نحن و أزمنة الإستعمار المجلد 1

هویة الکتاب

العتبة العباسية المقدسة

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

الجزء الاول

نقد المباني المعرفية للكولونيالية وما بعد الكولونيالية

الجزء الاول

تحرير وتقديم

محمود حیدر

2018م.

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

نحن وازمنة الاستعمار : نقد المبانى المعرفية للكولونيالية وما بعد الكولونيالية / تحرير وتقديم محمود حيدر - الطبعة الأولى بيروت لبنان] : العتبة العباسية المقدسة، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية 1439 ه- - 2018.

4 مجلد : ايضاحيات ؛ 24 سم يتضمن ارجاعات ببليوجر

ISBN: 978-9922-604-11-4

.1 ما بعد الاستعمارية .2 الاستعمار 3 الامبريالية .4. العراق الاستعمار الف. حيدر

،محمود، محرر ومقدم ب العنوان.

JV51.N34 2018

مركز الفهرسة ونظم المعلومات

ص: 3

الفهرس

مقدمة المركز: لماذا هذه السلسلة؟ ...6

نقد مباني العقل الإمبريالي / مدخل تأسيسي

محمود حیدر ...9

الفصل الأول : مباحث تمهيدية (المصطلح والمفهوم)

تعريف للاستعمار

هورفات .ج . رونالد... 20

ما هو العلم الاستعماري ؟

أليس ل . كونكلين ...53

مسارات الاستعمار

محمد عبد الرحمن عبد الجواد ...64

الفلسفة والاستعمار

سیمون غاليغود غابيلوندو ...87

فهم التابع

جاك بوشباداس ...105

الفصل الثاني : الاستعمار القديم

الاستعمار المنتشر

أحمد رهدار ...126

پ

ص: 4

ظاهرة الاستعمار

محمود کیشانه ...158

الاستعمار والوطنية

غيضان السيد علي ...182

من الهيمنة الاستعمارية إلى النهضة المنشودة

مصطفى النشار ...204

ظاهرة الاستعمار

ماهر عبد المحسن ...232

السيطرة كرؤية فلسفية إلى العالم

نصر الدين بن سراي ...258

العنف وإزالة الاستعمار

جلة سماعين...27

قابلية الاستعمار

فتيحة شفيري ...304

القومية والإرث الاستعماري

خوان ريكاردو إ كول - دنيز كانديوتي ...316

هيجل وإفريقيا

مونيس بخضرة ...344

ص: 5

مقدمة: المركز لماذا هذه السلسلة؟

هل من حاجة في وقتنا الراهن مع ما يحدّق بالعالم الإسلامي من مخاطر وصراعات وفوضى عارمة، إلى فتح ملف الاستعمار من جديد؟

تُظهر حالة العالم المعاصر وكأن الاستعمار ولّى وانقضى.. وأن الدول حازت استقلالها وتحررت من نيره.. حتى ليظن الكثيرون أن الكلام الآن على المسار التاريخي للاستعمار هو بمثابة رجوع إلى الماضي، واستعادة لمفاهيم وأدبيات فات زمانها.. وبإزاء هذه الحالة يُطرح السؤال التالي: أليس من الأولى بمكان الإعراض عن ذلك كله، والاتجاه نحو أفق معرفي جديد لبناء المستقبل؟!

تساؤلات وأسئلة قد تتبادر للوهلة الأولى إلى الذهن لدى تناول هذه السلسلة حول الاستعمار وما بعد الاستعمار كنظرية وتاريخ وتجربة ومع هذا فهي تحتاج إلى أجوبة واضحة...

لا نعدم الرأي لو قلنا إنَّ ما يحدث اليوم من صراعات داخلية واستلاب للهوية الوطنية، ومن تخلّف في الميادين كافة، إنّما هو ثمرة ما زرعه الاستعمار بالأمس صحيح . أن حقبة الانتداب بصيغتها الكلاسيكية قد انقضت لكن هذا الانتداب يعود ثانية لينتشر ويسود في لبوس جديد متسلّحاً بالقوة الناعمة حيناً، وأحياناً أخرى بأشكال استعمارية لا حصر لها.

* * *

ص: 6

فی مشروعنا الهادف إلى إعادة بناء الذات واستنهاضها ، يغدو من المستحيل مفارقة ذاكرة التاريخ ونسيان الماضي. ذلك بأنه ماض يمتلئ بفوائد الدروس والعبر، كما يكشف عن كيفية التعامل مع الآخر الاستعماري ثقافة وممارسة لئلا نقع ثانية في فخّه مثلما وقع أسلافنا. كذلك فإنَّ استرجاع بطولات أعلام الأمة في كفاحها ضدّ المستعمر سيكون من شأنه تحقيق اندفاعةٍ معنوية، تستنهض أجيالنا وتبثّ فيها روح العزّة والإباء.

وما من ريب في أن الواقع الذي نعيشه اليوم يفترض بنا - كمسلمين، نعتقد بخاتمية الدين الإسلامي وعالميته - العمل على بلورة استراتيجية معرفية من أجل الوقوف على حقيقة التحولات التي مرت وتمر بها بلادنا ومجتمعاتنا في مواجهة الهيمنة الاستعمارية بوجوهها كافة.

عطفاً على ما تقدم، يسعى المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية إلى رسم أهداف هذا المشروع وفقاً للمرتكزات التالية:

أولاً: تنمية وتفعيل البنى العلمية والمعرفية، السياسية والاقتصادية والسيادية لبلادنا ومجتمعاتنا. وذلك انطلاقاً من أن نجاح الاستعمار كان بسبب تخلف هذه البلدان والمجتمعات في الميادين كافة. وللتغلب على هذه الوضعية بات ضرورياً رصد ومعرفة اتجاهات التفكير الاستعماري بصيغتيه التقليدية والمعاصرة والسعي إلى بلورة الأفكار والتصورات التي تساهم في إعادة بناء الذات بناءً أصيلاً يعتمد على التنمية الشاملة للأمة، فضلاً عن الإفادة مما تختزنه من قدرات ذاتية تؤهلها إلى الرّقي والتقدّم.

ثانياً: استخدام الثورة المعلوماتية وتوظيفها في المشروع النهضوي الإسلامي. إذ إنَّ العقل الاستعماري ما فتئ يستفيد من وسائل الإعلام وتقنيات التواصل، لمواصلة استراتيجيات الهيمنة عبر التضليل وطمس الحقائق.

ثالثاً: السعي نحو توحيد صفوف أبناء الأمة على أساس الموقف الموحّد والقرار الواحد في مواجهة التحديات المصيرية تتضاعف أهمية هذا المسعى التوحيدي تحت وطأة الاختلافات المذهبية والثقافية؛ الأمر الذي يوجب التصدي لمشاريع الفتنة والحروب الأهلية التي يغذيها العقل الاستعماري، لتبرير حضوره تحت ذريعة أنه المنجي والمدافع عن حقوق الإنسان.

ص: 7

رابعاً: لزوم الاهتمام بالجيل الشاب، وتنمية وعيه الثقافي ولا سيما ما يتصل منه بإدراك حقيقة الاستعمار لئلا يقع فريسة الإمبريالية الإعلامية وأضاليلها.

خامساً: كشف حقيقة ازدواجية الغرب في تعاطيه مع مقولات وعناوين معاصرة مثل حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية وحق تقرير المصير. إذ إن هذه المدّعيات تبدو صحيحة بالنسبة إليه ما دامت تتماهى وتخدم مصالحه، إلا أنها سرعان ما تزول وتغيب إذا تضاربت مع هذه المصالح . ولا بد من التنبيه في هذا الصدد إلى أننا عندما ندم الغرب فإنا نذمّهُ كنظام ومؤسّسة سياسية إمبريالية لا كشعوب. فأهل الغرب كبقية الشعوب تختزن الإيجابيات والسلبيات وكثيراً ما كانت ضحية التضليل الإعلامي حيث استُدرِجَت لتكون إلى جانب المؤسسة الحاكمة لتبرير احتلال أرض الآخر والاستعلاء عليه. ولكن في مقابل هذا بقي ثمة أصوات حرّة وضمائر يقظة كشفت تهافت النظام الغربي بالنقد والاعتراض والضغط .

سادساً: لزوم الاهتمام بنظريات وأفكار ما بعد الاستعمار، وذلك لمنزلتها النقدية ومساهمتها الفاعلة في تبيين الشواهد على احتضار الحضارة الغربية، وبيان العدّ النزولي لتاريخها الحديث. فهذه النظريات والأفكار التي نعمل على تفعيلها في إطار مشروعنا المعرفي سوف تساهم في نقد البنية الاستعمارية وأسسها المعرفية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهي مصداق قوله تعالى:(يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) (الحشر - 2).

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وآله الميامين

النجف الأشرف

شهر رمضان 1439ه_ .

ص: 8

مدخل تاسیسی:نقد مباني العقل الإمبريالي

محمود حیدر (1)

لا يجيء الكلام على «ما بعد الاستعمار» من باب الاستيهام بنهاية الأطروحة الاستعمارية. سواءً تعلق الأمر بالاصطلاح والمفهوم، أمّ بالاختبارات التاريخية، فإن المناظرة مع هذه الأطروحة، وخصوصاً في زمن الحداثة الفائضة، باتت تتخذ لها منزلةً استثنائيةً مفهوم «ما بعد الاستعمار» كمثل سواه من المفاهيم الوافدة، يأتينا مكتظّاً بالالتباس والغموض. تعريفاتُه وشروحُه وتأويلاته تكثَّرت تبعاً لطبائع البيئات الثقافية والإيديولوجية حيث ولد وذاع أمره. لذا سيكون على كل منشغل بهذا المصطلح أن يتتبَّع سلالته الممتدة عميقاً في التاريخ الحديث، وأن يتعرّف إلى أوروبا بما هي أرض نشأته وفكرته وامتداده عبر الاستيلاء والغزو. ثم عليه من بعد ذلك كله أن يتميّز لفظة «ما بعد الاستعمار» بين كونها مفهوماً مضادّاً للاستعمار ودعوة كفاحية للتحرر منه وبين كونها وسيلةً معرفيةً تستعملها السلطة الإيديولوجية الحاكمة في الغرب، لتنتج أنظمة مفاهيم جديدةٍ تمكِّنُها من إدامة الهيمنة على العالم.

ص: 9


1- مفكر وباحث في الفلسفة - لبنان. مدير التحرير المركزي لفصلية الاستغراب

من أجل ذلك وجدنا أن نقارب المفهوم على منحَيَين متوازيين:

الأول: منحى الجغرافيا الأوروبية حيث مسقط رأس المفهوم وظروف ولادته.

الثاني: منحى الجغرافيات المستباحة أي من الأرض التي نشأت فيها الفكرة ال «الما بعد استعمارية»، كأطروحة مقاومةٍ فكريةٍ وكفاحيةٍ للهيمنة والتوسع.

مما يجوز بيانه أن ثمّة خلطاً مفهومياً يعود إلى سوءِ فهمٍ للمصطلح ولطريقة التعامل معه تاريخياً ومعرفياً. فقد بدا لكثيرين في الأوساط الغربية، وكذا في العالمين العربي والإسلامي، أن «ما بعد الاستعمار» مفهوم ينتسب إلى الجيل الاصطلاحي المستحدث الذي شاع صيته في ما عرف ب- «الما بعديات». فلقد بدا جليّاً أن كل هذه «الما بعديات» ك-: «ما بعد الحداثة» - «ما بعد العلمانية» - «ما بعد التاريخ»، «أو نهاية التاريخ»، «ما بعد الميتافيزيقا»، «ما بعد الإيديولوجيا» .. وأخيراً وليس آخراً «ما بعد الإنسان» أو ما سمي ب- «الإنسان الأخير».. إن هي إلا منحوتاتٌ لفظيةٌ يعاد تدويرها كلما دعت الحاجة. على هذا الأساس أمكن لنا أن نفترض أن السياق «المَابَعْدي» هو تدبيرٌ احترازيٌّ أخذت به المنظومة الحداثية لوقاية نفسها من الخلل والتهافت والاضمحلال. وعليه سنكون هنا بإزاء مهمةِ تفكيكٍ ومعاينةٍ لمصطلح حديثِ العهد وينطوي على شيءٍ من الغموض واللبس، قصد جلاء مراميه وبيان غاياته.

لا مناص من الإلفات ابتداءً، إلى أن مفهوم «ما بعد الاستعمار» ليس جديداً فی مسرى التاريخ الغربي الحديث. فقد ظهر في سياقٍ تنظيريٍّ بدأت مقدماته نقد

مع مسالك الحداثة وعيوبها في منفسح القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ثم ليتحول من بعد ذلك إلى تيَّارِ نقديٍّ عارمٍ بعد الحربين العالميتين في مطلع ومنتصف القرن المنصرم. لذا جاز القول أن النظريات ما بعد الاستعمارية اتصلت اتصالاً نقديّاً بعصرالتنوير، ثم تمدَّدت إلى الأحقاب التالية عبر مساراتٍ نقديةٍ للعقل الاستعماري بلغت ذروتها مع اختتام الألفية الميلادية الثانية. مع ذلك، لم يكن لهذه الموجة النقدية أن تتخذ بعداً انعطافيّاً في الثقافة الأوروبية لولا أنها ذهبت إلى المسِّ بالعقل المؤسِّسِ

ص: 10

لتاريخ الغرب وسلوكه. وللبيان، فإن أول ما أُخِذَ على هذا العقل في السياق النقدي، إضفاؤه على الاكتشافات العلمية تبريراً أخلاقياً ومعنىً حضاريّاً يؤكد فرادة الغرب واستعلائه على بقية العالم. فازدهار العلم - كما بات معلوماً - لم يكن فقط بسبب فضول العلماء والمفكرين وتوثُبهم لاستكشاف عالمه الغامض، وإنما أيضاً وأساساً بسبب التوسع الاستعماري الذي أوجبه وأطلق مساره.

* * *

من هذا المطرح المعرفي بالذات حقَّ لنا أن نبتني رؤيتنا للتفكير «الما بعد استعماري» على ركيزة النقد. تقول الفَرَضِية : إن نظريات وتيارات ما بعد الاستعمار ما كانت لتولد لو لم يكن المستهدَف منها أصلاً، هو العقل الاستعماري نفسه. من أجل ذلك دأب مفكرون وعلماء اجتماع على تعريف نظرية «ما بعد الاستعمار» بأنها نظرية تهدف إلى تحليل كل ما أنتجته الثقافة الغربية باعتبارها خطاباً مقصديّاً يحمل في طياته توجهاتٍ استعمارية إزاء المجتمعات الأخرى. كذلك سنجد في الأدبيات الفكرية الغربية اليوم من يرى أن مصطلحي [«الخطاب الاستعماري» و «نظرية ما بعد الاستعمار»] يشكلان معاً حقلاً من التحليل ليس جديداً بحد ذاته، ولكن معالمه النظرية والمنهجية لم تتضح إلا مؤخراً مع تكثيف الاهتمام به، وازدياد الدراسات حوله.

لننظر في ماهية كل منهما :

المصطلح الأول يشير إلى تحليل ما بلورته الثقافة الغربية في مختلف المجالات من نتاجٍ يعبّر عن توجهات استعمارية إزاء مناطق العالم الواقعة خارج نطاق الغرب، الأمر الذي يشكل في مجمله خطاباً متداخلاً بالمعنى الّذي استعمله الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو لمصطلح «الخطاب».

أما الثاني، أي «النظرية ما بعد الاستعمارية»، فيحيل إلى نوعٍ آخرَ من التحليل ينطلق من افتراض أن الاستعمار التقليدي قد انتهى وأن مرحلةً من الهيمنة - تسمى أحياناً المرحلة النيو- إمبريالية - قد حلَّت وأنشأت ظروفاً مختلفةً ، تحليلاً من

ص: 11

نوعٍ جديدٍ. ولذا، سيظهر لنا أن المصطلحين ناشئان من وجهات نظرٍ متعارضةٍ في ما يتصل بقراءة التاريخ. فبينما يرى بعضهم انتهاء مرحلة الاستعمار التقليدي، وبالتالي انتهاء الخطاب المتصل به وضرورة أن يتركز البحث في ملامح المرحلة التالية، وهي مرحلة ما بعد الاستعمار يرى آخرون أن الخطاب الاستعماري لا يزال قائماً، وأن فَرَضية «المابعدية» لا مبرر لها.

* * *

لم تخلُ ساحات الغرب من نقدٍ مبيّن للسلطة الاستعمارية. وهذا في تقديرنا يعتبر أساساً مهماً لفهم الأطروحة الما بعد استعمارية وتحرّي مقاصدها ولسوف تصبح العملية النقديّة ذات أهميّة مضاعفةً حين تسلك هذه الأطروحة مسارها التواصلي لتعرب عن علاقةٍ وطيدةٍ بين الثورة النقدية في الغرب الاستعماري، والحركة الفكرية والكفاحية الناشئة في المجتمعات المستعمَرة.

استناداً إلى هذا التلازم بين ثورة النقد في المركز الإمبريالي، واليقظة النقدية لنخب الدول المستباحة من المنطقي أن نحصِّل النتيجة التالية: إن الأطروحة ما بعد الاستعمارية في وجهها الانتقادي هي رؤيةً تتشكل من مضادات معرفيّة متظافرة للاستعمار في الحقول الثقافية والسياسية والسوسيولوجية والتاريخية. وهي إلى ذلك تعتبر في مقدم الأطروحات التي تستكشف عمق العلاقة بين بلدان الشرق والبلدان الاستعمارية في أوروبا. لقد عكف المساهمون على تظهير هذه النظرية عبر كشف ما تختزنه ثقافة وسلوك الحكومات الغربية إزاء الدول والمجتمعات المسيطّر عليها. من هذا الفضاء الانتقادي على وجه التعيين يشكل فكر ما بعد الاستعمار مدرسة تفكيرٍ داخل النظام الاستعماري نفسه، من دون أن يعني ذلك حصر المنتمين إلى هذه المدرسة بالإنتلجنسيا الأوروبية. فلنخب الشرق ومفكريه مساهمات معمّقة في وضع الأسس الفكرية التحررية للخطاب ما بعد الاستعماري

ص: 12

لقد تولت هذه النخب على الجملة مهمة معرفيةً نقديّةً مركبةً : نقد الغازي ونقد التابع ضمن خطبةٍ واحدةٍ. احتل نقد الاستعمار، وكذلك نقد النخب المتماهية معه داخل المجتمعات المستعمَرة، مكانةً محوريةً في تفكيرهم. تركَّزت المسألة الأساسية التي عالجوها على مشكلة الاغتراب بوصف كونها غربة إنسان تلك المجتمعات عن ذاته الحضارية وهويته الوطنية في سياق تماهيه مع ثقافة الغرب ومعارفه هذه الحالة المخصوصة من الاغتراب (alienation) ستجد من يصفها بعبارة موفَّقة:"اقتلاع الذات بواسطة الذات إياها" وشرحها أن الثقافة الاستعمارية تتحول عن طريق الاغتراب إلى ضربٍ من ولاءٍ نفسيٍّ، موصولٍ باستيطانٍ معرفيٍّ عن سابق إرادةٍ ووعيٍ. فالاغتراب في حالته القصوى هو أشبه بانصباب وعي المستعمِر في صميم وعي المستعمَر على النحو الذي يصبح المُهَيْمَنُ عليه غافلاً عن نفسه وعن مصيره وعن المكان الذي هو فيه. وفي هذه الحال يكفّ المغترِبُ» عن أن يصبحَ سيدَ نفسه ويتحول إلى عبدٍ لآلة العمل وخطاب مالِكيها عليه، يصير المثقف المستعمَر كائناً صاغراً تمَّ انتزاعه من زمانه الخاص ومكانه الخاص؛ حتى أنه يشعر في أحيان شتى كالغريب بين أهله، ناظراً إليهم ككائناتٍ متخلفةٍ وبربريةٍ. وبحسب فرانز فانون صاحب «معذبو الارض» فإن «المثقف المستعمَر يقذف بنفسه وبنهم إلى الثقافة الغربية كما الأطفال المتبنَّين الذين لا يكفُّون عن البحث عن إطارٍ عائليٍّ جديدٍ. لكن هذا المثقف، وهو يسعى ليجعل من الثقافة الأوروبية ثقافته الخاصة، لا يكتفى بمعرفة رابليه، أو ديدارو، أو شكسبير أو إدغار بو وسواهم، بل سيدفع دماغه إلى الحدود القصوى تواطؤاً مع هؤلاء الرجال».. في حقبة تالية من زمن الحداثة سيحتل رهط من فلاسفة الغرب وعلمائه مساحةً بيّنةً من تفكير النخب العربية والإسلامية إلى الدرجة التي جعل هؤلاء من أولئك، أوثاناً يستلهمون أفكارهم وأفهامهم، ويتخذونها مسالك ومناهج عن ظهر قلب.

تلقاء النقد النخبوي «العالم ثالثي» للمنظومة الاستعمارية حفلت الميادين

ص: 13

الغربية بتيارات نقدية استطاعت الانفلات بهذا القدر أو ذاك من الوظائفية الإيديولوجية للسلطة. رؤية هذه التيارات تجاوزت النقد الكلاسيكي لليبرالية ثم لتتضاعف وتتمدد مع ظهور حركات التحرر الوطني في البلدان المستعمرة بعد الحرب العالمية الأولى. في التنظير النقدي الذي قدمته هذه التيارات، أن سيطرة الإنسان على الإنسان لا تزال تمثل في الواقع الاجتماعي، ما يشي بأن استمراراً ،تاريخيّاً، ورابطةً وثقى بين العقل ما قبل التكنولوجي والعقل التكنولوجي. بيد أن المجتمع الذي يضع الخطط ويشرع فعلاً في تحويل الطبيعة عن طريق التكنولوجيا يغير المبادئ الأساسية للسيطرة. فالتبعية الشخصية (تبعية العبد للسيد، والقن لصاحب القصر، والوالي للملك، إلخ) يحل محلها - شيئاً فشيئاً - نوعٌ آخرُ من التبعية : لقد باتت السيطرة الاستعمارية الجديدة تعتمد في أدائها على درجةٍ أكبرَ من العقلانية، عقلانية مجتمعٍ يدافع عن بنيته الهرمية ويستغل في الوقت نفسه وعلى نحوٍ أنجعَ باطرادٍ الموارد الطبيعية والفكرية، ويوزع على نطاقٍ متعاظمٍ باستمرارٍ أرباح هذا الاستغلال. وإذا كان الإنسان يجد نفسه مقيداً على نحوٍ متعاظمٍ إلى جهاز الإنتاج، فإن هذه الواقعة تكشف عن حدود العقلانية وعن قوتها المشؤومة: فجهاز الإنتاج يؤبد النضال في سبيل الوجود، ويتجه إلى أن يجعل منه موضوعاً المزاحمةٍ عالميةٍ شاملةٍ تهدد حياة أولئك الذين يبنون ذلك الجهاز ويستخدمونه.

والعقلانية الاستعمارية التي حدَّت وظيفة استعمال العقل بجلب المنافع المحضة، هي عقلانية مجردة من الأخلاقية. ومثل هذه العقلانية الوظائفية راحت تتمظهر مع تعاقب الزمن كسمتِ تكوينيٍّ للشخصية الاستعمارية. فلقد بيّنت اختبارات التاريخ أن من أميَز طبائع العقل الاستعماري إضفاء صبغة عقلانية على كل فعالية من فعالياته يقطع النظر عن أثرها الأخلاقي. إنّ ما ينتج من هذا في آخر المطاف هو أن تتحول

العقلانية إلى ذريعةٍ فادحةٍ للاستخدام الإيديولوجي في الفكر الإمبريالي.

ص: 14

لنقرأ الإشكال بشيءٍ من التأنّي:

في الفكر الاستعماري الذرائعي يُنظَر إلى كلِّ ممكن وواقعيٍّ بوصفه أمراً عقلانياً. يحصل هذا حتى لو كان مقتضى الوصول إلى الهدف إيذاء الغير وانتهاك حياضه السيادية في العقلانية الاستعمارية التي ارتكنت إلى العلوم الطبيعية كمعيارٍ أوحَدٍ لحل مشكلات العالم تتجرد الذات الإنسانية من كلّ محتوى أخلاقٍّي وسياسيٍّ وجماليٍّ. وما ذاك إلا لأن المهمة الجوهرية لهذه العلوم تقتصر في مناهج التفكير الاستعماري على الملاحظة «المحضة» والقياس المحض ذلك بأن تحديد «طبيعة الأشياء» وطبيعة المجتمع جرى على نحوٍ يبرر«عقلانياً» الاضطهاد والاستغلال. هكذا لم تكن خرافة «الحروب العادلة» التي تحولت إلى مقولةٍ سائدةٍ في العقد الأخير من القرن الماضي، إلا الدليل البيّن على هذا الضَّرب من العقلانية المبتورة. لم تدرك الحداثة بسبب من غفلتها ومَيْلها المحموم إلى السيطرة، أن المعرفة الحقّة والعقلَ الحقِّ يقتضيان السيطرة على غلواء الحواس والتحرر من قهر الغير والسيطرة عليه . المفارقة في «العقلانية» الما بعد استعمارية، أنها حين تُقِرُّ بالقيم الإنسانية كسبيل للعدل والسلام العالميَين، تعود لتؤكد - وبذريعة العقلانية إياها - أن هذه القيم قابلةٌ لأن تتخذ مكانتها في أسمى منزلة ( أخلاقياً وروحيا)، ولكنها لا تُعَدُّ حقائق واقعيةً. تلك معادلةٌ أساسيةٌ من معادلات فلسفة الاستعمار التي بناها العقل البراغماتي للحداثة. تقول هذه المعادلة صراحةً : إذا كانت قيم الخير والجمال والسلام والعدالة غير قابلةٍ للاستنباط من الشروط الأنطولوجية أو العلمية، فلا مجال بالتالي لأن نطالب بتحقيقها. فهذه القيم في نظر العقلانية العلمية ليست إلا مشكلاتٍ تتعلق بالتفضيل الشخصي. ولما كانت هذه الأفكار غيرَ علميةٍ، فإنها لا تستطيع أن تواجه الواقع القائم إلا بمعارضةٍ ضعيفةٍ وواهنةٍ.

نضيف: إن العقلانية المنزوعة الأخلاق - بعدما استبدَّ بها جشع الاستيلاء

ص: 15

والسيطرة - هي نفسها العقلانية التي دفعت بالعالم المعاصر إلى الانزياح والضلال وعدم اليقين.

مع استهلال الألفية الميلادية الثالثة سوف يظهر لنا كأن اللحظة لم تَحِنْ بعدُ لكي يختلي العقل الغربي بنفسه ويتأمَّل. المركزية الغربية بصيغها النيوليبرالية لا تنفك تستغرق في غفلتها بسبب من عقلانيتها البتراء حتى السؤال الذي أنتجته ليعثر لها على طريقةٍ فضلى لسيادة العقل ما فتئ أن انقلب عليها. صار سؤالاً استجوابيّاً على ما يقدمه المشهد العالمي من تغييب لأحكام العقل وقوانينه، كأنَّما انقلبت «عقلانية الحداثة» على نفسها، فاستحالت «طوطماً للخداع والإيهام، بعدما كانت أنجزت فلسفتها «العظمى» في «تأليه» الإنسان.

* * *

جرى التنظير الفلسفي للعقلانية الاستعلائية مجرى اليقين في غريزة الغرب السياسي. أسس «روحيّاً» لحملات القوة، وسوّغ لمقولة استعمار الشرق، فجعلها تاريخاً سارياً لا تتوقف أحقابه عند حدٍّ زعمت عقلانية التنوير أنها الروح الذي يسري بلا انقطاع في تاريخ البشرية، وأنها البديل للزمان اللاّعقلاني الذي استولدته جاهلية القرون الوسطى الأوروبية. ولذلك فليس من قبيل التجريد أن يستنتج إيديولوجيو العقلانية الغربية المتأخرة «أنَّ فن تكوين الحقائق أهم من امتلاك الحقائق». لقد انبرى هؤلاء إلى استدعاء هذه المقولة ورفعها إلى مستوىّ متعالٍ. فكان من نتيجة ذلك أن آلت بهم إلى ذروة اللاّعقلانية المتمثلة في الواقع بتسويغ اضطهاد الشعوب كسلوكٍ مقبولٍ ومعقولٍ. لم تعد غاية العقل الإمبريالي المستحدث الكشف عن جوانب اللاّمعقول في الواقع، بل صارت غايته الكبرى البحث عن الصيغة التي يمكن بفضلها تشكيل الواقع طبقاً للمصلحة. كذلك لم تعد الغاية

ص: 16

هی التجاوز والتغيير، بل أصبحت هي التبرير عينهُ. وبدل أن يكون العقل الإنساني موجِّهاً للواقع المعاصر أصبح خاضعاً لأغراض الواقع ولوازِمه...».

استناداً إلى هذا التحويل الذي أجراه العقل الاستعماري في البناء العام لقيم الحرية والعدالة والمساواة، شقّ الفكر النقدي سبيله الاحتجاجي على هذا النوع من الارتداد الكارثي . لقد اتخذت العقلانية هنا صفة جديدة كل الجدَّة. تحولت إلى إيديولوجيةٍ فضّةٍ تسوّغ لنفسها كل ما ترسمه من مطامح. عند انتهاء الحرب الباردة (1990) أخذت النيوليبرالية فرصتها لكي «تؤدلج» انتصارها. ولقد تسنّى لها بوساطة شبكةٍ هائلةٍ من«الميديا البصرية والسمعية» - أن تعيد إنتاج هيمنتها ثقافياً واقتصادياً ونمط حياة على نطاق العالم كله كان على «عقلانية» الليبرالية الجديدة أن تقطع صلتها بالموروث المفاهيمي لحداثة التنوير. وها هي تحسم مدَّعاها بتقريرها أن تداعيات المشهد العالمي «لا تعكس فقط نهاية التوازن الدولي بل نهاية التاريخ بالذات: أي نهاية التطور الإيديولوجي للبشرية كلها، وتعميم الديمقراطية الليبرالية كشكلٍ نهائيٍّ للسلطة على البشرية جمعاء.

هل بلغت العقلانية بصيغتها الإمبريالية المستحدثة حدّ «الجنون» حين جعلت العالم أرضاً منزوعة القيم؟..

ذلكم هو السؤال الذي طفق يشكل الهمَّ الأقصى لنقَّاد السلوك الاستعماري المذاهب النقدية الغربية تنبَّهت إلى مثل هذا المنعطف بصورةٍ مبكرةٍ. لذا أجابت في ما يشبه الفانتازيا الفلسفية أنَّ اللاّعقلانية غالباً ما ترتدي رداء العقل لكي تعيد اكتشاف ذاتها. ربما أدركت براغماتيات السيطرة في الغرب أنها مضطرة إلى الهروب من العقل تحت وطأة المصلحة وغريزة البقاء. لكن سيبدو أنَّ لعبة الهرب من العقل إلى الجنون هي عودةٌ إلى العقل بمخيلةٍ أخرى. وهذه السيرورة لا بد أن تنتج

ص: 17

معرفةً على صورتها .. معرفةً تسعى إلى ملء الخواء، ولو بإيديولوجيات ثبت بطلانها ...

في عالما العربي والمشرقي والإسلامي الراهن يصبح من المهم أن يندرج هذا التفكير التحرري النقدي للاستعمار إلى منظومةٍ معرفيّةٍ تؤسس للإحياء الحضاري في مواجهة الإقصاء الاستعماري المستأنف فلكي يتخذ فكر ما بعد الاستعمار مكانته كواحدٍ من مفاتيح المعرفة في العالم العربي والإسلامي، وَجَبَ أن تتوفر له بيئات راعية ونخب مدركة، ومؤسسات ذات آفاق نهضوية، في إطار مشروعٍ حضاريٍّ متكاملٍ.

* * *

تتناول هذه السلسلة بأجزائها الأربعة الأطروحة الاستعمارية وما بعد الاستعمارية في إطار تحليليٍّ نظريٍّ، وكذلك من خلال معاينة للتجارب التاريخية في آسيا وأفريقيا بدءاً من القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا.

شارك في هذه السلسلة مجموعة من المفكرين والباحثين وعلماء الاجتماع من أوروبا وأميركا والعالمين العربي والإسلامي، وقد توزعت أبحاثهم وفقاً للترتيب المنهجي على بابين رئيسيين:

- باب المفاهيم وباب السيرة التاريخية لعدد من التجارب الاستعمارية وآليات مواجهتها ثقافياً وكفاحياً.

ص: 18

الفصل الأول مباحث تمهيدية (المصطلح والمفهوم)

اشارة

ص: 19

تعريف للاستعمار

اشارة

قراءة فی المعنی و التجربة التاریخیة

هورفاث ج.رونالد(1)

إن هدف الأكاديميا هو اكتشاف النظام. ورغم أنَّه من الممكن أن يكون النظام مجرد حالة في عقل الإنسان، إلا أنَّ السعي ورائه واجب. ربما تكمن إلزامية الكشف عنه في غريزة الإنسان الراغبة في البقاء؛ فالمعرفة تعني امتلاك القوة وامتلاك القوة يعزز من البقاء. بالإضافة لذلك، النظام وحده يمكن معرفته على عكس الفوضى أو عدم وجود النظام، لذلك يجب علينا أن نفترض وجود النظام. وسعياً وراء النظام، يقوم العلماء الغربيين في مجال الفلسفة المطلقة بالتعريف، التصنيف، والتفسير.

يصعب الفصل بين التعريف التصنيف والتفسير أن تعرف يعني أن تصنف فإذا قلت ما هو (أ)، فأنت تقوم بتصنيف الأشياء ك (أ) أو غير (أ). عادة تكون التصنيفات أكثر تعقيداً وتحتوي على مكونات أكثر من التعريفات وتكون أكثر تحديداً منها

ص: 20


1- - هو رفاث ج رونالد أستاذ مساعد في جامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا وفي جامعة ولاية ميشيغان. العنوان الأصلي : A Definition of Colonialism. المصدر: Source: Current Anthropology, Vol. 13, No. 1 (Feb., 1972), pp. 45- 57 Published by: The University of Chicago Press on behalf of Wenner-Gren Foundation for Anthropological Research Stable URL: http://www.jstor.org/stable/2741072. ترجمة: د. حازم محفوظ جمهورية مصر العربية. مراجعة كريم عبد الرحمن

وبالتالي تتعامل مع التفاصيل بشكل أفضل. ولكن عمليات ونتائج التصنيف والتعريف متشابهه بشكل أساسي؛ فكلاهما ينظم الحقيقة.

في مرحلة ما قبل النظرية (التفسير)، يجب أن نعتمد على عملية بحث بطيئة. فهناك مئات بل آلاف من الدراسات الوصفية التي كُتبت بدون تقديم فائدة التعريف، وقدمت عملية تصنيف مبدئيّة من خلالها تم تقليل عدد المتغيرات المحتملة. فالتعريف والتصنيف يشكلان عملية تقليل أو إنقاص أخرى؛ حيث يتم اختيار متغير واحد أو ربما مجموعة من المتغيرات لكونها مهمة والأساس الميتافيزيقي لعملية الاختيار تلك قائم ضمناً بشكل عام؛ فهناك بعض القواعد الضمنية التي تحكم سلوك البحث في أي فترة تحتوي عملية الاختيار على قرارات مأخوذة بشكل جماعي بواسطة علماء أو دارسين مهتمين بظاهرة معينة إن النموذج المطروح هنا هو عبارة عن محاولة لبدء عملية اختيار منهجية (إنقاص أو تقليل) و لتنظيم المتغيرات المتعلقة بظاهرة الاستعمار.

بدون تطوير نظرية، تصبح الأحكام على مدى أهمية المتغيرات سهلة نسبياً. فالنظرية هي نظام للتفسير والتنبؤ. والأغلب أن الظاهرة تتنبأ بمجموعة صغيرة من الحقائق. واستثناءات ذلك مثل نظرية النظم العامة قليلة جداً؛ فمعظم التفسير يكون مصمماً للتنبؤ بعدد من المتغيرات صغير نسبياً. وفي النهاية، تكون الحقائق المهمة هي تلك التي حدّدت بواسطة نظرية . فقبل النظرية، قد تبدو كل الحقائق متساوية نسبياً في الأهمية (تتفق معظم هذه الأفكار مع كوهن 1962، ويقدم نايجيل وكوهين 1934 معالجة أطول لموضوع التعريف والتصنيف).

والسؤال هو: أين نقف من دراسة الاستعمار ؟ قد يبدو أن أدبيات الاستعمار لا نهاية لها؛ فمن المفهوم أن الاستعمار واحد من أهم انشغالات الإنسان الرئيسية. ورغم كون الاستعمار في مرتبة أهم العمليات المؤثرة في التاريخ الإنساني، فإن الدارسين والعلماء الغربيين لم يصلوا إلى مرحلة إحكام الظاهرة، فالأكاديميا لا تمتلك نظرية عن الاستعمار تحظى بقبول واسع ولا يوجد اتفاق جوهري حول ماهية الاستعمار.

ص: 21

يسهم التغير في مدى أخلاقية الاستعمار في نقص فهمنا له؛ فالناس يمتلكون مشاعر قوية تجاه الاستعمار؛ فإنه إما عمل غير نظيف يتم بواسطة أشرار، أو محاولة جديرة بالإطراء تمت بواسطة رجال أخيار من أجل هدف نبيل وهو إنقاذ البائسين، الهمج والأقل حظاً. فمن الصعب أن نتحدث عن الاستعمار دون الإشارة إلى مشاعر الناس تجاهه، لأن هذا الشعور هو ما أعطى للكلمة دلالات مختلفة ومتنوعة. ولكن معرفة مشاعر الناس تجاه الاستعمار لا تؤدي إلى معرفة ما هو الاستعمار. فالصين والاتحاد السوفيتي (سابقاً) يتهمون أميركا لكونها قوة إمبريالية، ولكن من وجهة نظر أخرى فإن تلك الدولتين كانتا قوى إمبريالية واستعمارية أيضاً (حتى اللحظة لم أقم بالتفرقة بين الإمبريالية والاستعمار). إن تاريخ روسيا منذ حكم القيصر وحتى الآن هو تاريخ من العنف والاستعمار و الإمبريالية. وتعتبر التبت بالنسبة للصين مستعمرة تم غزوها بواسطة حكومة عسكرية قمعية، ومنذ الفترة التي سبقت حكم هان، قامت الصين بالتوسع بواسطة عملية ثقافية ليست أكثر أو أقل نبلاً من الإمبريالية والاستعمار . أيضاً الولايات المتحدة الأميركية شعرت بتفوق على المملكة المتحدة بإمبراطوريتها من ناحية أخلاقية، رغم أنها هيمنت على دول أميركا الوسطى اقتصاديّاً وعسكريّاً، وخاضت أيضاً عمليات توسع مبيدة كجزء من وجهتها الواضحة، بالإضافة لذلك يرى الأمريكيين من أصول أفريقية أنهم ضحية الإمبريالية. وأخيراً يبدو أن ممثلي دول العالم الثالث يوافقون على قليل مما ذكر باستثناء شرور الاستعمار الماضي الاستعماري والحاضر الاستعماري الجديد بينما تستعمل تلك الحكومات نفسها (السودان والجزائر على سبيل المثال) نفس السياسات القاسية، المستغلة المبيدة داخل حدودها لقمع الأقليات. شيء يحير العقل !!

لقد أخفق العلماء في أن يزودونا بتعريفات للاستعمار، الإمبريالية، والمفاهيم الأخرى ذات الصلة لأسباب عديدة، نذكر أربعة منها كما يلي:

.1 المنحى العابر للثقافات غير كاف فإعطاء صورة نمطية عن الاستعمار بناءً على حالة أو حالتين هو افتراض أن الاستعمار خصيصة من خصائص

ص: 22

حضارة بعينها (الحضارة الغربية) مما يعني إغفال كل الوقائع التي شهدها التاريخ الإنساني. فعلى سبيل المثال، لقد قام بويك (Boeke) بتطوير نظرية الاستعمار بناء على تجربة الهولندينن في إندونيسيا، وقام لينين Lenin بتقييد تركيزه ليكون على مرحلة واحدة من مراحل الحضارة الغربية رغم انه يعي أن الرومانيين قاموا أيضاً بالتجربة الإمبريالية. فكل حضارة رئيسية أو هامشية تسعى لتوسيع حدودها ونفوذها فالاستعمار لا يجب ربطه فقط بالمتحضرين (الثقافات المتمدنة التي تحتوي على شعوب متعلمة)، فالغير متحضرين استعمروا أيضاً على الأقل ذلك افتراض يجب ذكره هنا.

2. نقص المنظور النظري (فقط نظريتين يمكن الإشارة إليهما: الأولى لشمبيتر Schumpeter والثانية للينين Lenin) بالنسبة لدراسي الإنسانيات - الذين يتشككون دائماً من إمكانية اكتشاف تفسيرات عامة نقص أو انعدام التفسير سيبدو غير ذي صلة بالموضوع. وبالنظر للحجم الكبير لأدبيات الاستعمار في العلوم الإنسانية، فإن تلك النقطة تبدو غاية في الأهمية، فالموقف المأخوذ في تلك الورقة البحثية، هو أن الاختبار طويل المدى لملاءمة تعريف يكمن في ضرورة أن يقودنا الأخير لنظرية تعمل على تنظيم الحقائق.

3. نقص مرونة تعريفات الاستعمار، فالتعريفات والتصنيفات يجب أن تكون قابلة لتضمين اكتشافات جديدة، لذا يجب أن تكون هناك مرونة كافية للسماح بالمعالجة والتوضيح.

4. التوجه المحافظ جداً تجاه الكلمات ومعانيها. فعلى سبيل المثال، قام كوبنر وشيميدت Koeber and Schmidt بإظهار كيف تطور مفهوم الإمبريالية كذي صلة في البداية بالسياسة الخارجية البريطانية فقط، وبدلاً من أن أسأل عن الكيفية التي استخدم بها الناس بعض الكلمات، أفضل البدء بتحديد ما هي الظاهرة الاستعمارية. إن كل الكلمات التي تصف العلاقات الاستعمارية متقاربة جداً في المعنى لدرجة تجعلها متساوية

ص: 23

في المعنى تقريباً، والرغبة في اكتشاف دلالات تلك الألفاظ تؤدي إلى تشوش أو التباس غير ضروري الاستعمار الجديد (النيوكولونيالية) هي حالة جيدة في هذا الصدد. ربما الاستخدام الأول لهذا المفهوم كان في 1950، فالأمم الحديثة العهد بالاستقلال وجدت نفسها مستقلة جزئياً فقط، فظهرت الحاجة لمفهوم جديد ليتم استخدامه لأسباب سياسية. أما عن أحداث 1960 - خصوصاً المرتبطة بانفصال كانطاجا عن الكونغو بالإضافة للعمليات العسكرية التي قام بها الغرب في الكونغو - منحت المكونات العاطفية لميلاد المصطلح. ولكن ما الفرق بين الإمبريالية الاقتصادية، شبه الاستعمار والاستعمار الجديد؟ فوجود تلك المصطلحات ليس سبباً كافياً للعلماء لوضع تعريفات مستقلة.

ما يترتب على ذلك هو محاولة تعريف الاستعمار من خلال استخدام ما أسميه بالتحليل التعريفي. فالتعريفات الموضوعة يمكن تطبيقها عبر الثقافات في العالم الحديث وفي التاريخ أيضاً، فهي مرنة وتسمح بمزيد من المعالجة، وتوضح أيضاً العلاقات بين الظواهر والعمليات التي لطالما تم التعامل معهما بشكل منفصل.

تعریف وتصنیف للاستعمار:

يبدو أن هناك اتفاقاً عاماً على أن الاستعمار هو نوع من الهيمنة - هيمنة أفراد أو جماعات على إقليم أو سلوك أشخاص وجماعات أخرى (يُنظر للاستعمار أيضاً على أنه صورة من صور الاستغلال بالتركيز على المتغيرات الاقتصادية كما هو الحال في أدبيات ماركس ،ولينين، ويُنظر له أيضاً على أنه عملية تغيير ثقافة، كما هو الحال في علم دراسة الإنسان تلك النقاط المختلفة لا يجب أن تتنازع ، ولن يستبعد التركيز على الهيمنة منحى تغيير الثقافة). ترتبط الهيمنة هنا بمفهوم القوة.

ص: 24

وهناك اتفاقاً كبيراً أيضاً حول أن الاستعمار يشير إلى هيمنة الجماعة وليس إلى علاقات وعمليات اجتماعية بين أفراد الأسرة أو مستوى ما دون الجماعة. وهناك نوعين من أنواع هيمنة الجماعة : الأول بين الجماعات والثاني داخل الجماعة ذاتها، ومعيار التمييز بينهما هو التجانس الثقافي من عدمه، فالهيمنة بين الجماعات هي هي عملية تحدث في مجتمعات غير متجانسة، بينما تحدث الهيمنة داخل الجماعة الواحدة في المجتمعات التي تتسم بالتجانس الثقافي. في بريطانيا، سنجد نوعي الهيمنة - خصوصاً في الماضي أكثر منه في الحاضر- فهيمنة الإنجليز على الويلزيين والإسكوتلانديين والأيرلنديين تعتبر مثالاً هاماً على الهيمنة بين الجماعات، وفي نفس الوقت داخل المجتمع الإنجليزي نفسه، هناك تراتبية من حيث السلطة المال، والمكانة. ونظراً لكون الهيمنة

داخل جماعة بعينها لا تعد صورة من صور الاستعمار، فإن ما يعنينا هنا هو صورة الهيمنة بين الجماعات.

من الواضح أن الفرق الهام بين الاستعمار والإمبريالية هو وجود مستوطنين دائمين تابعين للقوة المستعمرة داخل المستعمرة إن الهيمنة على أميركا اللاتينية أميركا الشمالية، أستراليا، نيوزيلاندا، جنوب أفريقيا، والجزء الآسيوي من الاتحاد السوفيتي بواسطة قوى أوروبية تضمن هجرات مستوطنين دائمين من الدول الأوروبية إلى المستعمرات تلك الأماكن كانت مستعمرة. ولكن من ناحية أخرى، كانت معظم المناطق في إفرقيا وآسيا خاضعة للإمبريالية دون استيطان، وسنجد تلك الدول مختلفة اليوم نظراً لطبيعة عملية الهيمنة. إذن، يشير الاستعمار إلى نوع الهيمنة بين الجماعات؛ حيث يهاجر المستوطنون من الدولة الاستعمارية إلى المستعمرة بهدف الإقامة الدائمة، أما الإمبريالية هي نوع من أنواع الهيمنة بين الجماعات حيث لا يهاجر مستوطنون دائمون للمستعمرة أو على الأقل يكون عددهم قليل جداً.

ص: 25

والرسم البياني لهذا النموذج في المرحلة الحالية من المعالجة موضح في الشكل رقم (1)

من الممكن أن نستطرد قليلاً في توضيح كيف يمكن لهذا الرسم أن يتعامل مع ظاهرة الطبقة أو المستوى الاجتماعي. تشير كلمة الطبقة إلى التنظيم التراتبي لجماعات المكانة السلطة أو الثروة داخل شعب متجانس ثقافياً. ويمكن تعريف الطبقة من خلال توضيح الجانب المتعلق بالجماعة ذاتها داخل النموذج . إن الطبقة، معرفة بشكل جزئي، تعد صورة تطابقية من الهيمنة على جماعة بعينها . الهيمنة غير التطابقية داخل جماعة يمكن توضيحها من خلال علاقات القوة داخل القبائل والسلالات، إذا كانت كبيرة بالقدر الذي يجعل اعتبارها جماعة ممكناً. ولكن التعريف الكامل للطبقة يحتاج إلى إضافة متغيرات أخرى.

يجب أن نعود الآن إلى مشكلة أنواع العلاقات التي كانت بين الدولة الإمبريالية والاستعمارية والشعوب التي سيطروا عليها. يمكن الآن النظر لثلاث علاقات: (أ) إبادة، (ب) التداخل الاجتماعي، و (ج) التوازن النسبي، ويمكن توضيح تلك العلاقات من خلال الشكل التالي رقم (2):

ص: 26

تلك المصفوفة تشير إلى وجود ثلاثة أنواع من الاستعمار وثلاثة أنواع من الإمبريالية؛ ففي النوع الأول من الاستعمار ، تكون العلاقة بين المستعمر والمستعمَر هی علاقة إبادة. وبالنظر للمدلول المتطرف لهذه الكلمة، سنجد أن الإبادة تعني أن تقتلع شيئاً من جذوره أو تمحي الشيء بشكل كلي يزودنا التاريخ بأمثلة قليلة جداً للحالات التي حدثت فيها إبادة كاملة لقاطني كيانات جغرافية معينة من ضمنها الاحتلال الأوروبي لتاسمانيا ولجزر الكاريبي وأيضاً حدثت الإبادة في مناطق شاسعة من أمريكا، أستراليا، كندا، والاتحاد السوفيتي.

أما بالنسبة للنوع الثاني من الاستعمار، تكون العلاقة فيه بين المستعمِر والمستعمَر هي علاقة من التداخل الاجتماعي. ومن ضمن الأمثلة الكثيرة لهذا النوع دول أميركا اللاتينية المتحدثة بالإسبانية، الفيليبين الشرق الأوسط الإسلامي العربي، ودول شرق وجنوب شرق آسيا. في كل هذه الحالات وفي حالات كثيرة أخرى يمكن ،سردها كان المستعمِرون بمثابة الثقافة المانحة وكان المستعمَرون بمثابة الثقافة المستضيفة، مع وجود حجم كبير جداً من التبادل الثقافي. (لقد تم استخدام لفظي المانح والمستضيف لتسهيل فهم العمليات الثقافية في المكسيك في بداية الحقبة الاستعمارية، ولكن بالطبع يمكن تطبيقهما في أي مكان؛ فعلى سبيل المثال، قام توينبيي Toynbee بمناقشة نفس العمليات ولكن باستخدام مصطلحات أخرى).

وفي الحالة الثالثة من الاستعمار ، من الممكن للمستوطنين أن يعيشوا جنباً إلى جنب مع السكان الأصليين، وهنا لا توجد محاولات لزرع ثقافة أو للإبادة (هذا لا يعني عدم وجود تغير في الثقافة). وهناك أمثلة على هذا النوع مثل بعض مستعمرات الدول الأوروبية السابقة كالجزائر روديسيا كينيا جنوب إفريقيا، وإندونيسيا.

ص: 27

والشكل التالي (رقم (3) يوضح الأنواع الثلاثة من الاستعمار:

وبالنسبة للإمبريالية فالنوع رقم أربعة هو إمبريالية مصحوبة بالإبادة. هذا النوع نادراً ما حدث عبر التاريخ باستثناء الحملات العسكرية التي كانت تبعث تحت شعار دمر المدينة حتى تتمكن من إنقاذها» (ويناقش ويلهيلم (1969) Willhelm) كيف مثلت التجربة الأميركية مثالاً حياً لهذا النوع). فتلك الأنواع المنطقية البحتة تحدث عندما يتم تطبيق تلك المصفوفة بطريقة آلية.

أما عن النوع الخامس وهو يعبر عن إمبريالية مصحوبة بعلاقة من التداخل الاجتماعي بين المستعمِرين والمستعمَرين. من الظاهر أن مصطلح القمر الصناعي الذي استخدمه لاتيمور (1955) Lattimore) ومورفي (1961 Murphy) يعبر عن هذا النوع ، وبالتالي يمكن أخذ أقمار الاتحاد السوفياتي كمثال حي على هذا النوع.

وأخيراً، النوع السادس؛ الذي يعبر عن إمبريالية بها نوع من التوازن النسبي، فهي

ص: 28

ليست إبادةً ولا تداخلاً اجتماعياً. وهنا يوجد العديد من الأمثلة مثل معظم المناطق في إفريقيا وآسيا والتي تمت السيطرة عليها من قبل قوى أوروبية. ويعد هذا النوع من الإمبريالية الأكثر شيوعاً لأنه طالما لا يوجد مستوطنون دائمون، من الصعب حدوث إبادة أو تداخل اجتماعي.

حتى هذه اللحظة، لم أذكر شيئاً عن طبيعة أو مستوى تقدم الوحدات السياسية التي انخرطت في أوضاع استعمارية أو إمبريالية. من الشائع اعتبار الإمبريالية والاستعمار مجرد علاقات بين الدول الغربية وشعوب العالم الثالث أحد تطبيقات هذه النظرة هو أن مرحلة التقدم السياسي للدولة المهيمنة أو الدولة المهيمن عليها متصل بتعريف الاستعمار. وتطبيق آخر هو أن الاستعمار كصورة من صور الهيمنة، أو كنوع من أنواع الاستغلال، أو كعملية ثقافية، متصل بظهور الدولة القومية في أوروبا. أجد أن تلك النظرة للاستعمار لا يمكن الدفاع عنها. لقد تمت ممارسة الإمبريالية والاستعمار في مراحل مختلفة من مراحل التقدم السياسي في أفريقيا جنوب الصحراء قبل الاتصال بأوروبا. حيث تعد بوغندا مثالاً جيداً في هذا الصدد؛ فقبل الفترة البريطانية، دخلوا في مرحلة الإمبريالية وبعد مجيء الإنجليز شهدوا حالة من ما يمكن تسميته «دون الإمبريالية» أي أقل منها . فلقد تحدث سميث (Smith) عن ما يمكن تسميته الاستضافة أو الترحاب بين الأعراق واعتبره نوعاً من الاستعمار والإمبريالية. وتعد أيضاً دول المدينة في العالم القديم مثالاً آخر لنفس الفكرة. ولقد ذهب لوثي Luthy في هذا الصدد إلى القول بأن «يمكن القول أن تاريخ الاستعمار هو تاريخ الإنسانية نفسه».

على الأقل بمجرد ظهور الدولة القومية في أوروبا، كان يُنظر للوضع السياسي لهؤلاء على أنه متعلق بمنطق الهيمنة . (هذا الافتراض يرجع بشكل أساس لعدم اتساق استخدام أي من المصطلحين؛ الإمبريالية والاستعمار في حالات مثل التبت التي تعتبرها الصين جزءاً منها). ومن وجهة نظري الشخصية لا يوجد فرق جوهري بين الاستعمار والإمبريالية المحليين كصور من الهيمنة أو الاستغلال أو كعمليات ثقافية والاستعمار والإمبريالية الدوليين. ما هو الفرق بين قمع قاطني جنوب السودان غير

ص: 29

المسلمين بواسطة قاطني شمال السودان المسلمين و أن تُقمع السودان كلها بواسطة البريطانيين؟ لا يوجد فرق كبير ، ولكن من الجيد أن نفرّق بينهما الآن ولو لغرض توضيح التشابه بينهما . هذه الثنائية المحلية/ الدولية ستكون آخر متغير يمكن إضافته للتقسيم السابق الذكر في الشكل رقم (3) ؛ ذلك التصنيف الذي أنتج اثنتي عشرة علاقة منطقية. فالإمبريالية المحلية هي صورة من صور الهيمنة بين الجماعات داخل حدود وحدة سياسية بعينها. ويختلف الاستعمار المحلي عن الإمبريالية المحلية في وجود مستوطنين من الدولة الاستعمارية منخرطين في عملية الهيمنة تلك. وما يميز الإمبريالية الدولية عن الاستعمار الدولي هو هيمنة وحدة سياسية على غيرها.

مزید من المعالجه:

على عكس التعريفات السابقة لتعريف الاستعمار، يقدم نظام التحليل التعريفي اکتشافات جديدة. إن عدم تضمين كل جوانب المصطلح في التعريف ليس عيباً في آلية النمذجة ولا في النموذج ذاته. فلقد تُركت بعض الخصائص عمداً بهدف الإيجاز، ولقد تمت تلك الأحكام بناءً على مدى أهمية متغيرات معينة بالمقارنة بمتغيرات أخرى. ولكن كيفية قياس الأهمية هي مسألة للأسف لا يمكن الإجابة عنها قبل النظرية.

وبمجرد وضع النظرية توضع التعريفات والتصنيفات ويمكن مقارنتها بالواقع. والسؤال هو: هل يمكن تطبيق تلك التعريفات والتصنيفات على ثقافة معينة في منطقة معينة ؟ وإذا اكتشف من خلال تلك المقارنة أن النموذج غير مقبول، يكون أمامنا طريقتان للتصرف : التعديل أو الرفض.

ربما يعترض متخصص في الإمبريالية المحلية في الهند على نقص الاعتبارات اللغوية، أو آخر مهتم بالإمبريالية البريطانية في القرن 19 سيسأل: أين نقاش الجانب الاقتصادي من الاستغلال ؟ فإذا أحس هؤلاء المختصون بأن التعريفات صحيحة بشكل أساسي وأننا بحاجة فقط إلى بعض التعديلات، إذن سيكون أمامنا نوعان من التعديلات هما:

ص: 30

الأول هو أن نتعامل مع الخصيصة محل الاهتمام كمتغير آخر يضاف للنموذج بشكل مباشر. وإذا كانت الخصيصة السابعة ثنائية التفرع، سيصبح لدينا حوالي أربعة وعشرون نوعاً منطقياً عند المستوى السابع. وبدلاً من ذلك، يمكن إضافة المتغير السابع في مستوى أعلى وإعادة ترتيب الجزء التالي من النموذج. ولو كانت اهتمامات وأهداف الباحث محدودة، ستكون التعديلات البسيطة كافية. فعلى سبيل المثال، ربما يكون الباحث غير راض عن التعريف من النوع السادس (إمبريالية التوازن النسبي) لأنه لا يفرق بين الإمبريالية الاقتصادية، نصف شبه الاستعمار، والاستعمار الجديد. فعلى سبيل المثال: حالة غانا قبل وبعد الاستقلال، وللتعامل مع هذا العيب يمكن إضافة المتغير الثنائي الرسمي/ غير الرسمي.

إذا أضفنا المتغير الثنائي التفرع مستوطنين/ بدون مستوطنين، سينتج نوعان من الهيمنة بين الجماعات هي: الهيمنة الرسمية بين الجماعات والهيمنة غير الرسمية بين الجماعات وعليه سينتج نوعان من الاستعمار ونوعان من الإمبريالية هم: (1) الاستعمار الرسمي (2) الاستعمار غير الرسمي (3) الإمبريالية الرسمية، و (4) الإمبريالية غير الرسمية. لقد تم تعريف الاستعمار الرسمي ببساطة على أنه الاستعمار ذاته، أما الاستعمار غير الرسمي فهو نوع من أنواع الهيمنة بين الجماعات التي تنتج عن الهجرة الاختيارية لمستوطنين دائمين من أماكن غير المدن الكبيرة، مثل هجرات الآسيويين إلى إفريقيا الصينيين إلى جنوب شرق آسيا... إلخ (لا تؤدي كل تلك الهجرات إلى هيمنة كما هو الحال بالنسبة للأفارقة الذين هاجروا للعالم الجديد). بعض من هذه الجماعات تم النظر إليها كغرباء (في الأدبيات الإفريقية) ليس مسموحاً لهم بالتداخل الاجتماعي. أما الإمبريالية الإدارية هي صورة من صور الهيمنة بين الجماعات حيث يوجد تحكم رسمي على كل شئون المستعمرة من خلال الجهاز الإداري الإمبريالي المقيم. تتساوى الإمبريالية غير الرسمية مع الاستعمار الجديد (النيوكولونيالية)، شبه (نصف) الاستعمار والإمبريالية الاقتصادية، وهي تعد نوعاً من أنواع الهيمنة بين الجماعات حيث يغيب التحكم الإداري الرسمي وتمارس من خلال النخبة المحلية ووفقاً لهذا التعريف تكون الأقمار الصناعية

السلطة

ص: 31

التابعة للاتحاد السوفيتي والأراضي المهيمن عليها من قبل بريطانيا مثل شمال نيجيريا موجودة في نفس الفئة. ونتيجة أخرى لقرار إضافة المتغير الثنائي الرسمي/ غير الرسمي فوق متغير المستوطنين، هو ظهور اثنا عشرة نوعاً نوع عند مرحلة التمييز بین

العلاقات، وأربعة وعشرون نوعاً عن التفرع الثنائي للمرحلة السياسية.

وبديل لذلك، يمكن إضافة التفريع الثنائي الرسمي غير الرسمي للمتغير الخامس أو السادس أو السابع مما يؤدى لنتائج مختلفة. يُحدد الاختيار بين البدائل من خلال عدد الفئات التي لا معنى لها لكونها متضاربة منطقياً أو لم تحدث في الماضي أو غير ممكنة الحدوث في المستقبل.

وهناك مقترب آخر للتعديل مفاده هو أخذ قرار بكون الخصيصة محل الاهتمام مساوية لمتغير الهيمنة ووفقاً لذلك، ستتم إضافة تلك الخصيصة كمحور آخر مساوي للهيمنة. هذا القرار سيولد نظاماً جديداً يمكن ربطه بالخصائص المختارة لنموذج الاستعمار المقدم هنا تكمن منفعة أي نموذج في حله لمشكلات معينة، وأيضاً في وعده بحل مشكلات أخرى. إذن، المرونة الداخلية هي مصدر قوة وليست مصدر ضعف.

إن رفض تعريف أو تصنيف معين يجب أن يكون بسبب أن الباحث وجد مخطوطاً آخر قادر على تعريف وتصنيف الظاهرة محل الدراسة بصورة أفضل. هذا المخطوط يجب أن يكون أكثر عمومية (ينطبق على عدد أكبر من الحالات) وأبسط (يسمح بفهم أكبر للمصطلحات) إن رفض أي مخطوطٍ بدون إيجاد بديل له ليست الطريقة الطبيعية في العلم بشكل عام.

بعض التطبيقات:

إن المخطوط التعريفي والتصنيفي الذي تم اقتراحه له تطبيقات تتجاوز الأهداف المحدودة لتلك الورقة ؛ فهو يقدم منهجية تعد بقدرتها على التعامل مع الظواهر

الثقافية والاجتماعية المعقدة. هناك ميزتين لتلك المنهجية تجدر الإشارة إليهما:

ص: 32

الأولى، كما تم توضيحه، هي القدرة على التعديل والتفسير الطرق المتاحة لها نفس الميزة، ولكن التعريف يتم بناء على قاعدة خذ كل شيء أو لا شيء». رغم أن المواصفات تحتاج إلى اختبار حتى يتم ربط المتشابهين بعملية التعريف، إلا أن التعريفات إما أن تُقبل أو تُرفض بواسطة الدارسين والمتخصصين من أسباب ذلك هو أن منهجية التوضيح، التعديل أو إعادة الترتيب ليست موضحة بشكل كافي. فالشيء الوحيد الثابت في العلم هو التغير. إن التعريف - مثله مثل النظرية _ يجب عليه أن يتنبأ بالتغير.

أما عن الخصيصة الثانية لتلك المنهجية هي أنها تركز على الترابط بين المتغيرات. فحتى تكون عالماً في الحضارة الغربية، يجب أن تحلل وتنظر للكل من خلال النظر إلى مكوناته في الفلسفة المطلقة. ولقد كانت هذه الطريقة مثمرة جداً في العلوم الطبيعية، ولكنها لم تكن كذلك في الدراسات الإنسانية حيث إن الجزئيات المنفصلة غير موجودة في الإنسان ولكن إذا أردنا مثلاً أن ندرس الاستعمار فسندرس الهيكل الاجتماعي، وإذا أردنا أن ندرس الهيكل الاجتماعي فسندرس أنظمة القيم وهكذا. فإن المنهجية المستخدمة في هذه الورقة البحثية تحدد أجزاء (متغيرات) وتوضح علاقتها ببعض الأجزاء. ويمكن توضيح الطريقة التي تتعامل بها تلك المنهجية مع الجوانب الثقافية والاجتماعية للظاهرة من خلال تحليل المصطلح «الطبقة أو الطائفة الاجتماعية».

تلك المنهجية تجعل من الصعب دراسة الظواهر بطريقة منعزلة فإن اعتبار الاستعمار صورة من صور الهيمنة يتعلق بأنظمة تصنيف الظاهرة ( مثل الطبقة والفئة/ الطائفة الاجتماعية). هنا نجد فقط أن الطائفة الاجتماعية لها علاقة بالاستعمار والإمبريالية. فإن الطبقة هي صورة من صور صورة من صور التصنيف الاجتماعي؛ حيث يتم الترتيب الرأسي للثروة، المكانة والسلطة وفقاً لاعتبارات إثنية؛ حيث لا يمكن الانتقال الرأسي بين تلك المستويات ولو على المستوى النظري. ترتبط الطائفة في العادي بالحالة الهندية، ولكن الكثير من خصائصها أكثر انتشاراً من ذلك. فإن الطائفة هي صورة

ص: 33

من صور الهيمنة. فالمجموعات وما دونها يتم وضعها في طوائف بناء على معايير إثنية. في الهند الحديثة، لا يمكن لطائفة أن تستعمر إقليم طائفة أخرى رغم أن الأصل التاريخي لنظام الطوائف كان مرتبطاً بالاستعمار - كما تم تعريف ذلك الأخير في تلك الورقة البحثية - ولكن الطوائف حالياً لا تبيد الطوائف الأخرى ولا تتداخل معها اجتماعياً ولكن هناك توازن نسبي بينها. وأخيراً، لا يمكن اعتبار الطائفة ظاهرة دولية ولكنها شيء يحدث داخل الوحدة السياسية. ولذلك، الطائفة هي هيكل اجتماعي نتج عن إمبريالية محلية، وهناك توازن نسبي بين المجموعات غير المتجانسة إثنياً.

باستخدام هذا التعريف يمكن أن نجد الطائفة في أميركا وجنوب إفريقيا أيضاً. فالأمريكيون من أصل إفريقي والهنود من أصل أميركي لديهم إلى حد ما هذا الوضع الطائفي؛ فالهنود الذين عاشوا فترة الإبادة مع الإمبريالية الأميركية والاستعمار الأميركي تم إعطاؤهم هذا الوضع الطائفي. وأيضاً لقد تم إعطاء ذوي البشرة السوداء في جنوب أميركا ذات الوضع؛ خصوصاً في الماضي.

وبينما يتفكك أو ينهار النظام الطائفي في الهند، فإنه يشهد عملية نشأة شديدة الديناميكية في جنوب إفريقيا. ومن المعروف وجود عملية فصل بين أصحاب البشرة البيضاء وأصحاب البشرة السوداء، ولكن الفصل بين المجموعات الثقافية هي غير معروفة؛ فهناك فصل بين ذوي الأصول الهولندية وذوي الأصول البريطانية. إن سياسة التمييز العنصري تلك تتطلب محافظة وتطوير المجموعات الإثنية والثقافية تلك لأساليب حياة مختلفة وثقافات مختلفة من خلال العيش في مناطق خاصة بهم فقط ويكون الاجتماع مع الآخر للعمل فقط؛ فتلك كانت طبيعة النظام الطائفي في الهند مثلاً . صحيح أنه كانت هناك اختلافات بين الاثنين ؛ فالنظام الطائفي في جنوب إفريقيا كان يعمل من خلال نظام السوق عكس طبيعة اقتصاد إعادة التوزيع في الهند تقليدياً. وبشكل عام، إن نقطة التحليل للطائفة هي أن عملية (الإمبريالية) مرتبطة بشكل اجتماعي (الطائفة)، فالفصل بينهما يحمل مزيداً من اللبس لا الفهم.

ص: 34

الاستنتاجات: فهرس المصطلحات

إن هدف تلك الورقة البحثية هو تعريف الاستعمار وبعض الظواهر ذات الصلة. إن المجموعة التالية من التعريفات تم إنتاجها بواسطة الآلية المستخدمة في البحث.

1. إن الهيمنة هي تحكم الأفراد والجماعات في إقليم معين أو/ وفي سلوك الأفراد والجماعات.

2. إن الهيمنة بين الجماعات هي عملية تتم في مجتمع غير متجانس ثقافياً ولكن الهيمنة داخل الجماعة الواحدة تتم في المجتمعات المتجانسة ثقافياً.

3. إن الاستعمار هو شكل من أشكال الهيمنة بين الجماعات؛ حيث يهاجر مستوطنون من القوة المستعمرة بأعداد كبيرة وبشكل دائم إلى المستعمرة.

4. إن الإمبريالية هي شكل من أشكال الهيمنة بين الجماعات؛ حيث تهاجر قلة من المستوطنين الدائمين من الوطن الإمبريالي إلى المستعمرة - أو لا يهاجر مستوطنون من الأساس.

5. إن الطبقة هي شكل من أشكال الهيمنة الطبقية داخل الجماعة الواحدة.

6. إن الإمبريالية هي شكل من أشكال الهيمنة بين الجماعات التي تحدث (في حدود الوحدة السياسية المستقلة المعترف بها في حالة الإمبريالية الدولية، تكون الجماعة المهيمنة هي الوحدة السياسية المهيمنة، رغم أن التحليل الطبقي يعطي فهم أكثر واقعية للعملية محل التوضيح).

7. تشير الإمبريالية الإدارية إلى ذلك الشكل من أشكال الهيمنة بين الجماعات؛ حيث يتم التحكم الرسمي المباشر في شئون المستعمرة من خلال الجهاز الإداري الإمبريالي المقيم.

8. تتساوى الإمبريالية غير الرسمية مع الكولونيالية الجديدة Neo-colonialism،

ص: 35

شبه الكولونيالية Semi-colonialism ، والإمبريالية الاقتصادية، وهي نوع من الهيمنة بين الجماعات حيث يغيب التحكم الإداري الرسمي وتمارس السلطة بواسطة نخبة محلية.

9. يختلف الاستعمار المحلي عن الإمبريالية المحلية في كون الأول يتضمن هجرة مستوطنين دائمين من القوة الاستعمارية.

10. يشير الاستعمار غير الرسمي إلى ذلك الشكل من إلى ذلك الشكل من الهيمنة بين الجماعات الذي ينتج عن الهجرة الاختيارية لمستوطنين دائمين من أماكن غير العواصم أو المدن الكبيرة الرئيسية .

11. إن الطائفة هي نوع من أنواع الهياكل الاجتماعية، وهي نتيجة لإمبريالية محلية مصحوبة بتوازن نسبي.

مستخلص:

إن المصطلحات مثل الاستعمار الإمبريالية، أو النيوكولونيالية هي مفاهيم تظل غير معرفة رغم الأدبيات الضخمة المكرسة لدراسة تلك الظواهر. في الأكاديميا، بدون تقييم نقدي للاستعمار الإمبريالية والنيوكولونيالية سيكون التعريف هو الشرط المسبق لأي تقييم نقدي. وفي هذه الورقة، تم تقديم نموذجاً يمكن له توليد تعريفات متسقة منطقياً. يقوم هذا النموذج بتحديد المتغيرات ذات الصلة بالاستعمار، الإمبريالية، والنيوكولونيالية وتوليد أو إنتاج تعريفات عند كل مستوى؛ تلك آلية يمكن تعديل التعريفات وفقاً لها من خلال الاكتشافات البحثية في المستقبل. وأخيراً، يُوصى بتعريف العلاقة بين أنظمة التصنيف الاجتماعي والاستعمار والإمبريالية من خلال مزيد من التفسير للنموذج المطروح هنا .

ص: 36

تعلیقات:

1. أندريه جوندر فرانك Andre Gunder Frank

كما يشير هورفات من الصعب الفصل بين التعريف التصنيف، والتفسير (النظرية). إذن، تعريف الاستعمار هو في الحقيقة نظرية عن الاستعمار، وجزء مكمل للمنهجية النظرية أو المقترب الأيديولوجي للمجتمع ودراسته - وللحفاظ على واقعه ولكن هذه النظرية ليست علمية سواء بمعايير هورفات أو بأي معايير مقبولة أخرى، تلك النظرية التي تُعنى في الحضارة الغربية على حد قوله «أن تحلل وتنظر إلى الكل من خلال أجزائه».

إن التعريف المنهجي أو المنهجية التعريفية محل العرض ليست كلية، إذن النوع الرابع (النوع المنطقي الذي نادرا ما حدث في التاريخ) لا تاريخي. إذن تلك المنهجية تدخل ضمن منهجيات العلماء الآخرين والتي يلاحظها هورفاث قائلاً: رغم أن الاستعمار يمكن ترتيبه مع أهم العمليات المؤثرة في التاريخ الإنساني، إلا أن العلماء الغربيين لم يصلوا إلى مرحلة الإمساك الحقيقي بهذه الظاهرة).

وفي الحقيقة، هم لن يستطيعوا باستخدام منهجية تتظاهر بتحليلها للواقع متجاهلةً صورته الكلية غير مهتمة بواقعيته وتماسكه، ومنكرةً تاريخه. وبعيداً عن الإمساك بظاهرة الاستعمار والجوانب غير المبهجة في الحقيقة الاجتماعية، فإن هذه الأيديولوجيا يمكن

لها أن تربك فهم الحقيقة والواقع من خلال الاعتماد على وهم تفسير الأجزاء.

ونتيجة لتلك المعايير العلمية والمنهجية غير المقبولة نتج مثال على إرباك فهم الحقيقة وهو تعريف الاستعمار من حيث وجود أعداد كبيرة من المستوطنين الدائمين كما كان الحال في الهيمنة على أميركا اللاتينية شمال أميركا، أستراليا، نيوزيلندا، جنوب إفريقيا، والجزء الآسيوي من الاتحاد السوفيتي؛ مسألة يمكن لأي طفل في العالم المهيمن عليه أن يكتشف أنها مجرد الرداء الأيدولوجي للإمبراطور. من أجل معالجة علمية (بعيداً عن عيوبها وعن التحفظات الشخصية عليها) يمكن للقارئ

ص: 37

العادي أن يقارن تلك الأيديولوجيا بالمنهجية التاريخية المتماسكة لروبيرو 1970؛ والتي تؤدي إلى نتائج شديدة الاختلاف مقبولة علمياً وأكثر واقعية.

إن الأسباب وراء فشل العلماء في تجاوز (عدم كفاية المنحى العابر للثقافات، ضعف المنحى النظري، قلة المرونة، والتوجه الشديد التحفظ تجاه الألفاظ والمعاني)- تلك النقاط الأربعة التي حددها هورفات - ليس بسبب التركيز على الكلمات ولكن بسبب التوجه الشديد المحافظة لهم وضيق نظرتهم بالنسبة لمجتمعهم ولدورهم كأيديولوجيين داخل هذا المجتمع. وبالمثل، إن محدودية التفسير هي انعكاس لنفس التوجه والنظرة؛ فالتوجه والنظرة السياسية لهؤلاء العلماء هي سبب فشل المعرفة الغربية - من ضمنها تلك المعرفة محل العرض والمراجعة في الوصول إلى مرحلة الإحكام بالاستعمار ،بالإمبريالية وبالهيكل السياسي الاقتصادي والاجتماعي الثقافي للمجتمع الذي يولدهم.

2 ديفيد جاكوبسون David Jacobson

إن بعض الجوانب في ورقة هو رفاث تشوش محاولته لتنظيم ظاهرة الاستعمار . يدعي هورفات فشل العلماء والمتخصصين في تزويدنا بتعريفات للاستعمار، رغم أن حجته مبنية على نقد تعريفات الآخرين للاستعمار. ربما نقطته هي عدم وجود تعریف مفيد، منتج ونقدي للاستعمار، ولكن تلك المواصفات تطرح مشكلة - والتي يتجاهلها - وهي تحديد معيار نظري يمكن بواسطته تقييم المنفعة المفاهيمية. يضيف هورفاث مزيداً من اللبس بتأكيده على أنه غير مهتم بتحليل استخدامات (ومعاني) مفهوم الاستعمار، ولكنه مهتم بظاهرة الاستعمار ذاتها فلقد قام بعمل فئات للخصائص (المتغيرات) التي رآها مرتبطة بالاستعمار والإمبريالية، ولكن تبقى هناك مشكلة متعلقة بمنفعتهم إذا تم تطبيقهم على حالات إمبيريقية. إن التعريفات تبقى عنصر أساسي لاكتشاف النظام، ولكن منفعتهم تقاس بإمكانية تطبيقهم من أجل الفهم النظري أو تفسير العلاقات بين الظواهر. إن بناء تعريف يفترض وجود إطار نظري، بغض النظر عن وضوحه، يتم التقليل من أهميته عندما يتم تحليل التعريفات

ص: 38

في مرحلة ما قبل النظرية. إن التحليل التعريفي ممكن أن يكون مهماً بغرض التوضيح المفاهيمي، ولكن حجة هورفاث كان يمكن لها أن تكون أقوى إذا قام هو بتوضيح التطبيقات النظرية لتعريفه للاستعمار.

3. مادلين باربرا ليون Madeline Barbara Leons

تشجعت عندما أُرسل إلي مخطوط كتابي يتعامل مع ظاهرة الاستعمار والإمبريالية، من المفترض أن يتم نشره في العدد الحالي لجريدة الأنثروبولوجي. إن الانتباه المنتظم لمثل هذه الظواهر في الجرائد التي تتعامل مع علم دراسة الإنسان تأخر كثيراً وهو بالطبع أمر مرحب به جداً. ولكن يجب أن أتساءل مع ذلك عن منفعة تعريف منفصل عن نظرية واضحة وأن اختبر بشكل ناقد بعض الأسس النظرية للمخطط التعريفي الذي وضعه هورفات.

أنا أشارك هورفاث الاهتمام بالكلمات. فإذا كانت معاني الكلمات غير واضحة، ضَعُف الفهم. فعلى سبيل المثال، أنا لم أفهم ما يقصده هورفات بكلمة «إثني»، فهل يقصد تمييز عرقي أم ثقافي أم الاثنين؟ فلقد استخدم المصطلح بالثلاث معانِ والمعنى هنا سيفرق في فهم الحجة .

ورغم ذلك الاهتمام المشترك، يجب عليَّ أن أشكك في قيمة هذا الإسهام. لدي اعتراضات صغيرة على الاتساق مثل مناقشة مسألة هجرة الأفارقة للعالم الجديد كهجرة اختيارية. ولكن معركتي وخلافي الأساسي هو حول افتراض الكاتب أن التعريف يؤدي إلى النظرية - التي تعتبر طريقة لتنظيم الحقيقة وتسبق النظرية. ورغم اعتراف هورفات بصعوبة فصل التعريف عن النظرية، لقد أكمل في عمل نفس الشيء. وأنا أرى أنه ليس من المفيد فصل التعريف عن السياق النظري.

وكما يؤكد هورفات على أن عملية التعريف تتضمن اختيار المتغيرات الهامة وتتجاهل المتغيرات غير الهامة أو الأقل أهمية فيجب أن تكون عملية الاختيار تلك مبررة، إذا لم تكن خيالية أو اعتباطية، ويجب أن يكون هذا التبرير مبني على الأساسات

ص: 39

النظرية للمنفعة في إطار نظام من التفسير والتنبؤ يدعي هورفاث أن أساس الاختيار ميتافيزيقي وواضح. وأنا سأترجم ذلك لمعنى أن الأساسات النظرية لباقي التعريفات تُركت ضمناً في نظري للأسف فإن تعريفه محمل بنظرية ضمنياً، والتي يفضل أن يطلق عليها تعريف العلاقات كما ظهر في المستخلص أو في التطبيقات. أنا أقترح الآن اختبار بعض جوانب تلك النظرية الضمنية بربطها ببعض المناظرات النظرية

الواضحة داخل المجال.

يستخدم هورفات الهيمنة كأول متغير مهم واستخدمه للإشارة إلى علاقات القوة. إذن هناك فرض صيغ هنا لتحليل الظواهر وهو أن العلاقات السياسية أهم من العلاقات الاقتصادية والثقافية مثلاً. وبالتالي أيُّ مخطوط يعطي الأولوية في التفسير للعمليات السياسية سيُنظر إليه كأقل في الأهمية. فإن مشكلة التحيّز النظري الموجود داخل التعريف لا يمكن حلها من خلال إضافة أو إعادة تنظيم المتغيرات. فهل يمكن طرح المتغيرات أيضاً أم لا ؟ هذا يتطلب أن تكتب تعريفات تتناسب مع المشكلة - وهو ما يحدث بشكل عام. فإذا لم يكن من الممكن طرح المتغيرات، فإن هورفات يرفض مجموعته من التمييزات والعلامات الفارقة التي من الممكن أن تكون ملائمة أولاً.

كانت أول معالجة قام بها هو رفاث هي تفرقته للهيمنة بين الجماعات والهيمنة داخل الجماعة الواحدة وقال أن التصنيف الاجتماعي الذي ينتج عن الهيمنة يسمى طبقة. وبالتالي تشير الطبقة إلى التنظيم التراتبي للمكانة والثروة والسلطة في المجتمع، ولكن تلك النظرية الضمنية لم تخبرنا عن طريقة التوفيق أو العلاقات بين هذه الجماعات . قال هورفات أيضاً أن ممارسة الهيمنة داخل مجتمع غير متجانس ثقافياً تؤدي إلى تصنيف آخر وهو التصنيف الطائفي؛ حيث يتم التقسيم التراتبي المجموعات الثروة والسلطة والمكانة وفقاً لاعتبارات إثنية ولا يمكن الانتقال لأعلى على المستوى النظري.

هذا التحليل ينطبق على كل حالات الاستعمار الداخلي - تلك الفئة التي يُدخِل

ص: 40

فيها هورفات الولايات المتحدة الهند وجنوب إفريقيا بغض النظر عن الاتفاق حول هذا التصنيف فنحن هنا أمام تصنيف ثنائي بين مجتمعات متجانسة ثقافياً ومجتمعات غير متجانسة ثقافياً؛ ففي الأولى نجد تصنيفاً اجتماعياً وفي الثانية نجد تصنيفاً طائفياً.

أنا أرى أن هذا النقاش يعيد نفس المناظرة التي اشتعلت حول رؤية سميث عن التعددية الاجتماعية والثقافية فقط سنستبدل كلمة الطائفة بقسم متعدد، وكون سميث نظري وهو رفاث ينكر المفاهيم النظرية المسبقة لا يغير شيئاً.

إن حجة هورفات الضمنية توازي عرض سميث لفكرة المجتمع القائم على التعددية. ولتوضيح حجة سميث المعقدة، يقول سميث أن المجتمع مقسم إلى شرائح متميزة مؤسسياً عن بعضها البعض. يصان المجتمع من خلال الهيمنة على مؤسساته السياسية من قبل واحدة من تلك الشرائح - والتي تشكل قلة مهيمنة يرفض سميث تطبيق التحليل الطبقي على المجتمع القائم على التعددية لأنه يفترض وجود وضع دائم للشرائح الاجتماعية وهي مسألة غير موجودة في المجتمع القائم على التعددية. وتعتبر رؤية هو رفاث للجماعات الإثنية على أنها طوائف منظمة بشكل تراتبي كاريكاتور لفكرة سميث.

هناك الكثير من المنفعة في التكوين الذي شكله سميث، ولكن من أكثر الأشياء التي دار حولها التساؤل هي التصنيف الثنائي بين المجتمعات المقسمة اجتماعياً والمجتمعات القائمة على التعددية التي جعلت دراسة كل منهما يجب أن تتم بشكل منفصل. ربما يكون ذلك ما أيده هورفاث حينما قام بعمل تصنيف ثنائي بين المجتمع الطبقي المتجانس والمجتمع الطائفي غير المتجانس. في الحقيقة، يمكن فهم رؤية سميث بطريقة أفضل بمقابلتها بنظرية بارسون للفعل ، ولكن كما يقول هو رفات في سياق آخر نحن لا يجب أن نكون مقيدين بالطريقة التي استخدمت بها الكلمات من قبل آخرين.

أؤكد أنه أفيد على المستوى النظري أن نجعل كلمة الطبقة تشير إلى توزيع السلطة

ص: 41

والثروة والمكانة (كل منهم منفصل في عملية التحليل) في أي مجتمع حتى تلك المجتمعات غير المتجانسة ثقافياً أو عرقياً. فإذا لم نكن قادرين على فصلهم في عملية التحليل، لن نستطع معرفة كيف يختلفون بشكل مستقل ولن نستطيع تعديل العلاقة بينهم مع الوقت. فوفقاً لرؤية هو رفاث للطائفة، يجب أن نعترف - وفقاً للتعريف - أن الثروة، السلطة والمكانة موزعون تراتبياً بين الجماعات الإثنية المختلفة وأن تلك العلاقة لا يمكن تغييرها لعدم إمكانية التحرك بين الطوائف، ولكن يعترف في ذات الوقت أن نظام الطوائف في الهند يتفكك بينما يظهر هذا النظام في جنوب إفريقيا. إذا كانت العلاقة بين السلطة، الثروة والمكانة والإثنيات تتغير بالفعل، فيجب - غير معاقين بتعريف هو رفاث - أن نسأل لماذا ، وإذا كانت تلك العلاقات لا تتغير، فيجب أن نسأل لم لا؟ وفقاً للمخطوط الرسمي لهورفاث، السؤال الأول مستحيل والثاني لا معنى له.

4. روبرت شيرلي Robert W.Shirley

إن الموضوع الذي قام هو رفاث باختباره هو موضوع هام للغاية. فأنا للغاية. فأنا سعيد لأن العلماء الاجتماعيين في الولايات المتحدة الأميركية بدأوا في دراسة مشكلة بدأ علماء أميركا اللاتينية في دراستها منذ سنوات؛ وهي أنماط الهيمنة بواسطة أناس على غيرهم. أتصور أن تلك الورقة البحثية ستكون أكثر فائدة لو تم نشرها منذ عشر سنوات. فإن ذلك التصنيف يقدم نقطة انطلاق لمزيد من البحث، ولكن لا يمكن النظر إليها كنقطة كاملة. بالتأكيد إن الفئات التي استخدمت في التصنيف هامة جداً خصوصاً المتغيرات الديموغرافية مثل الاستيطان من عدمه أو الإبادة أو التداخل الاجتماعي مع الشعب. ومن ناحية أخرى، هناك الكثير من الحديث اليوم عن التصنيف الاجتماعي والطرق التي يتم الإبقاء بها على الهيمنة بين الجماعات أو داخل الجماعة ذاتها وبالتالي تلك الورقة البحثية تجعل القارئ يشعر بعدم معرفة إجابات أسئلة هامة مثل: كيف ولماذا؟

هناك الكثير من النقاط التي تزعجني في هذه الورقة. فإنني أرى أنه ستتم إفادة العلوم الاجتماعية بواسطة أطر تعريفية متداخلة أكثر من شكل تعريفي ثابت. فكما

ص: 42

يشير سيمبسون تكون هناك فائدة للتصنيف فقط بالعلاقة بإطار نظري معين. فالنظرية هنا ليست واضحة رغم أن علاقتها بالديموغرافيا واضحة، وأيضاً الفئات ليست محكمة بالقدر الكافي؛ فعلى سبيل المثال، إن الفرق بين التداخل الاجتماعي والتوازن ليس واضحاً بالنسبة لي، فهل كان الأفارقة متداخلين اجتماعياً في الولايات المتحدة؟ أو في البرازيل؟ في جنوب إفريقيا؟ فالإجابة عن كل تلك الأسئلة نعم ولا اعتماداً على المعايير والمجالات التي نوقشت.

بالإضافة لذلك أنا لا أجد في هذه الورقة أي مناقشة منظمة للعملية ذاتها؛ الطرق التي تتم بواسطتها عمليه الهيمنة سواء تمت بواسطة أفراد مقيمين، كهنة، جيوش أو عناصر وفئات هامة داخل الاقتصاد. لم يقبل شعب أن يهيمن عليه من قبل آخرين؟ ما هي جوانب الحياة التي يهيمن عليها ؟ لما يرغب الناس في الهيمنة على الآخرين؟ تلك أسئلة حيوية جداً. ففي عملي الخاص بالاستعمار في البرازيل، أدركت أن بعض العوامل هي الأهداف المحفزة والتنظيم المؤسسي للقوة الهيمنة. ويلعب الاقتصاد بجانب السياسة دوراً هاماً هنا. فكل تلك العناصر تتداخل مع فئات هورفاث بطريقة تجعل من الممكن تفسيرها بطريقة ديناميكية. فإن النوع المنطقي الرابع - إمبريالية مصحوبة بإبادة - على سبيل المثال ربما ستناسب نظام إمبريالي هدفه هو استخراج بعض الموارد الطبيعية مثل البترول أو المعادن ولكن سيصعب إقحام الشعب في سوق العمالة المطلوبة لهذا الهدف. أعتقد أن ذلك حدث إلى حد ما في الأيام الأولى من الكونغو البلجيكية، وكان ذلك أيضاً من أهم العوامل وراء معاناة الهنود من أصل برازيلي اليوم.

إذن ، رغم أنني أرى فائدة في تعريفات هو رفاث إلا أنني غير مقتنع أن كل المتغيرات المتعلقة بالاستعمار أو الإمبريالية تم تحديدها، ولست مقتنعاً أيضاً أننا يمكن أن نقوم بتحديدها كلها خصوصاً في مجال الاستعمار الاقتصادي والنيوكولونيالية. وبالنسبة لنظام التصنيف والمخطوط التعريفي على الأقل بالنسبة لحالة أميركا اللاتينية، فأنا راض على التطور الذي قدّمه روبيرو رغم كل عيوبه أكثر من الأنواع المنطقية التي قدمها هورفاث.

ص: 43

5. أيدان سوٹالAidan Southal

ليس لدي نقد لمنطق أو لاتساق المخطوط التصنيفي لهورفاث. فلا يمكن الهروب من حقيقة أن البعض يستمتع بهذه الأمور أكثر من البعض الآخر . ربما يعتبرها العلماء في دراسة الإنسان أنها عملية التصنيف تلك بالية أو قديمة لأنهم لا يجدونها طريقاً مرضياً لاستكشاف المشكلات التي تلقى اهتمامهم ولكنني أرى أنها تشكل على الأقل عملية عقلية أولية ولكن التحليل المثمر يبدأ حينما يتم تجاوز حدودها. أشك الرغبة في إضاعة الوقت على ذلك المخطوط إلا في علاقته بمشكلات معينة. ربما هذا ما يفعله هو رفاث ولكن دون التأكيد عليه.صحيح أن مخطوطه مرن بما يسمح ببناء المزيد من التمييز بين المتغيرات داخله ولكن هذا يعرضنا لخطر بناء فئات أكثر عدداً من الحالات.

والدليل على تلك النقاط هو أن النموذج أثبت ضعفه بالعلاقة بالأمثلة التي استشهد بها. لقد أخبرنا أنه لا يوجد فرق بين قهر المسلمين في شمال إفريقيا لغير المسلمين في جنوب إفريقيا وبين ممارسة الإمبريالية على السودان كلها بواسطة البريطانيين. إن النقطة الهامة والتي ربما منع النموذج هورفات من رؤيتها هي أن واحدة أدت للأخرى. لقد قام البريطانيون برسم خط قويّ وسريع بين الشمال والجنوب. ففي الشمال قاموا بتقوية اللغة العربية والإسلام (السائدين هناك من الأساس) وقاموا بتقوية اللغة الإنجليزية والمسيحية في الجنوب. يمكن أن نصيغ قانون، لم يقترح بواسطة هورفات، مفاده أنه عندما تخترق قوة إمبريالية السيادة السياسية لدولة بها انقسامات، لن يصمد الدستور وستعم الفوضى حتى يتم تبني حل يطمس هذا الانقسام. هذا ينطبق على شمال وجنوب السودان بوغندا في مقابل الكونغو، وشمال نيجيريا في مقابل باقي نيجيريا.

ومثال الطائفة أيضاً مثال في غير محله. إن تفسير الطائفية الهندية تاريخيّاً كظاهرة متعلقة بالاستعمار ببساطة ليست فكرة مثمرة. فإن تصنيف حالات جنوب إفريقيا والولايات المتحدة مع حالة الهند كأمثلة للنظام الطائفي يزيد من اللبس أكثر مما

ص: 44

يوضح. وأتفق على أنه من الضروري أن يسأل عن العناصر المشتركة في أنظمة اللامساواة في الهند، جنوب إفريقيا ، وأميركا، لكن هذا لا يجيب عن أهم الأسئلة التي طرحها دومونت (1966) أو ليتش (1960) فيما يتعلق بالطائفية الهندية. فهذا النموذج حتى لا صلة له بوجهة نظر هورفاث التي تفيد أن السود يمكن استغلالهم على عكس الهنود ولذلك ينظر إليهم كحشرات للإبادة.

فإن هذا النموذج لا يفرّق بين الأيديولوجيا والفعل؛ فيمكن أن يصنف إمبريالية البرتغال كإمبريالية دولية رغم أنها محلية بالنسبة للأخيرة.

اختلف بشدة مع رأي هو رفاث عندما قال أنه لا فرق بين الإمبريالية والاستعمار المحليين والدوليين كأشكال من الهيمنة أو الاستغلال أو كعمليات ثقافية. أعتقد وضع الهنود في أميركا الشمالية والقيرغيزية أو الكازاخ في الاتحاد السوفيتي بالفعل مختلفة بوضوح ولكن تختلف اختلافاً جوهرياً عن أوضاع الأفارقة في الأقاليم المستعمرة من قبل قوى أوروبية. ويصدق ذلك لسببين: الأول؛ التمييز بين المحلي والدولي يحتاج إلى التدقيق والتحسين فعلى سبيل المثال، إن بطش ذوو البشرة البيضاء شمال إفريقيا لأصحاب البشرة السوداء في جنوب إفريقيا ظاهرياً حسب النموذج يعتبر استعماراً محلياً، ولكنه يعد إمبريالية دولية. فالتصنيفات غير الخطية ليست جيدة لأن الشروط تعتمد على المشكلة. وعلاوة على ذلك، ينحدر هورفات لتعريفه للهيمنة على أنها السيطرة على الإقليم و / أو السلوك، لكنه لا يعطي أي اعتبار لتطبيقات الأخير. إن الشكل المعاصر للنيوكولونيالية - الذي يتم التحكم الجزئي وفقاً له في سلوك الحكومات المستقلة رسمياً بواسطة الشبكات التجارية والدبلوماسية والمساعدات الاقتصادية والعسكرية والاستخباراتية والمؤسسات المالية في الدول الصناعية الغنية - من المفترض أن تكون مصنفة حسب النموذج ل-«الإمبريالية الدولية ، ولكن هذا لا يأخذنا للأمام لأنه مبسط جداً. فإن النموذج توقف عند نقطة بدء استحقاق الفائدة. هذا النوع من التعليم الرسمي وبناء النموذج الأرسطي، يحمل خطراً كبيراً يتمثل فى تجاهل المشاكل أو الالتفاف حول مشكلات

ص: 45

عدم الوضوح والازدواجية لأنها غير مناسبة من البداية على سبيل المثال، وصف ألور عملية الهيمنة على أنها لا تصلح لفئات ما بين الجماعات أو داخل الجماعة الواحدة في مخطط ،هورفاث، وهناك العديد من الكتاب الذين أشاروا إلى حالات مشابهة في أماكن أخرى.

بالطبع يجب تنظيم الحقيقة حتى يتم فهمها، ولكن هذا النوع من النماذج يقدم مقترب مبدئي يجب هجره لأن الإضافة إليه سوف تزيد من اللبس غير الضروري. وعندما يتم الوصول لمراحل أعلى في التحليل، يجب أن تركز النماذج المستخدمة على سياق المشكلة محل الدراسة. فقط عندما يتم التوصل لأكبر حجم من استيعاب للعلاقات بين المتغيرات، يمكن وقتها الارتباط بنماذج أكثر شمولية.

6. سبنسر J.E.Spencer

إن موضوع الاستعمار الذي يشغل هورفات لا يمكن تفويته ولكن المشكلة هي أنه نادراً ما سيتفق أحد على وجود حالة معينة تناسب مجموعة التعريفات المبسطة عندما تصبح معايير البت في المسألة ذاتية. وبخصوص هذه المشكلة ليست هناك أكاديميا واحدة ولكن الكثير بعدد المستعمرين والإمبريالية، وسترى كل منها المشكلة من المنظور الخاص بها وانطلاقاً من التصور الذي تتبناه. ويتضح ذلك من خلال النظر لمحاولة الغرب أن يفرض تعريفاً لأخلاق العدوان على كل المتخصصين والممارسين.

بالنسبة للأكاديميا ،الغريبة، التعريفات جيدة علمياً ولكنها غير عملية، بمعنى أنها ليست واضحة وموضوعية مما يجعل جميع مستخدميها يصلون إلى نفس النتيجة. على سبيل المثال، معرفة «عدد المستوطنين بأعداد كبيرة» على أساس أن نقرر ما إذا كان الأمر يتعلق بالاستعمار أو بالإمبريالية. بالرغم من أن الفلبين قد أصبح مسيطراً عليها من قبل الأسبان بدرجة كبيرة، لم يوجد أبداً ما يصل إلى 10000 أسباني أو شخص من أصل أسباني في الجزر في أي وقت من الأوقات، إلا أنه كان هناك من أمثال هذا العدد من غير الصينيين وذوي الأصول الصينية في أواخر العصر الإسباني.

ص: 46

اتجهت فرنسا إلى «استعمار» إندونيسيا، ولكن لم يوجد قط ما يصل إلى 50 ألف فرنسي أو حتى أشخاص من أصول فرنسية، وكان هناك أكثر من عشرة أضعاف هذا الصينيين في الغالب كان هناك أقل قليلا من 300 ألف هولندي وأشخاص من أصول هولندية في إندونيسيا ولكن أكثر من مليون صيني. من المؤسف أنني صعب أن أتفق مع هورفات بسهولة على معظم الحالات بسبب وجود منطقة رمادية كبيرة في كل حالة.

ولدي اعتراض على إقحام كل قضية بسيطة داخل هذا النموذج. ورغم أن أسبنة الفلبين تشبه حالة بسيطة للاستعمار الدولي المصحوب بالتداخل الاجتماعي إلا أن هناك رأياً آخر مفاده أن ما حدث كان استعماراً داخلياً؛ فالفلبينيون استغلوا المؤسسات السياسية الإسبانية من أجل الاحتفاظ بالسيطرة السياسية في الدولة في حين أن المواطنين الصينيين حولوا أنفسهم إلى مواطنين فيليبينيين للوصول إلى السيطرة الاقتصادية. أين أنا الآن ؟ بتقديم مزيداً من المعالجة سيكون نموذج هورفات جيداً، ولكنه سيظل محفوفاً بالخطر، ورغم كل ذلك، سأنتظر بعض الوقت عله يجلب لنا المزيد من الوضوح قبل أن أبدأ في إطلاق المسميات والأحكام على النموذج.

7. برونيسلو ستيفانيسين Bronslaw Stefaniszyn

أجد أن محاولة التوصل إلى تعريف الاستعمار مفيدة. غير أنه يبدو أن علماء الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية قادرون على العمل دون هذا المصطلح، فإنهم يرون الاستعمار أحد أشكال الاتصال الثقافي، خاصة عندما نتعامل مع التوجه إلى التغيير الثقافي . وعلاوة على ذلك، يركز علماء الأنثروبولوجيا أساساً على أثر الاتصال الثقافي، في حين يركز المؤرخ والعالم السياسي - كل وفي لمبادئ مجال - على حدث الاستعمار نفسه، ومن ثم يصعب عليهما أن ينطلقا من وقوع حدث معين إلى تعميم. إن قائمة المراجع المرفقة بهذه الورقة تعكس هذا الوضع؛ فإن معظم المراجع المذكورة تاريخية واقتصادية واجتماعية سياسية، ومن الصعب أن تجد مراجع من علم الأنثروبولوجيا.

ص: 47

الرد.... رونالد هورفات Ronald Horvath:

لقد نتجت تلك الورقة البحثية عن اهتمامي بتمدن العالم الثالث ما أبهرني في البداية هو أن جذور وآليات التمدن في إفريقيا لم تتسق مع توقعات النظريات والنماذج الكلاسيكية للتمدن مما دفعني لاختبار فرض مفاده أن تلك الاختلافات ترجع للاستعمار . ولكن ما هو الاستعمار ؟ كنت أتصور في البداية أن بإمكاني الذهاب إلى المكتبة لمدة أسبوعين وأخرج بتعريف للاستعمار ، ولكن بعد عام اكتشف أن هناك الكثير من التعريفات والدراسات وللأسف تم عمل تلك الدراسات بدون الاستعانة بتلك التعريفات. وما زاد اللُّبس، أن كثيراً من المتخصصين قاموا بعمل دراسات عن العلاقات الاستعمارية تحت مسميات أخرى. وكانت هناك فجوة كبيرة بين تعريفاتهم للاستعمار وبين الحالات التي يعتبرونها ،استعمارية فكانت الأولى أوسع من الأخيرة. ولذا توصلت لاستنتاج مفاده أن المتخصصين الغربيين فشلوا في الإمساك بالاستعمار والإمبريالية بشكل جيد. ومن ضمن المشكلات العديدة التي تقابل فعل ذلك، جاءت أحد أهداف بحثي وهي تقليل الغموض حول عديد من المصطلحات ذات الصلة بالاستعمار فالورقة البحثية لم تتضمن نظرية عن الاستعمار لم تتعامل مع السياسية أو أخلاق الاستعمار، ولم تصل حتى لمرحلة إنهاء تحقيق الهدف الذي كتبت من أجله.

يشير سبنسر على سبيل المثال إلى أن معايير تطبيق هذه التعريفات ليست موضحة. إن المزيد من التحديد مطروح في نظام، ولكن أي عمل إمبيريقي أو / وأي تطوير لافتراضات نظرية يجب أن يسبق هذا التحديد كم عدد المستوطنين؟ بأعداد كبيرة سيحدد اعتماداً على نوعية الإجابة المطلوبة من الافتراض النظري. فالحل الإمبيريقي المعتمد على بيانات ديموغرافية يمكن أن يحدد عدد المستوطنين في عدد من المستعمرات. إذا أراد عدد معين أن يهيمن على منطقة بعينها ستظهر مشكلات أخرى؛ فما فعله كورتز في المكسيك في 1915 لم يكن ممكناً في فيتنام تنام 1960 مع وجود نصف مليون أميركي. ولكن لما ينتظرني سبنسر لعمل تلك التحديدات؟

ص: 48

فأنا متعاطف جداً مع هؤلاء الذين يريدون نظرية واضحة ومفسرة لتعريف الاستعمار (جاكوبسون وليون)، وأنا أيضاً أريد ذلك. فإجابات كيف ولماذا الاستعمار والإمبريالية سيتم وضعها في تلك النظرية كمسلمات ولكننا لا نمتلك حتى الآن وسائل تمكننا من تحديد أنماط منتظمة تتعلق بالاستعمار، وهذا هو أقل شيء يجب امتلاكه من أجل بناء نظرية. ويمكن لنا في هذا الصدد تذكر بعض الشروط المسبقة في تاريخ العلم. فإن مبادئ التصنيف في علم الأحياء تطورت قبل مجيء دارون. ولكن الإجابات عن كيف ولماذا تغيرت لأن الفصائل والأنواع التي تحدث عنها دارون لم تعد ثابتة ولكن التصنيف استطاع الصمود والبقاء. تعد الجداول الدورية في الكيمياء مثال آخر على أنظمة التصنيف التي استطاعت أن تستمر رغم العديد من التغيرات في النظرية فأنا لا أقول أن التعريف والتصنيف يجب أن يسبقا بناء النظرية، ولكنهما على الأقل يستطيعان الصمود رغم التغير في التفسيرات (النظرية). ليون يشير إلى وجود نظرية ضمنية في التعريف، ولكن يجب أن يقول أن هناك نظريات في التعريف؛ تلك النظريات مختلفة مثل النظرية التي بنى الإله الأرض وفقاً لها ومثل نظرية التطور لدارون، فكلَّا منهما كان متسقاً مع نفس نظام التصنيف. ولقد قال سوثال أن التصنيف نظام بالي وأنه يجب أن يستخدم في البداية فقط ثم يهجر. وأنا أرى أن التصنيفات لن تكون مفيدة بشكل أساسي في البحث عندما يكون هناك اتفاق واسع على هذا التصنيف، وحتى عندما يكون هناك اتفاق، يُبنى على التصنيف ولا يتم هجره.

إن البحث الذي قمت به في هذه المقالة أقنعني بأن الاستعمار ظاهرة عالمية، فلقد شهدته جميع الحضارات، ومن المرجح أن كثيراً من الشعوب غير المتحضرة شهدته أيضاً. فمن أجل تعريف هذه الظاهرة بطريقة تؤدي إلى بناء نظرية، علينا أن نتعرف على نقاط التشابه بين مختلف أنواع العلاقات الاستعمارية. فإن التركيز على أوجه الاختلاف وحدها غالبا ما أدت إلى استنتاج مفاده أن جميع العلاقات متميزة أو فريدة من نوعها، إن نظرية التفرد وبناء النظرية تلك تبدو متناقضة، فأنا أبدأ بمحاولة معرفة أوجه التشابه بين العلاقات الاستعمارية بهدف معرفة نقاط الاختلاف. فعندما

ص: 49

نعلم ما هو الاستعمار سيكون بإمكاننا التمييز بين الأنواع الفرعية من الاستعمار، على سبيل المثال: الاستعمار المحلي والدولي.

وبعد تصميم ملابس الإمبراطور دون أي محاولة للخداع في نيتي، لا يسعنى إلا أن أسال فرانك إذا لم يكن له موقف أيديولوجي يمنعه من رؤية الثياب البسيطة. فإن انتقاده يركز على المتغيرات التي تميز الاستعمار عن الإمبريالية على أساس وجود أو عدم وجود المستوطنين فإن مخطط روبيرو الذي يفضله يؤدي إلى ذات التمييز رغم انه يدعوها الهجرة مقابل الاستعمار التجاري ويضيف الاستعمار الاستعبادي ومن أهم الفروق بين معالجتي ومعالجة روبيرو هو أنه يربط بين مستويات التكنولوجيا وعمليات التحضر في مخطوطته وآمل أن فرانك أو روبيرو لا يحاولان الإيحاء بأنهما متحرران من أي أيديولوجيا، فأنا عن نفسي أشك في وجود في وجود فائدة من علوم اجتماعية خالية من الأيديولوجيا. إذا كنت سأدخل أيديولوجيتي داخل المخطوط، كان ذلك سيتم عند مستوى الهيمنة كسلسلة من افتراضات صريحة (بما أن... إذن ... البناء) متعلقة بمصدر (مصادر) الهيمنة. وهذه الافتراضات أو المعطيات هامة لتحديد الفوارق بين أنواع الهيمنة ولكن يجب أن يكون لدينا أجوبة عن أسئلة قبيل: هل الهيمنة جزء من تكويننا البيولوجي؟ هل أشكال الهيمنة تتفاوت تفاوتاً كبيراً تبعاً للتغيرات في مستويات التكنولوجيا (صناعي، ما قبل الصناعي..إلخ)؟ أو أن الفروق مرتبطة بمختلف أنواع المؤسسات (نظام الإقطاع، الرأسمالية... إلخ)؟ إن الافتراضات التي طرحتها حول مصادر الهيمنة يمكن أن تؤدي منطقياً إلى الحالات المذكورة في فئات مختلفة جداً، لكن هذه الخلافات لم تعالج في هذه الورقة. إن مناقشة مطولة وجادة حول طبيعة الهيمنة وعلاقتها بأنواع المتغيرات التي تثير اهتمام علماء الأنثروبولوجيا وغيرهم من علماء الاجتماع مطلوبة جداً ويجب الدعوة إليها.

يدعي ليون أن عمل سميث بخصوص التعددية نظري بشكل واضح، ولكن من وجهة نظري أن عمل سميث تعريفي مع التزام بسيط بالنظرية. فآخر كلمات رأيتها لسميث حول هذا الموضوع كانت« لا يوجد أي جسد (نسق) منظم للمفاهيم

ص: 50

وللافتراضات التحليلية والتي يمكن تمريرها كنظرية التعددية أو المجتمع القائم على التعددية».

فإن أكثر التفسيرات سخاء للأساس النظري لسميث هو عمل كوبر الذي ينص على التالي: (1) إذا كان المجتمع قائم على التعددية تحدث الهيمنة بالضرورة (2) في حالة وجود مجتمع متجانس أو غير متجانس يحدث توافق. وهنا نرى الأساس الأيديولوجي للديمقراطية الليبرالية في شكل مقترحات نظرية. فملاحظات سميث بشأن استحسان الاندماج العالمي (الشمولية في نظرية بارسون) ستدعم هذا التفسير. فالأحداث في أميركا خلال السنوات القليلة الماضية شكلت عبئاً خطيراً على مصداقية التمييز لهذه الأطروحات إن أوراق البنتاغون ستجعل رأي رايت ميلز يبدو محافظاً. وهناك اختلافات هامة بين صياغة سميث وصياغتي وهي: أولاً؛ هو عدم الميل نحو فصل التعددية عن الاستعمار فوجهة نظري أكثر انسجاماً مع الرؤية الأصلية لفورنيفال عن التعددية على الرغم من أنني حاولت كثيراً أن أعمم مفهومه، وثانياً؛ الطريقة التي يوضح بها مخططي العلاقات المتبادلة بين المتغيرات ويولد التعريفات.

تُبدي ليون اهتمامها بالأحكام المتعلقة باختيار المتغيرات. بعد مراجعة أدبيات الاستعمار قسمت كل الأعمال إلى ثلاث مجموعات حسب ما إذا كانت ترى الاستعمار صورة من صور الهيمنة الاستغلال أو العمليات الثقافية. فتلك الورقة البحثية حاولت ربط الرؤية الأولى بالثالثة وتركت الاستعمار كصورة من صور الاستغلال بدون معالجة.

كانت مادلين ليون على حق حينما أشارت إلى أن الأميركيين من أصل أفريقي لم يكونوا مهاجرين طوعيين ولا يجب وضعهم في فئة الاستعمار غير الرسمي.

ومن بين كل التعليقات، فأنا أقل تعاطفاً مع فكرة أن المجال الذي يدرس الإنسان يمكن أن يستغني عن مفاهيم الاستعمار والإمبريالية، فقائمة المراجع المرفقة توضح اعتقادي أن المشكلات الهامة لا يمكن أن تحل في حدود مجالاتها التقليدية. فالغلو

ص: 51

في الانتماء المهني يشكل عائقاً لفهم وضع الإنسان، ناهيك عن محاولة تغيير هذا الوضع. فلماذا تطلق على الاستعمار «الاتصال الثقافي» أو «الاندماج التاريخي» إذا كنت تقصد الاستعمار ؟ هذا لا يعني أن ما قاله ستيفنسين ليس صحيحاً، بالعكس فما قاله بشكل عام صحيح؛ لقد استطاع علماء الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية أن يعملوا بدون هذا المفهوم، ولكن هل من المبرر استمرار ذلك؟

لقد كُتب هذا المقال في 1968، أي قبل عشر سنوات من زيادة الوعي بهذا الموضوع، وإذا كتبته مرة أخرى، أعتقد أنه سيكون مختلفاً. بالرغم من إنقاص درجة عدم الوضوح من خلال بناء مخطوط شكلي أو منهجي - رغم أهميته للعلم - إلا أنه يبدو أقل أهمية بالنسبة لمفهوم مثل الاستعمار بالمقارنة بفهم التوجه السياسي الذي ظل كامناً وراء فشل العلماء والمتخصصين في إحكام القبضة على الظاهرة. فأنا الآن أتفق مع فرانك بخصوص نقده للسبب الذي طرحته لهذا الفشل وأتفق مع تفسيره بشكل أساسي. إن مواجهة الأكاديميا بسياستها لن تكون مهمة سهلة خصوصاً إذا بقينا وراء وهم أننا موضوعيون بمعنى كوننا متحررين من الأيديولوجيات والقيم. فإن مهمة الكشف عن أيديولوجياتنا وقيمنا، نقدها وإزالة اللبس عنها سيتطلب تحليل تعريفي لإزالة الغموض عن المصطلحات الخطيرة التي نستخدمها. إذاً، يجب

أن نعد التحليل التعريفي أداة هامة لفهم وضع الإنسان ولتنفيذ المهمة الأهم وهي تغيير هذا الوضع.

ص: 52

ما هو العلم الاستعماري؟:رویة ابستمولوجیة للمفهوم والظاهرة

اشارة

الیس ل.کونین(1)

سلّم المؤرّخون لأمدٍ طويل بأنّ الاستعمار في العصر الحديث أنشأ أشكالاً «استعماريّة» للمعرفة ساعدت وحتّت عليه، غير أنّهم لم يتّفقوا على ما يعنيه مفهوم «العلم الاستعماري». ظهر حديثًا كتابان لهِلين تيلّي ولبيير سينغارِافلو يفتحان طرقًا جديدةً للتحقيق في هذه الظاهرة.

يُحيل الكثير من المؤرّخين مصطلح «العلم الاستعماري» إلى المعرفة العلميّة الصّادرة عن مختصّين تدرّبوا في حواضر المستعمرات، ويُركّز المؤرّخون المؤمنين ب«أقلمة أوروبا» على دور الإدارات الاستعماريّة في خلق أشكال جديدة من المعرفة العلميّة عادت لاحقًا إلى أوروبا، ويستعرض غيرهم من الباحثين كيفيّة تبنّي التابعين لجوانبٍ من المعرفة الاستعماريّة فقط لأجل إخضاعها لأهدافهم الخاصّة. ويرى نقّاد ما بعد الاستعمار أنّ العمليّات العنفيّة التي أنتجت سُلطةً استعماريّة هي نفسها التي

ص: 53


1- - استاذ التاريخ في جامعة أوهايو - الولايات المتحدة الاميركية. What is Colonial Science? Professor Alice L. CONKLIN. Reviewed: Helen Tilley, Africa as a Living Laboratory: Empire, Development, and the Problem of Scientific Knowledge, 1870 - 1950, Chicago, University of Chicago Press, 2011, 496 p. and Pierre Singaravélou, Professer l'Empire: Les "sciences coloniales" en France sous la IIIe République, Paris, Publications de la Sorbonne, 2011, 409 p. Published by BooksIdeas.net, 31 January 2013. booksandideas.net.

أنتجت معرفةً علميّة،(1)ونظّروا لطرق ترابط العلم مع السلطة، غير أنّهم لم يُعيروا كيفيّة توظيف الخُبراء المعرفة في أُطُرٍ محدّدة أدنى اهتمامٍ، كما أنّهم لم يلتفتوا إلى النتائج غير المقصودة للبحث العلمي المنفّذ ضمن علاقات القوّة الاستعماريّة غير المتناظرة.

ظهر حديثا كتابان عن أدوات الاستعمار الأوروبيّة يفتحان أبوابًا جديدة لتقصّي هذه الظاهرة، ويعدان بتعقيد فهمنا للعلاقة بين المعرفة العلميّة من جهةٍ وبين الإمبرياليّة الأوروبيّة الحديثة من جهةٍ أخرى تبحث هِلين تيلّي في كتابها أفريقيا المختبر الحيّ في طُرق تطوّر المهارات في مجالات الطب والعلم العِرقي والأنثروبولوجيا الاجتماعيّة والدراسات البيئيّة في المستعمرات الأفريقيّة جنوبيّ الصحراء الكبرى، وتُثبت بالدليل مدى أهمّية القارة الأفريقيّة بالنسبة إلى تطّور العديد من الحقول العلميّة الحديثة في العقد الثالث من القرن العشرين في كتابه المجاهرة بالاستعمار يُعيد بییر سينغارافِلو إلى الواجهة حيّزاً معرفيًّا منسيّا هو المعروف «بالعلوم الاستعماريّة» الذي ظهر في فرنسا في سبعينيّات القرن التاسع عشر واختفى في أربعينيّات القرن العشرين. يتّسم كلا الكتابين بالرزانة من ناحية العمق البحثي ونطاق الحجج وأصالتها، حيث يبحث الكاتبان في ماهيّة «العلوم الاستعماريّة» مُتبنّيان منهجًا بحثيًّا تاريخيًّا صارمًا في تحليل المجالات التي وُظّفت لخدمة مصالح الإستعمار، كما يُظهر كلاهما أنّ العلماء المندرجين في القضيّة الاستعماريّة كانوا قادرين على النقد الذاتي وعلى الإبتكار بنفس القدر لدى غيرهم من العلماء.

ص: 54


1- Bernard Cohen, Colonialism and its Forms of Knowledge: The British in India (Princeton, 1996); Lewis Pyenson, Civilizing Mission: Exact Sciences and French Overseas Expansion (Baltimore, 1993); Emmanuelle Sibeud, Une science impériale pour l'Afrique? La construction des saviors africanistes en France 1878- 1930 (Paris, 2002); Oscar Salemink, The Ethnography of Vietnam's Central Highlanders: A Historical Contextualization 1850- 1990 (Honolulu, 2003); Trumbull IV, George, An Empire of Facts: Colonial Power, Cultural Knowledge, and Islam in Algeria, 1870-1914 (Cambridge, 2009); Gyan Prakash, Another Reason: Science and the Imagination of Modern India (Princeton, 1999); David Arnold, Colonizing the Body: State Medicine and Epidemic Disease in Nineteenth-Century India (Berkeley, 1993); Megan Vaughan, Curing their Ills: Colonial Power and African Illness (Stanford, 1991); Ashis Nandy, The Intimate Enemy: The Loss and Recovery of Self under Colonialism (Delhi, 1983); Edward Said, Culture and Imperialism (New York, 1993) and Bruno Latour, Nous n'avons jamais été modernes (Paris, 1991).

تحدّی سلطة اوروبا المعرفیّة

على الرّغم من المجال الزمني المذكور في عنوان كتابها (1870-1950)، إلّا أنّ تيلي تُركّز على الحقبة الزمنيّة ما بين الحربين العالميّتين، والتي بحثت فيها الحكومة البريطانيّة للمرّة الأولى في «تنمية» موارد أفريقيا الهائلة بشكل علمي ضمن نظريّة انتفاع المُسْتَعمَر والمُستعمِر على حدٍّ سواء. لذلك لجأ الموظّفون الرسميّون في أفريقيا - وفي معظم الحالات قسرًا - إلى خبراءٍ لأجل اختلاق حقائقٍ مطلوبةٍ لتبرير سياستهم الإقتصاديّة، وهو ما استجاب له الخُبراء وإن لم يكن دائماً بنوع الحقائق المرجوّة من الموظّفين. الخُبراء وشبكاتهم وأنماط تفكيرهم («كما تُفكّر الإمبراطورية») هم لبّ دراسة تيلّي، ونسرد تاليّا استنتاجاتها الدقيقة المميّزة: التنوّع الحيويّ المحض في «أفريقيا المُختبر الحي» المصحوب بمدّى إستثنائيٍّ للّغات وللحضارات وللمُمارسات الاجتماعيّة شكّل تحدّيّا للعلماء في محاولتهم لتأسيس اختصاصاتٍ ومنهجيّاتٍ جديدة، ما جعلهم يتحاجّون في ما بينهم ويختبرون ويُنقحون نتائج أبحاثهم. تعلّم الإختصاصيّون علوم الزراعة والنبات ووصف الأعراق البشريّة (الإثنوغرافيا) المنتشرة في المستعمرات جنوبيّ الصحراء الكبرى، احتراموا أشكال المعرفة الأفريقية الفريدة من نوعها، وطوّروا «علمًاعاميًّا» تحدّوا به سلطة أوروبا المعرفيّة، وسبقوا بذلك بعض منظّري ما بعد الاستعمار الذين لم يبدأوا بذلك إلا في العقد الثامن من القرن العشرين من المفارقة أنّ «العنونة الخاطئة لأشكال السيطرة الجديدة وسوء فهمها وتيسيرها»، جعل العلوم المرتبطة بالإستعمار لا تملك فقط قدرةً على القهر ولكن أيضًا «قدرة على التحرير»، «وقد حقّقت كلا الأمرين في النهاية». (ص.25) تعترف الكاتبة أنّها وصلت لهذه النتائج لِكونها عاملة إغاثةٍ سابقة وناشطةٌ انقلبت لاحقًا إلى أكاديميّةٍ مُدافعةٍ عن العلم.

حُسن استخدام العلم حاضرًا يتطلّب فهم سوء استخدامه والإنتهاكات المُرتكبة باسمه في الماضي، ويتطلّب استعادة نصوصه حتّى الهدّامة منها. تركّز تيلّي في تقصّيها للاستعمار العلميّ التدخّلي على الدراسة الاستقصائيّة الأفريقيّة وهي أهمّ

ص: 55

مشروع شبه رسمّي لجمع المعلومات الاستخباراتية في الحقبة الزمنيّة ما بين الحربين العالميّتين، ركزت هذه الدراسة على مستعمرات كينيا وتنزانيا وأوغندا وزامبيا ونيجيريا وغانا بين العام 1929 والعام 1939 برئاسة السير ملكولم هايلِي، وقد نُشِرت نتائجها في مجلّدٍ واحدٍ عنوانه «دراسةٌ إفريقيّة: دراسة المشاكل الصاعدة في أفريقيا جنوبيّ الصحراء الكبرى»، كما ظهر مجلّد مجتزأ «العلم في أفريقيا: مراجعة البحث العلميّ المتعلّق بأفريقيا المداريّة والجنوبيّة». لقد استخدم العديد من الأكاديميّين المناصرين للإستعمار والمسؤولين في المكتب الإستعماري والمثقّفين هذه الدراسة لأجل تقييم الحالة المعرفيّة في أفريقيا، ولوضع استراتيجيّات لدراساتٍ لاحقة، ولاقتراح طُرقٍ لدمج هذه الدراسات في رسم السياسات. ساعد المنظّمون من خلال بحثهم عن معلوماتِ «يُعوّل عليها» في تنمية وتشكيل علومٍ ميدانيّةٍ جديدةٍ كعلوم البيئة والنبات والطبّ المداري والأجناس البشريّة. تُلاحق تيلًّي أعضاء الدراسة في الميدان، وتتتبّع نقاشهم العلمي، وتصف اصطدامهم بالمدراء المحلّيّين وبالمُماراسات الأفريقيّة الاجتماعيّة والثقافيّة ضمن بيئاتٍ محدّدة، كما تبحث في أنظمة الوصاية الزبائنيّة والهيكليّات المهنيّة التي حدّدت ظروف إنتاج المعرفة على الصعيدين الوطنيّ والعالميّ. لقد استفاد العلماء دون أدنى شكّ من الفرصة غير المسبوقة التي وفّرها لهم الاستعمار الأوروبيّ في نهاياته للعمل في أفريقيا، ولكنّ المعرفة التي جمعوها لم تقم فقط بتجريد الشعوب التي جاؤوا لدراستها من إنسانيّتهم بل تجاوزت ذلك بكثير.

الكتاب مقسّم إلى سبعة فصول. يتتبّع الفصل الأوّل الإهتمام بإحصاء الموارد المداريّة خلال الحقبة الزمنيّة ما بين الحربين العالميّتين ويربطه بنموّ المجتمعات الجغرافيّة في نهاية القرن التاسع عشر، ويؤرّخ الفصل الثاني لمرحلة نشوء الدراسة، والفصول الباقية عبارة عن دراسات حالة للمجموعات المشاركة بالدراسة : يبحث الفصل الثالث في كيفيّة تبنّي الإدارات الزراعيّة غير المسبوق - إذا استثنينا الإدارات الطبية - لرؤية بيئيّة في مراجعتها لفرضيّاتٍ سابقةٍ عن خصوبة التربة الأفريقيّة وأساليب الزراعة الأفريقيّة المفرِّطة، وقد دفع القلق المتنامي حول تآكل التربة والإفراط في استخدام أراضي الرعي وانتشار الأوِبئة بمؤلّفي العلم في أفريقيا إلى إصدار تحذيرات

ص: 56

عن أخطار الإنتاج الرأسماليّ الواسع النطاق «وأن يُنظر إلى المعرفة العاميّة بشكلٍ أكثر جدّيةٍ». (ص (168). يتناول الفصل الرابع بحث الضبّاط التقنيّين في الترابط ما بين تفشّي الأمراض المُعدية وبين تدهور المستوى المعيشي، واستبصارهم تاليّا أنّ علاج الأمراض وحدها غير كافٍ (ص (212) فتحسين حالة الأفارقة الصحّية يستوجب فهم التفاعلات بين الجسم البشريّ ومحيطه وبين المجموعات السكّانيّة والبيئات الآهلة بها، كما أنّه يستوجب فهم السياق الاقتصادي العام في هذه المجالات أيضًا بدأ الخبراء الأوروبيّون بالأخذ من الأفارقة وبإعادة النظر في فرضيّاتهم المسبقة ولكن من دون تحدّي سلطة المستعمِر. يبحث الفصل الخامس في سبب تخصيص الباحثين في الحقبة الزمنيّة ما بين الحربين العالميّتين الجزء النزير من مواردهم للبحث في الاختلاف العرقيّ، في حين أنّ كلّ الأنظمة الاستعماريّة بُنيت على أُسُسٍ عنصريّة. تستخدم تيلّي دراسة حالة لكينيا لنقض فكرة أنّ الاختلاف العرقيّ كان يُنظر إليه على أنّه «بديهيٌّ» جدًّا إلى الحدّ الذي لا يستوجب دراسته، وتُرجع السبب إلى توقّي الإدارات الاستعماريّة آثار التمييز العنصريّ المخلّة بالإستقرار، لاسيّما أن العلماء على الصعيد العالمي كانوا يشكّكون بالحقيقة الوجوديّة للإختلاف العرقيّ وبإمكانيّة تسويغه بيولوجيًّا. هذان العاملان مضافًا إليهما شح موارد الدول الاستعماريّة جعلا المسؤلين يعدلون عن صرف الأموال لإثبات فرضيّة انحطاطِ رعاياهم على الصعيد العقليّ بسبب انتمائهم العرقيّ.

هل كان تقدّم علم الأجناس البشريّة الذي أعطى تفسيراً مختلفًا لطرق حياة الشعوب المُستَعمَرة سببًا آخراً لتراجع العلم العرقيّ؟ على الرغم من أنّ علماء الأجناس البشريّة كانوا الخبراء الأقلّ عددًا في أفريقيا المداريّة إلّا أنّ منهجيّات علم الأجناس البشريّة الإجتماعيّة الناشئة تظهر بشكلٍ كبيرٍ في كتاب تيلّي. في العقد الثاني من القرن العشرين حاول جيلٌ جديدٌ من علماء الأجناس البشريّة الوظيفي يتقدّمهم مالينوفسكي فهم وشرح الظروف الموجودة في المجتمعات الأفريقية - ليس لأجل تجميدهم في حاضرِ أزليّ ولكن لحدّ الأثر التدميريّ للرأسمالية الاستعماريّة. في هذا الإطار غدا علماء الأجناس البشريّة في الحقبة الزمنيّة ما بين الحربين العالميّتين أشدّ

ص: 57

الناقدين للاستعمار:«علماء الاجناس البشريّة الذين عملوا مطوّلاً لتحقيق مطلبهم أن يكونوا ضمن طاقم خبراء الاستعمار» قاموا لاحقًا وبمجرّد ما غدوا داخل المنظومة باستخدام أدواتهم لينأوا بأنفسهم عنها». ص (311)

أجرت تيلّي الكثير من دراسات الحالة جعلتها تنبذ مصطلح «العلم الاستعماري» جملةً وتفصيلاً، وهي تحاجج بأنّ تاريخ الدراسة الأفريقية يُثبت بشكل قاطعٍ أنّ البحث العلمي كلّه - على الصعيدين المحليّ أو العالميّ - يدور بطرقٍ تجعل منتجيه غير قادرين على التحكّم به، حتّى لو كان مُموّلاً من حكوماتٍ استعماريّةٍ تبحث عن حُلولٍ لمشاكل الاستحكام الاستعماريّ، ومن هذا المنطلق يكون تعريف أيّ علم على أنّه بشكلٍ محدّد علم «استعماريّ» يُبهم أكثر مما يُضيء. كما أنّها ترى أنّ العلّم «الجيّد» لم ينتصر على العلم «السيّء» في مستعمرات بريطانيا الأفريقيّة، ولكن لم يكن بالمستطاع تحديد نتائج الإستعانة بالعلم سلفًا بواقع الاستعمار، حيث أنّ العلماء المهنيّين تمكّنوا من إبقاء مسافةٍ بينهم وبين السياسات الموضوعة : لقد دفعهم إلى البحث في تعقيدات المجتمعات البشريّة التي أثقلت كاهل الإداريين ولم يكن لدى رؤسائهم الوقت الكافي لأخذها في الحسبان، وقد حدّدت سياقاتٌ سياسيّة محدّدة وشخصيّاتٌ تاريخيّة أشكال النقاشات الحاصلة وصوّبتها في بعض الأحيان نحو الأفضل. إحدى النتائج البارزة لتطور المبادئ في العقد الثالث من القرن العشرين كانت تثبيت تقليد جديد منسّق ومُتَعَدِّد الاختصاصات «أبرز عدم تجانس البيئات الأفريقيّة والعلاقات البينيّة بين القضايا المتعدّدة التي تمّ دراستها. (ص. 5)».

تنجح تيلّي في إقناعنا بأنّ على مؤرّخي الاستعمار أن لا ينظروا فقط إلى «عيوب العلم واستثناءاته وأمثلته الرديئة» التي حوّلت المواضيع الإمبرياليّة إلى مواضيع بحثٍ واختبارٍ، ولكن عليهم أن يأخذوا أيضًا في الحسبان «الأدب العلمي الهائل الذي أُنتج خلال الحقبة الاستعماريّة ولم يتّبع هذه الأنماط»،(ص 322-323) فدراسة الممارسة العلميّة الحديثة في أفريقيا لا ترتبط فقط بالدقّة التاريخيّة ولكن أيضًا بفهم الدور الذي لعبته الأفكار في تعرية الاستعمار.

ص: 58

ميلاد «العلوم الاستعماريّة»

يتناول بيير سينغارافلو بدوره تاريخ مجموعة من العلماء الإستعماريّين كاد أن يُنسى، والعلماء موضع بحثه يختلفون بشكلٍ كبيرٍ عن العلماء الذين تناولتهم تيلّي، حيث أنّه يكرّس كتابه لقادة المجال المهنيّ للمعرفة الإنسانيّة المعروف باسم «العلوم الاستعماريّة»، والتي أُسّست في بدايات الجمهوريّة الثالثة ولكنّها لم تتمكن من الإستمرار إلى ما بعد الحرب العالميّة الثانية في العقد الثامن من القرن التاسع عشر كانت جماعةٌ من الهواة تُنتج معظم المعرفة المتعلّقة بشعوب المستعمرات الفرنسيّة ومواردها وإدارتها، بمعنى أنّ هذا النوع من المعرفة لم يجد لنفسه مقامًا معترفًا به ضمن مؤسّسات التعليم العالي. حاول بعض الخبراء تغيير هذا الوضع عبر تأسيسهم لمجالات جديدة كالجغرافيا الاستعماريّة والتاريخ الاستعماري والتشريع والإقتصاد الاستعماريَّين وعلم النفس الاستعماري، وذلك لإضفاء طابعٍ علمٍّي على الإمبرياليّة الفرنسيّة عبر التقصّي المُضني لجيلين من هؤلاء الخبراء وشبكاتهم يُظهر سينغارافلور أنّ العلم الاستعماري ترسّخ في فرنسا بين سنة 1870 وسنة 1920، وتقهقر بعد ذلك. المجاهرة بالاستعمار جزءٌ من موجة جديدة في الثقافة الفرنسيّة تجمع ما بين تاريخ العلوم الإنسانيّة الاجتماعي الفكري وبين التاريخ الاستعماري، ويرتكز على فهم طرق تفاعل الثقافة الأكاديميّة العلمائيّة مع ثقافة أوسع نطاقًا وأكثر شهرة منها، وعلى تخطّي تحليل الخطاب الاستعماري النخبوي إلى دراسة شعاع انتشاره وآثاره.

يقسم سينغارافلو كتابه بالتساوي إلى جزأين يتكوّن كلّ منهما من أربعة فصول، حيث يبحث في الجزء الأوّل في مأسسة العلوم الاستعماريّة بشكلٍ عامٍّ، ويُحقّق في أسباب «النجاح» المبكر والتقهقر اللاحق، ويحلّل في الجزء الثاني الأقصر مضمون هذه المجالات الجديدة بين العام 1880 والعام 1940 ساعدت كوكبة من الأكاديميّين والمسؤولين الاستعماريّين وأعضاء من الجماعات الضاغطة المؤيّدة للاستعمار - ما يسمّيه سينغارافلو «بجمهورية الخطابات الاستعماريّة» - في خلق العديد من المناصب الجامعيّة في مجال العلوم الاستعماريّة وذلك في كافّة أنحاء فرنسا والإمبراطوريّة. كان العقدان الثامن والتاسع من القرن التاسع عشر حقبة

ص: 59

الإصلاح الجامعي ونموّ العلوم الإنسانيّة، وتوسّع العلوم التجاريّة والتطبيقيّة، وتجدّد العدوان الإمبريالي، وقد سهّلت هذه التطوّرات الثلاث مأسسة المجالات الجديدة. بدأت تدريس مقرّرات حول «الجغرافيا والتاريخ الاستعماري» «والاقتصاد والتشريع الاستعماري» و«الاستعمار المُقارَن» و «علم نفس السكّان الأصليّين» في مدارس تجاريّة خاصّة، وفي مدارس جديدة أُنشئت لأجل تدريب الإداريّين الاستعماريّين، وفي كلّيّات الاقتصاد (facultés de droit) وبحدِّ أدنى في كلّيّات الآداب (facultés des lettres . تحقّق فصل مناطقيّ للعمل الأكاديميّ الإمبريالي داخل فرنسا، حيث تخصّصت ليون بالتدريس المتعلّق بجنوب شرقيّ آسيا، وصوّبت بوردو على أفريقيا الغربيّة والمغرب، وركّزت لوهافر على الأميركتين، وقدّمت مارسيليا مقرّرات دراسيّة عن أفريقيا الشرقيّة والجزائر والشرق الأوسط ومدغشقر. إضافة إلى ذلك أنشِأت العديد من كراسي الأستاذيّة في باريس، وفي سنة 1926 أكاديميّة العلوم الاستعماريّة لأجل تنسيق الجهود البحثيّة ولإسداء النصائح للحكومات وراء البحار.

وجدت العلوم الاستعماريّة في تلك الحقبة طريقها إلى قلب مؤسّسات التعليم العالي في فرنسا. من درّس هذه العلوم ومن موّل الوظائف الجديدة؟ سينغارافلو يصف حوالي مائة برفسور استعماريّ هم الّذين زار بعضهم نفس الأكاديميّات المتميّزة، كدار المعلّمين العليا أو كلّية الحقوق في جامعة باريس التي علّمت ودرّبت أشهر المثقّفين الفرنسيّين. حتّى أنّ بعض علماء الاجتماع الذين لا يملكون خبرةً استعماريّة مباشرة في مجالات أخرى - على سبيل المثال علماء الاقتصاد أو أساتذة القانون - قاموا من حينٍ إلى آخر بتدريس مقرّرات ذات مضمون استعماري، والعديد منهم كانوا خرّيجي المدارس العسكريّة كسان سير أو الكلّية الاستعماريّة في باريس كان الخبير النموذجي، أيّ كانت خلفيته، «شخصًا موسوعيًا تجمع وظيفته المعقّدة بين التعليم والإدارة الاستعماريّة والخبرة، ويحمل في بعض الأحيان مسؤوليّات سياسيّة وتجاريّة». (ص (135) على الصعيد الهيكليّ قامت وزارة الاستعمار والعديد من الحكّام العامين والمجالس البلديّة المحليّة وغرف التجارة وجماعات الضغط المؤيدة للاستعمار بتمويل العلوم الاستعماريّة، أمَلاً في جذب الشباب الموهوب

ص: 60

إلى الوظائف في الإمبراطوريّة ولاسترضاء الرأي العام. حلقةٌ كبيرة من الباريسيّين وجمعيّات محليّة ومهجريّة ومؤسّسات البحث الاستعماري وناشرين متخصّصين في المواضيع الاستعماريّة ومجلاّتٍ علميّة وفّرت فُسحات فكريّة واستعدادًا إجتماعيًا ومراجعةً منظورةً وهو ما يحتاجه أيّ مجالٍ جديدٍ ليكتسب طابعًا مهنيًا.

أحد أكثر الفصول إثارةً للإهتمام هو الذي يبحث في أسباب تعثّر هذا المجال الحركيّ الجديد في الحقبة الزمنيّة ما بين الحربين العالميّتين - التي وصلت خلالها الإمبرياليّة الفرنسيّة إلى ذروتها - وانهياره بعدها بجيلٍ ويستعرض العديد من العوامل: بداية الركود الاقتصادي «والسنوات الجوفاء» التي تلت نزيف الحرب العالميّة الأولى، وتصلّب الأكاديميّة الفرنسيّة المحافظة ورفض القيّيمين عليها الإعتراف بجدّيّة الباحثين غير التقليديّين الذين يتّبعون مناهج علمانيّة، وقلّة طلّاب التعليم العالي في مجال العلوم الاستعماريّة إجمالاً. الحقيقة أنّ القليل من الذكور البرجوازييّن إختاروا الهجرة إلى المستعمرات بسبب انخفاض معدّلات الولادة في الجمهوريّة الثالثة إضافة إلى ذلك عانى تدريس العلوم الاستعماريّة من قصور التنسيق الإجماليّ الشامل، حيث تشاركت ثلاث وزارات (وزارة الاستعمار ووزارة التعليم ووزارة الماليّة) مسؤوليّة هذا القطاع. يستجلي سينغارافلو أزمة هويّةً عميقةً في ثلاثينيات القرن العشرين لروّاد هذا المجال لأنّ «تثبيت خرّيجين متعلّمين في المستعمرات يبقى أمرًا صعبًا» (ص 227 ).

كان الهدف في الجمهوريّة الثالثة هو رفع العلوم الاستعماريّة من مستوى «الهواة» إلى درجة «الإحتراف»، وهو ما تُثبته الأدلّة التي جمعها سينغارافلو. كيف كانت العلاقة بين العلوم الاستعماريّة المستحدثة والتي تمكّنت من اكتساب طابعً مهنٍّي وبين العلوم الأكاديميّة التقليديّة كالجغرافيا والتاريخ والقانون والإقتصاد السياسي؟ هل شكّلت العلوم الاستعماريّة «علمًا استعماريًّا» واحدًا عزّز الإمبرياليّة بشكلٍ مستديم؟ هنا أيضًا الأجوبة معقدّة. الجغرافيّون الأكاديميّون قبل سنة 1880 كانوا «استعمارييّن» في الروح إن لم يكن في الإسم، وقد جعلتهم رغبتهم في تحرير أنفسهم من تأثير المؤرّخين يطمعون في رسم خرائط للمواقع الطبيعيّة والبشريّة في الإمبراطوريّة الآخذة بالتوسّع،

ص: 61

ولذلك رحّبوا بإنشاء المجال الجديد المسمّى «الجغرافيا الاستعماريّة». لكنّ الجغرافيّين الاستعماريّين لم يتّحدوا بآرائهم، والقلّة منهم تمكّنت من إخضاع الحتميّة الميزولوجيّة التي هيمنت على هذا المجال في منقلب القرن العشرين. مقارنةً بالجغرافيّين حظي تاريخ الاستعمار باهتمام مجموعة صغيرة من المؤرّخين المسلكيّين، وقد كان معظم هؤلاء الخبراء المؤيّدين للمركزيّة الأوروبيّة والمناصرين الدائمين للإمبريالية من أوائل الذين درسوا القرن العشرين والتاريخ الشفوي في فرنسا، ومن أوائل من تحدّى حتميّة المحافظين العنصريّة في السوربون.

القانون الاستعماري والإقتصاد الاستعماري كانا إنتقائيّان إلى درجةٍ لم تسمح لهما بأن يكوّنا مجالاتٍ مستقلّةٍ بنفسها، وعوضًا عن ذلك طوّرت الإختصاصات القانونيّة في القانون الفرنسي مكملاً «استعماريًّا» مانعةً بذلك ظهور «علمٍ إستعماريٍّ» منفصلٍ. كذلك كان الاقتصاد الاستعماري مركّبًا هجينّا بشكلٍ دائمٍ، بمعنى أنّه كان يُشير في كلّيات التجارة إلى منهجيّات استعماريّة للزراعة، وفي كلّيات القانون إلى النظم الاستعماريّة للإقتصاد المقارَن. علم النفس الاستعماري حقّق أقلّ قدرٍ من التطوّر المؤسّساتي وترك أقلّ الآثار، وهو الذي حاول الباحث الإداري المشهور جورج هاردي اختراعه من لا شيء في حقبة الثلاثينيّات من القرن العشرين الحافلة بالأزمات، مستعيرًا من الأدب أكثر منه من النماذج العلميّة الجادة، وذلك في زمنٍ كان فيه علماء النفس الأكاديميّون في فرنسا تجريبيّين بشكلٍ حازم. كانت محاولة هاردي محتومةً بالفشل، وقد تم تدريس مقرّرَين فقط حول هذا الموضوع في كلّية باريس الاستعماريّة وفي لو هافر. يستنتج سينغارافلو أنّ الجمهوريّة الثالثة كانت تمثّل أكثر ما تمُثّل «لحظةً استعماريّةً» في العلوم الإنسانيّة الفرنسيّة. الاهتمام بمواضيع بحثٍ مشتركة - وهي «السكّان الأصليّون» والمستعمرة والاستعمار - أنتج تباينًا كبيرًا فى المنهجيّات والطرق والمعايير العلميّة ضمن الكثير من المجالات إلى درجةٍ لا تسمح للمؤرّخين المعاصرين بالحديث عن نموذج استعماريٍّ واحد حاصل ضمن العلوم الإنسانيّة في فرنسا بين العام 1870 والعام 1940.

لم يعتمد سينغارافلو خلافًا لتيلّي على الخبراء في دراسته لآثار الأبحاث المنجزة

ص: 62

في مجال استعماري محدّد (أفريقيا)، ولكنّه ركّز عوضًا عن ذلك على الظروف الإجتماعيّة المسؤولة عن ظهور العلوم الاستعماريّة ضمن التعليم العالي، متبنيًا بذلك

منهج أستاذه كريستوف تشارلز، وأهمّ ما يكشفه سينغارافلو هو أنّ عالم عالم التدريس عن الإمبرياليّة كان «فسحة محفّزةً للّقاء والتبادلات بين الأكاديميّين والإداريّين والسياسيّين والمعلنين» (ص .(31) ساهم العلماء الاستعماريّون الذين يتحركون على حافّة المجالات التقليديّة - كالتاريخ والجغرافيا والقانون والإقتصاد السياسي - في خلق مواضيع جديدة (التاريخ المقارن ،للإمبرياليّة علم الأجناس البشريّة القانوني، الجغرافيا المدارية) وذلك ضمن مجالاتهم الأساسيّة التي ازدهرت بعد الحرب العالميّة الثانية ، كما كانوا أوّل من مارس تداخل الإختصاصات بسبب نفيهم المطوّل من حقول أبحاثهم الرئيسيّة، وقد ضاعت هذه المساهمات من الأذهان حاضرًا لأنّ

الباحثين الجدد في بريطانيا هجروا «العلوم الاستعماريّة» المذمومة.

يرى كلّ من سينغارافلو وتيلّي أنّ ليس بمقدور المؤرّخين فهم - وبشكلٍ أقلّ بكثيرٍ أن يعملوا ضد - السلطة الأيديولوجيّة والبلاغيّة المتأصّلة في العلم من دون الإحاطة بالصورة الكاملة لكيفيّة عمل كلّ العلماء في الماضي، فهناك نقاشٌ مستديمٌ عن نطاق مساعدة العلماء للاستعمار ونطاق مساعدة الاستعمار للعلم. على الرغم من أنّ كلا الكتابين الغنيّين لا يبحثان في كيفيّة ترجمة العلوم إلى سياسة على الأرض، إلّا أنّهما ينبّهاننا الى استحالة الوصول إلى نتيجةٍ مؤكّدةٍ في ما يتعلّق بمحتوى المجالات العلميّة التي روّج لها الاستعمار. يبعث الكاتبان بروحٍ جديدةٍ في تاريخ العلماء البيض الذين تعاطفوا مع الإمبرياليّة في الحقبة الزمنيّة ما بين الحربين العالميّتين، وذلك من دون مدح هؤلاء العلماء أو الإعتذار منهم أكثر ما لفت نظر كاتبة هذه المقالة كمُراجعةٍ هي الصورة الحركيّة للمجتمعات الإنسانيّة والثقافات التي اكتسبها العلماء الفرنسيّون والبريطانيّون من خلال الإختبار الميداني في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين وهذه الصورة تعاكس الفهم الحقيقيّ للثقافة الذي سادت لدى العلماء اللاحقين في حقبة الحرب الباردة. إنّ الذي ينتظر من يؤرّخه هو كيفيّة هذا التحوّل اللاحق وسببه وسط النقاش والنضال لأجل إنهاء الاستعمار ...

ص: 63

مسارات الاستعمار

بحث في المفهوم والتجربة التاريخية

محمد عبد الرحمن عبد الجواد(1)

إن الاستعمار على ما هو معروفٌ في اللغة مأخوذ من الفعل (عَمَرَ) أو من المصدر (عِمارَة) على خلافٍ في مصدر الاشتقاق بين الكوفيين والبصريين، والألف والسين والتاء في فعله لوجود معنى الطلب فيه؛ أي طلب تعمير الأرض. ويقال: (أعمره المكانَ، واستعمره فيه؛ أي: جعله يعمُرُه(2). هذا هو المعنى اللغوي الأصلي الذي تم تحريفه من قبل المستعمر فيما بعد.

ويؤيد المعنى الأصلي للفظة - قبل تحريف المستعمرين لها - ما جاء في القرآن العظيم في قول الله سبحانه : «هُوَ أَنْشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواً إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ تُحِيبُ»(3).

ثم إنَّ المحتلين لبلاد المسلمين وغير بلاد المسلمين عمدوا إلى هذه الصيغة الاستعمار)؛ تمويهاً وإخفاءً لمراداتهم الحقيقية، فقد برّروا احتلالهم للدول النامية

ص: 64


1- كاتب وباحث - جمهورية مصر العربية.
2- القاموس المحيط - الإمام اللغوي مجد الدين الفيروزآبادي باب الراء فصل العين ضبط وتوثيق الشيخ محمد البقاعي- إشراف مكتب البحوث والدراسات - طباعة دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان-سنة 1426ه- / 2005م.
3- سورة هود. الآية : 61.

بأنهم أرادوا إدخال النهضة والعلوم الحديثة لتلك البلاد، وإخراجها من الجهل، ونشر المدنية. وإنما هم جاءوا في الأساس لأغراض ماديةٍ ودينيةٍ؛ فجاءوا لنهب مقدَّرات وثروات هذه الشعوب، وما فيها من معادن وبترول ومواد خام أخرى، ولخدمة طرق تجاراتهم والهيمنة عليها لتأمين الثروات لملوكهم خاصةً وشعوبهم عامة ...

وسوف يتناول - بإذن الله - بحثي هذا عدة نقاطٍ مهمة، وهي:

أولاً : خطط وإستراتيجيات الاستعمار، ومخططاته في الهيمنة على الشعوب.

ثانيًا : شيءٌ من جرائم الاستعمار التقليدي القديم، وهو المسمى بال_ (الكلاسيكي) مأخوذاً من لفظة (Classical الإنجليزية. مع تتبع ذلك في بحوثٍ متتالية كسلسلةٍ سوى هذا البحث.

ثالثاً: التعرض بالإجمال لأسماء بعض العلماء والقادة الذين كافحوا وناضلوا الاستعمار في بلادنا. ثم إفراد مقالاتٍ تاليةٍ كسلسلةٍ تتكلم عن كلِّ شخصية

منهم .

نشوء ظاهرة الاستعمار:

فالاستعمار - بمعناه اللغوي الأصلي - ظاهرة غربية حديثة ظهرت في القرن الخامس عشر في أوروبا، واستطاعت أوروبا من خلال العلم التجريبي تركيزه في الثورة الصناعية . ثم كان الاستعمار - بمعنى احتلال الشعوب - هو محور ومؤرِد هذه الثورة؛ لأن أوروبا لم تكن تملك من المواد الخام لصناعاتها إلا القليل من الفحم، فزحفت على الشرق الغني بالمواد الخام والموارد، واحتلت بلاداً منه، لتجعله مصدراً لمواردها التي هی عصب الصناعة، وسوقاً تعود إليه تلك المنتجات المصنعة الجديدة لتجترَّ أموال الشرق وغيره.

ص: 65

إرهاصات الاستعمار:

سبق الاستعمار التقليدي (الكلاسيكي) موجةُ زحفٍ من الحروب الصليبية التي امتدت إلى جبهة المشرق (الشام ومصر)، وإلى جبهة المغرب (الجزائر وتونس). وفشلت تلك الحملات واندحرت مهزومةً ... .

وتلا ذلك الحكم العثماني الذي حال دون الاستعمار مدة ثلاثمائة سنةٍ امتنع خلالها الغزو الغربي لنا.

مطامع ما بعد سقوط الحكم العثماني:

كان هناك ثلاثة مطامع وهي: مطامع الصهيونية، ومطامع الاستعمار الغربي، ومطامع روسيا القيصرية.

فبسقوط الدولة العثمانية تمزق ميراثها بين (فرنسا وإنجلترا)، وقيام الكيان الصهيوني في (فلسطين)، واستولت روسيا على أجزاء إسلامية من آسيا، وهي (القَرْم، وتركستان)، وغيرها(1).

مراحل الاستعمار الفعلية:

هناك مرحلتان حدث فيهما هذا الاستعمار والاستنزاف للموارد والثروات هما:المرحلة التمهيدية القصيرة وهي استعمار (البرتغال وإسبانيا) البلاد إندونيسيا وبلاد الملايو إلى المغرب العربي.

المرحلة الطويلة : وقد امتدت لقرنين من الزمان وهي استعمار كلّ من (فرنسا وإنجلترا وإيطاليا وهولندا). وانتهت بالحرب العالمية الثانية. وذلك بمرحلةٍ أخرى.

وهي المرحلة الثالثة: وهي الاستعمار الاقتصادي والسيطرة الثقافية .. بعد جلاء الاستعمار العسكري والسياسي(2).

ص: 66


1- يراجع الاستعمار والإسلام- سلسلة: على طريق الأصالة - الكاتب الأستاذ: أنور الجندي- طبعة دار الأنصار- مصر - سنة 1979م. مع تصرف يسير، وتقسيم وإضافة يسيرة، وصياغة.
2- المصدر السابق.

مخططات وأهداف الاستعمار التخطيطية أو المعروفة

ب_(الإستراتيجية):

أولاً: دعم الوجود الاستعماري بخلق عقليةٍ هشّةٍ موالية للغرب، منحرفة عن مبادئ وأصول الإسلام التي تحثه وتدفعه على المقاومة والجهاد والمواجهة للعدو

المستعمر ، وذلك عن طريق دسيستين هما (التبشير والاستشراق).

ثانياً: سياسة الغرب تجاهنا من أحقادٍ صليبية لا تحتاج إلى مزيد من الأدلة تُؤكد لدينا هذا اليقين(1).

ثالثاً : محو تاريخ الشعوب المحتلة أو تشويهه أو التشكيك فيه-كما نراه اليوم في مصر على سبيل المثال من بعض المثقفين المتغربنين أذيال هؤلاء المستعمرين من التشكيك حتى في مكان المسجد الأقصى!. فكما يقول أحدَ الهنود، وهو مايكل إيغل - من نشطاء شعب هنود شعب سو 1996م: (إن أول ما يفعله المنتصر هو محو تاريخ المهزومين)(2).

رابعاً: السيطرة على التعليم والثقافة والصحافة من أجل تزييف المفهوم الإسلامي، ومن أجل الترويج لمخططاته وأهدافه بصورةٍ مباشرةٍ أو ناعمةٍ غير مباشرٍة.

خامساً: فرض النظم السياسية والاقتصادية والقانونية الغربية على البلاد الإسلامية، وتنحية منهجها الإسلامي المستمد من القرآن العظيم وموارد الشرع.

سادساً: الحرب على لغة القرآن ولغة الحديث النبوي؛ فبمحاربة اللغة، وتشويهها، والسخرية الدائمة من معلّميها في الإعلام، يتمكنوا من إضعافها في قلوب الشعوب القارئة للقرآن والحديث النبوي ، ويحصل الانفصال والجفاء والبعد عما يستثير المقاومة والجهاد والكفاح ضد العدو المستعمر؛ لأن فهم النصوص القرآنية فرعٌ عن معرفة اللغة.

ص: 67


1- (الاستعمار - أحقاد وأطماع) - الشيخ : محمد الغزالي- الطبعة الرابعة- طبعة: نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع- مصر - سنة 2005م.
2- (حق التضحية بالآخر أمريكا والإبادات الجماعية - الأستاذ منير العُكش طبعة رياض الريس للكتب والنشر- -بيروت - لبنان سنة 2002م.

سابعاً: الإغراء بالانقسام السياسي والعنصري والطائفي ما بين السنة والشيعة على سبيل المثال، والانقسام القَبَلي.

ثامناً: إشعال النار بين الدول المسلمة التي تتنازع حول الحدود بينها.

تاسعاً: تقليص نفوذ الإسلام في (إفريقيا، وجنوب شرق آسيا). وكان للاستعمار الفرنسي والإنجليزي في (العالم العربي)، والإنجليزي في (الهند) أيضاً، والهولندي في بلاد (الملايو) خططٌ أساسيةٌ عامةٌ وأساليبٌ مختلفةٌ متنوعةٌ.

عاشراً: تدمير البنية التحتية للشعوب المستعمرَة لئلا تستعمل في المقاومة والجهاد ضد الاستعمار كما حدث في الجزائر من إفشاء مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة) من أجل السيطرة على الجزائر أرضاً وشعباً عن طريق: عزل سكانه، وتحطيم بنيته الأساسية التي كان يستند إليها الأمير المجاهد عبد القادر الجزائري فكان إليكسي دوتو كيفي يشاطر جنرالات فرنسا الرأي حينما قالوا:(إن الحرب تغذّي الحرب)!! لهذا - كما قال أيضاً : - (على فرنسا أن تقيم مستعمراتٍ في كل مكانٍ، وتعمل على تهجير السكان المحليين بعد الاستيلاء على أراضيهم)(1). وهذا عينه ما يفعله الصهاينة في الأراضي المحتلة بفلسطين ليومنا هذا.

الحاديَ عشرَ: دعوى التَمَدين ، ونقل الشعوب المتنافرة إلى مجال الحرية. وليس الأمر كذلك بل كان المستعمر ينظر للعالم الإسلامي - وبالتأكيد غيره - على أنه عنصرٌ أقلٌ درجةً م الجنس الأبيض حامل الحضارة (المادية)!! .

الثانيَ عشرَ : السيطرة على الموارد، بل دفع الدول المحتلة للقروض والمعونات وإقامة القواعد العسكرية بها، ولا زالت هذه القواعد موجودة لليوم...

الثالثَ عشر : إنشاء أجيالٍ تابعة تؤمن بالولاء، وعظمة المحتل وسلطانه !! وتعتبر الاتجاه نحو الغرب هو الأسلوب الوحيد للتقدم.

ص: 68


1- (جرائم فرنسا في الجزائر) - صفحة مظلمة من تاريخ الاستعمار الفرنسي في الجزائر من الاحتلال 1830م إلى الاستقلال 1962م الأستاذ سعدي -بوزيَّان دار -هومه الجزائر سنة 2005م- نسخة PDFمن موقع WWW.MOSAWARAT.COM

الرابعَ عشرَ : إشعار العالم الإسلامي بالضآلة ،والخنوع وإذلاله واحتقاره - وذلك في نطاق الحرب النفسية والاستكبار والاستعلاء بغير الحق من المستعمر. فيقول ألفريد كاتثول سميث : (إن الغرب يوجِّه كل أسلحته الحربية والعلمية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية إلى العالم الإسلامي؛ بغرض إذلاله، وتحقيره، وإشعاره بالضآلة والخنوع)(1).

الخامسَ عشر : إيجاد عنصرٍ غريبٍ في المنطقة القائمة بين أفريقيا وآسيا من شأنه: أن يحول دون وحدة هذه المنطقة خشية انبعاث هذه الأمة بالطريق الطبيعي لها، وهو الوحدة الإسلامية؛ ولذلك شجعت الدول الاستعمارية القوى الغازية على السيطرة، وفتحت الطريق أمام الصهيونية العالمية للسيطرة على فلسطين، وأتاحت الفرصة لها بإعلان وعد بلفور(2).

السادسَ عشرَ: محاولة تمزيق جبهة المجتمعات الإسلامية؛ ولذلك طرح المستعمر قضايا القومية والإقليمية والديمقراطية والماركسية والوجودية والمادية (3)

السابعَ عشرَ: إنشاء مشاريع استعمارية للالتفاف حول الثروات مثل ما جربه الجنرال (دوغول) بالجزائر حينما أراد ب_ (مشروع قُسَنْطِينة) الالتفاف حول الصحراء؛ للاحتفاظ بثروتها البترولية والمنجمية(4).

الثامنَ عشرَ : بحث المستعمر عن عملاء خارج الثورات التي قامت ضدهم مثل ما فعل (ديغول) في الجزائر ببحثه عن عملاء خارج الثورة، وخلقُ بَاوْدَاي جديدٍ في الجزائر تتعامل معه فرنسا في الجزائر على تجزئة الجزائر، واقتسامها: (جزائر للأوروبيين، وجزائر للجزائريين)!!(5).

ص: 69


1- (الاستعمار والإسلام) - الأستاذ: أنور الجندي - ص.8
2- المصدر السابق ص 9.
3- المصدر السابق ص - 10- بتصرف يسير في العبارة.
4- (جرائم فرنسا في الجزائر) - الأستاذ سعدي بوزيان- ص 8.
5- جرائم فرنسا في الجزائر - الأستاذ سعدي بوزيان ص 8 .

التاسعَ عشرَ: كسر احتكار التجار العرب لبعض أنواع السلع كالقضاء من المستعمر على احتكار تجار البندقية لتجارة البهارات كما فعل الاستعمار البرتغالي والإسباني قديماً، وكان لنهوض هاتين الدولتين في ذلك الوقت مع الدافع الصليبي القوي الذي اجتمع مع الدافع الاقتصادي، وغرض السلب والنهب كان له دور في استعمارهما جزر الهند الشرقية المسلمة(1).

العشرون: قتل المسلمين (جملةً وتفصيلاً) هو بعض ما تواضع عليه ساسة أوروبا وأميركا. والخلاص من دينهم هو أمنيتهم الحبيبة هو أمنيتهم التي يسعون لتحقيقها جهرةً واغتيالاً ! !(2).

الحادي والعشرون : إبادة الأجناس، واستئصال المخالفين في الرأي والعقيدة. وما مُحِيَ الإسلام من الأندلس محواً إلا بالحديد والنار، وما سجله التاريخ لمحاكم التفتيش من همجية وعار. هل حدث مثل ذلك أو بعضه أو شيء منه في تاريخنا؟(3).

الثاني والعشرون: استعمال أسلوب القمع من المستعمر، فيقول ضابط عسكري فرنسي في الجزائر في تقرير عن انتفاضةٍ أخمدتها قواته عامي (1845م-1846م): إن هناك طريقتين لتأسيس سلطةٍ سياسيةٍ على سكانٍ ما: طريقة القمع، وطريقة التربية . والأخيرة بعيدة المدى وتعمل على العقل. أما الأولى فتعمل على الجسم، ولا بد أن تأتي أولاً(4).

الثالث والعشرون : أَسْرُ الأجسام والعقول. إذ يقول شارلز ريتشارد - فيما نقله عنه تيموثي ميتشل : ( .. الشيء الجوهري هو أن نجعل منهم شيئاً يمكن أن نُحكم قبضتنا عليه، وحين نملكهم في أيدينا .. والتي ربما سمحت لنا بأن نأسر عقولهم بعد أن أسرنا

ص: 70


1- يراجع (الاستعمار في جنوب شرقي آسيا) - الدكتور فايز صالح أبو جابر - طبعة دار البشير للنشر والتوزيع - الطبعة الأولى - عمان - الأردن - 1990م ص7.
2- الاستعمار أحقاد وأطماع - فضيلة الشيخ محمد الغزالي- ص 18.
3- المصدر السابق ص 30.
4- (استعمار مصر) - تأليف : تيموثي ميتشل - ترجمة : بشير السباعي، وأحمد حسان طبعة مدارات للأبحاث والنشر - مصر - الطبعة الأولى - 2013م - ص169.

أجسامهم) وأسر أجسام السكان عن طريق المناهج الجديدة للسيطرة العسكرية، والنظام المعماري والتعليم المدرسي(1).

الرابع والعشرون: ادعاء كون الدول المستعمِرة كإنجلترا دولاً صديقةً للإسلام؛ فإنها كانت العامل الأول في القضاء على الدولة العثمانية، وهم الذين رتبوا جيوشاً من الرهبان بغرض التبشير، وأرسلوهم لمصر والشام والعراق ولبنان والصومال وفلسطين والهند وسائر أرجاء آسيا وإفريقيا الإسلامية والإنجليز هم الذين منعوا علماء المسلمين من الدخول إلى جنوب السودان المصري - آنذاك - وحالوا بينهم وبين تعليم المسلمين مع سكان تلك الجهات أحكام الدين وآداب الإسلام وهم الذين هدّموا دولة الإسلام في الهند.

الخامس والعشرون: اهتز الاستعمار اهتزازاً شديداً لحركة الجامعة الإسلامية التي قام بها السلطان عبد الحميد؛ ولذلك عُجّل بالقضاء عليه، وفرِّق العالم الإسلامي إلى صراعٍ.

السادس والعشرون: جَعْلُ التخلي عن الحرية والرجولية لمواطني الدول المحتلة ثمناً لتقديم بعض من ثمرات نهوضهم العلمي؛ فيقول مؤرخهم الإنجليزي (تويمبي): (لا يستطيع الباحث المنصف أن يسلِّم بأن الأوروبيين في القرن السادس عشر وما تلاه من الأزمنة، كانوا على استعدادٍ لأن يقدِّموا للشرقيين والمسلمين من رعايا السلطان ثمرات نهوضهم هديةً خالصة !! وما كان الشرقي العثماني يستطيع الإفادة من النهضة الأوروبية، دون أن ينزل عن رجولته وحريته). هذا هو ثمن التقدم الذي دفعته إحدى الدول الإسلامية حين خرجت عن اللغة العربية والإسلام، ثم غيَّرها الغرب بعد ذلك بانضمامها إليه، وقال: إنها عالةٌ لم تستطع أن تضيف شيئاً إلى العلم أو الحضارة(2).

السابع والعشرون: تغيير الاستعمار جلده بتواجده كاستعمارً استيطاني بفلسطين عن طريق الاستعمار الصهيوني، والذى طمع في أن يرث النظام الرأسمالي، ومهد ليقيم حكومة عالمية(3).

ص: 71


1- المصدر السابق نفس الصفحة. -
2- (الاستعمار والإسلام) - الأستاذ : أنور الجندي - ص 15 وما بعدها.
3- المصدر السابق ص 17

الثامن والعشرون: الغزو الثقافي الذي يواجه الفكر الإسلامي؛ للتشكيك في القيم والمقومات الإسلامية، وإثارة الشبهات حولها.

التاسع والعشرون : القضاء على الطاقة الفكرية التي يبثها الإسلام في المجتمعات المستعمرة، وإعلاء شأن المفاهيم المادية، والهجوم على القرآن والهدى النبوي، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى تاريخ الإسلام وثقافته واللغة العربية، وفرض على الدول المحتلة أنظمة تعليمية تتيح له تحقيق أهدافه هذه، وتنشر التبشير(1).

الثلاثون: تحريف مفهوم الجهاد والمقاومة، من خلال إقامة دعوات تحمل لواء الإسلام وتتنكَّر لمفهوم (الجهاد) الذي هو ذِرْوَة سنام الإسلام.

الحادي والثلاثون: الحملة على اللغة العربية بقصد إيقاف نموها الذي يجري بنمو الإسلام فيه والعمل على تغليب اللغات الأجنبية عليها، والدعوة إلى العامية لإحلالها محل ،العربية والتنادي بإحلال الحروف اللاتينية بديلة للحروف العربية؛ للإغراب، وللبعد بمستوى الفهم عن القرآن والحيلولة دون الارتباط به(2). هذا ونحن نرى اليوم هذا في محركات البحث على الشبكة العنكبوتية، وظهر هذا بين فئات من هذا الجيل الحالي الكتابة بما سموه (الفرانكو) !! وهو كتابة اللغة العربية بحروف إنجليزية !! وهو خطر ينبغي مجابهته والسعي في تفكيكه وإبداله...

الثاني والثلاثون إثارة الشبهات على مستوى التعليم في مجال المدرسة والجامعة، وكذلك في الصحافة والثقافة. وكانت (حركة الاستشراق) هي المصنع

( الذي يعدُّ (أدوات العمل) الشبهات والطعون والشكوك والاتهامات، والتي تخفي التبشير وراءها خاصةً في إفريقيا وأرخبيل .الملايو. فالتبشير حركة استعمارية تهدف إلى خدمة النفوذ الأجنبي، وتأكيد ودعم بقائه(3).

الثالث والثلاثون: ومن الغزو الفكري بالتبشير إلى حركة (الماسونية) مقدمة

ص: 72


1- نفس المصدر - ص 18
2- نفس المصدر- ص 19.
3- نفس المصدر- ص 20 وما بعدها.

(الصهيونية) وربيبتها (البهائية)(1). ثم (الأحمدية) المارقة من الإسلام بنص فتاوى دور الإفتاء المصرية وغير المصرية وموطنها الرسمي الهند وإنجلترا، ولا زالت الأخيرة تعمل في بث سمومها عبر قناتها الفضائية، ومن خلال موقعها الإلكتروني، وكتبها الممتلئة كفراً وسموماً والتي يتم اصطياد بعض المغفَّلين والمغرِضين بتوزيعها عليهم مجانا أو التواصل معهم في مصر وغيرها.

الرابع والثلاثون: تعميق الخلاف بين تركيا وإيران، وتغذية الخلاف بین الشيعة والسنة وبين المسلمين والمسيحيين في بلاد العرب كمصر وغيرها، وبين الهندوك والمسلمين في الهند وتجميد الطوائف والقبائل حتى لا تنصهر في المجتمعات الواسعة، وأوجد المستعمر بينها وبين الأكثريات خصوماتٍ وأحقاد واحتضن الأقليات بخبثه ليحول دون وحدةٍ كبرى تلتهم المستعمر.

الخامس والثلاثون: تركيز حملته على السلطان عبد الحميد الذي قاد حركة المقاومة ضد المستعمر، وتم تشويهه وصوغ صورة سيئة عنه؛ لأنه حال بموة الصامد دون تمزيق العالم الإسلامي، واستيلاء الدول الغربية عليه واحتلاله فضلاً عن موقفه المشرّف إزاء محاولة الصهيونية الاستيلاء على فلسطين، وكان موقفاً بالغ القوة والصمود؛ مما حمل المحافل الماسونية في (سالونيك) وجلُّها من (الدَّوْنمَة) ، وهم اليهود الذين أسلموا نفاقاً وتستراً، حملهم على السيطرة على (جمعية الاتحاد والترقي)، ودفعها إلى إسقاط النظام الذي يحمل لواء (الجامعة الإسلامية، وإيقاع الخلاف الدموي بين عنصري الدولة العثمانية: (الأتراك والعرب)(2).

السادس والثلاثون: حرص الاستعمار على أمرين خطيرين: أولهما: إلغاء تطبيق الشريعة، وإستبالها بالقانون الوضعي والثاني: السيطرة على التعليم. كما تم الإشارة لهدفه من التعليم سابقاً.

ص: 73


1- نفس المصدر - ص 21 .
2- نفس المصدر - ص 23

السابع والثلاثون: تصوير الإسلام على أنه دينٌ لاهوتيٌّ لا صلة له بالمجتمع، وتقرير فكرة فصل الدين عن الحياة !!(1)فيما تبلور بعد تحت مسمى (العِلمانية)!!.

الثامن والثلاثون: رفع شعار العلمانية، وشعار الأمَمَيَّة، وشعار الفكر العالمي؛ للقضاء على (ذاتية) الفكر الإسلامي وقوته وجلالته ..(2).

التاسع والثلاثون: تكوين موالين ومؤتمرين بأوامر المستعمر للقضاء على الدولة العثمانية، ولتكفير المسلمين وهدم دعائم الإسلام ونشر الفتن بينهم، كمحمد بن عبد الوهاب النجدي المبتدع والذي كان ضالة (مستر هَمفر) رجل المخابرات الإنجليزي، ومبعوث وزارة المستعمرات البريطانية للشرق الأوسط، والذي تم دعمه بالمال والسلاح، لتكوين ما سمِّي ب-(الحركة الوهابية)، والتي تم تقديمها على أنها حركة إصلاحية تحارب الوثنية المنتشرة بين المسلمين والخرافات!! والتي ارتبطت بوثيق العلاقة برعاية إنجليزية بالدولة الناشئة بجزيرة العرب، على أنقاض الدول العثمانية، وبمخطط جديد لتقسيم الشرق الأوسط، وهو (سيكس بيكو) الأولى(3). ويتضح هذا من مذكرات (همفر) نفسه عن ابن عبد الوهاب.. ونحن الآن مع مخطط جدیدٍ هو ( سيكس بيكو) الثانية؛ لتقسيم دول المنطقة وتفتيتها وصولاً للجائزة الكبرى كما وصفها (كسينجر) وزير خارجية أمريكا الأسبق. ولعله أخذ هذا المسمى باطلاعه على بعض الروايات الإسلامية كما عن عن قتادة قال: (إن الشام الرأس، وإن مصر الذَّنب، وإن العراق الجناح )(4). والمراد بالذَّنب هنا تأخرها لأهميتها، ولمناعتها في الوصول إليها من الأعداء عبر التاريخ فمصر هي التي انتصرت على التتار والصليبيين، وانتصرت على الحملة الفرنسية وأجبرتها على النكوص لبلادها..وورد أن المهدي عليه السلام في زمانه يكون له منبر في مصر.

ص: 74


1- نفس المصدر - ص 26
2- نفس المصدر - ص 27.
3- (الوهابية) مع ملحق مذكرات (مستر همفر رجل المخابرات البريطانية في البلاد الإسلامية- الأستاذ: سامي قاسم أمين المليجي - مكتبة مدبولي 2006 - م : 2007م - ص22 وما بعدها.
4- (مفتاح الجفر) أو (الدر المنظم في السر الأعظم - للشيخ العلامة ابن أبي طلحة الشافعي(652)ه-- صورة مخطوط من موقع مكتبة المصطفى الإليكترونية . www.al-mostafa.com.

الأربعون: إعطاء استقلال مزيف لبعض الدول، كنوع من التغيير المرحلي للاستعمار أو في الشكل مع بقاء الموضوع، فلابد أن يجرب الاستعمار أسلوباً آخر يضمن مغانمه ويخفف مغارمه، وإذن فمن المفيد تكوين حكومات أوروبية النزعة، وإن كانت إفريقية الجنس. وذلك كجنوب إفريقيا التي انتقل لها حكامها الأوروبيون، فبدل أن يعيشوا في (لندن) أو (أمستردام) عاشوا فوق ترابها المنكود يستذلون أهلها عن قرب، ويسنون لهم القوانين المهينة، ويجعلون أنفسهم ملوك البلاد وملّاكها ، وأما أصحابُ البلاد الحقيقيون فهم أجراء لا وزن لهم ولا شرف... ووضعت مثلا خطة قديماً لتستقل (روديسيا) - على هذا الغرار - فيملك الجنس الأبيض نواصي الأمور، ويشتغل المواطنون بالخدمة.

ثم يقال: إن الدولة مستقلةٌ جديدةٌ، ولدت على الصعيد الدولي!! وإن إفريقيا التي كانت مستعمرات كلها، وليست بها إلا ثلاث دول مستقلة قد أصبحت دولاً مستقلةً كلها !! وليس بها إلا جيوب من الاستعمار البرتغالي في (أنجولا) ينتظر أن تنتهي !! كما درَّسوا ذلك في المناهج الابتدائية للطلاب، ومنهم الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - المنقول عنه هذه الفقرة(1).

هذا، ولو تتبعنا مخططات الاستعمار على سبيل الحصر، فهي كثيرةٌ جدًّا، وربما تنوعت بحسب الظروف اليومية بل اللحظية عبر سنوات الاستعمار، وبحسب تنوع الشعوب وثقافاتها ودياناتها وقوتها من ضعفها، ووعيها من جهلها، فالأربعون مخططاً السابقة هي بمثابة رؤوس موضوعات لمخططات وأهداف المستعمر التقليدي القديم و(الكلاسيكي) بلغتهم وربما كتبت فيما يستقبل في مقالات أخرى عن مخططاتٍ أخرى برصدٍ جديدٍ لمخططاتٍ وأهدافٍ تخطيطية (إستراتيجية) أخرى.

وأشرع - بإذن الله - الآن في بيانٍ بعض جرائم الاستعمار في بعض البلدان: كإفريقيا عامةً، والجزائر خاصةً، وجنوب شرق آسيا، في عدة نماذج من هذه الجرائم، فأقول :

ص: 75


1- (الاستعمار - أحقاد واطماع - فضيلة الشيخ : محمد الغزالي - رحمه الله - ص58 وما بعدها.

نماذج وصورٌ من جرائم الاستعمار:

منها : أنه بلغ عدد الرقيق الإفريقي الذي نقله البرتغاليون - وحدهم - من (ساحل غانا) إلى أميركا تسعمائة ألف رقيقٍ. أي بنسبة (13000) - ثلاثة عشر ألفاً - كل عامٍ فی المدة بين (1530م) إلى (1600م )(1).

ومنها: أنه نقل البرتغاليون أيضاً من ميناء (أنجولا) - وحدها - إلى أميركا الملايين العبيد، وكان المبشِّرون هناك يحصلون على ضريبة لقاء تعميد هؤلاء المرحَّلين كعبيد، وليس في استطاعة أحدٍ الوصول إلى رقمٍ صحيحٍ (تحديديٍّ) لعددهم، وإن كان أحد المؤرخين البرتغاليين قد قدَّره ب- (2389000) - بمليونين وثلاثمائة وتسعةٍ وثمانين ألفٍ - من ميناء (أنجولا) - وحدها - فيما بين عام (1486م) إلى عام (1641م)؛ :أي بمعدل (9000) - تسعة آلافٍ من العبيد كل عامٍ.

ومنها: أنهم كانوا ينقلون الرقيق على سفن صغيرة الحجم قليلة الحمولة، مقسمةً تقسيماً أفقيًا على هيئة رفوفٍ عرض الواحد منها ثلاثة أقدام، فكلما زادت الحمولة زاد ربحهم، ويرصُّ عليها الرقيق وأيديهم مصفّدة.. وكان هذا السفر بيئة ممتازة لانتشار الأمراض، علاوةً على الاختناق الذي كان يحصل لمن في الأسفل فكانت نسب الوفيات مرتفعة بينهم ، ويُرمى الميت في البحر حال اكتشافه، وبعضهم كان يلجأ لتمزيق الشباك المحيطة بالسفينة ليلقي بنفسه منتحراً في البحر.. ويصوّب إلى المحتجِّ منهم الرصاص حال تكرر احتجاجه.. ومن امتنع عن الطعام، فكانت هناك وسائل خاصة لمثل هؤلاء. وقد قُدِّر عدد المتوفين خلال النقل بسدس ،الحمولة، وكان رجال السفينة يتعرضون للموت أيضاً بسبب تفشي القذارة ورائحة الموتى، وبسبب الملاريا، ولكن لم تكن نسبتهم كنسب الرقيق المقيدين بالقيود(2).

ومنها : أنه لم تلبث الدول الأخرى حتى دخلت إلى ميدان تجارة الرقيق. فقدم

ص: 76


1- (استعمار إفريقية ) - الدكتور زاهر ریاض ص 65
2- المصدر السابق ص 67 .

الهولنديون والفرنسيون والإنجليز، وبدأوا يقيمون الحصون والمراكز التجارية لصالحهم حتى الدانمارك دخلت هذا الميدان ذا الربح الوافر، أغراهم بذلك ضعف البرتغال في الميدان الإفريقي حين أخذت المستعمرات الهندية جُلَّ اهتمام البرتغاليين. كما زادت هجرة الأسبان إلى أملاكهم في الدنيا الجديدة، وأخذوا يشتدون في طلب الرقيق. كما سكن البريطانيون فرجينيا وكارولينا الجنوبية، وأخذوا يزرعون القطن والدخان بل وقصب السكر، وطلبوا الرقيق الإفريقي من أجل العمل في المزارع، وتألفت الشركة البريطانية تحاول كسر الاحتكار البرتغالي(1).

ومنها: أنه وصل عدد الرقيق الذي أرسل إلى الممتلكات البريطانية وحدها فيما بين سنتي (1680)م و (1786) م إلى مليونين ومائة وثلاثين ألفاً(2).

ومنها: أنه وصل بالتقدير العدد المرسل من الرقيق للمستعمرات فعليًّا إلى نصف ما خرج من إفريقيا، وبه ندرك أي كسحٍ تعرضت له القارة الإفريقية خلال هذا القرن؛ إذ يقدر ما وصل إلى المستعمرات الأوروبية كلها بأربعين مليوناً؛ أي: خسرت قارة إفريقيا قرابة ثمانين مليوناً من أبنائها في هذا القرن فقط(3). وكانت المنافسة دائرة بين فرنسا وإنجلترا من جهة والبرتغال من جهة أخرى في التنافس على الاستيلاء على العبيد من القارة. ونقلت إنجلترا وحدها نصف رقيق غرب إفريقيا، وقُدِّر بأربعة وسبعين ألفا(4).

ومنها: أنه في أسبانيا مثلاً كان كبار الملاك للعبيد الوارد من إفريقيا ينظرون إلى هؤلاء العبيد على أنهم لا يستحقون أي حقوقٍ تمنح لهم، وإذا كانت هناك من جهود تبذل، فإنما هي من كرم المالك. فقد أمر إدوارد لونج أحد حكام (جمايكا) في سنة (1774)م بتحسين معاملة الرقيق من أجل مساواتهم بأحمال البرتقال، من أجل المحافظة عليهم ك_(آلات) حية )!!(5).

ص: 77


1- نفس المصدر - ص 68 ص
2- نفس المصدر- ص 70.
3- نفس المصدر - ص 70.
4- نفس المصدر- ص72.
5- المصدر السابق ص 73.

ومنها : أنه وصف عمدة (برستول) تجارة الرقيق في سنة (1713)م ب-(أنها عماد شعبنا).. إذ تصل فيها الفائدة في أغلب الأحايين إلى (150) بالمائة. وهذا يجعلنا نفهم لماذا واصلت الحكومة البريطانية معارضة فرض الضرائب على المشتغلين بها. بل إن بعض الكتاب والساسة كانوا يرون في هذه التجارة سبباً من أسباب عظمة بريطانيا، وأسطول بريطانيا فيما وراء البحار ! (1).

ومنها : أنه انتعشت تجارة الرقيق في (موزمبيق) بعد أن وُقِفت تجارته في (أنجولا والكونغو)، فكان يخرج منها حوالي خمسة عشر ألفاً سنويًا في المدة بين سنتي (1780)م، و(1800)م(2).

ومنها : أن بريطانيا - لأن تجارة الرقيق تعد عندها أكثر أنواع التجارة رواجاً، وأكثرها ربحاً - كانت بحكم وجودها في الهند تعمل جهد الطاقة على المحافظة على طريق مواصلاتها إليها، وكانت ترى في موانىء شرق إفريقيا الطريق الطبيعي إليها، ويعنيها أكثر من غيرها أن تجد سفنها في هذه الموانىء كل التسهيلات الممكنة(3).

ومنها : أنه عندما نظَّم المهاجرون الجزائريون في باريس مظاهرة سلمية للاحتجاج على فرض حظر التجول عليهم من طرف (موريس بابون) عندما كان والياً لقسنطينة الجزائرية ومحافظاً للشرطة في باريس بقصد شل حركة الوطنيين الجزائريين وأبقاهم سجناء في أحيائهم البائسة في باريس وضواحيها، فكان حصاد جريمته ضد الجزائريين في فرنسا حوالي - 300- ثلاثمائة شهيدٍ. كل هذا لتبقى الجزائر فرنسية كما يريدها المستعمِر الفرنسي(4).

ومنها تزييف الفرنسيين حقائق مذابحهم وفظائعهم عندما يقول (جاك شيراك): (إن فرنسا لم تعمل سوى الأعمال الجيدة في الجزائر) ! !(5). يقول هذا عن بلد المليون شهيدٍ !!.

ص: 78


1- المصدر السابق ص 76.
2- المصدر السابق ص 83
3- المصدر السابق - ص84 وما بعدها.
4- (جرائم) فرنسا في الجزائر ) - الأستاذ: سعدي بوزيان.
5- المصدر السابق ص 13

وأجابه (فرانسیس جانسون) قائلاً: (إن مسألة التعذيب مرتبطة بالمسألة الاستعمارية). فشهد شاهدٌ من أهلها أنطقه الله بإذنه.

ومنها: جرائم فرنسا في (8) مايو سنة (1945)م، والتي قتل فيها الاستعمار الفرنسي (45) خمسةً وأربعين ألف شهيدٍ، وكانت هذه بمثابة الشرارة التي اندلعت منها ثورة نوفمبر (1954)م(1).

ومنها: جرائم الجنرال (أوساريس) الذي دشَّن عهده في مدينة (سكيكدة) بارتكاب جريمة كان حصادها - حسب المصادر الوطنية - حوالي (12) - اثني عشر ألف شهيدٍ، وحرَّق عشرات القرى والمداشير(2).

ومنها: أن (موريس بابون) السابق ذكره عمل على قتل (300) - ثلاثمائة شهيد كانوا يتظاهرون سلميًّا بفرنسا، ورمى جلَّهم في (نهر السين)، وقتلهم داخل مراكز الشرطة ورمى العشرات منهم في البحر بواسطة الطائرات(3).

ومنها: أن الجنرال (بوجو) قد دشَّن حرب الإبادة ضد الشعب الجزائري البالغ عدد سكانه يومئذٍ (3) - ثلاثة ملايين نسمة، وفي (1845)م ، وبعد دخول الاحتلال سنة (1830)م؛ أي: خلال (15) - خمسة عشر عاماً تناقص عدد سكان الجزائر إلى المليونين(4).

ومنها: أن سفّاحا آخر هو العقيد (بيليسي) كان قد أصدر أوامره لجنوده وسفاحيه بإشعال النار في مغارة قد التجأ إليها أفرادٌ من الشعب الجزائري؛ هروباً من جحيم الاستعمار، وفي ظروفٍ مأساوية قل نظيرها تم اختناق هؤلاء في هذه المغارة، وماتوا جميعا(5).

ص: 79


1- المصدر نفسه ص14.
2- المصدر السابق ص.14.
3- المصدر السابق ص 14
4- المصدر نفسه ص 15
5- المصدر السابق ص 15

ومنها : أنه حسب تقارير أحد الضباط الفرنسيين، وبسبب حرب الإبادة التي شنها الجنرال (بيجو)، تناقص الجزائريون من (4) ملايين نسمةٍ إلى (3) ملايين نسمةٍ على مدى سبع سنواتٍ(1).

ومنها : أن الجنرال (سانت أرنو) قال في مذكراته : (لقد كانت حملتنا في الجزائر حملةً تدميرية أكثر منها عملاً عسكريّاً، ونحن اليوم وسط جبال مليانة لا نطلق إلا قليلاً من الرصاص، وإنما نمضي وقتنا في حرق جميع القرى، والأكواخ، وإن العدو أمامنا سائقاً أمامه قطعان غنمه !!)(2). فهل بعد هذه الوحشية والاستعلاء والطغيان والبغي شيء؟!! . ثم يقول: (إن بلاد ابن مناصر بديعةً حقًّا، ولقد أحرقناها كلها- آه- أيتها الحرب، كم من نساءٍ وأطفالٍ اعتصموا بجبل الأطلس المغطى بالثلوج، فماتوا هناک من الجوع والبرد ، وليس في جيشنا سوى خمسة قتلى وأربعين جريحاً). وقبيلة أولاد رباح الذين قتل منهم ألف شهيدٍ، كانوا قد التجأوا إلى مغارةٍ هروباً من الغزو، فانقض عليهم الكولونيل (بيليسي) وجنوده، وأوقدوا النيران في أفواه المغارة، فمات هؤلاء جميعاً اختناقاً.

ومنها: أنه في (فيتنام) قام الأميرال (دارنجيلوا) سنة (1946)م بقصف ميناء (هايفونغ)، وقتل في هذا القصف ما بين (300) - ثلاثمائة إلى (3000) - ثلاثة آلاف شخصٍ(3)، ذهبوا أيضاً ضحية الاستعمار الفرنسي في فيتنام مثل الجزائر. فالنفس البشرية لا تساوي شيئاً عند الاستعمار.

ومنها: اتخاذهم التعذيب وسيلة أساسية وسلوكاً مع الجزائر، فيقول الجنرال (بول أوساريس) في كتابه (أجهزة خاصة)، وتقول الباحثة والطالبة الجامعية (روفائييل (برانش في رسالتها التي نشرت في كتاب كامل سنة (2001)م - ضمن منشورات (GALLIMARD): (إن التعذيب في الجزائر خلال الاستعمار الفرنسي لم يكن ظاهرةً

ص: 80


1- المصدر السابلق ص 15 ناقلاً له عن المغرب العربي الجزائر المغرب الأقصى، تونس) - طبعة مكتبة الأنجلو المصرية - سنة (1962)م.
2- المصدر السابق ص 16.
3- المصدر السابق نفس الصفحة.

تخص مجموعةً من العسكريين، بل هي ظاهرة كانت سائدةً خلال حرب الجزائر)، وكانت فرنسا - كما تؤكد روفائييل برانش - في رسالتها الجامعية - كانت تبرر أي عمل مهما كان نوعه من أجل الإبقاء على الجزائر فرنسيةً !! . وتضيف الباحثة المذكورة: (إن الجيش الفرنسي الذي حارب الشيوعيين في الفيتنام، وتلقى هزيمةً شنعاء في ديّان بِيَا نفو، التجأ في الجزائر إلى القتل والتعذيب انتقاماً من الهزيمة والإهانة التي لحقته على يد الجنرال جياب، وبالنسبة للجيش الفرنسي، فإن جبهة التحرير : عبارة عن منظمةٍ تخريبيةٍ، وتمرُّدٍ على غرار ما جرى في الفيتنام ضد فرنسا، وقد تكونت لدى الجيش الفرنسي شبه عنصرية ليس إزاء جبهة التحرير وجيش التحرير، بل إزاء كل الوطنيين الجزائريين، فهم في رأي الجيش الفرنسي جميعاً ضد فرنسا، وتجب معاملتهم على هذا الأساس ) !!(1).

ومنها: جرائم الاغتصاب للنساء والصغيرات من المستعمرين الفرنسيين للجزائريات والتعذيب للرجال والنساء والأطفال في الفترة (1954)م (1962)م. فتروي السيدة (خيرة) أم الطفل اللاشرعي ( محمد قارون) أنها في (19) أبريل سنة (1959)م اقتيدت للاعتقال، وتم اغتصابها في محتشد الاعتقال.. وكان هذا المعتقل يقع ضمن الإدارة العسكرية، ويبعد عن الجنوب الغربي من الجزائر العاصمة (170) - مائةً وسبعين كيلومتراً، وأنها لما اقتيدت من الجبال للمعتقل كان عمرها يومئذ (15) - خمس عشرة سنةً، فأخذها الجنود المستعمرون إلى الثكنة، فسلطوا عليها أولاً العذاب الأليم بواسطة الكهرباء والماء ثم قاموا باغتصابها وكانت هذه العملية ضمن ما يسمى بعمليات (شال) نسبة إلى الجنرال (شال)، وكان كلٌّ من (شال)، و (بيجار) تلقيا تعليمات من طرف الجنرال ديغول) بقنبلة مصيف (جبال الونشريس) بقوله : (إننا لا نعرف كم عدد النساء الجزائريات اللائي كنَّ عرضةً للاغتصاب والتعذيب). فخيرة لم تغتصب من جنديٍّ واحدٍ بل تداول عليها العديدون، ولمراتٍ عديدةٍ، وقد ظلت مدةً لم تعرف ماذا جرى لها بالضبط، وقد آثرت الصمت خجلاً، وما إن سئلت عن هذا الموضوع حتى بادرت بالبكاء، وعظم مصابها عندما أدركت أنها حامل وظلت طيلة فترة الحمل وهي سجينة

ص: 81


1- المصدر السابق - ص 17 وما بعدها.

عند الجنود، وتعامل معاملة العبيد، بالإضافة إلى استمرار الاغتصاب لها، وهنا بدأت تشعر بفقدان الوعي من جراء ما سُلّط عليها من عذابٍ واغتصابٍ. ويقول ابنها محمد قارون: (إن والدته نتيجة ما عاينت من أهوال التعذيب والاغتصاب لم تستعِد عقلها كاملاً). وقد حوَّلت هي وابنها إلى ملجأ الأيتام، وظل محمد قارون يعيش في قلقه، ولا يعرف له أباً حقيقيًا فترةً طويلةً، فقد ظلت تخفي الأمر، ولم تبح بالأمر إلا في سنة (1994)م لما اعترفت أمام القاضي بأنها كانت عرضةً للاغتصاب، وبالتدريج عرف محمد قارون الحقيقة، وأنه ثمرة اغتصاب والدته السيدة خيرة من الجيش الفرنسي. وعندما عرف ذلك من الرجل الذي تبنَّاه فكَّر في الانتحار برمي نفسه من الطابق العاشر.. واعترته بسبب ذلك الأمر أمراض نفسية عديدة، وكابوس يوميٌّ دائم.. وقضيته معروفة في القضاء الفرنسي.. وهناك الآلاف من القضايا مثل هذه القضية التي فيها التعذيب والاغتصاب. فقد قدرت المصادر الفرنسية نفسها مثل هذه الحالات بنحو (3) إلى (4) آلاف حالة اغتصابٍ خلفت أولاداً غير شرعيين(1).

ومنها : كشواهدٍ أخرى على إجرام هذا المستعمر الفرنسي في الجزائر: قصة المناضلتين : لويزات إيغيل (أحريز) و (مليكة قريش). فقد فجرت الأولى قضية التعذيب في الجزائر عبر الإعلام الفرنسي نفسه، وخاصةً في جريدة (لوموند). (Lemond) و(لومانيتي) الشيوعية وقامت بإصدار كتاب كامل بعنوان: (لويزات إيغيل أحريز الجزائرية). (LOUISETE IGHIL AHRIZ L'ALGERINNE). وقد صاغ هذا الكتاب كاتبة فرنسية تدعى (آن نيفا). (ANNE NIVAT)، وصدر ضمن منشورات (فأيارد).(FAYARD)، و( كالمان ليفي) . (ALMAN LEY في (باريس) سنة (2001)م . وهذا الكتاب شهادة حيةً من مناضلة جزائرية ما زالت حية، وظلت تعمل كمناضلةٍ داخل جبهة التحرير التي مثلتها في الخارج، وفي عدة مناسبات.. وقد قالت (لويزات) عن حرب التحرير (1954)م: (1962)م: (إن ما جرى في الجزائر من عناءٍ وعذاب خلالها لم يكن مجرد عملية للمحافظة على النظام، كما يروج العسكريون والساسة الفرنسيون، ولا مجرد تهدئة !! بل إن ما جرى في الجزائر

ص: 82


1- المصدر السابق مختصرا من ص 71 ص 73

خلال هذه الفترة كان حرباً ضروساً بالغة الفساد ولم تكن مسألة الحصول على استقلالنا وحريتنا إلا ثمناً باهظاً، دفعناه من دماء شهدائنا البالغ مليون شهيدٍ، وعمليات جسام لمواجهة عملية التحطيم لشخصية الإنسان الجزائري). وكان والدها - وكان يعمل في الدَّرَك الوطني الفرنسي - لما اكتشفوا أنه مناضلٌ ويقوم بالاجتماع بالمناضلين والمجاهدين ويخبِّئ لهم أسلحتهم في مخبزٍ ،له لما اكتشفوا ذلك سجنوه وعذبوهٍ، وعاملوه مجرمو الحرب الفرنسيين كمجرم حربٍ!!. والتقت (لويزات) في السجن بالمناضلة المجاهدة ( مليكة (قريش) و بعديد من المناضلين .. وكانت (مليكة) عُذبت من طرف الجنرال (شميث)، ولما خرجتا سويًا من السجن وتوجهتا لفرنسا تم القبض على (لويزات)، وأودعت السجن في (كورسيكا)، وجعلت تحت الإقامة الجبرية مدة سنتين من سنة (1961)م: (1962)م . وكانت حركة (الجيش السري) الفرنسية (O.A.S) قد قررت تصفية (لويزات) جسديًا، ولكن لم يشأ الله ذلك . وقد أوردت (لويزات) قصة تعذيبها في جريدة (لوموند) بعنوان: (قصة امرأةٍ قبائلية حركت جدلاً حول التعذيب في الجزائر). وإن (لويزات) وهي تكافح لم تكن تفكِّر كقبائلية، بل كجزائرية في سبيل الجزائر الديمقراطية، إلا أن الفرنسيين في نفوسهم مرضٌ، فمن عاداتهم العزف على (سيمفونية): عرب وقبائل الجزائر. ولقد تعرضت للتعذيب في مقر فرقة المظليين العاشرة خلال معركة الجزائر سنة (1957)م بأوامرٍ من الجنرال (ماسو) و(بيجار)، وكان عمرها لما لاقت وتكبدت التعذيب والوحشية عشرين سنةً. وحكت عن ذلك فقالت: (إنها كانت تطرح أرضاً وهي عارية وعارية تماماً من الثياب، وتتم عملية التعذيب مرتين أو ثلاثة كل يومٍ وكان أصعب شيءٍ هو أن يتحمل المرء التعذيب في الأيام الأولى، ثم يؤول الحال أن يتعود الإنسان التعذيب فيما بعد)(1).

ومنها: قصة ( مليكة) المشار إليها سابقاً، وقد كانت مجاهدة جزائرية اعتقلها الجيش بواسطة جنود فرنسيين مظليين عرفوا بالقساوة والإجرام. وكان ذلك سنة (1957)م . وكانوا في البداية قد أبدوا معها سلوكاً حسناً، لكن سرعان ما تحولوا إلى وحوشٍ كاسرةٍ عندما رفضت الاعتراف بالتهم الموجهة إليها، وشرعوا في تعذيبها

ص: 83


1- المصدر السابق ص 73 : ص 81 باختصار وتلخيص.

بعد أن نزعوا ثيابها وتعرضت لشتى أنواع التعذيب ومنها تسليط الكهرباء على ثدييها، وعندما طلبت شرب الماء عمد أحد هؤلاء المجرمين بالتبول في فمها. وكان عمرها وقت التعذيب (27) سنةً، وكانت التحقت وقتها بجبهة التحرير سنة (1956)م. وقد استمر هؤلاء المجرمون في تعذيبها مدة (17) - سبعة عشر يوماً. وبعد التعذيب والتحقيق نقلت إلى السجن فقضت (5) - خمس سنواتٍ في سجون الجزائر، وطولون، وتولوز، وبو. وذلك بعد أن فقدت إحدى عينيها. وظلت تتحمل آثار الجروح من جراء التعذيب حتى بلغت سنًا متقدمة.. غير أنها أكدت أنها سوف تظل وفيَّةً لجبهة التحرير ما ظلت حيةً وإلى الممات. وكانت قد أكدت ( مليكة قريش) (أن الجنرال شميث هو الذي أعطى أوامر لتعذيبها). والغريب أن (شميث) كوفئ على جرائمه الحربية ووحشيته وجنوده فيما بعدُ، فكان رئيساً لهيئة الأركان في الجيش الفرنسي خلال الفترة بين (1987)م: (1991)م)(1).

ومنها : إجرامهم وتعذيبهم للرائد (سليمان بوعتبة)، وشهادته التي أدلى بها لجريدة (لاكروا) (LA CROIX) المسيحية عدد (5) - (جانفي)- (2001)م. فقد كان جنديًّا من جيش التحرير، وتعرض للتعذيب، وذكر في مذكراته أنه لا ينسى رغم مرور أربعين سنةً على ما جرى له هذه الفظائع والجرائم. وقال: (إذا كان بعضٌ من زملائي بعد الاستقلال يحلمون بالحصول على رتبة جنرال في الجيش الجزائري، أو أن يصبحوا رجال أعمالٍ، فأنا كنت على عكس هؤلاء جميعاً، فقد كان مشروعي هو تنظيم عملية اصطياد مجرمي الحرب من ضباط فرنسا الذين مارسوا التعذيب ضد شعبنا). ومن هؤلاء الضباط الذين كانوا في مشروع الرائد سليمان بوعتبة من مجرمي الحرب والتعذيب: (بيجار، وماسو، وأوسايس)، وضباط أخرون تابعون لمكافحة الجَوسسة «D.S.T»، ومن هؤلاء: (جوزيف لوفريدو، والنقيب ليجي). قال: (وقد قمت برحلات عديدة إلى فرنسا خلال سنوات (1970-1972)م، وعندي شبكتي التي كانت مستعدة لاختطافهم وترحيلهم إلى الجزائر، كما فعل اليهود من خلال (الموساد) حين تتبعوا مجرمي الحرب المعروفين بتعذيب اليهود خلال الحكم النازي وقال :

ص: 84


1- المصدر السابق مختصراً من ص 82 ص 86

(إن الفرنسيين يريدوننا أن ننسى ما فعلوا في بلادنا. أما أنا كضابط متقاعدٍ عمره (68) - ثمانية وستون سنةً لم أنسَ، فقد شرعت بعد الاستقلال بالانكباب على جمع الوثائق، واشتريت بثمنٍ باهظٍ أرشيفاً مهمًّا من فرنسا يتعلق بما جرى في الجزائر من طرف الجيش الفرنسي خلال حرب التحرير (1954: 1962)م. هذا واتفاقية (إيفيان) الموقعة بين الجزائر وفرنسا سنة (1962) م لم تصدر العفو عن مجرمي الحرب. حقه ألا ينسى فقد كان ضحية تعذيب الاستعمار الفرنسي سنة (1957)م في مدينة (THIERS) المسماة الآن ب- ( القادرية)، وهو عائد من تونس على رأس كتيبةٍ جلبت معها السلاح فألقي عليه القبض من طرف الجيش الفرنسي، وكان يعتقد أنه سيعامل معاملة العسكريين وكان يرتدي الزي العسكري لجيش التحرير، وفي مهمة من طرف الشهيد عميروش الذي أصبح فيما بعد مسؤولاً عن جيش التحرير في منطقة القبائل برتبة عقيدٍ .. ولكن سرعان ما اكتشف خلاف ذلك الفرنسيين الفلاَّقة (قطَّاع رؤوس البشر). فكان مصيره أنه وضع في مكانٍ سريٍّ لمدة ثلاثة أشهر، وظل أسابيع وأسابيع عرضةً للتحقيق والتعذيب من طرف جماعةٍ من فرقة (D.O.P) في مزرعةٍ بالقرب من تيزي وزو) وظل عدة أسابيع مسجوناً فيها في برميلٍ للكحول (الخمر)، وظل عدة أيامٍ مسجوناً في (أير دو فرانس) بالجزائر العاصمة، وتعرض لأنواع من التعذيب فعذبوه بالكهرباء وبالتغطيس في الماء، واستعمال خرطوم الماء في الفم، وفضل الرائد سليمان بوعتبة عدم المضي في إعطاء التفاصيل حول أنواع التعذيب التي تعرض لها أكثر من ذلك عند حكايته... قال: وكان حقًا مصيري الموت لولا عناية الله التي أرادت إبقائي حيَّا إلى اليوم.. ولا زال الرائد سليمان بوعتبة يحتفظ بقصاصات من صحافة الاستعمار الفرنسي تتحدث عنه، وعن كيف فرَّ من محكمة الجزائر خلال محاكمته في نوفمبر سنة (1961) م .

ومنها: أنه من كثرة جرائم هذا المستعمر الفرنسي فتح المناضل الكبير (بشير بومعزة) هذا الملف، وأسس جمعية (8) ماي سنة (1945)م، وأخذ يجمع الوثائق التي تدين الفرنسيين في حوادث (8) ماي (1945)م، وفي (17) أكتوبر سنة (1961)م. كما أن المناضلة (لويزات إيغيل أحريز ) لعبت دوراً في تحريك ملف جرائم فرنسا في

ص: 85

الجزائر، وأصدرت كتاباً حول شهادتها في الموضوع. كما ذكرته من قبل(1). ويا ليتها تجمع هي وغيرها وترفع قضايا شخصية للقادرين ودولية ضد هؤلاء المستعمرين الحرب الفضح جرائمهم، وملاحقتهم قضائيّا، وطلب الاعتذار والتعويض ومجرمي المعنوي، والتعويض المادي للمتضررين .. وإن كانت أموال الدنيا كلها لا تفي بشيءٍ من نذرٍ يسيرٍ من إهانة وتعذيب وقتل إنسانٍ أي إنسانٍ وقع تحت وطأة هؤلاء الزبانية المجرمين عديمي الدين والضمير والإنسانية.

وإلى هنا أكتفي بما ذكرته من بعض جرائم الاستعمار، وسوف أستكمل ذلك في مقالات تالية - إن شاء الله - فإن جرائمهم تجلُّ عن الحصر، وكلما تكشَّف لنا شيءٌ منها تكشَّف لنا مدى حقدهم الديني، وكيف أنهم شياطينٌ من الإنس، وبدى لنا مدى ،تعصبهم، وانعدام وتلاشي ضمائرهم بقطع النظر حتى عن دياناتهم - فلابد للأمة الإسلامية والعربية من صحوةٍ تعرف فيها ،تاريخها وتطالب بحقوقها، بل تأخذها

بالطرق الشرعية والقانونية، وبالمقاومة والجهاد في سبيل دفع هذا الظلم الذي لا زال يمارس حتى اليوم علينا وبطرق شتى وبطرق حديثة ماكرة وخبيثة ولا زالت أيدي الاستعمار تتلاعب بجنودها من أبالسة البشر .

ثالثاً: أسماء بعض القادة والعلماء الذين واجهوا الاستعمار، ومنهم: (إبراهيم باشا في مصر الذي قضى على الحركة الوهابية صنيعة الاستعمار الإنجليزى في الجزيرة العربية، وأحمد عرابي في مصر أيضاً، والمهدي في السودان، ويعقوب في التركستان، والسنوسي في ليبيا، وعبد القادر في الجزائر، وأحمد عرفان في الهند، وعمر المختار في ليبيا، وشامل في القوقاز).

أما العلماء والمصلحون المناضلون والمقاومون للاستعمار، فمنهم: (الدهلوي، ومحمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، والقاسمي، والعلوي الولي، وابن باديس، وخير الدين، وعبدلكي، والألوسي ..إلخ). وبإذن الله جل جلاله سأتبع ذلك بیان (مخططات وإستراتيجيات الاستعمار وجرائمه) وسأفرد بحوثاً حول أدوار بعض هؤلاء القادة والعلماء في مجابهة ومقاومة المستعمرين.

ص: 86


1- المصدر السابق مختصراً من ص 103:ص106.

الفلسفة والاستعمار

رحلة معرفية في أفكار انكاتل - ديوبرون

سيمون غاليغود غابيلوندو(1).

أنكاتل ديوبرون كان أحد أبرز النقّاد، لمفهوم مونتسكيو عن الاستبداد، وهو خصم عنيد للمركزية الأوروبية، ورمز غير تقليدي للأفكار السائدة خلال عصر الأنوار. شكَّك بالاستخدام الفلسفي لأدب الرحلات ونقد الفلسفة، كونها يمكن أن تكون أداة للغزو، وتستخدم بهدف استعمار العالم. تركّز المقالة على العلاقة ،المميّزة بين الاستعمار والفلسفة.

الكلمات المفاتيح الأنوار - الفكر السياسي مناهضة الاستعمار، المركزية الأوروبية الاستبداد الشرقي، أنكاتل ديوبورن، مونتسكيو.

«إنه إذاً من منطق الأشياء أن تتحالف سلطات الهند، بعد أن ضرب الفقر البلاد،

ص: 87


1- باحث وأكاديمي فرنسي العنوان الأصلي Philosophie et colonialism chez Snquetil-Duperron المصدر: (Sorbonne - CHSPM, Université Paris I Panthéon) :تعريب صلاح العبد الله - مراجعة: كريم عبد الرحمن

وبعد أن شهدت مناطقها الأكثر غنىً ممارسات عنيفة، وذلك لمواجهة عصابات أجنبية مسلحة بالبنادق والقوانين والحجة، وحتى بالفلسفة إذا اقتضى الأمر»(1).

إن توازن القوى في أوروبا والقارات الأخرى، هو قيمة مركزية، وهمّ ثابت في أعمال المستشرق أبرهام - هياسانتع أنكاتل دوبرون (1731-1805)(2). كان المستشرق عضواً في أكاديمية التسجيلات والفنون الجميلة Académie des Inscriptions et belles lettres ، وقد ترجم زندأفيستا والأوبينشاد، وكان ناقداً لنظرية الاستبداد الشرقي ومعارضاً عنيداً للمستعمر ، مع أنه كرّس حياته لدراسة اللغات الشرقية، والثقافات الآسيوية. وقد تخطّى ما عالجه في أعماله حدود الاستشراق.

بادئ الأمر قبض أنكاتل على مسألة العلاقة بين النظرية السياسية وأدب الرحلات، واضعاً في منظوره، أهمية هذه الروايات في فكر مونتسكيو التي لها دور غير ثانوي، في تاريخ الفلسفة السياسية (3)وهذه، إذ استخدمت أدواتها المعرفية ابتدعت مفاهيم، في جهدها لتصالح ما بين مشاهدات الرحالة ومتطلباتها النظرية، وأبقت على ثغرات تشهد على تعقيد تلك العلاقات(4)وفي الدرجة الثانية، سنحاول أن نبرهن أن نقد مقولة الاستبداد، لم تكن سوى الجزء الأول من برنامج التشريع الشرقي Legislation

ص: 88


1- انکاتل ديوبرن ، الهند في علاقتها مع أوروبا 82 .Lesguilliez, 1798, 2 tomes (IR), 1, p.)
2- للاطلاع على سيرة انكاتل، أحيلكم إلى رحلته إلى الهند (1762) - (1754). الرحلة مع مقدمة في ترجمة «زند أفيستا من منشورات ج. ديلوش .م. فيليوزات وب إس فيليوزات باريس المدرسة الفرنسية للشرق الأقصى، ميزون نيف ولاروس 1997(7)؛ المختصر للرحلة التي قام بها انكاتل دوبيرن في الهند ليبحث عن المؤلفات المنسوبة لزار ادشت وترجمتها.
3- وبتعبير آخر المقصود العلاقة في الجدال بين الكتاب السياسيين والمصادر، النظرية والامبريقية.
4- ليشرح انكاتل علاقة مونتسكيو بمصادره في أدب الرحلات، كتب: «نسقه كان قد أُنجز» Legislation orientale, Amesterdam, Marc Michel Rey 1778 (LO) p, 92. أي أن مفهوم الاستبداد، سابق على مصادره، ولكنه كتب أيضاً أن الرحالة هم ضمانته المصدر نفسه ص 12. وفي ما يتعلق بتوليد مفهوم الاستبداد، من الملاحظ أن في منهج الفيلسوف يوجد ميل في النسق يبسط بغية الايضاح مما يؤدي إلى تزوير الواقع» P. Verniére Montesquieu et le monde musulman in Acts du congrés Montesquieu. Bordeaux, Delmas, 1956, p. 189. وفضلاً عن ذلك، ففي هذا المنحى التوضيحي، يمكن أن نضيف أنّ اختيار المصادر لدى مونتسكيو ترتكز على إستبعاد كل ما لا يمكن أن يُعاد توظيفه في مفهوم الاستبداد B. Binoche. Introduction a De l'esprit des lois de Montesquieu, Paris, puf, 1998, p. 219.

orientale ، لأن هذا المؤلف لا ينحصر في إقامة الدليل على أن الفيلسوف صوّر وحشاً لا وجود له(1)، وذلك ببصيرة تدفع نقده ليشجب استخدامه السياسي. سنكرس عملنا هذا، لا لنقد مونتسكيو من خلال أنكاتل(2)ولكن لاستخدام الاستعمار بشكل مباشر وغير مباشر لهذه النظرية، على مستوى العالم المرتبط بها، ولمقتضياتها في علاقة أوروبا مع سائر مناطق العالم، وفي ذلك موضوعات لم يكفّ المستشرق، خلال فترة عزلته وابتعاده عن المنتديات الفكرية عن التفكير بها .

الفكر المعادي للاستعمار

تجد أممية القرن الثامن عشر رفضاً غريباً لدى أنكاتل، الذي يصيغ نقداً قاسياً للطريقة التي أدار فيها الغرب، مختلف مناطق الكرة الأرضية. وهو كمستشرق، اهتمّ بشكل خاص بالهند، ولكنه كرّس نفسه ايضاً لدراسة الشعوب الأميركية(3)وكأوروبي، طالب بحقوق الهنود، بعدما عاش معهم : «على الأقل، أيها الهنود البائسون، ربما علمتم أن أوروبياً رآكم خلال مائتي عام، وعاش معكم، تجرأ على المطالبة بحقوقكم وعرض أمام محكمة الكون Tribunal de Tunivers حقوقكم المجروحة، حقوق الإنسانية المستباحة بمصالح خسيسة(4).

أنكاتل لم يتردّد في اعتبار التأثيرات الغربية في آسيا «كعلامات اجتياح طبعتها شراهة المحتل»(5). وهذا يتوافق مع رأي الكثيرين من معاصريه، مثل دیدارو وراينال Raynal اللذين انتقدا أيضاً تجاوزات الاستعمار وبلهجة مشابهة. ولكن، فيما يتعدّى

ص: 89


1- - LO) (التشريع الشرقي .17.p-
2- خصصنا لهذا الموضوع "Anquetil - Duperron Critico di Montesquieu" preprint no 292009/ studi di storia della Filosofia éd. Par D. Felice, Bologna, clueb, 2009.
3- تندرج ال ph في الجدل حول طبيعة الرجل الامريكي لدحض نظرية فساد النوع لكورناي دي بو وما أقترحه في هذا النقاش هو إزالة الاهانة التي وجهت لأميركا، محو الوصمة التي طبعت النوع البشري والتي صورت أغلب الأحيان، على نحو غير نزيه 65.Cph، وحول هذه المسألة أحيل إلى مقدمة هذا المؤلف بقلم ج. أباتيستا وإلى: S. Stuurman, cosmopolitan Egalitarianism Anquetil Duperron on India and America. "journol of the history of the ideas" Avril 2007, vol, 68, no 2.
4- LO, p II. .
5- LO. P1.

هذا الجانب، فإن نوعية حججه تتمثّل في حقيقة كونها تعتمد على شرعية حقوقية، كما يشير العنوان الشامل لكتابه(1).

السمة المميّزة للعلاقات الاستعمارية برأيه، هي في الحقيقة انتهاك المستعمرين للحق الأساسي للملكية، إذ نفى حقهم في الاستيلاء على [أرض الملّاك الطبيعيين]»(2). وبتعبير آخر، فإن شجب الاستعمار من ناحية، والمطالبة بحقوق »(2). الهنود من ناحية أخرى يفترضان المبدأ الأساسي للملكية كحق طبيعي يرتكز على عدم وجود نظرية الاستبداد الشرقي.

وعلى الرغم من أن اعتبارات مونتسكيو «ركّزت على الأفكار حول طبيعة الاستبداد»(3)، فإن أنكاتل تحقّق أن هذا الشكل من الحكم، لا وجود له في الواقع.ولكنه كمستشرق علاّمة، فإن كفاءته في هذا المجال، وشروحاته لهذه الإشكاليات، تتميّز عن سائر التصديات لمفهوم الاستبداد، التي عرض لها دوبان Dupin وفولتير ولانغيت Linguet. وهو بطريقة معينة تخطَّاهم من خلال إجرائه نقداً مزدوجاً، لأن التشريع الشرقي لا ينحصر باتخاذ موقف يتناول عدم ملاءمة هذه النظرية. فوراء التحقق من الاستبداد كتزوير لآسيا، ثمة جانب آخر بالنسبة لنا أكثر أهمية لا يتعلّق بملاءمة النظرية لموضوعها وإنما لتطبيقها . فمن خلال هذا الرهان، يمكن أن نفهم، كيف أنّ نقد الاستبداد الشرقي لدى أنكاتل مرتبط بعمق بإشكالية الاستعمار.

إذا كان وجود الملكية الخاصة «يؤكد الحقوق البشرية غير القابلة للتقادم»(4)فإن انتهاكها يفترض نفي الدول المستعمرة لهذا المبدأ وحيازة الملكية التي تشكل

ص: 90


1- التشريع الشرقي مؤلف، إذ يعرض المبادئ الأساسية للحكم، في تركيا وبلاد فارس وفي هندوستان، نتحقق - 1- أن الطريقة التي صوّر فيها الاستبداد على أنه مطلق في هذه الدول الثلاث لا يمكن أن يعطي إلا فكرة خاطئة على الاطلاق. -2 ففي تركيا وبلاد فارس وهندوستان ثمة كود (مفتاح) للقوانين المكتوبة، تلزم الأمير كما الرعايا. -3 وأن في هذه الدول الثلاث يستطيع الأفراد أن يكون لديهم أملاك منقولة وأبنية ويتصرفون بها بحرية.
2- LO, p. 171.
3- LO, p.9 A cet egard Anquetil fut "one of the few dissenters from this orthodoxy" F.G. Whelan Oriental Despotism Anquetil Duperron, response to Montesquieu, "History of Political Thought" vol XXII, 1994. P.619
4- على هذه القاعدة يستطيع انكاتل أن يؤكد ان الحق الطبيعي يسمح لمواطني البنغال ان يتمتعوا بسلام بما يملكون .LO, p.159

ميزة شرعيّة للآسيويين ، ترتكز على «الافتراض الخاطئ، أنّ في البلد الذي يلغي فيه الاستبداد حقوق الملكية، يصير كل شيء مسموح للأقوى»(1). ولهذا فإن أنكاتل هَدَفَ إلى «تحطيم شبح الإسبتداد الذي كان يُظن أنه شبح الشرق»(2).

العلاقة بين الفكر السياسي والاستعمار وجدت مظهراً جديداً يتّضح ما بعد الحجج المضادّة لنظرية الاستبداد التي يمثّلها مجتمع الشرق وسیاسته بشكل «انمساخ» مفهومي صوّرته كأطروحة مضادة تماماً للمجتمعات الحرة وحكوماتها المعتدلة(3) التي تتميّز بالقوانين وبمؤسسة الملكية الخاصة المنفيتين في البلدان الآسيوية، حيث «شخص واحد، ودونما قانون أو قواعد يحدّد الأمور، من خلال إرداته ونزواته»(4)،تلك هي المشكلة التي لا تعني إدانة «شبح» وإنّما وظيفته في حيّز استعماري.

أنكاتل كرّس التشريع الشرقي لنقد تنظير، وليس لدحضه بما هو عليه فحسب، وإنما بشكل خاص ليثبت أن النظرية يمكن أن تؤثر بمجرى تاريخ الشعوب المستعمرة. وهو يؤكد في مقطع يتناول الاستبداد في الأمبراطورية المنغولية: «اعتقدت بواجب تبيان مبادئ تخص تكوين الإمبراطورية المنغولية حباً بالحقيقة، وبسبب المآلات المشؤومة التي يصير إليها تطبيق تلك المبادئ(5). وبطريقة أكثر وضوحاً أيضاً، كتب أنّ الاستبداد هو حكومة هذه الأصقاع : السيد يدّعي ملكية كل ما ملكت أيدي رعاياه. إذا كان هذا السيد نصير هذا الحاكم وبالتالي أسياد أراضي الهند(6). إن مقتضيات الاستبداد ترتكز في معناها الدقيق Stricto sensu على عدم احترام حق ملكية الآسيويين - وهو حق طبيعي - وانطلاقاً من ذلك وبمعنى أوسع، هذه التناقضات تعني أيضاً، التصوّر العام للشرق : عنف اللحظة لا يلغي الحق والاغتصاب المحمي، لا

ص: 91


1- LO. P.172
2- LO. P. 12
3- لا يمكن الحديث دون ان نرتعد من هذه الحكومات المتوحشة» مونتسكيو De l'esprit de lois (EL) III (Gallimard paris 1995).
4- EL II, 1.
5- انكاتل يعود مرات عديدة إلى هذه المسألة الأساسية: نرى التبعات المشؤومة للانسانية إذ يمكن أن يكون لها مبادئ تُقدّم بخفّة مفرطة، وللأسف هذه التبعات قد تحققت 172 .LO, p.
6- LO, p178.

يشكّل عرفاً، ودون ذلك أيضاً، قانون بلد وهذه الطريقة بمعاملة شعب، بما صار إليه، في زمان معيّن يمكن أن يقود إلى عواقب فظيعة»(1).

إن نقد الاستبداد يكتمل إذاً، بشجب توازن القوى بين الغرب والشرق، في إطار تنظير وإن كان يفتقد لشرعية حقيقية، فإن له تأثيرات صلبة. وبهذا المعنى فإن أنكاتل لا يتّخذ المفهوم بمعزل عن مقتضياته، والمقصود بذلك إظهار اهتمام مقنّع بذهابنا إلى ما يتعدّى المظاهر : هكذا يحاجج الشغف الطموح. لكنه يختبئ خلف حجب ينبغي كشفها»(2). ومهمة أنكاتل التي يدّعيها(3)تقوم على إدانة أداة البحث التي تستخدمها النظرية، بغية تجنّب أن ينفيَ الاستبداد حق الملكية، ويسوّغ العنف.

إن تصوّر المستبدين الآسيويين في المخيال الغربي ينبثق من أدوات نظرية غير ملائمة، ولكن مثل هذا التصور يقيم علاقة مع إرادة الغزو. ولذلك، أضاف أنكاتل أيضاً أنّ هذه الرغبة تخلق مستبدين، في حين لم يكونوا موجودين: «إن الإنكليز في البنغال يدّعون أنهم يحظون بحقوق الأمراء، التي نُزعت منهم. وينبغي إذاً تقديم هؤلاء الأمراء كأسياد مطلقين. فالعدالة التوزيعية قد تجعلهم يحظون سلمياً بثمرات غزوهم، وهذا ما يحتاجون إليه»(4).

إن السبب الحقيقي، الذي صُوّر بموجبه الشرق كمكان طبيعي للعبودية وككتلة من الأفراد المعزولين، الخاضعين والمضطهدين بفعل «ذهنية عبودية »(5)لا وجود لها في شيم شعوبه ولا في نسقه السياسي وبتركيزه على تعقيد البنى السياسية للهند وبلاد فارس وتركيا، قصد أنكاتل أن آسيا لا يمكن أن تُختصر بمفهوم مجرّد و متحيّز لقد خشي

ص: 92


1- LO, p174.
2- LO, p178.
3- قلت ذلك وكررت دونما خوف من الصوت المهدّد لمصلحة جشعة، يُخشى ان تتقنّع، وإذا كنا قد عرفنا على نحو أفضل قوانين الشعوب الهندية وممارساتها ، وإذا ما تنازلنا واخترنا من أجل التكلم إليهم، أداة غش أخرى غير الشرائع لكنا وفّرنا على انفسنا كثيراً من الأهوال Anquetil-Duperron, Recherches historiques et géographiques sur l'Inde (RH) in J. Bernoulli, J. Tieffenthaler, J. Rennel. Description historique et geographique de l'Inde, Berlin. 1786 5,88 vol., t. I, p163.
4- LO, p310.
5- پLO, p87.

المستشرق، أن يستخدم الاستبداد لتسويغ النهب(1)، الذي يمكن أن يصير ممارسة شائعة لا تستند إلى شرعية، كما برهنت على ذلك وبفعالية الترجمة الفرنسية لعقد بيع لبناء أُبرم خلال إقامته في سورات Surate، وقد تمّ ذكره في التشريع الشرقي «لقد أُعطيت نسخة عقد بيع لبيت، نُظر إليه بلا مبالاة من بين كثير من العقود. هذه النسخة، تستحق كامل عناية، أولئك الذين يدرسون الإنسان من خلال سلوكه وممارساته وقوانينه»(2).

وهو بسببب ذلك، شجب النظرية، بمقدار ما شجب ممارساتها، وبالدرجة الأولى من خلال السياسة الاستعمارية الإنكليزية التي تُفرض على الدول الاستعمارية الأخرى التي تهتم بالجغرافيا السياسية لآسيا. وقد اتضحت سياسة الإمبراطورية البريطانية بشكل حاسم خلال حرب السنوات السبع في الفترة نفسها، التي كان يقوم بها المستشرق برحلته الطويلة في الهند، بحثاً عن مخطوطات زرادشت(3)، اذ كشفت المعارك، تلك السياسة.

أنكاتل دحض العلاقة بين النظرية والممارسة من خلال استعادة الكسندر دوف Alexandre Dow لفكر مونتسكيو السياسي(4). هذا الكاتب (دوف) الضليع في اللغة الفرنسية الحديثة، والذي يبدو على دراية جيدة جداً بالشرق ينصف الهنود في أغلب الأحيان. أمّا في ما يتعلّق بحكومتهم، فهو يشبه كل أولئك الذين كتبوا في هذا المجال. وهو (دوف) يفترض، دونما بيّنة، ودونما تفحّص ، أن الاستبداد يشكل

ص: 93


1- Cio che Anquetil paventa é che oltre alla fame di ricehezza, la falsa rappresentazione che l'Occidente si e creato dell' India e dell' Asia in generale risulti funzionale, come alibi, per una politica di vero e proprio saccheggio e sterminio, GM. Zamagni, cit., p380.
2- من اجل الترجمة الفرنسية للعقد إلى الفارسية 161 .Cf. LO, p - 166.)
3- وجد انكاتل في 1754 في مكتبة الملك نسخة لمخطوطة في اللغة الأفتيكية - وهي من عائلة اللغات الايرانية - غير المعروفة في أوروبا، جعلته يتخذ قراراً بالسفر ليكتشف .الهند. عاد إلى باريس في 1762 حاملاً عدداً كبيراً من المخطوطات، عمل عليها طيلة حياته نشر ترجمة زند - أفيستا، کتاب ،زارادشت في باريس 7711 ,Paris, illard وجزءاً من الاوبينشاد بعنوان 1801 2vo1,1802 - Oupkek' that, idest, secretum tegendum, Argentorioti. ومصادفة إقامته في الهند مع النزاع المسلح ليست ثانوية، لأن بعد النهاية المفجعة لحرب السبع سنوات، وبعد خسارة كندا والهند أخذت هذه المسألة [مشاكل الاستعمار] مكاناً لها في وسط نقاش واسع Yves Benot, Diderot, de l'atheisme a l'anticolonialisme [1970] Paris, Maspero, 1981, p. 156.
4- الكسندر دوف (6/1735 - (1779)، كاتب وضابط في شركة البنغال الشرقية ترجم من الفارسية History of Hindostan تاریخ هندوستان) (1768) لمحمد فريشتا.

جوهرها»(1) وبالفعل فإن للشرق بحسب دوف، على الرغم من تجربته ومعارفه التاريخية يُحال إلى تلك المقولة السياسية. وإذ نتابع عن كثب، فكر الفيلسوف نجده يذكّر «أن الاستبداد الذي تأسّس على مفاهيم الخوف والخنوع، يستمد استقراره وديمومته من عيوب عبيده»(2). والإطار العام في بحثه، يُحدّد بمعارضته الحرية، التي لا تجد على الدوام، عملياً، تعبيراً لها، بحيث أن شرط العبودية، يظهر، كما لو أن لا فكاك منه عن الرجل الآسيوي «عندما يتعرّض أحد الشعوب، لفترة طويلة لاستبداد قوى غاشمة، تصير عودته للحرية شبه مستحيلة. فالعبودية التي تعتمد على التقاليد تكون ممزوجة بطبائع البشر »(3).

وعليه، للعودة إلى مسألة علاقة هذه النظرية السياسية، مع مسألة الاستعمار، فيما يتعدّى الجوانب العامة، ينبغي بادئ الأمر ، أخذ القانون بالاعتبار. ففي آسيا، لا وجود لقاعدة قوانين ثابتة، لأن القانون هو الإرادة المتغيّرة، لمن يمسك زمام السلطة: «إن صوت الحاكم هو القانون الحي الذي يحرّك ألية الدولة بكاملها»(4). ومن جهة أخرى، فيما يتعلّق بالمسألة المتنازع فيها حول الملكية، فإن الضابط المسؤول (المقدّم) عن شركة الهند الشرقية ينفي انتقال الإرث من السلف إلى الخلف: «إن المقدرة على التصرّف بانتقال الإرث تعود بشكل طبيعي للمستبد»(5). وإذ يعتمد على معرفته المباشرة بآسيا، يؤكد دوف بغموض، الجوانب الأساسية لنظرية الاستبداد الشرقي، من خلال خضوع الرعايا للمستبد ومن مبدأ الخوف ليصل إلى غياب الملكية والقانون. وما تفتقده الهند المستبدة هو بالتحديد أسس الحرية، بالمعنى الذي ذهب إليه مونتسكيو . وبهذا الصدد، كتب أنكاتل ، أن دوف عرض على إنكلترا أن تحتل

ص: 94


1- LO, p II
2- Alexander Dow. A dissertation concerning the origin and nature of despotism in Hindoston, dans History of Hindostan, T. Beket, London 1772 (DH) p.xx: كما لا بد من الفضيلة في الجمهورية ومن الشهامة في النظام الملكي، لا بد من الخوف في الحكومة الاستبدادية ELIII
3- DH, P. xi; il est affirmé aussi que "the people vould revolt, against the introduction of freedom, Ibid, p, xxi.
4- ينبغي أن يكون القانون في رأس واحد، وينبغي ان يتغير دونما انقطاع EL/VIII,196 DH, pxxxiv
5- حالما يصف الرحالة حيث يسود الاستبداد ، فانهم نادراً ما يتكلمون عن القوانين المدنية» ELVI لا يوجد تقريباً أبداً قوانين مدنية حول ملكيات الأراضي ) لا يمكن أن نجد مكاناً للتخلي عن الملكيات.

الهند»(1)وتساءل:«أين هي الرسالة، التي يتكفّلون بها، بجعل أولئك الرجال، الذين لا يتوجّهون إليهم، رجالاً أحراراً وسعداء على طريقتهم»(2).

في السنوات، التي أعقبت نشر التشريع الشرقي، تعمّق عمل المستشرق واتسع التزامه في نقد الاستعمار وهو إذ يحافظ دائماً، على اهتمامه بآسيا، وخصوصاً الهند، فقد اهتم بأميركا، واتخذ موقفاً، حيال الجدال، حول طبيعة الرجل الأميركي، في مؤلفه «الاعتبارات الفلسفية والتاريخية والجغرافية حول العالمين» وهو مؤلف عرض فيه الدفاع عن أمريكا، وتكذيب نظرية فساد النوع البشري الذي صاغه كورناي دوبو Cornelle De Pauw. وفي هذا الجدال كانت الطريقة العامة، في التصدّي للمسألة، لا تختلف عن الطريقة التي أعتمدت في نقد الاستعمار في آسيا. وفي الحقيقة، إن نقد، أحد التصورات الأوروبية لأميركا، يعتمد أيضاً، مرةً أخرى. على قراءة سياسية، أي أن أنكاتل كشف علاقة بين استعمار قارة وصورته الفلسفية، كما حصل، من قبل، مع نظرية الاستبداد لقد أظهر علاقة بين انتهاك حقوق الأميركيين، وبين تنظير مجرّد ينعتهم بتعابير دونية. وبرأيه، ليس من المدهش، أن يصف المكتشفون الأوائل لأميركا، سكانها كنوع وضيع : إذا كانوا صادقين، علينا ألا نندهش. إننا نعلم الحالة التي كانت عليها المعارف البشرية في نهاية القرن الخامس عشر : وفضلاً عن ذلك، إننا لا نجهل الحجج السياسية والدينية التي صاغت وأملت هذا الحكم»(3).

وفي السنوات نفسها، التي عكف فيها أنكاتل على الدفاع عن العالم الجديد، في مؤلفه الهند في علاقتها مع أوروبا Linde en rapport avec l'Europe، أكّد على ضرورة إزالة المستعمرات لإرساء علاقة تجارية جديدة وسلمية، وأصّل في الوقت نفسه حججه المناهضة للاستعمار حين عززت إنكلترا دون منافسيها مرکزها المسيطر الذي تحدّد كمركز «المستبد المطلق» (4)ولهذا فإن مجادلة هذا المؤلف

ص: 95


1- LO, p175.
2- LO, p176.
3- 16.ph, p الفكرة عن الشعب الأمريكي أنه شعب منحط رفعت إلى المحكمة الفلسفية»، 40 ibid؛ وعن تقديم الشعوب غير الأوروبية لاحظ انكاتل، أن دوف : أعطاهم بإسلوبه الفلسفي، اسم وحوش الطبيعة 59 .cph, p
4- IRE, I t, p. III.

تركز بشكل خاص - وليس وحيداً - ضد هذه الدولة التي كانت بحسب رأيه، تطوّر اقتصاداً استعمارياً جديداً في بلد متسع جداً. ولفهم فكر أنكاتل المناهض للاستعمار، لا بدّ من تفحّص مشاهداته حول إمكانية تمرّد هندي شبيه «بهدوء ما قبل العاصفة».

إن خطر قيام عصيان هو خطر حقيقي، ولذلك فإذا استمر الإنكليز، في سياستهم، فإنهم سيواجهون وضعاً شديد الخطورة. وقد توقّع أنكاتل، من جانب الهنود، على سبيل المثال - ويبدو أنه محق - احتمال أن توجد ثغرة ما يفتح من خلالها مائتي ألف مارات Marates يقودهم زعيم حاذق وجريء ممرا(1). فالهند التي تحتلها إنكلترا على هذا النحو، يبدو أنه مقدر لها أن تشهد تغيّراً : «الهند المنهوبة بشكل فظيع ستحاسبهم على كنوزها المبذولة في أسواق نيو مارکت New Markets»(2).العصيان المسلح هو شرعي تماماً إذاً، ولا يمكن تجنّبه، إذا لم تعد أوروبا ، صياغة علاقاتها مع الهنود، الذين على الرغم من نظرية الاستبداد لهم الحق بالتمرد للدفاع عن حريتهم.

العبور الأساسي هو العلاقة بين الاستعمار والملكية الذي يستخدمها أنكاتل ليشجب المصالح الغربية وينزع شرعيتها. إن وجود الملكية، التي نفاها مونتسكيو ودوف، هي أساس ظلم المستعمر : «هؤلاء إذاً - رجال أحرار مطعون في ملكيتهم، رجال إذا دعت الحاجة، وإن كان يقيدهم نير من حديد، لكن ما أن تظهر ملامح نجاحهم في التصدي للمرة الأولى، حتى ينقضوا كالأسود على طغاتهم المحتلين، الأجلاف المنتهكين لكل القوانين الطبيعية، السماوية والإنسانية»(3).

إن العقل المجادل بحدّة، والمقاتل الذي أظهره أنكاتيل، في نقده لإنكلترا، أثار لدى بعض المعلقين الفكرة التي بموجبها ، يصوّب احتجاجه على الاستعمار بذاته، ولكن المقصود في العمق هو العداوة لهذه الدولة.

وبحسب هذا الموقف، فإن آراءه إزاء المستعمرات في الهند، تُحال إلى شعور معادٍ للسلطة المتنامية لشركة الهند الشرقية، بحيث يصير من غير المناسب، الكلام عن

ص: 96


1- IRE t.I p.83.
2- IRE t.I p.83.
3- IRE, t.I, p.84.

العداء للاستعمار فقط، هذا هو رأي جون بو روبيس Jean-Pau Rubies الذي كتب أن «أنكاتل - دوبرون كان على أكثر من نحو، معاد لبريطانيا، أكثر من عدائه للاستعمار»(1) - وهو بذلك على وفاق مع جان ليك كيافير Jean-Luc effier الذي يعتبر «أن عمله ينتظم حول قطبين: هجوم ضد إنكلترا، ودفاع عن الحضارة الهندية وإبرازها»(2). وتحليل أنكاتل لموضوع التمرّد الهندي كان قد«ولِد دون شك من يأسه ومرارته إزاء الغلبة الإنكليزية» (3). ويشير جيرولامو إمبروقليا من جهته، إلى أن المؤلف الذي نحن بصدده يتجه "Sia contro il omportamento colonial in glese, sia contro l'esprit des lois" (4).

إلى أن يكون في آن معاً ضد الاستعمار الإنكليزي وضد مؤلف مونتسكيو (لا جدال في أن شجب السياسة الاستعمارية البريطانية هي اللازمة لأعمال المستشرق إلاّ أنّ نقده للاستعمار، هو أكبر بكثير من ذلك. وإنه لأمر مجحف، وخاطئ التفكير أن عداوة أنكاتل لبريطانيا، تفسر بمجرد روحية مضادة لبريطانيا. وإذا لم يكن هذا الموقف الأخير ملتبساً، لما شجب معها وبالقوة نفسها البلدان الغربية الأخرى ولما كان لديه النظرة النقدية تجاه أوروبا بمجملها ؟

أنكاتل كتب: «إن الإنكليز والفرنسيين الذين يملكون أراض، في تلك الأصقاع [الهند] يعلمون جيداً، أنها كانت تتبع لمالكيها الأوائل. ولا ينتج عن تغيّر السيد (المالك)، سوى أن التابعين هم أقل غنيّ، ذلك لأن الأوروبيين، يحبون التمتع، ونقل ثرواتهم سريعاً إلى أوروبا»(5). والاتهام بعدم احترام شرعية الملكية في الهند توجّه أيضاً للفرنسيين. وأخيراً فإن أوروبا هي موضوع نقده. ودفاعاً عن هذا الحق، فإنه يصوّب الحجج على الفرنسيين والإنكليز، التي لا يعني بها جنسية، بشكل

ص: 97


1- J - p. Rubiés, cit., p.127n.
2- JL. Kieffer, Anquetil Duperon. L'Inde en France au XVIIIe siècle, Paris les belles Lettres, 1983, p.80.
3- J - L. Kieffer cit., p.84.
4- Imbruglia, "Tra Anquetil Duperron e "L'Histoire de deux Indes". Liberta, dispotismo e feudalesimo" Rivista storica italiana, vol. CVI, 1994, p. 166
5- LO, p.29.

خاص(1). إن الاتهام يوجّه ضد الغزو بذاته، في محاولته «حماية حق الناس، حق الإنسانية، بردّ مواطني الدول الأوروبية الأخرى المقيمة في الهند، إلى مبادئ يريد الذهب تدميرها(2)». وبتعبير آخر،«أوروبا التي أدركت حدّة الروح التجارية الجشعة لإنكلترا، فإن لها في تكوين وجمع مداخيلها، ما يجعلها تستحق اللوم نفسه، إننا نرى هناك ( في الهند) أن كثيراً من الحكومات، تتصرف كما لو أنها، تملك كل شيء، وكما لو أنها مالك شريك على الأقل، لكل ممتلكات الرعيّة (3).

المستشرق حوّل نقد الاستبداد الشرقي ضد أوروبا، وطوّر فكرة معادية للاستعمار تعتمد على حق الملكية، وقد ظلّ عنيداً في الدفاع عنها في السنوات الأخيرة من حياته، إذ عاد إلى مسألة الملكية كحق طبيعي، واعتبرها على الدوام، حجة قوية ضد الاستعمار فهو ليس ضد التجارة، مع آسيا، ولكنه يعترض على الإدارة الاستعمارية للنشاطات الاقتصادية، وفي رأيه، إن النسق الذي أرسته الدول الأوروبية لا يرتكز بادئ الأمر، على ظلم شامل ومجرّد، وإنما على العكس تماماً، يرتكز على ظلم مخصوص بعدم احترام حق الملكية، والقوانين المحلية. وعلى هذه القاعدة. ينظر أنكاتل، إلى مسألة إصلاح عميق لتوازن القوى السياسي والاقتصادي مع الهند، وبهذه الروحية يصيغ المبادئ، التي على أساسها ينبغي ان تتأسس التجارة.

(المبدأ الأول يؤكد أن الأوروبيين لا يملكون حق الإقامة في الهند، دون امتياز

ص: 98


1- هكذا، فان الحقوق الأكثر قدسية تختفي أمام مصلحة خسيسة، علينا كانكليز وفرنسيين ألا يتملكنا الوهم، فليس من قضية أكثر أهمية قد رفعت أمام محكمة الكون. إننا لا زلنا نرتعد إذ نقرأ الأهوال التي أرتكبت بحق الامريكيين، حين اكتشف هذا الجزء الجديد من العالم. لا شك اننا نعتقد أننا عادلون، وأن حقوقنا تجاه الهنود قد تحققت على أفضل وجه. إن المصلحة والطموح هما محرك كل الفتوحات بعد ذلك تأتي البيانات العامة ونرمي بالإثم من يريد أن ينتزع منا أي شيء وبأي حق؟ 178.LO, p
2- RH, t. I, p. 142.
3- أنكاتل ديوبرون ، بحث حول الملكية الفردية والعقارية في الهند ومصر (DP), in Paulin de S. Barthélemr, Voyage aux Indes orientales, Paris, Tourneisen 1808, t, III, p.xxiv; il s'agit de l'édition francaise du viaggio alle Indie orientali, Roma, Fugoni, 1796. وقد قرأ انكاتل هذا المبحث في 26 آب 1803 في صف التاريخ والأدب القديم في المعهد الوطني.

رسمي، أو عقد بيع يبرمه المالكون ، السكان الأصليون ((1)). وفي الدرجة الثانية، يعتبر مشروع الغزو بذاته، غير معقول، لأن «أوروبا لن تحتفظ أبداً في الهند، بممتلكات كبيرة جداً، باستعمال قوة السلاح»(2). وللمؤسسات الأوروبية، في مشروع أنكاتل وظيفة تجارية حصراً وليس لها حق السيطرة على البلاد«لن ينظر الهنود أبداً بطمأنينة إلى الأوروبيين، وهم يستقرون بالقوة، في وسط مناطق نفوذهم»(3). ومن ،الضروري معرفة لغات الشعوب الهندية، واحترام دينهم ممارساتهم، سلطة الأمراء والقوانين: «تجري العمليات التجارية الكبيرة على امتداد مساحة البلد نفسه وحتى خارجها، مع المناطق التي يرتبط بها بعلاقات هذه العمليات ترتكز على مبادئ صارمة من العدالة، تأخذ بالاعتبار في نقاشاتها قوانين البلد»(4).

إن أي تغيير، في العلاقات الاستعمارية والتجارية، يقتضي الاعتراف بالملكية، كما بالقوانين أي أن مشروع الإصلاح، الذي يفكر فيه أنكاتل، يرتكز بدقة، على ما كانت نظرية الاستبداد في الشرق، ترفضه أنكاتل يعود دائماً، إلى حدود هذا المفهوم، وبشكل أكثر ،عمومية، إلى المعرفة الأوروبية للثقافات الأخرى، من خلال المستوى الأكثر أساسية وهو مستوى اللغة(5). وفي الواقع، فهو يذكر أن الأوروبيين الأوائل الذين أقاموا في الهند، أي البرتغاليون لم يتعلموا اللغات المحلية. وكان التواصل الذي يتم بين التجّار والهنود والعرب أو الفرس، أو بين أوروبيين من بلدان مختلفة يمر من خلال، مائة وخمسين أو مائتي كلمة برتغالية «تفتقد تقريباً للصياغة»(6). وهذا ليس في العلاقات الاقتصادية وحدها، وإنما أيضاً في العلاقات الدبلوماسية والسياسية حيث توجد الصعوبة نفسها، مما يتسبّب بسلسلة من المشاكل. فالمترجمون الذين كانوا يفقتدون إلى أفكار كافية في التاريخ والجغرافيا والسياسة،

ص: 99


1- IRE, t, I, p.27.
2- IRE, t, I, p.27.
3- IRE, t,I, p.28.
4- IRE, t.I, p.28.
5- ان أسهل ما يمكن قوله : أن ليس ثمة تاريخ ولا جغرافيا ولا علوم في هذه البلدان البربرية 193 LO
6- RH, t, I, p.XII.

هم الذين كانوا يتواصلون مع الأمراء الهنود، ويناقشونهم في مسائل حسّاسة. ومن هنا، يطرح السؤال :«هل في الأمرٍ غرابة أن تكون المسائل، التي تتطلب، حيثما،كانت أفكاراً، تعالج بالمجازفة بكلمات وبالتالي تنتهي إلى نتائج سيئة»(1)؟.

نقد المركزية الأوروبية

أنكاتل يقيس العلاقة بين الغرب والقارات الأخرى قبل أي شيء بحقوق الإنسان، ودفاعه لا ينطوي على نقد الاستعمار، وإنما أيضاً على شجب تحدیدات و مجازفات، لصورة كُوّنت عن قارات أخرى. فهذه الصورة التي كوّنها الاستعمار عن العالم «الجغرافيا الأخلاقية»(2) تشكّل أيضاً، قيمة مركزية، وهماً ثابتاً في أعمال المستشرق.

ومن هذا المنظور، يُلاحظ أنه على الرغم أن تقدماً كبيراً، في معرفة سطح الأرض، قد حققه الأوروبيون، إلاّ أنهم لم يحققوا التقدم نفسه(3) في معرفة الإنسان(4)، التي سجل فيها أنكاتل «أعماله الأدبية» و ذلك ليُفهم أصل اهتماماته حول الإشكاليات الاستعمارية. وهو يرى أن ثقافة الشعوب الآسيوية، الأفريقية والأميركية قد تمّ تبسيطها، من خلال مفاهيم معمَّمة، تؤول إلى تزوير الحقيقة، إذ تؤكد على أحكام مسبقة. وقد كان جدال التشريع الشرقي في هذا المعنى، موجّهاً تماماً، ضد مثل تلك الأحكام المسبقة، التي كان يعالجها كادعاء معرفةٍ خطير.

أنكاتل هاجم بعناد الموقف الذي يقوم بادئ الأمر على الحطّ من قيمة المجتمعات غير الأوروبية، كموضوع دراسة «شعوب بربرية، لا أعراف لديهم، ولا قوانين ويمكن أن يمثلوا لنا موضوعات ربح ولكن العقل لديهم، لا يُستفاد منه بشيء». هذه هي الفكرة التي ينتقدها بشكل أساسي في أدب رحلة المستشرق

ص: 100


1- t, I, p. XIV.
2- إننا مدفوعون بشكل عام ، للاعتقاد أن الحس السليم موجود بين جنوب اسبانيا وشمال الدانمارك من جهة، ومن جهة أخرى بين انكلترا والحدود الغربية لتركيا، تلك هي جغرافيتنا الاخلاقية 57.IRE, t, 1, p
3- بمعزل عن الغاية الأساسية لهذه الرحلة كتب زرادشت و فضلاً عن بودوتشيري كان علي الذهاب الى سورات، وقد شحذ همتي سببان اذ كنت استطيع هناك اخذ فكرة صحيحة عن عبقرية و اعراف الهنود، و كان لتلك الفكرة ان تسعفني كثيراً في ترجمة الفيدا، وفيه عمل ادبي كان قد قادني الى الهند. 114.VI, P
4- LO, P.IV.

والمتأمرك أيضاً، الذي ينشر صورة مزيّفة، ويعطي أحكام قيمة سلبية «الرحالة ألف كتابه في باريس، ولندن وامستردام، حيث يتاح قول أي شيء ضد الشرق(1). وحتى وإن لم نجد في هذا الأدب آثاراً للاستبداد، بحسب نظرية مونتسكيو، فإن نصوص المهاجرين، كانت بدورها خادعة أيضاً. ففيما يتعلق بالدين، لاحظ أنكاتل، مثلاً، أنه «بدلاً من الأفكار السامية التي تشكل بتسلسلها، النسق الحقيقي للاهوت الهنود، فإن [الرحّالة] لا يقدمون لهذا الشعب سوى الشرك المتمرد»(2). وفي الهند، يتجلىّ عدم تفهّم الأوروبيين في آرائهم المتناقضة، التي لها كقاسم مشترك، حقيقة بقائها منغلقة في المنظور نفسه. «أحدهم اتخذ كعُرفٍ ثابت وعام، والآخر كقانون، ما قد رأياه في تجربتهما المحدودة دون أن يذهبا أبعد من ذلك»(3)

ثمة مسألة دقيقة ومهمة بالنسبة لأنكاتل، إذ إنه على امتداد كتبه يعتبر مرات عديدة، أن مسألة فهم ثقافة أخرى، تتطلب مزايا نادراً ما نجدها، برأيه، لدى الرحّالة. وهؤلاء، كما كان قد لاحظ روسو ((4))، مرتبطون بقوة، بأعرافهم الخاصة، ما لا يجعلهم (1) قادرين على إعطاء وصف موضوعي لأعراف الآخرين : إن عيب اولئك الذين قاموا بوصف البلدان الغربية، هو أنهم إذ يكتبون ، عن موقف يواجهونه، يمثُل أمامهم، على الدوام، وهم غافلون ما تكون عليه الأعراف التي تعوّدوا عليها. نقاط المقارنة هذه، التي لا يعترفون بها، تملي عليهم عادةً أحكامهم»(5).

ص: 101


1- من الصعوبة بمكان الا نفكر بقرابة معينة بين أفكار انكاتل واطروحات المستشرق في مؤلّفه الاستشراق 1978 لادوار سعيد الكتاب الذي ذكر فيه بشكل سريع جداً مؤلف التشريع الشرقي. و بهذا الصدد نشارك إس ستيورمان S STUURMAN رأيه.ما ينفيه سعيد بجرأة هو المساواة غريبة الاطوار و هو في الواقع ظلّ يدافع مدى الحياة عن المساواة وكرامة الشعوب غير الأروبية من الهند الى القارات الأمريكية و منطقة القطب الشمالي ورواية انكاتل تفضح فكر الأنوار الذي ينظر الى العالم خارج أوروبا، ككتلة متجانسة ، وباستعلاء من خلال المركزية الأوروبية» 256.cit, p
2- LO, P. V.
3- السيء في اسيا هو دائما حاشية الحكومة 32 .LO, P.155;ibid, p
4- اذ نفتح كتاب رحلات لا نجد توصيفاً للطباع والاعراف نندهش تماماً حالما، هؤلاء الذين وصفوا أشياء كثيرة، لم يقل اي منهم سوى ما كان يعرفه من قبل Discours sur l'origine et les fondements de l'inégalité parmi les hommes, note 10, Paris, Gallimard, 1985, P.172.
5- CPH, p.103.

هذا ما دفع أنكاتل، أن يحكم بقسوة شديدة، على رجال الكنيسة: «مظاهر الفوضى فی البلد هي بالنسبة لهم ، أشياء مخيفة، والطقوس الغريبة إن هي إلا طقوس صنمية، وإذا صدّقناهم القول، يكون الشرقيون نوعاً من البشر، يختلف عن الاوروبيين»(1) وكما مع رحاّلة آخرين، فإن صعوبات الإرساليات في فهم الأديان الشرقية، تؤدي بهم قبل وصولهم إلى الشرق إلى صياغة تعطي أحياناً، الحكم المسبق، الذي بموجبه تُختزل الأديان الأخرى، بطقوس بدائية. إنه يلاحظ، بالفعل، أن الإرساليات، يفتقدون إلى زاد لغوي وثقافي ضروري لدراسة شعوب ،الهند، ولهذا، فإن دراستهم للموضوع، لا تشكل معرفة موثوقة: «إنّ تحفّظهم الشديد العمومية، حيال أخلاق الهنود، لا يدخل معظمه في العقائد الأساسية : ذلك هو السبب، الذي، حتى الآن، لم (2). تعطنا أعمالهم معرفة دقيقة عن الهند»(2). وعلى الرغم، أن أنكاتل يبدي هنا، موقفاً نقدياً، تجاه نشاط ومناهج الإرساليات، ينبغي الإشارة حقاً، إلى أنه يبتعد عن المواقف المعادية للأكليروس المعاصرين له، لأن نقده في جوهره، ليس موجّهاً ضد الدين بذاته ولا ضد رجال الكنيسة، وإنما ضد العلاقة بين الاستعمار والتبشير المسيحي :

«إذا كان هجران الغزوات الزمنية باسم العدالة والضرورة فمن الطبيعي التنازل كذلك عن الغزوات الروحية»(3). وبهذا المعنى، يؤكد المستشرق أيضاً، على نحو أكثر وضوحاً إنّ التبادلات التجارية تُحجب أحياناً، بستار الدين: «الأوروبيون في تجارتهم مع الهنود الشرقيين ليس لهم أي هدف سوى إغناء وطنهم، بكنوز هذه البلاد المصلحة المتخفيّة أحياناً وراء قناع المجد والدين هي دائماً محرّك لمشاريع، من هذا النوع»(4).

إن فكرة الفشل التاريخي للعلاقات بين أوروبا وآسيا، تتخلّل كتابات أنكاتل

ص: 102


1- LO, p.87.
2- IRE, t. I, p262.
3- IRE, t.I, p263.
4- بتعبير آخر الدين يستخدم فقط لتزيين مشاريع واجراءات، يصعب كثيراً على الرؤية الانسانية البسيطة TITRE II 4.p تكشف جورها واحياناً فظاعتها

وتتجلّى في جداله، ضد الاستعمار، ولكن ينبغي في هذا الصدد، ألا ننسى نشاطه کمترجم، إذ يكتسب بأهميته ونشاطه، مغزىّ رمزياً، ولهذا استطاع أن يؤكد: «ليس من المفاجئ، أنهم كونوا فكرة خاطئة، عن هذه الشعوب، إذ يصعب غالباً، التفاوض معهم»(1) وبأسلوب لا منهجي asystématique، تجد إهتماماته المختلفة، علاقة اغتناء متبادل استطاع المستشرق بفضله الدفاع بحدس، عن أن معرفة لغات، وتاريخ الشعوب، ليس غاية في ذاتها. وبهذا الصدد، فإن التشريع الشرقي يؤدي إلى إحترام موح لعمل المؤلف : «دراسة لغات وتاريخ آسيا ليس دراسة كلمات، أو مجرد فضول، لأنها تساهم في تعريفنا بمناطق أكبر من أوروبا، وتقدّم لنا جدولاً خاصاً، بتحسين معرفة الإنسان، وخصوصاً في تأمين حقوق الإنسانية غير القابلة للتقادم»(2).

كانت معرفة جديدة عن الإنسان وعن الشعوب غير الأوروبية بالنسبة لأنكاتل، مسألة ضرورية، يمكن أن تذهب، إلى ما يتعدّى الاحكام المسبقة التي تحطّ من شأنهم، والتي كانت لا تزال تحدّد تصوراتهم. فمسألة مشكلة صورة هذه الشعوب، تفضي خطأ في طبيعة المعرفة، والنتائج، التي يثبّتها هذا الخطأ. هذا النقد المزدوج يتوجّه إلى معرفة ليست نزيهة على الدوام، وهي خاطئة وخطيرة في آن معاً، وتكوّن «هذه الصورة، مرة ذات نزوة، ومرةً ذات مصلحة »(3). وبطريقة معبرّة، تبدأ مقدمة التشريع الشرقي، بالعناصر ، التي تحول دون معرفة عن الإنسان: «ثلاثة أسباب تعطل تقدّم المعارف الإنسانية، الجهل الفظ وبعض المؤسسات الدينية، والمعرفة المزهوة». وأضيف «لا ألحّ على المبدأين الأولين اللذين يعترضان، إن صح القول، على الاكتشافات الأكثر فائدة: لقد تفحصهما الفلاسفة وقاوموهما. ولكن حِذقهم بالذات منعهم من مهاجمة العنصر الثالث(4) . لقد ركز اهتمامه على هذا السبب الثالث، الذي أهمله الفلاسفة، الذين لم يستطيعوا مواجهته، لأنهم هم أيضاً ضحاياه،

ص: 103


1- LO, p.88.
2- LO, p.181.
3- LO, p. V.
4- LO, p. IV.

وبهذا المعنى تكلمنا عن عقله المضاد للفلسفة(1)، وعن انشقاقه عن عصر الأنوار.

ولكن في الحقيقة فإن هذا الموقف الجدالي الذي غالباً ما يعبّرعن نفسه، من خلال الاستخدام المستخف بصفة «فلسفية» يهدف بالحري، لكشف علاقة الاستعمار والفلسفة. فالخطاب «الفلسفي» عن القارات الأخرى، هو أحد الموضوعات الأساسية، لنقد أنكاتل انطلاقاً من حالات تستخدم الشعارات، في أدب الرحلات لدى مونتسكيو ودي بوو DePauw على صورة مفاهيمهما. وبهذا المعنى يمكن أن تكون الفلسفة قد استخدمت هذه النصوص، لتبدع حكومات مشوّهة» على المستوى السياسي ولتبدع أيضاً «شعوب مشوّهة» على المستوى الأنتربولوجي.

(في المحصلة، يناضل انكاتل ضد معرفة تبدع هذه «المخلوقات المشوّهة» في ،ممارسة يكون فيها المستعمِر والفيلسوف أقرب إليها مما كنا نعتقد(2). فكل منهما، مخرِّب على طريقته: «إننا نرتعد حيال الفظاعات التي يرويها الغزاة الأوائل ؟ لقد كانوا يدمّرون النوع البشري مدفوعين بالنزوات التي تتحكم غاية التحكم بتعصبهم وجشعهم حينذاك كان الفلاسفة انفسهم وبدم بارد ينزعون على هذا النحو رمزية الرجال عن الأميركيين. هذا التدمير هو أكثر بشاعة من التدمير الأول».

ص: 104


1- G.Abbatista, CPH, p. 234n.
2- وكما في الاستشهادات السابقة، انكاتل هو الذي يلاحظ 50.CH, p

فهم التابع

النقد ما بعد الاستعماري للحداثة

جاك بوشباداس(1)

دراسات التابع هي مجموعة مُجلّدات أصدرتها جامعة أكسفورد منذ عام 1982 وهي تضمّ اليوم عشرة مُجلّدات تحمل عنواناً فرعيّا :هو كتابات حول تاريخ ومجتمع جنوب آسيا Writings on South Asian History and Society إنّ نجاح تلك المجموعة على المستوى العالمي، أشرف عليها المؤرّخ البنغالي راناجيت جوها Ranajit Guha (المولود سنة 1923) ، يجدر بنا أن نُسمّي الاتّجاه المُتعلّق بكتابة التاريخ الذي نتجت منه دراسات التابع ب«التاريخ من أسفل»History from below. وبلا ريب، ليس الموقفُ الفكري الذي يُجسّده هذا الاتّجاه جديدًا لِنتذكّر مقدّمة كتاب (الثورة الفرنسية) «تناولتُ التاريخ من تحت من خلال الحشود البعيدة وغرائز المجتمع، وأظهرْتُ كيف أدار قادته، إلخ ...» والانبثاق المُنتظم منذ ذلك الحين لتطلعات فردية أو جماعية لِكتابة التاريخ بالنظر إلى العدد الأكبر، أكانت ليبرالية أو اشتراكية أو قومية

ص: 105


1- باحث في مركز دراسات الهند وجنوب آسيا.- العنوان الأصلي: Les Subaltern Studies ou la critique postcoloniale de la modernité - - المصدر: 1611 .à Homme 156 / 2000 pp 186 - ترجمة: عماد أيوب.

أو ناتجة من اتّجاه الحوليّات في الهند، كان «مُهرّبو» هذا التوجه المُتعلّق بكتابة التاريخ، بالنسبة إلى قسم منهم على الأقلّ، هم الشخصيات المرموقة في التاريخ الاجتماعي «الجذري» الانكليزي (رودني ،هيلتون كريستوفر هيل جورج رودي ادوار ب تومسون إريك هو بسباوم)(1)، في حقبة (إجمالاً، ابتداءً من الستينات) حيث فاقمت الخيبات التي تسبّب بها الإخفاق الاجتماعي للاستقلال في الهند النزعة الراديكالية للنزاع الماركسي في أوساط المُثقّفين الشبّان، ودفعت قسمّا منهم إلى النضالية الماوية في الأرياف بذلك فإنّ الحقيقة التي انكشفت بين المؤرّخين (في الهند كما في مناطق أخرى من العالم استُعمِرت قديمًا)، هي أنّ تاريخًا حقيقيًا من الأسفل تضمّنَ قطيعة مع «النموذج القومي» لِكتابة التاريخ الغالبة، الذي أخفى التنافرات الطبقية بالاستناد إلى الوحدة الوطنية، مُطيلاً بذلك الخطّ السياسي الرسمي للنضال من أجل الاستقلال(2). في سياق نقد الماركسية المُستقيمة والبلاغة الرسمية ذات النزعة الاشتراكية للدولة الهندية وبمبادرة من راناجيت جوها وُلِد مشروع دراسات التابع التي هي التعبير الفكري لِمفهوم صارم للديمقراطية.

إنّ الجهد الأول ل- جوها كان يهدف أولاً إلى التخلّص من النخبوية (élitisme) في كتابة تاريخ الاستعمارية والقومية والماركسية، التي كانت تُقدّم المقاومة الشعبية للاستعمار وملحمة حركة الاستقلال بوصفهما نتيجة لسيرورة تجنيد من أعلى. إنّ كتابة تاريخ الاستعمارية، التي أسيء الظنّ بها، كانت قبل أي شيء إنتاجّا انكلو - ساكسونيا في الستينات والسبعينات وكان المقصود منها انبثاق مدرسة (مدرسة كامبريدج)، وهي مُهانة اليوم على المستوى العالمي، وقدّمَت القوميّة المُنظّمة فی الهند بوصفها استراتيجية تنمية اجتماعية تُدار من قبل النخب الأهلية (indigene) المُثقّفة بغية انتزاع مواقع المسؤولية من السلطة الاستعمارية، المواقع التي تولّد

ص: 106


1- الكتاب الرمزي المُتعلّق بهذا الاتجاه هو 1988 Thompson (1963).
2- إنّها الفكرة التي عبر عنها بصورة رسمية سابياساشي بهاتا شاریا Sabyasachi Bhattacharya في خطبته الرئاسية الموجزة بمناسبة افتتاح قسم التاريخ الحديث في مؤتمر التاريخ الهندي Indian History Congress سنة 1982 .(Bhattacharya 1983)

أمجادًا وأرباحًا. بحسب الترجمة اللاتينية للتاريخ القومي للهند الحديثة التي سادت ابتداءً من الخمسينات في الكتب والتحليلات الصادرة تحت رعاية حكومية، تشكّلت حركةُ الاستقلال من خلال سيرورة تدريجية لضمّ الجماهير الشعبية المؤخَّرة في الصراع من أجل الحريّات في هذا المنظور، كان الوسطاءُ الكبارُ لتسييس الجماهير الزعماءَ الذين يسحرون الجماهير، غاندي ونهرو في مقدّمتهم، مُبدّلين ونابت عنهم البنية الواسعة للإطار الهندي الجامع التي كانوا يُديرونها، وهي مجلس الشيوخ الهندي. داخل مجلس الشيوخ تلتقي كلّ الفئات الاجتماعية وتقريبًا كل الانطباعات، مُحّدة في حماوة النضال المُشترك من أجل التحرر وولادة الدولة الأمة. إنّ النتيجة المنطقية لهذه الرواية الكبيرة كانت الوصول إلى السلطة في الهند الحرة من قبل قادة النضال من أجل الاستقلال والتنظيم القومي الذي أصبح الحزب الحاكم. إنّ الأخير، الذي كان يعكس ضمن تنوّعه الخاصّ التنوّع الكبير للأمة، امتلك الأسباب الوجيهة للحديث باسم الشعب كله، وباتت مهمّته تأطير بناء وتطوير الديمقراطية الأكبر على وجه الأرض. في الدراسات التي تتناول الحركات الشعبية الهندية، والتي صدرت خلال السبعينات وفي مطلع الثمانينات، برَزَت بإصرار مُتزايد مواضيع قطعت علاقتها بهذه الأعراف السردية للقومية «البرجوازية». كان واضحًا أكثر فأكثر أنّه، من البحث عن التزام الجموع بأن تمنح نفسها مصداقية سياسية ضرورية في مقابل السلطة الاستعمارية انشغلت النخبة القومية دائماً بِحصر الشدّة والطابع الراديكالي لِعدم الاستقرار الشعبي في حدود ضيّقة، مع العلم أنّ الرسالة القومية الحاملة فكر غاندي والمُتبنّاة في مجلس الشيوخ، التي فهمتها الجموع وتملّكتها، وذلك بملئها بأحلام عتيقة واستيهامات قلب اجتماعي، هذه الرسالة لم تكن تتعلّق بالتصوّرات والمعايير المُتحضّرة للديمقراطية التمثيلية البرجوازية ) . بذلك أبرزت هذه الدراسات العيوب التي كانت تُصدّع الإجماع الظاهر للاندفاعة القومية الشعبية، ومارَسَ مجلسُ الشيوخ القمع غالبًا ضدّ الانحرافات الراديكالية لعدم الاستقرار والخلافات العميقة التي رافقت التزام الجموع الشعبية التي حرّكتها ثقافة النزاع الأصلية، خدمةً لطموحات

ص: 107

النخبة التي تدّعي بغير حقّ مَزِيّة تمثيلها بذلك أعطت تلك الدراسات مادّة تاريخية عن حرمان شعب من حقوقه، محروم هو من مكاسب انتصاره، بعد نيل الاستقلال وذلك من خلال هيمنة مجلس الشيوخ، الهيئة التي تُسيطر عليها الطبقة المتوسطة المدنية وطبقة الفلاحين الميسورة، كلاهما من طبقة مُغلقة مرموقة، حيث أخفت بلاغتهما ذات النزعة الاشتراكية غياب أي إرادة إصلاح اجتماعي جذري(1).

إنّ كتابة تاريخ الماركسية الخاصّة بالحركة الوطنية، التي وحدها تبتّ فعلاً الرواية القومية التقليدية طوال العقود الأولى لِلاستقلال، كان ينقصها شكل آخر للنخبوية. تدّعي كِتابةُ التاريخ الحديث باسم الطبقات المضطهدة وتُوضِح طريقها نحو التحرّر والتقدّم، وندّدَت في الوقت عينه بثقافة تلك الطبقات التي تخصّ المقاومة بوصفها ذهنية قبل سياسية أو وعي خاطئ، أي مرحلة بدائية في نموّ الوعي الثوري وشكّكَت قدرات النضال لدى أغلبية الفلاحين، مُعتبرةً أنّ ثوراتها لم تكن سوى انفجار غضب جماعي عفوي وبدون عواقب سيئة، مُجرّد بالضرورة من التنظيم والبرنامج والفعالية لزمن طويل بحيث لم يكن مُوظّفًا ومؤطّرًا بواسطة طليعة أفضل تدريبًا وأكثر تقدّمًا على المستوى السياسي في النهاية، تقع كتابة التاريخ في الحتمية الاقتصادية وذلك بأن يعهد بدور حاسم للتناقضات والظروف الخاصّة بأزمة الاقتصاد.

بذلك فإنّ الموضوع كان يتعلّق بإصلاح الشعب بوصفه موضوع تاريخه الخاصّ وذلك بالامتناع عن تصوّره بوصفه مجموعة عمال تُديرها النخب، وبقطع أي علاقة بالنظريات الغائية التي تُحوّل الشعب إلى عامل جامد في آلة تاريخية كونية (سواء أكان الأمر يرتبط بالتاريخ القومي الذي يُقدّم ثورات العصر الاستعماري بوصفها مراحل في تكوين الدولة - الأمة، أو بالتاريخ الماركسي الذي يرى فيها مراحل لانبثاق الوعي الطبقي). ينبغي الإقرار بالأهمية التاريخية الحقيقية للشعب بالنسبة إلى قدرة المبادرة (agency) الحرة

ص: 108


1- ألف ساركار Sarkar أفضل كتابين في مجال كتابة التاريخ النقدية في ما يتعلق بالقومية الهندية: - Sarkar 1983 a et 1983 b.

والمُطلقة لهذا الشعب، وإعادة اكتشاف ثقافته الخاصّة، والاهتمام الجدّي بعالم الفكر والتجربة الخاصّ به (لا فقط الظروف المادّية الخاصّة بوجوده). وينبغي القبول إجمالا بأنه يوجد ميدان مُستقلّ في سياسة الشعب مُختلف عن ميدان النخبة، ترسّخت مصطلحاته التعبيرية ومعاييره وقيمه في تجربة العمل والاستغلال الاجتماعي. إنّ الشعب، بحسب البيان الذي أصدره راناجيت جوها في بداية المُجلّد الأول من دراسات التابع هو الطبقات والفئات التابعة التي تُؤلّف الطبقة الشغّيلة والفئات المُتوسّطة في المدن والأرياف، أي «التباين الديمغرافي بين كامل سكان الهند وكل الذين يؤلّفون النخبة»(1). إنّ ما يُحدّد التابعين (مفهوم مُستعار من غرامشي دفاتر السجن (Cahiers de prison) هو علاقة التبعية التي ضِمنها تُدير النخبُ التابعين، علاقة تضعف من جهة الطبقة والجنس والعرق واللغة والثقافة. يحدث التباس في المجموعة تبعًا لتعريف «التبعية» تارةً كمادّة ، كالخاصّية المُميّزة لِفئة اجتماعية خاصّة، وتارةً كعلاقة (نخبة أهلية تُعدّ تابعة في مقابل نخبة استعمارية أوروبية). ركّز جوها كلامه على هذه الطبقة واضعًا، في كل الأحوال، في مركز وجهة نظره التاريخية رؤيةً مُتفرّعة ثنائيًا للمجتمع المقسوم بين حاكمين ومحكومين. وعندما باشَرَ تصحيح الرؤية النخبوية لتاريخ الهند السائدة إلى الآن، فإنّه بالاستناد إلى الاقتناع مارست النخب الهندية سيطرتها (المادّية) على الشعب التابع، لكن لم تمارس هيمنتها (أي هيمنتها الثقافية)(2)إنمّا هذا الميدان المُستقلّ للفكر والمبادرة للتابعين، الذي أخفته نسقيًا كتابة التاريخ النخبوية، هو الذي ينبغي

إحياؤه، لا فقط من أجل إصلاح الظلم الذي لَحِقَ به وردّ الاعتبار له، بل أيضًا

ص: 109


1- couches intermédiaires » Guha 1982: 4, et préface du même volume, p. VIII. Au lieu de بدل مصطلح فئات متوسطة»، يتحدّث جوها في الصفحات التالية عن الطبقات الدنيا للبرجوازية الصغيرة».
2- 1989 Guha التسمية الثنائية هيمنة - سيطرة هي أيضًا مُستعارة من غرامشي الذي كان يستخدمها في (دفاتر السجن لإبراز التباين في تعقيد الدولة بين الغرب وروسيا فالثورة في روسيا لا تفترض إلا الاحتلال عن طريق بني السيطرة إدارة جيش (شرطة التي شكلت لوحدها مجمل الدولة؛ في الغرب، يجب أن تتغلب الثورة على الهيمنة الأيديولوجية والاجتماعية التي تمارسها النخب في المجتمع المدني، الذي هو نفسه أساس الجسم السياسي. من البديهي أنّ التطبيق السريع على حالة الهند الاستعمارية لهذه الخطاطة المثقلة بالأسئلة التي لم يُجب عنها بالنسبة إلى ما يتعلّق بأوروبا، ارتبط بسوسيولوجيا خطرة حول علاقة غرامشي بدراسات التابع، انظر 1984 Arnold

لإيضاح العلاقة الداخلية للقوى بحركة الاستقلال التي قطفت النخب وحدها ثمارها، ولإيضاح الأسباب العميقة لهذا الإخفاق التاريخي للأمة في صُنع مصيرها («الإخفاق التاريخي للأمة في أن تُصبح مُستقلّة»)، الذي يُمثّل المشكلة المركزية لِكتابة التاريخ في الهند الاستعمارية (7) 1982 Guha).

لإعادة الوعي والقدرة على المبادرة للتابعِين إلى مكانهما الصحيح، اللذين كانا يحملان ثقافة شفهية ولم يتركا عمليًا أي شهادة على نفسيهما(1)، لا توجد بحسب جوها أي وسيلة أخرى سوى تحليل البيانات والتقارير المُتعلّقة بالحركات الشعبية التي تحتويها الوثائق الاستعمارية، وذلك بقراءتها بالمقلوب (against the grain). يشرح جوها ببراعة كيف أنّ خطاب هذه المصادر، الذي تتناغم معه كتابات التاريخ النخبويّة من جوانب عدّة، يميل دائماً إلى تعديم (néantiser) وعي التابعين بتقديم حركات التمرّد على أنّها ردّات فعل لاإرادية على الاضطهاد الاقتصادي أو السياسي، هادِمًا بذلك استقلال النظرة والمبادرة للمحكومين في إوالية الأسباب الخارجية(2). بيدَ أنّ ، في كتاب مُتقَن صَدَرَ بعد سنة من ظهور المجلد الأول من دراسات التابع، يبيّن جوها كل ما يمكن استخراجه من مصادر نخب السلطة عندما يتمّ فكّ رموزها بِرويّة. يتفحّص جوها وثائق تمرّد الفلّاحين في الهند الاستعمارية بين عامي 1783 و1900 (أي قبل مرحلة القومية الجماهيرية)، ويصنع في هذه الدراسة، بأمثلة عظيمة، الخاصّيات الأساسية لسلوك المُتمرّدين، المُقدّمة بوجهٍ ما كثوابت ايديولوجية للوعي القروي(3). في ضوء ذلك، يبدأ عملاً جديدًا في المساحة ورسم الخرائط لهذه القارة المُستقلّة وغير المُروّضة، التي لا يتيسّر للمؤرّخ الولوج إليها إلا برعاية ثقافة مقاومة

ص: 110


1- لا مُعادل مثلاً لكتاب Moi Pierre Riere، الذي وضحه ميشيل فوكو وفريقه (1973) Foucault)، ما عدا بعض الاستثناءات مثل أداء الشهادة أمام القضاء من قبل المتهمين الذين أعدموا بصورة تعسفية على يد رجال شرطة شوري شورا Chauri Chaura ، ما دَفَعَ غاندي إلى إنهاء حملته بين عامي 1920 و 1922، وتطرّق أمين إلى تحليل تلك الشهادات في 1995 Amin .
2- Guha 1983a: 2" 3 Insurgency is regarded as external to the peasant's consciousness and Cause is made to stand in as a phantom surrogate for Reason, the logic of consciousness نضع مُحرّك الثورة خارج الوعي القروي، ونُحلّ مظهر السبب محلّ واقع العقل ومنطق الوعي الثائر
3- 1983 Guha إنّ هذه الأشكال البدائية جرى تحليلها في العناوين التالية : الإنكار المفهوم الشعبي للمقاومة) الغموض (العلاقة بين الجنوحية delinquance والمقاومة الكيفية أشكال التنظيم والفعل الجماعي، التضامن (وحدة وتنافر في التمرّد النقل (التمرّد كفعل اتصال)، الإقليمية (الأفق المكاني لحركات التمرّد).

الاضطهاد (لأنّ المصادر لا تتحدّث عنها إلّا بمناسبة التمرّد)، ومن خلال خطاب المُضطهِدين. إنّ هذا الدرب أكمل توضيحه مؤلّفو المجلّدات السابقة في دراسات التابع.

بید أنّه ظهر سريعًا أنّ مشروعًا كهذا مُمتلئ بالأفخاخ النظرية. كان اللوم الأقرب هو الاتّهام ب- «الذهنية [mentalisme] كان راناجيت جوها ضحية الوهم بأنّه يمكن معرفة ما يحدث فعلاً في أذهان الناس مثلاً 2 : 1985: Stein). وهذا يعني أن يُخطئ في المعنى العميق لحديثه الذي لم يكن يتعلّق أولاً بتاريخ الذهنيات، بل كان يهدف في بادئ الأمر إلى نقد الهرمينوطيقا الخاصّة بكتابة التاريخ الحاكمة والإخفاء المُستمرّلِوعي التابع وتجربته التي نتجت عنه، وإلى إظهار إلى أي درجة ترتبط كتابة التاريخ في جزء منها بسلطة النخب برصانة أكبر، وبينما كان يُعتقد أنّ الإنسانوية البرجوازية للأنوار دُفنَت نهائيًا، أصيبَ الكثير من النقّاد بالدهشة بعدما رأوا برنامجًا خاصّضا بكتابة التاريخ يُركّز على إصلاح أوّلية الوعي واستقلال الذات (مثلاًHan-O 1998 lon). تنصّ الإجابة على أنّ هذا المَسعى الوضعي، الذي كان يمَيل إلى بناء التابع بوصفه ذات مُجهّزة بسريرة خاصة، والمسؤول عن استقلاله على صعيد الفكر والسلوك، هذا المسعى كان في الواقع استراتيجية مدروسة ذات هدف سياسي أكثر منه اقتصادي 1985342, Spivak): يتعلّق الأمر بالتخلّص من ماوراء الرواية (métarécit) النخبوي للإجماع الاجتماعي للحركة القومية، الذي يُشكّل أسطورة أصلية للدولة البرجوازية في الهند المستقلة، مُبيِّنًا أنّ النخبة بنت انتصارها على إنكار الآخر ، أي الشعب المغلوب. إنّ المشكلة لا تقلّ واقعية لأنّ كل مؤلّفي المجموعة، بلا جدال، لم يُدخِلوا هذه الاستراتيجية حيّز التنفيذ بالدقّة نفسها التي تميّز بها راناجيت جوها بلا ريب يكمن الخطر الكبير في إعطاء جوهر للوعي التابع بوصفه طبيعة ويُحدّد خارج أي سياق بواسطة ملامح مُميّزة، أو في تشييء فئة التابع بتشبيهه بوحدة اجتماعية تجريبية(1). لكن من الناحية السوسيولوجية، إنّ هذه الطبقة، التي تضمّ

ص: 111


1- على غرار ستيفن هنينغهام (1983)، الذي وصف حركة Quit Indian» في سنة 1942 على أنّها تمرد «مبارز»، عصيان نظمته النخبة القومية من جهة، وتمرّد عنيف أداره تابعون يُحركهم وعي ديني من جهة أخرى.

في الواقع الطبقات الشعبية واسعة جدًا وتُخفي الكثير من الفروقات والشروخات وعلاقات السلطة الداخلية بعالم المحكومين بحيث لا تعود قابلة للاستعمال كأداة تحليل. لكنّ التصوّر المُتفرّع ثنائيًا والتبسيطي تمامًا للاجتماعي الذي تتضمّنه يأخذ دلالة سياسية من حيث أنّه يُعبّر عن علاقة السلطة التي تُشكّل تاريخيًا التابع كما هو عليه، أي الموقف الذي يضع في سياق ما النخبة في مقابل المحكومين: إنّ هذا الموقف يؤول، من ناحية التابع إلى علاقة معاكسة بين «نحن» و«هم». لكنّ الانزلاق إلى إعطاء جوهر للتابع أمر يصعب تفاديه تمامًا كما يصعب إعطاء جوهر للطبقة في الخطاب الماركسي التقليدي. الكثير من المُساهمين في دراسات التابع استسلم لهذا الانحراف، وليس بمقدور المرء أن يقول إنّ راناجيت جوها نفسه كان بِمأمن تامّ.

إنّ دراسات التابع للمرحلة الأولى، أي المرحلة التي طوّرَت مباشرة الإشكالية الماركسية المخالفة التي رسمها بدءًا راناجيت جوها، واجهت أيضًا مجموع من المُلاحظات النقدية من اتّجاهات ماركسية أخرى(1). أمام نقد النخبوية لِكتابة التاريخ الحاكمة، نرى في ما بين السطور ارتسام الاتّهام القديم بالشعبوية، الذي كان يصلح قديمًا لنقد أولئك الذين رفضوا الاعتراف بدور مُحرّك للعناصر الطليعية في الصراعات الاجتماعية والنظر إليهم على أنهم هراطقة. في المقابل، كان من السهل تَنحِية الاعتراضات ضدّ التعريف المُتصلّب لاستقلال الوعي والمبادرة لدى التابع الذي أصبحَ سريعًا إحدى بديهيات المجموعة. إنّ مُنطلق هذا الموقف كان رفض جوها لِكتابة التاريخ الاصطلاحية التي حصرت عالم السياسة بالحقل الضيّق للمؤسّسات الاستعمارية الذي يُؤلّف النشاط الجدالي للنخب جزءًا منه. يقابل جوها بين ميدان السياسة البرجوازية وميدان سياسة الشعب التي تتألّف من تصوّرات وممارسات تنتمي إلى مقاومة راسخة في ماض قديم ما قبل استعماري، ولكنها لا تَدين بشيء لهذه الفضالة الاستعمارية التي كانت تمُثّلها سياسة النخبة، وتتميّز عن السياسة البرجوازية بسيرورات توظيف أصلية لا عامودية بل أفقية (مُعلّلة من خلال

ص: 112


1- انظر مثلاً التقارير الجماعية حول دراسات التابع التي صدرت في Social Scientist في تشرين الأول 1984 وآذار .Mukherjee 1988; Brass 1993 ،1988

القرابة، والمنطقة، والترابطات الظرفية)، وبطابعها العفوي أكثر، والاعتماد بشكل أكبر على العمل العنيف. إنّ ماركسيًا مُستقيمًا يمكنه عند اللزوم أن يُلازم جوها، بالرغم من الحطّ من شأن سياسة الشعب بوصفها غير فعالة ورجعية موضوعيًا. لكنّ جوها ذهب أبعد من ذلك. فلم يكتفِ بشجب المُناورة التي بواسطتها وظّفَت النخبة القومية، طوال النضال ضدّ الاستعمار، حماسة الجدال الشعبي لصالحها المباشر بغية ممارسة السلطة من دون تقاسم بعد نيل الاستقلال. قدّم جوها سياسة الشعب بوصفها تعبيراً عن الميدان المستقلّ لهذا الوعي التابع الذي يُقاوم تأثير البرجوازية، وعنصرًا من هذه المناطق الواسعة في حياة الشعب ووعيه التي لم تدخل ضمن هيمنته (5-4 : 1982 Guha)، مُقارناً بذلك في الآن نفسه بين الظلم الاجتماعي الذي انبنى عليه الاستقلال تاريخيًا، وضرورة الصراعات المستقبلية.

من البديهي أنّ ثمّة هنا بداية انزلاق الملاحظة التي لا تقبل الدحض بالرغم من التقليل من شأنها غالبًا أو إخفائها من قبل كتابة التاريخ انزلاق من وجود اندفاعة ظرفية مُستقلّة لِلمقاومة عند التابع خلال النضال من أجل الاستقلال، إلى اقتراح مضامين للاستقلال البنيوي لِوعي وثقافة التابع يمكن للمرء أن يفرض أنّ هذا الحدس بنظر جوها، كان قبل كل شيء قضية تطابق مع الغير تجاه التخيّل الخاصّ بالمُتمرّدين وتجاه مقصد سياسي وتدبيرين ذهنيين يمكن لكليهما على نحو مشروع أن يُعلّل قراءة تاريخية للمصادر التي يتمّ عرضها بوضوح من البداية بإخراج هذا الحدس إلى معنى النسق يخلق المؤرّخون لأنفسهم مشكلات نظرية لا يتمّ تخطّيها إلا بعناء وهم أخذوا موقفًا من نماذج العلوم الاجتماعية، موقفًا لا يتناسب إلا قليلاً مع النزعة النقدية، قبل كل شيء، للتاريخ، وبالنسبة لأي ثقافة لا يتناسب مع الواقع التجريبي للقمع القومي للاتّجاهات العامّية خلال حركة الاستقلال، فضلاً عن نفاد صبرها السياسي من المُثقّفين اليساريين. ومن البديهي أنّ هذا «النموذج» المُتعلّق بدراسات التابع كان يفتقر إلى مادّة سوسيولوجية وأنتروبولوجية، وبدا أنه عاد إلى نقطة الانطلاق لعقود من الأعمال والجدالات، التي أُهمِلَ جزء منها، تتعلّق بمكانة الثقافة الشعبية، والعلاقة بين التقليد الكبير والتقليد الصغير، والتثاقف. ومن الواضح أنّه كان

ص: 113

يعمل على التخلّص من الطبقة، بالرغم من أنّها موضوع مثير للاهتمام في البحث السوسيولوجي حول الهند خلال الفترة الأكبر من القرن المُنصرم. وبينما يقوم بعض أصحاب دراسات التابع بتنحية التحليل الطبقي للحركات الشعبية، كخبراء اقتصاديّون وقائلون بالغائية، فإنّهم على الأقلّ كانوا يفضّلون أن يروا في «الجماعة» الإطار الطبيعي للشعور بالهوية ولتوظيف الفلاحين راجعين بذلك في الظاهر إلى المفهوم الماركسي للجماعة بوصفها إطاراً «طبيعيًا» للحياة الاجتماعية في المجتمعات التي سبقت الطبقة (14- 10 : 1988 Chatterjee). عند اللزوم، وفي بعض الحالات، لم يكن على المرء أن يواجه السوسيولوجيا بقدر ما كان عليه مواجهة العقيدة الاجتماعية، مع ما ينطوي عليه هذا المفهوم من مُسلّمات نضالية وتوجّه نحو الفعل.

إن نقد المُؤرّخين الماركسيين لدراسات التابع كان من دون جدال مُلائما في نقاط عديدة. بإدراكه أنّ أصحاب دراسات التابع يرفضون أي تعيين خارجي لعمل التابع، ولا سيّما أي تفسير اقتصادي للثورات (مسعى موصوف بأنّه واقتصادي)، كان يلوم دراسات التابع على إهمالها دراسة الأسباب وسياق الحركات، كي تحصر اهتمامها بأشكال الجدال الشعبي وذلك كان يعني الدفاع عن مفهوم غير تاريخي ل_ «الميدان المستقلّ» للتابع، وإهمال التحوّلات الخاصّة بالجدال الشعبي من حقبة إلى أخرى (هل كان بمِقدور المرء القبول مثلاً بأنّ الجدال القروي لم يتطوّر في الفترة الحقبة ما قبل الاستعمارية والحقبة الاستعمارية؟ فيما أحدثَ الاستعمارُ تحوّلاً في سياق السلطة؟) إنّ أصحاب دراسات التابع مالوا إلى وصف المقاومة الشعبية بالعنيفة (يُعرف الصراعُ غير العنيف بأنّه نُخبوي بطبيعته)، في حين تختلف أنماط المقاومة بحسب أنماط السلطة أو القمع، وليست المقاومة الأعنف، بالضرورة، هي الأكثر اندفاعًا إلى الثورة. وهم عكسوا حالة من الضلال أمام واقع أنّ قيادة الحركات الشعبية كان يمكن تأمينها بواسطة أفراد غير تابعين، أو بواسطة تابعين أُسبِغَت عليهم روابط مع المجتمع (واقع لا يتلاءم كثيراً مع أطروحة الاستقلال). ورفضوا الاعتراف بأنّ أيديولوجيا التمرّد التابع يمكنه أن تكون مُحافظة، لا بهدف تخريب الترتيب المُعتاد بل على الأرجح عندما كان هذا النظام مُهدّدًا أو مُعرّضًا للخطر، بهدف إصلاحه. في

ص: 114

النهاية، وفي ضوء المسألة المُعقّدة لأشكال ودرجات التفاعل الأيديولوجي والثقافي بین النخب والطبقات الشعبية لا أحد بإمكانه الاكتفاء بالتوكيد المحض لاستقلال الوعي والثقافة لدى التابع لِنضِف أنّه عندما ننسب إلى التابع، كما فعل جوها (1982): (5)، أيديولوجيا «كان يُشكّل أحد ملامحها مفهوم مقاومة ضدّ سيطرة النخبة»، لا نرى كيف يُهتمّ بقبول المحكومين بالسيطرة التي تُفرَض عليهم، التي دامت فترة أطول، في الهند كما في الخارج، مُقارنة بسلوكات المقاومة(1).

لقد كان هناك مشكلات حقيقية. إنّ ما ينبغي أن يُقال هو أنّ الدراسات التي جُمعت في المجلّدات الستة الأولى لا تقلّ أهمية بالنسبة إلى معظم العمل الخاصّ بكتابة التاريخ. إنّ نصوص راناجيت جوها(2)17 التأسيسية جزء من هذه الإيضاحات المُستَلهمة التي تشرع في سؤال جيل من المؤرّخين. إنّ ثراء ومتانة العمل الجديد على الوثائق التي غذّت هذه المجلّدات هما أيضًا أمران لا يقبلان الدحض بقدر توافق هذا العمل مع الأسئلة السياسية للمثقفين الهنود الراديكاليين ابتداءً من الستينات باستثناءات ملحوظة نادرة، كانت الإسهامات الفردية أقلّ «استشكالاً» من نصوص جوها الافتتاحية وكان الأمر يستلزم عدّة سنوات وصدور عدة مجلّدات حتى ترتسم بعض المُلاحظات النقدية المُتعلّقة بالمشهد العامّ التي تُبرز بوضوح الصعوبات النظرية التي جرى عرضها بالنسبة لأعضاء مجموعة الدراسات التابعة، يُعدّ فريقُهم منبر نقاش أكثر منه وحدة تُجاهر بعقيدة مُتجانسة(3). عند هذه النقطة، أي في نهاية الثمانينات، وجدت المجموعة نفسها أمام بديل واحد. أو سعت إلى إحصاء وصفي لأشكال «التمرّد» (insurgency) التابع امتثالاً لِمقصدها السياسي الأول. عندئذ واجهت خطر إنتاج مُكرّر، واضطُرّت إلى مواجهة مشكلة الانحرافات

ص: 115


1- مواقف بحثها لابواتي La Boti في كتاب خطاب في العبودية الطوعية Discours de la servitude volontaire ، وعاد الكثير من المؤلفين مؤخراً للحديث عنه، بدءًا ب- موس فنلي Moses Finley في ما يتعلّق بالعبودية في اليونان القديمة، وصولاً إلى كلود ليفي ستروس، وبيار كلاستر وموريس غودليه في سياقات مختلفة.
2- أي بصورة أساسية إسهامه في المجلد الأول من دراسات التابع (1982) Guha) ومقدمة كتابه الذي صدر بعده بفترة قصيرة .(Guha 1983a)
3- 1986 Hardiman في سنة 1985 كتب د. شكرابارتي : إنّ أعضاء مجموعة دراسات التابع ليسوا «ملة» أسبغت عليهم وجهة نظر فريدة؛ هم بلا شك متحدون أكثر في رفضهم بعض المواقف والنزعات من تبنيهم بدائل بسيطة، أيّا تكن 364 : 1985 Chakrabarty).

الجوهرانية التي بينتها المُلاحظات النقدية، وبالتالي تهذيب طريقتها في التعامل مع استقلال الوعي والفعل للتابع، الذي كان في صميم المشروع الأول. أو غيّرت النبرة، وتخلّت عن غايتها، أي وصف الميدان المستقلّ، في وضعيته، للوعي والتجربة عند التابع، وأحالت جهدها الرئيس إلى نقد النموذج النخبوي للمصادر وكتابة التاريخ. من الجهد النضالي لإحياء الثقافة وتجربة الشعب، كان الانتقال في هذه الحالة إلى تفكيك خطاب النخب. بذلك بقينا في امتداد أحد محاور البحث التي افتتحها جوها، وهو قراءة «نثر التمرّد المضادّ» «بالمقلوب (Guha 1983b). لكن، وهذا فارق كبير، إنّ ما كان بحسب جوها مجرد تقنية توضيح النصوص لخدمة بحث ذي غاية سياسية أصبح عندئذ الموضوع المركزي للبحث ذاته.

المُنعطف ما بعد الحداثي

إنّ هذا التوجه الثاني لعلّه أقلّ التزامًا على المستوى السياسي، لكنه أكثر مُطابقةً للروح الجديدة للعلوم الاجتماعية، هو الذي كانت له الغلبة في المجموعة ابتداءً من نهاية الثمانينات. إنّ ما ينبغي أن يُقال هو أنّ بعض الصياغات النقدية لجوها التي نتجت كما قيل من أرضية التاريخ بدأت تأخذ في الثمانينات في نظر قسم على الأقل من الزملاء (لأنّ الفارق بين جوها ومتوسط عمر أعضاء الفريق هو 25 سنة)، بدأت تأخذ صدىً فكريًا جديدًا. وبِما أنّ الكلام يدور كثيراً حول الموضوع في العدد، فلا مجال هنا للحديث بصورة عمومية عن التأثير الذي كان يُمارَس على شريحة من المثقفين الهنود، وعلى الخصوص الذين يرتادون باستمرار الجامعات الأميركية، من قبل النقد المحيط للعقلانية والنهج المعتاد للتقدّم، والنسبية الابستمولوجية التي تعمل غالبًا على توسيعه. إنّ هذه التيارات الفكرية، وعلى الخصوص الفكرة التي استُمِدّت من ميشيل فوكو التي تفيد بأنّ الحقيقة، التي ما تزال تُتصوَّر منذ عهدٍ قريب على أنّها واقع متعال، لها تاريخ تجريبي لا ينفصل عن الحقل الاجتماعي والسياسي الغربي، وبصورة أعمّ الدراسة الموضوعاتية الفوكولدية الكبرى المُتعلّقة بعقدة سلطة - معرفة، كل ذلك تضمّن بلا ريب دلالة خاصّة من زاوية ما سُمِّيَ ب- النموذج ما بعد الاستعماري. في كتاب

ص: 116

(الاستشراق) الذي هو مُصنّف يتناول حفرية الخطاب الغربي حول الشرق والذي صدر بعد كتاب فوكو (يُراقب ويُعاقب) بثلاث سنوات، بيَّنَ ادوار سعيد أنّ تمثيل الآخر يعني قولبته، وأنّ المفهوم الذي كان يُعطي الشرقي جوهرًا في عصر التوسّع الأوروبي كان أداة إخضاع(1). عن طريق ادوار سعيد بالأخصّ بدًأ ركام الفكر النقدي، الذي يُسمّى على الجملة ب_ ما بعد حداثي، باختراق كتابة التاريخ الهندي ومعه دراسات التابع التي شكّلت موضوع ترسيخ رئيسي.

وتمَثّل أثره الأكثر وضوحًا في انزياح نقد الاستعمار من الحقل الاقتصادي والسياسي إلى الحقل الثقافي ومن ملاحظة جوها بخصوص فشل الدولة الحديثة التعبير عن حقيقة الأمة، في وقتٍ بيَّنَ بنديكت أندرسن (1938)، في كتاب بَلوَرَ ببراعة عالية بعض المسائل الراهنة بينَ حصّة التخيّل في الحركات الوطنية، انزلق المرء إلى التشخيص العامّ لإخفاق الحداثة كتب جوها أنّ «الثقافة البرجوازية بلغت حدّها التاريخي مع الاستعمار ما من فتح من فتوحات الثقافة البرجوازية - الليبرالية والديمقراطية والحرية وسيادة القانون - يمكنه النجاة من الضرورة الصارمة التي تنتمي إلى القدرة على التوسّع والتكاثر وذلك باعتماد سياسة في السيطرة الاستعمارية خارج الحدود». في السياق الفكري الجديد شرع هذا الاستنكار، بالرغم من أنّه لا يقلّ أقدمية عن العداء للإمبريالية نفسها، بتأدية الدور نفسه على الأقلّ بالنسبة لقسم من أنصار دراسات التابع، الذي قامت به الارتدادات البربرية الكبرى في أوروبا في القرن العشرين بالنسبة لعدد من المُفكّرين الغربيين: إنّه بمثابة جهاز كبير في نقد مشروعية «ماوراء الرواية» التنويري وفي نقد النموذج المركزي الأوروبي للتقدّم. لا شكّ في أنّه كان يحتلّ مركز الصدارة في خطاب التحرّر من النزعة القومية ومن الماركسية على حدّ سواء. لكنّ النزعة القومية والماركسية تتشاركان النظرة الأصلية (foundational) للعقل بوصفه شكل كوني، ولأوروبا بوصفها محركًا تاريخيًا لِملحمة التقدّم إنّ هذا الجهاز ما فوق السردي نفسه هو الذي يُبحَث الآن فيه. يقول د. شاكرابارتي (1991: 2163)

ص: 117


1- لقاء إعطاء جوهر بواسطة الاستشراق نفسه، ومن دون الخوض في ما يمكن أن يعنيه الفهم الباتر mutilant ، ومن دون أن يؤخذ بالحسبان الإسهام المدروس لبعض النخب الأهلية فى بناء المعرفة الاستشراقية (وهي الفكرة التي لمح إليها برنار س. كون Bernard Cohn في دراسة له 1985: 284 - 329) نُشرت في المجلد الرابع من دراسات التابع.

إنّه كان هناك «سذاجة نظرية» لدى أصحاب دراسات التابع في الاحتذاء بالخطابات الحديثة الهامّة حول التحرّر كما فعلوا في البداية. يتعلّق الموضوع بأن يُجعل مفهومًا أنّ العقل ليس سوى نموذج ثقافي من بين نماذج أخرى، وب_«ترييف» أوروبا التي هي مرجعٌ نظريٌّ ضمني لكل كتابات التاريخ النخبوية(1) 20. وقد يتعلّق الموضوع ب_«إضفاء سمات التضامن مع العالم الثالث» وذلك من خلال الاضطلاع بالمقاومة وإثارتها عند التابعين في العالم المتطوّر(2). يجب ترميم التباين الثقافي، والتخلّص من الإرهاب التفسيري الذي يشجب كل تضامن غير ممكن تعيينه مع وعي الطبقة بوصفه وعيًا خاطئًا، وردّ الاعتبار ل_ «الأزمنة الاتنية غير المُنظّمة من قبل الدولة والكتابة»(3)،وتصحيح التصوّرات الهويّاتية والمذكرات والدعوات الشعبية المَخفيّة أو المُضطهدة في ظلّ السيطرة الغربية ورواية كتابة التاريخ الحاكمة المُتواطئة مع الحداثة.

بذلك حُدّدَ المكان الذي ينطلق منه الدرس الجديد في دراسات التابع: إنّه التقاء مابعد الحداثة بِمابعد الاستعمار. لا شكّ في أنّ نشأة هذا المشروع أولّا فی الميدان الهندي ليست من الصدفة في شيء. فالهند بالتأكيد هي المنطقة المُستعمَرة في العالم التي عُمِلَ فيها تعليم عالٍ مؤطّر تأطيراً صارمًا من قبل المركز، بالطريقة الأكثر نضوجًا وعلى المستوى الأوسع، والتي نَسَجَ فيها الخطاب التاريخي للحداثة والرأسمالية والديمقراطية الروابط الأقوى، والتي تجمعها بالأوساط الجامعية الغربية أوثق الروابط. وكان باحثوها بالخصوص مؤهّلين لإحداث هذا النوع من الهجوم النقدي على الخطابات التي تُطلق في العواصم (1489 : 29,1994 Prakash). نفهم أيضًا لماذا حقّقت المجموعة خلال المرحلة الثانية شهرة دولية تجعل منها مرجعًا حقيقيًا القسم من المؤسسة الجامعية في ما وراء الأطلسي(4)السبب هو أن هذه الشهرة تعطي التجمّع ما بعد الحداثي ترسيخًا خارج الجغرافيا الغربية، في حين تبدأ بالانتشار

ص: 118


1- Chakrabarty 1992 (article repris en traduction in Diouf 1999).
2- Prakash 1990b: 403 (également repris in Diouf 1999).
3- Diouf 1999: 24, d'après une formule de Jacques Le Goff.
4- حَظِيت هذه الشهرة بدعم قوي من خلال صدور مقتطفات حول دراسات التابع في الولايات المتحدة، تحت إشراف راناجيت جوها وغاياتري سبيفاك، وقدّم لها ادوار سعيد (1988 Guha Spivak).

في مناطق أخرى من الجنوب، وعلى الخصوص أميركا اللاتينية، حيث سوء الفهم والتناقضات بين الحركات القومية والفئات التابعة تنطوي على تناسب في الحالة الهندية. لكنّ قسماً كبيراً من النقاش المُحتدم في الهند نتيجة صدور المجلدات الأولى من المجموعة قد سقط مُجدّدًا (84 : 1997 Sarkar).

وما يُدرك من الخارج بوصفه إعادة توجيه هو على الأرجح يُتصوَّر من قبل غالبية أعضاء المشروع على أنه المرحلة التي وجدت فيها المجموعة، بعد المرحلة الأولى من النقاش الداخلي المنفتح، وجدت الاتّساق حول إشكالية مُعقّدة. كان من الواضح أنّ تسليط الضوء على الوعي التابع (بدلاً من شروط العيش أو تاريخ صراعات الشعوب التابعة في السياقات الإقليمية الخاصّة) الذي كان الأثر اللافت للمشروع، أفضى إلى مأزق إذا كان الأمر يتعلّق بإعادة بناء التابع بوصفه ذاتا مستقلّة عن خطاب النخبة. ينبغي بذلك تخصيص الكلمة الأخرى للبديل والاعتراف أخيراً، وبصورة نهائية بأنّ وضعية التابع، التي يُنظر إليها غالبًا نظرة خاطئة من قبل فئة سوسيولوجية، ليست جوهرًا بل علاقة ، ولا وجود لها إلا بوصفها تنشأ على يد خطاب النخبة (الاستعمارية والقومية) كقوة مقاومة ضدّ هيمنة النخبة. إنّ هذا الموضوع جرى تناوله في كتاب بارتا شاترجي الصادر سنة 1986 Nationalist Thought and the Colonial World إنّ هذا المُصنّف يُظهر أنّ الخطاب القومي للنخبة الهندية، المُقابِل للخطاب الاستعماري الذي يجد جذوره في المؤلّفات الأيديولوجية، والذي خطاب الحداثة البرجوازية واجه تناقضًا أساسيًا وهو أنّ النخبة كانت مُضطرّة إلى الحديث باسم الجماهير عندما كانت تريد أن تتصارع مع السلطة الاستعمارية لكنها شككت في الوقت عينه وانطوت بكدّ على الاستقلال الذي لا يُقهَر لِنمط نزاعها. إنّ مهمّة المؤرّخين كانت قبل كل شيء تفكيك الخطاب الحاكم والضابط للنصوص الاستعمارية والقومية بغية استخراج المكبوت، أعني الثقافة والتجربة والذاكرة المحذوفة للشعب. إنّ هذا العمل بلا شكّ عرّض المؤرّخ لتوتّر دائم بين فكرة أنّ وضعية التابع هي قبل كل شيء أثر وضع (effet de situation ، والنزعة التي من الصعب تفاديها، إلى تمثيل تلك الوضعية بوصفها كيفية. ولا يقلّ عن ذلك

ص: 119

وضوحًا أنّ المشروع لم يكن هدفُه بالدرجة الأولى اقتراح نموذج جديد للتنضيد (stratification) الاجتماعي (الذي سيكون تبسيطيًا)، وإنما كان هدفه إعادة دمج السلطة كمعطى مركزي للتنظيم الاجتماعي، والبرهنة على أنّ النظرة الليبرالية البرجوازية للدولة - الأمة بوصفها وحدة جمعية واتفاقية، هي خاطئة في الأساس.

إنّ سيّئة هذا الاستقطاب باتّجاه «نصّية» (textualité) الاستعمار والنزعة القومية وباتّجاه نقد خطاب النخب هي أنّه يُزيل الطابع المادّي نهائيًا عن ميدان التنافر بين النخب والتابعين بهدف حصره ضمن نسق الثقافة. إنّ المسافة ضمن الحركة ذاتها التي تَفصلنا عمّا كان يُصنّف بأنّه النموذج الكوني الغربي للعقلانية أدّت إلى تقويم الفرق لأجل ذاته، بمعزل عن أي معايير أخرى غير مقاومة لسيطرة الحداثة التي تؤمّن الانتظام. شيئا فشيئا، ينتقل الكثير من أصحاب دراسات التابع من التعارض المزدوج نخبة / تابع إلى التعارض حداثة غربية / ثقافية أهلية. ويميل إلى ردّ الاعتبار، دفعة واحدة، لإنسان ما قبل الاستعمار باسم نقد الاستعماري، أو (في ما يتعلّق بالهند المعاصرة) ردّ الاعتبار للأقلّي والهامشي باسم نقد الدولة - الأمة التي نتجت من النضال من أجل الاستقلال، والتي تُجسّد في الهند الحداثة السياسية التي تقوم على الاضطهاد وتَرجع الأصل إلى أيديولوجيا الأنوار. يُحلّل جيان براكاش (الذي التحق حديثًا بفريق النشر الخاصّ بدراسات التابع)، مثلاً، في كتاب رائع صادر سنة 1990 (Bonded Histories: Genealogies of Labor Servitude in Colonial India الطريقة التي تطورت بها العلاقة بین الفلاحين الحاكمين في «بيهار» والتابعين الذين يستخدمونهم كعمال زراعيين منذ الحقبة الاستعمارية. إنّ التمييز بين المُستخدِمين والعمال، برأي ،براکاش لم يفعل سوى تجسيد اختلاف وضع خاصّ بالمجتمع التراتبي للطبقات. إنّ هذا التوزيع الوظيفي تضمّنَ حقوقًا وواجبات ضمّت كل جوانب العيش، واحتوت بخاصّة على علاقات الاعتماد التي لم تكن أساس العلاقة (مُستخدم - مستخدَم) بل مجرد جانب إضافيّ لها. باقتفاء أثر إلغاء العبودية في الهند باسم المثل الأعلى الليبرالي للأنوار وَصَفَ البريطانيون من جديد في القرن التاسع عشر، علاقة التبعية وصفًا قانونيًا للملاءمة بينها وبين الحق الحديث وجعلها قابلة للتصحيح من خلال

ص: 120

الوسائل القانونية العاديّة. وعندئذ ماثلوا بينها وبين التزام عمل تعاقدي مُوقّع في مقابل اعتماد. لكن يتّضح أنّ هذه الاستدانة التي تُثقل على أفقر الفقراء لا يمكن تسديدها لأنّ مداخيلهم زهيدة جدًا. إنّ البريطانيين، من خلال الإصلاح، أسّسوا عمليًا العبودية عن طريق الديون، وحوّلوا المُزارع إلى إنسان غير حرّ. إنّ الجهود اللاحقة للدولة لإلغاء هذا النوع من العبودية فشلت حتى اليوم، وأصبح العنف في العلاقة بين المُستخدِم والمُستخدِم التي تقتصر على العامل الاقتصادي أصبح لا يُغتفر.

إنّ قوّة تأثير هذا النقد للحداثة لا يأتي من كونه يسنح للحداثة بالظهور وهي غير تامة وتنقصها الفعالية، بل من جهة أنّه يكشف أنّها مُحرّفة. هناك عدد قليل من أصحاب دراسات التابع سوف يكتفون بالإجابة الكلاسيكية المُقابلة لِهذه الملاحظة، التي تُفيد أنّ النزعة الإصلاحية الليبرالية في مُحيط غير غربي تؤدّي لا محالة إلى نتائج جزئية أو مُزيّفة تولّد بدورها توتّرات وإخفاقات غالبًا أسوأ من الشرّ الذي تدّعي النزعة الإصلاحية تصحيحه. عبّرت ديبيش شكرابارتي سنة 1995 عما هو مشترك بين هذا التشخيص وعيوب المركزية الأوروبية للاستشراق: «لماذا ما تزال الحداثة المستقبل الذي ينتظرنا بعد مرور أكثر من مائتي عام على إدخالها على يد الإمبريالية الأوروبية ؟ كم من الوقت يحتاج الهندي ليصبح عصريًا؟ إنّ الحداثة المُمتلئة والكاملة ستكون شيئًا جيّدًا، وتجسيداً للرفاهية والعقلانيّة ولا :نقول ما نملكه هو كل ما لدينا نقول ما لدينا ليس سوى نسخة سيئة لما هو جيّد في ذاته. ونُضيف أنّه ما زال علينا أن نتقدّم. إنّ الانتقال من نبرة النحيب إلى نبرة السخرية هو الانزياح الذي يُحدثه الجحود في مقابل ماوراء الروايات الأوروبية في عصر التنوير . إنّ سخرية المؤلّف تختصّ بالجملة الافتتاحية في أحد كتب سومیت ساركار (الكتاب الأفضل حول تاريخ الهند في عصر القومية)، حيث قِيل إنّ الهند أتمّت في القرن المنصرم أكبر عملية انتقال في تاريخها، «انتقال بقي مع ذلك من نواحٍ عدّة غير تامّ»(1). أمام خطاب الحداثة المُهيمنة والتقدّم، وأمام «دعاية العقل»، و«الهوس الأحادي للخيال عند الشخص العالم

ص: 121


1- D. Chakrabarty 1995: 755. Le manuel en question est Sarkar 1983; mes italiques.

القاضي والمُعلّم الذي يعلم دائمًا ما هو جيد للعالم قبل أن يتأكّد»، يجب، برأي شکرابارتي، «الذهاب إلى التابع»، «وتركه يطرح تصوّراتنا للكون» و«الاستعاضة عنها بالوجداني والديني» و «بما رأينا أنه لاعقلاني بعد أن صارت حديثة»(1).

إنّ وصف التابع ضمن هذه النظرة ، ليس سوى عنوان مُتآلف يُشير إلى كل أشكال التباين الثقافي التي استمرّت في الوضع الاستعماري، وإلى كلّ ميادين الفكر والتجربة في المجتمع المحكوم التي بقيت غير قابلة للولوج إليها ومُتمرّدة بالنسبة للسيطرة الاستبدادية التي مارستها العقلانية التنويرية والحداثة الغربية والدولة - الأمة الخاصّ أو المنزلي في مقابل العامّ (أي الميدان السياسي والاقتصادي والإداري والتقني حيث تسود السلطة الاستعمارية)، الديني الفنّي العاطفي في مقابل العقلاني الجماعي والمحلّي والهامشي في مقابل الدولي (etatique) والوطني، وبالتأكيد ما قبل الاستعماري في مقابل كل ما جاء من بعد إنها ميادين البحث الاختيارية الخاصّة بِدراسات التابع. وكلّها تُحلّل في مقابل النموذج الاستعماري الحديث، وقتٍ تُشير إلى وجود تباين وتتميّز بوصفها «غير قابلة للقياس»، ويمكنها أن تتجلّى كنماذج مضادّة (نُورِد مصطلح ما بعد حداثي الذي يرِد الآن على نحو واسع عند مؤلّفينا). ثمّة كلمة مفتاح أخرى هي «الجزء»، التي هي ضدّ متعدّد المعاني للسيد والعنصر الكوني، والمتجانس، والمُستمرّ، والتي تنطبق بخاصّة على الأجزاء الاجتماعية المُضطهدة التي أخرستها الدولة - الأمة، والتي لها مشروع تابع يقصد إلى ترميم الكلام (2)عن طريق العدوى، تنقسم بنية الكتب نفسها، وتنتهي الفصول بلا خاتمة : كتب شاترجي (1993 (13) التعبير عن الذات باسم الجزء واردٌ أيضًا، وليس من غرابة في ذلك، إنتاج خطاب هو ذاته مُقسّم (1995 cf. Amin) أخيرًا المصادر هي غالبًا أكثر فأكثر أدبية. هذا يُفسّر بلا ريب جزئيًا بأنّ دراسات التابع وضِعَت في الأصل من قبل راناجيت جوها تحت تأثير النقد النصّي، وبأنّ أقسام الأدب في الجامعات الأميركية هي أحد مراكز رواج الأسئلة الابستمولوجية التي تُلهم اليوم كتّاب

ص: 122


1- Chakrabarty, ibid: 757 et 753.
2- Cf. Pandey 1992 (repris in Diouf 1999); Chatterjee 1993.

المجموعة (ادوار سعيد وغاياتاري سبيفاك الأعضاء البارزة في الفريق، وهما ينتميان إلى هذا التجمّع) لكن يجب النظر بخاصّة إلى التأثير الناتج من انتقال الاهتمام من الوثائق الاستعمارية باللغة الانكليزية إلى الأدب المطبوع باللغات المحلّية (.A 1996 Chakrabarty 1995; Ramachandra Guha). إنّ هذا الأدب الهالك الذي كان مُتشتّتّا ولم يُحفَظ إلا قليلاً(1)يفتح حقل بحث كثير الوعود أمام التاريخ الثقافي. إنّ هذا الحقل لم يكن مجهولاً عند الباحثين، بل ازداد عدد الذين يختلفون إليه منذ ما يقارب خمسة عشر عامًا، بالرغم من أنّ المعالجة المُلائمة لمختلف مستويات القراءة، التي يفترضها الاستعمال التاريخي لهذه المصادر، تقتضي إجراءات نقدية مُنظّمة جدًا. ومن البديهي أنّنا نبتعد أكثر من خلال هذا الجانب عن الاهتمام الحصري بالتابع الأمي الممنوع من الكلام والخاضع للنخب أكثر من السلطة الاستعمارية، والذي كان محور الحديث في دراسات التابع. يتعلّق الموضوع قبل كل شيء بالهوية الثقافية، فالمعيار المُميّز الذي يُدير موضوع الدراسة هو درجة المناعة أمام غزو الحداثة الاستعمارية. إنّ موضوع کتاب هاردیمنD (Hardiman. الأخير، العضو المؤسّس لِفريق البحث عنوانه (Feeding the Baniya (1996) الذي يبحث بمهارة اضطهاد الفلاحين من قبل المُقرضين بالربا في الهند الغربية إبّان العصر الاستعماري، إنّ موضوع الكتاب المذكور لا يبدو لائقًا.

إنّ الصعوبات والمُلاحظات النقدية التي يخوض فيها هذا التوجيه تحمل، في الآن نفسه طابعًا علميًا وسياسيًا. لقد تخلّى أصحاب دراسات التابع عن كل مقاربة حول ثقافة وفعل التابع «تُضفي الطابع الأنتروبولوجي» على التباين الثقافي بإرجاعه إلى التأويل الكوني للعقلانية، في حين يرفض التابع تاريخیًا يضع ويُسمّي النشاط الجدالي للتابع بالهامشي أو الرجعي (reactionnaire) بحسب معايير ماوراء الرواية المُتعلّق بالتقدّم. يُضيف شكرابارتي (1998) أنّ المَسألة تتناول سرد تاريخ «جيّد» يُناسِب الخطابات التي تتناول منهج روبن

ص: 123


1- La Vernacular Tracts Collection » de l'India Office Library (la structure qui abrite les archives colonials de l'Inde à Londres) est un des conservatoires les plus utilisés de cette littérature.

ج.كولنغود ومنهج ادوار کار ومارك بلوخ ، بقدر ما تتناول المعرفة المُدمّرة من دون الاستغراق في اللاعقلانية، يجب إخراج التاريخ إلى أقصى مداه، والرجوع إلى أشكال عديدة للديمقراطية لعلّنا لم نفهمها بعد جيّدًا (1998 Chakrabarty). بذلك فإنّ أصحاب دراسات التابع انتقلوا من نقد كتابة التاريخ النخبوية الغالِبة، المُذنبة بحجب ميدان استقلال التابع إلى النقد المَحض والبسيط للتاريخ بوصفه اختصاصًا مُطابِقًا لِلأنساق المقالية الكبرى للحداثة. بعد شجب إنسانوية التنوير بوصفها العامل الذي لم تُوضّحه الماركسية، يضمّ نقد الحداثة، من منظور دراسات التابع، فكر ماركس الذي تأثّرت تحليلاته بخطاب تحرّر قدّم في ما مضى تبريرًا للتوسّع الاستعماري لأوروبا ويصلح اليوم لِتسويغ الدولة - الأمة (1994:1489 Prakash - (1490). تلك هي أسئلة كبيرة. لكن ينبغي مُلاحظة أنّ أصحاب دراسات التابع يصنعون دائما التاريخ في أغلب الأحيان بموهبة، وليسوا بفلاسفة إلا مُصادفة. من البديهي أن يقود التقويمُ النسقي لِإنسان ما قبل الاستعمار أو الأهلي في مقابل الاستعماري، الذي عولِجَ من غير تمحيص کاداة للتاريخ مُساعدة على الكشف من البديهي أن يقود إلى التبسيطية الأكثر تشوّهًا، أسهل من تشييء التعارض نخبة تابع. ويمُثّل بمعنى ما العنصر السالب في الطابع الذي رسّخته عميقًا كتابة التاريخ في الأذهان، والذي يجعل من الاحتلال الأوروبي رقابة عرقية وبداية في كل ميادين الحياة الهندية. لكن، من خلال السعي إلى تنسيب (relativiser) هذه المُسلّمة للتقدّم نحو نظر أكثر تباينا للسيرورات التاريخية إنما صنعت كتابة التاريخ في الهند في الأعوام العشرين الأخيرة بعض التقدم الذي لا جدال فيه.

ص: 124

الفصل الثاني الاستعمار القديم

اشارة

ص: 125

الاستعمار المنتشر:نحو نظریة معرفة لفهم زمن الاستعمار

اشارة

أحمد رهدار(1)

الاستعمار في أكثر معانيه عمومية هو الاستفادة من الآخرين رغماً عنهم ودونما تقديم أي تعويض لهم ، الاستعمار منذ القديم وحتى الآن، ولأسباب تخصه قام بتغيير شكله القديم وحتى شكله المعاصر، ولكن رغم هذه التطورات والتحولات إلا أنّ روحه - المتمثلة بالتسلط على الآخرين - مازالت كما كانت... تحوّل الاستعمار من شكل لآخر - كما هو حال كل الظواهر الاجتماعية الأخرى - تم بشكل متدرج وليس

- بشكل مفاجئ، لذلك من الصعوبة وضع حدود زمانية أو مكانية بين هذه التحولات دون الاستفادة من وسائل مساعدة واشارات وطرق محددة إنّ عصرنا الحالي يشهد وجود استعمار هو من أشدُّ الاستعمارات تعقيدا والذي يتميز بخصائص منها التخفي والانتشار والتجهز بأدوات تقنية وحديثة .... الخ في هذا الزمان، تم تعريف دول الغرب بالعالم الأول، رمزاً للاستعمار ، كما تم تعريف دول الشرق بالعالم الثالث رمزاً للمستعمرات، إنّ التعرف على ماهية ووجوه خطط الاستعمار في أي عصر كان وتاريخ تطوره وتحوله إلى أشكال معقدة أكثر فأكثر، يساعد المستعمَرين في فهم الاستعمار والقدرة على مواجهته

ص: 126


1- عالم دين وأستاذ العلوم السياسية في جامعة باقر العلوم - قم، ورئيس مؤسسة (فتوح انديشة) للدراسات والتحقيقات الإسلامية - ايران.

وهذا المقال هو في صدد ذكر خصائص الأشكال المختلفة للاستعمار وتبيين ظاهرة الاستعمار المعاصر الذي يعد من أكثر انواع الاستعمارات تعقيدا.

الألفاظ الهامة: الاستعمار القديم الاستعمار الجديد، الاستعمار المعاصر، صحوة الصفوة صحوة العامة والتكنولوجيا المخفية.

التوسع العالمي والتوسع الدولي

التوسع العالمي وهو من أقدم أشكال الاستعمارات (1)بالمعنى العام والذي كان يهدف إلى ضم الدول المجاورة له واحتلالها عسكريّاً عن طريق الغارات السريعة بحثاً عما يمكن سلبه ونهبه في هذا النوع من الاستعمار يقوم البلد المستعمر باحتلال البلاد الاخرى بداية من حدوده مع الدول المجاورة له وحتى آخر نقطة يستطيع الوصول اليها، وبسبب فقدان هذا النوع من الاستعمار لخطط بعيدة الأمد وكذلك فقدانه الوسائل الارتباطية والاتصالية وأدوات التحكم الشامل و...الخ فإنه لا يستطيع تحقيق وجوده الفيزيولوجي داخل أراضي البلد المحتل إلا إذا قام بضم هذا الأخير إلى أراضيه وعين من جانبه حاكماً عليه، لذا فإن هذا النوع من المشكلات يدفع المستعمر إلى مضاعفة جهوده من أجل الحصول على أكبر كمية ممكنة من خيرات البلد المحتل في وقت قصيرٍ جداً.

كما أن الحصول على خيرات البلد المحتل لا يمثل المطمح الوحيد في شكل التوسع العالمي، إنّما أيضاً السعي الشديد وراء الانتقام الذي يجد جذوره في الخصومات القديمة بين الدول المتجاورة، لذلك فإن هكذا استعمار كان على الدوام يُخلّف وراءه إرثا من الخراب والدمار في البلاد المستعمَرة، دمارٌ بمستوى الدمار الذي يمكن أن تخلفه قنبلة نووية في زماننا الحاضر، فمثلا نيرون الذي قام باشعال النيران في مدينة روما ببشرها ومساكنها وكل ما كان فيها ، وأيضاً الاسكندر الذي هدم عرش جمشيد... فإذا أخذنا بالاعتبار التكلفة ومتاعب بناء مثل هكذا مدن في ذلك الزمان فإنه ستتضح الصعوبة الكبيرة في اعادة بناء هذه المدن المهدّمة من جديد.

ص: 127


1- الاستعمار بالمعنى الخاص هو تلك الظاهرة الوليدة المتزامنة مع التمدن، مع امكانية اطلاق هذه التسمية على اشكال السلطة ما قبل عصر التمدن أيضا.

في عصرنا أيضاً، إذا شك البلد المستعمِر بقدرته على البقاء لمدة طويلة داخل البلد الذي قام باحتلاله فإنه يقوم باللجوء إلى أسلوب السلب والنهب والغارات السريعة، كما كان حال العراق في إغارته على الكويت في بدايات العقد التاسع من القرن الماضي، لكن وبالنظر إلى وجود الأمم المتحدة، ووسائل الاعلام العالمية، وصحوة الأمم و.... فإنه يمكن القول بأن التوسع العالمي في عصرنا الحالي قد وصل

إلى درجة الصفر.

2) الاستعمار القديم

2-1 الاحتلال العسكري

هذا النوع من للسيطرة على البلاد التي يدخلها ضمن خطط طويلة الأمد يعمل من خلالها جاهداً لنهب مدخرات ومنابع البلاد الأصلية، وفي هكذا شكل للاستعمار فإن الشعب المستعمر يُظهر أنواعاً من المقاومة في مواجهته لغاصبه، الأمر الذي يُجبر المستعمِر على تقديم بعض الاصلاحات والخدمات، وقد شهدنا مثل هذا الأمر في الهند التي كانت مغتصبة من قبل الانكليز، حيث أظهر الشعب مقاومة أجبرت الانكليز على اتخاذ خطوات إصلاحية وخدماتية.

إن عملية استعمار بلد ما بالاضافة إلى أنها تحمّل البلد المستعمر تكاليف ضخمة إلا أنها أيضا تجرّ عليه تبعات تاريخية كثيرة.

وأحد أهم هذه التبعات هو الكره الذي يبقى في أذهان الناس المستعمَرين تجاه البلد الذي قام باستعمارهم سابقاً، وهكذا نوع من الكره - خصوصا حين يترافق ذلك مع تنامي صحوة الشعوب المستعمَرة وأيضا تحقق بعض العوامل القومية والوطنية - يتأثر ببعض العصبيات القومية والإقليمية والدينية والتي لا يمكن أن تزول ببساطة حتى في حال حصول البلد المستعمَر على استقلاله وبداية قيامه بعلاقات ودية تدريجية مع البلد الذي قام في الماضي باستعماره، إلا أن تلك المشاعر تبقى مخفية

ص: 128

في طيات ثقافة الأمة المستعمَرة وجاهزة للظهور في وقتها لتلعب دوراً في الرفض وحتى في قيام ثورة ضد البلد المستعمِر

2 -2) استعمارات تجاوزت حدود الجيران:

فى الاستعمارات القديمة لم يكن من الضروري دائما أن يكون البلد المستعمر مجاوراً للبلد المستعمَر، إنما في حالات كثيرة كانت المسافة بعيدة جداً بينهما (العديد من الدول الشرقية المستعمَرة - في القرنين 18 و 19 للميلاد - كانت تبعد كيلو مترات كثيرة عن الدول المستعمرة لها) لذا فقد واجهت عملية الاستعمار مشكلات عديدة، فمن جهة قلة قوات المستعمِر المتواجدة على أراضي المستعمرة، ومن جهة أخرى المقاومة المتزايدة والمتسعة - رغم أنها مخفية وبسيطة - من قبل الشعوب المستعمَرة، ومن جهة ثالثة إمكانية إدخال أكبر عدد ممكن من القوات وبأقصر وقت إلى البلد المستعمَر، أمر غير ممكن ، إلا أن كل هذه المشكلات تبدو غير ذات أهمية في مقابل الأرباح التي يجنيها المستعمِر .

إن الدولة المستعمِرة من خلال متابعتها لمنافعها بعيداً عن حدود أراضيها فإنها تحقق شكلين من الربح، فمن طرف تستحوذ على منافع ومنابع البلد الآخر، ومن طرف آخر فانها تنأى بنفسها إلى حد ما عن الأخطار الخارجة عن السيطرة كالأمراض السارية والمميتة أو الزلازل والسيول أو الحملات الخارجية و... وغير ذلك مما يمكن أن يهدد أمن وسلامة الدولة المستعمرة، حيث إنّ مثل هكذا أخطار يمكن أن تنتقل من البلد المستعمَر في حالة جاور البلد المستعمِر.

3 -2) يقظة الصفوة في الأمم المستعمَرة:

إن من نتائج هذا الاستعمار حدوث نوع من اليقظة في بعض شرائح الأمة المستعمَرة، وهذه اليقظة الحاصلة نتيجة الاستعمار القديم عادة ما تكون بين الصفوة من الطبقات الدينية والعلمية والسياسية والعسكرية الموجودة في الأمة المستعمَرة - وهذا ليس أمراً حتمياً في كل الأمم، وبسبب قلة الوعي العمومي كثيراً ما يكون

ص: 129

هؤلاء الصفوة وحيدين في مواجهة الاستعمار وغالباً ما كانوا يفقدون أرواحهم فداءً لقضاياهم، إنّ المفارقة المهمة فيما بين الاستعمار وطبقة الصفوة أو النخب الواعية في عملية إيقاظ الأمم المستعمَرة تنبع من نقطة هامة وهي أن أي رد فعل يصدر عن الاستعمار في مواجهة الصفوة سينتهي بضرر يصيب الاستعمار، حيث إنّ هذا الأخير لا يستطيع ترك الصفوة لينتشروا على راحتهم لأن هذا يعني أنه بعد مدة قصيرة سيخرج جمع لا يستهان به من الناس بشعارات الاستقلال والحرية، وأيضا لا يقدر أن يصد الصفوة ويتعامل معها بقسوة حيث إنّ ذلك سيوقظ العصبيات الدينية والقومية وسينتشر الغضب الشعبي الذي كان متخفياً وهذا سيكون لوحده سببا لليقظة الشعيبة(1) ولكن التجارب التاريخية تُظهر بأنّ الاستعمار عادة ما يختار الطريقة الثانية من الطريقتين المذكورتين أعلاه، ونفس تلك التجارب أيضا أثبتت أنه في كل مرة يتعرض فيها نخب الأمة للسلوكيات العدائية من قبل المستعمر فإن النتيجة لا تكون فقط في أن صيحاتهم لا تخمد بل وتعلو أكثر وتزداد انتشاراً.

3) الاستعمار الجديد:

1 -3) الحضور غير الفزيولوجي والاستفادة من القادة المحليين:

الاستعمار الجديد هو الاستعمار الذي حدّ فيه البلد المستعمَر من وجوده داخل البلد المستعمر إلى أقلِّ درجة ممكنة، وفي هذا النوع من الاستعمار يكون القادة جماعة من نفس أفراد البلد المستعمر ، ويعمل تحت إشرافهم قلة من القوات الأجنبية المنتمية إلى الاستعمار، ونجد من الأمثلة البارزة على ذلك ايران في عصر الحكم البهلوي وتركية في عصر حكم أتاتورك.

القادة المحليون في هذا الشكل من الاستعمار الجديد يحظون بحماية واضحة

ص: 130


1- هكذا مفارقات يمكن أيضا أن تصح في علاقة الدولة مع الثوار أحد أهم التناقضات الأساسية للثورة هو أن سعي الدولة لتجنب الثورة من خلال الاصلاحات أو اخماد الثورة غالبا ما ينتهي بنتائج أسوء حيث تزيد من حدة مطالب التغيير وتهيج أعمال الدولة غير الصحيحة مشاعر الغضب أكثر . جاك كلدستون مطالعات نظرية تطبيقية وتاريخية في باب الثورات»، ترجمة محمدتقي دل فروز (طهران، کویر، ط 1 ، (1385، ص 31.

ومباشرة من قبل المستعمِر ، ويتم تربيتهم بناء على نوعين من السياسة:

أ- التجربة التاريخية تشير إلى أن الاستعمار الانكليزي كان يحاول ربط القادة المحليين به بصورة عائلية حيث كان ينتخب بعض العوائل (التي تعد من طبقة الأشراف والأعيان وطالما أظهرت تضاداً في اتجاهاتها التيارات والأحزاب الشعبية) ويعمل على استثمارها من خلال دعوة أبنائها للدراسة في جامعاته في الخارج، حل مشكلات العائلة السياسية العالقة من دون طلب أي مقابل لذلك علماً بأن الاستعمار هو من أوجد هذه المشكلات للعائلة بشكل سري منذ البداية، جذبهم ليصبحوا أعضاء في جماعاتها ومؤسساتها السرية كالماسونية، وهكذا فالانكليز يعتقدون بأن استثمار العائلات والاستفادة منهم خصوصا في جو العلاقات الشرقية يعد الأفضل على الاطلاق لأن العائلة ستصاب بتلوث سياسي كامل داخلها وهذا سيحمي أفرادها من الضغوط العائلية النفسية في حال تلوث بعضها وبقي الآخرون من أصحاب الولاء الوطني.

ب) بقية المستعمِرين من غير الانكليز لا يعتمدون سياسة استثمار العوائل وإنما يعملون بحسب ما تقتضية الحاجة وتستلزمه المرحلة، فأحياناً يقومون بانتخاب فرد واحد من عائلة يقومون بتربيته وتنشئته تحت إشرافهم حيث إنهم يعتقدون بأنّه حال كشف أمر هذا الفرد وظهرت خيانته فإن الدولة المستعمرة لن تجبر على دفع ثمن باهظ لقاء ذلك، في حال أنه في الأسلوب الانكليزي يتوجب على الدولة المستعمِرة في سياق حمايتها للأسرة بكاملها تحمّل أعباء ميزانيات ثقيلة تدفعها من أجل حماية بعض القوى غير المفيدة أو غير الفعالة بل والمكلفة جدا.

في الاستعمار الجديد - وعلى عكس الاستعمار القديم لم يكن من الممكن حدوث أي علاقات متبادلة بين المستعمِرين والصفوة من الأمة المستعمَرة، وكلما مضى الزمان أكثر كلما تزايد العداء بين الطرفين - يكون هنالك نوع من التعاقد غير المكتوب، ولكنه واضح وجلي أمام العيان، بحيث يقوم الاستعمار بحماية الصفوة أو النخب وتحقيق أهدافهم خصوصاً السياسيّة منها المتمثلة في حصولهم على مناصب

ص: 131

تناسبهم وأيضا عزل منافسيهم .... وفي مقابل ذلك يقوم الصفوة بالدفاع عن مصالح المستعمَرين.

2- 3) يقظة العامة:

من نتائج هذا الاستعمار إيجاد نوع من اليقظة - هذه المرة ليس فقط على مستوى الصفوة الذين أصبحوا أعوانا للاستعمار - بين العامة من الناس، بحيث يصل التبصر إلى حدّ تجبّر فيه طبقة الصفوة على تحديد موقفها بشكل صريح وواضح ، أما (مع) أو «ضد» التحرك الشعبي، ففي المرحلة التي تبلغ فيها اليقظة أوجها يكون صمت الصفوة أو اتخاذهم للحياد بلا معنى وهكذا فإن ضغوطات الأفكار العامة في مثل هذه الأوضاع يصل مرحلة يكون فيها الصفوة من الذين لا يريدون أن ينضمّوا إلى الاستعمار الخارجي والاستبداد الداخلي وفي ذات الوقت لا يمتلكون من روح الثورة الشيء الكثير، مثل هؤلاء يُجبرون على ارتداء لون السواد الأعظم من العامة.

يقظة العامة هي من أفظع الأوضاع التي يمكن أن يواجهها الاستعمار، لأنها من أكثر المواجهات التي تفرض ميزانيات كبيرة وتشبه إلى حد كبير الموارد المستحيلة، إن الفارق ما بين يقظة النخب ويقظة العامة يمكن توضيحه في مثال واحد، كأسد أو عدد من الأسود الذين يقومون بين الفينة والأخرى بالهجوم على قرية فيقتلون من أهلها، ومع تكرر هذا الوضع يندفع شيوخ القرية وكبار السن فيها وأيضاً بعض الشباب من أصحاب المروءة لاتخاذ قرار صارم في هذا الشأن، وفي النهاية يتفقون على قتال الأسود وفي وقت معلوم يخرجون للقضاء عليها، رغم أنهم يعلمون بأنهم في هذه المعركة سوف يصابون ببعض الخسائر إلا أن أمر تلك الأسود سينتهي ولكن ماذا لو كان مكان تلك الأسود المهاجمة جيش من ملايين الجراد أو حتى النمل ؟ فهل سينتهي الأمر بمثل تلك المواجهة السابقة؟ قد يكون الجواب نعم ولكن الشيء المسلّم هنا هو أن مواجهة النمل أو الجراد سيحتاج تكاليف أضخم بكثير من مواجهة عدد من الأسود، وكذا فإن صحوة عامة الناس تشبه هجوم ملايين من الجراد والنمل، والتجربة أثبتت بأن الاستعمار لا يستطيع

ص: 132

محو شريحة كاملة من عامة الناس في بلد ما، ولكنه استطاع في مرات كثيرة إزالة النخب المخالفة له.

3-3) حذف الدين من محافل القوة:

فی الاستعمار الجديد، وعلى الأقل على المستوى النظري (وبالطبع على المستوى العملي أيضا إلى حد لافت للنظر) فإن الدين لا يُلحظ وجوده في مناسبات القدرة، وقصة حذف الدين أو تنحيته عن المحيط الاجتماعي منذ بداية الغرب الجديد وحتى نهاية عصر الاستعمار الجديد مرت بعدة مراحل نشرحها فيما يلي:

(أ) بعد ثورة فرنسا الكبرى حدث هنالك انقسام في مسيرة التاريخ الغربي مابين التقليدي والحديث بحيث تقدم الحديث على التقليدي وصار من المعروف أن بداية الحداثة غير ممكنة إلا في حال انتهاء التقاليد القديمة لهذا توجه الإنسان الغربي نحو الحداثة أكثر، ونتيجة لذلك لم يبق للتقاليد سوى ذاكرة وخواطر الإنسان الغربي لتسكنها بعيداً عن ميدان الحياة الفعلية وخارجها .

ب) في المرحلة التالية تم تفسير الدين على أنه من التقاليد، وتحديده ضمن الخاصة الممارسة ضمن

الطقوس التقاليد، أو على أقل تقدير بأنه من الظواهر البارزة داخل محيط التقاليد وهكذا وبما أنه جزء من التقاليد المحكوم عليها بالتهميش فقد كان من الطبيعي الحكم على الدين أيضا بذات الشيء.

ج) في المرحلة الثالثة، تم تقليص الدين إلى مجرد تقليد، وبالتالي أُخرج من ميدان المجتمع لينحصر في المجال الفردي فحسب وهو ما أدى إلى رفض المرجعيات الدينية ضمن الميادين الإجتماعية بل وأسوء من من ذلك حيث أمست المناسبات الدينية تجري تحت ظل المناسبات والقواعد الإجتماعية وصار الدين أحد المؤسسات والدوائر التي يتم تعيين مصيرها من خلال السياسات الإجتماعية.

د) في المرحلة الرابعة تم تقليص تعاليم هذا الدين وتحجيمها، ففي أفكار كانت

ص: 133

سمیت بالأخلاق، وفي أفكار دوركايم العملية الاجتماعية، وفي أفكار ويتكنشتاين التلاعب بالألفاظ و.... وبهذا فإن المجالات المتعلقة بهذه التعاليم من جهة وكافة المجالات الدينية من جهة أخرى تحولت إلى هوامش أغفل النظر عنها .

ه_) في المرحلة الخامسة، تعريف التعاليم الدينية التي تم تقليصها فيما سبق على أنها من المعايير الفردية وبالتالي فلكل شخص الحرية في تفسير تلك التعاليم كما يشاء، ونتيجة لهذه المرحلة أصبح الدين موضوعاً غير محددٍ بالذات إلا فيما يعينه أو يحدده الأفراد بأنفسهم - وهؤلاء بدورهم يقومون بذلك دونما استنادٍ لأي منطقٍ مقبول.

4) الاستعمار المعاصر:

1 - 4) الاستعمار المنتشر:

الاستعمار المعاصر هو أحد أشكال الاستعمار الذي يكون فيه المستعمرون وأتباعهم المحليين متخفين أو غير ظاهرين للعيان، ويمكن تسمية هذا النوع من الاستعمار «بالاستعمار المنتشر» والذي بناءً عليه، فإن نوايا المستعمرين وأهدافهم تواصل تتابعها دونما احتياج لأي تمثيل من قبل شخص ما أو حدث خاص، وفي هذا النوع من الاستعمار يبلغ «التخفي والانتشار» حدّاً يصعب معه حتى بالنسبة للنخب والصفوة كشف أتباع وأعوان الاستعمار يذكر ميشيل فوكو الفارق ما بين القدرة والسلطة (1)فيقول «القوة ليست سلبية دائما، فهي ذات وجه إيجابي وبنّاء أيضاً، كما أن إجراء القوة لا يعني أن مجريها هو صاحب القوة، لأنها ليست ملكاً طيِّعا لأحد ولاميزة يتميز بها أحد. من وجهة نظر فوكو وخلافا لما هو معروف، فإن القوة ليست

ص: 134


1- من وجهة نظر فوكو في كل علاقة اجتماعية هنالك علاقة قوة ولكن كل علاقة قوة ليست بالضرورة دليلا على وجود السلطة والسلطة خاصة بالمواقع التي تكون علاقة القوة فيها ثابتة وغير متغيرة وذات شكل هرمي ومحرومة من الحرية تقريبا، اذا فوجود أو عدم وجود السلطة يرتبط بدرجة اللين داخل علاقة القوة، أحد الأمثلة التي يطرحها فوكو لتوضيح الفارق ما بين القوة والسلطة هو مكانة النساء في القرنين 18 و 19 داخل المجتمعات الغربية، حيث في ذلك الزمان لم يكن امام المرأة الكثير لتختار ، فإما أن تخدع زوجها، أو تسرق ماله أو تمتنع عن الخضوع له ولكن رغم ذلك فإن هذه الخيارات لم تكن لتعطي المرأة إمكانية قلب علاقة القوة لصالحها، وفي نهاية الأمر (ورغم هذه الخيارات كانت النساء تحت السلطة.

شيئاً تعود ملكيته للطبقات من أصحاب السلطة فيما تحرم منها الطبقات الضعيفة، بل إن كلا الطبقتين متساويتين في كونهما جزء من شبكة القوة.

وبناءً على ذلك فالقوة ليست منحصرة في الديكتاتوريين والحكام بل هي منتشرة وموزعة على كل النظام الاجتماعي ونتيجة لذلك لا يمكن تغيير القوة من خلال الانقلاب العسكري أو الثورة، إن علاقة القوة تشبه لعبة الشطرنج التي في كل خطوة منها يمكن إما الحد من حركة الخصم أو فتح فرص جديدة أمامه للتحرك(1).

فی الاستعمار المعاصر بالاضافة إلى أنه لا يحصل هنالك علاقات - كما كان في الاستعمار الجديد - ما بين الاستعمار والقادة المحليين، فإن هؤلاء المتأخرين يرفضون بشدة نسبهم إلى الاستعمار، والحقيقة هي أن الاستعمار المعاصر يسعى لتطبيق أسس تربيته الفكرية والسياسية على قواته الذين يقومون يتنفيذ مساعي الاستعمار دون أن يدركوا ذلك، إن الاستعمار في شكله هذا يضع أكثر جهده على الحقول البرمجية، فمثلا هم يقومون بتعريف المعايير العلمية بما يتناسب ومصالحهم السياسية كي يجبروا أعداءهم السياسيين في البلاد المستقلة والتي كانت في قرون مضت مستعمرة لهم ، يجبرونهم على قبول هذه المعايير، وبالنتيجة يقومون بتحقيق أهداف المستعمر، وبناءً على ذلك يقومون بترسيخ قوتهم من خلال علومهم (2)وإن أحد أكثر الأمثلة شيوعاً والتي توضح عملية فرض المعايير على الأمم التي في طور الاستثمار، هو إعطاء المصداقية للمجلات المعروفة ب ISI والتي بناءً عليها يتم تعيين المناسبات العلمية في العالم الثالث، ويكتب أحد أصحاب الرأي منتقداً المصداقية الحصرية المعطاة لمجلات الت ISI:

«إن ISI ليست فقط معياراً يَتِم بناء عليه ترتيب الدول علميّاً وتعيين درجات

ص: 135


1- شاهرخ حقيقي ، أكثر من المدنية (طهران: ط1، 1379) ص 195 196
2- في عصرنا الحالي، تحدث ميشيل فوكو عن وجود علاقة خاصة ما بين القوة والعلم فهو في كتابه علم دراسة الأنساب يقول : العلم (قوة ولكنه لم يقصد بذلك أن العلم يولد القوة أو أنه عند حصولنا على العلم أولاً فإن هذا العلم يصبح وسيلة لاجراء القوة، ولكنه أراد القول بأن العلم يوضح لنا علاقات القوة وأنه يتجلى العلم في علاقات القوة بشكل أساسي ، وبهذا المعنى فلا يمكن لنا الفصل ما بين العلم والقوة وبالتالي دراسة أحدهما دون الآخر ر.ك: أكثر من المدنية، ص 199.

ومراتب العلماء، بل وأيضاً تحتل مركزاً عالياً وكأنها الهيكل المقدّس ويصير من الحرام والجهل مواجهتها بسؤال لماذا أو طلب تعليل منها، إن هذا الأمر ليس بالظلم القليل بل هو بمثابة اضعاف لصلة الوصل ما بين العلم والمجتمع العلمي في الدولة واتاحة المجال أمام التصنع وتحوير المقالات، إن ISI التي تعتبر من الضرورات الهامة في تثبيت قوة العلم والتكنولوجيا، لا يمكنها أن تكون الباني الأساسي لمعقل علمنا نحن، ISI في جامعاتنا ليست فقط مركزاً للفهرسة أو لنشر المعلومات، بل هي ميزان ومعيار للعلم ومحددة لصلاحيات الجامعيين العلمية، فإذا كان لأحد ما أي صلة أو نسبة تربطه مع المجلة المقبولة لديه والتي قام هو أيضاً بكتابة مقال فيها فهذا يعني بأنه عالم بلا شك، وأما إن لم يكن له ذلك فهذا يعني بأنه خارج من دائرة المعرفة إن إلزام العلماء بهذا العمل وربط مسألة الارتقاء في المراتب الجامعية بامتلاك مقالة ال- ISI ليس بالأمر الجيد وربما يتعارض وروح العلم، هذه الالزامات عادة ما تُتخذ بناءً على خلفيات سياسية، وهي من التدابير التي لم يتخذها السياسيون بل اتخذها بعض من الجامعيين من الذين لا يعلمون الكثير عن الأمور السياسية، وتكون حجتهم في الدفاع عن موضوع إلزامية الكتابة في ال- ISI دائما بأننا لا نمتلك

معايير أدق منها، والجواب هنا هو أينما وجد العلم وجدت معاييره، فلنبحث ونجد المعيار أو المعايير، ونحن طالما لا نعتمد على جامعيينا، فهذا يعني بأننا لن نستطيع الحصول على نظام بحث وعلم إن عدم الاعتماد هذا قد يترافق في بعض الأحيان مع نوع من التحقير والخشونة، حيث أن إجبار الجامعي على كتابة مقالة في المجلة الفلانية لتأكيد مصداقية صلاحيته العلمية هو أمر بالغ في عدم الاحترام لكلا العلم والعلماء، فالعلم حيثما كان فهو علم والعلم هو الذي يعطي الصلاحية للمجلات وليس العكس، إن أغلب الجامعات إما لا تعطي علامات أو تعطي علامات قليلة لقاء مقالات الأساتذة إذا نشرت في مجلات لا تنتمي إلى الجامعة أو في مراكز علمية أخرى أو عدم اظهار انتماء المقال للجامعة، إن معنى ذلك هو بأن العلم ليس مُهمّاً في ذاته بل أن الجامعة هي المهمة، والمعيار متعلق بالجامعة وليس بمرتبة الأستاذ»(1).

ص: 136


1- رضا داوودي، وهم الانتشار العلمي عن طريق زيادة المقالات في فهرست ال ISI مجلة ايران، بتاريخ 1386/5/21 (صفحة الثقافة والفكر).

ادوارد برمن في كتابه المعروف التحكم بالثقافة أظهر وبشكل جيد كيف تقوم المؤسسات العالمية من قبيل مؤسسة هنري فورد وكارينكي وراكفلر بأمور تبدو

ثقافية في ظاهرها - كتأسيس جامعة في بلدان العالم الثالث، وقبول طلاب من تلک البلدان وأيضا تأليف كتب علمية لأجلهم - إلا أنها تقوم بتوجيه الثقافة العلمية في بلدان العالم الثالث،(1) وخلال هذه العملية حتى الصفوة من الجامعيين في العالم الثالث لا ينتبهون إلى مسألة أنهم يقومون بالفعل بما تم التخطيط له مسبقا، إن بحثنا هنا ليس حول انعدام التبادل الثقافي والاكتفاء باقتباس الطرق من الغرب، بل هو حول عدم التنبه الحقيقي إلى ماهية ما يمكن تعميمه في العالم الثالث وبتعبير أحد المطلعين المعاصرين : «إن الأخذ والتعميم ليس أمراً معيباً فحسب، بل وهو من الأمور المستحسنة ،والمفضلة ولكن بشرط أن تكون الظروف مناسبة لأجل عملية التعميم هذه، وأن يكون الأخذ والتعميم عن تفكر وتمحيص، بهذا الشكل فإنه لن يكون هنالك وجود لأي هجوم ثقافي، بحيث يصير أخذ أي شيء من أي مصدر كان أمرا يمكن تسميته بالتبادل الثقافي، فإذا كانت جماعة ما جاهلة بما تفعل وما تقول، فمن المُسلَّم أن تصبح عُرضةً للهجمات الثقافية، حتى ولو حصلت على كل المعارف العالمية، ولكن في حال كانت الجماعة واعية ومدركة لتلك الأمور فإن ما يمكن أن تتلقاه هو بمثابة مواد تأسيسيَّة تقيّم المدينة وأنظمة الحياة، إن هذا يعني بأن العقل والإدراك لا يخسران وجودهما ولا ينكمشان في مقابل ما يتم تلقيه، بل يقومان بتسخير هذه المعارف والعلوم المتلقاة كوسيلة تخدم مصالحهما، صحيح أنه ضمن مسأله الهجوم الثقافي لا يجب تناسي أمر الجزئيات، إلا أن الغوص كثيرا في الأمور الجزئية قد يبعدنا عن أصل القضية، فالهجوم الثقافي يعتبر هجوما على ثقافة الجماعة، ولكن ثقافة الجماعة ليست فقط مجرد آداب وتقاليد، بل هي في الأغلب الأساس غير المرئي وراء الفهم والإدراك. نحن جميعا، ندرك الأشياء من ثقافتنا، وإذا انعدمت الثقافة إنعدم معها العقل والإدراك، وحالياً فإننا لا نستطيع إدراك معنى الهجوم الثقافي كما يجب، لأننا لم نألف الثقافة الغربية أو نطلع على

ص: 137


1- راجع: ادوارد برمن التحكم بالثقافة، ترجمة حميد الياسي (تهران: ني، ط3، 1373).

باطنها الحقيقي، إلا أن هذا الهجوم ليس بالحدث المفاجئ أو العارض الذي تم التصميم له من قبل رجال السياسة بحيث يستطيعون تغييره متى شاؤوا، إنما هو مرحلة في التاريخ الغربي، الذي يتجلى فيه من جهة حلم تحقق عالم غربي فريد ووحيد والذي يتم تنميته على مستوى العقول، ومن جهة ثانية العيون الناظرة بترقب وقليلون هم أولئك الذين ينظرون إلى الأفق المقابل وإن وجد من يفعل فإن الوحشة تملأ كيانه في العالم الغربي كان البشر محور كل الأشياء، أما في عالم اليوم فليس من المعلوم أين هو مكانه بالضبط، أو ما هو مصيره حتى؟»(1).

4-2) تجاوز تغيير نظرة الصفوة إلى تغيير عقيدة العامة:

فی الاستعمار المعاصر - وعلى خلاف الاستعمار الجديد الذي كان فيه «تغيير نظرة» الصفوة في الأمم المختلفة سبيلاً لتحويل هذه الصفوة عن شكلها السابق بالإجبار - أصبح «تغيير عقيدة» العامة سبيلا لتحويل وتغيير شكل هذه الشريحة من الأمم عن شكلها السابق.

فی أثناء عملية تغيير نظرة الصفوة يستطيع المستعمر إزالة الصفوة أو شرائهم بوعود شخصية، ورغم أن ذلك سيكلّفها أثماناً باهظة ورغم أنه لا يمكن إزالة الصفوة ولا يمكن شراؤهم جميعاً، إلا أن قيام المستعمر بهذين الأمرين يمكن أن يخفف من ضغط الصفوة قليلا، إلى درجة يمكن معها إيصال احتمال قيام الثورة إلى الصفر، في حين أنه ضمن عملية تغيير عقائد العامة ليس هنالك أي إمكانية لتخفيف قيام ثورة من خلال الدفع لهم أو إزالتهم، فعندما تتغير آفاق أذهان جماعة ما تتسع معارفهم وهذا يؤدي إلى ارتقاء ثقافتهم وتعميمها أكثر، وفي هذه الحالة فإن مواجهتهم ستكلف الاستعمار أثماناً باهظةً.

3 - 4) دخول الدين إلى محافل القوة:

في الاستعمار المعاصر - وبعكس الاستعمار الجديد الذي تم فيه حذف الدين

ص: 138


1- رضا داوودي اردكاني رسالة في باب التقليدي والتجدد (طهران: ساقي، ط 1 ، 1384، ص 96 - 97.

من محافل القوة - استطاع الدين ولوج محافل القوة، الدين الذي كان قد مات الهه(1)، وتفوح من إلاهياته فلسفة موت الله، يقول نينان اسبارت:

«حتى أوائل العقد 1980 كان هنالك ميل بين المفكرين في العلوم السياسية لاعتبار الدين إما غير موجود في السياسة أو أنه غير ذي أهمية تذكر ومنشأ هذا الأمر مأخوذ من الأسس الإيديولوجية كالتي عند الماركسيين، ومن موارد صادرة عن رغبة عامة موجودة في أصل العلمانية، حتى أن بعض علماء ذلك الزمان كانو غافلين عن أبعاد الدين السياسية بسبب اهتمامهم بتحقيق أهدافهم، ورغم أن تيار التجديد كان يؤدي في بعض اتجاهاته إلى تقوية الأفكار العلمانية ونشرها بشكل واسع، إلا أنه وفي ذات الوقت كانت موجة من التجديد تلي ذلك التيار داعية إلى ترسيخ الدين ودوره في المجتمع، يعتقد بعض المفكرين المعاصرين بأن تنامي هذه الموجة الجديدة سيعقبها إيجاد نوع من العلاقة بين بين الدين بأشكاله المختلفة وبين السياسات والدول ذات القوميات الموحدة... والذي هو الوضع المتعارف عليه في أنحاء المجتمع العالمي - كعلاقة فعل ورد فعل وحالياً حيث ظهرت الأديان الكبرى على أنها القوى العظمى في العالم وأنها تلعب دوراً هاماً في الحسابات ما بين القوميات والمؤسسات الدينية، فإنها كذلك ذات تأثيرٍ فعّالٍ في داخل الدول أيضاً حيث تؤثر على سلوك القادة السياسيين بفعل خلفياتهم الدينية»(2)

في عصر الاستعمار المعاصر، لم يجرؤ المستعمرون ولو لمرة واحدة على محاربة الدين علنياً، ليس هذا فحسب بل وقامو بادعاء تدينهم وتمسكهم بدين خاص حتى أنهم سعوا إلى التوفيق فيما بين مناسباتهم السياسية والدينية من خلال اظهار ايمانهم بقدرة الدين في المحافل السياسية من قبيل أن الدين يهب التوافق الجماعي، ويوجه السياسة لتحقيق الأهداف الغيبية، ويعطي مشروعية للسلوكيات.... والخ، وكمثال على ذلك يمكن الاشارة إلى تقرير طويل عن ورود الدين إلى المحافل السياسية في جامعة أمريكا:

ص: 139


1- اشارة إلى رسالة نيتشه موت الاله».
2- بيترال ،بركر نهاية العلمانية ترجمة افشار اميري ) ،طهران ،بنكان، ط1، 1380) ص 9 - 10.

«شهدت الولايات المتحدة ومنذ بداية عام 1979 نمو وتوسع المسيحية السياسية ومؤسسوها - أو ما يدّعى بمسيحيي اليمين - ومن جملة مظاهر إحياء أنه ما بين خمس إلى ثلث الاميركيين قاموا بإعادة إجراء غسل التعميد من جديد (المسيحيون الذين ولدوا مرة ثانية)، وكذلك الزيادة في تعداد أتباع الكنيسة من المتعصبين ،والمغالين عرض القنوات التلفزيونية لعبارات مثل «الأكثرية الأخلاقية»،«الائتلاف المسيحي»«إحياء المؤسسين»، «مجلس متابعة العائلة»، التأكيد على الأسرة»، «ائتلاف القيم المنسية» واحدة بعد الأخرى، وقيام مؤسسات «اليمين المسيحي» بالمطالبة بعدم اسقاط الأجنة، وتحريم الزواج بين الجنس الواحد، والسماح بإقامة الصلاة داخل المدارس ورفض بعض القوانين الأساسية التي كانت تفصل فيما بين الكنيسة والدولة، وفي العقد 90 تنامى «تيار اليمين المسيحي» إلى درجة أصبح فيها قوة مؤثرة في انتخابات الرئاسة الجمهورية والكونغرس الأميركي وأوجد كذلك ائتلافاً مع اليمينيين السياسيين داخل الحزب الجمهوري لتشكيل جماعة سميت ب_«حزب الله الأميركي»، ومنذ بداية العقد 80 بدأ العمل لفتح أبواب الحزب الجمهوري أمام اليمين المسيحي حيث قام رونالد ريغن ممثل الحزب الجمهوري في عام 1980 بإقامة ائتلاف مع القس بيلي غراهام، رئيس مؤسسة «الشباب المسيحي» والقس جيري فالويل رئيس مؤسسة «الأكثرية الأخلاقية»، ولقد كان ريغن خلال منافساته الانتخابية كثيرا ما يكرر أشعار «الانجيل هو الحل الوحيد»، ولذا فقد شكل اليمين المسيحي قوة واضحة التأثير في فوز كل من ريغن وجورج بوش الأب، وكذا فإن الحزب الجمهوري سمح للقس بات رابرتسون رئيس «الائتلاف المسيحي» بترشيح نفسه في مرحلة الانتخابات الرئاسية الأولى عام 1988، وهذا الأمر تكرر مرة أخرى عام 2000 خلال المرحلة الأولى للانتخابات الرئاسية عندما سمح لغري بوئر ممثل اليمين المسيحي بترشيح نفسه، وفي اطار الاستفادة من الدين خلال المنافسات الانتخابية لشهر ديسمبر من عام 1999 داخل الحزب الجمهوري قام جورج بوش الابن المرشح لرئاسة الجمهورية بإعلان أن «عيسى

ص: 140

المسيح هو الفيلسوف السياسي المنتخب بالنسبة لي»، وعندما قام مذيع مشهور في قناة NBC بسؤاله عن قصده من وراء هذا الكلام، أجاب «بأن المسيح هو الأساس والقاعدة التي أحيا معها، سواء آمن به الآخرون أم لم يؤمنوا»، في أوائل 2000، وخلال المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري، تم افتتاح جلسة المؤتمر «بنشيد المسيح» وقام بوش بإعلان أن «مشروع» اليمين المسيحي مبني على التركيز على إلغاء القوانين التي تقوم بوضع فواصل ما بين الكنيسة والدولة، وكذلك فقد قام بوش بدعوة ابن القس بيلي غراهام مؤسس اليمين المسيحي، إلى المؤتمر ليقوم بقراءة الدعاء وليطلب الحاضرون البركة من المسيح»(1).

4 - 4) الاستعمار المعاصر فعل أم رد فعل؟

إن العالم الغربي، وخصوصا في القرون المعروفة «بعصر الاستعمار» قام وبالاستناد إلى علم الأبستمولوجيا وعلم الاستشراق، بتقسيم العالم إلى طرفين:

«أنا: الغرب» والآخر: «الشرق»، ومنذ منتصف القرن العشرين وحتى الآن، واجه علم الأبستمولوجيا المبني على فوارق الأنا - الآخر في الاستشراق تحديان أساسيان هما:

ما بعد الحداثة: الرسالة الكبرى التي قام الإستشراق بإرسائها كانت تقسيم العالم إلى قسمين هما «الغرب» و «غير الغرب» أو «الأنا» و«الآخر» حيث كان القسم الأول الأصالة والقيم والغنى والأفضلية وأما القسم الثاني فكان يعني عكس ما عناه الأول، ومعرفة هذا الثاني كانت فقط من خلال توضيح معنى «الآخر» مع القسم الأول، حيث كلما تم التأكيد على أن هذا القسم الثاني هو الأخر وعلى عدم أصالته في نفس الوقت كان هذا يؤدي إلى ارتفاع مستوى نجاح الإستشراق، فما بعد الحداثة لا تقوم فحسب بتقسيم العالم إلى منطقتين وتجعل الأصالة حكراً على القسم الغربي بل وأيضاً كانت تقيس الثقافات العليا والدنيا وفقاً «لمحيطهم المحلي» وبناء على

ص: 141


1- رضا هلال وعلي حجتي، المسيحية والصهيونية والمؤسسين ،الأميركيين، قم، أديان، ط1، 1383 ص 23 - 25 .

ذلك تمنح صفة الأصالة لمن تشاء، في الحقيقة فإن ما بعد الحداثة، تقوم بوضع أكثر ادعاءات التحضّر مركزية - والذي هو منح نصف العالم «الغرب» الأصالة دون غيره - أمام تحدٍّ حقيقيٍّ(1).

العولمة: العولمة أيضا تقوم بوضع طرف آخر من الأبستمولوجيا والإستشراق أمام تحدُّ جديد، فإدعاء الإستشراق المحوري المستند على نثنائية النظام العالمي» كان راسخا باتقان، وفي نفس الوقت فإن علم المعرفة المعولَم هو تماماً بعكس علم معرفة الشرق، حيث يرى العالم هو فقط عالم واحد بثقافة ومدنية واحدة، وفي واقع الأمر فإن علم المعرفة المعولم أزال طرف «الآخر» و «الغير» الذي كان موجوداً في وجهة نظر الإستشراق، وقام بضمه واذابته داخل «الأنا»، فصار كل الكون مغطى تحت ظل الأنا، وبتعبير البروفسور برنر:

«العولمة نزعت عن مباحث الشرق والغرب في الإستشراق صفة الأهمية، ومنذ القرن 17 وما بعد فإن الإستشراق قام بطرح مفهوم عميق «للآخر» فيما يخص الثقافات المختلفة، مفهوم «الآخر» وضع حجر الأساس لمشروع علم الإنسان داخل مجتمع تقليدي، وتجربة «الآخر» الاستعمارية كانت مسألة بالغة الأهمية فيما يخص مبدأ الوجود الكبير، فالله أعطى كل من الحيوان والإنسان مرتبة بعينها، وإذا أخذنا بعين الاعتبار عولمة العالم وظهور سياسات متعددة الثقافات كطابع هام في كل الأنظمة السياسية، فإن مفهوم العالم الغريب لن يكون له البقاء أكثر لأن معنى «الآخر» قد تم تحويله إلى مستوى محلي»(2).

ص: 142


1- أحد الكتاب المعاصرين في هذا المجال يكتب أصحاب ما بعد الحداثة يعتقدون بأن مقولات الإستشراق قد خالطها معان دخيلة، وبناء على ذلك فإنه وخلال عمليات التبادل الثقافي ما بين الثقافات غالبا ما تكون الأمور الحاصلة غير حقيقية وبعيدة عن المطلوب، بحيث تشابهه فحسب، لذا فما هو مطروح في الشرق منفصل وبعيد عن الشرق ذاته والقول بأن الشرق ذو معنى مفيد هو أكثر إفادة للغرب منه للشرق، وهكذا فهنالك علاقة ما بين الاستعراض الجديد والاستعمار، وبالرغم من النواقص والمحدوديات، فإنه لا شك بأن كلا من ما بعد الحداثة والعولمة قد أوقعا أسس الإستشراق النظرية والمعرفية في تحد صعب، وبمفاهيمهما المختلفة يعكسان رواية مختلفة عن علاقات الأنا» و «الآخر» و الغرب والشرق والتي من خلالها يمكن لأصحاب تلك الثقافة والهوية إعادة إستعراض دقيق لحقيقة الثقافة والهوية.محمد رضا تاجيك فى مقدمة برايان ترنر الإستشراق ما بعد الحداثة والعولمة، ترجمة محمد رضا تاجيك (طهران: مركز الأبحاث الاستراتيجية، ط1، 1381) ص: 22.
2- الإستشراق مابعد الحداثة والعولمة ص 298 - 299.

«نقد ما بعد الحداثة البنّاء، ليس هجوماً بنيانيّاً خارجيّاً، أو حركة تحطيم الأسس داخليّاً وهدم عمارة بديعة المنظر ، بل النّقد البنّاء هو تشييد بناءٍ تكون أدق نسائجه محاكة فقط من حطام البناءً القديم، وبناءً على ذلك فإن البحث هنا ليس في مسألة الاطاحة بمشروع حديث وحذف وطرد الراديكالية «النظام الصدقي» الماضية، وتعريف ما هو بمثابة «الآخر» على أنه مختلف، بل حول مناظرة عن تخريب أي شكل من أشكال المركزية، والنظرة الازدواجية، وشفافية الهوية، وتسلسل مستويات القيمة، لذا فليس متوقعا أن يكون أصحاب ما بعد الحداثة أولا قد أغلقوا مساحة حوارهم خارج حدود خطاب الغرب والحداثة المتسع (كقاعدة معرفية للإستشراق) وثانيا النجاح في ترسيخ «الهوامش» و «الآخر» بدلا من «المتن» و «الأنا» أو على الأقل تحديد تعريف خاص بهم، إن خطابات ما بعد الحداثة القليلة هي نتيجة لمعرفة مرحلة أخرى من الحياة وتحول الفكر في البلاد الغربية، وبمعنى آخر، فإن ما بعد الحداثة وليدة ل_«الأنا»، وتختلف تماما عن خطابات أو نظريات المباني الأخرى، «النظام الصدقي»، وكلمات الآخر «الخارجي» النهائية، حيث أن خطاب هؤلاء هو في أغلبه يشتمل على «الآخر الداخلي» ورسالة تحرر للمهمشين من البشر والمطرودين وبعبارة أخرى، إذا وافقنا قول فوكو من أنه لا يمكن وجود تحليل دونما خطاب محدد، وإذا أخذنا بالاعتبار طبيعة عالم الحداثة... فإنه وبالطبع سيتبع ذلك قبولنا بأن تحليلات ما بعد الحداثة والعولمة أيضا ليست بمستثناة من تلك القاعدة، وامكانية التحرر الكامل غير ممكنة من بناء خطاب الغرب والإستشراق غير الصحيحين».

5 -4) فوكو ومسألة السلطة المعاصرة:

ميشيل فوكو (1)(1926 - 1984 فيلسوف فرنسي معاصر، درس مسألة السلطة في -

ص: 143


1- في عام 1948 نال شهادة في الفلسفة من جامعة سوربون وفي عقد 1950 ومن ذات الجامعة حصل على شهادة علم النفس وديبلوم في الباثالوجيا وكما أنه أخذ شهادة الدكتورا في جامعة هامبورغ لكتابته رسالة في باب الجنون، وفي عام 1963 صار استاذاً في جامعة كلرمون الفرنسية وعلاوة على تدريسه للفلسفة فقد قام بتدريس تاريخ نظم الأفكار التاريخ العلوم السياسية وعلم الاجتماع، وكثير ممن تناولوا آثاره بالشرح يعتقدون بأنه لا يمكن جدولة أفكاره ضمن فروع العلوم الاجتماعية، ومن هذه الجهة اعتبر فوكو ابنا غير مباشر للبنيوية، ولعلم آثار الثقافة الغربية، والعبثية والضياع في العلوم الاجتماعية، ولعل ما يختلف به فوكو عن غيره من علماء الاجتماع هو من حيث أنه ينظر إلى العلوم الاجتماعية من الخارج وليس من داخلها ويستخدم مفاهيم وعبارات ليست رائجة كمفاهيم مستخدمة في علوم الاجتماع.

عصر ما بعد الحداثة وتفاوتها في العصور الماضية، ولقد أثبت ببراعة أن السلطة والاستعمار المعاصر يجري بشكل متسع ومخفي ومن داخل العلوم الإنسانية، ولعل أهم الانجازات العلمية التي قدمها فوكو هي تحليل علاقات القوة والمعرفة»، فهو في تحليله هذا تأثر بلا شك بأفكار ماركس وفرويد ونيتشه، ماركس في مشروع «علاقة الأفكار بالقوة» وفرويد في مشروع «اتصال الرغبة والمعرفة»ونيتشه في مشروع «العلاقة فيما بين العلم والإرادة المتوافقة مع القوة»، وكل هذا هيأ لفوكو الجوّ المناسب ليثور على الحداثة.

إن آثار فوكو تنقسم من حيث محتواها إلى ثلاث أقسام : قسم تأثر بهرمنطيقيا هاید التي بلغت أوجها في كتاب «تاريخ الجنون» ، وقسم مرتبط بعلم الآثار المعرفي الذي يحتوي على تحليل شبه بنيوي أو نصف بنيوي، وغالبا ما يتجلى في كتاب «تكوين المستوصف» 1963، «الألفاظ والأشياء : نظام الأشياء 1966 ، و «علم الآثار المعرفي» 1969 ، وقسم مرتبط بعلم السلالات الذي يتعرض لمسألة العلاقة فيما بين الكلام والمعرفة من جهة، والقوة من جهة أخرى، وتتضح أيضا في كتاب «العناية والعقاب» المجلد الأول «تاريخ الأجناس» و «نيتشه : علم السلالات والتاريخ» 1971، إن دافع فوكو الأساسي في هذا القسم هو في التساؤل عن كيفية الوصول إلى العقلانيات الخاصة، العقلانيات المبتنية على علاقات القوة والعلم فيما تحول البشر فيها إلى وسائل، إن أهم نقطة وصل إليها فوكو في هذا السياق هي أن نفس العلوم الإنسانية والاجتماعية قد أصبحت جزءاً من عملية القوة وعلاقات إرساء أو ترسيخ السلطة فوق الإنسان، وعلم السلالات يشير إلى كيفية تحكم الإنسان بنفسه وبغيره عن طريق تأسيس «كيانات الحقيقة»، وملخص وجهة نظر فوكو فيما يتصل بالعلوم الإنسانية والقوة والسلطة والذي وضعه في كتب من مثيل «علم السلالات»، هو كالتالي:

إن ما هو كامن في أصل علومنا وهوياتنا ليس هو الحقيقة وإنما هو تنوع في المجريات، فما يُظنّ بأنه حفظ علم السلالات متكاملاً، قد جعله متبعثراً وأظهر عكس ما كان يبدو بأنه متقارن فيه إن علم السلالات بتحليله للسلالات التاريخية ينفي

ص: 144

الاستمرارية عنها وبالعكس فهو يكشف عن عدم ثبات وتعقيد وتعدد الاحتمالات الموجودة حول الأحداث التاريخية، فالإنسان يظهر في التاريخ باطلالات مختلفة، وعلم السلالات يقوم بتحليل هذه وتلك الاحتمالات، وبشكل أكثر عمومية، فإن أي لحظة من التاريخ ليست باثبات لحوادث الماضي ولا لمرحلة في خط يتكامل، وإنّما هی لحظة خاصة تشير إلى تعامل السلطة المحفوف بالخطر ومعركة القوى، وفقط

من خلال هذا السبيل يمكن المجموعة من التيارات بالمرور.

في علم السلالات لا يتبقى هنالك أي مكان للوسيلة التاريخية، لأن لا أحد يستطيع تحمل مسؤولية الاطلالات أو الظهورات المحتملة، والانسان يصل من شكل معين في السلطة إلى شكل آخر، فالتاريخ أسس وباستمرار على أشكال من السلطات والعنف في إطار من القانون، وبذلك فإن علم السلالات تاريخ الظواهر

والأمور التي اعتبرت غير تاريخية تعود فتظهر أن العلم ملتصق بالزمان والمكان.

إن طريقة علم السلالات تهدف إلى الكشف عن العوامل الكثيرة التي تؤثر في صنع الحوادث والتأكيد على عدم تشابه هذه العوامل فيما بينها، أي أن علم السلالات يتجنب فرض البنيوية ما بعد التاريخية على تلك العوامل وفوكو قام بالدعوة إلى نظرية «بناء الوقائع التاريخية»، فليس في التاريخ ما هو طارئ، ونتيجة لذلك يتم تحطيم البداهة الطارئة في أصل العلم وفي أعمالنا.

إن المعنى أو الأساس ليس كامنا في الأمور والأشياء، لكن الشيء الوحيد الظاهر والمستخدم هو طبقات من التعابير التي تتراكم فوق بعضها مشكلة الحقيقة والضرورة والبداهة، والإنسان من خلال خلقه للحقيقة والضرورة يلقي بحكمه على الآخرين، بينما ليس هنالك من وجود لأصل ومنشأ وحقيقة أي عالم شامل وغير مقيد بزمن ، وبالتالي فليس هنالك من وجود لأي تقدم وترقي، وفي هذه الحالة يصير من الممكن التحدث فقط عن نهاية السلطات والتبعات، وبهذا الشكل فمن الطبيعي انعدام وجود الانتماءات الكلية والمميزة كأساس وأصل ثابت، حتى نفس جثمان الإنسان يصير تابعا للتاريخ ومن خلال نظام العمل والاستراحة يتلاشى، وبناء على

ص: 145

ذلك فإن موضوع علم السلالات ليس سير التاريخ ولا نوايا الوسائل التاريخية، بل هو الوقائع والأجزاء الناتجة عن المنازعات، وتعاملات القوى وروابط القوة، ولذا فالعلم والمعرفة أيضاً ليسا سوى نظرة تاريخية فحسب.

العلم والمعرفة لا يقدران على التملّص من أصلهما التجريبي ليتحولا إلى التفكّر الخالص الصافي، بل تم تلقيهما ضمن روابط عميقة مع القوة وبالتوازي مع تقدم ترسيخ القوة، ففي أي مكان تبسط فيه القوة، يكون للمعرفة فرصة للظهور، وبناء على التّصورات الرائجة بين المثقفين فإن المعرفة يمكنها النمو فقط في حال توقفت علاقات القوة، ولكن من وجهة نظر فوكو، فإنه لا يمكن تصوّر قيام أي علاقة قوة دون تشکل میدان معرفي وبالمقابل فليس هنالك أي معرفة لا تدخل في تركيب علاقات القوة، وتعريف الوسائل وكذا تعريف المنهج هي من آثار ونتائج العلاقات الأساسية القائمة فيما بين المعرفة والقوة والتغييرات التاريخية فيهما .

إن القوة عادة ما يتم اجراؤها بصورة غير مستقيمة داخل المجتمع الحديث، وبعيداً عن سبل الاجبار ، فالكثير من العلاقات التي تبدو عقلية ومشروعة وتمتلك دليلا لوجودها هي في واقع الأمر دليل على إرادة القوة والسلطة، فإذاً لكي نستطيع النظر بوضوح إلى علاقات القوة المتخفية تحت نقاب المشروعية والتوافق، يجب علينا التسلّح بوسيلة نظرية جديدة، فالأطر النظرية التقليدية ليس لها القدرة على تحليل أشكال القوة والسلطة ،الحديثة، إن المسألة المحورية فى فلسفة هوبز والمتفكرين الذين جاؤوا من بعده كانت تعريف القوة والمشروعية أو رسم الحدود أمام القوة المشروعة، وبعبارة أخرى تعيين حقوق الفرد في مقابل سلطة الدولة، ففي أفكارهوبز القوة هي الاشراف وسلطة الفرد أو جماعة من الأفراد على فرد أو على جماعة أخرى من الأفراد، ويعد كل من الحق والقانون من المفاهيم الأساسية، إلّا أنّ فوكو يعتبر أفكار هوبز مثال غير ناضج كفاية لتوضيح معنى القوة في العالم الحديث، فهو يرى «أي فوكو» بأن ظهور القوة الحقيقي ليس نقض الحق والقانون، في نظرية هوبز تعتبر القوة علاقة كسواها من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والجنسية والعائلية...الخ،

ص: 146

إلّا أنها تختلف في ذات الوقت عن هذه العلاقات أو الروابط إلّا أنه في نظرية فوكو لعلم السلالات فالعكس هو الصحيح حيث أن القوة جزء لا يتجزأ عن العلاقات الأخرى، بل وقسم نابع من باطن تلك العلاقات.

إن القوة في النظام التقليدي كانت تنفذ بصورة إجبارية تقيّد سلوك الأفراد، بينما في النظام الجديد، فإن السلوك المطلوب من الفرد هو نفس السلوك «الطبيعي والعادي» وفقا لما خلق عليه ، وفي نظرية هوبز وخلافا لرأي فوكو، فإن اجراء القوة أو القدرة كان عن وعي ومعرفة على الدوام، وإضافة إلى هذا فإنه في هذه النظرية، تصدر القوة أو يتم تطبيقها من قبل فرد أو جماعة معينة، وبالتالي فإنه وعلى الدوام يمكن إيجاد منشأ ومنبع القوة في مكان ما، ولكن وبحسب تعبير فوكو، فالقوة لايتم إعمالها من جهة أفراد معينين وهي مجموعة معقدة وشبكة متداخلة من العلاقات ولأن جميع الأفراد في هذه الشبكة يعدّون شركاء ومساهمين في إعمال القوة، فإن نظرية القائد والتابع لم تصل بعد إلى الدرجة الكافية من النّضوج كي تلمّ بمعنى ظاهرة القوة الجديدة.

إن المجتمع دونما علاقات قوة، يصبح مجرداً وغير ممكن الوجود، لسبب هو أن الحياة في المجتمع ليست سوى تأثيرات في أفعال الآخرين والقوة هي ميزة ذاتية في كل علاقة إجتماعية، وبعبارة أكثر دقة فإن صفة الاجتماعي في أفعال البشر تأخذ معناها من القدرة في التأثير على الآخرين أو التأثر بهم، وبناءً على ما سبق فإنه فقط الأفعال التي ليس لها تأثير على الآخرين أو الأفعال غير المتأثرة بالآخرين، فقط هذه الأفعال يمكن إخراجها من دائرة علاقات القوة - أي ما يمكن أن يسمى في نهاية الأمر بالأفعال غير الإجتماعية.

القوة تحضر في كل العلاقات الإنسانية، وضمن هذه العلاقات يسعى طرف لترويض الطرف الآخر واخضاعه تحت أمره إلّا أن هذه العلاقات ليست بالثابتة إلى الأبد بل هي قابلة للتغيير والتحول، فإذاً علاقة القوة أيضا قابلة للتغير وتحوّل الأطراف فيها، وهي تعطي كلاًّ من الطرفين قدراً من الحرية فإذا ما اختلّ تعادلهما بشكل كليّ فإن أحد الطرفين يستطيع فرض قدرته على الآخر في حال واحدة هي إمكانية أن يقوم

ص: 147

الطرف الثاني على الأقل بقتل نفسه أو أن يرمي نفسه من النافذة أو أن يقتل الطرف الأول، وهذا يعني وجود مساحة من القدرة على المقاومة داخل علاقات القوة، إذاً يمكن أن نجيب على من يدعي بأن وجود القوة ينفي وجود الحرية، بأنه وبدليل ما سبق قوله فإن وجود القوة في كل مكان يعني وبالتأكيد وجود الحرية أيضا في كل مكان، مع التأكيد كذلك على وجود السلطة، وكذا فالقوة في ذاتها وجوهرها ليست شراً اجتماعيّاً، وتطبيق القوة على الآخرين ليس بأمر يمكن انتقاده أو رفضه، ولكن بشرط هو أن تكون العملية بصورة «لعبة استراتيجية» أي علاقة هلامية يكون فيها تعيين الشخص في مكانته بتصميم مسبق ودون أن يكون له الثبات في هذا الموقع، وأن يكون لكلا الطرفين القدرة على قلب المواقع.

6- 5 ) الاستعمار المعاصر والكنولوجيا المخفية:

إحدى مميزات الاستعمار المعاصر هي أنه لا يكتفي فقط باستخدام كل التكنولوجيا التي كانت في خدمة الاستعمار الحديث والتي استفاد منها في تحقيق أهدافه، بل ويقوم «الاستعمار المعاصر» بتطويرها وتركيب أنواع أكثر حداثة منها، أنواع مميزة تجاوزت التكنولوجيا الخاصة، حيث يكتب نيل بستمان عن هذا النوع:

«قسم من التكنولوجيا تظهر تحت النقاب، وهي ما يطلق عليها راديرد كيبلينغ (1)اسم التكنولوجيا الساكنة، انها في ظاهرها لا تشابه أحد التكنولوجيات الأخرى أو تماثلها، وهذه الحقيقة لا يمكن التحقق من صدقها من خلال اختبارات الذكاء وفحص الأفكار، أو المسح العام وباقي الوسائل التي تخضع لدرجة من الضبط أو التقنين، بل يمكن اثبات صدقها من خلال البطاقات المصرفية، وطرق وصول المحاسبة واختبارات الكفاءة وتعيين القدرات فمثلا في مجال التعليم وضمن حقل الدراسات الأكاديمية، تعتبر اصطلاحات من نوع الوحدة الدراسية والدورات الأكاديمية نوعاً من التكنولوجيا التعليمية، والمهم هنا أن السبب وراء نظام الوحدات هذا يبقى مخفياً(2).

ص: 148


1- Rudyard Kipling.
2- نيل بستمان «التكنو بوليا، تسليم الثقافة إلى التكنولوجيا ترجمة صادق طباطبائي، (طهران، اطلاعات، ط2، (1375) ص 221 .

لقد ساعدت التكنولوجيا الساكنة المتخفية الاستعمار المعاصر على الذهاب بظاهرة الاستعمار نحو البرمجيات والحاسوب، ويشرح نيل بستمان هذه التكنولوجيا الساكنة والمتخفية وفقا لما يلي:

تكنولوجيا اللغة:

لا تكسبنا اللغة معرفة أن لكل شيء اسم فحسب، بل وتوضّح لنا ما هي الأشياء التي لديها قابلية اطلاق اسم عليها، هذه اللغة تقسم لنا العالم إلى مقولتين الأولى عينية والأخرى ذهنية، وتعلن أمامنا بأن هنالك وقائع يمكن النظر اليها على أنها عملية ووقائع أخرى شيئية، وهذه اللغة كذلك تعلمنا عن الزمان والمكان والأعداد، وتهب أفكارنا عن طبيعة روابطنا مع الآخرين شكلا معيّناً، فحياتنا تدور في حدود اللغة وامكان الاستفادة منها والتلاعب بالكلمات، ونحن لا نستطيع أبدا تصور شكل العالم الذي يحيا فيه أناس آخرون غيرنا ويتكلمون لغة مختلفة، لأننا غالبا ما نتخيّل بأن الكل في هذا العالم يرون ويفترضون كما نفعل نحن، وفي هذا المجال فإنه من النادر جدا التوجه إلى هذه الاختلافات أو التساؤل عن هذا الافتراض المقصود.

كل لغة تمتلك لنفسها مجالاً وميداناً خاصاً بها، وبسبب التفاوت في إمكانيات وبناء اللغة فيما بين لغتين وطبعا فمن البديهي وجود الاختلاف فيما بين اللغتين على صعيد وجهات النظر ومستويات فهم العالم، وفقط أولئك المطلعون على كلا اللغتين وتاريخهما يستكشفون مثل تلك الاختلافات (1)، فإذا اللغة قياساً بالوسائل والأدوات الأخرى تعتبر أداة تمتلك إيديولوجيا خاصة في توجيه الأمور حيث غالبا ما تحفظ نفسها منفصلة عنا، وهذا التوجيه عندما يتصل بموضوع اللغة، فإنه ينغرس عميقاً في شخصياتنا وطريقة تلقينا للعالم إلى درجة يصبح من الصعب معها التعرف

ص: 149


1- على سبيل المثال قبل عدة سنوات قامت صحيفة يومي يوري Yomiuri) اليابانية بنقل نظرية سوسومو تونكاوا Susumn Tonegawa الفائز بجائزة نوبل لعام 1987، والنظرية هي أن اللغة اليابانية لا تمتلك القدرة والوضوح الكافيين لعرض الأبحاث العلمية والتحقيقية صاحب النظرية - الذي يحمل صفة استاذ تكنولوجيا الماسوجوست - خاطب مواطنيه قائلا بأنه يجب علينا السعي من أجل تغيير العملية الفكرية لدينا في مجال العلم وهذا ما يمكن تحقيقه من خلا استخدام اللغة الانكليزية، ويجب التنبه إلى أنه لا يريد توصيف الانكليزية على أنها تتفوق على اليابانية، بل يقصد بان هذه اللغة أنسب من أجل تحقيق الأهداف العلمية، بمعنى أن هذه اللغة وسائر اللغات الغربية تمتلك بعض الاتجاهات الايديولوجية التي تفتقدها اليابانية.

إلى هيكل التوجبه البنائي دون الخضوع لتعليم خاص في هذا المجال، وبعكس التلفزيون والحاسوب فإن اللغة لا تظهر على أنها نوع من الترقي أو التوسع في قدراتها، بل تعتبر جزءاً طبيعياً مما نحن عليه، إلا أنه وفي أغلب الأحيان يمكن لجملة أن تلعب دوراً هاماً شبيهاً بما يمكن لآلة القيام به، وهذا بالضبط ما يمكن أن نراه وبوضوح كامل في استمارات الجمل التي نسميها الأسئلة، وأكثر من أي مكان آخر .

فمثلا أغلب طلاب الجامعات يبدون على مستوى عال من الفهم عندما يجيبون على الأسئلة المحدودة بعدة إجابات، إلا أن الأمر يختلف مع الأسئلة التي تحتاج شرحا، حيث تتعلق اجابتنا فيما إذا كانت حيادية وموضوعيّة بنفس شكل السؤال الظاهري الذي إما يسهّل الإجابة أو يجعلها أكثر تعقيداً، فماذا لو قمنا بتغيير شكل السؤال قليلا ليتناسب - وفي ذات الوقت - مع اجابتين مختلفتين، نظير ما قام به قسيسان لم يكونا مطمئنين من امكانية أن يقوم الفرد بالعبادة والتدخين في ذات الوقت، فقاما بإرسال سؤالهما إلى البابا ضمن رسالتين، حيث قام الأول بطرح سؤاله هكذا: هل يجوز للفرد في أثناء عبادته تدخين السيجار؟ فكان الجواب منفيا، لأن العبد في حين عبادته يجب أن يحقق مسألة توجه العابد نحو معبوده، وأما الثاني فقد قام بطرح سؤاله ،هكذا هل يجوز للفرد أثناء تدخين السيجار، القيام بالعبادة أيضا؟ وجاء الجواب نعم يمكن، حيث عبادة الخالق في أي وضع وحال أمر جيد، إن السؤال وشكله قد يكون بحد ذاته مانعا من الوصول إلى حل صحيح للمسألة فيكفي أن يتغير ظاهر السؤال المطروح حتى يأتي الجواب على شاكلة ما سبق(1).

في الاستعمار المعاصر تم الاستفادة وبأشكال مختلفة من هذه القدرة في اللغة : فمن جهة قامت الموازنة غير المنطقية فيما بين مزايا لغة الاستعمار كاللغة الانكليزية والتي تحولت إلى لغة عالمية، بسبب المدة الطويلة في بقاء الاستعمار - ومابين مزايا لغات أخرى وإثبات أن الانكليزية هي الأفضل وهذه الأفضلية كانت تطال أيضا بقية الميادين المدنية الأخرى، وهذا في حال أن الموازنة العلمية فيما بين مزايا لغتين

ص: 150


1- تكنوبولي، ص 199 - 203.

يجب أن يكون شاملا لكافة جوانبهما - وليس فقط في المزايا الخاصة التي تتصف بها، ومثال ذلك:

لو فرضنا أننا نقبل رأي سوسوموتونكاواي الياباني المبني على أن اللغة الانكليزية تتناسب وبصورة خاصة مع العلوم الحديثة، فإنه من الضروري طرح سؤال هو هل يمكن للغة الانكليزية أيضا الإرتقاء في المجال الأدبي والوصول إلى المرتبة التي بلغتها الفارسية مثلا؟ أو هل يمكن لهذه اللغة أن توازي في المجالات القواعدية اللغة العربية؟ وهل يمكن اعتبار ارتقاء الفارسية في المجال الأدبي دليلا على ارتقائها في جميع ميادين المزايا اللغوية وبالتالي تعميم هذه الأفضلية على كافة وجوده المدنية؟

تكنولوجيا اختبار الذكاء:

فرانسيس كالتون(1)(1822 - (1911) هو واضع علم الصحة الوراثية والأبحاث المعروفة المتعلقة بالصحة والوراثة، وهذا العلم الذي يساعد الأبوين من خلال خطة جينية مدروسة لتوليد نسل أفضل، كالتون كان يعتقد بأن أفعال البشر وسلوكهم يمكن اخضاعها للقياس من خلال الطرق الاحصائية، حيث أنه استفاد من هذه الطريقة في اختبار على جميلات بريطانيا العظمى، وبيان كمي عن الملل وآثار العبادة، وأهم اختبار قام به کالتون من خلال تطبيق هذه الطريقة هو اختبار أثر الوراثة في الذكاء، حيث قام في مختبر في معرض عالمي عام 1884 بحساب مستوى ذكاء الأفراد من خلال قياس حجم الرأس، مقابل دفع كل فرد لمبلغ مالي، وفي حال طالب أحدهم برد ماله - مهما كانت درجة ذكائه - فإنه لا يحصل على علامة تضاف إلى مستوى ذكائه، ووفقا لحسابات لؤيز ترمان(2)، فإن مستوى الذكاء لدى كل من كالتون، وشارلز داروين وكبرنيك هو وبالترتيب كالتالي 200 ، 235 ، 100.

في كتاب «الانسان الذي يقيس خطأ»، لكاتبه ستيفين جي غولد(3)، جاء أن أهم

ص: 151


1- Francis Galton.
2- Lewis Terman.
3- Stephen Jey Gould.

خطأ ارتكب في عملية اختبار الذكاء الإنساني هو في استخدام الطرق الاحصائية في قياس معاني ذهنية مجردة كالذكاء والتعامل مع هذه الأمور وكأنها أشياء مادية - يمكن قياسها بالأعداد وترتيبها وتعريفها - تورن دايك(1)، هو الآخر يعد الذكاء الذي يتم قياسه ضمن طرق احصائية وما ينتج عنه من نتائج وأفكار هو شيء غير معتبر على الاطلاق، ديفيد مك كلاند يكتب بمستوى أشد مرارة مايلي: «يجب أن يخجل علماء النفس من ترويجهم لمفهوم هو الذكاء، والذي أوجدوا له خططاً لاختباره أيضاً»، وكذا وايتسن باوم يعلن مايلي:«إن تخيل إدراج الذكاء داخل جداول كمية لقياسه يحمّل المجتمع بأكمله خسائر غير مألوفة، خصوصاً في المجالات المرتبطة بالتربية»، كذلك فإن هارولد كاردنر(2) أورد بعضاً من هذه الاشكالات في كتابه «القوالب الذهنية».

والسؤال هنا هو: مع كل ما سبق ذكره من هذه الانتقادات الموجهة ضد النتائج المأخوذة من قياس الذكاء الإنساني وفقاً للطرق الاحصائية، لم لا تزال هذه الاحصائيات الأساس الذي يتم بناء عليه وضع الخطط الاجتماعية - السياسسية ؟

وأفضل جواب يمكن تقديمه أمام هذا السؤال هو غلبة المعادلات السياسية على المعادلات العلمية، ولذا فمن السهل تخمين ما سيطرأ على البرامج الاستعمارية من تفسيرات علمية فيما يتصل بالأفارقة والزنوج، فيما لو خرج أحد هذه الأبحاث باثبات ارتفاع مستوى الذكاء لدى الأفريقيين والآسيويين، على ذكاء الناس في أوروبا، رغم أن ذكاء الزنوج هو أقل من البيض.

ج) تكنولوجيا اختبار الأفكار العامة:

اختبار الأفكار العامة هو نوع أخر من التكنولوجيات المخفية التي يبدو وكأنه أداة ضغط تخدم الاستعمار المعاصر إلى أقصى حد ممكن، حيث أنهم ومن خلال الأسئلة الموجهة والمجيبون المنتخبون والنتائج الكاذبة وغير الواقعة، يقومون

ص: 152


1- -Thorndike .E.L.
2- Howard Gardner.

بمتابعة أهدافهم وتحقيقها وهم يدّعون بأن التحقيقات فيما يخص الأفكار العامة يعطي الديمقراطية أساسا علميا، حيث إذا كان مرشَّحونا مُمثّلِين لنا، فإن من الضروري اطلاعهم على ما نعتقده وما نهدف إليه إلا أن المشكلة تكمن فيما يلي:

(1) اجاباتنا تتعلق بشكل وظاهر الأسئلة التي تطرح علينا، فمثلا: إذا سألونا، هل ترضون بالاستمرار في تلويث البيئة الطبيعية ؟ فإنه وبدون أدنى شك سنجيب بشكل مختلف تماما عما يمكن أن نردّ به علی سؤال هو:هل تظنون بأن أهمية المحيط الطبيعي تأتي في المرتبة الأولى ؟ أو هل أمن الشارع أهم من الحفاظ على المحيط الطبيعي؟ والأسئلة التي يقوم المنظمون بطرحها، عادة ما تكون محدودة في اجابتي نعم أو لا، ومن الواضح أن هذه المحدودية لا يمكنها شمول كل أطياف الافكار العامة، لأن المجال المتروك لأجل التعبير عن العقائد ضئيل جداً، فلا يمكن أبدا للإجابات المحدودة بنعم أو لا تبيين النقاط الهامة القيمة المستترة في عقائد الأفكار العامة في مثل هكذا وضع تتحول الأفكار العمومية إلى إجابات نعم أولا على أسئلة غير واضحة أو مدروسة .

(2) بناء على طريقة اختبار الأفكار ، تصير العقيدة شيئا موجودا في باطن الإنسان، ويمكن لمنظمي أسئلة العقائد العامة التحقق منها وقياسها عند الحاجة من خلال الأسئلة ، إلا أن هذا الافتراض يلقى اتنقادا شديدا، فمثلا جفرسون يعتقد بأن العقيدة والرأي ليسا بالشيء الآني، بل هما نتيجة تحصيل العلم بشكل متواصل، وتساؤل وبحث دائم وتبادل لوجهات النظر، فيمكن لسؤال واحد استثاره جواب معين او اعطاء الاجابات أشكالا جديدة مختلفة، ولذا فالأصح أن نقول بأن العقيدة ليست بضاعة يمكن امتلاكها في وقت ما وفقدها في وقت آخر والظن بأن العقيدة يمكن اعتبارها شيئا نستطيع قياسه، أمر يؤذي عملية الاعتقاد وأصل التفكّر الإنساني.

(3 إن ظاهر وطريقة طرح الأسئلة في المسح الجماعي، تنفي عمليّاً ما يعرفه الناس عن أصل الموضوع الذي يتم السؤال عنه وكلياته، فإذا قمنا بالفصل فيما بين فکرتین هما «ما الذي يعتقده الناس بخصوص موضوع ما» وبين «مايعرفه الناس

ص: 153

عن موضوع ما ، فإن نتائج المسح ستختلف كليّاً، ومثال على ذلك: ما أظهره أحد المسوح الشاملة أن 72 % من الأميركيين يعتقدون بوجوب قطع المساعدات الاقتصادية من طرف أميركا إلى نيكاراغوا بينهم 28% يظنون بأن نيكاراغوا موجودة آسيا الوسطى، و 18 % منهم يظنونها قريبة من ،نيوزلاند، و 4.27 % يعتقدون بأنه يتوجب على الأفارقة حل مشكلاتهم بأنفسهم (ويبدو هنا أن هؤلاء خلطوا فيما بين نيكاراغوا ونيجيريا) وإضافة إلى من سبق فإن 8.61% ممن طرح عليهم السؤال لا يعرفون حتى بأن أميركا تقدّم المساعدات لنيكاراغوا، وأخيرا فإن 23% من المبحوثين لم يستطيعوا تحديد معنى المساعدات الاقتصادية أصلا.

4) ورابع مشكلة فيما يخص موضوع اختبار الأفكار هو حقيقة أنه يقوم بتغيير موقع المسؤولية فيما بين الناس والسياسيين الذين انتخبهم الناس، فبدلاً من أن يقوم المنتخبون بالتصميم واتخاذ القرارات بناء على مؤهلاتهم وتفكراتهم، وبالتالي يصبح كل منهم مسؤولاً عن قراره، بدلاً من هذا يتوجب عليهم التأمل في معطيات اختبارات الأفكار العامة في المسوح الشاملة، وبناء على ذلك يضحّون خبراتهم الخاصة في قبالة ما يبدو أن الناس يريدونه في تلك النتائج(1)، وفي هذه الحال، هل يترتب على ذلك تحميل المسؤولية للناس أم للمنتخبين السياسيين في أمور قد قررت مسبقا؟(2)

د) تكنولوجيا الاحصاء:

تكنولوجيا الاحصاء تقدم كميات مكثفة من الاطلاعات غير المفيدة أبداً والتي تجعل من مسألة تشخيص المفيد من غير ذلك أمراً أصعب مما هو عليه في الواقع، فالمسألة هنا ليست فقط في وفرة المعلومات بل أيضاً تعميم المعلومات والمتاجرة

ص: 154


1- منتج أحد البرامج التلفزيونية وبالاستناد إلى نتائج الاحصائيات يقوم يادارة البرنامج معتبرا مستوي المشاهدة هو المؤشر على نجاح البرنامج، فاليوم البرامج الأفضل هي البرامج البسيطة، التي تجذب نسبة أعلى من المشاهدين، وأما البرنامج السيء فهو الذي يشاهده عدد أقل من المشاهدين، وبالنتيجة فان أقصى ما يمكن أن يهتم به المنتجون هو قدرتهم على جذب الملايين لمشاهده برامجهم وبالتالي فليس على المنتج الاهتمام بأمور من مثل (السنن والآداب ومؤشرات علم الجمال والمسائل المرتبطة بوضوح الموضوعات المتنوعة، ورعاية الأذواق والقدرات وما إلى ذلك، وتصير الأفكار العامة هي طرف الخيط الذي يمكن من خلاله الوصول إلى المطلوب وتكون المعيار الوحيد الكافي في هذه البرامج.
2- راجع تكنوبولي، ص 212 - 219.

بها. بدوره الاحصاء يلعب دور جعل المعلومات بأكملها تعرض متوازية ومترادفة، وفي عصر الاستعمار المعاصر الذي اتحد في كل من الحاسوب والاحصاء جنبا إلى جنب، فإن هنالك كميات هائلة من المعلومات المهملة كالنفايات والتي تسقط في المحاورات العامة(1).

حتى اليوم كثير من الكتب تناولت موضوع تأخر المسلمين بالدراسة والتحقيق، وهذا دون النظر إلى اشكالية أن قليلين هم من يعلمون أين تقع بالضبط نقطة «التقدم» لنحتسب على أساسها تأخر المسلمين وقليلون جدا هم من يتوجون إلى هذه المسألة، حيث يكفي أن يكون السبب ليس في قلة المعلومات لديهم، وإنّما في كثرتها ، فكثرة المعلومات تسلب الإنسان الفرصة اللازمة للتأمل والتدقيق، وبناء على هذا يصعب اعتبار كثرة انتشار الكتب والمجلات مصداقا للنمو والتوسع .

إنّ النمو الكمي في هكذا نوع من المكتوبات - والتي بمساعدة من علم الاحصاء يتم تقديمها للناس بطريقة منظمة في مجموعات مرتبة مسبقاً - طالما أنه لم يتحول إلى نمو كيفي، فإنه لن يكون فحسب علامة على عدم التقدّم بل وسيكون عين التأخر وتضاعف الجهل كذلك.

إن الاحصائيات في كثير من المواقع تقطع الطريق أمام التأمّل في حقيقة الأمور وتكنولوجيا الإحصاء قامت بتحويل أغلب الأمور الكيفية إلى كمية، ولهذا السبب فإن فهم الأمر على ما هو عليه في الواقع صار أمراً بالغ الصعوبة، فهل حقاً يمكن قياس أمور كالأخلاق والتبليغ الديني و... وتحويلها إلى أعداد وإحصائيات؟ وهل حقا يمكن قياس قدرات الطلاب من خلال الإختبارات المؤتمَتة؟

5) النتيجة وطريق الحل:

1 - الاستعمار ظاهرة تاريخية وليست مختصة فقط بالعصر الحديث، رغم أن الاستعمار في العصر الحديث هو أكثر تعقيداً بأضعاف مضاعفة من الاستعمار ما

ص: 155


1- تكنوبولي، ص219.

قبل عصر الحداثة، وعلة ذلك في أنه وبناء على فلسفة التاريخ الدينية، فإن مجرى «الحق» هو مسير «استكمالي» ومجرى «الباطل» في مقابل جريان الحق، ذو مسير «متضخم ومعقد»، ومن حيث أن الاستعمار هو أحد مظاهر وممثلي مسير الباطل، فإنه يتأثر مجبوراً بكل من التضخم والتورم، وإذا قبلنا أن الاتجاه العام في جميع مجاري الوجود هو مسير الحق وأن الباطل تابع لمسير الحق، فإنه يمكن وبجرأة القول بأن الاستعمار في جميع أشكاله وقبل أن يكون «فعلا» فإنه «انفعال»، وهذا يتعلق طبعا بميزان قدرة المقاومة والتخريب وبنفس الدرجة يمكن ايجاد الضعف في جبهة الحق، وبالتأسيس على ما سبق فإن أفضل سبيل لمواجهة الاستعمار هو «الاتجاه الإيجابي نحو جبهة الحق» التقوية الجبهة أكثر فأكثر، وليس بالضرورة تطبيق «الاتجاه السلبي نحو جبهة الباطل بهدف تضعيفها»(1).

2) في أي شكل من الاستعمار، يكون السعي نحو تلقين المستعمرين ثقافة مستعمرهم، وبعبارة أخرى، فالاستعمار يريد تحقيق نوع من روح الخضوع وتنفيذ الأوامر في المستعمرين، وبناء على ذلك فإن المستعمر في أشد وجوهه يعمل على مسخ المستعمرين وافقادهم لروح الابتكار والابداع ومن هذه الناحية فإن أهم سبيل في مواجهة الاستعمار هو الاجتهاد للتحرر من قوانين المستعمر وبهدف ايجاد وتقوية الابداع والابتكار الخلّاق.

3) في الاستعمار المعاصر هنالك بؤرتين اثنتين تمثلان السند القوي للاستعمار وهما:

«المذهب» و «المنظمة الدولية»، فالمذهب يعطي الشرعية للاستعمار والمنظمة الدولية تعطيه القانونية، إن دخول الدين إلى محافل الاستعمار المعاصر وضمن مناسباته هو من أهم ما يتميز به الاستعمار المعاصر عن الاستعمار الحديث، فالاستفادة

ص: 156


1- طبعا فان يجب الانتباه إلى أن التداخل الشديد فيما بين السلب والايجاب لا السلب والايجاب لا يسمح بالفصل فيما بينهما، والمقصود من الاتجاه الايجابي نحو الحق والاتجاه السلبي نحو الباطل، هو وصفهم بالأصالة، حيث يمكن في باطن الاتجاه الايجابي، اعمال السلبي وبالعكس، فاذا ما كان اتجاه ما ايجابيا فانه يمكن ومن خلال توضيح وتبيين السلبي ايضاح واظهار الايجاب ، وكذا فان الاتجاه السلبي يمكن تبيينه من خلال اظهار وتوضيح الاتجاه السلبي بما فيه من وجوه ايجابية يمكن البحث فيه.

من عنصر المذهب في الاستعمار المعاصر يحقق امكانية تشكيل ائتلاف أكبر وأكثر دواما وأهمية ومشروعية، وكثير من المشاريع المسيحية - اليهودية يتم تحقيقها حاليا من خلال المساندة المذهبية فعلى الأقل يقدر على ايجاد جبهة مخالفة وبأفضل الطرق، حتى ضمن أفضل علاقات الصداقة فيما بين البلاد الإسلامية والغربية، فلا يمكن إزالة المواجهة الإسلامية - المسيحية، ومن جهة أخرى، فإن «المنظمة الدولية» تاريخيا تأسست فيما بعد عهدين استعماريين هما القديم والحديث وبعد أن قامت الدول الاستعمارية بوضع يدها على كمية لا يستهان بها من ثروات مستعمراتها، والهدف من تأسيسها كان صحوة عامة الشعوب في مواجهة نهب ثرواتهم من قبل مستعمريهم من طرف، ومن طرف آخر لإدامة خطط الاستعمار من مستعمراته ولكن بصورة قانونية ويبدو أنه يجب مضاعفة الجهد من أجل تجديد هوية ومكانة كل من المذهب والمنظمة الدولية في سعيهما لإجراء برامجهما الاستعمارية، لأن هذا الأمر بدوره يسمح بايجاد نوع من الصحوة والثقة الجماعية في شعوب الدول المستعمرة وبالتالي يصعب على الاستعمار تطبيق خططه عليهم.

4) ضمن عملية الاستعمار، تختفي يوما بعد آخر الأشكال القديمة من الاستعمار فما يميز الاستعمار الحديث والمعاصر عن الأشكال القديمة منه، أنهما غير مباشرين وخلافا لما يقال من أن الاستعمار المعاصر عاد من جديد بمساندة من وسائل الإعلام يقيم علاقة مباشرة مع المستعمرين، يجب أن نقول بأن الاستعمار المعاصر وبالعكس استطاع وبمساعدة وسائل الإعلام اخفاء نفسه أكثر ، حيث أنه صار يعرض نوعا من الحرية والمساواة الكاذبتين أمام عيون الشعوب التي لم تنل حظاً وافراً منهما، كما أنه استطاع الترويج لاتجاه معنوي مرتبط مباشرة مع خطط الاستعمار وعلى اتصال بالمعنويات الإنسانية الباطنية بين الناس في كل أنحاء الدنيا واجبارهم على تقبلها، وللحديث تتمة.

ص: 157

ظاهرة الاستعمار:المنشأ والمسار والدوافع

اشارة

محمود کیشانه(1)

الاستعمار أحد أهم الأحداث التي واجهها الشرق الإسلامي في العصر الحديث، نعم كان له جذوره التاريخية التي لا يمكن فصله عنها، إلا أنه في كل الأحوال يمثل العقبة الكؤود التي أعاقت - ولا زالت - الأمة الإسلامية عن تقدمها المنشود، وقد كان هذا أحد الأسباب المهمة التي دفعت الغرب إلى احتلال الشرق واستغلال خيراته.

ولما كان الاستعمار الغربي يمثل إشكاليةً كبيرةً، فقد كان الهدف الرئيس من هذه الدراسة الوقوف على الأسباب التي دفعت الغرب إلى ظاهرة الاحتلال أو ما أطلقوا عليه تمويهّا الاستعمار. ومن ثم قامت الدراسة على مجموعة من المحاور، وهي:

علاقة الأسباب بالمفهوم:

وقد حاولنا في هذا المحور التأكيد على أن مفهوم الاستعمار يكشف بوضوح عن

ص: 158


1- باحث في الفلسفة، محاضر بجامعة القاهرة - فرع الخرطوم.

الأسباب التي دفعت إليه، فالمفكرون الذين قعّدوا للمفهوم تناولوه في الأساس من ناحية الأسباب التي قام عليها مع الأهداف التي كان يتحرك من أجلها.

الأسباب الداخلية التي تتعلق بما هو داخل الشرق الإسلامي:

وفي هذا المحور يظهر بوضوح أنه كان هناك مجموعة من العوامل الداخلية التي تتعلق بالعالم الإسلامي والتي دفعت الغرب دفعًا إلى الغارة عليه، فالموقع الذي يحتله العالم العربي والإسلامي موقع استراتيجي، حيث إنه يتوسط قارات العالم، ويشرف على العديد من المناطق المحورية فيه، ويتحكم في خطوط المواصلات فيها ، وهذا كان سببًا مهمًا بجوار الضعف الذي كان يعتري الدولة العثمانية في ذلك الوقت، حيث فقدت الكثير من قوتها وجبروتها، وصارت في أيامها الأخيرة مطمعًا للغرب باختلاف دوله، هذا فضلاً عن الموارد التي يتمتع بها العالم الإسلامي، والتي كانت دافعًا إلى استغلالها من قبل الغرب، خاصة وأنه كان في حاجة ماسة إلى هذه الموارد حتى يقيم عليها ثورته الصناعية ونهضته الحديثة.

الأسباب الخارجية التي تتعلق بما هو خارج العالم الإسلامي.

أما الأسباب الخارجية فنقصد بها الأسباب التي كانت خارج العالم الإسلامي وهي الأسباب التي تتعلق بالمستعمر، وكلها أسباب في التحليل الأخير تقوم على براجماتية غربية صرفة، تحاول أن تلبي حاجاتها على حساب الآخر دون النظر إلى أي قيم أخلاقية أو مبادئ إنسانية.

أولاً - علاقة الأسباب بالمفهوم:

لا شك في أن لفظ الاستعمار على المستوى اللغوي لا ينطبق بحال على المعنى الأوروبي الذي يسوّق له من بدء احتلال الشرق الإسلامي وغيره إلى الآن، فمعنى استعمار معنىّ قرآني شريف، حيث يقول الله تعالى: «هُوَ أَنْشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُم فيها» (هود: (61)، على معنى طلب إعمار الكون، مع محاولة التطبيق على أرض

ص: 159

الواقع. وهذا المعنى يخالف بالكلية المعنى الذي انتهى إليه على أيدي المغتصبين الغربيين لبلاد الشرق الإسلامي.

ويعرِّف المعجم الوسيط الاستعمار بأنه استيلاء دولة أو شعب على دولة أخرى وشعب آخر لنهب ثرواته وتسخير طاقات أفراده والعمل على استثمار مرافقه

المختلفة(1). ويوافق كل من مصطفى الشهابي وعبد الرحمن حبنكة على هذا التعريف(2).

وإذا كان تعريف الاستعمار يعني إحكام سيطرة دولة غازية أو مجموعة دول أو حتى جماعة ما على دولة أخرى شعبًا وحكومة ومؤسسات بهدف استنزاف موارده والاستفادة بخيراته، فإنّه يحوي في داخله الأسباب أو العوامل التي أدت إلى وجوده.

أما الاستعمار على المعنى الأوروبي وعلى أساس ما أدى إليه واقعه المرير فهو معنی لا يحمل أي قدر من الشرف، إذ كان يعني - في التحليل الأخير - استغلال الشعوب تحت مزاعم واهية بهدف إقامة مستوطنات بعيدة عن القارة الأوروبية، وإملاء الشروط السياسية والاقتصادية عليها مما يمكّن المحتل الأوروبي من استغلال خيرات الشعوب المحتلة وتسخيرها لخدمته وخدمة دولته في الغرب، وهو لا يتوانى في أن يسخر الموارد البشرية - المتمثلة في الإنسان ذاته - في إكمال عملية الخدمة ؛ فهو السيد، والمحتل العبد. وندرك ذلك جيدًا : «المستهلكون في البلاد المستعمرة كانوا يتلقون عام 1953م ما يبلغ 80% من مستورداتهم بأسعار أكثر ارتفاعاً ب- 20 - 50 وأحياناً أكثر أيضاً من الأسعار التي كانوا يحصلون عليها لو أتيح لهم % أن يستوردوا بضائعهم من بلد آخر»(3).

ومن ثم فقد كان عامل السيطرة هو المحصلة النهائية التي لها أن تجمع الأسباب

ص: 160


1- انظر المعجم الوسيط، إبراهيم أنيس وآخرون، ط2، دار الفكر ، مادة عمر.
2- انظر عبد الرحمن حبنكة الميداني، أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها، بيروت - دمشق، دار القلم، الأولى، 1395ه-، ص .51 وانظر مصطفى الشهابي، محاضرات في الاستعمار ، القاهرة ، 1376ه- - 1956م، ص 23.
3- هنري كلود وآخرون الاستعمار الفرنسي في المغرب العربي، ترجمة: محمد عيتاني مكتبة المعارف. بيروت، ص 17.

مجتمعة لظاهرة الاستعمار وهذه السيطرة لم تكن في مجال دون أخر، وإنما كانت في مجالات مختلفة سياسية اقتصادية اجماعية ثقافية، وغيرها؛ حيث مارس الاستعمار أبشع أنواع النهب والسلب والاحتيال للحصول على موارد البلاد المستعمرة وخيراتها، وهذا بدوره كان له أثر سلبي على الشخصية الواقع عليها فعل الاحتلال، كما كان له أثر سلبي على حضارات الشعوب وثقافاتها وعقيدتها ولغتها القومية، حيث أهدِرت كرامة الإنسان واغتيلت إنسانيته ودمرت حضارته وتراثه وغيرت ثقافته ولغته، وحُورِب دينيًّا وعقديًا.

وكان من مظاهر ذلك التحكم أن الاستعمار فرض لغته وثقافته فرضًا على الشعوب المحتلة، بل إن المستعمر نكاية في الشعوب المستعمرة يسمح لبني جلدته باستيطان أماكن في هذه البلدان المحتلة والتحكم فيها واستباحة ما بها من ثروات.

ومن ثم فإن الاستعمار على هذا المعنى الذي تم تسويقه إعلاميًا لا يحمل أي معنى للشرف ولا النزاهة ولا الكرامة الإنسانية التي يتشدق بها الغرب الآن خاصة وأنه كان سببًا رئيسًا فيما تعانيه هذه الدول من نزاعات أثّرت في العالم كلّه إلى يومنا هذا.

ثانيًا - الأسباب الداخلية:

وهي الأسباب التي تتعلق بما هو داخل الشرق الإسلامي، وهذه الأسباب متنوعة ومتعددة، ومنها ما يأتي:

موقع الوطن العربي والإسلامي:

يعد موقع الوطن العربي والإسلامي من الأسباب الرئيسة التي جعلت الغرب يقوم بحملاته الاستعمارية المتواصلة، فالوطن العربي يقع في موقع متميز بين قارتي أفريقيا وأسيا، وهذا الموقع مکنه من التحكم في العديد من المناطق المحورية في العالم، وهي المناطق التي تعد نقطة التقاء العديد من البلدان والقارات، حيث يتحكم

ص: 161

في مضيقي: باب المندب وهرمز، ومن القنوات والممرات المائية قناة السويس، ومن البحار البحر المتوسط والبحر الأحمر، ومن المحيطات الأطلسي والهندي، ومن الخلجان: الخليج العربي وخليج العقبة وغيرهما، وهذه كلها تعد محطات مواصلات تتحكم في العالم، وهذا ما جعل أنظار الغرب الاستعماري تتجه إلى العالم العربي والإسلامي.

ضعف الدولة العثمانية:

مما لا شك فيه أن الدولة العثمانية كانت دولة مترامية الأطراف، ولكن أصابها الضعف والخلل في نهاية المطاف، وقد بدأ ذلك يظهر جليًا في بدايات القرن الثامن عشر، الأمر الذي حدا بالغرب إلى التفكير في استغلال هذا الضعف، والإجهاز على الدول التي تقع تحت حوزتها ، فقد استقرت لدى الغرب حينها مقولة الرجل المريض وصفًا على الدولة العثمانية، وهذا ما جعل تلك الدول الغربية تتكالب عليها، وتتسابق مع بعضها البعض لنيل الجزء الأكبر منها.

الخوف من دولة إسلامية موحدة:

لا شك في أن أحد دوافع الاستعمار الغربي لبلاد الشرق الإسلامي هو الخوف من الإسلام وقيام دولة إسلامية موحدة، وقد بدأت بوادر هذا الخوف من عدة أمور:

- قوة الدولة الإسلامية في عهد الدولة الأموية والعباسية والفاطمية وغيرها.

- ما أقامته الدولة العثمانية من إمبراطورية مترامية الأطراف.

- ما قام به محمد علي خديوي مصر ونجاحه في إقامة نهضة حقيقة ومحاولة بناء دولة حديثة .

فالخوف من قيام دولة إسلامية يمثل هاجساً كبيراً لدى الغرب لأن قيام هذه الدولة سيقطع عليهم الطريق من وضع اليد على مقدّرات الشرق. لذلك كانت مخططاتهم أبرزها الاستعمار تحاول درء هذا الخطر الذي كان يتهددهم على ظنهم.

ص: 162

ثالثًا - الأسباب الخارجية:

وهي الأسباب التي تتعلق بما هو خارج العالم الإسلامي، ونعني بها الأسباب التي من قبل المستعمر الغربي، وهذه الأسباب أيضًا متنوعة ومتعددة، ومنها ما يأتي:

التحكم والهيمنة على العالم الإسلامي:

وهو من العوامل الرئيسة في الاحتلال الغربي للشرق فقد كانت الدول الغربية تتسابق في احتلاله؛ لكي تظهر كل دولة منها أنها الأقوى على الساحة الدولية، وجدت الفرصة سانحة أمامها باحتلال الشرق واغتصاب كنوزه وكأن الشرق فريسة سهلة المنال وسط مجموعة من الوحوش الضارية؛ فهي تجري فيجري وراءها كل واحد منهم، والكل يتبارون في اقتناصها رغبة في إظهار أنه الأقوى بينهم، وهكذا كان حال بلاد الشرق الإسلامي وغيره من الدول الضعيفة، والتي جعل منها الاحتلال فريسة له.

وفكرة التحكم والهيمنة الغربية لم تكن وليدة القرن العشرين ذلك القرن الذي هجم فيه الغرب بكل ضراوة ووحشية على آدمية الإنسان، بل كانت وليدة قرون موغلة في القدم، رأى فيها الغرب من خلال حملاته الصليبية الأولى أن بلاد الشرق ملك له وحق أصيل لا يستطيع أحد أن يمنعه من الوصول إليه.

وقد ارتبطت ظاهرة الاستعمار الحديث بالنهضة الأوروبية وعصر الاستكشاف وتعزيز السلطات المركزية في كل من البرتغال إسبانيا بريطانيا، فرنسا وبعض الممالك الإيطالية، حيث شهدت أوروبا في نهاية القرون الوسطى تطورات تكنولوجية سريعة، خاصة في مجال الملاحة، فضلاً عن تمكن السلطات المركزية الأكثر استقراراً من تمويل مشاريع طموحة تشمل إرسال بعثات من الملّاحين والجنود والمستوطنين إلى مواقع بعيدة عن بلادهم الأصلية(1).

بل يعتبر معظم المؤرخين أن تأسيس المستعمرة البرتغالية في سبتة عام 1415م

ص: 163


1- انظر الاستعمار على الموقع التاليttps://ar.wikipedia.org/wiki/.

كان نقطة البداية لظاهرة الاستعمار وبغض النظر عن الحملات الصليبية كان احتلال سبتة من قبل الجيوش البرتغالية ومن ثم تأسيس المستعمرة فيها أول عملية لتوسيع سيطرة دولة أوروبية خارج القارة الأوروبية، خلال القرن الخامس عشر، أيام الأمير إنريكيه الملاح الملك أفونسو الخامس والملك مانويل الأول، حيث شنت البرتغال حملات استكشافية بحرية، وأقامت في تلك الفترة محطات تجارية، بما في ذلك محطات التجارة بالعبيد على الشواطئ الأفريقية الغربية بدعم الفاتيكان الذي منحها الأولوية من بين الدول الكاثوليكية في السيطرة على المواقع المعثورِ عليها جنوبي رأس بوجادور. عام 1498 وصل البرتغاليون إلى رأس الرجاء الصالح وفي عام 1497 وصلوا إلى شرقي أفريقيا (1).

اصطناع مركزية غربية.

يعد الاستعمار الغربي الأداة المتوحشة التي اصطنعها الغرب لتحقيق مركزيته العالمية الآن، فقد ارتبطت أسباب الاستعمار بمجموعة من الأهداف التي تتعلق بالدول المستعمرة،«ومن أهمّها تحسين مركز الدول المستعمرة في عمليّة التنافس على المراكز المُتقدّمة في سلّم القوى الدولية، والذي يؤدّي إلى توسيع دائرة نفوذ تلك الدول في المجتمعات الدوليّة والمحليّة، إضافةً إلى تمكّنها من التحكم في القرارات الدوليّة وتوجيهها لمصلحتها، ويمكن توضيح أسباب وأهداف الاستعمار في عددٍ من النقاط، هی: قلب الوضع القائم على الساحة العالميّة، والقيام بمراجعة علاقات القوى بين دولتين أو أكثر، في سبيل الوصول إلى تفوّق محلي، أو من أجل إقامة إمبراطوريّة قاريّة، أو من أجل فرض هيمنة عالميّة، وهذا ما يحدث مع الدول التي تملك شهوة القوّة - حسب رأي العالم الأميركي هانس مورغانتو في تفسيره لمعنى الإمبرياليّة - هي الرّغبة

تحسين وضعها بشكلٍ مستمر دون الاقتناع بالوضع القائم»(2).

بما يعني أن المركزية الغربية أول ما استندت استندت سياسيًا على احتلال الشعوب

ص: 164


1- انظر الاستعمار، على الموقع التالي. https://ar.wikipedia.org/wiki/
2- انظر غادة الحلايقة، أسباب الاستعمار منشور بتاريخ 29 مايو 2016م، على الموقع التالي : .http://mawdoo3.com

بهدف التحكم فيها وإظهار مركزيتها العالمية، وقد تبلورت هذه المركزية في:

- إبراز الفوقية الغربية وتأثيرها في العالم من حولها.

- إبراز النفوذ من خلال التوسع على الأرض استعماريًا.

- التحكم في مجريات الأحداث عالميًا ومحليّا.

ولم يجد زعماء المركزية الغربية أفضل من الاستعمار لإظهار هذه المركزية تطبيقيًا بعد أن مهد لها نظريًا العديد من المفكرين الغربيين من أمثال هيجل وغيره من زعماء الفكر الغربي، فالاستعمار الغربي كان الوريث الشرعي لتلك الأفكار على أرض الواقع.

وتقوم هذه المركزية على العمل الدؤوب على تعزيز مكانتها الدولية، فالمركزية الغربية اتخذت من الاستعمار أداة لتوسيع قدرتها على الساحة الدولية التي لا تؤمن إلا بمنطق القوة، إذ نحن في عالم لا مكان فيه للضعفاء، لا أقصد عسكريًا فقط، بل فكريًا وثقافيًا واقتصاديًا واجتماعيًا ودينيّا ... إلخ.

فالدول الغربية كانت تتبارى في احتلال الشرق وغيره بحثًا على مكاسب في الأرض ، فمن الأكيد أن الغرب كان في حاجة - ولا يزال - إلى البحث عن موارد نتيجة قلة ما لديه أو تناقصها أو عدم وجودها من الأساس، وهذا ما أدى إلى البحث عنها خارج حدود القارة الأوروبية عن طريق الاحتلال.

وهذا يفسر لنا لماذا جابت البعثات الاستكشافية الغربية العالم؟ ظني أنها كانت بعثات ممهدة للاستعمار سواء أكانت بطريقة مباشرة أو بطريقة غير مباشرة، ففاسكودي جاما الذي اكتشف طريق رأس الرجاء الصالح؛ لم يكن ليفعل ذلك من تلقاء نفسه، ولم تكن لديه الكفاية المالية التي تؤمن له مثل هذه الرحلة العلمية الباهظة التكاليف، كما أن كريستوف كولومبوس الذي كان له الفضل في اكتشاف سواحل أميركا ودورها في التواصل مع العالم من حولها، حتمًا كانت هاتان الرحلتان ممولتين

ص: 165

تمويلاً من نوع خاص يهدف إلى إرسال عيون لاكتشاف العالم بهدف الاستفادة من موارده وتصريف منتجات الدول الغربية التي ضاق بها الوسط المحلي فيها.

ومن ثم فهذا لا شك بأنّه يمثل مرحلة مهمة في ظهور المركزية الغربية وعلاقتها ،بالاستعمار ، فقد كانت هذه الرحلات التي أسست للمركزية الغربية المرحلة الأولى والممهدة للإستعمار في عدد كبير من دول العالم، وهذا يفسر لنا لماذا كان التركيز من قبل الاستعمار على الدولة الغنية بمواردها، ففرنسا احتلت الجزائر وإنجلترا احتلت مصر واليمن وبعض الدول الأفريقية كنيجيريا، وكذلك لم تخرج من السباق البرتغال وهولندا وأسبانيا كانت الدولة المحتلة - إضافة إلى غيرها - تمتلك الموارد التي أسالت لعاب المغتصب الغربي فالحصول على المواد الخام كان بغية استخدامها في الصناعات وسد العجز الذي تواجهه بعض المصانع، لمواكبة الثورة الصناعية.

الأسباب الدينية:

يمكن القول إن بريطانيا كانت أول دولة غربية قننت التبشير، وجعلت له قانونًا خاصًا، حيث أصدر البرلمان البريطاني قرارًا في سنة 1649م، بإنشاء «هيئة نشر المسيحية في إنجلترا الجديدة»، ومن ثم أخذت الجمعيات التبشرية التنصرية تظهر إلى حيز الوجود(1).

ولا شك في أن المكانة الدينية التي كان يحتلها الوطن العربي والإسلامي أحد الأسباب الدينية المهمة التى دفعت الغرب لإرسال حملاته الاستعمارية، فالبقعة العربية كانت بقعة مباركة نزلت فيها معظم الأديان السماوية، وهذا ما جعل الدول الغربية تستثمر هذا الأمر في خدمة مصالحها، خاصة أنها تعللت في دخولها الشرق الإسلامي واستعماره بحماية الأقليات المسيحية، والأماكن المقدسة، وأهمها الأماكن المقدسة في القدس وفلسطين بالعموم.

وقد بدأ الغرب حركاته الاستعمارية بدافع سبب آخر وهو عمليات التبشير أو

ص: 166


1- انظر زاهر ریاض استعمار أفريقيا، القاهرة، الدار القومية للطباعة والنشر، 1965م، ص 101، 102.

التنصير، إذ يمكن القول إن حملات التبشير كانت تسير جنبًا إلى جنب مع الغزوات الاستعمارية، فقد صاحبتها الإرساليات التبشيرية الدينية، وقد استجابت لهذه الإرساليات جموع من قاطني البلاد المستعمرة، وهذا ما نجده بوضوح في تشاد وأفريقيا الوسطى، ونيجيريا وجنوب السودان.

ولكن لماذا ارتبط التنصير بالاستعمار ؟ إن الإجابة على هذا التساؤل تكشف عن أمر من الأهمية بمكان، وهو أن الإسلام كان يمثل عقبة كؤود تجاه حملات التنصير، فضلاً عن كونه تيارًا مناهضا لحركة الاستعمار الغربي الراعي الرسمي للتنصير، فقوة الإسلام المتصاعدة كانت تخيفهم، لذلك عملوا ما في وسعهم على إيقاف مسيرته،«وبينما كان الإسلام يوشك أن ينهار في أوروبا مع عصر السلاطين من آل عثمان كان لا يزال ناشطًا في تقدمه وفتوحه على أبواب مملكتنا الإفريقية، ويبدو بوضوح أنه أشد الأديان مراسًا في إباء الاستعباد، ولذلك يتمنّى المبشرون أن ينصِّروا المسلمين كلهم، ومع أن التبشير يتناول البوذية والإبراهيمية أيضًا، فإن المقصود الأول بجهود التبشير هم المسلمون، ولقد استوى في هذه الرغبة جميع المبشرين، على الرغم من اختلاف طوائفهم وتباين الأقنعة التي يضعونها على وجوههم»(1).

لا شك في أن السبب الديني يظهر بشدة هنا إذا علمنا أن الكنيسة في أوروبا كانت تريد استعادة المجد الصليبي القديم، بحيث تقوم على أنقاض الإسلام، فالقضاء على الإسلام ونشر الديانة المسيحية كان سببًا دينيًا يضاف إلى جملة الأسباب والدوافع التي ساقها الاستعمار لتبرير جريمته.

وهذا كله يعني حقيقة واحدة، وهي أن الاستعمار والتنصير كانا يعملان في جانب واحد، بل لقد كانت الحركات التنصيرية تعطي التعليمات الدينية للحركة الاستعمارية في الأقاليم المختلفة من العالم الإسلامي(2).

ص: 167


1- مصطفى خالدي وعمر فروخ ، البشير والاستعمار في البلاد العربية صيدا ،بيروت طبعة المكتبة العصرية، 1986م، ص 35.
2- انظر محمد بو الروايح الجدلية التاريخية بين التنصير والاستعمار الفرنسي في الجزائر ، ص 109 دراسة منشورة ضمن كتاب آليات الاستعمار الاستيطاني الأوروبي في الجزائر وليبيا، الندوة العلمية الأولى في جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، قسنطينة، ماي، 2008م .

كما أن التبشير أو التنصير يقوم بما يعجز عنه الاستعمار في أحيان كثيرة، فالمحتل الغربي كان يعلم جيدًا أنه إن عاجلاً أم آجلاً ستحصل هذه البلدان على حريتها، فكان لا بد من أن يؤسس لغزو آخر يبقى أثره ممتدًا لقرون، فكان التبشير هو المعول عليه هنا، يقول اليسوعيون «ألم نكن نحن ورثة الصليبين... أولم نرجع تحت راية الصليب لنستأنف التسرب التبشيري والتحدي المسيحي... وهكذا تستطيع الكنيسة المسيحية بلا حرب أن تسترد تلك المناطق التي خسرتها منذ أزمان طوال»(1).

وهذا ما يؤكده قول القس سيمون في مؤتمر لكنو في الهند ( 1911م ): «إن العامل الذي جمع هذه الشعوب (الإسلامية) وربطها برابطة الجامعة الإسلامية هو الحقد الذي يضمره سكان البلاد للفاتحين الأوربيين، ولكن المحبة التي تبثها إرساليات التبشير النصرانية ستضعف هذه الرابطة، وتوجد روابط جديدة تحت ظل الفاتح

الأجنبي»(2).

الأسباب الاقتصادية:

تعد الأسباب الاقتصادية أحد الأسباب المهمة التي دفعت الدول الغربية إلى استعمار البلاد الضعيفة ونستطيع القول إن هناك ثلاث مراحل للاستعمار الغربي للشرق ارتبطت كلها بالدوافع الاقتصادية:

الأولى، كانت الحملات الصليبية التي كان محورها القدس والمدن العربية ذات الخيرات والكنوز ، ورغم أن هذه المرحلة كانت مغلفة بإطار ديني ظاهريًا فإنها باطنيًا كانت ذات بعد اقتصادي يتطلع إلى اغتصاب هذه الخيرات والكنوز واستغلالها فيما يخدم الدول الغربية ومواطنيها.

والثانية تلك التي كانت مع بداية العصر الحديث في القرن السادس عشر على يد بعض الدول التي كانت تتطلع إلى صناعة مجد جديد، وهي تلك المرحلة التي

ص: 168


1- أحمد عبد الوهاب حقيقة التبشير بين الماضي والحاضر ، ط1. مكتبة وهبة، 1401ه_ ،ص .154
2- شاتليه الغارة على العالم الإسلامي، تلخيص وتعريب محب الدين الخطيب ومساعد اليافي. ط 4 الدار السعودية للنشر والتوزيع جدة، 1405ه-، ص 102 - 103.

صاحبت الرحلات البحثية والاستكشافية، وقد كانت وجهتها أفريقيا وأسيا وأميركا الجنوبية وأميركا الشمالية ،وأستراليا، وهذه المرحلة كان من ضمن أهدافها الرئيسة البعد الاقتصادي؛ حيث قامت بالأساس على البحث عن الذهب والثروة التي كانت تزخر بهما هذه البلاد.

الثالثة، وهي مرحلة الاستعمار الحقيقة التي تلت الثورة الصناعية في أوروبا في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، حيث نتج عن هذه الثورة الصناعية أمران: الأول، وفرة في الإنتاج، والثاني حاجة ملحة إلى المواد الخام ومن ثم كان الاستعمار الاقتصادي وسيلةً لاستغلال المواد الخام في الدول المستعمرة لإقامة ثورتها الصناعية، كما كان وسيلة لتصريف منتجات هذه الثورة لقد وجدنا من الباحثين من يؤكد على هذه الجزئية قائلاً: «فكان الاستعمار هو محور هذه الثورة - يقصد الثورة الصناعية في أوروبا - حيث لم تكن تملك أوروبا من المواد الخام إلا قليلاً من الفحم ومن هنا ارتبطت الصناعة الحديثة بالاستعمار، حيث زحفت البلاد الأوربية على الشرق، واحتلت مناطق متعددة، استطاعت أن تحصل منها على الخامات التي ازدهرت بها الصناعة ، ثم أعادت هذه المصنعات إلى تلك البلاد مرة أخرى لبيعها، فأصبح العالم الإسلامي بالنسبة لها مصدرًا للخامات وسوقاً للتجارة في نفس الوقت»(1).

هذا فضلاً عن الاستثمارات التي قامت بالأساس على استغلال هذه المواد في الدول المستعمرة ذاتها، حيث تدفقت رؤوس الأموال الغربية على أفريقيا مثلاً لاستثمار ما به من خيرات يكفي أن نعلم أن المستعمر الإنجليزي كان يستغل القطن المصري، كما كان المستعمر يستغل الألماس في جنوب أفريقيا والذهب في نيجيريا، وهكذا في كل بلد كان يستغل ما به من موارد ومن ثم وجدنا من الباحثين من يؤكد على ارتباط الاستعمار بالاستغلال منذ نشأته الأولى برباط وثيق، فقد كان الاستغلال هدفًا رئيسًا من بين أهدافه(2).

ص: 169


1- أنور الجندي، الاستعمار ،والإسلام القاهرة، دار الأنصار، 1979م، ص 3.
2- انظر يحي جلال الاستعمار والاستغلال والتخلف، طبعة القاهرة، الدار القومية للطباعة والنشر، 1956م، ص 5.

فضلاً عن ذلك كله فقد شكل تقلص الدور الأوروبي في قارة أميركا سببًا هامًا من أسباب الاستعمار الغربي لبلاد الشرق الإسلامي.

كما كان لحركات التنوير والتحرر الغربي، بما صاحبه من إصلاحات سياسية داخلية، فقد كانت بعض الدول ترى في خروجها من محيطها عبر استعمار هذه الدول

يسمح لها بالتخلص من الإشكاليات التي تواجهها، وأهمها الإشكاليات السياسية والاقتصادية.

ففي فرنسا مثلاً كانت الأزمات الاقتصادية الناتجة عن الحروب التي قادها نابليون سببًا من الأسباب التي جعلت فرنسا تحاول الخروج من تلك الضائقة، ولم تجد ضالتها إلا في الاستعمار.

ويمكن القول إن هذه الحروب جعلت هناك حاجة ماسة إلى الغذاء والمؤن الحربية حتى تكون فرنسا قادرة على مواكبة نهم نابليون في الوصول إلى أكثر عدد من الأماكن أو البلاد، وفرض سيطرته عليها. وهذا هو السبب الاقتصادي الذي جعل فرنسا تحتل الجزائر، فقد كان هذا القطر العربي والإسلامي الشقيق يمتلئ بالمحاصيل التي توفر الغذاء، خاصة القمح، كما كانت تمتلئ بالمعادن التي تكفي للجانب الحربي. هذا فضلاً عن أن الديون الفرنسية بلغت حدًا كبيرًا، الأمر الذي شكّل إشكالية للاقتصاد الفرنسي إلى حد اعتباره أزمة عاصفة، يكفي أن نعلم أن هذه الديون بلغت 24 مليون من الفرنكات . ومن الممكن القول إن الشعب الجزائري كان مؤمنًا بأن المستعمر الفرنسي ليس لديه هدف غير إبادة العرب وتجريدهم من أملاكهم(1).

فالغرب إذن تغلب عليه الفلسفة المادية، والفلسفة المادية كما يرى أحد المفكريين الإسلاميين هي دين الغزو الغربي في القديم والحديث فالغربيون على اختلاف مواطنهم وحكوماتهم تجمعهم فكرة السطو على أموال الآخرين، فهم يخرجون من بلادهم وقد راودهم حلم واحد وهو الوصول إلى مرحلة الثراء من أقصر الطرق،

ص: 170


1- انظر محمد العربي الزبيري، مذكرا أحمد باي وحمدان خوجه وبوضربة الجزائر ، الشركة الوطنية للنشر والوزيع 1973م، ص .149 148

وكيف يجمعون الثروات الضخمة؟ وكيف يرضون أطماعهم في التشبع من كنوز الدنيا التي ظنوا أنهم ملكوا ناصيتها ؟(1).

فالغرب المستعمر لم يكن يبحث إلا عن مصلحته ، «وليس في حسابهم أبدًا أنهم واجدون في هذه المحاولات أقوامًا لهم حقوق يجب احترامها، كما أنه ليس في حسابهم أن للسلوك الإنساني حدودًا يجب التزامها والدين الذي يعتنقونه لا يفهم إلا أنه ذريعة لتقريب مآربهم، واستباحة خصومهم، لا وظيفة له إلا هذه»(2).

الأسباب السياسية:

كان العامل السياسي عاملاً لا يمكن إنكاره في ظاهرة الاستعمار خاصة الاستعمار الحديث، فالدول الكبرى اتخذت منه وسيلة لأن تضع قدمًا في سباق القوى العالمي، ويكون لها دورها المؤثر في الساحة الدولية، وهذا يؤدي بدوره منفعة كبيرة لها؛ وهو السيطرة على القرارات الأممية والدولية والتحكم فيها، ممّا يؤمن لها نفوذها الاستعماري، ويشرعن لها استغلال الدول المستعمرة، ويقضي بالكلية على كل ما يقف عائقاً أمام تحقيق رغباتها وأهدافها ومصالحها.

وهذا يفسر لنا لماذا عقد مؤتمر برلين عام 1884م ؟ إذ لم يعقد هذا المؤتمر إلا بعد أن حصل تضارب للمصالح بين القوى الاستعمارية بسبب ما سمي بمناطق النفوذ، فلم تكن أي من هذه القوى لترضى بأي دولة تفرض عليها سيطرتها، وإنما كان الاختيار منصبًّا على الدول التي تمثل نفوذاً من نوع ما في موقعها أو مواردها أو الاثنين معّا، ومن هنا نشأ الصراع والتطاحن بين هذه القوى.

ومن ثم فلم تَقنع الدول الغربية بالوضع الراهن الذي كانت فيه، وإنما أرادت أن تبحث عن مجد لها، فبما أن من الناس من لديه الرغبة في القوة أو شهوة القوة ومنهم من لديه الرغبة في المال أو شهوة المال فإن الدول الغربية كانت كذلك،

ص: 171


1- محمد الغزالي، الاستعمار أحقاد وأطماع ، القاهرة، طبعة نهضة مصر، الرابعة، 2005م، ص 81.
2- محمد الغزالي السابق، ص 81.

حيث كان لديها رغبة جامحة في الأمرين معًا: القوة والمال، وهذا ما جعل ظاهرة الاستعمار قائمة على الصراع، فقد كان الاستعمار يريد - أولاً - الإجهاز على الوضع السياسي القائم في الدولة المستعمرة، لتحسين وضعه أو وضع دولته، وهو ما تقوم به الإمبريالية في العصر الراهن فتعمل على استهداف سياسة تقوم على مراجعة العلاقات بين الدول كمرحلة أولى للسيطرة عليها وتحسن وضعها الدولي كبديل

للاستعمار.

ولكي يتحقق الدور السياسي الذي كان يرنو له الاستعمار دوليًا عمل على ربط هذا الهدف السياسي بأمر آخر، فقد عمل على تمويل الرحلات والبعثات الاستكشافية، وأهمها :

- بعثة فاسكودي جاما الذي اكتشف طريق رأس الرجاء الصالح.

- بعثة كريستوفر كولومبوس الذي اكتشف السواحل الأمريكية.

- بعثة ماجلان إلى أمريكا الجنوبية.

ولكي يتحقق الدور السياسي على الساحة الدولية أيضًا عمدت الدول الغربية إلى عدة أنواع من الاحتلال:

الأول الاحتلال العسكري، القائم على استنزاف موارد الدول، والسماح لمواطني الدول الغربية بالتمتع بكل الامتيازات في الدول المحتلة واستجلاب العديد من المستوطنين لهذه الدول، وهذا ما قام به الاحتلال الإنجليزي لمصر واليمن ونيجيريا، والاحتلال الفرنسي للجزائر، والاحتلال الأسباني لبعض من المغرب.

الثاني، الاستيطان، وهذا ما نجده واضحًا بقوة في الاستيطان الذي قامت به هولندا لمناطق من جنوب أفريقيا، وهو الأمر ذاته الذي قامت به إنجلترا في جنوب أفريقيا أيضًا، ومن أبشع صور الاستيطان ما نجده في فلسطين إلى الآن من استيطان صهيوني

سافر.

ص: 172

الثالث الحماية وهو نوع من الاحتلال يجبر فيه المحتل الدولة المحتلة على التوقيع على اتفاقية حماية تكون بموجبها الجوانب المالية والعسكرية والخارجية

بيده وحده.

الرابع الانتداب، فبعد الحرب العالمية الأولى ظهر شكل جديد من أشكال الاستعمار أقرته عصبة الأمم المتحدة التي تكونت حينذاك كمنظمة أممية لنشر السلام ومنع الحروب، فقد كرست عصبة الأمم نوعاً جديداً من الاستعمار وهو الانتداب، حيث ورد إجازته في المادة 22 لميثاق عصبة الأمم التي اعتبرته طريقة للنهوض بالشعوب القاصرة والأخذ بيد هذه الأمم لتكون قادرة على تسيير أمورها، لكنه في الحقيقة كان مظهراً للاستعمار ووسيلة لامتصاص خيرات الشعوب (1)

وتبدو أهمية الاستعمار للمحتل في جانبه السياسي في قدرته على السيطرة على المواقع المحورية في العالم والمناطق ذات التأثير القوي عالميًا، إذ لما كانت الدول المحتلة تريد تعزيز مكانتها على الساحة الدولية فقد عمدت إلى السيطرة على المواقع والمناطق المحورية من العالم، وهذه المناطق تقدم لها خدمات جلية على عدة نواح، منها:

- التحكم في القنوات الرئيسة والممرات الدولية وطرق المواصلات العالمية.

- السيطرة على المضايق وممرات الملاحة الدولية.

- حائط صد يمنع من تكوين تحالفات أو ائتلافات تؤثر على دور الدولة المستعمرة الغربية مركزيًا.

فالاحتلال الفرنسي كان الجانب السياسي غالبًا فيه أيضًا، حيث كان الاحتلال الفرنسي للجزائر خطةً محكمةً كان من ضمن أهدافها أن يصرف شارل العاشر أنظار الفرنسيين عن زلاته بسبب النكوص على مخرجات العملية الديمقراطية التي قبلها

ص: 173


1- انظر مصطفى الشهابي، محاضرات في الاستعمار ص 20-21

الشعب الفرنسي، هذا فضلاً عن أن احتلال الجزائر في تلك الفترة يعني أن بإمكان الملك التخلص من خصومه العسكريين الذين كانوا يناصبونه العداء، ويفتحون عليه باب المعارضة، إضافة إلى محاولة فرنسا الدؤوبة لمحاولة تجميل الصورة التي ظلت تعتريها بعد الخسائر التي منيت بها في أوروبا وغيرها.

الأسباب العسكرية:

كانت هناك بعض الأسباب الاستراتيجية على الصعيد العسكري للاستعمار والتي لا يمكن إخفاؤها بأي حال، فالغرب المستعمر كان يهمه إنشاء قواعد عسكرية تؤمن له طرق المواصلات من الغرب للشرق ومن الشرق للغرب، وهذا يفسر لنا لماذا كانت إنجلترا مهتمة بالأماكن المحورية من العالم الإسلامي والمناطق ذات الموقع الاستراتيجي، خاصة المضايق كمضيق جبل طارق، وخليج عدن وقناة السويس، كما أن هذه القواعد العسكرية كانت تؤمن لها التحكم في الدول الإسلامية، واتخاذها نقطة انطلاقة لاستكمال مسيرتها الاحتلالية الغاشمة التي كانت تزداد ضراوة يومًا بعد يوم.

الأسباب السكانية (الديموغرافية):

انتهجت الدول الاستعمارية آليّة شيطانية، وذلك من خلال القضاء على عدد كبير من السكان أو المواطنين أبناء الشعوب المقهورة، رجاء عملية استيطان ممنهجة من قبل المواطنين الذي يحملون جنسية المستعمر الغاشم، فالاستعمار في الجزائر وليبيا مثلا - مثلما الحال في بلاد الشرق الإسلامي التي استعمرت - قد حرم البلدين من النمو الديمغرافي الطبيعي بتشريد وإبعاد السكان من أوطانهم، وتعويض ذلك بنمو بشري اصطناعي، أي بالسماح للمهاجرين الأوروبيين بالتوطن على أراضي أبناء البلاد، فصار الغزو المدني الأوروبي مكملاً للغزو العسكري، وهذه آلية من آليات الاستعمار الاستيطاني الأوروبي»(1).

ص: 174


1- انظر عمیر اوي احميده من آليات الاستعمار الاستيطاني دراسة منشورة ضمن كتاب آليات الاستعمار الاستيطاني الأوروبي في الجزائر وليبيا الندوة العلمية الأولى في جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، قسنطينة، ماي، 2008م، ص 167.

فقد كان تخفيف الضغط السكاني عن الدول الغربية دافعًا للسيطرة على أقاليم معينة ونقل الفائض السكاني إليها وهو ما اعتمدته ألمانيا وإيطاليا واليابان في الحربين العالميتين، ولذا فإن من حق الدول الاستعمارية أن تنمو على حساب المناطق التي فيها أماكن للفائض السكاني، وقد قامت في أوروبا عند اشتداد البطالة في القرن التاسع عشر مدرسة الإصلاح الاستعماري التي دعت لتحويل الفائض السكاني إلى المستعمرات واستخدامهم في الزراعة، وكان في بريطانيا في هذه الفترة (103) جمعيات لهذا الغرض.

ومما لا شك فيه أن المناطق التي اتخذها الاستعمار الأوروبي هدفا له كانت على درجة كبيرة من الضعف والتأخر الاقتصادي والسياسي والعسكري والعلمي وكان هذا دافعا قويا للدول على التوسعات الاستعمارية لاتخاذ مجموعة من الذرائع لتسويغ مسلكها الاستعماري، إذ تحاول إخفاء الدوافع الحقيقة للاستعمار، ولكنها في معظم الأحيان ليست إلا ستارا للأسباب الأصلية(1).

الأسباب الثقافية:

لا نستطيع القول إن الأسباب الثقافية كانت من ضمن الدوافع الرئيسة والجوهرية للاستعمار، وإنما نستطيع القول إنها كانت من الدوافع الفرعية التي تحقق الدوافع الأولى، وتعضد من دورها، وتفعّل من تأثيرها، وقد حاول المستعمر - وهذا ما نجح فيه إلى حد كبير - إعادة تشكيل الحياة الثقافية في البلاد المحتلة، ببناء أطر ثقافية جديدة، بحيث يضمن ارتباط هذه البلاد به أبد الدهر، حتى بعد أن يرحل عنها، وهذا ما حدث بالفعل، وتظهر أثاره بوضوح في وقتنا الراهن.

وكانت الأداة الفاعلة التي حاول العدو الإجهاز عليها؛ كونها العامل الأساسي الذي تقوم عليه ثقافة كل دولة وهويتها هي اللغة، فاللغة هي حجر الأساس في الهوية الثقافية لأي مجتمع ، وهو ما يفسر لنا لماذا كان المحتل حريصًا على أن يستبدل بلغة الشعوب

ص: 175


1- انظر الاستعمار على الموقع التالي. /https://ar.wikipedia.org/wiki

المحتلة لغته هو؛ كعامل رئيس للقضاء على الرابطة الثقافية التي تقوم عليها. والمتأمل في تاريخ الاستعمار يجد هذا واضحًا جليًا، فاللغة الإنجليزية كانت اللغة المعترف بها والرسمية لمستعمرات الهند وجنوب أفريقيا ومصر ونيجيريا ، حتى صارت شعوب هذه الدول تتحدث الإنجليزية، أو على الأقل جعلتها لغة ثانية بعد لغتها الأم الرسمية، كما في مصر مثلاً، ومن الدول المستعمرة التي صارت اللغة الرسمية فيها هي اللغة الفرنسية، مالي وتشاد والسنغال وكوت ديفوار والكاميرون؛ نتيجة فعل الاستعمار، كما نجد اللغة البرتغالية سائدة في موزمبيق وبعض دول قارة أميركا اللاتينية كالبرازيل مثلاً، كما نجد الأسبانية منتشرة في بعض الدول الأخرى من هذه القارة.

هذا فضلاً عن العديد من الدول التي تأثرت بلغة المستعمر، وجعلت من لغته لغة ثانية، فالإنجليزية لغة ثانية في مصر كما قلنا والفرنسية لغة ثانية في تونس والجزائر والمغرب، حتى أنها تكاد تكون اللغة الرسمية في بعض منها.

ولكن هل الأسباب الثقافية كانت عاملاً جوهريًا أو رئيسيًا للاستعمار ؟ الحقيقة أنها لم تكن من الأسباب الرئيسة أو الجوهرية؛ لأن السبب الرئيس أو الجوهري هو تشكيل مركزية غربية يقوي مركزها على الساحة الدولية، والتحكم في الشعوب مع استغلال كنوز الدول ،وخيراتها، أما الأسباب الثقافية فلم تكن غير أسباب ثانوية تستخدمها الدول المحتلة كأداة لتحقيق الهدف الجوهري، بمعنى أنه لكي تحقق الدول الاستعمارية هدفها في التحكم والاستغلال وتشكيل المركزية كان عليها أن تقضي أولاً على الهوية الثقافية التي تقوم عليها هذه الدول المستعمرة، حتى يسهل قيادها والتحكم فيها.

وهذا عامل مهم أولاه المستعمر اهتمامه وعنايته باعتباره الأبقى أثرًا في نظري؛ ذلك أن المستعمر كان يدرك لا محالة أن مسألة وجوده في الدول المستعمرة مسألة وقت ليس إلا، وأن هذه الشعوب ستحصل على استقلالها لا محالة، ومن ثم استغل العامل الأقوى والأكثر استمرارية وهو عامل الثقافة، فنشر ثقافته وعاداته وتقاليده التي تخالف الثقافة والعادات والتقاليد التي عليها تلك الدول.

ص: 176

وقد جنّد المستعمر ما يمكن أن نسميه الطابور الخامس، ذلك الصنف الذي ربّاه المستعمر على عينه ، لكي يقوم بدوره بعد رحيله؛ لإيمانه العميق أنه وإن كان راحلاً وإن كانت الآصرة السياسية قد تقطعت فإن فعل الثقافة واللغة البديلة هما السند الذي به يمتد تأثیره قرونًا عديدة، وهذا ما نجده عند بعض التيارات الحداثية والتنويرية والتقدمية، التي ارتضت أن تكون الأداة التي يضرب بها المستعمر الشعوب الضعيفة والفقيرة.

الخاتمة:

وننتهي من ذلك كله أن الاستعمار لم يكن استعمارًا بل كان احتلالاً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، يكفي أن ندرك أن هناك العديد من المصطلحات التي تدل على مدلول الاستعمار الحديث ،بدقة، كاحتلال واستدمار وغيرهما من المصطلحات التي تحمل في داخلها أيضًا أسبابه ودوافعه الخبيثة.

فالاستعمار ليس إعمارًا، وإنما استدمار بمعنى تدمير الشعوب المحتلة والقضاء عليها وعلى خيراتها ومواردها ولا شك أن استدمار - بمعنى طلب التدمير - لا يخفى على كل ذي عقل، فالمحتل الغربي إنما جعل تدمير الشرق عاملاً رئيسياً وسببًا جوهريًا من وراء عملية الاحتلال التي قام بها ، فعمل على تدمير الهوية العربية والإسلامية، كما عمل على تدمير النفس الإنسانية قتلاً أم إهانة، وهذا كله وغيره من الأفعال التي ارتكبها إنما هي تدخل تحت طائلة مصطلح «التدمير».

كما أنه كان استحمارًا إن جاز التعبير على قسوته، ونقصد به أن الاحتلال الأوروبي للشرق الإسلامي كان عبارة عن محاولة قيادة الشعوب العربية، كما يقود الرجل حماره، فهذا الشرق كان مطية يمتطيها المحتل؛ ليصل من خلالها إلى ما يريد من أطماع. ويظهر هذا الأمر جليًا في تلك الدعاوى التي كان يطلقها بأنه ما جاء إلا لرفعة هذه البلاد والأخذ بها إلى طريق الحضارة والتقدم مع أنه في واقع الأمر يمارس دور الذكي الذي ينظر إلى من أمامه على أنهم مجرد أغبياء أو مطايا يمتطيها وقتما شاء؛ لكي يصل إلى هدفه المنشود، وهذا لا شك عامل مهم من العوامل التي أرادها الاستعمار .

ص: 177

كما أن الاستعمار كان استقمارًا من القمار، فلقد قامر المحتلون على من يأخذ بنصيب من بلاد الشرق الإسلامي، بل لقد قامر هؤلاء بتاريخ هذه البلاد ولغته وخيراته، وكأن المحتلين الغربيين قد جلسوا على طاولة القمار يقامر كل واحد منهم بما لا يملكه.

والناظر إلى الاستعمار يجده استثمارًا من الأمر والتآمر فقد كان من العوامل الرئيسة في دخول بلاد الشرق الإسلامي واحتلالها واستنزاف خيراتها، أمر هذه البلاد، حتى تسمع له ،وتطيع، فيحتل الأرض والجو والبحر ، يحاول أن ينفذ أمره في الحال، وما على الشعوب إلا الإذعان لهذا الأمر، فهو استثمار يقوم على منطق السيد الذي يأمر والشعب العبد الذي يطيع.

كما كان استخمارًا من خمر الشيء بمعنى غطاه وطمسه، ومنه الخمار بمعنى تغطية الشيء وستره، فأحد أسباب ما سمي بالاستعمار هو إجراء عملية تغطية وطمس للعقول العربية وهويتها ودينها من خلال وضع حجب كثيفة بين الشعوب تاريخها وهويتها ، ودينها، بل وخيراتها الكثيرة ماديًا وبشريًا. وهو على الجانب الآخر استخمار من الخمرة المسكرة التي تغيب العقل، ومن ثم فهو عملية استخمار للعقول وتغييبها بكافة الوسائل؛ بغية وضع الشعوب الإسلامية في مرحلة تغييب الوعي وفقدانه؛ كي يسهل التحكم فيها وسهولة قيادتها.

فضلاً عن أنه كان نوعًا من الاستزمار ؛ إذ المتأمل في فعل الاستعمار الأوروبي يجد أنه أحاط نفسه بهالة إعلامية بأنه ما جاء إلى الشرق إلا من أجل ازدهاره أي ازدهار الشرق، فوسيلته الاستزمار، كمن يمسك مزماراً ويجعل منه أداة إعلانية لنفسه أو لغيره جراء كسب الناس في صفه أو محاولة إيهام الشعوب بنبل موقفه كذبًا وبهتانًا، مستغلاً في ذلك الآلة الإعلامية التي كان يمتلكها ولا زال.

بالإضافة إلى أنه استضمار، على اعتبار أن هذا الاحتلال جاء وهو يضمر الشر لدول الشرق شعوبًا وحكومات، فقد كان يبيّت النية للنيل منها والاستيلاء عليها، وعلى اعتبار أنه أضمر نيته من مجيئه إلى الشرق، فقد أخفى نواياه، وإن كانت أفعاله

ص: 178

تفضحه يومًا بعد يوم. ومن ثم فهو ليس استعمارًا ، وإنما كان استضمارًا لنيته ونواياه الخبيثة رغبة في الوصول إلى هدفه المنشود.

كما يعد الاستعمار استغمارًا، غمر فيه المحتل الدولة المحتلة في بحر من الدم ليس له مثيل، وفي سلسلة من القيوم والاستبداد الذي ليس له مثيل أيضًا، كما غمرها في سلسة من المشاكل التي خلفها وراءه، والتي ترسِفُ فيها الدول المحتلة إلى الآن. فضلاً عما صنعه بالهوية الوطنية والدينية، فقد حاول أن يغمر كل شيء ويخفيه، بل يغرقه حتى لا يكاد يرى له وجود.

والاستعمار قائم على الاستنمار، فقد تنمّر الاستعمار من بداياته، وهذا ما كشفت عنه ،نواياه بالبلاد العربية ونقصد بالاستنمار هنا التنمّر، وهو مأخوذ من لفظ النمر، بما توحي به الكلمة من اعتبار الشرق فريسة ينقض عليها القناص الغربي الذي اختلس صفات النمر من قوة واندفاع وتحقيق المأرب والمراد من الانقضاض على فريسته، كما يحمل معنى الشدة وعدم الرأفة ولو لبرهة واحدة، فالهدف محدد ولا رجعة فيه، وهو تحقيق المصلحة الشخصية، ولا شيء غيرها (1).

بل لقد كان الاستعمار جديرًا بلفظة استهمار لا استعمار؛ لأنه صب جام غضبه على الشرق فقتل حتى أسال دم أبنائه منهمرًا كالماء؛ ولأنه انهمر بشدة نحو الإجهاز على موارده و ممتلكاته وكنوزه(2).

ص: 179


1- والتنمر يعرف بأنه شكل من أشكال العنف والإساءة والإيذاء الذي يكون موجه من شخص أو مجموعة من الأشخاص إلى شخص آخر أو مجموعة من الأشخاص حيث يكون الشخص المهاجم أقوى من الشخص الآخر الذي قد يكون عن طريق الإعتداء البدني والتحرش الفعلي وغيرها من الأساليب العنيفة، ويتبع الأشخاص المتنمرين سياسة التخويف والترهيب والتهديد . وهذا ما فعله المحتل وأجاد فيه فقد عمل بتنمره على الاستيلاء على الدول الضعيفة وهو ما يفعله دائما النمر، فهو لا يهجم على القوي وإنما يهجم على الفريسة الضعيفة ومن ثم بسط المحتل نفوذه على هذه الدول. انظر سناء الدويكات ما هي ظاهرة التنمر ؟ مقال منشور بتاريخ 24 فبراير 2015م، على الموقع التالي : http://mawdoo3.com
2- وهو من همر بمعنى الصب والسيلان يقال همر الماء بمعنى صب وانهمر الماء بمعنى سال انظر معجم اللغة العربية، القاهرة ، طبعة عالم الكتب، 2008م، مادة همر.

المصادر والمراجع:

أولاً - الكتب:

- أحمد عبد الوهاب حقيقة التبشير بين الماضي والحاضر ، ط1 مكتبة ،وهبة، 1401ه- .

- أنور الجندي، الاستعمار والإسلام ، القاهرة، دار الأنصار، 1979م .

- زاهر ،رياض، استعمار أفريقيا، القاهرة، الدار القومية للطباعة والنشر ، 1965م .

- شاتليه، الغارة على العالم الإسلامي، تلخيص وتعريب محب الدين الخطيب ومساعد اليافي. ط 4 . الدار السعودية للنشر والتوزيع. جدة، 1405ه-.

- عبد الرحمن حبنكة الميداني أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها، بيروت - دمشق، دار القلم، الأولى، 1395ه-

- انظر عميراوي إحميده من آليات الاستعمار الاستيطاني ، دراسة منشورة ضمن كتاب آليات الاستعمار الاستيطاني الأوروبي في الجزائر وليبيا، الندوة العلمية الأولى في جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، قسنطينة ماي 2008م .

- محمد بو الروايح الجدلية التاريخية بين التنصير والاستعمار الفرنسي في الجزائر، دراسة منشورة ضمن كتاب آليات الاستعمار الاستيطاني الأوروبي في الجزائر وليبيا، الندوة العلمية الأولى في جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، قسنطينة، ماي، 2008م .

- محمد العربي الزبيري ، مذكرا أحمد باي وحمدان خوجه وبوضربة الجزائر، الشركة الوطنية للنشر والوزيع 1973.

- محمد الغزالي، الاستعمار أحقاد وأطماع، القاهرة، طبعة نهضة مصر، الرابعة، 2005م .

- مصطفى خالدي وعمر فروخ البشير والاستعمار في البلاد العربية، صيدا، بيروت، طبعة المكتبة العصرية، 1986م .

- مصطفى الشهابي محاضرات في الاستعمار القاهرة، 1376ه- - 1956م .

- هنري كلود وآخرون الاستعمار الفرنسي في المغرب العربي، ترجمة: محمد عيتاني مكتبة المعارف بيروت .

- يحي جلال، الاستعمار والاستغلال والتخلف طبعة القاهرة، الدار القومية للطباعة والنشر، 1956م .

ص: 180

ثانيا - المعاجم :

- معجم اللغة العربية، القاهرة، طبعة عالم الكتب، 2008م .

- المعجم الوسيط، إبراهيم أنيس وآخرون، ط2، دار الفكر.

ثالثًا - الواقع الألكترونية:

- انظر سناء الدويكات ما هي ظاهرة التنمر ؟ مقال منشور بتاريخ 24 فبراير 2015م على الموقع التالي : http://mawdoo3.com

- غادة الحلايقة، أسباب الاستعمار منشور بتاريخ 29 مايو 2016م، على الموقع التالي:http://mawdoo3.com

ويكيبيديا، الاستعمار ، على الموقع التالي.

/https://ar.wikipedia.org/wiki

ص: 181

الاستعمار والوطنية:تغييب الهوية وإعادة تشكيل الوعي

اشارة

غیضان السید علی(1)

بالرغم من محاولات المُسْتَعْمِر المستمرة في كافة البلدان التي استعمرها من تجمیل صورته القميئة من خلال إشاراته إلى تركه أصداء تطور أو لمحات ازدهار هنا أو هناك، والتي لم تكن في الحقيقة - إلا لرفاهية أفراده ودعم مواطنيه الأصليين الذين يقومون على شؤون الاحتلال وبالرغم من مخادعة مفهوم «الاستعمار» الذي اشتق في معناه اللغوي من الأعمار والعمران أي ما يعمر به البلد ويصلح به حاله بواسطة الاهتمام والارتقاء بالزراعة والصناعة والتجارة وكافة أعمال التمدن والتحضر. يبقى الاستعمار هو الاستعمار مهما تغيرت أشكاله وألوانه وإدعاءاته، يبقى هو الاحتلال والاستيلاء القهري للبلاد المُسْتَعْمَرَةِ، وتبقى المُسْتَعْمَرَةُ إقليماً يحكمه أجنبي محتلّ يقوم باستغلاله اقتصاديًا وعسكريًا، ويسلك في سبيل ذلك كافة السبل التي تمكنه من ذلك الاستغلال من إذلال وإفقار وتجهيل وتعتيم وتغريب، وما إلى ذلك من الوسائل والآليات التي تجعله خاضعًا مطيعًا، وتابعًا سهل الانقياد ومن ثم تبقى كلمة

ص: 182


1- استاذ الفلسفة الحديثة - كلية الآداب جامعة بني سويف - جمهورية مصر العربية.

استعمار، كما يقول مالك بن نبي: هي أخطر سلاح يستخدمه الاستعمار، وأحكم فخ ينصبه للجماهير، وما من خائن يدسه الاستعمار في الجبهة التي تكافح فيها الشعوب المستعمَرة، إلا وكلمة استعمار تفتح له أبوابًا مغلقة في عواطف الجماهير»(1). وقد كان طمس هويات تلك الشعوب المُسْتَعْمَرَة أحد أهم هذه الوسائل وتلك الآليات التي حرص عليها المُسْتَعْمر لإحكام سيطرته وبسط سلطانه على مستعمراته؛ لأنَّ تغييب هويّة هذه الشعوب المحتلة تجعلها مسخًا للمحتل وتابعًا له، وتسهل له عملیات سلب الأوطان، ونهب ثرواتها دون أدنى مقاومة تنتج عن الغيرة على الذات التي ضاعت، أو الهوية التي مُسخت أو أتلفت مكوناتها جزئيًا أو كليًا.

ولذلك ما من مُسْتَعْمِر إلا وقصد جاهدًا إلى محو هويّة القطر المُسْتَعْمَر وتشويه رموزه ومعالمه وهذا ما يفسر حرص المُسْتَعْمِر من أول تطأ قدمه الأرض

يوم المُسْتَعْمَرَةِ على أن تسود هويته في البلاد التي يستعمرها. ويساعده في ذلك ظروف شتّى لعل أهمها على الإطلاق زهوة المنتصر الذي يبدو صاحب الحضارة الأقوى والأجدى والأنفع. فأمام مرارة الهزيمة يتم فقدان الثقة في كل ما هو ذاتي، وتفقد الذات تحت قهر المنتصر كل ثقة في موروثاتها، وتقع في دوامة التلذذ بجلد الذات والتشكيك في كل ما بقي لديها من موروثات، وتتطلع نحو المنتصر لتسلك مسلكه لعلها تحوز أسباب القوة كما حازها. ومن ثم يسهل طريق المُسْتَعْمِر إلى تحقيق هدفه فيسلط سهامه المسمومة إلى الهويّة الوطنيّة بغية طمسها والقضاء عليها. لكنَّ السؤال الذي يفرض نفسه الآن هو: ما هي الهوية؟ وما هي مكوناتها؟

يجب أن نأخذ في الاعتبار أنَّ مفهوم الهوية على العكس تمامًا مما يبدو عليه للوهلة الأولى كمفهوم بسيط ومحدد، لأنَّه مع البحث الدقيق تبدو تهافت بساطته المظهرية، وذلك لتشعّبه وانتمائه لعدة علوم إنسانيّة واجتماعيّة مختلفة المنهج والمناولة. الأمر الذي يبدو معه مفهوم الهويّة مفهومًا مفهوم الهوية مفهومًا متنوع الدلالات والاصطلاحات حيث يتناوله كل علم من منظوره الخاص. وهو ما يقرره أليكس ميكشيللي Alex Mucchielli، في

ص: 183


1- مالك بن نبي الصراع الفكري في البلاد المستعمرة الجزائر / دمشق، دار الفكر، الطبعة الثالثة، 1988، ص28.

مقدمة كتابهِ عن «الهويّة » حيث يقرر أن مفهوم الهوية يوظف في مجال العلوم الإنسانية كمفهوم شمولي، على نحو متزايد وفقًا لدلالات مجازية بالغة التنوع(1). ويفرّق حسن حنفي بين مفهوم «الهويّة» ومفاهيم أخرى تتداخل معه مثل «الماهية» و«الجوهر»؛ ويرى أن الهويّة تتميز عنهما - رغم انتمائهم جميعًا لجذر معنوي واحد وهو الأصل بأنها خاصة بالإنسان والمجتمع، فهي موضوع إنسانيّ خالص، فالإنسان هو الذي ينقسم على نفسه، وهو الذي يشعر بالمفارقة أو التعالي أو القسمة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون بين الواقع والمثال بين الحاضر والماضي، بين الحاضر والمستقبل. وهو الذي يشعر بالفصام، وهو الذي تنقلب فيه الهوية إلى اغتراب. الإنسان وحده هو الذي يمكن أن يكون على غير ما هو عليه. فالهُويَّة تعبر عن الحُريَّة، الحرية الذاتيّة. إن وُجدت فالوجود الذاتي، وإن غابت فالاغتراب(2).

وبالرغم من ذلك يمكننا القول بأنَّ الهويّة هي ما يحقق الأنا ذاتيًا ويميزها عن غيرها، وهي شيء أصيل في الوجود الإنساني، فمن يفقد هويته يفقد قدرته على الوجود الذاتي الأصيل، ويشعر بالعدم والخواء والفراغ، ويسهل تشكيله كي يكون أداةً طيّعةً لخدمة من يملك زمام قيادته فيصير تابعًا منقادًا، وينتهي الأمر بهلاكه واندثاره.

أمّا مكونات الهوية فهي تتكون حسب الرؤية الكلاسيكيّة من دعائم أو مكونات ثلاثة كبرى هي اللغة والدين والثقافة وإن كان الباحث لا ينكر وجود دعائم أخرى تقوم عليها هويّة أي أمة من الأمم كالتاريخ المشترك ووحدة العادات والتقاليد وغيرهما. إلا أنَّ الباحث يرى أنَّ هذه الدعائم الثلاث هي الأكثر أهميّة ومحوريّة والتي يكون عليها إجماع من المتناولين لمفهوم الهويّة بمعناه العام، وفي فلكها - أيضًا - تدور الدعائم الأخرى التي يمكن من خلالها تحديد هويّة أي أمة. كما أنّها الأكثر تعرضًا لهجمات المُستعمِر في حربه لطمس الهويات الوطنية. وسوف نتناول جهود الاستعمار لتدميرها أو النيل منها فيما يلي:

ص: 184


1- أليكس ميكشيللي الهوية ترجمة علي وطفة دمشق دار الوسيم للخدمات الطباعية، الطبعة العربية الأولى، 1993، ص .11
2- حسن حنفي الهوية، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، الطبعة الأولى، 2012، ص 11.

أولاً: الاستعمار واللغة

تعد اللغة - عند الكثيرين - بمثابة الدعامة الأم التي تقوم عليها الهويّة، حيث يُنسب الإنسان للوهلة الأولى - في غالب الأمر - إلى لغته، فيقال : عربي أو إنكليزي أو فرنسي أو صيني أو ياباني حسب اللغة التي يتكلمها. ولذلك كان الشغل الشاغل للدول الاستعمارية كي تمحو هويّة البلاد المستعمرَة أن تمحو لغة هذه البلاد الأصلية وتحل محلها لغة الدولة المُستَعمِرة، وهو الأمر الذي حاولته بريطانيا في مصر، وايطاليا في ليبيا وفرنسا في تونس والجزائر، وإسبانيا في بعض أجزاء من المغرب. ولولا جهود التعريب التي قام بها المخلصون من أبناء الأمة العربية لمواجهة «الفرنسة» «والانجلزة» لضاعت الدعامة الأم التي تقوم عليها الهوية. وإن كان هذا لا یمنع نجاح تجارب المستعمر في تغييب الهوية لكثير من البلدان، كما فعلت بريطانيا في جنوب إفريقيا وغينيا الاستوائية ونيجيريا والهند، أو فرنسا في دول الغرب الأفريقي (الدول الفرانكفونية)، وأسبانيا في الفلبين وهولندا في أندونيسيا..الخ. وما زال الأوربيون (المستعمر القديم) يحرصون اليوم على إنشاء جامعات أوروبية في البلاد (المستعمرات القديمة) لينشروا لغاتهم وثقافاتهم. بل فتحوا جامعاتهم أمام الدارسين القادرين ماديًا والمتميزين علميًا، لخلق جيل جديد يمثل لغاتهم وثقافاتهم في تلک الأقطار، حتى صار الحديث باللغات الأوربية مدعاة للفخر في سائر هذه البلاد.

ولذلك كانت اللغة من وجهة نظرنا من أهم مكونات الهوية الوطنية للشعوب، وهي بالتالي أهمّ أهداف الاستعمار وسُبُلَه لطمس الهويّة الوطنيّة للشعب المحتَل، فالمستعمِر وهو في طور إحكام سيطرته على البلد المُسْتَعْمَر يحاول بكل السبل شأن اللغة الوطنيّة، وإظهارها بأنها لغة رجعيّة متخلفة غير ملائمة للتطور

التقليل من والتحديث والمعاصرة. في مقابل إضفاء الحداثة والمعاصرة والعظمة والقوة على لغته بوصفها السبيل الوحيد للتقدم والتطور كي يغري الشعوب المحتلة بالانصياع لمخططاته. ويسعى لتحقيق ذلك من خلال صنائعه وعملائه المخلصين من أبناء هذه الأوطان، ومن خلال المناهج والإعلام والمؤسسات التي يُنشئها فارضًا إياها

ص: 185

بكل قوته المستطاعة. وقد قام بعض صنائع الاستعمار وعملائه بدورهم على أكمل وجه، فقدموا لغة المستعمِر على أنَّها اللغة الأفضل، ومفتاح التطور والولوج إلى حياة التحضر والرقي والمدنيّة.

وهنا تبدو المؤامرة التي دُبِرت في الخفاء من قِبل دوائر الاستشراق الروسية والايطالية والفرنسيّة والألمانية والانجليزيّة التي عنيت بدراسة اللهجات العاميّة للشعوب الخاضعة للإمبراطوريّة العثمانيّة لبعث هذه اللهجات وآدابها الشعبيّة تمهيدًا لغرس النعرات المحليّة فيها. وقد لعب الانجليز في مصر دورًا كبيرًا في نشر اللغة العاميّة وذلك عن طريق العديد من الصحف ونشر عشرات الكتب التي تروج للهجة العامية المصرية، لطمس الهوية العربية وتمزيق وحدتها الفكرية عن طريق محاربة اللغة الفصحى التي تجمع بين الأقطار العربية (1)

وهنا يجدر بنا أن نذكر ذلك الدور الذي لعبه عملاء الاستعمار لأداء الدور المطلوب في هدم اللغة العربية، وما أكثرهم عددًا في البلاد العربية، فبسط الهيمنة لا يتجه أولاً إلى عامة الناس وإنما إلى نخبهم المثقفة، فهم الذين يتحولون إلى أدوات تخدم ،المستعمِر، فالنخب وحدها هي القادرة على التعبير والكتابة ومن ثم الذيوع والانتشار. ويكفي هنا أن نذكر ذلك الدور الذي لعبه سلامة موسى في مصر كأنموذج لمحاولات نسف اللغة العربية. وإن لم يكن سلامة موسى هو الوحيد بل شاركه الكثيرون من أمثال قاسم أمين وأنيس فريحة وحسني العرابي وعبدالله جول وإسماعيل أدهم وإبراهيم مصطفى وحسن رفقي وغيرهم ممن تطول بهم القائمة، من الذين ساروا على الطريق الذي رسمه المستشرقون الاستعماريون بدقة من أمثال المستشرق الألماني «ولهلم سبيتا» الذي شغل منصب أمين دار الكتب المصرية، وكذلك الكونت «كرلود لندبرج الأسوجي» واللورد «دوفرين» السياسي الانجليزي، ومهندس الري الانجليزي «ويلكوكس». فقد عمل هؤلاء جميعًا على إيصال رسالة محددة فحواها : إن علة ركود الثقافة في مصر وابتعاد أهلها عن العلم ترجع في المقام

ص: 186


1- عصمت ،نصار فكرة التنوير بين لطفي السيد وسلامة موسى القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة 2014 ، ص .138

الأول أن لغتهم الفصحى الموروثة لغة جامدة تعجز عن مواكبة التطور والتعبير عن ما استجد من أمور علمية ما أكثرها ولابد من تدارك هذا الأمر إذا أراد المصريون أن يلحقوا بركب التطور والحضارة.

وتابعهم في ذلك الكثير من العملاء أو من المخدوعين بالدعوة من أمثال أحمد لطفي السيد وقاسم أمين وأحمد أمين وغيرهم لتأتي محاولات سلامة موسى هي الأبرز والتي تستوفي كل شروط المستعمر لنسف أهم دعامات الهوية العربية ألا وهي اللغة. وتكمن هذه الدعوة في ثلاثة محاور، هي:

أ- إلغاء النحو وهجر القواعد اللغوية

رأى سلامة موسى وقاسم أمين وأنيس فريحة وغيرهم أنَّ مأزق اللغة العربية يكمن في النحو وقواعده الكثيرة المعقدة، والذي يمثل عقبة كبرى أمام المتعلمين لها؛ ولذلك فلا مانع من إلغائه، ومن ثم يقول سلامة موسى: ولهذا السبب يجب ان نقتصر من تعليم اللغة العربية في مدارسنا الابتدائية على تمكين الطالب من المطالعة والفهم، بلا حاجة إلى أي قواعد نحوية، وليس عليه حرج أن يقرأ فيرفع المفعول وينصب الفاعل، مادام يفهم ما يقرأ. حسبه أن يسكن آخر الكلمات كما نفعل نحن حين نقرأ، وبدلاً من هذه القواعد النحوية يجب أن يتعلم الصبي أكبر مقدار مستطاع من الكلمات... أما في المدارس الثانوية فنشرع في تعليم أقل ما يستطاع من قواعد النحو، ولا نُبَالِيَ الإعراب الذي أثبت الاختبار أنه لا فائدة منه بتاتًا (1). ولذلك لم يكن غريبًا أن يُثني موسى على محاولة كل من قاسم أمين وأحمد أمين من خلال دعوتهما إلى إلغاء الإعراب

كما اقترح سلامة موسى وحسن الشريف لإصلاح اللغة الفصحى - وهو اقتراح يهدف إلى نسفها لا إلى إصلاحها - : إلغاء الألف والنون من المثنى، والواو والنون من جمع المذكر السالم، وإلغاء التصغير، وإلغاء جمع التكسير كله والاكتفاء بالألف

ص: 187


1- سلامة موسى البلاغة العصرية واللغة العربية ، القاهرة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، د.ت، ص 113-114.

والتاء لغير المذكر السالم، إلغاء الإعراب - كما سبق أن بيَّنا - والاكتفاء بتسكين آخر الكلمات، ورسم حرف كبير عند ابتداء الجمل تأسيا بما يحدث في اللغات الأوربية، عدم ترجمة الألفاظ الأوربية والاكتفاء بتعريبها كأن نقول (بسكيلت) ولا نقول دراجة(1).

ب- إحلال الحروف اللاتينية محل الحروف العربية

وقد رأى أنصار هذا الفريق ومن أبرزهم عبدالعزيز فهمي وسلامة موسى أن الخطوة الثانية التي يجب اتخاذها لإصلاح اللغة الفصحى هي: إحلال الحروف اللاتينية محل العربيّة، ورأى أنَّ من أهم مظاهر تخلف مجمع اللغة العربية تبدو في تمسكه بالحروف العربية في الكتابة ذات الرسم المضلل تلك الحروف التي تعد في رأيه عاجزة عن توصيل النطق السليم للمصطلحات العلمية الأوربية الحديثة إلى من يقرأها . ورأوا أنَّ في اتخاذ الحروف اللاتينية مظهرًا من مظاهر الرقي والتمدن، وخطوة إيجابيّة نحو اللحاق بركب الحضارة العلميّة الحديثة. بل ونقلة من طور البداوة إلى طور العمران الأمر الذي من شأنه فض النزاع بين الشرق والغرب، والانفتاح على الثقافة العالمية والانخراط فيها (2). كما قرروا أن هناك عدة ميزات أخرى في استخدام الخط اللاتيني، كالتوحيد البشري؛ حيث يصبح هو خط القراءة والكتابة الوحيد لدى جميع الأمم التي تنتج العلم وتمتلكه، والتي تنتفع به وتتعلمه. ويزول الانفصال النفسي بين الشرقيين والغربيين. وتزيد القدرة على استحداث كلمات جديدة بإلحاق بعض المقاطع إلى بعض الكلمات، ولا يكون ذلك في الخط العربي. بالإضافة إلى سهولة استعمال الكلمات العلمية بدون حرج، وفتح آفاق جديدة أغلقها استخدام الحرف العربي لكنها تنفتح باستخدام الخط اللاتيني، هذا فضلاً عن أن سرعة تعلم الخط اللاتيني يُقدَّر بعشر الوقت الذي يستخدمه تعلم الخط بالحرف العربي(3). ومن

ص: 188


1- عصمت نصار فكرة التنوير بين لطفي السيد وسلامة موسى، ص 165.
2- عبد العزيز فهمي، تيسير الكتابة العربية القاهرة مجمع اللغة العربية 1946، .7-5 وأنظر أيضًا عصمت نصار، فكرة التنوير بين لطفي السيد وسلامة موسى، ص 161.
3- أنظر سلامة موسى البلاغة العصرية واللغة العربية، ص 117-118

ثم أخذ عبد العزيز فهمي في الإشادة بالتجربة التركية التي كان لها فضل السبق في تحقيق اتخاذ الخط اللاتيني لكتابة اللغة التركية.

ج- الدعوة إلى استخدام اللغة العَاميّة

تتابعت الدعوات على صفحات مجلتي المقتطف والهلال إلى مناصرة اللغة العَاميّة، وجعلها اللغة الرسمية بدلاً من الفصحى؛ لكونها لغة الناس في المعاملات اليوميّة، وهي الأكثر فهمّا من الجميع، وأنها أوفى تعبيراً، وأدق معنى، وأحلى ألفاظاً؛ الأمر الذي يجعلها أجدر من الفصحى في أن تكون هي اللغة الرسميّة، حيث إن اللغة الفصحى تبدو كلغة الكهنة في المعابد القديمة لا يستطيع فهمها عامة الناس فضلاً عن بعض الخاصة الذين لم يتلقوا تعليمًا لغوياً متخصصاً.

وأكد كل من سلامة موسى ونصرة سعيد أن اللغة الفصحى لغة جامدة، وأنَّ مصيرها إلى الموت، وإنها تعمل على تفكيك وحدتنا القومية المصرية، وتجعل منا أتباعًا الثقافة العربية الشرقية(1). ورأى سلامة موسى أنَّ اللغة الفصحى الثقافة مريضة، وهي مثقلة بقواعدها ومفرداتها التي تجعل من الصعوبة ،تعلمها، فضلاً عن عجزها عن تأدية أغراضنا الأدبية، فتعليم الطب بالعربية كارثة. أما اللغة العامية فبها تقوم الدراما التي لا تقوم على الفصحى إلا في أضيق الأحيان، وبها تتحقق هويتنا المصرية؛ إذ إن اللغة الفصحى تبعثر وطنيتنا المصرية وتجعلها شائعة في القومية العربية. فالمتعمق في اللغة الفصحى يشرب روح العرب، ويعجب بأبطال بغداد القدماء، بدلاً من أن

يشرب الروح المصرية ويدرس الروح المصرية(2)

ثم يتم الإعلان من قبل سلامة موسى عن أنَّ اللغة العربية ليست اللغة المعبِّرة عن مزاجنا العلمي، وأننا الآن نرطن اللغة الفصحى رطانة، ولم تشربها نفوسنا بعد، ولا أمل في أن تشربها لأنها غريبة عن مزاجنا، ولا تتناسب قط مع لغة التقدم والتحضر والتمدين؛ وذلك لأنها لغة بدوية، والثقافة هي بنت الحضارة وليست بنت

ص: 189


1- عصمت نصار، مرجع سابق، ص .163
2- سلامة موسى اليوم والغد القاهرة سلامة موسى للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1928، ص 74.

البداوة، فلهذا يشق علينا جدًا أن نضع معاني الثقافة في هذه اللغة سواء بالترجمة أو بالتأليف(1). كما تم رفض - من قبل فريق سلامة موسى وأشياعه - الزعم بأن اللغة دعامة من دعائم الهوية، وزعموا بأن القول بذلك وهم كبير، فلم تخسر أوروبا بترك اللاتينية التي كانت لغة الكتابة عند جميع المثقفين عندما اعتمدت كل دولة على لغتها المحلية فلم تكن أبدًا لا اللغة اللاتينية ولا الدين المسيحي أهم الروابط التي كانت تربط الأمم الأوروبية؛ فإن الانجليز قد حاربوا الأميركيين وكلاهما ينتمي إلى لغة واحدة ودين واحد ولم تكن الحروب في القرون الوسطى حين كانت اللغة اللاتينية عامة أقل مما كانت عقب النهضة(2). فالشعور بالنهضة عندهم هو نفسه شعور بالاستقلال، والناهضون الذين دعوا إلى العلم والأدب والتجديد في الأخلاق والسياسة شعروا بكرامة قومية، بعثتهم على الإكبار من شأن اللغة القومية، فاتجه نظرهم إلى المستقبل دون المبالاة للروابط التاريخية في الماضي. لينتهي موسى إلى القول: ولو أن الأوربيين وضعوا الدين ولغة الدين فوق القومية لكانت أوروبا الآن دولة واحدة عاصمتها روما»(3).

ولا شك في أن الدعوة إلى هجر اللغة الفصحى هي دعوة واهية عمل الكثيرون من الدارسين والباحثين على بيان تهافتها ، واثبات أنها دعوة ذات «أهداف مغرضة لا تمت للعلم بنسب»(4) تبنّاها المستعمرون الذين أرادوا أن يتخذوا من قواعد اللغة العربية مبررًا للعدول عنها إلى العامية حتى يقضوا بذلك على أهم مقومات الوحدة العربية والوحدة الإسلامية(5). ولذلك نشأت العديد من التيارات الوطنية والقومية لتؤكد أن اللغة العربية الفصحى لغة طيعة مرنة تتناسب مع كل العلوم وتلائم كافة الأغراض، وتناسب كل تطور مأمول، ولا يضيرها أبدًا دخول بعض المصطلحات

ص: 190


1- سلامة موسى اليوم والغد ، ص 78.
2- سلامة موسى ما النهضة، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1995،
3- المرجع السابق، ص 75. ص .74
4- نفوسة زكريا سعيد، تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر، دار نشر الثقافة بالإسكندرية، الطبعة الأولى، 1964 ، ص ((د).
5- نفوسة زكريا سعيد، تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر، 205.

العلميّة إليها، وما أكثر المصطلحات التي أضيفت إليها، وذابت في مجالها العام من كافة المجالات لتجسد كل دعوات هجر اللغة العربية الفصحى أو تغيير حروفها ورسمها أو إلغاء قواعدها هدفًا خبيثًا أراده الاستعمار . ولذلك قال أحد الباحثين عن أبرز رموز هذا التيار الذي وافق هدف المستعمر ، وهو سلامة موسى إنه :«إقليمي.. عدو للعروبة والإسلام. عميل من أخطر عملاء الغزو الفكري.. أرادوه أن يمثل دورًا بعينه.. أن يحمل معول الهدم ليدمر تراثنا العربي وعقيدتنا الإسلامية»(1).

ثانيًا: الاستعمار والدين

يعمل الدين كهوية مميزة للشرقي منذ عصر الفتوحات الإسلامية، وأصبح معيار التفرقة بين الجميع، فلا فرق لعربي على أعجمي إلا بالتقوى وأصبح الحاكم في كل العصور لا هويّة تمُيّزَه سوى أَنَّه حاكم ،مسلم واستمرت هذه النزعة حتى العصور الحديثة. ومع وقوع معظم الدول العربية تحت السيطرة التركية قَوِيَ التأكيد على الهوية الإسلامية، هوية الدين، على حساب هوية اللغة رغبةً في دمج القوميات الأخرى المتعايشة مع الأتراك داخل الامبراطورية التركية القائمة حينذاك أو ما سمي وقتها ب- «التتريك».

كذلك يمثل الدين في بلاد المغرب العربي اليوم الهوية الوطنية الجامعة؛ حيث إنَّ جميع السكان مسلمون سنیون مالکيون. فالدين من وجهة نظر الكثيرين هو الدعامة الأهم لتمييز الهوية في الشرق، فاللغة يحفظها القرآن وصحيح السنة النبوية، والثقافة مرتبطة بالدين: كالفلسفة الإسلامية والتاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية والفن الإسلامي ..إلخ. ولذلك نجد الحديث عن المصير الإسلامي كحديث عن الهوية أو الحديث عن الهوية هو الحديث عن المصير الإسلامي، فمأزق الهوية هو مأزق المصير الإسلامي. ولا يعد ذلك قاصرًا على الهوية العربية الإسلامية فقط، فهناك هويات أخرى لا تقوم إلا على الدين وحده كالهوية اليهودية، التي لا تستند إلا على الدين اليهودي وحده فاليهودية في تفسيرها الصهيوني دين وسياسة.

ص: 191


1- محمد جلال كشك قراءة في فكر التبعية القاهرة مكتبة التراث الإسلامي، الطبعة الأولى، 1994، ص 21

ولكن المناهضين لذلك الرأي، أي أن الهوية تقوم على الدين وحده، يرون أن في ذلك خطورة عظيمة على الأوطان من اعتماد الهوية على الدين؛ لأنَّ ذلك يؤدي إلى شق الصف الوطني والتنازع في الأوطان التي يوجد فيها أكثر من دين. وهو الأمر القائم مثلاً في مصر، كما يشير حسن حنفي قائلاً: فالإسلام دين ودولة، هو الدين الرسمي للبلاد، والشريعة الإسلامية دستورها والحاكمية فيها لله، وهو ما يخيف الأقباط باعتبارهم أهل كتاب أو أهل ذمة وتطبيق الحدود عليهم دون مساواة في المواطنة مساواة؛ في الحقوق والواجبات، وهو ما يخيف أيضًا العلمانيين والليبراليين والقوميين والاشتراكيين والماركسيين»(1).

ولقد حرص المستعمر على إفساد الدين الذي يشكل منبع وحدة الفكر ووحدة الشعور بين أفراد الشعوب المستعمرة ،وجماعاتها، ولذلك كان حريصًا على أن يفسد كل ما يحافظ على الوحدة أو التواصل، وذلك من خلال آليتين:

الأولى : أن يضرب الاستعمار كل قوة مناهضة له، تحت أي راية تجمعت.

الثانية: أن يحول في كل الظروف، بينها وبين أن تتجمع تحت راية أكثر فعالية(2).

ولم تكن هناك راية أكثر فعالية في البلاد الإسلامية أكثر من الدين، حيث يستطيع تجميع الناس وحثهم على الجهاد ضد المحتل الغاشم إلى أن يتحقق النصر أو الشهادة وكلاهما مطلب كل مسلم في كل زمان ومكان. فكان من الطبيعي أن يؤرّق الدين المحتل أينما كان . ولذلك كانت حرب الاستعمار للإسلام حربًا لا هوادة فيها باعتباره العامل الدافع إلى القوة والجهاد والمقاومة. وكانت هذه الحرب بأساليب مختلفة، منها:

أولاً: نقض مفاهيم الإسلام وتحريفها، وخلق دعوات تحمل لواء الإسلام، وتتنكر لأهم مقوماته وهو «الجهاد» الذي هو ذروة سنام الإسلام. حيث ألغته الغاء، أو قللت من أهميته أو عملت على تفسيره تفسيراً خاطئاً.

ص: 192


1- حسن حنفي، الهوية، ص .68
2- مالك بن نبي الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، ص 29.

ثانيًا : الطعن على الإسلام والحمل على مقوماته واتهامه بأنه مصدر تأخر المسلمين وضعفهم(1).

وفي الحقيقة ما زال المستعمر الراهن يعمل على هذا الوتر الحساس إلى يومنا هذا، فإذا كان في الماضي يتنكر للمفاهيم الإسلامية وعلى رأسها الجهاد، أو يحرف ويغيّر معناها، فإنه اليوم يقوم بعملية انتقاء لهذه المفاهيم وتوظيفها لخدمته ولصالحه. فيستغل على - سبيل المثال لا الحصر - مفهوم «الجهاد» ذاته لصالحه، وعلى طريقة الحرب بالوكالة دون أن يخسر شيئًا؛ هو فقط يوقع الفتنة ثم يبيع السلاح مقابل أن يستولي على النفط وسائر الخيرات دون نسبة أو تناسب بين المُباع والمشترى، والنتيجة انهيار الأمم في حروب ضد جماعات فهمت الجهاد بالطريقة التي أراد المستعمِر لها أن تفهمه وما داعش من هؤلاء ببعيد . حيث لم تحقق هذه الجماعات الجهادية سوى الخراب للإسلام والمسلمين في كل بقاع العالم الإسلامي شرقًا وغربًا. والرابح الوحيد هي الدول الغربية الاستعمارية الكبرى ثم اسرائيل التي با باتت تشعر بالأمن والأمان، بل باتت صواريخها وطائراتها تصيب أي مكان تستشعر منه الخطر في العالم الإسلامي بمباركة الأشقاء من العرب والمسلمين وبحجة القضاء على الإرهاب والإرهابيين.

أمّا الطعن على الإسلام وتصويره على أنه سبب تأخر المسلمين وضعفهم، فهي دعوة قديمة حديثة راهنة، ما زالت تلوكها ألسنة المستغربين، فقد دأبت الدراسات التغريبية على تشبيه موقف الدين الإسلامي من العلم بموقف الكنيسة الكاثوليكية من العلم في عصر النهضة. وأنَّه لم يكن هناك بدٌ أمام أوروبا إلا أن تنحِّي الدين ورجاله و کنیسته جانبًا لتتطور وتتقدم وتنهض ، وأنها وقتما تخلصت من الدين وسادت العَلمانية الشاملة إلا وقد تحقق لها ما أرادت من تقدم علمي وتقني وحضاري. ومن ثم فلا سبيل أمام الأمة الإسلامية والعربية إذا أرادت أن تلحق بركب الحضارة أن تنحي الدين جانبًا وتسلك نفس المسلك الغربي.

ص: 193


1- أنور الجندي العالم الإسلامي والاستعمار السياسي والاجتماعي والثقافي بيروت، دار الكتاب اللبناني، الطبعة الثانية، 1983، ص 397.

رغم أن العلم في الإسلام مطلب شرعي وفريضة دينية كثر الحديث عنها في القرآن الكريم وفي السنة النبوية المطهرة . بل أن المتأمّل في أول آيات القرآن الكريم سيجدها «اقرأ» وأن ثاني سور القرآن الكريم نزولاً هي «سورة القلم». الأمر الذي يحمل الكثير من المعاني والدلالات. هذا فضلاً عن العديد من الآيات والأحاديث النبوية الصحيحة التي تُعلي من شأن طلب العلم وضرورة الحرص على طلبه والتفكر في خلق السموات والأرض، وأن المرء كلما ازداد علمًا بالصنعة وبالعالم ازداد إيمانا بالخالق. فليس في الإسلام أبدًا «أطفئ سراج عقلك ثم اتبعني».

وما زالت الشبهات الاستعمارية تُلقى من حين لآخر ضد الإسلام فيدَّعون بأن الإسلام منقول عن الفلسفة اليونانية والحضارة الاغريقية القديمة، وأنه ليس له في بناء الحضارات نصيب يذكر، وما الحضارة الإسلامية العربية سوى حضارة منقولة من اليونان والفرس والروم ، والهند، وأن قصصه ومعجزاته كلّها مستوحاة من الأساطير القديمة؛ فقصة الخلق مستوحاة من ملحمة الخلق البابلية (أنوماليش)، ومن ملحمة جلجامش جاءت قصة نوح والطوفان، وأن المعاد والثواب والعقاب مأخوذ عن أسطورة إيزيس وأوزريس المصرية القديمة... إلى آخر هذه الضلالات. وأن الإسلام وراء تخلف الأمة الإسلامية حيث إنه دين اتكالي محكوم بعقيدة القضاء والقدر. وأن الإسلام غذى النزعة العدائية بين الشعوب ودَرَّبَ أنصاره على مبدأ الحرب والاحتكام للسيف. وهي الشبهة التي مازالت تلوكها الألسنة في الغرب والتي تلحق أي عمل إرهابي عنيف يحدث في الغرب إلى الإسلام والمسلمين للوهلة الأولى وقبل أية تحقيقات أو بحث جاد عن الحقيقة.

ثالثًا: الاستعمار والثقافة

تعتمد هويّة أيَّ أمةٍ على ثقافتها الذاتية التي حاولت الإجابة على تساؤلاتها الخاصة، وتقوم الهويّة الإسلامية على الثقافة الإسلامية التي تربط بين المسلمين جميعًا على اختلاف لغاتهم وجنسياتهم وأعراقهم وتضم الثقافة التي تتأسس عليها الهوية كافة الآداب والفنون والعلوم التي تنتجها الظروف التاريخية والحضارية للأمة.

ص: 194

وتشمل هذه الثقافة العلوم الإسلامية النقلية والعقلية الكلام والفلسفة والتصوف والأصول والعلوم النقلية القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه، والعلوم العقلية الرياضية : الحساب والفلك والجبر والهندسة والموسيقى، أو الطبيعية: الطب والصيدلة والمعادن والنبات والحيوان وهي العلوم التي مازالت تربط أرجاء

جميع العالم الإسلامي. وإذا كانت الدولة الإسلامية مثل الإمبراطورية العثمانية قد انتهت فإن الثقافة الإسلاميّة ما زالت باقية. لها مخطوطاتها وجامعاتها ومعاهدها ومدارسها، ومازال طلبة العلم ينتقلون بين المعاهد الإسلامية الكبرى في الأزهر والقيروان والزيتونة والنجف، وما زالت الآثار الإسلامية يتوحد بها الجميع . فما يربط المسلمين هو الإسلام باعتبار لغته ،العربية لغة القرآن، والثقافة الإسلاميّة(1).

وقد رأى الاستعمار أن الثقافة الإسلاميّة هي الوعاء الأكبر الذي يمثل الهويّة الوطنية لكافة الشعوب الإسلامية؛ حيث تنطلق هذه العقلية من النص الديني سواء أكان القرآن الكريم أو السنة النبوية المطهّرة. فعمل على تغيير هذه العقلية والقضاء على تلك الثقافة القائمة على التراث، ورأى أن تغيير هذه الثقافة هو الهدف الأمثل والأمل المنشود، خاصة أن هذه الثقافة مرتبطة أشد الارتباط باللغة العربية والدين الإسلامي؛ ولذلك فقد نالت الحظ الأوفر من الهجوم الاستعماري الذي رأى أن وسيلة تغيير الثقافة تكمن في التعليم فحرص على غزو التعليم والثقافة بشكل ضخم، وذلك عن طريق إرسالياته ومعاهده الأجنبية، فاستطاع تخريج أجيال جديدة وفق مفاهيمه، وأتاح لهذه الأجيال السيطرة والقيادة والزعامة والحكم في أغلب أنحاء العالم الإسلامي، كما أطلق حركة التبشير لتُحكم تنفيذ هذه الخطة، وفرض على الدولة المحتلة أنظمة تعليمية قوامها تحقيق هذا الهدف. ومن هنا جاء ما وصف بأنه محاربة للإسلام واللغة العربية(2).

وهنا يمكننا القول إنّ الاستعمار وجَّه سهامه المسمومة إلى الثقافة الوطنية، وقام بالتمييز بين ثلاثة تحديدات ممكنة فيما يخص الثقافة، الأول عقلي، يرفض كافة

ص: 195


1- حسن حنفي، الهوية، ص 71.
2- أنور الجندي العالم الإسلامي والاستعمار السياسي والاجتماعي والثقافي، ص 396 - 397.

العلوم والفنون والفلسفات العربية الإسلامية مدّعيًا بأنها أصبحت بالية لا تصلح للحاضر ولا للمستقبل، وأن مجرد دراستها هو مضيعة للوقت؛ لأنَّ العقل الذي أنشأها عقل ماضوي انتهت صلاحيته في الوقت الحاضر ، ولابد من تجاوز هذا العقل الأصولي أو الكلامي أو الصوفي، إلى العقل العلمي المملوء بالثقافة التقنية والعلمية المعاصرة. والثاني سياسي، يرفض كافة الحكومات الدينيّة ونظام الخلافة ويدعو إلى الديمقراطية الغربية التي يجب أن تتشبع بها قلوب الجماهير وعقولهم قبل أن يفرضها الساسة على أرض الواقع. والثالث أنثربولوجي، يحاول تحرير المرأة من ناحية، ومن ناحية أخرى تحرير العقول من كافة العادات والتقاليد التي ورثوها عن المجتمع الزراعي أو البدوي بما فيها المعتقدات الدينية والأعراف والأخلاق، والتحلي بقيم وعادات وتقاليد وأخلاق المجتمع الصناعي على غرار النمط الأوروبي.

وعلى هذا عمل المستعمر من خلال آليات ثلاث هي التعليم (الغزو الثقافي)، والتبشير والاستشراق:

التعليم والغزو الثقافي

فطن المُسْتَعْمِرُ إلى مدى احترام الثقافة الإسلامية للتعليم وتعويلها عليه كأهم سُبل النهضة، فحاول أن يستفيد من ذلك إلى أبعد الحدود، بل أنَّ المستعمر جعل من قضية التعليم كبرى معاركه وأعظم عوامل تثبيت قواعده فعمد إلى إقامة الإرساليات والمدارس والجامعات الأجنبيّة الكبرى ليبث من خلالها ثقافته بدلاً من الثقافة الوطنيّة.

فقد اهتم الاستعمار منذ بداياته في الأقطار الإسلامية أن يرافق الفتح السياسي فتح معنوي بحيث يتقرب أهالي المستعمرات من المستعمرين إلى أن يندمجوا فيهم اندماجًا. وذلك بنشر لغة المستعمر، وتعليم الأهالي تعليمًا ينشئ في نفوسهم حب المستعمِر فيستسلمون له عن طواعية. وإذا كان هذا هو الهدف الأكبر فإن هناك هدفًا آخر يتصل به ألا وهو القضاء على الثقافة القوميّة وذلك عن طريق الطعن فيها وإثارة

ص: 196

الشكوك من حولها والشبهات في أعماقها حتى ينظر إليها المواطن نظرة الازدراء والاحتقار، ويُعلي عليها ثقافة المستعمِر التي تُقَدَّم له في قالب برَّاق، وتعرض عليه عرضًا حافلاً بالقوة والبطولة (1).

وهذا عين ما يُقصد بمفهوم الغزو الفكري أو الغزو الثقافي والذي يعني اصطلاحًا: الجهد البشري المبذول ضد عدو ما لكسب معارك الحياة منه، ولتذليل قياده وتحويل مساره، وضمان استمرار هذا التحويل حتى يصبح ذاتيًا إذا أمكن، وهذا هو أقسى مراحل الغزو الفكري بالنسبة للمغلوب، وإن كان في نفس الوقت هو أقصى درجات نجاح الغزاة. وسلاح هذا الغزو يتمثل في : الفكر، والكلمة والرأي، والحيلة ،والشبهات وخلابة المنطق وبراعة العرض، وشدّة الجدل، ولدادة الخصومة وتحريف الكلم عن مواضعه ، وغير ذلك مما يقوم مقام السيف والصاروخ في أيدي الجنود، والفارق بينهما هو نفس الفارق بين وسائل وأساليب الغزو الفكري قديما وحديثًا» (2). ومن ثم كان الهدف الرئيسي، الذي وضعه المستعمر وابتغى تحقيقه من الغزو الثقافي، هو التشويش على كل ما يمكن أن يُبرز الذاتية العربية، والهوية العربية المستمدة من الفكر الإسلامي. فحرص على أن تؤسِّس مناهج التعليم في البلاد المستعمَرة لعزلة إقليمية بين الدول والشعوب، فلا يدرس الطالب سوى إقليمه فقط دون معرفة أي شيء عن الأقاليم الأخرى حتى يقضي تمامًا على بذور أي فكرة من الممكن أن تدعو إلى التوحيد أو التكامل الاقتصادي في المستقبل. كما أن التعليم الأجنبي في الأقطار الإسلامية يعمد إلى تخريج أجيال متشبعة بالثقافة الغربية كارهة للثقافة الشرقية الإسلامية، تنظر بعين الاحتقار والازدراء لكل ما ينتمي إلى تراث.

»(2).

ويرى الدكتور أنور الجندي أنَّ الأحداث المتتالية تكشف كل يوم عن خبيئة المدارس والمعاهد والجامعات الأجنبية المنتشرة في العالم الإسلامي ودورها القوي في عملية الغزو الثقافي، فبين حين وآخر يذاع أن هناك كتاب يدرِّس دعوات تبشيرية

ص: 197


1- المرجع السابق، ص 334 -
2- عبدالستار فتح الله سعيد الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام المنصورة، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الخامسة 1989، ص 21.

أو تشكيكية في القرآن والسنة. وهذا يعيدنا إلى نشأة هذه المؤسسات في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، حيث كانت تقوم بالدعوة الصريحة إلى المسيحية، وكان لها في هذه الفترة مواقف مؤسفة بالغة الجرأة اعتمدت الإرساليات التبشيرية فيها على نفوذها، وحماية الامتيازات الأجنبية لها، وعلى نفوذ القناصل وضعف الدول الإسلامية. هذا فضلاً عن تركيزها بصورة واضحة على تدريس ثقافة المستعمر وتاريخه ودينه ولغته على نحو واسع الاغراء للشاب المسلم، مبتعدة به عن تاريخه ولغته ودينه بالهجوم والتشكيك ، وإثارة الشبهات والربط بينه وبين تاريخ المستعمر ودينه ولغته ومكانه من الحضارة، والربط بين تاريخ الأمم الإسلامية ودينها وبين وقوعها تحت نفوذ الاستعمار وتخلفها (1).

كما حرص النفوذ الاستعماري أيضًا على تجميد المعاهد الإسلامية الكبرى: كالأزهر والقرويين، والزيتونة، ومعاهد النجف، وأنشأ نظامًا آخر مستقلاً عنه ، له طابعه الغربي الخالص، وخلق خصومة وصراعًا بين المتعاملين وجعل مدارسه ومعاهده هي التي تؤدي إلى المناصب والنفوذ والثروة حين أبقى خريجي المعاهد الإسلامية في درجة منخفضة. وقد كان لهذا الازدواج العلمي وهذه الثنائية أثرهما البعيد المدى في الأخطار التي واجهها العالم الإسلامي طوال هذه الفترة(2).

وهكذا عمل الاستعمار على طمس الهوية الوطنية عن طريق التعليم وبرامجه ومناهجه المختلفة التي انتشرت في غالبية الشعوب الإسلامية، وساعدها في ذلك قوة نفوذ الدول الاستعمارية في البلاد الإسلامية. في حين ضعفت المعاهد والمدارس الإسلامية ضعفًا بيّنا.

التبشير ودوره الاستعماري

في ظل الاستعمار تدفقت البعثات التبشيرية من كافة البلاد الاستعمارية إلى كافة البلاد المستعمَرة ، وبنت مدارسها وكنائسها ومستشفياتها بدعم النفوذ الاستعماري

ص: 198


1- أنور الجندي العالم الإسلامي والاستعمار السياسي والاجتماعي والثقافي، ص338
2- المرجع السابق، ص342.

وبدأت تعرض خدماتها على المسلمين قبل الوثنيين. وقد كانت حركات التبشير من أكبر الأعمال التي اعتمد عليها الاستعمار في تركيز وجوده وبقائه، ليس فقط في خلال فترة احتلاله لهذه الأقطار، بل لإعداد ركائز تبقى بعد جلائه عن طريق أجيال تستقطب مفاهيمه وقيمه فحركة التبشير هي في المقام الأول حركة استعمارية لخدمة النفوذ الأجنبي. وكان مقصدها الأول هو هدم الثقافة الدينية الإسلامية في قلوب المسلمين وبيان تخلفها ورجعيتها.

وقد اجتاحت هذه الحملات التبشيرية العالم الإسلامي، وكان أهم أعلامها من العرب جورجي زيدان ويعقوب صروف وفؤاد صروف وفرح أنطون وشبلي شميل وسلامة موسى. وأمام نجاح هؤلاء في مهمتهم اندفع المبشر «زويمر» في جرأة غريبة فدخل الجامع الأزهر ووزع منشوراته بها وقد نجحت تلك الحملات التبشيرية نجاحًا كبيرًا في جنوب السودان، حيث أوجدت فاصلاً كبيراً بين الشمال والجنوب، وحالت بين المسلمين في الشمال والجنوب حتى انحصر الإسلام في الجنوب أمام قوة الحركات التبشيرية المدعومة بالمال، وبالكثير من الخدمات التي يحتاجها الجنوبي، الأمر الذي أدّى في النهاية إلى فصل الجنوب عن الشمال، وأصبحت جنوب السودان دولة مستقلة ليس لها من الهوية العربية والإسلامية شيئًا يُذكر.

وتحت قوة التبشيريين جرت محاولات تجنيس التونسيين بالجنسية الفرنسية وفي المغرب صدر الظهير البربري عام 1930 الذي استهدف إخراج القبائل البربرية المسلمة من حظيرة الشريعة الإسلامية، وإلغاء العلوم التي تُعلَّم باللغة العربية من مناطق القبائل، والعمل على فصل البربر المسلمين عن العرب، ووضع أنظمة خاصة بهم في القضاء والتعليم مستمدة من قوانينهم العرفية القديمة(1). وما زالت الحملات التبشيرية لها اليد العليا في أفريقيا حيث تعمل على تنصير الأفارقة في كل ربوع أفريقيا وأدغالها.

ويرى بعض الباحثين أن الهدف الأسمى للحملات التبشيرية هو نفس هدف

ص: 199


1- المرجع السابق، ص 425

الاستعمار، وهو طمس الهوية الوطنية، فقد «رأى المبشرون والمستعمرون عظمة الثقافة العربية الإسلامية ، وأنها مصدر عزة الشرق وللعرب والمسلمين . ثم أنهم أيقنوا أن أمة لها هذه الثقافة لا يمكن أن تخنع أو تُذل أو تَبيد. وهكذا انصرفت أذهان هؤلاء المبشرين والمستعمرين إلى تشويه وجه هذه الثقافة وإلى الحط من شأنها في نفوس أصحابها» (1)ولذلك عملت حركات التبشير إلى تشويه ما هو إسلامي أصيل والحط من قيمته. وبيان تهافت إسهام العرب والمسلمين في الحضارة الحديثة.

الاستشراق وخدمة الاستعمار

ويعد الاستشراق الحركة الأخطر في فكر الاستعمار، حيث إنها بمثابة المصنع الذي يُعدٌّ الشبهات والطعون ويمدّ بها العاملين في حقل التبشير لإذاعتها وإعلانها «والاستشراق تعبيرٌ أطلقه الغربيّون على الدراسات المتعلّقة بالشرقيين، شعوبهم وتاريخهم وأديانهم ولغاتهم وأوضاعهم الاجتماعية، وبلادهم وأرضهم وحضاراتهم وكل ما يتعلق بهم . وكان هدفهم الأساسي دراسة الإسلام والشعوب الإسلامية، لخدمة أغراض التبشير من جهة وخدمة أغراض الاستعمار الغربي لبلدان المسلمين من جهة أخرى، ولإعداد الدراسات اللازمة لمحاربة الإسلام وتحطيم الأمة الإسلامية. والمستشرقون: هم الذين يقومون بهذه الدراسات من غير الشرقيين، ويقدّمون الدراسات اللازمة للمبشرين بغية تحقيق أهداف التبشير ، وللدوائر الاستعمارية بغية تحقيق أهداف الاستعمار»(2).

وقد تعددت أهداف حركة الاستشراق التي تعمل في الأساس على تفريغ الهوية الإسلامية من مضمونها عن طريق تجنيد أجيال منسلخة من هويتها متأثرة بالمذاهب الغربية الوافدة، وإصدار الموسوعات العلميّة والدوائر المعرفية التي تضم كل ما يتعلق من معلومات اجتماعية ودينية وثقافية وسياسية واقتصادية ..إلخ

ص: 200


1- مصطفى خالدي وعمر فروخ التبشير والاستعمار في البلاد العربية، بيروت، المكتبة العصرية، الطبعة الثالثة، د.ت، ص 218.
2- عبدالرحمن حسن حبنكة الميداني، أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها التبشير - الاستشراق - الاستعمار، كتاب اليكتروني على الرابط التالي:ttp://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?7048-

عن المجتمعات الشرقية لاستغلاله ضد الشعوب الإسلامية عن طريق دس بعض الأكاذيب والضلالات التي تستند إلى حوادث فردية وأحداث استثنائية وقعت في التاريخ الإسلامي للتشكيك وإلقاء الشبهات والمغالطات وافتراء الأكاذيب ودس السموم الفكرية بحيث تكون مرجعًا علميًا للكثير من الباحثين العرب والمسلمين. ولذلك يجب توخي الحذر في الرجوع لمثل هذه الموسوعات والإصدارات العلمية.

ومن ثم كانت حركة الاستشراق هي إحدى أذرع الاستعمار وواحدة من أهم أدواته التي عُنيت بدراسة أوضاع الشعوب والأوطان المستعمرة، تغنيها درسًا وتخطيطاً ومكرًا لتطيل فترة سيطرتها وتستمر في استنزاف خيراتها واستغلال ثرواتها ولتعطل يقظتها وتمنع انبعاثها وهذا ما نلاحظه من الكتابات المتنوعة - العدائية والمغرضة - لكثير من المستشرقين الذين مهدت أعمالهم الطريق لطلائع الغزاة والمستعمرين والصهاينة، ليدخلوا البلاد، ويستعمروا الشعوب، ويزوِّروا الحقائق»(1). وإن كان هذا هو السائد في حركة الاستشراق فإننا لا ننكر وجود بعض المستشرقين المنصفين الذين اتسمت كتاباتهم بالموضوعية والدقة العلمية وعدم التحيّز والإخلاص للعلم والإنسانية.

كما سخّرت الدوائر الاستشراقيّة جهودًا غير عادية للدعوة إلى حرية المرأة على الطريقة الغربية التي تبدو فيها المرأة خارجة على كافة الأعراف والعادات والتقاليد الشرقية، وانطلاقا من تلك الفلسفة الغربية التي تنظر إلى تحرير المرأة من خلال مقولة «النَّدِّية» القائمة على التماثل بين الرجل والمرأة منكرة طبيعة التمايز الطبيعي بينهما، فحلَّت المرأة محل الرجل معتقدة أنها بذلك قد حققت انتصارات لبني جنسها. وبالتزام المرأة الشرقية بهذه الفلسفة الغربية للتحرير(2)تفقد - بصورة تامة

ص: 201


1- منذر ،معاليقي، الاستشراق في الميزان، بيروت، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1997، ص 8.
2- ويمكن القول أن التحرير الإسلامي للمرأة أعم وأشمل من تلك الندية الغربية، ولا يقدح في ذلك فكرة "القوامة" الإسلامية، فقد كفل الإسلام الحرية للمرأة فجعل لها ذمة مالية خاصة، وأعطى لها الحق في اختيار شريكها، والحق في الانفصال عنه . وما " القوامة سوى درجة استحقها الرجل لتميز طبيعته في ميادين معينة، ولا تعني بحال من الأحوال الانتقاص من مبدأ المساواة، فيقابل "قوامة " الرجل في الأمور التي تناسب طبيعته كرجل "قوامة " المرأة في الأمور التي تناسب طبيعتها كأنثى

وواضحة - هويتها الوطنية، وتتحول - كما يقول محمد عمارة - إلى : «غانية رومانسية أو مسترجلة اسبرطية، أو صورة غلاف، وإعلان سلعة رأسمالية أو جارية مملوكية» (1).

وهكذا تعرضت الثقافة العربية الإسلامية لهجمات ظالمة شنها عليها باحثون ومؤلفون كانوا يمسكون بالأقلام كمعاول للهدم والتجريح والتشويه في عمل ظاهره فيه خدمة العلم والمعرفة والبحث التاريخي، وباطنه الهجوم على التراث العربي الإسلامي وعلى الثقافة الإسلامية(2). وقد قام هؤلاء المستشرقون بذلك للانتقاص من العقلية العربية ومن اسهامها الحضاري بغرض طمس المناطق المنيرة في الهوية العربية الإسلامية والتي يمكن أن تكون منطلقات حقيقية للنهضة الحديثة.

خاتمة

هكذا حاول الاستعمار أن يخدع الشعوب المستعمرَة ويقنعها بأنَّه ما جاء إلا من أجل عمل حضاري وإنساني يهدف إلى ترقية البشرية باعتبار أن الجنس الأبيض هو صاحب الحضارة المسئول عن تمدين الأجناس الملونة فاستعمل هذا المفهوم المخادع والمناقض تماما لمدلول الفعل الحقيقي. فعمل الاستعمار على طمس هوية الأقطار العربية والإسلامية التي وقعت تحت سيطرته الاستعمارية، وتحويل العقلية الإسلامية عن مفاهيمها الأساسية وإثارة الشبهات حول مقومات فكرها الإسلامي. وذلك لتذويبها في الفكر الغربي بصفته هو الفكر العالمي المسيطر بهدف أن يفقد العالم الإسلامي هويته ويَسقط تابعًا للثقافة الغربية. وقد استخدم المستعمِر كافة السبل التي تمكّنه من بسط سلطانه وتمديد فترة احتلاله للأقطار المستعمَرة حتى يتسنّى له استنزاف خيراتها واستغلال ثرواتها ولا مانع من تحويلها إلى أمة تابعة له في ثقافته وفكره ولغته ، ودينه فتظل أبد الدهر منصاعة له محتاجة إليه لا سبيل لها بالإنفكاك عنه ؛ ولذلك كانت مسألة طمس الهوية الوطنية شغله الشاغل وهمَّه

ص: 202


1- محمد عمارة، الغزو الفكري وهم أم حقيقة، القاهرة سلسلة قضايا إسلامية معاصرة، الأمانة العامة للجنة العليا للدعوة الإسلامية بالأزهر الشريف د.ت ، ص 260
2- عبدالعزيز بن عثمان التويجري مقدمة كتاب محمد فاروق النبهان الاستشراق - تعريفه مدارسه، آثاره، منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ايسيسكو، 2012، ص 5.

الأول، حيث إنها السبيل المناسب لتحقيق كل مطامعه وأهدافه الاستعمارية. فعمل على طمس المكونات الرئيسية للهوية العربية الإسلامية المتمثلة في: اللغة العربية والدين الإسلامي والثقافة العربية الإسلامية؛ أمّا اللغة فعمل على تغييرها إلى لغة غريبة تمهيدًا لتحويل الشعوب العربية إلى لغته الأصلية، فراح يشيع أنَّ اللغة العربية لغة صعبة كثيرة القواعد لا تفي مفرداتها بمتطلبات النهضة العلمية الحديثة. ومن ثم يجب التخلي عنها والتمسك بلهجات الشعوب العامية وإلغاء قواعدها النحوية، واستبدال الخط اللاتيني مكان خطّها العربي. أمّا الدين فقد أحاطوه بموجات التشكيك وأرجعوا كل أسباب التخلف الذي عمَّ بلاد المسلمين إليه . بل أنَّهم أشاعوا أنه يغذي النزعات العدائية بين الشعوب وهو المنبع الأول لكافة الأعمال الإرهابية والعدائية في العالم. أمَّا الثقافة وهي الوعاء الأكبر الذي يحمل الهويّة الوطنيّة من حيث إنها تقوم على دعامتي اللغة والدين الإسلامي، فقد نالت النصيب الأكبر من حملات النقض والهدم ، فوجهت إليها عمليات الغزو الفكري، وحملات التبشير وحركات الاستشراق . وهكذا كانت خطة المستعمِر لطمس هويات البلاد المستعمرَة بما فيها من خداع وتضليل وتحريف وتشويه لحقائق الأمور. ترمي في النهاية إلى مسخ ونسخ وتشويه هويتنا العربية الإسلامية لتتأبد تبعيتنا الحضارية للغرب ونفقد كل هوية مميزة.

ص: 203

من الهيمنة الاستعمارية إلى النهضة المنشودة:قراءة في مشروع الأفغاني الفكري

اشارة

مصطفی النشار(1)

كان جمال الدين الأفغاني من ذلك الطراز من المفكرين الذين عاشوا فكرهم وعبَّروا بصدق واخلاص عن قضايا مجتمعهم وبلوروا مواقف الناس في عصرهم . وإذا كان قد حدث اختلاف بين الدارسين والشراح حول تفسير بعض أفكاره ومواقفه فإن ذلك قد لا يبرر التناقض التام في تقرير قيمة الرجل بين من يعتبرونه موقظ الشرق، والمقاوم الأكبر للاستعمار، وفيلسوف الاسلام وداعية الأمة إلى النهضة الجديدة (2)وبين من يقللون من دوره ، ومن شأن حصيلته الفلسفية والعلمية، ويعتبرون أن البحث عن

خيط يربط بين أفكاره مضيعة للوقت(3).

ص: 204


1- باحث وأستاذ جامعي - جمهورية مصر العربية .
2- انظر من هؤلاء على سبيل المثال: مالك بن نبي الذي قال عنه أنه موقظ هذه الأمة إلى نهضة جديدة ويوم جديد».. نقلاً عن: د. محمد عمارة، نفس المرجع السابق، ص5. شكيب أرسلان الذي قال عنه أنه حكيم الشرق، فيلسوف الإسلام وعالم الكلام وكوكب الإصلاح الذي اطلعه الله في أفق المشرق بعد أن استبد به «الظلام نقلاً عن د. علي عبد الحليم محمود نفس المرجع السابق، ص 42). ارنست رينان الفيلسوف الفرنسي الشهير الذي قال عنه بعد أن التقي به كنت أتمثل أمامي عندما كنت أخاطبه ابن :سينا أو ابن رشد أو واحداً من أساطين الحكمة الشرقيين». (نقلاً عن نفس المرجع السابق، ص42).
3- انظر من هؤلاء: د. عاطف العراقي: العقل والتنوير في الفكر العربي المعاصر، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت ،1995م ص 132

أولاً: لمحات من حياته الفكرية

أولاً: لمحات من حياته الفكرية(1):

إنه السيد جمال الدين السيد صفتر (أو صفدر) الذي ولد لأسرة عريقة من أقدم الأسر وأكثرها مجداً وشرفاً في بلاد الأفغان - حسب رواية السيد رشيد رضا - لأنها تنتسب إلى السيد علي الترمزي المحدَّث المشهور ويعود في نسبه الأقصى إلى الامام الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما .

ويبدو أنه كان لهذه الأسرة سلطة وسطوة وأملاكا كثيرة في بلاد الأفغان ويقال أنها كانت تسيطر على جزءٍ من الأراضي الأفغانية وكانت تحكمة ولها الولاية عليه حتى اغتصبت هذه الأراضي منهم على يد الملك محمد خان. ومن ثم انتقل السيد جمال الدين وأعمامه إلى كابل.

ورغم تعدد الروايات حول أصله وجهة مولده إلا أن تلك الرواية ربما تكون الأصح بين تلك الروايات المتعددة.

ولد السيد جمال الدين عام 1254ه 1839م وقد انتقل مع والده إلى كابل، وهناك عنى بتربيته تربية إسلامية كاملة وقد أبدى الفتى نبوغا لا مثيل له حيث تجاوز العلوم الشرعية لعلوم اللغة العربية ومنهما إلى العلوم العقلية المعروفة في عهده وكانت تضم المنطق والفلسفة العملية أي السياسة والأخلاق بالإضافة إلى الفلسفة النظرية التي تمثلت في الالهيات والطبيعيات، ومن كل ذلك إلى دراسة العلوم الرياضية وبعض نظريات علم الطب والتشريح.

ولما أكمل هذه الدراسات جميعاً سافر إلى الهند ومكث فيها سنة وعدة شهور

ص: 205


1- راجع تفاصيل حياته في د. محمود قاسم: جمال الدين الأفغاني - حياته وفلسفته الهئية المصرية العامة الكتاب بالقاهرة، 2009م، ص 11 وما بعدها. وكذلك في د. محمد عمارة: جمال الدين الأفغاني - موقظ الشرق وفيلسوف الإسلام، دار المستقبل العربي للنشر والتوزيع القاهرة 1984م، صص 17-94. وأيضا في: د. علي عبد الحليم محمود جمال الدين الأفغاني، دار عكاظ للطباعة والنشر، الرياض 1979م، ص ص . 58-31

ودرس فيها ذات العلوم السابقة وخاصة العلوم الرياضية ولكن على النمط الغربي الأوروبي وعاد بعد ذلك إلى بلاده ومنها إلى بلاد الحجاز ليؤدّي فريضة الحج ثم طال به المقام في بلاد الحجاز لمدة عام وكان ذلك في حوالي عام 1857م الموافق 1273 - 1274ه_. وقد عاود السفر إلى الهند للمرة الثانية عام 1285م ، ومنها إلى مصر في أواخر عام 1286ه_ ، وكانت تلك الزيارة الأولى لمصر زيارة مفيدة استمرت نحو أربعين يوما كان أهم ما فيها أنه التقى بالشيخ محمد عبده الذي تتلمذ على يديه في هذه الأثناء. وكان ما أبداه علماء الأزهر هو ما دفعه دفعاً إلى مغادرة القطر المصري متّجهاً إلى تركيا التي لم يجد فيها أيضا الترحيب اللازم رغم محاولته التقرب إلى علية القوم هناك وعدم اكتساب عداوتهم وقد عاد الأفغاني إلى مصر مرّة أخرى ولكن اقامته طالت هذه المرة حيث استمرت حوالي ثمانية سنوات من عام 1871 وحتى عام 1879م . وفي هذه الزيارة رحبت به مصر حكومة وطلابا حيث خصصت له راتبا شهريا قدره ألف قرش وخصصت له مسكنا بدون مقابل.

وقد كان جمال الدين في كل رحلاته تلك ثائراً على الحكام المستبدين داعيا إلى الثورة ضدهم وكان حلمه هو التخلص من الاستعمار أيا كان لونه لبلاد الشرق.

وقد شغل آنذاك بالمسألة السياسية ووحدة الشرق وكان عام 1876 هو العام الذي قرر فيه أن يعمل بالسياسة، فتصور أن الالتحاق بالماسونية امكانية يساعده على تحقیق أهدافه لبلاد الشرق، لكن ما حدث أنه وجدهم جماعة يعملون لمصالحهم الذاتية، ولم يكن ضمن أهدافهم أبدا تخليص الشرق من الاستعمار والظلم، كما كانوا يدَّعون، أو كما كان يتصور حينما التحق في البداية! ويبدو أن سريان خبر انتماءه إلى الماسونية هو وتلميذه محمد عبده كان وراء خروجه مطروداً من مصر بعد ثلاثة أشهر من تولي الخديوي توفيق حكم مصر، وفي ذات الوقت نفى تلميذه إلى قريتِه، لكن الحقيقة أن الأفغاني ومحمد عبده كانا قد بذرا بذور الثورة في نفوس المصريين بالفعل، ولعله - على حد تعبير محمود قاسم - هو باعث الثورة والنهضة الحقيقية ليس في مصر وحدها بل بلاد الشرق عامة .

ص: 206

وعلى أية حال فقد اتجه السيد جمال الدين الأفغاني من مصر إلى الهند مرة أخرى ووُضع هناك تحت الاقامة الجبرية في حيدر آباد الدكن، ولما قامت الثورة العربية في مصر نقلته حكومة الهند إلى كلكلتا حتى انتهت الثورة. وقد انشغل في هذه السنوات الثلاثة من حياته بكتابة رسالته الشهيرة «في الرد على الدهريين». ولما استقر الأمر للانجليز في مصر، سُمح له بمغادرة المنفى إلى أي مكان شاء بشرط عدم الذهاب إلى بلد اسلامية في الشرق، فاتجه إلى أوروبا قاصداً انجلترا لكن لم تطل اقامته فيها حيث ذهب إلى فرنسا ليواصل كفاحه ونشر أفكاره، ولما استقر في باريس أرسل إلى تلميذه محمد عبده في مصر حيث لحق به واشتركا معاً في تأسيس جمعيتهم الخيرية الشهيرة جمعية «العروة الوثقى» التي صدرت عنها جريدة «العروة الوثقى» التي استهدفت جَمْعَ شمل المسلمين ومحاربة الاستعمار، ومن ثم النهوض بالاسلام والمسلمين وذلك عبر المحاور الأربعة التي حددت لها وهي: الجامعة الإسلامية، الروابط الشرقية، المسألة المصرية، والمسألة السودانية.

ولما حاولت انجلترا استمالته باستدعائه إلى لندن وعرضت عليه حكم السودان مقابل القضاء على الثورة المهدية فيها للتمهيد لاصلاحات بريطانية فيها رفض ذلك قائلا إن السودان ليس مُلكاً لانجلترا حتى تتصرف في عرشه! وعلى كل حال فقد فشلت الثورة المصرية بعد ذلك وقضى عليها الانجليز مما جعل اليأس يدب في نفوس السيد جمال الدين ومحمد عبده وتلاميذه الآخرين وقرّورا حينذاك عدم الخوض مرة أخرى في السياسة والتركيز على إصلاح التعليم. وهذا ماحدا بمحمد عبده الاتجاه إلى بيروت، ولما لم يفلح في مهمته الاصلاحية عاد إلى مصر عام 1306ه- وفي ذات الوقت، اتجه جمال الدين الأفغاني إلى إيران، حيث احتفى به ناصر الدين شاه ولكن هيهات أن يستقر به المقام حيث غادرها بعد ذلك متجها إلى روسيا، ومنها عاد إلى ايران التي خرج منها هذه المرة مطروداً حيث استقر بعد ذلك في البصرة بالعراق لمدة سبعة شهور، ثم غادر بعد ذلك إلى انجلترا مرة أخرى ومنها إلى تركيا بالأستانة حيث رحَّبوا به أجمل ترحيب وعاش مقربا من السلطان، ومن ثم بدأ يبث آراءه الاصلاحية، ويتحدث عن الشورى، وأخذت المشكلات تتصاعد

ص: 207

بينهما على اثر ذلك ،وغيره حتى مرض السيد جمال الدين وأجريت له عملية جراحية وفشلت، وقد توفي اثر ذلك في التاسع من مارس 1897م الموافق للخامس من شوال 1314ه-. وقد قيل حول وفاته الكثير وسرت شائعات عدة أنه مات مسموماً.

وعلى أي حال فقد لقي ما يستحق من تكريم بعد ذلك حينما فطن العالم الاسلامي إلى ضرورة تكريمه باعتباره قد وهب حياته فداء للمسلمين والإسلام حيث نقل رفاته إلى بلده افغانستان عام 1944م ويُحتفل بذكراه منذ ذلك التاريخ وحتى الآن.

ثانياً: المسألة الشرقية عند جمال الدين:

إن القضايا التي أثارها الأفغاني ويختلف الباحثون حولها كثيرة ومتشعِّبة . لكن ما يربط بین هذه القضايا في اعتقادنا ه- هو تلك الدعوة التي وهب حياته لها وركز حولها جهاده، الدعوة إلى التخلص من الاستعمار الأجنبي البغيض ونهضة الأمة بجهود

أبنائها.

وفي هذا الإطار نجد كثرة استخدامه لاصطلاح «الشرق» في خطابه الإصلاحي سواء المكتوب أو الشفاهي، فقد كتب عن دهري الشرق، وعن المسألة الشرقية، وعن الحكومات الشرقية، وعن الغرب والشرق وعن مصر والمصريين وحكم الشرق، وعن سياسة انكلترا في الشرق. كما شارك في تأسيس «مرآة الشرق». ولما تمرّد على المحفل الماسوني أسس محفلاً وطنياً شرقياً. ولما أسس «العروة الوثقى» هو وتلميذه محمد عبده جعلاها موجهةً إلى الشرق، وداعيةً إلى اتحاد الشرق وأوطانه ضد الاستعمار وأعوانه وكثرت أحاديثه وكتاباته فيها عن الجامعة الإسلامية والخلافة الإسلامية وضرورة اتحاد الشرقيين تحت إمرة حاكم عادل. وبدا في حديثه متفائلاً بصدد مستقبل الشرق رغم أن الظروف التي عايشها جميعاً كانت تشهد بداية حركة الاستعمار الأوروبي الواسعة للكثير من دول الشرق عموما والشرق العربي بوجه خاص!.

فماذا يعني الشرق عند الأفغاني وفي فكره ؟! إن للشرق مفاهيم عديدة منها الشرق القديم وحضاراته ومنها الشرق العربي والشرق الإسلامي، والشرق الأوسط،

ص: 208

والشرق الآسيوي.. الخ فأي شرق يقصد جمال الدين؟! وبأي معنى يفهمه؟! وما هي حدود الشرق عنده؟! وفي مواجهة من كان يدعو لاتحاد الشرقيين؟! وضد من يدعو إلى يقظة الشرق وإلهاب وعي أبنائه؟ وما علاقة الشرق عنده بالإسلام والعروبة: هل هي علاقة تقاطع أم علاقة تكامل ؟ ! وما هو المستقبل الذي ينشده للشرق الذي يدعو إلى اتحاده وتقدمه ؟!.

إن هذه الأسئلة وغيرها تتداعى كثيراً إلى الذهن كلما ذُكر جمال الدين الأفغاني وذُكر معه مصطلح «الشرق». ولعلّنا من خلال الإجابة عنها نكشف عن جوهر جهوده الإصلاحية. ونكتشف بعد مرور قرن على وفاته أنه لايزال يُعبّر عن جانب كبير من الهَمّ «القومي» و«الشرقي» الذي لا يزال جاثماً على عقول المهتمين بالمسألة الشرقية في مواجهة الهيمنة الغربية والاستعلاء الغربي.

ثالثاً: المقصود «بالشرق» عند الأفغاني:

يغلب على معظم الباحثين الظن بأن الشرق عند جمال الدين يقصد به فقط الشرق الإسلامي، وأن الشرقيين عنده هم فقط المسلمون(1).

لكن الحقيقة أنه لم يقصر كلمة الشرق على الشرق الإسلامي، ولم يقصر كلمة الشرقيين على المسلمين وحدهم ، لأنه كان يدرك أن بلاد الشرق لا يقطنها المسلمون فقط، بل بها أيضاً المسيحيون واليهود وأصحاب الديانات الوثنية. والأفغاني لم يكن في يوم من الأيام ممن يفرقون بين مواطني الشرق بسبب العقيدة الدينية التي يدين بها أولئك أو هؤلاء وإنما كان أكثر الفلاسفة توسّعاً بمعنى المساواة وميلا للعمل بها فعلاً بين نوع الإنسان، خصوصاً في الحقوق العامة التي لا يصلح لها معنى إلا بالحرية المعقولة.. كما أنه كان شديد البعد عن التعصّب نفوراً منه وأن ذكر المسلمين في أكثر من مقالة فما ذلك إلا لأنهم العنصر الغالب بأكثريته في الشرق الملّة المسلوبة

ممالكها ومقاطعاتها ولهذا أكثر من ايقاظهم(2).

ص: 209


1- انظر على سبيل المثال: د. علي عبد الحليم محمود نفس المرجع السابق، ص 374.
2- انظر على سبيل المثال: د. محمد عمارة نفس المرجع السابق، ص127-128.

يؤكد ذلك فهم الأفغاني لجوهر الدين ذلك الفهم الذي لا يفرق فيه بين الأديان - رغم ايمانه العميق بالدين الإسلامي ودعوته الدائبة إلى صحوة المسلمين - فالدين فيما يقول قد «أكسب عقول البشر ثلاث عقائد وأودع نفوسهم ثلاث خصال كل منها ركن لوجود الأمم وعماد لبناء هيئتها الاجتماعية وأساس محكم لمدنيتها.. العقيدة الأولى : التصديق بأن الإنسان ملك الأرض وهو أشرف المخلوقات، والثانية: يقين كل ذي دين بأن أمته أشرف الأمم وكل مخالف له فعل ضلالاً وباطلاً. والثالثة: جزمه بأن الإنسان إنما ورد هذه الحياة الدنيا لاستحصال كمال يهيئه للعروج إلى عالم أرفع وأوسع من هذا العالم الدنيوي.. إلى دار فسيحة الساحات خالية من المؤلمات لا تنقضي سعادتها ولا تنتهي مدتها»(6)(1).

كما أن الروح الدينية التي تحلى بها الأفغاني نفسه ودعى الجميع إلى التحلي بها «لا ترى في الأديان الثلاثة ما يخالف نفع المجموع البشري، بل على العكس تحضه على أن يعمل الخير المطلق مع أخيه وقريبه وتحظر عليه عمل الشر مع أياً كان» (2). «والمقصود بالأديان الثلاثة هنا بالطبع هي الأديان السماوية الثلاث اليهودية والمسيحية والاسلام».

وقد أرجع الأفغاني الاختلافات في الأديان إلى ما يصنعه «بعض رؤساء تلك الأديان الذين يتاجرون بالدين ويشترون بآياته ثمناً قليلاً ساء ما يفعلون»(3). «إن الأديان في مجموعها - في رأيه - هي الكل وأجزاؤها هي الموسوية والعيسوية والإسلام .. فمن كان من هذه الأديان كلها الحق فهو الذي يتم له «الظهور والغلبة» لأن الظهور الموعود به إنما هو دين «الحق» وليس دين اليهود ولا النصاري ولا الإسلام إذا بقوا أسماء مجردة، ولكن من عمل من هؤلاء بالحق فهناك «الدين الخالص». قال تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين)(4).

ص: 210


1- جمال الدين الأفغاني: الأعمال الكاملة نشرها د. محمد عمارة، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة بدون تاريخ، ص 141.
2- نفسه، ص324 . وانظر أيضاً: محمد عمارة نفس المرجع السابق، ص 129.
3- جمال الدين الافغاني: الأعمال الكاملة، ص 292. وانظر أيضاً: د.محمد عمارة، نفس المرجع السابق، ص129 وما بعدها.
4- جمال الدين الافغانى: الأعمال الكاملة، ص 294.

ويبدو من ذلك بما لا يدع مجالاً للشك أن الأفغاني كان ممن يؤمنون بالتقريب بين الأديان السماوية وردها جميعاً إلى «الدين الخالص» بنص القرآن الكريم. وهناك نصوص كثيرة للأفغاني تشير إلى احترامه كل صاحب دين أياً كان طالما أن دینه يدعوه إلى احترام الآخرين وإلى سلوك الطريق القويم والعيش في سلام مع الآخرين.

لقد كان تصور الأفغاني للشرق بعيداً عن ربطه بالصراع الديني، فعلى الرغم من أنه عرف المسألة الشرقية بقوله إن مختصرها «هو العراك بين الغربي والشرقي وقد لبس كل منهما لصاحبه درعاً من الدين. فالغربي تذرع بالنصرانية، والشرقي بالإسلامية»(1)، إلا أنه كان يرى أنه «إذا كان للضغينة الدينية شيء من الدخل في إيجاد المسألة الشرقية والاحتفاظ بها، فإنها ليست كل أسباب المسألة بدليل أن سلاطين آل عثمان فتحوا وتوغلوا وضموا الممالك وكانوا يدينون بالإسلام، ومن دخل في ملكهم وتحت سيطرتهم كانوا نصارى وأشد تمسكاً بالنصرانية مما هم الآن. فلو كان الدين هو الباعث على كل هذا الحقد والمناهضة لكان الأولى أن يظهر إذ ذاك وعدم ظهوره بل رضوخ الطوائف والإمارات النصرانية للحكم العثماني الإسلامي أكبر دليل على أن مسألة الدين لم تكن هي وحدها الفاعلة في أمر المسألة الشرقية»(2).

ومن جانب آخر فإن الأفغاني حينما كان ينتقد الشرق والشرقيين لا يختص المسلمين وحدهم بنقده؛ فهو يأسف غاية الأسف على أمراء الشرق ويخص من بينهم أمراء المسلمين حيث سلّموا أمورهم ووكّلوا أعمالهم من كتابة وإدارة وحماية للأجانب عنهم، بل زادوا في موالاة الغرباء والثقة بهم حتى ولّوهُم خدمتهم الخاصة بهم في بطون بيوتهم. بل كادوا يتنازلون لهم عن ملكهم في ممالكهم(3).

ونلمح نفس هذه الرؤية العامة للشرق والشرقيين في خطاب الأفغاني الإصلاحي التحرري في قوله حينما احتلت مصر «إنه قد بلغ الإجحاف بالشرقيين غايته، ووصل العدوان فيهم ،نهايته، وأدرك المتغلب منهم نكايته خصوصاً في المسلمين منهم؛

ص: 211


1- نفسه، ص 228
2- نفسه ، ص 228 - 229.
3- نفسه، ص 400 .

فمنهم ملوك أُنزلوا عن عروشهم جوراً، وذوو حقوق في الأمرة حُرموا حقوقهم ظلماً، وأغنياء أمسوا فقراء ..الخ حتى لم تبق طبقة من الطبقات إلا وقد مسها الضر من إفراط الطامعين في أطماعهم» (1)

ولعل خطابه الثوري إلى الهنود لكي يثوروا على المحتل البريطاني يُعد أبرز دليل على اتساع مفهوم الشرق عنده ليشمل كل أمم الشرق المستعمَرة بصرف النظر عما يؤمنون به من أديان وحفّزها جميعاً على الثورة على الغربي المستعمر، ذلك الخطاب الذي قال فيه «يا أهل الهند وعزة الحق وسر العدل لو كنتم وأنتم تعدون بمئات من الملايين ذباباً مع حاميتكم البريطانيين، ومن استخدمتهم من أبنائكم فحمَّلتهم سلاحها لقتل استقلالكم واستنفاد ثرواتكم وهم بمجموعهم لا يتجاوزون عشرات الألوف. ولو كنتم أنتم مئات الملايين كما قلت ذبابا! لكان طنينكم يصم آذان بريطانيا العظمى ويجعل في آذان كبيرهم المستر «غلادستون» وقراً ولو كنتم أنتم مئات الملايين من الهنود وقد مسخكم الله فجعل كلا منكم سلحفاة وخضتم البحر بجزيرة بريطانيا العظمى لحررتموها إلى القعر وعدتم إلى هندكم أحراراً»(2).

إن الحديث عن الشرق إذن كان المقصود به عند الأفغاني عموم الأمم الشرقية بكافة طوائفها وبلادها ودياناتها دون أن يقتصر الأمر على المسلمين وحدهم.

وإن كنا نلمح أنه ركز في حديثه على الأمة الإسلامية من بين الأمم الشرقية الأخرى، فإن ذلك كان لضرورة يحتمها انتماؤه الديني والوطني؛ ذلك الانتماء الذي جعله يتنازل عن حلم إيقاظ البشرية جميعاً وأهل الأديان جميعهم، إلى الدعوة إلى ايقاظ بلاد الشرق الإسلامية وحدها. وها هو يعبر عن انكسار حلمه الطوباوي العالمي وتحوله إلى حلم متواضع - وإن ثقل حمله - لإيقاظ الشرق الإسلامي بقوله: «ثم جمعت ما تفرق من الفكر ولممت شعث التصور ونظرت إلى الشرق وأهله فاستوقفني الأفغان وهي أول أرض مس جسمي ترابها، ثم الهند وفيها تثقف عقلي،

ص: 212


1- نفسه، ص 485
2- نفسه، ص 517 .

فإيران بحكم الجوار والروابط وإليها كنت صرفت بعض همتي فجزيرة العرب من حجاز مهبط الوحي ومشرق أنوار الحضارة، ومن يمن وتابعاتها وأقيال حمير فيها، ونجد وعراق وبغداد والأندلس وحمراؤها. وهكذا كل صقع ودولة من دول الإسلام في الشرق وما آل إليه أمرهم فيه اليوم. فالشرق الشرق وقد خصصت جهاز دماغي لتشخيص دائه وتحري دوائه»(1).

لعلنا لاحظنا حتى الآن مما سبق، أن الشرق عموماً كان الهاجس الذي أرّق جمال الدين الأفغاني ولم يكن يفرق بين مسلم ومسيحي أو بين مسلم ويهودي، فكلها أديان الله التي تعود إلى «الدين الحق الخالص»بمفهومه القرآني الشامل !

ولكن لما كان الانتماء إسلامياً والاسلام هو آخر الأديان السماوية الثلاثة وهو من عاش أهل الأديان الأخرى في كنفه سعداء أمنين، ولما كان المسلمون هم العنصر الغالب في بلاد الشرق فضلاً عن أنهم الملة المسلوبة ممالكها ومقاطعاتها في ذلك العصر، فقد وجه الأفغاني خطابه الإصلاحي إليهم وركز همه في إيقاظهم.

وبهذه اللغة المفعمة بالعاطفة المغلفة بالرمز الغني بالدلالات التاريخية حدد وجهة تركيزه على كل ما هو شرقي مسلم. وتحدث أحياناً عن الكل وقصد الجزء، أو عن الجزء وقصد الكل، فالكل يتضمن مجموع أجزائه، والجزء إشارة إلى الكل الإسلامي الشرقي الذي ينتمي إليه وينضوي تحت لوائه. فلقد تحدث ووحد في حديثه أحياناً بين العربي والشرقي»(2)وأحياناً بين الشرقي والمصري(3)، إلخ. لكنه في كل الأحوال كان يخاطب الإنسان الشرقي المسلم بصفة عامة دون أن يميز بين الطوائف أو بين البلدان. فالكل عنده كانوا في الهم سواء!.

ولعله يجدر بنا الآن أن نتساءل عن الكيفية التي أدى بها الأفغاني رسالته الاصلاحية للأمم الشرقية وخاصة الإسلامية منها؟!

ص: 213


1- نفسه، ص .296-295
2- انظر نفس المصدر، ص 453.
3- انظر نفس المصدر ونفس الصفحة .

إنه قد أدى هذه الرسالة مستخدماً كل الوسائل المتاحة أمامه، فقد جاب العالم شرقه وغربه، استقبل كبطل هنا وكمنفي منبوذ هناك، قوبل بترحاب في أماكن عديدة، وقوبل في غيرها بالسجن والاستهانة به وبمكانته وكان في كل مكان يحل فيه لا هدف له ولا عمل يؤديه إلا محاولة كشف المستور من هموم الشرقيين وما يعانونه من استعمار واستعباد وهوان، وهو يكشف عن ذلك المستور بعقليته التحليلية الناقدة الثاقبة فيظهر أمام القارئ أو السامع علل هذا الهوان وذلك التخلف الذي يعاني منه أهل الشرق. ولا يتوقف عند حد تشخيص الداء وبيان أسبابه وإنما يقدم لكل داء الدواء المناسب بحسب الحالة التي يشخصها ومستوى المخاطب الذي يخاطبه. وصدق الإمام محمد عبده حينما وصفه قائلاً «كأنه حقيقة كلية، تجلت في كل ذهن بما يلائمه، أو قوة روحية قامت لكل نظر بشكل يشاكله»(1). لقد كان الأفغاني يؤدي رسالته فيما يكتب أو يقول محافظاً على مستويات الخطاب ومراعياً مكانة ومستوى

المخاطب.

أما المضمون الذي حمله خطابه فكان دائماً على صورتين؛ صورة سلبية يكشف فيها عن الداء محدداً المرض الذي يعاني منه المجتمع الشرقي وأفراده حكاماً ومحكومين، وصورة إيجابية يحدد فيها الدواء لهذا المرض محاولاً إقناع المريض بشتّى الوسائل أن يتجرعه وإن كان طعمه مراً. فلقد كان الأفغاني مدركاً أن الأمراض والعلل التي يعاني منها الإنسان الشرقي في مختلف البلدان أمراضاً فتاكة وعللاً طال بها الزمن وتخللت أركان المجتمع فاستسلم لها وتكيف مع أضرارها! وكان مدركاً في ذات الوقت أن علاج هذه العلل والأمراض ليس مستحيلاً؛ فإن كان من الصعب على المريض تجرع الدواء؛ فإن جسده لا يزال قادراً على التحمل. وإن كان الجسد منهكاً فإن الروح لا تزال موجودة قادرة على أن تتيقظ وتوقظ معها الجسد وتتغلب على أمراضه وخموله!!

لقد حدد الأفغاني لنفسه الهدف وهو النهوض بهذه الأمة الشرقية المسلمة. أما

ص: 214


1- نقلاً عن : نشرة محمد عمارة الكاملة للأعمال الكاملة، الدراسة التي كتبها عن الافغاني، ص 99.

وسيلة تحقيق الهدف فهي تحليل الأسباب التي أدت إلى إخفاق الشرق عموماً والشرق الإسلامي خصوصاً، ثم النظر في كيفية التخلص من هذه الأسباب التي كان أهمها بالطبع الاستعمار الأجنبي ومحاولة الغربيين الهيمنة والاستيلاء على مقدرات بلاد الشرق.

رابعاً: أسباب تخلف بلاد «الشرق» وكيفية نهوضها:

تحدث الأفغاني عن أسباب كثيرة لتخلف بلاد الشرق منها ما يتعلق بما يجري داخل بلاد الشرق ولدى مواطنيه ، ومنها ما يدبر لها من خارجه وإن كان قد أدرك أن الارتباط بين الأسباب الداخلية والخارجية ارتباط لا تنفصم عراه. ولذلك تحدث عن هذه الأسباب بشكل متداخل وحدد مع كل منها كيف يمكن التغلب عليه لتحدث النهضة المرجوة. ويمكننا إجمال هذه الاسباب وعوامل التغلب عليها لديه فيما يلي:

أ) من «الإحساس بالدونية» إلى الإحساس بالحمية والقوة:

لقد أدرك الأفغاني أن من أشد الأشياء وطأة على الإنسان الشرقي هو ذلك الإحساس بالدونية الذي ينتابه إذا مانظر إلى تخلفه وتردي أوضاعه بالقياس إلى تقدم الغرب وما ينعم به أفراده من به أفراده من سعادة ورخاء. ويزداد الأمر خطورة إذا ما استشرى هذا الإحساس بالدونية بين الشباب الذين هم عدة المستقبل والأمل في غد أفضل. وقد لاحظ الأفغاني أن «الناشيء الشرقي يعتقد أن كل الرذائل ودواعي الحطة ومقاومات التقدم إنما هي في قومه»(1). ويترتب على ذلك أن هذا الناشيء «يجري مع تيار غريب من امتهان كل عادة شرقية ومن كل مشروع وطني تتصدى له فئة من قومه أو أهل بلده ويأنف من الاشتراك في أي عمل لم يشارك فيه الأجنبي ولو اسما ويسارع لتقديس وتصويب كل خطأ أتيه الغريب ويسهِّل له كل صعب ويطّلع على هنات قومه وزللهم

وموقع الضعف منهم. وبالاجمال يكون الآلة القاطعة الفاعلة للغريب في جسم قومه »(2).

ص: 215


1- جمال الدين الأفغاني: نفس المصدر، ص 190.
2- نفسه.

ولا شك أن الإحساس بالدونية حينما يسيطر على أبناء أمة ما يكون ايذانا بخمولها وإصابة أفرادها بالاحباط وعدم القدرة على الفعل والإبداع. ولكن إذا كان هذا الإحساس بالدونية قد استشرى فعلاً بين أفراد الأمّة وسيطر على شبابها - وما أشبه اليوم بالأمس - كما ألمح إلى ذلك وكشف عنه جمال الدين، فكيف يرى الخروج من هذا الإحساس؟!

إنه لا يرى مخرجاً من هذا الإحساس الذي يعاني منه أصحابه إلا باشتداد الأزمة وقوة الضغط حتى يفقدوا بقية ما تُرك لهم من شبه الراحة التي أُخلدوا إليها أو سعة العيش الضيق الذي سوَّل لهم الخمول والرضاء به وحتى يُزَاحَموا على مالا يخطر لهم ببال من دين لا يتمكنون من التعبد به كما يرومون، ومن تجارة لا يجدون لها مالا أو مجالا ، ومن حرية شخصية يفقدونها، ومن قهر وإذلال الأعزاء وتعزيز الأذلاء السفهاء وحتى يحيق بالمجموع بلاء يساوي بين الكل ويكون في المسلم الشرقي وأخوه المسيحي سواء(1).

وحينما يشتد البلاء وتعم الأزمة الجميع ويحسون بوطأة الاحتلال وفقدان الاستقلال والحرية بكافة أشكالها، حينئذ يمكن لأي أمة أن تنهض وتتولد الحمية لدى مواطنيها ويتحدوا في مواجهة ما يجابههم من مشاكل وتحديات.

وفي رأيه ربما يكون في العودة إلى درس الماضي، ماضي هذه الأمة علاجاً الأمراضها الحاضرة وخروجاً من مهانة الاستكانة وذل الحاجة وحالة الخمول والكسل الذي يحس به أبناءها. وهو يقول في ذلك: «أرأيت أمة من الأمم لم تكن شيئاً مذكوراً ثم انشق عنها عماء العدم فإذا هي بحمية كل واحد منها كون بديع النظام قوي الأركان شديد البنيان عليها سياج من شدة البأس ويحيطها سور من منعة الهمم، تخمد في ساحاتها عاصفات النوازل وتنحل بأيدي مدبريها عقد المشاكل، نمت فيها أفنان العزة بعد ما ثبتت أصولها ورسخت جذورها وامتد لها السلطان على البعيد عنها والداني إليها ونفذت منها الشوكة وعلت لها الكلمة وكملت القوة فاستعلت آدابها

ص: 216


1- نفسه.

على الآداب وسادت أخلاقها وعاداتها وأحست مشاعرها سواها من الأمم بأن لا سعادة إلا في انتهاج منهجها وورد شريعتها. وصارت وهي قليلة العدد كأنها للعالم روح وهو لها بدن عامل»(1).

إن الأفغاني هنا يذكر شباب الأمة بماضيها الذي انتقلت فيه من عماء العدم إلى أن أصبحت المثل الأعلى الذي تطمح إلى محاذاته بقية الأمم. ورغم ادراكه لصعوبة العودة إلى محاذاة ذلك الماضي العظيم لأنه «ليس من السهل ردّ التائه إلى الصراط المستقيم. وهو يعتقد أن الخلاص في سلوك سواه» (2). إلا أنه لا يملك إلا التأكيد على أن ذلك هو العلاج الوحيد الذي على الأمة أن تسلك طريقه؛ ««فعلاجها الناجع إنما يكون برجوعها إلى قواعد دينها، والأخذ بأحكامه على ما كان في بدايته وارشاد العامة بالمواعظ الوافية وتهذيب الاخلاق وإيقاد نار الغيرة وجمع الكلمة وبيع الأرواح الشرف الأمة ولا سبيل لليأس والقنوط»(3).

ورب قائل يقول: وهل العود إلى الماضي القديم يعد طريقاً قويماً للنهضة الحديثة المطلوبة؛ أليس في ذلك - كما يقول دعاة العصرانية من العلمانيين اليوم - عودة إلى الوراء ودعوة للجمود والتخلف ؟!

وعلى ذلك التساؤل والتعجب يجيب جمال الدين الأفغاني وكأنه يقرأ مايجول في أذهان البعض منا بعد مرور أكثر من مائة عام على وفاته، يجيب قائلاً: «من يعجب من قولي أن الأصول الدينية الحقة المبرأة من محدثات البدع تنشئ للأمم قوة الاتحاد وائتلاف الشمل، وتفضيل الشرف على لذة الحياة، وتبعثها على اقتناء الفضائل وتوسيع دائرة المعارف وتنتهي بها إلى أقصى غاية في المدنية، فإن عجبي من عجبه أشد !! ودونك تاريخ الأمة العربية وما كانت عليه قبل بعثة الدين من الهمجية والشتات واتيان الدنايا والمنكرات حتى جاءها الدين فوحدها وقواها وهذّبها ونور عقلها وقوّم أخلاقها وسدد أحكامها فسادت على العالم وساست من تولته بسياسة

ص: 217


1- نفسه، ص 191.
2- نفسه، ص 192
3- نفسه، ص 198.

العدل والانصاف. وبعد أن كانت عقول أبنائها في غفلة عن لوازم المدنية ومقتضياتها نبهتها شريعتها وآيات دينها إلى طلب الفنون المتنوعة والتبحر فيها ونقلوا إلى ديارهم طب بقراط وجالينوس، وهندسة اقليدس وهيئة بطليموس، وحكمة أفلاطون وأرسطو وما كانوا قبل الدين في شيء من هذا»(1)

وإذا استمر قائلنا في حجاجه قائلاً: إن العودة إلى أصل الدين ليس هو دائماً الطريق إلى نهضة الأمم. واستدل على ذلك بنهضة دولة شرقية مثل اليابان التي ارتقت وتقدمت بتقليد الغربيين وبدون توسط الدين!!

لأجاب الأفغاني في تجرد وموضوعية وفهم عميق للتجربة اليابانية:«نعم إن الدولة اليابانية وهي أمة شرقية لا تختلف عن أهل الصين في شيء لا في المذهب والاقليم، ولا في العوائد والأخلاق واللسان. وقد عزت ونمت وارتفعت وما كان الفاعل في كل ذلك إلا أخذها بالأحسن والسير في تقليد المرتقين في المدنية على أحسن خططهم وانتهاج أقوم صراطهم ومناهجهم.. فظفروا ببغيتهم ووجدوا ضالتهم بأقرب الأوقات وأقصر الأزمنة»(2)،«إن اليابان لم ينتفعوا بالوثنية من حيث هي دينهم لأن الديانة الوثنية وإن كانت لا تخلو من آداب وأخلاق فليس في أصولها ما ينفع في أحكام أمور الدنيا» (3).

أما إذا كان الدين هو الدين الإسلامي الذي «في أصوله ما ينفع في الأمور الدنيوية أيضاً، فلا بد أن يكون من جملة أصوله الحث على التحلي بالفضائل والاستكثار من مكارم الأخلاق والصفات الحميدة والاستزادة من نافع العلوم والفنون»(4). وإذا كان الدين الإسلامي كما جاء في القرآن فعلاً قد حث على العلم وأبان عن جليل فضله وعظيم منفعته، فما أحوجنا لأن نأخذ به ونعود إلى التمسك بأصوله مستلهمين كل ما فيه من دعوى للتقدم ومن وسائل للارتقاء والرفعة(5).

ص: 218


1- نفسه، ص 198-199.
2- نفسه، ص 199.
3- نفسه.
4- نفسه، ص 199 - 200.
5- انظر نفسه.

إن ما يريد الأفغاني أن يلفت أنظارنا وانتباهنا إليه هنا هو أن التقدم لا يتم دائماً عن طريق تقليد الآخرين، بل قد يتم أحياناً عن طريق العودة إلى الماضي واستلهام ما فيه من قيم إيجابية خاصة إذا كان هذا الماضي هو العصر الذهبي للمسلمين والعرب ذلك العصر الذي نجح المسلمون فيه عن طريق العمل بموجب عقيدتهم الدينية الداعية إلى العلم والحاضة على الأخذ بكل أسباب الرقي والتقدم في أن يسودوا العالم ويؤسسوا حضارة رائدة استفاد منها الغربيون أنفسهم في بناء نهضتهم الحديثة.

وليس كلام الأفغاني ببعيد عن الفهم أو التصديق حتى بالنسبة لأولئك العلمانيين العصرانيين؛ فالنهضة الغربية الحديثة قد قامت هي الأخرى على أساسين أحدهما وأهمهما هو العودة إلى التراث الغربي اليوناني القديم ونقله إلى اللغات الغربية الحديثة والاستفادة من عناصره الايجابية ونقد جوانبه السلبية. وثانيهما الاستفادة من إنجازات الحضارة العربية - الإسلامية في مختلف جوانب الحياة المدنية والحضارية.

والسؤال الذي ينبغي أن يتوقف أمامه المعنيون بنهضتنا الحديثة هو: إذا لم يكن في استلهام ماضينا العريق ما يعوق تقدمنا، وإذا كان فيه ما يساعدنا على التقدم ويزودنا بأسبابه ودوافعه، فلماذا لا نعود إليه وإلى الأخذ به والعمل بموجبه وتطوير ما ينبغي تطويره فيه باستخدام ما استجد من آليات ووسائل نافعة !!

ب) من التقليد الأعمى للغربيين إلى العودة إلى الأصول الدينية الحقة:

إن من أهم أسباب الدونية والتخلف التي يعاني منها الشرقيون كما لاحظ الأفغاني، شیوع ورسوخ عادة التقليد لكل ما هو غربي بدعوى أنه الأكثر مدنيّة وحداثة ودون وعي بمخاطر التقليد والجمود عند حدود كل ما يأتي من الآخر وتقبله في خمول

وسلبية.

وحتى لا نُسيىء فهم الأفغاني نسارع إلى القول بأنه لا يرى في تقليد النافع أيا كان مصدره أي غضاضة. بل على العكس؛ فقد قال «إن تقليد النافع الذي ثبتت منفعته أولى من التقيد بمألوف ثبتت مضرته»، و «إن ثمرة العقول لا تجتني إلا بإطلاقها من

ص: 219

قيودالأوهام» و«إن من قال أن الدين يأمر بالعسر دون اليسر وبالضار دون النافع لمجرد التقليد والمألوف فهو كذاب» (1).

وقد تأكد لنا صدق أقواله تلك من احترامه الشديد للتجربة اليابانية كما أوضحنا فيما سبق، تلك التجربة التي قيمها بقوله إنه تم لها «الفوز بالتقليد النافع وجلب المفيد اللازم من العلوم والفنون والصنائع فبرزت بين صفوف الدول العظام دولة شرقية لها من بأسها منعة، ومن علمها واتحادها قوة تخشى، وحداً يتقى، والناس أبناء ما يحسنون ولله في خلقه شؤون»(2).

ولكن هذا التقدير للتقليد النافع - الذي يعد استثناء في التجربة اليابانية قد لا يقبل التعميم - لم يمنعه من إدراك مضار التقليد الأعمى لإنجازات الآخرين وخطورة ذلك في ضياع فرصة الإبداع لدى أبناء المقلدين.

وقد عبر عن ذلك خير تعبير حينما قال عن المقلدين «علمتنا التجارب ونطقت مواضي الحوادث بأن المقلدين من كل أمة المنتحلين لأطوار غيرها يكونون فيها منافذ وكوى لتطرُّق الأعداء إليها وتكون مداركهم مهابط الوساوس ومخازن الدسائس، بل يكونون بما أفعمت أفئدتهم من تعظيم الذين قلدوهم واحتقار من لم يكن على مثالهم شؤماً على أبناء أمتهم يذلونهم ويحتقرون أمرهم ويستهينون بجميع أعمالهم وإن جلت.. ويصير أولئك المقلدون طلائع لجيوش الغالبين وأرباب الغارات يمهدون لهم السبل ويفتحون الأبواب ثم يثبتون أقدامهم ويمكنون سلطتهم ذلك بأنهم لا يعلمون فضلاً لغيرهم ولا يظنون أن قوة تغالب قواهم»(3).

ولا يتوقف الأمر عند حد كون المقلد هو البوابة التي يعبر منها الغازي والمستعمر إلى الأمم التي غلب على أبنائها التقليد وعز عليهم الإبداع. بل إن المقلدين يحوّلون أنفسهم وغيرهم من أبناء وطنهم إلى مجرد مسوخ تقلد المظاهر، وتقف عند حدود الضار دون استجلاب النافع!.

ص: 220


1- جمال الدين الأفغاني، نفس المصدر، ص 276
2- نفسه، ص 1 - 20
3- نفسه، ص 196 - 197.

وقد دلل الأفغاني على خطورة التقليد وأوضح الأضرار التي يجلبها المقلدون دون وعي إلى أوطانهم من النظر في التجربة المصرية والعثمانية وتحليل النتائج التي وصلت إليها . وقد عبر عن تأملاته في هاتين التجربتين بقوله:

«شيد العثمانيون والمصريون عددا من المدارس على النمط الجديد وبعثوا بطوائف من شبانهم إلى البلاد الغربية ليحملوا إليهم ما يحتاجون له من العلوم والمعارف والصنائع والآداب وكل ما يسمونه «تمدنا» وهو في الحقيقة تمدن البلاد التي نشأ فيها على نظام الطبيعة وسير الاجتماع الإنساني ! فهل انتفع المصريون والعثمانيون بما قدموا لأنفسهم من ذلك وقد مضت عليهم أزمان غير قصيرة؟! هل صاروا أحسن حالا مما كانوا عليه من قبل التمسك بهذا الخبل الجديد؟! هل استنقذوا أنفسهم أنياب الفقر والفاقة!! ...الخ. نعم ربما وجد فيهم أفراد يتشدقون بألفاظ الحرية والوطنية والجنسية (القومية) وما شاكلها ويصوغونها في عبارات متقطعة بتراء لا تعرف غايتها ولا تعلم بدايتها ووسموا أنفسهم زعماء الحرية أو بسِمَة أخرى من السمات ووقفوا عند هذا الحد ومنهم آخرون عمدوا إلى العمل بما وصل إليهم من العلم فقلبوا أوضاع المباني والمساكن وبدّلوا هيئات المأكل والملبس والفرش والآنية وسائر الماعون وتنافسوا في تطبيقها على أجود ما يكون منها في الممالك الأجنبية وعدوها من مفاخرهم وعرضوها معرض المباهاة فنسفوا بذلك ثروتهم إلى غير بلادهم واعتاضوا أعراض الزينة مما يروق منظره ولا يحمد أثره فأماتوا أرباب الصنائع من قومهم وأهلكوا العاملين في المهن لهدم اقتدارهم أن يقوموا بكل ما تستدعيه تلك العلوم الجديدة من الحاجيات الجديدة وأيديهم لم تتعود على صنع لأنف الجديد وثروتهم لا تسع جلب الآلات الجديدة من البلاد البعيدة وهذا جدع الأمة يشوه وجهها ويحط بشأنها. وما كان هذا إلا لأن العلوم وضعت فيهم على غير أساسها وفاجأتهم قبل أوانها»(1).

وبالطبع فإن هذا التحليل الأفغاني لمضار التقليد قد انصب على بيان المظاهر

ص: 221


1- نفسه، ص .196 195

السلبية التي ينقلها المقلدون إلى أوطانهم مما يساعد الأمم الغالبة في السيطرة على الأمم المغلوبة وافقادها صناعتها وصُنَّاعها وثرواتها؛ فقد عاب الأفغاني على المقلدين تركيزهم على المظاهر الاستهلاكية وضياع ثرواتهم وثروات بلادهم في استيرادها، كما كشف النتائج المدمرة للتقليد على الصناعات المحلية ووقف نموها وتطورها الطبيعي!

وكان أبرز ما أدركه الأفغاني من عيوب للتقليد هو تركيز المقلدين على نقل الصنائع والسلع دون الاهتمام بأسرار صناعتها. إن لكل صنعة الأساس العلمي النظري الذي تقوم عليه، وإن غاب عن المقلد معرفة ذلك الأساس العلمي لسر الصناعة وكيفية إحكامها سينتج سلعة مشوهة مليئة بالعيوب مما يترتب عليه بالضرورة شعوره بالدونية والاحباط، فضلا عن الأضرار العامة التي تلحق بأمته ككل ففي ذلك عموماً

«جدع لأنفها وتشويه لوجهها وحط من شأنها»!

ولا شك أن إدراك الأفغاني لهذا الأمر مما يحمد له إذ لا نزال نعاني منه حتى اليوم وبعد مرور أكثر من مائة عام؛ فلا زلنا ننقل التكنولوجيا دون العلم. ولا زلنا نشعر بالاحباط والدونية نتيجة عدم مشاركتنا الفاعلة في التاريخ النظري للعلم، وعدم قدرتنا على استيعاب كل القدرات التكنولوجية للأجهزة الحديثة التي نستخدمها !! وما ذلك إلا لأننا لم نهتم بالتطوير الذاتي للعلم باستخدام مناهج البحث العلمي والآليات الحديثة للتطوير. وانصب كل اهتمامنا منذ البداية على استيراد الأجهزة والاستمتاع الوقتي بها دون معرفة أسرار صناعتها ودون القدرة على تطوير أي شيء فيها (1).

ولعل السؤال الذي يراودنا الآن هو: إذا كان تقليد الغربيين ليس الطريق الأمثل وليس الطريق الصحيح لنهضة الشرق الإسلامي. فما الطريق الذي يراه الأفغاني صالحا لهذه النهضة المأمولة ؟!

يبدأ هذا الطريق في رأيه بإصلاح ديني ضروري وشامل لأننا «معشر المسلمين إذا

ص: 222


1- انظر توصيفاً حديثاً لنفس المشكلة وما نعاني منه فيها فيما كتبناه بعنوان: العقلية العربية بين إنتاج العلم واستيراد التقانة»، مجلة المستقبل «العربي»، التي يصدرها مركز دراسات الوحدة العربية، العدد (200) - أكتوبر 1995م، ص 136 - 116

لم يُؤسّس نهوضنا وتمدننا على قواعد ديننا وقرآننا فلا خير لنا فيه ولا يمكن التخلص من وصمة انحطاطنا وتأخرنا إلا عن هذا الطريق»(1).

أما أبرز معالم هذا التجديد والإصلاح الديني فيحددها بقول «لابد من حركة دينية تهتم بقلع ما رسخ في عقول العوام ومعظم الخواص من فهم بعض العقائد الدينية والنصوص الشرعية على غير وجهها الحقيقي وبعث القرآن وبث تعاليمه الصحيحة بین الجمهور وشرحها على وجهها الثابت من حيث ما يأخذ بهم إلى ما فيه سعادتهم دنيا وآخرة. ولابد من تهذيب علومنا وتنقيح مكتباتنا ووضع مصنفات فيها قريبة المأخذ سهلة الفهم لنستعين بها على الوصول إلى الرقي والنجاح»(2).

إن الإصلاح الديني إذن في نظره هو أساس النهضة الحديثة. وهو يفهم هذا الإصلاح بصورة أكثر ما تكون وضوحاً وبساطة؛ إنه يتمثل في العودة إلى صحيح الدين فيما يتعلق بإصلاح أحوالنا الدنيوية ويسعدها والطريف أنه اعتبر أن هذا الإصلاح الديني لا ينفصل بالضرورة عن إصلاح ضروري ومماثل للعلوم وتجديد للمكتبات الوطنية بما يدعم هذا الإصلاح العلمي ويقوده إلى النجاح.

ولكن كأن بجمال الدين يشعر بأن البعض ربما يثور عليه ويحتجون بأن النهضة الأوروبية قامت بعدما تم فصل الدين عن شؤون الحياة والعلم، فيسارع إلى التذكير بأن سبب انقلاب حالة أوروبا من الهمجية إلى المدنية لا يتعدى الحركة الدينية التي قام بها لوثر» وتمت على يديه»(3).

وإن كان التوفيق قد جانبه في عد ذلك الإصلاح الديني الذي قام به لوثر هو السبب الأوحد في انقلاب حالة أوروبا من الهمجية إلى المدنية، فإنه لم يجانبه الصواب في أن هذه الحركة الإصلاحية الدينية كانت أحد الأسباب الفاعلة في قبول الأوروبيين الأخذ بأسباب النهضة العلمية والفلسفية الجديدة.

ص: 223


1- جمال الدين الأفغاني: نفس المصدر، ص 327.
2- نفسه، ص 328.
3- نفسه.

على كل حال فإن الأفغاني لم ينس التأكيد على أن هذا الإصلاح الديني يمثل الدعامة الحقيقية للنهضة العلمية والعقلية المنشودة في الشرق الإسلامي، حيث أن التجربة العربية الإسلامية في السيادة الحضارية على العالم إبان العصر الزاهي لها كان دعامتها «القوة والعلم» وها هو يقول «إذا تفحصنا عوامل تغلب الدول الإسلامية على الحكومات النصرانية لوجدناه منحصراً في «القوة والعلم» وهكذا يدور أمر الدول انتصاراً وانكسارا»(1).

وها هو يضيف في خطاب ملؤه التفاؤل بمستقبل الشرق الإسلامي إذا ما دارت الدورة الحضارية وأخذ الشرقيون اليوم بما كان في ماضيهم المجيد من عقيدة نقية ومن علم نافع وعمل جاد مخلص، يضيف قائلاً:

«هاتوا مكتبة بغداد والأندلس والقيروان وما ترجم في عصر الخلفاء العباسيين، وما حقق علماء العرب من المباحث وما ألفوه من الكتب الفلسفية والطبيعية والكيمياء وبعد ذلك طالبوني وألزموني الحجة بعد استيفاء أولئك العلماء مواضيع ما نرى من المباحث في العلوم والفنون الوافدة إلينا عن طريق الغرب اليوم. ودعوا عصر الجليد يستحوذ على أوروبا مرة أخرى، ويدور الدور الفلكي بمفعوله وتأثيره ويجعل الحياة في ذلك الإقليم متعددة كما كانت أولاً وانظروا إذ ذاك إلى نهضة الشرق خصوصاً متى تغير شكل الحكم في أهله فترون الشرق قد عاد مشرقاً بالعلماء زاهراً بحقائق العلوم مثبتاً لكل ما هو نافع ويصلح أن يبقى أثراً»(2).

وبالطبع فإن حلم الأفغاني بعودة عصر الخلفاء العباسيين بالنسبة للمسلمين، وبعودة الجليد إلى أوروبا يعد ضرباً من ضروب المستحيل لأن الزمن لا يعود إلى الوراء، إلا أن هذا الخطاب التفاؤلي يؤكد الثقة المطلقة لمفكرنا في قدرة الشرقيين على النهوض مرة أخرى لأنه لا مانع ذاتي يمنعهم من ذلك إذا ما أرادوه لأنفسهم.

ومع ذلك فقد أدرك الأفغاني فيما يتعلق بسبل النهضة المنشودة أمرين في غاية

ص: 224


1- نفسه، ص 229
2- نفسه، ص 218

الأهمية أحدهما سلبي والآخر إيجابي؛ أما السلبي فهو إدراكه لحقيقة مؤداها «أن الغربيين - رغم تظاهرهم بغير ذلك - يمانعون بطرق خفية ترقية الشرقيين لأنفسهم على طريقة وطنية خاصة بهم ويعرقلون مساعيهم.. بأساليب غاية في المكر والمغالطة والسفطسة والاستعانة ببعض أهل البلاد على ذلك» (1).

أما الأمر الإيجابي فهو إدراكه لحقيقة أخرى مؤداها «أن حياة الشرقيين بالعلم الصحيح موت لحكم الغرب فيهم وفك الحجر عنهم والعكس بالعكس. إذن فلابد من تمام اليقظة والعمل بكمال الحكمة من الشرقيين للوصول إلى الغاية بدأب متواصل وهمم لا تفتر وعزائم لا تكل»(2).

وأعتقد أن إدراك جمال الدين الأفغاني لهاتين الحقيقتين معاً وبهذه الصورة المتلازمة يعني بما لا يدع مجالا لأي شك أنه كان من دعاة التنوير العلمي الوطني بحق، ذلك التنوير الواعي بأن التقدم العلمي لابد أن ينبع من الذات ويقوم على تطوير القدرات الذاتية لعلمائنا وعلومنا؛ ذلك التطوير الذي يأخذ في الاعتبار أنه إذا جاز الاستفادة من خبرات الآخر ومن آليات تقدمه العلمي فإنه لا يجوز الارتكان عليه كلياً، لأن صراع الذوات الحضارية يستخدم التقدم العلمي كسلاح فعال ومؤثر ! ومن ثم فإن الآخر سيحاول إعاقة تقدمنا قدر استطاعته. أما إذا نجحنا نحن في تطوير قدراتنا الذاتية مع الاستفادة قدر الطاقة من تجارب الآخر ومن آليات تقدمه فإن هذا سيكون بداية لموت سيطرته علينا وإيذاناً بدورة حضارية جديدة تكون الغلبة فيها أيضاً «للعلم والقوة».

(ج) من الفرقة واستبداد الحكام إلى الوحدة والحكم بالعدل والشورى:

لقد كان من أبرز ما توصل إليه الأفغاني في تحليله لأسباب تخلف الشرقيين وانعدام فاعليتهم تلك الفرقة والانقسام إلى شيع ومذاهب متعددة بما يحمله ذلك

ص: 225


1- نفسه، ص 278 وانظر بيانه لبعض هذه الأساليب في إطار المقارنة التي عقدها بين الشرق والغرب في نفس المصدر ص454 - 457.
2- نفسه، ص 279

من صراع بين بلدانهم واستبداد حكامهم. فركز جل التركيز في كل ما قال أو كتب على بحث أسباب هذه الفرقة وحاول قدر طاقته البشرية أن يزيل هذه الأسباب. وقد أدرك بثاقب بصيرته وعميق تأملاته أن أول وأهم هذه الأسباب هو بعد المسلمين عن الإسلام بصورته الصحيحة النقية(1). ورد هذا البعد إلى تقصير العلماء في الدعوة إلى الإسلام الصحيح الذي لا يفرق بين المؤمنين به إلا بالتقوى وينهاهم عن الخلاف والفرقة والضعف والركون إلى الراحة والخمول كما رده أيضاً إلى تقصير الحكام الذين لم يحكموا بين الناس بما أنزل الله ولم يحرصوا على إشاعة العدل والرحمة بينهم وسعوا إلى تحقيق مصالحهم الشخصية الأنانية وغلّبوها على مصلحة الأمة ووحدة شعوبها(2).

ولقد أخذ الأفغاني يعدد في ثنايا ذلك الصور التي تجلت فيها تلك الفرقة بين أبناء الأمة الواحدة. وكان من أبرز ما ركز عليه في هذا الصدد، ذلك التمييز المصطنع بين السنة والشيعة، ذلك التمييز الذي كان سبباً مباشراً في كثير من صور الفرقة والضعف الذي عانى منه المسلمون.

وقد حاول قدر جهده واجتهاده اقناع الفريقين بضرورة العودة إلى الأصل وهو وحدة المسلمين ووحدة الإسلام. واتخذ في هذا الاقناع منطقاً عملياً واقعياً مباشراً يغلب المصلحة العامة على المصلحة الجزئية لأحد الفريقين وتأمل في ذلك قوله:

«لو أجمع أهل السنة اليوم ووافقوا المفضلة من الشيعة (من عرب وعجم) وأقروا وسلموا بأن علي بن ابي طالب كان أولى بتولي الخلافة قبل أبي بكر فهل ترتقي بذلك العجم أو تتحسن أحوال الشيعة؟ أو لو وافقت الشيعة أهل السنة بأن أبا بكر تولى الخلافة قبل الإمام علي بحق فهل ينهض ذلك بالمسلمين السنيين وينشلهم مما وقعوا فيه اليوم من الذل والهوان و عدم حفظ الكيان؟ أما آن للمسلمين أن ينتبهوا من هذه الغفلة؟ ومن هذا الموت قبل الموت؟! يا قوم وعزة الحق إن أمير المؤمنين

ص: 226


1- انظر: د. علي عبد الحليم محمود، نفس المرجع السابق، ص 330
2- انظر نفس المرجع، ص 334 - 344.

علي بن أبي طالب لا يرضى عن العجم ولا عن عموم أهل الشيعة إذا هم قاتلوا أهل السنة أو افترقوا عنهم لمجرد تفضيله على أبي بكر وجميعهم يحسنون أمر دنياهم «والناس أبناء ما يحسنون» وكذلك أبو بكر فلا يرضيه أن تدافع أهل السنة عنه وأن تقاتل الشيعة لأجل تلك الأفضلية التي مر زمنها والتي تخالف روح القرآن الآمر أن يكونوا «كالبنيان المرصوص»(1)

بهذا الجدال العقلي، وعلى هذا النحو العملي حاول الأفغاني إزاحة السبب الأول والأصلي للخلاف بين الشيعة والسنة من المسلمين، ليجمعهم على كلمة سواء في خدمة دينهم الواحد وحول تحقيق هدفهم المشترك.

وقد استخدم جمال الدين الأفغاني نفس هذه الطريقة في الإقناع في إزالة أسباب الخلاف بين الدول الإسلامية بعضها البعض ليتوجهوا جميعاً للتفرغ لمواجهة الأخطار الخارجية التي تحيط بهم من كل جانب؛ فها هو يدعو مثلاً قومه من الأفغان وجيرانهم من الإيرانيين إلى العودة إلى «رابطة الدين الإسلامي» وهي أشرف الروابط وأن يُزيلوا عبر ذلك تلك الاختلافات الفرعية بينهم لأن استمرار الخلاف بينهم يجلب الضرر عليهم وعلى إخوانهم من المسلمين والهنود. وقد عبر عن ذلك في كلمة موجزة جامعة قال فيها «إن على الفارسيين والأفغانيين أن يُراعوا الكلمة الجامعة والصلة الجنسية ولا يجعلوا الاختلاف الفرعي في المذهب سبباً في خفض الكلمة الإسلامية وقطع الصلة الحقيقية»(2).

وعلى هذا النحو نجده يدعو بشكل عام إلى تجاوز العصبيات والنزاعات الإقليمية التي سادت بين المسلمين لأن هذه النعرة العصبية أو الإقليمية كانت أحد أسباب تخلفهم وتفرق كلمتهم. وفي هذا الإطار كان دائما ما يذكّر الجميع بأن الأصل الذي يجمع بينهم هو الرابطة الدينية الإسلامية، وأن هذه الرابطة هي السبيل إلى التجاوز عن هذه النزاعات وقد نبه الجميع إلى أن استمرار الخضوع والاستسلام لهذه

ص: 227


1- جمال الدين الأفغاني: الأعمال الكاملة، ص .326-325
2- نفسه، ص 319 - 320

النزاعات القائمة على دعاوى العصبية والمصالح الإقليمية الجزئية هو الذي سيقود الأمة الإسلاميّة كما قادها في الماضي إلى الانهيار والضياع(1).

ولقد كان حرص الأفغاني كبيراً على أن يعي الجميع حكاماً ومحكومين هذه الحقيقة. وأن لا يتوقفوا عند حد الوعي بها، بل دعاهم إلى ضرورة العمل بموجب هذا الوعي. وبداية هذا العمل يتلخص في العودة إلى الاعتقاد الأصيل بأن الأصل الذي يجمع بين الشرقيين هو الإسلام الواحد وأن كل دولة من الدول الإسلامية تزداد قوتها ويتضح فضلها وترتفع مكانتها في إطار ذلك الكل الواحد، «الإسلام» و «الشرق».

ومن هنا كان سعيه الدائب يدور حول العمل على عودة الخلافة الإسلاميّة . وقيل أنه ترك الإقامة في أوروبا عام 1886م - 1303ه- - متوجها إلى الشرق وإلى شبه الجزيرة العربية بالذات على أمل السعي إلى إقامة خلافة إسلاميّة عصرية في منطقة بعيدة عن النفوذ والاستعمار الأوروبي، ومؤهلة للاستقلال عن الأتراك العثمانيين(2).

ولم يكن هذا السعي إلى إقامة الخلافة الإسلاميّة أو الدعوة إلى الجامعة الإسلاميّة يتناقض عنده مع الدعوة إلى اقامة حكومات إسلامية تقوم على الشورى والعدل. لأنه كان مؤمناً أشد الإيمان بأنه «لاتحيا مصر ولا يحيا الشرق بدولهِ وإماراته إلا إذا أتاح الله لكم منهم رجلاً قوياً عادلاً يحكمه بأهله على غير طريقة التفرد بالقوة والسلطان، لأن بالقوة المطلقة الاستبداد، ولا عدل إلا مع القوة المقيدة. وحكم مصر بأهلها

إنما يعني به الاشتراك الأهلي بالحكم الدستوري الصحيح»(3). إن الأفغاني يرى ان الحكم العادل القائم على اختيار الناس للحاكم ولمن ينوب عنهم هو أساس الحياة الكريمة لهم وهو أيضاً أساس نهضتهم. ولكن هذا الحكم العادل الذي يشارك فيه الناس ويختارون شكله لا يتحقق إلا لدى أمه نال أهلها استقلالهم وحريتهم، وبينما

ص: 228


1- انظر : د. علي عبد الحليم نفس المرجع السابق، ص 349 وما بعدها. وانظر أيضاً : ، د. محمد عمارة نفس المرجع السابق، ص 133 وما بعدها.
2- د. محمد عمارة، نفس المرجع السابق، ص 71 - 72
3- جمال الدين الأفغاني: نفس المصدر، ص 477 - 478.

يمكن للناس أن يغيروا شكل حكوماتهم بالمناقشة والحوار والإقناع بينهم وبين بعضهم وبينهم وبين حكامهم في ظل دولهم المستقلة الحرة، فإنه لا يمكنهم ذلك بالطبع في ظل الاحتلال أو فقدان الحرية والاستقلال. وقد كان الأفغاني ممن أدركوا هذه الحقيقة بشكل واضح وعبر عن ذلك بقوله :«إن الحرية والاستقلال للوطن لا توهبان وإنما «تحصل عليهما الأمم أخذا بقوة واقتدار يجبل التراب منها بدماء أبناء الأمة الأمناء أولى النفوس الأبية والهمم العالية»(1). أما «تغيير شكل الحكم المطلق بالشكل النيابي الشوري فهو أيسر مطلباً وأقرب مثالاً إذ يكفي فيه أحيانا ارشاد الملك ونصحه من عقلاء مقربيه فيفعله ويشرك معه أمته ورعيته»(2).

ولكن يبدو أن الأفغاني حينما قال ذلك كان حسن الظن أكثر من اللازم بالحكام المحليين للأمارات الشرقية آنذاك ؛ فقد جرب هو نفسه أن ينصح بذلك أمير مصر وشاه إيران ناصر الدين ولكنه فشل في إقناعهما ولم تتم الاستجابة لدعوته للحكم النيابي لا من أمير مصر (3)ولا من شاه إيران(4).

على كل حال، فلقد كان الأفغاني مؤمناً بأن اعطاء الحرية للشعوب لتختار حكامها وتشاركهم في الحكم مسألة ضرورية لإطلاق حريات الإبداع والمشاركة في كل مجالات الحياة الحضارية وخاصة بعد المعاناة الرهيبة التي عاناها أبناء الأمم الشرقية طوال تاريخهم من استبداد الحكام واستعباد المستعمرين(5).

ص: 229


1- نفسه، ص 478
2- نفسه.
3- انظر نفس المصدر السابق ص 473
4- نفسه، ص 475 وانظر أيضاً : د. محمد عمارة، نفس المرجع السابق، ص 73.
5- لقد كان الأفغاني شديد التعاطف مع الشعوب التي عانت طويلا من ظلم الحكام والمستعمرين وكان في كل ما قال أو كتب نصيراً لهم لكي ينالوا حقوقهم في الحرية والحياة الكريمة، وذلك على الرغم من أنه في كثير من الأحيان، كان شديد القسوة على هذه الشعوب وكثير النقد لها لأنها سكتت طويلاً على ما استبدوا بهم وظلموهم . (انظر في ذلك على سبيل المثال خطابه لأهل مصر، ذلك الخطاب الذي يبدو فى ظاهره شدة القسوة على المصريين لأنهم قبلوا بالاستبداد ورضخوا للاستعباد طوال العصور السابقة، إلا أنه في باطنه الرحمة بهم لأنه يتضمن تلك الدعوة التي لا تلين لأن ينهضوا ويشقوا صدور المستبدين ليعيشوا كباقي الأمم أحرار سعداء.) نص الخطاب في : د. محمد عمارة: نفس المرجع السابق، ص 60-61 وانظر أيضاً الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني حيث يقول في ص 479 (إن مصر أحب بلاد الله إلي.

لقد كان يرى أن هذه تمثل الخطوة الأولى على طريق اتحاد الأمم الشرقية الإسلامية في مواجهة أطماع الغربيين الاستعماريين، وهي أيضاً الخطوة الأولى نحو تأسيس النهضة المأمولة لأبناء الأمة الإسلاميّة تحت مظلة جامعة إسلامية أو خلافة إسلامية(1)، لا يهم الاسم وإنما الذي يهم هو العودة إلى الأصل الأصيل، ألا وهو وحدة الإسلام والمسلمين ففي وحدتهم قوتهم ونهضتهم، وفي تفرقهم ضعفهم وتخلفهم.

والحقيقة أن جمال الدين لم يؤسس جمعية العروة الوثقى في مختلف البلاد الإسلامية إلا لخدمة هذا الهدف والعمل على تحقيقه(2). وقد ظهر ذلك جلياً حينما أسس أيضاً بالاشتراك مع تلميذه النجيب محمد عبده جريدة «العروة الوثقى» لتكون لسان حال الشرقيين في توضيح هذه الأهداف والعمل بموجبها والدعوة إلى تحقيقها في مختلف بلاد الشرق(3).

لقد كان إيمان الأفغاني بالوحدة راسخاً لأنه اعتبر أن

وحدة الأمة هو الطريق الوحيد لسيادتها وعزتها وتأمل معي قوله في ذلك «أمران خطيران تحمل عليهما الضرورة تارة ويهدى إليهما تارة أخرى، وقد تفيدهما التربية وممارسة الآداب. وكل منهما يطلب الآخر ويستصحبه بل يستلزمه وبهما نمو الأمم وعظمها ورفعتها واعتلائها وهما الميل إلى وحدة تجمع ، والكلف بسيادة لا توضع»(4).

فالوحدة والسيادة إذن أمران ضروريان لأي أمة تريد أن تنهض وتسود والدعوة إلى تلازمها يحض عليها الدين، وتحتمها الضرورة ويساعد التعليم والتربية في بث الإيمان بهما في النفوس.

ص: 230


1- انظر ما كتبه محمد عمارة عن الجامعة الإسلامية وجهود الأفغاني في الدعوة إليها في نفس المرجع السابق، ص 115 وما بعدها.
2- انظر في التعريف بهذه الجمعية وأهدافها .د. علي عبد الحليم محمود نفس المرجع السابق ص 76 -83.
3- انظر فى منهج العروة الوثقى وأهدافها ما كتبه جمال الدين الأفغانى فى نفس المصدر السابق، ص 533. وانظر تعريفا بالجريدة وأهدافها في د. علي عبد الحليم محمود نفس المرجع السابق، ص 83-84. وقد صدقه أحد الباحثين حينما وصف دور هذه الجريدة وتأثيرها بقوله أنها تعد أم الجرائد الحاضرة على الإطلاق والتي لم يزل الناهضون من بني الشرق يسيرون في دعوتهم إلى النهوض على أثرها فيليب دي طرازي: تاريخ الصحافة العربية، بيروت 1913 ، ص 261 262 ، نقلا عن د. علي عبد الحليم نفس المرجع، ص84.
4- جمال الدين الافغاني، الاعمال الكاملة، ص 353

وقد بنى الأفغاني تفاؤله بمستقبل أي أمة على إيمان أبنائها وميلهم إلى تحقيق تلك الوحدة وهذه السيادة وها هو يقول معبراً عن ذلك «فإذا احسست من أمة ميلاً إلى الوحدة فبشرها بما أعدّ اللّه لها في مكنون غيبه من السيادة العليا والسلطة على متفرقة الأمم»(1) وهو لا يشك في أن أبناء الأمم الشرقية - الإسلاميّة لديهم هذا الميل إلى الوحدة وإن كان ينقصهم العزم على تحقيقها عبر الوسائل التي أشرنا إليها فيما سبق.

وما أحوجنا في هذه الأيام إلى إعادة قراءة هذه الأفكار المهمة للأفغاني، فكأني به یعیش بيننا رغم مرور أكثر من مائة سنة على رحيله عنا، وكأني به لا يزال بما كتب وما قال قادراً على كشف أسباب إخفاق الأمة، إذ لا تزال الأسباب التي ألمح إليها أو كشف عنها هي هي لم تتغير ولم يتبدل من أمرنا معها شيئاً. وكان ما التمسه وسائل للإصلاح والنهوض هي الوسائل التي إن آمنا بها وعملنا بما فيها نجونا من المصير الشائن الذي ينتظر أمتنا في التحدي الحضاري الراهن.

إن الصراع اليوم لا يزال في مجمله صراعاً حضارياً بين غرب لا يزال عنصرياً ومتعالياً وطامعاً، وبين الآخر! والآخر بالنسبة للغربيين هو الشرق ولا فرق بين شرق عربي أو إسلامي، وبين شرق آسيوي وثني ولذلك فإن دعوة الأفغاني إلى وحدة الشرق عموماً والشرق الإسلامي خصوصاً في مواجهة الغرب والاستعلاء الغربي لا تزال دعوة ينبغي أن ننظر إليها بعين الاعتبار على الصعيدين النظري والعملي. فربما يكون فيها بداية الوعي بجوهر الصراع في عالم اليوم، وبداية الوعي بما ينبغي فيه أن نتعامل مع الغرب ومن يتحالفون معه بالحذر المطلوب رغم كل ما يبدو على السطح من تقاربنا الزائف معه ! فهذا التقارب معرض للانهيار في أي لحظة ولأتفه الأسباب.

ص: 231


1- نفسه.

ظاهرة الاستعمار:بين الفكر الإسلامي والفكر العلماني

اشارة

ماهر عبدالمحسن(1)

لا يمكن إغفال أهمية وخطورة الاستعمار كظاهرة تاريخية وعالمية كان لها كبير الأثر على كافة بلدان المعمورة، على كافة المستويات، سواء أكانت بلدان مستعمرة (بكسر الميم) أو مستعمَرة (بفتح الميم). كما لا يخفى خصوصية هذا الأثر في البلدان الأخيرة، وبالأخص البلدان العربية والإسلاميّة .

ولما كان للاستعمار تاريخ طويل وآثار بعيدة المدى، فإن البلدان والمجتمعات التي كانت واقعة تحت نير الاحتلال لم تقف مكتوفة الأيدي، وإنما عملت - دائماً - على التحرر من ذلك الكابوس على المستويين العسكري والفكري. وفي هذا الأخير ظهرت الكثير من الدراسات الناقدة والمحللة للاستعمار، حتى تأسس - في السنوات الأخيرة - ما يُعرف بالدراسات ما بعد الكولونيالية، وهي دراسات تُعنى بإعادة كتابة التاريخ والثقافة من وجهة نظر البلاد التي كانت محتلة، بحيث تملك الحق والحرية

ص: 232


1- دكتور وباحث من جمهورية مصر العربية.

في التعبير عن نفسها بمعزل عن الصندوق الأسود الذي ظلت البلدان الأوربية المستعمرة محتفظة به ومحتكرة لأسراره ، وهي في الحقيقة ليست أسراراً معبرة عن حقائق بقدر ماهي ميراث وهمي ضخم من الحيل والأكاذيب.

وبالرغم من أن بداية الدراسات ما بعد الاستعمارية يُؤرخ لها دائماً بكتابات المفكر الفرنسي فرانز فانون في الخمسينيات والستينيات، وكتابات المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد في السبعينيات، إلا أن الجهود الفكرية العربية حول الاستعمار بدأت قبل ذلك ربما مع بداية القرن وحركة الإصلاح الديني التي قامت على أكتاف الأفغاني ومحمد عبده، ولم تتوقف حتى الآن. غير أن هذه الجهود كانت - في أغلبها - تتسم بالنزعة الدينية الإسلامية، خاصة بعد سقوط الخلافة الإسلامية في تركيا عام 1924 وبات الإسلام في خطر محدق. ولأن هذه الكتابات كانت نابعة من العاطفة الدينية بالأساس فقد غلب عليها اللغة الأدبية والشواهد التاريخية دون اهتمام كبير بالمنهج على نحو ما سنرى لدى أنور الجندي ومحمد الغزالي.

وفي المقابل نجد كتابات أخرى عربية تغلب عليها النزعة الأكاديمية المنهجية التي تُعنى بتحديد المفاهيم والاستشهاد بالنصوص على نحو ما سنجد لدى مالك بن نبي وإدوارد سعيد.

وإزاء هذه الازدواجية، نجد أنفسنا مضطرين إلى دراسة الظاهرة الاستعمارية وفقاً لرؤية تكاملية، تجمع النظرة الدينية مع النظرة العلمانية، وهي رؤية تتسق وقناعاتنا الذاتية بزيف القسمة الثنائية التي تسبب فيها الاستعمار نفسه، بحيث أصبحنا نعيش في غابة متشابكة من التقسيمات الثنائية عروبة وإسلام سنة وشيعة، سلفيون وعلمانيون.

إننا في هذا البحث القصير نحاول إلقاء الضوء على الكيفية التي تناول بها كل من الإسلاميين والعلمانيين ظاهرة الاستعمار، من أجل الاستفادة من وجهتي النظر، وأن النماذج المختارة في هذا البحث إنما هي على سبيل المثال لا الحصر. فكما ذكرنا، فإن التراث الفكري العربي كبير في هذا المجال، كما أننا اقتصرنا على عمل واحد لكل مفكر نظراً لضيق المساحة، ورغبتنا في التركيز والتكثيف لبلورة الفكرة المحورية التي نسعى إليها.

ص: 233

ومن هذا المنطلق سيتم تقسيم البحث إلى مبحثين:

أولاً: ظاهرة الاستعمار في الفكر الإسلامي.

ثانياً: ظاهرة الاستعمار في الفكر العلماني.

أولاً: ظاهرة الاستعمار في الفكر الإسلامي

يربط الكتّاب الإسلاميون بين الاستعمار ،والإسلام وينطلقون في دراساتهم من رؤية ترى في الاستعمار امتداداً للحروب الصليبية، وأنه لم يأت إلا للقضاء على الإسلام والسيطرة على البلدان الإسلامية، وفي هذا المعنى يقول أنور الجندي: «وقد جاء الاستعمار موجة تالية لزحف سابق أطلق عليه اسم الحروب الصليبية التي امتدت على جبهة الشرق (الشام ومصر) كما امتدت على جبهة المغرب (الجزائر وتونس) وقد فشلت الحملات الصليبية واندحرت مهزومة، ثم جاء بعدها المد العثماني الإسلامي الذي حمى عالم الإسلام أكثر من ثلاثمائة سنة من الغزو الغربي،

فلما وهنت القوة العثمانية عاود الغرب محاولته للسيطرة على عالم الإسلام»(1).

وبالرغم من أن الاستعمار - من أجل تحقيق أهدافه - قد عمل على السيطرة على التعليم والثقافة والصحافة من أجل تزييف المفهوم الإسلامي وإفراغه من مضمونه بحيث جعل منه دين عبادة فقط ، لا علاقة له بالنظم السياسية والاقتصادية والقانونية ففرض القانون الوضعي بدلاً من الشريعة الإسلامية والمصرف الربوي بدلاً من الاقتصاد الإسلامي والنظام الديمقراطي الليبرالي بدلاً من نظام الشورى. نقول بالرغم من كل ذلك، إلا أن أخطر ما أحدثه الاستعمار من آثار تخريبية إنما كان إشاعة حالات التمزق والفرقة بين المسلمين، فيقول أنور الجندي «ولقد كان حرص الاستعمار على أن يوقف نمو الإسلام ونمو اللغة العربية، ويعارض القوة القادرة على مقاومته والحيلولة دون وحدة أجزاء هذه الأمة باعتبارها خطراً عليه، والعمل الدائب على تمزيق الجبهات، بالانقسام السياسي والعنصري والطائفي والقبلي وإدامة هذه الفرق حتى لا يلتقي المسلمون على وحدة جامعة»(2).

ص: 234


1- أنور الجندي، الاستعمار والإسلام (القاهرة: دار الأنصار، دون سنة نشر)، ص 4.
2- المرجع السابق، ص 6.

وهذه الرؤية التجزيئية التي تعمل على تفتيت وحدة الأمة وإشاعة روح الانقسام هي ما يتسق مع نقطة انطلاقنا البحثية التي تعمل على إعادة الوحدة وضم وجهات النظر التي تبدو متعارضة بين الفصائل المختلفة وبهذا الاعتبار سنبدأ في تناول دراسة أنور الجندي التي بعنوان «العالم الإسلامي والاستعمار السياسي والاجتماعي والثقافي» لأنها تركز على فكرة الانقسام، وتعتبرها قضية محورية في سياق دراسة الظاهرة الاستعمارية. ونحن بدورنا سنعيد قراءتها على النحو الذي يبرز تلك النزعة التجزيئية من ناحية ويفسر التجليات المختلفة للظاهرة الاستعمارية مهما بدت بعيدة عن تلك الفكرة من ناحية أخرى.

1- أنور الجندي والتحليل التاريخي للاستعمار

تهيمن على دراسة أنور الجندي روح الجدل ما بين الوحدة من ناحية والانقسام من ناحية أخرى حتى أنه يطرح تاريخ العالم الإسلامي كله باعتباره حركة مترددة من الوحدة إلى الانقسام ومن الانقسام إلى الوحدة ومن هذا المنظور يمكن قراءة وفهم هذه الدراسة وفهم الظاهرة الاستعمارية على نحو ما يدرسها الجندي. فيستهل كتابه قائلاً:«كان العالم الإسلامي وحدة لا تتجزأ قبل الغزو الاستعماري الغربي

قلّما تنوعت حكوماته ودوله . فقد كانت تجمعه وحدة فكر، ووحدة شعور، ولقد العالم الإسلامي بمرحلة ضعف، وتخلف، شأنه في ذلك شأن كل أمة، وكل حضارة حين تمر بمرحلة بعد مرحلة قوة بعد ضعف وضعف بعد قوة، سُنّة الوجود وناموس الحياة، ولكنَّ العالم الإسلامي لم يلبث أن استيقظ بقوّته الذاتية، استيقظ داخل أعماقه، وبعامل أساسي قار في كيانه»(1).

ويتحدث الجندي هنا عن حالة العالم الإسلامي قبل الاستعمار، وهي حالة الوحدة التي تجد مبرراتها في أكثر من شكل من أشكال الوحدة سواء من ناحية الفكر أو ناحية الشعور. وإذا كان الاستعمار هو المسؤول عن تمزق العالم الإسلامي وتقسيمه،

ص: 235


1- أنور الجندي، العالم الإسلامي والاستعمار السياسي والاجتماعي والثقافي (بيروت: دار الكتاب اللبناني، الطبعة الثانية، سنة 1983م)، ص 9.

إلا أنه ليس المسؤول عن يقظة هذا العالم على نحو ما يدّعي الغربيون، وإنما هي نابعة من قوته الذاتية المستمَدّة من مقومات فكره الأساسية. فالتاريخ الإسلامي، إنما هو تاريخ صعود وهبوط ثم صعود والصعود يرتبط بالوحدة، بينما يرتبط الهبوط بالفرقة، والذي يحرّك هذا التاريخ هو جدل الصراع بين القوى التي تعمل على لمِّ الشمل وتلك التي تعمل على الفرقة والتشرذم «فالغربيون يحاولون إثارة الشبهات المختلفة رغبةً في تمزيق وحدة العالم الإسلامي الفكرية، وإحلال الثقافات الإقليمية والقومية محلّها. ولكن هذه الثقافات ما تزال تستمد مقوماتها من الفكر الإسلامي أساساً. ولذلك فهم يدعونها إلى إحياء تراث قديم جداً سابق للإسلام كالفرعونية والبربرية والفينيقية، وحضارات سالفة في أندونسيا والهند وإيران وتركيا»(1).

وفي المقابل يعتبر الإسلام عامل وحدة تتمثل في رباط العقيدة الإسلامية والفكر والثقافة، بالإضافة إلى كونه نظام اجتماعي كامل يقوم على هذه العقيدة، وهو منهج إنساني شامل العلاقات بين الأفراد والجماعات وبين الشعوب والمجتمعات والدول. وفي هذا السياق يقول الجندي: نعم هو عدد ضخم من البشر يتحد في العقيدة والفكر والشعور لا مثيل له في العالم كله يتميز بأكثر من عامل قوة، أهمها المجاورة في المكان، والتركيز في قلب العالم في منطقة تمتد دون حواجز أو فواصل من أواسط آسيا إلى المحيط الأطلسي، من روسيا في الشمال والمحيط الهندي، جنوباً إلى ما وراء خط الاستواء»(2).

ومن هذا المنطلق كان العالم الإسلامي مطمعاً للدول الغربية الاستعمارية، كما كان هدفاً لقوى التشتيت والتمزيق. يتضح ذلك في العصر الحديث، فما كاد العالم الإسلامي يستيقظ ليجدد حياته، وليعيد تجميع قواه حتى واجهه الغزو الاستعماري بحركة تطويق ضخمة، لم تلبث أن اندفعت إلى أعماقه، فكانت مهمته مزدوجة: مهمة اليقظة، ومهمة المقاومة وفي معركة مصيرٍ يتحول فيها جدل الوحدة والانقسام إلى

جدل الوجود والعدم.

ص: 236


1- المرجع السابق ص 12
2- نفس المرجع ، ص 14

فيقول الجندي:«ومن ثم واجه العالم الإسلامي معركة طويلة بين المحافظة على وجوده وقيمه، وبين الاستعمار الغاصب، قدم فيها الشهداء والضحايا والدماء، وقاوم بكل ما يملك أهلُه، حتى بالأجساد المتراصّة أحياناً، أمام قواتٍ حديثةٍ الأسلحة، مليئةٍ بالمكر والغدر، ودخل معارك حاسمةً لم ينهزم فيها عن طريق السلاح رغم قلّة العدد والعُدد. ولكن هُزم بالمؤامرة والخداع»(1).

وإذا كان الاستعمار قد انتصر في جولته الأولى، فإنّه قد تعرض للهزيمة الجولات التالية، فقد استطاع العالم الإسلامي أن يواجه التحدي وأن يرُدّ بقوة وصلابة جيشاً من الطامحين الغزاة، وخطا المسلمون خطوات واسعة نحو التحرر، فاندلعت ثورات الهند وأندونيسيا ومصر والجزائر والمغرب وليبيا والسودان وتركستان والقوفاز. ولم يتوقف المسلمون عن مقاومة الاستعمار ، سواءً في نطاق الدعوات الإسلامية، أو الدعوات الوطنية، أو الدعوات القومية، أو في سياق مقاومتهم للتبشير والصهيونية ومذاهب الإلحاد والإباحة وسيراً على نفس الحركة الجدلية، ونفس المنطق الذي كان يحكم العلاقة التي بين المسلمين والاستعمار، وإزاء هذا التحدي والصمود من قبل المسلمين لم يجد الاستعمار أمامه سوى العمل على إثارة الخلافات وإشاعة الفرقة بين المسلمين، فقد حاول الفصل بين العرب والمسلمين وبين الترك ،والعرب وبين المسلمين ،والنصارى وبين المسلمين والهندوس وآثار الخلافات القديمة بين السنة والشيعة والبربر والعرب، وجمّد الاستعمار المجتمعات البدوية، وجمّد القبليات، وحرص على عدم انصهارها في المجتمعات الكبرى، حتى لا تسود الأمة وحدة شاملة»(2).

وإذا كان الجندي على هذا النحو يقوم بتحليل الظاهرة الاستعمارية من وجهة نظر تاريخية تستند إلى حركة ترددية قوامها الصراع بين القوى الإسلامية التي تسعى إلى الوحدة والقوى الغربية التي تسعى إلى الانقسام فإن أبرز مظاهر هذا الصراع يمكن أن نعثر عليها في المباحث التي خصصها الجندي لحركات الوحدة في العالم

ص: 237


1- نفس المرجع ، ص 15
2- نفس المرجع، ص 16.

الإسلامي من قبيل: الوحدة الإسلامية والجامعة الإسلامية، والخلافة الإسلامية، وتلك التي خصصها للحركات الغربية الهدامة مثل البهائية والقاديانية والماسونية. ونحن نختار هذين النموذجين من قوى الصّراع لأنهما يمثلان الوجه الفكري للصراع العسكري بين المعسكرين الإسلامي والغربي الاستعماري.

ينطلق الجندي في طرحه لمفهوم الوحدة الإسلامية - كأداة لمواجهة الغرب الاستعماري - من فكرة الخلافة باعتبارها النواة أو الأساس الذي ينبغي أن تقوم عليه أي حركة إسلامية تهدف إلى التوحد ونبذ الفرقة والانقسام ، ف- «الخلافة في الاصطلاح الفقهي الإسلامي هي الأمانة الكبرى، وإمارة ،المسلمين والمقصود بها أصلاً الولاية العامة على شؤون المسلمين من دينية ودنيوية»(1).

ومن خلال الخلافة العثمانية نبعث فكرة الجامعة الإسلامية في مرحلة حكم السلطان عبد الحميد الثاني (1876 - 1908) وكان مصدرها الأساسي الدعوة إلى

تجمع المسلمين في جبهة واحدة لمواجهة النفوذ الاستعماري الغربي الزاحف. وترجع الفكرة إلى جمال الدين الأفغاني الذي جاء إلى مصر 1871، وهو يحمل لواء حركة «اليقظة الإسلامية».. وقد كان يهدف الأفغاني بالأساس إلى تحرير العالم الإسلامي من الجمود والتخلف والنفوذ الاستعماري والتفكك.

ولم تجد فكرة الأفغاني صدى في مصر أو فارس أو السودان، وإنّما وجدته لدى السلطان عبد الحميد الذي اعتبرها خير سلاح يحارب به النفوذ الاستعماري الغربي، خاصة أنه كان يهدف إلى توحيد المسلمين تحت لواء الخلافة الإسلامية، وإن لم يكونوا أجزاءً من الدولة العثمانية مثلما هو الحال بالنسبة لمسلمي الهند وإيران وأفغانستان والجزائر والملايو وأفريقيا.

وفي سياق التنظير لحركات الوحدة الإسلامية المتأسسة على فكرة الخلافة يرد الجندي على القائلين بسياسية دعوة الأفغاني ولا دينيتها،فيقول:«قال بعض الباحثين

ص: 238


1- نفس المرجع، ص 161.

في دعوة جمال الدين إلى الخلافة الإسلاميّة (Pam Islamism) بأن أساس الفكرة عنده «سياسي لا ديني» وهذا مما يخلط به الكثيرون ممن لا يفهمون أن الإسلام نظام متكامل، ديني وسياسي واجتماعي واقتصادي وقانوني معاً».

ومن نفس المنطلق ينتقد الجندي كتاب علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم» الذي جاء ثمرة للصراع السياسي الذي كان دائراً في مصر في ذلك الوقت (1924) بين حزب الأحرار الدستوريين والملك فؤاد الذي كان يعد نفسه لتولي الخلافة بعد سقوط السلطان عبد الحميد في تركيا فيقول: «وفي الحق أن كتاب علي عبد الرازق لم يكن يهدف إلى إعلان رأي في الإسلام خالص لوجه العلم بقدر ما كان يهدف إلى استغلالٍ فقه الإسلام وتشريعه وتاريخه إلى تأييد رأي باطل عن الخلافة هذا الرأي ليس له أهمية ولا خطر إلا بقدر ما يتعرض لأصل من أصول الإسلام، وهو قول، بالباطل إن الإسلام ديني روحي لا صلة له بالمجتمع ولا بالسياسة منكراً أكبر معلم من معالم الإسلام الذي يختلف به اختلافاً أساسياً عن الأديان الأخرى»(1).

ولما كانت فكرة الوحدة الإسلامية تمثل واحدة من القناعات الأساسية التي يؤمن بها الجندي ويفسّر على أساسها الصراع التاريخي بين المسلمين والغرب الاستعماري، فإنه يستخدم هذا المفهوم لمناهضة الحركات الهدّامة التي جاءت لفصم هذه الوحدة وإشاعة عوامل الفرقة والانقسام في العالم الإسلامي. ومن هذا المنطلق يكشف عن المؤسسات الماسونية وإرساليات التبشير، ويفضح الدعوات البهائية ودعوات الإقليمية الضيقة والحركات ذات الطابع الإسلامي مظهراً، والتي تحمل مفهوماً منحرفاً أو مضللاً كالقاديانية. ومن المفارقات التي تستحق التأمل هو أن الجندي رغم إيمانه بالوحدة» ومناهضتة «للانقسام» إلا أنه يدرس ظاهرة الاستعمار الرامية إلى الفرقة والانقسام، وهو واقع تحت تأثير هذه الأخيرة بحيث لم يستطع أن يستوعب الآراء المغايرة التي صدرت عن مفكرين عرب ومسلمين من أمثال علي عبد الرازق وطه حسين والعقاد وسلامة موسى وانطون سعادة وأحمد

ص: 239


1- نفس المرجع ، ص 198

لطفي السيد، بل إنه اعتبر بعضهم دعاة وقادة للحركات الهدامة، فما زال الجندي يدور في فلك الفكر الإسلامي الخالص دون محاولة الاستفادة من المنجزات الثقافية والفكرية التي قدمها الغرب وتأثر بها المفكرون العلمانيون. فهو يفهم وحدة الإسلام على أنها مكتفية بذاتها في غير حاجة إلى التداخل والتفاعل مع المصادر الأخرى للمعرفة.

فيقول : «ومن هنا كانت دعوة التجديد أو العلمانية أو تحرير الفكر إنّما تحاول أن ترمي هذا المفهوم بأنه تعصب، وكان مفهوم تسامحها وتحررها إنما يهدف إلى تقبل الاستعمار الغربي تقبُّل الرضا والإعجاب والتقدير والموالاة، وموالاة النفوذ الأجنبي، ولم يكن ذلك ممكناً إلا بتغيير أصل جذري أصيل في مفهوم الإسلام وهو إلغاء باب الجهاد. ولذلك فقد كانت الدعوة إلى التماس الإسلام الأصيل المستمد من القرآن الكريم هي عامل المقاومة الأكبر للنفوذ والتغرير»(1).

إنه يبحث عن إسلام خالص يستمد معارفه من المنابع الأصلية الصافية، وهذا مطلب مشروع، إلا أنه - على هذا النحو - من شأنه أن يهدر العوامل التاريخية التي تعمل على تخصيب الأصول الأولى، وتدفع حركة الجدل الفكري إلى الأمام. كما أن سيكولوجية المقاومة والدفاع عن الإسلام التي يتبناها المفكرون الإسلاميون تجعلهم يفسرون موقف الآخر المخالف على أنه موقف عدائي ينطوي على ولاءٍ للمستعمر حتى لو كان هذا الآخر ينتمي إلى الذات باعتباره ابناً لثقافاتنا العربية والإسلامية مثل علي عبد الرازق والعقاد وطه حسين. ويكفي أن نعلم أن الجندي انتهى من كتابة هذا المؤلف عام 1940 ، أي دون أن يعلم أن الغيب كان يخبئ للعالم شخصية فذة مثل إدوارد سعيد تعلَّم في الغرب وعاش في أكاديمياتهم العلمية واستوعب دروسهم ومناهجهم النقديّة، ثم استطاع أن يوظف كل ذلك من أجل تأسيس علم جديد لمناهضة الاستشراق ، أحد أهم الأدوات الاستعمارية، هو الحقل المعرفي المعروف ب_«الدراسات ما بعد الكولونيالية». وهو مجال معرفي أصبح له أدواته ومصطلحاته

ص: 240


1- نفس المرجع ، ص 440

الفنية الدقيقة التي أتاحت لأبناء المستعمرات المعاصرين أن يعيدوا كتابة تاريخهم بعد أن فنّدوا مزاعم الغرب الاستعماري على أسس علمية ومنهجية رصينة، أحدثت دوياً في الأكاديميات الغربية المتخصصة وزعزعت الكثير من الثوابت التي تغلغلت كذباً، في نفس وعقل المواطن الغربي.

الشيخ الغزالي والتحليل النفسي والأخلاقي للاستعمار

يتناول الشيخ الغزالي ظاهرة الاستعمار من خلال كتابه «الاستعمار أحقاد وأطماع» ومن العنوان يتضح الاتجاه الذي ينوي أن يمضي فيه الغزالي. فالأحقاد والأطماع مسائل تنتمي إلى المجال النفسي الداخلي أكثر من المجال المادي الخارجي. ولا يعني ذلك الفصل بين العالم الداخلي للمستعمر وبين السلوك الخارجي في العالم المحيط، لكنه - بالأحرى - يعني أن الدافع النفسي الداخلي هو المحرك للسلوك الخارجي، ومن خلاله يمكن فهم وتفسير ما يصدر عن المستعمر من أفعال إزاء العالم وإزاء الآخر القاطن في ذلك العالم ، والذي سيُعد موضوعاً للذات المستعمرة، وأداة لتحقيق أهدافها وأحلامها غير المشروعة.

والحقيقة أن الغزالي لا يدرس ظاهرة الاستعمار باعتباره باحثاً متجرداً، لكنه يتناوله من وجهة نظر إسلامية، ومن موقعه كمفكر مسلم يقف من الآخر موقف المدافع عن الإسلام، فتراه يصرّح قائلاً: «ونحن - المحامين عن الإسلام - كنا نود لو صحت هذه الأمنية، وظفرت أرجاء العالم بحظوظها من الحريات الكاملة وفي مقدمتها الحرية الدينية»(1)

ولأن الغزالي يعي موقفه كباحث إسلامي يتناول ظاهرة معادية للإسلام، فهو يحرص على تقديم المسوغ الشرعي لحالة الغضب التي استشعرها القراء في الطبعة الأولى للكتاب حتى أن بعضهم اتهمه بالعنف، وهو بعضهم اتهمه بالعنف، وهو عندما يقدم هذا المسوّغ إنّما يقدمه في شيء من التحليل النفسي للذات ما يعني أن البعد النفسي هو المهيمن

ص: 241


1- الشيخ محمد الغزالي، الاستعمار أحقاد وأطماع (القاهرة: نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الرابعة سنة 2005م ) ، ص3.

على الدراسة، سواء على مستوى الذات أو على مستوى الآخر، فيقول:«هل شدة السّخط على الباطل، ورفع العقيرة في استنكاره يعدان عنفاً؟ ما أظن ذلك حقاً! إن المستقيم من طبائع الأشياء أن تغضب إذا وجدت الناهبين والمُغيرين يمضون في طريق الحياة، وكأنهم لم يصنعوا شيئاً يؤاخذون به»(1).

والطبيعة النفسيّة للإنسان المسلم لا تنفصل عن طبيعة الإسلام، فيقول:«لا أدري أهي طبيعتي أم طبيعة الإسلام في نفسي، تلك التي جعلتني أهش مثلاً لتصريحات البطريرك الماروني «بطرس المعوشي» في مأدبة الإفطار التي أقامها لعلماء المسلمين بلبنان في رمضان 1276ه_(2).

وبالرغم من أن الغزالي يحرص على الربط بين الطبيعة النفسية والطبيعة الإسلامية، وينظر إلى الاستعمار باعتباره غارات صليبية جديدة لم تغيّر هدفها القديم وإن تغيرت أحياناً الوسائل، إلا أنه لا يرى في الاستعمار نزوعاً دينياً حقيقياً وإنما أطماع سياسية متخفية في رداء الدين ومن هذا المنطلق ينأى بالنصرانية الحقيقية من أن تكون سبباً في هذا الظلم والجور الذي يمارسه المستعمرون تجاه أبناء البلاد المستعمَرة، فيقول:«وحاشا للنصرانية التي جاء بها عيسى ابن مريم أن تكون سرّ هذا الحيف إن الصليبية المعتدية ليست إلا وثنية أخذت طبيعتها في غلاف سماوي، غير أن هذا الإخفاء ما لبث أن تلاشى ودلّ السلوك الشائن على أن المستعمرين ليس لهم دين إلا دين السطو والفتنة» (3).

وبنفس النهج يقدم الغزالي تحليلاً نفسياً وأخلاقياً لطبائع الأمم. فالناس عنده معادن تكشف المعاملات عن سرائرهم وهم أحاد، وتكشف ، عن طبائعهم وهم جماعات ومعادن الأمم تتداخل في تكوينها عناصر كثيرة منها سلوك الأفراد وخصائص الجنس ومستويات الثقافة وسياسات الأمة الرامية إلى المنافع العامة. غير

ص: 242


1- نفس المرجع، ص 5.
2- نفس المرجع، ص 6.
3- نفس المرجع ، ص 10

أن أهم ما يميز هذا التحليل هو ربطهِ لطبيعةِ الأمة بطبيعة الدين من خلال الرسالات السماوية التي يتلقاها البشر. وفي هذا الصدد يقول الغزالي: «إذا التقت طبيعة أمة ما مع طبيعة الرسالة التي تحملها كان هذا الالتقاء قوة كبيرة للأمة ورسالتها معاً. وتعزز ثمرات الخير الناشئة عنه إذا كانت هذه الرسالة قائمة على الإيمان والحق، محكمة السير فيما تقدم للعالم من بر ورحمة»(1).

غير أن الغزالي لا يقف عند هذه الأمور الطوباوية الحالمة، لكنه يتساءل:«.. ولكن هل هذا الالتقاء ميسور دائماً؟«.. يجيب الغزالي بالنفي، فالممارسة العملية، وما يشهد به التاريخ يثبت دائماً وجود حالات كثيرة تخرج عن هذه النظرة المثالية. وفي هذا السياق يَعقد الغزالي مقابلة بين أثر الرسالة الإسلامية في نفوس معتنقيها من العرب، وأثر الرسالة المسيحية في نفوس معتنقيها من الأوربيين، وهي مقابلة ينتصر فيها لطباع المسلمين على طباع الغربيين من أجل إبراز المفارقة التي أفرزت الحركة الاستعمارية، فيقول عن العرب المسلمين: «لقد اعتنق العرب الإسلام، فاستطاع هذا الدين في فجر دعوته أن يذيب العصبيات المفرقة التي أكلت هذا الجنس، وبددت قواه، واستطاع ان يحوّل تهوّره إلى شجاعة حكيمة، واعتداده بنفسه إلى اعتدادٍ بالحق ورسالته فحسب»(2).

وفي حديثه عن الرسالة المسيحية يميّز الغزالي بين النصرانية الأولى التي لها كتاب منزل ومنهج سماوي مقدس وتعاليم سمحة أتى بها السيد المسيح، وبين الصلیبیة التي تهيمن الآن على الأوربيين والأمريكيين ، فلهذه الصليبية الغالبة خواص لابد من كشفها منها: «أنها انسجمت مع طبائع الغربيين الذين اعتنقوها، وأرخت العنان لما يكمن فيها من قسوة ومنها أنها نقضت الإحساس بمعنى الجريمة وعقباها السيئة. ذلك أن نظرية الفداء وما تضمنته من أن عيسى قُتل كفّارة لخطايا بني آدم، جعلت الألوف المؤلفة من مصدّقيها يستهينون بالآثام المحظورة، ويُقدمون عليها وهم آملون أن تحمل عنهم . وهذه العقيدة كانت سبب مصائب كبيرة حلت بالأمم المهزومة(3).

ص: 243


1- نفس المرجع، ص 14
2- نفس الموضع
3- نفس المرجع، ص 18

ويدعم الغزالي تحليله للظاهرة الاستعمارية المتأسسة على فكرة الفداء المستمدة من المسيحية بإضفاء بعداً سيكولوجياً على الصليبية المتوحشة التي اتبعت سياسة البطش الشنيع ضد غيرها من الأمم، وخاصة الأقطار الإسلامية، فيقول: «ثم إن الصليبية كانت تعاني مما يسميه علماء النفس «عقدة الضعة»، فهي تعرف مجافاتها للعقل، وبُعدها الساحق عن منطقه السليم. ومن ثم فهي تستعيض عن الهدوء في عرض نفسها، والجدال بالتي هي أحسن، تستعيض عن ذلك بغضب ظاهر على المذاهب والأديان الأخرى. كأن عاطفة الحنق على المخالفين سوف تضفي عليها حقاً فاتها من ضعف الدليل وانهيار الحجة»(1).

ومن الملاحظ أنه بالرغم من وجود أسباب موضوعية للحركات الاستعمارية، إلا أن الغزالي يميل في هذه الدراسة إلى تحليل الذات الأوربية المستعمِرة في محاولةٍ للكشف عن الأبعاد الذهنية والنفسية التي تدفع الأوربي لغزو البلدان الأخرى، واستخدام أقسى وأعنف الوسائل للتنكيل بأبناء المستعمرات. وهو هنا عندما يقوم بهذا التحليل، إنما يؤكد على أن ما يصدر عن الأوروبيين المستعمرين إنما ينجم عن فطرة وطبيعةٍ وحشيةٍ متأصلةٍ في نفوسهم، ومن ثم فإن ما يقومون به من سلوكيات تجافي النظرة الإنسانية السليمة تجنح نحو الظلم والجور والهمجية، إنما هو ليس بالأمر الجديد المستحدث، لكنه طبيعة أصيلة موجودة من القدم لدى الآباء والأجداد، ويشهد التاريخ الدموي للأوروبيين على ذلك فيقول:«هذه الفظائع المروّعة ليست في الصليبية الغربية سجية محدثة إن القوم يسيرون على النهج الذي سلكه آباؤهم قبل، فالخلف والسلف على اختلاف الأمكنة والأزمنة، تُحرّكهم طبائع واحدة وتحدوهم غاية واحدة أنهم مع خصومهم لا يعرفون للحرب أدباً، ولا للرحمة موقعاً، إلا إذا تكافأت القوى، وخافوا الثأر العاجل، فهم عندئذ يعاملون العدو، اتقاء للعقوبة لا اتقاء لله، أما إذا امنوا الثأر العاجل، فلن يُتوقع منهم إلا بطش الجبابرة»(2).

ص: 244


1- نفس المرجع، ص 19.
2- نفس المرجع ، ص 26

ويُلاحظ أخيراً أن الغزالي مثل الجندي، ومثل الكثيرين من المفكرين الإسلاميين له موقف معادي للفكر العلماني باعتباره نتاجاً للغزو الفكري الاستعماري، وباعتبار المفكرين العلمانيين عملاء وأدوات يحركها الغرب الاستعماري لتحقيق مآربه، حتى أنه يصف عملية التلاقح الفكري بين العرب والأوربيين ب_«البغالة»، فيقول:«والبغال في ميدان القلم والتوجيه العام كثيرون وآثارهم في إفساد الذوق والوعي شائعة منكرة !! هؤلاء نزت على أخلاقهم ومسالكهم - بل على نفوسهم وعقولهم أولاً - أفكار دخيلة وآراء دنيئة تتصل بالحياة والإنسان، والوجود الأعلى، فكان هذا التلقيح الفكري مغيّراً طبائعهم كما تتغير الذراري في الواقع الحيواني المختلط»(1).

ولا يتوقف الغزالي عند هذا الوصف القاسي والمهين لقضية التعاطي الفكري مع الآخر، بل إنه يتناول بعض النماذج من مفكري الأمة الذي يرى أنهم سقطوا في مستنقع الغرب الاستعماري وأصبحوا خدماً يُنفّذون أوامره ويحققون أمانيه وتطلعاته التي عجز عن تحقيقها عسكرياً بالقوة المادية، فجاء ليحققها عن طريق القوة الفكرية الناعمة، وبأيد أبنائه المهجنين المنتمين شكلاً واسماً، للإسلام، وللأمة الإسلامية.

فيقول عن زكي مبارك:«ولا ندري هل رجع الدكتور زكي إلى الله بعد هذا الكفران المبين، أم مات على زيغه؟ لقد كتب بعد ذلك كتابات حسنة في التصوف وإن كان الرجل ظل يدمن الخمر حتى صرعه السكر ، وقضى على حياته وهو نشوان». وفي نفس الموضع قال عن طه حسین: «ولنتجاوز الدكتور زكي مبارك إلى قنطرة أخرى من قناطر الغزو الثقافي الصليبي، أعني الدكتور طه حسين، فإنّ هذا الرجل كان بوقاً عالياً لآراء المستشرقين ودسائسهم العلمية، وضغائنهم الدينية...»(2).

ص: 245


1- نفس المرجع، ص 209
2- نفس المرجع ، ص 216.

ثانياً: ظاهرة الاستعمار في الفكر العلماني

تختلف الروح التي يتعامل بها العلمانيون مع الظاهرة الاستعمارية عن تلك التي يتعامل بها الإسلاميون على نحو ما رأينا في دراستي أنور الجندي ومحمد الغزالي. فالمفكر العلماني ليس في قطيعة مع الآخر، حتى الغربي الاستعماري، فليس لديه مشكلة في التعاطي معه والاستفادة من منجزاته، كما أنه لا ينظر لتراث الأنا باعتباره ينبغي حمايته والوقوف للذود عنه، بل على العكس قد يقف منه موقف الناقد المدقق الذي يعمل على الكشف عن السلبيات التي تَعْتَوِرُ هذا التراث، والتي تكون معوقة للنهضة والسير باتجاه التقدم والإسهام الحضاري. وبهذا المعنى لا يكون الدين عقيدة فحسب بحيث لا يتم التعامل معه إلا من باب التسليم والإيمان القلبي، وإنما هو ظاهرة إنسانية وتاريخية ينبغي أن تخضع للبحث والدرس. وعلى ذلك، فلا يستغرب أن نجد كتاباً يحمل عنوان «الظاهرة القرآنية» لمالك بن نبي. ومالك بن نبي تحديداً هو الذي قارب الظاهرة الاستعمارية من جهة المستعمر (بفتح الميم)، واستطاع - في نوع من النقد الذاتي - أن يكشف عن الأسباب الداخلية للاستعمار فيما أسماه ب_ «القابلية للاستعمار» فهو القائل:«لكيلا نكون مستعمَرين يجب أن نتخلص من القابلية للاستعمار». وبالرغم من أن بن نبي يُلقّب بالمفكر الإسلامي، ويحسبه البعض على التيار الإسلامي، إلّا أن المعيار لدينا هو المنهج والطريقة، والروح التي يتعامل بها مع موضوعات بحثه. فهو لا يجد غضاضة في الاعتماد على الآخر الغربي فكرياً فيقول في مقدمة كتابه «شروط النهضة»: ولعلّي لم أكن فيما عرضت لهذه النقطة في الطبعة السابقة قد أوفيتها حقها من التفصيل وذلك لاقتناعي بالتفسير المختصر للدور الذي تقوم به الفكرة الدينية في التاريخ، ولما اعتمدت عليه من آراء لكسر لنج H.Kesserling في الموضوع، أعني تلك الآراء التي استخلصها من دور الفكرة المسيحية في تركيب الحضارة الغربية» (1).

فكيف استطاع بن نبي أن يدرس الظاهرة الاستعمارية في ضوء السياقات الاجتماعية

ص: 246


1- مالك بن نبي شروط النهضة، ت: عبد الصبور شاهين ( دمشق: دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر سنة 1986م، ص 12

والحضارية للشعوب المستعمرة ؟ هذا ما سنتعرف عليه في السطور التالية:

1- مالك بن نبي والتحليل الحضاري للشعوب المستعمرة

في كتاب شروط «النهضة» يخصص بن نبي فصلاً عن الاستعمار بعنوان «الاستعمار والشعوب المستعمرة»، وهذا الفصل موضوع دراستنا غير أننا قبل الدخول في تفاصيل هذا الفصل نود أن نشير إلى حرص بن نبي على تحديد المنهج الذي اتبعه في كتابه، وهي شيمة الكتاب العلمانيين الذين يصدِّرون كتاباتهم من منطلقات علمية ومنهجية. وهو هنا - خلافاً للغزالي - يرضخ لمطالب قراء الطبعة الأولى، ويعمل على تعديل منهجيته بحيث تلبّي لهم حاجتهم المعرفية التي لم تستوف في الطبعة السابقة، فيقول: «... فقد شعرت أن القارئ ينتظر في هذا الموضوع أكثر من شهادة التاريخ.. إنه ينتظر وصفاً تحليلياً يجد فيه المعلومات التي تقدمها الدراسات الموضوعية لهذه الظاهرة. أعني الدراسات التي تتناول الأشياء في كنهها لا في مظهرها. ولقد حاولت تلبية هذه الرغبة المحقة فخصصت في هذه الطبعة فصل«أثر الفكرة الدينية في مركب الحضارة» سالكاً هذه المرة مسلك التحليل النفساني الذي يبين بوضوح جانب من «الظاهرة» في هذا المركب، إذ يكشف عن التأثير المباشر للفكرة الدينية في خصائص الفرد النفسية»(1).

وإذا عدنا إلى الفصل موضوع دراستنا فسنجد بن نبي يحدثنا عن «المعامل الاستعماري» وتأثيره على نهضة البلاد «العربية والإسلامية». وبن نبي يميز بين العرب والمسلمين لأنه لا يحصر نفسه في دائرة الدفاع عن الدين الإسلامي لكنه يسعى إلى ما هو أعم وأشمل ، إنه يهدف إلى نهضة الإنسان العربي عموماً، المسلم وغير المسلم. كما يتوجه بحديثه إلى المواطن الجزائري، لكنه - في الوقت نفسه - يعمم نظرته بحيث تشمل العربي والمسلم الجزائري، وغير الجزائري.

وهنا يقدم ابن نبي تحليلاً علمياً لهذا المعامل الاستعماري. فللفرد قيمتان: الأولى

ص: 247


1- نفس المرجع ، ص 13

خام طبيعية، والأخرى صناعية، اجتماعية، الأولى موجودة في كل فرد بحكم تكوينه البيولوجي وتتمثل في استعداده الفطري لاستعمال عقله وترابه ووقته، والأخرى التي يكتسبها من وسطه الاجتماعي تتمثل في الوسائل التي يجدها الفرد في إطاره الاجتماعي لترقية شخصيته وتنمية مواهبها.

وهذه الأخيرة هي الوظيفة المنوطة بالهيئة الاجتماعية التي تصنع للإنسان ما يمده في رفع مستواه من مدرسة أو مستشفى أو إدارة تسهر على مصلحته.

ومن هذا التحليل ينطلق بن نبي لتحليل الظاهرة الاستعمارية. فالمجتمع الذي يتقاعس عن تنمية أفراده جسدياً وعقلياً وروحياً، فإنه يتسبب في جعل هؤلاء الأفراد فريسة سهلة للاستعمار يسيره حيث يشاء وكيفما يشاء، وفي هذا الصدد يقول:« وبديهي أنه في حالته هذه لا سبيل له لأن يقوم بأعماله إلا بالقدر الذي يقدّره الاستعمار له فهو يعيش كأن يداً خفية وتارة مرئية تشتت معالم طريقه، وتقصي باستمرار أمامه العلامة التي تحدد هدفه، فلا يدركه أبداً»(1).

ومن المفارقات التي تستحق الذكر، والتي تكشف عن الطريقة المرنة والحركة الحرة التي يمارسها بن نبي في التفكير أنه يرى في الاستعمار - الذي هو سبب نكبة العرب والمسلمين - سبباً ليقظتهم فيقول:«ولكن إذا كان هذا هو الواقع الاستعماري فيجب أن نعترف بأنه أيقظ الشعب الذي استسلم لنوم عميق، بعد الغداء الدسم الذي أكله عندما كان يرفل في نعم حضارته والتاريخ قد عودنا أن كل شعب يستسلم للنوم، فإن اللّه يبعث عليه سوطاً يوقظه»(2).

وهى رؤية تختلف عن رؤية أنور الجندي والشيخ الغزالي الذين يعزيان الصحوة الإسلاميّة إلى عوامل ذاتية مستمدة من طبيعة الدين الإسلامي ذاته. وإذا كان بن نبي ينطلق من النقد الذاتي ويعمل على تنمية الأفراد ونهضة الأمة، فإنه إنما يجعل من هذه الاستراتيجية مقدمة أو مدخلاً، أو نقطة انطلاق نحو حضارة إنسانية تضم البشر

ص: 248


1- نفس المرجع، ص 147.
2- نفس المرجع، ص 150

جميعاً. وفي تأسيسه لهذه الحضارة يميز بين العبقرية الرومانية التي تهيمن عليها الروح القيصرية وبين الإسلام الذي تسوده روح الإنسانية وهو يضع الإنسانية في خيار مصيري بين الطريقين، فإما أن يكون مستقبلها نوماً تغط فيه إلى الأبد، ولا تستطيع النهوض من مشرق فجر جديد، فتعجز عن تجديد حضارة لا تحمل طابعاً خاصاً من شعب متكبر، يسوم الإنسانية سوء العذاب من غير ضمير يردع، ولا قانون يمنع وإما أن تأتي بحضارة تكون للبشر جميعاً، تستخدم مواهبهم المتنوعة، وتطور قواهم المتعددة»(1).

ويُلاحظ من الصياغة أن بن نبي يرجح كفة الإسلام، وهو بهذا المعنى لا يناقض توجهه نحو الإنسانية، وإنما يرغب في الوصول إلى هذه الإنسانية من خلال الإسلام الذي هو دين وسياسة وأخلاق وحضارة. ونظراً لوعي بن نبي بأن حل المعضلة واختيار الطريق إنما هو رهن بإرادة القادة وأولي الأمر الذي يطلق عليهم «الكبار» وهي مسألة محل تساؤل «فهل هم يريدون حلّها لصالح الإنسانية؟».

فإنه يبدأ من الفرد الذي هو «غير كبير» ويطالبه بتنمية ذاته وقدراته الخاصة التي هي بمثابة خط الدفاع الأول والأخير ضد التوحش الاستعماري البغيض والخبيث، الذي يتسلل بنعومة إلى خلايا العرب والمسلمين بحيث يؤثر في نفوسهم وسلوكهم بأيديهم هم أنفسهم، فيقول:«وإن الواجب ليقضي على كل «غير كبير» أن يشعر بما تنطوي عليه شخصيته من قيمة جوهرية، هي تراثه الخاص الذي لا سلطان لأحد عليه، فكما أنه ليس للاستعمار أن يتصرف في الزمان والمكان، فكذلك لا يستطيع أن يتحكم في عبقرية الإنسان»(2).

والحقيقة إذا عدنا إلى دراسة أنور الجندي، ودعوته إلى إحياء عقيدة الجهاد الإسلامية التي عمل الاستعمار على طمسها وإقصائها من الثقافة الإسلامية حتى يتمكن من السيطرة العسكرية على البلاد الإسلامية المستعمرة، فإن بن نبي يمكن

ص: 249


1- نفس الموضع
2- نفس الموضع.

قراءته على النحو الذي يجعل من دراسته للظاهرة الاستعمارية دعوة لإحياء عقيدة الجهاد بمعناها الأكبر، أي الجهاد النفسي وليس العسكري الذي دعى إليه الجندي.

والحقيقة أن جهاد النفس الآن ربما كان هو الأنسب. أولاً، لأن الجهاد المسلح لا يملكه سوى أولي الأمر، أي القائمين على الحكم، والذين يملكون سلطة اتخاذ القرار، وهم من وصفهم بن نبي ب_«الكبار». ثانياً، لأن الاستعمار الآن بات فكرياً وروحياً واجتماعياً وحضارياً أكثر من كونه عسكرياً. وهو ما يتلاءم مع النظرة الحضارية التي ينطلق منها بن نبي، وفي هذا الصدد نجد تركيزاً على الأبعاد النفسية للفرد التي يعوّل عليها بن نبي كثيراً في إحداث التغيير، خاصة أن الاستعمار نفسه لم ينجح في السيطرة علينا إلا عندما درس نفسيتنا واستطاع أن يقف على حقيقة أبعادنا الداخلية، فيقول:«إن القضية عندنا منوطة أولاً بتخلصنا مما يستغله الاستعمار في أنفسنا من استعداد لخدمته من حيث نشعر أو لا نشعر ، ومادام له سلطة خفية على توجيه الطاقة الاجتماعية عندنا، وتبديدها وتشتيتها على أيدينا، فلا رجاء في استقلال ولا أمل في حرية مهما كانت الأوضاع السياسية، وقد قال أحد المصلحين: أخرجوا المستعمر من أنفسكم يخرج من أرضكم»(1).

ومن المفارقات الصارخة أن المستعمر قد خرج من أرضنا بالفعل لكنه مازال مستوطناً في نفوسنا. فمازلنا نحيا في اغتراب وفي انقسام في المأكل وفي الملبس وفي طرائق العيش والتفكير إنها المدنية الزائفة التي زرعها الاستعمار ومازال يعمل بجد على ري الأرض التي اغتصبها ذات يوم، ثم تركها لأهلها يجنون حصادها المر. ومن أهم النتائج التي حققها الاستعمار لصالحه في الشعوب المستعمرة هو التأثير الذي مارسه على مفكري الأمة وكتابها بحيث صاروا أبواقاً له. وهنا يمكننا أن نلحظ كيف عالج بن نبي هذه الظاهرة التي سبق وأن تناولها الغزالي في صورة مجازية قاسية ومهينة أطلق عليها «البغالة»، فيقول بن نبي:«إن الاستعمار لا يتصرف في طاقاتنا الاجتماعية إلا لأنه درس أوضاعنا النفسية دراسةً عميقةً، وأدرك منها موطن الضعف،

ص: 250


1- نفس المرجع ص ص 154 - 155

فسخرنا لما يريد، كصواريخ موجهة، يصيب بها من يشاء، فنحن لا نتصور إلى أي حد يحتاج لكي يجعل منا أبواقاً يتحدث فيها، وأقلاماً يكتب بها، إنه يسخِّرنا وأقلامنا، لأغراضه، يسخِّرنا له، بعلمه وجهلنا»(1).

لقد غلبت على الغزالي العاطفة الدينية وغلبت على بن نبي نزعته العلمية، إلا أنهما اتفقا على رصد الظاهرة واستنكارها غير أن بن نبي - خلافاً للغزالي وللإسلاميين عموماً - لا ينظر لهذا الفصيل من المفكرين نظرة إدانة أخلاقية بقدر ما يعتبرهم واقعين تحت مؤثر خفي يقوم بفعله فيهم من حيث لا يشعرون، فيقول:«إننا لم ندرس بعد الاستعمار دراسة علمية، كما درّسنا هو، حتى أصبح يتصرف في بعض مواقفنا الوطنية، وحتى الدينية من حيث نشعر أو لا نشعر»(2).

2- إدوارد سعيد وتحليل الخطاب الاستعماري

بالرغم من أن دراستنا ليست تاريخية، ولا ترصد تطوراً زمنياً معيناً يمكن أن يُستخلص منه نتيجة ما، إلا أننا هنا في تناولنا لإسهام إدوارد سعيد في الكتابة حول الاستعمار، إنما نعتبر أنفسنا قد وصلنا إلى ذروة التطور المنهجي في هذا النوع من الكتابات. ذلك أن سعید قد انطلق من خلفيات ثقافية ومنهجية مسبقة ارتبطت بعمله الأكاديمي وتخصصه الدقيق في الأدب المقارن، واطلاعه على مدارس النقد المختلفة وإسهامه المتميز في هذا المجال. لذلك أتى كتابه «الاستشراق : المفاهيم الغريبة للشرق» كواحد من أهم الدراسات ذات الريادة في حقل «الدراسات ما بعد الاستعمارية».

لهذه الأسباب سيكون تركيزنا في هذا المبحث على قضايا وإشكاليات المنهج الذي استخدمه سعيد في هذا الكتاب لنرى إلى أي مدى يمكن الاستفادة من المنجزات المنهجية والنظرية الغربية في دراسة الغرب نفسه، وكيف أن الإنسان العربي والمسلم يمكنه أن يجمع بين العاطفة الدينية من ناحية وبين العقلية العلمية المنهجية من ناحية أخرى، دون أن يكون ذلك - بالضرورة - تخلي عن الأصول وعن

ص: 251


1- نفس المرجع، ص 155
2- نفس الموضع .

الهوية والذوبان في الآخر، أو العمل كسخره تحت إمرته بحيث نحقق أغراضه ونردد أقواله ومفاهيمه وثقافته دون وعي كالببغاء.

وفي الحقيقة أن إدوارد سعيد قد وضع مقدمة طافية يمكن أن تغطي تماماً هذا المسعى المنهجي من جانبنا، ومن جانب أي باحث يود أن يقف على حقيقة المعضلة المنهجية التي غابت عن المفكرين الإسلاميين طويلاً تحت تأثير العاطفة الدينية المشبوبة والغيرة الشديدة على الدين، وهي مسألة مشروعة لا يجوز المصادرة عليها. لأن الدين بالنسبة للعربي عموماً وللمسلم على وجه الخصوص هو الذي يحفظ الهوية والوجود ويحدد المصير.

وإذا أردنا أن نمضي مع سعيد في منهجه لدراسة الاستشراق، الذي هو واحد من أهم الأدوات الاستعمارية لفرض هيمنة الغرب على الشرق، فسنلاحظ أن سعيد يستهل مقدمته بمحاولة رصد وتحديد الصورة الذهنية للشرق في الوعي الأوروبي.والأميركي. وهي خطوة منهجية بامتياز لأنها ستكون نقطة الانطلاق للتحديد الدقيق لما يُعرف ب_«الشرق». والملاحظة النيرة التي يلتقطها سعيد هي أن مفهوم«الشرق» أو صورته تختلف لدى الأوربيين الذين يمثلون الاستعمار القديم) عن صورته لدى الأميركيين (الذين يمثلون الاستعمار الحديث). ولأن الشرق بالنسبة للأوروبيين جزء لا يتجزأ من الحضارة المادية والثقافة الأوربية، فإنه يرتبط بحركة الاستشراق الذي يعبّر عن هذا الجانب ويمثله ثقافياً وفكرياً باعتباره أسلوباً للخطاب، وبهذا المعنى سيكون عمل سعيد هو تحليل هذا الخطاب.

وبالرغم من أن للاستشراق معاني عدة، فإن سعيد يتعامل مع الاستشراق بمعناه الأعم والأشمل فالاستشراق موضوع دراسة سعيد هو أسلوب تفكير يقوم على التمييز الوجودي والمعرفي بين ما يسمّى «الشرق»، وبين ما يسمّى (في معظم الأحيان)«الغرب»(1).

ص: 252


1- إدوارد سعيد، الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق، ت: د. محمد عناني (القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع، سنة 2006م ) ، ص 45

ويعني ذلك أن كل من يجعل نقطة انطلاقة هذا التمييز بين الشرق والغرب يدخل ضمن الاستشراق سواء أكان من الشعراء أو الروائيين أو الفلاسفة، أو أصحاب نظريات سياسية أو اقتصادية. وعلى ذلك يمكن لهذا اللون من الاستشراق أن يضم أيسخولوس، وفكتور هوجو ودانتي وكارل ماركس.

وبتأثير من فكرة ميشيل فوكوه عن «الخطاب» التي عرضها في كتابيه «علم آثار المعرفة» و «التأديب والعقاب» يؤكد سعيد على ضرورة دراسة الغرب باعتباره أحد أشكال «الخطاب»، فيقول: «... إننا مالم نعرض الاستشراق باعتباره لوناً من ألوان «الخطاب» فلن نتمكن مطلقاً من تفهّم المبحث البالغ الانتظام الذي مكّن الثقافة الأوربية من تدبير أمور الشرق - بل وابتداعه - في مجالات السياسة وعلم الاجتماع وفي المجالات العسكرية والأيديولوجية والعلمية والخيالية، في الفترة التالية لعصر التنوير»(1).

ومن هذا المنطلق يرى سعيد أن الاستشراق لا يمكن تحديده بعامل واحد، ولكن بشبكة كاملة ومعقدة من المصالح المتداخلة، والتي تشارك في أي مناسبة تتعلق بذلك الكيان الغريب الذي يسمّى «الشرق» . فكتاب الاستشراق - على نحو ما يصرح سعيد - هو محاولة للكشف عن الكيفية التي زادت بها الثقافة الأوربية من قوتها ودعمت هويتها من خلال وضعها لذاتها في مقابل الشرق باعتبارها ذاتاً بديلة أو حتى دفينة. وفي هذا السياق يقول :«ولكن ظاهرة الاستشراق التي أدرسها هنا ليس موضوعها مدى اتساق الاستشراق في تصوير الشرق الحقيقي»، ولكن موضوعي الرئيسي هو الاتساق الداخلي للاستشراق والأفكار التي أتى بها عن الشرق (كالقول بأن الشرق حياة عملية) بغض النظر عن أي صدق أو كذب في تصوير الشرق الحقيقي»(2).

ولا يقف سعيد عند المعنى الشامل لمفهوم «الشرق»، وإنما يرمي إلى دراسة القوة المحركة للاستشراق، فالخيال وحده ليس هو الذي خلق صورة الشرق، وجعله

ص: 253


1- نفس المرجع، ص 46.
2- نفس المرجع، ص ص 48 - 49.

يتخذ الصورة التي رسمها المستشرقون ، ولكن العلاقة التي بين الغرب والشرق، والتي هي علاقة قوة وسيطرة، ودرجات متفاوتة من الهيمنة المركبة. فكما أن الاستشراق ليس خيالاً، فهو أيضاً ليس مجرد مجموعة من الأكاذيب أو الأساطير التي يمكن دحضها فتذهب أدراج الرياح، بل هو خطاب يتّسم بقوة متماسكة متلاحمة الوشائج والروابط بينه وبين المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تمنحه القوة والقدرة الفائقة على الاستمرار،«إنه كيان له وجوده النظري والعملي، وقد أنشأه أنشأه واستثمرت فيه استثمارات مادية كبيرة على مر أجيال عديدة. وقد أدى استمرار الاستثمار إلى أن أصبح الاستشراق، باعتباره مذهباً معرفياً عن الشرق، شبكة مقبولة تسمح منافذها بتسريب صورة الشرق إلى وعي الغربيين»(1).

ومن الملاحظ أن النتيجة الخطيرة التي توصل إليها سعيد في هذا السياق، إنما لا تقتصر على وعي المفكرين والباحثين الغربيين ولكن تمتد إلى الثقافة العامة، بحيث یصبح ما يقول به الاستشراق بمثابة الحقائق والمسلمات العلمية التي يتم قبولها والبناء عليها دون نقد أو تمحيص والمسألة هنا على هذا النحو إنما تذكرنا ب_«معامل الاستعمار» الذي حدّثنا عنه مالك بن نبي، غير أن المسألة هنا تصل إلى أبناء الغرب المستعمِر نفسه وليس فقط الشعوب المستعمَرة. ويؤكد كلامنا، ما قام به سعيد من تحليل لبنية الخطاب الاسشتراقي التي تقوم على إظهار التفوق الغربي من جانب، والتخلف الشرقي من جانب آخر.

ولا يكتفي سعيد بطرح فرضياته التي سيشتغل عليها في الكتاب، لكنه يفرد مساحة مقدمة الكتاب لشرح ومناقشة منهجه في البحث والكتابة - وهو منهج خاص ابتكره لنفسه في هذا الكتاب - من خلال ثلاثة جوانب مستمدة من واقعه الشخصي على نحو ما صرح هو نفسه.

الجانب الأول، هو التمييز بين المعرفة البحتة والمعرفة السياسية، وهو في هذا

ص: 254


1- نفس المرجع ، ص 50.

الجانب لا يعترف بالبحث النزيه أو الدراسة الموضوعية التي تطالب بها أو - بمعنى أدق - تدّعيها الأكاديميات الأميركية، خاصة فيما يخص البعد السياسي فالسياسة - في كل الأحوال - هي عنصر فاعل في البحث العلمي، مهما حاول الباحث أن يتظاهر بعكس ذلك، وفي هذا الصدد يقول سعيد:«إنني أدرس الاستشراق باعتباره صورة للتبادل أي التفاعل الدينامي بين المؤلفين الأفراد والمشاغل السياسية الكبرى التي شكّلتها الامبراطوريات العظمى الثلاث البريطانية والفرنسية والأميركية وهي التي نبتت في تربتها الفكرية والإبداعية كتاباتهم»(1).

الجانب الثاني هو المسألة المنهجية، وتمثل نقطة الانطلاق في البحث المتعمق الذي ينوي أن يجريه سعيد . ولما كانت المادة من الضخامة بحيث لا يستطيع أن يحيط بها جميعاً فإنه يجعل نقطة البداية متمثلة في الخبرة البريطانية والفرنسية والأميركية بالشرق باعتبارها وحدة متماسكة، إلى جانب الخلفية التاريخية والفكرية التي أتاحت تكوين هذه الخبرة، وكذلك نوع وطابع هذه الخبرة، ليس هذا فحسب بل ويقصرها على الخبرة الأنجلو فرنسية والأميركية بالعرب والإسلام ولما كانت علاقة الغرب بالشرق تتدخل فيها الأبعاد السياسية من ناحية وعلاقات القوة من ناحية أخرى، فإن سعيد يطرح منهجه في تحليل السلطة على النحو التالي:«أما وسائلي المنهجية الرئيسية لدراسة السلطة هنا فتنحصر في اثنتين يمكن أن نطلق على الأولى تعبير «الموقع الاستراتيجي»، وأعني به طريقة وصف موقع المؤلف في أحد النصوص إزاء المادة الشرقية التى يكتب عنها، والثانية هي " التشكيل الاستراتيجي، وأعني به طريقة تحليل العلاقة فيما بين النصوص، والوسيلة التي تتمكن بها مجموعة من النصوص، أو أنماط النصوص، بل وأجناس النصوص من اكتساب الصلابة والكثافة والقوة المرجعية فيما بينها أولاً ثم في الثقافة بصفة عامة بعد ذلك»(2).

ومن الأمور اللافتة في هذا الجانب المتعلق بالمنهجية هو وعي سعيد بأنه إنما يؤسس لعلم جديد أو مجال معرفي جديد يحتاج إلى جهود أكبر من قبل باحثين

ص: 255


1- نفس المرجع، ص 61.
2- نفس المرجع، ص ص 68 - 69.

آخرين، فيقول:«وكان عزائي لنفسي أن قلت إن هذا الكتاب حلقة من حلقات، وآمل أن يبدي غيري من الباحثين والنقاد الرغبة في حلقات أخرى... وقد يكون أهم عمل على الإطلاق هو القيام بدراسات في البدائل المعاصرة للاستشراق، أو التساؤل عن كيفية دراسة الثقافات والشعوب الأخرى من منظور تحرري أو بريء من القمع والتلاعب»(1).

الجانب الثالث هو البعد الشخصي، ونحن نعتبره أهم جانب بالنسبة لدراستنا الحالية، لأن فيه يكشف سعيد بكل صراحة ووضوح عن الأسباب الذاتية والقومية التي دفعته لدراسة الاستشراق.

وهو في تصريحه بهذه الأسباب والدوافع إنما يؤسس لمنهجية جديدة تعترف بالبعد الذاتي والنفسي من ناحية، وبالسياق السياسي من ناحية أخرى. وفي هذا الصدد يعترف بأن شرقيّته هي التي كانت وراء إقدامه على هذا العمل، وهي «شرقيّة» كثيفة محمّلة برصيد كبير من الخبرات الحياتية والتاريخية التي لا يمكن إغفالها أو التغاضي عنها ، فيقول:«ومعظم رصيدي الشخصي الذي استثمره في هذه الدراسة مستمد من وعيي بأنني «شرقي» باعتبار أنني نشأت طفلاً في مستعمرتين بريطانيتين،أما تعليمي في هاتين المستعمرتين (فلسطين ومصر) وفي الولايات المتحدة، فقد كان كله غربياً، ومع ذلك فإن ذلك الوعي المبكر العميق ظل قائماً»(2).

ومن الناحية التاريخية يرصد سعيد أسباب شيطنة الغرب للشرق العربي والإسلامي ويحددها في ثلاثة عوامل(3): الأول، هو تاريخ التعصب الشائع في الغرب ضد العرب والإسلام، وهو الذي يتجلّى مباشرة في تاريخ الاستشراق والعامل الثاني هو الصراع بين العرب والصهيونية الإسرائيلية وتأثير ذلك الصراع في اليهود الأميركيين وفي الثقافة المتحررة وفي السكان بصفة عامة، والعامل الثالث هو الانعدام شبه التام لأي موقف ثقافي يتيح للفرد التعاطف مع العرب أو الإسلام ، أو مناقشة أيهما مناقشة غير انفعالية.

ص: 256


1- نفس المرجع ، ص 74
2- نفس المرجع ، ص 76.
3- نفس المرجع ، ص 78

ونلاحظ أن سعيد يحرص على الفصل بين العرب والمسلمين من ناحية، وضمهما في فئة واحدة هي «الشرق» من ناحية أخرى. وفي كل الأحوال لا يميز بينهما حين التعرض لتحليل العلاقة بين الغرب والشرق، فكلاهما عانى من الاستعمار، وكلاهما كان موضوعاً لأطروحاتٍ مضلِّلةٍ قدّمها المستشرقون وباتت مسلماتٍ في الوعي الثقافي الغربي العام.

كما يُلاحظ أن سعيد لا يقف - مثل الجندي والغزالي - مدافعاً الدین ضد الهجمات الاستعمارية، لكنه يقف منصفاً لشرقيته ولعروبته، ولإنسانيته، فخبرته في الحياة في أميركا كشفت له كيف أنه غير موجودٍ سياسياً، وإذا سُمح له بالوجود فإنهم يعتبرونه إما مصدر إزعاج أو شخصاً شرقياً وحسب. ومما يؤكد نزعته اللادينية في الكتاب قوله : «ولقد تمكنت من استخدام مشاغلي الإنسانية والسياسية في تحليل ووصف موضوع دنيوي إلى حد كبير وهو نشأة وتطوير وتدعيم الاستشراق»(1).

وأخيراً، نلاحظ كيف استطاع سعيد أن يستفيد من المنجزات المنهجية الغربية في مجال العلوم الإنسانية ويوظفها بحيث تكون أداة لكشف وفضح مثالب وعيوب الاستشراق، خاصة في رجوعه إلى فيكو وميشيل فوكو، وأنطونيو جرامشي.

وفي كل الأحوال، نعود لنكرر أننا في حاجة إلى كلا الرؤيتين الدينية والدنيوية، وإلى كلا المعرفتين النقلية والعقلية، وإلى كلا الخطابين العاطفي الأدبي والعلمي المنهجي. وإذا كان ثمة تناقض ظاهر في المواقف المتباينة بين المعسكرات المتعارضة، فإن العداء المشترك للغرب، والخضوع المشترك لهيمنته والشعور المشترك بالقهر والظلم ،تجاهه، من شأنه أن يوحِّد الفصائل المتباعدة ويضم الجهود المشتتة، ويستكمل الرؤى المتشظّية والمجتزئة، حتى يمكن تصحيح الرؤية، وتركيز القوى، ومن ثم إحداث التغيير.

ص: 257


1- نفس المرجع ، ص 79

السيطرة كرؤية فلسفية إلى العالم:نحو مقاربة لفهم الظاهرة الاستعمارية عند روجيه غارودي

اشارة

نصرالدین بن سرای(1)

إن البحث في أصل تشكّل الأفكار يُعدّ في كثير من الأحيان أهم من البحث في تمظهرات الفكرة على أرض الواقع، ولعل أهم تلك والشأن في ذلك كالبحث حول تشكّل فكرة الاستعمار وغزو العالم، حيث أصبح الغزو عبارة عن رؤية فلسفية إلى العالم، سواء كان لإثبات الأنا الغربية وتمركزها ، أو لإشباع أنانيتها وإبراز التوّفق العرقي.

وقد كان الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي من بين أهم الفلاسفة الذين اهتمّوا بتشريح تلك الفكرة - الغزو - ومناقشتها ، والبحث عن جذورها في العقلية الأوروبية الحديثة، إذ أرجع مبدأ تشكّلها إلى الفيلسوف الفرنسي ديكارت الذي جعله عرّاب الاستعمار الغربي بسبب تلك الرؤية إلى العالم التي أراد تكريسها، والتي تُعنى أساساً بتحديد موقفنا من العالم الذي رآه أنه في شكل صراع مع الطبيعة، لتنتقل هذه الفكرة في رحلتها داخل العقلية الغربية إلى مزيد من السيطرة على عالم الإنسان وغزو الإنسان للإنسان.

ص: 258


1- دكتور في فلسفة القيم والابستمولوجية والعلوم الإنسانية - الجزائر.

ثم بدأ جارودي بتفتيت تلك الرؤية ونقدها، إذ بحث عن الذرائع التي استخدمت لتبرير الاستعمار في العالم، والتي اعتبرها ذرائع موهومة تستبطن رؤية فلسفية مسبقة، إلى غزو العالم. وقد كان السؤال الرئيس لهذا المقال الذي ارتأينا الإجابة عليه كالآتي: ما قصة تشكّل فكرة غزو واستعمار العالم، من وجهة نظر روجيه جارودي؟

أولاً: الغزو كرؤية إلى العالم أو مَنَابِتُ جذور الاستعمار:

يعد رينيه ديكارت (1)(René Descartes) مؤسِّساً للفكر الحداثي، وعرّاب الفكر الفلسفي للحداثة الغربية، وقد أقام فكره على أساس عقلاني؛ فجعل من العقل معياراً للحكم على العوالم إذ يقول:«فإنّنا لا نخطئ إذا استخدمنا بحكمة العقل الذي منحنا إياه، ولكن هذا يعني أنّنا لن نخطئ أبدا، ثم أعرف بخبرتي الشخصية أن الله قد وهبني ملكة من خصائصها أن تحكم، أو أن تميز بين الصائب والخطأ... فمن الثابت أنّه لم يهبني تلك الملكة لتقودني إلى الخطأ، إذا استعملتها كما هو لازم، إذن لا مفر من الاستنتاج أننّي لا أنخدع»(2).

هذه الملكة (العقل) هي من الهبات التي يمكن أن تكون معياراً للوجود وللمقايسة، كيف لا وهي كما يوصفها (ديكارت) :«.... بأنّها أعدل أشياء الكون توزعا بين الناس، إذ إن كلاً يعتقد أنه قد أُوتيَ أنه قد أُوتي منه الكفاية... فالمقدرة على الحكم الجيد والتمييز بين الحقيقة والخطأ... متكافئة بالطبع لدى جميع الناس، وكذلك على أنّ تنوع آرائنا لا يحصل من كون البعض أكثر تعقّلاً من البعض الآخر، بل من كوننا نسوق أفكارنا

ص: 259


1- رينيه ديكارت أول فيلسوف محدث وواحد من أعظم الرياضيين فى الأزمان قاطبة، ولد في لاهاي (ديكارت) 1596 من آثاره المقال في المنهج تأملات ميتافيزيقا، كتاب العالم، انفعالات النفس... فتاريخ الفلسفة الأوروبية الحديثة يبدأ مع رينيه ديكارت) الذي جاء فعله الثوري مطابقا تماما لروح أمته، فقد بدأ بتحطيم كل اتصالية بالفلسفة القديمة، وقد بنى القرن السابع عشر صروحه العقلانية طبقا لقواعد المنطق، فهو الذي نظم الانتفاضة العلمية ، وهو الذي رسم خط الفاصل بين العلوم القديمة والحديثة، زهو الذي غرس الراية التي انضوي تحت لوائها الطبيعيون ليهاجموا اللاهوتيين، وهو الذي انتزع صولجان العالم من يدي الخيال ليضعه بين يدي العقل، ووضع المبدأ الشهير لا يجوز للإنسان أن يصدق سوى الأشياء التي يقرها العقل وتؤكدها التجربة، ذلك المبدأ الذي صعق الخرافة، وغير الوجه الخلقي لكوكبنا، توفي (ديكارت) سنة 1650 في ستوكهولم ( جورج طرابيشي ، معجم الفلاسفة، مرجع سابق، ص 300 ، 302 بتصرف.
2- رنيه ديكارت تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، ترجمة كمال ،الحاج ط4 (التأمل الرابع في الصواب والخطأ)، بيروت لبنان منشورات عويدات، 1988، ص 41، 42.

على دروب مختلفة، ولا نعتبر الأشياء نفسها، إذ لا يكفي أن يكون الفكر جيداً، بل الأهم من ذلك أن يطبق تطبيقا حسناً»(1).

يظهر لنا أنّ التصور الديكارتي ينظر للعقل نظرة جديدة تتجاوز الفهم الفلسفي التقليدي، كالمنطق الأرسطي ، وطرائق التفكير المختلفة، (كطرق السفسطائيين) في عرض قضاياه لعقمه وبيان ذلك من منظور ديكارت حيث يقول:«وتطالعنا التجربة أن السفسطائيين الأكثر براعة من غيرهم، لا يخادعون في العادة أبدا الإنسان الذي يستعمل عقله ... فنحن نتخلى عن تلك الصور المنطقية باعتبارها مناقضة، ونبحث بدلاً منها عن كل ما يمكن أن يساعدنا على شد انتباه فكرنا باستمرار»(2).

فقد صاغ (ديكارت) التصوّر الجديد البديل عن تلك التصورات القديمة، حيث كان المنطق الأرسطي هو المنهج الوحيد في التعاطي مع الوجود وتصوره. لكن مع «(دیكارت) تأخذ الرّياضيات محل المنطق الصوري، ونجد داخل عقلانية (ديكارت) جميع مميزات العقلية السقيمة ... (والتي تكمن في ما يلي):

الإدعاء المنهجي، بأنّ كلّ حقيقة تُستنبط من يقين أوّلي واحد (أنا أفكر، إذاً أنا موجود).

النزعة المحوّلة التي ترد الإنسان إلى بعد واحد من أبعاده، أي العقل: (أنا مادة یكمن جوهرها كله وطبيعتها في التفكير فقط).

التطلب الملزم سواء إزاء الطبيعة بحيث نجعل من أنفسنا أسياد الطبيعة ومالكيها)»(3).

فقد أراد (ديكارت) أن يجعل المرجعيّة للذات ،العارفة من خلال اعتمادها العقل

ص: 260


1- رينيه ديكارت حديث الطريقة، ترجمة عمر الشارني، ط1، لبنان بيروت المنظمة العربية للترجمة، 2008، ص ص 41-42-43.
2- رینیه دیکارت قواعد لتوجيه الفكر، ترجمة وتقديم سفيان سعد الله ،تونس دار سراس للنشر، 2001.ص77.
3- روجيه غارودي، في سبيل إرتقاء ،المرأة، ترجمة جلال ،مطرجي، ط1، دار الآداب، بيروت لبنان، 1982، ص 143.143.

في فهم الوجود والتعاطي مع العالم الذي نحيا فيه وسيكون الإنسان الجديد الذي حدده (ديكارت)، معتمداً فقط على ذاته وقدراته العقلية ولا يركن إلا إلى هذه المرجعية.

هذا المبدأ الذي كرّسه (ديكارت) جاعلاً من الغزو والسيطرة هدف الذّات العارفة، إذ ينطلق من مبدأ الكوجيتو القائل:«أنا أفكر، إذاً فأنا كائن، على نحو من اليقين والثبات، بحيث لا تستطيع أن تزعزعها أكثر افتراضات الرّيبيين شططا»(1)، هذه الذات التي تسعى إلى الهيمنة على العالم من خلال الثقة واليقين والثبات الذي لا يمكن أن يتخلله الشك والوهم في معارفها المستلهمة من ذاتها.

هذا التصور الذي أعطى معنى جديداً للإنسان الحديث بقدرته على معرفة العالم معرفة عقلية والسيطرة عليه تقنيا، فالإنسان الذي يمّم وجهه شطر النور الطبيعي... فالعقلانية الحديثة تُبرز بقوةٍ ضرورةَ التحرّر من الماضي »(2).

لقد اعتبر (روجيه غارودي) أن من الأفكار الأساسية التي كونت الحداثة الغربية، ما قّدمه (ديكارت) من خلال فكرة الغزو العقلي للطبيعة والسيطرة عليها. وما أفكار الحداثة ومفاهيمها «كالتقدم والتنمية والنمو» (3)إلا حوصلة لتلك الأفكار «التي هي وريثة المفاهيم السابقة، ولد كل ذلك من ثقافة عرفتها النهضة من خلال ثلاثة فروض أساسية الفرض الأساسي (لديكارت) جعلنا أسياداً وملّاكاً للطبيعة، الطبيعة المنتقصة المختزلة في شكلها الميكانيكي، إذن هي علاقات سيطرة على الطبيعة مجردة من كل غاية خاصة »(4).

فالمعارف الجديدة النافعة لدى (ديكارت) هي التي تمكّنه من أن يحقق سيطرته على الطبيعة «إذ تبين لي منها أنه بالإمكان التوصل إلى الفلسفة

ص: 261


1- رينيه ديكارت حديث الطريقة، مرجع سابق، ص 162.
2- سفيان سعد الله عقلانية الحداثة ديكارت نموذجا ط 1 ،تونس منشورات كارم الشريف، 2015 ، ص141، 142
3- روجيه غارودي، حفارو القبور الحضارة التي تحفر للإنسانية قبرها ترجمة عزة ،صبحي، ط3، القاهرة مصر، دار الشروق، 2002،ص .94
4- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

النظرية التي تدرّس بالمدارس على فلسفة عملية؛ إذا عرفنا من خلالها ما للنار والماء والهواء والكواكب، والسماوات وكل الأجسام الأخرى التي تحيط بنا من قوة وأفعال (معرفة)، لا تقل تميزاً عن معرفتنا لمختلف حِرف صنّاعنا استطعنا أن نستخدمها بالكيفية نفسها في كل الأعمال التي تلائمها وأن نجعل أنفسنا بذلك أسياداً للطبيعة ومتملكين لها(1)، وهو أمر ليس محبذا فقط من أجل اختراع ما لا يحصى من الوسائل التي تجعلنا نتمتع دون أي عناء بثمار الأرض وكل المنافع الموجودة فيها»(2).

وهكذا تتحدد علاقة الإنسان مع الطبيعة في النموذج الفكري الغربي؛ من خلال ما صمّمه رينيه (ديكارت) في تلك المسلَّمة، التي سيبقى حضورها بارزا في التصورات الرؤيوية للعالم في النظرة الحدثية، «ففي العصر الحديث لم تعد الطبيعة رحم كل نظام اجتماعي وأخلاقي، ولم تعد انعكاساً ولا مقياساً للانسجام الأزلي؛ إنّها مستودع القوى المنتجة التي يتصرف فيها البشر ويعطونها قيمة من خلال عمل مكثف، وفعال أكثر فأكثر، ما عاد الإنسان خاضعا للطبيعة، بل غدا في مواجهتها، وما عاد يعدّ نفسه عنصرا من عناصرها بل سيّداً لها، ولعلّ تلك هي خصوصية المجتمع الغربي الحديث»(3).

وعلى حد تعبير (بول) فالاديي Paul Valadier) : إن ما يطبع مجتمعنا هو مبدأ

ص: 262


1- هذا التوجه الفكري لديكارت يتمثل في ) إمكانية جعل النظرية تنفذ إلى داخل الفعل، ويعني ذلك إمكانية تحويل الذكاء النظري إلى واقع أو إمكانية التكنولوجيا والفيزياء معا وفي آن واحد، وتجد هذه الإمكانية تعبيرا وضمانا لها في هذه الظاهرة المتمثلة في أن الفعل الذي به يفكك الذكاء آلة ويعيد بناءها والذي يمكنه من فهم ترتيبها وإدراك هيكلها ووظائفها مختلف الدواليب التي فيها متماثل تمام التماثل مع الفعل الذي به يفكك معادلة ويرجعها إلى ضواربها، ويفهم هيكلها وهيئتها، وليس تقدم الفنون الصناعية تقدما عفويا على يد الصناع الذين يشتغلون بهذه الفنون، هو الذي يهم (ديكارت)، بل أن تحول النظرية إلى ممارسة هو الذي يجعله يأمل وينتظر التقدم الذي سيجعل من الإنسان سيدا للطبيعة ومتملكا لها Alexandre Koyre. Etudes d'histoire de la pensée philosophique. bibliothèque des idées (Paris) ;Gallimard، 1971)، p، 346. نقلا عن رينيه ديكارت حديث الطريقة، مرجع سابق ص 341.
2- رينيه ديكارت حديث الطريقة، مرجع سابق، ص 340 341 342. -
3- نور الدين الشابي، نيتشه ونقد الحداثة، دار المعرفة للنشر كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقيروان، تونس، ط1، 2005 ص.54

الغزو العقلي للطبيعة»(1). إن الطريقة التي شكلت تلك المُسلَّمة الديكارتية باعتبارها مسلَّمة رئيسة عند (روجيه غارودي) في البناء النسقي للفكر الحداثي، تدعونا لنتتبع الجذور الفكرية لهذه التصورات وسبب ميلادها «ولهذا السبب لم تكن هناك عقلانية (Rationnalisme) قبل (ديكارت) لأن هذه العقلانية نتاج عصري تماماً، وهي نزعة تشد من أزر النزعة الفردية (Lindividualisme) لأنّها لا تعني شيئا سوى إنكار أي ملكة فوق المستوى الفردي»(2).

يتتبع (غارودي) الخطوط الناظمة للتصور الديكارتي فيقول: «وحتى نستطيع أن نتتبع طريقه فإنه من الضروري أن نتأمل نقطة الانطلاق التي بدأ منها، وهي الاقتناع الأول الذي ينبثق منه النظام ككل:(هل يجب أن أشك في كل شيء؟ إنه من المؤكد أنني أشك: أنا أفكر إذاً أنا موجود»(3).

بذلك يخط التصور الديكارتي توجهه نحو ذاته لإثباتها، ثم الانطلاق من هذه الذات المحدودة ليفهم من خلالها جميع العالم بل وليخضعه لسيطرته وتحت ملكه، ولتكريس الفردانية،«أنا أفكر إذاً أنا موجود» من الصعب أن نقول كلّ هذا العته في تلك الكلمات المعدودة... والحق يقال أيضا، إن هذا الإنسان الفردي، الذي أقام متاريس حول نفسه الأنانية، رأى أوروبا بمثابة مركز العالم: كل الآخرين مجرد غوغاء أو بدائيين»(4).

هذه النزعة الفردية التي تكرّست مع الكوجيتو الديكارتي، من خلال حديّة العقلانية الديكارتية، التي تريد أن تعقلن كل الوجود، حتى الذات الإنسانية بأبعادها المختلفة، لا يمكن لها إلا أن تعقل من خلال عمليّة التفكير، حيث برزت نتائج هذه الحدّية العقلية، «وكان أول هذه النتائج وضع العقل المحدود La Raison» في

ص: 263


1- Paul Valadier. Essais sur la modernité. Nietzsche et Marx. Paris. Cerf-Desclée. 1974. p. 12 نقلاً نور الدين الشابي، نيتشه ونقد الحداثة، مرجع سابق، ص 54.
2- رينيه غينون أزمة العالم المعاصر، ترجمة سامي محمد عبد الحميد، ط 1 ،مصر ، دار النهار للطبع والنشر والتوزيع، 1996، ص90 89.
3- روجيه غارودي، كيف صنعنا القرن العشرين ترجمة ليلى ،حافظ ط 2 ،مصر، دار الشروق، 2001، ص 74
4- المصدر نفسه، ص 74-75

المرتبة الأسمى فوق ما عداه، وذلك بسبب إنكار الحدس العقلي، وكان معنى ذلك اعتبار هذه الملكة الإنسانية البحتة والنسبيّة الجانب الأسمى في الذكاء، أو حصر الذكاء كله فيها، ويمثل ذلك أسس العقلانية ومؤسسها الحقيقي (ديكارت)، ولم يكن هذا الحصر للذكاء إلا خطوة أولى، فإنّ العقل المحدود نفسه لم يلبث طويلاً حتى انحطت منزلته شيئاً فشيئاً ليقتصر على القيام بدور عملي... فإن النزعة الفردية أدّت بصورة حتمية إلى نشأة المذهب الطبيعي (Naturalisme)... فالمذهب الطبيعي وإنكار الميتافيزيقا إنمّا يمثلان شيئاً واحداً»(1).

هذه العقلانية الديكارتية صورت العالم تصوراً آلياً قائم على الميكانيكا، هذا الذي يعتبر من التبسيط الملازم للعقلانية الديكارتية،«أي كل ما هو ضمن المجال الفردي في المظهر الحسي أو الجسمي فقط، وفي النهاية لا يبقي من هذا إلا ركام بسيط من التعيينات الكمية وبلا عناء نرى كيف أنّ هذا كله يتسلسل بدقة، مشكّلا مراحل ضرورية لنفس التدهور الحاصل في التصورات التي ينشئها الإنسان فيما يتعلق به هو نفسه وبالعالم... ويتمثل أولا في اختزال ماهية الرّوح بجملتها إلى الفكر، واختزال طبيعة الجسم في الامتداد وهذا الاختزال الأخير هو الأساس نفسه للفيزياء الميكانيكية، ويمكن القول إنه كان نقطة الانطلاق لفكرة علم ذي طابع كمي مطبق»(2).

وبهذا يكون رينيه (ديكارت) إوالي(3)النزعة ، فهو ذو نزعة آلية مادية؛ حيث إن المذهب المادي تمثله النظرية الديكارتية في أحد تصوراتها حسب التصور الميكانيكي للطبيعة أو للعالم، «والحق أن المذهب المادي يمثل ببساطة واحدا من شقي الثنائية الديكارتية (روح) ومادة)، وهو بالضبط الشق الذي طبق عليه مبتدعه أي (دیکارت) المفهوم الإوالي؛ وحينئذ يكفي إهمال، أو إنكار الشق الآخر، أو ادعاء أن الواقع كلّه محصور في الشق الأول (أي الجسم والمادة) وهو ما يؤول إلى نفس

ص: 264


1- رينيه غينون أزمة العالم المعاصر، مرجع سابق، ص 111.
2- رينيه غينون هيمنة الكم وعلامات آخر الزمان ترجمة وتعليق عبد الباقي مفتاح، ط 1 ، إربد الأردن، عالم الكتب الحديث، 2013 ، ، ص 106
3- الإوالية الفلسفية ) مذهب قائل بأن جميع حركات الكون ناشئة من قوى آلية والإوالي هو القائل بالمذهب الإوالي والكلمة الفرنسية Le materialisme mécaniste وتترجم بالإوالية المادية) المرجع نفسه، هامش، ص 113.

النتيجة للوصول تلقائياً إلى المذهب المادي، فقد أجاد (ليبنيز) حين بيّن في رده على (دیكارت) وأتباعه قصور فيزياء إوالية، والتي هي بحكم نفس طبيعتها لا يمكن أن تعرف إلا الظواهر الخارجية للأشياء، وهي عاجزة على تفسير أي شيء في حقيقة جوهرها... إنّه ليس للإِوَالية إلا قيمة وصفية فقط، وليس لها قيمة تفسيرية بتاتاً... وهكذا هو الحال حتى في مثال بالغ البساطة كالحركة، وهو مع ذلك ينظر إليه عادة كمثال نموذجي يمكن تفسيره ميكانيكياً»(1).

إن ما أحدثه (ديكارت) أن فصل التصورات الحديثة عن تلك التصورات الكلاسكية القديمة، حيث إنّه أضفى مفهوماً ورؤيةً جديدةً تحدد علاقتنا مع الطبيعة، فلسنا أجزاء منها، بل منفصلين عنها في علاقة صراع ضدها وإذا حاولنا «مقارنة علم الطبيعة القديم بمجموع علوم الطبيعة كما عليه الآن... هنا يكمن الاختلاف الجوهري بين التصورين، فالتصور التقليدي يربط العلوم جميعاً بالمبادئ على أنّها تطبيقات خاصة، بينما التصور الحديث لا يقرّ هذا الارتباط، وكان (أرسطو) يرى الفيزيقا تأتي في المرتبة الثانية بعد الميتافيزيقا من حيث الأهمية، أي أنّها تابعة لها وأنّها في الحقيقة ليست إلا تطبيقا في مجال الطبيعة للمبادئ الأسمى من الطبيعة، وأن قوانين الطبيعة ما هي إلا أثر لهذه المبادئ... أما التصور الحديث فإنه على العكس من ذلك يطمح إلى أن يجعل العلوم مستقلة عن طريق إنكار ما يسمو عليها، أو على الأقل بإعلان أنّه مجهول لا تكتنه حقيقته، ورفض النظر إليه بعين الاعتبار

وذلك معناه إنكار وجوده»(2).

فمن الطبيعي جدا أن نجد التصور الذي يريد أن يعقلن الطبيعة، ويسيطر عليها وأن يجعلنا أسيادا عليها، لقد تم تأسيس الرؤية الجديدة مع (ديكارت) الذي هدف إلى جعل العلاقة مع الطبيعة في صدام والسعي العقلاني إلى ترشيدها من خلال غزوها واستباحتها؛ لأجل الإنسان المهيمن النّهم لتتأسس بذلك علاقة الصراع معها؛«إذعلى الإنسان أن يحافظ على بقائه، ومن ثمة وجب أن يعمل على غزو الطبيعة (صيد، قنص...)

ص: 265


1- المرجع نفسه، ص .114.113
2- رينيه غينون أزمة العالم المعاصر ، مرجع سابق، ص 95 96.

فضلا عن أنه لا يكتفي بما تجود به عليه الطبيعة بل يحوّل ما تنتجه، ومن ثمة تشكل الطبيعة مادة أولية يبني منها الإنسان ما يعتبره قوام حياته الفردية والجماعية... غير أن المنعرج الأساسي الذي انبثقت عنه مقولة الهيمنة على الطبيعة في المجتمع الحديث... بالنسبة للإنسان الحديث معضلة تقنية ينبغي حلّها: ليست الطبيعة مبدأ كلياً مفسراً لكلّ شيء بل هي الخارج، وهي فضاء أو مادة ينبغي غزوها وترتيبها وإخضاعها ... لذا أسس (ديكارت) الحداثة الفلسفية بوضع مبدأ الذاتية كأساس لليقين وكقيمة مطلقة، وخطا فاصلا بين عالم الآلهة القديم وعالم الإنسان الحديث»(1).

لقد أصبح الإنسان الحديث في عالم مستقل يستمد وجوده من ذاته المتعالية، التي ينطلق منه في فهم الوجود والسيطرة عليه، وما الطبيعة إلا موضوع من الموضوعات التي تريد الذات كشف سرها والبحث عن الجوانب الغامضة فيها قصد ترويضها لتلك الذات. فقد استطاع الإنسان الحديث أن ينزع السحر عن العالم «منذ اللحظة التي نزع فيها الإنسان عن الطبيعة قناعها أصبحت هذه الأخيرة مجال التصرف التقني والعلمي أن قيمة اللحظة الديكارتية تكمن في ذلك التأليف الذي يقيمه بين الهندسة والتحليل، مؤسساً بذلك الهندسة التحليلية، ومن ثمة مفتتِحاً إلى جانب (غاليلي) عهد السيطرة العقلية الرّياضية على الطبيعة، بحيث يكمن إسهام (ديكارت) في بناء مشروع حديث هو مشروع تحكم الإنسان عقلياً في الطبيعة»(2). هذه العملية - أي نزع القداسة عن الطبيعة - التي مُورست من طرف الرؤية الحداثية أفقدها رمزيتها، وإحاءاتها الميثولوجية بدليل أن الطبيعة كان يُنظر لها على أنّها أنثى خيّرة معطاءة ومحبة، وما كانت الكوارث الطبيعية في الذهنية اليونانية إلا تعبيراً عن سخطها وعصيانها.

وبذلك يتأكد لنا القول بأنّ رينيه (ديكارت) بتبنيه للطابع الرؤيوي العقلاني، من خلال فكرة العقلنة والغزو العقلي للطبيعة قد دعم تلك التصورات التي كانت تريد الفكاك عن التصورات السكولائية القديمة، وبذلك تكون الفلسفة الحديثة قد وجدت «الروح الحديث ذاته في فلسفة (ديكارت) واكتسب من خلالها وعياً أوضح بذاته عن

ص: 266


1- نور الدين الشابي، نيتشه ونقد الحداثة، مرجع سابق، ص 55.
2- المرجع نفسه، ص 55.

ذي قبل، نضيف أنّ أي حركة بارزة في أي ميدان مثلما كانت عليه فلسفة (ديكارت) في المجال الفلسفي إنمّا هي م دائما وليست منطلقاً حقيقياً»(1).

فالفيلسوف الفرنسي أمام محكمة الاتهام في هذا القرن، فهو صانع الأزمة بتلك التصورات التي لم تنتج لنا إلا علوماً تساهم في تكريس مقولات القوة، التملك، السيطرة، سيادة العالم...، تلك المفاهيم التي جعلت الإنسان مغترباً عن جميع العوالم حتى مع ذاته، «انطلاقا من (ديكارت)، في الحقيقة، أخذ علمنا الغربي من حيث المبدأ، يجهل الإنسان، وقبل كل شيء بعده الأساسي، التسامي، وأصبح ال (علم) كميّا صرفا ؛ كل الحقيقي، الواقعي، كما كتب (برغسون) يضمحل في دخان الجبر، وقد انطوى الإنسان على ال (أنا) المنعزلة، الجزرية، على الكوجيتو وتغدو

الفعالية هي المعيار الوحيد للعلم، والتقنية غرضها الأوحد أن يجعلنا (أسياد ومالكي) الطبيعة وفقا لبرنامج (ديكارت) في كتابه بحث في الطريقة فالحياة نفسها انتقصت إلى هذه الآلية، فمن قبل الحيوانات بالنسبة ل (ديكارت) ما هي إلا آلات، بالنسبة لخلفه لاميتري La Metrie ليس الإنسان بدوره سوى آلة»(2).

ويؤكد (غارودي) أن العلم الديكارتي وتلك المفاهيم التي نسجها، قد تمخضت عنها مفاهيم لا إنسانية فشلت في النهاية.«إن الكمية إن إرادة القوة والنمو، إن الفردانية، كأهداف قد ثبت فشلها فما من حضارة يمكن أن تشيد على هذه الأسس، قد أمضى العلم والتقنيات التي نشأت على هذا التَيرَبِ إلى نتائج متعارضة تماما المشاريع ووعود النهضة الغربية»(3).

كما يبين روجيه (غارودي) فلسفة (ديكارت) لا تكمن مشاكلها هنا فحسب فقد «نادی (( دیکارت) بصورة جلية أيضا بضرورة فصل مشاكل الإيمان والأخلاق عن مجال العقل، يقول في آرائه المقتضبة أن الغايات والأغراض والتسامي لا علاقة لها بالعقل، وكتب في تأمله (28) قائلا أنّه من العبث أن نسأل لماذا فعل اللّه ذلك

ص: 267


1- رينيه غينون، أزمة العالم المعاصر، مرجع سابق، ص 113
2- روجيه غارودي، وعود الإسلام ترجمة ذوقان ،قرقوط، ط ،2 بيروت لبنان دار الرقي، 1985، ص 109، 110.
3- المصدر نفسه، ص 111.

الشيء؟ ولكن ينبغي أن نسأل فقط كيف فعل ذلك؟... ومنذ زمان (ديكارت) توقف الغرب عن سؤال ( لماذا ) ، وأصبح اهتمامهم منصبا على كيف؟»(1).

وهنا تصير الذّات العارفة هي التي تركن إلى ذاتها، ولا تبحث عن الحكمة والغاية من الوجود، بل تسعى لتحصيل الإجابة على كيف نستطيع الفعل، وهنا تصبح الذّات مصدر إلهام لما تريده «أما التسامي فيفقد أسبابه عندما يتظاهر المرء أن الوجود بوصفه دليلاً نهائياً له افتراض يقول: (أنا أفكر إذا أنا موجود) وأن وجود أي شيء من الأشياء يأتي في آخر عملية التفكير التي تنطلق من تلك القاعدة مروراً بسلسلةٍ من القياسات المنطقية الاستنتاجية»(2)، يمكن إرجاع هذا التصور إلى الجانب النفسي للإنسان، لأنّه يصور نفسه كائناً أعلى على جميع عناصر الموجودات، هذه الفكرة الديكارتية حول سيادة الإنسان على الطبيعة نجد تبريرها عند الفيلسوف الألماني (كانط) ؛ ولأن الإنسان«بكونه الكائن الوحيد على الأرض الذي يملك عقلاً، وبالتالي قدرة على أن يضع لنفسه غايات كما يحلو، فهو من هنا بكل تأكيد سيد الطبيعة المسمّى، وفي ما لو نظرنا إلى الطبيعة على أنّها منظومة غايات، فلاشك في أنّه هو من حيث مصيره ، الغاية النهائية للطبيعة»(3). فلما كان الإنسان الغاية الأخيرة للطبيعة؛ فإن هذه الغاية تمتاز بالكمال وصفة العقلانية ومن ثم جاز للسيد أن يتصرف فيها كما يشاء. فهذا الكيان الفعّال (العقل) هو الذي يربط المعطيات ويضيف عليها العلاقات؛ لتتحوّل الحقائق إلى كلّيات.

ويوضح لنا (غارودي) ما تم تخطيطه من قبل (ديكارت)، قد تم الوصول إليه بتقديمه لبراهين ونماذج من الواقع العالمي المتأزم،«وسنكتفي الآن بتقديم كشف حساب لمشروع (ديكارت): أن نصبح أسياد الطبيعة وملاكها هذا الهدف تم التوصل إليه بجدارة عن طريق العلوم والتكنيك الذي أعطانا القدرة على تدمير تلك الطبيعة»(4).

ص: 268


1- روجيه غارودي، كشف حساب الفلسفة الغربية، ترجمة أبوبكر الفيتوري، مجلة كلية الدعوة الإسلامية، طرابلس ليبيا عدد 7 ، 1990 ص 634
2- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
3- إمانويل كنت نقد ملكة الحكم، مرجع سابق، ص 392.
4- روجيه غارودي، كيف صنعنا القرن العشرين، مصدر سابق، ص .85

فالمشروع الفلسفي الديكارتي الذي ما فتئ يشكّل تصورات فكرية ساهمت بشكل مباشر وغير مباشر وعلى مدى قرون في خلق الأزمات العالمية خاصة في الطبيعة التي استبيحت لصالح الذّات النّهمة للسيطرة والغزو. لذلك يرى (غارودي) أن «الواجبات إزاء الطبيعة من الواجبات إزاء الملكية؛ فلا الأفراد ولا الجماعات يستطيعون أن يدَّعُوا لأنفسهم امتياز استنفاذها أو تشويهها، أو تدمير ثرواتها من أجل ملذاتهم الخاصة. إن الطبيعة كما ورثناها اليوم قد أُنسِنَتْ في جزئها الأعظم بعمل أجيال شتّى، فلا يمكن اعتبارها إذن مستودعاً غير محمودٍ للثروات من أجل إرضاء شهوات اللحظة ولا مصبّاً لفضلاتنا»(1). فالعلم الحديث يظهر أنّه من منطق براديغم الديكارتي، ينظر للطبيعة والأشياء عموما باعتبارها ميّتة؛ فهو يُعنى فقط بالوقوف عند الدلالات الموضوعية، وتقديم المعلومات الدقيقة تبعا لهذه الدلالات، ولكن هذه الممارسة أو بالأصح هي استباحة لرمزية الطبيعة على أنّها أمًّا حاضنة لنا.

فالطبيعة مُسخّرة من الله للإنسان وليس في علاقة صراع معها، قال الله تعالى «وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» الآية 13 سورة الجاثية، وهي أمانة والواجب الإنساني أن نحافظ على الأمانة، كما وهبت لنا فهي:«ليست ملكاً لمليارات الموتى الذين أخصبوها ، بل وأيضا للمليارات ممن لم يولدوا بعد، ومن واجبنا أن ننقلها وهي أعظم خصبا وجمالا مما تلقيناها دون الربط بالمستقبل»(2).

لمتسائل أن يقول : ماذا يبقى عن حضور المعاني السامية، في هذا النظام الميكانيكي الديكارتي(3).، لا سيما المعاني الإنسانية، والشعور بالوجود الآخر، بعد أن أقصي الوجود الطبيعي؛ الذي اختزل في شكل صراع بينه وبين الإنسان، وليس لهذا الأخير

ص: 269


1- روجيه غارودي، الولايات المتحدة الأمريكية طليعة الانحطاط، ترجمة صياح الجيهم، ميشيل خوري، ط2، بيروت لبنان دار عطية للنشر، 1999، ص 171.
2- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
3- إن هذا التصور الميكانيكي الذي اعتمده (ديكارت) كان قد « استمده من الرياضيات هو الذي أسس النظرة التجريبية للطبيعة، وقوّض الميتافيزيقا المدرسية الوسيطة، وحول الفلسفة إلى علم السيطرة على الطبيعة السيد ولد أباه الدين والسياسة والأخلاق، ط 1 بيروت لبنان جداول للنشر والتوزيع، 2014، ص 290.

إلا أن يُخضع الوجود، وأن يجعل من نفسه سيداً على الطبيعة ومالكاً لها حقاً»ف (ديكارت) دفع هذا التدمير إلى نهايته الحب الإبداع الجمالي، حتى الفعل في حد ذاته (غير التكنيكي) أين مكانهم؟ أيمكن أن نُخرج من (ديكارت) شيئاً جمالياً؟ أو نتعلم منه ما هو الحب؟ في إحدى الليالي حينما يستبد بك الحزن ستبحث تلك

عن الدراسة الميكانيكية، والتي تُسمى بهذا الاسم الغريب دراسة الأشواق»(1). هذا ما يظهر لنا عن ذلك التصور الذي تمت صياغته من طرف (ديكارت)(2)، أما عن تجلياته السلبية وأنه جزء من الأزمة القيمية للرؤية الحداثية إلى العالم سنورده في الفصول الآتية كمظهر لتجليات تلك الأزمة.

ثانياً - نحو فهم غزو العالم واستعماره:

لا زالت الحداثة الغربية وفيّة لمبادئها وأفكارها التي انطلقت منها في صياغة رؤيتها إلى العالم، لاسيما فكرة (ديكارت) و (هوبز) وهي: «مسلمة ديكارت، التي تجعل (الإنسان سيدًا ومالكًا للطبيعة)، ومسلّمة هوبز، التي تجعل (الإنسان ذئباً بالنسبة للإنسان)(3).

تلك المسلمتان اللّتان تدعوان إلى غزو الطبيعة والسيطرة عليها، وتأسيس العلاقة مع الآخر على أنّها علاقة صراع. فقد تم تعدية المسلّمة الديكارتية إلى

ص: 270


1- روجيه جاودي، كيف صنعنا القرن العشرين؟ ، مصدر سابق، ص 75، 76.
2- ما فتئت ابستومولوجيا الحديثة تكشف عن قصورها وميلاد مضادّها التكميلي، المتمثل في: قواعد فهم جديدة فكر النمذجة ( بديلة لتلك التي صاغها (ديكارت)، وهي على التوالي فكرة الوجاهة والتي تفيد أن ادراكنا للموضوع مرتبط ضمنيا بمقصد المنمذج، وعلية فتغير إدراكنا وفهمنا للموضوع رهين لمقاصد هذا المنمذج. أما الفكرة الثانية في ابستومولوجيا النمذجة تسمى بالإجمالية التي ترى أن موضوع المعرفة المطروح من قبل العقل، يدرك من البداية بصفة كلية، وهذا نقيض للمبدأ الديكارتي، الذي ينبغي اتبعاه في دراسة موضوع بضرورة تحليله إلى وحيدة بسيطة . وعليه فلا حاجة إلى الانشغال تبعا لذلك بتكوين صورة صادقة لهذه البنية الداخلية (الموضوع الذي يطرحه العقل)؛ لأنه لن يكون لها نفس الوجود والوحدة بعد احتكاكها بالمحيط . لتأتي فكرة الغائية ضمن هذه الإبستمولوجيا لتؤكد لنا أن فهمنا للموضوع مرتبط بسلوكه لا ذاته دون حاجة لتسبيق فكري لهذا يحب على المنمذج الإتجاه نحو السلوك والوسائل المسخرة للمشروعات، وهذا التحديد هو عبارة عن فعل عقلي افتراضي يتعذر البرهنة عنه. الفكرة الأخيرة الدمجانية، التي تعتبر كل تمثل انحياز بصورة قصدية من خلال انتقاء المنمذج للعناصر الموجهة من العناصر المطروحة والمعتبرة. لنبذ الفكر الديكارتية القائلة بالإحصاء الشامل، أنظر بيار بيريي وآخرون، مقالات في النمذجة وفلسفة العلوم، ترجمة هدى الكافي وآخرون، ط1، تونس، دار سيناترا، 2012، ج2، ص 210،211.
3- روجيه غارودي، الإسلام والحداثة، مصدر سابق

غزو واستعمار الآخر ونهبه، «فعصر النهضة يستند إلى نوع من علاقة الإنسان بأقرانه، وهذه العلاقة فردية المنزع بصورة أساسية ، ومنها سيولد رجل المشروع بالمعنى الأفضل والمعنى الأسوأ لهذه الكلمة، وهذه الإرادة؛ إرادة الربح والسيطرة أيضا إرادة الغازي الذي لا يتردد في اقتحام تخوم العالم المعروف ، ولا في

تدمير القارات والحضارت» (1).

فقد كان بزوغ فجر الثورة الصناعية بداية لبروز تحولات كبرى في العالم، التي سيكون الاستعمار وغزو القارات الثلاثة الصورة التي تحملها تلك الثورة وامتداد الحركة الاستعمارية والكشوفات الجغرافية لأجل البحث عن المواد الخام لتزويد المصانع، فقد أدت الثورة الصناعية إلى حد كبير في قيام حركة التوسع الإستعماري في القرن التاسع عشر، وقد أدت الحاجة إلى مزي-د م-ن المواد الخام للمصانع، ومزيد من الأسواق لمنتجات تلك المصانع إلى ذلك التوسع الاستعماري، فاقتسمت أروربا دول إفريقيا وآسيا، وأنشأت مستعمرات فيهما»(2).

وتتراصف إلى جانب الأسباب السابقة لإنتشار التوسع الاستعماري، أن الدول الأوروبية قد قامت بإلغاء نظام الرق» بحسب ترتيب دخولها في نطاق الثورة الصناعية، انكلترا أولاً، ثم فرنسا، عندما أخذ الريع الحاصل عن الرق بالتضاؤل شيئا فشيئا، ولم يعد قادراً على خدمة النّمو الإقتصادي، وعندئذ جرى الانتقال من نخاسة العبيد إلى الحركة الاستعمارية بالمعنى الصحيح»(3).

فلم تعد تجارة العبيد واستغلالهم في المزراع والأعمال بالتجارة المربحة، التي تحقق الربح الذي يريده الرجل الأبيض، بل إن اكتشاف المعادن الثمينة، والبحث عن مصادرها لتحقيق النمو والإزدهار الإقتصادي ؛ حيث ينقل (غارودي) هذا التصور

ص: 271


1- روجيه غارودي، في سبيل حوار الحضارات، مصدر سابق، ص 33.
2- الموسوعة العربية العالمية، مرجع سابق، ج16، ص 62.
3- المصدر سابق، ص 53.

للبحث عن المال والذهب من رواية دون كيشوت :ل سارفانتس (1) الذي يُعتبر شاهداً على ذلك العصر، فيقول - على لسان دون كيشوت -: «ماذا أرى هناك؟ إنه الذهب المعدن الأصفر اللامع والنفيس، القليل من هذا الذهب يكفي ليحوّل الأسود إلى أبيض، القبيح إلى جميل والظالم إلى عادل والوضيع إلى نبيل المسن إلى شاب، إنّه سيُبعد عن منابركم قساوستكم وخدّامكم، ويسلب الوسادة من المريض. هذا المال الذهبي سيلحم ويقطع التعهدات سيبارك الملعون، وسيجعل المجذوم يُعبد وسيضع اللصوص بعد منحهم الألقاب والإحترام والثناء على منصة النوّاب، وهو ما سيجعل الأرملة الحزينة تقرر الزواج مرة أخرى، وسيحوّل مستشفى المرضى القرحة التي تبدو كئيبة وتثير الغثيان إلى رائحة عطرة، إلى الأمام، أيها العفار الملعون المبتذل لكل أنواع البشر، أريد أن أعيد لك مكانتك في الطبيعة»(2). هكذا جاء الوصف من (سارفانتس) باعتباره شاهداً على ذلك العصر، فتحول بدءا توجه الغرب الحادث إلى البحث على الثروة التي ستنطلق معها حركة السيطرة على الشعوب التي تمتلك تلك الثروة الخام، فقد كان للحداثة تعصباتها الخاصة بها وفيما وجد البعض العصر الحديث محرِّراً وآسِراً خبره آخرون بصفته قامعاً وعدوانياً توسعيّاً ومدمراً»(3).

إن الاستعمار العالمي لم يكن ينتقل إلا تحت غطاء، وحجاج ليبرر موقفه وأعماله التوسعية. وتكاد تكون تلك الحجج في ظاهرها إنسانية إذا ما التفتنا إليها أول وهلة، فقد كان من الواضح في عهد الاستعمار الأوروبي أن التاريخ لم يكن إلا سرداً تاريخياً؛

ص: 272


1- ميغيل دي ثربانتس (سرفانتس) سابيدرا 1619 - 1547 Miguel de Cervantes Saavedraكاتب رواية ومسرحية وشاعر إسباني ولد في الكلادي إينارس Alcal de Henares وتوفي في مدريد، ويُعدُّ من أشهر الكتاب الإسبان، كما يُعد عمله الرئيسي دون كيخوته أو دون كيشوت دي لامانشا Don Quijote de la Mancha أكثر المؤلفات باللغة الإسبانية شهرة، وترجم إلى أغلب اللغات، وبحث فيه نقاد من جميع أنحاء العالم، واقتبس منه مراراً إلى أجناس أدبية أخرى، واستلهم منه الكثير من الأعمال التشكيلية والراقصة والموسيقية والسينمائية... وكان ثربانتس بطلاً لعدد من المعارك البحرية في المنطقة ما بين جنوبي إيطالية واليونان وتونس ومنها معركة ليبانتو الشهيرة. وبعد نهاية تجربته العسكرية وفقدانه ذراعه الأيسر في الحرب ركب سفينة عائدة إلى بلده، ولكنَّها هوجمت وأجبرت على التوجه إلى الجزائر العاصمة، حيث بقي من عام 1575 إلى عام 1580... يعد دون كيخوته أهم عمل أدبي لثربانتس، وقد تمتع بنجاح كبير وبإقبال شعبي منذ الطبعة الأولى للجزء الأول في مدريد عام 1695 الموسوعة العربية، بإشراف مسعود ط1، دمشق سوريا، الهيئة الموسوعية العربية، 1998، ج 7، ص 27.
2- روجيه غارودي، كيف صنعنا القرن العشرين مصدر سابق، ص 45، 46، 47
3- کارن آمسترونج مسعى البشرية الأزلي، مرجع سابق، ص 255

للغزو المشروع لأراضٍ جديدةٍ في سبيل جلب الحضارة إلى الشعوب المتخلفة، وهكذا فإن أي اجتياح أو عدوان استعماري كان مبرراً شرعاً باسم المدنية»(1).

ثالثاً الذرائع النزعة الاستعمارية:

أ- الذريعة الاقتصادية:

بالنسبة للحجة الاقتصادية فإن نظرة الدول الاستعمارية إلى الدول المستعمَرة، هي عبارة عن سوق لتسويق المنتوجات أو مصدر للمواد الخام لتزويد المصانع، «فالمستعمرات هي بالنسبة إلى البلدان الغنية سوق مميزة لتوظيف الرساميل؛ ولقد قدَّم (ستيوارت ميل) الشهير البرهان على ذلك، ويضيف (جول فيري): إن تأسيس مستعمرة يعني إنشاء سوق» (2).

من الغريب كيف يتصور العقل الغربي فكرة الحريّة؟ إذ نجد (جون استوارت ميل) الذي يؤكد على مطلب الحرية للأفراد ولبلاده، ثم ما يلبث أن يمنحها لغيره ثم يسلبها بطريقة ذكية أو متناقضة، حيث يرى:« أن الدول الحرة قد تكون لها أقاليم تابعة حصلت عليها بالغزو أو بالاستعمار، وبلدنا - إنجلترا - هو أكبر بلد من هذا النوع ... ومن أهم المسائل: معرفة كيف تحكم هذه التوابع ؟ هذه العبارة بما فيها من عنجهية ، وعنصرية، حاول (مل) طوال كتابه أن يتخلص منها ويخلّص منها مواطنيه، فإذا هو يرضاها كما يرضاها بلده؛ بالاستعمار لغيره من البشر ... كما قدّم بعد ذلك آراء تفوح منها رائحة العنصرية الكريهة» (3).

إن هذه الدول التوابع ستبقى تابعة للدول المستعمرة إقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، وما يبدو في الغالب انتشار موجة الاستقلال للدول المتخلفة خاصة في القرن

ص: 273


1- روجيه غارودي، الاستعمار الثقافي والصهيوينة والتمسك بالأسطورة بدلا من سرد الحقائق في تدريس التاريخ، ترجمة هشام حداد ،سوريا، مجلة الآداب الأجنبية، العدد 108 أكتوبر 2001، ص .14
2- روجيه، غارودي، الأصوليات المعاصرة أسبابها ومظاهرها، مصدر سابق، ص 19.
3- مصطفى النشار، جون ستيوارت مل وفلسفة الحرية مجلة التفاهم عدد 39، مرجع سابق، ص 149.

العشرين يبقى استقلالا في الظاهر فقط. ذلك أن النظام العالمي الجديد الذي وضعته الدول الكبرى هو إمتداد طبيعي للمد الاستعماري، ولكن بطريقة تكاد تكون متخفية؛ حيث يؤكد (غارودي) ذلك مستشهداً بكلام (لجورج بوش)؛ حيث يقول: «إن ما يسميه بوش النظام العالمي الجديد (1)هو دعم وامتداد لهذه العلاقات الاستعمارية بین عاصمة واحدة وباقي العالم علاقات استعمارية تعني تبعية اقتصادية وسياسية وعسكرية تسمح للمسيطرين أن يجعلوا مستعمراتهم ملحقة باقتصاد المركز، أو أن يفرضوا شروطا للتبادل وتعريفات جمركية تفيد المسيطرين فقط، وهذا الهدف الذي طالما أعلن عنه القادة الأميركيون»(2).

فالنظام العالمي الجديد يقوم بالهيمنة والسيطرة بطرق أكثر لباقة، ولكنها مجحفة في حق دول الجنوب، بعد أن ولىّ عهد الاستعمار التقليدي الذي كلّف الميزانية الاقتصادية للدول العظمى تكلفات كبيرة. فقد آثرت الدول الاستعمارية إكمال اللعبة بطرق أكثر ذكاء، فقد فقدت القوى الصناعية المركزية اهتمامها بالجنوب وأعدّت إلى شكل جديد من الاستعمار الحديث، وزادت من إحتكارها للاقتصاد العالمي وتقويض العناصر الديمقراطية في الأمم المتحدة، واستمرت في ترحيل الجنوب إلى الطبقة الدنيا. ولعل هذا هو المسار الطبيعي للأحداث في اعتبار طبيعة العلاقات بين القوي والضعيف وفلسفة ممارسة هذه العلاقات... عبرّ عنها (ونستون تشرشل) بقوله: «فلو أن حكومة العالم كانت في أيدي شعوب جائعة سيكون الخطر دوما محدقا ... إن قوّتنا تضعنا فوق الجميع، فنحن أشبه برجال أغنياء يعيشون آمنين في مساكنهم»(3). وهكذا

ص: 274


1- فقد بين استطلاع للرأي أن الخوف من أمريكا في العالم ازداد بشكل غير طبيعي، وهذا نتيجة لممارساتها الخارجية مع العالم الثالث التي تقوم على السيطرة والقوة والإحتلال حيث يقول نعوم تشومسكي : وفي مستهل عام 2003، كشفت الدراسات عن أن الخوف من الولايات المتحدة قد بلغ ذرى عالية جدا في جميع أنحاء العالم، مشفوعا بارتياب شديد بقيادتها السياسية، فكان نبذها لأبسط حقوق وحاجات الإنسان لا يضاهيه سوى ازدراؤها بالديمقراطية ازدراء يصعب على المرء أن يتذكر مثيلا له... وهو ازدراء مصحوب بمجاهرة علنية بالإخلاص الصادق لحقوق الإنسان والديمقراطية، والأحداث التي تشكل فيما بعد، كان لابد من أن تثير حفيظة أولئك الذين يحملون هم العالم الذي سيورثونه لأحفادهم». نعوم تشومسكي، الهيمنة أم البقاء ترجمة سامي الكعكي، ط1، بيروت لبنان، دار الكتاب العربي، 2004، ص 10
2- روجيه غارودي، كيف نصنع المستقبل، مصدر سابق، ص 32.
3- نعوم تشومسكي النظام العالمي القديم والجديد، ترجمة عاطف معتمد عبد الحميد، ط1، مصر، نهضة مصر للطباعة والنشر مارس ،2007 ، ص .10

يبيّن (تشرشل) أن الحكم لابد أن يكون في يد الأقوياء الأغنياء الذين من حقهم العيش في أمان ويحيون في سلام، ومن الخطر أن تترك حكومة العالم السيطرة على العالم في يد الشعوب الجائعة الضعيفة لأنّها ستشكل خطراً عليه.

ويشير (غارودي) إلى أشكال أخرى أيضا من الاستعمار المعاصر؛ عبر استعمال آليات متعددة لتحقيق الهدف منها:«الآلية البسيطة تتم الموافقة على استثمارات عبر القروض والمعونات للبلاد الفقيرة، هي من حيث المبدأ تساعدها في أن تتصنع، ولكنّها في الواقع تسمح للشركات المتعددة الجنسية في الشمال بزيادة أرباحها عن طريق انتقالها للإقامة في بلاد تتميز برخص اليد العاملة، وفي الوقت نفسه تنخفض أسعار المواد الخام في هذه البلاد، مما يجعل التبادلات تمعن في التغابن مع مرور الزمن... أيضاً إن سداد القروض يمثل أضعاف رأس المال المقترض، كما أن سداد الفوائد يعادل في الغالب إجمالي التصدير، مما يجعل كل تنمية مستحيلة. لا يتعلق إذن بالبلاد النامية - كما نطلق عليها من باب المجاملة أو النفاق - ولكنّها بلاد محكوم عليها ببؤس متزايد وتبعية متزايدة»(1). ولكن تبقى هذه البلدان دائما في طور التبعية ولا يمكن لها الفكاك عن تلك الشركات ولا تنمية تحصل في تلك البلاد النامية، إذ تبقى تسمى في طور النّمو الذي لا يمكن أن ينتهي أبدا، وكل ذلك يتم وفق استراتجية تبخيس المواد الخام مقابل وعود للتنمية التي ستكون مستحيلة واقعا في ظل هذا الغبن .

ب الذريعة السياسية :

أما بالنسبة للذريعة السياسية التي تعتمدها المنظومات الاستعمارية، فهي تخوض حروباً استباقية تحت مظلّة الدّفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرب على الإرهاب ونشر قيم العدالة والديمقراطية. فمن «السهل تعداد الأمثلة عن استخدام هذه الذرائع لمكافحة الإرهاب أو للتدخل الإنساني، والدّفاع عن حقوق الإنسان، لتبرير اعتداءات مباشرة ضد المتهمين أو إقامة عوائق لمعارضة اتفاقيات تجارية معهم»(2).

ص: 275


1- المصدر السابق ص 32
2- روجيه غارودي، أمريكا طليعة الإنحطاط، مصدر سابق، ص 12

كما هو الشأن أيضا في التدخل العسكري الأميركي في العراق بحجة الدّفاع عن الحق الدولي، وإجلاء العراق من الكويت. فبعد أن تم إجلاء العراق من الكويت، تم غزو العراق عام 2003 للسيطرة على النفط ونهبه. لذا فقد حدد هدف جديد» في شرم الشيخ عام 1996 من قبل حكومة إسرائيل : فمكافحة الإرهاب، مثل التّدخل الإنساني ذريعتان جديدتان للاستعمار الحديث المتكامل؛ وقد أشار (شمعون بيريز) دون أي دليل إلى (إيران) كمركز للإرهاب العالمي، وبالطبع فهذا الإرهاب يشمل كل أشكال مقاومة الشعوب المدافعة عن استقلالها، ويستبعد كل أشكال إرهاب الدولة المهدد لهذا الإستقلال» (1).

ج- الذريعة الإنسانية:

الذريعة التي تنطلق منها القوى الاستعمارية هي جلب الحضارة وتحضير الشعوب المتخلّفة ونقل المدنيّة إليها. حتى وإن وجدوا في البلاد المستعمَرة «مدنية مزدهرة، فهم لا يجدون ازدهاراً سوى في ما ينطبق على معاييرهم الخاصة، ويبتعدون بهذا عن التواضع العلمي المثير للإعجاب، بل عن الموضوعية والشمولية الفكرية التي ضرب (لفي ستراوس) مثلا عليها في كتابه «العرق والتاريخ»، حينما قال كانت العصور القديمة تسِم كل من لم يسهم في الثقافة اليونانية - الرومانية بأنّه همجي، أما المدنية الغربية فقد استخدمت مصطلح (متوحش) من أجل المعنى ذاته... وهذا يعني أنه من الغابة مما يستدعي نمطا من الحياة الحيوانية مقابل الحضارة»(2).

وإن من المستغرب كيف تُنقل الحضارة إلى أمم والوسيلة في ذلك هي القوة، هل من المعقول ؟ يقول السيد (يلّتان) ما هذه الحضارة التي تفرض بقوة المدفع ؟... لا أتردد في القول إن هذا ليس من السياسة ولا ه-و م-ن التاريخ؛ إنه من الميتا فيزيقيا السياسية، أيّها السّادة لابد من الكلام بصوت أرفع

ص: 276


1- المصدر نفسه، ص 11.
2- روجيه غارودي، الاستعمار الثقافي والصهيوينة، والتمسك بالأسطورة بدلا من سرد الحقائق في تدريس التاريخ مصدر سابق 14.

وبحقيقة أكثر، يجب القول بصراحة : إن للأعراق العلي-ا حقا عمليا على الأعراق السفلى»(1).

وهذه الذريعة الإنسانية تتكىُ في الغالب على الرؤية الإنثربولوجية الثقافية إلى العالم، التي تحاول أن تفسر العالم وتفهمه في تلك الأطر العرقية الضيقة.

إن حالة التطور والنمو والإزدهار الاقتصادي والسياسي والثقافي الذي عليه العالم المتقدم اليوم، لم يكن لينبجس في لحظة زمنية فارقة،«ولم يكن الإدخار هو الذي وهب الغرب البترول الذي أصبح محرك نموّه إنّه التقسيم بعد الحرب العالمية الأولى - كغنيمة حرب - الذي أتاح لإنجلترا ولفرنسا ثم للولايات المتحدة ممارسة هيمنتهما على كلّ آبار البترول في الشرق الأوسط. هذا التجميع الأول ثمرة خمسة قرون من اللّصوصيّة الاستعمارية، سمح بنشأة تبادلات غير متكافئة بين العواصم الاستعمارية والمستعمراتها»(2).

وعليه يمكن القول أن الغزو الغربي للعالم - مهما كان له من ذرائع؛ ليتستر بها ويجمّل بها أفعاله التدميرية - هو غزو مادي بحت؛ يرنو إلى مزيد من النمو المادي على حساب القيم والأخلاق التي لم تكن توضع في قاموسه وهو ينطلق للبحث على تجميع العناصر المادية لمزيد من القوة. الغزو الغربي إنّما هو غزو المادية بكل أشكالها، وهو لا يمكن أن يكون غير ذلك، وكل أساليب المواربة التي تتسم بالنّفاق وكل الحجج الأخلاقية وكل العبارت ذات النزعة الإنسانية الرّنانة، وكل أساليب المهارة التي تستخدم في دعاية تتّخذ سبيل الخداع في الوقت المناسب لتصل إلى هدفها التخريبي. وكل ذلك لا يغير شيئا من هذه الحقيقة التي لا يطعن فيها إلا أناس سذّج أو لهم مصلحة حقيقية في هذا العمل الشيطاني»(3). وهذا الغزو - تحت هذه الذّرائع - يجد أصله البعيد في الرؤية الحداثية إلى العالم المبنيّة أصلا على واحدية الوجود في المادة.

ص: 277


1- روجيه، غارودي، الأصوليات المعاصرة أسبابها ومظاهرها، مصدر سابق، ص 20.
2- روجيه غارودي، حفارو القبور، مصدر سابق، ص .139.138
3- رينيه غينون أزمة العالم المعاصر، مصدر سابق، ص 161

خاتمة:

وفي الختام نشير إلى أن النظرة إلى الطبيعة على أساس الصراع والغزو ، هي الخيط الناظم لتشكل النزعة الإستعمارية الغربية حيث ارتكزت جهود الفكر الحداثي على الهدف الأساسي وهو اخضاع الطبيعة للإنسان باعتباره سيداً، ثم ليكون هذا السيد سيداً على بقية شعوب العالم المستضعفة، التي ترى القيمة الوحيدة هي القوة والسيطرة، وهذا ما سعت الرأسمالية إلى تحقيقه لتفصل القيم عن الممارسة الاقتصادية في العالم، وتحصر وتقلل من شأن ما يسمى أخلاق في الصعيد الاقتصادي، مما أدى إلى خلخلة النسيج الاجتماعي والإنساني وإحداث الصراعات، والنزاعات الدولية، خاصة الاستعمار، وغزو العالم الثالث تحت ذرائع متعددة.

كما أن البحث على ثقافة الرفاه في العيش قد كانت شيمة وخاصيّة من خصائص المجتمعات الحديثة، حيث تحول الرّفاه من مطلب إنساني إلى هوس هستيري لأجلها يتم دوس الأسس الأخلاقية، والقيمية وتمجيد الإباحية والعدمية.

وقد أدى كل ذلك إلى أزمة في القيم تجلّت في خلوّ وفراغ العالم من المعنى منها : نزعة التمركز حول الذات وفرض الحضارة الغربية، ومصالحها على جميع مجالات الحياة على حساب باقي الثقافات، فالغرب هو المركز والباقي هو الهامش وهي الثقافة التي تدّعي الإنسانية في الظاهر ثم لتفرض نفسها بقوة البارود.

ص: 278

العنف وإزالة الاستعمار:قراءة الثورة الجزائرية وفق نظرية فرانز فانون

اشارة

جلة سماعین(1)

تناقش هذه الدراسة الجدل والمناقشات المتعلقة بمسار الثورة الجزائرية المنقسم بين فريق الداعين لأسلوب المقاومة والكفاح المسلح لتحقيق الاستقلال، وفريق آخر يرى في النضال السياسي والكفاح السياسي السلمي الطريق الوحيد إلى ذلك، وهم من اعتبرتهم فرنسا نموذجاً «للاعتدال السياسي». ولإبراز أهمية المقاومة المسلحة في إزالة الاستعمار، تتناول الدراسة فئة اجتماعية ثورية يمثلها الفلاحون وسكان الأرياف من خلال نظرية فرانز فانون عن العنف والحرية. لقد كانت هذه الفئة عصب الثورة ورمزاً لاسترجاع الأرض ،والسيادة، ولكنها بالمقابل تعرضت للتهميش وانتقصت من أدوراها بعض النخب السياسية والثقافية، سواء إبان الثورة التحريرية أو بعد الاستقلال.

على الرغم من الإنجازات التاريخية التي قدّمتها الحركة الوطنيّة الجزائريّة منذ

ص: 279


1- باحث متخصص في العلوم السياسية والعلاقات الدولية - الجزائر.

تأسيس حزب «الجزائر الفتاة» على يد الأمير خالد الهاشمي، حفيد الأمير عبد القادر، في 1919 وصولا إلى حزب نجم شمال إفريقيا وحزب الشعب الجزائري وباقي الأحزاب والجمعيات الوطنية لغاية 1954، والتي ساهمت كلّها في الدفاع عن حقوق الجزائريين وتطوير وعيهم القومي وتلقينهم أصول العمل السياسي، فإن الاستعمار الفرنسي الذي كان يعطي هذه الأحزاب جرعات من الممارسة الديمقراطية بهدف تحسين صورته داخل وخارج القطر الجزائري كان في الجانب الآخر يكشف عن وجهه الوحشي وقوته الاستعمارية بتجويع الشعب ومصادرته أراضيه، ومحاصرة تحركاته وقمع نشاطاته وتدجين هويّته. وتُعد أحداث 8 ماي 1945 في الشرق الجزائري التي راح ضحيتها قرابة 45000 جزائري خير دليل على منطق الاستعمار في التعامل مع الشعوب المستعمَرة وأبلغ حجة على عنصريته وجرائمه وحقيقة «المهمّة من أجل التحضّر» (mission civilisatrice) التي أراد إنجازها في الجزائر وباقي المستعمرات.

حين أدرك مجموعة من المناضلين في المنظمة الخاصة (OS)؛ وهي منظمة عسكريّة سريّة تأسست في 1947 من قبل بعض مناضلي «الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية» (MTLD) التي كان يرأسها مصالي الحاج (وهي غطاء رسمي لحزب الشعب الجزائري الذي أسسه مصالي وحلّته السلطات الفرنسية في 1939 وأتم نشاطه فی السريّة). استحالة تحقيق الاستقلال واسترداد الحقوق بلغة السياسة؛ خصوصا بعد مأساة مجزرة ماي 1945 وتزوير فرنسا لانتخابات 1947 التي شارك فيها حزبهم. بادرت إلى تجميع الأسلحة والتخطيط لاندلاع ثورة كبرى تشمل كل مناطق الجزائر وتُشرك فيها مختلف الشرائح في المدن كما في الأرياف. وبعد أن اكتشف الاستعمار في 1950 أنّ المنظمة سيُقْدمُ بعض أعضائها في 23 مارس 1954 لتشكيل «اللجنة الثورية للوحدة والعمل» (CRUA) ؛ وهي طرف ثالث محاید بین طرفین متصارعين من حزب الشعب MTLD المصاليون المطالبون بسلطة مطلقة لرئيس الحزب مصالي، والمركزيون (الإصلاحيون) الذين أرادوا تغليب قرارات اللجنة المركزية للحزب. سيكون لأعضاء اللجنة الثورية بعد نجاحهم في عقد اجتماع الأعضاء 22 الدور الرئيسي في إطلاق شرارة أول نوفمبر 1945 أين يعلن عن ميلاد جبهة التحرير الوطني.

ص: 280

كان محمد بوضياف (الرئيس الجزائري المغتال في (1992) هو المحرّك والمدبّر الأساسي للثورة، وقد تم تعيينه منسِّقا لها في إطار مجموعة الستّة التي صاغت بيان أوّل نوفمبر والمكوّنة من : مصطفى بن بولعيد ديدوش مراد العربي بن مهيدي، رابح بيطاط كريم بلقاسم ومعهم المناضلين الموجودين في القاهرة وهم: أحمد بن بلّة، حسين آيت أحمد لقد آيت أحمد ومحمد خيضر. سمح الكفاح المسلح الذي يقوم على مبدأ القيادة الجماعيّة بتجاوز استبداديّة بعض رموز الحركة الوطنية وانفرادها بتقرير مصير الشعب كما كان الأمر مع مصالي الحاج أو فرحات عباس وبعض علماء جمعية العلماء المسلمين. لتضع الثورة الجميع أمام واقعية النضال وأساليبه الفعّالة لتحقيق الاستقلال، ولتستجيب لطموحات الجماهير الثائرة التي طال انتظارها لهذه اللحظة.

غير أن موقف الأحزاب الجزائرية كان يسير في عكس حماسة أصحاب نوفمبر، فقد عارضت منهجيّة العمل العسكري الذي يديره حسب اعتقادهم مجموعة من الشبّان المغامرين أقدموا على تصرفات فردية غير محسوبة، والتي لربما ستعصف بسنوات النضال السياسي التي خاضوها مع الاستعمار وستقوض مشروعهم السلمي لتحقيق الاستقلال (رغم الاضطهاد والسجن المستمر الذي تعرض له رؤساء هذه الأحزاب)، فمصالي الحاج رئيس حزب الشعب (يُوصفُ من قبل بعض المؤسطرين لشخصيّته بأب القومية والحركة الوطنية) ظل لغاية استقلال الجزائر معارضاً لهذا النهج الثوري واعتبر كلاً من المصاليين والمركزيين في جريدتيهما الصادرة باللغة الفرنسية أن انفجارات نوفمبر العظيمة هي مجرد «أحداث (événements) خطيرة» وهی «اعتداءات».(1) (attentas) واللافت أيضاً أن الحزب الشيوعي الجزائري المرتبط بالحزب الشيوعي الفرنسي لم يساند الكفاح المسلح أو يقبل بمنهجه، وهو الذي يرفع شعارات الثورة والصراع ضد الرأسمالية والاستغلال. «لقد كان يرى الشيوعيون أن الثورة لا يمكن أن تقع إلا نتيجة الصراع الطبقي، ولكن ثورة أول نوفمبر لم تكن كذلك، بل هي ثورة فلاحين ومثقفين محرومين تدفعهم الروح الوطنية

ص: 281


1- أنظر مولود قاسم نایت ،بلقاسم ردود الفعل الأولية داخلا وخارجا على غرة نوفمبر الجزائر: دار الأمة، (2007) ص ص 62.

وتغذيهم المبادئ الإسلامية»(1)، غير أن بعض الشيوعيين سيلبّون بشكل فردي نداء الجبهة. أما فرحات عباس، رئيس حزب «الاتحاد لأجل البيان الديموقراطي»، فقد علّق بأن الكفاح المسلّح وليلة أول نوفمبر تعبّر عن «اليأس والفوضى والمغامرة»(2)، ولكنّه انضم لاحقاً للثورة (في ميدانها السياسي) وترأّس الحكومة المؤقتة الجزائرية المشكلّة في 1958. وبخصوص موقف جمعية العلماء المسلمين، فقد كان متذبذبا ولم تعبّر الجمعية عن مساندتها لبيان أول نوفمبر ومجموعته الثورية، وهذا ما يظهر في افتتاحيات جريدتها «البصائر» وبررت موقفها باجتناب «التسرع» في اتخاذ موقف أحداث غير معروفة هويّتها، لتتخلَّف بذلك الجمعية بقصد أو بدون قصد عن نداء نوفمبر، بل واعتبرت ثورة نوفمبر نتيجة استياء الشعب الجزائري من الأوضاع السوسيو - اقتصادية والسياسية المتدهورة وعلى فرنسا الإسراع بتحسينها، لكن مواقف الجمعية ستتغير لاحقا وسينضم العديد من أعضائها لركب الثورة، خصوصا في أواخر 1995 بعد ظهور جناح على يد العربي التبسي والشيخ حماني ورضا حوحو يؤيد الكفاح المسلح ويدعو للجهاد، وبعد الحزم الذي أبدته قيادة جبهة التحرير الوطني مع علماء الجمعية(3).

كان تخوف قادة الحركة الوطنية الجزائرية من الثورة ينبع من الاعتقاد بعدم أهليّة المجتمع الجزائري لخوض الكفاح المسلح ، واعتبروه مجتمعاً هشاً، مفككاً ومحاصراً لا يملك الإمكانيات الماديّة والجاهزيّة الفكرية بل حتى الوعي القومي لمجابهة فرنسا، إحدى أكبر القوى العالمية آنذاك. لذلك أبدوا انزعاجهم وتشاؤمهم من اندلاع ثورة نوفمبر التي انطلقت دون أن يكونوا جزءا من قيادتها، بل وراهنوا على فشلها لأنها تفتقر للنخبة السياسيّة الحكيمة وخبرة التعامل مع الاستعمار كما يتمتعون هم بذلك. وبعد الاستقلال برزت نقاشات أكاديمية وسياسية تُعيد تقييم تجربة الكفاح المسلح

ص: 282


1- محمد العربي الزبيري الثورة الجزائرية في عامها الأول (قسنطينة دار البعث للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، (1984) ص166
2- المرجع نفسه، ص 151.
3- لمزيد من التفاصيل أنظر مولود قاسم نايت بلقاسم المرجع السابق، 65-68 و ص ص 70-77. ولمزيد من التفاصيل حول تعامل جبهة التحرير الوطني من طريق القيادي عبان رمضان بتردد الجمعية أنظر محمد العربي الزبيري، الثورة الجزائرية في عامها الأول ، مرجع سابق، ص ص 181-191.

وبرز فريق يؤكد أنه كان بالإمكان تحقيق الاستقلال دون حصيلة بشرية هائلة تجاوزت المليون ونصف الميلون ،شهيد، ويعتقدون أنه لولا «مغامرة نوفمبر» التي راهنت على عامة الشعب وسكان الأرياف الذين لا يفقهون تدابير السياسة ولا يفهمون «عقل المستعمر»، لتمكن زعماء الحركة الوطنية أمثال مصالي الحاج وفرحات عباس من تحقيق الاستقلال بالأساليب السياسيّة وتفادوا تدمير المجتمع الجزائري الذي مارس ومورس عليه العنف. لكن رغم كل هذه المواقف التي أبدتها الحركة الوطنية اتجاه جبهة التحرير الوطني وثورة نوفمبر ، لا يمكن بأي حال من الأحوال الحكم بخيانتها أو تخاذلها أو نقص في روحها الوطنيّة وعدم إيمانها باستقلال الجزائر، بل كانت ترى أن هناك منهجية أخرى لتحقيق هذا الاستقلال، وهي حالة عايشتها وتعيشها تقريباً كل حركات التحرير الوطني عبر العالم. نتطرق فيما يلي إلى هذا الجدل مبرزين وفق منهج فرانز فانون وضعيّة الفلاح الجزائري ودور العنف والثورة في إزالة الاستعمار.

أولا: الفلاح وإزالة الاستعمار العنف التحرّري في مواجهة العنف الكولونيالي

إن عمليات التأريخ الجزائري مليئة بالمناقشات حول تكوّن الوعي السياسي والقومي لطبقة الفلاحين والريفيين بصفة عامة حول أصوله ومميزاته ومستوياته داخل البنيات الاجتماعية التي لطالما اعتبرتها العديد من المؤرخين وعلماء الاجتماع منقسمة ومتصارعة، وفي المقابل دافع عن أدوارها آخرون أكدّوا أنّ أولى ردود الفعل السياسيّة والدفاعيّة منذ الغزو الاستعماري الفرنسي كانت في الريف، وتعززت في ثورة الأمير عبد القادر وغيرهم إلى غاية تمرد 1871 يشرح عالم الاجتماع الجزائري مصطفى لشرف ذلك فيقول:«هذا التضامن الجماعي كان ثمرة شعور وطني غير صريح، ولكنه مع ذلك متمكّن من النفوس، كما أنه وليد الإحساس بوضعية واحدة هي وضعية الفلاح في بلد تقاليده الريفيّة عريقة وظروفه المعايشة قاسية أحيانا غدَّارة، وتعاون سكانه في المحن والأهوال والشدائد معروف ولا يحتاج إلى دليل»(1).

ص: 283


1- مصطفى لشرف، الجزائر الأمة والمجتمع. ترجمة: حنفي بن عيسى (الجزائر، المؤسسة الوطنية للكتاب، طبعة (1983 ص 13

وهكذا يتبين أن وطنيّة الفلاحين في الجزائر كانت في الفترة الممتدة ما بین و 1871 ظاهرة عمَّت سائر أرجاء البلاد وتغلغلت في النّفوس، ولئن لم تتبلور تلك

الظاهرة في فكر عقائدي واضح، فقد كانت بدون جدال ذات أبعاد قوميّة»(1).

ومن الجانب النظري هناك عدة تفسيرات تتساءل عن قيمة الدور الثوري للفلاحين ودوافعه باستعمال مناهج التاريخ المقارن وفحص أنظمة الحكم السائدة في المجتمعات لعلّ أكثرها علميّة وأصالة تحليلات بارينجتون مور (Moore Barrington) في كتابه (الأصول الاجتماعية للدكتاتورية والديمقراطية: اللورد والفلاح في صنع العالم الحديث) حيث حاول الكشف عن كيفيّة وصول بعض المجتمعات في مسارها التاريخي إلى الديمقراطية وأخرى إلى الدكتاتورية من طريق ثورات الفلاحين وبفعل صراع اقتصاد المزارع ضد الاقتصاد الصناعي، فقام بعقد تاريخ مقارن بين التجارب الفرنسية والانجليزية والأميركية ودول آسيا، وبرهن على دور هذه الطبقة في القضاء على الإقطاع والرأسمالية الصناعية الناشئة: «لذلك من الإنصاف الاعتقاد بأنّ طبقة الفلاحين كانت الفيصل في الثورة، وإن لم تكن قوّتها المحركة الأساسية، فقد كانت قوة على قدر كبير من الأهميّة، وإن كانت مسؤولة إلى حد بعيد عما يبدو - إذا نحن عدنا إلى الوراء - الانجاز الأهم والأطول بقاءً، وهو القضاء على الإقطاع»(2). ويتجه بعض المؤرخين لتفسير نضال الريف في التجربة الجزائرية أحيانا بصراع المجتمع الزراعي ضد المجتمع الصناعي الرأسمالي ويتعاملون مع الأمر من منظور طبقي ومن خلال تطبيق النماذج الماركسية، لعل أبرزها تحليلات روزا لكسمبورغ في كتابها (تراكم رأسمال) حول صراع الطبقات في الجزائر، بحيث «تعتبر أن أشكال المقاومة لا تعبّر عن ردة فعل ذات حسّ وطني، لأن المسألة القومية بالنسبة لها ليست سوى خدعة، ولكنها تعطي أهمية لهذه القوى التي ستترجم كصراع ضد السياسة الإمبريالية»(3).كما ذهب مور إلى اعتبار «أنّ

ص: 284


1- المرجع نفسه، ص 135
2- بارينتجون مور، الأصول الاجتماعية للدكتاتورية والديمقراطية: اللورد والفلاح في صنع العالم الحديث. ترجمة أحمد محمود (لبنان): المنظمة العربية للترجمة ومركز دراسات الوحدة العربية (2008) ص 112
3- René Gallissot, Marxisme et Algérie (Alger: ENAG Editions 1991) pp 173- 175.

السّمة الأساسية المميزة لثورات القرن العشرين المعادية للاستعمار هي السعي إلى إقامة شكل جديد من المجتمع ذي عناصر اشتراكية، بحيث يمثّل التخلّص من النير الأجنبي وسيلة لتحقيق تلك الغاية»(1).

بالرغم من عمق هذه التحليلات، فإننا نرى أن هناك دوافع أخرى لثورة الفلاح تتعدى العقار والملكية، وعدالة التوزيع، إلى ما يسمّيه فانون صراع المستعمِر والمستعمَر، أين تتبدل المهمَّة لتصبح مهمة إزالة الاستعمار،«فالقيمة الأساسية عند الشعب المستعمَر هي الأرض، لأنّها هي القيمة المحسوسة الملموسة، الأرض التي تكفل الخبز والكرامة طبعا»(2). فإن نجحت الماركسية في تفسير كيف يجد الفلاح الخبز دافعا للثورة، فإن الكرامة والحرية والسيادة ستشكل معالما أخرى للتحليل الثقافي للثورة.

ولكن لماذا فانون؟ وما ميزة طرحه ؟ إن اختيارنا لفانون جاء بعد أن وجدناه يُجيب على العديد من الأسئلة التي يمكن أن تواجهنا، والعديد من المعضلات والتناقضات التي تعترض الباحث خلال محاولة اطلاعه على دور الريفيين في الثورة، خصوصا الجدل الدائر حول نشاط المدينة السياسي و «تهوُّر» الريف، أو كما فعل حربي في ادِّعاءه أسطرة دور الفلاحين في الثورة» ضمن ثلاثية الأساطير التي أسندها لحزب جبهة التحرير الوطني (FLN). نجد لدى فانون الإجابة عن سؤال مركزي شبيه بما أثاره مور في بحثه : «هل كان العنف ضروريا للحرية ؟(3)إلى سؤال آخر:«ما تكلفة عدم القيام بثورة» (4).

قبل التطرق لكتاب فانون، وجب إعطاء بيوغرافيا موجزة. فقد ولد فانون في 20 يوليو 1925 في بلدة ال (فور دو فرانس) في جزر (المارتنيك) من عائلة الموظفين شارك في الحرب العالمية الثانية، وأُرسل في بعثة تطوعيّة عام 1943 إلى شمال إفريقيا ومكث

ص: 285


1- مور، المرجع نفسه، ص 151.
2- فرانز فانون معذبو الأرض ( الجزائر، موفم للنشر ENAG. طبعة 2007، طبعة خاصة بمناسبة الجزائر عاصمة الثقافة العربية ص 10
3- مور المرجع نفسه، ص 10
4- المرجع نفسه ص. 13.

ببجاية، غير أن إصابته بجروح بالغة عام 1945 ستعيده إلى المارتنيك أين سيواصل دراسته، ويتلقّى تعليمهُ على يد أستاذه ايمي سيزار في عام 1947 سافر إلى فرنسا بعد حصوله على منحة دراسيّة، وأنهى أطروحته عام 1951 وحضر لامتحان الداخلية المستشفيات الطب النفسي، صدر له من دار سوي (Seuil) كتاب (سود الوجوه، بيض الأقنعة) الذي يبرز فيه تأثيرات العنصرية وحقيقة المنظومة الاستعمارية، وفي عام 1953 نجح في مسابقة الالتحاق (ميديكا Médicat) لمستشفيات الأمراض العقلية والتمس منصبا في البليدة (Joinville) ساهم كجزائري في ثورة التحرير وجمع الأدوية للمجاهدين، والتحق عام 1956 بلجنة التنسيق والتنفيذ (C.C.E)، ومثَّل الجزائر في مؤتمر الشعوب الإفريقية عام 1958 و 1960 ، وعُيِّن ممثلا دائما للحكومة المؤقتة الجزائرية بأكرا عام 1960، أصيب بسرطان الدم وأرسلته المنظمة إلى الولايات المتحدة الأميركية. وتوفاه الأجل يوم 6 ديسمبر 1961 ، بعدما أتم كتاب «معذبو الأرض»، وشاهد نسخة الكتاب الأولى في نوفمبر من نفس السنة، وقام جون بول سارتر بوضع تقديم له في النسخة الفرنسية التي ستصدر عن دار ماسبيرو عام(1) 1962.

المسألة الأساسية التي يعالجها فانون في كتابه هي محو الاستعمار،وسيصبح هذا الكتاب كما أوضح ستيوارت هال بأنه «إنجيل إزالة الاستعمار the Bible of Decolonization(2)) ، والعنف هو أساس هذه الإزالة،«لأن الاستعمار إنما هو عنف هائج لا يمكن أن يخضع إلا لعنف أقوى»(3)، واستطاع أن يصل إلى ذلك عبر تجربته النضاليّة داخل جبهة التحرير الوطني، ويتأكد بأن المشكلة الرئيسية بين المستعمِر والمستعمَر تحلّ بالثورة:«إن العنف هو الطريقة المثلى، لأنّ الإنسان المستعمَر يتحرر في العنف»(4). فتصفية الاستعمار يعطي المعنى الوجودي لحياتهم.

أدرك فانون من خلال تشريحه لنفسيّة المجتمع الجزائري الجماعيّة ومعرفته آلام

ص: 286


1- مقتبس من تقديم كلودين شولي (بتصرف) لكتاب معذبو الأرض، المرجع نفسه، ص ص VIII-XIV.
2- Robert J. C Young, Postcolonialism, an historical introduction (UK: Blackwell Publishing, 2001) p281.
3- فانون، المرجع نفسه ص 28
4- المرجع نفسه ص 10

الفرد المضطهد والمشوّش أن حقيقة النظام الاستعماري لا تعرف في الخطابات والتشريعات وجرعات من الديمقراطية الانتخابية لهذا الحزب أو ذاك، ولكنها تعرف من تجسّدها كواقعة فعلية في التعذيب الممارس على الفرد، فاستطاع من خلال هذا الفرد أن يصوّر آلام كل المجتمع الجزائري، إذن «فتحليله يتأسس حول نتائج الاستعباد ليس فقط للشعب ولكن للذوات وشروط تحريرهم، التي هي قبل كل شيء تحرير الفرد إنها تمثل انعتاق الذات من الاستعمار»(1).

لكن «إذا كان محو الاستعمار هو حدث عنيف دائما»(2)، فإن ذلك يعني القيام بالثورة، وهذا أمر فيه نوع من الخطورة، وحسب مواقف بعض رموز الحركة الوطنية الجزائرية هو «مغامرة» وأخذ البلاد إلى «المجهول»، أو هو عمل حسن «لكن يجب الانتظار»، أو أنه مجرد «طيش وحماس شبّاني». لا يهمل فانون تلك الشكوك التي يمكن أن تهدم فلسفته في الثورة، ويتساءل مكانهم متى يمكن القول أن الوضع قد نضج إلى الحد الذي يجب فيه القيام بحركة تحرير وطني؟ ومن هي الطليعة التي أن تقوم بتلك الحركة ؟» (3). يجيب فانون عن التردد الذي تعرضت له الأحزاب

السياسية حول استعمال القوة لإزالة الاستعمار، وموقفها من طبقة الفلاحين ومراهنتها على تفريغ العنف بطرق سياسيّة فيقول:«إن الدعاية التي تتقدم بها الأحزاب السياسية تغفل طبقة الفلاحين دائما مع أنّ الواضح أن طبقة الفلاحين في البلاد المستعمرة الطبقة الثورية الوحيدة، إن هذه هی الطبقة لا تخشى أن تخسر بالثورة شيئا، بل تطمع أن تكسب بالثورة كل شيء، والفلاح، المنبوذ الجائع، المستغَل الذي يكتشف قبل غيره أن العنف هي الوسيلة المجدية، إنه امرؤ ليس عنده حل وسط، والقوة وحدها هي التي تحدد بقاء الاستعمار أو زواله»(4).

لم يكن هذا الدور الطليعي لطبقة الفلاحين جديدا ، وإن وصف أحياناً تمرداً أو

ص: 287


1- Alice Cherki, Préface, Frantz Fanon, Les damnés de la terre (Paris: Éditions La Découverte Syros, 2002) p 90.
2- قانون المرجع نفسه ص 10
3- المرجع نفسه، ص 25
4- المرجع نفسه، ص ص 28،27.

حرباً، فإنه لا جدال شكَّلَ ثورةً وهذا ما أكّده لشرف في كتاباته يعلن بصراحة :«إننا نقول بأن مقاومة الفلاحين الطويلة يمكن أن تعتبر إلى حد ما مقاومة ثوريّة، لأن الفلاحين هم الفئة الوحيدة التي كان نضالها مستمراً نسبياً، وهذا يرجع إلى أن الغزو الفرنسي وابتزاز الموارد الطبيعية، وحرب التحرير، كل ذلك وقع في ثلاثة أرباع سكّانها من أبناء الريف الذين كانوا من أنصار الكفاح المسلح»(1)، فالأرض التي صوِّرت على أنها مصدر اقتصادي وفقط، ستبعث بروحها الصلبة إلى قلب الفلاح «وستصبح القضية هي قضية استرداد الأراضي من الأجانب، هي قضية كفاح وطني هي

قضية ثورة مسلحة، الأمر بسيط وواضح»(2).

حول موقف فانون من الأحزاب السياسية، يمكننا أن نؤكد على أن غرضه كان إقامة الضديّة بين المستعمِر والمستعمَر، وتهجّمُه على البرجوازية الوطنية لم يكن لذاتها، وإنما نقدا لممارساتها السياسية والانتخابية التي ترى في الريفي (صوتا) وليس إنسانا يطلب حريته وأرضه. ونقده منصّب حول هذه النظرة التي لا تختلف عن نظرة المستوطنين يشرح ذلك فيقول:«إن الأكثرية في الأحزاب الوطنية تشعر اتجاه الجماهير الريفية بحذر كبير، وارتياب شديد وما يلبث أعضاء أحزاب الحركة الوطنية من عمّال المدن والمثقفين أن يصبح رأيهم في سكان الأرياف كرأي المستوطنين» (3). واصفين إياهم باللاّعقلانية السياسية أو القصور في الرؤية القوميّة، وبعد اندلاع الثورة «فإن صمت المدن يولد في نفس الفلاح شعوراً مُراً بأن قسماً بكامله من الأمّة يكتفي بمشاهدة المعركة ولا يزيد على عد الضربات»(4).

مهما يكن من أمر ، هناك مواقف تعتبر فانون منظّر الثورة الجزائرية بعد التحاقه بجيش التحرير، وفي هذا الصدد لا يكف الأكاديميون عن طرح السؤال: هل خدمت الثورة التحريرية نظريّة فانون أم هو نظَّر لها؟ يجيب أحد أصدقاء فانون: «إن عنصر

ص: 288


1- لشرف، المرجع نفسه ص 36
2- المرجع نفسه، ص 95
3- المرجع نفسه، ص 75
4- المرجع نفسه، ص 110.

الريف والفلاحين والقيمة التي أعطيت لهما في الثورة الجزائرية كانت موجودة في الجزائر منذ اندلاع الثورة، بل وحتى قبل نوفمبر 1954 والثورة الجزائرية تطورت بالريف وتمركزت بالريف حتى قبل أن يلتحق بها ،فانون، وقبل أن يعرفها بل أن 10 نوفمبر 1954 نفسه كان إلى حد ما نتيجة لانتصار المفهوم المنادي بالاعتماد على الريف في الثورة ضد الدعوة الأخرى التي ترى أن أيّ تغيير سياسي لا يمكن أن يتم إلا عبر المدن إذن فالتأثير الحاسم في هذا المجال كان من الثورة الجزائرية في اتجاه فانون وليس العكس»(1)

ويبرز سؤال آخر: ما الفرق بين ما قدَّمته الماركسية الثورية وفانون؟ فالواضح أن هذه الأفكار الثورية كانت تشكل فلسفة الحركات التحرّرية آنذاك، زد على ذلك ففي المؤتمر الثاني للأمميّة الشيوعية وتحت «مسودّة أوليّة لموضوعات في المسألة القوميّة ومسألة المستعمرات (1920)» دعوة للفلاحين إلى التمرّد ضد أشكال الإقطاعية، دعوة صريحة إلى :«السعي لإعطاء حركة الفلاحين طابعا ثوريا ما أمكن مع تحقيق تحالف ما أمكن بين البروليتاريا الشيوعية في أوروبا الغربية وحركة الفلاحين الثورية في الشرق في المستعمرات والبلدان المتأخرة بوجه عام»(2). نؤكد حول هذه النقطة أن فانون تجاوز الشّعار اللينيني والتقسيم الطبقي للجماهير،«فهنا، ومن خلال إعادة بناء ديناميكيّة ،الطبقة، يقوم فانون بتنقيح جوهري لتصنيف ماركس، وتحويل الصراع الطبقي إلى الانقسامات التي هي بين المستعمِر والمستعمَر، على الرغم من أن مشابهة طبقة المستعمِر والمستعمَر وجدت كحالة مماثلة تم تعميمها، بعد التمييز الذي قدمه سلطان غالیف Sultan Galiev بين الأمة الرأسمالية والأمة البروليتارية، غير أن نموذج فانون يبقى قبل كل شيء ملائماً للمجتمعات المستوطنة»(3).

ص: 289


1- محمد الميلي، فرانز فانون والثورة الجزائرية الجزائر : دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى 2010 ص 53.
2- لينين عن التحرر الوطني والاجتماعي. ترجمة: الياس شاهين (موسكو، دار التقدم (1976) ص 295
3- Robert J.C Young, Ibid..m279.

ثانياً: فانون versus بورديو وحربي

أمام هذا التباين في طبيعة المسار الثوري الذي كان يجب أن تسلكه الجزائر نحو الاستقلال، نلجأ إلى عقد محاورة افتراضية بين حربي وفانون بالرجوع إلى ما كتبه كل واحد منهما، فهما يحملان طرحان مختلفان للثورة. فالأول يركز على دور الفئات الاجتماعية في المدينة (نخب سياسية وحركات عماليّة ونقابيّة) وعلى عملها السياسي والنقابي والتي كان بمقدورها تحقيق الاستقلال بطرق سلمية دون اللجوء إلى العنف والثورة، تماما كما حصل مع السنيغال في استقلالها عن فرنسا بقيادة الشاعر والنقابي ليوبولد سنغور ، بينما يركز فانون على حتميّة الكفاح والثورة من أجل انتزاع الاستقلال والحريّة والتي أبطالها طبقة الفلاحين.

حربي:«بالنسبة لمن عايش التجربة الوطنية الجزائرية يمكن تلمس بذور أفكار فانون بأشخاص التقوا به، ويتعلق الأمرب«عمر أو صديق» الذي مهّد له معرفة تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية وساهم معه في تشكيل برنامج المجلس الوطني للثورة عام 1959، وعليه فيجب أن نفهم أو صديق لكي نعرف ما اقتبس منه فانون»(1). ولكن ما ميزة الأفكار التي كان يحملها أو صديق ليترك كل ذلك الصدى في نفس فانون؟ طرح حربي:«فإنه كان يخلط عناصر التقاليد الريفيّة وعناصر النزعة الوطنية والثورية، ففي عام 1949 كان من بين أولئك الذين اتهموا قيادات حزب الشعب الجزائري بالجزائر العاصمة بأنهم مجرد مؤيدين للاستراتيجيات الانتخابية، وأوضح أن المناطق الريفية هي مستقبل البلاد، في الواقع فإنّ تاريخ الريفيين كمستقبل للبلاد ساهم في تشكيل تصور ، تماما كما نجده لدى عالم الاجتماع المؤرخ ابن خلدون»(2).

لا يمكن الذهاب بعيدا مع هذا الطرح لسببين في اعتقادي :

1. أن تجربة فانون النظريّة حول دور الفلاحين لا يمكن أن تُختزل في موقف

ص: 290


1- Sonia Dayan- Herzbrun (dir), Vers une pensée politique postcoloniale à partir de Frantz Fanon. (Paris: Editions Kimé, Tumultes (Cahiers du Centre de Sociologie des Pratiques et des Représentations Politiques), numéro 31, octobre, 2008) p 11.
2- Herzbrun, Op.cit. p 12.

عمر أو صديق، لقد عايش فانون الواقع الجزائري وتعرف عن كثب على الصراعات السياسية التي كانت تدور بالجزائر منذ اشتغاله كطبيب نفسي في البليدة في ديسمبر 1953 ، بل إنه اختزن آلام الفرد الجزائري من خلال تطبيقاته الميدانية، التي ستساهم فيما سيكتب لاحقا في (معذبو الأرض). فالكتاب لم يكن إطارا نظريا إلا بعد أن تعرف على الأدوار البطولية للريفيين ودور (العنف) كاختيار سياسي لتحرير الأرض، بعدما خيب الشيوعيون الفرنسيون أمله يقول الميلي حول هذه النقطة :«ومما ساعد على تداخل وغموض هذه النقطة بالنسبة للباحثين الغربيين أن هنالك عنصرا بارزا من عناصر التعاطف بين فكر فانون وبين فكر الثورة الجزائرية يتمثل في الفلاحين والريف، فالكتّاب السياسيين الزنوج الذين أعجب بهم فانون في المرحلة الأولى لتكوينه الفكري مثل ايمي ،سيزار كانوا قد استداروا نحو الفلاحين ونحو الريف بحثا عن قيم يمجدونها، ولو كانت قيما فلكلورية، حتى يعتزوا بها في وجه الثقافة الغربية وتياراتها الكاسحة التي تريد تذويب كل شيء في ثناياها»(1).

2. إن فانون قد فوجئ بالثورة، وتأكد له دور الريف لاحقا من خلال مساره الذي كان جزءا منه «ومما لاشك فيه أن احتكاك فانون قبل نوفمبر 1954 ببعض الأوساط الأوروبية من جهة وببعض أوساط النخبة الجزائرية من جهة أخرى، لم يساعد على إعداده لتقبّل هذه الثورة من أول يوم»(2).

حربي: «الكفاح المسلح أحدث اضطرابا في الشروط المألوفة للوجود، ورمى بالأفراد في زمن مقلق، وأظهر الفتن التي ستصيب المجتمع في أعماقه. ولكن، وبواسطته، لم يستطع أن ينتج أشكالا جديدة للحياة»(3).

ص: 291


1- محمد الميلي، المرجع نفسه، ص 25.
2- المرجع نفسه، ص 78.
3- Mohammed Harbi, 1954, la guerre commence en Algérie (Alger: Editions Barzakh, Décembre 2009) p 167.

فانون: «إن محو (إزالة) الاستعمار، وهو حدث عنيف دائما لا يمكن أن يّعبر عبوراً دون أن يلاحظه أحد، لأنه يتناول الوجود، لأنه يغيِّر الوجود تغييراً أساسياً، لأن أناسا مشاهدين يسحقهم، إنهم ليس لهم ماهيّة ، يأتي محو الاستعمار هذا فيحيلهم أناسا فعّالين ممتازين يدخلون تيار التاريخ دخولاً رائعاً»(1).

حربي: «فكرة الثورة بالريف تعطي الأولويّة للتحليل السياسي، وتهمل الظواهر الاجتماعية والاقتصادية، ومن ثم فهي غير قادرة أن تأخذ في الحسبان تناقضات القومية الجزائرية وتعقد مسارها»(2).

فانون:«إن عقيدة طبقة الفلاحين عقيدة بسيطة : اجعلوا الأمة موجودة ليس ثمة برنامج ولا خطب ولا قرارات ولا اتجاهات. المشكلة واضحة يجب أن يرحل الأجانب»(3).

حربي:«عزل الاستعمار الفرنسي الثورة الجزائرية عن قاعدتها الاجتماعية في الريف، بحصاره حوالي مليوني ريفي داخل المحتشدات»(4).

فانون:«لكن الفلاح الذي يبقى في مكانه يحمي تقاليده في عناد وإصرار، وهو في المجتمع المستعمَر يمثّل العنصر الانضباطي الذي يظل بناءُه الاجتماعي قائما على التواصل بين أفراد الجماعة وعلى ارتباط بعضها ببعض ارتباطا قويا»(5).

حربي:«كان لجبهة التحرير الوطني صعوبات في الاتصال بالريفيين»(6).

فانون: لكن العفويّة هي المسيطرة في هذه المرحلة والمجابهة مجابهة محلية، ففي كل المناطق تنشأ حكومة تستلزم زمام الأمور، ونرى سلطة وطنية في الوديان

ص: 292


1- فانون، المرجع نفسه، ص 20.
2- Harbi, Ibid., p 167.
3- المرجع نفسه، ص 97.
4- Harbi, Ibid., p 13.
5- فانون المرجع نفسه، ص ص .78.77
6- Herzbrun, Ibid., p 13.

والغابات في الأدغال والقرى، إن كل فرد يثبت بنضاله وجود الأمة، ويعمل على أن يكفل لها النصر في المنطقة التي هو فيها (1)»

حربي:«لقد نظمت جبهة التحرير الوطني الفئات الاجتماعية في المدن من خلال إنشاءها العديد من التنظيمات لكن فئتين لم تعرف ذلك الريفيون والنساء»(2).

فانون الفلاحون يندفعون في الثورة بحماسة عظيمة خاصة وأنهم لحظة عن الثبات على طراز من الحياة يعادي الاستعمار بطبيعته... إن أنفة الفلاح وإحجامه عن النزول إلى المدن واشمئزازه من مقاربة العالم الذي بناه الأجنبي»(3). أضف إلى ذلك :«أن الفلاحين الذين ينضجون معارفهم من اتصالهم بالتجربة، يبرهنون أنهم قادرون هم أيضا قيادة الكفاح الشعبي، فالمؤسسات التقليدية تقوى وتعمّق، حتى أنّها قد تتبدّل تبدّلاً حقيقياً:«مجالس الجماعة» التي تفض في الخلافات وتفصل في المنازعات، ومجالس القرى تستحيل إلى مجالس ثورية ولجان سياسية فيظهر في كل جماعة من جماعات المقاتلين وفي كل قرية رجال يتولّون التوجيه السياسي»(4). ويمتد دورهم في تحمّلهم سياسات النخب في المدن، بحيث في بعض الأحيان يحمّل الفلاحون العبء على المدينة حين تتناول حملة القمع البوليسي الحزب الوطني»(5).

حربي:«الخطاب الجدلي حول أن الريفيين كانوا الجبهة الأمامية للحرب يراد منه مصالح سلطوية أكثر مما هو معطى اجتماعي وتاريخي»(6).

فانون:«إن بعض المثقّفين قد قاموا، أثناء فترة الاستعمار بحوار مع برجوازية البلاد الاستعمارية، لقد كان الاستعماريون لا يرون أهل البلاد المستعمَرة إلا كتلة غير متميزة»(7).

ص: 293


1- فانون، المرجع نفسه، ص 98.
2- Harbi, Ibid., p 14.
3- فانون، المرجع نفسه، ص 105
4- المرجع نفسه، ص 110
5- المرجع نفسه، ص 84.
6- Sonia Dayan- Herzbrun (dir), Ibid., p 15.
7- قانون المرجع نفسه، ص 10

لقد شكل الريف الجزائري دعامة للثورة ولأدوار المجاهدين العسكرية والقيادية وهذا ما فصل فيه ميثاق الجزائر 1964 بعد ظهور بوادر الصراع السياسي بين نخبة الاستقلال حول دور المدينة أم الريف، حول أولوية السياسة أم الثورة في التغيير، جاء فيه«مُغفِلِين دور العنف، ويدعون إلى تقديم تنازلات بأي ثمن في تصرفاتهم بأن بذل جهد أكبر في الحرب يقوّض سبل التوصل إلى حل وسط، فإن مؤيدي السياسة المحضة لم يتمكنوا من استيعاب أن قيادة الثورة ليست قضية عسكرية بحتة، بل تمثل قضية سياسية وضعتها برامج ووجهات نظر»(1). وربما هي إجابة مقنعة عن التساؤل الذي أوردناه سابقا على لسان بارينجتون مور.

غير أنه لا يمكن إنكار أن الثورة تدين فى الكثير من إنجازاتها إلى تلك البطولات الفكرية النخبوية، بإنتاجها الصحفي ومقالاتها السياسية.وإلى«السياسة» كبعد ثوري، ولتلك الأعداد من القاعدة المهمّشة داخل الأحزاب الوطنية، إلى«ذلك المناضل الوطني الذي يقرر أن يهجر لعبة التخفّي التي كان يلعبها مع الشرطة، وأن يربط مصيره بمصير جماهير الفلاّحين الذين يغطونه كمعطف»(2). فالثورة «ألغت الحدود الجغرافية بين الريف والمدينة، وانهارت الحواجز الجمركية بينهما، وبذلك فقدت الجغرافيا خاصيتها المادية الطوبوغرافية الهندسيّة، لتأخذ بعداً وطنياً شمولياً»(3). إن الثورة هي ثورة الشعب والأدوار هي كل المساهمات لأولئك الذين لم نعرفهم في الكتب، ولو أنه يتم بطريقة أو بأخرى تركيز الضوء على الشخصيات، فتاريخ الثورة ليس تاريخ الرموز بل هو تاريخ الحركات الاجتماعية التي دعمتها، كما أن محاكمة ذلك الشخص أو ذاك لا تنتقص من نضالات حركته.

إن تجربة جبهة التحرير يمكن أن تلخّص في هذه العبارات من فلسفة الثورة عند

ص: 294


1- Front De Libération Nationale, La Charte d'Alger: Ensembles des textes adoptés par le 1er congre du parti du FLN du 16 au 21 avril 1964 (Commission Centrale D'orientation). Imprimée Sur Les Presse Du Journal AN NASR/Constantine) p 23.
2- قانون المرجع نفسه، ص 92.
3- لعكايشي عزيز، الحضور والغياب لمتخيل الريف ومتخيل المدينة في الشعرية الجزائرية الحديثة»، مجلة العلوم الإنسانية، عدد 25 جوان ،(2006، ص 151

فخته الذي «جعل عبر الثورة،كل ثورة مشروعة. ليس هناك أي حالة مستقرة، ولا

أي عقد نهائي، فالفرد، كما الجماعة، لا يمكن أن يكون مستلبا، والذين خرجوا من الاتحاد القديم بإمكانهم إذا تشكيل اتحاد جديد وتقوية ارتباطهم عن طريق الانضمام الإرادي لعدد أكبر، ولهم الحق في ذلك بلا جدال وأخيرا إذا كان الاتحاد القديم لم يعد له منضوون إليه، وإذا كان الجميع قد تحوّلوا إراديا إلى اتحاد جديد، فإن الثورة بكاملها قد تمت بشكل مشروع»(1). وعليه :«فما هو ملحوظ حول موقف جبهة التحرير الوطني ،وفانون، هو أن يستند ذلك إلى اعتناق الفضائل وضرورة العنف، مع إشارة قليلة إلى أن المجتمع قد اتبع التحرير الذي يفضله»(2). وهذا شكل من أشكال التعبير الديمقراطي حسب وصف المجاهد والسياسي رضا مالك في مذكراته والذي كان موقفه أنه :«على عكس النخبة التي كانت تحاول تحقيق الاستقلال عن طريق الانتقال عبر المراحل، فإن الجماهير كانت جاهزة بشكل كلي، وآنية في حركتها، إن الوعي الثوري الجزائري هو تعبير قوي عن حركة الوعي السياسي لدى الجماهير»(3).

والسؤال المطروح عن دور الفلاح والريف عموما هو كيف استطاع الريف الجزائري المدمَّر والمحاصر سكّانه أن يشكّل الدعامة الرئيسية في التحرير؟ وهل انتفاضته يشكلها وعي سياسي قومي أم ردة فعل على وضع اقتصادي متناقض؟ الواقع أن هذين التساؤلين أنتجا تيارين فكريين متصارعين في تناول أدوار الريف، وقد أشرنا إليهما عبر مناظرة حربي وفانون. لكن العمل المتميز لصياد وبورديو حول الاجتثاث Deracinement (4)كرّس نزعة حداثية ومنظور اقتصاد مجالي في تعريف الريف الجزائري، ونظرية في التغيير الثقافي للمجتمعات التقليدية والريفية. ولا بأس بالإشارة إلى بعض نتائج هذا البحث لأن براديغم الاجتثاث بتعبير كولونا

ص: 295


1- جورج لابيكا، روبسبيير سياسة للفلسفة. ترجمة : منصور القاضي ( لبنان : المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع دار ،مجد الطبعة الأولى (1994) ص 19.
2- Robert J.C Young, Op. cit. p 278.
3- Réda Malek, Guerre de libération et révolution démocratique: écrits d'hier et d'aujourd'hui (Alger: Edition Casbah 2010) p 111.
4- Pierre Bourdieu Et Abdelmalek Sayad, Le déracinement: la crise de l'agriculture traditionnel en Algérie (Paris: Editons De Minuit 1964).

سيُقدّم كثيرا كمصطلح وإجماع علمي حول الريف، وستبني عليه السياسة التنموية التحديثية فيما بعد، مثل إصلاحات الثورة الزراعية والقرى الاشتراكية، ورغبة الانتقال من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث بفعل التحديث كل هذه السياسات ستؤثر على الريفيين، فالسياسة وبفعل هذه الأطروحة، ستدخل التاريخ والزمن لتعريف المجتمع الريفي سواء عبر النظر إلى دوره الثوري، أو بادعائها تدارك التأخير الذي هو فيه»(1). وستنخرط النخب السياسية في تحديث المجتمع رغما عنه»، كما أن البراديغم سيفسر لاحقا تدخل الدولة لإعادة هيكلة الريف.

يقوم البحث الميداني الذي أعده عبد المالك صياد، وبيير بورديو في العديد من المناطق (القالة ،كركرة ، عين ،أغبال القبائل مطماطة الجبابرة) «على الدراسة المونوغرافية للوحدات الاجتماعية المختارة بطريقة منهجية، ساعياً إلى معرفة نتائج سياسة التجميع عبر مختلف الظروف، ومعرفتها من خلال تحليل الثوابت، والكشف عن منطق هذا التطور المتسارع والذي قاد في سنوات قليلة المجتمع الريفي وبشكل نهائي إلى قطيعة مع ماضيه»(2). والدراسة مساهمة في الأنثروبولوجيا الثقافية وعلم الاقتصاد الريفي، تبرز كيف تغيرّت سمات الحياة الاجتماعية التقليدية بفعل تجميع السكان في مراكز مراقبة عسكريا بعد ترحيلهم و»اعتبر ترحيل السكان هذا الأكبر وحشيّة الذي عرفه التاريخ»(3)، وتَمَّ في ظل «زوبعة من النزوح الفوضوي يحددها العمل القمعي»(4)، وظهرت بفعله عادات جديدة، فانقسمت العائلة، وتراجعت المزايا الرمزية لملاك الأراضي الكبار وللشيوخ وتغيرت الهرميّة التقليدية، وتمّ التخلي عن زراعة الأرض، «فالزراعة لم تنتزع عنها القدسيّة وفقط، ولكن تراجعت قيمتها كذلك»(5)، وظهر تقسيم جديد للعمل، أغلب ما يميزه ظهور الأجور والتعاملات النقدية. فلم يعد يعني العمل الزراعي مهنة وشرف ولكن أصبح يمثل أجرا»،

ص: 296


1- Colonna, op.cit, pp 68- 75.
2- Bourdieu Et Sayad, Ibid., p 46.
3- Ibid., p 13.
4- Ibid., P 12.
5- Ibid., P 95.

و«بالموازاة، يتجه نحو التطور نوع جديد من التضامن ليس مبني على القرابة، ولكن شبيه بمثل الذي في الأحياء الفقيرة الحضريّة» (1)فهؤلاء «الحضريّون بلا مدينة» (2)سيتطبعون بسلوك فرداني - اقتصادي حضري، باعتبار أن مراكز التجميع همزة وصل بین المدينة والريف. «فالاتصال مع عالم ،مختلف يمثل في هذه الحالة تقليداً عفوياً استثنائياً»(3). وسيلجأ الفلاح بعد أن فقد كل شيء العمل في مزارع المستوطن ذات المكننة الحديثة، في ظل ثنائية اقتصادية تقليدية وحديثة. ويدخل في تناقضات نفسية، يجسدها الاستعداد «الهابتوس Habitus)»(4) الذي هو : «هيئة عامة ودائمة أمام العالم والغير والفلاح يمكنه أن يظلّ فلاحاً، حتى ولم يعد له القدرة على التصرف كفلاح»(5).

هناك ضرورة منهجية يفرضها هذا العرض وهي توضيح كيف أن «الاجتثاث» سيصبح تقليداً أكاديمياً للتقليل من الأدوار السياسيّة والاستراتيجية للريف إبان الفترة الثانية من سير الحرب باعتبار أن سكانه كانوا محاصرين، أو أن التثاقف الذي سيحصل مع أهل المدن سيمكّنهم من إدراك وعي قومي سياسي. فالمؤرخ الفرنسي بنيامين سطورا يعتبر أن النضال السياسي للفلاحين داخل الحركة الوطنية كان ضعيفاً، وأن «معظم الكوادر الوطنية هم مُجتثين (مُستأصَلين) بعد قطعم مع بيئتهم الأصلية، ويؤدي اندماجهم الاجتماعي غالباً ليصبحوا «ثوَّاراً محترفين»، فالحركة كانت تضم عدداً محدوداً من الفلاحين والمثقفين والذين كانوا بعيدين عن العمل السياسي والتحقوا به في فترة متأخرة»(6). ويمثل قاموسه البيوغرافي لحوالي 800 شخص

ص: 297


1- Ibid., p 134.
2- Ibid., p 117.
3- Ibid., p 123
4- سيشكل الاستعداد الهابتوس Habitus) الصيغة النظرية البورديوية في الفعل الاجتماعي التي صاغها بعد بحوثه بمنطقة القبائل وهو نسق الاستعدادات التي ينشأ عليها الفرد ويكتسبها وهي تتعلق بأربعة مستويات العرفاني والخلقي، وهيئة الجسد والجمالي وهي عموما استعدادات تشتغل وفق أواليات معقدة داخلية تكون حدود النسق وتشكله أي انشاءه الذاتي في استقلالية عن محيطه وتخرج للناس ممارسات تعبر عن الهوة الاجتماعية لصاحبها». بيير بورديو وجون كلود باسرون إعادة الإنتاج: في سبيل نظرية عامة لنسق التعليم. ترجمة ماهر تريمش (لبنان: مركز دراسات الوحدة العربية (2007) ص 387
5- Bourdieu et Sayad, Ibid., p 102.
6- Benjamine Stora, "Faiblesse paysanne du mouvement nationaliste algérien avant 1954), Vingtième Siècle: Revue d'Histoire, No. 12 (Oct-Dec, 1986) p 59.

مناضل تدعيما لهذا المنطلق(1). وبعد أن تنخرط الدولة المابعد كولونيالية في تحقيق سيوظف براديغم الاجتثاث منطلقا لتطوير هاته المجتمعات، ظنا منها أن

التجميع يمثل صيغة تثاقفية وتحديثية فبورديو يعتبر في المقام الأول، أن تدخل السلطات (يقصد الاستعمارية) هو العمل البسيط لوصل المجموعات المختلفة. فتاريخها الحديث ودرجة تثاقفها تحددان مدى سرعة عملية التغيير الثقافي. لقد استند عمل المسؤولين على عزيمة صريحة أو ضمنية على «تطوير» الشعب الجزائري نحو بنيات ومواقف اجتماعية من الطراز الغربي»(2). وأن مَرْكَزَة السكان «ستبني نوعاً جديداً من التضامن المبني على الجوار، ووحدة الشروط الوجودية»(3).

ويمكن إبداء بعض الملاحظات على هذه الطروحات منها: أن الريف الجزائري التقليدي كان في أزمة حتى قبل هذه المحتشدات وزادت هذه الأخيرة مضاعفتها. لقد«أدّى التجميع في كثير من الأحيان إلى سياسة الأرض المحروقة والمناطق المحرّمة»، وكان هناك إخلاء ممنهج للأقاليم المتاخمة للحدود الشرقية والغربية بالجزائر، وتدفّق اللاجئون إلى المستوطنات المجاورة، ووضعوا في مراكز تجميع جديدة التي أنشأت من قبل الجيش بناءا على استراتيجية عسكرية وليس معايير اجتماعية واقتصادية، ففي بداية 1957 ظهرت سياسة منظمة ذات مبادئ توجيهية رسمية تقترح أن تلك المواقع التي اختيرت بشكل سيء ستصبح مؤقتة، وأن تلك المموضعة جيدا ستصبح مناطق ريفية أو مناطق حضرية فرعية، وستحصل على بعض المال والتخطيط. ففي نوفمبر 1959 كان هناك جهد مدني متأخر لتحويل السياسة العسكرية إلى استراتيجية للتنمية ولكن إلى ذلك الحين فإن الضرر الاقتصادي على الريف الجزائري كان بالفعل قد تم»(4). بالإضافة إلى أن الريف لم يكن محاصراً

ص: 298


1- Benjamine Stora, Dictionnaire biographique de militantes algériens 1926, 1954 (Paris: Editions l'Harmattan, 1985).
2- Bourdieu et sayad, Ibid., p 118.
3- Ibid., p 119.
4- Keith Sutton, "The influence of military policy on Algerian rural settlement", Geographical Review, American Geographical Society, Vol. 71, No. 4 (Oct., 1981), p 38.

كله، وإنما ثلث سكانه(1)، أغلبيتهم شيوخ ونساء. وبخصوص التحديث فالعديد من المراكز (قدرت مراكز التجميع حسب كورناتو 2300 مركز) كانت غير مؤهلة ولائقة، والتركيز على دعم بعض المراكز فقط كي تكون موضوعا لممارسة الدعاية لدعم أنشطة فرنسا بالجزائر(2).

والحقيقة أن المحتشدات لم تولِّد سوى بؤساً وتشاؤماً كبيراً:«فمع تزايد الحرب تدريجياً، كثرت المناطق المحرومة. وبدت معدلات جماهير السكان المحوَّلة مقلقة، ففي المساء آلاف الناس يتجولون على الطريق، ويتجمعون في النهاية في مآوي يرثى لها لقضاء الليل. هذا التشرد المعمّم سيخلق مشكلة للجيش الذي فقد السيطرة على السكان، وسيشكل عبئا من عدة نواح : أولا تكتيكياً على الأرض، كما سيعطي صورة سيئة عن الجيش الفرنسي في الساحة الدولية»(3)، وهذا ما تنبّهت إليه جبهة التحرير فاستعملت الوضع في دعاية مضادة، حيث«قدَّم القوميون برنامج التجميع كسلاح دعاية قوي ضد الفرنسيين، إن البؤس والمرارة التي أحدثها ولّدت أرضا خصبة لانتشار الأفكار القومية، لكن ما هو أهم بكثير هو أن القوميين كانوا قادرين على تركيز الاهتمام الدولي حول هذه المسالة الجزائرية من خلال إظهار أن هذه المراكز قلّدتها فرنسا من معسكرات الاعتقال النازية، فالتجميع بالمقابل ساعد جبهة التحرير الوطني لتحويل الهزيمة العسكرية إلى نصر سياسي وعسكري، ولسوء الحظ، ممكن أن يكون هذا أقل عزاء لتلك المجتمعات التقليديّة التي دمر وجودها وأسلوب حياتها بفعل المحتشدات»(4).

ص: 299


1- يشير ميشال كارنتو إلى السرية وتضارب المعطيات الذي اكتنفها إحصاء سكان المحتشدات: ففي 1960 أحصى مركز الإحصاء العام ،2157000 ، وإحصاء رسمي للمفتشية العامة للتجمعات السكانية (IGRP) ب 1958302. لعرض مفصل عن سياسة التجميع في الفترة الكولونيالية وما بعدها، أنظر Michel Cornaton, Les camps de regroupement de la guerre d'Algérie (Paris: L'Harmattan. 1998).
2- Keith Sutton and Richard I. Lawless, "Population regrouping in Algeria: traumatic change and the rural settlement pattern", Transactions of the Institute of British Geographers, New Series, Vol. 3, No. 3, Settlement and Conflict in the Mediterranean World (1978), p 333.
3- Dmoh Bacha, Palestro Lakhdaria: réflexions sur des souvenirs d'enfance pendant la guerre d'Algérie (Paris: Editions L'Harmattan (collection Gravure De Mémoire), juin 2011) p 152.
4- Keith, Ibid., p 334.

يقدم الاجتثاث قراءتين حول التغيير السوسيو - اقتصادي، الأولى: «استئصال» الريفيين من بيئتهم ما يسبِّب أموراً كارثيةً، والثانية : دور عملية «التأصيل» في بيئة جديدة في التثاقف والتمدين وكيف «يشجع على تطورات مثل التي في الأحياء الحضرية» (1) مستعملاً في ذلك الأدوات الماركسية كالتي تتعلق بصيغة النقود التي يفرضها النظام الرأسمالي، مع الوفاء لمنهجية دوركايمية لشرح الديناميكات الداخلية لمجتمع قبائلي مغلق عبر الكشف عن الممارسات المكانية - الزمانية للمارسات الفردية، ودور التمازج الثقافي (métissage culturel ) في التغيير بحيث «أن أصل «تَغير الأزمة» هو خارجي عن الهابيتوس، وفي الحالة القبائلية يأتي من الحداثة الأوروبية»(2). لقد أشارت العديد من نظريات الثقافة إلى التثاقف، لكن ذلك يتم في الحالات العاديّة كالتطوّر، وليس في حالة الاستعمار. فالفلاح المنتمي للقبائل التي أرهقت العدو يعي أنه حوصر كاستراتيجية من هذا الأخير للتهدئة، وعلى مستوى الثقافة «فالسمة الثقافية تقبل، مهما كان شكلها ومهما كانت وظيفتها، قبولا أفضل وتدمج إذا تمكنت من اكتساب دلالة متوافقة مع الثقافة المتقبِّلة. نجد في هذا الصدد، فكرة إعادة التأويل العزيزة على هر سكوفيتس»(3)، فالواضح أن عدم الاستقرار يعني وقتية الأحداث وصعوبة انغراس العادات الجديدة في النفسية الفردية بشكل كلّي، بالرغم من أن التغيير في السلوكيات والممارسات المجتمعيّة لدى الأفراد يستوجب تعديل وملائمة بعض الاتجاهات لتنسجم مع الوضع الراهن المتبدّل. إن سياسة التفكيك النفسي الثقافي لا يمكن أن يعبّر عنها كمهمّة منجزة» بالكامل، وأنه تم بالفعل تهديم التمثلات التقليدية الماضية، فالحاصل عموما أن بعض الاختيارات الثقافية منها ما هو طوعي ناتج عن الوعي الجديد، وأخرى مجبر عليها الأشخاص تحدث

ص: 300


1- Bourdieu Et Sayad, Op. cit. p 153.
2- Paul A Silverstein, «De benracinement et du déracinement », Actes de la recherche en sciences sociales. Vol. 150, (décembre 2003), p 29.
3- دنیس کوش مفهوم الثقافة. ص 97.

تحت إرغام الضروري مع وجود رفض نفسي داخلي للكبار لثقافة (العيب)(1) المتفشية بين الشباب والتي تتم بعنوان الاندماج والانفتاح.

إن الاجتثاث عمليّة عرفتها العديد من المجتمعات ولم يؤدي سوى إلى الهدم حتى في فرنسا نفسها، تقول مثلا إحدى مفكريها:«لقد كان اجتثاث الفلاح في السنوات الأخيرة خطرا قاتلا للبلاد مثله مثل اجتثاث طبقة العمال، ومن بين الأعراض الخطيرة التي كانت في السبع أو الثماني سنوات، هي إخلاء الأرياف،متبوع ذلك بأزمة بطالة حادة»(2). سنجد أن الريف الجزائري قد وُضع بعد الاستقلال أمام براديغميين متصارعين : الأول يجسده فانون متفائل بالريف وبالفلاح ويؤكد على أصالته، والثاني يقدمه بورديو المتشائم من وضعية «الفلاحين المتشائمين»(3).

ص: 301


1- في الورقة الأصلية لنتائج البحث يعبر بورديو عن مفهوم الثقافة بمستواها البسيط وتتمثل في الأنشطة العادية اليومية التي تجسدها شخصية الوضعية. فتظهر عادات جديدة في المحتشدات، خصوصا لدى التردد على المقهى لعب النرد عمل المرأة ... الخ ويفسرانها على أساس رغبة في التخلي عن عبء التقليدية. هذه الممارسات الجديدة تثير استهجان الكبار الذين انتقصت هيبتهم ورمزيتهم وهم يعتبرون أن هذه الممارسات الجديدة تشكل عيبا إذا ما قزرنت بثقافة القبيلة. صاغ الباحثان هذه النتائج نظريا في كتاب ( الاجتثاث) مع اختصار العديد من الملاحظات أو تعديلها. انظر مقالة الباحثان: تلك Pierre Bourdieu And Abdelmalek Sayad, Paysans déracinés: bouleversement morphologiques et changements culturels en algérie », Études Rurales (EHESS), No. 12 (Jan. - Mar., 1964), pp. 56-94.
2- Simone Weil, L'enracinement: prélude à une déclaration des devoirs envers l'être humain, (Paris: Les Éditions Gallimard, 1949) p 60.
3- Deborah Reed-Danahay, ""Tristes paysans": Bourdieu's early ethnography in Béarn and Kabyli", Anthropological Quarterly, Vol. 77, No. 1 (Winter, 2004), p101.

خاتمة

على الرغم من تأكيد بورديو على الحرية الفردية داخل هذا الفضاء فإنه يهمل أن الفعل الفردي بحد ذاته كان تحت الإكراه والانصياع لقواعد المحتشَد أو «السجن الكبير» وأن هذا المكان المحدود في مساحته هو عالم مصطنع بفعل السياسة الاستعمارية العسكرية وليس عالماً طبيعياً. يقودنا ذلك إلى فهم العديد من الأوضاع التي تصادف علاقة المستعمِر بالمستعمَر ويُبرز الاستراتيجيات الحقيقية الكامنة في سياسات تحويل المكان يمكن أن نشير في هذا الصدد إلى قطاع غزة وباقي المدن الفلسطينية، فقد حوّل الكيان الإسرائيلي القطاع إلى محتشد مراقب، وبرزت نقاشات في الدوائر الإسرائيلية الأكاديمية والسياسية عن تحويل القطاع إلى سجن بمعنى الكلمة بما يعيق أيّة تنمية ويشكل للفلسطينيين فضاءً للتدمير الذاتي، أو على العكس يتم تنمية القطاع وتكثيف الخدمات فيه وإنشاء البنى التحتية بشكل قد يؤدي إلى خلق أجيال غير مقاومة حداثيّة وليبرالية، تعهد شروط الحياة الرغدة، وتحرص على الحفاظ عليها، ترفض المقاومة والعنف وهي سياسة اتّبعها ديغول مع الجزائريين، فعمد إلى بحث مشاريع البناءات الكبرى في المدن وفتح مناصب شغل للعاطلين عن العمل بهدف تشكيل فضاء لتعايش المعمّرين مع الأهالي. كما أن المحتشدات الاستعمارية هي استراتيجية عسكرية وليست مدنية بمعنى أنها تعمل على عزل الجماهير التي يتخوف من نشاطاتها الثورية.

إنه من بين أخطر أشكال الاستعمار هو الاستعمار الاستيطاني لأنه يجتث شعباً من أرضه ليمنحها لشعب (أو شعوب) لا يملك فيها الحق التاريخي والقانوني، وما دامت النيّة والأهداف مبنيّة على اغتصاب الأرض، لا يمكن بأي حال من الأحوال تسوية الوضع بالمفاوضات أو النضالات السياسيّة فقط، والتي تطول في مدّتها وتخلق حالة من التهدئة (pacification) وتتسبب في فقد المستعمَر المزيد من الأراضي، كما أن الشعب المعمّر لن يقبل لاحقاً إزالته من الأرض التي ربما بطول عمر المفاوضات وحالة التعايش والاستقرار سيمنح نفسه صفة الأصلي (ينطبق ذلك على

ص: 302

حالة الجزائر وفلسطين، فالمعمّرون الذين أمضوا سنوات في البلدين المستعمَرين إدّعوا لأنفسهم حقوقاً تاريخيةً وقانونيةً أكثر من الشعب الأصلي، بل اعتبروه درجة ثانية في المواطنة). أما بخصوص المراهنة على السياقات الدولية والقانون الدولي فهذا القانون الذي يصمت عن اغتصاب الأرض للوهلة الأولى ولا يدين أعمال المحتل، لا يمكن التعويل عليه مستقبلاً باتخاذ موقف شرعي ونزيه لإعادة الأرض لأهلها. من جهة أخرى، أثبتت الثورة الجزائرية أن العمل السياسي لوحده غير كاف لتحقيق الاستقلال، بل أن المقاومة والعنف الثوري كفيل بتحشيد الجماهير وإزالة الوضع الكولونيالي، وتنشئ هذه المقاومة لنفسها هيئة سياسية تعبّر عن مواقفها وصوتها، وتحدد موقعها ضمن السياسات الوطنية والعالمية، ووحدها بنية سياسية - عسكرية كما مثلت بنجاح جبهة التحرير الوطني كانت قادرة على تحقيق النصر المنشود وإقامة الدولة الجزائرية المستقلة

ص: 303

قابلية الاستعمار:قراءة مقارنة بين مالك بن نبي وابن خلدون

اشارة

قتیحة شفیری(1)

شكّل التصادم الحضاري بين المستعمَر والمستعمِر محور اهتمام المفكرين منذ عقود طويلة ومازال قائماً لحد الآن ليسعى هؤلاء إلى إماطة اللثام في كل مرة عن مكونات الثقافة الغالبة والمغلوب عليها، ومدى تغير هذه المكونات في ظل أنساق اجتماعية وثقافية تطرحها السيرورة الزمنية. وتتعدد هذه الدراسات بتعدد المنشغلين فيها ونذكر على وجه التحديد ما طرحه عالم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون والمفكر الجزائري مالك بن نبي وهما يُعّدان مصدر قوة العديد من الدول التي اختارت الإيم-ان بأفكارهما للخروج من دائرة التبعية والانقياد، وهما في ذلك أسبق من غيرهما في تأصيل سبل الحضارة وأسبابها.

وفقا لما سبق نقف عند إشكاليات أساسية في فكر هذين العالمَين منها : كيف هي

ص: 304


1- دكتورة قسم اللغة العربية وآدابها - جامعة محمد بوقرة بومرداس - الجزائر.

صورة الغالب والمغلوب المستعمِر والمستعمَر ؟ وماهي تداعيات هذه الصورة؟ وما إمكانية تغييرها لبلوغ الحضارة وامتلاك ناصيتها؟

1- صورة الغالب والمغلوب المستعمِر والمستعمَر في فكر ابن خلدون ومالك بن نبي وتداعياتها:

أدرك المفكران أن شعور النفس البشرية بالنقص يدفعها لأن تبحث عن من يكمّلها، لتكون لاإرادياً منساقة له خاضعة لثقافته قابلة لها كليا، فتمنح للطرف الغالب بذلك صفة الكمال ليصبح الأنا القوي / الغالب / المركز وتمنح لنفسها في المقابل صورة الآخر الضعيف/ المغلوب/ الهامش هذا ما عرضه ابن خلدون في الفصل الثالث والعشرين من مقدمته «المغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب والسبب في ذلك أنّ النفس أبداً تعتقد الكمال»(1)ويُؤكد مالك بن نبي ما ذهب إليه العلامة ابن خلدون عن حقيقة النفس البشرية وطبيعتها المجبولة عليها، التي تمنح للطرف القوي استغلال هذا الضعف ونشر الطاقة السلبية فيها .

وتتولد من القوة والضَعف قوتان غير متساويتين هما المستعمَر والمستعمِر، فالغالب/ المستعمِر يسعى لنشر ثقافتين أولا الثقافة المادية من أكل ولباس وعمران «ولذلك ترى المغلوب يتشبّه أبدا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها» (2)، وثانيا الثقافة المعنوية المتمثلة في طريقة التفكير والنظر إلى الأمور والقضايا الحياتية المختلفة، أما المغلوب / المستعمَر فيؤسس وفقا لارتباطه بالطاقة السلبية ثقافة التساهل واللامبالاة بشأن هويته وركائزها الأساسية من دين ولغة وأرض.

كما تسمح هذه الطاقة السلبية بالتسليم المطلق بقوة الأنا وضَعف الآخر، لتغدو حسب المغلوب أمرا واقعا غير قابل للمناقشة، بل تدفع الطاقة السلبية هذه بالغالب لاستغلال الوضع وتنميط صورته المؤسسة على القوة والكمال والحضارة ليرفع بالمقابل صورة نمطية أخرى يتوارثها الآخر حاضرا ومستقبلا إنها صورة التخلف

ص: 305


1- عبد الرحمن بن خلدون المقدمة، دار الكتاب العربي، لبنان، ط2، 1998، ص 147
2- المصدر نفسه، ص .146

والتوحش واللاحضارة فسيطرة الأنا الغربي تحققت عندما جسدها في صورة الاستعمار الناهب لخيرات الآخر ،الطبيعية هذه السيطرة التي ستستمر مادام الآخر خاصة العربي المسلم يؤمن بعدم أحقيته في امتلاك هوية أصيلة، هذا ما تنبّه إليه مالك بن نبي ومن قبله ابن خلدون «فهذا الضَعف الذي أصاب الأمة الإسلامية على المستوى النفسي إنما هو ثمرة من ثمار الاستعمار ، غرسها في الشعوب ليحكم قبضته عليها، لأنه جيدا أن الهمم هي التي تُحطم المستحيل وتركب الصعاب» (1)، إنها رسالة الغالب واضحة المعالم.

وللتعبير عن هذا الاستسلام والتساهل وظف ابن خلدون مصطلح «اعتقاد كمال الغالب» يُقابله عند مالك بن نبي مصطلح «قابلية الاستعمار»، وكلا المصطلحَين قائم على أساس مهم وهو سرعة الفناء، والفناء عند المفكَرين معنوي لا مادي، فهو يدفع الشعوب المغلوبة إلى العيش ضمن حالة استعباد مستديمة ارتضتها لنفسها فاسحة بذلك المجال للغالب/ المستعمِر للسيطرة عليها لنكون أمام ظاهرة الانتحال الثقافي «غلب الغالب لها ليس بعصبية ولا قوة بأس وإنما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب» (2)، إنه دخول الشعوب المغلوبة خندق الضياع الفكري.

إنّ الانقياد للغالب دون شروط ، يعني جعله من المسلمات التي لايجب تجاوزها أو التفكير فيها مطلقا والسبب في ذلك والله أعلم ما يحصل في النفوس من التكاسل إذا ملَكَ أمرها عليها، وصارت بالاستعباد آلة لسواها»(3)، وهذا الاستعباد وفقا لما ذهب إليه مالك بن نبي يخدم سياسة المستعمِر خدمة جليلة «إن القضية عندنا منوطة أولا بتخلصنا مما يستغله الاستعمار في نفوسنا من استعداد لخدمته» (4)وما يحدث لهذه الأمة المغلوبة في حالة انقيادها أنها سترتبط بالعجز الدائم وغياب المقاومة المستمرة، إنها إذن المذلة التي تجعل من هذه الأمة وشعبها حسب ابن

ص: 306


1- مالك بن نبي تأملات دار الفكر، سوريا، ط 2002، ص 33 ،
2- المقدمة، ص .146
3- المصدر نفسه، ص 147
4- مالك بن نبي شروط النهضة، تر عبد الصبور شاهين دار الفکر، سوريا، 1986، ص 157.

خلدون في حالة من الانكسار المتواصل «المذلة والانقياد كاسران لسَورة العصبية وشِدتها، فإن انقيادهم ومذّلتهم دليل على فقدانها فما رئموا للمذلة حتى عجزوا عن المدافعة، فأولى أن يكون عاجزا عن المقاومة والمُطالبة»(1)، لقد استشرف ابن خلدون خلال ما ذهب إليه واقع الشعوب المغلوبة ،اليوم، فالأنا الغالب فرض عليها ما يُسمى بالعولمة التي اعتبرها الدارسون القدر المحتوم أصبحت العولمة واقعاً لا مفر منه، وقدراً لا ملجأ منه في ظل العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية المعقدة التي تنتظم العالم والمصالح المتقاطعة التي تؤلف بين حضارات العالم ذات الأصول المتباينة»(2)

كما أنّ تجميد التفكير في التواصل مع الحضارة وأسبابها، يدفع هذه الشعوب المغلوبة/ المستعمَرة بأن لا تفكر في تجاوز حالة التخلف الحضاري التي أُقحمت فيها عنوة، لتذعن لها راضية قنوعة ، بل وتسعى جاهدة للإيمان بها وجعلها قدرا لا مفر منه، وقد وضّح ذلك ابن خلدون في قوله «فيقصر الأمل ويضعُف التناسل والاعتمار، فإذا ذهب الأمل بالتكاسل وذهب ما يدعو إليه من الأحوال وكانت العصبية ذاهبة بالغَلْب الحاصل عليهم تناقص عمرانهم وتلاشت مكاسبهم ومساعيهم»(3)، وهذه المكاسب الحضارية الضائعة أكدها مالك بن نبي حين وقف بدوره على صور التخلف الحضاري المتعددة فهي اتهام الشعوب المغلوبة المستعمَرة بالبدائية وعدم التحضر.

لقد غرس الغالب/ المستعمِر البدائية وعدم التحضر غرساً عند استعمار هذه الشعوب المغلوبة «يريد الاستعمار أن نكون أفرادا تغمرهم الأوساخ، ويظهر في تصرفاتهم الذوق القبيح حتى نكون قطيعاً محتقراً يسلم نفسه للأوساخ والمخازي»(4)بل وسعى هذا الأنا القوي إلى استمرار فرض ثقافته بكل صورها المتعددة مع استقلال

ص: 307


1- المقدمة، ص 140.
2- محمد بشير محمد البشير، حفظ الثقافة الإسلامية ونشرها في ظل العولمة رؤية تأصيلية في ضوء الكتاب والسنة، مجلة دراسات دعوية، ع8، يوليو 2004، ص 4.
3- المقدمة، ص 147 .
4- شروط النهضة، ص 157.

الشعوب المغلوبة، وهذه حقيقة واقعية يؤكدها مالك بن نبي في مؤلفاته الكثيرة «إن الاستعمار لا يستطيع فعلاً أن يترك بلداً كان يستعمره ولا أن يُغادره هكذا وبكل بساطة، مُخلّياً وراءه المكان للاستقلال الجديد»(1) ، إنّ الوعي الكبير والمتواصل بدور الغالب/ المستعمِر دعا إليه المفكران معاً، لأن هذا يعني إدراك خطورة منظومته الثقافية التي يسعى إلى ضخها بصورة مستدامة، وهذا ما وقف عليه المفكر مالك بن نبي حين قال «إن الدول الصناعية تضخ بكل ما في الكلمة من معنى أدمغة العالم الثالث»(2) وتغليب ثقافة الأنا القوي أرضيتها كما أشار مفكرنا بن نبي العامل الاقتصادي، إنه العامل المساعد على تدجين الشعوب المغلوبة فترة استعمارها وفترة استقلالها ونحن نرى اليوم ما لتأثير هذا العامل في سياسات الدول المغلوبة، حيث تتدفق لعالم الأنا القوي - أوروبا وأميركا الشمالية - العقول المفكرة المبدعة التي لا تجد حسب مالك بن نبي مكانا لها في بلدها المغلوب لتعرفه بامتيازاته العديدة في بلد الغالب.

هي تساؤلات طرحها بن نبي ليكشف مرارة معاناة هؤلاء المفكرين المتواصلة حتى في زمننا الحاضر «سل هذا المهندس الزراعي (وهو في نظري أفضل من في فرعه) لماذا هو في الخارج ؟ وسلْ ذاك الطبيب الجزائري وهو متخصص بطب العيون من الدرجة الأولى، لماذا هو الآن رئيس عيادة في ألمانيا؟»(3)، إنها دعوة لإنزال العقول المفكرة منزلتها اللائقة، ورغبة في أن يتأسس سمو أخلاقي للنخبة الحاكمة لتضمن بذلك تحقيق التقدم والازدهار لشعوبها، إنه أيضا التوجيه الخلدوني الاستشرافي «واعلم أنّ من خلال الكمال التي يتنافس فيها القبائل أولو العصبية وتكون لهم شاهدة بالملك إكرام العلماء والصالحين والأشراف وأهل الأحساب وإنزال الناس منازلهم»(4).

ولا يقتصر الأمر في تهميش العقول المفكرة المبدعة بل يتعدى الأمر تطبيق سياسة التجهيل بالهوية وأسسها، فتتخلى بذلك الشعوب المغلوبة كما قال ابن خلدون عن

ص: 308


1- مالك بن نبي، من أجل التغيير دار الفكر، سورياط9، 2015، ص 36.
2- المصدر نفسه، ص .65
3- المصدر نفسه، ص 41
4- المقدمة ص .143

العصبية التي تضمن لها القوة والاستمرارية وفي هذا أوضح دليل على شأن العصبية وأنها هي التي تكون بها المُدافعة والمقاومة والحماية والمُطالبة، وأنه من فقدها عن جميع عجز ذلك كله»(1)، وعند غياب العصبية للهوية وأسسها يعني القبول والاستسلام لما سماه مالك بن نبي بالتفرقة والتشتت هي تفرقة وتشتت مجتمع بأكمله وضياع فرد حاضرا ومستقبلا «وهو يريد تشتيت مجتمعنا وتفريق أفراده شَيعاً وأحزاباً حتى يحل بهم الفشل في الناحية الأدبية كما هم فاشلون في الناحية الاجتماعية»(2).

وما يمكن قراءته من وقوف المفكرَين على سياسة التجهيل المعتمدة هذه، أن /الغالب المستعمَر يسعى للتبئير على الفرد في المجتمعات المغلوبة/ المستعمرة، إنه تكوين فرد جاهل «لقد حلّ الاستعمار بالجزائر وفي البلاد الإسلامية فوجدها مهيأة لمشاريعه التخريبية، فعاث فيها فساداً وغرس داخلها مزيداً من الجهل والفقر والفساد الاجتماعي بكل أنواعه»(3)، ويظل وجود هذا الفرد الجاهل قائماً عندما يوضع في مناصب عالية ليضمن هذا الأنا القوي استمرار سلطته إلى مراحل زمنية لاحقة وعدم التوقف عند الزمن الآني وفي المقابل عدم ترك المجال واسعاً لأصحاب الهمم كما يقول مالك بن نبي خدمة لمصالح هذا الغالب والمستعمِر القوي.

والقراءة الأخرى لما قدمه المفكران عن سياسة التجهيل هذه، أن الغالب/ المستعمِر يسعى إلى تفكيك روح الجماعة التي عُرفت بها الشعوب المغلوبة - الشعوب الإسلامية خاصة ، هذه الروح التي كانت قرينتها عندما كانت تلك الأنا القوية الغالبة الفاتحة التي سعى الإسلام إلى تأسيسها وقولبتها ضمن الأنا الجماعية التي يتحد أفرادها في قوة واحدة مصداقا لقول رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا».

والتفات الأفراد على ذواتهم يؤسس كما يرى ذلك ابن خلدون حالة من ضَعف

ص: 309


1- المقدمة، ص 141.
2- شروط النهضة، ص 157
3- الأخضر ،قويدري لماذا لم ينته المشروع الحضاري لمالك بن نبي في الجزائر مجلة الكلمة، مندى الكلمة للدراسات والأبحاث ،لبنان ، ع 80 ، صيف 2013، ص 148.

مستمر يجعلهم لقمة سائغة في حلق الغالب لأنهم «عجزوا عن المدافعة عن أنفسهم بما حصد الغلب من شوكتهم، فأصبحوا مغلبين لكل متغلَّب وطعمة لكل آكل»(1)، ولا يستبعد مالك بن نبي قيام حالة الضَّعف هذه واستمرارها، إذا ما وجد الغالب قابلية الاستعمار عند الآخر، هذه القابلية التي درسها بعد تمحيص كبير واستراتيجية محكمة، ليستطيع بعدها خلق نفوس مطواعة «إن الاستعمار لا يتصرف في طاقتنا الاجتماعية، إلا لأنه درس أوضاعنا النفسية دراسة عميقة، أدرك منها موطن الضَعف فسخرنا لما يُريد كصواريخ موجهة يُصيب بها من يشاء»(2).

ويعكس هذا التشرذم الاجتماعي الحاصل في الدول المغلوبة مدى تفاقم المشاكل وتنوعها التي تتخبط فيها في فترة من المفروض أن تكون فترة بناء وتواصل حضاري بأسباب التقدم، وتخبط هذه الدول في مثل هذه المشاكل يعني تواصل تبعيتها للدول الغالبة «ثم ماذا بعد ذلك؟ الاستقلال هنا، ومشكلاته هنا أيضا، وهي تُلح أكثر من أي وقت مضى. إن الآلام التي تثقل كاهل شعوب العالم باتت أشد ما يمكن من الإقلاق»(3)، وتضييع الهوية يعني إلغاء الشعوب المغلوبة لذواتها إلغاءّ تاماً والتواصل مع ما يُسمى بالتماهي والتوحد مع هوية وثقافة الآخر، ويَعتبر ابن خلدون هذا الالغاء أمراً طبيعياً في وجود قوة غالبة مسيطرة، مثلما كان حال الفرس في ظل الحضارة العربية الإسلامية «واعتبر ذلك في أمة الفرس كيف كانت قد ملأت العالم كثرة، ولما تحصلوا في ملكة العرب وقبضة القهر لم يكن بقاؤهم إلا قليلاً، ودُثروا كأن لم يكونوا، ولا تحسبَنّ أن ذلك لظلم نزل بهم أو عدوان ،شملهم، وإنّما هي طبيعة في الإنسان إذا غلب على أمره وصار آلة لغيره»(4)، وهذا الانصهار الذي حصل ومازال يحصل تتُرجمه قَبول الشعوب المغلوبة المطلق لكل ما يصدره الغالب القوي من انتاج فكري واقتصادي، وهذا الوضع الحالي القائم قد استشرفه عالمنا للاجتماع ابن خلدون المدوّن في أكثر من موضع في كتابه «المقدمة»، وصادقه في ذلك مفكرنا مالك بن نبي.

ص: 310


1- المقدمة، ص 147.
2- شروط النهضة ص .159.
3- من أجل التغيير، ص 64.
4- المقدمة، ص .147

وَصفُ ابن خلدون للداء المسبب للغلبة، وَصَفَهُ مالك بن نبي أيضا الذي أعلن صراحة رفضه القاطع لاستمرار هذا الداء واعتباره من المسلمات، فإذا أرادت هذه الشعوب بناء حضارة فيجب ألا تُكرس هذا الداء من خلال استيرادها اللا مشروط لأفكار وأشياء الأنا الغالب «ومن هنا كان مالك بن نبي حانقاً على عملية استيراد الأشياء والأفكار من العالم الغربي لأنها لا تغدو أن تكون تكديساً للحضارة»(1)فالحضارة عند مفكرنا لا تعني تكديس وتقديس ثقافة الغالب، بل هي حسبه تكامل مؤسس بين الشعوب الإنسانية القائم على احترام الذاتية والخصوصية.

ومع تضييع العصبية أو الهوية والخصوصية الثقافية تدخل الشعوب المغلوبة بعد تحقيق رغبة الغالب - الانقياد المطلق - حالة من العبثية، فلا تأخذ القيم الأخلاقية مركز القيادة كما هو مفترض، بل تتلاشى إيجابيها عندما تنقلها نفسية هذه الشعوب المستسلمة إلى الضفة السلبية، ولأن العبثية أصبحت قرينة القيم الإيجابية فقد دخلت هذه الشعوب حالة متواصلة من الاغتراب النفسي زادها انعزالا عن التطور الحضاري، بل وأفرغ روحها من أي أمل في تغيير إيجابي.

2 - تفكيك صورة الغالب والمغلوب المستعمر في فكر ابن خلدون ومالك بن نبي:

يُؤمن الإنسان في هذه الحياة بحقيقة وجودية هي بناء الذات الذي يتأسس على أرضية الثقافة والهوية بمكوناتها من دين ولغة وأرض «فالناس لا تهمهم أمور الاقتصاد والسياسة أكثر من الثقافة والهوية والدين، فالإنسان مستعد أن يموت دفاعاً عن حضارته وخصوصياته الثقافية»(2)، ويُحافظ كل فرد على هويته إذا ما وجد احتراماً من الفرد الآخر ليتحقق وفقاً لذلك التعايش الحضاري فترتقي الشعوب الإنسانية إلى مصاف التطور بكل جوانبه المختلفة.

ص: 311


1- لماذا لم ينته المشروع الحضاري لمالك بن نبي في الجزائر، ص 149.
2- عبد الغني بوالسكك الهوية والاختلاف بين التواصل والتصادم السؤال عن الهوية، في التأسيس... والنقد... والمستقبل، إشراف وتنسيق البشير ربوح، دار الأمان المغرب، ط1، 2016، ص 59.

وارتباط الشعوب المغلوبة بالهوية والخصوصية الثقافية يعني أنها راغبة في تجاوز تبعيتها وروح التماهي مع الشعوب الغالبة، هي إذن استعادة للروح الأصيلة وتواصل الجذور التي لن تبقى ظلالاً أبداً، فالحداثة الصحيحة تلك التي تنطلق من إيمان الأمم بماضيها مع الانفتاح في الوقت ذاته على العصرنة القائمة لكن «ما يُلاحظ أن أغلب أفراد مجتمعاتنا يُفضلون انتهاج المسلك الثاني - الإيمان بالعصرنة فقط - الذي يُؤدي في نهاية الأمر إلى الارتماء في أحضان الحياة الغربية، وهم يفعلون ذلك مختارين أحيانا ومجبرين أحيانا أخرى»(1).

وهذا الارتباط بالهوية والخصوصية الثقافية يعادله مفهوم العصبية عند ابن خلدون الذي تعيه حسبه روح الجماعة، وهذا المفهوم لن يتحقق إلا إذا أدركته هذه الروح إدراكا سليما مجسدة إياه في أرض الواقع، فتُتحقق سيادتها وتَتنعم بملكها «العصبية التي تكون بها المُدافعة والمُقاومة والحماية والمُطالبة»(2)، وهذه الممارسة الفعلية للعصبية يعني أن هذه الجماعة قهرت ذاتها وتجاوزت مرحلة الرغبة في التغيير إلى القدرة على التغيير، لتضمن بذلك عدم تعرضها المطلق للإذلال والانقياد، إنها بذلك الغالبة لا المغلوبة، المركز لا الهامش، وعلى الشعوب المغلوبة الاستفادة من الاستشراف الذي أسسه ابن خلدون في مقدمته «وإذا انقرضت العصبيّة قصر القبيل عن المدافعة والحماية فضلا عن المطالبة ، والتهمتهم الأمم سواهم»(3)، وبالتفات هذه الشعوب حول هويتها يعني ضمانها هواء نقيا تتنفسه «وعن قيمة الهوية يتساءل المفكرون وعلماء الثقافة والحضارة ، ليُجيبوا بأن الهوية مثل الهواء الذي نتنفسه، فلا يُمكن لشعب أو أمة ما أن تكون أو توجد دون هوية»(4)، وتغلب هذه الجماعة على ضَعفها يعني أنها استطاعت أن تتخلص من ربقة قابلية الاستعمار إلى فضاء الحرية والتحرر، وهنا يصف مالك بن نبي هذه الحالة ويُعطيها مصطلحاً إيجابياً هو البناء الحضاري «يرى مالك بن نبي أنه من الذات إذن يبدأ البناء الحضاري، علماً بأن هذا

ص: 312


1- لماذا لم ينته المشروع الحضاري لمالك بن نبي في الجزائر ، ص 152
2- المقدمة، ص 141.
3- المصدر نفسه، ص .140
4- الهوية والاختلاف بين التواصل والصدام، ص 61.

البناء ليس مجرد تكديس لمنتجات الآخر، بل هو إبداع يتأسس على المعطيات الذاتية والمقدرات الداخلية»(1)، والبناء الحضاري حسب مفكرنا يجب أن يتحول إلى ممارسة فعلية مجسدة لا أن تكون رهينة رغبة داخلية قرينتها حلم زائف تغرسه الإمبريالية الظل الملازم للروح الاستعمارية «الإمبريالية سلبت العالم سحره وشاعريته، لقد سلبتنا بذلك حقنا في مزايا الشباب»(2)، إنها دعوة من المفكر المستمرة الصالحة في زمننا هذا بأن تتحرر الشعوب المغلوبة من وهم الفشل الذي غرسته في نفسها. وأرضية البناء الحضاري مؤسسة على فهم الأفكار التي تصنع الحضارة ووعيها ثم ترجمتها في أرض الواقع، وبهذا تتخلص هذه الشعوب من سلطة الاستعمار وروحه الإمبريالية «يجب ألا نتهم، بل أن نفهم لم تستطع الإمبريالية بضربة من عصا سحرية أن تُحطم مشاريعنا المُبشّرة لنا بالخير أحيانا ومن ثم الخطرة عليها»(3)فالانشغال بقذف التهم للغالب لن ينفع المغلوب في شيء، بل سيبقيه حسب مفكرنا في خندق التبعية والتخلف.

وفهم الأفكار المبني على تقدير الشعوب لذاتها هو أيضا انفتاح هذه الشعوب على العالم الغربي الذي يمُثل القوة والسيطرة، إنه إذن تجنب العيش في صراع وتصادم حضاري مستديم فهذا الانفتاح سيعمل على وعي كل طرف بوجود الآخر المؤسس حسب مالك بن نبي على انتظام العلاقات المتبادلة فليس المراد أن يقطع - أي العالم الإسلامي - علاقاته بحضارة تمُثل ولا شك إحدى التجارب الإنسانية الكبرى، بل المهم أن تُنظم هذه العلاقات معها»(4)، وهذا التنظيم يتأتى عندما تتجنب الشعوب المغلوبة تكديس ثقافة الآخر أفكاراً وأشياءً وعدم التسليم بذلك، بل كما يدعو مفكرنا أن تنتج هذه الشعوب حضارتها المؤسسة على ثقافة تميزها، ولا يتوقف الأمر عند مفكرنا في تجنب تكديس ثقافة الآخر، بل دعوته أيضا إلى تعليم هذه الشعوب مفهوم المسؤولية الذي كان على نخبتها المختارة غداة الاستقلال الوعي بذلك «إن الحرية عبء ثقيل على الشعوب التي لم تُحضّرها نُخبتها لتحمّل مسؤوليات

ص: 313


1- لماذا لم ينته المشروع الحضاري لمالك بن نبي في الجزائر، ص 149.
2- من أجل التغيير، ص 78.
3- المصدر نفسه، ص 80.
4- وجهة العالم الإسلامي، ص 138.

استقلالها»(1)، لقد أشرنا سابقاً أن العامل الاقتصادي وتحكم الغالب في صياغته يجعل الشعوب المغلوبة خاضعة له دون مناقشة، ويأخذ هذا العامل عند ابن خلدون صورتين هما المغارم والضرائب «ويُلحق بهذا الفضل فيما يوجب المذلة للقبيل شأن المغارم والضرائب، فإن القبيل الغارمين ما أعطوا اليد من ذلك حتى رَضوا بالمذلة فيه، لأن في المغارم والضرائب ضَيما ومذلة لا تحتملها النفوس الأبية»(2)، ولن يُنجي هذه الشعوب المغلوبة من هذا الثقل الاقتصادي - المغارم والضرائب - إلا بالارتباط الوثيق بالعصبية لتنتقل بذلك من الشعوب المطَالبة إلى القوة المطَالِبة «المغْرَم مُوجب للذّلة، هذا إلى ما يصحبُ ذل المغارم من خلق المكر والخديعة بسبب ملكة القهر، فإذا رأيت القبيل بالمغارم في رِبقة من الذل فلا تطمعنّ لها بملك آخر الدهر»(3).

وإذا رأى ابن خلدون أن العصبية حل للتخلص من الذل والمطَالبة، فإن مالك بن نبي رأى في تثمين فكر الفرد الحل الأنسب للتحرر من الاستعمار وتدخله في تسيير شؤون الشعوب المغلوبة /المستعمَرة خاصة ما تعلق بالشؤون الاقتصادية باعتبارها عصب الأمة وسر تقدمها وجوهر تأثيرها في غيرها، فوجود مثل هذه العقول المفكرة ستخدم مصلحة شعوبها خدمة كبيرة تجعلها متحررة من أي تبعية قهرية، وهذا ما تحتاج إليه الشعوب الإسلامية حاليا لتؤسس ما دعا إليه مفكرنا بالكومنولث الإسلامي أو الاتحاد الإسلامي على منهج الكومونولث البريطاني الذي تأسس لمواجهة الوضع الاقتصادي العالمي بعد الحرب العالمية الأولى.

فمثلما كانت هذه الشعوب كذلك في عز نهضتها التي كانت أرضية النهضة الأوروبية، فحبّذا لو تسترجع هذه الزعامة في وقتنا الحاضر ولن يتأتى ذلك إلا بوضع المصلحة العامة في الحسبان قبل المصلحة الشخصية إنها استنفار روح الجماعة التي اهتم لها المفكران كثيرا ، فهي من أهم الحلول حسبهما في تجاوز ثقافة الغلبة، وتحقيق المجد كما نبه إلى ذلك ابن خلدون كل هذا مقترن عنده بحسن الأخلاق «وقد ذكرنا أنّ المجد له أصل يُبنى عليه وتتحقق به حقيقته وهو العصبية والعشير

ص: 314


1- من أجل التغيير، ص 64.
2- المقدمة، ص 141
3- المصدر نفسه ص .142.141

وفرع يُتمَمُ وجوده ويُكمله وهو الخلال»(1)، وتوفر هذه الخلال يعني خروج فرد هذه الشعوب من شرنقة العبثية، ليعود إلى تقييمها وتجسيدها في أرض الواقع، بل ويستطيع حماية حياض هويته من أي روح تغريبية يسعى الأنا الغالب إلى زرعها في أرضه «الهوية أساس التعبئة الثقافية لأفراد المجتمع من حيث إنها تدفعهم إلى مواجهة أي خطر قومي أو إقليمي أو إيديولوجي، وهي التي تمكّن من الوحدة في عالم يسعى فيه القوي إلى فرض سيطرته الثقافية والحضارية على باقي العالم باسم الكونية والعولمة»(2)، ولكي يتحقق هذا الخروج من شرنقة الغالب يجب كما ذهب إليه مالك بن نبي توخي الحذر الشديد من السياسة البطريركية المركزية التي يمارسها الغالب القوي «عند الاستعمار معلومات عنا أكثر بكثير مما عندنا عنه، إنه يُكيف بكل بساطة موسيقاه وفقا لانفعالاتنا ولعُقدنا ولنفسيتنا»(3)، وبهذا الحذر تخرج الشعوب المغلوبة من وحل صنعه انقيادها ونفذته بجدارو واستحقاق.

خاتمة

اهتم ابن خلدون ومالك بن نبي ببناء الذات بناءً حضارياً من خلال دعوتهما إلى استثمار إرادة هذه الذات وقدرتها الفعلية على امتلاك العصبية على حد قول صاحب المقدمة، وعلى حماية خصوصيتها الثقافية حسب صاحب شروط النهضة، لكن دعوتهما هذه لا يعني انغلاق هذه الذات على نفسها والانعزال عن حضارات قائمة، بل دعا إلى أن تتعايش الذات مع هذه الحضارات وتنفتح عليها انفتاحاً تضمن فيه كرامتها لا ذلّها وانقيادها، ومع وقوفنا على هذه المرجعية الثقافية الغنية للمفكرَين نصل إلى القول إن ابن خلدون ومالك بن نبي استبقا عصرهما وقدّما خلاصة تجربة ستفيد الشعوب المغلوبة للخروج من طوق القوى الغالبة، وتُصبح المطَالِبة بعد أن كانت المطالَبة ، إنه استشراف يتحتّم الأخذ به للخروج من بوتقة صنعها الأنا القوي ودخلها باستسلام تام التابع المغلوب.

ص: 315


1- المصدر ،نفسه ص 142
2- الهوية والاختلاف بين التواصل والصدام، ص 63.
3- من أجل التغيير، ص 105.

القومية والإرث الاستعماري: في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى

خوان ریکاردو.ا.کول(1)

دنیز کاندیوتی(2)

تمت إعادة تنشيط دراسة القومية من خلال المناقشات حول الموضوع في الثمانينات والتسعينات(3). ويمكن تقسيم معظم الكتّاب الذين كتبوا حول الموضوع إلى معسكرين: أولئك الذين ينظرون إلى الشروط المادية والموضوعية لصعود الدول القومية كتشكيل اجتماعي، وأولئك الذين يركّزون على كيفية بروز الوعي الوطني (في السنوات الأخيرة، صنف هذا التقسيم الماركسيين التقليديين ومنظري

ص: 316


1- مؤرخ أميركي في الشرق الأوسط وجنوب آسيا في جامعة ميشيغتم.
2- كاتبة وباحثة تركية في مجالات العلاقات بين الجنسين وسياسات التنمية، حائزة على درجة الدكتورا من كلية لندن للاقتصاد. - المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط 34 (2002)، 189-203. طبعت في الولايات المتحدة الأميركية (International Journal of Middle East Studies) - ترجمة إيمان سويد.
3- Among the more important contributors to these debates have been Eric Hobsbawm, Miroslav Hroch, Ernest Gellner, Anthony Smith, Benedict Anderson, Partha Chatterjee, and Prasenjit Duara.

التحديث في جهة في مقابل المنظرين في مجال ما بعد الحداثوية ودراسات التبعية (subaltern) يشير المصطلح إلى السكان الذين هم اجتماعيًا وسياسيًا وجغرافيّا خارج بنية السلطة المهيمنة في المستعمرة والوطن الاستعماري). وعند النظر في هذه المجموعة من العمل، يمكن للمرء إجراء تمييز مماثل لذلك المفصّل المشهور ل إي. بي. تومسون في تاريخ العمال (مستمداً من ماركس)، وذلك بالتمييز بين فئة في حد ذاتها وطبقة لذاتها بين طبقة اجتماعية مثل عمال المصانع التي شكلتها حقائق موضوعية لوجودها المادي وبين مجموعة اجتماعية واعية ذاتياً لنفسها كطبقة بحيث تطلق النقابات والأحزاب العمالية. فالأولى (الطبقة الاجتماعية) لا تلقائياً أو دائماً في الأخيرة (مجموعة اجتماعية). وسوف نناقش هذه النظريات فيما يتعلق بالشرق الأوسط وآسيا الوسطى وبالعمل النظري الضئيل الذي تم إنجازه حول قوميات شرق أوسطية. فالعديد من المؤلفين يتحدثون كما لو أن «القومية» هي مجموعة موحدة من الممارسات والمعتقدات التي لها تاريخ طبيعي، فالولادة في وقت معين والنضوج على المدى الطويل ظاهرة ثابتة إلى حد ما. بيد أن بارثا تشاترجي ( Partha Chatterjee) أظهر أن طبيعة القومية تتغير على حسب ما إذا كانت ظاهرة حضرية أو ظاهرة استعمارية. فضلا عن ذلك، وبحسب ما هو مفهوم ضمنا في كتابه، فإن ذلك يعني أن القومية - أو على الأقل، صنع وتصور القومية - تستمر في فترة ما بعد الاستعمار، لترفع وتطرح بذلك قوى وآفاق جديدة تعارض صياغات سابقة لها(1). ويشعر معظم الكتاب بالقلق حول كيفية نزوع الثقافة القومية نحو خلق صورة إيجابية عن الأمة بصفتها متجانسة بينما تعرف عن نفسها ضد «آخر» أو مجموعة من «الآخرين» المكروهين والمحتقرين(2). فالجدل حول الخصوصيات للإرث الاستعماري وتأثيره الطويل الأمد على المستعمَر شكل التيمة المركزية لعلم

ص: 317


1- Partha Chatterjee, Nationalist Thought and the Colonial World: A Derivative Discourse (Minneapolis: University of Minnesota Press, 1993 [1986]); idem., The Nation and Its Fragments: Colonial and Postcolonial Histories (Princeton, N.J.: Princeton University Press, 1993).
2- Chatterjee, The Nation and Its Fragments; Homi Bhaba, “DissemiNation: Time, Narrative and theMargins of the Modern Nation," in Nation and Narration, ed. Partha Chatterjee (London: Routledge andKegan Paul, 1990), 300 -303.

ما بعد الاستعمار وأولئك المشاركون في المناقشات المتباينة - عن القومية ومرحلة ما بعد الاستعمار - بحاجة إلى معالجة مخاوف كل منهم حتى الآن، تركزت معظم المناقشات حول ظروف ما بعد الاستعمار على جنوب آسيا، وهدفنا هو فتح هذا النقاش من خلال الأخذ بالاعتبار الحالات المختلفة جدا للشرق الأوسط وآسيا الوسطى اللذان تعرضا للاستعمار الأول تعرض للاستعمار الرأسمالي والأخير للهيمنة القيصرية، تَلَتها التجربة السوفياتية، مع كل الغموض الذي أدخلته في العلاقات بين الحواضر الكبيرة والمحيط الخارجي (الأطراف).

يجب أن نبدأ ببعض التعاريف . يمكن تقسيم الحقبة «الكولونيالية» لمعظم الدول الشرق أوسطية وآسيا الوسطى إلى عدة فترات: الإمبريالية غير الرسمية، الهيمنة الاستعمارية الرسمية والاستعمارية الجديدة. إن الانحدار أو الطبيعة المعقدة للكولونيالية الجديدة في العقود الأخيرة تؤدي إلى عصر ما بعد الاستعمار، تكون فيه الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي/ روسيا غير قادرتين على فرض إرادتيهما على دول مثل إيران وأفغانستان والعراق، على الرغم من الإرث المستمر في منطقة عصر الإمبريالية والقوى العظمى المتنافسة في الحرب الباردة.

من الواضح أن هذه الفترة تبدو مختلفة في كل منطقة ولا تناسب البعض منها جدا. فقد شهدت الجزائر استعماراً رسمياً مبكراً بالنسبة للشرق الأوسط (ابتداء من العام 1830) وحصل البلد على استقلاله في وقت متأخر (عام 1962)، في حين لم يكن العراق مستعمراً حتى وقوع الحرب العالمية الأولى وأصبح مستقلاً رسمياً بحلول عام 1932، وذلك على الرغم من فترة طويلة من الهيمنة الاستعمارية البريطانية الجديدة التي استمرت حتى عام 1958 على الأقل. أما إيران فكانت محتلة رسمياً من قبل القوى العظمى خلال الحرب العالمية الثانية فقط، وشعرت أجزاء فقط من تركيا بوجود أقدام القوات الاستعمارية الأوروبية على أراضيها لفترة وجيزة جداً بعد الحرب العالمية الأولى، بحيث أنه في كلا هذين البلدين كانت فترة «الهيمنة الاستعمارية الرسمية» غائبة أو مختصرة للغاية. لقد كان هناك أوجه تشابه كبيرة

ص: 318

للاستعمار القيصري لتركستان في آسيا الوسطى في ستينيات القرن التاسع عشر مع مشروع «شمال أفريقيا الفرنسي»، إلا أن الفترة السوفييتية المتداخلة، 1917-1991، مثلت خصوصيات وخصائص في العلاقة بين الحواضر الكبيرة والأطراف، الأمر الذي يعقّد القصة بشكل هائل. مع ذلك، لقد عايش معظم سكان الشرق الأوسط وآسيا الوسطى طوال القرنين الماضيين هذه المراحل الأربع، حتى لو كان ذلك في أوقات مختلفة وبدرجات متفاوتة من الحدة.

نعني ب_«القومية» و«الدولة القومية» مجموعة من الممارسات الاستطرادية والمؤسسية المتغيرة التي تختلف عن المفاهيم الذاتية ما قبل الحداثوية وعن الترتيبات السياسية. فالأمة الحديثة تتكون من مواطنين لديهم التزام عاطفي وخلاق للتماهي مع مواطنين مشتركين (خاصة من نفس المدينة أو البلدة). فالأمة لديها دولة تحكم إقليماً معيّناً وتسعى لفرض هوية مشتركة على جميع المواطنين من خلال التعليم الرسمي، مع التركيز عادة على الوحدة اللغوية، وهذا يمثل وحدة سياسية وديبلوماسية واقتصادية مع سيادتها الخاصة في جميع هذه المجالات والقومية هي النظير الذاتي للأمة، مساحة من الحيز الداخلي الذي ينظر للأمة على أنها جانب من جوانب «الذات»، فضلا عن أيديولوجية تمُنح فيها الأمة تاريخاً مرقعاً (وغالبا ما يكون مسروقاً)، وتراثاً ثقافياً متميزاً، ومصالح مشتركة تقف كلها عند حدود الدولة القومية.

فالقومية تعني القدرة على التماهي مع مجموعة كبيرة من الناس الآخرين، ولكنها تنطوي أيضا على تشكيل أولئك الناس خارج الأمة بصفتهم «الآخر» بأسلوب قوي.

في الأصل، تعني كلمة «أمة»، وببساطة، «شعباً» أو «عرقاً». ومن الواضح أنه كانت هناك شعوب - أو ما يسميه أنتوني سميث (Anthony Smith) «عرقيات» - لفترة طويلة جداً(1). وهذه الشعوب شكلت نفسها بناء على مزاعم الأصل المشترك، أو اللغة المشتركة، أو الدين المشترك، أو مجموعة أخرى ما من القواسم المشتركة التي كانت هذه الشعوب تشعر بأنها تميزهم بطريقة ما

ص: 319


1- 4Anthony D. Smith, The Ethnic Origins of Nations (New York: Basil Blackwell, 1986).

عن غيرهم من مثل هذه الجماعات. ولا يزال التميز بين الدلالات الموضوعية للهوية والوعي المتعلق بهذه الهوية بارزاً هنا. فبعض السكان الذين لديهم لغة مميزة لم يشعروا بأن لغتهم هي الجزء الأكثر أهمية من هويتهم وسَرَّهم أن يتمّ إدراجهم في مجموعة تم تشكيلها على أساس آخر ما (يميل الأرمن الناطقون بالتركية إلى النظر لأنفسهم كأرمن بدلاً من أتراك بحكم انتمائهم إلى الكنيسة الأرثوذكسية الأرمينية). فإبان القسم الأكبر من الفترة العثمانية، كان الأمر الأكثر أهمية بالنسبة لمعظم المتحدثين بالعربية هو أنّهم مسلمون ورعايا خاضعين للسلطان وليس نطقهم العربية في الداخل. وقال بنديكت أندرسون (Benedict Anderson) بأنه كان للقرويين وسكان المدن في العصور الوسطى وأوائل العالم الحديث هويات محليّة منبثقة من اللهجة، وهويات أوسع نطاقاً منبثقة من انتمائهم إلى أديان عالمية (الإسلام، المسيحية، الهندوسية، اليهودية) أو بصفتهم رعايا خاضعين لإمبراطوريات متعددة اللغات. وأدى توحيد اللغات القُطرية مع ثورة الطباعة والنهوض الجماهيري لمحو الأمية إلى ازاحة الإمبراطورية والدين كدلالة أساسية على الهوية، مما سمح بحصول تطور تدريجي ل- «تصور» جديد(1). إن توظيف أندرسون للدين كمساهم في الصيغة السلالية الحاكمة في التنظيم السياسي كان لا بد وأن ينهار كهوية مركزية في نفس الوقت الذي تنهار فيه هذه الأنظمة الملكية. إنه يتجاهل الطرق التي تدعم بها الإثنية الدينية العديد من القوميات في «جنوب» العالم والطريقة التي يمكن أن يتم فيها، وبنجاح، اختیار تكوينات اجتماعية «عالمية» مفترضة لأغراض ومقاصد وطنية (بعد كل شيء، غالبا ما كان نفس الشيء صحيحًا في اللغة والإيديولوجيات مثل الاشتراكية). ويشير مقال سامي زبيدة في هذه القضية إلى النواحي التي تطرح

بها قضية العراق مشكلات بالنسبة للنهج الأندونيسي في الدين والقومية.

يركز سميث على تلك المجموعات التي طورت هويات معينة في عالم ما قبل الحداثة، بما في ذلك المجتمعات الدينية في الشتات مثل اليهود والأرمن، وتلك

ص: 320


1- Benedict Anderson, Imagined Communities, 2nd rev. ed. (London: Verso, 1991).

الإقليمية المدمجة مثل الدروز والموارنة. بيد أن سامي زبيدة، الذي يبحث في نفس المادة التي يبحث فيها سميث قال بأن الإثنيتين الأخيرتين بحد ذاتهما (الدروز والموارنة) كانت الدولة قد ولدتهما(1)، بالإضافة إلى ذلك، غالباً ما يبسِّط تحليل سميث مجموعة معقدة للغاية من الهويات المتداخلة التي تغيرت بشكل جذري مع مرور الوقت ولم يكن لديها نوع من الهوية الأساسية الجوهرية لنوع ما قبل القومية التي يعزوها إليها.

عند النظر إلى العشائر في جبال الشوف الذين حدث أنهم ينتمون إلى الدين الدرزي الباطني المستمد من الشيعة كقوميين بدائيين (proto-nationalists) أو حتى كمجموعة منفصلة يعني أن نراهم من خلال منظور القومية الحديثة. فقد انقسمت العشائر بسبب الخلافات الداخلية؛ ولم يشارك «الحكماء» في الديانة الدرزية الباطنية معتقداتهم الدينية الأساسية مع العلماني الخالص؛ ويمكن للعشائر الدرزية أن تتحد مع الشيعة السنة، أو مسيحيين ضد عشائر درزية أخرى. وبعد كل شيء، وفي الفترة التي سبقت الحروب الأهلية في القرن التاسع عشر، كانت مثل هذه العشائر التي تم تعريفها دينيا قد انتشرت تماما ولم تكن مضغوطة للغاية في مناطقها. إن الجماعات التي يناقشها سميث صغيرة نسبيا ولم يكن لديها تطلعات أو مزاعم «وطنية» قبل منتصف القرن التاسع عشر (إذا كان هناك من مزاعم آنذاك).

بالتالي، إن الجماعة الإثنية لدى سميث ليست الأمة بالمعنى الحديث، وربما لا علاقة لها حتى بالأمة. ما يعني، أن الدول الحديثة تدعي في كثير من الأحيان التراث الثقافي والتاريخي لمجموعة عرقية أو لغوية معينة من الماضي، لكنه ادعاء بأثر رجعي وعادة ما يكون موضع شك. في الواقع، إن نظرية البدائية (primordialist :theory :تفسر العرق باعتباره سمة ثابتة من سمات الأفراد والمجتمعات) للأمة،

التقرير الشهير ل_ كليفورد غیرتس (Clifford Geertz) عنها كما وجدها بين الأندونسيين الذي أجرى مقابلات معهم، هي أن الدولة القومية تنشأ عندما تتمكن

ص: 321


1- 6Sami Zubaida, "Nations: Old and New," Racial and Ethnic Studies 12 (1989): 329-39.

هوية إثنية موجودة من قبل من تحقيق الدولة أخيرا مما يعني أن أندونيسيا كانت موجودة طوال الوقت في شكل الهوية الإندونيسية ولكن تم قمعها من قبل السلطنات المنقسمة، ثم الاستعمار الهولندي، إلى أن تم أخيرا تحرير «الأمة» الإندونيسية من أغلالها وحققت تجسيدها الكامل في دولة ما بعد الاستعمار (في الواقع، لقد اختلف الأندونسيون بشكل ملحوظ في مفاهيمهم للهوية الوطنية، واندلعت أعمال العنف حول هذه القضايا في منتصف الستينات ومرة أخرى في أوائل القرن 21) ليس هناك من شخص أكاديمي يقبل الصيغة البدائية (primordialist) في شكلها الصريح المكشوف أو البسيط، لأن أي مؤرخ أو عالم اجتماع يرى أشكال الانقطاع والتشتت التي تميز اثنيات ما قبل الحداثة، مما يجعل من المستحيل رؤيتها كصيغة مرادفة أو حتى تأسيسية للدولة بطريقة غير معقدة ربما يكون سميث، الذي يعطي هذه المركزية للجماعة ،العرقية، أقرب إلى إضفاء الشرعية على شكل من أشكال الحجة البدائية، لكنه أذكى وأكثر تعقيدا من ذلك، وليس عدلا اعتباره شخصا بدائيا (primordialist) ونقطة على السطر. ولكن حتى حجة سميث التي تقول ببناء الدول غالب الأحيان حول المجموعات العرقية، حيث قال بأن فرنسا بُنيت حول البوربون، هذه الحجة تعترف جدا بالبدائيين (primordialists)، الذين يشددون على هويات إثنية داخلية عبر تاريخ غارق في سبات عميق أو يتم قمعه ومن ثم تنبيهه، ليجسدوا بذلك أنفسهم في الدول القومية في القرن العشرين (أطلق رونالد سوني Ronald Suny) على رؤيته (الرومانطيقية) اسم نظرية الجميلة النائمة للقومية»). فالسؤال هو عمّا إذا كانت الهويات الإثنية الموجودة من قبل يمكن اعتبارها بمثابة متغيرات سببية في صعود الدول القومية، ونعتقد هنا أن من الواضح أنه لا يمكنهم اعتبارها كذلك لم يتم تأسيس أي دولة لمجرد وجود إثنية. هناك أعداد كبيرة من المجموعات اللغوية والدينية وغيرها التي ليست لديها دولة، ولا يبدو أنها تريد دولة؛ ولا تبدو أنها متناقضة ومترددة حول هذا الموضوع. فضلا عن ذلك، هناك العديد من الدول المتعددة الإثنيات التي أقيمت ففي الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، كانت بدايات الدول القومية كلها تقريباً نتيجة للحدود الاستعمارية المفروضة من الخارج التي لا

ص: 322

علاقة لها بالحدود الإثنية الموجودة من قبل والتي كانت على أي حال حدودا سهلة الاختراق ونادراً ما شكلت حدوداً فعلاً).

أظهرت الإثنوغرافيا (الأجناس البشرية) والتاريخ السوفياتي، وبشكل مثير للاهتمام متغيّراً قوياً للطبيعة البدائية (primordialism) من خلال استخدام مفهومي «المجموعة الإثنية» (ethnos) و«تشكل وتطور مجموعة إثنية» (ethnogenesis). وكان من الضروري إجراء تعديلات مختلفة لجعل مفهوم «المجموعة الإثنية» (ethnos) بمثابة مجموعة من الخصائص الدائمة وتتجاوز الحدود التاريخية والتي تتلاءم مع التسلسل التطوري التقليدي للتشكيلات الاجتماعية - الاقتصادية التي افترضها ستالين.

وقد حل «معهد الإثنوغرافيا التابع لأكاديمية العلوم في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية» (Institute of Ethnography of the USSR Academy of Sciences ) هذه المشكلة من خلال الاحتجاج بمفهوم «الكائن الاجتماعي - الاقتصادي» (ESO) . هذه الفكرة أدرجت على حد سواء،«الاتنيكوس» (etnikos) - وهي السمات المشتركة الثابتة للغة والثقافة وعلم النفس والوعي الذاتي التي تميز جماعة - وأنواع المجتمعات الأوسع نطاقا (البدائية والإقطاعية والرأسمالية) التي شكلت جزءًا منها. هذه الخطوة جعلت من الممكن طرح «الجماعة العرقية» (ethnos) كشيء ثابت دائم، وموضوعي في الوقت الذي يتم التشدق بالتسلسل الماركسي - اللينيني للتكوينات الاجتماعية - الاقتصادية. ووفقاً لهذا المخطط، فإن المجتمعات الصناعية هي وحدها التي يمكن أن تشكل دولاً (natsiia)، في مقابل المجتمعات القائمة على القرابة أو القبائل التي تظل «شعوباً» فقط (narodnost). ليس مستغربا ، كما هو واضح من مساهمة تاينشتيكبيك تشارويف (Tyntchtykbek Tchoroev في هذا المجلد، أن تكون هذه النظرية قد أصبحت موضوعا للطعن والخصومة المريرة بالنسبة للمؤرخين ما بعد الاتحاد السوفييتي لآسيا الوسطى التي تنطوي إعادة التفسير لماضيهم على البحث عن السوابق التاريخية لدولتهم الحديثة ومخرجاً من النسخة السوفيتية المقتطعة من «دولتهم». بيد أنه كان هناك فى كثير

ص: 323

من الأحيان استبدالاً لأشكال جديدة من البدائية من أجل القديمة (استعادة الأمة المفقودة»)، والتي يمكن أن نجدها أيضًا في المراحل الأولى لبناء الأمة في مكان آخر.

صحيح أن المثقفين والسياسيين قد انجذبوا بشكل متكرر إلى فكرة الوجود المفترض لإثنية قديمة من أجل مواصلة مشاريع سياسية تجعل من إنشاء دولة قومية أمرا ممكنا، إلا أن صياغتهم لمثل هذه الهويات القديمة المفترضة تختلف كثيراً مع مرور الوقت لدرجة لا يمكن إخفاء طبيعتها الاعتباطية. وهكذا، فإن القوميين الألمان الذين كانت مكوناتهم مبعثرة جغرافياً مالوا إلى الاحتكام إلى اللّغة، في حين أن الصهاينة احتكموا إلى اليهود المتعددي اللغات والمشتتين بنفس القدر على أساس الإثنية الدينية، معتبرين اليهود «عرقا» أو «أمة»، وليس اليهودية كدين. إلا أن الصهيونية كانت متنوعة كمفهوم ذاتي، وتم استحضارها مؤخراً لقبول الإثيوبيين الفلاشا إلى إسرائيل، بحيث أن الإثنية الدينية يمكن أن تكون معقدة بسبب العرق. فأولئك الذين ينظرون إلى «دولهم» على أنها ينبغي أن تتمتع بمكونات أكثر اندماجا كانوا يميلون إلى التحدث عن فترة طويلة أمضاها مجتمع تاريخي على أرض محددة وعدم الالتفات كثيرا إلى اللغة والدين (لم يقم القوميون المدنيون الفرنسيون بإقصاء الهوغوتينيين (أعضاء كنيسة فرنسا الإصلاحية البروتستانتية) أو البريتانيين (مجموعة إثنية موجودة في منطقة بريتاني في فرنسا). بالإضافة إلى ذلك، تغيرت الاستراتيجيات مع مرور الوقت. وقد أشار إريك هو بسباوم (Eric Hobbawm) إلى أن التحول الذي حصل في منتصف القرن التاسع عشر في أوروبا إزاء مفهوم الأمة بناء على الإثنية جاء جزئيا، نتيجة لتوحيد ألمانيا وإيطاليا، تقسيم النمسا والمجر، الثورات البولندية، والحركات القائمة على الإثنية بين شعوب البلقان من أجل الاستقلال عن الإمبراطورية العثمانية(1). مما يعني أن هناك اشكالية بخصوص فكرة سميث نفسها عن «الإثنية» كأساس للقوميات لأن المفكرين القوميين انتقوا «الإثنيات» من أجل

ص: 324


1- 7Eric J. Hobsbawm, Nations and Nationalism Since 1780: Programme, Myth, Reality (Cambridge: Cambridge University Press, 1990), 23.

مقاصدهم الخاصة من مقدار كبير من الهويات المتضاربة القائمة بالفعل، وأجروا أنواعاً مختلفة من الاختيارات اعتمادا على ظروفها المتغيرة. فالإثنيات ما قبل الحداثة نفسها تمت إعادة تشكيلها من خلال النظرة القومية وهي دائما ما تكون هويات مبنية إلى حد ما.

في العصور الوسطى، وحتى في أوائل العصر الحديث في كثير من الأحيان، لم يترك عدم وجود توحيد اللغات وخمود التدين الشعبي إلا شكا ضعيفًا فيما يتعلق بطبيعة تعدد لغات الإمبراطوريات التي شيدت آنذاك(1). فالمجتمعات المتنوعة والمتباينة التي شكلت رعايا تابعين لهذه الإمبراطوريات حاربت بعضها البعض بصفتها تابعة لسيادة هذه الإمبراطوريات، وليس كأفراد في أمة تقاتل «أخرى» إثنية. بعض هذه المجتمعات ما يمكن أن نطلق عليه الآن اسم الأفغان خدموا إيران، بينما خدم آخرون المغول، وقد يكونوا وجدوا أنفسهم بسهولة في جيوش معارضة. ولم تدرك معظم شعوب ما قبل الحداثة الذين كان ينطقون بما نعرفه الآن على أنها عائلة من اللهجات التي تشكل لغة واحدة منفردة أنها قامت بذلك، لأنه في غياب الطباعة،ومحو الأمية على نطاق واسع، والتعليم الوطني، كانت العديد من اللهجات، وعلى نحو متبادل، غير مفهومة. هذه الصعوبة في التواصل عبر اللهجات لا تزال تؤثر على الأكراد(2). فضلا عن ذلك، يتأسس مفهوم القومية التركمانية (Pan-Turkic: الحركة السياسية القومية التركية ظاهرة نشأت في القرنين التاسع عشر والعشرين. كانت في جزء منها ردا على تطور القومية السلافية والقومية اللاتينية في أوروبا، وتأثرت بالقومية الإيرانية في آسيا) في كثير من الأحيان على المفردات الهامة وحتى على الاختلافات النحوية بين لغة الأناضول التركية ولغات مثل الكازاخستانية والأوزبكية. وفي الشرق الأوسط، كان جيش إيران الصفوية مستمدا بشكل رئيس من القبائل الناطقة بالتركية وهذه القبائل الناطقة بالتركية حاربت وبكل سرور الأتراك العثمانيين لصالح البيروقراطية الفارسية التي كانت تستخدم اللغة الهندية - الأوروبية. وحارب ضباط

ص: 325


1- 8Ernest Gellner, Nations and Nationalism (Ithaca, N.Y.: Cornell University Press, 1983), 8- 18.
2- 9To give another example, at the time of Italian unification only about 2.5 percent of the population knew standard literary Italian: Hobsbawm, Nations and Nationalism Since 1780.

يتحدثون العربية من ما يطلق عليه الآن اسم لبنان ما يطلق عليه الآن اسم اليمن نيابة عن الدولة العثمانية التي يغلب عليها التركمان وفي آسيا الوسطى، أبقت إمارة بخارى سجلاتها الاستشارية باللغة الطاجيكية الفارسية، على الرغم من الطابع التركي إلى حد كبير للنخبة الحاكمة.

يركز كل من ميروسلاف هروش Miroslave roch وإرنست غيلنر (Ernest Gellner) بطريقتهما الخاصة على الظروف المادية لظهور الأمم. ويفترض هروش الماركسي، أن هذا التحول من الإقطاع إلى الرأسمالية اقتضى ضمنا تنامي القومية. و عکست صيغة هورش نظرية المرحلة الستالينية، بحيث أن التغيير في القاعدة المادية کان هو الذي أدى إلى إنشاء بنية فوقية جديدة للدولة القومية. وهكذا نمت الدولة القومية بالترادف مع الرأسمالية الحديثة، وافترض ثلاث مراحل لظهور الدول في القرن التاسع عشر. المرحلة الأولى صعود مجموعة من المثقفين المهتمين بالثقافة المحلية، الذين يجمعون الفولكلور ويجرون دراسات لغوية، غالبا من دون أي أجندة سياسية. وفي المرحلة الثانية لهورش يحاول المفكرون والسياسيون المحليون، الذين يسعون إلى قدر أكبر من الحكم الذاتي أو يشعرون بأنهم منعوا من التقدم المهني من قبل مسؤولين في الحواضر الكبيرة، يحاولون تجميع الرموز الأصلانية ( nativist)، واجتذاب الطبقات الوسطى والعمال والفلاحين للعمل معاً من أجل الحكم الذاتي. أما في المرحلة الثالثة، فيتم تحقيق دولة منفصلة، والتي بدورها تفرض على الشعوب داخل أراضيها هوية وطنية(1). حدوث مثل تلك العمليات يبدو واضحا، على الرغم من أن التاريخ الطبيعي لتكشفها وظهورها كمراحل كما قدمها هورش يبدو تخطيطيا للغاية. ويعترض غيلنر على اللغة الإقطاعية والرأسمالية، مفترضا أن الدولة القومية تنشأ أثناء التحول من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي(2). ومن وجهة نظر غيلنر كعالم أنثروبولوجيا، تقوم مجتمعات ما قبل العصر الحديث

ص: 326


1- Miroslav Hroch, Social Preconditions of National Revival in Europe, trans. Ben Fowkes (Cambridge: Cambridge University Press, 1985).
2- 11Gellner, Nations and Nationalism, 8- 52; see also his reply to Hroch in Encounters with Nationalism (Oxford: Blackwell Publishers, 1994), 182- 200.

على روابط الرعاية القرابية، ويُعطل المجتمع الصناعي تلك الروابط من خلال خلق حركة جغرافية واجتماعية واسعة، حيث يتم تفكيك العشائر وانتقال العمال إلى حيث تحتاجهم الصناعة، في حين أن هيكليات الترقيات والمكافآت تكون وفق مسوغات غات تستند إلى الجدارة بدلاً من المحسوبية. ففي مرحلة ما قبل المجتمعات الصناعية كانت الأرباح تذهب إلى جيوب أبناء العمومة للمرء، الذين يزعمون بأن لهم يدا في نجاحه، بينما في المجتمع الصناعي يمكن للمرء أن يراكم رأس المال. لذا تحل الدولة القومية محل القرابة كمركز للولاء. ومن وجهة نظر غيلنر، الأنظمة القوية القائمة على العشائر دلالة على أن الأمة الصناعية لم يتم تجسدها تماماً. ويبدو أن كل من هورش وغيلنر يعترفان بمزاعم هو بسباوم عن أن «السمة الأساسية للأمة الحديثة وكل شيء مرتبط بها هي حداثتها»(1). بيد أن بر اسنجیت دوارا Prasenjit) Duara) انتقد التمييز التبسيطي بين الحديث وما قبل الحداثة، مشيراً إلى الهويات السياسية المتطورة المتاحة لسكان شرق آسيا في القرون الوسطى وأوائل الحداثة(2). وفي الصين، بعد كل شيء، كانت الكتب المطبوعة بالقوالب الخشبية موجودة ولديها القدرة على خلق جمهور نخبوي صغير قارئ منتشر على الصعيد الجغرافي، وأهمل نظام الامتحانات للبيروقراطية المدنية خلفية الأسر في تلك القرون الممتحنة قبل أن تتوقف المحاباة والمحسوبية بصفتها أدوات التوظيف الأساسية للبيروقراطيات الأوروبية. مع ذلك، يعترف دوارا بأن «الفكرة ليست وجود الهوية الوطنية في العصر الحديث»، وإنما المسألة، وببساطة،هی أن هناك تناقض ثنائي صارخ بين الوعي السياسي الحديث وما قبل الحديث المحلي والذي لا يلتقط تنوع الهويات السياسية في العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث، حيث نمت في بعض الأحيان أشكالا من الهوية السياسية التي تشبه الهويات الوطنية.

قد يكون من المغالاة القول أن الحجة بخصوص صعود القومية على أساس التحول في نمط الإنتاج إلى الرأسمالية أو إعادة تنظيم الإنتاج والأسرة في المجتمع

ص: 327


1- 12Hobsbawm, Nations and Nationalism Since 1780, 14.
2- 13Prasenjit Duara, Rescuing History from the Nation (Chicago: University of Chicago Press, 1995), 52-56.

الصناعي عديمة القيمة تماماً. ولكنها تبدو غير ذات صلة بأصول القومية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. فالعديد من المجتمعات الفردية التي برزت فيها حركات شبيهة بالحركات القومية كانت زراعية إلى حد كبير - على سبيل المثال، البلقان العثماني سابقا في القرن التاسع عشر الأراضي العربية في العشرينات، والهند البريطانية. لقد انبثقت أو نشأت معظم القوميات الشرق أوسطية مع نشوب الحرب العالمية الأولى (فترة تاريخية بالنسبة للهند مع حركة الخلافة دعما للسلطان العثماني الذي كان حليفا للألمان ضد البريطانيين)، على الرغم من ظهور إجماع على أن الهوية القومية في معظم الدول العربية الاستثنائية مثل مصر وسوريا لم تغزوها بصلابة حقا إلا بدءا من العام 1920 فصاعداً(1). لقد صيغت هويات آسيا الوسطى في جدلية بين الحركات الشعبية وسياسة القوميات السوفيتية بعد عام ،1917، كما تقول نادرة عبد الرحيموفا (Nadira Abdurakhimova) وماريان كامب (Marianne Kamp) في هذه المسألة. لم يكن هناك من تصنيع على نطاق واسع سبق صعود القوميات الشرق أوسطية؛ ولا تحرك كبير للعمال؛ ولا قطع للالتزامات التي تفرضها روابط الأقارب، قد حدث في هذه المناطق في الواقع ، وحتى يومنا هذا، لا يمكن اعتبار معظم بلدان المنطقة صناعية؛ إذ لم يتم تعطيل الشبكات العشائرية والقرابية بالكامل بالطريقة التي يصفها بها غيلنر. إذا كان لأحد أن يدلي بدلوه بشأن تغيير في تنظيم الإنتاج الذي حدث كخلفية لصعود القوميات الشرق أوسطية، فإن بإمكانه أن يركز على المحصول النقدي على نطاق واسع للسوق العالمي، والذي يطلق عليه البعض «الرأسمالية الزراعية». فقد اعتمدت الدولة الوفدية في مصر الدولة البهلوية في إيران والدولة الكمالية في تركيا، وكلها ساحات أولى للأيديولوجية القومية في فترة ما بين الحربين - وفي المقام الأول على الرأسمالية الزراعية أو مختلف أنواع الإيجارات لدخلها، وكانت كلها منخرطة في نوع من أنواع الصراع مع القوى الاستعمارية الأوروبية التي تسيطر على اقتصاداتها الوطنية.

ص: 328


1- Rashid Khalidi, Lisa Anderson, and Reeve S. Simon, ed.,The Origins of Arab Nationalism (New York: Columbia University Press, 1991), and James Jankowski and Israel Gershoni, ed., Rethinking Nationalismin the Arab Middle East (New York: Columbia University Press, 1997).

على الرغم من أن عصر الرأسمالية الزراعية شهد ثروة من الأراضي التي تركزت في أيدي عدد قليل جدا من العائلات (عادة ما بين 2000 أو 3000 فقط في أماكن مثل مصر والعراق)، فقد تم التقليل من شأن مقاومة الفلاحين من خلال إنشاء مجمعات تشبه العزبة (المزرعة) ومن قمع واسع النطاق مدعوم من الدولة. ومن الممكن أن تكون هناك أحزاب «قومية» متعددة الطبقية معادية للإمبريالية في عشرينيات القرن العشرين مثل حزب الوفد قد اعتمدت على المحسوبية والشبكات الاجتماعية الأخرى التي انبثقت عن هذه الرأسمالية الزراعية لكبار المالكين، ولهذا كانت المجمعات التي تشبه المزارع هي السبب في صعود القومية وفي قدرة السياسيين ملاك الأراضي في حزب الوفد على تعبئة فلاحهيم لأغراض سياسية. أما في الهند، فقد قيل العكس أن الصراع بين الفلاحين وكبار المالكين في العشرينات وما بعدها كان المرجع الذي تم فيه إطلاق الوعي القومي في أوساط الطبقات الاجتماعية الثانوية التابعة (subaltern). وفي أي من ،الحالين فإن الرأسمالية الزراعية، ومهما كانت تعتبر عاملا عظيما (بطرق مختلفة وطارئة واضحة) إلا أنه لا يمكن الأخذ بها لانجاز العمل الذي أراد غيلنر من نظريته عن الانتقال إلى المجتمع الصناعي أن تنجزه، بقدر ما أنها لا تؤثر على روابط القرابة وأخيراً، وفي آسيا الوسطى، أسفر النهج السوفياتي للزراعة الجماعية وتنظيم المجتمع والسياسة إلى جانب السياسة الحزبية عن نتائج مختلفة عن «قاعدة» المحصول النقدي من محاصيل القطن وبعد ذلك التصنيع الخفيف.

من الأسهل الاستنتاج أنه في بعض الحالات في بداية أوروبا، ربما كان للتغيرات الاقتصادية الواسعة النطاق وظهور البرجوازية الصناعية والطبقات العاملة آثارا على تطور القومية من نوع غريب متميز. بيد أن النخب من مجتمعات زراعية إلى حد كبير يمكن أن تستغل فكرة الدولة القومية، لتطبيق أشكال مختلفة من الظاهرة على ظروفهم المختلفة جدا، التي تعقدت بسبب تحدي الإمبريالية الأوروبية. وكما سيحاجج ويقول سامي زبيدة في هذه القضية، فإن العنصر الرئيس في تشكيل القومية في جنوب العالم هو تحكم طبقة اجتماعية نخبوية بدولة بيروقراطية عقلانية، مع

ص: 329

تأثيرها الواسع على الاقتصاد والحياة الثقافية. مما يعني، وبما يتعلق بكلمة «القومية» في كلام غيلنر،«أن القومية هي التي تولد الأمم ، وليس العكس»(1). يجب أن نستبدل عبارة «الدولة». وعلى الرغم مما يقوله كل من هورش وغيلنر، إلا أن من الواضح أن النخب الزراعية التي تسيطر على دولة في مرحلة ما بعد الاستعمار يمكن أن تشق طريقها معاً وإجراء ترتيبات سياسية «وطنية» جديدة من دون أن تخضع بلدانهم لتحول واسع النطاق من بلد زراعي إلى صناعي أو من الظروف القائمة على القرابة إلى الظروف القائمة على الفرد إن إضفاء مثل هذه المركزية على الدولة لا ينتقص من المساهمات الحقيقية للوعي القومي من مختلف الطبقات الاجتماعية بما في ذلك الفلاحين والعمال في بعض الحالات؛ إنه يشكل سياقا أساسيًا فيه يميل الخيال السياسي لهذه الطبقات إلى الإنطلاق.

الدولة تنجز مهمة إنشاء وطن بطرق عديدة، بما في ذلك من خلال إقامة نظم مدرسية وطنية تضع معيارًا لغويا منفردا ، وتاريخ «وطني» مرصوف، وتأسيس جيوش مجندة تأتي بالشبان من جميع أنحاء البلاد وتجمعهم معا وتشكل الروابط العاطفية فيما بينهم فالدولة القومية، وكما كان يعتقد جيل سابق من الماركسيين لا تنشأ ببروز سوق إقليمي، بل أن الدولة القومية هي التي تُنشىء سوقا وطنيا ولا يمكن المبالغة بأهمية مركزية الدولة وقد حاجج عدد من علماء الاجتماع بشكل مقنع وقالوا بأن الدول المعاصرة، التي كانت أقاليم يحكمها الاتحاد السوفياتي في السابق كانت في جوانب مهمة من صنع سياسة القوميات السوفياتية(2).

إن النظر في الدولة يؤدي إلى إدراك العنف والإكراه المتأصلين في عملية صنع الأمة. يجب على الدولة إخضاع الفلاحين وتطويقهم، وغالبًا ما يترافق ذلك مع

ص: 330


1- Gellner, Nations and Nationalism, 55- 56.
2- See, for instance, Ron Suny, The Revenge of the Past: Nationalism, Revolution and the Collapse of theSoviet Union (Stanford, Calif.: Stanford University Press, 1993); Rogers Brubaker, Nationalism Reframed: Nationhood and the National Question in the New Europe (Cambridge and New York: Cambridge University Press, 1996); and the sources cited in Deniz Kandiyoti, "Post-colonialism Compared: Potentials and Limitations in the Middle East and Central Asia," International Journal of Middle East Studies 34 (2002):279- 97.

الكثير من سفك الدماء، أو يجب إعادة تنظيمهم في مجمعات أو تعاونيات، أو يجب تفويض مثل هذا التأديب لخيالهم لكبار الملاكين وقانون الملكية الخاصة وغالباً ما برز صراع القرويين ضد نخبة محلية من ملاك الأراضي أو ضد دولة استعمارية في تعاظم هؤلاء إزاء الوعي القومي. ومن خلال تجنيد الفلاحين في الجيش الوطني والالقاء بهم في مقابل قوة أجنبية أيضاً تكون الدولة قد استخدمت عنفاً هائلاً لتشكيلهم كأمة وبدءاً من الخمسينات حاولت بعض الدول كمصر والهند مع بعض النجاح اختيار الفلاحين المعتدلين لمشروع بناء الدولة ما بعد الاستعمار من خلال مهمة إصلاح الأراضي.

وفي حين يرى غيلنر أن القومية شكل من أشكال الوعي الخاطئ، كذبة جماعية واسعة ذات مغزى مدمر ، فإن أندرسون يتحدث بدلاً عن ذلك عن «مجتمع متصور»، مجتمع يدعو إلى أن يكون دولة إقليمية وهذا بدوره يخلق الأمة(1). ويرى أندرسون أن هذا التصور الخيالي بنّاء وحقيقي. قد يبالغ ربما في الدور الذي لعبته البرجوازية والمفكرون في هذه العملية، ويلطف الكثير من الاختلافات في الأفكار حول الهوية الوطنية والتنظيم عندما يطلق على القومية اسم «وحدات بناء»،كما لو كانت مجموعة أدوات قابلة للتحويل بسهولة. وأصرَّ آخرون على أهمية العمال والفلاحين الذين يجب عليهم، لأسباب خاصة بهم، التخلي عن مفهومهم الأكثر محلية مبدئيا من أجل حركة وطنية عالمية قوية في الواقع، وعلى النقيض من الرؤية الاجمالية والأحادية اللون التي أظهرها العديد من المنظرين، الأمر مهم عندما تكون الهويات السياسية قد تشكلت (سواء كانت في العصر الحديث أو ما قبل الحداثة، أو في القرن التاسع عشر أو القرن العشرين)، والأمر مهم سواء كانت القومية قد تطورت في حاضرة كبيرة قوية أو بظل ظروف مناهضة للإمبريالية أو ظروف ما بعد الاستعمار.

ولكن بما هو أبعد من مسألة المصفوفة التاريخية والاجتماعية لأي حركة معينة، هناك نموذجان رئيسيان، أو «نمطان مثالیان» (ویبیریان Weberian) من القومية

ص: 331


1- Anderson, Imagined Communities; for a clear discussion of the differences between Gellner and Anderson, see Chatterjee, Nationalist Thought.

ويناقش هو بسباوم هذين النموذجين الأول هو مفهوم ثوري - ديمقراطي أو «مدني» للأمة لا يرتبط بهوية إثنية، كما في فرنسا والولايات المتحدة الأميركية في أواخر القرن الثامن عشر. وفي آسيا الوسطى، أدانت الأيديولوجية السوفييتية الشوفينية وروجت لنوع من القومية المدنية، ولكن في نفس الوقت كانت تتلبس قوميات اسمية ذات امتیازات خاصة ما دام يُنظر إليها كذلك من أجل تجنب قومية على أساس إثني (والتي كانت تحمل دلالات سلبية للغاية). والثاني في مناقشة هو بسباوم، هي القومية الخصوصية، والتي ترتبط بشكل رئيس في عقول أنصارها بالعرق واللغة. وكما أشرنا في وقت سابق، يؤكد هوبسباوم على أنها لم تتطور حقاً في أوروبا بشكل جدي حتى منتصف القرن التاسع عشر. أما المفكرون الشرق أوسطيين المتأثرين بعمق بالفكر الأوروبي مثل فتح علي اخوندزاده (Fath _Ali Akhundzadeh)، ضياء كوك ألب Ziya Go kalp)، ساتي الحصري Sati_ al-Husri)، وبعد ذلك جورج أنطونيوس (George Antonius)، فيميلون إلى تبني هذه الفكرة القومية القائمة على الإثنية.

بيد أننا، بالإضافة إلى ذلك، سوف نعرض (مع العديد من كتابنا) مقترحاً يقول بأن الدين، مثل اللغة و«العرق» أو الإثنية، يمكن أيضاً أن يشكل أساساً للقومية الخصوصية. فالحجة القائلة بأن الأديان عالمية ومستبعدة للغاية من مسألة لعب مثل هذا الدور المحدد هي حجة خاطئة للغاية. بادئ ذي بدء لا يوجد دين عالمي بالفعل بغض النظر عن ادعاءاته، على الرغم من أن بعض الأديان واسعة الانتشار. ثانياً، اللغات عابرة المحدود الوطنية أيضاً. وبالتالي، إن كل من اللغتين الإنكليزية والعربية هي بمثابة لغات لعدد من الدول القومية، ومع ذلك، وكما هو الحال مع حركة «الإنكليزية فقط» فی ولاية كاليفورنيا أو فرض اللغة العربية على كردستان العراق (منطقة غير ناطقة بالعربية)، يمكن للغة أن تندمج وتنصهر مع المعنى القومي والخصوصي. ومن الصحيح القول أن جعل الدين أساسا للقومية يمكن أن يثير تناقضات واضحة . (ما الذي يصنعه المرء من الأديان المشتركة خارج الدولة القومية القائمة على الدين؟ إنها، وإلى حد كبير، مشكلة لإيران الشيعية في علاقتها مع الشيعة في لبنان والبحرين. وما الذي يصنعه المرء من السنّة والمسيحيين الإيرانيين في هذه الجمهورية الشيعية؟). مع ذلك، هذه

ص: 332

التناقضات لا تقف في طريق تطبيق القوميات الدينية، كما شهدنا في باكستان وإيران وأفغانستان (وإلى حد أقل في الآونة الأخيرة في الهند مع انتصار الحزب القومي الهندوسي بهاراتيا جاناتا). ففي كل دولة من هذه الدول، تلعب القومية الدينية دوراً مركزياً في الهوية الوطنية، إلى جانب العرقية واللغوية وعوامل أخرى. وعاد الخطاب الأكاديمي إلى تصنيف القومية الدينية كشكل من أشكال القومية، على الرغم من أن من الصعب أن نرى من الناحية التحليلية، أن القومية التي تعتمد على الشعور بالهوية الدينية تكون بطبيعة الحال أقل حجية من الحركات الإثنية أو اللغوية العلمانية.

إن ملاحظات سامي زبيدة وأنطوني هايمان( Anthony Eyman) في هذه القضية تعارض فكرة الهوية الدينية باعتبارها بقايا من أزمان السلالات الحاكمة الشمولية التي جعلتها غير مناسبة ولاغية بالنسبة للقوميات الخصوصية.من ذلك، بدلا ينطوي المشروع الوطني على افتراض وجود شعب مختلف عن شعوب أخرى على أرض ذات دولة، ومحايد إلى حد كبير فيما يتعلق بالمصطلح الأساسي الذي يفسح المجال للشمول والإقصاء. هذا المصطلح يمكن أن يكون لغويّاً، استنادًا إلى مفاهيم الأصل أو العرق المشترك أو على أساس الدين (مفاهيم غير دقيقة وغير علمية). إذ تقتصر «شمولية» التقاليد الدينية العظيمة عند الفحص الدقيق، تقتصر على بضع موضوعات مجردة في الواقع إن الأديان «العالمية» تعمل كمظلات لمعتقدات محلية وممارسات اجتماعية متنوعة، فتربطها معاً بدلاً من أن تكون فضفاضة عن طريق الاحتكام إلى بعض المواضيع البسيطة، الأساطير ، والطقوس المشتركة. وبقدر ما يكون الدين في الغالب محليا بطبيعته على الرغم من عالميته الظاهرة يكون بالإمكان اختياره للأغراض القومية عادة. وبالتالي، لقد شكل مزيج الباكستان المؤلف من الفقه الحنفي؛ من تعاليم الجشتية السهروردي والنقشبندي والقادري الصوفية؛ من حركات إصلاحية مثل الديوبندية والبريلوية؛ من حداثة إقبال وتأثيره الواسع؛ من البنجابية الشيعية بتراثها الصوفي الغريب المميز، ومن المكانة المحلية للدعاة والعلماء الصوفيين الذين غالبا ما يعظون باللغات الإقليمية شكلت كلها مجموعة هامة من المشابك التي يمكن أن تشكل دولة باكستان الإسلامية بنكهتها الخاصة

ص: 333

والتي تميز باكستان عن جيرانها المسلمين في كل من إيران وأفغانستان. ولجعل الأمور أكثر تعقيدًا حتى تم تناول هذا الجانب الديني إزاء القومية الباكستانية وأخذ على محمل الجد وغير الجد في نقاط مختلفة من الخطاب الوطني والممارسات السياسية والقانونية. فالدين، مثل أي هوية أخرى، هو مجال للخصومة والتنافس أكثر مما هو جوهر ثابت والنضال حول تعريف ومكان الدين يمكن أن يكون مفصلا بشكل متناسب مع إحساس وطني بالهوية يتسم بحد ذاته بالسلاسة والتغيير.

حيث تهيمن القومية الإثنية والدينية على دول متعددة الإثنيات والأديان، يمكن ان تسهم القاعدة الخصوصية للإيديولوجية بقدر كبير من الصراع الداخلي، كما هو الحال في لبنان أو العراق أو البوسنة. مع ذلك، وحتى في الدول التي تبنت القومية المدنية، يمكن لمشاريع إمبريالية مثل مخططات الولايات المتحدة وفرنسا في فيتنام أن تؤدي إلى تعاريف جينغوية (قومية متطرفة) للمصلحة الذاتية الوطنية، مع عواقب مدمرة للغاية. يجب أن نتذكر أيضا أن هذه القوميات المدنية في فرنسا والولايات المتحدة غالبًا ما تختلط مع نوع من القومية العرقية غير المعلنة، والمشاعر التي لعبت

عليها جان ماري لوبان في فرنسا والعنصريون البيض في الولايات المتحدة.

الهوية السياسية ليست شيئاً جديداً في التاريخ، لكن «تصور» الدولة القومية له ميزة جديدة تختلف عن الهويات الإثنية المحلية أو الإمبراطورية - الإقليمية. وقد تعزز هذا التصور في الأصل من خلال إعادة تنظيم واسعة للمجتمع الزراعي في انتظار صعود الصناعة (في شمال المحيط الأطلسي) أو الرأسمالية الزراعية، صعود الدولة البيروقراطية الحديثة والصراع الطبقي المتعدد ضد الإمبريالية (في جنوب العالم). وفي حين أن تأكيد أندرسون على الطباعة وانتشار معرفة القراءة والكتابة، والجريدة والصحيفة والرواية والمتاحف عبارة عن رؤية نظرية رئيسية لفهم جوانب القومية، فإن هذه الظواهر أثرت على زوال عدد ضئيل من الأشخاص في الفترة الأولى من المشروع القومي في المناطق التي نحن مهتمون بها، وكان لمشاريع الطباعة والتعليم ذات الصلة بالدولة تأثير أوسع بكثير.

ص: 334

إن عملية بناء الأمة مستمرة. ففي قسم كبير من جنوب العالم، حدث ذلك في سياق الاستعمار ومرحلة ما بعد الاستعمار ويمكن الاحتجاج بجميع دلالات الهوية الرئيسية التي ركز عليها مؤيدو القومية في القوة الخطابية الخاصة في الأوضاع الاستعمارية وما بعد الاستعمار «العرق»، اللغة والدين وغالبا ما تكون دلالات اجتماعية تختلف بشكل صارخ بين المستعمِر والمستعمَر ويمكن لبناة الأمة القوميين الاحتكام إليها. كما أن وجود الفترات الاستعمارية وما بعد الاستعمار الأخرى يسمح أيضاً للسكان المحليين المتنوعين فعلا بالاستمرار بوهم التجانس النسبي ضد الهيمنة الأجنبية، مما يساهم في التماسك «الوطني».

بيد أنه في فترة ما بعد الاستعمار ، فإن هذا الأمر الذي حقق الوحدة ينهار أحيانًا ويتصاعد التحدي والخصومة الداخلية بين السكان المتنوعين في الدولة الجديدة. وقد تندلع حركات النضال الانفصالية، كما هو الحال بين الشماليين والجنوبيين في نيجيريا في فترة ما بعد الاستعمار أو يمكن لمجموعات أو طبقات الحالات المستبعدة الاحتكام إلى الرموز الدينية الوطنية من أجل تحدي نخب ما بعد الاستعمار المتحصنة، مثل فئات البازار التي وظفت إعادة صياغة الخميني للإسلام الشيعي ضد «علمنة» برجوازية كبيرة في إيران الشاه (ظاهرة مشابهة ظهرت في الهند الجزائر وإلى حد ما في أوزبكستان). قد يكون التراث الوطني أكثر تباينا بحيث يتم إعادة رسم الحد الفاصل بين الذات والآخر . ففي المرحلة المناهضة للاستعمار في النضال الهندي من أجل الاستقلال، تم استحضار أمجاد تاج محل حتى من قبل الهندوس كدليل على المجد الوطني الهندي في الماضي، في حين أننا رأينا في الهند المستقلة التسعينات مجموعات هندوسية قوية تدعو إلى هدم هذه الآثار الإسلاميّة باعتبارها بقايا من زمن الهيمنة الأجنبية . إن استمرار أهمية الإرث الاستعماري في تشكيل الأمة الحديثة يثير مشاكل الهوية الحادة في سياق القومية التي غالبا ما تصور نفسها بأنها أصلانية (nativism) نقية (وهذا واضح مع استمرار أهمية اللغة والثقافة الفرنسية في أوساط الطبقات الوسطى والغنية في الجزائر، واللغة والثقافة الروسية في أوساط نفس الطبقات في آسيا الوسطى).

ص: 335

إن ظهور التصنيع على نطاق واسع الصناعات الخفيفة عادة أو الصناعات المرتبطة بالسلع الأولية مرتفعة الثمن مثل (النفط) منذ حوالي عام 1960 هو ما یمیز فترة ما بعد الاستعمار في الشرق الأوسط. فبعض الدول التي لديها واقع أو توقعات بمداخيل مرتفعة من ريع السلع الأولية، مثل إيران والعراق، حصلت على استقلال كاف عن المجتمع الدولي للخروج بنفسها والقيام بشيء جديد ومستقل عن الآخرين وتطوير أنظمة شعبوية استبدادية ذات إمكانات مؤكدة ومجربة للتعبئة الجماهيرية غير المرحب بها لدى القوى العظمى. فقد أدى انهيار الاتحاد السوفياتي إلى ظهور الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية القديمة في آسيا الوسطى كدول قومية مستقلة، والتي لديها علاقات معقدة مع موسكو. وشهد بناء الأمة في جنوب العالم إنجازات ونجاحات ملحوظة. مع ذلك، فإنّ الإبادة الجماعية الرهيبة التي ارتكبت ضد شيعة وأكراد العراق من قبل النظام البعثي العراقي، ومذابح الشيعة والطاجيك من قبل طالبان في أفغانستان الحرب الأهلية البوسنية، الحرب الأهلية الطاجيكية، ومذابح أيوديا وبومباي للمسلمين في الهند هي بمثابة تذكير للكيفية التي يمكن أن يتحول فيها التصور الوطني ما بعد الاستعمار نحو أوهام الهيمنة الإثنية السوداء وحتى تحقيق التجانس، تماما كما حصل مع بعض القوميات الأوروبية. فغالبا ما كانت أنظمة ما بعد الاستعمار تتسم بالهيمنة من قبل «جمهور» ضيق يبرز النخبة السياسية الرئيسية . فظهور جماهير مناهضة للتبعية التي هزت هيمنة حزب المؤتمر في الهند والتي أفسدت السياسة التركية عندما استولى الإسلاميون على رئاسة الوزراء في أواخر التسعينات، هو ما تحدى نظام ما بعد الاستعمار. إذ لم تشهد دول آسيا الوسطى حتی الآن، باستثناء قرغيزستان إلا القليل من العمل في طريقها نحو الديمقراطية الحقيقية، وأدت التقاليد المستمرة للسلطوية المتجذرة في الممارسات البيروقراطية السوفييتية إلى انشقاق أولئك الذين يشعرون بالحرمان. أما كيفية تعامل النخب مع هذه التطورات فسوف يساعد على استمرار بروز الفكرة الوطنية في كما هي مجسدة في الوضع الراهن في جنوب العالم.

سوف يكشف المؤلفون الممثلون في هذا الإصدار تداعيات الإرث الاستعماري

ص: 336

في تشكيل الوعي الوطني في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. ونبدأ مع الفترة الاستعمارية، مع مقال بقلم سامي زبيدة يدرس فيه حالة العراق. ويشير سامي زبيدة إلى المجتمعات المتباينة التي تقطن المحافظات الثلاث الواقعة على نهري دجلة والفرات في ظل الحكم العثماني، مع الانقسامات بين وداخل السنة، الشيعة، العرب والأكراد. ويشكك زبيدة بالاقتراح الذي طرحه أندرسون، ويقول بأن الأمة الخصوصية، ومن نواحي عديدة تحل محل دين عالمي وتزيحه. ويشير إلى أن ،العراق، على أي حال لم يكن لديه هوية دينية واحدة في العهد العثماني، وبأن العراق ما أن خرج إلى الوجود ورسمت حدوده عن طريق الاحتلال الاستعماري البريطاني، فإن الدين استمر في التعبير عن « الأمة » ودخل «مجال النزاعات القومية». ويطرح محمد توكلي تارجي القضايا في التمثيل الجنساني للأمة في إيران في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، والتي على الرغم من أنها لم تكن مستعمرة رسمياً، إلا أنها كدحت وأرهقت في ظل الاجتياحات الإمبريالية تحت عنوان ترسيم القوى العظمى لمجالات النفوذ.

إنه يجد جاذبية قوية للوطن كالجاذبية للأم ، ولكن شرفها كان منتهكا من قبل الغرباء - إما مغتصبة أو مصابة بأمراض موهنة - والذي لا بد أن يعيده إليها أطفالها. فإذا كان العراقيون في مرحلة ما بعد الاستعمار، بحسب طرح زبيدة، يشعرون بأن لديهم دولة ولكن ليس أمة موحدة وقوية، فإن المفكرين الإيرانيين بالنسبة لتوكلي تارجي كان لديهم تصور بحلول القرن التاسع عشر عن أمة وطنية عمرها 6000 عام (!) تفتقر إلى دولة قوية ترعاها .

تنظر المقالات التي كتبتها كل من عبدالرحيموفا وكامب في جوانب تشكيل الهوية في آسيا الوسطى الحديثة، وتعالج بدورها الفترة الكولونيالية القيصرية ومن ثم الفترة الكولونيالية السوفياتية الأولى وتعارض نادرة عبد الرحيموفا ميل المؤرخين السوفييت والروس المستمر لترميز الفتوحات والإدارة الاستعمارية لما يطلق عليه اليوم اسم اوزبكستان وأجزاء من كازاخستان في القرن التاسع عشر وأوائل القرن

ص: 337

العشرين ووصفها ب- «التقدمية» . بدلاً من ذلك، فإنها تستمد من المحفوظات صورة تفصيلية لأجهزة الدولة الاستعمارية ،القمعية غير العادلة في أعمالها والمرتبة في المقام الأول من أجل راحة الإداريين والمستوطنين الروس في الوقت الذي كان يتم فيه استغلال السكان المحليين في آسيا الوسطى. وتشكك عبد الرحيموفا بهؤلاء المؤرخين السوفييت الذين يصوّرون الإمبريالية الروسية التقدمية في المنطقة بينما يقدّمون السكان المحليين في دور الناس «التقليديين» الجاهلين الغارقين في الهويات البدائية والمؤسسات الاجتماعية الرجعية.

تُظهر عبد الرحيموفا كيف نهض الدستوريون الديمقراطيون المسلمون في المنطقة، بحلول عام 1916 ضد الاستبداد القيصري، ليتم اخمادهم فحسب من قبل المناهضين للديمقراطية الروسية البلشفية في العام 1918. ومن المهم بالنسبة لموضوعات هذا الاصدار التأكيد على أن باحثة محلية مثل عبد الرحيموفا لم تكن قادرة على التعبير عن نفسها في الفترة السوفييتية.

تعزز كامب الخطوط العريضة الرئيسية لحجة عبد الرحيموفا حول الفترة الاستعمارية في تركستان، ولكنها تمضي بدراسة دور رمزية الجنس والكشف عنه في تشكيل الهوية الوطنية الأولية الأوزبكية في أوائل الفترة السوفييتية. وتشير إلى القرار الرئيس لصانعي السياسة السوفيتية المتعلق بتقسيم تركستان وغيرها من آسيا الوسطى في خمس جمهوريات سوفييتية على أساس الهيمنة في منطقة ذات مجموعة عرقية معينة (تفهم من خلال منظور الإثنوغرافيا الروسية). واحدة من هذه الجمهوريات هي جمهورية أوزبكستان الاشتراكية السوفياتية، التي تجمع إمارات خيوة القديمة (خوارزم القديمة) بخارى، وقوقند الإسلامية والمؤلفة من سكان ناطقين باللغة التركية وسكان ناطقين باللغة الفارسية ((الناطقون باللغة الفارسية يشكلون ثلث السكان على الرغم من أن تمايزهم كان مسكوتاً عنه إلى حد ما، لأنهم أصبحوا ثنائيي اللغة إلى حد كبير في اللغة الأوزبكية). وتحتجّ كامب بقولها أن مدارس وجامعات الدولة الجديدة والتوظيف في مؤسسات الدولة السوفياتية

ص: 338

في بعض المستويات من قبل الآسيويين الأوسطيين المدربين في تلك المدارس ساعدت على تحويل الآسيويين الأوسطيين بمرور الوقت إلى موظفي خدمة مدنية في جمهورية أوزبكستان السوفييتية الاشتراكية، وذلك بتشجيع الرجال والنساء، على حد سواء، على تبني اللغات الرسمية الأوزبكية والروسية بدلا من اللهجات التركية الأصلية من أجل الحصول على هذا العمل الحكومي المربح. بالإضافة إلى ذلك، تشير المؤلفة إلى أهمية حملة ( هجوم ) الحزب الشيوعي ضد حجاب النساء الأوزبكيات والطاجيكيات والذي كان دلالة أساسية على المكانة لدى العائلات

المسلمة من الطبقتين الغنية والمتوسطة في أماكن مثل بخاری و سمرقند.

وقد نُفِّذت إجراءات جماهيرية عامة لنزع الحجاب كجزء من مشروع الأمة الأوزبكية. وواجهت حملة الحزب مقاومة هائلة، بما في ذلك المقاومة العنيفة، ولكن الصراع ذاته ساهم في تشكيل مجتمع متصور جديد للأوزبكيين في أوساط كل من النساء والرجال (يفهم على أنه وعي الأوزبك، والطاجيك، وغيرهم من الجماعات العرقية التي تعيش في جمهورية أوزبكستان الاشتراكية السوفياتية بخصوص وجود هوية سياسية مشتركة ضمن النظام السوفياتي). ومن المفارقات، أن الإيديولوجية الماركسية السوفياتية العالمية القائمة على الطبقية عملت كقابلة من أجل تجميع مجموعة جديدة من القوميات.

ينتقل النصف الثاني من هذا الإصدار إلى معالجة العمليات المستمرة والمختلفة لبناء الأمة في حقبة ما بعد الاستعمار، مع التركيز على أفغانستان، تركيا، أوزبكستان، وقيرغيزستان. وتبدأ دنيز كانديوتي (Deniz Kandiyoti) هذا القسم بلمحة عامة عن المناقشات حول مرحلة ما بعد الاستعمارية (post-coloniality)، مشيرة إلى التمايز في الأدبيات بين هذا المصطلح الأخير كحقبة تاريخية وبين مصطلح ما بعد الاستعمار (post-colonialism- كشكل معين من أشكال التحقيق الفكري وتم تقسيم هذا الأخير بدوره إلى نقد ما بعد الاستعمار، وذلك بتمييز عمل المثقفين المناهضين للإمبريالية الذين ينتقدون الإرث الاستعماري بأسلوبٍ سياسيٍ وحس ٍ

ص: 339

منطقي سليم، ونظرية ما بعد الاستعمار، والتي تستخدم النظرية الأوروبية المرتفعة لتحليل «النظم الاستعمارية للتمثيل والإنتاج الثقافي». وفي جميع الحالات، يسعى منظور ما بعد المستعمرة (post-colony- إلى إزاحة أوروبا عن دورها المميز كبطلة رواية الحداثة التي يميل عالم الاجتماع إلى تعريفها به واستعادة صوت المستعمر إلى مركز الصدارة. وتشير كانديوتي إلى تأثير نظرية التحديث غير المعلنة في كثير من الأحيان في العلوم الاجتماعية الغربية والسوفياتية على حد سواء، في المناقشات حول تأثير الاستعمار وتشير إلى أن أوجه القصور الواضحة بشكل متزايد لهذا النموذج التنموي كانت من بين الحوافز لتحقيق منظور جديد ليس غارقا بالمثل في معارك ثنائية عقيمة بين الشرق والغرب، والتقاليد والحداثة، والشعوب الأصلية والأجنبية. مع ذلك فهي تكرر تحذير ستيوارت هول (Stuart Hall) من عدم إقامة مفهوم ما بعد الاستعمارية (post-coloniality) كمفهوم أحادي اللون يدحض الاختلافات الكبيرة بين التجارب الاستعمارية ومرحلة ما بعد الاستعمار وهي تشير بإسهاب إلى الطرق التي يعقد بها المشروع السوفييتي في آسيا الوسطى أي تصنيف سردي بسيط للهيمنة الغربية و الاستعمارية لغير الغربيين.

يحلل مقال الراحل أنتوني هايمان (Anthony Hyman) الألغاز القومية أفغانستان، البلد الذي عانى من السيطرة الاستعمارية البريطانية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ومحاولة دمجه في المشروع السوفياتي في الثمانينات وتم إحباط هذا الأخير (المشروع السوفياتي) من خلال حرب أهلية واسعة النطاق وبفعل التدمير الهائل وصعود عدد من الإيديولوجيات الإسلامية المنفصلة والمتحاربة، واحدة منها أصبحت مهيمنة في أواخر التسعينات - أي طالبان. ويؤكد هايمان على أن الوعي الوطني الأفغاني ضعيف ومجزأ (كما يمكن للمرء أن يتوقع بالنظر إلى الضعف وعدم الاستقرار على مستوى الدولة) لكنه يشير إلى الطرق والمفارقات الساخرة بحيث أن خطر الانفصال الذي كان قائما في التسعينات عزز في نهاية ذلك العقد الالتزامات القومية حتى بين الأقليات القلقة. ولم يعش هايمان ليرى الحرب الأميركية - الأفغانية التي بدأت في عام 2001، ولكن استنتاجاته الشاملة حول

ص: 340

استمرار القومية الأفغانية في مواجهة انقسامات سياسية وأيديولوجية ودينية وعشائرية عميقة بدت ثابتة عندما ذهب هذا الإصدار إلى الطباعة.

هناك نوع مختلف من الانهيارات يقوم بتحليله أليشر إلهامو (Alisher Ilkhamov)، الذي يقول بأن تفكك الاتحاد السوفياتي وظهور وحدات مثل أوزبكستان المستقلة أمر متجذر في مستويين من الصراع. فعلى مستوى النخبة السياسية، كانت المنافسة قائمة بين النخب الإدارية الاقتصادية السوفييتية بالكامل والنخب السياسية السوفييتية الذين كانوا، بدلاً من ذلك، متجذرين في جمهوريات محددة من الاتحاد. فقد ظهرت النخب في الجمهوريات خلال موجة التوطين في الستينات، لكن سُمح لهم، من خلال الرقابة أو التصميم، بتطوير قواعد وشبكات القوة المحلية من الزبائنية لتصبح بذلك أكثر استقلالاً عن المركز السوفياتي مما كان عليه مثل هؤلاء المسؤولين الحزبيين الإقليميين بكثير. وعندما رأى هؤلاء أن الاتحاد السوفييتي يعاني من أزمة ركود اقتصادي، استخدموا سيطرتهم الجديدة على «الشرطة المحلية، المحاكم الشرعية وسائل الإعلام» «والقطاعات الصناعية» لتقديم عرض ناجح للاستقلال عن المركز المترنح وينطوي المستوى الآخر من تحليله على التجمعات السياسية المحددة، كما اتضح عن طريق الاقتراع، والتي كانت موجودة في أوزبكستان ما بعد الاتحاد السوفياتي على وجه الخصوص، والتي ساهمت في تشكيل ثقافة سياسية جديدة هناك. ووجد أربعة أنواع من هذه الاتجاهات في التسعينات: اشتراكيو الطبقة العاملة (الحنين إلى الاتحاد السوفياتي)؛ التقليديون الدينيون والإثنيون (الراغبون في إحياء وتعزيز العادات الإسلامية)؛ الاشتراكيون الكوزموبوليتانيون من الطبقة الوسطى الذين فاتهم الإتحاد السوفييتي (cosmopolitan socialists : الاشتراكيون، إذا كانوا أصليين هم أمميون وعالميون لذلك يعتقد وبشكل أساسي أنه يجب أن يكونوا مناهضين للقومية)؛ والثقافة الفرعية للمنشقين الليبراليين، التي لعبت دوراً رئيساً . معارضة وتفكيك النظام السوفياتي في روسيا وبعض المناطق الأخرى، ولكنها ظلت أضعف بكثير فى أوزبكستان.

ص: 341

وقد شهدت الجمهوريات المختلفة نتائج متفاوتة، ولكن النخب الحزبية المحلية في جزء كبير من آسيا الوسطى حولت نفسها إلى قادة وطنيين افتقار هذه

ومع النخب إلى الدعم من جانب الطبقة الليبرالية الضعيفة المنشقة، فإنها أقامت «أنظمة استبدادية شبه ليبرالية». ومن المثير للاهتمام، أن إلهاموف (Ilkhamov) يحدّد مكانة دولة ما مثل أوزباكستان، ليس في التكوين الإثني (السلالات البشرية) ولا في نظرية الصراع الطبقي على النمط السوفييتي، بل في تحليل متطور للمنافسة من مختلف أنواع النخب السياسية الفاعلة ذات قواعد القوة المختلفة، وفي التناقضات بين المركز والأطراف في الثمانينيات، وفي وجود أو غياب الشركاء على مستوى القاعدة أو المنافسين مع النخب السياسية المحلية في أوساط المنشقين أو الاشتراكيين أو القوميين الدينيين.

تدرس بشرى إرساني Busrasani دور كتب التاريخ في إنشاء القوميات التركية والأوزبكية، وهو دور يجب أن نتوقع أن يكون محوريّاً إذا كان سامي زبيدة وغيره على صواب بشأن مركزية الدولة في صنع الأمة. ويكتسب تحليلها أهميته من نهجها المقارِن لمجالين حيث تسود اللغات التركية. إنها تربط ربطاً وثيقاً الشكل المتغير للدولة بصور الماضي في كلا البلدين. ففي الثلاثينيات، عندما كانت تركيا نظاماً جمهورياً، علمانياً، أحادي الحزب وسلطوياً، حاولت الكتب المدرسية التقليل من أهمية المركزية للإمبراطورية العثمانية وإسلامها الرسمي إزاء الهوية التركية، لتؤكد بدلاً من ذلك على الأصول الإثنية الوهمية الآسيوية الوسطى المفترضة لسكان الأناضول ومحاولة رفع اللغة إلى موقع اللسان الأصلي المشتقة منها كل الألسنة الأخرى. وفي التسعينات، انتقلت تركيا، بشكل متقطع، إلى نظام حكم برلماني أكثر شمولا أصبح فيه حتى الإسلاميون شركاء في الحكم، وبدأت الكتب بالاعتراف بالتاريخ العثماني، على الرغم من أن تاريخ الفترة الجمهورية أثمر بتجاهله «تعددية الحياة السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية والإثنية بعد العام 1945».

ص: 342

في أوزبكستان، وبحسب ما ترى بشرى إرسانلي، تم التقليل من أهمية الإمارات والخانات (منطقة يحكمها خان) الإسلامية ما قبل الحداثة في الكتب المدرسية في الفترة السوفياتية، التي ركزت على وسائل الإنتاج التي يفترض أن تكون قد نفضتها، وأعطت مكاناً بارزاً ل-«التشكيل السياسي الثقافي الروسي السوفييتي» (أمر كنا على استعداد له من جانب عبد الرحيموفا) بعد الاستقلال حدث صراع بين أولئك الراغبين بالاستمرار في وضع الكتب المدرسية وفق النمط السوفياتي القديم وأولئك الذين أرادوا التركيز على التاريخ الأوزبكي. وفاز الذين أرادوا التركيز على التاريخ الأوزبكي، على الرغم من أن معظمهم تمكنوا، كما تقول إرسانلي، من تجنب ما قد يسمى التمجيد «الشوفيني» للأوزبك على حساب الشعوب التركية الأخرى، والخط المؤيد للترك واضح لدى البعض. وهناك تركيز جديد على أهمية الحركة الإصلاحية الإسلامية الجديدة في الخمس الأول من القرن العشرين كما هو واضح من سلالة الحداثة الأوزبكية الآن. وقد أكمل فصل تشارويف (Tchorov) تحليل إرسانلي عن تحول تركيز الكتابة التأريخية عن التأريخ الرسمي لقرغيزستان ما بعد المرحلة السوفياتية، الذي تتبع خطوات بعيدة عن نهج الماركسية اللينينية في مقابل تركيز أكبر على الارث الثقافي القرقيزي (كما في ملحمة ماناس العظيمة)، والنزاعات حول مدى التقدمية في الفترة الاستعمارية الروسية. وهو يشير على وجه الخصوص، إلى إعادة تفسير المواد المتعلقة بخبرات الدولة في وقت مبكر من قيرغيزستان، وإعادة قراءة تاريخهم الإثني، وإعادة رد الاعتبار الشخصيات وطنية كانت تعتبرها المؤسسة السياسية والعلمية السوفييتية «رجعية» في السابق.

ص: 343

هيجل وإفريقيا في نقد ضحالة الوعي الاستعماري

اشارة

مونیس بخضرة(1)

ظلت إفريقيا ولا تزال كذلك تشكّل حلقة غامضة مليئة بالأسرار، وبعيدة كل البعد عن البحث الفلسفي بشتى فروعه في الثقافة العربية والإسلامية معاً، دون الحديث عن بعض الدراسات التي لامست إفريقيا من جوانب مختلفة كالدين والثقافة والجغرافيا والتاريخ، إلا أنها تبقى منعدمة في الدراسات الفلسفية ومن معاينة المفكرين والفلاسفة لها، خاصة وأنها تشكل مادة خام حيوية للتفكير الفلسفي وللإلهام العقلي، بأنها مشكل موضوعة مشبعة بالأسئلة المهمة التي تساعده على ممارسة التفلسف وأهميتها تعود إلى الضرورة الفكرية الخالصة التي تحوز عليها إفريقيا كرافد للتفكير بما أنها لا تزال تحتفظ بصورة تضايف الفكر مع الطبيعة ومكوناتها ومع صور الفن وشبكات المعتقد، وهي اللحظة الأولى التي انبنت عليها الفلسفة ذاتها، بما أن الإفريقي ورغم استفحال التقنية وشبكات العولمة واجتياح مظاهر التمدن في العالم إلا أنها استطاعت أن تحافظ على لمستها الأولى التي رسمتها لنفسها في الوجود . حيث ظلت إفريقيا مشبعة بالأسئلة المصيرية التي تخص الإنسان والقدر والوجود والموت والله... إلخ. وهي أسئلة بقت في التاريخ في

ص: 344


1- باحث وأستاذ في الفلسفة المعاصرة - جامعة تلمسان - الجزائر.

صورة تأملات ساهت بشكل إيجابي في حراك الفرد والمجتمع معاً في نسق واضح المعالم جعلت منها قبلة للتنوع الثقافي المحملة بالثقافات المحلية البسيطة التي عبرت بشكل جيد عن أساليب العيش وراء اللون واللهجات المحلية وتقاليد غالباً ما وُصفت أنها صانعة للسحر. حيث إن هذا التنوع والسخاء الذي وفرته إفريقيا دفع بأجناس كثيرة على التفكير وغزو إفريقيا خاصة منهم الأوربيين، وهذا الذي حصل في القرنين الماضيين، الذي فيه تَعرّفٍ العالم على إفريقيا من خلال مشاريع الاستعمار. ولكن وللأسف لم يكن تعرفاً قائما على مبدأ التقابل بقدر ما كان قائماً على مبدأ السيادة والاختزال والاخضاع، والذي عنه اندفع الإفريقيون بمختلف أطيافهم لتبني استراتيجية النضال بهدف بناء عالم الحرية خاص بهم، وتعلموا مفهوم التحرر بالخبرة وكان لهم ما تعلموه واليوم هي بحاجة لنظرة شاملة ولمراجعة دقيقة خاصة من قبل نخبها ومثقفيها. ومهما حصل نتيجة هيمنة الثقافات الأخرى التي استطاعت أن تنسينا إفريقيتنا إلى حد ما، خاصة نحن المغاربة الذين نتناطح مع أوروبا دون أن نلتفت ولو لبرهة إلى الخلف وإلى الحضن الطبيعي والامتداد الجغرافي، ومن أجل هذه العودة ارتأينا أن نفتح هذه الدراسة للتحسيس أكثر منها للتعريف بأهمية أفريقيا وعلى الضرورة أن نجعل منها بنية لبراكسيس التفلسف والتفكير.

بناء على أهمية إفريقيا الفلسفية والثقافية بشكل عام، سنحاول في هذه الدراسة عرض موضوع لطالما طرح كثير من الأسئلة في الفلسفة، وبالتحديد علاقة هيجل بإفريقيا ودعمه للنزعات الاستعمارية الأوربية لها دراسة نقدية، ومواقفه الشهيرة من الفكر الإفريقي والتي غالبا لم تخدم صورة إفريقيا الطبيعية ولم تستوف حق منتجها الثقافي العام هي انتقادات تداولتها بعض الدراسات حول رؤية هيجل لإفريقيا.

الفلسفة والاستعمار:

سبق للفيلسوف المعاصر«كارل بوبر» وأن ربط حمى صِدام الحضارات والثقافات بالمشاكل العميقة للحضارة الأوربية، وما انجر عنها من مآسٍ وأزمات مسّت البشرية في جوهرها ظهرت في الاستعباد وحركات الرق والحملات الاستعمارية على الشعوب غير أوربية. وفي هذا الشأن يقول كارل بوبر يرتبط اهتمامي بصدام الحضارات باهتمامي بمشكلة كبرى مشكلة خصائص حضاراتنا الأوربية ومنشئها.

ص: 345

في رأيي أن ثمة إجابة جزئية عن هذا السؤال تكمن على ما يبدو في حقيقة أن حضارتنا الغربية مشتقة من الحضارة الاغريقية، ولقد نشأت الحضارة الاغريقية - تلك الظاهرة الفذة - في صدام الثقافات، صدام ثقافات شرق المتوسط. كان هذا أول صدام رئيسي بين الحضارات الغربية والشرقية. ولقد كانت له أثار بالغة الوضوح. ولقد أحاله هوميروس إلى فكرة مهينة في الأدب الاغريقي وفي أدب العالم الغربي(1).

يتساءل المفكر «كافيين رايلي» في كتابه «الغرب والعالم» عن إن كانت عنصرية المجتمع الغربي الحديث ظاهرة جديدة وفريدة أم أنها كانت موجودة دائما؟ وهل استئصالها أمر ممكن؟ خاصة وأنها مرتكزة على دعائم ثقافية وفلسفية عميقة الجذور كما يقول (2).

بالرغم من أن العنصرية وغريزة استعباد الأخرين متأصل في الجنس البشري وهي قديمة بقدمه، إلا أن العنصرية الغربية الحديثة فاقت كل الحدود المتخيلة وتحوّلت إلى مشروع له ضوابط وأهداف محددة، وصارت واجهة المجتمع الغربي الحديث عنيفة وعنصرية أكثر من أي وقت مضى مقارنة بواجهات المجتمعات الأخرى، وغرقه الشديد في لعبة التمييز العرقي والديني واللوني والثقافة وإنهاك حريات الشعوب، وعنها أنتج تصنيفات للمجتمعات بعيداً عن المساواة وأصول التقارب والتجاور.

ولتمكين رؤيته العنصرية هذه، وظف كل الوسائل المادية والمعنوية والثقافية من فلسفات وفنون وآداب وعلوم الإنسان بصفة عامة على غرار الأنثروبولوجية التي تساعد على فهم العادات والطباع وأمزجة الأفراد للوقوف على مكامن الضعف والنقص.

فقد سبق للأنثروبولوجي الفرنسي «كلود ليفي شتراوس» وأن اعتبر ظاهرة العنصرية والاستعباد قديمة قدم الإنسان ذاته، وأشار إلى وجود شيء من المفارقة عندما تصف الشعوب المتحضرة الحديثة غيرها من الأجناس بأنها (أجناس همجية). فهو يرى هذا الموقف العقلي الذي يخرج الهمج أو أي شعب يقرر الإنسان أن يعده همجيا من عداد الجنس البشري، هو بعينه أخص خصائص هؤلاء الهمج أنفسهم. وعندما كانت الأجناس البشرية المختلفة تلتقي فإن أعضاءها عادة ما كانوا

ص: 346


1- کتاب کارل بوبر، بحثا عن عالم أفضل ترجمة أحمد مستجير، مكتبة الأسرة، 1999، ص150.
2- كافيين رايلي الغرب والعالم ، ج2 ، ترجمة: عبد الوهاب المسيري، هدى عبد السميع حجازي، عالم المعرفة(ع97) 1986 ، الكويت، ص81.

يتساءلون عمًّا إذا كان الآخرون بشراً، وعلى سبيل المثال لا الحصر، بعد سنوات قليلة من اكتشاف كولومبوس لأميركا بعث الإسبان لجان تحقيق ما إذا كان للهنود (الشعوب الأصلية) لهم نفوس أم لا، حتى يمكن اعتبارهم من البشر أم لا(1).

ويذكّرنا ليفي شتراوس أن ثقافة العنصرية والاستعمار هي اختراع قديم، وفي المقابل تم تسويق ثقافة المساواة والأخوة الإنسانية في العصر الحديث كذبا. فالقارئ للفلسفة اليونانية، سيجد مدى تمجيد بعض فلاسفتها للعنصرية واختزال الشعوب غير اليونانية في مصاف العبيد والرق، لا يحق لهم مقاسمة الإثنيين الحقوق نفسها، وهنا نتذكر تقسيمات أفلاطون وأرسطو وممارستهما للإقصاء حتى لبعض المكونات المجتمع الواحد مثل ذوي العاهات الجسمية والعقلية والأيتام، وهذا الذي أسس النزعات القومية المتطرفة في الثقافة اليونانية والرومانية معاً.

أما الأنثربولوجي (ميشيل ليريس) فله وجهة نظر مختلفة، فهو يرى أن أول نقطة تظهر لنا بعد دراسةٍ للمعلومات والظواهر الاجتماعية التي يزودنا بها علم (الأثنوغرافيا) والتاريخ أن التحيز العنصري والاستعمار ليس أمراً عاماً، وإنما هو حديث ظهر مع التحولات الكبرى التي عرفتها أوروبا بداية من القرن الخامس عشر.

لقد آمن الينونانيون القدماء أن الأسيوييين والأفارقة جبناء وغير مثقفين، ولكن حكمهم هذا لم يكن وليد اللون وإنما وليد الثقافة الممارسة، فهيبوقراط على سبيل المثال أرجع عدم كفاءة الصينيين عسكريا إلى نظامهم الذي لم يكن يمنح الجنود المكافأة المناسبة لشجاعتهم، فكانت ثمرات النصر من نصيب السادة لا الجنود.

و(ليريس) يعيد ويذكرنا أن موجة العنصرية الحديثة التي صاحبت نمو الرق كانت أوسع نطاقا من ما شهده التاريخ. ومما له دلالته أن الأوربيين الغربيين كانوا هم الذين نظموا بشكل منسق، قوى كبيرة من الأجناس الأخرى (الأفارقة والهنود الأميركيين) في العمل في المزارع والمناجم ، وهو العمل الذي ينطوي على أقصى درجات الاستغلال، لقد كان هؤلاء الأوربيون هم الذين نقلوا جماعات سكانية بأسرها إلى عالم آخر وحطموا عائلاتهم ومحوا شخصياتهم وتراثهم وعاملوهم معاملة الحيوانات، وهم

ص: 347


1- كافيين رايلي الغرب والعالم (ج2)، مرجع سابق، ص 28

الذين طورا النظريات ومشاعر التفوق العرقي والعنصري، التي تجاوزت نظيراتها في تاريخ الظاهرة(1).

تميزت العنصرية الغربية بتفردها وشموليتها، فهي لم تكتف بتسميم الثقافة الأوربية بل نشرت أفكارها في أنحاء العالم كله، إلا أن جميع النزعات الاستعمارية في أميركا، ازدهرت بفعل ممارسة الإبادة في حق السكان الأصليين، وتكريس العمل العبودي في إفريقيا، وحتى الأراضي الإفريقية أصبحت خلفية لمؤسسات العنصرية الأوربية، وتسويق العبيد أو ما يعرف بظاهرة الرق الزنجي وفي القرن التاسع عشر نشرت النزعة الأوربية على رؤى تضع الصينيين واليابانيين في مستوى دون الإنسانية. وقد تحولت العنصرية في المجتمع الغربي الحديث فقد أصبحت أسلوباً للحياة لدى القارة التي يسكنها الأوربيون ثم في القارات التي فتحوها . 87

طورت النزعات العنصرية الأوربية موجات الرق، وخاصة ذلك النوع العنصري من الرق الذي طورته أوروبا في تعاملها مع إفريقيا، فقد بنت فيها مجتمعات عبودية حقيقية فيها، فقد وصلت العنصرية الأوربية إلى أبعاد قاسية ومتطرفة بسبب استرقاقهم للإفريقيين نظرا لتطورهم العسكري والتكنولوجي، واستخدموا هذه التكنولوجيا في غزة المجتمعات الإفريقية من شمالها إلى جنوبها، انطلاقاً من تشجيع الثقافة الأوربية ذاتها لهذا الاسترقاق والغزو بما فيها بعض الفلسفات التي كانت تمجد النزعة القومية الأوربية وتفوقها العرقي على غرار ما ذهبت إليه الفلسفة الهيجلية مثلاً.

ظلت دراسة الحقائق الإفريقية ولوقت طويل، يُنظر إليها من خلال شروط القبائل والنزعات التي صارت الوجه الأساسي لها، سواء للباحثين أو للإعلام والرأي العام. فما حدث في كينيا وأوغندا ومالاوي والصومال واليوم الكونغو ونيجيريا هو تفسير مبتذل للحقائق الإفريقية بعيد عن الصواب، وهو تفسير شجعه الوعي الغربي ودوائره الإعلامية، والذي يريد أن يزيغ الناس عن رؤية أن الاستعمار ما يزال السبب للعديد من معضلات أفريقيا. وقد وقع، لسوء الحظ، عدد من المثقفين الأفارقة ضحايا لهذه الخطة، وإلى حد لم يعد فيه بعضهم قادراً على الشفاء، ولا على معرفة الأصول الاستعمارية ذات قاعدة (فرق تسد)

ص: 348


1- كافيين رايلي الغرب والعالم (ج2) مرجع سابق، ص.86

تفسير الاختلافات الثقافية والصدمات السياسية تفسيراً يستند إلى الأصول الإثنية للمختلفين.

يقول مثلا في هذا الشأن الكاتب «نيغوجي واثينغو»: أن مقاربتي ستكون مختلفة، سأنظر إلى الحقائق الإفريقية، كما هي، متأثرة بالصراع الكبير بين قوتين متضادتين في أفريقيا اليوم: تراث استعماري من ناحية وتراث مقاوم من الناحية الأخرى(1).

التراث الاستعماري في إفريقيا اليوم تُحافظ عليه البرجوازية العالمية مستخدمة الشركات متعددة الجنسيات، وبالطبع، الطبقات الحاكمة الملوّحة بالعَلَم الوطني، وتنعكس التبعيّة الاقتصادية والسياسية لهذه البرجوازية الإفريقية - كولونيالية.

إن الاستعمار لدى هؤلاء المدافعين الوطنيين عن الثقافات المناضلة للشعب الأفريقي، ليس شعاراً، إنه حقيقي وملموس، محتوى وشكلا، وفي وسائله وتأثيراته.

إن حرية رأس المال الغربي والاحتكارات فوق القومية التي تحت مظلته، في الاستمرار بسرقة بلدان وشعوب أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا وبولينيزيا هي حرية محمية، اليوم، بالأسلحة التقليدية والنووية. فالاستعمار الذي تقوده الولايات المتحدة يتقدم إلى شعوب الأرض المناضلة وكل الداعين إلى السلام والديمقراطية والاشتراكية بإنذار نهائي: قبول السرقة أو الموت.

هيجل وضحالة الوعي الإفريقي:

لم يذكر هيجل إفريقيا بالاسم في فينومينولوجيا الروح، وإنما حلّل بنية الوعي المشابهة لبنية الوعي الإفريقي، خاصة وأنه في كتابه سماه بالحالة الأنثروبولوجية،وهي الحالة نفسها التي تناولها في نصّه «فينومينولوجيا الروح» باسم «أنثروبولوجية الوعي»

والإفريقي هنا هو تجسيد للآخر المطلق.

ولفهم مضمون هذه المقاربة وجب شرح البنية النمطية التي حللها هيجل بخصوص بدائية الفكر وتعانقه مع الطبيعة، خاصة ما ورد في القسم الأول من كتاب

«فينومينولوجية الروح» (1807) إذ سبق لهيجل وأن اعتبر الفكرة الخالصة هی

ص: 349


1- نغوجي واثيونغو، تصفية استعمار العقل، ترجمة سعدي ،يوسف دار التكوين 2011، دمشق، ص 16.

الجنس المجرد ، فإن الطبيعة عنده هي الفصل بلغة المنطق، في حين أن العقل الذي تعين بالفصل قد أصبح الآن نوعاً (هو الإنسان). فقد تحوّلت الفكرة الخالصة في الطبيعة إلى ضدها، وأصبحت غريبة عن نفسها (أصبحت لا عقل ولا فكر)، لكنها في فينومينولوجيا الروح تعود إلى نفسها غنية من ضدها(1).

الفكرة في الطبيعة هي في لا عقل، ولكنها مع الروح تحرر نفسها من تلك العبودية، وتصبح موجودة بوصفها روحاً حراً وهذه هي غايتها، إذ تعرض علينا فلسفة الطبيعة الهيجلية الخطوات التدريجية للعملية التطورية التي خلصت الفكرة نفسها عن طريقها من اللامعقولية المطلقة. وهذا التطور من اللاعضوية إلى الكائن الحيواني هو العود التدريجي من ضدها المطلق، وهو المادة المصلّبة إلى نفسها، أي إلى المعقولية واكتمال هذا المسار هو الروح ومع ذلك فهناك حسب هيجل مراتب في مملكة الروح، مثلما كانت هناك مراتب في مملكة الطبيعة. فإذا كان المطلق يتجلى في الإنسان، فإن ذلك لا یتم إلا بواسطة تطور ديالكتيكي للمعرفة، فهو مسار تطور طويل وشاق. فالروح يضع نفسه في الحال على أنه روح مطلق، ولكنه يبدأ من مرحلة دنيا من مراحل نموه كما هو ظاهر في الوعي الإفريقي حسب هيجل بما أنه لم يتطور كثيرا ، لم يبلغ تحققه الذاتي الكامل بعد، ومهمة فينومينولوجيا الروح هي أن تتعقب هذا التطور التدريجي وتكشف آليات عمله خطوة خطوة في التاريخ.

والأداة التي يستخدمها هيجل في هذه المهمة هي الأداة نفسها التي استخدمها في جميع أجزاء نسق فلسفته ألا وهي المنهج الديالكتيكي.

وفي سياق وضع الوعي الإفريقي، يؤكد فانون في قراءته لهيجل أن الإفريقي شخص مصلوب لا ثقافة له ولا حضارة، وهو من غير ماض ولا تاريخ يعرف ،به وبهذا العراء يكون وجود الزنجي وكينونته عقدة نقص له لا تفارقه، وتنشأ هذه

ص: 350


1- ولتر ستيس هيجل، فلسفة الروح، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع ط3 2005 بيروت ص 07.

العقدة لدى كل شعب يمر بتجربة موت أصالة الثقافة المحلية(1). أما الذين يتحدثون منهم باللغات الأوربية فهو بمثابة نفاق ثقافي، ذلك أن دور اللهجة المحلية في نظر فانون لا يقتصر على تعيين مكان المرء جغرافيا واجتماعيا، بل إنها طريقة للتفكير والتأمل، إذ تمثلت هذه المشكلة بقوة لدى الفرد المغاربي في شمال إفريقيا، فكثير منهم وخاصة الذين نشأوا على اللسان الفرنسي اعتقدوا أنهم فرنسيين ثقافياً، فكيف يمكن للفرد المغاربي أن يكون فرنسياً؟ فهم تمثلوا الثقافة الفرنسية بكل الطرق، إلا أن الأصالة تتجسد في الثورة، لا في قبول المرء أن يحوله الآخرون موضوعاً لهم، وعلى هذا الأساس اعتبر فانون تحت تأثير الفلسفة الهيجلية والوجودية المعاصرة، أن الذات اليهودية والمغاربية والإفريقي بصفة عامة في صراع مستمر وهي تحاول أن تفر من كينونتها الأصلية والفرار من الآخر ، فهم مغتربون عن أجسادهم، وحياتهم انقسمت إلى شطرين شطر يسعى فيه وراء حلم مستحيل مضمونه الأخوة العالمية في عالم يقابله بالرفض والاختزال، وشطر يمثل عقدة النقص التي يحللها فانون في كتابه بشرة سوداء أقنعة بيضاء»، وبسببها بقت شعوبا تتجاذب مشكلات زائفة في الأساس بما أنها تعيش حياة زائفة(2).

يرى فانون أن توصيف هيجل في كتابه (العقل في التاريخ) أنه نموذج أصلي متميز للمشروع الكولونيالي في رؤيته للإفريقي بوصفه الآخر المطلق. إذ يجري وصف إفريقيا في الفكر الغربي بأنها مكان للطاقة والأحاسيس المتدفقة، وبانعدام الحركة وبأنها عالقة في الزمن ويستوجب وصف أفريقيا رحلة من العقل إلى الإحساس، لا من الإحساس إلى العقل. وفي هذا الشأن يقول هيجل : إن الزنجي مثال على الرجل الحيوان بكل همجيته وخروجه عن القانون، وإذا أردنا أن نفهمه أصلا، يجب علينا أن نتجرد من كل توقير وأخلاقيات، ومن كل ما نسميه عواطف. سنجد في شخصيته كل ما هو غريب على رجل في وجوده المباشر، ولا شيء مما هو منسجم مع الإنسانية. ولهذا السبب يمكننا أن نشعر بأنفسنا على نحو مناسب في طبيعته، لا أكثر من شعورنا في طبيعة كلب.

ص: 351


1- نايجل سي. غابسون فانونن المخيلة بعد الكولونيالية، ترجمة خالد عايد أبو هديب، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، 2013 ، ص52.
2- نايجل سي. غبسون فانون، المخيلة بعد الكولونيالية، مرجع سابق، ص55.

الأساس الجغرافي للفكر العالمي

ويقول أيضا في نص العقل في التاريخ: إن العلاقة مع الطبيعة التي تساعد على إنتاج روح شعب ما، إذا ما قارنا بينها وبين شمول الكل الأخلاقي، وبين وحدة تلك الفردية التي هي مبدأها الفعال تبدو عنصراً خارجياً. لكن بمقدار ما ينبغي أن ننظر إليها على أنها الأرض التي تتحرك عليها الروح وتؤدي دورها، فإنها تكون أساساً جوهرياً وضرورياً، ولقد بدأنا بالقول : إنه في تاريخ العالم تظهر فكرة الروح في تجسدها الفعلي على أنها سلسلة من الصور الخارجية تتكشف كل منها بوصفها شعباً موجوداً بالفعل(1).

هذا الوجود حسب هيجل يندرج تحت مقولة الزمان والمكان على طريقة وجود الأشياء الطبيعية، والمبدأ الذي يجسده كل شعب من شعوب التاريخ يكون بمثابة خاصة طبيعية له، وحين تتخذ الروح هذه الصورة من صور الطبيعة تدفع أوجهها الجزئية إلى اتخاذ طابع الوجود المنفصل، لأن الاستعباد المتبادل هو نوع الوجود المميز للطبيعة الخالصة، وهذه الفروق الطبيعية يلزم أن نعدها في بادئ الأمر إمكانات خاصة تتولد منها روح الشعب، ومن هذه الإمكانات يحدد هيجل إمكانات الأساس الجغرافي التي تمثلها أمة من الأمم باعتبارها موقعاً محلياً خارجياً. فمجال اهتمامنا حسب هيجل هو معرفة النمط الطبيعي للموقع المحلي من حيث صلته الوثيقة بنمط الشعب وشخصيته التي هي ثمرة لمثل هذه التربية هذه الشخصية ليست أكثر ولا أقل من الحالة والصورة التي تظهر بها الأمم في التاريخ وتأخذ مكانها ومركزها فيها(2).

فمن المؤكد حسب هيجل أن جو «أيونيا» المعتدل مثلا قد أسهم بشكل كبير إضفاء الصفاء والرقة على أشعار هوميروس، ولكن هذا الجو لا يخلق لنا شعراء من طراز ،هوميروس، كما أنه لا يظل يأتي بمثلهم. ففي العهد التركي لم يظهر شعراء، وعلينا هنا أن نأخذ في اعتبارنا أولاً تلك الظروف الطبيعية التي ينبغي أن تستعاد مرة واحدة وإلى الأبد من دراما تاريخ العالم.

ص: 352


1- هيجل : العقل في التاريخ، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة 1987، ص157
2- المصدر نفسه، ص 157

ففي المنطقة المتجمدة والمنطقة الحارة مثلا، لا يوجد الموقع المحلي المناسب لظهور شعوب التاريخ العالمي حسب هيجل. ذلك لأن الوعي المستيقظ يظهر محفوفا بالمؤثرات الطبيعية وحدها، وكل تقدم له انعكاس الروح على نفسها في مقابل الطبيعة المباشرة، والطبيعة هي وجهة النظر الأولى التي يستطيع منها الإنسان أن يظفر بحريته داخل ذاته، وينبغي ألا تقف العقبات الطبيعية حائلاً في وجه هذا التحرر.

إن الطبيعة في مقابل الروح هي كتلة كمية، ويلزم ألا يكون لها من القوة ما يجعلها قادرة على كل شيء، ففي المناطق المتطرفة لا يستطيع المرء أن يكون حراً في حركته. فالبرد والحر في تلك المناطق من القوة بحيث لا يسمحان للروح أن تقيم عالماً لذاتها، لكن هذا الإلحاح والضغط الشديد في المناطق المتطرفة لا تخف وطأته، ولا يمكن تجنبه ويضطر الإنسان إلى أن يوجه اهتماماً مباشراً مستمراً إلى الطبيعة، إلى أشعة الشمس، أو إلى الجليد المتجمد . وعلى ذلك فإن مسرح التاريخ الحقيقي هو المنطقة المعتدلة أو بالأحرى النصف الشمالي منها ، لأن الأرض فيه تمثل شكلاً قارياً ولها صدر واسع كما قال اليونانيون قديماً(1).

تمثل فينومينولوجيا الروح عند هيجل وفق هذا الطرح، مذهباً يصف تطوّر الوعی من الحالة الحسية إلى الحالة العقلية فهي بمثابة قصة للوعي البشري histoire de la conscience humaine وارتفاعه نحو المعرفة المطلقة، وهي قصة تصف تجارب الوعى وصفاً دقيقاً. والنقطة الأساسية هنا هي عرض تجربة الوعي وهو يتكون ويصير روحاً، وتحليل الأشكال المتتالية التي يتخذها في أثناء صعوده(2).

إذا، فنحن إزاء جدل صاعد يقودنا إلى المعرفة المطلقة عبر محطات مختلفة من أنماط الوعي التي تظهر في الأشكال التي ينتجها هذا الوعي بما فيها أنظمة الأخلاق والمؤسسات والأدوات، وهذا الجدل يعكس حقيقة التواءات الحياة والكرامة المهدَّدَتين باستمرار، والمأساة ناشئة عن الصراع بين الفعاليات والمَذاهب والمواقف. ولعل من أهم ما تضطلع به فينومينولوجيا الروح في شرح أنماط الوعي هو خلع نظام

ص: 353


1- جان .هیبولیت دراسات في ماركس و هجيل ترجمة جورج صدقني منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القوم دمشق 1971 ص 29.
2- فرنسوا شاتلي. هيجل ترجمة جورج صدقيني، مراجعة الأب فؤاد جرجس بربارة منشورات وزارة الثقافة دمشق 1970 ص 80

عليها يتيح للعقل التأمل فيها واستخلاص ما فيها من دلالات مختلفة ولا تخلو الفينومينولوجيا من طابع تربوي (pédagogique)، فهي تتناول الوعي في مباشرته، أو في سذاجته وفي حالته الفطرية كما هو الحال في إفريقيا، إنها ذلك السبيل الذي يسمح بالمضي من اللامعرفة إلى المعرفة، فهي المدخل الوحيد الممكن للفلسفة حسب هيجل، حينما ظلت تعرض مستويات تحول الوعي نحو روح(1).

كثير من المتتبعين للفلسفة الهيجلية من اعتبر أن تحليل الذاتية وتطورها المعرفي، هو الإنجاز الأكثر أهمية الذي عمل عليه هيجل لتحقيقه في فينومينولوجيا الروح وتحليل طرق الانتقال من ما هو ساذج إلى ما هو منطقي، فيها وصف هيجل خصوصيات بناء الذاتية الفردية تطورها التاريخي وهي الذاتية الأوروبية، لأنها في الوقت نفسه وصف لبناء الشعور الأوروبي وتطوره كما فعل هوسرل في أزمة العلوم الأوروبية واعتبر هذا الوصف مرادفاً للمعرفة العلمية، على ألا تعني المعرفة العلمية هنا معرفة موضوعية مجردة، بل معرفة تطور الروح وتحقق المفهوم والفكرة في الروح.

والحق أن هيجل لم يقتصر فقط على القول بأن الذات منخرطة في الوجود الواقعي فحسب، بل هو قد ذهب أيضا إلى أنها مصبوغة دائما بالصبغة الاجتماعية، فهي تحمل كل تراث الثقافة والتاريخ، وكأنها هي نفسها مجرد ثمرة لنوعها وعملها ولشتى منجزاتها(2).

ما هي إفريقيا؟ إنها قارة مقطوعة عن التاريخ على الأقل في المنطقة الواقعة إلى الجنوب من الصحراء الكبرى - وهي الصحراء التي تقطع القارة (بصورة طبيعية) إلى جزأين: وأفريقيا مقطوعة عن العالم ومحددة بجغرافيتها وحيواناتها ونبتاتها غير الإنسانية الغابات الكثيفة التي لا نهاية لها الزواحف المتسلقة، والنباتات الخانقة السريعة النمو. إن حكايات الرحّالة عن الوحوش الضارية والزواحف والأفاعي والبعوض خصوصاً عن قرود الغوريلا، ذلك الحيوان الهجين بامتياز، لا تُصّور العمود الفقري لإفريقيا فحسب بل جوهرها ومعناه أيضاً(3).

ص: 354


1- المرجع نفسه ص 95.
2- Garaudy: La Pensée de Hegel, p 41.
3- نایجل سي. غابسون ،فانونن المخيلة بعد الكولونيالية، مرجع سابق، ص59

إن تَنكَّر الغرب بالاعتراف بالإفريقي كإنسان مستقل زاد من حصار معناه. فالرجل الأبيض الذي أخضع الشعوب الإفريقية واستعبدها واستعمرها يحوّل السيطرة إلى فانتازيا جنسية، فهو يرغب في الأسود الذي ينظر إليه على أنه مصدر للرجولة والفحولة المفرطة، وصاحب الدوافع الشهوانية الجامحة في حضارة البيض، فالأسود هو الآخر جنسي منحرف ومفرط في ممارسة الجنس وشهواني. صورة الإفريقي في نظر الغرب، هو عبارة عن جسد يتكون من مجموعة من الأعضاء الخارجية ذو شعر شبيه بالصوف، أنف أفطس، شفاه غليظة، وخصوصاً اندفاعات جنسية خارجة عن السيطرة، يعيش في عفوية وشهوانية متدفقة، لا يمكن التحكم بهما وهو خارج نطاق الأخلاقية والذكر الأسود مرادف للقوة الجنسية، يمكن مقارنته بالفينوس الهونتية (نسبة إلى شعب جنوب أفريقي ذي بشرة داكنة ضاربة إلى الصفرة).

تقع فينومينولوجيا الروح في ثلاث محطات كبرى رئيسية نوضحها النحو التالي: المحطة الأولى: وهي المحطة التي تمثل تطورها الذاتي، ويسميها هيجل بالروح الذاتي ومضمون هذه المحطة، هو الكشف عن العقل البشري من وجهة ذاتية محضة، بما هو عقل الذات الفردية، وتفرعاته تشكل الوعي الفردي المشكل من : الحس والشهوة والفهم والعقل الخيال الذاكرة ... إلخ . مرحلة تظهر فيها الروح الذاتية مضمرة ومطمرة وهو ما يمكن إسقاطه على الحالة الإفريقية(1).

المحطة الثانية: محطة تبدأ فيها الروح في الخروج من ذاتها إلى الآخر، وهو ما يسميه هيجل بالروح الموضوعي خلالها تصير الفكرة في تخارج وهي بذلك تخلق عالماً موضوعياً خارجاً، لكن هذا العالم ليس هو المادة الجامدة، وإنما هو العالم الروحي، إنه عالم التنظيمات والمؤسسات الروحية institutions spirituelles)، كالقانون والأخلاق والدولة. فهي موضوعات خارجية تماماً مثلها مثل الحجر والنجم، ولكنها متحدة في هوية واحدة مع الذات والأنا خارجة عنها لأنها ليست إلا تموضعا للأنا. صحیح أنها ليست تموضعاً لذاتي الفردية، لي أنا شخصياً بوصفي فرداً جزءاً خاصاً، لأنها لا تتحد مع أهوائي وميولاتي الشخصية، ولكنها تتموضع لذاتي الكلية، للعقلي للعنصر المشترك الذي أشترك فيه مع البشرية كلها. أي تموضع للروح الكلية للإنسان.

ص: 355


1- Jean Hyppolite, Etudes Sur Marx et Hegel, p30.

فقوانين الدولة تجسد الحياة العقلية الكلية للمجتمع، فهذه التنظيمات والمؤسسات بقدر ماهية موضوعية وخارجية من ناحية، ولكنها تبقى روحية بما أنها عبارة عن تجلي العقل والوعي، ولهذا السبب فإنها تقع تحت اسم الفلسفة(1).

المحطة الثالثة: وهي محطة الروح المطلق، محطة يتمثل فيها الروح البشري على نحو ما يتجلّى في الفن والدين والفلسفة، وتقسيم يمثل الجمال والدين والفلسفة (فلسفة على الفلسفة Philosophies sur la philosophie)، والروح المطلق هو اتحاد الروح الذاتي والروح الموضوعي هنا يكمل الروح تحققه النهائي، يصير حراً حريةً مطلقة، كما يصبح لا متناهياً وعينياً تماماً، والمطلق يتخذ الفلسفة آخر مراحله على أنها الحقيقة الواقعية كلها، ذلك أن المطلق الفلسفي يرى العالم على أنه تجلي للفكر، أي تجلي لنفسه. فالعالم ليس إلا ذاته فحسب، موضوعه متحد مع ذاته في هوية واحدة، وبذلك فإن الفلسفة هي الوحدة النهائية للذاتية والموضوعية، ولهذا السبب فالمطلق هو مركب الروح الذاتي والروح الموضوعي، وفي الفلسفة تكتمل عودة الفكرة إلى نفسها، لأن الإنسان صاحب الفلسفة هو أعلى تجلي للعقل أو للفكرة في العالم(2).

الفكرة تعمل على العودة إلى نفسها، هذا العمل هو موضوع دراستنا فهذا العمل هو سرُّ حركة العالم mouvement du monde de)، حركة الباطنية والظاهرية، لأن الفلسفة الحقة ينبغي عليها أن تبرر وجود قيم عُليا وقيمٍ دنيا، فيسير الروح من الفكر

إلى الطبيعة إلى الفلسفة.

إن مرحلة الوعي الذاتي والتي نربطها نحن في مقاربتنا هذه بالوعي الإفريقي أنماط الوعي المشابهة، وهي مرحلة ينظر إليها العلم المعاصر على أنها تدرس

وباقي مواضيع علم النفس تشمل مراتب ووظائف عقل الفرد وملكاته في صورها الدنيا (الغريزة، الوجدان ،الإحساس الشهوة)، إلى صورها كما تبدو في العقل والفهم والنشاط العملي ، ومن هنا فهي تهتم بدراسة عقل الفرد كفرد في جميع مراتبه الظاهرية.

يقسم هيجل الروح الذاتي إلى ثلاث مراحل وفقاً للعمل الديالكتيكي على النحو التالي:

ص: 356


1- Ibid, p31.
2- ولتر ستيس هيجل، فلسفة الروح، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ص .90

1- علم أنثروبولوجيا النفس

2- علم الظاهريات

3 علم النفس (الروح)

وهذه الأقسام، لا يظهر معناها إلا من خلال سيرها الديالكتيكي، ولكن يمكن أن نعتبر أن النفس عند هيجل هي أدنى مرحلة في الروح، فهي مرحلة أولى لم تصل إليها بعد حتى إلى مرحلة الإدراك الحسي ، ولكنها لا تزال نصف وعي غامض ومعتم لا يحقق شيئا، ويزال في رقبة الطبيعة أسير داخل الجسد، وهو المرحلة التي تعلو الحيوانية مباشرة. فكلمة الأنثروبولوجيا عند هيجل تعني دراسة النفس بهذا المعنى، النفس، الوعي، الفهم ، العقل (1).

1- الأساس الطبيعي للوعي الإفريقي(2)

يقسم هيجل إفريقيا جغرافيا إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول يقع جنوبي الصحراء الكبرى، وهي المناطق الجبلية التي تكاد تكون مجهولة لنا تماما. والقسم الثاني يقع شمالي الصحراء وهو أفريقيا الأوربية وهو عبارة عن أرض ساحلية. أما القسم الثالث فهو منطقة نهر النيل وهي أرض الوادي الوحيدة وهي تتصل بآسيا.

ظلت إفريقيا في نظر هيجل على أصالتها مغلقة أمام جميع أنواع الاتصال مع بقية أنحاء العالم - إنها أرض الذهب المضغط داخل ذاته - أرض الطفولة بتعبير هيجل، مختفية وراء نهار التاريخ الواعي لذاته، يلفها الليل الأسود، ولم تنشأ شخصيتها عن طبيعتها الاستوائية فحسب، وإنما من تكوينها الجغرافي الأساسي، عبارة عن حزام من أراضي المستنقعات مع الخصوبة الهائلة من النباتات وهذا الموطن الأثير لدى الوحوش الضارية والثعابين من جميع الأنواع وهي أرض تخوم يعتبر جوها مسموما للأوربيين، وتشكل هذه التخوم أساساً سلسلة دائرية من الجبال العالية.

ص: 357


1- ولتر ستيس هيجل فلسفة الروح، مرجع سابق ص 15.
2- الذات هي كل ما يقابل الأنا و يطلق على الغير، أي أنها تطلق على الغير فيشعر في مقابلها الأنا على أنه الغير Lalande, Vocabulaire Technique et Critique et de la philosophie,P.U.F ?Paris 2em 1972 p 173.

ونحن لا نعرف ما إذا كانت قد حدثت حركة في الداخل أم لا، وإذا كانت قد حدثت في نوعها، وكل ما نعرفه عن قبائل البدو هذه هو التضاد بين سلوكهم في حروبهم وغزواتهم ذاتها، التي يتجلّى فيها أعظم قدر من اللاإنسانية الوحشية. والهمجية البغيضة وبين سلوكهم عندما زال غضبهم وأعني في أوقات السلام، التي ظهروا فيها أناساً طيبين يُبدون الودَّ نحو الأوربيين، ويصدق ذلك على قبائل (الفولاني) وقبائل(ماندونجو) في السنغال وغامبيا(1).

أما القسم الثاني من إفريقيا فهو الذي يشمل منطقة وادي النيل، ويعني به مصر التي كانت مهيأة لأن تصبح مركزاً قوياً للحضارة المستقلة حسب هيجل، ولذلك فهي تبدو معزولة ومنفردة في إفريقيا مثلما تبدو إفريقيا نفسها في علاقتها بالأجزاء الأخرى في العالم والجزء الشمالي من إفريقيا، الذي يمكن أن يطلق عليه بصفة خاصة أرض الساحل وفي هذا الشأن يقول هيجل : إن مصر كثيراً ما كانت ترتد إلى نفسها بواسطة البحر المتوسط يقع هذا القسم على البحر المتوسط وعلى المحيط الأطلنطي وهو إقليم رائع كانت توجد فيه قرطاجة فيما مضى، وتوجد به الآن مراكش الحديثة والجزائر وطرابلس، ولقد كان من الواجب ربط هذا الجزء من إفريقيا بأوروبا ولا بد بالفعل أن يرتبط بها، ولقد بذل الفرنسيون أخيراً جهوداً ناجحة في هذا الاتجاه (يقصد هيجل بهذا التعبير حركة الاستعمار الفرنسي على بعض الدول الإفريقية والذي دعمها وأظهر إعجابه بها) (2) .

في مقاربته للتأثير الطبيعي على الوعي، يرى هيجل في البداية أن الروح تضع نفسها على أنها نفس طبيعية، ويمكن استنباط خصائصها من أنها البداية المطلقة للروح فهي مباشرة، يقول هيجل إن المعرفة التي نبحث عنها في هذه المرحلة تتسم بالمباشرة »(3). فالعلاقة بين الذات العارفة وموضوع المعرفة هي علاقة مباشرة وتتمثل المباشَرة هنا في أن الوعي لا يستنتج وجود الموضوع، بل إن الموضوع يمَثُل

ص: 358


1- هيجل. العقل في التاريخ، مصدر سابق، ص 173.
2- من الدهشة أن نجد هيجل هنا يدع محركة الاستعمار الأوربي على شمال إفريقيا، ويظهر اعجابه بها خاصة للفرنسيين، وهو من كبار الفلاسفة الذين دافعوا عن الحرية والكرامة الإنسانية، وما ساقه من مبررات عقلية للاستعمار الفرنسي لا معنى لها، وهنا يظهر النقص المعرفي لهيجل بما يتعلق بإفريقيا وبالمجتمعات المغاربية.
3- Hegel, Phénoménologie de l'esprit, tr. Jean pierre, le févre Aubier 1991 p174.

أمام الوعي إن علينا أن نستقبل هذه المعرفة كما تُعطى لنا)(1)، موضوعها إذن مستقل من الوعي، ويمكن أن نُطلق عليه الاتصال المباشر بموضوع ما ندركه دون أن نحاول فهمه أو وصفه(2)، وبما أنها كانت مباشرة، فإن خاصيتها الوحيدة هي مجرد الوجود فليس في استطاعتنا أن نقول عنها سوى أنها موجودة فحسب، لأن انعدام كل توسط فيها يعني:

1- أنها لا تتوسط نفسها أو هذا يعني أنها لا تحتوي على أية تميزات نفس فارغة ).

2- يعني أنها لا يتوسطها شيء خارجي كالعالم الموضوعي، فقدانها للذي يواجهها، وبالتالي لا تتميز بأي علاقة مع أي شيء آخر؟ ومن هنا، لا تنطبق عليها مقولات الماهية التي هي دائرة العلاقة والتي تربط الأشياء فيما بينها، وإنما تنطبق عليها مقولات الوجود فحسب. وكما أن أولى مقولات المنطق هي مقولة الوجود، كانت عبارة عن فراغ متجانس للفكر، فإننا نجدها كذلك أنها أول مرحلة من مراحل الروح ، وهي إن صح التعبير مجرد فراغ متجانس في دائرة الروح(3).

ونحن مع موضوع النفس في بداية الروح الواعية، فإننا على قمة السلم المعرفي في عالم الطبيعة (بداية تكوّن المعرفة في تاريخها) وكل حركة واعية إلا وتستمد تصوراتها من الطبيعة وهذا ما يفسّر غرق الوعي الإفريقي فيما هو طبيعي ونسج الأساطير وبناء الأحكام انطلاقا من الطبيعة. وقد نسأل هنا أنفسنا إلى أي حد ترتفع النفس الطبيعية عن الطبيعة ذاتها؟ والجواب هنا هو بما أن النفس، بعدما كانت نفس طبيعية مجرد فراغ للوجود، تفتقر تماماً إلى أية خصائص روحية محددة لها، فإننا نستطيع أن نقول أن مقدار التقدم الذي أحرزته النفس الطبيعية في عالم الطبيعة ليس كثيرا، إذ لا تزال مرتبطة بالطبيعة ارتباطاً تاماً وخاضعاً لها في جملتها، وهي لهذا السبب تسمّى بالنفس الطبيعية (4).

هذا الشأن يقول هيجل على هذا الطريق سوف يتبيّن أن الوعي الطبيعي، إنما

ص: 359


1- Ibid. p9.
2- إمام عبد الفتاح إمام المنهج الجدلي عند هيجل، دار التنوير للطباعة والنشر ط2 1982 ص 33.
3- Robert Brandon, Rolf-Peter Horstmann, Walter Jaesche, Terry Pinkard, Robert Pippin Ludwig Siep, La Phénoménologie de l'esprit de Hegel, Lectures Ccontemporainse p54.
4- ولتر ستيس هيجل، فلسفة الروح مرجع سابق ص 16.

هو تصور للمعرفة أو معرفة غير متحققة، ولكن هذا الوعي إذا كان يرى نفسه مباشرة على أنه المعرفة المتحققة، فهذا الطريق سوف يعدل في نظرته ضياعه، لأنه يفقد على هذا الدرب حقيقته، وفي هذا الطريق كأنه طريق الشك أو بعبارة أصوب كأنه طريق اليأس (1)désespoir».

فحالة النفس هذه هي المرحلة التي لا تزال هي نفسها حياة الطبيعة، متماهية مع بيئتها، وهذه البيئة من العالم المحيط ، الذي يتألف من الموضوعات الطبيعية. ولكن رغم أننا نعرف ذلك إلا أن تلك النفس لا تعرف التنوع ، فهذا التنوع الطبيعي موجود لأجلنا ( La diversité naturelle existe pour nous) وليس موجوداً من أجل ذاته. أما النفس الأولية خلال هذه المرحلة لا تعني هذه العلاقة (علاقتها بمواضيع الطبيعة)، ومادام لا يوجد شيء خارجها، فإنها بذاتها تؤلف مجموع الوجود الفعلي الكلي كله - فكل ما هو موجود لا بد أن يوجد فيها - ومن ثم فإن الحالات المختلفة التي تشكل فيها بواسطة البيئة environnement ، تبقى عبارة عن خصائص أو كيفيات خاصة بها دون تأثر ، وما دامت حياتها كلها هي مجرد مشاركة في حياة الطبيعة العامة، فإن تلك الخصائص أو الكيفيات سوى تكون خصائص طبيعية أو فيزيائية، وتلك الخصائص أو الكيفيات التي تعتبر جانباً من الجسد الحيواني بمقدار ما تعتبر جانباً من النفس(2).

ينُكر هيجل عينية النفس الطبيعية، ويعلن أنها غير محسوس، لا تعدوا أن تكون كتلة من العناصر الخاصة ذات الأوجه العديدة، فضلا عن كونها من ناحية أخرى سلسلة من التجريدات المأخوذة من تلك الأكوام الطبيعية عن طريق الإدراك، فالعالم الحسي عالم تنقصه الوحدة ومكوّن من أجزاء تم إلصاق بعضها البعض، وهذا كله هو المجرد في نظر هيجل والمجرد هو إدراك أي شيء من جانب واحد منفصلا عن كل ارتباطاته الأخرى، وعلى ذلك كله(3)يُرتّب هيجل هذه الخصائص الفيزيائية على النحو التالي:

النفس تشارك في الحياة العامة للكون، وتشعر بتغيرات الجو، وتقلبات الفصول وساعات النهار ... إلخ. ولا تتجلى حياة الطبيعة هذه بوضوح، أي لا تظهر لنا نحن

ص: 360


1- هيجل. فينومينولوجيا الفكر، ترجمة مصطفى صفوان المكتبة الوطنية للنشر والتوزيع، 1981، ص 06.
2- ولتر ستيس هيجل فلسفة الروح، مرجع سابق ص17.
3- عبد الفتاح ديدي. فلسفة هيجل، مكتبة الأنجلو المصرية، 1970 ص .111

العقلاء، إلا في حالة الإعياء الكامل أو اضطراب النشاط العقلي، وقول هيجل «إن نقاط التعاطف هذه تتدرج في حالة الإنسان المتمدن بل تكاد تختفي تماماً تحت الاستجابة لتغيرات الفصول وساعات النهار ، سوى تأثيرات طفيفة على المزاج ولا تظهر بوضوح إلا في الحالات المرضية(1)».

لا يبدأ تاريخ العالم الإنساني بالصراع بين الفرد والطبيعة، مادام الفرد في واقع الأمر نتاجاً متأخراً في التاريخ البشري، بل إن الشمول أو الاشتراك بين الإنسان والطبيعة (Entrel homme et la nature)، يأتي أولاً وإن كان يأتي في صورة جاهزة (مباشرة)، وهذا الاشتراك لم يصح بعد اشتراك عاقلا(2). ولا تكون الحرية صفة من صفاته، ومن ثم فإنه سرعان ما ينقسم إلى أضداد متعددة، ويُسّمي هيجل هذه الوحدة الأصلية في العالم التاريخي باسم (الوعي conscience)، وبذلك يؤكد من جديد أننا دخلنا عالماً يتسم كل شيء فيه بطابع الذات.

إن أول شكل يتخذه الوعي في التاريخ ليس شكل وعي بل وعي كلي، ربما كان خير ما يمثله هو وعي جماعة بدائية (groupe primitif)، تندمج فيها كل فردية داخل المجتمع المشترك، فالمشاعر والإحساسات والمفاهيم لا تنتمي في واقع الأمر إلى الفرد، فإن كلا من طرفي التضاد، وهما الوعي أو موضوعاته، له صورة الذاتية كما هي الحال في كل أنواع التضاد الأخرى في عالم الذهن(3).

فهذا اللون من التعاطف نجده أحيانا يتجلّى وسط القبائل البدائية Les tribus primitives) بما فيها بعض المجتمعات في إفريقيا التي لا زالت حبيسة هذه المرحلة، وهيجل في هذه المرحلة يميز جيّداً بين النفس وهي موضوع الأنثروبولوجيا وبين الشعور أو الوعي وهو موضوع الفينومينولوجيا، والروح هي موضوع علم النفس. فالروح في هذه المرحلة تحاول بكد أن تخرج من حالة الطبيعة إلى مرحلة تحاول فيها أن تحدد ذاتها بذاتها(4).

ص: 361


1- نقلا عن ولتر ستيس فلسفة الروح، مرجع سابق ص17.
2- G.W.F Hegel: Encyclopédie des Sciences Philosophiques ) Philosophie de la Naturep13.
3- هربرت ماركيوز العقل و الثورة هيجل و نشأة النظرية الاجتماعية المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، 1979 ، بيروت، ص 91.
4- عبد الرحمان بدوي. شلينج، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، 1981، بيروت، ص 126

فالنفس الطبيعية هي تجريد أكثر رقة من الإحساس العادي، وهي لا توجد على أي صورة من الصور في الإنسان، فهيجل هنا ينظر إلى الإحساس في حالة مجردة عن العقل وكذلك تمارس الفلسفة هنا هذا الحق نفسه. فإن معظم مراحل الروح التي يبحثها هيجل في الأنثروبولوجيا مجردة، وأولوية لدرجة أننا نصادف بعض الصعوبة فى إدراكها داخل أنفسنا، فلقد ظلت فترة طويلة حتى اندرجت تحت عتبة الوعي ورغم ذلك فهي تظهر في التغيرات الطفيفة للمزاج وفي الحالات المرضية كما أشار هيجل نفسه. حيث يقول وليس فقط وعيه لهذا الفراغ، بل حتى النهائية التي هي فحواه، ولكي تحقق مكسب الجوهر الذاتي يجب على الفلسفة أن تحل غلق الجوهر فترتفع به إلى الوعي - بالذات»(1).

إن التحولات الفيزيائية (Les transformations physiques) والكيفيات التي طرأت على النفس الآن، هي كتلك التغيرات التي يمر عليها الإنسان (طفولة، شباب، رجولة)(2). يقول هيجل«إذا أخذنا النفس على أنها ،فرد فإننا نجد تنوعاتها». أي كيفيّاتها الفيزيائية «قد أصبحت تحولات بداخل الذات الواحدة الدائمة وكمراحل في مجرى تطورها»(3). وهذه الكيفيات الفيزيائية المتنوعة تحتوي على الاختلاف والتحول بعضها إلى بعضها الآخر، ولكن على الرغم من أن التغير يتضمن يقيناً التنوع والاختلاف، وقد حصرها هيجل في النقاط التالية:

1- الطفولة الشباب الرجولة والشيخوخة.

2- العلاقات الجنسية : التحول الموجود في الفرد الذي يبحث في نفسه ويجدها في شخص آخر.

3- تغيرات النوم واليقظة ولقد قدم لنا هيجل استنباطاً للمظاهر الأساسية لهذه المرحلة، وفي حين أن النفس الطبيعية كانت من أولى مظاهرها فراغاً وتجانساً كاملين خالية من كل تمييز داخلي فإنه يوجد فيها الآن التميز الضمني بين ذاتها، أي الفراغ

ص: 362


1- هيجل. فنومينولوجيا الروح، ترجمة ناجي العونلي، المنظمة العربية للترجمة، ط1، بيروت 2006، ص .122
2- Robert Brandon, Rolf-Peter Horstmann, Walter Jaesche, Terry Pinkard, Robert Pippin Ludwig Siep, La Phénoménologie de l'esprit de Hegel, Lectures Ccontemporainse p108.
3- نقلا عن ولتر ستيس . مرجع سابق، ص 19.

المتجانس (vide homogene) الذي بدأ منه وبين التأثيرات بيئتها التي ظهرت فيها، على أنها كيفيات وتحولات فيزيائية من ناحية أخرى.

وإذا كان هيجل قد أطلق على الأولى (اسم الوجود المباشر)، فيمكن أن نسمي الثانية، اسم مضمون هذا الوجود، وعندما تميز الفردية الآن في داخلها بين مضمونها وبين وجودها المباشر المحض. يكون لدينا حالة يقظة، أما النوم من ناحية أخرى، فهو يمثل انزلاقها إلى حالة وجودها المباشر، فالنوم هو إن صح التعبير، فقدان المضمون de content (1)Perter والعودة إلى حالة الشمول والتجانس (Le cas de inclusion et la cohesion)، التي تعود فيها النفس إلى مرحلتها الأولى، أي مرحلة الوجود المحض ويمكن أن ينظر إليها على أنها الشعور الخالي من كل مضمون، أي الشعور بالعدم أو اللاشعور(2).

إن التميز الداخلي الضمني بين الوجود المباشر للنفس، وبين مضمونها يؤدي إلى ظهور الإحساس أو الحساسية، لأن النفس ميّزت الآن بين مضمونها أو تأثيراتها وبين ذاتها، وعلى ذلك، فبدلاً من أن تكون هذه الخصائص كيفيات لها تصبح الآن إحساساتها. فلما كانت هذه الخصائص والكيفيات شيئاً متميزاً عن ذاتها، فإنها بالتالي شيئا موجودا شيئا يبدو أن له وجودا ضمنيا قائما بذاته مستقلا عن النفس ذاتها ومن ثم فهي ليست جزءاً من النفس، على نحو ما كانت الكيفيات، ولكنها تأثيرات موجودة بداخلها على أنها شيء آخر غير ذاتها، أي أنها إحساسات، وحيازة هذه الإحساسات هو ما يسمى بالحساسية sensibilité(3).

يقول هيجل «وليس فقط لهذا الفراغ، بل من النهائية التي هي فحواه، ولكي تحقق مكسب الجوهر الذاتي يجب على الفلسفة أن تحل غلق الجوهر، فترتفع به إلى الوعي - بالذات، حتى تقيم الشعور بالماهية وألا تتعهد بالفهم بقدر تعهدها بالتشييد،

ص: 363


1- المضمون Contenu: يقوم تحليل المضمون على الكشف من معدل ظهور بعض الموضوعات بعض الكلمات، أو بعض الأفكار داخل نص معين. جان فرانسوا دورتيه معجم العلوم الإنسانية، ترجمة جورج كتورة، المؤسسة الجامعية للنضر والتوزيع، ط1، 2009، بيروت، ص 994.
2- ولتر ستيس . فلسفة الروح، مرجع سابق، ص20.
3- المرجع نفسه، ص 20

عن طريق الرغبات والميولات إنما الجميل والمقدس والأزلي والدين والحب طعم واجب تتأجج الرغبة في الروح الذاتي فليس المفهوم المحكم بل بالفتنة التي تثري الجوهر. التي تناظر إنغراس البشر في الحسي والمشترك والفردي، وتصويب أبصارهم قبل النجوم، بدلا من التنعم مثلهم مثل ديدان الأرض بالغبار والماء» (1)

ولكن رغم هذه الإحساسات من استقلال، إلا أنها لا تزال موجودة داخل النفس ذاتها، ولا تزال النفس بالنسبة لنفسها تمثل الوجود، فلا شيء خارجها، فليس هناك موضوع خارجي يقع في مقابل الذات والإحساس ليس شيئا آخر غير النفس .ذاتها إنها مرحلة فحسب من مراحل تميز نفسها بما هي كذلك عن النفس، وتمثل الإحساسات التي لا تنسبها إلى أي مصدر خارجي، لكنها تكمن داخل أنفسنا كالجوع والتعب والألم الداخلي ما يقصده هيجل بهذه الفكرة(2). فأنا أميز بين نفسي وبين هذه الإحساسات، فأنا لست الجوع، رغم أنه موجود بداخلي، فهو ليس بإحساس بموضوع كما هي الحال في الإحساس الخاص بالرؤية حين أرى شجرة أو منزلا(3). ولكنه إحساس ذاتي خالص، فليس ثمة شيء خارجي أمام نفسي.

2 - حسيّة الذات الإفريقية

إن السمة البارزة للحياة الزنجية هي أن الوعي لم يبلغ بعد مرحلة التحقيق الفعلي لأي وجود موضوعي جوهري مثل : الله أو القانون اللذين ترتبط بهما مصلحة الإنسان وفيها يحقق وجوده الخاص والإفريقي في وجوده العيني الموحد، الذي يتسم بالتجانس والتخلف، لم يبلغ بعد تلك المرحلة التي يميز فيها بين ذاته بوصفه فردا وبين كلية وجوده الجوهري، بحيث أنه يفتقر تماماً إلى معرفة أن هناك وجودا مطلقا أخر أعلى من ذاته الفردية. فالرجل الزنجي كما لاحظنا من قبل، يمُثل الإنسان الطبيعي في حالته الهمجية غير المروّضة تماماً ولا بد لنا يقول هيجل، إن أردنا أن نفهمه فهما حقيقياً سليماً، أن نضع جانبا كل فكرة عن التبجيل والأخلاق، وكل ما نسميه شعوراً أو وجداناً،

ص: 364


1- هيجل . فنومينولوجيا الروح، ترجمة ناجي العولني، مصدر سابق، ص123.
2- Robert Brandon, Rolf-Peter Horstmann, Walter Jaesche,Terry Pinkard, Robert Pippin Ludwig Siep, La Phénoménologie de l'esprit de Hegel, Lectures Ccontemporainse p157.
3- أي المفارق لكل تعيين محدد. كأن يكون ليلا أو نهارا بالنسبة للآن أو شجرة و منزلا بالنسبة للهنا (بتصرف).G.W.F Hegel, Encyclopédie des Sciences Philosophieques (2) Philosophie de la Nature p19.

فلا شيء مما يتفق مع الإنسانية يمكن أن نجده في هذا النمط من الشخصية، والروايات الغريزة والمفصلة التي يرويها المبشرون تؤكد ذلك تماما.

وحسب هيجل كان للعقيدة الإسلامية دوراً مهما في إدخال الزنوج في نطاق الحضارة، وأيضاً فهم المسلمون أفضل من الأوروبيين كيف ينفذون إلى داخل هذه الجغرافيا، ويمكن أن نقدّر على نحو أفضل درجة الحضارة التي يمثلها الزنوج إذا ما تأملنا المرحلة التي يمثّلها الدين عندهم(1).

إن ما يشكِّل أساس التصورات هو الوعي من جانب الإنسان بقوة عالية - حتى على الرغم من أن الإنسان قد يتصور هذه القوة على أنها قوة طبيعية فحسب - يشعر أمامها بأنه موجود ضعيف متواضع، فالدين يبدأ من الوعي بأن هناك شيئا أعلى من الإنسان.

ينعت هيرودوت الزنوج بالسحرة، على أن الإنسان في حالة السحر لا يكون لديه فكرة الله ولا فكرة الإيمان الأخلاقي، ذلك أن السحر ينظر إلى الإنسان على أنه القوة العليا، وعلى أنه يشغل ولوحده مركز الأمر المسيطر على قوى الطبيعة، ومن ثم فلسنا أمام شيء من العبادة الروحية لله أو ملكوت الحق. فالإله يرعد لكننا لا نتعرف عليه بأنه الله، وعلى هذا الأساس إذن الله لا بد أن يكون أمام الروح البشري أكثر منه صانع للرعد، لكن الأمر يختلف عن ذلك عند الزنوج(2). فعلى الرغم من أنهم على وعيٍ تامٍ باعتمادهم على الطبيعة لأنهم يحتاجون إلى الأثار المفيدة للعواصف والمطر وتوقف فترة الأمطار، فإن ذلك لا يؤدي بهم إلى الوعي بقوة ،أعلى، إنهم هم الذين يسيطرون على عناصر الطبيعة، وهذا ما يطلقون عليه اسم السحر. وللملوك في إفريقيا طبقة كهنة يتحكمون من خلالهم في التغيرات التي تحدث في عناصر الطبيعة، وكل موقع له سحرته الذين يقومون بتأدية طقوس خاصة، وبجميع أنواع الحركات الجسمية

ص: 365


1- هيجل العقل في التاريخ ، مصدر سابق، ص 157.
2- المفروض في الديانة المتطورة أنها تفصل بين العقل الكلي الذي هو الله، وبين العقل الجزئي الذي هو الإنسان بحيث يصبح هدف الدين كله عبور هوة الانفصال هذا، والتوفيق بين الله والإنسان وحيثما لا يكون هناك الانفصال لا يكون هناك دين الدين والصورة الأولى المباشرة للدين عند هيجل هي السحر، وهي التي نجدها عند الزنوج، ولا يوجد في هذه الديانة فصل بين الكلي والجزئي. فالكل وهو الله وليس موجودا، وإنما يصبح كل شيء جزئيا، فليس ثمة سوی هذه الشجرة وهذا النهر وهذا الإنسان، ومن هنا لا يستطيع أن يميز الإنسان نفسه عن الطبيعة، لكن سمو الروح لا بد أن يظهر إلى الوعي بعض الشيء، فيشعر الإنسان بأنه يعلو على الأحجار والصخور والشجر، ومن ثم فهو يسيطر عليها بحيث تمتد إرادته فيكون في استطاعته أن يأمر العواصف والمياه والسحب فتنصاع لأمره وذلك هو السحر. ص.175.

والايماءات وألوان الرقص والصخب ووسط هذا الخليط المضطرب يبدأون في ممارسة تعاويذهم وسحرهم.

أما العنصر الثاني في ديانتهم، فيبرز في إعطاء شكل خارجيٍ لهذه القوة التي تعلو على الطبيعة مسقطين قوتهم الخفية على عالم الظواهر بواسطة مجموعة من التصورات، ولذلك ما يتصورونه قوة ليس شيئا موضوعيا حقيقيا له وجود جوهري قائم بذاته ومختلف عنه، وإنما هو أول شيء يصادفونه ، وهذا الذي يصادفونه يأخذونه بغير تمحيص ويرفعونه إلى مرتبة: الجنّي أو الروح الحارس، وقد يكون حيوانا أو شجرة أو حجرا أو صورة خشبية وهي تلك تميمتهم (fetish) وهي كلمة كان البرتغاليون أول من تداولها، وهي مشتقة من كلمة (feitizo ) البرتغالية التي تعني : السحر، والتميمة تمثل لون من الاستقلال الموضوعي في مقابل الخيال العشوائي عند الفرد. لكن لما كانت الموضوعية لا تعدو أن تكون خيال الفرج وقد أسقطه في المكان، فإن الفردية البشرية تظل مسيطرة على الصورة التي اتخذتها(1). وباختصار ليست هناك علاقة تبعية في الدين. غير أن هناك مظهرا واحدا يشير إلى شيء فيما وراء الواقع وهو عبادة الموتى، التي ينظرون فيها إلى أسلافهم وأجدادهم الموتى على أنهم قوة مؤثرة على الأحياء، وفكرتهم أن هؤلاء الموتى يمارسون الانتقام والأذى على الإنسان، ومع ذلك فهم لا يَعتبرون قوة الموتى أعلى من قوة الأحياء، لأن الزنوج يتحكمون في الموتى ويضعون لهم سحراً ورقياً. وعلى هذا النحو تظل هذه القوة على الدوام، وبطريقة جوهرية، خاضعة لسيطرة الذات الحية. ولم ينظر الزنوج إلى الموت على أنه قانون طبيعي كلي، بل اعتقدوا أنه يأتي من سحرة الأشرار. وتتضمن عقيدتهم هذه بالتأكيد الاعتقاد بأن الإنسان يعلو على الطبيعة إلى حد أن الإنسان ينظر إلى هذه الأشياء الطبيعية على أنها أداة ووسيلة ولا يعطيها شرف معاملتها على أنها تتحد بذاتها بل يتحكم فيها هو.

لكن القول بأن الإنسان يُنظر إليه على أنه الأعلى، يترتب عليه أنه لا يعطي لنفسه احتراماً، ذلك أنه لا يصل إلى وجهة نظر تلهمه احتراماً حقيقياً إلا عن طريق الوعي بوجودٍ أعلى، إذ لو كان الاختيار العشوائي هو المطلق، أي لو كان هو الموضوعية الجوهرية الوحيدة التي تتحقق لما استطاعت الروح أن تكون على وعي بأية كلية،

ص: 366


1- هيجل العقل في التاريخ ، مصدر سابق، ص 176.

ومن هنا أطلق الزنوج لأنفسهم العنان في الاحتقار الكامل للبشرية(1)، الذي هو السمة الأساسية لجنسهم من حيث صلته بالعدالة والأخلاق. كذلك لا يوجد لديهم أي فكرة عن خلود الروح رغم اعتقادهم بأشباح الموتى.

لقد رأينا أن الإحساسات موجودة في النفس حسب هيجل، والإحساسات من ناحية متميزة عن النفس ذاتها، وهي من ناحية أخرى موجودة بداخلها وبالتالي جزء منها، وبما أنها متميزة عن النفس فإن النفس قد أدركت فعلا أن هذه الإحساسات موجودة. فوفق هذه الوجهة من النظر، نجد أن هذه الإحساسات هي التي تؤثر في النفس، أي أنها إيجابية نشطة (Active) في حين أن النفس سلبية متقلبة. ولكن(2)هذه الإحساسات من ناحية أخرى موجودة بداخل النفس وهي جزء منها، فإنه ينتج من ذلك أن ما هو إيجابي، وما يؤثر في النفس ليس سوى النفس ذاتها، ومن كانت النفس إيجابية، وإحساساتها هي فعلها الخاص، إن النفس تحس وتشعر، وما كانت كذلك فهي النفس الحاسة، وهي الحالة التي لا تزال تسود الذات الإفريقية، بما أن الإحساسات بقت مورداً لحركة الوعي للأنا الإفريقية.

يقول هيجل «فكل يقين حسي متحقق بالفعل لا ينحصر في كونه هاته المباشرة الخالصة، بل هو أيضاً مثل من أمثلتها، ومنه تخرج إلى الضوء فروق لا حصر لها، تشترك جميعها في احتوائها على هذا الفرق المبدئي، وأعني به أن الوجود المحض ينشق في كل خبرة حسية إلى شقين هما سميناهما بالهاذين هذا الأنا وهذا الموضوع»(3).

الذات الحسية هنا، تريد الشيء المحسوس، لا من حيث هو شأن مباشر كما ادعى سلفه وإنما من حيث هو شأن كلي. فموضوعه إذا الشيء (الحامل لخاصيات متعددة)، وهي خاصيات غير مباشرة لأنها تتحدد على ضوء علاقتها

ص: 367


1- المصدر نفسه، ص 177.
2- سلبية Nécativité عند هيجل سمة النقيضة الأطروحة المضادة لحظة ديالكتيكية من لحظات الفكر). أندريه لالاند: موسوعة لالاند الفلسفية المجلد الثاني، ترجمة خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت ، باريس، ط2، 2001، ص 1119
3- من البين أن كلا الطرفين الموضوع و المعرفة قائم بالآخر ، فأما عند الوعي الطبيعي في مبدأ خبرته، فالموضوع هو وحده الشيء الجوهري، بينما المعرفة أمر عارض و ثانوي (بتصرف). هيجل فينومينولوجيا الفكر ، مصدر سابق ص84.

بغيرها، ولكنها تنتمي في الوقت نفسه إلى شيء واحد، إن الإدراك يشتمل في اهيته على الشيئية(1).

فالإحساس السابق ذكره (في النفس الطبيعية)، وبين الحس أو الشعور الذي نحلل الآن، هو أن الإحساس يؤكد سلبية النفس في تأثيراتها، في حين أن الشعور يؤكد إيجابياتها، فالنفس في ذاتها تشعر أو هي حاسة.

رغم أن النفس الحاسة (الشاعرة): بما هي كذلك إيجابية، فإن نشاطها وإيجابياتها لا تتحقق في أول مرحلة مباشرة لها، يعني أصبحت ذاتا، فهو يتضمن الإحساس بالذات أو الأنا أو الشعور بأن الذي يعمل هو أنا، ويتضمن ذلك بدوره التفرقة بين الأنا الذي يعمل وبين الشيء أو الموضوع الذي أجعله ميدانا أمارس فيه فعلي(2). وأهم الأمثلة التي ساقها هيجل حول هذا الموضوع، هي حالات النفس عند الطفل الذي لا يزال في رحم أمه، وحالة النفس في التنويم المغناطيسي (hypnose)، فمشاعر الطفل وهو في رحم أمه ليست في الحقيقة مشاعره الخاصة، لكنها مشاعر أمه، إنها نفس الأم التي تحكم وتسيطر على نفس الجنين. يقول هيجل «ومع ذلك فإنه ليس عسيراً أن يُدرك المرء أن زماننا زمان ميلاد ومرورا إلى طور جديد، فالروح قد قطع كيانه وتصوره، ويضع في المفهوم أن يغط كل ذلك في المكان وفي العمل على تكرير إخراج تشكله، والأكيد أن الروح لا يحصل قط في سكون، بل في حركة رابية أبدا، وهو كحال الطفل قد ولد كذلك الروح المتكون يشتد عوده ببطء وبصمت، قبل الشكل الجديد، لكن هذا الجديد لا حقيق تماماً له، إلا بالقدر اليسير الذي للطفل المولود للتو وهذا أمر مهم لا يجب غض النظر فيه»(3).

أما الشعور بالنفس أو الإحساس بالذات موجود ضمنا في الحالات السابقة، والنفس الآن تميز بصراحة بين إحساساتها ومشاعرها وبين ذاتها، فالآن أصبحت النفس تعرف بأن إحساساتها ومشاعرها جوانب جزئية من ذاتها، ويرى هيجل أن الإخفاق في إخضاع الجوانب الجزئية (الإحساسات والمشاعر) للنفس على نحو

ص: 368


1- شیخ محمد فلسفة الحداثة في فكر هيجل الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1، 2008، ص .164
2- Jean Hyppolite, Etudes Sur Marx et Hegel, editions Marcel Riviere et cie, Paris, 1955, p34.
3- هيجل . فنومينولوجيا الروح مصدر سابق ص.125

مناسب، والميل إلى ترك جانب جزئي واحد يخضع جميع الجوانب الأخرى لإمرته، وبالتالي يسيطر على الحياة بأسرها هو الجنون (1).

أما العادة (habituellement)، فهي تميز النفس الآن ما بداخلها بين وجودها المباشر الذي هو الشمول المتجانس غير المتميز من ناحية، وبين مضمونها الذي يتكون من الإحساسات والمشاعر وهي كثرة متنوعة من الجزئيات من ناحية أخرى. هذان هما النصفان اللذان تنشطر إليهما النفس والنصف الأول هو بذاته صورة فارغة تماما للكلية والشمول (2)والثاني هو بذاته، خليط أعمى، ومن هنا فأحدهما جوهري كالآخر سواء بسواء، ولا يمكن لهما أن يوجدا في حالة انفصال ومن ثم فإن الكلية الفارغة لكي توجد لا بدّ لها من أن تُوجِدَ نفسها في الجزئيات، وأن تُوجَد فيها بواسطتها، وهي حين تفعل ذلك فإنها تضع بطابعها الكلي الإحساسات والانطباعات الجزئية وغيرها، وهذه الكلية التي تظهر الآن في الجزئيات هي في ما يقول هيجل كلية منعكسة فحسب، أي أنها مجرد كلية عددية توجد في الشيء مكررة في سلسلة نفسها، على هذا النحو فإنها تؤلف ما يسمى بالعادة. في هذا الشأن يقول هيجل «فمبتدأ الروح الجديد، إنما هو نتاج تبدل متصل لصور من الثقافة متنوعة، وهذا المبتدأ إنما هو الكل الذي يؤوب إلى نفسه من بعد التعاقب كما من سروحه، إنه المفهوم البسيط والمتصيّر الذي لعين الكل، لكن حقيق هذا الكل البسيط، قوامه أن هذه التشكلات التي استحالت لحظات، إنما تتنامى من جديد وتتشكل، لكن في أسطقسها الجديد وفي المعنى الذي قد استحال»(3). الذات الفردية تبرز عند هيجل، حينما يكون الفرد مضطراً إلى أن يتحكم في جسمه العضوي ومتطلباته استجابة تعرضها قواعد ونماذج مقبولة من المجتمع، وفي هذه الشروط يكون الفرد مسوقا إلى التمييز بين ذاته وبين جسمه العضوي، وتلك القواعد والنماذج الكلية، لا تمليها الطبيعة بل الثقافة (culture)(4).

ص: 369


1- ولتر ستيس فلسفة الروح مرجع سابق ص.23
2- G.W.F Hegel, Encyclopédie des Sciences Philosophieques (2) Philosophie de la Nature, Bernard Bourgeois Librairie Philosophique, j, Vrin, Paris, 2004, p50.
3- هيجل. فنومينولوجيا الروح، مصدر سابق ص125
4- هربرت ماركيوز أساس الفلسفة التاريخية - نظرية الوجود عند هيجل - ترجمة ابراهيم فتحي، دار التنوير للطباعة والنشر، ط3 2007 بيروت ص 12.

لقد كان لضعف الأميركيين الأصليين البدني سبباً رئيساً في جلب الزنوج الأفارقة إلى أميركا واستخدامهم في الاعمال التي ينبغي أن تتم في العالم الجديد، ذلك لأن الزنوج كانوا أكثر تقبلا للمدينة الأوروبية من الهنود حسب هيجل.

استعبد الأوربيون الزنوج وباعوهم في أميركا والعبودية منتشرة بصفة مطلقة في إفريقيا، ذلك لأن المبدأ الجوهري للرق أو العبودية هو أن يكون الإنسان قد وصل إلى مرحلة الوعي بحريته وينحدر بالتالي إلى مرتبة الشيء المحض، أي يصبح موضوعا بغير قيمة. والمشاعر الأخلاقية عند الزنوج ضعيفة للغاية أو هي معدومة إن شئنا الدقة، فالأباء يبيعون أبناءهم كلما سنحت الفرصة لأولئك، ولقد اختفت بسبب انتشار العبودية عندهم جميع روابط الاحترام الأخلاقي. وكثيرا ما يكون الهدف من ممارسة نظام تعدد الزوجات عند الزنوج الحصول على عدد كبير من الأطفال ليباعوا كرقيق. وهكذا فإن السمة التي يتميز بها احتقار الإنسانية عند الزنوج ليست هي إزاء الموت كما عبرّ عنها هيجل في جدلية السيد والعبد بقدر ما هي الافتقار إلى احترام الحياة نفسها، وينبغي أن نعزو الشجاعة العظيمة عندهم إلى سمة افتقارهم لاحترام الحياة هذه التي تدعمها قوة بدنية كبيرة.

يرى هيجل أن النظم السياسية عند الأفارقة ليست متطورة، فهم ينقادون بالرغبة الحسية العشوائية، مضافا إليها كافة الإرادة ما دامت القوانين الروحية الكلية (مثل قوانين أخلاق الأسرة) لا يمكن أن يعترف بها هنا، إذ لا توجد الكلية عندهم إلا كاختيار ذاتي عشوائي، ولذلك فإن الروابط السياسية عندهم لا يمكن أن يكون لها طابع القوانين الحرة التي توحد الجماعة، ولا شيء يقيد الإرادة العشوائية ولا شيء يمكن أن يربط الدولة لحظة واحدة سوى القوة الخارجية : فالحاكم يتربع على رأس الدولة، لأن الهمجية الحسية لا يمكن أن تكبح جماحها سوى القوة المستبدة، ويتمتع الملوك إلى جانب ذلك بامتيازات خاصة أخرى : فالملك عند الأشانتيين (وسط غانا) يرث كل الثروة التي يخلفها رعياه بعدموتهم، وفي بعض المناطق يأخذوا نساءهم وأطفالهم، وإذا غضب الزنوج من ملكهم أسقطوه وقتلوه بالتمرد الشامل(1).

إن تلك النظرة الأوربية المسكونة في آن واحد بكراهية الجسد الأسود والخوف

ص: 370


1- هيجل العقل في التاريخ ، مصدر سابق، ص 179.

منه والقلق إزاءه والرغبة الجنسية فيه. وهكذا فإن هذه النظرة العرقية تعاني وعيا منفصماً مزدوجاً، وعي التفوق ووعي عدم الكفاءة،وعدم الاكتمال، وعدم اكتمال يتجسد في الرغبة البصرية للآخر، الآخر الزنجي(1).

إنه يجعل من الأسود موضوعا ويختم على مصيره بأنه أسود. إن الآخر الأبيض يختزل الأسود إلى موضوع مسبب للفوبيا (الرهاب) يعبر عن الرغبات المكبوتة لدى المجتمع الأوربي وهو الضعف الجنسي حسب فانون.

يقول فانون: في أعمق أعماق العقل الباطن الأوربي، تم صنع صورة لرجل أسود أجوف بصورة جامحة تكمن فيها أكثر الدوافع للانحطاط الأخلاقي وأكثر الرغبات مدعاة للعار. وكما أن كل إنسان يصعد نحو البياض والضوء، فإن الأوربي حاول إنكار ذاته غير المتحضرة التي سعت لأن تدافع عن نفسها. وعندما وقع اتصال الحضارة الأوربية بالعالم الأسود، بتلك الأقوام الهمجية، اتفق الجميع على أن: أولئك السود هم مبدأ الشر في العالم. فالأسود هو رمز الشر، رمز السادية، رمز الشيطان، رمز القذارة الأخلاقية، ورمز الخطيئة. وهذه الرموز بعد إسقاطها على الأسود مرة تلو المرة، تخلق الأساس لعقدة النقص، إذ يصبح الآخر الأبيض عماد انشغالاته.

تتميز الشخصية الزنجية في نظر هيجل بالافتقار إلى ضبط النفس وتلك حالة تعجز عن أي تطور، ولهذا كان الزنوج باستمرار على نحو ما نراهم اليوم والرابطة الجوهرية الوحيدة التي وجدت ودامت بين الزنوج والأوربيين هي رابطة الرق والعبودية، ولا يرى الزنوج في هذه الرابطة شيئا مشينا لا يليق بهم، بل أن الزنوج عاملوا الانجليز أنفسهم على أنهم أعداء لأنهم بذلوا جهدا كبيرا في إلغاء الرق(2).

والنظرية التي نستنتجها من حالة الرق وهي أن حالة الطبيعة ذاتها هی حالة من الظلم، فهي انتهاك للحق والعدل. وكل درجة متوسطة بين هذه الحالة وبين التحقيق الفعلي للدولة العقلانية كما كان يتوقع المرء بجوانب وعناصر من الظلم، ولهذا نجد الرق حتى في الدولة اليونانية والرومانية. لكن الرق حين يوجد في دولة ما على هذا النحو يشكل مرحلة متقدمة بالقياس إلى الوجود المادي المحض المنعزل، أي

ص: 371


1- نايجل سي. غابسون فانون المخيلة بعد - الكولونيالية، مرجع سابق، ص 60.
2- هيجل العقل في التاريخ ، مصدر سابق، ص 181.

مرحلة تعليم ونوع من المشاركة في أخلاق عُليا وثقافة ترتبط به: إن الرق في ذاته ولذاته، ظلم، لأن ماهية الإنسان هي الحرية. ولكن لا بد لتحقيق هذه الحرية من أن ينضج الإنسان، ولذلك فإن الإلغاء التدريجي للرق أحكم من إزالته فجأة. والواقع أن ما نفهمه من اسم إفريقيا هو الروح غير المتطور الذي لا تاريخ له ولا تطور أو نمو حسب هيجل، والذي لا يزال منغلقاً تماماً وفي حالة الطبيعة المحض، والذي كان ينبغي أن يعرض هنا بوصفه واقعاً على عتبة تاريخ العالم فحسب، وعليه فلا بد لشعوب شمال إفريقيا أن لا ينسوا أنهم في امتدادٍ مستمرٍ لإفريقيا ثقافة وجغرافيا (1).

فانون ناقداً لهيجل : الرجل الأبيض هو من أوجد الرجل الأسود!

ينتقد فانون في كتابه «جلد أسود وقناع أبيض» نظرة هيجل المقصر في حق الكينونة الإفريقية، وعلى أنها كانت عرجاء ولا ينطبق عليها سير ديالكتيك وهو النص الأكثر ثباتا لنقد ديالكتيك هيجل بشأن جدلية السيد والعبد وادعاءه أن: الإنسان لا يكون إنسانا إلا بقدر ما يحاول أن يفرض وجوده على إنسان آخر من أجل الحصول علی اعترافه به.

إن صورة الإفريقي حسب فانون توجد بصورة مطلقة من أجل الآخر (2)فمن أجل امتلاك اللغة يفترض وجود ثقافة وعالم تُعبر عنهما تلك اللغة، وتماما كما يَعتبر هيجل فی فينومينولوجيا الروح أن اللغة هي عنصراً مهماً عنصراً مهماً في التبادلية، فوفق هيجل التبادلية بين أنواع الوعي الفردي تتطلب لساناً مشتركاً أي لغة، اللغة والاعتراف يستلزم كل منهما الآخر، التكلم مع آخرين يعني الاعتراف بهم ومعرفتهم كأشخاص، وحيثما لا يوجد هذا النوع من اللغة ينشب الصراع.

وعلى هذا الأساس يعد ديالكتيك السيد/ العبد لدى هيجل هو بدء الصراع حتى الموت، ويتوقع المنتصر خدمة لا خطابا وفق قراءة فانون وفي الوضع الاستعماري الخطاب لا يحقق التبادلية المفروضة بين طرفين وبما أن المستعمر لا يحترم ثقافة الآخر، فإن اللغة الوحيدة التي يتكلمونها هي لغة العنف والترهيب والإقصاء، وفي هذا الشأن يقول فانون كل شعب مستعمر - وبعبارة أخرى - كل شعب نشأت

ص: 372


1- المصدر نفسه، ص .183
2- نایجل سي. غابسون، فانون، المخيلة بعد الكولونيالية، مرجع سابق، ص69.

روحه عقدة نقص نتيجة موت ودفن أصالته الثقافية المحلية - يجد نفسه وجها لوجه مع لغة الأمة ناقلة الحضارة.

إن لغة السيد هي أداة للتقدم في العالم الأبيض، لكن الأسود الذي يتكلم لغة البيض يظل محروما من الاعتراف مهما تملق فيها ويبقى بياض الوجه المعيار المعتمد لتحديد الاستقامة والتفوق وبالتالي في نظر فانون فإن الوعي المؤسَس على وعي التشابه يصل إلى طريق مسدودة. فالعبد الذي يعتنق كلام السيد يمكن أن يصل بأقصى أمله إلى اعتراف زائف فقط - إلى قناع أبيض، وفي ظل هذه الظروف، لا تتقدم لغة السيد من إحساس وبناء عليه، فإن التبادلية في صميم الديالكتيك الهيجلي لا تكون ممكنة عندما نقوم بإسقاطها على علاقة الأبيض بالأسود حسب فانون.

يعد نقد فانون لهيجل هو نقد أصيل، ويتمثل أحد أوجه هذه الأصالة في وصفه للديالكتيك بأنه (غير مرتب) أو أنه مفتوح النهاية. إن إدخال فانون عامل العرق في ديالكتيك السيد / العبد الهيجلي أربك نوعا ما قانون عمل هذا الديالكتيك، وهو مساهمة فعالة وأصيلة جرى تطويرها في سياق فلسفة هيجل في فترة ما بعد الحرب في فرنسا.

وعليه فانون في خضم نقده قدمه على أنه ديالكتيك سلبي الأطراف.

وبناءا على هذا النقد، يدعو فانون إلى ضرورة تصحيح الأخطاء الثقافية من قبل الأسود ذاته، ومن أجل تصحيح هذه الأخطاء من منظور فينومينولوجي، يعود فانون إلى تحليل التجربة المعاشة الخاصة بالكائن الأسود في مجتمع عنصري، وهذه الطريقة التي يسميها بطريقة (النكوص)، والتي هي أهم طريقة للنضال في نظر فانون.

وكما يرى فانون أن الوقوف على مصدر اغتراب الأسود من ناحية التحليل النفسي يتطلب الذهاب إلى المرحلة السابقة لعقدة أوديب، وبالتحديد إلى مرحلة التنشئة الاجتماعية ما قبل الأوديبية، فإن الوصول إلى ديالكتيك السيد/ العبد من منظور العرق يتطلب العودة إلى لحظة اليقين الذاتي السابقة للرغبة، ومن المفارقات أن هذه العودة تبدو أنها تعيد إنتاج الموقف الكولونيالي والهيجلي نمطياً إزاء الأفريقي بوصفه طفلاً يغوص في الغرائز.

يرى فانون أن الديالكتيك الهيجلي يجبر على التراجع إلى مرحلة سابقة للرغبة

ص: 373

في كتاب فينومينولوجية الروح وبالتحديد إلى مرحلة بناء الوعي الذي شرحناه سابقا، حتى يجد معياريته الذاتية. وفيما يتعلق بوعي الأسود يعلن فانون أن الديالكتيك يدخل الضرورة في أساس حريتي ويخرجني من ذاتي، وبتعبير آخر، إن الحركة من اليقين الذاتي تنشأ من الضرورة التاريخية للنضال من أجل الحرية ، لكن شكلها لم يحدده تطور أوروبا بعد(1)، وفانون بخلاف هيجل ،و سارتر يرى فانون أن المنهجية الارتكاسية هي السبيل الوحيد للخروج من طريق الديالكتيك المسدودة، أي إن الخطوة الوحيدة هي العودة إلى الخلف وبالتحديد إلى نقطة البداية.

حسب فانون ظل حلم الزنجية مثلا هو التحول إلى امرأة بيضاء حتى تتوحد مع العالم الأبيض وبالتالي بالمجتمع الراقي، يجسد مفهوم هيجل بشأن (اليقين الذاتي وقد اصبح جسداً)، وحقيقة هذا الوعي المتيقن من الاحاسيس تعكس عالماً مقلوباً، حيث المنظر من فوق يسيطر على الحياة من تحت والاقتصاد العنصري للمدينة الكولونيالية المعهود منذ أيام الطفولة يغدو جسداً في اليقين الذاتي لدى المرأة السوداء، ويشير فانون إلى أن من السهل رؤية ديالكتيك الوجود والامتلاك في هذا السلوك، فبالنسبة إلى الأسود، لا مخرج من البنية الاجتماعية إلا من خلال العالم الأبيض. وهكذا فإن الديالكتيك الهيجلي مسدود الطريق يتسم بالاغتراب بما أن الرجل الأسود لا يجد أية فرصة لاختيار وجوده عبر الآخرين، لأن كل أنطولوجيا تصبح مستحيلة المنال في مجتمع مستعمر، وبتعبير آخر أن تكون أسود لا يغدو وجوداً ذا معنى إلا في علاقتك بالأبيض، مع أن العكس ليس كذلك، ويُعلق فانون على ذلك بقوله: أن هذا الشكل من أشكال الاعتراف لم يكن هيجل قد تصوره في فلسفته إذ تنشأ علاقة غير متكافئة على أساس واقع لا يعترف بالثقافات الأصلية والمحلية والتي قام بمحوها مما يجعل الديالكتيك بلا حركة(2).

إن التبادلية المطلقة التي يؤكدها فانون بوصفها أساس الديالكتيك الهيجلي تبدو مستحيلة في عالم العلاقات بين السود والبيض. فبدلا من الصراع يمنح السید

ص: 374


1- نايجل سي. غابسون، فانون، المخيلة بعد الكولونيالة، مرجع سابق، ص 82.ة
2- نایجل سي. غابسون ،فانون، المخيلة بعد الكولونيالية، مرجع سابق، ص84.

الأبيض الحرية للعبد الأسود، ومن دون مجازفة بالحياة، لا يمكن للعبد أن يحصّل حقيقة (الاعتراف كوعي ذاتي مستقل) ولأن الحرية هنا ليست نتيجة النضال، لا تنشأ قيم جديدة ولا تكون كلفة الحرية معروفة حسب فانون.

خاتمة

مما تقدم نخلص إلى أن الغرب بمؤسساته ومرجعياته الثقافية والفلسفية والدينية والسياسية ومنذ عصر النهضة، تبنّى استراتيجية استغلال الشعوب في ذواتهم ومهاراتهم ومواردهم ومنتجاتهم وهي استراتيجية لا تتم بدون مخططات ثابتة تساعد على تحقيقيها، ومن أبرز هذه المخططات نجد خيار الاستعمار والاستغلال والتهميش والاحتكار وهي مخططات في مجملها تمت بوسائل عرف بها الغرب الحديث، بتفعيله لعنصر القوة بهدف تدمير حضارات الشعوب وطمس معالمها المعنوية والمادية، ولعنصر المعرفة والعلوم والتقنية التي لم يدخر جهدا لتطويرها وتوجيهها لهذا الغرض.

إن ارتباط المعرفة بالقوة والسيطرة في فجر العصر الحديث في أوروبا لهو دليل قاطع على نوايا الغرب الاستعمارية، بفعل مجهودات بعض فلاسفته الذين نظروا لهذا الاتجاه، على غرار ما فعل «رينيه ديكارت» في فلسفته التي نشدت ضرورة توظيف العلم للسيطرة على الطبيعة واعتباره بعض الكائنات الحية مجرد آلات خالية من الروح، وأيضاً في السياق نفسه سار فيه الفيلسوف الإنجليزي «فرنسيس بيكون» الذي رأى أن وظيفة المعرفة تكمن بالأساس في إخضاع الطبيعة لسلطة الإنسان، وهي الوظيفة التي اعتمدت فيما بعد على الإنسان نفسه، وصار الإنسان في ظلها عبداً لذاته، وفتح الباب من جديد لعصر الصراع والاستغلال والتطهير النوعي، بتأثير من النظريات العلمية الجديدة مع داروين وسبنسر في البيولوجيا وهيجل وشبنهاور

ونيتشه في الفلسفة، نظريات غدّت النزعات المتطرفة .

تعد فلسفة هيجل من أبرزت الفلسفات الغربية عنصرية في حق شعوب العالم غير أوربية، والدارس لنصوصه سيقف حتماً على تصنيفاته الاقصائية للكثير من

ص: 375

منجزات شعوب العالم العقلية والعلمية والحضارية بصفة عامة،وهي آراء جعلت من الحضارة الغربية تتوج تاريخ النوع البشري في مجمله، كما حصر محاولات المجتمعات الشرقية والأفريقية والشعوب اللاتينية بمثابة مدخل لتاريخ الحضارة الغربية، وهي محاولات أبقت الشعوب الإفريقية في مصاف الحيوانية مثلما تناوله كتابه «العقل في التاريخ» وكتابه «العالم الشرقي» ودروسه في فلسفة التاريخ، التي فيها نظّر لسمو العرق الجرماني وتفوقه الحضاري، معتبراً إياه عرقاً بشرياً نموذجياً.

إن كتابات هيجل العنصرية في حق الشعوب الإفريقية والأسيوية كانت مرجعاً لدوائر الحكم الأوربية في عصره، ومبرراً مباشرا للغزو الإمبريالي على المجتمعات بهدف تحضيرها وادماجها في تاريخ الغرب، وتثقيفها بثقافته، وهي كلها أفكار مركبة ومنتزعة من تراث الغرب ذاته وبالضبط من الثقافة اليونانية والرومانية والمسيحية التي تؤمن بفكرة التميز والتفوق، وأيضاً من التحولات الثقافية والعلمية الكبرى التي عرفتها أوروبا في العصر الحديث، التي تخدم هذه الأفكار، ومن هذه الزاوية قدّم هيجل تبريراته الفلسفية لهذه النزعة، حيث أن نسقه الفلسفي بمجمله وبفروعه الفلسفية من فلسفة التاريخ وفلسفة الحق والجمال والدين كلها خدمت هذا التوجه.

وعليه يجب قراءة كتاب هيجل «فينومينولوجيا الروح» من هذه الزاوية ككتاب فاتح للعالم بأعين غربية محضة، فهو تأويل دقيق لصعود الأنا الغربية وهيمنتها على العالم منذ نشأة الأنا الغربية الواعية إلى غاية نابليون بونبارت وفتوحاته العسكرية الذي اعتبره هيجل بمثابة العقل الكلي صانع الحريات، وهي كلها اعتبارات تقوي شوكة التفرقة العنصرية والتصنيفات غير الشرعية كمنهج للاختزال والاقصاء والتهميش.

ص: 376

هذا الكتاب

لا يجيء الكلام على «ما بعد الاستعمار» من باب الاستيهام بنهاية الأطروحة الاستعمارية. سواءً تعلق الأمر بالاصطلاح ،والمفهوم، أمّ بالاختبارات التاريخية فإن المناظرة مع هذه الأطروحة، وخصوصاً في زمن الحداثة الفائضة، باتت تتخذ لها منزلةً استثنائيةً. مفهوم «ما بعد الاستعمار»كمثل سواه من المفاهيم الوافدة، يأتينا مكتظًا بالالتباس والغموض. تعريفاته وشروحه وتأويلاته تكثَّرت تبعاً لطبائع البيئات الثقافية والإيديولوجية حيث ولد وذاع أمره. لذا سيكون على كل منشغلٍ بهذا المصطلح أن يتتبَّع سلالته الممتدة عميقاً في التاريخ الحديث، وأن يتعرف إلى أوروبا بما هي أرض نشأته وفكرته وامتداده عبر الاستيلاء والغزو.

* * *

تتناول هذه السلسلة بأجزائها الأربعة الأطروحة الاستعمارية وما بعد الاستعمارية في إطار تحليلي نظري، وكذلك من خلال معاينة للتجارب التاريخية في آسيا وأفريقيا بدءاً من القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا.

شارك في هذه السلسلة مجموعة من المفكرين والباحثين وعلماء الاجتماع من أوروبا وأميركا والعالمين العربي والإسلامي، وقد توزعت أبحاثهم وفقاً للترتيب

المنهجى على بابين رئيسيين:

باب المفاهيم وباب السيرة التاريخية لعدد من التجارب الاستعمارية وآليات مواجهتها ثقافياً وكفاحياً.

المك الخالد الراس ان الامة التحية

http://www.iicss.iq

islamic.css@gmail.com

تطبيق المركز

ص: 377

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.