.
2- روديارد كيبلنغ 16-1-1865) (rudyard kipling م كاتب وشاعر وقاص بريطاني، ولد في الهند.
3- الهادي التيمومي، مفهوم الإمبريالية من عصر الاستعمار إلى العسكري إلى العولمة، مرجع سابق، ص. 72.

ونشر ثقافة حقوق الإنسان وتبريرات أخرى جديدة أكثر موضة تتجلى اليوم في سيمفونية محاربة الإرهاب..

كل هذه الحجج والتبريرات هي الوجه الآخر لعملة واحدة عنوانها الإمبريالية العالمية، التي تحكم قبضتها على العالم. وبالتالي «فالجدل حول مفهوم الإمبريالية منذ تشكل هذه الظاهرة في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين إلى أيامنا هذه لم يكن لإشباع فضول معرفي، وإنما كان يعكس صراعاً فكرياً بين خطين: خط القوى الاجتماعية المستفيدة من الإمبريالية وخط القوى المتضررة منها».(1)إنه نوع من الصراع بين المراكز العالمية وقوى الهامش. وهو صراعٌ غير متكافئٍ بحيث توظف القوى العظمى أذرعها الاقتصادية الاحتكارية كما رأينا سابقاً، كما تسخر آلاتها الإعلامية ونواياها الأخلاقية السيئة ... لهذا قلنا سابقاً أن الكتابة باللغة العربية عن الإمبريالية هو نوع من أنواع المقاومة باعتماد اللغة والفهم والوعي.

إن الهيمنة الثقافية وتكريس التبعية على مستوى الذوق الفني والأدبي والأخلاقي... هو جزء من مشروع الإمبريالية العالمية التي رأينا سابقاً وجهها الاقتصادي. لهذا اعتبر ادوارد سعيد أن الثقافة ليست محايدة، بل أول ما يجب الانتباه له اليوم هو أن الغزو صارت أحداثه تُنسج على حلبة الساحة الثقافية. بحيث أصبحت هذه الأخيرة «مسرح نمط ما تشتبك عليه قضايا سياسية وعقائدية متعددة متباينة، هيهات أن تكون الثقافة مملكة ساجية... بل إنها قد تكون ساحة عراك فوقها تعرض القضايا نفسها لضوء النهار وتتنازع فيما بينها »(2). لقد أدخلت الإمبريالية العالمية الآخر في أزمة تحكمها الغربة عن الذات وفقدان المعنى. نتيجة الهجوم على القيم والمنظومات والمرجعيات الكبرى التي تجعل الفرد يحس بالانتماء، وينطلق بالتالي من هوية تاريخية يستطيع عبرها الإجابة على قلق الحضارة المعاصرة، ومواجهة الاستلاب، والأخطار الخارجية التي تتربص بالذات. لهذا تسعى الدول التي تعرف هجوماً وتدخلاً خارجياً إمبريالياً إلى تقوية وتأكيد الهوية القومية ثقافياً وأخلاقياً ...

ص: 108


1- الهادي التيمومي، مفهوم الإمبريالية من عصر الاستعمار إلى العسكري إلى العولمة، مرجع سابق، ص. 73.
2- إدوراد سعيد، الإمبريالية والثقافة دار الاداب مرجع سابق، ص. 75.

إن الإمبريالية تهاجم ثقافياً، لتمنع سرديات أخرى من أن تتكون وتبزغ. لأن الهيمنة والسيطرة الثقافية والأخلاقية، تجعل الآخر المغلوب والمستلب يدخل في هيستيريا تقليد الآخر ، والتماهي به وسلوك طريقته ونمطه الاقتصادي والثقافي. وهذا ما انتبهت له السرديات العربية التي سلكت طريق المقاومة والتصدي لمخططات الإمبريالية العالمية، إذ يقول المهدي المنجرة معلقاً على تجربته كمسؤول بمنظمة اليونسكو «لقد ازددت قناعةً بفكرة ابن خلدون في أن القوي ينطلق دائما من قيمه، والحقيقة تحتاج إلى القوة، وعندما تخسر قبيلة ما النزاع يكون أول رد فعل عندها هی أن تقلد القبيلة التي تفوقت عليها، والرغبة في قيادة الإنسان كثيراً ما تحرك ما يسمى بالحضارة الغربية في علاقتها مع الآخر»(1). هذا القول يكشف لنا عن الأبعاد الإمبريالية والرغبة في السيطرة وتصدير القيم والأخلاق التي تحكم الوعي الغربي، باعتباره القائد للعالم والنمط الواحد الممكن الذي يجب على كافة دول العالم أن تتشبث به وتسلكه.

لقد جندت الإمبريالية العالمية آليات متعددة مختلفة لتأكيد فكرة التقدم والتفوق الأجنبي، وجعلت التاريخ الحديث والمعاصر يكتب بأعين أوروبية. في طليعة هذه الوسائل تأتي الآلة الإعلامية للقوى العظمى، ثم أقلام المفكرين والأدباء الذين يتخذون الحكي والسرد آلية لتمرير فكرة نهاية التاريخ، ورسم مسيرة واحدة للتاريخ على الطريقة الغربية. ونستحضر هنا أمثلة متعددة لأقلامٍ فكريةٍ أعلنت نهاية التاريخ وانتصار النموذج الرأسمالي الغربي، وأفول كل السرديات المضادة والمخالفة كما فعل فوكوياما . الذي أعلن نهاية الإنسان وكل الإرادات الأخرى التي تتحرك خارج نسق القطبية الواحدية ومن بعده أستاذه صامويل هنتنغتون الذي رأى أن نظرية تلميذه نظرية قاصرة وأبدع في تأسيس نظرية تقول بصراع الحضارات هذا الصراع الذي سيحدد شكل العالم مستقبلاً.

إنه في الحقيقة ليس صراعاً بل خطراً مصدره القارات التي عانت من الإمبريالية الاستعمارية. وهذا ما جعل عالم المستقبليات المغربي المهدي المنجرة الذي قال بحرب الحضارات قبل هنتنغتون يعلق عائلاً أن طرح هذا الأخير المتعلق بصراع الحضارات

ص: 109


1- المهدي المنجرة الاهانة في عهد الميغا إمبريالية المركز الثقافي العربي، مرجع سابق، ص. 174. ة،

وقائيا بحيث يعتبر «أن الخطر سيأتي من العالم غير اليهودي - المسيحي، وهذا خطاب يستند إلى الدفاع عن النفس»(1). في حين كان خطاب المنجرة مستقبلياً استشرافياً، يتنبأ بوضعية العالم العربي الإسلامي الذي ألصقت به صفات وأصبح الشرّ والخطر الذي يهدد استقرار العالم وأمنه. لقد كان لهذا الخطاب الإمبريالي الثقافي صدى كبير على الوعي العربي، الذي نهض لتأكيد هويته الإنسانية الكونية ومواجهة التهم المنسوبة للهوية العربية الإسلامية وذلك بتشجيع التربية التي تعزز القيم العربية الإسلامية مع ربطها بالقيم الإنسانية الكونيّة من: حرية وحقوق الإنسان وديمقراطية... مع النهوض بأليات التعبير والإعلام المضاد الذي يفتح النقاش مع الحضارات الأخرى، لبيان القصور الذي يلحق بعض النظريات التي تروّج لها الإمبريالية العالمية على المستوى الثقافي. ويمتد النقاش الحضاري اليوم إلى الهويات المتطرفة أو القاتلة بتعبير أمين معلوف والتي تعمل السرديات الإمبريالية على الصاقها بالذات الإسلامية مباشرة لتبرير غزوها وتدخّلها الأجنبي في الشؤون العربية الإسلامية، وتوجيه سياسات هذه البلدان ونهب خيراتها وثرواتها. الأمر الذي حمَّل الحضارة العربية الإسلامية عبئاً مضاعفاً. يجعلها تضطلع من جهة بمهمة تحصين الذات وتأكيد هويتها التاريخية وربطها بالقيم الإنسانية الكونية، ومن جهة أخرى مواجهة الغزو الإمبريالي الثقافي الذي يوزع التهم ويعمل على شيطنة الآخر واتخاذ الأمر حجة للسيطرة والتدخل في شؤونه ونهب ثرواته.

خاتمة:

أمام هذه الأوجه المختلفة للإمبريالية العالمية والوضعية والمهمة المعقدة التي تضطلع بها الدول المستهدفة، نجد أن الإمبريالية لا تنفك تجدد ذاتها وتتخذ أقنعة مختلفة. تسقط الآخر في شباكها ومصالحها ، إذا لم يتسلح بالوعي المناسب وآليات الفهم والتحليل الضرورية لتفكيك بنية الخطاب الأجنبي والتعرف على طموحاته الاستعمارية الثاوية. وبقدر ما تنجلي وتنكشف الإمبريالية العالمية من طرف الخصوم ويتم كشف أبعادها وأقنعتها بقدر ما يزداد الوعي وتتعاظم الاجتهادات لدى خبراء و منظري السياسات الإمبريالية لتجديد أشكالها.

ص: 110


1- نفس المرجع السابق، ص: 172.

الاستغراب القسري

في جدل التثاقف بين المركز والهوامش

نجلاء مكاوي(1)

استخدمت الثقافة الأوروبية عدة استراتيجيات وهي تؤطر فكريًّا ما اعتقدته تفوقًا أوروبيًّا على كافة الحضارات والثقافات تضمنت التنظير لتلك الرؤية، وصياغة الخطاب الذي يبرر السيطرة الأوروبية على الثقافات الأخرى، من خلال تعميم القيم والممارسات الأوروبية على« الآخر» الذي اعتُبر وصُوِّر ذا قيمٍ وثقافةٍ أدنى، ويستوجب تقدمه الدوران في الفلك الثقافي الغربي.

وضعت النظرة للعالم في الوعي والثقافة الأوروبية أسس مفهوم المركزية الغربية، وما استتبعها من تجلياتٍ ثقافيةٍ، فوفقاً للتصور الأوروبي المبني على نظرة ثنائية للعالم «برابرة ومتحضرون» فإن الغرب هو منتج القيم الإنسانية، والمحدد الوحيد لمسار انتقال أي ثقافةٍ من البربرية إلى المدنية وهى كل الثقافات غير الغربية، وواضع معايير التقدم والتخلف.

وقد ظهر مفهوم الغرب، تمخضًا عن الحقبة الطويلة التي يصطلح عليها

ص: 111


1- أستاذة جامعية وباحثة في الفكر السياسي الحديث - جمهورية مصر العربية.

بالعصر الوسيط، التي طورت جملةً من العناصر الاجتماعية والدينية والسياسية والثقافية، فاندمجت لتشكل هوية أوروبا، وبانتهاء تلك الحقبة ظهر المفهوم بأبعاده الدلالية الأولية، التي تمثلت في تثبيت مجموعة من الصفات والخصائص العرقية والحضارية والدينية على أنها ركائز أساسية تشكل هويته وأدت هذه العملية إلى ولادة مفهوم المركزية الغربية، الذي تتجلى إشكاليته في أنه يؤسس وجهة نظر حول الغرب بناءً على إعادة إنتاج مكونات تاريخية، توافق رؤيته، معتبراً إياها جذوراً خاصة به، ومستحوذًا في الوقت نفسه على كل الإشعاعات الحضارية القديمة، وقاطعًا أواصر الصلة بينها وبين المحاضن التي احتضنت نشأتها . فيما تقصَّد المفهوم أن يمارس إقصاءٌ لكل ما هو ليس غربيًّا، دافعًا به إلى خارج الفلك التاريخي الذي أصبح الغرب مركزه، على أن يكون مجالاً يتمدد فيه، وحقلاً يجهزه بما يحتاج إليه(1).

ساعدت عوامل عدةٍ، على تدشين وتثبيت الهوية الغربية الحديثة، ووضوح وتجلي مفهوم التمركز فبجانب الثورة الفكرية والعلمية وحلول العلمية العقلية محل الرسالة الدينية، ما كرَّس لتمركز (الأنا) عند الغرب، الذي صار رمزا للتحضر، بينما العالم الآخر هو رمز للتوحش والهمجية، بعد أن نابت ثنائية حيوية أوروبا/ خمول العالم عن ثنائية الإيمان/ الكفر التقليدية، أو ثنائية التمدن/ التوحش، فإن بداية الإعلان عن الزمن الأوروبي، وتشكيل هوية محددة إعمالاً للمركزية الغربية جاءت مع الكشوف الجغرافية الكبرى، وعبور کولمبوس للمحيط الأطلسي عام 1492م، حيث أقصيت أميركا وتاريخها القديم، وطمست معالمها ابتداءً من تحديد تسمية تحتفي بالاتباعية للذات الغربية، هذه التسمية التي حاولت ممارسة الإقصاء بإخفاء هويتها الحقيقية وإخماد وطمس أصلها، فكان الإعلان عن هوية أوروبا الغربية وذاتها بقتل

ص: 112


1- السيد ياسين، المركزية الغربية وتجلياتها المعاصرة، أوراق ثقافية، الأهرام .WRIT3.HTM/16/8/http://www.ahram.org.eg/Archive/2001

الآخر واستبعاده(1). واستمرت الآثار السياسية والثقافية لهذه الحملة كامنة في صميم الثقافة الغربية، ولعل أبرز تجلياتها نظرة الغرب الاستعلائية إلى نفسه والتي ترافقها النظرة الدونية للثقافات والشعوب غير الغربية، وقيمها، وثقافتها، والشعور بالتفوق لدى الذات الغربية. هذه النظرة التي تجلّى تطورها في كونها أضحت مبررًا عنصريًّا بواجهةٍ أخلاقيةٍ لتوسعات أوروبا الاستعمارية في بلاد من اعتبرتهم هوامش، مروجة الخطاب المنوط بإخراجهم من الظلام والجهل وإلحاقهم بركب الحضارة، وإن كان باستخدام القوة، بكافة تمثلاتها.

ثمة منظومات فكرية صاغت أسس فكرة التمركز الأوروبي، وأصّلت له من أجل صناعة صورة تشرعن للغربي إقصاءَه للآخر وتهميشه، وتجلت في نظريات أصلت للحضارة الأوروبية بادعاء النقاء، وعدم تأثرها بأيّ حضارة أخرى غير غربية، وانعدام القيمة والتأثير المطلق للحضارات الأخرى، وقد أشار الأنثروبولوجي الفرنسي، جيرار ليكريلك، إلى دور «النظريات التطورية» في رسم صورة عن حضارات متفرقة ومتأخرة تتقدمها أوروبا وتشكل نموذجاً يمكن تتبع خطاه، فقد كان بناء تلك النظريات أحد الطرق التي حاولت أوروبا بواسطتها أن تفهم التنوع الثقافي في العالم، الذي اعترفت به إبان التوسع الاستعماري ففي إطار مقاربةٍ كهذه يمكن ترتيب المجموعات البشرية تبعًا لخط زمني طويل يمثل في الوقت نفسه سلَّمّا للتقدم، بحيث يُظهر هذا الخط الإنسان وقد انتقل من حالة التوحش إلى البربرية، ثم إلى المرحلة المتحضرة. وإذا قُدِّر لكل المجتمعات أن تتقدم تبعًا لهذا الخط، فإن بعضها كان أكثر «تقدماً» من البعض الآخر بعضها يقود السباق، وبعضها الآخر يشكل جزءًا من المتبارين، وثمة بعض ثالث يسير في ذيل المتبارين. وهنا، تحتل أوروبا وبشكل طبيعي، كليًّا، موقعًا يجعلها رأس الحضارة (إنها الحضارة بامتياز) أما «الحضارات الأخرى» (الإسلام، الهند، الصين) فقد كانت أكثر «تأخراً». وفي النهاية فإننا نصادف مجتمعات متوحشة

ص: 113


1- غزلان ،هاشمي، التحيز الأيديولوجي في التمثيلات الخطابية الغربية، مركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلام، نوفمبر .http://www.dalilalkitab.net/?id=401

أو«بدائية» لا حق لها بأن يطلق عليها صفة «المتحضرة»، وتاليّا فإنه لابد لها أن تكتفي بموقع صاحبة «ثقافات»(1).

الزعم الأوروبي بإمكانية تصنيف المجتمعات الإنسانية، والحضارات والثقافات الأخرى، تبعًا لتقدمها على سلم التقدم الثقافي والاجتماعي، الممثل في الحضارة والحداثة الأوروبية، استند إلى مبادئ العقلانية والعلمانية، التي رسختها فلسفة الأنوار التي انطلقت في أوروبا في القرن الثامن عشر، ومثَّلت مرجعًا تأسيسيًّا للفكر الغربي الحديث، وشكلت منعطفّا تاريخيًّا تحكِّم في مجمل الإنتاج المعرفي الغربي والعالمي حيث أحدثت قطيعةً معرفيةً مع النسق المعرفي الذي كان سائدا غربًا، كانت ضروريَّةً للخروج من أفق التخلف والدخول في مسالك النهضة، فعملت على تعميم نموذجها باعتباره نموذجًا كونيًّا يصلح في كل زمان ومكان وتشكَّلت مركزية غربية عنصرية تمثلت باحتقار الثقافات والشعوب الأخرى، وخصوصًا الشرقيّة منها، وبدت الممارسة الاستعمارية أكثر وضوحًا مما كانت تتخفى خلفه من المثل العليا للأنوار، فانقلب العقل إلى اللاعقل، والعدل والمساواة إلى الاستبداد، وزحفت أوروبا إلى العالم لفرض هيمنتها وسيطرتها بذرائع تحرير العالم وتمدينه، وفق أيديولوجيا الاستعمار(2).

الاستعلاء المعرفي

هنا تفترض النظرية التطورية أن الاختلافات بين الثقافات (أو بين الحضارات) هی اختلافات ناجمة أساسًا، عن الموقف المتقدم نسبيًّا على طريق التقدم التقني الوحيد. إنه طريقٌ واحدٌ لا يمكن تحاشيه، فكانت عبارة «الخط الوحيد» عبارةً تُقرن بهذه المقاربة في أغلب الأحيان. حيث تقوم أوروبا بقيادة مباراة الحضارات، وفي إثرها يسير صف من الثقافات الصغيرة البدائية المعزولة والقديمة، والتي أصيبت بالتأخر التقني، وبالتالي الثقافي. فانعزال الحضارات الواحدة عن الأخرى، وهذا

ص: 114


1- جيرار ليكريلك، العولمة الثقافية.. الحضارات على المحك، ترجمة: جورج كتورة دار الكتاب الجديد المتحدة، ،بیروت، 2004. ص 33
2- حسن أبو هنية ، روح الأنوار» كأيديولوجيا استعمار والإصلاحية الإسلامية، التقرير. http://altagreer.com :2014/11/22

ما كان قاعدة طيلة التاريخ قد آل إلى الانتهاء مع تشكل السوق العالمية، وتوسع الحضارة الحديثة المولودة في أوروبا بشكل كوني. أما الحضارات الكبرى الأخرى سيكون بوسعها لاحقا أن تتكيف مع الخطوط الكبرى لهذه الأخيرة. فيما يتهدد الفناء الحضارات الأخرى، خاصة لجهة خصوصيتها الثقافية (الدينية بوجه خاص)، ولجهة التأقلم مع الوضع التقني، أي أن الدخول في العالم الحديث - أو في الحضارة كما كان يقال - يمر باكتساب الشكل الثقافي الوحيد، وبامتلاك العلم والتقنية(1).

على ذلك فالنمط الغربي هو الوحيد المتعين محاكاته لتطور المجتمعات، التي اعتبرتها أوروبا تحمل عناصر الثبات، ولا تسمح خصوصيتها بالتقدم، بينما الثقافة الأوروبية الحديثة تمتلك عناصر التطور المستمر، لذلك كان من الضروري أن يقسم العالم إلى مركز وهوامش مركز غربي من حقه التمدد والسيطرة لفرض نمطه، وهوامش تحتاج إلى التغيير والتحديث، بينما كانت تلك ذريعة للاستجابة إلى التحولات المرتبطة بالرأسمالية، وتلبية حاجات الغرب الاقتصادية، عبر الانطلاق بتوسيع مجاله الاقتصادي خارج نطاق القارة الأوروبية، في ذلك الجزء من العالم الذي اعتبر مجالاً مُستحقًّا للتمدد.

تجلت الأهداف المرتبطة بقاعدة النظام الرأسمالي، التي تحمل طابعه، والتي وقفت وراء تقسيم العالم إلى مركز وهوامش وعمل خطاب التمركز الغربي على إخفائها، في مسار عملية التحديث المدعاة من قِبل الغرب للدول التي استعمرها واعتبر أنها بما تحمله من خصوصية سببٌ في عدم الاستجابة للحداثة، كمشروع فلسفيٍّ وتجربةٍ تاريخيةٍ، فصُنفت مجتمعاتها بأنها «ممانعة» للتحديث، ومنها المجتمعات العربية والإسلامية، حيث اتضح أن تحديث العالم ليس هدفًا غربيًّا، بقدر ما كان هدفًا خطابيًّا لنزعة التمركز الغربي حول الذات، وفي القلب منها نسق الفكر الكولونيالي. فما سعى الغرب إلى تصديره للمجتمعات الأخرى إنما هو أشكال الحداثة الملونة كي تصبح هوامش فعالة تعمل كأسواق مفتوحة لسلعه من دون

ص: 115


1- جيرار ليكريلك، مرجع سبق ذكره ص 34

إنتاج ، وجمهور مستهلك لإعلامه من دون ثقافة. ومن تلك الفجوة بين حاجة الغرب إلى تحديث هوامش المجتمعات الأخرى، وخوفه العميق من حداثة متونها، ولدت الإشكالية التي صارت مألوفة عن ازدواجية المعايير داخل مشروعه الحضاري، فحكم بعض المعايير مسارات تطوره الذاتي، وتحكمت نقائضها بمسارات تمدده الخارجي؛ حيث احتل الغرب بلادًا ووظف أصحابها، في خدمة مشاريعه، فظل البناء الفلسفي المعتمد لمشروعه الحضاري عاجزاً عن حمل مشروع كوني حقيقي(1).

تمثلت تناقضات أطروحة التمركز الثقافي الغربي في رفض أوروبا التنوع البشري الثقافي وادعائها امتلاك الحقيقة موجهة بنزوع إمبريالي، مستند إلى أيديولوجيا التقدم والعقل والحرية أسهم في تبلور تناقضاتها وأوجهها المتعددة، وفي تطبيق نظريات العلوم الإنسانية الحديثة على الآخر، هذا التطبيق الذي عبّر بوضوح تام عن النزعة الاستعلائية لمرجعياته الفكرية، التي يجعلها الأوروبيون في المقدمة دائماً. وفي هذا السياق تعرض الباحث إدريس هاني في دراسته حول «نقد الإنتروبولوجيا والتمركز الأوروبي - حالة إفريقيا إلى اصطدام هذه النظرة الغريبة للذات بحقيقة مرّة تمثلت بالنموذج الأفريقي، في إطار المعطيات الأنتروبولوجية التي أُريد لها أن تُسخَّر في خدمة التمركز الأوروبي، لكنها انقلبت ضده، حيث غابت المصاديق الأنتروبولوجية في المجتمعات المدروسة، ومن ضمنها المجتمع الأفريقي. هذا المجتمع الذي يمتلك خصوصية الذوق وخصوصية الاتجاه، وبدلاً من أن تلتفت الأنتروبولوجيا إلى التراث الأفريقي، الذي يعبّر عن الهموم والأفراح المشتركة بين الشعب الإفريقي وبين المجتمعات البشرية، راحت تؤكد على تفسيرات التجلي البدائي في العقل الإفريقي وانغلاقه، من خلال دراسة بعض المظاهر الأسطورية في هذا المجتمع(2).

ص: 116


1- صلاح سالم العلاقات المصرية - الأميركية أسيرة الدين السياسي والمركزية الغربية، الحياة، لندن، 2015/3/2.
2- إديس هاني العرب والغرب.. أية علاقة .. أي رهان عرض: عبد الرحمن الوائلي مجلة الكلمة، العدد 23 ربيع http://www.kalema.net/v1/?rpt=388art ،1999

تبيَّن التركيب المتناقض للمشروع الثقافي الغربي، بالرغم من صنع أوروبا لنفسها أقنعة مكنتها من ممارسة الأدوار المتناقضة، ومع إعادة منظريها كتابة تاريخ الإنسانية انطلاقاً من طموحاتهم المتمثلة في مزيد من السيطرة على العالم في صلب المشروع نفسه، وأطروحة التمركز الأوروبي، الذي وظف في الحرب الأيديولوجية الرامية إلى تعميم التفوق الغربي في مختلف أصعدة الحياة هذه الأطروحة اقتضى بناؤها الخلط بين معطيات تنتمي إلى مجالات معرفية وأخرى ترتبط بالتوظيف الأيديولوجي الرامي إلى إنجاز مهام سياسية وأيديولوجية محددة، وهنا إشارة إلى السوسيولوجيا الاستعمارية والأبحاث اللغوية، وأنثروبولوجيا الإثنيات، وغير ذلك من المجالات المعرفية التي تم فيها توظيف الآلية الأيديولوجية المتمركزة على الذات الغربية، كذات فاعلة في التاريخ، بهدف ضمان استمرار فاعليتها بأكثر من وسيلة، ثم حماية مكتسباتها ومصالحها في المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والأيديولوجية(1).

هذه التناقضات التي تكشَّفت مع تطور مشروع الحداثة، وتجلي ازدواجية المعايير في الأدوار التي مارستها الحضارة الغربية، بجانب المقاومة التي أبدتها الشعوب غير الأوروبية، أطلقت النقاش حول نقد المركزية المعرفية الغربية، فالنزعة التحررية التي صاحبت عمليات مواجهة الاستعمار الأوروبي في إفريقيا وآسيا، أبرزت عاملاً آخر ساهم في إضفاء النسبية على إيديولوجيا التمركز الثقافي الغربي. يتعلق الأمر بالخصوصيات الثقافية والتاريخية للأمم والشعوب غير الأوروبية، فلم تعد الأحكام المعرفية العامة التي بلورها الفكر الغربي وبلورتها العلوم الإنسانية في لحظات تشكلها، وتشكل نماذجها المعرفية والأبستمولوجية أحكاماً عامة ومطلقة، بل تم إضفاء كثير من النسبية عليها. فلا يمكن للمعارف السوسيولوجية والسيكولوجية أن تصبح كونية وعامة إلا بإدخال عناصر المتغيرات التي تنتمي إلى مجالات خارج

محيط المركز الغربي(2).

ص: 117


1- كمال عبد اللطيف، نقد المركزية الثقافية الغربية، العربي، الكويت، عدد 439، 1 يونيو 1995: http://www.arabphilosophers.com
2- نفسه.

على المستوى الخطابي أي العناصر المكونة للخطاب وآليات تطبيقاته، فقد قُدمت تشخيصات للآخر الغربي، وقراءة لخطابه الكولونيالي، وكان من أهم من اشتغل في هذا المجال فرانز فانون وهومي بابا، وقد وصف الأخير خطابات المستعمِر بأنها تتميز بتمثيلاتها الساحقة، وتصير إنشاءً متخيلاً يقدِّم سرداً يقتنع بأنه ممثل للسكان التابعين وكما وصفه بابا فالخطاب الكولونيالي هو جهاز يعمل على الاعتراف بالاختلافات العرقية والثقافية والتاريخية ،وإنكارها ووظيفته الاستراتيجية الغالبة هي خلق فضاء للشعوب التابعة بإنتاج معارفٍ تمارس من خلال المراقبة ساعيًا إلى إقرار استراتيجية عن طريق إنتاج معارف بالمستعمِر والمستعمَر التي تكوّن نمطية مقولته، لكنها تقدم تقويماً متناقضاً. فالقراءات المنمَّطة التي اتخذت شكلاً مُقولباً وشبه ثابت لكن بصورة مختلطة ،ومجزَّأة عن تنوعات في التوصيف الذي ألصقه الآخر بالسكان الأصليين بواسطة سردياته، فهم أنماطٌ دونية تستأهل التوجيه، وقبولها يرتبط بقابليتها للمعرفة، ووضعيتها التابعة، فجعل الأسود متوحشاً ومن أكلة لحوم البشر، لكنه أكثر خنوعاً. فالكائن الأسود هو تجسيد للجنسانية الهائجة، ومع ذلك فهو بريء كالطفل، إنه صوفي وبدائي وساذج ومع ذلك، إنه الأكثر دنيوية(1).

لا يقر الخطاب الاستعماري بالمساواة، ولا يؤمن بالشراكة الإنسانية في القيم العامة، وتقوم فرضيته على ثنائية ضدية، كما يذهب الباحث العراقي، عبد الله إبراهيم، فالمستعمِر ممثل الخير وسمو المقام والرفعة الأخلاقية والتقدم، أما المستعمَر فمستودع للشر والانحطاط والدونية والتخلف ولا سبيل إلى لقاء بينهما إلا حينما يدرج المستعمَر كتابعٍ للمستعمِر، فربما جرى تعديل وضعه، لكنه لن يكتسب السوية البشرية الطبيعية، فيكون بذلك مثل العبد الذي يحاول تقليد سلوك سيده، لكنه لن يتبوأ رتبة السيادة، فعبوديته تبقى هي المانحة لقيمته. وكذلك الأمر في سوق التداول الاستعمارية، حيث تكون التبعية علامة امتثال بها تتحدد قيمة التابع(2).

ص: 118


1- ناجح المعموري هومي بابا .. والنقد ما بعد الكولونيالي، الاتحاد، 2007/12/15: .http://www.alittihad.ae/details.php?id=159194y=2007
2- عبد الله إبراهيم التخيل التاريخي والتمثيل الاستعماري للعالم، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، http://mominoun.com :2014/7/8

جدلية التابع والمتبوع

لقد أراد الخطاب الاستعماري تملك الآخر، فلم يضعه في مستوى رتبته، إنما حجزه في رتبة التابع، فمارس بذلك نوعًا من الرغبة في التملك، وعدم الإقرار بها، إذ قام المبدأ الاستعماري على فكرة السيطرة على الآخرين بالقوة المعززة بالمراقبة والعزل، والأخذ بفكرة تفوق الطبائع والثقافات؛ فروج لمعرفةٍ خدمت المصالح الاستعمارية، وسعى إلى تثبيت صورة راكدة للمجتمعات المستعمَرة، فكان بذلك جزءًا من وسائل السيطرة عليها، لأنه وضعها في موقعٍ أدنى من موقع الشعوب المستعمِرة وانشق مضمونه إلى شقين ظاهرٌ ادعى الموضوعية، وقام بتحليل الأبنية الثقافية والاقتصادية والدينية لتلك المجتمعات بمناهج وصفية لا تنقصها الدقة العلمية، ولكن تعوزها الرؤية الصحيحة، ومضمرٌ روج لفكرة التبعية، ومؤداها ألا سبيل لبعث الحراك في ركود المجتمعات الأصلية، إلا باستعارة التجربة الغربية في التقدم، وتبني خط تطورها التاريخی(1).

بالنسبة للشرق العربي والإسلامي، اتضح الخطاب الغربي المتمركز حول ذاته في الكتابات الاستشراقية التي قدمت صورة نمطية للشرق في المتخيل الغربي، فلم يستطع النشاط الاستشراقي التحرر من مضامينه الغربية في قراءاته، وانطلق المستشرق من أرضية ثقافته الخاصة بإسقاطات غير عادلة عند التناول والتقييم، ومن منطلقات الفكر الأوروبي نفسه في مراحل تفوقه(2).

وفي هذا السياق تطرق إدوارد سعيد في كتابيه «الاستشراق» و «تعقيبات على الاستشراق» إلى أسس التفكير الغربي تجاه العرب والمسلمين، وبيّن أن الغرب تشكل وعيه تجاه الشرق على أساس الاستشراق، فذكر أن الدارسين الأوروبيين قاموا بوصف الشرقيين بأنهم غير عقلانيين وضعفاء ،ومخنثين، على عكس الشخصية الأوروبية العقلانية والقوية والرجولية. واعتبر سعيد أن موطن الضعف الأساسي

ص: 119


1- نفسه.
2- غزلان هاشمي، مرجع سبق ذكره

في خطاب الاستشراق هو التحيز الأيديولوجي الغربي ضد المسلمين، كانعكاس للإمبريالية الثقافية الأوروبية(1).

على ذلك، يمكن القول بأن الغرب روج لمعرفته عبر خطاب خدم أهدافه

ومصالحه، كرس صورةٌ للآخر غير الغربي، وثقافته وعناصرها، تستدعي ضرورة الدوران في فلك التطور والمعرفة الغربيين، كمكونات للتجربة الغربية، التي اعتبرت النموذج الأوحد والأمثل للتقدم الإنساني.

2 - الثقافة في بنية نظام السوق: عولمة قسرية

ثمة خلاف حول مراحل تطور العولمة، ومدلول الكلمة من حيث النشأة والتشكل، فإذا كان المصطلح حديثًا ، فإن الظاهرة «كواقع عالمي» قديمة، ارتبطت بالإمبراطوريات الكبرى في التاريخ التي نزع معظمها باتجاه تأسيس «الطابع العالمي للثقافات والحضارات»، فأيّ حضارة منتصرة أو «قاهرة غالبة» تختزن في داخلها نزوعًا، أو «مشروع نزوع» باتجاه العالمية والكونية في الدعوة إلى مبادئها، وأنساقها المعرفية الحضارية الخاصة بهدف تحويلها لحالة دعوتية سلوكية عامة. لكن هذا النزوع يصبح نوعًا من القهر والضغط والاستعمار، عندما تنطلق مفاعيله على شكل سلوك عدواني، ينزع للهيمنة والتسلط في فرض نمط وحيد أحادي على الآخر، على مستوى الفكر والثقافة وأساليب العمل والحياة(2).

هناك من يربط، العولمة بعصر النهضة في أوروبا، ثم الثورة الصناعية، وما أدت إليه

ص: 120


1- اعتقد عدد من المفكرين العرب والغربيين أن إدوارد سعيد بالغ في نقده لخطاب الاستشراق، واعتبروا أن تفسير المشروع الاستشراقي في مجمله بأنه دراسات قامت على أساس المعرفة هي السلطة»، وبالتالي فإن المستشرقين يبحثون عن معرفة الشعوب الشرقية من أجل الهيمنة عليها ، يبدو ،ناقصًا، فثمة دراسات لمستشرقين ركزت على الجانب المعرفي، وليس الاستعماري، مثل المستشرقين الألمان وأن هناك عددًا لا بأس به من كبار المستشرقين عرفوا كيف يميزون بين اهتماماتهم العلمية وبين الأهداف والغايات السياسية لبلدانهم بين قوة المتخيل وحدود المعرفة)، مثل المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون، الذي كتب عن «الحلاج) ، والمستشرق الألماني تيودور نولدكه، الذي كتب عن تاريخ القرآن»، وإينياس جولدزيهر، ويوليوس فلهاوزن، وسلفستر دوساسي، وسيلفان ليفي، وبيشيل وآماري، ولوكوك، وغيرهم. انظر : بسام عويضة، صورة العربي في وسائل الإعلام الألمانية بعد الربيع العربي»، مؤسسة مؤمنون بلا حدود 2014/2/3: http://mominoun.com
2- نبيل علي صالح، مقاربة في المشروع الثقافي والحضاري الإسلامي : تحديات الحاضر وآفاق المستقبل، مؤسسة مؤمنون بلا حدود 2014/6/25: http://www.mominoun.com

من نشأة الطبقة البرجوازية، وتطور النظام الرأسمالي، وحركة الاستعمار التي زادت حركة التجارة وتبادل السلع بهدف توفير الأسواق ومصادر المواد الخام، وتأمين طرق التجارة، وضمان استمرارية عملية التراكم اللازمة لتطور النظام الرأسمالي ، ثم أخذت مسارها التطوري مع تقدم وسائل التواصل والاتصال الحضارية، فقد كان ذلك التواصل والتفاعل البشري يتزايد ويتعمق من حين لآخر، حتى وصل حاليًّا إلى أعلى أشكاله وأنماطه من خلال هذا الكم الهائل المتدفق من وسائل الإعلام والتواصل والتقنية الحديثة المعاصرة العابرة للحدود، والآفاق الكونية التي تأسست على قاعدتي التبادل التجاري والتبادل المعلوماتي بآليات ومعايير معقدة تجعل من السوق العالمية ساحة مفتوحة لكل من يمتلك المال لشراء الأسهم والمستندات والمعلومات في دقائق معدودات(1).

ويعتبر الباحث المغربي، عبد اللطيف الخمسي، أن تاريخ العولمة محكوم بتحولات عميقة قد ترجع إلى التحولات العميقة التي عرفتها رأسمالية القرن التاسع عشر، وحكمته فلسفة فرض نموذج واحد للمعرفة والتطور، وضعت الصالح هيمنة محددة، شكلت منطلقاً خطيراً على الصعيد المعرفي والتاريخي، تمثل في وضعٍ حدٍ فاصلٍ بين شعوبٍ متقدمةٍ، عقلانيةٍ، وأخرى بدائية، ما زالت تعيش المرحلة الميتافيزيقية، وبأن ليفي بريل هو خير معبر عن هذا المنطق في كتابه الشهير «العقل البدائي»، والذي يمكن اعتباره إنجيلا لكل التصورات المدافعة عن عولمة قسرية، لا ترى أمامها إلا نظام السوق، وقيمة الربح. فخطاب العولمة الآن يجد سنده الكبير في الأنثروبولوجيا الاستعمارية المتمركزة حول العرق، وحول ثنائية شعوب بدائية / شعوب عقلانية متحضرة. كما أن فلسفة هيجل باتت تشكل المنطلق الأساسي لأغلب منظري العولمة، وذلك استنادًا إلى أطروحة «نهاية التاريخ»، والعلاقة الدموية بين العبد والسيد ، والصدام الحضاري، التي تشكل الخلفية الفلسفية لكل دعاة العولمة ، ففلسفة هيجل التاريخية، في ارتباط

ص: 121


1- وليد محمود عبد الناصر، الحالة الراهنة للعولمة ومسألة الهوية الثقافية، نبيل علي صالح، مرجع: http://www.arabworldbooks.com/Articles/articles66.htm

بأطروحة العولمة ليست سوى تبرير نظري لمشروعية هيمنة السيد العقلاني على الإنسان الشرقي الغارق في ضلالات الوهم والتعصب»(1).

ما يستهدفه نظام العولمة من إقرارٍ وضمانِ سيطرةٍ مطلقةٍ للغرب الرأسمالي، وفرض أنماطه، وجد تأسيسًا له في الفهم والتصور الغربي القائم على استخدام أي تمايزاتٍ ثقافيةٍ وعرقيةٍ ٍلصالح العولمة، ثم في الليبرالية الجديدة، كعقيدة اقترنت بتمدد وتطور ظاهرة العولمة بأبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية.

النيوليبرالية كظاهرة ايديولوجية

مع ظهور الليبرالية الجديدة، كمفهوم أيديولوجي، ظهرت مفاهيم واصطلاحات جديدة مرافقة للخطاب النيوليبرالي، ومؤسِسة له، مثل المنافسة الحرة، وإحلال السوق محل الدولة، وفتح الأولى وزيادة مرونتها. فقد استخدم هذا الخطاب، ظاهرًا وضمنيًّا كلمة «الحرية»، وبعض مفاهيم الليبرالية التقليدية، مثل أهمية الفرد والحد من دور وتدخل مؤسسة الدولة

والسوق الحرة.

ومن بين مظاهر الفكر الليبرالي الجديد، وتأثيره على الأفراد، ظهور مواطن ،انعزالي، يتميز بدرجة عالية من البراغماتية، أو الذاتية، وينطلق سياسيًّا من وحي التسرع، ومحاولة ابتلاع الآخر، ماديًّا واجتماعيًّا. فالليبرالية الجديدة تؤسس لمفهوم جديد حول الواقع الاجتماعي وتبعاته الاقتصادية، وكذلك حول النظريات الاقتصادية وتبعاتها الاجتماعية، بما في ذلك توَسّع هوّة الخلل الداخلي التي تُلقي بآثارها على حياة سكان هذه البلدان. وتتضح بين مواطني الغرب الذين يعيشون في ظل النظام الليبرالي الجديد في وضع فيما يتمتع سكان المناطق القريبة من المركز بحياة أفضل من سكان المناطق الواقعة على الهامش. وتستغل الليبرالية الجديدة هذه الحالة، م-ن وح-ي الصياغة

ص: 122


1- عبد اللطيف الخمسي، الهوية الثقافية بين الخصوصية وخطاب.

الأيديولوجية من أجل توظيف الثروة المادية والأسواق الخارجية لصالح سكان المركز(1).

لم تقتصر اتجاهات العولمة على إزالة الحواجز بين الأسواق المالية، وتوسيع مبادلات السلع والتكنولوجيا والخدمات ورؤوس الأموال ووسائل الاتصال، بل لها اتجاه آخر تندثر بمقتضاه الخصوصيات الثقافية وأنماط الاستهلاك الخصوصية من جراء تجانس الطلب، وخضوع المنتوجات لتنميطات موحدة، ذات بعد كوني شامل. فالسوق المعولمة ترفض اعتبار وجود خصائص وطبائع ثقافية أو سيكولوجية محلية، وبذلك فإن العولمة تقضي بميلاد نموذج جديد للتبادل له بعد كوني(2).

لقد ارتبط الحديث عن الثقافة في بنية نظام السوق العولمي، باستخدامها في التوظيف لبُعده الاقتصادي، وما ترتب عليه ،اجتماعيًّا فأصبحت الثقافة سلعة أجاد استخدامها واستغلال اختلافها وتبايناتها الشركات متعدية الجنسية، من أجل الترويج للسلع عابرة الحدود، ذلك الاستخدام الذي كرس الاختلاف، ووظفه تجاريًّا، من منطلق عنصري وتمييزي، يُبقي «المتخلف» متخلفًا، حتى يُستثمر تخلفه، ويصب في صالح القائمين على السوق المفتوحة والمروجين لها، وواضعي قوانينها. وبالتالي، أعادوا تعريف الثقافة وكل افتراضاتها وارتباطاتها بالهوية والبيئة والجغرافيا، حتى تناسب تحديات نظام العولمة من تحولات اقتصاديةٍ وتكنولوجيةٍ واجتماعيةٍ، بل تُسخَّر من أجل تلك التحولات.

في سعيه للترويج لمفاهيمه وسياساته الاقتصادية الرئيسة، روج الخطاب النيوليبرالي للثنائية ذاتها: الآخر المتخلف/ الغرب المتقدم، مُعزِيًا تخلف الأول لأمور ملازمة ذاتية، منها الثقافة، فبجانب فشل الدولة في الإدارة، والافتقار للطاقة البشرية المؤهلة، وانعدام روح المبادرة، وحاجة الدول الصغرى للكبرى للتدخل

ص: 123


1- محمد المذكوري المعطاوي الليبرالية الجديدة والعولمة والثقافة، 2014/1/13: http://www.hurriyatsudan.com/?p=139481
2- محمد المذكوري المعطاوي الليبرالية الجديدة والعولمة والثقافة، 2014/1/13: http://www.hurriyatsudan.com/?p=139481

ومؤسساتها، في رسم سياسات الدول الصغرى الاقتصادية؛ من أجل تطويرها، اعتبر ذلك الخطاب أن ثقافة الآخر المتخلف الفقير هي المسؤولة عن تخلفه، وأنهيتعين دعمه بواسطة برامج مساعدة التنمية. هنا يصبح جزءًا من تعريف الثقافة، أنها إذا كانت عاملاً للتقدم ، فمن الممكن أن تكون أيضًا عاملاً مضادّاً له، أي سببًا في الفقر والتخلف، والنتيجة المترتبة على هذا الطرح هي : نحن أغنياء لأن ثقافتنا تدفع وتشجع على ذلك، وهم فقراء، لأن ثقافتهم لا تسمح لهم بالتقدم، وعليه، فإذا كان الازدهار مرهونًا بالثقافة، فالتخلف نتيجة لها أيضًا». أي أن الثقافة تحدد فرص التنمية أو التخلف فإذا ما أخذنا بهذا التحليل، فلا مجال للهروب من هذا المصير، والمحصلة النهائية التي تترتب عن ذلك هي أن الدول النامية لا مفر لها من العولمة. فجانب عولمة الاقتصاد وفتح أسواق الآخر، تعدت مع الليبرالية الجديدة، حدود الاقتصاد والسياسة إلى عولمة ثقافة معينة، هي ثقافة الأنا، وبسطها على الآخر، لأنها الوحيدة الكفيلة بالمبادرة والتقدم والازدهار والحرية(1).

موضعة الثقافة تلك في نظام العولمة تربط بين معارك العولمة الاقتصادية والسياسية من جهة، والثقافية من جهة أخرى، ولا تفصل بينها، فإذا كان ذلك النظام قائم على الاستغلال والهيمنة الاقتصادية، فإن تدمير وابتلاع، واستضعاف ثقافة الآخر، وطمس تشكيلاته الثقافية، مقوم أساسي لفرض الهيمنة وتكريسها، كرأسمالٍ رمزيٍّ يوظف لصالح رأسمالٍ مالي. ويقوم بدورٍ محددٍ، بجانب الدور الاقتصادي والسياسي في عملية الانصهار القسري في النظام العالمي.

أما الجدل حول التجانس الثقافي والتنوع الثقافي، وتبني خطاب الاختلاف الثقافي لفتح مساراتٍ جديدةٍ للمجتمع العالمي، ولتشارك دول الشمال والجنوب في إنتاج ثقافةٍ بديلةٍ، والترويج لزوال فكرة المركز والهوامش، فيقتضي مقاربة لمفهوم الاختلاف لدى منظري العولمة، وتبعات التجانس المنشود على أساسه.

من منظور الغربيين أصحاب مدرسة التنوع الثقافي للعولمة، فإن الاختلاف

ص: 124


1- محمد المذكوري المعطاوي، مرجع سبق ذكره.

والاختلاط بين الثقافات يفترض مقاومة أفكار النقاء الثقافي، والثقافات الأصلية الموحدة، وزعزعة مفهوم الثقافة التقليدي الذي - من وجهة نظرهم - حبس الهوية دائرة العرق ،الحتمية بوضعه حدودًا واضحةً أو «سياجًا وهميًّا» يحيط بكل ثقافةٍ، وأنَّ كل من يقعون داخل هذه الثقافة متفقون ومشتركون، في الوقت الذي تشير الدراسة والملاحظة إلى الاختلافات والانقسامات في أساليب الحياة. فتلك النظريات تدعو إلى الاحتفاء بالتنوع الثقافي والاختلاط والتداخل الثقافي فی عصر العولمة، وترفض نموذج المركز والأطراف، متجاهلة توزيع القوة والسلطة في النظام العالمي(1).

تقول ماري تريز في قراءتها لخطاب ما بعد الحداثة من منظور ما بعد كولونيالي، أن الفكر الما بعد حداثي، (الذي انبثق عنه خطاب العولمة)، ينزع إلى إذابة الاختلافات بتجاوز الحدود والهوامش، بوصفها حواجز مصطنعة، سوف تأتي بنتيجةٍ عكسيةٍ. فتقبل الاختلاف في كافة أشكاله دون تمييز قد يفضي إلى تحويله إلى نموذجٍ معممٍ في محاولةٍ للتوصل إلى مفهومٍ للعالمية يتأسس على الاختلاف، مما يعني تأكيده دون محاولة التعرف عليه، أو التداول معه. وفي تأكيد الاختلاف ما ينذر بعهد جديد من الكولونيالية المستترة، تتخفى وراء خطاب فكري معكاس الخطاب الكولونيالية، الذي اتخذ من نشر الحداثة الغربية ذريعة للفصل بين العالم المتمدين والآخر المتخلف لإضفاء صفة الشرعية على تطلعات الغرب الاستعمارية. ففي مواجهتها للحداثة الغربية بتوجهاتها الإمبريالية وخطاب المركزية عالجت ما بعد الحداثة الخطأ بمثله بخلق نظامٍ عالميِّ جديدٍ؛ لمواجهة نظام عالمي سابق، وكأنها تحارب الشمولية بمثيلتها. فبرغم إسهام حركة ما بعد الحداثة في تقويض بنى الحداثة السلطوية، إلا أنها ساعدت على إقامة عولمة شمولية بديلة، ينبغي نقضها بمؤازرة العناصر المقاومة لرأس المال(2).

ص: 125


1- هديل غنيم، كيف يتطور مفهوم الثقافة استجابة لتحديات العولمة الديمقراطية، الأهرام، القاهرة، عدد 31، يوليو 2008 ، من ص 42 44 .
2- ماري تريز عبد المسيح الثقافة القومية بين العالمية والعولمة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2009، ص 11 ،12، 19، 20، 37 ، 51.

لقد اقتضت خطة التجانس العالمي، أن تصبح شروط السوق مقياسًا معقولاً مُعدًا داخل أشكال الحياة في الأطراف، وآلية ذلك التدفق الثقافي، ونشر أنساقٍ فكريةٍ، وسلعٍ ثقافيةٍ عابرة للقوميات، بل وهيمنتها عبر التكتلات الكبرى التي تضطلع بمهمة الثقافة في النظام العالمي، التي لا تهتم بجودة تلك السلع، ولكن بحجم ما تحققه من مصالح، وهذا بالضرورة يأتي على حساب الثقافات المحلية، فهذه السلع لا تعبأ بأيّ تمايزاتٍ ثقافيةٍ لسكان الأطراف «المستهلكين» لتلك الثقافة، المنتمية إلى أسس غربية في أساسها، والقادرة على الاختراق والتأثير بحكم امتلاك المركز مقومات تفوقها لجهة الإغراق الثقافي.

عن التصورات الخاصة بالمستقبل الثقافي في عالم اليوم، الذي يموج بالتفاعل والتبادل الثقافي المتواصل ليس فحسب من الزوايا الثقافية والاقتصادية، كما كان الحال في المرحلة الكولونيالية، وإنما أيضًا من زاوية بنائه الثقافي، العالم الذي لا يشكل قرية عالمية تتسم بالمساواة، بل هو ليس سوى صرح مبني بصرامة، دونما تناسقٍ أو تماثلٍ بين المركز والأطراف، يذهب أولف هانرز في تصوره لسيناريو تحقيق التجانس العالمي للثقافة إلى أنه يجري التصوير الخطابي للتهديد القاتل للإمبريالية الثقافية، باعتباره يضم ثقافة التكنولوجيا العالمية للمدن والعواصم إضافة إلى المساندة التنظيمية القوية في مواجهة ثقافةٍ شعبيةٍ صغيرةٍ لا حول لها ولا قوة ولكن «الإمبريالية الثقافية»، كما أصبح واضحًا، تمتلك علاقات بالسوق تزيد عن علاقاتها بالإمبراطورية ويعمل المحرك الرئيسي المزعوم لعملية التكرار البشري العام للاتساق في الرأسمالية الغربية السابقة على الدوام على إغراء مزيد من

ا المجتمعات نحو الاعتماد على أهداب المجتمع الاستهلاكي، عالمي النطاق، الآخذ في الاتساع وتحقيق التجانس ينتج أساسًا عن طريق تدفق الثقافة كسلعة من المركز نحو الأطراف، ووفقًا لهذه الرؤية فإن الثقافة العالمية المتجانسة الوافدة، سوف تكون على وجه العموم، صيغة من الثقافة الغربية المعاصرة، وعندئذ سيظهر فقدان الثقافة المحلية بشكل متمايز عند الأطراف(1).

ص: 126


1- أولف هانرز، سيناريوهات ثقافات الأطراف في الثقافة والعولمة والنظام العالمي، تحرير أنطوني كينج، ترجمة: شهرت العالم وهالة فؤاد ومحمد يحيى الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة ، 2005، ص .162_161

سيناريو «الفساد بالأطراف»..

بينما يقول هانرز بأن هناك سيناريو آخر يتعلق بالعملية الثقافية العالمية، ولكنه قابع في موضعٍ خفيٍّ، ولا يخرج كثيراً للمنافسة مع سيناريو تحقيق التجانس العالمي، وهو سيناريو «الفساد بالأطراف»، إذ إن ما يصوره كمتتابعة متكررة دوريًّا يقع أينما يمنح المركز مثله العليا، وأفضل معارفه، مع وجود شكل مؤسسي، وأينما تتبنى الأطراف هذه المثل والمعارف، ثم سرعان ما تقوم بإفسادها. يحدد هذا السيناريو لمن يقعون في المركز متى يتشاءمون بشأن دورهم في تحسين العالم، بل ويرتابون في الأطراف ويسخرون منها . ويتعلق الأمر بمركزية عرقية عميقة، إذ تفرض توزيعًا غير عادل على الإطلاق للقوة والتأثير، وبذلك يأتي إنكار صحة وقيمة أي تشكيلاتٍ قائمةٍ لدى الأطراف، وكانت مأخوذةً في الأصل من المركز وهنا تكمن قضية وجود قدرٍ من الاختلاف الثقافي، ولكنه اختلافٌ بين الثقافة وغير الثقافة بين الحضارة والهمجية(1).

اما عن الأدوات وحتى تتوفر أسواق لاستهلاك منتجات العولمة المادية والرمزية، بصناعة وتعميم الشخصية الاستهلاكية، وتعميم نموذجٍ موحدٍ للقيم، متجاوزٍ للخصوصيّة ومفككٍ لعناصرها، فقد تلازم إنتاج العولمة بإنتاج الصورة الخائلية، ولعب التقدم التقني وعلم المعلومات في تطوير النظم الخائلية مفضيًا بدوره إلى دعم الاقتصاد الرأسمالي، الذي يعتمد بشكل أساسي على الخائلي لتطوره. وعلى خلاف رأس المال الصناعي الذي اعتمد على إنتاجية العمل وتحولها إلى الإنتاج الكمي، يعمل رأس مال العولمة عبر دائرة السبرانية العابرة للأقطار، بفعل ضخ المعلومات الفورية عبر الشبكات الإليكترونية، مختصرًا المسافات. وصارت الصورة سلعةً جاهزةً للاستهلاك السريع وسهولة التداول لما تسهله من إمكانية التواصل عبر الحدود إلى أبعد المواقع. فسهَّل ذلك ظهور أنظمةٍ سلطويةٍ مغايرةٍ للأنظمة الكولونيالية السابقة تعتمد إدارتها على الصورة الخائلية من جهة، والبنوك وشركات استثمار الأموال المتعدية للجنسيات من جهة أخرى، حيث يعد نظام البيع والتعامل عبر كروت الائتمان دربًا من البيع الخائلي، فهو بيعٌ مُرْجَأُ السداد، مما يُعجِّل بتداول

ص: 127


1- نفسه ص .163 162

رأس المال. فالسداد المؤجل يساعد الرأسماليين على إعادة توظيف الأموال، ومن ثم تسديد ديونهم، وبهذا النظام يغدو تداول رأس المال عملية خائلية غير منتهية، ينمو فيها رأس المال «كجسم بدون أعضاء» في شبكة من أنظمة خائلية تنتمي إليها ثقافة الصورة المعولمة، فيتراكم رأس المال بمعدل تداول الأموال وتداول الصور، ومثلما يتولد المال عن المال تتولد الصور عن الصور(1).

كما أن الإعلام الجديد، الذي تزامن تطوره مع ظاهرة انتشار وتوسع العولمة، أسهم في تنامي قيم العولمة، التي توهم بامتلاك الحرية المطلقة في الاختيار والامتلاك الخصوصي للأشياء والأفكار، ولعب دورًا كبيرًا في تشجيع القيم الاستهلاكية. فالعولمة خلقت فيضًا من الخيارات، ولكنها أوجدت تقاربًا في التطلعات والقيم التي تركزت على رغبة الإنسان في التملك والاكتساب وهو ما أصبح معروفًا في الخطاب السائد بالتنميط الثقافي، أي توحيد التطلعات والرؤى والقيم حتى الأحلام، حيث تصبح متشابهة لدى الجميع؛ فيتجه الفرد أكثر فأكثر إلى الفردانية، وهي قيمة تعتبر الفرد مركز الكون، ومرجعية ذاته،ويتم بالتالي إسقاط أي اعتبارات يؤمن بها المجتمع لفائدة قيم العولمة. وعلى الرغم من تصدير انطباع واهم بالحرية، عبر الإعلام الجديد، فإنها ليست مطلقة، فهي موجهة من طرف الشركات العملاقة متعدية الجنسية التي تهيمن على الإعلام الجديد، كغيره من أدوات التواصل والاتصال، وبالتالي فالمضامين، بل حتى أشكال تصميم وتقديم القنوات والمواقع والتطبيقات ليست محايدة من الناحية القيمية، بل تعكس مضامين قيمية متحيزة لقيم السوق، وموجهة نحو الاستهلاك والتسلية والترفيه أكثر من البناء الفكري والتفكير النقدي(2).

لذلك، فاجتياح العولمة وتأثيراتها على الثقافات المحلية، المرتبطة بسياقات العولمة الاقتصادية والسياسية وتبعاتها على دول الأطراف، وأفضت إليه تجربة

ص: 128


1- ماري تريز عبد المسيح ، مرجع سبق ذكره، ص 66 - 67 .
2- محمد مصباح الإعلام الجديد : العولمة وتحدي خصخصة القيم، مؤسسة مؤمنون بلا حدود http://www.mominoun.com :2014/3/25

التحديث الغربية التي سعت إلى إدماج الشعوب قسرًا، إلى خلق ثنائيات فكرية تعمل على الإقصاء، وما أنتجته العولمة من تفاوت في مصادر المعرفة والعلم كنتاج للتفاوت الاقتصادي، وسعيها أيضًا إلى فرض قيمها، وتسليع الثقافة التي تحدد المنظومة أنها هي«الثقافة»، كل ذلك قد أفرز مقاومة متعددة الاتجاهات، من بينها التشدد في التمسك بالخصوصية القومية التي ازداد حولها الجدل في إطار جدل الثقافة بين العولمة والخصوصية والمحلي والعالمي.

3- اتجاهات المقاومة الثقافية (الخصوصية - الكونية - الخروج

من الثنائيات)

دفعت مآلات الهيمنة المعرفية والفكرية الغربية، وما كشفت عنه من مظاهر تأزم هذا النموذج الغربي وتحيزاته ونسبيته واستمرار عملية فرضه بصيغ استحدثتها العولمة إلى ظهور حركات مقاومة، أعادت النظر في مبادئ مركزية المعرفة الغربية، ومشروع ،الحداثة، وقيمه، ووضعية الثقافة في منظومة العولمة. وتصاعد الجدل حول مفهوم الاختلاف الثقافي والحضاري وضوابطه و دوره وآلیات مقاومة الهيمنة الغربية الثقافية، ما أفرز عدة اتجاهات في طبيعة وشكل تلك المقاومة في المجتمعات التي اعتبرت ،هوامش، تنوعت أسسها ،ومنطلقاتها، وما قدمته من بدائل.

أنتج النموذج المعرفي والحضاري الغربي، الذي سعى إلى الهيمنة، حالة من الشك واليأس في مبادئ عصر التنوير، ومشروع الحداثة بجميع قيمه وأسسه التي قام عليها، بما في ذلك مقولات العقل والعلم والتقدم والتحرر، فبرغم ظاهر انتصار العقلانية ومبادئها، وما قادت إليه من غنى فكري، وتنوع معرفي، وتقدم علمي وتقني هائل إلا أن هذا الانتصار قد انحرف عن مساره، وأدى إلى نقيض مقصوده، ولا أدل على ذلك من أن هذه العقلانية التي بشَّرت الإنسان بعالم تسوده الطمأنينة والسعادة هي التي أدت إلى تدميره(1).

ص: 129


1- علي صديقي الأزمة الفكرية العالمية: نحو نموذج معرفي توحيدي بديل مؤسسة مؤمنون بلا حدود. http://www.mominoun.com :2015/4/17

لقد حملت بداية القرن العشرين علامات ضعف وتراجع الانتصار الثقافي الغربي فتبع الحرب العالمية الأولى، والتي كانت بمثابة تمزق داخلي في قلب الحضارة الأوروبية، استعادة بعض المفكرين لوعيهم بحقيقة الاستعمار، وما عليه من وحشية، وما يعانيه من ضعف. وتولدت أفكار بدفع الشعور بضرورة فهم التاريخ الأوروبي على ضوء التاريخ العالمي في حركيته، وعلى ضوء رؤية كونية للإنسان، حيث الأوروبي، ومهما كانت عظمته الحاضرة أو الماضية، ليس إلا صورة من صور الإنسان، وحيث

الغرب ليس إلا صورة ممكنة للحداثة ويقول جيرار ليكريلك على الحضارة الغربية أن تقابل بالحضارات الكبرى التي يشهدها التاريخ فلا تعتبر الحضارة الأوروبية بمثابة الحضارة بامتياز، إلا إذا كان في ذلك بعض السذاجة والادعاء(1).

غواية الاستغراب

في المقابل، وفي مواجهة قوى إمبراطورية تريد إعادة تشكيل العالم، طبقاً لرؤاها ومصالحها، لجأت كثيرٌ من المجتمعات إلى الاعتصام بنفسها، وبقيمها، وبثقافتها، وذلك في رغبة عارمة للحماية الذاتية. فأضيف إلى أسباب التنازع، كالأيديولوجيات المطلقة والاستبداد والاستغلال والمصالح تنازعات نتاج المركزيات الثقافية، التي وجدت لها دعماً من أطراف التنازع ، وبسبب غياب النقد الذي يجرّد تلك المركزيات من غلوائها في نظرتها المغلقة إلى نفسها وإلى غيرها، فقد تصلبت تصوراتها، واصطنعت لها دعامات عرقية أو دينية أو ثقافية، أدت إلى زرع فكرة السمو والرفعة في الذات والدونية والانتقاص في الآخر، ومع أن كثيراً من أطراف العالم تداخلت في مصالحها، وثقافاتها، وأفكارها ، لكن ضعف الفكر النقدي حال دون أن تتلاشى المركزيات الكبرى (2)التي أسست لمفهوم الخلاف ينحصر في كونه مرادفًا للتميز والتفوق، أو العزلة والانقطاع.

ص: 130


1- جيرار ليكريلك مرجع سبق ذكره ص 37-36
2- عبد الله إبراهيم صدام أصوليات لا صدام حضارات، الحياة، 2007/10/13.

على نقيض بعض المثقفين العرب، ومثلما حدث في معظم ما سمي «العالم الثالث»، الذين انبهروا بالغرب ،وشعاراته ،وحضارته ولغته وانعكست العقدة التاريخية لديهم في تبني ما قدمه من أفكارٍ وتصوراتٍ ومناهجٍ، دون اعتراف بنسبية ثقافته وتاريخيتها، ما دفع إلى الانصهار في الثقافة الاستعمارية التي استهدفت الثقافات المحلية، فإنه كثيراً ما اقترن أدب المقاومة بالقومية المتطرفة، ونشأ خطابٌ أصوليٌّ متمسك بالجذور الثقافية المحلية، وارتفع صوت الخطاب القومي بمعانيه الثقافية والدينية. وتقول ماري تريز بأنها نزعة يمكن تفسيرها بوصفها آلية لتعريف الذات ،وتأكيدها واعتبارها عنصرًا من عناصر المقاومة، لما هو دخيل عليها ويسعى لتهميشها. وفي مواجهة خطاب الهيمنة المتستر وراء مزاعم العولمة، الذي يعمل على تقليص الإحساس بالهوية المشتركة في استهانته بالتاريخ المشترك للأمة لتحويل الاهتمام بحاضر تسيِّرهُ قوانين السوق والتطلعات الاستهلاكية، تتجه بعض العناصر المحبطة إلى تخييل التراث والارتكان إلى أحد مصادره لتأصيل جذوره، واقتطاع جزءٍ من التاريخ لتأصيله، مما يستدعي وضع شروطٍ لتفسيره ومن ثم تقنينه، ويأتي ذلك كرد فعلٍ للمجتمع الاستهلاكي، الذي أسبغ كافة أنشطته بالطابع التجاري. فالخطاب الأصولي في خلقه للأسطورة، يسعى لتطهير الثقافة من النمط الاستهلاكي، بيد أنه يخفق في سعيه لأنه غالبًا ما يقيم نسقًا معرفيًّا يتعارض والدور الرئيسي للثقافة، حيث يعلي ثقافته على غيرها من الثقافات، ويكسبها الرفعة، ففي تطرفه لتأكيد الهوية وتنقيتها من الصورة الواهنة التي أضفاها الآخر عليها، يخلق الخطاب الأصولي لغةً كولونياليةً معكوسةً تعمل على تهميش الآخر، لتأكيد الذات، في محاولة منه لتأسيس مركزية جديدة مضادة(1).

وعن تأكيد القيم الثقافية، كجزءٍ من تأكيد الذات يقول إيمانويل والرشتاين أنها كمقاومة ثقافية منظمة ومخططة، تماثل المقاومة السياسية، وتعد جزءًا لا يتجزأ منها، فعند تعمّد تأكيد (أو إعادة تأكيد) قيم ثقافية بعينها كانت قد تعرضت للتجاهل أو

ص: 131


1- ماري تريز عبد المسيح مرجع سبق ذكره، ص 28 - 31

الانتقاص من قدرها من أجل الاحتجاج على فرض القيم الثقافية للأقوياء على حساب قيم الضعفاء «فإننا نعمل على تقوية الأضعف في نضاله السياسي داخل دولة معينة وداخل النظام العالمي ككل، ولكننا عندئذ نمارس ضغوطاً لإثبات صحة قيمنا المؤكدة (أو المعاد تأكيدها) من زاوية المعايير التي وضعها الأقوياء... فعندما يعمل القائمون على تخطيط المقاومة الثقافية على تأكيد ثقافة بعينها فإنهم في واقع الأمر (يعيدون) إضفاء الشرعية على مفهوم القيم العالمية، لذلك تشتمل المقاومة الثقافية على المأزق نفسه كما هو حال المقاومة السياسية، التي تستخدم هياكل النظام من أجل معارضته، وهو ما يضفي شرعية جزئية على تلك الهياكل، وبذلك تقبل جزئيًا شروط النقاش كما حددتها القوى المهيمنة»(1).

في المجتمعات العربية والإسلامية، لخص البحث عن الذات لتأكيدها، عبر تضخيمها والتمركز حولها، مفهوم ومنظور الخصوصية الثقافية لدى الأصوليين في مواجهة هيمنة الغرب، فالخطاب الأصولي استدعى التراث، واختزل الصراع الكوني في صراعٍ ما بين الإسلام والكفر ، وبأنها معركة تخوضها الهوية الإسلامية ضد ،التغريب فتلخصت المواجهة الثقافية في ثنائية الهوية الإسلامية/ التغريب، وارتكز مفهوم خصوصية الهوية الثقافية على ركائز عقدية وبالتالي منطلقات الصدام مع الغرب، فأضحى السلاح الوحيد هو التمسك بجوهر تلك الهوية، وأصالتها، والعودة إلى الجذور، أي داخل إطار التراث، وليس بالتحرر منه أثناء التفكير، أو تأسيس معرفة علمية لجهة فهم إشكاليات الحداثة وعلاقة التبعية بين المجتمعات التي خضعت وتخضع للهيمنة الغربية الرأسمالية، وإشكالات وتعقدات الواقع العربي والإسلامي، ومن ضمنها أسباب التخلف الذاتية، بعيدًا عن استدعاء التقولب التراثي، وتغذية شعور مقابل بالتفوق والانعزال والانزواء.

ص: 132


1- إيمانويل والرشتين القومي والعالمي : هل يمكن أن توجد ثقافة عالمية؟ في الثقافة والعولمة والنظام العالمي مرجع سبق ذكره ص 150

في مقاربته للأصولية الإسلامية، اعتبر عبد الله إبراهيم بأنها ليست في صدام مع الحضارة الغربية، بل مع الأصولية الغربية. فالحضارات بذاتها لا تتصارع؛ لأنها المكسب النهائي للعقل البشري، لكنها وهي تتفاعل في ما بينها ، تنتج أصوليات راديكالية ناقمة وعنيفة، هذه الأصوليات المغلقة على نفسها هي التي تتصادم، وليس الحضارات الكبرى، فما نجده الآن ليس صراعاً بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية، إنما هو نزاع عنيف بين أصوليةٍ إسلاميةٍ لها تفسيرها الضيق للدين، وبين مزيج من أصولية إمبريالية - أميركية ذات بطانةٍ مسيحيةٍ، تقول بالتفسير نفسه، وإذا كانت الجماعات الجهادية والسلفية تمثل الطرف الأول فالمركزية الغربية، ومنها العولمة الاقتصادية والثقافية القائمة على الاحتكار والاستغلال والهيمنة، بما في ذلك الأصولية المسيحية، التي نشطت في الفكر الديني خلال العقود الأخيرة تمثل الطرف الثاني، إذ يحاول كل طرف خلق مجال ثقافي وديني للتحيزات الخاصة به فيمارس العنف باسم الحضارات التي ينتمي إليها، لكن تلك الحاضنات الكبرى لا علاقة لها بصراعاتهم». وعليه، تبطل بعض جوانب فرضية صاموئيل هنتنغتون القائلة بصراع الحضارات، فالأصح هو أن جماعات راديكالية أصولية تؤجج العنف داخل هذه الحضارة أو تلك، ضد مجموعة مضادة. إذن، فنحن بإزاء صدامٍ للأصوليات وليس للحضارات، وبعبارةٍ أخرى هنالك نزاع بين قوى تريد فرض هوية كونية، وقوى إقليمية تدعي الحفاظ على الهويات الخاصة(1).

على صعيدٍ آخر، وفي سياقٍ أوسع، ففي مقابل الحركات التي تبنَّت نزعات الغلو الديني والتطرف القومي، وأنتجت أيدلوجيات توافرت فيها درجة عالية من الكراهية للآخر، فإن حركات أخرى أفرزت نقدًا تحليليًّا للتجربة الاستعمارية، وتمكنت من تفكيك ركائز الخطاب الاستعماري، فانبثقت «دراسات ما بعد الحقبة الاستعمارية»، التي هدفت إلى إعادة النظر بالتركة الاستعمارية الثقافية في العالم، خارج المجال الغربي. وتشطت تلك الدراسات إلى فروعٍ عدّةٍ؛ فشملت سائر المظاهر الثقافية من فنونٍ وآداب وكتابةٍ تاريخيةٍ. وظهرت على أنها ردُّ فعلٍ على تحيزات الخطاب

ص: 133


1- عبد الله إبراهيم، صدام أصوليات لا صدام حضارات، مرجع سبق ذكره.

الاستعماري الذي اختزل الشعوب والثقافات غير الغربية إلى أنماطٍ مضادةٍ للتحديث، وعائقةٍ للتطور، وقدم لها وصفًا يوافق مقولاته(1).

وسرعان ما تفرعت عن تلك الدراسات دراساتٌ أخرى، سعت إلى إعادة الاعتبار للرؤى الأصلية، وفحص الظواهر الثقافية والدينية والعرقية، بعيدًا عن الإكراهات النظرية التي مارسها الخطاب الاستعماري. ثم ما لبثت دراسات ما بعد الكولونيالية أن تعمقت في سائر أنحاء العالم، فشملت المرأة والجنوسة، والأعراق، والتاريخ، والهوية والمقاومة والأقليات ومفهوم الأمة، وأساليب الهيمنة الثقافية، وأفرغت المنهجيات التقليدية من محتواها وأجهزت عليها، إذ ضخَت أفكارًا جديدة، وتصورات مبتكرة في تحليلها للظواهر الاجتماعية والثقافية. ولعل أبرز ما تمخضت عنه ظهور جماعات ناقدة اندرجت في ما يصطلح عليه ب_« دراسات التابع»، التي أصبحت عابرةً للقارات، وهدفت إلى نقد الخطاب الاستعماري وفرضياته، واقتراح المناهج البديلة لدراسة التاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي، وتفكيك المقولات الغربية في الآداب والثقافات والمناهج، وسحب الثقة العلمية والثقافية منها، عبر اقتراحاتٍ أخرى مغايرة أكثر كفاءة تعالج بها شؤون المجتمعات خارج المركز الغربي(2).

لقد استهدفت قراءة خطاب ما بعد الحداثة من منظور ما بعد كولونيالي، التوصل للغةٍ نقديةٍ تعمل على التخلص من الرواسب المتبقية من الماضي الإمبريالي، وقادرة على تعميق الوعي بالكولونيالية الجديدة المستترة في خطاب ما بعد الحداثة. فقد تناول نقاد ما بعد الكولونيالية - التي اعتبر الناقد الأسترالي، سايمون ديورنج، أنها ممثلة لحالة الشعوب والأمم والجماعات، التي عانت من الاستعمار، وتريد تأكيد هويتها بعيدًا عن المفاهيم الأوروبية، التي تزعم العالمية، ولا تتبناها في واقع الأمر - قضيةَ

ص: 134


1- عبد الله إبراهيم، التخيل التاريخي والتمثيل الاستعماري للعالم، مرجع سبق ذكره.
2- نفسه.

الاختلاف من منظورٍ مغايرٍ، فالتعرف على الاختلاف بالنسبة لهم فيه سعي للتواصل عبر الثقافات، ويتركز سعيهم في قراءة التراث الثقافي من منظور يحترم الخصوصية كما يرصد تفاعل تلك الخصوصية بالمؤثرات العالمية، فهو مسعى سياسي مغاير لموقف نقاد ما بعد الحداثة، في تناولهم للاختلاف تناولاً استطيقيًّا، أي ذريعة للتأمل السلبي، بدلاً من التفكير الإيجابي في كيفية تشييد معابر بين الثقافات(1).

إذن، فإن مشروع الكونية الثقافية في شكله وصياغاته وإدارة الغرب له المستهدف الهيمنة والتوظيف من أجل مصالحه قوبل بمقاومةٍ متباينةٍ الاتجاهات، فما بين تمركز مضاد ومشروع يستبدل هيمنة بأخرى، ويقابل التعصب والعنصرية والاستعلاء بمثلها، بنزعة ماضوية، تسلب أيّ ثقافة محلية القدرة على مواجهة الدينامية القوية والمتقدمة لثقافة اليوم، لافتقادها أسلحة الخصم والرؤية الموضوعية، وإدراك أبعاد وطبيعة الصراع واتجاه آخر يسعى إلى تنقيح تاريخ العالم من المركزية بإعادة إنتاج الهويات التي انتزعت عنها ثقافاتها بفعل المستعمِر، ويقدم نقدًا للمشروع الثقافي الغربي في مجمله واتجاه يرفض النزعة الأصولية، والتقوقع حول الذات، ونبذ الحداثة، ويدعو إلى القطيعة مع التراث مع نقد الحداثة، وعدم إغفال الذات، وعناصر تأزمها ، بالركون إلى الخصوصية، والانغلاق عليها.

بين هذا وذاك يستمر الجدل وتتعقد خلافات اتجاهاته، ما أفرز تمردًا على سياقات وأطر المواجهة التقليدية، تمثل في ضرورة الخروج من ثنائيات تراث/ حداثة، خصوصية كونية المستعمِر/ المستعمَر، بخلق مساحة جديدة تكسر انغلاق دائرة المواجهات المتأزمة، وتتأسس على المساءلة، حتى تكون مقاومة الهيمنة أكثر فاعلية.

الخروج من الثنائيات وخلق هذه المساحة ضروري، ليس من أجل مواجهة الآخر القمعي فحسب بل من أجل أن تتكشف فيه المواجهات الداخلية، أيضًا، المتمثلة

ص: 135


1- ماري تريز عبد المسيح مرجع سبق ذكره، ص 12 - 13 ، 27 ، 37

في الانقسامات داخل الأمة الواحدة مساحة تقوم على تنمية العناصر المشتركة بين الثقافات في المجالين المعرفي والاجتماعي، وتحقيق التواصل النقدي مع الذات والآخر، وفق جدلٍ بين العقل والتاريخ على قاعدة الإبداع، حتى يمكن للهوية الثقافية أن تكون جزءا من بناء ذاتٍ مستقلةٍ، تستطيع مواجهة معارك الهيمنة الاقتصادية والسياسية، وتقويض أطروحة كونية الثقافة الغربية، والتمركز العرقي والطبقي وتَوجُّه المعرفة الأحادي لنظام العولمة.

ص: 136

ثنائية الوعى بالآخر في ضوء نظرية ما بعد الاستعمار

(قراءة تفكيكية)

غيضان السيد علي(1)

رافقت نظرية ما بعد الاستعمار أو النظرية ما بعد الكولونيالية (Postcolonial Theory) سطوع نجم ما بعد الحداثة، وتبلورت مع نهاية العقد السابع من القرن العشرين، ووصلت أوج ازدهارها في العقد التاسع وبدايات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وساير مصطلحها تلك المصطلحات التي راجت في النصف الأخير من القرن العشرين من أمثال:«ما بعد الحداثة، ما بعد البنيوية، ما بعد العلمانية.. وغيرها». وقد صك هذا المصطلح الناقد الأسترالي سيمون ديورنج (Simon During) في عام 1985م من خلال مقالة له بعنوان «بلوغ اليابسة».

وقد تبلورت هذه النظرية بعد سيطرة البنيوية على الحقل الثقافي الغربي، وبعد أن هيمنت الميثولوجيا البيضاء على الفكر العالمي، وأصبح الغرب المصدر الحصري للعلم والمعرفة والإبداع وموطن النظريات والمناهج العلمية(2) ومن ثم أصبح الغرب هو المركز الذي تتمحور حوله الدول المُسْتَعمَرة وتتبعه في كل شيء، فتهتدي

ص: 137


1- مدرس الفلسفة الحديثة بكلية الآداب جامعة بني سويف جمهورية مصر العربية.
2- جميل حمداوي، نظرية ما بعد الاستعمار ، على الرابط الإلكتروني التالي: http://www.alukah.net/publications_competitions/039097// ixzz5CztEKe9Q

بهديه وتسير على خطاه. كما أنها تعني من جانبٍ آخر أن الاستعمار الغربي للشرق لم ينته بعد، وإنما الذي انتهى هو صورته التقليدية، ولكنه وُجد بمعنى آخر وبصورة ثانية من صور الهيمنة على الفكر والثقافة والوعي الجمعي، مما أدى بالطبع إلى خلق صورة مغايرةٍ للشعوب المستعمَرة في القرن الجديد لتصير معها مقولة ال- «ما بعد» مقولة لا مبرِّرَ لوجودها؛ إذ إنّ ما تغير هو صورة الاستعمار ومظهره العرضي، أمّا جوهره الحقيقي فما زال باقيًا، وما زالت الدول المستعمرَة لم تنل حقها بعد في التحرر والاستقلال.

وتحاول هذه الورقة أن تجيب على عدة أسئلةٍ تشكل محور هذا البحث، ومن أهمها: كيف يمكن أن يتبلور مفهوم «نظرية ما بعد الاستعمار» من خلال ثنائية الوعي بالآخر؟ وكيف تطورت إطروحات هذه النظرية عبر عمرها القصير نسبيًا في ظل دعم توجهات ما بعد الحداثة ؟ وإلى أي مدى ظهرت كنظريةٍ مناهضةٍ للهيمنة الغربية في أزمنة ما بعد الاستعمار ؟ وإلى أيّ مدى كشفت عن تسلط الفكر الغربي بتاريخه الاستعماري المهيمن لمحو معالم الثقافات والهويات الشرقية؟ وكيف أنه يستصغر فکر غیره ويحتقره ويعمل على إبعاده وإقصائه ونبذه وإبادته من خلال رسم صورة مزيفة للآخر، رسمها في وعيه وأراد أن ينقلها بحذافيرها إلى وعي الأنا؟ وإلى أي مدى نجح في إقناع الأنا بها ؟ وكيف أثرت هذه الصورة في تشكيل وعي الأنا العميق بالآخر؟ وهل تعد مقولة ال-«ما بعد» في مفهوم «ما بعد الاستعمار» مقولة زائفة لا وجود لها في ظل استمرار علاقة الغرب بالشرق على أنها علاقة مُستغل بمستغَل وتابع بمتبوع ؟ وهل يعكس علم الاستشراق صورة حقيقية عن الشرق ؟ أم أنّه يعكس نوعًا من التسلط الثقافي يؤكد التفوق الأوروبي على التأخر الشرقي؟

أولاً- نظرية ما بعد الاستعمار وثنائية الوعي:

تعد نظرية ما بعد الاستعمار نظريةً تعبر عن ثنائية الوعي؛ إذ هي تقوم في الأساس كخطاب مضاد يعكس احتجاج وعي الأنا على الصورة الموجودة في وعي الآخر عن الأنا. ومن ثم تكون نظرية ما بعد الاستعمار بمثابة نظرية ميكانيزمية دفاعية، وحركة ثقافية مضادة تقاوم التغريب والهيمنة الغربية. فهي تعبر في المقام الأول عن حالة

ص: 138

فكرية صحية تريد أن تدفع الفكر الإنساني إلى البحث عن آفاق جديدة للخروج من حالة التبعية الغربية بنقد الفكر الغربي ذاته. ولكنها لا تنكر أفضاله، وإنما تأخذ عليه نرجسيته المفرطة، وزهوه بنفسه، وتهميشه للآخر، ونزعته الإمبريالية من خلال رحلةٍ ثنائية الأبعاد لتفكيك ما بات مستقرًا في وعي الأنا عن الآخر ووعي الآخر عن الأنا.

فهي إذن نظرية تدافع عن الهويات الوطنية والقومية، وترفض الاندماج الهووي في الحضارة الغربية، وتقاوم كل صور الاستلاب والتدجين، وتحتج على سياسة الاستعلاء، والإقصاء والتهميش والهيمنة الغربية على دول العالم الثالث. كما تدعو إلى إقامة ثقافةٍ وطنيةٍ أصيلةٍ غير منغلقةٍ تعبر عن نموذجٍ بديلٍ ومغايرٍ للنموذج الغربي. كذلك تهتم بنقد الذات والكف عن تمجيدها، والمناداة بالتنوع والتعدد الثقافي والانفتاح، في مقابل الانغلاق والجمود عبر آليات المثاقفة والترجمة والنقد والتفاعل الثقافي.

كما تعد نظرية ما بعد الاستعمار في الحقيقة قراءةً للفكر الغربي في تعامله مع الشرق من خلال مقارباتٍ نقديةٍ تحلل الخطاب الاستعماري في جميع مكوناته الذهنية والمنهجية والمقصدية تفكيكًا وتركيبًا وتقويضًا، بغية استكشاف الأنساق الثقافية المؤسساتية المضمرة التي تتحكم في هذا الخطاب المركزي(1).

وتستعرض نظرية ما بعد الاستعمار العديد من الثنائيات التي تميز العلاقة القارة في الوعي بين الشرق والغرب كثنائية المجتمع المُستغِل والمجتمع المستغَل، أو الأنا التابع والآخر المتبوع، أو التقدم في مقابل التخلف، والتحضر في مقابل الرجعية، أو ديمقراطية الغرب في مقابل استبدادية الشرق وغيرها من الثنائيات التي تُبرِزُ نقاط الاختلاف والتمايز، وتُحَدِدُ أنماط التفكير بين الأنا والآخر. لذلك تُركز نظرية ما بعد الاستعمار على تناول مثل هذه الثنائيات بالبحث والدرس والمعالجة بُغية النقد والتقويض والتفكيك، من أجل دحض وهدم المرتكزات التي انبنت عليها الهيمنة الغربية الإمبريالية.

ص: 139


1- جميل حمداوي، نظرية ما بعد الاستعمار ، مرجع سبق ذكره

وتتناول هذه الدراسة ثنائية الوعي بالآخر تناولاً تفكيكيًا؛ إذ يكون الآخر هنا هو الشرق تارة، مثلما يكون الغرب تارة أخرى، ويكون الهامش حينًا والمركز حينًا آخر. وبصيغة أكثر وضوحًا يصبح الآخر سؤالاً للذات، كما الأنا سؤالاً للآخر، أو بصيغةٍ تساؤليةٍ ثالثةٍ أكثر وضوحًا: كيف يبدو الغرب في وعي الشرق؟ وكيف يبدو الشرق في وعي الغرب؟ وهذا ما أعنيه بثنائية الوعي بالآخر.

حيث إنَّ تناول هذه الثنائية للوعى بالدرس والتحليل في ضوء نظرية ما بعد الاستعمار يكشف عن زائفية شبه كاملة لصورة الأنا في منظور الآخر، وزائفية الآخر في وعي الأنا. كما تساعد على فضح الأيديولوجيات الغربية، وفضح نواياها الاستعمارية القريبة والبعيدة، وتقويض مقولاتها المركزية، ونسف ادعاءاتها الزائفة التي أعلنت أنها جاءت من أجل تحقيق ورفاهية وخدمة الآخر، وهي في الحقيقة عكس ذلك تمامًا؛ إذ جاءت لاستنزافه وسرقته والقضاء على حريته، وجعله تابعًا ذليلاً، يسبح بحمد سيده واهبه التقدم والحرية والمجد والرفاهية! ومن ثم جاءت نظرية ما بعد الاستعمار لتعيد النظر في كافة المقولات والمسلَّمات المركزية الغربية، وتتناولها بالمراجعة والتحليل والنقد والتفكيك والتقييم، والتقويم.

ثانيًا - صورة الأنا في وعي الآخر:

حرص المُستعمِر الغربي دائماً على رسم صورة للآخر المُستعمَر على أنَّه ما جاء إلّا لإدخال هذه الدول في سياق التمدن والتحضر. وكان مصطلح «الاستعمار في ذاته خير شاهد ودليل على ذلك؛ إذ إن ظاهر المصطلح يعني الإعمار والعمران والإنشاء والتطوير والارتقاء بالزراعة والصناعة والتجارة وكافة أعمال التمدن والتحضر. وباطنه يعني العكس تماماً من التدمير والسرقة والاستيلاء على ثروات البلاد وخيراتها وممارسة كافة الصور اللاإنسانية تجاه الشعوب المستعمَرة من إذلالٍ وإفقارٍ وتجهيلٍ وتعتيمٍ وتغريبٍ، وما إلى ذلك من الوسائل والآليات التي تجعله خاضعًا مطيعًا، وتابعًا سهل الانقياد ومن ثم تبقى كلمة استعمار، كما يقول مالك بن نبي: «هي أخطر سلاح يستخدمه الاستعمار ، وأحكم فخ ينصبه للجماهير، وما من

ص: 140

خائن يدسه الاستعمار في الجبهة التي تكافح فيها الشعوب المستعمرة، إلّا وكلمة استعمار تفتح له أبوابًا مغلقة في عواطف الجماهير»(1).

إذن أصبح الغربي في علاقته مع الآخر يرى أنَّه النموذج الذي يجب أن يُحتذى من قِبل هذا الآخر، حيث أصبح الغربي على يقين تام بأن رؤيته للعالم هي أرقى ما وصلت إليه الإنسانيّة، وأنَّ التاريخ البشري يصل إلى أعلى مراحله في التاريخ الغربي الحديث، وأن العلوم الغربية علوم عالمية، وأن النموذج الحضاري الغربي يصلح لكل زمان ومكان أو على الأقل يصلح لكل زمان ومكان في العصر الراهن. وأنَّ نزعته الإنسانية تفرض عليه ألا يترك هذا الآخر فقيراً، معدمًا جاهلاً، مريضًا يعاني التخلف بكل صوره وأشكاله وانطلاقا من هذه النزعة الإنسانيّة المزعومة للغرب أصبح يرى أن من حقه الوصاية على هذا العالم، ليصير تدخله في شؤون غيره بمناسبة وبدون مناسبة، وبحجج شبه حقيقية وأخرى واهية تمامًا، أمرًا طبيعيًا تمامًا، تارة باسم تخليصه من حكامه المستبدين، وأخرى من أجل تفعيل مبادئ الديمقراطية ودعم الحريات، وثالثة تحت مسمى حماية حقوق الإنسان، ورابعة باسم الحرب على الإرهاب، وخامسة باسم شروط صندوق النقد الدولي...إلخ. فجعلوا من علمهم بالحق مصيدة للباطل، ومن مطامحهم الذاتية مآثر تعلو على كل هدف.

وتتابعت رؤى المفكرين الغربيين التي ترى الشرق الإسلامي حسب رؤية « كليغورد» غيرنز والتي ترى أنَّ الشرق الإسلامي قد فقد الحداثة، ومن ثم أصبح شديد الخطورة فتشرذم وأصبح هشًا، وحيث إنّ المسلمين فشلوا في التلاؤم مع الحداثة أصبحوا هم المذنبون، وأصبحوا يستوجبون ،اللوم، وما يحصل للعالم لا يعدو أن يكون حصيلة الأزمات والأحقاد الإسلاميّة على العالم(2). ويذهب فرانسيس فوكوياما في كتابه (نهاية التاريخ) إلى الزعم بأن الرأسمالية الحالية المسيطرة على العالم هي أفضل وأكمل نموذج لحياة البشر، وهي المحطة النهائية في مسيرة التاريخ؛ لذا يجب التخلُّص من

ص: 141


1- مالك بن نبي الصراع الفكري في البلاد المستعمرة الجزائر / دمشق، دار الفكر، الطبعة الثالثة، 1988، ص28.
2- أنظر ، جلال فاخوري، كيف ينظر الغرب إلى الإسلام؟ جريدة الرأي بتاريخ 2005/6/17. على الرابط الإلكتروني التالي: http://alrai.com/article/30582.html :

أصحاب الأفكار والنظريات الأخرى كالإسلام. ويصفهم «جون كريستوف روفان» بالبرابرة الجدد في كتابه «الإمبراطورية والبرابرة الجدد». إذ يصورهم على أنهم فئات فقيرة قليلة الثقافة تغلب عليها نوازع العنف والتوحش والبدائية والرغبة المحمومة في القتل والذبح والتخريب والدمار. وقد وصفهم بالبرابرة الجدد لأنهم قد يستخدمون الأدوات الغربية من سلاح، وانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها ومع ذلك يرفضون المفاهيم الغربية من قبيل الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية المرأة.

ويوضح «فرانز فانون (Franz Fanon (1961-1925) في كتابه «معذبو الأرض» تلك النظرة الدونية التي ينظر بها المستعمِر إلى المستعمَر في نظرة كاشفة إلى حد كبير، حيث يقول واصفًا مدينة المستعمَر الموجودة في وعي الآخر: «مكان سيء السمعة، يسكنه أناس سيئو السمعة . فيه يولد المرء أين كان، وكيف كان. وفيه يموت المرء أين كان، وبأي شيء كان هو عالم بلا فواصل الناس يتكدسون فيه بعضهم فوق بعض، والأكواخ تتكدس فيه بعضها فوق بعض. إنَّ مدينة المستعمَر مدينة جائعة، جائعة إلى الخبز، وإلى اللحم، وإلى الأحذية، وإلى الفحم، وإلى النور. مدينة المستعمَر مدينة جاثية، مدينة راكعة مدينة متدحرجة في الوحل. إنها مدينة زنوج. مدينة عرب»(1). امّا عن السكان الأصليين فهم في نظر المستعمِر«ليس لهم انفعال، أو لا يكاد يكون لهم انفعال سريعو التصديق إلى أبعد حد، قابلون للإيحاء إلى أقصى درجة. عناد مصرّ. طفولة نفسية... محدودي الإمكانيات بيولوجيا»(2). كما يشير فانون أيضًا إلى هذا التعالي الغربي الذي راح يخرج عن الموضوعية العلمية، مشيرًا إلى ذلك الخبير الدولي الذي «يرى أنّ الإفريقي قلما يستعمل الفصين الجبهيين من دماغه، ويمكن أن تُردَّ خصائص الأمراض العقليّة في إفريقيا إلى كسل في الفص الجبهي من الدماغ(3). ورأى المستعمِر أن عدم تكامل الفصين الجبهيين مع عمل الدماغ هو سبب الكسل والجرائم والسرقات والاعتداءات على النساء، والكذب.. ومن ثم وجب مواجهة

ص: 142


1- فرانز فانون معذبو الأرض، موفم للنشر، الجزائر ، 2007، ص6.
2- المرجع السابق، ص 269-270
3- المرجع السابق، ص 270.

هؤلاء السكان الأصليين بصرامة لا هوادة فيها. وهكذا صار الغربي المستعمِر يبرر قمعه للمستعمَر وقتله بهذه الأكاذيب والافتراءات التي يلبسها حُلة العلم أحيانًا.

وكذلك اعتبر الغرب المستعمِر نفسه بمثابة القلب الذي يدفع الدم في شرايين الشرق ليحيا حياة بعيدة عن الهمجية والتوحش حياة تقوم على النظام والعلم ولا غنى للشرق عن الغرب أبدًا. هكذا بدا الحال الطيب صالح في أيقونته «موسم الهجرة إلى الشمال» التي أشارت إلى نظرية ما بعد الاستعمار بشكل واضح؛ حيث يقول على لسان ريتشارد الموظف الإنجليزي في السودان مجادلاً ومحاورًا اثنين من السكان الأصليين «كل هذا يدل على أنكم لا تستطيعون الحياة بدوننا، كنتم تشكون من الاستعمار، ولما خرجنا خلقتم أسطورة الاستعمار المستتر، بيد أنَّ وجودنا بشكل واضح أو مستتر ضروري لكم كالماء والهواء»(1).

ومن ثم كان الشرق في نظر الغرب لا يستطيع أن يُحَسِّنْ نفسه إلَّا إذا استفاد من التجربة الغربية المتقدمة، وسار على هديها لا يختلف قيد أنملة. وإنّه إذا اتجه وجهة مخالفة لما عليه الغرب، فليس غريباً أن نجد مستشرقاً يخبرنا بأن ذلك يشهد على طبيعته غير القابلة للتقويم. فالغرب هو النموذج الذي يجب فالغرب هو النموذج الذي يجب أن يسير عليه هؤلاء الشرقيون إذا أرادوا أن يسيروا على الطريق الصحيح للتقدم. ومن ثمَّ كان من الطبيعي أن يجند الغرب كتيبة من العملاء من أبناء الشرق لإشاعة هذا الرأي، وجعله بمثابة الحقيقة العلمية التي لا يرقى إليها الشك. هذا فضلا عن دور الاستشراق الذي يقوم بدور هام في عملية الاخضاع والاستيلاء والتغريب مع ربط الشرق بأغراض المصلحة الغربية.

إنّ المستعمِر يحرص كل الحرص على نزع كافة الصور الايجابية عن المجتمع المستعمَر في تمهيد لنزع هويته تلك التي تخلو من كل قيمة إيجابية. وفي ذلك يقول فرانز فانون «والمستعمِر لا يكتفي بأن يحد مجال المستعمَر، باستعمال القوة المادية، أي بواسطة شرطته ودركه، وإنما هو يجعل من المستعمَر روح الشر وخلاصته، كأنه

ص: 143


1- الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال بيروت، دار العودة، الطبعة الثالثة عشر، 1981، ص 64.

يدل بذلك على أن الاستغلال الاستعماري كلي شامل. إنهم لا يكتفون بأن يصفوا المجتمع المستعمَر بأنه خالٍ من القيم... أو قل أنهم أعداء القيم. فالمستعمَر بهذا المعنى هو الشر المطلق. إنّه عنصر مُتلفٌّ يحطم كل ما يقاربه، عنصر مُخَرِّب يشوّه كلّ ما له صلة بالجمال والأخلاق»(1).

ويستشهد «فرانز فانون» على صدق هذه النظرة المتدنية التي ينظر بها المستعمِر إلى المستعمَر بخطاب «مسيو ماير» الذي ألقاه في «الجمعية الوطنية الفرنسية»؛ إذ يقول في هذا الخطاب: «إنّ علينا ألّا نلوث الجمهورية بإدخال الشعب الجزائري إليها ذلك أن القيم تتسمم وتفسد على نحو لا يمكن إصلاحه متى جعلناها تحتك بالشعب المستعمَر»(2). كما يستشهد فانون في هذا الإطار بأقوال «دو جول» عن الجموع الصفراء. وكلام «مورياك» عن الكتل السوداء والسمراء والصفراء التي تهم أن تندفع أمواجها.

إنَّ الصورة التي يرسمها الغربي المستعمر للشرقي المستعمَر صورة قميئة تحط به من مستوى البشر إلى مستوى الأنعام. ويتضح ذلك من اللغة التي يستخدمها غالبًا فی وصفه. وهو الأمر الذي لاحظه «فانون» وعبَّر عنه باقتدار بقوله:«أنظر إلى اللغة التي يتكلمها المستعمِر حين يتكلم عن المستعمَر، تجد أنها اللغة المستعملة في وصف الحيوانات: إنهم يستعملون هذه التعابير : زحف العرق الأصفر، أرواث المدينة الأصلية، قطعان الأهالي، تفريخ السكان، تنمّل الجماهير..إلخ»(3). إنَّ المستعمِر حين يريد أن يُحسن الوصف وأن يجد الكلمة المناسبة لوصف تلك المجتمعات بصفات يراها الأنسب ويراها تعبر خير تعبير عن تلك الصورة التي يرسمها في وعيه عن الآخر، فإنَّه يرجع دائمًا إلى الألفاظ المستعملة في وصف الحيوان، كما يقول فرانز فانون، ويذكر العديد من الأوصاف والعبارات التي تجري على لسان المستعمِر كأن يقول :«هؤلاء السكان الذين يدبون على الأرض، هذه الجماهير المستهترة، هذه

ص: 144


1- فرانز فانون، معذبو الأرض، ص: 7-8 .
2- المرجع السابق، ص: 8.
3- المرجع نفسه.

الوجوه التي فرّ منها كل معنى إنساني، هذه الأجسام المترهلة التي لا تشبه شيئًا من الأشياء، هذا القطيع الذي لا رأس له ولا ذنب هؤلاء الأطفال الذين لا يبدو أن لهم أهلاً، هذا الكسل المستلقي تحت الشمس هذه الحياة التي تشبه حياة النباتات»(1).

ولذلك لم يكن غريبًا أن يُرَسِخ المستعمِر لهذه الأفكار، حتى إذا عاكسته الظروف وخرج بقواته ودركه وعساكره، ضَمِنَ أن تظل سيطرته مبسوطة على تلك المجتمعات، فيحاول من خلال الغزو الثقافي أن يقنع تلك المجتمعات أن التحرر من الاستعمار لا يعني التقهقر إلى الوراء، وإن عليهم أن يقتدوا بالتجارب الغربية في كل شيء، فهي تجارب مجربة أثبتت صحتها في الارتقاء بهذه المجتمعات. لتظل هذه المجتمعات المستعمرة تابعة. وكان ذلك هو السبب الأول الذي أدى إلى ظهور نظريات ما بعد الاستعمار التي أخذت على عاتقها مهمة نقد وتقويض وبيان تهافت المقولات الغربية، الأوروبية والأميركية، للوقوف في وجهها وفضح ما فيها من تهميش، وتعالي،

وهيمنة غربية مقصودة.

وبناءً على ما تقدم يمكننا القول بأن صورة الأنا في وعي الآخر ليست صورة تعكس الواقع الحقيقي، ولا يعني هذا فشل الآخر الغربي في الوصول إلى الصورة الحقيقية عن الأنا، كلا البتة. ولكنها صورة مرهونة بوعي أيديولوجي يقوم على الاتساق الداخلي بين الاستشراق ذاته وبين الأفكار التي أتى بها عن الشرق. فهو يبحث عن اتساقٍ بين صورةٍ مزعومةٍ للآخر الشرقي وبين أفكارٍ تسوِّغ نزعة الغرب الاستعمارية، وتجعلها مستساغة عقليًا وعمليًا وهي أبعد ما تكون عن ذلك. فهذه الصورة المرسومة في وعي الغرب عن الشرق هي أبعد ما تكون عن الصورة الحقيقية. وفي ذلك يقول محمد عناني «عن نظرية ما بعد الاستعمار» في مقدمة ترجمته لكتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد:«إنه بحث نقدي يقوم على أسس فكرية صلبة، من دعائمها تبيان خداع بعض ما يكتسي المظهر العلمي وهو في حقيقته عنصري، مثل إطلاق صفة الشرقي على كل ما يرى فيه أبناء الغرب اختلافًا عن الحضارة الغربية، والتذرع بهذه الصفة

ص: 145


1- المرجع السابق، ص 9.

أو التسمية للقول بما يجافي الحقيقة والواقع من نسبة حقائق جوهرية أو عناصر إنسانية تمثل جوهر الشرق باعتبارها نقيضا للغرب، وهو ما يسمى بالنظرة الجوهرية، أو المذهب الجوهري. وإدوارد سعيد يأتي بالأدلة القاطعة على أن هذه النظرة لا على أسس علمية؛ لأنها لا تعمل حسابًا للتاريخ والتطور وغيرهما من العوامل التي تتحكم في حياة الإنسان»(1). وفضلاً عن أن هذه النظرة المؤدلجة للشرق من قِبل الغرب لا تقوم على أسس علمية، فإنها أيضًا تبرر أفعال الغرب اللاإنسانية تجاه الشرق من الطمع الاستعماري، ونهب الخيرات والثروات والنظرة العنصرية، والرغبة السيادة المطلقة على الشعوب الشرقية. كما تحتوي هذه النظرة على خوف دفين في قلب الغربي تجاه الشرق وهو خوف مركب... إذ يضم بقايا إحساس أبناء أوروبا بالجهل، وكل مجهول ذو خشية ورهبة ويضم بقايا خوف أوروبا من تهديد الشرق الذي كان يتمثل يومًا ما في الدولة العثمانية، والغرب يحاول القضاء على هذا الخوف الدفين (أي غير المعلن) أساسًا بتزييف صورة ما يعتبره مناقضا له»(2). ولذلك لا يبدو غريبًا وصف إدوارد سعيد للاستشراق بأنه «أسلوبًا غربيًا للهيمنة على الشرق، وإعادة بنائه والتسلط عليه»(3).

إنَّ الصورة التي صنعها الغرب للشرق صورة تجمع العديد من التناقضات التي تنفّر من أهل الشرق، إذ إنّها لم تترك صفة تحط من قدر الإنسان، وتسيء إليه إلّا وألصقتها به ولكنّها في الوقت ذاته تغري أهل الغرب للسيطرة على الشرق، فهي صورة تعكس بهاء الشرق وروعته وطبيعته الجذابة المناسبة للحياة الحالمة، وتصوره مكانًا ملائماً للرومانسية، أي قصص الحب ،والمغامرات والكائنات الغريبة، والذكريات والمشاهد التي لا تنسى، والخبرات الفريدة الرائعة، فضلاً عن أنه ما زال يفيض لبنًا وعسلاً ونفطاً وذهبًا. وتضع ذلك جنبًا إلى جنب مع تخلف الشرقي وهمجيته،

ص: 146


1- محمد عناني ، تصدير الترجمة العربية لكتاب : إدوارد سعيد، الاستشراق - المفاهيم الغربية للشرق القاهرة، دار رؤية ، الطبعة الأولى، 2006،
2- المرجع نفسه. ص 19
3- إدوارد سعيد الاستشراق - المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة محمد عناني، القاهرة، دار رؤية ، الطبعة الأولى، 46 ص 2006

ونزعته للقسوة وانشغاله الرئيسي باللذات الحسية واحتقاره للمرأة، وتعصبه الديني والاجتماعي الذي يتعدى حدود التطرف، فهو يعاني ظروفًا اجتماعية واقتصادية بالغة القسوة والصعوبة، فمجتمعه ينقسم اقتصاديًا إلى أقلية ثرية ثراءً فاحشًا لا تعلم مقدار ثروتها، وأكثرية فقيرة تقتات على فتات موائد الأثرياء. هذا فضلاً عن أنّه يعيش تحت دكتاتوريات حمقاء أقل ما توصف به هو الاستبداد والطغيان.

وقد عمل المستشرقون على تثبيت هذه الصورة المغلوطة، بل جعلوها من أهم أولويات علم الاستشراق. ولذلك يرى إدوارد سعيد أنَّ الاستشراق ليس خيالاً أوروبيًا متوهمًا عن الشرق، بل هو كيان له وجوده النظري والعملي، وقد استمر الاستثمار فيه إلى أن أصبح شبكة مقبولة تسمح منافذها بتسريب صورة الشرق إلى وعي الغربيين بل وتحوله إلى مصدر للإنتاج والكسب (1)، ومنفذًا لتسريب هذه الصورة المشوهة المقصودة إلى الثقافة العامة والوعي الفردي والجمعي الغربي.

ثالثًا - صورة الآخر في وعي الأنا:

تشكلت صورة الآخر في وعي الأنا من خلال وجودين اثنين، فكان الوجود الأول للآخر في عالمنا هو الوجود الاستعماري، والذي بدأ بحملة نابليون بونابرت على مصر والشام سنة 1798م. واستمر بعد ذلك مع الوجود الاستعماري الإنجليزي والفرنسي والإيطالي والألماني والأسباني والبرتغالي والأميركي في جلّ أرجاء عالمنا العربي والإسلامي من أقصاه إلى أدناه. بينما كان الوجود الثاني للآخر في وعي الأنا من خلال عقول النخبة والنهضويين العرب الذين أُرسلوا في البعثات العلمية المبكرة إلى أوروبا، حيث تم الانبهار بالغرب المتقدم، المختلف تمامًا عن الشرق المتخلف.

ففي اللقاء الأول بالغرب والذي كان من خلال «الحملة الفرنسية على مصر والشام عام 1798م والذي كان بمثابة صدمة حضارية أيقظت العالم الإسلامي من سباته العميق سواء على المستوى الفكري أو السياسي. ورغم أنَّ هذا اللقاء الأول

ص: 147


1- المرجع السابق، ص 50.

قد رافقته خسائر فادحة تعرَّض لها الشرق، سواء خسائر في الأرواح؛ حيث هبَّت الشعوب عن بكرة أبيها للدفاع عن الأوطان ضد المستعمر. أو خسائر مادية؛ فقد استولى الفرنسيون على الكثير من خيرات البلاد التي لا تقدر بثمن، يشهد على ذلك ما يوجد اليوم بمتحف «اللوفر» من آثار وتماثيل وكنوز شرقية، وتلك «المسلة» الفرعونية المهيبة التي تقف شامخة في وسط باريس اليوم. إلّا أنّ هذه الحملة قد نبَّهت العقل الإسلامي إلى مواطن قصوره ومدى تخلّفه. فسعى للاستعانة بعلوم الغرب ومناهجه التي جعلته يصل إلى هذه النهضة العلمية التي أبهرته ومن ثمَّ كان اللقاء الثاني حيث بدأ الشرق يلتقي بالغرب في الغرب ذاته من خلال المبعوثين الشرقيين الذين ذهبوا لتلقِّي العلم في الجامعات والمعاهد الأوروبية، ثم تمثل اللقاء بعد ذلك من خلال المسافرين في الرحلات الفردية أو الدبلوماسية.

والحقيقة أن ما يصوره البعض بالانبهار التام للمبعوثين بأوروبا لم يكن موجودًا منذ البداية، وإنما جاء في عهد متأخر قليلاً، الأمر الذي يعكسه رفاعة رافع الطهطاوي والذي كان من أوائل المبعوثين إلى أوروبا في كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، حيث يقول في عبارات متناثرة تعكس في الحقيقة عدم الانبهار التام بكل نواحي الحياة الغربية؛ إذ يقول الطهطاوي في مواضع متفرقة من كتابه ما يدل على ذلك؛ إذ يقول :«ومن خصالهم الرديئة قلة عفاف كثير من نسائهم، وعدم غيرة رجالهم»(1). وأيضًا قوله :«ومن عقائدهم القبيحة قولهم: إن عقول حكمائهم وطبائعييهم أعظم من عقول الأنبياء وأذكى منها ولهم كثير من العقائد الشنيعة كإنكار بعضهم القضاء والقدر»(2)، وأن «أحكامهم القانونية ليست مستنبطة من الكتب السماوية وإنما هي مأخوذة من قوانين أُخر غالبها سياسي، وهي مخالفة بالكلية للشرائع»(3). ويقول أيضًا «ولهم في العلوم الحكمية حشوات ضلالية» وغيرها من الأقاويل التي تملأ كتاب «تلخيص الإبريز» والتي تضع بعض الملاحظات النقدية على قوانينهم التي لا تأبه

ص: 148


1- رفاعة رافع الطهطاوي، تخليص الإبريز في تلخيص باريز القاهرة الهيئة المصرية العامة للكتاب(سلسلة المواجهة- التنوير)، 1993، ص 153
2- المرجع السابق، ص154.
3- المرجع السابق، ص 192.

بالجوانب الأخلاقية، فلا تراعي حقوق الآباء والأمهات، ولا حق الجار ولا غيرها من الحقوق. ويلاحظ على مآخذ الطهطاوي على الغرب إنها مآخذ معيارية تنطلق من منظور ديني ولا غرابة في ذلك حيث إنه كان أزهريًا وإمامًا للبعثة التعليمية الموفدة إلى أوروبا. ولكنها على أية حال تعكس حالة عدم الانبهار الكامل بالغرب والذي سنجده مع المتأخرين من أمثال إسماعيل أدهم وسلامة موسى وإسماعيل مظهر وأنيس فريحة وعبد الله جول وحسن رفقي وحسني العرابي وغيرهم من الذين دَعوا إلى التغريب الكامل.

والجدير بالذكر أنَّ العامة في الشرق - في الغالب - ينظرون إلى الغرب فقط من منظور التحرر والإباحية، ولا يأبهون كثيراً بتقدمهم العلمي والتقني، فكما جاء في رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» من تمحور رؤية العامة إلى أوروبا حول «أن النساء سافرات يرقصن علانية مع الرجال... لا يتزوجن، ولكن الرجل منهم يعيش مع المرأة في الحرام»(1). وعكست الرواية بأكملها هذا الجانب أكثر مما تعرضت للجانب العلمي أو التقدمي. وكما جاء في رواية قنديل «أم هاشم» ليحيي حقي، الذي يصور شعور فاطمة النبوية عروس إسماعيل المنتظرة، وموقفها من سفر إسماعيل إلى أوروبا لطلب العلم «تسمع أن نساء أوروبا يسرن شبه عاريات، وكلهن بارعات في الفتنة والإغراء، فإذا سافر إسماعيل فلا تدري كيف يعود إن عاد»(2). وتتضح الصورة أكثر في تصور عامة الشرق للغرب من خلال وصية والد إسماعيل لولده المسافر إلى ،الغرب، حيث يقول :«وصيتي إليك أن تعيش في بلاد برّه كما عشت هنا حريصًا على دينك وفرائضه، وإن تساهلت مرة فلن تدري إلى أين يقودك تساهلك. ونحن يا بنيّ نريدك أن ترجع إلينا مُفلحًا لتبيض وجوهنا أمام الناس وأنا رجل قد أوشكت على الكبر، وقد وضعت كل آمالنا فيك. وإياك أن تغرك نساء أوروبا فهن لسن لك وأنت لست لهن»(3).

ص: 149


1- الطيب صالح ، موسم الهجرة إلى الشمال ، ص 7.
2- يحيي حقي، قنديل أم هاشم، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب مكتبة الأسرة ، 2017، ص 20.
3- الرواية نفسها، ص 21

الأمر اللافت للنظر هنا أنّ الانبهار بالغرب جاء من خلال النُّخَب، وليس من خلال العامة، فأغلب النخبويين بعد العودة من بلاد الغرب سرعان ما يكفرون بالشرق وبعلومه ومعارفه الذي يرونها قد أكل عليها الزمان وشرب. ومن ثم يعقدون مقارنة يجَرِّدون فيها الشرق من كل مميزاته التي جحدوا بها لصالح الغرب المبهر. فها هو يحيي حقي يقول على لسان إسماعيل عند عودته من بلاد الغرب، في «قنديل أم هاشم»: «من يستطيع أن ينكر حضارة أوروبا وتقدمها، وذلّ الشرق وجهله ومرضه وفقره؟ لقد حكم التاريخ، ولا مرد لحكمه، ولا سبيل إلى أننا ننكر أننا شجرة أينعت وأثمرت زمنًا ثم ذوت وهيهات هيهات أن تدب فيها الحياة من جديد»(1).

ولا غرابة في ذلك، فالاستعمار الذي كان يطمع في بسط هيمنته كان على دراية كاملة بهذا الأمر، فَبسطِ الهيمنة لا يتجه أولاً إلى عامة الناس، وإنّما إلى نُخَبِهم المثقفة، فهم الذين يتحولون إلى أدوات تخدم المستعمِر، فالنُخب وحدها هي القادرة على التعبير والكتابة ومن ثم الذيوع والانتشار. وقد نجح المستعمِر في هذا إلى حدٍ كبير وخاصة في أزمنة ما بعد الاستعمار. فقد أصبح من الحقائق الأساسية في القرن العشرين والحادي والعشرين أنَّ النموذج الحضاري الغربي الحديث بات يشغل مكانًا مركزيًا في فكر ووجدان معظم المفكرين والشعوب الشرقيّة بسبب انتصاراته المعرفيّة والعسكريّة الواضحة في مجالات عديدة، والتي ترجمت نفسها إلى إحساس متزايد بالثقة بالنفس من جانب الإنسان الغربي. وبات الشرقي مؤمنًا في قرارة نفسه بأنَّ ما وصل إليه الغربي في الأزمنة الحديثة هو أرقى ما وصلت إليه الإنسانية في مراحل تطور العلوم والمعارف. وليس هذا بأمر غريب في زمن الأزمات والهزائم، فتحت وطأة الهزيمة يتم فقدان الثقة بكل ما هو ذاتي، وتفقد الذات تحت قهر المنتصر كل ثقة في موروثها، وتتطلع نحو المنتصر لتسلك مسلكه وتحذو حذوه.

ومن ثم وأمام تجبّر وتوحّش هذا الاتجاه الذي يوحي بتعملق الغرب وتقزم الشرق، أخذت الشعوب الشرقية تبحث عن أنسب السبل للحاق بالغرب الذي

ص: 150


1- الرواية نفسها، ص 51.

أصبح يمثل النموذج. وكما يقول عبد الوهاب المسيري :«أصبحت محاولة «اللحاق بالغرب» هي جوهر معظم المشروعات النهضوية في العالم الثالث، بما في ذلك العالم الإسلامي»(1).

وأمام انقسام المفكرين العرب أمام قضية النهضة إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية: رفض الأول فيها الغرب وعلومه واعتبرها كفرًا ومروقًا عن الدين. وهو ما عُرف بالتيار المحافظ أو الرجعي ، ورأى أنّ الحل الأمثل «للحاق بالغرب» هو إحياء التراث والعودة إلى الأصول. أما الاتجاه العلماني التغريبي فرغب تمامًا عن ثقافة الشرق وتراثه إلى اعتناقٍ تامٍ للمذاهب والاتجاهات العلميّة والفكريّة الغربيّة بكافة مزاياها وعيوبها، ورأى أن هذا هو السبيل الأمثل «للحاق بالغرب». أمّا الاتجاه الثالث فرأى أنَّ السبيل الأمثل «للحاق بالغرب» هو الجمع بين الأصالة والمعاصرة، الشرق والغرب، وهو ما أطلق عليه الاتجاه التوفيقي أو المحافظ المستنير.

الجدير بالذكر أنّه رغم الاختلافات الجذريّة في التوجهات الثلاثة إلّا أن الهدف (المعلن أحيانًا وغير المعلن أحيانًا أخرى) هو دائما «اللحاق بالغرب». حتى أنّ بعض أصحاب الاتجاه الأول الرافض للغرب تمامًا يرى أن المشروع الإسلامي هو خير تطبيق للنموذج الحضاري الغربي الذي يمكن تبنيه بعد إدخال التحسينات الزخرفية المختلفة مثل إضافة الصوم والصلاة واستبعاد اختلاط الجنسين، وفرض الحجاب على المرأة، وإصدار الفتاوى المختلفة بخصوص الفوائد التي تتحول من كونها ربًا حرامًا لتصبح مرابحة حلالاً ... وكل هذا يعني أن الإسلام يكتشف شرعيته بمقدار اقترابه من النموذج الحضاري الغربي الحديث وبالتدريج، يتم تغريب النموذج الإسلامي بحيث يتفق مع النموذج الحضاري الغربي الحديث(2).

نخلص من هذا أن الغرب قد صار هو النموذج المُحتَذى أمام الشرقي، وأنَّ كل آمال الشرقي وطموحاته تكمن في اللحاق بركب الحضارة الغربية. وأمام هذا التشكل

ص: 151


1- عبدالوهاب المسيري، العالم من منظور غربي، القاهرة، دار الهلال، الطبعة الأولى، 2001، ص88.
2- المرجع السابق، ص 94.

التغريبي لوعي الشرقي، أصبحت الشكوك تساوره حول قدرته على الإبداع الأصيل المتميز، وأنّه لا سبيل له إذا أراد أن يضع نفسه على الخريطة العلمية إلّا أن يسير على درب المسار المعرفي الغربي. فقد صار الغرب في وعي الشرقي نقطة مرجعية نهائية ومطلقة. وأصبح الرضوخ الفكري للغرب والتبعية الفكرية له من سمات التقدمية والتحرر، والطريق الوحيد إلى الانتماء للعصر الحديث والعالمية. أو هكذا بدا الآخر الغربي في وعي الأنا.

رابعًا- نظرية ما بعد الاستعمار والنموذج البديل:

وأمام هذه الثنائية للوعي بالآخر كان من الطبيعي أن تبرز نظرية ما بعد الاستعمار، فلا الشرقي ذا منزلةٍ وضيعةٍ تشبه منزلة الحيوانات كما بدا في وعي الغربي، ولا الغربي يريد تنوير الشرقي وتعليمه والارتقاء به على كافة الأنحاء كما ادعى زوراً وبهتانًا. وأمام تلك الرؤية المتدنية للشرقي من قِبل الغربي، وذلك الانبهار الشرقي بتقدم الغرب، التمست نظرية ما بعد الاستعمار مسوّغات وجودها، لتكشف زيف تلك الادعاءات التي قدمها الغربي، وتبين حقيقة ذلك الغربي الذي ما هو إلّا مستعمر يريد أن يطيل أمد استعماره وسيطرته على تلك الشعوب المستضعفة، والتي يطلق عليها الشرق بمفهوم ثقافي أكثر من كونه مفهوما جغرافيًا. أو أنّ هذا الغربي ما هو إلّا مستعمر يريد أن يعيد استعماره بصورة أخرى، فهو مملوء بعشق السلطة، مفتون بقوته، تملأه الرغبة في الاستحواذ والهيمنة، وتحركه الشهوة الإمبرياليّة التي مازالت تملأ مخيلته وتشبع غروره.

ومن ثمَّ كان من أهمّ أهداف نظرية ما بعد الاستعمار هو بيان زيف الخطاب الاستعماري، وهدمه، وأنَّه لا يتم تحت هدف التنوير والتحضر والحرية والديمقراطية، وإنّما الغرض منه السيطرة والهيمنة على الدول الأضعف؛ لاستنزاف خيراتها، والتحكم في مصائرها؛ لتصبح ادعاءات الغرب من قبيل أنه جاء لحفظ التوازن، ومراعاة حقوق الإنسان وإشاعة الحريات ومنع الاستبداد، وما إلى ذلك محض ادعاءات زائفة يكشف حقيقتها مدى الدمار والخراب والفوضى وعدد القتلى والمشردين الذي يتبع تدخله السافر.

ص: 152

إنَّ نظرية ما بعد الاستعمار هي في حقيقة الأمر نظرية تدين الاستعمار وادعاءاته الزائفة، وترفض الخضوع للغرب، وتأبى أن تستسلم لمحاولاته الدؤوبة لتهميش الشرق، وتدعو نخبتها إلى رفض الانبهار بالغرب أو الانصياع لثقافته وعلومه، والتصدي لكافة صور التغريب ومحاربة التدخلات الغربية في شؤون الأنا، ودعوة الأنا لتقديم نموذج ذاتي بديل يتجاوز النموذج الغربي.

ويبدو ذلك جليًا في دعوة «فرانز فانون» في ختام كتابه «معذبو الأرض»: «إنه ليجدر بنا أن نقرر منذ الآن أن ننتقل إلى الضفة الأخرى، الليل الطويل الذي كنا غارقين فيه، يجب أن نهزه وأن نخرج منه. النهار الجديد الذي أخذ يطلع، يجب أن يجدنا حازمين واعين قد عزمنا أمرنا»(1). ومن ثمّ يرى أننا يجب ألا نضيع أوقاتنا في تصديق شعارات مملة وتلونات تبعث على التقيؤ، لنترك هذا لأوروبا التي لا تفرغ من الكلام عن الإنسان وهي تقتله حيثما وجدته في جميع نواصي شوارعها، وفي جميع أنحاء العالم. لقد انقضت قرون وأوروبا تقف ضد تقدم البشر، وتستعبدهم لتحقيق أهدافها وأمجادها، لم تسع يومًا لحل مشكلات الإنسانية الكبرى مع أنه كان بإمكانها ذلك.

ولا يعني ذلك أن نظلّ نكيل لها الاتهامات، ونَصبُ عليها اللعنات لا ، فليس هذا هو دور نظرية ما بعد الاستعمار . فكما يقول فانون :«فحسبنا اتهامًا لها، ولكن علينا أن نقول لها بقوة، إنه لا ينبغي لها بعد الآن أن تستمر في إحداث هذا الضجيج كله. لقد أصبحنا اليوم لا نخشاها وعلينا إذن أن ننقطع عن حسدها. إن العالم الثالث يقف الآن أمام أوروبا كتلة عظيمة تريد أن تحاول حل المشكلات التي لم تستطع أوروبا أن تأتي لها بحلول»(2).

ومن ثم جاءت دعوة «فانون» إلى عدم تقليد أوروبا أثناء الشرق لصناعة

سیر النموذج البديل ولكن علينا أن نوجه عضلاتنا وأدمغتنا في اتجاه جديد، ولنحاول أن

ص: 153


1- فرانز فانون، معذبو الأرض، ص 281.
2- المرجع السابق، ص 282

نخلق الإنسان الكلي الذي عجزت أوروبا عن تحقيق الانتصار له. ويرى أن أميركا تلك المُسْتَعْمَرَة الأوروبية قد حاولت منذ قرنين أن تلحق بأوروبا، وقد بلغت من النجاح في ما أرادت مبلغًا عظيما، فأصبحت كائنًا عجيبًا، مسخًا مشوهًا. تضخمت فيه تضخماً رهيبًا عيوب أوروبا وأمراضها ولا إنسانيتها(1).

ومن ثم فليس على الشرق أن يسعى لخلق أوروبا ثالثة، ولكن علينا - كما يقول فانون - أن نبتكر وأن نكتشف. وإذا أردنا أن نستجيب لآمال شعوبنا علينا أن نبحث غير أوروبا. بل إذا نحن أردنا أن نستجيب لما يتوقعه الأوروبيون منا، فيجب ألا نرد إليهم بضاعتهم، ألّا نرسل إليهم صورة، ولو مثالية، عن مجتمعهم وعن تفكيرهم بعد أن أصبحوا يشعرون نحوهم باشمئزاز شديد فمن أجل أوروبا، ومن أجل أنفسنا، ومن أجل الإنسانية، يجب علينا أن نلبس جلدًا جديدًا، أن ننشيء فكرًا جديدًا، أن نحاول خلق إنسان جديد(2).

فأهمّ ما يدعو إليه «فانون» هو عدم التشبه بالغرب، حيث يرفض رفضا تامًا كل دعوة يكون همّها الأول اللحاق بالغرب. ولا يجب أن نتذرع بحجة اللحاق بالغرب فنزعزع الإنسان وننتزعه من ذاته من صميمه وأن نحطمه أن نقتله. إن نظرية ما بعد الاستعمار لا تريد اللحاق بأحد، ولكن تريد أن تمشي طوال الوقت في صحبة الإنسان في صحبة جميع البشر بلا إعلاء لبعضهم فوق البعض الآخر، وبلا أي وجود لتلك الأحقاد العرقيّة والاستعباد والاستغلال للإنسان مع أخيه الإنسان. فعلينا ألّا نخلق مجتمعات تستوحي نظمها من أوروبا. فيكفي الإنسانية نُسخاً مشوهة ومقززة من هذا التقليد الكاريكاتوري الفاجر(3).

وعند هذا الحد يتوقف دور مساهمة الفرنسي الجنسية المارتنيكي المولد «فرانز فانون» في تشكيل نظرية ما بعد الاستعمار ، والذي يمكن تلخيصه في أنه رأى أن

ص: 154


1- المرجع السابق، ص 283.
2- المرجع السابق، ص 284.
3- أنظر المرجع السابق، ص284 - 285.

الاستعمار ليس حكم عسكري بالقوة فحسب، ولكنه هيمنة ثقافية مستمرة، ومن ثم دعا الشعوب المتحررة من نير الاستعمار أن تقاوم الصور الأخرى للاستعمار من خلال ضرورة خلق هوية وطنية مضادة تؤسس للتخلص من ذيول الاستعمار الثقافي وأن لا يحاولوا التشبه بالغرب الأوروبي أو يحاولوا اللحاق به. وهو هنا يعد شبيهًا بدور إدوارد سعيد الذي اقتصرت مساهمته عند حد الدرس والبحث والتنبيه إلى سلطة الاستشراق وآلياته في تسلط الشرق على الغرب؛ إذ إنّه لم يضع تصور لنموذج بديل يكون بمثابة مشروع نهضوي إسلامي ينهي الهيمنة الغربية على بلاد الشرق الإسلامي.

وقد قام المصري عبدالوهاب المسيري بنقل النظرية نقلة نوعية إلى الأمام؛ حيث رفض أيضًا التشبه بالنموذج الغربي أو محاولة اللحاق به، لما يستتبع ذلك مزيدًا من التبعية للغرب، ومزيدًا من ضياع الهويات ومزيدًا من الهيمنة والسيطرة الغربية على الشرق أو على أحسن التصورات خلق شرقًا ممسوخا من الغرب مسخًا مشوهًا. ولذلك شرع في رسم خطواتٍ لنموذجٍ بديل لا يستهدف اللحاق بالغرب، وإنما يستهدف بناء الشرق.

ولا ينكر المسيري في نقده للغرب مزايا النموذج المعرفي الغربي من الإدارة الرشيدة للمؤسسات، وتحقيق الديمقراطية والفصل بين السلطات واحترام حقوق الإنسان، وتأكيد حرية الفرد، وخلق ما يسمى بالأخلاقيات المدنيّة التي تساعد على العيش سويًا رغم الاختلافات المتعددة، وإنشاء دولة الرفاه التي تضمن للإنسان الحد الأدنى من متطلباته الحياتية، وتطوير العقلية النقدية والقدرات الإبداعية والقدرة على كشف الأخطاء وتصحيحها، وتطوير المناهج البحثية بما يتلاءم مع التطورات المتسارعة في المجتمع. ولكنه في الوقت ذاته يدين تلك المزايا لأنها لم تكن لتتحقق إلّا عن طريق الإمبرياليّة الغربيّة التي حققت مستوى معيشيًا مرتفعًا للإنسان الغربي، ومكَّنته من تشييد بنية تحتية مادية قوية(1). لم تكن لتتحقق سوى بالسيطرة على ثروات الشرق وكنوزه.

ص: 155


1- أنظر لمزيد من التفاصيل عبد الوهاب المسيري العالم من منظور غربي، ص204-207.

كما يطعن المسيري في صورة الآخر الغربي المترسخة في وعي الشرقي، تلك الصورة التي انبهر فيها الأنا بالآخر ، مما أدى هذا الانبهار إلى أننا أصبحنا غير قادرين على رؤيته رؤيةً نقديةً، فالتوصل إلى مثل هذه الرؤية خطوة أساسية نحو التحرر من التبعية الغربية والهيمنة الاستعمارية والتحيز الكامن في وعينا للنموذج المعرفي الغربي. ومن ثم يوجّه المسيري سهام النقد إلى هذا النموذج المعرفي الغربي مرتئيًا بأنّه نموذج معاد للإنسان، نموذج كافر بالمعنى المطلق للكلمة؛ ليس بالإله فحسب، وإنما كافر بالإنسان أيضًا إذ يعلن موت الإله، ثم موت الإنسان باعتباره كائنًا متميزًا عن الطبيعة، ثم ينتهي به الأمر أن ينزع القداسة عن كل شيء وينكر المعنى. كما أنه نموذجٌ معرفيٌّ يدَّعي أن بإمكانه التحكم الكامل في العالم عبر التقدم العلمي وهو افتراض أقل ما يوصف يوصف به أنّه طفولي سخيف. كما أنه نموذج معرفي يعبر بصدق عن أزمة الحضارة الغربية ابتداءً من حربيها العالميتين وانتهاءً بمشاكلها المتنوعة مثل تآكل مؤسسة الأسرة، وانتشار الإيدز والمخدرات، وتراكم أسلحة الدمار الكوني والأزمة البيئية، وتزايد اغتراب الإنسان الغربي عن ذاته وعن بيئته. كما أنه إذا كان عائد التقدم المادي في الغرب عاجل ومحسوس ويمكن قياسه بسهولة فإن ثمن التقدم آجل غیر محسوس ويصعب قياسه (1).

وينتقل المسيري من نقد النموذج المعرفي الغربي إلى صياغة نموذج معرفي بديل يستفيد من العلم الغربي ومن كل العلوم والتجارب الإنسانية، وينطلق في الوقت ذاته من تراثنا، حتى يمكن توليد معارف وعلوم جديدة نحقق بها إمكانياتنا الإبداعية التي حبانا الله بها وكرّمنا بها كبشر. فهو لا يقوم بجهود تفكيكية وحسب تكتفي بنقد النموذج المعرفي الغربي، وإنما يسعى لوضع نموذج بديل، يضع له خطوات أولية تزيد من قدرتنا على تطوير النموذج البديل ومنها: رفض تمجيد الذات والتوقف عن التغني بأمجاد الماضي وإدراك أن الإمبريالية الغربية قد حطمت كثيراً من أبنيتنا الحضارية وقامت بنهب بلادنا، وأنها لازالت تتدخل في شئوننا من خلال أذرعها المختلفة ابتداءً من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وانتهاء بمؤسسات هيئة

ص: 156


1- أنظر ، المرجع السابق، ص 212-225

الأمم المتحدة ومروراً بالدولة الصهيونية. وعلينا أن ندرك جيدًا مدى الوهن والضعف الداخلي. وأن هذا النموذج البديل ليس عودة للوراء وإنما هو تأكيد على أن النماذج الجاهزة المستوردة لا تصلح لنا، وإنّه لابد من إعمال العقل والاجتهاد وأخذ أوضاعنا في الاعتبار(1).

ومن ثم كان النموذج البديل ينطلق من : رفض اليقين الكامل مع الاجتهاد المستمر ؛ فالوصول إلى الحقيقة المطلقة أمر مستحيل . ورفض الاعتقاد بإمكانية التحكم الكامل في الواقع، وإنّما محاولة الاستفادة منه والاتزان معه وإعماره والمحافظة عليه. كذلك رفض المسيري وهو في سبيل تصوره للنموذج البديل اختزال الواقع إلى عناصره الأولية أو تصفية ،الثنائيات، فلا يمكن تصفية الفرد من أجل الدولة، ولا الماضي من أجل الحاضر ، ولا الإنساني من أجل الطبيعي. كذلك رفض المسيري الواحدية السببية في مجال العلوم، فوحدة العلوم ،مستحيلة، إذ لابد أن يوجد علم للظواهر الطبيعية وآخر للظواهر الإنسانية. كما دعا إلى محاولة الوصول إلى نظرية شاملة تعرف مسبقًا أنها لن تصل إلى التفسير النهائي والمطلق الذي يظل حلمًا يداعب خيال الإنسان ويغويه وأن يكون النموذج البديل توليدي لا تراكمي، ينطلق من مقولة الإنسان باعتباره مركز الكون وسيد المخلوقات. وأن يكون من الضروري وجود مقولة تفسيرية غير مادية تشكل ثنائية كبرى هي ثنائية الخالق والمخلوق تتفرع عنها كل الثنائيات الأخرى. وأن يكون النموذج البديل نابع من التراث متحيز له لا يصطدم معه بل يتوافق مع متطلباته. وأخيرًا ، أن يفصل الحداثة عن الاستهلاكية ومفهوم التقدم المادي والفردية المطلقة، أي لا يجعل الهدف من الحياة هو الاستهلاك بدلاً من أن تكون إنسانيتنا المشتركة هي محط اهتمامنا وألا يجعل من كثرة الاستهلاك مقياس التقدم والتحضر(2).

وهذا النموذج البديل يأخذ بنظرية ما بعد الاستعمار خطوات مهمة إلى الأمام؛ حيث إنّها لا تتوقف فقط عند النظرة التفكيكية النقديّة من الغرب، بل تحاول تقديم

ص: 157


1- أنظر، المرجع السابق، ص 284-288.
2- أنظر ، المرجع السابق، ص 288-305

نموذجًا بديلاً يُمكِّنُنا من الوقوف أندادًا للغرب دون أن يكون اللحاق بالغرب فقط هو هدفنا الأسمى.

خاتمة

وهكذا يتبين مما سبق أنَّ نظرية «ما بعد الاستعمار» - التي كان أهمّ من وضع لبناتها الأولى الفلسطيني الأصل إدوارد سعيد ونقلها المصري عبدالوهاب المسيري نقلة نوعية إلى الأمام بفكرته عن النموذج البديل للنموذج الغربي - نظرية اهتمت بتحليل الخطاب الغربي بوصفه خطابًا أيديولوجيًا يحمل في طياته توجهات استعمارية إزاء كافة الشعوب التي تقع خارج المنظومة الغربية. وانطلقت من رؤية مفادها أن البلدان المستعمرة سابقًا مازالت خاضعة ثقافيًا واقتصاديًا للدول الغربية الكبرى، ومن ثمّ كان هدفها الأول مجابهة هذا الفكر الإمبريالي الغربي، وتقويض مقولاته التي يرتكز عليها، وذلك باستخدام آليات ومنهجية متداخلة؛ للوقوف في وجه هذا التغريب، وذاك التعالي، وتلك الرغبة في الهيمنة على حساب الآخر؛ لتضع حدًا لتلك العلاقة الشائنة، علاقة الغربي المُستغِل بالشرقي المُستغَل.

وتميزت هذه النظرية عن النظرية الكلاسيكية لمقاومة الغزو الفكري أو النظريات التقليدية المجابهة للاستعمار أنها حاولت كشف فضائح العقل الغربي المتعصب والإمبريالي الذي رسم صورة زائفة للآخر على أنه غير حداثي وغير ديمقراطي وبربري بغية تبرير الاستعمار. ولذا انصبت مواجهتها على تفكيك وتقويض تلك المزاعم الاستعمارية، وشرعت في تقديم نموذجاً بديلاً نابعًا من الشرق مراعيًا لخصوصيته، ولا يضع صوب نظره اللحاق بالغرب كغاية قصوى.

وإذا كانت نظرية «ما بعد الاستعمار» تدين الغرب وادعاءاته الزائفة، كما تدين رؤيته الأيديولوجية للشرق والتي أصبحت كحقيقة كامنة في الوعي الغربي. فإنها أيضًا تحاول أن تتصدى لانبهار الوعي الشرقي بالغرب؛ حتى يمكن أن يقف الشرقي إزاء الغرب وقفة نقدية. فالتوصل إلى مثل هذه الرؤية النقدية هو بمثابة خطوة أساسية

ص: 158

نحو التحرر من التبعية الغربية والهيمنة الاستعمارية والتحيز الكامن في وعينا للنموذج المعرفي الغربي.

كما تُظهِر «نظرية ما بعد الاستعمار» أن التحدي المثير الذي يواجه الغرب اليوم هو ضرورة أن يعود إلى ضرب من النقاء، وأن يتخلى فورًا عن النقاء، وأن يتخلى فورًا عن خطابه المبني على ،الإخضاع والاستعلاء والرغبة في الهيمنة والسيطرة والاستعمار، والتمييز النوعي والعرقي والجنسي والديني والطبقي. فعلى المثقف الغربي أن يتخلى اليوم عن تسييس الثقافة، وأن يضطلع بدوره الأساس وهو مضاعفة الوعي وتحمل مسئولية مجتمعه، لا خداعه بتقديم صورة زائفة للشرق ترضي أطماع الغرب الإمبريالية، مفادها أن الشرق بأسره شعوبًا وأصقاعًا خاضعة ودونية.

ومما لا شك فيه أن نظرية«ما بعد الاستعمار» قد تأثرت بأبحاث «ما بعد الحداثة»؛حيث ساعد مفهوم دريدا عن «الميثيولوجيا البيضاء» مع كتاب «ميثيولوجيات بيضاء» للباحث الإنجليزي رورت يونج (Young حول نقد المركزية الغربية التي بدت من خلالهما محض أسطورة إضافة إلى سعي ما بعد الحداثة إلى محاولة إثبات تهافت السرديات الكبرى، مما أعطى منظري ما بعد الاستعمار الجرأة على طرح الأسئلة الفلسفية الكبرى ومحاولة تفكيك الأيديولوجيات الغربية الطاغية اليوم. وما زالت نظرية «ما بعد الاستعمار» حتى اليوم تحتاج إلى مزيد من التحديدات والتنظيرات حتى تبدو كنظرية أكثر استقلالاً، وتبدو أكثر تميزاً عن النظريات الكلاسيكية المناهضة للاستعمار.

ص: 159

الإنتلجنسيا القلقة

حالة المثقف العربي في مرحلة ما بعد الكولونيالية

محمد عبد الله(1)

مع بداية القرن الحادي والعشرين عاد السؤال ليُطرح مجدداً وعلى نحو أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى: هل حقاً انقشع ضباب الاستعمار عن سماء الأوطان العربية أم أن ما يعكسه المشهد العام هو على النقيض من ذلك؟.

مثل هذا السؤال يحتاج بطبيعة الحال إلى ترتيبٍ وتصويبٍ ورعايةٍ بعدما انصرم زمن مديد على انشغال النخب العربية على وجه الخصوص والنخب الإسلامية عموماً، بمواجهة الأطروحة الاستعمارية في ميادينها المختلفة. السؤال نفسه يتضاعف حدة وحيوية في أزمنتنا الحاضرة وهو يواجه الأوهام المتجددة التي يحملها شطر واسع نسبياً من المثقفين العرب ويحفظونها عن ظهر قلب. إذ إن من أبرز تلك الأوهام ما يشاع في السنوات الأخيرة عن أن الآلة الاستعمارية الما بعد حديثة هي ضرورة للتخلص من الاستبداد المحلي وإقامة النظام الديمقراطي. مع ذلك فإن وهماً كهذا

ص: 160


1- باحث وأكاديمي - جامعة المنيا - جمهورية مصر العربية.

ما لبث أن تهاوى جرَّاء التحولات العاصفة التي شهدها العالم العربي منذ نهاية القرن الماضي، مروراً بما يسمى بثورات الربيع العربي، وما ترتب عليها من آثار كارثية على وحدة البلاد العربية ومجتمعاتها.

تعيين حدود المفهوم

فی مستهل الحديث عن الإنتلجنسيا العربية نرانا في حاجة لنلقي الضوء على ماهيتها ودورها من أجل أن يشكل ذلك مدخلاً لمقاربة مواقفها في المرحلة ما بعد الكولونيالية. والحقيقة أن ثمة صعوبة بالغة في تحديد هويتها وحدود تعريفها، حتى يكاد لا ينعقد اتفاق دقيق حول معناها»(1). في وقتنا الراهن شاع استخدام كلمات مثل المثقف والأديب والعالم والمتعلم والفنان للدلالة على المعنى نفسه، وعلى الجانب الأخر من العالم وفي اللغات الأوروبية الحديثة استخدمت كلمات شتى أيضا منها على سبيل المثال : المتعلم Educated والمثقف «Cultured» والمثقف النشيط «Intellectual» وتلك الكلمة وإن كانت هي الأكثر رواجاً وقرباً إلى المصطلح العربي، إلا أنها تتداخل في اللغات الأوروبية مع المصطلح الذي نحن بصدده الآن« Intelligensia». في هذا المضمار يرى عالم الاجتماع الأميركي ادوارد شيلز أن الشخص المتعلم الذي لديه طموح سياسي، إما بصورة مباشرة من خلال السعي ليكون حاكماً لمجتمعه أو بصورة غير مباشرة عبر السعي إلى صياغة ضمير مجتمعه. ويشير إلى أنّه بسبب العدد الفقير نسبياً للمثقفين في الدول النامية فإن الأشخاص ذوي التعليم المتقدم يجب أن نعتبرهم طبقة مثقفة (2)أما نظيره لويس فويير «Feuer» فقد بين أن «المثقف هو المتعلم والمهني من الطبقة الوسطى الذي يختلف عمن يعمل بالصناعة والتجارة من الطبقتين العليا والدنيا»(3).

ص: 161


1- الزيات السيد عبد الحليم، المثقفون المصريون بين جدليات النشأة وإشكالية الفعل مجلة الوحدة، العدد 66، مارس 1990 م، ص 147.
2- for mor .please look, Edward, shills : the intellectuals and power, and other essays, (Chicago, . university 1972). pp 29 - 27.
3- Lewis, feuer, s, Ideology and 3. Ideologistis, basil Black Well, Oxford, 1975, pp202/205)

الإنتلجنسيا إذاً، هي قيمة مفهومية ذات مدلول تاريخي - اجتماعي يشير إلى المتعلمين تعليماً عالياً وحديثاً(1)، ونستطيع أن نقول باختصار أن الذين ينتسبون إليها هم طبقة اجتماعية تشارك في عمل ذهني معقد يهدف إلى التوجيه والنقد والتقويم، أو لعب دور قيادي في تشكيل ثقافة المجتمع وسياسته»(2). وهنا قد تشمل الإنتلجنسيا الفنانين ومعلمي المدارس والأكاديميين والكتاب والصحفيين وغيرهم ممن يُطلق عليهم بشكل واسع صفة مثقفين. أما دورهم في تنمية المجتمع فهو محط جدلٍ واسع. ففي حين لم يكن إيجابياً في حالات تاريخية كثيرة، فإنهم يساهمون في المقابل بدفع المجتمع إلى مستويات تقدم كبيرة، وقد يلعبون دوراً في تعزيز حركاته المختلفة(3). وقد ظهرت هذه الطبقة بمعناها الاجتماعي في بولندا في خلال عصر تقاسمها . ثم ظهر المصطلح في أعمال الفيلسوف الألماني هيغل في أربعينيات القرن التاسع عشر لوصف فئة متعلمة ومهنية من البرجوازيين الوطنيين الذين أصبحوا قادة روحانيين في بلد خاضع لقوى أجنبية.

لا شك بأن ضبط حدود هذا المصطلح بالعربية يعني بذلك الفئة المثقفة أو النخبة المثقفة، التي هي محور بحثنا. لكن المسألة هنا لا تتوقف على الجانب الاصطلاحي والكيفية التي قارب فيها العقل الثقافي العربي تعريف الحقل الذي يعمل فيه. ذلك أن محور الإشكالية هو تأثر البنية الفكرية للإنتلجنسيا العربية ببقايا الاستعمار في فترة الكولونيالية الجديدة وما بعد الكولونيالية. ذلك لأن أي تأثّرٍ بالثقافة الاستعمارية هو دليل على حضور المستعمِر داخل البنية الثقافية العربية، وعلى دوره الوازن في التأثير والتوجيه معرفياً وثقافياً وفكرياً واقتصادياً.

أما في ما يتصل بمفهوم (ما بعد الكولونيالية post-colonialism/postcolonialism)

ص: 162


1- نعیمه بن خدة، المثقف و، عند إدوارد سعيد مفهوم المثقف رسالة ماجستير في الفلسفة كلية العلوم پالاجتماعية، جامعة وهران الجزائر العام الجامعي العام 2011 / 2012 م، ص .18
2- Intelligentsia in Merriam-Webste Online- نسخة محفوظة 07 يناير 2008 على موقع Wayback Machine
3- 6-Tomasz Kizwalter (2009). "[The History of the Polish Intelligentsia until 1918» (PDF). Acta . 2016 22 Mar في 29 أغسطس 2017. اطلع عليه بتاريخ (PDF) تمت أرشفته من الأصل .Poloniae Historica 09

وكيفية التعاطي معه معرفياً من جانب النخب العربية المعاصرة، فنستطيع القول أن النخب المشار إليها انساقت في الغالب الأعم إلى سَيْل التعريفات التي صدَّرتها التيارات النقدية الغربية خلال القرن العشرين المنصرم. ففي المرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية كان للدولة ما بعد الكولونيالية، أثرٌ تاريخي تسلسلي واضح على نخب البلدان المستعمرة على هذا الأساس راح النقاد يستخدمون هذا المصطلح في أواخر السبعينات من القرن الماضي لمناقشة الآثار الثقافية المتعددة للاستعمار(1). هناك بالطبع تعريفات عدة حاولت رسم حدود مصطلح ما بعد الكولونيالية وفقا لأطر وتجارب تاريخية متفاوتة. فقد عرفه دوغلاس روبنسون بأنه «دراسة جميع الثقافات/ المجتمعات/ البلدان/ الأمم من حيث علاقات القوة التي تربطها بسواها من الثقافات/ المجتمعات/ البلدان/ الأمم ؛ أي الكيفية التي أخضعت بها الثقافاتُ الفاتحة الثقافاتِ المفتوحةَ لمشيئتها ؛ والكيفية التي استجابت بها الثقافات المفتوحة لذلك القَشر، أو تكيفت معه، أو قاومته، أو تغلّبت عليه . وهنا تشير الصفة «ما بعد الكولونيالية» إلى نظرة النخب النقدية في أواخر القرن العشرين إلى علاقات القوة السياسية والثقافية، أما الفترة التاريخية التي تغطيها فهي التاريخ كلّه»(2)وحسب «دوغلاس» أيضاً، النظرية ما بعد الكولونيالية هي - دراسة مستعمرات أوروبا السابقة بعد استقلالها؛ وكيف استجابت لإرث الكولونيالية الثقافي، أو كيف تكيّفت معه، أو قاومته، أو تغلّبت عليه. ومما يبدو للقارئ أن المصطلح انضم إلى مصطلحات «الما بعديات» مثل مصطلحات «ما بعد الحداثة» و«ما بعد البنيوية» و«ما بعد النسوية» و«ما بعد الاستقلال»، والتي تنبأ باستمرارية الالتصاق بالفترة ذاتها، وتعامل معها كما لو أنها فترة لم تنته.

ص: 163


1- بيل أشكروفت / جاريث جريفيث / هيلين تيفين دراسات ما بعد الكولونيالية، ترجمة أحمد الروبي / أيمن حلمي / عاطف ،عثمان دار ابن خلدون ص 282-283
2- دوغلاس روبنسون: الترجمة والإمبراطورية الدراسات ما بعد الكولونيالية، دراسات الترجمة، ترجمة ثائر ديب، مجلة نزوى، العدد 20، 45-07-2009.

ما بعد الكولونيالية في تعاملات نخب العالم الثالث

تُظهر القراءات التاريخية أن الإنتلجنسيا العربية قد تأثرت تأثراً كبيراً بالكولونيالية بصيغتها الكلاسيكية، وكذلك المستحدثة. وهو ما يبدو بوضوح فيما نشهده اليوم من تبعيات بيِّنة للخطاب الغربي في مستوياته وتجلياته الفكرية والمعرفية المختلفة. في مقابل ذلك سوف نشهد بصورة مبكرة على محاولات جادة بادرت إليها نخب عانت بلادها ومجتمعاتها من تسلط استعماري بعيد الأثر، سواء عبر الاحتلال المباشر أو عبر الوسائط الثقافية والأكاديمية والاقتصادية المختلفة.

من النخب المنتسبة إلى ما سمي ب «العالم الثالث» كان أول من دخل السجال بقوة لمناقشة مصطلح الكولونيالية الجديدة (neo-colonialism)، هو «كوامي نكروما» الرئيس الأول لغانا المستقلة. والمعروف أن نكروما هو من أبرز الدعاة للوحدة الإفريقية بحسب ما جاء في كتابه «الكولونيالية الجديدة: المرحلة الأخيرة للإمبريالية 1965م». وقد شاع بين الأوساط الثقافية، ما طرحه في كتابه المذكور حيث قدم تعريفاً مطوراً للإمبريالية باعتبارها المرحلة الأخيرة للرأسمالية. فقد ذهب نكروما إلى نقد الإمبريالية الجديدة التي سعت إلى الإبقاء على هيمنتها على البلدان المستقلة أفريقيا وآسيا، حيث أن بقايا القوى الكولونيالية السابقة والقوى العظمى الجديدة الصاعدة على المشهد العالمي، ظلت تلعب دوراً حاسماً في مصائر هذه الدول عن طريق تثبيت الأسعار في الأسواق العالمية، والشركات متعددة الجنسيات، والاتحادات الاحتكارية، إضافة إلى تنويعة من المؤسسات التعليمية الثقافية الموجهة. ويكشف «نکكروما عن حقيقة أن الكولونيالية الجديدة كانت أكثر دهاءً وأبرع تخفيّاً وأصعب في الكشف عنها وتحديد معالمها ومقاومتها من الكولونيالية الصريحة، الأقدم، وبذلك فإن الكولونيالية الجديدة هي الشبح الخفي ،للإمبريالية ورمز لاستمرارية الهيمنة والسيطرة من تلك القوى(1).

ص: 164


1- الزيان - المثقفون المصريون بين جدليات النشأة واشكالية الفعل - مصدر سابق.

ازدواجية العقل النخبوي العربي

الاستعمار في ثوبه الجديد في مرحلة ما بعد الكولونيالية هو استعمار بديل عما سبقه من أنماط استعمارية إلا أنه لم يقطع مع هذه الأنماط. ولعل ميزته اليوم أنه غزو فكري وثقافي لتشكيل منظومة محلية ذات جاذبية فكرية ومعرفية تتولى الإنتلجنسيا نفسها تسويق ثقافة الهيمنة الاستعمارية وهي على قناعة بما تصنع تلك اللعبة الإمبريالية تبدو في ظاهرها شديدة الحرص على الديمقراطية وحقوق الإنسان، حيث لا يستطيع كل من يراها مقاومة خطابها وآليات عملها، فهذا هو الأسلوب الجديد لاستمرارية الاستعمار الماكر ذو الدهاء الفائق لفرض السيطرة على جمیع المستويات الثقافية والإعلامية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية.

ثمة من يذهب إلى القول تبعاً لواقع الحال أن مصطلح - ما بعد الكولونيالية - لم يرسخ بعد في أوطاننا. فنحن على الحقيقة ما زلنا في حالة احتلال الأدوات اختلفت والغزو واحد، ذلك بأن الهيمنة لم تنته كما توهمنا بل نحن ما زلنا في حال متأرجحة من الازدواج الوجداني بين رفض بعض الإنتلجنسيا العربية وقبول البعض الآخر من «طبقة الوكلاء». ولهذا تتأتى إلزامية دور الإنتلجنسيا العربية لكي تقوم بمهمتها بمهارة وحنكة. إما أنها تعي هذا الوضع الخطير حقاً أو أن تستغرق بذلك الضباب الكولونيالي الجديد.

وقد يبدو أثر (الازدواج الوجداني : The Ambivalence) واضحاً على الإنتلجنسيا العربية. الأمر الذي يعكسه بقوى ذاك المزيج المركب من الانجذاب والنفور الذي يسم العلاقة بین المستعمِر والمستعمَر. ومثل هذا الوصف الذي أدخله «هومي بابا» (1)إلى نظرية الخطاب الكولونيالي حيث وصف «بابا» هذه العلاقة بأنها متأرجحة، لأن الذات المستعمَرة ليست مناهضة للمستعمر ببساطة وبكل معنى الكلمة على طول الخط بل هي تجمع بين الاعتراض والتواطؤ وهكذا يوحي

ص: 165


1- مفكر هندي يُنظر إليه بوصفه أحد أبرز الكتاب الذين ساهموا بكشف الآليات السوسولوجية والثقافية للاستعمارية المتجددة في آسيا وأفريقيا.

مصطلح الازدواج الوجداني بأن التواطؤ والمناهضة يتساوقان في علاقة متأرجحة داخل الذات الكولونيالية. ويبدو من هذا المصطلح أن الآثار المترتبة على ظهوره ذات اتجاهين: فالأول يعكس خطورة هذا المصطلح الذي يخلخل السلطة القاطعة الخاصة بالهيمنة الكولونيالية والثاني يفصم عُرى العلاقة البسيطة بين المستعمِر والمستعمَر. على ذلك فالازدواج الوجداني هو ملمح غير مرغوب فيه داخل الخطاب الكولونيالي بالنسبة للمستعمِر. وهكذا تكمن مشكلة الخطاب في أنه يريد خلق متلقٍّ سهل الانقياد وبحيث خاضعاً يعيد إنتاج المستعمر وعاداته وقيمه. لكن بدلا من ذلك، أنتج الخطاب الكولونيالي تابعين مزدوجي الوجدان لا ينأى تقليدهم له كثيراً عن الاستهزاء. إن هذه العلاقة المتأرجحة بين التقليد والاستهزاء التي يسببها الازدواج الوجداني تؤدي إلى إرباك الهيمنة الكولونيالية، حيث إن الأسلوب الذي يُعرض به هذا المصطلح وارتباط الخطاب الكولونيالي بالذات المستعمَرة، قد يكون استغلالياً وإنمائياً في الوقت عينه ، لذا «ينظر إلى هذه العلاقة على أنها علاقة (متكافئة القوة:ambi-valent) (ازدواجية السلطة: dvoevlastie ). ويكمن تأثير هذا الازدواج الوجداني - الانجذاب المتساوق مع النفور - في توليد خلخلة عميقة لسلطة الخطاب الكولونيالي» (1). وهذا أيضاً يوضح الفارق بين الذوات المناهضة وتلك المتواطئة من الإنتلجنسيا العربية لجهة تأثرها بالخطاب الكولونيالي وما إذا كان لا يزال مستمراً إلى فترة ما بعد الكولونيالية. ذلك على الرغم من أن هذا الازدواج الوجداني بما استثاره من قضايا جدلية عند «هومي بابا»، أفسح المجال لبروز تلك القضية المقترحة (poroposition). حيث يحتج «بابا» بأن الخطاب الكولونيالي مدفوع لأن يكون ازدواجياً ، لأن الخطاب لا يرغب حقاً أن يكون الشعب المستعمَر نسخة طبق الأصل من المستعمِر فلئن حدث هذا لكان برأيه أمراً باعثاً على الشعور بالتهديد إلى حد بعيد. ففي هذه الحال يصير المهمَّش يفكر بعقلية المركز وهذا في حد ذاته يناقض النظرية الإمبريالية، فيؤدي إلى ما يسمى بالإزاحة والخلخلة للمركزية. وفي هذا ما

ص: 166


1- بيل أشكروفت / جاريث جريفيث / هيلين ،تیفین دراسات ما بعد الكولونيالية، ترجمة أحمد الروبي / أيمن حلمي / عاطف ،عثمان دار ابن خلدون ص 62

يشكل إضعافاً للهيمنة والسيطرة ويؤكد على إنتاج ثنائية سلطة. لذا كان الاتجاه الآخر لمفهوم - الازدواج الوجداني - مقصوداً من قِبَل المستعمِر حتى لا تصل النتائج إلى زحزحة المركز وقوته الإمبريالية المتمكِّنة. هنا يذكر «هومي بابا» مثالاً على «تشارلز جرانت» الذي أراد في عام 1792م أن يغرس الديانة المسيحية في عقول الهنود، غير أنه اعرض عن ذلك لأن القلق ساوره من أن يدفعهم ذلك إلى أن يتحولوا إلى «مشاغبين لأجل الحصول على الحرية»(1). لقد انتهى جرانت حل مفاده مزج العقائد المسيحية بالممارسات الطبقية الهندية (caste) المسببة للشقاق حتى تثمر «إصلاحاً جزئياً» لا متكاملاً، والذي يمكن أن يُحدث تقليداً فارغاً للعادات الإنجليزية، حيث يبقي على بعض من الفوضى التي تشغلهم عن مساعي التنمية والإصلاح المتكامل. فالإبقاء على ذلك الجزء من الفوضى هو مطلب أساسي سياسي للإمبريالية حتى لا يُنقل الصراع إلى داخلها بما يؤدي حتما إلى تقوُّضها، وعليه ستكون مدفوعة لأن تخلق وضعا ازدواجياً تخفي من خلاله ادّعائها بشأن سلطتها المنيعة، معلنة الوهن المستمر للمستعمَر.

عبر تلك الازدواجية الوجدانية تأثر القطاع المناهض للكولونيالية من الإنتلجنسيا العربية في فترة ما بعد الكولونيالية فالمناهض العربي كان على طول الخط منفعلاً بحجم المؤامرات التي تحاك لبلاده. لقد بدا له السيطرة الإمبريالية المستمرة في أثواب عدة، تعكس حالة مربكة لا ينفصم عراها من الفعل الكولونيالي وجد نفسه إما إمبريالية مثلثة الأضلاع تهيمن عليه دفعة واحدة: الكولونيالية والكولونيالية الجديدة وما بعد الكولونيالية. حيث إن المناهضين تنبَّهوا لما كان واضحاً وجليّاً في طيات حديث المبعوث البريطاني في مصر عام 1859م «ألفرد سكاون»* يومذاك قال سكاون مخاطباً مجموعة المؤتمر الوطني المصري:«احذروا منا فإننا لا نريد لكم شيئاً من الخير لن تنالوا منا الدستور ولا حرية الصحافة ولا حرية التعليم ولا الحرية الشخصية. وما دمنا في مصر فالغرض الذي نسعى إليه من البقاء فيها هو أن

ص: 167


1- بابا 1994 : 87.

نستغلها لمصلحة صناعتنا القطنية في مانشستر، وأن نستخدم أموالكم لتنمية مملكتنا الإفريقية في السودان... لم يبق لكم عذراً إذا انخدعتم في نياتنا بعد أن وضح الأمر فيها وضوحاً تاماً. فاحذروا أن تنساقوا إلى الرضى باستعباد بلادكم ودمارها»(1). هذا الكلام لسكاون يختزل أحد المعاني الحقيقية للهيمنة الكولونيالية. حيث يظهر مدى الخطورة التي تقع على كاهل الإنتلجنسيا العربية ودورها الذي يجب أن يحتل المكانة المركزية من أجل المقاومة للحد من تلك الهيمنة التي تطوق البلاد اقتصادياً وثقافياً. وذهبت النخب الوطنية إلى صياغة خطابها على النحو الذي يجعل إزالة الاستعمار بأشكاله كافة في أمر اليوم. مما يظهر مدى تغلغل تلك الهيمنة والسيطرة على المستوى الثقافي في بلادنا العربية، وهذا ما يؤكد على خطورة ودقة موقف الإنتلجنسيا العربية في التصدي لتلك الأشباح الإمبريالية الخفية وتأثيرها العميق في ثقافتنا العربية والإسلامية.

لكن الوجه الآخر الأشد خطورة في تماهي قطاعات تاريخية وأزمنة من الإنتلجنسيا العربية مع التوقف الكولونيالي والتواطؤ مع تيار الهيمنة الإمبريالية. وهؤلاء هم ما يمكن أن نسميهم ب- ( طبقة الوكلاء comprador). هذا المصطلح الذي تم تطويره بطريقة أشمل في مرحلة ما بعد الكولونيالية ليشمل طبقة من الأكاديميين والكتاب الإبداعيين والفنانين - ممن يتنازلون عن استقلالهم الوطني باعتمادهم على القوة الإمبريالية رهانهم معها. لم يُعد الأمر مقتصراً على البرجوازية المحلية الذين يدينون بأوضاعهم المتميزة للاحتكارات الأجنبية، ومن ثمّ يحافظون على مصلحتهم الراسخة في بقاء الاحتلال الكولونيالي. ولا شك أن تلك الفكرة عن طبقة الوكلاء والتي تفترض وجود هيكل تراتبي واضح ومتسلسل من العلاقات الثقافية والمادية. عليه «فالافتراض الذي يذهب إلى أن طبقة الوكلاء متمايزة بالضرورة وبصورة يسهل

ص: 168


1- ألفرد سكاون بلنت مخاطبا مجموعة المؤتمر الوطني المصري في اقتباس ورد بكتابه التاريخ السري لاحتلال إنجلترا مصر الذي تفيد بيانات غلافه بأن الشيخ محمد عبد راجعه و وافق على ما فيه ، ينتمى سكاون لأسرة عريقة تعمل بالسياسة والتمثيل الدبلوماسي في الدول الأوروبية تحول بعد 1859 للترحال في البلاد الشرقية. كون حملة للدفاع عن الزعيم أحمد عرابي بدافع واجبه تجاه مواطنيه في المقام الأول وحقهم في الأطلاع على «الحقيقة الواقعة» ترجم الكتاب ونشر على حلقات بجريدة البلاغ ثم جمع في مجلد وأحد دون تاريخ مدون.

تحديدها عن بقية المجتمع، هو افتراض محل جدلٍ وشكٍ نسبيّاً ممن يحافظون على مقدرة أكثر تطوّراً في انخراطهم في الممارسات التواصلية الدولية التي تطرحها الهيمنة الكولونيالية، وممن قد يظهرون ميلاً أقل، بحكم ذلك، للنضال من أجل الاستقلال الثقافي والسياسي»(1). من الممكن التدليل على أمر كهذا من ملاحظة جد هامة وهي أنه ما من أحدٍ في مجتمعٍ مستعمَرٍ يمكن أن يتجنب بالكلية تأثيرات النفوذ الثقافي الكولونيالي بأطواره وأشكاله المختلفة. في مجتمعات ما بعد الكولونيالية ليست الطبقة البرجوازية وحدها، بأي حال من الأحوال، هي الطبقة الوحيدة البين أنها امتلكت «القدرة على النفاذ» إلى الوسائط الثقافية الشعبية مثل التلفاز أو المنتجات الاستهلاكية ضمن الخضوع التام والتبعية المطلقة وحدهما هما من خَلَقَا طبقة الوكلاء، حيث النضال من أجل الاستقلال الثقافي والسياسي والاقتصادي لم يعد ذا أهمية لديهم كما هو الحال من الاستفادة الشخصية من الممارسات التواصلية والانتفاع بما تطرحه الهيمنة الإمبريالية في مرحلة ما بعد الكولونيالية، وبهذا تصبح (النَّفْعيَّة: Utilitarianism) هي القاعدة الأصيلة لديهم، والمنحى البراغماتي أصل يرتكزون عليه، ليقع كامل الضرر على المجتمع عموماً والمواطن بعينه بشكل خاص، حيث إن العَواقب الفِكرِيَّة لطبقة الوكلاء تحركها الأنانية بغض النظر عن إيذاء الآخر وما يقع عليه من أضرارٍ سواء كان هذا الآخر متمثلا في مجتمع أو فرد أو وطن بما يحتويه. وما من ريب في أن هذا التوسع الخطير للنفعية في مجتمعات ما بعد الكولونيالية، أدى من ناحية إلى تشيوُ الذات ونزعها من بعدها الإنساني الأخلاقي ومن ناحية ثانية إلى إضعاف السمات العامة للهويّة الوطنية وخلخلة مفهومها في المجتمع، ليصبح مطلب النفعية مذهباً ومسلكاً سائداً وبذلك يساهم تمكين تلك القوى، وزيادة هيمنتها، وتوسيع رقعة السيطرة الإمبريالية.

مع حضور ذلك الاستحواذ في الخطاب ما بعد الكولونيالية بدا الصراع الداخلي للإنتلجنسيا العربية يأخذ مداه بين «المناهضين» لاستمرارية الهيمنة في مرحلة ما

ص: 169


1- بيل أشكروفت / جاريث جريفيث / هیلین ،تیفین دراسات ما بعد الكولونيالية - مصدر سابق - ص 119

بعد الكولونيالية و«طبقة الوكلاء» والاستحواذ (appropriation) مصطلح «يستخدم لوصف الطرق التي من خلالها تستحوذ مجتمعات ما بعد الكولونيالية على تلك المظاهر الخاصة بثقافة القوة الإمبريالية ولغتها وقوالب الكتابة لديها وأفلامها ومسرحها ، بل وحتى على نماذج التفكير وطرق إدارة النقاش علّها تخدمها في صوغ هويّاتها الاجتماعية والثقافية الخاصة. كما تستخدم هذه العملية أحياناً لوصف الإستراتيجية التي تسعى من خلالها القوة الإمبريالية إلى دمج المنطقة أو الثقافة التي تستكشفها وتغزوها بوصفها منطقة أو ثقافة مملوكة لها»(1)، وبهذا بات الصراع يحمل عبء الخبرة المتجددة التي استمدتها الإنتلجنسيا العربية من اختبارات «المناهضين» و«طبقة الوكلاء» وتحولت إلى نمط ثقافي سائد في المجتمعات العربية. وما بين استكشاف الطرق التي تتمكن من خلالها الثقافة المقهورة أو المستعمَرة من توظيف أدوات خطاب تلك القوة المسيطرة والمهيمنة من أجل استخدامها لمقاومة استمرارية سيطرتها سياسياً وثقافياً، فقد تحول استخدام تلك الأساليب والطرق ليكون مادة خصبة في الصراع الداخلي بين شرائح الإنتلجنسيا العربية. فقد بدت تلك الطرق ذات فعالية بيِّنة في نطاق اللغة ونطاق النصيّة. ففي هذين النطاقين الاستحواذ بين تشكّلات القوالب الخطابية من أجل التعبير عن خبرات ثقافية متباينة على نحو واسع، وإقحام هذه الخبرات في الأساليب السائدة للتمثيل حتى بلغت أوسع نطاق من التلقين. وباستحواذ الإنتلجنسيا العربية على السيف الذهبي أو الدرع الإمبراطوري متمثلاً في لغة القوة الإمبريالية ،«وأشكالها الخطابية، وأساليبها في التمثيل تصبح مجتمعات ما بعد الكولونيالية قادرة في مثل هذه الحال على الدخول بسهولة أكبر في الخطاب السائد أو إقحام مفردات واقعها الثقافي في اللغة السائدة لوصف ذلك الواقع لجمهور واسع من القراء»(2) من هنا سنلاحظ له أربعة أوجه لظاهرة الاستحواذ، فالمناهض لاستمرارية الهيمنة الإمبريالية يوجه خطابه حيناً ضد الهيمنة وحيناً آخر ضد طبقة الوكلاء، باعتبارها الشريحة التي تتولى تسويق الخانة الإمبريالية. وعلى

ص: 170


1- سبير 28 : 1993.
2- بيل أشكروفت / جاريث جريفيث / هيلين تيفين دراسات ما بعد الكولونيالية، ترجمة أحمد الروبي / أيمن حلمي / عاطف ،عثمان دار ابن خلدون ص 71.

النقيض من ذلك فإن طبقة الوكلاء توجه خطابها بالمنطق نفسه ضد الإنتلجنسيا العربية المناهضة، ساعية إلى نقض ثقافتها وترسيخ الهيمنة الإمبريالية بوصف كونها كومبرادور معرفي. وبهذا قد تم استخدام الاستحواذ في خطاب ما بعد الكولونيالية داخلياً وخارجياً، ومع استمرارية الهيمنة وإطفاق الصراع الداخلي للإنتلجنسيا العربية لعبت (الثنائية (binarism دورها الأخطر في التصعيد بين اتجاهات الإنتلجنسيا العربية، ما أدى إلى ضربٍ من عدم الاستقرار في المجتمعات المستعمَرة.

التشظي المعرفي للإنتلجنسيا العربية

لو عرجنا قليلاً نحو معرفة آفاق وأبعاد التناقض الحاصل بين الاتجاهات الرئيسية للإنتلجنسيا العربية، سوف نجد أنه يعكس أهم الدلائل على استمرارية الهيمنة الإمبريالية وتعميق سيطرتها وقوة تأثيرها في المجتمعات العربية ومجتمعات العالم الثالث في مرحلة ما بعد الكولونيالية «ويعدّ المنطق الثنائي للإمبريالية تطوراً في ذلك النزوع الذي يبديه الفكر الغربي بوجه عام نحو رؤية العالم في ضوء التقابلات الثنائية التي تؤسس علاقة هيمنة وتسيّد ويمثل التمييز البسيط بين الثنائيات - (المركز /الهامش المستعمِر/ المستعمَر الإمبراطورية/ عاصمة المستعمرة، متحضّر/ بدائي)- بفعاليّة كبيرة التسلسل الهرمي الجائر الذي تقوم عليه الإمبريالية وتخلّده. تتصل المتقابلات الثنائية بنيوياً بعضها ببعض، وفي الخطاب الكولونيالي قد يكون هناك شكل مختلف للثنائية الجذريّة الواحدة - مستعمِر/ مستعمَر - حيث يعاد التعبير عنها في أي نصّ معين بعدد من الطرق مثل : المستعمِر: المستعمَر أبيض: أسود متحضّر : بدائي .. إلخ» (1)وبناء على هذا المنطق الثنائي يبدو هذا المفهوم مع إمكانية قراءة هذا البنيان من اليمين إلى اليسار أو من أعلى إلى أسفل ليمهد الفكرة نفسها للمتلقي ويؤكد عليها، وهكذا تصبح كلمات (مثل (المستعمِر، والأبيض، والإنساني، والجميل)، جملة ضد (المستعمَر، والأسود والوحشي، والقبيح). لذا فإن صناعة

ص: 171


1- المرجع نفسه، ص 76، 77.

العنصرية، وخلق التمايز بين الفرد والآخر هي في جوهرها صناعة إمبريالية محضة، فكانت رمز التطرف في عين الآخر، ليحتلّ المفهوم الثنائي أهمية كبرى في تشكيل المعاني الأيدولوجية بصفة عامة، ويعدّ مفيداً للغاية في بنية الإيديولوجيا الإمبريالية.

ولعل ظهور موجة نهاية المفاهيم مثل:«نهاية التاريخ ، ونهاية الأيديولوجيا ثم ظهور نظريات «الما بعديات». قد وضح هذا العمق الذي تَوجّب فيه وجود هذا التسلسل الهرمي الجائر (violent) التي اكتظت به تلك الثنائيات، حيث يلزم أن يكون أحد مصطلحي التعارض مهيمناً على الدوام مثاله (هيمنة الأغنياء على الفقراء، والسلطة على الرعية والمستعمر على المستعمَر ، والأبيض على الأسود...إلخ)، في حين أن وضع المقابلات ويظهر ويبيِّن مدى الهيمنة والتسيّد الملحوظ. ذلك يعني أي نشاط أو حالة لا تنطبق عليها مقاييس المقابلة الثنائية سوف تكون خاضعة للقمع أو اعتبارها فئة شائنة، وبهذا التشكل لتلك الفئة التي ساعد على تكونها هذا المفهوم أخضع الفئة نفسها لتصبح ضمن نطاق «التابو»، أو جعلها طقس انتقال *((1)) أي أن هذه الفئة تصير أشبه بالوضعية التي تتوسط الطفولة والرشد - أي مرحلة الشباب - بوصفها فئة شائنة، لذلك لطالما تخضع الفئة المشار إليها لقدر كبير من الريبة والقلق، تقع بين دفتي ثنائية (المستعمِر / المستعمَر)، على سبيل التمثيل، سوف تعاني دلالات الازدواج الوجداني الحاد والذي يتجلى إما في التقليد أو في المناهضة بشدة أو بالهوس للحفاظ على الهويّة، أو الانفصام الثقافي أو للميل لجانب دون آخر في تلك الثنائية، مما يفضى إلى نشوء تطرف ولدته الإمبريالية في إطار صناعتها للعنصرية لتكون رمزاً إضافياً في بنيتها الإيديولوجية، وبالتالي التأكيد على أن أحد أهم قواعد استمرارية الإمبريالية وقوتها يكمن في خلق تلك الفرقة والتنازع الدائم بين الشعوب، ونموذج التاريخ العربي واضح وضوح شمس الظهيرة في هذا المضمار.

ص: 172


1- riter of passage: مصطلح يشير إلى حدث ،احتفالي، مرصود في كل المجتمعات المعروفة تاريخيا، يمير من حالة اجتماعية أو مكانة دينية إلى غيرها. كان أول من سكّ المصطلح « أرنولود فان جينيب» ( 1873 – 1957 ) في مؤلفه الأشهر ( طقوس الانتقال 1909) rite of passage (Encyclopedia Britannica from Encyclopedia .(Britanica 2007 Ultimate Reference suite: (2010

ومن خلال هذا المفهوم تتبدى لنا ثنائية المحاور داخل حقل نشاط الانتلجنسيا العربية. وقد جرى ذلك على الإجمال بين «المناهضين» وطبقة الوكلاء. ولقد أدت هذه الثنائية إلى نتائج متناقضة. فمن ناحية سلّطت الضوء على الفضاءات البينية التي تخلخل نظرية ما بعد الكولونيالية ، ومن ناحية أخرى أزالت الغموض عن طبيعة العلاقات البنيوية للنظام الثنائي ذاته، ثم كشفت ثالثاً عن التناقضات الجذرية للنظام الإمبريالي. والمعروف أن هذا الأخير يتضمّن على سبيل المثال، ثنائيات شديدة الوطأة مثل: (متحضر إنساني حامل مشعل الاستنارة : (enlightener في مقابل نعت المناهضين من النخبة العربية المثقفة بنعوت مذمومة مثل: (بدائي، وحشي متلقي الاستنارة enlightened). وبهذه الطريقة تميط نظرية ما بعد الكولونيالية اللثام عن التناقض العميق في بنية العلاقات الاقتصادية والثقافية والسياسية التي يمكن أن تحط من قدر شخص أو تضفي عليه مثالية، أو تسمه بالشيطانية أو تخلع عليه صفات سلبية لا حصر لها. في حين توظف كل إمكاناتها لتحسين صورة التابعين لها من الوكلاء المحليين.

وحيث إن هذا النوع من الإنتلجنسيا العربية بعدما عانت طويلاً من التهميش، وأصبحت المركز بدلاً من الكولونيالية في مرحلة الكولونيالية الجديدة وما بعد الكولونيالية، باتت هي الفئة الأخطر على المجتمع، حيث لها الكلمة المسموعة والتغلغل العميق بين جميع الأوساط والفئات المجتمعية. ففي حال تمكنت تلك الهيمنة الإمبريالية وسيطرتها على جزء منها ، صارت هي المحرك الرئيسي بطريق غير مباشر للمجتمع أو على الأقل لها ذراع في التأثير والتوجيه، ولعل ذلك ما جعل نديم البيطار يسأل السؤال المشاع في الأوساط الثقافية.

يظل السؤال المركزي الذي لا نجد إجابة عنه هو التالي: ما هي الإمكانية الحقيقية لبروز دور تغييري مركزي للمثقفين العرب في ظل الأوضاع القائمة؟. وهل يستحقون حقا كل هذا النقد الشرس الموجه لهم، وتحميلهم المسؤولية الكبرى في حصول التخلف والتجزئة والتبعية للخارج؟

ص: 173

ما من شك أنه من الصعب أن يحدث ذلك التغيير ما دام الدور المركزي للإنتلجنسيا العربية غائباً أو مغيباً، بسبب من استمرار الصراع الأهلي من جهة أو في مواجهة السلطة . ولعل بسط الهيمنة الإمبريالية وظهور النفعية والبراغماتية والاستبداد السلطوي، يشكل حائطاً منيعاً أمام المناهضين من الإنتلجنسيا العربية من اتخاذ خطوات تقدمية تحررية من تلك الهيمنة والتقليد المسيطر على العالم العربي، بل ربما يبقي تلك الهيمنة ذات مكانة مركزية مع التهميش المتعمد للمناهضين لها من الإنتلجنسيا العربية.

وكما جاء في مستهل هذا البحث، فإذا كانت الإمبراطورية المهيمنة على هذا القدر من الاقتدار فذلك لا يعني بالمرة أن الفكر ما بعد الإمبريالي هو قدر يستحيل رده، فالإنتلجنسيا العربية المناهضة، وبعد أن امتلكت أدوات الخطاب، تستطيع أن تصوغ استراتيجية ثقافية فاعلة وتؤسس حراكاً ثقافياً ضد التجزئة والتخلف، حينئذ ستكون لعبت دورها بحنكة ومهارة يفوق ذكاء ذلك الشبح الخفي الذي يقود الزمن ما بعد الكولونيالي في المنطقة العربية والإسلامية لذا تستطيع تلك الإنتلجنسيا العربية أن تقود فكرها لتعممه؛ لأن من المؤكد أن خواء العقل هو الأشد سوءاً من أي خواء مشهود في الحياة الإنسانية.

في الراهن، ثمة استعمار من نوع مركب ؛ خفيٌ حيناً وظاهرٌ حيناً آخر، وهو يتوغل عميقاً في كل مجتمعاتنا، ليزاحم هويّات أصيلة. راسخة في عمق تاريخ المنطقة.

ص: 174

ما بعد الكولونيالية وما بعد الحداثة

تجربة الجزائر نموذجا

أحمد عبد الحليم عطية(1)

حين كتب سارتر كتابه «عارنا في الجزائر» كان يكشف عن صورةٍ من صور وأشكال العنف والتعذيب وإهدار المستعمر الفرنسي كرامة الإنسان الجزائري؛ مما يتنافى وصورة فرنسا الحرة (2)ويبدو لنا أن الثورة الجزائرية كان لها دوراً في التحول في فلسفة سارتر من المرحلة الفردية العدمية التي يمثلها «الوجود والعدم» والتي تظهر فيها النظرة الاستبعادية العدائية للآخر إلى مرحلة جديدة تقربه من الماركسية، يهتم فيها كثيراً بالآخر عنينا بها مرحلة «نقد العقل الجدلي». وأما كتاباته التي تدين ممارسات الاستعمار الفرنسي في الجزائر فإنها تعد مثالاً من أمثلةٍ عديدة عن دور المثقفين والفلاسفة الفرنسيين من الثورة الجزائرية.

لم يقتصر دور حركة التحرير على كتابات التنديد بالاستعمار والدفاع عن حق

ص: 175


1- دكتور وباحث في كلية الآداب بالقاهرة - مصر .
2- انظر العمراني سارتر والثورة الجزائرية مكتبة مدبولي القاهرة، د.ت ودراستنا سارتر والمقاومة الجزائرية، ضمن کتاب سارتر والثقافة العربية، دار الفارابي، بيروت 2011

وهوية الشعب الجزائري وكرامته، بل مثَّلت دوراً هاماً في وجدان وفكر كثير من المفكرين والفلاسفة الذين ارتبطوا بوطنهم وهو الأمر الذي نجده على نحوين: تشكيل الوجدان وبلورة الرؤية الفلسفية . فإلى أي مدى أسهمت ثورة الجزائر وحياة وعمل الكتاب والفلاسفة الفرنسيين بها في تشكيل رؤاهم الفلسفية؟

يؤكد الجزائري محمد حصحاص في دراسته «نظرية ما بعد الاستعمارية ومخلفاتها الفكرية في عصر ما بعد الحداثة وما بعد العلمانية» أن الفلاسفة والمنظرون الجدد يرون أن نظرية ما بعد الاستعمارية هي التي أسست لفكرة ما بعد الحداثة، لأنها هي التي تتجرأ الآن وتطرح الأسئلة الفلسفية الكبرى وتحاول تفكيك الأيديولوجيات الطاغية، لذلك فهي من نظرت وما تزال لمجتمع ما بعد حداثي، مجتمع وعالم ربما مختلف عن المجتمع الحداثي الحالي الذي نظر له وبناه الغرب.

يؤكد لنا بارت مور جيلبرت في كتابه ما بعد الاستعمار: السياقات الممارسات السياسات على العلاقة بين نظرية ما بعد الاستعمارية وما بعد الحداثة: يقول «يعرّف كتابي هذا نظرية ما بعد الاستعمارية باعتبارها عملاً شكّله في المقام الأول -أو لنقل إلى درجة كبيرة- انتماءاتٌ منهجيةٌ تنتسب إلى النظرية الفرنسية العليا، لا سيّما كل من جاك دريدا( Jacques Derrida) وجاك لاكان (Jacques Lacan) وميشيل فوكو (Foucault) ويعني هذا «تسلل» النظرية الفرنسية العليا إلى تحليل ما بعد الاستعمارية الذي ربما ولّد أكثر المناقشات الراهنة سخونةً، وإثارة للتطرّف، سواء بالقبول أو الرفض».

معنى ذلك أن الخطاب ما بعد الاستعمارية يعتمد بشكل رئيسي على وحدة المعرفة وعلاقات القوة وترابط الاثنين بشكل وثيق. فقد كان ميشال فوكو من أوائل المفكرين الذين وضعوا بشكل متكامل ومترابط أسس هذه النظرية المعرفية، رغم أن بذورها كانت موجودة في طروحات مفكرين سابقين فهي تنفي ثنائية المعرفة والسلطة وتربطهما معاً في مفهوم واحد. إذا يعتبر مفكرو الخطاب ما بعد الاستعماري، أن تشكيل المنظومة المعرفية الغربية حول المستَعمَر أساسه علاقات القوة داخل

ص: 176

مجتمع الدول الاستعمارية ومن هذا المنطلق يقوم هذا الخطاب على فكرة أن القوى الاستعمارية قامت بتعريف وتحديد ماهية الدول المستعمرة أي «الآخر» وفقاً المنظومتها المعرفية وخدمة لأهدافها الاستعمارية. لذلك عرف المستعمر «الآخر» على أنه غير حداثي، غير ديموقراطي، بربري، وإلى ما هنالك صفات مناقضة من لقيمه المجتمعية بغية تبرير الاستعمار، باعتباره عملاً تنويرياً تجاه السكان الأصليين، في حين أنه يهدف من صميمه إلى تبرير جرائمه واستغلال موارد وثروات الدول المستعمرة.

كما يعتمد خطاب ما بعد الاستعمارية على التفكيكية في قراءة النصوص التي تشكل الركن الأساس في تعريف «الآخر» بغية التمهيد لإخضاعه للسيطرة. وفي هذا الإطار يبرز عمل سعيد الاستشراقي في أنه يقوم بدراسة جيولوجية للمؤلفات الغربية حول الشرق منذ القرن الثامن عشر والتي أدت بحسب سعيد إلى وضع الإطار النظري للاستعمار.

تعد نظرية ما بعد الاستعمارية، كما كتب جميل حمداوي، من أهم النظريات النقدية التي رافقت مرحلة ما بعد الحداثة، ولا سيما أن هذه النظرية ظهرت بعد سيطرة البنيوية على الحقل الثقافي الغربي، وبعد أن هيمنت الميثولوجيا البيضاء على الفكر العالمي، وأصبح الغرب مصدر العلم والمعرفة والإبداع، وموطن النظريات والمناهج العلمية. ومن ثم هو المركز. وفي المقابل، تشكل الدول المستعمرة المحيط التابع على حد تعبير الاقتصادي المصري سمير أمين . ويعني هذا أن نظرية ما بعد الاستعمارية تعمل على فضح الإيديولوجيات الغربية، وتقويض مقولاتها المركزية على غرار منهجية التقويض التي تسلح بها الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا (J.Derrida)، لتعرية الثقافة المركزية الغربية، ونسف أسسها المتافيزيقية والبنيوية. وإن أكثر: «اهتمام ذي صلة في فكر ما بعد الاستعمار هو تهميش الثقافة الغربية وقيمها للثقافات المختلفة الأخرى. وقد ظهرت هذه النظرية حديثا مرافقة لنظرية ما بعد الحداثة، وبالضبط في سنوات الستين والسبعين إلى غاية سنوات التسعين من القرن العشرين».

ص: 177

وقد طرحت نظرية ما بعد الاستعمارية مجموعة من الإشكاليات الجوهرية التي تتعرض لعلاقة الأنا بالآخر، أو علاقة الشرق بالغرب، أو علاقة الهامش بالمركز، أو علاقة المستعمر بالشعوب المستعمرة الضعيفة، يذكر منها جميل حمداوي:«كيف أثرت تجربة الاستعمار على هؤلاء الذين استُعمِروا من ناحية، وأولئك الذين قاموا بالاستعمار من ناحية أخرى؟ كيف تمكنت القوى الاستعمارية من التحكم في هذه المساحة الواسعة من العالم غير الغربي ؟ ما الآثار التي تركها التعليم الاستعماري والعلم والتكنولوجيا الاستعمارية في مجتمعات ما بعد الاستعمار ؟ وكيف أثرت النزعة الاستعمارية؟ كيف أثر التعليم الاستعماري واللغة المستعمرة على ثقافة المستعمرات وهويتها؟ كيف أدى العلم الغربي والتكنولوجيا والطب الغربي إلى الهيمنة على أنظمة المعرفة التي كانت قائمة ؟ وما أشكال الهوية ما بعد الاستعمارية التي ظهرت بعد رحيل المستعمر ؟ إلى أي مدى كان التشكل بعيدًا عن التأثير الاستعماري ممكنًا ؟ هل تركز الصياغات الغربية لما بعد الاستعمارية على فكرة التهجين أكثر مما تركز على الوقائع الفعلية؟

الإشكالية أن هذا المصطلح يشير للوهلة الأولى إلى المرحلة التي تلي الفترة الاستعمارية، إلا أن هذا التوجه الفكري هو أكثر ما يحدر منه الكثير من النقاد، خشية الوقوع في فخ ال-«ما بعد» التي توحي بالكرونولوجية، والتعاقبية، والمرحلية ممّا يوحي بتطابق مصطلح «ما بعد الاستعمارية» ب- «ما بعد الاستقلال»، ومردّ هذه الخشية هو امتداد آثار الاستعمار - السياسية والثقافية على وجه خاص - لمرحلة ما بعد الاستقلال ممّا يجعل السؤال المطروح هو «متى تبدأ ما بعد الاستعمار فعلا؟ وترى مديحة عتيق أن هذه المخاوف تدلّ على غموض مصطلح «ما بعد الكولونيالية»، مما أدّى إلى وضع عشرات التعريفات له، وقد حصر دوغلاس روبنسون ثلاث تعريفات، تذكرها لنا :

التعريف الأوّل: يحدد النظرية ما بعد الكولونيالية في أنها - دراسة مستعمرات أوروبا السابقة منذ استقلالها؛ أي كيف استجابت لإرث الكولونيالية الثقافي، أو

ص: 178

تكيّفت معه، أو قاومته، أو تغلّبت عليه خلال الاستقلال. وتشير الصفة «ما بعد الكولونيالية» إلى ثقافات ما بعد نهاية الكولونيالية. والفترة التاريخية التي تغطيها هي تقريباً النصف الثاني من القرن العشرين. وفي التعريف الثاني: هي دراسة مستعمرات أوروبا السابقة منذ استعمارها؛ أي الكيفية التي استجابت بها لإرث الكولونيالية الثقافي، أو تكيّفت معه، أو قاومته، أو تغلبت عليه منذ بداية الكولونيالية. وهنا تشير صفة «ما بعد الكولونيالية» إلى ثقافات ما بعد بداية الكولونيالية والفترة التاريخية التي تغطيها تقريباً الفترة الحديثة، بدءاً من القرن السادس عشر. وهي في التعريف الثالث : دراسة جميع الثقافات المجتمعات البلدان والأمم من حيث علاقات القوة التي تربطها بسواها؛ أي الكيفية التي أخضعت بها الثقافاتُ الفاتحة الثقافاتِ المفتوحةَ لمشيئتها؛ والكيفية التي استجابت بها الثقافات المفتوحة لذلك القَسْر ، أو تكيّفت معه، أو قاومته، أو تغلّبت عليه. وهنا تشير صفة «ما بعد الكولونيالية» إلى نظرتنا في أواخر القرن العشرين إلى علاقات القوة السياسية والثقافية. أما الفترة التاريخية التي تغطيها فهي التاريخ كلّه».

وترى عتيق أن التعريف الأوّل يتطابق مع مفهوم «ما بعد الاستقلال» حيث يركّز الدارسون على التداعيات السياسية والثقافية واللغوية والدينية والأدبية على المجتمعات المستعمَرة سابقاً، المستقلّة حديثاً، ويحتفي النقاد بهذا التعريف لأنّ مجاله محدّد زمنيّاً وإشكاليّاته المعرفية واضحة إلى حدّ كبير. وترى أننا إذا أخذنا الجزائر مثلا على مستعمرات أوروبا السابقة فإنّ مجال النظرية «ما بعد الكولونيالية» يبدأ زمنياً منذ نيل الاستقلال عام 1962م، ويتمحور حول الإشكالات السابقة وإن كان أبرزها قضية الفرانكفونية في مجتمع جزائر ما بعد الاستقلال.

وبخصوص التعريف الثاني فهو يشمل عندها المرحلة الكولونيالية وما تلاها، ويركز على المستعمِر قدر تركيزه على المستعمَر، إذ يلقي الضوء على مناطق عتمة من تاريخ أوروبا الاستعماري، ويطرح أسئلة محرجة عن دوافع توسعاتها وآفاق طموحاتها الكولونيالية. وترى عتيق أننا إذا عدنا إلى مثال الجزائر سنجد أن مجال الدراسة ما بعد الكولونيالية يبدأ منذ 1830م كي يحلّل العلاقات الكولونيالية بين

ص: 179

الجزائر وفرنسا فيقف على سيرورة العملية الكولونيالية وردود فعل المستعمَر نحوها.

أمّا التعريف الثالث فهو الأكثر شمولاً والأوسع طموحاً إذ يشمل العلاقات الكولونيالية في كلّ أنحاء المعمورة وعلى امتداد التاريخ بأكمله، وفي هذا المستوى» تبدو النظرية «ما بعد الكولونيالية» على أنّها طريقة في النظر إلى القوة بين الثقافية، والتحولات النفسية الاجتماعية التي تُحْدِثُها ديناميات الهيمنة والإخضاع المتوائمة، والانزياح الجغرافي واللغويّ. وهي لا تحاول أن تفسّر كلّ الأشياء في هذه الدنيا، بل تقتصر على هذه الظاهرة الواحدة ،المهمَلة، السيطرة على ثقافة معينة من قبل ثقافة أخرى».

نحن نسعى في هذه الدراسة إلى بحث العلاقة بين الجزائر وفكر ما بعد الحداثة إطار مساهمة دراسات الاستعمار وما بعد الاستعمار في تشكيل فكر ما بعد الحداثة في فرنسا. وقد شغل عدد من الباحثين الأوروبيين والعرب بهذه القضية، منهم الإنجليزي روبرت يونغ الذي يجزم بأن نظرية ما بعد البنيوية، وهي تيار داخل فكر ما بعد الحداثة ليست نتاجاً لتحولات المجتمع الفرنسي أو المجتمعات الغربية على نحو مغلق إنما هي عرض ونتيجة للثورة التحريرية الجزائرية والباحث الجزائري أزواج عمر، الذي يرى أن فكر ما بعد الحداثة جزئياً هو فكر الإحساس الأوروبي بالذنب على المستوى الأخلاقي ونقده لذاته ومراجعته التفكيكية لمشروع التنوير والحداثة، الذي زعم أنه نموذج كلي كوني مطلق، وهو المشروع الذي لم ينجح في قهر ثنائيات البنيوية المتضادة مثل: ثنائية التحديث والديمقراطية في الفضاء القومي الفرنسي والاستعمار وتهميش الهوية وفرض الحل العسكري على الفضاء الروحي والثقافي والاجتماعي في جغرافيات المستعمر ومنها جغرافية الجزائر»(1).

بدأ «المزاج» ما بعد الحداثي يتشكل في عقد الستينيات عندما تصادف وقوع تغيرات في المجتمعات الغربية مع تغيرات في التعبير الفني والأدبي. تمثلت التغيرات

ص: 180


1- أزواج عمر: مقاربة أولية لمساهمة علاقات الاستعمار وما بعد الاستعمار في تشكيل فكر (مابعد الحداثة) في فرنسا. مجلة قضايا فكرية الكتاب التاسع عشر والعشرون أكتوبر، القاهرة 1999 ، ص 471.

الأولى في ظهور ما بعد التصنيع والهيمنة المتزايدة للتكنولوجيا والنزعة الاستهلاكية المتسعة وإعلانات الموضة وانتشار الديمقراطية وزيادة عدد المتعلمين وظهور أصوات الثقافات التابعة وانتشار تكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصال وصناعة «المعرفة»، فضلاً عن التراجع عن كل من الاستعمار والمثالية في السياسة وظهور سياسات جديدة تتعلق بالهوية وتقوم على العرق والنوع والتكوين الجنسی(1).

وعلى هذا يمكننا أن نتبين ثلاثة اتجاهات في تحديد مرجعية فكر ما بعد الحداثة:

- يرى الاتجاه الأول أن ما بعد الحداثة محصلة تاريخية أوربية غربية مموضعاً إياها في الجغرافيات الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية الفرنسية - الغربية، كما يوضح ذلك تيرى ايجلتون وكريستوفر نوريس وهارولد بلوم وهابرماس على ما بينهم من تمايزات.

- ويرى الثاني أن الثورة التحريرية ضد الاستعمار الكلاسيكي وضد الاستعمار الجديد لعبت دوراً تكوينياً في بلورة فكر ما بعد الحداثة ومن أقطاب هذا التيار فردريك جيمسون وجورج فندن ابيل وتوماس بايفل وإن كان أيا من هؤلاء لم يدرس عناصر وآليات هذا الدور التكويني وصورة تجلياته في إنتاج فلاسفة ومفكري ما بعد الحداثة.

- والتيار الثالث هو من أشرنا إليه لدى روبرت يونغ وأزواج عمر الذي يربط، بعد البنيوية وما بعد الكولوينالية، وهو الذي نتابعه في هذه الدراسة.

تلك إشكالية حقيقية شغلت المفكرين والكتاب حتى قبل ذيوع أفكار ما بعد الحداثة والتفكيك ،والاختلاف إن أثر الجزائر في تشكيل الفكر الفرنسي ما بعد الحداثي هام وملحوظ ونحن لا ننكر أن التحولات التاريخية والفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية الفرنسية/ الغربية في القرن العشرين قد لعبت أدواراً مهمة

ص: 181


1- فردوس عظيم الكولونيالية وما بعدها والوطن والعرق ترجمة شعبان مكاوى في القرن العشرون: المداخل التاريخية والفلسفية والنفسية تحرير ك نلووف ك نوريس، ج. أوزبورن أشرف على الترجمة رضوى عاشور، المجلس الأعلى للثقافة القاهرة 2005، ص 418

ساهمت في نقل الفكر الفلسفي الفرنسي من فضاء السرديات الكبرى المميزة للحداثة إلى فضاء أخر يتميز بتأسيس وتطوير مابعد الحداثة بكل تفرعاته في حقول: التحليل النفسي ونظرية الأدب والدراسات الثقافية وخطابات الحركة النسائية الراديكالية، إلا أن هذا البعد الغربي، ليس في الواقع إلا مكوناً جزئياً رغم أهميته التاريخية والمعرفية، وهو لا يمكن أن يكون بمفرده صالحاً كمرجعية وحيدة لأصول فكر ما بعد الحداثة، ومن هنا ضرورة إبراز مساهمات المرجعيات الأخرى التي لا تمت إلى الغرب بما في ذلك فرنسا بصلة عضوية في تشكيل مفاهيم ومصطلحات ونظريات تيار ما بعد الحداثة، خاصة في فرنسا(1).

لقد كشفت مرحلة الاستعمار الازدواجية الأوروبية المضادة للنزعة الإنسانوية الغربية وعن التمركز الغربي المغلق على الذات وفشل الأيديولوجيات الاستعمارية مما يعني سقوط أوهام النظريات التي تدعي أنها صالحة لكل زمان ومكان وهي نظریات مشروع الحداثة في أوروبا بما في ذلك العلمانية الغربية.

یُرجع أزواج عمر هذا الفشل إلى أن حركات التحرر الوطنية قد ألقت بمشروع العلمانية الغربي في الأزمة، حيث إن معظم هذه الحركات انطلقت من خصوصيتها الثقافية والتاريخية والجغرافية والدينية ولم تهمش العامل الديني من برنامجها الكفاحي للاستقلال بل تشبثت بالدين كمقوم من مقومات ثقافتها الوطنية وكعنصر من عناصر هويتها التاريخية وعلى أساس هذا تم نزع صفة الكونية عن مشروع العلمانية الغربية يقول : «إن الحركات الوطنية التحررية بنضالها العسكري بمقاومتها الثقافية وبتشبثها بنمط إنتاجها الزراعي قد لعبت أدواراً مهمة في ضرب خطابات الحداثة الغربية المرتبطة بالاستعمار والمنظرة له وهي الخطابات التي تدعي المركزية والشمولية في آن واحد مما فتح نوافذ لتفكير جديد يأخذ عوامل الوطنية والذاتية والنسبية والهامشية بجدية»(2).

ص: 182


1- أزواج عمر، المرجع السابق، ص469.
2- أزواج عمر، المرجع السابق، ص 470.

القول بأن نظريات ميشيل فوكو هي نتاج المرجعية الثقافية والسياسية والاجتماعية الفرنسية وحدها غير صحيح بالمرة، لأن ثمة عوامل أخرى مهمة مثل التجربة السياسية الفكرية التي عاشها فوكو عندما كان مدرِّساً للفلسفة في الجامعة التونسية وأثناء احتكاكه بالثورة التحريرية الجزائرية وبمعاناة المغتربين الأجانب في فرنسا في تونس اكتشف ميشيل فوكو معاني النضال اليومي للطلبة التونسيين وقد عايش أحداث 5 يونيو 1967 ثم تفاعل فيما بعد مع تطور الأحداث الطلابية. ومما لا شك فيه وبحسب شهادات بعض الزملاء من طلبة فوكو وقد كانوا من القياديين آنذاك إن دار فوكو في ضاحية سيدى بوسعيد قد أصبحت مقراً لاجتماعاتهم المختلفة يقومون فيها بتحضير المناشير وكتابتها». ذلك ما كتبه فتحي التريكي عن «اللحظة التونسية في فلسفة ميشيل فوكو». تلك التي تغافلها عديد من الأوروبيين ممن كتبوا عن حياته(1).

وكان التريكي من هؤلاء الذين استمعوا إلى فوكو في الجامعة التونسية وممن شاركوا في نضالات هذه الفترة. وهو يؤكد على أن فوكو عندما نقد السلطة فقد حاول أن يعود إلى مسألة الذات بالبحث، فالمهم بالنسبة إليه هو دراسة أنماط التذويت (Les mades de subjectivation للكائن البشري في الثقافة الغربية من خلال تحول الفرد إلى شخص له حقوقه في مجتمع معين بحيث يصح القول إن فلسفة فوكو هي قبل كل شيء فلسفة الذات المرتبطة بمجموعة الآليات السلطوية المختلفة داخل الحضارة الغربية.

وتعد عنده فلسفة لا تظل حبيسة المجال العلمي للأركيولوجيا، بل تتجاوز ذلك لتصبح فلسفة المقاومة، لأن المقاومة هي التي تكون - حسب فوكو - حافزاً يسمح بتوضيح العلاقات السلطوية. فالمهم لا يكمن في دراسة عقلانية السلطة وجوهرها وماهيتها، بل المهم هو تحليل علاقات السلطة خلال الاستراتيجيات وأشكال المقاومة لتفكيك هذه الاستراتيجيات وفضحها، فهي نضال يؤكد الحق في الاختلاف لكل فرد في كل مجتمع، وهي نضال ضد السلطة المرتبطة بالمعرفة والتي تجعل

ص: 183


1- فتحي التريكي: اللحظة التونسية في فلسفة ميشيل فوكو، في أحمد عبد الحليم عطية محرر] العيش سويا ضمن قراءات في فكر فتحي التريكي، القاهرة 2008 ، ص 220

من الحقيقة خلوداً وثباتاً لا يمكن زعزعتها، وهي أخيراً نضال ضد انحباس الأنا في المجرد وبكلمة أخيرة هي نضال ضد تقنية السلطة اليومية المصنفة والمعقلنة لهويتهم من خلال المراقبة والعقاب والتبعية ،والحشر فهي نضال لكل أشكال الهيمنة والاستغلال والخنوع.

وقد اخترنا نموذجاً لتوضيح ما نحن بصدده عن ما بعد الحداثة والجزائر هو جان فرانسو ليوتار الذي بدأ علاقته بالجزائر كمناضل ضد ظاهرة الكولونيالية الفرنسية، حيث عمل مدرساً للفلسفة بالجزائر إبان فترة الاستعمار، ونقل هذا النضال إلى فرنسا من خلال جماعة من المفكرين والمثقفين الفرنسيين الذين انشقوا عن الحزب الشيوعي الفرنسي، مما يجعل لموقفه تمييزاً جديراً بالتحليل والبحث.

2 - ما بعد الحداثة وما بعد الكولونيالية:

قبل أن نعرض موقفه نشير للعلاقة المتداخلة بین «ما بعد الحداثة» و«ما بعد الكونيالية». لن نتوقف كثيراً عن ما يطلق عليه البعض «هوس المابعديات» ولا الحديث عن ما بعد البعد، لكننا نشير إلى أن هذه الظاهرة (الما بعد) كما تقول فريال غزول في دراستها «ما بعد الكولونيالية وما وراء المسميات» تعبر عن مأزق تحديد الاتجاهات الجديدة التي تكتفي بترويج هذه التسميات الفضفاضة غير المحددة، وهي تدل على قلق من الركود النظري فتضعه بمصطلحات مغايرة لتعطي الإحساس بالمختلف. وهي ترى تعبير «ما بعد» يشير إلى موقفين يبدوان متناقضين إلا أنهما متلاحمان وأن هناك اشتباه بلغه أهل الفقه في تلك المسميات ومنها ما بعد الكولونيالية، لأنها تتأرجح بين النفي والإثبات أنها تنطلق من حقيقة الكولونيالية وأثرها على العالم المستعمر (بفتح العين) لكنها تتجاوز مقاومة الاستعمار لتتعامل بشكل مناقض مع كل أشكال الهيمنة(1).

تعرض غزول المصطلح وتتوقف عند ترجمة كل من ميجان الرويلي وسعد

ص: 184


1- فتحى التريكي وعبد الوهاب المسيري : الحداثة وما بعد الحداثة، دار ،فكر، دمشق، ص 2003، ص 304-309. (2) - فريال جبوري غزول : ما بعد الكولونيالية وما وراء المسميات قضايا فكرية العدد 19-20 ، القاهرة 1999، ص384.

البازعي للمصطلح بما بعد الاستعمارية في كتابهما «دليل الناقد الأدبي» كما تعرض لأهم المفكرين المهمومين لإرساء دعائم هذا المجال مثل: فرانز فانون وأدوار سعيد وروبرت يونغ، وإن كان أياً منهم لم يستخدم المصطلح، كذلك أهم ممثلي هذا التيار. ونستطرد حتى نشير إلى الدور الهام الذي قام به كل من ادوار سعيد وفرانز فانون. حيث يمكن القول أن مصطلح ما بعد الكولونيالية جاء مع صدور كتاب ادوار سعيد الاستشراق 1978 وفيه يبين أنه ليس ثمة شكل أو نشاط عقلي أو ثقافي بريئ من الصلة الوثيقة بتراتب السلطة ؛ الأمر الذي يكشف عن التواطؤ بين أشكال التمثيل الأدبي والسلطة الكولونيالية، ويوضح أن كل فرع من فروع العلوم الطبيعية أو الإنسانية ليس ذا صلة وثيقة بالهيمنة السياسية لأوروبا من خلال الغزو الاستعماري والسيطرة فحسب بل هو جزء لا يتجزأ منها(1).

وقد تناول فانون في كتابه «معذبو الأرض» 1961م عدة مفاهيم عن الثقافة الوطنية محاولاً بذلك أن يعيد تركيز الاهتمام بخصوصيات الأمة، الوطن وتاريخ النضال المناهض للاستعمار.

تتوقف فريال غزول عند رأى الرويلي والبازعي القائل: إن تخريب الاستعمار وتشويهه للثقافات التي يهيمن عليها دفع مثقفي الدول المستعمرة إلى إحياء ثقافتهم وتمجيدها كرد فعل وكنهج مقاومة، وتتعدد أشكال هذه التوجهات التي تسعى إلى نهضة ثقافية ورد اعتبار لحضارات غير أوروبية لكنها تشترك في محاولة تعرية الخطاب الاستعماري وحمولته الثقافية والمعرفية»(2).

مقابل تشكك البعض في ملاءمة «المابعدية» للخطاب الاستعماري الذي مازال مهيمناً تطرح الغزولي تفسيراً لمفهوم «المابعدية»، فالمعترضين عليه يفسرون «مابعد» بمعنى «بدون» أو «متخلص من الاستعمار»، وبالتالي يصبح المصطلح مرفوضاً؛ لأن الاستعمار مازال حاضراً ومتغلغلاً على مستوى الثقافة والسياسة والاقتصاد. وترى بأنّ

ص: 185


1- فردوس عظيم ص 339.
2- غزول، ص 385 .

المقصود ب_«ما بعد الكونيالية» «منذ الكولونيالية» كل ما ترتب على الغزو الاستعماري وهذا يشمل تحليل سعي الاستعمار للهيمنة وسعي المستعمرين للمقاومة، كما يتضمن تحليل الكولونيالية الجديدة وظاهرة تصفية الاستعمار وانتقال مؤسسات الكولونيالية السياسية والإدارية إلى مؤسسات الإمبريالية في مرحلة الرأسمالية المتأخرة(1).

تحضر أفريقيا حضوراً قوياً في الدراسات التي تتعلق «بما بعد الكولونيالية» وذلك في مواضع متعددة نشير إلى بعضها كما جاءت في دراسة غزول :

الأولى في بحث اباراجيتا ساغار «دراسات ما بعد الكولونيالية» في قاموس النظرية الثقافية والنقدية 1996م والتي تتعلق باللغة تقول : «مسألة اللغة وثنائية المستعمرين اللغوية، جعلت أديب مثل الكيني نغوعي واثيونغو الذي أبدع في كتابة روايات عديدة باللغة الإنجليزية يقرر هجرها للتعبير الإبداعي بلغته الأفريقية. مع أنه يدرك أن الكتابة الإبداعية الأفريقية باللغة الإنجليزية قد حولت اللغة الإنجليزية وأفرقتها - إن صح التعبير - إلا أنّه يرى ضرورة أن يستمر الأديب مبدعاً في لغته المحلية حتى لا تضر أو تنقرض»(2).

والموضع الثاني في عرضها للكتاب الذي حرره جون تيم «منتجات ارنولد ما بعد الكولونيالية بالإنجليزية 1996م الذي قسّم عمله إقليمياً بادئاً بأفريقيا التي تنقسم بدورها إلى جهاتها الأربعة غرب أفريقيا وشرقها وجنوبها وشمالها وذكر من شمال أفريقيا نصاً للكاتب السوداني جمال محجوب المقتبس من روايته الأولى بالإنجليزية «أبحار مستنزل المطر» 1989م مع أن المحرر يمثل للمناطق الأخرى من أفريقيا بنماذج متعددة (388) .p) (3)(3).

ص: 186


1- الموضع نفسه.
2- Aparajita Sagar, Postcolonial: A Dictionary of Cultural and Critical Theory, ed Michal Payne نقلاً عن فريال غزول 1996 ,Oxford: Blackwell عن فريال John Thieme (ed) The Arnold Anthology of pas -
3- Coloial Literatures in English, London-. غزول المرجع السابق ص 388

الموضع الثالث : إشارة اينالومبا الأستاذة بجامعة جواهر لال نهرو في كتابها الكولونيالية وما بعد الكولونيالية بعد عرضها آراء بارثا تشارجي عن بلورة حركة النضال الهندي لمفهوم المرأة الجديدة باعتبارها مختلفة عن المرأة التقليدية والمرأة الغربية، فهي تضيف أمثلة من جنوب وشمال أفريقيا حيث وزع الخطاب القومي الأدوار على الجنسين، فأصبح الرجل وكيلاً عن سياسة واقتصاد الشعب والمرأة وكيلة عن هويته وقيمه الأخلاقية والروحية فقد أوضح فرانز فانون في كتابه «الاستعمار المتحضر» المرأة الجزائرية وظفت حسب متطلبات النضال والمقاومة لتكون تارة سافرة ومتشبهة بالأوروبيين حاملة المتفجرات وتارة محجبة وبيتيّة كردٍّ مضاد لمطالبة الاستعمار بسفور المرأة. وهكذا تكشف معركة الحجاب والسفور مستوى آخر من الهيمنة والمناهضة والمواجهة تتجاوز الظواهر نفسها لترمز إلى معركة أوسع (ص 194-192)(1).

ويؤكد كل من بيل اشكروفت و غاريث جريفيت وهيلين نيفين محرري كتاب النصوص الأساسية في دراسات ما بعد الكولونيالية 1995 على عدد من القضايا المحورية وهي التي تم على أسسها تبويب العمل وفي مقدمتها العلاقة بين ما بعد الحداثة وما بعد الكولونيالية. وهو ما نجده في أعمال جاك دريدا وهيلين سكسو كما جاء في دراسة أزواج عمر المشارة إليها وسنشير إليهما في هذه الفقرة قبل تناولنا لموقف جان فرانسوا ليوتار.

ومن المعروف أن كل من دريدا وسكسو ولدا بالجزائر وتعلما بها خلال فترة الاحتلال الفرنسي وغادراها إلى باريس لإكمال دراستهما ولأنهما يهوديان عانيا من الغربة المزدوجة بين الثقافتين التي يحيان في ظلها الفرنسية المهيمنة والجزائرية المهيمن عليها في ظل الاستعمار. وإن ما عان منه كل منهما ظهر واضحاً في سيرتهما الذاتية وأعمالهما الفلسفية وهو ما يصعّب للغاية فهم مفاهيمهما دون الأخذ بعين الاعتبار المرجعية الجزائرية وتأثيرها عليهما. وهذا ما يوضحه أيضاً أزواج عمر الذي

ص: 187


1- نقلاً عن غزول 1998 Ania Loomba Colonialism / Postcolonialism London/ Routledge-(1)

يرى «إن مفهوم الاختلاف ومفهوم الغيرية عند كل من جاك دريدا وهيلين سكسو ليسا فقط نتاج لتجربتهما المعرفية الأكاديمية داخل الفضاء الفلسفي والأدبي الفرنسي - الغربي إنما هو نتاج أيضا لسنوات التكوين الأولى في الجزائر ونتاج لذلك الإحساس بالوجود والانتماء إلى الاثنية اليهودية في مجتمع مستعمر»(1).

إن الجزائر المستعمرة كانت عالماً مقسوماً إلى أجزاء لا رابط بينها. وهذا العالم المقسوم هو الفضاء الذي عاش فيه دريدا وهيلين سكسو، العالم الذي أقصي فيه الآخر والذي يشبه فضاء التمييز العنصري. لنرجع إلى كتاب سكسو المرأة الجديدة التي لاحظت جيداً مشهد الإنسان الأبيض الفرنسي المتحضر، الذي أسس قوته على قمع ونفي وإقصاء الآخر دون صرفه نهائياً وإبقائه مستبعداً، هنا عاشت وعاش دريدا، حيث لا أحد ينجو من العنف والرعب حتى وإن كان بعيداً عنهما بعض المسافة. هذا ما نجد في دراسة دريدا «العنف والميتافيزيقا» في «الكتابة والاختلاف» التي تحذر فيها من أخطار العنف الناتج عن إضفاء إمكانيات الاعتراف بالآخر ومن أخطار العزل المطلق بين البشر ومن خطر الاحتواء المطلق الذي يدعي الانتصار»، هنا كما يشير عمر شعور دریدا ونظرائه بالاغتراب.

هل يختلف ما عاناه دريدا وهيلين في فرنسا عما في الجزائر؟ لم تكن الوضعية مختلفة، نفس الوضع تجاه الأجانب ساري المفعول في فرنسا نفسها. من هذه التجربة نبعت مفاهيم هيلين سكسو ومصطلحات الغيرية والهامش والجنسانية المضطهدة. لقد نقلت سكسو التجربة الاستعمارية التي عاشتها إلى النقاش الفلسفي، إلى هيجل والحركة النسوية الغربية. فالانطلاق من جدل السيد والعبد وفق تأويل كوجيف، رأت سكسو أن المستعمِر لا يبطل ولا يلقي المستعمَر ولكنه يقوم بسلسلة من عمليات تهمیشه واستعباده.

يوضح عمر آليات الاستعمار الفرنسي الموظفة من أجل تهميش وامتصاص الجزائر (الآخر) والأقليات غير الآرية في المجتمع الجزائري المستعمَر، فالنظام

ص: 188


1- أزواج عمر ص 472

الفرنسي استبدل هوية النظام التربوي الجزائري في حقول العلوم واللسانيات والتاريخ والجغرافيا والآداب وغيرها من الحقول التربوية بنظام تربوي فرنسي، وقد أشار المفكر الماركسي لويس التوسير في نقده للجوهرانية الكولونيالية إلى ذلك في كتابه «المستقبل يدوم لوقت طويل» حيث يروي بعض تفاصيل علاقته بالجزائر قبل أن ينتقل إلى المغرب ثم إلى فرنسا.

ويمكن تأكيد نفس القضية وهي أن علاقة فلاسفة ما بعد الحداثة الفرنسيين من موقع مناهضة الاستعمار زج بالفلسفة الفرنسية كلها في الأزمة ودفع بها إلى إعادة النظر في إشكاليتها وفي مفاهيمها وتصوراتها. فمعظم أعمال جاك بورديو الأساسية كانت نتاجاً لعلاقته بالمجتمع الجزائري بشكل عام خاصة في كتابه «نزع الأصول - أزمة الفلاحة في الجزائر». ويمكننا مما سبق أن نتبين أثر الكولونيالية الفرنسية للجزائر في بناء نظريات من أشرنا إليهم من الفلاسفة، لنأخذ مثلاً مفهوم دريدا للاختلاف، نجده ينبع كما يرى البعض من تجربته الاثنية في ظل المجتمع الجزائري المستعمَر.

3 - ليوتار وتجربة الجزائر:

إن ما وجده أزواج عمر من مصادر لما بعد البنيوية وما بعد الحداثة لم يراه باحث جزائري آخر تناول نفس الفلاسفة : فوكو والتوسير ودريدا في كتابه «البنيوية في الفكر الفلسفي المعاصر»(1). مما يجعلنا نفترض مصادر أخرى لمعاناة دريدا وسكسو غير معاملة المستعمر الفرنسي للمواطنين الجزائريين لسببين الأول أنهما ليسا جزائريين وثانياً هما فرنسيان ويرجع سبب معاناتهما ليهوديتهما كما أفاض دريدا في توضيح ذلك في كتابه «ماذا عن غد؟»(2). لذا فإن حذر عمر من اطلاق أحكاماً عامة جعله يعطي دوراً لمساهمة الاستعمار وما بعد الاستعمار في تشكيل فكر ما بعد الحداثة. وهو ما يتضح إذا ما تناولنا هذا الأثر ودوره في مفاهيم ليوتار الفلسفية ما بعد الحداثية.

ص: 189


1- عمر مهيبل البنيوية في الفكر الفلسفي المعاصر، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر 1993.
2- أنظر جاك دريدا واليزابيث رودينسكو : ماذا عن غد، ترجمة سلمان ،حرفوض دار ،کنعان دمشق 2008 ودراستنا حكاية اليزابيث وجاك: التفكيك مع دريدا ضد دريدا في محمد أحمد البنكي [محرر : دريدا بأثر رجئي، سلسلة أطياف وزارة الثقافة البحرين 2009 ص 32 وما بعدها.

خصص ليوتار عدة أعمال للحديث عن صلته بالجزائر هي: الخصم الجزائريون التطواحات. وهو يخبرنا بتساؤل جوهري حين أصبح أستاذاً للفلسفة بثانوية بمدينة قسنطينة 1950م هل كانت هذه الصلة نهاية لشيء ما أو بداية لشيء ما؟ وهو يوضح لنا أن دراسته لكارل ماركس ولتوما الاكويني قد تمت في الجزائر، ولقد أدى به انخراطه الفكري لصالح ثورة التحرير الجزائرية إلى النظر النقدي في المادية الجدلية ومصداقيتها نظرياً وتطبيقياً. وهو في أكثر من مكان يعلن أن الجزائر علمته الشيء الكثير . يرى يوجين هولاند أن ليوتار أدرك من خلال تجربته المتميزة بالصراع أثناء معركة التحرير الجزائرية بأن الأمانة السياسية تقتضي الاستجابة لحالة مفردة بدون اللجوء إلى معيار أعد سابقاً. وهو تفسير لقول ليوتار «إنه لمن قبيل المخادعة إعطاء معنی مغلق لحادثة أو تخيل معنى لحادثة عن طريق توقع ما يمكن أن تكون الحادثة بقياسها بحجة قبلية أو بنص قبلي»(1).

في كتاباته التي جمعها تحت عنوان «الجزائريون» أظهر ليوتار تخوفه وقلقه الفكري تجاه انخراطه في الجبهة المتضامنة مع القضية الجزائرية. لقد تضامن كليا مع الجزائريين الذين لهم الحق أن يصبحوا أحراراً ومعترفاً بهم كمجتمع له أسمه ووجوده، ومن جهة ثانية لم يكن على يقين بخصوص من سيحكم الجزائر المستقلة. لقد كان متخوفاً من حكومة مستقلة قد تحيطها بيروقراطية عسكرية، وهو ما يتضح كتابه «التطواحات»؛ الذي يعد سيرته الذاتية الفلسفية حيث يخبرنا عن نشاطه السياسي وتضامنه مع الجزائر بأنه قد حسم الأمر لصالح قضية التحرر من الاستعمار الفرنسي، رغم أنه كان يدرك بأن ثورة التحرير الجزائرية لم تكن ولم يكن بالإمكان أن تكون ثورة التناقضات الاجتماعية، بمعنى أنها لم تكن قائمة على نظرية ماركسية أو أيديولوجية إسلامية صارمة أو رأسمالية واضحة إنما كانت ثورة ضد الوجود العسكري الفرنسي وضد ظاهرة الاستعمار الخارجي(2).

ويشير عمر ازراج إلى تلخيص ليوتار للآليات التي مورست بها عمليات الإنكار

ص: 190


1- أزواج عمر : المرجع السابق، ص479.
2- نفس الموضع.

الثقافي وتهميش البعد اللغوي الجزائري في المدارس الفرنسية حيث عملت

الجمهورية الفرنسية لتطعيم فئة قليلة من الجزائريين بثقافة مستعارة في حين ان ثقافتهم؛ أي ثقافة شعبهم ولغتهم وفضاءاتهم وزمانهم قد تعرضت للتحطيم وذلك بواسطة قرن من الاستعمار الفرنسي.

ويستنتج ازراج أنه من خلال تحليل ليوتار للامتصاص الثقافي الفرنسي للجزائريين تمكن من فهم وتأويل المقاومة الجزائرية مطلقاً عليها «الخصم». وأن ليوتار نقل هذا المصطلح إلى المجال الفلسفي موضحاً أن التحول في التاريخ لا يحدث بواسطة الجدل الماركسي فقط إنما يتم بواسطة الخصم بحركته الصراعية في الزمان والمكان أيضاً.

هنا ننتقل من الحداثة إلى ما بعد الحداثة من الكلي إلى الحالة الخاصة، إن مفهوم «الخصم» يختلف عن مفهوم صراع الأضداد في الماركسية التقليدية. فصراع الأضداد وفق الماركسية التقليدية يفترض مسبقاً انقسام المجتمع إلى طبقات متناحرة مثل طبقة العمال ضد البورجوازية وعند ليوتار فإن طبقة العمال نفسها ليست متجانسة كلية وليست ذات تصور مشترك للحياة. يريد ليوتار تفكيك المفهوم الماركسي للطبقة ويعترف في كتاباته بأن تجربته الجزائرية هي التي زودته بهذه الرؤية الجديدة.

إن ليوتار يهدف إلى القول بأن الخصومة كمفهومٍ فلسفيٍّ يقترب من مفهوم الاختلاف، بمعنى أنه لا يمكن أن تستعمل نظرية واحدة أو معياراً واحداً لدراسة ثقافات مختلفة وتقول فيما بعد بأن هذه الثقافة خاطئة؛ لأنها لم تتمكن من الاستجابة للمعيار الحاضر ، وهذا المفهوم والكلام هنا لأزواج عمر مشتق من دراسته للكثير من القضايا الفكرية والسياسية واللغوية والفلسفية ومنها مفهوم الاختلاف الذي قدمه له المجتمع الجزائري وحاول الحزب الشيوعي الفرنسي أن يلغيه باسم الأممية وحاول اليمين الفرنسي إقصاءه باسم أن الجزائر جزء عضوي من فرنسا وهي ليست كذلك في الواقع أي إن نظرية ليوتار في ما بعد الحداثة والتي قدمها في كتابه «الشرط ما بعد الحداثي» وطورها بعد ذلك تعود بذورها الأولى إلى اللقاء الساخن الذي جمع بينه وبين المقاومة الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي. لتنقلنا إلى مسار تفكير جديد

ص: 191

تضع الاختلاف محل التطابق وتحفل بالتعددية معيارياً وممارسة مفتوحة بدلاً من السرديات المتمركزة غرباً والتي تحتكر الحقيقة وتدعي بأن اليقين لا يوجد إلا حيث تسود الهيمنة والمركزية القطبية الواحدة. وإذا كان لحركة التحرير الجزائرية دوراً في تشكيل تيار ما بعد الحداثة عبر نصف القرن الماضي، فهي الآن وأنا هنا استخدم عنوان أحد كتب جارودي «مشروع الأمل».

المراجع

1. أزواج عمر : مقاربة أولية لمساهمة علاقات الاستعمار وما بعد الاستعمار في تشكيل فكر (مابعد الحداثة) في فرنسا. مجلة قضايا فكرية الكتاب التاسع عشر والعشرون، أكتوبر، القاهرة 1999.

2. فردوس عظيم: الكولونيالية وما بعدها والوطن والعرق ترجمة شعبان مكاوى، في القرن العشرون: المداخل التاريخية والفلسفية والنفسية تحرير ك نلووف، ك. نوريس، ج. أوزبورن، أشرف على الترجمة رضوى عاشور المجلس الأعلى للثقافة القاهرة 2005.

3. فریال جبوري :غزول ما بعد الكولونيالية وما وراء المسميات قضايا فكرية العدد 19-20 القاهرة 1999.

4. دوغلاس روبنسون الترجمة والإمبراطورية الدراسات ما بعد الكولونيالية، دراسات الترجمة، ترجمة ثائر ،دیب مجلة نزوى العدد 20 ،45-07-2009 .

5. هيلين جيلبيرت جوان تو مكينز : الدراما ما بعد الكولونيالية : النظرية والممارسة، ترجمة :سامح فكري، مركز اللغات والترجمة، أكاديمية الفنون، مصر 2000، ص2-3.

6. بيل أشكروفت غاريث غريفيث هيلين تيفين الرّد بالكتابة : النظرية والتطبيق في آداب المستعمرات القديمة، ترجمة: شهرت العالم المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2006، ص 15.

7. بيل أشكروفت وآخرون: الدراسات ما بعد الكولونيالية المفاهيم الرئيسية، ترجمة: أحمد الروبي، أيمن حلمي، عاطف عثمان، المركز القومي للترجمة، مصر ، 2010،ص254

8. صبحي حديدي : الخطاب ما بعد الكولونيالي في الأدب والنظرية النقدية، مجلة الكرمل ع47 ، 1993 ص 79-80.

9. و الدكتورة مديحة عتيق، مجلة دراسات وأبحاث الجزائرية الصادرة بجامعة جلفا ما بعد الكولونيالية : مفهومها، أعلامها، أطروحاتها .

ص: 192

بين مركزيّة الأنا الغربية وميلاد الأصوليات

نقد غارودي للذاتيّة الغربيّة

نصر الدين بن سراي(1)

من أهم المظاهر التي تعد بارزة في الحضارة الغربية الحديثة بروز أنواع شتى من الإيديولوجيات والأفكار التي تندرج في سلّم التطرف الشديد، وهو ما اصطلح على تسميته بالأصوليات. وهذا المصطلح الذي يعد في المخيال الثقافي والاجتماعي والسياسي العربي جد حديث، لكن تكاد تكون تلك التصورات من أهم الأفكار التي كونت الغ-رب الحادث، وفي هذه المقاربة حاول روجيه غارودي الكشف عن تلك الأفكار التي كونت الغرب الطارئ كما يسميه، وكانت تلك الأفكار التي يستهجنها اليوم ويسعى لمحاربتها، هي البنية الأساسية التي أسهمت في تشك-ل-ه وب-ل--ورة حضارته، إذ نرى تمظهراتها في الجوانب العالمية اليوم في السياسة والاقتصاد والإعلام وغيرها من التجليات التي تبرهن على حقيقة ألا وهي أن الغرب لا زالت تحكمه إيديولوجيات أصولية

ص: 193


1- باحث وأكاديمي - الجزائر .

ينطق منها وتحدد تصوره ورؤيته إلى العالم، وهي قصة الأفكار التي لا زالت تسكن في بُنى الأفكار المضمرة للغرب.

يعد روجيه جارودي من أهم الفلاسفة الفرنسيين، بل في الغرب، الذي وجه سهام نقده للحضارة الغربية، التي تحتوي جوانب لا إنسانية في حضارتها، وإن ادعت الإنسانية. نحاول في هذه الورقة بيان بعض أوجه الأفكار التي شكلت الغرب، انطلاقاً من نقطة التمركز على نفسه، وتحيزه لكل ما هو غربي، إلى زمن تشكل الأصوليات التي تحكم الغربي إلى اليوم.

يحاول جاودي استنطاق اللحظات الأولى لتكوّن هذه الأنا بداية مع الدكتور فاوست كما دونه كرستوفر مارلو، وانتهاء بالنزعات العرقية والأصولية المعاصرة النازية والستالينية. وكيف ساعدت هذه التصورات في صياغة العالم المعاصر.

- ليصل جارودي في النهاية إلى نتيجة خطيرة جداً مفادها أن الأصوليات جميعها في العالم اليوم هي نتجية أو رد فعل على الأصولية الغربية مما يضع الفكر الغربي أمام إحراجات يتعسر على صاحب لب سليم أن يتفلت منها، كما نجد قليلاً من الكتاب ومفكري الغرب يعرضون تلك الحقائق بوجه ناصع بأدنى شك أوريب.

- وسيكون الإشكال الرئيس الذي يسعى جارودي الإجابة عنه ههنا :كيف شكلت نقطة التمركز الغربي حول ذاته إلى ميلاد الأصوليات بشتى اختلافاتها وإيديولوجيتها؟ وما أهم الحمولات التي شكلت الغرب الطارئ ؟

ص: 194

/أولاً التمركز الغربي حول الذات:

تعد نزعة التمركز حول الذات(1)، إحدى السمات البارزة؛ التي شكّلت الطابع العام لتاريخ الفكر الغربي، وفلسفته ورؤيته إلى العالم هذه الإيديولوجيا التي مكنت الذات الغربية لتجعلها سيدة العالم؛ ولعل النواة الأولى لهذه الفكرة، كانت مع أفكار الحداثة الأولى وهي مسلمة كريستوفر وذلك في «الفرض الأساسي ل_ : مارلوا في كتابه فاوست الذي أعلن مسبقاً، وفاة الإله (أيها الإنسان، عن طريق عقلك القوي تصبح إلهاً، المالك والسيد لكل العناصر)»(2)، وهي سيادة الإنسان عن طريق استخدام العقل، وتكريس لفكرة مركزية الإنسان.

فإذا تناولنا كلمة التمركز التي اشتقت من كلمة المركز ، والتي توحي بمعنى المرجع نجد أنه جاء معناها في معجم لسان العرب بما يأتي:«والمَرَاكِرُ: مَنَابِتُ الأَسنان. ومَرْكَزُ الجُنْدِ: الْمَوْضِعُ الَّذِي أُمروا أن يَلْزَمُوهُ وأُمروا أَن لَا يَبْرَحُوه. ومَرْكَزُ الرَّجُلِ : موضعه . يُقَالُ : أَحَلَّ فلانٌ بمَرْكَزه. وارْتَكَرْتُ عَلَى الْقَوْسِ إِذا وَضَعْتَ سِيَتَها بالأَرض ثُمَّ اعْتَمَدْتَ عَلَيْهَا. ومَرْكَزُ الدَّائِرَةِ: وَسَطُها»(3)، فإذا كانت كلمة مركز توحي بمعنى المصدر والمرجع الذي يعاد إليه، فإن مركزية الذات الغربية، هي الوقود الفكري التي تستند إليه في تأسيس ذاتها، التي من خلالها تشعر بالمغايرة تجاه الآخرين، والمعيار الذي تنطلق منه لتحاكم سائر الرؤى والثقافات في العالم، وعليه يمكن أن نقول إن

ص: 195


1- متمركز حول -الذات متمركز الأنا ego centric الشخص الذي تتحكم في سلوكه اهتماماته، ويتسم بعدم الحساسية لحاجات الآخرين وتعبيراتهم واستجاباتهم وهو أكثر شيوعاً في السلوك اللغوي عند الأطفال فؤاد أبو حطب، محمد سف الدين فهمي، معجم علم النفس والتربية القاهرة مصر، الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية ج 1، 1984، ص 50 ويطلق عليها أيضا أنوية Egocenterisme وتعني: أ - نزوعاً إلى رد كل شيء إلى الذات . ب- بمعنى مختلف أطلق ج. بياجيه هذه المفردة على السمة النفسية للطفل السمة التي تكمن في أنه لا يعانى الحاجة إلى إيصال فكرته للآخر، ولا يعاني التقيد بفكرة الآخرين. ج- في الأخلاق، حب للذات حصري أو مفرط، سمة ذلك الذي يستلحق مصلحة الغير بمصلحته الذاتية ويحكم من هذه الزاوية على كل الأشياء . د نظرية تجعل من المصلحة الفردية المبدأ التفسيري للأفكار الأخلاقية والمبدأ القائد للسلوك أندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، بيروت ،لبنان، منشورات عويدات تعريب خليل أحمد خليل، ط2، 2001،
2- روجيه جارودي، القبور الحضارة التي تحفر للإنسانية قبرها ترجمة عزة صبحي، دار الشروق، القاهرة مصر، ط 3 ، 2002، ص 95.
3- ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقى لسان العرب، بيروت ،لبنان، دار صادر، ط3، 1414ه، ج 5، ص 355.

مصطلح التمركز حول الذت يقصد به «ولادة المرء ضمن ثقافة معينة، بشكل عام إن هذه الثقافة تضعه على منصة يطل منها، بدرجات متفاوتة من عدم الإكتراث أو العداوة على الثقافات الغربية الأخرى، ولذا غلب أن يكون مراقبو الثقافات الغربية منحازين بالمعنى البسيط الذي يفضلون فيه ثقافتهم على كل الثقافات الموجودة الأخرى، وينظرون فيه إلى الغريب باعتباره الشكل المشوه المنحرف عن المألوف. وكانت السذاجة التي تدغدغ الذات وتميز التقسيم الأرسطي لسكان العالم إلى إغريق وبرابرة أو إلى أحرار بالطبيعة وعبيد بالطبيعة هي النمط المعتاد الذي حشر الناس فيه ما لاحظوه من فروق بين البشر»(1).

وعليه يمكن عدّ فكرة التمركز حول الذات أو المركزية الغربية بأنها عبارة تلك «الممارسات الواعية أو غير الواعية، التي تركز على فرض الحضارة والمصالح الغربية عموما في جميع مجالات الحياة على حساب باقي الثقافات والحضارات والشعوب وبكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة»(2).

فالثقافة الغربية وطابعها الأنوي تجعل من الأنا الغربية تحتل مركزية العالم، وما عدا ذلك يمكن اعتباره هامشاً، أو لا إنساني، أو لم يدخل بعد في طور الإنسانية والتمدن أو التحضر، وهذا ما يبدو بشكل جلي في مراحل التحقيب التي يعتمد عليها علماء الأنثربولوجيا في تحقيب الشعوب غير الغربية، إلى حقبة ما وراء التاريخ أو قبله، حيث إن أسلوب تعدد الثقافات لم يكن أسلوباً معترفاً به إلى حقبة ليس ببيعدة في التاريخ الثقافي للعالم الإنساني وهذا ما يوضحه كلود ليفي سترواس حين يقول: يبدو أن تنوع الثقافات لم يظهر للناس إلا نادراً كما هو على حقيقته، باعتباره ظاهرة طبيعية ... وإنما رأوا فيه نوعاً من الغرابة والفضيحة ويتمثل في الرفض الكامل

ص: 196


1- كاثرين جورج الغرب المتمدن ينظر إلى إفريقيا البدائية، ضمن كتاب أشلي ،مونتاغيو، البدائية، ترجمة محمد عصفور الكويت عالم المعرفة، عدد53، 1982، ص 201 هذه الرؤية إلى الآخر بأنهم متوحشون، وأقل شأناً من الغرب كانت قد كرست من عهد اليونانين، هيرودوت شيخ الجعرافيين وكذا ديودورس. المرجع نفسه، ص .203
2- عبد اللطيف بن عبد الله بن محمد الغامدي، المركزية الغربية وتناقضاتها مع حقوق الإنسان، المملكة العربية السعودية، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، كلية الدرسات العليا قسم العدالة الجانية، أطروحة ماجستير، 2009، مخطوط، ص 21

للأشكال الثقافية، الأخلاقية والدينية والاجتماعية والجمالية البعيدة كل البعد عن القيم التي نعتنقها... فتعابير مثل عادات المتوحشين وذلك ليس من عندياتنا...تختلط مع كل ما لا يشترك مع الثقافة اليونانية تحت اسم البربري»(1) وبذلك فالثقافة الغربية تعطي لنفسها حق مساءلة الثقافات جميعها، واعتبار المعيار الوحيد لا بد أن يكون النموذج الغربي، وكل ثقافة مخالفة لهذا النموذج يمكن ببساطة أن يطلق عليها بأنها ثقافة إيحائية ما قبلية ليست علمية ولم تدخل بعد في طور التأنس بعد.

وعليه فالثقافة الأوروبية التي تنطلق من نزعة التمركز الغربية، قد أقامت صروحها على فكرة النظرية العرقية القائلة بالتفوق والقدرة للجنس الغربي، ولا سيما نظرية الكيوف الطبيعية، التي قدمها لنا أرسطو في كتابه السياسة حيث يقول :«يستطيع المرء أن يتخذ فكرة من هذا بأن يلقي النظر إلى أشهر مدائن الإغريق، وإلى الأمم المتخلفة التي تتقاسم الأرض، الشعوب التي تقطن الأقطار الباردة حتى في أوروبا أوروبا هم على العموم ملؤهم الشجاعة لكنهم على التحقيق منحطون في الذكاء وفي الصناعة، من أجل ذلك هم يحتفظون بحريتهم لكنهم من الجهة السياسية غير قابلين لنظام ولم يستطيعوا أن يفتحوا الأقطار المجاورة، وفي آسيا الأمر ضد ذلك شعوبها أشد ذكاء وقابلية للفنون، ولكن يعوزهم القلب ويبقون تحت نير استعباد مؤبد، أما العنصر الإغريقي الذي هو بحكم الوضع الجغرافي وسط فإنه يجمع بين الفريقين، فيه الذكاء والشجاعة معاً»(2).

هذه النظرية حقيقة يمكن عدّها ناظماً لفكرة المركزية العرقية الغربية، التي تجمع كمالات الصفات في الجنس الأوروبي، وتصرفه عن غيره، بوصفهم أفراداً تنقصهم تلك الصفات التي لم تتحقق، ولم تجتمع لأي جنس إلا في الجنس الغربي، وبالتالي هم فقط من لهم أهلية الحكم والسيطرة في الجوانب الحياتية كلها، وما عداهم أقاليم تابعة لهم لأنهم عجزوا على التوسع في البلدان المجاورة، فالمعيار إذن هو

ص: 197


1- كلود ليفي شتراوس العرق ،والتاريخ ترجمة سليم حداد بيروت لبنان، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ص 13
2- أرسطو طاليس السياسة، ترجمة أحمد لطفي السيد القاهرة مصر ، الهيئة المصرية لكتاب 1979 ، ص ،254 255

عرقي بامتياز، وامتلاك صفات القوة التي تمكنهم من حيازة مايريدون والسيطرة على الآخرين وفي هذا الصدد يقول جارودي: «تلك هي الأسطورة الأولى لنزعة أوروبا المركزية التي يحسن تبديدها كما لوكانت حلماً كاذباً »(1).

هذه الأسطورة قد غذتها مراحل التطور التاريخي في عصر الأنوار والنهضة، إذ تمت المصادقة لتمكين فكرة المركزية الغربية، وجعلها الروح التي تنطلق منها الحضارة الأوروبية في العصر الحديث، فلو تأملنا في كيفية تشكل الوعي الأوروبي وتاريخه، كانت أسطورة المركزية من أهم الأساطير المؤسسة له، والتي كان لها تأثير مباشر لا في نشأة الحركات القومية فيما بعد «فإعادة قراءة التاريخ من خارج الإحداثيات الغربية ستضعه في سياق آخر يختلف تماماً في حركة صعوده ونزوله عن شكله الراهن، فأسطورة العصور المظلمة تماماً التي تعدها القراءة الغربية للتاريخ حالة إنسانية سبقت باطلاق مجيء عصر الأنوار ليست في الحقيقة إلا لياً لعنق التاريخ، وتضييقاً في أفقه لإجباره على الدخول من بوابة المركزية الأوروبية»(2).

لقد كان موقف روجيه جارودي من قضية المركزية الغربية منتقداً لها ذلك أنها أحد الأسباب التي أدت إلى بروز معظم الأزمات في الحقل الفكري للحداثة الغربية، فهو أولاً يبتدئ بنقد كلمة الغرب، فلا يراها ماهية جغرافية بل هي تعني عبارة عن «حالة فكرية متجهة نحو السيطرة على الطبيعة والناس» (3)، هذا الغرب يراه جارودي مجرد مصطلح مآله إلى الزوال، لأنه لم يستوجب موجبات البقاء، لأنهم أرجعوا كل شيء إلى ذاتية الفرد لذا يرى أن «الغرب عارض طارىء... ذلك هو الطراز الذي ألفه الغربيون باعتبارهم أن الفرد مركز الأشياء كلها ومقياسها»(4).

فكلمة الغرب حسب جارودي كلمة لها حمولة كبيرة، فضلاً على أنه لا يحبذ

ص: 198


1- روجيه جارودي، وعود الإسلام، ترجمة ذوقان قرقوط، دار الرقي بيروت لبنان، ط2، 1985،ص 108
2- عز الدين عبد المولى في الرؤية الغربية لتاريخ ،الحداثة مجلة إسلامية المعرفة، السنة الأولى، العدد 04، أفريل 1996 المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ص 132.
3- روجيه جارودي، حوار الحضارات ترجمة عادل العوا بيروت لبنان عويدات للنشر والطباعة، ص 18
4- المصدر السابق، ص 9.

هذه الكلمة، بسبب تلك الحمولة السلبية التي تدل عليها في الخارج، إذ يقول«إن كلمة الغرب كلمة رهيبة... إنني لا أحب لفظة الغرب، وقد حملوها عدداً كبيراً من التعريفات التي خدمت قضايا مشبوهة في تقسيم العالم، ويؤكد بول فاليري أن أوروبا وليدة تقاليد ثلاثة: - في المجال الأخلاقي: المسيحية، وبوجه أدق، الكاثوليكية - في مضمار الحقوق والسياسة والدولة: تأثير موصول للقانون الروماني - في حقل الفكر والفنون: التقليد الإغريقي»(1)،فهذه الكلمة يقبع خلفها نموذج معرفي وضَّحه وبيَّنه في النقاط الثلاث والتي من خلالها تشكل رؤية إلى العالم، فالكلمة غير بريئة، إنها ذات بعد إيديولوجي كامن في ذاتها.

وقد ركز جارودي في نقده المركزية الغربية على النقاط الآتية:

أولاً: الحمولة المرجعية لعالم الأفكار التي شكلت الغرب الطارئ:

لقد كانت النواة الأولى مع الفكر اليوناني فقد بدأت نقطة الانفصال «مع سقراط وأرسطو، مؤسسي فلسفة الذات»(2)، إذ ركزت هذه الفلسفة على مركزية الإنسان في الوجود فمن تلك المرحلة، أصبح كل شيء مركّزاً على الإنسان ومنطقه الوحيد، حيث إن الأخلاق لم تكن بالنسبة لسقراط إلا جزءاً من المنطق، أما الطبيعة فلقد تركت لأعمال الدنيا التي يقوم بها العبيد أو الفعلة... مثل أرسطوحيث التأمل يلعب دوراً يقوم من خلاله بتوسيع الساحة التي خصصها للتقسيم الطبقي»(3)، هذا الأمر الذي يقود بالضرورة إلى تمركز الإنسان حول ذاته نتيجة هذه الفلسفة، مما أدى إلى انفصال الإنسان عن المتعالي وعن العالم الطبيعي، حتى إنه قد انفصل على العالم الإنساني «أيضا فمن كان غير إغريقي، أي لا يتحدث اللغة، تعد كلماته مجرد تهتهة لا آدمية، ويعد همجياً»(4).

ص: 199


1- المصدر نفسه، ص 17.
2- روجيه جارودي، كيف صنعنا القرن العشرين ترجمة ليلى حافظ، دار الشروق، مصر، ط2، 2001، ص35
3- المصدر نفسه، ص 37.
4- المصدر نفسه، صفحة نفسها.

هكذا انتقد جارودي الحضارة اليونانية، وما احتوته من أفكار أسهمت فيما تعيشه الحضارة الغربية، كما رفض جارودي فكرة المعجزة ،اليونانية، التي تجعل من اليونان مهد الحضارة الإنسانية كلها كما تبعتها في ذلك الحضارة الرومانية التي كانت امتداداً وتقليداً للحضارة السابقة، فثقافة الغرب قد«بترت من أبعاد جوهرية، فمنذ قرون ادعت هذه الثقافة بأنها تتحدر ومن إرث مزدوج : يوناني - روماني، ويهودي ،- مسيحي، لقد انبثقت أسطورة المعجزة الإغريقية لأن هذه الحضارة بُترت عمداً عن جذورها الشرقية عن تراث آسيا الصغرى، عن أيونا تلك، إحدى مقاطعات الفرس حيث رأى النور أعظم الملهمين من طالس إلى كزينوفون دي كولوفون ومن فيثاغورس... فاحت من خلالهم نسائم إيران زرادشت فيما وراءها»(1)، وهذا أكبر شاهد للتحيز والتمركز حول الذات الغربية بأن نسبوا تلك العلوم كلها إلى اليونان وهذا ما دونته صحة صيحة نيتشه حسب جارودي، فقد «استطاع نيتشه أن يكتب بمنطق ويقول إن الانحطاط بدأ مع سقراط؛ لأن معه بدأ انفصال الغرب عن آسيا»(2).

ثانياً: الحمولة المرجعية الدينية التي شكلت الغرب الطارئ:

- أما بالنسبة للانفصال الثاني فإنه يكمن في الفكر اليهودي - المسيحي، إذ استلهمت الحضارة الغربية ديانتها من الديانتين: اليهودية والمسيحية وليست منشأهما هو أوروبا، بل إن اليهودية والمسيحية لم «تأتيا من أوروبا، القارة الوحيدة التي لم يوجد فيها أبداً دين عظيم، وإنما آسيا، والتي تطورت بادىء ذي بدء في أنطاكيا أعني في آسيا وفي الإسكندرية أعني إفريقيا»(3).

وكتاب التوراة كتب على أرض الكنعانيين بفلسطين كما فصل ذلك روجيه

جارودي في كتابه فلسطين أرض الرسالات السماوية(4).

ص: 200


1- روجيه جارودي، وعود الإسلام، ص 15
2- روجيه جارودي، كيف صنعنا القرن العشرين مصدر سابق، ص 37.
3- روجيه جارودي، وعود الإسلام، مصدر سابق، ص 16
4- روجيه جارودي، فلسطين أرض الرسالات السماوية، ترجمة قصي أتاسي، ميشيل واكيم ، دمشق سوریا، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، 1991، ص عمة والنشر، 1991، ص 78، 79، 80، 81.

- فاليهودية والمسيحية قد تم الجمع بينهما، في العهد القديم والعهد الجديد مع بولس،«ومع أن بولس حريص على أن يجعل من يسوع، خلافاً للسنة التقليدية اليهودية، الفصل النهائي في العهد القديم، وإتماماً للمواعيد التي وعدت بها إسرائيل، فإن من اليسير إظهار أن الإنجيليين قد قرؤوا العهد القديم قراءة انتقائية»(1).

- كما أمكن لبولس استعادة الفكرة «الملعونة للشعب المختار، كان هناك في الماضي الجوييم أي غير اليهود ولكن بعد ذلك أصبح هناك الوثنيون والكافرون الذين يجب دعوتهم إلى الدين المسيحي، أي استعمارهم روحياً... هذا الخليط من اليهودية والهيلينية أسفر عن تعميق الانكسار الإنساني»(2).

- ومن هنا يسائل جارودي الحضارة الغربية المتمركزة في نزعتها الغربية، حول ماضيها في حمولتها المرجعية الدينية التي شكلت الغرب الطارئ، فيقول:«هل يكون من الضروري للعظمة أن يكون المرء ابن لأب مجهول ؟ فلماذا إزالة آثار ما ولد وغذى حضارتنا؟ فهل نستسلم لتصرف هؤلاء الكتاب الرديئين الذين أرادوا أن يقنعوا أنفسهم ب- أصالتهم»(3).

ثالثاً: الحمولة المرجعية العرقية التي شكلت الغرب الطارئ:

- أول فكرة كانت قد مهدت لذلك النموذج العرقي الأول، والذي منه تولدت التصورات العرقية جميعها في العالم الغربي كانت البداية مع فكرة شعب الله ،المختار، إنها «منطق الإيمان الذي انتزعه الله من حمأة الشعوب الأخرى»(4)وقد كان مصدر وضع هذه الأسطورة في «مصدر الاشتراع التثنية... صيغة مذهبية جديدة لكل التعاليم السابقة، وتدور الفكرة الرئيسة فيه حول تسمية إسرائيل بشعب الله

ص: 201


1- روجيه جارودي، نحو حرب دينية جدل العصر، ترجمة صياح الجهيم، بيروت لبنان دار عطية للطباعة والنشر، ط2، .1997 ص 170.
2- روجيه جارودي، كيف صنعنا القرن العشرين مصدر سابق، ص 39.
3- روجيه جارودي، وعود الإسلام، مصدر سابق، ص 16.
4- روجيه جارودي، الاستعمار الثقافي والصهيوينة، والتمسك بالأسطورة بدلاً من سرد الحقائق في تدريس التاريخ ترجمة هشام حداد، سوريا، مجلة الآداب الأجنبية، العدد 108 أكتوبر 2001، ص 13.

المختار المرتبط مع الله بالعهد... وهكذا أصبح سفر اشتراع التثنية رداً على هيمنة الآشوريين، فالحاكم الوحيد الحقيقي لإسرائيل هو يهوه وليس ملك أشور»(1).

- هذه الرؤية هي التي تشكلت منها النزعات والتفسيرات العرقية الأنثربولوجية - التي أشرنا إليها سابقاً، والتي كانت تمهيداً في ما بعد لانطلاق شرارة الاستعمار في العالم بها أصبحت «أمريكا قائدة لدول التمركز الغربي ووريثة لجميع الاستعماريين في الشرق والغرب»(2).

- إن التاريخ المعاصر لشاهد على تلك الممارسات الاستعمارية التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية(3)، وكانت تحت ذرائع متعددة «وما درجنا على تسميته اكتشاف أميركا، وتصفه اليونيسكو على استحياء بالتقاء الثقافات، ويحتفل به البابا جون الثاني بزهو كأنه تبشير بالإنجيل للعالم الجديد هو في عام 1992م الاحتفال بمذابح الهنود وبداية العهد الاستعماري في التاريخ الحديث... وكشف تدمير العراق في عام 1992م عن حرب من نوع جديد حرب قائمة ليس فقط على استعمار دول أوروبية متنافسة مثل ماكان من إنجلترا وفرنسا لكن على استعمار جماعي متعدد الجنسيات متآلف تحت سيطرة الأقوى : الولايات المتحدة»(4)، هذا التوجه للهيمنة والسيطرة لا زال إلى اليوم، إذ تعد أميركا من أكبر الدول المصنعة للسلاح وتعدّ «الأساس المتين للازدهار الاقتصادي في الولايات المتحدة، وذلك من خلال الحصول على دعم حكومي وتمويل من الدولة وإجراء أبحاث وتطوير من أجل مصانع الحرب»(5)، ذلك كله من أجل تكريس منطق الهيمنة والصراع في العالم، فلهم حق سيادة الرجل الأبيض.

ص: 202


1- روجيه جارودي، فلسطين أرض الرسالات السماوية، مصدر سابق، ص 80 - 81
2- عبد اللطيف بن عبد الله بن محمد الغامدي، المركزية الغربية وتناقضاتها مع حقوق الإنسان، مرجع سابق، ص25.
3- هو ما سمي من قبل العالم الجديد، نتيجة لأن السياسية الاستعمارية تجاهلت ودمرت الحضارات العبقرية التي عاشت في ذات المكان منذ آلاف السنين وانتشر أبناؤها وثقافتها في القارة كلها روجيه جارودي، الأساطير المؤسسة للسياسة الأمريكية، ترجمة ليلى حافظ، ضمن كتاب الإمبراطورية الأمريكية ، صفحات من الماضي والحاضر، مجموعة من المؤلفين، القاهرة ،مصر ، مكتبة الشروق، ط1، 2001،ص .165
4- روجيه جاودي، حفار والقبور، مصدر سابق، ص 6.
5- روجيه جارودي، الأساطير المؤسسة للسياسة الأمريكية، مصدر سابق، ص 168.

ثانيا/ النزعة الأصولية الغربية:

اشارة

ثانيا/ النزعة الأصولية(1) الغربية:

- كنا قد تحدثنا في النقطة السابقة حول نقطة التمركز الغربية، وانتهى بنا الحديث حول التمركز العرقي الغربي، وكان أصل تلك الأفكار فكرة شعب الله المختار، التي يمكن عدّها الفكرة الدينية المغذية لروح العرقية، لكن الذي نود الإشارة إليه ههنا هو الأصولية الغربية التي ولدتها الحداثة لا الأصولية الدينية في حد ذاتها.

- لقد كانت النهضة الصناعية في أوروبا بداية النشوء الفعلي للأصوليات الغربية، التي كانت شرارتها الأولى هي فكرة القومية(2).ف- تتسق القومية تماماً مع وقائع التنظيم الاقتصادي للثورة الصناعية في مرحلتيها المبكرة والمتوسطة»(3).

- كما تغذت النزعة القومية على أفكار التنوير والسعي للتوسع الاستعماري للسيطرة على مزيد من الموارد الطبيعية، ويمكن عدّ النزعة القومية نتيجة «لأفكار التنوير وتفاعلها مع جماع العلاقات الإنسانية التي نسميها الثورة الفرنسية، وربما يمكن القول بعبارات مفرطة في التجريد، إن أفكاراً عن السيادة الشعبية والديمقراطية والإرادة العامة حسب المعنى الذي قصد إليه روسو، قد تحولت إلى واقع سياسي كتبرير

ص: 203


1- أصولية fundamentalism fondamentalisme ou Inégrisme ، لغة «من أصول وهذه ترجمة للفظة Fondamentals وهي لفظة إنجيلية مشتقة من لفظة أخرى هي Fondation بمعنى أساس، وأغلب الظن أن الذي سك المصطلح Fundamentalism هورئيس تحرير مجلة أمريكية اسمها New York Fodation - Examiner في افتتاحية عدد يوليو 1920 إذ عرف الأصوليين بأنهم أولئك الذين يناضلون بإخلاص من أجل الأصول، وأغلب الظن كذلك أن التي مهدت لسك هذا المصطلح سلسلة كتيبات صدرت في المرحلة من 1909 إلى 1915 بعنوان الأصول بلغت اثني عشر كتيباً «مراد وهبة، المعجم الفلسفي، مصر القاهرة، دار قباء الحديثة، 2007،ص .71 جاء تعريف الأصولية في الموسوعة العربية العالمية أنها عبارة عن : اتجاه فكري اعتقادي يدعو إلى العودة إلى الأصول أو الأسس لدين أو مذهب معين تخلصاً من بعض المعتقدات أو أنواع السلوك الذي استحدث في ذلك الدين أو المذهب، لا يكاد يخلو دين من الأديان الرئيسة أو مذاهبها أوالتيارات الفكرية وغير الفكرية من نوع من أنواع الأصولية... غير أن مفهوم الأصولية تطور في الثقافة الغربية نسبة إلى حركة واسعة داخل المذهب البروتستانتي النصراني، وتحاول المحافظة على ما تراه الأفكار الأساسية للنصرانية ضد نقد اللاهوتيين الأحرار ... وبين عامي 1910و1915نشر مؤلفون مجهولون 12 كتيباً بعنوان الأصول وأخذت الأصولية اسمها من هذه الكتيبات وحاول المؤلفون تفنيد المبادىء الأساسية للنصرانية التي يجب التسليم بها من دون تشكيك الموسوعة العربية العالمية، الرياض، الملكة العربية السعودية، مؤسسة أعمال الموسوعية للنشر والتوزيع، ط2، 1999، ج2، ص 259.
2- القومية ترتبط الأمم - القومية بظهور القوميات التي يمكن تعريفها بوصفها منظومة من الرموز والمبادىء التي تضفي على الفرد الإحساس بأنه جزء من جماعة سياسية واحدة، وتتضح القومية في أجلى مظاهرها عند بناء الدولة الحديثة أنتوني غدنز، علم الاجتماع ترجمة فايز الصياغ بيروت لبنان، المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2005، ص 468.
3- كرين برينتون تشكيل العقل الحديث، ترجمة شوقي جلال، الكويت، مجلس الثقافة والنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة عدد 82 ص 214

للدولة القومية ذات السيادة»(1). وعليه يمكن القول إن بدايات تشكل النزعة الأصولية الغربية التي ولدتها الحداثة كانت مع ظهور الدول القومية، والتسابق المحموم نحو الظفر بالمستعمرات وتحقيق المزيد من السيطرة على العالم، فكانت كل دولة تتشكل لتتغذى على الروح القومية التي تعدّ بمنزلة لضامن الوحيد للاستمرارية وإقناع جماهير الشعوب التي ما كانت لتألف هذا النوع من التصور للدويلات الحديثة، ذلك «أنها من أهم العوامل التي تؤسس الأمم»(2).

- وعليه يمكن عد القومية إحدى الركائز الأساسية للأصولية الغربية، ومنها انطلقت جميع النزعات والمذاهب والإيديولوجيات الأصولية في التاريخ المعاصر، فقد«اتخذ الألمان والإيطاليون من المذهب النازي والفاشي ركائز فكرية لتحقيق غايات قومية، وعندما اندلعت الثورة الفرنسية واتخذت مبدأ الحرية والمساواة استخدمتها كأداة لقوميتها من أجل السيطرة على أوروبا والعالم، وفي روسيا عندما اندلعت الثورة الفرنسية البلشفية اعتنقت روسيا المذهب الاشتراكي واتخذت منه أداة للسيطرة على الجمهوريات

السوفيتية وفرض سيطرتها على أوروبا الشرقية من خلال هذه الصبغة القومية»(3).

- أما بالنسبة للأصولية عند جارودي، فبعد أن عرض أهم التعريفات لها في المعاجم، كمعجم روبير، ولاروس والموسوعة العالمية، قام بتلخيص تلك التعريفات ووصل إلى تحديد أهم المكونات الأصولية إذ يقول: «أولاً : الجمودية؛ رفض التكيف، جمود معارض لكل ،نمو لكل تطور ثانيا : العودة إلى الماضي، الانتساب إلى التراث، المحافظة، ثالثاً: عدم التسامح، الانغلاق التحجر المذهبي: تصلب، كفاح، عناد... وهي تقوم على معتقد ديني أوسياسي مع الشكل الثقافي أو المؤسسي الذي تمكنت من ارتدائه في عصر سابق من تاريخها وهكذا تعتقد أنها تمتلك حقيقة مطلقة وأنها تفرضها»(4).

ص: 204


1- المرجع نفسه، ص 212.
2- نبيلة داود، الموسوعة السياسية المعاصرة ، مصر ، دار الغريب للطباعة والنشر، 1995، ص 37.
3- المرجع نفسه، ص 37- 38
4- روجیه غارودی الاصولیات المعاصرة اسبابها و مظاهرها باریس فرنسا دار عام الفین ط 1، 2000 ص 11، 13

فالنزعة الأصولية (1)بذلك لا تحتكم إلا إلى التصورات الماضوية، المنغلقة وتنطلق منها لتستعملها براديغم لتفسر بها حاضرها ومستقبلها، وترفض نزعة تجديدية خارج ذلك الماضي، تلك النزعة المحاطة بالسياج الدوغمائي الذي ينمط جميع التصورات وفق تصوره الذي يأبى أن تكون الحقيقة خارج تصوره، وهم أصحاب «الأفهام الحرفية، يجهلون كل شيء عن الحركة الحقيقية للعالم والذي هو خلق إلهي متجدد، إنهم يدّعون امتلاك أجوبة لجميع مشكلات عصرنا»(2)، وهوما يطلق عليه النزعة التمامية، التي تدعي أن كل شيء يتم تفسيره وفق ذلك الأنموذج السائد، وأن العالم قد تمت عملية تأويله، فلا مجال لفهم أو تأويل آخر.

- ويرى جارودي الأصولية الغربية بأنها جماع الأصوليات كلها التي انبثقت في العالم، «فالأصولية الغربية هي العلّة الأولى، ثم ولدت كل الأصوليات الأخرى ردا على أصولية الغرب»(3)، والسبب في ذلك أن «الغرب منذ عصر النهضة، فرض نموذجه الإنمائي والثقافی»(4)، فثقافة الغرب تدعي أن نموذجها هو الأكمل والإنساني الذي لا بد من أن يسود العالم، وما النماذج الثقافية الأخرى إلا نماذج قاصرة وغير علمية، وبذلك أصبحت الأصولية هي «الخطر الأكبر على عصرنا، حيث لا يمكن حل أية مشكلة انطلاقاً من مجتمع جزئي واستناداً إلى معتقداته الجامدة»(5).

- لقد عدد روجيه جارودي أنواعاً متعددة من الأصوليات، والذي نود الإشارة إليه الأصوليات التي دشنتها الحداثة الغربية، خاصة الأصولية العلماوية، والأصولية

ص: 205


1- عدد المستشرق الألماني فريتش شيبات اتجاهات متعددة من الأصوليات وهي الآتي: » (أ) الشمولية وهي مفهوم مأخوذ عن الكاثوليكية، وتعبر عن وجهة النظر التي تقول إن جميع الأسئلة التي تقدمها الحياة الخاصة والعامة تتوافر الإجابات عنها في العقيدة أو بالأحرى في تعاليم الدين أوالأيديولوجية ، (ب) النصوصية : أي الرأي القائل إن النصوص المقدسة ينبغي ألا تمس وينبغي أن تفهم حرفياً أولفظياً، (ج) الإنحياز المطلق أي رفض أي مناقشة للمبادىء التي يعتنقها الأصولي والتعصب تجاه أي وجهة نظر أخرى مخالفة فريتش شيبات الإسلام شريكا، دراسات عن الإسلام والمسليمن ترجمة عبد الغفار مكاوي، الكويت، عالم المعرفة عدد 30280 ، ص 79 هذه الأوصاف التي عدها المستشرق فريتش شيبات خاصة إلى حد كبير بالأصولية الإسلامية، ولا يمنع في بعض هذه الاتجاهات أن تشترك فيها بعض الأصوليات الغربية وكذا الصهيوينة
2- روجيه جارودي، تقديم لكتاب المشكلة الدينية، محسن الميلي، دمشق سوريا دار قتيبة، ط1، 1993، ص9.
3- روجيه جارودي، الأصوليات المعاصرة أسبابها ، ومظاهرها، مصدر سابق، ص.12.
4- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
5- المصدر نفسه، ص 12

الستالينية، والأصولية ،الأميركية، لأن سائر الأصوليات كانت نشأتها دينية، الأصولية اليهودية، والأصولية ،الفاتيكانية والأصولية الإسلامية هذه الأخيرة التي جاءت رد فعل على الأصولية الغربية الإستعمارية، كما أشرنا سابقاً. أما الأصوليات التي ولدتها الحداثة الغربية فهي الآتي:

1/ الأصولية العلماوية:

- يمكن عدّ الأصولية العلماوية تلك التي «تجعل من العلم معتقداً متحجراً (دوغما)، فالأراء العلمية التي تقررها المدرسة سيتعين أن ترتدي لاحقاً الأشكال التي تجعلها مقدسة»(1)ويعد أوجيست كونت هو الأب الروحي لهذه الأصولية، الذي حوّل تصور العالم وفق نموذجه التفسيري الأخير وهي مرحلة العلم، وهو البراديغم الذي أعطاه المقدرة الكاملة لتفسير كل شيء من خلاله، وبالتالي إقصاء النماذج التفسيرية الأخرى ،«إذ يبدأ التاريخ عنده بالحقبة الأسطورية الغيبية، ومنها إلى الحقبة الميتافيزيقية، لينتهي المطاف عند ما أسماه بالحقبة الوضعية العلمية المتطابقة مع نظرة علمانية دهرية تقطع جملة مع التصورات الأسطورية والإحالات الدينية المتعالية»(2).

2/ الأصولية الستالينية:

- تنسب هذه الأصولية إلى جوزيف ستالين(3)، الذي كان من طبقة البروليتاريا، ليجد نفسه في سدة الحكم، إذ تبنى التصور الماركسي في بناء الدولة السوفييتية، ولكن هذه الماركسية هي ماركسية ستالين وفق تأويله وفهمه لها، وعلى هذا الأساس

ص: 206


1- روجيه جارودي، الأصوليات المعاصرة أسبابها ، ومظاهرها، مصدر سابق، ص18.
2- رفيق عبد السلام، آراء جديدة في العلمانية والدين والديمقراطية، بيروت لبنان مؤسسة الانتشار العربي، ط1، 2007، ص 25.
3- ستالين جوزيف 18799-1953 رئيس اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية السابق من عام 1929 وحتى صعد من حالة الفقر المدقع إلى حاكم البلاد تغطي مساحتها سدس مساحة العالم، حكم ستالين حكماً دكتاتورياً خلال معظم سنوات حكمه، وأعدم وسجن معظم الذين ساعدوه في الوصول إلى سدة الحكم ، لخشيته من أن يكونوا مصدر تهديد لحكمه، وكان مسؤولاً أيضا عن موت كثير من الفلاحين السوفييت الذين عارضوا برنامج الزراعة التعاونية عمال المزارع السوفييت كانوا يعملون في مزارع تديرها الدولة بعد أن أبطل ستالين الملكية الخاصة للمزارع في عام 1929، توفي سنة 5 مارس 1953 الموسوعة العربية العالمية، مرجع سابق، ج 12، ص 152 153 .

«فقد تحولت الماركسية من فلسفة تبصر الإنسان بإمكانياته الخلاقة وتدفعه إلى الأخذ بزمام الصيرورة التاريخية، إلى عقيدة دوغمائية وممارسة كليانية وجرائم لا إنسانية... فقد تحول ستالين بفعل السلطة التي كان يمارسها إلى آكل بشر وكان يعتقد أنه هو الثورة وأنه هو الاشتراكية»(1).

- ويرى جارودي أن فكر ماركس هو فكر فلسفي نقدي، هذه «الفلسفة النقدية هي استيفاء لكون كل ما نقوله عن الطبيعة عن التاريخ أو عن الله، إنما يقوله الإنسان، وهي ومن ثم تأكيد ظرفي، متناسب مع معارفنا ومع تجاربنا الآنية، في هذا المعنى وفي هذا المعنى فقط، كان ماركس يعلن أن اشتراكيته علمية»(2).

- على عكس ما تقرره كل مذهبية وأصولية وسبب الانحراف الذي أصاب الماركسية بسبب الاعتقاد في علمية الأنموذج التفسيري بالتصور الوضعي القادر أن يفسر كل شيء، هذا الاعتقاد قاد الغرب إلى الانتحار، إذ إن ورثة ماركس هم الذين انطلى عليهم هذا التوجه فمصطلح علمي جرى استعماله في معنى الوضعية، أي في معنى هذا الادعاء لبلوغ حقيقة نهائية من خلال حصر المعرفة الإنسانية وتاريخه وابتكاراته... فالمذهبية تقوم على وهم أو على زعم الاستقرار في الكائن وإعلان حقيقته المطلقة... تعتبر أن بنية العالم شاملة وخالدة في هذه الحقبة أوتلك من حقبات تاريخه»(3).

- يبدو أن جارودي جد حانق على ستالين، إذ جعل اصطلاح الأصولية على اسم ستالين، ذلك أن الانحراف الأكبر للماركسية كان على يده، بدل أن تسير في الخط الذي وضعه ماركس، للقضاء على الظلم والاستغلال الطبقي الذي كرسته الرأسمالية فقد قام ستالين بتحويل نظام الحزب الشيوعي، وغيَّر بنية التركيب للحزب، وتصرف تصرف الدكتاتور «فاستغل منصبه في تعيين أتباعه في المراكز الهامة لكي يضمن

ص: 207


1- روجيه جارودي، في حوار له مجلة حدث الخميس L Evenement du Jeudi بتاريخ 30 مارس إلى 5 أفريل 1989، ضمن كتاب، محسن الميلي، المشكلة الدينية، مرجع سابق، 28.
2- روجيه جارودي، الأصوليات المعاصرة أسبابها ومظاهرها، مصدر سابق، ص 26
3- المصدر نفسه، ص .26 - 25

الأغلبية لنفسه في مؤتمرات الحزب... وقد تآمر في البداية مع بعض زملائه لكي يبعد تروتسكي عن خلافة لينين... ثم تآمر مع الآخرين وقضى على حلفائه الأولين، وجعل جميع قرارارت المكتب السياسي يجب أن تكون بالإجماع، ثم أعلن بعد ذلك خطة السنوات الخمس، التي تكفلت بفرض الزراعة الجماعية، ونفذت الخطة بكل وسيلة من وسائل الإرغام ومات في سبيل ذلك الملايين وزج بغيرهم من الملايين في معسكرات التي أقيمت في المناطق المهجورة بشمال روسيا»(1).

بهذا التصور تحولت الفلسفة النقدية الماركسية ، من فلسفة إنسانية في بعض أبعادها، إلى أصولية ستالينية دوغمائية دموية، متنكرة للمبادىء التي نادت بها في أول نشأتها حيث يقول جارودي إن «هذا التحريف الأصولي حول ماركسية ماركس إلى عكسها»(2).

3/ الأصولية الأميركية:

- أما بالنسبة للأصولية الأميركية فقد أفرد لها جاوردي مؤلفاً خاصاً بعنوان: الولايات المتحدة الأميركية طليعة الانحطاط، عام 1997م، (avantgarde de la decadence Unis-États Les) إذ تناول في هذا الكتاب التركيز على نقد المشروع الأميركي في العالم، من خلال سياساتها العالمية، إذ یری جارودي أمريكا عبارة عن منظمة إنتاج تديرها المنطقية التقنية أو التجارية فقط، حيث يسهم كل فرد كمنتج أو مستهلك، متطلعاً إلى هدف وحيد، وهو الزيادة الكمية لرفاهه وكل شخصية ثقافية أو روحية أو دينية، تعد قضية خاصة، فردية لا علاقة لها في تشغيل النظام»(3).

- فإذا كانت كذلك، فإن المنطق الذي يحكمها هو معيار التحقق المادي، والبحث على طرقه ووسائله التي تؤدي إلى الرفاه تلك الديانة التي صارت رائجة في المنطق العالمي الجديد.

ص: 208


1- أدريين كوخ، آراء فلسفية في أزمة العصر، مصر القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1963، ص 25.
2- روجيه جارودي، الأصوليات المعاصرة أسبابها ، ومظاهرها، مصدر سابق، ص35.
3- روجيه جارودي، الولايات المتحدة الأميركية طليعة الانحطاط، مصدر سابق، ص 29.

فالأصولية الأميركية حسب جارودي، قائمة على فكرة الهيمنة والاستغلال الذي بدأ مع «تاريخ الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر هو أولاً تاريخ إبادة الهنود الحمر... وهو أيضا تاريخ استغلال العبيد السود، خاصة في زراعة القطن»(1).

- أما تاريخ السيطرة والهيمنة الحقيقي وتمكّن الأصولية الأميركية من بسط نفوذها على العالم فقد كان عام 1992م كان «عام قمة الهيمنة للولايات المتحدة الأميركية ... هذا المنعطف التاريخي الذي وجدنا أنفسنا فيه عام 1992م»(2)، إذ بدأت أميركا تنميط العالم على النمط الاقتصادي، أحادية السوق النظام الديمقراطي، واستعملت في ذلك القوة العسكرية والاقتصادية، حيث عبَّرت الأمركة عن قمة أصوليتها في شكلها الحقيقي، إذ تم التخطيط «لهذا المنعطف بمد نفوذ السوق منظماً وحيداً للعلاقات الإنسانية على الصعيد العالمي، عن طريق الاستعمار الذي قام في البداية بجعل الدول المحتلة، مجرد روافد لاقتصاد الدول الاستعمارية»(3). فقد بدأت الهجمة على العراق «الأمر يتعلق بإعطاء درس وعبرة، يبين للعالم الثالث بكامله ، أن من غير المسموح لأي شعب ... أن يرتفع إلى أعلى مستوى من التقنية، واستثمار ثرواته الوطنية (وفي الحالة الراهنة البترول)، من دون مراقبة أسعاره من قبل الدول الاقتصادية الكبرى، أو أن يبتعد عن الدين الذي لا يجرؤ على الإعلان عن اسمه، ولكن الولايات المتحدة تفرضه على العالم وهو وحدانية السوق وعبادة المال»(4)، إنه نموذج الأصولية في طورها المتقدم والمعاصر وهو منهج للجنون، بمعزل عن المعارضة المبدئية لتنمية العالم الثالث خارج سيطرة الولايات المتحدة، يظل ضرورياً أن تفهم الشعوب المقهورة أن عليها ألا تتجرأ على رفع رؤوسها في حضرة السادة، أما إن فعلت، فهي لن تدمر

ص: 209


1- المصدر نفسه، ص 33 34
2- روجيه جارودي، حفار والقبور، ص8، 9.
3- المصدر نفسه، ص 9.
4- روجيه جارودي، الولايات المتحدة الأميركية طليعة الانحطاط، ترجمة صياح الجيهم ميشيل خوري، دار عطية للنشر، بيروت ، لبنان، ط2، 1999، ص .29

باستخدام العنف المتفوق تفوقاً ساحقاً فحسب، بل إنها ستستمر بالمعاناة طالما نجد ذلك محققاً لمصالحنا... هذا النموذج كما في العراق»(1).

- والنتجية التي يصل إليها جارودي بعد بحثه في دراسة الأصوليات الكثيرة والمتنوعة، في العالم، فهو يحمل النتيجة ونشأة الأصوليات للغرب الطارىء، الذي أسهم بشكل مباشر أو غير مباشر في صناعة تلك الأصوليات، يقول جارودي جميع الأصوليات (بعنفها وسلفيتها) هي ردود أفعال على أصوليات الغرب لتدافع عن هويتها، ورد الفعل هذا هو في الغالب ارتداد إلى الماضي ويتعلق به لأنه يحلم بالعصر الذهبي في مواجهة الغزو الثقافي، عصر ذهبي سبق هذا الاعتداء، وقلما يفضي إلى مشروع مستقبلي حقيقي»(2).

خاتمة:

ما نخلص إليه أن الحضارة الغربية، كانت قد انطلقت من أفكار أسهمت في تشكيلها وحددت رؤيتها المسبقة إلى العالم، خاصة فكرة التمركز حول ،الذات، هذه الأخيرة التي انبثقت منها جميع صنوف الإيديولوجيات المختلفة، حيث قامت هذه الأخيرة بتفعيل فكرة الصراع في العالم، وقد حددت الإطار الذي سيتموضع فيه الغرب تجاه الآخر، ليست الآخ-ر ه-و الجحيم فقط، بل الآخر الذي لا يحق له إلا أن يكون تابعاً للنسق الذي

قد رسم.

تعدّ نزعة التمركز حول الذات ورفض الحضارة الغربية ومصالحها على جميع مجالات الحياة على حساب باقي الثقافات، من أبرز تجليات أزمة القيم الحداثية: فراغ العالم من المعنى منها، وسيتم تقديس كل ما هو غربي، يعدّ مركزاً والباقي هو ،الهامش، وعليه سيتم سحق جميع من يخالف هذا التصور، وهذا ما تم بالفعل، ففلسفة الأنوار الغربية، قامت بسحق حضارات إنسانية كان من الممكن أن تفيد

ص: 210


1- نعوم تشومسكي، سنة 501 الغزو مستمر ترجمة مي نبهان دمشق سوريا، دار المدى للثقافة والنشر، 1996، ص 435.
2- روجيه جارودي، الولايات المتحدة الأميركية طليعة الانحطاط، مصدر سابق، ص 123.

منها الإنسانية في جوانب متعددة، كالحضارة الهندية والحضارت التي همشت كالحضارات الشرقية.

إن ما قدمه روجيه جارودي حول نوابت الأصولية الغربية ونقده لها، هي لفتة للمراجعة، فما العنف الذي نراه في العالم ما هو إلا نتيجة لمثل هذه الفلسفة، خاصة إذا عرفنا أن لكل فعل رد فعل مساوياً له في المقدار ومضاداً له في الاتجاه.

فالبدائل الفكرية تجاه هذه القضية لا تكمن إلا في محاولة مراجعة الذات والتخلص من النظرة الاستعلائية، ودمج الذات في النسق الإنساني الذي يقوم على التعارف والتواصل لتحقيق إيتيقا الاعتراف والتعاون الإنساني في العالم الذي مزقته الحروب والصراعات من أجل طغيان الأنا المتعالية.

ص: 211

نقد الكولونيالية والكولونيالية الحديثة

قراءة في منظورية إدوارد سعيد

مجدي عزالدين حسن(1)

تعتبر دراسات ما بعد الكولونيالية (Postcolonialism) حقلاً معرفيّاً حديث النشأة نسبياً، ويتم موضعتها ضمن حقول الدراسات الثقافية والتي تعتمد في تفحصها للنصوص وللممارسات الثقافية المختلفة على فروع أكاديمية بحثية متعددة كالفلسفة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والدراسات الإثنية والتاريخ، والنقد الأدبي، والتحليل النفسي، وعلم السياسة.

البدايات الأولى لظهور (ما بعد الكولونيالية)، كواحد من حقول المعرفة، تعود بنا إلى منتصف القرن العشرين حيث برزت الدراسات الثقافية المناهضة للهيمنة في الدوائر الأكاديمية، وهي ذات الفترة التي شهدت تحرر الدول ونيلها استقلالها من المستعمر. وفي أواخر السبعينات من القرن العشرين تبلورت الأطر المعرفية والمنهجية لهذا الحقل.

ص: 212


1- أستاذ ودكتور مشارك بقسم الفلسفة كلية الآداب جامعة النيلين الخرطوم - السودان.

ومنذ ذلك الوقت تم النظر إليها بوصفها النظرية التي تهتم بتفكيك الخطاب والممارسة الاستعمارية. وضمن هذا التوجه تم التركيز على فضح نوايا وأهداف المستعمِر المستترة خلف دعاوى الحضارة والمدنية والتبشير تلك المتمثلة في نهب ثروات وخيرات الشعوب التي تم استعمارها وهنا أيضاً ، نلحظ دعوة وانخراط نقاد ما بعد الكولونيالية في المشروع المتمثل في إعادة قراءة وكتابة التاريخ من وجهة نظر هذه الشعوب.

وضمن هذا الانخراط الأخير ركز نقاد ما بعد الكولونيالية على دراسة جملة من القضايا والمسائل، يأتي على رأسها توضيح وتحليل الكيفية التي أخضعت بها الكولونيالية الثقافات المحلية لمشيئتها ، وكذلك دراسة الصور التي استجابت بها الدول التي تم استعمارها لإرث الكولونيالية الثقافي بعد نيلها الاستقلال.

يعتبر فرانز فانون (Franz Fanon) (1962-1925م) بمثابة الأب الروحي للنظرية والمبشر الأول لها ، وعدّ كتابه (معذبو الأرض) كتاباً تأسيسياً لنظريّة ما بعد الكولونيالية، حيث تضمن أهم أطروحاتها ومقولاتها، اللتان حلل من خلالهما - فانون ومن جاء بعده- العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر تحليلاً سيكولوجياً واجتماعياً وتاريخياً.

بجانب ،فانون يعد البعض الثلاثي : إدوار سعيد هومي بابا، جيتاري سبيفاك بمثابة (الثالوث المقدس لنظرية ما بعد الكولونيالية). وبعض آخر عدّ كتاب (الاستشراق) لإدوار سعيد بمثابة الكتاب التأسيسي لهذه النظرية، بسبب الأثر الكبير الذي خلفه في كل من أتى بعده من نقاد ما بعد الكولونيالية.

يهدف هذا المقال البحثي إلى تسليط الضوء على حقل دراسات ما بعد الكولونيالية من خلال أعمال الكاتب والناقد والمفكر السياسي إدوارد سعيد (Edward Said) (2003-1935م)، وتبيان أهم أطروحاتها الرئيسة ولإنجاز هذا الهدف اخترنا التعاطي مع مشروع سعيد من خمس ،زوايا، حيث غطت أهم أعماله وأثاره، نقد الثقافة الكولونيالية عنده، ومفهوم النقد المقاوم، نظرة سعيد للاستشراق، وأخيراً صورة الشرق كما خلقه الغرب».

ص: 213

أهم أعماله وأثاره

ألّف إدوارد سعيد أكثر من عشرين كتاباً، نذكر منها:

* جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية - Conrad and the Fiction of Auto (1966)

* بدايات مقاصد ومنهج (Joseph biography (1975) Beginnings: Intentions and Method

* الاستشراق Orientalsm (1978)

* مسألة فلسطين (The Question of Palestine (1979)

* تغطية الإسلام (Covering Islam (1981)

* العالم النص الناقد (The World, the Text, and the Critic (1983)

* الثقافة والإمبريالية Culture and Imperialism (1993)

* صور المثقف (Representations of the Intellectual (1994)

* السلطة، السياسة والثقافة (Power, Politics, and Culture (2001)

* فرويد وغير الأوروبيين (Freud and non-European (2003)

انخرط سعيد في مشروعه الناقد والمحلل لخطاب الاستشراق، حيث كانت البداية من أطروحة الدكتوراه خاصته والتي كانت في الأدب المقارن، والتي اختار سعيد أن يكون الكاتب الإنجليزي البولندي الأصل جوزيف كونراد( Joseph Conrad) موضوعاً لها، ونشرت بعد ذلك كأول كتبه عام 1966م بعنوان: (Conrad and the Fiction of Autobiography)، وربما يكون من ضمن الأسباب التي حدت به إلى اختيار هذا الموضوع القواسم المشتركة بينه وبين كونراد فهو كاتب عانى مثله معاناة النفي والتهجير مكانياً ولغوياً.

ص: 214

أيضاً، نلاحظ ارتباط سعيد المبكر بتوجه ما بعد الكولونيالية من خلال لجوءه إلى استخدام منهجية مدرسة جنيف، فسعيد لم يستخدم منهجية النقد الجديد، على الرغم من أنها كانت لها السيادة في زمن كتابته لأطروحته، لكنه رفضها كمنهجية، رغم سحرها آنذاك، لأنها تتعاطى مع النص بوصفه مقطوع الصلة عن التاريخ الثقافي لمؤلفه. واختار أن يقارب أعمال كونراد من خلال منظور مدرسة جنيف التي تهدف في دراستها للنص إلى إعادة بناء تشييد نظرة الكاتب للوجود انطلاقاً من لغته الإبداعية.

في العام 1975م صدر كتابه الثاني بعنوان ( بدايات: مقاصد ومنهج ) : (Beginnings Intentions and Method) والكتاب يركز على تأمل مشكلة البدايات في الرواية الكلاسيكية والأدب الحداثي.

يعتبر كتابه الاستشراق Orientalsm الصادر في العام 1978م الكتاب العمدة لإدوارد سعيد، وهو كتاب كان له أثر كبير وإسهام عظيم في إرساء أسس ودعائم نظرية ما بعد الاستعمار . ويعالج سعيد في هذا الكتاب العلاقة بين السياسة والثقافة ويقطع فيه شوطاً طويلاً في تحليل الخطاب الاستشراقي مبيِّناً أنه ليس كما يدعي مجرد فرع معرفي حيادي بل تخترقه حتى النخاع علاقات القوة والسلطة، فدراسات المستشرقين عن (الشرق) خدمت إلى حد كبير المخطط الاستعماري الهادف إلى إخضاع الشعوب الشرقية لسيطرته واستغلالها لمصالحه.

وفي كتابه تغطية الإسلام Covering Islam الصادر سنة 1981م، والذي يستكمل ما بدأه في كتابه الاستشراق بنقد الصور النمطية الزائفة التي تلجأ إليها وسائل الإعلام الأميركية لدى تناولها موضوعات الإسلام والشرق.

أما في كتابه:( العالم النص الناقد) (The World, the Text, and the Critic) الصادر عام 1983م من ضمن ما يعالج فيه سعيد سؤال ما الذي يحدث حينما تحاول ثقافة ما أن تتفهم ثقافة أخرى، أو أن تهيمن عليها ، أو أن تقتنصها في حالة كونها أضعف منها. ويطور مفاهيم نقدية جديدة مثل مفهوم (النقد العلماني أو الدنيوي)

ص: 215

(Secular Criticism) والذي يعارض اقتصار النقد على النص وحده، وبالمقابل يشير إلى قراءة النص في ارتباطه بشرطه الدنيوي الذي ينشبك فيه . وكذلك مفهوم (ارتحال النظرية) (traveling theory) فيري أن الأفكار والنظريات تسافر مثل البشر منتقلة من مسار آخر.

أما في كتابه (الثقافة والإمبريالية) فيقوم سعيد بتوسيع إطار التحليل ليشمل أماكن أخرى أبعد من الشرق العربي والشرق الأدنى الإسلامي، كالهند. وكذلك قام فيه بدراسة حركات المقاومة، وتحدث فيه عن إرادة الآخرين لمقاومة إرادة الإمبريالية إضافة إلى الأعمال المعارضة التي قام بها مثقفون أوروبيون وأميركيون وعلماء لا يمكن اعتبارهم جزءاً من بنية شيء مثل الاستشراق(1).

وكخاتمة لهذا المحور نقول كان هدف سعيد من خلال كتاباته المتعددة اختراق حجب التقاليد الثقافية الغربية التي شيدت على مدى عقود طويلة في القرنين الماضيين وعالجت كتاباته بشكل موسع وعميق الهيمنة الثقافية التي مارسها الغرب على الشرق والجنوب، وركزت هذه الكتابات بشكل خاص على دراسة العلاقة بين الشرق (وتحديداً الشرق الأدنى الإسلامي والعربي) وبين الغرب (تحديداً فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة). حيث تم رصد تلك العلاقة منذ غزو نابليون بونابرت لمصر في أواخر القرن الثامن عشر مروراً بتناول الفترة الاستعمارية الرئيسة والتي تزامنت معها نشأة دراسات المستشرقين الحديثة في أوروبا، وانتهاءً بالهيمنة الإمبريالية البريطانية والفرنسية على الشرق بعد الحرب العالمية الثانية وظهور السيطرة الأميركية في الوقت نفسه.

نقد الثقافة الكولونيالية

يفكك سعيد المقولة التي روجت لها المركزية الأوروبية، بل أبعد من ذلك، قامت برفعها إلى مصاف المسلمات الأولية والمقولات التأسيسية التي لا يرقى الشك إلى أهميتها وترابطها المنطقي، والتي مفادها أن الثقافة الأوروبية هي محور التاريخ

ص: 216


1- إدوارد سعيد السلطة والسياسة والثقافة، ترجمة نائلة قلقيلي حجازي دار الآداب، بيروت، ط1، 2008م، ص 208.

البشري كله وأنه لكي تنجز الشعوب والأمم غير الأوروبية نهضتها فلا مناص لها من اعتناق ذات المثل وذات منظومة القيم التي أدت إلى تقدم الحضارة الغربية، وليس ثمة مخرج لها إلا بالعودة إلى مثاليات هذه الأخيرة ومرجعياتها.

عن طريق فرض هذا التمركز الأوروبي، كما يرى سعيد، استطاع الغرب الكولونيالي فرض هيمنته وسيطرته على بقاع بعيدة عنه كأفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. هذه السطوة من جانب المركزية الأوروبية ما كان لها أن تتم إلا على حساب تهميش كل ما يقع خارج محيط دائرة الحضارة الأوروبية، وما أنتجته هذه الأخيرة من معارف ورؤى وتصورات وقيم للموضوع الكلي المركب من ثلاثية الإنسان والعالم والله.

وهكذا قام التسويغ العقلي للإمبريالية على ما يسمى (عبء الرجل الأبيض)، وعلى مهمة نشر الحضارة، ونشر قيم التحضر والتمدن، وحقوق الإنسان، واليوم أصبح يتمثل فيما يدعى (الحرب على الإرهاب) و(النضال من أجل الديمقراطية)، ويستشهد سعيد بما ورد في بعض خطابات الرؤساء المتعاقبين على رئاسة الولايات المتحدة الأميركية من أنهم يقاتلون لأجل نصرة الخير في مقابل الشر، وأنهم لا يهدفون إلا لنشر القيم الديمقراطية، القيم الأميركية، في كل أنحاء العالم. والخلاصة أنهم لا يتحدثون أبداً عن الهدم والتدمير، ولكنهم يتحدثون في الحقيقة عن إهداء التنوير والحضارة والسلام والتقدم للناس(1).

ما سبق أدى في نظر سعيد إلى ما وصفه ب (التشرنق العرقي الأوروبي) الذي هو بمثابة بنية لاشعورية كامنة خلف طرائق البحث الغربي ومناهجه والتي أدت، في محصلتها النهائية، إلى حشر كل الثقافات غير الأوروبية، والأدنى منها، إلى موقع من مواقع التبعية. في ذات السياق، يلاحظ سعيد أن نصوص الاستشراق تحتل حيزاً دون أي تطور أو نفوذ، ألا وهو ذلك الحيز الذي يماثل تماماً موقع المستعمرة المفيدة للنصوص والثقافة الأوروبية. ويحدث هذا كله في نفس ذلك الوقت الذي بدأت تترعرع فيه الإمبراطوريات الاستعمارية العظيمة(2).

ص: 217


1- راجع : إدوار سعيد الثقافة والمقاومة، ترجمة علاء الدين أبو زينة، دار الآداب، ص 166.
2- أنظر إدوار سعيد، العالم والنص والناقد، ترجمة: عبد الكريم محفوض، منشورات اتحاد الكتاب العرب، 2000،ص 55-56.

فسعيد، هنا يوازي بين نشأة دراسات الاستشراف من جهة، وبين بداية الاستعمار الأوروبي للعالم من الجهة الأخرى. ويرى أهمية الدور الكبير الذي قام به الباحثون الغربيون المشتغلون في حقل الاستشراق لعبوا في تعزيز واستدامة مصالح الغرب الكولونيالي.

ويضرب سعيد مثلاً بما قاله ماكولي عن التربية الهندية، عام 1835م في محضر اجتماع رسمي :«ليس لي أية معرفة لا بالسينسكريتية ولا بالعربية، ولكنني فعلت ما لتكوين تقويم دقيق لقيمة كل منهما. لقد قرأت ترجمات لأشهر الأعمال العربية والسنسكريتية ولقد تحادثت هنا وفي الوطن مع أناس متميزين بكفاءاتهم في اللغات الشرقية. بيد أنني ما وجدت واحداً منهم بمقدوره أن يدحض حقيقة كون رفٍ واحدٍ من مكتبةٍ أوروبية جيدة يساوي كل الأدب المحلي للهند والجزيرة العربية. إن السمو الجوهري للأدب الغربي محط الإقرار التام فعلاً من قبل أولئك الأعضاء الذين يشكلون اللجنة والذين يدعمون الخطة الشرقية في التعليم. وليس من المبالغة أن نقول أن كل المعلومات التاريخية المجموعة في اللغة السنسكريتية أقل قيمة مما قد يوجد في تلك الملخصات المبتذلة والمستخدمة في المدارس الإعدادية في إنكلترا، وفي كل فرع من فروع الفلسفة الأخلاقية والمادية نجد أن المكان النسبي لهاتين الأمتين هو نفسه تقريباً»(1).

ويعلق سعيد على ما قاله ماكولي، بقوله:«إن ذلك القول، في الواقع، لدليل على التشرنق العرقي، بل وأكثر من ذلك، لأن رأي ماكولي ما هو ذلك، لأن رأي ماكولي ما هو إلا تصور غارق في صميم التشرنق العرقي وذو نتائج مؤكدة. إذ إن ماكولي كان يتحدث من موقع السلطة حيث كان بوسعه ترجمة تصوراته إلى قرار يأمر سكان شبه قارة بأسرها أن يذعنوا للدراسة بلغة غير لغتهم الأم . وهذا ما حدث في حقيقة الأمر»(2).

ويقدم سعيد مثالاً آخر من كتاب إيريك ستوكس: (النفعيون الإنكليز والهند)

ص: 218


1- إدوار سعيد، العالم والنص والناقد، مصدر سابق الذكر، ص 17.
2- نفس المصدر السابق ص 17-18

حيث تحدث ستوكس عن أهمية الفلسفة النفعية للحكم البريطاني في الهند. يكتب سعید معلقاً: يتعجب المرء في كتاب ستوكس من الكيفية التي تتمكن بها زمرة قليلة من المفكرين نسبياً، من بينهم بينتام وجون ستيوارت ميل من الإتيان بالحجج لتعزيز مذهب فلسفي واستكماله لحكم الهند، مذهب ينطوي في بعض جوانبه على تشابه لا يرقى إليه الشك مع آراء آرنولد وماكولي في الثقافة الأوروبية من إنها أسمى من كل ما عداها. فها هو جون ستيوارت ميل يحتل اليوم بين (نفعيي البيت الهندي) منزلة ثقافية مرموقة إلى الحد الذي جعل آراءه عن الحرية والحكومة التمثيلية تدور على ألسنة أجيال وأجيال على أنها المقولة الثقافية الليبرالية المتطورة حول هذه القضايا. ولكن عن ميل كان على ستوكس أن يقول ما يلي: (لقد أفاد جون ستيوارت في كتيِّبه عن الحرية قائلاً بدقة متناهية أن مبادئ الحرية مقصود تطبيقها حصراً على تلك البلدان التي تطورت تطوراً كافياً في مضمار الحضارة ليكون بمقدورها تسوية شؤونها بالبحث العقلاني. وعلاوة على ذلك كان مخلصاً لأبيه في تشبثه بالاعتقاد أن الهند ما كان بالإمكان حكمها وقتذاك إلا بشكل استبدادي. ولكن على الرغم من أنه كان يرفض، هو نفسه تطبيق تعاليم الحرية والحكومة التمثيلية في الهند، فإن حفنة ضئيلة من الليبراليين الراديكاليين وجمهرة متكاثرة من المثقفين الهنود لم يضعوا أمثال هذه القيود). وكما يقول سعيد، فإن لمحة خاطفة على آخر فصل في الحكومة التمثيلية - ناهيك عن التطرق إلى المقطع الوارد في المجلد الثالث من مقالات وبحوث حيث يتحدث عن تغييب الحقوق بالنسبة للبرابرة - توضح بمنتهى الجلاء رأي ميل الذي قال فيه أن ما كان عليه أن يقوله عن هذا الأمر لا يمكن تطبيقه بالفعل على الهند، والسبب بالأساس أن رأي ثقافته بحضارة الهند هو أنها لم تكن وقتها قد بلغت بعد درجة التطور المطلوب(1).

إن تاريخ الفكر الغربي بأسره إبان القرن التاسع عشر، حسب ما يذهب سعيد، مليء بأمثال هذه التخرصات والتمييزات بين ما هو مناسب لنا (أي الأوروبيين) وما هو مناسب لهم (غير الأوروبيين)، إذ إن الأوائل مصنفون بأنهم في الداخل، في

ص: 219


1- إدوار سعيد، العالم والنص والناقد، مصدر سابق الذكر، ص 18

المكان الصحيح مألوفون منتمون، وباختصار فهم فوق. والمثاني مصنفون على أنهم في الخارج ،ثنوى ،شواذ تّبع، وباختصار فهم تحت فمن هذه التمييزات التي حظيت بسطوتها من خلال الثقافة، ما كان بوسع أي امرئ أن يتفلت منها حتى مارکس نفسه إن النظرة للثقافة الأوروبية على أنها المعيار الممتاز حمل معه زمرة مرعبة من التمييزات بين ما لنا وما لهم بين الملائم وغير الملائم، وبين الأوروبي وغير الأوروبي، وبين الأعلى والأدنى، فهذه هي التمييزات التي يقع عليها المرء في أي مكان في موضوعات من أمثال علم اللغة والتاريخ ونظرية العرق والفلسفة والأنتروبولوجيا، لا بل وحتى البيولوجيا(1).

هذا هو الوجه القبيح للكولونيالية الثقافية والفكرية والذي قام سعيد بتعريته في مجمل كتاباته، وهو يرى أن الكولونيالية الثقافية نجحت في دمج منظور المستعمر (بكسر الميم) في رؤى الشعوب المستعمرة، حتى شعرت هذه الأخيرة بأنها غير قادرة على فعل أي شيء دون وصاية الأول ودعمه، وفهمت كذلك أن التشريع لا ينبغي أن يصدر من ثقافة وقيم مجتمعاتها، ولكن من مجتمع الأول وقيمه هو(2).

النقد المقاوم

واحد من الأوجه التي تبرز جديّة طرح سعيد وأصالته، هو ما نلمسه في مفهوم (النقد المقاوم) عنده، ويصلح توصيف وتسمية مشروع سعيد ب (مشروع النقد المقاوم)، فكتابات سعيد وأعماله تهدف بشكل عام إلى نقد كولونيالية المنظومة المعرفية الغربية، وبشكل خاص إلى نقد السلطة والطغيان الذي يمارسه الإنشاء وعلاقات القوة التي يجسدها خطاب الاستشراق.

في مفهومه للنقد المقاوم، يربط سعيد بشكل وثيق بين مفهوم النقد من جهة وبين مفهوم المقاومة من جهة ثانية. ويرى أن أياً من هذين المفهومين لا يتقوم بذاته باستقلال عن الثاني، بل يستلزم أياً منهما الآخر ويستدعيه.

ص: 220


1- نفس المصدر السابق، ص 18-19
2- راجع : إدوارد سعيد، القلم والسيف حوار دافيد بارسامیان ترجمة توفيق الأسدي دار كنعنان للدراسات والنشر، دمشق ط 1 ، 1998م، ص 134

فهو يتحدث عن النقد بوصفه فعلاً مقاوماً، لأن النقد، حسب وجهة نظر سعيد، جب أن يرى نفسه بالأساس مشجعاً للحياة من جهة، ومعارضاً، بحكم تكوينه، لأي شكل من أشكال الطغيان والهيمنة والظلم، وتتمثل الأهداف الاجتماعية له في إنتاج المعرفة بشكل حر ولمصلحة الحرية البشرية بعيداً عن أي صورة من صور القسر(1).

فمثلاً، الهوية السياسية عندما تكون عرضة للتهديد، فإن الثقافة تمثل أداة للمقاومة في مواجهة محاولات الطمس والإزالة والإقصاء. إن المقاومة هنا هي شكل من أشكال الذاكرة في مقابل محاولات النسيان. في الجزائر، مثلاً،سعی المستعمر الفرنسي إلى منع تعليم اللغة العربية في المدارس، فبدأ الناس يجترحون أماكن أخرى - المساجد في حالة الجزائر - لتعليم اللغة العربية وإدامة التراث الشفهي. هناك دائماً محاولة للقمع والإخضاع يقابلها إبداع شعبي وإرادة يضطلعان بمهمة المقاومة (2).

في هذا الإطار نفهم كيف شكلت كتابات سعيد مشروعاً نقدياً عن الغرب، حيث يحلل عقده الفكرية، ويخلخل في ثقافته تلك الادعاءات التي تلبس ثوب الجوهرية والموضوعية، ويقوم بتفكيك تلك المفارقات الضدية الأساسية التي تقوم فيه بين ما يعتبره مبادئ لتطوره الحضاري والبحثي والعلمي وبين الطريقة التي يعاين بها الآخر - حين يكون هذا الآخر الشرق - وحين تتم هذه المعاينة في إطار القوة والفوقية والسلطة(3).

النقد بهذا المعنى (نقد دنيوي) كما يسميه سعيد، وهو (نقد في الدنيا) ما دام يقاوم أية نزعة للتمركز الأحادي الجانب ، وما دام يقاوم أيضاً التشرنق العرقي. هذان المفهومان يعملان بالتعاون مع بعضهما، وأي واحد منهما يستدعي الآخر. ولذلك على النقد المقاوم أن يستهدف تعريتهما وفضحهما، وكذلك فضح كل ما يبيح لثقافة ما أن تتقنع بقناع السلطة الذي تتحلى به بعض القيم على غيرها من القيم الأخرى.

ص: 221


1- راجع : إدوار سعيد، العالم والنص والناقد، مصدر سابق الذكر، ص 35.
2- إدوار سعيد الثقافة والمقاومة، مصدر سابق المصدر، ص 143-144
3- إدوارد سعيد، الاستشراق، ترجمة كمال أبو ديب، مقدمة المترجم، ص 6.

ومن ناحية أخرى، يربط سعيد مفهوم النقد المقاوم ب (الثقافة كأداة للمقاومة)، ويربط الأخيرة بمفهوم محدد للمثقف، يصور فيه سعيد هذا الأخير كمنفي، وهامشي، وهاو، وخالق لغة تحاول قول الحق للسلطة . ويؤكد على دور المثقف كغير منتمي.

ویرى سعيد أن النقد المقاوم يتطلب من المثقف أن يلتزم باستعمال لغة قومية ليس فقط لأنها ملائمة له ومألوفة لديه، وإنما من باب أمله أن يُخلّف في اللغة انطباعة عقلية معينة، ولهجة مميزة، وفي النهاية منظوراً يختص به(1).

ويطرح النقد المقاوم العديد من المشكلات على طاولته، والتي جميعها تثير مجموعة من التساؤلات يأتي على رأسها، حسب تقديرنا السؤال التالي: هل لا زال بالإمكان أن نقول بشكل قاطع وجازم بأننا قد فارقنا بصورة نهائية مرحلة الاستعمار، ودخلنا مرحلة ما بعد الاستعمار ؟ نطرح هذا السؤال وفي ذهننا مجريات الأحداث الراهنة والتي تشير إلى أن شكلاً استعمارياً جديداً قد حل محل الاستعمار بصورته العسكرية القديمة. وهو ما يتم التعبير عنه بمصطلح الكولونيالية الجديدة) (Neo Colonialism) ، فلا زال الغرب الكولونيالي يفهم أن ديمومة تطوره الخاص الصناعي والاقتصادي والثقافي يستوجب المحافظة على إبقاء الشرق غارقاً في تخلفه وتأخره.

وكذلك من ضمن الأسئلة التي يعالجها النقد المقاوم، تلك الأسئلة المرتبطة

باستجلاء طبيعة الاستشراق والتي يصوغها سعيد على النحو التالي:«ما هي أنواع الطاقات الأخرى الفكرية والجمالية والبحثية والثقافية التي دخلت في خلق تراث إمبريالي كتراث الاستشراق؟ وكيف خدم فقه اللغة والمعجماتية والتاريخ وعلم الأحياء والنظرية السياسية والاقتصادية وكتابة الرواية والشعر الغنائي، رؤية الاستشراق الإمبريالية إجمالاً للعالم؟ وأي تغيرات وتعديلات وتنقية وتشذيب، بل أي ثورات تحدث داخل الاستشراق ذاته، أو يعيد إنتاجها من عهد إلى عهد؟ كيف نستطيع أن نعالج ظاهرة الاستشراق الثقافية التاريخية بوصفها نمطاً من العمل الإنساني

ص: 222


1- إدوارد سعيد صور المثقف ترجمة غسان ،غصن دار النهار للنشر، بيروت، ط1، 1996م ، ص 41.

المراد دون أن نخفق في الوقت نفسه في رؤية التحالف بين العمل الثقافي والنزعات السياسية والدولة والواقعيات الخاصة للسيطرة؟»(1).

ما سبق، يستدعي في نظر سعيد تأسيس أقسام علمية داخل الجامعات العربية تكون مكرسة لدراسة الغرب معرفياً، وكما يلاحظ سعيد فإنه لا وجود اليوم لقسم واحد في أي جامعة عربية مكرس حصراً لدراسة الغرب، أو الولايات المتحدة على وجه الخصوص. مع العلم أن الولايات المتحدة أكبر قوى خارجية في المنطقة، ولا وجود كذلك لأقسام مخصصة للدراسات العبرية والإسرائيلية فإسرائيل قوة محتلة ويجب أن يعطى بعض الاهتمام إلى الدراسة المنهجية للدولة ومجتمعها وهي تعتدي على الحياة العربية. هذا لم يحدث بعد هذه كلها أجزاء من ميراث الإمبريالية كما يذهب سعيد(2).

الاستشراق

يتم تعريف المستشرق، من جانب سعيد، بأنه كل من يقوم بتدريس الشرق أو الكتابة عنه أو بحثه، ويسري ذلك سواء أكان المرء مختصاً بعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا) أو بعلم الاجتماع أو كان مؤرخاً أو فقيه لغة (فيلولوجيا).

من ناحية ثانية، نجد أن الاستشراق، كدائرة في الفكر والخبرة، يشير إلى العديد من الميادين المتقاطعة : أولها العلاقة التاريخية والثقافية بين أوروبا وآسيا، وهي علاقة تمتد في أربعة ألف سنة من التاريخ، وثانيها النظام التدريسي العلمي في الغرب والذي أتاح في مطلع القرن التاسع عشر إمكانية التخصص في دراسة مختلف الثقافات الشرقية، وثالثها الافتراضات الأيديولوجية والصور والأخيلة الفانتازية عن منطقة من العالم اسمها الشرق القاسم المشترك النسبي بين هذه الجوانب الثلاثة من الاستشراق في نظر سعيد، هو ذات الخط الفاصل بين الشرق والغرب، وهو كما يجادل سعید، حقيقة من صنع البشر يسميها الجغرافيا المتخيلة، أكثر من كونه حقيقة طبيعية(3).

ص: 223


1- إدوارد سعيد، الاستشراق ، مصدر سابق الذكر، ص 47-48.
2- راجع إدوارد سعيد القلم والسيف، حوار دافيد بارسامیان، مصدر سابق الذكر، ص 82
3- إدوارد سعيد، تعقيبات على الاستشراق، ترجمة صبحي حديدي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط 1 ، 1996م، ص 34.

ومن ناحية تاريخية، ينظر سعيد للاستشراق بوصفه علماً للإدماج والإدراج، وبوصفه الحقل المعرفي الذي قدم الآلية التي أتاحت تأسيس مفهوم (الشرق) ثم إدخاله إلى أوروبا. وللاستشراق كحركة علمية في عالم السياسة التجريبية نظير هو مراكمة الشرق وحيازته استعمارياً من قبل أوروبا. لهذا لم يكن الشرق وفقاً لهذا السياق محاور أوروبا ، بل «آخر»ها الصامت(1).

ويؤكد سعيد على وجود رابط قوي بين الاستشراق من جهة وبين الاستعمار من جهة ثانية، ويرى في الأول عاملاً مساعداً للثاني في فرض سيطرته وهيمنته على الشرق. ويورد سعيد العديد من الحجج والوقائع التي تدل وتبرهن بقوة على علاقة التعاون الوثيق بين دراسات الاستشراق والغزو العسكري الاستعماري المباشر، نأخذ منها على سبيل المثال لا الحصر حالة المستشرق الهولندي (سي سنوك هنجرونيي)، الذي استغل الثقة التي أولاه المسلمون إياها في تخطيط وتنفيذ الحرب الهولندية الوحشية ضد أبناء شعب أتشه المقيمين في سومطره(2).

وما كان لإنجلترا أن تحتل مصر تلك الفترة الطويلة احتلالاً قائماً على مؤسسات هائلة لولا استثمارها الثابت الطويل للدراسات الاستشراقية التي بذر بذورها بعض الباحثين أول الأمر مثل ادوارد وليم لين، ووليم جونز فما أثبته المستشرقون بشأن الشرق أتاح المعرفة به، ويسر الوصول إليه، وأن يخضع للإدارة. وكان قد سبق هذا قیام نابليون بونابرت باحتلال مصر عام 1798م، فهو مهد لحملته بأن جمع حشداً من العلماء النابهين حتى يكفل لمشروعه النجاح فأصبحت فرنسا منذاك تتزعم العالم الاستشراق (3).

بين عام 1815م، حين كانت القوى الأوروبية تحتل 35 بالمائة من سطح المعمورة على أكثر تقدير، وبين عام 1918م، حين توسع ذلك الاحتلال إلى ما نسبته 85 بالمائة من سطح المعمورة، تزايدت القوة المنطقية وفق هذا المعيار نفسه، ويحسن المرء

ص: 224


1- نفس المصدر السابق، ص 39.
2- راجع: إدوارد سعيد، تغطية الإسلام، ترجمة محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع القاهرة، ط1، 2005م، ص 41.
3- نفس المصدر السابق، ص 105-106

صنعاً إن تساءل ما الذي يجعل من الممكن لماركس وكارلابل وديزرائيلي وفلوبير ونير فال ورينان وكوينت وشليغل وهوغو وروكبرت وكوفيير وبوب أن يوظفوا جميعهم كلمة (شرقي) لكي يحددوا بالأساس نفس الظاهرة المشتركة، على الرغم من الفروق السياسية والأيديولوجية الهائلة فيما بين بعضهم بعضاً. إن السبب الرئيس لهذا، في نظر سعيد كان تشكل كينونة جغرافية تدعى بالشرق، كما أن دراستها صارت تدعى ،بالاستشراق، الأمر الذي حقق عنصراً هاماً جداً من الإرادة الأوروبية للسيطرة على العالم غير الأوروبي، وجعل من الممكن خلق لا مجرد فرع دراسي منظم وحسب بل ومجموعة من المؤسسات والمفردات المستترة، وموضوعاً دراسياً، وأخيراً

أعراق بشرية تبائع»(1).

والخلاصة أن كتابات سعيد لا تكل ولا تمل من إبراز حقيقة أن ثمة ارتباط قوي ومباشر بين الاستشراق الكلاسيكي من جهة، والإمبريالية الغربية في العالم الإسلامي وفي أمكنة أخرى، من جهة أخرى. ونفس الشيء يقوله سعيد في العلاقة التي تجمع بين الاستشراق الإسرائيلي من ناحية والإمبريالية في المناطق المحتلة من الناحية الأخرى.

ويشير سعيد إلى وجود ظاهرة مشابهة، اليوم، في الولايات المتحدة الأميركية، يشرحها على النحو التالي:«لديك كادر كامل مما يسمى بالخبراء في الوقت الحاضر. وأنا أسميهم (المستشرقين) الذين تكمن مهمتهم في أن يقدموا عبر خبرتهم بالعالم الإسلامي والعربي إلى وسائل الإعلام والحكومة ما أسميه الاهتمام المعادي بالعالم العربي. هناك مجموعة كاملة مجموعة كاملة من هؤلاء الناس يبلغ عددهم الثلاثين أو الأربعين يتم استنفارهم كلما كانت هناك أزمة رهائن، حادثة خطف طائرة، أو مجزرة من ذلك النوع أو غيره، لإظهار الرابط الضروري بين الإسلام والثقافة العربية والشخصية العربية أو الشخصية الإسلامية، والعنف العشوائي. هم عبارة عن موظفين ورهائن بالفعل لسياسة حكومة الولايات المتحدة المعادية بعمق للقومية العربية والثقافة الإسلامية»(2).

ص: 225


1- إدوار سعيد، العالم والنص والناقد، مصدر سابق الذكر، ص 272-273
2- إدوارد سعيد، القلم والسيف، مصدر سابق الذكر، ص 24-25

ويستشهد ب_( أزمة احتجاز الرهائن) في السفارة الأميركية بطهران، في بدايات الثمانينات من القرن العشرين ويرى أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية بعد ذاك الحدث، أصبحت لا تضع في أعلى سلم أولوياتها الجديدة لا نشر الديمقراطية ولا حقوق الإنسان بل محاربة الإرهاب القادم من (الشرق)، ولو اقتضى الأمر مساندة بعض أنظمة الحكم المعتدلة في قمعها للشعب، إذا كانت من حلفاء أميركا(1).

إن التقسيم المبسط (الساذج) القديم للعالم في عيون الولايات المتحدة الأميركية الذي كان يقسم العالم إلى معسكرين : معسكر أول يناصر الشيوعية ومعسكر ثان يناهضها. هذا التقسيم تحول إلى تقسيم لا يقل تبسيطاً وسذاجة، تم فيه تقسيم العالم كله إلى معسكرين من نوع آخر : معسكر أول يناصر الإرهاب ومعسكر ثان يناهضه.(2)

يصيغ سعيد المشكلات المتعلقة بالاستشراق، وقد أعيد النظر إليه من زاوية قضايا محلية مثل من يكتب ويدرس الاستشراق، وفي أية أجواء مؤسساتية وخطابية، ولأي جمهور، وبأية أغراض في الذهن. كيف يمكن إنتاج معرفة غير مهيمنة وغير عسفية في أجواء منخرطة بعمق في سياسة واعتبارات ومواقف واستراتيجيات السلطة؟(3).

وكختام لهذا المحور نقول : ساهمت رؤية سعيد النقدية بخصوص (الاستشراق)، بصورة مباشرة في تجذير أسس ودعائم النقد الثقافي وفتحت كتاباته الباب واسعاً أمام دروب جديدة في الدراسات النقدية لا لكتابات الغربيين عن الشرق فحسب، بل أيضاً لكتابات أولئك المنتمين للدول التي تحررت من الاستعمار، ليعيدوا كتابة تواريخهم، وليعيدوا إعادة اكتشاف ذواتهم بمناظير جديدة، تعكس وعياً جديداً متحرراً من ما خلفه الاستعمار من أثار ثقافية.

صورة الشرق «كما خلقه الغرب»

ص: 226


1- راجع : إدوارد سعيد، تغطية الإسلام، مصدر سابق الذكر، ص 47.
2- راجع نفس المصدر السابق
3- ادوارد سعيد، تعقيبات على الاستشراق مصدر سابق الذكر، ص 35-36.

صورة الشرق، كما خلقه الغرب، ترتد بداياتها الحديثة إلى الفترة التي تمتد من أواخر القرن الثامن عشر حتى مطلع القرن التاسع عشر، والتي قام فيها العلماء الفرنسيون والبريطانيون بإعادة اكتشاف (الشرق): الهند والصين واليابان ومصر وبلاد ما بين النهرين، والأراضي المقدسة(1).

إن دراسة الشرق «كما خلقه الغرب» تطرح جملة من التساؤلات الجذرية في الثقافة والإنسان تساؤلات تحوم وتدور لتتمحور في نهاية المطاف حول تلك التصورات التي ينشئها الفرد المنتمي لثقافة ما ليتعرف من خلالها على الآخر وعلى عالم الأخر. لم تكن دراسة الشرقي ك (آخر) بالنسبة للذات الغربية مقصوداً بها معرفة الشرق من أجل السيطرة عليه فحسب، بل أبعد من ذلك، يشكل هنا إنشاء (الشرق)كمفهوم وتصور شرط ضروري لتتعرف الذات الغربية على ذاتها.

والاستشراق، من خلال السياق السابق، يمكن أن يناقش ويحلل بوصفه المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق التعامل معه بإصدار تقريرات حوله، وإجازة الآراء فيه وإقرارها وبعملية وصفه وتدريسه والاستقرار فيه وحكمه: وبإيجاز الاستشراق كأسلوب غربي للسيطرة على الشرق واستبنائه، وامتلاك السيادة عليه(2).

فالشرق، حسب سعيد، ليس لصيقاً بأوروبا وحسب، بل إنه كذلك أعظم

مستعمرات أوروبا، وأغناها وأقدمها، ومصدر حضاراتها ولغاتها، ومنافسها الثقافي، وأحد صورها الأكثر عمقاً وتكرار حدوث للآخر. وإضافة، فقد ساعد الشرق على تحديد أوروبا (أو الغرب) بوصفه صورتها وفكرتها وشخصيتها وتجربتها المقابلة(3).

فالذات لا تعرف ذاتها إلا عبر المرور بوساطة الآخر. وفي عملية التعرف هذه جنحت الذات الغربية لإقامة جملة تصورات وتميزات بينها وبين ما تمت موضعته كآخر لها. وفيها، أيضاً، تم إسقاط صفات وسمات بعينها على الشرق،

ص: 227


1- إدوارد سعيد تغطية الإسلام، مصدر سابق الذكر، ص 84.
2- إدوارد سعيد، الاستشراق مصدر سابق الذكر، ص 31.
3- نفس المصدر السابق، ص 29.

على الرغم من تنوع مجتمعاته وتواريخه ولغاته، فتم تصويره على أنه لا يزال غارقاً في الدين واللاعقلانية، وفي الحياة البدائية والتخلف ويتسم بالقصور وعدم الرشد. وبالمقابل فإن الأوروبي مختلف تماماً، فهو عقلاني متنور متحضر متقدم سوي متحل بالفضائل وبالنضوج.

يكتب سعيد معضداً لما سبق:«كان الشرق، تقريباً، اختراعاً غربياً، وكان منذ القدم الغابر مكاناً للكائنات الغربية المدهشة والذكريات والمشاهد الشابحة والتجارب الاستثنائية.(1) والعرب، مثلاً كما يقتبس سعيد تعليق أحد المستشرقين،«علاوة على تصويرهم على أنهم غير كفؤين إطلاقاً، فإنهم لا يتبادلون حواراً عادياً أبداً. إنهم يصرخون الواحد على الآخر. إنهم ينبحون ويصيحون»(2).

وهو ما يكشف أن الغرب تصور الشرق تصوراً استعمارياً عرقياً فوقياً متجذراً في القوة واتحاد القوة بالمعرفة، والإنشاء الذي ولده ذلك كله. وأن الشرق لم يكن، في وعي الغرب الآخر الخارجي فقط، بل امتداد للشاذ والمنحرف والمجنون والمستضعف داخل الغرب: للآخر الداخلي أيضاً(3).

ولا شك في تأثير هذهِ الصور التي خلقها الاستشراق في كتاباته المذكورة، وادعى أنها تمثل الشرق، فهي تؤثر كما أوضح سعيد، لا في الدراسات الأكاديمية فحسب، بل في رؤية أبناء البلدان التي تحررت من الاستعمار لذواتهم ولثقافاتهم، فالاستعمار أورث الفرد في هذه البلدان نظرة دونية إلى ذاته، وهي نظرة تتصل بالتصوير المتسق له ولأمته في كتابات المستشرقين.

ما سبق هو بالضبط ما قام الاستشراق بإنجازه، فالاستشراق في محصلته النهائية يعيد التأكيد على التفوق الأوروبي في مقابل التخلف الشرقي، ويحدد عبر دراسته للشرق هوية الغربيين كنقيض لأولئك الذين ليسوا غربيين. وفي هذا السياق تكون

ص: 228


1- نفس المصدر السابق، ص .29
2- ادوارد سعيد القلم ،والسيف مصدر سابق الذكر، ص 79.
3- إدوارد سعيد الاستشراف، ترجمة كمال أبو ديب ، مقدمة المترجم، ص 9.

الحقيقة المتضمنة سلفاً داخل دائرة الاستشراق هي أن الغرب كهوية متفوق بالمقارنة مع جميع الشعوب والثقافات غير الغربية.

بذلك أنشأ الاستشراق تمييزاً وجودياً ومعرفياً بين الشرق والغرب. وبدوره يعكس هذا التمييز بصورة مباشرة وصريحة، أن الاستشراق استجاب للثقافة التي أنتجته أكثر مما استجاب لموضوعه المزعوم الذي هو أيضاً من نتاج الغرب. وهكذا، فإن لتاريخ الاستشراق في آن واحد، اتساقاً داخلياً مع الثقافة المسيطرة المحيطة به.(1)

وأخيراً نقول أن الأهمية الاستثنائية لكتابات سعيد وأعماله إنما تكمن: أولاً، في شرحه للكيفية التي تمت بها عملية إنتاج جملة تصورات وتمييزات بخصوص مجموع ما يقع خارج دائرة الغرب كهوية ثقافية. وتكمن، ثانياً، في إظهاره للسياق الذي تبلورت فيه تلك التصورات والتمييزات وهو سياق القوة والسلطة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، السياق الذي في ظله تم التعاطي مع هذه التصورات لا بوصفها مجرد تمثيلاً لا أكثر، يجسد وعي الذات (الغرب) للآخر (الشرق) أكثر مما يجسد هذا الأخير، بل بالأحرى بوصفها إنشاء يدعي لنفسه امتلاك الحقيقة التي لا يرقى إليها الشك بخصوص موضوعه.

والشرق الذي جعله سعيد محوراً لكل كتاباته ودراساته هو ذاك (الشرق) الذي خلقه الغرب وجعله مقابلاً له، وهو في المحصلة النهائية للتحليل محض! تصور فكتابات سعيد تدعونا، من جهة، إلى أن لا نسلم بصحة هذه التصورات، وتنبهنا، من جهة ثانية، إلى أن نضع في أذهاننا حقيقة أن جملة التصورات التي شيدتها الذات الغربية داخل دائرة الاستشراق لم تنبع من الأخر موضوع المعرفة، إلا بدرجة أدنى، إنما صدرت بالدرجة الأولى، ضمن شروط نابعة من الذات العارفة ومن الثقافة التي تنتمي إليها، والتي تمثل لها في نهاية المطاف، الإطار المرجعي الذي انطلاقاً منه تكتب وتفكر وتتصور.

ص: 229


1- أنظر : إدوارد سعيد الاستشراق ، مصدر سابق الذكر ، ص 57.

خاتمة

ألقى هذا المقال البحثي الضوء على نظرية ما بعد الكولونيالية من خلال أعمال الكاتب والناقد والمفكر السياسي إدوارد سعيد، وأبرز المقال أهم أطروحاته الرئيسة من خلال سياحة في كتبه ومؤلفاته.

ويأتي نقد الكولونيالية مع إدوارد سعيد ضمن مشروع نظري يهتم بتفكيك الخطاب والممارسة الاستعمارية وضمن هذا التوجه ركزت أعمال سعيد وكتاباته ومواقفه على فضح نوايا وأهداف الاستشراق المستترة خلف دعاوى العلم والمعرفة والموضوعية. وهنا، أيضاً، نلحظ في كتابات سعيد اهتماماً بدراسة جملة من القضايا والمسائل، يأتي على رأسها توضيح وتحليل الكيفية التي أخضعت بها الكولونيالية الثقافات المحلية لمشيئتها ، وكذلك دراسة الصور التي استجابت بها الدول التي تم استعمارها لإرث الكولونيالية الثقافي بعد نيلها الاستقلال.

وبشكل عام بإمكاننا تحديد الهم البحثي الأساسي، والذي نتلمسه مضمراً أحياناً، وبوضوح في أحايين كثيرة داخل كتابات سعيد المتعددة، في ذاك الانهمام المتمثل في اختراق حجب التقاليد الثقافية الغربية، وإظهار وجهها الكولونيالي المستتر، الذي تم تشيده على مدى عقود طويلة في القرنين الماضيين. وفي هذا السياق، استطاعت كتاباته بشكل موسع وعميق معالجة الهيمنة الثقافية الكولونيالية التي مارسها الغرب على الشرق والجنوب، وركزت هذه الكتابات بشكل خاص على دراسة العلاقة بين الشرق (وتحديداً الشرق الأدنى الإسلامي والعربي) وبين الغرب (تحديداً فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة). حيث تم رصد تلك العلاقة منذ غزو نابليون بونابرت لمصر فى أواخر القرن الثامن عشر، مروراً بتناول الفترة الاستعمارية الرئيسة والتي تزامنت معها نشأة دراسات المستشرقين الحديثة في أوروبا، وانتهاءً بالهيمنة الإمبريالية البريطانية والفرنسية على الشرق بعد الحرب العالمية الثانية وظهور السيطرة الأميركية في الوقت نفسه.

يبين تحليل سعيد للخطاب الاستشراقي أن هذا الأخير، ليس كما يدعي، مجرد

ص: 230

حقل بحثي يهدف لمعرفة (الشرق) بصورة موضوعية تتسم بالحياد والنزاهة

على الضد بل من ذلك، يرينا تحليل سعيد أن الاستشراق كخطاب تخترقه علاقات القوة والسلطة، وأنه لعب دوراً بالغ التأثير في مساعدة السياسة الاستعمارية في إحكام سيطرتها وهيمنتها على شعوب (الشرق) الذي تمت موضعة إنسانه ومجتمعاته في خانة المتخلف والشاذ وغير السوي والاستثنائي. ولا زال إلى اليوم يلعب ذات الدور من خلال تقديمه صورة نمطية زائفة تلجأ إليها وسائل الإعلام الأميركية لدى تناولها موضوعات الإسلام والشرق.

المصادر والمراجع

1- إدوار سعيد الثقافة والمقاومة، ترجمة علاء الدين أبو زينة، دار الآداب

2- إدوارد سعيد، القلم ،والسيف حوار دافيد بارساميان ترجمة توفيق الأسدي، دار كنعنان للدراسات والنشر، دمشق، ط1، 1998م.

3- إدوار سعيد، العالم والنص والناقد، ترجمة: عبد الكريم محفوض، منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق، 2000

4- إدوارد سعيد ، تعقيبات على الاستشراق، ترجمة صبحي حديدي، المؤسسة العربية للدراسات ،والنشر ،بیروت، ط1، 1996ام.

5- إدوارد سعيد صور المثقف ترجمة غسان ،غصن دار النهار للنشر، بيروت، ط1، 1996م

6- إدوارد سعيد، خيانة المثقفين النصوص الأخيرة، ترجمة أسعد الحسين، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 2011م.

7- إدوارد سعيد، تغطية الإسلام كيف تتحكم أجهزة الإعلام ويتحكم الخبراء في رؤيتنا لسائر بلدان العالم، ترجمة محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2005م.

8- إدوارد سعيد السلطة والسياسة والثقافة، ترجمة نائلة قلقيلي حجازي، دار الآداب، بيروت، ط1، 2008م.

9- إدوارد سعيد الاستشراق، ترجمة كمال أبو ديب.

ص: 231

في نقد أطروحة التمركز الغربي

تصوّر «أمارتيا صن» نموذجاً

اشارة

سعيد السلماني(1)

منذ سقوط الاتحاد السوفييتي وحرب الخليج الثانية، وصولا إلى حرب أفغانستان والعراق، مروراً بموقعة الحادي عشر من سبتمبر المفجعة طغت على الخطابات السياسية العالمية ولا سيما الأميركية، مفردات يائسة تمجد الانفرادية المزعومة. كما ظهرت خطابات ثقافية في الفكر السياسي العالمي وخاصة الأميركي، تستخدم التاريخ والفلسفة والإثنولوجيا بمناهج علمية لتخلص إلى صياغات سياسية تستشرف من خلالها طبيعة الصراعات ومسارات المستقبل في العالم كخطابي فوكوياما وهنتنغتون.

وفي هذا الصدد يمكن أن نتساءل هنا، استطراداً فقط، لماذا توارت فكرة «نهاية التاريخ» بسرعة واختفت ولم تعد تثير الاهتمام بعد إعلان هنتنغتون عن أطروحته حول «صدام الحضارات»؟ هل يرجع ذلك إلى كون مركز هذا الأخير في مجال الدراسات الاستراتيجية والعلاقة مع الإدارة الأميركية أقوى بكثير من مركز ذلك الأميركي من أصل ياباني أم لأن أطروحة «صدام الحضارات» إنما القصد منها إزاحة فكرة نهاية التاريخ من مسرح الاهتمام؟.

ص: 232


1- أستاذ الفلسفة والفكر - المغرب.

هذا ما سنعمل على فهمه من خلال استدعاء تصور فلسفي عميق لأحد أعمدة الفكر الهندي المعاصر الذي خبر الفكر الغربي من الداخل وعن قرب، وهو المفكر الهندي «أمارتيا صن». سيتم ذلك خلال المحاور الآتية:

في المحور الأول، سنتناول النقد الذي يقدمة أمارتيا صن لنظرية الصدام الحضاري وفي الثاني، نقده لنظرية التمركز المزعومة للقيم الغربية، وفي المحور سنبحث في إشكال مركزية الديموقراطية الغربية ، ونختم القول بخلاصات مركزة جامعة تفتح شهية الباحث للمزيد من البحث والتنقيب.

المحور الأول: في نقد أمارتيا صن لنظرية الصدام الحضاري.

لقد تهاوت كثير من النظريات الوهمية تحت ضغط المساءلة والنقد الجاد فمن يصنع الصراع بإمكانه أن يصنع السلام ؛ هكذا تكلم «أمارتيا صن»(1). لقد ظل دائماً يؤكد على أن المشتركات الإنسانية جزء من مقاومة التصنيفات الاحتقارية في مختلف الثقافات وعبر عصور مختلفة. ويصرخ بأعلى صوته بأن التصنيف المنظم بإمكانه أن يمهد الأرض للاضطهاد والدفن.

يبدو أن الوظيفة التي تؤديها الفكرة لها وزن كبير في صناعة القرار السياسي من هنا يمكن الإجابة عن التساؤل الذي طرحناه آنفاً في التمهيد، يذهب العديد من نقاد التمركز الغربي إلى أن فكرة «نهاية التاريخم تهاوت لأنها تتحدث عن الماضي، ومن ثم تبعث على الاطمئنان حول مستقبل أميركا، بحيث تؤكد على الانتصار النهائي

ص: 233


1- أمارتيا كومار صن ( Amartya Kumar Sen) فيلسوف واقتصادي هندي ولد في دكا عاصمة بن جلاديش حاليا، سنة 1933م. حاصل على جائزة نوبل سنة 1998م لمساهماته في اقتصاديات الرفاه وعمله على صعيد نظرية التنمية البشرية، ووسائل محاربة الفقر والحرية السياسية. وتقديراً لإسهاماته القيمة في إطار إعادة التفكير في القضايا الاقتصادية من منظور ثقافي. وقد استطاع أن يقدم مفاتيح جديدة لفهم إشكالات شائكة حول تنمية العالم الثالث ومحاربة الفقر والأمية وله العديد من الأعمال الفكرية في التنمية والاقتصاد والفلسفة السياسية المعاصرة، وقد ترجمت أعماله إلى أكثر من ثلاثين لغة، نذكر من بينها التي ترجمت إلى العربية ؛ كتاب فكرة العدالة» (The Idea of Justice)، وكتاب التنمية حرية » (Developmet as freedom) ، ثم كتاب الهوية والعنف (Identity and violence)، وأعمال كثيرة لم تترجم إلى العربية، منها: (1999) Rationality and freedom 2004) .(Reason Before Identity 2005 The (.(The Agumentative Indian وهي كلها تعالج قضايا إنسانية مشتركة ك- «العدالة والحرية والمساواة والهوية والعنف والفقر.

لليبرالية. أما أطروحة صدام الحضارات «فهي تتحدث عن المستقبل وتنذر بخطر المواجهة والحرب وتدعو صراحة إلى أخذ الحيطة والاستعداد للدفاع عن النموذج الحضاري الأميركي وعن المصالح التي يقوم عليها، ومن ثم تخصيص ما يلزم لمواجهة الخطر»(1).

لقد حصل تأويل مفرط وتبني صامت لأطروحة «صدام الحضارات»، ما جعلها، حقاً، واحدة من الأساطير المؤسسة للعنف الهوياتي. فالكل يريد هوية الأوحد في العالم، إذ أصبح موضوع الهوية في الأدبيات السياسية والفلسفية والاجتماعية رائج التداول، لماذا؟ لأنه كان سبباً وشكلاً لكثير من الصراعات التي أخذت شكل الصراع من أجل الهوية ونيل الاعتراف، وهي بذلك من الأسباب الرئيسية في صراع الحضارات والدول والمجتمعات والأمم عموماً حسب الطرح الهينتنغتوني. لقيت هذه الفكرة جدلاً واسعاً في الأوساط الفكرية العالمية أغلبها مشجبة الطرح الصدامي الذي حاول هانتنغتون البرهنة عليه. وهذا دليل على تأكيد الفكرة الصينية التي تعتبر الدنيا .أسرة والخطوة الأولى لتحقيق وحدة الدنيا عند الصينيين تتمثل في التعايش السلمي وتبادل الاحترام(2).

أصبح موضوع «صراع الحضارات» موضوعاً رائجاً قبل أن تضاف الأحداث المرعبة ليوم 11 سبتمبر إلى ما في العالم من صراعات مريبة. إلا أن هذه الأحداث الفظيعة تركت آثاراً واسعة تمثلت في تضخيم الاهتمام الموجود من قبل بما يسمى صراع الحضارات. وقد أدى ذلك بالعديد من المعلقين والباحثين إلى تأكيد النظرية خاصة بعد صدور كتاب صامويل هانتنغتون (3)المشهور «صراع الحضارات وإعادة

ص: 234


1- محمد عابد الجابري قضايا في الفكر المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت - لبنان، ط 4 ، 2011، ص .84-83
2- علي عبود المحمداوي خطاب الهويات الحضارية من الصدام إلى التسامح ابن النديم للنشر والتوزيع دار الروافد الثقافية - ناشرون ، ط 1 ، 2012، ص 70 .
3- صامويل هانتنغتون (Samuil. Huntington) مفكر أمريكي من أصل يهودي متخصص في الإدارة العامة ومدير معهد جون أولاين للدراسات الاستراتيجية بجامعة هارفارد، وقد كرس حياته لموضوع الاستراتيجية العسكرية بحثاً وتدريساً واهتم بصورة مباشرة بالدراسات المقارنة في مجال السياسة الأميركية وسياسات دول العالم الثالث، وقد أسندت إليه ما بين عام 1977 و 1978 ، مسؤولية قسم الاستشراف بمجلس الأمن القومي الأمريكي.

تكوين النظام العالمي» غير أن هذا التأكيد لم يصمد أمام سيل عارم من الانتقادات التي قدمت للنظرية، سواء من داخل الغرب أو من خارجه، حتى بدا الخبير الأميركي وكأنه كاهناً حقيقياً لصدام الثقافات والحروب الدموية بين الحضارات. وهي في تقدير أحد الباحثين المغاربة بمثابة «أطروحة للانزواء الحضاري وليست أطروحة للصدام، وهذا لا يمنع أن تكون أطروحة غاصة بالنقائض والأفهام المُبتَسرة والسيئة للأحداث، والتصورات المغلقة والخاطئة لمفهوم الحضارة والثقافة»(1)، وهي في نفس الوقت أطروحة تغرق في سبات بنيوي مغلق، وتتترس بمنظورٍ باراديغمي صارم. ومما هو مؤكد أن هنتنغتون استعار كلمة الصدام والصراع من خبير المستقبليات المغربي د. المهدي المنجرة الذي كان قد أصدر كتابه «الحرب الحضارية الأولى» في مطلع التسعينات لكن إذا كان المنجرة يقدم ما هو بمثابة وثيقة احتجاج على اختلالات المنتظم الدولي للتخفيف من إفراط السيطرة الأميركية على مقدرات العالم، فإن هنتنغتون سلك بها مسلكاً آخر هو مسلك القطيعة مع العالم الخارجي(2).

وإذا أردنا تكثيف القول في النقد الذي يقدمه أمارتيا صن لنظرية صراع الحضارات يمكن أن نجمله في النقط الآتية:

إن الرؤية المسبقة لتصنيف الناس باعتبارهم أعضاء في حضارة ما سواء كانت «غربية» أو «إسلامية» أو «هندوسية » أو «بوذية» حسب تصنيف هنتنغتون، هي رؤية تختصر الإنسان في بعد واحد ومن ثم فإن القصور في نظرية الصراع يبدأ حتی قبل أن نصل إلى نقطة السؤال عما إذا كانت الحضارة المتباينة لا بد بالضرورة أن تتصارع فالسؤال «هل تتصادم الحضارات؟ إنما يقوم على الافتراض بأنه يمكن تصنيف الناس بشكل لازم إلى حضارات متباينة ومنعزلة. وبغض النظر عن الإجابة التي نعطيها لذلك السؤال، وحتى الاهتمام به بهذا الشكل الضيق، فنحن نضفي ضمناً مصداقية على الأهمية الفريدة المزعومة لذلك التصنيف بشكل يفوق الطرق الأخرى كلها التي يمكن أن يصنّف الناس بها في العالم. ومما يخشاه أمارتيا صن

ص: 235


1- إدريس هاني حوار الحضارات المركز الثقافي العربي الدار البيضاء، ط 1 ، 2002، ص 113.
2- نفس المرجع . ص 113.

أن هذه النظرة الاختزالية تتحد تماماً مع إدراك ضبابي إلى حدٍّ ما لتاريخ العالم، وهو إدراك يتجاهل أولاً، مدى التنوع الداخلي في تلك التصنيفات الحضارية، وثانياً، ثراء وتأثير التفاعلات - الثقافية والمادية على السواء - التي تتحرك مباشرة عبر الحدود الإقليمية لما يسمى بالحضارات(1).

إن قوة هذه النظرية في التخدير والإرباك يمكن أن تخدع، ليس فقط أولئك الذين يحبون تأييد أطروحة الصدام (وهؤلاء يتنوعون من الشوفينيين الغربيين إلى الأصوليين الإسلاميين)، لكنها يمكن أن تخدع أيضاً أولئك الذين يودون تفنيد هذه الأطروحة. ومعنى هذا، حتى «معارضو» نظرية «الصراع الحضاري»، يمكن في الواقع أن يساهموا في دعم الأساس الفكري لها إذا بدأوا بقبول التصنيف الأحادي نفسه لسكان العالم. إن حدود مثل هذا التفكير المبني على فكرة الحضارة يمكن إثبات ما فيه بالنسبة إلى برامج «الحوار بين الحضارات» (وهو ما يبدو السعي إليه حثيثاً في أيامنا هذه) بنفس قدر المخادعة الكامن في نظريات صراع الحضارات. فالبحث النبيل والراقي عن التفاهم بين الناس إذا نظر إليه كتفاهم بين الحضارات سوف يختزل سريعاً البشر متعددي الأوجه إلى أشخاص لكل منهم بُعد أحادي، وسوف يخفي تنوع الارتباطات المتشابكة التي أمدت البشرية بأسس غنية ومتنوعة للتفاعل عبر الحدود على مدى قرون كثيرة ، منها : الفنون والآداب والعلوم والرياضيات والألعاب والتجارة والسياسة، ومختلف نواحي الاهتمامات الإنسانية المشتركة. إن فهم هذه المحاولات طيبة النوايا التي تسعى إلى سلام عالمي يمكن أن تكون لها عواقب مضادة عندما تؤسس على فهم وهمي في جوهره لعالم الكائنات البشرية(2).

تأخذ المقاربة الحضارية للصراعات المعاصرة حسب أمارتيا صن شكلين(3):

الشكل الأول يأخذ طابع الماكرو - صراع، وهي نظرة متميزة الضخامة حول

ص: 236


1- أمارتيا ،صن الهوية والعنف وهم المصير الحتمي، ترجمة سحر توفيق، سلسلة عالم المعرفة ، الكويت، عدد،352، 2008. ص 26 . ص 54 .
2- نفس المرجع ، ص 27.
3- نفس المرجع، ص 55.

الصراعات الكونية، تفصل سكان العالم إلى حضارات متبارية مغلقة بحدود حديدية صارمة تنهي عندها سقف الإنسانية. وهو تصنيف أحادي فريد قائم على ما يسمى الخطوط الحضارية أو الفروق الحضارية أو الثقافية، والتي هي بالمناسبة تتبع التقسيمات الدينية، التي يوجَّه الانتباه إليها وحدها. يُقسِّم بموجبها هانتنغتون الحضارة الغربية في مقابل الحضارة الإسلامية»، و«الحضارة الهندوسية، في مقابل «الحضارة البوذية» وهَلُمَّ جَرّاً.

الشكل الثاني يأخذ الطابع الميكرو - صراع، وهو ادعاء خطير ومؤثر يُرجِع تباينات الثقافات والهويات إلى الصراعات وغزارة الفظاعات التي نراها في أجزاء مختلفة من العالم اليوم. إذ يرى هذا الادعاء بأن السكان المحليين منقسمين إلى جماعات متصارعة، لها ثقافات متشعبة وتواريخ متباينة، تميل بطريقة طبيعية إلى توليد العداوة بعضها تجاه بعض.

ونتيجة لهذا التقسيم فإن المقاربة «الحضارية» للصراعات المعاصرة سواء صيغتها الماكرو أو الميكرو تقوم بدور حاجزٍ فكريٍّ رئيسٍ أمام التركيز بشكل أوفى على السياسات السائدة، وأمام تفحُّص عمليات وديناميات الدوافع المعاصرة للعنف.

إن الضعف المفهومي لمحاولة الوصول إلى فهم أحادي للناس في هذا الكون من خلال وضع فواصل حضارية، ليس فقط ضد إنسانيتنا المشتركة، ولكنه أيضاً يقوض الهويات المتنوعة التي نتمتع بها جميعاً، والتي لا تضعنا في مواجهة بعضنا البعض على جانبي خطٍ شديد الصرامة من العزل العنصري. فإساءة الوصف وخطأ التصوّر والإدراك يمكن أن يجعلا العالم أكثر هشاشةٍ مما هو بالفعل. وبالإضافة إلى الاعتماد غير المقبول على فرضية التصنيف المنفرد، تعاني المقاربة الحضارية أيضاً تجاهل العلاقات المتبادلة الممتدة بين الحضارات المختلفة. إن الفقر الوصفي لهذه المقاربة يتجاوز اعتمادها المعيب على الانفرادية(1).

ص: 237


1- نفس المرجع، ص 58.

إن التشخيص البسيط للهند على أساس خط مصطنع من الديانات المتفردة يظل قابلاً للانفجار سياسياً، بالاضافة إلى ما به من خللٍ وصفي. إن بيان هنتنغتون التفسيري لصراع الحضارات المزعوم عندما يصنف الهند بأنه «حضارة هندوسية»، لا بد أن يقلل من واقع أن الهند بها من المسلمين أكثر من أي بلد آخر في العالم باستثناء إندونيسيا، وباكستان بهامش ضعيف للغاية. وربما لا يمكن وضع الهند في إطار التعريف العشوائي ل_«اللعالم الإسلامي»، لكن الحقيقة لا تزال أن في الهند (التي تضم 145 مليون مسلم أكثر من سكان بريطانيا وفرنسا مجتمعين) بها عددا من المسلمين يفوق بكثير عدد المسلمين في كل بلد يدخل في تعريف هنتنغتون ل_ «العالم الإسلامي».كما أنه من المستحيل التفكير في حضارة الهند المعاصر من دون ملاحظة الأدوار الرئيسة للمسلمين في تاريخ البلاد. بالإضافة إلى ذلك ليس المسلمون هم الجماعة الوحيدة غير الهندوسية من سكان الهند فالسيخ لهم حضور قوي، وكذلك اليانيون(1)، والهند ليست البلد الذي نشأت فيه أصول البوذية؛ وكانت البوذية هي الديانة السائدة في الهند لأكثر من ألف عام، وكان الصينيون يشيرون إلى الهند غالباً باعتبارها «المملكة البوذية». وقد ازدهرت المدارس الفكرية اللاأدرية والإلحادية - مثل كارفاكا (Carvaka) ولوكاياتا (Lokayata) - في الهند منذ القرن السادس قبل الميلاد على الأقل حتى يومنا هذا. وكانت الهند تضم جاليات مسيحية كبيرة منذ القرن الرابع الميلادي، قبل مائتي عامٍ من وجود أي جماعاتٍ مسيحيةٍ أساساً في بريطانيا. وجاء اليهود إلى الهند بعد سقوط القدس في [أيدي الرومان] بوقت قصير، وتواجد البارسيون (Parsees) منذ القرن الثامن للميلاد(2).

إن الهند لم تكن يوماً حضارة هندوسية محضة بحسب التقسيم الهنتنغتوني الاختزالي، فهو من البداية يحمل في طياته التوظيف الأيديولوجي وقابليته للاشتغال سياسياً وبكلمة، إن بعضاً من الغرب أصابتهم عقدة الوهم. لماذا؟ نظراً للإنجازات الحديثة التي تحققت لهم عبر التراكم الإنساني المشترك.

ص: 238


1- أتباع الديانة اليانية، وهي ديانة وفلسفة هندية قديمة.
2- أمارتيا صن الهوية والعنف وهم القدر، ص 91.
المحور الثاني: في نقد فكرة التفرد المزعوم للقيم الغربية.

طرح أمارتيا صن في مدخل كتابه «فكرة العدالة»(1) جملة من الأسئلة التي تدور كلها حول العقل وعملية تنسيبه حسب تنوع الثقافات، من بينها : ما أنماط الاستدلالات التي يجب أن تتدخل في تقييم المفاهيم الأخلاقية والسياسية كالعدل والظلم؟ بأية كيفية يمكن أن يكون تشخيص الظلم أو تحديد ما الذي يحد منه أو يرفعه موضوعيا؟ هل يمكن ممارسة نزاهة من نوع خاص، كالابتعاد عن المنافع الشخصية؟ من جهة أخرى، هل من الضروري إعادة فحص بعض المواقف، ولو أنها ليست مرتبطة بالمصالح الخاصة، لكنها تعكس أفكاراً مسبقة وأحكاماً محلية، التي ربما لا تصمد أمام مواجهة معقولة مع حجج غير محدودة بنفس الفكر الضيق؟ ما الدور الذي يلعبه العقلي (rationnel) والمعقول (raisonnable) في فهم مقتضيات العدالة ؟

في محاولته للإجابة على هذه الأسئلة، لاحظ أمارتيا صن أن الغرب في بحثه عن العدالة اقتصر على تقاليده الغربية، الأمر الذي جعل تصوراته وتأويلاته لها محدودة وأحيانا مَحَلية من أجل تلافي هذه المحلية عمل أمارتيا صن على إدخال العدالة إلى فضاء العقل نفسه أي المطالبة بالعدالة في التعامل مع العقول الأخرى غير الغربية، ومع ضروب مختلفة من المنطق والاستدلال. وفي هذا الإطار وصف كتابه قائلا :«... من أهم ميزات هذا الكتاب غير المعتادة... بالمقارنة مع كتب أخرى حول نظرية العدالة، اعتماده الواسع على الأفكار الآتية من مجتمعات غير غربية، وبخاصة من تاريخ الهند الفكري، ومن غيره». ذلك أنه توجد ثقافات عديدة ذات تفكير قائم على حجج منطقية، حيث تُفَضّل المنطق على الإيمان والمعتقدات اللاعقلية(2).

وقد يتبادر إلى الذهن سؤالٌ ممكنٌ ذو دلالة مفاده؛ هل معنى هذا أن أمارتيا صن تخلى نهائياً عن العقل التنويري الغربي؟ هذا غير وارد أبدا في تفكير أمارتيا صن. فهو يعلن باعتزازٍ بأن «تحليله للعدالة مستلهم من سبل التفكير التي تم اكتشافها

ص: 239


1- أمارتيا ،صن فكرة العدالة، ترجمة مازن جندلي الدار العربية للعلوم ناشرون ، ط 1 ، 2010 ، ص، 10-11.
2- محمد المصباحي، العدالة وتعدد العقل والعقلانية عند أمارتيا ،صن مجلة إليكترونية متخصصة في الكتاب وقضايه عدد 13 2013 . عن موقع: http://www.ribatalkoutoub.com

خاصة في العصر الثائر للأنوار الأوروبية»(1)، وبخاصة من كانط الذي يعتبر الأمر الأخلاقي... بمثابة الفكرة الملهمة لمشروعه. وبالتالي فالعقل، بالنسبة إليه، لا يمكن أن يكون إلا كليّاً، إلا أنه يمكن أن يتخذ صوراً متباينةً، واستعمالات مختلفة. إلا أنه عندما يدعو إلى ضرورة الاعتراف بوجود عقول وأنوار أخرى غير العقل والتنوير الغربي، فليس معناه ... وجود تنافر جذري بين الفكر «الغربي» و«الفكر الشرقي» (أو غير الغربي) حول هذه الموضوعات. فهناك كثير من التباينات داخل الغرب، كما هو الحال في الشرق، كما أنه من الوهم تماما تخيل غرب واحد يجابه أولويات «شرقية محضة»... بالنسبة لي أعتبر أن هناك مواقف شبيهة - أو ذات صلة وطيدة - حول العدل والإنصاف والمسؤولية والواجب والخير والاستقامة، تم تطويرها في مناطق متعددة من العالم وأنها يمكن أن تمدد مدى الحجج التي استعملت في الأدبيات الغربية... والتي تم إهمالها أو تهميشها في الغالب في التقاليد المهيمنة للخطاب الغربي المعاصر»(2).

وفي هذا السياق يحاول أمارتيا صن أن يكشف عن جذور المسألة في الفكر الغربي الذي يزعم لنفسه التفرد، فهناك في الغرب اتجاهات قوية تؤمن بنظرية الصراع جاعلة من الغرب حضارة تفوق كل الحضارات، وأن هذه الأخيرة هي مصدر كل القيم الإنسانية. ويَتَّفُقُ أبطال نظرية الصراع تمام الاتفاق الاعتقاد بالعمق الفريد لهذا الخط التقسيمي الأحادي، ويميلون إلى رؤية قيم التسامح وغيرها من القيم الإنسانية، ملمحٌ خاص ودائم للحضارة الغربية، وجذورها غاصةً في أعماق التاريخ الغربي. وهذه نظرة وهمية من الصعب دعمها تجريبياً كما يؤكد أمارتيا صن، فالتسامح والحرية وغيرها هي بكل تأكيد من بين الإنجازات المهمة لأوروبا المعاصرة، لكن أن نرى بأن هناك خطاً فريداً للتقسيم التاريخي يعود إلى أكثر من ألف سنة، فذلك وهم خالص. إن إعلاء قيمة الحرية السياسية والتسامح الديني، في أشكالهما المعاصرة المتكاملة لم يكن ملمحاً تاريخياً قديماً لأي بلد أو حضارة في

ص: 240


1- نفس المرجع.
2- نفس المرجع السابق

العالم. لم يكن أفلاطون وتوما الأكويني أقل فاشية في تفكيرهما من كونفوشيوس. ولا يعني هذا إنكار أن هناك أبطالا للتسامح في الفكر الأوروبي الكلاسيكي، ولكن حتى لو أخذنا هذا على أنه يعطي الفضل لكل العالم الغربي، فإن هناك أمثلة مشابهة في الثقافات الأخرى أيضاً.

وكثيراً ما يستشهد أمارتيا صن بنماذج هندية تركت بصماتها في الثقافة العالمية حول مواضيع مثل العقلانية والعلمانية والحرية والتسامح. فبينما كان الإمبراطور الهندي «جلال الدين أكبر»(1)يحاول إصدار بيانات مماثلة حول التسامح الديني في أكرا (Agra) منذ تسعينيات القرن السادس عشر مثل قوله «لا ينبغي التدخل في شؤون أحد باسم الدين، ومن حق أي شخص أن يرفض أو يقبل الدين الذي يروقه عن طريق العقل . فقد التزم «أكبر» بما أسماه «سبيل العقل ، وأصر على الحاجة إلى الحوار المفتوح والاختيار الحر . وأكد «أكبر» أيضاً على أن معتقدات ديانته الإسلامية تعتمد على العقل والاختيار وليس على «الإيمان الأعمى»، ولا على ما أسماه «مستنقع التقاليد». وخلص إلى أن «سبيل الرشاد» أو «إعمال العقل» يجب أن يكون هو المحدد الأساسي للسلوك الجيد والصائب والإطار المتعارف عليه للواجبات والحقوق القانونية. في الوقت نفسه كانت محاكم التفتيش في أسوأ عصورها في أوروبا وكان الناس يقتلون حرقا (2). بين لنا هذا أن القيم الإنسانية قيم كونية وليست غربية.

المحور الثالث: في نقض مركزية «الديموقراطية الغربية».

يبدأ أمارتيا صن بإرباك الخطاب الغربي المزعوم حول فرادة الديموقراطية وغربتِها

ص: 241


1- عندما هوجم محمد علي أكبر من طرف التقليديين الذين احتجوا لمصلحة الدين الغريزي، أخبر أكبر صديقه العسكري الذي كان محل ثقته أبا الفضل (الذي كان دارساً هائلا في السنسكريتية وكذلك العربية والفارسية، وله الكثير من الخبرة بالديانات المختلفة، ومن ضمنها الهندوسية والإسلام) : " إن سعي العقل ورفض التقليدية واضح وضوحاً : يجعله فوق الحاجة إلى الجدل. فإذا كانت التقليدية ملائمة لما كان أمام الأنبياء إلا اتباع السابقين (ولما أتوا برسالات جديدة) . (أنظر التفاصيل في كتاب أمارتيا ،صن الهوية والعنف وهم المصير الحتمي، مرجع سابق، ص 162).
2- أمارتيا صن الهوية والعنف وهم المصير الحتمي، مرجع سابق، ص 61-62، ص 163.

عن العالم غير الغربي، بقصة احتلال العراق تحت شعار«تأسيس نظام ديموقراطي في العراق». وقع الاحتلال، ولم يترسّخ نظام ديموقراطي للحكم في العراق نتيجة الفشل الذريع للتحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. وبدلاً من إدانة التدخل العسكري الذي اتُّخذ بتهوّر بناءاً على معلومات خاطئة وقلة تأمل وتفكير. يتحول النقاش حول نظرة متوهمة بأن الديموقراطية لا تناسب العراق، أو أبناء الشرق الأوسط، أو الثقافات غير الغربية ولا يشك عاقل في أن مثل هذه المحاولة في فهم المشاكل التي نواجهها اليوم، في الشرق الأوسط أو في مكان آخر من العالم طريقة خاطئة. وإن التركيز على فكرة «الفرض» توحي بتملك الاعتقاد بأن الديموقراطية تخص الغرب وحده، إذ ينظر إليها على أنها فكرة «غربية» في الجوهر نشأت وازدهرت فقط في الغرب. وهذه طريقة مضلّلة لفهم الديموقراطية وآفاقها المعاصرة(1). ثمة انفصام متعاظم مبتذل بين أولئك الداعين إلى «فرض» الديموقراطية على بلدان العالم غير الغربي وبين أولئك المعارضين لهكذا فرض». لكنَّ لغة «الفرض» كلها المستخدمة من الفريقين فاسدة إلى حد يدعو إلى العجب، لأنها تقوم على افتراضٍ ضمنيٍّ مفاده أن الديموقراطية تنتمي إلى الغرب ،وحده، نشأةً وازدهاراً(2).

غالباً ما يعتقد بالطبيعة «الغربية» المزعومة للديموقراطية بممارسة التصويت والانتخابات في بلاد الإغريق، خاصة في أثينا. إن الريادة في اليونان القديمة كانت ضخمة حقاً، لكن القفزة من اليونان القديمة إلى فرضية الطبيعة «الغربية» أو «الأوروبية المزعومة للديموقراطية أمر مربك، وفي نفس الآن حكم غير ديموقراطي على الديموقراطية. إذا لم تكن الديموقراطية بهذا الشكل فكيف يتصورها أمارتيا صن؟ إن الديموقراطية عنده لا تخرج عن كونها »حكم بالنقاش»(3) أو يتطلب النظر

ص: 242


1- لا ينكر أحد بأن المفاهيم المعاصرة للديموقراطية والتفكير العام قد تأثرت بعمق بالتحليلات والخبرات الأوروبية والأمريكية على مدى القرون القليلة الماضية، خاصة بالقوى الفكرية للتنوير الأوروبي منها إسهامات بعض منظري الديموقراطية مثل ماركيز دي كوندورسيه وجيمس ماديسون وأليكسيس دي توكفيل، وجون ستيورت ميل). غير أن هذا لا يعني أن الغرب هو الوريث الشرعي لمسألة الديموقراطية . ( أنظر تفصيل هذا في كتابي أمارتيا صن، «فكرة «العدالة و الهوية والعنف».
2- أمارتيا ،صن، فكرة العدالة، مرجع سابق، ص 454
3- مرجع سابق، ص 16.

إليها من خلال النقاش العام وهذه طريقة في الحكم كانت سائدة في حضارات مختلفة من العالم، فالديموقراطية «ليست فقط عملية التصويت والاقتراع، لكنها أيضاً التشاور والتفكير بين الناس عامة، وهو ما يسمى بتعبير قديم العهد «الحكم بالمناقشة» وبينما ازدهر التشاور والتفكير الشعبي في اليونان القديمة، فقد ازدهر أيضاً في العديد من الحضارات القديمة وبدرجة مذهلة أحياناً. كان الناس يجتمعون في لقاءات عامة مفتوحة هدفها حل النزاعات والاتفاقات حول مصالح مشتركة. إن تقاليد النقاش العام يمكن أن نجدها في كل مكان من العالم، ففي الهند مثلا كان هناك ما يسمى بالمجالس البوذية، وفي اليابان في القرن السابع الميلادي أُعلن عن «دستور السبع عشرة فقرة»، وقد أكد في إحدى فقراته «ينبغي أن لا نكون ممتعضين حين يختلف الآخرون معنا فكل الرجال لهم قلوب وكل قلب له معارفه الخاصة. إن الصحيح لديهم خطأ لدينا، والصحيح لدينا خطأ لديهم». وليس مفاجئاً أن يعتبر البعض أن هذا الدستور يعد أول خطوة للتطور التدريجي نحو الديموقراطية. كما لا يخفى على الجميع أن تاريخ الشرق الأوسط وتاريخ الشعوب الإسلامية أيضاً يحفل بكثير من أحداث ووقائع النقاش العام والمشاركة السياسية والحوارات(1).

وبكلمة يمكن القول إن العالم الغربي لا يمتلك حقوق ملكية الأفكار الديموقراطية. فبينما الأشكال المؤسسية الحديثة للديموقراطية جديدة نسبياً في العالم كله، فإن تجليات الديموقراطية في شكل المشاركة والمناقشة العامة قد انتشرت عبر العالم. قد تكون الديموقراطية في صورتها المؤسسية المتطورة شيئاً جديداً في العالم الحديث، ومع ذلك فإنها تعبر كما لاحظ ألكسيس دو توكفيل (Alexis de Tocqueville)، عن ميل في الحياة الاجتماعية له تاريخ أطول وأوسع بكثير(2). وهذه فكرة نقدية تنفي الزعم الهنتنغتوني الذي يعتبر الديموقراطية قيمة غربية خالصة، وليست نظاماً سياسياً قابلا للتصريف. وهذه النظرة تنفي اتصال فكرة الديموقراطية بحقوق الإنسان، وهذا من شأنه أن يغلق الباب أمام الروابط الإنسانية والأصول المشتركة للإنسان في هذا الكون.

ص: 243


1- أمارتيا ،صن الهوية والعنف وهم المصير الحتمي، مرجع سابق، ص 64-65.
2- أمارتيا ،صن، فكرة العدالة، مرجع سابق، ص 456

صحيح أنه لا بد من الاعتراف التام بالتقدم الهائل للأفكار والمعرفة في أوروبا وعلى مدى القرون القليلة الماضية. ولا بد أن يحصل الغرب بالفضل من أجل الإنجازات المهمة التي حدثت في العالم الغربي أثناء النهضة والتنوير، والثورة الصناعية، التي حولت طبيعة الحضارة الإنسانية. ولكن الافتراض بأن كل ذلك كان نتيجة ازدهار «حضارة غربية منفصلة تمام الانفصال في عزلة مدهشة، هو وَهُم خطير(1).

خاتمة:

نخلص إلى القول بأن نظرية التقسيم الحضاري نظرية فقيرة لسببين على الأقل؛ فمن جهة هناك مشكلة منهجية تتعلق بالافتراض المضمر بأن التقسيم الحضاري له أهمية فريدة، وأن هذا التقسيم يجب أن يقضي على الطرق الأخرى لتعيين هوية الناس أو يكتسحها. وهذا من شأنه أن يعزز العنف الداخلى والخارجي، بمعنى أن هذا الطرح قابل للاشتغال سياسياً. ومن جهة أخرى، فإن هذا التقسيم قائم على فجاجة وصفية فائقة، بالإضافة إلى الجهل التاريخي بحيث يتم تجاهل الكثير من التنوعات المهمة داخل كل حضارة كما يجري التغاضي بشكل جوهري عن التفاعلات بين الحضارات الإنسانية المتفاعلة.

إن هذين الخللين يؤديان إلى فهم فقير للحضارات المختلفة وما بينها من تفاعل وتماثل واعتماد متبادل في شتى المجالات الإنسانية المشتركة، من علوم وتكنولوجيا ورياضيات وآداب وتجارة، بالإضافة إلى الأفكار السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

إن الإدراك الضبابي للتاريخ ينتج نضاراً محدودةً جداً لكل الثقافات، وهذا من شأنه أن يقزّم الحضارة الغربية ويفتح من ثَمَّ أفقاً ضيقة للإنسان الغربي، نتيجة التصغير المصطنع للكائنات البشرية داخل حدود جغرافية ضيقة وهويات انفرادية مغلقة، وهذا يمكن أن تكون له آثار سيئة للغاية، وتجعل العالم قابلا للانفجار في أي لحظة.

وفي سياق التقزيم الحضاري يرى أمرتيا صن أن فكرة «نهاية التاريخ» تهاوت لأنها

ص: 244


1- أمارتيا ،صن الهوية والعنف وهم المصير الحتمي، مرجع سابق، ص 67.

تتحدث عن الماضي، ومن ثم تبعث على الاطمئنان حول مستقبل أميركا، بحيث تؤكد على الانتصار النهائي لليبرالية. أما أطروحة «صدام الحضارات» فهي تتحدث عن المستقبل وتنذر بخطر المواجهة والحرب وتدعو صراحة إلى أخذ الحيطة والاستعداد للدفاع عن النموذج الحضاري الأميركي وعن المصالح التي يقوم عليها، ومن ثم تخصيص ما يلزم لمواجهة الخطر. ولهذا فإن فكرة الصراع «الهنتنغتونية»، فكرة ذات مآرب سياسية وإديولوجية.

تتخذ المقاربة الحضارية للصراعات المعاصرة حسب أمارتيا صن شكلين:

الشكل الأول يأخذ طابع الماكرو - صراع، وهي نظرة متميزة الضخامة حول الصراعات الكونية تفصل سكان العالم إلى حضارات متبارية مغلقة بحدود حديدية صارمة، ينتهي عندها سقف الإنسانية. وهو تصنيف أحادي فريد قائم على ما يسمى الخطوط الحضارية أو الفروق الحضارية أو الثقافية، والتي هي بالمناسبة تتبع التقسيمات الدينية، التي يوجّه الانتباه إليها وحدها وبموجبها يقسم هانتنغتون «الحضارة الغربية» في مقابل «الحضارة الإسلامية»، و«الحضارة الهندوسية»، في مقابل «الحضارة البوذية» وهلم جرا.

الشكل الثاني يأخذ الطابع الميكرو - صراع ، وهو ادعاء خطير ومؤثر يرجع تباينات الثقافات والهويات إلى الصراعات وغزارة الفظاعات التي نراها في أجزاء مختلفة من العالم اليوم. إذ يرى هذا الادعاء بأن السكان المحليين منقسمين إلى جماعات متصارعة لها ثقافات متشعبة وتواريخ متباينة تميل بطريقة طبيعية إلى توليد العداوة بعضها تجاه .بعض. ونتيجة لهذا التقسيم فإن المقاربة «الحضارية» للصراعات المعاصرة سواء في صيغتها الماكرو أو الميكرو تقوم بدور حاجز فكري رئيس أمام التركيز بشكل أوفى على السياسات السائدة، وأمام تفحُّص عمليات وديناميات الدوافع المعاصرة للعنف.

إن أبطال نظرية الصراع يتفقون تمام الاتفاق مع الاعتقاد بالعمق الفريد لهذا الخط التقسيمي الأحادي، ويميلون إلى رؤية قيم التسامح وغيرها من القيم الإنسانية،

ص: 245

على أنها ملمحٌ خاص ودائم للحضارة الغربية وجذورها غاصةً في أعماق التاريخ الغربي. وهذه نظرة وهمية من الصعب دعمها تجريبياً، فالتسامح والحرية وغيرها هي بكل تأكيد من بين الإنجازات المهمة لأوروبا المعاصرة ، لكن أن نرى بأن هناك خطاً فريداً للتقسيم التاريخي يعود إلى أكثر من ألف سنة، فذلك وهم خالص.

إن الغرب غالباً ما يزعم / المصدر للديموقراطية، وهو الوريث الشرعي لها، وباقي المجتمعات الأخرى ليست سوى مقلدة ولا تصلح لها التجربة الديموقراطية وإن حاول الغرب فرضها عليها. وهذه بدورها فكرة وهمية موغلة في التمركز والأحادية، فالديموقراطية لها جذور في أعماق التاريخ الإنساني، وهي مسألة مشتركة بين الناس كونيا ولا تتخذ شكلاً واحداً.

إن الديموقراطية عند أمارتيا صن لا تخرج عن كونها «حكم بالنقاش» أو يتطلب النظر إليها من خلال النقاش العام، وهذه طريقة في الحكم كانت سائدة في حضارات مختلفة من العالم، فالديموقراطية ليست فقط عملية التصويت والاقتراع، لكنها أيضاً التشاور والتفكير بين الناس عامة، وهو ما يسمى بتعبير قديم العهد «الحكم بالمناقشة». وبينما ازدهر التشاور والتفكير الشعبي في اليونان القديمة، فقد ازدهر أيضاً في العديد من الحضارات القديمة كالهند والصين... ولدى الفرس بشكل واضح.

هذه إذن، بعض الخلاصات في ما يخص أطروحة «التمركز الغربي» أثبتناها في خاتمة هذا البحث أملنا من خلال هذا العمل أن نفتح آفاقا حول المزيد من القراءة والبحث في فكر هذه القامة الفكرية الهندية التي خَبِرت الفكر الغربي والأميركي بالخصوص عن قرب، بالإضافة إلى أن ثقافة الرجل واسعة عقلانية ومنفتحة، من شأنها أن تفتح الباب واسعاً أمام الباحثين للنظر في قضايا وإشكالات معاصرة، من أجل إعادة النظر في العديد من المفاهيم والإشكالات المرتبطة أساساً بالخلط والتشويش المفاهيمي في الكثير من المجالات، وأبرزها مفهوم الهوية والحضارة والثقافة والعقل والحرية والمساواة والديموقراطية والعنف والهوية... إلخ.

ص: 246

التمهيد ل_«ما بعد الاستعمار»

أواليات العنف الاستعماري في التجربة الأوروبية

اشارة

محمد نعمة فقيه(1)

يمكننا اعتماد تاريخ 1493م بدايةً رسميّة للفعل الاستعماري، بمفهومه الأوروبي، أي الاستعمار القائم على النّهب العنيف للمستعمرات ونقل المنهوبات إلى «مركز» استعماري أوروبي (Metropole). على غير ما كانت عليه حركة الاستعمار البشري منذ نشأة المجتمعات البشريّة والتي كانت عبارة عن انتقال جماعة من البشر، قبيلة أو شعب من موقع أو موطنٍ أصلي لها للاستيطان في مكان ما، بشكل سلمي أو بالغلبة واستعمارها، بمعنى عمارتها، ثم تتّخذ هذه الجماعات أو الشعوب من المنطقة التي استعمرتها موطناً لها ومستقراً، ولو إلى حين.

وباستثناء محاولة الاستعمار بهدف الاستتباع والنّهب العنيف خلال الحروب الصليبيّة على سواحل بلاد الشام في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، لم تشهد المجتمعات البشريّة حركة استعماريّة قائمة على النّهب العنيف، سوى تلك التي باشرتها مملكتا إسبانيا والبرتغال ابتداءً من أواخر القرن الخامس عشر، وكانت

ص: 247


1- استاذ وجامعي وباحث في التاريخ الغربي - لبنان.

تستهدف نهب كل ما يقع تحت يدها في المحيط الأطلسي وشمالي إفريقيا وغربيها وصولاً إلى جنوبيها و«العالم الجديد»، مُنهيّةً بذلك «شرعيّة» القرصنة التي كان يمارسها البحّارة الأوروبيون على سواحل أفريقيا الشماليّة والغربية وساحل بلاد الشام، والتي كانت تقوم على قاعدة« انهب واهرب».

ونحن إذ نعتمد هذا التاريخ، 1493، بوصفه البداية «الرّسميّة» لحركة الاستعمار الأوروبي لمناطق وشعوب غير أوروبيّة، نسترشد بما تضمّنه المرسوم البابوي، الذي أصدره البابا إسكندر السادس (رودريجو بورجيا)، وبارك بموجبه ملكي إسبانيا والبرتغال، لما يقدّمانه من خدمات لنصرة الكنيسة، والتبشير بالسيّد المسيح حول العالم، وتقديراً لجهودهما وتضحياتهما في هذا السبيل، فإنّه يقرّ ويبارك المعاهدة التي تعاهدا عليها، وهي معاهدة تورد سيلاس (Tordesillas) عام 1493م والتي تمّ تعديلها عام 1494م، حيث تقاسما العالم فيما بينهما، فرسما خطّاً وهميّاً في المحيط الأطلسي يمتدُّ فيما بين القطبين الشمالي والجنوبي، فمنح البابا كل المناطق المستكشفة أو التي ستكتشف غربي الخط إلى ملك إسبانيا، وشرقيِّه إلى ملك البرتغال(1).

وبناءً على «تقسيم العالم» هذا جاءت الإرادة الملكيّة التي أعلنها ملك البرتغال منذ بداية القرن السادس عشر (1507) السّيادة البرتغاليّة التّامّة على المحيط الهندي معتبراً أن مياه المحيط مياهاً برتغاليّة وأنّ على كل سفينة تجاريّة تمخر عباب المحيط، أن تحصل على تصريح بالإبحار من حاكميّة أحد الموانئ البرتغاليّة، وأنّه يحق للسفن البرتغاليّة اعتراض أي سفينة مهما كانت تابعيتها، في أعالي البحار لتتأكّد من أنها تحمل تصريحاً بالإبحار وتُطابِق حمولتها مع التّصريح. وكلّف الملك فاسكو دا جاما (2)بتنفيذ مضمون هذه الإرادة الملكيّة بالقوّة على من يرفضها، وأمدّه

ص: 248


1- ج. ه-. ولز ،"معالم تاريخ الإنسانية»، المجلد الثالث ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1961، ص: 1029.
2- فاسكو دا جاما، يُعدّ من أنجح مستكشفي البرتغال في عصر الاستكشاف الأوروبي وهو أول من سافر من أوروبا إلى الهند بحراً كُلَّفَ من قبل ملك البرتغال مانويل الأول بإيجاد أرض للمسيحية في شرقي آسيا وبفتح أسواقها التجارية للبرتغاليين قام دا جاما بمتابعة استكشاف الطرق البحرية التي وجدها سلفه بارثولوميو دياز عام والتي تدور حول قارة أفريقيا عبر رأس الرجاء الصالح وذلك في أوج عهد الاستكشافات البرتغالية التي كان هنري الملاح قد بدأها .

بالقوّة الحربيّة اللازمة لذلك(1). بينما كانت الغزوات البحريّة الإسبانيّة باتجاه «العالم الجديد» قد باشرت نهبها العنيف لما تقع عليه أيديها وتستعمر البلاد باسم ملك إسبانيا(2). فيقول أمريكو فسبوتشي (الذي أعطى اسمه للقارة الجديدة)، بأنّه خلال الفترة ما بين عامي 1499 و 1507م قام بأربع رحلات إلى «العالم الجديد»(3).

يمكن، وبمختلف المقاييس اعتبار الحركة الاستعماريّة التي باشرها الإسبان والبرتغاليّون مع نهايات القرن الخامس عشر، بأنّها استئنافٌ للحروب الصّليبيّة، أكان لجهة الأهداف أو الشعارات وحتى لجهة الأساليب. ولكنّها لم تعُد تقتصر على موانئ وحواضر العالم الإسلامي في البحر الأبيض ، بل تجاوزت هذا الحيّز الجغرافي الضيِّق لتشمل شعوب وحضارات ومناطق العالم بأسره.

بيد أنّ ما يجب البحث عنه هو : كيف تحوّلت أوروبا الغربية عموماً، من أعدادٍ لا تُعدُّ ولا تُحصى من المقاطعات والممالك المتناحرة والمتقاتلة فيما بينها، محكومةً بصراعٍ طويل ويائس من أجل البقاء، إلى قوّة، أو قوى، قادرة على تسيير الأساطيل في المحيطات تستعمر الشعوب والبلدان في مختلف أصقاع الأرض، تغزوها وتنهبها وتفرض سطوتها عليها ، بعد أن كان البحر الأبيض بحراً إسلاميّاً صرفاً والبحر الأدرياتيكي (التيراني) بحيرة عربيّة، حسب تعبير المؤرّخ البلجيكي هنري بيرين؟ وكيف حقّقت الانقلاب في ميزان القوى الدَّوليّة لصالحها حتى يكون باستطاعتها أن تلعب هذا الدّور؟ وهل يمكن للباحث الجاد الاكتفاء بالقول أنَّ التقدُّم العلمي والتطوُّر الصّناعي الذي شهدته أوروبا الغربية في تلك الفترة هو ما أمَّن لها التفوُّق في صناعة السفن والأسلحة النّاريّة، وبالتّالي التفوُّق في ميدان الحرب؟ أم أن الأمر

ص: 249


1- ك.م. بانیکار،"آسيا والسيطرة الغربيّة، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد دار المعارف بمصر، القاهرة 1962 ص: 39.
2- ه-. ج . ولز ، المرجع المذكور ، م3، ص: 1020 - 1025.
3- جاء ذلك في رسالة كتبها في عام 1502 أو 1503 تحدّث فيها عن اكتشافه لقارة جديدة، وضمنها وصفًا مفعماً بالحيوية للأرض الجديدة وسكانها نشرت الرسالة في عام 1503 أو 1504 تحت عنوان "العالم الجديد". اكتسبت الرسالة شهرة واسعة وأعيد نشرها في عدة طبعات وترجمت إلى عدة لغات وحصل فسبوتشي الفلورنسي الأصل على الجنسية الأسبانية في عام 1505م، والتحق بوكالة حكومية تعني بالروابط التجارية مع العالم الجديد. شغل منصب كبير الملاحين في هذه الوكالة من عام 1508 وحتى وفاته عام 1512

يفرض على الباحث الجاد أن يذهب بعيداً في استكشاف دور النّهب العنيف، الذي مارسه القراصنة على امتداد ستة قرون (من القرن التاسع حتى القرن الخامس عشر) على العالم الإسلامي، في التّأسيس لبناء مجتمعات كاملة تتغذّى دورتها الاقتصاديّة على مردود المنهوبات التي كانت تتحوّل إلى محفّزات لمزيد من تطوير الجهاز العنفي للحصول على المزيد من المنهوبات؟

يربط عددٌ من المؤرخين فيما بين سقوط القسطنطينية بأيدي العثمانيين عام 1453 والتطوّرات التي شهدتها أوروبا، ويتّفق الجميع على اعتبار هذا التاريخ بأنّه نهاية «للقرون الوسطى» الأوروبية، وبداية للعصر الحديث. ويَعنون بالعصر الحديث، بشكل خاص، وضع المجتمعات الأوروبية على سِكَّة التَّطوُّر وظهور الدول المركزية وازدهار الثقافة والفنون والعلوم بمختلف مستوياتها. وهو ما يعتبرونه وضع الأسس لتحقيق الانقلاب في التوازن الدولي لصالح الكتلة الأوروبية بمواجهة السلطنة العثمانية، التي كانت تشكِّل، حتّى ذلك الوقت، القوّة الأهم والأعظم في التوازن الدولي. ونادراً ما أَولى، الذين ربطوا فيما بين الحَدَثين اهتماماً كافياً لأدوات ومحفزات التّطوّر الأوروبي، بعيداً عن «الأنويّة» الأوروبية. ونلاحظ أنّهم تجنّبوا الخوض فيما هو أصل وأساس ذاك التطوّر. فتمّ التّركيز على عددٍ من النتائج، وعلى ظواهر جانبيّة وفرعيّة، وقالوا أنّها هي ركيزة ذاك التطوّر، وأنّها هي القاعدة التي تشكّلت عليها عمليّة الانطلاق، وبالتالي هي التي أدّت إلى إنتاج الانقلاب في التّوازن الدّولي لصالح أوروبا الغربيّة.

سيطر على الأبحاث والدّراسات التاريخية لأوروبا القرون الوسطى، التي تناولت الجانب الاقتصادي والسياسي، القراءات الوصفيّة والتسجيليّة للأحداث، دون الخوض في تحليل تلك الأحداث ودورها ولا هي ربطت فيما بين الواقعة الاقتصاديّة والأثر السياسي والاجتماعي لها باستثناء محاولات عدد من أتباع المدرسة الماركسية، الذين درسوا بتركيزٍ واضحٍ المتغيرات الاقتصادية وأثرها السياسي والاجتماعي في المجتمع الأوروبي، وآخرون ممّن تولّوا محاججتهم والرّد عليهم،

ص: 250

ولكنّهم جميعاً بقوا أسرى التّفسير الماركسي ل_ «سرّ التّراكم الأولي لرأس المال» الذي تناوله كارل ماركس وكأنّه أحد «الأسرار» الكنسيّة ، أو نجدهم أسرى مفهوم «روح العصر» الهيجلي، وانطلقوا من ما بعد القرن الرابع عشر مهملين ما سبق هذا التّاريخ، فتركّز اهتمامهم على ظواهر محدودة في العلاقة ما بين الإقطاعيين والأقنان، وثم الفلاحين، في وسط وشمال غربي القارّة، مع إيلائهم المزيد من الاهتمام للريف الإنكليزي الذي شهد ابتداءً من القرن الرابع عشر ، بداية بطيئة لاضمحلال القِنانة الإقطاعية.

فباستثناء هذه القلّة فإن البحث في مكوّنات الخروج من القرون الوسطى والولوج في العصر الحديث بقي ضمن ضفاف تأريخ الحركة الداخلية للمجتمعات الأوروبية. بعضهم فعل ذلك انسياباً مع الشائع، وبعضهم الآخر تعمَّد ذلك انسجاماً مع منهج «الأنوية الأوروبية» القائم على فرضية مفادها أن المجتمع الأوروبي ذاتي التطور، وليس بحاجة إلى خارج لدفعه بهذا الاتجاه. وهذا ما أسهم بشكل ملحوظ في سيطرة الأبحاث ذات الطابع التحليلي - الوصفي لحركة الانتقال، من حالة إلى أخرى، في المجتمع الأوروبي، من دون إيلاء الأسباب الخارجية لهذا الانتقال ما يستحقه من اهتمام.

وحسبما يؤكد الدكتور حسين مؤنس في إطار بحثه لتعريف الحضارة وسيرورة إنتاجها وتطورها، فإن الابتكارات والانتقالات ليست وليدة مجرّد إرادة،«والوعي لا يحصل في طرفة عين نتيجة لتفتح مفاجئ في الذهن، ولا يعرف العلم ما يُسمّى باللّمسة السحريّة التي ذهب بعض الناس إلى أنها سبب الخلق والإبداع والابتكار، فقد كانت ثمة جملة من التطورات والأحداث المترابطة والمتفاعلة عبر زمن طويل، منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي، منها ما هو سلبي كابح للتطور، وآخر إيجابي دافع له، شكّلت فيما بينها جميعاً أُسُساً لما شهدته أوروبا من تطوِّر وازدهار مكَّنَها من إحداث الانقلاب في التوازن الدولي لصالحها»(1).

ص: 251


1- د. حسين مؤنس الحضارة"، مسلسلة عالم المعرفة العدد الأول، المجلس الوطني الثقافي، الكويت، كانون الثاني 1978 ، ص : 93

كانت الفكرة المهيمنة دائماً في الفكر الأوروبي بدءًا من القرن التاسع عشر، هی أنّ مقوِّمات الازدهار والتفوق في أوروبا إنما هي الاستمرار المنطقي لحضارتي الإغريق والرومان، وأنّ ما أصاب أوروبا خلال «القرون الوسطى» لم يكن سوى عطلاً طارئاً أو حادثاً عرضياً ما لبث المجتمع أن تغلَّب عليه واستأنف مسيرته. وعندما يعلن الأستاذ الأميركي جيمس هنري بريستد رأيه، والذي لا نشك في أنَّه احتاج لجرأة استثنائية، حيث قال: أنَّ الحضارة الأوروبية الحديثة لم تكن بدأت في اليونان وروما، بل في الشرق الأوسط، في مصر وفلسطين وبابل وآشور وسومر وآكد، فهو بذلك أشار ، ليس فقط إلى جذور الحضارتين الإغريقية والرومانية، اللتين يُقال بأنّهما جذر الحضارة الأوروبية الراهنة، بل إلى المجتمعات التي أنتجتهما وتطوّرتا في خضمِّ ممارسة تلك المجتمعات لحياتها(1).

أ - أوروبا القرون الوسطى: لمحة سريعة:

وحتى لا نذهب بعيداً في هذا المجال، سنكتفي ها هنا بالإطلالة على ما كان عليه الواقع الأوروبي قبل أعوام من مرحلة «القرون الوسطى» لنتبيَّن ركائز هذا الانطلاق وأسبابه.

من العبث الكلام عن الدول والحكام والأنظمة التي كانت قائمة في أوروبا إبّان القرون الوسطى، إذ لم يكن هناك دولاً ولا حكّاماً ولا أنظمة. وعلى حد وصف الأستاذ ه-.ج. ويلز، فإن«كل ما في الأمر أن بعض المقاطعات الصغار أو الكبار كانوا يستولون على قلعة أو ناحية من الريف ويحكمون منطقة حكماً غير مستقر. فكانت الجزر البريطانية مثلاً، مقسمة بين حشد كبير من الحكام، وكان هناك زعماء كليتون عديدون في ايرلندا وإيسلندا وويلز وكورنوال(2)، يتقاتلون ويتغلبون أحدهم على الآخر أو يُخضعون بعضهم لبعض. وكان الغزاة الإنكليز ينقسمون أيضاً إلى عدد من الممالك غير المستقرة، وهي كنت وسكس

ص: 252


1- Breasted, J.H.: "The Dawn of conscience", New York, c. scribnenks sons, 1953, ch. I.
2- كورنوال مقاطعة إنكليزية ساحلية جنوب غربي إنكلترا. تقع إلى الغرب من نهر تامار وديفون المركز الإداري والمدينة الوحيدة في المقاطعة هي مدينة ترورو.

وساسكس وإسكس ومرسيا ونورثمانيا وانجيليا الشرقية، وهي دول لا تنقطع الحرب بينها أبداً»(1).

ويتابع الأستاذ ويلز وصفه قائلاً :«كان ذلك شأن معظم أقطار العالم الغربي، فأنت واجد أسقفاً يتولى الملك، كما كان غريغوري الأكبر في روما. وواجدها هنا مدينة أو مج مجموعة من البلدات تحت حكم دوق أو أمير لهذه أو لتلك. وكنت تجد بين الخرائب الهائلة بمدينة روما أسر نصف مستقلة من مغامرين شبه نبلاء، كل يذود عن حياضه ومعه أتباعه. وكان للبابا نوع من السيادة العامة على هؤلاء ولكن كان ينافسه في تلك السيادة ويفوقه تماماً في بعض الأحيان دوق روما (...) وكانت اسبانيا على

هذا الانقسام السياسي الشديد نفسه الذي كانت عليه إيطاليا وفرنسا وبريطانيا»(2).

عموماً، ليس منطقياً الكلام عن أوروبا «القرون الوسطى» بوصفها كلاً اجتماعياً أو حضارياً منسجماً، فإلى جانب انشطارها في الولاء إلى الكنيسة الكاثوليكية أو إلى الكنيسة البيزنطية الأرثوذوكسية، فهذا أدى إلى قسمتها إلى أوروبتين شرقية وغربية، فإن مفاهيم مثل «المجتمع الأوروبي» أو «الحضارة الأوروبية» أو «الجماعة الأوروبية»، لم تكن قد وُجدت بعد.

والواقع أن كل كلام عن «حضارة أوروبية» قبل «القرون الوسطى»، هو ضرب من الإسفاف، فعلى الرغم من كل ما يُقال حول أثر «القرون الوسطى» على أوروبا، وحول الدمار الذي لحق بها، فممّا لا ريب فيه، هو أنها حققت وجودها للمرة الأولى في التاريخ خلال هذه المرحلة، لتكون «القرون الوسطى» بالنسبة لأوروبا بمثابة المخاض الحقيقي لولادتها وتشكُّلها، ويسقط بالتالي مفهوم «القرون الوسطى» عن المرحلة الممتدة ما بين أواخر القرن الخامس والقرن الخامس عشر باعتبارها مرحلة جاءت وسط حضارتين أوروبيتين، والتأسيس لمفهوم آخر عن القرون الوسطى، مفهوم يعتبر بأنّها لم تكن سوى «مرحلة المخاض والتأسيس» لمجال سياسي واجتماعي هو المجال الأوروبي.

ص: 253


1- ه- .ج. ويلز، "معالم التاريخ الإنسانية، المجلد الثالث، مرجع مذكور، ص: 825 - 826.
2- المرجع نفسه، ص : 825

فالنظام الإقطاعي الذي تشكّل ونما خلال القرون الوسطى، ولعب في بداياته دوراً تقدّميّاً وحمل للمجتمع الأوروبي نظاماً ثورياً ورائداً، كان قد ترافق مع انتشار النصرانية التي شاعت وتحوَّلَت إلى دينٍ نهضويٍّ توحَّد الأوروبيون به وحوله، وشكل لهم «الموحد الأيديولوجي» المافوق قبلي أو قومي أو إثني، تناغما معاً في صرامة التّراتبيّة الدّاخليّة لكليهما، فأدخلا هذا النّمط من العلاقات في بعدها السياسي ليؤسِّس للدولة القوميّة المركزيّة وليشكلا معاً، الإقطاع والكنيسة، العاملين الأساسين لتَشَكُّل أوروبا وتكوّنها كمجالٍ ذي مدلول سياسي - اجتماعي ديني، لأوّل مرّة في التّاريخ.

فمنذ بطليموس، كان ثمة حديث عن بقعة من الكرة الأرضية متميّزة أو مختلفة جغرافياًّ عن سواها عن سواها من آسيا وأفريقيا تسمّى أوروبا لكن ليس ثمة شعب أوروبي. والصفة «أوروبي» لم تكن مستخدمة بعد لتُميِّز الإنسان القاطن في هذه القارة عن غيره. بينما كانت الصفة «آسيوي» أو «أفريقي» تسمية لرجل أصله من الأناضول، مثلاً، أو من العرب(1). فأوروبا آنذاك مقسّمة في الواقع إلى عالم روماني وعالم بربري»(2). وفي الوقت الذي كان فيه «العالم البربري». المتّصف بوحشيّته ووثنيَّته، يجد امتداده خارج القارة ليتواصل مع الشعوب التركية والمغولية الآسيوية، والتي تشاركه حتى ذلك الحين بالوحشية والوثنيّة، ويقوم نمط اجتماعها على نظام القبائل المحاربة القائمة على الغزو ، فإن «العالم الروماني» الذي تمثله الإمبراطورية الرومانية يمتد على ثلاث قارات حول البحر الأبيض، ممّا يُسقط عنها صفتها الأوروبية الخالصة على الرغم من أن مؤسسيها أوروبيون وعاصمتها في أوروبا.

ففي خضم الخراب والدمار والمجازر التي أثارتها الغزوات الكبرى خلال القرنين الخامس والسادس الميلاديين القبائل العسكرية الجرمانية على الإمبراطورية الرومانية من شمالي أوروبا إلى وسطها وجنوبها وغربها والقبائل العسكرية التركية (الهدن) التي كانت تُغِير على كل أوروبا انطلاقاً من سهل الدانوب في شرقی

ص: 254


1- ميشال دوفيز، المرجع المذكور، الجزء الأول، ص: 17.
2- د. حسين مؤنس المرجع المذكور، ص: 201.

أوروبا(1)، إضافة إلى غزوات قبائل الأنجل (الإنجليز) والسكسون والقوط، وهم «من أشد الهمج الغزاة قساوة وتأثيراً في من حولهم»(2)، في هذا الخضم كانت تتشكل القارة الأوروبية اجتماعياً مع استقرار هذه القبائل في المواطن التي غزتها ومن ثم في اعتناقها للنصرانية (3)وصولاً إلى تحويل الأعداد الغفيرة من الفلاحين والمزارعين الضعفاء إلى أقنان أو أتباع لهذا أو ذاك من الرجال الأقوياء، ليحتموا به، ويتشكل النظام الإقطاعي الذي شكل جهازاً ضرورياً لإعادة التوازن والاستقرار ودفع عجلة الإنتاج الزراعي خطوة كبيرة إلى الأمام(4).

وإذا كان بالإمكان اعتبار نمو النظام الإقطاعي في أوروبا إنجازاً أوروبياً خاصاً إلى حد بعيد، فإن انحلال هذا النظام والتأسيس للنظام الرأسمالي، كان يستلزم بضعة عوامل خارجية، غير أوروبية، لتتفاعل مع عوامل أخرى أوروبية، تدفع باتجاه إحداث القفزة النوعية وتأمين متطلبات الازدهار الاقتصادي والتفوق العسكري على قواعد ومقتضيات النظام الرأسمالي الذي تدين أوروبا الغربية بتطورها له.

ب - حول موضوعة الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية:

لا شك أن المجتمعات الأوروبية الغربية شهدت صراعاً داخلياً عنيفاً وكاد أن يكون مدمِّراً في بعض مراحله ومواقعه على طريق الانتقال من النظام الإقطاعي إلى النظام الرأسمالي. وتبعاً لأهمية هذه القفزة النّوعية في المجتمعات الأوروبية الغربية وأثرها الكبير على العلاقات الدولية فيما وراء خطوط هذه المجتمعات، فإن موضوعة الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية استحوذت على نقاشات واسعة لدى مختلف المدارس الاقتصادية والاجتماعية، وتبوّأت موقعاً من الاهتمام لم ينازعها فيه أي موضوع آخر من المواضيع الحيوية، لا سيما في مضمار التحديد الزمني لهذا الحدث أو فى أوالياته الداخلية وسيرورته العامة.

ص: 255


1- ه_ ج . ولز المرجع المذكور، المجلد الثالث، ص: 742
2- المرجع نفسه، نفسه، ص : 715.
3- د. حسين مؤنس المرجع المذكور ، ص : 202 203.
4- ه_ .ج . ولز، المرجع المذكور، ص: 828 - 829.

وكان النقاش قد افتتح على مصراعيه حول هذا الموضوع بدءاً من أواخر القرن الثامن عشر، واستمر محتدماً طوال القرن التاسع عشر وصولاً إلى يومنا هذا. وقد شارك فيه بداية فلاسفة وعلماء اقتصاد واجتماع من أمثال الفيلسوف الألماني فريدريك ليست (1789 - 1846م) الذي صاغ نظرية في تطوُّر المجتمعات البشرية، قد تكون أوّل النظريات التفصيلية حول الاتجاه التطوري لهذه المجتمعات، التي تعطي لمراحل التطور الخمسة التي تلحظها العناوين التالية: 1- المرحلة الهمجيّة. 2- المرحلة الرعوية . -3 - المرحلة الزراعية . -4 - المرحلة الزراعية والصناعية . 5 - المرحلة الزراعية - الصناعية - التجارية. وكذلك المفكر الاقتصادي البريطاني الشهير آدم سميث (1723 - 1790م) صاحب كتاب «ثروة الأمم» الذي وضعه عام 1776م والذي قد يكون أوّل من نَظَّر، وعبر الاستدلال العلمي، وعلى نطاق واسع، لأهمية الاستعمار لنمو الرأسمالية، عبر ربطه ما بين اتساع السوق، وقدرة الرأسمالية على تحقيق تقسيم العمل الذي يؤدّيه العامل في النظام الرأسمالي، بانفصاله عن وسائل الإنتاج، ليس سوى سلطة كغيرها من السلع وأن الأجر الذي يتقاضاه مقابل العمل، إنما هو «ثمن» لهذه السلطة يخضع لنظام العرض والطلب شأنه شأن غيره من الأثمان.

وعلى أعتاب الثورة الصناعيّة الثّانيّة في أوروبّا الغربيّة (اختراع المُحرِّك بالطاقة النفطيّة) سيحتدم النقاش مجدداً مع كارل ماركس وتأسيسه لمدرسة خاصة في قراءة تطور المجتمعات البشريّة، ومع أقطاب المدرسة الهيجلية الجديدة التي رفض أحد أجنحتها أن تكون المجتمعات البشريّة، شأنها شأن الطبيعة، تحيا ضمن انتظام معيَّن (فيلهلم روشير 1817 - 1894م) بينما رأى آخرون في هذه المدرسة (برونو هيلد برانت 1812 - 1878م) أن تطور الأمم الاقتصادي يمر ضمن ثلاث مراحل هي: الاقتصاد الطبيعي والاقتصاد النقدي والاقتصاد الائتماني(1).

ومع أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ستجدِّد الهيجلية نفسها مع «المدرسة التاريخية الحديثة» التي ستقوم مع وارنير سومبارت صاحب کتاب

ص: 256


1- راجع في ذلك اوسكار لانح ، الاقتصاد السياسي"، الجزء الأول، ترجمة راشد البراوي، دار المعارف بمصر، 1966 ص : 288

«الرأسمالية الحديثة» ومع العالم الاجتماعي ماكس فيبر (1864 – 1920م)، وكلاهما ألماني، حيث يعتبران أن التطور الاقتصادي مستمدٌّ من المثالية الموضوعية التي ترجع أصولها إلى فلسفة هيجل، وأن لكل عصر تاريخي «روحه» الخاصة التي تُخْتَصَر في مجموعةٍ من الاتجاهات النفسانية للبشر ، التي تضفي على كل عصر طابعهُ الخاص. ويعتبر أن مفتاح فهم التطور الاقتصادي لا يكمُن في معرفة أسلوب الإنتاج ، أي ليس في القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، كما يقول كارل ماركس، إنما في معرفة وفهم الاتجاهات النفسانية التي تشكل «روح» كل عصرٍ تاريخيٍّ بذاته(1).

ولعلَّ أكثر الأبحاث التّاريخيّة، التي تناولت التّاريخ الاقتصادي لأوروبا في العصر الوسيط، إضاءةً على القضايا المتعلّقة بموضوعنا، هي تلك التي أثارتها مقولات المؤرخ البلجيكي هنري بيرين (1862 - 1935م) (2)حول الدور الذي لعبته التجارة والثروة المحصَّلة عن طريق القرصنة، في تطور وانهيار النظام الإقطاعي وبروز النظام الرأسمالي وتطوره. حيث سعى بيرين إلى إثبات أن الحيوية التي طرأت على الاقتصاد الأوروبي، وطيدة الصلة بالعلاقة التجارية بين أجزاء العالم القديم. وهو يُعيد انهيار الإمبراطورية الرومانية إلى وقف تدفق الناتج التجاري بين أوروبا والشرق بعد سيطرة المسلمين على خطوط التجارة القديمة لاسيما في البحر الأبيض. وإن نجاح المدن الإيطالية في إعادة توصيل هذه الخطوط وازدهار القرصنة خلال القرون الوسطى، أمَّنا الانبعاث الاقتصادي لأوروبا ابتداءً من القرن الحادي عشر، الذي تم تتويجه بالحروب الصليبية على الشرق الإسلامي، والتي تعتبر من أضخم وأهم عمليات النَّهب والقرصنة في التاريخ على الإطلاق(3).

وكان كارل ماركس قد لحظ «أن أولى نبتات الإنتاج الرأسمالي» كانت قد ظهرت في «بعض مدن البحر» الأبيض المتوسط في القرنين الرابع عشر والخامس عشر وأنّ

ص: 257


1- المرجع السابق، ص: 290 - 291.
2- Pirenne, H., "the Medieval Economic and social Hisory", Eg. Trans. I.E. cgegg, London 1961. وقد صدرت ترجمة عربية لهذا الكتاب بعنوان: تاريخ أوروبا في العصور الوسطى الحياة الاقتصادية والاجتماعية»، ترجمة وتحقيق د. عطية القوصي الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1969.
3- ارنست ماندل، المصدر المذكور، الجزء الأول، ص 112

الإنتاج الرأسمالي في إيطاليا تطور قبل تطوره في سائر البلدان». إلاّ أن ماركس يعتبر هذا التطور باتجاه الرأسمالية وقيام علاقات إنتاج رأسمالية مبكرة في إيطاليا خلال القرن الرابع عشر، عاد وشهد «حركة في الاتجاه المعاكس» وذلك «حالما قضت ثورة السوق العالمية منذ أواخر القرن الخامس عشر على تفوق إيطاليا الشمالية التجاري» حيث بدأت حركة إقصاء «جماهير العمال من المدن إلى الريف فأخذت بفضلها الزراعة الصغيرة المنظمة حسب نموذج البستنة تزدهر ازدهاراً لم يُسمع بمثله من قبل»(1).

واعتبر ماركس أن مبادلة العمل الحر بالمال أحد متطلبات العمل المأجور، وأحد الشروط التاريخية للرأسمال إضافة إلى متطلب آخر ألا وهو «فصل العمل الحر عن شروط تحقيقه الموضوعية، أي عن وسائل العمل ومواده» ويضيف قائلاً أنَّ «هذا يعني قبل كلِّ شيء، ضرورة فصل العامل عن الأرض، التي تشكِّل مختبره الطبيعي.كما يعني أيضاً انحلال كلِّ من الملكية الصغيرة الحرة وملكيتها المشاعيّة المرتكزة على المشاعة الشرقية»(2). ويرى «أن تحول المال إلى رأسمال يفترض صيرورة تاريخية تفصل شروط العمل الموضوعية عن العامل وتجعلها مستقلة عنه وتضعها في مواجهته»(3).

ومع أنّنا نرى في بضعة القوانين التي أشار إليها ماركس في عمليّة التأطير الرأسمالي لعلاقات الإنتاج، إلا أننا نرى أنّه شغل نفسه في قراءة النتائج التي أسفرت عن قيام نمط الإنتاج الرأسمالي ، ولم يلتفِت بشكلٍ حقيقي ووافٍ للأسباب المكوّنة والدّافعة لهذا التأطير. حتّى أنّه يقدم ترسيمة لكيفية سيطرة «صاحب المال»، على المنتجين وفصلهم تدريجياً عن نمط إنتاجهم القديم، ودون أن يفيدنا من أين حصل على المال لتوظيفه وتحويله إلى رأسمال والتي نرى بأنّ هذه «الترسيمة» يمكن اعتبارها من

ص: 258


1- كارل ماركس، "رأس المال : نقد الاقتصادي السياسي، الفصل الرابع والعشرين من المجلد الأول. صدر بالعربية عن دار التقدم موسكو 1970 في كراس مستقل تحت عنوان "أصل رأس المال، ص 7 و 8 ورد أيضاً في ترجمة محمد عيتاني الصادرة عن مكتبة المعارف، بيروت، ص. (1055) وراجع أيضاً: Karl Max, "Fondements de la Critique de l'Economie Politique", Ed. Antropos, Paris 1968, tome I p.p. 435 - 479.
2- کارل ماركس ، نصوص حول أشكال الإنتاج ما قبل الرأسمالي ، ترجمة لجنة بإشراف د. صادق عبد العظيم، دار ابن خلدون، بیروت 1974، ص: 61.
3- المرجع السابق، ص: 101

«أدب الأطفال» أكثر من كونها بحثاً علميّاً يتناول الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية. حيث يقول :«يتحول المال تاريخياً إلى رأسمال بطرق بسيطة وواضحة. يقوم التاجر (وهو هنا صاحب المال) بتشغيل عدد من الغزّالين والحاكة الذين كانوا في السابق يمارسون هذا النشاط كشيءٍ ثانوي إلى جانب عملهم الزراعي، فيحوِّل بذلك عملاً ثانوياً إلى عملهم الرئيسي، ممّا يضعهم في قبضته ويدخلهم تحت سيطرته كعمّال مأجورين. أما الخطوة التالية فتتم بنقلهم من أماكن إقامتهم وتجميعهم في أماكن واحدة للعمل. وتُبَيِّن هذه العملية البسيطة أن التاجر لم يهيّئ المواد الخام والأدوات ووسائل البقاء للغزّال أو الحائك: إن كل ما فعله هو حصرهما تدريجياً في نطاق نوع واحد من العمل، بحيث يصبحان معتمدين على الشاري أي التاجر. وهكذا يجدان أنهما لا ينتجان، في المطاف الأخير، إلا من أجله وبواسطته فقط. في البداية اشترى التاجر عملهما بمجرد شراء إنتاجهما. لكن حالما يقتصران على إنتاج هذه القيمة التبادلية وبالتالي يضطران لإنتاج قيم تبادلية مباشرة ولمبادلة عملهما كلياً بالمال من أجل البقاء على قيد الحياة، فإنهما يخضعان لسيطرته وأخيراً يختفي حتى الوهم بأنهما يبيعان منتوجهما للتاجر لأنه يشتري عملهما فينزع أولاً ملكيتهما للمنتوج ، ثم يتبع ذلك بنزع ملكيتهما للإدارة، أو قد يسمح لهما بملكية وهمية لها كي يقلّص من نفقات الإنتاج المترتبة عليه»(1).

ويؤكد ماركس في مكان آخر من عمله المذكور ، على أن «الثروة النقدية - في شكل ثروات التجار - ساهمت كثيراً في تسارع انحلال علاقات الإنتاج القديمة ومكَّنت المالك العقاري، على سبيل المثال، من مبادلة ما يملكه من الحبوب والماشية إلخ. لقاء قيم استعمالية مستوردة، بدلاً من تبديد إنتاجه هو ومواليه (...) أصبحت الثروة النقدية تعطي أهمية أعظم للقيم المتبادلة لدخله (...) وكان تطور القيمة التبادلية - الذي أسهم فيه المال المتوفر عند طبقة التجار - يعمل إلى انحلال الإنتاج الموجهة بصورة رئيسية نحو الاستعمال المباشر مع أشكال الملكية التي تنسجم معه - علاقات العمل بشروط الموضوعية - دافعاً بالتالي إلى الأمام عملية خلق سوق العمل (التي

ص: 259


1- المرجع السابق، ص: السابق، ص: 99 - 100.

ينبغي تميُّزها عن سوق العبيد)»(1). كما ويشير إلى أن «مرحلة انحلال أنماط الإنتاج المبكرة وانحلال علاقات العامل بشروط العمل الموضوعية، هي في الوقت ذاته المرحلة التي تطورت فيها الثروة النقدية إلى حدٍّ معين، كما أنها المرحلة التي كانت تسارع في هذا الانحلال فكما أن الثروة النقدية - حتى لو حققت لنفسها نوعاً من السيطرة - ليس كافياً كي يؤدي هذا الانحلال إلى إنتاج الرأسمال. فلو كان الحال كذلك لاختتمت كل من روما القديمة والدولة البيزنطية إلخ . تاريخها بالعمل الحر والرأسمال، أو بالأحرى لكانت دخلت كل منهما مرحلة تاريخية جديدة»(2).

وبغض النظر عن الأسباب التي دعت ماركس ومن بعده الماركسيين إلى عدم اعتبار ما كان يجري في إيطاليا وشمالي غرب أوروبا من انحلال النظام الإقطاعي وانطلاق للنظام الرأسمالي (3)، يتضح من خلال هذه النصوص لماركس أن نمط الإنتاج الإقطاعي كان قد دخل مرحلة التحلُّل مع نمو الثروة النقدية المتأتية عن طريق ما يسمّيه العمل «التجاري»، وأنّ طبقة ذات ثراء نقدي، هي الطبقة التجارية، أخذت تضاعف ثروتها ونفوذها وتفرض سيطرتها. وإنَّ نمطاً إنتاجياً، ما، بدأ ينمو بالتفاعل مع هذه الطبقة عبرّ عن نفسه بنمو ملحوظ في الحرف الحضرية وفي تحول المزارعين الأحرار تدريجياً إلى العمل المأجور ويحققون استقلالهم التدريجي عن الإقطاع إضافة إلى بروز شكل يوحي بتبعية ما ، من ،الإقطاعيين الباحثين عن معادل تبادلي لإنتاجهم الزراعي، تجاه الطبقة «التجارية» الآخذة بالصعود والمستفيدة من بضعة عوامل مساعدة لا سيما مما أسماه الأستاذ مارك بلوخ ب- «أزمة الثروة الإقطاعية» خلال العصر الوسيط(4).

ويبقى غير ذات أهمية لموضوعنا الكلام عن ماهية نمط الإنتاج الذي ساد خلال المرحلة السابقة على منتصف القرن السادس عشر حيث يصر ماركس والماركسيون

ص: 260


1- المرجع السابق، ص: 97.
2- المرجع السابق، ص: 95.
3- راجع في ذلك مقالتنا في مجلة "المنطلق تحت عنوان "قراءة في الدوافع والنتائج الأوروبية للحروب الصليبية، العدد 84 و 85 ت2 - ك 19911، ص: 131 - 132.
4- مارك بلوخ، "مشكلة الذهب في العصر الوسيط، بحث ورد في كتاب تحت عنوان "بحوث في التاريخ الاقتصادي“ ترجمة توفيق اسكندر، دار النشر للجامعات المصرية القاهرة 1961، ص.: 1 – 50.

على رفض اعتبار هذا التاريخ بأنه تاريخ بداية نمط الإنتاج الرأسمالي حيث إنهم يعتبرون من غير الممكن «الحديث عن بداية المرحلة الرأسمالية إلا عند حوالي النصف الثاني من القرن السادس عشر على أقل تقدير»(1)، فما يهمنا هنا رسم صورة لاقتصادات بدأت تتحلل تحت ضغط إيقاعات متواصلة ومتمادية تقتحم نمط الإنتاج الإقطاعي المُتَّسم بركود نسبي من خارج أطر هذه الاقتصادات وأنظمتها المتشددة لتغرق نمط الإنتاج هذا في خضمِّها وتضع اقتصاد المقاطعة، أو المنطقة، ببنيتها الإقطاعية، في دائرة مفتوحة للخارج وتأثيراته التي تحمل معها شروطاً مغايرة لشروط قيام واستمرار «الاقتصاد الطبيعي» الذي تقوم عليه اقتصادات تلك المقاطعات.

كان من أكثر أشكال تأثير تلك الشروط على البنية الداخلية للاقتصاد الإقطاعي أنها قامت بتحفيز الإنتاج السلعي والعمل المأجور وإدخال النقد على نطاق واسع إلى السوق كأداة رئيسية للتبادل وتحديد الأسعار والأجور، وإدخال شخصيات جديدة ذات نفوذ على مجتمع الإقطاعة يشاركون الإقطاعي سيادته وسلطته بشكل مباشر أو غير مباشر ثم لن يلبثوا أن يتحوّلوا إلى «أسياد جدد» بقواعد جديدة ومغايرة لما كان عليه الأسياد الإقطاعيون على الرغم من أن هذا التحول سيستلزم فيما بعد شروطاً غير اقتصادية لتحقيقه.

لن ندّعي هنا أن مجرد توجيه الاقتصادات في الإقطاعات المختلفة نحو الإنتاج السلعي يعني أنها توجهت نحو نمط الإنتاج الرأسمالي. فالإنتاج الرأسمالي لا شك أنَّه شكلٌ أرقى وأكثر تعقيداً من أشكال الإنتاج السلعي الذي شهدته العديد من الاقتصادات غير الأوروبية، وفي مراحل تاريخية مبكرة وسابقة على أوروبا، ولكن من دون أن يؤدي ذلك الشكل من الإنتاج إلى اتسام تلك الاقتصادات بالسمة الرأسمالية. وهذا ما يضيء على شروط وظواهر أخرى ترافقت هذا الإنتاج السلعي في أوروبا، وقد يكون جلّها غير اقتصادي، دفعت باتجاه توفير الأسس الضرورية لضرب

ص: 261


1- بول سويزي، النجارة الدولية وانحطاط الإقطاع، فصل من كتاب الانتقال من الإقطاع على الرأسمالية، مرجع مذکور ، ص : 73 -74.

الاقتصادات الإقطاعية في أوروبا الغربية، وحفّزت الإنتاج السلعي نحو سلوك مسلكٍ تطوري باتجاه الرأسمالية.

لن تكون تلك الشروط والظواهر التي دعمت الإنتاج السلعي نحو سلوك مسلك الإنتاج الرأسمالي، بنمطه وعلاقاته وارتداداته على البنية الاجتماعية، بالضرورة شروطاً وظواهر اقتصادية مباشرة، كتلك الشروط التي مكنت الحركة التجارية والثروة النقدية التي تمّ جنيها إبّان العصور الوسطى، من التحوّل إلى رؤوس أموال، بينما لم تتحول ثروات «كل من روما القديمة والدولة البيزنطية»، حسب تعبير ماركس، إلى رؤوس أموال، ولا هى مكّنت هاتين الدولتين «من الدخول في مرحلة تاريخية جديدة».

على الرغم من أن الحياة العامة في ظل النظام الإقطاعي كانت تفتقر بشكل قاس للاستقرار السياسي والاقتصادي على حدٍ سواء، فإن النظام الإقطاعي كان متيناً و شديد التماسك والتمسّك بقيمه وعلاقات إنتاجه، ويتم الدفاع عنه دفاع الأسياد عن سيادتهم المطلقة. إلاّ أن حالة انعدام الاستقرار السياسي والأزمة النقدية التي عصفت بالأسر الإقطاعية ونمو قطاع واسع من المغامرين القراصنة والتجار على هامش الإقطاعات وبعيداً عنها واستحواذهم على ثروات نقدية ضخمة من جراء القرصنة والتجارة عبر البحار، وتحويلهم للمدن الساحلية إلى قواعد انطلاق وتجهيز لتجارتهم ،وغزواتهم، حيث سرعان ما بدأت المدن تشكل معلماً هاماً من معالم العصر الوسيط، ينمو خارج علاقات الإنتاج الإقطاعية، ويغدو مركز استقطاب متزايد الخطورة بتمايزه عن النظام لإقطاعي لا سيما وأن تلك المدن كانت تؤمّن الفرصة أمام الأقنان والفلاحين للفرار من الأرض الإقطاعية والانضمام إلى جيوش المغامرين والباحثين عن الحرية والثراء.

سوف تشكل هذه المتغيرات مجتمعة معطيات ذات أهمية في تكوين جهاز اختراق للنظام الإقطاعي، وعناصر دفع إضافية لنمط الإنتاج السلعي ورسملته. ولكن تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه المتغيّرات كانت تشترط هي نفسها أيضاً، شروطاً من خارج المجتمع الأوروبي الإقطاعي، وبالتالي ليس دقيقاً اعتبار أن عملية التحوّل

ص: 262

من الإقطاع إلى الرأسمالية تمّت بفعل عوامل داخلية صرفة، وهذا يعني عدم دقّة الاستنتاج «الفلسفي» القائل بأن النظام القديم يحمل في رحمه بذور النظام الجديد. فلم يكن ممكناً لنمط الإنتاج الإقطاعي أن ينهار، وبالتالي تنهار كل السلطات التي يستحوذ عليها رجل الإقطاعة ، لولا تلك القوّة المالية والاقتصادية والعسكرية التي حققها «الرجال الجدد» من خارج النظام الإقطاعي نفسه، وبفعل عوامل وفرص توفّرت خارج ذاك المجتمع، فازدهار هؤلاء «الرجال الجدد» وتطوّرهم واستحواذهم على ما استحوذوا عليه من قوى كان يشترط بالأساس توفر شروط خارجية، لا سيما وجود «خارج قابل النهب» ويستحوذ على فائض «يغري للنهب».

يروق لبعض النظريات القائلة بالذاتية الأوروبية للتطور من الإقطاع إلى الرأسمالية، إدخال عامل «التجارة الخارجية» كعامل من عوامل هذا التطوّر، وهي تصرّ على وصف عمليات القرصنة والنهب التي قام بها هؤلاء «التجّار» بأنها تجارة دولية. بينما تغض فئة أخرى من هذه النظريات، ومنها النظرية الماركسية ، الطرف عن هذا العامل ولا تدخله بالاعتبار، مكتفية بالدور الذي لعبته التجارة الداخلية في هذه العملية، وذلك تماشياً مع منطقها «الفلسفي» القائل ب- «الحتمية التاريخية» وبأن القديم يخلق بذاته شروط ولادة الجديد، دون أن تعطي أي تفسير لكيفية تحوّل «لصوص» الشمال الأوروبي من الجرمان والسكسون وغيرهم من «لصوص» مواشي ودواجن ينهبونها من المزارع والقرى ليبيعونها في الأسواق على بحر الشمال أو على غيره، إلى «تجار مرموقين» حينما سينزحون جنوباً وسيُعرفون فيما يلي باسم «النورمانديين»، أي رجال الشمال؟

كما أن سؤالاً يلحّ طرحه على القائلين بهذا القول، ويتطلّب جواباً حاسماً، ألا وهو: هل أن الطبقة الجديدة الآخذة بالتوسع والازدهار والتي سيقوم عليها الاقتصاد الأوروبي لقرون قادمة، والتي نمت خارج علاقات الإنتاج الإقطاعية وبعيداً عن نظر الإقطاعيين بدءاً من القرن الحادي عشر، هي طبقة «تجارية» حقاً؟ أي أنها فعلاً كانت تمارس عملاً تجارياً صرفاً؟ وبكلام أوضح: هل أن هذه الطبقة كانت تتعاطى العمل التجاري بمفاهيم وشروط العرض والطلب والقبول المتبادل بين طرفي التبادل التجاري على طرفي خط التجارة الدولية المزعومة؟

ص: 263

إذا كان الجواب بالإيجاب، فهذا يتطلّب إعادة النظر بكل التاريخ الاقتصادي المكتوب حول أوروبا في القرون الوسطى، لأنه يعني ضمناً أنه كان لدى هؤلاء «التجار» معادلاً تبادلياً مع المنتوجات المستوردة من الشرق. إن كان هذا المعادل نقداً أو إنتاجاً سلعياً يحتوي على قيمة تبادلية مربحة للتجارة بعيدة المدى. وهذا يؤدي إلى الاستنتاج بأن الإنتاج السلعي سابق على التجارة البعيدة المدى وليس وليدها كما يؤكد التاريخ الاقتصادي، والسابق على التجارة هنا لا بد أن يكون إنتاجاً سلعياً راقياً يختصر وقت العمل الضروري للإنتاج بشكل واضح بحيث يكون أقلّ بكثير مما هو عليه وقت العمل الضروري لإنتاج السلعة نفسها في المجتمعات التي تتم عملية التبادل معها، حتى تكون عملية التبادل ذات منفعة للتاجر وتؤمن له فائضاً كافياً يشجعه على الإتجار البعيد المدى وتحمل نفقات النقل ومخاطره. وفي الوقت نفسه يكون من شأنه إحداث التغيّرات الحادة في موازين القوى الاقتصادية داخل المجتمع الإقطاعي وعلاقات إنتاجه بالشكل الذي شهدناه في أوروبا الغربية.

وبما أن الوقائع التي يقدمها التاريخ الاقتصادي أقوى من أن يكون بالإمكان دحضها وقلبها رأساً على عقب، فإننا نبادر هنا إلى تقديم جواب سلبي على هذا السؤال والتأكيد على أن الثروة الحاسمة التي أسست لنشوء الفئة أو الطبقة الاقتصادية الجديدة عن هامش علاقات الإنتاج الإقطاعية، لم تكن محصَّلة عبر ممارسة التجارة على طرفي الطريق على الأقل خلال المرحلة الأولى لتكوّنها وتطورها. وهذا ما يدفع بنا إلى البحث عن المكوّنات الأولى للرأسمال التجاري البعيد المدى.

ج_ - حول التراكم الأوّلي لرأس المال:

لقد تساءل الاقتصادي الشهير آدم سميث منذ القرن الثامن عشر في «ثروة الأمم» عن المكوّنات الأولى للرأسمال عامة وسعى إلى تبرير ذلك عبر الكلام عن سلوكات توفيرية سلكها أولئك الرجال الذين جنوا المال وحوّلوه تدريجياً إلى رؤوس أموال أخذت بالتراكم عبر الاستثمار، ويقول في ذلك: «إن السبب المباشر لتراكم رأس المال، إنما هو الاقتصاد (التوفير) وليس الصناعة. وفي الحقيقة إن الصناعة تقدم

ص: 264

المادة للتوفيرات التي يقوم بها الاقتصاد». ويقدم مجموعة من الأمثلة حول البخل والتقتير الشديدين في أوساط وسلوكيات الرأسماليين الأوائل(1). ويتولى كارل ماركس في «رأس المال» دحض مقولة آدم سميث حيث يعتبر أن التراكم الأوّلي إنما هو نتيجة ل- «الحركة التاريخية التي تحقق الانفصال بين العمل وشروطه الموضوعية» ويتابع ماركس قائلاً: «تلك هي - إذن - مفتاح السر للتراكم المسمّى تراكماً أولياً»(2).

كان كارل ماركس قد وضع يده على جزء من الجواب حول سر التراكم الأوَّلي لرأس المال، عندما قال:«إن الغزو والاستعباد والاغتصاب المسلَّح والنَّهب وسيطرة القوَّة الوحشية، هي التي كانت تتغلَّب دائماً، في أحداث التاريخ الواقعي وسجلّاته»(3)، إلّا أنه يعود ويفلت هذا الجواب من بين يديه تحت وطأة اضطراره للانسجام مع منظومته النظريَّة العامّة القائلة بأن عملية تشكُّل أي نظام جديد، بالنّسبة لأوروبا، يجب أن تتم في أحشاء القديم، وأنَّ العنف ليس في الحقيقة سوى «مولّدة» (القابلة) التاريخ وهو ليس أمه ولا أباه(4). بينما يرى أنّ العنف القادم من الخارج، من جهاز الاستعمار البريطاني للهند، بأنّه ضرورة «لوضع الهند على خط التطوّر الصحيح». فلذلك نراه يُقْصِر مفهومه عن دور العنف والنهب في التراكم الأوَّلي للرأسمال، على داخل المجتمعات الإقطاعية في أوروبا الغربية.

تُبيّن الوقائع التاريخية أن حركة التبادل بين أوروبا وخارجها، في القرن السابع الميلادي، كانت مقتصرة على التبادل فيما بينها وبين الأسواق الكبرى في سوريا والعراق وبلاد فارس. وحسبما يشير المؤرخ الاقتصادي البلجيكي هنري بيرين(5)

ص: 265


1- ورد عند كارل ماركس رأس المال"، طبعة مكتبة المعارف، بيروت، مرجع مذکور، ص: 853
2- كارل ماركس المرجع السابق، ص: 1053
3- المرجع السابق، ص: 1052 -
4- كان الألماني جوزيف شمبيتز قد أشار إلى عجز ماركس والماركسيين عن فهم التراكم الأولي لرأس المال منذ بداية القرن العشرين للأسباب التي نذكر، ولكنه لا يقدم سوى تفصيلاً جديداً لمقولة آدم سميت ثم لماكس فيبر ووارنیر سومبارت، ليقدم في هذا السياق مقولته التي يعتبر فيها أن الدور الأساس في نشأة الرأسمال وتراكمه هو بروز "المنظمين والجهاز المبدع في التجارة والمال والعلاقات، دون أن يوضح لنا كيف يمكن نشوء فئة، أو طبقة، المنظمين هذه قبل وجود الرأسمال نفسه واتجاه الأسواق للتوسع. Joseph Schampeter, "The Theory of Economic Development", Cambridge 1974, p. 91-93 and .153-155
5- هنري ،بيرين المرجع المذكور، ص: 13 - 17.

فإن الحركة توقفت مع نهايات القرن السابع الميلادي بعد أن سيطر المسلمون على خطوط التجارة الدولية القديمة واقتصار العلاقة ما بين الشرق والغرب على الحرب، بينما يفسر موريس لومبار ذلك التوقف في حركة التبادل بنضوب الذهب وخراب المناجم وتحوُّل هذه الحركة إلى أن تكون عملية غير مربحة ربحاً كافياً للتجار المسلمين الذين كانوا يقومون بتجارة تحمل السلع باتجاه واحد مقابل الذهب الأوروبي، مشيراً إلى أن حركة التبادل في العصر الوسيط لم تكن بالنسبة للأوروبيين إلا تجارة استيراد حيث كان يتولى تجار سوريون، وغيرهم من التجار الشرقيين جلب السلع الشرقية الغالية من الأقمشة والتوابل أو غيرها من أدوات الترف ويأخذون الذهب مقابلها. وفي الواقع لا تستطيع البلاد الغربية أن تقدم للمراكز القائمة في شرق البحر الأبيض شيئاً آخر غير الذّهب. فليس لديها سلع غالية أو منتجات خاصّة اشتهرت بها، أو كميات ضخمة من المنتجات التي يكثر استهلاكها. فهي مجرد منجم للذهب يستغله أهل الشرق حتى ينضب، أو على الأقل حتى تحين اللحظة التي لا تدرُّ فيها العملية ربحاً كافياً مضموناً. وقد حانت هذه اللحظة في القرن السابع، إذا أخذت كميات الذهب المخزون التي احتفظ بها الغرب، تقلُّ تدريجياً لانعدام أي منتجات للتبادل تصلح لتعديل الميزان التجاري دائم العجز »(1).

يشير الاقتصادي الأميركي سويزي إلى «إن كل اقتصاد خلا ذلك الأكثر بدائيّة، بحاجة إلى قدر معيّن من التجارة من هنا قدمت أسواق القرى المحلّيّة والباعة المتجوّلون في العصور الأوروبية المظلمة، العون للنظام الإقطاعي، بدل أن تهدد وجوده. كانت هذه تزوده بحاجاته الأساسية دون أن تستحوذ لنفسها على ثروة كبيرة تؤثر على هيكل علاقاته الاقتصادية. وحين أخذت التجارة بالتوسع في القرن العاشر أوّلاً (بل وربما قبل ذلك)، فإنها تركّزت في نطاق المسافات البعيدة، مما ميَّزها عن التجارة المحلّيّة المحض. وبالإضافة إلى ذلك، فقد أنصبّت هذه التجارة على مبادلة

ص: 266


1- موريس لومبار، الأسس النقدية للسيادة الاقتصادية: الذهب الإسلامي منذ القرن السابع إلى القرن الحادي عشر الميلادي. فصل من كتاب لعدد من الباحثين تحت عنوان "بحوث في التاريخ الاقتصادي، مرجع مذکور، ص.: 52.

السلع الثمينة التي كان بإمكانها تحمُّل كلف النقل الشديدة الارتفاع آنذاك. وطالما ظل هذا التوسع التجاري مقتصراً على أشكال يمكن تسميتها بنظام الباعة المتجوّلين، فقد كان أثره محدوداً بالضرورة. ولكن ما أن تجاوزت التجارة مرحلة الباعة المتجوّلين مؤدّية إلى نشوء مراكز مستقرة للتجارة والنقل البحريين، حتى دخل عامل نوعيّ مختلف. ذلك أن هذه المراكز ، وإن استندت إلى التبادل عبر المسافات البعيدة، أضحت بالضرورة مولّدة للإنتاج السلعي وكان لا بد لها من الاستقلال عن الريف نسبياً. كما أن الحرف المصاحبة لهذا التطور جسدت شكلاً من التَّخَصُّص وتقسيم العمل، تجاوز كل ما عرفه اقتصاد المقاطعات. وهكذا، فإن هذه الحرف لم تكن تزوِّد سكان المدن بحاجتهم من الإنتاج فحسب، بل أنها وفّرت السلع التي كان بمقدور سكان الريف شرائها مقابل ما يستلمونه جراء بيع منتجاتهم في سوق المدينة»(1).

إن بول سويزي، بالرغم من ماركسيَّته يعيد هنا للتجارة البعيدة المدى الدور الأساس في دفع النظام الإقطاعي نحو التّأزّم الدّاخلي، بسبب التّبعيّة الاضطراريّة التي بدأ يخضع لها «السّيّد» الإقطاعي في إقطاعته، لنافذين جُدُد، يتجاوز نفوذهم حدود إقطاعته إلى إقطاعات وممالك أخرى، وأنّ هذه التّجارة وضعت الأسس لانحلال نظام الإقطاع وقيام النظام الرأسمالي . إلا أن النص يوحي بأن الأمور استلزمت وقتاً طويلاً أسَّس لتراكم منطقي من دون الالتفاف إلى محطات تاريخية بارزة شكلت قفزات نوعيّة في حجم الحركة التجارية وأهمّيتها، وفي حجم رؤوس الأموال الموظفة في العمل التجاري وحجم الأساطيل التجارية التي تمخر عباب البحار، مدعومة بقوى حربية مؤازرة. وإن هذه العملية التي يصفها سويزي، ويوحي بأنها استلزمت عدة قرون، هي في الواقع لم تحدث سوى في مرحلة متأخرة من العصور الوسطى حيث شهدت الاقتصادات الإقطاعية تطوراً متسارعاً لاقتصاد التبادل أو الاقتصاد النقدي» الذي أدّى، حسبما يقول الاقتصادي الياباني المعاصر كوهاشيرو تاكاهاشي،«إلى خراب الجزء الأكبر من النبلاء الإقطاعيين الذين كانت قاعدتهم تتمثل في الاقتصاد

ص: 267


1- بول سويزي، التجارة الدولية وانحطاط الإقطاع، فصل من كتاب الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، مرجع مذكور، ص: 67 - 68 .

الطبيعي التقليدي»(1). حيث يعتبر تاكاهاشي بأنّ الصّناعة كانت خاضعة للرأسمال التّجاري طوال الفترة السّابقة للثورة الصّناعية في القرن السّابع عشر، بينما ستصبح التّجارة بخدمة رأس المال الصّناعي بعد تلك الثّورة(2).

د. حقيقة التجارة والتّجّار في التّاريخ الأوروبي الوسيط:

لا بدّ هنا من العودة إلى طرح التساؤل الأوّلي ما الذي يخفيه تعبير «تجارة» في التاريخ الأوروبي الوسيط ؟ ومن هم هؤلاء «التّجّار» الذين تمكّنوا، و«بسحر ساحر»، من إعادة الحيويّة إلى الحركة التجارية بين الشرق والغرب، خاصة مع القرن الحادي عشر(3) وبعد عدّة قرون على نضوب الذهب الأوروبي؟ وهل حقيقة تمكَّن هؤلاء «التّجّار» من إيجاد سلع أو مواد قابلة للتبادل على نطاق واسع وذي مردودٍ قادرٍ على إغراء المغامرين لركوب مخاطر التّجارة البعيدة المدى؟ وكيف ومتى وماذا وأين كان ذلك؟

يقدم المؤرخ الاقتصادي البولندي هانريك كوليشير (Henry Kolischer) (1932-1853)، جواباً حاسماً في هذا الإطار حين يقول: في كل العصور «كانت القرصنة المرحلة الأولى للتجارة. وهذا صحيح إلى حد أنّ النورمانديين عندما سيَعْدِلون عن النهب في نهاية القرن التاسع فسيتحولون إلى تجار»(4).

بغضٌ النّظر عمّا إذا كان القراصنة النّورمانديّون قد «عَدَلوا» عن النّهب في نهاية القرن التاسع ، كما يقول كوشنير، أو لم يعدِلوا، كما هي عليه الوقائع التّاريخيّة التي سنتطرّق لها لاحقاً، فمن المفيد هنا الإطلالة على الوضع السياسي العام المحيط بالقارة الأوروبية في اللحظة التي حقّقت فيها المدن الإيطالية، أواسط القرن الحادي عشر، قفزتها الكبرى للسيطرة على التجارة الدّوليّة في البحرين الأبيض والأسود.

ص: 268


1- کوهاشيرو تاكاهاشي، طريق الانتقال إلى الرأسمالية، فصل من الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، مرجع مذكور، ص: 112
2- المرجع السابق، ص: 128
3- د. عزيز سوريال عطية، العلاقات بين الشرق والغرب، ترجمة د. فیلیب صابر ،سیف دار الثقافة المسيحية، القاهرة ،1972، ص: 163. ويقدم المؤلف في كتابه هذا بضعة معطيات يستنتج منها أن التجارة الدولية قبل نهاية القرن العاشر كانت مستحيلة، ويقول بأنها انطلقت متواضعة في القرن العاشر ولم تنتشر إلا ابتداءً من القرن الحادي عشر.
4- هانريك كوشنير، التاريخ الاقتصادي العام المجلد الأول، ص 41 ورد عند ارتست ماندل، المرجع المذكور، الجزء الأول، ص: 89.

ومن خلال هذه الإطلالة سنجد أن أوروبا ليست في الواقع سوى مجال لتكتل بشري تحاصره من الشرق والشمال وعورة الجبال وقساوة الطّقس وجماعات مترحِّلة من قطّاع الطّرق الجُرمان الذين يتّخذون من سرقة المواشي ونصب الكمائن للقوافل، مهنة وحيدة لهم ومن الغرب البحر المحيط الذي لا نهاية له ولا صلة لهذا المجال البشري بالعالم المتحضّر، سوى مع العالم الإسلامي الذي يتّصل به عبر ثلاث جبهات هي في الواقع جبهات مواجهة وقتال، وهي:

الجبهة الجنوبية الشرقية المتمثلة بآسيا الصغرى والأناضول عبر الإمبراطورية البيزنطية والبحر الأسود حيث كانت السلطنة السلجوقية آخذة بالنمو والاتساع على حساب الممالك البيزنطية وتخوض المعارك الكبرى معها، والتي توَّجهت بمعركة «ملاذكرد» الشهيرة عام 1071 والتي هددت الإمبراطورية بالزوال.

الجبهة البحريّة مع شمالي أفريقيا عبر صقلية ومالطا، فقد كانت طوال النصف الثاني من القرن الحادي عشر جبهة كرٍّ وفرٍّ وقتال متواصل يشنّه النورمانديون على موانئ صقلية ومالطا وجربة وطرابلس وغيرها من المرافئ في شمالي أفريقيا بهدف الغزو والنهب إضافة إلى أعمال القرصنة في أعالي البحار، إلى أن استطاع النورمانديون احتلال صقلية وإنهاء الوجود الإسلامي فيها عام 1091، وعام 1096 تمكنوا من احتلال مالطا وواصلوا محاولات التغلغل والنفاذ إلى الساحل المقابل(1).

والجبهة الغربية المتمثِّلة بالعلاقة فيما بين الممالك الأوروبية الغربية من جهة، وأمراء الأندلس من جهة أخرى، حيث ستعصف أواسط القرن الحادي عشر الاضطرابات فيما بين أمراء الأندلس أنفسهم ممّا يؤدّي إلى حروب أهليّة دمّرت المجتمع الأندلسي، وهو ما نجم عنه انقلاب موازين القوى لصالح الممالك المسيحية.«فقد دفعت الاضطرابات الداخلية، التي عصفت بالأندلس في عهد ملوك الطوائف، أمراء الأندلس إلى طلب المساعدة من الأمراء المسيحيين الذين انتهزوها

ص: 269


1- راجع في ذلك: ليبيا منذ الفتح العربي حتى سنة 1911 ترجمة خليفة محمد التليسي الدار العربية للكتاب - إثوري روسي، الطبعة الثانية 1991 ، ص : 102 - 103. - و: ابن الأثير، الكامل في التاريخ، دار الكتاب العربي ط 4 بيروت، 1983، ص.: 68 - 79. - و ابن خلدون التاريخ، ج 7، ص : 42 - 48 .

فرصة للثأر ، فراحوا يتدخلون إلى جانب الفرقاء المتنازعين ممعنين في زيادة الفرقة بينهم وفارضين عليهم ثمن المساعدات التي يقدمونها ،لهم، إمّا تنازلات عن بعض المناطق، وإمّا ضرائب سنوية»(1).

وإذا كانت الجبهة الجنوبية الشرقيّة آسيا الصغرى، تتخذ موقع الهجوم على البرّ الأوروبي، فإن الجبهتين الأخرتين كانتا ابتداءً من أواسط القرن الحادي عشر فريسة ممكنة، إن لم نقل سهلة للمغامرين والقراصنة الأوروبيين، لا سيما للنورمانديين الذين يحتلون إيطاليا الجنوبية (2)ويتخذون منها منطلقاً لقرصنتهم على الحواضر والسفن الإسلامية في غربي البحر الأبيض، إضافة لما كانت تشكله الإمارات الأندلسية من مصدر لا ينضب من الذهب يخضع لابتزاز الممالك الأوروبية المجاورة حيث يصف المؤرخ (دودي) العلاقة التي فرضها عليهم الفونس السادس ملك قشتالة، بأنه وضع الأمراء المسلمين في المعصرة ، فكان الذهب يسيل من هؤلاء المسحوقين، كما يسيل الخمر من المعصرة»(3).

خلال هذه الفترة مع انتعاش حركة القرصنة والنهب ستبدأ المدن الإيطالية، كالبندقية وجنوا وبيزا وفلورنسا وميلانو تشهد انتعاشاً في اقتصاداتها، وتبرز فئة التجار لتدخل في صراعها الخاص ضد النبلاء والقساوسة لتثبيت نهجها الخاص: مستفيدة من بضعة ميزات ساعدتها على القيام بهذه المهمة، خاصة وأن البندقية ،كانت وحتى مستهل القرن الحادي عشر، تعتبر مدينة بيزنطية ويحكمها مندوب يعينه الإمبراطور البيزنطي(4)، وهو ما كان عليه وضع إيطاليا الجنوبية حتى احتلها القراصنة النورمانديون منتصف القرن الحادي عشر(5)، فقد كانت طبقة التجار والصناع الحرفيين ما تزال تمارس نشاطها، وإن كان محدوداً، مع مركز الإمبراطورية

ص: 270


1- د. خير المر، العلاقات الأوروبية - الإسلامية في غربي المتوسط عشية الحروب الصليبية مقالة في المنطلق» العدد 84 - 85 بيروت 1991، ص: 62.
2- د. عزيز سوريال عطية، المصدر المذكور، ص: 37.
3- ورد عند د. خير المر، المصدر المذكور، ص: 62 .
4- المرجع السابق، ص: 32
5- د. عزيز سوريال عطية، المرجع المذكور، ص: 157.

البيزنطيّة ومع المدن الإيطالية الأخرى، في الوقت الذي انعدمت فيه هذه الطبقة في الغرب الأوروبي قاطبة(1). كما وقد أتاح هذا الوضع أن تبقى هذه المدن على اتصال بالحضارة البيزنطية التي كانت ما تزال في وضع راقٍ ومتطوِّرٍ قياساً لما هو عليه الوضع في باقي المقاطعات والممالك الأوروبية، لا سيما مناطق ما وراء جبال الألب.

لقد شكلت المدن الإيطالية في الواقع الجهاز الإداري والتنظيمي للقراصنة والغزاة خلال المرحلة الأولى من انطلاقتها التجارية. فضخامة المنهوب الذي يأتي به القراصنة إلى هذه المدن كان يفوق استهلاكهم الشخصي بما فيه تكاليف توسيع جهازهم النَّهبي كبناء السفن وترميمها وزيادة جهوزيتها الحربية واستقدام المزيد من المغامرين للانضمام إلى صفوفهم. فاكتفى التجار البنادقة، وغيرهم خلال هذه المرحلة، بأن يلعبوا دور الوسيط بين القرصنة وأسواق أوروبا الداخلية إلى أن ينخرطوا هم بدورهم وبشكل مباشر في التجارة مع الشرق على نطاق واسع.

وتصف أيلين بور أستاذة التاريخ الاقتصادي في جامعة لندن عام 1924 ما كان عليه الوضع في القرون الوسطى، قائلة:«إلى البندقية، إذن كانت ترد أسلاب الشرق كأنما يجذبها مغناطيس. ومن البندقية كانت هذه الأسلاب تنتقل على ظهور الخيل إلى ألمانيا وفرنسا عن طريق ممري سانت غوثارد وبرينر ، أو تحمل في السفن القديمة والزوارق العظيمة إلى إنكلترا وبلاد الأراضي الواطئة (الفلاندرز) عن طريق مضيق جبل طارق. وتعود السفن وخيول النقل إلى البندقية مثقلة بمعادن ألمانيا، وفراء اسكندنافيا، وأصواف إنكلترا الفاخرة، وأقمشة الأراضي الواطئة، وخمور فرنسا»(2).

وعندما ستبدأ الحملات الصليبية، أواخر القرن الحادي عشر، كانت المدن الإيطالية، لا سيما جنوا والبندقية وبيزا، قد تحوّلت إلى قوى اقتصادية ذات شأن كبير في أوروبا حتى باتت تهيمن على الحياة الاقتصادية الأوروبية برمّتها بعد ان تأمّنت لها أسس تراكم الرأسمال النقدي عبر القراصنة (3)الذين كانوا يشنّون حملات

ص: 271


1- د. عادل زيتون، العلاقات الإقتصادية بين الغرب والشرق في العصور الوسطى ، دار دمشق 1980 ، ص 28
2- ایلین بور: نماذج بشرية من العصور الوسطى، ترجمة محمد توفيق حسين، دار الثقافة، بيروت 1957، ص: 51 - 50
3- ارنست ماندل المرجع المذكور، ج أول، ص.: 111 – 112.

متواصلة في أعالي البحار على السفن التجارية الإسلامية وعلى الموانئ الإسلامية. وقد شكلت هذه الوضعية التي تتمتع بها المدن الإيطالية وبعض المدن الهولندية، حصانة لهذه الطبقة التجارية النامية ضد مطامع الكنيسة ورجال الإقطاع على حدٍ سواء. وستأتي الحروب الصليبية لتزيد من أهمية هذه المدن وهذه الطبقة النامية بشكل خاص لسببين أساسيين: أولهما لأن هذه الطبقة بما اكتسبته من خبرات تجارية وصلات وطيدة بالأسواق وثروات نقدية وأساطيل بحرية أصبحت تشكل ضرورة لا بد منها للكنيسة ولرجال الإقطاع لتمويل حملاتهم الحربية باتجاه الشرق ولتسييل وتسويق المنهوبات خلال هذه الحروب، حيث عمل بعضهم «كصيارفة للبابا والحكام الآخرين وذلك لتمويل الحروب بالدرجة الأولى. وقام بعضهم، ككبار التجار الفلامنكيين (الهولنديين) بتنظيم عملية توفير المواد الأوّلية لصناعة الأقمشة » (1)وثانيهما أن هذه الفئة الصاعدة هي وحدها من بين مختلف الفئات المشتركة في الحروب الصليبية بشكل مباشر أو غير مباشر، قادرة على الاستفادة من النتائج الاقتصادية لهذه الحروب وتوظيفها في عملية ذات أهداف اقتصادية بشكل رئيسي. أي أن هذه الفئة وحدها التي كانت تعمل على إحداث تراكم في قوتها الاقتصادية لخدمة توجهها الاقتصادي، بينما كانت الفئتان الأخرتان الكنيسة والإقطاع، تستخدمان الثروة المنهوبة في سبيل تحقيق مكاسب ونقاط نفوذ سياسية، فتستهلك المنهوبات في البذخ وبناء القصور والكاتدرائيّات.

وإذا كانت «قرصنة» القرن الحادي عشر وما بعده لعبت مثل هذا الدور في التاريخ يجب علينا أن لا نحمّل الأمر أكثر مما يحتمل. فتلك الفترة ليست هي بداية انطلاق أعمال القرصنة، على الرغم من أنها كانت بداية لبناء هيكلية اقتصادية جديدة يقوم عليها الاقتصاد الأوروبي وتلعب دوراً ريادياً في المجتمع برمّته لتدفعه نحو التطوّر والتفوّق على المجتمعات الأخرى في عدة ميادين.

فالنشاط الاقتصادي القائم على الغزو والنهب والإخضاع العنيف للقوى المنتجة بما في ذلك النشاط الاستعبادي والاسترقاقي يعود إلى أزمنة بالكاد يستطيع التاريخ

ص: 272


1- روندي هيلتون، الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية ، المقدمة، مصدر مذكور، ص 44.

المكتوب ملاحقة بداياته خاصة إذا ما اعتبرنا قطع الطرق على القوافل التجارية والمسافرين والغزو بهدف النهب وتحويل جماعات بشرية كاملة بسبب استضعافها إلى عبيد وجوارٍ يتولّون الإنتاج لحساب ذي القوة والجبروت، مظاهر من مظاهر القرصنة لا سيما وأنَّ الجماعات البشرية التي أمّت أوروبا تحديداً، واستوطنتها في مختلف الحقبات التاريخية إنما كانت تعتمد في سبيل العيش على الغزو بهدف النهب. وقد كانت الجماعات المستقرة على ضفاف الأنهر التي تتخذ من الزراعة والرعي مصدراً لعيشها هدفاً دائماً وسهلاً للغزاة من مختلف المناطق الأوروبية كالنورمانديين والفاريغ الاسكندنافيين والسكسون والهون والفايكنغ والأنجل (الإنجليز) والصقالبة (السلاف) وغيرهم، وذلك حتى مراحل متأخرة من العصور الوسطى، إلا أن ذلك لم يُسهم إسهاماً فعّالاً في نمو طبقة تجارية رأسمالية كما آلت إليه قرصنة القرن الحادي عشر في المدن الإيطالية، ولا يمكن إدراج تشكل بعض الأسواق العرضية في عدد من المدن والقرى التي يؤمُّها النَّهابون واللصوص منهوباتهم أو مبادلتها ضمن العملية التاريخية لتشكل وانطلاق الرأسمالية التجارية، على الأقل لأن ناتج هذه العملية لم يكن يوظف في سبيل مراكمة الرأسمال النَّهبي غالباً، وإن ،وظف فإنه لأمر قصير ما يلبث أن يبدّد بكامله على الرفاهية والرخاء الشخصي، وإن لم يصادره قس أو كاهن أو حاكم إقطاعي ويبدِّده بنفسه(1).

لذلك يجب التمييز، ليس بين نوعين من القرصنة، وإنما بين مالين آلت إليهما عائدات القرصنة والنَّهب المآل الأول كان مآلاً عقيماً عرفته مختلف القبائل العسكرية والإمبراطوريات الكبرى التي عرفها التاريخ والتي كانت تنظر إلى الغنائم بما تحتويه من قيمة استعمالية وتبدِّد الفائض، أو توظفه لا فرق في البذخ وفيما يرمز إلى الجاه والثروة والتفوُّق، فتبني القصور الفارهة والقلاع المنيعة والكاتدرائيات العملاقة وتحول الذهب والمعادن النفسية إلى حلى ومجوهرات وأوسمة وتحف فنية. أي باختصار، تتحول الثروات المسلوبة إلى معطى سياسي ينتهي دورها الاقتصادي ما أن تصل إلى مستقرها السياسي.

ص: 273


1- راجع هنري ،بيرين المرجع المذكور، الفصل الأول.

والمآل الثاني الذي آلت إليه عائدات القرصنة هو عضونة هذه العائدات في أواليات اقتصادية حوّلت القراصنة والنهابين، بشكل من الأشكال، إلى عملاءٍ لفئة من الناس تتمتع بخبرات كافية في التسويق، وتشرف على مجالٍ واسع من الحِرَف المتّصلة بصناعة مستلزمات القراصنة واحتياجاتهم لتطوير جهازهم النّهبي، يمدونها بالبضائع بأبخس الأثمان، وتعمل على مراكمة العائدات في تعزيز جهازها النَّهبي الخاص، وتدعيمه وإنجاز بنيان تشكيلتها المستقلّة عن التشكيلات السياسية والاقتصادية والثقافية القائمة في محيطها. هذا ما كانت عليه فئة تعاطت مع الثروات المسلوبة كمعطى اقتصادي فحوَّلتها إلى رأس مال منتج يموِّن ذاته، بتدوير المنهوبات وفي إعادة إنتاج مضاعَف للرأسمال، ويعكس مفاعيله على أواليات تحفيز الأنشطة الاقتصادية كافّة وفي المجتمع برمته.

لن نتوقف عند العوامل التي مكنت المدن الإيطالية، ومنذ أواسط القرن الحادي عشر من أن تقوم بمثل هذا الدور الريادي والتأسيس للمرحلة الرأسمالية في علاقات الإنتاج الأوروبية، وتالياً، من تطوير حركة التبادل التجاري بين الشرق والغرب إلى أن احتكرته لغاية أواخر القرن الخامس عشر بعد أن أسهمت إسهاماً رئيسياً في قلب التوازن الدولي، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً لصالح أوروبا الغربية ونكتفي هنا بالإشارات التي سبق وذكرناها ، لننتقل إلى الإطلالة على النتائج المباشرة التي أنتجتها عملية ازدهار حركة التبادل الدولية بواسطة المدن الإيطالية على البنية الاجتماعية - الاقتصادية الأوروبية وتالياً على العلاقات الدولية.

ه_- النتائج الاجتماعية - الاقتصادية لتطوير جهاز النّهب العنيف: بات مألوفاً إضفاء أهمية بالغة للحروب الصليبية على نهضة أوروبا الاقتصادية والعلمية وصولاً إلى انفلاتها من العصر الوسيط إلّا أن ما يجب التأكيد عليه هو أنه لو لم تكن المدن الإيطالية قد بدأت بشكل متسارع تحقيق انجازات هامة على طريق تطوير جهازها التجاري واستقلالها السياسي والثقافي (والديني ضمناً) قبل هذه الحروب بزهاء نصف ،قرن لما كان بالإمكان أن تكون للثروات المنهوبة من

ص: 274

الشرق أي دور إيجابي في تحريك عجلة الاقتصاد الإقطاعي الأوروبي، ولكان مصير هذه الثروات التبديد والتعقيم في مجتمع كان ما يزال يحرّم العمل التجاري والنشاط الاقتصادي المُكسِب، حيث كانت «السلطات الدينية في عصر الإيمان تعترض عليها (على التجارة) باعتبارها صورة أخرى للربا الفاحش»(1). وعبر ما كان قد أمَّنه الإيطاليون من ركائز مكّنتهم من استغلال هذه الحروب لعضونة نتائجها الاقتصادية في بنيتهم الدّاخليّة. فهم كانوا، إمّا أن يصاحبوا الحملات المختلفة، أو يتبعوها ويفتتحوا أسواقاً جديدة، في كل ميناء يتم فتحه في الشرق(2)، أو يساهموا في تمويل بعضها لقاء مكاسب محدّدة ومتَّفق عليها مسبقاً مع البابويّة والقادة العسكريّون للحملة.

ويذكر المؤرخ الاقتصادي لوبيز، في كتابه تاريخ كمبردج الاقتصادي لأوروبا»، نموذجاً عن إسهام التجار الإيطاليين في الحروب الصليبية، يتضح معه، ليس فقط عدم اهتمام التجّار الإيطاليين، على اختلاف انتماءاتهم، بشعارات البابا حول «قدسيّة» هذه الحروب، وإنما أيضاً الموقع الذي كان قد بلغه هؤلاء من النفوذ والقوّة ليتمكّنوا من فرض شروطهم على البابويّة ومن معها م--ن م-ل-وك وأمراء، عند مطلع القرن الثاني عشر، ومدى احتياج هؤلاء للإيطاليين في غزواتهم لبلاد الشام. خاصّة وأنّ الكرسي البابوي كان، وقبل ثلاثة عقود، أي عام 1074 قد حثَّ الملوك والقساوسة اللّاتين على مكافحة أنشطة التجّار الإيطاليين في أوروبا الغربية، وعدم السماح لهم بزيارة أسواق فرنسا ونهبها(3).فيقول لوبيز في هذا المجال:«نحن نعرف على سبيل المثال، كيف ساعد الجنويّون الصليبيين في عام 1101 على فتح ونهب ميناء قيصرية الفلسطيني، فقد تلقّوا مغانم وافرة لضباطهم وكافأوا ملّاك السفن ب 15 % من الغنيمة. وما تبقّى من هذه الغنيمة وزّعوه بين 8000 بحار وجندي. وقد تلقّى كل واحد منهم 48 سوليدة وليبرة بهار». ولمعرفة مقدار أهمّيّة ال- 15 % التي حصل عليها مالكو السفن الجنويّون، يكفي معرفة أنّ بقيّة المنهوبات، أي ما تبقّى منها بعد اقتطاع

ص: 275


1- د. عزيز سوريال عطية ، المرجع المذكور ، ص : 152 - 153
2- المرجع السابق، ص: 158.
3- د. عادل ،زيتون المرجع المذكور، ص: 42.

حصّة البابويّة والنّبلاء والضبّاط وال- 15% هذه، فإن هذه البقيّة التي أُنعِمَ بها على 8000 بحّار وجندي، قد حوّلت «كل واحد منهم إلى رأسمالي صغير»(1).

وحول الموضوع نفسه، يذكر المؤرخ جو فروا دي فيلهاردوين جواب أمراء البندقية على طلب المساعدة الذي تقدَّم به النبلاء الغربيون من أجل الحملة الصليبية الرابعة عام 1202: «إننا سنسلمكم مراكب لنقل 4500 حصان و 9000 سائس ومراكب لنقل 4500 فارس و 20000 راجل. ونلتزم بتقديم الطعام طوال تسعة أشهر لكل هذه الخيول ولجميع هؤلاء الناس وهذا كله سيكون الحدّ الأدنى مما سنفعله. وستدفعون لنا أربع ماركات على الحصان وماركين على الرجل إذن فالمبلغ الذي ستدفعونه سيكون 85 ألف مارك وسنفعل أكثر من ذلك : أننا سنساهم ب_ 50 سفينة حباً بالله(!)، إذا ما تمَّ الاتفاق على أنه ما دامت هذه الاتفاقية قائمة فسوف نحصل على النصف (ولكم النصف الآخر) من جميع الفتوحات التي سنقوم بها بحراً وبراً»(2).

فقد أسهمت الحركة التجارية النّاهضة والمتطوّرة، على هامش القوى الاقتصادية والثقافية السائدة، وليس منها وبداخلها، أسهمت في خلق مناخات لثقافة متعارضة مع ما هو قائم . ثقافة ناجمة عن مصالح قوى ذات فاعليّة قويّة في الحياة الاقتصاديّة تتعارض، تلك المصالح مع المؤسّسات السّياسيّة والدّينيّة السّائدة، تبحث عمّا شأنه تحصين مواقعها والدّفاع عن نفسها، وفتح الآفاق أمامها لتوسيع أنشطتها وحمايتها، وهو ما سوف يسهم إلى حد كبير، في التأسيس لقيام حركة الإصلاح الديني أوائل القرن السادس عشر مع مارتن لوثر (1483) - 1546) وجان كالفن (1509) (1564 مؤسسي البروتستانتية. فقد كانت هذه الحركة الاقتصادية تُطوِّع، ليس فقط القوانين والتنظيمات الإدارية لما فيه ضمان ،ازدهارها، وإنما أيضاً الأعراف والتقاليد والمبادئ الأخلاقية التي يقوم عليها الإيمان المسيحي نفسه(3).

قد يكون أوّل صدام حقيقي باشرته طبقة التجّار، مع الثقافة الدينية السائدة، ومع

ص: 276


1- ورد عند أرنست ماندل المرجع المذكور، ج 1 ، ص : 112
2- ورد عند أرنست ماندل، المرجع المذكور، ج أول، ص: 112
3- ريتشارد سوذرن ، صورة الإسلام في أوروبا في العصور الوسطى، ترجمة د. رضوان السيد، معهد الإنماء العربي بيروت 1984، ص: 80.

السّلطات الدّينيّة ضمناً ، هو ممارستها للتجارة بحدّ ذاتها. فقد كانت السّلطات الدّينيّة تنظر إلى النشاط التجاري عامة بوصفه صورة أخرى للربا الفاحش»(1)، وكانت الكنيسة «قد أدانت ممارسة التجارة التي لم تجد لها مكاناً في النظام الاجتماعي في مجتمع إقطاعي زراعي». لذلك فقد ظلت التجارة «وقفاً على اليهود في بداية العصور الوسطى، ومعهم عدد من المغامرين المسيحيين من فقراء الطبقات الدنيا»(2) وكانت المعاملات التجارية تقتصر على أسواق محلّية ضيّقة تقوم على نظام المقايضة البدائي في السِّلَع الضروريّة، ولم يكن للنقود في هذا النظام مكانة هامّة، إن لم نقل إنها كانت منعدمة تماماً(3).

والصِّدام الآخر الذي باشرته الطبقة التجارية مع ما هو سائد من قيم وأعراف، تمثل في أنها وضعت «المنفعة الاقتصادية» فوق كل اعتبار آخر، متجاوزة مقاييس الفائدة الدينية والمصالح الكنسية والصراع الديني مستفيدة من حفاظها على موقع مستقلٍّ فيما بين القسطنطينية والبابا بالمصالح أحياناً وبالقوة أحياناً أخرى(4). ومن مظاهر هذا الخروج على تعاليم الكنيسة وأوامرها أن التجار الإيطاليين تحدّوا بشكل مباشر الأوامر البابوية التي تُحرِّم تجارة الرقيق التي كانت تشارك فيها معظم المدن التجاريّة بنشاط ، لا سيما منها مدينة جنوا، حيث كانت تجارة الرقيق أكثر التجارات ربحاً للتجار الإيطاليين وتمنحهم معادلاً تبادلياً في الأسواق الشرقية مقابل ما كانوا يستوردونه منها من منتجات طبيعية وسلع مصنّعة خاصة إذا ما عرفنا بأن الطلب في أوروبا الغربية على المنتجات الشرقية لم يكن يضاهيه في الشرق سوى الطلب على الرَّقيق، لا سيما خلال السلطنة الأيوبية (1171 - 1250 والسلطنة المملوكية التي تلتها (5)حيث زخرت خلال هذه الفترة أسواق النّخاسة بالأرقاء ذوي البشرة البيضاء، والّذين عرفوا باسم «الصّقالبة»، حيث كان يستقدمهم الجنويّون، وغيرهم من

ص: 277


1- د. عزيز سوريال عطية المرجع المذكور ، ص : 153
2- المرجع السابق، ص: 185.
3- المرجع السابق، ص: 153
4- إيلين ،بور المرجع المذكور، ص: 51
5- د. عزيز سوريال عطية، المرجع المذكور، ص: 171 - 172.

الإيطاليين إلى أسواق الشرق من أبناء الشعوب السّلافيّة، وقد تحوّلت، مع الزّمن، مفردة (Slave) في اللغات الأوروبية الحديثة لتحمل معنى «العبد» أو «الرقيق».

ولعلّ ما يرد حول اسم واحد من أهم تجار أوروبا الغربية في القرن الخامس عشر، وهو جاك كوردي بورغ، من أنه باع السلاح للعثمانيين أثناء حصارهم للقسطنطينية، وبأنه عمل على إعادة عدد من الأرقاء المسيحيين الهاربين من السلطان المملوكي إلى السلطان(1)، يعطينا فكرة عن القيم التي كانت تُحرِّك هؤلاء التجار، الذين يقدِّمون المنفعة الاقتصادية على أي اعتبار آخر خاصة في زمن حافل بالحروب الدينية وانشقاق العالم على أساس ديني، وفي غمرة التهاب المشاعر الدينية، وحملات التجييش للحروب الصليبية في الغرب، والتي كانت تقابلها حملات التعبئة والتجييش السياسة «الفتح» في العالم الإسلامي.

ولم تقتصر المواقف الخارجة على المألوف على مواقف وتصرفات هذا التاجر أو ذاك. فالحكومات التي أقامها التجار في المدن الإيطالية، بوصفها كانت حكومات تشكّلت بواسطتهم ومن أجلهم (2)، فإن العلاقات التي كانت تقيمها هذه الحكومات مع القوى الدّوليّة، كالحروب أو التحالفات أو المعاهدات كانت برمّتها خاضعة لمبدأ المنفعة الاقتصادية، دون إيلاء أي اهتمام لأي مبدأ آخر. فعندما ستعمل بحرية البندقية على تقديم المساعدة للقسطنطينية لصد الغزو النورماندي عنها عام 1081 ، فسيكون ذلك مقابل امتيازات يحصل عليها التجار البنادقة في الدولة البيزنطية يعفى بموجبها هؤلاء التجار من كل الضرائب والرسوم الجمركية ويخصص لهم حياً في القسطنطينية للإقامة الدائمة(3). وعندما سيحاول الإمبراطور البيزنطي حنا كومنين (1118 - 1143) التخلص من هذه الامتيازات التي كان قد منحها والده للبنادقة، ستشن جمهورية البندقية حربها

ص: 278


1- المرجع السابق، ص: 191.
2- د. عادل ،زيتون المرجع المذكور، ص: 34.
3- Anna Commen, "The ALEXIAD", Translated from Greek by E.R.A. Sewter, Penguin Books, London, 1969, p.p. 144 - 147.

على الدولة البيزنطية وتهاجم جزرها في البحر الأبيض وبحر ايجه إلى أن يخضع الإمبراطور ويجدّد هذه الامتيازات عام(1) 1126.

وعندما ستتوسع السلطنة العثمانية في القرن الرابع عشر ومن ثم في القرن الخامس عشر باتجاه البحر الأسود وتسيطر سيطرة كاملة على سواحله، فستصطدم بعدد من المستعمرات الإيطالية لجمهوريتي البندقية وجنوا لا سيما في طرابزون وكافا وتانا وغيرها من الموانئ التي تشكل نقاط اتصال الأساطيل الإيطالية بخطوط التجارة الدولية القديمة مع آسيا عبر بلاد فارس وبحر قزوين والأنهر الروسية. إلا أن إبداء العثمانيين عن استعدادهم للحفاظ على مصالح الإيطاليين وامتيازاتهم التجارية في هذه المدن جعل قادتها يفتحون أبواب مدنهم للغازي الجديد والامتناع عن الدخول في حرب لا طائل منها». وقد وصف المؤرخ المصري العثماني محمد فريد بك سكان هذه المدن ولجوئهم إلى فتح مدنهم أمام العثمانيين بأنهم كانوا تجاراً يحافظون على أموالهم ولا يهمهم دين أو جنسية متبوعهم ما دام غير متعرض

لأموالهم ولا أرواحهم»(2).

فقد كانت حكومات المدن الإيطالية على استعداد لتقديم تنازلات إقليمية مقابل الحصول على معاهدات تضمن لتجارها وسفنها حرية الاتجار والإبحار والتنقل ما بین موانئ البحر الأبيض وفوق أراضي العالم القديم برمَّته . وهو أمر ما كان بالإمكان حدوثه في ظل أي مفهوم من المفاهيم السائدة آنذاك كمفهوم «الحق الإلهي» ومفهوم «الحق الإقطاعي».

وحده مفهوم «المنفعة الاقتصادية»، الذي كان يوجه سياسة المدن الإيطالية، بوسعه أن يضمن للتجار الإيطاليين تحقيق ما حققوه من نفوذ تجاري واقتصادي في العالم قاطبة من خلال المعاهدات التي كانوا يعقدونها مع الشرق والغرب متخطين العوائق والمفاهيم السائدة كافّة. حتى أضحى بإمكان مؤرخ إحدى هذه المدن وهو «مارتينو داكانال» الذي كان في النصف الثاني من القرن الثالث عشر يعمل كاتباً

ص: 279


1- د. عادل زيتون المرجع المذكور، ص: 66.
2- محمد فريد بك المرجع المذكور، ص: 62.

في دائرة جمارك ،البندقية أن يقول:«كانت دلماشيا وألبانيا ورومانيا، واليونان، ،وطربزون وسوريا وأرمينيا ومصر وقبرص ،وكانديا ،وأبيوليا، وصقلية، وغيرها من الأقطار والممالك والجزر، بساتين شعبنا المثمرة وقصوره الفاخرة، حيث وجدوا فيها المتعة والربح، والأمن... لقد طوَّف البنادقة في البحر ها هنا وها هناك، وقطعوه طولاً وعرضاً، وذهبوا إلى كل محل يجري فيه ماء، وابتاعوا السِّلَع وجلبوها إلى البندقية من كل مكان، ثم جاء إلى البندقية ألمان، وبافاريون، وفرنسيون، ولومبرديون، وتوسكانيون، وهنغاريون ورجال من كل شعب يعيش على التجارة، فابتاعوا هذه السلع وحملوها إلى بلادهم»(1).

لم تكن المدن التجارية النّاشطة أوّل من دخل سلطة البابا في حالة من التجاذب والتنافر حدّيها التحالف والتصارع ضمن التشكيلة السياسية الأوروبية. فقد كان النبلاء الإقطاعيون في عموم أوروبا محكومين بمثل هذه الحالة منذ زمن بعيد. فالخروج على رغبات البابا وأوامره ذات الطابع القدسي، كانت منذ إمبراطورية شارلمان قد أضحت مسألة شائعة في الصراعات داخل أوروبا الكاثوليكية. إلا أنَّ خروج النبلاء الإقطاعيين على طاعة الكرسي البابوي كانت مختصرة في الجانب السياسي ولم تتناول الجانب العقائدي الذي أخذت المدن التجارية تتحدّى الكنيسة فيه، وتفرض ما تراه ملائماً لنموِّها الاقتصادي، بغض النظر عمّا إذا كان منسجماً مع الإيمان المسيحي أو غير منسجم معه. وهي في الوقت ذاته تقدِّم نفسها على أنها تخدم المسيحية أكثر من غيرها وتعمل «في سبيل إعلاء مجد الكنيسة المقدسة» وأن أبناءها «مؤمنون حق الإيمان بدين يسوع المسيح»(2)، علمًا بأن المدن الإيطالية لم تسهم في الحروب الصليبية، والتي كانت هي معيار العمل «الإعلاء مجد الكنيسة» في أوروبا، إلا بما يخدم مصالحها الاقتصادية وبناء لعقود واتفاقيات محدّدة وواضحة مع الكرسي البابوي(3).

ص: 280


1- إيلين ،بور، المرجع المذكور، ص: 54.
2- المرجع السابق، ص: 56
3- للمزيد من الإطلاع حول أشكال توظيف المدن الإيطالية لأساطيلها البحرية وإمكاناتها المالية في الحروب الصليبية راجع: د. عادل زيتون المرجع المذكر ، ص : 129 - 143.

وإذا كانت النتائج الثقافية لنمو وازدهار حركة التجارة، قد أسهمت إسهاماً واضحاً في البناء الاجتماعي والاقتصادي الأوروبي أواخر«القرون الوسطى»، فإن النتائج الاقتصادية لهذه الحركة ستعمل على دك الأسس المتينة التي يقوم عليها النظام الإقطاعي الأوروبي برمَّته، وستؤسس لنهضة اقتصادية كبيرة في عدد من والمدن التي كانت على تماس مباشر مع هذه الحركة. فمع تحويل الثروات المنهوبة إلى رؤوس أموال تجارية، تُضخُّ في تطوير أنشطة الحِرَف الصناعيّة، وتغدّي الجهاز النَّهبي وتعمل على مواصلة تطويره وتدعيمه، وتخلق بنى اقتصاديّة واجتماعيّة أكثر تجاوباً معه وملاءمة له داخل البنيان الاجتماعي الأوروبي، مع هذه التّحوّلات، سيسجِّل التاريخ السّياسي - الاقتصادي انقلاباً تامّاً في مراكز الثّقل الاقتصادي الدّولي، نجم عن تغيير مجرى التجارة الدّولية، بسبب التغيير الّذي أصاب اتّجاه مجرى نهر الثروة من نهرٍ يتدفّق من الغرب باتّجاه العالم الإسلامي، إلى نهرٍ يجري باتجاه الغرب الأوروبي، ليعمل على إحداث المزيد من التطوير على البنية الاجتماعية - الاقتصادية الأوروبية. وهو، تالياً، سيؤدّي إلى وضع الأسُس الصّلبة لبداية تفسُّخ النظام الإقطاعي واتجاهه نحو الانحلال.

فقد أوجدت الحركة التجارية الناشطة التي باشرتها وطوّرتها المدن الإيطالية عبر إمدادها بجهاز نهبي عالمي، نظاماً إنتاجياً رسَّخ أقدامه إلى جانب النظام الإنتاجي الإقطاعي السائد في أوروبا الغربية والقائم على القِنانة والمقايضة. فقد حرّضت هذه الحركة على قيام إنتاج سِلَعي موجه نحو التبادل بالنّقد، نحو السّوق، ليضفي هذا النمط من الإنتاج طابعه الخاص على البنية الاجتماعية - الاقتصادية، دافعاً نمط الإنتاج الإقطاعي القديم إلى أزمته الخاصة من خلال ما أدّى إليه النَّمَط الجديد من تحفيز للأقنان نحو الهرب إلى المدن وللحرف المنزلية التي كانت تقوم على إنتاج موجه نحو الاستعمال إلى التحول إلى الإنتاج الموجه نحو السوق. «بات شراء السَّلعة المصنوعة أقل كلفة من صنعها. ولقد ولد حافز الشراء هذا حافزاً للبيع»(1)،وبالتالي، وحكماً، حافزاً للإنتاج بهدف البيع.

ص: 281


1- بول سويزي، التجارة الدولية وانحطاط الإقطاع، مرجع مذكور ، ص: 69.

نرى أنه من المفيد هنا التوقف عند وجهة نظر تحظى بنصيبٍ وافرٍ من الانتشار، يتناول مسألة نمو المدن، يقدِّمها الاقتصادي الماركسي رودني هلتون حيث يقول : «توافق إحياء المدن الحضرية خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر، مع تطوُّر الأشكال الجديدة للقِنانة. (والتي مكّنت المراتب العليا من المزارعين في العديد من المجتمعات الأوروبية من الانعتاق خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وذلك مقابل دفع مبالغ نقدية باهظة ثمناً لتحررهم). إن اتساع اعتماد الفائض المحوَّل من الإنتاج الفلاحي على الشكل القانوني وأرباح الاحتكارات على حساب الرّيع الناجم عن الحيازات العقارية، إنما كان يعني تزايد المظهر النّقدي لدخل المالك. في الواقع، يمكن أن تفسر (ظاهرة الاتّساع هذه) تقسيم العمل إلى ريفي ومديني، وتطوُّر المدن، لا كأسواق لبيع الناتج الزراعي بهدف كسب النقود لتلبية مطالب السيد فحسب، بل كمراكز للإنتاج الحرفي أيضاً، باعتبارها استجابة للتركز الأكثر كفاءة للفائض بأيدي ارستقراطية يتزايد تمایزها ( ومن زاوية مطالبها الحضارية ارستقراطية تتعقد أذواقها). لا بد من وصف هذه العمليات بطريقة أكثر دقة. ذلك أن بعض المدن الصغيرة قد نشأت، دون شك، بمبادرة من السادة لمجرد إيجاد مراكز مناسبة للسوق حيث يمكن لهذه أن تغلَّ أرباحاً عن طريق رسوم السوق. وفي أماكن أخرى، نمت الحرف المدينية وأسواق المنتجات المحلّيّة، وكذلك أسواق سلع الترف الآتية من خلال تجارة المسافات البعيدة، حول نِوَى كانت في الأساس مراكز قائمة موجودة سلفاً وتعود إلى رجال الكنيسة (كاتدرائيات، كنائس للتدريس، رهبانيات) أو أنها كانت مراكز إقامة للمحاربين التابعين لأحد كبار الإقطاعيين كالدوق أو الكونت . كان الشرط الضروري المسبق في جميع الحالات، تزايد دخل السادة والزيادة في السكان، التي تمّت على الأرجح في الوقت ذاته. فالأخيرة وفّرت الحرفيين وصغار التجار ومقدمي الخدمات في المدن الجديدة (أو المنبعثة) كما أنها نجمت بدورها عن انهيار نظام الارتباط بالأرض. لقد وفَّرت جوانب معينة من هذا الانهيار شروط نمو السكان هذه الجوانب تتمثل، بالتحديد، في تجزئة

ص: 282

الحيازات الفلّاحية، وفي إمكانيّة المزيد من التجزئة في حالة ،الإرث، وارتفاع إنتاجية العمل الزراعي الناجمة عن تركيز المصادر الفنية في الحيازة بدل تشتتها في المقاطعات»(1)

لا يقدم لنا هذا النص، في الحقيقة، سوى أن كاتبه والآخذين بوجهة نظره، مضطرون أن يبقوا أوفياء لماركسيتهم التقليدية المصرَّة على ترسيمة محدَّدة لتطور المجتمعات القائمة على أن التناقض ما بين علاقات الإنتاج والقوى المنتجة إنما هو الذي يشكل الدافع للانتقال من نمط إنتاجي إلى آخر، أي أن النظام الجديد يلد في أحشاء النظام القديم.

تعمّدنا أعلاه إيراد نص رودني هلتون الطويل كاملاً بحجمه وبراهينه التي يحاول عيرها وضع العربة أمام الحصان، فكيف يمكنه اعتبار نمو المدن، التي يحدد أنها بدأت تنمو منذ القرن الحادي عشر، نتيجة للتطور الذي أصاب أشكال القنانة وانعتاق العديد من الأسر مقابل دفع مبالغ نقدية، وهو التطور الذي يشير إلى أنه جرى خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر ؟

ثم، لماذا يخفي عنّا هلتون مصدر تلك «المبالغ النقدية الباهظة» التي أغرت السادة الإقطاعيين بعتق أقنانهم وتركهم يهجرون مقاطعاتهم؟ وكيف يبرر هلتون حصول هؤلاء الأقنان على مثل هذه المبالغ النقدية في ظل الاقتصاد الطبيعي الذي يقيمه نظام الإنتاج الإقطاعي؟

إضافة: كيف يمكن أن يؤدي انهيار نظام الارتباط بالأرض، بالشروط الموضوعية والطبيعية لنمط الإنتاج الإقطاعي، أي بشروط، إن الإنتاج الزراعي هو مصدر ثروة النبلاء ،الإقطاعيين، وإن هذا الإنتاج إنّما معقود على كواهل الأقنان وضهور البغال وحوافر الجياد كيف يمكن أن يؤدي هذا الانهيار إلى «تزايد دخل السادة» أو إلى أن يترافق هذا الانهيار مع هذا التزايد ؟

فوق ذلك: لماذا لم يخبرنا هلتون عن ماهية الإغراءات التي دفعت ب_«المراتب

ص: 283


1- رودني هلتون، الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، المقدمة، مرجع مذكور، ص.: 38 – 39.

العليا من المزارعينم ليدفعوا مبالغ نقدية باهظة من شأنها إغراء أسيادهم لعتقهم ليتحولوا في المدن إلى حرفيين ومقدمي الخدمات، فيتحوّلون بذلك، وبأموالهم، من مرتبة عليا في البيئة الإقطاعيّة إلى مرتبة دنيا في التسلسل الطبقي المديني؟

وأيضاً: إذا كانت المدن نشأت بمبادرة من السادة وأنهم هم الذين أنشأوا الحرف المدينية، ألا يكون اعتبار ذلك مؤشِّراً لقيام نظام استعبادي ناجم عن تحويل الأقنان المرتبطين بالأرض إلى عبيد يرتبطون بالحرف والمانيفاتورات؟

وإذا ما تابعنا مع رودني هلتون إلى أبعد من النص المذكور، سنجده يرفض رفضاً قاطعاً إيلاء أي اهتمام للاستقلال السياسي الذي كانت تتمتع به المجتمعات الحضرية في ظل نظام الإقطاع الغربي. ويكتفي ليؤكد رأيه بالقول بأن الذي ادّعى مثل هذا الاهتمام إنما هو ماكس فيبر «والمؤرخون غير الماركسيين»، وكأن في ذلك ما يقنع ويفي بالمطلوب.

فالمدن التجارية لم تفرض بما حصلت عليه من قوة وسلطان، فقط استقلالها وباتت تفرض نمطاً من العلاقات السياسيّة متلائماً مع مصالحها وحسب، بل شرعت تهندس سياسة أوروبا الغربية وتعمل للقضاء على «قلاع الفرسان والبارونات اللصوص نصف المستقلين في العصور الوسطى الأولى »(1)، لضمان سلامة قوافلها التجارية وأسواقها في داخل أوروبا من التعدّيات التي كان يقوم بها هؤلاء، من دون أن تعلن عن رغبة بتوسع جغرافي أو سياسي لنفوذها، لأنّه كان من شأن مثل هذه الرغبة أن تستفز الملوك الطامحين ،آنئذٍ، بل قدّمت انتصاراتها تلك لهؤلاء الملوك من أمثال الملك الفرنسي لويس الحادي عشر الذي وضع فيما بعد أسس الملكية المركزية في فرنسا(2).

ويؤكّد المؤرّخ ويلز بأنّ ما«حدث في كل أرجاء أوروبا، مع زيادة التجارة، انتعاش كبير في حياة المدن منذ القرن الثاني عشر فما تلاه... وكانت هذه المدن الأوروبية في معظم شأنها جمهوريات أرستقراطية مستقلة أو شبه مستقلة. وكان معظمها يعترف بسيادة عليها مبهمة من جانب الكنيسة، أو الإمبراطور أو أحد الملوك. وكان بعضها

ص: 284


1- ه_. ج. ويلز، المرجع المذكور، المجلد الثالث، ص: 1001 - 1002
2- المرجع السابق، المجلد الثالث، ص: 1001 - 1002 -

الآخر جزءاً من ممالك، أو حتى عواصم دوقات أو ملوك. وفي مثل هذه الحالات كانت حرياتها الداخلية مكفولة الاستمرار بأمر ملكي أو إمبراطوري»(1).

فالكلام عن «تطور الأشكال الجديدة للقنانة» عند رودني هيلتون أو الكلام عن «التغيّرات العميقة التي أصابت مجتمع الإقطاعة» (2)عند موريس دوب، أو الكلام عن «الحركة التاريخية التي تحقق الانفصال بين العمل وشروطه الموضوعية»(3)عند كارل ماركس، ليس سوى كلاماً يعبِّر عن مسعى واحد ألا وهو إخفاء الدور الفعّال الذي أدّته في عملية تطوّر جهاز النّهب العنيف الأوروبي من خلال علاقة التفاعل والتكامل ما بين الشعوب النورماندية التي اتقنت القرصنة وأسست نفوذها عليها، وبين المدن الإيطالية التي وظفت عائدات القرصنة في النشاط التجاري، وتطوير الصناعات ذات الصّلة في تطوير ودعم هذا الجهاز ولتلبية احتياجات القراصنة، ومن ثم في إقامة حركة نهبية - تجارية واسعة النطاق، كان من شروط استمرارها وازدهارها وتالياً من نتائجهما، إحداث جملة من التغيُّرات والانقلابات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والسياسة على مختلف مستويات التشكيلة الأوروبية الإقطاعية، لعبت الدّور الأساس في تكوين عناصر الانقلاب في ميزان القوى الدّولي اقتصاديّاً وبالتّالي سياسيّاً.

لذلك، ليس من الواقعيّة التعاطي مع المدن الإيطالية خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر، بشكل خاص، بناء على مدى اتساع أو ضيق مساحتها الجغرافية على شبه الجزيرة الإيطاليّة، بل بناء على ما كانت قد حققته من قوة ونفوذ على المستويين الاقتصادي والسياسي، ليس في الخريطة الأوروبية وحسب، وإنما في الخريطة الدّولية أيضاً. فالخطاب الذي ألقاه توماس موكنيجودا كامبو فريجسو عام 1419 في مجلس شيوخ البندقية، يعطينا فكرة عمّا كانت عليه قوة البندقية البحرية آنذاك، حيث ورد في هذا الخطاب الذي ضمنه مارينو سانودو كتابه الصادر عام 1420 تحت عنوان «حياة قضاة البندقية» أنه في ذاك العام، 1419، «وصل عدد السفن

ص: 285


1- المرجع السابق، ص: 1003 - 1006.
2- Dubb Maurice, "Etudes sur le Developpement du capitalisme", Paris, 1971, p. 38 -
3- کارل ماركس رأس المال ، طبعة دار المعارف بيروت مرجع مذکور، ص 853 .

الحربية والتجارية التي كان يملكها البنادقة حوالي 3000 من أحجام مختلفة مجهزة ببحّارة منتظمين يقدر عددهم بحوالي 17000. وكان هناك 300 سفينة تحمل 8000 رجل ، و 45 سفينة أخرى يسيرها 11000. وكان هناك 16000 رجل يعملون في أحواض السفن بانتظام»(1).

إن مجمل النفوذ الذي حققته الرأسمالية التجارية الإيطالية، لم ينحسر في الإطار الجغرافي لتلك المدن، بل تخطاه ليشمل أجزاء واسعة من أوروبا الغربية وصولاً إلى بحر الشمال الغربي لأوروبا بفعل الانعكاسات الإيجابيّة لدورة رأس المال التجاري على الاقتصاد الداخلي لتلك الممالك والإقطاعات والإمارات التي كانت على تماس مباشر مع الحركة التجارية. فنتائج العملية النهبية - التجارية لم تكن «مجرد تكديس للثروات المُحصَّلة»، ولم تبقَ تلك النقود والبضائع مجرَّد موجودات تلبّي احتياجات الاستهلاك البذخي، ولا هي حتّى وسائل إنتاج غير مفعَّلة ولا مُستثمَرة، بل كان يتم تحويلها على الدوام إلى رؤوس أموال يُعاد ضخها من جديد في دورة اقتصادية متكاملة ومتنامية. ويكفي أن نشير إلى أن نصف سكان الفلاندرز (= بلجيكا) على الأقل، كانوا يعملون أواسط القرن الرابع عشر في صناعة النسيج لصالح طبقة جديدة من المستثمرين البرجوازيين لتلبية مطالب التجار القابضين على مفاصل حركة التجارة الداخلية والدولية(2).

كما نجم عن ازدهار المدن التجارية الإيطالية نهضة عامة في مختلف مجتمعات أوروبا الجنوبية، وكان من شأن هذه النهضة أن أدّت إلى إقامة اتحادات تجارية فيما بين المدن والأسواق التجارية في مختلف أنحاء أوروبا الغربية. ونجم عن ازدهار هذه الصناعات الحرفية وارتفاع الطلب على هذه المنتوجات أن اتّسعت أسواقها، مما أسهم في إقامة اتحادات تجارية في عدة مدن وأسواق في شمالي أوروبا لتسهيل ودعم عملية توزيع السلع عبر أوروبا كلها، إضافة إلى ما عملت عليه هذه الاتحادات من توحيد للأسعار وتوسيع

عمليات التبادل عبر المعادل النقدي، كبديل للتبادل عبر المعادل السِّلَعي.

ص: 286


1- د. عزيز سوريال عطية، المرجع المذكور، ص: 169.
2- المرجع السابق، ص: 167

ومن المُلِفت أن أكثر المدن الإيطالية احتضاناً للقراصنة ونشاطهم فيما وراء البحار، أي البندقية وجنوا وبيتزا، كانت على رأس المدن الأكثر تطوراً في شمالي إيطاليا، وهي التي ستلعب الدور الأساس في انتعاش حركة الإنتاج وتطويره وتعميم آثاره على كامل البرّ الأوروبي، بدءًا من محيطها الإيطالي. والتقسيم الذي اعتاد عليه المؤرخون الاقتصاديّون، باعتبار هذه المرحلة بأنّها المرحلة التجاريّة»، يجب أن لا تدعنا لاعتبار أن التجّار كانوا مجرّد وسطاء فيما بين المُنتج والمستهلك، بل كانت عوامل الإنتاج برمّتها تحت أيديهم على كامل البرّ الأوروبي.

و - انتقال جهاز النّهب العنيف من القرصنة والتجارة إلى الاستعمار:

منذ بدايات القرن الخامس عشر سوف يتبلور في أوروبا نمطان من أنماط الأجهزة النهبية، أوّلهما جهاز المدن الإيطالية، لا سيما البندقية وجنوى، وهو جهاز كما أشرنا سابقاً انبنى وتطور بعيداً عن النفوذ المباشر للبابوية، وكانت تحكمه بضعة معطيات امّنت ،له أو فرضت عليه استقلاليته عن البابوية. والجهاز الثاني هو عبارة عن قوى نمت وترعرعت في أحضان البابوية، وفي خضم الصراع العنيف ما بينها وبين المسلمين في الأندلس على قاعدة التمايز الديني والحضاري فيما بين الطرفين. ويمثّل هذا الجهاز بشكل خاص كل من مملكتي إسبانيا والبرتغال اللتين برزتا كقوتين رئيسيتين في القارة الأوروبية منذ أواسط القرن الرابع عشر، واندفعتا منذ أواسط القرن الخامس عشر لتكونا قوتين استعماريتين رئيسيتين في العالم، وقادتا مرحلة الكشوفات البحرية شرقاً وغرباً.

صحيح أن الفضل الأساسي في نشأة الحركة التجارية الإيطالية أوائل القرن الحادي عشر يعود للقراصنة النورمانديين المشمولين بعطف البابوية ورعايتها، إلاّ أن ما كان ينجم من آثار إيجابية عن هذه الحركة التجارية التي كانت تصيب المدن الإيطالية وفئة التجار الآخذة بالازدهار والبروز كقوة اقتصادية، وبالتالي سياسية، في خاصرة ،روما مركز البابوية كان يثير حذر البابا ويدفعه إلى أن يتوجّس خيفة منها، خاصة تبعاً لارتباطها مع الكنيسة الشرقية في بيزنطية، إلا أن هذا الحذر جاء في وقتٍ

ص: 287

بات من المستحيل على البابوية وحلفائها من رجال الإقطاع أن يضعوا حدّاً لنمو هذه الفئة أو تجاوزها في التوازنات الأوروبية. حتى أن تشجيع ومباركة البابا للقراصنة النورمانديين في احتلالهم لجنوبي إيطاليا أواسط القرن الحادي عشر، لم يؤدِّ إلى إضعاف المدن الإيطالية الأخرى، بل على العكس من ذلك، فقد أدى ذلك إلى مركزة الخدمات التي كانت تقدمها المدن الإيطالية للقراصنة في مدينتي البندقية وجنوى بشكل خاص، مما زاد من أهمية دورها في العملية النهبية التي يتولاّها القراصنة من جهة، وفي الدورة الاقتصادية الأوروبية الآخذة بالاتساع والتبلور، من جهة أخرى، خاصة بعدما دمّر المحتلون النورمانديون البنية الاقتصادية التي كانت تقوم عليها المناطق التي احتلوها وذلك بسبب نمط حياتهم الخاص الذي ينفي بطبيعته، وبأوالياته الخاصة، التفاعل الإيجابي مع التنظيمات التي تقتضيها البنية الاقتصادية للرأسمالية التجارية.

حكمت سلوك القوى النهبية الأوروبية سياستان، أو استراتیجیتان مختلفتان ومتناقضتان في بعض الأحيان، ميّزتا ما بين جهازي النهب الرئيسيين المشار إليهما سابقاً. ففي الوقت الذي كان الجهاز النهبي للمدن الإيطالية محكوماً بسلوك المنفعة التجارية بشكل رئيسي، فإن الجهاز النهبي الذي سيمثله كل من إسبانيا والبرتغال سيكون محكوماً بمفاهيم النظام الإقطاعي المجدول على مرامي ومصالح البابويّة، ويُدخِل نشاط هذا الجهاز ضمن «الحروب الصليبية» بكامل أبعادها الجوهرية. وقد يكون الاختلاف في سلوك كل من هذين الجهازين ناجماً عن الاختلاف بين الخصائص البنيوية السياسية والاقتصادية لكل منهما.

كان واضحاً خلال بحثنا هذا، أنّ المصالح الاقتصاديّة البحتة التي كانت تلعب الدور الحاسم في توجيه سياسة المدن الإيطالية، حيث تتحدَّد مواقفها وتحالفاتها تبعاً لهذه المصالح، وإنها عندما كانت تفعل ما يبدو غير ذلك، فإن ما كانت تفعله هو اللجوء إلى الاختيار ما بين «أقل پالضررين» لمواجهة ما تكون تتعرض له من ضغوطات قويّة من جانب الكنيسة والنبلاء الإقطاعيين. إلاّ أن جلّ شعارات البرتغاليين والأسبان كانت هي نفسها شعارات وأهداف الحروب الصليبية، حيث

ص: 288

كانوا يعمدون إلى ممارسة أقسى أعمال العنف في غزواتهم وقرصنتهم ونهبهم ويسعون إلى الحصول على مستعمرات لهم حيث تطأ أقدامهم يُخضعون شعوبها وينهبون ثرواتها بالعنف، ويفرضون النصرانية على الشعوب التي يُخضعونها، حتى باتت الأهداف الاقتصادية لهذه الحملات بالرغم من ضخامة الثروات المنهوبة، تبدو وكأنها فقط لتمويل وتجهيز المزيد منها ، وليسترجع الغزاة الجدد في مستعمراتهم الأفريقية والأميركية والآسيوية سِيَر أسلافهم الصليبيين الأوائل وتجاربهم.

فقد كان ملك البرتغال يوحنا الذي جهّز لفاسكو دا جاما رحلته الأولى نحو الشرق، قد حدّد له أهداف الرحلة بأنها للعمل على نشر المسيحية والحصول على ثروات الشرق، وضرب له المثل برخاء الجمهوريات الإيطالية نتيجة لثروات الشرق(1). كما أن الملك البرتغالي أيضاً عمانوئيل ذهب في حماسه لإعطاء حملاته الاستعمارية صفة الحروب الصليبية وفي سبيل إعلاء شأن الكنيسة، إلى أبعد مما كانت تأمل منه البابوية نفسها، فهو أجاب عام 1505 على نداء البابا يوليوس الثاني الذي طلب منه الحدّ من الحملات إلى المحيط الهندي بهدف إنجاح الجهود الرّامية إلى تحسين علاقات دول البحر الابيض الأوروبية مع سلطنة المماليك التي تستهدفها حملات البرتغاليين في المحيط الهندي، أجابه عمانوئيل قائلاً: «لست عازماً فقط على خنق التجارة المملوكية، بل سأجاهد في سبيل المسيحية حتى أجعل من مكة هدفاً لمدافعي وجنودي»! كما أشار عمانوئيل في جوابه على البابا: نرى أنه لخدمة الرب وإعلاء شأن الكنيسة يجب أن تتكثّف جهود البابوية في سبيل، ليس المصالحة مع سلطنة المماليك، وإنما في سبيل توحيد الدول والممالك المسيحية تحت قيادة البرتغال، وأن تنضم جهودهم إلى جهوده لاستعادة الأراضي المسيحية المقدّسة في الشرق»(2).

لم تقتصر جهود البرتغاليين بشكل خاص على محاربة المسلمين كما كانت عليه حال الحروب الصليبية في مرحلتها المشرقيّة، بل كانت جهودهم ضد كافة

ص: 289


1- غسان علي رمال صراع المسلمين مع البرتغاليين في البحر الاحمر مكة المكرمة 1401 ه-، ص : 68 .
2- د. نبيل عبدالحي ،رضوان، جهود العثمانيين»، مرجع مذكور، ص.: 150.

الأديان والمذاهب التي يصادفونها في طريقهم، وذلك في سبيل نشر الكثلكة بالذات. الحبشة الأرثوذوكس كأعداء وهراطقة حتى رضخ ملك

وقد تعاملوا مع مسيحيي الحبشة لبنا دنقل (1508-1540) عام 1535 لمطالب البرتغاليين بتقديم التسهيلات ل_ «المبشرين» الكاثوليك بالعمل ضمن رعايا الكنيسة الأرثوذوكسية والسماح بتحوّلهم إلى الكثلكة وتعيين المبشِّر الكاثوليكي «جاوو برمودز» مطراناً على الحبشة، وهو من أكثر المتعصبين ضد الأرثوذوكسية والعاملين على كثلكة الحبشة(1).

يشكل دخول مملكتي إسبانيا والبرتغال بقوة على الحركة النهبية تطوراً رئيسياً فى توجيه هذه الحركة وفي مدّها بعناوين جديدة لخّصت أهداف وأبعاد هذه الحركة على امتداد مرحلة طويلة مازالت حتى تاريخنا الراهن تجد آثارها والمتحمسين لها. ويمكن اعتبار هذا الدخول بأنه أسس لمرحلة جديدة شكلت «القفزة النوعية الثانية» في تطور الجهاز النهبي الأوروبي، سينتقل بموجبها مركز الثقل الاقتصادي والسياسي الأوروبي من شمالي إيطاليا لصالح الكيانات السياسية الكبرى في أوروبا، تلك الكيانات التي بدأت تشدِّد مركزيتها مستفيدة من عاملين اثنين بشكل رئيسي : تمركز القوة الاقتصادية والمالية، وثانياً إبتداء تهميش دور البطولات الفردية في الحروب مع إدخال البارود بشكل موسّع ومتزايد على الجيوش وما يستلزم ذلك من إدخال الكثير من التغيير على بنية تلك الجيوش ومركزة القرار فيها. فتقهقر بذلك دور صغار الإقطاعيين والنبلاء الذين كانوا يتمرّدون على ملوكهم الذين باتوا يمتلكون المبادرة فی ساحات القتال ما أن امتلكوا الأسلحة البارودية ووظفوها كعنصرٍ طاغٍ في الحروب وقمع التمرّدات، علماً أن الملوك كانوا عادة يلجأون إلى المدن الإيطالية لقمع هذه التمردات التي كانت تهدد خطوط التجارة الداخلية في أوروبا لما كان يرافقها من أعمال لصوصية(2).

لعبت الاختراعات العلمية والاكتشافات الجغرافية ومجمل ما شهدته البنية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية من تطور في أوروبا، دوراً رئيسياً في تأمين الاندفاعات

ص: 290


1- عثمان صالح سبي، تاريخ اريتريا دار النهار بيروت 1974، ص: 127.
2- ه_ . ج . ولز ، المرجع المذكور، المجلد الثالث ص.: 1003-1006.

القوية ل_ «القفزة النوعية الثانية» في الجهاز النهبي الأوروبي، إلّا أنّ كافة هذه العوامل لم يكن بوسعها أن تفعل ما فعلته لولا تضافرها مع بضعة عوامل أخرى كانت ضرورية لتشكل فيما بينها المحفّزات التي لابد منها للاندفاع في سبيل تحقيق هذه القفزة.

لن ندخل هنا في عرض وبحث تفاصيل المكوّنات المؤسِّسة للقفزة النوعية الثانية هذه،بل سنكتفي بذكر أهمِّها بشكلٍ سريعٍ ومقتضبٍ وذلك منعاً لحرف الموضوع عن هدفه:

التجاذب والتنافر فيما بين البابوية والمدن التجارية الأوروبية، على قواعد متعددة منها التنافس على النفوذ السياسي واختلاف الرؤية حول طبيعة العلاقة مع الخارج وأهدافها.

تركّز رؤوس الأموال بأيدي التجار الإيطاليين في ظل أزمة اقتصادية عصفت بالنظام الإقطاعي نجمت عن ندرة النقد لديهم وبالتالي عجزهم عن الاستهلاك الظهوري الذي تتطلبه الحركة التجارية الإيطالية.

نجاح مملكتي إسبانيا والبرتغال في إنهاء الوجود الإسلامي في الأندلس وما يستدعيه ذلک من تأمين ميادين لتوظيف الجهاز العنفي لهاتين المملكتين، خاصة في ظل ندرة النقد في أوروبا الإقطاعية، وما وفّره هذا النصر من التفافٍ نصراني حول كل منهما.

هروب الأقنان من القرى والمزارع الإقطاعية إلى المدن وبحثهم عن مغامرات في ماوراء البحار، مما أمّن فائضاً بشرياً مندفعاً للمغامرة هرباً من إعادتهم إلى أسيادهم.

شغف البابوية بدعم ملوك يقاتلون خارج أوروبا في سبيل الكنيسة واستئناف

الحروب الصليبية.

فتح العثمانيين للقسطنطينية واكتمال سيطرة المسلمين على منافذ تجارة أوروبا مع الشرق.

إجراءات مشددة اتخذها السلاطين المماليك كان من شأنها التضييق على حركة التجارة بين الشرق وأوروبا عبر البحر الأحمر.

حروب بحرية ضارية في البحر الأبيض بين الأساطيل العثمانية والبندقية جعلت

ص: 291

من الحوض الشرقي لهذا البحر غير آمن للتجارة الدولية، وذلك على امتداد النصف الثاني من القرن الخامس عشر.

«القرصنة المضادة» التي أذكتها السلطنة العثمانية بدعمها لبحارة شمالي أفريقيا المسلمين ودفعت بهم إلى شن عمليات قرصنة مضادة في الحوض الغربي للبحر الأبيض ضد السفن الأوروبية، والتي أشعلت حرب قرصنة متبادلة عطلت بدورها التجارة في تلك المنطقة ايضاً.

عضونة العلوم والمعارف الإسلامية، عبر الترجمة والتفاعل الإيجابي بين الأوروبيين ومسلمي الأندلس في أواليات إنتاج العلوم والمعرفة الأوروبية والتي تولى الإسبان والبرتغاليون الريادة فيها.

نجم عن هذه العوامل مجتمعة أن اندفع عدد من المغامرين تحت راية ملكي أسبانيا أو البرتغال للبحث عن منافذ ومواقع جديدة للقرصنة على شواطئ أفريقيا الغربية وفي جزر المحيط الأطلسي. وهي محاولات استندت على جهود سابقة جرت خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر وأوائل القرن الخامس عشر تولى القيام بها القراصنة النورمانديون والقطاليون (قشتالة) والجنويون في المحيط الأطلسي وبمحاذاة الشاطيء الغربي لأفريقيا(1).

تفرض طبيعة وحجم التغيرات التي أحدثتها تطورات القرن الخامس عشر وصولاً إلى اكتشاف القارة الأميركية والدوران حول أفريقيا والوصول إلى نهايات خط التجارة الدولية في الشرق، و«الإنجازات» التي أنجزتها عمليات القرصنة والنهب البرتغالية خلال مسيرتها للوصول إلى الشرق والتي دامت زهاء نصف قرن، تفرض تلك التغيرات النظر إلى هذه المرحلة بوصفها مرحلة مفصلية، ليس في تاريخ أوروبا فقط، وإنما أيضاً في تاريخ البشرية برمّته. كما ويجب النظر إليها بوصفها تتويجاً لجهود الكنيسة الكاثوليكية في تحقيق «عالمية» هذه الكنيسة لأول مرة في تاريخها على الرغم من اتخاذها لهذه الصفة العالمية، منذ انفصالها عن الكنيسة البيزنطية.

ص: 292


1- المرجع السابق، المجلد الثالث، ص: 1017-1018

وإذا كان بروز مملكتي أسبانيا والبرتغال كقوتين رئيسيتين في أوروبا والعالم منذ انتصاف القرن الخامس عشر، قد شكل دعماً كبيراً للجهاز النهبي الأوروبي، إلّا أنَّه شكّل أيضاً سبباً لما شهدته البنية الاقتصادية الرأسمالية من نكوصٍ في مختلف أنشطتها، وعودة الحياة للنظام الإقطاعي الذي جدد حيويته واستعاد الكثير من نفوذه الذي كان قد فقده أمام الرأسمالية التجارية التي كانت قد أرست جذورها في البنية الاقتصادية الأوروبية خلال القرنين السابقين.

خاتمة:

إن نشأة الاستعمار مع نهايات القرن الخامس عشر، وانطلاقته الكبرى خلال القرن التّالي، التي يعيدها الباحثون عادةً إلى التطور الذي أصاب العلوم والاكتشافات والاختراعات والنمو الاقتصادي العام الذي شهدته أوروبا خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، هي في الحقيقة ليست سوى النتيجة التّراكميّة لتطوّر الجهاز الحربي، وهو الجهاز الذي تموّن وتطوّر على امتداد عدّة قرون من خلال النّهب العنيف الذي باشره القراصنة واستكملته الحروب الصّليبيّة وعملت على عضونته في الاقتصاد الأوروبي المدن الإيطاليّة والرأسماليّة التجاريّة التي بنتها والّتي كانت تعود وتضخّ مردود المنهوبات في عملية تطوير مستمرّة للجهاز الحربي. فإن هذا التّطوّر ما كان ليكون له أي تأثير فاعل على سير الأحداث لو لم يكن مقروناً إلى حد بعيد بجهودهم لتطوير الجهاز الحربي، أو بالأحرى لو لم يكن هاجس تطوير الجهاز الحربي هو الذي يحكم الجهات التي دفعت وشجعت لتحقيق هذا التطور، لأن تلك الجهات وثيقة الصّلة بالقراصنة الذين يعتبرون تطوير هذا الجهاز شغلهم الشّاغل، فهو أداتهم الأساسيّة في نشاطهم النّهبي فيما وراء البحار.

فالعامل الحاسم في الاندفاعة الأوروبية لتطوير الجهاز الحربي، هو الرّغبة في النّهب العنيف. وقد تمّ توظيف كل العلوم والاكتشافات في هذا السّبيل. فلم يكن البحث العلمي بهدف تطوير العلوم، بل بهدف تطوير الجهاز النّهبي، شأنه في ذلك شأن

ص: 293

الاهتمام في الاكتشافات الجغرافيّة، فهي الأخرى لم تكن في سبيل مجرّد تطوير المعرفة الجغرافيّة، بل، وحصراً، في سبيل تطوير سُبُل التّوسُّع الاستعماري خدمة للنّهب العنيف فالصينيون الذين اخترعوا البارود بفضل تطور علومهم وحضارتهم، لم يخترعونه لأسباب حربيّة وعدوانيّة، ولكنّهم لم يكن بوسعهم الصمود طويلاً بوجه جانکیزخان الذي كان هاجسه الحرب والعدوان، فتمكَّن من استخدام اختراعهم لأغراض حربية.

فالانقلاب في موازين القوى العسكريّة ما بين الدُّول والمجتمعات في أفريقيا وآسيا، ومن ثمّ في أميركا وأستراليا، وممالك أوروبا الغربية لصالح الأخيرة، وبشكل خاص منذ بدايات القرن السادس عشر، وعجز تلك الدّول والمجتمعات عن دفع الأذى الاستعماري عنها، ومنع المستعمرين من إخضاعها ونهبها يرجع بشكلٍ أساسي لما كان قد حقّقه الجهاز الحربي الأوروبي من تطوّر، بفعل ما مارسه من نهب عنيف طوال عدّة قرون مضت. وهو الجهاز الذي سيواصل تطوّره لتعميق وتطوير حركة الاستعمار التي واصلت وتواصل نشاطها النّهبي، مستفيدة ممّا استحوذته من قوة حربيّة تستمرّ في ضخ مردودها في دفع العلوم لإدخال المزيد من التطوّر في هذا الجهاز، وبشكلٍ متواصل.

ص: 294

«الثقافة والإمبريالية » لإدوارد سعيد

نقد العقل المهيمن لحداثة الغرب

محمد بن عمارة(1)

«يبسط إدوارد سعيد جناحيه فوق عالم أعظم مدى ورحابة من العالم الذي غطّاه مؤَلَّفه السابق «الاستشراق»، ليكشف عن التواطؤ الكلي والتشابك الحميمي بين الإمبريالية والثقافة التي أنتجتها مجتمعاتها. ولكنه يتجاوز هذا ليكشف أبعاداً مقموعة للثورة ضد السيطرة الإمبريالية في جميع بقاع العالم غير الأوروبي، ويوجّه نقده أيضاً إلى الاستعلائية المضادة الممثلة في القومية الشوفينية والأصولية ونظريات الصفاء العرقي أو الثقافي».

يُنظر إلى كتاب «الثقافة والإمبريالية» للكاتب والمفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد؛ باعتباره الجزء الثاني لكتاب «الاستشراق» المتقدم عنه بحوالي خمس عشرة سنة. فقد توسع المؤلف هنا في دراسة وتحليل وتفكيك نصوصٍ كثيرةٍ لعددٍ كبيرٍ من الكتّاب والمؤلّفين الأوربيين والأمركيين ما بين القرنين الثامن عشر والعشرين.

كما يعدّ هذا المؤَلَّف أعظم عمل أبدع فيه إدوارد سعيد، برز ذلك من خلال سعة إطلاعه، وكثرة قراءاته، وشموليتها لعشرات المؤلِّفين الذين استشهد بنصوصهم، کما

ص: 295


1- باحث - تونس.

أنه لم يتوقف على الشرح والتحليل فقط، بل قام بتفكيك هذه النصوص، وتسليط الضوء على الظروف التاريخية المحيطة بكتّابها ومقارنتها بنصوصٍ أخرى لكتّابٍ آخرین مشابهة لها في الظروف، أو في الأفكار، من دون أن يغفل عن شخصيّة المؤلف وتوجّهاته.

يمثل هذا العمل في نظر الكثيرين من النقّاد والقارئين، من الأعمال النادرة والمميزة في مجاله الفكري. والسبب أنه يموضع المشكلات التي عالجها الاستشراق، ويُحي المناظرة حول السيطرة والمقاومة، وحول التاريخ والجغرافيا، واستخدامات الثقافة، ومحاولات التفكير بالتحرر.

وهذا ما يوضحه المؤلف في التقديم لكتابه عندما يقول:«فكفكة الاستعمار ومناهضة الإمبريالية تظلان إلى حدّ مأساوي غير منجزتين حين تصبح رموز الاستقلال القومي أهدافاً قائمةً بذاتها». كما أنه يرى في كتّاب التاريخ للعالم الحديث الذي كان خاضعا للاستعمار هم من أسسوا لهذا التقديس الأعمى الضال للدولة: تقديس الدكتاتوريين والمتغطرسين، وتقديس المجتمعات المعسكرة المعادية للديمقراطية، والمصابة بالقحط الثقافي.

إدوارد سعيد في كتابه هذا يتحدث بنفَسٍ من التفاؤل عن التعددية الثقافية، أو الهجنة التي تشكل الأساس الحقيقي للهوية اليوم، حيث إنها لا تؤدي بالضرورة إلى السيطرة والعداوة، بل تؤدي إلى المشاركة وتجاوز الحدود، وإلى التواريخ المشتركة والمتقاطعة. وإنه لعلى قدرٍ كبيرٍ من الأهمية أن يتمّ استذكار ذلك في وقتٍ يحاول فيه متطرفون مثل صامويل هنتنغتون أن يقنعوا العالم بأن صدام الحضارات أمرٌ محتومٌ لا مفر منه.

يقع الكتاب ضمن أربعة محاور جاءت على شكل فصول، بالاضافة إلى مقدمَتين للمؤلف واحدة للطبعة العربية والآخرى للطبعة الأصلية باللغة الانجليزية، ومعهما مقدمة للمترجم، وكشّاف مصطلحي. أما هذه المحاور فقد تناولت القضايا التالية:

أقاليم متقاطعة تواريخ متواشجة: الامبراطورية والجغرافيا، والثقافة - صور

الماضي، نقية ومشوبة - تجارب متفاوتة - ربط الامبراطورية بالتأويل الدنيوي.

ص: 296

رؤيا معززة: السرد الروائي والفضاء الاجتماعي - جين أوستن والامبراطورية - الاكتمالية الثقافية للامبراطورية - الامبراطورية في حالة الفعل - ملذات الامبراطورية - المواطن الأصلاني تحت السيطرة - كامو والتجربة الاستعمارية الفرنسية - إشارة حول الحداثية.

المقاومة والمعارضة : ثمة طرفان - موضوعات ثقافة المقاومة - بيتس وفكفكة الاستعمار - الرحلة إلى الداخل وبزوغ المعارضة - التعاون والاستقلال والتحرر.

التحرر من السيطرة في المستقبل: الارتقاء الأميركي (الفضاء العمومي في حالة حرب) - تحدّي السننية والسلطة - حركات وهجرات.

التجربة التاريخية

اِعتمد إدوارد سعيد على عالم التجربة التاريخية كوحدة للتحليل المركزي، مستعيناً بمصطلحاتٍ جذّابةٍ تثير عند الباحث والقارئ حسَّ الهويّة. فهو يرى أن المنتجات العظيمة للثقافة هي منتوجات محسوسة واستثنائية، قادرة على حمل وجهات نظرٍ سياسيةٍ عميقةٍ، كسلخ الإنسانية على غير الأوروبيين، وتصوير الشعوب بأبشع الصور. ويتمثل ذلك في رواية كيم لكيلنغ التي يعتبرها سعيد روايةً عظيمةً و عملاً إمبريالياً عميقاً فيه ينكر كيلنغ على الهنود إمكانية التفكير والتطور السياسي.

يشير سعيد في كتابه إلى الأدب والنقد اللذين بزغا بعد مرحلة الاستعمار، إذ كان موضوعهما إنسان العالم الثالث من أفارقة وأسيويين عرب وغير عرب، الذين طالما كوّنوا موضوعاً لعلم الانسان الغربي، بحيث أدرجهم في أدنى الرتب الإنسانية، ليخرج من هؤلاء نتّاجٌ وقرّاءٌ ونقّادٌ لسجلات الغرب، وهو ما فتح امكانياتٍ جديدةٍ، واكتشافات حول الإنسان الغربي الناصع الصورة.

النقطة المثيرة للاهتمام في هذا الطرح الذي يقدّمه إدوارد سعيد هي طبيعة الموقف الأخلاقي والفكري المتمثل في إيمانه بالانسان والحرية، وضرورة التواصل، والتفاعل والاثراء المتبادل بين الثقافات والمجتمعات والصراع ضد الاستعلائية، والاستعمار والإمبريالية والهيمنة والتسلّط والتمركزيّة الغربيّة، وضد نقائضها من

ص: 297

قومياتٍ ضيقةٍ. كما برزت تأويلاته ونظرياته المتعلقة بالعالم، وحركة المجتمعات الانسانية ، وحركة التاريخ، والثقافة والأدب. فقد طرح سعيد نظريّة ثالثة تضاف إلى اثنتين مشهورتين في نشأة الرواية وتاريخها يفسّر من خلالها انتشار الرواية الملازم لانتشار الإمبريالية. فهو يربط بين حركة التوسّع الامبراطوري وبين ازدهار الرواية.

إن ضرورة ما يحتّم التطرّق إلى قضيّة الثقافة والإمبريالية عند سعيد هي القضيّة الفلسطينية، بالرغم من أنها لم تذكر كثيراً في كتابه إلا أنه يعتبرها صاحبة الدور التأسيسي في تفكيره فيرى بأن الأفكار المتعلقة بفتوحات ما وراء البحار يوضّحها أتم التوضيح تاريخ الصهيونيّة، مع وجود فارق واحد بين الصهيونية والإمبريالية الغربية التقليدية، فالثانية غدت ممارسة تاريخية للقوة المستهجنة، أما الأولى فما تزال قائمة إلى الآن مدعومة بقوة الصداقة الغربية.

أبدع المؤلف في كشف خفايا الكتّاب والمفكرين الغربيّين، من خلال دراساته لأعمالهم والتمعّن فيها، وهو ما يظهر لنا سعة اطلاعه والبصيرة الثاقبة التي يتمتع بها. فمن خلال عمل كونراد يقول سعيد :«إن كونراد هو السلف الممهّد لوجهات النظر الغربية عن العالم الثالث التي يجدها المرء في أعمال روائيين متباينين تباين غراهام غرين وقي إس نيبال وروبرت ستون ومنظري الإمبريالية مثل حنّة أردنت وكتّاب الرحلات ومخرجي الأفلام».

لم ير سعيد أعمال كونراد على أنها مجرد تكهّن بالمستقبل، بل رأها قمّة التأسيس الإمبريالي فهي تُقدَّم للأوروبي لأجل أن يرى نفسه هو الأفضل والأرقى على الإطلاق، في حين أن باقي الأمم والحضارات هي لاشيء، بل هي مجرّد ساحات لهيمنة الأوروبي. بل أبعد وأخطر من ذلك، فهذه الروايات تجسّد عنجهيّة الإمبريالية الأبويّة التي تصوّر أن الغربي هو المواطن الأصلي الرّاقي، وهو ما يظهر في كلام كونراد: «نحن خلقناهم ونحن علمناهم أن ينطقوا ويفكّروا، وحين يتمرّدون فإنهم ببساطة يؤكدون سلامة رأينا». فكونراد يسوّق رواياته على أنه مناهض للإمبريالية كما في تتمة قوله: «بأنهم أطفال أغبياء استغفلهم أسيادهم الغربيّون». إلا أن سعيد يراه

ص: 298

إمبريالياً متقدّما في إقصائه لثقافات وتواريخ الأمم الأخرى، وعدم اعترافه بأن الغرب من قام بخلخلة هذه الثقافات.

لا يقتصر سعيد بالقراءة والشرح للروايات، بل يتجاوز ذلك بتفكيك شخصيّة الكاتب. فقد قام بتفكيك شخصيّة كونراد من خلال أعماله ومقارنتها بأعمال غيره، من ثمّة قام بإسقاطها على الواقع المعاصر ليظهر الازدواجية في شخصية كونراد الناقد للإمبريالية من جهة، والمسوّق لها من جهة أخرى. كما ينصفه في شجاعته لكونه يرى أن خطط الحكومة الأمركية المغلّفة بالقيم السامية من قبيل الأمن والديمقراطية لم تنجح مرة واحدة بل أسقطتهم في شراك أوهامهم القائمة على القوة الكليّة، واشباع الذات، وأبرز هذا السقوط ما حصل في فيتنام.

لقد انطلق سعيد في قراءته للغرب من خلال الأعمال الفرديّة، إذ يعتبرها نتاجًا عظيمًا للخيال الخلاّق أو التأويلي من ثم يقوم بإظهار العلاقة بين الثقافة والإمبراطورية مجرّدا المؤلفين من الخلفية العقديّة، أو الطبقيّة، أو التاريخ الاقتصادي، بل يراهم نابعين من تاريخ مجتمعاتهم معتمدين على تجاربهم الاجتماعية. فمن خلال كتاب «الاستشراق» یری سعید أنه من الصعب استيعاب التجربة التاريخية من خلال مطالعة القوائم والجداول والفهارس، بل المطلوب هو التأمّل لأنه أساس الإنتقاء الواعي للمادة.

يركّز إدوارد سعيد في دراسته على الامبراطوريات البريطانية والفرنسية والأمركية مشيراً إلى أن عدم ذكر باقي الامبراطوريات - النمساوية، الهنغارية، الروسيّة والعثمانية - لا يعني أنها موضع قبول عنده أو أنها أقل إمبريالية بل كان اختيار البريطانية والفرنسية والامركية لخصوصيات تربط بينها وهي التناسق والتماسك ومركزية الثقافة المتميزة فيها، كما أنها تشترك في فكرة حكم بلدان ما وراء البحار. ويظهر ذلك من خلال المختلقات الروائية، والجغرافية والفنية. كما يلاحظُ في التوسع الفعلي، والادارة الفعلية، والاستثمار... ما يدلّ على نظامٍ ثقافيٍّ إمبرياليٍّ دقيقٍ، كانت الإمبراطورية البريطانية و الفرنسية أهم نموذج له وتليهما الأمركية بشكل مختلف. وما ساعد المؤلف في فهم هذه الامبراطوريات بشكل واسع ودقيق، نشأته في هذه البلدان حتى صار واحد منهم بعيداً عن العالم العربي.

ص: 299

في إطار إحاطته بموضوعه الشائك لا يكتفى المؤلف بتوصيف السطوة الإمبريالية، بل يشير كذلك إلى التقدم الموازي لها لقوة ،المقاومة، كما لا يفوته تشخيص الدول المستعمَرة منتقداً ما وصلت إليه من مصائر حيث إنها لا تبعث على الفخر والاعتزاز. كما يرى بضرورة سرد الروايات الناقدة لتجارب العالم الثالث، بحيث إن إمبريالية ،الغرب، وقوميّة العالم الثالث تتغذيان أحدهما بالآخر، من دون أن يتّحدا حتى في أسوء الحالات. كما أن الثقافة ذاتها غير واحدية وليست ملكاً حصرياً لا للشرق ولا للغرب.

التطلع لبروز وجدانٍ فكريٍّ وسياسيٍّ جديد هو الشاغل الثاني الذي جعل سعيد يكتب هذا الكتاب، بالرّغم من الهجومات التي انقضّت على المسار القديم للدراسة ذات النزعة الانسانية، من ضغوطٍ مسيّسةٍ واتهاماتٍ مبالغٍ فيها باسم قيمٍ غربيةٍ أو «أنثويةٍ» أو تمركزيّةٍ افريقيةٍ، إسلامويةٍ.

يقوم هذا الكتاب بقراءة إنتاج الفكر الغربي عبر مائتي عام بشكل تحليليٍّ دقيق، ونفاذ بصيرةٍ، وبراعةٍ فكريّةٍ لا مثيل لها. فقد قام سعيد في قراءته المتميزة بسلخ كامو الذي سحر القارئ الغربي المولع بالشرط الإنساني، بل أكثر من هذا فقد جعل عمل كامو موضعاً للسخرية بعد أن كشف جوهره المدافع عن الإمبريالية الفرنسية، والملغي لتاريخ الجزائر قبل الاستعمار . لم يكتفِ بكامو فقط بل سلخ عمالقة الفكر الغربي من قبيل غيردي و جين اوستن، وجوزيف كونراد، وكيلنغ، وغيرهم.

لقد ارتكز سعيد على مجموعة من التصورات والأسس النظرية التي تتأصل في ثورة مستمرة في العلوم الانسانية، تترك أثرها على كل شيء، اِستبطنت الاستشراق حيث نبعت تحليلاته من معطياتٍ مثل القوة والسلطة، وسلطة الإنشاء، ورؤية الآخر وتنميطه، إلخ ... لكن مفاهيم طارئة تقفز لتحتل المكانة المركزية في التحليل، وفي تكوين المفهوم الذي يعاين منه الثقافة، والتاريخ، والمجتمع، والأدب، والرواية خاصة.

فلسفة السرد

لقد ركّز النقد الحديث على السرد الروائي غير أنه لم يتطرّق إلى موقعيّته في تاريخ

ص: 300

الامبراطورية. بيد أن السرد ذو أهميةٍ كبيرةٍ في منظومة سعيد، إذ يرى أن القصص يكمن في لباب ما يقوله المكتشفون والروائيون عن الأقاليم الغربية في العالم، كما أنه يمثل وسيلة تستخدمها الشعوب المستعمَرة لتأكيد هويتها الخاصة، ووجود تاريخها الخاص. وبالرغم من أن المعركة الأساسية للإمبريالية تدور حول الأرض لكن الكثير من الأمور حسمت في السرد الروائي، من قبيل من كان يملك الأرض، ويملك حق استيطانها، والعمل عليها، ومن يرسم مستقبلها ؟ فإن القوة على ممارسة السرد، أو على منع بعض السرديات الآخرى من البزوغ لكبيرة الأهمية بالنسبة للثقافة والإمبريالية وهي تشكل إحدى الروابط الرئيسية بينهما.

يذهب سعيد إلى أكثر من ذلك، فيرى أن السرديات الجليلة الكبرى للتحرر والتنوير جندت الشعوب المستعمَرة، وحفّزتها على الانتفاض، وخلع نير الامبريالية. كما أن هذه القصص وأبطالها أثّرت في العديد من الأوروبيين والأمركيين، فقاموا بدورهم بالصراع من أجل سرديات جديدة للمساواة المجتمعيّة الإنسانية.

لقد استعمل الكاتب عدة مفاهيم جديدة نسبياًّ، لتحليل الكتابة الإبداعية الغربية، وليصف أعمال كبار منتجيها في المرحلة التي شهدت عصر الاستعمار وما مهّد له. وأبرز هذه المفاهيم: المصادرة الأصلاني، الدنيوية، كما يعد مفهوم القراءة الطباقية أو التأويل الطباقي المفهوم المركزي في منهج سعيد التحليلي على مستوى ما يريد طرحه فكريّاً عن العلاقة بين المجتمعات والثقافات، كما أن مفهوم الهجنة يعد أبعد المنطلقات التصورية الجديدة خطورة وخلافيّة خاصة في العلاقة بينه وبين الهويّة المتصلّبة وسياسات الهوية واللاانتماء، والروح المرتحلة، وتجربة المنفى. فهنا تظهر مناوءة سعيد للهويات المتصلبة والانفصالية التي تصنف نفسها نقيضا للآخر وتقيم الحواجز بينها وبين العالم.

المقاومة

في عمق الإشكاليات الفكرية الروحية الفردية، والثقافية التي تتعلق بعلاقات الثقافات والتواريخ والمجتمعات التي طرحها هذا الكتاب تنبثق قراءة فذّة للمقاومة

ص: 301

تفجّرت في العالم المضطهَد والمستعمَر. فالكتاب ككل يمثل ساحة تنازع ومقاومة، معترك بين الإيمان بثقافة تُغزى وبين الاستسلام لثقافة غازية، بين الذات والآخر الإمبريالي، ومقاومة الغزو واستعمار اللغة والعقل.

يرى سعيد ثلاثة مواضيع عظيمة في المقاومة الثقافية المفكفِكة للاستعمار، أحدها الإصرار على الحق في رؤية تاريخ المجتمع، ويتمثل ذلك في جعل مفهوم اللغة القومية مفهومًا مركزيّاً. فالثقافة القومية تقوم بتنظيم الذاكرة الجماعية وتعزيزها والحفاظ عليها. لقد استشفّ المؤلف ذلك من سرديات العبيد المحليّة، والسِّيرَ الذاتية الروحيّة، ومذكِّرات السجون، وغيرها من السرديات. ويتمثّل الموضوع الثاني للمقاومة الثقافية في أن المقاومة بعيدة كل البعد عن أن تكون مجرد ردّة فعلٍ على الإمبريالية فهي نهج بديل في تصوّر التاريخ البشري، وإنه لمن المهم أن يقوم هذا النهج البديل على إعادة التصور في تحطيم الحواجز بين الثقافات. في حين أن الموضوع الثالث يركّز فيه سعيد على المنظومة الفكرية والثقافية داخل المقاومة القومية، من دون أن يقع إقصاءً للحركة النسائية، لكي لا تخلُف الممارسات الذكورية

الظالمة الاستعمار.

لئن كان الاستشراق منطلقاً عند سعيد من حيث النقد والتحليل، والاستفهام والتأسيس، فإن كتاب «الثقافة والإمبريالية» يعدّ نموذجاً استثنائيّاً تقاطعت فيه الأقاليم وتمّ فيه تشريح الامبراطوريات التقليدية وامتدادها الحديث، منطلِقاً من السرديات الروائية، ومعزَّزاً بمفاهيمَ خارجةٍ عن سطوة الإمبريالية الثقافية، مع إضاءة الظلمات التي انبعثت فيها المقاومة وتسليط الضوء على مرتكزات السيطرة في المستقبل ليكشف لنا عن خريطة طريقٍ تقود نحو التحرر التام.

الكاتب: إدوارد سعيد

الكتاب: الثقافة والإمبريالية

المترجم: كمال أبو ديب

الإصدار : دار الأداب للنشر والتوزيع، بيروت 2014

ص: 302

تهافت ما بعد الاستعمارية

نحو مبادئ أخلاقية للتعامل مع المرأة والبيئة

بهاء درويش(1)

سنحاول في هذا البحث - بمقاربة مستقلة - الوصول لمجموعة من المبادئ الأخلاقية نزعم أنّها ما يجب أن يحكم التعامل مع المرأة والبيئة، وذلك في مواجهة المنظور الغربي للنزعة النسوية البيئية (ecofeminism). لن نحاول في هذه المقاربة الاستناد إلى أي مبررات دينية أو تاريخية ، ولكن ستكون مبرراتنا مبررات عقلية صرفة. هذه المقاربة تتطلب منا أولاً تأريخاً سريعاً لظهور النزعة البيئيّة ومبررات ظهورها - والتي نتجت عن الاهتمام بالبيئة والقلق عليها وهو الاتجاه الذي ظهر حديثاً الغرب، ثم مبررات ربط النزعة النسويّة البيئيّة المرأة بالبيئة ومراحل تطور هذه النزعة ثم ننتقل إلى المبادئ التي نراها يجب أن تحكم التعامل مع المرأة والبيئة. هذه المبادئ من شأنها أن تحدّد الصّلة بين النساء والبيئة وتبرر أو تدحض دعوى الغرب بأن القهر شمل كلاًّ من النساء والبيئة، وهي الفكرة الأساسيّة التي تبني عليها النزعة

النسويّة البيئيّة إتجاهها.

ص: 303


1- أستاذ الفلسفة - جامعة المنيا - جمهورية مصر العربية.

صلة النزعة النسوية البيئيّة بما بعد الاستعمارية:

تعد هذه النزعة «النزعة النسويّة البيئيّة» ذات صلة بالفكر ما بعد الاستعماري ذلك لأنه أصبح من الواضح أن هناك صلة بين تعامل الاستعماريين بين تعامل الاستعماريين مع الحياة النباتيّة والحيوانيّة للبلاد المستعمرة وتعاملهم مع المناطق المستعمَرة. فاستعمار المكان هو ما مهد السبيل لاستعمار الشعوب بل ويمكن القول أن التدمير الذي حاق بالبيئتين الفيزيقيّة والبشريّة مازال حتى الآن(1).

النزعة البيئيّة ونشأتها

لا شكّ أنّ النزعة البيئية قد نشأت بعد أن بدأ المفكرون والعلماء يلاحظون تأثّر البيئة بأشكال التلوث المختلفة. يمكن العودة بالاهتمام بالبيئة إلى عصر التصنيع وبداية إدراك الضرر الذي أحدثه وسيحدثه التلوث الناتج عن التصنيع . انتقل الاهتمام بالبيئة نقلةً هامةً في القرن العشرين مع صدور كتاب ريتشل كارسون Rachel Carson) الربيع الصامت 1962 the Silent Spring ، إذ لاحظت عالمة البحار الأميركية أن الطيور التي كانت تملأ فضاء مدينة ما في الولايات المتحدة رحلت ولم تعد تغنّي في الربيع كما كانت وأن الاستخدام المفرط للمبيدات الحشرية - ومعظمها كان ساماً مثل الدي دي تي DDT - أدى إلى تدميرٍ في نسق الطبيعة بأسره وليس فقط إلى هروب الطيور(2). ولقد ترك نشر صورة الأرض من الفضاء كبلّورة زرقاء كبيرة أثراً رائعاً في القلوب 1969 هذا الانطباع والصورة التي جاءت عن الأرض تُرجمت إلى إجراءٍ عملي في العقد التالي مباشرة عندما عُقد مؤتمر البيئة الأول للأمم المتحدة في ستوكهولم 1972. نتيجة لهذا المؤتمر أسست الجمعية العامة برنامج الأمم المتحدة للبيئة في ديسمبر من العام نفسه في 1983 دعا السكرتير العام للأمم المتحدة دكتور جرو هارلم بروندلاند Brundtland رئيس وزراء النرويج السابق - وكان طبيباً الوقت نفسه - إلى تأسيس ورئاسة لجنة دولية في التنمية والبيئة. في أبريل من هذا

ص: 304


1- Ashcroft, B. (2007). Post-Colonial Studies. 2nd edition. USA and Canada Routledge.
2- Carson, R. the Silent Spring. In https://archive.org/stream/fp_Silent_Spring-Rachel_ Carson-1962/Silent_Spring-Rachel_Carson-1962_djvu.txt.

العام نشرت لجنة بروندلاند - إذ هكذا أصبح اسمها - تقريراً أسمته «مستقبلنا المشترك Our Common Future» وهو التقرير الذي جعل مصطلح (التنمية المستدامة) من وقتها مصطلحاً متداولاً وشائعاً. أدت توصيات هذا التقرير إلى عقد مؤتمر «قمة الأرض 1992 Earth Summit) وهي القمة التي تبنّت «أجندة 21» وهو برنامج يهدف لحماية الأرض وتنميتها المستدامة. يعتمد هذا التصور «حماية الأرض» على تصور كل منّا لعلاقته بالبيئة. هل علاقتنا بالأرض علاقة مركزيّة الإنسان للكون وبأي معنى (anthropocentric)؟ أم تتساوى الكائنات في التنوع الحيوي للكون في قيمتها؟

النسويّة الإيكولوجيّة

إتخذ الاهتمام بالبيئة أشكالاً مختلفة منها تعاطف نسوي زعم أن ما أصاب البيئة من ظلم واستنزاف قد أصاب النساء أيضاً وهو الاتجاه الذي عرف بالنسوية الإيكولوجية (ecofeminism) . بدأت النسوية الإيكولوجية تحظى بقدرٍ من الانتباه في العالم الغربي في السبعينيات من القرن السابق فمنذ أن قدمت فرنسوا دوبون مصطلح النسويّة الإيكولوجية 1974 كي تلفت الانتباه إلى إمكان أن تُحدث النساء ثورة إيكولوجيّة، استُخدم المصطلح ليعني أن ثمة ارتباطات مهمة – تاريخيّة ورمزيّة ونظريّة بين الهيمنة على النساء والهيمنة على الطبيعة(1).

قبل أن تظهر النسويّة الإيكولوجية كفلسفةٍ مستقلة، يمكن القول أن هناك ثلاثة اتجاهات مهّدت لاكتمالها. هذه الاتجاهات هي: أخلاقيات الحيوانات، أخلاق الأرض، ثم الاتجاه الذي عُرف ب»الإيكولوجيا العميقة».

تنطلق أخلاقيات الحيوان من الإفتراض بأن الحيوان كائن يشترك مع الإنسان أنه كائن أخلاقي، له حقوق . رأى بيتر سنجر (P. Singer) في كتابه «تحرير الحيوان: أخلاقيات التعامل مع الحيوان» أن صيد الحيوان والتجريب على الحيوان وتربية الحيوانات في أماكن مغلقة من أجل تسمينها ممارسات لا داعي

ص: 305


1- مايكل زيمرمان (تحرير) ، الفلسفة البيئية الجزء الثاني، ترجمة معين شفيق ،روميه عالم المعرفة، العدد (333) الكويت المجلس الوطني للفنون والثقافة ، الكويت ص 122.

لها لأنها تسبب ألماً للحيوان الذي يشترك مع الإنسان في خاصية الإحساس

والشعور بالألم.

توسع أخلاق الأرض من العلاقة بين الإنسان وبقية الكائنات وفقاً لها ليس

الحيوان فقط من له حقوق أخلاقية ، إنّما سائر الأرض أيضاً بما عليها من بحار وأراضي ونباتات. ليس الإنسان في هذا المجتمع سوى أحد هذه الكيانات. فلم يعد الإنسان مالكاً أو غازياً لهذه الأرض وإنما هو فقط أحد أعضائها وهو ما يعني ضرورة احترامه لها وللمجتمع ككل(1). كدليل على هذا يقدم مثال سلسلة الطعام (food chain) التي وفقاً لها ليس الإنسان سوى عنصر في الميدان البيولوجي: فالنبات يستوعب الطاقة من الشمس، وهي الطاقة التي تسري في الميدان البيولوجي. تشكل التربة الطبقة السفلى والتي تأتي فوقها طبقة ،النبات، فالحشرات تمثل طبقة فوق النبات، فالطيور فالحيوانات وهكذا، طبقة فوق أخرى أضاف التطور الحيوي (evolution) طبقات فوق طبقات عمًا كانت عليه الحياة من قبل وأدى إلى تنوع وتعقد الميدان الحيوي (biota)(2).

تعكس أخلاق الأرض الوعي الإيكولوجي والذي بدوره يعكس القناعة بالمسؤولية الفرديّة عن صحة الأرض. إن خطأ الكثيرين يكمن في نظرتهم للأرض والحياة البريّة كسلعٍ لها ثمن بينما يجب أن ننظر لها على أنّها حياة بيولوجية ليس الإنسان فيها سوى أحد أعضائها. لا ننظر لها على أنّها العبد والخادم للإنسان ولكن على أنّها الحياة العضوية ككل. هذه الأرض لا يمكن أن تنشأ علاقتنا الأخلاقية بها سوى كعلاقة حب واحترام وإعجاب وتقدير لقيمتها في ذاتها، لا أن ننظر لها فقط من حيث قيمتها الاقتصادية(3).

الفيلسوف النرويجي أرنى نایس (Arne Naess) هو من نحت مصطلح «الإيكولوجيا العميقة (deep ecology ليضعه في مقابل مصطلح الإيكولوجيا

ص: 306


1- Leopold, A. 1949. The Land Ethic. An Excerpt from A Sand County Almanac. P.8 In http://www. . تم الدخول بتاريخ 30 - 12 - 2017 cooperative-individualism.org/leopold-aldo_land-ethic-1949.pdf
2- Ibid., p.8.
3- Ibid., p. 13.

الضحلة shallow ecology) وذلك في مقالته الشهيرة «الحركة الإيكولوجية الضحلة والعميقة طويلة المدى ملخص .The Shallow and the Deep, Long-Range Ecology Movement: A Summary التي صدرت عام 1973 يعني نايس بحركة الإيكولوجيا الضحلة تلك الحركة التي تقصر هدفها فقط على حل مشكلات مثل مشكلة التلوث البيئي ومشكلة تآكل المصادر الطبيعية، بينما تعني حركة الإيكولوجيا العميقة رفض صورة الإنسان في البيئة ككائن يمثل مركز الكون لصالح صورة الإنسان ككائن عضوي حيث سائر الكائنات العضوية هي عقد لشبكة واحدة حيوية تقوم بينها جميعاً علاقات جوهرية(1). يعي الإنسان من داخل هذه الشبكة أن حق جميع الكائنات في الحياة والتطور هو مبدأ قيمي واضح وضوحا حدسياً. إنّ إعطاء هذا الحق للإنسان فقط أمر ضار بالإنسان نفسه. إنّ تجاهل اعتمادنا المتبادل على سائر الكائنات العضوية الأخرى وتأسيس علاقة السيد - العبد بيننا وبين الطبيعة هو ما أدى إلى إغتراب الإنسان عن نفسه. إن التنوّع الحيوي يقوّي من إمكانيات البقاء، كما أن مقولات مثل الصراع من أجل البقاء والبقاء للأصلح يجب تفسيرها في ضوء إمكانية التعايش المشترك والتعاون وليس في ضوء إمكانية القتل والاستغلال والقهر.«عش ودع غيرك يعيش» مبدأ إيكولوجي أقوى من مبدأ «إما أنت أو أنا». الإتجاه الإيكولوجي يفضل سيادة مبادىء المساواة الإيكولوجية (ecological egalitarianism) والتعايش العضوي (symbiosis) وضد الطبقيّة (anti class posture) على أي شكل من أشكال الصراع بما في ذلك الصراعات القائمة الآن بين الدول النامية والدول المتقدمة(2). يميز نايس أيضاً بين أنصار الإيكولوجيا الضحلة والعميقة. يرى نايس أن أنصار الإيكولوجيا الضحلة هم أولئك الذين يهتمّون فقط بمشكلات مثل التلوث ونقص الموارد، أما دعاة الإيكولوجيا العميقة فهم أولئك الذين عليهم رفض أي وظيفة تخضعهم لمؤسسات معينة تقيدهم بمثل هذه المشكلات المحدودة. الإيكولوجي العميق هو ذلك الذي يقبل سائر ما قلناه سالفاً. يرى نايس أن حركة الإيكولوجيا العميقة هذه حركة لم يصل إليها لا بالاستنباط المنطقي أو الاستقراء من الإيكولوجيا ولكن

ص: 307


1- Naess, Arne(1973) (The Shallow and the Deep,Long-Range Ecology Movement. A summary), in Inquiry, 16: 1, p. 95. In DOI: 10.1080/00201747308601682
2- Ibid., p. 96, 97.

المعرفة الإيكولوجية وأسلوب حياة الإيكولوجي هي ما ألهمته وجعلته يقترح منظورات الإيكولوجيا هذه العميقة(1).

إذا ما حاولنا الآن عرض خصائص الفلسفة النسويّة البيئيّة كفلسفة مستقلّة وهو ما حدث من أواخر ثمانينات حتى منتصف تسعينات القرن الماضي - أي بعيداً عن ارتباطها بأخلاقيات الحيوان أو أخلاق الأرض أو الإيكولوجيا العميقة - فإنّه يمكننا أن نجد أنها تتصف بخمسة ملامح رئيسية:

التفكير الهرمي القيمي لكائنات أعلى وأخرى أقل هذا التفكير الديني كان يضع الرجل في مكانة أعلى، بينما يضع النساء والطبيعة في مكانة أسفل. هذا التفكير الذي ينسب قيمة عليا للرجال في منظومة فيها ما هو أعلى وما هو أدنى يبرر لنفسه عدم المساواة بين ما هو أعلى وما هو أدنى. بينما الحقيقة أن ما هو موجود هو تعدديّة كيانات وليس كيانات أعلى وأدنى (2).

الثنائية الاستبعادية : ينسب هذا التفكير قيمة أعلى لأحد طرفي علاقة الفصل هذه. هذه الثنائية التي أنتجتها الفلسفة الغربيّة بين النساء والرجال، وبين الثقافة والطبيعة نسبت قيمة أعلى للرجال والثقافة على النساء والطبيعة، بينما الحقيقة أن العلاقة علاقة تكامل وليس علاقة فصل.

السلطة والتميز : ينسب هذا التفكير قيمة أعلى لمن يمتلك السلطة والتميز - وهم بالضرورة الرجال والثقافة - أي من هم أعلى. ففي مجتمع ما، نجد أن الأكثر ثراء هم من يتحكمون في المجتمع ويحركون الموارد وفقاً لغايات تخدم مصالحهم، وقد يحدث أن ينسوا ضرورة مساواتهم بالفقراء، فينظرون للفقراء على أن فقرهم هو خطؤهم وبالتالي يبرّرون عدم إعطائهم الفرص ذاتها التي يعطونها لأنفسهم(3).

ص: 308


1- P. 98.
2- Warren, Karen J., "Feminist Environmental Philosophy", The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Summer 2015 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL =
3- ibid.

منطق الهيمنة : التميز يبرّر الإخضاع.

يقدم منطق الهيمنة تبريراً لأن يظل الأعلى محافظاً على وجود الأدنى في المرتبة الأدنى. مجمل هذا التبرير أن للأعلى صفات لا يتصف بها الأدنى كالعقلانيّة وهو ما يبرر أن يظل الأدنى في مكانه السفلي(1).

مبادىء التعامل مع النساء والبيئة

في مقابل هذه الدعوة الغربيّة سنحاول أن نخطط للمبادىء التي نزعم أنّها ما يجب أن تحكم التعامل مع النساء والبيئة. لن نحاول أن نبحث في التاريخ عن ما يؤيد زعم النزعة النسويّة البيئية بأن القهر قد شمل كلا من النساء والبيئة، لن يكون هذا هو مجال اهتمامنا ولكن في مواجهة هذا التصور، سنحاول أن نضع مبادىء نرى أنّها ما يجب أن يحكم علاقة الرجل بكل من المرأة والبيئة. هذا التنظير من شأنه أن يبيّن ما إذا كان الحكم الذي أطلقه دعاة النسويّة البيئيّة عن هيمنة الرجال على كل من النساء والبيئة حكماً صحيحاً أم جائراً وإن لم تكن هذه النتيجة هي الهدف الرئيسي للبحث.

في دعوانا بأن هذه هي المبادىء التي توجّه التعامل مع المرأة والبيئة، فإننا نعني أنها مبادىء تحكم بشكل كلي أساليب التعامل وتُشتقّ سائر المبادىء منها.

مقولة الاختلاف مقولة تحكّم الكون

لا يوجد في الكون هويّة بين الكائنات وبالتالي لا يوجد ما يسمّى بالمساواة، مقولة الاختلاف مقولة تحكم الكون. الاختلاف بين الكائنات (إنسان - حيوان - نبات جماد) اختلاف في الطبيعة والاختلاف بين الجنسين البشري والحيواني (الذكر والأنثى) اختلاف فسيولوجي أي في الطبيعة أيضاً هذا الاختلاف يبدو بداية في الجنس البشري في الشكل والمظهر كما يبدو في اختلافات فسيولوجية داخلية أخرى. في الرجل على سبيل المثال هرمون التستوستيرون (testosterone) مسؤول عن القوة

ص: 309


1- ibid.

الجسدية والنشاط العضلي. بينما في المرأة هرمون الاستروجين (estrogen) مسؤول عن ميلها لرعاية الغير (الأطفال أو (المرضى).

هذا الاختلاف لا يبرّر ،استعباد هيمنة أو سوء استغلال أحد الكائنات للآخر. هذا الاختلاف من شأنه بيان المبادىء التي يجب أن تحكم العلاقة بين الرجل والمرأة من ناحية وبين الرجل والبيئة من ناحية أخرى . بمعنى أن نجعل هذه الواقعة - واقعة الاختلاف - هي ما يبرر قولنا بأن هذه المبادىء هي ما يجب أن يحكم العلاقات المختلفة. سأضع هذه المبادىء في صورة مستويات، بحيث يبرر المبدأ الأعلى المبدأ الأدنى، أو يعتمد المبدأ الأدنى على المبدأ في المستوى الأعلى.

علاقة الرجل بالمرأة

إنّ النظرة إلى المرأة - سواء أخذناها من منظور ديني أو مدني ستصل بنا إلى

النتيجة نفسها التي يمكن تلخيصها في العبارة التالية :

للمرأة الحق في أن تحصل على حقوقها ولها الحق في أن تُعامل باحترام يصون كرامتها ويمنع عنها الضرر ويحقق لها العدل.

إذا ما أردنا تبريراً لهذه النظرة للمرأة من زاوية دينيّة، تجد أن رعاية الأم واحترامها هو ما يوصل المرء للجنّة، أما الابن العاق فتتحول حياته إلى جحيم ويناله غضب من الله. لقد أجاب الرسول عليه الصلاة والسلام أحد الصحابة ثلاثاً أن الأم هي أحق الناس بالصحبة.

إذا نظرت للأم من زاوية مدنيّة، تجد أن حصول المرأة بصفة عامة على حقوقها يجعل منها كياناً متعلماً ذا صحة وهو ما يعني أن بإمكانها أن تساهم في عجلة التنمية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الذي تنتمي إليه بالإضافة إلى أنها ستنجب نسلاً يتمتع بالصحة تتم تربيته وتعليمه بشكل صحيح يجعله يساهم بدوره في تنمية مجتمعه.

كذلك الأخت إذا نظرت إلى كيفيّة معاملتك لها تجد أن سلبها حقوقها الطبيعيّة مثل

ص: 310

حقها في اختيار الزوج أو أحد حقوقها المدنية مثل الحصول على نصيبها في الميراث فيه ظلم صريح لها والظلم كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام «ظلمات يوم القيامة».

أما إذا نظرت للأمر من زاوية مدنيّة تجد أن عدم إعطائها حقوقها، فيه تمييز واضح وصريح يتنافى مع مبادىء العدالة والمساواة المقبولة دولياً.

كذلك المرأة هي الإبنة وبالتالي فإن تفضيل أخيها الذكرعليها بأي شكل من أشكال التفضيل فيه ظلم والظلم كما قلنا منهي عنه في الإسلام بكل أشكاله.

أما إذا تناولنا الأمر من زاوية مدنية نجد أن التمييز بين الإبن والإبنة - كما يحدث حتى الآن في بعض المجتمعات العربية - أي تفضيل الإبن على الإبنة سيحول الفتيات إلى كيانات غير صحيحة نفسيا وبدنياً، غير متعلمات وهو ما يؤثر بالضرورة اقتصادياً على المجتمع من حيث عدم قدرتهن على رعاية أنفسهن صحياً أو رعاية أبنائهن لجهلهن بأساليب الرعاية وهو ما يؤثر بالضرورة على المجتمع بأسره. وعلى افتراض أن النساء هنّ من يرعين منازلهن فقد أثبتت الدراسات أن النساء أكثر وعياً بحاجات مجتمعاتهن الحالية والمستقبلية(1). كذلك أثبتت الدراسات أن المشاريع التي تشارك فيها النساء تتحقق لها الاستدامة بشكل أفضل وتحقق أرباحاً أكثر(2). لقد أثبتت الخبرة أنه عندما تم اشراك الوزارات المختصة بشؤون النساء مع وزارات الموارد المائية والبيئة ووزارات الصحة ، تم النظر إلى المشكلات المتعلقة بالحاجات الفعلية للمجتمع من عدة زوايا كان الرجال يغفلون عنها(3).

مما سبق يمكننا أن نزعم أن العلاقة التي يجب أن تحكم الصّلة بين الرجل

والمرأة ه- هي علاقات الاحترام - عدم الإضرار - العدالة. تمثل هذه العلاقات المبادىء الحاكمة لهذه العلاقات ولكن كيف يمكن تحديد هذه العلاقات؟ أو من ذا الذي لديه الحق في تحديد العلاقات؟ هل هو الرجل الذي يحدد طبيعة

ص: 311


1- UNESCO 2004 Best Ethical Practice in Water Use. Paris: UNESCO. P.14
2- UNESCO 2000 the Ethics of Freshwater Use: A Survey, Reykjavik, UNESCO. P.32
3- UNESCO 2004 Best Ethical Practice in Water Use. Paris: UNESCO. P.14.

العلاقات بينه وبين المرأة أم النساء هنّ من يحدّدن طبيعة العلاقة بينهن وبين

الرجل؟

الرد على هذا هو أن هذه العلاقات يحددها التفكير العقلاني السوي. فالتحديد لا يأتي من الرجل وكأنه يمنح أو يتفضل على المرأة. إن من يُعطى حق المنح، يُعطى في الوقت نفسه حق المنع من هنا كان التفكير العقلاني هو ما يحدد هذه العلاقة.

على العلاقة بين الرجل والمرأة أن يسودها الاحترام هذا الاحترام هو ما يبرر ضرورة عدم الاضرار بالمرأة. يجب أيضاً أن تكون سلوكيات الرجل تجاه المرأة سلوكيات عادلة. عدم الاضرار هو ما يبرر ضرورة العدل معها. فأي شكل من أشكال اللامساواة يمثل ضرراً.

من هنا كانت العلاقة على النحو التالي:

يجب أن أكون عادلا لأنه لا يصح أن أضرّ بالمرأة، ويجب أن لا أضرّ بها لأنه

من الضروري أن أحترمها.

احترام كرامة المرأة

لتبرير ضرورة احترام المرأة نجد أن كرامة الإنسان – رجل كان أو امرأة قد تم تبريرها منذ عهد أرسطو والرواقيين بأن للإنسان كرامة لأن لديه القدرة على التفكير الحر والوعي بالذات وحرية اتخاذ القرار. كذلك حثت سائر الشرائع السماوية على احترام كرامة الإنسان فالكرامة الإنسانية (krod habriot) تصور أساسي في الديانة اليهودية، والمسيحية ترى أن للإنسان كرامة لأن الله خلقه على صورته. أما الإسلام فيرى أن للإنسان كرامة لأن الله جعله خليفة الله في الأرض ولكن حتى لا نُتّهم بالاحتكام إلى الدين وإلغاء العقل وحتى لا نُتّهم بارتكاب مغالطة الاحتكام إلى الأغلبيّة نرى أن للإنسان كرامة يجب احترامها ليس جرياً على ما قال به السابقون ولكن لأنه كائن مفكّر عاقل - وهذا قريب مما قاله أرسطو والرواقية. هاتان الصفتان الفطريتان تبرران احترامه لأن عدم احترامه إنقاص من طبيعته : إنقاص من ملكات طبيعيّة يتّصف بها. الانتقاص

ص: 312

منه يعني أننا نتعامل مع هويّة مختلفة عن البشر من حيث إنّ العقلانية والتفكير جزء من هويته. من هنا كان احترام الإنسان في صورة احترام المرأة جزء من إقرارنا بهويّتها وكان عدم احترامها تناقضاً ذاتياً، إذ يعني إنكارها نتيجة إنكار جزء من هويتها. من هنا كان احترامها التزاماً ذاتياً يحمي من الوقوع في التناقض.

إن احترام كرامة المرأة يعني احترام آدميتها وخصوصيّتها واستقلاليّتها، بمعنى حقّها في اتخاذ قراراتها المستقلة للمدى الذي لا تؤثّر به هذه القرارات على غيرها.

عدم الإضرار

رغم أن تعريف الضرر هو من أصعب الأمور لأن الضرر نسبي، فما يراه شخص ما ضرراً قد لا يكون كذلك بالنسبة لشخص آخر، إلا أنه من الممكن القول أن عدم الاضرار يعني عدم الاتيان بأي فعل من شأنه أن يمثل إعتداء على آدمية أو حقوق أمر ما . والضرر قد يكون ضرراً نفسياً أو فيزيقياً وقد يكون ضرراً مقصوداً أو غير مقصود. وبالتالي فإن عدم الإضرار بالمرأة يعني عدم الاتيان بفعل تجاهها من شأنه أن يمثل اعتداء على آدميتها أو حقوقها المستقلة، يسبب لها أذى نفسياً أو فيزيقياً. لسنا فی حاجة إلى القول أن سائر الأديان والأعراف والوثائق المدنية ترفض الإضرار بالمرأة وتؤكد على ضرورة احترامها . فالعقل السوي يمكنه أن يصل إلى تبرير رفض الإضرار بالمرأة ما يبرر عدم الإضرار بها هو ضرورة احترام آدميتها وخصوصيتها واستقلالية قراراتها، إذ لا شك أن أي اعتداء عليها هو إضرار بها.

العدالة

العدل هو ما يحمي من الضرر. فأي ظلم هو شكل من أشكال الأذى أو الضرر. يختلف مفهوم العدل عن مفهوم المساواة. ليس من الضرورة لكي أعدل بين مجموعة من الأشخاص أن أساوي بينهم . قد يكون في المساواة بينهم أحياناً ظلم لأحدهم. العدل يقتضي الإنصاف لا المساواة. انصاف المرأة بمعنى منحها – بقوة القانون - فرص مساوية للرجل في الحقوق والواجبات المدنية مراعاة اختلافها الفسيولوجي

ص: 313

بمنحها حق الدفاع عن الوطن بوسائل تتناسب وطبيعتها الفسيولوجية مثلا. كذلك يتطلب مراعاة اختلافها الفسيولوجي - واحتمالية انجابها وضرورة رعايتها للطفل منحها إمكانية العمل الجزئي . المنح لا يتضمّن أفضليّة من يعطي ولكن بمعنى تقنين ما لها وما للرجل.

تحقيق العدالة يعني تحقيق كل كائن لإمكانياته والاستفادة منه الاستفادة المناسبة فالمرأة تستفيد من الرجل استفادة الرجل من المرأة وكلاهما يستفيد من الطبيعة.

علاقة الرجل (الإنسان) بالبيئة

يتطلب تحديد هذه العلاقة تحديد النظرة لمكانة الإنسان في الكون. هل الإنسان هو مركز الكون أم مجرد كائن عضوي ضمن مجموعة من الكيانات يجمعها كل حيوي؟

نرى أن الإنسان مركز الكون لاتصافه بالعقلانيّة والحريّة. العقلانيّة وحرية اتخاذ القرار الناتجة عنها تعني أنه المتصرف وأنه صاحب الكلمة. فإذا ارتأى الإنسان أن بقعة أرضية ما هي مكان ملائم لبناء مطار وهذه البقعة هي مكان تجمع طيور معينة، هل على الإنسان استئذان أو أخذ رأي الطيور ؟ إن عقلانية الإنسان ليست ميزة بقدر ما هي مسؤولية ترتّب عليه التزامات أخلاقية تجاه أبناء جنسه وتجاه الكائنات الأخرى. بهذا المعنى فقط يمكن القول بمركزية الإنسان للكون إلا أن هذه المركزية لا تبرر على الإطلاق استنزاف الموارد الطبيعية أو استغلال الغير من بني البشر أو الكائنات الأخرى. هذه العقلانية أيضاً لا يمكن أن تجعل من الإنسان مجرّد كيان يتساوى بالكائنات الأخرى العضوية وغير العضوية.

بالطريقة نفسها ، يمكننا تحديد علاقتنا بالبيئة على النحو التالي:

يجب أن لا أضر بالبيئة لأنه من الضروري أن أحترمها.

احترام الطبيعة

تنقسم الكائنات غير البشرية إلى كائنات حاسة مثل الحيوانات والنبات، وكائنات تفتقد للشعور والاحساس احترام الطبيعة يعني عدم إيذاء أي من الكائنات غير

ص: 314

البشرية الحيوانات النباتات الصخور الوديان البحار .... إلخ. لا شك أن إيذاء الحيوان بتعريضه دون مبرر لآلام أمر مرفوض بشكل عام ، أي ليس في حاجة لتبرير نذكره هنا. فلقد تم تقنين سبل استخدام الحيوانات في التجارب العلمية بحيث يتم تعريضهم لأقل قدر ممكن من الآلام وذلك من خلال قوانين ومدونات سلوك استخدام الحيوانات في التجارب.

بأي معنى يجب علينا احترام النبات؟

من الثابت علمياً أن للنبات قدرات حسية وإدراكية تستجيب وفقاً لها للبيئة. هذه القدرات أدت إلى النتيجة القائلة أن النبات يُظهر شكلا - ولو بسيطاً - من أشكال الذكاء، إذ إن السلوك الذي ينم عن ذكاء ليس في حاجة لوجود ذهن أو مخ يتم من خلاله ممارسة السلوك الذكي للتدليل على هذا ذهب تريوافاس (Trewavas) إلى أن مملكة النحل تجمع باستمرار معلومات وتجددها عن البيئة المحيطة بها وتجمعها بالمعلومات الداخلية عن حالتها الداخلية وتتخذ قرارات بناء على هذه المعلومات تلائم بين حالتها والبيئة هذه السلوكيات الدالة على ذكاء - من إدراك للبيئة المحيطة وجمع المعلومات واستدلال - ليست في حاجة لعقل تمارس من خلاله(1). يمارس النبات أيضاً مثل هذه السلوكيات التي تدل على أنه كائن عضوي يتصف بالذكاء.

في تاريخ الفلسفة هناك أربعة تفسيرات لمعنى احترام النبات: تفسير قانوني، وآخر ميتافيزيقي وثالث ابستمولوجي وأخيراً تفسير أنطولوجي (2013) .Marder). يقترب الباحث في تفسيره مع تفسير (Marder) ماردر الأنطولوجي. إن ضرورة احترام النبات تكمن في السؤال الأنطولوجي عن وجود هذه الكائنات. إن معنى احترام الحياة النباتية هو الشكل الأنطولوجي للسؤال الذي يمشكل ظاهرة الاحترام(2).

ص: 315


1- Trewavas, A. 2005. Green plants as Intelligent Organisms. In TRENDS in Plant Science Vol.10 No.9, p. 413 .
2- Marder, M. 2013. On the Verge of Respect: Ontological and Epistemological Investigations into Plant Ethics. In Epoche, Vol. 18, issue 1, p. 247.

أنطولوجيا الاحترام

يفترض الاحترام وجود مسافة بين المحترم والمحترَم - مثلما تفترض الرؤية مسافة بين المرئي والرائي - بل وينسحب هذا حتى على احترام الذات، ففي احترام الذات هناك مسافة بین الذات التي تحترم وموضوع الاحترام يفصل الإنسان نفسه عن الذات موضوع الاحترام(1).

سنحاول هنا بيان معنى استقلالية النبات عن الإنسان من حيث كونه شرطاً لتبرير علاقة الاحترام.

النبات كائن يتفق مع الإنسان في أنه كائن حي يتغذى وينمو ويتكاثر، إلا أن له اختلافه عن الإنسان: في طريقة التغذي في علاقة كل منهما بالبيئة، في طريقة تكيّف كل منهما مع البيئة، وفي إمكانية الحركة .. إلخ(2). كذلك تختلف الملامح الظاهرة والتجريبية للنبات عن الإنسان.

ليس النبات هو الكائن الأدنى في ترتيب الموجودات الحية (إنسان - حيوان - نبات) - كما ترتّبه ميتافيزيقا الوجود في الفلسفة الغربيّة وبعض التفسيرات الدينية .. ففي مقارنته بالحيوان تضع هذه التفسيرات النبات أدنى من الحيوان من حيث إنه لا يصدر استجابة بينما الحيوان يستجيب إذا هاجمت النبات فإنه غير قادر على الدفاع عن نفسه، بينما أغلب الحيوانات تدافع عن نفسها النبات ثابت في الأرض لا يتحرك أو يختلف نمط حركته عن الحيوان.

كذلك ليست العلاقة بين النبات والإنسان محض علاقة نفعيّة يستفيد كل منهما فيها من الآخر. نعم كل منهما يستفيد من الآخر، النبات مديون لنا بأننا نمنحه الماء والتربة والأسمدة المطلوبة لنموّه، وفي المقابل نأكله ولكن هذه هي فقط أحد أوجه العلاقة بينهما دون أن تكون العلاقة الوحيدة وبالتالي فإن العلاقة بين النبات والإنسان لا يمكن اختزالها في أنها علاقة نفعيّة. هذه العلاقة تقضي على صورة الاحترام(3).

ص: 316


1- Ibid., p.249
2- Ibid., p.250
3- Ibid., p. 255.

الاحترام يفترض هذه الثنائية التي يفترضها الحب ، ولكن في الحب يذوب المحب المحبوب، ولا يراه رؤية موضوعية، أما في الاحترام، هناك محافظة على المسافة بين المتحرم وموضوع الاحترام وتكون النظرة أكثر موضوعية.

إن احترام النبات بل والحياة النباتية كلها يعني الاعتراف بأنه يحيا عالماً مستقلاً له قوانينه الخاصة، يوجد في بيئة خاصة به، يتمتع بقدر من الذكاء. ومتى أدركنا هذا الاستقلال الذي له، ولم نعد ننظر إليه على أنه عالم جعل فقط لخدمة الإنسان كان في ذلك تبرير للقول بعدم المساس به، أي استغلاله استغلالاً غير مبررٍ، أو تدميره.

هذا الاحترام ينسحب أيضاً على احترام التربة أو الأرض التي ينشأ فيها النبات. فإذا كان تجذّر النبات ونموّه في مكانٍ ما قد أُخذ على أنّه دليل تدني في المرتبة عن الحيوان القادر على الحركة والجري، فإن احترام الأرض التي نشأ فيها النبات من حيث إنه منشأ النبات ضروري أيضاً(1).

هذا الاحترام ينسحب أيضاً على احترام الطبيعة غير العضوية، ذلك أن الحياة النباتية تعتمد أيضاً على الوجود غير العضوي وهو ما يعني وجوب احترام الطبيعة ككل.

عدم الإضرار

يعني عدم الاضرار بالطبيعة عدم الاستغلال المفرط وغير الراشد لمكوناتها وذلك لعدة أسباب: السبب الأول يتعلق بمبدأ العدالة بين الأجيال، إذ من حق الأجيال المستقبلة أن ترث الأرض كما ورثها الجيل الحالي، بالتنوع ذاته للموارد الطبيعية وبالنقاء الذي ورثنا عليه الجو. ليس من العدل أن ترث الأجيال القادمة الأرض أقل تنوعاً في مكوناتها الطبيعية وأكثر تلوثاً. السبب الثاني أن الإفراط في الاستغلال غير شأنه أن يؤدي إلى انقراض بعض الكائنات ويؤثر على التنوع الحيوي الضروري من وهو ما لا يمكن توقع الضرر منه.

وهنا يبرز سؤال: ما هو الاستغلال الذي يمكن وصفه بأنه استغلال ضروري أو غير

ص: 317


1- Ibid., p.260.

ضروري راشد أو غير راشد؟ هنا نرى ضرورة حساب المكسب والخسارة، بمعنى أنه متى كانت المنفعة من الاستخدام ستجني نفعاً يساوي أو يزيد على الاستخدام، كان هذا استخداماً راشداً. فغني مثلا عن البيان أن استخدام كمية من الماء في ري قطعة من الأرض كان من الممكن ريها بكمية مياه أقل يُعدّ استخداماً غير راشد، واصطياد كائن بحري بكميّة ضخمة يمكن أن تؤدّي إلى انقراض هذا النوع وعدم المعرفة العلمية الكافية بنائج هذا الانقراض وتأثيره على غيره من الكائنات أو التنوع البحري يعد استخداماً غير راشد الاستخدام الراشد غير الضار هو ذلك الذي تم حساب المنفعة من ورائه وضمان المعرفة الآمنة لنواتجه .

يكمن وراء المبررين المباشرين لمنع الإضرار المبرر الأكثر عمقاً ألا وهو احترام استقلالية الطبيعة بأسرها وعدم النظر إليها فقط نظرة نفعية.

خاتمة

تصل بنا هذه المبادىء إلى أن المبادىء التي تحكم الصلة بين الرجل والمرأة- وإن تشابهت في مبدأين - تختلف كماً - على الأقل - في عدد المبادىء التي تحكم العلاقة بين الإنسان والبيئة. وهو ما يعني أن مقولة الاختلاف التي تحكم الكون تتجلى هنا وتبرهن على أنه لا النساء ولا الطبيعة كائنات أقل من الرجل ولكنها كائنات تختلف عن بعضها البعض. فالاختلاف هو الإطار الحاكم والضابط للعلاقات بينها، وأن الإنسان مركز الكون لاختلافه عن الكائنات الأخرى جميعاً باتصافه بالعقلانيّة وحريّة الإرادة وهو ما يجعله مسؤولاً ومختاراً.

ص: 318

المراجع

أولا: المراجع العربية

مايكل زيمرمان (تحریر) ، الفلسفة البيئية، الجزء الثاني ترجمة معين شفيق ،رومیه عالم المعرفة، العدد (333) الكويت المجلس الوطني للفنون والثقافة ، الكويت.

ثانياً: المراجع الأجنبية

Ashcroft, B. (2007). Post-Colonial Studies. 2nd edition. USA and Canada Routledge

Carson, R. the Silent Spring. In https://archive.org/stream/fp_Silent_ Spring-Rachel Carson-1962/Silent_Spring-Rachel_Carson-1962_djvu.txt

Leopold, A. 1949. The Land Ethic. An Excerpt from A Sand County Almanac. In http://www.cooperative-individualism.org/leopold-aldo_ land-ethic-1949.pdf 2017-12-30 Marder, M. 2013. On the Verge of Respect: Ontological and Epistemological Investigations into Plant Ethics. In Epoche, Vol. 18, issue 1. J 20180212 الدخول بتاريخ

Deep,Long-Range Naess, Arne (1973) 'The Shallow and the Ecology Movement. A summary', in Inquiry, 16: 1, p. 95. In DOI: 10.108000201747308601682/ Trewavas, A. 2005. Green plants as Intelligent Organisms. In TRENDS in Plant Science Vol.10 No.9. pp.413-419.

UNESCO 2000. the Ethics of Freshwater Use: A Survey, Reykjavik, UNESCO UNESCO 2004 Best Ethical Practice in Water Use. Paris: UNESCO Warren, Karen J., “Feminist Environmental Philosophy", The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Summer 2015 Edition), Edward N. Zalta (ed.),

تم الدخول بتاريخ 4 يناير 2018

ص: 319

ما بعد الكولونيالية

من الانتماء التاريخي إلى الطرح الجيوسياسي

اشارة

میلود عامر حاج(1)

قفل الاستعمار راجعاً بعدما عمّر طويلاً أو قصيراً في محيطٍ غير محيطه الأصلي ولكن خارج حدود الجغرافية؛ ما ينمّ عن قوّة الغرب بعدما تفطّن إلى استعمار غيره من الشعوب، والتي لم تكن في مستواه الثقافي والسياسي والاقتصادي والعسكري... إلخ. هذا ما يجعلنا نعود للحديث عن ماضيه الذهبي بالنسبة له والإجرامي بالنسبة لغيره، وذلك نتيجة ظروفٍ ومعطياتٍ داخليةٍ وخارجيةٍ محليّةٍ ووطنيةٍ، إقليميّةٍ ودوليّةٍ، والتي عجّلت ببروزه على الساحة العالميّة بهدف نشر الحضارة والمدنية وبناء العمران وغيره بحسب الأساطير المكوّنة لإيديولوجيته الاستعماريّة. هذه المسلّمات حتى وإن كانت موجودةً، فهي ليست لغيرها بل لأفرادها وجماعاتها التي استغلّتها من وراء هذه الشعارات البرّاقة لصالحها، لكن ضد غيرها من الأقوام والمجتمعات.

ص: 320


1- باحث وأكاديمى فى العلاقات الدولية - الجزائر.

ومما لا شكّ فيه أن الاستعمار خطط لبقائه مستعملاً كلّ أوجهِ المسخ ، والتهميش، والإقصاء والتنكيل، مقابل بقائه مختفياً وراء لبوس التقدّم والازدهار والرفاهيّة الشعوب الأرض. هذا ما لا يعكسه الواقع المعيش، بل الذين عاشوا تحت نيره عاشوا الظلم في أبشع صوره وأشكاله. هذه الديناميّة التي أحدثها الاستعمار الحديث نتيجة ما كان يمرّ به في داخله من ثورات سياسيّةٍ واقتصاديّةٍ وصناعيّةٍ وفنيّةٍ، وعلميّة. ربما هي التي أهّلته من أجل أن يسيطر في نهاية المطاف على غيره من المجتمعات الأخرى، التي كانت تئنّ تحت الأميّة، والجهل والصراعات الداخلية. فضلاً عن ما بات يعرف لديها من جروحٍ وترسّبات لحدِّ الآن، من خلال مطارحات هويّتها الوطنيّة، وذاكرتها الجمعيّة، نتيجة تغلغل الوعي اللاّمسؤول واللاّأخلاقي الذي ضرب النوايا والبنى والبنيات دون أن يعطي مثالاً يحتذى به.

هذا ما انعكس سلباً على جهود الدول وطموحات المجتمعات من خلال خيبات الأمل. وبالرغم من الجهود المسخّرة والكفاءات الموصدة في هذا السياق؛ إلاّ أنّه ومع مرور الزّمن تبيّن بأنّ صراع الأمس مع الأجنبي، وسيطرته على مجريات الأحداث في مستعمراته، باتت تحمل في ثناياها ما لا يدع مجالاً للشكّ بأنّها تحمل أوزاراً وثغراتٍ وثقوبَ يصعب ملؤها بسهولةٍ دون غضِّ الطرف عنها بسهولة . فهي مترسّبة في عمق الوعي المجتمعي، الذي يشمل معنى الحياة العامّة، وتتفرّع منها باقي النشاطات والاختصاصات الأخرى وفي جميع الميادين. هذا الوعي المزيّف الذي باركه الاستعمار، حيث ناضل من أجله بهدف تمديد وجوده، ألاّ أنّه لم يفده كثيراً عن طريق إيجابياته ضد غيره الذي عرف إفرازاته السلبيّة ربمّا أكثر منه.

إشكالية الموضوع هي: ما هي حدود ما بعد الكولونيالية؟ أما ما يتفرع عنها من فرضيات هي كالآتي:

علاقة ما بعد الكولونيالية بين الماضي والحاضر.

ص: 321

صراع ما بعد الكولونيالية مع التوجّهات الوطنيّة الأخرى.

قوّة ما بعد الكولونياليّة هو ضعف ما قبل اللاكولونيالية.

1. تعريف ما بعد الكولونيالية:

تشكّل ظاهرة ما بعد الكولونيالية أحد الأوجه الأساسيّة في الخطاب النقدي، بحكم العلاقة الكامنة بين المستعمَر والمستعمِر، عن طريق ذلك الإرث المتواجد والمترسّب منذ الحقبة الاستعماريّة والتي تطغى عليها تلك الآثار السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والحضاريّة والتاريخيّة... إلخ. إلاّ أنّها تمسّ في المقابل جملة من الحقول والاختصاصات؛ أهمّها علم الاجتماع والاقتصاد والفلسفة والعلوم السياسية وغيرها علماً بأنّها تمسّ الخطاب الذي يقوم على ما بعد الحداثة، والذي يربط ما بين نظريّة المعرفة وعلاقات القوّة في المجتمعات(1).

نذكر من بين دعاة هذا التيّار على سبيل المثال لا الحصر: فرانس فانون (طبيب نفساني) من مستعمرة المارتينيك الفرنسيّة، والذي انخرط في صفوف جبهة التحرير الوطنية الجزائريّة بعدما تهجّم على المؤسسة الفرنسيّة في الجزائر من خلال سياستها الاستعمارية التي قادتها فرنسا إبّان الحقبة الكولونيالية تجاه مستعمراتها . فضلاً عن ما دعا إليه الكاتب الفلسطيني إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق عام 1978، إلى جانب الكاتب الماركسي الإيطالي انطونيو غرامشي حول مصطلح الهيمنة Hygemony وعلاقة المثقف العضوي بالمثقف التقليدي ودورهما المجتمع الواحد، الأمر الذي جعل من هذه الطروحات تبني قدراتٍ فكريّةٍ وسياسيّةٍ ونضاليّةٍ مناهضةٍ للاستعمار الجديد. وذلك لا لتبرير ماضيه المأساوي والكارثي ضدّ شعوب الأرض فحسب، بل في إماطة اللّثام عن مخطّطاته الجديدة المستوحاة من ذاكرته الاستعماريّة إلى ما يليها من أشواطٍ من خلال ما تعكسه تطوراتها وأهدافها

ص: 322


1- ما بعد الاستعمارية www://ar.m wikipedia.

التي يُعامل بها غيرها من المجتمعات المستعمَرة بالأمس القريب والمستقلة حديثاً، ثم يضاف إلى هذه القائمة كل من هومي بهابها وجياتري سبيفاك.

2. الأسس والمنطلقات لنظريّة ما بعد الكولونيالية :

تقوم نظريّة ما بعد الكولونيالية على خطابٍ مفاده المعرفة في علاقاتها بالقوّة الترابطيّة التي دعا إليها ميشال فوكو، والتي يجمع فيها بين ثنائيّة المعرفة والسلطة التي أساس القوّة في المجتمع المستعمَر. أي بمعنى أنّ هذا الأخير غير ديمقراطي، وبربري، ومتوحش وغير متمدّنٍ على خلاف المستعمِر الذي يتظاهر على أساس أنّه ديمقراطيٌّ وحضاريٌّ ومتمدّن. هذه الثنائيّة المفاهيميّة في طرح شرعيّة الاحتلال من شرعنة البقاء هو الذي أحدث دينامية الاستعمار مع مرور الوقت في ظل غياب الآليات والوسائل خاصة القانونية والعسكرية والمؤسساتية التي كان لا بد من توافرها من أجل الحدِّ من خطورة هذا المسلسل الدامي . لكن الحديث على الكولونيالية هنا ليس بمحاكمة التاريخ أو بالبكاء على أطلاله بقدر معرفة منطلقاته وتحدياته، التي

تبلورت عن الماضي، وبات يدفع بها الحاضر وتحد من آثار المستقبل المنظور.

فالإشكال المطروح، هو في كيفيّة تواجد الاستعمار الجديد في فضاءٍ ليس بفضائه، بعدما تغلغل في ثقافةٍ ليست بثقافته على أساس تبرير تواجده، والقاضي بنشر قيم المدنيّة في العالم بهدف تبرير وجوده الاستعماري؛ إلاّ أنّ هذا الطرح جاء لكي يعمّق الفارق بين عالمين هما: العالم الغربي والعالم الشرقي؛ أو بمعنى آخر العالم المتقدّم والعالم المتخلّف. إلاّ أنّ هناك جملةً من المرتكزات لنظريّة ما بعد الكولونيالية والتي تقوم على المكوّنات الآتية(1):

1. فهم ثنائية الشرق والغرب.

ص: 323


1- جميل حمداوي، نظرية ما بعد الاستعمار ، شبكة الألوكة ، 2012 في www.aluka.net.

2. مواجهة التغريب.

3. تفكيك الخطاب الاستعماري.

4. الدفاع عن الهوية الوطنية والقومية.

5. علاقة الأنا بالآخر .

6. الدعوة إلى علم الاستغراب.

7. المقامة المادية والثقافية.

8. النقد الذاتي.

9. غربة المنفى.

10. التعددية الثقافية.

3.حول نظريّة ما بعد الكولونيالية

لقد تفاجأت المجتمعات المستعمَرة بذلك الإرث المتراكم لديها عشيّة إحرازها على الاستقلال الوطني لكي تدخل إمّا في تبعيّةٍ للدول المستعمِرة أو تواصل عمليّة التحرر والبناء ما يجعلها قويّة. إلا أنّ جلّ المجتمعات التي أحرزت على استقلالها كانت متخلفة وفقيرة في الكثير من المجالات؛ إلا أنّ إيديولوجيّة التحرّر بات ينقصها شيء من قوام الذات ما يرفع عنها التحدّي الكثير بحكم أنّ معركة الأمس ضدّ الأجنبي الاستعماري انتهت في الساحة الميدانية لكي تدخل في عهدٍ جديدٍ، وفي میدانٍ خاص، أو ربمّا في ميادين أخرى يصعب الحسم فيها أو تخّطيها بسهولة.

لذا فالقوّة الاستعماريّة قديماً والصناعيّة حديثاً باتت تناور في هذا الإطار بحكم أنّ

ص: 324

المعركة فاسحة وغير محدودةٍ لأنّها تتطلب آليات وميكانيزمات أكثر بكثيرٍ

من تلك التي استخدمت في حروب التحرير. واقعاً يفرض نفسه: الإيديولوجية الوطنية ضد الاستعمار إذ كانت كشرطٍ ضروريٍّ لتشكيل الوحدة - قاذفة حتميّة لمواجهة الهيمنة الاستعماريّة - اتّضح بأنّها مختلّة في قيادة المجتمعات إلى ما بعد فترة الاستقلال باتجاه حالة التحرر؛ إمّا صوب إلحاح الإمبرياليّة الغربيّة، أو صوب تناقضاتها الداخليّة»(1).

وقد يعود بنا الحديث عن الوطنية وحدودها التي انفجرت ربما في المدن عن طريق المستعمِر الذي ربطها بالاحتلال العسكري ؛ أي بمعنى بروز القوة تظهر من خلال العمليات العسكرية التي يجسدها ميدان المعركة ومن خلالها يتمّ الانتماء إلى الوطن أكثر بكثير، وبمزيدٍ من الحماس والدافعيّة والجاهزيّة لقتال الأعداء.

هذا الطرح هو الذي نمّا الشعور الوطني في وجهته المقابلة ضدّ المحتلّين لكن هذا يبقى نسبياً لدرجة أنّه بات مرتبطاً بالشرعيّة التي فرضها الاستعمار دونما أن يتخلّص المستعمَر من هذا الاتّجاه الذي ربّما قلّل من فرص الإحاطة بالموضوع ككل باتجاه الدولة الوطنية وعلاقاتها في بناء الاقتصاد والإعداد للتنمية الفعلية في كامل أبعادها وتوجّهاتها لصالح مجتمعها الأصلي. لأن كلّ ما هو مدعاة للبحث هنا هو الحدّ من مثل هذه الإفرازات نتيجة هذا الوعي السيئ والسلبي الذي فرضه الاستعمار، دون أن يكون ثمّة تلاقٍ بين الشعوب وحوار ثقافاتها بعضها ببعض، الأمر الذي قلّص من هذا الطرح وجعله يتصدى بحكم ركام المشاكل وتحدّياتها لكي تنتقل العدوى ما بين المستعمَر والمستعمِر إلى ما بعد الاستعمار. «ولعلّه من عجائب القدر أنّ الخطاب الذي جاء لتفكيك مركزيّة الخطاب الغربي قد تربىّ في أحشائه وتطوّر بين ظهرانيه؛ ذلك أنّ نظريّة الخطاب ما بعد الكولونيالي ظهرت في المشهد الثقافي

ص: 325


1- Tamara Sivandan, Anticolonialisme, Libération nationale des nations postcoloniales in Neil Lazarus, Penser le postcolonial une introduction critique, (Paris, Amsterdam, 2006), p.109.

الجامعي للدول الانجلوفونيّة، وخاصة الولايات المتحدة الأميركية وارتبطت بجامعة كولومبيا، فيما ارتبطت «الأرسطيّة الجديدة» في النقد بجامعة شيكاغو، ودراسات الجندر و«الكتابة النسوية» بجامعة إنديانا، ودشّنها جامعيون من الأقليات المهاجرة من جامعات أو بلدان ما بعد الكولونيالية، وفي مقدّمة هؤلاء، الثالوث البارز: إدوارد سعيد والهنديان هومي هومي بهابها homi Bhabha ونصيرة نساء الاستعمار جياتري شاكراوفورتي سيفاك chakravorty Gayatri Speak)، وكل هؤلاء من أبناء العالم الثالث ممّن قدّموا «تجارب وشخصية وجروح (Cicatrices) كولونيالية

إلى العالم الأول (الأميركي) للتدريس بكبريات جامعاته»(1).

إنّ الحديث عن ما بعد الكولونيالية ليس حديث الماضي المرتبط بالتاريخ كون أن الظاهرة الكولونيالية ظاهرة قديمة قدم الاستعمار ذاته فحسب، بل في ربطها ببعدها المعرفي والمفاهيمي والأنطولوجي، الذي طالما تأثّر بمحتوى الإرث الاستعماري ذاته، الذي يرى في وجوده امتداداً لوجوده ولو رمزياً على عكس المجتمعات المستعمرَة التي ترى فيه عقدة نقصٍ على مستوى الفرد والجماعة والمنطقة بل الوطن الواحد بحيث في ظلّه احتلّت الأوطان، وانتهكت المحارم، وأبيدت الثقافات، واستغلّت ،الخيرات وجلبت الثروات.

إنه واقعٌ جديدٌ في انتقال هذه الحملات العسكرية - الاقتصاديّة وليس الحضارية الثقافية من الداخل إلى الخارج من أجل إحلال سيطرتها وإمساك قبضتها خارج أقاليمها الجغرافيّة المعتادة في إطار الاستكشافات الجغرافية التي كان يُنظر إليها على أساس أنها نوعٌ من الهيمنة الجديدة في الدفع بفكر التوسّع الجغرافي على شعوبٍ ومجتمعاتٍ فقدت هذا الوازع لكي تستغلّه ربّما لصالحها ضّد غيرها بحكم ما عرفته من عصر الأنوار والثورة الصناعيّة

ص: 326


1- بسمة جيدلي ، دراسات ما بعد الكولونيالية من منظور أبرز أقطابها ، الجزائر : المركز الجامعي تمنغراست ، معهد الآداب واللغات ، العدد التاسع ، مايو / أيار ، 2016 ، ص238.

هذه المقومات والأبعاد هي من صنيع الحضارة والثقافة الغربيتين ما جعلهما يصوغان مجالاً للقوة للتحرك في نطاق المجال الحيوي باعتبار أنّ الظاهرة الاستعمارية هي من وليد هذه الآليات والميكانيزمات التي رمت بظلالها على الذات المستعمرَة سواءً أتعلّق الأمر بداخلها أو بخارجها أو كلاهما معاً. أضف إلى ذلك بأنّ هناك ظروف وملابسات كانت تخضع لها هذه المناطق والأقاليم المستعمَرة، والتي كانت «مهيأة» لاستقطاب هذه الظاهرة بالقوّة؛ إن لم تكن قابلة لها «القابليّة للاستعمار» بحسب مالك بن نبي، بالرغم من أنّها فُرضت عليها بقّوة السّلاح والدّمار والخراب لكنّها لم تتحاشها لكي تتفادها منذ الوهلة الأولى.

بيد أنّ التاريخ الاستعماري هو ما تأثّر به الآخر المستعمَر أكثر من المستعمِر ذاته، بحيث كانت فيه له الكلمة الأولى، حيث منشأ العنف والاضطهاد والاستغلال ضرب أمثلة خياليّة بل قياسيّة قد تعود باسم الذاكرة والماضي وكتابة التاريخ للمستعمَر كأحد حقوقه التي بموجبها عرّف الاستعمار، خاصةً في حديثه عن خطاب ما بعد الكولونيالية.

إنّ ما بعد الكولونياليّة تتطلب لوازم وجهود جبّارة في الاستعانة بها في تحليل وفهم ما مدى قدرة المخيال السوسيو- سياسي في مطارحاته وإشكالياته عند الحديث عن الوعي والوعي الجاد بعيداً عن المزيف منه لفهم أولى مقاصد وتوجهات الذات المستقلة في ظل ما بعد الكولونيالية. وما يأتي فعلاً من التحرر والانعتاق من ملابسات الماضي / الأجنبي وتداعياته على الذات والفكر والهوية لتخليصها من قبضة الوعي الكولونيالي ذاته وبشيء من المصداقية والجاهزية والعمالياتية في رصد لمعارك البناء والتنمية على أسس جادة وجديدة..

وبالتالي يمكن القول بأنّ المقاربة ما بعد الكولونيالية ما زال ينقصها التعميم حضورها كظاهرة قابلة ليس للنقد فحسب، بل في إعادة طرحها مجدداً وفق

العلاقة الثنائية / الجدلية بين المستعمَر والمستعمِر من خلال صراعهما في الماضي

ص: 327

وتعاونيهما في الحاضر ، وشراكتهما في المستقبل بالنسبة للدول، بحيث لا يمكن في هذه الحالة البقاء على عتبة الاتهامات المتبادلة دون تخطّي عقد الماضي وثغرات الاستعمار وسياساته الاستدماريّة، شأننا شأن ما فعلته اليابان مع الولايات المتحدة، والذي لم يقف عند أحداث هيروشيما ونقازاكي، بل خاض معارك اقتصاديّةٍ جادّةٍ، أصبح بموجبها يحتلّ القيادة التكنولوجيّة في العالم، وما الولايات المتّحدة إلا حليف استراتيجي بامتياز.

فالعملية جد معقدة لدرجة أنّ التوقف على الاستعمار أولاً، ثم ما بعد الاستعمار ثانياً يعني الحديث عن أسباب الضعف في الحالة الأولى (الاستعمار)، وشروط البحث عن القوة في الحالة الثانية (ما بعد الاستعمار). إن الصدمة الأولى تهدف إلى انصهار الجغرافيا وتلاقح الثقافات وتمازج المجتمعات بالعنف والاستغلال والاضطهاد. وفي هذا نعطي مثالاً حياً مفاده أنّ وجود الجالية الجزائريّة كجنودٍ في المهجر إبّان الحرب العالميّة الأولى على أساس تجنيدهم بالقوة أحياناً، وبالوعود الكاذبة أحياناً أخرى، وذلك نسبة للوجود الفرنسي في الجزائر فضلاً عن مشاركته في الحرب العالمية الأولى وعلى ترابها كان لحزب الشعب الجزائري بقيادة مصالي الحاج أثراً كبيراً في جمع الجموع المهاجرة عن طريق التوعية والتحسيس بهدف الالتفاف حول قضية الأم قبل نقلها إلى التراب الجزائري حيث عامل المعارضة وحرية التعبير والتنقل كان مكفولاً من طرف القانون الفرنسي أكثر بكثير من ما كان عليه الحال في المستعمَرة ومن هنا لعب حزب الشعب الجزائري PPA دوراً رائداً في تثوير الجماهير بالمطالبة بالاستقلال الوطني مباشرة - كأولى الخلايا السياسية - من خلال قولةِ زعيمهٍ المشهورة مصالي الحاج على أنّ تراب الجزائر لا يُباع ولا يُشترى» رداً على زعيم جمعيّة العلماء المسلمين عبد الحميد بن باديس في إحدى اللقاءات الجماهيرية.

أمّا الصدمة الثانية (ما بعد الكولونيالية) فهي تعبّر عن النظر في هذا المنحى عن

ص: 328

طريق التفكيك للخطاب الذي تتبناه في طروحاتها ومواقفها تجاه القضيّة الأصليّة المتمثلة في الاستعمار، والتي ما فتئت تطرح بمثابة عائقٍ ضدّ التنمية في ترسّبات الوعي الذي انبثق عنه إعادة لهذا الاستعمار من الزاوية المعكوسة من حيث القيم والمبادئ والأطر التي تحمي الذات المستعمَرة قديماً وغير المستعمرَة حديثاً.«لهذه الأسباب، وأسباب أخرى، تجادل ما بعد الاستعمارية في صحّة الأفكار والعموميات المبتذلة التي تظهر اليوم رسمياً في الخطابات الأكاديمية والخطابات العامّة على أنّها «معرفة خبيرة» عن التوسّعات الاستعماريّة السابقة. وتتضمّن هذه الأفكار والعموميّات المبتذلة أفكاراً عن تأصيل العمالة والملكيّة والمؤسسات والقدرات في العرِق، وفي الثقافة، وفي البيئة؛ الأمر الذي كان في ما مضى بمنزلة تبريرات للإمبريالية وتوزيعها للقيم على الآخرين. وتجادل ما بعد الاستعمارية أيضاً في الافتراضات التي وضعها العقلانيون والمنظرون النقديون، والتي تقترح أنّ الأساليب الغربيّة، ولا سيما العقلانيّة والإنسانيّة، تصلح سياقاً لنقد الإمبرياليّة والاستعماريّة، وأنّها بذلك تقدّم الطريق لراحة الآخرين وخلاصهم. وهذا الغرور ممزوج بتعنّتٍ في الاعتقاد بأنّ الغرب لديه مسؤوليّة حصريّة في رسم مسار تاريخ البشريّة»(1).

و من هذا المنطلق، من الصعب إيجاد صيغة متّفقٍ عليها وبإجماع كلّ الأطراف التي بإمكانها أن تضبط بين المفهومان من خلال ما أخذه الطرح الأول بحسب بيئته الداخليّة، وظروفها المحاطة بها آنذاك في علاقاتها الثنائية بين المستعمَر / المستعمِر (الاستعمار) فضلاً عن حالة المستعمَر بمفرده عند الحديث عن ما بعد الكولونياليّة بحكم أنّه في وضعٍ متأخّرٍ جداً، قياساً بمستعمِر الأمس وحالته اليوم كونه متقدما اقتصاديًّا ومتطوراً تكنولوجيًّا وأرض هجرة ومنبر حقوق الإنسان... والذي أصبح لحدًّ ما مثالاً ل-- نموذج ناجح -.

ص: 329


1- تیم بان ، بيليا كوركي وستيف سميث، نظريات العلاقات الدولية التوسع والتنوع ، ترجمة ديما الخضر، (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ) ، ص 369 .

ولعل وضع الاستعمار وما بعد الاستعمار كثيراً ما يدلّنا على فهم الماضي وتداعياته في المستقبل المنظور عبر المنظورات والنظريات والمقاربات على اختلاف أنواعها وأشكالها ما يضبط تلك الرهانات والأبعاد في كنه هذه التحولات والتغيرات من الإمساك بالأرض والإنسان وحريّته وهويّته وثقافته عن قرب إلى التعامل معه عن بعد في ميادين السياسة والاقتصاد والثقافة والصناعة والأمن والتجارة... كدول ومجتمعات جديدة لها علاقة وطيدة بدول الأمس كإمبراطوريات ومماليك.

4. البعد الجيوسياسي لما بعد الكولونيالية:

إذا كانت تشكل ما بعد الكولونيالية أحد مراحل الاستعمار في العلاقات بالأهالي، عن طريق ما خاضته من سياساتٍ استدماريّةٍ خارج ،وطنها وما بات يقف حجرة عثرة ضد شعوب المناطق المستعمَرة آنذاك. فإن ربطها بواقعٍ جديدٍ يعدّ من أبرز المظاهر الذي يطغى عليها خطاب ما بعد الكولونيالية نسبةً لماضيها من جهة، وما تحمله الكلمة من أثقالٍ تجمع في ثناياها الأمس واليوم والغد من جهة أخرى.

و من هذا المنظور جاءت المقاربات متداخلة في طبيعة النظر لمثل هذه السياسات قديماً وحديثاً ضد الداخل وعلاقاته بالخارج. ولعلّ تصفية الاستعمار التي تقوم عليها ما بعد الكولونيالية تسترسل في تقصّي مدلول الخطاب في تحليل معالمه وأبعاده، رموزه وألغازه بما صادفه الخطاب الوطني ومنه انطلق في تأسيس كينونته البنائيّة ضدّه ولصالحه.

وعليه ارتبطت ما بعد الكولونيالية بالمجال «الجيوسياسي» كونه أحد معاقله بامتياز في كل من أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينيّة نتيجة ما خلفه، وما ينوي القيام به، عن طريق التعامل بموجبه وفق الإرث الثقافي والسياسي والاقتصادي الذي نجم عنه عبر التاريخ.

ص: 330

إلا أنّ اعتماد الطرح الجيو سياسي من قبل الأخصائيين والخبراء في هذا المجال يعني التوقّف على جميع الخلافات والصراعات التي عرفتها جملة من الأقاليم، سواءً أتعلّق الأمر بالمجال الحيوي داخل المدن في الدولة الواحدة أو خارجها، بحكم أنّ بها صراعات أدّت بها إلى قيادة الحملات الاستعماريّة، والتي كانت وما تزال تفرز بعض التداعيات على المستوى المتوسّط والبعيد المدى فاستعمار فرنسا الجزائر مثلاً 14 جوان 1830 على رأس 37 ألف جندي يتقدّمهم 675 فيلق عسكري عن طريق البحر باتجاه سيدي فرج كنتيجة لطبيعة الحكم السائد في فرنسا بقيادة شارل العاشر بنقل العدوى خارج حدود فرنسا، نتيجة المضايقات والفوضى العارمة التي كانت تعرفها باريس، بدءً من بلاط الحكم لكي تكون الجزائر أحد مسارحها الأولى بامتياز(1). وعليه باتت تحمل هذه الظواهر الاستعماريّة والعمليات الاستيطانيّة أبعاداً جيو سياسية. «ولحظة ما بعد الكولونيالية هي التي التي أفصحت عن أنّ الاستعمار لم يكن فقط عبارة عن أقاليم ما وراء البحار تابعة للمتربول وعلاقة المركز بالأطراف، بل كان الاستعمار يعني أيضاً الاستعمار القاري (الممتد براً من العنصر المحتلّ نحو عناصر مختلفة تقع على الامتداد الجغرافي نفسه مثل روسيا التي امتدبت على حساب إثنياتٍ وقومياتٍ وشعوبٍ أخرى. كذلك الإمبراطوريّة السوفيتيّة التي ضمّت أراضي وشعوباً على الامتداد الجغرافي ذاته (لم تكن من وراء البحار)... إلى أن انتهت العلاقة إلى «استقلال» الجمهوريات، أي الكيانات السياسيّة التي كانت تابعة للاتحاد السوفيتي، لا بل صارت روسيا ذاتها دولة مستقلة في العام 1991 ، وانفرطت من ثمّ عرى «الوحدة» الشيوعيّة بين الاتحاد السوفيتي ومجموعة دول أوروبا الشرقيّة (المجموعة الشرقيّة) بعد انهيار جدار برلين وتداعياته المعروفة»(2).

ص: 331


1- H.Miloud Ameur, la politique coloniale et ses répercussions sur la formation de l'État algérien (1830- 1988). Thèse de doctorat soutenue en 2008 (non publiée). (Paris XII département de droit et de sciences politiques).
2- نور الدين ثنيو ، مسألة ما بعد الكولونيالية : تحليل جيو سياسي، المجلة العربية للعلوم السياسية، (بيروت مركز دراسات الوحدة العربية ، العدد 32 ، خريف (2011)، ص .164

ولعلّ من بين وجوه التلاقي والتقاطع هو ما أحدثته الصدمة الاستعماريّة في علاقاتها بالجهات والأقاليم المستعمرَة التي توّلدت عبرها ظاهرة الهجرة، التي ترعرعت كثيراً في مناطق تواجدها في الغرب بحسب طبيعة الاستعمار ذاته. فالاستعمار الانجليزي ذهب إلى المناطق البعيدة جغرافياً في آسيا ((الهند وأندونسيا والشرق الأوسط...) بحثاً عن مصادر الثروة اقتصادياً، بينما فرنسا ركّزت على شمال أفريقيا باتجاه أفريقيا تحديداً كامتداد لإمبراطوريتها الذاتانيّة. هذا ما جاء على لسان دي ألكسي توكفيل - كمنظّرٍ في الفكر السياسي - إلى الجنرالات الفرنسيّة بعد إخماد ثورة الأمير عبد القادر، خاصة عندما زار ضاحية متيجة في أعالي العاصمة عام 1841 مرتين بعدما أوصى هؤلاء بأن الجزائر في يدهم وأنّه لا مناصّ من فقدانها وأنّه منها يتمّ توسيع رقعة نفوذ فرنسا في القارة السمراء على أنّ حدودها تشمل أو تزيد هذه الأوطان(1).

إلا أنّ هذا الحضور( المستعمِر) والغياب (المستعمَر) في البلدان الحديثة والمتطورة والتي كانت استعماريّة في ما مضى، والتي باتت منتقدةً بشدةٍ على أنّ معرفة الغرب أو الدول المستقبلة لليد العاملة عن طريق تلك الهجرات آنذاك كجنودٍ أولاً لرد الخطر النازي بالنسبة لفرنسا التي لا تعترف بجرائمها في حقّ الشعب الجزائري بمقتضى قانون تمجيد الاستعمار الفرنسي الموافق لتاريخ 23 شباط / فبراير 2005.

إنّ خطوط تلاقي الجنوب بالشمال عن طريق موجات الاستعمار سابقاً والهجرات المتتالية والوافدة من الأوّل إلى الثّاني، باتت تطرح أسئلة جوهرية ومصيرية وعميقة التوجه من جهة، ومن الهجرة المنتظمة قديماً وحديثاً إلى الهجرة غير الشرعية حالياً من جهة أخرى . ومن هجرة اليد العاملة إلى هجرة العقول والإطارات وهي قضايا ومسائل باتت تطرح نفسها وبإلحاح شديد في علاقات الدول بعضها ببعض، فضلاً عن مصير الأفراد والجماعات في ما بينها ، حيث تنامي الفقر والجوع والأميّة والخوف والإرهاب ... إلخ بعدما أصبحت تشكّل هذه المظاهر أحد التحدّيات الأمنيّة في الربع الأوّل من القرن الواحد والعشرين في العالم.

ص: 332


1- Alexie de Tocqueville, Sur l'Algérie. (Paris, Flammarion, 2003).

إنّ التحولات الجيوسياسية في علاقة الغرب (فرنسا) مع المجتمعات المستعمرَة قديماً باتت تطرح إشكاليات كبيرة حتى في فرنسا نفسها حول تنامي ظاهرة اليمين المتطرف والتي أصبحت تستدل كأحد الواجهات لدى كل من اليمين واليمين المتطرف من ناحية ، واليسار وأقصى اليسار من ناحية أخرى في حملاتهم الانتخابية وكأحد العقبات في الوصول إلى سدة الحكم بالإليزيه.

أ. ما بعد الكولونالية : بين الطرح والمعالجة

يتّسع مجال ما بعد الكولونيالية كمعطى أوّلي في تفسير تنقّل هؤلاء الأشخاص المهاجرين الأوائل وأبنائهم من ذوي الجيل الثالث والرابع، لا لكونهم من أصولٍ أجنبيّةٍ عربيّةٍ كانت أو أفريقية فحسب، بل كونهم يحملون الجنسيّة الفرنسيّة؛ أي بمعنى أنّهم من ذوي الصفات المواطنة التي يحملها الفرنسي الأصلي. لكن هناك مفارقة كبيرة جداً حيث إنّ فرنسا كثيراً ما حجبت الرؤية على تاريخها الاستعماري بالرغم من حداثة الخطاب السياسي الذي تتغنّى به النخبة السياسِية الحاكمة في البلاد.

وبالرغم من الإرث المشترك المتواجد والمتشعّب في النسيج الاجتماعي، وعبر الذاكرة الجماعيّة بحكم الاستعمار، فإنّ الاستقلال الوطني وتبعاته ألزمت المهاجرين سواءً أكانوا جنوداً أو عمّالاً ضرورة البقاء على الأراضي الفرنسيّة بحكم الجغرافيا والثقافة والتاريخ المشترك هذا ما ربط هؤلاء الشباب المتصاعد والمنحدر من أصول عربيّة وإسلاميّة بأن يبني «هويّة وطنيّة» له وبإمكانهم الإسهام في البناء الوطني لا كأجانب بل كوطنيين لهم من الحقوق والواجبات ما يضمن لهم البقاء عبر الانتخاب والعمل ودفع الضريبة... كغيرهم من الفرنسيين الأصليين.

لكن هناك خطاب مزدوج بحيث إن الجانب الرسمي منه للرأي العام ، أما الجانب الآخر هو الواقع المتردّي الذي تعرفه طبقة المهاجرين بحيث إن نظرة الغربي عامة

ص: 333

والفرنسي خاصة تختلف بكثير إلى هؤلاء الوافدين خارج الهوية الغربية ذات الأصول اليهودية - المسيحية. وبالتالي فهم في الواقع ينتمون إلى «الدرجة الثانية» من أهالي الجمهورية.

وهذا إن دلَّ على شی ءٍ فإنّما يدلّ على أن السكّان الأصليين في | القديمة لفرنسا كانوا يخضعون إلى نظامٍ خاصٍ، سواءً من الزاوية القانونيّة أو الإداريّة أو السياسيّة أو الاجتماعيّة... إلخ. ومع مرور الزّمن حاولت فرنسا وما تزال الإبقاء على هذا العرف حتى على الفرنسيين المنحدرين من المستعمرات السابقة ومن الأهمية بمكان أن الإرث الاستعماري الذي قام على التهجير والتنكيل والإبادة الجماعيّة والاستدمار لم يتعامل على تخليص المقاربة التاريخيّة من هذه الورطة التي لم تتخلّص منها ما بعد الكولونيالية ذاتها خاصةً في الحالة الجزائريّة. «وهكذا، فلحظة ما بعد الكولوناليّة في مرحلة إفرازات وتداعيات جاءت أعقاب انزياح الاستعمار عن الأقاليم التي كان يحتلّها سابقاً، وصارت تعنيها الدولة المستعمِرة اليوم، مثل الدولة الفرنسيّة كواقعةٍ وظاهرةٍ من بقايا ورواسب قديمة وجديدة في الوقت ذاته، بحيث صارت الرؤية ما بعد الكولونيالية تفصح، إذا لم نقل تفضح أيضاً، عن مدى تخلف «الشعوب» أو «الأهالي»، كما كان يصفهم الاستعمار، ليس بسبب الاستعمار فحسب، بل بسبب تقادم الجمود والتكلّس الثقافي والحضاري الوافد من تاريخها الخاص أيضاً. وإلا كيف نفسر مثلاً عدم قدرة المهاجرين، على اختلاف أجناسهم، على التكيّف والتماشي مع الواقع الحضاري والمدني في البلدان المتروبولية إلا بعد ظهور جيلين الثالث والرابع من أبناء المهاجرين؟»(1).

يبقى الإشكال مطروحاً في سلامته من عدمه، معالجته من إتلافه على أساس أن المهاجرين بقوا ضحية الأوطان الأصلية والبلدان المتروبولية دون أن يساهموا بقسط أوفر لا في الأولى بحكم لجوئهم إليها ليس ببعيد في ظلّ الاختلافات العرقيّة

ص: 334


1- نور الدين ثنيو، المرجع السابق، ص 165.

والمذهبيّة والدينيّة والفكريّة كحال الجالية العربيّة المتواجدة في الولايات المتحدة الأميركية مقارنة بالجالية اليهودية وانخراط هذه الأخيرة في اللوبي الصهيوني - وما مدى تأثيرات هذا الأخير على سلطة اتخاذ القرار الأميركي - وبأقل إسهام في الثانية باعتبار أنها تشكّل قطيعة تاريخيّة وسياسيّة واجتماعيّة بينها وبين الوطن الأصلي الذي تنتمي إليه - بحكم الانتماء ليس لا - .

ومن هنا بات لزاماً على السلطات الأوروبيّة استغلال هذا المعطى الأوّلي الذي يحمل غربة الذات في علاقتها بالآخر؛ إن لم يكن ضحية تعاطي الجغرافيا والتاريخ والثقافة. يتبدى ذلك واضحاً في الحالة الفرنسيّة على خلاف الحالة الإنجليزيّة حيث الانتماء إلى الأصل له مبرراته من أجل خلق فضاء لإبراز مكونات المجتمع الإنجليزي بهدف توسيع نطاق السياسة المعتمدة حكومياً من أجل جلب الإطارات والكفاءات والكوادر أكثر بكثير مقارنة بفرنسا التي لا تحبّذ ذلك إلا في القطاعات التي بها شحّ في الإطار الأصلي على أن جلّ الإطارات الأجنبيّة تعمل في خدمات وأشغال ليست من تكوينها . هل هي نظرة استعمارية جديدة حتى لا توظّف هذه الإطارات والكوادر لصالح بلدانها الأصليّة بحكم نقلها للتجارب والخبرات أم غلق باب الحاجة بها هو الأولى مقابل تكوين إطاراتها الخاصّة بها في الدّفع بها إلى مناصب الشغل ومراتب الحكم؟

هذا ما يجرّنا بالقول بأنّه وفي الكثير من الحالات ما تم التقليل من شأن هؤلاء الوافدين الجدد في مظاهر نجاحهم مقارنة بالجيل الثاني والثالث والرابع حيث تسيطر عليه وفي الكثير من الحالات مظاهر سيئة في معظمها كالسرقة والحجز والنصب والقتل والاغتصاب والجريمة والإرهاب وغيره، الأمر الذي ردّ عليه الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي بقوله بأن فرنسا تحتاج إلى هجرة نوعيّة وليس إلى هجرة كميّة.

ولعلّ القطاع الناجح والداعم في هذا السياق في فرنسا تحديداً هو الرياضة بهدف

ص: 335

صنع ألوان لها من داخل المجتمع لدعم ما فشل فيه أبناء الوطن الأصلي وبدعم من أبناء المهاجرين بدءً من زين الدين زيدان الذي ينحدر من أصول جزائرية مهاجرة. إلاّ أنّ هذا القطاع لم يهدأ كونه كان محل جدل بين الأحزاب الفرنسية خاصة المتطرفة منها، وخاصة التي هي بقيادة جون ماري لوبان على أنّ بالمنتخب الفرنسي عرباً وسوداً وأقلّ من الفرنسيين الأصليين.

ومن هذا المنطلق في اعتقادنا جاءت ما بعد الكولونيالية - كحالة عارضة - تمسّ ليس الأهالي الأصليين فحسب، بل حتى الوجود الغربي ذاته الذي اعتقد أنّه يصنع من هؤلاء المهاجرين وأبناؤهم نمطاً ناجحاً ولو نسبياً له وليس لصالحهم ووطنهم الأصلي بحكم ضآلة الوطنية الأم لديهم وضعفها في تحقيق ما فشلت فيه الأوطان الأصلية، الأمر الذي جعلها تعيش بين الحنين لها عبر الانتماء الديني والحضور الهوياتي في اللغة المكتسبة والجنسية والدفاع عنها في السلوك والانتخاب والمواطنة ... لكن ليس أمام الأوروبي الأصل بل أمام المهاجر الجديد وشعوب المناطق الأصليّة. علماً بأنّ السود الأميركان بدورهم لا يقبلون السود الأتون من أفريقيا تجزم إحدى الدراسات السياسية الأميركيّة.

إنّه الالتفاف حول هذا التوجّه في عمقه السوسيولوجي وطرحه الثقافي وجفائه السياسي على أبناء المهاجرين في فرنسا بعد إنشاء بيان «أهالي الجمهورية» في تسعينيات القرن الماضي أو ما قبلها بما يعرف ب- «مسيرة الأهالي» في ثمانينيات القرن الماضي كردٍّ للاحتلال المعاكس ومن أراضيه نفسها والذي يحاول طرح ومعالجة علاقة كل من المستعمِر السابق (الكولونيالية) واللاحق (ما بعد الكولونيالية). ولئن عدنا إلى بيان «أهالي الجمهورية» هذا على خلفية أن ما جاء به فعلاً باعتبار أنه يحاول أن يفنّد مقولة إن «جمهورية المساواة مجرد أسطورة، وعلى الدولة والمجتمع أن يعمدا معاً إلى إجراء نقدٍ راديكاليٍّ لماضيهم - حاضرهم الكولونيالي»(1).

ص: 336


1- Yves Lacoste, la Question post-coloniale : Une analyse géopolitique, (Paris, Fayard), p.55.

وإذا كان من وجود العلمانيّة بسبب قانون عام 1905 حيث دولة القانون تخضع إلى مبادئ والتزامات سياديّةٍ تقوم على الشخصيّة الفرنسيّة بحكم انصهار كل من الديانة اليهوديّة والمسيحيّة في بوتقةٍ واحدةٍ ألا وهي الجمهوريّة، فإنّ الإسلام كديانةٍ ثانيةٍ في فرنسا وجديد العهد بها بات يُطرح كمعادلة جديدة في حضور «الأهالي» غیر الأصليين على التراب الفرنسي حتى لا أقول تحدياً مباشراً فحسب، بل استمرار للتواجد الاستعماري خارج وطنه الأصلي الأم. إنها فعلاً معادلة اجتماعية وسياسية وثقافية في الحياة الفرنسية حيث المحدد الإثني والعرقي واللغوي والهوياتي بات من أولى المعايير في إرساء معالم الشخصية الفرنسية حيث أسماء مثل محمد وعلي والزبير وغيرهم هم الذين تمت مراقبتهم أول الأمر والذين اعتلوا مناصب عليا إلى جانب كل من فرنسوا وجون بيار وديفيد في المدارس والوكالات والجامعات والوزارات .

إنّ الحضور ذو الأصل الأجنبي في النسيج الاجتماعي الفرنسي تحديداً، وفي مضايقة من نوعها في المجالات الحيوية الأخرى، عدا الإنتاج الأدبي (نشير إلى كل من الأديبين الشهيرين هما : أنيسة جبّار والطاهر بن جلون) فضلاً عن النجاح الرياضي كافيين لطرق الأبواب الأخرى في الدفع بالطاقات والكوادر الأخرى إلى التألّق في صنع القرار أم في انتظار أجيال أخرى وبمزيد من التفوق في ميادين وقطاعات أخرى لها ؟

ب. ما بعد الكولونيالية : المقاربة التاريخيّة

من مفارقة القول هو ربط الاستعمار بالاستقلال من جهة، وبما بعد الكولونيالية بما بعد الوطنية من جهة أخرى . في الحالة الأولى هو ما دأب الاستعمار عليه بشجب الرأي العام عن فضائحه من جرائم ضد البشريّة كأحداث 8 مايو / أيار 1945 بالشرق الجزائري (قالمة سطيف، خراطة) والتي ذهب ضحيتها بحسب الروايات التاريخية والتصريحات الرسميّة حوالي 45 ألف ضحيّة ، بينما من المنظور الاستعماري لا تتعدى

ص: 337

العشرات من الأهالي الفرنسيين، وبعض الجنود العسكريين، بعدما خرج الأهالي في هبةٍ تظاهريّةٍ وبدعم من حزب الشعب الجزائري PPA للتظاهر بهدف الضغط على الإدارة الفرنسيّة بعد خيبة الأمل نتيجة الوعود الكاذبة التي منيت بها الإدارة الفرنسيّة الطبقة السياسيّة فى الجزائر، بالإضافة إلى حملات الاعتقال والتعذيب حتى على الفرنسيين أنفسهم من جنودٍ، وصحفيين على رأسهم موريس أودان، وهنري علاق من الشيوعيين ممن دانوا التعذيب.

لقد كتب موريس أدوان كتاباً صغيراً بعنوان جريمة دولة Un crime d'État في 1957 متحدثاً فيه عن أنواع التعذيب والتنكيل التي مُورست في حقّ الجنود السجناء الجزائريين لجبهة التحرير والذي مات تحت التعذيب هو الآخر. هذا إلى جانب حملات التهجير والاختطاف والاغتصاب، ونهب الأموال، وهتك الأعراض، وجلب الثروات، وحرق أكبر مكتبة جزائرية في العاصمة على مشارف الاستقلال من قبل المنظمة السرية OAS

أمّا بخصوص الثانية فإن الهجرات سواءً أكانت شرعيّةً أو غير شرعيّةٍ باتجاه أوروبا عامّة وفرنسا خاصّة أصبحت هي الدليل الرمزي لتوجه الشباب الإطار أو العاطل سواءً في إطار الهجرة الشرعيّة أو غير الشرعيّة في قوارب الموت للالتحاق بفردوس الدورادو Eldorado. وبالرغم من فشل هذه العملية أكثر من نجاحها فإن هؤلاء الشباب الوافد من البلدان المستعمَرة إلى المجتمعات المستعمِرة سابقاً كون أن حظوظه في الوصول إلى العيش الكريم والعمل وتحسين وضعيته الماديّة عامّة والإداريّة والقانونيّة خاصّة .. تبقى رهن الحظ بحسب الظروف المواتية لا لأنّهم كثيرون هؤلاء الشباب فحسب، بل كثرة الحلم لدى الباقون ومنهم من ذهب غذاءً للأسماك في قاع البحار والعصابات الإجرامية عبر البرّ.

لكن السؤال المثار للجدل في هذا السياق هو ما مصير الاستقلال؟ وما هي

ص: 338

دلالاته الرمزيّة وأبعاده الأخلاقيّة والأدبيّة في الجيل الأوّل الثائر والجيل الثّاني المستفيد من هذا الإرث المتراكم ؟ إنّ حروب التحرير كانت نهاية الاستعمار، لكنّها رُبطت بالاستقلال عن طريق ما صنعه الوطنيون على اختلاف أفكارهم ومشاربهم على مدار التاريخ، بهدف التخلّص من عقدة الماضي من ناحية، وبناء صرح جدید بدءً من قدرة هذا الشباب كيد عاملة وإطارات علميّة تثمن ما مدى أهلية الاستقلال في عملية النهضة والتنمية والتغيير في بناء القوة الداخلية... إلخ.

لا لشيء ء وإنما كون الاستعمار يعدّ ظاهرةً معقدةً لدرجة أنها فُرضت بقّوة السلاح والنار على أصحابها، بدليل أنّ التخلّص منها بقي صعب المنال لدرجة أنّ ما دفعه الجيل الأوّل من ثمن باهظ في حق الاستقلال لم يحترمه الجيل الثاني وفضل اللحاق بأعداء الأمس بدقّ أبواب المستعمِر بحثاً عن قوت يومه وشروط حياته. «لأنّ الاستعمار ظاهرة تاريخية معقدة لا تفصح عن نفسها في لحظة واحدة ، ولا لدى جيل واحد، مثل الاستعمار الفرنسي في الجزائر، الذي استغلّه جيل الحركة الوطنيّة على حساب الأجيال اللاحقة التي فقدت البوصلة الهادية إلى حقيقة الاستقلال في مدلولاته الحديثة والمعاصرة تأسياً بالجيل الأوّل من الجزائريين المهاجرين في مطلع القرن العشرين الذين اشتغلوا في المناجم والمركبات الصناعيّة، والحقول الزراعيّة وفي الجنديّة أيضاً، أي دائماً في الأرض التي تصلح لتراكم التنمية الاقتصادية، على خلاف الأرض الجزائرية التي صارت بعد الاستقلال تمتصّ أموال المحروقات على نحوٍ سلبيٍّ، دونما تراكم لأي رصيدٍ تنمويٍّ يحفظ قاعدة الدولة الوطنية»(1). كما تعدّ هذه الظاهرة والمتمثلة في هجرة هؤلاء الوافدين إلى الخارج بمثابة قطيعة مع الوطن الأصلي ونجاح للسياسة الاستعمارية التي ما فتئت تتعمق بهؤلاء المهاجرين على اختلاف أعمارهم من الوطن الأصلي إلى غيره في وطن «النجدة»: عمليّة سياسيّة أم سياسة العولمة؟

ص: 339


1- 11. نور الدين ثنيو، المرجع السابق، ص 167.

هذا إلى جانب فشل الإطار السياسي العام الذي أضعف البنى الاجتماعية والأطر الاقتصادية مما أثقل كاهل العمل السياسي ذاته والذي انتقل في الحقبة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر من الثورات الشعبية إلى الاستعمار الاقتصادي الفاحش إلى حرب التحرير .(1954-1962). بيد أن الواجهة الأساسية أصبحت ظروفها الخاصة ضد الاستعمار، بحيث بات يقلّص من جهته الحياة السياسيّة التي لا تنتعش إلا بالمعارضة في المقابل إنّها المعارضة في زمن الحزب الواحد، حيث القيادات الثورية أمثال حسين آيت أحمد، ومحمد بوضياف وبن بلة وغيرهم والذي هربوا من السجن ومنهم من قام بانقلابٍ عسكريٍّ باسم «التصحيح الثوري» مثل هواري بومدين ضد الرئيس أحمد بن بلة في 19 أيلول / جوان 1965 في ظرف وجيز لا يتعدى ثلاثة سنوات من الحكم بعد الحصول على الاستقلال الوطني.

أو بكلام آخر أن ظاهرة الاستعمار التي عبرّ عنها مالك بن نبي ب_ «القابليّة للاستعمار» Colonisability من خلال ما أحدثته من ثقوبٍ وانتكاساتٍ على مستوى الوعي / الفكر للنهوض بالذات المستعمرَة مما كانت عليه إلى ما ينبغي أن تكون عليه. ومن هذا المنطلق، الأكيد بأن العمل جادّ في هذا وما زال يتطلّب جهوداً جبارة للتخلّص من عقد الماضي إلى بناء الواقع باتجاه مستقبل زاهر.

إن جذور المعارضة الجزائرية الجديدة مثلما كان عليه حزب الشعب الجزائري بقيادة مصالي الحاج الذي نشأ وترعرع في أوساط المهاجرين الجزائريين بعدما دخل الجندية أول الأمر في صفوف القوات المسلحة الفرنسية بات يدعو إلى الاستقلال بعدما اتصل مع حفيد الأمير عبد القادر الأمير خالد في باريس والداعية السوري شكيب أرسلان في المؤتمر الإسلامي في مطلع الأربعينيات من القرن الماضي في بروكسل بلجيكا.

وعليه وبالرغم من المطالبة بالاستقلال الوطني على الأراضي الفرنسية؛ إلا أن

ص: 340

مصالي الحاج أبو الوطنية الجزائرية ظل يتلقى أنواع الرفض والقمع والسجن في حياته النضالية؛ أي بمعنى مضايقة الحياة السياسية حتى لا تنعم بالاستقرار والبناء والنضج ، الأمر الذي أثّر سلباً على مدركات العمل السياسي حتى في الجزائر بإعطائه شيئًا من الشفافيّة والقوّة والمردوديّة.

هذا ما لم يُسلّم به الاستعمار من أرشيف الثورة الجزائريّة لكي يعلن اعترافه بمجازره وتجاوزاته في حقّ الشعب الجزائري للأجيال اللاّحقة دون اعتراف بعض الأطراف خاصة اليمينيّة واليمينيّة المتطرّفة منها بنكران مسؤولية الاستعمار في جرائمها ضد البشريّة . إلاّ أنّ ما خلّفه الاستعمار من وحدة المستعمَرين ضدّه بالالتفاف حول نداء الوطن وفكرة الجهاد والاستشهاد في سبيل الله وغيرها صوّب الدولة الوطنية التي ما فتئت أن لا يصل بها الحال إلى تطوير الآليات السياسية للنهوض بذلك، لكن بعيداً عن ما يعوق مسارها كعودة القبيلة والعشيرة والمناطقية والطريقة والعائلة والحزب القائد... في ظلّ فشل الدولة الوطنية وما الثورات العربية إلا أحد سماتها الأولى في ما صنعته دون أن تصنع غيره في خريطة البناء والتنمية.. والتي تبقى ملاذ تعاقب الأجيال، وحلم يراود المخيال السياسي والطموح الاجتماعي والانتقال الاقتصادي أرض الواقع بحيث باتت ما بعد الكولونيالية كظاهرةٍ موجّهةٍ في عمق ما بعد الحداثة إلى تفكيكيّة عن طريق سحب الفرد من مكانه لفسح المجال لغيره بالرغم من صراعه معه عبر التاريخ وفي وطنه إلى مكان الأجنبي حيث تواجده.

خاتمة:

تعدّ ما بعد الكولونياليّة من أحد الحقول الجديدة والتي لها تأثير بليغ المستوى على الدول وفي ما بين المجتمعات خاصة تلك التي عرفت الاستعمار بالدرجة الأولى دون أن تتخلص منه نهائياً بسبب هذا الإرث المتراكم والمترسّب عندها في ذاكرتها الجماعيّة. إلا أنّ ربط الاستعمار بما بعد الاستعمار هو محكّ الإشكاليّة

ص: 341

التي انقاد بموجبها الأوّل في احتلال الإنسان والأرض والثقافة... بينما الثاني حاول استغلال ما قامت عليه سياساته قديماً للاستفادة منها أكثر استفادة بتصويبها لصالحه أكثر من غيره.

إنه صراع جديد لكنه من نوع مختلف، قد نتّفق حوله أو نختلف لكنه حريّ بنا الاضطلاع به والاهتمام ما دام يشكّل عائقاً جديداً ذي تحدٍّ كبير المستوى في علاقة المستعمِر بالمستعمَر قديماً وحديثاً وما نتج عنهما وما سيتفرع عنها من علاقات متوائمة أم متناقضة في البحث عن المصالح والغايات والأهداف التي تنجرّ من ورائها السياسات المختلفة والمتضاربة من دولة إلى أخرى.

ومن هنا يتعيّن التوقّف على مسارات ما بعد الكولونياليّة لكن بعد معرفة أوليّة للكولونياليّة ذاتها إذا أردنا تعميق المعرفة بالماضي خاصة بالتوقّف عند أخطاء التاريخ وعقد الواقع وتحديات المستقبل كون أن العمل شاقّ وجادّ وضروريّ في فهمه وطرحه ومعالجته بما يتماشى وأساليب معاينة حقائقه وأبعاده ورهاناته.

ص: 342

هذا الكتاب

لا يجيء الكلام على «ما بعد الاستعمار» من باب الاستيهام بنهاية الأطروحة الاستعمارية سواءً تعلق الأمر بالاصطلاح ،والمفهوم أم بالاختبارات التاريخية فإن المناظرة مع هذه الأطروحة، وخصوصاً في زمن الحداثة الفائضة، باتت تتخذ لها منزلةً استثنائيةً. مفهوم «ما بعد الاستعمار» كمثل سواه من المفاهيم الوافدة، يأتينا مكتظًا بالالتباس والغموض تعريفاته وشروحه وتأويلاته تكثرت تبعاً لطبائع البيئات الثقافية والإيديولوجية حيث ولد وذاع أمره. لذا سيكون على كل منشغل بهذا المصطلح أن يتتبع سلالته الممتدة عميقاً في التاريخ الحديث، وأن يتعرّف إلى أوروبا بما هي أرض نشأته وفكرته وامتداده عبر الاستيلاء والغزو.

* * *

تتناول هذه السلسلة بأجزائها الأربعة الأطروحة الاستعمارية وما بعد

الاستعمارية في إطار تحليلي نظري، وكذلك من خلال معاينة للتجارب التاريخية في آسيا وأفريقيا بدءاً من القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا.

شارك في هذه السلسلة مجموعة من المفكرين والباحثين وعلماء الاجتماع من أوروبا وأميركا والعالمين العربي والإسلامي، وقد توزعت أبحاثهم وفقاً للترتيب المنهجي على بابين رئيسيين :

باب المفاهيم وباب السيرة التاريخية لعدد من التجارب الاستعمارية وآليات

مواجهتها ثقافياً وكفاحياً.

المركز المالي للدراسات الاستر التحية

http://www.iicss.iq

islamic.css@gmail.com

تطبيق المركز

ص: 343

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.