نحن و أزمنة الإستعمار المجلد 2

هوية الکتاب

العتبة العباسية المقدسة

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

الجزء الثاني

نحن وأزمنة الاستعمار

نقد المباني المعرفية للكولونيالية وما بعد الكولونيالية

تحرير وتقديم

محمود حیدر

2018 م

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

نحن وازمنة الاستعمار : نقد المبانى المعرفية للكولونيالية وما بعد الكولونيالية / تحرير وتقديم محمود حيدر. - الطبعة الأولى.- بيروت [لبنان] : العتبة العباسية المقدسة، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، 1439 ه- - 2018.

4 مجلد : ايضاحيات ؛ 24 سم يتضمن ارجاعات ببليوجرافیة.

ISBN: 978-9922-604-11-4

1. ما بعد الاستعمارية .2 الاستعمار. 3. الامبريالية. 4. العراق- الاستعمار. الف. حيدر، محمود، محرر ومقدم. ب. العنوان.

JV51.N34 2018

مركز الفهرسة ونظم المعلومات

ص: 3

الفهرس

مقدمة المركز : لماذا هذه السلسلة؟ ... 6

نقد مباني العقل الإمبريالي / مدخل تأسيسي

محمود حیدر ... 9

الفصل الثالث : الاستعمار الجديد

الاستعمارية والاستعمارية الجديدة

كوفي أنكوما ... 20

آليات الاستعمارية الجديدة

ديانا حاج ... 26

الهوية الوطنية للأمة بين التأصيل والهيمنة

نبيل علي صالح ... 66

طبخة الاستعمار الحديث

محمود بري ... 89

ظاهرة الاستعمار الجديد

زبير عباس ... 105

دور الحرب الناعمة في مخططات الغرب في استعمار العالم الإسلامي

جاسم يونس الحريري ... 122

الاستشراق والتبشير

الدكتور عبد العالي احمامو ... 146

ص: 4

الفصل الرابع: الاستعمار المعرفي

المثقَّف المستعمَر وما بعد المستعمر

يوسف جيرار ... 172

الإمبريالية الأكاديمية

ج. ك. راجو ... 209

الاستظهار الثقافي للاستعمار الاستيطاني

أمين دراوشة ... 254

علم الاجتماع الاستعماري

رامون ڠروسفوڠيل ... 283

إمبريالية الفن السابع

حيدر محمد الكعبي ... 300

في مواجهة التغريب الفكري

عماد عبد الرازق ... 321

الاستعمار التطبيعي

داري آرووُلو ... 340

التعليم وترسيخ الاحتلال الإنجليزي لمصر 1882-1952

عماد الدين عشماوي ... 356

التعليم في عهد الاستعمار وأثره في صناعة النخب

طارق الفاطمي ... 380

الإمبريالية السياحية

د. عادل الوشّاني ... 402

ص: 5

مقدمة المركز: لماذا هذه السلسلة؟

لماذا هذه السلسلة؟

هل من حاجة في وقتنا الراهن، مع ما يحدّق بالعالم الإسلامي من مخاطر وصراعات وفوضى عارمة، إلى فتح ملف الاستعمار من جديد؟

تُظهر حالة العالم المعاصر وكأن الاستعمار ولّى وانقضى .. وأن الدول حازت استقلالها وتحررت من نيره.. حتى ليظن الكثيرون أن الكلام الآن على المسار التاريخي للاستعمار هو بمثابة رجوع إلى الماضي، واستعادة لمفاهيم وأدبيات فات زمانها.. وبإزاء هذه الحالة يُطرح السؤال التالي: أليس من الأولى بمكان الإعراض عن ذلك كله، والاتجاه نحو أفق معرفي جديد لبناء المستقبل؟!

تساؤلات وأسئلة قد تتبادر للوهلة الأولى إلى الذهن لدى تناول هذه السلسلة حول الاستعمار وما بعد الاستعمار كنظرية وتاريخ وتجربة.. ومع هذا فهي تحتاج إلى أجوبة واضحة...

لا نعدم الرأي لو قلنا إنَّ ما يحدث اليوم من صراعات داخلية واستلاب للهوية الوطنية، ومن تخلّف في الميادين كافة، إنّما هو ثمرة ما زرعه الاستعمار بالأمس.صحيح أن حقبة الانتداب بصيغتها الكلاسيكية قد انقضت، لكن هذا الانتداب يعود ثانية لينتشر ويسود في لبوس جديد، متسلّحاً بالقوة الناعمة حيناً، وأحياناً أخرى بأشكال استعمارية لا حصر لها.

٭٭٭

ص: 6

في مشروعنا الهادف إلى إعادة بناء الذات واستنهاضها، يغدو من المستحيل مفارقة ذاكرة التاريخ ونسيان الماضي. ذلك بأنه ماضٍ يمتلئ بفوائد الدروس والعبر، كما يكشف عن كيفية التعامل مع الآخر الاستعماري ثقافة وممارسة لئلا نقع ثانية في فخّه مثلما وقع أسلافنا. كذلك فإنَّ استرجاع بطولات أعلام الأمة في كفاحها ضدّ المستعمِر سيكون من شأنه تحقيق اندفاعة معنوية، تستنهض أجيالنا وتبثّ فيها روح العزّة والإباء.

وما من ريب في أن الواقع الذي نعيشه اليوم يفترض بنا - كمسلمين، نعتقد بخاتمية الدين الإسلامي وعالميته - العمل على بلورة استراتيجية معرفية من أجل الوقوف على حقيقة التحولات التي مرت وتمر بها بلادنا ومجتمعاتنا في مواجهة الهيمنة الاستعمارية بوجوهها كافة.

عطفاً على ما تقدم، يسعى المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية إلى رسم أهداف هذا المشروع وفقاً للمرتكزات التالية:

أولاً: تنمية وتفعيل البنى العلمية والمعرفية، السياسية والاقتصادية والسيادية لبلادنا ومجتمعاتنا. وذلك انطلاقاً من أن نجاح الاستعمار كان بسبب تخلف هذه البلدان والمجتمعات في الميادين كافة. وللتغلّب على هذه الوضعية بات ضرورياً رصد ومعرفة اتجاهات التفكير الاستعماري بصيغتيه التقليدية والمعاصرة، والسعي إلى بلورة الأفكار والتصورات التي تساهم في إعادة بناء الذات بناءً أصيلاً يعتمد على التنمية الشاملة للأمة، فضلاً عن الإفادة مما تختزنه من قدرات ذاتية تؤهلها إلى الرقيّ والتقدّم.

ثانياً: استخدام الثورة المعلوماتية وتوظيفها في المشروع النهضوي الإسلامي. إذ إنَّ العقل الاستعماري ما فتئ يستفيد من وسائل الإعلام وتقنيات التواصل، لمواصلة استراتيجيات الهيمنة عبر التضليل وطمس الحقائق.

ثالثاً: السعي نحو توحيد صفوف أبناء الأمة على أساس الموقف الموحّد والقرار الواحد في مواجهة التحديات المصيرية. تتضاعف أهمية هذا المسعى التوحيدي تحت وطأة الاختلافات المذهبية والثقافية؛ الأمر الذي يوجب التصدي لمشاريع الفتنة والحروب الأهلية التي يغذيها العقل الاستعماري، لتبرير حضوره تحت ذريعة أنه المنجي والمدافع عن حقوق الإنسان.

ص: 7

رابعاً: لزوم الاهتمام بالجيل الشاب وتنمية وعيه الثقافي ولاسيما ما يتصل منه بإدراك حقيقة الاستعمار لئلا يقع فريسة الإمبريالية الإعلامية وأضاليلها.

خامساً: كشف حقيقة ازدواجية الغرب في تعاطيه مع مقولات وعناوين معاصرة مثل حقوق الإنسان، والحرية، والديمقراطية وحق تقرير المصير. إذ إن هذه المدّعيات تبدو صحيحة بالنسبة إليه ما دامت تتماهى وتخدم مصالحه، إلا أنها سرعان ما تزول وتغيب إذا تضاربت مع هذه المصالح . ولا بد من التنبيه في هذا الصدد إلى أننا عندما نذمّ الغرب فإنا نذمّهُ كنظام ومؤسّسة سياسية إمبريالية لا كشعوب. فأهل الغرب كبقية الشعوب تختزن الإيجابيات والسلبيات وكثيراً ما كانت ضحية التضليل الإعلامي حيث استُدرِجَت لتكون إلى جانب المؤسسة الحاكمة لتبرير احتلال أرض الآخر والاستعلاء عليه. ولكن في مقابل هذا بقي ثمة أصوات حرّة وضمائر يقظة كشفت تهافت النظام الغربي بالنقد والاعتراض والضغط.

سادساً: لزوم الاهتمام بنظريات وأفكار ما بعد الاستعمار، وذلك لمنزلتها النقدية ومساهمتها الفاعلة في تبيين الشواهد على احتضار الحضارة الغربية، وبيان العدّ النزولي لتاريخها الحديث. فهذه النظريات والأفكار التي نعمل على تفعيلها في إطار مشروعنا المعرفي سوف تساهم في نقد البنية الاستعمارية وأسسها المعرفية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهي مصداق قوله تعالى: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) (الحشر – 2).

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وآله الميامين

النجف الأشرف

شهر رمضان 1439ه-

ص: 8

نقد مباني العقل الإمبريالي / مدخل تأسيسي

اشارة

نقد مباني العقل الإمبريالي / مدخل تأسيسي

محمود حیدر

محمود حیدر (1)

لا يجيء الكلام على «ما بعد الاستعمار» من باب الاستيهام بنهاية الأطروحة الاستعمارية. سواءً تعلق الأمر بالاصطلاح والمفهوم، أمْ بالاختبارات التاريخية، فإن المناظرة مع هذه الأطروحة، وخصوصاً في زمن الحداثة الفائضة، باتت تتخذ لها منزلةً استثنائيةً. مفهوم «ما بعد الاستعمار» كمثل سواه من المفاهيم الوافدة، يأتينا مكتظًّا بالالتباس والغموض. تعريفاتُه وشروحُه وتأويلاتُه تكثَّرت تبعاً لطبائع البيئات الثقافية والإيديولوجية حيث ولد وذاع أمره. لذا سيكون على كل منشغلٍ بهذا المصطلح أن يتتبَّع سلالته الممتدة عميقاً في التاريخ الحديث، وأن يتعرّف إلى أوروبا بما هي أرض نشأته وفكرته وامتداده عبر الاستيلاء والغزو. ثم عليه من بعد ذلك كله أن يتميَّز لفظة «ما بعد الاستعمار» بين كونها مفهوماً مضادّاً للاستعمار ودعوة كفاحية للتحرر منه، وبين كونها وسيلةً معرفيةً تستعملها السلطة الإيديولوجية الحاكمة في الغرب، لتنتج أنظمة مفاهيم جديدةٍ تمكِّنُها من إدامة الهيمنة على العالم.

ص: 9


1- مفكر وباحث في الفلسفة - لبنان. مدير التحرير المركزي لفصلية الاستغراب.

من أجل ذلك وجدنا أن نقارب المفهوم على منحَيَيْن متوازيين:

الأول: منحى الجغرافيا الأوروبية حيث مسقط رأس المفهوم وظروف ولادته.

الثاني: منحى الجغرافيات المستباحة، أي من الأرض التي نشأت فيها الفكرة ال «المابعد استعمارية»، كأطروحة مقاومةٍ فكريةٍ وكفاحيةٍ للهيمنة والتوسع.

مما يجوز بيانه، أن ثمّة خلطاً مفهومياً يعود إلى سوءِ فهمٍ للمصطلح ولطريقة التعامل معه تاريخياً ومعرفياً. فقد بدا لكثيرين في الأوساط الغربية، وكذا في العالمين العربي والإسلامي، أن «ما بعد الاستعمار» مفهوم ينتسب إلى الجيل الاصطلاحي المستحدث الذي شاع صيته في ما عرف ب- «المابعديات». فلقد بدا جليّاً أن كل هذه «الما بعديات» ك-: «ما بعد الحداثة» - «ما بعد العلمانية» - «ما بعد التاريخ»، أو «نهاية التاريخ»، «ما بعد الميتافيزيقا»، «ما بعد الإيديولوجيا» .. وأخيراً وليس آخراً ما «بعد الإنسان» أو ما سمي ب- «الإنسان الأخير».. إن هي إلا منحوتاتٌ لفظيةٌ يعاد تدويرها كلما دعت الحاجة. على هذا الأساس أمكن لنا أن نفترض أن السياق «المَابَعْدي» هو تدبيرٌ احترازيٌّ أخذت به المنظومة الحداثية لوقاية نفسها من الخلل والتهافت والاضمحلال. وعليه سنكون هنا بإزاء مهمةٍ تفكيكٍ ومعاينةٍ لمصطلح حديثِ العهد وينطوي على شيءٍ من الغموض واللبس، قصد جلاء مراميه وبيان غاياته.

لا مناص من الإلفات، ابتداءً، إلى أن مفهوم «ما بعد الاستعمار» ليس جديداً في مسرى التاريخ الغربي الحديث. فقد ظهر في سياق تنظيريٍّ بدأت مقدماته مع نقد مسالك الحداثة وعيوبها في منفسح القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ثم ليتحول من بعد ذلك إلى تيَّارِ نقديٍّ عارمٍ بعد الحربين العالميتين في مطلع ومنتصف القرن المنصرم. لذا جاز القول أن النظريات ما بعد الاستعمارية اتصلت اتصالاً نقديّاً بعصر التنوير، ثم تمدَّدت إلى الأحقاب التالية عبر مساراتٍ نقديةٍ للعقل الاستعماري بلغت ذروتها مع اختتام الألفية الميلادية الثانية. مع ذلك، لم يكن لهذه الموجة النقدية أن تتخذ بعداً انعطافيّاً في الثقافة الأوروبية لولا أنها ذهبت إلى المسِّ بالعقل المؤسِّسِ

ص: 10

لتاريخ الغرب وسلوكه. وللبيان، فإن أول ما أُخِذَ على هذا العقل في السياق النقدي، إضفاؤه على الاكتشافات العلمية تبريراً أخلاقيّاً ومعنىً حضاريّاً يؤكد فرادة الغرب واستعلائه على بقية العالم. فازدهار العلم - كما بات معلوماً - لم يكن فقط بسبب فضول العلماء والمفكرين وتوثُّبهم لاستكشاف عالمه الغامض، وإنما أيضاً وأساساً بسبب التوسع الاستعماري الذي أوجبه وأطلق مساره.

٭٭٭

من هذا المطرح المعرفي بالذات حقَّ لنا أن نبتني رؤيتنا للتفكير «الما بعد استعماري» على ركيزة النقد. تقول الفَرَضِية: إن نظريات وتيارات ما بعد الاستعمار ما كانت لتولد لو لم يكن المستهدَف منها أصلاً، هو العقل الاستعماري نفسه. من أجل ذلك دأب مفكرون وعلماء اجتماع على تعريف نظرية «ما بعد الاستعمار» بأنها نظرية تهدف إلى تحليل كل ما أنتجته الثقافة الغربية باعتبارها خطاباً مقصديّاً يحمل في طياته توجهاتٍ استعماريةً إزاء المجتمعات الأخرى. كذلك سنجد في الأدبيات الفكرية الغربية اليوم من يرى أن مصطلحي [«الخطاب الاستعماري» و «نظرية ما بعد الاستعمار»] يشكلان معاً حقلاً من التحليل ليس جديداً بحد ذاته، ولكن معالمه النظرية والمنهجية لم تتضح إلا مؤخراً مع تكثيف الاهتمام به، وازدياد الدراسات حوله.

لننظر في ماهية كل منهما:

المصطلح الأول يشير إلى تحليل ما بلورته الثقافة الغربية في مختلف المجالات من نتاجٍ يعبّر عن توجهات استعمارية إزاء مناطق العالم الواقعة خارج نطاق الغرب، الأمر الذي يشكل في مجمله خطاباً متداخلاً بالمعنى الذي استعمله الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو لمصطلح «الخطاب».

أما الثاني، أي «النظرية ما بعد الاستعمارية»، فيحيل إلى نوعٍ آخَر من التحليل ينطلق من افتراض أن الاستعمار التقليدي قد انتهى، وأن مرحلةً من الهيمنة - تسمى أحياناً المرحلة النيو - إمبريالية - قد حلَّت وأنشأت ظروفاً مختلفةً تستدعي تحليلاً من

ص: 11

نوعٍ جديدٍ. ولذا، سيظهر لنا أن المصطلحين ناشئان من وجهات نظرٍ متعارضةٍ في ما يتصل بقراءة التاريخ. فبينما يرى بعضهم انتهاء مرحلة الاستعمار التقليدي، وبالتالي، انتهاء الخطاب المتصل به، وضرورة أن يتركز البحث في ملامح المرحلة التالية، وهي مرحلة ما بعد الاستعمار، يرى آخرون أن الخطاب الاستعماري لا يزال قائماً، وأن فَرَضِية «المابعدية» لا مبرر لها.

٭٭٭

لم تخلُ ساحات الغرب من نقدٍ مبيّن للسلطة الاستعمارية. وهذا في تقديرنا يعتبر أساساً مهماً لفهم الأطروحة الما بعد استعمارية وتحرّي مقاصدها. ولسوف تصبح العملية النقديّة ذات أهميّة مضاعفةً حين تسلك هذه الأطروحة مسارها التواصلي لتعرب عن علاقةٍ وطيدةٍ بين الثورة النقدية في الغرب الاستعماري، والحركة الفكرية والكفاحية الناشئة في المجتمعات المستعمَرة.

استناداً إلى هذا التلازم بين ثورة النقد في المركز الإمبريالي، واليقظة النقدية لنخب الدول المستباحة من المنطقي أن نحصِّل النتيجة التالية: إن الأطروحة ما بعد الاستعمارية في وجهها الانتقادي هي رؤيةً تتشكل من مضادات معرفيّة متظافرة للاستعمار في الحقول الثقافية والسياسية والسوسيولوجية والتاريخية. وهي إلى ذلك تعتبر في مقدم الأطروحات التي تستكشف عمق العلاقة بين بلدان الشرق والبلدان الاستعمارية في أوروبا. لقد عكف المساهمون على تظهير هذه النظرية عبر كشف ما تختزنه ثقافة وسلوك الحكومات الغربية إزاء الدول والمجتمعات المسيطّر عليها .

من هذا الفضاء الانتقادي على وجه التعيين، يشكل فكر ما بعد الاستعمار مدرسة تفكيرٍ داخل النظام الاستعماري نفسه، من دون أن يعني ذلك حصر المنتمين إلى هذه المدرسة بالإنتلجنسيا الأوروبية. فلنخب الشرق ومفكريه مساهمات معمّقة في وضع الأسس الفكرية التحررية للخطاب ما بعد الاستعماري.

ص: 12

لقد تولت هذه النخب على الجملة مهمة معرفيةً نقديّةً مركبةً: نقد الغازي ونقد التابع ضمن خطبةٍ واحدةٍ. احتل نقد الاستعمار، وكذلك نقد النخب المتماهية معه داخل المجتمعات المستعمَرة، مكانةً محوريةً في تفكيرهم. تركَّزت المسألة الأساسية التي عالجوها على مشكلة الاغتراب بوصف كونها غربة إنسان تلك المجتمعات عن ذاته الحضارية وهويته الوطنية في سياق تماهيه مع ثقافة الغرب ومعارفه. هذه الحالة المخصوصة من الاغتراب (alienation) ستجد من يصفها بعبارة موفَّقة: "اقتلاع الذات بواسطة الذات إياها". وشرحها أن الثقافة الاستعمارية تتحول عن طريق الاغتراب إلى ضربٍ من ولاءٍ نفسيٍّ، موصولٍ باستيطانٍ معرفيٍّ عن سابق إرادةٍ ووعيٍ. فالاغتراب في حالته القصوى هو أشبه بانصباب وعي المستعمِر في صميم وعي المستعمَر على النحو الذي يصبح المهَيْمَنُ عليه غافلاً عن نفسه وعن مصيره وعن المكان الذي هو فيه. وفي هذه الحال يكفّ «المغترِبُ» عن أن يصبحَ سيدَ نفسه ويتحول إلى عبدٍ لآلة العمل وخطاب مالِكيها. عليه، يصير المثقف المستعمَر كائناً صاغراً تمَّ انتزاعه من زمانه الخاص ومكانه الخاص؛ حتى أنه يشعر في أحيان شتى كالغريب بين أهله، ناظراً إليهم ككائناتٍ متخلفةٍ وبربريةٍ. وبحسب فرانز فانون صاحب «معذبو الارض» فإن «المثقف المستعمَر يقذف بنفسه وبنهمٍ إلى الثقافة الغربية كما الأطفال المتبنَّين الذين لا يكفُّون عن البحث عن إطارٍ عائليٍّ جديدٍ. لكن هذا المثقف، وهو يسعى ليجعل من الثقافة الأوروبية ثقافته الخاصة، لا يكتفى بمعرفة رابليه، أو ديدارو، أو شكسبير أو إدغار بو وسواهم، بل سيدفع دماغه إلى الحدود القصوى تواطؤاً مع هؤلاء الرجال».. في حقبة تالية من زمن الحداثة سيحتل رهطٌ من فلاسفة الغرب وعلمائه مساحةً بيّنةً من تفكير النخب العربية والإسلامية إلى الدرجة التي جعل هؤلاء من أولئك، أوثاناً يستلهمون أفكارهم وأفهامهم، ويتخذونها مسالك ومناهج عن ظهر قلب.

تلقاء النقد النخبوي «العالم ثالثي» للمنظومة الاستعمارية حفلت الميادين

ص: 13

الغربية بتيارات نقدية استطاعت الانفلات بهذا القدر أو ذاك من الوظائفية الإيديولوجية للسلطة. رؤية هذه التيارات تجاوزت النقد الكلاسيكي لليبرالية ثم لتتضاعف وتتمدد مع ظهور حركات التحرر الوطني في البلدان المستعمرة بعد الحرب العالمية الأولى. في التنظير النقدي الذي قدمته هذه التيارات، أن سيطرة الإنسان على الإنسان لا تزال تمثل في الواقع الاجتماعي، ما يشي بأن استمراراً تاريخيّاً، ورابطةً وثقى بين العقل ما قبل التكنولوجي والعقل التكنولوجي. بيد أن المجتمع الذي يضع الخطط ويشرع فعلاً في تحويل الطبيعة عن طريق التكنولوجيا يغير المبادئ الأساسية للسيطرة. فالتبعية الشخصية (تبعية العبد للسيد، والقن لصاحب القصر، والوالي للملك، إلخ) يحل محلها - شيئاً فشيئاً - نوعٌ آخرُ من التبعية: لقد باتت السيطرة الاستعمارية الجديدة تعتمد في أدائها على درجةٍ أكبرَ من العقلانية، عقلانية مجتمعٍ يدافع عن بنيته الهرمية ويستغل في الوقت نفسه وعلى نحوٍ أنجعَ باطِّرادٍ الموارد الطبيعية والفكرية، ويوزع على نطاقٍ متعاظمٍ باستمرارٍ أرباح هذا الاستغلال. وإذا كان الإنسان يجد نفسه مقيداً على نحوٍ متعاظمٍ إلى جهاز الإنتاج، فإن هذه الواقعة تكشف عن حدود العقلانية وعن قوتها المشؤومة: فجهاز الإنتاج يؤبد النضال في سبيل الوجود، ويتجه إلى أن يجعل منه موضوعاً لمزاحمةٍ عالميةٍ شاملةٍ تهدد حياة أولئك الذين يبنون ذلك الجهاز ويستخدمونه.

والعقلانية الاستعمارية التي حدَّت وظيفة استعمال العقل بجلب المنافع المحضة، هي عقلانية مجردة من الأخلاقية. ومثل هذه العقلانية الوظائفية راحت تتمظهر مع تعاقب الزمن كسمتِ تكوينيٍّ للشخصية الاستعمارية. فلقد بيّنت اختبارات التاريخ أن من أمْيَز طبائع العقل الاستعماري إضفاء صبغة عقلانية على كل فعالية من فعالياته يقطع النظر عن أثرها الأخلاقي. إنّ ما ينتج من هذا في آخر المطاف هو أن تتحول العقلانية إلى ذريعةٍ فادحةٍ للاستخدام الإيديولوجي في الفكر الإمبريالي.

ص: 14

لنقرأ الإشكال بشيءٍ من التأنيّ:

في الفكر الاستعماري الذرائعي يُنظَر إلى كلِّ ممكنٍ وواقعيٍّ بوصفه أمراً عقلانيّاً. يحصل هذا حتى لو كان مقتضى الوصول إلى الهدف إيذاء الغير وانتهاك حياضه السيادية. في العقلانية الاستعمارية التي ارتكنت إلى العلوم الطبيعية كمعيارٍ أوحَدِ لحل مشكلات العالم، تتجرد الذات الإنسانية من كلِّ محتوى أخلاقيٍّ وسياسيٍّ وجماليٍّ. وما ذاك إلا لأن المهمة الجوهرية لهذه العلوم تقتصر في مناهج التفكير الاستعماري على الملاحظة «المحضة» والقياس المحض. ذلك بأن تحديد «طبيعة الأشياء» وطبيعة المجتمع جرى على نحوٍ يبرر «عقلانيّاً» الاضطهاد والاستغلال. هكذا لم تكن خرافة «الحروب العادلة» التي تحولت إلى مقولةٍ سائدةٍ في العقد الأخير من القرن الماضي، إلا الدليل البيّن على هذا الضَّرب من العقلانية المبتورة. لم تدرك الحداثة بسببٍ من غفلتها ومَيْلها المحموم الى السيطرة، أن المعرفة الحقّة والعقلَ الحقِّ يقتضيان السيطرة على غلواء الحواس، والتحرر من قهر الغير والسيطرة عليه. المفارقة في «العقلانية» الما بعد استعمارية، أنها حين تُقِرُّ بالقيم الإنسانية كسبيل للعدل والسلام العالميَيْن، تعود لتؤكد - وبذريعة العقلانية إياها - أن هذه القيم قابلةٌ لأن تتخذ مكانتها في أسمى منزلة ( أخلاقيّاً وروحيّاً)، ولكنها لا تُعَدُّ حقائقَ واقعيةً. تلك معادلةٌ أساسيةٌ من معادلات فلسفة الاستعمار التي بناها العقل البراغماتي للحداثة. تقول هذه المعادلة صراحةً: إذا كانت قيم الخير والجمال والسلام والعدالة غير قابلةٍ للاستنباط من الشروط الأنطولوجية أو العلمية، فلا مجال بالتالي لأن نطالب بتحقيقها. فهذه القيم في نظر العقلانية العلمية ليست إلا مشكلاتٍ تتعلق بالتفضيل الشخصي. ولما كانت هذه الأفكار غيرَ علميةٍ، فإنها لا تستطيع أن تواجه الواقع القائم إلا بمعارضةٍ ضعيفةٍ وواهنةٍ.

نضيف: إن العقلانية المنزوعة الأخلاق - بعدما استبدَّ بها جشع الاستيلاء

ص: 15

والسيطرة - هي نفسها العقلانية التي دفعت بالعالم المعاصر إلى الانزياح والضلال وعدم اليقين.

مع استهلال الألفية الميلادية الثالثة سوف يظهر لنا كأن اللحظة لم تَحِنْ بعدُ لكي يختلي العقل الغربي بنفسه ويتأمَّل. المركزية الغربية بصيغها النيوليبرالية لا تنفك تستغرق في غفلتها بسببٍ من عقلانيتها البتراء. حتى السؤال الذي أنتجته ليعثر لها على طريقةٍ فضلى لسيادة العقل، ما فتئ أن انقلب عليها. صار سؤالاً استجوابيّاً على ما يقدمه المشهد العالمي من تغييبٍ لأحكام العقل وقوانينه، كأنَّما انقلبت «عقلانية الحداثة» على نفسها، فاستحالت «طوطماً» للخداع والإيهام، بعدما كانت أنجزت فلسفتها «العظمى» في «تأليه» الإنسان.

٭٭٭

جرى التنظير الفلسفي للعقلانية الاستعلائية مجرى اليقين في غريزة الغرب السياسي. أسس «روحيّاً» لحملات القوة، وسوَّغ لمقولة استعمار الشرق، فجعلها تاريخاً سارياً لا تتوقف أحقابه عند حدٍّ. زعمت عقلانية التنوير أنها الروح الذي يسري بلا انقطاع في تاريخ البشرية، وأنها البديل للزمان اللاّعقلاني الذي استولدته جاهلية القرون الوسطى الأوروبية. ولذلك فليس من قبيل التجريد أن يستنتج إيديولوجيو العقلانية الغربية المتأخرة «أنَّ فن تكوين الحقائق أهم من امتلاك الحقائق». لقد انبرى هؤلاء إلى استدعاء هذه المقولة ورفعها إلى مستوىً متعالٍ. فكان من نتيجة ذلك أن آلت بهم إلى ذروة اللاّعقلانية. المتمثلة في الواقع بتسويغ اضطهاد الشعوب كسلوكٍ مقبولٍ ومعقولٍ. لم تعد غاية العقل الإمبريالي المستحدث الكشف عن جوانب اللاّمعقول في الواقع، بل صارت غايته الكبرى البحث عن الصيغة التي يمكن بفضلها تشكيل الواقع طبقاً للمصلحة. كذلك لم تعد الغاية

ص: 16

هي التجاوز والتغيير، بل أصبحت هي التبرير عينهُ. وبدل أن يكون العقل الإنساني موجِّهاً للواقع المعاصر أصبح خاضعاً لأغراض الواقع ولوازمِه...».

استناداً إلى هذا التحويل الذي أجراه العقل الاستعماري في البناء العام لقيم الحرية والعدالة والمساواة، شقَّ الفكر النقدي سبيله الاحتجاجي على هذا النوع من الارتداد الكارثي. لقد اتخذت العقلانية هنا صفة جديدة كل الجدَّة. تحولت إلى إيديولوجيةٍ فظّةٍ تسوِّغ لنفسها كل ما ترسمه من مطامح. عند انتهاء الحرب الباردة (1990) أخذت النيوليبرالية فرصتها لكي «تؤدلج» انتصارها. ولقد تسنَّى لها بوساطة شبكةٍ هائلةٍ من «الميديا البصرية والسمعية» - أن تعيد إنتاج هيمنتها ثقافياً واقتصادياً ونمط حياة على نطاق العالم كله، كان على «عقلانية» الليبرالية الجديدة أن تقطع صلتها بالموروث المفاهيمي لحداثة التنوير. وها هي تحسم مدَّعاها بتقريرها أن تداعيات المشهد العالمي «لا تعكس فقط نهاية التوازن الدولي بل نهاية التاريخ بالذات: أي نهاية التطور الإيديولوجي للبشرية كلها، وتعميم الديمقراطية الليبرالية كشكلٍ نهائيٍّ للسلطة على البشرية جمعاء».

هل بلغت العقلانية بصيغتها الإمبريالية المستحدثة حدَّ «الجنون» حين جعلت العالم أرضاً منزوعة القيم؟..

ذلكم هو السؤال الذي طفق يشكل الهمَّ الأقصى لنقَّاد السلوك الاستعماري. المذاهب النقدية الغربية تنبَّهت إلى مثل هذا المنعطف بصورةٍ مبكرةٍ. لذا أجابت في ما يشبه الفانتازيا الفلسفية أنَّ اللاّعقلانية غالباً ما ترتدي رداء العقل لكي تعيد اكتشاف ذاتها. ربما أدركت براغماتيات السيطرة في الغرب أنها مضطرة إلى الهروب من العقل تحت وطأة المصلحة وغريزة البقاء. لكن سيبدو أنَّ لعبة الهرب من العقل إلى الجنون هي عودةٌ إلى العقل بمخيلةٍ أخرى. وهذه السيرورة لا بد أن تنتج

ص: 17

معرفةً على صورتها .. معرفةً تسعى إلى ملء الخواء، ولو بإيديولوجيات ثَبُتَ بطلانها ...

في عالما العربي والمشرقي والإسلامي الراهن يصبح من المهم أن يندرج هذا التفكير التحرري النقدي للاستعمار إلى منظومةٍ معرفيّةٍ تؤسس للإحياء الحضاري في مواجهة الإقصاء الاستعماري المستأنف. فلكي يتخذ فكر ما بعد الاستعمار مكانته كواحدٍ من مفاتيح المعرفة في العالم العربي والإسلامي، وَجَبَ أن تتوفر له بيئات راعية، ونخب مدركة، ومؤسسات ذات آفاق نهضوية، في إطار مشروعٍ حضاريٍّ متكاملٍ.

٭٭٭

تتناول هذه السلسلة بأجزائها الأربعة الأطروحة الاستعمارية وما بعد الاستعمارية في إطار تحليليٍّ نظريٍّ، وكذلك من خلال معاينة للتجارب التاريخية في آسيا وأفريقيا بدءاً من القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا.

شارك في هذه السلسلة مجموعة من المفكرين والباحثين وعلماء الاجتماع من أوروبا وأميركا والعالمين العربي والإسلامي، وقد توزعت أبحاثهم وفقاً للترتيب المنهجي على بابين رئيسيين:

- باب المفاهيم وباب السيرة التاريخية لعدد من التجارب الاستعمارية وآليات مواجهتها ثقافياً وكفاحياً.

ص: 18

الفصل الثالث : الاستعمار الجديد

اشارة

الاستعمار الجديد

ص: 19

الاستعمارية والاستعمارية الجديدة

اشارة

قراءة معاصرة لأطروحات سارتر بشأن الاستعمار

كوفي أنكوما

کوفی أنکوما (1)

حين صدر كتاب الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر «الاستعمارية والاستعمارية الجديدة» أول مرة قبل بضعة عقود، هبَّت عواصف ثقافية تجاوزت النطاق الأوروبي إلى سائر بلدان العالم في ذلك الوقت. فهذا الكتاب الذي دوَّنه فيلسوف الوجودية في زحمة الجدل الفلسفي كان له أثر سياسي وايديولوجي واسع داخل البيئة اليسارية العلامية في حين كانت ردود التيارات اليمينية المحافظة شديدة القسوة.

في ما يلي إعادة قراءة للكتاب في ضوء التحولات المعاصرة التي عصفت بالعالم، حيث يتبين لنا القيمة المميزة لتوجهات سارتر حيال الاستعمار بأشكاله وتنوعاته وتقنيات سيطرته في زمن ما بعد الحداثة.

ص: 20


1- كاتب أفريقي. مراجعة كتاب «الاستعمارية والاستعمارية الجديدة لجان بول سارتر (مدخل كتبه روبرت يونج، ومقدمة كتبها عزالدين حدور، وترجمة - من الفرنسية إلى الانجليزية - عزالدين حدور، ستيف بريور وتاري ماك ويليامز) دار نشر روتلدج: نيويورك، لندن. 2001. الصفحات: xxiv + 200 Colonialism and Neocolonialism by Jean-Paul Sartre (With a Preface by Robert J. C. Young and Introduction by Azzedine Haddour; Translated by Azzedine Haddour, Steve Brewer and Terry McWilliams) New York London: Routledge, 2001 . Pp . xxiv + 200 . :ترجمة: بهاء درويش. مراجعة: كريم عبد الرحمن.

أضحى الحديث في الآونة الأخيرة عن «حقوق الإنسان» من حيث كونه أساس التعاون الدولي هو الحديث المتداول والمقبول. فمن أماكن الحماية التي تنطلق منها عملياتهم، يُعَدُّ موظفو وكالات التبرع «حقوق الإنسان» المعيار الأكثر أهمية في تقييم مدى استحقاق المستفيدين المقترح مساعدتهم، حتى في ظل أصعب الظروف مثل وجود أطفال تموت جوعاً وقرار سلبي يحرمهم ما يقتاتون به للاستمرار في الحياة. لقد وصل الأمر بالمرء إلى درجة الشعور بأن «حقوق الإنسان» كانت ولا تزال أهم فكرة نشأت وطُبقت في تاريخ الفكر الغربي.

إلا أن الممارسات لا تدعم مثل هذا الزعم مع الأسف. لقد تم في ما مضى قص الحكاية ولكن يبدو أننا في حاجة لقصّها مرة أخرى. نحكي كيف عاش غالبية الناس في العالم في فقر غير محتمل وحرمان بعضه مطلق وبعضه نسبي. أضف إلى هذا أن غالبية شعوب العالم تعرضت تحت حكم الاستعمار لمعاملة غير آدمية في الوقت الذي كان فيه الناس في الغرب يتصرّفون على النحو الذي يبدو فيه كما لو أنهم لم يعرفوا مصطلح حقوق الإنسان من قبل. لقد قابل الاستعمار مقاومة الظلم بظلم إضافي وأخذت شعوب العالم على عاتقها مسؤولية مقاومة الظلم بكل الوسائل المتاحة لهم. أدركت الشعوب أنها مالم تحارب لتحرير أنفسها من الظلم الشديد، لن يتمكن أي مقال عن ظلم الإنسان للإنسان من نزع سلاح المستعمِر. وعلى الرغم من أن هذا الإدراك جاء متأخراً إلا أن شعوب العالم أدركت أن الطريق للتحرير يكمن فيها هي ذاتها وليس فى غيرها.

مازالت نظرية وممارسة «التمييز العنصري» - النموذج الممثِّل للاستعمار - حية في الذاكرة، تلك التي أسماها رُعاتها «التطور المنفصل» والتي بواسطتها قامت قلة من الأوروبيين باستعباد أربعة عشر مليون شخص من أفريقيا أو ذوي أصول آسيوية أو الدم المختلط دون أي حقوق سياسية. لقد سعی التمييز العنصري لمنع قيام أي وعي وطني بين الشعوب. هذا النظام غير الآدمي حصر خمس وسبعين في المائة من الشعب في قطاعات الحكم الذاتي Bantustans في قطعة من الأرض لا تتجاوز

ص: 21

مساحتها إثنا عشر في المائة من مساحة أرض الوطن ودون أي حقوق ملكية لهم، بينما منحوا ست وثمانين في المائة من الأرض لذوي الأصول الأوروبية. لقد عاشت هذه الشعوب لسنوات طويلة وداخل بلادهم التي ولدوا فيها ممنوعين من إمكانية التصويت أو عقد الاجتماعات العامة أو الانضمام لأية اتحادات تجارية (trade unions). وكان على أبناء هذه الشعوب حمل بطاقات مرور تحدد هويتهم وذلك إذا ما رغبوا في التجوال حتى داخل الأرض المخصصة لهم (قطاع الحكم الذاتي)، وكان عدم وجود مثل هذه البطاقات مبرراً لإلقاء القبض عليهم وما قد يستتبعه من تعذيبهم. لقد كان هذا هو الظلم بامتياز.

باختصار فإن أساس الاستعمار هو التمييز العنصري - رغم أنه أساس اقتصادي وهو ما تصفه إلين ما يكسنز (Ellen Meikins) في كتابها «إمبراطورية رأس المال» (Empire of Capital) بأنه «الوسيلة التي انتقلت بها الثروة إلى السيد»: تمييز عنصري يتجلّى في أوجه كثيرة - يُقوي بعضها بعضاً - للسياسة والمجتمع. فهو يتغلغل في المؤسسات الاجتماعية، وأنماط الإنتاج والتبادل/ التوزيع. تظهر قوّته في طرق ووسائل استعباده لفكر الناس: المستعمرين والمستعمَر. فسوء استخدام حريات الإنسان مستشر والقمع منتشر. الفقر والجهل وما ينتج عنهما من تجريد للصفات الإنسانية هي تأثيرات الاستعمارية والتي لا يمكن توقع سوى ناتج واحد لها وهو المقاومة العنيفة. وعلى كل، فالاستعماريّة هي ذاتها العنف في الفكر وفي الفعل: تعذيب جسدي وذهني للمستعمَر. وإذا ما نتج عنها ناتج جيد فهو ناتج جاء بالمصادفة، أي غير مقصود. فكما قرر كل من سارتر وفانون (Fanon) ليس الاستعمار الفرنسي للجزائر استثناء من هذا. وعلى الرغم من أن الشعوب المستعمَرة كان لها حلفاء في الغرب يؤيدونها في مقاومتها لهذا الظلم، إلا أن القلة هم من اكتسب الشجاعة لمحاربة النظام الاستعماري بشكل صريح. يُعد جان بول سارتر أحد هذه الاستثناءات. فلقد ضحّى بحياته ليكتب ويتحدث ضد النظام الاستعماري في كل أشكاله وذلك على الرغم من التهديدات الكثيرة التي واجهها .

ص: 22

لقد كان كتاب سارتر «الاستعمارية والاستعمارية الجديدة» أسلوبه الذي اختار أن يبيّن به للفرنسيين أن ممارساتهم في المستعمرات التي يحتلّونها تبعد كثيراً عن معتقداتهم في «الحريّة والمساواة». هذا الكتاب هو الترجمة الفرنسية لكتاب سارتر «Vمواقف» (SituationsV) الذي أصدرته دار نشر (Gallimard) عام 1964. إنه تحليله النظري الذي كتبه كنقد تاريخي وردِّ فعل للظلم الاستعماري. لقد كُتبت معظم المقالات عن كفاح الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي وأثناء هذه الفترة. هذا الكتاب شهادة حية من مفكر بارز وقف ضد الاحتلال ليس فقط بعقل تحليلي ولكن بقواعد أخلاقية تستحق الاتباع والسير على منوالها. يبيّن هذا الكتاب الصّلة القوية بين ما بعد الاستعمار وحركات ضد الاستعمار ومسائل العالم الثالث. هذا الكتاب تقييم جيد للاستعمارية الفرنسية. يتناول الظلم، كما يمثل جزءاً من انشغال سارتر بظاهرة التمييز العنصري، والتي ناقشها أول مرة في مقاله المعنون «ضد السامية واليهود Anti-Semite and Jew» وفي كتابه «أورفيوس الأسود Black Orpheus». بالنسبة لسارتر يعدّ الصراع لإنهاء الحكم الاستعماري واجباً أخلاقياً يمثل الفعل السياسي بالنسبة له شرطاً ضرورياً. فبدون هذه الثورة الثقافية لا يمكن الحصول على الحرية الفردية والتي يثمنها سارتر جداً ويدعمها بشدة. يبين هذا الكتاب «الاستعمارية والاستعمارية الجديدة» بجلاء النمو والتحول اللذين حدثا في فکر سارتر من الحرية الفردية إلى الفعل السياسي . فلقد أصبح سارتر بدءاً من 1948 أحد المفكرين الكبار المؤثرين الذين وقفوا ضد التمييز العنصري. فلقد أصبح سارتر من المهتمّين والمنشغلين بسياسة الصراعات ضد الاستعمارية وأحد المؤثرين الكبار الذين أثّروا في الناشطين والمفكرين الناطقين بالفرنسية أمثال ليوبولد سنجور (Leopold Senghor)، أليون ديوب (Alioune Diop)، الذي أنشأ مجلة.(Présence africaine) وفرانز فانون (Frantz Fanon) الذي كتب («جلد أسود وأقنعة بيضاء Black Skin White Masks)، استعمارية في طريقها للموت (Dying Colonialism)، بؤس الأرض (The Wretched of the Earth) و «نحو الثورات الأفريقية Towards the African Revolutions»). ثم ألبرت ميمي (Albert Memmi) مؤلف «المستعمر والمستعمَر The Colonizer and the Colonized»هذا بالإضافة إلى آخرين.

ص: 23

يتكون كتاب «الاستعمارية والاستعمارية الجديدة» من مدخل ممتاز كتبه روبرت يونج R. J. C. Young ومقدمة كتبها عز الدين حدور (Azzedine Haddour) بالإضافة إلى ثلاثة عشر مقالاً كتبها سارتر. نجد في هذا الكتاب بحث سارتر عن الاستعماريّة وميوله العاطفية تجاه نزع الاستعمار بشتى الوسائل، بما في ذلك العنف. يقدم سارتر في الكتاب رؤية موسّعة، مفصلة وعارفة بالسياسات الاستعمارية الفرنسية في الجزائر. هذه المقالات كانت قد نشرت من قبل إما كمقدمات لكتب (ثلاثة مقالات) أو كمقالات في جريدة (Les Temps Moderns) (خمسة مقالات) وخمسة مقالات أخرى في (L'Express). (وكانت المقدمة التي كتبها سارتر لكتاب «ميمي Memmi» قد نشرت من قبل كمراجعة في جريدة (Les Temps Moderns) ثم استخدمها كمدخل في طبعة لاحقة).

يبدأ كتاب سارتر «الاستعمارية والاستعمارية الجديدة» بالمقال «من صين واحدة لصين أخرى From One China to Another»، وهو المقال الذي كان مدخلاً لكتاب D'une Chine à l'autre الذي كتبه هنري كارتير بريسون Henri Cartier-Bresson بالاشتراك مع سارتر (طبعة باريس: روبرت دلبير Robert Delpire 1954). هذا المقال - في قدر منه- هو تطوّر لفكرته التي عرضها في مقاله الذي نشر عام 1946 تحت عنوان «تأملات في المسألة اليهودية» . 1946 ,Anti- Semite and Jew) Refléxions sur la Question Juive). لقد قدم سارتر حججاً قوية للتدليل على أن الممارسة والأيديولوجيا يخلقان أنماطاً وتمييزاً عنصريّاً. فكما يقول «يونج» في «المدخل» الذي كتبه (صفحة 11): يرى سارتر - بخلاف الرأي الشائع - أنه «ليست الشخصية اليهودية هي ما تؤدي إلى النزعة ضد اللاسامية... ولكن غير الساميين هم من يخلقون اليهود ... » . لهذا فإنه بالنسبة لأهل الصين، يبرهن سارتر على أهمية أن يفصل الناس أنفسهم من أجل أن يعطوا معنىً للواقعية. فنحن نصبح من نحن من خلال رفضنا العميق والجذري لما قاله الآخرون عنا. يؤكد سارتر على الأهمية القصوى للفرد واختياراته، ويدلل - تماشياً مع فكره في كتابه «الوجود والعدم Being and Nothingness» - على أن الإنسان مقدر له أن يكون حراً. لهذا يجب على الإنسان أن يختار ما يريد أن يكون وكيفيّة ذلك لأن الإنسان يحدد هويته بما يفعل وليس بما يكونه. فمن الضروري علينا أن ننزع الأقنعة التي نرتديها على أعيننا لكي نرى الواقع.

ص: 24

كان فانون، ميمي وسنجور قد ذهبوا - من قبل - إلى ما ذهب إليه سارتر فيما يتعلق بالاستعمارية. ولكن سارتر يتميز عنهم في أنه بذل مجهوداً أكبر في تحريك ضمائر رفقائه. لقد كتب في مقالته «الاستعمارية من حيث كونها نظاماً Colonialis as a System».

لدينا نحن أهل الأرض الأم فرنسا (Mainland) درس يمكن أن نخرج به من هذه الوقائع: الاستعمارية في طريقها إلى أن تدمر نفسها. ولكنها مازالت تفسد الجو المحيط. إنّها عارنا، إذ إنها تسخر من قوانيننا وتصيبنا بعدوى التمييز العنصري. فهي تجبر شبابنا على أن يحاربوا رغماً عنهم ويموتوا من أجل مبادىء النازيّة التي حاربناها من عشر سنوات. إنها تحاول أن تدافع عن نفسها من خلال إشاعة الفاشية أيضاً هنا في فرنسا. من هنا فإنّ دورنا أن نساعدها على الموت، ليس فقط في الجزائر ولكن أينما حلّت (ص 47).

هذا الشكل من أشكال التفكير هو ما جعل سارتر من فرنسا يدعم الجزائريين في نضالهم من أجل الحرية. فالحرية ضرورة أساسية في فكر سارتر. إذ إنه يراها الخاصيّة الرئيسية للإنسان. من هنا جاء تبريره لاستخدام العنف من أجل الحصول على الحرية والقضاء على الظلم الاجتماعي. بالنسبة لسارتر، تأتي السياسة أولاً - تتغلب على المقاومة، تقضي على الإطار، تُخضع وتُرهب من أجل الحصول على الحرية. ولن يتوقف نهب المواطنين إلا بعد حصولهم على الاستقلال. ولكن سارتر يحذر أيضاً من الاستعمارية الجديدة - أي النظام الذي وفقاً له يعمل النواب السود في الأراضي التي كانت محتلة من أجل صالح البيض الذين يمثلونهم في البلاد المستعمرة. يستخدم سارتر واقعة اغتيال باتريك لومومبا Patrice Lumumba دعماً لما يقول. يرى سارتر أنه على الفرنسيين أن يكونوا على وعي بالإرهاب، والعنف والظلم التي تفرزها الاستعمارية والاستعمارية الجديدة. وإذا كان سارتر مقنعاً في تحليله للطبيعة الظالمة والعنيفة للاستعمارية والاستعمارية الجديدة، فإن تأييده للعنف كرد على الاستعمار هو ما يمكن أن يزعج الكثيرين. فلقد قدم أناس أمثال غاندي، نكروماه، مارتن لوثر كنج، ألبرت لوثولي ونيلسون مانديلا أمثلة على أن المقاومة العنيفة لا تقل قوة كرد فعل.

ص: 25

آليات الاستعمارية الجديدة

اشارة

النفوذ الفرنسي والبريطاني الحالي في الكاميرون وغانا

ديانا حاج

دیانا حاج (1)

أصبح مفهوم الاستعمارية الجديدة على مدار الخمسين عاما المنصرمة موضوعًا محوريًا في نقاش السياسيين والنشطاء لتفسير التبعيات المتنامية للمستعمرات السابقة، ومن ثم لا يتفقون على معنى دقيق له وتطور قياسه، ويهدف هذا البحث إلى إثارة مفهوم الاستعمارية الجديدة لتقدير وجوده في بلد ما، وحتى نقوم بهذا فإننا نغطي الإطار المفهوم لمعيار النفوذ السياسي والمالي والعسكري للسلطة الاستعمارية السابقة على مستعمراتها السابقة، ونطبق هذا على حالتي الكاميرون وغانا، وتنتهي الورقة إلى أن هناك علاقة استعمارية جديدة تمارسها فرنسا مع الكاميرون في جميع المجالات، في حين تُبقي بريطانيا على النفوذ الاقتصادي بجانب السيطرة المالية الطفيفة على غانا، وهو اتجاه يحدد تعددية العلاقات وخصخصتها، ويعتبر هذا الإطار المفاهيمي عمليا معتدلا .

ص: 26


1- حصلت المؤلفة ديانا حاج على درجة البكالريوس في الترجمة، وأكملت مؤخرا دراستها للماجستير في العلاقات الدولية في معهد برشلونة للدراسات الدولية (IBEI)، وتعتمد هذه الورقة على أطروحتها للماجستير، الذي أشرف عليها أفائيل جراسا أستاذ العلاقات الدولية في جامعة أوتونوما في برشلونة the Universitat Autònoma de Barcelona، ارتحلت إلى أفريقيا وأمضت عاما في العمل على مشاريع التنمية في جنوب أفريقيا، وهي تتطلع الآن إلى تمديد خبرتها في مشاريع أميركا اللاتينية. - ورقة عمل بمعهد كاتالاه الدولي: 6/2011ICI . برشلونة ديسمبر 2011.

الكلمات المفتاحية: الإمبريالية، المستعمرات، التبعية السياسية، فرنسا، بريطانيا، الكاميرون، غانا.

حين حققت غالبية الدول الأفريقية استقلالها في الستينيات، وبدا مستقبل القارة مزدهرا على المدي الطويل، وتخلصت الدول المستقلة حديثا من الاحتياطات الضخمة من كل المواد الخام، وتطلع إلى أن تكون الظروف الطبيعية والجغرافية والسكان هي السيدة أخيراً، ولم يتحسن وضع القارة بعد مرور خمسين عاما رغم كل الجهود ، ولم تنجح المعونة الألمانية في تحقيق نتائج إيجابية على نطاق كبير (1965 ,Nkrumah)، وبدأ يتزايد عدد الكتاب والناشطين للتنديد بما أصبح معروفاً بالاستعمارية الجديدة في ولاية الرئيس الغاني الأول كوامي نكروما، ووجود النفوذ المستمر للقوى الاستعمارية السابقة، التي لا تزال قائمة بعد الاستقلال، وفي حالات عدة هو مسؤول عن الاستغلال المفرط للموارد الأفريقية، ويكبح سياسة الاستقلال السياسی (1985 ,Martin).

وقد وجد مفهوم الاستعمارية الجديدة من ذلك الحين اهتمامًا سياسيًا واسعًا، وهو يُثير عدة أشكال متباينة للتبعية والتدخل، ومع ذلك لم يُتفق على تعريفه ولاسيما قياسه الذي قد تطور، وغاية هذه الأطروحة هو استكشاف إمكانية تفعيل مفهوم الاستعمارية الجديدة أكاديمياً حتى يمكننا قياس وجوده في دول مختلفة بأزمنة متفاوتة، وتقوم الأطروحة على افتراض أنه من غير الممكن إبداع نموذج يسمح بقياس وجود الاستعمارية الجديدة في دولة بعينها بدرجة معقولة.

وسوف تتضمن منهجية التحليل تأسيس إطار مفاهيمي بمعايير إذا تحققت سوف تقيد استقلال الدولة في البعد الاقتصادي والسياسي إلى حد كبير، وتطبيقه على دراستي حالة، وهذا لتحليل ومقارنة الحالتين بالنظر إلى تبعيتها الاقتصادية والسياسية والمالية والعسكرية الحالية، فضلا عن تقييم فاعلية الإطار.

وسوف يركز التحليل على نفوذ القوى الاستعمارية الكبرى السابقة في أفريقيا،

ص: 27

أعني فرنسا وإنجلترا، وقد اختيرت حالتا غانا والكاميرون لاستقرارهما السياسي والاقتصادي مؤخراً، وتشابههما في الحجم والموقع والجغرافيا ووجود المواد الخام وزمن الاستقلال وحجم السكان والناتج المحلي الإجمالي للفرد، وعلاوة على ذلك تمثل غانا دراسة حالة مثيرة حيث إنها أول دولة أفريقية تحصل على استقلالها، وكان رئيسها الأول من الشخصيات البارزة التي أدانت الاستعمار الجديد، والكاميرون من بين الدول الفرانكوفونية التي تحتفظ بعلاقات حميمة مع فرنسا، وتمثل أيضاً مثالًا جيدا للتنافس الماضي بين فرنسا وبريطانيا في أفريقيا.

وسوف تركز الدراسة على الوجود الحالي للاستعمار الجديد، وهي تحلل الفترة من 2004 حتى 2011 التي توافق الفترات السياسية الماضية والحالية في غانا (فترة أربعة سنوات)، والفترة الحالية في الكاميرون (فترة سبعة سنوات).

وسوف تقدم الأطروحة أولاً إطاراً نظرياً مختصراً تستعرض فيه المعنى الرئيس وتطور مفهوم الاستعمار الجديد، وتضع الإطار المفاهيمي الذي سيعمل على تحليل الحالتين، ويعرض الفصل الثاني خلفية تاريخية موجزة لماضي الدولتين، والجزء الثالث تطبيق للإطار المفاهيمي لدراسة الحالتين، وهو يقدم تحليلا للممارسات الحالية للاستعمار الجديد في الكاميرون وغانا منذ 2004، وأخيرا يقارن الجزء الرابع الخطط الاستعمارية الجديدة لفرنسا وإنجلترا، ويقدم استنتاجات حول وظيفية الإطار المفاهيمي محل الدراسة.

الخلفية النظرية

وحتى نقدم مفهوم الاستعمارية الجديدة سوف نستعرض التصوّرات والتطوّرات باختصار، وبالتالي سوف يخدم الإطار المفاهيمي دراسة الحالتين اللتين أتعرض لهما.

1-1 مفهوم الاستعمار الجديد

رغم الاستعمال الغالب على مدار السنوات الخمسين المنصرمة، فليس هناك تعريف عام أو أصل واضح لمفهوم الاستعمار الجديد، وينسب بعض الكتاب

ص: 28

صکه لجان بول سارتر، وهو شخصية بارزة في الدوائر الناشطة ضد الاستعمارية الفرانكوفونية، وهو أول من استعمله في إحدى كتاباته (Sartre, 1964; Ardant, 1965).

ويرى البعض جذوره في اللينينية (Leninism) عندما استعمل لوصف الشكل الجديد للهيمنة الكائنة بعد الفترة الاستعمارية في الدول المستقلة(; Kabunda Badi,1991Crozier,1964) . ووفقا لهذا الفهم تعتمد اقتصاديات الرأسمالية الغربية كاملة على الموارد والقوى العاملة لمستعمراتها، ولهذا السبب هم في حاجة للاحتفاظ بتبعيتهم أثناء الاستقلال (1964 ,Crozier). والحقيقة أن فاسيلي فاجروشيف (Vasili Vajrushev) عرف الاستعمارية الجديدة بأنّها سياسة استعمارية تقوم بها القوى الإمبريالية بآليات جديدة خفية لتعزيز الرأسمالية وتعظيم النفع والإبقاء على النفوذ الاقتصادي والسياسي والإيدولوجي والعسكري للفترات الاستعمارية(Vajrushev, 1974).

وقد قدم التعريف الرسمي بإجماع كل الشعوب الأفريقية في قرار 1961 بشأن الاستعمارية الجديدة محدداً: بقاء النظام الاستعماري رغم الاعتراف الرسمي بالاستقلال السياسي في الدول الناشئة، التي أصبحت ضحايا للهيمنة الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والوسائل التقنية بشكل غير مباشر (191.Martin, 1985 p).

ولم يحظ هذا الاصطلاح باهتمام دولي مع نشر كوامي نكروما كتابه عن الاستعمار الجديد، الذي ندد فيه أولاً بوجود تبعية للدول المستقلة حديثا. ويرى نكروما أن ماهية الاستعمارية الجديدة متضمنة في الدولة المستقلة رسميا ولها سيادة، في حين يُدار تخطيطها السياسي والاقتصادي من الخارج (1965 ,Nkrumah). وقد يُنظر إلى الاستعمارية الجديدة في الفهم اللينيني على أنها شكل من أشكال الاستعمار، الذي يفيد من ضعف الدول المستقلة حديثاً ليحقق منافع اقتصادية وسياسية وثقافية (1965 ,Ardant)، عن طريق التخلي عن السلطة للنخب السياسية الموالية(Martin, 1985). وتتشابه الغاية كما هي في الاستعمار للحفاظ على المستعمرات السابقة في

ص: 29

وضعية التابع التي تسمح بالاستغلال الاقتصادي (Kabunda Badi,1991; Ardant,1965).

وأليات التغيير التي تُطبق لضمان التبعية خفية ومتعددة وتختلف وفقاً لحالة وفهم ماهية الاستعمارية الجديدة (Ardan, 1965). وترى الباحثة أن آليات الاستعمارية الجديدة يمكن أن تتضمن السيطرة على السلع الأولية والبضائع المصنعة الذي ينتجها السيد الاستعماري الجديد، والالتزام بشراء كميات بعينها للمنتجات المصنعة وغير التنافسية من السيد المستعمر السابق في مقابل بيع كمية محددة للمواد الخام، واحتكار الحاضرة نقل البضائع، ومشروطية المعونة التي تدعم المصالح التجارية للدولة المانحة (مثل تخفيض الجمارك التجارية، والإلتزام باستعمال جزء من المعونة لشراء البضائع من شركات الدولة المانحة)، ومراقبة رأس المال بفرض أسعار صرف العملات الأجنبية والنظم المصرفية، وفرض الحق للتأثير على القرارات المالية الداخلية، والنفوذ الأجنبي لصناعة السياسات من خلال رشوة الإدارات المحلية أو الدفع بالموظفين المعنيّين في المناصب العليا، والمعاونة في الانقلابات السياسية، ووجود وتدخلات عسكرية السيد المستعمر الجديد (1974,Nkrumah,1965; Vajrushev)، واتفاقيات الدفاع، والدعم المالي للحكومات الموالية والمساعدات التقنية وإلخ (1964 ,Crozier).

ووفقا لأراء كثير من المفكرين تظهر الاستعمارية الجديدة في النفوذ الثقافي والتعليمي من خلال تدريب المعلمين الخبراء والسفراء الثقافيين(Nkrumah,1965)، وكذلك تعليم النخبة الأفارقة في الحاضرة الاستعمارية السابقة التي تشجع على تبني القيم الغربية وأنماط فكرها (1991 ,Kabunda Badi). وفي هذا الإطار تعتمد الاستعمارية الجديدة على نفس عبادة التقدم الذي حدد بالفعل التفاعلات أثناء الاستعمار، وعلاوة على ذلك توفر عقدة النقص عند كثير من الأفارقة أثناء فترة الاستعمار، وكذلك الإقتناع المتفشي بتبعية الحاضرة الأفريقية بمستعمرها السابق أساسا مهما لهيمنة الاستعماري الجديد (1985 ,Martin).

وإن منهج الاستعماري الجديد الأقل مباشرة والأقل وضوحًا يجعل الاستعمارية

ص: 30

الجديدة أعظم خطرًا من الاستعمار حيث يضمن القوة دون حاجة إلى تبرير للسيد، واستغلال دون حماية للدولة التي تخضع له. ويواجه المنهج الاستعماري الجديد المسائل الاجتماعية في المستعمرات السابقة لأن الحكام يستمدون سلطتهم من السيد المستعمر الجديد بدلا من شعوبهم التي تختزل ميلهم إلى تعزيز التعليمِ وحقوق العاملين أو أي شيء من شأنه أن يتحدى هيمنة السيد المستعمر الجديد (Nkrumah, 1965).

ويرى بعض الناس أن الدول المستعمرة كانت مصممة بالفعل في عملية إنهاء الاستعمار على ديمومة تبعية الدول الأفريقية لها بعد استقلالها (1985 ,Martin). وهي تقيم امتيازات عدة تنتهك سيادة الدول الأفريقية من ناحية، وتدمجهم في تكتلات اقتصادية مثل منطقة الفرنك الفرنسية أو منطقة الأسترليني البريطانية (Crozier, 1964). وتتضمن الامتيازات التي تقيمها حفظ القواعد العسكرية والشرطية، والتنازل عن الأراضي، واستحقاقات المواد الخام، والحق في تنفيذ الإدارة، واستثناء بعض الشركات متعددة الجنسيات من الضرائب... إلخ (1965 ,Nkrumah).

ووفقاً لعدة مفكرين تتضمن استراتيجية المستعمر الجديد في غرب أفريقيا ما يسمى التقسيم إلى مناطق عدائية (balkanization) ويعني تفكيك الأقاليم المستعمرة سابقا إلى دول صغيرة غير قادرة على الحياة ولا التنمية المستقلة(Nkrumah, 1965; Ardant, 1965; Amin, 1971 ;Martin, 1985)، وهذا التشظي إلى وحدات ضئيلة اقتصادياً ومنعزلة سياسياً يعوق تطوير الاقتصاد المحلي، وبالتالي يزيد الاعتماد على رأس المال الأجنبي، ويضعف موقف المساومة التجاري، ناهيك عن أنه يثير الصراعات الداخلية الذي تحتاج فيه إلى الدعم العسكري الأجنبي(Nkrumah, 1965; Amin, 1971).

وبالمثل في كثير من المستعمرات كان استغلال المستعمر مسؤولاً عن العجز المالي العام قبيل الاستقلال، وسببا للركود الاقتصادي والإدارة غير الفعالة والتي غالبا ما تكون إرثًا مباشرًا للفترة الاستعمارية (1971 ,Amin).

ص: 31

وقد طبق مفهوم الاستعمارية الجديدة في الأصل لوصف ممارسات الحكام الاستعماريين السالفين مثل فرنسا وإنجلترا (Ardant, 1965; Nkrumah, 1965)، وكان ضعيفا في وصف الهيمنة التي تمارسها قوى عظمى أخرى مثل الولايات المتحدة والصين والإتحاد السوفيتي، وقد يصنف الاستغلال الذي تمارسه الشركات متعددة الجنسية وبرامج التعاون التي تقدمها المنظمات الدولية على أنها استعمارية جديدة (Ardant, 1965; Kabunda Badi, 1991). وهذا الانتشار والتوسع ناهيك عن الإفراط في الاستخدام وسوئه مسئولا عن التجريد وضياع موثقية مفهوم الاستعمارية الجديدة التي اختبرت على مدار الخمسين عاما المنصرمة (1965 ,Ardant).

ومن الجدير أن نضع في أذهاننا أن الاستعمارية الجديدة لم تقتصر على ممارسة الإدانة فحسب التي يمكن تصنيفها بالفعل بل قد تكون أداة قوية للقادة الأفارقة لحشد وتوحيد شعوبهم بعد الاستقلال، وصرف التركيز على المشاكل الداخلية وتجاوز فشلها (1965 ,Ardant).

2-1 الإطار المفاهيمي

حيث إنه ليس هناك تعريف رسمي لمفهوم الاستعمارية الجديدة، ويتشعب المفكرون باختلافاتهم على الأليات التي تشكله، فسوف يستند التحليل لوجود الاستعمارية الحالية في الكاميرون وغانا على فهمنا، الذي لا يمثل سوي جوهر الآليات لهيمنة الاستعمارية الجديدة.

وكما يرى جاي مارتن (Guy Martin) أن الاستعمارية الجديدة هي نظام ناتج عن تحالف القوة الاستعمارية السابقة مع النخبة الحاكمة دون استعمار (excolony) بهدف الدفاع عن المصالح الاقتصادية، وعموما هي عائق للشعوب الأفريقية. وقد يبقى هذا التحالف بالوسائل العسكرية والمالية التي تُبقي الحكام الموالين وتعيد تعيينهم (1985 ,Martin).

وبناء على هذا الوصف يمكن أن تُعرف الاستعمارية الجديدة كنظام ثابت

ص: 32

للهيمنة والاستغلال المركب الذي يحافظ عليه الحاكم المستعمر السابق في الحاكم دون استعمار وفي الوسائل المالية والعسكرية التي تخدم سلطة القادة الموالين، وفرض سياسات تؤمن المنافع الاقتصادية والمالية للمستعمر السابق.

ووفقا لهذا التعريف قد وضعت أربعة معايير وطرق لتحليل الوجود الحالي للاستعمارية الجديدة في دراستي الحالة المختارتين، حيث تفترض الاستعمارية الجديدة دمج التبعية في معانٍ مختلفة، ولا يتحدد وجود الاستعمارية الجديدة إلا إذا توفرت ثلاثة معايير من المعايير الأربعة التالية:

النفوذ الاقتصادي

وجود اتفاق تجاري واحد على الأقل يُمدد أنماط التجارة الاستعمارية بالحفاظ على ما يلي:

تحديد أسعار الاستيراد والتصدير من جانب واحد فرنسا/ إنجلترا

تحديد كميات الاستيراد والتصدير من جانب واحد فرنسا/ إنجلترا

التجاوز الاحتكاري للشركات الفرنسية/ الإنجليزية

الاحتكار الفرنسي/ البريطاني للنقل

أو

توثيق حالة واحدة على الأقل للمعاملة الموالية لفرنسا/ بريطانيا مثل:

توفير ظروف أفضل للشركات الفرنسية / البريطانية أكثر من نظيرتها المحلية

مخالفات قانونية للشركة الفرنسية/ البريطانية دون ملاحقة قضائية

التدخل السياسي

دعم القائد السياسي من المؤسسات أو الشركات الفرنسية / البريطانية في

ص: 33

الانتخابات من خلال:

المجموعات المباشرة للحزب الفائز

التلاعب بأعداد السكان لصالح الحزب الفائز

التلاعب في الانتخابات ذاتها لصالح الحزب الفائز

أو

وجود حالة واحدة للتدخل المباشر الفرنسي/ البريطاني في السياسة الداخلية مثل:

رشوة الساسة المحليين لتؤدي سياسة موالية في اتخاذ القرار

وجود أشخاص فرنسيين / بريطانيين في وظائف اتخاذ القرار

الاعتماد المالي

وجود مراقبة مالية من خلال:

أسعار صرف تثبتها فرنسا/ بريطانيا

نفوذ فرنسي / بريطاني في السياسة المالية لمستعمرتها السابقة

احتياطات نقدية للمستعمرة السابقة تتحكم فيها فرنسا / بريطانيا

أو

حالات سوء استخدام معونة التطوير لأجل:

استثمار فرنسا/ بريطانيا في البنية العسكرية

استثمار شركات فرنسا/ بريطانيا في البنية التحتية

ص: 34

الوجود العسكري

وجود اتفاقیات دفاع بین فرنسا/ بريطانيا والمستعمرة السابقة لضمان الأمن لقادتها مقابل ظروف اقتصادية مناسبة مثل:

المنفذ الحصري أو المناسب للموارد

كمية ثابتة من السلع تستوردها الدولة الأفريقية

أو

حالات التدخلات العسكرية التي تنفذ بهدف:

احتواء الانتفاضات وحماية القيادة الحالية

الدفاع عن السكان الفرنسيين / البريطانيين قبل السكان المحليين

دعم الشركات الفرنسية/ البريطانية

وتهدف المعايير المحددة في الإطار المفاهيمي إلى تركيز صورة الاستعمارية الجديدة المباشرة والمتداخلة التي تمارسها من خلال القوى الاستعمارية السابقة، فهي تستثني ما يمكن فهمه على أنه إرث للنظام الاستعماري مثل عواقب تقسيم المنطقة والهيكل الاجتماعي والسياسي الموروث من الفترة الاستعمارية، ولا تضع في الاعتبار الممارسات الإمبريالية للشركات متعددة الجنسيات في حد ذاتها، وتفهمها على أنها طرف مؤسف للتفاعلات العامة بين الدول الصناعية والنامية، وكذلك ظاهرة جلوبالية ولا تعتبر استعمارية جديدة إن تكن مربوطة مباشرة بالمصالح السياسية للحاكم المستعمر السابق، وبالطريقة نفسها لم يُنظر في دراستي الحالة إلى دور المنظمات الدولية والعوائد الضريبية التي يمكن أن تدعم ممارسات الاستعمارية الجديدة، وبالمثل لا تعتبر المشروطية المرتبطة بالمعونة الثنائية أو متعددة الأطراف أداة للاستعمارية الجديدة، وقد يعتمد هذا على فهم المعونة موجهة بالمصالح في كل الحالات، وأنها جزء من علاقات أعم بين الدول الدائنة والمدينة.

ص: 35

ونظراً لضيق المساحة والوقت سوف يقدم التحليل الحد الأدني للحالات السياسية والاقتصادية والمالية الهامة أو النفوذ العسكري الذي يؤكد وجود الاستعمارية الجديدة، ولن نعتد بالتدخلات التي وقعت خلال فترة التحليل.

2. الخلفية التاريخية

إن الطريقة التي تفاعلت بها فرنسا مع الكاميرون وبريطانيا مع غانا في الماضي كان لها أثرها البالغ في الاستعمارية الجديدة في الوقت الحاضر، ولهذا السبب نقدم استعراضاً موجزاً لتاريخ الكاميرون وغانا المعاصر وتدخّل فرنسا وبريطانيا فيه.

1-2 فرنسا وغانا

كانت الكاميرون في الأصل مستعمرة ألمانية، واستولت عليها فرنسا أثناء الحرب العالمية الأولى، وقد تأكد ضمها في معاهدة فرساي، حيث خصصت الأمم المتحدة ثلثي الأقاليم السابقة للإدارة الفرنسية، والمرتفعات الجنوبية – الغربية والشمال للحكم البريطاني. وحصلت الكاميرون الفرنسية على استقلالها بعد فترة من التمرد 1960، ولحقها الجنوب الكاميروني البريطاني في 1961 باستفتاء نظمته الأمم المتحدة، في حين اختار الشمال الكاميروني الانضمام إلى نيجريا(Nations, 2011 Encyclopedia Britannica, 2000; Somalipress, 2009; Encyclopedia of the Historyworld, 2000;). ورُبط التحول للاستقلال بتفاوض المعاهدات الثنائية مع فرنسا، وتحديد الدفاع وسياسة الخارجية والأمور الاقتصادية والمالية وكذلك المساعدات التقنية. ولم يتطلب التنازل فحسب تبني النموذج الدستوري الفرنسي للجمهورية الفرنسية الخامسة بل إضفاء الطابع المؤسسي السياسي والاقتصادي والمالي والتفوق الثقافي الفرنسي على الدولة الكاميرونية الجديدة (1985 ,Martin).

وأسس الرئيس الأول أحمدو أهيدجو (Ahmadou ahidjo) نظامًا سلطويًا قائماً على الحزب الواحد باقتصاد السوق الحر، الذي استولى عليه الرئيس الحالي بول بيا (Paul Biya). وعقدت الدولة أول انتخابات متعددة الأحزاب في 1992

ص: 36

مع المنتصر الفائز بول بيا بعد الضغط المتزايد على التعديلات الدستورية، وقد اتهم في انتخابه في 1992 وفي 1997 بالاحتيال على هيئات محلية ودولية عدة، وقد عانت الكاميرون في 1980 من أزمة اقتصادية طاحنة واجهها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ببرامج التكيف الهيكلي دون نجاح يُذكر (2000; Encyclopedia of the Nations, 2011, Historyworld).

ومَثّلت الكاميرون لفرنسا مصدرًا حيويًا للمواد الخام وخاصة البوكسيت والألمونيوم، فضلا عن كونها سوقاً مهماً للسلع المصنعة ومنفذا للاستثمار الرأسمالي (1985,Martin)، واستعملت الشركات الفرنسية وحدها حوالي 70 % من النفط المستخرج من الكاميرون وأنجولا والكونغو والجابون (1995 ,Martin)، وكما يذكر عدید من الكتاب والمنظمات غير الحكومية NGOs أن فرنسا حافظت على السيطرة القوية على الكاميرون التي كفل لها بيئة مناسبة ومستقرة للأعمال الفرنسية(Survie, 2009). والحقيقة اعتبرت الكاميرون مركزا لمصلحة فرنسا فى أفريقيا بجانب السنغال وساحل العاج والجابون. وقد ساعد ماضيها البريطاني إلى حد ما على زيادة التدخل الفرنسي في مناسبات عدة بغرض كبت توسع المصلحة البريطانية (1997 ,Schraeder).

واعتاد النفوذ الفرنسي أن يعمل على أساس شبكة ضيقة للمؤسسات الرسمية وغير الرسمية التي مكنت من السيطرة غير المباشرة على النخبة المحليين والبيروقراطية. وانحصرت القرارات السياسية الكبرى المتعلقة بأفريقيا على الرئيس الفرنسي ومستشاره للشئون الأفريقية حصرا، وشملت لقاءات منتظمة مع القادة الأفارقة وتنظيم اجتماعات الفرانكو - أفريقيا (1997 ,Martin, 1985; Schraeder).

وضمنت اتفاقيات التعاون والدفاع الوصول الحصري أو المميز للمواد الخام، وتسهيل الحفاظ على العلاقات التجارية غير المتماثلة، والحقيقة اقتصر دور الكاميرون على توفير السلع الأولية في حين احتكرت الشركات الفرنسية أنشطة التجارة والتسويق والشحن، وأدى ذلك إلى إيجابية الميزان التجاري لفرنسا بإيجابية (Martin, 1985; Goldsborough, 1979).

ص: 37

وقد أنشئت منطقة الفرنك الفرنسي في 1947 وأسست الفرنك CFA كعملة عامة تتقاسمها دول غرب أفريقيا الفرانكفونية، وربطها بمعدل ثابت هو 1:5 للفرنك الفرنسي الواحد (1) (Schraeder, 1997; Goldsborough, 1979)، وكانت تعني المنطقة النقدية سيطرة فرنسا على إصدار العملة وكل النشاطات المالية وسياسات المالية، وكذلك إدارة الأرباح في الخزانة الفرنسية، مما جعل كل القررات تعتمد على قبول فرنسا (1965 ,Nkrumah). وبعد ضغط الدول الأفريقية من أجل مزيد من الاستقلالية النقدية أجبرت فرنسا على الاعتراف باصلاحات 1955 و1967 و1973، والتي قبلت فيها أن للآخرين الحق في تحويل النقد خارج المنطقة الفرانكفونية، وإمكانية اقتراض الأموال والاشتثمار خارج منطقة الفرانكو - أفريقيا CFA والمفوضية الأفريقية للمجلس التوجيهي (Mensah, 1979)، وخفضت قيمة العملة في عام 1994 استجابة للمبالغة في تقدير قيمة العملة وتهريبها عبر الحدود، ورغم أن تخفيض العملة كان قرارًا منطقيًا معقولاً إلا إن عواقبه كانت وخيمة على سكان منطقة الفرانكوفونية Martin, 1995) CFA).

وحافظت فرنسا بالقدر نفسه على وجودها العسكري بعد الاستقلال، ووضعت اتفاقيات للدفاع والمساعدة العسكرية تسمح بوجود عسكري بسيط، فضلا عن التدخلات الرسمية والسرية الصريحة، وتوفير السلاح والحماية من الانقلابات السياسية أو مؤازرتها (1972 ,Waulthier). وكان وجود القوات الفرنسية في الكاميرون محدوداً مقارنة بدول مثل الجابون أو السنغال أو ساحل العاج، ولم تُحدث أي تدخلات رسمية مباشرة (2006 ,Ministère de la Défense).

وشكل إضفاء الطابع المؤسساتي للروابط اللغوية والثقافية بمستعمراتها السابقة تحت مسمى «الفرانكوفونية» جزءاً مركزياً آخر للنفوذ الفرنسي، وعزز هضم الثقافة والأيدولوجيا الفرنسية عند النخبة المحليين (1985 ,Martin).

ص: 38


1- أعيد تقييمه جزئباً بعد عام 1947 بمعدل ثابت 100:1.

2-2 بريطانيا وغانا

كانت غانا ولمدة طويلة أغنى مستعمرة بريطانية، ويرجع هذا مبدئياً إلى استخراج معدن الذهب على نطاق واسع، وقد اختارت بريطانيا أن توافق على الاستقلال بسبب الدفع المتزايد لاستقلال غانا لتكون أول دولة أفريقية مستقلة في 1957، وقد كان هذا لتتجنب حرباً استعمارية قد تضر بمصالحها الاقتصادية (Nkrumah, 1965; Mongabay, 1994). وواصلت غانا بعد العام الأول من الاستقلال إتباع سياسة اقتصادية ليبرالية، ومن ثم أنشأت شركات محلية تنافس الشركات الأجنبية، وخاصة في تصدير الكاكاو والذهب والأخشاب التي تمثل أهم أسواق البلاد، ومع ذلك لم تنجز إلا قدرا بسيطًا من الوطنية، وواصلت الشركات الأجنبية الهيمنة، وزود النشاط الاقتصادي للدولة ليزيد العجز الوطني (Esseks, 1971; Amin, 1971).

ووضعت أول انتخابات ديموقراطية في 1961 كوامي نكروما في السلطة، التي تهدف سياستها إلى تحقيق الاستقلال الاقتصادي بعديد من التدخلات الحكومية (1994 ,Mongabay). وتمكنت غانا بتقييد الشركات الأجنبية والتوسع التدريجي للشركات الحكومية من تأميم فروع الاقتصاد المتعددة، وتعزيز التصنيع المحلي، ومضاعفة الإنتاج الصناعي في أربع أعوام، ومع ذلك ارتبط هذا التطور الإيجابي بالزيادة الضخمة في أعباء الديون والفساد، وفقدان الدعم السياسي بين نخبة التجارة المحلية، وعزلة المجتمع الدولي (Amin, 1971; Esseks, 1971). وأدى انخفاض مستوى المعيشة الناجم عن التضخم وتهاوي أسعار الكاكاو إلى الانقلاب العسكري الذي حدث عام 1966، وأطاح بنكروما، وتميزت الفترة اللاحقة بالانقلابات المتكررة، وتحولات السلطة، والعودة إلى سياسات الليبرالية المؤيدة للغرب (1971 ,Amin).

وفي ظل حكومة رولينجز 1981 طبقت سياسات ليبرالية قوية وفقا لتوجهات برامج التكيف الهيكلي للبنك الدولي وحفْزِ الاستثمار الخاص والنمو الاقتصادي، التي عكست في الحقيقة الاتجاه النازل للإنتاج، ولم تتحسن المستويات المعيشية للناس، حيث جاءت البُنى الأساسية لتفيد الأغراض الصناعية في الأساس، وعززت

ص: 39

زيادة تصدير السلع الأولية (الكاكاو والذهب والأخشاب) أنماط التجارة الاستعمارية التي كبتت التصنيع والإنفاق الاجتماعي. وأعيد تشكيل دستور جديد عام 1992، وإجراء انتخابات سياسية ونظام لتعددية الأحزاب، وأسبغ هذا ثباتًا سياسيًا بعينه

(Mongabay, 1994).

وتمثل غانا لبريطانيا موردًا مهما للمواد الخام مثل الذهب والخشب والزيت والماس والمعادن الأخرى، وسوقا للسلع المصنعة ورأس المال. وتمثل بريطانيا لغانا أهم شريك تجاري (British High Commission, 2009)، وفي حين يُسوّق تجار المعادن من خلال شركات غانية مثل أنجاو جولد أشانتي أو شركة بريتش مينيرالز ماركيتينج إلا أن استغلال النفط يخضع برمته تقريباً إلى الشركات الأجنبية متعددة الجنسيات (Kraus, 2002; Mongabay, 1994). وكانت إدارة التجارة والاستثمار البريطانية هي المسئول الرئيس عن تنسيق المصالح التجارية في غانا، وتقديم تقارير السوق والشركاء الفاعلين والاتصالات الشخصية، خاصة فيما تعلق بتجارة معدات الدفاع فائقة التقنية ومعدات الأمن والتدريب وبرامج الحاسوب وتكنولوجيا توليد الطاقة (2011 ,British High Commission).

وتمارس بريطانيا منذ استقلال غانا نفوذاً قويًا بالحضور القوي للشركات متعددة الجنسيات، ونظرا لتَضْمِيد الصناعات المحلية في السنوات الأولى في حكم نكروما كانت الدولة في موقف مقارنة أكبر نسبيًا مع هذه الشركات الأجنبية وكذلك الأفريقية الأخرى (1965 ,Nkrumah).

وتخرج غالبية صادرات المنجنيز والماس من خلال شركة غانا الوطنية للمنجنيز، وشركة الماس الغانية الموحدة، ويخضع جزءاً من النقل لسيطرة الخدمة البحرية الغانية، الذي يُوزع على ستة سفن شحن، ومن ثم فإن صادرات الأخشاب التي تمثل جزءاً كبيرا من الناتج المحلي الإجمالي GDP تتحكم فيها شركات أجنبية، ويكتنفها إهمال جم مثل التهريب والفساد والسرقة. وقد سيطرت شركات التعدين الأجنبية على تعدين الذهب على الغالب، وقد انخفض الاستغلال إلى حد كبير

ص: 40

في عهد نكروما، ولم ينظر في قانون التعدين والمعادن إلا في عام 1986 الذي زاد المخصصات المالية، وخفض الضرائب، سمح باستخدام الحسابات المصرفية الخارجية. واحتفظت الحكومة الغانية في الأيام الأخيرة بحوالي 25% من شركة أنجاوجولد أشانتي وهي أهم شركات التعدين (1994 ,Mongabay).

ومع أن غانا كانت مستقلة سياسياً إلى حد بعيد، وذلك لأنها من دول عدم الانحياز. وكان هناك شائعات أن الانقلاب العسكري كان مدعوماً من بريطانيا لكن لا يوجد أدلة على هذا (Mongabay, 1994). وعلاوة على ذلك حصلت غانا على استقلالها المالي في وقت مبكر حيث غادرت مجلس عملة غرب أفريقيا الذي كان جزءاً من منطقة الجنيه الأسترليني، وشيدت بنكها المركزي وعملتها فعليا عام 1957 (Mensah, 1979).

وحافظت بريطانيا على وجودها القوي في بريطانيا حتى عام 1971 باتفاقية خدمات التدريب المشترك، التي قدمت التدريب والاستشارة للجيش الغاني، وفي إطار ما قامت به غانا من تنويع مصادر مساعداتها العسكرية الخارجية بقيت بريطانيا واحدة من القوى الرئيسة (2011 ,Mongabay, 1994; British High Commission).

3-2 فرنسا وبريطانيا

عززت فرنسا وبريطانيا مزاحمتها على القارة الأفريقية منذ الفترات الاستعمارية، وواصلت الدولتان بعد استقلال مستعمراتها محاولتها لزيادة تأثيرهما بإنشاء مناطق نقدية واتفاقيات تجارية ودفاعية ومؤسسات مثل الفرانكوفونية والثروة المشتركة (2001 ,Diouf). وخصوصا أن فرنسا كانت تُغذي العداء تجاه بريطانيا، خوفا من تحول الدول الصغيرة الناطقة بالفرنسية إلى بريطانيا، والحقيقة أن فرنسا دعمت المرشحين الفرنسيين للرئاسة بانتظام لتضمن التفوق المستمر للغة والثقافة الفرنسية في الكاميرون (Waulthier, 1972). ومع ذلك انخفضت هذه المنافسة بشكل ملحوظ على مدى العقود الماضية وخاصة فيما يخص النفوذ السياسي (2001 ,Diouf).

ص: 41

3- الوجود الحالي للاستعمارية الجديدة

وسوف يطبق الإطار المفاهيمي للتحليل على الفترة من 2004 حتی 2011 بالنظر إلى العلاقات السابقة.

1-3 الكاميرون

ولتقديم أدلة حول وجود نفوذ مستمر للاستعمارية الجديدة الفرنسية في الكاميرون فقد تم تحليل قضايا الاستقلال الاقتصادي والتدخل السياسي والتبعية المالية والوجود العسكري وفقا للإطار المفاهيمي.

1-1-3 الاستقلال الاقتصادي

ديمومة الأنماط التجارية الاستعمارية: حيث تُعد فرنسا الشريك التجاري الأول بتبادل تجاري حوالي 680 مليون يورو في عام 2009، ومع ذلك الميزان التجاري بالنسبة للكاميرون سلبي بنسبة 597 مليون يورو للصادرات من فرنسا و 263 مليون یورو فقط للصادرات الكاميرونية (2011 ,France Diplomatie).

واتجهت عدة من الاتفاقيات التجارية بين فرنسا والكاميرون على مدار العقود الماضية إلى تزايد أطراف المشاركين مثل الاتفاقيات بين المجموعة الاقتصادية الأوربية ومجموعة دول أفريقيا والكاريبي والمحيط الهادي، وآخرها اتفاق كوتونو لعام 2000، الذي يحافظ على دول أفريقيا والكاريبي والمحيط الهادي في دور الموردين الأساسيين، وعلاوة على ذلك لا تزال الممارسات الاحتكارية التي زللها الثنائي القديم سارية، وعلى سبيل المثال احتكرت الشركة الفرنسية بولوره Polore نظام النقل الكاميروني وتحكمت في سكة حديد الكاميرون، والنقل في كل عربة، وأغلب ميناء دوالا (Douala) وكذلك الشحن إلى أوروبا (2009 ,Survey).

المعاملة المناسبة للشركات الفرنسية

هناك حالات لا حصر لها من المعاملة المناسبة للشركات الأجنبية وخاصة

ص: 42

الفرنسية، ولاسيما في ما يتعلق بعدم مقاضاة خروقها القانونية، وأكثرها أهمية لا شرعية استغلال الخشب، حيث تخضع ثلث مناطق قطع الخشب لسيطرة الشركات الفرنسية مثل ثانري وبولوري وكورون وروجير، وتتصرف وفقا للبنك الدولي وإدارة التنمية الدولية البريطانية كليا أو جزئيا بشكل غير قانوني ودون مقاضاة(Forest Watch, 2000; Transoarency International, 2003 Global). و لا يزال الفساد موجودا في الإدارة رغم التدخل في وزارة البيئة والغابات الكاميرونية، والشفافية في معالجة التنازلات ومتابعة الأفعال غير القانونية التي تتزايد (FAO, 2005) مما يؤدي إلى تقييد الوصول إلى الوثائق ذات الصلة وصعوبات المتابعة القانونية (Witness ,2003 Global). وبصرف النظر عن الآثار المدمرة على البيئة والمجتمعات المحلية يؤدي إفلات قطع الأشجار غير القانوني من العقاب إلى خسائر التهرب الضريبي التي تقدر حوالي 5 : 10 مليون دولار في السنة تقريبا (FAO, 2005).

ومن الأمثلة الأخرى على الانتهاكات القانونية بلا عواقب هو الاستيلاء على مزارع قصب السكر من خلال مصادرتها شركة سومديا متعددة الجنسيات من السكان المحليين (2011 ,Primo)، ونزاعات نزع الملكية وانتهاكات حقوق نزع الملكية المسجلة على مزارع بولوري سوكابالم (2011 ,Mujongue).

ويبدو أن شركات مثل بولوري وروجير وإلف Elf تَستعمل مرتزقة لشركة أفريقيا للأمن الكاميروني SARL التي ترد على احتجاجات العمال دوما بعنف دون أن تواجه عواقب قانونية (2011 ,Primo, 2011; Mujongue).

2-1-3 التدخل السياسي

دعم القائد السياسي: حيث فاز بول بايا بالانتخابات الرئاسية عام 2004 بنسبة 70،94 % من الأصوات (African Elections Database, 2011)، ووفقا لمصادر عدة موثوق منها كانت هناك خروق في العملية الانتخابية مثل الحد من تسجيل الناخبين، واستعمال الحبر الذي يمكن محوه (Observer Group, 2004; Cameroononline, 2011; Somalipress, 2009b Laurean, 2005; Commonwealth).

ص: 43

وكان الراعي الرئيس لحملة بايا في كل الانتخابات السابقة شركة النفط الفرنسية إلف أكيتين (Elf Aquitaine)، وفي بيان حول عملية فساد إلف أكد المدير السابق للشركة ما يلي:

«استقبلني في يوم من الأيام الرئيس بول بايا في مقر الرئاسة الكاميرونية، وكان يحتاج إلى 45 مليون دولار لحملته الانتخابية، وكنت معه بمفردي لأن هؤلاء الناس لا يثقون في أحد، وهم في حاجة إلى النقد للهروب من تحكمات وزير المالية، ولهذا السبب تقوم مجموعة شركة إلف بإنشاء شركات خارجية خارجة عن نطاق السيطرة، لأنها لا تتيقن من الاحتفاظ بها حتى من سيطرة السلطات المحلية [......](Survie, 2009 p.104).

ولا توجد أدلة على الممارسات التي استعملت في انتخابات 2004، ولا تزال الإيرادات النفطية غير مدرجة في الميزانية الوطنية والحسابات الخارجية التي تضعها شركة إلف، وعلاوة على ذلك صرح لويك فلوك الرئيس السابق لشركة إلف في بيان رسمي أنه دون دعم شركة إلف لبايا لن يكون في السلطة (The Frontier Telegraph, 2007).

التدخل في السياسة الداخلية: حيث وجود موظفين فرنسيين في مناصب صنع القرار في الإدارة الكاميرونية، وجميع المناصب العليا مثل سكرتير الرئاسة والأمين العام والأمين الشخصي لرئيس الدولة... إلخ الذي أعتيد أن يشغله الرجل الفرنسي من الفترة 1980 إلى 1990 ويشغله الآن الكاميرونيون (Martin, 1985; Republic of Cameroon, 2011).

ومع ذلك فإن الفساد هو المشكلة الرئيسة، ووفقا لمنظمة الشفافية الدولية ومؤشرات الحوكمة في البنك الدولي تعد الكاميرون من أكثر الدول فساداً مع ضعف المساءلة الحكومية وانخفاض احترام سيادة القانون، ويعترف 50% من الكاميرونيين بأنهم يدفعون رشاوٍ ، وهذا الموقف لسوء سلوك الشركات متعددة الجنسيات وضعف

ص: 44

معرفة حالات الرشوة (Governance Indicators, 2010; Somalipress, 2009bTransparency International, 2010; Worldwide).

3-1-3- التبعية المالية

السيطرة النقدية: حيث لا تزال تمارس فرنسا مراقبة نقدية واسعة المدى على مستعمراتها السابقة، فحين أُدخل اليورو في 1999 ربطته الفرانكو أفريكان CFA بالفرانك بمعدل صرف ثابت(Banque de France, a). ولا تزال فرنسا تحافظ على صناعة قرار منطقة CFA وتحتاج وفقاً لاتفاق المفوضية الأوروبية إلى مشورة المفوضية إلا في التحولات المعنية التي تؤثر على المنطقة اليورو (1998 ,Rat der Europäischen Union).

إن الاتفاقيات التي أقيمت مع الدول الأفريقية في منطقة الفرانكوفونية CFA بما فيها الكاميرون تمنح فرنسا تنافسية بعيدة المدى، والحقيقة أن كل القرارات المتعلقة بالسياسة النقدية لكل المنطقة لا تتم إلا بموافقة فرنسا (Banque de France, b; Banque de France, c).

ورغم أن المجلس الإداري للبنك المركزي للمنطقة الفرانكوفونية قد يتألف من أقلية فرنسيين، وأن القرارات المهمة تحتاج إلى موافقة بالإجماع فإن الأغلبية تعطي فرنسا حق الفيتو (2002 ,Nabakwe). وعلاوة على ذلك تُعين الاتفاقية شروطاً تصل إلى حد التدخل في السياسة المالية للدول، «سياسة مالية»(b; Banque de France, c Banque de France) . والأكثر من ذلك كما كان الأمر مع الفرنك الفرنسي فإن منطقة الفرانكوفونية لا يمكنها تحويل اليورو مباشرة إلا من خلال بنك فرنسا، وكذلك فرنك الفرانكوفونية لمنطقة غرب أفريقيا ومنطقة وسط أفريقيا لا يمكن أن تبدله مباشرة دون إذن من المصرف المركزي الفرنسي. وبالمثل تضطر كل دول الفرانكوفونية إلى إيداع 65% من احتياطاتها النقدية في الخزانة الفرنسية، مما یعني هروب رؤوس أموال ضخمة (2001 ,PNB Paribas).

سوء استعمال معونة التنمية حيث توجد هناك حالات عدة لسوء استعمال معونة

ص: 45

التنمية لأجل المصالح الاقتصادية الفرنسية، ووفقا لما يقوله سورفيه (Survie) أن تعود معظم المعونة الفرنسية إلى فرنسا على شكل مشتريات للبضائع الفرنسية وخدمات أو تقدم بنية تحتية تخدم في الأساس الشركات الفرنسية (2009 ,Survie). وقُدِّر معدل المرتجع من المعونة الرسمية بأكثر من 50% في السنوات السابقة (1985 ,Martin). والأرقام الحالية غير متاحة لأن المعونة على مدى العقود الماضية تعددت أطرافها وقنواتها من خلال المؤسسات الدولية المالية(Alliance Sud, 2011) (IFIs).

و من أكثر المشروعات المثيرة للجدل التي أنجزت في الكاميرون بتمويل جزئي من البنك الدولي هو خط أنابيب تشاد والكاميرون في 2003 - 2004، وكان المشروع مشتركا بين عدة شركات نفطية أجنبية بريادة شركة إكسون موبيل، وقد نُفّذ بفضل أموال البنك الدولي، رغم المناهضة الكبيرة من المجتمع المدني المحلي والمنظمات غير الحكومية المعنية، والحقيقة أن كثيراً من التجمعات المجتمعية المدنية دعت إلى وقف المشروع حتى تتعافى قدرة الحكومة وتُعزَّز المؤسسات الديمقراطية حتى يعود المشروع بالفائدة على كل السكان (SIPA; BIC, 2011).

4-1-3- الوجود العسكري

اتفاقيات الدفاع:

لا تتم التدخلات العسكرية الفرنسية إلا بناء على طلب من الحكومة الأفريقية وفقا للمبدأ الرسمي وفي إطار اتفاقية دفاع. ولهذا السبب تشكل الاتفاقيات محور العلاقات العسكرية الفرنسية مع مستعمراتها الأفريقية السابقة (1985 ,Martin). وقد تولدت اتفاقيات الدفاع عموما من الفترات الاستعمارية وتمثل اتفاقا بين فرنسا والحاكم الأفريقي حيث إنها تقدم الحماية العسكرية مقابل الحصول على المواد الخام، ولا يمكن الحصول على تفاصيلها (2010 ,Survie).

إن القرارات العسكرية التي تتعلق بأفريقيا يكون فيها القرار الوحيد للرئيس وفقاً للدستور الفرنسي دون الحاجة إلى موافقة البرلمان. وبدأ الرئيس الفرنسي ساركوزي عام 2008 إعادة التفاوض في ما يتعلق باتفاقيات الدفاع وإعادة صياغتها لتكون

ص: 46

اتفاقیات دفاع مشترك «accords de partenariat de défense» تلك الاتفاقية التي انتهت 2009 الكاميرون. وكان من المفترض أن تُنشر الاتفاقيات الجديدة، ولكنها ليست متاحة حتى الآن، ولهذا السبب قد شُكك في أن إعادة التفاوض ينطوي على نتيجة محددة ورمزية (2010 ,Survie).

ولا تتوافق واقع التدخلات مع الاتفاقيات على الغالب، إلا أن هناك حالات في الماضي للتدخلات دون اتفاقيات، فضلاً عن وجود تدخلات رغم وجود اتفاقيات. والحقيقة أن فرنسا لديها قوات انتشار سريع (FAR) قادرة على التدخل في كل البلاد الأفريقية في زمن يسير من قاعدة في فرنسا (1990 ,Martin, 1985; Grey)..

وفضلاً عن ذلك، توجد اتفاقيات عسكرية ثانوية عدة، وهي اتفاقيات من الصعوبة الوصول إليها، وتدعم العسكرية الفرنسية أو الشركات الفرنسية المرتزقة وجزء من القوات الكاميرونية مالياً (2010 ,Survie). وعلى سبيل المثال تمول شركة البترول توتال (Total) ماليًا ستة من أصل عشرة أقسام من البحرية الكاميرونية حتى تحصل على حماية لمنصاتها البترولية (Survie, 2009b).

التدخلات العسكرية:

تعتبر فرنسا الكاميرون شريكها الأول للتعاون العسكري في أفريقيا (France 2011 ,Diplomatie) حتى لو أقام خمسون جندياً فقط بشكل دائم مقارنة بألفين وتسعمائة جندي في جيبوتي (Deshayes, 2008). ويرجع ذلك لقوة العلاقات العسكرية التجارية على الأرجح، ويتجسد ذلك في الارتفاع الدائم في ميزانية الدفاع الكاميرونية (155.203 2008 Billion CFA in) وتوفير المواد العسكرية بواسطة شركات فرنسية (2009 ,Survie).

ومع ذلك، فإنه خلال الفترة التي شملها التحليل، لم يكن هناك تدخل عسكري فرنسي مباشر، والاحتجاجات التي حدثت في دوالا عام 2008 تجاه تدهور مستويات المعيشة والتغييرات الدستورية المرجوة للسماح بعدد غير محدود من الفترات الرئاسية، قمعها الجيش الكاميروني بعنف

ص: 47

وتسبب في مقتل أكثر من مائة وتسعة وثلاثين شخصاً، وانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، ورغم ذلك لم يُسجل أي تدخل مباشر للعسكرية الفرنسية .(Essoh, 2009; Observatoire National des Droits de l'Homme, 2008)

النتيجة:

من الواضح فرنسا تحتفظ بنفوذ اقتصادي قوي على الكاميرون، من خلال الاتفاقيات الثنائية والاتفاقيات متعددة الأطراف التي تدعم أشكال التجارة الاستعمارية بتثبيط تنوع الصادرات وإعاقة التصنيع المناسب هذا من جانب، ومن خلال وجود شركات متعددة الجنسيات تقوض القدرة القضائية للدولة حتى تتمتع بمعاملة يسيرة في فترات عدة.

وهناك أيضاً، تدخل سياسي قوي في الفترة ما بين 2004 – 2011 يتضح من خلال الدعم المالي الذي قدّم لبول بايا وإبقائه في السلطة بعد حوالي ثلاثين عاماً من القيادة. ورغم ذلك قد انخفض النفوذ السياسي في فترة الثمانينيات والتسعينيات، حيث شغل المناصب الإدارية المهمة كلها الكاميرونيون إلى الآن، ومع ذلك يبدو أن الدرجة العالية من الفساد قد تفيد المصالح الفرنسية.

وربما يكون النفوذ المالي هو العامل الأول الذي يحدد تبعية الكاميرون لفرنسا. وتحجم الرقابة النقدية القوية استقلال السياسة المالية الكاميرونية وميزانيتها، ناهيك عن أن هناك حالات سوء استخدام لمعونة التنمية متعددة الأطراف لأغراض تخدم الشركات الفرنسية في الدولة.

وحتى لو لم يكن قد سُجلت تدخلات عسكرية مباشرة في فترة التحليل، فإن فرنسا تُبقي على سيطرتها القوية على الكاميرون، ولاسيما في الحفاظ على اتفاقيات الدفاع مع القيادة الكاميرونية، ومن ثم فإن فرنسا تقبض بوضوح على النفوذ الاقتصادي والتدخل السياسي والتبعية المالية والوجود العسكري، ولهذا السبب يمكن تصنيف علاقتها مع الكاميرون على أنها استعمارية جديدة وفقاً للمعايير المقررة.

ص: 48

2-3 غانا

كما حللنا العلاقة الجارية بين فرنسا والكاميرون سوف نطبق الإطار المفاهيمي على وجود بريطانيا في غانا.

1-2-3- التبعية الاقتصادية

استدامة الأنماط التجارية الاستعمارية : حيث تمثل غانا وبريطانيا جزءاً من اتفاق كوتونو (Cotonou) الذي يتبع اتفاقيتي ياوندي لعامي 1964 و1971 اللذين حددا أسعار وكميات تبادل المواد الخام والسلع المصنعة، واتفاقيات لومي 1975 و1979 و 1984 و 1989 الموقعة بين دول أفريقيا والكاريبي والباسيفيك ACP ومجموعة الدول الأوربية الاقتصادية Martin, 1984; Cortés, 1987; Diouf, 2001) EEC). وقد أدخلت اتفاقيات لومي آليات تأمين(Stabex and Sysmin) التي تحمي دول ACP من فقدان في الأوضاع الاقتصادية والبيئية الصعبة (1984 ,Martin). ورغم ذلك أسهمت الظروف المتباينة المتعلقة بالدعم المالي في استمرارية أنماط التجارة الاستعمارية إلى حد كبير التي تعيق التنوع وتحجم التصنيع ويكفل لها الحصول المستمر على السلع الأولية لدول المجموعة الاقتصادية الأوربية Cortés, 1987; Merinero, 2001) EEC). ومن المفترض أن يكون اتفاق كوتونو عام 2000 محل آليات Stabex and Sysmin بموجب اتفاقيات التبادل الحر. ومع ذلك لا يزال النظام التجاري غير المتكافئ قائماً، حيث تُسيطر مجلس المجموعة الأوربية الاقتصادية EEC على معظم عمليات اتخاذ القرار وتحتفظ بالحمية في بلدانها في حين تفتح أسواق دول Diouf, 2001) ACP)، وهناك احتكارية أخرى واضحة وهي حصول الشركات الأجنبية على الموارد، مع أن الشركات البريطانية لا تشكل إلا جزءا من الشركات الحالية (Mongabay, 1994)، وأما احتكار النقل تتصرف غانا في شركة شحن صغيرة بسفن حاوية (1994,Mongabay).

المعاملة المناسبة للشركات البريطانية: حيث سجلت حالات المعاملة المناسبة للشركات البريطانية خلال الفترة التي شملها التحليل ما يتعلق بوجود خروق قانونية دون

ص: 49

ملاحقة قانونية. وقد اتهمت مراراً شركة أنجلو جولد أشانتي (1) وهي من أكبر شركات التعدين في العالم بتلوث وتدمير الفضاء المعيشي في منجم أوبواسي (Obuasi). وأدى تلوث الماء والأرض المستمر إلى الأمراض وعدم حماية الغذاء، دون أن يُلاحق هذا بدعاوى قضائية أو تعويضات مناسبة للسكان المحليين (2006 ,ActionAid).

2-2-3 التدخل السياسي

دعم القائد السياسي: وفي الانتخابات الرئاسية عام 2004 أُعيد انتخاب ج. كوفور للمرة الثانية 52،45 % من مجموع الأصوات(Database, 2009 African Elections). وقد أعلن المجتمع الدولي وفريق رصد المجتمع الاقتصادي لغرب دول أفريقيا (ECOWAS) وائتلاف مراقبي الانتخابات المحلية والشعب الغاني أن الانتخابات والحملات الانتخابية كانت حرة ونزيهة (2005 ,Guri). وفي الانتخابات الرئاسية عام 2008 انتخب ج. عطا ميللز بنسبة 50،23 % في الجولة الثانية (2009,African Elections Database). ووفقاً لبعثة مراقبة الانتخابات التابعة للإتحاد الأوروبي ومركز كارتر، أن الانتخابات كانت مفتوحة وشفافة واحترمت التنافسية والحقوق الأساسية ووفت المعايير الدولية والإقليمية(EUEOM, 2009; The Carter Centre, 2011). ورغم هذا فإن وفق كوديو (CODEO) كان معدل الخروج محل تساؤل في ضوء الخروق التي تفشت والعنف أثناء تسجيل الناخبين وغياب التحقق المتعمق، ومع ذلك اعتبرت الأحكام القانونية والدستورية لمنع تصويت المجموعات العرقية غير كافية وكذلك اعتبار الإجراءات والمؤسسات غير الرسمية. ومن ثم لم يُصِر أيا من الأحزاب الكبرى على التحقق واعتبرت نتيجة الانتخابات والحملات صحيحة عموما (2009 ,Jockers).

التدخل في السياسة الداخلية: لا توجد حالات للتدخل المباشر، ولكن نظراً لارتفاع نسبة الفساد (بمعدل 37% وفقا لتقرير منظمة الشفافية عام 2009) لا يمكن استبعاد رشوة السياسيين المحليين، وبالنسبة لشغل الوظائف الإدارية العليا يبدو أنها مشغولة بالمحليين (GIMPA, 2011).

ص: 50


1- شركة أنجلو جولد أشانتي تابعة لجنوب أفريقيا وفرع الشركة أنجلو أمريكان التي مقرها لندن.

3-2-3 التبعية المالية

السيطرة النقدية: لا توجد مراقبة نقدية لغانا من جانب بريطانيا، حيث أنشأت غانا بنوكها وصكت عملتها مبكراً وكانت مرتبطة بالجنيه الاسترلينيي حتى عام 1961 وبالدولار الأميركي حتى 1986، واستقلت العملة منذ ذاك الوقت، وتمتلك الدولة احتياطاتها النقدية، ولكن مع وجود بنوك بريطانية عدة .(Amin, 1971; Mongabay, 1994).

سوء استعمال معونة التنمية: حيث هناك حالات نافذة لسوء استعمال معونة التنمية لدعم الشركات البريطانية خاصة في السنوات الأخيرة، وارتكز التعاون على القطاع الخاص على نحو متزايد، واستخدام المعونة لتعزيز المصالح الاقتصادية، وتسهيل الوصول للمواد الخام والأسواق للشركات الخاصة، وأصبحت هذه الممارسة أكثر شيوعا بتعددية مصادر معونة التنمية التي تقدم المعونة الحكومية من خلال المؤسسات المالية (IFIs). وتُظهر بعض الدراسات أن مؤسسة التمويل الدولية (IFC) التي هي جزء من مجموعة البنك الدولي أن ثلث القروض يُستعمل لتعزيز القطاع الخاص، ويُخصص 65% منها للشركات الكبيرة متعددة الجنسيات (Alliance Sud, 2011).

وفي حالة غانا، استحوذت شركة فودافون البريطانية عام 2008 على أكثر من 70 % من شركة غانا تليكوم، وهي شركة اتصالات وطنية، بقرض قيمته 300 مليون دولار من مؤسسة التمويل الدولية، أي غطت أكثر من ثلث التكلفة (2011 ,Alliance Sud).

4-2-3 التدخل العسكري

اتفاقيات الدفاع: لا توجد معلومات متاحة عن وجود ومحتوى لاتفاقيات الدفاع بين بريطانيا وغانا. فقد عارض نكروما بوضوح مفهوم اتفاقيات الدفاع، وانتقد أي تدخل عسكري بريطاني في القارة، ولهذا السبب تجنب تحت قيادته اتفاقيات الدفاع وكان الجيش الغاني إفريقيا (1994 ,Omoigui, 2006; Mongabay). ولكن نوَّع

ص: 51

القادة الموالين للغرب مؤخراً المساعدات العسكرية لأجل الحصول على الدعم من الدول المختلفة (1994 ,Mongabay).

وذكرت المفوضية العليا البريطانية أن الوجود العسكري البريطاني في غانا قد انخفض في السنوات الأخيرة. ومع ذلك لا يزال هناك «برنامج قوي للمساعدة والتعاون العسكري» مع القوات الغانية التي تواظب على حضور الدورات التدريبية في بريطانيا أو التدريبية التي تعقدها بريطانيا في غانا، ويُموَّل معظمها من بريطانيا (British High Commission, 2010).

التدخلات العسكرية: لم يُرصد أي تدخلات عسكرية بريطانية رسمية في غانا في الفترة التي شملها التحليل من عام 2004 - 2011.

5-2-3 نتيجة

تحتفظ بريطانيا بنفوذ اقتصادي نافذ في غانا، باتفاقية كوتونو التي تعزز دور غانا في توريد المواد الخام، فضلا عن الوجود الكثيف للشركات البريطانية متعددة الجنسيات التي تتمتع بمعاملاتٍ مناسبة، ولا يوجد تدخل سياسي بمعنى لا يمكن تحديد أي تدخل في الانتخابات السابقة، ولا يشغل أي موظف بريطاني منصباً إدراياً مهماً في غانا، ومع هذا هناك معدلات كبيرة للفساد و هي تفيد المصالح البريطانية بشكل يصعب قياسه.

وهناك تبعية مالية طفيفة ولكن ليست في السيطرة النقدية بل في المساعدات التنموية التي تُستخدم للحفاظ على وجود الشركات البريطانية متعددة الجنسيات.

وليس هناك وجود عسكري وفقاً للمعايير المقررة، وتحافظ بريطانيا على تعاونها العسكري مع غانا، وليس هناك أدلة على وجود اتفاقيات دفاع قد تضمن الدعم العسكري للقيادة الحالية مقابل معاملة اقتصادية مناسبة، ولم تُسجل أي تدخلات عسكرية مباشرة في الفترة التي شملها التحليل .

ص: 52

وخلاصة القول إن بريطانيا تحافظ على النفوذ الاقتصادي والتبعية المالية الطفيفة، ولا يوجد دليل على تدخل سياسي أو وجود عسكري، ولهذا السبب لا يمكن اعتبار العلاقة بين غانا وبريطانيا استعمارية جديدة وفقا للمعايير المقررة.

أنماط النفوذ الفرنسي والبريطاني

ويمكن أن نستأنف نتائج دراستي الحالة اللتين حللناهما مع مختار ضيوف كما یری هو أنه في حين تحاول فرنسا الحفاظ على العلاقات الوثيقة مع مستعمراتها السابقة من النواحي الاقتصادية والسياسية والمالية والعسكرية، يبدو أن بريطانيا تُحد من تدخلها في المجال الاقتصادي، وتقدم العون التقني وتأمن الأسواق لشركاتها (2001 ,Diouf). والحقيقة أنه وفقا للإطار المعمول به فإن النتائج تبين أن فرنسا تمارس استعمارية جديدة على الكاميرون، في حين أن علاقة فرنسا بغانا تبدو أكثر في تبعية النفوذ الاقتصادي المحدود والتبعية المالية الطفيفة .

وبغض النظر عن وجود الاستعمارية الجديدة في الكاميرون وغانا فإن مقارنة الحالتین يسمح ببعض الاستنتاجات التي تتعلق بالاستراتيجية الفرنسية والبريطانية، وكشف بعض أوجه التشابه والاختلاف.

1-4 الاختلافات

لا تزال فرنسا متورطة سياسياً في الكاميرون كما هو الحال في المستعمرات الأخرى، رغم إعلان الانسحاب السياسي في قمة عام 1990 في لابولا(La Baule)، حيث كان تعزيز الديمقراطية سمة جديدة للسياسة الأفريقية الفرنسية، ويبدو أن النخبة الفرنسية تحافظ على مشاركتها في المسائل السياسية الأفريقية (1997 ,Schraeder). وسحبت بريطانيا على النقيض سيطرتها السياسية على غانا.

ويمكن ملاحظة الاختلاف نفسه في المجال المالي. ففي حين يُختزل النفوذ المالي البريطاني على استعمال أجزاء من معونة التنمية لمصالحها الاقتصادية، فإن

ص: 53

فرنسا تحتفظ بسيطرتها القوية على القرارات المالية برمتها للكاميرون، لاسيما خلال الوحدة النقدية للفرانكوفونية CFA. والحقيقة أن المناطق النقدية شكلت وسيلة مهمة للحفاظ على سيطرتها على المستعمرات السابقة الكبرى في أفريقيا وتطبيقها بكل القوى الاستعمارية السابقة الكبرى في أفريقيا، ومع ذلك فإن منطقة الفرنك الفرنسية فحسب التي حافظت على نفوذها. وعلى عكس التوقعات التي فهمت انخفاض قيمة فرنك الفرانكوفونية CFA باعتباره بداية لفك الارتباط المال الفرنسي، لا تزال منطقة الفرنك الفرنسي بكرا وحتى امتد العمل إلى الصلات الأخيرة باليورو (2001 ,Faes). وتؤدي السياسات التي تفرضها فرنسا إلى التبعية النقدية، وكما يرى بعض الكُتاب أن هذا يُبقي الدول الأفريقية فقيرة عمداً ويكبح جماح تصنيعها وتنميتها الصحيحة (Kohnert, 1998). ومن ناحية أخرى كانت منطقة الإسترليني أكثر مرونة حيث أقامت غانا مصارفها وصكت عملتها بنجاح بعد استقلالها بفترة وجيزة (1965 ,Nkrumah).

وكان الوجود البريطاني أقل ظهوراً من الناحية العسكرية، إلا أن ذلك يعتمد على أن السياسية البريطانية السرية لا تسمح للجمهور إلا بقدر ضئيل من المعلومات، علاوة على ذلك قد طبقت غانا سياسة ليبرالية لا تعيق النفوذ الاقتصادي البريطاني، وأسهم هذا في تقليل الحاجة إلى الوجود العسكري البريطاني. وعلى عكس هذا لا تزال السياسة العسكرية البريطانية ثابتة إلى حد كبير، وكما يرى بعض الكتاب أن الإصلاح الأخير لاتفاقيات الدفاع لن يترتب عليه انسحاب فعلي لفرنسا من الناحية العسكرية، بل سوف يؤدي إلى تغيير الوسائل المطبقة (Grey, 1990; Survice 2010). ويبدو أن الوجود العسكري المستمر ووجود قوات الانتشار السريع يُحدان من احتمال الانتفاضات الداخلية (1990 ,Grey).

وهناك اختلاف آخر مهم يتعلق بتأثير النفوذ الفرنسي والبريطاني في أفريقيا. ففي حين أن مصالح بريطانيا في غانا غير معروفة إلى حد كبير، وهي لا تخترق وسائل الإعلام، إلا أن السياسة الفرنسية تجاه أفريقيا كانت معلنة. وإذا كان النفوذ البريطاني

ص: 54

يحدث من خلال وجود شركات متعددة الجنسيات فقليل من الوضوح حول السياسة البريطانية هو المتاح للجمهور. ومن ناحية أخرى قد تولت منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية تنفيذ سياسة فرنسا تجاه أفريقيا في التسعينيات، وكان كتاب «أفريقية فرنسا Françafrique» للكاتب فرنسوا كزافييه فيرشاف أول وثيقة تدين الاستعمارية الجديدة لفرنسا في أفريقيا (2001 ,Verschave, 1998; Faes). في حين كان السياسيون الفرنسيون لم يكشفوا عن نواياهم في أفريقيا (1) ، وأصبح الخطاب السياسي أكثر تحفظاً في السنوات الأخيرة (1992 ,Chafer). والحقيقة أن الرئيس میتران أصر في مؤتمر القمة الأفريقية الفرنسية الذي انعقد في لابولا 1990 على أن المعونة الفرنسية سوف تركز في المستقبل على الأنظمة الديمقراطية، ومع ذلك يتضح أن غالبية المعونات الفرنسية المقدمة توجه للأنظمة الفاسدة (1995 ,Martin).

وخلاصة القول إن لتتبع السلطتين الاستعماريتن الكبيرتين السابقتين استراتيجيات متباينة فيما يتعلق بمستعمراتها السابقة في أفريقيا. والعلاقات الحالية المختلفة تنشأ جزئياً من نماذج مختلفة من الاستثمار الذي طبقته فرنسا وبريطانيا على التوالي. فالاستعمار البريطاني استمر من خلال مؤسسات قوية، وأما الاستعمار الفرسي وصل إلى أعمق ما يبتغيه بدمج ثقافته وبُناه الفرنسية في الدولة الخاضعة له.

2-4 التشابهات

يشير النفوذ الفرنسي والبريطاني في الكاميرون وغانا إلى أوجه تشابه من الناحية الاقتصادية حيث يحافظ كلاهما على معدلات التبادل التجاري التي تؤدي إلى غدامة دور غانا والكاميرون باعتبارهما مُورِّدين للمواد الخام ومستوردين للمنتجات المصنعة. ولذلك يوجد لديهما شركات متعددة الجنسيات تحتكر مجالات اقتصادية بعينها مثل قطاعي التعدين والاتصالات في غانا وقطاعي قطع الأخشاب والنقل في الكاميرون.

ص: 55


1- مثل تصريحات فرانسوا ميتران " لن يكون لفرنسا تاريخ فى القرن الحادى والعشرين دون أفريقيا " (Chafer, 1992 p.40)، وقال سكرتير الولة للتعاون الآن جويانديت «إن غرس الشركات الفرنسية في أفريقيا هو الأولوية» . (Survie, 2009 p.7).

وتعكس دراستا الحالة اتجاهين علّق عليهما مختار ضيوف (Makhtar Diouf) وجيرالدين فايز (Géraldine Fees)، أعني الاتجاهات نحو التعددية وخصصة العلاقات بين القوى الاستعمارية السابقة ومستعمراتها السابقة (Diouf, 2001; Faes, 2001).

ويمكن أن نتصور تقدما ملحوظا بالنسب لاتجاه تعددية العلاقات وتحولها من الثنائية إلى التعددية على مدى العقود الماضية خاصة فيما يتعلق بالاتفاقيات والمعونة الإنمائية والتدخلات العسكرية من خلال اتفاقية لومي (Lomé) الرابعة واتفاقية كوتونو الأخيرة. واستُعيض بالاتفاقيات التجارية الثنائية بممارسة متعددة الأطراف تشمل جمیع دول المجموعة الاقتصادية الأوروبية EEC ودول أفريقيا والبحر الكاريبي والمحيط الهادي ACP. وبالمثل تزايدت المعونة الإنمائية والاستثمار الخاص عن طريق المؤسسات المالية الدولية IFIs مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وزادت كذلك التدخلات العسكرية بقوى عدة وموافقة من الأمم المتحدة. ويرى توني شافر (Tony Chafer) وجي مارتن (Guy Martin) أن هذه التعديدية المتدرجة بدأت في الثمانينات، ولم تُجِد نفعا للدول الأفريقية (Chafer, 1992; Martin, 1985). وقد أسهم تعدد الاتفاقيات التجارية في فتح الأسواق الأفريقية، وهذا يسر لهم الوصول إلى أعضاء المجموعة الأوروبية الاقتصادية، ونفس التبعية المالية التي حافظت عليها فرنسا قد جاءت لصالح أعضاء الاتحاد الأوروبي بربط الفرانكوفونية باليورو، وعلاوة على ذلك أصبح تدفق المعونة من الصعب السيطرة عليه لتعدد أطراف مانحيه.

وقد اقترنت خصصة تعددية الأطراف بخصصة العلاقات، بمعن أن في دوائر العمل قد تكاثر وجود الشبكات السياسية وتحولت إلى جماعات اقتصادية ضاغطة، حيث تفاعلت الشركات متعددة الجنسيات مباشرة مع القادة السياسيين الموالين من أجل الحفاظ على مصالحهم الاقتصادية (1) ( Verschave, 1994; Faes, 2001; Diouf,

ص: 56


1- هناك أمثلة عدة لربط الأعمال الخاصة بالسياسة، وربط خصصة العلاقة بالدولة الأفريقية، على سبيل المثال جان كريستوف ميتران ابن الرئيس الفرنسي السابق، الذى كان مستشارًا للشئون الأفريقية آنذاك.

2001b). ويبدو أن هذا التطور قد ينبع أساساً من العولمة ومن بزوغ المؤسسات المالية الدولية IFIs وتعزيزها لليبرالية، وأسهم هذا في زيادة قوة الشركات متعددة الجنسيات مقابل الدول (Diouf, 2001b). ويشكل تزايد مكانة هذه السلطة واحتكارية الممارسة أحد العقبات أمام الأسواق المحلية والتصنيع المناسب، وهي مصدر للتلوث والفساد والإفراط في استغلال الموارد والإهمال الاجتماعي (Survie, 2009).

وبالمثل قد خُصص استعمال العنف، وقد ظهر هذا جليا في توظيف القوات المرتزقة لأجل المصالح الخاصة (1979 ,Goldsborogh).

5 - النتائج

إن الهدف من الأطروحة تفعيل مفهوم الاستعمارية الجديدة بتقديم إطارًا من المعايير يسمح بقياس وجود الاستعمارية الجديدة في دولة وتطبيقه على دراستي حالة، ثم الخروج بفرضية أن وجود الاستعمارية الجديدة يمكن قياسه بدرجة معقولة. وقد خلص تطبيق الإطار المفاهيمي لدراستي الحالة إلى أن فرنسا تحتفظ بعلاقة الاستعمارية الجديدة مع الكاميرون من النواحي كلها في الفترة التي شملها التحليل من 2004 إلى 2011، في حين يقتصر وجود بريطانيا في غانا على النفوذ الاقتصادي والتبعية المالية الطفيفة التي لا يمكن تصنيفها بأنها استعمارية جديدة وفقا للمعايير المقررة. كما سمح التحليل بتحديد الاتجاهات العامة نحو التعددية وخصصة العلاقات بين القوى الاستعمارية السابقة والمستعمرات السابقة والتعددية المتعلقة بالعلاقات التجارية، وتقديم المعونة والتدخلات العسكرية، وخصصة ما يتعلق بالعلاقات بين الشركات الأجنبية متعددة الجنسيات والحكومة المحلية، واستعمال العنف من جانب الشركات متعددة الجنسيات.

وتبرهن هذه النتائج أن الإطار المقرر فعال وأن وجود الاستعمارية الجديدة في الدولة يمكن قياسه بشكل معقول، ومع ذلك كانت النتائج واضحة، وأظهرت المعايير أنها قابلة للتطبيق في معظم الحالات.

ص: 57

ومع هذا هناك بعض القيود الواضحة للتحليل، أولاً: إن تعريف الاستعمارية الجديدة وإقامة معايير لقياسها يعتمد على فهم محدود للغاية، ولهذا السبب فإن النتائج هي صورة تداخلية نوعا ما من الاستعمارية الجديدة فحسب، ولا تستجيب لصور النفوذ الماكرة. ثانيًا: لم يُحلل سوى دراستي حالة، وهما لا يعطيان وزناً كبيراً للنماذج التي نُوقشت، والدولتين اللتين حُللا ليستا في الموقف نفسه على وجه التحديد، فالكاميرون أعظم أهمية بالنسبة لفرنسا من غانا بالنسبة لبريطانيا. ثالثًا: إن بعض الوثائق التي توفر معلومات مهمة مثل اتفاقيات الدفاع ليست متاحة، وهذا يؤثر بدوره على النتائج. فبريطانيا أكثر سرية من فرنسا فيما يتعلق بمصالحها في مستعمراتها السابقة، ويؤدي هذا إلى معلومات غير متماثلة للموقف تعزز نتيجة مشاركة فرنسا في الكاميرون أكثر من بريطانيا في غانا، مع الوضع في الاعتبار تعددية إدراكات مفهوم الاستعمارية الجديدة، ومحاولة وضع قدرًا معينًا لمعيار وثيق الصلة بقياسها يستلزم حتمًا درجة بعينها من الموضوعية.

والقيود المفروضة على البحوث المقدمة تعطي مساحة لإمكانيات بحوث إضافية. وعلى سبيل المثال يمكن تطبيق الإطار المفاهيمي المقترح على مزيد من دراسات الحالة لتوسيع نطاق النتائج، وإضفاء مزيد من الأهمية للنتائج العامة، وكذلك يمكن توسيع الإطار ليتضمن مزيدًا من المعايير. والبحث المتعمق على الاتجاهات الموجودة عن تعدد الأطراف وخصصة العلاقات بين القوى الاستعمارية السابقة ومستعمراتها السابقة قد يكون مهما. وبالمثل بالإمكان تحليل نفوذ القوى الأخرى مثل الصين والولايات المتحدة في الدول المستقلة حديثاً.

ActionAid. "Gold rush - The impact of gold mining on poor people in Obuasi in Ghana. "Accessed September 15, 2011. http://www. actionaid.org.uk/doc_lib/gold_rush.pdf -

African Elections Database. "Elections in Cameroon.” Accessed September 6, 2011. http://africanelections.tripod.com/cm.html -

African Elections Database. "Elections in Ghana." Accessed -

ص: 58

.September 6, 2011. http://africanelections.tripod.com/gh

html:2004_Presidential_Election

.Alliance Sud. "European development cooperation: trend towards self-interest." Last modified April 18, 2011 -

http://www.alliancesud.ch/en/policy/aid/european-development-cooperation

Amin, Samir. Neo-colonialism in West Africa. London: Penguin,1973-

".Ardent, Philippe. “Le néo-colonialisme: théme, mythe et réalité-

.Revue française de science politique 5 (1965): 837- 55

.Bank Information Center BIC. “World Bank announces withdrawal from Chad-Cameroon Pipeline after early repayment.” Accessed September 16, 2011-

http://www.bicusa.org/en/Article.3892.aspx

.Banque de France (a). “Instituts d’emission et monnaies des pays et territories de la zone franc.” Accessed September 16, 2011-

http://www.banque-france.fr/fr/eurosys/telechar/zonefr/liste.pdf

.Banque de France (b). “Convention régissant l’Union Economique de l’Afrique centrale U.E.A.C.” Accessed September 16، 2011-

http://www.banque-france.fr/fr/eurosys/telechar/zonefr/ueac. pdf

.Banque de France (c). “Convention régissant l’Union monétaire de l’Afrique centrale U.M.A.C.” Accessed September 16، 2011-

http://www.banque-france.fr/fr/eurosys/telechar/zonefr/umac.pdf

.British High Commission in Accra. “UK Trade and Investment.” Last modified March 9، 2011. http://ukinghana.fco.gov.uk/en/about-us/working-with-ghana/annual-report/annual report-2009/ukti-

ص: 59

.British High Commission in Accra. “Defence relations.” Last modified in 2010-

/http://ukinghana.fco.gov.uk/en/about-us/ working-with-ghana/defence-relations

.British High Commission in Accra. “UK in Ghana.” Last modified in 2009-

http://ukinghana.fco.gov.uk/en/about-us/working-with ghana/annual-report/annual-report-2009/ukti

.Cameroononline. (2011) “Paul Biya n’organise jamais les élections pour perdre.”Accessed September 2، 2011-

/http://www. cameroononline.org/201114/06//paul-biya-norganise-jamais-les elections-pour-perdre

(Chafer، Tony. “French African Policy: Towards change.” African Affairs 91362/51-37 : (1992-

.Commonwealth Observer Group. Cameroon Presidential Election 11 October 2004: Report of the Commonwealth Observer Group. London: Commonwealth Secretariat، 2004-

.Cortés، José Luis. “Economía del África independiente: una economía de dependencia.” In Africa Internacional: La economía. Madrid: IEPALA، 1987-

.Crozier، Brian. Neo-colonialism. London: The Bodley Head، 1964-

Deshayes، Benoit. (2008) “Afrique: où sont déployés les militaires français?" Last modified in 2008. http://www.linternaute.com/savoir/magazine/dossier/france-afrique/autres-pays.shtml-

.(Diouf، Makhtar. “L’Afrique dans le dialogue Nord-Sud.”Alternatives Sud 83/177-151 :(2001-

.Diouf، Mamadou. “L’influence grandissante des multinationales.” Croissance 446 (2001): 18- 19-

.EcoFin. “Sitzungsprotokoll zur Entscheidung des EU-Rates über Wechselkursfragen in Zusammenhang mit dem CFA-Franc und dem Komoren-

ص: 60

Franc.” Accessed September 16، 2011.http://www. consilium.europa.eu/ueDocs/cms_Data/docs/pressData/de/ecofin/13168.D8.htm

Encyclopedia Britannica. “The history of Cameroon.” Accessed September 2،2011. http://www.sfu.ca/archaeology/museum/ndi/History.html-

Encyclopedia of the Nations. “Cameroon – History.” Accessed September 2، 2011. http://www.nationsencyclopedia.com/Africa/ Cameroon-HISTORY.html-

./Esseks, John. "Political Independence and Economic Decolonization: The Case of Ghana under Nkrumah." The Western Political Quarterly 2464-59 :(1971) 1-

Essoh، Moïse. “Le CODE interpelle le Premier Ministre Français sur la politique de la France au Cameroun.” Last modified in 2009 http://lecode.afrikblog.com/archives/200913817466/21/05/.html-

.European Union Election Observation Mission to Ghana EUEOM. Final Report on the Presidential and Parliamentary Elections 2008. Brussels: European Union، 2009-

.Faes، Géraldine. “Françafrique: Le partage des dépouilles.” Croissance 446(2001): 15- 17-

FAO. “Legal compliance in the forestry sector. Case study: Cameroon. Final report” Accessed September 14، 2011. http:// www.fao.org/forestry/19580-0b266e69b6880da012e1a1875f231 9a15.pd-

France Diplomatie. “La France et le Cameroun” Last modified June 22, 2011. http://www.diplomatie.gouv.fr/fr/pays-zones-geo_833/ cameroun_361/france-cameroun_1114/index.html-

/Ghana Institute of Management and Public Administration GIMPA. “Staffdirectory” Accessed September 12، 2011. http:// www.gimpa.edu.gh/component/option،com_staffdirectory/ Itemid،221/limit،20/mode،search/view،staffsearch-

ص: 61

Global Forest Watch. “An overview of logging in Cameroon” Last modified in 2000. http://www.globalforestwatch.org/common/ cameroon/english/report.pdf-

Global Witness. “Cameroon: Global Witness details cases of illegal logging” Last modified February 5، 2003. http://www. globalwitness.org/library/cameroon-global-witness-details-cases illegal-logging-

.Goldsborough، James. “Dateline Paris: Africa’s Policeman.” Foreign Policy 33 (1979): 174- 90-

./Grey، Robert. “A Balance Sheet on External Assistance: France in Africa.” The Journal of Modern African Studies 2814 - 101 :(1990) 1-

Guri، Ben. “Report on Ghana 2004 Elections.” Accessed September 11، 2011. http://www.kas.de/wf/doc/kas_716130-2-1522-.pdf?050928113914-

./Hilary، John. “Africa: Dead Aid and the return of Neoliberalism.” Race class 5284-80 :(2010) 2-

.Historyworld. “History of Cameroon” Accessed September 2، 2011-

http://www.historyworld.net/wrldhis/PlainTextHistories. asp?historyid=ad39

Jockers، Heinz and Kohnert، Dirk and Nugent، Paul. The Successful-

Ghana Election of 2008 - A Convenient Myth? Ethnicity in Ghana’s

.Elections Revisited. Hamburg: GIGA German Institute of Global and AreaStudies، 2009

.Kabunda Badi، Mbuyi. “El neocolonialismo en África. Sus formas y manifestaciones.”Cuadernos África América Latina 24 (1996): 63 - 68-

:(Kohnert، Dirk. “The Euro، a blessing for Africa? Consequences of the peg of the African Franc CFA to the Euro.” German Institute of Global and Area Studies 5777 (1998-

Laurean، Mbapndah. “Cameroon: Democracy at a Crossroads.” Last modified in-

ص: 62

2005 http://www.monitor.upeace.org/pdf/cameroon.pdf

Le Monde. “La présence militaire française en Afrique.” Last modified April 13, 2006. http://www.lemonde.fr/afrique/ infographie/200613/04//la-presence-militaire-francaise-en afrique_761588_3212.html-

./Martin، Guy. “Continuity and Change in Franco-African Relations.” The Journal of Modern African Studies 3320-1 :(1995) 1-

./Martin، Guy. “The historical، economic and political bases of France’s Africanpolicy.” The Journal of Modern African Studies 23208-189 :(1985) 2-

./Martin، Guy. “African-European Economic Relations under the Lomé Convention: Commodities and the Scheme of Stabilization of Export Earnings.” African Studies Review 2766-41 :(1984) 3-

SIPA. “Chad Cameroon Oil Pipeline Project - a study tool and case study” Accessed September 17، 2011. http://www.columbia.edu/ itc/sipa/martin/chadcam/index.html-

./Mensah، Anthony. “The process of monetary decolonization in Africa.” Utafiti 463-45 :(1979) 1-

./Merinero، María Jesús. “África poscolonial: Los efectos del neocolonialismo.” Estudios Africanos 1542-29 :(2001) 27-

Mongabay. “Ghana.” Accessed September 6، 2011. http://www. mongabay.com/history/ghana/ghana-introduction.html-

Mujongue، Cécile. “L’exaspération des riverains des ‘plantations Bolloré’.” Last modified June 6، 2011. http://survie.org/billets-d afrique/2011202-/mai-2011/article/l-exasperation-des-riverains-des-

/Nabakwe، Ruth. “CFA، the devil is in the detail.” Last modified in 2002. http://findarticles.com/p/articles/mi_qa5391/is_200207/ ai_n21315898-

.Nkrumah، Kwame. Neo-colonialism: the last stage of imperialism. London:Panaf Ldt.، 1968-

Observatoire National des Droits de l’Homme. “Cameroun - Une répression sanglante à huis clos.” Last modified in 2008. http:// www.liberationafrique.org/IMG/pdf/Rapport_Cameroun_ ONDH_fevrier_20092-.pdf-

.Omoigui، Nowamagbe. “Military defence pacts in Africa.” Last modified in 2006-

ص: 63

http://www.dawodu.com/omoigui1.htm

PNB Paribas. “Challenges facing the CFA franc.” Last modified in 2001. http://economic-research.bnpparibas.com/applis/www/ RechEco.nsf/063552/E1AC0D7091EC1256BA30056B490/$File/ C0110_a1.pdf?OpenElement-

Primo، Alice. “Bolloré - Vilgrain: la terre، la sueur et le sang.” Last modified March 21, 2011. http://survie.org/billets-d afrique/2011198-/janvier-2011/article/bollore-vilgrain-la-terre-la sueur-

.Rat der Europäischen Union. “Entscheidung des Rates vom 23. November 1998 über Wechselkursfragen im Zusammenhang mit dem CFA-Franc und dem Komoren-Franc.” Last modified in 1998-

http://eur-lex.europa.eu/LexUriServ/LexUriServ.do?uri=OJ:L:1998:320:0058:0059:DE:PDF

Republic of Cameroon (2011) “La Présidence - Les Proches Collaborateurs du Président.” Last modified in 2011. http://www. prc.cm/index_en.php?link=les_collaborateurs_du_president_ de_la_republique_secretariat_general-

.Sartre، Jean-Paul. Colonialism and Neocolonialism. London: Routledge، 2006-

.Schraeder، Peter. “France and the great game in Africa.” Current History 107 (1997): 206- 11-

.Somalipress. “Modern history of Cameroon.” Last modified September 13، 2009-

http://www.somalipress.com/cameroon overview/modern-history-cameroon-1070.html

Somalipress (b). “Government and Politics of Cameroon.” Last modified September 13، 2009. http://www.somalipress.com/ cameroon-overview government-and-politics-cameroon-1067. html-

.Survie. “Malgré les discours de rupture، l’armée française demeure omniprésente dans ses anciennes colonies africaines.” Last modified February 16، 2010-

http://survie.org/francafrique/ article/malgre-les-discours-de-rupture-l

.Survie. France-Afrique: Diplomatie، Business et Dictatures. Paris: Survie، 2009-

.Survie (b). “Total privatise la marine camerounaise.” Last modified May 1، 2009-

http://survie.org/billets-d-afrique/2009180-/ mai-2009/article/total-privatise-la-marine

ص: 64

.The Carter Centre. “Waging Peace: Ghana.” Last modified in 2011-

http://www.cartercenter.org/countries/ghana-peace.html

The Frontier Telegraph. “25 years of Biya’s peace and stability - an editorial.” Last modified in 2007. http://www.thefrontiertelegraph. com/content/110107/biyas_peace.html-

Transparency International. “Global Corruption Barometer 2010.” Last modified in 2010. http://www.transparency.ch/de/PDF_ files/GCB/TI_Global_Corruption_Barometer_2010.pdf-

Transparency International. “Highlights from Transparency International.” Last modified January 21، 2003. http://www. transparency.org/news_room/latest_news/press_ releases/200322_01_2003/_gcr2003_regional_highlights-

.Vajrushev، Vasili. El neocolonialismo y sus métodos. Moscow: Editorial Progreso، 1974-

.Verschave، François-Xavier. La Françafrique: Le plus long scandale de la République. Paris: Éditions Stock، 1998-

./Waulthier، Claude. “France and Africa: «Long Live Neo Colonialism».” Issue: A Journal of Opinion 226-23 :(1972) 1-

.Worldwide Governance Indicators. “Cameroon.” Last modified in 2010-

http://info.worldbank.org/governance/wgi/sc_chart.asp

ص: 65

الهوية الوطنية للأمة بين التأصيل والهيمنة

اشارة

مقاربة في استراتيجيات المواجهة والبناء

نبيل علي صالح

نبیل علی صالح (1)

أولاً - معنى الهويّة الحضاريّة للأمة لغةً واصطلاحاً

الهوية لغة:

الهَوِيَة (اسم)، وهي فاعل من هَويَ. والهَويّة، اسم منسوب إلى هُوَ . وأما الهَوِيَّةُ فهي البئرُ البعيدةُ القعر. وهُوِيَّةُ الإنسان هي حقيقته المطلقة، وصفاته الجوهرية. والْهُوِيَّةُ الوطنية : هي معالم الأمة، وخصائصها المميزة وأصالتها(2).

وبطَاقَةُ الْهُوِيَّةِ: هي البطاقةُ الشخصية التي تَحْمِلُ اسْمَ الشخص وتاريخ ميلاده وعمله وجنسيته . ووردَت كلمة «هوية» في معاجم اللغة بمعنى: «بئر بعيدة المهواة»، وقيل: هي تصغير كلمة (هوة)، وهي : «كل وهدة عميقة» (3) . والهوية بالمعنى الفلسفي تعني حقيقة الشيء، من حيث تميّزه عن غيره ، وتُسمَّى أيضاً وحدة الذات (4). وهي

ص: 66


1- كاتب وباحث سوري.
2- المعجم الوسيط، صادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة، الطبعة الخامسة، الناشر: مكتبة الشروق الدولية، عام 2011م، ج: 2، ص: 985
3- راجع: «المعجم الفلسفي». مجمع اللغة العربية، المطابع الأمرية، مصر/القاهرة، طبعة عام: 1983م، ص: 2081.
4- ابن منظور. «لسان العرب». الجزء: 15، دار صادر للطباعة والنشر، طبعة عام 1968م، لبنان/بيروت، ص: 375-376.

بهذا المعنى تتساوى مع مصطلح (هو هو) الفلسفي، والذي يشير إلى ثبات الشيء بالرغم مما يطرأ عليه من تغيرات، فالجوهر هو هو، وإنْ تغيّرت أعراضُه (1) .

الهوية اصطلاحاً:

الهويةُ في معناها الاصطلاحي المجرَّد هي جملةُ الثّوابت الفكرية والروحية لأي مجتمع وأية أمة، تخصّها وتتمايز بها عن غيرها (2)، وتتمظهر في قيمها وتقاليدها وعاداتها وأنماطها السّلوكية، ويتمُّ المحافظة عليها، ونقلها عبر الأزمان، متحولةً إلى ما يشبه العرف والقانون.. لتكون موضع اهتمام وتقدير من قبل الأجيال.. وهذا التمظهر يتجلى في الفن والثقافة والتراث الديني وغير الديني.. ومجموع تلك التقاليد والعادات بما فيها الفلكلور الفني، تتسق ضمن سمات وعلامات وخصائص متنوعة، تستقلُّ بها الذات (ذات المجتمع أو الأمة) عن الآخر (فرداً أم مجتمعاً)، وبغياب هذه العلامات والخصائص تغيب الذات وتذوب في الآخر، وبحضورها تحضر (3).. ويتم عبر هذه السمات إعطاء الانطباع الحقيقي بوجود كيفية هوياتية يُعَرِّف الناس بها ذواتهم أو أُمَّتهم، وتُتَّخذ اللغة والثقافة والدين أشكالاً لها؛ فهي تنأى بطبعها عن الأحادية والصفاء، وتنحو منحى تعدديّاً تكامليّاً إذا أُحسن تدبيرها، ومنحى صداميّاً إذا أُهملتْ وأُسيء فهمها، تستطيع أن تكون عامل توحيد وتنمية، كما يمكن أن تتحوَّل إلى عامل تفكيك وتمزيق للنسيج الاجتماعي، الذي تؤسِّسه عادة اللغة الموحدة (4).

ص: 67


1- مصدر سابق نفسه، ص: 207.
2- تتمثل خصوصيات هذه المجتمعات المسلمة في السمات التالية: - مجموعة المعايير والقيم الناجمة عن التصور (أو المفهوم) الإسلامي للحياة والكون والوجود والإنسان. - اللغة والثقافة الخاصة بها، وما تفرزه من أنماط فكرية ومعرفية. - مجموعة العادات والتقاليد والأعراف السلوكية المعبرة عن التوجه الثقافي والتاريخي (الهوياتي) لهذه المجتمعات. - أنماط التربية والتنشئة الاجتماعية داخل الأسرة وفي المجتمع. - أشكال خاصة من الاجتماع التربوي والديني والسياسي. - مجموعة من السلوكيات والتوجهات والدوافع والحوافز.
3- عبد العلي الودغيري. «اللغة والدين والهوية » . مطبعة النجاح الجديدة، المغرب/ الدار البيضاء، طبعة عام: 2000م، ص: 67.
4- رشيد بلحبيب. «الهويات اللغوية في المغرب من التعايش إلى التصادم». ضمن كتاب اللغة والهوية في الوطن العربي، إشكاليات تاريخية وثقافية وسياسية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، قطر/الدوحة، طبعة كانون الثاني 2013م، ص: 247-248.

كما يمكن تعريف الهوية التاريخية - من جملة تعاريف عديدة - منْ حيث أنَّها نظام فكري وقيمي من التصورات التي يتميز بها مجتمع ما تبعاً لما يختزنه من خصوصيات تاريخية وحضارية (روحية ومادية) تميّزها عن غيرها من الهويات الخاصة بشعوب وأمم أخرى. والهوية ليست كياناً ثابتاً وراسخاً غير قابل للتطور باستمرار، بل هي سيرورة تتأثر بالهويات الثقافية الأخرى تفاعلاً خصباً خلاقاً.. بما يعني أنه لكل بلد أو أمة أو حضارة معايير هوياتية تخصه، وتنسجم مع سياقاته التاريخية والثقافية، يتقوّم بها، ويعمل أهله على إبرازها وتظهيرها ثقافةً وفكراً وقيمة عملية والتزامات سلوكية على شكل عادات وتقاليد، لما فيها من إمكانات جاذبة للتوحّد حول فكرة الوطن، في حمايته وتقويته ونهضته وقوة اقتصاده وتنمية مواطنيه.

بهذا المعنى تكون الهوية هويتان، مادية (عضوية) وروحية (رمزية، معنوية)، فأما الهوية المادية، فتعني الانتماء إلى أرض وجغرافية محددة وواضحة المعالم المادية، أي الانتماء إلى تراب (أرضي) بما فيه وعليه من ثرواتٍ وموارد وعلاقات مادية، بحيث ينتظم الأفراد على هذه البقعة أو الجغرافيا المحددة، ضمن نسيج فكري سياسي متوافق عليه، يضبط علاقاتهم ببعضهم ، وبغيرهم.. وأما الهوية الروحية، فهي الرأسمال القيمي الرمزي، هي التراث الديني والفكري المعياري، هي أخلاقيات التعامل التي تمارس من خلالها أنماط ثقافية سلوكية معينة، تميز مجتمع وأمة عن مجتمع وأمة أخرى، يؤمنون فيها بمعايير قيمية محددة تجمعهم، وتلمهم تحت شملها.

وينبغي التمييز - كما يقول علي الدين هلال - بين ثلاثة مستويات مختلفة عند تحليل موضوع «الهوية»، فهناك أولاً الهوية على المستوى الفردي، أي شعور الشخص بالانتماء إلى جماعة أو إطار إنساني أكبر يشاركه في منظومة من القيم والمشاعر والاتجاهات والرؤى والتصورات. والهوية - بهذا المعنى - حقيقة فردية نفسية ترتبط بالثقافة السائدة، وبعملية التنشئة الاجتماعية. وهناك ثانياً التعبير السياسي الجمعي عن هذه الهوية في شكل تنظيمات وأحزاب وهيئات شعبية ذات

ص: 68

طابع تطوعي واختياري. وهناك ثالثاً، حالة تبلور وتجسُّد هذه الهوية في مؤسسات وأبنية وأشكال قانونية على يد الحكومات والأنظمة. وأما محمد عابد الجابري فكان يرى في الهوية (هوية العربي) مجرد ردّ فعل ضد الآخر (1) ، ونزوع حالم لتأكيد (الأنا) العربية بصورة أقوى وأرحب. فهوية العربي ليست وجوداً جامداً، ولا هي ماهية ثابتة جاهزة، بل هي هوية تتشكل وتصير .. وهي هوية اقترنت - في بنيتها - بتكوين الأمة العربية في التاريخ، وهو تكوين استند إلى عوامل عدة في مقدمتها اللغة والثقافة في إطار الجغرافية التاريخية (2).

ولا شكَّ بأنّ أصل فكرة الهوية يرتبط بفكرة المواطنة في الدولة من ناحية الجنسية كظاهرة وكمبدأ قانوني، كما ترتبطُ الهويةُ بالأبعاد والتمظهرات الثقافية للشخص والمجتمع مثلما تتصل بالانتماء السياسي للدولة.. وعموماً تتغذّى الهوية من مصدرين، أولهما: التراث، وهو المصدر الثابت أو الجوهر الذي يشكل الذهنية المقلوبة للشخصية النموذجية التي تنبثق عنها الهوية. وثانيهما، المجتمع الذي يشكل المصدر الثاني الطارئ والمتغير من الهوية، وهو الذي يؤثر تأثيراً كبيراً، من حيث أنه يعيق ما هو ثابت أو قد يعطله مؤقتاً، لأنّ الثابت غالباً ما يعيد إنتاج نفسه من جديد، ولو بصفة أخرى يقتضيها هو في اللحظة المناسبة، ووفقَ صيرورة المجتمع وشروط تغيّره الذاتية والموضوعية. ومن أهم المتغيرات الطارئة: السّلطة والمصلحة والكوارث والحروب والقوى الخارجية وغيرها. ويشير أحمد زكي بدوي إلى أن الهوية هي التي تميّز الفرد نفسه عن غيره، أي أنها تحدد حالته الشخصية. و من السمات التي تميز الأفراد عن بعضهم البعض، الاسم والجنسية والسن والحالة العائلية والمهنة (3) .

ص: 69


1- أكثر ما تتجلى الهوية، وينعكس وجودها الحقيقي على الأرض (من خلال نوع من التسامي والشعور بالفخر القومي أو الديني والانتشاء الوجداني والوطني) هو في أوقات التحدي ورد التحدي، حيث تظهر المشاعر من الخارج، أو من داخل النفس من خلال الالتزام بموقف ما، أو التحصن وراء فكرة أو قيمة ما، أو سلوك طريق معين غالباً ما يأخذ طابعاً حاداً. وعندها يكون هذا الشكل من المواجهة أو الدفاع الذي يلتزمه الفرد عن وجوده، مرتكزاً على شعوره الهوياتي الفردي.
2- ناظم عبد الواحد الجاسور. «موسوعة علم السياسة». الأردن/ عمان، دار مجدلاوي للنشر، طبعة: 1، عام 2004م، ص: 384.
3- سويم العزي. «علم النفس السياسي». الأردن/ عمان، الثراء للنشر طبعة: 1، عام: 2010م، ص: 113-114.

وأما هويتُنا نحن - كأمة عربية وإسلامية - فيشكّل الدين الإسلامي محورها الرئيس، و معيارها القيمي والسلوكي الأساسي.. بل هو جوهرها الفريد المغذِّي لثقافتها وأنساقها المعرفية، ومعاني رأسمالها الرمزي والعضوي المتحرك والمستمر في سيرورة متكاملة من العادات والقيم والممارسات ذات الخلفية الدينية.. وهذه الهويّة التي شكلت العمود الفقري لثقافة الفرد المسلم منذ نزول الوحي، لديها تصور فكري عقدي واسع، ورؤية كونية رصينة عن طبيعة الإنسان وماهية الكون والحياة والوجود بالمعنى الديني والفلسفي.. وهي بمجملها تختزن معاني روحية وعملية وقيم حياتية تنظم العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، وباقي مفردات حياته الخاصة والعامة.. وتتلخص هذه المعاني في وجود عقيدة تدين بها هذه الأمة، هي العقيدة الإسلامية، يعتز بها المسلمون، ويحترمون قيمها الحضارية وتمثّلاتها الثقافية، ويعملون على إبراز شعائرها وتعاليمها باعتدال ووسطية، وتشعرهم بالتميز والاستقلالية الفردية والجماعية، وتدفعهم أيضاً - بحكم النص - إلى إيصال رسالتهم الدينية الإنسانية (كهوية معيارية) إلى الناس إعلاماً وتبليغاً بلا تكلّف ولا ضغط.

ويمكن تقسيم الهوية الإسلامية، أو البناء الهوياتي التراثي الإسلامي - في هيكليته العامة - إلى قسمين أساسيين، وهما:

أولاً: التراثُ الثابت الذي يمكن أنْ نتحدث فيه عن الحقيقة التي تلامس موضوعاً يمتد في عمق واقع الحياة والوجود. وهذا الموضوع لا يستطيع الزمن أن يتدخل في عناصره ليعدل، أو يغير باعتبار أنه يختزن في داخله كل عناصر ومقومات الثبات، والاستمرار. وهو تراث القيم الثابتة المعيارية الذي يتحدث عن القيم المؤسسة، قيم الحق، والعدل، والمساواة.. قيم الفضائل والأخلاقيات الإنسانية التي دعا إليها الدين، وطبقها ومثّلها في عالم الإسلام والمسلمين كنماذج كبرى، ومثل عليا، وأُسَى (1) حسنة، الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم، وأهل البيت علیهم السلام .

ثانياً: التراثُ المتغيّر الذي يمكن أن نتحدث فيه عن طبيعة الحلول التي تقدم

ص: 70


1- جمع أسوة.

للمشاكل والتحديات والإشكاليات المختلفة التي تتحرك في الحياة في نطاق زمني معين، بحيث أنها تتجلى في الواقع من خلال ظهور حاجات جديدة ومتطلبات بشرية مستدة. وهذا الشيء هو الذي يمكن أن نتحدث فيه عن معنى القديم والجديد، باعتبار أن عنصري الزمان والمكان يتداخلان كلياً في تفاصيله الذاتية والموضوعية.

انطلاقاً من ذلك نقول بأنّ القسم المتغير من التراث والهوية التاريخية هو المحكوم بالتبدل والاستجابة لتطورات الواقع ومتغيراته، أما القسم الثابت من الهوية فهو ليس محكوماً أبداً بقاعدة التغير والتحول والسيرورة.

ثانياً - آلياتُ الهيمنة الثقافية ومظاهر تهديد الهوية الإسلامية (تفكيك الوسائل والأدوات)

كثير من الأمم والحضارات سعتْ (وتسعى) لفرض وجودها وتجسيد هيمنتها (ليس السياسية فحسب بل الثقافية أيضاً) على الأمم والحضارات الأخرى المتمايزة عنها. وهذا الفرض أو الهيمنة يتصل بغايات مادية ومصالح اقتصادية، وله سبل ووسائل عديدة تتجلى في ممارسة العنف الرمزي أو العضوي، سواء في الاحتلال المباشر، أو الغزو الثقافي الحافل بأشكال التأثير الإعلامي والسينمائي والميديائي، أو حتى عبر أبسط شؤون الفرد في مأكله ولباسه وأدوات لعب أطفاله.. وأكثر الأمم التي تحركت في هذا الاتجاه هي الأمم التي كانت تعتدّ بتاريخها وهويتها الثقافية والحضارية إلى حدود القداسة، وتعتبرها مشروعاً خلاصياً وإنقاذياً للآخر، بما يعني أنها تنظر لهذا الآخر (الفردي والجمعي) نظرة فوقية استعلائية وصائية، تكرّس ذاتها العليا كقيمة ومعيار ومرجعية يجب على باقي الحضارات والأمم أن تدور حولها. ويبدو لي أن كل أمة امتلكت مشروعياً خلاصياً، اختزنت في ذاتها نزعات واضحة للسيطرة والهيمنة ونهب الخيرات والثروات، وإنْ تغطت بشعارات ثقافية قيمية. وهذا هو الاستعمار الثقافي الذي يستلب الروح والذات، ويتلاعب بالقيم، ويجيّرها لمصالحه وتمكين خياراته من التجذر والامتداد. حيثُ يلاحظُ أنّ الدولة الاستعمارية تقوم بإعادة بناء وتشكيل المنظومة الثقاقية لمجتمع المستعمرات التي

ص: 71

تحتلها وتستوطن روحها، لجعله أكثر ارتباطاً بالدولة المستعمِرة. ليتم فرض ثقافة الاستعمار ( وقيمه وأنساقه الحضارية) على أنها الثقافة الوحيدة القادرة على نقل البلاد المستعمَرة إلى مرحلة الحضارة والتطور والحداثة الموعودة. وللأسف لم يحدث هذا في أيٍّ من البلدان التي استُعمرت واستحكمت فيها مفاصل الاستعمار بأنواعه وأشكاله المعروفة.

وقد تميّزت الحضارة الغربية (باعتبارها حضارة متقدمة وغالبة سياسياً واقتصادياً) بهذه الميزة السلبية، التي تجلت بأعلى مظاهرها من خلال إيمان هذه الحضارة بمركزيتها الثقافية (1) ، وبعلو كعبها على باقي أمم العالم وحضاراته وثقافاته ومجتمعاته خاصةً لمن تصفهم بالعالم الثالث المتخلف والمتأخر عنها علمياً وتقنياً ومعرفياً.. وبالتدقيق يمكن ملاحظة أهم تلك الطرق التي اعتمدوها لتعميق خطهم الثقافي ورؤيتهم الحضارية - القائمة على معايير أرضية غير سماوية، من النفعية والدنيوية والعلمانية بمعناها الاستهلاكي البشع - في تعميق التأثير السّلبي على الهوية الحضارية للأمم الأخرى، وعلى رأسها تهديدهم الدائم لهويتنا الإسلامية، التي شكّلت مصدرَ قلق دائم وربما حالة رعب حقيقي لهم على مستوى الإدارات السياسية الغربية، والمؤسسات الثقافية والدينية وما يوازيها من هيئات وبنى فكرية وتبشيرية .. ومنها :

تذويب الثقافة العربية الإسلامية: عن طريق ثلاثة أمور، الأول: نقل حمولات الثقافة الغربية وخاصة «ثقافة الاستهلاك الأميركية» إلى واقع حياتنا العربية والإسلامية، من خلال الصراع بين الاستيعاب والإذابة من جانب الثقافة العالمية، والخصوصية والاستقلال من جانب الثقافة العربية. والثاني: الإصرار على تحريف كثير من أفكار الإسلام وتعاليمه ومقاصده العليا، حتى وصلت الأمور إلى تحريف وقائعه التاريخية بهدف إسقاطه في نظر متّبعيه، وتفريغه من مضامينه الروحية والقيمية القائمة على إعطاء الحياة معاني الهدفية والغائية والروحية. والثالث: العمل المستمر على إثارة الشكوك والشبهات حول طبيعة هذه الهوية الإسلامية، ومعاييرها ومحدداتها

ص: 72


1- هذه المركزية هي التعبير المخفّف لكلمتي العنصرية والاستعمارية، وهما من أهم النتائج التي ترتبت على الروحية الإمبراطورية التي ورثتها أوروبا عن العصر الروماني، فباتت رهينة لها ومسكونة بها.

وضوابطها، وتفريغ الإسلام (كجوهر للهوية) من محتواه القيمي الحياتي الوسطي المتوازن.

فرض التبعية على الثقافة العربية الإسلامية: في إطار المكون الثقافي المعولم والمهيمن المتمثل في الثقافة الغربية. وإزاء إشكالية العلاقة بين النموذج الثقافي المعولم والخصوصية الثقافية للأمة العربية الإسلامية نجد أن الغرب اتبع عدة أساليب لإلحاق ثقافة العربي إلى ثقافته التي لا تتلاءم والبيئة التي نشأت فيها ثقافتنا ومعاييرنا الثقافية والدينية، ونجد أن ما صبّه الاستعمار من بطش وتنكيل وتدمير واحتلال، كل هذه الأعمال لا تساوي أمام ما تم وضعه في الأنظمة التربوية الحديثة الغربية في محاولة منها أنْ تنشئ أجيالاً تتنكر لشخصيتها المميزة، وهويتها العربية والإِسلامية، باعتبارها - كما يزعمون - لا تجاري تطورات الحياة، فلا بد من تركها، بل محاربتها، وهذا تذويب للهوية الثقافية العربية والإسلامية (1) .

الترويج لانتصار الحضارة الغربية ومعاييرها القيمية، من خلال مقولات مركزية ذات طبيعة استعمارية إلغائية كمقولة نهاية التاريخ، دونما أي اعتبار لثقافات «الأطراف»!، ودونما أي احترام للأنساق الحضارية والهويات التاريخية للشعوب والأمم والحضارات الأخرى، وعلى رأسها شعوبنا وأمتنا الإِسلامية، بل والإصرار على ما يسمى بالانتصار النهائي للعولمة الثقافية بالذات، والتركيز على نشر طروحات الثقافة الغربية القائمة على الحرية اللا محدودة، وقيم السوق النفعي، والاستهلاك المادي الفارغ، والتمحور حول الذاتية واللا معنى الوجودي.. وهذا ما لاحظنا تفشيه واستشرائه - على شكل اتباع وتقليد أعمى نتيجة الفراغ الروحي - في كثير من مواقع مجتمعاتنا ودولنا العربية والإسلامية من حيث هيمنة البعد الاستهلاكي، والنظرة المحدودة الفارغة للأشياء والحياة والإنسان، والاقتصار على الرؤية الأرضية والبعد المادي الجسمي العضوي في تمكين الفردية العضوية دونما اهتمام بالبعد الروحي والمعنوي.. فتم التركيز والاهتمام فقط على العمران المادي (بناء المولات والمباني

ص: 73


1- مسعود ضاهر. «حوار العرب مع ثقافات عصر العولمة.. الواقع والآفاق المستقبلية». مجلة العربي الكويتية، العدد: 576، تشرين ثاني 2006م. ص: 67 .

الضخمة، والتنافس في إشادة الأبراج العالية، والحدائق الجميلة) دون أي اعتبار لبناء العمران الروحي والتنموي العقلي الحقيقي للفرد المسلم كما قلنا. والإسلام كثقافة قصدية غائية تربط الدنيا بالآخرة، حوربت عن قصد في بنية الثقافة الغربية، من أجل إنهاكها وإظهار فقرها المعرفي في نظر أتباعها لقطع الصلة مع المؤمنين بها، وفصلهم عن جذروهم، كمقدمة للاستفراد بهم في احتلال أراضيهم والهيمنة على ثرواتهم واستغلال مواردهم.

الهيمنة الإعلامية والتلاعب الفكري تحت عناوين برّاقة ومزخرفة ودعاوي مزيفة من الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والانفتاح والتواصل المفتوح (وهي قيم مهمة بطبيعة الحال، لكن يتم استغلالها للهيمنة والتلاعب بالمصير والمستقبل). وهنا يمكننا أن نؤكد أنه إذا كان مثقفو الغرب ومفكروهم (أصحاب المواقع الراسخة المؤثرة في الثقافة في العالم المعاصر) ينشدون ثقافة تواصلية مفتوحة ومنفتحة وبلا حدود تواكب الاتجاه العولمي، وتسايره كما يبدو في الرؤيا الثقافية في الغرب، فإنهم في حقيقة الأمر يصنعون مبررات سيطرة الثقافة الغربية بلا حدود، وهو الأمر الذي قطع شوطاً مهمّاً من الإنجاز على أرض الواقع، في ظل اتجاه متزايد نحو عالم بلا حدود ثقافية (1) . وهذه الفكرة - فكرة ثقافة بلا حدود - تواكب العولمة التي يروِّج لها مفكرو الغرب؛ خاصة في الولايات المتحدة، تبزغ في العالم في الوقت نفسه الذي يحافظون فيه على مقومات الدولة القومية؛ لأنها أساس الوحدة الرئيسة والمحورية في النظام السياسي العالمي المعاصر (2).

استغلال العامل الاقتصادي (من فقر وتخلف تنموي وفشل في استراتيجيات التنمية الإنسانية والبشرية) في تذويب الهوية التاريخية، ليس من قبل قوى الاستعمار فحسب، بل أيضاً من قبل نخب الداخل ممن انتدبهم (الاستعمار) واعتمدهم كوكلاء له (بعد عهود الاستقلال الشّكلي عنه منذ عقود عديدة) داخل الأرض العربية.. فمعظمُ بلداننا العربية والإسلامية منكوبة في اقتصادها وتنميتها، نتيجة هيمنة هذه

ص: 74


1- عبد الخالق عبد الله. «العولمة». مجلة عالم الفكر الكويتية، أكتوبر/ تشرين الأول 1999م، عدد: 2 ص: 81.
2- هالة مصطفى. «العولمة ودور جديد للدولة». مجلة السياسة الدولية، العدد 134، سنة: 1998م، ص: 47.

النخب «العسكرتارية» على الحكم والإدارة، فأعملتْ في بلدانها وشعوبها نهباً وفساداً، وارتكزتْ في كل سياساتها وأعمالها ومشروعاتها على ثلاثية: القمع والإفقار والتجهيل.. وهي كانتْ تحثّ الخطى ليس باتجاه البناء والتقدم وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتكريس قيم الرقي والسّعادة والرفاه لأفرادها، وإنما باتجاه صياغة (وقولبة) المواطن الضعيف والمفقّر والمحتاج إليها دائماً، عبر التحكم بثقافته وهويته وتجييرها لصالحها، كي تتمكن من السيطرة عليه، والتحكم بوجوده، أو - على الأقل - احتواء مطاليبه، وتدجينه، وربطه بوعود وهميّة، وشعارات فضفاضة لم تحقق لمواطنيها المستضعفين إلا الدّمار المادي والخراب الروحي.. وأما من جهة الخارج، فقد نجحت قوى الثقافة المركزية الغربية في تثبيت دعائم وجودها وهيمنتها على الساحة نتيجة امتلاكها للقوة العلمية والتقنية، وهيمنتها على وسائل الاتصالات والتدفق المعلوماتي الهائل، وتحكمها بآلياتها وسبلها. ومن يمتلك العلم يمتلك التوجيه وقاعدة التحكم والسيطرة.

ونحن - وإن كنا نعتقد بوجود استراتيجية غربية متواصلة للنيل من هويتنا وثقافتنا التاريخية الإِسلامية - لكننا بالمقابل لا يجب أن نغض النظر عن كثير من سلبياتنا الفكرية والسياسية، وعن أمراضنا المتجذرة في ثقافتنا وسلوكنا القيمي المعاصر، فنحن نلاحظ أن الخطاب الثقافي العربي والإسلامي يعاني من فقدان الثقة بنفسه، حيث يعتمد على آليات الغير وأدواته التي اكتشفها واخترعها هو انطلاقاً من بنيته العلمية والمعرفية، مما جعل من واقعنا الثقافي والهوياتي - إذا صح التعبير - في حالة من الاهتزاز الدائم، وعدم الحضور والفاعلية العملية، إضافة إلى إحساسه بالعجز والتقزّم نحو الغير، وفشله في إنتاج تجربة تماثل ظروف الغير وتلائم أرض الواقع، وانتقاده للحوار مع الغير. كما أنّ واقعنا السّياسي العربي مسؤول هو بدوره عن حالة الانكفاء والتصحر الثقافي، وجذب الآخر لممارسة مركزيته الثقافية علينا، وانتهاك هويتنا، فمعظم بلداننا العربية تعاني من الحروب والنزاعات، واشتداد تفاقم البطالة، لاسيما بطالة الشباب، وتدنيّ القيم الأخلاقية إلى درجة الانحطاط، وضعف أثر المبادئ التوجيهية والتربوية والعلمية والأخلاقية التي هي قاعدة الهوية والتراث الهوياتي.

ص: 75

طبعاً، النتيجة النهائية لما تقدّم، كانت أنّ نُظُمُنا السياسية المتلاحقة (التي كانت أكبر عائق لتفعيل دور وحضور الهوية التاريخية بمعناها القيمي المنفتح) فشلتْ فشلاً ذريعاً في إيصال المجتمعات العربية والإسلامية إلى شاطئ (وبر) الأمان والاطمئنان الذي سبق أن وعدت الجماهير به.. وتفرّغ القائمون عليها - كما قلنا - للتحكم بموارد الأمة، والسيطرة على مفاصل السلطة والثروة والقوة والمعرفة في كل مواقعها، محتكرين بذلك كل الرأسمال المادي والمعنوي المتبقي لأفراد المجتمع والأمة.. فكان أن وقع الإفقار المقصود على الشعب.

ثالثاً- استراتيجية المواجهة الحضارية الإسلامية وتفعيل الحضور الهوياتي للمسلمين

إنّ أهم بند أو عنصر في موضوع الاستراتيجية المطلوبة لصد محاولات النيل من الهوية الوطنية والإسلامية للأمة، هو ذاك المتعلق بالبناء الداخلي المحلي، بناء الذات وتنمية القدرات وتقوية وجود الأمة وتمكينها من خلال تنمية أفرادها، وبناء الإنسان فيها وهو جوهر الهوية كغاية ومقصد وهدف نوعي، وذلك بعد تشخيص علل الأمة وأمراضها العديدة التي تعاني منها، والسير الحثيث على طريق علاجها الفعال والمنتج، إذ لا يعقل أنْ نواجه ثقافة قوية وقادرة وحاضرة ومالكة لزمام المبادرة بالعلم والمعرفة، هي الثقافة الغربية ( حتى لو تم وصفها بأبشع الصفات) بثقافة وهوية وطنية وقومية حضارية إسلامية ضعيفة ومضعضعة، موبوءة بالأمراض الفكرية والسياسية، وتنتشر فيها مواقع الجهل والتعصب والتطرف والتكفير الفردي والجماعاتي المنظّم.

إنّ المطلوب اليوم على هذا الصعيد - على طريق إثبات خصوصيتنا الثقافية والهوية الوطنية القومية داخل مجتمعاتنا، ورفع هذه الهوية أمام الآخر - يجب أن يتمحور حول ما يلي:

استعادة روح الهوية الحضارية العربية والإسلامية الأصيلة التي مارستْ التعددية الدينية والإثنية، ورفضتْ الأحادية الفكرية والدينية، وقبلتْ بوجود الآخر، وتسامحتْ

ص: 76

مع المختلف.. مع ضرورة العمل في الوقت نفسه على رفض (ونبذ) هذه الصورة النمطية التي قدمتها (وما تزال تقدمها) تنظيمات وحركات الإسلام السياسي الأصولي، عن الإسلام، وهي صورة سلبية بالمطلق، تعطي الانطباع الفوري عن الإسلام بأنه دین عنيف مغلق وغير متسامح، ولا يهمه سوى السلطة والحكم والهيمنة.

تحديث أبنية ثقافتنا وتطوير مواقعها وامتداداتها من خلال تبيان وضعية المتحول من الثابت فيها، وذلك بإثبات هويتنا في وجه مختلف اتجاهات الثقافة الغربية وتيارات العولمة الثقافية حتى نتمكن من المحافظة على أصالتنا الإسلامية، وترسيخ الاعتزاز بالذات الحضارية، وإبراز قيمها الإلهية وخصائصها الإنسانية.. ويأتي ذلك عن طريق تنمية الثقة لدى أفراد المجتمع المسلم في أمته وحضارتها.. فالأمة التي لا تثق بقدراتها، ولا تقدر إمكاناتها الذاتية حق قدرها ؛ لا يمكن إلا أن تكون على الدوام ظلاً للآخرين، تابعة لهم، لا تعتمد إلا ما يقولون، ولا تُنفذ إلا ما يُقررون، وهذا هو التسول الحضاري بعينه، الذي يُمثِّل قمة العجز والفشل والاستسلام أمام التحديات التي تواجهها(1).

طبعاً، إبراز الصفات الإنسانية والخصائص الإلهية لثقافتنا وديننا (على طريق تعزيز الهوية التاريخية الأصيلة) يتم فقط بمعرفة مبادئ الإسلام، والتركيز عليها، وتربية الأمة عليها، بعقيدة هذا الدين، القائمة على توحيد الله تعالى؛ التي تجعل المسلم في عزة معنوية عالية، وبشريعته السمحة وأخلاقه وقيمه الروحية؛ فالهزيمة الحقيقية هي الهزيمة النفسية من الداخل؛ حيث يتشرب المنهزم كل ما يأتيه من المنتصر.. أما إذا عُزِّزت الهوية (ولم تستسلم من الداخل) فإنها تستعصي ولا تقبل الذوبان.. مع ضرورة إبراز إيجابيات الإسلام وعالميته، وعدالته، وحضارته، وثقافته، وتاريخه للمسلمين قبل غيرهم، ليستلهموا أمجادهم ويعتزوا بهويتهم.. فقد استيقظت أوروبا في القرن الحادي عشر الميلادي على رؤية النهضة العلمية الإسلامية الباهرة، وسرعان ما أخذ كثيرون من شبابها يطلبون معرفتها، فرحلوا إلى مدن الأندلس؛ يريدون التثقف

ص: 77


1- محمد عمارة . «مخاطر العولمة على الهوية الثقافية». نهضة مصر للطباعة، ط: 1، عام 1999م، ص: 44.

بعلومها، وتعلموا العربية، وتتلمذوا على علمائها، وانكبوا على ترجمة نفائسها العلمية والفلسفية إلى اللاتينية، وقد أضاءت هذه الترجمات لهم مسالكهم إلى نهضتهم العلمية الحديثة (1).

القيام بمتطلبات الإصلاح السياسي والاجتماعي، فالأوضاع الداخلية في معظم بلداننا لا تؤهلها مطلقاً للتعامل بفاعلية مع متطلبات التمكين الهوياتي، ولا مع تطورات عصر العولمة وتحدياته؛ مما يحتّم ضرورة الشروع في عملية الإصلاح الداخلي. وهو إصلاح لا بد أن يقوم على إجراء تحول سياسي حقيقي بصورة تدريجية وتراكمية، بما يحقق العدالة الاجتماعية، ويكافح ظواهر الفساد السياسي والإداري.. وهذا هو المدخل الحقيقي لبناء دولة المؤسسات، وتحقيق سيادة القانون، وترشيد عملية صنع السياسات والقرارات، وهو المناخ والتربة المناسبة لتظهير الهوية بأقوى معانيها في مواجهة تحديات إسقاطها والنيل منها، خاصة على صعيد مقاومة الغزو الثقافي الذي يمارسه المالكون للعلم والتكنولوجيا ضدها كهوية تملك روحاً وثّابة متجذرة في نفوس المؤمنين بها، وهذا لا يقل عن حاجتنا إلى اكتساب الأسس والأدوات التي لابُدَّ منها لممارسة التحديث ودخول عصر العلم والتكنولوجيا.. نعم نحن في حاجة إلى التحديث الثقافي والاجتهاد في الفكر الديني لحماية هويتنا، بالانخراط في عصر العلم والتكنولوجيا كفاعلين مساهمين، ولكننا في الوقت نفسه في حاجة إلى مقاومة الاختراق وحماية هويتنا وخصوصيتنا الثقافية من الانحلال والتلاشي تحت تأثير موجات الغزو الذي يمارس علينا وعلى العالم أجمع بوسائل العلم والتكنولوجيا، وليست هاتان الحاجتان الضروريتان متعارضتين بل متكاملتين. وهنا يجب التشديد على دعم اللغة العربية وتعزيز مكانتها وتنشيط التنمية القومية والحضارية، باعتبارها الضمانة الوحيدة لاستمرار هذا المكون وتطوره. والتركيز على التربية المستقبلية، وإبراز الهوية الحضارية للأمة العربية، وتنميتها والمحافظة على أصالتها قومياً وإنسانياً، باعتبارها مصدر إبداع وعطاء وتفاعل مع مختلف الثقافات العالمية .

ص: 78


1- جمال نصار. «الهوية الثقافية وتحديات العولمة». مركز الجزيرة للدراسات، تاريخ النشر: 2015/1/28م. الرابط: .http://studies.aljazeera.net/ar/issues/2015201512895243715948/01/.html:a1

ضرورة الدخول بقوة في عصر العلم والمعلومات والتدفق المعرفي والمعلوماتي، ليس مشاركةً فقط بل إنتاجاً وإبداعاً، بحيث يمكن اللحاق بأسرع ما يمكن بكل منجزات العصر العلمية والتكنولوجية بما تفرضه من أنماط ثقافية. أي التسلح بمعطيات التكنولوجيا الحديثة والتقانات التربوية المتطورة، وتطويعها لخدمة رسالة الأمة الحضارية المتسلحة بالعلم والمعرفة من خلال شبكات الاتصال الإلكترونية والحاسوبات المتطورة في عصر العلم والثقافة والتفجر المعرفي وإنشاء مراكز الأبحاث والدراسات التي تركز على هوية الأمة.. فالإسهام الثقافي العربي والإسلام (بل وربما يمثل مركز الثقل الأساسي فيه) كان يمثل أحد الركائز الأساسية للثقافة الإنسانية عموماً (1).. والجميل في الأمر أن ديننا الإسلامي هو الذي يحث على التشارك والمساهمة وثقافة التواصل والانفتاح على الآخر. يقول تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13).

وهذا التعارف هو دعوة للتواصل، أمرٌ للمسلم ليكون منسجماً مع عصره ووجوده المتحول والمستمر، خاصة على صعيد هويته، وهي اليوم - في عصر تكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصال الجديدة - هوية متحركة، ولم تعد ساكنة، بل تعدّدت وجوهُها وأبعادُها، ولا يمكن أن تظلّ ذاتَ وجه وبعد واحد، لأن الواقع الشديد التحول يفرض عليها أن تصير متعددةَ الوجوه والأبعاد، تتعدد عناصرها وتتنوع مكوناتها تبعاً لتعدد وتنوع إيقاع حركة الواقع الشديد التركيب والتغير. والهوية في حالة تشّكّل مستمرة، إذ لا تستطيع أية هوية أن تعزل نفسها عما يجري فيما حولها من تحولات مختلفة في العالم، وإيقاع حادّ ومتسارع للتغيير في كل شيء، ولا يمكن أن يتغير كلُّ شيء فيما تظل الهويةُ ساكنة (2).

ص: 79


1- رشدي أحمد طعيمة. «العولمة ومناهج التعليم العام» . الجمعية المصرية للمناهج وطرق التدريس، مصر / القاهرة، طبعة عام 1999م، ص: 32.
2- عبد الجبار الرفاعي. «لا يمكن الوثوقُ بمعرفة لا يعرفُ الدينُ فيها حدودَه». موقع مؤمنون بلا حدود، الرابط: http://www.mominoun.com/articles.

رابعاً - حول جدل الهوية بين الثابت والمتغير

إنّ المحافظة على الهوية التاريخية للأمة العربية والإسلامية، في مواجهة محاولات تحريفها أو تفريغها أو التلاعب بها، وإسقاطها في نظر أتباعها، لا تتحقق بالتقوقع والرفض بل بالانفتاح والوعي، فكل الأمم تعرضت لغزوات ومحاولات طمس هويات وإمحاء وجودها الثقافي والتاريخي، ولهيمنة أمم أخرى عليها.. والغزو الثقافي قائم وموجود منذ زمن طويل بأشكال وأنماط متعددة ومتنوعة، وكل الأمم تحاول فرض هويتها الثقافية على الأمم الأخرى خاصة عندما تكون في موقع القوة والانتشاء والتفاخر الانتصاري إذا صح التعبير .. ولكن مواجهة ذلك كله ، لا تكون بالانكفاء نحو الداخل والتكور على الذات والانغلاق على الهوية، بل يكون بالمواجهة القائمة على معالجة أمراض الذات أولاً، والانخراط الميداني في الحياة والواقع، والانفتاح على الفكر الآخر والتواصل والاحتكاك مع بقية الحضارات والمذاهب المؤيدة له، أو المناقضة لطروحاته. أي السير عملياً وليس نظرياً فقط على طريق الانفتاح على قيم العصر وأخلاقه العملية المتغيرة.

وعلى صعيدنا نحن في دائرتنا الحضارية الإسلامية، ينبغي على ثقافتنا وهويتنا - إذا ما أريد لها أن تنطلق بقوة إلى ساحة الحياة الإنسانية، لتكون قوية الحضور وفعالة الأداء ومحصنة ضد محاولات الطمس والتذويب - مواكبة تحديات الفكر والواقع في حاجات الناس ومتطلبات وجودها العضوي، وضرورة وجود حكم له (للفكر الإسلامي) في كل واقعة صغيرة أو كبيرة، فيما يتصل بعملية تطوير أنساقه وقيمه وتشريعاته، ومراجعة أنماط تعاملنا معه، ورؤيتنا له، وضرورة أن يطل هذا الفكر دائماً على آفاق المستقبل في حركة الفرد المسلم، بهدف أن تكون تلك الإطلالة كاشفة عن الواقع أولاً، ومستشرفة للمستقبل ثانياً، على مستوى ما يمكن أن تؤول إليه أوضاع فكرنا التراثي وهويتنا التاريخية، وبالتالي ما يعكسه ذلك على مواقع (والتزامات) شعوبنا الإسلامية، وثالثاً أن تساهم (تلك الإطلالة) في تطوير الحالة المعتدلة والمتوازنة من التواصل معه. هذه هوية إسلامية غير ثابتة محكومة بثبات النص الأصلي ، لكنها هوية تتحرك على هداه.

ص: 80

ومن المعلوم بالنسبة للجميع أنّ متغيرات الفكر والواقع والحياة - وكذلك حاجات الإنسان، ومتطلباته المعيشية فيها - تتطور باستمرار، ولا تقف عند حد بعينه. ولذلك فهي تحتاج إلى أن يطور الإنسان فهمه لها ووعيه بها، في أنْ يجعل عقله (وهو أحد أهم وسائل الوعي التشريعي لاستيعاب دلالات النص الثابت) سبيله الأساسي في اكتشاف متغيرات الوجود، وأسرار الكون والحياة.. فالإسلام - وهو دين الله الكامل والتام (1) - يدعو الإنسان دائماً إلى أن يتجدد، ويتكامل. ويدعو العقل دائماً إلى أن يتحرك. ويدعو التجربة إلى أن تدخل في كل الواقع.

ومن الطبيعي أن نؤكد هنا على أنّ هناك كثيراً من التطورات الفكرية والمتطلبات العملية المستقبلية لا تمثل الحقيقة الجديدة التي يمكنها الاستمرار والبقاء عبر مسيرة الزمن كله. ولا تقدم شيئاً مفيداً ومثمراً لتجربة الإنسان في الحياة. ولذلك لا يمكن للفكر الإسلامي أنْ يستجيب لها، بل إنه يعمل على مواجهتها، ورفضها. وهو يطلب من الإنسان أن يبتعد عنها .. فنحن نلاحظ - بين وقت وآخر - ظهور كثير من الظواهر الجديدة التي لا تصب في صالح البشرية، وسعادتها. بل إنها يمكن أن تقودها إلى الضياع، والتشتت، والهلاك، والخسران المبين في الدنيا والآخرة. ويوجد في هذا العصر المعولم الكثير من المظاهر الجديدة التي يمكن أن نعطيها صفة المعاصرة، ولكنها لا تعدو - في حقيقتها - أن تكون أكثر من موضة آنية، أو حالة هوس وتَعصْرُن غیر معقول، بعيد كلياً عن روح العقل والمنطق والفائدة.

أما بالنسبة للحاجات الأساسية للإنسان، فإنها حقيقة موجودة وواقعة تفرض ذاتها، ولابد من أن يعمل على إشباعها، وتحقيق متطلباتها، باعتبار أن من يتخلف عنها يبقى بعيداً عن روح العصر، ومنطق تطور الحياة والمدنية التي فيها خير البشرية، ونفعها، وتحقيقها لذاتها في حركة الوجود.

والإسلام نفسه يتحرك في الحياة بحسب الطرق والسنن العادية في الكون، والوسائل الجديدة التي يمكن أن يكتشفها الإنسان في الحاضر والمستقبل، حيث نراه يدعو

ص: 81


1- في إشارة لقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَمَ دِينًا) (المائدة: 3).

الإنسان باستمرار ليكتشف أسرار الحياة والقوانين التي أودعها الله في الكون. وأن يكتشف فكره مع كل جديد إيجابي يتناسب مع هدف وجود الإنسان في الحياة.

وكذلك فإنّ العقل الذي اعتبره الإسلام «رسول من الداخل» يمثل مسؤولية كبرى للإنسان أمام الله والحياة، فيما يتعلق بضرورة أن يُستخدم هذا الجوهر الإنساني - إلى جانب الحواس الأخرى - في خط التجارب الجديدة التي يمكن أن يتحرك فيها الإنسان.. وذلك من خلال تعميق خط الاجتهاد الذي يعني السعي. الدائم - في كل لحظة من لحظات التاريخ - إلى اكتشاف مختلف الطرق والوسائل اللازمة لحل المسائل المستجدة التي يطرحها التاريخ والتجارب البشرية الجديدة، وذلك في الطريق المستقيم الذي تحدده لنا الشريعة الخالدة.

وأما بالنسبة للجانب المعياري الثابت من الهويّة (التراثية) فإننا نعتقد أنّ الفكر الإسلامي استطاعَ أنْ يتعاملَ مع العُمق الإنساني بكلّ أحاسيسه التي تجعل منه إنساناً يملك الثقة الكبيرة بوجوده في كل قضايا الحياة، ويملك الثقة بمصيره حتى بعد الموت، ويبعد عنه اليأس.. باعتبار أن إيمانه بالله تعالى القادر على كل شيء، يمنع أن يكون هناك شيء لا يمكنه إيجاد حل له، والاستجابة لمتطلباته.

ولذلك فإنه يمكننا القول بأنّ هذه الخطوط العامة للفكر الإسلامي تتركز على أساس إنسانية الإنسان التي لا يختلف فيها زمن عن زمن. فالقضايا التي تنطلق - في العمق الوجودي - من إنسانية الإنسان هي من القضايا التي لا تطالها تغيرات الزمان وتحولاته العميقة والطارئة. ومن هنا تكون الحلول التي قدمها (ويقدمها) الإسلام للإنسان - على هذا المستوى - هي من الأمور الثابتة التي لا تتغير بتقادم الأيام، وتوالي العهود، وسيروة الحركة البشرية .. لأنها حلول مقدمة للحياة والإنسان، ومنطلقة في حركيتها الذاتية والموضوعية بالاستناد على عمق الإحساس الإنساني، وجوهره الروحي بعيداً عن كل الخصوصيات التي يمكن أن تتنوع في الحياة (1) ..

ص: 82


1- محمد حسين فضل الله . «المشروع الحضاري الإسلامي». مطبعة دار التعارف، لبنان/ بيروت، طبعة عام: 1990م، ص: 28.

ونحن نعيش الآن في عصر جديد ومتنوع بمفاهيمه، وأساليبه، ومعاملاته، يختلف اختلافاً كبيراً عن العصور السابقة، ونعايش فيه مشكلات وتحديات واقعية شديدة الغنى في كثافتها وألوانها وتنوعاتها، بحيث إنها أحدثت فراغاً وجودياً هائلاً، وفتحت المجال الواسع لإثارة وطرح مجموعة كبيرة من الأسئلة المتعلقة بطبيعة النظم السياسية والثقافية والاقتصادية التي يمكن أن تقوم في القرن الحادي والعشرين.

ففي عالم القوة المعرفية والعلمية، والتواصل الإعلامي العابر للحدود والقارات، ومقدرة الإنسان الفائقة للوصول إلى كل ما يرغبه وينشده، لم يعد من الجدوى في شيء وجود حدود وموانع بين الأمم والحضارات، ووضع حدود فاصلة. وهذا لا يعني البتة التضحية بخصوصيات الشعوب وسماتها الحضارية التاريخية ومعالمها وهويتها الثقافية ورأسملاتها الرمزية، لكن يعني ضرورة جعل الهوية الوطنية والدينية والتراث الرمزي للأمة ناهضاً وفاعلاً وأكثر قدرة على مواكبة التطورات والتغيرات الحياتية الواقعية التي تفرض وجودها كي تكون مقبولة وموضوعاً قابلاً.. وفي اعتقادي أن حبس أو إخفاء معالم الهوية الحضارية للأمة، أو منع الآخر من تداولها وتنشيطها والانفتاح عليها، أو حتى مساءلتها عقلانياً ونقدياً، لا يحافظ عليها، بالعكس هو أمر سلبي يكرس الهيمنة عليها، فالمحافظة على الهوية التاريخية والوطنية من الاستلاب والطمس أو التلاعب، والعمل على جعلها قوية ومنتجة وفاعلة، وقبل ذلك مقبولة، ليس له سوى طريق واحد وممر إجباري واحد وهو التعاطي أو التعامل معها من حيث كونها بنية معيارية قيمية بصيرورة وأبعاد متغيرة، وليست كينونة ذات ماهية ثابتة مغلقة تمامية معزولة ... لأنها ذات أبعاد مركبة ومتعددة، وليست ذاتاً أحادية ثابتة... لأن البعد الواحد، يقتل الهوية، بعد أن يجمدها ويحنطها، وينزع عنها أهم ما تحتاجه للتطور والبقاء وهو انفتاحها على الحياة والهواء الطلق، وتقوية قابليتها للتجدد والابتكار والتواصل الحي المنتج مع الآخر.

وعندما يكون الآخر (المرتبط أيضاً بهوية وتقاليد وأفكار وثقافة وأنماط سلوكية ذاتية) مكوناً أساسياً في الهوية الخاصة بالفرد والمجتمع والأمة، فعن أية ثوابت

ص: 83

«هوياتية» خاصة بالذات الحضارية نتحدث؟!.. خصوصاً وأن تشكّل ومن ثم تطور هذه الهوية، لم يأت إلا عبر حدوث تمازج وتفاعل حتمي مع هذا الآخر، المماثل جزئياً أو المختلف كلياً، خصوصاً وأنها تضم بين أجنحتها كثيراً من معارف وعادات وطقوس وتقاليد هذا الآخر.. لاحظوا معي مثلاً أتباع وجمهور كثير من فرق وملل وقوميات ومذاهب وعقائد ممن ينتمون للدائرة الحضارية الإسلامية، يوجد فيما بين تلك الفرق والملل والمذاهب، الكثير من عناصر التشابه الروحي والفكري إلى حد التطابق أحياناً في ممارستها لبعض خصوصياتها الهوياتية كجماعة قومية أو دينية.. فعيد النيروز مثلاً الذي هو هوية طقوسية اجتماعية لدى الأكراد (على اختلاف انتماءاتهم العقدية الإسلامية)، هو ذاته قائم كهوية جماعية وطقوسية اجتماعية لدى أبناء القومية الفارسية (الذين هم بغالبيتهم ينتمون للمذهب الإسلامي الشيعي)، وهو الطقس ذاته موجود أيضاً لدى فرق دينية إسلامية أخرى، تحتفي به بأشكال وعادات وتقاليد أخرى متنوعة، وبخصوصيات دينية تتمظهر بصور متباينة في الشكل بين هذه الفرقة أو تلك.

طبعاً، الثوابت والمقدسات موجودة وكائنة لدى الجميع، وتشكل جوهراً وروحاً عميقة لدى كل الهويات، بالتالي لا يمكن إلغاؤها، وهي كهوية أو كجزء من الهوية المجتمعية، ليست مشكلة بذاتها، المشكلة هي في تصيُّرِها كينونة متصرّمة قارّة مغلقة، وكتلة صماء متراصة بمعايير صلبة مصمتة تتغذى من جوهر معرفي عقائدي لا إنساني مفارق منقطع غير متصل، بما يحولها إلى عقبة كأداء أمام أية نزعة تطوير أو رغبة للتجديد والتحول الواعي الحضاري الإنساني.

ولا شك أن مجتمعاتنا العربية والإسلامية تتميز عن غيرها باحتوائها على ثقافات متنوعة وهويات متعددة، وتضج بأشكال وأنماط متعددة من الهويات الثابتة، قومية ودينية واجتماعية وثقافية، بمعنى أنه لديها هي، فوائض هوياتية، إذا صح التعبير، ولكن للأسف لا تزال «مواطنية» أفرادها وأتباعها (أي ممارستهم للشأن السياسي والاجتماعي في بلادهم كحق قانوني لهم) ضعيفة ومنقوصة بل ربما غير موجودة

ص: 84

أصلاً لدى العديد من تلك الدول والكيانات السياسية التي تزخر بتلك الهويات المتنوعة ... هنا تكمن المشكلة الحقيقية على هذا الصعيد... إنها في تحول تلك الهويات العقائدية إلى هويات قاتلة عنيفة رافضة للآخر، وذلك كنتيجة طبيعية لقمعها وتسكينها بمخدرات الهوية الثابتة.

والملاحظ هنا أنه ومنذ بداية عصر النهضة سعى جمهور الفلاسفة الأوروبيين إلى تغيير هذه الصورة النمطية المعروفة والثابتة عن الهوية من خلال إعطائها معنى جديداً متغيراً ومختلفاً كلياً عن المفهوم الديني الثيوقراطي التقليدي المعشش في الأذهان والمجتمعات القديمة، والذي قدم لنا الهوية (كما جاء في المسيحية، وفي غيرها من الأديان) كمعطى أو كقيمة معيارية اصطفائية ثابتة خالدة غير قابلة للتحول.

لقد اعتبر هؤلاء الفلاسفة التنويريون أن الفرد - الإنسان يجب أن يكون هو قاعدة وجوهر أية هوية إنسانية، من حيث أنه كائن عقلاني يعي ذاته ووجوده، ولديه من الاستعدادات والقابليات الذاتية التي تجعله مؤهلاً وقادراً على بناء وجوده الخاص والعام، وتحديد غاياته وصناعة مصيره ومستقبله، وبالتالي بناء هويته الذاتية الداخلية الفردية، والموضوعية الخارجية الجماعية، مؤكداً استقلاليته تجاه سلطة الماضي، وقسر العادات والتقاليد.

لكن المشكلة التي واجهت أصحاب هذه النزعة الهوياتية الذاتية (ويقف الفيلسوف جون لوك على رأس هؤلاء) هي في جفاف و «يباس» و «ميكانيكية» هذا المعنى للهوية المتحركة المبنية على تعاقدات اجتماعية وسياسية... إذ كيف يمكن إعطاء الهوية معنى روحياً حيوياً - مطلوباً بطبيعة الحال - لتحقيق الذات في أصالتها وخصوصيتها، في ظل هذا المعنى أو الطابع المادي العضوي للهوية، المرتكز على إلغاء كامل لمجمل الأبعاد الوجودية واللاهوتية والتمظهرات الثقافية التاريخية، بعد استبداله بهوية الحياة الفردية العادية الجافة ذات «الأقنوم» الواحد، القائمة على فاعلية الإنتاج وآلية التبادل فقط ؟!!..

ص: 85

في الواقع لا يمكن إلغاء المعنى الروحي كجانب جوهري لأية هوية فردية أو جماعية على الإطلاق، لأنه يتصل بتاريخ الأمة والمجتمع والحضارة التي يعيش الفرد في كنفها، ويمارس حياته من خلالها ... ولا يمكن بالتالي، لأي إنسان أن يحقق عمق وهدفية وجوهر إنسانيته من دون إضفاء هذه الظلال الوارفة والمعاني الروحية الوافرة على هويته التاريخية والثقافية... أي من دون وجود محددات وأنماط وأنساق انتماء خصوصية تشكل معايير وأسس الهوية الفردية.

والهوية - بهذا المعنى - هويتان، هوية ذاتية تخص فكر وثقافة وانتماء الفرد إلى دائرة ثقافية تاريخية خاصة، وهوية أخرى، هي هويته كمواطن أو ككائن سياسي يعيش في وطن ودولة يمارس فيها ومن خلال أنظمتها وقوانينها، حقوقه وواجباته ومسؤولياته في العمل والإنتاج، وصنع المصير، في طبيعة الكيان، وشكل النظام السياسي المتصور.

ويفترض بهذه الهوية المرتكزة على قيم المواطنة السياسية المتجسدة في القانون العام الناظم لحركة الدولة والمجتمع، ألا تتناقض أو تتعارض - منذ بدء لحظة تشكلها الدستوري - مع هوية الفرد الذاتية الخاصة التي يمارس من خلالها انتماءه لفضاء ثقافي تاريخي خاص به وبالمجتمع أو بالتكوين الثقافي والحضاري الذي ينتمي إليه، كأنساق وعادات وتقاليد وأعراف خاصة معبرة عن مصالح الجماعة، وتطلعاتها في البناء والتطور ... خاصة مع وجود نظام سياسي تعددي ديموقراطي يحفظ التنوع ويحافظ قانونياً على التعدد الثقافي والتاريخي لمختلف المكونات الموجودة لديه، والتي يسمح لها بالظهور العام، والتعبير عن خصوصيات أصحابها ومريديها ومعتنقيها في الحضور و«إثبات الذات» ضمن المجال العمومي بلا أية تعقيدات أو إكراهات بما يساعدها على التفتح الطبيعي في الهواء الطلق جنباً إلى جنب بقية الهويات الخاصة بهذه الجماعة الحضارية أو تلك.

إن تشكُّل هذه الهوية الذاتية الخاصة في زمن مضى وانقضى، وكانت له حساباته وظروفه ومكتسباته، لا يعني بالضرورة أن تكون تلك الهوية مصمّتة ومغلقة على ذاتها

ص: 86

وقيمها وأفكارها، أو عاجزة عن الانفتاح على أسئلة الحاضر وتحدي المستقبل... بل إن القيمة الحقيقية العملية لمعنى تلك الهويات تكمن هنا، في قراءاتها بوعي وعقلانية بحسب تطورات العصر، لتحقيق مزيد من التواصل والتعارف والبقاء، ومزيد من الإنتاج الرمزي والمادي، والفاعلية والحضور المؤثر في الواقع الخارجي.

بهذا المعنى يمكن القول أن الهوية المنفتحة على الحياة والعصر، هي هوية الحضور والإنتاج الرمزي ، بينما الهوية الثابتة هي هوية الانغلاق والانقطاع والموت الحضاري.

من هنا، لا يمكن للهوية أن تكون فاعلة وحاضرة وقادرة على الثبات والمواجهة وممارسة دور نوعي، طالما هي باقية في كهوف الماضي، منغلقة ومتحجرة في أنفاقه المخفية.. شرط إيناعها وإنتاجها لذاتها في سيرورة الزمن، هو انفتاحها، وتفاعلها الخصب مع غيرها ..

مراجع الدراسة:

- الكتب:

ابن منظور. «لسان العرب». الجزء: 15، دار صادر للطباعة والنشر، طبعة عام 1968م، لبنان/بيروت.

بهاء شاهين. «العولمة والتجارة الإلكترونية رؤية إسلامية». مكتبة الفاروق، القاهرة، الطبعة الأولى لعام: 2000م.

جيهان سليم. «الثقافة العربية : أسئلة التطور والمستقبل». (بحث: عولمة الثقافة واستراتيجيات التعامل معها في ظل العولمة». مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان/بيروت، طبعة أولى لعام 2003.

رشيد بلحبيب. «الهويات اللغوية في المغرب من التعايش إلى التصادم». ضمن كتاب اللغة والهوية في الوطن العربي، إشكاليات تاريخية وثقافية وسياسية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، قطر/الدوحة، طبعة كانون الثاني 2013م.

رشدي أحمد طعيمة. «العولمة ومناهج التعليم العام». الجمعية المصرية للمناهج وطرق التدريس، مصر/القاهرة، طبعة عام 1999م.

سويم العزي. «علم النفس السياسي». الأردن/عمان، الثراء للنشر طبعة: 1، عام: 2010م.

ص: 87

عبد العلي الودغيري. «اللغة والدين والهوية». مطبعة النجاح الجديدة، المغرب/الدار البيضاء، طبعة عام: 2000م.

عبد الباسط عبد المعطي. «العولمة والتحولات المجتمعية في الوطن العربي». مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى، عام: 1999م.

عدنان السيد حسين: «متطلبات الأمن الثقافي العربي : دراسة في الإستراتيجيات والسياسات»، من كتاب الثقافة العربية، أسئلة التطور والمستقبل، بیروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2003.

فرال حسن خليفة. «الإديولوجيا والهوية الثقافية - الحداثة وظهور العالم الثالث -» ترجمة لكتاب جورج لورين، مكتبة مبدولي القاهرة، ط1، 2002.

محمد حسين فضل الله. «المشروع الحضاري الإسلامي». مطبعة دار التعارف، لبنان/بيروت، طبعة عام: 1990م.

المعجم الوسيط، صادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة، الطبعة الخامسة، الناشر: مكتبة الشروق الدولية، عام 2011م، ج: 2.

«المعجم الفلسفي». مجمع اللغة العربية، المطابع الأمرية، مصر/القاهرة، طبعة عام: 1983م.

محمد عمارة. «مخاطر العولمة على الهوية الثقافية». نهضة مصر للطباعة، ط: 1، عام 1999م.

المعجم الفلسفي. مجمع اللغة العربية، المطابع الأمرية، مصر/القاهرة، طبعة عام: 1983م.

نظام محمد بركات. «التبادل اللامتكافئ بين الثقافتين العربية والغربية». من كتاب الثقافة العربية، أسئلة التطور والمستقبل، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2003.

ناظم عبد الواحد الجاسور. «موسوعة علم السياسة». الأردن/عمان، دار مجدلاوي للنشر، طبعة: 1، عام 2004م.

-المجلات:

مجلة العربي الكويتية، العدد: 576، تشرين ثاني 2006م.

مجلة عالم الفكر الكويتية، أكتوبر/تشرين الأول 1999م، عدد: 2.

مجلة السياسة الدولية، العدد 134، سنة: 1998م.

ص: 88

طبخة الاستعمار الحديث

اشارة

من النظام العالمي الجديد إلى العولمة فالحداثة

محمود بري

محمود بري (1)

تقوم علاقة جدلية وثيقة، وإن كانت غير مضاءٍ عليها بما يكفي، بين الاستعمار الذي يُنظر إليه اليوم كمفهوم «عتيق»، وثُلاثية النظام العالمي الجديد والعولمة والحداثة كمفاهيم استجدّت على «آلة» الاستعمار البالية فجعلته «حديثاً» بحيث يَنشب أنيابه أعمق في جسد البلد الذي يستهدفه وروحه. وضمن هذا المثلث تنبض روح الغرب الإمبريالي «الشريرة» الناهشة التي لا تكتفي ولا تشبع.

النظام العالمي الجديد بات كالعملة التي تجاوزها الزمن، ولم تُعتق بعد لتصبح ذات قيمة . يبقى المفهومان الآخران.

العولمة بدايةً، هي مفهوم مُلتبس أساساً وغير جليّ، بل لعلّه من أكثر المفاهيم غموضاً وإبهاماً وتداخُلاً وتعدُّدية. والشهادة للمفكر «السيد ياسين» الذي رأى: «إن صياغة تعريف دقيق للعولمة تبدو مسألة شاقة نظراً لتعدد تعريفاتها، التي تتأثر أساساً بانتماءات الباحثين الأيديولوجية واتجاهاتهم إزاء العولمة رفضاً أو قبولاً». (2)

ص: 89


1- باحث وكاتب لبناني.
2- برهان غليون - العرب وتحديات العولمة الثقافية، مقدمات في عصر التشريد الروحي - (مجلة ثقافية - أبو ظبي - 10 أبريل- 1997ف).

بين العولمة والأمرَكَة

على المستوى اللغوي تأتي لفظة عَولمة على وزن قَولبة (بفتح العين) وتُنسب بالمعنى إلى العَالم. والكلمة مشتقة من الفعل «عَولم» على صيغة «قَوعل. تقابلها كلمة (Mondialisation) الفرنسية، بمعنى جعل الشيء على مستوى عالمي، والمعنى ذاته للكلمة الإنكليزية (Globalisation) (1) .

المقصود المستور بالكلمة، وهو الأهم، عملية توحيد العالم داخل قفص مصلحة الدولة - الدُّول الأقوى والأغنى. وحين تأتي العولمة من جهة أو جماعة أو دولة بعينها، ينبغي أن تعني تعميم النمط الذي يخصّ ذلك البلد أو تلك الجماعة. لذا يصح القول إنه طالما الدعوة إلى العولمة قد ظهرت من الولايات المتحدة الأميركية، فمن البديهي أن يكون المقصود بها هو الدعوة إلى التوحّد ضمن أقانيم النموذج الأميركي ذاته. وعلى الرّغم من أن العولمة انطلقت أساساً كنظام اقتصادي، إلّا أنها انطوت كذلك (ومن باب أولى) على نظام أيديولوجي من العلاقات بين الدول يقوم أساساً على تجاهل الثقافة الذاتية للشعب «الذي تجري عولمته» وإخراجه من تاريخه وتُراثه لكي يتأقلم مع النموذج الجديد. وهذا يقتضي التخلّي عن بعض الموروث (أو الكثير منه) وتوحيد أنماط الحياة المادية والفكرية على مختلف مناحيها، بما يتطلبه النموذج الأساس. لذا فكثير من المفكرين اتخذوا مبكراً موقفاً مُعادياً منها فاعتبروا أن العولمة هي الأمرَكة... مباشرة، وباللغة الديبلوماسية: جعل العالم عالماً واحداً موجهاً توجيهاً واحداً في إطار نموذج واحد هو النموذج الأميركي (إنما من دون هذا التوضيح ... الواضح). وهذا ليس تهمة ولا افتئاتاً ولا زعماً مثقوباً إذا أخذنا بنظر الاعتبار أرجحية المساهمة الأميركية في بناء ونشر ورعاية وتعميم العولمة في العالم.

وهنا لا بدّ من ملاحظة. فتيار العولمة بصيغته المعاصرة ظهر في مرحلة بالغة الحساسية على المستوى العالمي، وتحديداً بعد انهيار النظام الشيوعي وعلى أنقاضه. وتوافق ذلك مع بدء انتشار جملة التكنولوجيات الحديثة كالحواسيب

ص: 90


1- احمد عبدالرحمن وآخرون - الإسلام والعولمة - ط 1 (الإسكندرية - الإشعاع الفنية للنشر - سنة 2002).

وشبكة الإنترنت وقنوات التلفزة الفضائية والشركات متعددة الجنسيات والعابرة للحدود وهاتف الجيب وتقنيات التواصل... ولقد جرى تسخير ذلك في خدمة العولمة ومصالح رُعاتها الكبار بمنتهى الدهاء والفعالية. وعن طريق ذلك بوشرت رحلة تحطيم الخصوصيات التراثية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والحضارية، في سبيل التوحّد ضمن منظومة العولمة التي لم تلبث أن ظهرت كشكل مبتكر من أشكال الاستعمار الغربي الحديث، إنما داخل زيّ خدّاع، حيث تعمل الدول القادرة (بالأحرى الدولة المُهيمنة أساساً وهي الولايات المتحدة الأميركية ومعها أتباعها الغربيون) على بسط نفوذها وهمينتها على ما أمكنها من باقي دول العالم، من لاتينية هناك وأسيوية هنالك وإسلامية وعربية هنا، مع الهيمنة على الشعوب والمقدّرات والإمكانات والثروات البشرية والطبيعية.

هذا الوجه للعولمة لا يراه الغرب بكل سياسييه ومفكّريه. فأحد أبرز علماء السياسة الأميركيين اليوم، «جيمس روزانو»، يصف العولمة بأنها «علاقة بين مستويات متعددة، لتحليل الاقتصاد والسياسة والثقافة والأيديولوجيا، وتشمل: إعادة الإنتاج، وتداخل الصناعات عبر الحدود، وانتشار أسواق التمويل، وتماثل السلع المستهلكة لمختلف الدول نتيجة الصراع بين الجماعات المهاجرة والجماعات المقيمة » (1) . وهذه ليست نظرة خاطئة، لكنها قاصرة، بمعنى أنها لا تختصر حقيقة الهدف الذي أَراده الساسة الغربيون من العولمة.

النهب الإبستيمولوجي

تحت عَلم العولمة والحدود المفتوحة والرأسمال المتجبِّر والشركات العابرة للحدود والقارات والأمم، بوشرت عملية نهب إبستيمولوجي هائلة استهدفت استكمال الغرب وعلى رأسه واشنطن، عمليات السطو على مجموعات المعارف والعلوم والتقاليد والتراثات من باقي شعوب الأرض، ومن العرب والمسلمين قبل

ص: 91


1- الشاذلي العياري - الوطن العربي وظاهرة العولمة - الوهم والحقيقة - مجلة منتدى الفكر العربي - ( عمان - العدد 140 - أيار سنة 1997) .

سواهم، ثم إعادة تدوير ما يوافقهم منها ونسبته إلى الغربيين والغرب، كأنما العلم والمعرفة والثقافة وأسلوب الحياة الأفضل هي خصوصيات غربية. فأوروبا ذاتها كانت في الماضي أرضاً خصبة للحروب (الدينية بشكل أساسي)، وقرية مظلمة ومهمّشة على الصعيد العالمي. ولم يتحقق تطوّر المعارف والعلوم فيها بفعل كفاءات محلية بل من خلال النقل عن الحضارات الأخرى والتأثر بها وتطوير ما هو باهر لديها. فهى نهلت من الحضارات الهندية والصينية والإسلامية والأفريقية، في حين كانت عواصم الغرب الأوروبي متهالكة تحت مقاصل «محاكم التفتيش» وقبلها رغبات الملوك مُطلقي الصلاحيات وبعدهم شهوات الإكليروس و «صكوك الغفران» فضلاً عن رمي العلماء ( والعلم في أحيان كثيرة) بالحرم الكنسي. كل ذلك بينما كانت العلوم مزدهرة ومتقدّمة في العالم الإسلامي (الفلك والحساب والفلسفة والبيولوجيا والطبابة...)، وهو ما جرى نهبه ثم «أوْرَبَتُه» مع حجب منابعه ومصادره وأصوله، ونسبته إلى أوروبا، في سبيل بناء السُمعة الحضارية للقارة وتكريسها منارة للرقي والتقدّم. الأمر الذي لم تلبث أن سلبته إياها الولايات المتحدة الأميركية وتركت لها التمتع بشيء من ظِلِّه.

لقد جاء طرح العولمة (ومعها الحداثة) في البداية تحت شعار كونهما مدخلاً متكاملاً لمشروع عصري للتحرر ولرفع المستوى المعيشي لشعوب الدول غير الميسورة من خلال «ضمّها» إلى العالم «المتقدِّم» وفتح آفاق التطوّر والرقيّ أمامها. وعلى وقع مثل هذا الصنف من التسويق المُخاتل كان يجري استغلال الغرب لبقية العالم (المسمّى بالنامي) بما فيه العديد من دول القارة الأميركية نفسها، لاستكمال سيطرته الغربية تحت مزاعم التمدين ويافطات المعرفة والوعي. وشيئاً فشيئاً راحت العنصرية الإستعلائية للغرب تثبّت أقدامها في المجالات العامة والخاصة لتلك الدول، وراجت تنظيرات بالغة الإساءة تتحدث عن «شعوب غير متحضِّرة» ثم عن «شعوب همجية»، حتى وصل الأمر ببعض عُتاة العنصريين الغربيين إلى الحديث عن «شعوب دُنيا» ثم «شعوب بلا روح» لتوصيف الشعوب الفقيرة، إلى أن بلغ الأمر أقصاه حين اتُّهِم غير أبناء دول الغرب الغنية بأنهم «غير بشريين» وبأنهم من دون حامض نووي ADN بشري ولا تتوفر لديهم جينات الإنسان، ما يجعلهم بحسب هذا

ص: 92

النوع الخُرافي من المزاعم، شعوباً بربرية وغير مؤهلة للخوض في العلوم الطبيعية والبيولوجية وسواها، وبالتالي فمن واجب الغربي تمدينها وتنصيرها.

بمثل هذه السرديات الخُرافية كانت أوروبا (ثم الولايات المتحدة من بعدها) تبني سيطرتها واستعمارها عاملةً على توظيف العولمة والحداثة كليهما لخدمة مصالحها وأطماعها.

فالحريات كانت أنشودة البروباغندا الغربية الأولى، لكنها لم تكن مشاعة ولا مُباحة إلّا لأناس محدودين (هم الغربيون المتحكّمون من باب أولى) مع حرمان غيرهم منها. وكذلك الأمر بالنسبة للديمقراطية والثروة والسلطان. وكل منافع العلمنة والحداثة ينبغي أن تُكرّس في هذا السبيل ، مع نشر المزاعم من أن أصحاب الامتيازات هؤلاء، لم يحصلوا عليها لأنهم غربيون، بل بسبب أنهم عقلانيون ومتحضّرون ونشيطون (1) ، ولأن علماء منهم وعباقرة هم الذين حققوا الاختراعات واكتشفوا أسراراً لم تكن معروفة عن الطبيعة والطاقة والعلوم والمعارف.

السطو على «الثورة الصناعية»

تحت هذا اللمعان جرى تمرير جملة من أكبر الخِدع العالمية في التاريخ، وفي طليعتها الثورة الصناعية التي نسبوها لأنفسهم. والحقيقة أن دارسي التاريخ والحضارة يدركون جيداً أن الثورات الصناعية الأولى في التاريخ، تحققت في الصين والهند وليس في بريطانيا أو فرنسا. فدلهي وشنغهاي كانتا من أشهر مراكز الغزل والنسيج في عالم تلك الآونة، وقبل أن تعرف أوروبا ذلك بردح طويل من الزمن.

وما فعله الإنكليز في الهند هو أنهم دمروا كل القاعدة التصنيعية في البلاد بعد أن سرقوا التكنولوجيا والآلات وقاموا بتفكيك البُنى الصناعية والمعامل القائمة، وأعادوا تركيبها في ليفربول ولندن ومانشستر وسواها، وراحوا يتحدثون بعد ذلك عن «معجزة» الثورة الصناعية الإنكليزية والأوروبية، وعن «علمائهم الأفذاذ» زاعمين أنهم هم من

ص: 93


1- .estqlal.com/resources/docs/10_03_2014_27295309243_846647.doc

اخترع تلك الآلات وطوّرها. وهكذا أوهموا العالم أن الثورة الصناعية بدأت معهم وبواسطتهم، وأن أوروبا هي مركز التقدّم والتحضّر. ولئن بقيت الصين حتى القرن التاسع عشر مشكلة للغرب على مستوى إنتاجها الصناعي المتدفق، فقد شنّوا عليها «حرب الأفيون» الشهيرة وعملوا بلا هوادة على تدمير بُناها الصناعية بذريعة حماية حرية التجارة لمصلحة العالم أجمع. وبعد أن تمّ لهم ما أرادوا، اعتنوا بنسج سرديات لتاريخ مزعوم بهدف طمس جرائمهم وهيمنتهم على مقدّرات الشعوب والأمم.

والدرس والمغزى المباشرين من كل ذلك أنه وببساطة لم تحصل لا عولمة ولا حداثة من أجل تحديث العالم وتقريب الشعوب وتيسير سُبل التفاهم والعيش والإنتاج والتبادل، بل إن الهدف الأساس والمقصد الحقيقي كانا استعماريين تسلُّطيين بامتياز. فليس ثمة حداثة بلا استعمار ولا عولمة من دون هيمنة (1).

الحداثة «سمسار» العولمة

على الضفة المقابلة تتجلّى الحداثة ب- «أناقة» الحلم بالمستقبل الموعود. لا شك أن بين العولمة والحداثة صلة قُربى وثيقة. فالحداثة أساساً هي فكر أُريد له أن يكون عالمياً، وبالتالي فالعولمة كانت عصباً محسوباً في منشأ الحداثة وصيرورتها، وما انفكّت تدعو بكل قوّة إلى ركوب قطارها والانخراط في ورشتها تأثيراً وتأثراً، ومتابعة خطواتها في مسار تداخلي وتكاملي لبناء التبعيّة الكليّة للنموذج الغربي - الأميركي، إذ ما كانت الحداثة أساساً إلا اعتماد الأفكار التي يروّجها غربيون، أميركيون في معظمهم، واعتمادها نهجاً جديداً «متنوّراً» فيه خلاص موعود للعالم وللإنسان من أثقال العصر وأزماته. على هذه الخلفية جرى تقديمها على أنها سبيل الأخيار، وأن عدم الانتظام في مساراتها هو خيار الأشرار الذين يجب مقاطعتهم وتُركيز المنصّات الإعلامية بكل جهودها الفاعلة لمحاصرتهم وتشويه مرادهم وإفشال مخططاتهم (المزعومة)، إلى جانب العمل على شيطنتهم ثم فرض القيود عليهم والعُقوبات.

ص: 94


1- .https://nawaat.org/portail/200530/01//cultural-identity-recuperation-

الواقع أنه لطالما أشاع الغرب أن التحديث هو رسالته الأساسية، وبات مقياس مستوى حضارة ورقيّ أي شعب أو دولة، هو مدى قربه من النموذج الغربي ومبلغ تأثره به وسعيه نحوه، وبالتالي بمدى استجابته للحداثة كمشروع فلسفي وتجربة تاريخية. أما المجتمعات المتقدّمة صناعياً خارج نموذج الغرب الأورو - أميركي، کالیابان مثلاً، فقد عوملت أولاً كشعب ينبغي إخضاعه والقضاء على أيّ أثر للممانعة أو الإستعلاء عنده. وهذا ما تحقق من خلال العصف النووي المزدوج الذي نهش مئات الألوف من أهالي وسكان كلٍّ من هيروشيما ونغازاكي، فأخرج اليابان من ميدان المنافسة وكذلك من مصاف القوى العسكرية (حتى اليوم). بعد تحقيق ذلك وتثبيته وتقييد طوكيو بالمعاهدات والمواثيق وإلزامها بالمحضورات والممنوعات بحسب ما اقتضته مصالح أميركا والغرب، بات يُنظر إلى تلك الدولة كصديق منطقي للغرب وللولايات المتحدة أساساً. أما الدول التي أبدت عدم ترحيب باعتناق الحداثة، فقد رُميت بالشذوذ والإرهاب واعتُبرت خطراً على «الحضارة» وبالتالي عدواً محتملاً لما أسماه الغرب ب- «المجتمع الحُرّ».

وثمّة ملاحظة هنا. فالغرب بقيادة الولايات المتحدة لم يبنِ ويستخدم مركب الحداثة (بعد جرعة العولمة) لمجرّد إنقاذ الرأسمالية من أزمة تُعانيها فقط، ولا لكي يضمن مركزيته الاقتصادية أو الجيوسياسية فحسب، بل أرادها وسيلة طاغية للهيمنة على العالم من جميع النواحي وعلى الأصعدة كافة من خلال تعميم أسلوب حياته وأذواقه وقِيَمه وآدابه ومسالكه على الناس جميعاً، متكئاً على اعتباره أنه هو ذاته القدوَة والمِثال والنموذج الواجب أن يُحتذى. وبهذا كان الجبّار الأميركي يضع لُبنات إضافية جديدة في بناء عمليته المتواصلة لاستعمار العالم بوسائل وطُرقٍ مختلفة عمّا اعتمده الاستعمار القديم.

إن الحداثة التي بُذِل الكثير لتصويرها كمشروع تحرري، لم تكن كذلك بالفعل إلا بالنسبة لما لا يزيد عن نسبة ضئيلة من المتنفذين المسيطرين. ولهؤلاء وحدهم امتياز التمتع بإيجابيات الديموقراطية والثروة والسلطان، بينما يجري إبقاء باقي العالم

ص: 95

خارج أسوار أثينا. فالثراء الأميركي مثلاً لم ينبت في نوافذ نيويورك ولا في صالات لاس فيغاس في البدايات الأولى لتشكُّله، بل قام على أكتاف عبيد أميركا الشمالية والبحر الكاريبي. وبفضل عَرَق هؤلاء وتشغيلهم بأدنى الأجور ومن دون أيّ حقوق إنسانية، تراكمت مواسم القطن الآتية من حقول ومزارع جنوب الولايات المتحدة،؛ وبفضل السكّر الآتي من جزر الكاريبي كان العمّال يشتغلون 16 ساعة يومياً، وهم من زنوج أفريقيا الذين استعبدهم الأميركي الأبيض منذ ذلك الحين.

وعلى هذا الصخر الذي يرشح عَرَقاً ودماً، ارتكزت مفاهيم الاستعمار الجديد على ظهر العولمة وباستغلال بريقها الأخّاذ الذي اجتاح العالم في ذروة القطبية الأميركية المتفرّدة على القمة.

الطبق المسموم

بفعل تضافر العولمة والحداثة تحول الجزء من الكوكب المنجذب إلى النموذج الأميركي إلى سوق واحدة للسلع والخدمات ورؤوس الأموال الأميركية. وتجلّى ذلك بإزالة الحواجز الجمركية وغير الجمركية التي تُقيّد انتقال السلع والخدمات ورؤوس الأموال عبر حدود الدول، وتكوّن المنظمات الاقتصادية الدولية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية).

ومن هنا تكوّنت «طبخة الاستعمار الحديث» القائم على مفردات العولمة والحداثة اللتان جرى حرفهما عن المسار التطوّري الطبيعي لكي تخدما الأحادية القطبية (الأميركية) وهي تعيث نهباً وفساداً في عالم اليوم. لقد تغيّرت المفاهيم والوسائل لكن الهدف بقي هو إياه. اتّسعت المقاصد الاستعماريّة من مجرّد السّعي إلى الهيمنة الظاهرة (الفاقعة) على البلد الواقع تحت الاستعمار، إلى جعله تحت الهيمنة كأنما بإرادته الذاتية، وذلك من خلال دفع «بيادقها» فيه إلى إعلاء شأن القوة العالمية التي تسميها «دولة صديقة»، والتولُّه بها والسير على طُرقها والتمثُّل بمسالكها واعتمادها مثلاً يُحتذى في الثقافة والسلوك وطرائق الحياة، عاملةً على تعميم «قناعاتها» هذه في

ص: 96

البلد، وتصويرها على أنها الغد الذي ينتظره الناس. وهذه البيادق تحصل باستمرار على الدفع الكافي من الخارج، وعلى الحماية والتوجيه والمساندة.

وتحت يافطة عولمة الاقتصاد وتحديث المجتمعات سعى القوي إلى تحويل بقية العالم إلى سوق استهلاكية لبضائعه ولأفكاره وللنماذج الحضارية والسلوكية التي يُطلقها. من هنا يمكن فهم موقف باحث السوسيولوجيا البورتوريكي والأستاذ في جامعة «بركلي» في الولايات المتحدة، «رامون غروسفوغل» حين يتحدث عن «استحالة فصل الحداثة الأورومركزية عن الاستعمار»، منتقداً بشدّة ما يُسمّيه «محاولات اعتبار الحداثة مشروعاً للتحرر وللرفع من المستوى المعيشي للناس، في حين أنها تتجاهل كيف يتمّ ذلك كما تتجاهل سيطرة واستغلال أوروبا لباقي العالم ومن ضمنها القارة الأميركية تحت هذه المظلّة إياها». وفي ذروة هجومه على الحداثة كاسلوب استعماري، يقول «غروسفو غل» (1) .

«إن الحداثة ليست مشروعا تحررياً (...) وحتى في القارة الأوروبية فالبعض لا يصله سوى الفتات من «المتفوقين عرقياً» عنهم، بمعنى أن دُعاة الحداثة الكبار هم الذين استفادوا تاريخياً من نهبهم لباقي العالم، وهم توسلوا موجة الحداثة نفسها لتحقيق ذلك، كما سخّروا العولمة وقبلها».

وهنا أيضاً التساؤل الذي يحمل في ثناياه الأجوبة الشافية التي تجلو كل ضباب التعمية: ما لم يكن الاستعمار هو كل هذا النهب للدولة التابعة واستباحة مقدّراتها واستتباع شعبها وإخضاع سلطاته والسيطرة على طموحاته التحررية وطمس ثقافته المميِّزة وجعلها سوقاً مفتوحة لبضائعه ولترّهاته الفكرية... ما لم يكن الاستعمار كل ذلك، فماذا تراه يكون؟

ص: 97


1- .http://www.mominoun.com/articles-

الاستعمار مهمة وطنية

لئن أمكن للأقوى ليّ ذراع الحداثة ليجعلها أداة في مشروعه الإمبريالي الواسع على مستوى الكوكب، فهو في الحقيقة لم يتمكن من تشويه حقيقتها النظرية. فالحداثة لیست شرّاً كلّها، ولا هي بمجملها كما رآها الفيلسوف وعالم الطبيعة والرياضيات الألماني «غوتفريد فيلهيلم لايبنتز» سبيلاً «لتسخير الآخرين...»، بل هي قبل ذلك «وسيلة تعايش مع الآخرين على قاعدة الإنسانية المشتركة ...»، بحسب ما نظّر لها الفيلسوف الألماني «إيمانويل كانت».

ولا شك أن النظرتين، وعلى تناقضهما، توصّفان الحداثة بوجهيها وتُعبّران عمّا يمكن أن تكون عليه. إلا أن المشكلة الكبرى تمثّلت في أن الغرب قد سار دوماً خلف «ليبنتز» وعلى هَدي أفكاره الجارِحة فاحتل الأرض ووظف أصحابها في خدمة مشروعاته التي جعلها على حسابهم، ودعاهم إلى الركوب في مركب الحداثة ثم عمل على تعطيل تطورهم الطبيعي إليها .

هكذا تجلّى النموذج الاستعماري المعاصر الذي سخّرت في سبيل تحقيقه كل الأدوات التي أتاحتها العولمة والحداثة معاً. وهذا ما عبّر عنه صراحة د.عادل الطاهري حين اعتبر أن «عولمة القرن العشرين هي الامتداد الطبيعي للاستعمار أو للنقل هي ما يسمى ب-«ما بعد الاستعمار» (1) .

والحقيقة أنه بات واضحاً اليوم أن العولمة في واقعها العملي هي المعبّر الحقيقي عن الإمبريالية الغربية التي تأتي الحداثة في طليعة أدواتها. وهي إذ تروِّج لفكر الأقوى اقتصادياً وتقنياً وعسكرياً، فهي تروِّج بذلك للحداثة أيضاً من حيث كونها منظومة فكرية متكاملة تغطي جميع مناحي الحياة، وفي الآن ذاته منظومة هدّامة للخصوصيات الثقافية والحضارية لكل شعب أو أمّة. وما لم يكن كل هذا الطاغوت والإمتهان والهيمنة هو الاستعمار ذاته في أقسى وأخطر وجوهه وأساليبه، فما عساه يكون إذن؟! .

ص: 98


1- .https://www.hespress.com/opinions/18000.html-

إن النظر فى مسارات العولمة المُنكّهة بالحداثة والمعتمدة عليها يؤكد ارتباطهما المشترك بمفهوم الإمبريالية «المُعصرنة»، من حيث كون هذه الأخيرة أعلى مراحل تطور الرأسمال وهيمنته التي تتحقق من خلال عالمية الشركات الاحتكارية متعددة الجنسيات التي لا تعرف حدوداً جغرافية. أليست العولمة هي الوسيلة المعتمدة والرائجة لقطع الآخر عن جذوره وإدخاله في المسيرة المفروضة عليه من خلال اعتماد أساليب الإخضاع والهيمنة تحت طائلة العزل والمقاطعة والمحاصرة وصولاً إلى فرض العقوبات على أنواعها بذريعة الخروج على الإجماع الدولي؟

وطالما الأمر كذلك، فإن ثُنائية العولمة والحداثة خرجتا بمفهوم الاستعمار الحديث من حدود الجغرافيا وقوّات الإحتلال المباشر، لتجعلا منه مهمة «وطنية» للدولة التي «جرت عولمتها». هكذا تلعب الأجهزة الرسمية المحلية دور قوى الاحتلال من خلال تنفيذها الأجندات التي يفرضها «البنك الدولي» مثلاً أو المؤسسات العالمية (بل العولمية) الموازية. وهذا ما يجعل دولة متفوّقة بالتكنولوجيا العالية وبالقدرة العسكرية والاقتصادية والسياسية، مثل الولايات المتحدة، تصبح سيدة العالم (التابع لها).

اللوثة العنصرية

ثمة ما هو أكثر من ذلك في جعبة الاستعمار الجديد. فالاستعمار التقليدي لم يكن يطرح «نوعية» الإنسان الذي يجري استعماره ولا «مرتبته» داخل مجموعة الأجناس الحية، ولم يكن ينظر إليه كنوع دوني من الخَلق. كثيرون من المستعمرين كانوا يحتقرون الشعوب التي يدخلون بلادها ويعتبرونها أميّة وغير متمدّنة، أو مجموعات من القبائل والعشائر الضاربة في أصقاع الفلوات بلا حضارة ولا تراث، تتغازا وتتناهب من دون عاقل ولا جامع ولا رابط وطني ولا قومي ولا ديني. إلّا أن ذلك، على سوئه وخلوِّه من الأخلاق والإنسانية، لا يُقاس البتّة بما بلغه الاستعمار الجديد في بداية انطلاقته «الحداثوية» حين أدخل البيولوجيا إلى السياسة، فتحدّث عن قابلية أجناس بعينها للتقدّم (الجنس الآري) وامتناع ذلك على أخرى (الجنس السامي). فالمستعمر المتكئ على قواعد العولمة وأُسس فلسفة الحداثة، لم يكن

ص: 99

يرتجل سياساته الاستعمارية ارتجالاً بل كان ينطلق من فلسفة سبق أن أعلنها وقِيم روّج لها طويلاً . ولنأخذ «إيمانويل كانت» مثلاً. فهو لم يتردد في التعامل مع عِرق المرء أو العنصر الذي ينتمي إليه (من أسودٍ وأبيضٍ وأصفرٍ وأحمر) كمميّز علميّ وموضوعي للبشر، فربطه بالقدرة على التفكير المجرّد، ونظّر عن مصير الأعراق البشرية ورتّبها بشكل تفاضليّ مُعتمداً الفكر العنصري الصرف. اعتبر أن لدى القوم البِيض جميع المواهب والدوافع الفطرية للتفكير الإبداعي، في حين أن ذلك ليس متوفّراً (برأيه) لدى الهنود ولا عند الصينيين. أما الأفارقة برأيه «.. فيمكن تعليمهم، لكن فقط كما يُعلَّم الخدَم». هذا التوجه الصريح بنحو ما بات يُعرف ب- «العنصرية البيولوجية»، اعتمده الغرب والأميركي تحديداً ليقسّم على أساسه الشعوب إلى «عليا ودنيا»، والدنيا بنظره «تكاد لا تختلف عن رتبة الحيوانات العليا. وقد تُستخدم في ما يحقق مصلحة الأجناس العليا، أو يمكن حتى قتلهم». (1) ولم يكن «كانت» الوحيد في اعتماد العنصرية والتسويق لها. فالمفكر الفرنسي «مونتسكيو» الذي اشتهر بكتابه «روح الشرائع» هو نفسه القائل ب-حقّ الأوروبيين في اتخاذ الزنوج عبيداً»... وبأن «شعوب أوروبا بعد أن أفنت سكان أميركا الأصليين، لم يعد أمامها إلا أن تستعبد شعوب أفريقيا لكي تستخدمهم في استغلال هذه الأقطار الفسيحة. فما هذه الشعوب إلا عناصر سوداء البشرة من قمة الرأس إلى أخمص القدم. ولا يمكن أن الله جلت قدرته يضع روحًا طيبة في مثل هذا الجسم الحالك السواد» (2).

على هذه الأسس انتشرت النظريات العرقية والعنصرية من قبل مفكرين أوربيين أمثال فيخته وتریتیشکه و داروین و هربرت سبنسر وغيرهم. فعندهم أن العرق الأبيض هو المسيطر، وأن نقاء العرق ضروري، وأن الزنوج مخلوقات منّحطة، وأن المساواة بين البيض والملونين سخف، وأن شعوب المستعمرات الخاملة والمنحطة هي أدنى مرتبات الشعوب، وأن البقاء هو للأصلح (3).

ص: 100


1- .http://www.maioz.com-
2- محاضرة بعنوان "تجارة الرقيق وأثرها على العقل الإفريقي" للدكتور محمد آدم كلبو.
3- من دراسة بعنوان: ( ظاهرة التمييز العنصري والمشروع الصهيوني ) إعداد: عبد الرحمن علي القناص.

لذلك صحّ وشُرِّع بالمقياس الغربي والأميركي اعتبار إبادة الهنود الحمر في ما بات يُعرف بالولايات المتحدة الأميركية، كما استعباد الزنوج الأفارقة وتشغيلهم سخرة، وصولاً إلى انتهاك تقاليد الشعوب وتراثها... وعلى هكذا أسسٍ «فكرية» جرى الاعتماد لبناء سياسات الاستعمار الحديث الذي ما انفك يتقدّم ويتوسّع، ولا سيّما في بلادنا العربية والإسلامية، مُحوِّلاً الكثيرين من حُكّامها إلى «أدوات» يُحرّكها ويدفعها إلى اجتثاث أصولها القومية والحضارية، وتسخيرها لخدمة أغراضه، مقابل منحها النذر اليسير من خيرات بلادها التي يستبدّ بها. وكانت أنماط الاستعمار الاستيطاني في أساس أساليب الاستعمار الجديد المبني على العولمة والحداثة، وهو ذاته الأساس الذي أُقيم عليه الكيان الصهيوني في فلسطين.

وعلى الرغم من الاستقلال المُعلن للعديد من دول العالم، ومنها كيانات عربية قائمة بمثابة دول، وحراكها الظاهري بعيداً عن الاستعمار المباشر، فإن الأفكار الاستعمارية الغربية هي التي تزرع فيها الشعور بعقدة النقص أمام الأجنبي، والاقتناع بسمو الثقافة الغربية ورفعتها في مقابل الثقافة العربية. وهو، ما راح يروج في نتاج «مفكّرين وسياسيين» في دنيا العرب والمسلمين كانوا وما انفكوا يعملون بدأب على محو الخصوصيات الثقافية والحضارية وحتى الفولكلورية لشعوبهم وبلدانهم، واستبدالها بمقابلاتٍ غربية (يسمّونها حضارية)، على زعم أن ذلك يتيح اللحاق بركب التطور والحداثة. والأنكى أن أسماء كبيرة في عالم الثقافة العربي كانت في طليعة هؤلاء المُطبِّلين - المُزمِّرين، الذين أُخِذوا بالتقدم التقاني الغربي ما أغفلهم عن مسالك الغربيين مع بقية شعوب الأرض، منهم طه حسين (1)، وبطرس البستاني (2) وغيرهما كثيرون... وهذه التوجهات ما زالت ممتدة إلى أيامنا هذه، ويتبناها مفكرون كثيرون في الحركات السياسية العلمانية، من الذين رفضوا الثقافة العربية (3).

ص: 101


1- ./http://www.aljazeera.net/news/cultureandart/2014/ 829-
2- .http://wadod.net/library/35/3514.pdf-
3- .https://www.alaraby.co.uk/opinion/2014 /6/ 2011-

الطبق جاهز...

هكذا، وعلى إيقاع أهازيج التطوّر والعصرنة انتعش مذهب التغريب مُلوِّحاً بإيجابيات هائلة، ولا سيما للشعوب العربية التي كانت ما تزال تترنح من آثار النير العثماني الوبيل، وتعيش ترددات ما عُرِف ب- «عصر الانحطاط». جاءت موجة التغريب بمثابة خشبة إنقاذ للخروج من الظُلمة الاستعبادية إلى الهواء الطلق وتنسّم هواء الحرّية وشذى الآداب الغربية الطليعية بكل إيجابياتها والانتظام في روح العصر. لكن الغرب الاستعماري الذي غيّر جلده ولم يُغيّر بواطنه، أرفق بموجة التغريب الأدبي والثقافي والفكري الجارية، حركة استكمالٍ لهيمنته الاستعمارية والاستئثار بالمقدرات، فسارع إلى تفعيل آليات التشويه التي أتقنها متابعها استهداف الثقافة العربية وحضارات شعوبها وتصويرها المسؤولة عن كل ما هو تخلّف وبؤس وانحطاط، في سبيله إلى توثيق سلطانه على الشعوب المغلوبة ومضاعفة دأبه على استحلاب خيراتها والاستئثار بها. كان ينشط متنكِّراً بسلطان حكام البلدان المستهدفة الذين اختارهم وزيّنهم ويسّر لهم التغطيات المناسبة. ومن خلال ذلك جعل مصائر تلك الدول وحقوق شعوبها، مادة استعمالية لتحقيق مصالحه وتثبيتها، وقد اتخذها مصدراً للمواد الخام والكنوز الدفينة والعمالة الرخيصة، وسوقاً مفتوحة لمنتوجاته الصناعية ولما يختاره لها من أفكار موجّهة. تمّ ذلك وتواصل بعد أن حرص الغرب المُسيطر على تسمية بعض تلك الأقاليم التي رسمها «دولاً» ووصفها ب- «المستقلّة». وهذا كان تجسيداً مادياً واضحاً لما بات يُعرف ب- «الاستعمار الحديث» الذي يتم من خلال الهيمنة على البلد من دون تدخل عسكري مباشر (1) . ولا يخفى «استغلال الولايات المتحدة الأميركية بالذات للدول من خلال أنصارها وحلفائها في المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية...)، حيث يجري فرض الوصاية على الدول المقترضة، وجرِّها إلى توقيع اتفاقيات أمنية وخلافها»، كما جاء بالحرف في كتاب الباحث الاقتصادي جون بيركنز في كتابه ذائع الصيت «اعترافات قاتل اقتصادي».

ص: 102


1- ."China overtakes US as Africa's top trading partner"-

وعن دور البنك الدولي تحديداً كتب الفيلسوف الفرنسي «ميشال فوكو» يقول «... إن الخطاب الممارس في البنك الدولي (1) هو مجموعة من النظريات والمفاهيم الأميركية والغربية حول ماهية الاقتصاد والتنمية مُورِست بالقوة عن طريق الصندوق لخلق مجال جديد للاقتصاد يُصبح كل ما دونه غير اقتصادي، وغير علمي. فيُطالب صندوق النقد الدولي أيَّ دولة بعدة شروط من أجل إعطائها الدّين الذي تطلب. هذه الشروط تشمل: «تقديم برنامج عام يُلزم الدولة الطالبة بعدد من السياسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية» وضمان بيئة مناسبة وآمنة من أجل تسهيل مراقبة تنفيذ تلك السياسات من قبل صندوق النقد الدولي. فأولاً، تأسس الصندوق على أنه المتحدث باسم «الاقتصاد العالمي»؛ وثانياً: قدم الصندوق سياساته باعتبارها الطريق الوحيد والإلزامي للتنمية، وأخيراً، ضمن الصندوق لنفسه عدداً من آليات المراقبة والعقاب لكي يُلزم الدول بسياساته» (2).

بهذه الشهادة الحاسمة تظهر وتتجلّى واحدة من أبرز سمات عصرنا الراهن، وهي الاستعمار الحديث حيث المستعمر يسرح ويمرح في بناء جدران العداوة والاستهداف بين الشعوب وحُكّامها، وبين الدول المتجاورة، كي يترك لنفسه دور الحامي والراعي والمهيمن. وتُترك مهام استرهان المواطنين لحُكّامهم المعينين الذي جرى اختيارهم من طرف القوى الخارجية التي يدينون لها، فيتمتعون في قصورهم المسيّجة باليسير من الخيرات يلقيها إليهم حماتهم الأجانب لإسكات جوعهم الفجّ للتسلّط والدموية، ويغضّون الطرف عما يُسلب من خيرات البلاد التي أمِّروا عليها .

ولم يكن لهذه الطبخة المسمومة أن تتكامل وتجهز، لولا توفير العديد من الظروف والسُّبُل التي منها وفي طليعة آلياتها تسخير العولمة والحداثة لخدمة أغراضها ودائماً تحت سوط الترهيب بالبارود...

ولعل التساؤل الظريف والعميق لأحد شيوخ القبائل في الجزائر يُعبّر أفضل تعبير

ص: 103


1- .Michel Foucault، “The Archaeology of Knowledge”، trans. A.M. Sheirdman Smith، (New York،Pantheon Books، 1972)، pp: 21- 40-
2- .Peet، “The Unholy Trinity”، p. 66- 74-

عن توصيف الخدعة التي ابتلعها الحكّام (المعينون) تنفيذاً لتوجيهات الذين عيّنوهم. فعندما أقبلت القوات الفرنسية بحشودها الكبيرة على استباحة الجزائر واحتلالها تمهيداً لاستعمارها، أبدى الكثيرون من أهل البلاد رفضهم ما يجري وامتعاضهم من الغزو. ويُروى أنه قِيل يومها لذلك المُعارض إن القوات الفرنسية إنما جاءت لنشر الحضارة الغربية الحديثة في ربوع بلاده، ولإخراجها من الظُلمة إلى النور، فأجاب باقتضاب بليغ: «... إذا كان الأمر كما تقولون، فلماذا أحضروا كلّ هذا البارود إذن؟».

ص: 104

ظاهرة الاستعمار الجديد

اشارة

المراوحة بين زمنين

زبیر عباس

زبیر عباس (1)

منذ أن خلق الله تعالى آدم علیه السلام - وأنعم عليه بحواء - عليها الصلاة والسلام - فأنعم عليهما بإنزالهما إلى الكرة الجرداء ليعيشا معاشاً جسدياً وروحياً، ويتناسلا تناسلاً قويم الخلق وضعيفها. فأولد أبو البشر قابيل وهابيل (2) ثم استمرت الذرية، وقدر لها البقاء إلى أجل مسمّى . والحقيقة المحققة التي كانت تترعرع في ذلك النظام الإلهي الذي جعله الله أن يسود آدم ويسوس في أبنائه هو التنافسية بين البشرية والإنسانية. وهذه الثنائية هي الأولى التي باتت عاملاً قوياً في إعطاء الوجود لكل ما صار منقصة وغضاضة، أو ميزة وخصيصة.

ص: 105


1- أستاذ اللغويات واللسانيات وعلم النص والدلالة - باكستان.
2- يراجع في تفاصيل قابيل وهابيل ومجرياتهما قول الله الوارد في المائدة : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ . لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ . إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ . فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ . فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ» اَلآیَة: 27-31.

الصراع بين البشرية والإنسانية كان مؤدياً نحو تهافت المسالك الكريمة التي كانت لا تضمن للإنسان إلا الاستعمار بالمعنى الأصيل وهو العُمران والبُنيان والتمدُّن، والمعاصر الحي وهو الحصول على الشيء إكراهاً وإجباراً، قهراً وظلماً وتحايلاً، هذه المعاني المتعارضة هي التي تعيشها ثنائية البشريّة والإنسانيّة فتتنافساها، خلق الله الإنسان وعلَّمه الكتاب والحكمة حيث بعث الأنبياء بين الوقت والآخر لتربية قُوَى ابن أبي البشر الجسدية والعقلية والخلقية ليعتدل عُوده فيستقيم، وبذلك انتهى الأمر إلى التنافسية الكريمة بين البشرية والإنسانية، أيتهما تسبق أختها، وأيتها تنمِّي القوى الداخلية والخارجية في الإنسان ليسير مسيراً حسناً لا شية فيه.

هذه التنافسية القائمة على النهوض بالبشرية والإنسانية لم تكن توجد انطباعياً بل يجسدها تفكير عمران الأرض عند الإنسان، ولقد قُدِّرَ ذلك بغية إيجاد الصراع بين المصالح المنوطة بالبشر الظاهر أو المادي وهو في حدود تكليفه الفقهي وبين المصالح

المنوطة بالإنسان الباطن أو الروح وهو في حدود تطهيره من الشوائب غير المرئية.

ثم تطور هذا الصراع الداخلي الذي سكن قلب ابن آدم لفترةٍ طويلةٍ بعيدةٍ عن التعليمات الإلهية والتشريعات السماوية، وجعله ملجأ أخيرا له حتى بدأ يحوِّله إلى العكوف الكلِّي على المادة، انشرح صدره لها أخيرا فصارت لها مأوى قبلُ وبعدُ، و من هنا حدثت رجَّة كبرى بين طيات الإنسان، فتغلغلت ضمائره، وصارت أعشاشاً لعصافير أرضية لم يركع أحد لها إلا من أمات ضميره، فباعه بثمن بخس.

كانت هذه الفترة تمرُّ مرور الكرام حتى إطَّلَعَ العالم على الحضارات الراقية القديمة؛ الحضارة (1) الهندية والرومانية والإغريقية ثم العربية ثم انتهت تلك الحضارات حتى جاء الإسلام فغير كل شيء قبل وبعد، ومستهلكوا تلك الحضارات في عصر فجر

ص: 106


1- الحضارة تعني بالإقامة في الحضر، قال القاطمي وهو يفخر بالبادية على الحضارة: وَمَنْ تَكُنِ الحضارةُ أَعْجَبَتْهُ فَأَىَّ أناسِ باديةٍ تَرانَا [الوافر]. ينظر: ديوان القطامي، تحقيق: إبراهيم السامرائي، أحمد مطلوب، دار الثقافة بيروت، الطبعة الأولى 1960م، ص 76. «فالحضارة ضد البداوة، وهي مرحلة سامية من مراحل التطور الإنساني ومظاهر الرقي العلمي والفني والأدبي والاجتماعي». ينظر: العسال، أحمد. حوار الحضارات (مدخل إلى رؤية إسلامية)، حولية الجامعة الإسلامية العالمية، العدد الثالث 1995ه- / 1416ه-، ص 5.

الإسلام في أرض الجزيرة العربية تقسَّموا إلى فئتين؛ فئة تقاتل من أجل النهوض بحامل لواء الإسلام، وفئة أخرى تقاتل من أجل اتخاذ وسائله جُنَّةً عن نفسها وأهلها وأسرتها وممتلكاتها مجاهدا في سبيل الشيطان، لكن تلك الفئة الأخرى قد خابت دسائسها ولقيت هزيمة نكراء فدخل بعضها طوعاً أو كُرهاً في الإسلام.

ثم جاء عصر الظلمات أو العصور الوسطى وهي العصور التي أظلمت الدنيا غير دنيا الإسلام والمسلمين، انبهر الغرب أوله وآخره بما جاء به العصر الأندلسي من الإنتاجات القيمة والإنجازات الثمينة فأصبح الإنسان الغربي مدينا لها في ليله ونهاره، في صباحه ومسائه، ولم يعد للإنسان الغربي (الأوروبي) أن يخطو خطوة صغيرة كانت أو كبيرة دونما العناية بتلك الإبداعات التي جاء بها الإنسان الشرقي، ولم يعد يطيق له أن يتحمل ذلك الجهل بعيدا عن حقول العلم والمعرفة.

كان الإنسان في الغرب شواقاً وملتاعاً إلى المناهل الصادقة والمنابع الصافية فنهل من الأولى واستقى من الأخرى حتى شبع فعاد يشبع الآخر من خلال منجزاته في شتى العلوم والمعارف والفنون على شاكلة المسلمين في الشرق. ذلك الوضع المزري الذي كان الغرب يمرّ به في تلك الأيام جعله يفكر في بناء المستقبل على المقاومة والثبات، والخروج من التفكك والتشرذم، وتحقيق الوحدة والتكتل، وكانت الخطوة طويلة المدى، فاستجاب لمشاعر حلفائهم وبخاصة المسلمين كيلا يتجنى أحد على حقوقهم، وعندما استقرت أحوال الغرب بدأ يستغل الخلافات والنزاعات بين الدول فجعلها وسيطا للتدخل العنيف الطاغي المحتل بعد انتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين؛ الرأسمالي أو التموّل (Capitalism) والشيوعي (Communism).

الاستعمار الجديد

كلمة «الاستعمار» من باب الاستفعال، ومجرده عمر من باب فَعَلَ يَفْعُلُ، قال تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ (1) والاستعمار هو «الإعمار، أي

ص: 107


1- هود، الآية: 61.

جعلكم عامريها، فالسين والتاء للمبالغة كالتي في استبقى واستفاق. ومعنى الإعمار أنهم جعلوا الأرض عامرة بالبناء والغرس والزرع، لأن ذلك يعد تعميراً للأرض حتى سمي الحرث عمارة، لأن المقصود منه عمر الأرض» (1) . انطلق الاستعمار في بداياته الأولى بشكل إيجابي باعتباره مدلولاً صادقاً للمعنى المعجمي، واستمرّ حتى نُصَّ في دساتير تلك الاستعمارات كلما هبت ودبت أن تساعد البلدان القاصرة والبلاد العاجزة والدول الفقيرة بطريقة ميسرة، ولكن بدلاً من أن تقوم بحماية تلك الدول الضعيفة من الزلل والضعف والضلال المنوطة بالسياسة والاقتصاد والثقافة إنها بالله تفتؤ تتصرف حسب مرضاتها في تلك الدول المحمية.

الإيجابيات المختصرة للاستعمار الجديد

حسب دساتير أولى بُنِيَ عليها الاستعمار الجديد بمختلف أشكاله؛ الانتداب، العولمة، الأمركة، الغرب، النظام العالمي الجديد اتفق حملة لوائها على أنه قاعدة متينة يضمن توحيد شتات العالم وإقامتها في كتلة واحدة، فالعالم يشمل العوالم، والاستعمار هو الذي يجعلها عالماً واحداً على اختلاف ألسنة ناطقيه وألوان عائشيه، فكأنه قرية صغيرة، وبذلك رأى الاستعماريون أنّه يمكن تحقيق النَّفع وتعميمه على جميع الشعوب على اختلاف ألسنتهم وألوانهم بطريقة منصفة من خلال فتح الأبواب في وجهه.

رأى الاستعمار منذ نشأته أن تلاشي الحدود الثقافية والاقتصادية والسياسية والتكنولوجية والجغرافية ضروري بغية تحريك رأس المال بكل حريّة وبلا قيد وحراسة ليصل كلَّ ذي حق حقُّه، وللتحالف المشدود بالإحقاق، البعيد عن الفساد بين الدول بنيت أنظمة صغرى لتضبط عُرى الاستعمار الجديد بكل قوة وصلابة، فكأنها تمثل له الأوتادَ مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والنظام العالمي الجديد، والعولمة وسائر أخوات هذه الأنظمة، وكل ذلك لغرض الزيادة في تبادل الأسواق والمحلات التجارية والاستثمارات ذات الاستغلال والانتفاع.

ص: 108


1- العاشور، محمد ابن طاهر. تفسير التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، تونس 1984م، ص 108، ج 12.

تفرع الاستعمار الجديد إلى حقول عديدة، إنما نالت تلك الميادين من الدعاية في مشارق الأرض ومغاربها مصحوبة بدلالات خاصة، مثل «العولمة» وهي مرحلة من مراحل الاستعمار الجديد، استهدفت منطلقا من قوانين الاستعمار الجديد أن تجعل من العالم ما يكون معولماً ومن يعيشه يكون متعولماً، فحاولت إخضاع كل العالم لنظوم القوى الرأسمالية لتضع حدا لكل أنواع السيادة لأي وطن ودولة ومنطقة.

بادئ ذي بدء هذا المقصد كان أمرا خلقيا، محموداً، مرغوباً، ولم يكن في مسيس الحاجة إلى أسلمته، لأنّه ما هَدَفَ إلى الإساءة أو السوءة من خلال جمع المال وتكثيره لغرض قهر الآخر أو استنزافه، ولذلك يمثل الاستعمار الجديدُ الخيرَ بأوسع معانيه للأفراد والمجتمعات، والمقصد هو تحقيق آمال الناس واستبقاء أحلامهم ودعم طموحاتهم، فكأنّه غوث الزمان الذي يغيث الملهوف، ويشبع الجائع، ويلبي حاجة الفقير، وينهض بالشعب الهزيل، وينصر الحوكمة المضغوطة، ويقود نحو النموّ والازدهار، ويفتح أمام الأفراد والعائلات والمجتمعات والحوكمات أبوابَ المنافسة الحرة للاستفادة من خيراتها الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والسياسية والثقافية دون عوائقَ وقيود، ولذلك وضع الاستعمار الجديد نصبَ عينيه إزالة الحواجز، والقضاء على الموانع، ومسح الحدود التي تعيق سبلَ زيادة الإنتاج المحلي من خلال إيراده إلى السوق العالمية، وخلق الفضاء الحر للتنافسية في إنتاج السلع واستثماره، وتقديم الخدمات المحوسبة، والتقنية عالية المردود، والدعم التكنولوجي، وإعطاء الفرص للابتكار والإبداع والتحسين والتطوير للمواهب والملكات عبر دعم التعاون الدولي لتقويم الاقتصاد العالمي، ومنع وقوع الأزمات فيه، ومراقبة مسيرة التطورات السياسية والاقتصادية، وتحليل الأوضاع المتوقعة التي تترتب عليها بطريقة ذات بَهْجَة وارتياح.

فالدستور الناطق بهذه الأغراض العليا والمقاصد الكبرى للاستعمار الجديد هو الذي كان يبعث السرور والإعجاب والاطمئنان في نفوس البشر، ولا زال يبعث فيمن يجهلون أو يخافون اكتشاف السرائر أو يتجاهلون من أجل المصلحة الفردية أو الطائفية أو لا يتابعون الأخبار بعقل راشد.

ص: 109

من السلبيات المختصرة للاستعمار الجديد

إن الاستعمار يعني تقلّص العالم وتجمّعه في راحة كف المهيمن المخرّب، ومنذ أوّل ساعة مطلع الاستعمار إنه يؤازر نفسه بالمنطلقات الفكرية البعيدة عن الحق والقسط، ومن تلك الرهائن التي بدأ الاستعمار ينهل عرفانه من مناهله هو على الترتيب الآتي:

حضارة عقلية يابسة

إن الاستعمار عزل الدين والعقيدة عن الحياة، وحَبَسَهما في مقبرة الموت. ومن ثم انطلق باحثا عن النظريات المنوطة بالحياة والإنسان والكون من خلال الإيمان بالعقل الوحيد بدلا من الإيمان بالله الواحد. وفي هذا الباب استمدّ الاستعمار روحه من المبادئ التي جاءت في كتاب أوجست كومنت (Auguste Comte) في الفلسفة الوضعيّة، وكذلك ما وضعه هيجل ثم ما تلاهما من نظرية تشارلز روبرت داروين (Charles Robert Darwin) في نشوء الأحياء وارتقائها.

حضارة إنسانية وجماعيّة وقومية واقتصادية وجنسية

ثم تطورت تلك النظريات وأصيب بعضها من المتغيرات حسب الأوضاع المتغيرة والمتصرفات المتزامنة، فاستفاد الاستعمار من نظرات هربرت سبينسر (Herbert Spencer) وأمثاله في الحياة الإنسانية، ثم جاء جان جاك روسو (Jean-Jacques Rousseau) فوضع نظريته في العقد الاجتماعي التي انتهت إلى نظرية القوميات فيما بعد، ثم جاء فيلسوف ألماني واشتراكي ثوري كارل هانريك ماركس [1818م-1883م] (Karl Heinrich Marx) ووضع نظريته الجدلية على أساس أن المحرك الأساسي لحياة الإنسان هو العامل الاقتصادي، ثم جاء سغموند شلومو فرويد [1856م-1939م] (Sigismund Schlomo Freud) وقرر الغريزة الجنسيّة عاملاً أساسياً ومحركاً مبدئيا للحضارة.

تآزرت تلك النظريات كلها في تكتل الحضارة الغربية التي اعتمدها

ص: 110

الاستعمار الجديد، وركب ظهرها بكل فخر فكأنها استعادت بهاءَها القديم.

هذه الحضارة الغربية التي جعلها الاستعمار الجديد قبلةً له كان من سوء حظها أن ارتبطت بأنماط وحشية مدمّرة ومخربة للشعوب الضعيفة، اعتمدها الاستعمار في استباحته لخيرات هذه الشعوب بأساليب ذات الخبث والدهاء والمكر والبعد عن القيم الفاضلة. فسمي بعض الباحثين ذلك الاستعمار بالاستخراب (1) نظرا لما كان ولا زال يخطط فيقوم به، والأمثلة على ذلك كثيرة مثل أعمال شركتي الهند الشرقية في الهند، والشركة الهولندية في أندونيسيا، وحركة صيد الزنوج في إفريقيا وشحنهم إلى أميركا لاستغلالهم واستعبادهم، وإفناء الهنود الحمر في أميركا، وكذا السكان الأصليين في أستراليا، وحرب الأفيون في الصين، واستنزاف مناجم الذهب في جنوب إفريقيا وغينيا (2). إضافة إلى ما فعلته فرنسا في تونس بناء على بنود معاهدة الحماية وميثاقها التي وقعتا معا عام 1818م ثم 1883م، حتى فقدت تونس سيادتها الخارجية، ثم كررت فرنسا داهية سياستها في مراكش بموجب بنود معاهدة تمت بينهما عام 1912م، وما قام به الإنجليز في مصر عام 1922م (3) .

تسبب الاستعمار في إذلال العالم الإسلامي حيث سقط منه إلا القليل النادر خلال القرون الثلاثة الأخيرة، ألغيت الخلافة الإسلامية، وسقط العالم الإسلامي تحت براثن الاستعمار ثم طحنت رحى الاستعمار الروسي الشعوبَ الإسلامية في آسيا الوسطى، والقوقاز، فورثتها الماركسية. ظهرت نتيجة لتلك الروح الاستعمارية كثيرا من المذاهب المتنافسة؛ النازية والفاشية والماركسية التي جعلت العالم يصطلي بجذوة حربين عالميتين، ومن هنا كان «تعامل الحضارة الغربية بإرثها التاريخي، وإرثها الفكري، ونظرتها الاستعمارية نظرة الاستعلاء والكبر إلى الشعوب الأخرى؛

ص: 111


1- الطنطاوي، على. ذكريات، دار المنارة للنشر السعودية - جدة، الطبعة الأولى 1406ه-/1986م، الجزء الثالث، ص 150.
2- القرضاوي، يوسف. المسلمون والعولمة، دار النشر والتوزيع، بيروت، 1998م، ص 4.
3- يراجع في تفاصيل سيطرة الاستعمار ودكتاتوريته: الشهابي، مصطفى. محاضرات في الاستعمار، معهد الدراسات العربية، القاهرة، ص 15-20.

نظرة لا تقوم على الندّية ولا الأخذ والعطاء، إنما هي قائمة على الأحادية، وأنها الحضارة التي انتهت إليها الحضارات» (1) .

وأخيرا انتهى ذلك الاستعمار السائد إلى أنه يمثل الشر بأوسع معانيه، والجحيم بأوسع دلالاته، لأنّه أشعل نار المفسدة في العالم، وجعله ضحية الخوف والرهبة والرعب والاضطراب والشغب والفوضى والقلق والحرج - فزاد الجائعَ جوعاً والفقيرَ شدة وخصاصة والقانطَ قنوطاً ويأساً والبائسَ بؤساً والعاجزَ عجزاً والضعيفَ ضعفاً والذليلَ ذلةً ومهانةً والهزيلَ هُزالاً والحبيسَ حبساً وخنقاً والحريصَ طمعاً والطامحَ طموحاً كريهاً والمتخبطَ تخبطاً - والقضاءِ على فرص النمو الاقتصادي في الدول الضعيفة وسلب حرية التجارة المحلية والسطوة على أسواقها وتحويلها إلى مؤسسات تابعة للاستعمار الجديد من خلال اختراق القوميات والجنسيات والسعي إلى تجزئة بعض الدول والكيانات. والشُّقَّةُ بين الإيجابيات التي أولدها الاستعمار، والسلبيات التي استهدفها ذلك لا تتوقف ولو لغمض طرفي البصر .

العولمة من مدِّ الاستعمار الجديد

هذه العولمة أحد الأشكال للاستعمار، يقول الدكتور يوسف القرضاوي: «العولمة في حقيقتها وأهدافها وطرائقها اليوم إنما هي الاستعمار بلون جديد وهي بعبارة صريحة أمركة العالم» (2). فإن العولمة بلا ريب شكل متطور من أشكال الاستعمار، وكما تم استبدال كلمة «الانتداب» ب- «الاستعمار»، أصبحت «العولمة» هي البديلة في صياغة جديدة «تؤدي وظائف سلفيها - الانتداب والاستعمار، ولكن بآليات أشدُّ إحكاما» (3).

وهذا ما أيده فيليب ج. سيرني (Philip. G. Cerny) حيث رأى أن العولمة قد

ص: 112


1- حوار الحضارات (مدخل إلى رؤية إسلامية)، ص 21.
2- ينظر: جارودي، روجيه. حوار الحضارات، منشورات عويدات بيروت - باريس، الطبعة الثالثة، سنة 1986م، الفصل الثاني، ص 37-93، وفيه رصد معتمد لما قام به المستعمرون في آسيا وإفريقيا.
3- السيوطي، خالد عبد الحليم. الحوار بين الديانات الثلاث في عصر العولمة، حولية الجامعة الإسلامية العالمية إسلام آباد - باكستان، العدد العاشر 1423ه-/2002م، ص 234.

عُنِيَتْ بمجموعة بُنى اقتصادية وسياسية، وإجراءات تترتب وتتغير وفق متصرفات الأوضاع السياسية والاقتصادية للبضائع في السوق العالمية (1) . فالعولمة هي الهيمنة الخافية عن الأعين والعنصرية الخفية عن الأبصار «وفرض ذوبان ثقافة الآخرين في الثقافة الغربية بصفة عامة وأميركا بصفة خاصة» (2) . ولذلك يمكن لمن لديه عقل وقلب أن يعي ويدرك قضية التعامل مع الآخر وهي الأزمة الحقيقية التي تعاني منها البشرية، إن الاستعمار البغيض أباح للقوة المسيطرة على العالم السياساتِ الظالمةَ والجائرةَ والخططَ الاقتصادية والاجتماعية التي تكرس السيطرةَ وتفرض الظلمَ والقهر على الآخرين.

أمثلة كثيرة يمكن من خلالها درك مفاسد تلك الروح الاستعمارية، ومنها دور السياسية العالمية التي تكرّس ذلك الاستعمار في فلسطين كما كرسته قبلُ في جنوب إفريقيا وروسيا، والآن يمكن مشاهدة ضحايا تلك الحرب التي نشبت مخالبها في كثير من مناطق العالم مثل البوسنة والهرسك وكشمير والصومال وجنوب السودان، وهذه الأزمة المنوطة بالتعامل العدائي سبّبت قلقاً وحيرة وإحباطاً في نفسية المجتمع الإنساني حتى لم يعد يقدر على علاج النزيف الدامي من أجل حالة العجز التردي.

هذا الاستعمار لا يعطي الفرد حقه بل إنه يسلبه سلباً لا يستطيع الإنسان بعده أن يعيش عيشاً كريماً، أو أن يجد حقّه بقضاءٍ عادلٍ لكونه مقهوراً بقانون البطش المخيف والاستعباد المذل.

عناصر الاستعمار الجديد

هناك ثلاثة عناصر لعبت بصفة أساسية دوراً هاماً في سبيل تطوير سطوة الاستعمار

ص: 113


1- Philip. G. Cerny says: "Globalization is defined here as set of economic and political structures and processes deriving from the changing character of the goods and assests that comprise the base of international political economy -in .particular- the increasing structure differentiation of those goods and assests". Globalization and the Changing Logic of Collective Action. International Organization (4. autumn 1995): p 596
2- التركي، عبد الله، الحوار المبتغي في ظل العولمة، مجلة الرابطة، العدد 123 - 2000م، ص 12.

المعاصر القاهرة وسيطرته الجائرة، وجعلتها تُذِلُّ العالم أجمع وهي:

الأول: العنصر السياسي

الثاني: العنصر الاقتصادي

الثالث: العنصر التقني

الأول: العنصر السياسي

عندما خسرت (socialism) في أداء دور فعال في سبل تطوير السياسة والاقتصاد وهيمنتهما على الآخرين ظهرت الرأسمالية الغربية خصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وسقوط الشيوعية، وتفكك حلف وارسو (1) . قامت أميركا وأوروبا بكل حزم وحنكة ودهاء ومكر بتسليط (capitalism) على العالم كله كنظام بديل ملائم ومنسجم مع كل الضرورات والاحتياجات. وبذلك نجحت أميركا وأوروبا في هذه المجهودات حيث جعلوا الاقتصاد العالمي رهن البنك الدولي (world bank) صندوق النقد الدولي I.M.F وهذان هما محوراً العولمة التي يتمركزها الاستعمار. وكان الهدف البالغ من وراء كل تلك المجهودات المتضافرة والمستمرة أن يمشي العالم كله مع ذلك التيار القاهر الذي ظهر في أوروبا منذ القرن السابع عشر، وهذا التيار لا يئن إلا بفصل الدين عن الدولة، وبالتالي لا يعمل إلا على أساس قيام الدولة على أسس دنيوية لا دينية.

الثاني: العنصر الاقتصادي

بني المعهد التجاري العالمي حسب اتفاقية أوسلو ومعاهدتها عام 1995م، وانتهى

ص: 114


1- سؤال طرح من قبل المثقفين الأكاديميين، وهو أهي عولمة أو هيمنة؟ يقول الباحث خالد عبد الحليم السيوطي: «تعرف العولمة بأنها حرية تدفق السلع، ورأس المال والأفكار، والمعلومات في كل أنحاء العالم بدون قيود. ولكن التناقضات التي نعيشها تؤكد أن ما نحن فيه ما هو إلا صورة من صور الهيمنة، وإن شئت الدقة فنحن في عصر «عولمة الهيمنة». ثم يقول الباحث بعد قليل: «وتوجد مجموعة من المظاهر تدل على أن هذه العولمة المزعومة ما هي إلا خدمة للنموذج الغربي، والمقصود الحقيقي منها هو السيطرة الأمريكية على العالم، وهذا ما دفع الفيلسوف الفرنسي المسلم «رجاء الله جارودي» أن يسميها الأمركة». ينظر الحوار بين الديانات الثلاث في عصر العولمة، ص 230.

الأمر حتى التوقيعات المحتومة من قبل شتى الدول على الاتفاقية للتجارة الحرة. لأن من خلال منطلقات التجارة الحرة ظهرت كبرى الشركات العالمية والدولية التي باتت تسيطر على تجارة سائر العالم، وهذا ما انتهى أخيراً إلى تشكيل عولمة الاستعمار (1).

الاقتصاد يمثل العنصرَ الأساسيَّ للاستعمار الجديد حيث يمده في القضاء على المناطق الضعيفة بحجة ضعف اقتصادها وبالتالي مناصرة ما وراء مصالحها.

الثالث: العنصر التقني

وهو جوهر أصيل في نشر العولمة (2) ، «فلم يعد بوسع أي دولة اليوم أن تفصم نفسها عن وسائل الإعلام العالمية أو تبتعد عن مصادر المعلومات الخارجية» (3) .

دعائم الاستعمار الجديد

الأول: صندوق النقد الجديد I.M.F

وهو وكالة متخصصة من منظومة بريتون وودز تابعة للأمم المتحدة، أنشئ بموجب معاهد دولية في عام 1944 للعمل على تعزيز سلامة الاقتصاد العالمي. (4) وكان من بین تلك الأهداف الرشيدة التي لم تكن إلا قبلة زعماء ذلك الصندوق العالمي هو تقديم العون والإمداد والإقراض للبلدان الأعضاء ودعم سياسات التصحيح وإصلاح الأزمات والمشكلات التي تمر بها .

ولكن للأسف إنما كان معظم تلك البلدان التي وقَّعت على اتفاقية النهوض بذلك الصندوق الدولي كانت في الغالب راقية ومتقدمة ونامية نحو الولايات المتحدة، واليابان، وألمانيا، وفرنسا، والمملكة المتحدة إلى جانب الصين، وروسيا، والمملكة

ص: 115


1- اللاوندي، سعيد. مجلة حصاد الفكر، بدائل العولمة، العدد 130، ص.
2- القاسم، خالد بن عبد الله. العولمة وأثرها على الهوية، دار الكتب - عمان، 2003م، ص.
3- دبلة، عبد العالي. العالم العربي وتحديات العولمة، مجلة العلوم الإنسانية - جامعة محمد خيضر بسكرة - أكتوبر، 2002م، العدد الثالث، ص 24.
4- يراجع في تفاصيل I.M.F ومقره وأعضائه والدساتير المنصوصة عليها من قبل البلدان وغيرها: رجب، مصطفى. العولمة ذلك الخطر القادم، مؤسسة الوراق، عمان، ص 51.

العربية السعودية، فأصبح الاقتصاد قيد التشاور والتآزر والترابط بين تلك الدول وأخواتها، وابتعدت مؤازرة ذلك الصندوق عن الكثير من الدول التي تعاني الفقر وانخفاض الدخل قبل.

الثاني: البنك الدولي World Bank

وهو أحد الوكالات المتخصصة في الأمم المتحدة التي تعنى بالتنمية وإعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وتخفيف حدة الفقر، وتمويل البلدان بغرض التطوير، وتقليل إنفاقه، وحماية الإستثمار العالمي (1) . واليوم إن البنك الدولي لا يقدم خدمة الإقراض إلا للدول التي توافقه في تغليب نظام العولمة وتسليطه على العالم كله (2) . أما الدول التي تعد من قبيل العالم الثالث فلا يقدم لها شيئاً ولا يسهم في حل المخاطر التي تحدق بها.

الثالث: منظمة التجارة العالمية W.T.O

أنشئت منظمة التجارة العالمية (World Trade Organization) لتسود التجارة بأكبر قدر من السلاسة واليسر والحرية والرخاء والسلام بين الدول الأكثر فقراً، ولكن الأمر انقلب برمته بعد تزايد الشكاوى التي جاءت من قبل البلدان النامية فتمكنت من السيطرة على هذه المنظمة من خلال تأثيرها العادل بل المتطرف لحد ما في استثمار نقدها وإيراداتها وصادراتها في دول العالم الثالث عبر هذا الجسر (3).

الرابع : شركات متعددة الجنسية Multinational Companies

الشركات متعددة الجنسيات تلعب دوراً رئيساً في دعم العولمة وتحويل الدول

ص: 116


1- يراجع في تفاصيل البنك الدولي والقوانين التي يعمل بها: السيد، عاطف. العولمة في ميزان الفكر - دراسة تحليلية، الاسكندرية، مطبعة الانتصار، ص 19-20.
2- خان، دوست محمد. گلوبائزیشن: تعارف، محرکات اور مقاصد Globalization: Introduction، Causes and Objectives ، مجلة الإيضاح، مجلة فصلية، العدد 25، 2012م /1434ه-، مركز الشيخ زايد الإسلامي، ص 20.
3- گلوبائزیشن: تعارف، محرکات اور مقاصد Globalization: Introduction، Causes and Objectives، ص 21-20.

والدويلات نحو العولمة لتصير بطريقة أو أخراها معولمة. إن الكثير من البلدان الأوروبية تنتهز تلك الشركات وتؤثر بالبلدان الأخرى التي تخطط السيطرةَ عليها وتهميش ثقافتها وإماتة حضارتها. ومما يجب التنبه إليه هو أن من مرتكزات تلك الشركات متعدية الجنسية أنها لها دور ثري في مفاصل الحياة الاقتصادية في المجال الصناعي والتجاري والمالي (1).

من أسمى الغايات لدى الاستعمار الجديد هو محاولة السيطرة الجائرة على العالم أجمع من خلال استعمال الشركات متعددة الجنسية، والهيمنة الكلية على الدول النامية الخارجة عن نطاق سيطرة الاستعمار القيام بالتدخلات في دساتير تلك البلدان ولاسيما ما يختص بتجارتها بغية إخضاعها المتكامل.

مستخلص القول

إنما الخير هو الاستعمار الجديد، وكان ذلك حلماً لكل إنسان قبل أن يستيقظ من نومه، وعندما خرج من حالة سبات كان فيها، واستعاد نشاطه بعد فترة جمود أدرك أن ما رآه في المنام لم يكن إلا من أضغاث أحلام، والواقع الذي كان ينتظره هو كالآتي:

لا يحمل هذا الاستعمار الجديد بين ثناياه إلا ما يؤدي إلى قطع صلات البلدان من العقائد والثقافات والجنسيات وربط حبالها بالنظام الاقتصادي العالمي المسيطر.

افتقاد التوازن في رؤوس الأموال والسلة السياسية وحقوق الأفراد وحرياتهم، والقضاء على شخصية الفرد من خلال تحبيسه في نظام الشيوعية والاشتراكية والناشية.

فوات الوظيفة الاجتماعية والتربوية للمال، ومراهنة العالم للتجارة الربوية الجائرة من خلال تحقيق احتكار رأس المال.

فوات الرقابة على الحكام، أعطى الإسلام تصوراً أخوياً وودياً لأبناء الأمة جمعاء،

ص: 117


1- عبد العزيز (أحمد)، زكريا (جاسم)، الطحان (فراس عبد الجليل). الشركات المتعددة الجنسيات وأثرها على الدول النامية، مجلة الإدارة والاقتصاد، العدد الخامس والثمانون/2010م، ص 119.

ونصحهم بأنَّ بعضهم مرآة بعضهم الآخر حيث يكف عنه ضَيْعَتَه، وأحكم القرآن الكريم هذا الأمر بل عمّمه لحد ما قائلاً: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرُ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ﴾ (1) وأيضا قال: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ﴾ (2) وفي كلتا الآيتين نتبين أن هناك أمران هامان، أحدهما: المناصحة، والآخر: الوسطية بين الدنيا والآخرة، بين المعتقد المادي والمعنوي، لأن سوابق هاتين الآيتين مرتبطة بالنجاح والتوحيد، والفلاح والإيمان. وهذا العنصر الذى يجعل قلب الإنسان التائه في صحراوات الدنيا ينتعش بنشوة ذكرى هازم اللذات الموت، ويستعد للآخرة خوفا من العقاب ورجاء للعفو.

فلا يسلط الإنسان نفسه على الآخر كما سلطت أوروبا المسيحية طبيعتها الدينية المحرفة، أو الطبيعة العلمانية التي عرفتها أوروبا في العصور الحديثة.

هل يعقل اليوم أن ما يراه العالم كله أنه ظالم أو جائر فيستطيع القيام بسقوط طاعته، أو سقوط نصرة المنحرف أو المضلل، فالاستعمار الجديد لا يسمح بهذه الرقابة العادلة السمحاء.

دعا الإسلام إلى تعارف الحضارات وتضافرها وتلاقيها وتلاقحها وتداخلها، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (3) والأفضلية في الإسلام تكون للحضارة الأخلاقية، نبذ الإسلام الحضارة التي تخاطب غرائز الإنسان وشهواته. فدعا إلى التقوى وجعلها معيار الخير، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (4) فلا فضل لأبيض على أسود، ولا لعربي على عجمي إلا بالتقوى.

فلم يسمح الإسلام بالتفرقة العنصرية، أما الدولة العائشة تحت الاستعمار الجديد التي تتغنى بالديمقراطية فإنها ما زالت تمارس تلك العنصرية، والقومية القائمة على

ص: 118


1- آل عمران، الآية: 114.
2- آل عمران، الآية: 110.
3- الحجرات، الآية: 13.
4- الحجرات، الآية: 13.

السود والبيض، وهذا الاستعمار الناجم عن النظرة المتضايقة لليهود فإن لديهم نظرة خاصة واعتبار خاص يستندون إليه قائلين: «نحن شعب الله المختار أي أبناؤه وأحباؤه » (1) . إنهم ينظرون لأنفسهم على أنهم شعب مع أن الإنسان مكرم في الإسلام بغض النظر عن قومه ووطنه وجنسه حيث قال تعالى : ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (2) .

يدعو الإسلام إلى القيام بالتوازن بين الحضارتين؛ الإيمانية والمادية، وبذلك يمنع من الرهبانية، «فليس في الإسلام شعب مختار، ولا عرق متميز فلا يعرف الإسلام فاشيّة أو نازيّة، ولا يعترف إلا بالإنسان من حيث هو مخلوق مكرّم، ولا ينظر إلى هذه التفرقة الغربية بين الجنس الآري، والجنس السامي فكل الناس لآدم، وآدم من تراب» (3) . ومن ثم إن الإسلام ينظر نظرة جميلة إلى البشرية بصفتها أسرة موحدة متكاملة مكونة من لحمة واحدة وآصرة مشتركة، أما التعدد والتنوع بين القبائل والأمم إنما غايته التعارف والتعاون، لا التنابذ والتخاصم.

وهاتان الحضارتان؛ الإيمانية والمادية يعني الجمع بين التقدم التقني من جهة، والتقدم المعنوي من جهة أخرى، وهذه هي الوسطية التي تجعل هذين الجانبين يتعاضدان، ولا يتعارضان مصداقاً لقوله عز وجل: (وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (4) .

فالنظرة الضيقة للاستعمار الجديد تجعل الناس مقيدين بالتقسيم المظلم؛ السادة والعبيد، فها هو بولس يقول في رسالته إلى أهل غلاطية: «لكن ماذا يقول الكتاب. اطرد الجارية وابنها؛ لأنه لا يرث ابن الجارية مع ابن الحرة. إذا أيها الإخوة لسنا أولاد جارية بل أولاد الحرة» (5) .

ص: 119


1- تفسير التحرير والتنوير، ج 3، ص 155-157.
2- الإسراء، الآية: 70.
3- الحوار بين الديانات الثلاث في عصر العولمة، ص 244.
4- البقرة، الآية: 143.
5- الهندى، علاء الدين على المتقى بن حسام الدين البرهان. كنز العمال فى سنن الأقوال والأفعال، ضبط وفسر غریبه: بکری حیانی، صححه ووضع فهارسه ومفتاحه: صفوة السقا، مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة الخامسة، 1405ه-/1985م ، ج 12، ص 661-660، الرقم 36010.

هناك كثير من الدول التي طحنتها رحى الاستعمار ولا تزال تطحنها، فمنها:

استعمار فرنسا سيطر على البلدان الآتية: تونس، ومراكش، والجزائر، والسنغال، ومدغشقر، وسورية، ومصر، وبلاد الشام، وشمال إفريقيا، والهند، والصين (شركة الهند الفرنسية).

استعمار بريطانيا سيطر على البلدان الآتية: بلاد البنغال، والبنجاب، ونيجيريا، والسودان، والعراق، والأردن، وفلسطين، والهند، والصين (شركة الهند البريطانية)، وباكستان.

استعمار البرتغاليين سيطر على المناطق الآتية: شواطئ شرق إفريقيا، وغربها، وشواطئ الخليج، وفارس، والهند.

استعمار الروس الأرثوذوكس سيطر على البلدان الآتية: المشرق الإسلامي، وطقشند، وبلاد التركستان، والقوقاز، وبخارى، وبلاد الأورال.

استعمار إيطاليا سيطر على المناطق الآتية: الصومال، وأريتريا، والساحل الليبي.

كثيرا من الكتلات الاستعمارية ظهرت بين الحين والآخر، فصارت دبيبة الأرض فأخذت تأكلها كما تأكل النار الخشب، قضية فلسطين هي من القضايا الساخنة التي استعمرتها بريطانيا ثم جعلت العصابات اليهودية في شكل إسرائيل أن تتدخل في أرضها وتحتلها، بالإضافة إلى جزيرة زنجبار المسلمة التي أمضت اليوم من تنزانيا النصرانية.

كلما يسمع الإنسان العادي قليلاً كان أو كثيراً عن الاستعمار الجديد يتبادر إلى ذهنه ما هو أقبح صورة وأشنعها، وهي أنه هو القوة التي يفتت، ويشرذم، ويفكك، ويقوض، ويظلم، ويقهر، ويجبر، ويسيء، ويسلط، ويستكبر، ويخدع، ويغش، ويخون، ويجيز ما هو محرم، ويحرم ما هو جائز، وكل ذلك وفق ما تتقاضى مصلحته دون مصالح العامة أو الخاصة في العالم.

ص: 120

الخاتمة

عُرفَ مما تقدم أن الاستعمار أصلاً أنشيء لتعزيز العالم بالقوة المادية والمعنوية من خلال إحداث التبادل الفكري والتناقل الشعوري بين الأفراد والأسر والعائلات والمواطنين والدول منطلقاً من العامل الأساسي وهو الاحتفاظ بالحكمة حيث وجدت، ولكن الأحداث التي حدثت بشكل أو بآخر في الدول الهزيلة البُنَى إنها كشفت عما استنزف ثرواتها بل تخطيط طويل ولا زال مستمراً في بعض البلاد لإخضاعها إخضاعاً مضللاً. وأمثل على ذلك بمأزق جريمة زينب بباكستان حيث اغتصبها أحد السفاحين، ثم اعتدى عليها فقتلها، هذه الحادثة أحدثت رجة كبرى في البلد، فبدأ الإعلام ينادي بكبح جماح الاعتداء على الأطفال عبر تنقيح المناهج في الروضة بغية تثقيف الأطفال حول التعامل مع الغرباء، ليتثقفوا قبل بلوغهم الفطري سن الرشد بالجنس وملماته.

والحقيقة عكس هذا أو ذاك، فكأن الاستعمار يخطط وأد مولود في منشئِه قبل أن يكبر ويتمكن من استعادة ما كان قبلُ من إرث آبائه وأجداده، فكأنّه أراد أن يحدد منشأ الفتن والفوضى، وهو العقل الطاهر المعصوم.

نظراً لذلك ينبغي أن يتم إدراج المعلومات الصحيحة عن الاستعمار بشكل عام، والاستعمار الجديد بشكل لصيق في المناهج بالإضافة إلى عرضها عرضاً نقدياً يبلور إيجابياتها وسلبياتها على ضوء تعليمات الدين الإسلامي.

ص: 121

دور الحرب الناعمة في مخططات الغرب في استعمار العالم الإسلامي

جاسم يونس الحريري

جاسم يونس الحريري (1)

تنوعت أساليب مخططات الغرب في استعمار العالم الإسلامي تحت غطاء التمدن، وزرع الديمقراطية فيه، إلا أن حقيقة الأهداف الغربية هو إطباق الهيمنة عليه، ومن ضمن هذه الأساليب شن (الحرب الناعمة) على الدول الإسلامية، لفك عرى الهوية الإسلامية، وتفتيت الوحدة الداخلية، وإشاعة نوع من التبعية للدول الغربية التي تمارس الحرب الناعمة تجاهها من خلال تفكيك قناعات الجمهور، وزرع قناعات، وثقافات للدول الأخرى التي تريد أن تدور شعوبها في فلك تلك الدول الغربية من دون استخدام القوة العسكرية. ودخلت وسائل التواصل الاجتماعي في شبكة الانترنيت كأحد الوسائل التي استخدمتها الحرب الناعمة في اختراق الدول الإسلامية لإشاعة الانحلال الخلقي، ونبذ القيم الإسلامية، ونشر القيم الغربية التي تناصب الدين الإسلامي العداء لتهديمه من الداخل، وهكذا أصبحنا نعيش حرب غير معلنة بصورة سرية لاستهداف شرائح محددة من المجتمعات الإسلاميّة لغسل أدمغتها، وضخ القيم الغربية التي لاتتلائم مع التقاليد الإسلاميّة منها: ترك الشاب، والمراهقة للعائلة في سن البلوغ، وإشاعة العلاقات الجنسية غير الشرعية بين المحارم، وبين

ص: 122


1- بروفسور العلوم السياسية والعلاقات الدولية والاستراتيجية - العراق.

النساء المتزوجات مع الرجال من خلال المسلسلات الغربية التي تشجع على نشر الإباحية، وخاصة بين الفئات الصغيرة من المراهقين، والمراهقات، وجعل وسائل التواصل الاجتماعي هي المتنفس الوحيد لهم دون رقيب، وجذبهم إليها عبر إرسال بعض المنشورات المغرية ذات الطبيعة الجنسية كمرحلة أولى، ثم تتطور إلى مرحلة أخرى وهي تشجيع الجميع إلى دفع اشتراك في مواقع (YouTube) والمواقع الخلاعية لغرض ربط الرغبات الجنسية ومدى امتلاك المستفيدين منها للمال للاشتراك في تلك المواقع حتى يدمن عليها، وفي حالة عدم تمكنه من الاشتراك بسبب ضعف حالته الاقتصادية سوف يلجأ إلى الطرق غير الشرعية للحصول على المال عبر ممارسة السرقة والجريمة المنظمة، مما ينتج نشر الاجرام المقنن في المجتمعات الإسلامية، لابل إن تلك المؤثرات تدفع ببعض الشباب إلى ممارسة الرذيلة حتى مع محارمه لكي يطبق ما شاهده في تلك القنوات، وهناك ستظهر المشاكل الاجتماعية، وحالات القتل لغسل العار في زنا المحارم، أو المشاكل الاجتماعية داخل المناطق السكنية التي يتواجد فيها الشباب، وإمكانية ملاحقته من قبل عوائل ضحايا الممارسات الجنسية لقتله، مما يؤدي إلى نشر العداوات، والبغيضة بين أفراد المجتمعات الإسلاميّة لجعله منهكا، وتحجيمه من مجابهة المشروع الاستعماري الجديد في المنطقة عبر الحرب الناعمة.

إن كل تلك التداعيات تدعمها محاولات الغرب لفرض سيطرته السياسية، والثقافية على العالم الإسلامي ولنا أن نستشهد بأحد المفكرين الغرب هو ((الفريد كانثول سميث)) عندما يقول ((إن الغرب يوجه كل أسلحته الحربية العلمية، والفكرية، والاجتماعية، والاقتصادية إلى العالم الإسلامي بغرض إذلاله، وتحقيره، وإشعاره بالضآلة، والخنوع)) (1) .

لابل أن بعض المسؤولين الأوروبيين كشف عن مخططات الغرب لاستهداف الإسلام بشكل صريح وهذا ما قاله (جیان دیمیکلیس) رئيس المجلس الوزاري

ص: 123


1- أنور الجندي، الاستعمار والاسلام، (القاهرة، دار الانصار، بدون تأريخ نشر)، ص8.

الأوروبي في مطلع التسعينيات من القرن الماضي في حديث إلى مجلة (النيوزويك) بعد أن سئل ((ما مبررات بقاء حلف الأطلنطي - الناتو - بعد زوال المواجهة بين الغرب الليبرالي، والمعسكر الذي كان إشتراكياً؟)) فأجاب بقوله ((صحيح أن المواجهة مع الشيوعية لم تعد قائمة، إلا أن ثمة مواجهة أخرى يمكن أن يحل محلها بين العالم الغربي والعالم الإسلامي)) فلما عاد مراسل (النيوزويك) ليسأل ((وكيف يمكن تجنب تلك المواجهة المحتملة؟)) قال (جيان ديميكليس) ((ينبغي أن تحل أوروبا مشاكلها ليصبح النموذج الغربي أكثر جاذبية، وقبولاً من جانب الآخرين في مختلف أنحاء العالم وإذا فشلنا في تعميم ذلك النموذج الغربي، فأن العالم سيصبح مكانا في منتهى الخطورة)) (1).

وتحاول هذه الدراسة الإجابة عن التساؤلات التالية: ماهي أسباب ودوافع اللجوء إلى الحرب الناعمة ؟ وماهي آليات الحرب الناعمة؟ وماهي سبل مواجهة الحرب الناعمة ؟

1 - تأصيل نظري للحرب الناعمة

أ-الأصل اللغوي والمفاهيمي لمصطلح الحرب الناعمة:

تعني القوة الناعمة ((أن يكون للدولة قوة روحية، ومعنوية من خلال ماتجسده من أفكار، ومبادىء، وأخلاق، ومن خلال الدعم في مجالات حقوق الإنسان، والبنية التحتية، والثقافة، والفن، مما يؤدي بالآخرين إلى إحترام هذا الأسلوب، والإعجاب به، وإتباع مصادره)) (2) .

ويعتبر جوزيف ناي (3) هو مخترع مفهوم (القوة الناعمة) التي تستخدم في الحرب الناعمة والذي يعني به ((سلاح مؤثر، يحقق الأهداف عن طريق الجاذبية بدلاً من

ص: 124


1- د. عبد العزيز بن عثمان التويجري، العالم الإسلامي والغرب: التحديات والمستقبل، (المغرب، منشورات المنظمة الإسلاميّة للتربية والعلوم والثقافة (أيسيسكو)،2007)، ص20.
2- القوة الناعمة، الموسوعة الحرة (ويكيبديا).
3- عمل جوزيف ناي باحثا، ومتخصصا في الشؤون العسكرية، ووكيل وزير الدفاع الأمريكي الاسبق.

الإرغام، أو دفع الأموال)) (1) ، ويستشهد ناي ببعض التصريحات الأميركية لإثبات صحة مفهومه وفي هذا يقول (كولن باول) وزير الخارجية الأميركي الأسبق ((لا أستطيع أن أفكر في رصيد لبلدنا أثمن من صداقة قادة عالم المستقبل الذين تلقوا تعليمهم هنا ذلك أن الطلبة الدوليين يعودون إلى أوطانهم في العادة بتقديم أكبر للقيم، والمؤسسات الأميركية))، ومن جانب أخر يقول تقرير لمجموعة تعليمية دولية ((أن ملايين الناس الذين درسوا في الولايات المتحدة على مدى سنوات يشكلون خزانا رائعاً للنوايا الحسنة تجاه بلدنا، وكثير من هؤلاء الطلبة السابقين ينتهي بهم الأمر إلى احتلال مراكز يستطيعون من خلالها التأثير على نتائج السياسة التي هي مهمة للأميركيين)) (2).

ومن جانب آخر يقول الجنرال (ويسلي) عند حديثه عن القوة الناعمة أن ((القوة الناعمة قد أعطتنا تأثيراً أبعد بكثير من الحافة الصلبة لسياسات ميزان القوى التقليدية)) (3).

ويستعرض جوزيف ناي التطور التأريخي لمفهوم (القوة الناعمة) وعلاقتها (بالحرب الناعمة)، حيث يقول ((قمنا بتطوير مفهوم القوة الناعمة لأول مرة في كتابي (ملزمون بالقيادة) الذي نشرته عام 1990 والذي عارض الرأي السائد عندئذ والقائل بأن أميركا أخذة في الانحدار، فأشرت إلى أن أميركا هي أقوى أمة ليس في القوة العسكرية، والاقتصادية فحسب، بل كذلك في بعد ثالث أسميته القوة الناعمة، وعدت إلى القوة الناعمة في عام 2001، بينما كنت أؤلف كتابي (مغادرة القوة الأميركية) فكتبت عن القوة الناعمة دزينة من الصفحات)) (4).

وأخيراً يقول ناي عن القوة الناعمة أنها ((عنصر ثابت في السياسة الديمقراطية، فالقدرة على ترسيخ التفضيلات يمثل إلى الارتباط مع الموجودات غير الملموسة

ص: 125


1- جوزيف س. ناي، القوة الناعمة وسيلة النجاح في السياسة الدولية، عبد العزيز عبد الرحمن الثنيان (تقديم)، ترجمة توفيق البيجرمي (الرياض، مكتبة العبيكان، 2007)، ص7.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه، ص 13.
4- المصدر نفسه.

مثل الشخصية الجذابة، والثقافة، والمؤسسات، والقيم السياسية، والسياسات التي يراها الآخرون من فروعه، أو ذات سلطة معنوية أخلاقية، فإذا كان القائد يمثل فيما يريد الآخرون إتباعها فستكون القيادة أقل كلفة)) (1) .

ب- العلاقة بين الحرب الناعمة والمفاهيم الأخرى:

يرى ناي أن ((القوة الناعمة ليست شبيهة (بالتأثير) فقط، إذ إن التأثير قد يرتكز على القوة الصلبة للتهديدات، والرشاوي كما أن القوة الناعمة أكثر من مجرد (الإقناع)، أو القدرة على استمالة الناس بالحجة، ولو أن ذلك جزء منها، بل هي أيضا القدرة على الجذب، والجذب كثيرا ما يؤدي إلى الإذعان))(2).

وللحرب الناعمة لها علاقة بمفاهيم (الحرب النفسية) و(الدعاية) حيث تعرف الحرب النفسية وفق ((الموسوعة العسكرية للحرب النفسية)) بالقول ((هي مجموعة من الاعمال التي تستهدف التأثير على أفراد العدو بما في ذلك القادة السياسيين، والافراد غير المقاتلين بهدف خدمة غرض هذا النوع من الحرب))، في حين يعرف الباحث ((الدكتور فخري الدباغ)) الحرب النفسية بمفهومه الموسع بأنها ((شن هجوم، مبرمج على نفسية، وعقل العدو سواء كان فرداً، أو جماعةً لغرض إحداث التفكك، والوهن ، والارتباك فيهما، وجعلهما فريسة مخططات، وأهداف الجهة صاحبة العلاقة، مما يمهد للسيطرة عليها، وتوجيهها إلى الوجهة المقصودة ضد مصلحتها الحقيقية، أو ضد قطاعاتها، وأمالها في التنمية، أو الاستقلال، أو الحياد، أو الرفض)).

أما أساليب، وتكتيكات الحرب النفسية المعروفة تاريخيا فنورد أمثلة عليها: (3)

أ- الدعاية ضد معتقدات الخصم.

ب- الإشاعة.

ص: 126


1- المصدر نفسه ص 25-26.
2- ماهي الحرب الناعمة مواردها/مفهومها، موسوعة المعارف، ورد على الموقع التالي: .https://www.almaaref.org/books/contentsimages/books/nadawat_fekriya/al_harb_al_naema/page/lesson1.htm
3- المصدر نفسه.

ج- بث الرعب.

د- الخداع.

ه- افتعال الازمات.

و- إثارة القلق

ز- إبراز التفوق المادي، والتقني، والعسكري.

ح- التقليل من قوة الخصم والعدو.

ط- التهديد والوعيد.

ي- الإغراء والإغواء والمناورات.

ك- الاستفادة من التناقضات والخلافات.

ل- الضغوطات الاقتصادية.

م- إثارة مشاعر الأقليات القومية والدينية.

ن- الاغتيالات.

س- تسريب معلومات عسكرية واقعية، وسياسية حساسة عن العدو في الصحافة.

ع- الإفصاح عن إمتلاك نوعية خاصة من الأسلحة الفتاكة.

في حين تعتمد الحرب الناعمة على نفس الاهداف مع أختلاف التكتيكات التي أصبحت تكتيكات ناعمة، فبدلاً من تكتيكات التهديد تعتمد الحرب الناعمة على الجذب، والإغواء عبر لعب دور المصلح، والمنقذ، وتقديم النموذج الثقافي، والسياسي، وزرع الأمل بأن الخلاص في يد أميركا المانحة لحقوق الإنسان، والديمقراطية، وحريات التعبير، وما شاكل من عناوين مضللة للعقول ومدغدغة

ص: 127

للأحلام، وملامسة للمشاعر، وبدلاً من استعراض الصواريخ، أو بث الرعب عبر الإذاعات، والمنشورات للفتك بإرادة العدو يتم إرسال أشرطة الفيديو، أو الأقراص الممغنطة أو صفحات (facebook) للشباب، والأطفال، والنساء، والرجال كل حسب رغباته، ومعقولاته.

وبناء على التعاريف المذكورة لا تعد الحرب الناعمة منهجاً جديداً في مناهج الحرب النفسية بل هي نتاج تطور كمي، ونوعي في وسائل، ووسائط الاتصال مع الإعلام، وهي إفراز طبيعي، وحتمي للجيل الرابع من وسائط تكنولوجيا الاتصال، والإعلام كما يرى أغلب خبراء الإعلام، والمعلومات.

وفي التقييم، والتشخيص نستنتج بعد المقارنة، والمطابقة بين الحرب النفسية، والحرب الناعمة أنهما يسيران على خط سكة في الأهداف، ويتعاكسان في الوسائل، والأساليب، فيتفقان، ويشتركان في الهدف لجهة قصد تطويع إرادة الدول، والنظم، والشعوب، والجيوش، والرأي العام، والمنظمات، والجماعات، ولكنهما يختلفان، ويتنافسان في الوسائل، والأساليب، ويختلفان في نوعية الأساليب، بسبب درجة انتشار الأدوات الإعلامية، والاتصالية لدى الرأي العام، فالحرب الناعمة دخلت إلى كل البيوت على مدار الساعة يومياً من خلال شاشات التلفاز، والانترنت، والهواتف الخلوية في ظل عولمة إعلامية، وثقافية، ومعلوماتية فورية، ومفتوحة، ومتفاعلة، ومترابطة بشكل لاسابق له، في حين كانت الحرب النفسية تنطلق بشكل أساسي نحو الجيوش، والحكومات التي كانت تمتلك، وتسيطر بصورة شبه احتكارية على وسائل الاتصال، والإعلام التقليدية (الإذاعات، الصحف، الشاشات) التي كانت محدودة العدد، والانتشار، نظراً لكلفتها الاقتصادية، فمعركة الحرب الناعمة تبدأ أولاً، والرأي العام تمهيدا للانقضاض على النظام المعادي، في حين تبدأ الحرب النفسية بمهاجمة الدولة، وجيشها، ومؤسساتها العامة، أي تبدأ المعركة ضد النخبة السياسية، والفكرية أولا، ومن ثم تنتقل لأجل ضرب الرأي العام المعادي لفك ارتباطه، وولائه، ولحمته مع الدولة، والنظام المستهدف، فكل ماهو من الإرغام، والضغط بوسائل أكثر صلابة

ص: 128

دون أن تصل لمستوى الوسائل العسكرية هو من الحرب النفسية (خطابات عالية النبرة، وتهديدات، وعروض عسكرية، وشائعات، واغتيالات، وحرب جواسيس)، وكل ما هو من جنس الاستمالة، والجذب، والإغواء الفكري، والنفسي بوسائل أكثر نعومة (أفلام، وأقراص ممغنطة، وصفحات facebook ومسلسلات وsms) يدخل في تعريف الحرب الناعمة (1).

ج-التطور التاريخي لاستعمال الحرب الناعمة:

كانت السياسة الأميركية في النصف الثاني من القرن الماضي وبنتيجة التوازن الدولي الناشيء عن أنقسام العالم إلى قطبين شرقي أو اشتراكي بزعامة الاتحاد السوفياتي، وغربي أو رأسمالي بزعامة الولايات المتحدة الامريكية نأت عن خوض الحروب بشكل مباشر، لاسيما بعد إنتهاء الحرب الفيتنامية، ولجأت إلى الحروب غير المباشرة، أو الحروب بالوكالة على غرار دعمها لحروب (إسرائيل) ودعمها الموارب للحرب العراقية - الايرانية (1980-1988)، وفي التسعينات من القرن المنصرم حافظت الولايات المتحدة الأميركية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وهيمنتها كقطب أوحد في العالم، على عدم خوض الحروب المباشرة خصوصاً أنها لم تعد بحاجة إلى ذلك بسبب نقد عوامل امتلاك القوة للدول من العامل العسكري إلى العاملين الاقتصادي، والتقني، بسبب انفتاح مسارات العولمة التي تمتلك الولايات المتحدة الأميركية الحيز الاكبر من وسائلها، ويحكم ماتتمتع به من جبروت في المجال العسكري، والاقتصادي، والتقني ولأن العالم بات أكثر طواعية لإملاءاتها، هكذا انتهجت الولايات المتحدة الأميركية في عهد الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون سياسة (القوة الناعمة) لفرض سياساتها، وتمرير المصالح، والأولويات، والقيم الأميركية بالوسائل الدبلوماسية، والتشجيع الاقتصادي وعلاقات الاعتماد، والمتبادلة، والضغوط السياسية (2).

ص: 129


1- المصدر نفسه.
2- المهندس محمد حمدان، الحرب الناعمة، (بيروت، دار الولاء للطباعة والنشر والتوزيع، 2010)، ص 13-17.

2 - أسباب ودوافع اللجوء إلى الحرب الناعمة

تفضل القوى الكبرى استخدام الحرب الناعمة للأسباب التالية (1):

1. أسباب اقتصادية:

نظرا لما تعانيه هذه الدول من مشاكل اقتصادية، فضلاً عن هيمنة العامل الاقتصادي على قرارات الحرب.

.2. أسباب استراتيجية:

تتعلق بحسابات الأمد البعيد، وتغيرات اللعبة السياسية، وموازين القوى، والتأرجح الحاصل بين مد وجزر في العلاقات الدولية.

3. أسباب استثمارية:

نظرة الدول الكبرى إلى إمكانية السيطرة بدون إلحاق الخسائر بالطرف الآخر، ومسك مقدراته بدون تكلفة إعادة الإعمار.

وهناك أسباب أخرى تحددها الدراسات الأكاديمية لاستخدام الحرب الناعمة من خلال توظيف الحرب النفسية تجاه الدولة المستهدفة وهي كما يأتي(2):

1. تجاهل نقاط القوة وإظهار نقاط الضعف لدى الدولة المستهدفة:

تعمل القوى الكبرى إلى تغافل ثقافة الدول المستهدفة، وتأريخها، وتعظيم نقاط الضعف عندها، والتركيز عليها، وتكبيرها، لابل اختراعها، والعمل عليها، وتعمل الدول التي تستخدم القوة الناعمة على إقناع الدولة المستهدفة بأنها ضعيفة من خلال وسائل الاتصال، والنخب، ومراكز الدراسات، والجامعات، وإقناع الدولة المستهدفة بأن ليس لها خيارات سوى الخضوع، واللجوء إلى الدولة القوية، والقبول بأرادتها،

ص: 130


1- المصدر نفسه، ص 13.
2- المصدر نفسه، ص34-40.

والعمل على إغفال كل نقاط القوة عند الدولة المستهدفة لكي تنساها بالرغم من أن الدولة المستهدفة لاتخلو من الكم، والنوع، والعقول، والنوابغ، والقدرات الطبيعية، والجانب الروحي، والمعنوي، والإرث الثقافي، والتاريخ الحضاري التي هي من عناصر قوتها، وتلجأ الدولة المستخدمة للقوة الناعمة اختراع نقاط ضعف عند الدولة المستهدفة، أو الإتيان بنقاط ضعف حقيقية، ويسلط الضوء عليها إلى حد أن النظر إلى الفضائيات، أو السماع لأحد النخب يحبط.

2. إثارة الاختلافات العرقية والدينية والثقافية:

تعمل الدولة التي تلجأ إلى القوة الناعمة تسليط الضوء على تلك الاختلافات، وأحيانا تعمل الدولة صاحبة القوة الناعمة إلى إعطاء الصراع السياسي في الدولة المستهدفة طابعاً مذهبياً، أو طائفياً، أو عرقياً، لتتسع دائرته، أو اختراع، وإيجاد خلافات.

3. إقناع الدولة المستهدفة بأنها شعوب متخلفة وجاهلة:

الدول التي تلجأ إلى القوة الناعمة تعمل إلى إقناع الدول المستهدفة بأنها شعوب قاصرة، ومتخلفة، وجاهلة، ولا تقدر على حل مشاكلها الفعلية، والسياسية، وتساهم في ذلك النخب السياسية، والثقافية، والإعلامية، والاقتصادية لتنخرط في أتون الحرب الناعمة.

4. إيجاد الشك والتردد والارتباك في الدول المستهدفة:

تعمل الدولة صاحبة القوة الناعمة على إيجاد الشك، والتردد في الدولة المستهدفة على ثلاث مستويات وهي كما يأتي:

أ- الشك في الأفكار والتصورات:

تعمل الدول التي تستخدم القوة الناعمة على إدخال الشك في المعتقدات، عبر أناس، ومثقفين يناقشون هذا الأمر، فعلى سبيل المثال يناقشون نقطة قوة العرب

ص: 131

الذين يقاتلون وفق التكليف الشرعي، وليس فقط من أجل عزة الدنيا بل من أجل مقام الشهداء وما أعد لهم فيشككون بالجنة، ومقام الشهداء، ويسخفونه عبر الكاريكتير، والأفلام، والحديث الأكاديمي، وهدف ذلك ضرب البنية الفكرية كما يقابلون الحديث عن تحمل المسؤوليات بدعوة الشباب للذهاب للرقص، والشرب، وأنهم لازالوا غير مؤهلين لتحمل المسؤولية، وفي نهاية المطاف يعتبرون كل عناصر القوة التي تحرر البلد، وترفع رأسه بين رؤوس العالم يضع ثقافة موت، والضعف يصبح ثقافة حياة وفق وجهة نظرهم.

ب- الشك في الخيارات وهل مجدية أم لا:

أيضاً يتساءلون من جدوى المقاومة، والاحتفاظ بسلاحها هل ذلك يخدم الهدف يجري نقاش ذلك كل يوم، لقد خصصوا في السنوات الأخيرة حديثاً يومياً عن سلاح المقاومة من قبل المرتزقة، والمدفوعين لهم الأموال، فوفق نظرهم أن الحديث عن المقاومة، والدفاع، وإلحاق الأذى بالعدو، وإفشاله، وإيجاد التوازن معه، يعتبر عيباً، أيضاً يضعون الأسئلة هل أنت إسلامي، أو وطني، فعندما تقول لهم نحن كل ذلك، ولا تنافي بينهما، فيقولون لك لا عليك حسم خيارك، وهذا يعاد كل يوم، ويجاب عنه، حيث أصبح إبداء الإهتمام بالأمة نقطة ضعف، وعيب في وطنيتك. إنهم يريدون أن يخرجوننا من انتمائنا العقائدي، والفكري.

ج- الشك في حركات المقاومة: قياداتها، وتنظيمها، وكوادرها:

إن هذه الحالة تعمل على التشكيك بقيادات المقاومة التي تؤمنون بها، وتروج الدول التي تستخدم الحرب الناعمة أن قيادات المقاومة غير صادقة، وهي فاسدة، وتنقاد نحو شهواتها، والمهم أن يبدأ النقاش حول أطر، وقيادات المقاومة، وأن تصبح في دائرة الاتهام، ومن جملة الأساليب أيضاً نشر الأكاذيب بالقول أنه یوجد صراع أجنحة، وتيارات، ويكتبون عن ذلك لإبعاد الجمهور عن قيادات المقاومة، بحجة أن الناس مع المقاومة، ولكن لا يوجد لها قيادة.

ص: 132

3 - آليات الحرب الناعمة

1. الإعلام:

أصبح لوسائل الإعلام في عصر المعلومات الذي نعيشه اليوم، وفي ظل تكنولوجيا الاتصال تأثيرات قوية على المجتمعات، وأصبح لها دور بارز لايمكن إنكاره في قيادة المجتمع، والتأثير على أفراده (1) .

وتعمل وسائل الإعلام للدول التي توظف الحرب الناعمة تجاه غيرها من الدول المستهدفة لتعميق حالة الإحساس بالقلق، والخوف من الأزمات القادمة التي تحيط بها من خلال المتغيرات التالية: (2) .

أ- الرؤى السيكولوجية والنفسية:

هذه الرؤى لها ارتباط بمشاعر، ومدركات الأفراد تجاه القضايا العامة، والأحداث المثيرة للجدل، والقلق في المجتمعات المختلفة، وذلك في علاقتها بوسائل الإعلام، وتلعب هذه الوسائل (وسائل الإعلام المختلفة) بأن تعبر عن نفسها بشكل جيد جداً، ومفهوم للغاية لكل من المشاهد/ القارىء، أو المستمع، فالأفراد العاديون عادة لا يجيدون فهم البيانات الكمية، والإحصاءات بقدر ما يجيدون فهم الجُمل، والعبارات الكيفية، الإنشائية، وهو ما برعت فيه مضامين وسائل الإعلام، حيث تعمل الأخيرة كخادم أمين لكل ما يثير الإحساس، والعاطفة حتى لدى تقديم الأحداث العادية مذكرة بالأخلاقي، والمثالي من التصرفات.

ب- إخراج الخوف من نطاقه الخاص إلى نطاقه العام:

وهذه الحالة تتم عبر وسائل الإعلام التي تتبع أنماطاً، وممارسات، شائعة في

ص: 133


1- أ. م. د. نوار جليل هاشم، أدوات القوة الأميركية في التعامل مع القوى الصاعدة (الصين أنموذجا)، مجلة أبحاث أستراتيجية، العدد 15، (بغداد، مركز بلادي للدراسات والأبحاث الإستراتيجية، أب/أغسطس 2017)، ص 112.
2- الأميرة سماح فرج عبد الفتاح، الإعلام وتشكيل الاحساس بالخطر الجمعي: أزمات المجتمع المصري نموذجا، مجلة المستقبل العربي، العدد 405، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، تشرين الثاني (نوفمبر) 2012)، ص 57-59.

تقديم القصص الأخبارية بأنها تحوي الكثير من القيم الأخبارية الغربية، كالإثارة، والصراع، والتشويق.

وتحدث وسائل الإعلام تغيراً على اللهجة الإعلامية لدى معالجة كل قضية مع إختلاف مراحل هذا التناول الإعلامي عبر الفترات الزمنية المختلفة وما يعنيه ذلك من تأثير في المتلقين بالتبعية، لكن قد تختلف مؤشرات الخطر بين الأفراد التي تروجه الدول التي تستخدم الحرب الناعمة تجاهها بناء على اختلاف مجموعة العوامل المجتمعية المحيطة بهم بشكل عام، ففي الوقت الذي قد يشعر فيه الأفراد بالخطر من وجود نسبة تلوث ما في المياه، قد تعتقد مجتمعات أخرى أن هذا الأمر ليس بدرجة الأهمية نفسها لما تتضمنه البيئة المحيطة بهم من مشكلات أخطر، وأبرز من وجهة نظر هؤلاء الأفراد، وهو ما يجعلهم بالتالي يتهاونون في تقديرهم مشكلة ما قد تعرض عليهم في وسائل الإعلام مقابل التهويل، والتضخيم من حجم مشكلة أخرى.

ج-تحويل الخوف الاجتماعي إلى خوف أمني:

تعمل القوى الكبرى على التلاعب من خلال وسائل الإعلام بالخوف، وعلى استثماره لصالحها كسلطة مقايضة الاجتماعي بالأمني، وبذلك تجعل تلك القوى الدول المستهدفة تنقاد لها للتأثير على حكوماتها لتوثيق العرى مع تلك القوى لتوفير غطاء حماية أمني لها خوفاً من انتشار عدم الاستقرار، وتدهور الوضع الأمني، وتلجأ القوى الكبرى إلى طرح بديل للتعويض عن الخوف الاجتماعي، والأمني عبر التشجيع على مزيد من المبادلات الثقافية، وإحلال القيم الغربية محل القيم العربية والإسلامية لتعميق التبعية الثقافية، والمجتمعية للغرب (1).

وتستخدم القوى الكبرى في الوقت الحاضر الصور في حربها الناعمة ضد العالم العربي، والإسلامي، لأن الصور تتحكم بالأحلام، والأحلام تتحكم بالأحداث، وهذا لأن معظم الناس يتبنون وجهة نظر العالم التي تنم عما يفعلونه على أساس عاطفي

ص: 134


1- أيان موريس، الصراع على القوة الناعمة في الشرق الاوسط، مجلة المستقبل العربي، العدد441، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، تشرين الثاني/نوفمبر 2015)، ص136.

أكثر منه عقلانياً، أنهم يصدقون الأخبار ليس من خلال تأمل الأفكار وموازنتها، وإنما من خلال الصورة التي يشعرون أنهم جزء منها، ويرتبطون بها. يميل الناس إلى الانسياق وراء سرد يعتمد على الصور التي يتماهون معها الصور التي تعكس الكرامة، والتقدير، والمكانة داخل ثقافتهم (1) .

وعليه في الشؤون الدولية لا يلتقط الرأي العام السياسات بشكل منفصل وتحليلي ولكنه يكون استنتاجاته اعتماداً على الصور، ففي حين كان تمثال الحرية رمزاً لأميركا أصبح سجين أبي غريب برأسه المغطى (بالقلنسوة)، في نظر الكثيرين هو الرمز الأميركي الجديد خلال حكم بوش، ولذلك الباحثون الأميركيون في وصف استخدامهم للحرب الناعمة من خلال الإعلام ((في المعركة الكونية لكسب القلوب، والعقول فإن لأميركا اليد العليا مجازيا لأننا كنا نسيطر على تدفق الصور والأيقونات والمعلومات)) (2).

ويشرح الباحثون الأميركيون وسائل أخرى من خلال الإعلام لشن الحرب الناعمة على الدول الإسلاميّة والعربية بالقول ((تعتمد صورة أميركا ليس فقط على هويتنا، ومانفعله، وإنما أيضاً على كيفية تصوير أنفسنا أمام العالم من خلال ثقافتنا الجماهيرية المنتشرة في العالم: أفلام هوليود، الموسيقى الشعبية، أفلام اليوتيوب، والتلفاز، ليس ثمة أمبراطورية في التاريخ بما فيها الرومانية، والبريطانية، والأسبانية، والعثمانية امتلكت القدرة على امتطاء العالم وقولبة الصورة لتعكس أسلوب حياتها إلى الآخرين كما يفعل مجتمعنا الإعلامي - الصناعي، نتيجة لذلك تمتزج بعُرى لا تنفصم هويتنا، وأفعالنا، وطريقة تقديم أنفسنا بقصد أو بدونه في عيون الرأي العام العالمي وعلى القدر نفسه من الأهمية، فإن صورة ذاتنا الجمعية في مواجهة بقية العالم تتشكل بطريقة تصوير أنفسنا في وسائط الإعلام، والأفلام هي في الوقت ذاته عاكسة للتجربة الأميركية وصائغة لها (3) .

ص: 135


1- نيثان غردلز ومايك ميدافون، الإعلام الامريكي بعد العراق حرب القوة الناعمة، ترجمة وتقديم بثينة الناصري، (القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2015)، ص32.
2- المصدر نفسه، ص 34 وص 37.
3- المصدر نفسه، ص 48.

وتعمل أميركا على اجتذاب المهاجرين من مختلف دول العالم عبر الحرب الناعمة من خلال صورة أميركا على أنها أرض الفرص، والإمكانات اللامحدودة الموعودة حيث تسود الحرية الشخصية وحكم القانون وأكبر قوة جذب في أميركا هي أنها دواء جيوثقافي لجماهير التاريخ المعذبة حين يهبط المهاجرون من زوارقهم كي يغادرون مشاكلهم خلفهم، وكذلك التراب، وأرض الأجداد وكل ما يتعلق بها حيث تنتزع من الرمح وتتحول إلى عقار الأحرار وبهذا المعنى يرى الأميركان أن أميركا هي ((عقيدة وليس عرقاً ولاحتى أمة المستقبل وليس الماضي هو الذي يمثل خيال كل إنسان)) وبهذا الشكل يعتبر الأميركان تلك الحالة هي أحد الاسرار المعروفة عن سبب سرعة اندماج المهاجرين المسلمين في الثقافة الأميركية مع حرية ممارسة عقائدهم في حين أنهم في أوروبا يظلون مرتبطين بالمحن التأريخية لأوطانهم الأصلية (1) .

ويصف بعض الباحثين الأميركان استخدام القوة الناعمة من قبل أميركا خلال وسائل بأنها نوع من أنواع ((الاحتلال الترفيهي الأميركي للمخيلة العالمية كاسحا أكثر من اللازم حتى لبعض اولئك المثقفين مع القيم العلمانية، الليبرالية لهوليود مما أثار رد فعل عنيف وكما عبر عنها جوزيف جوف Josef Joffe ناشر المجلة الألمانية دیزایت Zeit بقوله ((مابين فيتنام والعراق اتسع الحضور الثقافي الأميركي فشمل كل أنحاء العالم، وكذلك اتسع العداء لأميركا، أن القوة الناعمة لاتؤدي بالضرورة إلى حب العالم لأميركا، أنها قوة، وبهذه الصيغة فهي تصنع أعدائها)) (2).

وتلجأ الدول الغربية إلى استخدام الإعلام كوسيلة من وسائل الحرب الناعمة من خلال التركيز على الحوادث المأساوية، والسيئة، ووضعها في مستهل نشراته، وعلى صدر صفحاته عملا بالمبدأ الإعلامي السائد ((الأخبار السيئة هي الأخبار الجيدة)) (3) .

وقامت واشنطن بإطلاق (قناة الحرة) الموجهة للجمهور العربي، والممولة من

ص: 136


1- المصدر نفسه، ص 50.
2- المصدر نفسه، ص 55.
3- عزت أبراهيم، دور وسائل الإعلام في تشكيل صورة أمريكا، حلقة نقاشية حول الصورة الدولية للولايات الامريكية بين ادارة بوش وادارة أوباما، ميديا انترناشونال، (القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 16 فبراير 2009)، ص 18.

الحكومة الأميركية باعتبارها نوع من الدبلوماسية العامة كوسيلة إعلامية وإحدى وسائل التأثير في الرأي العام في إطار الحرب الناعمة على العالم العربي (1) .

ووفق هذا الاتجاه شهد العالم العربي ظهور المئات من القنوات الفضائية الموجهة إليه بجانب قناة الحرب، وفقدت وسائل الإعلام الحكومية العربية نسبة كبيرة من المشاهدين، والمكانة، والنفوذ، وأصبح عليها أن تُكافح للبقاء في ظل المنافسة المحتدمة مع القنوات حيث يوجد أكثر من 500 قناة فضائية تبث بالعربية لجمهور المشاهدين الذين يقطنون ما بين المغرب والعراق (2) .

2. وسائل التواصل الاجتماعي:

أشارت وثيقة الاستخبارات القومية الأميركية (The National Intelligence Strategy) للعام 2010 إلى ضرورة الاستثمار في حقل شبكات الأنترنيت، ومواقع التواصل الاجتماعي، وما يهمنا في هذه الوثيقة المقطعين الآتيين (3) :

المقطع الأول: يلعب المجتمع الاستخباراتي دوراً هاماً في زيادة أمن الأنترنيت عبر زيادة القدرة على كشف نشاطات المنافسين، وعبر زيادة القدرة على كشف نقاط الضعف لهؤلاء المنافسين، ونواياهم، وعبر حشد المزيد من الموارد، لكشف، وتفكيك التهديدات الأنترنيتية، وتوسيع شبكات التواصل الاجتماعي.

المقطع الثاني: ينبغي تحقيق التواصل في الخبرات ذات الصلة مع المجتمع الإستخباراتي، ومؤسسات الإستخبارات التابعة للحلفاء، والمجتمع الأكاديمي، والتكنولوجي.

والحقيقة الأساسية التي ينبغي إدراكها بقوة هي أنه بمجرد أن ينفصل المستخدم للشبكات عن بيئته الإنسانية، والاجتماعية: الأسرة، الحي السكني، المدرسة،

ص: 137


1- المصدر نفسه، ص 19.
2- المصدر نفسه، ص 17.
3- مركز الحرب الناعمة للدراسات، شبكات التواصل الاجتماعي: كمنصات للحرب الاميركية الناعمة، (بيروت، جمعية المعارف الإسلاميّة الثقافية، 2016)، ص8-9.

المسجد، الجماعة الدينية، والسياسية، النادي الثقافي، ويلتحق بصورة منتظمة بعالم وسائل، وشبكات التواصل الاجتماعي سواء عبر الشبكة الالكترونية، أو عبر هاتف الجوال الذكي، يصبح فريسته، وهدفا لبنك الأهداف الأميركية، والصهيونية، وبلغة التكنولوجيا، فإن بمجرد أن يصبح للمستخدم حساب (Account) على الشبكة حتى لو كان هذا الحساب افتراضياً باسم مستعار، ووهمي، تنشأ له هوية رقمية، ومنصة الكترونية تخدم في نهاية المطاف أهداف المجتمع الالكتروني الأميركي الذي تديره غرفة عمليات مشتركة بين فروع الإدارة الأميركية خاصة وكالة الأمن القومي الأميركية NSA ووزارة الخارجية، ووزارة الدفاع (البنتاغون) (1) .

إن أي مستخدم للشبكات الاجتماعية يصبح هدفاً ضمن شبكة الرصد، والتجسس الأميركية، كما أنه يدخل نفسه طواعية، وعن رغبة، وانجذاب إلى دائرة تأثير، ونفوذ القوة الناعمة الأميركية وها هو (هنري كيسنجر) الشخصية الأميركية الأكثر تعبيراً عن الرؤية الدولية لأميركا يقول ((الثورة في عالم الاتصالات، والمعلوماتية هي الأولى في التاريخ في إيصال هذا العدد الكبير من الأفراد إلى أداة التواصل نفسها، وترجمة، وتعقب تحركاتهم بلغة تكنولوجية واحدة)) (2) .

لقد أكد أكثر من باحث أميركي تورط الولايات المتحدة الأميركية في توظيف وسائل التواصل الاجتماعي في الحرب الناعمة تجاه العالمين العربي والإسلامي ومن هؤلاء عالم الألسنيات اللغوية المفكر الأميركي (نعوم تشومسكي) في ثنائية التخطيط والتوظيف، حيث يؤكد لناحية العلاقة العضوية بين الشركات التكنولوجية، والإعلامية الدولية، غوغل وفيسبوك، وتويتر، وواتس اب، وغيرها، وبین الوظائف، والاستخدامات السياسية لدوائر صنع القرار الأميركي، والغرب فلا مجال للحيادية، والفصل بين مخططات الشركات الدولية وبين التوظيف السياسي الدولي فهما وجهان لعملة واحدة، ويكفي أن نشير في هذا المجال

ص: 138


1- المصدر نفسه، ص 11-12.
2- هنري كيسنجر، النظام العالمي، ترجمة فاضل جكتر، (دمشق، دار الكتاب العربي، 2014)، ص333. نقلا عن المصدر نفسه، ص 12-13.

إلى عبارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما وهو يقول بكل تفاخر ((أن أميركا أصبحت أمة غوغل وفيسبوك)) (1) .

وعليه يمكن القول أصبحت منتجات فيسبوك، وغوغل، وواتس آب هي أهم صادرات، وأدوات القوة الناعمة الأميركية للسيطرة في أطار استراتيجيات الهيمنة السياسية، والثقافية، والاقتصادية، وهنا نشير إلى تصريح (اليك روس) مستشار وزارة الخارجية الأميركية لشؤون التكنولوجيا مايؤكد هذه المعادلة بقوله ((لقد أصبحت الشبكة العنكبوتية، ومواقع التواصل الاجتماعي بمثابة تشي غيفارا القرن الحادي والعشرين، فهي اليوم تحرك الشعوب بعيداً عن البنى، والمؤسسات، والمنظومات الثقافية، والسياسية، التقليدية)) (2) .

وفي مكان أخر يقول (جوليان أسانج) مسرب وثائق ويكيليكس الشهيرة ((أن شبكات التواصل الاجتماعي على الانترنيت هي أضخم، وأخطر جهاز تجسس، واستخبارات، ابتكره الإنسان، وعرفته البشرية منذ فجر التاريخ، لأن الإنسان المستخدم للشبكة يتبرع مجاناً بوضع المعلومات، والمعطيات، والصور، والفيديو، والتعليقات، والأراء عن نفسه، وعن دائرة زملائه، ومحيطه الاجتماعي، وهي غالباً ما تكون مهمة، ومفيدة، وموثوقة)) (3).

وقد كشفت وثائق سرية حصلت عليها صحيفة (نيويورك تايمز) أن الأجهزة الأمنية الأميركية تجمع ملايين الصور يومياً من مواقع التواصل الاجتماعي للتعرف على السمات، والوجوه، حيث كشفت عن قيام وكالة الأمن القومي بجمع أعداد هائلة من الصور من رسائل البريد الالكتروني، والرسائل النصية، ووسائل الإعلام الاجتماعي، والمؤتمرات الفيديوية، ونماذج أخرى للتواصل، والتوجهات، والتعرف على الوجوه، ووفقا للصحيفة فإن ملايين الصور التي تقوم وكالة الأمن القومي الأميركية بجمعها

ص: 139


1- المصدر نفسه، ص 14.
2- المصدر نفسه، ص14-15.
3- المصدر نفسه، ص 15.

يوميا هناك حوالي 550 ألف صورة ذات جودة، ووضوح تجعلها صالحة لغايات التعرف على الوجوه (1) .

3. إثارة النعرات الطائفية والعرقية:

كثيرة هي الأفكار الشريرة التي تطرح في العقل الصهيوني والغربي المنحاز للصهيونية ضد العرب والمسلمين، وثمة من يعتقد أن هناك صراعا تأريخيا له أبعاده الدينية بين العرب والغرب بدأ مع الحملات الصليبية قبل أكثر من ألف عام، لكن هذا الصراع لم ينته بعد، بل يتخذ أشكالاً مختلفة يعكس جوهر الصراع، وطبيعته، ومكوناته، ومستقبله، ومن ضمن الأفكار ، والمشاريع الغربية - الصهيونية يتصدر مشروع (برنارد لويس) المفكر اليهودي - البريطاني الأصل الذي تحول إلى أسطورة، بسبب نجاحه في التطبيق العملي لفكرة تقسيم الوطن العربي بعد أن تحول إلى اجراءات، وخطط، وبرامج عمل جادة (2) .

إن مشروع برنارد لويس التقطته القوى الكبرى في الغرب، لاسيما أميركا بكل أجهزتها الأمنية، والاستخباراتية، والعسكرية، فضلاً عن (اسرائيل) التي لا تمل، ولا تكل في محاولاتها لاختراق الدولة الوطنية العربية، وبالتركيز على مثلث القوة العربي (مصر والعراق وسوريا)، فضلاً عن دول الأطراف (السودان، واليمن، والمغرب) (3) .

إن مشروع برنارد لويس لتقسيم المنطقة، والوطن العربي خصوصاً تحتل مكانة مركزية في البيت الأبيض، والبنتاغون، ومراكز صنع القرار الأميركي ومنها وزارة الخارجية، والاستخبارات المركزية، وقد تبنى الجمهوريون، أو المحافظون الجدد أفكار لويس وحولوها إلى برامج عمل، واجراءات تستهدف تفكيك الوطن العربي، وتغيير اسمه إلى (الشرق الأوسط الكبير) (4) .

ص: 140


1- المصدر نفسه، ص 15-16.
2- عادل الجوجري، برنارد لويس سياف الشرق الاوسط ومهندس سايكس بيكو 2، (دمشق، دار الكتاب العربي، 2013)، ص5.
3- المصدر نفسه، ص 5-6.
4- المصدر نفسه، ص 6.

ويؤمن برنارد لويس أن الشعوب درجات وهي نظرية عنصرية لكن لايهم هنا طالما أنها ستؤدي إلى نتائج عملية يصفها لويس بأنها أخلاقية حتى وإن كانت المقدمات عنصرية، وغير أخلاقية، ويستند لويس على عبارات مريبة ومنها أن التراث الإسلامي شيء والتراث اليهودي المسيحي شيء آخر ولايمكن أن يلتقيا بل إنهما في صراع دائم يصل إلى حد الاقتتال وما أحداث 11 ايلول/ سبتمبر 2001 إلا تعبيراً عن جوهر الصراع بين المخزون الثقافي والتراثي بين المسلمين من جهة، واليهود، والمسيحيين من جهة أخرى (1) .

إن أخطر أفكار برنارد لويس هي فكرة إنهاء الوطن العربي عبر إثارة النعرات الطائفية، والعرقية، وتفكيك الدولة الوطنية، وتكريس منهج التفتيت كبديل لمشروع سايكس بيكو القديم إلى التفتيت وهو سايكس بيكو الجديد مع تطور آخر هو أن يكون التفتيت شاملاً للوطن العربي من المحيط إلى الخليج وأن يضم إليه تركيا وايران في إطار خريطة للنفط، والغاز قد تتطور وتصل إلى قلب موسكو مع اعتبارات أن الصراع مع النفط (الطاقة القديمة) ستكون حامية الوطيس مع دول الطاقة الجديدة وهي الغاز، وهذه الخريطة تعكس الصراع بين سيطرة أميركا، والغرب القديمة على مناطق النفط، وسيطرة روسيا الجديدة على خريطة الغاز (2) .

ويبشر برنارد لويس بإمكانية تفتت بعض الدول العربية جراء إثارة النعرات الطائفية والعرقية كأحد أسلحة الغرب في الحرب الناعمة ضد العالم العربي، والإسلامي، ومن هذه الدول المملكة العربية السعودية التي ولدت بدورها في فترة مابين الحربين من القرن المنصرم لم تكن نتيجة للتوسع، والتسوية الاستعماريين هي صنيعة الطموح العائلي، والولاء القبلي، والحماسة الدينية، وهناك مصاعب داخلية، فعرب المملكة منقسمون مناطقياً، وبشكل خاص قبلياً وما زالوا محافظين على تقاليد النزاع القبلي القديمة وينقسم المسلمون في السعودية إلى سنة وشيعة، والشيعة أقلية في المملكة ككل لكنهم موجودون بكثافة في المقاطعات الشرقية

ص: 141


1- المصدر نفسه، ص 32.
2- المصدر نفسه، ص 54.

الغنية بالنفط، ويضيف لويس أن العائلة المالكة ليست بمنأ عن المنافسات الفئوية، ،والإقليمية، والشخصية، وتخلق التغييرات الاقتصادية، والاجتماعية طموحات ومطالب جديدة (1) .

4- سبل مواجهة الحرب الناعمة

كثرت الدراسات، والتحليلات التي تطرح سبل، وحلول، وبدائل لمواجهة الحرب الناعمة التي يستخدمها الغرب تجاه العالمين العربي، والإسلامي، وأكدت أغلب تلك الدراسات على طرح سبل لمواجهة الحرب الناعمة ومنها تهديدات وسائل التواصل الاجتماعي وفق عدة مستويات وكما يأتي (2):

1.المواجهة المباشرة مع مواقع وشبكة الانترنيت:

من خلال المساهمة التقنية في تصفية، وفلترة مواقع التواصل الاجتماعي في فضائنا، وبيئتنا، وهذا أمر صعب، ومعقد، نظراً لتشعب وسائل اختراق هذا الباب، ويحتاج إلى جهود تقنية ضخمة على المستوى الحكومي، والوطني، وهذا المستوى له مجال يتصل بالجانب السياسي، والقانوني، والتقني.

2- توعية المستخدمين:

وخاصة فئات الأطفال، والفتيان من ابناء بيئتنا على سلبيات، ومضار هذه الوسائل، وغرس حالة من الحذر، والشك في عقولهم، وقلوبهم تجاهها، وتعليمهم طرق، وأنماط الاستفادة الايجابية، والأمنة.

3. تحفيز أولي أمر المستخدمين:

سواء في المنزل، أو المدرسة، أو في مختلف المؤسسات الثقافية، والتربوية عليهم القيام بدورهم الإيجابي البناء في حفظ ابنائهم، ورعايتهم.

ص: 142


1- برنارد لويس، تنبؤات مستقبل الشرق الاوسط، (بيروت، رياض الريس للكتب والنشر، 2000)، ص76-77.
2- شبكات التواصل الاجتماعي: كمنصات الحرب الامريكية الناعمة، مصدر سبق ذكره، 172-186.

4. إنشاء، ورعاية مؤسسات، وشبكات:

سواء أكانت مؤسسات اجتماعية أو إعلامية متخصصة، وذلك من خلال تصميم، وتشغيل مواقع، وتطبيقات، وصفحات، وحسابات، وظيفتها التواصل مع الجمهور المستهدف، لتزويده بالمحتوى الهادف، وملء، وتعبئة الفراغ المعلوماتي، والإعلامي، والثقافي، بصورة إيجابية، وإرشادية متنوعة تساهم في تلبية الاحتياجات، وترفع نسبة التوعية، وتضبط مسار مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي.

5. زيادة فعاليات وأنشطة التعبئة الميدانية:

منها الثقافية، والاجتماعية من خلال استقطاب جيل الأنترنيت، ووسائل التواصل الاجتماعي، وهم الأكثرية بنسبة تصل إلى 70 % إلى برامج، وأنشطة ثقافية، واجتماعية، وتعبوية، وميدانية، وإلى الاستفادة، والتواصل مع مؤسسات المجتمع الإسلامي.

6. نشر حالة من الوعي والإرشاد الهادف:

لغرض التعريف بالمواقع السليمة، والمفيدة، والعمل قدر المستطاع على إقناع الأهل، مشاركة الأبناء في العمل، والبحث ضمن وسائل التواصل، وكذلك توعية الأهل، ومراكز، ومؤسسات التربية حول مسألة فتح حوار مع الأبناء، يتمحور حول معرفة مشاكلهم، وأسباب اللجوء إلى شبكات التواصل ثم الوصول إلى حلول تدفعهم باتجاه الاستفادة السليمة.

7. الابتعاد في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي عن الأماكن المغلقة:

العمل على أن يكون تعاطي الأبناء مع وسائل التواصل الاجتماعي في حضور الاهل، وتحت إشرافهم المباشر، وكذلك من الضروري العمل على مراقبة استخدام الشبكات من قبل العوائل، والتعرف على الأماكن التي تشغل بال المستخدم، ولا بد من تحديد أوقات خاصة للدخول إليها، فمن غير المفيد

ص: 143

ترك الأبناء يصولون ويجولون في أي وقت ومتى شاءوا دون أن يكون هناك من يشرف عليهم.

8. العمل على إيجاد برامج تصفية المحتويات على شبكات التواصل الاجتماعي:

من أجل إبعاد ماهو ضار، حيث لا يتسنى هذا الأمر دون العمل على امتلاك اتصالات، وعلاقات مع مراكز التوزيع في الأحياء السكنية (الخوادم والسيرفيرات)، أو الإشراف عليها بشكل مباشر، أو إعداد حملات توقيع على مواثيق شرف أخلاقية، وثقافية، أو إشراكها في ورش توعية.

9. إيجاد خطة عمل للأماكن (كافيه نت):

من خلال التحكم في نوعية دخول المستخدمين للأنترنيت، وضبطها، ومراقبتها، ومنعها من دخول أشخاص صغار السن.

10. تدريب جيش الناشطين والمستخدمين لوسائل التواصل الاجتماعي:

من خلال تحويل هذه الوسائل من تهديدات ثقافية، وأمنية، وسياسية إلى فرص لخدمة المجتمع، وتهديد العدو، وفضح الخطط، وبيان الحقائق.

الخاتمة:

يخطىء من يظن أن الحرب الناعمة التي استخدمها الغرب تجاه العالمين العربي والإسلامي ستنتهي، لأن كل المعطيات تشير أن الغرب سوف يعول كثيراً على أسلحة الحرب الناعمة، ومن أبرزها وسائل التواصل الاجتماعي بعد أن غزت العقول، للسيطرة عليها، وخاصة تجاه الأعمار الصغيرة من الفتيان، والفتيات لزرع القيم التي تؤثر على هويتهم العربية والإسلامية، وإضعاف علاقتهم بأوطانهم في سبيل إشباع رغبة افتراضية في تحقيق ذاتهم خارج أوطانهم، وإفراغ الشعوب العربية،

ص: 144

والإسلامية من الطاقات الشبابية، والعلمية، والأكاديمية لإفراغها من عناصر القوة، والمنعة، وجعلها خاوية إزاء الهجمات الغربية لإضعاف العالمين العربي والإسلامي وجعل الفجوة العلمية والتقنية والتكنولوجية واسعة بين الطرفين لكن في موازاة ذلك لابد على كل المؤمنين بارتباطهم الوثيق بأوطانهم عدم الوقوف متفرجين أمام ذلك بل يجب العزم على توجيه هجوم مقابل تجاه الحرب الناعمة القادمة من الغرب تحت بابين الأول دفاعي لتحصين الشعوب والمجتمعات من الهجمات الفيسبوكية والتويترية القادمة من الخارج وجعلها غير مؤثرة في الشعوب الواعية بإبعاد المخططات الخارجية لاستهداف تاريخها ودينها وقيمها والوقوف كجدار مانع يرتطم بعزيمة الشعوب المكافحة إزاء الهجمات الخارجية لاستعمار عقولها قبل أراضيها والثاني الهجوم عليها بحرب ناعمة مقابلة لتحجيم مفردات الهجوم الغربي ازاء العالم العربي والإسلامي.

ص: 145

الاستشراق والتبشير

اشارة

آليات الاستعمار للهيمنة والاستيلاء

الدکتور عبد العالي احمامو

عبد العالي احمامو (1)

1- الفكر الاستشراقي تعالي الغرب ودونية الشرق

لن نختلف في الأثر الكبير الذي يخلفه الاستشراق في العالم الغربي والعربي على السواء، وإن اختلفت ردود الأفعال من الأنصار والخصوم؛ فالأكيد أن مدارس الاستشراق بتعددها واختلاف مناهجها أصبحت توجه وتتحكم في كل من أراد أن يكتب عن الشرق ويَدْرسه، كما أنها تؤطر له المجال العام وأرضية الاشتغال على اعتبار أن الاستشراق «يشكل شبكة المصالح الكلية التي يستحضر تأثيرها بصورة لا مفر منها في كل مناسبة يكون فيها ذلك الكيان العجيب (الشرق) موضوعاً للنقاش» (2).

وإن كنا نجد تناقض الآراء حول الاستشراق في البلدان العربية الإسلامية، بين من يرحب به ويؤيده ويتحمس له، وبين من يرفضه جملة وتفصيلاً، بل يحارب كل من يشتغل به ويعتبره عدوا للإسلام والمسلمين.

ص: 146


1- دكتوراه في الآداب - اللسانيات الاجتماعية - المغرب.
2- إدوارد سعيد، الاستشراق، ترجمة كمال أبو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1981م، ص 39.

وإذا كان موضوع الاستشراق يفرض نفسه علينا بإلحاح، ويتطلب منا وقفة تأملية جادة لبحثه ودراسة أبعاده وتأثيراته على الثقافة والفكر العربيين؛ فليس هناك بديل عن مواجهة هذا التيار وطرحه على بساط البحث والدراسة من أجل استخلاص النتائج، ونقد كل ما شابه تقصير، أو تشويه، أو تحريف، بميزان سليم ومناهج موضوعية نبغي ورائها الاستفادة من رؤية المستشرق لنا ولثقافتنا بإيجابياتها وسلبياتها.

وفي محاولتنا تفكيك خطاب العرب والمسلمين الذين تناولوا الاستشراق؛ لا يمكن لنا أن لا نعتمد على التعريفات العديدة التي قدم بها إدوارد سعيد في كتابه «الإستشراق»؛ ومنها أنه: «أسلوب في التفكير مبني على تميّز متعلق بوجود المعرفة بين «الشرق» (معظم الوقت) وبين الغرب» (1)، كما يضيف أيضاً أن الاستشراق ليس مجرد موضوع سياسي أو حقل بحثي ينعكس سلباً باختلاف الثقافات والدراسات أو المؤسسات، وليس تكديساً لمجموعة كبيرة من النصوص حول المشرق، وإنما هو توزيع للوعي الجغرافي إلى نصوص جمالية وعلمية واقتصادية واجتماعية وفي فقه اللغة. وتتوالى التعريفات عند إدوارد سعيد ليعرف الاستشراق بأنه المجال المعرفي أو العلم الذي يُتوصل به إلى الشرق بصورة منظّمة كموضوع للتعلم والاكتشاف والتطبيق، إضافة إلى اعتباره أن الاستشراق: «نوع من الإسقاط الغربي على الشرق وإرادة حكم الغرب للشرق» (2) .

وفي الجهة المقابلة، ثمة من يرى في الاستشراق وسيلة للتحكم في الإسلام والمسلمين بعيداً عن كل هاجس علمي، ومثال ذلك التعريف الذي قدمه أحمد عبد الحميد غراب حيث يرى أن الاستشراق: «دراسات أكاديمية» يقوم بها غربيون کافرون - من أهل الكتاب بوجه خاص - للإسلام والمسلمين، من شتّى الجوانب:

عقيدة، وشريعة، وثقافة، وحضارة، وتاريخاً، ونظماً، وثروات، وإمكانات بهدف تشويه الإسلام ومحاولة تشكيك المسلمين فيه، وتضليلهم عنه، وفرض التبعية للغرب عليهم، ومحاولة تبرير هذه التبعية بدراسات ونظريات تدعي العلمية

ص: 147


1- .Edward Said. Orientalism، New York: Vintage Books، 1979، p 2-
2- نفسه، ص 92.

والموضوعية، وتزعم التفوق العنصري والثقافي للغرب المسيحي على الشرق الإسلامي» (1) .

والأكيد أن الحديث عن الاستشراق يجرنا إلى ذكر العديد من الأعمال والدراسات التي ساهمت في إماطة اللثام عن هذا الفكر، وإن اختلفت التوجهات والأهداف والمقاربات؛ ونذكر منها: إدوارد سعيد (الاستشراق، المفاهيم الغربية للشرق) الذي صدر أول مرة عام 1978م، ويتناول جملة المؤلفات والدراسات والمفاهيم الفرنسية والإنجليزية عن الشرق الأوسط والتي يجزم المؤلف أنها السبب الرئيسي في الشرخ الحاصل بين الحضارة الغربية والشرق أوسطية، إضافة إلى دراسة أحمد سمايلوفيتش (فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر) التي اعتمد فيها على رؤيته للاستشراق الذي يعتبره ظاهرة فكرية لعبت دوراً خطيراً في الفكر والأدب العربيين قديما وحديثا، فقديما أخذ الاستشراق العلوم والآداب والفنون عن العرب ونقلها إلى الغرب حيث أقام نهضته العارمة على دعائمها، وحديثاً أخذ الاستشراق الأفكار والنظريات والآراء الغربية المؤسسة على ثقافة العرب، فردّها إليهم مؤثرا بذلك في نهضتهم المعاصرة أبلغ التأثير، كما طالب في كتابه هذا العرب إلى اليقظة الفكرية والعلمية، والنهضة الأدبية، مبرزا اهتمام الاستشراق بالأدب العربي وأسبابه ودوافعه، ومشيرا إلى الأخطار الجسيمة التي وقعت فيها بعض الجامعات العربية باستعانتها ببعض علماء الاستشراق للتدريس فيها، وما نتج عن ذلك من تأثر بعض الدارسين العرب بأفكار المستشرقين البعيدة بمقدار غير قليل عن الموضوعية العلمية.

كما نضيف إلى ما سبق كتاب (نقد الخطاب الاستشراقي) لساسي سالم الحاج الصادر سنة 2002م، والذي حاول فيه الإجابة على مجموعة من الأسئلة أبرزها الاختلاف حول حسنات وسيئات الاستشراق، وما وجهة النظر العلمية حول ذلك، وقد تطرق إلى كل هذا متتبعاً أصل الظاهرة وتطورها التاريخي منذ الأزمان الموغلة في القدم أي منذ التقاء الشرق بالغرب، أو الإسلام بالمسيحية، حتى بيان نتائج

ص: 148


1- أحمد عبد الحميد غراب، رؤية إسلامية للاستشراق، بيرمنجهام، المنتدى الإسلامي، ط 2، 1411 ه-، ص 7.

هذه العلاقة في العصر الحديث، كما ركز على آثار الحركة التبشيرية واستخدامها في الأغراض السياسية، منتقلاً بعد ذلك إلى الحديث عن أهم مميزات الدراسات الاستشراقية في كل من إيطاليا، وفرنسا، وبريطانيا، وإسبانيا، وهولندا، ليقف عند الخصائص التي تميزت بها المرحلة العلمية للدراسات الاستشراقية المتمثلة في إنشاء المراكز المتخصصة، وتخصص كل مستشرق في فرع معين من فروع المعرفة الشرقية، الأمر الذي يعطي للدراسات المطروحة زخمها وجديتها وخصوصيتها.

كما يمكن لنا أن نتوقف كذلك عند كتاب رودي بارت (الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية) والذي يعرض فيه لتطور الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية منذ القرن الماضي، وهو تكملة لجهود سبقت عند غيره من المستشرقين الألمان، كما يعرض الكتاب لقضية مهمة، وهي مدى تقبل الباحثين الشرقيين لدراسات الاستشراق. كما يوضح رودي بارت موقف الغرب المسيحي في العصر الوسيط من الإسلام الذي كان موقف الدفع والمشاحنة فحسب، بالرغم من أن العلماء ورجال اللاهوت، في العصر الوسيط، كانوا يتصلون بالمصادر الأولى في تعرفهم على الإسلام، إلا أن كل محاولة لتقييم هذه المصادر على نحو موضوعي كانت تصطدم بحكم سابق يتمثل في أن هذا الدين المعادي للمسيحية لا يمكن أن يكون فيه خير، وهكذا كان الناس لا يصدقون إلا تلك المعلومات التي تتفق مع هذا الرأي المتخذ من قبل، وكانوا يتلقفون بنهم كل الأخبار التي تلوح لهم مسيئة إلى النبي العربي وإلى دين الإسلام.

فهذه الإنتاجات الأكاديمية وغيرها تعطي الانطباع بأن السنوات الأخيرة تمثل نقطة تحول كبير فيما يتعلق بالفكر الاستشراقي، وتجعلنا نساهم بدورنا في تفكيك معالم هذا الخطاب على اعتبار امتداده واستمراره وتلونه بالعديد من الألوان والأهداف والوسائل والآليات.

ولعل من أبرز الأسئلة التي تتردد دائماً في أذهان الباحثين والمفكرين ممن تناولوا علاقة الشرق بالغرب هو: ما الهدف من اهتمام الغربيين بالشرق؟ ولماذا تخصص

ص: 149

تلك الدول جزءاً مهماً من ميزانياتها لدعم مثل هذه الدراسات؟ إضافة إلى الدور الكبير التي تلعبه المؤسسات والجامعات التي تفتح أبوابها لتحتضن وترعى هذه الدراسات.

فالأكيد أنه لا يمكن حصر أهداف ودوافع الاستشراق لتعددها وتداخل بعضها ببعض، فتارة يكون الهدف علمياً لينقلب استعمارياً، أو غير خال من إيديولوجية تؤثر في المستشرق ونتائج بحثه، دون نسيان الجوانب الاقتصادية والتاريخية والنفسية ...

يذهب رودي بارت إلى أن الهدف الرئيس من جهود المستشرقين في بدايات الاستشراق، في القرن الثاني عشر ميلادي والقرون التي بعده، هو التبشير، وعرّفه بأنه: «إقناع المسلمين بلغتهم بِبُطلان الإسلام، واجتذابهم إلى الدين المسيحي» (1) ، - حيث اعتُبر يومئذ الخصم الوحيد للمسيحية في نظر الغربيين - ودين لا يستحق الانتشار ليؤثر ذلك في أهداف الاستشراق التي أصبح أبرزها «إضعاف مُثل الإسلام وقيمه العليا من جانب، وإثبات تفوق المُثل الغربية وعظمتها من جانب آخر، وإظهار أية دعوة تدعو للتمسك بالإسلام بمظهر الرجعية والتأخر» (2) .

وإذا كان الاستشراق بدأ بتشجيع من الكنيسة ورجال الدين فإن الاهتمام الديني يعد أول أهدافه وأهمها على الإطلاق. فعندما رأى النصارى، خاصة رجال الدين منهم، أن الإسلام اكتسح المناطق التي كانت للنصرانية، وأقبل الكثير على الدين الإسلامي ليس لسماحته فحسب ولكن لأنه بعيد عن التعقيدات وطلاسم العقيدة النصرانية، ولأنه نظام كامل للحياة. فعندما جاء الإسلام، وجد العالم بأسره في أزمة فكرية حادة، وقلق روحي بالغ، فحاول أن يُخرج الإنسان من الظلمات إلى النور، ومن الباطل إلى الحق، ومن التعصب إلى التسامح، ومن الهدم إلى الحياة، فبنى في قرن ما لم يبن غيره في قرون،

ص: 150


1- رودي بارت، الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية، ص 11. وينظر كذلك محمد حسين علي الصغير، المستشرقون والدراسات القرآنية، 2012، ص 12.
2- عبد الكريم عثمان، معالم الثقافة الإسلامية، مؤسسة الرسالة، ط 16، 1992، ص 99.

وبدأ الناس حتى من غير أهله يتوافدون إلى مراكزه ومعاهده ليتعلموا فيها؛ ومن أمثالهم جرير، وسكوت، وبيكون وغيرهم، فكان نتيجة ذلك خوف رجال الدين النصارى على مكانتهم الاجتماعية والسياسية في العالم النصراني، فقرروا أن يقفوا في وجه الإسلام خاصة أنه لا يعتمد على ما يعرف بطبقة رجال دين أو أكليروس كما في النصرانية (1) .

كانت غاية الهدف الديني إذن هي معرفة الإسلام لمحاربته وتشويهه وإبعاد النصارى عنه، فقد اتخذ النصاري المعرفة بالإسلام وسيلة لحملات التنصير التي انطلقت إلى البلاد الإسلامية، وكان هدفها الأول تنفير النصارى من الإسلام. ونقرأ عند زقزوق أن قرار إنشاء كرسي اللغة العربية في جامعة كامبردج عام 1636م قد نص صراحة على خدمة هدفين؛ أحدهما تجاري والآخر تنصيري، فقد جاء في خطاب للمراجع الأكاديمية المسؤولة في جامعة كامبردج بتاريخ 9 مايو 1936م إلى مؤسس هذا الكرسي ما يأتي: «نحن ندرك أننا لا نهدف من هذا العمل إلى الاقتراب من الأدب الجيد، بتعريض جانب كبير من المعرفة إلى النور، بدلاً من احتباسه في نطاق هذه اللغة التي تسعى إلى تعلمها، ولكننا نهدف أيضا إلى تقديم خدمة نافعة إلى الملك والدولة، عن طريق تجارتنا مع الأقطار الشرقية، وإلى تمجيد الله بتوسيع حدود الكنيسة، والدعوة إلى المسيحية بين هؤلاء الذين يعيشون الآن في الظلمات» (2) .

ومن المعلوم أن معظم ما ينتجه المستشرقون يرتكز حول أساسيات العقيدة الإسلامية، فالقرآن والسنة وسيرة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم والفقه الإسلامي مواضيع أخذت الكثير من وقت واهتمام الدوائر الاستشراقية، خاصة ما شابها من صور تعتمد الشك والافتراضات الخاطئة والنتائج المسبقة، الشيء الذي يوضح سيطرة الدافع الديني على بعض أبحاث الاستشراق ودراساته، وهذا ما يوضحه محمود زقزوق من خلال اعتماده على ما صرح به برنارد لويس « لا تزال آثار التعصب

ص: 151


1- آصف حسين، المسار الفكري للاستشراق، ترجمة مازن مطبقاني، مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ع 7، 1413 ه-، ص 566.
2- محمود حمدي زقزوق، الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، كتاب الأمة، ط 2، 1983، ص 31.

الديني الغربي ظاهرة في مؤلفات عدد من العلماء المعاصرين، ومستترة في الغالب وراء الحواشي المرصوصة في الأبحاث العلمية» (1) ، إضافة إلى ما جاء في الدراسة النقدية للاستشراق في العصور الوسطى في كتاب الإسلام والغرب لصاحبه نورمان دانييل الذي يرى أنه «على الرغم من المحاولات الجديدة المخلصة التي بذلها بعض الباحثين في العصور الحديثة للتحرر من المواقف التقليدية للكُتّاب النصارى من الإسلام فإنهم لم يتمكنوا أن يتجردوا منها تجريدا تاما» (2).

2- الاستشراق والتبشير في خدمة الاستعمار

لم تربِط الاستشراق بالنظرية الاستعمارية أي روابط في بدايته، وإنما كان محكوما فقط بالنوازع الدينية والعلمية، فالكنيسة ومؤسساتها المختلفة هي وعاء الاستشراق في هذه المرحلة، منها يتحرك وبإمكاناتها يعمل، وحين اجتاح الفكر الاستعماري أوروبا انطلاقاً من بعض النظريات العرقية التي قادها رينان وأضرابه، وتطلعت الدول الأوروبية إلى استعمار العالم الشرقي احتاج هؤلاء إلى الكثير من المعلومات التي تساعدهم في تحقيق تطلعاتهم الاستعمارية، وقد وجدوا في المستشرقين قوالب جاهزة ذات علاقة قوية بالشرق، وعلى دراية كافية بالكثير من المعلومات التي تمهد لحركة الاستعمار، ومن هنا تم التلاقح بين الاستشراق والاستعمار، ودخل المستشرقون في مرحلة جديدة هي المرحلة الاستعمارية (3) .

وإن كان لهذه الدوافع جذور عميقة زرعت ونبتت قبل الميلاد، ونمت بعده، وازدادت عمقاً وشمولاً مع اندفاع العرب وسيطرة الإسلام على الإمبراطوريات السابقة ووصوله إلى أوروبا واستقراره في بعض أراضيها، وعندما رأى الغرب كل هذا شرع يعد قوته لخوض معركة فاصلة معه والسيطرة عليه، فأخذ يتعلم لغته وحضارته وتاريخه لكي يتفوق عليه، ثم قام بمغامرات صليبية فحارب الإسلام قروناً ولم

ص: 152


1- نفسه، ص 73.
2- .Norman Daniel، Islam and The West: The Making of An Image، Revised edition، Oxford: Oneworld، 2009، P18-
3- محمد فتح الله الزيادي، الاستشراق أهدافه ووسائله، دار قتيبة، 1998، ص 38-39.

ينتصر، ولكن عندما نجح في طرده من الأندلس لم يكتف بذلك، بل واصل استعداده لمواجهة الإسلام في عقر داره واحتلال بلاده والسيطرة عليه (1) .

لقد انبثق الدافع الاستعماري للاستشراق من رحم الحروب الصليبية، التي كانت أول تجربة استعمارية خاضتها أوروبا خارج حدودها ضد الشرق؛ حيث أسقط الغرب الأوروبي ضعفه على الشرق العربي الإسلامي، وحاول إيجاد حل لمشاكله المتفاقمة، دينياً واجتماعياً، واقتصادياً، في هذه الحروب التي اجتاحت جيوشها الشرق العربي المسلم، فبعد أن تفشى الفساد في الكنيسة والمجتمع؛ رأى البابا إربان الثاني (1088- 1099) أن من الضروري القيام بمغامرة مثيرة تضع العالم المسيحي بأجمعه أمام عمل وهدف مشترك، وكان أشهر ما قال في خطابه في المجمع الكنسي في كليرمونت: «انهضوا وأديروا أسلحتكم التي كنتم تستعملونها ضد إخوانكم، ووجهوها ضد أعدائكم، أعداء المسيحية، إنكم تظلمون اليتامى والأرامل، وأنتم تتورطون في القتل والاغتصاب، وتنهبون الشعب في الطرق العامة، وتقبلون الرشاوى لقتل إخوانكم المسيحيين، وتريقون دماءهم دونما خوف أو وجل أو خجل، فأنتم كالطيور الجوارح آكلة الجِيَف، التي تنجذب لرائحة الجِيَف الإنسانية النتنة، ضحايا جشعكم، انهضوا إذا، ولا تقاتلوا إخوانكم المسيحيين، بل قاتلوا أعداءكم الذين استولوا على مدينة القدس، حاربوا تحت راية المسيح، قائدكم الوحيد، افتدوا أنفسكم، أنتم المذنبون المقترفون أحط أنواع الآثام، وهذه مشيئة الله» (2) .

هكذا اشتغل فريق من المفكرين بمجال الاستشراق مدفوعين من قبل حكوماتهم التي دعتهم إلى مساعدتها على استعمار الشرق فكانوا عوناً لها مخلصين في تقديم المعلومات التي احتاجت إليها وهي في طريقها إلى اجتياح الشرق معلنة الهيمنة عليه لفترة من الزمن تعين على امتصاص خيراته، وعلى إيجاد البديل عند الخروج، وعلى إضعاف مكامن الخطر بالنسبة لهم (3) .

ص: 153


1- أحمد سمايلوفيتش، فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر، دار المعارف، القاهرة، 1974، ص 52.
2- للمزيد ينظر: سعيد عبد الفتاح عاشور، الحركة الصليبية، أوروبا العصور الوسطى، مكتبة الأنجلو المصرية، ط1، 2010، ص 23.
3- علي بن إبراهيم النملة، الاستشراق في الأدبيات العربية: عرض للنظرات وحصر وراقي للمكتوب، الرياض مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، 1993، ص 40.

فمنذ أواخر القرن العاشر الميلادي حتى الآن تعرض العالم العربي لهجمات الغرب المتواصلة التي استهدفت احتلال أراضيه، واستغلال مقدراته واستعباد شعوبه، وقد كانت البداية تلك الحروب الصليبية التي أخذت من الدين ستارا لأعمالها الهدامة وعندما خرجت قواها المتكتلة مقهورة قامت متأثرة بما رأت في الشرق الإسلامي وأخذت عنه مقومات النهضة العلمية الحديثة وشرعت تستعد لهجمات جديدة أبعد خطراً وأشد ضرراً من حرب الحديد والنار، حرب بشعار «مدرسة أو مستشفى أو ملجأ، أو كتاب، أو مقال، أو ما إلى ذلك من خداع العناوين التي يقطر باطنها بالسم الناقع، واستعداداً لذلك كان لابد من أن تجول طلائع الغرب في البلاد التي يجب قهرها واحتلالها وأن تكون هذه الطلائع من الذين تعلموا اللغة العربية وغيرها من لغات الشرق لكي يستطيعوا التحدث إلى الشعوب، والبحث في الآثار والتعرف على الأفكار والقيام بالدعايات وإثارة المنازعات وإشعال الخلافات حيث تقع البلاد فريسة بين مخالب الاستعمار. ولتحقيق هذا الهدف أكثروا من هذه الطلائع ليمارسوا التجسس على البلاد والتعرف على أحوالها وكتابة التقارير عنها، فكان لزاما على الجاسوس أن يلبس ثوب العالم بلغة البلاد، وأن يصطنع البحث العلمي وأن يسعى لخلق صلة بين الأهالي وجيوش الاستعمار إذا دخلتها (1).

فممّا لاشك فيه أن هناك وفاق بين الاستشراق والاستعمار حيث ساعد أحدهما الآخر مساعدة فعالة، فالأول كان يعد أبناء وطنه لسحق الشرق والإسلام ويصور عالم الشرق عامة والعالم العربي خاصة بصورة قبيحة في أخلاقه وعاداته وآرائه كما يصور الإسلام في صورة منفرة ويلصق به كثيراً من المخازي والجهالات (2).

ويؤكد سمايلوفيتش أن هدف الاستشراق والاستعمار ظلاً واحداً لفترة طويلة من الزمن؛ فإذا كان الأول يسبق الثاني ليكون طلائع جيشه وأعين أمنه يصيب أهدافه ويحقق آماله، فما عليه إلا أن يبدأ بالتشكيك في قيم الشعوب المغلوبة، والسخرية منها ومن دينها، وشخصية نبيِّها عليه الصلاة والسلام، وهدم الإسلام فكرياً وحضارياً،

ص: 154


1- للمزيد ينظر: أحمد سمايلوفيتش ص 122.
2- محمد البهي، الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، دار الفكر، بيروت، (بدون تاریخ)، ص 52.

فالثاني يقوم بتنفيذ ذلك الحكم واقعياً وعملياً، كما كان الاستشراق حريصاً على تدريب باحثين ودبلوماسيين ومهنيين يحملون جميعاً إيديولوجية الغرب وعقليته تجاه الشرق وحضارته، وعلى الاستعمار أن يتبنى هؤلاء، يساعدهم وينفذ خططهم، ومثالا على ذلك الأسماء التي سبق أن ذكرناه في بحثنا الموسوم ب «التاريخ واللهجة المغربية في دراسات المستشرقين» (1) :

1- من ألمانيا:

هینریخ بارت:(H .Barth (1821-1865 ولد بهامبورغ، وتعلم في جامعة برلين حيث تخرج عام 1844. زار في وقت سابق إيطاليا وصقلية فشكل خطة للقيام برحلة عبر بلدان المتوسط، وبعد دراسته العربية في لندن بدأ رحلاته عام 1845م. ومن طنجة شق طريقه عبر أراضي شمال إفريقيا، ثم شق طريقه من النيل إلى وادي حلفا وعبر الصحراء إلى البرانس.

وقد درس بدقة جغرافيا وتاريخ وحضارة وموارد المناطق التي زارها. ونُشرت قصة رحلاته بالإنجليزية والألمانية بعنوان «رحلات واستكشافات في شمال ووسط إفريقيا» (1875 - 1859 في خمسة أجزاء)، وكان به من الدقة والتنوع والمعلومات ما قل نظيره عن كتب عصره.

وبعد وصوله إلى طنجة في غشت 1845م زار كلاً من تطوان وأصيلة والعرائش وغيرها ووصل إلى تمبوكتو، ونشر عن تجارة السودان مع المغرب كتابا في أربعة أجزاء طبع سنة 1863. كما دخل مدينة الرباط سنة 1845، ولما كان يرسم باب قصبة الأوداية تعرض لسب وتهديد من السكان على الرغم من ترخيص قائد المدينة له بالتصوير.

مصطفى العلج أو فريدريك كير هاردت رولفس: (Gerhard Rohlfs .F) ولد بمدينة بريمن سنة 1831 ومات سنة 1896 أو 1898. فبعد أن تعلم الطب ببلاده دخل

ص: 155


1- عبد العالي احمامو، التاريخ واللهجة المغربية في دراسات المستشرقين، مجلة دراسات استشراقية، ع 12، صيف 2017، ص 47-54.

إلى الحياة العملية سنة 1853 وانخرط في اللفيف الأجنبي سنة 1855م، ثم رحل إلى الجزائر حيث تعلم اللغة العربية ودرس تقاليد المسلمين وعاداتهم.

ولما انتهت حرب تطوان جاء إلى المغرب سنة 1861م، وحاول الدخول في خدمة إسبانيا. ثم لما بلغه أن السلطان راغب في توظيف أعلاج لتنظيم جيشه قرر أن يجرب حظه، فارتدى لباس المغاربة المسلمين، وادعى اعتناق الإسلام، وتسمى بمصطفى، ثم ربط علائق مع الحاج عبد السلام الوزاني، كما دخل في خدمة السلطان بوصفه طبيباً.

غير أنه لم يلبث أن غادر طنجة سنة 1862م متنكراً، وقام بجولته الأولى بالمدن الشاطئية حتى أكادير، ومنها التحق بسوس و تارودانت ومراكش وواحات درعة وتافيلالت وفكيك.

-فقد كان مرموقاً ببلاده وبالجامعات الأوروبية لطول باعه، ونال حظوة بعض ملوك أوروبا، كما كان مراسلاً للعديد من الصحف، وله تصانيف عن البلدان التي زارها طبعت بمدينة بريمن سنة 1868م و 1873م. ومن كتبه «وزان، دار الضمانة»، وفيه قال: «إن كل مجهود للنصرانية (أي للحضارة) كان معرقلاً في البلدان المتوسطية من لدن إنجلترا، لأن تجارتها في السكر والشاي والأفيون والمنسوجات القطنية تتضرر من ذلك».

- أوسكار لنس (Oskar Lenz): رحالة وعالم جيولوجي وجغرافي ألماني أو نمساوي، ولد بليبسيك سنة 1848م، وقام برحلة إلى السودان وعبر الجنوب المغربي، بعد أن تعلم اللغة العربية وعوائد المسلمين. وصل إلى طنجة في نوفمبر 1879 وزار كلاً من تطوان وفاس ومكناس وغيرها.

وفي السنة الموالية ساح بالجنوب المغربي سياحة لفائدة «الجمعية الإفريقية بألمانيا» قادته إلى مراكش عن طريق فاس ومكناس والرباط، ثم صعد إلى جبال الأطلس، مارا بتارودانت وسوس والصحراء، ودامت الرحلة ثلاثة أشهر قبل الوصول إلى تمبوكتو وأندر. رافقه الحاج علي بوطالب والترجمان الإسباني كريسطوبال بينيطيث(C. Benitez) الذي كان تعرف عليه خلال مقامه بتطوان والذي كان أحد

ص: 156

الذين عاشوا بالمغرب منذ الصبا حتى تعلم اللغة العربية. وأثناء رحلته سمى الحكيم عمر بن علي.

وقد نشر لنس كتاب رحلته بعنوان «رحلة من مراكش إلى الصحراء والسودان» المطبوع سنة 1881م، ذاكراً فيه عيوب الإدارة المغربية، ومطالباً باحتلال البلاد، وقد تُرجم الكتاب إلى عدة لغات منها الفرنسية.

- من إنجلترا

- أرثور ديك يبل بروك(A. De Capell Brook) السير بروك تجول بالمغرب سنة 1830 و 1831، ودخل تطوان وطنجة والعرائش. له تصنيف عن المغرب وإسبانيا طبع بلندن سنة 1831 عنوانه «sketches in spain and Morocco».

- سكوط أوكونورفيل (Scott O'connorvil) له كتاب ألفه سنة 1842 عن معاشرته للحاج عبد القادر بن محيي الدين عنوانه: «يومية إقامة بسمالة عبد القادر وسفريات إلى المغرب والجزائر : Ajournale of a residence in the Esmalia of Abdelkader and of travles in Morocco and Algirrs».

- ديفيد أوركهارت (D. Urquhart) دبلوماسي ورحالة زار شمال إفريقيا سنة 1848، ونشر كتاباً في مجلدين بلندن سنة 1850م عنوانه: «أعمدة هرقل أو قصة رحلات إلى المغرب وإسبانيا: the pillars of hercules; or a Narrative of travles in Spain and

Morocco».

- جون بول (J. Ball)، وماو (Maw)، والسير ج د هوکر (J. D. Hooker) علماء نباتيون قاموا جميعا سنة 1871م برحلة دراسية وجغرافية ومروا عن طريق دمنات ودخلوا وادي أمزميز. وأشهرهم هو الأخير الذي له تأليف مشترك مع بول صدر سنة 1878 عن جولتهما بالأطلس الكبير، وعنوان الكتاب: «مذكرة جولة بمراكش والأطلس الكبير : Journal of a tour in Morocco and the Great Atlas».

ص: 157

- أرثور ليرد (A. Leard) طبيب زار المدن الشاطئية سنة 1872 وأقام بالصويرة ومراكش وطنجة، ورافق السفارة البرتغالية إلى قصر السلطان، وله تأليف في 354 صفحة طبع بلندن سنة 1891م بعنوان «المغرب والمغاربة: Morocco and the Moors «لخصه عبد المجيد بنجلون في «جولات في مغرب الأمس: 1872».

- جوزيف طومسن (J.J. Thomson) وصل إلى المغرب في ماي 1888م وتجول بالأطلس وسوس ونشر سنة 1889 كتاب رحلته بلندن في 488 صفحة عنوانه: «سفريات إلى الأطلس وجنوب المغرب، قصة ارتياد: Travles in the Atlas and Southern.Moroccon

a narrative of exploration، ».

- من إسبانيا:

- أستبانث كلدرون (Serafin Estébanez Calderon) (1879-1799)، أديب رومانسي إسباني متأثر بالثقافة العربية، تعلم اللغة العربية عقب وصوله إلى مدريد سنة 1830.

- ولما شبت الحوادث في مراكش سنة 1844م حتى كادت تؤدي إلى إشعال الحرب بين إسبانيا والمغرب، ألف أستبانت كتابا بعنوان: «متن الضابط في مراكش»، وفيه يقدم للضابط الذي سينخرط في الحرب في المغرب دليلاً تاريخياً وجغرافياً لبلاد المغرب، مع وصف دقيق للأحوال الجوية، وللسكان، وللمدن، والعادات والآداب ومعلومات عن الدين الإسلامي، والقوة الحربية، والعلاقات التاريخية بين إسبانيا والمغرب منذ أقدم العصور حتى ذلك الحين.

- وثم جانب آخر اهتم به أستبانث فيما يتصل بالعرب والمسلمين في إسبانيا وهو الاهتمام بالأدب «الأعجمي»، أي الأدب الذي كتبه الموريسكيون بحروف عربية وإن كان باللغة الإسبانية. وقد استنسخ منه عدة مخطوطات، وقد وصف هذا الأدب الأعجمي قائلاً: «إنه أميركا حقيقية تستحق الاستكشاف».

ص: 158

- لافونته (Emilio Lafuente Y Alcantara) (1825 - 1868)، مستشرق إسباني وأديب رومانسي النزعة ألف تاريخ غرناطة.

أُرْسِل في سنة 1859 إلى المغرب حيت كانت في حرب مع إسبانيا، وذلك من أجل دراسة مجموعة من المخطوطات العربية كانت الحكومة الإسبانية قد حصلت عليها أو ترغب في اقتنائها. فقام بهذه السفرة، وفي سنة 1862 صنف فهرساً لهذه المخطوطات طبع في السنة التالية بعنوان: «فهرست المخطوطات العربية التي اقتنتها حكومة صاحب الجلالة في مدينة تطوان»، وفيه وصف هذه المجموعة المؤلفة من 233 مخطوطا عربيا في موضوعات شتى، وبعضها كانت نسخاً من مؤلفات معروفة كان الموريسكيون قد أخذوها معهم عند طردهم من إسبانيا، وبعضها الآخر كان ضمن مكتبات خاصة في المغرب.

- خوصي ماريادي موركا إي موكارتيكي : (J. M. de Murga Y Mugartegui) أو الحاج محمد البغدادي رحالة ولد بإسبانيا سنة 1827م وتوفي بقادس في فاتح دجنبر 1876. استوطن المغرب من 1863 إلى 1866 ورحل عنه، ثم عاد إليه سنة 1873 دون رحلته التي نشرت عدة مرات أولها سنة 1868م بمدينة بلباو بعنوان: «ذكريات لمسلم من بيتكايا»: (Recuerdos Del moro vizcaino).

- أنطونيو باريخا سيرادو (A. Pareja Serrado) أو أبو جبل قام سنة 1868 بجولة بالمغرب فزار سبتة وتطوان وفاس وبعض المدن الداخلية وألف كتاباً عن «مستقبل إفريقيا».

- من فرنسا:

- شارل كوشلي (Ch. Cochelet) ألف كتاباً روى فيه قصة أسره وحياته بالمغرب لما حرِضَت الباخرة «لا صوفي (La Sophie) «يوم 30 ماي 1819 بساحل وادي الذهب بين طرفاية وبوجدور. وقد طبع كتابه بباريس سنة 1821 في مجلدين بعنوان: «حَرَض المركب الفرنسي لاصوفي Naufrage du brick français La Sophie».

ص: 159

- أدولف ده کارامان (A. De Caraman) رحالة تجول بالمغرب من أبريل إلى يونيو 1825م، وهو ضابط استدعاه قنصل فرنسا بطنجة سوردو لمرافقته إلى فاس لتسليم رسالة الملك شارل العاشر إلى السلطان مولاي عبد الرحمان. وله تقاييد ومذكرات عسكرية عن الجزء الذي تجول فيه بالمغرب نشرت سنة 1844.

- أوجين دلاكروا: (E. Delacroix) رسام ولد سنة 1798 وتوفي سنة 1863. له لوحات شهيرة، كما أن له لوحات رسمها خلال مقامه القصير بالمغرب. وله أيضا دفتر مذكراته طبع سنة 1893 بعنوان: «يومية السفر إلى المغرب : Journal de voyage au Maroc»، أما رسالته فقد نشرت سنة 1880م.

- ري: (Rey) نشر سنة 1844 كتابه: ذكريات رحلة إلى المغرب: (Souvenirs d'un voyage au Maroc)، وقد ساح قبل السنة المذكورة فدخل طنجة والدار البيضاء ومكث عدة أسابيع بالرباط كما حل بسلا مرة واحدة.

- نارسيس كوط (Narcice Cott) كان ترجمانا لقنصل فرنسا بالرباط حيث مكث سنة 1854 و 1855، ثم انتقل إلى طنجة وقضى بها سنتين. له تأليف نشر سنة 1859م بباريس عنوانه «المغرب المعاصر : Le Maroc Contemporain».

- هنري رينيو: (H. Renault) قدم إلى طنجة يوم 13 دجنبر 1869، واکتری منزلا بعشرین فرنكا في الشهر وأثثه تأثيثا مغربيا واتخذ لخدمته عددا من المغاربة. وكان يرسم لوحاته المغربية ويبحث عن الموسيقى والفولكلور الوطني ويحضر مهرجانات التبوريدة. حاول أن يتعلم العربية وأن يهتم بالتقاليد والعوائد المغربية.

- رنييه باسیه : (R. Basset) مستشرق فرنسي من أعضاء المجلس العلمي العربي، اشترك في اللجنة الأولى التي أصدرت دائرة المعارف الإسلامية، ومن آثاره: «الشعر العربي قبل الإسلام». كما ألف «المخطوطات العربية لخزانتين فاسيتين: Les manuscrits

arabes de deux bibliothéques de Fés».

- موريس باليلوك:(M. Paléoloque) وصف مقامه بطنجة ومراكش في كتابه «المغرب، تقاييد وذكريات: Le Maroc ; notes et souvenirs» نشر سنة 1885 التي قدم قبلها إلى المغرب.

ص: 160

- ترّاس (Henri Terrasse) (1971-1895)، عالم بالآثار الإسلامية في مراكش والأندلس. عين مديرا للدراسات في الآثار الإسلامية بمعهد الدراسات العليا بالمغرب، واستمر في هذا المعهد حتى سنة 1957، وأصبح فيما بعد مديرا لهذا المعهد سنة 1943، وقد قام بنشر منشوراته في هذه الفترة؛ وأولها رسالة الدكتوراه من كلية الآداب بجامعة باريس، وعنوانها: «الفن الإسباني - المغربي من البداية حتى القرن الثالث عشر»، والثاني هو: «مسجد الأندلسيين في فاس» 1942، والثالث هو: «الجامع الكبير في تازة» باريس 1943.

وقد اهتم تِرّاس بتاريخ المغرب، فكتب في ذلك كتاباً ضخماً في جزءين، طبع في الدار البضاء سنة 1949 - 1950 بعنوان: «تاريخ المغرب من البداية حتى فرض الحماية الفرنسية» ونضر في الدار البيضاء سنة 1925.

-لقد استخدم الاستشراق الكتب والمجلات والمقالات وكراسي التدريس، والمؤتمرات العملية والمحاضرات العامة وغيرها من الوسائل لخدمة الاستعمار في أغلب الأحيان لا لخدمة العلم والحقيقة، ففي المجال الديني يجب أن يقال أن الإسلام دين مخترع ملفق، كما تجب مهاجمة شخصية النبي الكريم، ولتفكيك روابط العرب يجب أن يفهم الناس أن العربية الفصحى لا تصلح لشيء وأنها لغة قديمة وأن اللهجات المحلية أنفع منها.

- وللإجهاز على الروابط القومية والنظم الاجتماعية الشرقية يجب أن يعزى كل شعب إلى أصله، لأن العرب لم يكن لهم فضل في ثقافة أو تاريخ، ولإضعاف الروح القومية والاعتماد على النفس يجب أن يفهم الشرقي أنه غير مؤتمن الجانب، وأن الاختلاس غريزة فيه، وأن الشرف بعيد عنه، وأن بلاده وتربيته لا تصلح إلا للزراعة، وأن عقله غير مكون تكويناً تجارياً، وهذا كله ليحتكروا التجارة والصناعة ويتركوا للبلاد المستعمرة العمل الزراعي الشاق الذي لا يدر إلا الخير القليل، ويحطموا تلك العقلية الفذة التي لعبت خلال عشرة قرون دوراً فعالاً في بناء تاريخ الإنسان وحضارته (1) .

ص: 161


1- أحمد سمايلوفيتش، المرجع السابق، ص 122- 123.

ومن المعلوم أن أشكال وصور التعاون والارتباط بين المستشرقين والنظرية الاستعمارية تعددت وتنوعت، في شقها المباشر أو غير المباشر، نعرض في ما يلي بعضا منها (1):

ساهم تنقل المستشرقين وترحالهم في بلدان العالم الشرقي في إعطاء صورة واضحة لصناع القرار الغربي في اختيار الأمكنة الملائمة لجيوشهم، وفي توزيع رقعة العالم الشرقي بينهم.

قدم بعض المستشرقين خدمات مباشرة للحركة الاستعمارية، حيث كلف الكثير منهم بمهام محددة، منها على سبيل المثال ما قام به البعض من دراسات تحت رعاية شركة الهند الشرقية، التي عرفت بدورها الاستعماري في شبه القارة الهندية.

ساهمت الدراسات الاستشراقية التي ركزت على ما يسمى بالفرق الإسلامية في العملية الاستعمارية من خلال التركيز على إثارة النعرات الطائفية والحزبية والمذهبية ومحاولة تجذيرها لإحكام قبضته على مناطق العالم الشرقي.

فقد نشأت الصلات بين المشروع الكولونيالي والاستشراق في سياق تاريخي هو سياق تكوُّن كل منهما وتطوره، والمتغيران بدلا العلاقات بين الشرق والغرب تبديلاً كلياً تمثل في امتلاك أوروبا معرفة نسقية متنامية للشرق، عززتها الكولونيالية بعلوم جديدة (الإثنولوجيا - الفيلولوجيا - التاريخ ...)، وحيازة أوروبا أسباب القوة حتى لا نقول أسباب السيطرة، فقوة الاستشراق إنما تنهل من هذه الصلة التي شدته إلى المشروع الكولونيالي، من دون أن يعني ذلك أنه لا يمثل نصابا في المعرفة الغربية. إن القوة الثقافية التي تمتع بها الاستشراق مستفيداً من خبراته المكتسبة وتراكماته المعرفية ومن صلاته بالمؤسسة الكولونيالية انعكست على بيان وتحليل الاستشراق بما هو تجسيد لتلك القوة الثقافية، وإعادة إنتاج مستمرة لها، فتعيين الاستشراق بما هو «وجه من وجوه الإمبريالية والاستعمار معاً» أمر يحتاج إلى إخضاعه لعملية

ص: 162


1- محمد فتح الله الزيادي، المرجع سابق، ص 39.

تحليل، وليس مدعاة إلى الاستغراب، فشرق المستشرق ليس الشرق في ذاته، أي كما هو، وإنما شرق مُسْتشرَقٌ، يلبي حاجة غير معرفية: حاجة سياسية يعبر عنها الطلب الكولونيالي على الاستشراق وصلات رجال المؤسسة الكولونيالية بالمستشرقين (1) .

لقد خدم الاستشراق الأهداف السياسية الاستعمارية للدول الغربية عندما سار المستشرقون في ركاب الاستعمار، وقدموا معلومات موسعة ومفصلة عن الدول التي رغبت الدول الغربية في استعمارها والاستيلاء على ثرواتها وخيراتها. وقد اختلط الأمر في وقت من الأوقات بين المستعمر والمستشرق فقد كان كثير من الموظفين الاستعماريين على دراية بالشرق لغة وتاريخاً وسياسة واقتصاداً. وكان الموظف الاستعماري لا يحصل على الوظيفة في الإدارة الاستعمارية ما لم يكن على دراية بالمنطقة التي سيعمل بها.

ويؤكد محمد خليفة حسن أنه بالرغم من تعدد مراحل الاستعمار؛ فالمرحلة الأخيرة التي تغطي القرنين التاسع عشر والعشرين تعد من أهم هذه المراحل وأخطرها فكرياً وسياسياً على المسلمين؛ إذ لم يكتف المستعمر فيها بنهب الموارد الاقتصادية، وفرض السيطرة السياسية والفكرية، ولكنه اتجه إلى إحداث التغيير في التفكير السياسي عند المسلمين وإجبارهم على تبني النظم السياسية الغربية والتخلي عن النظم الإسلامية. وهذا دور فكري قام به الاستشراق السياسي الذي نقد النظم الإسلامية، ووصفها بالجمود والتخلف وعدم الصلاحية (2) .

فقد كان المستشرق هو المسؤول الاستعماري نفسه حين عُيِّن العديد من المستشرقين كموظفين في الدوائر الاستعمارية، وحين جذب الاستشراق عدداً من الضباط والجنود والمترجمين في هذه الدوائر الاستعمارية فوظفوا خبرتهم لخدمة الاستعمار، وجمعوا بين العمل الاستشراقي والعمل الاستعماري (3) .

ص: 163


1- للمزيد أُنظر: عبد الإله بلقزيز، نقد الثقافة الغربية في الاستشراق والمركزية الأوروبية، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 1، 2017، ص 105-106.
2- محمد خليفة حسن، آثار الفكر الاستشراقي في المجتمعات الإسلامية، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، ط 1، 1997، ص 40.
3- المصدر نفسه.

وبالعودة إلى المغرب الذي عرف توافد العديد من المستشرقين في فترات مختلفة قبل وبعد استعماره، نذكر أحد أبرز الفرنشسكانيين الذي حل بطنجة سنة 1862م بعد حرب تطوان، والملقب بخوصي ماريا لورشندي كبير الرهبان آنذاك. وحيث أنه كان مستعربا فقد كانت له اتصالات بالدوائر المخزنية العليا، فرافق الطريس إلى روما سنة 1888م لمقابلة البابا وتهنئته، وشارك أيضاً في سفارة أخرى إلى إسبانيا. زد على ذلك أنه كان على اتصال بأعيان مغاربة كان يتراسل معهم، ويتسمى في المراسلات بيوسف الجندي، كما كان من المتحمسين لتنصير المغاربة ولاسيما بالصحراء الجنوبية (1) .

وقد ورد اسم لورشندي كثيراً في كتابات الإسبان أنفسهم، أبرزهم خوان لويس نافال موليرو المؤرخ الرسمي ليتشيبيُونا الذي نشر معلومات مهمة عن الباحث الفرنشسكاني، فإضافة إلى تاريخ ميلاده (24 فبراير 1836م)، ووفاته التي كانت بطنجة يوم 9 مارس 1896م، نجد إشارة إلى أن الأب لورشندي عُرفَ بكونه مستعرباً، وكاتباً دبلوماسياً، وعضو الأكاديمية الملكية الإسبانية (1874)، كما تقلد منصب عضو فخري في الجمعية الإسبانية ل Africanists (المهتمين بالأفارقة وإفريقيا والمستعمرين)، دون نسيان الجوائز المهمة التي حصل عليها من إيزابيلا الكاثوليكية، كما يحتفظ تمثال في الساحة الأمامية بمريم تشيبيونا بذاكرته (2).

ونقرأ في الدليل الفرنشيسكاني الإلكتروني أن لورشندي كان دبلوماسياً مرموقاً، وصديقا للسلطان مولاي الحسن، وكان نجم السياسة الإسبانية في المغرب، وشارك في العديد من السفارات، وقد ساهم عمله في تنفيذ وإعداد السفارة التي أرسله بشأنها السلطان لاوون الثالث عشر Leon XIII في عام 1888 بأن تحظى إسبانيا بمكانة مرموقة (3) .

وقد نشأ لورشندي وترعرع وسط عائلة شديدة التدين، كما أن اسمه كان هو

ص: 164


1- مصطفى بوشعراء، الاستيطان والحماية بالمغرب، مطبعة المعارف الجديدة، ج4، 1989، ص 1404.
2- .(Juan Luis Naval Molero، Cronista oficial de la villa de Chipiona، EL PADRE JOSÉ LERCHUNDI : www.chipionacronista.blogspot.com/201101//el-padre-jose-lerchundi.html (6 - 10 - 2016-
3- .www.franciscanos.org/enciclopedia/joselerchundi.htm-

خوسيه أنطونيو رامون، الذي تغير لاحقا بسبب مهنته إلى خوسيه ماريا دي سان أنطونيو.

ويؤكد لويس موليرو على ثلاث محطات رئيسية دينية يمكن الحديث عنها في حياة المستعرب الإسباني: فالأولى كانت في 14 يوليو 1856م؛ حيث شهد لورشندي العادة الفرنشسكانية في الكلية التبشرية بريجو Preigo، أما الثانية فسُجلت یوم 24 شتنبر 1859م عندما رُسِّم كاهناً، في حين المحطة الثالثة كانت عندما أنشد قُداسه الأول يوم 4 أكتوبر من نفس السنة (1) .

وقد أطلق عليه لقب الرسول المبشر من طرف المجمع المقدس لنشر الإيمان سنة 1861م، وفي السنة الموالية بتاريخ 19 يناير نزل إلى طنجة حيث كانت رحلته محفوفة بالمخاطر ومؤدية إلى الموت لولا اعتدال المناخ، وتدخل منظمة الصحة العالمية إضافة إلى سهر مرافقيه على حالته الصحية.

كما تم تعيينه نائب العضو المنتدب لشركة برو سنة 1863م، وفي حالة غياب محافظها يتكلف لورشندي بالأبرشية في طنجة حيث يُسرت له مهام التبشير. وبعد عدة تقارير من لجان مختلفة ومن مقربين وغرباء، وكمكافأة لخدماته الجيدة ومهاراته الاستثنائية رغب في الترشح إلى رئاسة مجلس النواب ببعثة تطوان، بالرغم من كونه لا زالا في الواحد والثلاثين من عمره (1867م)، ومع مرور الوقت سيحتل أعلى منصب في بعثة الرسول برو المحافظ سنة 1877م بعد 15 عاما من الخدمة. إلا أن عدم الاعتراف بتعيين لورشندي أدى إلى نشوب صراع خطير وغير متوقع بين حكومة مدريد والكرسي الرسولي، الشيء الذي عجل بتقاعد المستعرب الإسباني من كلية المبشرين حيث شغل منصب رئيس الجامعة بسانتياغو دي كومبوستيلا، إلا أن الصراع لم يدم طويلاً حيث بعد العديد من محادثات التسوية والدبلوماسية أُذِنَ له بالعودة إلى المنصب الذي كان فيه (2) .

ص: 165


1- .Juan Luis Naval Molero. EL PADRE JOSÉ LERCHUNDI-
2- المصدر نفسه.

وقد أدرك لورشندي منذ بداية حياته التبشيرية أن أداءه في أرض المغاربة لا يمكن أن يختزل في وزارة الرسولية البسيطة لأنه شعر بميل غريزي لدراسة اللغة العربية، كما أراد التعرف على حضارة وتاريخ المسلمين، فكرس لذلك طاقته ووقت فراغه. وغلبت الخلفية التعليمية للبعثة التي كان يرأسها بشكل واضح في تاريخها، وذلك من خلال اهتمام لورشندي بأطفال المدارس الابتدائية ومجال التعليم العالي كذلك، فبدأ بإعداد لوائح لما سيحتاجه في التدريس وكل ما من شأنه أن يوفر لهم مواد تعليمية حديثة ومناسبة وكافية، مع توسيع مجالات التدريس بإضافة اللغات الأجنبية الفرنسية والإنجليزية إلى جانب الموسيقى (1) .

وكرس لورشندي جهده في المجال التعليمي، وإن كان ذلك يقابل باعتراض شديد كما وقع في طنجة عندما حاول إنشاء مؤسسة دينية بعدما استطاع جمع الدعم من مؤسسة خيرية (1883-1886)، كما شجع فقر الموارد في المغرب لورشندي بالاهتمام بقطاع التعليم حيث قام بفتح المدرسة الثانوية سنة 1892، وأسس جمعية السيدات الكاثوليكية سنة 1895 التي كانت مسؤوليتها البحث عن موارد لصيانة المدارس، دون أن ننسى عدداً مهما من المشاريع التي لم يكتب لها النجاح، وكان مصير معظمها الفشل دون أن يؤثر ذلك في مسار لورشندي (2) . ومع كل ما قام به في الجانب الخيري استطاع أن يجني وينتزع لقب (أب الفقراء) خاصة بعدما أنشأ ثلاث مؤسسات يمكن اعتبارها الأفضل في المجال الاجتماعي والخيري؛ ويتعلق الأمر ببناء حي للمنازل الاقتصادية المنخفضة التكلفة لإيواء خمسة وثلاثين من الأسر الفقيرة سنة 1887م، وبناء المستشفى الإسباني بطنجة سنة 1888م، إضافة إلى افتتاح مطبخ لمساعدة المحتاجين سنة 1895م. ومع تزايد أعمال البعثة إضافة إلى ظروف وحاجيات جديدة طالب لورشندي سنة 1882م بإنشاء مركز للتدريب أو كلية المبشرين الفرنسيسكان ملزمة لبعثات كل من المغرب وأراضي سانتا، فكلفت الحكومة الإسبانية لورشندي بتنفيذ المشاريع بعدما تلقى الدعم والإذن لذلك (3) .

ص: 166


1- المصدر نفسه.
2- المصدر نفسه.
3- نفسه.

وإضافة إلى الأعمال التبشيرية التي كان يقوم بها في علاقته بالبعثة الكاثوليكية، فقد عرف عن لورشندي اهتمامه البالغ للأطفال المحرومين، حيث يرى الباحثون أن هذا الجانب من حياته هو الذي يستحق الإبلاغ عنه والتعريف به.

ومن بين أعماله وكتاباته، تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى مخطوطة له بها ما يقارب 400 صفحة يسلط الضوء فيها عن بعض سماته البارزة، خاصة وأن من عرفوه يصفونه بالنزاهة وقوة الشخصية، ووفي بالتزاماته ومسؤولياته، ولطيف ومتواضع، ومتقشف، ونشط بروح مبتكرة، كما أنه يهتم بالآخرين بجانب توفره على مهارات عالية خاصة في الجانب الديبلوماسي. وقد عرف عنه أيضاً كونه مغامراً وله قدرة كبيرة على التواصل مع جميع أنواع الناس، كما كان رجل صلاة محباً لدعوته الفرنشسكانية والتبشيرية.

يتضح لنا مما ورد حول لورشندي أن النشاط التنصيري تأسس بالمغرب في القرن التاسع عشر مركزاً على العديد من الأساليب أبرزها التعليم والعلاج، واستغلال الفقر والأمية.

والجدير بالذكر أن العديد من الهيآت والمنظمات ساهمت في تشييد المستشفيات والمستوصفات، كما قامت بذلك بعثة (نورث) بمدينة طنجة سنة 1886م التي شيدت مستشفى قصده العديد من المرضى من المدينة ومن الآفاق البعيدة والنواحي القريبة. وقد سار الأمر على نفس المنوال في باقي المدن كتطوان وصفرو والعرائش والدار البيضاء، في حين تكلفت بعثة (سوذرن) بمدن الصويرة والجديدة وآسفي ومراكش، حيث لم تخل مدينة ساحلية ولا قاعدة داخلية من أطباء وممرضين ومساعدين، نساء ورجالا، وقد تعاطوا أنواعا مختلفة من النشاط الصحي الممزوج بالتلقين الديني.

فقد كان التطبيب مطية للتنصير من مشرق الأرض إلى مغربها حسبما ورد في مختلف الكتب. ومن المؤلفين من زاروا المغرب مثل فرانسيس ماك نيب التي ذكرت أن النصرانيين كانوا يستغلون فقر المغاربة لتمسيحهم، فإذا لم ينصت المريض إلى

ص: 167

ما يتلونه من إنجيل، فلا دواء يعطى لهم، بحيث كانت أعمالهم مغطاة كلها بستار الطب (1).

فالعلاج الجسماني كان يبدأ بالوعظ العقائدي، وبمخاطبة الضمائر قبل فحص الأبدان، ويمكن هنا أن نستعين بالوصف الذي اعتمده مصطفى بوشعراء بأجواء العلاج والتطبيب: «أمام باب دار البعثة تقبع جماعة من الناس قبل الافتتاح، وفي الساعة الثامنة يفتح المركز، ويدخل النساء والرجال إلى الدار ليستقر كل جنس في بيت ... فيعظهم القس ويرد على اعتراضات الجمهور، الذي يظل بعضه صامتاً، ويخرج البعض الآخر غاضبا، مفضلاً مغادرة القاعة دون دواء على أن يسمع كلام كافر، وبعد نصف ساعة يبدأ العلاج، ويجري نفس الشيء من النساء في الغرفة الأخرى»(2) .

3 - الخاتمة

سلك الاستعمار بعد أن قدم إليه الاستشراق كل ما في وسعه وكل سبيل للتغلغل في جميع الميادين؛ فاتجه إلى الفرد والجماعة والأخلاق والآداب والفنون والعلوم والآثار والأديان، واستعان على تحقيق أهدافه بكل السبل، فقد اعتمد الغرب في توسعه على استخدام وسائل خبيثة وخلق عصبيات إقليمية وإيجاد عقليات انفصالية حتى وجدت بين العرب اتجاهات متعارضة ممن يزعم أن وطنه أقرب للغرب منه إلى الشرق، وآخر يزعم أن حضارة بلده آشورية أو فرعونية صافية، أو فينيقية زاخرة، ولا علاقة لها جميعا بالحضارة الإسلامية العربية من قريب أو بعيد.

لقد كان الاستشراق مصنعاً لكل هذا وذاك، وكان الاستعمار مستهلكا أمينا له، تركزت فيه قوى التآمر الدولي والهجوم العالمي على العالم العربي والإسلامي، وقد اعتمد الاستعمار على الاستشراق في دراسة واقع الدول المراد استعمارها، بجمع المعلومات المتعلقة بها، ودراسة جغرافية الأرض، وطبيعة السكان وعاداتهم

ص: 168


1- مصطفى بوشعراء، مرجع سابق، ص 1430.
2- المصدر نفسه.

وأديانهم، ومواطن قوتهم وضعفهم، فتشكل بذلك للمستعمر تصور تام عن الدول المراد احتلالها.

كما ساهم المستشرقون في صناعة عملاء للمستعمرين ببلاد المسلمين، ونشر الشبهات حول قيم الإسلام وتعاليمه، مما يشكك المسلمين في دينهم. كما كان لتهويل قوة المستعمر أثر كبير في بث الرعب في قلوب المسلمين من مواجهته، إضافة إلى تشجيع القوميات التاريخية التي بادت واندثرت، بهدف نشر العصبيات بين المسلمين، وتشتيت كلمتهم، وتفريق وحدتهم.

ويبقى في الأخير أن نؤكد على ضرورة دراسة الاستشراق دراسة واعية منهجية لإبراز ما له وما عليه، في جميع ميادين نشاطه التي عنى بها خلال مراحله المختلفة، مما يتطلب تضافر جهود الباحثين الذين يمتازون بثقافة عالية ومتنوعة لغوية، وإسلامية، واجتماعية، وفلسفية، وتاريخية، وأدبية، ونقدية.

ص: 169

ص: 170

الفصل الرابع : الاستعمار المعرفي

اشارة

ص: 171

المثقَّف المستعمَر وما بعد المستعمَر

اشارة

في رؤية فرانز فانون وعلي شريعتي وإدوارد سعيد

يوسف جيرار

يوسف جيرار (1)

المثقف بحسب التعريف المقبول والشائع، هو شخص تنطوي مهنته، بشكل أساسي، على نشاط ذهني، أو هو ذلك الذي لديه حسّ مؤكد، إزاء النشاطات الذهنية، ومع ذلك، ينبغي لهذا التعريف أن يؤخذ على محمل النسبية.

المثقفون بحسب منظور غرامشي، ينبغي أن يُقدروا، بمقتضى مجمل نسق العلاقات الاجتماعية، التي تقع داخله النشاطات الثقافية، والمجموعات التي تمثلهم. المثقفون ينبغي أن يُدرسوا بمقتضى توازن علاقات السيطرة الأساسية والقوى المنتِجة. وأحد توازنات السيطرة المحورية في المجتمع الاستعماري، وما بعد الاستعماري، كي لا أقول توازن السيطرة المحوري، وهو ذلك الذي يسمح بسيطرة المستعمِر على المستعمَر وسيطرة المستعمِر خلال الفترة الاستعمارية وما بعدها، وبعد ذلك سيطرة الحضارة الغربية على الحضارات الأخرى.

ص: 172


1- مؤرخ فرنسي من عائلة يسارية أسلم في سن الثامنة عشرة (18)، مختص في حركة «التحرير الوطني الجزائرية». - العنوان الأصلي : L’INTELLECTUEL COLONISÉ ET POST-COLONISÉ SELON FRANTZ FANON، ALI SHARIATI ET EDWARD SAÏD المصدر: https://www.scribd.com/document/62274017/Youssef-Girard ترجمة: صلاح عبد الله.

وبحسب أنطوني غرامشي، المثقفون هم موظفو البنى الفوقية السياسية، الثقافية والاجتماعية وهم قد يسمحون بنشاطهم، أن يؤمّن المجتمع السياسي «قانونياً» و «باخلاص» انضباط المجموعات الخاضعة، والمقصود في هذه الحالة، المستعمَرين أو المستعمَرين سابقاً. ومن هذا المنظور يساعدون على تنظيم المجتمع المدني، من خلال إنتاج «توافق» الأغلبية على أشكال الحياة، وأنماط السلوك والتفكير، وعلى ممارسات مؤسسات السلطة، التي تفرضها الفئة المسيطرة، وهي برأينا، المستعمرون بشتی أشكال الإدارة. للمثقف إذاً وظيفة سياسية - أيديولوجية - ثقافية بامتياز.

يمكن أيضاً للمثقّف، أن يكون ذا دور «مخرّب»، إذ يقرر أن يكون مثقفاً عضوياً لشريحة اجتماعية مسيطر عليها ومذ ذاك، يصبح حبة رمل داخل الهيمنة التي بنتها الكتلة التاريخية المسيطرة. والمثقّفون، من هذا المنظور، يساهمون بإنتاج كتلة تاريخية جديدة، متسبّبين بأزمة، على المستوى السياسي والأيديولوجي- الثقافي، في توازن السيطرة بين المسيطرين والمسيطَر عليهم، بين المستعمِرين والمستعمَرين. وإنتاج هذه الكتلة الجديدة، يمر عبر رفض المستعمَرين خلال الفترة الاستعمارية وما بعدها وخصوصاً «المثقفون»، من بين هؤلاء، القبول السلبي لتبعيتهم.

رفض التبعية هذه، أساسي في النضال ضد الاستعمار، لأن بنيتها ترتكز كلياً، على إيديولوجيا تؤسس تراتبية، بين مختلف الفئات البشرية. فالمستعمَر خلال الفترة الاستعمارية أو بعدها، يمثل في المجتمع الاستعماري مادياً الفئة المغلوبة سياسياً، مؤسساتياً وإيديولوجيا وثقافياً. ومن هنا يمكن «للمثقف» أن يلعب دوراً أساسياً في رفض هذه السيطرة.

ومن بين مثقفي الجنوب الذين رفضوا هذه السيطرة الأيديولوجية - الثقافية فرانز فانون، علي شريعتي، وأدوار سعيد، الذين لعبوا دور الطليعة الثقافية. وقد تميز فكرهم، قبل كل شيء، برفض رؤية الثقافات غير الغربية منغلقة في وضعية الخضوع. أراد الثلاثة أن يكونوا مفكرين نقاداً ومستقلين، في مواجهة الخطاب السائد، المنتج في الغرب.

ص: 173

ولد فرانز فانون في فور دي فرانس، في المارتينيك في 1925. تجنّد في الجيش الفرنسي وجُرح في إحدى المعارك، وحاز على وسام صليب الحرب، ولما حصل على منحة من الدولة الفرنسية، استقر في فرنسا، لدراسة الطب في جامعة ليون. وقرر أن يتخصص في طب الأعصاب. وفي 1952 نشر مؤلفه الأول «بشرة بيضاء أقنعة سوداء». حيث يقارب العلاقات غير المتساوية بين الرجل الأبيض والرجل الأسود. وفي السنة التالية عُيّن في مستشفى الأمراض العصبية في بليدا، في الجزائر. هناك شاهد حقيقة السيطرة الاستعمارية، أي عالماً يسيطر عليه المستعمرون الأوروبيون. وبعد مضي أشهر على اندلاع الثورة الجزائرية، صار فرانز فانون على اتصال مع جبهة التحرير الوطنية، ثم أصبح في 1959 معتمداً للصحافة الوطنية الجزائرية. ونشر في 1959 بحثاً مجلجلاً «عام انتصار الثورة الجزائرية» L’an v de la revolution algérienne. وبعد ذلك بقليل علم أنه مصاب بسرطان الدم، ومات في كانون الأول/ ديسمبر من العام 1961، حين كان مؤلفه الرئيس، «معذبو الأرض» يخرج من مطابع دور نشر ماسبيرو. إنه مؤلف مهم أحدث، منذ صدوره، تأثيراً كبيراً على قسم كبير من المثقفين، ومناضلي بلدان العالم الثالث، وخصوصاً علي شريعتي وأدوار سعيد.

ولد علي شريعتي في 1933، في مازينان، شمال شرق إيران. وأصبح مدرساً في نهاية المرحلة الأولى من دراسته الثانوية. وفي السنة التالية، التزم في حركة المقاومة الوطنية، التي كانت تدافع عن أفكار مصدّق. وفي 1955 التحق بكلية الآداب في مشهد، ثم حصل على منحة سمحت له بالسفر إلى فرنسا في 1959، حيث أقام علاقة مع المقاومة الوطنية. واكتشف مؤلَف فانون الذي ترجمه جزئياً إلى الفارسية وفضلاً عن نشاطاته النضالية، تابع محاضرات لويس ماسينيون، جاك بيرك وجورج غير فيتش. وفي العام 1963 حاز على شهادة دكتوراه في الآداب، من جامعة السوربون، وفي 1964 عاد إلى إيران ليصبح أستاذاً في جامعة مشهد حتى 1972. ألقى محاضرات عديدة، على امتداد البلاد، ولكن السافاك، الشرطة السرية لشاه إيران، منعته من النشر ومن أية مداخلات سياسية. وبين عامي 1973 و 1975 اعتقلته الشرطة نفسها، لمدة

ص: 174

ثمانية عشر شهراً. وفي 17 أيار / مايو ترك علي شريعتي إيران قاصداً انكلترا. وبعد ذلك بشهرين في 19 حزيران/ يونيو وجد ميتاً في ساوثمبتون، دون أن تتضح حقيقة أسباب هذا الموت الغامض، مارس علي شريعتي تأثيراً كبيراً على جيل كامل من الإيرانيين وبشكل أكثر عمومية في مجمل العالم الإسلامي. ذلك أن علي شريعتي، بخلاف فرانز فانون وأدوار سعيد، كان رجلاً مؤمناً، ودرس المسائل الاجتماعية - السياسية «كمثقف ومؤمن» باستعادتنا لتعبيره الخاص. وبهذه الصفة يمكن أن يعتبر واحداً من الرواد، الذين اسماهم حسن حنفي لاحقاً «اليسار الإسلامي» أو «علم الكلام الإسلامي للتحرير».

وأخيراً، ولد ادوار سعيد في 1935 في القدس أمضى مراهقته في مصر، ثم سافر لمتابعة دراسته في الولايات المتحدة. كان أدوار سعيد أستاذاً للأدب الإنكليزي، والأدب المقارن في جامعة كولومبيا، في نيويورك. في مؤلفه الأهم، الاستشراق الذي نشر في العام 1978، حلل نسق التصورات، التي من خلالها، خلق الغرب الشرق، ثم أقفل عليه. وفي المرحلة الأخيرة من حياته، ناضل أدوار سعيد ضد شيطنة الإسلام ومن أجل كرامة الشعب الفلسطيني. وكان كرجل ملتزم، عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني ابتداءً من أواخر سبعينات القرن الماضي. وكان عليه أن يستقيل بسبب معارضته لاتفاقيات أوسلو ولسياسة ياسر عرفات، التي منعت دخول كتبه إلى أراضي «الحكم الذاتي» الفلسطينية. «والحكم الذاتي» بالنسبة له، ليس سوى استمرار الاحتلال بوسائل أخرى. وكان أدوار سعيد معارضاً لتقسيم فلسطين، وأعلن تأييده لإقامة دولة مزدوجة القومية. دافع عن فكرة، تؤكد على دور المثقف الملتزم. وحلّل حقائق تداخل الثقافات، وأكد أن التعارضات بين الثقافات. هي من صنع البشر. تأثر ادوار سعيد كثيراً بفرانز فانون، كما يشهد مؤلفه «الثقافة والإمبريالية». في هذا الكتاب، وصف معذبي الأرض، شخوص الكتاب، «بالرؤيويين والمجددين». وتوفي ادوار سعيد، بعد إصابته بسرطان الدم في أيلول / سبتمبر في عام 2003.

كما رأينا لتونا، هؤلاء المثقفون الثلاثة الذين سندرس مواقفهم، لعبوا دوراً

ص: 175

مهماً على نحو خاص، في مكافحة الأيديولوجيات الثقافية، التي يحملها الشعب والثقافات المغلوبة في العالم. خلال مرحلة الاستعمار، وما بعد الاستعمار. ويمكن اعتبار الثلاثة بمثابة مرجعيات للنضال الأيديولوجي الثقافي في البلدان المستعمرة.

2- المثقف المستعمَر والمثقف المغترب aliené

المسألة الأساسية التي عالجها في دراساتهم هؤلاء المؤلفون الثلاثة، هي بالتأكيد مسألة الاغتراب (alienation) التي تشمل بذاتها، مسائل أكثر خصوصية بالنسبة للإنسان في مرحلة الاستعمار، ومرحلة ما بعد الاستعمار، وهي مسألة التثاقف واستلاب الشخصية وأيضاً الوعي الزائف لمثقفي الجنوب، في علاقتهم مع الثقافة الغربية. هذه الظاهرات سمّاها ليو بولد سیدار سنغور بصيغة جميلة «اقتلاع الذات بالذات» أي «اقتلاع الذات لغة الأم وعقل الأجداد والتقاليد العريقة». وفي علاقته مع الثقافة الغربية، تبنّى المستعمر النظرة المجحفة التي يحملها الغرب عن ثقافته وشعبه أو حضارته، وأصبح بفعل هذا الخطاب المهيمن مغترباً.

يمكن تعريف الاغتراب كحالة، يكف فيها الفرد نتيجةً لشروط خارجية، اقتصادية، سياسية أو/و ثقافية عن أن يصبح سيد نفسه ويتحول إلى عبد، إلى موضوع بسيط بين أيدي رجال آخرين. وبعد تعرضه لاجتياح المستعمِر، يخضع المستعمَر لموقع اجتماعي ولشروط حياة، لا يستطيع تغييرها، دون قلب مجمل النظام الاجتماعي.

المثفقف المستعمَر الذي تعلم أن الثقافة الغربية متفوقة بالنسبة لثقافته الخاصة، هو برأي المؤلفين الثلاثة، مغترب موضوعياً. لقد عمل كل شيء، خلال سنوات ليجعل الثقافة الغربية ثقافته، وهي لا تني تلزمه التخلي، عن ثقافته الأصلية المعتبرة وضيعة ومتخلفة. ويمكن رؤية الندوب الواضحة لهذا الاغتراب، في الاحتقار الذي يكنه المستعمَر، خلال فترة الاستعمار أو ما بعدها، لثقافته وشعبه. وهو يشعر في مرات كثيرة، أنه غريب، عن أولئك الذين يعتبرهم في أغلب الأحيان، متخلفين وذوي عادات «بربرية».

ص: 176

وكمغترب، وفاقد للشخصية، عمل المثقف المستعمَر كل ما بوسعه، ليتمثل ويتشبه بالثقافة الغربية، أي الثقافة السائدة. لقد ساهم غالباً، على نحو غير واعٍ، وتحت تأثیر عالم الثقافة المسيطر، بعملية اغترابه. وبحسب فرانز فانون «المثقف المستعمَر يقذف بنفسه وبنهم إلى الثقافة الغربية كما الأطفال المتبنين، الذين لا يكفون عن البحث، عن إطار عائلي جديد، إلا في اللحظة، التي يتبلور فيها، داخل أنفسهم، حد أدنى من النواة، التي تشعرهم بالأمان. المثقف المستعمَر سيحاول أن يجعل من الثقافة الأوروبية ثقافته الخاصة. لا يكتفي بمعرفة رابليه، أو ديدارو، شكسبير أو ادغار بو، بل سيدفع دماغه إلى أقصى تواطؤ مع هؤلاء الرجال».

ندوب الاغتراب نفسها، توجد بحسب علي شريعتي في حسهم الثقافي، الذي طوره المثقفون المستعمَرون الشباب، بأنفسهم أو على نحو، أكثر دقة، قام بالمهمة نفسها آخرون. وبدلاً من إعجابهم بكتابات الفلاسفة، المؤرخين أو مختلف الكتّاب، الذين يشاطرونهم، موضوعياً الشروط الاقتصادية نفسها، والشروط الإيديولوجية الثقافية نفسها، اتجهت أنظارهم حصراً، نحو الغرب المسيطِر الذي غرّبهم. وبغياب نظرة نقدية، للإنتاج الثقافي الغربي، وبجهل الإنتاج الثقافي لبلدان الجنوب الأخرى، فإن المثقف خلال فترة الاستعمار وبعدها، حافظ على القيود، التي تربطه بالثقافة الغربية، وطورها. «إن أحد الأشياء التي أتأسّف حيالها، يقول علي شريعتي، هو أننا لم نعرف المفكرين، الذين يتألمون من الأمراض نفسها التي لدينا في حين أن حاجاتهم، بيئتهم، تاريخهم، وظروفهم الاقتصادية، هي شبيهة بما لدينا، وهم يقترحون حلولاً لمجتمعاتهم، يمكن أن تعلمنا. إننا نعرف مفكرين، لديهم من حيث المبدأ، أفكار حتى وإن كانت صحيحة - نظرية، حتى وإن كانت لا تشكو من العمق - حلولاً حتى وإن كانت مناسبة - إلا أنها لا تجيب على مشاكلنا. وبدلاً من معرفة المفكرين الكبار، الأفارقة والآسيويين، في هذا القرن، الذين استطاعوا التوصل من خلال وعيهم الوطني، الشرقي والعالمي، إلى - حلول جديدة - إننا لم نسمع حتى بأسمائهم - ونلقي بأنفسنا دونما تبصّر لمعرفة أشخاص مثل بريخت، وإكزاناكيس، الذين لا يعنوننا، حتى وإن كانوا، مثل بريخت، تقدمیین شفافین متنورين و منورين».

ص: 177

قام أدوار سعيد، بالمعاينة الشاملة نفسها، التي قام بها، فرانز فانون وعلي شريعتي، بصدد السيطرة الأيديولوجية - الثقافية، التي يمارسها الغرب على الثقافات الأخرى. وهو يرى أن الرأسمالية هي مسؤولة مباشرة، عن السيطرة الغربية الأيديولوجية - الثقافیة، و من هنا، عن اغتراب مثقفي الجنوب» اقتصاد السوق الغربي المتجه نحو الاستهلاك أنتج (ويستمر في إنتاج وبسرعة متزايدة) طبقة متعلمة، تتجه وظيفتها الثقافية لإشباع حاجات السوق. وقد تم التركيز بوضوح على دراسات الهندسة، التجارة والاقتصاد. وجعلت النخبة الثقافية، من نفسها، المساعد لما تعتبره الميول الأساسية التي تُتّبع في الغرب. والدور الذي ألزمت به هو الحداثة، مما یعني أنها تعطي شرعية وسلطة لأفكار تتعلق بالحداثة، وتتلقى التقدم والثقافة في قسمها الأكبر من الولايات المتحدة. وقد استنتج أدوار سعيد أنه «إذا كان ثمة اذعان ثقافي لصور، ولنظريات الاستشراق، فإن ذلك يشتد قوة من خلال التبادل الاقتصادي، السياسي والثقافي، وباختصار فإن الشرق الحديث يساهم باستشراقه بنفسه».

هؤلاء المثقفون الذين يساهمون في استشراق الشرق الحديث، هم عاجزون عن إنتاج الأجوبة الأيديولوجية الثقافية، التي يحتاجها العالم العربي، الإسلامي المعاصر، ليدافع ضد الإمبريالية الغربية عموماً، والإمبريالية الأميركية خصوصاً. الأسوأ، هو أنهم يساهمون موضوعياً بتقوية هذه الإمبريالية، من خلال نشاطهم كممثلين محليين لها. وبحسب أدوار سعيد «يمكن بشكل جيد جداً» أن نعتبر تكيّف الطبقة المثقفة، مع الإمبريالية الجديدة، بمثابة انتصار للاستشراق. العالم العربي، اليوم، تابع للولايات المتحدة، من الناحية الثقافية والسياسية. يتابع ادوار سعيد مشيراً إلى إعداد الشباب المثقف في الجامعات الغربية والطابع المغرّب لهذا النمط من الإعداد. ويصبح إعداد المثقفين هذا، بحسب سعيد أداة أساسية في إعادة إنتاج توازن السيطرة الثقافية في بلاد منشأ هؤلاء الطلاب، وفي تقوية الاستشراق، في الغرب نفسه. و بحسب المثقف الفلسطيني، «الطلاب» (والأساتذة الشرقيون) يتمنون دائماً الجلوس عند أقدام المستشرقين الأميركيين، قبل أن يرددوا أمام جمهور محلي، الكلام المُعاد (الكليشيهات) الذي وصفته كأركان عقيدة الاستشراق. ومع نسق إعادة إنتاج

ص: 178

كهذا، يصبح من غير الممكن للعالم الشرقي أن يتجنب استخدام تعليمه الأمريكي، ليشعر بالتفوق على مواطنيه، ذلك لأنه يقدر على التحكّم بنسق الاستشراق. وفي علاقاته مع رؤسائه، المستشرقين الأوروبيين أو الأميركيين لا يصبح سوى «مخبر عن بلده». وهنا بالذات يكمن دوره في الغرب، إذا ما كان قد ساعده الحظ بالبقاء هناك حالما ينهي دراسته.

وأخيراً، بالنسبة لأدوار سعيد فإن التحرر من الاستعمار، ومختلف النضالات المعادية للإمبريالية التي دخلت منذ قرن، إلى العالم العربي - الإسلامي وإلى مجمل بلدان الجنوب، لم تقلب البنى الأساسية، للسيطرة الغربية. وهو يرى «أن عاملين اثنين، جعلا انتصار الاستشراق واضحاً كثيراً. وفي الحدود التي نستطيع التعميم بموجبها، فإن اتجاهات الثقافة المعاصرة، في الشرق الأوسط، تتبع نماذج أوروبية وأميركية. وعندما قال طه حسين، في 1936 أن الثقافة العربية الحديثة، هي ثقافة أوروبية، لم يفعل سوى تحديد، هوية النخبة الطبيعية المصرية، التي كان أحد أعضائها المميزين. والأمر هو نفسه اليوم، بالنسبة للنخبة العربية، على الرغم من أن التيار القوي للأفكار المعادية للإمبريالية، في العالم الثالث، دخل المنطقة، منذ خمسينات القرن الماضي، وثلم نصل الثفافة الغربية المسيطرة. هذه التبعية لثقافة الشرق الأوسط المعاصر، ناهيك بمجمل بلدان الجنوب، إزاء الغرب هي ندوب الاغتراب نفسها، التي سيكون على المثقف المتعطش للتحرر بمواجهة الثقافة السائدة، أن ينهزم في النضال الايديولوجي - الثقافي.

3- من الاغتراب إلى إعادة تملك الثقافة:

بمواجهة السيطرة الأيديولوجية - الثقافية للغرب والاغتراب الذي يوسم به المثقف المستعمَر، لن يكون لديه، أية وسيلة إذا لم يرد أن يتخلص نهائياً من اجتياح الثقافة المسيطرة، سوى العودة إلى ثقافته الخاصة، ومصادره الخاصة، وإلى ذاته العميقة. إعادة تملك هذه الثقافة، يمكن أن يعرّف كإرادة فرد، أو مجموعة أفراد، بأن يجعلوا ثقافتهم، تلك، التي يعتبرون ورثتها، والتي بمواجهتها، كانوا قد وُضعوا خارج ذواتهم

ص: 179

الحقيقية. وضعية المثقف المستعمَر خلال مرحلة الاستعمار وما بعدها، بالنسبة للثقافة التي هو وريثها، تنبع مباشرة من وضعيته كمغترب، التي وضعته فيها السيطرة الاستعمارية، أو ما بعد الاستعمارية. إعادة تملك الثقافة هذه، هي مرحلة ضرورية تسمح بالتوصل، إلى استقلال سياسي، اقتصادي، وثقافي حقيقي. وفي الحقيقة أن الاستقلال بنظر مؤلفينا الثلاثة الذي لا يكون إلا سياسياً لن يكون إلا استقلالاً شكلياً، لأن العقول ستبقى دائماً، مقيدة بسلاسل الثقافة المسيطرة، وبالبنى الاقتصادية التي تؤبد السيطرة القديمة.

وسيكون على المثقف خلال فترة الاستعمار أو ما بعدها، وهو في طريقه لاستعادة ثقافته الحقيقية. أن يواجه الغرب في تبريراته وأن يسهب في تعليقاته شارحاً عاداته، أفكاره، أعرافه، ونمط عيشه. المثقف الذي تخلص من اغترابه يضطلع بهويته، اختلافه، بخصوصيته، وأصالته. يكف عن أن يردد کلمات ايمي سيزار (Aimé Césaire) «أنا لست مختلفاً عنكم، لا تنظروا إلى بشرتي السوداء الشمس هي التي أحرقتها». كلا، ما أن يخلع إسار اغترابه، حتى يضطلع بأفريقيته، وبعروبته، وإسلامه. هو كما هو ولا يهم ماذا يفكر القابضون على النظام الاستعماري وما بعده «Font».

وليضطلع بهويته وليكسر السلاسل التي تربطه بالثقافة السائدة، سيكون على المثقف المستعمَر، أن يعود إلى جذوره الثقافية، جذور ثقافة شعبه، لغة أمه، وجمجمة أسلافه، تلك ستكون مرحلة ضرورية في مسار خلع آثار الاغتراب، الذي ينقل المثقف المستعمَر من التبعية العمياء للغرب الثقافي إلى الاستقلال الأيديويولجي - الثقافي. وبحسب فرانز فانون «ليؤمن سلامه، ويتفلت من تفوق الثقافة البيضاء، یحس المستعمر بضرورة العودة، إلى الجذور المجهولة، وأن يضيع نفسه، مهما كلف الأمر، في كنف الشعب «البربري». ولأنه يحس أنه أصبح مغترباً، أي المكان الحي للتناقضات، التي تتهدده بأن يصبح عصياً على القهر، يتفلت المستعمر من المستنقع حيث كان يكاد ينزلق، ويندفع جسماً وعقلاً فيقبل ويقرر الاضطلاع بتحمل كل التبعات. والمستعمَر يكتشف أنه مستعد التكفّل بأي شيء ولن يجعل من نفسه

ص: 180

مدافعاً فحسب، إنما يقبل أن يكون مع الآخرين، ومنذ الآن سيسمح لنفسه بالضحك من جبنه السابق.

إن تخلّص المثقف المستعمَر خلال مرحلة الاستعمار أو ما بعدها، من الاغتراب ینبغي أن يتم من خلال قطيعة واعية مع بعض الأسئلة التي يطرحها المثقفون الغربيون، الأسئلة التي ليست أولوية بالنسبة للجماهير، التي تنتمي لشعوب وثقافات مغلوبة. لم يعد ينبغي على المثقف المستعمَر، أن يرتهن ثقافياً وأيديولوجياً، للأسئلة التي يطرحها الغرب، وإنما ينبغي أن يكون قادراً على أن يطرح بطريقة مستقلة، أسئلته الخاصة، وأن يطور إشكالياته الخاصة وأن يبحث عن أجوبته الخاصة. ينبغي أن يكون قادراً على أن ينظّم تراتبية الأولويات في استبيانه الأيديولوجي - الثقافي. وإذا لم يفعل ذلك، يصبح واحداً من الأساسيين الذين ينشرون وعياً زائفاً بين الجمهور المغلوب، وبالتالي سيضيعه بدلاً من أن يقدم له أسلحة ثقافية لتحريره. «إذا كنت ألمانياً، يقول علي شريعتي، سأحب بريخت، ولكن كوني ايرانياً، فإنني لا أفهم اطلاقاً لغته، ولا أعلم ماذا يمكن لبريخت أن يفيدني. إن له هموماً أخرى، أمراض أخرى - وصف لها أدوية - غير أمراضي. إنه يشكو الصداع، في حين أنني أشكو من ألم في بطني، وصفته لا تعنيني، كيف يمكن لها أن تريحني؟ بریخت شاهد حربين عالميتين، ويوجد خلفه ثلاثة قرون من اختراع الآلات. أنا لم أر مثله الحرب العالمية. ولا أعلم أبداً ما هي اختراع الآلات، وما هي البرجوازية، وكذلك فلسفته لا تشكل أي ملجأ لي. وإذا ما كنت قلقاً، فلتوفير الحطب لأتدفأ في الشتاء، ولعملي، ولتربية ابني. هذه هي أسباب قلقي. أما قلق بريخت فهي من طبيعة أخرى إنه يتساءل عما في هذا الوجود.

يتابع علي شريعتي محذراً من أولئك الذين لم يفعلوا سوى توريد الأسئلة الثقافية الغربية إلى بلدان الجنوب في مرحلة استعمارها أو ما بعده. إنه يرى أن الاستمرار في طريق هذه التبعية العمياء للغرب، لن يوصل شعوب الجنوب المغلوبة، إلى مأزق خطير في مستقبلهم. «إن أولئك الذين بإخلاص وحسن نية - يلقحون ذاكرة مثقفينا بأسئلة وجودية، ثقافية، فكرية، فلسفية، اجتماعية وإنسانية تخص غرب ما

ص: 181

بعد الحرب، أولئك الذين يجعلون، المثقف الشرقي، شديد الحساسية - في الحقيقة مزيف الحساسية وليس ذا حساسية حقيقية - حيال الأسئلة التي تطرح في أوروبا، والنظريات الشديدة التقدمية الدارجة في أوروبا وليس في الشرق، إنما يبعدون الشعوب، والمثقفين الشرقيين عن حقيقتهم الخاصة، عن مسؤولياتهم الملموسة وفيما هم يعتقدون بإخلاص أنهم يخدمونهم وينورونهم، إنما يتحولون إلى عوامل انحطاط وخداع».

وكما يطالب علي شريعتي المثقف المستعمَر أن يعود إلى ذاته، فإن من واجبه بادئ الأمر أن يعيد قراءة الغرب، قراءة نقدية. وينبغي لهذه القراءة النقدية أن تسمح له، لا أن يتخلص منها كلياً، ولكن أن يخرج من الافتتان التغريبي الذي مارسته على الشباب المثقف خلال فترة الاستعمار وما بعدها.

بعد القراءة النقدية هذه، ينبغي للمثقف المستعمر أن يعود إلى ثقافته الأصلية، إلى ثقافة الشعب الذي انفصل عنه. وبحسب طبيب الأعصاب المارتينيكي «عليه أن يقرر إجراء جردة لأنماط العيش، المستقاة من العالم الاستعماري، ويسارع لتذكر انماط العيش الطيبة لشعبه، لهذا الشعب الذي قررنا أن يمتلك كل الحقيقة. إن الفضيحة التي يطلقها هذا المسعى، في صفوف المستعمِرين، القابعين في داخل البلدان المستعمَرة، يشحذ قرار المستعمَر. وحالما يتحقق المستعمَرون، الذين تذوقوا طعم النصر، على مجندي المحتل، فإن هؤلاء الرجال، الذين كان يُعتقد أنهم آثروا السلامة، بدأوا بالذوبان في بحر الزنوجية، وبدأ النسق بأكمله يهتز. كل مستعمر ينضم إلى هذا المسعى، كل مستعمر بدأ بامتلاك الحقيقة، لا يشكل فشلاً للمؤسسة الاستعمارية فحسب، وإنما يرمز أيضاً إلى لا جدوى وعدم عمق عملها المنجز. فكل مستعمَر يتجاوز الخط المرسوم إنما هو إدانة أساسية للنهج وللنظام، ويجد المثقف المستعمَر في الفضيحة التي يشيعها، تسويغاً وتخلياً عن ثقافة الاستعمار وتشجيعاً على مثابرته في مسعاه.

وبحسب علي شريعتي على المثقف المستعمَر، من أجل تجاوز «الحدود» أن

ص: 182

يتجه إلى مصادر جديدة للتفكير. عليه أن يقيم حواراً ثقافياً، مع الشعوب الأخرى المغلوبة، الذين لديهم مشاكل مشابهة، بل متماثلة مع مشاكله. ولذلك ينبغي بالضرورة على المثقف المستعمر أن ينفتح على مجمل الثقافة المنتجة، في بلدان الجنوب، وأن يتفلت من الثقافة المسيطرة المنتجة في الغرب. وبحسب علي شريعتي أيضاً «بدلاً من بريخت، علينا معرفة كاتب ياسين، وأن نعرف عمر مولود بدلاً من جان بول سارتر، أو عمر اوزغان، وايمي سيزار وفرانز فانون، بدلاً من البير كامي. وبمعرفتنا لهم، نعود لنعرف أنفسنا، في حين أننا إذ نتجه إلى هؤلاء المثقفين الغربيين، فإننا نبتعد عن أنفسنا، بمقدار ما نفهمهم.

وعلي شريعتي، المسلم الملتزم يرى الروحانية طريقة حيوية، لمقاومة السيطرة الثقافية، وللنضال ضد اغتراب شباب الجنوب المثقف. وهذا يمكن أن يبدو مفاجئاً في نظر الأوروبيين، حيث الشعور الديني، غالباً ما يشهّر به «التقدميون» كأحد الأشكال، الأكثر إفساداً للتغريب. التحرر من الاستعمار يستوجب قطيعة مع التصورات الغربية-المركزية بصدد العالم، حتى لو كانت صنيعة من هم في غاية التقدمية.

وعلى عكس ما يراه الغرب، الروحانية بنظر علي شريعتي هي أداة مركزية لتحرر الانسان المستعمَر خلال الفترة الاستعمارية أو ما بعدها. والإسلام، بحسب منظور المثقف الإيراني، ليس إيماناً فردياً فحسب، وإنما هو العمق الثقافي، المنهل العميق للإلهام، الذي ينبغي أن يسمح للمغلوبين، و «للمستهدفين» بحسب تعبيره، أن يقاوموا السيطرة الغربية. إنه في الحقيقة يطور لاهوت (علم كلام) سياسي حقيقي، يركز على البعد السياسي الاجتماعي، الذي يحث أو ينبغي أن يحثّ الشعور الديني. إنه يرفض النزعة البرجوازية «لتخصيص» الدين أي التي تجعل من الإيمان مسألة فردية تماماً. الإيمان ينبغي برأيه، أن يؤدي بالضرورة، إلى التزام عام للمؤمن تجاه كل المظلومين، «المستضعفين» وذلك من أجل عدالة شاملة، أي اجتماعية، سياسية، وثقافية.

يقول علي شريعتي، «ليتجنب الجيل الشاب، في إيران، الذي يتعرف على هذه الأبعاد الثلاثة في الإسلام (البعد الروحي، بعد العدالة الاجتماعية، وحرية الإنسان) -

ص: 183

وخصوصاً في المجال الاجتماعي يدرك مواقفه المعادية للاستغلال - والمعادية للمستعمر وللتقدميين - ليتجنب أن يجد نفسه، في وضعية أيديولوجية دونية، بمواجهة الماركسيين أو الحضارة الأوروبية، أو الأميركية، عليه أن يقوي ويغذي البعد الروحي لديه.

المعرفة الروحية، هي وحدها، التي ترفع القيم الوجودية للإنسان، إلى درجة، تحميه من كل شعور بالدونية بمواجهة عظمة الغرب، أنها تجعله يكتشف في ذاته، قيمة سامية، تقيه من عقدة الدونية بمواجهة أيديولوجية ماركس المادية والشيوعية.

تقوية البعد الروحي، برأيي، ذو أهمية أساسية لشبابنا. لقد سنحت لي الفرصة، للعمل مع فتيان أعمارهم تتراوح بين 15 و 16 سنة. عمر تكون فيه الحساسية، تجاه المشاكل الاجتماعية والسياسية شديدة، كانت عقولهم، قد غذيت بالإسلام كما يقدم راهناً، و هم ما أن يطلعوا على «المدخل لنقد الاقتصاد السياسي في الرأسمال»، أو على مؤلفات أخرى، اشتراكية وثورية، يكتشفون أن هذا البعد «للعدالة الاجتماعية» مشروح فيها بشكل أفضل من ما سبق واطلعوا عليه. فتكون رغبتهم في أن يقولوا: «لماذا ننتظر من قادتنا «البيان» ؟ إن إعادة طباعة بيان ماركس لا تزال مستمرة منذ مائة عام. إذاً لنكفّ عن إضاعة الوقت».

الانزياح يتم آلياً، وينبغي أن نعرض على الشباب، هذا الجوهر، الذي تفتقده الماركسية، كما الإنسان البرجوازي.. ينبغي أن نقدم لذهنه هذه المقاربة، هذه الرسالة، التي لا يمكن أن تحتويها، ولا أن تقترحها الأيديولوجية الماركسية ألا وهي الجوهر الصوفي.

4- شروط توازن السيطرة الإيديولوجية - الثقافية:

هذه الأسئلة التي عبرت تفكير المؤلفين الثلاثة، طرحها علي شريعتي بكلمات واضحة جداً. «ماذا فعل الغرب ليتوصل إلى تغريب الشرق عن موارده المادية، وجعله غير قادر على استثمارها؟ ماذا فعل لقطعه عن مناهله الروحية، وجعله غير قادر على تثمينها ؟».

ص: 184

وبعيداً عن إعطاء جواب بسيط، كي لا نقول شديد البساطة، يعزو سيطرة الغرب لارتهانه فقط لتفوقه العسكري، التقني والاقتصادي، يعتبر أدوار سعيد، الحقيقة الأيديولوجية - الثقافية مركزية، في توازن السيطرة الموجودة بين الشرق والغرب. وفي الواقع إن توازن السيطرة الأيديولوجية - الثقافية، صارت ممكنة، بسبب قبول مثقفي الجنوب لتبعيتهم، ولغياب سياسة ثقافية حقيقية لدول الجنوب، وبشكل خاص في العالم العربي - الإسلامي. وللخروج من الارتهان الإيديولوجي - الثقافي الذي، يعملون على إبقائه، والمَدين، بحسب المثقف الفلسطيني لرضا الشرقيين به، كما بسبب الضغط الاقتصادي المباشر والوحشي الذي تمارسه الولايات المتحدة. ولننظر على سبيل المثال، إلى ما يدعونا للتفكير: في حين يوجد دزينات من المؤسسات، في الولايات المتحدة، التي تدرس الشرق العربي والإسلامي، لا يوجد ولو واحدة في الشرق تدرس الولايات المتحدة.

و مع ذلك، فإن علي شريعتي طالب بدراسة الغرب وكان يعتبر هذه الدراسة، أداة ضرورية للشعب الذي يسيطر عليه الغرب لينهي تبعيته. المثقف الإيراني قال إنه «يجب أن نعرف أن أفضل مدرب عسكري لأمة تناضل من أجل انتزاع استقلالها وشخصيتها الخاصة الوطنية ليس سوى عدوّها هو نفسه الذي سلبها هذه الشخصية الوطنية. علينا، إذاً أن نعرف كيف حرمنا الغرب من مناهلنا الثقافية والروحية، كيف جعل منّا، نحن الشرقيين، جيلاً غير قادر على استثمار هذه المناجم الضخمة التي تفيض بالغنى النفسي، الفكري، الأخلاقي، والثقافي - بالمعنى الواسع - وغير مؤهلين لتطوير هذه الاحتياطات الثقافية الوافرة. علينا أن نتعرّف على الطرق التي اجتازها، والأساليب التي اتبعها والمداورات والحيل التي استخدمها ليتوصل إلى غاياته. علينا أن نفهم كيف هذا الشرق، الذي كان يشع بثقافته وعقله، والذي كان يعتبر أساس الثقافة العالمية، ومهد الحضارة الإنسانية، صار اليوم مرادفاً للتوّحش والتخلّف والانحطاط.

ادوار سعيد تحقّق بمرارة «أن الشروط الراهنة تجعل حقيقة البرامج التعليميّة

ص: 185

مضحكة تقريباً: صفوف من مئات الطلاب، مدرّسون سيئوا الإعداد مرهقين وبأجور مجحفة، عُيّنوا لأسباب سياسية، الغياب الكامل للأبحاث الأساسية وحتى لإمكانية البحث والأخطر من ذلك، عدم وجود مكتبة واحدة ملائمة في المنطقة (الشرق الأوسط). هذا يبقي على ما يمكن أن يبدو، كحقيقة اليوم، الركود الثقافي للعالم العربي - الإسلامي، بمواجهة أوروبا وأميركا الشمالية.

هكذا يساهم العالم العربي - الإسلامي بعملية خضوعه الخاصة، من جراء نقص الاستثمار في الأبحاث. يرى ادوار سعيد «أن العالم العربي والإسلامي، يبقى قوة من الصف الثاني، بإنتاجه الثقافي وفي التعلم والاستكشاف». المثقّف الفلسطيني تحقق في نهاية المطاف. «لا يمكن لأي عالم عربي أو إسلامي، أن يسمح لنفسه بتجاهل ما يحصل في الدوريات، المعاهد والجامعات في الولايات المتحدة وأوروبا. والعكس ليس صحيحاً.

وحقيقة أن الشرق، وبعده مجمل بلدان الجنوب، كانت دائماً موضوعاً، للدراسات التاريخية، الاجتماعية السياسية والثقافية، يعكس جيداً علاقات الغالب بالمغلوب، التي توجد بين الكيانين. البعض هم مواضيع دراسة، والبعض الآخر يعدون خطاباً عن هذا الشيء المدروس. هذا يسمح للغرب بامتلاك خطاب مدهش في ثباته حول «الآخرين». رأى ادوار سعيد الشرق، بحسب الخطاب الذي أعدّه الغرب إنه ليس سوى المزدوج، النقيض، تجسيد المخاوف والشعور بتفوق الغرب. وأخيراً يظل الجنوب وشعوبه الشيء الأبكم لخطاب معد في الشمال.

وفي الحقيقة، السيطرة الأيديولوجية - الثقافية ملحوظة حتى في الدوائر الأكثر تقدمية، في العالم العربي - الإسلامي. حتى هنا، يصعب كسر الهيمنة الثقافية للغرب. وبالفعل فثمة بين الأكثر تقدماً في طريق التحرر السياسي والاقتصادي تابعون على المستوى الأيديولوجي الثقافي، وغير قادرين على التفلت من النماذج المبنية في أوروبا، ولا يفعلون سوى ترداد ما درسوه فيها، دون أدنى جهد للتعديل بالنسبة للعالم الثقافي الذي نشأوا فيه. وبحسب إدوار سعيد «نجد شاهداً صارخاً على (هيمنة الثقافة

ص: 186

الغربية) في العلوم الاجتماعية. وما هو مدهش، لدى المثقفين التقدميين، الذين أخذوا الماركسية بالجملة من ماركس. وإذ بأفكارهم تجعل من العالم الثالث كلاً منسجماً».

السيطرة الأيديولوجية - الثقافية، التي تتعرض لها بلدان الجنوب، تترافق مع أشكال أخرى من السيطرة. فالتحرر من السيطرة الإيديولوجية - الثقافية، ينبغي أن تسمح، للشعوب المضطهدة أن تتحرر، في الوقت نفسه من السيطرة السياسية، العسكرية والاقتصادية، «يؤكد علي شريعتي أن ثمة تشابهاً كبيراً بين القدر الاقتصادي والقدر الروحي في الشرق. إن أمة لا تستطيع على المستوى التقني، إنتاج حاجاتها المادية الخاصة، تظل في وضعية المحتاج، حتى وإن امتلكتها. وكذلك فإن أمة لا تستطيع معرفة واستغلال مصادرها الثقافية والروحية، وتظهر غير قادرة على غربلتها لتحويلها إلى طاقة إيجابية، ستبقى جاهلة وفي المؤخرة، حتى وإن امتلكت فيضاً من المصادر. هذا التشابه، يوجد على مستوى دور الموارد الثقافية أو المادية، في تطور المجتمع، إن مجتمعاً لا يستطيع استثمار موارده، بوسائله الخاصة، يستدعي من هم قادرون على ذلك، ويتحقق سريعاً، أن رزقه يأتي من الغريب. والأمر مشابه على المستوى الثقافي، لأن أوروبا المتنورة، التي تعرف أفضل مما نعرف، الآخرين، الشرقيين، الشرق، تفسر مصادرنا الثقافية والروحية، تبني المدارس، والأفكار الجديدة. ونحن عاجزون عن إنتاج معرفة حقيقية من ثقافتنا، ونجد أنفسنا مرتهنين للفُتات التي ترميها أمام المثقف الشرقي. وفضلاً عن ذلك هو لا يدرك أن هذه الفُتات تحتوي على مواده الأولية الخاصة. ولا يفهم أنه إذا عومل اليوم، كمتخلف ومعدم، برّي وجاهل، فذلك لأنه برهن أن ليس لديه الخصائص المطلوبة، لاستثمار واستخدام موارده الثقافية الخاصة.

وفي الخلاصة، على الشرق أن يعمل، ليس فقط ليعرف موارده من المواد الأولية وتقنية استثمارها وتحويلها إلى طاقة ومادة للاستهلاك. ولكن أيضاً حتى يستثمر، ويغربل موارده الثقافية. وهو بذلك سيستطيع التحرر من البؤس والتخلف، وسيستطيع

ص: 187

التوصل إلى السعادة الروحية، والإبداع والتقدم الثقافي والعقلي. وكذلك فإنه سيعمل لعدم الارتهان، لمنتوجات الاستهلاك والصناعة الأوروبية: الارتهان الاقتصادي، وعلى الشرق أيضاً أن يعمل لعدم الارتهان للإنتاج الروحي الغربي ومواضيعه الأيديولوجية الاستهلاكية. ليس من الممكن أن تتمكن أمة أن تصبح مستقلة اقتصادياً ما لم تحقق استقلالها الروحي. هذان التحرران متكاملان ومترابطان. وبكلام آخر، علىَّ أن اكتسب شخصية مستقلة عن الغرب، على المستوى العقلي والنفسي لأصبح مستقلاً ذاتياً، على المستويات الاقتصادية، الاجتماعية والمادية، والعكس بالعكس.

وليكون المثقف المستعمَر حقاً مستقلاً، عن الغرب، ويقطع مع الخطاب المبني في أمكنة إنتاج المعرفة، في الشمال، سيكون عليه كما طالب فرانز فانون وعلي شريعتي إعادة قراءة تاريخ شعبه، محيطه، وحضارته. هذه العودة إلى التاريخ يرافقها أغلب الأحيان، بحث عن الأصالة الثقافية، القريبة من ظاهرة العودة إلى الخصوصية التي سبق الحديث عنها.

5- تاريخ وأصالة:

العودة من خلال التاريخ، إلى أصالة شعب معين تتم بدراسة المصادر الثقافية السابقة على الاستعمار. العودة إلى التاريخ، ينبغي أن ينظر إليها على الدوام من منظور التخلّص من تغريب المثقف المستعمَر. وبحسب فرانز فانون «هذا البحث الهائم بالثقافة الوطنية، ما قبل الزمن الاستعماري، يستمد شرعيته من قلق المثقفين المستعمَرين، من التراجع بالنسبة للثقافة الغربية التي يوشكون أن يتورطوا فيها. ولأنهم تحققوا أنهم في طريقهم للضياع، وبالتالي قد يضيعون بالنسبة لشعبهم، هؤلاء الرجال يستشيطون غضباً، ويستبسلون لإعادة الصلة مع حيوية شعبهم في الماضي البعيد وما قبل الاستعمار».

من هذا المنظور، للعودة إلى مصادر ما قبل المرحلة الاستعمارية، ينبغي فهم استعادة شخصيات تاريخية، مثل الأمير عبد القادر. الوطنيون أنفسهم يذكرون باعتزاز

ص: 188

في جرائدهم، الشخصيات الكبيرة، في الحضارة العربية - الإسلامية. ويمكن التحقق من الأمر نفسه، بصدد أفريقيا جنوب الصحراء، حيث يمجدون شخصيات الحاج عمر تال والساموري وعثمانا دان فوديو أو بهانزان أو أمبراطوريات أفريقيا الغربية. وإحدى العلامات المهمة، لهذه العودة إلى المصادر التاريخية، ما قبل المرحلة الاستعمارية، هي أنه بعد استرجاع بعض المناطق المستعمرة استقلالها، اتخذت تسميات تلك الامبراطوريات القديمة. وبتحريض من كوامي نيكروما، أطلق اسم غانا على شاطئ الذهب (Gold Coast ) بغية الارتباط بإمبراطورية إفريقيا الغربية، وأطلق اسم مالي، على السودان الفرنسي، للتذكير بإمبراطورية القرون الوسطى القديمة. وبذلك برهنوا عن إرادة في القطع مع ماضي استعماري، عبودي، والعودة إلى مصادر تاريخ الحرية.

علي شريعتي وضع نفسه بوضوح في هذا المنظور، إذ دعا للعودة إلى المصادر التاريخية، وهو أيضاً يعتبر هذه العودة، مرحلة في نزع أثار تغريب المثقف المستعمر الذي عدا عن عودته، عليه في الوقت نفسه، أن يرتبط ويعيد اتصاله بشعب كان قد ابتعد عنه. «ولمعالجة هذا الضعف، يقول المفكر الإيراني أننا لسنا بحاجة للذهاب والبحث في مكان آخر «أفضل منا». إن ماضينا، وبما يزخر بقوى حيّة - ينقل لنا تعليماً لا يقدّر بثمن. إن كبار علماء الإسلام وفلاسفته وقضاته، على الرغم من نجاحاتهم العلمية، كانوا يعيشون بين الشعب، مرتبطين مع الجماهير ويعيشون بساطة فلاحي الريف، ومع طبقات المدينة الأكثر حرماناً، واضطهاداً، من الناحية الاقتصادية والثقافية والمعنوية، وتوصلوا إلى إقامة علاقات حقيقية معهم. في حين أن اليوم، ما أن ينال تلميذ شهادة الثانوية، حتى يتميّز عن الشعب، الذي يعتبره غريباً رغماً عنه».

العودة إلى المصادر التاريخية، للشعب المستعمَر، هي ضرورية، لا سيما أن أحد الأهداف الأساسية للمستعمِر، هو قطع الشعوب التي يسيطرون عليها عن ماضيها، وعن ثقافتها وعن كل ما يشكِّل خصوصيتها. ولسياسة الدمج والاحتواء للقوى الإمبريالية وظيفتان: أولاً نزع ثقافة الشعوب المستعمَرة بغية خلق فراغ إيديولوجي -

ص: 189

ثقافي لديها، وثانياً، تثقيف هذه الشعوب بالثقافة الغربية، بعد أن يتحقَّق هذا الفراغ الإيديولوجي - الثقافي. منطق الدمج هذا «يرتكز على نفي كامل لثقافة وهوية الآخر».

وفي الحقيقة، إن إحدى المهام الإيديولوجية-الثقافية التي تُوْكَلُ لأنصار الثقافة المسيطرة هي تحويل ثقافة الشعوب، خلال الفترة الاستعمارية وما بعدها. «عندما نفكِّر، كتب فرانز فانون، بالجهود التي بُذلت لتحقيق الاغتراب الثقافي المميِّز للفترة الاستعمارية، نعلم أنّ لا شيء حصل بالصدفة، وأن النتيجة الشاملة للسيطرة الاستعمارية، هي إقناع الشعوب المستعمرة، يدفعهم إلى الظلام. والنتيجة التي يتَّبعها الاستعمار بوعي، هي أن يزرع في عقول السكان الأصليين، أن رحيل المستعمِر يعني بالنسبة لهم العودة إلى البربرية والإذلال والحيوانية. الاستعمار لا يعمل إذاً، ليراه المواطن الأصلي كأم، عطوف ورؤوف، تحمي طفلها من محيط معادي، وإنما كأمٍ تمنع ابنها المنحرف من النجاح في انتحاره، وأن تطلق جيداً غرائزه السيئة، الأم المستعمِرة تحمي الطفل من نفسه، من أناه، من شکله، من حياته ومن بؤسه الوجودي.

في هذه الحالة، لا يكون الرفاه مطلب المثقِّف المستعمَر وإنما برنامج متماسك. المثقِّف المتسعمر الذي يحدّد المعركة على مستوى الشرعية، والذي يريد أن يأتي ببراهين، الذي يقبل بأن يظهر عارياً ليكشف تاريخ جسده محكوم عليه بأن يغرق بأحضان شعبه.

هذا الغرق ليس وطنياً تخصيصاً، المثقّف المستعمَر الذي قرر أن يحارب كذب المستعمِر، يحاربه على مستوى القارة، الماضي يثمّن. الثقافة التي تنتزع من الماضي لتنشر بكل ألقها ليست ثقافة البلد. الاستعمار الذي لم يميّز في جهوده لا يكف عن التأكيد أن الزنجي متوحّش، ولم يكن بالنسبة له، لا الأنغولي ولا النيجيري، إنه يتكلم عن الزنجي. وهذه القارة الواسعة، بالنسبة للمستعمِر، هي موطن التوحّش، بلداً موبوءاً بالخرافات وبالتعصب، منذور للاحتقار، مثقلٌ بغضب الله، بلد أكلة لحوم البشر، بلد الزنوج، إدانة المستعمِر هي إدانة على مستوى القارة. إن تأكيد

ص: 190

الاستعمار أن الظلام البشري ميّز فترة ما قبل الاستعمار تطاول مجمل القارة الأفريقية. وإن جهود المستعمَر لردّ اعتباره ويتخلّص من اللدغة الاستعمارية تندرج منطقياً في منظور الاستعمار نفسه، فالمثقف الذي ابتعد كثيراً عن الثقافة الغربية والذي وضع نصب عينيه المطالبة بوجود ثقافة، لن يفعل ذلك أبداً باسم أنغولا أو الداهومي وإنما الثقافة التي يؤكّد عليها إنما هي الثقافة الأفريقية، الزنجي الذي لم يكن أبداً على هذه الزنوجة، منذ أن سيطر عليه الرجل الأبيض، إلّا عندما قرّر أن يبرهن أنه يملك ثقافة، أنه ينتج ثقافة، تُدرك أن التاريخ يفرض عليه وجهة محدّدة، وأن التاريخ يعيّن له طريقاً محدّدة وأن عليه أن يُظهر ثقافة زنجية.

إن العودة البسيطة إلى المصادر التاريخية لشعبه، لثقافته، لحضارته، لا تكفي المثقّف المستعمَر ليقطع نهائياً مع الاغتراب الثقافي. وفضلاً عن ذلك، هذه العودة البسيطة إلى المصادر التاريخية، توشك أن تسجنه في ماضٍ يرى فيه مثلاً أعلى. وهو آنذاك، لا يفعل سوى أن يردّد، دونما كلل التاريخ الماضي، الأفكار الميتة وبطريقة وراثية.

وبحسب فرانز فانون، فإن على المثقف المستعمَر، أن يمر بثلاث مراحل ثقافية، حتى يخرج نهائياً من الاغتراب الاستعماري وليدخل بعمق، في النضال من أجل تحریر شعبه، «يبرهن المثقّف المستعمر، في المرحلة الأولى، أنه استوعب تمثّل ثقافة المحتل. أعماله الثقافية، تشبه من كل النواحي، أعمال نظرائه في المراكز الاستعمارية. الاستلهام أوروبي، ويمكن بسهولة أن تربط هذه الأعمال، بتيار استعماري محدّد جيداً. هذه مرحلة التمثّل الكامل. نجد في أدب المستعمر برناسيين ورمزيين وسيرياليين.

في مرحلة ثانية، يهتز المستعمَر ، ويقرّر أن يتذكّر. فترة الإبداع هذه، توافق تقريباً فترة الغرق التي وصفناها لتوّنا. ولكن بما أن المستعمر، لم ينضمّ إلى شعبه، ولأنه يقيم معه علاقات من الخارج، فإنه يكتفي بأن يتذكّر. يستحضر مراحل قديمة من طفولته، فيفسّر سهراتها الأسطورية، بمقتضى جمالية مستعارة، وبتصوّرٍ لعالم، مكتشف تحت سماوات مختلفة، فيغلب أحياناً، على أدب ما قبل المعركة الدعابة

ص: 191

والمجاز. تلك هي مرحلة الكآبة والضيق، تجربة الموت والغثيان. يكون تقيء إلى تحت، فينطلق الضحك.

وأخيراً فى المرحلة الثالثة، مرحلة المعركة، وبعد أن حاول المستعمر أن يضيّع نفسه بين الشعب، أن يضيّع نفسه مع الشعب، فإن على العكس، سيهزّ الشعب. وبدلاً من أن يغطي الأفضلية لسبات الشعب يتحوّل إلى موقظ للشعب، من خلال أدب المعركة، الأدب الثوري، والأدب الوطني. وخلال هذه الفترة، فإن عدداً كبيراً من الرجال والنساء، الذين لم يفكروا من قبل، بتأليف عمل أدبي، يجدون أنفسهم في ظروف استثنائية، في السجن، مع الثوَّار أو على موعد مع محاكمتهم، فيشعرون بضرورة أن يكونوا لسان حال أمّتهم، أن يصيغوا المرحلة، التي تعبّر عن الشعب، أن يكونوا الناطقين بحقيقة جديدة قيد التحقق.

ولكي يكون «موقظاً لشعبه»، و «محرّضاً لشعبه»، لا يكتفي المثقّف المستعمر أن يؤلف عملاً أدبياً، أن يكتب قصائد أو مقالات نظرية فلسفية - سياسية، ولكن سيكون عليه، أن ينخرط في النضال، من أجل التحرّر الملموس لشعبه، أي في النضال ضد الإمبريالية والاستعمار. وكما كتب فانون «إن المثقّف المستعمَر، سيدرك عاجلاً أم آجلاً، أنه لن يستردّ وطنه عبر الثقافة وإنما من خلال المعركة، التي يخوضها الشعب ضد قوى المحتل» وفي الوقت نفسه، الذي يلتزم فيه بتحرير شعبه، يصنع المثقّف الأسلحة، التي تفيده بنزع إسار الاغتراب وبتحريره الخاص.

6- التزام وتحرّر

إن التزام المثقّف المستعمَر، بالنضال من أجل التحرير، هو بالنسبة لفرانز فانون واجب ينبغي أن يترافق مع عمله الثقافي. هذا الالتزام يصبح، بالنسبة له، حقيقة مرتبطة بواقعه كمستعمَر، بل بكونه مخلوقاً بشرياً. وكان الالتزام، في لحظة تاريخية، تأثّرت بعمق بوجودية سارتر، يُدرَكُ كرافعة للظروف الإنسانية. كان يُنظر إلى الالتزام، حتى إذا كان رفضاً للتعهّد، كمزية للإنسان، منذ اللحظة التي «يُلقى به إلى هذا العالم».

ص: 192

المثقّف المستعمَر، عليه أن يعمل دونما تمييز، سواء استخدم أسلحة سياسية وأسلحة محض فكرية، أو ثقافية. إن نمطي العمل يصدران عن واجب المثقّف في فترة الاستعمار، أو ما بعدها، في نضاله ضد الإمبريالية، خلال فترة الاستعمار أو ما بعدها. وعلى نحو أكثر عمومية، من أجل تحرّره كإنسان مطلوب. وبحسب طبيب الأمراض العصبية المارتينيكي، «الإنسان المستعمر، الذي يكتب لشعبه، إذ يستخدم الماضي، عليه أن يفعل ذلك بنية فتح المستقبل، والدعوة إلى الفعل، وبتأسيس الأمل. ولكن لتأكيد الأمل، ولإعطائه زخماً، ينبغي المساهمة في الفعل، الالتزام جسماً وروحاً في المعركة الوطنية. يمكن أن نتكلم عن كل شيء، ولكن عندما نقرِّر أن نتكلم عن هذا الشيء الوحيد، في حياة الإنسان الذي يمثّل حقيقة فتح الأفق، ونقل الضوء إليه، وأن يقف بنفسه هو وشعبه حينذاك تنبغي المشاركة وبقوة.

«إن مسؤولية الرجل المثقّف المستعمَر، ليست مسؤولية تجاه الثقافة الوطنية وحدها وإنما مسؤولية شاملة، على مستوى الأمة بأكملها، وثقافتها ليست، إجمالاً، سوی مظهر واحد. لا ينبغي لرجل الثقافة المستعمر، أن ينشغل باختيار مستوى معركته، والقطاع حيث يقرر خوض المعركة الوطنية. فالنضال من أجل الثقافة الوطنية، هو قبل كل شيء نضال من أجل تحرير الأمة، والقالب المادي الذي من خلاله تصبح الثقافة ممكنة. ليس ثمة معركة ثقافية، تنمو إلى جانب الثورة الشعبية».

على شريعتي يشاطر فرانز فانون، النظرة نفسها، حول ضرورة أن يلتزم المثقّف، فترة الاستعمار وما بعدها بالعمل السياسي، بشكل عام وفي النضال ضد الإمبريالية والاستعمار، بشكل خاص. وقد ذهب المثقّف الإيراني، في اجتهاده الثقافي، إلى حدٍ وضع فيه الفعل، أمام الإيمان في ترتيب أولويّاته. وبذلك يمكن أن يُعتبر، أحد مؤسسي «لاهوت الفعل الإسلامي». وقد اعتمد في ذلك، على الآية القرآنية 110 للصورة الثالثة، آل عمران: «كنتم خير أمّة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله» وبحسب شريعتي فإن الأمر في مفردات النص القرآني، يظهر أولية الفعل على الإيمان، لأن الإيمان بالله، لم يأتِ إلا في اللحظة الثالثة، بعد

ص: 193

أمرين بالفعل في النص القرآني. وبهذا التفسير الدينامي للقرآن أراد علي شريعتي وضع الفعل في مركز حياة المؤمن. فعلى المسلم، أن يفعل ويبدع، ألّا يكتفي بالإيمان السلبي. فالإنسان بالنسبة له هو في ما يفعل، وليس في ما هو عليه، أو ما يدّعي ما

هو عليه. والوجود لم يكن أبداً مُعطى، وإنما هو جهد خلق مستمر. وهو يرى أن على المؤمن، أن يمتنع عن اعتبار الوضع القائم للمجتمع، الموسوم بالظلم والجور، وضعاً نهائياً. وهذا يحول نهائياً دون سلبية المؤمن.

وبذلك يواجه على شريعتي بجزم، كل القراءات الصوفية الإسلامية، المنكفئة عن الفعل، التي تريد ألّا يكون للدين أي تأثير اجتماعي وسياسي. فالبرجوازيات الليبرالية تقبل الإيمان الديني، شرط ألّا يكون محرّكاً للفعل الاجتماعي، وخصوصاً الأداة الأساسية للاحتجاج على هيمنتها. ذلك هو السبب الذي بمقتضاه، تواجه غالباً، بعنف الطبقات الحاكمة في الجنوب - «البرجوازيات الكومبرادورية» بحسب تعبير لينين، هذا النمط من الشعور الديني. إن القراءة الصوفية السلبية للدين، تسمح لها أن تلعب على مشاعر منغرسة عميقاً، في حياة الطبقات الشعبية، وأن تعطّل كل احتجاج. وهكذا يُستخدم الدين «كأفيون للشعب»، في حين أنه، في معناه العميق، يمكن أن يصبح المصدر، الذي ينهل منه الذين يناضلون من أجل تحرير حقيقي للإنسان.

إلى جانب هذه الأفكار حول الدور الاجتماعي، السياسي وربما التحريري للروحانية، فإن الالتزام السياسي، يرتبط بشدة بالتركيبة الشاملة للمثقّف، خلال فترة الاستعمار وما بعدها، بحسب علي شريعتي، لأنها تسمح له أن يتّصل ويظلّ على اتصال مع حقائق العالم الاجتماعية التي يعيش داخلها. وأحد المخاطر الذي يترصّد المثقّف هو أن ينغلق داخل معرفة نظرية يستقيها من الكتب، تقطعه عن محيطه الاجتماعي، السياسي والثقافي. والمثقف خلال فترة الاستعمار وما بعدها، عليه ألّا ينسى أبداً أن الأفكار، رغم دورها المحرك، لا تصنع التاريخ وإنما النضالات السياسية والاجتماعية المحسوسة، تلك التي تضع نسق الاستغلال، والسيطرة الشاملة، موضع اتهام. المعركة السياسية، في المعنى الواسع، تسمح للإنسان، كما يؤكد على

ص: 194

شريعتي، أن يحقّق استعداداته الاجتماعية، الأكثر سمواً، وتكوّن للمثقّف مشروعاً يبني ويثقّف. فالنضال الاجتماعي، هو عامل أساسي، في وعيه لذاته كمثقّف.

إن مثقفاً جالساً وراء مكتبه، مُحاطاً بكومة من الكتب، أو مشغولاً بنقاشات نظرية مع الأصدقاء والزملاء، لا يمكن أن يُعتبر ثورياً شعبياً، وهو يبحث عن الحلول بين فرضیات ونصوص الإيديولوجيين. ولكن تجربة العمل السياسي، وحدها، تسمح له، بتصحيح أفكاره، وبشفائه من مرض الكلمات، وتعرّفه على حدوده الخاصة. ذلك أنّه لا يمكن قياس جدارته، ذكائه، سرعته في العمل، جرأته، حسن التضحية لديه وحتى إخلاصه ونزاهته من دون تجربة المعركة.

المعركة السياسية هي حقل عمل، يسمح للمثقف أن يدرك على نحو محسوس، المفاهيم التي تعلّمها، في الكتب، وتسمح له، من جهة أخرى، أن يواجه، ويتّصل بالحقائق، التي لا نجدها إطلاقاً، في الجو الهادئ والمطمئن، للتبادل الثقافي. فضلاً عن ذلك، فإن المثقّف يألف الشعب ومطالبه، وحاجاته ومثله العليا، وقوته وضعفه، بفضل المعركة السياسية. كما أن المعركة تسمح له أيضاً، من التحقّق من إمكانيات العمل، ومن عدم القطع مع الجماهير - وهو مرض غالباً ما يصيب المثقّف - وتدفعه ليتقدّم أمام الشعب دون فقدان التواصل معه. كما أنه يتعلّم، أثناء المعركة السياسية، الممارسة الإيديولوجية، فيضبط وعيه ويتحقّق من الظروف الراهنة. المعركة السياسية تعلّم المثقّف ما يفتقده بشكل عام، أي لغة الشعب، الأداة الضرورية، لتحقيق رسالته في جماعته، إن فقدان هذه اللغة، هو المسؤول عن عقم مثقّفينا، فهو يجعلهم غرباء عن الشعب، ويرفع حائطاً غير مرئي، ولا يمكن تجاوزه بين الأقلية الثقافية الواعية، والجماهير الشعبية. هذه القطيعة بين الشعب والمثقفين هي التي سمحت، للسياسيين بتنويم الشعب، ودفعه إلى الجهل، والخرافة والانحطاط، وهي أيضاً جعلت من المثقفين مجموعة منغلقة داخل حواجز التنظير، غرباء داخل مجتمعهم الخاص، وبالتالي عقيمين، معزولين ودونما تأثير، وعزلتهم هذه تتيح للقوى العظمى وللإمبريالية التلاعب بهم وإنهاكهم».

ص: 195

والالتزام السياسي للمثقف المستعمر، حتى وإن كان ضرورياً، إلا أنه يمكن أن يولّد بعض المخاطر. فهو، ما أن يرتبط مع شعبه بالتزامه، حتى يوشك أن يتصرّف بانتهازية، تابعاً الشعب بعيوبه. فيفقد إذاً حسّه النقدي، واستقلاله الفكري، مما يجعله، بدلاً من تعزيز قضيته، يمكن على العكس، أن يؤذيها. وبحسب فرانز فانون، «من أجل تمثّل ثقافة الظالم، ومجابهته على المستعمر، أن يتقن صيغ تفكير البرجوازية الاستعمارية. وهذا نتحقّق منه، من خلال عدم كفاءة المثقف المستعمر في الحوار، لأنه لا يعرف ان يكون عميقاً، بمواجهة الموضوع والفكرة. وعلى العكس، عندما يناضل وسط الشعب، فإنه لا يكفّ عن التعبير، عن إعجابه به، ويظهر ضعيفاً حيال صدقه واستقامته. والخطر الدائم الذي يترصده أن يلجأ إلى الشعبوية، فيتملّق الشعب، جاعلاً كل جملة من كلامه، حكمة مأثورة، والحال أنّ الفلاح والعاطل عن العمل والجائع لا يدّعون الحقيقة، لأنها تسكن وجدانهم نفسه.

يقدّم فرانز فانون النضال السياسي وخصوصاً، الذي يأخذ شكل العصيان والتمرد، كضرورة، ليقطع المثقّف بعمق، وبشكل مستمر، مع الخضوع لهيمنة الغرب الإيديولوجية - الثقافية. ومن هنا يميّز فرانز فانون بوضوح المناطق التي عرفت نضالاً طويلاً وكثيفاً، من أجل التحرّر الوطني، عن المناطق التي تبدو وكأن القوى الإمبريالية «منحتها استقلالها».

في الحالة الأولى، يبدو التحرّر من الاستعمار، أعمق وأكثر استدامة، إذ سنحت الفرصة للمثقّف، أن يقطع فعلاً مع الثقافة السائدة، من خلال نضاله السياسي، «وبحسب فانون، فإن المناطق المستعمرة حيث خُيض النضال، من أجل التحرير، و سال دم الشعب، وحيث فترة المقاومة المسلحة، سمحت للمثقفين العودة إلى القواعد الشعبية، نشهد استئصالاً حقيقياً للبنية الفوقية، المستمدّة من المثقّفين، في البيئات البرجوازية الاستعمارية. ومن خلال مناجاتها النرجسية، كانت البرجوازية الاستعمارية، قد غرست، عبر جامعييها، في عقل المستعمَر، أن الجوهر يظلّ أبدياً، على الرغم من كل الأخطاء، التي تُعزى للبشر. الجوهر الغربي متفقٌ عليه.

ص: 196

وكان المستعمر، يقبل شرعية هذه الفكرة، ونستطيع أن نكتشف، في ثنية من دماغه حارساً ساهراً، متكفّلاً بالدفاع عن القاعدة اليونانية - اللاتينية. وعليه، فإنه يجد، أثناء النضال من أجل التحرّر، في اللحظة التي يتّصل فيها المثقّف المستعمر بشعبه، أن هذا الحارس قد سُحق. إن كل القيم المتوسطية، التي انتصرت للإنسان، لوضوح الجميل، أصبحت تُحفاً بدون حياة، بدون لون. كل تلك الخطابات بدت كتجميع لكلمات ميتة. تلك القيم التي كانت تبدو سامية بالروح ظهرت دونما فائدة، لأنها لا تعني شيئاً، بالنسبة للمعركة الحقيقية، التي يخوضها الشعب».

وفي الحالة الثانية، يجد المثقفون المستعمرون صعوبة، في القطع مع الثقافة السائدة، ويكون لديهم ميلاً للاستفادة من موقعهم في استدامة البنى التراتبية الموروثة من الاستعمار، سواء على المستوى السياسي، الاقتصادي أو الثقافي. وبحسب فانون «يتفق أن التحرّر من الاستعمار حصل في المناطق التي لم يهزها النضال بقوة، حيث نجد المثقفين أنفسهم المحتالين الذين يناورون ویداورون، نجدهم على ما كانوا عليه في سلوكياتهم، وعلاقاتهم التي يقلّدون بها البرجوازية الاستعمارية، هؤلاء الذين كانوا أولاد المستعمر المدللون، هم اليوم مدللو السلطة الوطنية، ينظّمون نهب الموارد الوطنية وبدون شفقة يتسلقّون من خلال تجاوزاتهم للحقوق والقوانين. ويطالبون بإلحاح، بتأميم العمليات التجارية، أي حصر الأسواق والفرص الجيدة بأبناء الأمة وحدهم. وهم بذلك، يطالبون فعلياً، بضرورةٍ ملحّة لتأميم سرقة الأمة. وفي مرحلة القحط الوطنية هذه، خلال طور التقشّف، يتسبَّب نهبهم سريعاً، بغضب وعنف شعبي. هذا الشعب البائس والمستقل، يتوصّل في سياق الظروف الأفريقية والعالمية الراهنة، إلى وعي اجتماعي بوتيرة متسارعة. وإذا بالفردانيين الصغار لا يتأخرون عن فهم ذلك».

وبحسب فرانز فانون، الثورة الجزائرية هي خير مثال على هذا النمط، من النضال، الذي كان عليه أن يسمح بتحرّر المثقّف المستعمر. وعلى الرغم من حماس فانون، لا يسعنا إلا أن نتحقّق بما آلت إليه الأمور بعد خمسين سنة على هذا الكلام. وعلى

ص: 197

أي حال، ينبغي ألا نتطرّف بنقدنا، ونتحقق مع فانون، أنه كان لهذه الثورة، تأثير إيجابي جداً، على عدد من المثقفين، حتى خارج الجزائر «كان في ذلك برأي فانون، إحدى الخدمات الكبيرة إذ سمحت الثورة الجزائرية للمثقّفين الجزائريين، بوضعهم على صلة مع الشعب وبرؤية الحد الأقصى للظلم والبؤس، وفي الوقت نفسه، بإيقاظ عقولهم وتقدّم وعيهم». وعلى الرغم من هذا التقييم، كان فرانز فانون، يعلم مخاطر عودة الاستعمار، بأشكال مختلفة، ما أن يتحقّق الاستقلال الوطني، لأنه لا يمكن أن تحل جوهرياً مشكلة التغرّب الاستعماري، بالاستقلال السياسي وحده، ولكن يقتضي أيضاً، نضالاً طويلاً ومستمراً من جانب أولئك الذين هم أكثر وعياً لتوازن علاقات السيطرة السياسية، الاقتصادية والثقافية.

7- تحرر، سيطرة ثقافية وتحرر من التغرب

كما رأينا، فإن الالتزام السياسي للمثقّف المستعمَر ينظر إليه علي شريعتي وفرانز فانون، كضرورة ينبغي أن تسمح له، أن يعيد صلته بشعبه، وثقافته وحضارته وبالتالي أن يتحرّر من الاغتراب. إلا أنّ المثقّف المستعمَر، خلال فترة الاستعمار، وما بعدها. يمكن أن يلعب، دوراً غامضاً، إذا لم يقطع كلياً مع البنى الثقافية، التي لقّنه إياها الاستعمار.

غموض المثقّف المستعمَر هذا، خلال فترة الاستعمار، وما بعدها، يُلاحظ برأي فانون من خلال الدور الذي يلعبه بين المستعمِر والشعوب المستعمرة. إنه يوشك أن يجامل في دوره «كمحاور شرعي» للمستعمرين، الذين يستطيع محاورتهم لأنه يستخدم اللغة نفسها، التي يستخدمونها. وبحسب طبيب الأمراض العصبية المارتينيكي «هذه الظاهرة، [ظاهرة رفض السيطرة الثقافية] هي عادةً، مقنّعة، لأن بعض المثقفين المستعمرين، أقاموا خلال فترة الاستعمار حواراً مع برجوازية البلد المستعمِر التي كانت تنظر إلى السكان الأصليين، خلال فترة التحرير، كجمهور غير متمايز. وبعض شخصيات البلد المستعمَر التي كان للمستعمرين الفرصة للتعرّف إليهم هنا وهناك، لم يكن باستطاعتهم أن يدركوا الفروقات بين فئات الشعب. وفي

ص: 198

المقابل، فإن البرجوازية المستعمِرة تحاول برغبة محمومة خلال فترة التحرر، إقامة علاقات مع «النخبة» التي تمّ معها حواراً خاطئاً حول القيم والبرجوازية الاستعمارية. وإذ تسجل عدم قدرتها على إبقاء سيطرتها على البلدان المستعمرة، تقرر أن تخوض معركة خلفية، في ميدان الثقافة، القيم، والتقنيات إلخ. والحال ينبغي ألا ننسى أبداً أن غالبية الشعوب المستعمرة لا يمكن أن تخترق في هذه الميادين».

في هذه المعركة الخلفية، يصبح مناصرو السيطرة الأيديولوجية- الثقافية مدعومين من قبل المثقفين المستعمَرين، العطشى إلى إعتراف أسيادهم بهم. لقد حلموا أن يكونوا «المحاور الشرعي»، «المحاور الصالح» وإذا بالمستعمرين يقدّمون لهم هذه الفرصة. سيطلب منهم مناصرو النظام الاستعماري احتواء غضب شعبهم، والحفاظ على رضا المستعمِر ، الذي يؤمّن لهم كل الإمتيازات. هنا، يكمن بالتأكيد، أحد الأدوار الأكثر شؤماً، الذي يمكن أن يلعبه المثقَّف المستعمَر. وبحسب فانون «إن المثقَّف الذي تبع المستعمِر على مستوى النظرة العالمية المجردّة، سيقاتل ليستطيع رجل الاستعمار والمستعمَر، العيش بسلام في عالم جديد، ولكن ما لا يراه - لأن الاستعمار تسلَّل إليه، بكل طرق تفكيره - أنّ رجل الاستعمار ما أن يختفي الإطار الاستعماري، لا يعود له مصلحة في التعايش مع المستعمَر السابق».

وظيفة «المحاورين الشرعيين» واضحة: عليهم تجنّب الاشتباك الذي يسمح بالتحرّر من الاستعمار على المستوى السياسي، الاقتصادي والثقافي. «البرجوازية الاستعمارية تدخِل هذه الفكرة، فكرة وضع استعماري: اللاعنف. هذا اللاعنف بشكله الخام، يعني للنخبة الثقافية والاقتصادية المستعمرة، أن مصالح البرجوازية الاستعمارية هي مصالحها أيضاً ويصبح من الضروري والعاجل، التوصل إلى اتفاق سلام مشترك».

«المحاور الشرعي» احتفظ في أعماق نفسه، بطرق التصرّف والتفكير نفسها، التي كان عليها، قبل دخوله في النضال السياسي. ردود فعله، مازالت مشروطة كلياً بموقعه الاجتماعي السابق، وبحسب فرانز فانون «يتصرّف المثقَّف، موضوعياً، في هذه الفترة،

ص: 199

كانتهازي فظ. مناوراته لا تتوقَّف. لا يوجد أبداً، مسألة للشعب إلّا وتُّوضع جانباً أو تؤجّل . وما يطلبه الشعب، هو جعل كل شيء مشترك. اندماج المثقف المستعمر، في المد الجماهيري، سيظهر مؤجلاً، بسبب فضول لديه لعبادة التفصيل. ليس لأن الشعب عصيُّ علی التحليل. إنه يحب أن يستمع إلى الشرح وأن يفهم مفاصل المحاججة، يحب أن يرى إلى أين يذهب. ولكن المثقَّف المستعمَر يعطي، في بداية تعايشه مع الشعب، الأفضلية للتفصيل ويصل إلى نسيان هزيمة الاستعمار، موضوع النضال، وبسبب غضبه من حركة النضال المتعدّدة الأشكال، يميل إلى التركيز على قضايا محليّة يتابعها بنشاط، ولكن على نحو، استعراضي مفرط، على الدوام تقريباً. كل الوقت لا يرى كل شيء؛ يدخل فكرة البرامج، الاختصاص والميادين، في آلة فظيعة لخلط وتكسير، ماله علاقة بالثورة الشعبية؛ يتفق أن يفقد رؤية وحدة الحركة، وفي حالة الفشل المحلي، يستسلم للشك وحتى لليأس، في حين أن الشعب، منذ البداية، تبنّى مواقف شاملة، الأرض والخبز: ما العمل للحصول على الأرض والخبز؟ موقف الشعب هذا - المحدود ظاهرياً - المتعثّر والمضيّق عليه، هو في النهاية، الصيغة الإجرائية الأكثر «غنى» و «فعالية».

المثقَّف المستعمَر المغترب، الذي لم يتطوّر، على الرغم من التزامه السياسي، يميل للدفاع، قبل كل شيء، من مصلحته الفردية ضد مصلحة جميع المستعمرين، إنه يفضّل الوصول إلى حقّه بطريقة فرديّة على حساب الجماهير، أولئك الذين يتعرّضون للظلم. ويجعل من نفسه، المدافع الموضوعي، عن أولئك الذين يدّعون حل المشكلة الاستعمارية «بصعود اجتماعي» فردي، وليس بالنضال الجماعي ضد نسق مجحِف على المستوى الإنساني. من البديهي أن «الصعود الاجتماعي» للمثقّف المستعمَر، يمرّ من خلال التخلي عن المستعمرين الآخرين وعن قيمهم، «الصعود الاجتماعي»، هذا يستوجب التمثّل الكامل، للمثقّف المستعمَر للعالم الاستعماري. وبحسب «فرانز فانون» يوظّف المثقّف المستعمَر عدوانيته في إرداته، التي يصعب إخفاؤها، في التشبّه بالعالم الاستعماري. لقد وضع عدوانيته، في خدمة مصالحه الخاصة، ومنافعه كفرد. هكذا يولد بسهولة نوع من طبقه العبيد المحرّرين فردياً،

ص: 200

العبيد المعتقين. وما يطالب به المثقّف هو مضاعفة المعتقين، إمكانية تنظيم طبقة معتقين أصيلة، والجماهير في المقابل، لا يهمها تزايد حظوظ الأفراد في النجاح. إن ما تطلبه ليس تشريع الرجل المستعمِر، وإنما مكان الرجل المستعمِر.

«المثقف المستعمَر سيتستخدم، حتى جمهور المضطهدين، لتقييم حقوقه ومصالحه الفردية حيال مناصري النظام الاستعماري. لهذا، خشي فرانز فانون أن يرى هؤلاء المثقفين في قيادة النضال ضد الاستعمار والإمبريالية، خشي أن يحرفوا النضال عن أهدافه الحقيقية، أي قلب بنى السيطرة الاستعمارية على المستوى السياسي، كما المستوى الاقتصادي أو الثقافي. وبحسب طبيب الأمراض العصبية المارتينيكي «نخب البلدان المستعمرة، هؤلاء العبيد المعتقين، إذ يكونوا على رأس حركة النضال ينتهون، على نحو لا مفرّ منه، بإنتاج بديل عن المعركة. إنهم يستخدمون استعباد أخوانهم، لإحراج المستعبدين أو للإتيان بمحتوى إيديولوجي، ذي مجلس عسكري إنسانوي، من المجموعات المالية المنافسة لمضطهديهم. إنهم في الحقيقة، لا يستدعون أبداً العبيد، ولا يجيّشونهم بشكل محسوس على الإطلاق. وعلى العكس تماماً، ففي لحظة الحقيقة، أي لحظة الكذب بالنسبة لهم، يشهرون التهديد بتجييش الجماهير، كسلاح حاسم، يتسبب كما بسحر ساحر «بنهاية النظام الاستعماري».

المثقّف المستعمَر، يستطيع من جرّاء اتصاله مع الشعب، أن يقطع مع التعليم الإيديولوجي - الثقافي الذي كان تلقّنه. وهكذا يخرج من الاغتراب، يخرج من الفردانية الأنانية التي لقَّنته إيّاها الثقافة الغربية. هذا الخروج من الاغتراب يصير ضرورياً له ليناضل ضد الإغراء بجعله مميّزاً عن المستعمرين الآخرين، ويصبح «المحاور الشرعي» للسلطات الاستعمارية.

وخلال العمل، ينسج علاقة تضامن مع مجموع أخوته وأخواته في النضال، تمنعه من التخلّي عن الجماعة المقاومة، وهذا يتناقض مباشرة مع الإيديولوجية السائدة، التي ينشرها عملاء الأجهزة الإيديولوجية لدولة الاحتلال. هؤلاء ورثة تقليد ليبرالي، صنعه عصر «الأنوار»، يؤكدون أن الطريق الحقيقي «التقدّم» المستعمرين، ينبغي

ص: 201

أن يتم على مستوى الترقي الفردي وحده، وليس في إطار تحرر جماعي. هؤلاء العملاء الإيديولوجيين، هؤلاء المثقفين العضويين، للنظام الاستعماري، يعتبرون أن المطالبة المضادة هي «بحريات حقيقية». ومن البديهي، أن شروط الترقيات الفردية للمستعمرين، ينبغي، بالنسبة للسلطة الاستعمارية أن تُقاس بدرجة تمثُّل الثقافة الغربية. وليكون المثقّف المستعمر معترفاً به كمساوٍ للمستعمِر عليه أن يكون تماماً واحداً من الذين أسماهم جیل دلوز Gilles Deleuze عنصر «الإمّعيّة» «mémeté».

وفي الحقيقة، يؤكد فرانز فانون، «إن المثقّف «المستعمَر» كان قد تعلّم من أسياده أن على الفرد أن يؤكد ذاته. وكانت البرجوازية الاستعمارية، قد أدخلت بقوة، في عقل المستعمر فكرة مجتمع أفراد حيث كل واحد ينغلق في ذاتيته حيث غنى الفكر. وعليه، فالمستعمر الذي كان له الحظ، أن يلتجئ إلى الشعب، أثناء نضال التحرير سيكتشف زيف هذه النظرية. فأشكال تنظيم النضال، سيعرض عليه مفردات غير معتادة. الأخ، الأخت، الرفيق هي كلمات تنهى عنها البرجوازية الاستعمارية، لأن أخي تعني لهم محفظتي، ورفيقي تعني لهم شريكي في الحيلة. والمثقّف المستعمر يشهد نوعاً من الحكم المبرم، وتحطيم كل أصنامه: الأنانية، الإتهام المتعجرف، الغباء الطفولي الذي يريد على الدوام، أن تكون له الكلمة الأخيرة. هذا المثقف المستعمر، الذي ذرّرته الثقافة الاستعمارية، سيكتشف أيضاً ثبات مجالس القرى، كثافة مجالس الشعب، الخصوبة الخارقة، لاجتماعات الحارة والخلية. إن قضية كل شخص لا تكفّ عن أن تكون قضية الجميع، لأن الجميع إذ يكتشفهم جنود المحتل يُقتلون، أو أنهم ينجون جميعاً. الحل الفردي للمأزق، في هذا السياق، هو شكل سلام ملحد ومحظور.

المثقف المغترب عليه ألّا يفنى ببساطة، في الجماهير وينسى فرديته الخاصّة. ينبغي أن يؤكّد فردية خلّاقة، تكون مسكونة بمجمل الشعب في نضاله من أجل التحرّر. فرانس فانون يمكن أن يتبنّى قول فيخته: «الرجل الذي ينعزل، ينكفئ عن قدره. إنه لا يكترث بالتقدم الأخلاقي، فبحسب الأخلاق، ألّا تفكر إلّا بنفسك، لا

ص: 202

يعني أنك تفكّر بنفسك، لأن الغاية المطلقة للفرد، ليست في ذاته، إنها في الإنسانية بأجمعها».

لا يستطيع المثقّف إذاً، أن يكون مجرّد انتهازي، يتبع الشعب دونما تبصّر. عليه أيضاً أن يبحث، أن ينتقد، أن يوجد طريقاً جديداً لشعبه، لثقافته ولحضارتها. هذا الطريق الخاص، لا يمكن أن يكون التكرار الأعمى لتجارب الغرب كما لا يمكن أن يكون إرثاً، من ماضي أسلافنا القدامى، ومن تقاليدهم المتّخذة كمثل أعلى.

8- «المثقفون التائهون» بحسب علي شريعتي

بين تكرار ماضٍ متّخذٍ كمثل أعلى، والخضوع التغريبي والنهائي للثقافة الغربية السائدة، في بلدان العالم الثالث، وبلدان العالم العربي - الإسلامي بشكل خاص. ينبغي الاختيار. هكذا بحسب علي شريعتي تشكَّل قطبان متمايزان: قطب نخبة ثقافية مغرّبة كلياً وقطب تقليديين يريدون إعادة إحياء التقاليد الماضية فحسب، كي لا نقول التي تمّ تجاوزها. «نحن بصدد تحديد خيار، بحسب علي شريعتي، أي تفضيل أحد القطبين: أحدهما هو القطب الذي ورثناه من الماضي والذي يفرض نفسه على معظم الناس، والثاني الذي أخذناه من الغرب بصيغ محاكاة على كل المستويات».

عندما أقول: هذا القطب الموروث من التقاليد، أعني مجمل الآراء، القواعد، التصرفات، التي نسميها الدين، الذي نمارسه، والذي تؤمن به الجماهير، أعني أيضاً تصوّراً خاصاً للعالم، فلسفة للحياة، لغة وأدب مخصوص، مجموعة من العلاقات الاجتماعية المميّزة والصيغ الإنسانية.

أمّا بالنسبة للقطب الآخر، فإنه يشكّل هو أيضاً تصوّراً جديداً للعالم، مذهباً فلسفياً جديداً، فى العيش والكينونة والتصرّف. هذا المذهب، وإن كان يُعرض، من خلال مدارس مختلفة ومتعارضة، إلّا أنه يواجه القطب المقابل، ككيان مستقل.

مهما يكن من أمر، فإن مثقّفنا يجد نفسه، اليوم، بين هذين القطبين: القطب التقليدي الموروث من ماضينا والقطب المُحاكى، المنسوخ، المنسوخ إبّان هذا

ص: 203

القرن الأخير عن الحضارة الأوروبية. ولكلٍ من هذين القطبين، في المجتمع الشرقي، في المجتمعات الإسلامية وفي مجتمعنا الخاص، قالبه الثابت، قيمه المعترف بها، مبادؤه المحدّدة، الواضحة، حرّاسه الرسميين المختارين. ونتحقّق، اليوم، أن أكثرية شعبنا تتجمع حول العلم الحارس للتقاليد - المسمّى الدين - أو الأمة، الأخلاق، الروحانية، علاقات وآراء مختلفة - في حين أنّ المثقّفين - وأعني بهذه الكلمة كل شخص متعلِّم - جميعاً أرتضوا بهذا الطلاء الثقافوي المستورد من أوروبا.

واقع الحال إذاً واضح: جماهيرنا ترث غذاءً جاهزاً ومطبوخاً جيداً، يسمّى الدين أو التقاليد. ليس لهم أن يتألموا ليختاروا، ليقرروا، لأن خيارهم قد تمّ، وما عليهم سوى تسجيله. وكذلك فإن مثقّفينا ليس لهم أن يرتبكوا، حيال استهلاكهم المعلّب جيداً، الذي يصلهم مباشرة من الغرب، وليس عليهم، سوى فتحه واستهلاكه. كذلك، فإن مذاهب مختلفة، حتى متعارضة، تستورد اليوم، بعلب محضَّرة جيداً، مطابقة للمعايير المعتمدة، وما على المتعلِّمين سوى استخدامها. وبكلام آخر، فهؤلاء دون أن يشكو من أدنى ألم، ودون أن يغتاظوا، ودون أن يجهدوا أنفسهم، في البحث والمقارنة، يصيرون أتباع هذا المذهب أو ذاك.

علي شريعتي يرفض، أن يتبع الغرب دونما تبصّر ولكنه لا يقبل أبداً قراءة «للتقاليد منغلقة داخل التقاليد» وإذ نستعيد كلام الفيلسوف المغربي محمد عبد الجابري، فإن المثقّف الإيراني، أراد أن يقوم بإعادة قراءة شاملة، للتقاليد الموروثة، بغية البحث عن الطريق نحو تقدّم غير مستورد، أي تقدّم أصيل، متجذّر في ثقافة، هوية ومدنية شعوب الجنوب. ينبغي إعادة القراءة هذه أن تكون قراءة منفتحة على الثقافات، أي أنها تحاول فهم التراث العربي الإسلامي كنسق أفكار، وقيم يملك وعيه الخاص، وهذا يخالف القراءة المغرَّبة والمغرِّبة للتراث الثقافي التي قام بها بعض المفكرين المغرّبين من الجنوب، الذين ينظرون من الخارج، إلى تراثهم الثقافي الخاص، كونهم تأثَّروا بشدة في ذلك بالمستشرقين الأفريقيين ذوي الثقافة الغربية. هذه النظرة من الخارج إلى التراث، تمنع أية قراءة دينامية وتقدمية لهذه الترِكَة المحاصرة.

ص: 204

طريق هذا التقدم غير المستورد، وغير المنغلق على الثقافات ينبغي، بحسب شريعتي أن يخضع لتفكّر وتبصّر ونقاش مثقفي بلدان الجنوب. بين هذين القطبين، ثمة مثقّفون تائهون «لا يستطيعون أن يستسلموا للأطر الموروثة - بادعائهم كمثقّفين ولا استهلاك المعلبات الإيديولوجية، الآتية من الغرب، خلال نهاية هذا القرن. وهم بالفعل، يريدون «أن يتفكّروا و «يبنوا» و «يختاروا» بأنفسهم، لأن التجربة الراهنة، برهنت أن مجرّد الاستهلاك، لا يستطيع مداواة أمراضنا، حتى وإن توصّل، ليكون مهدئاً موقتاً، «لانعدام الشخصيات» و «خفاء الأسماء» و«سوء معرفة بعض المثقفين»، إلا أنه لا يمكن أن يشكل دواء، علاجاً لمرض الشعب».

خيار المثقّف الإيراني، ليس مجرّد خيار فردي للتفكير، أو/و نمط عيش. هذا الخيار هو خيار شعوب بأكملها، وحضارات بأكملها، في علاقاتها في ما بينها، بتواريخها، بثقافاتها، وفي الوقت نفسه، خيار في علاقاتها بالعالم عموماً وبالغرب خصوصاً. هذا الخيار المقارب هكذا، يمكن أن يبدو مخيفاً، متجاوزاً لمثقفين معزولين ومذرذرين ولكن يظهر أنه لا يمكن تجنّبه بالنسبة لقسم كبير من البشرية، وبحسب علي شريعتي، «هؤلاء المثقّفون الذين يريدون إسماع صوتهم الخاص، الذين يحاولون معرفة مجتمعهم، والذين اختاروا وأعلنوا بحماسة طريقاً عقْدياً يستجيب للحاجات والشروط الخاصة لتاريخهم ومجتمعهم، يجدون أنفسهم على مفترق حاسم للمصير البشري: كما قال سارتر، اللحظة الأساسية، الأكثر حراجةً، والأكثر وعورةً، والأكثر إقلاقاً بالنسبة للإنسان هي اللحظة التي ينبغي أن «يختار» فيها، لأن الذي يختار، يريد نمطاً مرجعياً، ليس له فحسب، وإنما للشعب أيضاً، وخلال هذه اللحظة الحاسمة، فإن المسؤولية التي تتوجّب على الفرد ليست ذات طبيعة فردية، إنها تتعلّق بمرحلة كاملة، وهي من طبيعة اجتماعية». الاختيار هو اللحظة الأكثر أساسية، لأن ما أن يكون الاختيار، يكون الفعل نفسه مسؤولية، إزاء هذا الاختيار، إزاء هذه الأفعال المنجزة، أو القيم المتبنّاة. من هذا المنظور، يكون الاختيار مركزياً، في التجربة الإنسانية؛ لا مناص من الاختيار، وحتى أنّ رفضْ الاختيار هو اختيار. إن حرية الاختيار تقتضي التزاماً ومسؤولية، ولأن الإنسان حرّ في اختيار طريقه الخاص، عليه قبول المجازفة

ص: 205

والمسؤولية، الملازمتين لالتزامه، وذلك مهما سيكون عليه المآل. هذا الاختيار الأساسي، هو اليوم، اختيار المثقّفين المستعمَرين خلال فترة الاستعمار، وما بعدها، بمواجهة البدائل التي تقدّم لهم. هل سيكونون حبيسي تقليد الماضي، أو أن يتغربوا كلياً؟ أو أنهم سيتزودون، بوسائل تحرّرهم الخاصة، التي ستسمح لهم، أن يحرثوا أرضاً جديدة للامفكّر فيه، الإيديولوجي الثقافي.

9- الخلاصة

اليوم بمواجهة التحدّيات الإيديولوجية - الثقافية، تحدياتنا الخاصة، تصير العودة، إلى أفكار أولئك، الذين سبقونا، في رفض الخضوع لأنصار الإيديولوجيا السائدة ضرورية، وتزداد إلحاحاً باستمرار، ولنكن دقيقين في الاستنتاج، فإن فرانز فانون، علي شريعتي وأدوار سعيد، الذين درسنا مواقفهم ليسوا الوحيدين الذين عكفوا، على دراسة هذه الإشكاليات. ثمة مؤلفون آخرون، يستحقون أن يُدرسوا بعمق. من إيمي سیزار (Aimé Césaire) إلى أنور عبد الملك، مروراً بحسن حنفي، مالكولم إكس أو محمد عبد الجابري، الذين نجد لديهم نبعاً لا ينضب من الأفكار والأسئلة وحتى الأجوبة نفسها.

هذه الأفكار، ينبغي أن تسمح لنا أن نتفكَّر بموقفنا السياسي، الاجتماعي والثقافي. وهذا لا يعني، أن «أسلافنا الكبار» قد سلّمونا كل المفاتيح، التي تتيح، حل مشاكلنا الخاصة. إن إعادة تملّك فكرهم، ينبغي أن يسمح لنا، بإعادة طرح الأسئلة، التي غالباً ما تُطرح علينا، بصيغٍ نختارها. ذلك سيسمح لنا، الانتقال من موقع الموضوع، المدروس والمحكى عنه والمناقَش، إلى موقع الذات الدراسة المتكلّمة والمناقِشة. سنستطيع الانتقال من موقع الفاعل الملاحِظ والشريك. من هنا، علينا أن نصير، صانعي تاريخنا، وليس تحديداً موضوع تاريخ نخضع له. وبكلام آخر، بفعل الإرادة الثقافية هذا، نريد تجاوز الموقع الاتكالي، الذي حَبَسَنا فيه المستفيدون من توازن علاقة السيطرة الراهن. هذه العِدّة الإيديولوجية - الثقافية، ينبغي أن تسمح لنا أن ندخل بعمق، مسلحين ثقافياً إلى «معمعة التناقضات

ص: 206

الحقيقية» (ماركس) للعالم السياسي، الاجتماعي والثقافي، الذي يحيط بنا، كي لا نقول الذي يحتوينا.

هؤلاء المؤلفون وأفكارهم يمكن أن تعطينا، الأدوات الإيديولوجية - الثقافية الضرورية، لننجح حقيقةً «بقطيعة معرفية، مع الخطابات السائدة. هذه الأدوات الإيديولوجية - الثقافية ينبغي أن تسمح لنا، بإرساء إطارنا الخاص، لمرجعيتنا الثقافية، لأنه كما أشار وبحق أنطونيو غرامشي «إن جمهوراً بشرياً لا يتميّز ولا يصبح مستقلاً «بذاته»، إنْ لم ينظم نفسه (بالمعنى الواسع). وليس ثمة من تنظيم، دون مثقّفين، أي دون منظمين ودون قادة، ودون أن يتميّز بشكل محسوس، الطابع النظري، للمجموعة - النظرية - العملية، في طبقة من الأشخاص «المتخصصين»، في الإعداد الثقافي والفلسفي».

هذه الأفكار بخاصة، ينبغي أن تسمح لنا بإعادة صياغة الأسئلة التي تبدو لنا، اليوم، ملائمة، والتي كان «كبار أسلافنا» - قد طرحوها في زمنهم - أيّ علاقة نقيم مع تراث عمره قرون؟ أليس في ذلك مجازفة، بأن ننغلق في تقاليد جامدة، بذريعة إرادة الأصالة؟ في هذه الحالة، كيف يكون لنا قراءة، أو إعادة قراءة دينامية، لهذا التراث؟ وفي الوقت عينه، أي علاقة نقيم مع الثقافة الغربية السائدة؟ هل نحن موضوعياً، موضوع تغريب إيديولوجي للغرب؟ إذاً، هل نحن قادرون؟ أن نكون على مسافة من التصوّرات، التي تخضعنا نحن بالذات؟ أو على الأقل عن الثقافة، الدين والحضارة التي منها تحدّرنا أو/و إذن نطالب بها؟ وانطلاقاً من هنا، كيف لنا، في عصرنا، وفي شروطنا الاجتماعية، أن نخلق فكراً جديداً لا يكون تكراراً موروثاً من ماضٍ ننظر إليه، كمثل أعلى، أو مجرّد محاكاةٍ عمياء و«مقزّزة» (فانون) لعقيدة إيديولوجية - ثقافية مسيطرة ؟

ص: 207

NOTES

[1] En référence au philosophe italien Antonio Gramsci (1891 - 1937) Cf. Gramsci، Texte، ed. Sociales، 1983-

[2] Ali Shariati، Histoire et destinée، Ed. Sindbad، 1982، page 34-

[3] Fanon Frantz، Les damnés de la terre، Ed. Gallimard،1991، page 264-

[4] Ali Shariati، Histoire et destinée، op. cit.، page 107-

[5] Saïd Edward، L’orientalisme، L’Orient créé par l’Occident، le Seuil، 1987، page 350-

[6] Ibid.، page 347-

[7] Ibid.، page 349-

[8] Ibid.، page 348-

[9] Fanon Frantz، Les damnés de la terre، op. cit.، page 263- 264-

[10] Shariati Ali، Histoire et destinée، op.cit.، page 107-

[11] Ibid.، page 108-

[12] Fanon Frantz، Les damnés de la terre، op.cit.، page 267-

[13] Shariati Ali، Histoire et destinée، op.cit.، page 108-

[14] Ibid.، page 91- 92-

L’expression ne doit pas être comprise comme une insulte à l’égard des musulmans traditionalistes mais comme la volonté d’Ali Shariati de lutter contre une interprétation quiétiste de l’Islam. Pour lui la foi devait être un moteur de- .[15] .l’action social et politique et non une simple voie pour un salut individuel

[16] Ibid.، page 108-

ص: 208

الإمبريالية الأكاديمية

اشارة

مقترحات معرفية لإنهائها

ج. ك. راجو

ج. ك. راجو (1)

تبدأ الإمبريالية الأكاديمية بالتعليم الغربي، الذي واجه تحدياً خطيراً في العلوم الصعبة. فقد غير الاستعمار نظام التعليم ونظر إليه باعتباره وسيلة رئيسية لاحتواء التمرد واستقرار الحكم المحلي التابع للغرب. لقد كان التغيير ممكناً (على سبيل المثال من قبل ماكولاي في الهند) فكان قسماً كبيراً من النخبة المستعمرة قد تشبَّع بالفعل بالمعتقدات العنصرية في القرن الثامن عشر، ولاسيما لناحية القول بأن الغرب وحده هو من ابتكر العلوم. وكانت تلك المعتقدات العنصرية، بدورها، تستند إلى التاريخ السيء للعلم والفلسفة اللذين عمل على تشويههما التعصب الديني الذي طغى على أوروبا منذ الحروب الصليبية في القرن الحادي عشر ، وحتى القرن السابع عشر. لذلك، ولكي نضع حداً لاستشراء الإمبريالية الأكاديمية فمن الضروري اتخاذ الخطوات التالية:

(ا) تفكيك وفضح أكاذيب التاريخ الغربي من العلم.

ص: 209


1- باحث ومفكر وأكاديمي في مركز الدراسات الحضارية، نيودلهي - الهند. - ترجمة: ياسر السيد.

(ب) تغيير الفلسفة المصاحبة للعلم.

(ج) استخدام منهج تربوي جديد منظم من أجل البناء، ولا سيما في مجال العلوم الصعبة، وذلك بإثبات قيمتها العملية، من أجل تفكيك النظم التعليمية الاستعمارية.

(د) تفكيك هيكل السلطة الغربية على مستوى التعليم العالي والبحوث.

نشیر في هذا الصدد إلى أن البنود المتعلقة بالإجراءات الفورية تتصل بالبندين (ج) و(د). يجري هذا من خلال القيام بتجربة جديدة تربوية لاختبار حساب التفاضل والتكامل («دوره لمده 5 أيام في حساب التفاضل والتكامل دون حدود») على أساس تاريخ جديد لفلسفة الرياضيات. كل ذلك من أجل تبسيط الفهم في كلاً من التفاضل والتكامل ليتم تدريسهما بيُسر عبر توفير حافز للطلاب بأجهزة تساعد على ذلك. وبالتالي أن يبدأ العمل الجماعي من خلال مقرر جديد، ومجلة إلكترونية للتاريخ غير الغربي بالإضافة إلى فلسفة العلوم، التي لن تسمح بالاعتماد على المصادر الغربية الثانوية، بحيث يتعين على المؤلفين أن يفترضوا أن جميع هذه المواد مشكوك فيها وغير جديرة بالثقة.

مقدمات الإمبريالية الأكاديمية

النقطة الرئيسية حول الإمبريالية الأكاديمية لا تتوقف على مجرد الحديث عنها، ولكن بالسعي إلى فهم الأسباب الرئيسية التي أدت إليها. لذلك لابد من وضع ملخص بياني في هذا الصدد. لقد تم تعزيز التعليم على أساس أنه سيساعد على «اللحاق بالغرب» في مجال العلم والتكنولوجيا، وعليه يمكن الحصول على التكافؤ مع الغرب في القوة الصلبة، وفي هذا الاعتقاد ما يجعل من غير الغربيين يقلدون الغرب. من ناحية أخرى، فإن الإبتكار العلمي لا يُتعامل معه اليوم على أنه يتسم بالمصداقیة إلا من خلال ما يقره الغرب. على سبيل المثال عندما يتم النشر في مجلة غربية فإننا نصفِ البحث بأنه مرموق، ومثل هذه الممارسة تعني أن غير الغرب لا يستطيع الابتكار أو اللحاق بالعلوم الغربية. فالغرب هو دائماً الأول من خلال الابتكارات الرئيسية،

ص: 210

لذا نجد أن هناك فئة كبيرة من الجمهور تعتقد (أن المطلب الأساسي في العلم، هو ما يُحصَّل من خلال التعليم الغربي، ونتيجة لذلك كان أفضل اختيار للخبرة الحقيقة العلمية هو ما تقدمه التجربة الغربية.. الأمر الذي يؤدي إلى ضمان استمرار الدونية من جانب الشعوب التي لا تنتمي إلى العالم الغربي. وهذا أدى بدوره إلى نشوء فجوة تكنولوجية دائمة، بين الغرب وسواه، وبالتالي فلابد لغير الغربيين أن يواصلوا السير وراء الغرب، وإلا فلن يستطيعوا اللحاق بالركب الحضاري.

على سبيل المثال، تم تشجيع التعليم الغربي في الهند منذ ما يقرب من قرنين من الزمان، ومع ذلك لم تستطيع الهند تحقيق أي تكافؤ تكنولوجي مع الغرب، فقد أعلنت عن برنامجها الفضائي منذ أكثر من 40 سنة وقد أرسلت للقمر بعثة بدون طيار، في الوقت الذي أرسلت فيه الولايات الأميركية مركبتها الفضائية أبوللو 11 من أكثر من 40 سنه مضت لتهبط على سطح القمر. وفي الوقت عينه أيضا نجحت الصين، في الحصول على المركز الدولي في تكنولوجيا القذائف) في حين لم تشكل تكنولوجيا الصواريخ الباردة المستخدمة في الهند أي تهديد عسكري للغرب. وهو ما جعل الغرب سعيداً بوجود مليار شخص يتبعونه في هذا التقدم التكنولوجي الآمن.

وعلى عكس الإمبريالية العادية، في العراق أو أفغانستان، نقول أن الذي يقاوم ويستنزف الإمبريالية، هي ذاتها الإمبريالية الأكاديمية. فالناس العاديون يسعون إلى الحصول على التعليم الغربي وذلك للفوائد الاقتصادية التي قد تنجم عن ذلك على المستوى الفردي. يحصل ذلك مثلاً عن طريق التقرب من الحكام، وهم بذلك يتمثَّلون الأنماط والقيم التي يريدها الغرب. من خلال هذه القوة الناعمة للغرب ينشأ أساساً قوياً للإمبريالية في البلدان المستعمرة وذلك على الرغم من أن الفجوة التكنولوجية بين الغرب وغير الغربيين غالباً ما تكون ضئيلة جداً. فالقنابل الذرية، على سبيل المثال، سهلة البناء، ويمكن لبلد مثل إيران أن يفعل ذلك بسهولة في غضون فتره قصيرة، إذا سُمِح له بذلك، من دون أي تدخل خارجي . وإذا كانت الضغوط السياسية

ص: 211

هي الوسيلة الحقيقية التي يتم فيها الحفاظ على الفجوة التكنولوجية، فكيف يمكن التغلب على هذه الفجوة بتقليد الغرب؟.

ومن ناحية أخرى، لا تزال روسيا تملك الكثير من القنابل النووية وقذائف الإطلاق. ولكنها لم تعد تعتبر تهديداً كبيراً بعد أن استسلم الاتحاد السوفيتي للقوة الغربية الناعمة حيث جرى تفكيكُه بدون ضربة نووية. لذا، كانت قوة الإمبريالية الحقيقية هي القوة الناعمة، وليس القوة الصلبة. حيث يحتاج الغرب إلى قوة ناعمة لتقوية أماكن الضعف في قوته الصلبة. لذلك كان تقليد الغرب عاملاً أساسياً يعزز من قوته الناعمة، من دون أن يقلل ذلك من قوته الصلبة التي تقوم على الفجوة التكنولوجية.

لقد نشأت القوة الناعمة الحالية للغرب من خلال الاستعمار، وعلى عكس الفتوحات العسكرية العادية، كان الاستعمار ينطوي على غزو ثقافي؛ من خلال الاستيلاء على العقول، وفي الهند، يتساءلون عن الكيفية التي استطاعت فيها حفنة صغيرة من الناس جاءت من دول خارجية أن تسيطر على مثل هذا العدد الهائل من السكان.

نلاحظ أن التلقين العقائدي من خلال نظام التعليم الاستعماري سيؤدي دوراً رئيسياً في تشكل الإمبريالية الثقافية. وكان الهدف من التعليم الاستعماري هو خلق فئة من النخبة الغربية المتعلمة من الهنود ليكونوا أوفياء للبريطانيين ومساعدتهم على حكم الجماهير. وقد كفل هذا الولاء نظام التعليم الذي زُرع من خلال المواقف والقيم التي رغب فيها الغرب، حيث غرس ذلك إيماناً لا يتزعزع بالتفوق الغربي (والدونية الهندية). وكأنهم بذلك يدربون مجموعة من الماشية على طاعة أسيادهم دون عصا، إن جاز التشبيه.

ويمكن الشروع في هذا النظام الاستعماري للتعليم لمجرد أن النخبة الهندية الساذجة (والمستعمَرين عموماً) قد ابتلعوا بالفعل ادعاء التفوق الغربي. في أوائل

ص: 212

القرن التاسع عشر، لم تكن هناك فجوه تكنولوجية واضحة بين الغرب وغير الغرب: فمعركة بلاسي لم يفز بها أي تفوق تكنولوجي، ومع ذلك قيل أنه يجب تقليد الغرب لمجرد أنه متفوق، مما يسيء للتاريج لمجرد المطالبة بهذا التفوق الذي يعتبر الغرب أصل للعلم، وبالتالي فإن الغرب عملياً هو الذي يمتلك جوهر التفوق، فهو مملوك عملياً له بحسب هذه القناعات. يعزز هذا الفكر التاريخي الأفكار الفلسفية الرديئة التي تدعي عالمية الطرق الغربية في ممارسة الرياضيات والعلوم، وأن أي طرق أخرى لا قيمه لها أو هي أدنى منها. وكل ذلك باعتبار الغرب هو صاحب المعرفة العالمية، ومن ثم فله الحق في حكم العالم. والفضيلة الوحيدة للآخرين تكمن في تمكنهم من تقليد الغرب.

إن هذا الفهم للأساس التي نشأت منه القوة الناعمة الغربية يستلزم عملية تدريجية لتفكيكها. حيث يجب أن تبدأ العملية بتصحيح التاريخ ذاته، أولاً من خلال تعديل الفلسفة، وثانياً عبر تنشيط التعليم، وبالمجمل، يجب توسيع نطاق هذه العملية لتغيير الأساليب الحالية للتحقق من صحة العلم. وذلك عبر جملة من الخطوات:

الخطوة الأولى: التراجع عن الأكاذيب الموجودة في تاريخ العلم الغربي، حيث نجد كثيراً من الناس يعتقدون خطأً بأن ذلك يتم فقط من خلال تسليط الضوء على بعض المساهمات العلمية لغير الغربيين . ومن المؤكد أن تسليط الضوء على المساهمة غير الغربية هو إجراءٌ مهم، ولكن ذلك في حد ذاته ليس كافياً، فقد أخفقت المحاولات الماضية مراراً خلال القيام بتغيير تاريخ العلم «السائد».

ومن قبيل المثال لا الحصر نورد ما يلي: كان من المعروف على الأقل في السنوات الستين الأخيرة أن كوبرنيكوس هو مجرد كاهن، وقد ترجم أعمال ابن الشاطر ونصير الدين الطوسي الخراساني من النسخ اليونانية (البيزنطية) إلى اللاتينية. مع ذلك ما زال كثرة من الناس يعتقدون أن كوبرنيكوس كان عالماً ثورياً. فمعظم مؤرخي العلوم الغربية مضوا قدماً في الحديث عن «الثورة الكوبرنيية»، وتظاهروا كما لو أنه لم يحدث شيء، فقد اعتادوا على الاعتقاد بأن أي محاولة لتصحيح التاريخ الغربي

ص: 213

هي بالضرورة محاولة شوفينية، وعلى أية حال، فإن هذه المعلومات غالباً ما يتجاهلها الغرب.

من أجل ذلك وَجَبَ القيام بالشيء الصحيح عبر فضح الأكاذيب الموجودة في التاريخ الغربي. ففي الوقت الحاضر تستند الإمبريالية الأكاديمية إلى صيغة «الثقة بكل ما هو غربي»، وهذه الصيغة هي مفتاح الدعاية للغرب، وبصورة خاصة الإمبريالية العادية. وبدون هذه الدعاية سوف تفشل هذه الثقة. ولكي نفلح في إفشال هذه الدعاية، من المهم أن نثبت أن هذه الثقة بالغرب ليست في محلها. من المهم أيضاً أن نثبت أن الأكاذيب المتعمدة لتاريخ العلوم الغربي لا تقتصر على الحالات الفردية في الماضي فقط؛ ذلك أن هذه الأكاذيب واسعة الانتشار بسبب امتدادها في الحاضر. ويمكن إثبات ذلك من خلال فضح الرموز الغربية المعاصرة أيضا على أعلى مستوى، مثل اینشتاین، وبالتالي، فلقد بدأت سلسلة من الكتب، مثل «آلهة العلم الكاذبة»، وهو رد موجز في كتابي أصل العلم الغربي، وفي الوقت نفسه فإن الكشف عن الأكاذيب الغربية على الرغم من ضروريته. فقد عاش الغرب على عبثية هذه الأكاذيب لفتره طويلة؛ لدرجة أنه طور آلية دفاعه ضد التعرض لهذه الأكاذيب، حيث حاول الحفاظ عليها باختراع المزيد منها وبخاصة أمام أولئك الذين يكشفون أكاذيبه. يرى عددٌ من المؤرخين الغربيين أن عملهم يكون من خلال تعزيز هذه الأكاذيب والحفاظ عليها في التاريخ، وبالتالي فإن التعرض لهذه الأكاذيب الغربية يحتاج إلى ترويجها بأكبر قدر ممكن من القوة. على أن الأفراد الذين يكتشفون هذه الأكاذيب التاريخية، لابد أن يحصِّلوا ذلك من خلال مجهود جماعي، مع إدراك واسع النطاق بالمطلوب، وإلا سيتهم كل منهم بالانحراف والتعصب.

الخطوة الثانية: هي التراجع عن طريقة الفهم السيئة التي استخدمتها الفلسفة لدعم التاريخ الكاذب. فعلى سبيل المثال، زعم البعض أن طريقة الغرب لتعليم الرياضيات هي الطريقة الوحيدة الصحيحة، والتي يجب تقليدها. فمن ناحية نجد أن هذا الطلب الفلسفي لتقليد الغرب له أثر رجعي على تاريخ الأفكار، لأنه يتيح

ص: 214

طرائق أكثر سهولة لاستبعاد المساهمات غير الغربية باعتبارها غير ذات أهمية، وبما هي علم تقليد الغرب. (على سبيل المثال استخدم عالم هندي حساب التفاضل والتكامل قبل نيوتن، حيث اكتشفت المنفصِلة للنظرية الرئيسية لحساب التفاضل والتكامل، ومع ذلك فإن هذا الاكتشاف لم يستحق الذكر لمجرد أنه لا يتّبع حدود الطريقة الغربية الحالية). من ناحية أخرى، فإن هذا الطلب على الابتكار یسمح باستخدام العلم نفسه كسلاح رئيسي لإدارة المعتقدات في الثقافات الأخرى، فلقد كانت خرافة حجه الحيوانات الأليفه التي قال بها المبشرون المسيحيون الأوائل بأن المسيحين هم الذين يمتلكون العقل، على عكس الهندوس والمسلمين والجميع من غير المسيحيين، بشكل عام.

الأهم من ذلك هي الطريقة التي استقبل بها المتعلمون الغربيون هذا الاعتقاد. حتی أولئك الذين لديهم أفضل النوايا، وعلى سبيل المثال، نجد الفيزيائي الباكستاني، السيد (برفيز هودبهوي) يجادل اليوم بأن التطور العلمي في الإسلام توقف بسبب الغزالي، وأما الجانب الغريب من ادعاء هو دبهوي هو أن البناء الرئيسي الذي يقوم عليه العلم هو الأساس الرئيسي الذي قام عليه اللاهوت بعد الحملات الصليبية المسيحية، والذي وجدت فيه الكنيسة سياسة مريحة تقوم عليها الحروب الصليبية، من خلال اختلاط المعتقدات اللاهوتية بالرياضيات وفلسفة العلوم في الغرب.

وفي الواقع، فإن جميع هذه الأسس كان يمكن إنكارها بأمان، مما يؤدي إلى إلغاء أفضل العلوم الرياضية، وأفضل فلسفه العلم، كما سيظهر. وعلى أية حال، فإن الرسالة المتوخاة هي تلك التي تكمن وراء الموقف التبشيري الآيل إلى اعتماد القيم التي تناسب الإمبريالية. والمسألة كلها معقدة بعض الشيء، وكما ناقشت على نطاق واسع في مكان آخر، فلن أدخل في هذه المسألة، وإنما سوف أشير فقط إلى السبب الذي يجعل تعليم الرياضيات هو الأفضل بطريقة مماثلة.

الخطوة الثالثة، هي الخطوة الرئيسية ضد الإمبريالية الأكاديمية، ونعني بذلك تفكيك نظام التعليم الاستعماري الذي يلقِّن للناس. إذ لم يتم حتى الآن فهم الحاجة

ص: 215

إلى إنهاء الاستعمار في التعليم إلا في سياق التاريخ السياسي والعلوم الاجتماعية. ففي العلوم الصعبة، ما زال تقليد الغرب هو القاعدة، ولذلك فإنه من المهم للغاية هنا أن يتم إنهاء التعليم، وبالتالي أن نبين البدائل.

وبما أن الرياضيات هي السبب الجذري للعلم، فستكون فكرة جيدة للبدء بإنهاء التعليم الرياضي، وما ذلك إلا لأن تقليد الغرب قد جرى إثباته منذ الحقبة الاستعمارية باعتباره أساس التقدم. لذلك فمن المهم أن نثبت ضرورة إنهاء الاستعمار في تعليم الرياضيات. وهذا ليس خطوة للتنازل، إلا أنه سيؤدي بدلاً من ذلك إلى كسب القيمة العملية، وبالتالي يصبح التلقين هو الخسارة الوحيدة.

لقد كان من ضمن الجوانب الرئيسية لهذا التلقين هو غرس الاعتقاد بالادعاءات المتضاربة بأن:

(ا) الرياضيات عالمية.

(ب) «الرياضيات بدأت مع الإغريق وغيرها من الثقافات التي لا تملك دليلاً حقيقياً على الطريقة الصحيحة لتدريس الرياضيات.

بحسب الأساس المنطقي أنه إذا كانت (أ) صحيحة ستكون الرياضيات في الواقع عالمية، وبالتالي يجب أن تكون (ب) كاذبة، لأنه يجب أن تكون نشأة الرياضيات نفسها في جميع الأماكن! إلا أنه من اللَّافت للنظر وجود عدد هائل من الناس لا يعرفون الرياضيات، ولا تاريخها، أو فلسفتها، ومع ذلك يتمسكون بكل هذه الادعاءات السابقة، وهذه المعتقدات المتناقضة القائمة على الجهل هي السمة المميزة للخرافة والتلقين، لذلك نجد أن كلاً من المعتقد (أ) و (ب) بدءا بالظهور إثر الحروب الصليبية، وكذلك المعتقدات التي روجت لها الكنيسة سياسياً.

من أجل ذلك جاء الحل من خلال كسر هذه الخرافات الغربية عن طريق ثورة تربوية عمليةً، والتي اعتقد أنها ستولد من خلال تضافر عدد من العناصر: (تاريخ

ص: 216

جديد، وفلسفة جديدة، وتربية جديدة، وهو ما سيترتب عليه المكاسب العملية القيمة)، ويُقترح أن يتم ذلك عبر دورة غير محددة لمدة 5 أيام في حساب التفاضل والتكامل.

ينبغي الانتباه إلى أن النقطة الأساسية في تدريس الرياضيات هي أمر صعب اليوم بسبب تداخل علم اللاهوت بالرياضيات في الغرب. مما يجعل من تدريس الرياضيات اللاهوتية أمراً سهلاً للغاية إذا ما أخذ به وفقاً للتقليد الغربي.

لذلك ينبغي إعادة إنتاج هذه الثورات العلمية على نطاق واسع، والإعلان عنها، واستيعابها في النظام التعليمي «السائد»، وتدمير الخرافات التي يزرعها ويشجعها نظام التعليم الاستعماري، والانتهاء من حالة عدم وجود بديل لهذا التقليد الغربي. والواقع أن هذه الثورات ستخلق معضلة كبرى للغرب، باعتبارها مجالاً رئيسياً يثير القلق في التربية، خصوصاً لجهة التخلي عن تعزيز المعتقدات اللاهوتية، التي تقوم عليها الكثير من مرتكزات الفلسفة الغربية.

وهذه الدورة غير المحددة في حساب التفاضل والتكامل ليست سوى خطوة أولى لإنهاء الاستعمار التعليم في العلوم الصعبة. (وهذه هي الخطوة الأولى التي ستمثل صعوبة كبيرة في كثير من الأحيان) ولكن بمجرد اتخاذ الخطوة الأولى سيكون من السهل جداً النظر إلى التغييرات الأخرى المماثلة والممكنة، على سبيل المثال، في حالة الهندسة والجبر، كما في العلوم الأخرى مثل الفيزياء والبيولوجيا سنجدها أيضاً مصطبغة بالمحتوى العقائدي الغربي الذي له قيمة عملية سلبية، لذلك كان من المهم إثبات دخول اللاهوت إلى هذه العلوم الصعبة، على الأقل في الحالات الواضحة، مثل عمل نيوتن أو ستيفن هوكينج، وفصل القيمة العملية لهذه العلوم عن محتواها العقائدي.

الخطوة الرابعة والأخيرة هي تفكيك هيكل السلطة الأكاديمية الغربية على مستوى التعليم العالي والبحث العلمي، لأن ذلك سيمارس ضغطاً مستمراً على المدرسة

ص: 217

والتربية الجامعية، ذلك بأن سياسة المعلومات هنا أكثر تعقيداً. وعلى خلاف الخطوات الثلاث الأولى، قد يكون من الأفضل القيام بذلك بصورة متأنية وتدريجية.

يمكن اتخاذ خطوات معينة في هذا الاتجاه على الفور. إذ إن كثيراً من الناس حتى في الغرب، يجدون في هيكل السلطة القائمة القدرة على التحكم لجهة التضييق على المنشورات اليومية. وعلى الرغم من وجود نظام لمراقبة الجودة، إلا أنه غالباً ما يساء استخدامه، مثل ما تفعل الطوائف الكاثوليكية الرومانية. ولقد ظلت نظم مثل النظام الرابع عشر يوفر طريقة بديلة لنشر المعرفة القائمة منذ أمد بعيد. ولكن حتى هذه النظم البديلة جرى الطعن فيها بوصفها مقيدة بطريقة مفرطة، مما أدى إلى تكوين بدائل أحدث عهداً مثل نظام الأرشفة. لذلك ينبغي أن يأخذ نظام مراقبة الجودة، ولا سيما في العصر الرقمي (حيث لا توجد تكلفة تذكر للنشر)، شكل المناقشة العامة بعد النشر. ويمكن تشجيع هذه المناقشات، على سبيل المثال، بدعوة الحكام (والمؤلفين المعادين) إلى تقديم تعليقاتهم، في إطار نظام مثل نظام فيكسرا viXra حيث يوفر للحكام الفرصة في عدم هدر المزيد من الوقت (إذا كانوا جادين في النظام القديم). وعلى هذا الأساس سوف تتحسن نوعية النقاش. علاوة على ذلك، فإنه في الواقع ومع وجود الأفكار الجديدة، قد یحدث خطأ من الحكام في كثير من الأحيان، لكن من خلال هذا النظام سيكون ثمة مجال لتصحيح هذه الأخطاء. ولذلك يعد انشاءه أمراً ضرورياً بحيث يمكن للدول ذات السيادة (بل والجامعات والمؤسسات الصغيرة) أن تنفذه بسهولة، بل يجب على الحكومات أن تشجع هذا النشاط إلى جانب التعاقد مع المجلات التجارية في نشر العلوم، مثل ماكميلان، سبرينجر، الخ، في حين من الواجب معرفة لماذا ينبغي تحويل المعلومات العلمية التي تنتجها البحوث الممولة من القطاع العام إلى الملكية الخاصة لهؤلاء الناشرين من خلال نظام حقوق التأليف والنشر؟ وإذا كان الناشرون يتقاضون رسوماً لتغطية التكاليف التشغيلية، فلماذا يخفون مدى الأرباح التي يحققونها في العملية؟ ولماذا ينبغي أن تشجع الوكالات الحكومية هذه الخرافات التي تظهر في المجلات التجارية وكأنها هي التي تقرر

ص: 218

أفضل وجه في العالم؟ ثم لماذا ينبغي السماح للعلماء الممولين من القطاع العام بالعمل مجاناً كحكام لهذه المجلات التجارية؟

من ناحية أخرى وعلى وجه الخصوص ينبغي تعديل قوانين حقوق التأليف والنشر من أجل إنقاذ حرية وصول الجمهور إلى جميع المقالات البحثية الممولة من القطاع العام والتي تنشر حتى في المجلات التجارية. وفي أسوأ الأحوال، قد يسمح لهذه المجلات بفترة زمنية لا تزيد عن شهر أو ثلاثة أشهر قبل أن تسمح للجمهور للوصول إليها بالكامل.

وكما هو الحال في تاريخ العلم، ينبغي أن تقترن هذه التدابير البديلة بالكشف عن الأكاذيب الكامنة وراء النظام الحالي لتأييد الغرب. ومن هذه النظم المؤيدة الزمالة لمجتمع غربي. إذ كثيراً ما يعتمد ذلك على القرب من بعض الأعضاء البارزين في ذلك المجتمع، ولكنه يفسر بصورةٍ عشوائية على أنه مؤشر للإنجاز العلمي، كما هو الحال في مشروع قانون نتشر، الذي سيصبح قانوناً نافذاً في الهند.

وبما أن هذه التصديقات تمنح الناس السلطة في بلدهم، فإنها يمكن أن تستغل أيضا بسخرية للتلاعب بصنع القرار العلمي في هذه البلدان.

اسمحوا لأحد أن يفحص أولاً حالات بعض العلماء الذين أيدهم الغرب، لكي نکتشف ما هي القيمة العملية لمجتمعاتهم في عملهم العلمي خلال حياتهم. إننا أيضاً بحاجة إلى دراسة من استفاد من توصياتهم، عندما تصرف هؤلاء العلماء في لجان حكومية. وعلى سبيل المثال، نجد ماشيلكار نارليکار (Mashelkar and Narlikar)، كحالتين جيدتين لمثل هذا التحقيق في الهند، فقد وجدا أن التأييد الغربي النهائي هو جائزة نوبل، ومن المعترف به على نطاق واسع أنه في حالة جوائز السلام والأدب والاقتصاد لابد أن تكون مؤيدة سياسياً. ويُعتقد أن هذه المقاييس هي الكفة الراجحة في «العلوم الصعبة»، على الرغم أيضاً من أن عمليات مماثلة جداً تعمل في تلك الحالات. ولكن على حد علمي لم تكن هناك أي محاولة غير غربية لدراسة

ص: 219

تلك العمليات. ربما تؤدي هذه الدراسة على الأقل إلى إدراك أن التأييد الغربي يجب ألا يكون مفتاح الإنجاز العلمي، وأن الجوائز البديلة التي تقام في أماكن أخرى قد تبحث عن وسائل أكثر شفافية لصنع القرار.

ومن النظم المشتركة الأخرى للتصديق، ما يسمى ب- «مؤشر الاستشهاد» المتصل ب- «ترتيب المجلات». وهو مجرد وسيلة أخرى على ما يبدو تهدف إلى القول بأن مجرد استعراض الغرب هو أمرٌ غير كافٍ. لذا ستكون المناقشة التفصيلية لهذا الأمر خارج هذا المكان. ولكن هناك نقطتان في الترتيب، بالنسبة للمجلات التجارية، ذلك بأن هذا الفهرس أي (ترتيب المجلات) هو منطقي، حيث يوضح أن الناشرين لا يهتمون إلا بالعلماء. وهو ما يجعل البحث العلمي بؤرة هذه المجلات نفسها، والتي تتناسب بالطبع مع الناشرين التجاريين. ومع ذلك، فإن مؤشر الاستشهاد في أفضل الأحوال ينحاز لقياس شعبيتها الاجتماعية في الغرب، ويكون هذا القياس من خلال عدد بسيط يتحدثون فيه عن «الأسلوب العلمي» والذي ينخفض في نهاية المطاف إلى الممارسة العملية!

يعتمد النشر في هذه المجلات «ذات المؤشر الأعلى» على التصديقات من قبل الحكام ومجالس التحرير والذين يكونون في الغالب من الغرب، لهذا باتت شبكات التواصل الاجتماعي ذات أهمية حاسمة في ذلك. أيضاً - ستتجنب هذه المجلات المعارف غير الغربية على سبيل المثال - وبهذه الطريقة، يتم تمرير التأييد الغربي باعتباره المؤشر الوحيد لفضيلة العلم.

وفي الواقع، إذا كان هذا هو الاهتمام بالقيمة العملية، فإن صلاحية النظرية العلمية يجب أن تتقرر بطريقة مختلفة، بغض النظر عن شعبيتها الاجتماعية. ذلك أن النظرية يجب أن يكون الحكم عليها من خلال تأثيرها على المجتمع عموماً (وليس فقط من خلال مستهلكي المجلات) على مدى فترة طويلة من الزمن. وكثيراً ما تنطوي الأفكار الجديدة على تعقيدات يستغرق المجتمع العلمي وقتاً طويلاً لفهمها. ومع ذلك فالعديد من الخطوات الأخرى ممكنة، فعلى سبيل المثال، من المرغوب فيه

ص: 220

أن تكون المجلات والمؤتمرات دولية، لذلك ينبغي أن يكون هناك اختيار لجان تمثيل دولية للمجتمعات ونادراً ما يحدث هذا اليوم. ومع ذلك لا أعتقد أن الدول ذات السيادة تحاول تنفيذ هذا الأمر، على الأقل ليس الآن. لذلك ينبغي تشجيع المناقشات بشأن هذا الموضوع، في سياق العمل على تفعيل أخلاقيات العلم.

لهذا كان التوقيت والتسلسل للخطوات هام جداً. فإذا كان التاريخ الغربي وفلسفة العلم لا تقدم التحدي أولاً (وباستمرار)، ستكون هناك مقاومة للتغيرات في النظام التعليمي. وإلى أن يتغير هذا الأخير سيتم القضاء على التلقين الغربي في تعليم العلوم الأولية، وسيحاول الذين يكبرون معه، أن يقاوموا أي تغييرات على مستوى التعليم العالي والبحث.

ما يلي نورد بعض التفاصيل الإضافية.

لماذا العلم الصعب؟

لم تكن هناك حتى اليوم أي محاولة لإنهاء الاستعمار من «العلوم الصعبة». ذلك لأنه من الصعب عموماً أن نفهم كيف تعمل الإمبريالية الأكاديمية في ميدان الرياضيات والعلوم. وهذا عائدٌ لسببين:

أولاً: إن لدى الغالبية العظمى من الناس معرفة ضئيلة جداً بالعلوم الرياضية للحكم بأنفسهم على صحة المطالبة العلمية - فذلك يعتمد على السلطة. أما سلطة من؟ فستكون الإجابة بوضوح: إنها السلطة الغربية.

ومن الطبيعي القول أن المطالبة بالنشر العلمي، تمت الموافقة عليه من جانب القائمين عليه في جامعة هارفارد أو معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أو كامبردج، وعليه يأتي حكم الناس بأنها صحيحة، وسيقدم الصحفيون تقريراً عن ذلك. من أجل الحكم عليها بكونها صادقة أو كاذبة أو مشتبه بها، يُعتقد أن الخبراء العلميين هم وحدهم الذين يعترف بهم اجتماعياً في الغرب، المفارقة أن الحكومات في الهند تبني

ص: 221

قراراتها على مشورة هؤلاء الخبراء. [في مشروع قانون صدر مؤخرا لتنظيم التعليم العالي والبحث في الهند (اللجنة الوطنية للتعليم العالي وقانون البحوث، 2010)، تخطط فيه حكومة الهند لاعتماد هذا المبدأ بموافقة المجتمع الغربي على القانون!].

ثانياً، يستخدم العلماء أيضاً هذه الطريقة «في اعتمادهم على السلطة الغربية». وهذا يناقض تماماً صورة العلم والطريقة العلمية التي تتشكل على أساس العقل والتجربة. لذا فإن العلماء يعتمدون اعتماداً كبيراً على السلطة، وهذا أمرٌ يحدث لأسباب مختلفة. اليوم، غالباً ما نجد يكونوا متخصصون (لأن التخصص يؤدي إلى أعلى كفاءة، مما ينتج عنه الأرباح). وعلى الرغم من ذلك فإنهم غير متأكدين من المتخصصين في أي مسألة حتى المسائل الهامشية خارج المجال الضيق للتخصص، وبالتالي يفضلون الاعتماد على السلطة.

علاوة على ذلك، فإن البحث العلمي والتجريبي اليوم يتطلبان أموالاً طائلة. وتقوم من خلال حكم وكالات التمويل على أداء العلماء من خلال النشر وبالتالي، فإن أهم جزء من نشاط العالم اليوم لا يفكر أو يقوم بالتجارب ولكن من خلال كتاباته ونشره، ولا تحكم وكالات التمويل على قيمة المنشورات عن طريق قراءتها أو تطبيق رأيها على تلك المنشورات (لأنها قد لا تفهم هذا الجانب من جوانب العلم). وبدلاً من ذلك، فإنها تسير بشكل ميكانيكي («موضوعياً») باستخدام مقاييس مثل «عدد المنشورات» (التي لا تقيس حتى كمية العمل بشكل صحيح)، أو يدعون إلى تقييم «نوعية» منشور بواسطة المجتمع الشعبي بين علماء آخرين («مؤشر الاستشهاد») أو مدى قرب تلك المجلات إلى السلطة العلمية الغربية («عامل التأثير») وما إلى ذلك.

في حالة السينما، فإن أي شخص بات يعتقد بأن نجاح الشباك لا يضمن الجودة الفنیة، و مع ذلك، فإن شعبيته في الغرب تكون من خلال مؤشر الاستشهاد، حيث یکون عامل التأثير هو الأساس الوحيد المستخدم للحكم على الجودة العلمية.

النتيجة المستخلصة، أن العلم اليوم أصبح يعني الاعتماد على سلطة الغرب، لأن

ص: 222

الحقيقة العلمية بحاجة إلى هذه الشهادة، فالغرب هو السلطة النهائية للتصديق عليها. والمقصود من وراء ذلك ليس مراقبة الجودة وإنما السيطرة على العقول!

ومن ناحية أخرى، هناك طلب كبير على العلوم في المناطق غير الغربية، فكثير من الناس من غير الغربيين يعتقدون منذ فترة طويلة أن القضية التي يهيمن عليها الغرب في العالم جرت فقط بسبب العلوم الغربية. ولذلك راحوا يجادلون بأن الطريق إلى الهروب من هيمنة الغربي تكون بمراكمة المزيد من العلوم، وحينئذٍ يتم تحدِّي الغرب في لعبته الخاصة.

والمفارقة هي أن استراتيجية التعايش مع هذا الاعتقاد يجب أن تصدق أولاً أن أي ابتكار يكون من قبل السلطة الغربية. ففي إنجلترا في العصور الوسطى، اضطر أحد المصلِّين إلى عرض عذرية عروسه الجديدة على الكاهن لإتمام مراسم الزواج؛ وبالمثل يجب أولاً على كل عالم اليوم أن يقدم فكرته إلى الغرب للموافقة عليها، من قبل أن تصير ذات مصداقية. وتسمى هذه العملية بطريقة لطيفة «استعراض النظير» أو الأقران. ولكن هناك العديد من المجلات لاستعراض النظير». لذلك يعتبر «استعراض النظير» غير جدير بالثقة إلا إذا كان «النظير» من الغرب. وعلاوة على ذلك، فإنه يمكن أن يساء استخدامه بسهولة. ومن السذاجة الثقة ضمنيا بأن هناك لأولئك الذين يستغلون باستمرار من قبل الغرب لقرون وبأن انجازاتهم رائعة. ذلك أن هذا النظام يُوهِمُ بأنه لا يمكن لأي ابتكار علمي أن يحدث في أي مكان في العالم دون أن يأتي الغرب لمعرفته على الفور. فمن المستحيل الفوز بالمباراة على الغرب مع هذه القواعد!

والنتيجة المشتركة لكلا المعتقدين هي ضمان أن المنطقة غير الغربية تتبع الغرب على الدوام، وتظل وراءه على الدوام، مما يؤدي إلى فجوة تكنولوجية دائمة وراسخة. وهذا ما حدث فعلاً في الهند. حيث تم تعزيز التعليم الغربي باستخدام الحجة القائلة بأن هذا من شأنه أن يساعد البلاد على «اللحاق» بالغرب. ولكن الحاصل أنه حتى خلال 175 سنة، لم يتسن للهند القدرة على تحقيق التكافؤ مع التكنولوجيا الغربية.

ص: 223

لكن بعض الناس مع ذلك لم يتعلم أبداً، وعلى الرغم من هذا الفشل الواضح والطويل الأجل لهذه الاستراتيجية الخاصة بتقليد الغرب، إلا أن لجنة المعرفة الوطنية الهندية دعت إلى ذلك مرة أخرى، حيث قال رئيسها أنه ينبغي للهنود أن يتعلموا علم المثلثات من مواد الدورة الدراسية المفتوحة من أجل تطوير المواد الخاصة بهم.

وفي الواقع، حتى في الرياضيات البدائية في علم المثلثات والتفاضل والتكامل، فإنها لا تفعل شيئاً اليوم، فمن الممكن أن يكون هناك ابتكارات هامة. وكثيراً ما تحدث هذه الابتكارات الهامة ولكن يبدو أن رئيس الهيئة الوطنية لشؤون الابتكارات (ومستشار رئيس الوزراء المعني بالتجديدات) لا يفهمان ذلك. ومع ذلك، فإن هذه الابتكارات يمكن أن تكون المفتاح للإطاحة بالإمبريالية الأكاديمية.

وهكذا، فإن زيادة الطلب على العلم عند غير الغربيين يدمر أي إمكانية لتعميم ابتكارات الغرب في مجال العلوم. وكما سبقت الإشارة إليه، وخلافاً للإمبريالية العادية، فإن الإمبريالية الأكاديمية تجدد نفسها. لقد كانت النخبة الهندية المتعلمة في الغرب والموالية لبريطانيا تعتمد عليها لكسب الرزق، وهي نسبة ضئيلة من السكان الهنود. ومن المحتمل جداً أن يكون البريطانيون هم الذين شجّعوا حلفائهم، مثل سافاراکار، على اغتيال المهاتما غاندي وبالتالي تقويض النضال من أجل الاستقلال واختزاله إلى مجرد نقل السلطة إلى هذه النخبة ذاتها. اليوم يبدو أن الهدف هو تدريب %10 من الطبقة المتوسطة الهندية على التعليم الغربي وجعل معيشتهم تعتمد على الغرب. ويبدو أن مشروع القانون المذكور لن يترك مجالاً للشك في أن السلطة الحقيقية في التعليم العالي والبحوث الهندية يجري نقلها إلى الغرب. وبالتالي فإن البحث عن التكافؤ مع الغرب في ميدان القوة الصلبة يدفع الدول غير الغربية إلى أحضان القوة الغربية الناعمة، التي تجدد نفسها، وتمنع غير الغرب من تحقيق أي تكافؤ.

ولأن «العلم الصعب» (والقوة الثابتة المرتبطة به) هو الجزرة التي في نهاية العصا، فإن الحرب ضد الإمبريالية الأكاديمية يجب أن يبدأ من خلال مهاجمة الهياكل

ص: 224

الأكاديمية المحيطة «بالعلوم الصعبة». والأساس الرئيسي لهذا الهيكل هو التعليم، بحيث يجب أن تكون النقطة الأولى للهجوم هي الرياضيات لكونها أساس «العلوم الصعبة».

3- التلقين الاستعماري وتاريخ العلم

مع بداية القوة الغربية الناعمة بدأ مشروع التعليم الاستعماري في الهند مع ماكولاي في عام 1835، وقد جرى ذلك من خلال البيان الانتخابي لحزب بهاراتيا جاناتا حيث بدأ الانتخابات بمحاولته كسر العمود الفقري للحضارة الهندية وذلك من خلال إدخال تعليم الإنجليزيه. وهذه الأكاذيب لا تساعد على مكافحة الإمبريالية الأكاديمية: لذلك لابد من الفهم الأسباب الحقيقية لضرورة علاج العلة.

النواة الأساسية لماكولاي، هي العنصرية. كان من أشد المعجبين بالعنصريين الآخرين أمثال لوك وهيوم. ولم يكن لطيفاً التحدث عن الحضارة الهندية أو أي نظام كان سائداً آنذاك من اللغة السنسكريتية والعربية في الهند، لذلك كانت حاجة الدراسات العليا إلى اللغة غير العامية.... ولكن ماذا ستكون تلك اللغة؟ الجواب كما يؤكد نصف اللجنة التي يرعاها ماكولاي ينبغي أن تكون الإنكليزية. أما النصف الآخر فهو يوصي بشدة بأن تكون العربية والسنسكريتية وذلك على الرغم من أن ليس لهؤلاء أي علم باللغة العربية. ولكن لقد فعلت ما بوسعي لتشكيل تقديرات صحيحة من قيمتها. لقد قرأت ترجمات لأكثر الأعمال العربية والتي احتفل بها الكاتب... إنني على استعداد تام لاتخاذ التعلم الشرقي في تقييم الشرقيين أنفسهم. ولم يسبق لي أن وجدت واحداً من بينهم يستطيع أن ينكر أن رفاً واحداً من المكتبة الأوروبية يشهد بجودة الأدب الأصلي في كلاً من الهندية والعربية: ولذلك كان الهدف من التركيز في الإشاره إلى ذكر ماكولاي بأنه لم يكن مجرد ذكر لرأي شخصي، ولكن لأنه ادعى أن الجميع اتفق معه في هذه النقطة. وقد مضى لتحديد ما يعتبره التفوق على وجه الخصوص: ففي مجال الأدب نجد

ص: 225

الكتّاب الشرقيين يقفون على الشعر الأرقى.... وعندما نمر بأعمال الخيال لديهم نجد أن هناك أعمال حقيقية قد سجلت لهم على وجه العموم.

وهذه المبادئ التي تم التحقُّق منها لا تقاس على الإطلاق بالتفوق الأوروبي الذي أصبح فيه الغرب بارعاً وخاصة في العلوم، وبالتالي يجب أن يكون التعليم المُجدي بالضرورة غربياً. وقد أشار ماكولاي إلى «فيزياء نيوتن»، لذلك كان يتحدث عن تفوق التاريخ الغربي. وكان ماكولاي يكرر ماقال به بعض الهنود أمثال راجا رام موهون روي الذي أوضح في رسالة بتاريخ 11 كانون الأول/ ديسمبر 1823 إلى النائب (بنفينك) روي ونصح بتدريس «العلوم الأوروبية»، على حساب وضد المدارس السنسكريتية. يقول: كأنّنا نمتلئ بالآمال المتفائلة بأن هذا المبلغ سيتم وضعه في توظيف السادة الأوروبيين من المواهب لتعليم وإرشاد المواطنين الهنود في الرياضيات، والفلسفة الطبيعية، والكيمياء، وعلم التشريح وغيرها من العلوم المفيدة، مما سيرفعهم إلى درجة من الكمال يصبحون فيه فوق سكان الأجزاء الأخرى من العالم. يضيف: «وقد امتلأت قلوبنا بالمشاعر الممزوجة بالبهجة والامتنان؛ لقد قدمنا بالفعل بفضل العناية الإلهية للمهام الأكثر سخاءاً وتنويراً من دول الغرب «بريطانيا» مع الأمل في تحقيق الطموحات المجيدة للزراعة في أسيا والفنون والعلوم في أوروبا الحديثة...

والآن نجد أن الحكومة تقوم بإنشاء مدرسة سانجرت المعروفة ب- (بانديت هيندو) لنقل مثل هذه المعرفة في الحال إلى الهند.. ولذلك فمن المتوقع تحميل عقول الشباب لجماليات النحو والتمييز الميتافيزيقي. ومع الاستخدام العملي ولو قليلاً سوف يحصل التلاميذ على ما كان يعرف منذ ألفي عام.

وفي الواقع، فقد تجاوز ماكولاي وعلى وجه التحديد، رام موهون روي لكي يكشف عن ثغرات الأشياء الممتعة التي سوف تدرس بعد ذلك في المدارس السنسكريتية. وهذا هو جوهر المسألة، فقد تغيرت هذه الحجج قليلاً في خلال ال- 175 سنة.

ص: 226

أما اليوم، فيمكننا اليوم حذف الإشارات إلى شعر ميلتون أو ميتافيزيقا لوك، لمجرد مراعاة الشوفينية البريطانية. ويمكننا أيضاً حتى أن نرفض مسيحية ميلتون وعنصرية لوك. ولكن ماذا عن فيزياء نيوتن؟ لايزال الاعتقاد أن العلم هو من خَلْقِ الغرب، بحيث يجب الضرورة من التعليم الغربي لاكتساب هذه المعارف المفيدة. ولايزال يعتبر أي نوع آخر من النظم التعليمية في مرتبة أدني.

ولكن هل هذا الاعتقاد صحيح؟

في العام 1832، وقبل بضع سنوات من ماكولاي، كان البريطاني غير المعروف تشارلز ويش، قد أبلغ في بريطانيا عن النصوص السنسكريتية في جنوب الهند، والتي تحتوي على سلسله لانهائية للعديد من الأنواع، التي تعادل حساب التفاضل والتكامل. وقد لاحظت في وقت سابق من قبل بريطاني آخر، أن قائمة هذه النصوص من الابتكارات الهندية في الرياضيات وعلم الفلك موجودة من القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر بعد الميلاد لذلك كان كل من ماكولاي وروي ببساطة مخطئين في هذه الحقائق، حيث استندت قراراتهم إلى الجهل والتحامل.

وربما كان روي بعيداً عن الأسطورة الغربية: بأن العلوم قد نشأت في الغرب، وكان قد صُدِمَ لما عرف ما ظهر في الآونة الأخيرة: أن فيزياء نيوتن تميل للنسخة الهندية وبشكل كبير في حساب التفاضل والتكامل، تماماً كما تم نسخ علم الفلك لكوبرنيكوس عن الأعمال العربية السابقة لابن الشاطر من دمشق. ولن أجادل في تاريخ هذه التفاصيل هنا، لأنها نشرت بالفعل في الموسوعات وأماكن أخرى.

النقطة الأساسية فقط هنا هي: لحظة الاعترف بأن العلم يمكن أن يكون له أصل غیر غربي، وأن العلوم الغربية بدأت من خلال الاستيلاء على علوم الغير، وهكذا تفشل وتتحطم حجج ماكولاي وروي حول التعليم الغربي.

فلماذا ينبغي لنا إذن أن نستمر اليوم في متابعة مسار العمل الذي دعوا إليه؟

ص: 227

دعونا نعيد النظر فيه، وهذا هو الوقت المناسب بشكل خاص للقيام بذلك، لأننا نحث مرة أخرى على اعتماد تلك السياسات التعليمية بالذات.

وأما النقطة الأخرى التي أريد أن أشدد عليها فهي استيعاب هذا الدرس عن القوة الناعمة الهائلة التي تتدفق لتشويه التاريخ، والتي جرى توظيف النخبة الهندية لتمرير هذا التاريخ الزائف، غصباً عنها. وقد استغلت هذه البلدان الأمر لتغيير السياسة التعليمية في هذا البلد الشاسع، وحافظت على هذا التغيير لمدة 175 سنة (62 بعد الاستقلال). ومن الصعب أن تكون الهند قد حكمت لفتره طويلة من قبل البريطانيين من دون التعاون النشط من النخبة الهندية، فالتلقين من خلال التعليم الاستعماري لعب دوراً رئيسياً في ضمان هذا التعاون. وكان التاريخ المشوه هو الأداة المستخدمة لبدء هذا التلقين. وقد استعمرت الهند بالتاريخ الزائف الذي استخدمه ماكولاي بمهارة، كاذبة ومن دون معركة بلاسيسي، وقد عزز التعليم الغربي قبضة الغرب على العقول الهندية. وتعمق هذا التعزيز من خلال الخرافة الرهيبة التي تقول بالتفوق الغربي، وخاصة في مجال العلوم.

الهنود المتعلمون في هذه السياسة التعليمية كانوا أكثر من الغرب، تعلموا ان يثقوا بها ضمنياً، ولم يروا أنه من الضروري أن يتحققوا من أي من الوقائع المزعومة للتاريخ العلمي الذي تستند إليه هذه السياسة، ولكنهم لم يفعلوا ذلك حتی الآن.

لقد رأينا رئيس المجلس الوطني الهندي حتى هذا اليوم، هو أيضاً مستشار رئيس الوزراء الهندي المعني بالابتكار، يقول أننا يجب أن نقلد الغرب في علم المثلثات (وحساب التفاضل والتكامل)، وأننا لا ينبغي أن نحاول تنفيذ أي ابتكارات حول ذلك. ولقد وثق بالمستشارين المعتمدين من الغرب الذين قالوا ذلك بشكل ملحوظ، وكانت النخبة الهندية، تعطي ولاءها التام إلى الغرب، ولن تتسامح مع أي شخص آخر يتحدى تلك الخرافات السخيفة.، فهي تحافظ على الإيمان الخرافي بالغرب عن طريق العزل مع طبقة تتحامل على الغرب، وإذا كان هناك أي شخص يحاول التشكيك في هذا الأساس للإيمان في التاريخ الغربي للعلوم، فهناك من يناهض على

ص: 228

الفور هذا التحامل على الغرب. ويذهبون في ذلك للقول:

(1) نحن لا نعرف العلوم ذات الصلة

(2) نحن لا نعرف الأدلة لتحدي التاريخ الغربي

(3) نحن لم نقرأ ما كان قد كتب، ولكن

(4) ونحن لم نقرأ عنه و... إلخ

(5) إذا كنا لم نفعل ذلك فلما لا نعتقد به؟ لأن من السهل جداً أن يعطي هذا الأمر علامة لتغيير التعصب الهندوسي أو المسلم (لا توجد الأدلة الدامغة، بطبيعة الحال)

لقد أصر بعض الأشخاص المدرجين في قائمة المناقشة على أن لهم الحق في رفض أي أفكار من هذا القبيل دون قراءتها. وهذه الخرافات هي النتيجة الرئيسية المقصودة للتعليم الغربي. فمن الصعب أن نتصور مثل هذه الخرافة الرهيبة التي ابتليت بها الهند من أي وقت مضى، لأن الصحفيين والحكومة على حد سواء داخل هذه الخرافة، وهي موجودة الآن في القانون! بعد كل شيء ليس العلم كل شيء إلا بالثقة في الغرب ضمنيا، وقد زرعت هذه الثقة في الغرب في أذهان الأطفال الصغار.

وإذا كانت الحقيقة في العلم لا يمكن إلا أن تقرر من قبل السلطة الغربية، فكيف يمكن أن تقرر الحقيقة خلاف ذلك في تاريخ العلم؟

إمبريالية التضليل العلمي

على هذا الأساس بالذات نحن لا نعرف، ولا نريد أن نعرف، ولكننا نثق في الغرب بأن التاريخ الزائف مماثل ولا يزال يدرس في المدارس الهندية إلى هذا اليوم. وهذا يضمن أن يكبر الأطفال في رهبة من الغرب، بحيث يتم دوام الثقة فيه وبعلومه.

قد يكون من الأمثله الواضحة على هذا التلقين العقائدي، المدارس الالكترونية التي تنشئها الحكومة الهندية والتي تؤكد على أن الرياضيات (والعلوم) قد نشأت في الغرب. وجاء ذلك من خلال عرض صور لعدد من اليونانيين. وتشمل هذه الفئات

ص: 229

فيثاغورس (ص 5)، وطاليس (الصفحة 79)، وأرشيمدس (الصفحة 13)، وهيرو (ص 199)، وبطبيعة الحال، إقليدس (ص 80). وعلى الرغم من أن الثلاثة الأواخر من المفترض أنهم من الاسكندرية، في أفريقيا، حيث كانوا ذوي بشرة داكنة، فإن الصور تهدف أيضاً إلى إقامة سباق المبدعين بإظهارهم كقوالب نمطية قوقازية بيضاء البشرة. وبطبيعة الحال، يكبر أطفال المدارس الهندية على الاعتقاد بأنهم أقل عنصرية من الغربيين.

عندما يحدث تحدي لتقديم الأدلة على هذا التاريخ الوراثي الزائف لأقليدس، أو حتى لتقديم أدلة على أن اقليدس هو المؤلف لهذه النصوص فليس لديه أي دليل، وقد اعترف المؤلف الرئيسي لهذا النص، ج. ف. نارليتار، علناً بجهله للتاريخ وقال («نحن لا نعرف»). ومن الجهل الذي أبداه أيضاً، عندما سأله المسؤول الحكومي الرئيسي عن تنسيق هذه النصوص وما إذا كان الخطأ يكمن في الاعتماد على المصادر الثانوية! أو («الثقة فى الغرب»). فقد جاءت الإجابة أن هذه الصور وهمية وتحتفظ بصور أصحاب البشرة البيضاء في نصوص المدارس الهندية على حساب معرفة الملايين من الأطفال في المدارس الهندية.

ولكن لماذا كان (نارليتار) هو الخبير المناسب في المدارس لكتابة هذه النصوص في الرياضيات؟

لا شك بأن نارليتار ليس رياضياً؛ ففى أوراقه العلمية يجد من يقرأها عند حدوث أي مشكلة متعلقة بمسألة رياضية صعبة، فإنه يقول بالفرضية الأبسط والأسهل ليتخطى بذلك الاستنتاج الذي يريد. وهذه الأوراق العلمية الخاصة به هي أقرب مثالٍ على قصص الخيال العلمي مع بعض المحتوى الرمزي! والحقيقة أن عدداً قليلاً من الناس هو الذي قرأ هذه الأوراق، فلا أحد يهتم حقاً بالعلم في حد ذاته في الهند؛ ولذلك فإن القلق لا يتعلق بتحقيق القيمة العملية، بل بالاعتراف الاجتماعي بالعالم في الغرب. بالنسبة للنخبة الهندية، فإن العلم هو كل شيء يدعو لجلب الموافقات الاجتماعية الغربية، ولهذا لا يهم ما إذا كان السؤال في العلم عن الصواب، والخطأ، مثل نارليكار.

ص: 230

وبالطبع لا يمكن للمرء أن يلاحظ هذه الحقيقة غير المريحة لأن الحياة الرغيدة لهؤلاء المؤلفين تعتمد فقط على الإعتراف والدعم السياسي من الغرب، وذلك ليس لأن علمهم كان أعلى من أي قيمة عملية لأي شخص في الهند (أو كان في أي وقت مضى). ومهما كانت نيَّاتهم، فإن تصرفاتهم ترقى إلى المقابل: لأنهم يصرون على غرس الرعب عن الغرب، وخاصة في أذهان الأطفال الأبرياء، باسم تعزيز العلم، (ولا يمكن للمرء أن يفترض النيَّات الحسنة، لأنها لم تغير من تلك النصوص، أو توصياتها، عندما تتم الإشاره فيها إلى أخطائهم). ومن المحزن أن حكومة بليون شخص ليس لديها أي سبيل آخر للحكم على هذه الحقيقة إلا بالاعتماد على الخبراء، وليس هناك طريقه أخرى لاختيار الخبراء إلا بمعيار الاعتراف الغربي.

ولهذا كانت الصناعة الهندية تتبع البديل. لكنها لا تزال فريسة للقوة الناعمة لتلك القوى الإمبريالية حتى اليوم، وبمساعدة من هذه النخبة التي تم تلقينها، تماماً كما خطط لذلك البريطانيون.

إن هذا القلق الشديد في الاعتراف الغربي، هو في حد ذاته نتيجة واضحة لمشاعر الدونية الجماعية القوية السائدة حتى اليوم. ولا يتولد هذا الشعور عن الإمبريالية فحسب بل عن طريق تلقين الناس بالتاريخ العنصري؛ وهذا التاريخ، الذي يروج له المؤرخون الغربيون، قد استخدم لإخراج برنامج التعليم بأكمله في الهند من مساره، لتوطيد الإمبريالية. ويتم ذلك باستخدام الإمبريالية الأكاديمية للحفاظ على الإمبرياليه الحقيقية.

لقد كان الهدف من سياسة التعليم الاستعمارية هو إنشاء طبقة من شأنها مساعدة البريطانيين على حكم الهند، وهي الطبقة التي تبدو وكأنها من الهنود، ولكن تفكيرهم وتصرفهم مثل البرية، بحيث تكون موالية للإمبريالية البريطانية جماهيرياً. ومن خلال هذا «التعليم» المعروض اليوم نجد أن هذه الفئة تدعم نفسها بنفسها.

وبعد ذلك وحتى الآن نجد أن صخب التعليم الغربي يصطبغ بهذا النوع من

ص: 231

التاريخ الزائف (والذي يرافقه فلسفة سيئة من العلم) وكلاهما يشبه الببغاءات الذين يمثلون فئة من النخبة الهندية بدون معرفة وبدون فهم.

تساؤل افتراضي

النوع الآخر من الأسئلة التي يمكن أن يُطلب هو التالي ماذا لو أن حساب التفاضل والتكامل نشأ في الهند مثل نموذج كوبرنيقوس الذي نشأ في حي المرجة بدمشق؟ ماذا لو لم يكن (إقليدس) موجوداً ؟

بطبيعة الحال من الطريف، لو تكهن ماكولاي وكان على علم بأن حساب التفاضل والتكامل بدأ في الهند، بدلاً من المركزية حول فيزياء نيوتن، ماذا كان سيفعل لو عرف أن إقليدس قد لفَّق له من وقت الحروب الصليبية؟ ربما يكون قد تحدث عن «علم فلك كاذب في النصوص العربية والسنسكريتية إذا أدرك أن الفلكيين الغربيين الذين يمجدون كوبرنيكوس، وتيخو براهي، وكبلر قد حصلوا على علم الفلك من تلک النصوص العربية والسنسكريتية التي أدانها؟ وقد طلب رام موهون روي هذا العلم ليتم تدريس الرياضيات الأوروبية، حيث كان يعرف بأن كلاً من حساب التفاضل والتكامل مأخوذين من الهند. وعلى الرغم من هذا الاهتمام، فإننا لن نتابع مثل هذه التكهنات المضادة للحقيقة هنا، لأن جدول الأعمال الحالي يتصل بالعمل.

فإذا كان العلم هو السعي إلى الاعتراف الاجتماعي من الغرب (من خلال جائزة نوبل وما إلى ذلك)، فمن الواضح أن هذا الاعتراف الاجتماعي يعتمد على التاريخ، ولا يزال الغرب يقوم بتزوير التاريخ حتى يومنا هذا. وقد علمت من المدرسة أن ماركوني هو من اخترع الراديو، ثم علمت في وقت لاحق بكثير أن هذا هو عمل جاجاديش تشاندرا بوس (J.C.Bose)، كما هو معترف به الآن في الغرب من قبل معهد الإلكترونيات IEEE، بعد صراع دام قرناً فيزيائي آخر هو ساتيندرا ناث بوز (S.N.Bose) ذهب بالمثل إلى طي النسيان.

ص: 232

3.3 التاريخ الحقيقي

دعونا نحاول ونرى لماذا يجب أن يتغير تعليم الرياضيات. الجواب: لأنه يساعد كثيراً على أن يكون له حساب صادق من الماضي، فالتاريخ الحقيقي هو أن معظم الرياضيات البدائية التي تدرس في المدرسة اليوم (الحساب، والجبر، وعلم المثلثات وحساب التفاضل والتكامل) ليست في الأصل من أوروبا، ولكن تم استيرادها. أما بالنسبة لحالة الحساب والجبر، فهذا واضح من أسمائها جداً. وتسمى الخوارزميات الحسابية لأن اسم الخوارزمي ينطق باللاتينية الجوار سيموس (Algorismus) أو الخورازمية، وهي مجموعة من التقنيات الحسابية التي جاءت لتكون معروفة في أوروبا بوصفها الخوارزميات (على عكس تقنية العداد الأصلي الأوروبي). وكتاب الخوارزمي (الذي لا توجد منه سوى ترجمات لاتينية اليوم) في دار الحكمة في بغداد. وعلى الرغم من أن العرب تعلموا هذه التقنية من الهنود، فقد تعلم الأوروبيون هذه الطريقة في القيام بالحساب من العرب؛ وبالتالي فإنها تشير أيضاً إلى «الأرقام العربية». والمصطلحات المضللة، والقضية الحقيقية هي أن الخوارزميات الحسابية الأولية (الجمع، الطرح، والضرب والقسمة) تتطلب نظام قيمة المكان، في حين أن الأرقام الرومانية تتكيف مع الإحصاءات المضافة. والعلامات الخاصة المستخدمة لهذه الأرقام والتي ليس لها أي أثر على الإطلاق.

وبالمثل، فإن كلمة «الجبر» مشتقة من الجابر العربي (الذي يستخدم في عنوان أخر كتاب من تأيف الخوارزمي)، حيث يحل المعادلات الجبرية بالقوة (جبر)، بوضعها على جانبين متنافسين (مقبولة) للمعادلة.

النقطة الرئيسية هي أنه عندما وصلت هذه التقنيات الحسابية إلى أوروبا، لم يفهمها الأوروبيون بشكل صحيح. وذلك بسبب الاختلافات الثقافية في طرق قيام الرياضيات. لقد اعتمد الأوروبيون على نظام العداد، الذي يسمح فقط للأعداد الصحيحة، وأساساً يسمح بها بالاضافه فقط. لأن العداد ربط الأرقام بكيانات ملموسة، ولم يكن من الممكن تمثيل الأرقام السالبة، بحيث طرح الطرح يمثل كثير

ص: 233

من الصعوبات. وكان يتعين القيام بالضرب بالاضافات المتكررة، والقسمة والطرح المتكرر. ولم يوفر العداد أي طريقة لتمثيل الكسور العامة؛ وكان الرومان والأوروبيون يعرفون فقط عدد قليل من الكسور الشائعة عادة مع المقام 12، ولا يمكن إضافة أو طرح الكسور مع القواسم المختلفة.

تتجلى الصعوبات الأوروبية في فهم الحساب الأولي بطرق مختلفة. فعلى سبيل المثال، عندما استورد جيربرت التقنيات الحسابية (الخوارزمية) من قرطبة حول 967 CE، رأى أن الأرقام العربية في الجزء الخلفي من العملة. (نحصل على هذه الصورة من المخطوطة اللاتينية في القرن 11 ولم يخترع جيربرت طريقة جديدة للقيام بالتقنيات الحسابية على الحساب (الروماني) العداد: لم يفهم ببساطة الفرق الأساسي بین العداد والتقنيات الحسابية، وتخبط بسبب ذلك في تحصيل النتيجة، وهنا أشدد على أن جيربرت الذي أصبح في وقت لاحق بابا سيلفستر كان رجلاً على دراية فائقة بالمعاصرين الأوروبيين الآخرين. وفي الواقع كان على دراية كذلك بأن معاصريه كانوا يخشونه، وفي الفن المسيحي صوَّره على أنه معالج خطير. وقد وجد هذا الرجل صعوبة في فهم ما يدرَّس لأطفال المدارس اليوم وبالأخص لمرحلة رياض الأطفال، حيث كان يدرس بصورة تقليدية في المرحلة الأولى للمدرسة في الهند! إن هذه الصعوبات لا تنحصر بأي حال من الأحوال في فرد واحد. فهي تتجلى في مجموعة متنوعة من الطرق الأخرى. فعلى سبيل المثال، التجار في فلورنسا الذين يتاجرون مع العرب، سرعان ما تعلموا أن الخوارزميات الحسابية توفر ميزة تنافسية في العمليات التجارية، وبناء على ذلك، بدأوا يتعلمون الخوارزيميات، وفي الواقع، فقد تعاملوا معها كنوع من الأسرار التجارية. ومع ذلك، فإن العديد في فلورنسا لم يكونوا مرتاحين مع الصفر، والسبب هو أن النظام الروماني من الترقيم هو الجمع: فرقم 12 یعنی 10 + 1+1، على نظام قيمة المكان، ومع ذلك فمن غير الممكن تفسير رقم 10 بنفس الطريقة 1 + 0 = 1. الأوروبيين التالي وجدوا الصفر غامض. واشتكوا من هذا الكيان، وهو الصفر، الذي لا قيمة له في حد ذاته، ولكن يمكن أن يضاف له أي رقم من القيمة بواسطة كيان آخر. وهذا الاشتباه في الصفر دعاه إلى أن يكتب الصفر

ص: 234

إذ ليس من الصعب فهم الصفر. وقد أدرج ذلك في قانون القرن 13 في فلورنسا وفيه أن أي عقد مالي بالأرقام العربية يجب أن يذكر فيه أيضاً الرقم بالكلمات، وهو ما أتبع كتقليد بعد ذلك وإلى يومنا هذا حيث يكتب في الشيكات وفي المعاملات المصرفية عبر الإنترنت!).

علم الأرقام واللغز المقدس للكون

كانت هناك صعوبات أخرى. على سبيل المثال، تصوف فيثاغورس المرتبط بالأرقام والذي استمر في الغنوصية. ولذلك فإن مشكلة التحدي النموذجي قد يكون أن نسأل «هل الوحدة رقم ؟» والإجابة المتوقعة هي أن «الوحدة ليست عدداً، وإنما أساس الوجود». واستمر هذا النوع من التصوف العددي في أوروبا حتى القرن السابع عشر؛ وكانت تسمي كتب كبلر توافقية موندي («الانسجام بين العالمين») والأحجيات السرية («اللغز المقدس للكون»)، لأنه كان يتوسم الحصول على دليل من خلال الوئام الإلهي.

حتى في أكثر الأرقام صعوبة من الصفر والأرقام السالبة فهي مسألة لتقريب الكسور، أو التصفير، الذي لم يكن له نظير في التقاليد الغربية للرياضيات.

وتتجلى هذه الصعوبات التاريخية في الطريقة الحالية للتدريس الحسابي، الذي ينسخ عن الطريقة الغربية. وعلى الرغم من أن المنهج الرياضي اليسوعي قد تغير ليشمل الرياضيات العملية (الحسابية أساساً) عام 1570، فقد اعتبرت طريقة العدّ الأسهل، ويجب الاحتفاظ بها في المرحلة الابتدائية. وهكذا، يتعلم الطلاب للمرة الأولى طريقة العدّ، ثم بعد ذلك الخوارزميات الحسابية؛ ثم يعاد تتبع التاريخ الأوروبي لاستيعاب الحسابات. الصعوبات التاريخية التي نشأت في أذهان الأوروبيين، مثل البابا سيلفستر، تتبدى في الانتقال من العدّ إلى الخوارزميات. أما الصعوبات النمطية فتتصل بالطرح والتقسيم والكسور، وهنالك صعوبة أخرى ستتعلق بمشكلة الانقسام بالصفر، إذ من الواضح أن من الممكن أن تكون هناك اتفاقيات مختلفة (على عكس الاتفاقيات

ص: 235

العالمية المزعومة للرياضيات)، لذلك كانت الاستجابة النموذجية من الرياضيات في الوقت الحاضر هو القول بأن الانقسام عن طريق الصفر لا معنى له. ومن ناحية أخرى، فان الرمز ∞ يعطي معنى في ما يسمى نظام الأرقام الحقيقية الموسعة، حيث يمكن تعريف القسمة بالصفر جزئياً.، ويتم القبض على اثنين من التصورات المتناقضة في تلك القواعد المسلية التالية المدرجة في هيكل لغة الحوسبة الجافة التي اخترعت مؤخراً: تقسيم عدد صحيح عن طريق الصفر هو خطأ، ولكن تقسيم رقم نقطة عائمة من الصفر هو ما لا نهاية، مثل 0/2 هو خطأ، ولكن 0/2.0 لا نهائي! وهذا يدل على أن الصعوبات الأوروبيه مع الصفر لا تزال قائمة حتى اليوم!

تنطبق التعليقات المماثلة على علم المثلثات. في هذه الآونة يبيِّن المؤرخون الغربيون انطلاقاً من تاريخهم المتعصب المتطرف والتقليدي، بأن علم المثلثات نشأ في اليونان، مع بطليموس. وكما هو الحال في حالة إقليدس، لا يُعرف شيء عن أن بطليموس الذي وُجدت نصوصه خلف القرن الثاني عشر هو المؤلف الوحيد. وعلى الرغم من أن التاريخ المثبت لكلوديوس بطليموس يشير إلى أربع ملاحظات خاصة ببطليموس في القرن الثاني، وهي معروفة في الواقع باسم المخطوطات ولكن وضعت بتاريخ لاحق. ولا ينبغي بالتالي استخدام هذه «الملاحظات» الزائفة حتى تاريخ المخطوطة. وقد بدا بوضوح من النصوص في بلاد فارس بعد ستة قرون، بأنه بدأ مع معالجة التقويم الشمسي لحساب السنة.

وكانت الأدلة غير النصية من التقويم الروماني تؤكد أن نص المجسطي (على قيمته إلا أنه لا يزال غير صحيح لطول السنة) حيث لم يكن موجوداً حتى القرن السادس من الإمبراطورية الرومانية. وعلى الرغم من الإصلاحات المتكررة لهذا التقويم (طول السنة) إلا أنه كنص عملي بشأن علم الفلك، يجب أن لا ينسب للمجسطي. ومن الواضح أن العلامة التي ينظر إليها هي العلامة التي نجمت عن القائمة التي يرأسها اليوم النجم القطبي الحالي (لم يعرف النجم القطبي في القرن الحالي ولكنه عرف خلال القرن التاسع).

ص: 236

لذلك فالأسماء ذاتها تحكي قصة مختلفة من خلال اللغة المكتشفة في الهند (التي تغيرت إلى العامية، والعربية، فكانت بعض الرموز تكتب بالعربية ولكنها تفسر بطريق أخرى مثل jiba فكانت تنطق ساكنة jb وخطأ jaib وقد ذهب المترجمون إلى أنها تعني التجويف، وكان من بين أوائل الأوروبيين الذين يتعلمون من هذه النصوص العربية ريجيو مونتانوس المؤرخ الغربي الذي اعتبر من أوائل منشئي علم المثلثات).

فالكلمة ذاتها «علم المثلثات» تبين كيف أن المفاهيم التي تتعلق بشكل طبيعي بالدائرة كانت مرتبطة بدلا من المثلثات (التي كانت أكثر دراية لدى الأوروبيين). وهذا ما يخلق صعوبات اليوم في تعلمها. حيث عرف الهنود والعرب الزوايا بطريقة أفضل، باستخدام سلسلة مرنة لقياس محيط الدائرة. وكان الأوروبيون معتادون على الخط المستقيم ويواجهون صعوبات في قياس محيط الدائرة. كان ديكارت من رواد المقياس الجغرافي الأوروبي، حيث رفض إمكانية مثل هذا القياس خارج العقل البشري. وقد فعل الملاحون الأوروبيون، بالمثل، حيث واجهوا مشكلة كبيرة مع الخطوط المنحنية (لتحديد خط اتجاه السفن)، لأنهم اعتادوا على الخط المستقيم والحافة المستقيمة الجامدة لقياس ذلك. لذلك كان هناك طلب كبير في أوروبا في القرن 16، 17 على القيم المثلثية (جداول القطاعات) لمجرد أن هذه القيم ستساعد على رسم الخطوط الثابتة (المتزاوية مع خطوط الطول) خط الاتجاه الثابت على الخطوط المستقيمة.

تنعكس هذه الصعوبات الأوروبية في علم المثلثات مرة أخرى في التعليم المدرسي في الوقت الحاضر. فلا يزال هناك بقايا من أدوات الملاحة الأوروبية والهندسة، المربع أو البوصلة، باعتبار أن المربع هو الجزء الأساسي من المعدات لمعظم الطلاب. أما الطابع الشعائري لهذه الأدوات فواضح من المساحات التي نادراً ما يستخدمها الطلاب، نظراً لكون معظمهم يجدون صعوبة في فهمها. فلا يمكن مثلاً استخدام المنقلة مباشرة لقياس زوايا الحياة الواقعية، مثل الزاوية التي تميل فيها العين ناحية شجرة، كذلك لا يمكن استخدام المقياس لقياس الخطوط المنحنية. ولكن

ص: 237

يمكن استخدام سلسلة أو شريط لقياس ذلك، ولكن لا يتم تضمينه في مربع البوصلة الغربي، وفي الواقع يمكن للسلسلة أن تستبدل مربع البوصلة بأكمله. كل هذا يُظهِر أن تدريس الرياضيات في الوقت الحاضر لا يستند إلى أي إستراتيجية مدروسة، ولكن فقط هو التقليد الأعمى من الغرب. وتنطبق هذه الملاحظات المماثلة، على حساب التفاضل والتكامل. فلم يكن التفاضل والتكامل فقط مأخوذاً من الهند، وهذا لم يفهم بشكل صحيح من جانب الأوروبيين مثل نيوتن، بسبب الاختلافات بين الرياضيات الهندية والأوروبية، حيث يدرس حساب التفاضل والتكامل اليوم الطريقة التي تم استيعابها في الغرب، وليس الطريقة التي تم اكتشافها (أو التي اخترع بها)، وهكذا نجد في الهند أن هذه الصعوبات الأوروبية التاريخية مع حساب التفاضل والتكامل الهندي، وسوف يعاد مرة أخرى اليوم في الفصول الدراسية. وهذا أمر يصعب تفسيره أكثر من ذلك بقليل.

فلسفة الرياضيات

تثير المطالبة الواردة في الفقرة السابقة سؤالاً مثيراً للإهتمام: هل يمكن أن تكون هناك اختلافات ثقافية في الرياضيات؟ في التقاليد الغربية نجد المتعلمين حتى لو كانوا لا يعرفون أي رياضيات، فإنهم يعتقدون أن الرياضيات يتم تدريسها لأنها عالمية. وقد ظل هذا الأمر يسري طويلاً في الغرب: فالرياضيات عالمية، وليست عالمية فحسب، بل هي عالمية كما قال هوجنس (Huygens) صراحة. وهذه المسألة مهما اختلف بصددها سكان الكواكب من إنسان لأخر، فإنهم متفقون على أن الموسيقى والهندسة، في كل مكان لا جدال فيهما وسيظلان كذلك دائماً.

والآن، إذا كانت الرياضيات عالمية حقاً، فلا ينبغي أن تكون قد نشأت من نفسها في جميع الأماكن؟ ذلك أن الغرب أيضاً ومنذ فترة طويلة ادعى أن اليونانيين القدماء فقط هم الذين اتقنوا الرياضيات بشكل صحيح! وهذا ما قالته الكتب الملاسيكية القديمة لتاريخ هذا العلم.

ص: 238

ولذا لا يمكن تتبع تاريخ الرياضيات مع اليقين أنه يعود إلى أي مدرسة أو فترة قبل الإغريق .... على الرغم من أن جميع السباقات في وقت مبكر تعرف شيئاً من التبجيل... وعلى الرغم من أن الغالبية تعرفوا على عناصر مسح الأراضي، إلا أن القواعد التي كانوا يمتلكونها، لم يستدلّ عليها، ولم تشكل جزءاً من أي علم. وبعبارة أخرى، فإن الحقيقة تكمن في أن الثقافات المختلفة لم تتنازع في شكل الرياضياتٍ ولكن في أصل الاختلاف الحضاري. وحسب المؤرخين الغربيين عن ثقافات الآخرين أن العرق اليوناني مرصود فقط لفهم الهندسة (لأن الجينات الخاصة بهم كانت مختلفة)، وكان المعنى الأدنى المشترك يوحي بسخافة الاعتقاد في كلاً من البيانين «الرياضيات هي عالمية»، وأن «الرياضيات نشأت فقط في اليونان»: إذا كانت الرياضيات هي وراثة أو ثقافة يونانية الإنجاز فلماذا ينبغي أن تكون عالمية؟

الرياضيات هل هي علم عالمي

مع ذلك، فإن الناس الذين ترعرعوا في التعليم الغربي يميلون إلى أن يتخلوا عن المنطق المشترك بشأن هذه المسألة، لأنهم يعتقدون بهذين الإدعاءين منذ قرون. والأمر لا يقتصر على الناس العاديين وإنما أيضاً وأساساً على المفكرين البارزين في الغرب. وبالتالي فإن استمرار هذا الاعتقاد هو إشادة بالسرعة الهائلة للبشر (أو الخشونة غير العادية للغرب). قد تكون هذه الأكاذيب هي مفتاح الإمبريالية الغربية (من خلال الادعاء بأن المعرفة الغربية عالمية). والواقع أن كلا من البيانين زائف. وقد أشرنا بإيجاز في السابق إلى أن الادعاء بالأصل اليوناني للرياضيات والهندسة هو ادعاء زائف. دعونا الآن ندرس ما إذا كانت الرياضيات عالمية أم لا. في الواقع، الرياضيات ليست عالمية، ومن الممكن أن تكون مثل الأنواع المختلفة تاريخياً، فعلى سبيل المثال في الدول غير الغربية قبلت الرياضيات التجربة كدليل إثبات، بينما كانت الرياضيات في القرن ال 20 تجريبية ميتافيزيقية وكان قبول التجربة كبرهان وسيلة لإثبات العناصر، 1.1 و 1.4 . على سبيل المثال جاء التحليل الذي قام به هیلبرت وراسل حين وصفا هذه البراهين بأنها خاطئة). وعلاوة على ذلك، وخلافاً

ص: 239

للرياضيات التقليدية للحساب، الذي لديه الكثير من القيمة العملية، فإن الرياضيات الغربية تركز على البرهان الاستنتاجي. وهذا هو الحال أيضاً مع الرياضيات الرسمية في الوقت الحاضر (التي تنطوي على إثبات النظريات)، وأما قيمتها العملية فهي غير مؤكدة بالمرة، كما سنرى أدناه.

من الأمثلة التي يكثر ذكرها على عالمية الرياضيات الادعاء بان 2 + 2 = 4. دعونا ندرس هذا، وأبسط الإدعاءات أن 1 + 1 = 2. وكجزء من الحساب العملي هذا أمر جيد. ولكن هل هذه المعادلة هي حقيقة عالمية؟ فمئات الآلاف من الدوائر المنطقية على الرقائق النموذجية للكمبيوتر تنفذ نوعاً مختلفاً من الحساب حيث 1 + 1 = 1 (أو البوابة) أو 1 + 1 = 0 (الحصري أو البوابة). رموز مثل 1، و + لا يكون لها أي معنى جوهري. إنهم يطيعون القواعد التي نخصصها إذا أخذت إثنين من الأحجار وأضفت إثنين آخرين من الحجارة، فلديك أربعة أحجار. ولكن إذا كسرت واحداً منهم فستحصل على 5 أحجار. هل هذا يعني أن 2 + 2 ربما تكون 5؟ من ناحية أخرى، إذا كان لدي سمكة واحده كبيرة، وسمكة صغيرة واحدة، فكم عدد الأسماك التي تصنع؟ 2 سمكة كبيرة أو 2 من الأسماك الصغيرة؟ قد لا يكون من الأفضل تمثيلها 1.5 من الأسماك الكبيرة أو 2.5 من الأسماك الصغيرة؟ والنقطة التي نعود إليها مرة أخرى هي أن علينا أن نحدد القواعد. علينا أن ندرك أننا لا نتعامل مع دوائر الكمبيوتر أو مع الحجارة، أو الأسماك، ولكن مع الأعداد الصحيحة.

ولكن، يمكننا أن ندرك أننا نتعامل مع الأعداد الصحيحة؟ دعونا نحاول إضافه رقمين باستخدام برنامج الكمبيوتر. إذا كنا نستخدم لغة الكمبيوتر مثل C، سنحصل بالتأكيد 2 + 2 = 4 . ولكن يمكننا الحصول على ما يرام 20.000 + 20.000 =-35، 528. (للحصول على حساب مفصَّل لماذا هذا العدد، وليس أي شيء آخر، انظر ملاحظات C.) اللغة C ليست منصة مستقلة. لذا، قد نحتاج إلى محاولة 2000000000 + 2000000000 =-29496796. هذا هو الجواب، ولذا سنحصل على جميع المنصات مع لغة برمجية جافة.

ص: 240

وأود أن أشدد على أن كل ذلك يجعل الفرق العملي ضئيلاً جداً لأي مشكلة

عملية معروفة (مثل إرسال رجل إلى القمر)، فحسابات الكمبيوتر كافية تماماً. ومع ذلك، فإن هذا الحساب العملي (الكمبيوتر) لا يتفق مع الحساب الرسمي الذي يدرَّس لطلاب الرياضيات. حيث يقوم الحساب الرسمي على ما يسمى ببديهيات بیانو (Peano)، الذي عبر عن الترابط «القانون» بأنه مُقدسٌ ومصونُ، ولا يمكن كسره كما يحدث في حساب الحاسوب. وعادة ما يعبِّر عن هذا القول بأن حساب الكمبيوتر (لا مفر منه وبشكل أبدي) وهذا خطأ، لأن أجهزة الكمبيوتر الرياضية.

استطاع المجرمون كسر القوانين الحسابية العالمية الذي وضعه بيانو Peano في القرن التاسع عشر.

وهناك طريقه أخرى لوضع هذه الأمور (وهي الطريقة التي وضعت باستخدام فلسفة التصفير) بمعنى أن الحسابات الرسمية مثل حساب بيانو، على الرغم من أنها تبدو بسيطة ومفيدة، إلا أنها مثالية، أي غير واقعية ولا يمكن تحقيقها. خلاصه الأمر: أن الرياضيات ليست عالمية. وبالتالي يصبح الادعاء بأن «الرياضيات الغربية عالمية» (التي نشأت في اليونان) يُقصد به فقط من أجل تعزيز الحالة الإمبريالية. ص20

4.2 - اللَّانهاية، والرياضيات والدين

بناء على ما تقدّم فإن الاختلافات الثقافية بشأن الرياضيات أصبحت حادة خاصة في الأسئلة الرياضية حول مفهوم اللَّانهاية، ولقد حاولت من جهتي أن أبرز الدور المحوري لتلك الاختلافات الثقافية في الرياضيات من خلال الإشارة إلى الصعوبات التاريخية المتعلقة بمفهوم اللَّانهاية التي ابتلي بها حساب التفاضل والتكامل عندما وصل لأول مرة من أوروبا. فالأساس في حساب التفاضل والتكامل هو في كونه وسيلة لجمع سلسلة اللَّانهائي، [ما هو مجموع 1 + 4/1 + 8/1 + 16/1 ....؟] وقد كان الهنود يقدمون صيغة بسيطة لهذه السلسلة الهندسية.

لكن الرياضيات الأوروبية في القرن 17 رأت أن الطريقة الوحيدة للحصول على

ص: 241

هذا العدد هو تقديم مادة لا نهاية من الأعداد. وذلك بإضافة 4/1 إلى 1، ثم إضافة 8/1 إلى العدد، إلخ. والقيام بمثل هذا العدد اللَّانهائي هو بلا شك مهمة فائقة لسلسلة لا نهائية من المهام. ذلك بأن الأمر هنا يحتاج إلى وقت غير محدود. لذا فإن علماء الرياضيات الأوروبية في القرن 17 يعتقدون أن الإجابة على مثل هذا العدد كانت معروفة فقط لله. قال هذا ديكارت بوضوح أما جاليليو فقد وافق على نطاق واسع بمفهوم اللانهاية ذات الصلة باللاهوت.

لقد كانت الرياضيات الغربية مرتبطة ارتباطاً عميقاً بالمعتقدات الدينية. حيث تظهر كلمة «الرياضيات» وتستمد معناها من كلمة «الأطروحة» التي تعني «التعلم». وقد عرّف أفلاطون التعلم أو الأطروحة بإنها تعني تذكر المعرفة في الحياة السابقة. وأعرب عن اعتقاده بأن الناس قد عاشوا حياة الماضي، وأن الرياضيات تساعدهم على التذكر بمعرفة تلك الحياة الماضية.، كان هذا الاعتقاد في الحياة الماضية يرتبط مباشرة بالمعتقدات حول الروح الخالدة التي تبقى بعد الموت، وقد ربط الحياة الماضية بالوقت الحاضر. ففي محاورة مينون نجد أفلاطون، يدلل من خلال سقراط بمعرفة صبي من العبيد بمبادئ الهندسة، ويخلص منتصراً إلى إثبات وجود الروح. وفي محاورة الجمهورية ينتهي إلى تدريس الرياضيات لصالح الروح.

لقد استمر هذا الاعتقاد لفترة طويلة لا تقل عن 8 قرون بعد أفلاطون، وهكذا نجد برقلس (Proclus)، في القرن الخامس، يشرح في كتابه لماذا استخدم سقراط الهندسة (وليس الجغرافيا، على سبيل المثال) لإثبات المعرفة الفطرية لصبي الرقيق. ويشرح برقلس مصطلح «الأطروحة» بالتفصيل الصريح، وكان هدفه من تعليقه وشرحه إبراز أن الرياضيات، بغض النظر عن تطبيقاتها العملية، هي نشاط ديني لصالح الروح التي «تؤدي إلى الحياة المباركة». ونلاحظ أيضاً أن معتقدات برقلس عن الخلود كانت من خلال التركيز على القتلى في الحرب الدينية التي شنتها الكنيسة المسيحية الحاكمة ضد الوثنية «والتي كانت سائدة أنذاك. ويعتقد برقلس أن حقائق الرياضيات أبدية، وهذا يتعلق بمعتقداته حول الزمن. وفي كتابه عناصر اللاهوت، المعروف للعرب

ص: 242

كجزء من «لاهوت أرسطو» أوضح برقلس كيف أن هذا الاعتقاد عن الخلود (والحياة الماضية) ذات صلة تشبه دورة الزمن. أما الآن فإن الاعتقاد في هذا الشَّبَه لدورة الزمن كان اعتقاداً مشتركاً بين مختلف الأديان الغامضة التي ازدهرت في الامبراطورية الرومانية المبكرة. وبالتالي فإن الاعتقاد في تشابه دورة الزمن كان أيضاً سائداً في المسيحية المبكرة، وقد جرى الترميز لذلك ببعض الرموز المسيحية مثل الهكسابلا (Hexapla) السداسية (التي هي عبارة عن ترتيب عدة ترجمات للعهد القديم في ستة عهود). وفي عام 529 أغلق جستنيان (Justinian) جميع مدارس الفلسفة في الأمبراطورية الرومانية.

في الوقت نفسه كان جون فيلوبونوس (John Philoponus) (المعروف بيوحنا النحوي) قد كتب دفاعه (خطبة) ضد برقلس، ورأى أن برقلس زنديق، كما ينطق الشتائم (اللعنات) ضد دورة الزمن. وبعد سنوات قليلة في عام 553 لعن أوريجانوس (Origen's) معتقدات الكنيسة واصفاً إياها بأنها «مذهب الوجود المسبق».

وبصرف النظر عن التصدي للتعديلات الرئيسية التي طرأت على المسيحية، التي أدلى بها اللاهوت في المرحلة التي تلت مجمع نيقيا، فإن اعتقاد برقلس بالحقائق الأبدية في الرياضيات، وبالتالي أبدية الكون، قد أغضبت الكنيسة بطرق أخرى مختلفة. على سبيل المثال، عارضت مذهب الخلق، كما فسرته وأكدته كنيسة ما بعد مجمع نيقيا، ويمكن للمرء أن يقول أن الجدل الأول حول مفهوم الخلق قد بدأ في القرن الخامس حيث تعلق بتدريس الرياضيات، وليس البيولوجيا. وقد قدم فيلوبونوس حججه ضد برقلس حول أن العالم لا يمكن أن يكون خالداً لأن إضافة يوم إلى الخلود سيترك الخلود دون تغيير، وبالتالي تكون هذه الحجة سيئة. وهناك شيئان يجعلان من هذه الحجة سيئة:

أولاً: أن فيلوبونوس لم يفهم حتى جوهر فكرة الخلود عند برقلس (متعمداً ؟) وأربك مفهوم برقلس عن تشابه دورة الزمن مع فكرته الخاصة عن الزمن الذي اطلقت عليه تسمية «الوقت الخطي الفائق».

ص: 243

ثانيا: كان لديه معايير مزدوجة حول الخلود، لأنه واصل الاعتقاد في الخلود (في «الخطي» والزمن) من تعذيب غير المسيحيين في الجحيم من أي نوع كانوا.

لكن النقطة التي جرى من خلالها تقديم حجج فيلوبونوس هي ذات شقين:

أولا: لإظهار كيف أن الأفكار حول اللَّانهاية قد اختلطت منذ فترة طويلة مع اللاهوت (ومفاهيم الخلود)، في الغرب.

ثانيا: الإشارة إلى أن اللانهاية تؤدي بسهولة إلى مفارقات، وإلى معايير مزدوجة.

وهناك أيضاً مسألة ثالثة هنا: هي أنه كيف أن فكرة برقلس في الرياضيات التي هي حقيقية إلى الأبد (أي صحيحة لكل زمان) تتحول إلى فكرة هوجنس (Huygens) في الرياضيات والتي هي صحيحة عالمياً (أي أنها صائبة في جميع الفضاءات)؟ هذه قصة طويلة ومعقدة، وأنا لن أدخل فيها هنا، وخاصة أنني شرحت هذا في مكان آخر. يكفي الإشاره إلى أن الكنيسة بعد الحملة الصليبية قد استفادت سياسياً من هذا التحول، وذلك على عكس الحقائق الأبدية، التي ذهبت ضد مذهب الخلق على سبيل المثال. فالحقائق العالمية لا تتداخل مع مذهب الكنيسة. بل على العكس من ذلك، فبعد الفشل العسكري للحروب الصليبية تحولت الكنيسة من القوة الصلبة إلى القوة الناعمة، ولم يقبل المسلمون الكتاب المقدس المسيحي، ولكنهم قبلوا العقل، كما في علم الكلام الإسلامي، وبالتالي، سعت الكنيسة الآن لاستخدام العقل لتحويل المسلمين عن إيمانهم، وقد تم تعديل لاهوت الكنيسة لهذا الغرض، وأصبح هذا اللاهوت بعد الحملة الصليبية معروفاً باسم اللاهوت المسيحي الرشيد. وادعت الكنيسة أن عناصر «اقليدس» تتعلق أساساً بالحجج العقلية، وليس بتحقيق الذات كما ذكر برقلس، وقد كان هذا الدعم لإعادة تفسير العناصر بعد الحملة الصليبية من قِبل التاريخ الزائف الذي تم تأليفها من قبل مجهولين غير معروفين.

«قد كان إقليدس غريباً بما فيه الكفاية «فقد اعتقد المعتقدات اللَّاهوتية نفسها.

ص: 244

وهذا التاريخ الزائف من إقليدس يسمح أيضاً للكنيسة بالمطالبة بملكية العقل، كما يفعل البابا بنيديكت في هذا إلى اليوم.

أدت معتقدات الكنسية التي أنتجت خرافة هوغنس بأن الرياضيات الغربية يجب أن تكون عالمية، إلى ترسيخ نظام التعليم الاستعماري. ويعتقد جميع الهنود المتعلمين في هذا الأمر، على الرغم من أن عدداً قليلاً جداً منهم يمكن أن يدعي معرفة الرياضيات، وفلسفتها، والتاريخ.

وفي الحقيقة فإن الهنود لم يعرفوا أبداً ما أصابهم ولم يتم الحصول على الانتصار البريطاني عام 1757 عن طريق أي تفوق تكنولوجي، بل تم تحصيله بالطريقة القديمة الجيدة لاستخدام الرشوة واستغلال الشقاق. وكان الأوروبيون ينتظرون هذه الفرصة لأكثر من 250 سنة، ولكن، في غضون 60 سنة القادمة جرى إقناع النخبة الهندية بأن البريطانيين حكموا الهند لأن الهنود كانوا من جوهر أدنى! وكان رام موهون روي نفسه يتوسل إلى البريطانيين لتغيير نظام التعليم الهندي من خلال الرياضيات الغربية بصفتها عالمية؛ ولهذا أراد الهنود تعلمها. وبطبيعة الحال، فقد استغل البريطانيون هذه الخرافة للسيطرة التامة، ولا يزال الغرب يفعل ذلك حتى اليوم.

يجب أن نتذكر الآن، في هذه المرحلة لدينا مجموعة من الرموز التي كتبناها، وهي 1 + 4/1 + 8/1 + 16/1 +....، ليس لها أي معنى جوهري (ناهيك عن «معنى العالمية» وكما قال برتراند راسل، نبي الشكلية، «في الرياضيات نحن لا نعرف ما نتحدث عنه»، وكما هو الأمر مع 1 + 1، فإن المجموع اللَّانهائي سيكون له هذا المعنى الذي نعطيه. وخلافاً لحالة المجاميع المحدودة، مثل 1 + 2، هناك مجموعة أوسع من الخلاف بشأن مجاميع لا حصر لها، حتى في الرياضيات في الوقت الحاضر. وهذا ينطبق بشكل خاص على («المتباينة») وهي سلسلة لا نهائية مثل 1 + 2/1 + 3/1 + 4/1 + .... أو سلسلة 1-1 + 1-1 + .... (= 2/1 ؟)، والتي نشأت في نظرية الكم الميداني. لقد أساء الأوروبيون فهم الطريقة الهندية لجمع سلسلة لا نهائية كتقريب عددي. إن شرح هذه الطريقة في الرياضيات

ص: 245

الرسمية يتطلب في الوقت الحاضر بعض المعرفة التقنية للرياضيات الرسمية، وأساساً منذ بهاسكارا (Bhaskara) فصاعداً، كان النهج الهندي لعلاج الجبر متعدد الحدود تقريباً كما لو كان مجرد أرقام. ومن هذا المنظور يعتقد الهنود أن الوظائف العقلانية للرياضيات الرسمية توصف اليوم بأنها بعيدة عن قواعد أرشيمديس. (الأعداد المعقولة، متميزة عن الوظائف العقلانية، والتي تشكل حقلاً عادياً) ويمكن تنفيذ العمليات الجبرية مثل الإضافة والضرب والطرح والقسمة، وهذا المجال يسمى ملكية أرشيميدس، وهي أن أي x إيجابي يمكننا العثور على عدد صحيح مثل أن x>n وهذه الملكية، هي التي تحمل الأرقام العقلانية، وتفشل الوظائف العقلانية، وإذا فشلت الخاصية، يمكننا العثور على x بحيث أن x>n لكل عدد صحيح n، وسيكون لدينا أيضاً 0 <1/x < 1/n لكل n وبالتالي، فإنه من الممكن رسمياً الحديث عن لامتناهيات لامتناهية في هذا السياق. وكما سبق وأوضحت، فإن هذا يتطابق مع مبدأ نظام العد، وهو نهج بسيط وعملي، وإلى ذلك ليست هناك حاجة إلى أي من هذه الشكليات بشأن فلسفة النزعة الصفرية.

تكفير رياضيات نيوتن

عندما وصل حساب التفاضل والتكامل لأول مرة في الهند، ولم يفهم الأوروبيون الطريقة الهندية لجمع سلسله لا نهائية، كان هذا مماثلة لطريقة الأوروبيين العددية، حيث فشلت في فهم الخوارزميات الحسابية. (طريقهم لقيام الرياضيات العالمية). وظنّوا أن الطريقة الهندية هي القيام بمجاميع لا حصر لها كعملية تقريبية عددية (لم تكن موجودة؛ وكانت الكلمات الرسمية أقرب إلى عملية لنبذ اللَّانهاية في حقل غير أرشيمدس؛ ولكنها كانت تستند إلى فلسفة مختلفة). بسبب الخلفية الدينية للرياضيات الغربية، حيث يعتقد الأوروبيون أن الرياضيات يجب أن تكون دقيقة، وينبغي ألا تهمل أي كمية محدودة، مهما

ص: 246

كانت صغيرة. ولذلك، فبينما كانوا على استعداد لقبول القيمة العملية لتقريب الأرقام العددية لم يكونوا على استعداد لمنح ذلك (ما يعتبرونه) لأي تقريب عددي يمكن تسميته الرياضيات. وقد بحثوا عن طريقة محددة للقيام بمجاميع لا حصر لها. ومن الواضح أن هذا ليس ممكناً جسدياً. لذلك سعوا للقيام بذلك إلى الطرق الميتافيزيقية، وهذه الطرق الميتافيزيقية بطبيعة الحال تشابكت مع المعتقدات الميتافيزيقية الأخرى. حول الزمن، على سبيل المثال وقع نيوتن في خطأ خطير في الفيزياء الخاصة به، وهذا الاعتقاد من شأنه أن يجعل استخدام حساب التفاضل والتكامل صارماً، وقال بميتافيزيقا الزمن، معلناً أنه ليس من المهم أن تكون قادراً على قياس ذلك بالظبط. (تم تصحيح هذا الخطأ فقط في نظرية النسبية، في وقت لاحق). وبعد وفاة نيوتن بدأت وثائقه في تاريخ الكنيسة على وشك أن تكشف، وقد هلع الفكر، في هذا الوقت حيث انتقد الأسقف بيركلي بلا رحمة رياضيات نيوتن كما أطلق عليها إنها «رياضيات الكافر».

وبصرف النظر عن دوافع انتقاده، فإن جوهر النقد الذي وجهه هو أن نيوتن وليبنتز تبعا إجراءات غير منطقية، إذا كان يمكن وضع تدفق الأعداد إلى الصفر في نهاية الحساب. وقد سأل في البداية لماذا.. وأكد أنه لا يشكك في الإجابات العددية أو العملية التي حصل عليها نيوتن. ولكنه يشكك في العملية، ورأى أنه نظراً لأن العملية كانت سيئة، فإنها لا ترتقي إلى الرياضيات.

كانت الحدود في نهاية المطاف من خلال جواب علماء الرياضيات الغربيين المقدمة على اعتراضات بيركلي، وكانت الحدود المطلوبة هي الأرقام الحقيقية الرسمية، والأرقام الحقيقية الرسمية المطلوبة هي نظرية المجموع. إن الأهمية الحاسمة لنظرية المجموع تجري من خلال الأداء الممكن للمهام الميتافيزيقية الفائقة، وبطبيعة الحال، فإن القدرة الميتافيزيقية لأداء المهام الفائقة تجعل علماء الرياضيات يشعرون بالقوة، وتكون المعارضة بمثل هذه الأشياء (من قِبل مجموعة

ص: 247

تسمى البديهيات) (ذلك بأن هذه الرياضيات الميتافيزيقية لا يمكن إلا أن تقرر من قبل السلطة الاجتماعية...)

وهكذا تكتنف استخدامات حدود نظرية المجموع مشاكل متنوعة، فالعديد من علماء الرياضيات كانوا متخوفين حيال المفارقات الناجمة من نظرية المجموع، واعتقدوا أن هذه النظريات تم حلها بواسطة المجموع البديهي الذي وضع في الثلاثينيات.

ومع ذلك، كما هو الحال في الحجج المتعلقة بفيلوبونوس التي واجه بها برقلس، فإن الطريقة المحددة لمعالجة اللامتناهية هي تلك التي تكتنفها معايير مزدوجة غريبة: معيار واحد من الإثبات داخل نظرية المجموع، وأخر للحديث عن ذلك. بالطبع فإن الحدود لا تعطي أي فرق عملي في الإجابة. وبشكل ممتع، وحتى قبل إعطاء جواب مقبول، كان لا بد من تغيير الكثير من الحالات التي لا تجد حدود هامة للفيزياء. ولقد أدى ذلك إلى نظريات سوبوليف (Sobolev)، شوارتز (Schwartz)، وميكونسكي (Mikusinski) وكل من هذه النظريات تكتنفها مشاكل أخرى، وقد ناقشت في بعض التفاصيل في مكان آخر، وحتى لو أهملنا كل هذه القضايا، فإن النظرية الميتافيزيقية يمكن أن تؤدي إلى إستنتاجات مادية غير مقبولة.

إذا كان الهدف من تدريس الرياضيات هو تدريس العلوم من أجل تطبيق التكنولوجيا العملية، فمن الواضح أنها ليست فكرة جيدة لتعليم هذا النوع من الرياضيات الرسمية.

ومع ذلك، فإن نظرية المجموع الكامنة وراء نظرية باناش - تارسكي تستخدم كأساس لجميع الرياضيات الرسمية اليوم. وهذه الرياضيات الحديثة هو ما يدرس فى المدارس في جميع أنحاء العالم، بحيث أن الطلاب في سن مبكرة يتعلمون الثقة في ذلك، وفي قيمته. إن عدم الثقة في أي انتقاد وبخاصة للقادمين من غير الغربيين الذين يفتقرون إلى السلطة، لم يدرسوا أو يفهموا نظرية المجموع البديهية

ص: 248

التي هي أساس الرياضيات الحديثة. وكما أوضحت من قبل، فإن العديد من علماء الرياضيات المحترفين لا يمكنهم حتى تحديد أي مجموع محدد بدقة، ويعتقدون فقط أن النظرية التي وضعت لتكون صالحة هي أعلى قوة من السلطة، وهذا هو ما سوف ينتشر حتماً، إذا طلب مشورة الخبراء.

إن الأثر الصافي لجميع هذه التعقيدات هو أن الرياضيات، بشكل عام، وحساب التفاضل والتكامل، على وجه الخصوص، أصبح تعليمه وتدريسه صعباً جداً ويجب ألا يخطئ المرء في الاعتقاد بأن اللاهوت الغربي غير مرن؛ ولكن من الصعب نسبياً على الغرب القضاء على هذه الصعوبات، لأن هذه المعتقدات هي الأساس المتين للتقاليد الغربية على مدى القرون العديدة الماضية. ولذلك يبدو أن هذه النقطة جيدة للبدء في الهجوم على الإمبريالية الأكاديمية الغربية.

5:التحليل: أكاذيب الإمبريالية الأكاديمية

يتضح مما سبق، أنه تم الحفاظ على الإمبريالية الأكاديمية عن طريق:

(أ) الحرب الضخمة التي تصدر الأكاذيب عن تاريخ العلم.

(ب) استخدام تلك الأكاذيب لفرض الحفاظ على التعليم الغربي والتي تلقن العقول الشابة برهبة بالغرب.

(ج) الاختبارات الرئيسية لجميع الحقائق العلمية لا تكون إلا من خلال شهادة الغرب.

ويبدو لي أن هذه الأكاذيب الغربية حول التاريخ قد انتشرت وتسربت بسرعة كبيرة وعرضت كثير من الحيل حول كوبرنيكوس، وزعمت أن حساب التفاضل والتكامل هو من أصول العلوم اليونانية. ومما لا شك فيه، أن الغرب استخدم جيشاً من الكهنة لسدِّ

ص: 249

تلك التسريبات، والحفاظ على كل كذبة. وقد لعبت شبكة الإنترنت دوراً رئيسياً في هذا الأمر، وقبل 12 عاماً، اضطررت للسفر مسافات طويلة للحصول على الكتابات الأصلية لأوريجين وهي اليوم متوفرة عند الضغط على ماوس الكمبيوتر (الفارة).

ومن الأعراض الأخرى التي يواجهها الغرب في القيام بحق الاحتكار في التصديق على العلم هو أنه يواجه تحدياً قوياً، ومع ذلك وفيما يتعلق بالنقطة (ب) - التي سبق ذكرها - يبدو لي أن الأمور تسير في الإتجاه الآخر نحو المزيد من التغريب في التعليم، وعلى الأقل هذا هو ما يحدث في الهند اليوم. فالجزرة التي تتدلى هو أن المعرفة الهندية من اللغة الإنكليزية تساعد في وظائف مراكز الاتصال، والحكومة الهندية الحالية، التي أصبحت لا يمكن تمييزها عن دمية بيد الولايات المتحدة الأميركية، وإذا نحينا جانبا بعض هذه الرؤى الكابوسية، فإننا نحتفظ بالحجة القديمة نفسها والقائلة بأن اكتساب العلم والتكنولوجيا يتطلب التعليم الغربي - ومن الواضح أن مثال الصين، وإلى حد ما اليابان يمكن المجادلة فيه ذهاباً وإياباً، ولذلك، أرى أنه من المهم جداً أن يكون هناك مثال يوضح أن إزالة التغريب من المعرفة يمكن أن يساعد على اكتساب العلم والتكنولوجيا. وهذا بالتحديد ما يجعل التربية المنقحة للرياضيات ممكنة، وأود أن أبدأ مما قاله رئيس لجنة المعرفة الوطنية الهندية ومستشار رئيس الوزراء المعني بالإبتكار، «أنه لا حاجة إلى أي ابتكار، لجهة تدريس علم المثلثات وحساب التفاضل والتكامل».. وهذا من شأنه أيضاً أن يوفر دليلاً دائماً على مدى السوء الذي يمكن أن تسفر عنه اتخاذ القرارات الحكومية، حتى على أعلى المستويات، في المسائل المتصلة بالعلم والتكنولوجيا.

وقد شرحت التفاصيل في أماكن أخرى، وهنا فقط سوف أبرز التلخيص:

أولاً: فيما يتعلق بعلم المثلثات، وبوصلة المربع الشعائرية المرتبطة بالهندسة الغربية فإنها تحتاج إلى تغيير، ويسمح بقياس الخطوط المنحنية باستخدام شريط

ص: 250

قياس مرن، وهذا يسمح بتعريف وقياس زاوية لطول قوس منحني. علماً أن هذه هي عمليه تجريبية (ربما تخضع للأخطاء ولا تلزم الرياضيات ولا يمكن أن تكون أكثر دقةٍ من الفيزياء).

ثانياً: إن فكرة الحدود والأرقام الحقيقية الرسمية وشروط النظرية المحددة تسقط من حساب التفاضل والتكامل، وكل هذه المفاهيم باتت تشكل عبئاً لا داعي له. ذلك لأنها لا تضيف شيئاً للقيمة العملية أو النظرية لحساب التفاضل والتكامل.

ثالثاً: يستعاض عن الشكليات بفلسفة النزعة الصفرية، وهذه هي الفلسفة العملية التي تعترف بأنه من المستحيل أن يمثل أي شيء (عدد صحيح، شخص...) في عالم يتغير باستمرار. ولذلك، فإنه من الضروري دائماً، في أي تمثيل على الإطلاق، نبذ شيء بوصفه غير ضروري، وبالنسبة لأي تطبيق عملي للرياضيات، فمن المعترف به بالفعل أن التقريب العددي لا مفر منه، فالتصفير يقبل مثل هذا «التقريب» العددي الذي لا مفر منه، فإنه يقبل أن الكيانات (مثل حاصل الفرق، أو شخص) لا يمكن أبداً أن تكون ممثلة بشكل فريد، ويعتبر أنه من الخطأ المعرفي الاعتقاد بأن العمليات الميتافيزيقية، مثل نظرية المجموع تشمل قدراً أكبر من اليقين من العمليات الفيزيائية.

وهذه الخطوات الثلاث ستكون ضربة أساسية لفكرة الرياضيات والميتافيزيقيا، العالمية وهي الفكرة التي كانت محوراً للثقافة الغربية لعدة قرون.

رابعاً: بدلاً من التلاعب بالرموز لابد أن يدرس الطلاب التفاضل والتكامل كما تطور تاريخياً، كوسيلة للحل العددي للمعادلات التفاضلية العادية عملياً (سياسياً هذا من شأنه صنع الارتياح الدائم لحجة ماكولاي عن نيوتن)، وهذا يتيح تعريف أسهل لمجموعة واسعة من الوظائف كحلول للمعادلات التفاضلية العادية، ويؤدي هذا النهج بطبيعة الحال إلى إيجاد حلٍ لطائفة واسعة من المعادلات التفاضلية العادية

ص: 251

غير الخطية التي تنشأ في الممارسة العملية، مما يؤدي إلى التوسع بشكل كبير في نطاق المشاكل العملية التي يمكن للطلاب حلها، وخصوصاً مع المعونة من حزم الكمبيوتر مثل الكود لحل المعادلات التفاضلية العادية.

6- الاستنتاجات

٭ كانت القوة الناعمة بدلاً من القوة الصلبة هي الأساس الرئيسي للإمبريالية الغربية.

٭ تفكيك القوه الناعمة للغرب يتطلب اجراءات تمهيدية وخطوة بخطوة:

أولاً، يحتاج التاريخ الزائف للعلوم المستخدمة للشروع في التعليم الغربي إلى الكشف عنه. (وقد بدأت هذه العملية بالفعل، ولكن من الضروري نشر هذا التعرض وتضخيمه).

ثانياً، رفض الفلسفة السيئة للعلوم المستخدمة للحفاظ على هذا التاريخ الزائف. ولا بد من التشديد على أن فلسفة الرياضيات في الوقت الحاضر ليست عالمية، ولا حتی علمانية. (وقد بدأت عملية تغيير الفلسفة هذه بالفعل، ولكن من الضروري أيضاً، مرة أخرى، نشر هذه البدائل العملية والعلمانية بوصفها من قبيل التصفير).

ثالثاً، الأهم من ذلك هو تفكيك النظام التعليمي الاستعماري، وهو أساس التلقين المذهبي، وذلك بالاعتماد النشط على نماذج بديلة للتربية، ولاسيما في العلوم الصعبة، ويفضل أن تبدأ مع الرياضيات. وينبغي التدليل بوضوح على أن ذلك يؤدي إلى مكسب (بدلاً من الخسارة) من حيث القيمة العملية.

٭ الدورة التي تدوم خمسة أيام حول حساب التفاضل والتكامل بدون حدود توفر هذه التربية البديلة التي تمثل تحسناً ملحوظاً على التربية القائمة لحساب التفاضل والتكامل، في بداية هذا الاتجاه.

ص: 252

وتتمتع المنطقة غير الغربية بميزة نسبية في اعتماد هذا المنهج التربوي، لأن الغرب يجد صعوبة في التخلي عن الحمل اللاهوتي الذي يصاحب التدريس الحالي لحساب التفاضل والتكامل، وهذه العملية يجب أن تمتد إلى فروع أخرى من الرياضيات، وأيضاً إلى الفيزياء والبيولوجيا.

٭ هذا بالإضافة إلى تغيير الأصول التربوية في العلوم الصعبة، ومن الضروري تفكيك صيغة الثقة في الغرب المستخدمة في التصديق على صحة الابتكارات العلمية، لذلك ينبغي أن تكون هذه العملية من خلال تشجيع مستودعات الدخول المفتوحة مثل فيكسرا (viXra)، ولذا ينبغي تعديل القوانين لعدم السماح للناشرين التجاريين في خصخصة نتائج البحوث العلمية الممولة من الجمهور. كما ينبغي الكشف عن الأكاذيب الكامنة وراء نظام التظهيرات الغربية، والحكم على الناتج العلمي بالقيمة العملية الطويلة من أجل الناس عموماً، وليس فقط مجرد الاستشهادات من جانب قراء المجلات العلمية).

ص: 253

الاستظهار الثقافي للاستعمار الاستيطاني

اشارة

دراسة في المسرح الإسرائيلي

أمين دراوشة

أمين دراوشة (1)

الأدب الإسرائيلي بكافة أنواعه، يقدم الشخصية العربية على أساس أنها نقيض للشخصية الإسرائيلية وخصم لها، وبالتالي هي عدوة للمشروع الصهيوني. ومن خلال مطالعتنا للأدب الإسرائيلي، نلاحظ الخلافات والتناقضات التي تتضمنها الساحة السياسية والثقافية، حول الطرق المناسبة للتعامل مع العربي الفلسطيني خلال سنوات الصراع، حيث فشلت الحركة الصهيونية فشلاً ذريعاً في تحقيق هدفها في جعل الفلسطيني يترك أرضه، ويهرب.

هذا الفشل نابع من صمود الإنسان الفلسطيني على أرضه، ورفضه التخلي عن حقوقه. وهذا الصمود أدى إلى خلخلة الفكر الصهيوني، وجعله يبحث عن حلول للصراع أقل شراسة من تهجير جماعي وطرد الفلسطينيين من أرضهم التاريخية. وقارئ الأدبيات الصهيونية سوف لا يخطئ في الإحساس بأن هذا الصمود في وجه

ص: 254


1- باحث - الأردن.

الجبروت والعنف الاحتلالي هو الذي أثر على الفكر الصهيوني، وجعله يغير أفكاره، باحثاً عن حلٍ يحقق أقل الخسائر بالنسبة له. ويضطر للتعامل مع المشكلة الكبرى، وهي الوجود العربي الفلسطيني الذي لا يمكن تجاهله وإنكاره.

لقد حاول كتّاب الأدب الصهيوني منذ نشوئه نزع الصفات البشرية عن الشخصية العربية الفلسطينية، بعد أن أيقنوا أنه لم ولن يترك أرضه، وسيبقى شوكة في حلق المشروع الصهيوني في سعيه الدؤوب للسيطرة على الإنسان والأرض الفلسطينية.

ولغاية الآن ما زال الأدب الإسرائيلي يصف العربي الفلسطيني بصفات قبيحة في محاولة لتبرير استخدام القسوة والعنف ضده: فالعربي حيوان قاس، ومخرّب ومجرم ولا أخلاق له، ولص، وقاتل، ومتخلف ومريض وغير ذلك.

ويقول الكاتب والناقد اليهودي إيهود بن - عيزر. في مقالة له بعنوان «مقتحمون ومحاصرون: «إن العرب واليهود، كلّ منهما يصوغ الآخر ويجسده بشكل سلبي. والمشكلة العربية أصبحت مشكلة يهودية بالنسبة لنا» (1) .

ولعب المسرح العبري الإسرائيلي دوراً هاماً في تثبيت دعائم الصهيونية في فلسطين، لذا كان الاهتمام كبيرا بإنشاء مسرح عبري في فلسطين يخدم أهداف الحركة الصهيونية؛ «فإذا كان العامل والتاجر يبنيان الاقتصاد، والجندي يحرس الثكنات والمستوطنات، فإن المسرح يعمل على ترسيخ هذا كلّه، وتشييد قاعدة يرتكز عليها» (2) .

لذلك بذلت الحركة الصهيونية كل جهدها، للاعتناء بالمسرح العبري الذي ولد في الاتحاد السوفياتي السابق، ممثلاً بمسرح «هبيما» الذي استقر به المقام في فلسطين في سنة 1928 كما يقول الكاتب الملاح.

ص: 255


1- عمر عبد الغني غرة. «الفكر الصهيوني بين التصور النمطي والتصور الفردي في الأدب العبري الحديث». القدس: منشورات اتحاد الكتاب الفلسطينيين، ط1، 1996م، ص 20.
2- ياسر الملاح. «صفحات مطويات من تاريخ المسرح الفلسطيني». الخليل: جمعية العنقاء الثقافية، ط1، 2002م، ص 65.

كانت فلسطين هي الهدف والمراد منذ البداية، لذلك يقول ناحوم زيماخ الذي أنشأ مسرح «هبيما»: «يجب أن نظهر في جميع البلدان، أمام كل الأمم. يجب أن نبحر في البحور السبعة، ونحقق ما يبدو دائماً صعباً، ونبني جسراً عبر اللجج العميقة لنصل حالا إلى مينائنا الأمين - القدس» (1).

واستمر المسرح العبري في خدمة الصهيونية بعد قيام الدولة، وشكَّلت حرب 1967م بداية لتكشير المشروع الكولونيالي الاستيطاني الصهيوني عن أنيابه الحادة في فلسطين. وإذا كانت البداية في الاستيطان المحدود الذي يستهدف خلق أغلبية يهودية، فإن الأمر تحول بعد الحرب إلى استيطان طاهر ونقي، قائم على التخلص من الفلسطينيين، وتزعمت حركة «غوش إيمونيم» الأمر، وهي حركة استيطانية عنصرية متطرفة.

ويعود سبب الخلاف بين الأيديولوجي والسياسي الذي وجد في المجتمع الإسرائيلي بعد 1967م حول وضع المناطق الفلسطينية الواقعة تحت الاحتلال «إلى خلاف بين مؤيدي نموذجين مصغرين مختلفين للسياسية الكولونيالية من نموذج الاستيطان الطاهر»(2) . أي الذين يؤيدون نموذج استيطاني محدود وطاهر، وبالتالي هم مستعدون للتنازل عن بعض الأراضي من أجل تكوين مجتمع متجانس إثنيا، وهناك الذين يسعون وراء النموذج الاستيطاني، يطمعون في السيطرة على كامل فلسطين التاريخية، ظانين أن بإمكانهم تهجير المواطنين الفلسطينيين أو السيطرة الكاملة عليهم. نلاحظ هنا أن الخلاف «هو بين من يؤيدون الخصوصية - الحصرية اليهودية، وإن بأصناف مختلفة، لا بين مؤيدي هذه الخصوصية - الحصرية وبين معارضيها جملة وتفصيلاً»(3) .

وانعكس ذلك على الثقافة الإسرائيلية، حيث أصطف الكتاب والأدباء خلف هذين النموذجين، ولكن في النهاية الكل يسعى لخدمة أهداف الصهيونية وغاياتها التي تريد أن تقيم دولة يهودية خالية من العرب الفلسطينيين.

ص: 256


1- المرجع السابق. ص 60.
2- أنطوان شلحت. خداع الذات... المسرح الإسرائيلي وحرب 1967 ومختارات من أعمال حانوخ ليفين. رام الله: منشورات المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، ط1، 2007م، ص 5.
3- المرجع السابق. ص 6.

إن اختيار دراسة المسرح الإسرائيلي، لم يكن اعتباطيا، فالمسرح العبري يعكس «بشكل فعال صورة الشخصية العربية ربما أكثر من أي جنس أدبي آخر وداخل إطار الأيديولوجية الصهيونية المسيطرة عموماً على الأدب العبري الحديث» (1) . فالمسرحيات التي تناولت الشخصية العربية الفلسطينية، ترتكز على نصوص سياسية، وتعمل على توظيف الشخصية العربية من زاوية أيديولوجية تعبر عن الفكر الصهيوني، وتوضح مواقفه وأفكاره عن الإنسان العربي.

الشخصية العربية تقدم في بعض المسرحيات، ولكن المؤلف الإسرائيلي لا يعيرها اهتماماً، ولا يناقش قضاياها، فاهتمامه منصّب على مشاكله هو وقضاياه، حيث يمكن القول، كما يقول الكاتب الإسرائيلي دان أوريان «أنه في كل المسرحيات التي يظهر فيها العربي نجده «خاضعا» لمقولة أيديولوجية أو سياسية، تتعامل أحياناً معه ومع مشاكله، وأحياناً أخرى يأتي تقديم العربي كمجرد إشارة فقط في خريطة الوعي الأيديولوجي اليهودي الإسرائيلي»(2) .

ولكن في فترة التسعينيات وما بعدها، انتقل الحديث في المسرحيات من المسألة العربية إلى المسألة الفلسطينية، وكان الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني الرابض على أرضه، حيث القضية الفلسطينية، أصبحت موضوعاً مركزياً في المسرح العبري الإسرائيلي. «وكما هو الحال في العملية النفسية التي تكشف عن الاغتراب تبرز الذخيرة المسرحية... اقتراب اليهودي الإسرائيلي من «الآخر» الفلسطيني، وتكشف أيضاً عن مظاهر الهلع والمخاوف التي اختفت من قبل» (3) .

يتميز إبداع ليفين الذي توفي في العام 1999م بتحليله للنفس الإسرائيلية، ويُظهر قلقها واضطرابها، وشوقها إلى حياة طبيعية بعيداً عن الحروب ومآسيها. بدأ الكتابة في نهاية الستينيات. وفي أعماله ابتكر أداة للنقد السياسي، وجوهر نقده قائم على

ص: 257


1- دان أوريان. «شخصية العربي في المسرح الإسرائيلي». ترجمة محمد أحمد صالح، القاهرة: منشورات المشروع القومي للترجمة، دون تاريخ. ص 4.
2- المرجع السابق. ص 24.
3- المرجع السابق. ص 28-29.

نزع القناع عن وجه المجتمع الإسرائيلي وتعرية الخداع الذاتي، «من منطلق الفرضية الذاهبة إلى إمكان اتخاذ مواقف تفتقر إلى الخداع الذاتي... كما يتمثل في تعرية المعاناة التي يتسبب المجتمع الإسرائيلي فيها من منطلق الفرضية القائلة إنّ في وسع المجتمع - إن أراد - عدم التسبب فيها» (1) . هذا ما ينقله الباحث أنطوان شلحت عن الناقد الإسرائيلي نيسيم كلدرون. كما يورد رأي الباحث دان أوريان، الذي يؤكد أن هناك تحولا مهما حدث منذ أوائل السبعينيات إزاء تناول الشخصية العربية، ومثلت مسرحية «ملكة الحمّام» الساخرة عنوانا لهذا التحول. وفيها يسخر ليفين من الزهو القومي للمجتمع الإسرائيلي، ويسخف تغاضيهم عن الآخر العربي. وفي ذروة الشعور بنشوة النصر في حرب عام 1967م، يهدم ليفين هدوء الجمهور الإسرائيلي، ويقوّض رضاه. وقدم في مسرحيته «ملكة الحمّام» مشهدا يشمل شخصية عربية عبر النظرة الإسرائيلية النمطية لها .

وفي رأي الناقد ميخائيل هندلزلتس، إن أعمال ليفين الاحتجاجية الساخرة، تركت آثارها العميقة في المجتمع، ففي كل مسرحياته شخّص المجتمع ووصفه في أدق تفاصيله، «على ما احتوته تلك التفاصيل من فظاظة وانغلاق وعنف عام وخاص، وكذلك ما اشتملت عليه من جور ونهم وانعدام تسامح ووحشية. فقد كتب عن أشخاص يستمرئون الاستعلاء ويتلذذون بإلحاق الأذى، لكون جبلتهم متشكلة من هذه الطينة، ويعشقون تضليل محاوريهم ومساومتهم من أجل المساومة التي هي بمثابة «مذاق الكينونة» (2).

ومسرحياته تتناول الموضوع نفسه، تركز عليه ونبقى في إطاره، فكل مسرحية من مسرحياته تتسم بالمصاعب والمشاكل عينها، والجو العام الذي يعبر عن الإحباط واليأس وخسران الذات، والفشل في تحقيق الذات.

كما تأثر من خلال دراسته للفلسفة بالفكر الفلسفي لسارتر «حيث النظرة للآخرين

ص: 258


1- أنطوان شلحت. «خداع الذات...!». مرجع سابق. ص 33.
2- المرجع السابق. ص 45.

هي نظرة كونهم مصدر الجحيم، والكراهية المطلقة لكل من يتولى السلطة لأنه يتحول لأداة اضطهاد للآخرين مهما كانت رغبته في الطهر والنقاء»(1) ؛ فشخصياته تتصف وتتميز بالجلاقة والوقاحة والسادية واللامبالاة، وتحطيم المقدس والأسطوري، وهي بلا ريب صفات لا تؤدي إلى سعادة الإنسان ولا الإنسانية.

أما الكاتب تمير غرينبرغ المولود في 1959م، فهو شاعر ومصمم معماري وكاتب مسرحي. ومسرحية «الخليل» التي ألفها أخرجت كعمل مشترك في بداية 2006م بين مسرح الهبيما ومسرح الكاميري. وهو ينتمي إلى جيل الأدباء الإسرائيليين الجديد، الذين يحاولون التخلص من إرث الأدباء الإسرائيليين المؤسسين، نقصد هنا ما أطلق عليه جيل البالماخ وجيل الموجة الجديدة، فإن جيل البالماخ هو الذي سيطر على المشهد الأدبيّ الإسرائيلي حتى الستينيات، وكان له مركز قيمي مشترك، «يؤمن به كلّ المشتركين في العملية الإبداعية الأدبية، ويتحدّثون ويعملون باسمه، أو يقبلونه دون مراجعة» (2). أما جيل الموجة الجديدة فقد تمرّد أفراده على أيديولوجيا الجيل السابق، ومعاييرهم الجمالية، وأخضعوا الصهيونية لكرسيّ المحلل النفسيّ، فبدا أن القائمين بالعملية الإبداعية في حالة عزلة عن بعضهم البعض، على مختلف المستويات الإيديولوجية والاجتماعية والإنسانية، ولم تعد هناك لغة واحدة يتحدّث بها الجميع. كما أنهم لجأوا إلى استخدام مناهج التحليل النفسي في بناء شخصياتهم القصصية، والغوص في العالم الداخلي لأبطالهم الذين يواجهون الشعور بالغربة والواقع المرير.

وقد تميز أدب غرينبرغ بالمزج بين الموضوعات القومية، والمواقف السياسية والاجتماعية. وتنطلق أفكاره المبثوثة فى مسرحيته من فرضية أن حياة اليهوديّ هي حياة غير طبيعية وعصابيّة فاليهودي يعاني من إحساس بالاغتراب وعدم الشعور بالأمن والطمأنينة كونه يتوقع الاعتداء في أي وقت كرد فعل للسلوك الوحشي الإسرائيلي المتواصل ضد المحيطين به، وخاصة الشعب الفلسطيني، «حيث يصبح

ص: 259


1- رشاد الشامي. «تفكيك الصهيونية في الأدب الإسرائيلي». القاهرة: دار الثقافة للنشر، ط1، 2003م، ص 45.
2- المرجع السابق. ص 48.

عدم الشعور بالأمان والخوف من الموت، هما مفتاح شفرة الحياة في إسرائيل» (1) . فهل وجد غرينبرغ حلاً لهذا الصراع النفسي عبر شخصياته المسرحية؟

لا يخبرنا غرينبرغ عن موقفه من هذه الأحداث الدموية في مسرحيته، ويحمل العائلة الفلسطينية الذنب تماما كما يحمله للعائلة الإسرائيلية، ويوقع عليهم نفس العقاب، وعلى الرغم من أنه يعترف بالقتل الممارس ضدّ الفلسطينيين وتدمير بيوتهم وحرق أشجارهم أو قلعها، إلا أنه ينتظر منهم أن يقنعوا ويخضوا، ليجلبوا السكينة والسلام إلى العائلة الفلسطينية، وبذلك ينعم المجتمع الإسرائيلي بالأمن والسلام .

بالنسبة للشخصية العربية - الفلسطيني - والكيفية التي يتعامل بها الإسرائيلي معها، فإنها وثيقة الصلة بتوصيف الإسرائيلي لذاته، بل وتتداخل فيها أيضاً صورة العربي الفلسطينيّ لذاته: إنّ خضر الكنعاني الذي كان رئيساً لبلدية الخليل، والذي طرد من مبنى البلدية وحلّ محله الحاكم العسكري، رضي بالأمر الواقع، ولكن الاحتلال استمر في التضييق عليه وعلى عائلته حتى انفجر الأمر. فالحل كان أن يغادر خضر الكنعاني أرضه مع عائلته، ولكن كون العرب لا يهربون، ولا يغادرون، یسبب مشكلة خطيرة للاستيطان، حيث يقف حجر عثرة أمامه. إنّ وجود العربيّ على أرضه يشكل كابوساً لا فكاك منه في حياة اليهودي.

لا يرى اليهودي ذاته إلا مقابل الآخر الفلسطيني، ويقول الكاتب حاييم بريشيط حول الموضوع: «تُعَرَّف الذات الصهيونية الآن بِ-«الآخر» الفلسطيني، مثل الحدّ الخارجي الذي يحدد الشكل» (2) ، فاليهودي لا يعرف ذاته إلا بمقارنة نفسه بالفلسطيني، والصراع معه والانتصار عليه.

ويضيف بريشط: «وبما أن الصراع العسكريّ والاقتصاديّ والثقافيّ والطبقيّ ضدّ

ص: 260


1- المرجع السابق. ص 209.
2- بریشیط، حاييم. «فلسطين وإسرائيل في الأدب العبري الحديث». (إعداد حسن خضر). في هوية الآخر. القدس/ غزة: علامات سلسلة غير دورية تصدر عن وزارة الثقافة ودار فنون للطباعة والنشر، ص 145-198.

الفلسطينيين يملأ الصورة الإسرائيلية بكل ذرّة من المعنى الذي تتمسك به. كيف يمكن التخلي عنه! ماذا سيحل محله؟» (1) .

إن وجود الفلسطينيّ الخانع والخاضع، هو الورقة الرابحة بيد الصهيونية وبالتالي دولة إسرائيل. لأن وجود الفلسطيني القوي والقادر والمتشبث بأرضه وحقه والمؤمن بهويته العروبية يعني نهاية الحلم الصهيوني، لذا نرى كثيرا من الشخصيات الفلسطينية فى المسرحية، ضعيفة ومهزوزة وضائعة وتحاول أن تجد طريقها دون جدوى، وتعتمد اعتمادا كبيرا على الآخر الإسرائيلي، باستثناء شخصية خليل وزوجته، اللذين قاوما المحتل الغازي ولكنهما دفعا الثمن غالياً لذلك.

يعاني الإسرائيلي من هاجس العربيّ الفلسطيني، ولا يمكن للإسرائيليّ أبداً تعريف هويته إلا مقابل الآخر العربيّ الفلسطينيّ الرابض على أرضه، وسيبقى يساهم في تشكيل الهوية الإسرائيلية، لأنه يعشّش في عقول كلّ الإسرائيليين، فهو كابوس وجوديّ حقا، لا سبيل للخلاص منه إلا بإعطائه حقوقه، وأوّلها حقه في الحياة كإنسان له هويته المميزة، لذا نرى شخصيات المسرحية الإسرائيليين يعانون ويؤرقهم هذا الفلسطيني الذي قتل وسجن وعذب، ولم يهرب أمام الإسرائيلي، بل ما زالت لديه القدرة على حمل السلاح والدفاع عن حياته وأرضه، مذكراً إياهم بأنهم لن ينعموا في الأمان ما لم يستعد حقوقه.

«کتشوب» حانوخ ليفين

يتناول الكاتب في هذه المسرحية، موضوع مباحثات السلام التي تجرى من أجل إيهام الجميع بأن هناك شيئا يجري، فرغم مرور عشرات السنوات ما زال الوضع بين الإسرائيليين والفلسطينيين على حاله. وليفين ليس لديه أية أوهام. إن دولته لا يمكن لها تحقيق السلام، ذلك أن الحرب بالنسبة لها تمثل القاعدة لا الاستثناء، لأن إسرائيل لا تعرف الحياة خارج الحرب. ولا تفكير يقودها ولا لغة تملكها إلا لغة الحرب والزهو بالانتصارات، ويُلبسها الشعور بالاكتفاء والإشباع. أما الوعود عند إشعال

ص: 261


1- المرجع السابق.

حرب جديدة، بأنها ستكون الأخيرة فلا قيمة لها. ويقول في «أغنية الحرب الأخيرة»:

«الحرب الأخيرة، الحرب الأخيرة،

لأننا لم نعد قادرين،

إذن حرب أخيرة أخرى بالتأكيد،

والذي يموت فيها - يعرف لماذا مات،

ومن يحيا فيها - يحيا بعدها إلى الأبد،

إذن حرب واحدة أخرى فقط» (1) .

ولكن الشعب صار يملك الخبرة ويخمّن تصرفات حكومته، ويعرف أنها بالتأكيد لن تكون الحرب الأخيرة، ولا حتى قبل الأخيرة، فحروب الدولة أصبحت فعلا روتيناً لا فكاك منه:

«مرة قلنا نحن أيضاً:

حرب واحدة أخرى.

اليوم نحن نعرف بشكل أكيد:

ليست حرباً واحدة.

ليست حرباً واحدة.

ولا حربان،

اليوم نحن نعرف بشكل أكيد،

ليست هناك حرب أخيرة» (2) .

ص: 262


1- ليفين حانوخ. «كتشوب». في: خداع الذات...!. مرجع سابق، ص 89.
2- المصدر السابق. ص 89.

وتستمر حياة الشعب الإسرائيلي من حرب إلى أخرى، ولكن هذا لا يمنعه من الإحساس بالزهو والفخر والاكتفاء.

بلاد رائعة

يزور السياح البلاد الرائعة، يبحثون عن جمال الطبيعة، ولكنهم لا يجدون في هذه الدولة غير الحديث عن الجيش والاستعداد للحرب. في مشهد «بلاد رائعة» يستضيف زوجان إسرائيليان السائح تشيلسي، ويبدي إعجابه بالبلاد الجميلة، تجيبه الزوجة بتواضع: هذا قدرنا، نحن شعب صغير ورائع، «شعب صغير يخرج من بين صفوفه الجيش الأقوى والأكثر صدقية في العالم، الجيش الذي يعرف من أجل ماذا يحارب، ولذا ما من قوة في وسعها الوقوف أمامه. ما العمل، بمنتهى البساطة نحن رائعون وأقوياء» (1) .

السائح يقول وكأنه يفسر كلامه: أنا أقصد شمس بلادكم.

تجيب الزوجة: كلامك صحيح فالشمس تعمل لمصلحتنا، ولكن قوتنا ليس فيها فقط، ففي النهار أو الليل نحن جاهزون ومستعدون للخروج في أي وقت يطلب منا ذلك، فنحن نعرف أننا لن نعود دون نصر، فليس هناك خيار أمامنا سوى النصر، حتمية الوجود سيد تشيلسي تجعل جيشنا رائعاً جداً، «جيش تكمل فيه الجودة البشرية الرائعة النقص الدائم في الكمّ، جيش يسير فيه الضباط قبل الجنود» (2) .

تشلسي يتحدث عن الشمس والضوء وزرقة البحر العميقة، فتحدثه الزوجة عن سلاح البحرية، فيقول بأدب إذا عدنا إلى موضوع المناخ الجميل... وتتدخل الزوجة قبل أن ينهي السائح كلامه بقولها: ولكن، «ماذا لديك ضد جيشنا؟» والزوج في كل المحادثة لا يتدخل إلا ليعيد كلام زوجته ويكرره مراراً حتى تضرب الزوجة على رأسه، فيصمت.

ص: 263


1- المصدر السابق. ص 93.
2- المصدر السابق. ص 93-94.

هذه هي الدولة، تعيش في ظل الحرب، ولا حديث لحكومتها إلّا عن ضرورة الانطلاق لحرب أخيرة، ولا يفكر شعبها بجمال الطبيعة التي وهبها الله للبلاد، وضرورة حلول الأمن والسلام لجميع البشر فيها. بل ينحصر التفكير بالفخر بالجيش الصغير الرائع الذي لا يقهر، وأي تفكير آخر يوقع صاحبهُ بالشبهة، حتى أن زيباتس في مشهد «المناطق» يصرخ بمضيفه: «ليس في وسع الإنسان أن يبول في هذه الدولة دون أن يشتبهوا بأنه سيعيد المناطق؟!» (1) . ويضطر للتبول في سرواله، وعندما يوبخه المضيفان اللذان منعاه من الذهاب إلى الحمام، يقول: آسف، لكن ما تم تحريره من الأرض لن يعاد. وغياب السلام، يجعل الحياة لا تطاق، وليس أكثر من دم ونار ودم.

احتلال مستنير ومخربون

في مشهد «عقوبة إعدام» تتم السخرية من التظاهر بالعدالة الإسرائيلية، ويظهر فيه المخرب العربي «سعيد» يقاد إلى حبل المشنقة، تنتظره صحافية هناك، ويدور بينهما حوار، حول عدالة تنفيذ حكم الإعدام بالمخربين العرب.

تسأله الصحافية عن رأيه بصفته مخربا سيتم إعدامه عن العقوبة، هل هو مع أو ضد. فيجيب: بالتأكيد أنا مع إنزال عقوبة الإعدام بالمخربين، وبصفتي «مخربا قديما ومجربا فإني أسمح لنفسي بالقول إن هذه العقوبة هي الأنسب للمخربين عموماً، وللمخربين أمثالي خصوصاً» (2) . تسعد من إجابته، فيضيف، هذا بفضلكم وفضل عدالتكم.

وعند سؤاله، هل تملك إسرائيل المبررات الأخلاقية لإعدام المخربين، يرد بطريقة هازئة، إنه لديكم ليس المبررات الأخلاقية وحسب، بل إن الواجب الأخلاقي يفرض عليكم ذلك. فهو الحكم الأكثر جدارة وعدلاً على «جماعات مخربين محرضين جبناء فاقدين للمثل السامية مثلنا يمسّون بسكان وديعين ومناصرين للسلام؟ (3) ؛

ص: 264


1- المصدر السابق. ص 102.
2- المصدر السابق. ص 107.
3- المصدر السابق. ص 108.

فحسب وجهة النظر الإسرائيلية، فإن العرب قتلة بالفطرة، جبناء ولا يملكون أي أخلاق، ويعتدون بالعنف على الشعب الأعزل! بل إن العربي المخرب يستشهد بشاعر إسرائيل الأكبر بياليك، ويقول: «إذا كان هناك عدل، فليظهر فوراً»، وتبدي الصحافية إعجابها بالاستشهاد، فيقول لها إن أي واحد كان سيستشهد ببيالك العظيم!

ويتناول المشهد أيضاً، أحد أعمدة نظرية الأمن الإسرائيلي وهو الردع، فالصحافية تتحدث عن مسوغات لتنفيذ الحكم وهو الردع، فيكون رد العربي، بصفته صاحب خبرة في التخريب والقسوة، أنه ولا شك من المسوغات لفرض حكم الإعدام، ويقول بسخرية، لذلك: «أنا نفسي، بعد تنفيذ قرار الحكم، سأرتدع عن ارتكاب أعمال إرهابية إضافية» (1) . وستردع كل المخربين، ويقول: كوني مخرباً مجرباً ومتخلفاً، فإنني أقول وأشهد على نفسي بأنني ما انضممت إلى منظمة تخريبية إلا من أجل أن أسجن في سجونكم الرائعة، فغاية ما أتمنى أن أبقى مستمتعاً في حياتي خلف قضبانكم الحلوة. ويخاطبها: «انظري إلى يديّ ورجليّ - إنها سالمة! وكذلك أظافري وأسناني - إنها سالمة! ... الظهر - إنه مالس! ما من حروق ولا ندوب!» (2) . إن الأمر يؤدي إلى خروج المخرب عن طوره من جمال المعاملة! وتجيب الصحافية: هذا حقا ما يضايقنا، ولكن ما هي رسالتك للشعب الإسرائيلي؟ ويكون الجلاد قد سحب الرافعة، وتدلى جسد العربي، وهو يمدّ لسانه بنعومة للصحافية.

المشهد يثير كثيراً من الموضوعات المسكوت عنها في الأدب الإسرائيلي؛ فالشعور بالعدالة المزعومة، يريح الشعب الإسرائيلي، ويجعله يبدي موافقة على أي شيء تقوم به حكومته العتيدة، حتى لو جردت أفعالها الشعب من إنسانيته. لذا لا ضير في نظر الشعب أن يتم قتل العرب الفلسطينيين بدم بارد، لأنهم في النهاية ليسوا أكثر من جبناء قتلة دون أخلاق سامية! أما قضية تعذيب المساجين وإلقائهم في السجون إلى الأبد، حيث ما زال بعض المساجين الموتى يقضون عقوبتهم، فلا شك في أن المساجين يعيشون أفضل خلف القضبان، من العيش في ظل التخلف والجهل والفقر والمرض!

ص: 265


1- المصدر السابق. ص 109.
2- المصدر السابق. ص 109.

أما رسالة «العربي المخرب الإرهابي الجبان» للشعب الإسرائيلي، فتكون بمدّ لسانه بنعومة حتى بعد موته، وكأنه يسخر من تفكير الإسرائيليين، إنهم بأفعالهم الوحشية، سيردعون صاحب الحق.

هوس الأمن

مراقبون

يتناول المشهد الهوس الأمني المرضي الموجود لدى الإسرائيليين، والخوف الذي يرافقهم أينما كانوا. لذا فالحراس المراقبون ينتشرون في كل زوايا الشوارع بحثا عن المخربين وقنابلهم، فيتم الاشتباه بكل شيء يدب على الأرض.

يحدث المراقب زميله المراقب الآخر، عن اشتباهه في الرجل المار من طرف الشارع الآخر، كونه يرتدي ملابس غريبة، فهو يلبس فستاناً وينتعل حذاء نسائياً، وشعره طويل وتسريحته غريبة، يتوجهان نحوه، ويخاطبه المراقب: يا سيد ممكن هويتك.

تجيب: أنا لست «سيد» أنا «سيدة».

وفي لقطة أخرى، يسمع المراقبان صوت تكتكة، وبعد بحث يكتشف أحدهما أنها صادرة من ساعة يده، ويطالبه زميله برميها، يحاول ولكنه يفشل في نزعها، فيقول له زميله ارم اليد، ويفشل أيضاً في نزعها من كتفه. وفي حل أخير يقول زميله: اجلس عليها! وبكل قوته يرتمي على مرفق يده، وبعد ترقب حذر، ينزع يده بروية من تحت مؤخرته، ويقول بحزن: تكسرت الساعة.

وفي لقطة تدلل على الجنون الأمني، وإلصاق التهم بالعربي أمام أي حدث مضر . يحدث مراقب زميله عن اكتشافه أمس قنبلة ضخمة في دار السينما. غير أن رفيقه يستغرب الأمر، ويسأله عن الكيفية التي عثر بها عليها وهو لا يرى. فيجيب: بأنه سمع دقاتها الموقوتة، ويبدي الزميل استهجانه، ويقول: ولكنك لا تسمع. فيرد: لقد مشيت حتى صادفت القنبلة.

وهنا يصيح المراقب المندهش: كيف؟ وأنت لا تمشي.

ص: 266

فيقول: طيب إذا لم تكن قنبلة، كيف طارت البناية؟

زرعت الحكومة الخوف والرعب في نفوس الإسرائيليين، حتى باتوا يظنون أي مفرقعة قنبلة وضعها المخربون العرب. وهذا ولا ريب يسهّل للحكومة الإسرائيلية السير في مخططاتها في جعل الشعب في فزع دائم، وتبرير الحروب المقبلة التي لا شيء يوقفها، ما دام الشعب صامتا ويبدي إعجابه بعدالة دولته، ويشعر بالاكتفاء والرضا مما يجري لشعب كامل يرزح تحت احتلالهم البشع والقاسي.

محادثات السلام في الشرق الأوسط

تتضمن مشاهد محادثات السلام ثلاثة شخصيات: محمود رياض العربي، وإيما إيبان الإسرائيلية، والوسيط السويدي جونار يارينغ. تبدأ جولات المحادثات بلقاء تمهيدي عبثي، بحيث لا يفهم الواحد من الآخر شيئا، وفي الجولة الثانية، يشترط رياض قبل البدء بالمفاوضات الانسحاب من كل المناطق المحتلة، ولكن إيبان تجيبه: أنه لا يمكن تقرير مصير المناطق إلا بالمفاوضات، وعندما يصر المفاوض العربي، تقول له: لا بد من توضيح المقصود بالمناطق، وهذا لا يتم إلا عبر المفاوضات.

يطلب جونار القهوة، ويطالب رياض أن تدفع إيبان فالمنتصر هو الذي يجب أن يدفع، ويطلب جونار ثلاثة قهوة وعجلا في الفرن، هذا الأمر يغضب إيما، فتقول بحدة: «عندما أعزم أنا يكون عجلاً، وعندما يعزم هو نصبح نباتيين» (1) . يتم التنازل من قبل رياض إلى دجاج، قائلاً إن ذلك لا يهمه ما زال متمسكاً بمبادئه.

وفي النهاية يكتفي الوسيط بالقهوة مع كعكة، إلا أن إيما ترفض مجدداً، وتقول: كعكعة في ق... ويصرخ جونار في قفاي، ويدور جدال عقيم بين الطرفين كل يريد أن يضع الآخر في قفاه. وتنتهي الجولة بصفارة من الوسيط الذي شعر بالإهانة لأنهما تجاهلاه.

تكشف الجولة عن تعنت الإسرائيلي، ورفضه التنازل عن أي شبر من الأرض المحتلة، ورغبته في استمرار المفاوضات إلى ما لا نهاية.

ص: 267


1- المصدر السابق. ص 97.

الجولة الثالثة يظهر فيها جونار وهو يشعر بالضجر واللامبالاة، ويفتتحها بالقول:

جلسة 671 إلخ، بند أ لا بند ب إلخ ...

المفاوضان يعلنان وصول المفاوضات إلى طريق مسدود، وجونار يعلن أنه سويدي، ولا يعرف شيئا عن نزاع الشرق الأوسط، وأن السويد لديها نزاعاتها أيضاً مع النرويج، وفي نهاية الجلسة، يصرخ جونار: تحيا السويد المحرّرة! تحيا السويد الكاملة. ويغسل يديه من النزاع وهو ممثل الأمم المتحدة.

في الجولة الرابعة، يظهر المفاوضان في حالة انسجام تام، ويعبران عن الرغبة في السلام والتنازل عن أي شيء في مقابل السلام، وتدور المحادثات بينهما ودية، وبطريقة استهزائية بعيدا عن تدخل الوسيط.

«رياض: نحن على استعداد للتوقيع على السلام حتى دون استرجاع المناطق.

إيبان: نحن نريد أن نعيد لكم المناطق.

رياض: شكراً، لا داعي.

إيبان: خذوا القدس على الأقل.

رياض: حاشا وكلا، القدس مقدسة لكم.

إيبان: إنها مقدسة لكم أيضاً.

رياض: كلا، كنا نمزح.

إيبان: ونحن أيضاً. ولذا فسنعطيكم النقب أيضاً كبادرة تعويض» (1) .

يستمر النقاش بهذه الطريقة، ويحس الوسيط بأن وجوده لا داعي له، فيحاول إثبات وجوده. قائلاً إنه لا يريد إثارة الفتنة، ولكن الأمر لا يعجبه، ويقول لرياض: لا تنس أن لديك قضية مع الإمبريالية، ولإيبان، أنا لا أفهمك، هل نسيت مشاكلكم مع التغلغل السوفياتي في الدول العربية؟

ص: 268


1- المصدر السابق. ص 112.

وفي فقرة غريبة، يحرض جونار إيبان على العرب، قائلاً: «كيف أمكنك تصديقهم؟ هل نسيت طباع العرب؟ أنهم أمة كذابين بالفطرة. أنا أعرفهم ليس من الآن. (الرياض) ليس عندي أي موقف شخصي، يا محمود. (لإيبان) إنه كذاب، مخادع لم تخلق الحياة مثله!» (1) . ويضيف لن اسمح لكما بتدمير جهد سنوات طويلة من المفاوضات.

في الجولة الأخيرة، يتواجد جونار في المقهى، ويحدث نفسه بكلمات غير منظمة، نفهم منها أنه ملَّ المفاوضات والسفر خلفها من نيويورك إلى جنيف... نيقوسيا وباريس وجبل طارق وموناكو وهاواي والقدس وطوكيو وريو. ويفكر بالهروب إلى ریو كملاذ آمن، فقد أصيب بالهذيان وأصبح يظن نفسه نازياً وفاراً إلى ريو، قائلاً: «منذ الآن سأبدأ بالعيش. مختبئا من جهاز الأمن الإسرائيلي، وأشعر بخوف قليل، فأنا أكره اليهود، أكره العرب، أكره الصينيين، أكره الزنوج، أنا لا سامي، عنصري، فاشيّ، نازيّ... تباً للشرق الأوسط، أفريقيا، آسيا. أريد أن أعيش حياتي. أريد أن أكون إنساناً! » (2) .

يتفق رياض وإيبان على أنه أصيب بالجنون، وينويان الاتصال برئيس الأمم المتحدة أوثانت، يصرخ جونار: «كلهم يختبئون كما لو أنهم نازيون!» (3) .

إذن الكل يختبئ، هاربا من الضغوط الممارسة عليه. وكأن الحديث يدور عن قوة اليهود في إجبار الدول والشخصيات الهامة في العالم على السير في طريق مرسومة كما يشتهي ويرغب اليهود، وإلا فإن الشخص أو الزعيم سيطارد بتهمة معاداة السامية.

يتوصل الكاتب إلى خلاصه الشخصي، بعد أن أيقن أن النزاع لا يمكن حله، وسيبقى إلى أبد الآبدين، يقول في أغنية «لا أفي بوعود منحها الرب لأبراهام»:

«لم أحلم أبداً بالخليل ولست قلقاً على نابلس،

ص: 269


1- المصدر السابق. ص 114.
2- المصدر السابق. ص 121.
3- المصدر السابق. ص 121.

ما يقلقني هو أن أعبر الحياة سالماً،

لأنني لست الرمل الذي على شاطئ البحر،

وأنا لا أفي بوعود منحها الرب لأبراهام.

بيتي ليس على النيل وزوجتي لا تجلس على الفرات،

وقد انشددت جيداً كل صباح بين المطلة وإيلات أيضاً،

لأنني لست الرمل الذي على شاطئ البحر،

وأنا لا أفي بوعود منحها الرب لأبراهام» (1) .

في النهاية، تبدي الشخصية في الأغنية رغبتها في العيش بسلام، والتمتع بالحياة، بعيدا عن الوعود التي أعطاها الرب لإبراهيم، والتي لم تجلب غير الحرب والموت والدمار.

«الخليل»

تمير غرينبرغ

تدور المسرحية حول الاحتلال والاستيطان في الأراضي منذ العام 1967م، وذلك من خلال الصراع بين عائلتين، إحداهما فلسطينية والأخرى يهودية مستوطنة في مدينة الخليل.

تتكون العائلة الفلسطينية من الجد خضر الكنعاني، الذي كان رئيساً لبلدية الخليل، قبل الاحتلال، يعاني من الفقر والمشاكل، بسبب الإجراءات التعسفية بحقه وحق عائلته الممتدة. وظهر في المسرحية كشخصية مسالمة، ومستسلمة لقدرها، وقانعة بوضعها المأساوي. أما زوجته سمر، فقد ظهرت كشخصية قانعة هي الأخرى، ولكنها تتحول إلى الفعل المقاوم، عندما تضرب يد الاحتلال عائلتها بقوة، فتظهر شخصيتها النقيضة، ونراها تمسك سكيناً وتحاول طعن الحاكم العسكري، في

ص: 270


1- المصدر السابق. ص 103.

محاولة أخيرة لمنعه من هدم بيت العائلة، وقلع زيتوناتها. وهناك مهدي الابن البكر لخضر وسمر، الذي يعاني من مرض عقلي، يجعله طفلاً بجسد رجل.

وتتكون العائلة أيضاً من خليل وزوجته رانية، وهما يمثلان الجيل الفلسطيني الشاب الرافض للاحتلال ومستوطنيه، الذي يظهر خليل مصمما على انتزاع حقوقه رغم جسامة التضحيات، حيث يفقد طفله الصغير نعيم في خضم الصراع المحتدم.

كما تضم المسرحية شخصيات عربية أخرى: فهناك الطفل الفلسطيني المشرّد، الذي لا يملك عائلة، ويقيم على الحاجز في محاولة لكسب رزقه، عن طريق تأجير نفسه لأي سيارة فلسطينية تحاول العبور، لأن هناك شرطًا يحتِّم على السيارة المارة أن يتواجد فيها طفل؛ والتاجر أحمد الذي يرتكز عمله على انتظار هدم قوات الاحتلال لبيوت الفلسطينيين، من أجل شراء حجارتها الأصلية وبيعها لليهود، والمستعد دائماً للقيام بأي شيء مقابل الحصول على المال.

أما العائلة الإسرائيلية، فتتكون من الأب بوعز ميمون الحاكم العسكري لمدنية الخليل، وزوجته راحيلي وأبنائهما إليئاف وإيالاه والصغير يوتام.

يتصف بوعز بالجبروت والقوة، متسلحاً بمنصبه والقوات التي تحت أمره. يتعرّض لمحاولة اغتيال من قبل خليل، ويقتل فيها طفله يوتام، ويبحث وعائلته عن الانتقام، ليس من عائلة الكنعاني وحسب، ولكن من المدينة بكاملها.

بدت شخصية زوجته راحيلي متناقضة، فمرة هي قوية وتسعى وراء الثأر والانتقام، وتعبر عن أحقية اليهود بأرض الخليل، ومرة أخرى تشكك بكل شيء وتفقد إيمانها بالله وتشكك بجدوى وجودها وعائلتها على أرض الخليل التي تشهد صراعاً دامياً.

أما ابنها إليئاف، فهو شاب يافع، يتصف بالكره الشديد للفلسطينيين، وينظر إليهم على أنهم قطيع من القتلة والمجرمين، وأنه يجب التخلص منهم صغيراً وكبيراً لأنهم يشكلون خطرا على اليهود. لذا نراه مدججاً بالسلاح وعلى أهبة الاستعداد لتنفيذ ما يؤمن به.

ص: 271

أما الفتاة الصغيرة إيالاه، البالغة من العمر الثانية عشرة، فتظهر في البداية وقد انحازت لعائلتها في حقدها على الشعب الفلسطيني، وتطلق على الفلسطينيين الصفات النمطية التي نشأت على سماعها، ولكنها عندما تلتقي بمهدي، تتغير نظرتها إليهم، وتحاول وإياه بناء عالم خيالي، خالٍ من الصراع والدم.

كما تحتوي المسرحية على مجموعة من الشخصيات التي لعبت دوراً مهماً، كالجندي شموئيلي، الذي يخدم على الحاجز العسكري ويمنع الفلسطينيين من التنقل لأتفه الأسباب، حيث ينفذ الأوامر بصورة عمياء، ويتساءل دوماً، عن الأسباب الكامنة وراء وجود الحاجز العسكري، والفائدة المرجوة منه، وبالتالي يشكك بسبب وجوده نفسه على أرض مدينة الخليل. وهناك شخصية مساعد الحاكم العسكري رونين، الذي يتصف بالعنف والشراسة.

بنية المسرحية

بناء المسرحية كلاسيكي، فهو يرتكز على فصول ومشاهد، وحركات داخلية لإشعال الصراع، والخاتمة التراجيدية، التي تظهر تأثر الكاتب بنهايات شكسبير المأساوية. وأضاف المؤلف شخصيات تمثل الطبيعة، ويبدأ مسرحيته باستهلال، تتحدث فيه (أشجار زيتون، يوم ربيعي دافئ، الأم الأرض).

يعلن يوم ربيعي دافئ عن قدومه إلى مدينة الخليل، بأن يطيّر فراشات فوقها ويعطّر الأزقة، ويسأل أشجار الزيتون، لم تصمتون؟ لم لا تفرحون لرؤيتي؟

ولا يفرح لقدومه سوى شجرة زيتون صغيرة، قائلة: كم انتظرت عودتك... زيتوناتي تتراقص شبقاً لكي تقطف.

هنا تتدخل الأم الأرض بغضب طالبة من يوم ربيعي دافئ المغادرة، لأنه سيحل محله يوم شتائيّ غائم. وتقول إن الله خلقها لنكون مرعى للحياة، تنبت حقول القمح، وخلقت لتكون سريرا للعشاق، ووسادة تتوسدها أحلام الشعراء.

ص: 272

ولكن منذ شهرين، والأم الأرض لا عمل لها سوى احتضان الأموات، إذ «يحضرون إليّ أمواتاً لم تقبّل شفاهم امرأة، وآخرين فغرت في صدورهم ثقوب سوداء ويحضرون إليّ أمواتاً عيونهم ثاقبة، وآخرين يقبضون على المسدس أنا أقوم بواجبي. هذه سنة الحياة» (1) .

ويبتسم يوم ربيعي دافئ ويقول: إن ترابك بحاجة ليد لطيفة وحنونة، اعتمدي عليّ أيتها العجوز، فقبل نهاية النهار سأجعلك تشعرين بأنك جميلة وشابة.

ويحتد يوم ربيعي دافئ، ويقول: إن سكان الخليل سيفرحون لرؤيتي، وإنك أيتها الأم الأرض، تحسدينني لكوني جميلاً.

وترد الأم الأرض: يا مغفل، ألا تفهم؟ اذهب، ارحل، انصرف، فعندما نلتقي ثانية، ستغرق في الدموع، كونك لا تصغي إليّ.

ويخرجون، ليبدأ المشهد الأول من الفصل الأول.

تأثير الآخر الفلسطيني على الأنا الإسرائيلي

بوعز ميمون هو الحاكم العسكري لمدينة الخليل. يطلق الشاب الفلسطيني خليل النار عليه محاولاً اغتياله، فيصيب طفله الصغير يوتام ابن الثلاثة أعوام ويقتله؟ ترفض راحيلي زوجته تصديق أنه مات. بوعز يتصف بالقوة والسلطة ويقول لها: وبدافع العادة، طلبت بأن تصدر الأوامر لكي تتحرّك جميع الوحدات بأن ينتشروا ويتمرسوا ويهاجموا... «بأوامر مني ستبنى وتهدم بيوت، وبأوامر مني سيتحرك آلاف الرجال والسيارات. ولكن ما فائدة هذه القوة إذا انتهت حياة الولد بين يديّ؟» (2) .

نستشف من هذه الأقوال أن أي حدث كاف لجعل الحاكم العسكري يستخدم كل القوة والعنف التي بحوزته لتأديب سكان الخليل الفلسطينيين حتى إن الأمر أصبح عادة. ويعود لرشده، متسائلاً بحيرة وألم عن فائدة الجبروت إذا لم يحمه ويحمي طفله.

ص: 273


1- غرينبرغ، تمير (2007م). مسرحية «الخليل». ترجمة سلمان ناطور، رام الله: منشورات مركز أوغاريت الثقافي، ط 1. ص 14.
2- المصدر السابق. ص 28-29.

بوعز رجل متدين، ويطالب زوجته بدفن الطفل لأن التأخير فى الدفن «خطيئة لا تغتفر» (1) . ويذهب على رأس فرقة كبيرة من الجنود إلى بيت أبو مهدي الكنعاني، وعندما يصل يطالب أبو مهدي بتسليم ابنه خليل ويهدده قائلاً: «وإن كان عليّ أن أهدم المدينة فإنني مصرّ على إلقاء القبض على المجرم » (2). هنا يحدثنا المؤلف عن العقاب الجماعي بكافة تجلياته وقسوته.

وعندما يفتش بوعز البيت لا يعثر على أي دليل لوجود خليل فيه. ويأتي أخوه الأكبر مهدي المريض عقلياً وعليه بقع دم أخيه، فيقرر بوعز اعتقاله على أمل أن يحصل منه على معلومات تدله على مكان اختباء خليل.

ويصدر الأوامر بهدم بيت أبو مهدي وقلع الأشجار المثمرة أمام بيته، ويقول لنائبه رونين: أنا لا أصدر الأوامر بدافع الانتقام بل هو القانون إذ يجب هدم بيوت المخربين للردع. وعندما يعترض أبو مهدي بأن البيت له، وليس لابنه، يجيبه بوعز: الأنظمة واضحة. المنزل الذي يسكنه مجرم يدمر.

وترتمي سمر عند قدمي بوعز قائلة له: «ابنك قتل حفيدنا وابننا المريض تعرض للتعذيب والكبير متوقع أن يعتقل مدى الحياة... ألم ندفع الثمن غاليا» (3) . يجيبها بوعز ابني مهمل ولم يقصد قتل أحد. ويكمل حديثه محملاً الشعب الفلسطيني والعائلة الفلسطينية، لا الاحتلال، ما يجري كحالة عنف قائمة، فالعائلة الفلسطينية لم تردع ابنها، ولو فعلت لما حدث كل ذلك.

هنا يتذكر خضر وسمر عرسهما وأحلى أيامهما التي قضياها في هذا البيت، وتطالب سمر الحاكم العسكري بأخذ غرامة، أو سجنهم، مقابل عدم قلع أشجار الزيتون، وهدم البيت، ولكنه يجيب بازدراء: هذا ليس انتقاما. يجب القيام بخطوات

ص: 274


1- المصدر السابق. ص 32.
2- المصدر السابق. ص 41.
3- المصدر السابق. ص 88.

قاسية حتى لا يموت الناس. فإذا «عرف كل مجرم أن كل نقطة دم تسفك من يهودي سوف يدفع أهله وأبناؤه ثمنها، فسيفكر مرتين قبل أن يحمل مسدساً» (1) .

ترفض رانية زوجة خليل دفن طفلها، ويثور المواطنون الفلسطينيون دفاعاً عن الحياة، ويقتل عدد منهم ويصاب آخر. ويحاول الحاكم العسكري أن يظهر بمظهر إنساني، وهو يعبر عن أسفه لأبي مهدي لقتل زوجته، وهدم بيته وتشريده، وعدم اتخاذه إجراء رادعا بحق رانية لأنها فقدت طفلها على يد ابنه. ويقول بوعز لعائلته، إنه هدم بيت أبو مهدي، ودمر الكرم، وأنه أضطر لقتل أم مهدي، لأنها شكلت خطراً على حياته، بعد أن حاولت طعنه بسكين، و «كل الشهود رأوا ذلك، وهذا ما سيقولونه في إفاداتهم أمام اللجنة» (2) .

يحاول بوعز، تذكيرنا أن لديهم أنظمة وقوانين، وإنه عند قتل المدنيين، يتم تشكيل لجان تحقيق في الموضوع. ولا أحد يعرف سر أبيه إلا ابنه إليئاف الذي يضحك عندما يخبره أبوه بحادثة قتل أم مهدي، ويقول له: «يا أبي! قل للجنة ما شئت أن تقول، بيني وبينك، أنت قتلتها انتقاماً» (3) .

وعندما تحدث انتفاضة الفلسطينيين في الخليل، يأمر بوعز بفرض حظر تجوال حتى على اليهود، وهنا يتدخل الحاخام يوئيل كوهين شقيق راحيل الأصغر، ويقول بذهول: منع تجوال على اليهود ؟ هذا الأمر لم يحدث مطلقاً.

وفي الأثناء يأتي التاجر الفلسطيني، ليبلغ عن مكان خليل مقابل المال وتسهيلات لعبور الحواجز. ويهاجم بوعز البيت الذي يختبئ فيه خليل، ويجري اشتباك كبير، ويسقط قتلى وجرحى من الجميع، ويتمكن خليل من النجاة. ويسقط إليئاف قتيلاً بيد خليل. ويخبرنا الحاخام يوئيل، عن قوة وصلابة بوعز عندما وارى ولده الثرى، مخاطباً راحيل: «زوجك! أية قوة منحها الله لهذا الرجل؟ لقد صلى بصوت نقيّ

ص: 275


1- المصدر السابق. ص 90.
2- المصدر السابق. ص 96.
3- المصدر السابق. ص 97.

وجهوريّ اخترق السماء» (1) . ولكن الحقيقية أن بوعز يصاب بالإحباط واليأس، ويرجع إلى بيته محطماً، ويخبر الجميع أنه مرهق ومتعب.

وفي الخليل انتشرت الجثث، فالفلسطينيون يرفضون دفن قتلاهم، فانتشرت الأمراض، والجرذان ملأت المدينة، ودخلت البيوت والمستشفيات والمدارس. ويقول الحاخام يويئل: يا بوعز! إن أعمدة الدولة تهتزّ، فيصرخ بوعز بأعلى صوته: لا، مؤسسات الدولة متينة، فأنا المسؤول. ويترنح ويتهاوى، ويقول لرونين أن يصمت، ويضيف: أنا تعب ومرهق. ويخلع الرتب العسكرية، ويعلّقها على كتفي رونين، ويردد: أنا ذاهب إلى النوم. ثم يخلع قميصه.

يخبره رونين قائلاً: نحن نحتاجك أيها القائد. ويرد الحاكم العسكري: «لم أقرر مصائر، ولن أختار بدائل، سأستلقي على السرير وأخلع حذائي وأنام» (2) .

يضجر بوعز من كل شيء، ويشعر بأن الحياة أخذته إلى حيث لا يشتهي، ويبدأ بالاستسلام لها. ويتكلم رونين عن الجنود القتلى والمرضى، الذين فشل الأطباء في علاجهم. لا يسمع بوعز شيئاً مما يقال، يخلع نعليه ويتمدّد على الأرض، قائلاً: «نعم، سوف أدع التعب ينتشر في الدم كالمخدر، وعندها رويدا، رويدا، سأغمض عينيّ، وانتظر اللحظة الطيبة» (3) .

يناديه رونين، وبوعز ما زال يتحدث: «أنا غارق في السرير

وفي أوهام العالم بكلّ ما فيه من غباء وعذاب

الضجيج الذي لا يتوقف أبدا

کله يتغلغل في الوسادة

ص: 276


1- المصدر السابق. ص 133.
2- المصدر السابق. ص 135.
3- المصدر السابق. ص 136.

وعندها سيسقط الجسد

وسيتبدد في الظلمة كلّ ما تصورت أنه بالغ الأهمية» (1) .

يطالب رونين باستدعاء قوات إضافية إلى المدينة، لكن بوعز يخاطب زوجته: اجمعي ثيابنا وألقي بها في النار فهذا أفضل.

يطالب الحاكم العسكري بتدمير الماضي القاسي والكئيب، ويحاول مع راحيلي حرقه، لأنه عرف بعد فوات الأوان أن حياته السابقة لم تكن ذات قيمة حقيقية، ولم تجلب عليه سوى الأسى والألم، فالفلسطيني يرفض أن يغادر، ورغم كل المآسي التي حلت به ما زال قادرا على المقاومة.

ويستمر رونين بالمناداة: أيها القائد. ويجيب بوعز: أنت تشوش تفكيري. وهنا تتدخل راحيلي لتفهم رونين، ما لم يستطع استيعابه، وتقول له: إن كل شيء انتهى، ولم يعد بوعز قائدك بعد الآن. فقد تخلى عن كل شيء يربطه بالجيش وجبروته وقسوته وعنفه، الذي لم يجلب له الحماية بل الحسرة والموت لأولاده.

اللقاء الإسرائيلي الفلسطيني

وفق النظرة الإسرائيلية

مهدي هو الابن البكر لخضر الكنعاني، يبلغ من العمر ستة وعشرين عاماً، ويعاني من تخلف عقلي، يحب أن يعزف على الشبابة، يساعد أخاه خليل على الاختباء، وعندما يرى الحاكم العسكري الدم على ملابسه، يحاول استدراجه ليخبره عن مكان خليل، وعندما يفشل في ذلك يعتقله، ويعرضه لتعذيب قاس، ولكن يفشل في إجباره في إعطائه المعلومات التي يرغب فيها. وبعد فقدان الأمل به يوضع في الجيب العسكري ويلقى أمام بيته وهو يعاني من جروح وكدمات.

أما أيالاه ابنة بوعز وراحيلي، فتبلغ الثانية عشرة من العمر، وتتعرض لموقف حرج

ص: 277


1- المصدر السابق. ص 136.

وصعب، عندما تكون برفقة والدها وأخوتها في نزهة، فيطلق خليل النار على والدها الحاكم العسكري في محاولة لاغتياله، ولكنه يصيب الطفل الصغير يوتام ويرديه قتيلا. وعندما ترى أمها بقعة دم على فستانها، تتهرب أيالاه، وتقول: «هذا ليس دمي، قال أبي إننا سنخرج في يوم ربيعيّ جميل لتناول الطعام ولكنني رأيت قلبه ينبض مثل فم صغير يطلق القبلات، الآن أريد أن أنام» (1).

وتلتقي مع مهدي بتدخل مباشر من الطبيعة ممثلة بيوم «ربيعي دافئ». الذي طار فرحا لسماعه أيالاه تغني وتعزف على القيثارة، وتمنى أن يأتي فتى، فجاء مهدي وهو يعزف على الناي وينسجم العزف مع عزف أيالاه.

ويقول «يوم ربيعي دافئ» له: «تعال لا تخجل! لمثلكما أنا خلقت»؛ ولكن أيالاه، تغضب وتقول لمهدي: «انصرف! هذه الأرض لنا. أرض آبائنا إبراهيم وأسحاق ويعقوب مدفونون هنا في المغارة» (2) .

ويخاف مهدي ويبتعد، ولكن «يوم ربيعي دافئ» يتدخل ويطلب منه البقاء والعزف. وتسأل أيالاه مهدي: هل ستؤذيني؟ وتضيف: أنا لا أخافك. قال أبي إنك متخلّف عقلیّاً.

ويتحاوران حول نعيم ويوتام، ويطالب مهدي أيالاه أن ترافقه للبحث عن نعيم، فترفض قائلة: لا استطيع الذهاب معك، فأنت عربي! ثم تراضيه، وتطالب أن يعزفا أغنية معا، وتضيف: لا أقول نعم أو لا سأفكر. هيا نعزف معاً.

ونلاحظ هنا النظرة التي تنظر بها الطفلة أيالاه إلى مهدي، فهي تعتبره عدواً وسارقاً لأرض أجدادها، وهي نشأت على أن العرب مجرمون وقتلة، لذا لا تستطيع الذهاب معه. ولكن عندما تخسر الجميع، تفرح لرؤية مهدي قادماً إليها، وتقول: «يا مهدي، كم هو رائع أنك جئت. الجرذان في كلّ مكان. أبي لم يعد وأمي اختفت. عمتي ليئاه هنا وهي مريضة» (3).

ص: 278


1- المصدر السابق. ص 21.
2- المصدر السابق. ص 78.
3- المصدر السابق. ص 141.

ويتحادثان بود، ويطلب منها مهدي أن ترافقه للبحث عن يوتام ونعيم، فتطمئنه أنهما بخير، ففي مكان وجودهما «كل البيوت مدهونة بالأبيض.. والأولاد يلعبون في الشوارع حتى وقت متأخر من الليل ولا يخافون الرصاص والقنابل» (1) .

وكأنها لم تعرف إلا حياة ليس فيها غير الرصاص، وكذلك مهدي الذي يندهش من حديثها، فتضيف: «ولا يوجد هناك جنود، ولا حتى مرافقون إلى المدرسة وفي أيام السبت يسبحون بين الأمواج. هناك يستطيع كل من يريد أن يكون مغنيّاً» (2) .

يبتسم مهدي ويقول : هيّا نذهب إلى هناك، فتخبره أن المكان بعيد وناء، فيقترح أن يحملها على كتفه. وفي هذه اللحظات يأتي خليل مصاباً ترافقه رانية بعد أن قتل بوعز، وكان قد نذر أن يقتل جميع عائلة بوعز بسبب فقدانه والديه وابنه، وعندما يتقدم من أيالاه شاهراً خنجره، يمنعه مهدي، قائلاً: «أنا أحرسها وهي تحرسني» (3) . يهوي خليل على الأرض ميتاً، ويختفي مهدي وأيالاه في الظلام.

وعلى الحاجز العسكري يلتقيان: الطفل الفلسطيني المشرد، ذو العشرة أعوام، الذي يؤجر نفسه لأي شخص يريد عبور الحاجز، فالقوانين تنص على وجود طفل في السيارة للسماح لها بعبور الحاجز العسكري. وهذا الطفل الفلسطيني دون جذور، إذ لا عائلة له، ولا نعرف ماذا جرى لها. وهو طفل ذكي، استطاع الحصول على تعاطف الجندي شموئيلي، الذي قال له عندما عرف أنه بلا مكان يذهب إليه، وأنه بلا عائلة ينام وسطها: «ولد في جيلك، حوّل، كان عليه أن يطوي الدفتر، ويقبّل أمه ويقول لها تصبحين على خير، ويلبس ملابس النوم وينصرف للنوم، حوّل!»(4) .

ويحيلنا هذا الكلام، إلى ما جرى لعائلته، ومن تسبب بالكارثة لهذا الصبي. ويرد

ص: 279


1- المصدر السابق. ص 142.
2- المصدر السابق. ص 142.
3- المصدر السابق. ص 144.
4- المصدر السابق. ص 108.

الصبي بجرأة على شموئيلي: «شاب في جيلك، حوّل، كان يجب أن يتواجد الآن في السينما مع صاحبته، يعانقها بقوة ويخطط كيف يأخذها معه إلى شقّته، حوّل» (1).

يحدثنا الكاتب هنا، عن تأثير الصراع، وكيف أدى إلى المعاناة والألم والعيش القاسي، ولكنه لا يبين لنا من الجلاد ومن الضحية، فيضعهما في سلة واحدة.

وعندما ترى أيالاه الصبي الفلسطيني، تطالبه بأن يرافقهما، وعندما يسأل إلى أين؟ يجيب مهدي، إلى المكان الذي يعيش فيه نعيم ويوتام يدا بيد، وتتدخل أيالاه قائلة: «إلى حيث يلعب الأولاد في الشوارع حتى ساعة متأخرة من الليل، ولا يخافون

الرصاص والقنابل» (2).

ويبقى مهدي وأيالاه يتحاوران.

«مهدي: وهناك لا يوجد جنود بالمرة.

أيالاه: ولا مرافقون إلى المدرسة.

مهدي: وفي أيام الجمعة ينظّمون الحفلات يرقصون هناك طوال الليل، وفي يوم السبت يسبحون في البحر» (3) .

عندها يقول الصبي الفلسطيني، إذن سأرافقكما.

ويركبون جميعهم العربية، وتتحرك، والأولاد يعزفون.

اللقاء الذي تم بنجاح بين الإسرائيليين والفلسطينيين، كان عن طريق الطفلة الجميلة والحزينة على خسارتها عائلتها، والرجل الفلسطيني المتخلف عقليا، والذي لا يدري ما يدور حوله، والصبي الفلسطيني الذي لا عائلة له، ولا يدري ما جرى لها. لذا من السهل على مهدي والطفل الفلسطيني أن ينسيا الماضي،

ص: 280


1- المصدر السابق. ص 108.
2- المصدر السابق. ص 148.
3- المصدر السابق. ص 149.

وما أرتكبه الإسرائيلي بحقهم وحق عائلاتهم، من أجل بناء مستقبل مشكوك في إمكانية أن يلتقي فيه الفلسطيني والإسرائيلي، حيث الإسرائيلي يرفض الاعتراف بجرائمه البشعة ضد الشعب الفلسطيني، ويأبى تحمل المسؤولية الأخلاقية عن الدمار الذي أحدثه في حياة الفلسطيني التي كانت وادعة وجميلة قبل قدوم الصهيونية، التي حاولت التخلص من الشعب الفلسطيني بكل الطرق العنيفة وغير الإنسانية.

مسرحية «الخليل»، وإن أظهرت بعض الشخصيات الفلسطينية كبشر يتألمون ويحزنون، ويملكون أحلامهم وذكرياتهم، وإن كانت تتقدم على غيرها في الأدب الإسرائيلي في الحديث عن معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال، إلا أنها ما زالت تضع الجلاد والضحية في مرتبة واحدة، وتحملهما الإثنين مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في مدينة الخليل، والتي أخذت كنموذج للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. وهي لا تقدم حلولاً منطقية للصراع وتكتفي بنقد الواقع من وجهة النظر الإسرائيلية.

ص: 281

المصادر والمراجع:

1- بريشيط، حاييم (دون تاريخ). فلسطين وإسرائيل في الأدب العبري الحديث. (إعداد حسن خضر). هوية الآخر. القدس /غزة. علامات سلسلة غير دورية تصدر عن وزارة الثقافة ودار فنون للطباعة والنشر، 145-198.

2- دان أوريان (دون تاريخ)، شخصية العربي في المسرح الإسرائيلي. ترجمة محمد أحمد صالح، القاهرة: المشروع القومي للترجمة.

3- رشاد شامي (2003م). تفكيك الصهيونية في الأدب الإسرائيلي. القاهرة: دار الثقافة للنشر، ط 1.

4- شلحت، انطون (2007). خداع الذات ...! المسرح الإسرائيلي وحرب 1967 ومختارات من أعمال حانوخ ليفين. رام الله: منشورات المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، ط1.

5- غره، عمر عبد الغني (1996م). الفكر الصهيوني بين التصور النمطي والتصور الفردي في الأدب العبري الحديث. القدس: منشورات اتحاد الكتاب الفلسطينيين، ط1.

6- غرينبرغ، تمير (2007م). مسرحية «الخليل». ترجمة سلمان ناطور، رام الله: منشورات مركز أوغاريت الثقافي، ط1 .

7- ليفين، حانوخ (2007م). كتشوب. ترجمة أنطوان شلحت. في: «خداع الذات...! المسرح الإسرائيلي وحرب 1967 ومختارات من أعمال حانوخ ليفين «رام الله: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار)، ط، 2007م.

8- ليفين، حانوخ (1999م). ملكة الحمّام. ترجمة أنطوان شلحت. رام الله: مركز أوغاريت الثقافي، ط1.

9- ملاح، ياسر (2002م). صفحات مطويات من تاريخ المسرح الفلسطيني. الخليل: جمعية العنقاء الثقافية، ط1.

ص: 282

علم الاجتماع الاستعماري

اشارة

التركيز على رهاب الاسلام المعرفي

رامون ڠروسفوڠيل

رامون ڠروسفوڠيل(1)

يبحث هذا المقال في كيفيّة تشكيل العنصريّة المعرفيّة في النقاشات المعاصرة حول رُهاب الإسلام. العنصريّة المعرفيّة وجهٌ مُستهانٌ به من وجوه العنصريّة. الجزء الأوّل هو نقاشٌ عن العنصريّة المعرفيّة في النظام العالمي. الجزء الثاني هو عن سياسات الهُويّة المهيمنة الصّادرة عن الذُكوريّة الغربيّة والردود الأصوليّة عليها. الجزء الثالث هو عن رُهاب الإسلام المعرفي وعلوم الاجتماع الاستعماريّة.

العنصريّة المعرفيّة في النظام العالمي

العنصريّة المعرفيّة والجنسانيّة المعرفيّة وجها العنصريّة والتحيّز الجنسي الأكثر استتارًا في النظام العالميّ - «النظام العالمي الغربيّ/ المسيحيّ الحداثيّ/ الاستعماريّ الرأسماليّ/ البطريركيّ» (2008a) Grosfoguel). العنصريّة والجنسانيّة على الصعيد

ص: 283


1- أستاذٌ مساعد في قسم الدراسات الإثنيّة في جامعة كاليفورنيا وباحثٌ أقدم في بيت العلوم الإنسانيّة في باريس، وقد نشر الكثير من المقالات والكتب حول الاقتصاد السياسي في النظام العالمي وحول الهجرة الكاريبيّة إلى غرب أوروبا والولايات المتّحدة. Epistemic Islamophobia and Colonial Social Sciences، Ramón Grosfoguel University of California، Berkeley • Maison des Sciences de l’Homme، Paris، grosfogu@berkeley.edu - ترجمة: علي صبّاح.

الإجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ بائنان ومعترفٌ بهما أكثر من العنصريّة/ الجنسانيّة المعرفيّة. العنصريّة المعرفيّة هي الأنموذج التأسيسيّ للعنصريّة والنسخة القديمة منها، ومن خلالها يتمّ تحديد دونيّة الشعوب «غير الأوروبيّة» بحسب قربها من الحيوانيّة التي تُعرّف أنّها انحطاط الذكاء وغياب المنطق الناتج عنه. تعمل العنصريّة المعرفيّة عبر تمييز سياسات الماهيويّة «الهويّة» الصّادرة عن النخبة الذكوريّة «الغربيّة،» أي تقليد التفكير المهيمن على الفلسفة الغربيّة وعلى النظريّة الاجتماعيّة الذي لا يشمل المرأة «الغربيّة» في أغلب الأحيان، ولا يشمل الفلسفات/ الفلاسفة وعلماء الاجتماع «غير الغربييّن» في جميع الأحوال. «الغرب» ضمن هذا التقليد هو تقليدَ التفكير الوحيد المؤهّل لإنتاج المعرفة، ويملك حصرًا المنافذ إلى «الكلّيانيّة» و«العقلانيّة» و «الحقيقة». العنصريّة المعرفيّة تعتبر أنّ المعرفة «غير الغربيّة» أقلّ قدرًا من تلك الغربيّة، وبسبب التشابك ما بين العنصريّة المعرفيّة وبين الجنسانيّة المعرفيّة يكون علم الاجتماع الغربيّ مظهراً من مظاهر العنصريّة / الجنسانيّة المعرفيّة، حيث أنّه يُميّز المعرفة الذكوريّة «الغربيّة» على أنّها المعرفة المتفوقّة في العالم حاليّاً.

إذا تفحّصنا نخبة المفكّرين ضمن المجالات الأكاديميّة الغربيّة نجدهم ومن دون أيّ استثناءٍ يميّزون المفكّرين «الغربيّين» الذكور ونظريّاتهم، وبشكلٍ خاصٍ الذكور الأوروبيّين واليورو - شمال أميركيّين . لقد بلغت «سياسات الهويّة» الماهيويّة المهيمنة من القوّة والتطبيع - عبر الخطاب «الموضوعيّ» و«الحياديّ» «لسياسة الأنا المعرفيّة» الديكارتيّة في العلوم الإجتماعيّة - درجة أنّها تُخفي من يتكلّم ومن أيّ موقع قوّة يتحدّث، فعلى سبيل المثال نفترض «بداهةً» حين الحديث عن «سياسات الهويّة» أنّنا نتكلّم عن أقلّياتٍ عرقيّة. في الحقيقة، ومن دون نفي وجود «سياسات الهويّة» الماهيويّة بين الأقلّيات العرقيّة، تستعمل «سياسات الهويّة» المسيطرة الخطاب الهويّاتي العنصريّ الجنسانيّ لنبذ كلّ تدخّلٍ نقديّ متجذّر في المعارف والكونيّات الصادرة عن الجماعات المُستضعفة وعن تقاليد تفكيرٍ «غير أوروبيّة» (2008 Madonado-Torres). ما زالت الخرافة المبطّنة للأكاديميّة المغرَّبة هي الخطاب «الموضوعيّ» والحياديّ الذي يُخفي «مكان إفصاح» المتكلّم، أي

ص: 284

هويّة المتكلّم والجهازٍ السياسيٍّ الإدراكيّ للمعرفة وسياسة المعرفة الجغرافيّة ضمن علاقات القوّة على الصعيد العالمي. عبر خرافة «سياسات الأنا المعرفيّة» (التي تتكلّم في الحقيقة بلسان الذكر «الغربيّ» وضمن سياسة جغرافيّة أوروبيّة المركز) يتمّ رفض الأصوات المنتقدة وتجاهلها، الأصوات الصادرة عن الأفراد أو عن الجماعات التي تضعها العنصريّة الماهيويّة المهيمنة والجنسانية المسيطرة في درجة دونيّة ملحقة بحجّة أنّها خاصّويّة. إذا كان لنظريّة المعرفة لونٌ - وهو ما يشير إليه الفيلسوف الأفريقيّ إيمانويل شوقوودي إزه(1997) (1) - أو جنسٌ/لونٌ - كما تحاجج عالمة الاجتماع الآفرو - أميركيّة باتريسيا هيلس كولّينس(1991) (2) - يكون لنظريّة المعرفة المهيمنة الأوروبيّة المركز على العلوم الاجتماعيّة أيضاً لونٌ وجنسٌ. تُشكّل نظريّة المعرفة المبنيّة على أساس تفوّق الرجل «الأوروبيّ» ودونيّة البقيّة جزءًا أساسيًّا من العنصريّة/ الجنسانيّة المعرفيّة التي استدامت في النظام العالمي لأكثر من خمس مائة عامٍ.

بدأ تقديس امتياز «الغرب» المعرفيّ وتطبيعه حين دمّرت الملكيّة الأسبانيّة الكاثوليكيّة الأندلس وآونة توسّع الاستعمار الأوروبيّ في أواخر القرن الخامس عشر، وأوّل ما قام به هذا التمييز هو إعادة تسمية العالم بأسماءٍ من علم الكونيّات المسيحيّ (أوروبا، أفريقيا، آسيا، وفي ما بعد أميركا)، وتوصيف جميع المعارف غير المسيحيّة على أنّها نتاج قوى وثنيّة شيطانيّة، وصولاً إلى الافتراض المنبثق عن العصبيّة المحليّة الأوروبيّةِ المركز أنّ التقليد الإغريقيّ الرومانيّ مرورًا بتقاليد عصر النهضة والتنوير وتقاليد العلوم الغربيّة يُشكّلون الطريق الوحيد للوصول إلى «الحقيقة» و «الكلّيانيّة». تمّ تطبيع التمييز المعرفيّ الأوروبيّ المركز ل «سياسات الهويّة» الصّادرة عن الذكوريّة الغربيّة إلى درجة تجعل رؤيتها كسياسات هويّة مهيمنة أمرًا صعبًا، حتى تمّ حِسبانها أنّها المعرفة الكلّيانيّة الطبيعيّة، وعدّ كلّ تقاليد التفكير «الأخرى» أنّها دونيّة (تمّ توصيفها في القرن السادس عشر أنّها «بربريّة» وفي القرن التاسع عشر أنّها «بدائيّة» وفي القرن العشرين أنّها «متخلّفة» وفي بداية القرن الحادي والعشرين أنّها «نقيضةٌ

ص: 285


1- .Emmanuel Chukwudi Eze-
2- .Patricia Hills Collins-

للديموقراطيّة»). كانت العنصريّة المعرفيّة والجنسانيّة المعرفيّة عنصرين تأسيسيّين لمجالات العلوم الاجتماعيّة الغربيّة التحرّريّة ولإنتاج المعرفة وذلك منذ تأسيس هذه العلوم في القرن التاسع عشر. تفترض علوم الاجتماع الغربيّة دونيّة الإنتاج المعرفيّ «غير الأوروبيّ» وتحيّزه وانعدام موضعيّته وتفوّق الغرب. ترتكز النظريّة الاجتماعية الغربيّة على تجربة خمسة بلدان (فرنسا وإنجلترا وألمانيا وإيطاليا والولايات المتّحدة) وهي تشكّل فقط ما نسبته تقلّ عن الإثني عشر بالمئة من تعداد سكّان العالم، ولكنّ علم الاجتماع الغربيّ والعصبيّة النظريّة الاجتماعيّة المحليّة الملازمة له والزعم الخاطئ بكلّيته يدّعي أنّ بإمكانه تعليل التجربة الاجتماعيّة للثمانية والثمانين بالمئة الباقية من تعداد سكان العالم. بالحاصل تكون المحوريّة الأوروبيّة والعنصريّة/ الجنسانيّة المعرفيّة شكلان من أشكال العصبيّة المحليّة التي يُعاد إنتاجها حاضرًا ضمن العلوم الاجتماعيّة.

سياسات الهويّة الذكوريّة المُغرّبة

ردًّا على «سياسات الهوية» المهيمنة التي تميّز الجمال والمعرفة والتقاليد والروحانيّات وعلوم الكون المسيحيّة الغربيّة، وتدمغ بالدونيّة والتبعيّة الجمال والمعرفة والتقاليد والروحانيّات وعلوم الكون غير المسيحية وغير الغربيّة، قام الأشخاص الموضوعيّون عبر هذه المناهج المهيمنة في درجةٍ أدنى ومُلحقةٍ بتطوير «سياسات هويّة» خاصّة بهم ردّاً على عنصريّة السياسات الآنفة الذكر، وهذه العمليّة ضروريّة كجزءٍ من عمليّة التثمين الذاتي في عالمٍ عنصريٍّ يضعهم في درجةٍ دونيّة ويجرّدهم من إنسانيّتهم. لكنّ لهذا الإثبات الهويّاتيّ حدوده إذ إنّه قد يُفضي إلى مقترحاتٍ أصوليّة تعكس الشروط الثنائيّة لتقليد التفكير الفلسفيّ الجنسانيّ العنصريّ الذكوريّ «الغربيّ» المهيمن الأوروبيّ المركز ، فعلى سبيل المثال يكون افتراض أنّ الجماعات العرقيّة/ الإثنيّة غير الأوروبيّة الخاضعة هي المتفوّقة يعكس شروط العنصريّة الغربيّة فقط من دون التخلّص من المشكلة الأساسيّة، وهي أنّ العنصريّة تحطّ من مقام بعض البشر وترفع آخرين وتعدّهم جنسًا متفوّقاً على الصعيدين الثقافيّ

ص: 286

والبيولوجيّ (2003 Grosfoguel). مثلٌ آخر هو ما يقوم به الأصوليّون الإسلاميّون أو الأصوليّة الأفريقيّةُ المركز، أي القبول بالخطابات الغربيّة الأوروبيّة المركز التي تدّعي أنّ التقليد الأوروبيّ هو التقليد الديموقراطيّ الوحيد طبيعةً وأصلاً، و«الآخرون» غير الأوروبيّين هم إستبداديّون طبيعةً وأصلاً ورافضون للخطاب الديموقراطيّ ولأشكال الديموقراطيّة المؤسّساتيّة في عالمهم غير الغربيّ (الذي يختلف عن الديموقراطيّة الليبراليّة الغربيّة في كلّ الأحوال ويدعم الاستبداد السياسيّ نتيجةً لذلك)، وهذا ما يقوم به جميع أصوليّي العالم الثالث، حيث أنّهم يسلّمون بفرضيّةٍ خاطئةٍ أصوليّةٍ أوروبيّة المركز تزعم أنّ التقليد الديموقراطيّ الوحيد في العالم هو التقليد الغربي، ولذلك يفترضون أنّ الديموقراطيّة لا تنطبق على «ثقافتهم» وعلى «مجتمعاتهم»، مدافعين بذلك عن أشكال السلطة السياسيّة الملكيّة و/أو الإستبداديّة و/أو الديكتاتوريّة، ممّا يُعيد إنتاج شكلٌ معاكسٌ للماهيويّة الأوروبيّة المركز، ويجعل الخطابات الأصوليّة الأوروبيّة المركز وتنوّعاتها أي أصوليّات «العالم الثالث» تتشارك فكرة أنّ «الديموقراطيّة» هي أصلاً «غربيّة» وأنّ الأشكال «غير الديموقراطيّة» هي أصلاً «غير غربيّة»

إنّ «التقسيمات» الناتجة عن سياسات الهويّة هذه تنتهي إلى إعادة إنتاج معاكسٍ للماهيويّة نفسها ولأصوليّة الخطاب المهيمن الأوروبيّ المركز. إذا عرّفنا الأصوليّة أنّها منظورات تفترض أنّ نظريّة المعرفة وعلوم الكون الخاصّة بها متفوّقة وتشكّل المصدر الوحيد للحقيقة واضعةً بذلك نظريّات المعرفة في مرتبةٍ أدنى غير مساوية، تكون المحوريّة الأوروبيّة ليست مجرّد شكلٍ من الأصوليّة بل الأصوليّة المهيمنة في العالم حاضراً، وتكون أصوليّات العالم الثالث (الإسلاميّة، أفريقيّة المحور، الشعوب الأصليّة، إلخ) التي تنبثق ردّاً على الأصوليّة الأوروبيّة المحور المهيمنة والتي تضعها الصحافة «الغربيّة» يوميّاً على الصفحات الأولى للصحف والمجلّات ما هي إلّا أشكالٌ تابعةٌ للأصوليّة الأوروبيّة المركز ، وهي تُعيد إنتاج تراتبيات الأصوليّة الثنائيّة الماهويّة العنصريّة الأوروبيّة المركز وتحافظ عليها (2009 Grosfoguel).

ص: 287

النتيجة السياسيّة لهذا النقاش المعرفيّ هي أنّ «العنصريّة المعرفيّة» تشكّل القاعدة الأساسيّة للنقاشات المعاصرة عن الإسلام السياسيّ وعن الديموقراطيّة وما يسمّى «الحرب على الإرهاب». تنتهي العنصريّة المعرفيّة «الغربيّة» إلى الحطّ من قدر نظريّات المعرفة والكونيّات «غير الغربيّة» وإلى تمييزها لنظريّة المعرفة «الغربيّة» كشكل المعرفة المتفوّق والمصدر الوحيد لتعريف حقوق الإنسان والديموقراطيّة والمواطنة، إلخ... وإلى تجريد «الآخر غير الغربيّ» من الأهليّة وعدّه غير قادرٍ على إنتاج الديموقراطيّة أو العدل أو حقوق الإنسان أو المعرفة العلميّة إلخ... بناءً على الفكرة الأساسيّة أنّ المنطق والفلسفة يقبعان في «الغرب» والتفكير غير المنطقيّ يقبع في «البقيّة».

رُهاب الإسلام المعرفي في علوم الاجتماع

إنّ العنصريّة المعرفيّة المتجلّية في رُهاب الإسلام هي منطقٌ أساسيٌّ بنيويٌّ للعالم الحداثيّ/ الاستعماريّ وللأشكال المشروعة لإنتاج العلم. يُناقش الإنسانيّون والباحثون الأوروبيّون منذ القرن السادس عشر أنّ المعرفة الإسلاميّة أحطّ قدرًا من الغرب. كان النقاش حول الموريسكيّين في إسبانيا القرن السادس عشر مليئًا بمفاهيم رُهاب الإسلام المعرفيّ (1997 ;1992 Preceval)، فبعد طرد الموريسكيّين في أوائل القرن السابع عشر استمر الحطّ من قدر «الموريسك» ضمن خطاب رُهاب الإسلام المعرفيّ، وادّعى المفكّرون الأوروبيّون المؤثّرون في القرن التاسع عشر، ونذكر على سبيل المثال إرنست رِنان، «... أن الإسلام لا يتوافق مع العلم والفلسفة» (21-20 :2003 Ernst).

كذلك الأمر في العلوم الاجتماعيّة حيث نجد مظاهر متشدّدة ما خصّ رُهاب الإسلام في أعمال النظريّات الاجتماعيّة التقليديّة الصادرة عن علم اجتماعٍ بطريركيٍّ أوروبىّ المركز ، كما الحال لدى كارل ماركس أو ماكس فيبر وهوما ينقله سوكيدي:

الإسلام بحَسب فيبر هو القطب المعاكس للكالفينيّة، فلا وجودَ لحدّين للقدر

ص: 288

الإلهيّ في الإسلام كما في الكالفينيّة، ولكن الإسلام بحسب ما يُشير إليه فيبر في الخُلق البروتستانتيّ (Protestant Ethic, ch. 4, n.36) يتضمّن الإعتقاد بالحتميّة المسبقة وليس بالقدر، في ما يتّصل بقدر المسلمين حول العالم وليس في ما يتّصل بقدر الآخرين (185.ibid, p). خطاب القدر الذي حافظ عليه الكالفينيّون ودفعهم للعمل الشاق كنوعٍ من الخدمة التعبّديّة (نداءٌ باطنيٌّ أو مهمّة) غير مُثبتٍ بين المسلمين. يُجادل فيبر أنّ`الشيء الأكثر أهميّة وهو دليل المؤمن إلى القدر لم يؤدِّ أيّ دورٍ في الإسلام` (ibib.)، ومن دون مبدأ القدر لا يمكن للإسلام أن يوفّر للمؤمنين به رؤيةً إيجابيّةً تجاه العمل الدنيويّ، والنتيجة أنّ المسلمين محكومون بالإيمان بالجبر . (ص: 197).

يستخدم فيبر الإيمان بالقدر مفهومًا مفتاحيًّا لشرح عقلانيّة الخطاب وتدبير الحياة، ففي الكالفينيّة يمكن للإيمان بالقدر أن يُنتج صرامةً أخلاقيّة وتقيّدًا بحرفيّة الشريعة وتدبير منطقي للعمل الدنيويّ، وهذا كلّه غير موجودٍ في الإسلام، فعقلانيّة الخطاب وتدبير الحياة شيءٌ غريبٌ عنه (ص: 199). بناءً على ذلك لم يؤدِّ إيمان المسلمين بالقدر إلى عقلنة مذهبهم وتدبير حياتهم، جاعلاً المسلمين جبريّين لا منطقيين. «الإسلام» من منظور فيبر تحوّل كلّياً عن التدبير المنطقيّ للحياة عبر مُعتقدات مجموعةٍ من رجال الدين أوّلاً وعبر السحر آخراً` (2006:200 Sukidi).

إذا تتبّعنا منطق فيبر إلى نتائجه النهائيّة أنّ المسلمين جبريّين لا منطقيّين، عندها لا يمكن لأيّ معرفةٍ أن تصدر عنهم. ما هي جغرافيا المعرفة السياسيّة المشمولة في عنصريّة فيبر المعرفيّة؟ جغرافيا المعرفة السياسيّة المشمولة هي رُهاب الإسلام بنظر المُستشرقين الألمان والفرنسيّين المعرفي للإسلام الذي يكرّره فيبر في حُكمه على الإسلام، فالبنسبة إليه التقليد المسيحي هو التقليد الوحيد الذي ينهض بالعقلانيّة الاقتصاديّة وبالرأسماليّة الغربيّة الحديثة. لا يمكن مقارنة الإسلام ب-«تفوّق» القيم الغربيّة لإنّه يفتقد إلى الفردانيّة وعقلانيّة العلم، فالعلم العقلانيّ والتِقانة العقلانيّة الناتجة عنه غير معروفَيْن لدى الحضارات الشرقيّة بحسب فيبر. هذه الأقوال إشكاليّةٌ

ص: 289

حيث بيّن باحثون ومنهم صليبا (2007 Saliba) وغراهام (2006 Graham) تأثير التطوّر العلميّ في العالم الإسلاميّ على الغرب وعلى العلوم العصريّة وعلى الفلسفة الحديثة، فالعقلانيّة كانت إحدى ركائز الحضارة الإسلاميّة، وعندما كانت أوروبا غارقة في أساطير ظلاميّة إقطاعيّة خلال ما يُعرف بالعصور الوسطى، كانت مدرسة بغداد المركز العالميّ للإنتاج العلميّ والفكريّ وللإبداع. منظور فيبر والمُستشرقين المتأثّرين به إلى الإسلام يُعيد إنتاج رُهاب الإسلام المعرفيّ حيث يكون المسلمون غير قادرين على إنتاج العلم أو على حيازة العقلانيّة على الرغم من الأدلّة التاريخيّة الداحضة لذلك.

إشكاليّة رُهاب الإسلام المعرفيّ هي نفسها لدى ماركس وإنجلز، فعلى الرغم من مكوث الأوّل في الجزائر لشهرين سنة 1882 للتعافي من مرضٍ ألّم به، نجده لم يكتب أيّ شيءٍ عن الإسلام، وقد كان لماركس - بحسب ما ذكر بشكلٍ مكثّفٍ في كتاباته - رؤيةً إستشراقيّة تتّسم بعنصريّةٍ معرفيّةٍ تّجاه الشعوب غير الأوروبيّة عموماً (Moore 1997)، وعِلاوةً على ذلك كتب إنجلز المُآزر له عن الشعوب الإسلاميّة معيدًا النمطيّة العنصريّة نفسها التي استعملها ماركس ضد الشعوب «الشرقيّة»، حيث نجده في استعراضه للاستعمار الفرنسيّ في الجزائر يذكر:

عموماً كان احتجاز الزعيم العربيّ بحسب رأينا أمرًا ميموناً جدًّا، فنضال البدو كان ميؤوساً منه، وعلى الرغم من أنّه يُمكن انتقاد طريقة إدارة الجنود الباطشة للحرب، إلا أنّ احتلال الجزائر يُشكّل حقيقةٌ مهمّةٌ وميمونةٌ بالنسبة إلى تطوّر الحضارة. لم تتصدّ الحكومة البريطانيّة لقرصنة الدول البربريّة ما دامت لم تتعرّض لسفنها، ولم يكن بالإمكان منع هذه القرصنة إلّا عبر احتلال إحدى هذه الدول، فاحتلال الجزائر أجبر بايات تونس وطرابلس وحتّى إمبراطور المغرب على سلوك طريق الحضارة. لقد تمّ إجبارهم على إيجاد فرص عملٍ لشعوبهم بعيدةٍ عن القرصنة... وإن كنّا نأسف على القضاء على حريّة بدو الصحراء لا يمكن أن ننسى أنّ البدو نفسهم كانوا قوماً من اللصوص - كانت وسائل تأمين معيشتهم تشتمل على غزوهم بعضهم بعضًا،

ص: 290

أو غزوهم لقرى الحضر ناهبين كلّ ما يجدونه، ذابحين كلّ من يقاومهم، وبائعين كلّ من يبقى من السجناء عبيداً. من البعيد تظهر كلّ أمم البرابرة الأحرار أنّها عزيزةٌ ونبيلةٌ ومجيدةٌ، ولكن بمجرّد الاقتراب منها نجدها تُشبه الدول الأكثر تحضّرًا منها، حيث أنّها محكومةٌ برغبة الربح، وتوظّف لأجل ذلك وسائل أكثر قسوةً وخشونةً. في الخلاصة لا يمكن إلّا أن نُفضّل البرجوازيّ الحداثيّ والحضارة والصناعة والنظام وبشكلٍ أقلّ التنوير النسبيّ المصاحب له على اللصّ الغازي الإقطاعيّ وحالة المجتمع البربريّة التي ينتمي إليها .

.(Engels، French Rule in Algiers، The Northen Star، January 22,1848, in: MECW, Vol, pp.469472-; quoted in S. Avineri (1968), Karl Marx on Colonialism and Modernization (Doubleday: New York, p. 43)

خيار إنجلز واضحٌ: دعم التوسّع الاستعماريّ الجالب للحضارة الغربيّة، حتّى ولو كان بورجوازيّاً وبطّاشًا لأجل التغلّب على الحالة «البربريّة»، وبذلك يكون تفوّق «الغرب على الباقين» وبالتحديد على المسلمين واضحٌ في هذا البيان، وهو ما نلمسه أيضاً في حديثه عن الهند حيث يُحاول إنجلز إظهار تزمّت المسلمين غير المنطقيّ في الاقتباس التالي:

حرب العصاة بدأت تأخذ الطابع الذي وسم حرب بدو الجزائر ضدّ الفرنسيّين، مع الفارق أنّ الهنود بعيدين عن التعصّب وأنّهم ليسوا أمّة من الخيّالة. (Engels: New York Daily Tribune, July 21, 1858, MECW, Vol.15, p. 583)

إن كان بقي أدنى شكٍّ في وجهات نظر ماركس التي يتشاركها مع إنجلز عن دونيّة المسلمين والشعوب «غير الأوروبيّة» قياسًا بالغرب فالاقتباس التالي هو دليلٌ آخر:

... السؤال... ليس إن كان من حقّ الإنجليزيّ احتلال الهند، ولكن إن كنّا نفضّل احتلال الترك أو الفرس أو الروس للهند على احتلالها من البريطانيّ. على إنجلترا إنجاز مهمّة مزدوجة في الهند: المهمّة الأولى تدميريّة والأخرى تجديديّة - إبادة

ص: 291

المجتمع الآسيويّ القديم ووضع الأسس الماديّة للمجتمع الغربيّ في آسيا. العرب والترك والتتار والمغُول الذين اجتاحوا الهند تباعًا تهنّدوا بسرعة، والمحتلّون البرابرة تبعًا للقانون الأبديّ للتاريخ تُخضعهم حضارة رعاياهم المتفوّقة. البريطانيّون كانوا أوّل المحتلّين المتفوّقين على الحضارة الهنديّة ومنيعين ضدها تالياً... اليوم ليس ببعيدٍ الذي سيتمّ فيه اختصار المسافة الزمنيّة بين إنجلترا والهند إلى ثمانية أيّام عبر استخدام مزيجٍ من السكك الحديديّة والسفن البخاريّة، ما سيؤدّي إلى انضمام هذا البلد الأسطوريّ إلى العالم الغربيّ...

(...Marx, «The Future Results of the British Rule in India» written onJuly 22، 1853, in Marx and Engels On Colonialism, page 81- 83)

لم يكن لدى ماركس الكثير من الأمل في الروح البروليتاريّة للجماهير المسلمة وهو ما نلمسه في حديثه عن توسّع الإمبراطوريّة العثمانيّة إلى أقاليم شرق أوروبا:

تكمن القوّة الأساسيّة للكتل السكّانيّة التركيّة في أوروبا - إذا استثنينا الاحتياط الذي يمكن سحبه من آسيا بشكلٍ دائمٍ - في غوغاء القسطنطينيّة [إسطنبول] وبضع مدنٍ كبيرة أخرى. على الرغم من أنّ هذه الغوغاء التي في جوهرها تُركيّة تؤمّن معيشتها بشكلٍ رئيسيٍّ عبر عملها لدى رأسماليّين مسيحيّين، إلّا أنّها تحافظ بغيرةٍ كبيرةٍ على التفوّق المتوهَّم وتتمتّع بحصانةٍ حقيقيّةٍ ضد التجاوزات التي يسمح بها الإسلام ولا تسمح بها المسيحيّة، ومن المعروف أنّه يجب كسب هذه الغوغاء في كلّ انقلابٍ مهمٍّ عبر الرشوة أو المديح، وهذه الغوغاء وحدها تُشكّل كتلةً سكّانيّةً تركيّةً مرصوصةً ومهيبةً في أوروبا إذا استثنينا بعض الأقاليم المُستعمَرة. عاجلاً أم آجلاً سيكون تحرير أحد أفضل أجزاء أوروبا من حكم هذه الغوغاء ضرورةً قصوى، وقد تظهر غوغاء روما الإمبرياليّة مقارنةً بها كمجموعة من الحكماء والأبطال.

(Turkey, New York Daily Tribune, April 7, 1853, written by Engels at Marx’s Request, quoted in S.Avineri (1968), Karl Marx on Colonialism and Modernization (Doubledy: New York, p.54

ص: 292

بالنسبة إلى ماركس وكذلك إلى فيبر الشعب المسلم من أصولٍ تركيّة هم غوغاء من جهلةٍ جعلوا غوغاء الإمبراطوريّة الرومانيّة يبدون حكماء مقارنةً بهم، وهو يدعو إلى نضالٍ تحريريٍّ ضدّ الغوغاء المسلمة. الحضارة الأوروبيّة بالنسبة إلى ماركس متفوّقة ولذلك عليها تحضير المسلمين غير الأوروبيّين، وفي نظره التوسّع الاستعماريّ الغربيّ أفضل من ترك شعبٍ بربريٍّ منحطٍ في مرحلةٍ لازمنيّة دون المساس به.

لم يثق ماركس بالمسلمين وكان مقتنعًا بكراهيّة الإسلام للآخر وكتب معتذراً عن الاستعمار الأوروبي ما يلي:

لن يتجرّأ أحد على التعريف بنفسه في مجتمعٍ مسلمٍ من دون أخذه بعض الإحتياطات، لأنّ القرآن يُعامل كلّ الغرباء كأعداءٍ، ولذلك ابتكر التجّار الأوروبيّون الأوائل الذين تجرّؤوا على التجارة مع مثل هذا الشعب معاهدةً إستثنائيّةً لحماية أنفسهم امتيازاتٍ في أصلها خاصّة لكنّ نطاقها توسّع لاحقًا ليشمل كلّ أمّتهم، وهذا هو أصل الامتيازات الأجنبيّة.

(The Outbreak of the Crimean War – Moslems، Christians, and Jews in the Ottoman Empire, “New York Daily Tribune, April 15, 1854, quoted in S. Avineri (1968), Karl Marx on Colonialism and Moderization (Doubleday: New York, p. 146)

ذكر ماركس مكرّرًا المنظور الاستشراقيّ العنصريّ النمطيّ السائد في زمنه:

القرآن والتشريع الإسلاميّ الصادر عنه يختزلان جغرافيا الشعوب المتعدّدة وإثنوغرافيتها إلى أمّتين عبر تمييزٍ بسيطٍ عمليٍّ؛ أمّة الإيمان وأمّة الكفر، والكافر «حربيٌ» أي العدو. الدين الإسلامي يُحرّم أمّة الكفر مؤسّساً لحالةٍ من العداء الدائم بين المسلمين والكفّار.

ص: 293

(The Outbreak of the Crimean War – Moslems، Christians, and Jews in the Ottoman Empire, “ New York Daily Tribune, April 15, 1854, quoted in S. Avineri (1968), Karl Marx on Colonialism and Moderization (Doubleday: New York, p. 144

كانت هذه الرؤية المبسّطة الماهيويّة الإختزاليّة للإسلام من منظور يهوديّ/مسيحيّ المركز، ومن منظورٍ غربيّ المحور جزءًا من عنصريّة المُستشرقين المعرفيّة وأبويّتهم المتعالية تجاه الفكر الإسلاميّ، وماركس لم يكن استثناءً حيث أنّه كان يعتقد أنّ العلمنة ضروريّة لإتاحة الفرصة للثورة في أراضي المسلمين، وذكر :

... إنّ إبطال خضوعهم للقرآن عبر تحريرٍ مدنيٍّ يُلغي في الوقت نفسه خضوعهم لرجال الدين ويُفضي إلى ثورةٍ في علاقاتهم الاجتماعيّة والسياسيّة والدينيّة... يستوجب إستبدال القرآن ب «قانونٍ مدنيٍّ» تغريب بنية المجتمع البيزنطيّ بشكلٍ كاملٍ.

(The Outbreak of the Crimean War–Moslems, Christians and Jews in the Ottoman Empire,” New York Daily Tribune, April 15, 1854, quoted in S. Avineri (1968), Karl Marx on Colonialism and Modernization (Doubleday: New York, p. 146")

منظور ماركس العلمانيّ يتبنّى استراتجيّة استعماريّة نمطيّة روّجت لها الإمبراطوريّات الغربيّة لتدمير أنماط تفكير الرعايا المُستعمَرين وطرق حياتهم لمنع أيّ شكلٍ من أشكال المقاومة. يُسقط ماركس جدليًّا أنّ المسلمين خاضعين لحُكم «الدين» كُوزْمُولُوجيَا المنظور العلمانيّ الغربيّ المركز ومسيحيّه على الإسلام، والإسلام لا يرى نفسه «ديناً» بالمعنى الغربيّ المسيحيّ الذي يضعه في حيّزٍ منفصلٍ عن السياسة والإقتصاد إلخ... الإسلام أكثر شبهًا بكُوزْمُولُوجيَا تتّبع مفهوم «التوحيد»، ويُمثّل مذهبًا وحدويًّا ولديه نظرةٌ شُموليّةٌ إلى العالم، وهذا ما طمسته الرؤية الديكارتيّة الحديثة/ الاستعماريّة الأوروبيّة المركز في الغرب، وحاولت عبر توسّعها الاستعماريّ طمسه في بقيّة العالم كذلك. كان تطبيق التنصير الاستعماري

ص: 294

في بداية العصر الحديث/ الاستعماريّ، والعلمنة في القرن الثامن عشر بعد التوسّع الاستعماريّ اللاحق جزءًا من «الحرب على المعرفة» و«الحرب على الدين»، أي اجتثاث الروحانيّة وسُبل المعرفة غير الغربيّة، وهو ما طبّقه الاستعمار الغربيّ الإستعماريّ خلال توسّعه، ف- «الحرب على المعرفة» و«الحرب على الدين» مكّنا الاستعمار من عقول/ أجساد الرعايا المُستعمَرين.

إن كانت الحجّة المخفِّفة لماركس وفيبر أنّهما منظّران تقليديّان للعلوم الاجتماعيّة، فإنّ العلوم الاجتماعيّة الغربيّة مطّلعةٌ على التحيّز المعرفيّ الأوروبيّ المركز القائم على رُهاب الإسلام. يستوجب التخلّص من الطابع الاستعماري لعلوم الاجتماع الغربيّة الكثير من العمليّاتِ المهمّة التي لا يتسنّى لنا شرحها بالتفصيل في هذا المقال، ولكنّ إحدى هذه العمليّات هي توسعة نطاق النظريّة الاجتماعيّة لتدمج مساهمات منظّري علم الاجتماع غير الغربيّين واللا استعماريّين كمكوّنٍ رئيسيٍّ فيها، ونذكر منهم بوفنتورا دي سوسا سانتوس وسلمان سيّد وعلي شريعتي وأنيبال كويجانو وسيلفيا ريفِرا كوسيكانكوي ودو بويز وسيلفيا وينْتر وغيرهم من منظّري علم الاجتماع الذين يفكّرون من الجانب الآخر [الأدنى] للحداثة. إنّ دمج هؤلاء المُفكّرين ليس مسألة تعدّديّة ثقافيّة فحسب ولكنّه ضروريٌّ لتأسيس علم اجتماعٍ لا استعماري أكثر دقّةً وتخصّصيّةً (عكس كلّيانيّة). الدكتور علي شريعتي تحديدًا هو عالم اجتماعٍ إسلاميٍّ أنتج نقدًا مهمّاً لمنظّري علم الاجتماع الغربيّين من أمثال ماركس.

ولكنّ هل هناك علم اجتماعٍ أوحد، وتالياً لا وجود لعلوم اجتماعٍ متنوّعةٍ؟ ما نعرّفه اليوم أنّه علم اجتماعٍ هو علمٌ محلّيٌّ (تقليد التفكير الذكوريّ الأوروبيّ) يحدّد للبقيّة ماهيّة علم الاجتماع وما هي المعرفة الكلّيانيّة الصحيحة. يستوجب التخلّص من الطابع الاستعماري لعلوم الاجتماع المحلّيّة المُغرّبة الإنتقال إلى حوارٍ أفقيٍّ بينيِّ المعرفة بين علماء اجتماعٍ ينتمون إلى تقاليد تفكيرٍ معرفيّةٍ مختلفةٍ، وذلك للتأسيس لعلوم اجتماعٍ لا إستعماريّةٍ جديدةٍ ضمن صيغةٍ تعدّديّةٍ بدل الصيغة الكلّيانيّة الحاليّة، وهذه مهمّةٌ صعبة ولا يُمكننا الخوض في تفاصيل ما تستوجبه في هذا المقال. إنّ

ص: 295

الإنتقال من الكلّيانيّة إلى التعدّديّة في علوم الاجتماع ضروريٌّ للإنتقال من الأنموذج الذي يحدّد فيه شخصٌ واحدٌ التعريفات للآخرين إلى أنموذجٍ جديدٍ يكون إنتاج المبادئ والمعرفة فيه نتيجةً لحوارٍ أفقيٍّ عموميٍّ بينيٍّ - معرفيٍّ، وهذا ليس نداءٌ للنسبويّة ولكن للنظر إلى الكلّيانيّة على أنّها تعدّديّة، أي أنّها نتيجةٌ للتفاعل البينيّ - المعرفيّ ضمن صيغةٍ أُفقيّةٍ عوضًا عن تفاعل علوم الاجتماع الشموليّة الحاليّة الإمبرياليّة/الاستعماريّة مع بقيّة العالم لها، وليس نتيجةٍ.

النقاشات القائمة حول رُهاب الإسلام حاضرًا

تكمن أهمّية النقاش عن رُهاب الإسلام المعرفيّ أنّ هذا الرُهاب بيّنٌ في النقاشات المعاصرة وفي السياسة العامّة، ويتجلّى حاضرًا في النقاشات حول حقوق الإنسان والديموقراطيّة العنصريّة المعرفيّة والأصوليّة الأوروبيّة المركز المصاحبة لها في النظريّة الاجتماعيّة. تُعدّ نظريّات المعرفة «غير الغربيّة» التي تحدّد حقوق الإنسان وكرامته بمفرداتٍ مختلفة عن الغرب أدنى من التعريفات «الغربيّة» المهيمنة، ويتمّ بذلك اقصاؤها عن الخطاب العالميّ حول هذه المسائل. إذا كان المفكّرون الغربيّو المحور ونظريّة الاجتماع التقليديّة يُصوّرون الفلسفة والفكر الإسلاميّ أنّهما أدنى من الغرب، تكون النتيجة المنطقيّة أنّهما لا يملكان شيئًا يمكّنهما من المساهمة في مسألة الديموقراطيّة وحقوق الإنسان، ممّا يستوجب عدا استبعادهما عن الحوار العالميّ قمعهما. المنظور الغربيّ المحور المُضمر هو أنّه بإمكان المسلمين أن يكونوا طرفًا في هذا الحوار شريطة أن يكفّوا عن التفكير كمسلمين ويتبنّوا التعريف الليبراليّ المهيمن الأوروبيّ المركز للديموقراطيّة وحقوق الإنسان، ويكون أيّ مسلمٍ يحاول التفكير في هذه المسائل منطلقاً من التقليد الإسلامي على الفور أصوليًّا وموضع شبهةٍ. الإسلام وديموقراطيّة الإسلام وحقوق الإنسان تعدّها «البديهيّة» الأوروبيّة المهيمنة تناقضاً لفظيًّا.

أساس عدم التوافق بين الإسلام والديموقراطيّة هو الحطّ المعرفيّ لرؤى الإسلام. حاضرًا نجد العديد من «إختصاصيّي» المعرفة العنصريّين في الغرب يتكلّمون بتسلّطٍ عن الإسلام من دون أن يكون لديهم أدنى معرفةٍ جديّةٍ حول التقليد الإسلاميّ. الصور

ص: 296

النمطيّة والأكاذيب التي تتكرّر باستمرار في الصحافة والمجلّات الغربيّة تنتهي بتصديقها كما في نظريّة غوبِل النازيّة عن البروبغندا، وهذا ما ذكره إدوارد سعيد منذ فترةٍ ليست ببعيدة:

هناك جماعةٌ من الخبراء المختصّين بالعالم الإسلاميّ الذين اكتسبوا شهرةً عبر استدعائهم للحديث بشكلٍ أبويٍّ عن أفكارٍ نمطيّةٍ في البرامج الإخباريّة أو الحواريّة. كما يبدو أنّه هناك إعادة إحياءٍ غريبٍ لأفكار المستشرقين المُعتمدة حول المسلمين التي تمّ تكذيبها سابقاً، وهي عموماً أفكارٌ شعبويّةٌ صادرةٌ عن غير البيض، وتُحقّق حُضورًا لافتًا في زمنٍ لم يعد تشويه الثقافات الأخرى العنصريّ الدينيّ يتمتّع بأيّ حصانةٍ. التعميمات الكيديّة عن الإسلام غدت آخر شكلٍ من أشكال استصغار الثقافات الأخرى المقبولة في الغرب. ما يُقال عن العقل المسلم أو الشخصيّة المسلمة أو الدين الإسلاميّ أو الحضارة الإسلاميّة عامّةً لم يعد ممكناً قوله في النقاش العامّ عن الأفارقة أو اليهود أو الآسيويّين أو المشرقيّين الآخرين ... إحتجاجي... أنّ معظم هذا التعميم غير مقبولٍ وغير مسؤولٍ إلى أقصى الدرجات ولا يُمكن استخدامه في النقاش حول أيّ مجموعةٍ دينيّةٍ أو ثقافيّةٍ أو سكّانيّةٍ أخرى في العالم. ما نتوقّعه من أيّ دراسةٍ جديّة للمجتمعات الغربيّة تشتمل على نظريّاتٍ معقّدةٍ وتحليلٍ شديدِ التنوّع للنَظم الإجتماعيّة وللتاريخ وللتنظيمات الحضاريّة وللغات التحقيق المتمرّسة، يجب أن نتوقّعه أيضًا لدى دراسة المجتمعات الإسلاميّة في الغرب والنقاش حولها.(1998: Said xi-xvi)

تدوير هذه الصور النمطيّة يُساهم في تصوير المسلمين أنّهم أدنى عرقيًّا وأنّهم مخلوقاتٌ عنيفةٌ - وبذلك يسهل ربطهم ب- «الإرهاب» وإظهارهم بشكل «الإرهابيّ».

ص: 297

.(Ernst، Carl W. 2003. Following Mohammad: Rethinking Islam in the Contemporary World. (The University of North Carolina Press، Chapel Hill y Londres

.(Graham، Mark. (2006). How Islam Created the Modern World (AmanaPublications: Beltsville، Maryland

.(Grosfoguel، Ramon (2003) Colonial Subjects. (California University Press: Berkeley

-Grosfoguel، Ramon. (2008a). “Para descolonizar os estudos de economia política e os estudos pós-coloniais: Transmodernidade، pensamento de fronteira e colonialidade global” Revista Crítica de Ciências Sociais، numero 80 (março): 115

147English version: http//:www.eurozine.com/pdf04--07-2008/grosfoguel-en. pdf

Grosfoguel، Ramon. (2008b). “La longue intrication entre islamophobie et racisme dans le system mondial moderne/colonial/ patriarcal” in Mohamed Mestiri، Ramon Grosfoguel and El Yamine Soum (eds) Islamophobie dans le Monde

.(Moderne(Paris: IIIT France and UC-Berkeley

.Grosfoguel، Ramon. (2009). “Human Rights and Anti-Semitism After Gaza،” Human Architecture: Journal of the Sociology of Self- Knowledge، Vol. VII، issue No. 2 (Spring):101-89

.(Hills Collins، Patricia. (1991). Black Feminist Thought: Knowledge،Consciousness and the Politics of Empire (Routledge: London

.(Maldonado-Torres، Nelson. (2008a). Against War. (Duke University Press، Durham

،Maldonado-Torres، Nelson. (2008b). “Religion، Conquête et Race dans la Fondation du monde Moderne/Colonial” in Islamophobie dans le Monde Moderne، Edited by Mohamed Mestiri، Ramon Grosfoguel y El Yamine Soum. IIIT

.-París; 205238

ص: 298

Moore، Carlos (1977، 2nd edition). Where Marx and Engels White Racists?: The Proletaryan Outlook of Marx and Engels (Institute of Positive Education: Chicago، Illinois) http://pdfserve.informaworld.com/411649_915549761_745946075.pdf

Perceval، Jose María. (1992). “Animalitos del señor: Aproximación a una teoría de las animalizaciones propias y del otro، sea enemigo o siervo، en la España imperial 1650-1550))” in Areas: Revista de Ciencias Sociales (Universidad de

.-Murcia)، No. 14: 173184

.PERCEVAL، José María. (1997). Todos son uno. Arquetipos، xenofobia y racismo. La imagen del morisco en la monarquía española durante los siglos XVI y XVII. Almería: Instituto de Estudios Almerienses

.(Said، Edward. (1998). Covering Islam: How the Meida and the Experts Determine How We See the Rest of the World (Vintage Books: New York

.Sukidi (2006). “Max Weber’s remarks on Islam: The Protestant Ethic among Muslim puritans،” Islam and Christian-Muslim Relations،205–195 ،2 :17

.(Saliba، George. (1997). Islamic Science and the Making of the European Renaissance (MIT Press: Boston (MIT Press: Boston

ص: 299

إمبريالية الفن السابع

اشارة

مجتمعنا في مرمى هوليوود

حيدر محمد الكعبي

حيدر محمد الكعبي (1)

تمثل الأعمال السينمائية مادة إعلامية لها تأثير كبير وفاعل في مجال التثقيف والتعليم وتشكيل الرأي العام، ولم يقف هذا اللون من الإنتاج الفني عند حدود التسلية والترفيه فحسب، وبخاصة في العقود الأخيرة التي قفزت فيها السينما إلى مديات أكثر تطوراً على صعيد السيناريو والإخراج والتمثيل.

وفي عصر ثورة الاتصالات لم تتوانَ شركات الإنتاج السينمائي الكبرى عن اغتنام هذه الفرصة لتحقق انتشاراً يليق بها على المستوى العالمي، ونتيجة لذلك صارت عقائد وأخلاق كثير من المجتمعات البشرية - بما فيها مجتمعاتنا الإسلامية - تحت طائلة تأثيرها القوي، مما يجعلنا معنيين بدراسة تأثيرات هذا الجانب من الفنون دراسة جادة أكثر من أي وقت مضى.

ولما كانت السينما الأميركية (هوليوود) هي المصنع الأبرز للإنتاج السينمائي

ص: 300


1- باحث إعلامي من العراق - النجف الأشرف.

العالمي، ونظرا لما تتمتع به من خصائص فريدة، فينبغي أن تكون هي الهدف الأبرز لاهتماماتنا في هذا المجال، على الأقل في الوقت الحالي والمستقبل المنظور.

إن البيئة الاجتماعية الأميركية المتحررة قد فسحت مجالاً واسعاً أمام شركات هوليوود السينمائية لتعمل من دون ضوابط دينية أو أخلاقية، مما أدى إلى انتشار إنتاجٍ سینمائي يبث أفكاراً وثقافات تؤثر بشكل سلبي كبير في عقائد مجتمعاتنا المسلمة التي يصلها هذا الإنتاج وسلوكياتها.

ولكن المشكلة أن قوة الإنتاج السينمائي لهوليوود يجعل من مضمونه السيء أمراً مستساغاً لدى الجمهور، وهنا مكمن المشكلة، فهو أمر شبيه بدس السم في العسل، علماً أن ذلك لا يختص بالمنتوج السينمائي فقط وإنما يمثل سمة الإعلام المعاصر بشكل عام، هذا مع قطع النظر عن نشر الجنس والعنف اللذين صارا علامة مميزة للسينما الأميركية.

فن التأثير السينمائي:

ليس من مجال للشك في أن فن الترفيه الإعلامي يعد أحد أهم الأساليب تأثيراً في مجال التوجيه الفكري وصناعة الثقافة، إذ يتوافر على عناصر جاذبة تستبطن رسائل فكرية يجعلها تنفذ بقوة إلى العقول والقلوب على حد سواء، ولم يكن المؤرخ «إريك بارنو Eric Barno» (1) يجانب الصواب حينما قال: (إن مفهوم الترفيه في تصوري هو مفهوم شديد الخطورة، إذ تتمثل الفكرة الأساسية للترفيه في أنه لا يتصل من بعيد أو قريب بالقضايا الجادة للعالم وإنما هو مجرد شغل أو ملء ساعة من الفراغ، والحقيقة أن هناك ايديولوجية مضمرة بالفعل في كل أنواع القصص الخيالية، فعنصر الخيال يفوق في الأهمية العنصر الواقعي في تشكيل آراء الناس) (2) .

ص: 301


1- إريك بارنو: مؤرخ تلفزيون أمريكي، انتخب رئيساً لنقابة الكتاب الأميركية في عام 1957 وخدم في مجلس محافظي أكاديمية الفنون والعلوم التلفزيونية في عام 1978 أصبح رئيساً لمكتبة الكونغرس للصورة السينمائية، وقد كتب عنه رئيس التحرير السابق لمجلة نيوورك تايمز شيلدون ماير قائلا: «كان بارنو عيناً على الأوغاد والأشخاص الخطرين وقد بلغت عبقريته أجيالاً من الأمريكيين عبر موجات الأثير الإذاعي وعلى شاشات التلفزيون وفي قاعات الدراسات.
2- ينظر: المتلاعبون بالعقول لهربرت أ. شيللر: 96.

ويعزز كلام «بارنو» ما أشار إليه «هربرت أ. شيللر Herbert Schiller» (1) قائلاً: (إن التسلية هي التعليم والتعليم هو الأيديولوجية، ويشير «روبرت شايون» محرر التلفزيون في ال-«الساترداي ريفيو» إلى أن: برامج التسلية تلمح للجمهور بالطريقة التي يتعين أن يتبعها في تحديد ما هو جدير بالاحترام في مجتمعنا والكيفية التي يتصرف بها، إنها في الواقع أشكال من التعليم، من تلقين المبادئ) (2).

والسينما.. الصناعة الفنية التي تطورت بشكل مذهل خلال مدة قياسية من تاريخ البشر (3) تعد من أكثر صناعات الترفيه تأثيراً في هذا المجال، بعد أن تربعت بجدارة على عرش الفنون الإنسانية بعد أن صهرتها في ذاتها بشكل متقن (4) .

وعليه فليس من الغريب أن يؤكد الباحث الدكتور حسن عباسي (5) في محاضرة له قائلاً: (إن صناعة الحضارات والمجتمعات تتركز على رسم خريطة لها، وفي هذه الايام فإن العامل الرئيس لرسم هذه الخرائط يكمن في مضامين المسلسلات وبشكل أخص في الأفلام .. لقد مضى ذلك الزمن الذي كان الفلاسفة فيه يكتبون كُتباً لإعداد المجتمعات، اذ تحوّل أسلوب الفلاسفة إلى ما يشبه أسلوب المخرجين أو الممثلين

ص: 302


1- هربرت شیللر: ناقد وعالم اجتماع وباحث أميركي، حصل على درجة الدكتوراه عام 1960 من جامعة نيويورك، حذر من اتجاهين رئيسين في كتاباته الغزيرة والخطب: الاستيلاء الخاص على الفضاء العام والمؤسسات العامة في الوطن، وهيمنة الولايات المتحدة على الشركات التي تؤثر في الحياة الثقافية في الخارج، وبخاصة في الدول النامية. له ثمانية كتب ومئات المقالات في كل المجلات العلمية والشعبية جعلت منه شخصية رئيسة في كل من أبحاث الاتصالات وفي النقاش العام حول دور وسائل الإعلام في المجتمع الحديث.
2- المصدر نفسه ص 118.
3- يقال إن أول دار سينمائية ناجحة أنشئت على يد الفرنسي «لويس لوميير» في العام 1895 في «المقهى الكبير» شارع «الكبوشيين» في «باريس» إذ شرع (لوميير) بعد اختبارات عدة اثمرت عن صناعته لجهاز أسماه «السينماتوغراف» ومنه اشتقت كلمة «سينما» ليحقق «لوميير» بذلك آلة عرض سينمائية تفوقت على تجارب سابقة في هذا المضمار، وفي أواخر سنة 1896 خرجت السينما نهائياً من حيز المخابر وتعددت الآلات المسجلة مثل آلات «لوميير» و «ميلييس» و «باتيه» و «غومونت» في «فرنسا»، و «أديسون» و «البيوغراف» في «الولايات المتحدة» و أمّا في «لندن» فقد أرسى «ویلیام بول» قواعد الصناعة السينماتوغرافية حتى صار ألوف الناس يزدحمون كل مساء في قاعات السينما المظلمة (ويكيبيديا).
4- اطلق الناقد الفرنسي «ريتشيوتو كانودو» اسم (الفن السابع) على السينما، لأنها في نظره عبارة عن الفن التشكيلي فى حركة .. تأخذ شيئا من طبيعة «الفنون التشكيليّة» وشيئا من طبيعة «الفنون الإيقاعيّة» في الوقت نفسه.
5- الدكتور حسن عباسي استاذ ايراني في العلوم الاستراتيجية، ورئيس مركز الدراسات الاستراتيجية المذهبية.

أو كتّاب السناريوهات، ففي الواقع إن الرائدين في مجال إعداد حضارة المجتمع هم الممثلون والفنانون في ساحة التمثيل اليوم) (1) .

كيف تؤثر السينما في عقولنا؟

كيف تؤثر الدراما التلفزيونية والسينمائية في النفس البشرية؟ سؤال يبدو محيراً بعض الشيء، لأننا عندما ننظر إلى الأغلبية الساحقة من البشر الذين يتابعون هذه الدراما نجدهم يتعاملون معها بمشاعر حقيقية، ففي أثناء مشاهدتهم مسلسلاً أو فيلماً ما تجدهم يصابون بالخوف أو الترقّب أو الفرح أو الحماسة أو الحزن إلى حد البكاء، مع أن الجميع يعلم - بما فيهم المشاهدون أنفسهم - أن ما يشاهدونه مجرد تمثيل كاذب لا واقع له.

وربما تسهل الإجابة عن هذا التساؤل إذا علمنا الآليات التي يتعامل بها العقل البشري مع المنتوجات الإعلامية ومنها الدراما التلفزيونية والسينمائية، وقد أشار إلى هذه الآليات الباحث (أليكس انصاري Alex Ansary) (2) حيث قال : (يتم استغباء البشر عبر مشاهدة التلفزيون بصورة أخرى من خلال إلغاء نشاطات الجهات العليا في الدماغ (القشرة المخية الحديثة Neocortex) (3) وتحفيز الجهات السفلى في الدماغ (الجهاز الحوفي limbic system) (4) ، وهذا المشروع يسمى ب-(دماغ الزواحف reptilian brain) لأنه يرتبط بردود الأفعال البدائية للحيوانات الزاحفة كالمواجهة والهروب، لأن دماغ الزواحف ليس لديه القدرة على تمييز الصور الحقيقة من الصور المجازية أو المزيفة، ونتيجة لذلك فإننا نعرف أن ما نشاهده من أفلام هو مجرد أفلام، أما في العقل الباطن (اللاواعي) فإننا نؤمن بأن ما نراه حقيقة.

ص: 303


1- اقتباس من محاضرة للدكتور عباسي القاها في قاعة مركز لارسباران الثقافي كمقدمة لتحليل المسلسلات الدرامية الاستراتيجية.
2- باحث اعلامي إيراني الاصل يحمل الجنسية الامريكية.
3- هي الطبقة الخارجية من نصف كرة المخ، تتكون لدى الأنسان من ست طبقات من الخلايا العصبية، سميت بالقشرة الجديدة لكونها تقع في أعلى مراتب التطور في التصنيف العام للكائنات الحية. وتعقيد تركيبة الطبقات الست هو ما يميز الأنسان من باقي الكائنات الحية.
4- هو الجهاز المسؤول عن السلوكيات العاطفية والانفعالية والذاكرة المرتبطة بها.

وكمثال على ذلك، فإننا حينما نشاهد مشهداً مؤثراً تزداد سرعة نبضات قلبنا، وعندما نشاهد إعلاناً ترويجياً عن بضاعة معينة نعرف أن المنتجين يريدون من خلال ذلك تصريف بضاعتهم، ولكننا في الوقت نفسه لا نشعر بالراحة حتى نشتري تلك البضاعة، وإلا فإننا سنشعر في أعماقنا بالنقص، لأن تأثير ذلك تأثير قوي يعمل على أعمق محطات ردود الأفعال لدى الإنسان، فدماغ الزواحف يجعلنا طيّعين أمام منتجي البرامج، ومن هنا يتأتىّ لهؤلاء أن يستخدموا قدراتنا العاطفية لأجل السيطرة على عقولنا، وفي العادة لا نستطيع أن نكتشف كيف يسيروننا بواسطة العقل الباطن اللاوعي (...) وتستمر هوليوود بتخويفنا عبر الأفلام التي تتضمن مواضيع المافيات والعصابات والعمال المجرمين الذين يسجنون بسبب غبائهم وطمعهم، وفي النهاية تستعد أذهاننا لتقبل الحياة في المجتمع البوليسي الذي يتمحور على الاقتصاد، لأننا قرأنا عنه في الصحف وشاهدناه في الأفلام ونشرات الأخبار، وتم تمجيده في البرامج الحوارية، والآن تنتج أفلاما عديدة تثبت أن ما حدث في 11 سبتمبر هي أحداث حقيقية وليست مزيفة كما تم تزييف الوقائع التي أدت إلى الحرب على العراق) (1) .

من جانب آخر يضع الكاتب (أبو حب الله) في تقرير مفصّل له شرحا لآليات تأثير الأفلام السينمائية في نفوس مشاهديها قائلاً: (في الوقت الذي نجد القارئ أو السامع في العادة ما يكون على دراية كافية بما سيختاره قبل قراءته أو سماعه، وأن شخصية (الكاتب) أو (الخطيب) أو (المذيع) دوماً ما تكون معروفة التوجه والمنهج، فإن الأمر يختلف كثيرًا مع الأفلام السينمائية للأسف والتي تتغير توجهات أفرادها (مخرجين أو ممثلين) في كل مرة حسب القصة والسيناريو الذي تم اختياره لإنتاجه، فإذا وضعنا في الاعتبار أن النسبة الأكبر لاختيار فيلم ما هي التي تعتمد على جاذبية البوستر أو (التريلر الإعلاني (Trailer) (2) : فإن ذلك يجعل مِن الفيلم غالباً مُفاجأة (غير معلومة المحتوى) إلا عند المُشاهدة الكاملة لأول مرة، ومِن هنا فدس (السُم في الدسم) هو مِن أخطر ما يتم تمريره مِن خلال تلكم الأفلام...

ص: 304


1- مقال بعنوان (السيطرة الواسعة على الاذهان عبر شبكة التلفاز .. هل تملكون أفكاركم؟) لألكس انصاري نشرته مجلة سياحة الغرب في العدد- 124 ترجمة: موقع سيستم يار / مجلة سياحت غرب.
2- الدعاية الترويجية للفيلم.

كذلك مِن المعلوم أن كل عمل فني هو عمل «وحدوي الاتجاه» أي:

يتم عرض الأمور فيه مِن وجهة نظر واحدة فقط وهي وجهة نظر صاحبها - حيث هو وحده الذي يُقرر أحداثها ومواقفها، وهو وحده الذي يرسم صورة المظلوم مِن الظالم، وتحديد الطرف القوي الحُجة مِن الأضعف والحسن مِن القبيح والبداية مِن النهاية، وبذلك: فهو المتحكم الوحيد فيما سيتم عرضه على المتلقي وكذلك فيما سيتم حَجبه عنه - وهو ما يُعرف بأسلوب (حارس البوابة Gate keeper) - والأفلام في ذلك هي مِن أقوى المؤثرات بسبب طبيعتها الجذابة، والتي تحمل المُشاهد ليعيش أحداثها ويتفاعل معها لتتجسد في عقله وخياله الخاص، ولهذا نجد أن مَن تأثروا بها في حياتهم فإنما أبصروا في الحقيقة بعين المؤلف أو المخرج لا بأعينهم هم، وأنهم اعتنقوا أفكاره على غير نقاشٍ مُحايد...

وأما أخطر ما في هذه الأفلام فهو في حال عرضها على القنوات الرسمية لتصل إلى أكبر قدر ممكن مِن الناس، حيث لا يتم حذف مقاطعها الخبيثة (فكرياً) وعلى غرار ما يتم حذفه مِن مقاطعها (الجنسية) وبذلك نلمس مدى عمق تأثيرها وهي التي لن تخاطب فئة معينة مِن الناس كالمثقفين مثلاً، أو لن تخاطب كبارًا فقط قد صقلتهم خبرات الحياة فيرُدون شبهاتها، بل سيراها أطفال اليوم شباب الغد - وهم أكثر الفئات العُمرية تقبلاً وتقليدًا وتأثرًا بما يشاهدونه ويسمعونه لو لم يُحذرهم مِنه أحد - ولذلك .. فإن المرءَ ليُشفق على بعض هؤلاء أمام احترافية (الخداع النفسي) و (المُغالطات المنطقية Logical fallacy) التي يستخدمهما الملحدون واللادينيون دومًا في زعزعة الإيمان أو التشكيك في الأديان أو الطعن في الخالق، وبحيث يتم تمرير قبح الإلحاد وستر عوراته الفكرية في غفلةٍ مِن القوم) (1) .

ويشير الكاتب (أبو حب الله) إلى أن تقليد الأفلام السينمائية يعد من أهم أسباب تأثير الأفلام السينمائية في تغيير مفاهيم المشاهدين ومعتقداتهم فيقول: (أثر «تقليد»

ص: 305


1- تقرير بعنوان (السينما واللاوعي والخطاب الشعبي للالحاد) نشرته مجلة البراهين في عددها الثاني 2014.

الأفلام السينمائية في تغيير المفاهيم والمعتقدات... يُعد أقوى آثار الأفلام على الإطلاق هو ما يُعرف ب- «التحفيز على التقليد»، حيث يتم تقديم (القدوة) للمُشاهدين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة وكما هو معروف مِن أبسط أساسيات التعليم - ومِنه جاء معنى كلمة التعليم في اليابان (كيو إكو) حيث (إكو) تعني تربية الطفل و(كيو) تعني التشجيع على التقليد - ويكون تحفيز تقليد الأفلام في صورتين:

1 - إما أن يكون لحظيًا سريعًا صادمًا (بسبب مقولةٍ ما مثلاً أو مشهدٍ ما مِن الفيلم أو حتى مضمون الفيلم بأكمله): فتتغير بسببه حياة المُشاهد وربما إلى آخر حياته.

2 - أو يكون بطيئًا ومُتدرجًا.. وذلك حسب عمق الفكرة المُتسربة إلى عقل المُشاهد، أو نتيجة المنظومة النفسية المدروسة القائمة على تكرار مُشاهدة الشيء المُعين لزرع التعوّد عليه وتبنيه - مثل تكرار مَشاهد الجنس مثلاً أو مَشاهد اللامبالاة بمشاعر الآخرين أو مَشاهد القتل والتعذيب والدماء أو مَشاهد الاستخفاف بالدين والأخلاق.

فالتحفيز على التقليد: يقع في حال تطابق أفكار الفيلم مع (مشاعرَ كامنةٍ) أو (ميولٍ خفيةٍ) أو (رغبة إثبات النِدّية أو القدرة على المُحاكاة) داخل نفس المُشاهد، فعندها يُشجعه الفيلم على إخراجها أو إظهارها على أرض الواقع سواء بالخير أو بالشر) (1) .

هوليوود (2) رأس الهرم السينمائي:

إذا شككنا في مقدار التأثير الدرامي في التوجيه والتعليم وتشكيل الرأي العام، فلن يقصر الدور المشهود لصناعة (هوليوود) السينمائية عن إزالة هذا الشك، فهوليوود التي تربعت على عرش الإنتاج السينمائي في العالم كان لها الدور الأبرز في جعل أميركا هي أميركا التي نعرفها اليوم: الأمة التي تؤثر سياستها وثقافتها في الشعوب كافة.

ص: 306


1- المصدر نفسه.
2- هوليوود عبارة بلدة صغيرة تقع في مقاطعة لوس اأجلس التابعة لولاية كاليفورنيا الأمريكية، أسست في العام 1853 كبلدة تستقطب المزارعين وأصحاب التجارة، ظهر عليها الاهتمام بصناعة السينما بشكل تدريجي بطيء منذ العام 1910، وفي أثناء الحرب العالمية الأولى أصبحت هوليوود مركز الانتاج السينمائي، إذ بنيت فيها خلال الحرب استوديوهات ومختبرات سينمائية.

وفي هذا الصدد يروي لنا الكاتب (مارك وبر Mark Weber) (1) تجربة لطيفة حصلت له بصدد تأثير هوليوود الثقافي على الشعوب قائلاً: (لقد تسنى لي أن أسافر إلى إيران في شهر سبتمبر الماضي مع ثمانية أشخاص لحضور مؤتمر "أفق نو"، وحينما كنا جالسين في أعلى برج ميلاد في طهران لتناول الطعام دار بيننا كلام حول عادات وتقاليد بعض الشعوب، وفوجئت بمداخلة شاب إيراني في عقد الثلاثينات من العمر قائلاً: الأميركيون أناس رشيقون وذوو أجسام أنيقة، فقلت له باستغراب: الجميع يعلم بأن الشعب الأميركي من الشعوب التي تعاني من السمنة المفرطة، فكيف تقول هذا؟ فأجاب: هذا ما شاهدته في الأفلام الأميركية، دائما يظهرون فيها بأناقة ورشاقة. لم يكن ذلك الشاب غبياً أو بليداً، ولكن كشف لي مدى تأثير ونفوذ هوليوود في المجتمعات حول العالم، ومدى تمكنها من بسط سيطرتها على عقول الشعوب وتغيير الحقائق، ومن خلال لقاءات متعددة مع أشخاص آخرين اكتشفت أن لديهم جميعا أفكاراً حسنة وفي بعض الأحيان غريبة عن المجتمع الأميركي... ومما زاد في استغرابي أن الشعوب التي تتظاهر بأنها صديقة لأميركا تحمل في الواقع أفكاراً سلبية عن أميركا أكثر من الشعوب التي تتظاهر بأن أميركا عدوة لها) (2) .

إن هذا التأثير العالمي لم يكن وليد فراغ، ولكنه جاء نتيجة لاهتمام حقيقي بهذه الماكنة الإعلامية الضخمة، بحيث أصبحت جزءاً لا يتجزأ من المنظومة السياسية الأساسية للكيان الأميركي العام.

لذا يؤكد الباحث عبد الحليم حمود في كتابه (سينما الدعاية السياسية) قائلاً: (كانت وزارة الدفاع الأميركية التي يطلق عليها في ذلك الوقت «وزارة الحرب» تنفق سنويا مبلغ 50 مليون دولار - وهذا مبلغ كبير جداً في ذلك الوقت- على إنتاج أفلام في أثناء الحرب العالمية الثانية من أجل ترويج الدعايات الحربية التي ترغب بها

ص: 307


1- مدير معهد مراجعة التاريخ، درس التاريخ في جامعة إلينوي في شيكاغو وجامعة ميونيخ وجامعة الولاية في بورتلاند وحصل على درجة الماجستير في الآداب من جامعة إنديانا عام 1977. وعمل لمدة تسع سنوات رئيساً لتحرير النشرة الدورية لمعهد مراجعة التاريخ.
2- مقال بعنوان (ورقة أعمال هولييود والأيادي الخفية خلف الكواليس) لمارك وبر نشرتها مجلة سياحة الغرب في العدد 122.

المصالح الأميركية داخل الولايات المتحدة وخارجها... فهوليوود كانت على الدوام مع توجهات وتوجيهات وسياسات كل الإدارات الأميركية الجمهورية والديموقراطية على السواء، إن هوليوود خاضت مع الإدارة كل حروبها وكانت معها في كل معاركها، ووقفت إلى جانبها في كل العهود والمواقف والملمّات، ليس ثمة صناعة سينمائية وتلفزيونية في العالم لعبت الدور الذي تلعبه هوليوود، لا من حيث قدرتها على الإبلاغ والتأثير ولا من حيث سلطتها على العقول والقلوب، دورها الإيديولوجي الإعلامي الدعائي لا يضاهى، وهي حاضرة في زمني السلم والحرب، حاضرة مع جيوش أميركا في ساحات القتال وحاضرة عندما تعجز هذه الجيوش وحدها عن فرض مشيئة أمريكا.

في كتابه «الفوضى» يقول «زبينيو برجنسكي» إن (القوة الأميركية بحد ذاتها ليست كافية لفرض المفهوم الأميركي لنظام عالمي جديد) لا بد إذن إلى جانب القوة المادية السياسية والاقتصادية والعسكرية من اللجوء إلى قوة أخرى قد تكون أشد فعالية هي قوة الدعاية والترغيب والإقناع واستمالة العقول والقلوب، وهل هناك أفضل من هوليوود - وهي مصنع السينما والتلفزيون - للقيام بمثل هذه المهمة؟

إيديولوجية هوليوود هي أميركا نفسها، هي قيم أميركا والإيمان بها وتغذية النزعة الليبرالية الرأسمالية حيث يسود قانون الأقوى) (1).

وتأكيداً على العلاقة الوطيدة لهوليوود بمصادر القرار السياسية فقد ذكر (ديفيد ال. راب David rap) في كتابه (عملية هوليوود) قائلا: (هوليوود والبنتاغون لديهما تعاون قديم في صناعة الأفلام، وهذه سنة من السنن القديمة تاريخها يعود منذ عهد الأفلام الصامتة وحتى عهدنا الحاضر، وهذا التعاون كان مفيداً لكلا الطرفين، المنتجون في هوليوود يحصلون على كل شيء يريدونه - مثل المعدات العسكرية التي تقدر بمليارات الدولارات كالدبابات والطائرات العمودية والحربية والغواصات النووية وحاملات الطائرات العملاقة - ويحصل

ص: 308


1- سينما الدعاية السياسية للكاتب عبد الحليم حمود: 7.

الجيش على غاياته - مثل الأفلام التي تعطي صورة محسّنة عن الجيش والأفلام التي تسهم في استخدام القوة بوساطة العسكر - والبنتاغون لا يمارس فقط دور الراعي لهذه الأفلام بل يقترح ويشرف على كتابة السيناريو في الأفلام إذا كانت غیر مقنعة بالنسبة له حتى يضمن لهم رعاية الجيش والقوات العسكرية، وفي بعض الأحيان تكون هذه المقترحات بسيطة، ولكن في بعض الأحيان تكون كبيرة إلى حد تغيير السيناريو بالكامل أو تغيير طاقم الفيلم، ويصل إلى حد تحريف التاريخ في بعض الأحيان) (1) .

وعلى هذا الأساس يعود الدكتور حسن عباسي ليؤكد على أن النظام الفكري في أميركا ليس شيئاً آخر غير هوليوود، لذا فإن أهمية هوليوود وصناعتها للأفلام التي تشكل الحضارة في كفّة، وكل الصناعات والاقتصاد والقوة العسكرية في هذا البلد في كفّة أخرى) (2).

لذا فلا غرابة أن يصرح الرئيس الأميركي روزفلت وهو يفتتح هوليوود عند إنشائها: «من هنا سنصنع عظمة أميركا»، ويقول الرئيس الأميركي بوش الأب الذي أشرف على هندسة المراحل الأخيرة من الانهيار السوفييتي إن مدير شركة (مترو جولدن ماير)، إن الهمبرجر والجينز وهوليوود وشركات السكاير هي التي حسمت الحرب الباردة لصالح أمريكا (3).

شركات الإنتاج في هوليوود:

إن قوة هوليوود الحالية تفوق أضعاف قوتها مقارنة بالماضي، ليس لأن عالم اليوم بات قرية واحدة حسب، وإنما لأن الشركات المنتجة لأفلام هوليوود صارت أكثر اندماجاً بعضها مع بعض مما يجعلها أكثر قدرة على صناعة الرأي العام أو توجيهه،

ص: 309


1- اقتباس لألكس انصاري في مقال (السيطرة الواسعة على الاذهان عبر شبكة التلفاز)- مصدر سابق
2- اقتباس من محاضرة ألقاها د. عباسي في قاعة مركز لارسباران الثقافي - مصدر سابق
3- ينظر: مقال تحت عنوان (كم خسر العمل الإسلامي بموت مصطفى العقاد؟) للكاتبة نجدت لاطة- رابطة أدباء الشام.

وهذا ما صرح به إمبراطور الإعلام الشهير «روبرت مردوخ Rupert Murdoch» (1) قائلا: (إن قوة وتأثير وسائل الاتصال أكبر من أي وقت مضى ويرجع ذلك إلى ظهور اتجاهين مترابطين في بناء صناعة الاتصالات وهما: التكتلات الإعلامية المركزية والمدمجة، فالإنتاج في قطاع الاتصالات الثقافية والإعلامية مركّز بشكل متزايد في أيدي شركات كبرى قليلة متماثلة في قطاعات مركزية مدمجة) (2) .

وللتعرف إلى أهم الشركات السينمائية العملاقة والمدمجة التي تتربع على عرش هوليوود نورد تقريراً نشره موقع ساسة بوست الالكتروني جاء فيه: (إذا رتبنا شركات صناعة الأفلام عبر التاريخ فستحتل شركة (وارنر بروس Warner Bros) المرتبة الأولى عالميّاً، فقد جنت هذه الشركة إجمالي 37،7 مليار دولار أميركي منذ إنشائها عام 1923، قامت الشركة بإنتاج 848 فيلماً مختلفًا، كان أبرزها على الإطلاق هو فيلم (فارس الظلام the dark Knight) الذي حصد مليار دولار أميركي منذ إطلاقه عام 2008، ومن الأفلام الشهيرة الأخرى لهذه الشركة كانت سلسلة أفلام (هاري بوتر) وفيلم (القناص الأميركي).

وتأتي في المركز الثاني شركة (بوينا فيستا Buena Vista) التي تمكنت من حصد 34،8 مليار دولار أميركي منذ تأسيسها عام 1953، قامت هذه الشركة التابعة لمجموعة والت ديزني الشهيرة بإنتاج 612 فيلماً كان أبرزها النسخة الأحدث من سلسلة (حرب النجوم the force awakens :star wars) والذي حقق إجمالي 1،5 مليار دولار منذ إطلاق الفيلم في دور العرض عام 2015، ومن بين الأفلام الشهيرة لهذه الشركة أفلام (أفينجرز) و (توي ستوري).

في المرتبة الثالثة تأتي شركة (سوني كولومبيا Sony / Columbia) والتي تمكنت

ص: 310


1- كيث روبرت مردوخ: رجل أعمال أسترالي أمريكي يهودي، يعد قطبا من أقطاب التجارة والإعلام الدولي، وهو مؤسس ورئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي للشركة القابضة للإعلام الدولي نيوز كوربوريشن News corporation التابع لها قناة فوكس نيوز الاخبارية المشهورة بمناصرتها المطلقة لإسرائيل وعدائها الشديد للقضية الفلسطينية، وتعد شركة نيوز كوربوريشن ثاني أكبر تكتل لوسائل الإعلام في العالم.
2- ينظر: استراتيجيات الدعاية والحملات الإعلانية للدكتور أشرف فهمى خوخة ص 129.

من حصد 32,7 مليار دولار أميركي منذ تأسيسها عام 1924، قامت الشركة بإنتاج 873 فيلماً كان أبرزها وأعلاها في الدخل هو فيلم (الرجل العنكبوت Spider-Man) الذي حقق مبلغ 821 مليون دولار منذ إطلاقه في دور العرض عام 2002، ومن الأفلام الشهيرة أيضًا لهذه الشركة (رجال في الظلام men in black) و(هانكوك Hancock).

في المرتبة الرابعة تأتي شركة باراماونت (Paramount) والتي جمعت إجمالي 30،8 مليار دولار منذ تأسيسها عام 1912، الشركة قامت بإنتاج 607 أفلام كان أشهرها وأعلاها دخلاً الفيلم الشهير (تايتانيك Titanic) الذي تمكن من حصد إجمالي 2,2 مليار دولار أميركي منذ عرضه عام 1997، ومن الأفلام البارزة أيضًا لهذه الشركة أفلام (ترانسفورمرز Transformers) و (شريك Shrek) و (آيرون مان Iron Man).

في المركز الخامس تأتي شركة (يونيفرسال Universal) بإجمالي 29,9 مليار دولار تقريباً منذ تأسيس الشركة عام 1912، الشركة قامت بإنتاج 659 فيلماً كان أشهرها فيلم (حديقة الديناصورات Jurassic Park) الذي حقق إجمالي 1،7 مليار دولار منذ عرضه عام 2015، ومن الأفلام الشهيرة الأخرى لهذه الشركة أفلام (فاست اند فيوريس The Fast and the Furious) و (كينغ كونغ Kong King).

في المركز السادس جاءت شركة فوكس القرن العشرين بإجمالي 29،4 مليار دولار منذ تأسيس الشركة عام 1935، أشهر أفلام هذه الشركة كان فيلم (أفاتار Avatar) الذي حقق إجمالي 2,8 مليار دولار منذ عرضه عام 2009، لتكون هذه الشركة هي الشركة صاحبة أعلى الأفلام دخلاً في تاريخ السينما العالمية. ومن بين الأفلام الشهيرة الأخرى لهذه الشركة أفلام حرب النجوم (Star Wars) و (يوم الاستقلال -Independence Day).

بعد هذا يتضح الفارق الكبير بين الشركات الستة السابقة التي تعتبر الشركات العملاقة في مجال صناعة الأفلام. فأقرب شركة خلف هذه الشركات هي شركة (إم جي إم MGM) بإجمالي 9،3 مليار دولار، ثم شركة (نيولاين New Line) بإجمالي

ص: 311

7,4 مليار دولار، ثم شركة (ليونزغيت - Lions Gate Entertainment Corporation) بإجمالي 6,8 مليار دولار، ثم شركة (ميراماكس Miramax) بإجمالي 4،4 مليار دولار) (1) .

وبمراجعة سريعة لأسماء هذه الشركات العملاقة، نجد أن هوليوود ظاهراً هي عبارة عن مجمّع الشركات مدمجة مستقلة تسعى للربح المالي من خلال الأعمال السينمائية الفنية على مستوى عالمي، ولكن بالتدقيق الجيّد نجد أن هنالك أكثر من رابط يجمع بين هذه الشركات، على رأسها عائدية تلك الشركات لليهود، وهذا الأمر في حد ذاته يستبطن من المعطيات الشيء الكثير.

هوليوود وعلاقتها باليهود:

يقول الدكتور فؤاد بن سيد الرفاعي في كتابه «النفوذ اليهودي في الأجهزة الإعلامية والمؤسسات الدولية»: (يُسيطر اليهود سيطرة تامة على شركات الإنتاج السينمائي، فشركة (فوكس) يمتلكها اليهودي (ويليام فوكس) وشركة (غولدين) يمتلكها اليهودي (صاموئيل غولدين) وشركة (مترو) يمتلكها اليهودي (لويس ماير) وشركة (الإخوان وارنر) يمتلكها اليهودي (هارني وارنر) وإخوانه وشركة (برامونت) يمتلكها اليهودي (هودكنسون).

جميع هذه الشركات اليهودية يُباع إنتاجها في العالم الإسلامي، ويتمثل في أفلام الجريمة وفنونها واللصوصية وأساليبها والعنصرية اليهودية واضحة فيها، ومع ذلك تُعرَض منذ سنين طويلة في بلاد العرب وتغص بها صالات العرض السينمائي والتلفزيوني.. شكراً لمكاتب مقاطعة إسرائيل.

وتشير بعض الإحصائيات إلى أن أكثر من 90% من مجموع العاملين في الحقل السينمائي الأميركي، إنتاجاً وإخراجاً وتمثيلاً وتصويراً ومونتاجاً هم من اليهود...

ص: 312


1- تقرير أورده موقع ساسة بوست تحت عنوان (تعرف على مدخولات كبرى شركات صناعة الأفلام العالمية) بتاريخ 2016/2/8.

ولعلّ أبلغ ما قيل في وصف السيطرة الصهيونية في مجال صناعة السينما الأميركية، ما ورد في مقال نشرته صحيفة «الأخبار المسيحية الحرة» عام 1938 قالت فيه: «إن صناعة السينما في أميركا هي يهودية بأكملها، ويتحكم اليهود فيها دون أن ينازعهم في ذلك أحد، ويطردون منها كل من لا ينتمي إليهم أو لا يصانعهم، وجميع العاملين فيها هم، إما من اليهود أو من صنائعهم، ولقد أصبحت هوليوود بسببهم (سدوم (1) العصر الحديث) حيث تُنحر الفضيلة وتُنشر الرذيلة وتُسترخص الأعراض وتُنهب الأموال دون رادع أو وازع، وهم يرغمون كل من يعمل لديهم على تعميم ونشر مخططهم الإجرامي تحت ستائر خادعة كاذبة، وبهذه الأساليب القذرة أفسدوا الأخلاق في البلاد وقضوا على مشاعر الرجولة والإحساس وعلى المُثل للأجيال الأميركية».

واختتمت الصحيفة كلامها بالقول: («أوقفوا هذه الصناعة المجرمة لأنها أضحت أعظم سلاح يملكه اليهود لنشر دعاياتهم المضللة الفاسدة») (2) .

وفي الأبحاث التي تتعلق بدراسة هوليوود وإنتاجاتها غالبا ما يتم التعرض للعلاقة الوثيقة بين اليهود وماكنة السينما الأميركية، باعتبارها تمثل علاقة حساسة وغريبة في حد ذاتها، لأن اليهود يحتلون مساحة ضيقة جداً من نسيج المجتمع الأميركي، ومع ذلك يمسكون بمقاليد هذا المحور الإعلامي الضخم الذي يغزو شرق العالم وغربه، ويعيد تشكيل الثقافة المحلية والعالمية على حد سواء.

ويبدو أن هذه الظاهرة نابعة من سيرة اليهود في سعيهم الدائم للسيطرة على مصادر القوة في المجتمع الذي يعيشون فيه، وحرصهم على النفوذ في المواطن الحساسة ذات التأثير الواسع، فاليهود لا يشكلون في المجتمع الأميركي سوى 2-3 % ومع

ص: 313


1- ٭سدوم: مدينة من مدن قوم لوط عليه السلام، وتقع في الأردن - بجوار البحر الميت الآن-، والذي لم يكن موجوداً قبل أن يمطر الله عز وجل قوم لوط بحجارة من سجّيل ويقلب ديارهم. ولقد كان في هذه المدينة قاضٍ مشهور بالجشع والجور، ضربَ العرب به المثل فقالوا: (أجْوَرُ من قاضي سدوم ) وسبب جوره، أنه كان يأخذ من كل مَنْ يفعل الفاحشة أربعة دراهم!!
2- ينظر: مقال بعنوان (اليهود والسيطرة على صناعة السينما والتلفزيون والمسرح والثقافة والإعلان التجاري) نشره موقع طريق الاسلام بتاريخ 2006/5/31.

ذلك يحتلون ما نسبته 11% من النخب الأميركية و 25% من الصحفيين والناشرين المشهورين وأكثر من 17% من قادة المراكز المهمة الحكومية و 15% من الموظفين رفيعي المستوى (1) .

(وفي العقود الثلاثة الأخيرة أصبح اليهود في الولايات المتحدة الأميركية يمثلون نصف المئتين من المفكرين و 20% من الأستاذة الجامعيين الأوائل ويملكون 40 % من الشركات والأسهم الحقوقية في نيويورك وواشنطن، وأصبحوا يشغلون ما نسبته %59 من المخرجين والكتاب والمنتجين لأفضل خمسين فيلماً شهيراً في أميركا منذ عام 1965 إلى 1982) (2).

إن هذه الاستراتيجية التي اتبعها اليهود أعطتهم سلطة لم تكن أي اقلية تحلم بها في العالم، وقد نالوا ثمرة جهود حثيثة سعوا إليها منذ قرون ليعوضوا تشرذمهم وعزلتهم الاجتماعية التي أفرزتها أيدولوجيتهم الأنانية في النظر إلى الآخرين نظرة دونية.

إن هذه السلطة الخفية ليست وليدة اليوم، فقبل ثلاثين عاما أكد المحقق الأميركي واليهودي الأصل المعادي للصهيونية (ألفريد ليلينتال Alfred Lilienthal) في دراسة بعنوان (الاتصال الصهيوني The Zionist Connection) قائلاً: (عمق السلطة والقرار اليهودي الممنهج في الولايات الأميركية شيء محير للعقول، ويمكن القول إن الحصة الكبيرة من هذه السلطة ترجع إلى السيطرة على وسائل الإعلام بعد قرون من الأذى والتعذيب والتشريد) (3) .

إن أحد أعمدة نجاح اليهود في الوصول إلى ما كانوا يطمحون إليه يتمثل في تملّكهم وسائل الإعلام وتوظيفها لتحقيق استراتيجيتهم التي تستهدف إلى الاستيلاء

ص: 314


1- ينظر: مقال (هوليوود والأيادي الخفية خلف الكواليس) - مصدر سابق.
2- كتاب (اليهودية والصورة الجديدة للأمريكا Jews and the New American Scene) للكاتبين الشهيرين (سيمور لیبست Seymour Lipset وإيرل راب Earl raab) من منشورات جامعة هارفارد / ص 27-26.
3- ينظر: مقال (هوليوود والأيادي الخفية خلف الكواليس) - مصدر سابق.

على مواطن القرار وجني الأموال الطائلة التي تعود عليهم بمزيد من القوة، يساعدهم في ذلك سجيتهم التي تجيز اتّباع كل الأساليب الممكنة من أجل تحقيق ما يطمحون إليه، حتى لو كانت هذه الأساليب خسيسة وتعود على المجتمعات بالضرر البليغ.

وفي هذا الصدد يقول الكاتب (مارك وبر Mark Weber): (رغبة هوليوود الجنونية لأجل كسب الأرباح الهائلة فيها تعكس أضراراً جسيمة على المجتمع، والسباق لأجل اكتساب أسواق ومبيعات جديدة في هوليوود تسبب في ترويج ونشر الرذائل وإنتاج ثقافة متدنية جدا وهذا في حد ذاته يعد أمراً سيئاً جداً، ويضاف إلى ذلك التاريخ الطويل لهوليوود في ترويج الأيديولوجيات والأهداف السياسية الطائفية والقومية... قال (ستيف آلين Steve Allen) (1) أحد أشهر الفنانين المحببين لدى الأميركيين... الجميع في الجناح اليساري واليمين والمعتدلين يعرفون بأننا نعيش في زمن سقوط الأخلاق والثقافة والكثير لا يريد أن يعترف بأن مسؤولية هذا شيء أيضا يقع على بعض وسائل الإعلام المرغوبة لدى الناس وبرأيي «آلين» كان محقاً لأن هوليوود لها دور واضح في هذا الانحطاط الأخلاقي والثقافي في الولايات المتحدة الأميركية وكثير من دول العالم يتجاهلون ذلك) (2) .

وعلى كل حال فإن إمساك اليهود بزمام هوليوود بات أمراً مسلماً به، يخضع له الرأي العام الأميركي والعالمي على حد سواء، ويجاريه المستهلكون بكل رحابة صدر على ما هو عليه من استراتيجية تسعى لاكتساب السلطة وكثير من الهيمنة، لذا فليس من المستغرب أن نستمع إلى أحد منتجي هوليوود (جوئیل استين Joel Austin) وهو يكتب في مقالة له بصحيفة (لوس آنجلس تایم) قائلا: (كشخص يهودي أقول وبرفعة رأس وأريد أن يطلع الأميركيون على ذلك: نعم نحن اليهود نسيطر على هوليوود... ولا يهمني ما هي وجهة نظر الأميركيين حول سيطرتنا على وسائل الإعلام وهوليوود و «وول

ص: 315


1- مذيع تلفزيوني أميركي وموسيقي وملحن وممثل وفنان كوميدي وكاتب شهير جداً. قام بتأليف ما يزيد علي 50 كتاباً وحصل على نجمتين في ممر الشهرة في هوليوود (Hollywood Walk of Fame) ومسرح هوليوود الذي أُطلق عليه اسم مسرح ستيف آلين تكريمًا له.
2- مقال (هوليوود والأيادي الخفية خلف الكواليس) لمارك وبر- مصدر سابق.

ستريت» وإدارة الحكومة، الذي يهمنا هو وجوب واستمرار سيطرتنا على هذه المراكز) (1) .

هوليوود والدين:

لم تسلم العقيدة الدينية - كأفكار وقيم - من استهداف هوليوود لها، في أسلوب ممنهج يؤدي بالضرورة إلى تحطيم الأديان أو إعادة تشكيلها في الذهنية الاجتماعية بشكل مشوّه يجعل أتباعها عاجزين تماماً في ساحة الصراع الحضاري، ونجد ذلك واضحاً مع مطلع القرن الواحد والعشرين إلى اليوم.

وعن طريق متابعتنا عينة من الأفلام الأميركية ذات الصدارة في الإنتاج والتسويق التي أنتجت خلال عقد ونصف - تحديداً من العام 2000 إلى العام 2015 - ظهرت لنا حزمة من الأفكار المضادة للأديان - وبخاصة الإسلام - التي ركزت هوليوود على تجسيدها وتناولتها بطرق مختلفة تصب في المضمون نفسه، مما يدل على محاولات جادة لبث تلك الأفكار بين الناس، وفيما يأتي ملخص لمجموع تلك الأفكار (2) :

اللعب على وتر المآسي التي تتعرض لها البشرية، سواء تلك الناتجة من الكوارث الطبيعية أو الكوارث المفتعلة من البشر، وإثارة عواطف المشاهدين من خلالها لتدفعهم إلى اتهام الرب بالعبثية واللامبالاة، وتثوير روح التمرد والسخط على القضاء والقدر الإلهيين تبعا لذلك.

التشجيع المتواصل على مبدأ التحرر الفكري وتمجيد الحرية الشخصية واعتبارها مفتاح النهوض الإنساني، واستثمار هذا المبدأ لرفض العبودية للرب ووسمها بالتحجّر ومخالفة العقل وقتل الطاقات الخلّاقة، وتشجّع هوليوود على ذلك بإظهار نماذج من الفكر العلماني الفاعل في العلوم الإنسانية والتقنية مقابل نماذج من الفكر الديني المتصلّب الذي لا يؤمن بالتطور ولا يواكب الحياة.

ص: 316


1- .How Jewish Is Hollywood? by Joel Stein- Los Angeles Times 19th December 2008-
2- للاطلاع على دراسة العينات يرجى مراجعة بحث (هوليوود تستهدف الدين)- حيدر محمد الكعبي ومحمد علي العسكري- إصدار المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية - ملحق الرصد رقم - 14 شباط / 2016.

وفي ذات المجال تحاول هوليوود إعادة ترتيب التاريخ البشري وفقا لما یمر به من مراحل من النضج الفكري، وتجعل الإيمان بالأديان في مرحلة تاريخية وسيطة بين عصر الأساطير وعصر التنوير، فتؤكد بذلك أن الإيمان بالغيب لم يعد نافعاً في هذه العصور لأنه لا غاية مفيدة منه لجعل حياة الناس أفضل - إن لم يجعلها أسوأ - وإنما العلم التجريبي وحده هو من يجلب الرفاهية والراحة لهم.

ولخدمة ما تقدم من أهداف، تسعى هوليوود إلى تعميق الهوة بين الإيمان بالأديان وبين التطور العلمي التجريبي، وتجعل كلا الأمرين على طرفي نقيض جهد استطاعتها.

التركيز الشديد على نظرية داروين للنشوء والارتقاء، واعتبارها كلمة الفصل لبيان حقيقة وجود الحياة على الأرض، وتتخذ من ذلك ذريعة لنفي وجود الرب، وعلى الرغم من الهفوات العلمية التي مُنيت بها هذه النظرية إلا أن هوليوود تستخدم غالبا أسلوب المصادرة على المطلوب من أجل إثبات أحقيتها والدفاع عن مضامين النظرية.

التركيز على معطيات الفيزياء النظرية الحديثة لتفسير وجود الكون، وهو أمر تنطلق به هوليوود من نظرية الانفجار العظيم التي أعلن عنها الفيزيائي الشهير (ستيفن هوكينغ)، وهي نظرية علمية أخرى - إلى جانب نظرية داروين - تستند إليها هوليوود لنفي وجود الخالق باعتبار توفر التفسير العلمي لظهور هذا الكون بما فيه .

تجعل هوليوود من التعصّب والتطرف صبغة أساسية للتديّن، وتجعل من التسامح مسألة تتناسب عكسيا مع مقدار الالتزام بالتعاليم الدينية أو ما يطلق عليه اصطلاح «الأصولية الدينية» في أدبيات الصحافة الغربية المعاصرة.

التمجيد باليهود وتاريخهم وترسيخ ظلامتهم وذم الطوائف التي تعاديهم بشكل مباشر أو غير مباشر، ولكن ذلك لا يلغي التسامح في تشويه بعض أدبياتهم الدينية وتاريخهم بشكل لا يرضي الطوائف اليهودية المتمسكة بالأصولية الدينية.

ص: 317

في حركة تبدو في صف الأديان، تعيد طائفة مهمة من أفلام هوليوود تجسيد التاريخ الديني الخاص بحياة السيد المسيح (عليه السلام) ولكن ذلك يؤدي في النهاية إلى فكرة الإيمان بالثالوث الإلهي وألوهية عيسى وفكرة الصلب للتكفير عن ذنوب أتباع المسيح.

المادية هي المنبع الأساسي الذي تنتزع منه هوليوود كل تجسيد للظواهر الغيبية التي تحدثت عنها الأديان السماوية، وبخاصة ما يتعلق بتجسيد الملائكة والشياطين والجنة والنار والقيامة.

نفي مكثف لفكرة وجود الخير المطلق أو الشر المطلق في هذا الكون، ومن هذا المنطلق تجد أن الرب يمكن أن يكون شريراً في بعض الأحيان، في حين من الوارد جداً أن يكون الشيطان مثالاً للنفع والخير بالنسبة للإنسان.

ترسيخ محورية الدنيا، وجعل هذه الحياة هي الغاية والمقصد، وعلى هذا الأساس فإن الحياة الآخرة - مع فرض وجودها - لا تمثل سوى أطلال حياة على هامش هذه الحياة.

استخدام سخرية الكوميديا الدرامية لتسخيف المعطيات الدينية، وقد سخرت هوليوود في الآونة الأخيرة من كل القضايا الدينية بما في ذلك المقام الإلهي والأنبياء والملائكة ولم تراعِ حدا في ذلك.

وعلى الصعيد ذاته، كثيرا ما تمزج هوليوود الأساطير الدينية الخرافية بمعطيات الأديان السماوية وتجعل إحداهما امتداداً للأخرى في كثير من الأحيان.

الثقافة التوراتية والإنجيلية المتداولة طاغية في المسائل الدينية التي تتناولها هوليوود في أفلامها، وهي ثقافة في حد ذاتها سيئة لما تحتويه من ثغرات كبيرة لا تتوافق مع العقل والمنطق السليم.

ص: 318

خاتمة وتوصيات:

يقول الباحث وليد مهدي (1) واصفاً تأثير هوليوود في تشكيل الوعي الجماهيري: (في اعتقادي الشخصي هوليوود بمثابة الخيال في "مخ" المجتمع البشري ككلٍّ موحد، وحتى لو زالت الإمبراطورية العسكرية «الديمقراطية» الأميركية من الوجود، فأعتقد أن هوليوود ستبقى في القمة ولن يصل إلى مستواها الفني مكانٌ آخر في العالم، وربما سيكون لها دورٌ أكبر في تثقيف البشرية عبر سبكها للعلم والفن واللاهوت والتاريخ في قوالب ملوّنة متنوعة تعيد إنتاج الفنون والعلوم والتاريخ في وعينا) (2) .

في مقابل هذا الفن المُؤدلِج ذي التأثير الضاغط على عقيدة الإنسان المتديّن وسلوكه، لا بد من أن يكون لدينا ما يدفع مغالطاته الفكرية ويفضح ألاعيبه الإعلامية، ويبين لدى المشاهدين - وبخاصة الشباب - التفافه على الحقائق البديهية والقيمية بطريقة لا تخلو من المكر .

على أن أفضل طريقة لصد خطر هذا الإنتاج المؤثر هو استخدام الأسلوب ذاته، أي بيان الحقائق من خلال الأفلام السينمائية ذاتها، وبالأسلوب البارع والمؤثر نفسه الذي يستهوي طبقات المجتمع كافة، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن التجربة شاهدة على أن المجتمع يتأثر بالرسائل الفنية والإعلامية التي تقترب من بيئته والتي يؤدي أدوارها أشخاص من أبناء جلدته، بشرط أن يتوافر العمل الدرامي على أدوات النجاح ابتداء من السيناريو المُحبك مروراً بالتمثيل الجيد وانتهاء بالإخراج المحترف.

ولا يلغي ذلك دور البرامج التلفزيونية والجلسات النقاشية والندوات الثقافية والخطابات المنبرية والمنشورات الدورية في كشف خطر أفلام هوليوود وبيان طبيعة تأثيرها في الجانب العقائدي والاجتماعي، لذا لا بد من أن يركز المصلحون اهتمامهم بهذا الجانب لدرء خطره عقائدياً وسلوكياً في المرحلة الراهنة على أقل تقدير.

ص: 319


1- كاتب وباحث عراقي يوصف بأنه ماركسي مجدد يحترم ويجل الثقافة الإسلامية.
2- نشر في موقع الحوار المتمدن بعنوان (هوليوود وعالم ما بعد الموت) بتاريخ 2010/10/13.

وعلى صعيد آخر، لا غنى لمفكرينا ومثقفينا عن الاطلاع العلمي المتخصص في المجالات العلمية الحديثة كالفيزياء النظرية وعلم الحياة (البايلوجي) وعلم الأرض (الجيولوجيا) وعلم الفلك بمقدار ما يخدم الحقائق الكونية، لأنه غالبا ما يتخذ الملحدون الجدد من دقائق هذه العلوم مادة أساسية لتعبئة مغالطاتهم الفكرية لدعم الإلحاد، وهو أمر طالما انعكس على السينما الأميركية في أعمالها الشهيرة.

ولا يخفى أن أكثر الشبهات التي تتعلق اليوم بالجوانب الغيبية تأتي من توظيف العلوم الحديثة لترويج الإلحاد، على عكس العهود القديمة التي كانت تتخذ من العلوم العقلية الصرفة وسيلة لهذا الغرض.

لذا فإن الاطلاع العلمي الدقيق على تلك العلوم يفيد كثيرا في مجال الرد بالمثل، إذ يمكن أن يوظف المطّلعون على دقائق تلك العلوم لإلهام الإنتاج السينمائي الذي يدعم العقيدة ويقوي أركانها في نفوس مجتمعاتنا.

ص: 320

في مواجهة التغريب الفكري

اشارة

مطالعة في أعمال المفكر المصري أنور الجندي

عماد عبد الرازق

عماد عبد الرازق (1)

يعتبر أنور الجندي من المفكرين الإسلاميين البارزين الذين وهبوا حياتهم الفكرية للدفاع عن الإسلام والمسلمين، وكانت قضية الغزو الفكري والتغريب من أهم القضايا التي شغلت فكره، واحتلت مكانة بارزة في كتاباته، ومثلت علامة فارقة في مشروعه الفكري، لذا حمل على كاهله مقاومة التغريب والغزو الفكري والاستشراق والتبشير، تلك المقولات التي حاول الاستعمار الغربي فرضها على الدول التي احتلها، وهي مقولات فكرية ثقافية اجتماعية تحاول أن تسلخ الأمة الإسلامية من جلدها، وتحاول تغيير وجهتها وتبديل هويتها، لذا عمد أنور الجندي إلى كشف خطورة هذا الغزو الفكري والتغريب على هوية الأمة، وعلى الثوابت الإسلامية والقيم، ووقف بالمرصاد لكل دعاة التغريب يكشف زيفهم، ويهتك سترهم، وإن بلغوا من المكانة ما بلغوا حتی أنه رد على طه حسين وغيره من أصحاب السلطان الأدبي والسياسي، لأنه یری أن طه حسين هو حامل لواء التغريب في الوطن العربي والإسلامي، فاهتم

ص: 321


1- باحث واستاذ جامعي - جمهورية مصر العربية.

الجندي بكشف الزيف والأباطيل التي راجت وانطلت على الكثير من المثقفين، فأخذ يحذر من كتب طفحت بالسموم والزيف فكتب كتاباً سماه (سموم الاستشراق والمستشرقين في العلوم الإسلامية) وقد خلف من ورائه ميراثاً فكريًا شمل مؤلفاته وموسوعاته الإسلامية التي تربو على مائة كتاب، ذلك الميراث الذي يرسم الطريق الصحيح أمام أجيال من الشباب في مواجهة التغريب والغزو الفكري والثقافي الذي يسعى إلى استئصال هذه الأجيال المسلمة من جذورها وتاريخها وهويتها الإسلامية، لذا قدم مشروعًا فكريًا ضخمًا ينطلق من مرتكزات أساسية من أهمها: نقل المجتمع المسلم من حالة الخمول والضعف والغفلة إلى اليقظة الفكرية، وإبراز الخصوصية التي يتمتع بها الإسلام في نظمه ومفاهيمه، كذلك العمل على بيان عوار الطرح الغربي بنظرياته، وتحليل جذورها التاريخية ورصد تطورها في البيئات الغربية ووضع البديل الإسلامي في قالب التأصيل والمشروعية، كذلك من أهم هذه المرتكزات تصفية كل الشبهات المطروحة في مسيرة المسلمين التاريخية، وتفنيد الشبهات التي يراد لها أن تخترق قاعدتنا الفكرية وتخليص العلوم العربية والإسلامية من رواسب الغزو الثقافي أو الاختراق الفكري. ولقد نقد أنور الجندي في مشروعه الفكري الحضارة الغربية ويرى أنها تقوم على الفصل بين المادة والروح، وهذا أغرق الحضارة الغربية في أزمة خانقة، ويشير إلى أن حركة التغريب في العالم الإسلامي تعتبر أخطر ما يواجه الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية في واقعنا المعاصر، وذلك لأنها تريد أن تحتوي معالم الشخصية الإسلامية، بفناء مقوماتها، وفرض الأنماط الغربية على طابع الحياة الإسلامية، ليسهل احتوائها والتحكم في مصيرها. ويلفت الانتباه إلى حقيقة مهمة وهي أن التغريب ارتبط بالاستعمار، ذلك لأنه نشأ في محيط الغزو العسكري لبلاد المسلمين. والتغريب في جوهره الأساسي يمثل محاولة فرض الدول الغربية الغازية لغاتها وثقافتها في البلاد التي احتلتها، ومحاولة صبغ حياة الأمم بعامة والمسلمين بخاصة بالأسلوب الغربي، فهو أي التغريب يمثل تيار كبير ذو أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية وفنية، لذا تصدى أنور الجندي في مشروعه الفكري لدعاة التغريب والغزو الفكري، وذلك عن طريق كشف عوراتهم الفكرية، وبيان ضعف حجتهم المنطقية،

ص: 322

كذلك وقف أنور الجندي ضد الاستشراق والتبشير، ويرى أن التبشير يمثل أيضاً خطورة بالغة على الأمة الإسلامية وهويتها، لأنه يمثل حركة استعمارية سياسية بدأت أثر فشل الحروب الصليبية بغية نشر النصرانية في دول العالم الثالث والمسلمين خاصة بهدف إحكام السيطرة على هذه الشعوب. من هنا وقف أنور الجندي على أخطر الثغور التي ولج منها الأعداء إلى ديار المسلمين وعقولهم فاجتاحوها وهو باب الغزو الفكري والتغريب، فكان بحق أمين على الثقافة الإسلامية. وهذا ما سوف نوضحه في ورقتنا البحثية من عرض لموقف أنور الجندي من حركة التغريب والحضارة الغربية، وموقفه من المقولات الاستعمارية الكبرى التبشير - والاستشراق، وتقديمه البديل الإسلامي.

أولا: الحضارة الغربية في فكر أنور الجندي: في البداية يرى أنور الجندي أن الحضارة تتكون من عنصرين أساسيين، عنصر مادي محض وهو ما يعبر عنه بالمدنية، وعنصر عقائدي وفكري ثقافي، ولا يمكن لأي حضارة من وجهة نظره أن تستمر إلا من خلال التفاعل بين هذين العنصرين، أي وجود التوازن بين الجانب المادي والجانب الروحي، ومن خلال هذا المزيج الحضاري تتبلور الحضارات وفق مقوماتها الأساسية، بناء على ذلك يقول الجندي «لما كانت الحضارة تقوم على حركة مادية مدنية عمرانية تتحرك في إطار عقدي، فإن هذا الإطار هو منطلقها إلى الاستمرار أو التمزق» (1) .

من هنا يعارض الجندي تلك الحضارات المادية الغربية التي انفصلت عن عقدها العقدي، حيث السقوط والانقطاع الحضاري، وفي ظل هذه الحضارة المادية يشعر الإنسان بالاغتراب وفقدان هويته، لذا يرى أنور الجندي أنه في هذا السياق تسقط الحضارات في هيكلها المادي حيث تتجاوز عقدها الأخلاقي، ولكنها تخلف معطياتها المدنية حتى تلتقطها الأمم من بعد (2) .

ص: 323


1- أنور الجندي: عالمية الإسلام، دار المعارف، القاهرة، 1977، ص97.
2- المرجع السابق: ص 99.

ولقد تم تناول الحضارة الغربية في فكر أنور الجندي من خلال عدد من المعطيات من أهمها:

1- الحضارة الغربية وطبيعتها المادية: تقوم الحضارة الغربية على الفصل بين المادة والقيم، لذا فقد فقدت القيم الأساسية في التركيبة الحضارية، فهي تقوم على مخالفة الفطرة السليمة، من هنا فحتمية أفولها وانهيارها لا يُختلف فيه، لاستعلائها بالنظرة المادية على الدين، لذا يقول (لا يزال الفكر الغربي يرى استحالة الجمع بين العنصرين، لقيامه أساساً على الانشطارية، وعلى الفلسفة المادية وحدها واستحالة الجمع بين الفردية والجماعية، وبناء على هذه النظرة المادية في الحضارة الغربية، سقطت في أزمة خانقة، حيث الإباحية والترف (1) .

2- الحضارة الغربية والإنسان: يشير الجندي إلى أن الحضارة الغربية عجزت عن تلبية مطالب الروح للإنسان، فهي لم تستطع أن تحقق أشواق النفس أو التوازن بین المادة والروح، أو تجمع بين العقل والعاطفة، مما صرف المجتمع البشري عن أخص مفاهيم الاستخلاف في الأرض وجعلهم عاجزين عن فهم المسؤولية الفردية والانضباط الخلقي، فانحرفت في اتجاهها الإنساني، وجنحت إلى الوثنية الإغريقية المتحللة من أبسط القيم الأخلاقية (2) .

3- الحضارة الغربية المعاصرة ووحدة البشرية: لقد وضح أنور الجندي تلك النظرة العنصرية التي تقوم عليها الحضارة الغربية المعاصرة، حيث التفاضل بالثروة والعنصر والجنس، فهي تقسم العالم إلى شرق و غرب و شمال و جنوب، وتستعلي بالجنس الأبيض على البشرية، ترى أن من حقها السيطرة على مقدرات الأمم الملونة والفقيرة، و حرمان الأمم النامية من حق امتلاك ثرواتها أو إقامة حضارتها الخاصة بها (3) .

من هنا يشير الجندي إلى أن الحضارة الغربية في جوهرها تقوم على الاستعمار

ص: 324


1- أنور الجندي: حقائق مضيئة في وجه شبهات مضيئة، دار الصحوة للنشر، القاهرة، ص 107.
2- أنور الجندي: نحن وحضارة الغرب، دار الاعتصام، القاهرة ، ص 12.
3- أنور الجندي: حقائق مضيئة، ص 139.

والسلب الحضاري، فهي حضارة عدائية لا تقوم على القيم والمبادئ والإخاء الإنساني، لذا قرنها بالاستعمار الذي يأخذ شكل التقدم والرقي، وهو في حقيقته خداع وتخدير للشعوب بما أنتجته الحضارة المعاصرة، ومن هنا يؤتى المسلمون في ثقافتهم، وتفنى شخصيتهم، لذا يقول الجندي معبراً عن تلك الحضارة (أن الحضارة الغربية ارتبطت ارتباطاً وثيقاً وعضوياً بالاستعمار، والتوسع والفتح، والسيطرة على المناطق المختلفة في أسيا وأفريقيا، ذلك أن هذه الحضارة نمت في أوروبا وهي قارة لا تملك جميع وسائل الصناعة التي هي دعامة الحضارة، ومن هنا كان اندفاعها للسيطرة على العالم التماسا للخامات التي هي أدوات الصناعة (1) .

من هنا نرى أن الاستعمار أضفى على الحضارة المعاصرة طابع الغدر وأبعدها عن الطابع الإنساني الذي عرفته الحضارة الإسلامية في انتشارها، فضلا أن الحضارة الغربية لم تنقل إلى العالم إلا الجوانب المترفة البراقة، في حين منعت هذه الأمم والشعوب عوامل القوة والنهوض، لذا قام أنور الجندي بكشف المخططات الاستعمارية التي تسعى إليها الحضارة الغربية، وذلك من خلال عرضه للمناخ الذي نشأت فيه، والطبيعة الثقافية لها، والخلفية الأيديولوجية التي تنطلق منها، والتوسعية في الاقتصاد والثقافة على حساب الحضارات الأخرى. وبناء على ذلك يرى (ارتباط الاستعمار بأيديولجية الفكر الغربي القائم على نظرية الأمير التي نادى بها مكيافيللي التي سيطرت على السياسة الغربية والحضارة الغربية (2) .

ثانياً: موقف الجندي من الانفتاح على الثقافة الغربية: يرفض أنور الجندي الانفتاح على ثقافة الغرب ولاسيما فيما يتعلق بالنظام السياسي والاقتصادي الذي يقوم على الربا والاحتكار، إذ لا يمكن الالتقاء مع حضارة فقدت مقومات الحضارة الأساسية، فهي تنفصل في ثقافتها عن الثقافة الإسلامية في أمور كثيرة، فالثقافة التي تقوم عليها الحضارة الغربية هي وثبة تنكر البعد الرباني أو الروحاني في تكوينها، والمنهج الأخلاقي

ص: 325


1- أنور الجندي: مقدمات العلوم والمناهج، دار الاعتصام، القاهرة، ص 756.
2- أنور الجندي: مقدمات العلوم والمناهج، ص 758.

في حركتها، فهي تقوم على الإباحية والعنصرية، لذا يرى أن هذا الانفتاح يلزم منه محاذير منها:

1- أن هذا الانصهار يجعل المسلمین تابعیین غیر قادرين على امتلاك إرادتهم.

2- الانقسام الواضح بين الحضارتين في الجذور، فالحضارة الغربية تقوم على نظرية الأمير والسيادة المطلقة على حساب الطرف الذي لم يمتلك إرادته، فهي تزيده ضعفا واحتواء، فيفقد بذلك هويته وذاتيته (1) .

ثالثاً: التغريب في فكر أنور الجندي: لاشك أن التغريب قد ارتبط بالاستعمار، ذلك لأنه نشأ في محيط الغزو العسكري لبلاد المسلمين، وكان للتغريب أهداف لا تخفى على أحد من أهمها:

1- القضاء على الوحدة الإسلامية المتمثلة في الخلافة العثمانية والتي تمثل الرمز الوحدوي للحضارة الإسلامية.

2- التشكيك في العقيدة الإسلامية من خلال ابتعاث الفكر الوثني الذي عرف قبل ظهور الإسلام في المناطق الشرقية والغربية من العالم.

3- دعم الآراء المنحرفة والمذاهب الهدامة التي تخدم أهداف الاستعمار وذلك بحمل الإسلام على تأويل المؤوّليين، وقد وظف الاستعمار الإعلام لخدمة هذا الهدف بقيادة الصهيونية العالمية (2) .

ويتضح لنا مما سبق أن أهداف التغريب تقوم على تقويض الإسلام من خلال هدم أركانه، وما نلحظه من تراجع عربي إسلامي على كافة الأصعدة إنما هو نتيجة التغلغل الغربي في عمق العالم الإسلامي، وقدرته على إدارة حركة الصراع الداخلي بين المسلمين، وتمكنه من تجزئة الأمة إلى تيارات متباينة، لذلك يجب على المسلمين أن يستعيدوا وجودهم، ويلتمسوا مقومات توحدهم، بالرجوع إلى إسلامهم، ومحاربة كل المبادئ والشبهات التي تطرأ على ثقافتهم.

ص: 326


1- أنور الجندي: التربية وبناء الأجيال في ضوء الإسلام، دار الكتاب اللبناني،بيروت،1975،ص230.
2- أنور الجندي: أصالة الفكر الإسلامي في مواجهة التغريب، ص22.

رابعاً: الرد على دعاة التغريب: لقد كانت مؤامرة التغريب للعالم الإسلامي ضمن مخططات وآليات الاستعمار الغربي، ولا يمكننا أن نقف على طبيعة التحدي الذي يواجه المجتمع الإسلامي من قبل التغريب إلا بإدراك المرحلة الأساسية من الغزو الثقافي والتغريبي، والدور الذي لعبه جيل الرواد إبان الحرب العالمية الأولى، ممن احتضنتهم المعاهد الغربية في أوروبا، تلك المعاهد المتخصصة في تأهيل هذه النخبة من الشباب لقيادة المشروع التغريبي في محاولة لاحتواء الشباب المسلم، وصرفهم عن دينهم وقيمهم، ودمجهم في أجندة الطرح الغربي مما يطلقون عليه الفكر الحر أو الحضارة العالمية. ولقد كان طه حسين في طليعة هذه النخبة، وأبرز الطلاب الذين احتضنتهم البعثات الغربية في تلك المرحلة، وعليه يعتبر طه حسين في نظر أنور الجندي قائد لواء التغريب في العالم العربي والإسلامي، وعلما من أعلامها، وفي طليعة دعاتها (1).

من هنا اتجه أنور الجندي لصد الفكر التغريبي الذي حمل لوائه طه حسين، فأقبل على كتبه محللاً وراصدًا للشبهات المطروحة في أفق الفكر الإسلامي، فوضعه في قفص الاتهام هو وأمثاله من الرواد، بعد أن كشف عن السموم التي طفحت في كتبه، فكشف عن الوجه الآخر لها، وقد حصر الجندي المجالات التي انطلق منها في إطار تلك النظرية لهدم الإسلام وتقويضه في ثلاث مجالات هي: الأدب العربي، اللغة وتاريخ الإسلام، والسيرة والفكر الإسلامي (2) .

1) في مجال الأدب العربي واللغة: كشف أنور الجندي عن الأعمال التي قام بها طه حسين في هذا المجال متمثلة في:

أ - تقديم فكرة فصل الأدب العربي عن الفكر الإسلامي باسم حرية الأدب.

ب- إحياء ابتعاث الشعر الماجن والتغزل بالغلمان. وهنا يقول الجندي أن طه

ص: 327


1- أنور الجندي: محاكمة فكر طه حسين، دار الاعتصام، القاهرة، ص7.
2- أنور الجندي: محاكمة فكر طه حسين، ص 10. انظر أيضا. أنور الجندي: كتابات العصريين في ضوء الإسلام، دار الاعتصام، القاهرة، ص 194.

حسين أولى اهتمامه بأبي نواس وبشار بن برد والضحاك في دراسة واسعة عرض فيها آراؤهم وحلل شخصياتهم، ومن هنا يظهر الجندي الهدف من تعيين هذا الاتجاه في الأدب والشعر لديه، حيث يعبر عن سوء طويته، بتجريد الأدب عن الأدب، وهذه هي الإباحية التي يتطلع إليها الغرب.

2) في مجال التاريخ الإسلامي: حيث اتجه طه حسين في حملته على الإسلام إلى التاريخ الإسلامي، محاولا تحسس مواطن الزلل، ليطعن في الإسلام ويشكك في أصالته، ورصد الجندي هذه المحاولة عند طه حسين، عندما استقر منهجه الشكي في كتاب الشعر الجاهلي، فهو يشكك في وجود إبراهيم وإسماعيل والكعبة، وإثارة أخطر ما طوى التاريخ صفحته من قضية الخلاف الذي وقع في نهاية عهد عثمان وأول خلافة علي بن أبي طالب، وجعل من ذلك القاعدة والأساس الذي ينظر من خلاله إلى الإسلام لخدمة الصهيونية العالمية، وبناء على ذلك فإن أنور الجندي يعتبر كتاب الشعر الجاهلي يمثل الخطوط الأساسية لفكر طه حسين، وما أعقبه من كتابات تعبر عن تعزيز اتجاهه المشوه والرامي إلى تقويض الإسلام وتاريخه (1) .

ويجب أن نلفت الانتباه إلى حقيقة مهمة هي اعتماد أنور الجندي في مناقشاته لدعاة التغريب على الجذور التاريخية والفكرية التي انطلق منها طه حسين وغيره من دعاة التغريب وأعمدته في العالم الإسلامي، ومما لاشك فيه أن النفوذ الأجنبي استطاع أن يصنع عقولاً غربية، من أمثال طه حسين وغيره، رغبوا في الشهرة وساقتهم الأهواء لذلك الغرب، واستطاع أنور الجندي أن يكشف عن خلفية المنطلقات المنهجية العدائية لدعاة التغريب، فعمل على إسقاطها وبيان زيفها، وإجلاء محاذيرها ولوازمها الخطيرة على القيم والعقائد، وبناء على ذلك يقول الجندي في إطار تحذيره من مغبة التبعية والافتتان (أن هناك حرباً تشن على العقائد والمسلمات التي تتصل بالوحي والبعث، هناك دعوة صريحة أعلنت خطتها بإخراج العرب والمسلمين من إطار الدين، ومن وراء هذه الدعوات الاستعمار والتغريب والصهيونية) (2) .

ص: 328


1- انور الجندي: محاكمة فكر طه حسين، ص 171.
2- أنور الجندي: شبهات التغريب، ص132. أيضا. تاريخ الغزو الفكري والتغريب خلال مرحلة ما بين الحربين العالمتين، 1920، ص 177.

خامساً: التبشير وموقف أنور الجندي منه: بداية يجب أن نشير إلى أن فشل الحروب الصليبية يعد إيذانا بفشل مشروع التبشير، وبداية للمخطط الجديد للغزو الفكري والثقافي، وذلك لأن السيف قد عجز عن النيل من الأمة، وأن السبيل إلى النيل من وحدة المسلمين وقوتهم هو دحر فكرهم وعقيدتهم، وتعتبر وصية لويس التاسع قائد الحملة الثامنة أخطر وثيقة في هذا السياق، فقد نبَّه إلى سر قوة المسلمين، وتوحدهم، فوضَّح خطر العقيدة الإسلامية، وبين أن الدافع والمحرك لجميع تصرفاتهم، فقد انتصر المسلمون بما يحملون من فكر وعقيدة في كل مواجهة مع الصليبين، ولما كانت العقيدة والفكر هما الركيزتين الرئيستين في خلق روح الدفاع والردع لكل عدو متربص، فاتجه إلى حرب الكلمة بتشويه معالم الدين، وإبطال تأثيرها بتصحيف وتشويه المفاهيم المتعلقة بالجهاد، ومحاربة مبادئ الإسلام وتعاليمه، وهذا لا يكون إلا بتجنيد جملة من الباحثين والمتتبعين لمناهجه العقائدية والفكرية، وجعلهم أداة لهم، لقتل الروح العالية والطبيعة النفسية (1) .

ومن هنا نرى أن حركة التبشير في العالم الإسلامي تنطلق من عدة أهداف أبرزها ما يلي:

1- توهين أو إضعاف الوحدة الإسلامية: وفي هذا السياق يقول (لورانس براون) مصرحًا بهذا الهدف إذا اتحد المسلمون في إمبراطورية عربية أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطرًا، وأمكن أن يصبحوا نعمة له أيضا، أما إذا بقوا متفرقين فإنهم يظلون حينئذ بلا قوة وتأثير، ويعلق أنور الجندي على هذه النقطة وهو يرصد أغراض المبشرين من استهداف هذه الوحدة، فيرى أن الطريق الخطير الذي سلكه المبشرون هو تحسسهم لعوامل الاجتماع بين الشعوب، وإدراك تأثيرها في محيط التوجه والسلوك، وعليه فإنه يحدد العوامل التي رصدها التبشير بغية توهينها حيث حصرها في اللغات والأديان والتاريخ القومي، ومن هذه القاعدة اتجه التبشير للقضاء على وحدة المسلمين، فالإسلام هو القوة التي تخيف الأوربيون، فلا سلطان للأوربيين إلا بنزع هذه القوة (2) .

ص: 329


1- أنور الجندي: الخنجر المسموم الذي طعن به المسلمون، دار الاعتصام، القاهرة، ص 16. أيضا.محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، ص 65.
2- أنور الجندي: الفكر الإسلامي والثقافة العربية المعاصرة في مواجهة تحديات الاستشراق والتبشير، دار الاعتصام، القاهرة، ص 67.

من هنا يتضح لنا أن هدف التبشير استعماري يعبر عن العداء الصليبي للإسلام، والرغبة في الثأر من الإسلام، بعد هزيمتهم في حروبهم الصليبية، ولم تتحقق لهم السيطرة على بيت المقدس.

2- حمل المسلمين على تبني العقيدة النصرانية: لقد أعلن المبشرون بصريح العبارة عن هذا الهدف بأن مهمتهم هو نقل المسلم من دين محمد إلى المسيح، منطلقين من عدائهم لدعوة الإسلام، باعتبارها العقبة أمام دعوة المسلمين أو التنصير، ذلك بما يضيفه الإسلام من مبادئ وحقائق تكشف زيف الفكر المسيحي وانحرافه عن المسلمات الفكرية التي ساقتها الكتب السماوية. وبناء على ذلك يتضح لنا أن مهمة التبشير لم تنحصر فقط في تنصير المسلمين، بل الأمر يتعدى إلى أبعد من ذلك، أنهم يريدون هدم الإسلام، كما يريدون تشييد الفكر النصراني، ولا يتم ذلك إلا عن طريق تشويه الإسلام، وبث الأفكار المسمومة من خلال وسائط كثيرة منها المدرسة والجامعة والإعلام، الأمر الذي ساهم في نجاح التبشير في أكثر من موقع في العالم الإسلامي (1) . ومما لاشك فيه هنا أن التنصير لم يتوقف على رغبات تلك الشعوب والأشخاص باعتناق المسيحية بقدر ما يقوم على الخلاص من الفقر والبؤس، مما يجعلهم يعتنقون أي دين مادام يمنحهم الحياة الكريمة. ويحدد أنور الجندي دور المؤسسة الثقافية والإعلامية في خدمة التبشير، ويقرن علاقته بالتغريب الذي ترتكز أعماله في إسقاط الشخصية الإسلامية، وإفراغها من المنطلقات الدينية، وتأهيلها للتعاطي مع الحضارة المعاصرة بكل متطلباتها، ومن هنا تتبدى علاقة التبشير بالاستعمار مما لا يدع مجالا للشك، في خطورة الغزو التبشيري لبلاد المسلمين.

3- تشويه صورة الإسلام وإضعاف قيمه: المقوم الأساسي الذي يعتمد عليه المبشرون لتقويض الإسلام هو تصحيف صورة الأمة الإسلامية عبر منهجها وتاريخها، بكل وسائط الدس والافتراء، بغية تكوين جيل يكره الإسلام، ويحارب مبادئه، وكذلك خلق شعور بالنقص أمام ما يصوره المبشرون من مدنية وحضارة في تطبيقاتهم

ص: 330


1- أنور الجندي: الخنجر المسموم الذي طعن به المسلمین، ص 38.

ومشروعاتهم وأفكارهم، وطريقتهم في ذلك السخرية والتشكيك بمختلف الجوانب التي يعتز بها العرب والمسلمين من تاريخ وتراث، والازدراء بالعالم الإسلامي (1).

موقف أنور الجندي من التبشير: لقد استوعبت مؤسسة التبشير بكل أهدافها ومخططات التغريب الإلحادي، ومثل التبشير خطورة بالغة على الإسلام والمسلمين، لذا عمد أنور الجندي على التصدي له، وكشف مخططاته وأهدافه، وبيان زيف حججه وأباطيله، أيضا عمل الجندي على تعرية حركة التبشير بالكشف عن منطلقاته، والوسائل التي يتخذها، وإظهار خطرها على منظومة الفكر والثقافة في عالمنا الإسلامي، وقد تمثل موقفه في هذه الأطروحات والمناقشات:

1 - التبشير والاهتمام بالأطفال: يهتم المبشرون بالنشء الصغير، فالطفولة في المرحلة الأساسية في حياة النشء تلعب دوراً هاماً في تشكيل عقلية وثقافة وشخصية النشء، حيث تكون الفترة الخصبة في صياغة تفكيرهم، فالطفل يكون أسير المناخ الفكري والثقافي الذي يعيش فيه، لذا وقف أنور الجندي على هذا النشاط التبشيري، الذي يركز على الأطفال المسلمين ويجعلهم هدفه الأول، واتخاذ المدرسة والإرساليات الطريقة المثلى لتحقيق الأهداف، فيرى أن الهدف من وراء ذلك هو السيطرة على هذا الجيل في بداية نموه الفكري وتكونه العقلي، لإعداده على الطريقة التي تجعله صاحب ولاء فكري وثقافي، ويفسر سر اهتمام المبشرين في فترة ما بين الحربين (الأولى والثانية) بتعليم وتثقيف أبناء الطبقة العالية من الأمراء والعظماء حيث يتم ابتعاثهم وإرسالهم للتعلم في المعاهد الأجنبية، لإعداد وتأهيل هذه الطبقة، ويشير إلى خطورة نزوع هذه الطبقة الراقية إلى المدارس الأجنبية، بما لزم من النتائج التي حققها الابتعاث في تضييق الهوّة بين الاستعمار والمجتمعات الإسلامية، لتمكين المصالحة السياسية والفكرية مع المستعمر، ثم يستمر الجندي في كشف أهداف التبشير ويقدم دليلاً آخر يؤكد فيه أهداف التعليم التبشيري، فوضح أن ما حمل لواء التبشير بالدولة العثمانية وعملوا على توهين الرابطة بين العرب والترك، وساهم في تمكين النفوذ الأجنبي كانوا من خريجي معاهد الإرساليات التبشيرية (2).

ص: 331


1- أنور الجندي: أجنحة المكر الثلاثة التبشير، الاستشراق، الاستعمار، ص 18.
2- أنور الجندي: موسوعة مقدمات العلوم والمناهج، ص 86.

ثم يكشف الجندي عن منهجيات أولويات التنظير التبشيري، عندما رصد البواعث النفسية للطبيعة الإنسانية العربية، وإسقاط هذه البواعث على عوامل التخطيط واستراتيجياته، فهم ينطلقون من دائرة مرنة، بحيث يقدمون الأولويات على الثانويات في مخططاتهم، بحيث يمكن اختزال الوسائل وتقريب المسافات، لذلك كان تحديد الاهتمام بالمرأة المعول عليه في الغزو التبشيري. ويوضح لنا أنور الجندي في هذا الصدد السر في اللهفة العجيبة التي يبديها الاستعمار، وكتَّابه وأعوانه من كتَّاب التغريب على قضية تحرير المرآة، فالهدف كما يظهر من تحليل الجندي هو إخراج الفتاة عن رسالتها الأصلية، وتعبئتها بالثقافة المسمومة التي بدورها ستعمل على توريثها لأولادها فتختصر الطريق إلى الاستعمار (1) .

2- التبشير والتغريب الثقافي: لقد أكد أنور الجندي على العلاقة الوثيقة بين التغريب والتبشير معتمدا في ذلك على الوثائق القولية والإثباتات النقلية من المبشرين، منطلقاً من المنهج العلمي الذي يعتمد على الدليل والحجة الموضوعية بعيداً عن الأهواء، فقام بعرض الوقائع والنتائج مقارناً بما تمخض عن مؤتمرات وتصريحات. ولقد أشار إلى عدة شبهات للتبشير في مجالات الفكر والثقافة، وقام بالرد عليها والتصدي لها من منظور المسلم الغيور على دينه وأمته، لذا كشف عن زيف تلك الشبهات، وضعف حجتها، وبيان عورتها، فقد لفت الانتباه إلى أن خطط المبشرين سجلت خطوطا عامة، لتقويض الإسلام واللغة العربية والحضارة والتاريخ، وقد عبرت وسائلهم عن هذا الهدف، الذي يلتقي في كل منطلقاته مع النظريات التي وضع بذرتها عمالقة الاستعمار من أمثال كرومر وليوتي، لذا قام الجندي بمراجعة التقارير الثانوية التي سجلها كرومر والتي تعد كرسالة إلى الطليعة الجديدة من الشباب الذين اتجهوا إلى ميادين الثقافة ليعدهم خلفاء للاحتلال البريطاني، وقد اثبتت التقارير بلا ما لا يدع مجالاً للشك العلاقة بين قوى العداء للإسلام والمسلمين، هذه القوى هي التبشير والاستشراق والتغريب، حيث تحالفت قوى الشر على محاربة الإسلام،

ص: 332


1- أنور الجندي: تاريخ الغزو الفكري والتغريب، ص162.

ومحاولة زعزعة العقيدة في نفوس أهله، والقضاء على مبادئه، وإضعاف قوة المسلمين، وتم ذلك من خلال طرق ووسائل متعددة، وكان الهدف الجوهري ضرب الفكر الإسلامي والثقافة العربية بإثارة الشبهات حول مفهوم الإسلام (1) .

ولقد قام أنور الجندي برصد أهم القضايا التي كانت هدفا للمبشرين ليحاربوا بها الإسلام بالطعن والتجني، فناقشها ببيان عوراتها، وعمد كشف زيفها، وبطلان حجتها، وتتمثل هذه القضايا فيما يلي:

1- التبشير والتجزئة يحاول المبشرون إحداث عنصر التجزئة والفصل بين المسلمين، بتقسيمهم إلى عرب وغير عرب، مع محاولتهم طمس الوصف العربي والإسلامي عن الحضارة العربية الإسلامية بادعائهم بأن من نبغ من العلماء عبر التاريخ الإسلامي ليسوا عرب، بالإضافة إلى سلب الدور الحضاري للمسلمين بنفي أصالته الفكرية، واستقلال شخصياتهم وهويتهم الحضارية. ويرد أنور الجندي على هذه الشبهة والفرية ببيان أن القاعدة الأساسية التي يقوم عليها الفكر والثقافة، فيشير إلى أن مفهوم الفكر والثقافة يقوم على وحدة الفكر، مسقطاً بذلك وحدة الجنس أو الدم، وموضحاً في الوقت نفسه أن الإسلام هو البيئة الفكرية التي تجمع المسلمين على وحدة الفكر المستمدة من القرآن (2) .

وكعادة أنور الجندي رد خلفية تلك الشبهة إلى جذورها الفكرية كما اعتاد في منهجه الذي يكشف عن أصل الشبهة ومصدرها التاريخي، هذه الشبهة تنطلق في جذورها من الشعوبية، تلك النظرية التي كانت تفرق بين العرب وغير العرب من الموالي الفرس وغيرهم من الشعوب غير العربية التي دخلت في الإسلام، وهي دعوة خبيثة الغرض منها إثارة الفتن والنزعات بين المسلمين، وتأجيج العداوة والكراهية والبغضاء، وتعمد هذه الشبهة إلى تشكيك المسلمين بدينهم، والحط من قدر العرب والمسلمين، وإعلاء الأجناس الأخرى.

ص: 333


1- أنور الجندي: موسوعة العلوم والمناهج، ص 96.
2- أنور الجندي: موسوعة مقدمات العلوم والمناهج، ص 98.

2- التبشير وعلمانية الدولة: مما لا يخفى على أحد أن التبشير دائما ما يثير فكرة أو قضية علمانية الدولة أي دولة لادينية، أي عزل وفصل الدين عن مجالات الاقتصاد التربية والسياسة، ويكشف أنور الجندي هذا المخطط وبين الغاية من ورائه، فيرى أن ذلك يراد به هدم القيم الإسلامية، ويؤكد طبيعة الهدف فيصفه بأنه هدف استعماري صهيوني، يفسح المجال أمام النفوذ الغربي، ليبسط هيمنته على العالم الإسلامي وحتى لايقف الإسلام حائلاً يمنعهم من تحقيق مصالحهم ورغبتهم، ومن هنا يأتي تحقيق الترابط الجذري بين التبشير والاستعمار ويتم ذلك تحت رعاية الصهيونية العالمية، بل تنظر إلى أبعد من ذلك وهو محاولتهم تجزئة الفكر الإسلامي وقتل الترابط فيه، ومن أجل تحقيق هذا الهدف يحاول الغرب إحياء فكرة العلمانية، أي عزل الفكر الإسلامي عن قيمة الأساسية، ووضح أن الغرض الذي يسعى إليه التبشير يقوم على تفعيل الاتجاه إلى العلوم العصرية، ليكون عامل النهضة والتقدم والمدنية، ولا يخفى من وراء ذلك هو فصل الثقافة والتخصص عن الدين كمقدمة للعزل الثقافي (1).

خلاصة القول: يوجد علاقة قوية وصلة حميمة بين الثالوث الاستعماري، التبشير - التغريب - الاستشراق، كما أنه يوجد ترابط أيديولوجي في جميع قطاعات الفكر الإلحادي، فملة الكفر واحدة، والهدف واحد وهو القضاء على الإسلام، من هنا حذر الجندي من أبعاد الدور التبشيري وتطلعاته المستقبلية نحو الصحوة الإسلامية، من هنا جاءت دعوته إلى العمل في سبيل حماية حصون الإسلام من الانهيار، ولا يأتي ذلك إلا بقيام حركة نشطة من العلماء والمفكرين تعمل على تبصرة المجتمعات الإسلامية بمحاذير هذا النشاط التبشيري الاستعماري، ووضع التدابير والخطط والمناهج التي تحفظ الشخصية الإسلامية من عوامل السقوط والتبعية.

4 - موقف أنور الجندي من الاستشراق: بداية نشير إلى أن الاستشراق ارتبط بالتبشير ارتباطاً جذريًا، قوامه الإيديولوجية المشتركة في موقفها من الإسلام فقد أثبتت الوقائع التاريخية الدور الذي لعبه الاستشراق في خدمة التبشير، لذا وقف أنور الجندي كعادته في كشف مخططات الاستشراق والمستشرقين، وله تصور عام

ص: 334


1- أنور الجندي: شبهات في الفكر الإسلامي، ص 26.

للاستشراق يقول من خلاله استخدم العلم في خدمة السياسة ومن هنا فقد كانت مادته مصدرًا مؤثرًاً وهاما لمؤسسات التبشير وتستعملها في دعم خططها، فقد عمد رجال الاستشراق في خدمة هيئتين أساسيتين: وزارة المستعمرات، والكنيسة الغربية، وعليه يكون الاستشراق المقوم الأساسي للتبشير فهو مصدره ومادته (1) .

ويعزز الجندي هذا الترابط بالتحول الذي طرأ على خطة الاستشراق، فيشير إلى أن المستشرقين هم في الحقيقة مبشرون، تخفوا في لباس الاستشراق، خلعوا لباس الكنيسة وارتدوا لباس العلم، ليتمكنوا من خداع المجتمعات، وتعمل قوى التبشير في مجالات إنسانية وعلمية حتى تصل إلى مرادها وهي المدرسة والمستشفى، كما تعمل على اهتمامها بالمرضى والضعفاء والفقراء من المسلمين. كما يبين أنور الجندي دور الاستشراق، حيث يقوم على وضع المادة العلمية المنقحة على ضوء المقاييس الغربية، في سبيل تثبيت وجودهم في تلك البلاد، وإخضاع هذه المجتمعات للفكر الوافد نحو القومية والاشتراكية ليتعمق الصراع بينهم ويستمر (2) .

من هنا يؤكد أنور الجندي على مدى التناسق بين قوى التبشير والاستشراق، فيذكر أوجه التركيز والاختصاص لكل منهما، فقد اتجهت مؤسسة التبشير إلى المدرسة والجامعة عن طريق الإرساليات، والسيطرة على المناهج الدراسية، بينما اتجه الاستشراق إلى الصحافة والثقافة عن طريق الكتاب والصحيفة، لذا كانت مؤسسة الاستشراق مصدرا للشبهات والأكاذيب، ويقول الجندي في هذا الصدد أن الاستشراق في شطريه عاملاً مع الكنيسة أو عاملاً مع وزارات الاستعمار، لا يستطيع أن يخلص إلى الحق إنما يؤدي دوره في إثارة الشبهات، وتقديم الزاد الكافي لدراسات التبشير (3) .

من هنا يرى ضرورة التنبيه والالتفات إلى الخوارق التي يجب أن تكون واضحة في ذهن الباحثين المسلمين لكتابات المستشرقين وبين المبشرين الذين لبسوا لباس الاستشراق، ويؤكد أنور الجندي على حقيقة مهمة هي ارتباط الاستشراق والتبشير

ص: 335


1- أنور الجندي: أصالة الفكر الإسلامي في مواجهة التغريب، ص74.
2- المرجع السابق: ص237.
3- أنور الجندي: شبهات التغريب، ص 91.

بالكنيسة، من خلال الترابط الزمني بينهما في ظروف النشأة بوحدة المضمون واختلاف المسمى، ويشير إلى أن هاتين القوتين نشأتا بعد الحروب الصليبية في حضانة الكنيسة، لذا يستدل على أن باعث الاستشراق هو استهداف الدراسات المشبوهة التي تُعنى بالإسلام عقيدةً وفكراً وتاريخاً، وتطلعات التبشير في إطارها، مما يؤكد نظرية المضمون الواحد مع اختلاف المسمى، وعلى ضوئه يمكن أن نصوغ فهمنا لحقيقة التبشير وطبيعة الاستشراق (1) .

بناء على ذلك نرى أن الجندي كشف عن الوجه الحقيقي للاستشراق والتبشير وأنهما مؤسسة واحدة، لهما نفس الهدف والمخطط، وهو إثارة الشبهات حول الإسلام، فغايتهما واحدة وإن اختلفت الوسائل لذلك، فالاستشراق والتبشير والتغريب قوى تمثل دعامة أساسية وهامة للاستعمار الغربي، ويثبت وجوده فكرياً وعسكرياً. ويعرج أنور الجندي على منهج المستشرقين في البحث، فهم يحاولون أن يزيلوا الهوة بين الإسلام والمسيحية، ببيان أثر المسيحية على الإسلام، وإسقاط العلاقة بين دين محمد صلي الله عليه و آله و سلم والسماء، حتى يظهر الإسلام وكأنه دين بشري مستمد من الفلسفات والعقائد السابقة له، تلك الخطة التي دأب كتَّاب المستشرقين عليها، لذا فطن أنور الجندي لهذا التطلع الصليبي، فأخذ يتتبع أثار المستشرقين في كتابتهم عن الشر بصفة عامة والإسلام بصفة خاصة، ويعرض نماذج من طريقتهم في البحث ويكشف تلاعبهم وتصحيفهم للحقائق.

ومن أهم هذه القضايا: إثبات بشرية القرآن: يدعي المستشرقون بأن النبي صلى الله عليه و آله و سلم منذ صباه قبل نزول الوحي، كان نافراً من الوثنية التي نشأ فيها، محباً للمعاني الروحية، وهذا دفعه إلى التحنث في غار حراء، ويوضح الجندي طريقة المستشرقين في الاستنتاج فهي تقوم على تفسير الوقائع بناء على أفكارهم، بمنآي عن المصداقية التاريخية، وكان هدف الجندي بعد ذكر نماذج من طريقتهم في البحث إبراز الموازين التي يتم الحكم من خلالها على الإسلام وهي تتمثل في:

ص: 336


1- أنور الجندي: مقدمات العلوم والمناهج، ص 76.

1- وضع أهداف علمية، ثم تصيد الأدلة ولا يعنيهم أن تكون تلك الأدلة صحيحة، أو مستمدة من مصادر معتبرة، لذلك تراهم يجمعون المعلومات من كل رطب ويابس، سواء من كتب الأدب أو القصص والمجون، ثم يقدمون بعد التمويه بكل جرأة ويبنون أحكاما عن الإسلام لا وجود لها.

2- اعتماد مصادر غير علمية وتجاهل المصادر الصحيحة، والاستدلال بالروايات الواهية وإغفال الروايات القوية، وأكبر خطأ وقع فيه الشرق والمسلمون كما يرى الجندي أنهم اعتمدوا على تلك الدراسات الاستشراقية، والتي كان يغلب على أسلوبها الموضوعية الزائفة، لذا يشير إلى أن أي ارتباط بين هذه الدراسات والموضوعية العلمية هو ارتباط زائف غير حقيقي، من هنا يجب أن يتجه المسلمون إلى مورثوهم الفكري والعقائدي والحضاري، من أجل التماس ثقافتهم، لكي لا نلبس أنفسنا لباساً لا يتناسب والطبيعة الفكرية والثقافية لنا، ثم يشير إلى محاذير التعلق والاعتماد على دراسات المستشرقين، فيرى أنها أفقدت الكثير من الباحثين ثقتهم بأنفسهم في البحث والنظر، وفقدوا الهوية الثقافية المستقلة، ومن ثم أصبحوا عبيدا لكل ما يصدر عن المستشرقين من كتابات فيها الغث والسمين (1).

ورغم كل ذلك لا ينكر أنور الجندي الايجابيات التي قدمها المستشرقون للفكر الإسلامي، لاسيما في مجال التبويب والفهرسة لكتب الحديث والتراجم، إلا أنه يأخذ على هذه الايجابيات أمرين: الأمر الأول سرقة التراث الإسلامي بأساليب متنوعة وانتقاله إلى دائرة المستشرقين يعد من أخطر التحديات، ذلك أنه أصبح حجة على المسلمين، لا لهم وأصبح بعثه على النحو الذي يختاره الاستشراق، بعيدا عن تصور المسلمين وإرادتهم، لذا يرى الجندي أن نظرتهم لكثير من القضايا تعبر عنهم فقط، ومن هنا تخضع لثلاثة اعتبارات:

أولا - نظرتهم للإسلام على أنه دين لاهوتي محض كالمسيحية، في حين أن الإسلام دين ودستور حياة.

ص: 337


1- أنور الجندي: مقدمات العلوم والمناهج، ص201.

ثانياً: تأثرهم بوجهة نظر السياسة الاستعمارية وخضوعهم لها.

ثالثاً: قصور أفهماهم عن إدراك حقيقة الفكر الإسلامي وطبيعته، التي تربط بين الثابت والمتغير (1) .

ولقد تصدى أنور الجندي لتلك الدراسات الاستشراقية، وبيَّن عوارها، ذلك أنه اعتبر التأويلات والتصورات الغربية دخيلة على الإسلام، معتمدًا على فهمه لطريقة المستشرقين في البحث، والتي من أبرز أخطائها تفسير الإسلام بمقاييس الغرب، ويذكر أنها مستمدة من أثار الرهبانية المسيحية، ويعتقد الجندي بأن سر اهتمام الاستشراق بهذه الفلسفات يرجع إلى أنها مرتبطة بمفاهيم إلحادية، يظهر معها الاختلاف والاضطراب في مصدر ديننا الإسلامي (2) .

خلاصة القول:

إن حركة الاستشراق تمثل العدو الأكبر للعرب والمسلمين ذلك لما حملته من أهداف خطيرة، وما كانت دراساتهم وأبحاثهم إلا تعميقاً لروح العداء الصليبي للإسلام وأهله، ومن هنا كانت جهود أنور الجندي بمثابة ناقوس صحوة للأجيال المخدرة ببريق تلك الدراسات التي تستهوي العقل ببريق ألفاظها .

الخاتمة:

لقد كشف أنور الجندي ببراعة تحليلية وفلسفية عميقة عن أخطار ومخاطر تحالف قوى الشر المتمثلة في التغريب والتنصير والاستشراق، تلك القوى التي تمثل أساليب الغرب في هدم ومحاربة الإسلام، وإضعاف قوته في نفوس معتنقيه، ولقد أبدع الجندي في إسقاط أقنعة تلك القوى التي تتخفى وراء أهداف يبدو أنها نبيلة وهي بعيدة تماما عن ذلك، بل هي أهداف خبيثة وقاتلة تحاول النيل من الإسلام ومبادئه. وكشف الجندي عن الوجه الحقيقي لتلك المقولات الاستعمارية الكبرى التنصير

ص: 338


1- تاريخنا بين تزوير الأعداء وغفلة الأبناء، ص 88.
2- أنور الجندي: المؤامرة على الإسلام، ص 53. أيضا انظر. شبهات التغريب، ص 88.

والتغريب والاستشراق، وأظهر مدى تهافت وضعف حججهم. ونبه أبناء الإسلام والأجيال الصاعدة من مغبة السير وراء تلك القوى، ودعا إلى العودة إلى الإسلام في منابعه الصافية المتمثلة في القرآن والسنة. ودعا كذلك للحفاظ على الهوية الإسلامية والثقافة الإسلامية، والبعد عن مقاييس الغرب التي لا تصلح لثقافتنا وفكرنا. لقد قام الجندي بدور فعال في الكشف عن زيف وبطلان حجج تلك القوى، بمقدرة كبيرة عن طريق تتبع دراساتهم وأفكارهم، والرد عليها بموضوعية بعيدا عن التعصب والتشنج المرفوض، ومقارعة الحجة بالحجة، واستخدام المنهج النقدي البنَّاء والهادف، الذي يكشف بهدوء عوار تلك الدراسات التغريبية والتنصيرية والاستشراقية، ووضع منهج بناء للأجيال القادمة تستخدمه في التعامل مع تلك المقولات الاستعمارية الهدامة، وفي نفس الوقت تحافظ على هوية الإسلام والمسلمين.

ص: 339

الاستعمار التطبيعي

اشارة

آثار الحضارة والثقافة الغربيَّتيْن على أفريقيا

داري آرووُلو

داري آرووُلو (1)

تنبعثُ الجدليةُ الرئيسية الواردة في هذا البحث من الإقرار بأنّ الاستعمار وتجارة العبيد والحركة التبشيرية قد مثّلت قاعدة ازدهار الحضارة والثقافة الغربيَّتين واستمرارهما. يُصرُّ الباحث على أنّ هذه الحضارة قد لوّثتْ بشكلٍ خطير القيم التقليدية الأفريقية، ويُصرِّحُ بأنّ القارة الأفريقية كانت قد أنشأت منذ أمدٍ بعيد سابقٍ على حلول الاستعمار نموذجاً من المنظومات السياسية المحليّة وعمليات الحُكم وإجراءات وضع القوانين المؤسّساتية المقبولة عموماً حيث تقدّمتْ الحضارة الأفريقية وتسارعتْ وتيرة التطوُّر التقنيّ. بالإضافة إلى ذلك، يُعلنُ الباحث أنّ ديناميكية أفريقيا وأهميتها على المستوى العالمي تدعمُ الحجة التي تُفيدُ أنّه كان باستطاعة القارة الأفريقية تطويرَ درجةٍ من التقدّم والحضارة والمحافظة عليها من دون الحاجة للاتّصال السلبي بالقوى الإمبريالية. يتبنّى الباحث النموذج التحليلي الوصفي للتأكيد على وجهات

ص: 340


1- أستاذ محاضر في كلية العلوم السياسية والإدارة العامة في جامعة Adekunle Ajasin في نيجيريا. ترجمة: فريق المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية - بيروت.

نظره ويستحضرُ الليبرالية الجديدة، والديمقراطية الليبرالية، والحركة الاستعمارية، والحركة التبشيرية لإثبات آثار الحضارة والثقافة الغربية على أفريقيا. في الختام، يُقدّم الباحثُ حلولاً قابلة للتطبيق تُمثِّلُ دواءاً شاملاً لإخراج أفريقيا من مأزقها الثقافي.

الكلمات الرئيسية: الاستعمار ،الثقافة، التطوُّر، الحكم، الديمقراطية الليبرالية، الحركة التبشيرية، الليبرالية الجديدة، المنظومة السياسية، والحضارة الغربية.

في البداية، سوف أحتجُّ بأنّ الاستعمار وتجارة العبيد والحركة التبشيرية هي حصنُ الحضارة والثقافة الغربيَّتيْن في أفريقيا، وهذا يصدقُ ما دام الاستعمار يعملُ كوسيلةٍ لغرس الإمبريالية الثقافية في أفريقيا. حينما ننظرُ إليه من هذه الناحية، فإنّ الاستعمار هو فرْض الحُكم الأجنبي على المشهد السياسي التقليدي المحليّ وإخضاع الشعوب الأفريقية للهيمنة الأجنبية في جميع المجالات الحضارية الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية والدينية.

أولاً، بدأتْ الحضارة والثقافة الغربية بالتسلُّل إلى البيئة الاجتماعية-الثقافية الأفريقية من خلال اتّصال الأوروبيين بالقارة الأفريقيّة - الاتّصال الذي جاء كنتيجةٍ لمؤتمر برلين الساعي وراء النهب الإمبريالي للموارد الأفريقية - وتعزّزت هذه الحضارة والثقافة لاحقاً عبر تيار العولمة الطاغي. من المهم أن نؤكِّد على أنّ الاستعمار قد حرف وأعاق سرعة النمو الثقافي واتّجاه الحضارة في أفريقيا. تمثلت إحدى أفدح نتائج الاستعمار في الكيفية التي أدّى الانتهاك السياسي والاقتصادي للمستعمرات إلى ما يبدو أحياناً أنّه فجوةٌ ثقافيةٌ غير قابلة للسدّ بين البُلدان التي استفادت من الاستعمار وتلك التي عانت من الهجمة الاستعمارية. أدّت حقبةُ النهب والسرقة الاستعمارية إلى الركود النسبي وكثيراً ما أفضتْ إلى التدهور الشديد في المساعي الثقافية التقليدية في المستعمرات.

بعد إخضاع القارة الأفريقية والهيمنة عليها، بدأتْ الثقافةُ الغربية والنمط الحضاري الأوروبي بالازدهار والنمو أكثر من التراث الثقافي الأفريقي، وقد أخلتْ الممارساتُ

ص: 341

الثقافية التقليدية الأفريقية السبيلَ أمام السلوك الأجنبي بعد أن أصبح الأفريقيون «متغرِّبين» بالكامل. أصبحت تُعَدُّ الثقافة الغربية في أفريقيا الحضارة المتقدّمة وغدت الأساليب الأفريقية بدائيةً وقديمةً وغير مقبولة في الساحة العامة. لم تُدمَّر أو تُفقد بعضُ أبعاد الثقافية المادية في المستعمرات فحسب، بل خسرت المجتمعات المستعمَرَة قوّتها والإحساس باستمرارية الإرث الثقافي فأصبح من المستحيل عملياً إعادة القدرة على السعي نحو التقدُّم الثقافي وفقاً للشروط الأفريقية. احتجّ أحد الباحثين أنّه:

«تمّ تخريب النسيج الاجتماعي بالكامل، وغُرست ثقافةٌ جديدة عنيفة، ودُمِّرت المنظوماتُ الأفريقية التقليدية المتعلِّقة بحلول الصراعات ولم يُقدَّم أيُّ بديل مكانها. بالرغم من أنّ العملية الديمقراطية كانت بدائية إلا أنّها كانت تحتوي على القابلية العظيمة التي تُلازِمُ أيَّ مُنشأةٍ بشرية ولكنّه تمّ اجتثاثها بقسوة واستُبدلت بالحكم الاستبدادي للاستعمار. شُكِّلت مجموعة جديدة من النخب وتمّ تنشئتها على مذبح العنف والاستعمار، وقد تسلّحت ببُنى الدولة المعاصرة للاستمرار في إخضاع جماهير الشعب خدمةً لمصالح الاستعمار (Mimiko)».

دعم كاسونغو (Kasongo) التصريح الآنف حينما أقرَّ بأنّه «ينبغي على الفرد الاستنتاج أنّه حين تمّ تصديرُ الثقافة الغربية إلى الدول الأفريقية، تمثّل الجانب الخفيّ للحداثة بالمصالح المادية. مثّلت الحضارة مفهوماً آخر للهيمنة، أي فرْض الثقافة الجديدة الوافدة على القيم الثقافية التقليدية». من المهم أن نؤكِّد بشكلٍ أساسي على ضرورة اتّخاذ خطواتٍ أكثر إلحاحاً وحسماً من أجل إعادة تنظيم وقلب هذا المنحى من الفراغ الثقافي القابل للاضمحلال والذي قد يؤدي إلى مرور القارة الأفريقية بحقباتٍ من الانقراض الثقافي والقحط في القيم الأفريقية. من المروِّع أن نذكر بأنّ مائتي عامٍ تقريباً من الاستعمار لم تؤدِّ فقط إلى تدمير التراث والقيم الثقافية التي كانت تشتهرُ بها أفريقيا قبل الاستعمار، بل أدّت أيضاً إلى التدهور الشديد حيث سُلبت من القارة الأفريقية عقوداً زاخرةً بالفرص - أي فرص التنمية الذاتية والحُكم الذاتي وتصاعد وتيرة التطوُّر التكنولوجي.

ص: 342

بالتالي، تبرزُ الحاجة لنقْد التأثير السلبي للحضارة والثقافة الغربيَّتيْنِ على القارة الأفريقية في جميع المنتديات وذلك لكي يتبيّن لصُنّاعُ السياسة ضرورةَ إعادة تقييم سياساتهم التي تُفضي إلى إنزال القحط الثقافي بقارة أفريقيا أو التي تُفسد مبادئ الإحياء الثقافي. يُركِّزُ هذا البحث على التقييم الشمولي للثقافة والحضارة الغربيَّتيْن من ناحية الاختلال والتخلُّف اللَّذيْن ألحقتاهما بأفريقيا وبوتيرة تطوّرها ويهدفُ أيضاً إلى الإضاءة على الخيارات المتاحة المتبّقيّة للقارة الأفريقية.

الحضارة والثقافة الغربية: إطارٌ مفهومي وسياقي

ما هي الثقافة، وما هي الحضارة؟ يميلُ الناس إلى التفكير بالثقافة بطريقةٍ مبسَّطة ومتّحدة. الثقافة ليست مجرد الرقص ولا تنحصرُ فقط بالموسيقى أو الأزياء بل تتجاوزُ مسألةَ الاحتفال الاجتماعي والطقوس المتعلّقة بالولادة أو الزواج، والطهي أو الرياضة. الأمر الأساسي في الثقافة هو تعلّقها بالنمط الكلي لمعيشة الناس: أي الطريقة التي يحيون فيها ويتعبّدون ويُنتجون ويصنعون ويترفّهون ويأكلون. الثقافة هي مجموع الأفكار الموروثة والمنظومة العقائدية والقيم والقواعد التي تُشكِّل الأسُس المشتركة للفعل الاجتماعي المقبول عموماً.

يُظهرُ تشارلز أ. إلوود، وهو عالمٌ اجتماعيٌ أمريكي، تعدُّدَ وجوه الثقافة حينما يحصرُ معناها في التالي:

«تسميةٌ مشتركة لجميع الأنماط السلوكية المكتسبة اجتماعياً والمنقولة اجتماعياً عبر الرموز، وبالتالي تكونُ اسماً للإنجازات المتميِّزة للمجموعات البشرية ولا تضمُّ فقط أموراً كاللغة وصنع الأدوات والصناعة والفن والعلم والقانون والحكومة والأخلاق والدين بل تتضمّنُ أيضاً الأدوات والمصنوعات المادية التي تُجسِّدُ الإنجازات الثقافية والتي تُمنح من خلالها السمات الفكرية الثقافية أثراً عملياً كالمباني والأدوات والآلات ووسائل الاتّصال والأعمال الفنية وما إلى ذلك. يُمكن العثور على القسم الجوهري للثقافة في الأنماط التي تتجسّدُ في التقاليد الاجتماعية

ص: 343

للمجموعة أي المعرفة والأفكار والمعتقدات والقيم والمعايير والمشاعر السائدة في المجموعة. يتواجدُ القسم الظاهري للثقافة في السلوك الفعلي للمجموعة ويكمنُ غالباً في تطبيقاتها وعاداتها ومؤسّساتها... يبدو أنّ القسم الجوهري للثقافة يتمثّل بتثمين القيم المتعلّقة بالظروف الحياتية. بالتالي، فإنّ التعريف السلوكي المحض للثقافة هو غير مناسب وينبغي أن يتضمّن التعريف الكامل للأبعاد الذاتية والموضوعية للثقافة. عملياً، تتلخّص ثقافة المجموعة البشرية في تقاليدها وعاداتها ولكنّ التقاليد-بصفتها البُعد الذاتي للثقافة-هي الجوهر الأساسي».

يمكن أيضاً النظر إلى الثقافة كمجموع الأنشطة البشرية والمبادئ العامة التي تهدي أفكار مجموعةٍ بشرية تشتركُ في نفس التقاليد (القبول العام) والتي تُنقل بدورها وتغُرس في الجيل التالي (التربية الاجتماعية) ويُحييها أفراد المجموعة (الاستدامة).

يُسهِّلُ تصوُّر الحضارة بشكلٍ عام من عملية إدراك الحضارة الغربية بشكلٍ خاص. الحضارة هي مصطلحٌ مفهومي وتُمثِّلُ مجموعَ تاريخ البشر ونمط معيشتهم وتوقّعاتهم وخيباتهم ورغباتهم وتطلّعاتهم. الحضارة هي كلمةٌ تصفُ مستوىً معيّناً من التقدُّم على المستوى التطوُّري وغالباً ما تُستخدم كمرادف للثقافة، ولكنّ تعريف الثقافة ب-«الفنون والتقاليد والعادات والمعتقدات والقيم والسلوك وتقدير الماديات التي تُشكِّل أسلوب حياة الناس» هو عامٌ وفضفاضٌ أكثر من تعريف الحضارة. تميلُ الحضارة نحو التركيز على نمط حياةٍ خاص وطريقةٍ معيشيةٍ معيّنة بينما يُنظر إلى الثقافة على أنّها تشتملُ على نمط الحياة بالإضافة إلى فلسفة الناس الحياتية والأفكار التي يشتركون بها والموقف العام الذي يتضمّن الإبداع وأنماط الإنتاج.

ولكنّ أكثر التعاريف تداولاً للحضارة هو العبارة التي تصفُ الثقافة الزراعية والمدنية المعقّدة نسبياً. يُمكن تمييز الحضارات عن الثقافات الأخرى عبر مستواها العالي من التعقيد والتنظيم الاجتماعي ومن خلال أنشطتها الاقتصادية والثقافية المتنوّعة. يُمكن أيضاً استعمال معنى الحضارة بطريقةٍ معيارية للدلالة على التفوُّق الثقافي لإحدى المجموعات أو الدول على الأخرى. بمعنىً مُشابه، يُمكن للحضارة أن

ص: 344

تعني «صقل الفكر أو التصرُّفات أو الذوق». يتجذّرُ هذا المفهوم المعياري للحضارة بشدّةٍ في الفكرة التي تُفيدُ أنّ البيئات الحضرية تُوفِّر مستوىً أعلى من المعيشة يشتملُ على الفوائد الغذائية وإمكانيات الإنجاز على المستوى الذهني. تتطلّبُ الحضارة معرفةً متطوّرة بالعلم والتجارة والفن والحكومة والزراعة في المجتمع. بالتالي، فإنّ الحضارة الغربية هي نمطٌ معيشيٌ خاص يُعدّ متفوقاً ومتقدّماً ويُنسَب إلى الناس في الغرب. في سياق هذا البحث، سوف نستخدم مُصطلح الحضارة كمفهومٍ مُكمِّلٍ للثقافة.

تحقّق الإطارُ التاريخي لتغريب القارة الأفريقية عبر الاحتكاك مع أوروبا من خلال تجارة العبيد عن طريق المحيط الأطلسي، والحركة التبشيرية، والحركة الإمبريالية. مثَّل التبادل الثقافي المفروض على السكّان ذوي البشرة الداكنة في العالم الجديد-والذي كان في أوج نشاطه في منتصف القرن الثامن عشر - أول عملية تغريبٍ مُستدام للشعوب الأفريقية. تجدرُ الإشارة إلى أنّ الأفارقة في الشَّتات قد قاموا لاحقاً بالمساهمة في عملية التغريب في أفريقيا، وعلى وجه الخصوص من خلال أدوارهم في عملية التبشير والتعليم المسيحي.

القارة الأفريقية

تُشكِّل أفريقيا ثاني أكبر قارة في العالم وتأتي في المرتبة الثانية من حيث عدد السكان بعد قارة آسيا. تبلغُ مساحتُها نحو 30،2 مليون كلم مربّع (من ضمنها الجزر المحاذية) وتُغطِّي 6 بالمائة من المساحة السطحية لكوكب الأرض و 20،4 بالمئة من مجموع المساحة البريّة. في العام 2009، بلغ عددُ سكّان أفريقيا مليار نسمة وقد توزّعوا على 61 قِطر ممّا عدل آنذاك نحو 14،72 بالمائة من عدد سكّان العالم . يُظهرُ الجدول التالي بشكلٍ واضح عددَ سكّان أفريقيا مقارنةً مع عدد السكّان في سائر العالم، ويُشيرُ عدد السكان والموارد الطبيعية في القارة الأفريقية إلى الدور المحوري الذي تلعبه أفريقيا على المستوى العالمي.

ص: 345

الصورة

يُحيطُ البحر المتوسِّط بالقارة الأفريقية من جهة الشمال، وقناة السويس والبحر الأحمر على طول شبه جزيرة سيناء من ناحية الشمال الشرقي، والمحيط الهندي من جهة الجنوب الشرقي، والمحيط الأطلسي من جهة الغرب. توجد 54 دولةٌ مستقلّة في أفريقيا بالإضافة إلى مدغشقر، ومجموعاتٍ متنوّعة من الجزر، والجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية التي تنتمي إلى الاتّحاد الأفريقي ولكن تطعن الحكومة الغربية بسيادتها .

كانت تتمتّع أفريقيا قبل مرحلة الاستعمار بما يقربُ من 10 آلاف دولةٍ وحكومةٍ ذات منظوماتٍ سياسيةٍ ومجموعاتيةٍ شتّى. تشكّلتْ هذه الدويلات إمّا من مجموعاتٍ عائليةٍ صغيرة من الصيّادين وجامعي الثمار كشعب ال- «سان» في جنوب أفريقيا، أو من المجموعات الاجتماعية الأكثر تنظيماً كالقبائل المتحدّثة بلغة ال- «بانتو» في وسط أفريقيا وجنوبها، أو من القبائل المنتظمة بدقّة في القرن الأفريقي، أو الممالك الساحلية الضخمة والمدن والممالك ذات الحكومة الذاتية كتلك التي انتمى إليها شعب ال- «يوروبا» وال- «إغبو» في غرب أفريقيا، أو المدن التجارية السواحلية في الساحل الغربي لأفريقيا.

مع حلول القرن التاسع الميلادي، امتدّ صفٌ من الدول ذي السلالات الحاكمة - بما فيها ممالك الهاوسا الأولى - عبر البطحاء في جنوبي الصحراء من المناطق الغربية إلى وسط السودان، وقد وُجدت أقوى هذه الدول في غانا، غاو، وإمبراطورية (-Ka-nem-Bornu) اعتنقت إمبراطورية (Kanem) الدين الإسلامي في القرن الحادي

ص: 346

عشر، وفي نفس هذا القرن انهارت غانا وخلفتها إمبراطورية مالي التي عزّزت أغلب منطقة السودان الغربي في القرن الثالث عشر .

أمّا في المناطق الحرجية على الساحل الغربي لأفريقيا، فقد نشأتْ ممالك مستقلّة لم تتأثر كثيراً بالمناطق الشمالية الإسلامية. تأسّست مملكة Nri التابعة لشعب ال- «إغبو» في حوالي القرن التاسع وكانت إحدى أقدم الممالك وكان يحكمها ملك ال-(Ezi Nri). يقع الموقع الجغرافي لهذه المملكة في دولة نيجيريا المعاصرة وقد اشتُهرتْ بمنتوجاتها البرونزية المتقَنة الصنع التي تمّ العثور عليها في بلدة (Igbo Ikwu) ويعودُ تاريخها إلى القرن التاسع.

تكمنُ أهمية هذا العرض التاريخي الموجز في تقديم رؤيةٍ أوضح ونظرةٍ أعمق إلى المجتمعات الأفريقية قبل مرحلة الاستعمار والكيفية التي أنشأت من خلالها هذه المجتمعات نمط الحكم الخاص بها، وحازت على وتيرتها الخاصة من التقدُّم الحضاري، وطوَّرت منظوماتٍ سياسية محلية وعملياتٍ لوضع القوانين ممّا ضمن السلام في القارة الأفريقية وحافظ عليه. أفريقيا هي قارةٌ تنبضُ بالديناميكية وتشهدُ جهوداً نشيطة لنيل الديمقراطية والتطوُّر إلى الأمام. لا تمُثِّلُ أفريقيا مفهوماً موحَّداً، فهناك درجةٌ من التباين داخلها ويُمكن قياسه على ضوء الحكم والهوية. على سبيل المثال، هناك دولٌ تُجيدُ العمل في أفريقيا على مستوى الحكم وتثبيت الديمقراطية (كالسنغال وناميبيا وغانا وجنوب أفريقيا وبوتسوانا) وتُشكِّلُ استثناءاتٍ للتعريف الذي يُقدِّمُ أفريقيا كقارةٍ فاشلة. بالإضافة إلى ذلك، بدأ يتطوّر الاختلاف الثقافي في أفريقيا مع قيام بعض الدول في الشمال (كالمغرب وتونس) بالنظر إلى نفسها كدولٍ عربية وليس أفريقية.

آثار الحضارة والثقافة الغربيَّتيْن على القارة الأفريقية

تكمنُ الحقيقة المهمة التي تتعلّقُ بالتاريخ الثقافي الأفريقي في تأثير عاملين خارجيَّيْن على التقاليد الوطنية الأفريقية وهما العامل العربي - الإسلامي والعامل

ص: 347

الأوروبي - المسيحي، وقد تعرّضتْ أفريقيا لتأثيراتهما على مدى أكثر من ألف عام. تمّ استيعاب القيم والأنماط المعيشية الخاصة بهذين العاملين وتبنّيها إلى حدٍ كبير في أرجاء القارة الأفريقية. تُقدِّمُ هذه الملاحظة رؤيةً أشمل إلى ظاهرة التغريب في أفريقيا، وقد توصّل إليها العالِم النظري الأفريقي المرموق إدوارد ويلموت بلايدن في أواخر القرن التاسع عشر، وقام علي مَزروي في أواخر القرن العشرين بتلخيصها بالعبارة التالية «التراث الثلاثي».

حلَّت تأثيراتُ الحضارة والثقافة الغربية في أفريقيا عبر مراحل متعدِّدة، ويهدفُ هذا البحث إلى إبراز ثلاثةٍ من هذه المراحل: السياسية والاقتصادية والاجتماعية. على نحو العموم، سوف ينحصرُ نطاقُ البحث في تناول المفاهيم الفكرية التي تدفعُ الحضارة الغربية وهي الليبرالية الجديدة، والديمقراطية الليبرالية، والعولمة، والفردانية في مقابل القيم العائلية، وما إلى ذلك، ويُمكن أن تندرج تحت المراحل الأعم لتأثيرات الحضارة الغربية. تلتزمُ الحضارة الغربية بالليبرالية الجديدة، والديمقراطية الليبرالية، والنمط الاستهلاكي، والرؤية الكونية المسيحية كأساسٍ لها. يندرجُ الاستعمار والديمقراطية الليبرالية تحت التأثير السياسي، والليبرالية الجديدة تحت التأثير الاقتصادي، والحركة التبشيرية تحت التأثير الاجتماعي.

1. الأثر السياسي

العامل الاستعماري هو نقطةٌ أساسيةٌ من أجل فهم عملية التغريب في أفريقيا. تُشيرُ التشويهات الكلية التي خضعتْ لها المجتمعات الأفريقية في كلِّ مجالات الحياة إلى شدّة الاستعمار وفاعليته في عملية تغريب المجتمعات الأفريقية وثقافاتها. تتضمّن الآثار السياسية ما يلي:

- تغيير الحدود التقليدية من دون مشاورة المؤسّسات والثقافات السابقة.

- تفكيك وإغراق المؤسّسات المحلية وإنشاء حكمٍ أجنبيٍ مكانها. تجدرُ الإشارة إلى أنّ المؤسسات التقليدية قبل ذلك الوقت لم تكن تُعتبر فقط سلطاتٍ سياسية بل أيضاً أمينةً على حفظ الثقافات.

ص: 348

- إدخال الديمقراطية الليبرالية التابعة لمنظومة (Westminster) إلى القارة الأفريقية. لا يُمكن القول بأنّ أفريقيا لم تكن تمتلك النمط الديمقراطي الخاص بها قبل فرْض الديمقراطية الليبرالية، بل تمّ في الواقع إغراق العمليات الديمقراطية الأفريقية في تيّار التغريب كما يُصرّ (Mimiko):

«النقطة هيأنّ ما يُسمّى بمتلازمة ال- Kabiyesi (1) الموضوعة كتفسيرٍ لنقص الديمقراطية في أفريقيا المعاصرة ينمُّ في الواقع عن فهمٍ قاصر لطريقة عمل المنظومات السياسية الأفريقية التقليدية. أُعارضُ هذا الافتراض بشدّة باعتبار أنّه غير تاريخيٍ وبالتالي فإنّه باطلٌ في السياق الأفريقي. تُفيدُ فرضيتي أنّه خلال الحقبة التي سبقتْ احتكاكَ أوروبا بأفريقيا، لم تقم القارة الأفريقية فقط بتطوير مُنشآتٍ دولية متقدّمة نسبياً، بل كانت تمتلكُ الدول الأفريقية الناشئة قبل المرحلة الاستعمارية «منظوماتٍ متطوّرة من الحكم السياسي» المترافق مع قواعد ديمقراطية قوية. إنّني أحتجُّ بأنّ أساس ما يُذاع حول عدم قدرة هذه المجتمعات على المحافظة على الديمقراطية في الحقبات المعاصرة (ما بعد الاستعمار) لا يكمنُ في عدم امتلاكها للثقافة الديمقراطية، بل رواسبُ القيود هي التي خدمت الحركة الإمبريالية التي مثّلتْ التجربة السائدة للشعوب الأفريقية منذ القرن الرابع عشر ويُمكن تعريفها بأعمق طريقةٍ عبر تجارة العبيد، الاستعمار، الاستعمار الجديد، والحكم العسكري الذي أعانها جميعاً».

الديمقراطية الليبرالية: ما هو أثر تبنّي الديمقراطية الغربية على أفريقيا؟ سوف يُصرِّح العديد من الناس بأنّه النهج المناسب لأنّه يُتيحُ فرصة المشاركة في الشؤون العامة وأنّ الديمقراطية الليبرالية تُعزّز التطوُّر. هل ينبغي تعريف الديمقراطية ووضعها سياقياً وفق المبدأ أو المادة؟ أليس من الواضح أنّ أفريقيا لا تستطيعُ العمل وفقاً للديمقراطية الليبرالية أم أنّ استخدام النموذج الغربي أمرٌ إجباري؟ أليس من المناسب أن نتوصّل إلى مبادئ ديمقراطية من خلال الاعتماد على الأشكال والأنماط والعمليات الأفريقية؟ على سبيل المثال، قامت دولةُ نيجيريا في العام 1993 بتبنِّي

ص: 349


1- Kabiyesi: بمعنى الحاكم الأعلى، وتُترجم هذه العبارة إلى «لا يجرؤ أحد على محاسبتك».

النموذج السري - العلني في الانتخابات العامة وقد لقي استحساناً كبيراً باعتباره أفضل لعملية الانتخاب. انظروا إلى أعضاء مجلس الأمة حيث إنّهم لم يُظهروا فهماً عميقاً لمفهوم عملية وضع القوانين وفلسفتها. هل من غير المناسب أن نعود إلى النموذج التقليدي لوضع القوانين وتحسينه؟

2. الأثر الاقتصادي

تمثّلتْ إحدى أهمّ آثار الاستعمار الأوروبي في دمج القارة الأفريقية تدريجياً في المنظومة العالمية الرأسمالية حيث أدّت أفريقيا بشكلٍ رئيسيٍ دورَ المصدِّر للمواد الأولية الضرورية للإنتاج الصناعي الغربي.

فُرضت الضرائب مما أجبر الأفريقيين على العمل لقاء الأجور.

تسبّب الاقتصاد الاستعماري بحرْف الزراعة نحو إنتاج السلع الرئيسية والمحاصيل المدرّة للأرباح كالكاكاو والفستق وزيت النخيل ونبات السيزال وما إلى ذلك.

شَهِد النمطُ الإنتاجي تحوُّلاً مفاجئاً حيث تمّ الانتقال من توليد المحاصيل الغذائية إلى إصدار المحاصيل المدرّة للأرباح ممّا تسبّب بالمجاعة في أفريقيا، فقد بدأت هذه القارة بإنتاجِ كمياتٍ أكبر من المواد الغذائية التي لا تحتاج إليها كثيراً وإنتاجِ كمياتٍ أقل من المواد الغذائية التي هي بأشدّ الحاجة إليها.

تحوّلت أفريقيا إلى مُنتجٍ دائمٍ للمواد الأولية ممّا أدّى إلى تبادلٍ غير متكافئ. وفقاً لرودني، ساهم منهجُ النهب ومشاريعُ الاستلاب المنشأة في المستعمرات من أجل الاستيلاء على الموارد الطبيعية الأفريقية وإرسالها إلى أوروبا في تسهيل وقوع «التخلُّف في أفريقيا وإطلاق عملية التطوُّر في أوروبا».

تطلّب تحقيق الأمور الآنفة الذكر إعادةَ التنظيم التام للحياة الاقتصادية الأفريقية بدءاً باستحداث المحاصيل المدرّة للأرباح وتغيير النمط الاقتصادي المحليّ بقسوة. أدّى اقتطاع الأراضي المحلية في المستعمرات الاستيطانية - وعلى وجه الخصوص في كينيا وروديسيا - إلى تعقيد الوضع الاقتصادي للسكّان المحليّين.

ص: 350

غيّرت الخطّة الاقتصادية من عملية الإنتاج والتصنيع والتجديد والاستهلاك في أفريقيا.

امتلكت البُنية التحتية التي تمّ إنشاؤها من قبل المؤسسات الاستعمارية الحدّ الأدنى من المقوّمات، وقد تمّ تطويرها خصّيصاً كتطبيقٍ لمقتضيات الاقتصاد الجديد الذي شهد نشوء المدن الاستعمارية كدكار، لاغوس، نايروبي، ولواندا.

الليبرالية الجديدة هي عمليةٌ اقتصادية لا تثق بالدولة كعنصرٍ في عملية التطوير. تعودُ هذه الفلسفة إلى القرن التاسع عشر وما فتئت تتجدّد عبر الوقت، وأحدث أشكالها هو ترشيد الإنفاق. تُفيدُ هذه العملية أنّ آلية التسويق هى أكثر المحدِّدات فاعليةً للموارد الإنتاجية، وبالتالي، لكي يكون لدينا اقتصادٌ فعّال ينبغي أن تلعب قوى العرض والطلب دوراً ريادياً. لقد غيّرتْ هذه العملية اقتصادَ أفريقيا ونقلته من الشيوعية إلى الرأسمالية ومؤخّراً إلى الليبرالية الجديدة.

3.الأثر الاجتماعي

العلاقات العائلية/ الاجتماعية: أخذت الأسرة النووية مكانَ العائلة الممتدّة وتفكّكتْ القيم العائلية الأفريقية بسرعةٍ هائلة. كانت العائلة الممتدة أداةً رائعة تُقدِّم حيويةً اجتماعية إلا أنّ الأمن الاجتماعي في المجتمع الأفريقي قد انحسر وأخلى السبيل أمام العائلة النووية. لا عجب أنّه لم يعد هناك احترامٌ للعمر أو للقيم التي كانت تُعدّ مقدّسةً في أفريقيا حيث نرى أنّ الشباب يستثقلون إلقاء السلام على كبار السن.

الفردانية: يوجد اليوم في أفريقيا آباء وأمهات عزّاب، وهذه ظاهرة معروفةٌ في الولايات المتّحدة، ولم يعد الناس ينتفعون بالملكية الجماعية ولا يودّون رعايةَ شؤون بعضهم البعض.

عملية البناء: تغيّرت طريقة إنشاء الأبنية عن الأسلوب القديم ولم يعد الأفارقة

ص: 351

يُدخلون علاماتهم الفارقة في عملية البناء. على سبيل المثال، يقومُ الأفارقة اليوم ببناء بيوتٍ خالية من التهوئة.

عملية التمدُّن: أدّت هذه العملية إلى الهجرة عن الريف وتشرُّد أعدادٍ كبيرة من السكّان.

الفساد: روّجتْ الحضارة الغربية للفساد في أفريقيا وأصبح يتطلّع الزعماء الأفارقة إلى أوروبا والولايات المتّحدة كملاذٍ آمن للأموال المسروقة.

السلوك الجنسي: تغيّر مفهومُ السلوك الجنسي بشكلٍ تام، وتسبّبتْ رغبةُ القاصرين الأفارقة بتقليد الغربيين في أن يُصبحوا مُنحلّين جنسياً وغدوا يرتكبون أموراً لم تكن قابلة للتصوّر منذ عدّة سنوات. هذه ليست دعوةٌ للعزلة الثقافية، فهذا النوع من العزلة ليس ممكناً في إطار العولمة. تنمو الأفكار والقيم الثقافية وتعبرُ الحدود من دون عوائق، ولكن ينبغي أن لا يغيب عن بالنا أنّه كلّما كنّا أضعف فإنّ احتمال وقوع السيطرة الثقافية سوف يزداد. تمرُّ أفريقيا بحالةٍ من الضعف الشديد منذ القرن المنصرم وتُعاني اليوم من استعبادٍ ذهني وإمبرياليةٍ ثقافية وتحتاج إلى تحرير العقول من نير الاستعمار. يُثير تيّارُ الحضارة الغربية في أفريقيا الحزن إذ إنّ قوته هي علی درجةٍ شديدةٍ حيث بالكاد تستطيعُ القارة الأفريقية مقاومته.

اللغة: يتدنّى إتقانُ الأفارقة للغات الوطنية بسبب اضطرارهم لتبنّي الثقاقة والحضارة الغربية. أحدثتْ اللغةُ الغربية شرخاً بين النخبة وعامة الشعب فى أفريقيا الذين ما زالوا غير قادرين على إجراء المعاملات باللغة الغربية، وقد أدّى هذا الأمر إلى عزلة الأفراد الذين لا يستطيعون التحدُّث باللغة الإنكليزية أو الفرنسية. اللغة هي أداة الثقافة، وتُواجه أفريقيا معضلةً كبيرة. على سبيل المثال، تمّ إيقافُ مشروع الأستاذ بابافونوا (Babafunwa) الرامي إلى أنّ اللغة المحلية هي أداةٌ أساسية للتعلُّم في نيجيريا بسبب طبيعة بلادنا. إذاً، ينبغي أن نُحدّد ونخطّط الأساليب لمساعدة أفريقيا للخروج من المأزق الثقافي وقيود اللغة الغربية.

ص: 352

الديانة المسيحية: ينبغي التطرُّق لأثر الديانة المسيحية لأنّها كانت أهمَّ عاملٍ في عملية تغريب القارة الأفريقية. أصبح نظامُ التعليم الغربي الذي يتضمّن الإلمام بالقراءة وإتقان إحدى اللغات الأوروبية شرطَ الدخول إلى القطاع الحديث. في أغلب الحقبة الاستعمارية، سيطرت الحملاتُ التبشيرية المسيحية على العملية التعليمية، ولم تسْعَ هذه الحملات فقط لتغيير ديانة الأفارقة بل أيضاً إلى غرس القيم الغربية. واجهت الديانةُ المسيحية المنظومات العقائدية التقليدية وقامت بترويج الأفكار وأنماط الحياة الجديدة. على وجه الخصوص، رامت هذه الديانة فرضَ الزواج من امرأةٍ واحدة وترسيخ الأسرة النووية باعتبارهما المعيار الذي ينبغي اتّباعه.

من المفارقات العجيبة أنّ الانخفاض الكبير في معدّلات وفيّات الرضّع أدّى إلى تعقيد المسائل الديمغرافية في أفريقيا وكانت له تداعياته على الزراعة والخدمات الاجتماعية. بالرغم من أنّه لم يقع جهدٌ صناعيٌ كبير في الحقبة الاستعمارية ولم يحصل تطوُّرٌ مهمٌ منذ ذلك الوقت، إلا أنّ التكنولوجيا الغربية قد دخلت إلى حياة الشعوب الأفريقية منذ أمدٍ بعيد عبر المنتوجات المصنَّعة المستورَدة من الغرب.

تفشّى التغيير الثقافي الذي تسبّبتْ به ضغوطات الحكم الاستعماري في جميع مجالات الحياة إلى درجةٍ أصبح يُعدُّ فيها علامةً على انقلابٍ ثقافيٍ في القارة الأفريقية. يُمكن ملاحظة هذا الواقع بشكلٍ أعمق في مجال العلم والتكنولوجيا وتأثيراته على التجربة والوعي الأفريقي، وقد تغلّب الطبُّ الحديث على الممارسات الصحية التقليدية.

الختام

أصبح تيّارُ التغريب الثقافي في أفريقيا أكثر انتشاراً وتفشيّاً حيث أخذت الحضارةُ الغربية الأولوية على القيم والثقافة الأفريقية التي أصبحتْ تُعَدُّ أدنى منها. كما في المجتمعات والثقافات الأخرى التي تنتمي إلى ما يُسمَّى بالعالم الثالث، فإنّ تأثير الحضارة الغربية على أفريقيا قد تسبّب بانقطاع أشكال الحياة في أرجاء القارة وأدّى

ص: 353

هذا الأمر إلى ازدواجيةٍ ثقافيةٍ غالباً ما تظهر كمُعضلةٍ حقيقيةٍ في الظروف الحياتية الواقعية. بتعبيرٍ آخر، فإنّ تجربة الحداثة الأفريقية تحفلُ بالتوتُّرات على كلّ مستوى اجتماعي. تُواجه أفريقيا بعد مرحلة الاستقلال كيفية امتلاك هويةٍ حقيقية وثقافةٍ جديدةٍ تكونُ أفريقيةً بجوهرها. على هذا الأساس، ينبغي أن تتّصل أفريقيا بالبلدان التي «تحرّرت من الاستعمار» وحازتْ على درجةٍ من التطوُّر الاقتصادي محلّ التقدير. يجب التركيز على تطوير خياراتٍ قابلة للتطبيق من أجل التوصُّل إلى ثقافة أفريقيةٍ حقاً.

ما هي خياراتنا؟

لكي نقضي على القحط الثقافي المقيت وتدهور القيم في أفريقيا، ينبغي أن ننظر في الخيارات التالية:

من المهم أن نستمرّ في تناول كيفية إعادة تنظيم تيّار الفراغ الثقافي في أفريقيا من أجل تحصيل فهمٍ متينٍ للوضع الحالي.

ينبغي أن تعترف القارة الأفريقية بصدقٍ بنقاط ضعفها. تذكّروا حينما قال الرئيس النيجيري السابق عمر موسى يارادوا في محضر الرئيس الأمريكي جورج بوش: «إنّني أعتبر نفسي محظوظاً لوجودي هنا، ولن أنسى هذا النهار طوال حياتي». يُظهر هذا التصريح ضآلة الزعماء الأفارقة وضعف القارة الأفريقية التي لا تستطيعُ حماية نفسها في وجه الهجوم الثقافي. ينبغي اتّخاذ الخطوات من أجل صدّ تيار الهيمنة الغربية الثقافية، وهذا ممكنٌ للغاية من خلال تحرير عقول الأفارقة وقاداتهم من الاستعمار والنظر إلى الخيارات الممكنة في الجهود الرامية إلى «نزع التغريب» عن التوجُّه الثقافي للشعوب الأفريقية.

يُستحسن تنمية ثقافة التفاعل مع الثقافات غير الغربية المناسِبة، والتعاون مع بُلدانٍ من أمثال ماليزيا وتونس وغيرها.

ينبغي أنّ تهتمّ الدول الأفريقية بمُنجزات البلدان الأخرى التي عارضتْ الثقافة

ص: 354

الغربية. على سبيل المثال، اختارت تايوان وكوريا وإندونيسيا وماليزيا عدم التركيز على اللغات الأجنبية وأصبحت تمتلكُ اقتصادياتٍ كبيرة. كذلك، حظرت الهند في الماضي عملية تصدير الثياب الغربية وأصبحتْ اليوم أحد أكبر مُنتجي الأقمشة في العالم.

هناك غايةٌ وراء قيام فرنسا بصرف الكثير من الأموال على تطوير اللغة الفرنسية، وكذلك هناك غايةٌ خلف عملية إنفاق المجتمعات الأنكلوسكسونية في أوروبا الغربية وشمال أميركا للأموال من أجل ضمان التطوُّر المستمر لما تُطلق عليه هذه المجتمعات «لغة الدبلوماسية والتجارة».

ينبغي إدخال اللغات الأفريقية كجزءٍ إلزاميٍ في المنهاج الدراسي وأن لا تكون هذه اللغات ضمن المواد العامة بل ضمن المواد الرئيسية.

ينبغي أن تفتح القارة الأفريقية مجالَ التواصل مع الأفراد المنحدرين من أصلٍ أفريقي والقاطنين في قاراتٍ أخرى وأن يكون لديها علاقاتٌ تواصليةٌ قوية معهم. على سبيل المثال، قد يُحرِّك نمط الإحياء الثقافي في البرازيل اهتمامَ الشعوب الأفريقية بثقافتها.

ص: 355

التعليم وترسيخ الاحتلال الإنجليزي لمصر 1952-1882

عماد الدين عشماوي

عماد الدين عشماوي (1)

يعتبر القرنان الثامن والتاسع عشر ذروة زمن الاستعمار الغربي الوحشي، متمحوراً في إنجلترا وفرنسا؛ بعد أن ولى زمان الهولنديين والإسبان والبرتغاليين. وقد طالت نار ذلك الاستعمار كل مجتمعات العالم القديم والجديد، فجاست كل ديار أبناء آدم في إفريقيا وآسيا والأمريكيتين: قتلاً، وسبياً، ونهباً للثروات، وتبويراً للعقول، وتسفيهاً للتاريخ والقيم والمعتقدات، وتربية للأعوان «حزبهم المخرب» داخل المجتمعات المستعمَرة، الذين كانوا خدماً وترجماناً ووسطاء يحكم الاستعمار من خلالهم.

لقد انطلق هذا الاحتلال الغربي لمجتمعاتنا العربية الإسلامية، من خبرة عقود طويلة، في دراستها، من خلال: المستشرقين، والتجار، ورجال الدين من المبشرين، فتكونت لدى أوروبا الصاعدة بقوة في القرن التاسع عشر قاعدة معلومات هامة وفارقة في علاقتها مع مجتمعاتنا، أنتجت فرصة سانحة للانقضاض على الإمبراطورية العثمانية الذاهبة إلى الأفول، وفي القلب منها مصر.

فبدعوى إفلاس مصر، والدفاع عن الخديوي الذي ثار عليه الشعب، وتخليص

ص: 356


1- باحث في الشؤون الدينية والسياسيّة - مدير مؤسسة بذور الثقافية / جمهورية مصر العربية.

المصريين من حكم العسكر المستبد، والعمل على ترقية الشعب المصري، وغيرها من الأكاذيب، دخل الإنجليز مصر بعد هزيمة جيشها في التل الكبير عام 1881م، ليتحقق لهم جزء من الحلم الإمبراطوري؛ لتأمين طرق الإمبراطورية إلى الهند، والسيطرة على أسلاب الدولة العثمانية عندما يحين وقت تفكيكها.

لقد كان لهذا الاستعمار أدواته الكثيرة والمتعددة لترسيخ وجوده داخل مصر، ومن أهمّها: التعليم، الذي يعدّ أهم مرتكزات السيطرة الاستعمارية البريطانية في مصر طوال ثلاثة وسبعين عاماً قضاها الإنجليز يحتلون مصر، وينهبون خيراتها، ويوسعون مجالات نفوذهم في عالمنا العربي، ويمهّدون لزراعة دولة الصهاينة من اليهود في بلداننا .

فالتعليم، هو أساس رقي الشعوب، أو تدميرها. لذلك عمل الاحتلال الإنجليزي؛ كما كل احتلال عرفته مجتمعاتنا المعاصرة، بشكل رئيسي على تدمير قوى الشعب المصري المعنوية، من خلال حرصه الشديد على منع كل مصادر الضوء والنماء لبذوره وجذوره المعنوية والعقلية، من خلال تضييق منافذ التعليم، وبث مناهج وأساليب تعليمية تسطح العقل وتربيّ على الطاعة الخنوع، وتفقد المصريين هويتهم الإعتقادية والثقافية، لتنتج ثماراً مرّة أو فاسدة من المصريين، من الذين كان جل همهم الوظيفة وضمان المعيشة، وممن لا وجهة لهم سوى أنفسهم وأهليهم الأقربين، فكانوا هم جنوده الحقيقيين الذين حكم بهم البلاد ما يقارب من ثلاثة أرباع قرن.

لقد رحل الاستعمار ولم يرحل، وهزم في معارك الجيوش لكنه لم يهزم في معارك العقول. والتعليم خير شاهد على ذلك. ولهذا تعد قصة الاستعمار الإنجليزي في مصر، أكبر دليل على أثر التعليم كأداة رئيسية من أدوات الاستعمار وترسيخه. فقد رحل الإنجليز عن مصر بجيوشهم، لكن لم ترحل مناهجهم، ولا توجهاتهم من عقول الكثير من باحثينا والمسئولين عن التعليم في بلادنا حتى اليوم.

وفي هذه الدراسة الموجزة، نحاول توصيف عمليّة الاستعمار الإنجليزي لمصر،

ص: 357

ومناهج إدارته الاستعمارية، وكيف تعاملت مع التعليم، باعتباره مجموعة من الاستراتيجيات والتقنيات المؤدية لترسيخ أقدامه في مصر؟ وكيف نجحت في ذلك؟ فكان التعليم الركيزة الأساسية لإسكات مصر طيلة ربع قرن، حتى بدأت محاولات الإفلات منه بعد تحريرها في منتصف القرن الماضي.

نهضة تعليميّة موؤودة: التعليم قبل الاحتلال البريطاني

بعد أن بدأت مصر مع محمد علي نهضة تعليمية واعدة، سرعان ما دخلت في عهد كل من الخديوي عباس الأول وسعيد، في فترة سوداء من تاريخ التعليم، فقد نشطت سياسة إغلاق المدارس، حتى أصبح ديوان المدارس لا يشرف إلا على مدرستين فقط هما: «المهندس خانة، والطب»، وما لبث حتّى ألغيَ هذا الديوان في عام 1854.

ثم جاء عصر إسماعيل، ليعيد لمصر نهضتها التعليمية، وبدأت أفكار النهوض بالتعليم تتبلور في لوائح وهيئات، فاهتمّ بالكتاتيب وأدخلها في نطاق النظام التعليمي، وأنشأ مجلس المعارف للمشورة في أمور التعليم. ومع تولي علي مبارك نظارة المعارف، عمل على إتاحة التعليم لكل من يرغب دون تمييز، كما وضع أول تخطيط علمي لمشروع التعليم القومي في ما سمي بلائحة رجب بهدف تعميم التعليم العام، لكن تدهور الاقتصاد أوقف سير تلك النهضة التعليمية (1) .

وفي عهد توفيق، شكلت الحكومة لجنة لتنظيم التعليم أطلق عليها «مجلس قومسيون المعارف»، عام 1880م (2)، من أجل نشر وتعميم التعليم في جميع أنحاء البلاد، وتحسين مستوى المدارس الابتدائية والإعدادية لضمان مرشحين أفضل لدخول المدارس المتخصّصة. واقترح، كذلك، تأسيس مدارس ابتدائية درجه ثالثة في كل قرية مهمة، ومدارس ابتدائية درجة ثانية في المدن الصغيرة جدًا، ومدارس ابتدائية درجة أولى في عواصم المحافظات، على أن يتم تمويل هذا المشروع من

ص: 358


1- سلامة، جرجس. أثر الاحتلال البريطاني في التعليم المصري، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، ط1، م1966، ص 21.
2- سلامة، جرجس، أثر الاحتلال البريطاني في التعليم المصري، المرجع السابق، ص2.

الأهالي من خلال العُمد والمجالس المحلية (1) . بدأت الحكومة بالتعاون مع مجلس شورى النواب في تنفيذ مقترحات القومسيون في زمن الثورة العرابية القصير جداً، لكن الاحتلال البريطاني دهم البلاد، فأوقف النهضة التعليمية، ووضع للتعليم سياسة جديدة قائمة على التضييق والقصد في الإنفاق (2).

ما الذي فعله الاحتلال في التعليم؟

وعد اللورد دوفرين في تقريره المشهور، عندما دخل الإنجليز مصر، بأن تكون ترقية التعليم من أهم ما سيحرص عليه الحكام الجدد، حتى لا تكون صيحة مصر للمصريين، صيحة جوفاء (3) . وتم تعيين اللورد كرومر (سير إفلين بارينج) أوّل معتمد بريطاني في مصر في 11 سبتمبر 1883، ليقوم بتنفيذ توصيات تقریر دوفرین، ومن ضمنها الارتقاء بالتعليم، حتى يستطيع المصريون حكم أنفسهم بأنفسهم. ولكن ما أعظم الخلف بين القول والعمل فى كل معاملة الإنجليز للمصريين، وإنه لأعظم في دائرة التعليم منه في أية دائرة أخرى (4) . وصار التعليم، هو المدخل للسيطرة على الفرد وعلى الأمة بعد القضاء على الثورة، من خلال تغيير مناهج التعليم، وتعيين المدرسين الإنجليز في جميع مراحل التعليم، وقتل اللغة العربية وإحلال الإنجليزية مكانها، وإفقار معنويات أبناء وناشئة الشعب عبر إبعاد التاريخ والدين والأخلاق من مناهج الدراسة.

فقد ألغيت وزارة المعارف العمومية، وتحولت إلى إدارة بوزارة الداخلية، ثم أعيدت وعهد بإدارتها إلى وزير الأشغال العامة، ولم يتأكد دورها إلا عندما تولاها سعد باشا، عام (5) 1906. وصارت المدرسة في مصر طيلة عهد

ص: 359


1- حسن، عبدالغني حسن. عبد الله فكري، القاهرة: المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر، سلسلة أعلام العرب، ط1، 1965م، ص 59.
2- عبد الكريم، أحمد عزت. دراسات في تاريخ العرب الحديث، القاهرة: الهيئة العامة للكتاب، ط1، 2016م، ص 277.
3- روثستین، تيودور. تاریخ المسألة المصرية، ترجمة عبد الحميد العبادي ومحمد بدران، بيروت: دار الوحدة، ط2، ص 219 .
4- روثستين، تيودور. تاريخ المسألة المصرية، المرجع السابق، ص 219.
5- عبد الملك، أنور. نهضة مصر، ترجمة حمادة إبراهيم ووجيه عبد المسيح، القاهرة: دار الكتب والوثائق القومية، ط 1، 2011م، ص 379 .

الاحتلال، خادمة حقيرة مهينة لا تصلح لشيء سوى القيام بشؤون مطبخ الاحتلال (1).

وقد ارتكزت السياسة التعليمية البريطانية في مصر على أسس كان من أهمها:

أولاً: أنجلزة الإدارة المصرية.

ثانياً: التقتير في تعليم المصريين.

ثالثاً: قصر الغرض من التعليم على الإعداد للوظائف.

رابعاً: نشر الثقافة الإنجليزية في مصر.

خامساً: تشكيل المناهج التعليمية لتلائم أغراض الاحتلال التعليمية.

كيف كان التعليم أداة لترسيخ الاحتلال؟

1- إدارة التعليم: الإشراف والتفتيش والتدريس

كانت سياسة الاحتلال البريطاني، تستهدف الإبقاء على مستوى التعليم العام في مصر في أدنى صورة (2) . وقد حرص اللورد كرومر، المعتمد البريطاني، على عمل كل ما من شأنه إضعاف التعليم المصري. ولهذا كانت نظارة المعارف، هي أكبر النظارات المصرية التي تستخدم الموظفين البريطانيين (3)، حتى يضمن أن يتشكل نمط المعارف والتعليم المصري بنمط وطبيعة السلطة المحتلة (4) . بل وعارض في إنشاء الجامعة المصرية، حيث إنها لا تتفق مع سياسته، في أن يكون الغرض من التعليم في مصر هو تخريج موظفين للحكومة قادرين على القيام بالأعمال التي تطلب منهم (5) .

ص: 360


1- روثستين، تيودور. تاريخ المسألة المصرية، مرجع سابق، ص223.
2- شمیدت، آرثر جولد، وآخرون (تحرير). رؤية جديدة لمصر، ترجمة عايدة الباجوري، القاهرة، المركز القومي للترجمة، ط1، 2013م، ص 307.
3- عبد الباقي، عبير حسن. الوجود البريطاني في الإدارة المصرية (1922-1956)، القاهره: المجلس الأعلى للثقافة، ط1، 2009م، ص 38.
4- ميتشل، تيموثي. استعمار مصر، ترجمة بشير السباعي، وأحمد حسان، القاهرة: مدارات للأبحاث، ط3، 2014م، ص 9.
5- عبد الباقي، عبير حسن. الوجود البريطاني في الإدارة المصرية، ص 53.

ولهذا اختار كرومر ، دانلوب (1) في 17 مارس 1897م، بعد أن ارتاح له. رغم يقينه من قدراته المحدودة، إلّا أنه حريص على الالتزام بما يطلب منه، ولديه القدرة على تحمل النقد الشديد الذي يتعرض له، بذلك كان هو أنسب من يتولى تنفيذ سياسة كرومر التعليمية، ليضع للأمة نظام التعليم المدمر الذي لا نزال نسير عليه، مع الأسف، إلى يومنا هذا (2).

لقد حرص دانلوب، على تنفيذ كل ما رسمته السياسة الاحتلالية للتعليم، وصال وجال حتى أصبح صاحب الكلمة العليا في كل صغيرة وكبيرة قبل نظارة سعد. فبسط نفوذه على الموظفين، وكان كل همّه موجهاً نحو نظام سير التلاميذ، وإلى نظافة الأدوات في المكاتب، أو على الجدران، وإلى نظافة الأماكن لا نظافة التلاميذ أنفسهم، وكان لا يعبأ أن يتكلم مع الناظر بمنتهى القسوة، وكان لا يستنكف أحياناً من استعمال ألفاظ غير لائقة، واتخذ من قانون نظام المدارس سلاحًا لخنق الشعور بالحرية عند أحرار الطلاب والنابهين منهم (3) .

كما عمل، على أن تنشأ أجيال متعاقبة من «تلاميذ المدارس» في البلاد، يرتبطون ارتباطاً وثيقاً بالاحتلال، عن طريق تفريغهم تفريغاً كاملاً من ماضيهم كله، مع هتك أكثر العلائق التي تربطهم بهذا الماضي اجتماعياً وثقافياً ولغوياً، ومع ملء هذا الفراغ بالعلوم والآداب والفنون - ولكنها فنونهم هم، وآدابهم هم، وتاريخهم هم، ولغاتهم هم، أعني الغزاة (4) .

وقد نجح في إنضاب نمو المصريين الفكري، بهدف تأخير وصولهم إلى حكم أنفسهم بأنفسهم، بالإضافة إلى القضاء على ما تبقى من تنظيمات تربوية من عهد

ص: 361


1- عين «دوجلاس دانلوب» عين سكرتيرًا عموميًا للمعارف في 8 مارس سنة 1897 ثم مستشارًا في 24 مارس سنة 1906، وقد كان في أول أمره قسًا مبشرًا عمل في وظيفة مدرس للغة الإنجليزية والخط الإفرنجي في مدرسة رأس التين الثانوية ثم لفت نظر «كرومر» فدفعه إلى العمل في نظارة المعارف فما زال يترقى بها حتى أصبح مسيطراً سيطرة تامة على شئون التربية والتعليم.
2- أوين، روجر. اللورد كرومر، ترجمة رءوف عباس، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ط1، 2005م، ص 421.
3- سلامة، جرجس، أثر الاحتلال البريطاني، مرجع سابق، ص 357، نقلا عن عبد الحميد مطر: التعليم والمتعطلون في مصر.
4- شاكر، محمود محمد. رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، القاهرة: دار الهلال، دون رقم طبعة، 2012م، ص 229-230.

محمد علي (1) . ليس هذا فحسب، لكنه أبطل عديدًا من الكتب المقررة، من مؤلفات «عبد العزيز جاويش» و «علي مبارك» و «عبد الله فكري»، لأنها تتحدث عن القيم العربية الإسلامية، متعللاً بأن هذه الكتب غير موافية لحاجات التعليم، وأوعز إلى بعض المدرسين الموالين له بأن يضعوا كتبًا بديلة لها تضم بعض خرافات لافونتين وفي عبارة سقيمة وأسلوب نازل (2).

كما أنه في سبيل إحكام رقابته على المدارس العالية وإنجازاتها، طلب من المسيو لامبير ناظر مدرسة الحقوق، أن يعارض في كافة ترشيحات المصريين لمناصب أساتذة القانون، وأن يطعن في كفاءتهم (3) .

عموماً، يمكن القول، أنه خلال الفترة التي قضاها «دانلوب» في وزارة المعارف والتي امتدت إلى عام 1920م، ثم من تبعه من الإنجليز، مضت خطة التغريب الكاملة للتعليم والتضييق من منافذه، باعتبار المدارس هي نقطة الدائرة التي تدور حولها مساعي المضللين السياسيين، كما قال يوماً السير ألدن غورست (4).

2- مسألة المفتشين والمعلمين

كانت خطة دنلوب، تقوم على تعيين مفتشين ونظّار ومدرسين يدينون له بالولاء سواء من الإنجليز أو المصريين. ونجح في تكوين بطانة من الإنجليز والمصريين، يسبحون بحمده وينفذون جميع أوامره وينتهون عن سائر نواهيه، ويسيِّرون وزارة المعارف ومدارسها بحسب إشارته، ولم يكن هؤلاء المفتشون من طراز ممتاز في العلم أو في الكفاية. وحسب الواحد منهم جنسيته البريطانية ليكون صالحاً لكل شيء، قديراً على كل شيء (5) . فالأساتذة لم يكن يشترط فيهم شيء، بل تكفي الجنسية الإنكليزية لأن يكون المرء أستاذاً في المدارس الثانوية،

ص: 362


1- عبد الملك، أنور. نهضة مصر، مرجع سابق، ص 391-393.
2- الجندي، أنور. عبد العزيز جاويش، القاهرة: المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر، ط1، 1965م،
3- سلامة، جرجس، أثر الاحتلال البريطاني، مرجع سابق، ص 74.
4- سلامة، جرجس، أثر الاحتلال البريطاني، مرجع سابق، ص 38.
5- هیکل، محمد حسین. مذکرات محمد حسين هيكل،، القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، ط2، 2010م، ص21.

وهي وبعض الشهادات من أي نوع أو في أي علم، قد تكفي لأن يكون الشاب أستاذاً في مدارسنا العليا (1).

وقد قام هؤلاء وأضرابهم من المصريين باضطهاد كل طالب أو تلميذ يظهر عاطفة أو ميلاً نحو الإجتماع أو تأليف القلوب أو النداء باسم الوطن، من خلال نظام فظيع من التجسس في المدارس وصار نجباء الطلاب يُطرَدُون ويُطَارَدُون ويحرمون من دخول الامتحانات العامة ليكونوا مثالاً لغيرهم وليكون في عاقبتهم موعظة وعبرة!. ويذلونهم ويعلموهم الصغار وهم في ريعان الفتوة وفي سن الحماسة الحقة، فيطفئون جذوتها بالتهديد والوعيد والاحتقار، فقد وصفوهم في مكاتبهم بأنهم أمة نصف متحضرة، وداسوا كل عاطفة وطنية (2) .

كذلك كل أستاذ مصري، كان لا يباح له أن يذكر عن مصر وتاريخها ومجدها شيئاً، ولا يباح له أن يقرأ جريدة أو يصرح لطالب بقراءة جريدة، وتاريخ مصر والإسلام نفسه كان يدرس باللغة الإنجليزية في بضع صفحات أَوَّلُها «إن مصر لم تحكم نفسها بنفسها أبداً»، وآخرها «وقد هزم الجيش المصري في التل الكبير وذبح الجنود المصريون في ليلة» (3) . كما تحمّل هؤلاء الطلبة المصريون إمارة المفتشين الأجانب، وشهدوا ارتجاف النظار والأساتذة عند حضورهم (4) . وليس من شك في أن أكبر آفات التعليم في مصر اسناد وظائف التدريس والتفتيش والنظارة إلى الإنجليز دون المصريين (5).

وكان عدد الموظفين البريطانيين في وزارة المعارف، يزيد على ثلث العدد الكلي للموظفين البريطانيين في الخدمة المصرية (6) . فقد حشد دنلوب، جيشاً من الشباب

ص: 363


1- السيد، أحمد لطفي. صفحات مطوية من تاريخ الحركة الاستقلالية في مصر، القاهرة: لهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 2008م، ص 29.
2- جمعة، محمد لطفي. شاهد على العصر، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 2000م، ص 77.
3- جمعة، محمد لطفي. شاهد على العصر، مرجع سابق، ص 77.
4- المرجع السابق، ص 63.
5- روثستين، تيودور. تاريخ المسألة المصرية، مرجع سابق، ص223.
6- عبد الباقي، عبير حسن. الوجود البريطاني في الإدارة المصرية، مرجع السابق، ص230.

الإنجليز المتخرجين حديثاً من أكسفورد وكمبردج بدرجة بكالوريوس آداب، يعيّنهم أساتذة للمدارس الثانوية، ومعظمهم يدرِّسون علوماً غير التي تخصصوا فيها!

وغايتهم من ذلك وضع كل شيء في أيدي غير الأكفَّاء حتى تأتي النتائج معكوسة، وقد أثمرت هذه الغاية فكان معظم الذين تخرجوا في ذلك العهد جهالاً ومعدومي الكفاية والثقافة (1) .

يذكر محمد لطفي جمعة، أن أعظم ضرر يلحق بالتلاميذ لا يرجع إلى استعدادهم الفطري، ولكن يرجع إلى سوء اختيار الأساتذة وسوء طرق التعليم، فقد كان معظم الأساتذة في تلك المدرسة الابتدائية (مدرسة الأقباط بطنطا) جماعة من أنصاف الجهال الذين لم ينالوا إجازة في علم من العلوم واشتغلوا بتلك المهنة اضطراراً وفراراً من الفاقة (2). فقد ترك معلّمو الكتاتيب دون أدنى عناية منذ بداية الاحتلال حتى عام 1898، وتدهورت مدرسة المعلمين السلطانية، وعومل المدرِّسون الوطنيون معاملة سيئة من الناحية الأدبية والمادية على السواء، وزادت نسبة غير المدرَّبين وغير المؤهَّلين منهم إلى حد كبير، فقد كانت نسبة غير المدرَّبين بالتعليم الابتدائي 58 % عام 1902 وزادت هذه النسبة حتى بلغت 65% عام 1903 (3).

وحتى بعد تصريح الاستقلال، في عام 1922م، كانت وزارة المعارف تعد من أوضح الأمثلة للنفوذ البريطاني، إذ كان الموظفون البريطانيون فيها يزيدون تمسكاً بسلطتهم ويسعون بكل جهودهم في توسيع دائرة هذه السلطة، بل الأكثر من ذلك أنهم كانوا يعمدون إلى مناورات شأنها إبعاد الوطنيين عن المناصب التي يستحقونها، لذا لم يكن الغريب أن تكون الغالبية الساحقة للقابضين على زمام التعليم من البريطانيين. فقد كان التعليم تحت إشراف المستر ستيوارت والابتدائي تحت إشراف المستر دانييل، وتعليم البنات تحت إشراف المستر روبنسن. فقد حصرت سلطات الاحتلال، أمور التعليم في أيدي البريطانيين أو المصريين المؤمنين بالخضوع لهم.

ص: 364


1- جمعة، محمد لطفي. شاهد على العصر، مرجع سابق، ص76
2- المرجع السابق، ص 60.
3- سلامة، جرجس، أثر الاحتلال البريطاني، مرجع سابق، ص7.

فقد كان لرجال الاحتلال خطة عامة، لم يحيدوا عنها نفذوها في التعليم بالعمل على عدم انتشاره أو ترقيته، وسبيلهم إلى ذلك كان سهلاً فإن خزانة البلاد كانت في أيديهم فقبضوا أيديهم عن إمداد المعارف بالمال (1) .

والجدير بالذكر أن وزارة المعارف، بعد تصريح الاستقلال، كانت تصر على أن تجعل مديرات مدارس البنات من البريطانيات، فقد تم تعيين ناظرة بريطانية للمدرسة السنية متجاهلة بذلك أن هؤلاء المديرات قبل كل شيء من بريطانيا، وبالتالي فهن كن يعملن في السر والعلنية على أن يصبغن من تحت إشرافهم بالصبغة البريطانية، أن يهيئن من حولهم لاعتبار المدنية البريطانية خير المدنيات، والاعتماد على الإرشاد البريطاني باعتباره خير وسيلة لبلوغ أعلى درجات الكمال الإنساني (2) .

وقد استبقت وزارة المعارف الغالبية العظمى من فريق العمل البريطاني (3) . فقد كان في مصر (في الفترة 1936-1945) ما يقرب من ثلاثمائة من رجال التعليم البريطانيين، ما بين مفتشين ومدرسين، وأساتذة في الجامعات المصرية، ومفتشات، مدرسات وناظرات لمدارس البنات ومعهد تربية البنات، هؤلاء البريطانيون كانوا الركيزة الأساسية في تنفيذ سياسة التعليم في مصر. وقد كانت سياسة التعليم بشكل عام تحت سيطرتهم مما كان له آثار سلبية كثيرة، منها أن التعليم الإلزامي كان بطيئاً كل البطء بحيث أن عدد الذين جرى عليهم الإلزام في عام 1938ربع الأولاد والبنات الذين يقضي قانون الإلزام بتعليمهم... وكانت برامج ومناهج المدارس المصرية في نفس العام غير صالحة لتخريج غير الموظفين، كما خلت المناهج من المواد التي تنشر الثقافة وترفع المستوى العلمي لعدم وجود المدرِّس الصالح لتدريس هذه المواد (4) . كما كانت وزارة المعارف أكثر الوزارات حرصاً على تعيين البريطانيين بدعوى الحاجة إلى كفاءتهم وخبرتهم، في تلك الفترة التالية للحرب 1945-1951 (5) .

ص: 365


1- عبد الباقي، عبير حسن. الوجود البريطاني في الإدارة المصرية، مرجع سابق، ص 120-121.
2- المرجع السابق، ص122.
3- المرجع السابق، ص 104.
4- المرجع السابق، ص 206-207.
5- المرجع السابق، ص 241-244.

3-المناهج التعليمية

كانت المناهج التي تدرّس للطلاب، تخدم أغراض الاحتلال، فقد انفرد الاحتلال بتشكيل المناهج المتنوعة لمراحل التعليم المختلفة، لكي تتماشى مع أغراضه، وسار في سياسته نحو عدم نهوض المدارس بمختلف مستوياتها، وعدم تطوير مناهجها (1) .

وأصبح مقرر التاريخ في الصف الرابع الثانوي وهو الصف النهائي، خالياً تماماً من تاريخ مصر وتاريخ العالم الشرقي والإسلامي. كذلك كانت الحال بالنسبة للأدب العربي، الذي لم يدرج في المقررات (2) .

فلو أخذنا منهج التاريخ، مثلاً، الذي كان يدرس للسنة الثالثة الأدبية بالمدارس الثانوية، نجد أنه في عام 1905 كان كما يلي:

1- إحياء العلوم بأوروبا.

2- اتساع ممالك الأمم الغربية وامتدادها.

3- أشهر حوادث القرنين السابع عشر والثامن عشر في فرنسا (3) .

فقد كانت غاية المناهج الشروع في قتل اللغة العربية والقضاء على التاريخ القومي وتعويد التلاميذ على العبودية للإنجليز من النظَّار والأساتذة وتعليمهم الخضوع من سن الرابعة عشرة إلى العشرين. ولم يكن في العلوم المدرسية شيء جدي يفاد، فبرامجها محدودة ومناهجها مقصورة على القشور، والأخلاق فيها لا تقوم والدين فيها لا يُعلّم، والتلاميذ متروكون لأهليهم واجتهادهم، وغاية الغايات حفظ النظام بين جدرانها وأداء الامتحانات بما يشرف المدرسة (4) .

ص: 366


1- سلامة، جرجس، أثر الاحتلال البريطاني، مرجع سابق، ص303.
2- عبد الملك، أنور. نهضة مصر، مرجع سابق، ص 389-390.
3- سلامة، جرجس، أثر الاحتلال البريطاني، مرجع سابق، ص 288-303.
4- جمعة، محمد لطفي. شاهد على العصر، مرجع سابق، ص65.

فيما بين سنوات 1919 و 1952 تعرّضت المناهج الدراسية المصرية إلى التعديل عدة مرات نتيجة لما أدخل عليها تدريجيا وبصورة متزايدة من مفاهيم وطنية متعمدة... فقد كانت المناهج في المدارس الابتدائية في عام 1924 تكاد تتطابق تماما مع مناهج 1921 والتي كانت مبنية على توجهات السنوات من 1907 إلى 1913. ومن المثير للانتباه أن المقررات لم تكن تتضمن مواد التربية الوطنية والأخلاق في حين كان مقرر اللغة العربية بعيداً عن السياسة. وبالمثل كانت مناهج المدارس الثانوية عام 1924 تتشابه مع مناهج 1911 رغم أنها كانت تدرس مادة التاريخ في السنتين الأوليين من الدراسة (1).

وقد كانت سياسة التعليم بشكل عام تحت سيطرتهم مما كان له آثار سلبية كثيرة، منها أن التعليم الإلزامي كان بطيئاً كل البطء بحيث أن عدد الذين جرى عليهم الإلزام في عام 1938ربع الأولاد والبنات الذين يقضي قانون الإلزام بتعليمهم... وكانت برامج ومناهج المدارس المصرية في نفس العام غير صالحة لتخريج غير الموظفين، كما خلت المناهج من المواد التي تنشر الثقافة وترفع المستوى العلمي لعدم وجود المدرس الصالح لتدريس هذه المواد (2). قرأنا في المدرسة الثانوية قشور العلوم لأن التعليم في أوروبا يمتد في الثانوي إلى ست أو سبع سنوات، بينما كان في مصر خمس سنوات ثم صار أربعاً فثلاثا، وقد حذفت من مناهج التعليم أجزاء كثيرة كانت تنير العقول وتعد للتعليم العالي، ولكن أفلت من هذه القشور رغم أنف المعلمين بعض مبادئ الحق والحرية في كتب المطالعة أو في دروس التاريخ أو في قصائد الشعراء (3).

4- فرض الطاعة والرهبة

كان التعليم في بداية عهد الاحتلال، تابعاً لوزارة الداخلية، كونه أداة لحفظ

ص: 367


1- شميدت، آرثر جولد، وآخرون (تحرير). رؤية جديدة لمصر، ص 237.
2- المرجع السابق، ص 206-207.
3- جمعة، محمد لطفي. شاهد على العصر، مرجع سابق المرجع السابق، ص 80.

النظام كقوة البوليس تماماً، وتخريج الموظفين الطيعين للإدارة، بالإضافة إلى نظم الامتحانات التي كانت تزداد في صعوبتها وسهولتها حسب الحاجة إلى تخريج الموظفين وحسب رغبتهم في استبعاد بعض النابهين من استكمال تعليمهم.

فالتعليم بكافة مراحله تحت الاحتلال، قد أتاح وسيلة لاستخدام المناهج الجديدة للنظام والانضباط لصياغة كل فرد مصري بحيث يكون رعية سياسية طائعة ومطيعة. ونتيجة لذلك فإن التعليم المنظم، صار ينظر إليه بوصفه العنصر المحوري لسياسة الدولة الحديثة، وهي سياسة لا تستند إلى مجرد الاستخدام المتقطع للقسر، بل إلى عملية تلقين وانضباط وتفتيش متصلة (1).

واستخدمت في ذلك كل الأساليب من مباني ضخمة تبث الرهبة في قلوب الطلاب، ومراقبة الطلاب وبث الجواسيس بينهم، ومنع قراءة الجرائد أو عمل الجمعيات، أو الانضمام للأحزاب السياسية، أو الحديث في هموم الأمة. فكان معمار المدرسة، مثلاً، يترك أعمق الأثر في الطلبة يبث فيهم الرهبة، ويذكر الدكتور عبد الوهاب المسيري في رحلته الفكرية ذكرياته عن المدرسة فيقول «كان معمار مدرسة دمنهور الثانوية قد ترك أعمق الأثر في، وهو لا يختلف كثيراً عما يسمّى «الطراز الكولونيالي». كانت واجهة المدرسة، عبارة عن حديقة يسير فيها المرء بضع خطوات، ثم يبدأ يصعد عدداً كبيراً من السلالم الرخاميّة (لعل عددها يبلغ الخمسين)، وفي القمة توجد عدة أعمدة ذات تيجان كورنثيه يُتوّجها فرنتون روماني. ولعل الهدف من هذا الطراز، هو إدخال الرهبة في قلب المصريين من قوة الإمبراطورية وهيبة الحضارة الغربية (2) .

ويقول محمد لطفي جمعة: «في السنة الأولى من القرن العشرين ختمت دراستي الابتدائية واتفقت آراء لأدخل المدرسة الخديوية الثانوية. ولا تسل عن الانفعالات الكثيرة التي جاشت بنفسي عندما وطئت قدماي لأول مرة فناء ذلك المعهد العلمي، فإن كل شيء فيه كان يؤثر في نفسي أثراً قوياً جميلاً (3) .

ص: 368


1- ميتشل، تيموثي. استعمار مصر، مرجع سابق، ص 33.
2- المسيري، عبد الوهاب. رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر، القاهرة: دار الشروق، ط2، 2005م، ص 21-22.
3- جمعة، محمد لطفي. شاهد على العصر، مرجع سابق، ص69.

وقد قام أتباع دنلوب من المدرسين الإنجليز وأضرابهم من المصريين باضطهاد كل طالب أو تلميذ يظهر عاطفة أو ميلاً نحو الاجتماع أو تأليف القلوب أو النداء باسم الوطن، من خلال نظام فظيع من التجسس في المدارس وصار نجباء الطلاب يطردون ويطاردون ويحرمون من دخول الامتحانات العامة ليكونوا مثالاً لغيرهم وليكون في عاقبتهم موعظة وعبرة! . ويذلونهم ويعلموهم الصغار وهم في ريعان الفتوة وفي سن الحماسة الحقة، فيطفئون جذوتها بالتهديد والوعيد والاحتقار، فقد وصفوهم في مكاتبهم بأنهم أمة نصف متحضرة، وداسوا كل عاطفة وطنية (1) . وتم اضطهاد المشايخ المخلصين، وصار دنلوب هو الحاكم بأمره، ولم يكن وكيل الوزارة في ذلك العهد إلا رجلاً من القش، كما أن الوزير نفسه كان صنماً مصاباً بالصمم والبكم، اللهم إلا القليلون مثل سعد زغلول باشا (2) .

كذلك كل أستاذ مصري، كان لا يباح له أن يذكر عن مصر وتاريخها ومجدها شيئاً، ولا يباح له أن يقرأ جريدة أو يصرح لطالب بقراءة جريدة، وتاريخ مصر والإسلام نفسه كان يدرس باللغة الإنجليزية في بضع صفحات أوّلُها «إن مصر لم تحكم نفسها بنفسها أبداً»، وآخرها «وقد هزم الجيش المصري في التل الكبير وذبح الجنود المصريون في ليلة» (3) . كما تحمل هؤلاء الطلبة المصريون إمارة المفتشين الأجانب، وشهدوا ارتجاف النظار والأساتذة عند حضورهم (4) .

5 - السلم التعليمي

حرص الإنجليز، على ضم الكتاتيب القديمة والمدارس الأولية إلى نظارة المعارف عام 1889، وتوفير تعليم شعبي رخيص لا يتعدى القراءة والكتابة والحساب، وفي سعيهم لتقليص رقعة التعليم وتضييقها على المصريين، عمدوا إلى تغيير درجات السلم التعليمي مرات عديدة. فقد تغيرت مدة الدراسة بالمرحلة الثانوية أكثر من

ص: 369


1- المرجع السابق، ص 77.
2- المرجع السابق، ص 76.
3- المرجع السابق، ص 77.
4- المرجع السابق، ص 63.

مرة، فكانت 5 سنوات منذ بداية الاحتلال الإنجليزي، وفي عام 1897 خفضت تلك المدة إلى 4 سنوات، وفي عام 1905 استمرت 4 سنوات ولكن قسمت على قسمين مدة كل قسم سنتين، ينتهي القسم الأول بامتحان يحصل الناجحون فيه على «شهادة الأهلية»، والقسم الثاني تتشعب فيه الدراسة إلى شعبتين (أدبية وعلوم).

وفي عام 1925 وضع مشروع لتعميم التعليم الأولي، فأنشئت المدارس الإلزامية، وحددت مدة الدراسة فيها بست سنوات، ثم أنقصت إلى 5 سنوات من سن السابعة إلى سن الثانية عشرة، كما أنشئت مدارس الحقول التي تجمع بين المواد النظرية والعملية، ومدة الدراسة بها 6 سنوات تبدأ من السابعة، وفي سنة 1928 زادت مدة الدراسة إلى خمس سنوات تنقسم إلى مرحلتين: الأولى مدتها 3 سنوات يحصل الناجحون في نهايتها على «شهادة الكفاءة»، والثانية مدتها سنتان يتخصص فيها الطالب في إحدى الشعبتين «العلمية أو الأدبية» ويحصل الناجحون في نهايتها على «شهادة البكالوريا».

وفي عام 1933 صدر القانون رقم 46 «قانون التعليم الإلزامي» والذي بمقتضاه تحولت جميع المدارس الأولية التابعة لوزارة المعارف إلى نظام المدارس الإلزامية، وتم تحديد سن الإلزام للبنين والبنات في سن السابعة حتى الثانية عشرة، وحددت مدة الدراسة بخمس سنوات دراسية فيما تقررت مجانية التعليم الابتدائي في عام 1944.

في عام 1935 استمرت مدة الدراسة 5 سنوات ولكن تحول تقسيمها إلى مرحلتين: الأولى مدتها 4 سنوات تنتهي بامتحان الثقافة العامة «القسم العام»، والثانية مدتها سنة دراسية واحدة «سنة التوجيه»، يحصل الطلاب في نهايتها على شهادة الدراسة الثانوية العامة «القسم الخاص»، وتتشعب فيها الدراسة إلى ثلاث شعب هي: العلوم، الآداب، الرياضيات، وتخضع لإشراف جامعي على امتحاناتها. وأصبحت مدة الدراسة بالمدارس الثانوية للبنات 6 سنوات اعتباراً من سنة 1937 وكانت مقسمة إلى مرحلتين:

الأولى مدتها 5 سنوات للثقافة العامة، والثانية مدتها سنة واحدة «مرحلة التوجيه».

ص: 370

في عام 1951 توحدت المناهج ومدة الدراسة بين مدارس البنين ومدارس البنات الثانوية لتكون 5 سنوات وأعيد تقسيمها لتكون على ثلاث مراحل، الأولى مدتها سنتان يحصل الناجحون في نهايتها على شهادة الدراسة المتوسطة، والثانية مدتها سنتان ويحصل الناجحون في نهايتها على شهادة الثقافة العامة، والثالثة مدتها سنة وتنقسم فيها الدراسة إلى «علمي وأدبي»، ويحصل الناجحون في نهايتها على شهادة التوجيهية (1) .

6- الإنفاق على التعليم

بدأ الاحتلال في إنقاص ميزانيات التعليم، وعدم التدرج بها بما يتناسب مع أهمية التعليم أو مع الزيادة في ميزانية الدولة، وحتى ترك لورد كرومر مصر عام 1906م، بلغت ميزانية التعليم 374000 جنيه، وكان يجب أن يصرف على الأقل 2 مليون جنيه استرليني (2). وألغيت المجانية، وزادت مصروفات المدارس الثانوية، واقتصر القبول بالمدارس على أبناء القادرين الذين يستطيعون دفع المصروفات، في حين أن التعليم في عهد محمد علي وإسماعيل كان بالمجان داخلي في جميع المدارس مع توفير وجبة لكل تلميذ (3) .

أهمل البريطانيون التعليم وقتَّروا فيه عامدين، إذ إن ميزانية التعليم في عام 1882 كانت 0،84% ، وبعد مرور 38 عاماً أي في عام 1920، بلغت هذه النسبة 1،77 %.. وقد كانت الأمية في مصر عام 1882: 91،7% وبلغت نسبتها 91،3% في عام 1917 (4) . ولم يكن هناك عام 1913، سوى 32 مدرسة ابتدائية، وست مدارس ثانوية بالقطر كله (5). فقد قلَّص الاحتلال التعليم، وحد منه وألغى المجّانيّة وضرب عليه المصروفات، فلم يرده إلا من كان قادراً على نفقاته من الإقامة في القاهرة

ص: 371


1- https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D984%%D8%AA%D8%B9%D984%%D98%A%D98% 5_%D981%%D98%A_%D985%%D8%B5%D8%B1-
2- سلامة، جرجس، أثر الاحتلال البريطاني، مرجع سابق، ص105.
3- حسن، عبدالغني حسن. عبد الله فكري، مرجع سابق، ص 49-52.
4- سلامة، جرجس، أثر الاحتلال البريطاني، مرجع سابق، ص 6-7.
5- المرجع السابق، ص 8.

لأبناء الريف، وأداء المصروفات الدراسية المقررة، ثم أوقف البعوث إلى الخارج، وأصبح التعليم قاصراً على إعداد موظفي الدولة (1) .

7- البعثات العلمية

قتَّر الاحتلال في إرسال البعثات إلى الخارج، ففي عام 1888م، قلت المخصصات المالية للبعثات التعليمية تدريجياً، حتى كادت تتوقف تماماً في السنوات العشر الأولى من الاحتلال، كما صدرت الأوامر بأن لا يرسل للخارج سنوياً سوى تلميذ واحد في العام على نفقة الدولة، ويحكم الاحتلال في المدرسة التي يرسل إليها المبعوثون في انجلترا (2)، واتجهت البعثات إلى بريطانيا بعد أن كانت تتجه إلى فرنسا، وتم مراقبة الطلاب المبعوثين حتى لا يشتغلوا بسياسة بلادهم وتحريرها. وحتى بعد أن عادت البعثات تحت ضغط الحركة الوطنية، إلا أن أعداد المبعوثين قد قلت بما لا يتجاوز العشرة طلاب.

8- التعليم الثانوي والمدارس العليا

لقد وضع الاحتلال خطته على أساس وضع نظام للتعليم يصعِّب من الوصول للتعليم الثانوي والعالي. فلكي يدخل التلميذ المدرسة الثانوية، لابد من الحصول على الشهادة الابتدائية، ولكي يدخل التعليم العالي لا بد أن يحصل على الشهادة الثانوية. وجعل التوظف والترقي ممكناً بالشهادة الابتدائية، ثم أنشأ شهادة فوق الابتدائية كحاجز آخر لتحويل مجرى المتعلمين عن إكمال تعليمهم هي شهادة «الأهلية للوظائف الملكية الصغرى».

ثم أنشأ شهادة الكفاءة، ثم زاد في مدة الدراسة الثانوية قسم أول بعد سنتين من الدراسة، ثم جعلوا شهادة الدراسة الثانوية الشهادة المعتمدة للتوظّف والترقّي بدلاً من الابتدائية، وجعلوها الهدف الذي يصل إليه كل متعلم يريد أن يصل إلى وظيفة

ص: 372


1- النجار، حسين فوزي. الدكتور هيكل وتاريخ جيل، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 1988م، ص 40.
2- سلامة، جرجس، أثر الاحتلال البريطاني، مرجع سابق، ص7.

حكومية ويترقى فيها، وكل ذلك حتى يقف تعليم الغالبية من القلة التي تدرس في التعليم العام عند حد الثانوية العامة (1) .

كما أقفل الاحتلال، الكثير من المدارس، ففي عام 1887م، ألغيت العديد من المدارس الثانوية والخاصة والعالية، وكثيراً من المدارس الابتدائية، مثل: مدرسة درب الجماميز، ومدرسة الترجمة، ومدرسة الهندسة، ومدرسة المعلمين. وفي عام 1889م، ألغيت المدارس الثانوية في كل من: طنطا، والمنصورة، والزقازيق، وأسيوط، وبني سويف (2) .

فلم تكن المدارس الثانوية، في أوائل القرن العشرين، إلا أداة من أدوات الحكم البريطاني في مصر، غايتها تخريج طبقة من الأفندية ليشغلوا الوظائف الصغرى في دواوين الحكومة، وليعملوا في طاعة وهدوء تحت إشراف السادة الإنجليز الذين يشغلون المناصب العليا الإدارية على مثال الحكم المدني الهندي (3) .

وقد ساعدهم على ذلك تقليل عدد المدارس الثانويّة في البلاد، فلم تكن هناك في العقد الأول من القرن العشرين سوى ست مدارس عالية، أشهر ما يدرس بها علم الحقوق والهندسة، ومع ذلك فبرنامجها في الحقيقة برنامج المدارس الثانوية، أي فيه الكفاية لمجرد إخراج من يشغلون الوظائف الثانوية، والسبب في ذلك المرتبات الضئيلة التي ينقدها أهل الوظائف الصغرى تحول دون استخدام الأوروبيين في هذه الوظائف، ولذلك أصبح من الضروري بقاء المدارس العليا القديمة حتى يؤخذ العدد المطلوب للوظائف المذكورة من أبناء البلاد (4) .

ص: 373


1- سلامة، جرجس، أثر الاحتلال البريطاني، مرجع سابق، ص 216-217.
2- المرجع السابق، ص7.
3- جمعة، محمد لطفي. شاهد على العصر، مرجع سابق، ص69-77.
4- سلامة، جرجس، أثر الاحتلال البريطاني، مرجع سابق، ص 96-97، نقلاً عن تيودور روثنستين. تاريخ المسألة المصرية.

9-الثقافة واللغة العربية والدين والانتماء

كانت أغراض الاحتلال، ترمي إلى إضعاف اللغة العربية، وإحلال اللغة الإنجليزية محلها، وتغييب تاريخ البلاد من قلوب وعقول ناشئة الوطن حتى يسلس قيادتهم وطاعتهم وخضوعهم للاحتلال أطول وقت ممكن. ومن أجل ذلك، ألغي استعمال اللغة العربية، كواسطة للتعليم في جميع مراحل التعليم وحلت محلها اللغة الإنجليزية. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما قللت حصص اللغة العربية في المدارس الابتدائية بشكل ملفت للأنظار (1) . كما أن تاريخ المصريين والعرب لم یكن داخلاً في برنامج المدارس الثانوية، بحجة أنه غير ضروري لامتحان ما يسمّى الشهادة الثانوية، وهي الشهادة الوحيدة التي تفتح لحاملها باب الحياة الحكومية في الوظائف والتدريس. أما التعليم الابتدائي فيكفي أن يقال عنه أنه ليس إجبارياً ولا مجانياً ولا زائداً زيادة كبيرة عن القراءة والكتابة والحساب (2) .

وقد صار الدين مهمشاً، كما يقول محمد لطفي جمعة في مذكراته لم يحاول الأساتذة تعليم الدين، كأنهم كانوا يتحاشون - تنفيذاً لبعض الأوامر - أن يعرضوا علينا بضاعتهم، وكان جلهم من متخرجي الأزهر ودار العلوم. لم أسمع - وأيم الحق - كلمة إيمان أو عقيدة من أحدهم... لم يقولوا ولم ينطقوا طوال ثماني سنوات قضيتها في التعليم الابتدائي والثانوي كلمة في الوطن أو الدين أو الأخلاق أو التاريخ الصحيح، ولم يحاول أحدهم - عفا الله عنهم وطيب ثرى من مات منهم - أن يرفع الغشاوة عن أبصارنا ولو تلميحاً، كانوا يخافون شبح دنلوب والمفتشين الإنجليز والنظار والمنافقين والدسَّاسين والجواسيس، فقنعوا بالمرتبات والثياب الجديدة والطرابيش الحمراء عن أداء الواجب نحو التلاميذ (3) .

ويستمر في شهادته «وبعد فترة الشهادة الابتدائية، التي قطعتها بسرعة، قبروا

ص: 374


1- سلامة، جرجس، أثر الاحتلال البريطاني، مرجع سابق، ص263.
2- روثستين، تيودور. تاريخ المسألة المصرية، مرجع سابق، ص223.
3- جمعة، محمد لطفي. شاهد على العصر، مرجع سابق، ص

دروس التاريخ المصري القديم وبدأوا تاريخ الكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية وأوروبا في القرون الوسطى والحروب الصليبية، وعلمونا العلوم كلها بالإنجليزية من: رياضيات، وكيميا، وطبيعة، إلى جغرافيا وتاريخ، ولم ينقص إلا أن يعلمونا العربية بالإنجليزية. وكان المعين على هذا البلاء والغدر دوجلاس دنلوب ويعقوب أرتين وجميع نظار المعارف أمثال فخري باشا. فكان من المستحيل على تلميذ أن ينبغ في اللغة العربية التي أعان رجالها على الحط من قدرها بالكتب الزرية الحقيرة التي ألفوها في النحو والصرف والبلاغة، فكان تعليمنا يؤهلنا للعبودية للأجانب، ويحصر أرزاق التلاميذ بين أيدي أساتذتهم من الإنجليز في دواوين الحكومة. والحق أننا في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلى سنة 1908 كنا مسرعين إلى الدمار العقلي بخطوات واسعة، ولم ينقذنا إلا الله بحادثة دنشواي (1) .

ويستمر محمد لطفي جمعة في شهادته قائلاً «كانت الوطنية غير معروفة عندنا بتاتاً مع وجود مصطفى كامل وجريدة اللواء، ولا الدين كذلك مع معاصرة الشيخ محمد عبده، ولا الاجتماع مع وجود قاسم أمين وسعد زغلول وأمثالهما، ولا ندري شيئاً عن الحياة العامة. لقد أحكم الملاعين غلق الأبواب على عقولنا وأخلاقنا وضيقوا الخناق علينا تضييقاً شنيعاً، واستعملوا «ضباطاً» من الطراز القديم ليحفظوا النظام، وهؤلاء كانوا في غاية الذل والخضوع لا ينطق أحدهم بكلمة (2) .

ويقول محمد حسين هيكل أتممت دراستي الثانوية، وليس لي في أمور السياسة ولا في أمور الاجتماع رأي مكون (3) . ويعطينا محمود محمد شاكر شهادته فيقول: «شهادتي أنا من موقعي بين أفراد جيلي الذي أنتمي إليه، وهو جيل المدارس المفرغ من كل أصول ثقافة أمته، وهو الجيل الذي تلقى صدمة التدهور الأولى،.. أحسست أني أنا والجيل الذي أنا منه، وهو جيل المدارس المصرية، قد تم تفريغنا تفريغا يكاد يكون كاملا من ماضينا كله، من علومه وآدابه وفنونه، وتم أيضاً هتك العلائق بيننا

ص: 375


1- جمعة، محمد لطفي. شاهد على العصر، مرجع سابق، ص 64.
2- المرجع السابق، ص82.
3- هيكل، محمد حسين. مذكرات محمد حسين هيكل، مرجع سابق، ص 25.

وبينه، وصار ما كان في الماضي متكاملاً متماسكاً، مزقاً متفرقة مبعثرة تكاد تكون خالية عندنا من المعنى ومن الدلالة، ولأنه غير ممكن أن يظل الفارغ فارغا أبداً، فقد تم ملء هذا الفراغ بجديد من العلوم والآداب والفنون، لا تمت إلى هذا الماضي بسبب، وإننا لنستقبله استقبال الظامئ المحترق لقطرات من الماء النمير المثلج (1) .

10- التعليم من أجل الوظيفة

بدمج مختلف أنحاء مصر في برنامج تعليمي واحد بالتدرج السابق الإشارة إليه، حقق الاستعمار أكثر من مجرد تعديل في أساليب التعليم والتربية. لقد دمر معنى العملية التعليمية ذاتها، وجرى تعميم الطموح للوظيفة، من خلال الحصول على الشهادة دون نظر لمحتوى التعليم أو غايته. وجعل من المدارس مسابك لإعداد آلات بشرية تفي بحاجات الدواوين (2) .

فقد شجع الاحتلال، على ثنائية التعليم، من خلال نظامي الكتاتيب والمدارس الأميرية، لخلق تميز طبقي بين المواطنين، وعمق الشقة بين الصفين لإبعاد الشقة بينهما في الثقافة والميول والاتجاهات. ليجعل من إحداهما طبقة حاكمة، والسبل أمامها إلى الصدارة منفتحة، لتكون الطبقة التي تسانده ويختبئ وراءها لإرغام المواطنين على استساغة وضعهم، واستجداء السلطة الاستعمارية بدلاً من تحديها من خلال الوظيفة مهما كانت درجة كفاءتهم، فقط غايتهم وضع كل شيء في أيدي غير الأكفاء حتى تأتي النتائج معكوسة، وقد أثمرت هذه الغاية فكان معظم الذين تخرجوا في ذلك العهد جُهَّالاً ومعدومي الكفاءة والثقافة (3) . ومن الثانية، طبقة محكومة، تلتمس رزقها في الفلاحة أو الصناعة الخفيفة أو حقير الأعمال، ولا سبيل أمامها للوظيفة الحكومية وبالتالي المشاركة في حكم البلاد، فتعيش في تعاستها وفقرها المستمرين (4) .

ص: 376


1- شاكر، محمود محمد. رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، مرجع سابق، ص 227-228.
2- سلامة، جرجس، أثر الاحتلال البريطاني، مرجع سابق، ص (ط) من مقدمة محمد يوسف وزير التعليم للكتاب.
3- جمعة، محمد لطفي. شاهد على العصر، مرجع سابق، ص 69-77.
4- سلامة، جرجس، أثر الاحتلال البريطاني، مرجع سابق، ص

ويستمر قائلاً لقد جعل كرومر وشيعته برامج التعليم مثالاً يحتذى للتوافه والسفاسف، وقيدوا التعليم بالشهادات الحكومية التي لا تبيح سواها دخول الوظائف، وحاربوا التعليم الحر والمهن الحرة ليقتلوا الاستقلال في العمل ويخنقوا النبوغ في مهده. وهكذا ضمن الإنجليز الجهل للتلاميذ، وحددوا المستقبل للطائعين منهم وقفلوا بابه في وجود المستقلين والنوابغ (1) .

11- صنائع الاستعمار في مجال التعليم

نجح دانلوب، في تكوين بطانة من الإنجليز والمصريين، يسبحون بحمده وينفذون جميع أوامره وينتهون عن سائر نواهيه، ويُسيِّرون وزارة المعارف ومدارسها بحسب إشارته، وصار هو الحاكم بأمره (2) . يقول محمد لطفي جمعة، عن بعض صنائع الاستعمار نتاج النظام التعليمي وبالجملة كانت فترة التعليم الثانوي بالنسبة لي ولأمثالي في أوائل القرن العشرين محنة. أما الآخرون، وكان معظمهم من الريف، فكانوا يقبلون على التعليم المدرسي بنية أن يأخذوا شهادة ليتوظفوا بها، وقد نجح كثير منهم وصاروا في الحكومة باشوات وبكوات وأفندية، وهم في غاية الغفلة من الناحية السياسية والقومية والثقافية، وتراهم الآن كما كانوا من قبل يدافعون عن الحكم القائم الذي صاروا بفضل كرومر وجورست و كتشنر وماكسويل من عباده، ولم يكن ينتظر غير ذلك (3) .

يقول محمد لطفي جمعة «ولما فشا نظام المستشارين الإنجليز، قسموا بينهم رجال المستقبل: فقالوا هؤلاء الباشوات المصريين صنيعة فلان المستشار وهؤلاء صنيعة فلان، وتبارى كل فريق في تسييد (من السيادة) سياسة صاحبه ومولاه، وبعبارة أخرى خلق في مصر نظام جديد من الولاء كالولاء العربي القديم بين الأمراء والتابعين. وقد جعل دوجلاس دنلوب، لنفسه جيشاً جراراً من هؤلاء

ص: 377


1- جمعة، محمد لطفي. شاهد على العصر، مرجع سابق، ص 78-79.
2- جمعة، محمد لطفي. شاهد على العصر، مرجع سابق، ص69-77.
3- المرجع السابق، ص81.

الصنائع في نظارة المعارف، وبثه في حنايا المدارس والمعاهد والدواوين، وبعث منهم جواسيس وأرصاداً ، وألزمهم بكتابة التقارير إليه في الليل والنهار. وهذا هو الوسط، الذي تربى فيه رجال المستقبل، وأمل الجيل، وذخيرة مصر، ورجاء الأمة وذخر الوطن (1) .

وقد احتفظ معظم المسئولين التعليميين في عصر الملكية الدستورية بعد الاستقلال عام 1922م، بالأسلوب الإرشادي في السياسات التعليمية التي وضعها المحتل البريطاني بشأن درجات السلم التعليمي (2) .

خاتمة

لقد رأى الإنجليز فرصتهم الذهبية في ثورة عرابي وخنوع الخديوي وثقل الدين الخارجي، فكانت ضربتهم واحتلال مصر عسكرياً، وتلوه باحتلال العقول وتبوير الأفهام عبر التعليم، الذي أعطاهم الفرصة لإيجاد هوة سحيقة بين أبناء المجتمع من خلال إحلال ثقافة أجنبية محل الثقافة الأصلية العربية الإسلامية، وخلق جيل من الرجال تمكنوا من اللغة والآداب الغربية، ولكن القيم لديهم كانت مهتزة والفكر عندهم سقيم، حتى يضمنوا لاحتلالهم الاستمرار والثبات، حتى استتب لهم الأمر في مصر، وقضوا في أرض الكنانة (73) سنة.

لم يكن القبول بالقسر وحده، عبر القوة الغاشمة للاحتلال، بكونه الأداة الوحيدة لاستمرار الاحتلال الإنجليزي لمصر، لكن كان التعليم أداة القسر الناعمة الهادئة، التي أسهمت بقوة في نجاح مشروع الاستعمار. فالإمبريالية القديمة، وعت تماماً دور العلم والتعليم خاصة، في بقاء ونماء الاستعمار وترسيخ جذوره في التربة المصرية.

ولهذا، فإن الإحاطة بالظاهرة الاستعمارية في الميادين النظرية والتطبيقية، والاهتمام بالتعليم باعتباره أرض المعركة الحقيقية التي ينبغي النضال فيها إن أرادت

ص: 378


1- المرجع السابق، 79.
2- شميدت، آرثر جولد، وآخرون (تحرير). رؤية جديدة لمصر، ص 243.

أمتنا استقلالاً حقيقياً، هما مقدمات حصول مجتمعاتنا العربية المسلمة على نظام للاجتماع والحكم على درجة من القوة، بالقدر الذي لا يسمح بتكرار الأحوال التي أدت إلى وقوع الاحتلال البريطاني. فالتعليم الفعّال، يلعب دورا أساسياً في مستقبل أمتنا، وما خروج مصر من التصنيف العالمي للتعليم مؤخراً، وفي علاقة ذلك بتنامي تبعيتها للاستعمار والإمبريالية في ثوبها الجديد، ما هو إلا مؤشر على ما قد تذهب إليه تلك الأمة في الغد القريب.

وأخيراً، كما سعى الأوّلون من المصلحين في بداية هذا القرن، عبر التعليم لتنوير الأمة وتخليصها من أوزار وقيود الاحتلال، على الذين يعملون ويناضلون داخل أمتنا، أن يكون التعليم والثقافة أول وأهم ثغر من الثغور التي يقفون عليها مرابطين، حتى لا تقع أمتنا قصعة شهية لإمبريالي اليوم المتنمرون الجاهزون لالتهام أمتنا اليوم أو غداً على الأكثر.

إن هزيمة الإمبريالية الجديدة تحتاج إلى سلاح التعليم

ص: 379

التعليم في عهد الاستعمار وأثره في صناعة النخب

اشارة

- المغرب أنموذجاً -

طارق الفاطمي

طارق الفاطمي (1)

لقد دخل الاستعمار إلى بلدان الوطن العربي في أوج اكتمال التصورات الغربية على المستوى الفكري المعرفي، والصناعي التكنولوجي، حيث حدد الغرب منذ القرن 19 الميلادي معالم العالم الجديد الذي يريد صياغته، وحدد أدوار كل الفاعلين في بلورة هذا التحول وتنزيله على أرض الواقع، فكانت آلته المباشرة الاستعمار والاحتلال الفعلي لبلدان العالم الثالث، مع أفق استراتيجي بصناعة نخب من داخل البلدان المستعمَرة تحمل لواء هذا المشروع وقيمه وأدواته في مختلف المجالات، وتدافع عنه، وتحرص على صيانة مصالحه. وكانت المدرسة النظامية الحديثة، أداة الاستعمار الرئيسة لتصريف القيم الغربية وترسيخها، وتوجيه أجيال المستقبل وفق تصورات وأهداف مسطرة سلفاً، وسائلها المناهج التعليمية والفضاء المدرسي وأنشطة الحياة المدرسية.

ولتحقيق مآربه أحدث الاستعمار تحولات عميقة على الأنظمة التعليمية في الوطن العربي، بتثبيت دعائم المدرسة الحديثة، وتوحيد المناهج الحاملة لتصورات

ص: 380


1- باحث - المغرب.

المستعمر وقيمه وأهدافه المعلنة والضمنية، وكانت وسيلتها ترسيخ القيم بطرائق اشتغال مستحدثة جذابة، والتدريب على مهارات معينة، وتوصيف مخرجات بكفاءات مسطرة مسبقاً، أو ما يسمى في أدبيات علوم التربية بمواصفات التخرج ((PROFIL DE SORTIE)).

وتعد دراسة منهجية صناعة النخب الفكرية والسياسية والاقتصادية التي سوف تنوب عن الاستعمار في تدبير الشأن العام إبان فترة احتلاله لبلدان الوطن العربي، وضمان استمرار مشروعه الفكري والسياسي والاقتصادي والقيمي بعد انتهاء فترة الاستعمار، إحدى الأولويات لفهم ما وقع من تغريب للعقول والسلوكات والعادات وطمس للهوية الإسلامية.

ويعزى فشل جل الأنظمة التعليمية في الوطن العربي إلى استمرار الأنموذج الاستعماري مع غياب الجودة، في ظل التفييء والتمييز والتفاوت الذي تعرفه أشكال التعليم القائمة اليوم في المجتمعات العربية. والأنموذج المغربي مثال شاهد على ذلك، حيث نجح الاستعمار في تكوين نخب مغرّبة في جميع المجالات تحمل قيمه، وتدافع عن مشروعه، وتحرص على صيانة مصالحه، مع فشل ذريع في كل الإصلاحات المتتالية التي عرفها النظام التعليمي. ما يفرض الإجابة عن التساؤلات الآتية:

ما هي أشكال التعليم التي انتشرت في مرحلة الاستعمار؟ وما الغاية من تعدد أنماط المدارس؟

ما الآثار التي أحدثها التعليم النخبوي في المغرب؟ وما الوسائل التي اعتمدها في تثبیت مشروعه بواسطة المدرسة؟

وقد حاولت معالجة إشكالية هذا البحث وتساؤلاته في مبحثين، أولهما عرضت فيه النظام التعليمي في المغرب إبان الاستعمار الفرنسي: الأشكال، المقاربات، والغايات، وبينت خصائص كل نظام ومخرجاته وتأثيراته، والثاني بينت فيه النخب التي أنتجها التعليم الاستعماري، وأدوارها إبان الاحتلال وبعده.

ص: 381

المبحث الأول: النظام التعليمي في المغرب إبان الاستعمار الفرنسي: الأشكال، المقاربات، والغايات.

1. العلاقة بين الدراسات السوسيولوجية والاستعمار:

كانت المناهج العلمية والمعرفية في العلوم الإنسانية قد اكتملت في المرحلة التي غزا فيها الاستعمار بلدان الوطن العربي، حيث عرفت الأبحاث في علم الاجتماع الوظيفي مع «دوركايم» (1) ، وغيره من رواد هذا التيار تطوراً ملموساً كان له الأثر الواضح في الدراسات والأبحاث الاجتماعية، وعرفت نفس الفترة ظهور التيار الفلسفي البرجماتي مع «وليام جيمس» و «وجون ديوي» وغيرهم، والتيار الوضعي مع «أوكست كونت»، هذه التطورات الفكرية والمعرفية التي واكبت المرحلة كان لها الأثر الواضح في تطوير صناعة المناهج التعليمية في شكلها الحديث، حيث ظهرت نظريات التعلم التي تجعل المدرسة قاصدة في غاياتها، مقتصدة في جهودها واستثماراتها، وفي كلفة زمنية مناسبة، فظهرت النظرية السلوكية، المرجعية النظرية والخلفية الفلسفية لبيداغواجيا الأهداف، التي اعتبرت التطبيق الفعلي لنظريات التعلم في المناهج والفصول الدراسية.

وكان المستعمر يستثمر هذه الجهود العلمية والمعرفية في ترسيخ توجهاته القيمية والفكرية والسياسية والاقتصادية، فقد كانت البحوث «الأنثروبولوجية» التي سنحت بتشخيص واقع المجتمعات المستعمرة، واستشراف أفق التحكم في مستقبلها، أداة مباشرة في معرفة ثقافات المجتمعات الشرقية ومعتقداتها وبنياتها الاجتماعية وعاداتها ومشاكلها، وتطلعاتها المستقبلية.

وما وقع في المغرب شاهد تاريخي على ذلك حيث أفرزت جهود الباحث الأنثروبولوجي ((روبير مونتانبي)) (2) «Robert Montagne» وتحليله للنظام القبلي

ص: 382


1- إميل دوركايم فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي، أحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث، توفي سنة 1918م.
2- ألف «روبير مونتاني» مجموعة من المؤلفات والمقالات عن الواقع الاجتماعي المغربي أشهرها: Les Berbères et le Makhzen dans le Sud du Maroc». Paris، F. Alcan، 1930» .La Politique Berbère de la France»، Journal of the Royal African Society، Vol. 33، No. 133. (Oct.، 1934)، pp. 338- 352»

في المغرب، ما سمي «بالظهير البربري» (1) ، الذي سعى إلى تفريق «أمازيغ» المغرب عن العرب، وكانت وسيلته مدراس خاصة بالأمازيغ لتشكيل نخبة أمازيغية قادرة على قيادة مناطقها التي أريد فصلها عن المغرب، لولا تدخل العلماء وعقلاء البلد والحركة الوطنية لإيقاف المخطط، وكانت لجهود الطبيب والباحث الفرنسي ((بول شاتنيير)) «PAUL CHATINIERES» التي لخصها في مذكراته المسماة «في الأطلس الكبير المغربي» (2)، وتتبع فيها تفاصيل دقيقة عن البنية القبلية عن منطقة مراكش ونواحيها، والأسماء المؤثرة في هذه الأوساط في تلك المرحلة من مدينة فاس إلى مراكش، ولقي عمله إشادة كبيرة من قبل المقيم العام الفرنسي الجنرال «اليوطي» وحظي بتكريم خاص على جهوده.

وكانت «البعثة العلمية» التي أسست سنة 1904م في فرنسا، المؤسسة المسؤولة عن التخطيط النظري الاستراتيجي لدخول الاستعمار الفرنسي إلى المغرب، وكانت تابعة لكرسي سوسيولوجيا العالم الإسلامي لجامعة باريس العتيدة «College de France»، وقد أشرف على إدارتها «ألفريد شاتولي» «Alfred le chatelier» (3)، وهو أستاذ السوسيولوجيا والسوسيوغرافيا الإسلامية. وكان من أبرز مهامها الاعتناء بكل ما يرتبط بما عرف في حينه بالشؤون الإسلامية، وهي البعثة التي سيكون ل- «ليوطي» دور في توجيهها، مستفيداً في ذلك مما راكمته تجربة الاحتلال الفرنسي للجزائر، وسوف يتغير اسم «البعثة العلمية» سنة 1920م لتصبح «شعبة سوسيولوجيا الشؤون الأهلية»

ص: 383


1- الظهير البربري، أو المرسوم البربري، وهو قانون أصدره الاحتلال الفرنسي للمغرب في 17 ذي الحجة 1340ه-/16 مايو 1930م. ونصّ هذا الظهير على جعل إدارة المنطقة الأمازيغية تحت سلطة الإدارة الاستعمارية، فيما تبقى المناطق العربية تحت سلطة «حكومة المخزن» والسلطان المغربي، وتم إنشاء محاكم على أساس العرف والعادة المحلية للأمازيغ، وإحلال قانون العقوبات الفرنسي محل قانون العقوبات «الشريفي» المستند إلى الشريعة الإسلامية؛ ومن ثم قام هذا القانون بنوعين من العزل تجاه المناطق الأمازيغية؛ أولهما عزل الإدارة السلطانية عنهم، وعزل الشريعة الإسلامية عن التقاضي بينهم، على اعتبار أن العادات والأعراف البربرية كانت سابقة على الإسلام. وكان الأمازيغ يشكلون حوالي 45% من سكان المغرب في تلك الفترة، وينتشرون في بلاد الريف وجبال أطلس.
2- .Chatinières، Paul (1884- 1928). Dr Paul Chatinières، Dans le Grand Atlas marocain، extraits du carnet de route d’un médecin d’assistance médicale indigène، 1912- 1916.Introduction du général Lyautey. (1919). In-16، XVI-299 p، pla
3- أستاذ علم اجتماع العالم الإسلامي، بين سنة (1902-1925م)، بجامعة «Collège de France»، مؤسسة مجلة العلم الإسلامي بين سنة (1876 - 1893). http://catalogue.bnf.fr/ark:/12148/cb125287028≥≥.

«Section sociologique des Affaires indigènes» هذه البعثة سوف يصبح لها فيما بعد وتحديداً سنة 1925م مسمى آخر هو: معهد الدراسات العليا المغربية «L'Institut des Hautes Etudes Marocaines (IHEM)» و هو المعهد الذي توحدت فيه البعثة العلمية والمدرسة العليا للغة العربية واللهجات البربرية والقسم السوسيولوجي (1).

وبدخول المغرب رسمياً تحت الحماية الفرنسية سنة 1912م، شرع الاستعمار في تنفيذ مشروعه الثقافي الذي لم ينفك عن مشاريعه السياسية والاقتصادية والعسكرية في البلاد، وكانت الوسيلة الأقرب إلى ذلك المدرسة بمعاييرها الحديثة، حيث تنوع العرض المدرسي واستهدف كل نوع منه فئة من الطبقات الاجتماعية المغربية، فكان يتراوح بين التعليم الأصيل المورث، والتعليم الحديث المتعدد المشارب والأبعاد والمستفيدين.

2. التعليم الأصيل:

كان التعليم الأصيل الديني ((العتيق))، الذي مثلته المعاهد والجامعات الدينية قبل الاستعمار وإبانه أحد أهم أعمدة التعليم العمومي في المغرب، وإن كان محدود الانتشار تمثله المدارس الدينية المنتشرة في القرى والمداشر، حيث يحفظ الطالب القرآن الكريم، ويتلقى مقدمات العلم الشرعي، ويكمل دراسته العليا بمعهد ابن يوسف بمراكش، أو جامعة القرويين بفاس، وهو التعليم الذي عاش أزمات ما فتئت أن تفاقمت بانتشار التعليم النظامي الذي أسسه الاستعمار وشجعه، ويتحدث محمد الحجوي رحمه الله (2) عن الواقع الرديء الذي آل إليه التدريس في القرويين بوصفه خبيراً وخريجاً لهذا التعليم ومعاصراً للمرحلة كان يحمل همّ

ص: 384


1- السوسيولوجيا المغربية؛ من الرفض إلى إعادة الاعتبار، محمد مادوي، أستاذ علم الاجتماع في المعهد الوطني للفنون والمهن (CNAM)، وباحث في المختبر المتعدّد التخصصات للسوسيولوجيا الاقتصادية (LISE)، في المركز العلمي للبحث العلمي في فرنسا (CNRS)، باریس، ترجمة: رشيد بن بيه، مقال نشرته مجلة إضافات العددان 32،31، صيف - خريف 2، ( ص 194 و 195).
2- محمد بن الحسن بن العربي بن محمد الحجوي الثعالبي الفلالي (1291- 1376ه- / 1874-1956 م)، الأعلام للزركلي (96/6)، معجم المفسرين «من صدر الإسلام وحتى العصر الحاضر» (518/2).

التجديد والتطوير في نظام التدريس بهذه الجامعة: «والمتحصل من المسألة أن حالة القرويين لم تزل في جمود ولم تتحسن قط مع ما بذلناه من الجهود، بل انحطاطها يزداد كل يوم غیر أن المدرسين والطلبة قد شعروا الآن، فهم يبثون الشكوى في الإعلان والنجوى ولم تجد إلى يومنا هذا يداً مساعدة، وعسى أن يهيئ لها الحق سبحانه مستقبلاً زاهراً، ونصيراً ظاهراً» (1).

وهو الحكم نفسه الذي انتهى إليه الباحث والمفكر المغربي محمد عابد الجابري رحمه الله، حيث قال وهو يحلل مشكلة التعليم بالمغرب: «لقد كانت جامعة القرويين و((المدارس)) التابعة لها، خلال القرن الماضي وبداية هذا القرن، مثالاً لأقصى ما يمكن أن تصل إليه مؤسسة علمية عتيدة، من أنواع الانحطاط والتخلف» (2) .

والغريب، أنك تقف على محاولات لإصلاح نظام التعليم بالقرويين قادها الحجوي وهو وزير المعارف حينئذ، بمعية مجموعة منتخبة من أساتذة الجامعة نفسها، غير أنها أُقبرت وأوقفت بإيعاز من جهات غير معروفة كما عبر عنه رحمه الله فقال: «وأقول من غير تمدح أو تبجح: إن ذلك القانون لو خرج من حيز الخيال إلى حيز الأعمال، لكان محيبا للقرويين، مجدداً لهيئتها التدريسية تجديداً صحيحاً متيناً؛ إذ ليس له مرمی سوی ترمیم ما انهار من هيكلها المشمخر، باعثا لعلوم وفنون من أجداثها كان الإهمال أخفاها، وتطاول الأزمان عفاها، مرقياً ومحسناً لما فضل عن أيدي الأوهام والإهمال سائقاً لمن تمسك به إلى العروج بذلك المعهد الخطير إلى مستوى نظامي عصري ديني، به يبلغ العلم والدين والثقافة أوج الكمال والفخار» (3).

نجد تفسير ما حدث في مواقف بعض المنظّرين للسياسة التعليمية بالمغرب إبان الاستعمار، ومشروع إصلاح القرويين سوف يعرقل مشروعاً ثقافياً كبيراً يقوده الاستعمار الفرنسي ويوجهه في إطار استراتيجية كبرى للاستعمار الثقافي للبلدان العربية الإسلامية، ما سيعجل بتوقيف مشروع الإصلاح وتعويضه بترميم بسيط لنظام

ص: 385


1- الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (2/ 229).
2- أضواء على مشكلة التعليم بالمغرب (ص 7 و 8).
3- الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (228/2).

القرويين وتسوية الوضعية المالية والإدارية للموظفين به، وقد وقفت على كلام أحد هؤلاء وهو الأنثروبولوجي الفرنسي «بول مارتي»(PAUL MARTY» 1882-1938»)، عبر عن ذلك بوضوح في كتابه ((مغرب الغد)) بالقول: يجب أن نعمل على تجديد القرويين لأنه إذا لم نفعل ذلك نحن، فإن هذا التجديد الذي تفرضه الظروف سيتم بدوننا وضدنا .... الاحتفاظ في المغرب بهؤلاء الشبان النازحين من عائلات مرموقة، بدل تركهم يذهبون إلى المشرق لتلقي العلم الذي ستحرمهم منه القرويين في حالة عدم تجديدها ... ألا يعودون مزودين بميول انجليزية أو بروح النهضة الإسلامية والتعصب الوطني» (1).

وقد عرف المعاصرون للمرحلة أن الأمر يتعلق بمخطط آخر للتجديد مع التحجيم وتحديد الوظائف ومحدودية قدرات المخرجات، فلم يتجاوز دور الخريجين الإمامة والخطابة في المساجد أو التدريس والوظائف القضائية، أو بعض الوظائف الإدارية، ولم تتعد أدوار مخرجات القرويين هذا المستوى إلى مستويات القرار والتخطيط سواء في عهد الاستعمار أو بعده (2) .

2-التعليم الحديث:

تراوح التعليم الحديث في المغرب، الذي بدأت السلطات الاستعمارية في إرساء دعائمه منذ السنة الأولى لفرض معاهدة الحماية، بين التعليم الأوربي والإسرائيلي، والتعليم العمومي الإسلامي، والتعليم الحر، وكان لكل شكل من أشكال التعليم التي ظهرت في تلك الفترة أدوارها والفئة التي تستهدفها ببرامج ومضامين معرفية خاصة.

وقد أعلن المقيم العام للاستعمار الفرنسي «الجنرال اليوطي» عن أهداف النظام التعليمي الحديث الذي أرساه في المغرب فيما يأتي:

1. المحافظة وتطوير التعليم الابتدائي الأوروبي والإسرائيلي.

2. تأسيس نظام تعليمي تقني (فني - مهني) يستهدف المغاربة المسلمين.

ص: 386


1- .PAUL MARTY «Le Maroc de demain»، Comité de l’Afrique française، 1925
2- الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (2/- 228 229)، أضواء على مشكلة التعليم بالمغرب ( ص 10 و 11و12).

3. الحرص على تدريس اللغة العربية لتوظيف ناطقين باسم الاستعمار الفرنسي (1).

وقد أنشأت في هذه الفترة استكمالا لهذه الأهداف مدرسة عليا للغة العربية.

وكانت الهيكلة الإدارية للتعليم الفرنسي تسيّرها إدارة مركزية مقرها بمدينة الرباط يترأسها منتدب من وزارة التربية والتعليم الفرنسية، تشرف على مراقبة وتدبير شؤون التعليم في المغرب بأربع مصالح مركزية تخصصية أولاها للتعليم الابتدائي الأوروبي الإسرائيلي، والثانية للتعليم الثانوي الأوروبي، والثالثة للتعليم الإسلامي بسلكيه الابتدائي والثانوي، والرابعة للتعليم التقني - المهني (2) .

أ. التعليم الأوروبي والإسرائيلي:

كان هذا النظام التعليمي فرنسياً خالصاً، وتُصرَف فيه برامجه ومقرراته، وشُيِّد أساساً لاستقطاب أبناء اليهود وتكوينهم بالإضافة إلى أبناء الفرنسيين المقيمين في المغرب، وأبناء بعض الأعيان ورجال الدولة، وكانت جودته عالية، ويستجيب لمعايير المدرسة الأوروبية الحديثة بمراقبة وتتبع صارمين، وانتقاء للأساتذة المدرسين في هذه المدارس، مع مراعاة الخصوصية الثقافية للمتعلمين اليهود (3).

ب. التعليم الإسلامي والتعليم (التقني - المهني):

كان تعليماً عاماً يركز على الأساسيات من اللغة العربية، واللغة الفرنسية، والمواد العلمية والرياضية، أما التعليم المهني فكانت الغاية منه توفير اليد العاملة في الفلاحة والصيد البحري أساساً وبعض الصناعات المعدنية، ضماناً لمصالح المستعمر واستمرار مشاريعه (4) .

ورغم ضعف جودة هذا النوع من التعليم ومحدودية انتشاره، وإحجام المغاربة

ص: 387


1- أضواء على مشكلة التعليم بالمغرب ( ص 20).
2- .l’enseignement au maroc pendant la période coloniale، p 15
3- إصلاح التعليم بالمغرب بين 1956م - 1996م، المكي المروني، الدار البيضاء، المغرب، مطبعة النجاح الجديدة.
4- .l’enseignement au maroc pendant la période coloniale، p 17

عنه، فإنه لم يعرف انتشاراً كبيراً وتشجيعاً واضحا خلال الفترة الممتدة بين(1912-1945م)، ولم يعرف توسعاً نسبياً في المدن والقرى المغربية إلا بعد نضال الحركة الوطنية ومطالبتها بدمقرطة التعليم وتعميمه وتعريبه مع مردودية ضعيفة ونتائج محدودة، ويحدد الجدول أسفله عدد الأطر المغاربة المسلمين سنة 1945م:

الصورة

أما الأطر التي اشتغلت بالتدريس فكان عددها محدوداً أيضاً دون أن تستفيد من تأهيل بيداغوجي وعلمي (1) .

ج. التعليم الحر (الفرنسي - الإسلامي):

رَخّص له الاستعمار سنة 1935م لتدارك نسب الأمية التي بقيت في ارتفاع مستمر، واستقطاب فئة أخرى من المغاربة التي يجب أن يستجيب التعليم لتطلعاتها، وهي طبقة برجوازية غنية قادرة على أداء مصاريف التعليم مقابل تعليم بمعايير أوروبية يحافظ على الثقافة الإسلامية، وتمت الاستجابة لذلك عن طريق إحداث هذا النوع من التعليم الذي انتشر أساساً في المدن الكبرى.

وكانت هذه المدارس تدرِّس القرآن الكريم والثقافة الإسلامية بالإضافة إلى اللغة الفرنسية، التي يدرسها الفرنسيون مع دروس الرياضيات والنشاط العلمي وسير علماء وعظماء الجمهورية الفرنسية، لترسيخ القدوة والأسوة في وجدان المتعلمين (2) .

د. المدارس الأمازيغية:

أُنشئت المدارس الأمازيغية سنة 1923م وكانت الانطلاقة من مدينة أزرو بمنطقة الأطلس المغربي قبل إصدار المستعمر الفرنسي «الظهير البربري» الآنف الذكر،

ص: 388


1- الإحصائيات ذكرها الجابري نقلا عن بعض الوثائق الفرنسية التي توفرت بين يديه في تلك الفترة. أضواء على مشكلة التعليم (ص 38).
2- .l’enseignement au Maroc pendant la période coloniale، p 18

وأسست بعدها مدارس بنفس التوجه بمدن فاس ومكناس، فقد حظرت هذه المدارس اللغة العربية والثقافة الإسلامية بجميع تجلياتها، ولم تسمح لغير الأمازيغ بالاستفادة من خدماتها، ولم يكن المدرسون إلا من جنسية فرنسية (1) ، فألغت فرنسا كل وسيط بينها وبين أطفال المغاربة الأمازيغ الذين كانت تروم صناعتهم للاضطلاع بأدوار طلائعية في المستقبل، بإعداد جيل من المغاربة مقطوع الصلة بهويته المغربية الإسلامية، معتز بانتمائه العرقي ويتعصب له، ويدين بالولاء لفرنسا والثقافة الفرنسية (2) .

هذه المدارس التي سيتم التخلي عنها فيما بعد نتيجة الوعي الداخلي بخطورتها من قبل المقاومة الوطنية، والضغط من أجل إيقاف المخطط والتراجع عنه سنة 1930م، الأمر الذي اعتبر انتصاراً تاريخياً للضمير والقوى المغربية الحية، المشروع الذي تخلى عنه الاستعمار، ولم يحدث له بديلاً بهذه المناطق.

ونستنتج بعد هذا العرض والتحليل للأنظمة التعليمية الجديدة أن النظام التعليمي الفرنسي في فترة الاستعمار لم يعرف إصلاحات وتعديلات كبيرة حتى مرحلة الاستقلال، وأن الأنظمة التي أحدثها لم تكن على درجة واحدة من الجودة والفعالية، فأولى العناية لمدارس النخبة من الأوروبيين واليهود، ومدارس أبناء الأعيان الذين يستطيعون الأداء لتدريس أبنائهم، أما عموم المغاربة فقد أُنشأ لهم تعليماً بطيئاً يتباين بين المناطق: «المدارس الحضرية»، و «المدارس المهنية» و «المدارس القروية»، و «المدارس الجهوية».

وكان مشروع السياسة التعليمية في التصور الذي أعلن عنه الجنرال «اليوطي» يؤكد على الحق في الاختلاف، وهو ما كان يسوّغ به تنوع العرض المدرسي وأنظمته، ولكن هذا التنوع والاختلاف كان يخفي في عمقه وحقيقته ومراميه إقصاء اجتماعياً الشريحة عريضة من المجتمع المغربي على أسس عرقية واجتماعية.

ص: 389


1- PAUL MARTY « Le Maroc de demain»، Comité de l’Afrique française، 1925، P 241.
2- تفاصيل ذلك في كتاب «فرنسا وسياستها البربرية في المغرب الأقصى» تقرير مقدم إلى المؤتمر الإسلامي العام من اللجنة الشرقية للدفاع عن المغرب، الطبعة الثانية طبعة شركة بابل.

المبحث الثاني: النخب التي أنتجها التعليم في فترة الاستعمار وأدوارها بعد الاستقلال:

استمرار النخبة الفكرية والإدارية الفرنسية في التسيير والتنظير بعد الاستقلال:

أ. المفكرون والمنظرون الفرنسيون:

رغم إعلان استقلال المغرب سنة 1956م استمرت نخبة من المثقفين والإداريين والأساتذة الفرنسين بالعمل داخل مؤسسات الدولة المغربية.

وأحد أبرز الأعلام الذين تركتوا أثرهم الإداري والفكري قبل الاستقلال وبعده الخبير الأنثروبولوجي الفرنسي «جاك بيرك» (1) ، الذي تقلب في عدة مناصب إدارية في فترة الاستعمار، وأنتج عشرات الدراسات حول المجتمع المغربي أهمها أطروحته لنيل الدكتوراه الموسومة ب «البنيات الاجتماعية في الأطلس الكبير» (2)، وكان «بيرك» ضمن النخبة الفكرية المنظرة والمقترحة والمشتغلة في نفس الوقت إدارياً مع الاستعمار، ليتحول بعد استقلال المغرب إلى مستشرق خبير بالشؤون المغاربية بعد مناقشة أطروحته لنيل الدكتوراه سنة 1955م، التي انتقل بعدها بسنة واحدة إلى المؤسسة الجامعية في باريس«COLLEGE DE FRANCE» لينتخب أستاذاً بكرسي «التاريخ الاجتماعي والإسلام المعاصر»، خلفاً للخبير السالف الذكر «روبیر مونتاني»، وفي هذه الفترة سوف يتحول «بيرك» من متخصص في السيسيولوجيا الاستعمارية إلى أحد نقّادها، والفاحصين لمختلف أحكام القيمة التي تحفل بها كتابات

ص: 390


1- ولد «جاك بيرك» بمدينة وهران بالجزائر سنة 1910م، كان والده «أوغسطين بيرك» يشغل منصبا مهما في هرمية السلطة الفرنسية، وكان أيضاً سيسيولوجيا وأنثروبولوجيا متخصصاً في الشؤون الجزائرية، وتوفي سنة 1995م. مخلفاً تراثاً حافلاً حول المنطقة المغاربية ومصر. .Bibliographie de Jacques، Berque Revue des mondes musulmans et de la Méditerranée Année، 1997، 8384- pp.21- 43
2- .Jacques Berque، Structures sociales du Haut-Atlas، Presses universitaires de France، 1955 - 470 pages

السوسيولوجيين حول المنطقة المغاربية والعالم العربي، وينحو بأعماله من التحليل إلى الصبغة التركيبية (1) .

ولم يكن «جاك بيرك» وحده الخبير والباحث الذي بقي في علاقة قوية مع الشأن المغربي بل كان عدد من خريجي المدرسة (المغربية -الفرنسية) ممن اهتم بالسوسيولوجيا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كانت دراساتهم وأبحاثهم محل اهتمام من قبل الدولة المغربية واعتمدتها في رسم استراتيجياتها.

ب. النخبة الفرنسية الإدارية:

لقد استمرت جماعة من المعمرين الفرنسيين على رأس إدارات الدولة بعد الاستقلال، لا غرو في ذلك وقد تتبعنا في المبحث الأول محدودية انتشار التعليم وضعف الإقبال عليه خلال المرحلة ما قبل سنة 1946م، وتفاوت جودة التعليم وتوجهاته بين أنواع التعليم التي أشرف الاستعمار على إحداثها أو إصلاحها.

وأبرز هؤلاء المؤرخ والباحث الفرنسي المتخصص في شؤون إفريقيا والمغرب العربي، (مCHARLES-ANDRE JULIEN» (1891- 1991» «شارل أندريه جوليان» (2) الذي أوكل إليه الملك محمد الخامس مهمة الإشراف وعمادة أول كلية مغربية، كلية محمد الخامس للآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، وقد كانت له وجهة نظر في مسألة التعريب في التعليم المغربي، وجَّه في شأنها رسالة إلى الديوان الملكي يطلب إعفاءه من مهامه ويشرح الأسباب، ويبين فيها اختلالات واضحة في تدبير الشأن التعليمي والنظام التربوي رصده بعد الاستقلال (3) .

ص: 391


1- ذكر هذا التحول عادل المستاتي، سوسيولوجيا الدولة المغربية - إسهام جاك بيرك -، سلسلة المعرفة الاجتماعية السياسیة، طبعة 2010م . (ص 22 23).
2- .Fondation National des sciences politiques، Archives d’histoire contemporaine، Archives Charles- Andre Julien، 2004
3- يرجع في ذلك إلى مقال بعنوان «مسألة تعريب التعليم الجامعي»، لجوليان، شارل أندريه، 1960م، ترجمه البشير تامر، الرباط، المغرب، مجلة المدرسة المغربية، المجلس الأعلى للتعليم.

وقد قدّم الجابري إحصاء مهماً لعدد الإدرايين في المغرب والجزائر بالتعليم بين ( 1945 - 1955م)، ونسبة الأجانب منهم يلخصها الجدول الآتي (1):

الصورة

ويتبين بعد تحليل هذه المعطيات أن نسب الإداريين المسلمين الضعيفة خلال الفترة قبيل الاستقلال سوف يكون لها تأثير واضح على الاستمرارية في المناصب فيما بعد حتى تبقى مؤسسات الدولة قائمة، وانتظار تجاوز المرحلة الانتقالية وتكوين الأطر المحلية، بالإضافة إلى نسب الأمية المرتفعة جداً في هذه الفترة التي وصلت إلى 90% (2). لقد عرف عام 1955م قفزة نوعية في نسبة المغاربة المسلمين الممدرسين ممن تتراوح أعمارهم بين 6 و 14 سنة، حيث بلغت 6،5 %، مقابل 100 % من عدد الأطفال الأوربييين الذي لايمثلون سوى 3 % من سكان المغرب في تلك الفترة، وبلغت نسبة أطفال اليهود الممدرسين 76 % (3) . ما يبين بوضوح أن النخب الحاكمة والمؤثرة كانت تعد سلفاً لقيادة المغرب بعد الاستقلال، أو الانتقال إلى مكان آخر وإيجاد المناصب المناسبة للكفاءة والتكوين والخبرة المتينة لحملة الشواهد الفرنسيين، وإعداد النخبة اليهودية للرحيل إلى إسرائيل، والإسهام في الانطلاقة الحضارية للبلاد، لاسيما إذا عرفنا أن تعليم اليهود كانت تشرف عليه الرابطة اليهودية العالمية ( A.I.U) منذ أواخر القرن 19م.

ج. النخبة الفرنسية من الأساتذة:

ظلت نسبة الأساتذة الفرنسيين مرتفعة بعد الاستقلال، لا سيما في التعليم الثانوي والعالي، حيث لم تتجاوز نسبة المغاربة في التعليم الثانوي 24 %، وانعدمت نسبتهم

ص: 392


1- أضواء على مشكلة التعليم (ص 39).
2- نفسه (ص 43).
3- .YVETTE KATAN، L’école، instrument de la modernization sous le protectorat français au Maroc، p 102

في التعليم العالي (1) . وهو ما جعل المغرب يستمر في الاستعانة بالأجانب وخاصة الفرنسيين الذين كانوا يكلفون ميزانية الدولة، ويثقلون كاهلها بنفقات إضافية، ولن تكتمل المغربة الكاملة لأطر التدريس إلا في أواسط عقد الثمانينيات أي بعد حوالي 30 سنة من الاستقلال.

ولاشك أن تأثير الثقافة الفرنسية سوف يستمر لمدة طويلة في المغرب في سلكين هامين وحاسمين في شخصية الطالب، وهما السلك الثانوي والعالي. وقد أثر ذلك بشكل واضح على توجهات الطلبة الفكرية والسلوكية في الجامعات المغربية ما أدى إلى انتشار المد اليساري لهيمنته على الأكاديميين الجامعيين الفرنسيين في تلك الفترة، والتشبع بالثقافة الفرنسية في المعاهد العليا النخبوية ذات الاستقطاب المحدود على أساس الميزة، ما سيجعل الثقافة الفرنسية مهيمنة على الأطر العليا المغربية (2) .

2. استفادة نخبة مثقفة من الامتيازات والمناصب العليا في الدولة:

لم يكن من أولويات الاستعمار تعليم أبناء المستعمرات ورفع مستوى الوعي بها، وترسيخ قيم أسست لنهضة أوروبا كالديمقراطية والمساواة، وهو ما انتقده عشرات المفكرين ممن ناهضوا مواقف الاستعمار وحاربوا الفكر الإمبريالي الذي حركها، ولم يكن المقيم العام الفرنسي بالمغرب «الجنرال اليوطي» يخفي هذا التوجه أو يتحرج منه، بل كان يصرح به في مناسبات وثقتها بعض المصادر التاريخية عن هذه النوايا والتوجهات فقد قال: «تهدف الحماية الفرنسية إلى المحافظة على بنية المجتمع المغربي كما كانت من قبل، لأن تبقى القيادة لمن كانت بيده، ويبقى دور الشرائح الأخرى تنفيذ الأوامر والطاعة» (3) . وهو ما يؤكد أن المدرسة في عهد الاستعمار لم

ص: 393


1- يرجع إلى تفاصيل الإحصائيات، في أضواء على مشكلة التعليم (ص 39).
2- بين تفاصيل ذلك في مبحثين من المقال المعنون ب (( مغرب النخب بين عالمين))، للباحث المهتم بالقضايا المغاربية «بيير فيرمرين». .Pierre Vermeren، Maghreb des élites entre deux mondes، Revue internationale d’éducation deSèvres، N° 39 | septembre 2005، p 47- 48- 50-
3- .Daniel Rivet: «Ecole et colonisation au Maroc»، la politique de Lyautey au début des année 20M، UN cahier d’histoire، 1976، p. 174

تكن نظاماً تربوياً وإدارياً غايته التعليم والتربية ودمقرطة المجتمع المغربي، بل كانت أداة إيديولوجية غايتها الأساس الغزو الثقافي والقيمي للمجتمعات المستعمرة، والمحافظة على مكتسبات الطبقات الاجتماعية الحاكمة، وكانت تتخوف دائماً من تشكل نخب ثقافية قادرة على مواجهة الاستعمار وتغيير البنيات الاجتماعية، وهو ما يفسر محدودية انتشارها والأعداد التي استقطبتها، واهتمامها أكثر بالنخب الاجتماعية والعرقية.

وحرص الاستعمار على هذه التراتبية في الأنظمة التعليمية التي كان هدف كل منها تخريج طبقة معينة لأداء وظائف محددة في المجتمع، ولكن الجامع بينها تقديم ثقافة غربية تسعى في الأمد المتوسط والبعيد إلى هدم القيم المغربية الإسلامية وتبنّي النموذج القيمي الغربي، وإحداث التحول المنشود في البنيات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وضرب التماسك واللحمة الاجتماعية وهو ما تمكن التعليم الفرنسي من إحداثه بالفعل، حيث استمرت معالم هذا التصور في المدرسة المغربية بعد الاستقلال.

وقد احتكرت النخبة الفرنسية واليهودية والارستقراطية والبرجوازية التعليم في المغرب خلال فترة الاستعمار الذي لا يمكن تمييز جودته في تلك المرحلة عن جودة نظام التعليم في فرنسا، والزج بعامة أبناء الشعب المغربي، ممن سنحت لهم الفرصة، في تعليم رديء غايته محو الأمية وإتقان بعض المهن المعاشية بدبلومات مهنية معاشية، ذلك ما يكرس التوجه الاستراتيجي للاستعمار في الحفاظ على مصالحه الوقتية والمستقبلية في المغرب، وممن انتقد هذا التوجه وبرهن عليه بأدلة إحصائية واضحة الباحثة الفرنسية (1) «يافيت كتان» «Yvette Katan» ، في تحليلها لوثائق عن وضعية التعليم المغربي إبان الاستعمار (2) .

ص: 394


1- Yvette Katan Bensamoun، Maître de conférences émérite à l’Université de Paris 1-Panthéon-Sorbonne (en 2007). AUTEUR DES OUVRAGES; ((de l’empire ottoman à la fin de la colonisation française))،))Oujda، une ville frontière du Maroc 1907- 1956))،))Les Économistes classiques، d’Adam Smith à Ricardo، de Stuart Mill à Karl Marx)) . http://catalogue.bnf.fr/ark:/12148/cb12665720g
2- .(YVETTE KATAN، L’école، instrument de la modernisation sous le protectorat français au Maroc، (p 103 et 104

ويشير محمد عابد الجابري إلى ظاهرة «الهرم المقلوب» التي رصدها أثناء تحليل إحصائيات سنوات أواخر الاستعمار، باتساع قمة هرم التعليم، وذلك ببحث النخبة الأرستقراطية عن فرص لأبنائها لإكمال تعليمها العالي وحرصها عليه، ويذهب إلى حد القول بأن نسبة المغاربة الذين أقبلوا على استكمال دراستهم العليا من عموم المتمدرسين تضاهي مثيلتها في فرنسا (1) . وهو تحول مهم ومؤشر على الاستعداد للمستقبل القريب المرتقب بعد الاستقلال لإعداد النخب «الفرنكوفونية» المرشحة

للقيادة، وتسلم ناصية التدبير بعد خروج فرنسا من المغرب.

ولاحظ «جاك بيرك» في تحليله للبنيات الاجتماعية الجديدة التي أنشأها وسعی الاستعمار إلى تحولها، أنه ساهم في إحداث طبقة بورجوازية صغيرة أو طبقة متوسطة تم تكوينها انطلاقاً من ظروف النظام الجديد بفضل نمو الوظيفة العمومية والإقبال على التعليم، هذه الفئة الاجتماعية التي في تقديره سوف يكون لها دور غامض في المستقبل يصب في مصلحة البرجوازية التي تشكلت أساساً من علاقات غامضة ومشبوهة مع القوى الإمبريالية والاستعمار الجديد حسب تعبيره (2) .

ولم يخل تاريخ المغرب ما بعد الاستقلال من رموز فكرية وعلمية خريجة التعليم المغربي بمختلف أشكاله، وتعدّ من مخرجات نظامه، وتضاهي النخب العلمية العالمية في مجتمع المعرفة في مجالات الفلسفة والتاريخ والنقد الأدبي وعلوم الشريعة والفكر الإسلامي. وجلهم كان يكتب ويفكر بالروح المغربية العربية العميقة، ولم تخل المكتبة الفرنسية كذلك من مفكرين ونقاد مغاربة غلبت عليهم الأنفاس «الفرنكوفونية» (3).

هيمنة النخبة «الفرنكوفونية» وصناعتها الفارق بين الفئات الاجتماعية:

ص: 395


1- أضواء على مشكلة التعليم (ص 43 و 44).
2- .(Michael Berti، Jacques Berque and the history of the maghreb، The Maghreb Review، vol.4 July- Dec 1979، Villiers Publications، London، 1980 ( p140- 148
3- يؤكد ذلك ويشيد به المفكر الفرنسي والأنثربولوجي الفرنسي - المغاربي «جاك بيرك» في كتابه ((المغرب العربي بين حربين))، ((le Maghreb entre deux guerres p411))

بعد استقلال المغرب طفت الخلافات الفكرية والقيمية بين الشرائح الفكرية والاجتماعية المتباينة التي خلفها الاستعمار، وهو ما انعكس بوضوح على التوجهات السياسية والأيديولوجية في المغرب، فقد وجدت النخبة التي أنتجها التعليم الفرنسي بجمیع تجلياته السابقة في مواجهة مع النخبة الفكرية الوطنية التي تخرجت من التعليم الأصيل والحر والجامعات المشرقية (القاهرة ودمشق)، وهو سجال فكري وقيمي ما يزال مستمراً في المجتمع المغربي إلى اليوم.

أما النخب التي أنتجها التعليم الفرنسي في المغرب، الحاصلة على دبلومات جامعية عليا فإنها هي من سيقود الحركة الوطنية ولم يقبل المستعمر الفرنسي مخاطباً رسمياً خارجها، وهي نفسها من سوف يشرف على إرساء نظام تعليمي مستنسخ من النظام التعليمي الفرنسي في جميع الأسلاك التعليمية وهذا التأثير ما يزال مستمراً إلى اليوم بإخفاقاته وعيوبه.

ومن غريب المفارقات بتعبير الجابري «أن هذه النخبة الاجتماعية التي قادت الحركة الوطنية أو انتسب إليها كانت بمقدار ما تحتج على لا قومية التعليم في المغرب، بمقدار ما تدفع بأبنائها نحو المدارس الأوروبية» (1) . فكان التوجه نحو التعليم الفرنسي عاملاً حاسماً في الدفاع عن الثقافة الفرنسية، والنموذج الفرنسي في التعليم، والمحافظة على اللغة الفرنسية في التعليم العالي ومدارس التميز (الهندسة والطب)، وصارت الأنظمة الاجتماعية والنظام التعليمي في المغرب مجالاً للتوافقات السياسية على حساب المشروع المجتمعي المتكامل والاستراتيجي، الذي كان من المفترض أن تتوافق القوى الحية للبلد منذ فجر الاستقلال على قيمه ومبادئه وأدوات تنفيذه في جميع المجالات بما يخدم المصالح العليا للوطن ويتجاوز الحسابات الشخصية والمصالح الفردية أو النخبوية.

وسوف تبرز المفارقات التي خلفها التعليم الموروث عن الاستعمار في سنوات السبعينيات والثمانينيات، بعد التحاق مخرجات هذا النظام بالتعليم العالي، وإنتاجه

ص: 396


1- أضواء على مشكلة التعليم (ص 45).

لنخب جديدة محظوظة اجتماعياً سوف تتخرج من المعاهد العليا ذات الاستقطاب المحدود الذي أساسه التميز، تسهم في دعم النخب التي خلفها الاستعمار، وإعادة إنتاج نفس النخب القديمة التي تحافظ على امتيازاتها، نظراً لإمكانياتها المادية وعلاقاتها الاجتماعية وأصولها وروابطها العائلية، ونظام تعليمي جامعي مفتوح يستوعب الأعداد الهائلة من حملة الباكالوريا تغيب فيه الآفاق ولا تنسجم تخصصاته مع سوق الشغل، ولا يكسب الطالب الكفاءات التي تؤهله للحياة والاندماج الفاعل في المجتمع.

يتحدث «بيير فرمرن» عن ثلاثة خصائص يتميز بها التكوين الجامعي، الذي خلفه الاستعمار الفرنسي في بلدان المغرب العربي؛

1. أولها: الازدواجية الفعالة بین نظامین جامعيين أحدهما محدود الاستقطاب، والثاني مفتوح يستوعب الأعداد المتزايدة من الطلبة.

2. ثانيها: المحافظة على أهمية التكوين باللغة الفرنسية، ومكانته الاجتماعية والثقافية والمهنية.

3. وثالثها: ضمان الاندماج والانسجام مع النظام العالمي لصناعة النخب (1) .

هذه الخصائص سوف تسهل على الاستعمار أداء دوره في صناعة النخب الاجتماعية المستقبلية، وتحديد صورة المجتمعات في هذه البلدان، حيث استطاع المحافظة على نفسه بل تجديدها وضمان استمرارها.

وتلك النخب نفسها مرشحة اليوم لتخلف سلفها في شغل مراكز القرار والتمتع بالامتيازات الاجتماعية والاقتصادية، سواء التي اندمجت فعلاً في تولي المهام أو التي ما تزال في طور التكوين، جلّها ينحدر من سلالة جيل الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، الذي استفاد من امتيازات الانتماء للحركة الوطنية، والجيل

ص: 397


1- .Pierre Vermeren، Maghreb des élites entre deux mondes، Revue internationale d’éducation de Sèvres، N° 39 | septembre 2005، p 48

الحاصل على شواهد عليا في فترة الاستعمار، في حين تصدم النخب والكفاءات الصاعدة بطبقيّة وانتقائيّة مغلقة، ما سماه «بيير فرمرن» ب «النظام المغلق» الذي يحذر منه السوسيولوجيون وأصحاب الدراسات السوسيوسياسية، لأنه يمنع تداولية النخبة وهو ما يحقق «الدروة الاجتماعية»، وتجديد النخب الضرورية للتنفيس على المجتمعات، لأن المجتمعات الموسومة بانغلاق الطبقات الاجتماعية غالباً ما تكون مهددة بالأزمات السياسية والاجتماعية.

خاتمة

إن الدول المستعمِرة وفي مقدمتها فرنسا ما تزال تدافع عن جدوى الاستعمار وأهميته وخدماته التي قدمها للدول العربية المستعمَرة، ولكن الحقائق التاريخية والواقع الذي تتردى فيه هذه الدول سياسياً واجتماعياً وثقافياً واقتصادياً، يؤكد أن الاستعمار وإن أظهر جوانب من التقدم الحضاري، والبنيات التحتية التي كانت تخدم مصالحه وتحقق غايته، كانت تخفي وراءها مآرب دفينة في إبقاء الوضع المتخلف على ما هو عليه، لأن الاستثمار الحقيقي كان يجب أن يكون في العقول ورفع مستوى الوعي عند الشعوب العربية الشيء الذي حرص الاستعمار على عدم تحققه، بل أسهم في تكريس التخلف، وأرسى قواعد التبعية، ومهد لنخبة إدارية وثقافية وسياسية واقتصادية لتحافظ على مصالحه وتدعو إلى ثقافته وقيمه.

وما يزال النسق الفكري الفرنسي مهيمناً ومسيطراً على المجتمعات في بلدان المغرب العربي، بحيث لا تسمح لنفسها بالتفكير خارجه، وكان من أبرز تداعيات الغرق في هذا النسق الذي لم يثبت نجاعته، التخبط الذي تعيشه الأنظمة التعليمية التي لم تستطع التخلص من الارتباط بالنموذج الفرنسي في إصلاحاتها المتعاقبة، بل ما يزال النجاح في الحياة المهنية والاجتماعية مرتبطاً باللغة الفرنسية، ويمكن الاستدلال على ذلك بما شهده المغرب أخيراً في إصلاح نظامه التعليمي في الرؤية

ص: 398

الاستراتيجية(2015 - 2030) (1)، وقبلها التدابير ذات الأولوية (2) التي جاءت بإجراء العودة إلى تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية، وأكد مشروع القانون الإطار حول التربية والتعليم (3) نفس التوجه.

أما النظام الإداري الذي أقره الاستعمار فلم يعرف تعديلات كبيرة، حيث بقيت الهياكل والتنظيمات الإدارية التي أحدثها مستمرة دون تجديد عميق يرفع عنها البيروقراطية، والفساد، ويخلصها من اللغة الفرنسية التي تطغى على التراسل والتواصل داخلها، ما جعل الدولة في المغرب مراراً ترفع شعار «الحكامة الجيدة» و «ربط المسؤولية بالمحاسبة»، وتتخذ إجراءات في أفق إصلاح جودة الخدمات الإدارية والتدبيرية لمؤسسات الدولة غير أن النتائج ما تزال دون التطلعات والطموحات المنشودة.

وأما النتائج الاجتماعية والثقافية لمشروع الاستعمار الفرنسي، فكانت تجلياته واضحة على مستوى القيم الاجتماعية التي نَحَت أكثر إلى التغريب، واعتباره النموذج الأخلاقي الذي يجب الاقتداء به لتحقيق الإقلاع الحضاري، وهو النداء الذي وجد صداه عند النخبة الاجتماعية والاقتصادية التي تجد نفسها أقرب إلى الثقافة الفرنسية منه إلى الثقافة المغربية الإسلامية.

فما أحوج الأمة الإسلامية اليوم إلى تعليم يستجيب لمعايير الجودة العالمية، تتصدى له الأطر المؤهلة التي تسعى إلى الانخراط في مشروع مجتمعي واضح المعالم، ينبثق من قيم الأمة الراسخة، ويخدم مصالحها على المستوى القريب والاستراتيجي في أفق بناء مجتمع متماسك معتز بهويته، منافس في مجتمع المعرفة العلمي والتكنولوجي، ويتمتع باستقلالية وتنافسية اقتصادية عالية، متحرر من إرث الاستعمار وأغلال التبعية والخضوع.

ص: 399


1- مشروع إصلاح وخارطة طريق أصدرها المجلس الأعلى للتربية والتعليم والبحث العلمي سنة 2015م، تحت شعار: ((من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء)).
2- مشروع إصلاح أصدرته وزارة التربية والوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي تم إدماجه فيما بعد في الرؤية الاستراتيجية سنة 2015م.
3- مشروع قانون إطار رقم 17. 51 أصدرته الحكومة المغربية، يتعلق بمنظومة التربية والتعليم والتكوين والبحث العلمي، بتاريخ 26 ديسمبر 2017.

لائحة المراجع باللغة العربية

إصلاح التعليم بالمغرب بين 1956م - 1996م، المكي المروني، الدار البيضاء، المغرب، مطبعة النجاح الجديدة.

أضواء على مشكلة التعليم بالمغرب، د. محمد عابد الجابري، دار النشر المغربية، الطبعة الأولى 1973م. الأعلام، خير الدين بن محمود بن محمد بن علي بن فارس، الزركلي الدمشقي (ت 1396ه-)، دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة عشر - أيار/ مايو 2002م. سوسيولوجيا الدولة المغربية - إسهام جاك بيرك-، عادل المستاتي، سلسلة المعرفة الاجتماعية السياسیة، طبعة 2010م.

السوسيولوجيا المغربية؛ من الرفض إلى إعادة الاعتبار، محمد مادوي، أستاذ علم الاجتماع في المعهد الوطني للفنون والمهن CNAM))، وباحث في المختبر المتعدّد التخصصات للسوسيولوجيا الاقتصادية (LISE)، في المركز العلمي للبحث العلمي في فرنسا (CNRS)، باريس، ترجمة: رشيد بن بيه، مقال نشرته مجلة إضافات العددان 31، 32، صيف - خريف 2.

فرنسا وسياستها البربرية في المغرب الأقصى، تقرير مقدم إلى المؤتمر الإسلامي العام من اللجنة الشرقية للدفاع عن المغرب، الطبعة الثانية طبعة شركة بابل.

الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، محمد بن الحسن بن العربيّ بن محمد الحجوي الثعالبي الجعفري الفاسي (ت 1376ه-)، دار الكتب العلمية -بيروت-لبنان، الطبعة الأولى 1416ه- - 1995م.

مسألة تعريب التعليم الجامعي، لجوليان شارل أندريه، 1960م، ترجمه البشير تامر، الرباط، المغرب، مجلة المدرسة المغربية، المجلس الأعلى للتعليم.

معجم المفسرين «من صدر الإسلام وحتى العصر الحاضر»، عادل نويهض، قدم له: مُفتي الجمهورية اللبنانية الشَّيْخ حسن خالد، مؤسسة نويهض الثقافية للتأليف والترجمة والنشر، بيروت - لبنان، الطبعة الثالثة 1409 ه- - 1988م.

لائحة المراجع باللغة الفرنسية

.Daniel Rivet: «Ecole et colonisation au Maroc»، la politique de Lyautey au début des année 20M، UN cahier d’histoire، 1976

.Pierre Vermeren، Maghreb des élites entre deux mondes، Revue internationale d’éducation de Sèvres، N° 39 | septembre 2005

ص: 400

.YVETTE KATAN، L’école، instrument de la modernization sous le protectorat français au Maroc

Jacques Berque، Le Maghreb entre deux guerres، Économies، Sociétés، Civilisations. 17ᵉ année، N. 6، 1962. [compte-rendu] p1220 - 1226

.(Chatinières، Paul (1884-1928). Dr Paul Chatinières، Dans le Grand Atlas marocain، extraits du carnet de route d’un médecin d’assistance médicale indigène، 1912-1916.Introduction du général Lyautey. (1919

.BARTHÉLÉMY، Pascale. « L’enseignement dans l’Empire colonial، une vieille histoire? » . Histoire de l’éducation، no 128 (2010)، p. 5-27

.PAUL MARTY «Le Maroc de demain»، Comité de l’Afrique française، 1925

.Bibliographie de Jacques، Berque Revue des mondes musulmans et de la Méditerranée، Année، 1997-

.Charles- Andre Julie، Fondation National des sciences politiques، Archives d’histoire contemporaine، Archives، 2004

لائحة المراجع باللغة الإنجليزية

.Michael Berti، Jacques Berque and the history of the maghreb، The Maghreb Review، vol.4 July- Dec 1979، Villiers Publications، London، 1980

ص: 401

الإمبريالية السياحية

اشارة

إخفاقات الحداثة الغربية في البلاد العربية

عادل الوشّاني

عادل الوشّاني (1)

استنبتت الدول الغربية القطاع السياحي في بعض البلدان النامية، ومنها البلدان العربية، وفرضته عليها كقطاع اقتصادي هيكلي مباشرة بعد حصولها على الاستقلال. أي أن القطاع السياحي في هذه الدول لم يكن قرارا سياديا متمحورا على مصالحها الوطنية وإنما كان استجابة خضوعيّة لإملاءات الغرب الرأسمالي.

إن هذه الفرضية لا تعوزنا المؤيدات لإثباتها، ففي سنة 1963 أقرت الأمم المتحدة أن السياحة يمكن أن تكون المدخل الحيوي الحقيقي للبناء الاقتصادي للدول النامية (2) . ولقد نحا البنك الدولي هذا المنحى، حيث جاء على لسان أحد خبرائه الاستراتيجيين (ميشال دافيس Michel DAVIS) أن السياحة تمثل بالنسبة للدول النامية المحرك الحقيقي للتنمية، تماماً كما كانت الصناعة هي المحرك الفعلي

ص: 402


1- أستاذ جامعي وباحث في انثروبولوجيا السياحة / تونس.
2- .Lanfant, M.F.: Le tourisme dans le processus d’internationalisation. RISS. Vol XXXII, PARIS UNESCO, 1980, P15. Cit in: Aisner P. et Pluss C., La ruée vers le soleil, L’Harmattan, 1983, P186

للاقتصاد الأوروبي في القرن التاسع عشر (1) . وفي المؤتمر الدولي حول السياحة الذي نظمته المنظمة الدولية للسياحة في مانيلا سنة 1980، تم التأكيد أن السياحة من شأنها أن تؤسس لنظام اقتصادي دولي جديد تجسر فيه الفجوة الاقتصادية بين الدول المتقدمة والدول النامية حيث يتاح لهذه الأخيرة، من خلال الاقتصاد السياحي، أن تحقق نموا اقتصادياً متسارعاً (2) .

إن إملاء الدول الرأسمالية والمنظمات الدولية التي تدور في ركابها على العديد من الدول النامية ومنها بعض البلدان العربية اعتماد القطاع السياحي كقطاع هيكلي، سيخضع هذا القطاع للمنطق الهيمني لهذه الدول ولهذه المنظمات. والحقيقة أن الغرب الرأسمالي قد أملى بوضوح أن تكون السياحة في الدول النامية على أساس الاستجابة الخضوعية لطلباته وانتظاراته.

يقول السيد روبار لوناتي (Robert LONATI) (أحد الأمناء العامين السابقين للمنظمة العالمية للسياحة): «يجب قبل كل شيء قياس حاجيات السوق ودوافع ورغبات الحرفاء ومن ثمة إعداد عروض ومنتجات سياحية تستجيب لهذه الحاجيات وتلبي هذه الرغبات» (3) .

إنّ الغرب الرأسمالي حينما يملي على الدول النامية، ومنها الدول العربية، أن تُخضع بنيتها السياحية لمنطق طلباته فلأنّه يُخضعها بذلك لشروط مصالحه

ص: 403


1- :Ntanyungu F. N’Duhirahe F.: Tourisme et dépendance: le cas de l’Afrique noire, Itinéraires note et travaux, N6, GENEVE, institut universitaire d’etudes du développement, 1981, P5. Cit in- Aisner P. et Pluss C., La ruée vers le soleil, op cit, P186.
2- .Collectif: Tourisme international et sociétés locales. Problèmes politiques et sociaux, Paris, Documentation française, n 423, 1981, P9, cit in: Aisner P. et Pluss C.: La ruée vers le soleil, op cit, p186- ورد في: عادل الوشاني: أساسات علمية للظاهرة السياحية: التاريخ والهوية والمناويل، دار نشر علاء الدین، صفاقس، تونس، 2016، ص 30.
3- .Aisner P. et Pluss C.: La ruée vers le soleil, op cit, P198-

الاقتصادية ولمنطق أفضلياته وتوازناته الربحية، أي ليربط اقتصادات هذه الدول به ويفرض تبعيتها له واتكالها عليه مما يولد تخلفاً بنائياً في اقتصاد كلٍّ منها يشبه التخلف الناتج عن الاقتصاد الثنائي الذي ولده الاستعمار في هذه الدول (1) . وهذا أمر معلوم، غير أن الأمر الجديد الذي نريد تجليته في هذه الدراسة وتعميق فهمه هو أن الغرب الرأسمالي يريد أن يخضع هذه الدول لمنطق إشباع الحاجات النفسية لمواطنيه ورغباتهم والاستجابة لمختلف انتظاراتهم العاطفية وشواردهم الرغبية (FANTASME) بما فيها الأكثر نزوية، والتنفيس عن مختلف مكبوتاتهم وتصعيد أزماتهم والعمل على تحقيق مختلف توازناتهم... بمعنى أنه مثلما جعل من هذه الدول مجالاً حيوياً لتصعيد أزماته الاقتصادية، جعل منها أيضا مجالا حيويا لتصعيد أزماته النفسية والاجتماعية والعلائقية والعاطفية والجنسية...

سنتوسع في معالجة هذه الأطروحة وذلك بمحاولة تبين واقع الأزمة في الاجتماع الغربي وكيف يتم تصريفها في المجتمعات العربية عبر السياحة.

1) أزمة المجتمع الغربي: من طموح الأنوار إلى الظلمة الجديدة:

دخلت أوروبا إلى العصور الحديثة مسلحة بالعقل وبالعلم، وكان الطموح أنّ العلم سيحقّق الخلاص والحرية والرفاه، وأنّ العقل سيسيّد الإنسان، غير أنّ الحاصل هو أنّ العلم لم يتحول إلى أداة للمعرفة وتحقيق الرفاه وإنما أصبح أداة للبحث التطبيقي لتطوير أدوات إخضاع الإنسان اقتصادياً وعسكرياً وإعلامياً... أمّا العقل فقد رجّح القيم المادية على حساب القيم المعنوية، فتقيد الإنسان نفسه في مقابل سطوة رأس المال كسیّد جديد، وتراجعت قيمة الانسان، كما يقول إدغار موران(-Ed

ص: 404


1- أبو بكر أحمد باقادر: سوسيولوجيا السياحة، مجلة الفكر العربي، معهد الإنماء العربي، بيروت، لبنان، عدد 89، 1997،ص 137.

gar MORIN)، كصلة تضامن مع الآخر وقيمة مشاركة ومؤانسة له، في مقابل تطور قيم الفردانية حيث الإنسان الفرد الذي لا أهل له و لا أصدقاء ولا مسیح كما يقول لا بروايار (LA BRUYERE).

لقد شخصت الأدبيات النقدية لمفكري الغربِ نفسِه ما يعتمل فيه من أزمة طالت كل أُطُره. هذه الأزمة، التي وسمها يورغن هابرماس (Jürgen HABERMAS) بالظلمة الجديدة، حولت الإنسان إلى فرد مستوعَب ومغترِب الفكر ومستلَب الوعي في واقع استلابي شامل يهيمن عليه الجهاز الاقتصادي الذي أغرق الإنسان في اللهو والملذات، وحوّله إلى مجموعة من الرغبات يحركها (1) ويوجهها كيفما يشاء، استنادا إلى آلة دعائية ضخمة وفعّالة حاصرت الفرد وحكمته بقيود ذهنية وفوقية خارج نطاق الانتقاء الحر (2) .

في هذا الواقع الاستلابي، تباعدت المسافات النفسية الاجتماعية بين الناس حتى أضحى المجتمعُ الواحدُ أشبهَ بأرخبيل من الأشخاص المبعثرين، وغدت العلاقاتُ الاجتماعيةُ باردةً ولا شخصيّةً وتقوم على الحساب الدقيق والنفعية، وترسخت الفرديةُ حتى صار الفرد مرجع ذاته ومقاول حياته الخاصة، فتوجهت كل اهتماماته وانتباهاته ورهاناته إلى أشيائه الخاصة يشبعها دون اكتراث بالآخرين أو التزام بهم، وصار الغوص في العالم الداخلي بحثا عن الأحاسيس الشاذة، والنزوات المتطرفة والشوارد الرغبية المتسيبة همّاً وجوديّاً ملازماً وجهداً موصولاً لتجميع هوية شخصية مجزأة في بيئة ثقافية لم يعد فيها للفرد علاقات عاطفة أصيلة، وإنما فقط صلته بذاته ينصت لأهوائها وهواماتها وشهواتها، ويغرف من استجابته لها الشعور بوعي سیّد.

ص: 405


1- .Eric Fromm: The sane society, Holt, Rinehart and Winston, New York, Eleventh Printing, 1962. P166-
2- علاء طاهر: مدرسة فرانكفورت من هوركهايمر إلى هابرماس. منشورات مركز الإنماء القومي، بيروت، ص 72، (بدون تاریخ).

لقد تعاظمت، في هذه البيئة النفسية الاجتماعية، كما يقول جوناثان بوريت (Jonathan BORIT) مشاعر الاستياء، وتفاقمت ظواهر الوحشة والوحدة والسأم والاكتئاب والأوضاع الصحية السيكولوجية العليلة ...

أما في ميدان العمل، فقد أضحى الإنسان في المجتمع الصناعي الرأسمالي يعيش حالة من الانفصال (séparation) في كل أوجه نشاطاته الانتاجية، فمُتعته انفصلت عن عمله، وجهده انفصل عن عائده، وإنسانيته فقدت قيمتها أمام أولوية الآلة ودورانها الإنتاجي المتواصل.

نحن بإزاء حالة من سلب الذات وتشييئها (1)، واغتراب عن العمل وعن ناتج العمل معا، وتحول إلى ذرة اقتصادية بلا قيمة في منوال اقتصادي يعامل الإنسان كرقم وكشيء.

لقد كانت الحداثة سمة خاصة بالحضارة الغربية، فهي المدخل إليها، إذ تدل على التقدم والتطور وشمولية العقلانية والثورة التكنولوجية، أمّا اليوم فهي تدل على عكس ذلك (2)، إنها تحيل على خيبة الأمل الكاسحة، الأمر الذي دفع باللاوعي الجمعي (inconscient collectif)، كما حدده (3) جورج دومازیل (Georges DUMÉZIL) إلى البحث عن حلول لإعادة التوازن الجمعي ولخفض التوتر ولإعادة الأمل.

إنّ السفر السياحي إلى المجتمعات العربية هو آلية من آليات إعادة الأمل وذلك من خلال فعل نفسي يحوّل هذا السفر إلى طقس من طقوس الانفتاح على الأسطوريّ

ص: 406


1- هاربرت ماركوز: العقل والثورة، هيغل ونشأة النظرية الاجتماعية، ترجمة فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1970، ص 95-96.
2- المصدر نفسه. نفس تاريخ الزيارة.
3- انظر: .Georges Dumézil, Mythe et épopée, Types épiques indo-européens, un héros, un sorcier, un roi,NRF, Gallimard, 4ème édition, 1984. Tome II

والخياليّ والعوالم الشرقية الغرائبية (1). فالغرب، بعد أن اغتصب مُثُل الحداثة التي استند إليها عصر أنواره كما يقول (2) ليوتار (LYOTARD)، بدأ يبحث عن عوالم غرائبية وعن أساطير مرجعية حائرة في كل مكان (3)، يُصعِّد فيها أزماتِه ويُخفِّض فيها توتّراتِه ويستجيب فيها لانتظاراته. كيف ذلك؟

سنجيب عن هذا السؤال من خلال دراسة أسماء بعض النُّزُل (الفنادق / Hotels) في جزيرة جربة (التونسية) مستفيدين في ذلك من مقاربة رولان بارط (Roland BARTHES) السيميولوجية ومقاربته حول الأسطورة، وأيضا بالاستفادة من مقاربة بيرّو (PERROT) حول الأسطورة المبرمجة (mythologie programmée) (4) .

جربة هي جزيرة تقع في الجنوب الشرقي التونسي، وتبلغ مساحتها 514 كلم 2 وهي تضم حوالي 120 نزلا سياحيا مصنَّفا.

تحمل الكثير من هذه النزل في هذه الجزيرة أسماء الآلهة والملوك الأسطوريين كإيزيس ربة القمر والأمومة لدى المصريين القدماء، وتانيت الآلهة القرطاجية رمز الأمومة والخصب والنماء وازدهار الحياة، وأوزوريس إله البعث والحساب عند المصريين القدماء، وأوليس ملك أنطاكيا الأسطوري، وتيليماك الأمير بن أوليس، والملكة بينيلوب زوجة أوليس ... هذه الأسماء الأسطورية وغيرها ليست اعتباطية وإنما وراءها آلة إشهارية خبيرة في الإنصات للأحلام والانتظارات والشوارد الرغبية، وهي تهدف إلى الاستجابة إلى كل ذلك في الفعل الإشهاري برمّته بما في ذلك التسمية

ص: 407


1- سمير عزمي: الحداثة وأزمتها، موقع الكتروني مجلة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، نشر بتاريخ 21 جانفي /يناير 2015، تاريخ الزيارة 25-4-2018.
2- Magazine littéraire, N° 225, 1985, p. 43-
3- .Baudrillard, Jean, «La modernité», Encyclopédie Universalis, volume 11-
4- PERROT, Marie Dominique ;Gilbert RIST et Fabrizio SABELLI (1992), La mythologie programmée: l’économie des croyances dans la société moderne, Paris : Presses Universitaires de France. Cit in Boualem Kadri et Djaouida Hamdani- .Kadri : Discours publicitaire et mythologie touristique: une analyse sémiologique des mythes du Club Med. Revue téoros .2012

الإشهارية نفسها، كما تهدف إلى الإصابة حيث تجب الإصابة... إنها تصيب اللاوعي وتصطنع له أساطير يعوض فيها ويُصعِّد ويُحوِّل ويُسقط ... إنّ خبراء السياحة هنا، في الوقت الذي يعيدون فيه إنتاج الأساطير في تسمية النزل لأغراض تسويقية تجارية، يثبتون فرضية ميرسيا إلياد (Mircea ELIADE) القائلة باستمرار الأساطير القديمة في المخيال العام لمجتمعاتنا الحديثة (1) .

إن السؤال الرئيس هنا هو: ما هو أثر هذه الأسماء الإشهارية الأسطورية في لاوعي المتقبِّلِ، السائحِ الغربي ووعيه، بمعنى آخر، ما هي الدلالات التي يتلقاها المتقبل السائح من هذه الأسماء الأسطورية للنزل؟

في الحقيقة، لقد أتاحت لنا المعالجة السيميولوجية أن نقف على دلالات عديدة ومختلفة لهذه الأسماء، سنكتفي في هذه المعالجة بأربع دلالات نعرضها تباعاً مع التأكيد أنّ الأسطورة هي منظومة كلام أيْ منظومة من الصيغ الدلالية، وبالتالي فإنّ هذه الأسماء تبقى مفتوحة على الاستفهام السيميولوجي والتأويل. إنّها كالنص بنيتُه متغيرة من قارئ إلى آخر.

2) الدلالة الأولى: السياحة الغربية في البلدان العربية: سفر نكوصي إلى المرحلة البدائية للإنسانية.

إنّ تسمية النزل في جزيرة جربة بأسماء أسطورية من آلهة وملوك فيه إحالة إلى مرحلة زمنية بدائية حيث مستوى وعي الإنسان وخياليّ وإحيائي، وأسطوري وخرافي، وسحري وغيبي... ولم يدشن بعد اللوغوس والفكر المجرد والتجريبي والتفسيري... لقد كان الإنسان في الحقبة البدائية يواجه الطبيعة خائفا منها ولكنّه كان، في الوقت نفسه، مندمجا بها. فهو بعضها وهي بعضه: كما كان يفسر الظواهر بها.

ص: 408


1- .ELIADE, Mircea (1957) Mythes, Rêves et Mystères, Paris, Gallimard. p 310-

إنّنا هنا بصدد عمل إشهاري منهجي يفتح الخيال على حركة عكسية للتاريخ، ويغري بإمكانية السفر النكوصي إلى المرحلة الطبيعية، حيث طفولة الإنسانية الضائعة ووحشية هذه الإنسانية المستعادة كما حدد ملامحها العديد من مفكري الغرب، وإلى إنسان تلك المرحلة الذي خفّضته مِثل هذه الأدبيات المحكومة بالإثنو مركزية الغربية إلى مستوى الكائن التراثي. فهو ذلك البدائي «المتوحش الطيب» (Le bon sau-vage) الذي لم تكتسحه الحضارة، كما تخفّض كل ثقافته ومختلف إبداعاته المادية والرمزية إلى مستوى التراث الإنساني ما قبل التحضر (1).

إنّ البنية العامة لهذا الإنسان التراثي أسطورية أي لازالت هناك في الماضي ساكنة ولا تطورية، وبالتالي فهي في إيحاء من الإيحاءات متحف حيّ من متاحف التاريخ البشري الذي لا بدّ من زيارته لفهم السيرورة العامة للوجود البشري كيف كان وكيف أصبح... ولبناء المعرفة التاريخية استناداً إلى المعايشة الذاتية، وللاستمتاع الفرجوي، ولمعايشة تجارب وجوديّة خصوصية وثريّة بالحسّ المختلف...

إنّ هذه التسميات تُحجِّم المجتمعات العربية إلى مستوى المجتمعات البدائية للفرجة وللتجربة الغرائبية القائمة على المخاطرة والمجازفة والاستكشاف النكوصي، أي استكشاف الماضي حينما كان بسيطاً حضارياً، وبدائياً إنسانياً، وذلك من خلال مجتمعات لا تزال تعيش الماضي في الحاضر.

هذه المضامين البدائية العجائبية تُجيِّش لدى السائح الغربي الوهم بإمكانية

ص: 409


1- نحن نعلم أن بعض المفكرين الغربيين قد تجاوزوا هذه الاثنية المركزية الضيقة إلى قراءات أكثر موضوعية وإنصافا لغير الغربيين أمثال الانتروبولوجي الفرنسي بيار كلاستر (Pierre CLASTRES) وتحاليله الجريئة في مجال الانتروبولوجيا السياسية وأيضا الأنتروبولوجي الفرنسي جورج بالاندييه (Georges BALANDIER). اُنظر: - جورج بالاندييه: الأنتروبولوجيا السياسية، ترجمة علي المصري، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 2007. - بیار کلاستر: مجتمع اللّادولة، ترجمة محمد حسين دكروب، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1991.

الهروب، ولو المؤقت، من ضغوطات نسق الحياة العصرية وإكراهاته، وتفتح له قوسا لرومانسية حالمة بإمكانية العيش في الماضي واقعا في أوج حسه، فهذه المجتمعات البدائية بتراثها الغرائبي هي الماضي بالنسبة للحضارة الغربية، وتكفي بضع ساعات على متن طائرة للسفر العكسي إلى هذا التراث حيث هذه الشعوب التراثية المتماهية مع الطبيعة.

يبدو واضحاً أنّ هذه المضامين تُحجِّم المجتمعات السياحية النامية ومنها المجتمعات العربية إلى مستوى (Des primitifs pour tourists) «البدائيين للعرض السياحي»(1) ، لكنها في المقابل تثمن الغرب إلى مستوى الإنسان المستكشِف والمتحضر والمدني والذي يتصف بالتقدم والقوانين الوضعية والحركة المدنية والعقد الاجتماعي.

إنّنا بصدد صورة نمطية أي قالب جامد يتحكم في نظرة الغرب إلى العرب. والحقيقة أنّ سياقاً تاريخياً خصوصياً سمح بتشكل هذه الصورة النمطية وتَبلوُرها.

فمنذ عصر الاكتشافات الجغرافية ومطلع عصر التنوير الأوروبي، كان الفكر الغربي يعيش في عالم لا تشاركه في صنعه الحضارات الأخرى ... وبقدر ما كان هذا الفكر يتقدّم في البناء الحضاري، كان ذلك مصحوبا لديه بشعورين: أولهما الشعور بأن اكتمال البناء الحضاري من الناحية المادية لا يمكن أن يكون إلا ضمن علاقة هيمنة على العالم الآخر. أما الشعور الثاني فإنه يتعلّق بالوعي بالذات الذي تكوّن لدى الغرب، ومضمون هذا الوعي أنّ أوروبا هي مركز الحضارة والثقافة والعقل في التاريخ.

ضمن هذا الشعور بمركزية الذات، صوّر الاستشراقُ الآخرَ العربيَّ على أنّه ينتمي

ص: 410


1- .Bugnicourt (J) et al: Touristes_rois en Afrique, Dakar-Paris, Enda-Karthala, 1982, P120- 121-

إلى جنس آخر، وأنّ شخصيته القومية تشوبها عيوبٌ جسيمة كالكسل الفكري والعقم والخمول، أما حضارته فهي ضرب من ضروب الفلكلور وثقافته بربرية تسودها المبالغات (1).

يبدو أننا بصدد إعادة إنتاج هذه الصورة النمطية التي تكاد لا تجانب في مضامينها القولَ الاستشراقيَّ ذا النزعة المركزية الاستعمارية، فالإنسانُ لا يزال ذلك الكائنَ التراثيَّ الغرائبيَّ، والتاريخ لا يزال سكونياً لا تطورياً، والتراث لا يزال بنية متأبّدة لا ينفصل فيه الحاضر عن الماضي.

الاستشراق أغرى في الماضي بالاستعمار وحفّز عليه، وهذه الصّورة تغري اليوم بالسياحة وتحفّز عليها ... (2)

3) الدلالة الثانية: مغالبة الشيخوخة والتنعم المديد بالشباب.

إنّ الآلهة لا تهرم ولا تموت فشبابها أزلي، بل وفي يدها مفاتيح الحياة والخصوبة ونضارة الشباب... (إيزيس وتانيت). إن تسمية النزل بأسماء الآلهة الخالدة ليس اعتباطيا وإنما يتوجه بشكل قصدي مباشر إلى شريحة واسعة من السُّيّاح وهي شريحة المسنين وخاصة منهم المسنات. فهذه التسميات المبشرة بالقدرة على مغالبة الشيخوخة والتنعم المديد بالشباب تستجيب لانتظارات عدد ثقيل من السائحات المسنات، فتُرجّع كيانهن الآفل في التسمية نفسها، وتَعِد باستعادة روق الشباب وعنفوانه وميعته (Fleur de la jeunesse).

ص: 411


1- علي شعيب: الاستشراق وكتابة التاريخ، الفكر العربي المعاصر، عدد 70-71، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1989، ص 59.
2- عادل الوشّاني: السياحة الدولية في البلاد العربية: حوار بين الثقافات أم مدخل آخر للهيمنة الغربية على البلاد العربية. مؤلَّف جماعي بعنوان الممارسة الثقافية في مجتمع المعلومات والاتصال، منشورات المركز الوطني للاتصال الثقافي، تونس، 2005، ص 101-107.

إنّ فنّيّي الإشهار السياحي، بما هم خبراء في الأحلام والشوارد الرغبية، (1) يدركون جيدا احتیاجات جمهورهم وانتظاراته، حتى الساكن منها في اللاشعور، فيعملون على تحقيق هذه الانتظارات والرغبات والنزوات والشوارد الرغبية في كل العملية الإشهارية، مما يَعِد بإمكانية تحقّقها بالفعل.

إنّ تسمية النزل بأسماء الآلهة والملوك تعد بديناميكية واسعة للفعل، كما تحيل إلى عنفوان الشباب وجيشانه وكل قيم الاحتكاك والحرارة والرفاهة العاطفية والحب المفرط والجنس العميق والإنفاق السخيّ... وهي قيم هجرت الميدان الاجتماعي الغربي الذي شهد حالة من التفتيت الذري والانفجار النووي الذي مسّ قلب حياته الاجتماعية (2) ... وإنّ أمكنةً أخرى وأقواسًا زمنية نوعية أخرى مهيأة لتحقيق هذه الانتظارات وإشباع هذه الاحتياجات التي لم يعُد ممكنا حتى مجرّد انتظارها في الحياة الاجتماعية العادية، دعك من الاستجابة لها وإشباعها. إنّ هذه الأمكنة الأخرى هي النزل مقر الآلهة المتحررة من إكراهات المكان، وإنّ الزمن الآخر هو الزمن السياحي الأسطوري المتحرر من إكراهات الزمان ... وإنّك، كسائح مقيم في هذه البنية المكانية والزمانية، متعالٍ كالآلهة ومتحرِّرٌ من إكراهات الإنسان.

إن المسنات، في المجتمعات الغربية، بما تمارسه هذه المجتمعات من عبادة الشباب ضمن ما يسميه رولان بارط بالعنصرية الشابة، ينزلقن ببطء خارج الميدان الرمزي، وتتقلص علاقاتهن الاجتماعية العاطفية، وتتنازل يوما بعد يوم قيمتهن الاجتماعية. إنهن يعشن حالة من التناقض الحاد والتدميري بين صورة الذات لديهن

ص: 412


1- إنّ الاشهار يشتغل على الرغبات المكبوتة وعلى التعويض كما يشتغل على صناعة الأحلام والاستجابة لها. اُنظر: .Fabienne Baider, Marcel Burger et Dionysis Goutsos (dir), La communication touristique, Approches discursives de l’identité et de l’altérité, L’Harmattan, Paris, 2004
2- دافيد لو بروتون: أنتروبولوجيا الجسد والحداثة، ترجمة محمد عرب صاصيلا. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1993، ص 156.

وبين صورتهن عند الآخرين، وهو ما يزعزع كيانهن. فهن بالنسبة إلى أنفسهن ذوات لها رغباتها وآمالها وطموحاتها أي لها مستقبلها، أما بالنسبة إلى الآخرين فهن ذوات بدون آفاق، تالفة وعديمة الفائدة، وليس لها سوى ماضيها. هذا التناقض الحاد بين الصورتين عبرت عنه «سيمون دي بوفوار» (Simone DE BEAUVOIR) بعمق منجرح بقولها «أنا أصبحت شخصا آخرَ في حين أنّي ما زلت أنا نفسي» (1).

في هذا الواقع الكارب والملغي والمهمِّش للمسنات، تفتح آلة الإشهار السياحي لهنّ إمكانية واقعية لتحقيق التماسك الذّاتي وسط التدمير، وذلك بأن تُروِّج معانيَ إشهارية تفيد أنّ هناك مجتمعات استقبال سياحي، ومنها المجتمعات العربية، تُنزلهن منزلة الملوك وذلك على قاعدة «الزبون هو الملك» (Customer is king-Le cli-ent est roi) الذي هو دائما على حق، وتنزع عنهن صورتهنّ الموضوعية كمسنات وتصبغ عليهن صورة جديدة كسائحات. وصورة السائح النمطية الغالبة في هذه الدول هي ذلك «البنك المتحرك» الذي ينفق ما فيه على ملذاته ومتعه الحسية، من هنا جاء الاتجاه القنصي للسياح (2)، حيث يسعى عدد واسع من الشباب في هذه الدول للحصول على أكبر عائد مالي من أيّ مواجهة مع السياح وذلك بأن يقول لهم ما يريدون سماعه، وأنْ يحقق لهم بالكلمة كما بالفعل انتظاراتهم حتى الساكن منها في اللاشعور، ويستجيب لرغباتهم حتى التي بفعل تجاوزية الزمن أو محدوديّة الخَلْق أو تحديدية المجتمع ما عاد بإمكانهم تحقيقها.

إنّ هذه المعاني الإشهارية تَعِد السائحات المسنات وتبشّرهنّ بوجود شبابي كامل، كالآلهة، فتضمر ما تضمره، وتلمح ما تلمحه من اتصاليات اجتماعية عاطفية

ص: 413


1- .Simone de Beauvoir, La vieillesse, Gallimard, Paris, 1970, P 130-
2- .W.A. Sutton: Travel and understanding :Notes on the social structure of touring. INTJ. Comp. Social, 8(2), 1967, p23- ورد في: أبو بكر أحمد باقادر: سوسيولوجيا السياحة، الفكر العربي، العدد التاسع والثمانون، معهد الإنماء العربي، بیروت، 1997، ص 140.

رومانسية ممكنة ... يمكن أنْ تتحقق في أطر مغايرة يتخلص فيها الإنسان من هويته الموضوعية ليتحصل على هوية خصوصية وهي الهوية السياحية وممكناتها المتعالية إلى مستوى الآلهة والتي تفصله عن الإنساني وكل القيود والحدود والإكراهات.

إنّ هذه المعاني تعيد بناء صورة الذات عند السائحات المسنات بما تؤكّد عليه من حضور متجاوز للحدود إلى إمكانية القيام بعمل رغائبي غرائزي على الجسد يعيد له الرونق واليفاعة في زمن ذبوله ويبسه وذهاب نضارته...

نتحدث عن المسنات وليس عن المسنين لأننا لا نهمل الملاحظة السوسيولوجية التي يمكن تعميمها على أغلب المجتمعات وهي أنّ المرأة المسنة تفقد اجتماعياً الإغراء الذي كانت تدين به أساساً إلى نضارتها وحيويتها وشبابها، أما الرجل فيمكن أن يربح مع الزمن قوة إغراء متنامية لأن الثقافات السائدة ترفع لديه من قيمة الطاقة والتجربة والنضج، كما أن القِيَم السائدة تتحدث عن «إغراء الأصداغ الرمادية» وعن «الشيخ الجميل». أما المرأة فتُعمَّدُ كما تقول سيمون دي بوفوار باسم «الجلد الهرم».

إنّ الشيخوخة تدمغ بشكل غير متساوٍ في الحكم الاجتماعي المرأة والرجل (1) .

إننا هنا في سياق الطموح الحداثي حيث لا يجب الانهيار والاستسلام للجسد وتجاوز صرخة سيمون دي بوفوار في روايتها (2) «المرأة المجربة»(La femme rom-pue) : «لقد استسلمت لجسدي» واعتناق المقولة الشهيرة الشائعة: «افعل ذلك» (Do it). ومضمون هذا الطموح أنه لكي تقضّي شيخوخة آمنة من كل تهديد، ولكي تطيل حياتك للحدّ الأقصى بأن تعثر ثانية على عمق حياتك وتستعيد تذوقك لوجودك... تناول هذه الفيتامينات وتلك الأملاح المعدنية وتلك الحبوب وهذه الأنواع من الأغذية وتلك الماكس إيبي (Max Epi) التي تحمي من الحوادث القلبية

ص: 414


1- دافيد لوبروتون: أنتروبولوجيا الجسد والحداثة ... مصدر مذكور سابقا، ص 147.
2- .De Beauvoir, Simone: La femme rompue, Edité par Gallimard ,1973-

وهذه البيتاكاروتين التي تؤخر شيخوخة الخلايا (1)، ومارِس تلك الرياضة وتنفَّس بتلك الطريقة وافتحْ قوسين على حياة الآلهة تنفتحْ لك فيها كل الممكنات وتمارس فيها كل ما تشاء بدون تحفظ اجتماعي ولا أحكام معيارية قيمية ولا سلطة زمن ولا تذويةٌ للجسد... هذان القوسان هما رحلة سياحية حيث البيئة فردوسية استجابية إشباعية ... لِنُشِر هنا إلى أنّ أحد النزل في جزيرة جربة يُسمَّى جربة الفردوس (Jerba Paradise).

هذا الإغراء بانفتاح كل الممكنات ليس مجازا، ذلك أن علاقات منكحية حقيقية تتكوّن بين الشباب المرتاد للنزل والعاملين فيها وعلى هامشها وبين السائحات المسنات الباحثات عن التعويض.

إنّ هؤلاء الشباب يَنشدون، من وراء كل اتصالية ممكنة ومتاحة مع السائحات، وخاصة المسنات، الحصول على الجنس والمال والعطايا وحتى الزواج المختلط المُخوِّل للهجرة إلى أوروبا، أيْ يبحثون عن حلول فردية لمغالبة الكبت الجنسي والتهميش الاقتصادي. أما تلك المسنات فإنهن ينشدن الحب والجنس عند آخرَ سهلٍ ومطواع يغالبن به الإقصاء الاجتماعي والعاطفي.

ويتحقق التبادل ولكنه تبادل غير متكافئ، فما يجنيه هؤلاء الشباب هو عينه ما تخسره تلك السائحات المسنات والعكس صحيح. غیر أنه شتّان بين هذا الكسب وذاك وبين هذه الخسارة وتلك.

فجنسانية هؤلاء الشباب هي حب بدون حب، إذ لا يعايشون أثناءها ذواتهم

ص: 415


1- .Daniel Cohn- Bendit: Nous l’avons tant aimée la Révolution .Barrault ED, 1986- ورد في: دافيد لو بروتون: أنتروبولوجيا الجسد والحداثة ... مصدر مذكور سابقا، ص 158.

كفاعلين إيجابيين وكمفعلين أحرار لطاقاتهم الحيوية، فهم مغتربون عن هذه الطاقات لأن هدفهم هو بيعها بأغلى ثمن ممكن، ومن ثمة فإنّ إحساسهم بذواتهم أثناء هذه الجنسانية لا ينبع من نشاطهم كعشاق وكمتلذّذين وإنما ينبع من فعلهم التّربّحي.

لقد أصبحت أجسادهم وحيوياتهم رأس مال يجب عليهم استثماره بنجاح من أجل أن يحققوا كسباً مادياً، وهذا ما ينحدر بهم إلى مستوى الشيء البضاعة، ويغربهم عن طبيعتهم الإنسانية، ومقابل هذا الاغتراب يكسبون من هذه الجنسانية الزائفة المال وحتى الثراء... أما السائحات المسنات فإنّ الجنس بالنسبة إليهن ليس حالة عاطفية انفعالية منشودة لذاتها، وإنما هو فاعلية حماية ضد النسيان والإقصاء وما یولده في نفوسهن من قلق اضطهادي كارب، فهو يتيح لهن امكانية تفعيل الشعور وإحياء الحس وإنعاش الجسد بعيداً عن مجتمع يلغي الشيوخ لحساب عنصرية شابة، ومقابل ذلك ينفقن أموالهن.

فهل بحساب الربح والخسارة يستوي من ينفق ماله لشراء حيوية الآخر وشبابه مع من يبيعهما؟ بمعنى هل يستوي من يلغي ذاته في زمن انطلاقها نحو الإثبات مع من يثبت ذاته في زمن انطلاقها نحو الإلغاء؟

لا يستويان ... غير أنّه التبادل اللامتكافئ ضمن المنطق الخضوعي الاستتباعي للسياحة الغربية في البلدان العربية.

4) الدلالة الثالثة: العيش الرغيد بدون عمل وبدون شقاء.

إنّ الآلهة تعيش بدون شقاء حيث أعفتها الطبيعة الكريمة من العمل

(.l’Âge d’Or… les hommes vivent sans souffrir… où la nature généreuse les dispense du travail)

ص: 416

هذه البيت الشعري (Hésiode) لهيزيود (1)، والذي يعكس الوعي الأسطوري الإغريقي، يحيل إلى نمط عيش الآلهة، والحقيقة أنّه حتى على المستوى الزمني التاريخي فإن الأرستقراطية تمثلنت بالآلهة فهي لم تعمل إلا العمل الفكري الناعم واستمتعت بالراحة على قاعدة أفلاطون الشهيرة: «لا يدخُلَنَّ علينا من لم يكن مهندساً».

أما الطبقة البورجوازية فقد كانت مسكونة «بعقدة الأرستقراطية» وبهاجس اكتساب الوجاهة التي كانت تحظى بها هذه الطبقة، ولقد توخت، کمدخل لاكتساب هذه الوجاهة الإمعان في الاستمتاع بالراحة والترفيه (2) .

بالنسبة للطبقات الشعبية المستهدفة بهذه التسميات الإشهارية للنزل، فإن أسماء الآلهة تعكس، فيما تعكس، ممارسات الآلهة البذخية اللعبية التنعمية الاستمتاعية الترفّهية الرغيدة التي يمكن أن يمارسها العامل الغربي أثناء العطلة السياحية، كما تعكس مجمل أجواء السيادة والنفوذ والحظوة والقدرة الاستملاكية التي يمكن أن ينغمر بها ... وهي بطبيعة الحال ليست ممارسات هذا العامل في حياته اليومية الموصومة بالكدح والكفاف، ولا هي أجواء معيشه اليومي الموصوم بالخضوع الاقتصادي لأرباب العمل.

إنّ هذه الممارسات التي تعكس الحظوة والجاه ، وهذه الأجواء التي تعكس السيادة والنفوذ، تندرج ضمن إطار ما نسميه بالتماهي الطبقي، أي أنْ يتمثلن العامل بالمنمطات السلوكية للطبقة البورجوازية فيستهلك علاماتها ورموزها التي هي لیست علاماته ولا رموزه، ويعيش نمط عيشها الذي هو ليس نمط عيشه. إنه نوع من الانفصال الظرفي والمصطنع عن الطبقة الأصلية والارتباط الظرفي والمصطنع

ص: 417


1- .Hésiode: Les Travaux et les Jours. Éditions Mille et Une Nuits ,1re éd. 2006-
2- حول هذه الأطروحة اُنظر: T. Veblen: Théorie de la classe de loisir. Paris Gallimard 1970.

أيضا بالطبقة العلوية، ومن ثمّة التنعّم الإيهامي للذّات بوجاهتها الاجتماعية (Prestige social) وبقدرتها الإستملاكية... إنّه نوع من التحايل على الواقع الضّنِك بواقع متخيّل رغيد. وهذا عينه فعل الأسطورة.

إنّ هذا التماهي الطبقي يعكس حالة من توكيد الذات وتعزيزها إلا أنه ليس صلباً لأنه توازن وهمي يفنّده الواقع الصريح والفصيح... إنه نوع من التعويض الظرفي لواقع الدونية والتغطية المؤقتة عن العجز ... نحن هنا بإزاء واقع زائف يحرر الرغبة و يسمح بانطلاقها، وهذا هو الفعل النفسي للأسطورة، حيث يعمل هذا الفعل على احتواء المكبوت وتفريغه من محتواه الثوري وحتى النقدي ويطرح إمكانية الاستجابة له وإشباعه الكامل من خلال عالم الخدمات المختلفة ومنها السياحة (1) ... فتصبح العطلة السياحية بهذا المعنى، في نزل بأسماء الآلهة، آلية ذات نتائج نفسية هامة للتكييف مع الواقع ولخفض التوتر وتقليص الغبن وخفض الوعي بالانجراح في مجتمع لا يعبأ إلا بأصحاب القوة والمكانة (2) .

لقد كتب هانس إنتزنسبيرغر (Hans ENZENSBERGER) في هذا الصدد أن الطبقة العمالية المستغلة كان مطلبها الأساسي هو الثورة على الاستغلال ونيل الحرية ... غير أن الرأسمالية حرفت هذه المطالب وميّعتها، فكانت السياحة بمثابة الحل السيئ للمطلب الجيد حيث تمّ التغيير الظرفي لظروف العيش بالانتقال الظرفي إلى مجتمع آخر، وذلك عوضاً عن التغيير البنيوي لظروف العيش بالتغيير البنيوي لمجتمع الأصل (3) .

ص: 418


1- يذهب هاربرت ماركوز إلى أن صناعات اللذة في المجتمع الصناعي تقوم بترشيد أحلام الإنسان الجنسية واستيعابها داخل إطار النظام القائم، فهي تطلق الرغبة الجنسية من عقالها ولكنها تُفرِّغ مبدأ اللذة من محتواه الثوري وتحتويه تماماً، إذ تطرح إمكانية الإشباع الكامل من خلال عالم الخدمات المختلفة مثل السياحة والنوادي الليلية وأحلام الإباحية. أي أن كل شيء يتم تدجينه، وضمن ذلك الرغبة الجنسية نفسها. اُنظر: هاربرت ماركوز، الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة جورج طرابيشي، دار الآداب بيروت، الطبعة الثالثة، 1988.
2- علي زيعور: اللاوعي الثقافي ولغة الجسد والتواصل غير اللفظی في الذات العربية، دار الطليعة. بیروت،1991، ص 48.
3- .H. M. Enzensberger, Une théorie du tourisme, in Culture ou mise en condition?, Paris, Julliard, 1965, p. 161- 162-

إنّ الرأسمالية حولت الحرية إلى صورة منشودة في أقاصي الوعي أيْ في الحلم، وفي أقاصي المكان أيْ في مجتمعات الاستقبال السياحي، ومنها المجتمعات العربية، التي تمّ خفض كل مقوماتها إلى مجرد بيئة للتصعيد والتنفيس: في أقاصي تاريخها أيْ في معالمها التاريخية وفي آثارها، وفي أقاصي ثقافتها أي في فنونها ومختلف تعبيراتها الشعبية ... لقد خُفَّضت هذه المجتمعات إلى محض بيئة مناسبة للتداعي الحر لحريات السائح وفسح المجال الكامل لها وحتى تعديل القيم والمفاهيم المحلية وتغييرها لتتجاوب معها وتتناغم مع انتظاراتها وتستجيب لمتطلباتها، من هنا نتحدث عن تسييح مجتمعات الاستقبال، أي تغريبها عن مقوماتها، وإخضاع مختلف هذه المقومات الثقافية والقيمية والاجتماعية لحريات السياح وانتظاراتهم المطلقة، وعوض أن يبحث هذا السائح كإنسان مقهور ومستغَل ومستلَب عن حريته الجماعية في الثورة كفعل جماعي، يبحث عنها في السياحة وفي الحلم وفي الوهم كفعل فردي، فيعيش الحرية ،ظرفيّاً، واهما في بلد السياحة ما كان يجب أن يعيشه، بنيويا، حقيقة في بلده الأصل...

5) الدلالة الرابعة: نفي الموت والاستمتاع بالخلود.

إن الآلهة لا تموت، إنها خالدة وهي تعيش في رفاه، هذا هو الفهم الحاصل في الوعي الأسطوري العام للثقافة الغربية. وحينما نستعمل أسماء هذه الآلهة بكثافة في تسمية النزل فإننا بذلك نكثف صور الوجود والحياة ونُبعِد أفكار الموت والعدم.

إنّ هذه التسميات موجهة إلى مستهلك ينتمي إلى ثقافة غربية مادية ترفض فكرة الموت لما يثيره من رهبة ورعب وتعمل على إخضاعه وكبت فكرته وإقصائه من الحضور في التفكير ... وذلك بتكثيف صور الحياة وإمكانيات العيش (1) .

ص: 419


1- برهان غليون: مجتمع النخبة. دار البراق للنشر، الطبعة الثانية، 1989. ص 88.

كما تَعِد هذه الأسماء بالرفاه الزائد والقوة الخارقة والنشاط الجامح... وهي جميعها ممارسات هدفها الاستمتاع الأقصى بالحياة والتنعّم الأفضل بها وإشباع الحاجات المادية الغرائزية إلى ما لانهاية ... كما تدعو إلى الاستسلام الكامل للذّات المادية والإنصات الإشباعي الدّقيق لشهواتها ورغباتها وتهويماتها وشواردها وذلك بغرض نفي الموت وتعميق الشعور بالحياة والكينونة (1) وإعادة إنتاج الأمن الوجودي وتبديد القلق العائم المرتبط بعدم الثبات والنقصان ...

إنّ الرسالة التي ترسلها هذه الأسماء هو أنّ هذه الحياة ليست مشفوعة بالضرورة بوجود آخر بعدها، وإنما هي الرحلة الوجودية الكاملة في مبتداها ومنتهاها، وأن الجنة، بما تعنيه من نعيم مطلق، هي ههنا في القصور الفارهة المترفة، مقر عيش هذه الآلهة، وفي نمط وجودها القائم على البذخ والمتعة والرفاه والراحة وعدم التعب، بعيدا عن لعنة الكدح والشقاء في تحصيل العيش والمقولة الدينية المؤنِّبة: (2) «ستحصل على خبزك بعرق جبينك» (sueur de ton front la à pain ton gagneras tu).

إن الجنة، مقر خلود الآلهة، هي عينها هذه النزل وهي في متناول من ينزل بها.

وإن الآلهة مطلقة الحرية، وهي غير محكومة بالمحظورات والمحرمات، ويلتقي ذلك مع وعي الإنسان الحديث الذي يبحث باستمرار عن التحقق المادي الدائم وعن الإشباع وعن اللذة الكاملة.

إن هذه المعاني والدلالات الثقافية المتصلة بالمسألة الروحية، لا شكّ أنها تخدم البعد الاستهلاكي السياحي كونها تتنزّل في سياق إشهاري. ولكنّ هذا السياق الإشهاري نفسه يتنزّل هو الآخر في سياق أوسع وهو السياق الثقافي لدول الاستقبال. وهنا ينفتح باب آخرُ للتحليل:

ص: 420


1- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
2- .Calvin, Institution de la religion chrétienne. Cit in Pierre Bouvier, Le travail, PUF, Paris, 1991, p 16-

إنّ المجتمعات العربية السياحية التي تُرَوَّج فيها مثل هذه التصورات ذات المعاني والرسائل الثقافية المادية الزمنية هي مجتمعات ذات ثقافة روحية دينية تنظر إلى مسائل الحياة والموت والوجود والعدم نظرة مغايرة تماما. فالحياة في هذه الثقافة ليست هي رحلة الوجود برمتها وإنما هي مجرّد فاصل وجودي قصير، إنها مبتدى الرحلة فحسبُ تليها مرحلة الوجود البرزخي الذي هو الموت، تليه مرحلة الوجود الأخروي، أيْ أنّ العدم في هذه الثقافة غير موجود.

إنّ معاني هذه التصورات الإشهارية ودلالاتها تؤسّس قاعدة لعدم الاعتراف بالاختلاف الثقافي. فالقيم الروحية الدينية للمجتمعات العربية تُغيَّب لصالح القيم المادية الزمنية للمجتمعات الغربية الرأسمالية. والثقافة الروحية تُمحى لصالح الثقافة المادية وفي ذلك تخطٍّ لمفاهيم الاختلاف الثقافي والخصوصيات الحضارية والحق في الاختلاف الاعتراف بالغيريّة... (1)

خاتمة

هذه الومضات الأربع تجيب عن الاستفهام الذي طرحه عالم الأنثروبولوجيا والاجتماع دين ماكنيل من أنه يجب علينا أن نفهم ما يميز إنسان الحداثة لنستطيع تحديد دوافعه لممارسة السياحة.

إنّ الإنسان الحديث يعاني من الاغتراب والتشتت والسطحية، وبالتالي فإنّ السياحة تمثل بالنسبة له ظرفا مصطنعا يخفض فيه التوتر ويمارس فيه المتعة الخالصة ويعيد فيه إنتاج المعنى ويفتح فيه إمكانيات جديدة للفعل في كل ممكناته النزوية والرغائبية والغرائبية والرغبوية وحتى الشذوذية ...

ص: 421


1- عادل الوشّاني: أساسات علمية للظاهرة السياحية، مصدر مذكور سابقا، ص 61-62.

إن السياحة هنا تنتزع الإنسان من إخفاقات الحداثة وفشلها لتكون بمثابة عودة إلى الخلف، إلى المجتمعات البدائية البسيطة التي لا تزال تعيش على حالتها الطبيعية والتي يمكن فيها ممارسة المتعة الخالصة في بعدها الأكثر حرية.

إنّ الغرب سيمارس هذه الحرية الاستمتاعية السائبة في المجتمعات النامية ومنها المجتمعات العربية التي انخفضت قيمتها إلى مستوى المادة الاجتماعية البدائية المستقبلة للسياح الغربيين بخضوع يساعدهم على التحلل الحر من الإكراهات وتصعيد الأزمات وتعويض الإخفاقات وتصريف الشذوذ والنزوات...

ص: 422

هذا الكتاب

لا يجيء الكلام على «ما بعد الاستعمار» من باب الاستيهام بنهاية الأطروحة الاستعمارية. سواءً تعلق الأمر بالاصطلاح والمفهوم، أمْ بالاختبارات التاريخية، فإن المناظرة مع هذه الأطروحة، وخصوصاً في زمن الحداثة الفائضة، باتت تتخذ لها منزلةً استثنائيةً. مفهوم «ما بعد الاستعمار» كمثل سواه من المفاهيم الوافدة، يأتينا مكتظًّا بالالتباس والغموض. تعريفاتُه وشروحُه وتأويلاتُه تكثَّرت تبعاً لطبائع البيئات الثقافية والإيديولوجية حيث ولد وذاع أمره. لذا سيكون على كل منشغلٍ بهذا المصطلح أن يتتبَّع سلالته الممتدة عميقاً في التاريخ الحديث، وأن يتعرّف إلى أوروبا بما هي أرض نشأته وفكرته وامتداده عبر الاستيلاء والغزو.

٭٭٭

تتناول هذه السلسلة بأجزائها الأربعة الأطروحة الاستعمارية وما بعد الاستعمارية في إطار تحليلي نظري، وكذلك من خلال معاينة للتجارب التاريخية في آسيا وأفريقيا بدءاً من القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا.

شارك في هذه السلسلة مجموعة من المفكرين والباحثين وعلماء الاجتماع من أوروبا وأميركا والعالمين العربي والإسلامي، وقد توزعت أبحاثهم وفقاً للترتيب المنهجي على بابين رئيسيين:

باب المفاهيم وباب السيرة التاريخية لعدد من التجارب الاستعمارية وآليات مواجهتها ثقافياً وكفاحياً.

المَرْكَزِ الاِسلامي لِلْدِراساتِ الاِسْتِرالتیجية

http://www.iicss.iq

islamic.css@gmail.com

تطبيق المركز

ص: 423

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.